المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الأول   ‌ ‌الشرق الأدنى (1) - قصة الحضارة - جـ ٢

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الأول

‌الشرق الأدنى

(1)

(1)

وفي ذلك الوقت قادتني الآلهة، أنا حمورابي، الخادم الذي سرت من أعماله،

والذي كان عوناً لشعبه في الشدائد،

والذي أفاء عليه الثروة والوفرة

، أن أمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء وأنشر النور في الأرض، وأرعى مصالح الخلق". حمورابي- المقدمة

ص: 4

الباب السابع

‌سومر

(1)

توجيه - فضل الشرق الأدنى على الحضارة الغربية

لقد انقضى منذ بداية التاريخ المكتوب حتى الآن ما لا يقل عن ستة آلاف عام، وفي خلال نصف هذا العهد كان الشرق الأدنى مركز الشئون البشرية التي وصل إلينا علمها. وإذا ذكرنا هذا اللفظ المبهم لهذا الكتاب فإنا نقصد به جميع بلاد آسية الجنوبية الغربية الممتدة جنوب الروسيا والبحر الأسود، وغرب الهند وأفغانستان. وسنطلق هذا الاسم أيضا- وإن خرجنا في هذا على مقتضيات الدقة أكثر من ذي قبل- على مصر، لأن هذه البلاد كانت شديدة الاتصال بذلك الجزء من العالم كما كانت مركزا انتشرت منه الحضارة الشرقية. على هذا المسرح غير الدقيق التحديد الآهل بالسكان وبالثقافات المتباينة نشأت الزراعة والتجارة، والخيل المستأنسة والمركبات، وسكت النقود، وكتبت خطابات الاعتماد، ونشأت الحرف والصناعات، والشرائع والحكومات، وعلوم الرياضة والطب، والحقن الشرجية، وطرق صرف المياه، والهندسة والفلك، والتقويم والساعات، وصورت دائرة البروج، وعرفت الحروف الهجائية والكتابة، واخترع الورق والحبر، وألفت الكتب وشيدت المكتبات والمدارس، ونشأت الآداب والموسيقى والنحت وهندسة البناء، وصنع الخزف المطلي المصقول والأثاث الدقيق الجميل، ونشأت عقيدة التوحيد ووحدة الزواج، واستخدمت دهان التجميل والحلي، وعرف النرد والداما، وفرضت ضريبة الدخل، واستخدمت المرضعات وشربت الخمور- عرفت هذه الأشياء كلها واستمدت منها أوربا وأمريكا

(1)

ويكتبها بعض المؤرخين السومر والبعض الآخر شومر (المترجم)

ص: 9

ثقافتهما على مدى القرون عن طريق كريت واليونان والرومان. وقصارى القول أن "الآريين" لم يشيدوا صرح الحضارة- بل أخذوها عن بابل ومصر، وأن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاء لأن ما ورثوه منها أكثر مما ابتدعوه. وكانوا الوارث المدلل المتلاف لذخيرة من الفن والعلم مضى عليها ثلاثة آلاف من السنين، وجاءت إلى مدائنهم مع مغانم التجارة والحرب. فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه، فإننا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شادوا بحق صرح الحضارة الأوربية والأمريكية، وهو دين كان يجب أن يؤدى من زمن بعيد.

ص: 10

الفصل الأول

‌عيلام

ثقافة السوس - عجلة الفخارى - عجلات المركبات

إذ نظر القارئ إلى مصور لبلاد إيران ومر بإصبعه على نهر دجلة-مبتدئا من الخليج الفارسي حتى يصل إلى العمارة، ثم اتجه به شرقاً مخترقاً حدود العراق إلى مدينة شوشان الحديثة، إذا فعل هذا فقد حدد لنفسه موقع مدينة السوس القديمة- التي كانت فيما مضى مركز إقليم يسميه اليهود بلاد عيلام- أي الأرض العالية. في هذا الصقع الضيق الذي تحميه من غربة المنافع ومن شرقه الجبال الحافة بهضبة إيران العظيمة، أنشأ شعب من الشعوب لا نعرف أصله ولا الجنس الذي ينتمي إليه إحدى المدنيات الأولى المعروفة في تاريخ العالم. وقد وجد علماء الآثار الفرنسيون في هذا الإقليم منذ جيل مضى آثاراً بشرية يرجع عهدها إلى عشرين ألف عام، كما وجدوا شواهد تدل على قيام ثقافة راقية يرجع عهدها إلى عام 4500 ق. م

(1)

.

ويبدو أن أهل عيلام كانوا في ذلك الوقت قد خرجوا من الحياة البدوية، حياة صيد الحيوان والسمك، ولكنهم كانت لهم وقتئذٍ أسلحة وأدوات من النحاس، وكانوا يزرعون الحبوب ويؤنسون الحيوان، وكانت لهم كتابة مقدسة ووثائق تجارية، ومرايا وحلي، وتجارة تمتد من مصر إلى الهند (3). ونجد بين أدوات الظران المسواة التي ترجع بنا إلى العصر الحجري الجديد مزهريات كاملة الصنع رشيقة مستديرة عليها رسوم أنيقة من أشكال هندسية أو صور جميلة تمثل الحيوان والنبات، تعد بعضها ما صنعه الإنسان في عهود التاريخ

(1)

يعتقد الأستاذ برستد أن ده مرجان، وبمبلي وغيرهما من العلماء قد بالغوا في قدم هذه الثقافة وثقافة أنو.

ص: 11

كله (4). ولسنا نجد في تلك البلاد أقدم ما عرف من عجلات الخزاف وحسب بل نجد فيها أيضاً أقدم ما عرف من عجلات المركبات، ذلك أنا لا نعثر مرة أخرى على هذه المركبة التي كان لها شأن متواضع، ولكنه شأن حيوي، في نقل المدينة من مكان إلى مكان، إلا بعد هذا الوقت في بلاد بابل، ثم بعد ذلك أيضا في مصر (5). ثم انتقل العيلاميون من هذه البدايات المعقدة إلى حياة السلطان والغزو ذات الأعباء الثقال، فامتلكوا سومر وبابل ثم دارت عليهم الدائرة فاستولت عليهم هاتان الدولتان كلتاهما بعد الأخرى. وعاشت مدينة السوس ستة آلاف من السنين، شهدت في خلالهما عظمة إمبراطوريات سومر، وبابل، ومصر، وأشور، وفارس، واليونان، ورومة؛ وظلت باسم شوشان، مدينة مزدهرة حتى القرن الرابع عشر الميلادي. ومرت بها في خلال تاريخها الطويل فترات مختلفة نمت فيها ثروات نموا عظيما. وحسبنا شاهداً على هذا وصف المؤرخين لما عثر عليه فيها أشور بانيبال حين استولى عليها ونهبها في عام 646 ق. م من ذهب وفضة، وحجارة كريمة، وجواهر ملكية، وثياب ثمينة، وأثاث فخم، ومركبات ساقها الفاتحون وراءهم إلى نينوى. ذكر المؤرخون هذه المغانم كلها ولم يحاولوا الانتقاص من شأنها أو الاستخفاف بها. وهكذا بدأ التاريخ دورته المحزنة فبدلها في وقت قصير من فنها المزدهر حربا وخرابا.

ص: 12

الفصل الثاني

‌السومريون

‌1 - تاريخهم

الكشف عن أرض سومر - جغرافيتها - أهلها

وجنسيتهم - مظهرهم - الطوفان السومري - الملوك

مصلح قديم - سرجون ملك أكاد - عصر أور الذهبي

إذا عدنا إلى خريطة الشرق الأدنى وتتبعنا المجرى المشترك المكون من نهري دجلة والفرات من مصبه في الخليج الفارسي إلى أن ينفصل المجريان "عند بلدة القرنة الحديثة"، ثم تتبعنا نهر الفرات متجهين إلى الغرب، وجدنا في شماله وجنوبه المدن السومرية القديمة المطمورة هي: إريدو "أبوشهرين الحديثة" وأور "المُقَيَّر الحديثة" وأورك "وهي المسماة إرك في التوراة والمعروفة الآن باسم الوركاء" ولارْسا "المسماة في التوراة باسم إلاسار والمعروفة الآن باسم سنكرة" ولكش "سيبرلا الحديثة" ونبور "نفر". تتبع بعدئذ نهر الفرات في سيره نحو الشمال الغربي إلى بابل التي كانت في يوم من الأيام أشهر بلاد الجزيرة "أرض ما بين النهرين" تجد إلى شرقها مباشرة بلدة كش مقر أقدم ثقافة عرفت في هذا الإقليم، ثم سر بعدئذ مع النهر صعدا قرابة ستين ميلا حتى مقر أجاد قصبة مملكة أكد في الأيام الخالية. ولم يكن تاريخ أرض الجزيرة القديم من إحدى نواحيه إلا صراعا قامت به الشعوب غير السامية التي تسكن بلاد سومر لتحتفظ باستقلالها أمام الهجرات السامية والزحف السامي من كش وأجاد وغيرهما من مراكز العمران الشمالية. وكانت هذه الأجناس المختلفة الأصول في خلال هذا الصراع تتعاون دون أن تشعر بتعاونها- ولعلها كانت تتعاون على الرغم منها- لتقيم صرح

ص: 13

حضارة هي أول ما عرف من حضارة واسعة شاملة فذة، وهي من أعظمها إبداعا وإنشاء

(1)

.

وليس في وسعنا رغم ما قام به العلماء من بحوث أن نعرف إلى أية سلالة من السلالات البشرية ينتمي هؤلاء السومريون، أو أي طريق سلكوه حتى دخلوا بلاد سومر. ومن يدري لعلهم جاءوا من آسية الوسطى أو من بلاد القفقاس أو من أرمينية واخترقوا أرض الجزيرة من الشمال متتبعين في سيرهم مجريي دجلة

(1)

لقد كان كشف هذه الحضارة المنسية من أروع القصص الروائية وأكثرها غرابة في علم الآثار. لقد كان الرومان واليونان واليهود، وهم الذين نسميهم القدماء جهلا منا بالمدى الواسع لأحقاب التاريخ، لا يعرفون شيئا عن سومر، ولعل هيرودوت لم يصل إلى علمه شئ عن هؤلاء الأقوام، وإذا كان قد وصل إلى علمه شئ عنهم فقد أغفل أمرهم لأن عهدهم كان أبعد إليه من عهده هو إلينا. ولم يكن ما يعرفه بروسس، وهو مؤرخ بابلي كتب حوالي 250 ق. م. عن سومر إلا مزيجا من الخرافات والأساطير. فقد وصف في تاريخه جيلا من الجبابرة يقودهم واحد منهم يسمى أوانس خرج من الخليج الفارسي، وأدخل في البلاد فنون الزراعة وطرق المعادن والكتابة. ثم يقول:"وقد ترك إلى بني الإنسان كل الأشياء التي تصلح أمور حياتهم ولم يُخترع من ذلك الوقت شئ ما حتى الآن". ولم تكشف بلاد سومر إلى العالم إلا بعد ألفي سنة مما كتبه عنها بروسس. فقد تبين هنكز في عام 1850 أن كتابة مسمارية- تكتب بضغط قلم معدني ذي طرف دقيق على طين لين، وتستخدم في لغات الشرق الأدنى السامية- إن كتابة من هذا النوع قد أخذت عن أقوام أقدم عهداً من الساميين الذين استعملوها فيما بعد كانوا يتكلمون لغة كثرة ألفاظها غير سامية. وقد أطلق أوبرت على الشعب الذي ظنه صاحب هذه الكتابة اسم الشعب "السومري". وكشف رولنسن ومساعدوه في نفس الوقت تقريباَ بين الخرائب البابلية ألواحاَ نقشت عليها كلمات من هذه اللغة القديمة وبين سطورها ترجمتها إلى اللغة البابلية كما يفعل علماء الجامعات في هذه الأيام. وفي عام 1854 أزاح عالمان إنجليزيان الثرى عن مواقع مدن أور، وإريدو، وأرك. وكشف العلماء الفرنسيون في أواخر القرن التاسع عشر عن أنقاض لكش وعثروا بينها على لوح نقش عليها تاريخ الملوك السومريين، وفي أيامنا هذه كشف وُلى الأستاذ بجامعة بنسلفانيا وكثيرون غيره من العلماء عن مدينة أور العتيقة حيث أنشأ السومريون كما يلوح حضارة لهم قبل عام 4500 ق. م.

ص: 14

والفرات- حيث توجد- كما في أشور مثلا شواهد دالة على ثقافتهم الأولى. أو لعلهم قد سلكوا الطريق المائي من الخليج الفارسي- كما تروي الأساطير- أو من مصر أو غيرها من الأقطار، ثم اتخذوا سبيلهم نحو الشمال متتبعين على مهل النهرين العظيمين. أو لعلهم جاءوا من السوس حيث يوجد بين آثارها رأس من الأسفلت فيه خواص الجنس السومري كلها. بل إن في وسعنا أن نذهب إلى أبعد من هذا كله فنقول إنهم قد يكونون من أصل مغولي قديم موغل في القدم.

ذلك بأن في لغتهم كثيراً من التراكيب الشبيهة بلسان المغول (9)). لكن علم هذا كله عند علام الغيوب.

وتدل آثارهم على أنهم كانوا قصار القامة ممتلئ الجسم، لهم أنوف شم مصفحة ليست كأنوف الأجناس السامية، وجباه منحدرة قليلا إلى الوراء، وعيون مائلة إلى أسفل. وكان كثيرون منهم ملتحين، وبعضهم حليقين، وكثرتهم العظمى يحفون شواربهم. وكانوا يتخذون ملابسهم من جلود الغنم، ومن الصوف المغزول الرفيع، وكانت النساء يسدلن من أكتافهن اليسرى مآزر على أجسامهن، أما الرجال فكانوا يشدونها على أوساطهم ويتركون الجزء الأعلى من أجسامهم عارياً. ثم علت أثواب الرجال مع تقدم الحضارة شيئاً فشيئاً حتى غطت جسمهم كله إلى الرقبة. أما الخدم رجالا كانوا أو نساء فقد ظلوا يمشون عراة من الرأس إلى وسط الجسم إذا كانوا في داخل البيوت. وكانوا في العادة يلبسون قلانس على رؤوسهم وأخفافاً في أقدامهم، ولكن نساء الموسرين منهم كن ينتعلن أحذية من الجلد اللين الرقيق غير ذات كعاب عالية، وذات أربطة شبيهة بأربطة أحذيتنا في هذه الأيام. وكانت الأساور والقلائد والخلاخيل والخواتم والأقراط زينة النساء السومريات التي يظهرن بها ثراء أزواجهن كما تظهره النساء الأمريكيات في هذه الأيام (10).

ولما تقدم العهد بمدنيتهم- حوالي 2300 ق. م- حاول الشعراء والعلماء

ص: 15

السومريون أن يستعيدوا تاريخ بلادهم القديم. فكتب الشعراء قصصاً عن بداية الخلق، وعن جنة بدائية، وعن طوفان مروع غمر هذه الجنة وخربها عقاباً لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين (11). وتناقل البابليون والعبرانيون قصة هذا الطوفان وأصبحت بعدئذ جزءاً من العقيدة المسيحية. وبينما كان الأستاذ َولي ينقب في خرائب أور عام 1929 إذ كشف على عمق عظيم من سطح الأرض، عن طبقة من الغرين سمكها ثمان أقدام، رسبت - إذا أخذنا بقوله - على أثر فيضان مروع لنهر الفرات ظل عالقاً بأذهان الأجيال التالية ومعروفاً لديهم باسم الطوفان، وصفها الشعراء فيما بعد بأنها العصر الذهبي لتلك البلاد.

وحاول الكهنة المؤرخون في هذه الأثناء أن يخلقوا ماضياً يتسع لنمو جميع عجائب الحضارة السومرية. فوضعوا من عندهم قوائم بأسماء ملوكهم الأقدمين، ورجعوا بالأسر المالكة التي حكمت قبل الطوفان إلى 000 ر 432 عام (12)، ورووا عن اثنين من هؤلاء الحكماء وهما تموز وجلجمش من القصص المؤثرة ما جعل ثانيهما بطل أعظم ملحمة في الأدب البابلي. أما تموز فقد انتقل إلى مجمع الآلهة البابليين، وأصبح فيما بعد أدونيس اليونان. ولعل الكهنة قد تغالوا بعض الشيء في قدم حضارتهم ولكن في وسعنا أن نقدر عمر الثقافة السومرية تقديراً تقريبياً إذا لاحظنا أن خرائب نبور تمتد إلى عمق ست وستين قدما، وأن ما يمتد منها أسفل آثار سرجون ملك أكد يكاد يعدل ما يمتد فوق هذه الآثار إلى أعلى الطبقات الأرضية (أي إلى بداية القرن الأول من التاريخ الميلادي).

وإذا حسبنا عمر نبور على هذا الأساس رجع بنا إلى عام 5262 ق. م. ويلوح أن أسرا قوية من ملوك المدن مستمسكة بعروشها قد ازدهرت في كش حوالي عام 4500 ق. م وفي أور حوالي 3500 ق. م. وإنا لنجد في التنافس الذي قام بين هذين المركزين الأولين من مراكز الحضارة القديمة أول دور من

ص: 16

أدوار النزاع بين السامية وغير السامية، وهو النزاع الذي يكوَّن في تاريخ الشرق الأدنى مأساة دموية متصلة تبدأ من عظمة كش السامية وتستمر خلال فتوح الملكين الساميين سرجون الأول وحمورابي إلى استيلاء القائدين الآريين قورش والإسكندر على بابل في القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وإلى اصطراع الصليبيين والمسلمين لامتلاك قبر المسيح، وإلى التسابق التجاري، وتمتد إلى هذا اليوم الذي يحاول فيه البريطانيون جاهدين أن يسيطروا على الأقوام الساميين المنقسمين على أنفسهم في الشرق الأدنى وينشروا السلام في ربوعه.

وبعد عام 3000 ق. م تروى السجلات المكونة من ألواح الطين التي كان الكهنة يحتفظون بها، والتي وجدت في خرائب أور، قصة دقيقة دقة لا بأس بها عن قيام ملوك المدائن وتتويجهم وانتصارهم غير المنقطع وجنائزهم الفخمة في مدن أور ولكش وأرك وما إليها. وما أكثر ما غالى المؤرخون في هذا الوصف، لأن كتابة التاريخ وتحيز المؤرخين من الأمور التي يرجع عهدها إلى أقدم الأزمان.

وكان واحد من هؤلاء الملوك وهو أوروكاجينا ملك لكش ملكاً مصلحاً ومستبداً مستنيراً، أصدر المراسيم التي تحرم استغلال الأغنياء للفقراء واستغلال الكهنة لكافة الناس. وينص أحد هذه المراسيم على أن الكاهن الأكبر يجب "ألا يدخل بعد هذا اليوم إلى حديقة الأم الفقيرة ويأخذ منها الخشب أو يستولي على ضريبة من الفاكهة". وخفضت رسوم دفن الموتى إلى خمس ما كانت عليه، وحرم على الكهنة وكبار الموظفين أن يقتسموا فيما بينهم ما يقربه الناس قرباناً للآلهة من أموال أو ماشية. وكان مما يباهى به الملك أنه "وهب شعبه الحرية". وما من شك في أن الألواح التي سجلت فيها مراسيمه تكشف عن أقدم القوانين المعروفة في التاريخ وأقلها ألفاظاً وأكثرها عدلا.

واختتمت هذه الفترة الواضحة من تاريخ أور كما تختتم في العادة مثيلاتها من الفترات على يد رجل يدعى لوجال- زجيزي، غزا لكش وأطاح بأوروكاجينا

ص: 17

ونهب المدينة وهي في أوج عزها ورخائها، وهدم معابدها وذبح أهلها في الطرقات، وساق أمامه تماثيل الآلهة أسيرة ذليلة. ومن أقدم القصائد المعروفة في التاريخ قصيدة كتبت على لوح من الطين لعل عمرها يبلغ 4800 سنة يرثى فيها الشاعر السومري دِنْجِرِ دَّامو انّهاب إلهة لكش ويقول فيها:

وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على المدينة وعلى الكنوز

وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على مدينتي جرسو "لكش" وعلى الكنوز

إن الأطفال في جرسو المقدسة لفي بؤس شديد

لقد استقر "الغازي" في الضريح الأفخم

وجاء بالملكة المعظمة من معبدها

أي سيدة مدينتي المقفرة الموحشة متى تعودين؟

ولا حاجة بنا إلى الوقوف عند السفاح لوجال- زجيزي وغيره من الملوك السومريين ذوي الأسماء الطنانة الرنانة أمثال لوجال- شجنجور، ولوجال- كيجوب- تدودو، وننيجي- دبتي، ولوجال- أندرنوجنجا

وفي هذه الأثناء كان شعب آخر من الجنس السامي قد أنشأ مملكة أكد بزعامة سرجون الأول، واتخذ مقر حكمه في مدينة أجاد على مسيرة مئتي ميل أو نحوها من دول المدن السومرية من ناحية الشمال الغربي. وقد عثر في مدينة سومر على أثر ضخم مكون من حجر واحد يمثل سرجون ذا لحية كبيرة تخلع عليه كثيراً من المهابة، وعليه من الثياب ما يدل على الكبرياء وعظيم السلطان. ولم يكن سرجون هذا من أبناء الملوك: فلم يعرف التاريخ له أباً، ولم تكن والدته غير عاهرة من عاهرات المعابد (16). ولكن الأساطير السومرية اصطنعت له سيرة روتها على لسانه شبيهة في بدايتها بسيرة موسى، فهو يقول: "وحملت بي أمي الوضيعة الشأن، وأخرجتني إلى العالم سراً ووضعتني في قارب من السل كالسلة وأغلقت علىَّ

ص: 18

الباب بالقار" (17). وأنجاه أحد العمال، وأصبح فيما بعد ساقي الملك، فقربه إليه، وزاد نفوذه وسلطانه. ثم خرج على سيده وخلعه وجلس على عرش أجاد، وسمى نفسه "الملك صاحب السلطان العالي" وإن لم يكن يحكم إلا قسما صغيراً من أرض الجزيرة. ويسميه المؤرخون سرجون "الأعظم" لأنه غزا مدناً كثيرة، وغنم مغانم عظيمة، وأهلك عدداً كبيراً من الخلائق. وكان من بين ضحاياه لوجال- زجيزي نفسه الذي نهب لكش وانتهك حرمة إلهتها، فقد هزمه سرجون وساقه مقيداً بالأغلال إلى نبور. وأخذ هذا الجندي الباسل يخضع البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فاستولى على عيلام وغسل أسلحته في مياه الخليج الفارسي العظيم رمزاً لانتصاراته الباهرة، ثم اجتاز غرب آسية ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط (18)، وظل يحكمها خمساً وخمسين سنةً، وتجمعت حوله الأساطير فهيأت عقول الأجيال التالية لأن تجعل منه إلهاً. وانتهى حكمه ونار الثورة مشتعلة في جميع أنحاء دولته.

وخلفه ثلاثة من أبنائه كل منهم بعد أخيه. وكان ثالثهم نارام - سِنْ بنَّاء عظيما وإن لم يبق من أعماله كلها إلا لوحة تذكارية تسجل انتصاره على ملك خامل غير ذي شأن. وقد عثر ده مورجان على هذه اللوحة ذات النقش البارز في مدينة السوس عام 1897، وهي الآن من كنوز متحف اللوفر، وتمثل نارام- سِنْ رجلاً مفتول العضلات، مسلحاً بالقوس والسهام، يطأ بقدميه في خيلاء الملوك أجسام من ظفر بهم من أعدائه. ويدل مظهره على أنه يتأهب لأن يرد بالموت العاجل على توسل أعدائه المنهزمين واسترحامهم. وصور بين هؤلاء الأعداء أحد الضحايا وقد أصابه سهم اخترق عنقه فسقط على الأرض يحتضر، وتطل على هذا المنظر من خلفه جبال زجروس. وقد سجل انتصار نارام- سِنْ على أحد التلال بكتابة مسمارية جميلة. وتدل هذه اللوحة على أن فن النحت قد توطدت وقتئذ قواعده وأصبحت له تقاليد مرعية طويلة الأمد.

ص: 19

على إن إحراق مدينة من المدن لا يكون في جميع الأحوال من الكوارث الأبدية التي تبتلى بها، بل كثيراً ما يكون نافعاً لها من الناحيتين العمرانية والصحية. وهذه القاعدة تنطبق على لكش في ذلك العهد، فقد ازدهرت هذه المدينة من جديد قبل أن يحل القرن السادس والعشرون قبل الميلاد، وذلك في عهد ملك آخر مستنير يدعى جوديا تعد تماثيله القصيرة المكتنزة أشهر ما بقى من آثار فن النحت السومري. وفي متحف اللوفر تمثال له من حجر الديوريت يمثله في موقف من مواقف التقوى، ورأسه ملفوف بعصابة ثقيلة كالتي نشاهدها في التماثيل المقامة في مسرح الكولوسيوم، ويداه مطويتان في حجره، وكتفاه

ص: 20

وقدماه عارية، وساقاه قصيرتان ضخمتان يغطيهما ثوب نصفي مطرز بطائفة كبيرة من الكتابة المقدسة. وتدل ملامحه القوية المتناسبة على أنه رجل مفكر، عادل، حازم، دمث الأخلاق. وكان رعاياه يجلونه، لا لأنه جندي محارب، بل لأنه فيلسوف مفكر أشبه ما يكون بالإمبراطور ماركس أوريليوس الروماني، يختص بعنايته الشؤون الدينية والأدبية والأعمال النافعة الإنشائية، شاد المعابد، وشجع دراسة الآثار القديمة بالروح التي تدرسها بها البعثات التي كشفت عن تمثاله، ويحد من سلطان الأقوياء رحمة بالضعفاء. ويفصح نقش من نقوشه التي عثر عليها عن سياسته التي من أجلها عبده رعاياه واتخذوه إلهاً لهم بعد موته:"في خلال سبع سنين كانت الخادمة نداً لمخدومتها، وكان العبد يمشي بجوار سيده، واستراح الضعيف في بلده بجوار القوي"(19).

وفي هذه الأثناء كانت "أور مدينة الكلدان" تنعم بعهد من أكثر عهودها الطوال رخاءً وازدهاراً، امتد من عام 3500 ق. م "وهو على ما يلوح عهد أقدم مقابرها" إلى عام 700 ق. م وأخضع أعظم ملوكها أور- انجور جميع بلاد آسيا الغربية ونشر فيها لواء السلام وأعلن في جميع الدولة السومرية أول كتاب شامل من كتب القانون في تاريخ العالم. وفي ذلك يقول:"لقد أقمت إلى أبد الدهر صرح العدالة"(20). ولما زادت ثروة أور بفضل التجارة التي انصبت إليها صبا عن طريق نهر الفرات فعل فيها ما فعل بركليز بأثينا من بعده فشرع يجملها بإنشاء الهياكل، وأقام فيها وغيرها من المدائن الخاضعة له أمثال لارسا وأوروك ونبور كثيراً من الأبنية. وواصل ابنه دنجى طوال حكمه الذي دام ثمانية وخمسين عام أعمال أبيه، وحكم البلاد حكماً عادلاً حكيماً، جعل رعاياه يتخذونه من بعد موته إلهاً، ويصفونه بأنه الإله الذي أعاد إليهم جنتهم القديمة.

لكن سرعان ما أخذ هذا المجد يزول، فقد انقض على أور التي كانت تنعم

ص: 21

وقتئذ بالرخاء والفراغ والسلم أهل عيلام ذوو الروح الحربية من الشرق، والعموريون الذين علا شأنهم وقتئذ من الغرب، وأسروا ملكها، ونهبوها ودمروها شر تدمير. وأنشأ شعراء أور القصائد التي يندبون فيها انتهاب تمثال إشتار أمهم الإلهة المحبوبة التي انتزعها من ضريحها الغزاة الآثمون. ومن الغريب أن هذه القصائد التي صيغت في صيغة المتكلم، وأسلوبها مما لا تسر منه الأدباء السفسطائيين، ولكننا على الرغم من هذا نحس من خلال الأربعة آلاف من السنين التي تفصل بيننا وبين الشاعر السومري بما حل بالمدينة وأهلها من خراب وتدمير. يقول الشاعر:

لقد انتهك العدو حرمتي بيديه النجستين؛

انتهكت يداه حرمتي وقضى على من شدة الفزع.

آه، ما اتعس حظي! إن هذا العدو لم يظهر لي شيئاً من الاحترام،

بل جرّدني من ثيابي وألبسها زوجه هو،

وانتزع مني ُحليي وزين بها أخته،

وأنا "الآن" أسيرة في قصوره- فقد أخذ يبحث عني

في ضريحي- واحسرتاه. لقد كنت ارتجف من هول اليوم الذي اخرج فيه،

فقد أخذ يطاردني في هيكلي، وقذف الرعب في قلبي،

هناك بين جدران بيتي؛ وكنت كالحمامة ترفرف ثم تحط

على رافدة، أو كالبومة الصغيرة اختبأت في كهف،

وأخذ يطاردني في ضريحي كما يطارد الطير،

طاردني من مدينتي كما يطارد الطير وأنا أتحسر وأنادي

"إن هيكلي من خلفي، ما أبعد المسافة بينه وبيني

وهكذا ظلت بلاد سومر خاضعة لحكم العيلاميين والعموريين مائتي عام تبدو لأعيننا كأنها لحظة لا خطر لها.

ص: 22

ثم أقبل من الشمال حمورابي العظيم ملك بابل واستعاد من العيلاميين أوروك وإيسين، وظل ساكناً ثلاثاً وعشرين سنة غزا بعدها بلاد عيلام، وقبض على ملكها، وبسط حكمه على عمور وأشور النائية، وأنشأ إمبراطورية لم يعهد لها التاريخ من قبل لها مثيلاً في قوتها، وسن لها قانوناً عاماً نظم شئونها. وظل الساميون بعد ذلك الوقت قروناً كثيرة يحكمون ما بين النهرين حتى قامت دولة الفرس، فلم نعد نسمع بعدئذ شيئا عن السومريين إذ طويت صحفهم القليلة في كتاب التاريخ.

‌2 - الحياة الاقتصادية

الزراعة - الصناعة - التجارة - طبقات الناس - العلوم

انقضى عهد السومريين، ولكن حضارتهم لم ُيقض عليها، فقد ظلت سومر وأكد تخرجان صناعاً وشعراء وفنانين وحكماء ورجال دين، وانتقلت حضارة المدن الجنوبية إلى الشمال على طول مجرى نهر الفرات ودجلة حتى وصلت إلى بلاد بابل وأشور، وكانت هي التراث الأول لحضارة بلاد الجزيرة.

وكان أساس هذه الثقافة وتربة الأرض التي أخصبها فيضان النهرين السنوي، وهو الفيضان الناشئ من سقوط الأمطار الشتوية. وكان هذا الفيضان ضاراً ونافعاً، فقد هدا السومريين إلى أن يجروا ماءه جرياناً أميناً في قنوات للري تخترق البلاد طولاً وعرضاً؛ وقد خلدوا أخطاره الأولى بالقصص التي تتحدث عن فيضان عظيم طغى على الأرض ثم انحسر عنها آخر الأمر ونجا الناس من شره (23). وكان نظام الري المحكم الذي يرجع عهده إلى أربعة آلاف سنة ق. م من أعظم الأعمال الإنشائية في الحضارة السومرية، وما من شك في أنه كان أيضا الأساس الذي قامت عليه. فقد أخرجت الحقول التي عنوا بريها وزرعها محصولات موفورة من الذرة والشعير والقمح والبلح والخضر الكثيرة

ص: 23

المختلفة الأنواع، وظهر عندهم المحراث من أقدم العصور تجره الثيران كما كانت تجره في بلادنا حتى الأمس القريب. وكان يتصل به أنبوبة مثقوبة لبذر البذور. وكانوا يدرسون المحاصيل بعربات كبيرة من الخشب ركبت فيها أسنان من الظران تفتت القش ليكون علفاً للماشية، وتفصل منه الحب ليكون طعاماً للناس (24).

ولقد كانت هذه الثقافة بدائية من نواحٍ كثيرة فقد كان السومريون يستخدمون النحاس والقصدير، وكانوا يخلطونهما في بعض الأحيان ليصنعوا منهما البرونز، وبلغ من أمرهم أنهم كانوا من حين إلى حين يصنعون من الحديد آلات كبيرة (25). ولكن المعادن مع هذا كانت نادرة الوجود قليلة الاستعمال؛ وكانت كثرة الآلات السومرية تتخذ من الظران، وبعضها، كالمناجل التي يقطع بها الشعير، يصنع من الطين؛ أما الدقيق منها كالإبر والمثاقب فكان يصنع من العاج والعظام (26). وكانت صناعة النسيج واسعة الانتشار يشرف عليها مراقبون يعينهم الملك (27) على أحدث طراز من الإشراف الحكومي على الصناعات عرف حتى الآن. وكانت البيوت تبنى من الغاب تعلوه لبنات من الطين والقش تعجن بالماء وتجفف بالشمس. ولا يزال من اليسير العثور على منازل من هذا الطراز في الأرض التي كانت من قبل بلاد سومر، وكان لهذه الأكواخ أبواب من الخشب تدور في أوقاب منحوتة من الحجارة، وكانت أرضها عادة من الطين، وسقفها مقوسة تصنع من الغاب المثنى إلى أعلى، أو مستوية مصنوعة من الغاب المغطى بالطين المبسوط فوق دعامات من الخشب. وكانت البقر والضأن والخنازير تجول في المساكن في رفقة الإنسان البدائية وكان ماء الشرب يؤخذ من الآبار (28).

وأكثر ما كانت تنقل البضائع بطريق الماء. ولما كانت الحجارة نادرة الوجود في بلاد سومر فقد كانت تنقل إليها من خارج البلاد عن طريق الخليج الفارسي أو من أعالي النهرين، ثم تحمل في القنوات إلى أرصفة المدن النهرية.

ص: 24

لكن النقل البري أخذ ينمو وينتشر، وشاهد ذلك ما كشفته بعثة أكسفورد في كش من مركبات هي أقدم ما عرف من المركبات ذات العجلات في تاريخ العالم (29). وقد عثر في أماكن متفرقة على أختام يستدل منها على وجود صلات تجارية بين سومر وبين مصر والهند (30). ولم تكن النقود قد عرفت في ذلك الوقت، ولهذا كانت التجارة تتبادل عادةً بطريق المقايضة، ولكن الذهب والفضة كانا يستعملان حتى في ذلك الوقت البعيد لتقدير قيم البضاعة، وكانا يقبلان في العادة بدلاً من البضائع نفسها - إما على هيئة سبائك وحلقات ذات قيم محدودة وإما بكميات تقدر قيمتها حسب وزنها في كل صفقة تجارية. وكانت الطريقة الثانية أكثر الطريقتين استعمالاً. وإن كثيراً من ألواح الطين التي وصلت إلينا وعليها بعض الكتابات السومرية لهي وثائق تجارية تكشف عن حياة تجارية جمة النشاط. ويتحدث لوح من هذه الألواح في لغة تدل على الملل والسآمة عن "المدينة التي تعج بضوضاء الإنسان". وكان لديهم عقود مكتوبة موثقة يشهد عليها الشهود، ونظام للائتمان تقرض بمقتضاه البضائع والذهب والفضة، وتؤدي عنها فوائد عينية يختلف سعرها من 15% إلى 33% في السنة (31). ولما كان استقرار المجتمع يتناسب إلى حد ما تناسباً عكسياً مع سعر الفائدة فإن لنا أن نفترض أن التجارة السومرية كانت كتجارتنا يحيط بها جو من الارتياب والاضطراب الاقتصاديين والسياسيين.

وقد وجدت في المقابر كميات كبيرة من الذهب والفضة منها ما هو حلي ومنها ما هو أوانٍ وأسلحة وزخارف، بل إن منها ما هو عدد وآلات. وكان أهل البلاد الأغنياء منهم والفقراء ينقسمون إلى طبقات ومراتب كثيرة، وكانت تجارة الرقيق منتشرة بينهم وحقوق الملكية مقدسة لديهم (32). ونشأت بين الأغنياء والفقراء طبقة أفرادها من صغار رجال الأعمال وطلاب العلم والأطباء والكهنة. وقد علا شأن الطب عندهم فكان لكل داء دواء خاص، ولكنه ظل يختلط

ص: 25

بالدين ويعترف بأن المرض لا يمكن شفاءه إلا إذا طردت الشياطين من أجسام المرضى، لأن الأمراض إنما تنشأ من تقمصها هذه الأجسام. وكان لديهم تقويم، لا نعرف متى نشأ ولا أين نشأ، تقسم السنة بمقتضاها إلى اثنا عشر شهراً قمرياً يزيدونها شهراً في كل ثلاثة أعوام أو أربعة حتى يتفق تقويمهم هذا مع فصول السنة ومع منازل الشمس. وكانت كل مدينة تسمي هذه الأشهر بأسماء خاصة (33).

‌3 - نظام الحكم

الملوك - الخطط الحربية - أمراء الإقطاع - القانون

والحق أن كل مدينة كانت شديدة الحرص على استقلالها، تعض عليه بالنواجذ، وتستمتع بملك خاص بها تسميه باتيسى أو الملك- الكاهن تدل بهذه التسمية نفسها على أن نظام الحكم كان وثيق الاتصال بالدين. وما وافى عام 1800 ق. م حتى نمت التجارة نمواً جعل هذا الانفصال بين المدن أمراً مستحيلاً، فنشأت منها جميعاً "إمبراطوريات" استطاعت فيها شخصية قوية عظيمة أن تخضع المدن والملوك- الكهنة لسلطانها، وأن تؤلف من هذه المدن وحدة سياسية واقتصادية. وكان هذا الملك الأعظم صاحب السلطان المطلق يحيط به جو من العنف والخوف شبيه بما كان يحيط بالملوك في عصر النهضة الأوربية. ذلك بأنه كان معرضاً في كل وقت إلى أن ُيقضى عليه بنفس الوسائل التي قضى بها على أعدائه وارتقى بها عرشه. وكان يعيش في قصر منيع له مدخلان ضيقان لا يتسع الواحد منهما لدخول أكثر من شخص واحد في كل مرة. وكان عن يمين المدخل وشماله مخابئ يستطيع من فيها من الحراس السريين أن يفحصوا عن كل زائر أو ينقضوا عليه بالخناجر (34). بل إن هيكل الملك كان هو نفسه مكاناً سرياً مختفياً في قصره يستطيع أن يؤدي فيه واجباته الدينية دون أن تراه الأعين، أو أن يغفل أداءها دون أن يعرف الناس شيئا عن هذا الإغفال.

ص: 26

وكان الملك يخرج إلى الحرب في عربة على رأس جيش مؤلف من خليط من المقاتلين مسلحين بالقسى والسهام والحراب. وكانت الحرب تشن لأسباب صريحة هي السيطرة على طرق التجارة والاستحواذ على السلع التجارية؛ فلم يكن يخطر لهم ببال أن يستروا هذا الغرض بستار من الألفاظ يخدعون بها أصحاب المثل العليا. من ذلك أن منشتوسو ملك أكد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه التماثيل التي تخلد ذكره في الأعقاب- وتلك هي الحرب الوحيدة في التاريخ التي تخوضها الجيوش لأغراض فنية. وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يقدم عشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطشة للدماء، فيقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها. وقد حدث في هذه المدن ما حدث بعد إذ في المدن الإيطالية في عصر النهضة، فكانت النزعة الانفصالية التي تسود المدن السومرية حافزاً قوياً للحياة والفن فيها، ولكنها كانت كذلك باعثاً على العنف والنزاع الداخلي، فأدى هذا إلى ضعف الدويلات جميعها وإلى سقوط بلاد سومر بأكملها (35).

وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية. فقد كان الملك عقب كل حرب يقطع الزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب. وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم، ويقدموا للملك حاجاته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عيناً وتخزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها (36).

وكان يقوم إلى جانب هذا النظام الملكي الإقطاعي طائفة من القوانين تستند إلى سوابق كثيرة من عهد أور- أنجور ودنجى اللذين جمعا قوانين أور ودوناها.

ص: 27

فكانت هي المعين الذي استمد منه حمورابي شريعته الذائعة الصيت. وكانت تلك الشرائع أبسط واكثر بدائية من الشرائع اللاحقة، ولكنها كانت أيضا أقل منها قسوة.

مثال ذلك أن الشرائع السامية تقضي بقتل الزوجة إذا زنت، أما الشريعة السومرية فكل ما تجيزه أن تسمح للزوج بأن يتخذ له زوجة ثانية، وأن ينزل الزوجة الأولى منزلة أقل من منزلتها السابقة (37). والقانون السومري يشمل العلاقات التجارية كما يشمل العلاقات الزوجية والجنسية بوجه عام، وينظم شئون القروض والعقود، والبيع والشراء، والتبني والوصية بكافة أنواعها. وكانت المحاكم تعقد جلساتها في المعابد وكان معظم قضاتها من رجال الدين؛ أما المحاكم العليا فكان يعين لها قضاة فنيون مختصون. وخير ما في القانون كله هو النظام الذي وضعه لتجنب التقاضي: ذلك أن كل نزاع كان يعرض أولاً على محكم عام واجبه أن يسويه بطريقة ودية دون أن يلجأ المتنازعون إلى حكم القانون (38)، فها هي ذي مدينة بدائية يجدر بنا أن نتلقى منها درسا نصلح به مدينتنا.

‌4 - الدين والأخلاق

مجمع الآلهة السومرية - طعام الآلهة - الأساطير - التعليم - صلاة

سومرية - عاهرات المعابد - حقوق المرأة - أدهنة الشعر والوجوه

نشر أور- أنجور في البلاد شرائعه باسم الإله الأعظم شمش، ذلك أن الحكومة سرعان ما رأت ما في الالتجاء إلى الدين من فوائد سياسية. فلما أن أصبح الآلهة ذوي فائدة من هذه الناحية تضاعف عددهم مراراً حتى أصبح لكل مدينة، ولكل ولاية، ولكل نوع من النشاط البشري، إله موح مدبر. وكانت عبادة الشمس قد تقادم عهدها حين نشأت بلاد سومر، وكان مظهرها عبادة شمس "نور الآلهة" الذي كان يقضي الليل في الأعماق الشمالية حتى يفتح

ص: 28

له الفجر أبوابه فيصعد في السماء كاللهب ويضرب بعربته في أعماق القبة الزرقاء. ولم تكن الشمس إلا عجلة في مركبته النارية (39). وشيدت مدينة نبور المعابد العظيمة للإله إنليل ولصاحبته ننهيل، وأكثر ما كانت تعبد أوروك إلهة أنينى العذراء إلهة الأرض والمعروفة لدى أهل أكد الساميين باسم إستير، والتي تشبه عند أهل الشرق الأدنى أفرديتى- دمتر الفاجرة الغمليجة عند الغربيين. وعبدت مدينتا كش ولكش أمّاً لهما حزينة هي الإلهة ننكر ساج التي أحزنها شقاء البشر فأخذت تشفع لهم عند الآلهة الذين كانوا أشد منها قسوة (40)؛ وكان ننجرسو إله الريّ و"ربّ الفيضانات". وكان أبو أو تموز إله الزرع؛ وكان سِنْ إله القمر، وكانوا يمثلونه في صورة إنسان يعلو رأسه هلال أشبه شيء بالهلالات التي تحيط برؤوس القديسين في العصور الوسطى؛ وكان الهواء كله في زعمهم مملوءً بالأرواح- منها ملائكة خيرين لكل سومر ملك منهم يحميه، ومنها أرواح خبيثة أو شياطين تعمل جاهدة لطرد الروح الخيرة الواقية وتقمص جسم الآدمي وروحه.

وكانت كثرة الآلهة تسكن المعابد حيث يقرب لها المؤمنون القرابين من مال وطعام وأزواج، وتنص ألواح جوديا على الأشياء التي ترتاح لها الآلهة وتفضلها عن غيرها، ومنها الثيران، والمعز، والضأن، واليمام، والدجاج، والبط، والسمك، والبلح، والتين، والخيار، والزبد، والزيت، والكعك (41). ولنا أن نستدل من هذا الثبت على أن الموسرين من أهل البلاد كانوا يتمتعون بالكثير من أصناف الطعام؛ ويلوح أن الآلهة كانوا في بادئ الأمر يفضلون لحم الآدميين فلما ارتقى أخلاق الناس لم يجدوا بدا من الاقتناع بلحم الحيوان.

وقد عثر في الخرائب السومرية على لوح نقشت عليه بعض الصلوات وجاءت فيها هذه النذر الدينية الغريبة: "إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته"(42)، وأثرى الكهنة من هذه القرابين حتى أصبحوا أكثر الطبقات مالاً وأعظمها قوة في المدن السومرية، وحتى كانوا هم الحكام

ص: 29

المتصرفين في معظم الشئون، حتى ليصعب علينا أن نحكم إلى أي حد كان الباتيسى كاهنا- وإلى أي حد كان ملكاً.

فلما أسرف الكهنة في ابتزاز أموال الناس نهض أوروكاجينا كما نهض لوثر فيما بعد، وأخذ يندد بنهمهم وجشعهم، ويتهمهم بالرشوة في توزيع العدالة، وبأنهم يتخذون الضرائب وسيلة يبتزون بها من الزراع والصيادين ثمرة كدهم. وأفلح وقتا ما في تطهير المحاكم من هؤلاء الموظفين المرتشين الفاسدين، وسن قوانين لتنظيم الضرائب والرسوم التي تؤدى للمعابد، وحمى الضعفاء من ضروب الابتزاز، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك (43). لكن العالم كان قد عمر حتى شاخ، وتأصلت فيه الأساليب القديمة التي غشاها الزمان بشيء من التبجيل والتقديس.

واستعاد الكهنة سلطانهم بعد موت أورو- كاجينا كما استعادوا سلطانهم في مصر بعد موت إخناتون؛ ذلك أن الناس لا يترددون في أن يؤدوا أغلى الأثمان لكي يعودوا إلى ما خطته لهم أساطيرهم؛ وكانت جذور الأساطير الدينية حتى في ذلك العهد السحيق قد أخذت تتأصل في العقول. ومن حقنا أن نفترض أن السومريين كانوا يؤمنون بالحياة الآخرة، لأن الطعام والأدوات كانت تدفن مع الموتى في القبور (44)، ولكنهم كانوا يصورون الدار الآخرة، كما صورها اليونان من بعدهم، عالماً مظلماً تسكنه الأطياف التعسة ويهوى إليه الموتى أياً كان شأنهم من غير تمييز بينهم.

ولم تكن فكرة الجنة والنار والنعيم الدائم والعذاب المخلد، قد استقرت بعد في عقولهم، ولم يكونوا يتقدمون بالصلاة والقربان طمعا في "الحياة الخالدة"، بل كانوا يتقدمون بهما طمعاً في النعم المادية الملموسة في الحياة الدنيا (45). وتصف إحدى الأساطير المتأخرة كيف علمت إي إلهة الحكمة أدابا حكيم إريدو جميع العلوم، ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً- هو سر الحياة الأبدية التي

ص: 30

لا تنتهي بالموت (46). وتقول أسطورة أخرى أن الآلهة خلقت الإنسان منعما سعيدا، ولكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة، فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعله، فأهلك الناس كافة ولم ينج منه إلا رجلاً واحد هو تجتوج الحائك، وأن تجتوج هذا خسر الحياة الخالدة والعافية لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة (47).

وكان الكهنة يعلمون الناس العلوم ويلقنونهم الأساطير، وما من شك في أنهم كانوا يتخذون من هذه الأساطير سبيلاً إلى تعليم الناس ما يريدونه هم، وإلى حكمهم والسيطرة عليهم. وكانت تلحق بمعظم الهياكل مدارس يعلم فيها الكهنة الأولاد والبنات الخط والحساب، ويغرسون في نفوسهم مبادئ الوطنية والصلاح، ويعدون بعضهم للمهنة العليا مهنة الكتابة. ولقد بقيت لنا من أيامهم الألواح المدرسية وعليها جداول للضرب والقسمة، والجذور التربيعية والتكعيبية، ومسائل في الهندسة التطبيقية (48). ويستدل من أحد الألواح المحتوية على خلاصة لتاريخ الإنسان الطبيعي على أن ما كان يتلقاه أطفال ذلك العهد من هذا العلم لم يكن أسخف كثيرا مما تلقاه أبناؤنا في هذه الأيام. فقد جاء في هذا اللوح:"إن الإنسان في أول خلقه لم يكن يعرف شيئاً عن خبز يؤكل أو ثياب تلبس، فكان الناس يمشون منكبين على وجوههم، يقتلعون الأعشاب بأفواههم ليقتاتوا بها كما تقتات بها الأغنام، ويشربون الماء من حفر في الأرض"(49).

ومن أعظم الشواهد الناطقة بما بلغه من هذا الدين- وهو أول الأديان التي عرفها التاريخ- من نبل في التعبير والتفكير، ذلك الدعاء الذي يتضرع به الملك جوديا للإلهة "بو" راعية لكش ونصيرتها:

أي ملكتي، أيتها الأم التي شيدت لكش

إن الذين تلحظينهم بعينيك ينالون العزة والسلطان،

والعابد الذي تنظرين إليه تطول حياته؛

أنا ليس لي أُم- فأنت أمي،

ص: 31

وليس لي أب- فأنت أبي

؛

أي إلهتي بو؟ إن عندك علم الخير،

وأنت التي وهبتني أنفاس الحياة،

وسأقيم في كنفك أعظّمك وأمجّدك،

واحتمي بحماك يا أُمّاه

وكان يتصل بالهياكل عدد من النساء منهن خادمات، ومنهن سراري للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض؛ ولم تكن الفتاة السومرية ترى شيئا من العار في أن تخدم الهياكل على هذا النحو، وكان أبوها يفخر بأن يهب جمالها ومفاتنها لتخفيف ما يعتري حياة الكاهن المقدسة من ملل وسآمة؛ وكان يحتفل بإدخال ابنته في هذه الخدمة المقدسة، ويقرّب القرابين في هذا الاحتفال، كما كان يقدم بائنة ابنته إلى المعبد الذي تدخله (51).

وكان الزواج قد أصبح وقتئذ نظاماً معقداً تحوطه شرائع كثيرة. فكانت البنت إذا تزوجت تحتفظ لنفسها بما يقدمه أبوها من بائنة؛ ومع أن زوجها كان يشترك معها في القيام بهذه البائنة، فقد كان لها وحدها أن تقرر من يرثها بعد وفاتها. وكان لها من الحقوق على أولادها ما لزوجها نفسه، وإذا غاب زوجها ولم يكن لها ابن كبير يقيم معها كانت تدير هي المزارع كما تدير البيت. وكان لها أن تشتغل بالأعمال التجارية مستقلة عن زوجها، وأن تحتفظ بعبيدها أو أن تطلق سراحهم. وكانت تسمو أحياناً إلى منزلة الملكة كما سمت شوب- آد وتحكم مدينتها حكماً رحيماً رغداً قوياً. غير أن الرجل كان هو السيد المسيطر في الأزمات جميعها وكان من حقه في بعض الظروف أن يقتل زوجته أو يبيعها أمة وفاء لما عليه من الديون. وكان الحكم الأخلاقي على الرجل يختلف عن الحكم الأخلاقي على المرأة حتى في ذلك العهد السحيق، وكان ذلك نتيجة لازمة لاختلافهما في شئون الملكية والوراثة. فزني الرجل كان يعد من النزوات التي يمكن الصفح عنها،

ص: 32

أما زني الزوجة فكان عقابه الإعدام، وكان ينتظر منها أن تلد لزوجها وللدولة كثيرا من الأبناء؛ فإذا كانت عاقرا جاز طلاقها لهذا السبب وحده، أما إذا كرهت أن تقوم بواجبات الأمومة، فكانت تقتل غرقاً. ولم يكن للأطفال شئ من الحقوق الشرعية، وكان للآباء إذا تبرءوا منهم علناً أن يحملوا ولاة الأمور على نفيهم من المدينة (53).

غير أن نساء الطبقات العليا كن يحيين حياة مترفة، وكان لهن من النعم ما كاد يعدل بؤس أخواتهن الفقيرات، شأنهن في هذا شأن النساء في جميع الحضارات. فالأدهان والأصباغ والجواهر من أظهر العاديات في المقابر السومرية وقد كشف الأستاذ ولي في قبر الملكة شوب- آد عن مدهنة صغيرة من دهنج

(1)

أزرق مشرب بخضرة، وعلى دبابيس من ذهب رؤوسها من اللازورد، كما عثر أيضا على مثبنة عليها قشرة من الذهب المخرم. وقد وجد في هذه المثبنة التي لا يزيد حجمها على حجم الخنصر ملعقة صغيرة لعلها كانت تستخدم في أخذ الصبغة الحمراء من المدهنة. وكان فيها أيضا عصا معدنية يستعان بها على ملوسة الجلد، وملقط لعله كان يستعمل لتزجيج الحاجبين أو لنزع ما ليس مرغوبا فيه من الشعر. وكانت خواتم الملكة مصنوعة من أسلاك الذهب وكان أحدها مطعما بفصوص من اللازورد، وكان عقدها من الذهب المنقوش واللازورد. وما أصدق المثل القائل أنه لا جديد تحت شمس وأن الفرق بين المرأة الأولى والمرأة الأخيرة ليتسع له سم الخياط.

(1)

الدهنج كجعفر كالزمرد ويسمى أيضا الملخيت Malachite. (المترجم)

ص: 33

‌5 - الآداب والفنون

الكتابة - الأدب - الهياكل والقصور - صناعة التماثيل -

صناعة الفخار - الحلي - كلمة موجزة عن المدينة السومرية

الكتابة أروع ما خلفه السومريون، ويبدو هذا الفن عندهم فناً عظيم الرقي صالحاً للتعبير عن الأفكار المعقدة في التجارة والشعر والدين. والنقوش الحجرية أقدم ما عثر عليه من النقوش، ويرجع عهدها إلى عام 3600 ق. م. (45)؛ وتبدأ الألواح الطينية في الظهور حوالي 3200 ق. م. ويلوح أن السومريين قد بدءوا من ذلك الوقت يجدون في هذا الكشف العظيم ما ترتاح له نفوسهم وما يفي بأغراضهم. ولقد كان من حسن حظنا أن سكان ما بين النهرين لم يكتبوا بالمداد السريع الزوال على الورق السريع العطب القصير الأجل، بل كتبوا على الطين الطري ونقشوا عليه ما يريدون نقشه بسن آلة حادة كالإسفين. وكانوا في ذلك جد مهرة، فاستطاع كتابهم بفضل هذه المادة اللينة أن يحتفظوا بالسجلات، ويدونوا العقود والمشارطات، ويكتبوا الوثائق الرسمية، ويسجلوا الممتلكات والأحكام القضائية والبيوع، ويخلقوا من هذه كلها حضارة لم يكن القلم فيها أقل قوة من السيف. وكان الكاتب إذا أتم ما يريد كتابته جفف اللوح الطيني في النار أو عرضه لحرارة الشمس، فجعله بذلك مخطوطا أبقى على الدهر من الورق، ولا يفوقه في طول العمر إلا الحجر وحده. وكانت نشأة هذه الكتابة المسمارية وتطورها أعظم ما للسومريين من فضل على الحضارة العالمية.

وتُقرأ الكتابة السومرية من اليمين إلى اليسار؛ والبابليون على ما نعلم هم أول من كتب من اليسار إلى اليمين. ولعل الكتابة في سطور كانت نوعاً من العلامات والصور التي جرى بها العرف والتي كانت تصور أو تنقش على الأواني الخزفية السومرية البدائية

(1)

. وأكبر الظن أن الصور الأصلية قد صغَّرت وبسطت

(1)

ارجع إلى ما قلناه عن الكتابة في الجزء الأول.

ص: 34

في خلال القرون الطويلة وبسبب الرغبة في سرعة كتابتها، حتى أضحت شيئاً فشيئاً علامات تختلف في شكلها اختلافاً تاما عن الأشياء التي كانت تمثلها، فصارت بهذا رموزاً للأصوات لا صوراً للأشياء. ولنضرب لهذا مثلاً من اللغة العربية يوضح هذه الطريقة وهو صورة العين. فإذا افترضنا أن صورة العين قد صغرت وبسطت وصورت حتى لم يعد معناها العين نفسها بل كان هو الصوت الخاص الذي تمثله مع حركتها "وهو الفتحة في هذه الحالة" والذي ينطق به مع حروف أخرى في كلمات مختلفة كالعَسَل مثلاً، كان هذا شبيهاً بما حدث في اللغة السومرية

(1)

. ولم يخط السومريون الخطوة التالية في هذا التطور فيجعلوا الرسم ممثلاً للحرف وحده دون الحركة عنه حتى يمكن استخدام العلامة الدالة على العين في ألفاظ مثل عنب وعُرقوب ومعمل تختلف حركة العين فيها عن الفتحة. وظلت هذه الخطوة التي أحدثت انقلاباً عظيماً في طرق الكتابة حتى خطاها قدماء المصريين (55).

ويغلب على الظن أن الانتقال من الكتابة إلى الأدب تطلب عدة مئات من السنين. فقد ظلت الكتابة قروناً عدة أداة تستخدم في الأعمال التجارية لكتابة العقود والصكوك، وقوائم البضائع التي تنقلها السفن، والإيصالات ونحوها؛ ولعلها كانت بالإضافة إلى هذا أداة لتسجيل الشؤون الدينية، ومحاولة للاحتفاظ بالطلاسم السحرية، والإجراءات المتبعة في الاحتفالات والمراسم، وبالأقاصيص المقدسة، والصلوات والتراتيل، حتى لا تبيد أو يدخل عليها المسخ والتغيير. ومع هذا فلم يحل عام 2700 ق. م. حتى كان عدد كبير من دور الكتب العظيمة قد أنشئ في المدن السومرية. فقد كشف ده سرزاك في مدينة تلو مثلاً،

(1)

هذا المثل من وضعنا. وأما المؤلف فقد ضرب مثلاً حرف b الإنكليزي ومركباته bee " النحلة"، being كائن. كذلك عدلنا الكلام في الفقرة التالية حتى يتفق مع المثل العربي. والمعنى رغم هذا التغيير واحد ويوضح ما يرمي إليه المؤلف. ولسنا نعد هذا تصرفاً في الترجمة بل نراه واجباً ضرورياً للترجمة الصحيحة. (المترجم)

ص: 35

وفي أنقاض عمائر معاصرة لعهد جوديا، مجموعة مؤلفة من ثلاثين ألف لوح موضوعة بعضها فوق بعض في نظام أنيق منطقي دقيق (56). وبدأ المؤرخون السومريون من عام 2000 ق. م. يكتبون ماضيهم ويسجلون حاضرهم ليخلفوه لمن يجئ بعدهم. ووصلت إلينا أجزاء من هذه السجلات ولكنها لم تصل إلينا في صورتها الأصلية بل جاءتنا مقتبسة في تواريخ المؤرخين البابليين. على أن من بين ما بقى من هذه الكتب في صورته الأصلية لوحاً عثر عليه في نبور كتب عليه الأصل السومري البدائي لملحمة جلجميش التي سندرسها فيما بعد في الصورة التي تطورت إليها عند البابليين (57). وتحتوي بعض الألواح المحطمة على مراثٍ ذات قوة لا بأس بها في أسلوب أدبي خليق بالتقدير. وفي هذه الألواح تبدأ خاصة التكرار اللفظي الذي تمتاز به أغاني الشرق الأدنى، فترى ألفاظاً بعينها تتكرر في بداية السطور، كما ترى كثيراً من الجمل تكرر المعنى الذي ذكر في جمل سابقة أو توضحه. وفي هذه الأثناء التي نجت من عوادى الأيام ترى النشأة الدينية للأدب في الأغاني والمراثي التي يرددها الكهنة. فلم تكن القصائد الأولى إذن أراجيز أو أناشيد غزلية بل كانت صلوات وأدعية دينية.

وما من شك في أن قروناً طويلة من النماء والتطور في سومر وفي غيرها من البلاد قد سبقت هذه البدايات الثقافية الظاهرة؛ فهذه الثقافات لم يبتدعها السومريون في هذه الحقبة بل نمت عندهم وتطورت. وكما يبدو في الكتابة أن السومريين قد ابتدعوا الخط المسماري، كذلك يبدو في العمارة أنهم ابتدعوا الأشكال الأساسية للمنازل والهياكل والأعمدة والقباب والعقود (58).

ويخيل إلينا أن الفلاح السومري كان أول الأمر ينشئ كوخه بأن يغرس الأعواد على هيئة مربع أو مستطيل أو دائرة، ويثني أعلاها حتى يجتمع، ثم يربطها حتى يتكون منها قوس أو عقدة أو قبة (59). فكان ذلك هو البداية البسيطة أو المظهر الأول المعروف لهذه الأشكال الهندسية المعمارية. وقد عثر المنقبون في

ص: 36

خرائب نبور على مجرى مائي معقود أنشئ منذ خمسة آلاف من السنين، وعثر في مقابر أور الملكية على عقود يرجع تاريخها إلى عام 3500 ق. م. وكانت المداخل المعقودة مألوفة في أور منذ عام 2000 (60) ق. م. وكانت عقودها عقوداً حقه أي أن أحجارها كانت صِنجِية الرص- كل حجر منها على هيئة إسفين يتجه طرفه الرفيع إلى أسفل محكم الوضع في مكانه.

أما الأغنياء من أهل المدن فكانوا يشيدون قصوراً يقيمونها على ربُى تعلو عن أرض السهل بنحو أربعين قدماً في بعض الأحيان، وكانوا يجعلونها منيعة لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق واحد، وبذلك يستطيع كل عظيم سومري أن يتخذ قصره حصناً له. وإذ كانت الحجارة نادرة الوجود في تلك البلاد فقد كان أغلب هذه القصور يُبنى من الآجر، وكانت الجدران الحمراء تغطى بحليات من الآجر نفسه ذات أشكال مختلفة- منها لوالب، ومقرنصات ومثلثات، ومنها معينات أو مشجرات. وكانت الجدران الداخلية تغطى بالجص وتنقش نقشاً بسيطاً. وكانت الحجرات والمرافق تقام حول فناء يقي البيت وهج شمس البحر الأبيض وحرّها. ولهذا السبب عينه مضافاً إليه رغبة القوم في الأمن من الأعداء كانت الحجرات تطل على هذا الفناء الداخلي بدل أن تطل على العالم الخارجي. أما النوافذ فكانت من الكماليات أو لعلهم كانوا في غير حاجة إليها. وكانت المياه تؤخذ من الآبار، وكان ثمة نظام واسع للمجاري وتصريف الفضلات من الأحياء المأهولة في المدن. وكان أثاث البيوت قليلاً بسيطاً. ولكنه لم يكن يخلو من طابع الفن والذوق، وكانت بعض الأسِرَّة تطعم بالمعادن أو بالعاج، وكانت لبعض الكراسي السائدة أحياناً أرجل تنتهي بما يشبه مخالب السباع (26) على النحو الذي نشاهده في كراسي المصريين الأقدمين.

أما الهياكل فكانت تستورد لها الحجارة من الأقطار النائية وكانت تزين بأعمدة وأفاريز من النحاس مطعمة بمواد شبيهة بالحجارة الكريمة. وكان هيكل

ص: 37

ناتاو في أور طرازاً تحتذيه سائر هياكل أرض الجزيرة فكانت جدرانه مغطاة من الخارج بالقرميد الأزرق الشاحب، أما من الداخل فكانت تكسوه ألواح من الأخشاب النادرة، كخشب الأرز والسرو تطعم بالرخام والمرمر والعقيق الظفري واليماني والذهب. وكان أعظم هيكل في المدينة يقام عادةً فوق ربوة يعلوه برج من ثلاث طبقات أو أربع أو سبع في بعض الأحيان، يحيط به سلم لولبي ذو بسطة عن كل مقلب. وكانت هذه الأبراج أعلى صروح في المدائن السومرية، ومساكن أعظم آلهتها، كان في وسع الحكومة أن تجد فيها آخر حصن روحي وطبيعي يعصمها من الثوار أو الغزاة

(1)

.

وكانت الهياكل تزينها أحيانا تماثيل للآلهة وللحيوان وللأبطال من بني الإنسان. وكانت هذه التماثيل ساذجة وغير جميلة في صناعتها، تمثل القوة والعظمة ولكن ينقصها الصقل والأناقة والدقة الفنية. ومعظم ما بقي منها يمثل الملك جوديا. وهي منحوتة من الحجر الديوريت الصلب نحتاً واضح المعارف ولكنه مع ذلك فج ساذج. وقد عثر في خرائب تنتمي إلى العهد السومري الأول على تمثال صغير من النحاس على شكل ثور عدى عليه الدهر ولكنه لا يزال يفيض حيوية وهمة ثورية. وفي مدينة أور عثر المنقبون على رأس بقرة مصنوع من الفضة في قبر الملكة شب- آد وهو آية فنية تشهد بما وصل إليه الفن من رقي عظيم، وإن كان الدهر قد عدا عليها حتى لم يعد في وسعنا أن نقدرها التقدير الذي هي خليقة به. وأن هذا الحكم ليؤيده ما بقي من النقوش المحفورة تأييداً

(1)

وقد أوحت هذه الأبراج إلى المهندسين الأمريكيين بطراز جديد من المباني الشاهقة ولم يسع القائمين على أعمال التنظيم في تلك البلاد إلا أن يرغموهم على الرجوع بالطبقات العليا من المباني إلى الداخل حتى لا يحجبوا الضوء عن جيرانهم. وإذا ما مثل الإنسان لنفسه أبراج السومريين التي أقيمت من الآجر منذ 5000 عام وأبراج مدينة نيويورك المقامة من الآجر في هذه الأيام إذا مثل الإنسان لنفسه هذه وتلك تضائل الزمن أمامه حتى لم يعد أطول من طرفة عين.

ص: 38

لا يكاد يترك مجالاً للشد فيه كذلك تظهر خشونة الفن السومري في "لوحة الصقور" التي أقامها إينا- نوم ملك لكش، واسطوانة إبنشار المصنوعة من الرخام السماقي (63) والصور الهزلية "وهي بلا شك هزلية" التي تمثل أور- نينا (6)، وبخاصة في "لوحة النصر" التي أقامها نارام- سِنْ، ولكنها مع ذلك تنم عن حيوية قوية في الرسم والنحت لا تكاد تترك مجالاً للشك في وجود فن ناشئ سائر في طريق الازدهار.

أما صناعة الخزف فليس في وسعنا أن نحكم عليها هذا الحكم السهل الذي أصدرناه على صناعة النحت ولعل عوادى الزمن من أسباب الخطأ في هذا الحكم، فقد لا يكون ما بقي لنا من آثار هذه الصناعة إلى أقلها شأنا. ولعل هؤلاء الناس كانت لديهم قطع منه لا تقل في إتقانها عن الأواني المنحوتة من المرمر التي عثر عليها في أريدو (65)، ولكن معظم الخزف السومري- وإن كانت عجلة الفخراني قد استخدمت فيه- لا يعدو أن يكون آنية ساذجة من الفخار لا تسمو

ص: 39

إلى مستوى مزهريات عيلام. وأما صناعة الذهب فقد بلغت مستوى رفيعا كما يدل على ذلك ما وجد في أقدم مقابر أور التي يرجع تاريخ معظمها إلى عام 4000 (66) ق. م من أوانٍ من الذهب تنم عن ذوق راقٍ ومصقولة أجمل صقل. وفي متحف اللوفر مزهرية من الفضة ضخمة كجسم جوديا ولكنها مزينة بطائفة كبيرة من صور الحيوانات المنحوتة نحتاً جميلاً (67). وأجمل ما وجد من هذه القطع الفنية غمد من الذهب وخنجر مطعم باللازورد قد عثر عليها المنقبون في أور (68). وإذا كان لنا أن نحكم على هذه الآية الفنية من صورها الشمسية

(1)

حق لنا أن نقول إن الفن يكاد يسمو فيها إلى ذروة الكمال. وقد كشف في هذه الخرائب عن عدد كبير من الأختام الأسطوانية معظمها مصنوع من المعادن الثمينة أو الأحجار الكريمة، وعليها نقوش منحوتة فيما لا يزيد على بوصة مربعة أو بوصتين. ويلوح أن السومريين كانوا يستخدمون هذه الأختام فيما نستخدم فيه نحن الإمضاءات، وكلها تشهد بما بلغته الحياة والأخلاق في تلك الأيام من رقي وتهذيب ينقض ما لدينا من فكرة ساذجة عن تقدم الإنسان المتواصل من ثقافات الأيام الخوالي المنحوسة إلى ثقافات هذه الأيام التي بلغت الحد الأقصى من الكمال!

ويمكن أن نلخص الحضارة السومرية تلخيصاً موجزا في هذا التناقض بين خزفها الفج الساذج وحليها التي أوفت على الغاية في الجمال والإتقان. لقد كانت هذه الحضارة مزيجاً مركباً من بدايات خشنة وإتقان بارع في بعض الأحيان. وفي تلك البلاد- على قدر ما وصل إليه علمنا في الوقت الحاضر- نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات، وأول نظم الري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول العقود التجارية، وأول نظام للائتمان، وأول كتب القوانين، وأول استخدام للكتابة في نطاق واسع، وأول قصص الخلق والطوفان، وأول المدارس والمكتبات، وأول الأدب والشعر، وأول

(1)

وأصل هذه التحفة محفوظ الآن في متحف بغداد.

ص: 40

أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين. وهنا نجد في البناء أول العقود والأقواس وأول القباب؛ وهنا كذلك تظهر لأول مرة في التاريخ المعروف بعض مساوئ الحضارة في نطاق واسع: يظهر الرق والاستبداد وتسلط الكهنة وحروب الاستعمار. لقد كانت الحياة في تلك البلاد متنوعة، مهذبة، موفورة النعم، معقدة. وهنا بدأت الفوارق الطبيعية بين الناس تنتج حياة جديدة من الدعة والنعيم للأقوياء، وحياة من الكدح والعمل المتواصل لسائر الناس. وفي تلك البلاد كانت بداية ما نشأ في تاريخ العالم من اختلافات يخطئها الحصر.

ص: 41

الفصل الثالث

‌الانتقال إلى مصر

أثر السومريين في أرض الجزيرة - بلاد العرب

القديمة - أثر بلاد الجزيرة في مصر

على إننا إذا ما تحدثنا عن بلاد السومريين نكون جد قريبين من بداية التاريخ قرباً يصعب علينا معه أن نحكم حكماً دقيقاً أي الحضارات التي نمت في بلاد الشرق الأدنى والتي يتصل بعضها ببعض أوثق اتصال- نقول أي هذه الحضارات كانت أسبق من أختها أو أيها أعقبت الأخرى. إن اقدم مدونات كتابية وصلت إلينا هي المدونات السومرية وإن كان هذا في حد ذاته لا يقوم دليلاً على أن الحضارة السومرية أولى الحضارات؛ فقد لا يكون هذا الكشف إلا وليد الظروف المحضة، وقد يكون نتيجة عبث الموت والفناء بمخلفات الأقدمين. ولقد عثر على تماثيل صغيرة وآثار أخرى شبيهة بآثار السومريين في بلدتي أشور وسامراء وهما من البلاد التي شملتها فيما بعد دولة أشور. ولسنا نعرف هل هذه الثقافة القديمة مستمدة من بلاد سومر أو أنها قد انتقلت إليها من مكان آخر عن طريق نهر دجلة. كذلك تشبه شرائع حمورابي شرائع أور- انجور ودنجى ولكنا لا نستطيع أن نثبت أن الأولى تطورت عن الثانية، وليست تطورا لشريعة أخرى أقدم منهما عهداً وأن كلتا الشريعتين استمدت أصولها منها. وكل ما في وسعنا أن نقوله هو أننا نرجح، ولا نؤكد، أن حضارة البابليين والآشوريين مستمدتان من سومر وأكد، أو أن سومر وأكد قد لحقتا الحضارتين البابلية والآشورية بلقاحهما (69). ذلك أن آلهة بابل ونينوى وأساطيرهما الدينية ليست في كثير من الأحوال إلا آلهة وأساطير سومرية طرأ عليها التحوير والتطور، وأن

ص: 42

العلاقة التي بين اللغتين البابلية والآشورية وبين اللغة السومرية لتشبه العلاقة القائمة بين اللغتين الفرنسية والإيطالية من جهة واللغة اللاتينية من جهة أخرى.

ولقد لفت شوينفرت أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح، واستئناس الماشية والمعز والضأن، وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد ما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسية الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة. ويستدل من هذا على أن الحضارة- وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المستأنسة- قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشرت منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين "سومر، وبابل وأشور" وإلى مصر (70). ولكن ما وصل إلى علمنا عن تاريخ بلاد العرب القديمة حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا نستطيع معه إلا أن نقول أن هذا مجرد فرض جائز الوقوع.

وأكثر من هذا احتمالاً أن عناصر معينة من الثقافة المصرية مستمدة من بلاد السومريين والبابليين. فنحن نعلم أن مصر وبلاد النهرين كانتا تتبادلان التجارة- وخاصة بطريق برزخ السويس- ولعلهما كانتا تتبادلان أيضا بالطريق المائي طريق مصاب الأنهر المصرية القديمة في البحر الأحمر (71). وإن نظرة إلى الخريطة لتوضح لنا السبب في أن مصر كانت طوال تاريخها المعروف تنتمي إلى آسية الغربية أكثر مما تنتمي إلى إفريقية. لقد كان من السهل أن تنتقل التجارة والثقافة إلى مصر من بلاد آسية بطريق البحر الأبيض المتوسط. ولكنها لا تلبث أن تعترضها الصحراء التي تفصل- هي وجنادل النيل- بلاد مصر عن سائر بلاد إفريقية. ومن ثم كان من الطبيعي أن نجد في الثقافة المصرية عناصر كثيرة من ثقافة ما بين النهرين.

وكلما رجعنا إلى الوراء في دراسة اللغة المصرية القديمة زاد ما نجده فيها من

ص: 43

صلات بينها وبين لغات الشرق الأدنى السامية (72). ويبدو أن الكتابة التصويرية التي كان المصريون يستخدمونها قبل عصر الأسر الحاكمة قد انتقلت إلى مصر من بلاد السومريين (73). والخاتم الأسطواني- وأصله بلا شك من بلاد الجزيرة- يظهر في أقدم العهود المعروفة من تاريخ مصر، ثم يختفي، وقد كان أسلوبا قديما دخيلا استبدل به أسلوب وطني أصيل (74). وليست عجلة الفخراني معروفة في مصر قبل عهد الأسرة الرابعة- أي بعد أن ظهرت في سومر بزمن طويل، ولعلها جاءت إلى مصر من أرض النهرين مع العربات والعجلات (75). ورؤوس الصولج المصرية لا تفترق في شيء عن البابلية (76). ومن بين الآثار المصرية التي ترجع إلى عصر ما قبل الأسر والتي عثر عليها في جبل الأراك سكين من الظران الجميل الصنع عليه نقوش بارزة هي بعينها نقوش أرض الجزيرة من حيث موضوعها وطرازها (77). ولعل صناعة النحاس قد نشأت في غرب آسية ثم انتقلت بعدئذ إلى مصر (78). وتشبه الهندسة المعمارية الأولى هندسة أرض الجزيرة في استخدام النقوش الغائرة لتزيين الجدران المتخذة من الآجر (79). وفخار عهد ما قبل الأسر المصرية وتماثيله الصغيرة وموضوعات زينتها تشبه مثيلاتها في أرض الجزيرة في كثير من الأحوال أو شديدة الصلة بلا ريب (80). ومن بين الآثار المصرية الباقية من ذلك العهد تماثيل صغيرة لآلهة لا يخطئ الإنسان في أنها من أصل آسيوي. ولقد كان الفنانون في أور ينحتون التماثيل وينقشون النقوش التي يدل طرازها وما جرى عليه العرف في صنعها على قدم هذين الفنين في بلاد سومر، وذلك في الوقت الذي يلوح فيه أن الحضارة المصرية لم تعد عهد بدايتها

(1)

.

(1)

حاول مؤرخ كبير هو إليوت اسمث أن يعارض هذه الآراء بقوله إن مصر وإن لم يعرف فيها الشعير والذرة الرفيعة والقمح بأشكالها البرية الطبيعية، كانت هي البلاد التي نجت فيها أقدم الشواهد الدالة على زراعة هذه النباتات. وهو يعتقد أن الزراعة والحضارة بوجه عام قد انتقلتا إلى بلاد سومر من مصر نفسها. وكذلك لا يؤمن الأستاذ برستد، أعظم علماء العاديات المصرية الأمريكيين، بأسبقية الحضارة السومرية للحضارة المصرية؛ وهو يعتقد أن العجلات قديمة في مصر قدمها في بلاد السومريين إن لم تكن أقدم، ويرفض رأي شوينفرد وحجته في ذلك الرفض أن الحبوب قد وجدت في أشكالها البرية في مرتفعات بلاد الحبشة.

ص: 44

ولا غضاضة على مصر في أن تعترف بالسبق لبلاد سومر. ذلك أنه مهما تكن الأصول التي استمدتها مصر من أرض دجلة والفرات فإن هذه الأصول سرعان ما نمت وأينعت وأثمرت حضارة مصرية خالصة فذة هي بلا ريب من أغنى الثقافات المعروفة في التاريخ وأعلاها شأناً وأعظمها قوة؛ وهي مع ذلك من أكثرها رشاقة وجمالاً، حضارة إذا قيست إليها الحضارة السومرية لم تكن هذه إلا بداية فجة، بل إن حضارتي اليونان والرومان لا تفضلانها في شيء.

ص: 45

الباب الثامن

‌مصر

الفصل الأول

‌هبة النيل

‌1 - في الوجه البحري

الإسكندرية - النيل - الأهرام - أبو الهول

هذا مرفأ أمين أوفى على الغاية في الأمان. ففي خارج حاجز المياه ترى الأمواج الصاخبة يعلو بعضها فوق بعض، أما في داخله فالبحر مرآة من اللجين. هناك، على جزيرة فاروس الصغيرة، في عهد من عهود مصر الموغلة في القدم، شاد سستراتس من الرخام الأبيض منارته العظيمة ورفعها خمسمائة قدم لتكون هادية لجميع الملاحين الضاربين في مياه البحر الأبيض المتوسط، ولتكون إحدى عجائب العالم السبع.

ولقد عفت آثار هذه المنارة بفعل الأيام والمياه الغاضبة، ولكن منارة جديدة قد حلت الآن محلها تهدي السفن التجارية بين الصخور إلى أرصفة ميناء الإسكندرية، حيث أنشأ الإسكندر ذلك الغلام السياسي العجيب مدينته العظيمة التي اختلطت فيها الأجناس، والتي ورثت فيما بعد ثقافة مصر وفلسطين واليونان. وفي مرفأ الإسكندرية استقبل قيصر وهو غاضب مكتئب رأس بمبى مفصولاً عن جسده.

وإذا أطل المسافر من نافذة القطار وهو يخترق المدينة لمحت عيناه في بعض

ص: 47

أجزائها أزقة وطرقات غير مرصوفة، وأمواجاً من الحرارة ترقص في الهواء، وعمالاً عرايا إلى أوساطهم يكدحون في مختلف الأعمال، ونساء ذوات مآزر سود يحملن الأثقال، وشيوخاً عليهم جلابيب بيض فاخرة وعمائم تكسوهم المهابة والوقار. وتقع العين من بعيد على ميادين فسيحة وقصور فخمة لا تقل جمالاً عما شاده فيها البطالمة حين كانت الإسكندرية ملتقى العالم كله. ثم لا يلبث الإنسان أن يرى نفسه فجاءة في الريف ويرى المدينة من ورائه تتراجع إلى أفق دال النهر الخصيبة، وهي ذلك المثلث الخضر الذي يبدو في المصورات كجريد النخلة السامقة محمولاً على جذع نهر النيل الرفيع.

وما من شك في أن هذه الدال كانت في يوم من الأيام خليجاً في البحر؛ طمره النهر الواسع طمراً بطيئاً لا تدركه العين بما ألقاه فيه من الغرين الذي حمله معه آلاف الأميال

(1)

. وفي هذا الركن الطيني الصغير الذي يحيط به مصبّا النهر العظيم يخرج ستة ملايين من الفلاحين قطنا يصدرون منه إلى خارج بلادهم ما قيمته مائة ألف ريال في كل عام. وفي ذلك الصقع من أصقاع العالم يجري أعظم نهر من أنهار الأرض وأوسعها ذكراً، تسطع الشمس على مياهه البرّاقة الهادئة وتكتنفه من جانبيه أشجار النخل الرفيعة السامقة والحشائش والحقول الناضرة. وليس في وسع المسافر أن يرى الصحراء الغربية من مجرى النهر العظيم أو الوديان الجافة التي كانت من قبل روافد له. ولا تستطيع في هذه المرحلة أن تدرك ضيق أرض مصر الشديد، واعتمادها التام على أرض النيل، وما يحيط بها على الجانبين من رمال سافية تناصبها العداء.

ويمر القطار الآن وسط السهل الرسوبي المغطى بعضه بالماء، والذي تخترقه قنوات الري في كل مكان، وينتشر فيه الفلاحون يجدّون ويكدحون وليس عليهم

(1)

يعتقد الجغرافيون القدماء أنفسهم "استرابوان مثلاً" أن أرض مصر كانت فيما مضى تغمرها مياه البحر الأبيض المتوسط وأن صحاريها كانت في قاع هذا البحر.

ص: 48

إلا القليل من الثياب. والنهر يفيض في كل عام ويبدأ فيضانه وقت الانقلاب الصيفي ويدوم نحو مائة يوم. وماء الفيضان هو الذي أخصب الصحراء، وأوجد مصر " هبة النيل " كما سماها هيرودوت. ومن اليسير على الإنسان أن يدرك لِمَ وجدتْ الحضارة في هذا الوادي موطناً من أقدم مواطنها. ذلك أننا لا نجد في أي بلاد أخرى في العالم نهراً مثل نهر النيل سخياً بمائه، يعلو بقدر، ويسهل التحكم فيه، وليس في وسع بلاد أخرى أن تضارع مصر في هذا إلا أرض الجزيرة. ولقد ظل زرَّاع مصر آلاف السنين يرقبون فيض النيل بقلوب واجفة، ولا يزال المنادون إلى يومنا هذا في أيام الفيضان يعلنون أنباءه في كل صباح في شوارع القاهرة. وهكذا ينحدر الماضي إلى المستقبل انحدار هذا النهر الهادئ الدائم الجريان ماراً في طريقه بالحاضر مراً خفيفاً. إن تقسيم الأيام إلى ماض وحاضر ومستقبل عمل من صنع المؤرخين، أما الزمن فلا يعرف هذا التقسيم.

لكن لكل هبة ثمنها، ومهما يكن تقدير الفلاح لهذا الفيض العظيم فقد أدرك أنه إن لم يسيطر عليه فإنه لا يروي الحقول فحسب بل إنه يرويها ويخربها. ومن أجل هذا احتفر من عهود ما قبل التاريخ تلك القنوات التي تخترق أرض مصر طولاً وعرضاً وتتقاطع فيها تقاطع خيوط الشباك، واحتبس فيها المياه الزائدة

(1)

حتى إذا ما انخفضت مياه النهر رفعها إلى الأرض في دلاء معلقة في قوائم طويلة وأنشد وهو يرفعها الأغاني التي استمع إليها النيل من خمسة آلاف من السنين. ذلك أن هؤلاء الفلاحين الذين نراهم الآن منقبضين لا يضحكون حتى في أثناء غنائهم لا يختلفون في شيء عن أجدادهم الذين عاشوا على ضفاف النهر طوال القرون الخمسة الماضية (3). وهذا الجهاز الذي يُرفع به الماء، والذي لا نزال نشاهده الآن، قديم قدم الأهرام نفسها، ولا يزال مليون من هؤلاء الفلاحين يتكلمون

(1)

ليس الغرض من إنشاء القنوات الاحتفاظ بالمياه الزائدة بل الغرض منها إيصال الماء إلى الأرض البعيدة عن مجرى النهر. (المترجم)

ص: 49

اللغة المنقوشة على الآثار القديمة رغم انتشار اللغة العربية في كافة أنحاء البلاد

(1)

.

وفي أرض الوجه البحري، وعلى بعد خمسين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من الإسكندرية، موقع مدينة نقراطيس القديمة التي كانت في يوم من الأيام مدينة صناعية عظيمة يسكنها اليونان المجدُّون. وعلى بعد ثلاثين ميلاً إلى شرق هذه المدينة موقع ساو "سايس أوْ صا الحجر" التي بعثت فيها الحضارة القومية المصرية آخر مرة في القرون التي سبقت الفتح الفارسي والفتح اليوناني. وعلى بعد مائة وتسعة وعشرين ميلاً في جنوب الإسكندرية الشرقي تقع مدينة القاهرة. والقاهرة مدينة جميلة ولكنها ليست مصرية خالصة، فقد شادها الفاتحون المسلمون في عام 968 بعد الميلاد. ثم أقام الفرنسيون المرحون في قلب الصحراء باريس أخرى دخيلة غير حقيقية، على السائح أن يجتازها في سيارة أو عربة تجرها الجياد، إذا أراد أن يجتازها على مهل، ليشاهد مصر القديمة عند الأهرام.

ولشد ما تبدو هذه الأهرام صغيرة الحجم حين ينظر الإنسان إليها من الطريق الطويل المؤدي إليها؛ فهل قطعنا نحن هذه الرحلة الطويلة لنرى هذه الآثار الصغيرة؟ ولكنها لا تلبث أن يزداد حجمها كأن يداً قد رفعتها في الهواء. ونصل إلى منحنى في الطريق، ونقبل فجأة على حافة الصحراء، تواجهنا الأهرام عارية منعزلة في الرمال، ضخمة شاهقة تسمو قممها في سماء مصر الصافية. ونبصر عند سفوحها خليطا من أجناس مختلفة- منهم رجال أشداء يركبون الحمير ذاهبين بها إلى أعمالهم، ومنهم سيدات في عربات النقل، ومنهم شبان مرحون على ظهور الخيل، وفتيات يجلسن في غير اطمئنان على ظهور الجمال تلتمع ثيابهن الحريرية

(1)

يقول المؤلف أنه استقى هذه المعلومات من كتاب إيرمن Erman " الحياة في مصر القديمة Life in Ancient Egypt" ولكنا لم نجد هذا القول أو ما يقرب منه في كتاب إيرمن ولعله يقصد بالمليون من الفلاحين الذين يتكلمون اللغة المنقوشة على الآثار، أقباط مصر. ولكن الأقباط لا يتكلمون اللغة المصرية القديمة وليست اللغة القبطية هي بعينها لغة الآثار وإن احتوت بعض ألفاظ منها. وحتى هذه اللغة لا يتحدث بها الأقباط وإن درسها بعضهم.

ص: 50

فوق سيقانهن في ضوء الشمس. ونرى في كل مكان الأدلاء العرب على استعداد لمعونة القادمين وتأدية ما يلزمهم من خدمات. ونقف حيث وقف قيصر ونابليون، ونذكر أن خمسين قرناً تطل علينا، نقف حيث جاء أبو التاريخ

(1)

قبل أن يجيء قيصر بأربعمائة عام، واستمع إلى القصص التي دهش منها بركليز. ثم يسقط من الصورة عامل الزمن فيبدو لنا قيصر وهيرودوت ونحن أيضا كأننا كلنا يعاصر قديمنا حديثنا، ونقف ذاهلين أمام هذه المقابر التي كانت أقدم إلى قيصر وهيرودوت من اليونان بالنسبة إلينا.

وإلى جوار الأهرام يربض تمثال أبي الهول، نصفه أسد ونصفه فيلسوف، يقبض بمخالبه القوية على الرمال، ويحدق بعينيه وهو ساكن لا يتحرك في الزائرين العابرين وفي السهل الأزلي. إنه لتمثال ينتهي فيه جسم الأسد برأس إنسان له فكّان بارزان، وعينان قاسيتان، كأن المدينة التي صورته "2990 ق. م" لم تنس ما كان عليه الإنسان من وحشية في سابق عهده. وكانت الرمال تغطيه في الزمن القديم، ولذلك لا يذكر هيرودوت كلمة واحدة عنه وهو الذي أبصر بعينيه أشياء كثيرة لا وجود لها في تلك البلاد.

ألا ما أعظم ما كان يتمتع به أولئك المصريون الأقدمون من ثراء. وما أقوى سلطانهم وأعظم حذقهم في طفولة التاريخ نفسها. لقد استطاعوا بثرائهم وقوتهم وحذقهم أن ينقلوا هذه الحجارة الضخمة ستمائة ميل أو أكثر وأن يرفعوها، وهي تزن عدة أطنان إلى علو خمسمائة قدم وأن يطعموا المائة ألف من العمال الذين ظلوا يكدحون عشرين عاماً كاملة في تشييد هذه الأهرام إذا لم يكونوا قد أدوا لهم أجورهم على عملهم هذا! وقد احتفظ لنا هيرودوت بنقش وجده على هرم منها يسجل مقدار ما استهلكه العمال الذين شادوه من فجل وثوم وبصل، كأن

(1)

يقصد هيرودوت. (المترجم)

ص: 51

هذه الأشياء أيضا لابد أن تخلد

(1)

. على أننا نغادر هذا المكان في غير بهجة، ذلك أنا نرى في هذا الحرص الشديد على الضخامة شيئاً من النزعة الهمجية البدائية أو النزعة الهمجية الحديثة. إن ذاكرة من يشاهدها وخياله وقد تضخما بفعل التاريخ وتأثيره، هما اللذان يخلعان العظمة على هذه الآثار. أما هي في ذاتها فلا تعدو أن تكون دليلاً على غرور الباطن؛ فهذه مقابر أراد بها الموتى حياة خالدة. ولعل الصور قد رفعت كثيراً من شأنها؛ ذلك أن الصور الشمسية تستطيع أن تسجل كل شيء عدا الأقذار، وأن تعظم من شأن أعمال الإنسان بما تحيطها به من مناظر الأرض والسماء. إن منظر غروب الشمس في الجيزة لأعظم في نظرنا من رؤية الأهرام.

‌2 - مشرعة النهر

منف - روائع الملكة حتشبسوت - تمثالا ممنون -

الأقصر والكرنك - عظمة الحضارة المصرية

يركب المسافر من القاهرة باخرة صغيرة تصعد في النهر- أي تسير فيه جنوباً- سيراً بطيئاً يستمر ستة أيام تصل بعدها إلى الكرنك والأقصر وتمر على بعد ثلاثين ميلاً إلى جنوب القاهرة بموقع منف أقدم العواصم المصرية. في هذه المدينة كان يحكم الملوك العظام ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة، وقد بلغ عامرها في أيامهم مليونين من الأنفس. والآن لا ترى العين فيها إلا صفاً من الأهرام الصغيرة وأيكة من النخل؛ أما ما عدا هذا فهو صحراء لا آخر لها، ورمال جرداء تغوص فيها الأقدام وتؤذي بوهجها الأعين وتسد مسام الجلد، وتغطي كل شيء، وتمتد من مراكش مخترقة طور سيناء وبلاد العرب والتركستان والتبت إلى

(1)

يقول ديودور الصقلي (وهو كاتب يجب أن يقرأ على الدوام بحذر): إن نقشاً على الهرم الأكبر ينص على (أن 1600 وزنة أي 000 ر 000 ر 16 (5) ريال قد أنفقت في شراء الخضر والمسهلات للعمال.

ص: 52

بلاد المغول وفي هذه المنطقة الرملية التي تخترق قارتين من أكبر قارات العالم قامت مراكز الحضارة في الزمن القديم، ثم عفت آثارها حين ارتد الجليد إلى الوراء فاشتدت الحرارة وقلت الأمطار. ويمتد بحَذاء النيل من البحر الأبيض

(1)

المتوسط إلى بلاد النوبة شريط ضيق من الأرض الخصبة يبلغ عرضه اثني عشر ميلاً على كلتا الضفتين انتزع من الصحراء. وهذا هو الخيط الذي كانت تتعلق به حياة مصر. ومع هذا فما أقصر ما تبدو حياة اليونان أو روما بالقياس إلى السجل الحافل في حياة مصر الذي يمتد من مينا إلى كليوباترا!

وبعد أسبوع من بداية الرحلة تصل الباخرة النيلية إلى الأقصر؛ وفي هذا المكان الذي تقوم فيه قرى صغيرة من حولها الرمال السافية شيدت أكبر العواصم المصرية وأغنى مدينة في العالم القديم، كانت معروفة عند اليونان باسم طيبة وعند أهلها باسم ويزى، ونى. وعلى الضفة الشرقية لنهر النيل يقوم الآن الفندق المعروف بقصر الشتاء "ونتر بالاس" يتوهج سياجه بزهر الجهنمية فإذا أطل المسافر على الضفة الغربية رأى الشمس تغرب من وراء مقابر الملوك في بحر من الرمال، ورأى السماء مزدانة بصفحات براقة ما بين أرجوانية وذهبية، وتسطع في الغرب من بعيد أعمدة هيكل الملكة حتشبسوت الفخم، إذا نظر إليه القادم من بلاد الغرب ظنه بهو أعمدة شاده اليونان أو الرومان الأقدمون.

فإذا أصبح الصباح ركب السائح قارباً بطيئاً يعبر به النهر فوق ماء هادئ ساكن، فلا يخطر بباله أن هذا النهر بعينه ظل يجري على هذا المنوال قروناً يخطئها الحصر. فإذا عبر النهر إلى الضفة الغربية سار في الصحراء ميلاً بعد ميل في طرق جبلية متربة، ماراً بقبور تاريخية قديمة حتى يصل إلى تلك الآية الفنية الرائعة، وأعني بها هيكل الملكة حتشبسوت العظيمة، الذي ترتفع عمدُهُ البيضُ

(1)

لعله يقصد من القاهرة أما ما يقع شمالها حتى البحر الأبيض فهو دال النهر التي تمتد عرضها الزراعية أضعاف هذا القدر. (المترجم)

ص: 53

الساكنة في وهج السماء الصافية. وهنا اعتزم الفنان أن يحيل الطبيعة وتلالها إلى جمال أعظم من جمالها، فشاد في مواجهة أجراف الحجر الأعبل هذه العمَد التي لا تقل فخامة عن العمد التي أقامها أكتينوس لبركليز. وليس في وسع من يشاهدها أن يخالجه شك في أن اليونان قد أخذوا فنون عمارتهم عن هذا الشعب المبدع المبتكر، ولعلهم أخذوها منه عن طريق جزيرة كريت. وعلى جدران هذا المعبد نقوش غائرة تنبض بالحياة والحركة والفكر وتقص قصة أولى نساء التاريخ العظيمات وملكة ليست أقل ملكاته شأناً.

ويشاهد المرء في طريقه وهو راجع تمثالين كبيرين يمثلان أعظم ملوك مصر تنعماً، وهو الملك أمنحوتب الثالث، ويسميهما الرحالة اليونان خطأ " تمثالي ممنون ". ويبلغ ارتفاع الواحد منهما سبعين قدماً، ويزن سبعمائة طن وهو منحوت من كتلة حجرية واحدة. وعلى قاعدة أحدهما نقش خطته يد السياح اليونان الذين زاروا هذه الآثار منذ ألفي عام. وهنا أيضا تتضاءل الدهور تضائلاً غريباً ويبدو هؤلاء اليونان في حضرة هذين التمثالين العظيمين معاصرين لنا نحن. وعلى بعد ميل منهما جهة الشمال آثار حجرية من عهد رمسيس الثاني، وهو شخصية من أروع الشخصيات في التاريخ، ويبدو الإسكندر الأكبر إلى جانبه إنساناً لا قيمة له ولا خطر. لقد عاش هذا الملك تسعة وتسعين عاماً جلس منهما على عرش مصر سبعة وستين، وأنجب من الأبناء مائة وخمسين. وتراه هنا تمثالاً كان ارتفاعه في يوم من الأيام ستا وخمسين قدماً، أما الآن فيمتد على الأرض بين الرمال ستاً وخمسين يسخر منه الغادون والرائحون. وقد حرص علماء نابليون على قياس كل جارحة فيه فقدروا طول أذنه بنصف قدم وعرض قدمه بخمس أقدام وقدروا وزنه بألف طن. وكان حقاً على نابليون أن يحييه بما حيّا به الفيلسوف جوته فيما بعد إذ قال:"هاهو ذا الرجل! ".

ومن حولنا في هذا المكان على شاطئ النيل الغربي مدينة الموتى حيث

ص: 54

كشف علماء الآثار المصرية المنقبون في كل ناحية من نواحيها قبراً لملك من الملوك. ولقد كان قبر توت عنخ آمون في أثناء زيارتي مغلقاً، مغلقاً حتى في وجه من كان يظنون أن الذهب تفتح له جميع الأبواب.

أما قبر سيتي الأول فمفتوح، وهنا في الأرض الظليلة المائلة إلى البرودة يستطيع السائح أن يبصر سقفاً وطرقات منقوشة ويعجب بما كان للصناع في ذلك العهد من مهارة، وما كان في البلاد من ثروة استطاعت بهما أن تنشئ أمثال هذه التوابيت الضخمة، وأن تحيطها بهذا الفن الرائع. ولقد شاهد المنقبون في أحد هذه المقابر آثار أقدام العبيد الذين حملوا جثة الملك المحنطة ليودعوها مقرها الأخير منذ ثلاثة آلاف عام (6).

وهذا ما يشاهده السائح على الضفة الغربية. أما الضفة الشرقية فهي مزدانة بأحسن الآثار وأجملها: ففي الأقصر القائمة على هذه الضفة بدأ أمنحوتب العظيم يقيم صرحه الضخم مستعيناً بالمغانم التي أفاءتها على مصر فتوح تحتمس الثالث. ولكن المنية عاجلته قبل أن يتمه، فوقف العمل مائة عام كاملة حتى جاء رمسيس الثاني وأتمه بما يليق بالملوك من أبهة. ولا يكاد المرء ينظر إلى هذا البناء حتى تغمره روح فن العمارة المصرية التي لا تقتصر مزاياها على السعة والقوة بل تجمع إليهما الجمال الرائع ودلائل الرجولة السامية. لقد كان في هذا الصرح بهو عظيم فسيح الأرجاء تغطيه الآن الرمال، ولكن أرضه في الأيام الخالية كانت كلها من الرخام، وتقوم على ثلاثة من جوانبه عمَد فخمة لا تضارعها إلا عمد الكرنك وحدها. وفي كل جهة حجارة عليها نقوش غائرة وتماثيل تنم عن العظمة حتى بعد أن عدت عليها عوادي الزمان فليتمثل القارئ ثمانية أعواد طويلة من أعواد البردي- مهد الكتابة ولكنه هنا طراز من طرز الفن؛ ومن تحت أزهارها التي لا تزال في أكمامها خمسة أربطة قوية تشد هذه الأعواد فتجمع بين

ص: 55

الجمال والقوة، وليتصور بعدئذ أن هذه الحزمة كلها من صخر أصم. تلك هي العمد المقامة في الأقصر على هيئة نبات البردي. وليتصور القارئ بهواً مشيداً كله من هذه العمد مرفوعة عليها دعامات ضخمة وأكنان ظليلة. ليتصورها القارئ بالصورة التي تركتها عليها عوادي ثلاثين قرناً؛ ثم ليحكم بعدئذ على أقدار الرجال الذين استطاعوا في ذلك العهد السحيق الذي كنا نسميه طفولة المدنية أن يفكروا في هذه الآثار العظيمة ثم يخرجوا أفكارهم إلى حيز الوجود.

ثم يجتاز السائح بين الأطلال القديمة والأقدار الحديثة طريقاً غير معبد يؤدي إلى هياكل الكرنك آخر ما احتفظت به مصر من آثارها لتعرضها على زائريها. وقد اشترك في تشييدها نحو خمسين من الفراعنة منذ أواخر الدولة القديمة إلى أيام البطالمة. وأخذت هذه الهياكل تنمو ويزداد عددها جيلا بعد جيل حتى غطت هذه الصروح، وهي أعظم ما قربه فن العمارة قرباناً للآلهة، ما لا يقل عن ستين فدانا من الأرض. وثمة طريق تحفه من الجانبين تماثيل لأبي الهول يؤدي من هذه

ص: 56

الهياكل إلى المكان الذي وقف فيه شامبليون واضع علم الآثار المصرية القديمة في عام 1828 م وكتب:

"وجئت آخر الأمر إلى قصر أو بعبارة أصح إلى مدينة الآثار- إلى الكرنك. وفيها تبدت لي عظمة الفراعنة بأكملها، وشاهدت كل ما تصوره الناس وما أخرجوه في أكبر صورة

وما من شعب قديم أو حديث غير قدماء المصريين قد صور لنفسه فن العمارة بهذا السمو وهذه العظمة وهذه الفخامة.

لقد كانوا يفكرون كما يفكر الجبابرة الذين تبلغ قامة الواحد منهم مائة من الأقدام (7).

وليس في وسع الإنسان أن يفهم هذا البناء على حقيقته إلا إذا كانت لديه خرائط ورسوم، وكان ملماً بكل ما بلغه فن العمارة من رقي. فليتصور القارئ رقعة فسيحة مسورة مربعة الشكل طول كل ضلع من أضلاعها ثلث ميل، كثيرة الإبهاء، كانت تحتوي في وقت من الأوقات على 000 ر 86 تمثال (8). أهم ما فيها مجموعة من المباني يتألف منها هيكل آمون وطوله ألف قدم في ثلاثمائة؛ وبين كل بهو وبهو أبواب عظيمة؛ وأعمدة النصر التي أقامها نابليون مصر تحتمس الثالث وقد تهشمت تيجانها ولكنها لا تزال تشهد بدقة النحت والتصوير؛ ثم بهو الاحتفالات ذو العمد المخددة التي شادها هذا الملك الباسل نفسه والتي تستبق كل ما في العمد الدورية المقامة في بلاد اليونان من قوة وعظمة، ثم هيكل بتاح الصغير ذو العمد التي لا تقل رشاقة عن أشجار النخيل الحية القائمة بجوارها، ثم المتنزه العظيم الذي أنشأه تحتمس أيضاً والذي يضم طائفة من العمد العارية الضخمة. وأعظم من هذا كله البهو الأكبر ذو السقف العظيم المقام على أعمدة ضخمة تبلغ عدتها مائة وأربعين، متقاربة بعضها من بعض لتقي من فيها حر الشمس اللافح وتمثل في أعلاها رؤوس النخل منحوتة في الحجارة، وتحمل سقفاً من كتل

ص: 57

ضخمة من الحجارة منحوتة من الحجر الأعبل الصلب وممتدة من تاج عمود إلى تاج عمود. وبالقرب من هذه الردهة مسلتان رفيعتان كلتاهما من حجر واحد متماثلتان أتم التماثل ومتساويتان في الجمال والرشاقة، تقومان كأنهما عمودان من النور بين حيطان التماثيل والهياكل، وتذيعان بما عليهما من النقوش

رسالة الملكة الفخور حتشبسوت إلى العالم. وقد جاء في هذا النقش أن " هاتين المسلتين قد صنعتا من الحجر الأعبل الصلب الذي جيء به من محاجر الجنوب، وأن رأسيهما من الذهب الإبريز الذي اختير من أحسن ما حوته منه البلاد الأجنبية. ويمكن مشاهدتهما على النهر من بعيد ونورهما الساطع يشع في الأرضين. وإذا ما لاح قرص الشمس بينهما بدا كأنه يبزغ حقاً في أفق السماء

وأنتم يا من ترون هذين الأثرين بعد زمن طويل ويا من تتحدثون من بعدي عما فعلت، ستقولون: إنا لا ندري، لا ندري كيف أقاموا جبلاً كله من الذهب

لقد أنفقت في تهذيبهما ذهباً كنت أكيله كيلاً كأنه أكياس الحب

ذلك أني أعرف أن الكرنك أفق الأرض السماوي" (9).

ص: 58

أعظم بها من ملكة وأعظم بهم من ملوك! أكبر الظن أن هذه الحضارة- أولى الحضارات العظيمة- كانت أجملها كلها، وأكبر الظن أيضا أننا لم نعدُ طور البداية في الكشف عن عظمتها. وفي جوار بحيرة الكرنك المقدسة رجال يحفرون الأرض ويحملون التراب في أسفاط صغيرة مزدوجة معلقة في عصا على الكتفين.

وإلى جانبهم عالم من علماء الآثار المصرية مكب على نقوش هيروغليفية على حجرين أخرجا من الأرض تواً، وهو واحد من آلاف الرجال أمثال كارتر، وبرستد، ومسبيرو، وبيتري، وكابار وويجال، الذين عاشوا في تلك البلاد عيشة البساطة والقناعة في حرارة الشمس اللافحة والرمال السافية يحاولون أن يحلوا لنا طلسم أبي الهول، وأن يختطفوا من بين أحضان الثرى الضنين

ص: 59

فنون مصر وآدابها وتاريخها وحكمتها؛ والأرض والسماء تعاكسهم في كل يوم، والخرافات تلعنهم وتعوقهم، والرطوبة وقوى التحات تغير في كل يوم على الآثار التي يخرجونها من باطن الأرض، وهذا النيل الذي يفيض على البلاد بالخصب والنماء يتسلل في أيام فيضانه إلى خرائب الكرنك، فيفك الأعمدة ويصدعها

(1)

، ويترك عليها بعد أن ينحسر عنها طبقة من الأملاح تأكل الحجارة كما يأكل الجذام الأجسام.

والآن فلنستعرض مرة أخرى عظمة مصر ومجدها في تاريخها وحضارتها قبل أن تتصدع آثارها وتنهار بين الرمال.

(1)

في 3 أكتوبر سنة 1899 تفكك أحد عشر عمودا من عمد الكرنك بتأثير الماء وهوت إلى الأرض.

ص: 60

الفصل الثاني

‌البناءون العظام

‌1 - كشف مصر

شامبليون وحجر رشيد

إن الكشف عن تاريخ مصر لهو أروع فصل في كتاب علم الآثار. لقد كان كل ما تعرفه العصور الوسطى عن مصر أنها مستعمرة رومانية وموطن من مواطن المسيحية؛ وكان الناس في زمن النهضة يظنون أن الحضارة بدأت في بلاد اليونان، وحتى عصر الاستنارة

(1)

لم يكن يعرف من مصر أبعد من الأهرام. وكان علم الآثار المصرية نتيجة ثانوية من نتائج حروب نابليون الاستعمارية. ذلك أن القائد القورسيقي العظيم، لما قاد الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798 م، اصطحب معه طائفة من الرسامين والمهندسين ليرتادوا الأرض ويرسموها، وشملت هذه الحملة أيضا بعض العلماء الذين كانوا يهتمون بمصر اهتماما يظنه الناس سخيفاً في تلك الأيام، ويسعون لفهم التاريخ فهما أوفى وأفضل مما كان يفهمه المؤرخون وقتئذ. وكانت هذه العصبة من الرجال هي التي كشفت للعالم الحديث هياكل الأقصر والكرنك، كما كان كتاب "وصف مصر" المحكم المفصل (1809 - 1813 م) الذي أعدوه للمجمع العلمي الفرنسي أول خطوة هامة خطاها العلماء في دراسة هذه الحضارة المنسية (10).

على أن هؤلاء العلماء ظلوا سنين طوال عاجزين عن قراءة النقوش الباقية على الآثار المصرية. وليس ما بذله شامبليون أحد هؤلاء العلماء من جد وصبر أن

(1)

يطلق هذا اللفظ على عصر الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر. (المترجم)

ص: 61

حل رموز الكتابة الهيروغليفية إلا شاهداً من شواهد كثيرة على الروح العلمية التي امتاز به علماء تلك الحملة. وعثر شامبليون آخر الأمر على مسلّة مغطاة بهذه "الرموز المقدسة" مكتوبة باللغة المصرية ولكن في أسفلها نقوشاً باللغة اليونانية عرف منها أن هذه الكتابة ذات صلة ببطليموس وكليوبطرة. وخطر له أن إحدى العبارات الهيروغليفية الكثيرة التكرار والتي يحيط بها الإطار الملكي

ص: 62

(الخرطوشي) هي اسم الملك والملكة، فَهَدَته هذه الفكرة (في عام 1822 م) إلى تمييز أحد عشر حرفاً من الحروف المصرية؛ ولكن ذلك كان مجرد حدس ولم يكن يقيناً. وكان هذا الكشف أول دليل على أن مصر كانت لها حروف هجائية. ثم طبق هذه الحروف على رموز وجدها على حجر كبير أسود عثر عليه جنود نابليون قرب مصب رشيد. وكان على "حجر رشيد" هذا

(1)

نقوش كتبت بثلاث لغات أولاها الهيروغليفية وثانيتها "الديموطية"- الكتابة المصرية الدارجة- والثالثة هي اليونانية. واستطاع شامبليون، بفضل علمه باللغة اليونانية وبالأحد عشر حرفاً التي عرفها من المسلة الأولى وبعد جهد متواصل دام أكثر من عشرين عاما، أن يحل رموز هذا النقش كلها وأن يعرف الحروف الهجائية المصرية بأجمعها. وأن يمهد السبيل للكشف عن عالَم عظيم مفقود. وكان هذا الكشف من أعظم الكشوف في تاريخ التاريخ

(2)

.

‌2 - مصر في عصر ما قبل التاريخ

العصر الحجري القديم - العصر الحجري الحديث -

عصر البداري - عصر ما قبل الأسر - جنس المصريين

إن المتطرفين في عصر من العصور هم أنفسهم الرجعيون في العصر الذي يليه، ومصداقاً لهذه القاعدة نقول أنه لم يكن ينتظر من الرجال الذين أنشئوا عِلم الآثار المصرية أن يكونوا أول من يؤمن بأن ما في مصر من مخلفات العصر الحجري القديم ينتمي حقاً إلى ذلك العصر. ذلك أن العالِم بعد الأربعين لا يظل طلعه تياحا. ولما أن كشفت أولى أدوات الظران في وادي النيل قال سير

(1)

وهذا الحجر محفوظ الآن في المتحف البريطاني.

(2)

وقد ساعد على هذا الكشف أكربلاد السياسي السويدي (1802 م) وتومس ينج العالم الطبيعي الإنكليزي صاحب الكفايات المتعددة (1814 م) بحلهما بعض رموز حجر رشيد.

ص: 63

فلندز بيتري، وهو الذي لا يتردد عادة في قبول أكبر الأرقام في تاريخ مصر، إنها من صنع ما بعد الأسر، وعزا ماسبيرو، الذي لم يفسد علمُه الغزير أسلوبه الممتع المنمق، الفخار المصري الباقي من العصر الحجري الحديث إلى الدولة الوسطى. ولكن ده مورجان كشف في عام 1895 م عن سلسلة متدرجة تكاد تكون متصلة الحلقات من حضارات تنتمي إلى العصر الحجري القديم- تطابق في أكثر نواحيها الحضارات المماثلة لها والتي جاءت في أوربا بعدها بزمن طويل. وكان ما كشفه من مخلفات هذه الحضارات المصرية رؤوس معاول يدوية، ومطارد، ورؤوس سهام، ومطارق عثر عليها على طول مجرى النيل (13). وتتدرج مخلفات العصر الحجري القديم تدرجا غير ملحوظ إلى مخلفات العصر الحجري الحديث على أعماق تدل على أنها تنتمي إلى العهد المحصور ما بين 000 ر 10، و 000 ر 4 سنة قبل الميلاد (14). وترقى صناعة الأدوات الحجرية شيئاً فشيئاً، وتزداد تهذيباً، وتصل إلى درجة من الحدة والصقل ودقة الصنع لا تضارعها فيها آية ثقافة أخرى وصل إلينا علمها من ثقافات العصر الحجري الحديث (15). وقبيل أواخر هذا العهد تظهر صناعة المعادن في صور مزهريات ومثاقب ودبابيس من النحاس وحلي من الفضة والذهب (16).

ثم يتدرج ذلك العصر إلى العصور التاريخية وتظهر الزراعة في أثناء هذا التدرج. وكان أول ما كشف من آثار عصر الانتقال في عام 1901 م حين عثر في بلدة البداري الصغيرة "وهي في منتصف المسافة بين القاهرة والكرنك" على جثث بين أدوات تنتمي إلى عهد يرجع إلى ما قبل المسيح بنحو أربعين قرناً. ووجدت في أمعاء هذه الجثث، التي أبقى عليها جفاف الرمال وحرارتها ستة آلاف عام، قشور من حب الشعير (17) غير المهضوم. ولما كان الشعير لا ينبت بريا في مصر فقد استدل من وجودها على أن البداريين كانوا يعرفون زراعة الحبوب. وقد بدأ سكان وادي النيل من ذلك العهد السحيق أعمال الري

ص: 64

وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهل.

وتوحي إلينا هذه البقايا وبقايا أخرى غيرها بشيء من العلم عن حياة المصريين قبل الأسر الأولى التي عاشت في الأزمنة التاريخية. لقد كانت ثقافة ذلك العهد ثقافة وسطاً بين الصيد والزراعة، بدأت منذ قليل باستبدال الأدوات المعدنية بالحجرية. وكان الناس في أيامها يصنعون القوارب، ويطحنون الحب، وينسجون الكتان والبسط، ويتحلون بالحلي، ويتعطرون بالعطور، لهم حلاَّقون وحيوانات مستأنسة، وكانوا يحبون التصوير وبخاصة تصوير ما يصيدون من الحيوان (18)، وكانوا يرسمون على خزفهم الساذج صور النساء الحزانى وصوراً أخرى تمثل الحيوانات والآدميين، وأشكالاً هندسية، وينحتون آلات غاية في الدقة والأناقة يشهد بها سكين جبل الأراك. وكانت لهم كتابة مصورة وأختام أسطوانية شبيهة بأختام السومريين (19).

وما من أحد يعرف من أين جاء هؤلاء المصريون الأولون. ويميل بعض العلماء الباحثين إلى الرأي القائل بأنهم مولودون من النوبيين والأحباش واللوبيين من جهة، ومن المهاجرين من الساميين والأرمن من جهة أخرى (20)، فالأرض حتى في ذلك العهد السحيق لم تكن تسكنها سلالات نقية. ويرجح أن الغزاة أو المهاجرين الذين وفدوا من غرب آسية قد جاءوا معهم بثقافة أرقى من ثقافة أهل البلاد (21)، وأن تزاوجهم مع هؤلاء الأهلين الأقوياء قد أنجب سلالة هجينة كانت مطلع حضارة جديدة كما هو الشأن في جميع الحضارات. وأخذت هذه السلالات تمتزج امتزاجا بطيئاً حتى تألف من امتزاجها فيما بين عام 4000، و 3000 ق. م شعب واحد هو الشعب الذي أوجد مصر التاريخية.

ص: 65

‌3 - الدولة القديمة

الأقسام الإدارية - الشخصية التاريخية الأولى - كيوبس -

"خفرن" الغرض من بناء الأهرام - فن المقابر - التحنيط

وقبل أن يحل عام 4000 ق. م كان هؤلاء الأقوام الذين يقيمون على ضفاف النيل قد أنشئوا لهم حكومة من نوع ما. فقد انقسم الأهلون المقيمون على شاطئ النهر أقساما ينتسب سكان كل قسم منها إلى أصل واحد. وكان لهم شعار واحد، ويخضعون لرئيس واحد، ويعبدون إلهاً واحد بمراسم وطقوس واحدة. وظلت هذه الوحدات الإقليمية قائمة طوال تاريخ مصر القديم، وظل لحكامها نوع من السلطان يختلف قوة وضعفاً واستقلالاً باختلاف قوة الملك الأعظم وضعفه. وإذ كان كل نظام مطرد النمو تجنح أجزاءه لأن يعتمد بعضها على بعض فإن هذه الأقسام أخذت تنظم نفسها مدفوعة إلى هذا التنظيم بحاجات التجارة النامية وتكاليف الحرب المتزايدة حتى تكونت منها مملكتان واحدة في الجنوب وأخرى في الشمال. ولعل هذا التقسيم كان صورة أخرى من النزاع القائم بين الإفريقيين أهل الجنوب والمهاجرين الآسيويين أهل الشمال.

وقد سوى هذا النزاع الذي زاد من أثر الاختلافات الجغرافية والعنصرية تسوية مؤقتة حين ضم مينا "مينيس"- وهو شخصية لا يزال يكتنفها بعض الغموض- القطرين تحت سلطانه الموحد، وأعلن في البلاد قانوناً عاماً أوحى إليه به الإله توت (22)، أقام أولى الأسر المالكة التاريخية، وشاد عاصمة جديدة لملكه في منف "منفيس" و "علم الناس" كما يقول مؤرخ يوناني قديم استخدام النضد والأسرة

وأدخل في البلاد وسائل النعيم والحياة المترفة (23).

ولم تكن أعظم شخصية حقيقية عرفها التاريخ شخصية ملك، بل كانت شخصية فنان وعالم، وتلك هي شخصية إمحوتب الطبيب والمهندس، وكبير

ص: 66

مستشاري الملك زوسر (حوالي 3150 ق. م) وكان له على الطب المصري من الفضل ما جعل الأجيال التالية تعبده وتتخذه إلهاً للعلم ومنشئ علومها وفنونها. ويلوح في الوقت نفسه أنه هو الذي أوجد طائفة المهندسين التي أمدت الأسرة التالية بأعظم البناءين في التاريخ.

وتقول الرواية المصرية أن أول بيت من الحجر قد أقيم بإشرافه، وأنه هو الذي وضع تصميم أقدم بناء مصري قائم إلى هذه الأيام وهو هرم سقارة المدرج، وذلك الهرم بناء مدرج من الحجر ظل عدة قرون الطراز المتبع في تشييد المقابر. ويلوح كذلك أنه هو الذي وضع تصميم هيكل زوسر الجنازي وأعمدته الجميلة الشبيهة بزهرة الأزورد "اللوطس"

(1)

وجدرانه المكسوة المقامة من حجر الجير (24) وفي هذه الآثار القديمة القائمة في سقارة، والتي تكاد تكون بداية الفن المصري في العهود التاريخية، نجد الأعمدة الأسطوانية المنقوشة التي لا تقل جمالاً عما شاده اليونان منها فيما بعد (25)، كما نجد فيها نقوشاً بارزة تفيض واقعية وحيوية (26)، وخزفاً أخضر، وفخاراً ملونا مطليا بطبقة زجاجية- يضارع ما أنتجته إيطاليا في العصور الوسطى (27). ونجد هناك أيضا تمثالاً قويا من الحجر لزوسر نفسه عدا عليه الدهر فطمس بعض معالمه التفصيلية، ولكنه يكشف عن وجه ذي نظرات حادة ثاقبة وعقل مفكر (28).

ولسنا نعلم حقيقة الأحوال التي جعلت الأسرة الرابعة أهم الأسر الحاكمة في تاريخ مصر قبل الأسرة الثامنة عشرة، فقد تكون الثروة المعدنية العظيمة التي استخرجت من أرض مصر في عهد آخر ملك من ملوك الأسرة الثالثة، وقد تكون ما أحرزه التجار المصريون من تفوق في تجارة البحر الأبيض المتوسط، وقد تكون قسوة خوفو

(2)

أول ملوك هذا البيت الجديد. وقد ترك لنا هيرودوت ما قاله له

(1)

عن ابن البيطار.

(2)

هو الذي يسميه هيرودوت كيوبس (حوالي 3098 - 75

ق. م).

ص: 67

الكهنة المصريون عن منشئ أول هرم من أهرام الجيزة فقال:

"وهم يقولون لي الآن أن العدالة ظلت توزع بالقسطاس، وأن الرخاء عم جميع أنحاء مصر إلى أيام حكم رحميسنتس؛ ثم حكم من بعده كيوبس فارتكب كل أنواع الخبائث؛ ذلك أنه أغلق جميع الهياكل

وسخر المصريين لخدمته وحده

فعين طائفة منهم لقطع الأحجار من المحاجر في جبال العرب ونقلها إلى النيل، وأمر طائفة أخرى باستقبال الحجارة بعد أن تنقل في النهر على سفن

وكان يعمل منهم مائة ألف في كل نوبة، وكل نوبة تعمل ثلاثة أشهر، وكل هؤلاء يكدحون عشر سنين في إنشاء الطريق الذي كانت تنقل عليه الحجارة، وهو عمل أرى أنه لا يقل مشقة عن تشييد الهرم نفسه (29).

أما خفرع

(1)

خليفته على العرش ومنافسه في البناء فلدينا عنه معلومات مستقاة من الآثار نفسها. وذلك أن تمثاله المصنوع من حجر الديوريت والمحفوظ في متحف القاهرة يصوره لنا بالصورة التي يمثل بها خيالنا من أنشأ هذا الهرم الثاني وحكم مصر ستاً وخمسين سنة إن لم يكن بالصورة التي كان عليها فعلاً. فعلى رأسه الباشق رمز السلطة الملكية، ولو لم يكن هذا الباشق على رأسه لأدركنا من هيبته ومن كل جزء صغير من جسمه أنه ملك بحق

(2)

فالتمثال يصوره إنساناً مزدهياً، صريحاً، جريئاً، ثاقب النظرات، أشم الأنف، قوياً في تحفظ وهدوء. ويتضح من صورته هذه أن الطبيعة قد عرفت من زمن طويل كيف تصوغ الرجال، وأن الفن قد عرف كيف يصورهم

(3)

.

ولم بنى هؤلاء الرجال الأهرام؟ لقد كان هدفهم الدين لا فن العمارة، فقد كانت الأهرام مقابر نشأت وتدرجت من القبور البدائية. ذلك أن الملك كان

(1)

وهو الذي يسميه هيرودوت خفرن (وقد حكم بين 3068 و 3011 ق. م).

(2)

يردد المؤلف في هذا الوصف ما قاله مسبيرو عن هذا التمثال. (المترجم)

(3)

لعل اللفظ الأجنبي للهرم بيراميد مشتق من الكلمة المصرية بيروموس ومعناها ارتفاع لا من الكلمة اليونانية بير- ومعناها النار.

ص: 69

يعتقد كما يعتقد السوقة من شعبه أن في كل جسم حي تستقر قرينة- كا- لا تموت حتما إذا لفظ الجسم أنفاسه، وأن هذه القرينة يضمن بقائها بقاء كاملا إذا ما احتفظ بالجسم آمناً من الجوع والتمزيق والبلي. وكانت وسيلته للبقاء ومقاومة الموت هي الهرم لعلوه وضخامته وشكله وموقعه. وإذا نحن ضربنا صفحاً عن أركانه فقد كان شكله هو الشكل الطبيعي الذي تصير إليه طائفة متجانسة من المواد الصلبة إذا ما تركت تسقط على الأرض من غير أن يعوقها عائق ما. وإذ كان يقصد بها كذلك البقاء والخلود فقد وضعت الحجارة في صبر لا يكاد يطيقه إنسان كأنما هي قد علت من نفسها على جانب الطريق، ولم تقتطع وتنقل من محاجر تبعد عن مكانها الحالي مئات الأميال. ويتكون هرم خوفو من مليونين ونصف مليون من الكتل الحجرية التي يبلغ وزن بعضها مائة وخمسين طناً ومتوسط وزنها طنين ونصف طن، وتبلغ مساحة قاعدته أكثر من نصف مليون قدم مربعة، ويعلو في الهواء إلى ارتفاع 411 قدماً. وحجارته مندمجة بعضها مع بعض ولم يترك بينها إلا موضع لبضع كتل ليكون طريقا سرياً تنقل فيه جثة الملك. ويرشد الدليل السائح الذي يسير مرتجفاً على أربع إلى الكهف الذي احتوى جثة الملك على ارتفاع مائة خطوة من القاعدة في قلب الهرم. وهناك في مكان رطب مظلم ساكن في أعماق ذلك الصرح لا يهتدي إليه إنسان استقرت فيما مضى من الأيام عظام الملك خوفو وزوجته، ولا يزال تابوت الملك المنحوت من الرخام مستقراً في مكانه، ولكنه محطم وفارغ لأن تلك الحجارة على ضخامتها لم تنج الجثة من اللصوص كما لم تنجها من جميع لعنات الآلهة.

ولما كانت القرينة في رأي المصريين الأقدمين صورة مصغرة للجسم نفسه فقد كان لابد من أن يقدم لها الطعام والكساء وما يلزمها من الخدمات بعد موت الجسد. ومن أجل هذا كانت تعد في بعض المقابر الملكية دورات مياه لتنتفع بها الروح بعد فراق الجسد، وتحتوي بعض النصوص الجنازية فقرات تعبر عن قلق

ص: 70

كاتبيها وخوفهم من أن تضطر القرينة إذا أعوزها الطعام إلى أن تطعم من فضلاتها (31). ومن الطبيعي أن يخطر بالبال أن عادات الدفن عند المصريين الأقدمين إذا ما تتبعناها إلى بدايتها قد تؤدي بنا إلى تلك العادة البدائية عادة دفن أسلحة المحارب وعدده مع جثته، أو إلى نظام شبيه بما كان يتبعه الهنود وهو دفن زوجات الرجل وعبيده معه لكي يقوموا على خدمته وقضاء حاجاته بعد موته. وإذ كان في اتباع هذه العادات كثير من المشقة على الأزواج والعبيد فقد عمد المصريون الأقدمون إلى استخدام الرسامين والمثالين لرسم الصور وحفر النقوش وصنع التماثيل الصغيرة التي تمثل الزوجات والعبيد. وقد جرت عاداتهم على أن ينقشوا عليها عبارات سحرية تبدل الصور والرسوم فتجعلها قادرة على أداء كل ما يحتاجه الميت من خدمات كأنها أجسام وأشياء حقيقية. ولعل أبناء الميت قد ركنوا إلى التكاسل والاقتصاد في النفقات فجنحوا إلى إهمال الواجبات التي كان الدين يفرضها عليهم في أول الأمر ومنها تقديم الطعام للميت حتى في الحالات التي وقف فيها من ثروته ما يفي بهذه النفقات. ومن أجل هذا كانت الصور المتخذة بديلاً من الحقائق احتياطا قائما على الحكمة وحسن التدبير، فقد كان في وسعها أن تمد قرينة الميت بالحقول الخصبة، والثيران الثمينة، والعدد الجم من الخدم والصناع النشطين بنفقة قليلة مغرية. ولما كشف المصريون عن هذا المبدأ أخذ الفنانون ينتجون الشيء الكثير من روائع الفن. ففي أحد القبور صورة لحقل يحرث؛ وفي قبر آخر ترى المحصول يحصد أو يدرس، وفي غيرهما ترى الخبز يسوى، وفي رابع ترى الثور يلقح البقرة، وفي غيره ترى العجل يولد، وفي آخر ترى الماشية التي كبرت تذبح، أو اللحم يقدم ساخناً في الصحاف (32). ويمثل نقش جميل على حجر جيري عثر عليه في قبر الأمير راع حوتب الميت يستمتع بمختلف الأطعمة على مائدة مبسوطة أمامه (33). لعمرك أن الفن لم يفعل للإنسان في عصر من العصور ما فعله لهؤلاء المصريين القدامى.

ص: 71

على أنهم لم يكتفوا بهذا بل رأوا أن يضمنوا للقرينة طول الأجل بدفن الجثة في تابوت من أقسى الحجارة، وبتحنيطها تحنيطاً كلفهم بلا شك أعظم الجهد والمشقة. وقد برعوا في هذا الفن براعة أبقت على قطع من الشعر واللحم عالقة بالعظام الملكية. وما أجمل وأوضح ما وصف به هيرودوت فن التحنيط حين قال: "أول ما يفعله المحنطون أن يخرجوا المخ من المنخرين بخطاف من الحديد، فإذا ما انتزعوا جزءاً منه بهذه الطريقة أخرجوا ما بقي منه بإدخال بعض العقاقير فيه، ثم فتحوا فتحة في جنب الميت بحجر حاد وأخرجوا منها جميع أحشائه، فإذا ما غسلوا البطن ونظفوه بنبيذ النخل رشوا عليه العطور المسحوقة، ثم ملئوا البطن بالمر النقي وبعطر العشبة وبغيره من العطور، وأعادوه بالخياطة إلى ما كان عليه من قبل؛ فإذا ما فعلوا هذا كله غمروه في منقوع النطرون

(1)

وتركوه فيه سبعين يوماً، وتركه أكثر من هذا الوقت مخالف للقانون. فإذا انقضت هذه الأيام السبعون غسلوا الجثة ولفوها كلها في أحزمة من القماش المشمع، وغطوا هذا القماش بطبقة من الصمغ الذي يستعمله المصريون عادة بدل الغراء. وبعد أن يتم هذا كله يسترد أهل الميت الجثة ويصنعون لها صندوقاً من الخشب على صورة إنسان، فإذا ما أتموا صنعه وضعوا الجثة فيه، وأحكموا إغلاقه وأودعوه لحداً وهو واقف مستند إلى جداره. وبهذه الطريقة يعالجون الأجسام التي يريدون الاحتفاظ بها علاجاً يكلفهم أبهظ النفقات" (34).

وتقول إحدى الأمثال المصرية المأثورة: "إن العالم كله يرهب الزمان، ولكن الزمان نفسه يرهب الأهرام (35) ". غير أن هرم خوفو رغم هذا قد نقص من ارتفاعه عشرون قدم، وزال عنه كل غطائه الرخامي. ولعل الزمان لا يرهبه كل الرهبة بل يفعل به ما يفعل بغيره؛ وكل ما في الأمر أنه يبليه على مهل. وإلى

(1)

سلكات الصوديوم والألمنيوم.

ص: 72

جانب هذا الهرم الأكبر يقوم هرم خفرع، وهو أصغر من الأول قليلاً، ولكن قمته لا يزال يكسوها غشاء من الحجر الأعبل "الجرانيت" الذي كان من قبل يغطيه كله. وعلى مسافة من هذا الهرم الثاني يقوم هرم آخر متواضع هو هرم منقورع خليفة خفرع على عرش مصر

(1)

. وهذا الهرم لا يغطيه الحجر الأعبل بل تغطيه طبقة وضيعة من الآجر كأنها تعلن للعالم أن الدولة القديمة كانت تؤذن بالزوال حين كان الملك يشيد هذا الهرم. وتصور ما وصل إلينا من تماثيل منقورع هذا الملك في صورة رجل أكثر رقة وتهذيباً وأقل قوة من خفرع

(2)

. إن الحضارة كالحياة تُفنى ما بلغت به حد الكمال، ولعل النعيم والترف حتى في هذا العهد السحيق، ولعل ما طرأ على العادات والأخلاق من تطور ورقي، لعل هذا كله قد جعل الناس يحبون السلم ويبغضون الحرب. وقام فجأة إنسان جديد، اغتصب عرش منقورع وقضى على أسرة بُناة الأهرام.

‌4 - الدولة الوسطى

عهد الإقطاع - الأسرة الثانية عشرة - سيطرة الهكسوس

لم يكن الملوك في بلد من البلاد بالكثرة التي كانوا بها في مصر القديمة. والتاريخ يضمهم جميعا في أسر، تشمل كل أسرة ملوكاً من بيت واحد أو ذرية واحدة؛ ولكن عدد هذه الأسر نفسها يثقل الذاكرة التي لا تطيق كثرتها

(3)

.

(1)

وهو الذي يسميه هيرودوت ميسرنيس "حكم من 3011 - 2985 ق. م تقريباً"

(2)

أنظر تمثال منقورع وزوجته في متحف الفن بنيويورك

(3)

وقد أراد المؤرخون أن يسهلوا الأمر على أنفسهم فجمعوا الأسر في عصور هي (1) عصر الدولة القديمة وتشمل الأسر من الأولى إلى السادسة "3500 - 2631 ق. م" وتليها فترة من الفوضى وتعقبها (2) الدولة الوسطى وتشمل الأسر من الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة "2375 - 1800 ق. م" ثم تأتي بعدها فترة أخرى من الاضطراب والفوضى يليها (3) عصر الإمبراطورية أو الدولة الحديثة، وتشمل الأسر من الثامنة عشرة إلى العشرين "1580 - 1100 ق. م". وأعقبها عصر انقسمت فيه البلاد انقساما وكان لها عدة عواصم. ثم جاء (4) عصر ساو "التي يسميها اليونان سايس والتي تسمى الآن صا الحجر" =

ص: 73

وحكم مصر بيبى الثاني أحد هؤلاء الفراعنة أربعاً وتسعين سنة "2738 - 2644 ق. م" وحكمه هذا أطول حكم في التاريخ كله. فلما مات عمت الفوضى البلاد وأدت إلى الانحلال وخسر خلفه عرشه. وحكم أمراء الإقطاع المقاطعات حكماً مستقلاً. وهذا التعاقب بين السلطة المركزية وغير المركزية من الظواهر التاريخية التي تتوالى بانتظام، كأن الناس يملون الحرية المفرطة تارة والنظام المسرف تارة أخرى. وطغى على البلاد "عصر مظلم" سادته الفوضى أربعة قرون، ثم قام بعدها رجل قوي الإرادة شبيه بشارلمان في عصور أوربا المظلمة، فقبض بيد من حديد على زمام الأمور، وأعاد النظام إلى البلاد، ونقل العاصمة من منف إلى طيبة، وتسمى باسم أمينمحيت الأول، وأسس الأسرة الثانية عشرة. وفي عهد هذه الأسرة ازدهرت الفنون جميعها- مع جواز استثناء فن العمارة- وبلغت من الإتقان درجة لم تبلغها فيما نعرفه من تاريخ مصر قبل هذه الأسرة أو بعدها. ويتحدث إلينا أمينمحيت في أحد النقوش القديمة بقوله:

كنت رجلاً زرع البذور وأحب إله الحصاد؛

وحياتي في النيل وكل وديانه؛

ولم يكن في أيامي جائع ولا ظمآن؛

وعاش الناس في سلام بفضل ما عملت وتحدثوا عني.

وكان جزاؤه أن ائتمر عليه من أعلا شأنهم ووضعهم في المراكز السامية من الوزراء والمستشارين. وقضى أمينمحيت على هذه المؤامرة، وبطش بالمتآمرين ولكنه خلف لابنه- كما فعل بولونيوس من بعده- ملفاً من الأوراق يحوي نصيحة مرة، هي في واقع أمرها قاعدة عجيبة للحكم المطلق ولكنها ثمن باهظ يبتاع به الملك عرشه:

= ويشمل الأسرة السادسة والعشرين "663 - 525 ق. م" وكل التواريخ الواردة هنا ما عدا الأخير منها تواريخ تقريبية. ويجد علماء الآثار بعض التسلية في تأخير هذه التواريخ أو تقديمها عدة قرون.

ص: 74

استمع إلى ما سأقوله لك،

حتى تكون ملك الأرض

،

وتزيد فيها الخير

أقسى على جميع من هم دونك

فإن الناس لا يعنون إلا بمن يرهبهم؛

ولا تقترب منهم بمفردك،

ولا تملأ قلبك بالمودة لأخ،

ولا تعرف صديقاً

،

وإذا نمت فاحرس بنفسك قلبك

لأن الإنسان لا صديق له في أيام الشر.

ولقد أقام هذا الملك الصارم الذي يبدو لنا من خلال أربعة آلاف من السنين حاكماً رحيماً، نظاماً من الحكم والإدارة دام خمسمائة عام، أثرت فيه البلاد مرة أخرى، وعاد فيه الفن إلى سابق عهوده الزاهرة. واحتفر سنوسريت الأول قناة تصل النيل بالبحر الأحمر، وصد الغزاة النوبيين وشاد الهياكل العظيمة في عين شمس والعرابة والكرنك. ولقد نجت من عبث الدهر عشرة تماثيل ضخمة تمثله جالساً، وهي الآن في متحف القاهرة. وبدأ سنوسريت آخر هو سنوسريت الثالث يخضع فلسطين لحكم مصر، ورد النوبيين الذين كانوا لا ينقطعون عن الإغارة على حدودها الجنوبية، ووضع لوحة عند تلك الحدود كتب عليها أنه لم يضعها "رغبة في أن تعبدوها، بل طمعاً في أن تحاربوا من أجلها"(37). وكان أمينمحيت الثالث إدارياً حازما عني بحفر الترع والتنظيم وسائل الري، وقضى "ولعله قد أسرف في هذا القضاء" على أمراء الإقطاع، وأحل محله موظفين معينين من قبل الملك. وبعد ثلاثة عشر عاماً من موته عاد الاضطراب إلى مصر على أثر النزاع الذي قام بين المتنافسين المطالبين بالعرش، وانقضى عهد الدولة الوسطى في حال من الفوضى

ص: 75

والتفكك دامت مائتي عام. ثم غزا الهكسوس، وهم بدو من آسية، مصر المتقطعة الأوصال، فأحرقوا مدنها وهدموا هياكلها وبددوا ما تجمع من ثروتها، وقضوا على كثير من معالم فنونها، وأخضعوا وادي النيل مدى قرنين لحكم "ملوك الرعاة"

(1)

. لقد كانت المدنيات القديمة جزائر صغرى في بحار من الهمجية، أو محلات رخية يحيط بها الجياع والحساد من الصيادين والرعاة ذوي النزعة الحربية. وكانت حصونها عرضة للتصدع والانهيار من حين إلى حين. بهذه الطريقة أغار الكاشيون على دولة بابل، وهاجم الغاليون بلاد اليونان والرومان، واجتاح الهون إيطاليا، وهاجم المغول بيجنج.

لكن الفاتحين لم يلبثوا هم أيضا أن سمنوا وأترفوا وفقدوا سلطانهم؛ وجمع المصريون شملهم وشنوا حرباً عوانا يبغون بها تحرير بلادهم، فطردوا الهكسوس، وأسسوا الأسرة الثامنة عشرة التي بلغت البلاد في أيامها درجة من القوة والمجد لم تبلغها من قبل.

‌5 - الإمبراطورية

الملكة العظيمة - تحتمس الثالث - ذروة المجد

لعل هذا الفتح قد جدد شباب مصر بما أدخله فيها من دم جديد؛ ولكنه كان إيذاناً بابتداء كفاح طويل مرير بين مصر وغرب آسية دام ألف عام. ذلك أن تحتمس الأول لم يعزز قوى الدولة الجديدة فحسب ولكنه غزا سوريا أيضاً بحجة أن مصر يجب أن تسيطر على غرب آسية لكي تمنع الاعتداء على أراضيها فيما بعد، وأخضع كل البلاد الواقعة بين ساحل البحر وقرقميش في الداخل، ووضع فيها حاميات من عنده، وفرض عليها الجزية، ثم عاد إلى طيبة مثقلاً بالغنائم ومكللاً بالمجد الذي يكلل على الدوام هامة من يقتل بني الإنسان. وفي آخر العام الثلاثين

(1)

يعتقد كثيرون من المؤرخين أن ترجمة كلمة هكسوس بالرعاة ترجمة خاطئة وأنهم لم يكونوا رعاة بل "ملوك أقاليم". (المترجم)

ص: 76

من حكمه رفع ابنته حتشبسوت إلى العرش لتكون شريكة له في الملك. وحكم من بعده زوجها وأخوها لأبيها باسم تحتمس الثاني، وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه تحتمس الثالث ابن تحتمس الأول من إحدى سراريه (38). ولكن حتشبسوت نحَّتْ هذا الشاب الذي علا نجمه فيما بعد واستأثرت دونه بالملك، وأثبتت أنها لا تختلف عن الملوك في شيء إلا في أنها أنثى.

على أنها لم تعترف حتى بهذا الفرق. ذلك أن التقاليد المقدسة كانت تطلب من كل مصري أن يكون ابن الإله العظيم آمون، ومن أجل هذا أعدت حتشبسوت العدة لأن تكون ذكراً وأن تكون مقدسة، فاخترعت لها سيرة نصت على أن آمون نزل على أحْمَسى أم حتشبسوت في فيض من العطر والنور، فأحسنت هذه استقبالاً؛ ولما خرج من عندها أعلن أن أحمسى ستلد ابنة تشع على الأرض كل ما يتصف به الإله من قوة وبسالة (39). وأرادت الملكة العظيمة بعد إذ أن تُرضي أهواء شعبها ولعلها أرادت أيضا أن تشبع رغبة كامنة في صدرها، فعملت على أن ترسم على الآثار في صورة محارب ملتح من غير ثديين؛ ومع أن النقوش الباقية من عهدها تتحدث عنها بضمير المؤنث، فإنها تسميها "ابن الشمس" و "سيد القطرين". وكانت حين تظهر أمام شعبها تلبس ملابس الرجال، وتلتحي لحية مستعارة (40).

ولعلها كان من حقها أن تقرر بنفسها أن تكون رجلاً أم إمرأة، وذلك لأنها أضحت من خير الحكام الذين جلسوا على عرش مصر- وهم كثيرون- ومن أعظمهم نجاحاً. فقد وطدت دعائم الأمن والنظام في داخل البلاد من غير أن تسرف في الاستبداد، وحافظت على السلم في خارج مصر من غير خسارة وأرسلت بعثة عظيمة إلى بونت "ويرجح أن بونت هذه هي شاطئ إفريقية الشرقي"، وافتتحت سوقا جديدة لتجارة مصر، وجاءت بكثير من الطيبات لشعبها. وعملت على تجميل الكرنك بأن أقامت فيها مسلتين كبيرتين جميلتين، وشيدت في الدير

ص: 77

البحري الهيكل الفخم الذي اختطه أبوها، وأصلحت بعض ما خربه ملوك الهكسوس من الهياكل القديمة، وقالت في أحد نقوشها تفخر بأعمالها:"لقد أصلحت ما كان من قبل مخرباً؛ وأكملت ما لم يكن قد تم تشييده حين كان الآسيويون في وسط الأرض الشمالية يهدمون فيها ما كان قائماً قبلهم"(41). ثم أنشأت لنفسها آخر الأمر قبراً سرياً مزخرفاً بجوار الجبال التي تطغى عليها الرمال على الضفة الغربية للنيل في المكان الذي سمي فيما بعد "وادي مقابر الملوك". وحذا خلفاؤها في ذلك حذوها، حتى كان عدد القبور المنحوتة في التلال قرابة الستين قبراً ملكياً، وحتى أخذت مدينة الموتى تنافس في عدد سكانها طيبة مدينة الأحياء، وكانت "الحافة الغربية" في المدن المصرية القديمة موطن الموتى من الطبقة العليا؛ وكانوا إذا قالوا أن فلاناً "ذهب غرباً" قصدوا بقولهم هذا أنه مات.

ص: 78

ودام حكم هذه الملكة اثنتين وعشرين سنة كان فيها حكما سلمياً حكيماً، ثم خلفها تحتمس الثالث وكان حكمه مليئاً بالحروب، فقد انتهزت بلاد سوريا فرصة موت حتشبسوت فثارت على مصر، وظن أهلها أن تحتمس الثالث، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، لن يستطيع الاحتفاظ بالدولة التي أقامها أبوه. ولكن تحتمس لم يقعد عن العمل فسار على رأس جيشه في السنة الأولى من حكمه عن طريق القنطرة وغزة بسرعة عشرين ميلاً في كل يوم، والتحم بالقوات الثائرة عند هار مجدو "أي جبل مجدو"، وهي بلدة صغيرة ذات موقع حربي منيع بين سلسلتي جبال لبنان على الطريق الممتد بين مصر ونهر الفرات. وهي بعينها مجداً التي وقعت فيها عدة وقائع حربية من ذلك اليوم إلى أيام ألِنْبِي. وفي نفس الممر الذي هزم فيه الإنكليز الأتراك في عام 1918 م أثناء الحرب العالمية الأولى هزم تحتمس الثالث السوريين وحلفائهم قبل ذلك بثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعين عاماً. ثم سار تحتمس مظفراً مخترقاً غرب آسية يخضع أهلها ويفرض عليهم الضرائب ويجمع منهم الخراج، وعاد بعد إذ إلى طيبة منتصراً بعد ستة أشهر من بداية زحفه

(1)

.

وكانت هذه الحملة أول حملات بلغت عدتها خمس عشرة أخضع فيها تحتمس الباسل بلاد البحر الأبيض المتوسط الشرقي لحكم مصر. ولم يكن عمله عمل الفاتح فحسب، بل إنه عمل أيضا على تنظيم فتوحه، فأقام في جميع البلاد المفتوحة حاميات قوية، وأنشأ فيها حكماً منظماً قديراً. وكان تحتمس أول رجل في التاريخ أدرك ما للقوة البحرية من شأن عظيم، فأنشأ أسطولاً أخضع لسلطانه بلاد الشرق الأدنى. وكان ما ظفر به من غنائم عماد الفن المصري في عهد الإمبراطورية، كما كان الخراج الذي أخذ ينصب في مصر من بلاد الشام منشأ حياة الدعة والنعيم التي تمتع بها شعبه، فوجدت في مصر طبقة جديدة من الفنانين غمرتها بروائع الفن. وفي وسعنا أن نتصور إلى حد ما ثروة الحكومة الإمبراطورية الجديدة إذا عرفنا

(1)

تطلب هذا العمل نفسه من ألِنبِي ضعفي هذا الزمن؛ وحاول نابليون أن يقوم بمثله في عكا فأخفق.

ص: 79

أن خزانة الدولة استطاعت في يوم من الأيام أن تخرج منها ما زنته تسعة آلاف رطل من سبائك الذهب والفضة (43). وراجت التجارة في طيبة رواجاً لم تعهده من قبل، وناءت الهياكل بالقربان، وارتفع صرح بهو الاحتفالات الملكية في الكرنك، وأنشأ فيها المتنزه العظيم بما يتفق مع عظمة الإله والملك. ثم عاد الملك من ميدان القتال ووجه عنايته للفن وإدارة شئون البلاد. ومن أجمل آثار ذلك العهد المزهريات البديعة النقش. وقال عنه وزيره ما كان أمناء سر نابليون المتعبون المنفيون يقولون عنه "أن جلالته كان يعرف كل ما يحدث؛ فما من شيء كان يجهله؛ فقد كان إله المعرفة في كل شيء؛ ولم تكن هناك مسألة لا يفصل فيها بنفسه (43) ". وتوفى الملك بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة "ويقول بعضهم أنها خمسا وأربعين"، وبعد أن أتم لمصر زعامتها في عالم البحر الأبيض المتوسط.

وجاء من بعده فاتح آخر هو أمنحوتب الثاني فأخضع مرة أخرى بعض عشاق الحرية في سوريا، وعاد إلى طيبة وفي ركابه سبعة ملوك أسرى أحياء مطأطئي الرءوس في مقدمة السفينة الإمبراطورية. وقدم الملك ستة منهم قربانا لآمون ضحى بهم بيده (44). ثم خلفه تحتمس آخر خامل الذكر، جلس بعده على العرش في عام 1412 أمنحوتب الثالث فحكم البلاد حكما طويلا ارتفعت مصر في خلاله إلى ذروة المجد بفضل ما تجمع فيها من الثروة خلال سيادتها التي دامت قرناً كاملاً. وفي المتحف البريطاني تمثال نصفي لهذا الملك يمثله في صورة رجل يجمع بين الرقة والقوة، في وسعه أن يقبض بيد من حديد على زمام الأمور في إمبراطوريته التي ورثها، وأن يعيش مع هذا في جو من الدعة والنعيم لعل بترونيس أول آل مديشى كانوا يحسدونه عليه. ولولا ما كشف من مخالفات توت عنخ آمون لما صدقنا ما تقصده الروايات وما تدونه السجلات من ثراء أمنحوتب ومظاهر ترفه. وقد بلغت طيبة في عهده من العظمة والفخامة ما بلغته أية مدينة أخرى في عهود التاريخ كلها، فكانت شوارعها غاصة بالتجار، وأسواقها مملوءة بالبضائع الواردة من جميع أنحاء العالم المعروف وقتئذ، ومبانيها " تفوق في فخامتها جميع

ص: 80

مباني العواصم القديمة والحديثة" (45)، وقصورها الرائعة تستقبل الخراج من طائفة لا حصر لها من الولايات الخاضعة لسلطانها، وهياكلها الضخمة "محلاة كلها بالذهب" (46) ومزينة بروائع الفنون على اختلاف أنواعها، وبيوتها ذات الحدائق وقصورها الفخمة ومتنزهاتها المظللة وبحيراتها الصناعية التي كانت مسرحاً لكل ما هو جديد من الأزياء والأنماط، كما كانت رومة في عهد الإمبراطورية (47). هذه هي عاصمة مصر في أيام مجدها وفي أيام مليكها الذي بدأ من بعده اضمحلالها وسقوطها.

ص: 81

الفصل الثالث

‌حضارة مصر

‌1 - الزراعة

كان من وراء هؤلاء الملوك والملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول

(1)

. ويصفهم هيرودوت كما وجدهم حوالي عام 450 ق. م وصفاً تسوده روح التفاؤل فيقول:

"إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب،

لأنهم لا يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولاً من الحَبّ؛ ذلك بأن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر مأواه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره؛ فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحَبّ في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم

جمع المحصول" (49).

وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها، كذلك أُنّست القرود ودربت على قطف الثمار من الأشجار (50)؛ وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة؛ وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لدغ البعوض (51). على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكاً لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن يفعلوا به إلا بإذن

(1)

كان سكان مصر في القرن الرابع قبل المسيح يقدرون بنحو سبعة ملايين نسمة.

ص: 82

منه، وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عُشر (52) المحصول وخُمسه (53). وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض. وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحداً منهم كان يملك ألفاً وخمسمائة بقرة (54). وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه، وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعاً من لحم الحيوان وطير، وثمانية وأربعون صنفاً من الشواء، وأربعة وعشرون نوعاً من الشراب (55). وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر (56).

وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكاً. فأما من كان منهم مزارعاً "حراً " فلم يكن يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض "كل ما تتحمله وسائل النقل". وإلى القارئ رأْي أحد الكتبة الظرفاء في حياة معاصريه من الرجال الذين كانوا يطعمون مصر القديمة:

"هلا استعدْت في خيالك صورة الزارع حين ُيجبى منه عُشر حَبّه؟ لقد أتلفَتْ الديدان نصف القمح، وأكَلَتْ أفراس البحر ما بقى له منه، وهاجمتها في الحقول جماعات كبيرة من الجرذان، ونزلَت بها الصراصير؛ والماشية النهمة، والطيور الصغيرة تختلس منها الشيء الكثير؛ وإذا غفل الفلاح لحظة عما بقي له في الأرض، عدا عليه اللصوص. يضاف إلى هذا أن السيور التي تربط الحديد والمعزقة فقد بليت، وأن الثورين قد ماتا من جرّ المحراث. وفي هذه اللحظة يخرج الجابي من القارب عند المرسى ليطلب العشور، ثم يأتي حُرّاس أبواب مخازن "الملك" بعصيّهم، والزنوج بجريد النخل، يصيحون: تعالوا الآن، تعالوا! فإذا لم يأتهم أحد طرحوا الزارع أرضاً، وربطوه، وجرّوه إلى القناة وألقوه فيها

ص: 83

مبتدئين برأسه، وزوجته مربوطة معه، ثم يسلك أطفاله في السلاسل، ويفرّ جيرانه من حوله لينقذوا حبوبهم" (57).

تلك بطبيعة الحال قطعة أدبية فيها كثير من المبالغة، ولكن كاتبها كان في وسعه أن يضيف إليها أن الفلاح كان معرضاً في كل وقت إلى أن يسخر في العمل لخدمة الملك، يطهر قنوات الري، وينشئ الطرق، ويحرث الأراضي الملكية، ويجرّ الحجارة الضخمة لإقامة المسلات وتشييد الأهرام والهياكل والقصور. وأكبر ظننا أن كثرة العاملين في الحقول كانت قانعة راضية بفقرها صابرة عليه. وكان كثيرون منهم عبيدا من أسرى الحرب أو المدنيين؛ وكانت الغارات تنظم أحياناً للقبض على العبيد، وكان يؤتى بالنساء والأطفال من خارج البلاد ليبعن في البلاد لمن يدفع فيهن أغلى الأثمان. وفي متحف ليدن نقش بارز قديم يصور موكباً طويلا من الأسرى الآسيويين يسيرون مكتئبين إلى أرض الأسر، ويراهم الإنسان أحياء على هذا الحجر الناطق وأياديهم موثوقة خلف ظهورهم أو رؤوسهم، أو موضوعة في أصفاد قوية من الخشب، وعلى وجوههم إمارات الحقد المنبعثة من اليأس.

‌2 - الصناعة

المعدنون - الصناع - العمال - المهندسون -

النقل - البريد - التجارة وشئون المال - الكتبة

وازداد الفائض من الثروة شيئاً فشيئاً نتيجة عمل الزراع، وادخر الطعام لمن يعملونه في التجارة والصناعة. وكانت مصر تستورد المعادن من بلاد العرب والنوبة لقلتها فيها. وكان بُعد مراكز التعدين مما لا يغري الأهالي باستغلالها لحسابهم الخاص، ولذلك ظلت صناعة التعدين قروناً كثيرة محتكرة للحكومة (58). وكانت مناجم النحاس تغل مقادير قليلة منه (59)، أما الحديد فكان يستورد من بلاد الحيثيين، وكانت مناجم الذهب منتشرة على طول الضفة الشرقية للنيل وفي

ص: 84

بلاد النوبة، كما كان يؤتى به من خزائن جميع الولايات الخاضعة لسلطان مصر. ويصف ديودور الصقلي (56 ق. م) المعدنين المصريين وهم يتبعون بالمصباح والمعول عروق الذهب في الأرض، والأطفال وهم يحملون المعدن الخام، والمهارس الحجرية وهي تطحنه، والشيوخ والعجائز وهم يغسلونه. ولسنا نعرف بالضبط ما في هذه الفقرة الشهيرة من تزييف مبعثه النعرة القومية العارمة:

"إن ملوك مصر يجمعون السجناء الذين أدانهم القضاء، وأسرى الحرب وغيرهم ممن وجهت إليهم التهم الباطلة وزجوا في السجون في سورة من الغضب، وهؤلاء كلهم يرسلون إلى مناجم الذهب تارة وحدهم وتارة مع جميع أسرهم، ليقتص منهم عن جرائم ارتكبها المجرمون منهم، أو ليستخدموا في الحصول على دخل كبير نتيجة كدهم

وإذا كان هؤلاء العمال عاجزين عن العناية بأجسامهم، ليس لهم ثياب تستر عريهم، فإن كل من يرى هؤلاء البائسين المنكودي الحظ تأخذه الرحمة بهم لفرط شقائهم. ذلك أنه لا يرى أحداً يرحم المرضى والمشوهين والعجزة والضعاف من النساء، أو يخفف العمل عنهم. ولكن هؤلاء كلهم يُلزمون بالدأب على العمل حتى تخور قواهم، فيموتوا في ذل الأسر. ولهذا فإن هؤلاء البائسين المساكين يرون مستقبلهم أتعس من ماضيهم لقسوة العقاب الذي يوقع عليهم، وهم من أجل ذلك يفضلون الموت على الحياة" (60).

وعرفت مصر في عهد الأسرات الأولى كيف تصنع البرنز بمزج النحاس بالقصدير، وصنعت منه أو الأمر أسلحة برنزية كالسيوف، والخوذات والدروع؛ ثم صنعت منه بعدئذ أدوات برنزية كالعجلات، والهراسات، والرافعات، والبكرات، وآلات رفع الأثقال، والأوتاد، والمخارط، واللوالب، والمثاقب التي تثقب أقسى أحجار الديوريت، والمناشر التي تقطع ألواح الحجارة الضخمة لصنع التوابيت. وكان العمال المصريون يصنعون الآجر والأسمنت والمصيص، ويطلون الفخار بطبقة زجاجية، ويصنعون الزجاج وينقشونه هو والفخار بمختلف

ص: 85

الألوان. وقد برعوا في حفر الخشب يصنعون منه كل ما يصلح لصنعه من قوارب وعربات وكراسي، وأسرة، وتوابيت جميلة تكاد تغري الأحياء بالموت. واتخذوا من جلود الأنعام ملابس وكنانات، ودروعاً، ومقاعد. وقد صورت على جدران المقابر كل الفنون المتصلة بدبغ الجلود، ولا يزال الأساكفة إلى الآن يستخدمون السكاكين المقوسة المصقولة على تلك الجدران في أيدي دابغي الجلود (61). وصنع المصريون من نبات البردي الحبال والحصر والأخفاف والورق. وابتدعوا فن الطلاء بالميناء والورنيش واستخدموا الكيمياء في الصناعة. ومن الصناع من كان يعمل في نسج القماش من أدق الخيوط المعروفة في تاريخ النسج كله. وقد عثر المنقبون على نماذج من الكتان منسوجة من أربعة آلاف عام، وعلى الرغم من عوادي الأيام فإن " خيوطها قد بلغت من الدقة حداً لا يستطيع الإنسان معه أن يميزها من خيوط الحرير إلا بمجهر. وإن أحسن ما أخرجته المناسج الآلية في هذه الأيام ليعد خشنا إذا قيس إلى هذا النسيج الذي كان يصنعه المصريون الأقدمون بأنوالهم اليدوية (62). وفي هذا يقول بسكل:"إذا فاضلنا بين قدرة المصريين الفنية وقدرتنا نحن، تبين لنا أننا كنا قبل اختراع الآلة البخارية لا نكاد نفوقهم في شيء"(63).

وكانت الكثرة الغالبة من الصناع من الأحرار، وقلتهم من الرقيق. وكان العاملون في كل صناعة من الصناعات يؤلفون طبقة خاصة كما هو الحال في الهند اليوم. وكان يطلب إلى الأبناء أن يتخذوا صناعات آبائهم

(1)

. وقد جاءتهم الحروب بآلاف من الأسرى فكانوا عونا على إنشاء الضياع الواسعة وعلى رقي فن الهندسة. وقد أهدى رمسيس الثالث في أثناء حكمه 000 ر 113 أسير إلى الهياكل". وكان النظام المألوف للصناع الأحرار أن تؤلف منهم فرق تتبع

(1)

ويضيف ديودور إلى هذا قوله: "إذا اشترك صانع في الشؤون العامة ضرب ضرباً موجعا"

ص: 86

رئيساً منهم أو مشرفاً عليهم يؤجر على عملها جملة ويؤدي هو لأفرادها أجورهم. وفي المتحف البريطاني لوحة طباشيرية سجل فيها أحد رؤساء العمال أسماء ثلاثة وأربعين عاملا ودّون أمام أسمائهم أيام غيابهم وأسباب هذا الغياب من "مرض" أو "تضحية للإله" أو مجرد "الكسل". وكان الإضراب كثير الحدوث؛ وقد حدث مرة أن تأخر صرف الأجور للعمال زمناً طويلاً فحاصروا رئيسهم وأنذروه بقولهم له: "لقد ساقنا إلى هذا المكان الجوع والعطش، وليست لنا ثياب، وليس عندنا زيت ولا طعام؛ فاكتب إلى سيدنا الملك في هذا الأمر، واكتب إلى الحاكم (حاكم المقاطعة) الذي يشرف على شؤوننا حتى يعطيانا ما نقتات به"(67). وتروي إحدى القصص اليونانية المتواترة خبر فتنة صماء اندلع لهيبها في مصر واستولى فيها العبيد على إحدى المديريات، وظلت في أيديهم زمنا طويلاً كانت نتيجته أن الزمن، الذي يجيز كل شيء، أقر امتلاكهم إياها. لكن النقوش المصرية لا تذكر شيئاً قط عن هذه الفتنة (68). ومن أغرب الأشياء أن حضارة كانت تستغل العمال هذا الاستغلال القاسي لم تعرف أو لم تسجل إلا عددا ضئيلاً من الثورات.

وكان فن الهندسة عند المصريين أرقى من كل ما عرفه منه اليونان أو الرومان، أو عرفته أوربا قبل الانقلاب الصناعي؛ ولم يتفوق عليهم فيه إلا عصرنا الحاضر، وحتى في هذا القول الأخير قد نكون مخطئين. مثال ذلك أن سنوسريت الثالث شاد

(1)

سوراً حول بحيرة موريس طوله سبعة وعشرين ميلاً ليجمع فيها ماء منخفض الفيوم، وأصلح بعمله هذا 000 ر 25 فدان كانت من قبل مناقع، فأصبحت صالحة للزراعة، هذا إلى أنه اتخذ من هذه البحيرة خزاناً واسعاً لماء الري (69). واحتفرت قنوات عظيمة منها ما يصل إلى النيل بالبحر الأحمر، واستخدمت الصناديق الغاطسة للحفر تحت الماء (70)، ونقلت المسلات التي تزن ألف طن من

(1)

إذا قلنا شاد الملك فإنا نقصد بطبيعة الحال أنه قد شيد في عهده.

ص: 87

أماكن قاصية. وإذا جاز لنا أن نصدق ما ينقله لنا هيرودوت، أو نحكم على أعمال السابقين بما نشاهده من صورها في النقوش البارزة التي خلفتها الأسرة الثامنة عشرة، قلنا أن هذه الحجارة الضخمة كان يجرها آلاف من العبيد على عروق من الخشب مطلية بالشحم، ثم ترفع إلى أماكنها في البناء على طرق طويلة تبدأ من أماكن بعيدة (71). ولقد كانت الآلات نادرة لأن الجهد العضلي كان رخيصاً، وليس أدل على هذا الرخص من نقش بارز صور فيه ثمانمائة من المجدفين يدفعون سبعة وعشرين قارباً تجر وراءها صندلاً للنقل يحمل مسلتين (72). هذا هو العصر الذهبي الذي يريد من ينادون بتحطيم الآلات أن يعودوا إليه. وكانت سفن يبلغ طول الواحدة منها مائة قدم وعرضها خمسين قدماً تمخر عباب النيل والبحر الأحمر، ثم انتقلت آخر الأمر إلى البحر الأبيض المتوسط. أما في البر فقد كانت البضائع ينقلها الحمالون، ثم استخدمت في نقلها الحمير ثم الخيل، وأكبر الظن أن الهكسوس هم الذين جاءوا بالخيل إلى مصر. ولم يظهر الجمل في مصر إلا في عهد البطالمة (73). وكان الفقراء من أهل البلاد يتنقلون مشياً على الأقدام أو يستخدمون قواربهم البسيطة، أما الأغنياء فكانوا يركبون رجازات

(1)

يحملها العبيد ثم صاروا فيما بعد يركبون عربات غير أنيقة الصنع يقع ثقلها كله أمام محور العجل (74).

وكان لدى المصريين بريد منتظم؛ فقد جاء في بردية قديمة: "اكتب إلىّ مع حامل الرسائل"(75). إلا أن وسائل الاتصال لم تكن مع ذلك ميسرة، فقد كانت الطرق قليلة غير معبدة ما عدا الطريق الحربي الممتد من نهر الفرات ماراً بغزة (76). وكان التواء النيل- وهو أهم وسائل الانتقال وقتئذ- مما ضاعف البعد بين المدن المختلفة. وكانت التجارة الداخلية بدائية نسبياً، يتم معظمها بطريق المقايضة في أسواق القرى، ونمت التجارة الخارجية نمواً بطيئاً،

(1)

الرجازة الهودج الصغير. (المترجم)

ص: 88

وعاقها ما كان يفرض عليها من قيود شديدة أشبه ما تكون بأحدث الحواجز الجمركية المفروضة على التجارة الخارجية في هذه الأيام. ذلك أن ممالك الشرق الأدنى كانت قوية الإيمان بمبدأ " الحماية التجارية " لأن الضرائب الجمركية كانت مورداً للخزائن الملكية. على أن مصر مع هذا قد أثرت بما كانت تستورده من المواد الغفل وتصدره من المصنوعات. وكانت أسواق مصر غاصة بالتجار السوريين والكريتيين والقبرصيين، كما كانت السفن الفينيقية تجري في النيل من مصبه في الشمال إلى أرصفة طيبة الكثيرة الحركة في الجنوب (77).

ولم تكن النقود قد بدأت تستعمل في البيع والشراء، ولذلك كان كل شيء، حتى مرتبات أكبر الموظفين، يؤدى، سلعاً، حَّبا أو خبزاً، أو خميرة، أو بيرة أو نحوها. وكانت الضرائب تجبى عيناً، ولم تكن خزائن الملك غاصة بالنقد بل كانت مخازن تكدس فيها آلاف السلع من منتجات الحقول وبضائع الحوانيت. ولما أخذت المعادن الثمينة تتدفق على مصر بعد فتوح تحتمس الثالث شرع التجار يؤدون ثمن ما يبتاعونه من البضائع حلقات أو سبائك من الذهب، تقدر قيمتها بالوزن في كل عملية تجارية؛ ولم تضرب نقود ذات قيمة محددة تضمنها الدولة لتسهيل هذه العمليات. على أن نظام الائتمان قد نشأ بينهم وارتقى، وكثيرا ما كانت التحاويل والصكوك المكتوبة تحل محل المقايضة أو الدفع فورا؛ ووجد الكتبة في كل مكان يعجلون الأعمال بوثائق المبادلة القانونية، وأعمال المحاسبة والأعمال المالية.

وما من أحد زار متحف اللوفر إلا شاهد تمثال الكاتب المصري الجالس مطوي الساقين، وجسمه كله يكاد يكون عارياً، ومن خلف أذنه قلم احتياطي غير القلم الذي يمسكه بيده، وهو يدون ما يقوم به ويسجل ما يؤدى من العمل، وما يسلم من البضائع، وأثمانها وأكلافها، ومكسبها وخسارتها. يحصي الماشية الذاهبة إلى المذبح، والحبوب وهي تكال للبيع، ويكتب العقود والوصايا، ويقدر ما يجب على سيده أن يؤديه من ضريبة الدخل. والحق أنه لا جديد تحت الشمس.

ص: 89

وهو حريص معني بعمله مجد فيه نشيط نشاطا آلياً؛ وأوتي قسطاً من الذكاء ولكنه ذكاء يقف عند الحد الذي يمنعه أن يكون خطراً؛ حياته رتيبة مملة، ولكنه يواسي نفسه بكتابة المقالات عما يكتنف حياة العامل اليدوي من صعاب،

ص: 90

وما يحيط بأولئك الذين طعامهم الورق ودمائهم المداد من عزة وكرامة لا تقلان عن عزة الأمراء وكرامتهم.

‌3 - نظام الحكم

الموظفون - الشرائع - الوزير - الملك

وكان الملك وأعيان الأقاليم يستعينون بهؤلاء الكتبة للمحافظة على نظام وسلطان القانون في الدولة. وتصور بعض الألواح القديمة الكتبة يقومون بعملية الإحصاء، ويحسبون ما دخل الخزانة من ضريبة الدخل. ويستعينون بالمقاييس النيلية التي تسجل ارتفاع ماء النهر على معرفة ما سيكون عليه موسم الحصاد، فيقدرون منه إيراد الحكومة في العام المقبل، ويخصصون لكل مصلحة من المصالح ما سيكون لها من نصيب في هذا الإيراد؛ وكان عليهم فوق ذلك أن يشرفوا على شئون الصناعة والتجارة. ولقد أفلحوا من بداية التاريخ تقريباً في وضع نظام اقتصادي تشرف الدولة عليه (78).

وكانت القوانين المدنية والجنائية غاية في الرقي، كما كانت القوانين الملكية والميراث من أيام الأسرة الخامسة قوانين مفصلة دقيقة (79). وكان الناس جميعاً متساوين مساواة تامة أمام القانون كما هم متساوون أمامه في هذه الأيام- أي متى كان الطرفان المتنازعان متساوين في الموارد وفي النقود. وأقدم وثيقة قانونية في العالم كله عريضة دعوى محفوظة الآن في المتحف البريطاني تعرض على المحكمة قضية من قضايا الميراث المعقدة. وكان القضاة يطلبون أن يُترافع في القضايا، وأن يرد على حجج المترافعين، وأن يناقش أصحابها ويحاجون، على ألا يكون ذلك كله خطبا تلقى بل مذكرات مكتوبة تقدم للقضاة- وهو نظام لا يقل في شأنه عن نظام التقاضي المعقد في هذه الأيام. وكان الحانث في يمينه يعاقب بالإعدام (80). وكان للمصريين محاكم منظمة مختلفة الدرجات تبدأ من

ص: 91

مجالس الحكم المحلية في المقاطعات وتنتهي بالمحاكم العليا في منف أو طيبة أو عين شمس (81). وكانوا يلجئون إلى التعذيب في بعض الأحيان لحمل المجرم على الاعتراف بالحق (82). وكان الضرب بالعصا من أنواع العقاب الشائعة، وكانوا يلجئون في بعض الأحيان إلى عقاب المذنب بجدع أنفه أو قطع يده أو لسانه (83)، أو نفيه إلى أقاليم المناجم، أو إعدامه بالشنق أو بالمخزق، أو بقطع رأسه أو بإحراقه مصلوباً. وكان أشد ضروب العقاب هو تحنيط المعاقب حياً، أو إحاطته بطبقة من النطرون القارض تأكل جسمه أكلاً بطيئاً (84). وكان المجرمون من علية القوم يجنبون عار الإعدام علنا بأن يسمح لهم بقتل أنفسهم بأيديهم كما تفعل طبقة الساموراي في اليابان (85). ولم يُعثر على شواهد يستدل منها على وجود نظام للشرطة، وحتى الجيش العامل- وقد كان على الدوام صغير الحجم لأن في عزلة مصر وموقعها بين الصحراء والبحر ما يرد عنها المغيرين- قلما كان يستخدم لحفظ النظام في داخل البلاد.

ذلك أن الحياة والملكية، والاطمئنان إلى سلطان القانون والحكومة تكاد تعتمد كل الاعتماد على هيبة الملك، وكانت المدارس والهياكل دعامة هذه الهيبة وليس في العالم كله أمة غير مصر- إذا استثنينا الأمة الصينية- جرؤت على أن تعتمد كل هذا الاعتماد على العوامل النفسية لحفظ الأمن في البلاد.

لقد كانت الحكومة المصرية من أحسن الحكومات نظاماً، وكانت أطول حياة من أية حكومة أخرى في التاريخ. وكان الوزير على رأس الإدارة كلها، يشغل منصب رئيس الوزراء، وقاضي القضاة، ورئيس بيت المال، وكان الملجأ الأخير للمتقاضين لا يعلو عليه في هذا إلا الملك نفسه. وترى الوزير في نقش على أحد القبور يخرج من بيته في الصباح الباكر "ليستمع إلى مظالم الفقراء ويصغي " كما هو وارد في النقش " إلى ما يقول الناس في مطالبهم، لا يميز فيها بين الحقير والعظيم"(86). وقد وصلت إلينا بردية مدهشة من عهد الإمبراطورية

ص: 92

تحتوى كما تقول هي نفسها على صورة الخطاب الذي كان يلقيه الملك حين يعين الوزير في منصبه (ولربما كان هذا الخطاب قطعة أدبية من وضع كاتبها نفسه):

"اجعل عينك على مكتب الوزير؛ وراقب كل ما يحدث فيه. واعلم أنه هو الدعامة التي تستند إليها جميع البلاد

ليست الوزارة حلوة، بل هي مرة. واعلم أنها ليست إظهار الاحترام الشخصي للأمراء والمستشارين؛ وليست وسيلة لاتخاذ الناس أيا كانوا عبيدا. انظر، إذا جاءك مستنصف من مصر العليا أو السفلى، فاحرص على أن يجري القانون مجراه في كل شيء، وأن يتبع في كل شيء العرف السائد في بلده، وأن (يعطي كل إنسان) حقه

واعلم أن المحاباة بغيضة إلى الإله

فانظر إلى من تعرفه نظرتك إلى من لا تعرفه، وإلى المقربين إلى الملك نظرتك إلى البعيدين عن (بيته). انظر، إن الأمير الذي يفعل هذا سيبقى هنا في هذا المكان. وليكن ما يخافه الناس من الأمير أنه يعدل في حكمه. ارع القواعد المفروضة عليك" (87).

وكان الملك نفسه هو المحكمة العليا، يستطاع رفع كل قضية إليه في أحوال معينة، إذا لم يعبأ المدعى بما يطلبه رفعها إليه من النفقات. وتمثل بعض النقوش القديمة " البيت الأعظم " الذي يجلس فيه للحكم والذي تتجمع فيه دواوين الحكومة. وقد اشتقت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريون يطلقون عليه لفظ "بيرو" والذي ترجمه اليهود إلى فرعوه، اشتق من اسمه هذا لقب الملك نفسه. وفي هذا البيت كان الملك يضطلع بواجبة الشاق الرتيب من الأعمال التنفيذية، التي كانت في بعض الأحيان لا تقل في كثرتها وفيما تتطلبه من جهود عن أعمال شندرا جويتا

(1)

أو لويس الرابع عشر أو نابليون (88). وكان الملك إذا سافر قابله أمراء الإقطاع عند حدود إقطاعاتهم، وساورا في ركابه، وأولموا له

(1)

رأس أسرة الموريا التي حكمت الهند والأفغان بعد الإسكندرية. وسيرد تاريخه مفصلاً عند الكلام على الهند. (المترجم)

ص: 93

الولائم، وقدموا له من الهدايا ما يتناسب مع ما ينتظرونه منه. وقد جاء في أحد النقوش أن نبيلا من النبلاء أهدى أمنحوتب الثاني " عربات من الفضة والذهب وتماثيل من العاج والأبنوس، وجواهر، وأسلحة وتحفا فنية " و 680 درعاً، و 140 خنجراً من البرنز ومزهريات كثيرة من المعادن الثمينة (89). وجازاه الملك على هذا بأن أخذ ابنه معه ليعيش في قصره- وهي طريقة ماكرة لاتخاذه رهينة يضمن بها ولاء هذا الشريف. وكان يتألف من أكبر رجال البلاط سناً مجلس شيوخ يسمى سارو أي مجلس العظماء مهمته أن يكون مجلساً استشارياً للملك (90). على أن هذه الاستشارة لم تكن في الواقع ضرورية لأن الملك ومن ورائه الكهنة كان يدعى أنه من سلالة الآلهة وأن الآلهة نفسها قد وهبته السلطة والحكمة. وكان اتصاله بالآلهة على هذا النحو مصدر نفوذه وهيبته. ومن أجل هذا كانت تخلع عليه إذا خوطب صفات من الإجلال يدهش لها الإنسان أحيانا. من ذلك ما جاء في قصة سنوحى إذ يحييه مواطن صالح بقوله:"أيها الملك الطويل العمر أرجو أن تهب الواحدة الذهبية (أي الإلهة حتحور) الحياة لأنفك"(91).

وكان يقف على خدمة الملك- كما يليق بشخص هذه عظمته- عدد كبير من مختلف الأعوان منهم القوّاد، وغاسِلو الملابس، وقُصّارها، وحراس خزائنها، وغيرهم من ذوي المراتب الرفيعة. وكان عشرون من الموظفين يشتركون في تزيينه، منهم حلّاقون لا يسمح لهم إلا بقص شعره وحلْق لحيته، وآخرون لإلباسه قلنسوته وتاج رأسه، ومدرمون يقصون أظافره ويدرمونها، ومعطرون يعطرون جسمه ويكحلون جفون عينيه، ويحمرون خديه وشفتيه بالصبغة الحمراء (92). وجاء في نقش على أحد القبور أن صاحب القبر كان "المشرف على صندوق دهان الشعر والوجه، المسيطر على الدهان، حامل ُخفي الملك، والذي يعني بخفيه العناية التي يرضاها القانون"(93). وكان الانحلال والضعف عاقبة هذا التنعم المفرط، وكان الملك يلجأ في بعض الأحيان إلى الترويح عن نفسه وإزالة ما يعتريه من ملل

ص: 94

وسآمة بحشد طائفة من الفتيات في قاربه الملكي وليس عليهن من الثياب إلا نوع من الشباك ذات الثقوب الواسعة. وكان الترف الذي انغمس فيه أمنحوتب الثالث هو الذي مهد السبيل لثورة إخناتون.

‌4 - القانون الأخلاقي

مضاجعة الملك لأقاربه - الحريم - الزواج - مركز المرأة - سلطان

الأم في مصر - القوانين الأخلاقية الخاصة بعلاقة الرجال والنساء

لقد كانت حكومة مصر شبيهة بحكومة نابليون حتى في مضاجعة الملك لأقاربه، وكثيراً ما كان الملك يتزوج أخته، بل كان يحدث أحيانا أن يتزوج ابنته، ليحتفظ بالدم الملكي نقيا خالصا من الشوائب. وليس من اليسير أن نحكم هل أضعفت هذه العادة قوة نسل الملوك أو لم تضعفه؟ لكننا لا نشك في أن مصر لم تكن تعتقد هذا بعد أن ظلت تسير عليه عدة آلاف من السنين، وانتقلت عادة الزواج بالأخوات من الملوك إلى عامة الشعب حتى وجد في القرن الثاني بعد الميلاد أن ثلثي سكان أرسينوئي يسيرون على هذه السُنّة (94). وكان معنى لفظي أخ وأخت في الشعر المصري القديم كمعنى حبيب وحبيبة في أيامنا هذه (95). وكان للملك فضلا عن أخواته عدد كبير من النساء من أسيرات الحروب وبعضهن من بنات الأعيان أو ممن أهداهن إليه الأقيال الأجانب. من ذلك أن أحد أمراء بلاد "نهرينا" أهدى إلى أمنحوتب الثالث ابنته الكبرى وثلاثمائة من صفوة الفتيات (96). وقد حذا بعض النبلاء حذو الملوك في هذا الإسراف وإن لم يبلغوا فيه مبلغهم، فقد كان عليهم أن يوفقوا في هذه الناحية بين مبادئهم الخلقية ومواردهم المالية.

أما عامة الشعب فكان شأنهم شأن ذوي الدخل المتوسط في سائر الأمم، يقنعون بزوجة واحدة. ويلوح أن الحياة العائلية كانت منظمة، ذات مستوى

ص: 95

رفيع من الوجهة الأخلاقية ومن حيث سلطان الأبوين، ولا تقلّ في هذا عنها في أرقى الحضارات في هذه الأيام. وكان الطلاق نادراً إلا في عهد الاضمحلال. وكان في مقدور الزوج أن يخرج زوجته من داره دون أن يعوضها بشيء إذا زَنَت؛ أما إذا طلقها لغير هذا السبب فكان عليه أن يخصص لها جزءاً كبيرا من أملاك الأسرة.

كذلك كان الأزواج يبذلون قصارى جهدهم في الإخلاص لزوجاتهم- على قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم في هذه الأمور الخفية. ولم يكن مستواهم في هذا أقل منه في المدنيات اللاحقة، وكان مركز المرأة عندهم أرقى من مركزها عند كثير من الأمم في هذه الأيام. وفي ذلك يقول ماكس ملر:"ليس ثمة شعب قديم أو حديث قد رفع منزلة المرأة مثل ما رفعها سكان وادي النيل"(97). فالنقوش تصور النساء يأكلن ويشربن بين الناس، ويقضين ما يحتجنه من المهام في الشوارع من غير رقيب عليهن ولا سلاح بأيديهن، ويمارسن الأعمال الصناعية والتجارية بكامل حريتهن. ولشد ما دهش الرحالة اليوناني- وقد اعتادوا أن يضيقوا على نسائهم السليطات- من هذه الحرية، وأخذوا يسخرون من الأزواج المصريين الذين تتحكم فيهم زوجاتهم. ويقول ديودور الصقلي- ولعله يهدف بقوله هذا إلى السخرية من المصريين- إن طاعة الزوج لزوجته في وادي النيل كانت من الشروط التي تنص عليها عقود الزواج (98)، وهو شرط لا ضرورة للنص عليه في أمريكا! وكان النساء يمتلكن ويورثن، كما تشهد بذلك وثيقة من أقدم الوثائق في التاريخ، وهي وصية من عهد الأسرة الثالثة توصي فيها السيدة نب- سنت بأرضها لأبنائها (99). وقد ارتقت حتشبسوت وكليوبطرة عرش مصر، وحكمتا وخربتا كما يحكم الملوك ويخربون.

على أننا نجد أحيانا نغمة ساخرة في الآداب المصرية. من ذلك ما كتبه رجل من رجال الأخلاق الأقدمين يحذر قراءه منهن:

ص: 96

"احذر المرأة التي تأتيك من الخارج، والتي لا يعرفها أهل مدينتها. فلا ترفع بصرك إليها إذا أتت، ولا تعرفها، فهي كالدُّردور في الماء العميق، لا تستطيع أن تسبر غورها. وأن المرأة التي غاب زوجها لتكتب إليك في كل يوم، وإذا لم يكن معها شاهد عليها قامت ونشرت حولك شباكها. وما أشنعها من جريمة إذا أصغي إليها الإنسان"(100)!.

أما النغمة المصرية الخالصة فهي التي نسمعها في نصيحة بتاح حوريب لابنه والتي يقول فيها:

"إذا كنت ناجحا، وأَثثت بيتك، وكنت تحب زوجة قلبك، فاملأ بطنها واكس ظهرها

وادخل السرور على قلبها طوال الوقت الذي تكون فيه لك، ذلك أنها حرث نافع لمن يملكه

وإذا عارضتها كان في ذلك خرابك" (101).

وتحذر بردية بولاق الطفل تحذيرا يشهد بالحكمة البالغة فتقول:

"ينبغي لك ألا تنسى أمك فقد حملتك طويلا في حنايا صدرها وكنت فيها حملا ثقيلاً؛ وبعد أن أتممتَ شهورك ولدتك. ثم حملتك على كتفها ثلاث سنين طوالا وأرضعتك ثديها في فمك، وغذتك، ولم تشمئز من قذارتك. ولما دخلت المدرسة وتعلمت الكتابة كانت تقف في كل يوم إلى جانب معلمك ومعها الخبز والجعة جاءت بهما من البيت"(102).

ويرجح أن هذه المكانة السامية التي كانت للمرأة إنما نشأت من أن المجتمع المصري كان أميل إلى تغليب سلطان الزوجة على سلطان الزوج بعض الشيء. وشاهد ذلك أن المرأة لم تكن لها السيادة الكاملة في بيتها وكفى، بل إن الأملاك الزراعية كلها كانت تنتقل إلى الإناث؛ وفي ذلك يقول بيترى:"لقد كان الزوج حتى في العهود المتأخرة ينزل لزوجته في عقد زواجه عن جميع أملاكه ومكاسبه المستقبلة"(103) ولم يكن سبب زواج الأخ بأخته أن وجودها معه قد ملأ بحبها قلبه، بل كان سببه أن الرجال كانوا يبغون أن يستمتعوا بميراث الأسرة الذي كان ينحدر

ص: 97

من الأم إلى البيت، ولا يريدون أن ينعم الغرباء بهذه الثروة (104). على أن سلطان المرأة قد نقص قليلا على مر الزمن، ولعل سبب هذا النقص هو أثر التقاليد الأبوية التي أدخلها الهكسوس، وأثر انتقال البلاد من عزلتها الزراعية ومن حال السلم إلى طور الاستعمار والحرب. وزاد نفوذ اليونان في أيام البطالمة زيادة أصبحت معها حرية الطلاق، وهي التي كانت تطالب بها المرأة في الأزمنة السابقة، حقا خالصا للزوج لا ينازعه فيه منازع. بيد أنه حتى في ذلك الوقت لم يقبل هذا التطور إلا الطبقات العليا من أهل البلاد، أما عامة الشعب فقد ظلت مستمسكة بالتقاليد القديمة (105). ولعل سيطرة المرأة على شئونها الخاصة هي التي جعلت قتل الأطفال أمرا نادر الحدوث. ويرى ديودور الصقلي أن من خواص المصريين أن كل طفل يولد لهم يلقى حظه الكامل من التربية والرعاية، ويقول أن القانون كان يقضي على الأب الذي يرتكب جريمة قتل طفله بأن يحتضن الطفل القتيل ثلاثة أيام وثلاث ليال كاملة (106). وكانت الأسرة الكبيرة، والأطفال تغص بهم الأكواخ والقصور على السواء، وكان الأثرياء منهم يلقون صعابا جمة في إحصاء نسلهم (107).

وحتى في مسائل الخطبة كانت المرأة هي البادئة. وشاهد ذلك أن ما وصل إلينا من قصائد الغزل ورسائل الحب أغلبه موجه من المرأة إلى الرجل، فهي التي تطلب تحديد مواعيد اللقاء، وهي التي تتقدم بالخطبة إلى الرجل مباشرة، وهي التي تعرض عليه الزواج صراحة (108). وقد جاء في إحدى هذه الرسائل:" أي صديقي الجميل؛ إني أرغب في أن أكون، بوصفي زوجتك، صاحبة كل أملاكك"(109). ومن ثم نرى أن الحياء- وهو أمر يختلف عن الوفاء- لم يكن من صفات المصريين البارزة، فقد كانوا يتحدثون عن الشئون الجنسية بصراحة لم نعهدها في التقاليد الأخلاقية المتأخرة عن عهدهم، وكانوا يزينون هياكلهم بصور ونقوش غائرة تظهر فيها أجزاء الجسم كلها واضحة أتم الوضوح، وكانوا يقدمون لموتاهم من الأدب الفاحش ما يسليهم في قبورهم (110). لقد كان

ص: 98

الدم الذي يجري في عروق سكان وادي النيل دما حارا، ومن أجل ذلك كانت البنات يصلحن للزواج في سن العاشرة، وكان اتصال الفتيان والفتيات قبل الزواج حراً ميسراً؛ ويقال أن أحد السراري في أيام البطالمة استطاعت أن تدخر من الأموال ما بنت به هرما. وحتى اللواط لم يكن معدوما في مصر (111). وكانت الفتيات الراقصات الشبيهات بأمثالهن في اليابان يُقبَلن في أرقى مجتمعات الرجال ليقدمن للمجتمعين ضروب التسلية والمتعة الجسمية. وكن يرتدين ملابس شفافة أو يكتفين أحيانا بالتزين بالخلاخل والأساور والأقراط (112). ولدينا شواهد على الفسوق الديني في نطاق ضيق. وكان من العادات المتبعة التي ظلت باقية إلى عهد الفتح الروماني أن تختار أجمل بنات الأسر الشريفة في طيبة وتنذر لآمون. فإذا أضحت لكبر سنها عاجزة عن إرضاء الإله أخرجت من خدمته بمظاهر التشريف والتعظيم، وتزوجت ولقيت الترحيب والإجلال في أرقى الأوساط (113). لقد كانت لهذه الحضارة آراؤها ونزواتها التي تختلف عن آرائنا نحن ونزواتنا.

‌5 - العادات

الأخلاقية الشخصية - الألعاب - المظهر

الخارجي - الأصباغ والأدهان - الملابس - الحلي

إذا شئنا أن نستعيد في مخيلتنا صورة من الأخلاق الشخصية للمصريين الأقدمين، وجدنا أن ليس من السهل أن نفرق بين هذه الأخلاق كما نقرأ عنها في آدابهم وبين ما كان يحدث في الحياة الواقعية. فما أكثر ما نقرا عنه من العواطف النبيلة في كتاباتهم. من ذلك ما كتبه أحد الشعراء ينصح مواطنيه:

أطعم الخبز لمن لا حقل له.

واترك ورائك ذكراً طيبا يبقى أبد الدهر.

وكثيراً ما يسدي بعض الكبار إلى أبنائهم نصائح حميدة، ففي المتحف

ص: 99

البريطاني بردية تعرف باسم: "حكمة أمنحوتب"(حوالي 950 ق. م) وهي تُعِد أحد الطلاب لتولي منصب عام بطائفة من النواهي لا يبعد قط أن كان لها أثر في واضع "أمثال سليمان" أو واضعيها:

لا تطمع في ذراع من الأرض،

ولا تعتد على حدود أرملة

،

واحرث الحقل حتى تجد حاجاتك،

وخذ خبزك من بيدرك،

وإن قدحا من الحب يعطيكه الله

لخير من خمسة آلاف تنالها بالعدوان

،

وإن الفقر بيد الله

لخير من الغنى في المخازن؛

وإن الرغيف والقلب مبتهج

لخير من الغنى مع الشقاء

" (.

على أن ما تحويه هذه الآداب من دلائل التقوى والصلاح لم يحل دون المطامع البشرية. ولم يكن المصريون الأقدمون إلا خلقاً، لهم ما لسائر الخلق من مطامح. لقد وصف أفلاطون الآثينيين بأنهم محبون للمعرفة، والمصريين بأنهم محبون للثروة. ولعل في هذا الوصف كثيراً من المغالاة دفعته إليها النعرة الوطنية، ولكنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا أن المصريين هم أمريكيو العالم القديم. فهو قوم مولعون بضخامة الحجم، يحبون المباني الفخمة الكبيرة، وهم مجدون نشيطون جماعون للثروة، عمليون حتى في خرافاتهم الكثيرة عن الدار الآخرة. وهم أشد الأمم الماضية استمساكا بالقيم، لم تتبدل حالهم رغم ما طرأ عليهم من أحداث؛ وظل فنانوهم يقلدون ما جرى به العرف القديم تقليدا كأنه أمر من أوامر الدين، إذا نظرنا إلى آثارهم بدا أنهم قوم واقعيون لا يعنون بالسخافات التي لا صلة لها

ص: 100

بالأمور الدينية. ولا يقدرون الحياة تقديرا أساسه العاطفة، يقتلون وضميرهم مستريح لأنهم لم يفعلوا ما يخالف الطبيعة البشرية. ولقد كان الجندي المصري يقطع يمين العدو والمقتول أو عورته ويأتي بها إلى الكاتب المختص ليسجل له عمله هذا في صحيفة حسناته (116). وفقد الناس في عهد الأسر المتأخرة عاداتهم وصفاتهم الحربية لطول ما أخلدوا إلى الأمن في الداخل وإلى السلام فيما عدا الحروب البعيدة عن ديارهم؛ وكانت نتيجة هذا أن فئة قليلة من جنود الرومان استطاعت أن تسيطر على مصر كلها (117).

ولما كان أكثر ما نعرفه عن المصريين مستمدا من الآثار التي كشفت في مقابرهم أو النقوش التي على جدران هياكلهم، فقد خدعتنا هذه المصادفة المحضة فبالغنا فيما كانوا يتصفون به من جد ووقار. والحق أن بعض ما خلفوه من تماثيل ونقوش، ومن قصص هزلية عن آلهتهم (118)، ليشهد بأنهم كانوا على جانب غير قليل من المرح والفكاهة، وقد كان لهم كثير من الألعاب والمباريات العامة والخاصة "كالداما" والنرد (119)، وكانوا يقدمون اللعب والدمى لأطفالهم كالبلى والكرة والنطاطة والخذروف، وكانوا يعقدون مباريات في المصارعة والملاكمة وصراع الثيران (120)، وكان خدمهم يمسحون لهم في أعيادهم ونزهتهم أجسامهم بالزيوت. وكانوا يضعون على رؤوسهم أكاليل الزهر ويسقون الخمور تقدم لهم الهدايا، ونستطيع استنادا إلى ما لدينا من رسومهم الملونة وتماثيلهم أن نصورهم خلقا أقوياء الأجسام، مفتولي العضلات، عريضي المناكب، مستدقي الخصور، ممتلئي الشفاه، منبسطي الأقدام لاعتيادهم الحفاء. وهذه الرسوم والتماثيل تمثل الطبقات العليا النحيفة القوام، طويلة في هيبة، ذات وجوه بيضاء وجباه منحدرة منتظمة، وأنوف طويلة مصفحة، وعيون نجل، وكانت بشرتهم بيضاء وقت مولدهم (تشهد بأنهم من أصل آسيوي لا إفريقي)، ولكنها سرعان ما تلفحها شمس مصر فتسمر (121). وقد جرى

ص: 101

العرف بين الفنانين المصريين على أن يرسموا الرجال حمرا والنساء صفروات؛ ولربما كان هذان اللونان مجرد طرازين من الزينة للرجال والنساء. هذا شأن الطبقات العليا، أما الرجال من عامة الشعب فكان يمثل بالصورة التي نراها في تمثال شيخ البلد، قصير القامة، ممتلئ الجسم، كاسي القصب، وذلك لطول كده وطعامه غير المتزن. وكانت ملامحه خشنة، وكان أفطس الأنف أخشمه، ذكيا ولكنه خشن الطباع. ولربما كان الشعب وحكمه من سلالتين مختلفتين، شأنهم في هذا شأن كثير من الشعوب: فلعل الحكام كانوا من أصل آسيوي وعامة الشعب من أصل إفريقي. وكان شعرهم أسود، أحجن في بعض الأحيان، وقلما كان قَطَطاً. وكان النساء يقصصن شعورهن كأحسن ما يقصصنه في هذه الأيام؛ وكان الرجال يحلقون لحاهم ويخفون شواربهم ويزينون أنفسهم بشعور مستعارة فخمة. وكثيرا ما كانوا يقصون شعر رأسهم ليسهل عليهم لبس هذه الشعور المستعارة. وحتى زوجة الملك نفسها كانت تقص شعرها كله ليسهل عليها لبس التاج والشعر الملكي المستعار (كما ترى هذا في صورة تي أم إخناتون). وكان من المراسم التي لا يستطيع الملك الخروج عليها أن يلبس أكبر ضفيرة مستعارة (122).

وكانوا يستعينون بفنون التجميل على إصلاح عيوب أجسامهم كل منهم حسب موارده. فكانوا يحمرون أوجههم وشفاههم، ويلونون أظافرهم، ويدهنون أعضاء أجسامهم بالزيت، وحتى تماثيل المصريات كانت تكحل عيونها. وكان ذوو اليسار منهم يضعون في قبور موتاهم سبعة أنواع من الأدهان ونوعين من الصبغة الحمراء. وقد وجدت بين آثارهم كميات كبيرة من أدوات الزينة، والمرايا، والمواسي، وأدوات تجعيد الشعر، ودبابيسه، والأمشاط، وصناديق الأدهان، والصحاف والملاعق- مصنوعة من الخشب، أو العاج، أو المرمر، أو البرنز، ذات أشكال جميلة تتفق والأغراض التي تستخدم فيها. ولا تزال بعض أصباغ العيون باقية في أنابيبها إلى يومنا هذا، وليس الكحل الذي تستعمله النساء في هذه الأيام لتزيين حواجبهن ووجوههن إلا صورة أخرى من الزيت الذي كان المصريون

ص: 102

يستخدمونه في غابر الأيام. وقد وصلت إلينا هذه العادة عن طريق العرب، واشتق من اسمه العربي "الكحل" لفظ "الكحول" الذي نستخدمه الآن. وكانت العطور على اختلاف أنواعها تستخدم لتعطير الجسم والثياب، كما كانت المنازل تبخر بالبخور والمر (123).

وسارت ملابسهم في جميع مراحل التطور من عرى البدائيين إلى أفخم ملابس عصر الإمبراطورية. ففي أول الأمر كان الأطفال ذكورا وإناثا يظلون حتى الثالثة عشرة من عمرهم عراة الأجسام إلا من الأقراط والقلائد. غير أن البنات كن يظهرن شيئاً من الخفر الخليق بهن فيتمنطقن بمنطقة من الخرز في أوساطهن (124). وكان الخدم والزراع يقتصرون على قطعة من القماش تستر عوراتهم. فلما كان عهد الدولة القديمة كان الأحرار من الرجال والنساء يسيرون وأجسامهم عارية من فوق السرة، مغطى ما تحتها إلى الركبة بإزار قصير ضيق من الكتان الأبيض (125). ولما كان الحياء وليد العادة لا الطبيعة فإن هذه الثياب البسيطة كانت ترضي ضمير هؤلاء القوم، كما كان الإنجليز في العصر الفكتوري يرتضون النُّقبة (الجونيلا) والخصار

(1)

أو ثياب السهرة التي يلبسها الرجال من الأمريكيين في هذه الأيام. وما أصدق القول المأثور: "ليست فضائلنا إلا معاني تخلعها الأيام على الأفعال والعادات". وحتى القساوسة أنفسهم في عصر الأسر المصرية الأولى كانوا يكتفون بستر عوراتهم كما نشاهد ذلك في تمثال رنوفر (126). فلما زادت الثروة كثرت الملابس، فأضافت الدولة الوسطى إزارا ثانيا فوق الإزار الأول وأكبر منه، وأضافت الدولة الحديثة غطاء للصدر ودثارا للكتفين كان يلبس من حين إلى حين. وكان سائقو المركبات وسائسو الخيل يرتدون حللاً فخمة كاملة ويعدون في الشوارع بحللهم هذه ليفسحوا الطريق لمركبات أسيادهم. ونبذت النساء المئزر الضيق في عصور الرخاء المتأخرة واستبدلن به ثوباً فضفاضاً

(1)

مشد الخصر (الكورسيه)

ص: 103

ينزل من الكتفين ويربط بمشبك تحت الثدي الأيمن. وظهرت الأثواب المطرزة ذات الأهداب المختلفة التي لا يحصى عديدها، وتسربت الأنماط والطرز الحديثة إلى البيوت تسرب الأفاعي لتفسد على أصحابها جنة العري البدائية (127).

وكان الرجال والنساء سواء في الشغف بالحلي والزينة، فكانوا يحلون بالجواهر أعناقهم، وصدورهم، وأذرعهم، ومعاصمهم، وأرساغهم. ولما عم الرخاء البلاد وزاد ثراء أهلها بما جاءها من خراج أملاكها في آسية، ومن مكاسب تجارة بلاد البحر الأبيض المتوسط، وأصبح التحلي بالجواهر مطلباً يهواه جميع المصريين، ولم يعد ميزة للطبقات الموسرة؛ فكان لكل كاتب وتاجر خاتمه المصنوع من الفضة أو الذهب، ولكل رجل خاتم في إصبعه، ولكل امرأة قلادة تزينها. وكانت هذه القلائد من أنماط لا حصر لها كما يدل على ذلك ما نراه منها اليوم في المتاحف؛ فمنها ما لا يزيد طوله على بوصتين أو ثلاث بوصات، ومنها ما يبلغ طوله خمسة أقدام؛ ومنها ما هو سميك ثقيل، ومنها ما يضارع "أجمل مخرمات مدينة البندقية خفة وليناً"(128). وأضحت الأقراط في عهد الأسرة الثامنة عشرة حلية لا غنى عنها. فكان لا بد لكل شخص أن تخرق أذنه لتحلى بقرط، ولم تختص بالأقراط النساء والبنات بل كان يتحلى بها أيضا الأولاد والرجال (129). وكان الرجال والنساء على السواء يزينون أجسامهم بالأساور والخواتم والأنواط والقلائد من الخرز والحجارة الثمينة. وملاك القول أن نساء مصر القديمة لن يتعلمن منا شيئا عن أدهان الشعر والوجه والجواهر لو أنهن بعثن بيننا في هذه الأيام.

‌6 - القراءة والكتابة والتعليم

التعليم - مدارس الحكومة - الورق والحبر -

مراحل تطور الكتابة - أشكال الكتابة المصرية

كان الكهنة يلقنون أبناء الأسر الغنية مبادئ العلوم في مدارس ملحقة بالهياكل كما هو الحال في أبرشيات طوائف الكاثوليك الرومان في هذه الأيام (130).

ص: 104

ويطلق أحد الكهنة- وقد كان يشغل المنصب الذي يصح أن نسميه في هذه الأيام وزير المعارف- على نفسه اسم "رئيس الإسطبل الملكي للتعليم"(131). وقد عثر في خرائب إحدى المدارس التي يبدو أنها كانت جزءاً من بناء الرمسيوم على عدد كبير من المحار لا تزال دروس المعلم القديم ظاهرة عليها. وكان عمل المدرس في تلك الأيام هو تخريج الكتبة للقيام بأعمال الدولة، وكان المدرسون يستحثون تلاميذهم على الإقبال على التعليم بتدبيج المقالات البليغة يشرحون فيها مزاياه. من ذلك ما جاء في إحدى البرديات:" أفرغ قلبك للعلم وأحبه كما تحب أمك، فلا شيء في العالم يعدل العلم في قيمته ". وتقول بردية أخرى: "ليس ثمة وظيفة إلا لها من يسيطر عليها، لكن العالم وحده هو الذي يحكم نفسه". وكتب أحد المولعين بمطالعة الكتب يقول: "إن من سوء الحظ أن يكون الإنسان جندياً، وإن حرث الأرض لعمل ممل، أما السعادة فلا تكون إلا في توجيه القلب إلى الكتب في النهار والقراءة في الليل"(132).

وقد وصلت إلينا كراسات من عهد الدولة الحديثة وفيها إصلاح المدرسين لأخطاء التلاميذ يزين هوامشها؛ وهذه الأخطاء تبلغ من الكثرة حداً يجد فيه تلميذ اليوم كثيراً من السلوى (133). وكان الإملاء ونقل النصوص أهم طرق التعليم، وكانت هذه الدروس تكتب على الشقف أو على رقائق من حجر الجير (134). وكان أكثر ما يعلم هو الموضوعات التجارية، وذلك لأن المصريين كانوا أول الأقوام النفعيين، وأعظمهم استمساكاً بالنظرية النفعية؛ وكانت الفضيلة أهم الموضوعات التي يكتب فيها المعلمون، وكانت مشكلة النظام أهم المشاكل التعليمية في تلك الأيام، كما هي أهم مشاكله في الوقت الحاضر. وقد جاء في إحدى الكراسات:" لا تضع وقتك في التمني، وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك؛ وخذ النصيحة ممن هو أعلم منك ". ولعل هذه العبارة الأخيرة من أقدم ما عرف من الحكم في أية لغة من اللغات. وكان

ص: 105

النظام صارماً يقوم على أبسط المبادئ. وقد جاءت تلك العبارة المنمقة اللفظ في إحدى المخطوطات: "إن للشباب ظهرا، وهو يلتفت للدرس إذا ضرب

لأن أذني الشاب في ظهره". وكتب تلميذ إلى مدرس سابق يقول: "لقد ضربت ظهري، فوصل تعليمك إلى أذني". ومما يدل على أن هذا التدريب الحيواني لم يفلح على الدوام ما جاء في إحدى البرديات التي يأسف فيها مدرس لأن تلاميذه السابقين لا يحبون الكتب بقدر ما يحبون الخمر (135).

لكن عدداً كبيراً من طلبة الهياكل تخرجوا رغم هذا على أيدي الكهنة ودخلوا المدارس العليا الملحقة بمكاتب خزانة الدولة. وفي هذه المدارس، وهي أقدم ما عرف من المدارس التي تعلم نظم الحكم، كان الكتبة يدرسون نظم الإدارة العامة، حتى إذا ما أتموا دراستهم قضوا مدة التمرين عند بعض الموظفين يعلمونهم بكثرة ما يعهدون إليهم من الأعمال. ولعل هذه الطريقة في الحصول على الموظفين العموميين وتدريبهم أفضل من الطريقة التي نتبعها نحن في هذه الأيام طريقة اختيار الموظفين على أساس أقوال الناس فيهم، واستعدادهم للطاعة والخضوع، وما يثار حولهم من دعاوى. وعلى هذا النمط أنشأت مصر وبابل في عصر واحد تقريبا أقدم ما عرف من النظم المدرسية في التاريخ (136). ولم يرق نظام التعليم العام للشبان فيما بعد إلى هذا المستوى الذي بلغه في أيام المصريين الأقدمين إلا في القرن التاسع عشر.

وكان يسمح للطالب في الفرق الراقية أن يستعمل الورق- وهو من أهم السلع في التجارة المصرية ومن أعظم النعم الخالدة التي أنعم بها المصريون على العالم. وكانت طريقة صنعه أن تقطع سوق نبات البردي شرائح وتوضع متقاطعة بعضها فوق بعض ثم تضغط ويصنع منها الورق عماد المدنية (137)، (وأعظمها سخفا). وحسبنا دليلا على حسن صنعه أن ما كتب عليه من المخطوطات منذ خمسة آلاف عام لا يزال حتى الآن باقيا متماسكا سهل القراءة. وكانت الكتب تصنع

ص: 106

من الأوراق بضمها إلى بعض وإلصاق الطرف الأيمن من واحدة بالطرف الأيسر من التي تليها، فتكون منها ملفات ما يبلغ طول الواحد منها أحيانا نحو أربعين ياردة؛ وقلما كانت تزيد على هذا في الطول لأن مصر لم يكن فيها مؤرخون مولعون بالحشو واللغو. وكانوا يصنعون حبرا أسود لا يتلاشى بمزج الصناج والصمغ النباتي بالماء على لوحة من الخشب. أما القلم فكان قطعة بسيطة من الغاب يعالج طرفها ليكون كقلم الرسام (138).

وبهذه الأدوات الحديثة الطراز كان المصريون يكتبون أقدم الآداب؛ وبهذه الأدوات الحديثة الطراز كان المصريون يكتبون أقدم الآداب؛ ويرجح أن لغتهم قد جاءت من آسية؛ وشاهد ذلك أن أقدم نماذج منها بينها وبين اللغات السامية شبه كبير (129). ويبدو أن أقدم الكتابات المصرية كانت تصويرية- تعبر عن الشيء برسم صورة له. فكانت كلمة بيت مثلا (وهي في اللغة المصرية بر) يرمز لها بشكل مستطيل بفتحة في أحد طوليه. ولما كانت بعض المعاني مجردة إلى حد يصعب معها تصويرها تصويرا حرفيا فقد استعيض عن التصوير بوضع رموز للمعاني، فكانت بعض الصور تتخذ بحكم العادة والعرف للتعبير عن الفكرة التي توحي بها لا عن الشيء المصوّر نفسه، فكان مقدم الأسد يعبر عن السيادة (كما هو في تمثال أبي الهول) وكان الزنبور يعبر عن الملكية، وفرخ الضفدع عن الآلاف. ثم تطورت هذه الطريقة تطوراً جديداً في هذا الطريق نفسه، فأصبحت المعاني المجردة التي عجزوا في بادئ الأمر عن تصويرها يعبر عنها برسم صور لأشياء تشبه أسماؤها مصادفة الألفاظ التي تعبر عن هذه المعاني. من ذلك أن صورة المِزْهِر لم تكن تعني المزهر نفسه فحسب بل كان معناها أيضا طيّب أو صالح لأن منطق اسم المزهر في اللغة المصرية- نِفِر- شبيه بمنطق اللفظ الذي يعبر عن معنى طيب أو صالح- نُفِر. ونشأت من هذا الجناس اللفظي أي من الألفاظ المتفقة في اللفظ والمختلفة المعنى- تراكيب غاية في الغرابة. من ذلك أن فعل الكينونة كان يعبر عنه في لغة الكلام بلفظ خوبيرو. وقد عجز الكاتب

ص: 107

المصري في أول الأمر عن إيجاد صورة يمثل بها هذا المعنى الشديد التجريد، حتى اهتدى أخيرا إلى تقطيع الكلمة إلى ثلاثة مقاطع خو- بي- رو. ثم عبرّ عن هذه المقاطع الثلاثة بصور الغربال "الذي يعبر عنه في لغة الكلام بلفظ خو" وبالحصيرة "بي" وبالفم "رو". وسرعان ما جعل العرف والعادة، اللذان يخلعان القدسية على كثير من السخافات، هذا الخليط العجيب من الحروف يوحي بفكرة الكينونة. وعلى هذا النحو عرف الكاتب المصري مقاطع الكلمة، والصورة التي ترمز لكل مقطع، ويبحثون عن الألفاظ المشابهة لهذه المقاطع نفسها في المنطق والمغايرة لها في المعنى، ويرسمون مجموعة الأشياء المادية التي توحي بها أصواتها، حتى استطاعوا في آخر الأمر أن يعبروا بالعلامات الهيروغليفية عن كل ما يريدون، فلا يكاد يوجد معنى من المعاني لا يستطيعون التعبير عنه بعلامة أو بمجموعة من العلامات.

ولم يكن بين هذا وبين اختراع الحروف الهجائية إلا خطوة واحدة. وقد كانت العلامة الدالة على البيت تعني أولاً كلمة البيت- بِرْ. ثم أصبحت رمزاً للصوت بِرْ، ثم لهذين الحرفين أياً كانت حركاتهما وفي أية كلمة جاءتا. ثم اختصرت الصورة واستخدمت للدلالة على الباء أيا كانت حركتها وفي أية كلمة كانت. ولما كانت الحركات لا تكتب عقب الحروف بل تهمل كلية فإن هذه الصورة أصبحت تمثل حرف الباء. وعلى هذا النمط عينه أصبحت العلامة الدالة على اليد (وتنطق اللغة المصرية دُتْ) تعني دُ، دَ ثم أصبحت هي حرف د، وكذلك صارت العلامة الدالة على الفم (رُ، رَ) ثم أصبحت حرف ر، والعلامة الدالة على الثعبان هي حرف ز، وعلامة البحيرة (شي) وهي حرف ش- الخ، وكانت نتيجة هذا التطور أن وجدت حروف هجائية عدتها أربعة وعشرون حرفاً انتقلت مع التجارة المصرية الفينيقية إلى جميع البلاد الواقعة حول البحر

ص: 108

المتوسط، ثم انتشرت عن طريق اليونان وروما حتى صارت أثمن ما ورثته الحضارة من بلاد الشرق (140). والكتابة الهيروغليفية قديمة قدم الأسر المصرية الأولى، أما الحروف الهجائية فكان أول ظهورها في النقوش التي خلفها المصريون في مناجم سيناء التي يرجعها بعض المؤرخين إلى عام 2500 ق. م وبعضهم إلى عام 1500 ق. م

(1)

.

ولم يتخذ المصريون لهم كتابة قائمة كلها على الحروف الهجائية وحدها لحكمة في ذلك أو لغير حكمة، بل ظلوا إلى آخر عهود حضارتهم يخلطون بين حروفهم وبين الصور الدالة على الرموز وعلى الأفكار وعلى مقاطع الكلمات. ومن أجل هذا صعب على العلماء أن يقرءوا الكتابة المصرية، ولكن من السهل علينا أن نتصور أن هذا الخلط بين الكتابة بالطريقة المعتادة وبطريقة الاختزال قد سهل عملية الكتابة للمصريين الذين كانوا يجدون فسحة من الوقت لتعلمها. وإذ كانت أصوات الكلمات الإنجليزية لا تعد مرشداً أميناً لهجائها، فإن الشاب الذي يريد أن يتعلم أساليب الهجاء الإنجليزية يجد فيها من الصعوبة ما كان يجده الكاتب المصري في حفظ الخمسمائة رمز هيروغليفي، ومعانيها المقطعية، واستعمالاتها حروفا هجائية. ومن أجل هذا نشأ شكل سريع سهل من أشكال الكتابة استخدم في الكتابات العادية، واحتفظ بالطراز الأول منها ليستخدم فيه "النقوش المقدسة" على الآثار. وإذا كان الكهنة وكتبة الهياكل هم أول من مسخ الكتابة الهيروغليفية على هذا النحو فقد أطلق اليونان عليها اسم الكتابة الهيراطية (المقدسة)، ولكنها سرعان ما عم استخدامها في الوثائق العامة والتجارية والخصوصية. ثم نشأ على يد الشعب نفسه نمط آخر من الكتابة أكثر من النمط الثاني اختصارا

(1)

يعتقد سير تشارلس مارستن معتمداً على أبحاثه الحديثة في فلسطين أن الحروف الهجائية من اختراع الساميين ويعزوها إلى إبراهيم الخليل نفسه ويذكر لهذا أسباباً وهمية إلى أبعد حدود الوهم.

ص: 109

وأقل منه عناية؛ ولذلك سمي بالكتابة الديموطية (الشعبية) لكن المصريين كانوا يصرون على ألا ينقشوا على آثارهم إلا الرموز الهيروغليفية الفاخرة الجميلة- ولعلها أجمل نمط من الكتابة عرف حتى الآن.

‌7 - الآداب

النصوص ودور الكتب - السندباد المصري - قصة سنوحي -

الروايات الخيالية - قطعة غرامية - أشعار الحب - التاريخ - ثورة في الأدب

إن معظم ما بقي من آداب مصر القديمة مدون بالكتابة الهيراطية، وهذا القدر الباقي قليل لا يغني؛ ولهذا فإننا لا نستطيع الحكم على الأدب المصري القديم إلا من هذه البقايا القديمة وهو حكم أعمى للمصادفة فيه النصيب الأوفر. ولعل الزمان قد عدا على أعظم شاعر في مصر، ولم يبق إلا شعراء البلاد. وقد كان للمصريين دور كتب وخزنة عليها؛ فقد كتب على قبر موظف كبير في الأسرة الرابعة " كاتب دار الكتب

(1)

ولسنا نعرف أكانت هذه الدار البدائية مستودعاً للأدب، المصري القديم هو "نصوص الأهرام" وهي موضوعات دينية ورعة منقوشة على جدران خمسة من أهرام الأسرتين الخامسة والسادسة. وقد وصلت إلينا مكتبات يرجع تاريخها إلى عام 2000 ق. م وتحوى برديات مطوية ومحفوظة في جرار معنوية ومصفوفة على رفوف (145). وعثر في إحدى هذه الجرار على أقدم صورة من صور قصة السندباد البحري، أو لعلنا نكون أقرب إلى الحقيقة إذ أسميناها أقدم صورة من صور قصة رُبنسن كروزو.

(1)

ووجدت طائفة أخرى من النقوش الجنازية من عصر متأخر عن هذا مكتوبة بالحبر على السطح الداخلي لبعض التوابيت الخشبية التي صنعت لتوضع فيها جثث بعض النبلاء وكبار الموظفين في أيام الدولة الوسطى. وقد أطلق برستد وغيره من العلماء عليها كلها اسم "نصوص التوابيت".

ص: 110

وهذه القصة "قصة الملاح الذي حطمت سفينته" قطعة من ترجمة ذاتية لحياة ملاح تفيض حياة وشعوراً. ويقول هذا الملاح القديم في أحد سطورها قولا يذكرنا بقول دانتي: "ما أعظم سرور من يقص ما وقع له حين ينجو من كارثة حلت به! ". يقول هذا الملاح في مطلع هذه القصة:

"سأقص عليك شيئا حدث لي حين يمت شطر مناجم الملك ونزلت البحر في سفينة طولها مائة وثمانون قدما وعرضها ستون، وفيها مائة وعشرون من صفوة الملاحين المصريين، خبيرين بمعالم الأرض والسماء، وقلوبهم أشد بأسا .... من قلوب الآساد، يتنبأون بأعاصير البحر وعواصف البر قبل أن تثور.

وهبت علينا عاصفة ونحن لا نزال في البحر .... ودفعتنا الرياح حتى كنا نطير أمامها .... وثارت موجة علوها ثمان أذرع ....

ثم تحطمت السفينة، ولم ينج أحد ممن كان فيها، وألقت بي موجة من أمواج البحر في جزيرة، قضيت فيها ثلاثة أيام بمفردي لا رفيق لي إلا قلبي؛ أنام تحت شجرة وأعانق الظلال؛ ثم مددت قدمي أبحث عما أستطيع أن أضعه في فمي، فوجدت أشجار التين والكروم وجميع صنوف الكُرّات الجميل .... وكان فيها سمك ودجاج ولم يكن ينقصها شيء قط .... وبعد أن صنعت لنفسي جهازاً أوقد به النار أشعلتها وقربت للآلهة قرباناً مشويا" (146).

وتروي قصة أخرى مغامرات سنوحي، وهو موظف عام فرّ من مصر على أثر وفاة أمنمحيت الأول، وأخذ يتنقل من بلد إلى بلد في الشرق الأدنى، وحظي فيها بضروب من النعيم والشرف، ولكنه رغم هذا لم يطق صبراً على ما حلّ به من آلام الوحدة والحنين إلى وطنه. وبرح به الألم آخر الأمر حتى ترك ثروته وعاد إلى مصر وقاسى في طريقه إليها كثيرا من الشدائد والأهوال. وقد جاء فيها:

"ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدّرت عليّ هذا الفرار، أعِدْني إلى البيت (أي الملك). ولعلك تسمح لي أن أرى الموضع الذي يقيم فيه قلبي.

ص: 111

وأي شيء أعظم من أن تدفن جثتي في الأرض التي ولدت فيها؟ أعنّي على أمري! وليصبني الخير، وليرحمني الله! ".

ثم نراه بعدئذ وقد عاد إلى وطنه، متعبا، يعلوه العثير من طول السفر في الصحراء، يخشى أن ينتهره الملك لطول غيابه عن بلد يراه أهله- كما يرى الناس بلادهم في سائر الأزمان- البلد المتحضر الوحيد في العالم. ولكن الملك يعفو عنه ويحسن استقباله ويحبوه بكل أنواع العطور والأدهان:

"وأقمت في بيت أحد أبناء الملك، حيث توجد أفخر ضروب الأثاث، وكان فيه حمام .... وزالت عن جسمي آثار السنين الطوال؛ وقص شعري، ومشط، وطرح في الصحراء حمل (من الأقذار؟) وأعطيت الملابس (القذرة) لروّاد الرمال. وجيء لي بأرق الملابس الكتانية وعطّر جسمي بأحسن الزيوت"(147).

أما القصص القصيرة فكثيرة متنوعة فيما وصل إلينا من بقايا الأدب المصري القديم. ومن هذه قصص عجيبة بديعة عن الأطياف والمعجزات والتلفيقات العجيبة التي تخلب الألباب والتي لا تقل في سبكها وقربها من الحقائق عن قصص الشرطة السرية التي يصدقها رجال الحكم في هذه الأيام. ومنها روايات غرامية مكتوبة بعبارات طنانة رنانة عن الأمراء والأميرات، والملوك والملكات، ومن بينها أقدم مثال معروف لقصة سندرلا، وقدمها الصغيرة الجميلة، وحذائها الجوال، وانتهاء القصة بزواجها من ابن الملك (148). وفيها قصص خرافية على لسان الطير والحيوان تفصح عن نقائص الآدميين وشهواتهم وعواطفهم، وتهدف في حكمة وتعقل إلى معان خلقية سامية (149)، كأنما هي منقولة عن خرافات إيزوب ولافنتين.

ومن القصص المصرية التي تمزج الحوادث الطبيعية المعقولة بخوارق الطبيعة، والتي تعد نموذجاً لغيرها من القصص المصرية، قصة أنوبو وبيتيو، وهما أخوان صغير وكبير ظلا يعيشان عيشة راضية سعيدة في مزرعة لهما حتى هامت زوجة

ص: 112

أنوبو بحب بيتيو، فردها عن نفسه، فانتقمت منه بأن وشت به إلى أخيه واتهمته بأنه أراد بها سوءا. وجاءت الآلهة والتماسيح لتعين بيتيو على أنوبو ولكن بيتيو ينفر من بني الإنسان ويضيق بهم ذرعا ويبتر نفسه ليبرهن بذلك على براءته، ويعتزل العالم إلى الغابات كما فعل تيمن الآثيني

(1)

فيما بعد. ويعلق قلبه في أعلى زهرة في شجرة لا يستطيع الوصول إليها أحد. وتشفق عليه الآلهة في وحدته فتخلق له زوجة رائعة الجمال يشغف النيل بحبها لفرط جمالها، ويختلس غديره من شعرها. وتحمل مياه النهر هذه الغديرة فيعثر عليها الملك، فيسكره عطرها، ويأمر اتباعه بالبحث عن صاحبتها. ويعثر هؤلاء عليها ويأتونه بها، ويتزوجها. وتدب في قلبه الغيرة من بيتيو فيرسل رجاله ليقطعوا الشجرة التي علق عليها بيتيو (150). ألا ما أقل الفرق بين أذواقنا وأذواق من سبقونا من الخلق!.

وكانت معظم الآداب المصرية الأولى آداباً دينية، وأقدم القصائد المصرية ترانيم نصوص الأهرام. وصيغتها هي أيضا أقدم الصيغ المعروفة لنا، وهي عبارة عن تكرار المعنى الواحد بعبارات مختلفة، وقد أخذ الشعراء العبرانيون عن المصريين والبابليين هذه الطريقة وخلدوها في المزامير (151). وفي عصر الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى تصطبغ الآداب تدريجاً بالصبغة الدنيوية "الدنسة". وفي قطعة من بردية قديمة لمحة خاطفة تشير إلى طائفة من الأدب الغرامي بقيت لنا لأن كاتبا من كتبة الدولة قد منعه الكسل أن يتم محو ما على هذه البردية من كتابة فبقى عليها خمسة وعشرون سطراً تستطاع قراءتها، وتروي قصة لقاء بين راع وإحدى الإلهات. وتقول هذه القصة أن "الإلهة التقت بالراعي وهو سائر في طريقه إلى البركة، وكانت قد خلعت ملابسها وأرخت شعرها". ويروي الشاعر ما حدث بعدئذ رواية الحذر الحريص فيقول:

(1)

انظر قصة تيمن الأثيني في ترجمتنا العربية لكتاب " قصص من شكسبير "

ص: 113

"إليك ما حدث حين نزلت إلى المستنقع

رأيت فيه امرأة لم تكن صورتها كصورة الخلائق الفانين. وانتصب شعري قائماَ على أطرافه حين أبصرت غدائرها، وذلك لفرط جمالها وبهائها. ولم أفعل قط ما قالته لي؛ فقد تملكت الرهبة منها جسدي " (152).

ولدينا من أغاني الحب الجميلة عدد كبير، ولكن معظمها يتحدث عن غرام الأخوة والأخوات

(1)

، ولهذا تسخر منه أذن السامع في هذه الأيام وتصطك لسماعه. ومن هذه الأغاني مجموعة سميت "الأغاني الجميلة السارة التي غنتها أختك حبيبة قلبك، التي تسير في الحقول".

ولدينا محارة من عهد الأسرة التاسعة عشرة أو العشرين تضرب نغمة حديثة على أوتار الحب القديمة جاء فيها:

إن غرام حبيبتي يقفز على شاطئ الغدير.

وفي الظلال تمساح رابض؛

وليتني أنزل إلى الماء وأواجه الأمواج.

ويشتد بأسي فوق الغدير

ويكون الماء هو والأرض تحت قدمي سواء،

لأن حبها يملأ قلبي قوة.

فهي لي كتاب من الرقي والتعاويذ.

وإذ رأيت حبيبتي مقبلة ابتهج لمرآها قلبي

وفتحت ذراعي ومددتهما لأضمها إلى صدري

وينشرح قلبي أبد الدهر

لأن حبيبتي قد أقبلت

(1)

يظن بعض المؤرخين أن لفظي الأخ والأخت اللذين يردان في الأغاني الغزلية المصرية لا يقصد بهما دائما أن الفتى والفتاة ابنا أب واحد وأم واحدة، بل قد يكونان لفظي إعزاز يطلق على المحب أو المحبوبة. (المترجم)

ص: 114

فإذا ما ضممتها كنت كمن في أرض البخور،

وكمن يحمل العطور،

وإذ قبّلتها انفرجت شفتاها

وسكرتُ من غير خمر،

ياليتني كنت جاريتها الزنجية التي تقف بين يديها

حتى أرى لون أعضائها كلها.

ولقد قسمنا نحن هذه السطور من عندنا على غير قاعدة، وليس في وسعنا أن نستدل من الصورة الأصلية لهذه الوثيقة على أن ما عليها شعر أو نثر. لقد كان المصريون يعرفون أن النغمة الموسيقية والعاطفة القلبية هما جوهر الشعر وقوامه، فإذا ما وجدت النغمة والعاطفة فلن تهمهم الصورة الخارجية قط. على أن العبارات في بعض الأحيان كان لها وزن يقاس بالنبرات. وكان الشاعر في بعض الأحيان يبدأ كل جملة أو مقطوعة بنفس الكلمة التي بدأ بها غيرها من الجمل أو المقطوعات السابقة، وكان يعمد أحيانا إلى الجناس اللفظي فيأتي بالألفاظ المتشابهة في أصواتها ذات المعاني المختلفة أو المتناقضة. وتدل النصوص على أن تجنيس الأحرف في أوائل الكلمات المتتابعة قديم قدم الأهرام نفسها (15). وكان حسب المصريين هذه الصيغ البسيطة، فقد كان في مقدور شاعرهم أن يعبر بها عن كل لون من ألوان الحب العذري الذي يظن نيتشه أنه من اختراع شعراء الفروسية الغزلين في أوربا في العصور الوسطى. وتدل بردية هرسى على أن المرأة كانت تستطيع أن تعبر عن هذه العواطف كما يعبر عنها الرجال:

أنا أختك الأولى،

وأنت لي كالروضة

التي زرعت فيها الأزهار

والأعشاب العطرة جميعاً.

ص: 115

وأجرَيتُ فيها غديراً

لكي تضع فيه يدك

إذا ما هبت ريح الشمال باردة.

وهي المكان الجميل الذي نتنزه فيه

حين تكون يدي في يدك.

يفكر عقلانا ويبتهج قلبانا

لأننا نسير معاً؛

إن سماع صوتك ليسكرني،

وحياتي كلها في سماعك،

وإن رؤيتك

لأحب إليّ من الطعام والشراب.

وإذا نظرنا إلى هذه القطع الباقية في مجموعها اعترتنا الدهشة من تباين موضوعاتها. فهي تشمل رسائل رسمية، ووثائق قانونية، وقصص تاريخية، وطلاسم سحرية، وترنيمات مجهدة، وكتباً دينية مليئة بعبارات التقى والورع، وأغاني الحب والحرب، وأقاصيد غرامية صغيرة، ونصائح تحض على حسن الخلق، ومقالات فلسفية. وجملة القول أن فيها مثلا من كل شيء عدى الملاحم والتمثيليات، وحتى هذه يستطيع الإنسان أن يقول مع بعض التجاوز أن فيها أمثلة منها. وأن قصة النصر الذي أحرزه رمسيس الثاني بجرأته المدهشة والتي نقشت شعرا على حجارة أبواب الأقصر العظيمة لهي ملحمة على الأقل في طولها وفيما تبعثه في نفس قارئها من ملل. ويتباهى رمسيس الرابع في نقش آخر بأنه في إحدى الألعاب قد حمى أوزير من ست وأعاد الحياة إلى أوزير (156). وليس لدينا من المعلومات ما نستطيع به أن نبسط القول في معنى هذه الإشارة.

وكتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ نفسه، بل إن ملوك عصر ما قبل

ص: 116

الأسر كانوا يحتفظون بسجلات تاريخية تفاخرا وإعجابا بأنفسهم (157). وكان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك في حملاتهم، ولكنهم لا يبصرون هزائمهم، بل يسجلون، أو يخترعون من عندهم، تفاصيل نصرهم، لأن كتابة التاريخ كانت قد أضحت حتى في ذلك العصر البعيد فنا للزينة والتجمل. وأخذ العلماء المصريون من عام 2500 ق. م يكتبون قوائم بأسماء ملوكهم، ويؤرخون السنين بحكمهم، ويذكرون الحوادث الهامة في كل حكم وفي كل عام. فلما تولى تحتمس الثالث الملك كانت هذه الوثائق قد أصبحت تواريخ بحق، تفيض بالعواطف الوطنية (158). وكان فلاسفة الدولة الوسطى يرون أن الإنسان والتاريخ نفسه قد تقادم بهما العهد وأضنتهما الشيخوخة وأخذوا يندبون ما انقضى من شباب جسمهم الفتي. وشكا عالم في عهد سنوسريت الثاني أي حوالي 2150 ق. م من أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل من عهد بعيد، ومن أن الأدب لم يبق له ما يقوله إلا التكرار. وقال في أسى وحسرة:"ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس، وعبارات وأقوالاً بلغة جديدة لم ينقض عهدها، وليس فيما تلوكه الألسن أقوال لم تصبح تافهة مملة، ولم يقلها آباؤنا من قبل"(159).

ولقد أخفى تقادم العهد ما في الأدب المصري من تباين كما يخفى ما بين أفراد الشعوب غير المألوفة للإنسان من فروق بيد أن الآداب المصرية في خلال تطورها الطويل قد مرت بحركات ونزعات لا تقل في تباينها عن الحركات والنزعات التي اضطرب بها تاريخ الآداب الأوربية. وتغيرت لغة الكلام في مصر تغيراً تدريجياً على مر الزمان، كما تغيرت لغة الكلام في أوربا من بعد، حتى أصبحت هذه اللغة في آخر الأمر كأنها لغة أخرى غير التي دونت بها كتب الدولة القديمة. وظل المؤلفون وقتا ما يكتبون باللغة الأولى، وظل العلماء يدرسونها في المدارس والطلاب لا يجدون مندوحة عن دراسة "الآداب القديمة" مستعينين بكتب النحو والمعاجم وبالتراجم التي "بين السطور" في بعض الأحيان. فلما كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد ثار

ص: 117

المؤلفون المصريون على هذا الخضوع المزري للتقاليد، وفعلوا مثل ما فعل دانتي وتشوسر من بعد، فأقدموا على الكتابة بلغة الشعب، ولقد كتبت ترنيمة إخناتون للشمس، وهي الترنيمة الذائعة الصيت، باللغة الدارجة.

وكان الأدب الجديد أدبا واقعيا، فتيا، مبهجا. وكان يسر منشئيه أن يسخروا من الأدب القديم ويصفوا الحياة الجديد. ثم فعل الزمن فعله بهذه اللغة الجديدة فأضحت هي أيضا لغة أدبية لها أصولها وقواعدها رقيقة دقيقة، جامدة مقيدة في ألفاظها وتعبيراتها بما جرى عليه العرف. واختلفت مرة أخرى لغة الكتابة عن لغة الكلام وانتشر التحذلق، حتى كانت المدارس المصرية في عصر ملوك ساو تقضي نصف وقتها في دراسة "الآداب القديمة" آداب عهد إخناتون وترجمتها (160). وحدث مثل هذا التطور في اللغات القومية في عهد اليونان والرومان والعرب، ولا يزال يجري في مجراه في هذه الأيام؛ ذلك أن كل شيء يسير ولا يبقى جامدا لا يتغير إلا العلماء.

‌8 - العلوم

منشأ العلوم المصرية - الرياضيات - علم الفلك والتقويم -

التشريح ووظائف الأعضاء - الطب والجراحة والقوانين الصحية

كان معظم علماء مصر من الكهنة، ذلك لأنهم بعيدون عن صخب الحياة وضجيجها، يتمتعون بما في الهياكل من راحة وطمأنينة؛ فكانوا هم الذين وضعوا أسس العلوم المصرية رغم ما كان في عقائدهم من خرافات. وهم يقولون في أساطيرهم أن العلوم قد اخترعها من 000 ر 18 سنة قبل الميلاد تحوت إله الحكمة المصري في خلال حكمه على ظهر الأرض البالغ ثلاثة آلاف من الأعوام، وإن أقدم الكتب في كل علم من العلوم كانت من بين العشرين ألف مجلد التي وضعها هذا الإله

ص: 118

العالم (161)(1). وليس لدينا من العلم ما نستطيع به أن نفصل القول في نظرية نشأة العلوم في مصر.

وحسبنا أن نقول أنا نجد العلوم الرياضية متقدمة أعظم تقدم منذ بداية تاريخ مصر المدون؛ وشاهد ذلك أن تصميم الأهرام وتشييدها يتطلبان الدقة في القياس لا يستطاع الوصول إليها بغير معرفة واسعة بالعلوم الرياضية. ولقد أدى اعتماد الحياة في مصر على ارتفاع النيل وانخفاضه إلى العناية بتسجيل هذا الارتفاع والانخفاض وإلى حسابهما حسابا دقيقا. وكان المساحون والكتبة لا ينقطعون من قياس الأراضي التي محا الفيضان معالم حدودها؛ وما من شك في أن هذا القياس كان منشأ فن الهندسة، وشاهد ذلك أن اسمها الأجنبي geometry مشتق من كلمتين معناهما قياس الأرض (163). والأقدمون كلهم تقريبا مجمعون على أن هذا العلم من وضع المصريين (164) وإن كان يوسفوس يظن أن إبراهيم قد جاء بالحساب من كلديا (أي من أرض الجزيرة) إلى مصر (165)، وليس من المستحيل أن يكون الحساب وغيره من العلوم والفنون قد جاءت إلى مصر من "أور الكلدان" أو من غيرها من مراكز آسية الغربية.

وكانت الأرقام سمجة متعبة- فقد كان رقم 1 يمثل له بشرطة. ورقم 2 بشرطتين، و 3 بثلاث شرط

و 9 بتسع شرط، وتمثل العشرة بعلامة خاصة والعشرون باثنتين من هذه العلامات والثلاثون بثلاث منها

والتسعون بتسع والمائة بعلامة أخرى جديدة والمائتان بعلامتين والثلاثمائة بثلاث علامات

والتسعمائة بتسع والألف بعلامة جديدة. أما المليون فكانت تمثله صورة رجل يضرب كفا بكف فوق رأسه كأنه يعبر عن دهشته من وجود مثل هذا العدد

(1) وهذا ما يؤكده لنا يمبليكس (حوالي 300 ب. م) أما منيثون المؤرخ المصري الذي عاش حوالي 300 ق. م فيرى أن هذا التقدير لا ينصف الإله؛ ويقدر عدد ما وضع تحوت من الكتب بستة وثلاثين ألف كتاب. وكان اليونان يعظمون تحوت ويسمونه هرمس ترسمحستس- هرممن (عطارد) المثلث العظمة.

ص: 119

الكبير (166)، وكاد المصريون أن يصلوا إلى الطريقة العشرية في الأعداد؛ وإن لم يعرفوا الصفر ولم يصلوا قط إلى فكرة التعبير عن جميع الأعداد بعشرة أرقام، بل كانوا يعبرون عن رقم 999 مثلاً بسبع وعشرين علامة (167). وكانوا يعرفون الكسور الاعتيادية، ولكن بسط هذه الكسور كان رقم 1 على الدوام؛ فكانوا إذا أرادوا كتابة 3 slash 4 كتبوها 1 slash 2 + 1 slash 4

(1)

. وجداول الضرب والقسمة قديمة قدم الأهرام، وأقدم رسالة في الرياضة عرفت في التاريخ هي بردية أحمس التي يرجع تاريخها إلى ما بين عام ألفين وألف وسبعمائة قبل الميلاد؛ ولكن هذه البردية نفسها تشير إلى كتابات رياضية أقدم منها بخمسمائة عام. وهي تحسب سعة مخزن للغلال أو مساحة حقل وتضرب لهذا الحساب أمثلة ثم تنتقل من هذا إلى معادلات جبرية من الدرجة الأولى (168). ولم تقتصر الهندسة المصرية على قياس مساحات المربعات والدوائر والمكعبات، بل كانت تقيس أيضا أحجام الاسطوانات والكرات؛ وقد وصلت إلى تقدير النسبة التقريبية بـ 3. 16 (169). وما أعظم فخرنا إذا استطعنا في أربعة آلاف عام أن نتقدم في حساب هذه النسبة التقريبية من 3. 16 إلى 3. 1416.

ولسنا نعرف شيئاً عما وصل إليه المصريون في علمي الطبيعة والكيمياء، ولا نكاد نعرف شيئاً عما وصلوا إليه في علم الفلك. ويلوح أن راصدي النجوم في الهياكل كانوا يظنون الأرض صندوقاً مستطيلاً تقوم في أركانه الجبال لتمسك السماء (170). ولم يشيروا بشيء إلى الخسوف والكسوف، وكانوا في هذا العلم بوجه عام أقل رقياً من معاصريهم في أرض النهرين، ولكنهم مع هذا كانوا يعرفون منه ما يكفي للتنبؤ باليوم الذي يرتفع فيه النيل، وأن يتجهوا بهياكلهم نحو الشرق في النقطة التي تشرق منها الشمس في صباح يوم الانقلاب الصيفي (171). ولربما كانوا

(1)

لقد ظل الكتبة في التفاتيش الزراعية إلى عهد قريب يعبرون عن الـ 3 slash 4 فيما يسمونه صورة الفدان بقولهم 1 slash 2، 1 slash 4 (المترجم).

ص: 120

يعرفون أكثر مما عنوا بإذاعته بين شعب كانت خدماته عظيمة القيمة لحكامه. وكان الكهنة يرون أن دراساتهم الفلكية من العلوم السرية الخفية التي لا يحبون أن يكشفوا أسرارها للسوقة من الناس (172). وظلوا قروناً طويلة متتالية يتتبعون مواقع الكواكب وحركاتها حتى شملت سجلاتهم في هذه الناحية آلاف السنين. وكانوا يميزون الكواكب السيّارة من النجوم الثوابت، وذكروا في فهارسهم نجوماً من القدر الخامس (وهي لا تكاد ترى بالعين العادية) وسجلوا ما ظنوه أثر نجوم السماء في مصائر البشر. ومن هذه الملاحظات أنشأوا التقويم الذي أصبح فيما بعد من أعظم ما أورثه المصريون بني الإنسان.

وبدأوا تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول في كل واحد منها أربعة شهور، أولها فصل ارتفاع النيل وفيضه وانحساره، وثانيها فصل الزرع، وثالثها فصل الحصاد. وكانت عدة كل شهر من شهورهم ثلاثين يوما لأن هذا العدد هو أقرب الأعداد السهلة إلى طول الشهر القمري الذي يبلغ تسعاً وعشرين يوماً ونصف يوم. وكان لفظ الشهر في لغتهم كما هو في اللغة الإنجليزية مشتقاً من رمزهم للقمر

(1)

.

وكانوا يضيفون بعد آخر الشهر الثاني عشر خمسة أيام حتى تتفق السنة في الحساب مع فيضان النهر ومع مواقع الشمس (174). واختاروا لبدء السنة اليوم الذي يصل فيه النيل عادة إلى أقصى ارتفاعه والذي كانت فيه الشعرى العظيمة (وكانوا يسمونها سوثيس) تشرق مع الشمس في وقت واحد. ولما كان التقويم المصري يجعل السنة 365 يوما بدل 365 وربع، فإن الفرق بين شروق الشعرى وشروق الشمس وهو الذي كان في أول الأمر صغيراً لا يكاد يدرك قد ازداد حتى

(1)

لقد كانت الساعة المائية معروفة عند المصريين من زمن بعيد، ومن أجل هذا كانوا يعزون اختراعها إلى تحوت إلههم المتعدد الكفايات. وأقدم الساعات الموجودة لدينا يرجع عهدها إلى أيام تحتمس الثالث، وهي الآن في متحف برلين. وتتكون من قضيب من الخشب مقسم ستة أقسام تمثل ست ساعات وفوقه قطعة مستعرضة وضعت بحيث يدل ظلها الواقع على القضيب على الساعة قبل الظهر أو بعده. وكانوا يضيفون بعداً آخر

ص: 121

بلغ يوما كاملا في كل أربع سنين. وبذلك كان التقويم المصري يختلف عن التقويم السماوي الحقيقي بست ساعات في كل عام. ولم يصحح المصريون قط هذا الخطأ، حتى جاء فلكيو الإسكندرية اليونان فأصلحوه بأمر يوليوس قيصر (في عام 46 ق. م) وذلك بإضافة يوم بعد كل أربع سنين. وهذا هو ما يسمونه التقويم اليوليوسي. ثم صحح التقويم تصحيحاً أدق في عصر البابا جريجوري الثالث عشر (1582) وذلك بحذف هذا اليوم الزائد (وهو اليوم التاسع والعشرين من فبراير) من السنين المتممة للمئات التي لا تقبل القسمة على 400؛ وهذا هو "التقويم الجريجوري" الذي نستخدمه اليوم. وجملة القول أن تقويمنا في جوهره من وضع الشرق الأدنى القديم

(1)

.

(1)

لما كان شروق الشعرى منسوباً إلى الشمس يتأخر يوما كاملا في كل أربع سنين عما يتطلبه التقويم المصري ليكون الشروقان متفقين على الدوام، فإن هذا الخطأ يبلغ 365 يوماً في كل 1460 عاماً. وحين تكمل هذه الدورة السوثية (كما كان المصريون الأقدمون يسمونها) يعود التقويم المكتوب والتقويم السماوي إلى الاتفاق. وإذ كنا نعرف من سنوريس المؤلف اللاتيني أن شروق الشعرى الشمسي (منسوبا إلى شروق الشمس) قد اتفق في عام 139 ق. م مع بداية سنة التقويم المصري القديم، فإن من حقنا أن نفترض أن هذا التوافق بعينه كان يحدث في كل 1460 سنة قبل ذلك التاريخ الأخير، أي في عام 1321 ق. م، وفي عام 2781 ق. م، وفي عام 4241 ق. م الخ الخ. ولما كان من الواضح أن التقويم المصري قد وضع في سنة كان فيها شروق الشعرى الشمسي (أي المنسوب إلى الشمس) قد وقع في أول يوم من أول شهور السنة، فإنا نستدل من هذا على أن ذلك التقويم قد بدأ العمل به في سنة كانت فاتحة دورة سوثية. وقد ورد ذكر التقويم المصري لأول مرة في النصوص الدينية المنقوشة في أهرام الأسرة الرابعة. ولما كان عهد تلك الأسرة يرجع بلا جدال إلى ما قبل عام 1321 ق. م، فإن التقويم لا بد أن يكون قد وضع في عام 2781 ق. م أو في عام 4241 ق. م أو قبل هاتين السنتين. وكان الاعتقاد السائد أن أقدم العامين أي عام 4241 ق. م هو أول ما حدد من الأعوام في تاريخ العالم، ولكن الأستاذ شارف Scharf يعارض في هذا، وليس ببعيد أن نضطر إلى الأخذ بالرأي الثاني وهو أن عام 2781 أو عاما قريبا منه هو مولد التقويم المصري القديم. فإذا صح هذا وجب أن نصحح التواريخ السالفة الذكر والتي حددناها لحكم الأسرة الأولى وتشييد الأهرام العظيمة بحيث تكون أقرب إلينا بنحو ثلاثمائة عام أو أربعمائة. ولما كان الموضوع لا يزال مثاراً للجدل فقد اعتمدنا في هذا الكتاب على التواريخ الواردة في كتاب التاريخ القديم لجامعة كمبردج (Cambridge Ancient History) .

ص: 122

ولم يتقدم المصريون في دراسة جسد الإنسان تقدما يستحق الذكر رغم ما أتاحه لهم فن التحنيط من فرص لهذه الدراسة. فقد كانوا يظنون الأوعية الدموية تحمل هواء وماء ونفايات من السوائل. وكانوا يعتقدون أن القلب والأمعاء مركز العقل. ولعلنا إذا عرفنا ما كانوا يعتقدونه بهذا المصطلحات لا نجدهم يختلفون عنا كثيراً في معتقداتنا الأكيدة التي لا نثبت عليها إلا قليلا. ولكنهم وصفوا بكثير من الدقة العظام الكبرى والأمعاء، وعرفوا أن القلب هو القوة الدافعة في الكائنات الحية، وأنه مركز الدورة الدموية. وقد جاء في بردية إيبرز (176) أن "أوعيته تتفرع إلى جميع أعضاء الجسد، فسواء وضع الطبيب إصبعه على جبهة الإنسان، أو على مؤخرة الرأس، أو على اليدين

أو على القدمين فإنه يلتقي بالقلب في كل مكان". ولم يكن بين هذا وبين أقوال ليوناردو وهارفي إلا خطوة واحدة- ولكنها خطوة تتطلب ثلاثة آلاف عام.

أما أكبر مفخرة علمية للمصريين فهي علم الطب. وكان الكهنة هم البادئين به كما أن فيه من الشواهد ما يدل على أن هذه البداية قد نبتت من السحر. وشأن الطب في هذا يكاد يكون شأن كل شيء آخر في حياة مصر الثقافية. وكانت التمائم أكثر شيوعاً بين الناس من حبوب الدواء لعلاج الأمراض أو للوقاية منها. وكان المرض في اعتقادهم هو تقمص الشياطين الجسم، وعلاجه هو تلاوة العزائم؛ فقد كان الزكام مثلا يعالج بمثل هذه العبارات السحرية:"اخرج أيها البرد يا ابن البرد، يا من تهشم العظام، وتتلف الجمجمة، وتمرض مخارج الرأس السبعة. اخرج على الأرض. دفر. دفر. دفر! "(177) - وأكبر الظن أن هذا علاج لا يقل في مفعوله عن أي علاج نعرفه اليوم لهذا المرض القديم.

ثم نرتفع في مصر من هذه الأعماق إلى الأطباء العظام والجراحين والأخصائيين الذين ساروا في صناعة الطب على قانون أخلاقي ظل يتوارث جيلا بعد جيل حتى وصل إلى القَسَم الذائع الصيت قسم أبقراط (178). وكان

ص: 123

من المصريين أخصائيون في التوليد وفي أمراض النساء؛ ومنهم من لم يكن يعالج إلا اضطرابات المعدة، ومنهم أطباء العيون. وقد بلغ من شهرة هؤلاء أن قورش استدعى واحداً منهم إلى بلاد الفرس (179). أولئك هم الأخصائيون، أما غير الأخصائيين منهم فقد ترك لهم جمع الفتات بعد هؤلاء وعلاج الفقراء من الناس؛ وكان من عملهم فوق هذا أن يحضروا أدهان الوجه، وصبغات الشعر، وتجميل الجلد، وأعضاء الجسم، ومبيدات البراغيث (180).

وقد وصلت إلينا عدة برديات تبحث في الشئون الطبية. وأعظمها قيمة بردية أدون اسمث، وسميت كذلك نسبة إلى مستكشفها وهي ملف طوله خمسة عشر قدماً، ويرجع تاريخها إلى عام 1600 ق. م تقريباً وتعتمد على مراجع أقدم منها كثيراً. وحتى لو ضربنا صفحاً عن هذه المراجع الأولى لظلت هذه البردية نفسها أقدم وثيقة علمية معروفة في التاريخ وهي تصف ثماني وأربعين حالة من حالات الجراحة التطبيقية تختلف من كسر في الجمجمة إلى إصابة النخاع الشوكي. وكل حالة من الحالات الواردة فيها مبحوثة بحثاً دقيقاً في نظام منطقي في عناوين مرتبة من تشخيص ابتدائي مؤقت، وفحص، وبحث في الأعراض المشتركة بين أمراض مختلفة، وتشخيص العلة، والاستدلال بأعراضها على عواقبها وطريقة علاجها، ثم تعليقات على سطح المصطلحات العلمية الواردة فيها وشروح لها. ويشير المؤلف في وضوح لا نجد له مثيلا قبل القرن الثامن عشر الميلادي إلى أن المركز المسيطر على الطرفين السفليين من أطراف الجسم كائن في المخ. "وتلك أول مرة يظهر فيها هذا اللفظ في عالم الأدب (181).

وكان المصريون يستمتعون بطائفة كبيرة من الأمراض المتنوعة، وإن كانوا قد قضى عليهم أن يموتوا بها من غير أن يعرفوا أسمائها اليونانية. وتحدثنا بردياتهم وأجسامهم المحنطة عن تدرن النخاع الشوكي وتصلب الشرايين، والحصوات الصفراوية، والجدري وشلل الأطفال، وفقر الدم، والتهاب المفاصل، والصرع

ص: 124

والنقرس، والتهاب النتوء الحلمي. والتهاب الزائدة الدودية، وبعض الأمراض العجيبة. كالالتهاب الفقري الأشوه، وما يعتري نمو كراديس العظام الطويلة من نقص. وليست لدينا دلائل تثبت إصابتهم بالزهري أو السرطان، ولكن تقيح اللثة وتسوس الأسنان وهما اللذان لا أثر لهما في أقدم الجثث المحنطة القديمة يظهران بكثرة في الجثث المحنطة الباقية من العهود المتأخرة، وذلك دليل على تقدم الحضارة في هذه العهود. وكان ضمور عظم الإصبع الصغرى من أصابع القدم وانعدامها- وهي حالة كثيراً ما يعزى سببها إلى الأحذية الحديثة- من الحالات المنتشرة في مصر القديمة، حيث كان الأهلون على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم يسيرون كلهم تقريبا حفاة (182).

وكان لدى الأطباء المصريين عدة وافية من القراباذينات (دساتير الأدوية) لمقاومة هذه الأمراض كلها. ففي بردية إيبرز ثبت بأسماء سبعمائة دواء لكل الأدواء المعروفة، من عضة الأفعى إلى حمى النفاس. وتصف بردية كاهون (ويرجع عهدها إلى حوالي عام 1850 ق. م) أقماع اللبوس ولعلها كانت تستخدم لمنع الحمل (182). وقد عثر في قبر إحدى ملكات الأسرة الحادية عشرة على صندوق للأدوية يحتوي على مزهريات، وملاعق، وعقاقير جافة، وجذور. وكانت الوصفات الطبية تتذبذب بين الطب والسحر. وكان مفعول الخليط في رأيهم يتناسب مع اشمئزاز النفس منه ومما تصفه تذاكر الأطباء دم العظاية (السحلية) وأذن الخنزير وأسنانه، واللحم والدهن النتن، ومخ السلحفاة، وكتاب قديم مقلي في الزيت، ولبن النفساء، وماء المرأة الطاهرة، وبراز الرجال والحمير والكلاب والآساد والقطط والقمل- كل هذه واردة في تذاكر الأطباء. وكان الصلع يعالج بتدليك الرأس بدهن الحيوان. وقد انتقلت بعض هذه الوسائل

(1)

العلاجية من المصريين إلى اليونان، ثم انتقلت من اليونان إلى الرومان، ومن الرومان إلينا ولا نزال إلى اليوم نتجرع في ثقة واطمئنان كثيراً من الأدوية التي خلطها

(1)

وقد كشفت أعمال الحفر عن طرق كانت تتبع لجمع ماء المطر وتصريف الفضلات بأنابيب من النحاس.

ص: 125

وجهزها لنا المصريون على شاطئ النيل في أقدم الأزمان (183).

ولقد حاول مصريون أن يحافظوا على صحة أجسامهم باتباع الوسائل الصحية العامة، وبختان الذكور

(1)

وبتعويد الناس أن يكثروا من استخدام الحقن الشرجية. ويقول ديودور الصقلي في هذا المعنى:

وهم يتقون الأمراض بالمحافظة على صحة أجسامهم وذلك باستخدام الملينات وبالصوم وبالمقيئات، كل يوم في بعض الأحيان وكل ثلاثة أيام أو أربعة في البعض الآخر. وذلك لأنهم يقولون أن الجزء الأكبر مما يخل في الجسم من طعام يزيد على حاجته، وإن الأمراض إنما تنشأ من هذا القدر الزائد

(2)

.

ويعتقد بلنى أن المصريين قد تعلموا عادة استخدام الحقن الشرجية من الطائر المعروف "بأبي منجل" وهو طائر يقاوم الإمساك الناشئ من طبيعة ما يتناوله من الطعام بإدخال منقاره الطويل في دبره واستخدامه كالمحقن (188). ويروي هيرودوت أن المصريين كانوا "يطهرون أجسامهم مرة في كل أشهر ثلاثة أيام متوالية، ويعملون على حفظ صحتهم بالمقيئات والحقن الشرجية، لأنهم يظنون أن جميع ما يصيب الناس من الأمراض إنما ينشأ مما يأكلون من الطعام". وهذا المؤرخ- وهو أول مؤرخ للحضارة- يصف المصريين بأنهم بعد اللوبيين أصح شعوب العالم أجساماً (189).

(1)

وفي أقدم القبور شواهد دالة على هذه العادة.

(2)

إن المثل الحديث الذي يقول إننا نعيش على ربع ما نأكل وإن الأطباء يعيشون على الثلاثة الأرباع الباقية لمن أقدم الأمثال.

ص: 126

‌9 - الفن

العمارة - النحت في الدولة القديمة والدولة

الوسطى والإمبراطورية وفي عهد الملوك الساويين - النقوش

الغائرة - التصوير - الفنون الصغرى - الموسيقى - الفنون

كان الفن أعظم عناصر هذه الحضارة؛ فنحن نجد في هذه البلاد، وفي عهد يكاد يكون عهد بداية الحضارات، فناً قوياً ناضجاً أرقى من فن أية دولة حديثة، ولا يضارعه إلا فن اليونان. لقد كان ما امتازت به مصر في أول عهودها من عزلة وسلم، ثم ما تدفق فيها بعدئذ من مغانم الظلم والحرب في عهد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني، مما أتاح لها الفرصة المواتية والوسائل الكفيلة بتشييد المباني الضخمة، ونحت التماثيل المتينة، والبراعة في عدة فنون أخرى صغيرة، كادت تبلغ حد الكمال في هذا العهد السحيق. وإن المرء ليقف حائراً مشدوها لا يكاد يصدق ما وضعه الباحثون من نظريات لتطور الرقي البشري إذا نظر إلى منتجات الفن المصري القديم.

وكانت العمارة

(1)

أفخم الفنون المصرية على الإطلاق، وذلك لما تجمع فيها من روعة وضخامة وصلابة وجمال ومنفعة. وقد بدأ هذا الفن بداية متواضعة بتزيين المقابر ونقش الوجهة الخارجية لجدران المنازل. وكانت كثرة المساكن تبنى من الطين تتخللها في بعض الأحيان أعمال بسيطة من الخشب (كالنوافذ الشبكية اليابانية أو الأبواب الجميلة الحفر)، والسقف المقامة على جذوع النخل السهلة العلاج. وكان يحيط بالدار عادة سور يضم فناء، تصعد منه درج إلى سطح البيت؛ ومنه ينزل السكان إلى الحجرات. وكان للموسرين من الأهلين حدائق خاصة يعنون بتنسيقها؛ وكان في الحواضر حدائق عامة للفقراء، ولا يكاد يخلو بيت من أزهار

(1)

اقرأ في القسمين الأول والثالث من الجزء الأول من هذا الفصل وصف العمارة في أيام الدولة القديمة.

ص: 127

الزينة. وكانت جدران المنزل تزين من الداخل بحُصر ملوّنة، وتفرش أرضه بالطنافس، إذا كان رب الدار ذا سعة. وكان السكان يفضلون الجلوس على هذه الطنافس عن الجلوس على الكراسي وكان المصريون في عهد الدولة القديمة يتناولون الطعام وهم جالسون مرتبعون وأمامهم موائد لا يزيد ارتفاعها على ست بوصات كما يفعل اليابانيون في هذه الأيام، وكانوا يأكلون بأيديهم على طريقة شكسبير؛ فلما كان عهد الإمبراطورية وقل ثمن العبيد أصبح أفراد الطبقات العليا يجلسون على كراسي عالية ذات وسائد، ويقدم لهم خدمهم أصناف الطعام صنفاً بعد صنف (190).

وكانت أحجار البناء أغلى من أن تستخدم في تشييد المنازل؛ ولهذا كانت من مواد الترف الخاصة بالكهنة والملوك. وحتى النبلاء أنفسهم- وهم الطائفة الكثيرة الطموح- آثروا المعابد بأكبر قسط من الثروة وبأحسن مواد البناء؛ ومن أجل هذا فإن القصور كانت تطل على النيل والتي لم يكد يخلو ميل من واحد منها في أيام أمنحوتب الثالث قد تهدمت كلها وعفت آثارها على حين أن أضرحة الآلهة ومقابر الموتى قد بقيت إلى أيامنا هذه. ولما جاءت الأسرة الثانية عشرة لم يعد الهرم الطراز المحبب لمدافن الأموات، ولهذا اختار ختوم حوتب (حوالي 1180 ق. م) لمدفنه عند بني حسن شكلاً أهدأ من أشكال الهرم وهو قبر ذو عمد في أحضان الجبل؛ وما كادت هذه الفكرة تثبت وتستقر حتى اتخذت آلاف الأشكال المختلفة بين التلال الممتدة على جانب النيل الغربي. وهكذا خرجت من رمال مصر ما بين عهد الأهرام والعهد الذي شيد فيه هيكل حتحور عند دندرة- أي في خلال ثلاثة الآلاف عام أو نحوها- ضروب من العمائر المختلفة لم تفقها قط عمائر أية حضارة من الحضارات الأخرى.

ففي الكرنك والأقصر أيكة من الأعمدة أقامها تحتمس الأول والثالث، وأمنحوتب الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني وغيرهم من الملوك ما بين

ص: 128

الأسرة الثانية عشرة والأسرة الثانية والعشرين؛ وفي مدينة حبو (حوالي 1300 ق. م) صرح متسع الأرجاء، وإن كان لا يضارع الصروح السالفة الذكر في فخامتها، قامت عليه فيما بعد قرية عربية وظلت جاثمة على صدره عدة قرون. وفي أبيدوس (العرابة) شيد هيكل سيتي الأول الذي لم يبق منه إلا خرائب ضخمة قاتمة كئيبة؛ وفي إلفنتين معبد صغير وهو معبد ختوم (حوالي 1400 ق. م)"اليوناني في دقة بنائه ورشاقته"(191)؛ وفي الدير البحري بهو الأعمدة الذي شادته الملكة حتشبسوت، وبالقرب منه الرمسيوم وهي أيكة أخرى من العمد والتماثيل الضخام شادها المهندسون والعبيد الذين سخرهم رمسيس الثاني، وفي جزيرة فيلة هيكل إيزيس الجميل (حوالي 240 ق. م) المهجور الموحش في هذه الأيام لأن خزان أسوان قد غمر قواعد عمده التي بلغت في عمارتها حد الكمال- وهذه البقايا القليلة المتفرقة إن هي إلا نماذج من الآثار القديمة التي لا تزال تجمل وادي النيل وتنطق خرائبها نفسها بما كان عليه الشعب الذي شادها من قوة وبسالة. ولعل في هذه الصروح إفراطاً في الأعمدة وتقاربها بعضها من بعض لاتقاء حر الشمس اللافح، ولعل فيها بعدا عن التناسب هو من خصائص الشرق الأقصى، وافتقاراً إلى الوحدة، وهياماً همجياً بالضخامة كهيام أهل هذه الأيام. فإن كان ذلك كذلك فإن فيها أيضاً عظمة وسمواً وجلالاً وقوة؛ فيها الأقواس والعقود (192) وهي إن قلت فما ذلك إلا لقلة الحاجة إليها، ولكنها من حيث المبادئ التي شيدت عليها تسير في طريق الانتقال إلى المبادئ التي شيدت عليها العمد والأقواس في بلاد اليونان والرومان وفي أوربا الحديثة، وفيها نقوش للزينة لا يفوقها غيرها من النقوش في تاريخ العالم كله (193)، وفيها عمد على صورة أعواد البردي والأزورد (اللوطس)، وعمد من الطراز الدوري

(1)

الأول (194) وعمد في صورة نساء (195)، وتيجان للعمد منها ما هو في صورة حتحور

(1)

نسبة إلى الفن الدوري اليوناني الذي يمتاز ببساطته وصلابته. (المترجم)

ص: 129

ومنها ما هو على صورة النخيل؛ وفيها قصور ذات نوافذ قرب السقوف؛ وفيها عتبات فخمة تمتاز بالقوة والثبات اللذين هما روح الجاذبية القوية في فن العمارة. لعمري إن المصريين لهم أعظم البنائين في التاريخ كله بلا جدال.

ومن الناس من يضيف إلى هذا أنهم أيضا أعظم المثالين، فلقد أنشأوا في بداية تاريخهم تمثال أبي الهول ذلك التمثال الذي يرمز إلى الصفات الأدبية التي اتصف بها أحد الفراعنة الأقوياء؛ ولعل هذا الفرعون هو خفرع. والتمثال لا ينم عن القوة فحسب بل يفصح كذلك عن الصفات الخلقية. ولقد حطمت طلقة من مدافع المماليك أنف التمثال وحلقة لحيته، ولكن ملامحه القوية الضخمة تعبر أحسن تعبير وأقواه عما اتصف به ذلك الملك من قوة ومهابة وهدوء ونضوج، وكلها صفات يجب ألا تفارق الملك. وقد علت هذه الملامح الساكنة ابتسامة خفيفة لم تفارقها منذ خمسة آلاف من السنين، كأنما الفنان المجهول الذي صاغه أو الملك المجهول الذي يرمز التمثال له، كان يفهم كل ما يريد الخلق أن يفهموه عن الخلق. والحق أنه هو " موناليزة " من الصخر الأصم.

وما من شيء في تاريخ النحت أجمل من تمثال خفرع المصنوع من حجر الديوريت والذي يقوم الآن في متحف القاهرة. لقد كان هذا التمثال قديماً في أيام هركستليز، قدم هركستليز نفسه بالنسبة إلينا؛ مع هذا فقد اجتاز حقبة من الزمان طولها خمسون قرنا، ثم وصل إلينا ولم تكد تؤثر فيه عوادي الدهر ونوائبه. لقد صنع هذا التمثال من أصلب الحجارة وأشدها استعصاء على الإنسان، ولكنه ينقل إلينا أكمل ما يكون النقل قوة الملك (أو الفنان) البدنية، وسلطانه وعناده وصلابة رأيه وبسالته وذكائه. ويجلس بالقرب منه تمثال عابس متجهم لملك أقدم من صاحب التمثال الأول عهدا وهو تمثال الملك زوسر المصنوع من حجر الجير. ومن بعده يكشف لك الدليل بعود الثقاب عن شفافية تمثال رائع من المرمر هو تمثال منقورع.

ويضارع تمثالا شيخ البلد والكاتب تماثيل الملوك من ناحية الإبداع

ص: 130

والإتقان الفني الذي ليس بعده إتقان. ولقد وصل إلينا تمثال الكاتب في عدة أشكال، وكلها من عهود لا نعلمها علم اليقين، ولكن أشهرها كلها تمثال الكاتب المتربع المحفوظ في متحف اللوفر

(1)

. وليس تمثال شيخ البلد لشيخ بحق ولكنه تمثال مُشرفٍ على الفعلة بيده عصا السلطة، يخطو إلى الأمام كأنه يلاحظ عماله أو يصدر إليهم أوامره. ويبدو أن اسمه هو "كعبيرو" ولكن العمال المصريين الذين أخرجوه من قبره في سقارة قد أدهشهم ما رأوه من تشابه بينه وبين شيخ البلد الذي يسكنونه، فأوحت إليهم فكاهتهم بهذا اللقب الذي اشتهر به والذي لا يزال إلى اليوم ملازما له. وهذا التمثال المصنوع من الخشب المعرض للبلى ولكن الزمان لم يقو على تشويه جسمه المليء، أو ساقيه الغليظتين؛ وينم وسط جسمه على ما يتمتع به الملاك في جميع الحضارات من سعة في الرزق وقلة في الكدح، وينطق وجهه المستدير بقناعة الرجل الذي يعرف مكانته ويفخر بها. ويشعرنا رأسه الأصلع وثوبه المتهدل على واقعية الفن الذي كان في ذلك الوقت قد بلغ من القدم درجة أجازت له أن يثور على التقاليد التي جعلت من الفن القديم مثلاً أعلى يحتذى؛ ولكن فيه أيضا بساطة جميلة وإنسانية كاملة عبر عنها المثال بلا حقد ولا مرارة، وعبر عنها في يسر ورشاقة، تمتاز بهما اليد الواثقة الصَّنَاع. وفي ذلك يقول مسبيرو:"لو أن معرضا أنشئ لروائع الفن في العالم كله لاخترت هذا التمثال ليمثل فيه عظمة الفن المصري"(196) - أو هل أصدق من هذا أن نختص بهذا الشرف تمثال خفرع؟

هذه هي الروائع الفنية من تماثيل الدولة القديمة. ولكن هناك آيات فنية أخرى كثيرة أقل منها روعة، منها تمثال رع حوتب وزوجته الجالسان، ومنها التمثال القوي للكاهن رنوفو، ومنها تمثالا الملك فيوبس وولده المصبوبان من

(1)

انظر وصفه السابق في ص 79 وتزين المتحف المصري بالقاهرة ومتحف الدولة في برلين تماثيل أخرى للكاتب.

ص: 132

النحاس، ومنها رأس باشق من الذهب، ومنها الصورتان الهزليتان لعاصر الخمر وللقزم كنمحوتب، وكلها إلا واحداً منها في المتحف المصري بالقاهرة، وكلها بلا استثناء صور ناطقة بأخلاق أصحابها. ولسنا ننكر أن القطع المكبرة منها خشنة غير مصقولة الصنع، وأن التماثيل قد صنعت وأجسامها وعيونها متجهة إلى الأمام، على حين أن الأيدي والأقدام قد رسمت من أحد الجانبين، وذلك جريا وراء عرف غريب متبع في جميع ضروب الفن المصري

(1)

، وأن الجسم لم يلق من الفنان عناية كبيرة، وأنه مثل في معظم الأحيان في صورة راسخة مقننة لا تتفق مع الواقع- فكانت أجسام تماثيل النساء كلها تصورهن فتيات في شرخ الشباب وتماثيل الملوك تظهرهم كلهم أقوياء، وأن الفردية وإن كانت قد بلغت في فنهم درجة عالية قد احتفظ بها عادة الرءوس دون الأجسام. ولكن مهما يكن من الجمود والتماثل اللذين لحقا فنون النحت والتصوير والنقش البارز وما فرضه عليها الكهنة من قيود العرف، ومن سلطان لهم شديد، بالرغم من هذا كله فإن هذا النقص قد عوضه عمق في التفكير، وقوة ودقة في التنفيذ، وما تمتاز به الصناعة من طابع خاص واتجاه وصقل. والحق أن فن النحت لم يكن في بلد من البلاد أكثر حيوية مما كان في مصر. إن تمثال الشيخ ليخرج على كل سلطان، وإن المرأة التي تطحن الحب لتقبل عليه بكل ما في نفسها من أحاسيس وما في جسمها من عضلات، وإن الكاتب ليهم بالكتابة، وإن آلاف الدمى الصغيرة التي وضعت في المقابر لتقوم بالواجبات الضرورية للموتى قد صيغت كلها بحيث يبدو عليها من مظاهر النشاط والجسد ما نكاد معه أن نعتقد، كما كان يعتقد المصريون الأتقياء، أن الموتى لا يمكن أن يشقوا ما دام هؤلاء الخدم من حولهم.

(1)

هناك تماثيل كثيرة تشذ عن هذه القاعدة العامة منها تمثال شيخ البلد والكاتب، وما من شك في أن هذا العرف لم يكن ناشئا عن عجز أو جهل بأصول الفن.

ص: 133

ولم تصل منتجات فن النحت المصري بعد عهد الأسر الأولى إلى ما كانت عليه في عهدها إلا بعد أن مضت عليها قرون كثيرة. وإذ كان معظم التماثيل إنما صنع للهياكل أو المقابر فقد كان الكهنة هم الذين يقررون إلى حد كبير الأنماط التي يلتزمها الفنان. ومن هذا السبيل تسربت إلى الفن النزعة الدينية المحافظة، فجثم على قلب الفن بسببها كابوس التقاليد، وكان سببا في تدهوره. فلما أن تولى الحكم ملوك الأسرة الثانية عشرة الأقوياء عادت الروح الدنيوية غير الدينية إلى الظهور وأثبتت وجودها، واستعاد الفن شيئاً من قوته القديمة، وفاق الفنانون ما كان عليه أسلافهم الأولون من براعة. ويوحي رأس أمنمحيت الثالث المنحوت من حجر الديوريت (197) ببعث جديد للفن وبعث للأخلاق. ذلك أن الناظر إلى هذا الرأس يستف منه صلابة هذا المليك القدير، ويدرك أن الذي نحته فنان قدير أيضا. وثمة تمثال ضخم لسنوسريت الثالث يزينه رأس ووجه لا تقل الفكرة التي أوحت به، ولا القدرة التي أخرجته، عما أوحت به وأخرجته

ص: 134

أية صورة أخرى في تاريخ فن النحت كله. وإن الجذع الباقي من تمثال سنوسريت الأول في متحف القاهرة ليضارع جذع تمثال هرقول في متحف اللوفر. وتكثر تماثيل الحيوانات في كل عصر من عصور التاريخ المصري، وهي كلها تفيض بالحياة، فهنا نجد فأرا يمضغ بندقة، وهناك ترى قرداً يضرب على وتر ويكشف عن كل ما لديه من مهارة في هذا الضرب، أو قنفذاً ليس في أشواكه كلها شوكة فير منتفشة. ثم جاء ملوك الهكسوس وانعدم الفن المصري إلا قليلا وبعث الفن بعثاً ثانياً على ضفاف النيل في حكم حتشبسوت وتحتمس

ص: 135

وأمنحوتب ومن تسمى باسميهما من الملوك. ذلك أن الثروة أخذت تتدفق على مصر من سوريا، وتحول مجراها إلى الهياكل وقصور الملوك، وتقطرت منها لتغذي الفنون على اختلاف أنواعها. وقامت تماثيل تحتمس الثالث ورمسيس الثاني تناطح السماء، وغصت أركان الهياكل كلها بمختلف التماثيل، وكثرت روائع الفن كثرة لم يسبق لها مثيل على أيدي هذا الشعب الذي تملكته نشوة بعثها فيه ما بلغه في زعمه من سيادة على العالم بأسره. إن التمثال النصفي لتلك الملكة العظيمة المنحوت من الحجر الأعبل والمحفوظ في المتحف الفني بنيويورك، وتمثال تحتمس الثالث المصنوع من البازلت والمحفوظ في متحف القاهرة، وتماثيل أبي الهول المصنوعة في عهد أمنحوتب الثالث والمحفوظة في المتحف البريطاني، وتمثال إخناتون الجالس المصنوع من حجر الجير والمحفوظ في متحف اللوفر، وتمثال هذا الملك نفسه الجاثم وهو يقدم القربان للآلهة جثوماً لا يكاد يصدق الإنسان أنه يفعله والذي مثل الجثوم أكمل تمثيل (199)، والبقرة المفكرة في الدير البحري التي يرى مسبيرو أنها " تضارع أروع آيات الفن اليوناني والروماني المماثلة لها"(200) وأسدَىْ أمنحوتب الثالث اللذين قال عنهما رسكن أنهما أحسن ما خلفه القدماء على بكرة أبيهم من تماثيل للحيوانات (201)، والتماثيل الضخمة التي صنعها في الصخر عند أبي سمبل مثالو رمسيس الثاني، والآثار العجيبة الرائعة التي وجدت في خرائب مَنْحَتِ الفنان تحتمس في تل العمارنة- والتي تشمل نموذجاً من الجبس لرأس إخناتون ينطق بما كان في هذا العهد المليء بالمآسي من نزعة شعرية وتصوفية- والتمثال النصفي الجميل المصنوع من حجر الجير لنفرتيتي زوجة الملك إخناتون ورأس هذه الملكة الجميلة المصنوع من حجر الخرسان وهو أجمل من التمثال النصفي السالف الذكر (202)، وهذه الأمثلة المنتشرة في بلاد العالم تصور للقارئ صورة من أعمال النحت الكثيرة الرائعة التي يفيض بها عصر

ص: 136

الإمبراطورية. ولم تفقد الفاكهة منزلتها بين هذه الروائع الفنية العظيمة؛ فالمثالون المصريون يلهون بالتماثيل الهزلية المضحكة للإنسان والحيوان؛ وحتى الملوك في عصر إخناتون محطم الأصنام قد جعلها الفنان المصري تبتسم وتلعب

(1)

.

على أن جذوة النهضة الفنية لم تلبث أن خمدت بعد عهد رمسيس الثاني، وظل الفن المصري من بعده قروناً كثيرة بتكرار الأعمال والأشكال القديمة. وحاول الفن أن ينهض من كبوته في عهد ملوك ساو، وأن يعود إلى ما كان ينزع إليه كبار الفنانين في عهد الدولة القديمة من إخلاص وبساطة في التصوير. وقد عالج المثالون في عهد هذه الدولة أقسى الحجارة كأحجار البازلت والسربنتين (الحية) والبريشيا والديوريت- ونحتوا منها تماثيل واقعية حية منها تمثال منتيوميحيت (203) ورأساً أصلع من البازلت الأخضر لا يعرف صاحبه يطل الآن على جدران متحف الدولة في برلين. ومما صنعوه من البرونز صورة جميلة للسيدة تكوسشت (204)، وقد أولعوا أيضا بتصوير ملامح الناس والحيوان وحركاتهم على حقيقتها، فنحتوا تماثيل مضحكة لحيوانات غريبة،

(1)

وإن المرء ليذكر بهذه المناسبة ما قاله سياسي مصري بعد زيارته معارض أوربا الفنية "لقد انتهبتم بلادي ".

ص: 137

ولعبيد وآلهة، وصنعوا من البرونز رأسي قطة وعنزة هما الآن من منهوبات برلين (205). ثم انقض الفرس بعدئذ على البلاد انقضاض الذئاب الكاسرة على الحملان الوديعة المسالمة، ففتحوا مصر وخربوا الهياكل وكبتوا روح البلاد وقضوا على فنونها.

ص: 138

والعمارة والنحت

(1)

أهم الفنون المصرية، ولكنا إذا أدخلنا الوفرة في حسابنا كان علينا أن نضيف إليهما النقوش الغائرة. فليس من شعوب العالم شعب جد في حفر تاريخه وأساطيره كما جد في ذلك قدماء المصريين. وإنا ليدهشنا لأول وهلة ما بين القصص المنقوشة على الحجارة الكريمة من تشابه ممل، كما يدهشنا ازدحامها وكثرتها، وما فيها من انعدام التماثل وعدم مراعاة قواعد المنظر، أو المحاولات غير الموفقة التي بذلوها لمراعاتها بتمثيل الأشياء البعيدة في المنظر فوق القرية؛ ونحن ندهش حين نرى طول قامة الملك وقصر قامة أعدائه. هذا في النقوش والتصوير، وفي النحت يصعب علينا أن نألف رؤية عيون وصدور مرسومة كأننا ننظر إليها من الأمام على حين أن الأنوف والذقون والأقدام مرسومة كأننا ننظر إليها من أحد الجانبين- ولكننا في مقابل هذا يروعنا جمال الباشق والأفعى المنقوشين على قبر الملك ونيفيس (206)، ونقوش الملك زوسر الجيرية على هرم سقارة المدرج، ونقوش الأمير هزيريه الخشبية التي استخرجت من قبره في هذا الموضع نفسه (207)، وصورة اللوبي الجريح المحفورة على قبر من قبور الأسرة الخامسة في أبي صير (208)، وهي دراسة دقيقة لعضلات الجسم المتوترة من شدة الألم ولا يسعنا أخيراً إلا أن نتأمل في أناة وهدوء النقوش الطويلة التي تقص علينا كيف اجتاح تحتمس الثالث ورمسيس الثاني في حروبهما كل ما اعترض سبيلهما، وندرك روعة النقوش التي حفرت لسيتي الأول في العرابة وفي الكرنك ونتبين ما بلغته من كمال، ونتبع بعظيم الشوق واللذة النقوش المحفورة على جدران معبد الملكة حتشبسوت في الدير البحري، والتي يقص علينا ناقشوها قصة البعثة التي أرسلتها هذه الملكة إلى أرض بنت المجهولة (ولعلها بلاد السومال). وفي هذه النقوش نرى السفن الطويلة منشورة الشراع تدفعها إلى

(1)

سنقصر كلمة النحت في هذا الكتاب على النحت المدور كالتماثيل أما ما كان محفورا على شيء آخر صورا كان أو كتابة فسنطلق عليه اسم النقوش- البارزة أو الغائرة.

ص: 139

الجنوب مجاديفها المصفوفة، وتمخر المياه المملوءة بحيوان الإخطبوط والحيوانات القشرية وغيرها من دواب البحر؛ ونرى الأسطول يصل إلى شواطئ ُبنت ويرحب به شعب البلاد ومليكها، وهم ذاهلون ولكنهم مفتتنون. ونرى الملاحين يأتون إلى السفن بآلاف من ضروب المأكولات الشهية؛ ونقرأ فكاهة العامل البُنتي في قوله:"إياك أن تزل قدماك أيها الواقف هنا؛ كن على حذر! " ثم نصحب السفائن الموقرة بأحمالها وهي عائدة نحو الشمال مملوءة (كما يقول النقش) بعجائب أرض بُنت، من ذهب، وأخشاب مختلفة الأنواع، وأدهان للعيون، وقردة، وكلاب، وجلود نمورة

مما لم يُعد به أحد لملك من الملوك منذ بداية العالم. وتخترق السفن القناة العظيمة بين البحر الأحمر والنيل، ونرى البعثة ترسو سفنها في أحواض طيبة وتفرغ ما فيها من بضائع مختلفة عند قدمي الملكة. ثم نبصر آخر الأمر، كأنما قد مضى على وصولها بعض الوقت، كل هذه السلع

ص: 141

المستوردة تزين مصر. ففي كل ناحية حلي من ذهب وأبنوس وصناديق عطور وأدهان وأسنان فيلة وجلود حيوان؛ والأشجار التي جيء بها من ُبنت كأنها قد أينعت في أرض مصر كما كانت في بلادها الأصلية حتى كانت الثيران تتفيأ ظلال أغصانها. إن هذا النقش بلا ريب لمن أعظم النقوش في تاريخ الفن

(1)

.

والنقش الغائر هو همزة الوصل بين النحت والرسم بالألوان. على أن الرسم الملون لم يرق في مصر إلى منزلة الفن المستقل إلا في عهد البطالمة وبتأثير بلاد اليونان. أما فيما عدا ذلك العهد فقد كان فناً ثانوياً تابعاً لفنون العمارة والنحت والنقش- وكان عمل الرسام هو ملء الخطوط الخارجية التي حفرتها عُدد غيره من الفنانين؛ ولكنه كان رغم منزلته الثانوية واسع الانتشار يراه الإنسان أينما حل. فقد كانت معظم التماثيل تدهن، والسطوح كلها تلون. ولما كان هذا الفن سريع التأثر بالزمن ينقصه ثياب فني النحت والبناء، فإنا لا نكاد نجد الآن من الرسوم الملونة التي أخرجها رجال الدولة القديمة إلا صورة رائعة لست أوزات أخرجت من قبر في ميدوم (210). ولكننا يحق لنا أن نستنتج من هذه الصورة وحدها أن هذا الفن أيضا قد بلغ في عصر الأسر الأولى مبلغاً يدنيه من الكمال. فإذا انتقلنا إلى عهد الدولة الوسطى وجدنا رسوما بالألوان المائية

(2)

في قبري أيمن وخنومحوتب ببني حسن، وهي تزين القبرين زينة جميلة تبعث في الناظر إليها السرور والبهجة، وكما أن صورة "الظباء والزراع"(211) وصورة "القطة ترقب فريستها"(212) لتعدان من أروع الأمثلة لهذا الفن. وقد تنبه الفنان في هاتين الصورتين أيضا إلى العنصر الرئيسي في التصوير، وهو أن يجعل من

(1)

ونرى نموذجاً منقولاً عن هذا النقش في الحجرة المصرية الثانية عشرة من حجرات متحف الفنون بمدينة نيويورك.

(2)

وكانت الألوان التي ترسم بها هذه الصور تخلط بصفار البيض والغراء المخفف وبياض البيض.

ص: 142

رسومه كائنات حية تتحرك وتعيش. فلما كان عصر الإمبراطورية غصت القبور بالرسوم الملونة، وكان الفنان المصري قد توصل إلى صنع كل لون من ألوان الطيف، وتاقت نفسه إلى أن يظهر للناس حذقه في استخدامها فأخذ يحاول تصوير الحياة النشيطة المنتعشة في الحقول المشمسة على جدران المنازل والهياكل والقصور والمقابر وعلى سقوفها كلها، فصور عليها طيوراً تطير في الهواء، وسمكاً يسبح في الماء، وحيواناً يعيش في الآجام، وصورها كلها في بيئاتها التي تعيش فيها. ونقش الأرض لتبدو كأنها برك شفافة، وحاول أن يجعل السقف تضارع في بهائها ورونقها كواكب السماء، وأحاط هذه الصور كلها بأشكال هندسية وأخرى مركبة من أوراق الشجر تتفاوت من أبسط الرسوم الهادئة إلى أعقدها وأكثرها فتنة (213). "فصورة الفتاة الراقصة"(214) وفيها أكبر قسط من قوة

ص: 143

الابتداع وروح الفن، و "صيد الطيور في قارب"(215)، والصورة المرسومة بالمغرة والتي تمثل الفتاة الجميلة الهيفاء العارية بين الموسيقيين في قبر نحت بطيبة (216) كل هذه نماذج متفرقة من سكان القبور المصورين. ونلاحظ في هذه الرسوم كما لاحظنا في النقوش الغائرة أن الخطوط جميلة، ولكن التركيب ضعيف؛ وأن المشتركين في عمل واحد يمثلون متفرقين (217) واحداً بعد واحد وهم الذين يجب أن يمثلوا مختلطين. ونرى الرسام هنا يفضل أن يضع أجزاء الصورة بعضها على بعض بدل أن يراعى في وضعها قواعد المنظور، على أن الجمود الناشئ عن المحافظة على القواعد الشكلية وعلى التقاليد في النحت المصري كان هو السائد في ذلك الوقت، ولذلك لا يكشف لنا هذا الفن عن الفكاهة الباعثة على البهجة، أو على الواقعية، وهما الصفتان اللتان يمتاز بهما فن النحت في ما بعد ذلك العصر. ولكن الصور كلها تسر فيها مع ذلك جدة في التفكير، ويسر في رسم الخطوط وفي التنفيذ، وإخلاص لحياة الكائنات الحية وحركاتها، وغزارة في اللون والزينة تبعث في النفوس البهجة، وتجعل الصور متعة للعين والروح. وملاك القول أن فن الرسم المصري- رغم ما فيه من عيوب- لم يسبقه فن مثله في أية حضارة شرقية إلا في عصر الأسر الوسطى في بلاد الصين.

أما الفنون الصغرى فكانت أعظم الفنون في مصر. ذلك أن الحذق والجد اللذين شيدا الكرنك والأهرام، واللذين ملئا الهياكل بتماثيل الحجارة، قد انصرفا أيضا إلى تجميل المنازل من داخلها، وتزيين الأجسام، وابتكار جميع متع الحياة ونعمها. فالنساجون قد صنعوا الطنافس والقماش المزركش الذي يزين الجدران، والوسائد الغنية بألوانها والرقيقة في نسجها رقة لا يكاد يصدقها العقل وانتقلت الرسوم التي ابتدعوها منهم إلى سوريا ولا تزال منتشرة فيها إلى هذه الأيام. ولقد كشفت مخلفات توت عنخ آمون عما كان عليه أثاث قدماء المصريين من ترف عجيب، وعما بلغته كل قطعة وكل جزء من قطعه من صقل بديع، سواء في ذلك

ص: 144

كراسيه المكسوة بالفضة والذهب البراقين، والسرر ذات الرسوم الفخمة والصناعة الدقيقة، وصناديق الجواهر وعلب العطور الدقيقة الصنع الجميلة النقش،

ص: 145

والمزهريات التي لا تضارعها إلا مزهريات الصين. وكانت موائدهم تحمل آنية ثمينة من الفضة والذهب والبرنز، وكؤوساً من البللور، وجفانا براقة من حجر الديوريت صقلت ورقت حتى كاد الضوء ينفذ من خلال جدرانها الحجرية. وإن ما اشتملت عليه مخلفات توت عنخ آمون من آنية المرمر، وعثر عليه المنقبون في خرائب بيت أمنحوتب الثالث في طيبة من أقداح على هيئة الأزورد (اللوطس) ومن طاسات للشراب، ليدل على ما بلغته صناعة الخزف من مستوى رفيع. وآخر ما نذكره من هذا جواهر الدولة الوسطى والدولة الحديثة، وقد كان لهذين العهدين من الحلي الثمينة الكثيرة ما لا يكاد يفوقه شيء في جمال الشكل ودقة الصنع. وتشمل المجاميع الباقية من تلك الأيام قلائد، وتيجانا، وخواتم، وأساور، ومرايا، وحليات للصدر، وسلاسل، ورصائع، صيغت من الذهب والفضة والعقيق والفلسبار واللازورد والجمست، وكل ما نعرفه من الحجارة الكريمة. وكان سراة المصريين كسراة اليابانيين يسرهم جمال ما يحيط بهم من التحف الصغيرة، فكان كل مربع صغير من العاج في علب حليهم ينقش ويزين أجمل زينة وأدقها. لقد كان يلبسون أجمل الملابس، ولكنهم كانوا ينعمون بأحسن عيشة، وكانوا إذا فرغوا من عملهم اليومي يمتعون أنفسهم بنغمات الموسيقى الهادئة الشجية على العود

(1)

والقيثارة والصلاصل والناي. وكان للهياكل والقصور فرق من العازفين والمغنيين، وكان من موظفي قصر الملك "مشرف على الغناء" يقوم بتنظيم العازفين والموسيقيين الذين يسلون الملك. وليس لدينا ما يدل على وجود علامات موسيقية في مصر، ولكن هذا قد يكون مجرد نقص فيما كشف من آثار المصريين. وكان أسنفرو نفر، وريمرى بتاح نابغتي الغناء في أيامهما، وإنا لنستمع من خلال القرون الطويلة صوتهما

(1)

وكان العود يصنع من عدد قليل من الأوتار تمتد على لوحة ضيقة رنانة. أما الصلاصل فكان طائفة من الأقراص الصغيرة تهتز على أسلاك.

ص: 146

وهما يناديان بأنهما كانا "يجيبان كل رغبة من رغبات الملك بغنائهما الشجي"(218).

ص: 147

ومن الأمور الشاذة غير المألوفة أن يبقى اسما هذين الفنانين، وذلك لأن الفنانين الذين خلدوا بجهودهم ذكريات الأمراء والقساوسة والفنانين والملوك أو ملامحهم لم يكن لديهم من الوسائل ما ينقلون به ذكرهم إلى من يجيء من بعدهم، وإن كنا نسمع بإمحوتب مهندس عهد زوسر، وهو رجل يكاد أن يكون اسمه أسطورة من الأساطير القديمة، ونسمع عن إنيني الذي أعد رسوم المباني العظيمة أمثال معبد الدير البحري لتحتمس الأول؛ وعن بويمر، وحبوسنب، وستموت الذين شادوا المباني العظيمة للملكة حتشبسوت

(1)

، وعن الفنان تحتمس الذي كشف في بقايا مرسمه كثير من روائع الفن، وعن بك المثال الفخور الذي يقول لنا أنه لولاه لعفى على اسم إخناتون الزمان (122). وكان لأمنحوتب الثالث مهندس معماري يسمى أيضا أمنحوتب بن حابو. وكان الملك يضع تحت تصرف هذا المهندس الموهوب ثروة يخطئها الحصر، وذاع اسم هذا الفنان الشهير حتى عبدته مصر فيما بعد واتخذته إلها من آلهتها. لكن الفنانين على الرغم من هذا كانوا يعملون وهم فقراء مغمورون، ولم تكن لهم عند القساوسة والكبراء الذين يستخدمونهم مكانة أسمى من مكانة الصناع أو أرباب الحرف العاديين.

وقد تعاون الدين المصري مع الثروة المصرية على الإيحاء بالفن وإنمائه، وتعاون مع غنى مصر وضياع إمبراطوريتها على إماتته. لقد كان الدين يقدم للفنانين الحوافز والأشكال، ويوحي إليهم بروائع فنهم، ولكنه فرض عليهم من العرف والقيود ما شده إلى الكنيسة بأقوى الروابط. فلما أن مات بين الفنانين الدين الخالص، ماتت بموته الفنون التي كانت تعيش على هذا الدين. تلك هي المأساة التي لا تكاد تنجو من شرها أية مدينة- وهي أن روحها في عقيدتها، وأن هذه الروح قلما تبقى بعد فناء فلسفتها.

(1)

لقد كان ستموت يلقى من ملوكه من ضروب التعظيم ما أنطقه بقوله: " لقد كنت أعظم العظماء في العالم كله ". وكانت هذه عقيدة شائعة ولكنها لم تكن دائماً ينطق بها.

ص: 148

‌10 - الفلسفة

"تعاليم بتاح حوتب" - "تحذيرات إبوور" -

"محاورات كاره المجتمع" - أسفار الحكمة المصرية

لقد اعتاد مؤرخو الفلسفة أن يبدأوا قصتهم باليونان، وأن الهنود الذين يعتقدون أنهم مخترعو الفلسفة، والصينيين الذين يعتقدون أنهم بلغوا بها حد الكمال، وأن هؤلاء وأولئك يسخرون من ضيق عقولنا وتعصبنا. ولعلنا كلنا مخطئون في ظننا، لأننا نجد بين أقدم القطع المتناثرة التي خلفها لنا المصريون الأقدمون كتابات تمت بصلة بعيدة إلى الفلسفة الأخلاقية. ولقد كانت حكمة المصريين مضرب المثل عند اليونان الذين كانوا يعتقدون أنهم أطفال بالقياس إلى هذا الشعب القديم (222). وأقدم ما لدينا من المؤلفات الفلسفية "تعاليم بتاح حوتب" وتاريخه يرجع على ما يبدو لنا إلى عام 2800 ق. م أي إلى ما قبل كنفوشيوس وسقراط وبوذا بألفي عام وثلاثمائة (223). وكان بتاح حوتب هذا حاكماً على منف وكبير وزراء الملك في أيام الأسرة الخامسة. فلما اعتزل منصبه قرر أن يترك لولده كتاباً يحتوي على الحكمة الخالدة. ثم نقل بعض العلماء المصريين قبل عهد الأسرة الثامنة عشرة هذا الكتاب باعتباره من أمهات كتب القدماء. ويقول الوزير في كتابه: "أي مولاي الأمير، إن الحياة تقترب من آخرها، ولقد حل بي الضعف وعدت إلى مرحلة الطفولة الثانية؛ والمسن يلاقي البؤس في كل يوم من أيامه. فعيناه صغيرتان، وأذناه لا تستمعان؛ ونشاطه يقل، وقلبه لا يعرف الراحة

فمر خادمك إذن أن يخلع سلطاني الواسع على ولدي. واسمح لي أن أحدثه بألفاظ الذين يستمعون إلى رجال الأيام الغابرة، أولئك الذين استمعوا إلى الآلهة في يوم من الأيام. أتوسل إليك أن تسمح بأن يفعل هذا".

ويتفضل جلالة الملك فيأذن له ولكنه مع ذلك ينصحه بأن "يتحدث دون

ص: 149

أن يبعث الملل" في نفس سامعيه، وهي نصيحة ليست إلى الآن عديمة النفع للفلاسفة. فلما أذن له أخذ بتاح حوتب ينصح ولده بقوله:

"لا تَزهُ بنفسك لأنك عالم، بل تحدث إلى الجاهل كما تتحدث إلى الحكيم؛ لأن الحذق لا حد له، كما أن الصانع لا يبلغ حد الكمال في حذق صناعته؛ والكلام الجميل أندر من الزمرد الذي تعثر عليه بين الحصى

فعش إذا في بيت ألطف يقبل عليك الناس طائعين يقدمون إليك الهدايا

واحذر أن تخلق لنفسك الأعداء بأقوالك

ولا تتخطى الحق، ولا تكرر ما قاله إنسان غيرك، أميراً كان أو فلاحاً ليفتح به قلوب الناس، لأن ذلك بغيض إلى النفس

"وإذا أردت أن تكون حكيما فليولد لك ولد لتسر بذلك الآلهة

فإذا سار في سبيله مقتديا بك، وإذا نظم أمورك على أحسن وجه، فقدم له كل الخير

أما إذا كان عديم المبالاة، وخالف قواعد السلوك الطيب، وكان عنيفاً؛ وإذا كان كل ما يخرج من فيه هو فحش القول، فاضربه، حتى يكون حديثه صالحاً

وفضيلة الابن من أثمن الأشياء للأب، وحسن الأخلاق شيء لا ينسى قط

"وإذا كنت ذا سلطان فاسع لأن تنال الشرف عن طريق العلم ورقة الطباع

واحذر أن تقاطع الناس، وأن تجيب عن الأقوال بحرارة، ابعد ذلك عنك، وسيطر على نفسك".

ويختم بتاح حوتب نصائحه بهذه العبارة المليئة بالفخر والإعجاب:

ص: 150

"لن يمحى من هذه البلاد إلى أبد الدهر لفظ من الألفاظ المدونة هنا، ولكنها ستتخذ نماذج وسيتحدث عنها الأمراء أحسن الحديث

إن كلماتي ستعلم الرجل كيف يتحدث؛

أجل إنه سيصبح إنساناً حاذقاً في الطاعة بارعاً في الحديث؛ سيصيبه الحظ الحسن؛

وسيكون ظريفاً إلى آخر أيام حياته، وسيكون راضياً على الدوام" (224).

ولكن هذه النغمة السارة المستبشرة لا تدوم في التفكير المصري؛ بل تسرع إليها الشيخوخة فتداهمها وتحيلها إلى نكد وكآبة. ويأتي حكيم أخر هو إبوور فيندب ما في البلاد من خلل واضطراب وعنف وقحط وانحلال يكتنف أخريات أيام الدولة القديمة، ويتحدث عن المتشككين الذين "يقربون القرابين إذا عرفوا مكان الإله"، ويعلق على ازدياد حوادث الانتحار ويقول كما قال شوبنهور من بعده:"ألا ليت الناس يقضى عليهم حتى لا يكون في الأرض حمل ولا ولادة؛ ألا ليت الأرض ينقطع منها الضجيج ويبطل منها النزاع"- وواضح من هذه الأقوال أن إبوور كان قد شاخ ومل الحياة، وهو يحلم في آخر أيامه بملك- فيلسوف ينجي الناس من الفوضى والظلم:

" يُبَرَّد لهيب (الحريق الاجتماعي؟) ويقال إنه راعى الناس جميعاً. قلبه خال من الشر فإذا كانت قطعانه قليلة العدد قضى يومه في جمعها، لأن قلوبها محمومة. ألا ليته قد تبين أخلاقهم منذ الجيل الأول. إذن لقضى على الشر، ولمد ذراعه لمقاومته ولسحق بذرته وما يخرج منها

أين هو اليوم؟ هل هو نائم بالصدفة؟ انظروا إن قوته لا ترى" (225).

هذه هي أصوات الأنبياء في العهد القديم؛ وقد صيغت سطورها صياغة الأمثال والحكم ككتابات أنبياء اليهود؛ ويقول برستد وقوله الحق "إن هذه التحذيرات هي أقدم ما ظهر في العالم من المثل العليا الاجتماعية التي يطلق عليها

ص: 151

عند العبرانيين أمم المسيحية"

(1)

. وثمة ملف من أيام الدولة الوسطى يندد بما في ذلك العهد من فساد بعبارات يكاد الإنسان يسمعها في كل جيل:

لمن أتحدث اليوم؟

الأخوة أشرار

وأصدقاء اليوم ليسوا أصدقاء حب.

لمن أتحدث اليوم؟

القلوب قلوب اللصوص

وكل رجل يغتصب ما عند جاره.

لمن أتحدث اليوم؟

إن الرجل اللطيف يهلك

والصفيق الوجه يسير في كل مكان

لمن أتحدث اليوم؟

إذا ما أثار الإنسان الغضب بسوء مسلكه

فإنه يدفع كل الناس إلى الضحك، وإن كان إثمه خبيثاً

ثم ينطق هذا الشاعر المصري الشبيه بالشاعر سونبرن الإنجليزي في مدح الموت فيقول:

الموت أمامي اليوم

كشفاء الرجل المريض،

كالخروج إلى حديقة بعد المرض.

الموت أمامي اليوم

كشذا المر؛

(1)

العقيدة القائلة بأن رسولاً سيرسل إلى الأرض ليطهرها مما فيها من فساد وظلم.

ص: 152

أو كالجلوس تحت الشراع في يوم عاصف.

الموت أمامي اليوم

كرائحة أزهار الأزورد

كالجلوس على شواطئ السُّكْر.

الموت أمامي اليوم

كتدفق السيل الجارف،

كرجوع الرجل من سفينة حربية إلى بيته

الموت أمامي اليوم

كاشتياق الرجل إلى رؤية موطنه

بعد أن قضى السنين في الأسر.

وأشد من هذا كآبة قصيدة منقوشة على لوحة محفوظة في متحف ليدن يرجع تاريخها إلى 2200 ق. م، وهي تضرب على النغمة المألوفة نغمة تمتع بيومك:

لقد سمعت ألفاظ أمحوتب وهارديف

وهي ألفاظ ذائعة الصيت نطقا بها.

أنظر إلى مكانيهما

إن جدرانهما قد جردت

ومواضعهما قد اندثرت

كأن لم تغن بالأمس.

إن أحداً لا يأتي من هناك

ليحدثنا عما حل بهما

حتى يرضي قلوبنا،

إلى أن يحين وقت ارتحالنا

ص: 153

إلى المكان الذي ذهبا إليه.

شجع قلبك على نسيانه

واجعل من أسباب سرورك أن تسير وراء رغباتك

ما دمت حيا ترزق.

وضع المر على رأسك،

والبس على جسمك نسج التيل اللطيف،

وانعم بوسائل الترف العجيبة

أشياء الآلهة الحقة.

وزد في مباهجك أكثر من ذي قبل،

ولا تترك قلبك يذبل،

وسر وراء رغباتك وما فيه الخير لك،

وهيئ أمورك على ظهر الأرض

حسبما يأمر به قلبك أنت،

حتى يأتيك يوم النحيب.

حين لا يسمع ذوو القلوب الساكنة (الموتى) نحيبهم،

وحين لا يصغي من في القبور إلى حزنهم

واحتفل بيوم السرور

ولا تمل منه.

انظر؛ ليس ثمة من يأخذ أمتعته معه.

أجل، ولا من يعود ممن ذهبوا إلى هناك.

ولعل هذا التشاؤم وهذا التشكك كانا نتيجة لتحطيم روح أمة أخضعها الغزاة الهكسوس وأذلوها، وشأنهما في مصر كشأن الرواقية والأبيقورية عند

ص: 154

اليونان المهزومين المستبعدين

(1)

. وهذه الكتابات تمثل فيما تمثل إحدى الفترات التي يغلب فيها التفكير زمناً ما على العقيدة، والتي لا يعرف فيها الناس كيف يعيشون ولم يعيشون، وهي فترات تتوسط عندنا اليوم عهدين تسود كليهما مبادئ خليقة غير التي تسود العهد الآخر. وتلك الفترات الوسطى لا تدوم، لأن الأمل سرعان ما يتغلب على التفكير، فتنحط القوة المفكرة إلى مكانها الوضيع المألوف، ويرتفع منار الدين فيوحي إلى الناس بذلك الباعث الخيالي الذي لا غنى لهم عنه في حياتهم وأعمالهم. وليس لنا أن نظن أن هذه القصائد تعبر عن آراء طائفة كبيرة من المصريين بل ينبغي أن نعتقد أنه كان من وراء الأقلية الصغيرة النشيطة الحية التي كانت تفكر في مسائل الموت والحياة بعبارة دنيوية طبيعية، نقول أنه من وراء هذه الأقلية ملايين من السذج، رجالا كانوا أو نساءً، ظلوا أوفياء مخلصين لآلهتهم لا يشكون قط في أن الحق سوف يسود، وأن ما يقاسونه على الأرض من الآم وأحزان سوف يعوضون عنه بسخاء يوم يستقرون في دار النعيم والسلام.

‌11 - الدين

آلهة السماء - آلهة الشمس - آلهة الزرع - الآلهة الحيوانية - آلهة

العلاقات الجنسية - الآلهة البشرية - أوزير - إيزيس وحورس -

الآلهة الصغرى - الكهنة - عقيدة الخلود - "كتاب الموتى" -

"الاعترافات السلبية" - السحر - الفساد

لقد كان الدين في مصر من فوق كل شيء ومن أسفل منه. فنحن نراه فيها في كل مرحلة من مراحله وفي كل شكل من أشكاله، من الطواطم إلى علم اللاهوت. ونرى أثره في الأدب وفي نظام الحكم وفي الفن، وفي كل شيء عدا الأخلاق. وليس هو مختلف عن الصور والأنواع فحسب، بل هو أيضا غزير موفور.

(1)

ويقول إبوور أن الحرب الأهلية لا تأتي بإرادة.

ص: 155

ولسنا نجد في بلد من البلاد، إذا استثنينا بلاد الرومان والهند، ما نجده من الآلهة الكثيرة في مصر، وليس في وسعنا أن ندرس المصري- بل ليس في وسعنا أن ندرس الإنسان على الإطلاق- إلا إذا درسنا آلهته.

يقول المصري إن بداية الخلق هي السماء؛ وقد ظلت هي والنيل أكبر أربابه إلى آخر أيامه. ولم تكن الأجرام السماوية العجيبة، في اعتقاده، مجرد أجرام، بل كانت هي الصور الخارجية لأرواح عظيمة، لآلهة ذوات إرادات- لم تكن متفقة على الدوام- توجه حركاتها المختلفة المعقدة (229)، وكانت السماء قبة تقف في فضائها الواسع بقرة عظيمة هي الإلهة حتحور والأرض من تحت أقدامها، وبطنها يكسوه جمال عشرة آلاف نجم،. وكانت للمصريين عقيدة أخرى (لأن الآلهة والأساطير كانت تختلف من إقليم إلى إقليم) تقول إن السماء هي الإله سيبو النائم في لطف على الأرض، وهي الإلهة نويت؛ ومن تزاوج الربين المهولين ولدت كل الأشياء (230). ومن عقائدهم أن الأبراج والنجوم قد تكون آلهة، من ذلك أن ساحو وسيديت (أي كوكبتي الجبار والشعرى) كانا إلهين مهولين، وأن ساحو كان يأكل الآلهة ثلاث مرات في اليوم بانتظام. وكان يحدث في بعض الأحيان أن إلهاً من هذه الآلهة المهولة يأكل القمر، ولكن ذلك لن يدوم إلا قليلا، لأن دعاء الناس وغضب الآلهة الأخرى لا يلبثان أن يضطرّا الخنزير النهم إلى أن يتقايأه مرة أخرى (231). وعلى هذا النحو كان عامة المصريين يفسرون خسوف القمر.

وكان القمر إلهاً ولعله كان أقدم ما عبد من الآلهة في مصر، ولكن الشمس في الدين الرسمي كانت أعظم الآلهة. وكانت تعبد في بعض الأحيان على إنها الإله الأعلى رع أو رى الأب اللامع الذي لقح الأم الأرض بأشعة الحرارة والضوء النافذة. وكانت تصور أحياناً على أنها عجل مقدس يولد مرة في فجر كل يوم، ويمخر عباب السماء في قارب سماوي ثم ينحدر إلى الغرب في كل مساء كما

ص: 156

ينحدر الشيخ المسن مترنحاً إلى قبره؛ أو أن الشمس كانت هي الإله حورس مصوراً في صورة باشق رشيق يطير في عظمة وجلال في السماوات يوماً بعد يوم كأنه يشرف من عليائه على مملكته. ولقد أصبح فيما بعد رمزاً متواتراً من الرموز الدينية والملكية. وكان رع أو الشمس هو الخالق على الدوام، ولما أشرق أول مرة ورأى الأرض صحراء جرداء غمرها بأشعته فبعث فيها النشاط فخرجت من عيونه كل الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان- مختلطة بعضها ببعض. ولما كان أول من خُلق من الرجال والنساء أبناء رع الأدنين فقد كانوا مكملين سعداء. ولكن أبنائهم انحدروا شيئاً فشيئاً إلى طريق الضلال، فخسروا ما كانوا عليه من سعادة وكمال. وغضب رع من أجل ذلك على خلقه، فأهلك عددا كبيراً من الجنس البشري. على أن العلماء المصريين كانوا يشكون في هذه العقائد الشعبية (كما كان يؤكد بعض العلماء السومريين) أن الخلائق الأولين كانوا كالبهائم لا يستطيعون النطق بألفاظ مفهومة، ولا يعرفون شيئاً من فنون الحياة (232). وقصارى القول أن هذه الأساطير كانت في جملتها أساطير دالة على الذكاء تعبر في تقوى وصلاح عن اعتراف الإنسان بفضل الأرض والشمس.

وكانت هذه الروح الدينية غزيرة خصبة بلغ من خصبها أن المصريين لم يعبدوا مصدر الحياة فحسب بل عبدوا مع هذا المصدر كل صورة من صور الحياة. فكانت بعض النباتات مقدسة لديهم، فالنخلة التي تظلل الناس في قلب الصحراء، وعين الماء التي تسقيهم في الواحة، والغيضة التي يلتقون عندها ويستريحون، والجميزة التي تترعرع ترعرعاً عجيباً في الرمال، كانت هذه عندهم، لأسباب قوية لا يستطيع أحد أن ينكرها عليهم أشياء مقدسة. ولقد ظل المصري الساذج إلى آخر أيام حضارته يقرب إليها قرابين الخيار والعنب والتين (233). ولم يكن هذا كل شيء بل إن الخضر الوضيعة قد وجدت لها من يعبدها، حتى لقد أخذ تين Taine يلهو بالتدليل على أن البصل

ص: 157

الذي أغضب بوسويه Bossuet وأحفظه كان من المعبودات على ضفاف النيل (234).

وكانت الآلهة من الحيوان أكثر ذيوعاً بين المصريين من آلهة النبات. وكانت هذه الآلهة من الكثرة بحيث غصت بها هياكلها كأنها معرض حيوانات صاخبة. وعبد المصريون في هذه المقاطعة أو تلك وفي هذا الوقت أو ذاك العجل والتمساح والصقر والبقرة والإوزة والعنزة والكبش والقط والكلب والدجاجة والخطاف وابن آوي والأفعى؛ وتركوا بعض هذه الدواب تجوس خلال الهياكل ولها من الحرية ما للبقرة المقدسة في الهند حتى هذه الأيام (235). ولما تحولت الآلهة إلى آدميين ظلت محتفظة بصورتها الحيوانية المزدوجة وبرموزها، فكان آمون يمثل بإوزة أو بكبش، ورع يرمز له بصرصور أو عجل، وأوزير بعجل أو كبش، وسبك بتمساح، وحورس بصقر أو بازى، وحتحور ببقرة، وتحوت إله الحكمة برباح (236). وكانت النساء يقدمن أحيانا لهذه الآلهة ليكنّ زوجات لهنّ، وكان العجل- وهو الذي يتقمصة أوزير- صاحب هذا الشرف العظيم بنوع خاص. ويقول أفلوطرخس إن أجمل النساء في منديس كنّ يقدّمن لمضاجعة التيس المقدس (237). وقد بقيت هذه الشعائر الدينية من بداية الأمر إلى نهايته عنصراً أساسياً قومياً في الديانة المصرية. أما الآلهة من بني الإنسان فقد جاءت إلى مصر في وقت متأخر كثيراً، ولعلها جاءتها هدايا من غرب آسية (238).

وكان المصريون يقدسون المعز والعجل تقديساً خاصاً ويعدونهما رمز القدرة الجنسية الخالقة. ولم يكونا مجرد رمزين لأوزير بل كانا تجسيداً له (239). وكثيراً ما كان أوزير يرسم وأعضائه التناسلية كبيرة بارزة دلالة على قوته العظمى؛ وكان المصريون في المواكب الدينية يحملون له نماذج بهذه الصورة، أو أخرى ذات ثلاثة قضبان. وكان النساء في بعض المناسبات يحملن مثل هذه الصور الذكرية ويحركنها تحريكا آليا بالخيوط (240). والعبادة الجنسية لا تظهر فقط في الرسوم الكثيرة التي نراها في نقوش الهياكل ذات قضبان منتصبة، بل إنا فضلا عن هذا

ص: 158

نراها كثيرا في الرموز المصرية على هيئة صليب ذي مقبض كان يتخذ رمزاً للاتصال الجنسي وللحياة القوية (241).

ثم صار الآلهة في آخر الأمر بشراً- أو بعبارة أصح أصبح البشر آلهة. ولم يكن آلهة مصر من الآدميين إلا رجالاً متفوقين أو نساء متفوقات خلقوا في صور عظيمة باسلة، ولكنهم خلقوا من عظام وعضلات ولحم ودم؛ يجوعون ويأكلون، ويظمأون ويشربون، ويحبون ويتزوجون، ويكرهون ويقتلون، ويشيخون ويموتون (242)، شأنهم في هذا شأن آلهة اليونان سواء بسواء. من ذلك أن أوزير إله النيل المبارك كان يحتفل بموته ولقبه في كل عام، وكان يرمز بموته وبعثه لانخفاض النيل وارتفاعه، ولعلهما كانا يرمزان أيضا لموات الأرض وحياتها. وكان في مقدور كل مصري في عهد الأسر المتأخرة أن يقص كيف غضب سِتْ (أو سيت) إله الجفاف الخبيث الذي أيبس الزرع بأنفاسه المحرقة، كيف غضب هذا الإله الخبيث من أوزير (النيل) لأنه يزيد (بفيضه) من خِصب الأرض؛ فقتله وحكم بجفافه الجبار في مملكة أوزير. (ويقصدون بهذا أن النهر الذي يرتفع ماؤه في سنة من السنين)، وظل الأمر كذلك حتى قام حورس الباسل ابن إيزيس فغلب سِتْ ونفاه من الأرض. وعاد أوزير بعدئذ إلى الحياة بفضل ما في حب إيزيس من حرارة، وحكم مصر حكماً صالحاً، وحرّم أكل لحم الآدميين ونشر لواء الحضارة، ثم صعد إلى السماء ليحكم فيها ويكون إلهاً (243). وكانت هذه أسطورة ذات معنى عميق، ذلك بأن التاريخ- كدين الشرق- ثنائي، فهو سجل للنزاع بين الخلق والدمار، وبين الخصب والجفاف، وبين الشباب المتجدد والفناء، بين الخير والشر، بين الحياة والموت.

ومن أعمق الأساطير أيضا أسطورة إيزيس الأم العظمى. ولم تكن إيزيس أخت أوزير وزوجته الوفية فحسب، بل كانت من بعض الوجوه أجل منه قدراً، لأنها قهرت الموت بالحب شأنها في ذلك شأن النساء بوجه عام. كذلك

ص: 159

لم يكن فضلها مقصوراً على أرض النهر السوداء التي أخصبها مس أوزير- النيل فأغنت مصر كلها بإنتاجها- لم يكن فضلها مقصوراً على هذه الأرض، بل كان لها فضل أعظم من هذا وأنفع، لقد كانت رمز القوة الخالقة الخفية التي أوجدت الأرض وكل ما عليها من الكائنات الحية، وأوجدت ذلك الحنو الأموي الذي يحيط بالحياة الجديدة حتى يتم نموها مهما كلفها من جهد وعناء. وكانت ترمز في مصر- كما ترمز كالي، وإستير، وسيبيل في آسية؛ وكما ترالز ديمتر في بلاد اليونان وسيريز في رومة- كما ترمز هذه كلها إلى ما للعنصر النسوي من أسبقية وأفضلية واستقلال في الخَلْق، وفي الميراث وإلى ما كان للمرأة أول الأمر من زعامة في حرث الأرض؛ ذلك أن إيزيس (كما تقول الأسطورة) هي التي عثرت على القمح والشعير حين كانا ينموان نمواً برياً في أرض مصر، وكشفت عنهما لأوزير (244). وكان المصريون يعبدون عبادة قائمة على الحب والإخلاص فصوروا لها صوراً من الجواهر لأنها في اعتقادهم أم الإله. وكان كهنتها الحليقون ينشدون لها الأناشيد ويسبحون بحمدها في العشي والإبكار. وكانت صورة قدسية لها تمثالها وهي ترضع في ريبة طفلها الذي حملت فيه بمعجزة من المعجزات توضع في معبد ابنها المقدس حورس (إله الشمس) في منتصف فصل الشتاء من كل عام، أي في الوقت الذي يتفق ومولد الشمس السنوي في أواخر شهر ديسمبر. ولقد كان لهذه الأساطير والرموز الشعرية الفلسفية أعمق الأثر في الطقوس المسيحية وفي الدين المسيحي، حتى إن المسيحيين الأولين كانوا أحيانا يصلون أمام تمثال إيزيس الذي يصورها وهي ترضع طفلها حورس، وكانوا يرون فيهما صورة أخرى للأسطورة القديمة النبيلة أسطورة المرأة (أي العنصر النسوي) الخالقة لكل شيء والتي تصبح آخر الأمر أم الإله (245).

وكانت هذه الآلهة- رع (أو آمون كما كان يسميه أهل الجنوب) وأوزير، وإيزيس وحورس- أعظم أرباب مصر. ولما تقادم العهد امتزج رع

ص: 160

وآمون وإله آخر هو فتاح فأصبحت ثلاث صور أو مظاهر لإله واحد أعلى يجمعها هي الثلاثة (246). وكان للمصريين عدد لا يحصى من صغار الآلهة منها أنوبيس ابن آوي، وشو، وتفنوت، ونفثيس، وكث، وثت؛

ولكننا لا نريد أن نجعل من هذه الصحف متحفاً للآلهة الأموات. إن الملك نفسه كان إلهاً في مصر وكان على الدوام ابن آمون- رع لا يحكم مصر بحقه الإلهي فحسب بل يحكمها أيضا بحق مولده الإلهي، فهو إله رضى أن تكون الأرض موطناً له إلى حين.

وكان يرسم على رأسه الصقر رمز حورس وشعار القبيلة، وتعلو جبهته الأفعى رمز الحكمة والحياة وواهبة القوى السحرية للتاج (247)، وكان الملك هو الرئيس الديني الأعلى يرأس المواكب والحفلات العظيمة التي تمجد أعياد الآلهة. وبفضل هذه الدعاوى، دعاوى قدسية المولد وقدسية السلطان، استطاع الملوك أن يحكموا حكمهم الطويل غير مستندين فيه إلا إلى قوات ضئيلة.

ومن أجل هذا كان الكهنة في مصر دعامة العرش كما كانوا هم الشرطة السرية القوامة على النظام الاجتماعي. وتطلب هذا الدين الكثير التعقيد أن تقوم عليه طبقة بارعة في فنون السحر والطقوس الدينية لا يمكن الاستغناء عن قدرتها وبراعتها في الوصول إلى الآلهة. وكان منصب الكاهن ينتقل في الواقع إن لم يكن بحكم القانون، من الأب إلى الابن، ومن ثم نشأت طبقة أصبحت على مر الزمن بفضل تقوى الشعب وكرم الملوك أعظم ثراء وأقوى سلطاناً من أمراء الإقطاع ومن الأسرة المالكة نفسها. وكان الكهنة يحصلون على طعامهم وشرابهم من القرابين التي تقدم للآلهة، كما كانت لهم موارد عظيمة من إيراد أطيان الهياكل، ومن صلواتهم وخدماتهم الدينية. وإذ كانوا معفين من الضرائب التي تجبى من سائر الناس ومن السخرة والخدمة العسكرية فقد كان لهم

ص: 161

من المكانة والسلطان ما يحسدهم عليه سائر الطبقات. والحق أنهم كانوا جديرين بقسط وافر من هذا السلطان لأنهم هم الذين جمعوا علوم مصر واحتفظوا بها، وهم الذين علموا الشعب وفرضوا على أنفسهم نظاماً دقيقاً قوامه القوة والغيرة. وقد وصفهم هيرودوت وصفاً يكاد يشعرنا بأنه كان يهابهم ويرهبهم قال:

"وهم أكثر الناس اهتماما بعبادة الآلهة، ولا يتحللون قط من المراسم الآتية؛ .. يلبسون ثياباً من نسيج الكتان نظيفة حديثة الغسل على الدوام .. ويختتنون حرصا منهم على النظافة لأنهم يعتقدون أن النظافة أفضل من الجمال، ويحلقون شعر أجسامهم بأجمعه مرة في كل ثلاثة أيام حتى لا يجد القمل أو غيره من الأقذار مكاناً في أجسامهم .. وهم يغتسلون بالماء البارد مرتين في النهار ومرتين في الليل"(248).

وكان أهم ما يميز هذا الدين توكيده فكرة الخلود. فالمصريون يعتقدون أنه إذا أمكن أن يحيا أوزير النيل، ويحيا النبات كله، بعد موتهما، فإن في مقدور الإنسان أيضا أن يعود إلى الحياة بعد موته، وكان بقاء أجسام الموتى سليمة بصورة تسترعي النظر في أرض مصر الجافة مما ساعد على إثبات هذه العقيدة التي ظلت مسيطرة على الديانة المصرية آلاف السنين، والتي انتقلت منهم إلى الدين المسيحي (249). لقد كان المصريون يعتقدون أن الجسم تسكنه صورة أخرى مصغرة منه تسمى القرينة- الكا- كما تسكنه أيضا روح تقيم فيه إقامة الطائر الذي يرفرف بين الأشجار. وهذه الثلاثة مجتمعة- الجسم والقرينة والروح- تبقى بعد ظاهرة الموت، وكان في استطاعتها أن تنجو منه وقتا يطول أو يقصر بقدر ما يحتفظون بالجسم سليماً من البلى؛ ولكنهم إذا جاءوا إلى أوزير مبرئين من جميع الذنوب سمح لهم أن يعيشوا مخلدين في "حقل الفيضان السعيد"- أي في الحدائق السماوية حيث توجد الوفرة والأمن على الدوام. وفي وسع الإنسان

ص: 162

أن يحكم على ما كان عليه من يعللون أنفسهم بهذه الآمال من فقر ونكد. إلا أن هذه الحقول الفردوسية لا يمكن الوصول إليها إلا باستخدام صاحب المِعْبر الذي كان للمصريين كما كان شارون؛ ولم يكن هذا الشيخ الطاعن في السن يقبل في قاربه إلا الرجال والنساء الذين لم يرتكبوا في حياتهم ذنباً ما، وكان أوزير يحاسب الموتى ويزن قلب كل من يريد الركوب في كفة ميزان تقابله في الكفة الأخرى ريشة ليتأكد بذلك من صدق قوله. والذين لا ينجحون في هذا الاختبار في النهاية يحكم عليهم بأن يبقوا أبد الدهر في قبورهم يجوعون ويظمئون، ويطعمون من التماسيح البشعة، ولا يخرجون منها أبدا ليروا الشمس.

وكان الكهنة يقولون إن ثمة طرقاً ماهرة لاجتياز هذه الاختبارات، وكانوا على استعداد لتعريف الناس بهذه الطرق نظير ثمن يؤدونه لهم. ومن هذه الطرق أن يهيأ القبر بما يحتاجه الميت لغذائه من الطعام والشراب، وبمن يستطيع الاستعانة بهم من الخدم. ومن تلك الطرق أيضا أن يملأ القبر بالطلاسم التي تحبها الآلهة: من أسماك، ونسور، وأفاعي، وبما هو خير من هذه كلها وهو الجعران- والجعارين ضرب من الخنافس كانت في رأيهم رمزاً لبعث الروح لأنها تتوالد كما كان يبدو لهم بعملية التلقيح. فإذا ما بارك الكاهن هذه الأشياء حسب الطقوس الصحيحة أخافت كل معتد على الميت وقضت على كل شر. وكان خيراً من هذه وتلك أن يشتري كتاب الموتى

(1)

، وهو قراطيس ملفوفة أودع فيها

(1)

ذلك اسم حديث أطلقه لبسيوس على نحو ألفي ملف من ورق البردي وجدت في عدة قبور، وتمتاز عن غيرها من الأوراق باحتوائها صيغاً لإرشاد الموتى. واسمها المصري هو: الخروج (من الموت) بالنهار. ويرجع تاريخها إلى عهد الأهرام، ولكن بعضها أقدم منها، ويعتقد المصريون الأقدمون أن هذه النصوص من تأليف تحوت إله الحكمة. وقد جاء في الفصل الرابع والخمسين منها أن هذا الكتاب قد عثر عليه في عين شمس وأنه كان (بخط الإله نفسه)(250) ولقد عثر يوشيا على ما يشبه هذا الكتاب بين اليهود (انظر الفصل الخامس من الباب الثاني عشر من هذا الكتاب).

ص: 163

الكهنة أدعية وصلوات وصيغاً وتعاويذ من شأنها أن تهدئ من غضب أوزير، بل أن تخدعه. فإذا ما وصلت روح الميت إلى أوزير بعد أن تجتاز العدد الكبير من الصعاب والأخطار، خاطبت القاضي الأكبر بما يشبه هذه الأقوال:

أيا من يعجل سير جناح الزمان،

يا من يسكن في كل خفايا الحياة،

يا من يحصى كل كلمة أنطق بها -

انظر إنك تستحي مني، وأنا ولدك؛

وقلبك مفعم بالحزن والخجل،

لأني ارتكبت في العالم من الذنوب ما يفعم القلب حزناً،

وقد تماديت في شروري واعتدائي.

ألا فسالمني، ألا فسالمني،

وحطم الحواجز القائمة بينك وبيني!

ومر بأن تُمحى كل ذنوبي وتسقط

منسية عن يمينك وشمالك!

أجل امح كل شروري

وامح العار الذي يملأ قلبي

حتى نكون أنت وأنا من هذه اللحظة في سلام

ومن الطرق الأخرى أن تعلن الروح براءتها من الذنوب الكبرى في صورة "اعتراف سلبي". وهذا الاعتراف من أقدم وأنبل ما عبر به الإنسان عن مبادئه الأخلاقية:

"سلام عليك، أيها الإله الأعظم، رب الصدق والعدالة! لقد وقفت أمامك، يا رب؛ وجيء بي لكي أشاهد ما لديك من جمال

أحمل إليك

ص: 164

الصدق

إني لم أظلم الناس

لم أظلم الفقراء

لم أفرض على رجل حر عملاً أكثر مما فرضه هو على نفسه

لم أهمل، ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة

ولم أكن سببا في أن يسيء السيد معاملة عبده؛ ولم ُأمِت إنساناً من الجوع؛ ولم أُبكِ أحداً ولم أقتل إنساناً

ولم أخن أحداً

ولم ُأنقِص شيئاً من مؤونة الهيكل، ولم أتلف خبز الآلهة

ولم أرتكب عملاً شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدسة

ولم أكفر بالآلهة

ولم أغش في الميزان

ولم أنتزع اللبن من أفواه الرضع

ولم أصطد بالشباك طيور الآلهة

أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاه" (252).

على أن الدين المصري لم يكن فيه ما يقوله عن الأخلاق إلا الشيء القليل؛ ذلك أن الكهنة قد صرفوا كل همهم إلى بيع الرقى، وغمغمة العزائم، وأداء المراسيم والطقوس السحرية، فلم يجدوا متسعاً من الوقت لتعليم الناس المبادئ الخلقية. بل إن كتاب قصة الموتى نفسه ليعلم المؤمنين أن الرقى التي باركها الكهنة تتغلب على جميع ما عساه أن يعترض روح الميت من صعاب في طريقها إلى دار السلام؛ وأهم ما يؤكده هذا الكتاب هو تلاوة الأدعية لا الحياة الطيبة الصالحة. وقد جاء في أحد هذه الملفات:"إذا ما عرف الميت هذا خرج في النهار" أي حيى الحياة الخالدة. ووضعت صيغ التمائم والرقى وبيعت لتخلص الناس من كثير من الذنوب، وتضمن للشيطان نفسه دخول الجنة. وكان من واجب المصري التقي أن يتلو في كل خطوة من خطواته صيغاً عجيبة يتقي بها الشر ويستنزل بها الخير. استمع مثلا إلى ما تقوله أم وآلهة تريد أن تبعد "الشياطين" عن طفلها:

"أخرج يا من تأتي في الظلام، وتدخل خلسة

هل أتيت لتقبل هذا الطفل؟ لن أسمح لك بتقبيله

هل أتيت لتأخذه؟ لن أسمح لك بأخذه مني. لقد حصنته منك بعشب- إفيت الذي يؤلمك؛ وبالبصل الذي يؤذيك؛ وبالشهد الذي هو حلو المذاق للأحياء ومر في فم الأموات؛ وبالأجزاء الخبيثة من سمك الإبدو، وبالسلسلة الفقرية من سمك النهر (253).

ص: 165

وكانت الآلهة نفسها تستخدم السحر والرقى ليؤذي بعضها بعضاً. وأدب مصر القديم نفسه يفيض بذكر السحرة، السحرة الذين يجففون البحيرات بكلمة ينطقون بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز إلى أماكنها، أو يحيون الموتى (254). وكان للملك سحرة يعينونه ويرشدونه؛ وكان الاعتقاد السائد أن له هو نفسه قوة سحرية ينزل بها المطر، أو يرفع بها الماء في النهر (255). وكانت الحياة مملوءة بالطلاسم والعزائم، والرجم بالغيب؛ وكان لابد لكل باب من إله يخيف الأرواح الخبيثة، أو يطرد ما عساه يقترب منه من أسباب الشؤم؛ وكانوا يعتقدون اعتقادا ثابتاً أن الأطفال الذين يولدون في اليوم الثالث والعشرين من شهر توت سيموتون لا محالة وهم صغار، وأن الذين يولدون في اليوم العشرين من شهر شرباخ سيفقدون أبصارهم في مستقبل أيامهم (256). ويقول هيرودوت أن كل يوم وكل شهر مخصص لإله من الآلهة، وأن المصريين كانوا يعينون ما سوف يقع لكل شخص منهم في حياته حسب اليوم الذي ولد فيه، فيعرفون كيف يموت، وماذا سيكون في مستقبل أيامه (257). ونسي الناس على مر الزمان ما بين الدين والأخلاق من صلات فلم تكن الحياة الصالحة هي السبيل إلى السعادة الأبدية، بل كان السبيل إليها هو السحر والطقوس وإكرام الكهنة. وإلى القارئ ما يقوله في هذا عالم كبير من علماء الآثار المصرية:

"ومن ثم تضاعفت الأخطار التي تكتنف الدار الآخرة، وكان في وسع الكاهن أن يمد الموتى في كل موقف من المواقف الخطرة برقية قوية تنقذه منه لا محالة. وكان لديهم، فضلا عن الرقى الكثيرة التي يستطيع بها الموتى أن يصلوا إلى الدار الآخرة، رقى أخرى تمنع الميت أن يفقد فمه أو قلبه، ورقى غيرها يستطيع بها أن يذكر اسمه، وأن يتنفس، ويأكل ويشرب ويتَّقي أكل فضلاته، ومنها ما يمنع الماء الذي يشربه أن يستحيل لهبا، ومنها ما يحيل الظلام نوراً، ومنها ما يرد عنه الأفاعي وغيرها من الهولات المعادية؛ وما إلى ذلك

ص: 166

وهكذا فوجئنا بانقطاع أسباب التدرج في نمو المبادئ الأخلاقية التي نستطيع تبينها في الشرق القديم أو على الأقل بوقف هذا النمو إلى حين. ويرجع هذا إلى الأساليب البغيضة التي لجأت إليها طائفة فاسدة من الكهنة حريصة كل الحرص على الكسب من أهون سبيل" (258).

تلك كانت حالة الدين في مصر حين ارتقى العرش إخناتون الشاعر المارق وأجج نار الثورة الدينية التي قضت على الإمبراطورية المصرية.

ص: 167

الفصل الرابع

‌الملك المارق

أخلاق إخناتون - الدين الجديد - ترنيمة الشمس - التوحيد -

العقيدة الجديدة - الفن الجديد - الارتكاس - نفرتيتي -

تفكك الإمبراطورية - موت إخناتون

في عام 1380 ق. م مات أمنحوتب الثالث الذي خلف تحتمس الثالث على عرش مصر بعد حياة حافلة بالعظمة والنعيم الدنيوي، وخلفه ابنه أمنحوتب الرابع الذي شاءت الأقدار أن يعرف باسم إخناتون. ولدينا تمثال نصفي لهذا الملك واضح المعارف، عثر عليه في تل العمارنة، ومنه نحكم بأنه كان شخصاً نحيل الجسم إلى حد لا يكاد يصدقه العقل، ذا وجه نسائي في رقته، شاعري في أحاسيسه. وكانت له جفون كبيرة كجفون الحالمين الخياليين، وجمجمة طويلة شوهاء، وجسم نحيل ضعيف. وملاك القول أنه كان شاعراً شاءت الأقدار أن تجعل منه ملكاً.

ولم يكد يتولى الملك حتى ثار على دين آمون وعلى الأساليب التي يتبعها كهنته. فقد كان الهيكل العظيم بالكرنك طائفة كبيرة من النساء يتخذن سراري لآمون في الظاهر، وليستمتع بهن الكهنة في الحقيقة (258).

وكان الملك الشاب في حياته الخاصة مثالاً للطهر والأمانة، فلم يرضه هذا العهر المقدس؛ وكانت رائحة دم الكبش الذي يقدم قرباناً لآمون كريهة نتنة في خياشيمه كما كان اتجار الكهنة في السحر والرقى، واستخدامهم نبوءات آمون للضغط على الأفكار باسم الدين، ولنشر الفساد السياسي (259)، مما تعافه نفسه، فثار على ذلك كله ثورة عنيفة، وقال في هذا: "إن أقوال الكهنة لأشد إثماً من

ص: 168

كل ما سمعت حتى السنة الرابعة (من حكمه)؛ وهي أشد إثماً مما سمعه الملك أمنحوتب الثالث" (260)، وثارت روحه الفتية على الفساد الذي تدهور إليه دين شعبه، وكره المال الحرام والمراسم المترفة التي كانت تملأ الهياكل، وأحفظه ما كان لطائفة الكهنة المرتزقة من سيطرة على حياة الأمة. ثار الرجل على هذا كله ثورة الشعراء، فلم يقبل تراضياً ولم يقنع بأنصاف الحلول، وأعلن في شجاعة أن هاتيك الآلهة وجميع ما في الدين من احتفالات وطقوس كلها وثنية منحطة، وأن ليس للعالم إلا إله واحد هو- آتون.

ورأى إخناتون- كما رأى أكبر في الهند من بعده بثلاثين قرناً- أن الألوهية أكبر ما تكون في الشمس مصدر الضوء وكل ما على الأرض من حياة.

ولسنا نعلم هل أخذ نظريته هذه عن بلاد الشام، أو ابتدعها من عنده وهل كان آتون مجرد صورة أخرى لأدنيس. وأياً كان أصل هذا الإله فقد ملأ نفس الملك بهجة وسروراً، فاستبدل باسمه الأول أمنحوتب المحتوي على لفظ آمون اسم إخناتون ومعناه "آتون راض"، واستعان ببعض الترانيم القديمة، وبعض قصائد في التوحيد- نشرت في أيام سلفه

(1)

- فألف أغاني حماسية في مدح آتون، أحسنها وأطولها جميعاً القصيدة الآتية. وهي أجمل ما بقى لدينا من الأدب المصري القديم:

ما أجمل مطلعك في أفق السماء!

أي آتون الحي، مبدأ الحياة؛

فإذا ما أشرقت في الأفق الشرقي

ملأت الأرض كلها بجمالك.

(1)

في أيام أمنحوتب الثالث نقش المهندسان سوتي وحور نشيداً توحيدياً للشمس على لوحة محفوظة الآن في المتحف البريطاني (261). وقد كانت العادة المتبعة في مصر من زمن طويل أن يخاطب إله الشمس آمون- راع باسم أعظم الآلهة (262)، ولكنه لم يكن في اعتقادهم إلا إله مصر وحدها.

ص: 169

إنك جميل، عظيم، براق، عال فوق كل الرؤوس،

أشعتك تحيط بالأرض، بل بكل ما صنعت،

إنك أنت رِى، وأنت تسوقها كلها أسيرة؛

وإنك لتربطها جميعاً برباط حبك.

ومهما بعدت فإن أشعتك تغمر الأرض؛

ومهما علوت، فإن آثار قدميك هي النهار،

وإذا ما غربت في أفق السماء الغربي

خيم على الأرض ظلام كالموت،

ونام الناس في حجراتهم،

وعصبت رؤوسهم،

وسدت خياشيمهم،

ولم ير واحد منهم الآخر،

وسرق كل متاعهم،

الذي تحت رؤوسهم،

ولم يعرفوا هم هذا.

وخرج كل أسد من عرينه

ولدغت الأفاعي كلها

وسكن العالم بأجمعه

لأن الذي صنعها يستريح في أفق سمائه.

ما أبهى الأرض حيت تشرق في الأفق،

وحين تضيء يا آتون بالنهار

تدفع أمامك الظلام.

وإذا ما أرسلت أشعتك

ص: 170

أضحت الأرضان في أعياد يومية،

واستيقظ كل من عليهما ووقفوا على أقدامهم

حين رفعتهم.

فإذا غسلوا أجسامهم، لبسوا ملابسهم،

ورفعوا أيديهم يمجدون طلوعك،

وأخذوا في جميع أنحاء العالم يؤدون أعمالهم،

واستراحت الأنعام كلها في مراعيها،

وازدهر الشجر والنبات،

ورفرفت الطيور في مناطقها،

وأجنحتها مرفوعة تسبح بحمدك.

ورقصت كل الأغنام وهي واقفة على أرجلك،

وطار كل ذي جناحين،

كلها تحيا إذا ما أشرقت عليها،

وأقلعت السفائن صاعدة ونازلة،

وتفتحت كل الطرق لأنك قد طلعت.

وإن المسك في النهر ليقفز أمامك،

وإن أشعتك لفي وسط البحر العظيم الأخضر،

يا خالق الجرثومة في المرأة،

ويا صانع النطفة في الرجل،

ويا واهب الحياة للابن في جسم أمه،

ويا من يهدئه فلا يبكي،

يا من يغذيه حتى وهو في الرحم،

يا واهب الأنفاس يا من ينعش كل من يصنعه!

ص: 171

وحين يخرج من الجسم

في يوم مولده

تفتح أنت فاه لينطق،

وتمده بحاجاته،

والفرخ حين يزقزق في البيضة

تهبه النفس فيها لتحفظ له حياته

فإذا ما وصلت به،

إلى النقطة التي عندها تكسر البيضة

خرج من البيضة، ليغرد بكل ما فيه من قوة

ويمشي على قدميه

ساعة يخرج منها.

ألا ما أكثر أعمالك

الخافية عليا.

أيها الإله الأوحد الذي ليس لغيره سلطان كسلطانه،

يا من خلقت الأرض كما يهوى قلبك

حين كنت وحيداً.

إن الناس والأنعام كبيرها وصغيرها،

وكل ما على الأرض من دابة،

وكل ما يمشي على قدمين،

وكل ما هو في العلا

ويطير بجناحيه،

والبلاد الأجنبية من سوريا إلى كوش

وأرض مصر،

إنك تضع كل إنسان في موضعه

ص: 172

وتمدهم بحاجاتهم

أنت موجد النيل في العالم السفلي،

وأنت تأتي به كما تحب

لتحفظ حياة الناس

ألا ما أعظم تدبيرك

يا رب الأبدية!

إن في السماء نيلاً للغرباء

ولما يمشي على قدميه من أنعام كل البلاد.

إن أشعتك تغذي كل الحدائق،

فإذا ما أشرقت سرت فيها الحياة،

فأنت الذي تنميها.

أنت موجد الفصول

لكي تخلق كل أعمالك

خلقت الشتاء لتأتي إليها بالبرد،

وخلقت الحرارة لكي تتذوقك.

وأنشأت السماء البعيدة، وأشرقت فيها

لتبصر كل ما صنعت،

أنت وحدك تسطع في صورة آتون الحي.

تطلع، وتسطع، وتبتعد، وتعود،

إنك تصنع آلاف الأشكال

منك أنت وحدك؛

من مدائن، وبلاد، وقبائل؛

وطرق كبرى وأنهار،

ص: 173

كل الأعين تراك أمامها،

لأنك أنت آتون النهار فوق الأرض

* * *

إنك في قلبي

وما من أحد يعرفك

إلا ابنك إخناتون.

لقد جعلته حكيماً

بتدبيرك وقوتك.

إن العالم في يدك

بالصور التي خلقته عليها،

فإذا أشرقت دبت فيه الحياة

وإذا غربت مات؛

لأنك أنت نفسك طول الحياة

والناس يستمدون الحياة منك

مادامت عيونهم تتطلع إلى سناك

حتى تغيب.

فتقف كل الأعمال

حين تتوارى في المغرب

* * *

أنت أوجدت العالم،

وأقمت كل ما فيه لابنك

إخناتون، ذي العمر المديد؛

ولزوجه الملكية الكبرى محبوبته،

ص: 174

سيدة القطرين

نفر- نفر- آتون، نفرتيتي،

الباقية المزدهرة أبد الآبدين.

وليست هذه القصيدة من أولى قصائد التاريخ الكبرى فحسب، بل هي فوق ذلك أول شرح بليغ لعقيدة التوحيد، فقد قيلت قبل أن يجيء إشعيا بسبعمائة عام

(1)

كاملة. ولعل عقيدة التوحيد هذه كانت صدى لوحدة عالم البحر الأبيض المتوسط تحت حكم مصر في عهد تحتمس الثالث، كما يقول برستد (265). ويرى إخناتون أن إلهه رب الأمم كلها، بل إنه في مديحه ليذكر قبل مصر غيرها من البلاد التي يوليها الإله عنايته. ألا ما أعظم الفرق بين هذا وبين العهد القديم عهد آلهة القبائل! ثم ناظر إلى ما في القصيدة من مذهب حيوي: إن آتون لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية، بل يوجد في الأزهار والأشجار وفي جميع صور الحياة والنماء؛ وآتون هو الفرحة التي تجعل الخراف الصغرى "ترقص فوق أرجلها" والطير "ترفرف في مناقعها".

وليس الإله إنساناً في صورة البشر دون غيرها من الصور، بل إن هذا الإله الحق هو خالق حرارة الشمس ومغذيها؛ وليس ما في الكرة المشرقة والآفلة من مجد ملتهب إلا رمزاً للقدرة الغائبة. على أن هذه الشمس نفسها تصبح في نظر إخناتون "رب الحب" لما لها من قدرة شاملة مخصبة مباركة؛ وهي فوق ذلك المرضع الحنون التي "تخلق في المرأة الطفل- الرجل" والتي "تملأ قطري مصر بالحَب". وهكذا يصبح آتون آخر الأمر رمزاً للأبوة الجزعة القلقة الرحيمة الرقيقة القلب؛ ولم يكن كيهوه، رب الجيوش، بل كان رب الرحمة والسلام (266).

(1)

إن ما بين هذه القصيدة وبين المزمور الرابع بعد المائة من تشابه يغفل عنه الناس لا يترك مجالا للشك فيما كان لمصر من أثر في الشاعر العبراني.

ص: 175

ومن مآسي التاريخ أن إخناتون بعد أن حقق حلمه العظيم حلم الوحدانية العامة التي سمت بالبشرية إلى الدرجات العُلى لم يترك ما في دينه الجديد من صفات نبيلة يسري في قلوب الناس ويستميلها إليه على مهل، بل عجز عن أن يفكر في الحقائق التي جاء بها تفكيراً يتناسب مع الواقع. لقد خال أن كل دين وكل عبادة عدا عقيدته وعبادته فحش وضلال لا يطاق. فأصدر أمره على حين غفلة بأن تمحى من جميع النقوش العامة أسماء الآلهة كلها إلا اسم آتون، وشوه اسم أبيه بأن محا كلمة آمون من مئات الآثار، وحرم كل دين غير دينه، وأمر أن تغلق جميع الهياكل القديمة. وغادر طيبة لأنها مدينة نجسة، وأنشأ له عاصمة جديدة جميلة في إخناتون "مدينة أفق آتون". وما لبثت طيبة أن تدهورت بعد أن أخرجت منها دور الحكومة- وخسرت رواتب الموظفين، وأضحت إخناتون حاضرة غنية أقيمت فيها المباني الجديدة- ونهض الفن بعد أن تحرر من أغلال الكهنة والتقاليد. ولقد كشف السير وليم فلندرز بيتري في تل العمارنة- وهي قرية حديثة أنشئت في موقع إخناتون القديمة- طواراً جميلاً تزينه صور الطيور، والسمك وغيرهما من الحيوانات، رسمت كلها أدق رسم وأجمله (267). ولم يفرض إخناتون على الفن قيوداً بل كل ما فعله من هذا القبيل أن حرم على الفنانين أن يرسموا صوراً لآتون، لأن الإله الحق في اعتقاده لا صورة له، وما أسمى هذه من عقيدة (268). ثم ترك الفن بعدئذ حراً طليقاً، عدا شيئا واحداً آخر، وهو أنه طلب إلى فنانيه: بِك، وأوتا، ونتموز، أن يمثلوا الأشياء كما يرونها، وأن يغفلوا العرف الذي جرى عليه الكهنة. وصدع هؤلاء بأمره، وصوروه هو نفسه في صورة شاب ذي وجه ظريف رقيق رقة تكاد تبلغ حد الوجل، ورأس مستطيل مسرف في الطول، واسترشدوا في تصويرهم بعقيدته الحيوية في إلهه، فصوروا كل الكائنات الحية نباتية كانت أو حيوانية في تفصيل ينم عن حب وعطف عظيمين، ودقة لا تسمو عليها دقة

ص: 176

في أي مكان أو زمان (269). وكان من أثر هذا أن ازدهر الفن أعظم ازدهار لأن الفن في جميع العصور يحس بآلام المسغبة والقتام.

ولو أن إخناتون كان ذا عقل ناضج لأدرك أن ما يريده من خروج على تعدد الآلهة القديم المتأصل في عادات الناس وحاجاتهم، إلى وحدانية فطرية تخضع الخيال للعقل، لأدرك أن هذا تغيير أكثر من أن يتم في زمن قصيرة؛ وإذن لسار في عمله على مهل وخفف من حدة الانتقال بأن جعله على مراحل تدريجية. ولكنه كان شاعراً لا فيلسوفاً، فاستمسك بالحقيقة المطلقة فتصدع بذلك جميع بناء مصر وانهار على أم رأسه.

ذلك أنه ضرب ضربة واحدة جرد بها طائفة غنية قوية من ثرائها فأغضبها عليه، وحرم عبادة الآلهة التي جعلتها العقيدة والتقاليد عزيزة على الناس. ولما أن محا لفظ آمون من اسم أبيه خيل إلى الناس أن هذا العمل زيغ وضلال، إذ لم يكن شيء أعز عليهم من تعظيم الموتى من أسلافهم. وما من شك في أن إخناتون قد استخف بقوة الكهنة وعنادهم، وتغالي في قدرة الشعب على فهم الدين الفطري. وقام الكهنة من وراء الستار يأتمرون ويتأهبون، وظل الناس في دورهم وعزلتهم يعبدون آلهتهم القديمة المتعددة. وزاد الطين بلة أن مئات الحرف التي لم تكن لها حياة إلا على حساب الهياكل أخذت تزمجر في السر غضباً على الملك الزنديق، بل إن وزرائه وقواده بين جدران قصوره كانوا يحقدون عليه ويتمنون موته. ألم يكن هو الرجل الذي ترك الدولة تنهار وتتقطع أوصالها بين يديه؟.

وكان الشاعر الفتى في هذه الأثناء يعيش عيشة البساطة والاطمئنان. وكانت له سبع بنات ولكنه لم يكن له ولد ذكر. مع أن القانون كان يجيز له أن

ص: 177

يطلب وارثاً ذكراً من زوجة ثانية، فإنه لم يقدم على هذا الحل، وآثر على أن يظل وفياً لنفرتيتي. ولقد وصلت إلينا تحفة صغيرة من عهده تظهره يحتضن الملكة؛ كما أجاز لمصوريه أن يرسموه في عربة يسير بها في الشوارع يلهو ويطرب مع زوجته وبناته. وكانت الملكة تجلس إلى جانبه في الاحتفالات وتمسك بيده كما كانت بناته يلعبن إلى جانب عرشه. وكان يصف زوجته بأنها:"سيدة سعادته" ويقول "إن الملك يبتهج قلبه حين يسمع صوتها"؛ وكان في قسمه يقسم بهذه الصيغة: "بقدر ما تسعد قلبي الملكة وأطفالها"(270). لقد كان حكم هذا الملك فترة من الحنو والعطف وسط ملحمة القوة والسلطان في تاريخ مصر.

وجاءت الرسائل المروعة من الشام

(1)

تنغص على الملك هذه السعادة الساذجة البريئة، فقد غزا الحيثيون وغيرهم من القبائل المجاورة لهم البلاد التابعة لمصر في الشرق الأدنى. وأخذ الحكام المعيَّنون من قِبَل مصر يلحون في طلب النجدة العاجلة. وتردد إخناتون في الأمر؛ ذلك أنه لم يكن على ثقة من أن حق الفتح يبرر إخضاع هذه الولايات لحكم مصر؛ وكان يكره أن يرسل المصريين ليهلكوا في ميادين القتال البعيدة دفاعاً عن قضية لا يثق بعدالتها. ولما رأت الولايات أنها لا تطلب النجدة من ملك حاكم بل تطلبها من ولي صالح، خلعت حكامها المصريين، وامتنعت في غير جلبة عن أداء شيء من الخراج، وأصبحت حرة مستقلة في جميع شؤونها. ولم يمض من الزمن إلا أقصاه حتى خسرت مصر إمبراطوريتها الواسعة، وانكمشت حتى عادت دولة صغيرة ضيقة الرقعة. وسرعان ما أقفرت الخزانة المصرية التي ظلت قرناً كاملاً تعتمد أكثر ما تعتمد على ما يأتيها من

(1)

في عام 1839 عثر سير فلندرز بيتري في تل العمارنة على أكثر من ثلاثمائة وخمسين لوحة هي رسائل مكتوبة بالخط المسماري معظمها طلبات ملحة للنجدة موجهة إلى إخناتون من بلاد الشرق.

ص: 178

الجزية الخارجية. ونقصت الضرائب المحلية إلى أقصى حد، ووقف العمل في مناجم الذهب، وعمت الفوضى في جميع فروع الإدارة الداخلية. وألفا إخناتون نفسه فقيراً لا صديق له ولا معين في عالم كان يخيل إليه من قبل أنه كله ملك له. واندلع لهيب الثورة في جميع الولايات التي كانت تابعة لمصر وقامت جميع القوى الداخلية في وجهه تناوئه وتترقب سقوطه.

ولم يكد يتم الثلاثين من عمره حتى توفي في عام 1362 ق. م محطم القلب بعد أن أدرك عجزه عن أن يكون مَلِكاً وأيقن أن شعبه غير جدير به.

ص: 179

الفصل الخامس

‌اضمحلال مصر وسقوطها

توت عنخ آمون - جهود رمسيس الثاني - ثروة الكهنة -

فقر الشعب - فتح مصر - خلاصة في فضل مصر على الحضارة

وبعد عامين من وفاته جلس على العرش توت عنخ آمون زوج ابنته وحبيب الكهنة. وما لبث أن بدل اسمه توت عنخ آتون الذي سماه به حماه، وأعاد عاصمة الملك إلى طيبة، وتصالح مع السلطات الكنسية، وأعلن إلى الشعب المبتهج عودته إلى عبادة الآلهة القديمة. وأزيلت من جميع الآثار القديمة كلمتا آتون وإخناتون، وحرم الكهنة على الشعب أن ينطقوا باسم الملك المارق. وكان الناس إذا تحدثوا عنه سموه:"المجرم الأكبر". ونقشت على الآثار الأسماء التي محاها إخناتون، وأعيدت أيام الأعياد التي ألغاها. وهكذا عاد كل شيء إلى ما كان عليه من قبل.

وفيما عدا هذا حكم توت عنخ آمون حكماً لا ميزة له ولا فضل، ولولا ما كشف في قبره من كنوز لا عهد للناس بها من قبل لما سمع العالم به. وجاء من بعده قائد باسل يدعى حارمحب سير جيوشه على طول الشاطئ وأعاد إلى مصر أملاكها الخارجية وسلمها الداخلي. وجنى سيتي الأول بحكمته ثمار عودة النظام والثروة، وشيد بهو الأعمدة في الكرنك (272)، وشرع في نحت هيكل عظيم في صخور أبي سنبل، وخلد عظمته في الأعقاب بالنقوش الفخمة، وكان له الحظ الأكبر في أن رقد في قبر من أحسن قبور مصر زخرفاً وتنميقاً.

ثم ارتقى العرش رمسيس الثاني صاحب الشخصية الروائية العجيبة وآخر الفراعنة العظام. وقلما عرف التاريخ ملكاً أبهى منه منظراً، فقد كان وسيماً

ص: 180

شجاعاً، أضاف إلى محاسنه إحساسه في شبابه بهذه المحاسن ولم تكن جهوده الموفقة في الحرب ليضارعها غير مغامراته في الحب. وبعد أن نحى رمسيس عن العرش أخاً له ذا مطالب جاءت في غير وقتها المناسب، سير حملة إلى بلاد النوبة ليفتح ما فيها من مناجم الذهب، ويملأ به خزانة مصر، واستخدم ما جاءته به هذه الحملة من أموال لإخضاع الولايات الآسيوية التي خرجت على مصر وقضى ثلاث سنين في إخضاع فلسطين؛ ثم وصل زحفه والتقى عند قادش (1288 ق. م) بجيش عظيم جمعه الأحلاف الآسيويون. بدل بشجاعته وبراعة قيادته هزيمة محدقة به نصراً مؤزراً. ولربما كان من نتائج هذه الحملات أن جيء إلى مصر بعدد كبير من اليهود عبيداً أو مهاجرين؛ ويعتقد بعضهم أن رمسيس الثاني هو بعينه فرعون موسى الذي ورد ذكره في سفر الخروج (273). وأمر أن تخلد انتصاراته بغير قليل من المبالغة والتحيز على خمسين جداراً أو نحوها، وكلف أحد الشعراء بأن يشيد بذكره في ملحمة شعرية، وكافأ نفسه على أعماله ببضع مئات من الزوجات. وخلف بعد وفاته مائة ولد وخمسين بنتاً ليبرهن على رجولته بعدد هؤلاء الأبناء وبنسبة الذكور منهم إلى الإناث. وتزوج عدداً من بناته حتى يكن لهن أيضاً أبناء عظماء. وكان أبنائه ومن تناسل منهم من الكثرة بحيث تألفت منهم طبقة خاصة في مصر بقيت على هذه الحال أربعة قرون، وظل حكام مصر يختارون من هذه الطبقة أكثر من مائة عام.

والحق أنه كان جديراً بهذا كله، فقد حكم مصر كما يلوح حكماً موفقاً. ولقد أسرف في البناء إسرافاً كان من نتائجه أن نصف ما بقي من العمائر المصرية يعزى إلى أيام حكمه. وأتم بناء البهو الرئيسي في الكرنك، وأضاف أبنية جديدة إلى معبد الأقصر وشاد ضريحه الكبير المعروف بالرمسيوم في غرب النهر، وأتم الهيكل العظيم المنقور في الجبل عند أبي سنبل، ونثر تماثيل له ضخمة في طول البلاد وعرضها. وراجت التجارة في عهده عن طريق

ص: 181

برزخ السويس والبحر الأبيض المتوسط، واحتفر ترعة أخرى توصل النيل بالبحر الأحمر، ولكن الرمال السافية طمرته بعد وفاته بزمن قليل. وأسلم رمسيس الروح في عام 1225 ق. م وهو في التسعين من عمره، بعد عهد يعد من أشهر العهود في التاريخ.

ولم يكن في البلاد سلطة بشرية تعلو فوق سلطته إلا سلطة الكهنة. ثم قام النزاع في مصر كما قام في غيرها من البلاد خلال جميع العهود بين الدولة والكنيسة. فقد كانت أسلاب كل حرب والجزء الأكبر من خراج البلاد المفتوحة تتدفق في أثناء حكمه وحكم خلفائه الذين تولوا الملك بعده مباشرة في خزائن الهياكل والكهنة. وبلغت هذه الثروة غايتها في عهد رمسيس الثالث. فكان للمعابد من العبيد 000 ر 107 وهم جزء من ثلاثين جزءاً من سكان مصر. وكان لها من أرض مصر 000 ر 750 فدان أي سبع أرض مصر الصالحة للزراعة. وكانت تمتلك 000 ر 500 رأس من الماشية، وتستحوذ على إيراد 169 مدينة من مدن مصر والشام. وكانت هذه الثروة الضخمة كلها معفاة من الضرائب (274). وأغدق رمسيس الثالث الكريم، وإن شئت فقل الوهاب، من الهدايا على كهنة آمون ما لم يسبق له في كثرته مثيل. وكان من هذه الهدايا 000 ر 32 كيلو جرام من الذهب، ومليون كيلو جرام من الفضة (275). وكان يهبهم كل سنة 000 ر 185 كيس من الحبوب. ولما حان الوقت لأداء أجور العمال الذين تستخدمهم الدولة في مرافقها وجد الخزانة مقفرة (276). وجاء الشعب واشتد جوعه يوماً بعد يوم لكي يتخم الآلهة.

وكان من شأن هذه السياسة أن يصبح الملوك خدام الآلهة عاجلا كان ذلك أو آجلا. فلما أن جلس على العرش آخر الملوك الذين تسموا باسم رمسيس اغتصب المُلكَ الكاهن الأكبر للإله آمون، وحكم حكماً كان له فيه السلطان الأعلى. وأمست الإمبراطورية المصرية حكومة دينية راكدة ازدهر فيها البناء

ص: 182

والتخريف، واضمحل فيها كل ما عدا هذين من مقومات الحياة القومية، ووضعت الرقى لتصبغ كل قرار يصدره الكهنة بالصبغة المقدسة الإلهية. وامتص الآلهة كل ما في مصر من مصادر الحياة حتى نضب معينها في الوقت الذي كان فيه الغزاة الأجانب يعدون العدة للانقضاض على كل هذه الثروة المتجمعة.

وثار نقع الفتنة في جميع أطراف البلاد. وكان من أهم موارد مصر موقعها الهام على الطريق الرئيسي لتجارة البحر الأبيض المتوسط، وكانت معادنها وثرواتها قد جعلت لها السيادة على بلاد لوبيا في الغرب وعلى بلاد فينيقية وسوريا وفلسطين في الشمال والشرق. لكن أمماً جديدة في بلاد أشور وبابل وفارس كانت آنئذ تتمرد وتشتد ويقوى سلطانها في الطرف الآخر من طرفي هذا الطريق التجاري، وكانت تدعم قوتها بالمخترعات والمغامرات وتجرؤ على منافسة المصريين الأتقياء الراضين عن أنفسهم في ميادين التجارة والصناعة. وكان الفينيقيون وقتئذ يتمون صنع السفائن ذات الثلاثة صفوف من المجاديف لكي يصلوا بها إلى ما يبغون من كمال، وأخذوا بفضل هذه السفائن ينتزعون من مصر السيطرة على البحر شيئاً فشيئاً. وكان الدوريون والآخيون قد استولوا على كريت وجزائر بحر إيجه (حوالي 1400 ق. م) وكانوا ينشئون لهم إمبراطورية تجارية. وأخذت التجارة يقل سيرها شيئاً فشيئاً في قوافل بطيئة في طرق الشرق الأدنى الجبلية والصحراوية المعرضة لهجمات اللصوص، وبدأت تنقل بوسيلة أقل من هذه كلفة على ظهر سفن تخترق البحر الأسود وبحر إيجه إلى طروادة وكريت وبلاد اليونان، وأخيراً إلى قرطاجنة وإيطاليا وأسبانيا. وعلا نجم الأمم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية وازدهرت، أما الأمم المقيمة على شواطئه الجنوبية فضعفت واضمحلت. وفقدت مصر تجارتها وذهبها وسلطانها وفنونها، ثم فقدت آخر الأمر كبرياءها نفسه، وزحفت على أرضها الأمم المنافسة لها واحدة بعد واحدة وعدت عليها واجتاحت أرضها وخربتها.

ص: 183

فانقض عليها اللوبيون من الغرب في عام 945 ق. م وعاثوا فيها فساداً يخربون ويدمرون، وفي عام 722 ق. م غزاها الأحباش من الجنوب وثاروا لعبوديتهم القديمة؛ وفي عام 673 اجتاحها الآشوريون من الشمال وأخضعوا لسلطانهم مصر التي كان يستبد بها الكهنة، وألزموها بأداء الجزية لهم. واستطاع أبسماتيك أمير شاو أن يرد الغزاة وقتا ما ويضم أجزاء مصر كلها تحت زعامته. وحدث في أثناء حكمه وحكم خلفائه نهضة في الفن، وشرع مهندسو مصر ومثالوها وشعراؤها يجمعون ما كان لمدارسهم من تقاليد في الفن والذوق، ويعدونها ليلقوها فيما بعد تحت أقدام اليونان. لكن الفرس بقيادة قمبيز عبروا برزخ السويس في عام 525 ق. م وقضوا مرة أخرى على استقلال مصر. وفي عام 332 ق. م اجتاحها الإسكندر من آسية وأخضعها لحكم مقدونية

(1)

. وأقبل قيصر في عام 48 ق. م ليستولي على الإسكندرية عاصمة مصر الجديدة، وليستولد كليوباترا ابناً ووارثاً كانا يأملان أملاً لم يتحقق أن يتوجاه ملكاً تخضع لسلطانه أكبر الإمبراطوريات القديمة. وفي عام 30 ق. م أمست مصر ولاية تابعة لرومة واختفت من التاريخ القديم.

ونهضت البلاد مرة أخرى نهضة قصيرة الأجل حين عمر القديسون الصحراء وجر سير ل هيباشيا لتلقى حتفها في الشوارع (415 ب. م)، وحين فتحها المسلمون (حوالي 650 ب. م) وبنوا القاهرة من أنقاض منفيس وملئوها بالقلاع والقباب الزاهية الألوان. ولكن هذه الثقافة وتلك كانتا في واقع الأمر ثقافتين أجنبيتين غير مصريتين ولم تلبثا أن زالتا.

(1)

وتاريخ الحضارة المصرية القديمة في عهد البطالمة والقياصرة من الموضوعات التي سترد في مجلد تال.

ص: 184

واليوم يوجد مكان يسمى مصر، ولكن المصريين ليسوا سادته؛ فلقد حطمتهم الفتوح من زمن بعيد، واندمجوا عن طريق اللغة والزواج في الفاتحين العرب، وأضحت مدنهم لا تعرف إلا المسلمين والإنجليز، وأقدام السياح المتعبين، الذين يأتون من أقاصي الأرض ليروا أهرامها فلا يجدونها إلا أكواماً من الحجارة، ولربما رجعت إلى مصر عظمتها إذا ما أثرت آسية مرة أخرى فأصبحت مصر مركز التجارة العالمية ومستودعها. ولكن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بما سيكون وهو واثق مما يتنبأ به، وكل ما نعلمه علم اليقين أن آثار مصر القديمة قد خربت وتهدمت؛ فالسائح أينما سار يجد خربات ضخمة، وآثاراً وقبوراً تذكره بجهود عظيمة جبارة، ومن حولها قفر ودمار، ونضوب للدم القديم. ويحيط بهذا كله رمال سافية لا تنفك الرياح الحارة تحملها من كل جانب، كأنها قد اعتزمت أن تغطي بها آخر الأمر كل شيء

(1)

.

لكن هذه الرمال لم تخرب من مصر القديمة إلا الجسد، أما روحها فما تزال باقية فيما ورثه الجنس البشري من علم ومن ذكريات مجيدة.

وحسبنا أن نذكر من معالم حضارتها نهوضها بالزراعة والتعدين والصناعة والهندسة العلمية، وأنها في أغلب الظن هي التي اخترعت الزجاج، ونسيج

(1)

آثرنا أن ننقل هذا الجزء كما كتبه المؤلف حرصاً منا على الأمانة في النقل وإن كنا لا نوافقه على الكثير منه، ورغبة في أن يعرف المصريون كل ما يقال عنهم حقاً كان ذلك أو باطلاً. وقل أن يوجد في بلاد العالم شعب إلا وقد امتزج دمه بدم غيره من الشعوب. فمسلمو مصر وأقباطها وإن اختلفوا في الدين يؤلفون معا أمة متجانسة ذات عادات وتقاليد وأماني واحدة. ومن الخطأ أن يقال أن مدنهم لا تعرف إلا المسلمين والإنجليز. إنها تضم أبناء مصر من مسلمين وأقباط، أما الإنجليز فإن الذي نعرفه عنهم أنهم احتلوا البلاد نصف قرن ولكنهم ظلوا فيها قوماً أجانب غرباء عن أهلها حتى أخرجتهم من أرضها.

ص: 185

الكتان، وأنها هي التي أحسنت صنع الملابس والحلي والأثاث والمساكن، وأصلحت أحوال المجتمع وشئون الحياة؛ وأن المصريين أول من أقام حكومة منظمة نشرت لواء السلام والأمن في البلاد، وأنهم أول من أنشأ نظام البريد والتعداد والتعليم الابتدائي والثانوي؛ بل إنهم هم أول من أوجد نظام التعليم الفني لإعداد الموظفين ورجال الإدارة.

وهم الذين ارتقوا بالكتابة، ونهضوا بالآداب والعلوم والطب؛ والمصريون على ما نعرف أول من وضع دستوراً واضحاً للضمير الفردي، والضمير العام، وهم أول من نادى بالعدالة الاجتماعية، وبالاقتصار على زوجة واحدة، وأول من دعا إلى التوحيد في الدين، وأول من كتب في الفلسفة، وأول من نهض بفن العمارة والنحت، وارتقى بالفنون الصغرى إلى درجة من الإتقان والقوة لم يصل إليها (على ما نعرف) أحد من قبلهم، وقلما باراهم فيها من جاء بعدهم. وهذا الفضل كله لم يذهب هباء حتى في الوقت الذي كان خير ما فيه مطموراً تحت رمال الصحراء أو ملقى على الأرض بفعل الاضطرابات الأرضية

(1)

، فقد انتقلت الحضارة المصرية على أيدي الفينيقيين والسوريين واليهود وأهل كريت واليونان والرومان، حتى أضحت من التراث الثقافي للجنس البشري. وإن ما قامت به مصر من الأعمال في فجر التاريخ لا تزال آثاره أو ذكرياته مخلدة عند كل أمة وفي كل جيل، "ولعل مصر" كما يقول فور "بفضل تماسكها ووحدتها، وتنوع منتجاتها الفنية تنوعا أساسه دقة التنسيق والتنظيم، وبفضل ما بذلت من جهود جبارة دامت أطول العهود، لعل مصر بهذا كله تعرض على العالم أعظم ما ظهر على الأرض من حضارات إلى يومنا هذا"(277). وإن من الخير لنا أن نعمل نحن لكي نبلغ ما بلغت.

(1)

لقد دمر طيبة عن آخرها زلزال حدث في عام 27 ب. م.

ص: 186

الباب التاسع

‌بابل

الفصل الأول

‌من حمورابي إلى نبو خد نصر

فضل بابل على المدنية الحديثة - أرض ما بين

النهرين - حمورابي - عاصمة ملكه - سيطرة

الكاشيين - رسائل تل العمارنة - فتح الآشوريين

لبابل - نبوخد نصر - بابل في أيام مجدها

الحضارة كالحياة صراع دائم مع الموت؛ وكما أن الحياة لا يتسنى لها أن تحتفظ بنفسها إلا إذا خرجت عن صورها البالية القديمة واتخذت لها صوراً أخرى فتية جديدة، فكذلك الحضارة تستطيع البقاء مزعزعة الأركان بتغيير موطنها ودمها. ولقد انتقلت الحضارة من أوربا إلى بابل ويهوذا، ومن بابل إلى نينوى، ومن هذه كلها إلى برسيبوليس وسارديس وميليتس، ومن هذه الثلاثة الأخيرة ومصر وكريت، إلى بلاد اليونان ورومة.

وما من أحد ينظر الآن إلى موقع مدينة بابل القديمة ثم يحظر بباله أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات كانت من قبل موطن حضارة غنية قوية كادت أن تكون هي الخالقة لعلم الفلك، وكان لها فضل كبير في تقدم الطب، وأنشأت علم اللغة وأعدت أول كتب القانون الكبرى، وعلمت اليونان مبادئ الحساب، وعلم الطبيعة والفلسفة، وأمدت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثها العالم، ونقلت إلى العرب بعض المعارف العلمية والمعمارية التي

ص: 187

أيقظوا بها روح أوربا من سباتها في العصر الوسيط. وإذا ما وقف الإنسان أمام دجلة والفرات الساكنين فإنه يتعذر عليه أن يعتقد أنهما النهران اللذان أرويا سومر وأكد وغذيا حدائق بابل المعلقة.

والحق أنهما إلى حد ما ليسا هما النهرين القديمين؛ وذلك لأن النهرين القديمين قد اختطا لهما من زمن بعيد مجريين جديدين (2)"وقطعا بمناجلهما البيض شطآنا أخرى". وكان نهرا دجلة والفرات كما كان نهر النيل في مصر طريقاً تجارياً عظيماً يمتد آلاف الأميال، وكانا في مجرييهما الأدنيين يفيضان كما يفيض نهر النيل في فصل الربيع ويساعدان الزراع على إخصاب الأرض. ذلك أن المطر لا يسقط في بلاد بابل إلا في أشهر الشتاء؛ أما فيما بين مايو ونوفمبر فإنه لا يسقط أبداً؛ ولولا فيضان النهرين لكانت أرضهما جرداء كما كان الجزء الشمالي من أرض الجزيرة في الأيام القديمة وكما هو في مثل هذه الأيام. ولكن بلاد بابل قد أضحت بفضل ماء النهرين الغزير، وكد الأهلين أجيالاً طوالاً، جنة الساميين وحديقة بلاد آسية القديمة وهُريها

(1)

.

وكانت بابل من حيث تاريخها وجنس أهلها نتيجة امتزاج الأكديين والسومريين. فقد نشأ الجنس البابلي من تزاوج هاتين السلالتين؛ وكانت الغلبة في السلالة الجديدة للأصل السامي الأكدي، فقد انتهت الحروب التي شبت بينهما بانتصار أكد وتأسيس مدينة بابل لتكون حاضرة أرض الجزيرة السفلى بأجمعها. وتطل علينا من بداية هذا التاريخ شخصية قوية هي شخصية حمورابي (2123 - 2081 ق. م) الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثاً وأربعين سنة. وتصوره الأختام والنقوش البدائية بعض التصوير، فنستطيع في ضوئها أن نتخيله شاباً يفيض حماسة وعبقرية، ذو عاصفة هوجاء في الحرب، يقلم أظافر الفتن ويقطع أوصال

(1)

مما جاء في سفر التكوين أن الفرات واحد من أربعة أنهار تجري في الجنة (تكوين 2: 14).

ص: 188

الأعداء، ويسير في شعاب الجبال الوعرة، ولا يخسر في حياته واقعة؛ وحد الدويلات المتحاربة المنتشرة في الوادي الأدنى، ونشر لواء السلام على ربوعها وأقام فيها منار الأمن والنظام بفضل كتاب قوانينه التاريخي العظيم.

وقد كُشف قانون حمورابي في أنقاض مدينة السوس في عام 1902 م. ووجد هنا القانون منقوشاً نقشاً جميلاً على اسطوانة من حجر الديوريت نقلت من بابل إلى عيلام (حوالي عام 1100 ق. م) فيما نقل من مغانم الحرب

(1)

، وقيل عن هذه الشرائع أنها منزلة من السماء. فترى الملك على أحد أوجه الأسطوانة يتلقى القوانين من شمش إله الشمس نفسه. وتقول مقدمة القوانين:

ولما أن عهد أنو الأعلى ملك الأنونا كي وبِلْ رب السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم، لما أن عهد حكم بني الإنسان كلهم إلى مردوك؛

ولما أن نطقا باسم بابل الأعلى، وأذاعا شهرتها في جميع أنحاء العالم، وأقاما في وسطه مملكة خالدة أبد الدهر قواعدها ثابتة ثبات السماء والأرض - وفي ذلك الوقت ناداني أنو وبِل، أنا حمورابي الأمير الأعلى، عابد الآلهة، لكي أنشر العدالة في العالم، وأقضي على الأشرار والآثمين؛ وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء

وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق. أنا حمورابي، أنا الذي اختاره ِبل حاكماً، والذي جاء بالخير والوفرة، والذي أتم كل شيء لنبور ودُريلو،

والذي وهب الحياة لمدينة أرك؛ والذي أمد سكانها بالماء الكثير؛

والذي جمل مدينة بارسيا؛

والذي خزن الحب لأوراش العظيم؛

والذي أعان شعبه في وقت المحنة، وأمن الناس على أملاكهم في بابل؛ حاكم الشعب، الخادم الذي تسر أعماله أنونيت (4).

إن الألفاظ التي أكدناها نحن في هذه العبارة لذات نغمة حديثة؛ وإن المرء ليتردد قبل أن يصدق أن قائلها حاكم شرقي "مستبد" عاش في عام 2100

(1)

وهي الآن في متحف اللوفر.

ص: 190

ق. م، أو أن يتوهم أن القوانين التي تمهد لها استمدت أصولها من قوانين سومرية مضى عليها ستة آلاف عام. وهذا الأصل القديم مضافاً إلى الظروف التي كانت تسود بابل وقتئذ هي التي جعلت قانون حمورابي شريعة مركبة غير متجانسة. فهي تفتتح بتحية الآلهة، ولكنها لا تحفل بها بعدئذ في ذلك التشريع الدستوري البعيد كل البعد عن الصبغة الدينية. وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقسى العقوبات وأشدها وحشية، وتضع قانون النفس بالنفس والتحكيم الإلهي

(1)

إلى جانب الإجراءات القضائية المحكمة والعمل الحصيف على الحد من استبداد الأزواج بزوجاتهم. على أن هذه القوانين البالغة عدتها 285 قانوناً، والتي رتبت ترتيباً يكاد يكون هو الترتيب العلمي الحديث، فقسمت إلى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة، وبالأملاك العقارية، وبالتجارة، والصناعة، وبالأسرة، وبالأضرار الجسمية، وبالعمل؛ نقول إن هذه القوانين تكون في مجموعها شريعة أكثر رقياً وأكثر تمديناً من شرعية أشور التي وضعت بعد أكثر من ألف عام من ذلك الوقت، وهي من وجوه عدة " لا تقل رقياً عن شريعة أية دولة أوربية حديثة " (5)؛ وقلّ أن يجد الإنسان في تاريخ الشرائع كلها ألفاظاً أرق وأجمل من الألفاظ التي يختتم بها البابلي العظيم شريعته:

"إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي والتي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة وحكومة طاهرة صالحة

أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد

وبحكمتي قيدتهم، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة

فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة، ليقرأ النقش الذي على أثري، وليلق

(1)

قانون النفس بالنفس معروف، وقد ورد مفصلا في التوراة، وأشارت إليه الآية القرآنية الكريمة:"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس" الخ، أما التحكيم الإلهي فقد كان من العادات الشائعة عند بعض الأمم وهو إثبات الجريمة على المتهم أو نفيها عنه بإلقائه في الماء أو النار لينجو منهما إن كان بريئا فإن لم ينج فهو مذنب. (المترجم)

ص: 191

باله إلى كلماتي الخطيرة! ولعل أثرى هذا يكون هادياً له في قضيته، ولعله يفهم منه حالته! ولعله يريح قلبه (فينادي): "حقا إن حمورابي حاكم كالوالد الحق لشعبه

لقد جاء بالرخاء إلى شعبه مدى الدهر كله، وأقام في الأرض حكومة طاهرة صالحة

(1)

ولعل الملك الذي يكون في الأرض فيما بعد وفي المستقبل يرعى ألفاظ العدالة التي نقشتها على أثرى"! (8).

ولم يكن هذا التشريع الجامع إلا عملاً واحداً من أعمال حمورابي الكثيرة. فلقد أمر بحفر قناة كبيرة بين كش والخليج الفارسي أروَت مساحات واسعة من الأراضي، ووَقَتْ المدن الجنوبية ما كان ينتابها بسبب فيضانات نهر دجلة المخربة. ولقد وصل إلينا من عهده نقش آخر يفخر فيه بأنه أجرى في البلاد الماء (تلك المادة القيمة التي لا نقدرها اليوم والتي كانت في الأيام الماضية إحدى مواد الترف)، ونشر الأمن والحكم الصالح بين كثير من القبائل. وأنا لنستمع من ثنايا هذا النقش ومن بين عبارات الفخر (وهو خلة شريفة من خلال الشرقيين) صوت الحاكم الماهر والسياسي القدير.

"لما وهب لي أنو ونليل (إلها أرك ونبور) بلاد سومر وأكد لأحكمها، ووضعا في يدي هذا الصولجان، حفرت قناة حمورابي- نخوش- ميشى (حمورابي المفيض- على- الشعب) التي تحمل الماء الغزير لأرض سومر وأكد. وحولت شاطئيها الممتدين على كلا الجانبين إلى أراضي زراعية؛ وجمعت أكداسا من الحب، وسيرت الماء الذي لا ينضب إلى الأرضين، وجمعت الأهلين المشتتين، وهيأت لهم المرعى والماء وأمددتهم بالمراعي الموفورة وأسكنتهم مساكن آمنة (9).

(1)

يبدو أن "شرائع موسى" تستمد من هذه الشرائع أو تستمد هذه وتلك من مصدر مشترك. وترجع عادة بصم العقد القانوني بخاتم رسمي إلى زمن حمورابي.

ص: 192

وبلغ من حذق حمورابي أن خلع على سلطانه خلعة من رضاء الآلهة بالرغم من أن قوانينها كانت تمتاز بصبغتها الدنيوية غير الدينية. من ذلك أنه شاد المعابد كما شاد القلاع، واسترضى الكهنة بأن أقام لمردوك وزوجته (إلهي البلد القوميين) في مدينة بابل هيكلاً ضخماً ومخزناً واسعاً ليخزن فيه القمح للإلهين وللكهنة. وكانت هاتان الهديتان وأمثالهما في واقع الأمر بمثابة مال يستثمر أبرع استثمار، جنى منه ربحاً وفيراً هو الطاعة الممتزجة بالرهبة التي يقدمها إليه الشعب. واستخدم ما حصل عليه من الضرائب في تدعيم سلطان القانون والنظام، واستخدم ما تبقى بعد ذلك في تجميل عاصمة ملكه، فأنشأت القصور والهياكل في جميع نواحيها، وأقيم جسر على نهر الفرات حتى تمتد المدينة على كلتا ضفتيه، وأخذت السفن التي لا يقل بحارتها عن تسعين رجلاً تمخر عباب النهر صاعدة فيه ونازلة، وأضحت بابل قبل ميلاد المسيح بألفي عام من أغنى البلاد التي شهدها تاريخ العالم قديمه وحديثة

(1)

.

وكان البابليون ساميين في مظهرهم سود الشعر سمر البشرة، رجالهم ملتحون، ويضعون على رؤوسهم أحياناً شعراً مستعاراً وكانوا رجالاً ونساء على السواء يطيلون شعر رؤوسهم، وحتى الرجال كانوا أحيانا يرسلون شعرهم في ضفائر تنوس على أكتافهم، وكثيراً ما كان رجالهم ونساؤهم يتعطرون. وكان ثياب الجنسين المألوف مئزراً من نسيج الكتان الأبيض يغطي الجسم حتى القدمين، ويترك إحدى كتفي المرأة عارياً، ويزيد عليه الرجال دثاراً وعباءة، ولما زادت ثروة السكان تذوقوا حب الألوان،

(1)

لقد وصلت بابل من حيث المقومات الأساسية للحضارة في عصر حمورابي بل فيما قبله إلى درجة من الحضارة المادية لم يصل إليها غيرها من مدن آسية إلى وقتنا هذا. من كتاب كرستفر دوسن "بحوث في الدين والحضارة" Enquiries into Religion and Culture المطبوع في نيويورك سنة 1933 ص 107. ولعل من الصواب أن نستثني من هذا التعميم عصر خشيار شاي (اكزركس) الأول في فارس، ومنج هوانج في الصين، وأكبر في الهند.

ص: 193

فصبغوا أثوابهم باللون الأزرق فوق الأحمر أو بالأحمر فوق الأزرق، في صورة خطوط أو دوائر أو مربعات أو نقط. ولم يكونوا كالسومريين حفاة الأقدام بل اتخذوا لهم أخفافاً ذات أشكال حسنة، وكان الذكور في عصر حمورابي يتعممون، وكان النساء يتزين بالقلائد والأساور والتمائم، ويحلين شعرهن المصفف بعقود من الخرز. وكان الرجال يمسكون في أيديهم عصياً ذوات رؤوس منحوتة منقوشة، ويحملون في مناطقهم الأختام الجميلة الشكل التي كانوا يبصمون بها رسائلهم ووثائقهم. وكان كهنتهم يلبسون فوق رؤوسهم قلانس طويلة مخروطية الشكل ليخفوا بها صفتهم الآدمية (10).

وزادت الثروة فأنتجت في بابل ما تنتجه في سائر بلاد العالم. ذلك أن من السنن التاريخية التي تكاد تنطبق على جميع العصور أن الثراء الذي يخلق المدنية هو نفسه الذي ينذر بانحلالها وسقوطها. فالثراء يبعث الفن كما يبعث الخمول؛ وهو يرقق أجسام الناس وطباعهم، ويمهد لهم طريق الدعة والنعيم والترف، ويغري أصحاب السواعد القوية والبطون الجائعة بغزو البلاد ذات الثراء

(1)

. وكان على الحدود الشرقية لهذه الدولة الجديدة قبيلة قوية من أهل الجبال هي قبيلة الكاشيين تحسد البابليين على ما أوتوا من ثروة ونعيم. فلم يمض على موت حمورابي إلا ثمان سنين حتى اجتاحت رجالها دولته، وعاثوا في أرضها فساداً يسلبون وينهبون، ثم ارتدوا عنها، ثم شنوا عليها الغارة تلو الغارة، واستقروا آخر الأمر فيها فاتحين حاكمين، وهذه هي الطريقة التي تنشأ بها عادة طبقة السراة في البلاد. ولم يكن هؤلاء الفاتحون من نسل الساميين ولعلهم كانوا من نسل جماعة المهاجرين الأوربيين جاءوا إلى موطنهم الأول في العصر الحجري الحديث، ولم تكن غلبتهم على أهل بابل الساميين إلا حركة أخرى من حركات الهجوم والارتداد التي طالما حدثت في غرب آسية. وظلت بلاد بابل بعد هذا الغزو عدة قرون

(1)

وازن بين هذا وبين ما جاء في مقدمة ابن خلدون في هذا المعنى. (المترجم)

ص: 194

مسرحاً للاضطراب العنصري والفوضى السياسية اللذين وقفا في سبيل كل تقدم في العلوم والفنون (11). ولدينا صورة واضحة من هذا الاضطراب الخانق في رسائل تل العمارنة التي يستغيث فيها أقيال بابل وسوريا بمصر التي كانوا يؤدون إليها خراجا متواضعاً بعد انتصارات تحتمس الثالث، ويتوسلون إليها أن تمد إليهم يدها لتعينهم على الثوار والغزاة. وفيها أيضاً يتجادلون في قيمة ما يتبادلونه من الهدايا مع أمنحوتب الثالث الذي يترفع عليهم، ومع إخناتون الذي أهملهم وانهمك في غير شؤون الحكم

(1)

.

وأُخرج الكاشيون من أرض بابل بعد أن حكموها ما يقرب من ستة قرون اضطربت فيها أحوال البلاد وتمزقت، كما اضطربت أحوال مصر وتمزقت في عهد الهكسوس. ودام الاضطراب بعد خروجهم أربعمائة عام أخرى حكم بابل في أثنائها حكام خاملون ليس في أسمائهم الطويلة اسم واحد جدير بالذكر

(2)

. ودام عهدهم حتى قامت دولة أشور في الشمال فبسطت سيادتها على بابل وأخضعتها لملوك نينوى. ولما ثارت بابل على هذا الحكم دمرها سنحريب تدميراً لم يكد يبقى منها على شيء. ولكن عصر هدون، المستبد الرحيم أعاد إليها رخائها وثقافتها. ولما قامت دولة الميديين

(3)

وضعف الآشوريون استعان نبوبولصر بالدولة الناشئة على تحرير

(1)

رسائل تل العمارنة رسائل مملة في صيغتها ملئت كلها ملقاً ودهاناً، وجدلاً، وتوسلاً وشكاية. استمع مثلا إلى ما كتبه بربورياش الثاني ملك كورديناش (في الجزيرة) إلى أمنحوتب الثالث في موضوع تبادل بعض الهدايا الملكية التي غبن فيها بربورياش فيما يظهر "منذ اليوم الذي توطدت فيه أواصر الصداقة بين أمي وأبيك، تبادل الاثنان الهدايا القيمة، ولم يأب أحدهما على الآخر أحسن ما يرغب فيه. أما الآن فإن أخي (أمنحوتب) قد أهداني (فقط) منحين من الذهب. إن عليك أن ترسل لي من الذهب بقدر ما أرسله أبوك؛ فإن كان لا بد أن يقل عنه، فليكن نصف ما كان يرسله. ِلم َلمْ ترسل إلىّ إلا منحين من الذهب؟ "(المنح قدر من الذهب).

(2)

مردك- شبيك- زيرى، نتورا- تدين- شام، أنليل- تدين- أبلى، مردك- شبيك- زرماتي، الخ وما من شك في أن أسمائنا الكاملة إذا وصلت كما وصلت هذه الأسماء تبدو مثلها متنافرة النغمات في آذاننا.

(3)

تكتب أحيانا الماديين وهكذا وردت في التوراة. (المترجم)

ص: 195

بابل من حكم الآشوريين، وأقام فيها أسرة حاكمة مستقلة. ولما مات خلفه في حكم الدولة البابلية الثانية ابنه نبوخد نصر الثاني الذي يسميه كتاب دانيال (13) بالرجل الوغد حقداً عليه وانتقاماً منه. وفي وسع المرء أن يستشف من خطبة نبوخد نصر الافتتاحية لمردك كبير آلهة بابل مرامي الملك الشرقي وأخلاقه:

"إني أحب طلعتك السامية كما أحب حياتي الثمينة! إني لم أختر لنفسي بيتا في المواطن كلها الواقعة خارج مدينة بابل

ليت البيت الذي شدته يدوم إلى الأبد بأمرك أيها الإله الرحيم. ولعلي أشبع ببهائه وجلاله، وأبلغ فيه الشيخوخة، ويكثر ولدي، وتأتي إليَّ فيه الجزية من ملوك الأرض كلها ومن بني الإنسان أجمعين" (14).

وعاش هذا الملك حتى كاد يبلغ السن التي يطمع فيها؛ وكان أقوى ملوك الشرق الأدنى في زمانه وأعظم المحاربين والبنائين والحكام السياسيين من ملوك بابل كلهم لا نستثني منهم إلا حمورابي نفسه. هذا مع أنه كان أمياً، ومع أن عقله لم يكن يخلو من خبال. ولما تآمرت مصر مع أشور لكي تخضع الثانية بابل إلى حكمها مرة أخرى، التقى نبوخد نصر بالجيوش المصرية عند قرقميش (على نهر الفرات الأعلى) وكاد يبيدها عن آخرها. وسرعان ما وقعت فلسطين وسوريا في قبضته، وسيطر التجار البابليون على جميع مسالك التجارة التي كانت تعبر غرب آسية من الخليج الفارسي إلى البحر الأبيض المتوسط.

وأنفق نبوخد نصر ما كان يفرضه على هذه التجارة من مكوس وما كان يجبيه من خراج البلاد الخاضعة لحكمه، وما كان يدخل خزائنه من الضرائب المفروضة على شعبه- أنفق هذا كله في تجميل عاصمته وفي تخفيف نهم الكهنة:"أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها؟ "(15) وقاوم ما كان عساه أن تنزع إليه نفسه من أن يكون فاتحاً عظيماً فحسب. نعم إنه كان يخرج بين الفينة والفينة ليلقي على رعاياه درساً في فضائل الطاعة والخضوع، ولكنه كان يصرف جل وقته في

ص: 196

قصبة ملكه حتى جعل بابل عاصمة الشرق الأدنى كله بلا منازع، وأكبر عواصم العالم القديم وأعظمها أبهة وفخامة (16). وكان نبوبولصر قد وضع الخطط لإعادة بناء المدينة، فلما جاء نبوخد نصر صرف سني حكمه الطويل التي بلغت ثلاثاً وأربعين في إتمام ما شرع فيه سلفه. وقد وصف هيرودوت بابل، وكان قد زارها بعد قرن ونصف من ذلك الوقت، بأنها "مقامة في سهل فسيح، يحيط بها سور طوله ستة وخمسون ميلاً (17) ويبلغ عرضه حداً تستطيع معه عربة تجرها أربعة جياد أن تجري في أعلاه، ويضم مساحة تقرب من مائتي ميل مربع"

(1)

. وكان يجري في وسط المدينة نهر الفرات يحف بشاطئيه النخيل وتنتقل فيه المتاجر رائحة غادية بلا انقطاع، ويصل شطريها جسر جميل

(2)

. وكانت المباني الكبيرة كلها تقريبا من الآجر، وذلك لندرة الحجر في أرض الجزيرة، ولكن هذا الآجر كان يغطى في كثير من الأحيان بالقرميد المنقوش البرَّاق ذي اللون الأزرق أو الأصفر أو الأبيض المزيّن بصور الحيوان أو غيره من الصور البارزة المصقولة اللامعة، ولا تزال تلك الصور حتى هذه الأيام من أحسن ما أخرجته الصناعة من نوعها. وكل آجرة من الآجر الذي استخرج من موقع بابل القديم تحمل هذا النقش الذي يتباهى به الملك الفخور:"أنا نبوخد نصر ملك بابل"(21).

وكان أولَ ما يشاهده القادم إلى المدينة- صرح شامخ كالجبل يعلوه برج عظيم مدرج من سبع طبقات، جدرانه من القرميد المنقوش البرَّاق، يبلغ ارتفاعه 650 قدماً، فوق ضريح يحتوي على مائدة كبيرة من الذهب المصمت

(1)

وأكبر الظن أن هذه المساحة لم تكن تشمل مباني بابل نفسها فحسب، بل كانت تشمل أيضاً في داخل السور مساحة أخرى خلفها من الأراضي الزراعية يراد بها أن تمد العاصمة الكثيرة السكان بما يلزمها من الزاد في أيام الحصار.

(2)

وإذا كان لنا أن نصدق ما قاله ديودور الصقلي فإن نفقاً عرضة خمسة عشر قدماً وارتفاعه اثنتا عشر كان يمتد بين الشاطئين.

ص: 197

وعلى سرير مزخرف تنام عليه كل ليلة إحدى النساء في انتظار مشيئة الإله (22). وأكبر الظن أن هذا الصرح الشامخ الذي كان أعلى من أهرام مصر، وأعلى من جميع مباني العالم في كل العصور إلا أحدثها عهداً، هو "برج بابل" الذي ورد ذكره في القصص العبري، والذي أراد به أهل الأرض ممن لا يعرفون يهوه أن يظهروا به كبرياءهم، فبلبل رب الجيوش ألسنتهم

(1)

. وكان في أسفل الصرح هيكل عظيم لمردُك رب بابل وحاميها. ومن أسفل هذا المعبد تمتد المدينة نفسها من حوله يخترقها عدد قليل من الطرق الواسعة النيرة، وكثير من القنوات والشوارع الضيقة الملتوية التي كانت بلا ريب تعج بالأسواق والحركة التجارية وبالغادين والرائحين. وكان يمتد بين الهياكل القائمة في المدينة طريق واسع مرصوف بالآجر المغطى بالأسفلت يعلوه بلاط من حجر الجير ومجمعات من الحجارة الحمراء تستطيع الآلهة أن تسير فيه دون أن تتلوث أقدامها. وكان على جانبي هذا الطريق الواسع جدران من القرميد الملوّن تبرز منها تماثيل لمائة وعشرين أسداً مطلية بالألوان الزاهية تزمجر لترهب الكفرة فلا يقتربوا من هذا الطريق. وكان في أحد طرفيه مدخل فخم هو باب إستير، ذو فتحتين من القرميد الزاهي المتألق، وتزينه نقوش تمثل أزهارا وحيوانات جميلة الشكل زاهية اللون، يخيل إلى الناظر أنها تسري فيها الحياة

(2)

.

وكان على بعد ستمائة ياردة من برج بابل وإلى شماله ربوة تسمى القصر شاد عليها نبوخد نصر أروع بيت من بيوته. ويقوم في وسط هذا البناء مسكنه الرئيسي ذو الجدران الجميلة المشيدة من الآجر الأصفر، والأرض المفروشة بالخرسان الأبيض والمبرقش، تزين سطوحها نقوش بارزة واضحة زرقاء

(1)

ليس لفظ بابل مشتقا من البلبلة أو الاضطراب كما تقول بعض الأساطير بل معناه كما في "بابلون" باب الإله.

(2)

في متحف الفن الأسيوي في برلين نموذج لباب إستير بحجمه الطبيعي.

ص: 198

اللون، مصقولة براقة، وتحرس مدخله آساد ضخمة من حجر البازلت. وكان بالقرب من هذه الربوة حدائق بابل المعلقة الذائعة الصيت التي كان يعدها اليونان إحدى عجائب العالم السبع، مقامة على أساطين مستديرة متتالية كل طبقة منها فوق طبقة. وكان سبب إنشائها أن نبوخد نصر تزوج بابنة سياخر (سيكسارس) ملك الميديين، ولم تكن هذه الأميرة قد اعتادت على شمس بابل الحارة وثراها، فعاودها الحنين إلى خضرة بلادها الجبلية، ودفعت الشهامة والمروءة نبوخد نصر فأنشأ لها هذه الحدائق العجيبة، وغطى سطحها الأعلى بطبقة من الغرين الخصيب يبلغ سمكها جملة أقدام، لا تتسع للأزهار والنباتات المختلفة ولا تسمح بتغذيتها فحسب، بل تتسع أيضاً لأكبر الأشجار وأطولها جذوراً وتكفي تربتها لغذائها. وكانت المياه ترفع من نهر الفرات إلى أعلى طبقة في الحديقة بآلات مائية مخبأة في الأساطين تتناوب إدارتها طوائف من الرقيق (24). وفوق هذا السطح الأعلى الذي يرتفع عن الأرض خمساً وسبعين قدماً كان نساء القصر يمشين غير محجبات آمنات من أعين السوقة، تحيط بهن النباتات الغريبة والأزهار العطرة، ومن تحتهن في السهول وفي الشوارع كان السوقة من رجال ونساء يحرثون وينسجون، ويبنون، ويحملون الأثقال، ويلدون أبناء وبنات يخلفونهم في عملهم بعدم موتهم.

ص: 199

الفصل الثاني

‌الكادحون

الصيد - الحرث - الطعام - الصناعة -

النقل - أخطار التجارة - المرابون - الرقيق

كان بعض أجزاء البلاد لا يزال على حاله البرية الموحشة الخطرة؛ فكانت الأفاعي تهيم في العشب الكثيف، وكان ملوك بابل وأشور يلهون بصيد الآساد التي تجول في الغابات والتي تقف هادئة للمصورين، ولكنها تفر إذا اقترب منها الصائدون. حقاً إن المدنية ليست إلا فترة عارضة موقوتة تتخلل وحشية الغابات.

وكانت أكثر الأراضي الزراعية يفلحها المستأجرون أو الرقيق وأقلها يحرثها ملاكها الفلاحون (25). وكانت كلها في العهود الأولى تفتتها معازق من الحجر كما كان يفعل المزارعون في العصر الحجري الحديث. وأقدم صورة لدينا تمثل المحراث في بابل هي الصورة المنقوشة على خاتم يرجع عهده إلى حوالي عام 1400 ق. م؛ ولعل هذه الآلة الكريمة النافعة كان وراءها في ذلك الوقت تاريخ طويل في أرض النهرين، ومع هذا فإنها كانت من طراز حديث إلى حد ما. فقد كانت تجرها الثيران كما كان يفعل آباؤنا، ولكنها كانت كمحراث السومريين ذات أنبوبة متصلة بها يخرج منها الحب إلى الأرض كمحاريث أبنائنا (26). ولم يكن أهل بابل يتركون الماء يفيض على الأرض كما كان يتركه أهل مصر، بل كانت كل مزرعة تحميها من الفيضان جسور من التراب لا يزال بعضها باقياً إلى اليوم. وكان الماء الزائد على حاجة الأرض ينصرف إلى شبكة من المصارف أو يخزن في خزانات لها فتحات يخرج منها إلى الحقول وقت الحاجة أو يرفع فوق الحواجز بشواديف. وقد امتاز حكم نبوخد نصر بحفر عدد كبير من

ص: 200

قنوات الري وبتخزين الزائد من الماء في خزان كبير يبلغ محيطه مائة وأربعين ميلاً، تخرج منه قنوات تروى مساحات واسعة من الأرض (27). ولا تزال بقايا هذه القنوات في أرض الجزيرة إلى اليوم. وكأنما أرادت الأقدار أن تربط الأحياء والأموات برباط آخر، فأبقت إلى الآن على الشادوف البدائي في وادي نهري الفرات واللوار (28).

وكانت الأرض التي تروى على هذا النحو تنبت أنواعاً مختلفة من الحبوب والبقول، كما كانت بها بساتين واسعة تنتج الفاكهة والنُّقل، وكانت أكثر ما تنتجه البلح. وكان البابليون يستثمرون ما أنعمت عليهم به الطبيعة من شمس ساطعة وأرض خصبة في صنع الخبز وجمع العسل وعمل الكعك وغيره من أطايب الطعام. وكانوا يصنعون من مزيج العسل والدقيق كثيراً من أشهى الأطعمة وكانوا يلقحون النخل بحمل الطلع من ذكورها إلى إناثها (29). وانتقل الكرم والزيتون من أرض الجزيرة إلى بلاد اليونان والرومان، ثم انتقل منهما إلى غرب أوربا. أما الخوخ فقد انتقل إلى أوربا من بلاد الفرس القريبة من أرض الجزيرة؛ وجاء لوكلس بشجر الكرز من شواطئ البحر الأسود إلى رومة، وأصبح اللبن، وهو الذي كان نادراً في بلاد الشرق، من الأطعمة الرئيسية في بلاد الشرق الأدنى. وكان اللحم قليلاً غالي الثمن، ولكن السمك كان يصاد من المجاري المائية العظيمة، ويصل إلى بطون أفقر الطبقات. فإذا أقبل المساء وخشي الفلاح أن يقلق باله التفكير في الحياة والموت، عمد إلى تهدئة هذه الأفكار بالنبيذ المعصور من البلح أو بالجعة المتخذة من الحَبْ.

وكان غير الفلاحين من الأهلين يحفرون الأرض، ويعثرون فيها على الزيت، ويستخرجون من باطنها النحاس والرصاص والحديد والفضة والذهب. ويصف لنا استرابون كيف كان ما يسميه "النفط أو الأسفلت السائل" يستخرج من

ص: 201

أرض الجزيرة كما كان يستخرج منها اليوم، ويقولون إن الإسكندر حين سمع بأن السائل العجيب ماء يحترق أراد أن يتثبت من هذا القول الذي لم يكد يصدقه، فطلى به جسد غلام وأوقد فيه النار بمشعل (30). وفي مستهل الألف السنة الأولى قبل ميلاد المسيح بدأ الأهلون يصنعون الآلات من البرنز ثم من الحديد، وكانت لا تزال تصنع من الحجر في أيام حمورابي، كما بدأت أيضاً صناعة صهر المعادن وسبكها. وكانوا ينسجون القطن والصوف، وكانت الأقمشة تصبغ وتطرز بمهارة جعلتها من أثمن السلع التي تصدرها بابل إلى خارج بلادها. والتي وصفها كتاب اليونان والرومان أحسن وصف وأثنوا عليها أجمل الثناء (31). كذلك نجد نول النّساج وعجلة الفخراني في أقدم عهود التاريخ البابلي، ويكاد النول والعجلة أن يكونا الآلتين الوحيدتين عند البابليين. وكانت مبانيهم تقام من الطين المخلوط بالقش أو من اللبنات التي كانت توضع بعضها فوق بعض وهي طريقة رطبة تترك حتى تجف وتتماسك بفعل الشمس. ولما رأى القوم أن اللبنات إذا جففت في النار كانت أصلب وأبقى على الزمن منها إذا جففت في الشمس عمدوا إلى حرقها في قماش، ومن ثم انتشرت صناعة الآجر بفضل هذا التطور الطبيعي انتشاراً سريعاً. وكانت الصناعات والحرف كثيرة متباينة، وكثر المهرة من الصناع، وتألفت منهم من عهد حمورابي نقابات كانت (تسمى القبائل) يشترك فيها الصبيان والمعلمون (32).

وكانت تستخدم في النقل عربات تجري على عجل تجرها الحمير (33)، وأول ما ذكر الحصان في السجلات البابلية كان في عام 2100 ق. م، وورد ذكره باسم "الحمار القادم من الشرق"، ويظهر أنه جاء من هضاب آسية الوسطى وأنه غزا بابل مع الكاشيين، كما وصل إلى مصر من الهكسوس (34). ولما استخدمت هذه الوسيلة من وسائل الانتقال والحمل انتشرت التجارة وامتدت من داخل البلاد إلى خارجها، وأثرت بفضلها بابل وأضحت مركز تجارة الشرق الأدنى، وكان انتشارها سبباً في ارتباط أمم البحر المتوسط القديمة ارتباطا

ص: 202

جنت من وراءه الخير والشر على السواء. وسهل نبوخد نصر التجارة بإصلاح الطرق الرئيسية؛ وقال في هذا يُذَكّر المؤرخين بأعماله:

" لقد جعلت من الممرات الوعرة غير المطروقة طرقاً ممهدة صالحة (35). وكانت القوافل التجارية الكثيرة تحمل إلى أسواق بابل وحوانيتها غلات نصف العالم المعروف، فكانت تأتيها من الهند مارة بكابول وهيرات وإكبتانا؛ ومن مصر مارة ببلوزيم وفلسطين؛ ومن آسية الصغرى عن طريق صور وصيدا وسارديس إلى قرقميش، ثم تنحدر جنوباً مع نهر الفرات. وكان لهذه التجارة كلها أثر كبير في عظمة مدينة بابل، فأضحت في أيام نبوخد نصر سوقاً عظيماً يعج بالبضائع والتجار، فخرج منها الأثرياء ينشدون الراحة في مساكن أقاموها في الضواحي. وجدير بالقارئ أن يلاحظ تلك النغمة الحديثة المكتوبة بها الرسالة التي بعث بها أحد سكان الضواحي إلى قورش ملك الفرس (حوالي عام 539 ق. م): "لقد بدت لي ضيعتنا أجمل ضياع العالم؛ ذلك أنها كانت قريبة من بابل قرباً يمكننا أن نستمتع بمزايا المدن العظمى، وكان في وسعنا مع هذا أن نعود إلى بيتنا وننجو مما فيها من تزاحم وقلق" (36).

ولم تفلح الحكومة في إقامة نظام اقتصادي في أرض الجزيرة كالذي أقامه الفراعنة في مصر. فقد كانت التجارة تصادف كثيراً من الأخطار وتفرض عليها شتى الإتاوات. ولم يكن التجار يعرفون أي الأمرين يخشونه أشد من الآخر _ أيخشون اللصوص الذين قد يهاجمونهم في طريقهم، أم يخشون المدن والإقطاعيات التي تفرض عليهم الإتاوات نظير السماح لهم باستخدام طرقها. وكان آمن لهم أن يسيروا كلما استطاعوا في الطريق القومي العام، طريق نهر الفرات نفسه، وقد جعله نبوخد نصر صالحا للملاحة من مصبه في الخليج الفارسي إلى ثبساكس (37 (. وفتحت حروبه في بلاد العرب وغلبته على صور بحار الهند والبحر الأبيض المتوسط إلى التجارة البابلية، ولكن التجار البابليين لم ينتهزوا هذه الفرص السانحة

ص: 203

لارتياد هذه البحار إلا ارتياداً جزئياً، لأن التاجر كانت تكتنفه الأخطاء في كل ساعة من ساعات النهار والليل أينما سار في البحار الواسعة وفي ممرات الجبال وفيافي الصحراء. نعم إن السفائن كانت كبيرة تغالب الأمواج، ولكن الحواجز والصخور كانت كثيرة في البحار، ولم يكن فن الملاحة قد أصبح بعد علماً ذا قواعد وأصول؛ هذا إلى أن لصوص البحار، وسكان الشواطئ الطامعين قد َيغِيُرون على السفن في أية ساعة، وينهبون المتاجر ويأسرون بحارتها أو يقتلونهم (38). وكان التجار يستعيضون عن هذه الخسائر بأن يقصروا أمانتهم على ما تفرضه عليهم الضرورات في كل حالة من الحالات.

لكن هذه الصعاب التجارية قد يسرها بعض التيسير ما كان في البلاد من نظام مالي راق محكم. نعم إن البابليين لم يسكوا النقود، ولكنهم حتى قبل أيام حمورابي كانوا يستخدمون في المقايضة- فضلا عن الشعير والقمح- سبائك الذهب والفضة وسيلة للتبادل ومعياراً لتقدير قيم الأشياء. ولم تكن السبائك المعدنية مختومة أو مطبوعة بل كانت توزن في كل مرة. وكانت أصغر وحدة في العملة هي الشاقل وهو نصف أوقية من الفضة تترواح قيمته بين ريالين ونصف وخمسة ريالات من نقود هذه الأيام. وكانت ستون شاقلاً تكون ميناً وستون ميناً تكون تالنتا وقيمته من 000 ر 10 إلى 000 ر 20 ريال (38). وكانت القروض تتخذ صورة بضائع أو عملة، وكانت فوائدها عالية تحددها الحكومة بعشرين في المائة سنوياً إذا كانت نقوداً، وبثلاثة وثلاثين في المائة إن كانت بضاعة. على أن التجار كانوا يتجاوزن هذين السعرين الرسميين، ويستأجرون مهرة الكتاب ليخادعوا الموكلين بتنفيذ القانون (39)

(1)

. ولم يكن في البلاد مصارف مالية،

(1)

كما كان يحدث في هذه البلاد من عهد غير بعيد، فقد كان المرابون يقرضون الفلاحين بفوائد تبلغ أحيانا 25% في ثلاثة شهور وكانوا يحتالون على القانون بإضافة الفائدة إلى رأس المال ويدعون أن مجموعهما قرض حسن بلا فائدة! (المترجم)

ص: 204

ولكن بعض الأسر القوية كانت تقوم طيلة أجيال متعددة بعملية إقراض النقود، كما كانت تتجر في العقارات وتمول المشروعات الصناعية (40). وكان في وسع من لهم أموال مودعة بين هؤلاء أن يؤدوا التزاماتهم بتحاويل مالية مكتوبة (41). وكان الكهنة أيضاً يقرضون، وأخص ما كانوا يقرضون له من الأغراض هو الزرع والحصاد. وكانت الشرائع في بعض الأحيان تنصر المدين على الدائن. من ذلك أنه إذا رهن فلاح مزرعته، ولم يجن من كدحه محصولاً بسبب العواصف أو الشرَق أو غيرهما من "أفعال الله"، فانه لا يؤدي فوائد على دينه في السنة التي يعجز فيها المحصول (42). ولكن القانون كان في معظم الأحيان يحرص على حماية الملك وتجنيب صاحبه الخسائر، وكان من المبادئ التي تقوم عليها الشرائع البابلية أن ليس من حق إنسان ما أن يقترض مالا إلا إذا رغب في أن يكون مسئولاً مسئولية كاملة عن رده إلى صاحبه؛ ومن أجل هذا كان في وسع الدائن أن يقبض على عبد المدين أو ابنه يتخذه رهينة للدَّين الذي لم يؤده، على ألا يبقى في حوزته أكثر من ثلاث سنين. وكان الربا هو الكارثة التي رزئت بها بلاد بابل والثمن الذي أدته تجارتها، كما تؤديه الآن تجارتنا نحن، نظير ما كان يبعثه نظام الائتمان الواسع من نشاط تجاري عظيم (43).

لقد كانت حضارة البابليين حضارة تجارية بجوهرها، وأكثر ما وصل إلينا من وثائقهم ذو صبغة تجارية- تتصل بالبيوع، والقروض، والعقود، والمشاركة، والسمسرة، والتبادل، والوصايا، والاتفاقات والسفاتج، وما إليها.

ونجد في هذه الألواح شواهد كثيرة تنطق بما كان عليه القوم من ثراء عظيم، وبما كان يسري في نفوسهم من روح مادية استطاعت كما استطاعت في حضارات أخرى غير حضارتهم أن تفوق بين التقوى والشره. فنحن نرى في آدابهم دلائل كثيرة على الحياة النشيطة الراضية المرضية، ولكننا نجد أيضاً في كل ناحية من نواحيها ما يذكرنا بما كان يسري في الثقافات جميعها من استرقاق. وأكثر ما تلذ

ص: 205

لنا قراءته من عقود البيع التي وصلت إلينا من عهد نبوخد نصر، العقود المتصلة بالعبيد (44). وكان مصدر هؤلاء العبيد أسرى الحروب، والغارات التي يشنها البدو الرُّحّل على الولايات الأجنبية، ونشاط العبيد أنفسهم في التناسل. وكان ثمن الأرقاء يختلف من عشرين ريالا إلى خمسة وستين للمرأة، ومن خمسين ريالاً إلى مائة ريال للرجل (45). وكان هؤلاء العبيد هم الذين يؤدون معظم الأعمال العضلية في المدن، وتدخل في هذه الأعمال الخدمات الشخصية.

وكانت الجواري ملكا خالصاً لمن يبتاعهن، وكان ينتظر منهن أن يمهدن له فراشه ويهيئن له طعامه، وكان المعروف أنه سيستولدهن عدداً كبيراً من الأبناء، فإذا رأت بعضهن أنهن لم يعاملن هذه المعاملة يشعرن بالإهمال والإهانة (46). وكان العبد وكل ما ملكت يداه ملكاً لسيدة: من حقه أن يبيعه أو يرهنه وفاء لدين؛ ومن حقه أن يقتله إذا ظن أن موته أعود عليه بالفائدة من حياته. وإذا أبق العبد فان القانون لا يبيح لأحد أن يحميه، وكانت تقدّر جائزة لمن يقبض عليه. وكان من حق الدولة أن تجنده كما تجند الفلاح الحر للخدمة العسكرية أو تسخره للقيام ببعض الأعمال العامة كشق الطرق، وحفر القنوات. لكنه كان له على سيده أن يؤدي عنه أجر الطبيب، وأن يقدم له كفايته من الطعام إذا مرض أو تعطل عن العمل أو بلغ سن الشيخوخة. وكان من حقه أن يتزوج بحرّة فإذا رزق منها أبناء كانوا أحراراً، فإذا مات مَن هذا شأنه كان نصف أملاكه من حق أسرته. وكان سيده أحياناً يكل إليه أعمالاً من الأعمال التجارية، وكان من حقه في هذه الحال أن يحتفظ ببعض أرباح العمل وأن يبتاع بها حريته، وكان سيده يعتقه أحيانا إذا أدى له خدمة ممتازة، أو خدمه زمناً طويلاً بأمانة وإخلاص. ولكن هذا النوع الأخير من الحرية لم ينله إلا القليلون من العبيد. أما كثرتهم فكانوا يقنعون من حياتهم بكثرة الأبناء، حتى صاروا أكثر عدداً من الأحرار. فكانت طبقة الأرقاء الكبيرة تتحرك كأنها نهر تحتي جيّاش يجري تحت قواعد الدولة البابلية.

ص: 206

الفصل الثالث

‌القانون

قانون حمورابي - سلطة الملك - تحكيم

الآلهة - القصاص - أنواع العقاب - قوانين الأجور

والأثمان - رد البضائع المسروقة عن طريق الدولة

وطبيعي أن مجتمعاً كهذا لا تدور بخلده فكرة الديمقراطية؛ ذلك أن نزعته الاقتصادية تتطلب أن تكون له حكومة ملكية مطلقة تسندها الثروة التجارية أو الامتيازات الإقطاعية، ويحميها توزيع حكيم للعنف القانوني. وكان كبار الملاك، ومن حل محلهم بالتدريج من التجار الأثرياء، هم الذين أعانوا الدولة على الاحتفاظ بنظامها الاجتماعي، كما كانوا هم الواسطة بين الشعب ومليكه. وكان الملك يورث عرشه لمن يختاره من أبنائه بلا تفريق بينهم، ومن ثم كان كل واحد من هؤلاء الأبناء يعد نفسه ولياً للعهد ويجمع حوله عصبة تناصره، وكثيراً ما كان يشن الحرب على أخوته إذا لم تحقق آماله (47). وكان يدير دولاب الحكومة في نطاق هذه القواعد التعسفية عدد من كبار الموظفين الإداريين في العاصمة وفي الأقاليم، يعينهم الملك. وكان إلى جانبهم جمعيات إقليمية أو بلدية مؤلفة من أعيان البلاد أو شيوخها يسدون النصيحة إلى هؤلاء الحكام، ويقفونهم عند حدودهم إذا تجاوزها. وقد استطاع هؤلاء أن يحتفظوا للولايات بقسط موفور من الحكم حتى في أيام سيطرة الآشوريين (48).

وكان كل موظف إداري، كما كان الملك نفسه في معظم الأحوال، يعترف بسلطان كتاب القانون العظيم الذي تحدد وضعه وصيغته في عهد حمورابي، ويسترشد به. وقد ظل هذا القانون العظيم محتفظاً بجوهره خمسة عشر قرناً كاملاً رغم ما طرأ على أحوال البلاد من تغيير، ورغم ما أدخل

ص: 207

عليه من تفاصيل. وكان تطوره يهدف إلى استبدال العقوبات الدنيوية بما كان فيه من عقوبات دينية، كان يهدف إلى استبدال الرحمة بالقسوة والغرامات المالية بالعقوبات البدنية. مثال ذلك أن محاكمة المتهمين كانت في الأيام الأولى توكل إلى الآلهة. فإذا اتهم رجل بممارسة السحر، أو اتهمت امرأة بالزنا، طلب إليهما أن يقفزا على نهر الفرات، وكانت الآلهة على الدوام في جانب أقدر المتهمين على السباحة، فإذا نجت المرأة من الغرق كانت نجاتها برهانا على براءتها؛ وإذا غرق "الساحر" آلت أملاكه إلى من اتهمه، أما إذا نجا من الغرق فإنه يستولي على أملاك متهمه (49). وكان القضاة الأولون من الكهنة، وظلت الهياكل (50) مقر معظم المحاكم إلى آخر تاريخ البابليين، لكن محاكم غير دينية لا تسأل عن أحكامها إلا أمام الحكومة أخذت من أيام حمورابي نفسه تحل محل المراكز القضائية التي كان يرأسها الكهنة.

وقام العقاب في أول الأمر على مبدأ قانون القصاص "النفس بالنفس والعين بالعين". فإذا كسر إنسان لرجل شريف سناً، أو فقأ له عيناً، أو هشم له طرفاً من أطرافه، حل به نفس الأذى الذي سببه لغيره (51). وإذا انهار بيت وقتل من اشتراه حكم بالموت على مهندسه أو بانيه؛ وإذا تسبب عن سقوطه موت ابن الشاري حكم بالموت على ابن البائع أو الباني؛ وإذا ضرب إنسان بنتاً وماتت لم يحكم بالموت على الضارب بل حكم به على ابنته (52). ثم استبدل بهذه العقوبات النوعية شيئاً فشيئاً غرامات مالية، وبدأ ذلك بأن أجيز دفع فدية مالية بدل العقوبة البدنية (53) ثم أصبحت الفدية بعدئذ العقوبة الوحيدة التي يجيزها القانون. فكانت جزاء فقء عين السوقي ستين شاقلا من الفضة، فإذا فقئت عين عبد كان جزاء فقئها ثلاثين (54). ذلك أن العقوبة لم تكن تختلف باختلاف خطورة الجريمة وحسب، بل كانت تختلف أيضاً باختلاف مركز الجاني والمجني عليه. فإذا ارتكب أحد السراة جريمة كان عاقبه أشد من عقاب السوقي إذا ارتكب الجريمة نفسها، أما الجريمة التي ترتكب ضد أحد الأشراف فقد كانت غالية

ص: 208

الثمن. وإذا ضرب أحد السوقة آخر من طبقته غرم عشرة شواقل أو ما يقرب من خمسين ريالاً، فإذا ما ضرب شخصاً ذا لقب أو ذا مال غرم سبعة أضعاف هذا المبلغ (55). وإلى هذه العقوبات الرادعة كانت هناك عقوبات همجية هي بتر الأعضاء والإعدام. فإذا ضرب رجل أباه ُجوزِي بقطع يده (56). وإذا تسبب طبيب أثناء عملية جراحية في موت المريض أو في فقد عين من عينيه قطعت أصابع الطبيب (57). وإذا استبدلت قابلة طفلاً بآخر عن علم بفعلتها قطع ثدياها (58). وكانت جرائم كثيرة يعاقب عليها بالموت، منها هتك العرض، وخطف الأطفال، وقطع الطرق، والسطو، والفسق بالأهل، وتسبب المرأة في قتل زوجها لتتزوج بغيره، ودخول كاهنة خمارة أو فتحها إياها، وإيواء عبد آبق، والجبن في ميدان القتال، وسوء استعمال الوظيفة، وإهمال الزوجة شئون بيتها أو سوء تدبيرها إياها (59)، وغش الخمور (60). بهذه الوسائل التي دامت آلاف السنين استقرت التقاليد والعادات التي أدت إلى حفظ النظام وضبط النفس، والتي أضحت فيما بعد عن غير قصد جزءاً من الأسس التي قامت عليها الحضارة.

وكانت الدولة تحدد أثمان السلع والأجور والأتعاب داخل نطاق بعض الحدود. فأجر الجراح مثلاً كان يقرره القانون، وحدّد قانون حمورابي أجور البنّائين، وضاربي الطوب، والخياطين، والبنائين بالحجارة، والنجارين، والبحارة، والرعاة، والفعلة (61). وخص قانون الوراثة أبناء الرجل بتركته دون زوجته، فجعلهم ورثته الطبيعيين الأقربين؛ فإذا مات رجل عن زوجته كان لها الحق في مهرها وفي هدية عرسها وظلت ربة البيت مادامت على قيد الحياة. ولم يكن حق الميراث محصوراً في الابن الأكبر بل كان الأبناء كلهم سواسية في الميراث، ومن ثم لم تلبث الثروات الكبرى أن تقسمت وتقسمت، فامتنع بذلك تركزها في أيدي قلائل (62). وكان القانون يعد الملكية الفردية للعقار والمنقولات أمراًِ مسلماً به لا جدال فيه.

ص: 209

ولم نجد في الوثائق ما يستدل منه على وجود المحامين في بابل إلا إذا اعتبرنا من المحامين القسيسين الذين كانوا يعملون موثقين للعقود، والكتبة الذين كانوا يكتبون كل ما يطلب إليهم كتابته من الوصية إلى الأرجوزة نظير أجر يتقاضونه. ولم يكن الناس يشجعون على التقاضي، فقد كانت أول مادة في القانون تنص في بساطة تكاد تكون غير (قانونية!). على أنه "إذا اتهم رجل آخر بجريمة (يعاقب عليها بالإعدام) ثم عجز عن إثباتها حكم على المدعي نفسه بالإعدام"(63). وثمة شواهد دالة على وجود الرشوة وإفساد الشهود (64)، وكانت في مدينة بابل محكمة استئناف يحكم فيها (قضاة الملك)، وكان في وسع المتقاضين أن يرفعوا استئنافاً نهائياً إلى الملك نفسه. وليس في شرائع بابل ما يفيد وجود حق للفرد قِبَل الدولة؛ بل كان الفضل في وضع النص على هذا الحق فضل الأوربيين. غير أنه إذا لم يوفر القانون للأهلين الحماية السياسية فلا أقل من أنه قد وفر لهم في المواد 22، 23، 24 الحماية الاقتصادية:"إذا ارتكب رجل جريمة السطو وقبض عليه، حكم على ذلك الرجل بالإعدام. فإذا لم يقبض عليه كان على المسروق منه أن يدلي، في مواجهة الإله، ببيان مفصل عن خسائره؛ وعلى المدينة التي ارتكبت السرقة في داخل حدودها والحاكم الذي ارتكبت في دائرة اختصاصه أن يعوضاه عن كل ما فقده. فإذا أدى السطو إلى خسارة في الأرواح دفعت المدينة ودفع الحاكم مينا (300 ريال) إلى ورثة القتيل".

فهل ثمة في هذه الأيام مدينة بلغ صلاح الحاكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض على من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها مثل هذا التعويض؟ وهل ارتقت الشرائع حقا عما كانت عليه أيام حمورابي، أو أن كل الذي حدث لها أن تعقدت وتضخمت؟

ص: 210

الفصل الرابع

‌آلهة بابل

الدين والدولة - واجبات الكهنة وسلطانهم - الآلهة

الصغار - مردك - إشتار - القصص البابلية عن خلق

العالم والطوفان - حب إشتار وتموز - نزول إشتار إلى

الجحيم - موت تموز وبعثه - الطقوس الدينية والصلوات

تسابيح التوبة - الخطيئة - السحر - الخرافات

لم تكن سلطة الملك يقيدها القانون وحده ولا الأعيان وحدهم، بل كان يقيدها أيضاً الكهنة. ذلك أن الملك لم يكن من الوجهة القانونية إلا وكيلاً لإله المدينة، ومن أجل هذا كانت الضرائب تفرض باسم الإله، وكانت تتخذ سبيلها إلى خزائن الهياكل إما مباشرة أو بشتى الأساليب والحيل. ولم يكن الملك يعد ملكاً بحق في أعين الشعب إلا إذا خلع عليه الكهنة سلطته الملكية، و "أخذ بيد بِل"، واخترق شوارع المدينة في موكب مهيب ممسكاً صورة مردك. وكان الملك في هذه الاحتفالات يلبس زي الكاهن، وكان هذا رمزاً إلى اتحاد الدين والدولة، ولعله كان أيضاً يرمز إلى أصل الملكية الكهنوتي. وكانت تحيط بعرشه جميع مظاهر خوارق الطبيعة، ومن شأن هذه كلها أن تجعل الخروج عليه كفراً ليس كمثله كفر، لا يجزى من يجرؤ عليه بضياع رقبته فحسب، بل يجزى أيضاً بخسران روحه. وحتى حمورابي العظيم نفسه تلقى قوانينه من الإله. ولقد ظلت بلاد بابل في واقع الأمر دولة دينية "خاضعة لأمر الكهنة" على الدوام (65) من أيام الباتسيين أو القساوسة- الملوك السومريين إلى يوم تتويج نبوخد نصر.

وزادت ثروة الهياكل جيلاً بعد جيل كلما اقتسم الأثرياء المذنبون أرباحهم من الآلهة. وكان الملوك يشعرون بشدة حاجتهم إلى غفران الآلهة فشادوا لهم الهياكل، وأمدوها بالأثاث والطعام والعبيد، ووقفوا عليها

ص: 211

مساحات واسعة من الأرض، وخصوها بقسط من إيراد الدولة يؤدونه إليها في كل عام. فإذا ما غنم الجيش واقعة حربية كان أول سهم من الغنائم ومن الأسرى من نصيب الهياكل، وإذا أصاب الملك مغنماً قدمت الهدايا العظيمة للآلهة. وكان يفرض على بعض الأراضي أن تؤدي للهياكل ضريبة سنوية من التمر والحب والفاكهة؛ فإذا لم تؤدها نزعت الهياكل ملكيتها، وانتقلت هذه الملكية للكهنة أنفسهم في أغلب الأحوال. وكان الفقراء والأغنياء على السواء يخصصون للهياكل من مكاسبهم الدنيوية القدر الذي يظنون أنه يتفق ومصلحتهم الخاصة، وبذلك تكدس في خزائن الهياكل الذهب، والفضة، والنحاس، واللازورد، والجواهر، والأخشاب النفيسة.

وإذ لم يكن في مقدور الكهنة أن يستخدموا هذه الثروة كلها أو يستنفذوها فقد حولوها إلى رأس مال منتج أو مستثمر، وأصبحوا بذلك أعظم القوامين على الشئون الزراعية والصناعية والمالية في الأمة بأسرها. ولم يكونوا يملكون مساحات واسعة من الأرض فحسب، بل كانوا يملكون فوق ذلك عدداً عظيمة من العبيد، ويسيطرون على مئات من العمال، يؤجرونهم بغيرهم من أصحاب الأعمال، أو يسخرونهم لخدمة الهياكل بالعمل في حرف لا حصر لها، تختلف ما بين عزف على الآلات الموسيقية إلى عصر الخمور (66). كذلك كان الكهنة أعظم تجار بابل ورجال المال فيها، وكانوا يبيعون ما في حوانيت المعابد من سلع مختلفة، ويساهمون بقسط موفور في تجارة البلاد. وقد عرف عنهم أنهم من أحكم الأهلين في استثمار الأموال، ولهذا عهد إليهم الكثيرون استثمار أموالهم المدخرة لوثوقهم من أنهم سيحصلون منها على أرباح مضمونة وإن لم تكن موفورة. وكانوا يقرضون المال بشروط أرحم من الشروط التي يقرضها بها غيرهم من الأفراد؛ وكانوا في بعض الأحيان يقرضون المرضى والفقراء بغير فائدة، لا يطلبون إلا رؤوس أموالهم حين يبسم مردك للمقترض من جديد (67). وكانوا

ص: 212

إلى هذا كله يؤدون بعض الأعمال العامة، فكانوا يعملون في توثيق العقود، ويشهدون عليها، ويوقعونها بأسمائهم، ويكتبون الوصايا، ويستمعون إلى القضايا والمحاكمات ويفصلون فيها، ويحفظون السجلات الرسمية، ويسجلون الأعمال التجارية.

وكان الملك أحياناً يصادر بعض أموال الهياكل إذا واجه أزمة تتطلب المال الكثير. ولكن هذا كان عملاً نادراً شديد الخطورة، لأن الكهنة كانوا يصبون أشد اللعنات على كل من يمس أقل شيء من الأملاك الدينية بغير إذن منهم. هذا إلى أن نفوذهم لدى الأهلين كان أعظم من نفوذ الملك نفسه، وكان في وسعهم في بعض الأحيان أن يخلعوه عن عرشه إذا راجعوا أمرهم وسخروا ذكائهم وقواهم لهذه الغاية. يضاف إلى هذا أنهم يمتازون بالدوام والخلود؛ ذلك أن الملك يموت أما الإله فمخلد، ومن أجل هذا كان مجمع الكهنة الآمن من تقلبات الانتخاب، وأخطار المرض، والاغتيال والحرب، هيئة دائمة في مقدورها أن تضع الخطط الطويلة الأجل، وهي ميزة لا تزال تتمتع بها الهيئات الدينية الكبرى إلى هذا اليوم. كل هذه ظروف جعلت للكهنة سلطاناً فوق كل سلطان وكأن الأقدار قد شاءت أن تقوم بابل على جهود التجار، وأن يستمتع بخيراتها الكهنة.

ترى ما هي تلك الآلهة التي كانت الشرطة الخفية للدولة البابلية؟ لقد كانت هذه الآلهة كثيرة العدد، لأن الأهلين كان لهم في خلقها خيال واسع لا ينضب معينه، ولم يكن ثمة حد للخدمات التي يمكن أن تؤديها لهم آلهتهم. وقد أحصي عدد الآلهة إحصاء رسمياً في القرن التاسع قبل الميلاد فكانوا حوالي 005 ر 65 (68). ذلك أن كل مدينة كان لها رب يحميها، وكان يحدث في بابل ودينها ما يحدث عندنا اليوم في ديننا نحن. فقد كانت للمقاطعات والقرى آلهة صغرى تعبدها وتخلص لها، وإن كانت تخضع رسمياً

ص: 213

للإله الأعظم. فقد أقيمت في لارسا الهياكل الكثيرة لشمش، ولإشتار في أورك، ولننار في أور- ذلك أن الآلهة السومرية لم ينقض عهدها بانقضاء عهد دولة السومريين. ولم يكن الآلهة بمنأى عن الأهلين، فقد كان معظمهم يعيشون على الأرض في الهياكل، يأكلون الطعام بشهية قوية، ويزورون الصالحات من النساء في أثناء الليل فيستولدونهن أطفالاً لم يكن أهل بابل العاملون المجدون يتوقعون أن يولدوا لهم (69). وأقدم الآلهة كلهم آلهة السماء وما فيها: أنو السماء الثابتة، وشمش الشمس، وننار القمر، وبل أو بعل الأرض التي يعود كل البابليين إلى صدرها بعد مماتهم (70). وكان لكل أسرة آلهتها المنزلية تقام إليها الصلاة، وتصب إليها الخمور في كل صباح ومساء، وكان لكل فرد رب يحميه (أو ملك يحرسه كما نقول نحن بلغة هذه الأيام)، يرد عنه الأذى والسرور؛ وكان جن الخصب يحومون فوق الحقول ليباركوها. ولعل اليهود قد صاغوا ملائكتهم من هذا الحشد العظيم من الأرواح.

ولسنا نجد عند البابليين شواهد على التوحيد كالتي ظهرت في عهد إخناتون وعهد إشعيا الثاني؛ على أن قوتين من القوى قد قربتاهم من هذا التوحيد، أولهما اتساع رقعة دولتهم عقب الحروب، وهذا الاتساع أخضع آلهتهم المحلية لسلطان إله واحد؛ والقوة الثانية أن كثيراً من المدن كانت تخلع على إلهها الخاص المحبب لها السلطان الأعلى والقدرة على كل شيء. من ذلك قول نبو مثلاً:"آمن بنبو، ولا تؤمن بغيره من الآلهة"(71). ولا يختلف هذا القول كثيراً عن الوصية الأولى من وصايا اليهود. وقل عدد الآلهة شيئاً فشيئاً بعد أن فسرت الآلهة الصغرى بأنها صور أو صفات للآلهة الكبرى. وعلى هذا النحو أصبح مردك إله بابل- وكان في بادئ الأمر من آلهة الشمس- كبير الآلهة البابلية (72). ومن ثم لقب ِبل- مردك أي مردك الإله وإليه وإلى إشتار كان البابليون يوجهون أحر صلواتهم وأبلغ دعواتهم.

ص: 214

وليست أهمية عشتار (وهي إستارثي عند اليونان وعشتورت عند اليهود) لدينا مقصورة على أنها شبيهة بإيزيس إلهة المصريين، وعلى أنها النموذج الذي صاغ اليونان على مثاله آلهتهم أفرديتي والرومان فينوس، بل إنها تهمنا فوق ذلك لأنها تبارك عادة من أغرب العادات البابلية، فقد كانت هي دمتر وأفرتيتي معاً- أي أنها لم تكن إلهة جمال الجسم والحب وحسب، بل كانت فوق هذه الإلهة الرحيمة التي تعطف على الأمومة الولود، والموحية الخفية بخصب الأرض، والعنصر الخلاب في كل مكان، ويستحيل علينا، إذا نظرنا إلى صفات إشتار ووظائفها بمنظار هذه الأيام، أن نجد بينها كثيراً من التناسق؛ فقد كانت مثلاً إلهة الحرب والحب، وإلهة العاهرات والأمهات؛ وكانت تسمي نفسها "المحظية الرحيمة"(73). وكانت تصور أحيانا في صورة إلهة ملتحية تجمع بين صفات الذكران والإناث؛ وأحياناً في صورة امرأة عارية تقدم ثدييها للرضاعة (74). ومع أن عبادها كثيرون ما يخاطبونها بقولهم "العذراء" و "العذراء المقدسة" و "الأم العذراء"، فان كل ما تعنيه هذه الأقوال أن حبها كان مبرأ من دنس الزواج. وقد رفض جلجميش أن يتزوج بها حين عرضت عليه الزواج، وحجته في ذلك أنه لا يوثق بها، ألم تحب في يوم من الأيام أسداً وأغوته، ثم قتلته (75)؟

وجلي أننا يجب أن نتغاضى عن قانوننا الأخلاقي إذا شئنا أن نفهم مقام هذه الألهة على حقيقتها. فليتأمل القارئ تلك الحماسة القوية التي يرفع بها البابليون إلى مقامها العظيم تسابيح الحمد التي لا يكاد يفوقها في روعتها إلا تلك التسابيح التي كان الأتقياء من المسيحيين يرفعونها فيما مضى لمريم أم المسيح:

أتوسل إليكِ يا سيدة السيدات، يا ربة الربات، يا إشتار، يا ملكة المدائن كلها، ويا هادية كل الرجال.

أنتِ نور الدنيا، أنتِ نور السماء، يا ابنة سن العظيم (إله القمر)

ألا ما أعظم قدرتك، وما أعظم مقامك فوق الآلهة أجمعين.

ص: 215

أنت تحكمين وحكمك عدل.

وإليك تخضع قوانين الأرض وقوانين السماء.

وقوانين الهياكل والأضرحة، وقوانين المساكن الخاصة والغرف الخفية.

أين المكان الذي لا يذكر فيه اسمك، وأين البقعة التي لا تعرف فيها أوامرك؟

إذا ذكر اسمك اهتزت لذكراه الأرض والسماوات، وارتجفت له الآلهة

إنك تنظرين إلى المظلومين، وتنصفين في كل يوم المهانين المحتقرين

إلى متى يا ملكة السماء والأرض، إلى متى؟

إلى متى يا راعية الرجال الشاحبي الوجوه تتمهلين؟

إلى متى، أيتها الملكة التي لا تكل قدماها، والتي تسرع ركبتاها؟

إلى متى يا سيدة الجيوش، يا سيدة الوقائع الحربية؟

يا عظيمة، يا من تهابك كل أرواح السماء

ويا من تخضعين كل الآلهة الغضاب،

ويا قوية فوق كل الحكام،

ويا من تمسكين بأعنة الملوك؟

يا فاتحة أرحام جميع الأمهات، ما أجل سناك!

يا نور السماء البراق، يا نور العالم،

يا من تضيئين كل الأماكن التي يسكنها بنو الإنسان،

يا من تجمعين جيوش الأمم

يا إلهة الرجال، ويا ربة النساء، إن مشورتك فوق متناول العقول.

حيث تتطلعين تعود الحياة إلى الموتى، ويقوم المرضى ويمشون، ويشفى عقل المريض إذا نظر إلى وجهك

إلى متى، أيتها السيدة، ينتصر عليّ عدوي؟

فمُري، فمتى أمرت ارتد الإله الغضوب

إن إشتار عظيمة! إشتار ملكة! سيدتي، جليلة القدر، سيدتي ملكة، إنينى، ابنة سِنْ القوية. ليس لها مثيل (76).

ص: 216

واتخذ البابليون هذه الآلهة شخصيات نسجوا حولها أساطيرهم التي وصل إلينا معظمها عن طريق اليهود، وأضحت جزءاً من قصصنا الديني. وأول ما نذكره من قصصهم قصة الخلق. فقد كان في أول الأمر عماء "ففي الوقت الذي لم يكن فيه شيء عال يسمى السماء، ولم يكن شيء وطئ يسمى الأرض، جاء أبو المحيط، وكان أبا الأشياء أول الأمر، وتيامات العماء، التي ولدتها كلها، وخلطا ماءهما معا"، وبدأت الأشياء تنمو على مهل وتتخذ لها أشكالاً، ولكن تيامات الآلهة المهولة شرعت تبيد كل الآلهة الآخرين، لتجعل نفسها- العماء- صاحبة المقام الأعلى. وأعقبت هذا ثورة عنيفة اضطرب منها كل نظام. ثم جاء إله آخر هو مردك وقتل تيامات بدوائها هي. وذلك بأن دفع في فمها ريحاً عاصفة حين فتحته لتبتلعه. ثم طعنها برمح في بطنها الذي انتفخ بما دخله من الريح، فانفجرت إلهة العماء. وتقول القصص بعدئذ أن مردك "عاد إلى هدوئه" فقسم تيامات ميتة قسمين مستطيلين، كما يقسم الإنسان السمكة ليجففها، "ورفع أحد النصفين إلى الأعلى فكان هو السماء، وبسط النصف الآخر تحت قدميه فكان الأرض"(77). هذا كل ما وصل إلى علمنا حتى الآن عن قصة الخلق عند البابليين. ولعل الشاعر القديم أراد أن يوحي إلينا بهذه القصة أننا لا نعرف عن بداية الخلق إلا أن النظام قد استبدل بالفوضى والعماء، لأن هذا في آخر الأمر هو جوهر الفن والحضارة. على أننا يجب ألا يغرب عن بالنا أن هزيمة العماء ليست إلا أسطورة من الأساطير

(1)

.

ولما أن فتق مردك السماء والأرض ووضعهما في مكانيهما، شرع يعجن الأرض بدمائه ويصنع الناس لخدمة الآلهة. وتختلف القصص البابلية في وصف الطريقة

(1)

وكتبت قصة الخلق البابلية على سبعة ألواح (كل يوم من أيام الخلق على لوح) وقد وجدت في خرائب مكتبة أشور بانيبال في قويونجك (نينوى) في عام 1854 م. وهذه الألواح نسخة من قصة انحدرت إلى بابل وأشور من بلاد سومر. والمؤلف يريد بقوله: "إن استبدال العماء بالفوضى أسطورة" إن الفوضى لا تزال تضرب أطنابها في الأرض وأنها لا تكاد تزول منها حتى تعود إليها. (المترجم).

ص: 217

الدقيقة التي تم بها صنع الإنسان، ولكنها تتفق كلها بوجه عام في أن القول بأن الإله صنع الإنسان من قطعة من الطين، وهي لا تصفه بأنه كان يعيش في بادئ الأمر في جنة بل تقول إنه كان يعيش عيشة حيوانية في جهل وبساطة حتى جاءه وحش مهول يدعى أونس نصف سمكة ونصف فيلسوف، وعلمه الفنون والعلوم وتخطيط المدن ومبادئ القانون؛ ولما علمه إياها نزل إلى البحر وكتب كتاباً في تاريخ الحضارة (79). غير أن الآلهة لم تلبث أن غضبت على الناس الذين خلقتهم، فأرسلت عليهم طوفاناً عارماً لتهلكهم وتمحو به سيئ أعمالهم. وأشفق إي إله الحكمة على البشر واعتزم أن ينجي منهم على الأقل رجلاً واحداً هو شمش- نيشتين وزوجته. "وظل الطوفان مهتاجاً؛ وغص البحر بالخلق كأنهم سرء السمك". ثم بكت الآلهة على حين غفلة وعضت بنان الندم على غفلتها وسوء تدبيرها وتساءلت "عمن سيقرب لها القربان المعتاد؟ "، ولكن شمش- نيشتين كان قد بنى فلكاً ونجا من الطوفان وحط على جبل نزير، وأرسل يمامة تستطلع؛ ثم قرر أن يقرب القربان للآلهة، وقبلت الآلهة قربانه وهي مندهشة شاكرة. "وشمت الآلهة الرائحة، شمت الآلهة الرائحة الزكية، واجتمعت كالذباب فوق القربان"(80).

وأجمل من هذه الذكرى الغامضة، ذكرى الطوفان المخرب، أسطورة إشتار وتموز. وكان تموز حسب نص القصة السومري أخاً أصغر لإشتار، أما في النص البابلي فهو أحياناً حبيبها وأحيانا ابنها. ويلوح أن كلا النصين قد سرى إلى أسطورة فينوس (الزهرة) وأدنيس، وأسطورة دمتر وبرستون، وإلى عشرات العشرات من القصص الأخرى التي تتحدث عن الموت والبعث. وتموز هذا، ابن الإله العظيم إي، راع يرعى غنمه تحت أريد الشجرة العظيمة (التي تغطي الأرض كلها بظلها)، وبينما هو يرعاها إذا شغفت بحبه إشتار، وهي دوماً ظمأى إلى الحب، واختارته زوجاً لها في شبابها. ولكن خنزيراً برياً يطعن تموز طعنة

ص: 218

قاتلة فيهوى كما يهوى جميع الموتى إلى الجحيم المظلم تحت الأرض، واسمه أرالو عند البابليين، وكانت تحكمه إرشكجال أخت إشتار التي كانت تغار منها وتحسدها. وتحزن إشتار ويبرح بها الحزن، فتعتزم النزول إلى أرالو لتعيد الحياة إلى تموز وذلك بأن تغسل جروحه في مياه إحدى العيون الشافية. وسرعان ما تظهر عند باب الجحيم في جمالها الرائع وتطلب أن يؤذن لها بالدخول. وتقص الألواح قصتها في صورة واضحة قوية:

فلما سمعت إرشكجال هذا

كانت كمن يقطع الطرفاء (ارتجفت؟)

وكما يقطع الإنسان قصبة (اضطربت؟)

أي شيء حرك قلبها، أي شيء (خفقت له) كبدها؟

يا من هناك، (هل) هذه (تريد أن تقيم) معي؟

وأن تتخذ من الطين طعاماً، وأن تشرب (التراب) خمراً؛

إنني أبكي الرجال الذين فارقوا أزواجهم،

وأبكي النساء اللاتي انتزعن من أحضان أزواجهن؛

والصغار الذين (احتضروا فبل الأوان)،

اذهب أيها الخازن وافتح لها الباب،

وعاملها بمقتضى القرار القديم".

وهذا القرار القديم يقضي بألا يُدخل أرالو إلا العراة. وعلى هذا فإن الخازن يخلع عن عشتار ثوباً من ثيابها أو حلية من حليها عن كل باب يتحتم عليها أن تجتازه: فيخلع عنها أولاً تاجها، ثم قرطيها، ثم عقدها، ثم حلية صدرها، ثم منطقتها ذات الجواهر الكثيرة، ثم الزركشة البراقة التي في يديها وقدميها، ثم يخلع عنها آخر الأمر منطقة حقويها؛ وتمانع إشتار في رقة، ثم تخضع:

فلما نزلت إشتار إلى الأرض التي لا يعود منها من يدخلها

ص: 219

أبصرتها إرشكجال وأغضبها مجيئها.

وألقت إشتار بنفسها عليها من غير تفكير،

وفتحت إرشكجال فاها وتحدثت إلى نمتار رسولها

اذهب، يا نمتار، (واسجنها؟) في قصري،

وسلط عليها ستين مرضاً،

مرض العيون على عينها،

ومرض الجنب على جنبيها،

ومرض الأقدام على قدميها،

ومرض القلوب على قلبها،

ومرض الرأس على رأسها،

على جميع جسدها.

وبينما كانت إشتار حبيسة في الجحيم بما أرسلته عليها أختها، شعرت الأرض بأنها فقدت ما كان يوحي به إليها وجودها على ظهرها، فنسيت جميع الفنون وطرائق الحب، فلم يعد النبت يلقح النبت، وذبلت الخضر، ولم تشعر الحيوانات بحرارة، وامتنع الرجال عن الحنين:

ولما نزلت السيدة إشتار إلى الأرض التي لا يعود منها من يدخلها

لم يعل الثور البقرة، ولم يقرب الحمار الأتان

والفتاة في الطريق لم يقترب منها رجل؛

ونام الرجل في حجرته،

ونامت الفتاة وحدها.

وأخذ السكان يتناقصون، وارتاعت الآلهة حين رأت نقص ما ترسله إليها الأرض من القرابين، واستولى عليها الذعر فأمرت إرشكجال أن تطلق

ص: 220

سراح إشتار، وتصدع إرشكجال بأمر الآلهة، ولكن إشتار تأبى أن تعود إلى ظهر الأرض إلا إذا سمح لها أن تأخذ معها تموز. وتجاب إلى طلبها، وتجتاز وهي ظافرة الأبواب السبعة، وتتسلم منطقة حقويها ثم الزركشة البراقة التي كانت على يديها وقدميها، ثم منطقتها، ثم حلي صدرها، وعقدها، وقرطيها، وتاجها. فلما ظهرت على الأرض نما النبات وأينع من جديد، وامتلأت الأرض طعاماً، وعاد كل حيوان يعمل للإكثار من نسله (81)، وعاد الحب- وهو أقوى من الموت- إلى مكانه الحق سيد الآلهة والأناسي. تلك قصة كل ما يراه فيها عالم اليوم أنها قصة رائعة خليقة بالإعجاب، ترمز في صورة جميلة ممتعة إلى موات التربة وعودتها إلى الحياة في كل عام، إلى ما للحب من قدرة دونها كل قدرة، وصفها لكريتس في شعره القوي حين تحدث عن الزهرة (فينوس). أم البابليون فكانت لهم تاريخاً مقدساً يؤمنون به أقوى إيمان، ويحتفلون بذكرى وقائعه في يوم يحزنون فيه وينتحبون ويبكون تموز الميت، يتلوه يوم يبتهجون فيه ويمرحون وهو يوم بعثه (82).

بيد أن عقيدة الخلود لم يكن فيها ما تبتهج له نفس البابلي. ذلك أن دينه كان ديناً أرضياً عميقاً. فإذا صلى لم يكن يطلب في صلاته ثواباً في الجنة بل كان يطلب متسعاً في الأرض (83)، ولم يكن يثق بآلهته بعد أن يوارى في قبره. نعم إن نصاً من نصوصهم يصف مردك بأنه "الذي يحيي الموتى"(84)، وأن قصة الطوفان تقول أن من نجوا منه قد عاشا أبد الدهر. ولكن فكرة البابليين عن الحياة الآخرة كانت في جملتها شبيهة بفكرة اليونان: فكرة أموات- فيهم قديسون وأنذال، وفيهم عباقرة وبلهاء؛ يذهبون كلهم إلى مكان مظلم في جوف الأرض ولا يرى الضوء من بعد ذلك أحد منهم. وكانت هناك جنة ولكنها اختصت بالإلهة، أما أرالو التي يهبط إليها جميع الناس فكانت داراً للعقاب في معظم الأحوال ولم تكن قط دار نعيم، تقيد فيها أيدي الموتى وأرجلهم أبد الدهر، وترتجف فيها أجسامهم من البرد،

ص: 221

يجوعون فيها ويظمئون إلا إذا وضع أبناءهم لهم الطعام في قبورهم في أوقات معينة (85). ومن كان منهم كثير الذنوب على ظهر الأرض لقي فيها أشد العذاب؛ فسلط عيه الجذام يأكل جسمه أو غيره من الأمراض التي أعدها له ترجال وآلات سيد أرالو وسيدتها ليتطهر بها من ذنوبه.

وكانت أكثر أجسام الموتى تدفن في قباب؛ ومنها ما كان يحرق وهو قليل ثم تحفظ بقاياه في قوارير (86)، ولم تكن الجثث تحنط، ولكن نادبين محترفين كانوا يغسلون الجثة، ويلبسونها ثياباً حسنة، ويصبغون خديها، ويسودون جفونها، ويلبسونها خواتم في أصابعها، ويضعون معها بديلاً من الملابس الداخلية التي تلبسها. وإذا كانت الجثة لامرأة وضعت معها قوارير العطور، والأمشاط، وأقلام الأدهان، وكحل العينين، وذلك لكي تحتفظ بطيب رائحتها وجمال وجهها في الدار الآخرة (87). وكانوا يعتقدون أن الميت إذا لم يدفن على خير وجه عذّب الأحياء؛ وإذا لم يدفن قط حامت روحه حول البالوعات والميازيب تطلب فيها الطعام، وقد تصيب مدينة برمتها بالأوبئة الفتاكة (88). وهذا كله خليط من الأفكار ليست كلها منطقية متماسكة تماسك الهندسة الإقليدية، ولكن فيها ما يكفي لحفز البابلي الساذج على أن يقدم لآلهته وقساوسته كفايتهم من الطعام والشراب.

وكان الطعام والشراب أكثر ما ُيقرّب من القرابين؛ وذلك لأن ما يتبقى منها لا يُتلف حتماً إذا لم يطعمه الآلهة. وكثيراً ما كان الضأن يضحى به على المذابح البابلية، وقد وصلت إلينا رقبة بابلية هي سابقة عجيبة لكبش الفداء عند اليهود والمسيحيين:"الكبش فداء للإنسان، الكبش الذي يفتدي به حياته"(89). وكان تقريب القربان من الطقوس المعقدة التي تتطلب كاهن خبير بشئونها. وكانت التقاليد المتوارثة تقرر كل عمل يعمل، وكل لفظ يقال، فإذا أقدم على هذا العمل شخص هاو غير أخصائي فيه، ثم حاد قيد شعره عن المراسم المقررة، قد يكون معنى هذا أن تأكل الآلهة

ص: 222

الطعام ولا تصغي للدعاء. وكان الدين عند البابليين يُعنى بالمراسم الصحيحة أكثر مما ُيعنى بالحياة الصالحة. فإذا شاء الإنسان أن يؤدي ما يجب عليه نحو الآلهة كان عليه أن يقرب القربان اللائق للهياكل، ويتلو الصلوات والأدعية المناسبة (90). أما فيما عدا هذا فقد كان في وسعه أن يفقأ عين عدوه المهزوم، ويقطع أيادي الأسرى وأرجلهم، ويشوي ما بقى من أجسامهم وهم أحياء (91)، دون أن يؤذي بذلك آلهة السماء.

وكان أهم ما يجب أن يعمله البابلي التقي المستمسك بدينه أو يشترك في المواكب الطويلة المهيبة كالمواكب التي كان الكهنة ينقلون فيها صورة مردك من هيكل إلى هيكل، ويمثلون فيها مسرحية موته وبعثه المقدسة، أو أن يحضر هذه الاحتفالات وهو خاشع، وأن يطلي الأصنام بالزيوت المعطرة

(1)

، ويحرق البخور بين يديها، ويلبسها أحسن الثياب وأغلاها، أو يزينها بالجواهر؛ وأن يقدم عرض ابنته العذراء في احتفال إشتار العظيم وأن يقدم الطعام والشراب للآلهة، وأن يكون كريماً مضيفاً للكهنة (93).

أو لعلنا نظلمه كما سيظلمنا المستقبل بلا ريب حين يحكم علينا بالقليل الذي سوف تبقيه المصادفات المحضة من آثارنا، وتنجيه من عبث الزمان. استمع مثلا إلى ما يقوله نبوخد نصر الفخور مخاطباً مردك في تذلل وخضوع:

إذ لم تكن أنت يا ربي فماذا يكون

للملك الذي تحبه وتنادي باسمه؟

وستبارك لقبه حسب مشيئتك،

وتهديه صراطاً مستقيماً.

أنا الأمير الطائع لك،

باق كما صنعتني يداك؛

(1)

ومن أجل هذا كان تموز يسمى بالمعطر.

ص: 223

إنك أنت خالقي،

وأنت الذي حَكَّمتني في جيوش العباد

وبمقتضى رحمتك، يا مولاي،

بدِّل قوتك الرهيبة حباً ورحمة،

وابعث في قلبي الاحترام لربوبيتك

وهبني ما ترى فيه الخير لي.

هذا وإن الآداب الباقية لنا من عهد البابليين لتكثر فيها الترانيم التي تفيض بالتذلل الحار التي يحاول السامي أن يسيطر به على كبريائه ويخفيه عن الأنظار. وأكثر هذه الترانيم في صورة "أناشيد التوبة" وهي تهيئنا لتلك المشاعر العاطفية والصور الرائعة التي نراها في "مزامير" داود. ومن يدري لعل هذه كانت مثالاً احتذته تلك المزامير المتعددة النغمات.

أنا خادمك أضرع إليك وقلبي مفعم بالحسرات،

إنك لتقبل الدعاء الحار الصادر ممن أثقلته الذنوب،

إنك لتنظر إلى الرجل، فيعيش ذلك الرجل

فانظر إليَّ بعطف حق وتقبل دعائي

ثم يقول بعد ذلك وكأنه لا يعرف أذكر ذلك أم أنثى:

متى يا إلهي؛

متى يا إلهتي، يتجه وجهك إليَّ؟

متى يا إلهي، يا من أعرفه، ولا أعرفه، يهدأ غضب قلبك؟

متى يا إلهتي، يا من أعرفها ولا أعرفها، يهدأ قلبك الغضوب؟

لقد فسد الإنسان، وساء حكمه؛

ومَن مِن الأحياء كلهم يعرف شيئا؟

ص: 224

إنهم لا يعرفون أخيراً يفعلون أم شراً،

أي إلهي لا تنبذ خادمك،

لقد ألقى في الوحل فخُذ بيده!

والذنب الذي أذنبته بدله رحمة!

والظلم الذي ارتكبته، مر الريح أن تحمله!

واخلع عني ذنوبي الكثيرة كما يخلع المرء الثياب!

أي إلهي إن ذنوبي سبعة في سبعة؛ فاصفح عن ذنوبي!

أي إلهتي إن ذنوبي سبعة في سبعة؛ فاصفحي عن ذنوبي!

اصفحي عن ذنوبي تريني ذليلاً أمامك

لعل قلبك يبتهج كما تبتهج الأم التي ولدت الأبناء؛

لعله يبتهج كما تبتهج الأم التي ولدت الأبناء، والأب الذي أنجب!

وهذه الأناشيد والمزامير كان ينشدها الكهنة تارة، والمصلون تارة، وتارة ينشدها هؤلاء وأولئك معاً، وهم يتمايلون ذات الشمال وذات اليمين. ولعل أغرب ما في هذه الترانيم والأناشيد أنها- ككل آداب بابل الدينية- كتبت باللغة السومرية القديمة. وكان شأن هذه اللغة في الكنيستين البابلية والآشورية كشأن اللغة اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية لا تفترق عنها في شيء. وكما أن الترنيمة الكاثوليكية قد تحتوي بين سطورها اللاتينية ترجمتها بإحدى اللغات الحديثة، فكذلك نجد لبعض الترانيم التي وصلت إلينا من أرض الجزيرة ترجمة لها باللغة البابلية أو الآشورية بين سطور اللغة السومرية الأصلية "الفصحى"، على النحو الذي نشاهده في كتب بعض تلاميذ المدارس في هذه الأيام. وكما أن صيغة الترانيم وطقوسها هي التي مهدت لمزامير اليهود وطقوس الكنيسة الكاثوليكية، فإن موضوعاتها تنذر بالترانيم اليهودية والمسيحية الأولى، وترانيم المتطهرة المحدثين، تلك الترانيم المتشائمة التي يسري فيها شعور بالذنب والخطيئة. ذلك أن الشعور بالذنب، وإن لم

ص: 225

يكن له شأن كبير في حياة البابليين، تفيض به ترانيمهم، وتسري فيها كلها نغمة لا تزال باقية في الطقوس السامية وما اشتق منها من ترانيم غير الساميين. وإلى القارئ مثلاً من هذه الترانيم: " رب إن ذنوبي عظيمة، وأفعالي السيئة كثيرة!

إني أرزح تحت أثقال العذاب، ولم يعد في وسعي أن أرفع رأسي، إني أتوجه إلى إلهي الرحيم أناديه، وأنا أتوجع وأتألم!

رب لا ترد عنك خادمك! " (96).

وكانت فكرة الخطيئة عند البابليين مما جعل هذه التضرعات تصدر عن إخلاص حق شديد. ذلك أن الخطيئة لم تكن مجرد حالة معنوية من حالات النفس؛ بل كانت كالمرض تنشأ من سيطرة شيطان على الجسم في مقدوره أن يهلكه. وكانت الصلاة عندهم بمثابة رقية تخرج العفريت الذي أقبل عليه من طوائف القوى السحرية التي كان الشرق القديم يعيش فيها ويخوض عبابها. وكان البابليون يعتقدون أن هذه الشياطين المعادية للناس تترصده في كل مكان. فقد كانت تعيش في شقوق عجيبة وتتسلل إلى البيوت من خلال أبوابها، أو من فتحات مزالجها أو أوقابها، وتنقض على فريستها في صورة مرض أو جنة إذا ما ارتكب خطيئة أبعدت عنه إلى حين حماية الآلهة الخيرين. وكان للمردة، والأقزام، والمقعدين، وللنساء بنوع خاص، كان لهؤلاء كلهم في بعض الأحيان القدرة على إدخال الشياطين في أجسام من لا يحبون وذلك بنظرة من "عين حاسدة". وكان من المستطاع اتقاء شر هؤلاء الشياطين إلى حد ما باستعمال التمائم والطلاسم وما إليها من الرقى والأحاجي. وكانت صور الآلهة إذا حملها الشخص معه تكفي في الغالب لإخافة الشيطان وإبعاده. وكان من أقوى التمائم أثراً قلادة من حجارة صغيرة تسلك في خيط أو سلك وتعلق في العنق؛ على أن يراعى في الحجارة أن تكون من النوع الذي تربط الأقوال المأثورة بينه وبين الحظ الحسن، وفي الخيط أن يكون أسود أو أبيض أو أحمر حسب الغرض الذي يريده منه صاحبه. وكان

ص: 226

من أشد الخيوط أثراً الخيط الذي يغزل من عنزة لم يقربها تيس (97). وكان من الحكمة أن يستعان فضلاً عن هذه الوسائل بالرقى الحارة والطقوس السحرية لإخراج الشيطان من الجسم، كرشه بالماء المحمول من أحد المجاري المقدسة كدجلة والفرات. وكان من المستطاع عمل صورة للشيطان، ووضعها في قارب، وإلقاؤها في الماء بعد أن تتلى عليها صيغة خاصة. وإذا أمكن صنع القارب بحيث ينكفئ كان ذلك أفضل. وكان من المستطاع إقناع الشيطان بالرقية الصحيحة بترك ضحيته البشرية وتقمص جسم الحيوان- كجسم طير أو خنزير أو حمل، والأخير أكثر شيوعاً (98).

وكانت أكثر الكتابات البابلية التي وجدت في مكتبة أشور بانيبال هي الكتابات المحتوية على صيغ سحرية لطرد الشياطين واتقاء أذاها، والتنبؤ بالغيب. ومن الألواح التي وجدت كتب في التنجيم، ومنها ما هو قوائم في الفأل السماوي منه والأرضي، وإلى جانبها إرشادات عديدة تهدي إلى طريقة قراءتها؛ ومنها بحوث في تفسير الأحلام لا تقل براعة وبعداً عن المعقول عن أرقى ما أخرجته بحوث علم النفس الحديث. ومنها إرشادات في التنبؤ بالغيب ببحث أحشاء الحيوانات أو بملاحظة مكان نقطة من الزيت وشكلها إذا سقطت في إبريق ما (99). وكان من أساليب التنبؤ الشائعة عند البابليين ملاحظة كبد الحيوان، وقد أخذ ذلك عنهم ما جاء بعدهم من الأمم القديمة. ذلك أن الاعتقاد السائد عند هذه الأمم هو أن الكبد مركز العقل في الحيوان والإنسان على السواء. ولم يكن ملك يجرؤ على شن حرب أو الاشتباك في واقعة، ولم يكن بابلي يجرؤ على البت في أمر من الأمور، أو الإقدام على مشروع خطير، إلا إذا استعان بكاهن أو عراف ليقرأ له طالعه بطريقة من الطرق الخفية السالفة الذكر.

وليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية، فكل حالة من الحالات وفاة كانت أو مولوداً، كان لها عند الشعب

ص: 227

شرح وتأويل. وكثيراً ما كان لها تفسير رسمي وديني يصاغ في عبارات سحرية أو خارجة عن السنن الطبيعية. وكان في كل حركة من حركات النهرين، وكل منظر من مناظر الهجوم، وكل حلم، وكل عمل غير مألوف يأتيه إنسان أو حيوان، شاهد يكشف عن المستقبل البابلي الخبير العارف ببواطن الأمور. فمصير الملك يمكن التنبؤ به بملاحظة حركات كلب (100)، كما نتنبأ نحن بطول الشتاء بالتجسس على المرموط

(1)

. وقد تبدو خرافات البابليين سخيفة في نظرنا، لأنها تختلف في ظاهرها عن خرافاتنا نحن؛ والحق أنه لا توجد سخافة في الماضي إلا وهي منتشرة في مكان ما في الوقت الحاضر. وما من شك في أن تحت كل حضارة بحراً من السحر والتخريف والشعوذة، ولعل هذه كلها ستظل باقية بعد أن يزول من العالم نتاج عقولنا وتفكيرنا.

(1)

المرموط حيوان من ذوات الأربع في جرم الأرنب تقريباً ويشبهه في هيئته إلا أن ذنبه أقصر من ذنب الأرنب. (المترجم)

ص: 228

الفصل الخامس

‌أخلاق البابليين

انفصال الدين عن الأخلاق - العهر المقدس - الحب

الحر - الزواج - الزنا - الطلاق - مركز المرأة - انحلال الأخلاق

لعل هذا الدين رغم ما فيه من عيوب، قد رقق من طباع البابلي العادي وجعله إنساناً مؤدباً سلس القياد إلى حد ما؛ وإلا فكيف تفسر إكرام الملوك للكهنة. ولكن يلوح أنه لم يكن له في تاريخ البلاد المتأخر أثر ما في الطبقات العليا من الشعبين وذلك لأن "بابل العاهرة" كما كان يراها ويصفها أعداؤها غير العدول كانت "مباءة للظلم"، ومثلاً سيئاً في الانحراف والترف للعالم القديم بأجمعه. وحتى الإسكندر نفسه وهو الذي لم يكن يتورع عن الشراب حتى الموت قد هاله ما رأى من أخلاق البابليين (101).

وأهم ما يلفت نظر المراقب الأجنبي في حياة البابليين تلك العادة التي تعرفها من وصف لها في إحدى صفحات هيرودوت الذائعة الصيت: "ينبغي لكل امرأة بابلية أن تجلس في هيكل الزهرة مرة في حياتها، وأن تضاجع رجلاً غريباً. ومنهن كثيرات يرتفعن عن الاختلاط بسائر النساء، لكبريائهن الناشئ من ثرائهن، وهؤلاء يأتين في عربات مقفلة ويجلسن في الهيكل ومن حولهن عدد كبير من الحاشية والخدم. أما الكثرة الغالبة منهن فيتبعن الطريقة الآتية: تجلس الكثيرات منهن في هيكل الزهرة وعلى رؤوسهن تيجان من الحبال، بين الغاديات والرائحات اللاتي لا ينقطع دخولهن وخروجهن. وتخترق جميع النساء ممرات مستقيمة متجهة في كل الجهات، ثم يمر فيها الغرباء ليختاروا من النساء ممن يرتضون. فإذا جلست امرأة هذه الجلسة كان عليها ألا تعود إلى منزلها حتى يلقي أحد الغرباء قطعة من الفضة

ص: 229

في حجرها ويضاجعها في خارج المعبد. وعلى من يلقي القطعة الفضية أن يقول: أضرع إلى الإلهة ميلتا أن ترعاك؛ ذلك بأن الآشوريين يطلقون على الزهرة اسم ميلتا

(1)

. ومهما يكن من صغر القطعة الفضية فإن المرأة لا يجوز لها أن ترفضها، فهذا الرفض يحرمه القانون لما لها في نظرهم من قداسة. وتسير المرأة وراء أول رجل يلقيها إليها، وليس من حقها أن ترفضه أيا كان. فإذا ما ضاجعته وتحللت مما عليها من واجب للآلهة، عادت إلى منزلها. ومهما بذلت لها من المال بعدئذ لم يكن في وسعك أن تنالها. ومن كانت من النساء ذات جمال وتناسب في الأعضاء، لا تلبث أن تعود إلى دارها، أما المشوهات فيبقين في الهيكل زمناً طويلاً، وذلك لعجزهن عن الوفاء بما يفرضه القانون عليهن؛ ومنهن من ينتظرن ثلاث سنين أو أربعاً" (102).

ترى ماذا كان منشأ هذه السنة العجيبة؟ فهل كانت بقية من بقايا الشيوعية الجنسية، أي رخصة يمنح بها عريس المستقبل "حق الليلة الأولى" للمجتمع الممثل في المواطن العارض غير المعروف (103)؟ أو هل كان منشؤها خوف العريس من ارتكاب جريمة سفك الدماء التي تحرمها الشرائع (104)؟ أو هل كانت استعداداً ضمنياً للزواج شبيهاً بالسُنَّة التي لا يزال يسير عليها بعض القبائل في استراليا إلى هذه الأيام (105)؟ أو أنها لم تكن أكثر من قربان يقرب للآلهة- فتقدم لها باكورة الفاكهة (106)؟ من يدري؟

ولم تكن هذه النساء عاهرات بطبيعة الحال. لكن عاهرات من أصناف مختلفة كن يسكن في أرباض الهيكل ويمارسن حرفتهن فيها، ومنهن من كن يجمعن من عملهن الأموال الطائلة. وكانت عاهرات الهياكل كثيرات في غرب آسية: نجدهن عند بني إسرائيل (107)، وفي فريجيا، وفينيقية، وسوريا

(1)

لقد كان اليونان يطلقون اسم الآشوريين على الآشوريين والبابليين على السواء. وكانت "ميلتا" صورة أخرى من صور إشتار.

ص: 230

وغيرها من الأقطار. وكانت البنات في ليديا وقبرص يحصلن على بائنة زواجهن بهذه الطريقة نفسها 109). وظلت "الدعارة المقدسة" عادة متبعة في بلاد بابل حتى ألغاها قسطنطين (حوالي عام 325 ق. م)(109). وكان إلى جانبها عهر مدني منتشر في حانات الشراب التي تديرها النساء (110).

وكان يسمح للبابليين في العادة بقسط كبير من العلاقات الجنسية قبل الزواج، ولم يكن يظن على الرجال والنساء أن يتصلوا اتصالاً غير مرخص به "بزيجات تجريبية" تنتهي متى شاء أحد الطرفين أن ينهيها؛ ولكن المرأة في هذه الحالات كان من واجبها أن تلبس زيتونة ـ من حجر أو طين محروق ـ دلالة على أنها محظية (111). وتدل بعض الألواح على أن البابليين كانوا ينشئون القصائد الغزلية ويغنون الأغاني الغرامية؛ ولكن هذه القصائد والأغاني لم يبق منها إلا سطر هنا وسطر هناك، كانت تستهل به القصيدة أو الأغنية كقولهم:"إن حبيبي من نور" أو "إن قلبي مليء بالمرح والغناء"(112). ولدينا خطاب يرجع تاريخه إلى عام 2100 ق. م، وتشبه نغمته رسائل نابليون الأولى إلى جوزفين

(1)

: "إلى بيبيا

لعل شمش ومردك يهبانك صحة أبدية

لقد أرسلت (أستفسر) عن صحتك، فخبريني كيف حالك؛ لقد وصلت إلى بابل، ولكني لا أراك؛ إني في أشد الحزن" (113).

وكان الآباء هم الذين يهيئون الزواج الشرعي لأبنائهم، وكان الطرفان يقرانه بتبادل الهدايا، ولعل هذه العادة كانت أثراً من نظام قديم هو نظام الزواج بالبيع والشراء. فكان الخطيب يتقدم إلى والد العروس بهدية قيمة؛ ولكن الوالد كان ينتظر منه أن يهب ابنته بائنة أعظم قدراً من الهدية (114)، حتى لقد كان يصعب على المرء أن يقول أيهما المشترى المرأة أم الرجل؟ على أن بعض

(1)

انظر ترجمة بعض هذه الرسائل (وخاصة الرسالة رقم 2) في الجزء الثاني من "أشهر الرسائل العالمية" للمترجم.

ص: 231

الزيجات كانت بيعاً صريحاً، من ذلك إن شمشتريز حصل على عشرة شواقل (50 ريالا) ثمناً لابنته (115). وإذا جاز لنا أن نصدق أبا التاريخ "فإن من كانت لهم بنات في سن الزواج يأتون بهن مرة في كل عام إلى مكان يجتمع فيه حولهن عدد كبير من الرجال، ثم يصفهن دلاّل عام ويبيعهن جميعاً واحدة في إثر واحدة، فينادي أولاً على أجملهن، وبعد أن يقبض فيها ثمناً عالياً ينادي على من تليها في الجمال. ولكنه لم يكن يبيعهن إلا بشرط أن يتزوجهن المشترون

وهذه العادة المستحبة لم يعد لها الآن بقاء" (116).

ويلوح أن الزواج في بابل، رغم هذه الأساليب الغريبة، لم يكن يقل إخلاصاً واقتصارا على واحدة عنه في العالم المسيحي في هذه الأيام. وكانت الحرية المباحة للأفراد قبل الزواج يتبعها إرغام شديد على الاستمساك بالوفاء الزوجي بعده، وكان القانون ينص على إغراق الزوج الزاني ومن زنت معه إلا إذا أشفق الزوج على زوجته فآثر أن يستبدل بهذه العقوبة إخراجها إلى الطريق عارية إلا من القليل الذي لا يكاد يستر شيئا من جسمها (117). وقد بز حمورابي قيصر من هذه الناحية فقال في إحدى مواد قانونه:"إذا أشار الناس بإصبعهم إلى زوجة رحل لعلاقتها برجل غيره، ولم تضبط وهي تضاجعه، وجب أن تلقي بنفسها في النهر لشرف زوجها (118). ولعل الذي كان يهدف إليه القانون بهذه العقوبة هو منع أحاديث الإفك. وكان في وسع الرجل أن يطلق زوجته، ولا يتطلب منه هذا أكثر من رد بائنتها إليها وقوله لها: "لستِ زوجتي"، أما إذا قالت هي له: "لستَ زوجي"، فقد وجب قتلها غرقاً (119). وكان عقم الزوجة، وزناها، وعدم اتفاقها مع زوجها، وسوء تدبيرها لمنزلها، كانت هذه في حكم القانون مما يجيز طلاقها (120). وفي ذلك يقول القانون: "إذا لم تكن سيدة حريصة على أداء واجبها، بل كانت دوارة غير مستقلة في منزلها، مهملة لشئون بيتها، مستخفة بأطفالها، وجب أن تلقى في الماء (121). وفي مقابل هذه

ص: 232

القسوة غير المعقولة المنصوص عليها في القانون، كان للمرأة من الوجهة العملية أن تفارق زوجها، وإن لم يكن من حقها أن تطلقه، إذا أثبتت قسوته عليها مع إخلاصها له؛ وكان في وسعها في هذه الحال وأمثالها أن تعود إلى أهلها وأن تأخذ معها بائنتها وما عسى أن تكون قد حصلت عليه بعدئذ من المتاع (122). (ولم تستمتع نساء إنجلترا نفسها بهذه الحقوق إلا في أواخر القرن التاسع عشر). وإذا غاب الزوج عن زوجته في عمل أو حرب زمناً ما، ولم يترك لها ما تعيش منه كان لها أن تعيش مع رجل آخر، دون أن يحول ذلك من الوجهة القانونية بينها وبين انضمامها مرة أخرى إلى زوجها بعد عودته من غيبته (123).

وفي وسعنا أن نقول بوجه عام إن مركز المرأة في بابل كان أقل منه في مصر وفي روما، ولكنه مع ذلك لم يكن أقل من مركزها عند اليونان الأقدمين أو عند الأوربيين في العصور الوسطى. وكان لابد لها لكي تؤدي أعمالها الكثيرة- من ولادة الأبناء وتربيتهم، ونقل الماء من النهر أو الآبار العامة، وطحن الحبوب، والطهي، وغزل الخيوط ونسجها، وتنظيف دارها- كان لابد لها لكي تؤدي هذه الأعمال أن تكون حرة في غدوها ورواحها بين الناس لا تكاد تفترق من هذه الناحية عن الرجل في شيء (124). وكان من حقها أن تمتلك الثروة وتستمتع بدخلها وتتصرف فيها بالبيع والشراء، وأن ترث وتُوَرّثْ (125). ومن النساء من كانت لهن حوانيت، يتجرن فيها، بل إن منهن من كن كاتبات، وفي هذا دليل على أن البنات كن يتعلمن كالصبيان (126). غير أن التقاليد السامية التي تمنح أكبر ذكور الأسرة سلطة لا تكاد تقف عند حد كانت تحول دون ما عساه أن يكون باقياً في أرض الجزيرة من أزمنة ما قبل التاريخ من نزعة لتغليب سلطان الأم. وكان من العادات المتبعة عند الطبقات العليا عادة- ولعلها هي التي أدت إلى عادة الحجاب عند المسلمين والهنود- أن يكون للنساء جناح خاص أو أجنحة خاصة في المنزل؛ وكن إذا

ص: 233

خرجن صحبهن رقباء من الخصيان والخدم (127). أما الطبقات السفلى فلم تكن نساؤها أكثر من آلات لصنع الأطفال، وإذا لم تكن لهن بائنات كانت مكانتهن لا تكاد تفترق عن مكانة الإماء (128). وتشير عبادة عشتار إلى أن المرأة والأمومة كان لهما قسط من التبجيل في بلاد بابل، كانت تشير عبادة مريم العذراء في العصور الوسطى إلى ما كان لها من التبجيل وقتذاك؛ ولكننا إذا أخذنا بقول هيرودوت إن البابليين إذا حوصروا " كانوا يخنقون زوجاتهم لكيلا يستهلكن ما عندهم من الطعام "(129)، لا نرى أن البابليين كانت لديهم كثير من صفات الشهامة والفروسية التي كانت لدى الأوربيين في تلك العصور.

لذلك ترانا نجد بعض العذر للمصريين إذا وصفوا البابليين بأنهم قوم لم يصلوا إلى درجة كبيرة في الحضارة. والحق أننا لا نجد عندهم ما تشهد به آداب المصريين وفنونهم من رقة أخلاقهم ومشاعرهم. ولما أن وصلت هذه الرقة إلى البابليين وصلت إليهم تحت ستار الانحلال المخنث .. فكان الشبان يصبغون شعرهم ويقصونه، ويعطرون أجسامهم، ويحمرون خدودهم، ويزينون أنفسهم بالعقود والأساور، والأقراط، والقلائد. ولما فتح الفرس بلادهم وقضوا بذلك على عزتهم النفسية، تحرروا أيضاً من جميع القيود الخلقية، وسرت عادات العاهرات إلى جميع الأوساط وأضحت نساء الأسر الكبيرة يرين أن إظهار محاسنهن أياً كانت ليستمتع بها أعظم استمتاع أكبر عدد مستطاع، أصبحن لا يرين في هذا شيء أكثر من مجاملة عادية (130). وإذا جاز لنا أن نصدق هيرودوت فإن "كل رجل من عامة الشعب إذا عضه الفقر، عرض بناته للدعارة طلباً للمال"(131). وكتب كوتنس كورتيس عام 42 ب. م يقول: "ليس ثمة أغرب من أخلاق هذه المدينة. فلسنا نجد في أي مكان آخر ما نجده فيها من تهيئة كل شيء على خير وجه لإشباع الملذات الشهوانية". لقد فسدت الأخلاق وانحلت حين أثرت الهياكل، وانهمك أهل بابل في ملذاتهم فرضوا أن تخضع مدينتهم للكاشيين والأشوريين والفرس واليونان.

ص: 234

الفصل السادس

‌الكتابة والأدب

الكتابة المسمارية - حل رموزها - اللغة - الأدب - ملحمة جلجميش

ترى هل خلدت هذه الحياة، حياة الشهوات والتقوى والتجارة، في الأدب أو الفن، تخليداً رائعاً نبيلاً؟ لعل هذا قد كان لأننا لا نستطيع أن نحكم على مدينة ما من شذرات متفرقة من حطام بابل قذف بها بحر الزمان. إن هذه الشذرات تتصل معظمها بشئون الصلات والسحر والتجار؛ وليس ما خلفته من تراث أدبي بالشيء الكثير إذا قيس إلى ما تركته مصر وفلسطين، كانت هذه القلة شبيهة بأشور وفارس، ولسنا ندري أكان هذا من أثر الظروف والمصادفات أم كان من أثر فقرها الثقافي. أما فضلها على العالم في ميدان التجارة وفي القانون.

لكن الكتبة رغم هذا كانوا في مدينة بابل التي كان يسكنها خليط من جميع الأجناس لا يقلون عنهم في منف أو طيبة. ذلك أن فن الكتابة كان لا يزال في بداية عهده فناً ينال به من يجيده مركزاً عظيماً في المجتمع، فقد كان الطريق الموصل إلى المناصب الحكومية والكهنوتية؛ ولم يكن صاحبه يغفل قط عن الإشادة بفضله فيما يرويه من أعماله، وكان من عادة الكاتب أن ينقش ما يفيد هذا على خاتمه الأسطواني (133) كما كان العلماء والمتعلمون في العالم المسيحي من وقت قريب يذكرون مؤهلاتهم العلمية على بطاقاتهم. وكان البابليون يكتبون بالخط المسماري على ألواح من الطين الرطب بقلم ذي طرف شبيه بالمنشور الثلاثي أو الإسفين. فإذا امتلأ اللوح كتابة جففوه أو حرقوه، فكان بذلك مخطوطاً غريباً طويل البقاء. وإذا كان المكتوب رسالة نثر عليها التراب الناعم، ووضعت في مظروف

ص: 235

من الطين، وبصمت بخاتم مرسلها الأسطواني، وكانت الألواح الطينية المحفوظة في جرار مصنفة ومرتبة على رفوف تملأ عدداً كبيراً من المكتبات في هياكل الدولة البابلية وقصورها. وقد ضاعت هذه المكتبات، ولكن واحدة من أعظمها وهي مكتبة بورسبا قد نسخت وحفظت في مكتبة أشور بانيبال. كان ألواحها البالغ عددها 30 ألف لوح أهم مصدر استقينا منه معلوماتنا عن الحياة البابلية.

ولقد حيرت الكتابة البابلية العلماء فضلوا مئات السنين عاجزين عن حل رموزها، وكان نجاحهم في حلها آخر الأمر عملا من أجلّ الأعمال في تاريخ العلم. وتفصيل ذلك أن جورج جروتفند أستاذ اللغة اليونانية في جامعة جوتنجن أبلغ المجمع العلمي في تلك المدينة عام 1802 م أنه ظل عدة سنين يواصل البحث في بعض مخطوطات مسمارية وصلت إليه من بلاد الفرس القديمة، وأنه استطاع آخر الأمر أن يتعرف على ثمانية من الاثنين والأربعين حرفاً المستعملة في هذه النقوش، وأنه ميز ثلاثة من أسماء الملوك المدونة فيها. وبقيت الحال كذلك، أو ما يقارب من ذلك، حتى عام 1835 حين استطاع هنري رولنسن أحد موظفي السلك السياسي البريطاني في إيران، على غير علم منه بما توصل إليه جروتفند، أن يقرأ ثلاثة أسماء هي هستسبس، ودارا، وخشيارشاي (إكزركس) في نقش مكتوب بالخط الفارسي القديم وهو خط مسماري مشتق من الكتابة البابلية، وأمكنه بفضل هذه الأسماء أن يقرأ الوثيقة كلها في آخر الأمر. ولكن هذه الكتابة وان كانت مشتقة من الكتابة البابلية لم تكن هي البابلية نفسها، وقد بقى على رولنسن أن يعثر على حجر رشيد بابلي كما عثر شامبليون على حجر رشيد مصر، أي على نص واحد باللغتين الفارسية القديمة والبابلية. وهذا ما عثر عليه في مكان يعلو عن سطح الأرض نحو ثلاثمائة قدم. وكان هذا النقش على صخرة يتعذر الوصول إليها عند بهستون في جبال ميديا، حيث أمر دارا الأول الحفارين أن يسجلوا حروبه وانتصاراته بثلاث لغات: الفارسية القديمة، والآشورية، والبابلية. وظل

ص: 236

رولنسن يوماً بعد يوم يرقى هذه الصخرة معرضاً بذلك حياته لأشد الأخطار، وكثيراً ما كان يشد نفسه بحبل وهو ينسخ كل حرف من حروفها بعناية بالغة، حتى لقد كان أحيانا يطبع النقش كله على عجينة لينة. وبعد جهد دام اثنتي عشرة سنة كاملة نجح في ترجمة النصين البابلي والآشوري (1847 م). وأرادت الجمعية الآسيوية الملكية أن تتثبت مما وصل إليه رولنسن وغيره من العلماء في هذه الوثيقة وفي غيرها من الوثائق فأرسلت إلى أربعة من علماء الآثار الآشورية أربعة صور من وثيقة مسمارية لم تكن قد نشرت وقتذاك وطلبت إلى كل منهم على انفراد أن يترجمها مستقلا عن الثلاثة الآخرين دون أن يتصل بهم أو يراسلهم. فلما جاءت الردود وجدت كلها متفقة بعضها مع بعض اتفاقا يكاد يكون تاماً. وبفضل هذا الكفاح العلمي المنقطع النظير اتسعت دائرة البحوث التاريخية بما دخل فيها من علم بهذه الحضارة (134) الجديدة.

واللغة البابلية القديمة لغة سامية نشأت من تطور لغتي سومر وأكد. وكانت تكتب بحروف سومرية الأصل، ولكن مفرداتها اختلفت عنها على مر الأيام (كما اختلفت اللغة الفرنسية عن اللاتينية)، حتى استلزم هذا الاختلاف بين اللغتين السومرية والبابلية وضع معاجم وقواعد في النحو والصرف يستعين بها العلماء والكهنة من الشبان على تفهم اللغة السومرية "الفصحى" والكتابات السومرية الكهنوتية. ومن أجل هذا نرى نحو ربع الألواح التي عثر عليها المنقبون في المكتبة الملكية بنينوى معاجم في اللغات السومرية والبابلية والآشورية وكتباً في نحوها وصرفها. وتقول الروايات التاريخية إن هذه المعاجم قد وضعت من عهد موغل في القدم وهو عهد سرجون ملك أكد. ألا ما أقدم عهد الدراسات العلمية! والعلامات في اللغة البابلية كعلامات في اللغة السومرية لا تدل على حروف وإنما تدل على مقاطع. ذلك أن البابليين لم يضعوا لهم حروفاً هجائية مستقلة بل ظلوا

ص: 237

طول عهدهم قانعين بطائفة من المقاطع يرمزون لها بنحو ثلاثمائة علامة من العلامات. وقد كان حفظ هذه الرموز المقطعية عن ظهر قلب ودراسة قواعد الحساب والتعاليم الدينية المنهج المقرر في مدارس الهياكل، حيث كان الكهنة يلقنون الشبان ما هو خليق بالدرس والمعرفة. وقد كشفت بعض أعمال الحفر عن حجرة دراسية قديمة وجدت على أرضها ألواح طينية لبنين وبنات كتبت فيها حكم أخلاقية تحث على الفضيلة قبل مولد المسيح بنحو ألفي عام، كانت كارثة مفاجئة نكاد نحن أن نحمد الله على وقوعها دهمت التلاميذ، فقطعت عليهم درسهم وحفظت لنا ألواحهم، ومصائب قوم عند قوم فوائد (135).

وكان البابليون كالفينيقيين، ينظرون إلى الكتابة على أنها مجرد وسيلة لتيسير بعض الأعمال التجارية، ولذا لم يضيعوا كثيراً من طينهم في كتابة الأدب. ونجد في ألواحهم قصصاً منظومة على لسان الحيوان- وهي نوع من أنواع لا حصر لها من القصص الخرافية- كما نجد فيها ترانيم دقيقة الوزن، مقسمة إلى سطور وإلى مقطوعات مفصولة بعضها عن بعض؛ لكن لا نجد من الشعر غير الديني الذي يصف شئون الناس العادية إلا القليل الذي لا يستحق الذكر؛ ونرى في المراسم الدينية ما يبشر بنشأة المسرحيات، وان لم تصل إلى مسرحيات بالفعل، ونجد عندهم قناطير مقنطرة من كتب التاريخ. ذلك أن المؤرخين الرسميين كانوا يسجلون تقى الملوك وفتوحهم، وما يصيب كل هيكل من الهياكل من عوادي الدهر، وما يقع في كل مدينة من أحداث هامة. ويقص علينا بروسس أشهر المؤرخين البابليين وأنبههم ذكراً في اطمئنان العالم الواثق من علمه، تفاصيل وافية عن خلق العالم وتاريخ الإنسان في عهده الأول. ويقول إن الله قد اختار أول ملك من ملوك بابل ليتولى حكمها، وأنه حكمها ستة وثلاثين ألف عام، كما يقدر في الدقة، جديرة في حد ذاتها بالثناء، وباعتدال ليس فيه ما في تقدير غيره من إسراف الزمن الذي مضى من خلق الأرض إلى أيام الطوفان

ص: 238

الأعظم بستمائة وواحد وتسعين ألفاً ومائتين من السنين (137).

ومن أروع الآثار الأدبية التي خلفتها أرض الجزيرة اثنا عشر لوحاً محطماً وجدت في مكتبة أشور بانيبال، وهي الآن في المتحف البريطاني. وقد كتبت على هذه الألواح ملحمة جلجميش الذائعة الصيت، وتتألف من طائفة من القصص غير الوثيقة الاتصال ضمت بعضها إلى بعض في عهود مختلفة يرجع بعضها إلى أيام السومريين أي إلى ما قبل المسيح بثلاثة آلاف عام. ومن هذه القصص النص البابلي لقصة الطوفان. وكان جلجميش بطل القصة السالفة الذكر حاكماً أسطورياً لأروك أو إرك وهو من نسل شمش- نيشتين الذي نجا من الطوفان ولم يمت قط. ويدخل جلجميش في القصة في صورة مركبة من صورتي أونيس وشمشون، فهو طويل القامة ضخم الجسم، ومفتول العضلات، جرئ مقدام، جميل يفتن الناس بجماله.

ثلثاه إله،

وثلثه آدمي،

لا يماثله أحد في صورة جسمه

،

يرى جميع الأشياء، ولو كانت في أطراف العالم،

كابد كل شيء، وعرف كل شيء،

واطلع على جميع الأسرار،

واخترق ستار الحكمة الذي يحجب كل شيء،

ورأى ما كان خافياً،

وكشف الغطاء عما كان مغطى،

وجاء بأخبار الأيام التي كانت قبل الطوفان،

وسار في طريق بعيد طويل،

كابد فيه المشاق والآلام،

ص: 239

ثم كتب على لوح حجري كل ما قام به من الأعمال (138).

ويشكوه الآباء إلى إشتار قائلين إنه يخرج أبنائهم من دورهم ليكدحوا في "بناء الأسوار بالنهار وبالليل"؛ ويقول الأزواج إنه "لا يترك زوجة لزوجها ولا عذراء واحدة لأمها" وتذهب إشتار إلى أرورو عَرَّابة جلجميش ترجوها أن تخلق ابناً آخر مساوياً لجلجميش وقادراً على أن يشغله في نزاع بينهما، حتى يستريح بال الأزواج في أروك ويأمنون شره. وتعجن أرورو قطعة من الطين، وتبصق عليها، وتصور منها إنجيدو، وهو رجل له بأس الخنزير، ولبدة الأسد، وسرعة الطير. ولا يعبأ إنجيدو هذا بصحبة الآدميين، بل يعتزلهم ويعيش مع الحيوانات، "يرعى الأعشاب مع الظباء، ويلعب مع مخلوقات البحار، ويروي ظمأه مع وحوش الحقول". ويحاول أحد الصيادين أن يقتنصه بالشباك والفخاخ ولكنه يعجز عن اقتناصه، فيذهب الصياد إلى جلجميش ويرجوه أن يعيره كاهنة توقع إنجيدو في شراك حبها. فيقول له جلجميش:"اذهب أيها الصياد، وخذ لك كاهنة، فإذا جاءت الوحوش إلى مورد الماء لتستقي فلتكشف عن جمالها، فإذا رآها انفضّت من حوله الوحوش". وينطلق الصياد والكاهنة ويلتقيان بإنجيدو

هاهو ذا أيتها المرأة!

فحلي أزرارك،

أسفري عن مفاتنك،

حتى ينال كفايته منك!

ولا تحجمي، وأجيبيه إلى ما يشتهي!

فإذا رآك فسوف يقترب منك.

وافتحي ثوبك، حتى يرقد عليك!

وأثيري شهوته، كما تفعل النساء،

ص: 240

وإذن سيصبح غريباً عن وحوشه البرية،

هي التي درجت معه فوق السهوب،

وسيلتصق صدره بصدرك.

وحلت الكاهنة أزرارها،

وكشفت عن مفاتنها،

حتى ينال كفايته منها،

ولم تحجم، وأخذت شهوته،

وفتحت ثوبها لكي يرقد عليها،

وأثارت نشوته كما تفعل النساء،

والتصق صدره بصدرها.

فنسى إنجيدو أين ولد (139).

ويبقى إنجيدو مع الكاهنة ستة أيام وسبع ليال، يعب فيها السعادة حتى إذا مل هذه اللذة استيقظ فرأى أصدقائه من الحيوانات قد فارقته فيغشى عليه من شدة الحزن، فتزجره الكاهنة بقولها:"أنت يا من بلغت عظمة الآلهة، كيف يطيب لك العيش بين وحوش الحقول؟ تعال آخذك إلى أروك، حيث يعيش جلجميش الذي لا يدينه أحد في جبروته". ووقع إنجيدو في شرك الكاهنة التي خدعته بثنائها عليه، فسار ورائها إلى أروك وهو يقول:"أريني المكان الذي فيه جلجميش، أقاتله وأظهر له قوتي"، فتسر بذلك الآلهة والأزواج؛ ولكن جلجميش ينتصر عليه بقوته أول الأمر ثم بعطفه وشفقته عليه بعد ذاك، ويصبح الاثنان صديقين وفيين؛ ويسيران جنبا إلى جنب يحميان أروك من عيلام، ويعودان ظافرين بعد أن يقوما بأجل الأعمال. "وخلع جلجميش عدته الحربية، ولبس ثيابه البيض، وزين نفسه بالشارة الملكية ولبس التاج". وسرعان ما تقع إشتار الشرهة في حبه وترنو إليه بعينيها الكبيرتين، وتقول:

ص: 241

"تعال يا جلجميش، وكن لي زوجاً! وقدم لي حبك هدية، ستكون أنت، زوجي، وأكون زوجتك، وسأضعك في عربة من اللازورد والذهب، لها دواليب ذهبية مطعمة بالعقيق؛ وستجرها لك آساد عظيمة، وستدخل بيتنا ومن حولك البخور المنطلق من خشب السدر

وستحتضن قدميك كلُّ الأراضي المجاورة للبحر، وسيخر الملوك كلهم سجداً لك، ويأتون بثمرات الجبال والسهول جزية يؤدونها لك عن يد".

ويرفض جلجميش طلبها ويذكرها بما جنته على عشاقها الكثيرين ومنهم تموز، ومنهم باشق، وحصان، وبستاني، وأسد، ويناديها قائلا:"إنك تحبينني الآن، ولكنك ستضربينني بعد كما ضربت هؤلاء جميعاً". وتطلب إشتار وهي غضبى إلى أنو الإله الأعظم أن يخلق ريماً مفترساً يقتل جلجميش. ويرفض أنو طلبها ويزجرها بقوله: "ألا تستطيعين السكوت وقد ذكرك جلجميش بغدرك وفضائحك؟ " وتنذره بأنها سوف تعطل كل ما في الكون من غرائز الحب والشهوة، حتى يهلك كل شيء حي. ويخضع أنو لإرادتها، ويخلق الريم المفترس، ولكن جلجميش يتغلب على هذا الوحش بمعونة إنجيدو، وتصب إشتار على البطل لعنتها فيلقى إنجيدو بأحد أطراف الريم في وجهها. ويبتهج لذلك جلجميش ويتيه عجباً، ولكن إشتار تصرعه وهو في عنفوان مجده، وذلك بأن تصيب إنجيدو بداء عضال.

ويحزن جلجميش ويبكي صديقه الذي كان أحب إليه من النساء، ويفكر في أسرار الموت، وهل ثمة وسيلة للفرار من هذا المصير المحتوم. إن رجلا واحداً قد نجا منه وهو شمش- نيشتيم فهو إذن يعرف سر الخلود. ويقرر جلجميش أن يذهب للبحث عن شمش- نيشتيم، ولو اضطره هذا البحث إلى الطواف في العالم كله. ويجتاز الطريق الموصل إليه جبلاً يحرسه ماردان جباران يلمس رأساهما قبة السماء ويصل ثدياهما إلى الجحيم. ولكنهما يأذنان له بالمرور، ويسير اثني

ص: 242

عشر ميلاً في نفق مظلم، ويخرج بعده إلى شاطئ بحر عظيم، ويرى من وراء مائه عرش سبيتو العذراء إلهة البحار. ويناديها تعينه على عبور الماء ويقول:"إذا لم أفلح في هذا، فسألقي بنفسي على الأرض وأقضي نحبي". وتشفق عليه سبيتو وتسمح له أن يجتاز البحر في أربعين يوماً كلها عواصف وزعازع حتى يصل إلى الجزيرة السعيدة التي يسكن فيها شمش- نيشتيم المخلد أبد الدهر. ويتوسل إليه جلجميش أن يفضي إليه بسر الخلود ويرد عليه شمش- نيشتيم بأن يقص عليه قصة الطوفان، وكيف ندمت الآلهة على ما سببته في ثورة جنونها من دمار، وكيف أبقت عليه هو وزوجته فخلدتهما لأنهما أنجيا النوع الإنساني من الفناء ويقدم إلى جلجميش نبتة تجدد ثمارها شباب من يأكلها؛ ويبدأ جلجميش رحلته الطويلة إلى بلده مغتبطاً سعيداً ولكنه يقف في طريقه ليستحم، وبينا هو يفعل هذا إذ تخرج إليه أفعى وتسرق النبتة

(1)

.

ويصل جلجميش إلى أروك يائساً حزيناً، ويطوف بالهياكل هيكلاً بعد هيكل يصلي ويدعو الآلهة أن ترد الحياة إلى إنجيدو ولو لم تطل حياته إلا ريثما يكلمه كلمة واحدة. ويظهر إنجيدو ويسأله جلجميش عن حال الموتى، فيرد عليه إنجيدو بقوله:"لا أستطيع أن أجيبك لأني لو فتحت الأرض أمامك، ولو أخبرتكما بما رأيت، لقضيت من شدة الهول، ولغشي عليك". ولكن جلجميش رمز الفلسفة، وهي تلك البلاهة الجريئة، يصر على طلب الحقيقة ويقول:"سيقضى عليّ الرعب، ويغشى عليّ، ولكن خبرني عنه". ويصف له إنجيدو أهوال الجحيم، وبهذه النغمة الحزينة تختتم الملحمة الناقصة (140).

(1)

كان كثيرون من الأقدمين يعبدون الأفعى ويتخذونها رمزاً للخلود، وذلك لقدرتها الظاهرة على الفرار من الموت بتبديل جلدها.

ص: 243

الفصل السابع

‌الفنانون

الفنون الصغرى - الموسيقى - التصوير - النحت - النقش الغائر - العمارة

تكاد تكون قصة جلجميش المثل الوحيد الذي نستطيع أن نحكم به على أدب البابليين. أما الفنون الصغرى فإن ما أبقت عليه المصادفات من آثارها يدل على أنهم قد أوتوا قسطاً موفوراً من الإحساس بالجمال، وإن لم يؤتوا روح الإبداع العميقة، وعلى أن هذا الإحساس لم يقض عليه كله انهماكُهم في الأعمال التجارية، وفي الملاذ الجسمية، وفي تقواهم التي أرادوا أن يعرضوا بها هذه الناحية من حياتهم. وإن قطع القرميد التي طليت وصقلت بأعظم عناية، والحجارة البراقة، وأدوات البرنز الدقيقة الصنع، والحديد والفضة، والذهب، والتطريز الجميل، والسجاجيد الوثيرة، والثياب ذات الصبغات الجميلة، والأقمشة المزركشة المعلقة على الجدران، والمناضد المرتكزة على القواعد والسرر والكراسي (141)، إن هذه المخلفات كلها لتخلع على الحضارة البابلية ثوباً قشيباً من الجمال والرونق وإن لم تخلع عليها كثيراً من القيمة أو الجلال. والحلي التي عثر عليها كثيرة، ولكنها تنقصها الدقة الفنية التي نشاهدها في حلي المصريين الأقدمين؛ وكان أكبر ما يقصد بها أن تعرض المعدن الأصفر أكثر مما تعرض الفن الجميل، ويظن صانعوها أن من جمال الفن أن تصنع تماثيل كاملة من الذهب (142). وكان لدى البابليين آلات طرب كثيرة- نادى، وقانون، وقيثار، ومزامير القرب، وطبول وقرون، ومزامير من الغاب، وأبواق، وصنوج، ودفوف. وكان لهم فرق موسيقية ومغنون يعزفون ويغنون فرادى ومجتمعين في الهياكل والقصور وفي حفلات الأثرياء (143).

ص: 244

وكان التصوير بالألوان من الفنون الثانوية عند البابليين، يستخدمونه في تزيين الجدران والتماثيل، ولم يحاولوا قط أن يجعلوا منه فناً مستقلاً بذاته (144). ولسنا نجد في خرائب البابليين تلك النقوش الملونة التي تزدان بها قبور المصريين، أو تلك المظلات التي تجمل قصور كريت. كذلك لم يرق فن النحت عند البابليين، ويلوح أن هذا الفن قد جمد وقضي عليه قبل أن يكتمل نمو ما ورثته بابل من القواعد التي جرى بها العرف عند السومريين، وأرغمها الكهنة على اتباعها والجري على سننها: فكل الوجوه المرسومة وجه واحد، ولكل الملوك أجسام ممتلئة قوية العضلات، والأسرى كلهم كأن تماثيلهم صبت في قالب واحد. ولم يبق من تماثيل البابليين إلا القليل، ولم يكن ثمة ما يوجب هذه القلة. والنقوش الغائرة أحسن حالاً من التماثيل ولكنها هي الأخرى فجة خشنة يتحكم فيها العرف والتقاليد؛ وثمة فارق كبير بينها وبين نقوش المصريين القوية التي حفروها من قبلهم بألف عام. ولا تصل هذه النقوش إلى غايتها إلا حين تمثل الحيوانات وهي هادئة ساكنة مهيبة في أرباضها الطبيعية، أو مهتاجة أثارتها قسوة الإنسان (145).

وليس في وسعنا الآن أن نحكم حكماً عادلاً على فن العمارة البابلي لأننا لا نكاد نجد شيئاً من مخلفات هذا الفن يرتفع فوق الرمال أكثر من بضع أقدام، وليس بين آثارهم صور لعمائرهم منحوتة أو مرسومة، يستدل منها بوضوح على أشكال القصور والهياكل وهندسة بنائها. وكانت البيوت تبنى من الطين، أو من الآجر إن كانت للأغنياء منهم، وقلما كانت لها نوافذ، ولم تكن أبوابها تفتح على الشوارع الضيقة بل كانت تفتح على فناء داخلي مظلل من الشمس. وتصف الأخبار المتواترة بيوت الطبقات الراقية بأنها مكونة من ثلاث طبقات أو أربع (146). أما الهياكل فكانت تقوم على قواعد في مستوى سقف البيوت التي كانت تلك الهياكل تسيطر على حياة أهلها. وكان الهيكل في الغالب بناء ضخماً من القرميد مشيداً كالبيوت حول فناء تقام فيه معظم الحفلات الدينية.

ص: 246

ويقوم إلى جوار المعبد في أغلب الحالات برج عال يسمى بلغتهم زاجورات (ومعناها "مكان عال") يتكون من طبقات مكعبة الشكل بعضها فوق بعض، وتتناقص كلما علت، ويحيط بها سلم من خارجها. وكانت تستخدم إما في الأغراض الدينية- فقد كان مزاراً عالياً للإله صاحب الهيكل- وإما في أغراض فلكية بأن تكون مرصداً يرقب منه الكهنة الكواكب التي تكشف عن كل شيء في حياة الناس.

وكان الزاجورات العظيم الذي في برسبا يسمى "مراحل الأفلاك السبع"، وكانت كل طبقة من طبقاته مخصصة لكوكب من الكواكب السبعة المعروفة عند البابليين، وملونة بلون يرمز إلى هذا الكوكب. فكانت الطبقة السفلى سوداء اللون كلون زحل، والتي تليها بيضاء كلون الزهرة، والتي فوقها أرجوانية للمشتري؛ والرابعة زرقاء لعطارد؛ والخامسة قرمزية للمريخ؛ والسادسة فضية للقمر؛ والسابعة ذهبية للشمس. وكانت هذه الأفلاك والكواكب تشير إلى أيام الأسبوع السبعة مبتدئة من أعلاها (147).

ولم يكن في هذه المباني- على قدر ما نستطيع أن نتبين من منظرها- شيء كثير من الذوق الفني، فقد كانت كلها كتلاً ضخمة من خطوط مستقيمة لا تتطاول إلى شيء أكثر من مجد الضخامة، وقد نجد في بقاع متفرقة بين الخرائب القديمة عقوداً وأقواساً، وهي أشكال أخذت عن سومر واستخدمت في غير عناية ومن غير علم بمصيرها. وكان ما في المباني من زينات في داخلها وخارجها يكاد يقتصر على طلاء بعض أوجه الآجر، بعد صقلها، بالألوان الصفراء، والزرقاء، والبيضاء، والحمراء، وإقامة صور من القرميد للحيوان والنبات في مواضع قليلة من الجدران. وهذا "التزجيج"، الذي لم يكن يقصد به تجميل البناء فحسب بل كان يقصد به أيضاً وقاية المباني من الشمس والمطر، قديم يرجع على الأقل إلى عهد نارام- سِنْ، وقد ظل شائعاً في أرض النهرين إلى أيام

ص: 247

الفتح الإسلامي. ولهذا السبب أضحت صناعة الخزف أخص فنون الشرق الأدنى القديم، وإن لم تنتج من الأواني الخزفية ما هو جدير بالذكر. لكن فن العمارة البابلي ظل على الرغم من هذا العون فناً ثقيلاً خالياً من الجمال والأناقة، قضت عليه المواد التي استخدمت فيه ألا يرقى إلى ما فوق الدرجة الوسطى. وما أسرع ما كانت الهياكل تقوم من الطين الذي حوَّله العمال المسخرون إلى لبنات وملاط، ولم تكن ثمة حاجة إلى قرون طوال كل تمتلئ بها البلاد كما اجتاحت المباني الكبيرة الباقية في مصر وفي أوربا العصور الوسطى، ولكنها تهدمت بنفس السرعة التي شيدت بها أو بما يقرب منها، ولم يمض عليها إلا خمسون عاماً حتى عادت كما بدأت ترابا (148). وكان رخص اللبن والآجر في حد ذاته سبباً في فساد الهندسة البابلية. لقد كان يسهل أن تقام من هذه المواد المباني الضخمة، أما الجمال فكان من الصعب أن ُينال باستخدامها. ذلك أن الآجر لا يعين على السمو والجلال، والسمو والجلال هما روح العمارة.

ص: 248

الفصل الثامن

‌علوم البابليين

الرياضة - الفلك - التقويم - الجغرافية - الطب

كان البابليون تجاراً، ومن أجل هذا كان نجاحهم في العلم أيسر من نجاحهم في الفن. لقد أوجدت التجارة علوم الرياضة، وتعاونت مع الدين على إيجاد الفلك. وكانت الأعمال المتعددة التي يقوم بها كهنة أرض الجزيرة، من قضاء بين الناس، وهيمنة على المصالح الحكومية، وزراعة وصناعة، وعرافة وخبرة بالنظر في النجوم وفي أحشاء الحيوانات- كانت الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الكهنة حافزاً لهم على أن يضعوا على غير علم منهم، أسس العلوم التي كانت في أيدي اليونان الملحدين سبباً في إنزال الدين من مركز الزعامة والسيطرة على العالم.

كانت علوم البابليين الرياضية تستند إلى تقسيم الدائرة إلى 360 درجة، وتقسيم السنة إلى 360 يوم. وعلى هذا الأساس وضعوا نظاماً ستينياً للعد والحساب بالسنين. وهو النظام الذي نشأت منه فيما بعد النظم الاثنى عشرية التي تعد بالاثنى عشرات. وكانوا لا يستخدمون في العد إلا ثلاثة أرقام- منها علامة للواحد تتكرر حتى تكون تسع علامات متماثلة للرقم 9، وعلامة ثانية للرقم 10 تتكرر حتى تصل إلى 50، وعلامة للرقم 100؛ وكان مما سهل لهم عملية العد والحساب أن وضعوا جداول لا تقتصر على ضرب الأعداد الصحيحة وقسمتها بل تشمل أيضاً أنصاف الأعداد الرئيسية وأثلاثها ومربعاتها ومكعباتها. وتقدم علم الهندسة حتى كان في وسعهم ان يقدروا المساحات المعقدة ومساحات الأشكال غير المنتظمة. وكانوا يقدرون النسبة التقريبية (النسبة بين محيط الدائرة وقطرها) بثلاثة وهو عدد تقريبي لا يليق بأمة من الفلكيين.

ص: 249

وكان الفلك هو العلم الذي امتاز به البابليون، وهو الذي اشتهروا به في العالم القديم كله. وهنا أيضاً كان السحر منشأ العلم، فلم يدرس البابليون النجوم ليرسموا الخرائط التي تعين على مسير القوافل والسفن، بل درسوها أكثر ما درسوها لتعينهم على التنبؤ بمستقبل الناس ومصائرهم، وبذلك كانوا منجمين أكثر منهم فلكيين. وكان كل كوكب من الكواكب إلهاً تهمه شئون الناس ولا غنى عنه في تدبيرها. فكان المشتري مردك، وعطارد نابو، والمريخ نرجال، والشمس شمش، والقمر سِنْ، وزحل نبيب، والزهرة إشتار. وكانت كل حركة من حركات كل نجم أو كوكب تدل على أن حادثاً وقع على الأرض أو تتنبأ بوقوعه. فإذا كان القمر منخفضاً مثلاً، كان معنى ذلك أن أمة بعيدة ستخضع للملك، وإذا كان هلالاً كان معناه أن الملك سيظفر بأعدائه. وأضحت الجهود التي تبذل لاستخلاص العلم بالمستقبل من حركات النجوم شهوة من شهوات البابليين، استطاع بها الكهنة الخبيرون بالتنجيم أن يجنوا أطيب الثمرات من الملوك والشعب على السواء. وكان من هؤلاء الكهنة من هو مخلص لعلمه مؤمن به، ينقب بغيرة وحماسة في المجلدات التي تبحث في التنجيم، والتي وضعت، حسب رواياتهم المأثورة، في عهد سرجون ملك أكد. وكانوا يشكون من الدجالين الذين يسيرون بين الناس يقرءون لهم طوالعهم أو يتنبئون بما سيكون عليه الجو بعد عام شأن تقويمنا في هذه الأيام، كل هذا نظير أجور يتقاضونها وهم لم يدرسوا من التنجيم شيئاً (149).

ونشأ علم الفلك نشأة بطيئة من هذه الأرصاد ومن خرائط النجوم التي كانت تهدف إلى التنجيم والتنبؤ بالغيب. وقد استطاعوا منذ عام 2000 ق. م أن يسجلوا بدقة شروق الزهرة وغروبها بالنسبة إلى الشمس، وحددوا مواضع عدة نجوم، وأخذوا يصورون السماء على مهل (150). فلما فتح الكاشيون بلاد بابل توقف هذا التقدم نحو ألف عام. ثم واصلوه من جديد في عهد نبوخد نصر، فصور العلماء الكهنة مسارات الشمس والقمر، ولاحظوا اقترانهما كما لاحظوا

ص: 250

الخسوف والكسوف، وعينوا مسارات الكواكب، وكانوا أول من ميز النجوم الثوابت من الكواكب السيارة تمييزاً دقيقاً

(1)

، وحددوا تاريخ الانقلابين الشتائي والصيفي، وتاريخي الاعتدالين الربيعي والخريفي؛ وساروا على النهج الذي سبقهم إليه السومريون فقسموا دائرة فلك البروج (أي مسار الأرض حول الشمس) إلى الأبراج الاثنى عشر. وبعد أن قسموا الدائرة إلى 360 درجة عادوا فقسموا الدرجة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية (152). وكانوا يقدرون الزمن بالساعة المائية والمزولة، واكبر الظن أنهم لم يعملوا على ترقية هاتين الآلتين فحسب بل إنهم اخترعوهما اختراعاً (153).

وقسموا السنة إلى اثني عشر شهراً قمرياً، منها ستة في كل منها ثلاثون يوماً والستة الأخرى في كل منها تسعة وعشرون. ولما كان مجموع أيامهما على هذا الحساب لا يبلغ إلا 354 يوماً فإنهم كانوا يضيفون في بعض السنين شهراً آخر لكي يتفق تقويمهم مع الفصول. وقسموا الشهر إلى أربعة أسابيع تتفق مع أوجه القمر الأربعة. وحاولوا أن يتخذوا لهم تقويماً أسهل من هذا بأن قسموا الشهر إلى ستة أسابيع كل منها خمسة أيام؛ ولكن ثبت بعد إذ أن ُوجد القمر أقوى أثراً من رغبات الناس، وبقي التقسيم الأول كما كان. ولم يكونوا يحسبون اليوم من منتصف الليلة إلى منتصف الليلة التي تليها، بل كان عندهم من شروق القمر

(2)

إلى شروقه التالي (154)، وقسموا هذه المدة إلى اثنتي عشرة ساعة، في كل ساعة منها ثلاثون دقيقة، وبذلك كان طول الدقيقة البابلية أربعة أضعاف ما قد يوحي إلينا اسمها. إذن فتقسيم الشهر عندنا إلى أربعة أسابيع، وتقسيم أوجه ساعاتنا

(1)

كان البابليون يفرقون بين الكوكب والنجم الثابت برصد حركات الكوكب و"تجواله". ويعرف علم الفلك الحديث الكوكب بأنه جرم سماوي يدور بانتظام حول الشمس.

(2)

هكذا في الأصل ولعل المؤلف يريد من شروق الشمس إلى شروقها، وذلك لأن شروق القمر يتأخر في كل ليلة عن سابقتها بنحو 52 دقيقة ويجعل طول الساعة مختلفاً في كل ليلة عنه في الأخرى. (المترجم).

ص: 251

إلى اثنتي عشرة ساعة (لا إلى أربع وعشرين) وتقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، كل هذه آثار بابلية لا شك فيها باقية من أيامهم إلى عهدنا الحاضر

(1)

، وإن كان هذا لا يخطر لنا على بال.

وكان اعتماد العلوم البابلية على الدين وارتباطها به أقوى أثراً في ركود الطب منه في ركود الفلك. على أن أساليب الكهنة الخفية لم تحل دون تقدم العلوم بقدر ما حال دونه تخريف الشعب. ذلك أن علاج المرضى قد خرج إلى حد ما عن اختصاص الكهنة وسيطرتهم من أيام حمورابي، ونشأت مهنة منتظمة للأطباء ذات أجور وعقوبات يحددها القانون، فكان المريض الذي يستدعي طبيباً لزيارته يعرف مقدماً كم من المال يجب عليه أن يؤديه نظير هذا العلاج أو ذاك ونظير هذه الجراحة أو تلك؛ وإذا كان هذا المريض من الطبقات الفقيرة نقص الأجر لكي يتناسب مع فقره (157). وإذا اخطأ الطبيب أو أساء العمل كان عليه أن يؤدي للمريض تعويضاً. لقد بلغ الأمر في بعض الحالات التي يكون فيها الخطأ شنيعاً أن تقطع أصابع الطبيب كما سبق القول، حتى لا يمارس صناعته عقب هذا الخطأ مباشرة (158).

ولكن هذا العلم الذي تحرر من سلطان الدين تحرراً يكاد يكون تاماً كان عاجزاً بسبب حرص الشعب على التشخيص القائم على الخرافات والأوهام، وعلى العلاج بالأساليب السحرية. ومن أجل هذا كان السحرة والعرافون أحب إلى الشعب

(1)

وانتقل البابليون من رسم السماء إلى رسم الأرض. وأقدم ما نعرف من الخرائط هي التي خطط فيها الكهنة طرق إمبراطورية نبو خذ نصر ومدنها (155). ولقد عثر المنقبون في خرائب جاسور (التي تبعد عن بابل مائتي ميل شمالها) على لوح من الطين يرجع تاريخه إلى عام 1600 ق. م ويحتوي، في مساحة لا تكاد تبلغ بوصة واحدة، على خريطة لمقاطعة شط- أزلا، وقد مثلت فيها الجبال بخطوط دائرية، والمياه بخطوط مائلة، والأنهار بخطوط متوازية، وكتبت عليها أسماء عدد من المدن، وبين في هامشها اتجاه الشمال والجنوب (156).

ص: 252

من الأطباء؛ وقد فرضوا على الناس، بفضل نفوذهم عندهم، طرقاً للعلاج أبعد ما تكون عن العقل. فكان منشأ المرض في رأيهم تقمص الشيطان جسم المريض لذنب ارتكبه، وكان أكثر ما يعالج به لهذا السبب تلاوة العزائم وأعمال السحر والصلوات. فإذا ما استخدمت العقاقير الطبية، فإنها لم تكن تستخدم لتطهير جسم المريض، بل كان استخدامها لإرهاب الشيطان وإخراجه من الجسم. وكان أكثر الأدوية شيوعاً عقاراً مكوناً من خليط من العناصر التي تعافها النفس اختيرت لهذا السبب عن قصد، ولعلهم كانوا يفترضون أن معدة المريض أقوى من معدة الشيطان الذي يتقمصه. وكانت العناصر المألوفة لديهم هي اللحم الني، ولحم الثعابين، ونشارة الخشب الممزوجة بالنبيذ والزيت؛ أو الطعام الفاسد، ومسحوق العظام، أو الشحم والأقذار، ممزوجة ببول الحيوان أو الإنسان أو برازه (159). وفي بعض الحالات كان يستبدل بهذا العلاج بالأقذار لبن وعسل وزبد وأعشاب عطرة يحاولون بها استرضاء الشيطان فإذا لم يفلح مع المريض كل علاج، ُحمل في بعض الحالات إلى السوق لكي يتمكن جيرانه من أن يشبعوا رغبتهم القديمة فيصفوا له العلاج الفعال الذي لا يخطئ (161).

على أن من واجبنا أن نقول أن الثمانمائة لوح التي بقيت لدينا لتحدثنا عن طب البابليين لا تحتوي على كل ما كان لديهم منه ولعلنا نظلمهم إذا حكمنا عليهم بما نجده فيها وحدها. ذلك أن استعادة الكل الضائع من جزء صغير عثر عليه منه من أشد الأعمال خطورة في التاريخ، وليست كتابة التاريخ إلا إعادة الكل من جزئه. وليس ببعيد أن لا يكون العلاج بالسحر إلا استخداما لقوة الإيحاء استخداماً ينطوي على كثير من الدقة؛ ولعل هذه المركبات الكريهة كان يقصد

ص: 253

بها أن تكون مقيئات. ولعل البابليين حين يقولون إن المرض ينشأ من غزو الشياطين جسم المريض عقاباً له على ما يرتكبه من الذنوب، لا يقصدون بقولهم هذا شيئا أبعد عن المعقول من قولنا نحن أن المرض ينشأ من غزو البكتريا لجسم المريض بسبب إهماله الإجرامي أو عدم نظافته أو نهمه. وقصارى القول أن من واجبنا أن لا نكون واثقين كل الثقة من جهل أسلافنا.

ص: 254

الفصل التاسع

‌الفلاسفة

الدين والفلسفة - أيوب البابليين - كحيلث البابليين - رجل يقاوم الكهنة

إن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية، يقوم الدين إلى جانب مهدها (كما يقول المثل القديم)، وتصحبها الفلسفة إلى قبرها. ففي بداية الثقافات كلها ترى عقيدة دينية قوية تخفي عن أعين القوم كنه الأشياء وترقق من طبائعها، وتبث في قلوبهم من الشجاعة ما يستطيعون به أن يتحملوا الآلام ويقاسوا الصعاب وهم صابرون، تقف الآلهة إلى جانبهم في كل خطوة يخطونها، ولا تتركهم يهلكون إلا حين يهلكون؛ وحتى في هذه الحال يحملهم إيمانهم القوى على الاعتقاد بأن خطاياهم هي التي أغضبت الآلهة فانتقموا منهم. ذلك أن ما يصيب الناس من شر لا يفقدهم إيمانهم، بل يقويه في قلوبهم؛ فإذا جاء النصر، وإذا نسوا الحرب لطول ما ألفوه من الأمن والسلام، ازدادت ثروتهم؛ واستبدلت الطبقات المسيطرة بحياة الجسم حياة الحواس والعقل، وحلّت اللذة والراحة محل الكدح والمتاعب؛ وأضعف العلم الدين بينما يضعف التفكير والدعة ما في الناس من رجولة وصبر على المكاره. وأخيراً يبدأ الناس يرتابون في آلهتهم، ويندبون مأساة المعرفة، ويلجئون إلى كل لذة عاجلة زائلة يعتصمون بها من سوء مصيرهم. فهم في البداية كأخيل، وفي النهاية كأبيقور؛ وبعد داود يأتي أيوب، وبعد أيوب يأتي سفر الجامعة.

وإذ كنا لا نستدل على تفكير البابليين إلا من أيام ملوكهم المتأخرين، فإن من الطبيعي أن نجد هذا التفكير تسري فيه حكمة الكلالة الصادرة من أفواه الفلاسفة المتعبين الذين يستمتعون بالملاذ كما يستمتع بها الإنجليز. فترى على أحد

ص: 255

الألواح مثلاً بلطا- أرتوا يشكو من أنه التزم أوامر الآلهة أشد مما التزمها جميع الناس. ولكنه مع هذا أصابته طائفة من البلايا، ففقد أبويه، وخسر ماله، وحتى القليل الذي بقي له منه سرق في الطريق. ويجيبه أصدقاؤه- كما يجيب أيوب أصدقاؤه- بأن ما حل به من بلاء ليس إلا عقابا له على خطايا خافية عنه- وربما كان جزاء له على صلفه العاتي المنبعث من طول عهده بالرخاء، وهو أشد ما يثير غضب الآلهة وحسدها. ويؤكدون له أن الشر ليس إلا خيراً مقنعاً، وأنه جزء من السنن الإلهية ينظر إليه نظرة جد ضيقة بعقله الضعيف، وهو غافل عن هذه السنن في مجموعها، وأنه إذا ما استمسك بإيمانه وشجاعته، فإنه سيجزى في آخر الأمر خير الجزاء؛ وسينال ما هو خير من هذا وهو أن أعداءه سيلقون عقابهم. وينادى بلطا- أرتوا الآلهة يطلب إليها العون- ثم تختتم القطعة الباقية من اللوح ختاماً مفاجئاً (162).

وتعرض قصيدة أخرى وجدت ضمن بقايا مجموعة الآداب البابلية التي خلفها أشور بانيبال هذه المشكلة بعينها عرضا أدق حين يتحدث تابي- أتول- أنليل، وهو كما يلوح أحد كحام نبور، عن نفسه فيقول في وصف ما لاقاه من الصعاب

(1)

:

(طمس على مقلتي كأنما أغلقهما) بقفل؛

(ووقر أذني) كأذني الشخص الأصم.

وكنت ملكاً فصرت عبداً؛

وأساء رفاقـ (ى) معاملتي كأن بي جنة.

ابعث إليَّ العون ونجني من الوهدة التي احتفرت (لي)!

بالنهار حسرات عميقة، وبالليل بكاء؛

وطول الشهر- صراخ؛ وطول العام- شقاء

(1)

الألفاظ الموضوعة بين قوسين ألفاظ ظنية.

ص: 256

ثم يواصل قوله فيخبرنا كيف كان طول حياته إنساناً تقياً، وكيف كان آخر شخص في العالم يصح أن يكون مصيره هذا المصير القاسي:

كأني لم أخصص للإله نصيبه على الدوام؛

ولم أبتهل إلى الآلهة وقت الطعام؛

ولم أعنُ بوجهي وآتي بخراجي؛

وكأني إنسان لم يكن التضرع والدعاء دائمين على لسانه.

لقد علّمت بلدي الاحتفاظ باسم الإله؛

وعودت شعبي أن يُعظم اسم الإلهة

وكنت أظن أن هذه الأشياء مما يسرّ أي إله.

ولما أصابه المرض على الرغم من كل هذا التقى الشكلي، أخذ يفكر في استحالة الوقوف على تدبير الآلهة، وفي تقلبات شئون البشر.

من ذا الذي يدرك إرادة آلهة السماء!

إن تصاريف الإله كلها غموض- فمن ذا الذي يدركها؟

إن من كان بالأمس حياً أصبح اليوم ميتاً،

وما هي إلا لحظة حتى تتقسمه الغموم، ويتحطم قلبه فجأة،

فهو يغني ويلعب لحظة؛

وما هي إلا طرفة عين حتى يندب حظه كالمحزون

لقد لفّني الهم كأنه شبكة،

تتطلع عيناي ولكنهما لا تبصران

،

وأذناي مفتوحتان ولكنهما لا تسمعان،

وقد سقط الدنس على عورتي،

وهاجم الغدد التي في أحشائي

وأظلم من الموت جسمي كله

ص: 257

يطاردني المطارد طوال النهار؛

ولا يترك لي بالليل لحظة أتنفس فيها

لقد تفككت أطرافي، فلم تعد تمشي مؤتلفة،

وأقضى الليل بين أقذاري كما يقضيه الثور؛

وأختلط ببرازي كما يختلط الضأن.

ثم يعود فيجهر بإيمانه كما فعل أيوب فيقول:

ولكن أرى اليوم الذي تجف فيه دموعي،

اليوم الذي يدركني فيه لطف الأرواح الواقية،

ويومئذ تكون الآلهة رحيمة بي.

ثم تنقلب الأحوال كلها سعادة وهناءة، فيظهر أحد الأرواح الطيبة، ويشفى تابي من جميع أمراضه؛ وتهب عاصفة هوجاء فتطرد شياطين المرض كلها من جسمه. ويسبح بحمد مردك، ويقرب له القرابين النفيسة، ويهيب بالناس جميعاً ألا يقنطوا من رحمة الآلهة

(1)

.

وليس بين هذا وبين ما ورد في سفر أيوب إلا خطورة واحدة؛ كذلك نرى في الآداب البابلية أمثلة سابقة لا يمكن الخطأ فيها مما ورد في سِفر الجامعة من الكتاب المقدس. من ذلك ما ورد في ملحمة جلجميش من نصح الإله سبيتو لهذا البطل بأن يكف عن شوقه إلى الحياة بعد الموت، وأن يأكل ويشرب ويستمتع على ظهر الأرض:

أي جلجميش، لم هذا الجري في جميع الجهات؟

إن الحياة التي تسعى لها لن تجدها أبداً.

إن الآلهة حين خلقت بني الإنسان قدّرت الموت على بني الإنسان؛

(1)

وأكبر الظن أن هذه الأقوال، التي نجد سوابق مثلها في الأدب السومري، كان لها أثر في واضع سفر أيوب.

ص: 258

واحتفظت بالحياة في أيديها.

أي جلجميش، املأ بطنك؛

وكن مرحاً بالنهار وبالليل؛

بالنهار وبالليل كن مبتهجاً راضياً!

وطهر ثيابك.

واغسل رأسك؛ اغتسل بالماء!

وألق بالك إلى الصغير الذي يمسك بيدك؛

واستمتع بالزوجة التي تضمها إلى صدرك

(1)

.

وتستمتع في لوحة أخرى إلى نغمة أشد من هذه حزنا تختتم بالكفر والتجديف. ذلك أن جبارو وهو عند البابليين كأسبيديس عند اليونان، يسأل إنساناً يكبره أسئلة ملؤها الشك فيقول:

أيها العاقل الحكيم، يا صاحب الذكاء، تأوه من صميم قلبك!

إن قلب الإله بعيد بُعد أطباق السماوات الداخلية،

والحكمة صعبة، والناس لا يفهمونها.

ويجيبه الشيخ متشائماً تشاؤم عاموس وإشعيا:

استمع، يا صديقي، وافهم أفكاري.

إن الناس يمجدون عمل الرجل العظيم الذي يبرع في القتل،

ويحقرون الرجل الفقير الذي يرتكب ذنباً.

(1)

وازن بين هذه الأقوال وبين ما ورد في الآيات السابعة والثامنة والتاسعة من الإصحاح التاسع من سفر الجامعة: 7 - اذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب طيب، لأن الله منذ زمان قد رضي عملك. 8 - لتكن ثيابك في كل حين بيضاء ولا يعوز رأسك الدهن. 9 - التذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس، كل أيام باطلك لأن ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس.

ص: 259

ويبررون أعمال الرجل الآثم الذي يقترف أشنع الأخطاء،

ويردون الرجل العادل الذي يسعى لما يريده الله.

وهم يسلطون القوي ليغتال طعام الضعيف؛

ويقوون القوي؛

ويهلكون الرجل الضعيف، ويطرده الرجل الغني.

وينصح جبارو مع هذا أن يفعل ما تريده الآلهة. ولكن جبارو يقطع صلاته بها وبالكهنة الذين ينصرون على الدوام أكبر الناس ثراء:

إنهم لم ينقطعوا عن عرض الأكاذيب والأضاليل.

يقولون باللفظ الشريف ما كان في صالح الرجل الغني.

هل نقصت ثروته إنهم يبادرون إلى معونته.

وهم يسيئون معاملة الضعيف كأنه لص،

وهم يهلكونهم في خلجة عين،

ويطفئونه كما يطفئون اللهب.

وليس لنا مع ذلك أن نبالغ في شأن ما نجده عند البابليين من مزاج سوداوي، وما من شك في أن الناس كانوا يصغون في رضا ومحبة إلى ما يقوله كهانهم، ويزدحمون في الهياكل يطلبون رضاء الآلهة. لكن الذي يدهشنا بحق هو طول إيمانهم بدينهم الذي لا يعرض عليهم إلا القليل من أسباب المواساة والسلوى؛ وهل ثمة شيء من هذين في قول الكهنة أن لا شيء يمكن أن يعرف إلا بالوحي الإلهي؛ وأن هذا الوحي لا يصل إلى الناس إلا عن طريقهم هم؟ ويحدثنا الفصل الأخير من هذا الوحي عن هبوط الروح الميتة صالحة كانت أو طالحة إلى أرالو أي الجحيم لتبقى فيها أبد الدهر في ظلام وعذاب مقيم. فلا عجب والحالة هذه إذا انصرف البابليون للقصف والمرح في الوقت الذي جن فيه نبوخد نصر بعد أن ملك كل شيء ولم يدرك أي شيء، وأمسى يرهب كل شيء.

ص: 260

الفصل العَاشِر

‌قبرية

(1)

تحدثنا الروايات المتواترة كما يحدثنا سفر دانيال- الذي لم تؤيده أية وثيقة معروفة- أن نبوخد نصر بعد أن حكم زمنا طويلا، حالفه فيه النصر والرخاء على الدوام، وبعد أن جمل مدينته بما شقه فيها من الطرق وما شاده من القصور، وبعد أن بنى للآلهة أربعة وخمسين هيكلا، بعد أن فعل هذا كله انتابته نوبة غريبة من الجنون، فظن نفسه حيوانا ومشى على أربع، واقتات بالكلأ (167). ويختفي اسمه أربع سنين كاملة من التاريخ ومن سجلات بابل الحكومية (168). ثم يعود فيظهر لحظة قصيرة ثم ينتقل إلى الدار الآخرة في عام 562 ق. م.

ولا تكاد تمضي على وفاته ثلاثون عاما حتى تتصدع إمبراطوريته وتتمزق شر ممزق. وحكم بعده نابونيدس وجلس على العرش سبعة عشر عاما آثر فيها أعمال الحفر على مهام الحكم، وصرف وقته وجهده في التنقيب عن عاديات سومر وترك مملكته تتداعى (169). فاضطربت أحوال الجيش، وانهمك رجال الأعمال في شئون المال العليا الدولية، فنسوا حبهم لبلادهم، وغفل الناس عن فنون الحرب لاشتغالهم بشئون التجارة وانغماسهم في الملذات.

واغتصب الكهنة سلطان الملوك شيئا فشيئا، وملأوا خزائنهم بالأموال التي أغرت الدول الأجنبية بغزو البلاد وفتحها. ولما أن وقف قورش وجيوش الفرس النظامية المدربة على أبواب بابل رضيت الطائفة المعادية للكهنة من البابليين ان تفتح له هذه الأبواب، ورضيت بسيطرته المستنيرة (170).

(1)

القبرية العبارة المكتوبة على القبر Epitaph (المترجم)

ص: 261

وحكم الفرس بابل قرنين من الزمان كانت في خلالهما شطرا من أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت؛ ثم اقبل الاسكندر بجبروته وافتتح المدينة دون أن يجد منها أية مقاومة، وظل يشرب الخمر في قصر نبوخد نصر حتى مات (171).

ولم تفد البشرية من الحضارة البابلية ما أفادته من حضارة المصريين، ولم يكن فيها من التنوع والعمق ما في حضارة الهند، كما لم يكن فيها من الدقة والنضوج ما في حضارة الصين. على أن بابل هي التي أنشأت ذلك القصص الساحر الجميل الذي اصبح بفضل براعة اليهود الأدبية الفنية جزءاً لا يتجزأ من قصص أوربا الديني. ومن بابل لا من مصر جاء اليونان الجوالون إلى دويلات مدنهم بالقواعد الأساسية لعلوم الرياضة، والفلك، والطب، والنحو، وفقه اللغة، وعلم الآثار، والتاريخ، والفلسفة. ومن دويلات المدن اليونانية انتقلت هذه العلوم إلى رومة ومنها إلى الأوربيين والأمريكيين. وليست الأسماء التي وضعها اليونان للمعادن، وأبراج النجوم، والموازين والمقاييس، وللآلات الموسيقية، ولكثير من العقاقير، ليست هذه كلها إلا تراجم لأسمائها البابلية، بل إنها في بعض الأحيان لا تعدو أن تكون بديلا لحروفها من الأحرف البابلية إلى اليونانية (172). وبينما استمد فن العمارة اليونانية أشكاله وإلهامه من مصر وكريت، فان العمارة البابلية هي التي أوحت عن طريق الزاجورات بقباب المساجد الإسلامية، وبالمنارات والأبراج في العصر الوسيط، وبطراز المباني المرتدة في أمريكا في هذه الأيام. وأضحت قوانين حمورابي تراثا للمجتمعات القديمة كلها لا يقل في شأنه عما ورثه العالم من روما من نظام الحكم وأساليبه. ولقد انتقلت حضارة ارض النهرين من مهدها وأضحت عنصرا من التراث الثقافي للجنس البشري بفضل سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية الخطيرة. فقد فتحت أشور بابل واستحوذت على تراث هذه المدينة القديمة،

ص: 262

ونشرته في جميع أنحاء إمبراطوريتها الواسعة؛ وتلا ذلك اسر اليهود الطويل وما كان للحياة وللأفكار البابلية فيهم من أثر عظيم؛ وأعقب هذا وذاك الفتحان الفارسي واليوناني اللذان فتحا جميع طرق التجارة والمواصلات بين بابل والمدن الناشئة في أيونيا وآسية الصغرى واليونان فتحا لم يشهد العالم من قبل له نظيرا في كماله وحريته.

إن شيئا ما لا يضيع من العالم آخر الأمر، بل إن كل حادثة تترك فيه أثرها خالدا إلى ابد الدهر، خيرا كان ذلك الأثر أو شرا.

ص: 263

الباب العاشر

‌أشور

الفصل الأول

‌أخبارها

بداية تاريخها - مدنها - أصل سكانها -

الفاتحون - سنحريب وعسر هدون - "سردنابالوس"

في بداية الأحداث التاريخية السالفة الذكر ظهرت حضارة جديدة إلى شمال بابل وعلى بعد ثلاثمائة ميل منها. واضطر أهل البلاد التي نشأت فيها هذه الحضارة أن يحيوا حياة عسكرية شاقة أرغمتهم عليها القبائل الجبلية التي كانت لا تنفك تهددهم من جميع الجهات. وما لبثوا أن غلبوا هؤلاء المهاجمين واستولوا على المدن التي كانت مهدهم الأول في عيلام وسومر وأكد وبابل؛ وتغلبوا على فينيقية ومصر، وظلوا مائتي عام كاملة يسيطرون بقوتهم الوحشية على بلاد الشرق الأدنى. وكان موقف سومر من بابل، وموقف بابل من أشور كموقف كريت من بلاد اليونان وموقف بلاد اليونان من روما. فقد أنشأت المدينة الأولى حضارة، وتعهدتها الثانية وأتمتها حتى بلغت ذروتها، وورثتها الثالثة وأضافت إليها من عندها، وحمتها، وأسلمتها وهي تحتضر هدية منها إلى البرابرة الظافرين الذين كانوا يحيطون بها. ذلك أن البربرية تحيط على الدوام بالحضارة، وتستقر في وسطها ومن تحتها، متحفزة لأن تهاجمها بقوة السلاح، أو بالهجرة الجماعية، أو بالتوالد غير المحدود. وما أشبه البربرية بالغابة المتلبدة في البلاد الاستوائية تحاول أشجارها على الدوام

ص: 264

أن تقضي على معالم الإنسان المتحضر وتقاوم جهوده، ولا تعترف قط بهزيمتها، بل تظل قرونا طوالا صابرة تترقب حتى تتاح لها الفرصة لاستعادة ما فقدته من أرضين بفعل الإنسان المتحضر.

ونشأت الدولة الجديدة حول أربع مدائن ترويها مياه نهر دجلة وروافده، وهي أشور ومحلها الآن قلعة شرغات، وأربلا وهي إربل الحالية، والكلف وهي الآن نمرود ونينوى وهي قويونجك، على الضفة المقابلة لمدينة موصل مدينة الزيت. وقد عثر المنقبون في أطلال أشور على شظايا من السبج- الحجر الزجاجي الأسود- وعلى سكاكين وقطع من الفخار الأسود عليها رسوم هندسية توحي بأنها من أصل آسيوي (1). وكل هذه من مخلفات عصر ما قبل التاريخ. وكشفت بعثة أثرية حديثة في تبي جورا، بالقرب من موقع نينوى عن بلدة يَرُد كاشفوها الفخورون تاريخها إلى عام 3700 ق. م رغم ما فيها من هياكل وقبور كثيرة، وأختام أسطوانية متقنة النقش، وأمشاط وحلي، ورغم ما عثروا عليه فيها من نرد هو أقدم نرد عرف في التاريخ (2). وتلك مسألة جديرة بتفكير المصلحين في هذه الأيام. وخلع الإله أشور اسمه على مدينة من مدنها (ثم على القطر كله آخر الأمر)؛ وفي هذه المدينة كان يسكن أقدم ملوك هذه الأمة، وظلوا يقيمون بها حتى اضطروا بسبب تعرضها لحر الصحراء اللافح ولهجمات جيرانهم البابليين إلى إنشاء عاصمة ثانية لهم في مكان أقل من العاصمة الأولى حرارة. وكانت هذه العاصمة الثانية هي نينوى؛ واسمها هي أيضا مأخوذ من اسم إله من آلهتهم هو الإله نينا إشتار الآشوريين. وكان ثلاثمائة ألف من الأهلين يسكنون في نينوى أيام مجدها في عهد أشور بانيبال كما كان ملوكها- ملوك الأرض العامة- يتلقون الجزية من جميع بلاد الشرق القريبة.

وكان الأهلون خليطا من الساميين الذين وفدوا إليها من بلاد الجنوب المتحضرة (أمثال بابل وأكد)؛ ومن قبائل غير سامية جاءت من الغرب

ص: 265

(ولعلهم من الحيثيين أو من قبائل تمت بصلة إلى قبائل نيتاتي)؛ ومن الكرد سكان الجبال الآتين من القفقاس (3). وأخذ هؤلاء كلهم لغتهم المشتركة وفنونهم من سومر، ولكنهم صاغوها فيما بعد صياغة جديدة جعلتها لا تكاد تفترق في شيء عن لغة أرض بابل وفنونها. بيد أن ظروفهم الخاصة باعدت بينهم وبين النعيم المخنث الذي انحدر إليه البابليون (4)؛ ولذلك ظلوا طوال عهدهم شعبا محاربا مفتول العضلات، ثابت الجنان، غزير الشعر، كث اللحى، معتدل القامة، يبدو رجاله في آثارهم عابسين، ثقيلي الظل، يطئون بأقدامهم الضخمة عالم البحر الأبيض المتوسط الشرقي. وتاريخهم هو تاريخ الملوك والرقيق، والحروب والفتوح، والانتصارات الدموية والهزائم المفاجئة. واغتنم ملوكهم- الكهنة الأوائل- وكانوا أقيالا خاضعين لأهل الجنوب- سيطرة الكاشيين على بابل فاستقلوا عنها؛ ولم يمض إلا القليل حتى ازدان أحدهم باللقب الذي ظل ملوك أشور يتباهون به طول عهدهم وهو "الملك صاحب الحكم الشامل". ويبرز أمامنا من بين هؤلاء الأقيال الخاملي الذكر أفراد تهدينا أعمالهم إلى معرفة السبيل التي سلكتها بلادهم في نمائها وتطورها

(1)

فبينما كانت بلاد بابل تتخبط في ظلمات حكم الكاشيين ضم سلمانصر الأول دويلات المدن الشمالية تحت حكمه، واتخذ الكلخ عاصمة له. على أن أول الأسماء العظيمة في تاريخ أشور هو اسم تغلث فلاصر الأول. كان هذا الملك صيادا ماهرا؛ وإذا كان من الحكمة أن نصدق أقوال الملوك فإنه قد قتل وهو راجل مائة وعشرين أسدا، وقتل وهو في عربته ثمانمائة (5)، وجاء في نقش خطه كاتب أكثر ملكية من الملك نفسه- إنه كان يصيد الأمم والحيوانات على

(1)

وقد وجدت من عهد قريب في خرائب مكتبة سرجون الثاني لوحة تحتوي ثبتا متصلا لا ثغرة فيه بأسماء الملوك الآشوريين من الأسرة الثالثة والعشرين قبل الميلاد إلى أشور نيرارى (753 - 746 ق. م.

ص: 266

السواء. "وسرت في بأسى الشديد على شعب قموه، وفتحت مدائنهم، وسقت منها الغنائم واستوليت على مالا حصر له من بضائعهم وأملاكهم، وحرقت مدنهم بالنار، ودمرتها وخربتها

وخرج أهل آدنش من جبالهم واحتضنوا قدمي، وفرضت عليهم الجزية" (6). وقد ساق هذا الملك جيوشه في كل اتجاه، فأخضع الحيثيين والأرمن وأربعين أمة غيرهما، واستولى على بابل، وأرهب مصر فأرسلت له الهدايا وهي قلقة وجلة، (وكان منها تمساح ألانه كثيرا وخفف من غضبه). وبنى من الخراج الذي دخل خزائنه هياكل لآلهة الآشوريين وإلاهاتهم؛ ولم تسأله هذه الآلهة عن مصدر هذه الثروة كلها كأنما كان همها كله أن تكون لها هياكل تقرب فيها القرابين. ثم خرجت بابل عليه وهزمت جيوشه، ونهبت هياكله، وعادت إلى بابل تحمل معها آلهته أسرى. ومات تغلث فلاصر خزية وغما (7).

وكان حكمه رمزا للتاريخ الآشوري كله وصورة مصغرة منه: موت وجزية فرضهما على جيران أشور ثم فُرضا على أشور نفسها. واستولى أشور ناصربال على اثنتي عشرة دولة صغيرة، وعاد من حروبه بمغانم كثيرة، وسمل بيده عيون خمسين من أمراء الأسرى، واستمتع بنسائه، ومات ميتة شريفة (8). ومد سلما نصر الثالث هذه الفتوح حتى دمشق، وحارب عدة وقائع تكبد فيها خسائر فادحة، وقتل في واقعة واحدة ستة عشر ألفاً من السوريين، وشيد الهياكل، وفرض الجزية على المغلوبين. ثم ثار عليه ابنه ثورة عنيفة وخلعه (9). وحكمت سمورامات أم الملك ثلاث سنين، وكان حكمها هو الأساس التاريخي الراهن لأسطورة سميراميس اليونانية، التي تجعل منها نصف إلهة ونصف ملكة، وقائدة باسلة ومهندسة بارعة، وحاكمة محنكة مدبرة. وتلك الأسطورة هي كل ما نعرفه عن هذه الملكة. وقد وصفها ديودور الصقلي وصفا مفصلا بديعا (10). وجيش تغلث فلاصر الثالث جيوشا جديدة، واستعاد أرمينية، واجتاح سوريا

ص: 267

وبابل، وأخضع لحكمه دمشق والسامرة، وبابل، ومد ملك أشور من جبال قفقاس إلى مصر، ولما مل الحرب وجه همه إلى شئون الحكم، فاثبت أنه إداري عظيم، وشاد كثيرا من الهياكل والقصور، وساس إمبراطوريته الواسعة سياسة قوية حازمة، وأسلم روحه وهو في فراشه. وجلس على العرش سرجون الثاني، وهو ضابط من ضباط الجيش، على أثر انقلاب سياسي نابليوني، وقاد جيوشه بنفسه، وكان في كل واقعة يتخذ لنفسه أشد المواقف خطورة (11)، وهزم عيلام ومصر، واسترد بابل، وخضع له اليهود والفلسطينيون بل واليونانيون سكان قبرص، وحكم دولته حكما صالحا، وناصر الفنون والآداب، والصناعة والتجارة، ومات في واقعة نال فيها النصر على أعدائه، ورد فيها عن أشور غارات الجحافل الكمرية المتوحشة التي كانت تتهددها بالغزو.

وقضى ابنه سنحريب على الفتن التي ثار عجاجها في الولايات المجاورة في الخليج الفارسي، وهاجم أورشليم ومصر دون أن يلقى نجاحا

(1)

، ونهب تسعا وثمانين مدينة، وثمانمائة وعشرين قرية، وغَنِمَ سبعة آلاف ومائتي جواد، وأحد عشر ألف حمار، وثمانين ألف ثور، وثمانمائة ألف رأس من الغنم، ومائتين وثمانية آلاف من الأسرى (13). وهي أرقام لم يستخف بها الكاتب الرسمي الذي كتب سيرته. ثم غضب على بابل لنزعتها إلى الحرية فحاصرها، واستولى عليها، وأشعل فيها النار فدمرتها تدميرا، ولم يكد يبقي على أحد من أهلها رجلا كان أو امرأة، صغيرا كان أو كبيرا، بل قتلهم عن آخرهم تقريبا، حتى سدت جثثهم مسالك المدينة، ونهبت المعابد حتى لم يبق فيها شاقل واحد، وحطمت إلهة بابل صاحبة السلطان الأعظم القديم، وسيقت أسيرة ذليلة إلى نينوى. وأصبح مردك الإله

(1)

وتعزو الرواية المصرية نجاة مصر إلى فعل جماعة من جرذان الحقول الفطنة قرضت كنائن الجيوش الآشورية المعسكرة أمام لوزيوم؛ وأوتار قسيسيهم، وأربطة دروعهم، فاستطاع المصريون بذلك أن يهزموا الآشوريين في اليوم الثاني دون عناء كبير.

ص: 268

الأكبر خادما ذليلا للرب أشور. ولم ير من بقى حيا من البابليين أنهم كانوا مبالغين في تقدير قوة مردك وعظمته؛ بل قالوا لأنفسهم ما قاله الأسرى اليهود بعد مائة عام من ذلك الوقت، قالوا إن إلههم قد شاء له تواضعه أن ينهزم ليعاقب بذلك شعبه. واستخدم سنحريب غنائم نصره وما انتهبه من البلاد المفتوحة في إعادة بناء نينوى، وحول مجرى النهرين من الاعتداء، وبذل في إصلاح الأرض البور القوة والنشاط ما تبذله الدول التي تشكو عدم وجود فائق لديها من غلاتها الزراعية، ثم قتله أبنائه وهو يتلو الصلوات (14).

وقام ابن له من غير القتلة وهو عصر هدون وانتزع العرش من إخوته السفاحين، وغزا مصر ليعاقبها على ما قدمته من معونة للثوار السوريين، وضمها إلى أملاكه، وأدهش غرب آسية بسيره المظفر من منف إلى نينوى ومن خلفه ما لا يحصى من المغانم، وجعل أشور سيدة بلاد الشرق الأدنى بأجمعها وأفاء عليها من الرخاء ما لم يكن لها به عهد من قبل، واسترضى البابليين بإطلاق إلهتهم الأسيرة وتكريمها وبناء عاصمتهم المخربة، كما استرضى عيلام بتقديم الطعام إلى أهلها الجياع. وكان ما قدمه من الإغاثة على هذا النحو عملا لا يكاد يوجد له مثيل في التاريخ القديم كله. ومات عسر هدون وهو سائر إلى مصر ليخمد فيها ثورة بعد أن حكم إمبراطوريته حكما لم تر له في تاريخها شبه الهمجي مثيلا في عدله ورحمته.

وجنى خلفه أشور بانيبال (وهو الذي يسميه اليونان سردنابالوس) ثمرة هذه الأعمال، ووصلت أشور في خلال حكمه الطويل إلى ذروة مجدها وثروتها. ولكن بلاده بعد وفاته فقدت هذا العز، فوهنت قوتها وفسدت أمورها لطول عهدها بالحروب المتقطعة التي خاضت غمارها أربعين عاما، وإدراكها الثناء، ولم يمض على موت أشور بانيبال عشر سنين. وقد احتفظ لنا أحد الكتاب بسجل سنوي لأعماله (15). وهو سجل ممل ينتقل فيه من حرب إلى حرب، ومن حصار إلى حصار، ثم إلى مدن جائعة وأسرى تسلخ جلودهم وهم أحياء. ويُنطق هذا الكاتب نفسه

ص: 269

أشور بانيبال فيحدثنا عما خربه من بلاد عيلام ويقول: "لقد خربت من بلاد عيلام ما طوله مسير شهر وخمسة وعشرين يوما. ونشرت هناك الملح والحسك (لأجدب الأرض) وسقت من المغانم إلى أشور أبناء الملوك، وأخوات الملوك، وأعضاء الأسرة المالكة في عيلام صغيرهم وكبيرهم، كما سقت منها كل من كان فيها من الولاة والحكام، والأشراف والصناع، وجميع أهلها الذكور والإناث كبارا كانوا أو صغارا، وما كان فيها من خيل وبغال وحمير وضأن وماشية تفوق في كثرتها أسراب الجراد، ونقلت إلى أشور تراب السوس، ومدكتو، وهلتماش وغيرهم من مدائنهم. وأخضعت في مدة شهر من الأيام بلاد عيلام بأجمعها؛ وأخمدت في حقولها صوت الآدميين، ووقع أقدام الضأن والماشية، وصراخ الفرح المنبعث من الأهلين. وتركت هذه الحقول مرتعا للحمير والغزلان والحيوانات البرية على اختلاف أنواعها"(16).

وجيء برأس ملك عيلام القتيل إلى أشور بانيبال وهو في وليمة مع زوجته في حديقة القصر، فأمر بأن يرفع الرأس على عمود بين الضيوف، وظل المرح يجري في مجراه؛ وعلَّق الرأس فيما بعد على باب نينوى، وظل معلقا عليه حتى تعفن وتفتت. أما دنانو القائد العيلامي فقد سلخ جلده حيا، ثم ذبح كما يذبح الجمل، وضرب عنق أخيه، وقطّع جسمه أربا، ووزع هدايا على أهل البلاد تذكارا لهذا النصر المجيد (17).

ولم يخطر قط ببال أشور بانيبال أنه ورجاله وحوش كاسرة أو أشد قسوة من الوحوش؛ بل كانت جرائم التقتيل والتعذيب هذه في نظرهم عمليات جراحية لا بد منها لمنع الثورات وتثبيت دعائم الأمن والنظام بين الشعوب المختلفة المشاكسة المنتشرة من حدود الحبشة إلى أرمينية، ومن سوريا إلى ميديا، والتي أخضعها أسلافه لحكم أشور. لقد كانت هذه الوحشية في رأيه واجبا يفرضه عليه حرصه على أن يبقى التراث سليما. وكان يتباهى بما وطده في ربوع إمبراطوريته من أمن

ص: 270

وسلام، وبما ساد مدنها من نظام. والحق أن هذا التباهي لم يكن على غير أساس. على أن هذا الملك لم يكن مجرد ملك فاتح أسكره سفك الدماء، وشاهد ذلك ما شاده من المباني وما بذله في تشجيع الفنون والآداب. فقد بعث الملك إلى جميع أنحاء دولته يدعوا المثالين والمهندسين ليضعوا له رسوم الهياكل والقصور ويزينوها كما فعل بعض الحكام الرومان بعد أن استولت روما على بلاد اليونان. وأمر عددا كبيرا من الكتبة أن يجمعوا وينسخوا كل ما خلفه السومريون والبابليون من آداب، ووضع ما نسخوه وما جمعوه كله في مكتبته العظيمة في نينوى، وهناك وجدها علماء هذه الأيام سليمة أو تكاد بعد أن مرت عليها خمسة وعشرين قرنا من الزمان.

وكان مثل فردرك الأكبر يفخر بملكاته الأدبية كما يفخر بانتصاراته في الحرب والصيد (18). ويصفه ديودور الصقلي بأنه طاغية فاسق خنثى (19)، ولكننا لا نجد في جميع الوثائق التي وصلت إلينا على كثرتها ما يؤيد هذا القول. وكان أشور بانيبال إذا فرغ من تأليف ألواحه الأدبية خرج إلى الصيد في اطمئنان الملوك وثقتهم بأنفسهم وليس معهم من السلاح إلا سكين وحربة، فقابل الآساد وجها لوجه. وإذا جاز لنا أن نصدق ما كتبه عنه معاصروه فإنه لم يكن يتردد قط في أن يتولى قيادة الهجوم عليها بنفسه، وكثيرا ما سدد الضربة القاضية بيده (20). فلا عجب والحالة هذه إذا افتتن به الشاعر بيرن Byron ونسج حول اسمه مسرحية نصفها أسطوري والنصف تاريخي، صور فيها ما بلغته أشور في أيامه من الثروة والمجد، وما داهمها بعدئذ من خراب شامل، وما حل بمليكها من قنوط.

ص: 271

الفصل الثاني

‌الحكومة الآشورية

النزعة الاستعمارية - الحروب الآشورية - الآلهة المجندة - القانون

لذة الانتقام والتعذيب - الإدارة - عنف ملوك الشرق

إذا جاز لنا أن نأخذ بالمبدأ الاستعماري القائل أن سيادة حكم القانون، ونشر الأمن، والتجارة، والسلم في العالم تبرر إخضاع كثير من الدول طوعا أو كرها لسلطان حكومة واحدة، إذا جاز لنا أن نأخذ بهذا المبدأ كان علينا أن نقر لأشور بذلك الفضل الكبير، وهو أنها أقامت في غرب آسية حكما كفل لهذا الإقليم قسطا من النظام والرخاء أكبر مما استمتع به هذا الجزء من الأرض في ما نعلم قبل ذلك العهد. ذلك أن حكومة أشور بانيبال التي كانت تضم تحت جناحيها بلاد أشور، وبابل، وأرمينية، وميديا، وفلسطين، وسوريا، وفينيقية، وسومر، وعيلام، ومصر كانت بلا جدال أوسع نظام إداري شهده عالم البحر الأبيض المتوسط أو عالم الشرق الأدنى حتى ذلك العهد؛ ولم يدان أشور بانيبال فيه إلا حمورابي أو تحتمس الثالث، ولم يضارعه قبل عهد الإسكندر إلا الفرس وحدهم. وكانت هذه الإمبراطورية تستمتع بقسط من الحرية، فقد احتفظت مدنها الكبرى بحظ موفور من الحكم الذاتي المحلي، كما احتفظت كل أمة فيها بدينها، وقوانينها وحاكمها، ما دامت لا تتوانى عن أداء الجزية المفروضة عليها (21). ومن شأن هذا النظام المفكك أن يؤدي كل تراخ في سلطته المركزية إلى الثورات الشعبية أو في القليل إلى بعض التراخي في أداء الجزية، وكان لابد والحالة هذه من إعادة فتح البلاد المرة بعد المرة. وأراد تغلث فلاصر أن يتحاشى خطر

ص: 272

هذه الثورات المتكررة فوضع تلك السياسة التي تمتاز بها أشور على غيرها من الأمم وهي نقل أهل البلاد المفتوحة إلى بلاد أخرى بعيدة، يمتزجون فيها بسكانها الأصليين امتزاجا قد يفقدهم وحدتهم وكيانهم، ويقلل الفرص السانحة لهم للعصيان. على أن هذه الخطة لم تمنع اندلاع لهيب الثورات، فاضطرت أشور بسببها إلى أن تكون مستعدة على الدوام لامتشاق الحسام.

من أجل هذا كان الجيش أقوى دعامة للدولة وأهم مقوماتها، وكانت أشور تعترف اعترافا صريحا بأن الحكم هو تأميم القوة لذلك فإن ما لها من فضل على قضية التقدم إنما كان في فن الحرب. فهي التي نظمت فرق المركبات، والفرسان، والمشاة، والمهندسين الذين يقوّضون الأبنية؛ وقد وضع الآشوريون لهذه الفرق نظاما يسهل معه تحريكها وتوجيهها من ناحية إلى أخرى في ميدان القتال وكانت له آلات للحصار لا تقل في قوتها عما كان منها عند الرومان، وكانوا يجيدون فهم الفنون الحربية الخاصة بتعبئة الجنود وحركاتهم (22). وكانت القاعدة الأساسية التي تقوم عليها تحركاتهم العسكرية هي السرعة التي تمكنهم من مهاجمة كل قسم من أقسام الجيوش المعادية على انفراد- ألا ما أقدم هذا السر الذي أفاد منه نابليون أعظم الفائدة! وتقدمت صناعة الحديد عندهم إلى حد أمكنهم أن يلبسوا الجنود حللاً حديدية سابغة كحلل فرسان العصور الوسطى. وحتى الرماة وحملة الرماح كانوا يلبسون على رؤوسهم خوذات من النحاس أو الحديد، وأرهاطا محشورة حول الحقوين، ومجنات ضخمة، ونطاقات من الجلد المغطى بأسفاط معدنية. وكانت أسلحتهم السهام والرماح، والسيوف والقصار، والصوالج والهراوات المنتفخة الرؤوس، والمقاذيف والبلط الحربية. وكان أكابر القوم يحاربون في عربات في طليعة الجيش، يقودهم في العادة مليكهم نفسه وهو راكب في عربة ملكية؛ ولم يكن القواد قد تعلموا وقتئذ أن يموتوا في فراشهم

(1)

.

(1)

انظر قول العرب في هذا المعنى: وما مات منا سيد في فراشه

(المترجم)

ص: 273

وأدخل أشور بانيبال نظام استخدام الفرسان لمعاونة المركبات، وكانت هذه البدعة ذات أثر حاسم في كثير من الوقائع (23). وكانت أهم أدوات الحصار هي الكباش المسلحة مقدماتها بالحديد. وكانت أحيانا تعلق بالحبال في محاول، وتطوح إلى الوراء لتزيد بذلك قوتها، وأحيانا أخرى كانت تجري على عجلات. أما المحاصَرون فكانوا يحاربون من وراء الأسوار بالقذائف والمشاعل، والغاز الملتهب، والسلاسل التي يراد بها عرقلة الكباش، وأوعية من غازات نتنة تذهب بعقول الأعداء (24) - وما أشبه اليوم مرة أخرى بالبارحة. وكانت العادة المألوفة أن تُدمّر المدينة المغلوبة وتُحْرق عن آخرها؛ وكان المنتصرون يبالغون في محو معالمها بتقطيع أشجارها (25). وكان الملوك يكسبون ولاء جنودهم بتقسيم جزء كبير من الغنائم بينهم. وكانوا يضمنون شجاعتهم باتباع العادة المألوفة في الشرق الأدنى وهي اتخاذ جميع أسرى الحرب عبيدا أو قتلهم عن آخرهم. وكان الجنود يكافئون على كل رأس مقطوع يحملونه من ميدان القتال، ولهذا كانت تعقب المعركة في أغلب الأحيان مجزرة تقطع فيها رؤوس الأعداء (26). وكثيرا ما كان الأسرى يقتلون عن آخرهم بعد الواقعة حتى لا يستهلكوا الكثير من الطعام وحتى لا يكونوا خطرا على مؤخرة الجيش أو مصدر متاعب له. وكانت طريقة التخلص منهم أن يركعوا متجهين بظهورهم إلى من أسروهم، ثم يضرب الآسرون رؤوسهم بالهراوات، أو يقطعونها بسيوفهم القصيرة. وكان الكتبة يقفون إلى جانبهم ليحصوا عدد من يأسرهم كل جندي ويقتلهم، ويقسمون الفيء منهم بنسبة قتلاهم؛ وكان الملك إذا سمح له وقته يرأس هذه المجزرة. أما الأشراف المغلوبون فكانوا يلقون شيئا من المعاملة الخاصة، فكانت تصلم آذانهم وتجدع أنوفهم، وتقطع أيديهم وأرجلهم، أو يقذف بهم إلى الأرض من أبراج عالية، أو تقطع رؤوسهم ورؤوس أبنائهم، أو تسلخ جلودهم وهم أحياء، أو تشوى أجسامهم فوق نار هادئة. ويلوح أن القوم لم يكونوا يشعرون بشيء من وخز

ص: 274

الضمير وهو يسرفون في إتلاف الحياة البشرية بهذه الطرق الجهنمية. ذلك أن نسبة المواليد العالية تعوض عليهم هذا التقتيل، أو أن هذه الوسيلة تقلل من تزاحم الأهلين على موارد العيش إلى أن يتناسلوا أو يتكاثروا (27). ولعل ما أشيع من حسن معاملة الإسكندر وقيصر للأسرى ورحمتهما بهم كانا من أسباب قضائهما على روح أعدائهما المعنوية وسرعة استيلائهما على بلاد البحر الأبيض المتوسط.

وكانت القوة الثانية التي يعتمد عليها الملك هي قوة الدين، ولكنه لم يكن ينال معونة الكهنة إلا بأغلى الأثمان. فقد كان إجماع القوم منعقدا على أن رأس الدولة من الوجهة الرسمية هو الإله أشور. وكانت الأوامر الرسمية تصدر باسمه، وكل القوانين قرارات تمليها إرادته الإلهية، وكل الضرائب تجمع لخزانته، وكل الحروب تشن لتأتي له (أو لإله غيره أحيانا) بالمغانم والمجد. وكان الملك يحمل الناس على أن يصفوه بأنه إله، وكان في العادة هو الإله شمش (الشمس) مجسما. وقد أخذ الآشوريون دينهم عن سومر وبابل كما أخذوا عنهما علومهما وفنونهما، وكانت هذه كلها تكيف أحيانا بما يتفق مع مطالب الدولة العسكرية.

وأظهر ما كان هذا التكييف في القانون، فقد كان يمتاز بالقسوة العسكرية وكانت العقوبات تتراوح بين العرض على الجماهير، والأشغال الشاقة، والجلد بالسياط من عشرين إلى مائة جلدة، وجدع الأنف، وصلم الأذنين، والإخصاء وقطع اللسان، وسمل العينين، والخزق، وقطع الرأس (28). وتصف قوانين سرجون الثاني بعض المتع الأخرى كشرب السم، وحرق ابن المذنب أو ابنته حيين على مذبح الإله (29). ولكنا لا نجد شواهد على أن هذه القوانين كانت نافذة في الألف السنة الأولى قبل مولد المسيح. وكان الزنا، وهتك العرض، وبعض أنواع من السرقة تعد من الجرائم التي يعاقب عليها بالإعدام (30). وكانوا يلجئون أحيانا إلى طريقة تحكيم الآلهة؛ فكان المتهم يلقى في النهر وهو مقيد القدمين في بعض الأحيان، ويترك الحكم عليه لمشيئة الماء. وكانت القوانين

ص: 275

الآشورية في العادة أبعد عن الطابع الدنيوي، وأكثر بدائية من قوانين حمورابي البابلية التي كانت على ما يبدو لنا أقدم منها عهدا

(1)

.

وكانت الحكومة المحلية في بداية الأمر يقوم بها أمراء الإقطاع، ثم آلت على توالي الزمن إلى ولاة الأقاليم ومديريها المعينين من قبل الملك. وأخذ الفرس عن الآشوريين هذا الضرب من الحكم الإمبراطوري ومنهم انتقل إلى رومة. وكان يعهد إلى الولاة بجمع الضرائب وتنظيم العمال المسخرين في الأعمال العامة، كأعمال الري، التي لم يكن في الإمكان تركها للجهود الفردية؛ وأهم ما كان يطلب إليهم هو تجنيد العساكر، وقيادتهم في الحروب الملكية. وكان للملك جواسيس (أو رجال قلم المخابرات بلغة هذه الأيام) يراقبون هؤلاء الولاة وأعوانهم وينقلون إلى الملك أخبار الرعية.

وكانت الحكومة الآشورية بقضّها وقضيضها أداة حرب قبل كل شيء. ذلك أن الحرب كثيرا ما كانت أنفع لها من السلم، فقد كانت تثبت النظام، وتقوي روح الوطنية، وتزيد سلطان الملوك، وتأتي بالمغانم الكثيرة لتغني بها العاصمة، وبالعبيد لخدمتها. ومن ثم كان تاريخ الآشوريين يدور معظمه حول مدن تنهب، وقرى وحقول تخرب. ولما أن قمع أشور بانيبال ثورة أخيه شمش- شم- أوكين واستولى على بابل بعد حصار طويل مرير:

"كان للمدينة منظر رهيب تتقزز منه نفوس الآشوريين أنفسهم

فقد كان معظم من قضت عليهم الأوبئة والقحط ملقين في الطرقات أو في الميادين العامة، فريسة للكلاب والخنازير. وحاول من كانت لهم بقية من القوة من الأهلين أو الجنود أن يفروا إلى الريف، ولم يبق في المدينة إلا من كان ضعيفا لا يستطيع أن يجر قدميه إلى أبعد من أسوارها. وطارد أشور بانيبال هؤلاء

(1)

وأقدم القوانين الآشورية التي بقيت إلى هذه الأيام قانون مؤلف من تسعين مادة مكتوبة على ثلاثة ألواح وجدت في خرائب أشور، ويرجع عهدها إلى حوالي عام 1300 ق. م.

ص: 276

المشردين، ولما أن قبض عليهم كلهم تقريبا، صب عليهم جام غضبه ونقمته، فأمر بأن تقتلع ألسنة الجنود، وأن يضربوا بعد ذلك بالهراوات حتى يموتوا. أما الأهالي فقد أمر بذبحهم أما العجول المجنحة العظيمة، التي شهدت منذ خمسين عاما مجزرة أخرى شبيهة بهذه المجزرة في عهد جده سنحريب. وظلت جيف هؤلاء الضحايا في العراء زمنا طويلا تفترسها الوحوش القذرة والطيور (32).

لقد كان هذا الإسراف في العنف من أكبر أسباب ضعف الممالك الشرقية. ذلك أن الثورات المتكررة لم تكن مقصورة على أهل الولايات، بل إن قصور الملوك وأسرهم كثيرا ما كانت تهب لتقلب بالعنف ذلك النظام الذي قام على العنف، والذي يستند إلى العنف. وكثيرا ما كان نقع الفتنة يثور بين المطالبين بالعرش في أواخر أيام كل ملك، أو حين وفاته، فكان الملك المعمر يرى المؤامرات تحاك من حوله، وكثيرا ما كان يُستعجل موته بقتله. وكانت أمم الشرق الأدنى تؤثر الثورات العنيفة على الانتخابات الفاسدة الزائفة، وكانت الوسيلة التي يتبعونها لسحب ثقتهم من حاكمهم هي القضاء على حياته. وما من شك في أن بعض حروب الآشوريين كانت أمرا محتوما لا مفر منه. فقد كان البرابرة يحيطون بتخوم البلاد كلها، فإذا ما جلس على العرش ملك ضعيف انقض السكوذيون والكمريون أو غيرهم من الهمج على المدن الآشورية الغنية يقتلون وينهبون. ولعلنا نبالغ في كثرة الحروب والثورات العنيفة التي تأججت نيرانها في هذه الدول الشرقية، لأن من نقشوا الآثار من الأقدمين، ومن أرخوا تلك الحوادث من الكتاب المحدثين، قد عنوا بالتسجيل المسرحي للوقائع الحربية، وغفلوا عن انتصارات السلم. إن المؤرخين طالما تحيزوا إلى سفك الدماء، ذلك أنهم قد وجدوه، أو ظنوا أن قراءهم سيجدونه، أكثر لذة لهم من أعمال العقل الهادئة. ونحن نظن أن الحروب في هذه الأيام أقل عددا منها في الأيام الحالية لأننا نحس بفترات السلم الصافية المتألقة، على حين أن التاريخ لا يحس، كما يبدو لنا، إلا بأزمات الحرب المحمومة.

ص: 277

الفصل الثالث

‌الحياة في أشور

الصناعة والتجارة - الزواج والآداب العامة - الدين والعلم -

الكتابة ودور الكتب - المثل الأعلى للرجل الكامل عند الآشوريين

لم تكن الحياة الاقتصادية عند الآشوريين تختلف كثيرا عنها عند البابليين؛ وذلك لأن هؤلاء وأولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال إلا أبناء الشمال وأبناء الجنوب من حضارة واحدة. وأهم ما كان بين البلدين من فروق أن المملكة الجنوبية كانت أكثر اشتغالا بالتجارة على حين أن الشمالية كانت أكثر اشتغالا بالزراعة؛ فكان أثرياء البابليين تجارا في الغالب، أما أثرياء الآشوريين فكانوا عادة من كبار الملاك، يشرفون بأنفسهم على ضياعهم الواسعة، ويزدرون ازدراء الرومان من بعدهم أولئك الذين كانوا يكسبون المال بشراء البضائع رخيصة وبيعها غالية (33). بيد أن النهرين نفسهما كانا يفيضان على أرض المملكتين ويغذيانها، ونظام الجسور والقنوات بعينه كان يسيطر فيهما على ما زاد من مياه النهرين، والشواديف ذاتها كانت ترفع المياه من المجاري المنخفضة لتروي الحقول التي تزرع نفس القمح والشعير والذرة الرفيعة والسمسم

(1)

. وكانت الصناعات التي تعتمد عليها حياة أهل المدن واحدة؛ وكان للمملكتين نظام واحد للموازين والمكاييل والمقاييس تتبادل بمقتضاه البضائع. وامتلأت نينوى وغيرها من الحواضر بالحِرَف والصناعات بفضل ما جلبه لها ملوكها من ثراء عظيم، وإن كان موقع هذه المدن

(1)

ومن الغلات الآشورية غير ما ذكرنا هنا الزيتون، والعنب، والثوم، والبصل، والخس، والجرجير، والبنجر، واللفت، والفجل، والخيار، والبرسيم الحجازي، والعرقسوس. وقلما كان غير الموسرين يأكلون اللحم (34)، فقد كانت هذه الأمة الحربية أمة نباتية بوجه عام، إذا استثنينا من ذلك لحم السمك.

ص: 278

في الطرف الشمالي من هذا الإقليم قد حال بينها وبين أن تكون مراكز تجارية كبرى. وكانت المعادن تستخرج من أرض البلاد أو تستورد بكثرة من خارجها.

ص: 279

وفي عام 700 ق. م أو حواليه أصبح الحديد بدل البرنز المعدن الأساسي في الصناعة والتسليح (35). وكانت المعادن تصهر، والزجاج يصنع، والمنسوجات تصبغ

(1)

، والخزف يطلى؛ وكانت البيوت في نينوى تجهز وتؤثث كما كانت تجهز وتؤثث في أوربا قبل الانقلاب الصناعي (36). وأنشئ في عهد سنحريب مجرى مائي فوق قناطر ينقل الماء إلى نينوى من مكان يبعد عنها ثلاثين ميلا؛ وقد كشفت منذ عهد قريب مائة قدم من هذا المجرى

(2)

فكان أقدم مجرى مائي فوق قناطر عرف في التاريخ. وكانت مصارف الأفراد الخاصة تمول بعض التجارة والصناعة وتتقاضى فوائد على قروضها تبلغ 25%. وكانوا يتعاملون بالرصاص والنحاس والذهب والفضة؛ وحوالي عام 700 ق. م سك سنحريب قطعا من الفضة قيمة الواحدة منها نصف شاقل- وهذه القطع من أقدم ما عرف من المسكوكات الرسمية (37).

وكان الأهلون مقسمين إلى خمس طبقات: الأعيان؛ ورجال الصناعة المنتظمون في نقابات، والطبقة الثالثة تشمل أرباب المهن والحرف والعمال غير المهرة وهم الأحرار من صناع المدن وزراع الريف؛ وتشمل الرابعة الأقنان المرتبطين بأرض المزارع الكبرى، كما كان أمثالهم مرتبطين بها في أوربا في العصور الوسطى، وتضم الخامسة الأرقاء أسرى الحروب أو سجناء الديون، وكان هؤلاء يلزمون بالأعيان عن مركزهم الاجتماعي بخزق آذانهم، وحلق رؤوسهم، وهم الذين كانوا يقومون بالأعمال الوضيعة في كل مكان. ونرى في نقش من عهد سنحريب حراسا بأيديهم سياط يشرفون على هؤلاء الأرقاء المنتظمين في صفين طويلين متوازيين يجرون قطعة ثقيلة من تمثال على نقالات من الخشب (38).

(1)

ويحتوي لوح من عهد سنحريب (جوالي عام 700 ق. م) على أقدم إشارة للقطن فقد ورد فيه: "الشجرة التي تثمر الصوف قطعوها واستخرجوا منها القطن الشعر"(35)؛ وأكبر الظن أنهم نقلوها من الهند.

(2)

كشفت هذا المجرى البعثة العراقية التابعة للمعهد الشرقي بجامعة شيكاجو.

ص: 280

وكانت أشور تشجع الإكثار من النسل بقوانينها الأخلاقية وبما تسنه من الشرائع، شأنها في هذا شأن جميع الدول العسكرية، فكان الإجهاض عندهم جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وكانت المرأة التي تجهض نفسها، وحتى المرأة التي تموت وهي تحاول إجهاض نفسها، تخزق بعد موتها (39). وكانت منزلة النساء في أشور أقل منها في بابل، وإن كان منهن من بلغن منزلة سامية بالزواج والدسائس. وكانت تفرض عليهن عقوبات صارمة إذا ضربن أزواجهن، ولم يكن يسمح للمتزوجات أن يخرجن إلى الطريق العام بغير حجاب، وكان يطلب إليهن أن يكن جد أمينات على أعراضهن- وإن كان يسمح لأزواجهن بأن يتخذوا لهم ما يشاءون من السراري (40). وكان البغاء يُعد أمرا لابد منه وتنظمه القوانين. وكان للملك عدد من النساء يعشن معيشة العزلة ويقضين أوقاتهن في الرقص والغناء والنزاع والتطريز والتآمر (41). وإذا قتل الذي يزني بامرأته الزاني وهو متلبس بجريمته عد ذلك من حقه، وقد بقيت هذه العادة بعد أن زالت كثير من الشرائع التي كانت تبيحها. أما فيما عدا هذا فقد كانت قوانين الزواج في أشور مثلها في بابل خلا أمرا واحدا وهو أن الزواج كان في كثير من الأحيان شراء بسيطا، وأن الزوجة كثيرا ما كانت تعيش في منزل أبيها ويزورها فيه زوجها من حين إلى حين (42).

ونشهد في كثير من نواحي الحياة الآشورية صرامة أبوية نراها طبيعية في شعب يعيش من فتوحه، ويعيش على حدود الهمجية، بكل ما يشمله هذا اللفظ من معان. وكما أن الرومان كانوا يتخذون آلاف الأسرى بعد انتصارهم في الحروب عبيدا لهم يقضون في الرق كل حياتهم، ويرسلون آلافا آخرين إلى الحلبة الكبرى لتنهشها السباع الجياع، كذلك يبدو أن الآشوريين كانوا يجدون متعة- أو تدريبا ضروريا لأبنائهم- في تعذيب الأسرى، وسمل عيون الأبناء أمام آبائهم، وسلخ جلود الناس أحياء، وشوي أجسامهم في الأفران، وربطهم

ص: 281

في السلاسل في الأقفاص ليستمتع العامة برؤيتهم، ثم إرسال من يبقى منهم حيا إلى قطع الجلاد (43). وفي هذا يحدثنا أشور بانيبال بقوله: "لقد سلخت جلود كل من خرج علي من الزعماء، وغطيت بجلودهم العمود، وسمرت بعضهم من وسطهم في الجدران، وأعدمت بعضهم خزقا، وصففت بعضهم حول العمود على الخوازيق

أما الزعماء والضباط الذين ثاروا فقد قطعت أطرافهم" (44).

ويفخر أشور بانيبال بأنه "حرق بالنار ثلاثة آلاف أسير، ولم يبق على واحد منهم حيا ليتخذه رهينة"(45). ويقول نقش آخر من نقوشه "أما أولئك المحاربون الذين أذنبوا في حق أشور وائتمروا بالشر عليّ

فقد انتزعت ألسنتهم من أفواههم المعادية وأهلكتهم، ومن بقي منهم على قيد الحياة قدمتهم قرابين جنازية؛ وأطعمت بأشلائهم المقطعة الكلاب والخنازير والذئاب

وبهذه الأعمال أدخلت السرور على قلوب الآلهة العظام" (46). وأمر ملك آخر من ملوكهم الصناع أن ينقشوا على الآجر هذه العبارات التي يرى أن من حقه على الخلَف أن يعجبوا بها: "إن عجلاتي الحربية تهلك الإنسان والحيوان

إن الآثار التي أشيدها قد أقيمت من الجثث الآدمية التي قطعت منها الرؤوس والأطراف، ولقد قطعت أيدي كل من أرتهم أحياء" (47). وتصور النقوش التي كشفت في نينوى الرجال يخزقون أو يسلخون أو تقطع ألسنتهم؛ ويصور نقش منها ملكا من الملوك يفقأ أعين الأسرى برمح، ورؤوسهم مثبتة في أماكنها بحبل يخترق شفاههم (48). ولا يسعنا ونحن نقرأ هذه الصحف إلا أن نحمد الله على مركزنا المتواضع.

ويبدو أن الدين لم يكن له أثر قط في تخفيف هذا العنف وهذه الوحشية. ذلك أن الدين لم يكن له من السلطان على الحكومة بقدر ما كان له في بابل، وإنه كان يكيف نفسه حسب حاجات الملوك وأذواقهم. وكان أشور إلههم القومي من آلهة الشمس، ذا روح حربية، لا يشفق على أعدائه. وكان عباده يعتقدون

ص: 282

أنه يغتبط برؤية الأسرى يقتلون أمام مزاره (49). وكان العمل الجوهري الذي تؤديه الديانة الآشورية هو تدريب مواطن المستقبل على الطاعة التي تتطلبها منه وطنيته، وأن تعلمه مداهنة الآلهة لكسب ودهم ورضاهم بضروب السحر والقرابين. ومن أجل هذا كان كل ما وصل إلينا من النصوص الدينية الآشورية لا يخرج عن الرقي والفأل والطيرة. ولدينا من هذين كشوف طويلة حددت فيها لكل حادثة نتائجها المحتومة، ووصفت فيها الوسائل التي يجب اتباعها لتجنب هذه النتائج (50). وكانوا يصورون العالم على أنه مليء بالشياطين التي يجب اتقاء شرها بالتمائم المعلقة في الرقاب، أو الرقى الطويلة التي تجب تلاوتها بدقة وعناية.

وذلك جو لا يزدهر فيه من العلوم إلا علم الحروب، فقد كان الطب الآشوري هو الطب البابلي لم يزيدوا عليه شيئا، ولم يكن علم الفلك الآشوري إلا التنجيم البابلي، فكان أهم غرض تدرس من أجله النجوم هو التنبؤ بالغيب (51). ولسنا نجد عندهم شواهد على البحوث الفلسفية، ولم نعثر على ما يثبت أنهم حاولوا أن يفسروا العالم من غير طريق الدين. وقد وضع علماء اللغة الآشوريون قوائم بأسماء النباتات، ولعلهم وضعوها ليستعينوا بها في صناعة الطب، وبذلك قدموا بعض العون لعلم النباتات؛ ووضع غير هؤلاء من الكتبة قوائم تكاد تحتوي على كل ما كان على الأرض من أشياء، وكان فيما حاولوه من تصنيفها بعض العون لعلماء التاريخ الطبيعي من اليونان. وأخذت اللغة الإنجليزية من هذه الكشوف، عن طريق اللغة اليونانية في الغالب، لألفاظ الإنجليزية الآتية:

hangar، gypsum، camel، plinth، rose، ammonia، jasper، cane، cherry، Laudanum، naphtha، sesame، hyssop and myrrh.

(1)

ومن أن نقر للألواح التي تسجل أعمال الملوك الآشوريين بذلك الفضل

(1)

ويقابلها في العربية الحظيرة، والجبس، والجمل، وسفل الحائط (البلنت)، والورد، والنشادر، واليشب، والقصب، والكرز، وصبغة الأفيون (اللودتوم) والنقط، والسمسم، الجسب (الثغام)، والمر.

ص: 283

العظيم وهي أنها أقدم ما بقي لدينا من الكتب في علم التاريخ، رغم ما تتصف به من الملل والسآمة، وما تسجله من الأعمال الوحشية الدموية، وكانت هذه الألواح في السنين الأولى مجرد أخبار تروى، أو تروي كل ما تحتويه سجلات لانتصار الملوك، لا تعترف لهم بأي هزيمة. ثم أصبحت فيما بعد وصفا أدبيا منمقا لما وقع من الأحداث الهامة في عهد كل واحد منهم. وأهم ما يخلد ذكر أشور في تاريخ الحضارة هو مكتباتها، فقد كانت مكتبة أشور بانيبال تحتوي ثلاثين ألف لوح من الطين مصنفة ومفهرسة، وعلى كل واحد منها رقعة يسهل الاستدلال بها عليه. وكان على كثير منها تلك العبارة التي كانت من شارات الملك الخاصة: "فليحل غضب أشور وبليت

على كل من ينقل هذا اللوح من مكانه

وليمحوا اسمه واسم أبنائه من على ظهر الأرض" (53). وكثير من هذه الألواح منسوخة من أخرى أقدم منها لم يبين تاريخها، تكشف أعمال الحفر عنها في كل يوم. وقد أعلن أشور بانيبال أنه أنشأ مكتبة ليمنع الآداب البابلية أن يجر عليها النسيان ذيله.

ولكن الألواح التي يصح أن تسمى الآن أدبا لا تتجاوز عددا قليلا منها، أما معظمها فسجلات رسمية وأرصاد يقصد بها التنجيم والفأل والطيرة والتنبؤ بالمستقبل، ووصفات طبية، وتقارير ورقى سحرية، وترانيم وصلوات وأنساب للملوك والآلهة (54). وأقل هذه الألواح مدعاة إلى الملل لوحان يعترف فيهما أشور بانيبال بحب الكتب والمعرفة، وهو اعتراف يزري به في أعين مواطنيه، والغريب أنه يكرر فيهما هذا الاعتراف ويصر عليه إصرارا:

"أنا، أشور بانيبال، فهمت حكمة نابو

(1)

وتوصلت إلى فهم جميع فنون كتابة الألواح. وعرفت كيف أضرب بالقوس وأركب الحيل والعربات، وأمسك أعنتها

وحباني مردك، حكيم الآلهة، بالعلم والفهم هدية منه

ووهب لي

(1)

إله الحكمة المقابل لتحوت، وهرميز، وعطارد في البلاد الأخرى.

ص: 284

إتورت وشرجال الرجولة والقوة، والبأس الذي لا نظير له. وعرفت صنعة أدابا الحكيم، وما في فن الكتبة كله من أسرار خفية؛ وقرأت في بناء الأرض والسماوات وتدبرته؛ وشهدت اجتماعات الكتبة وراقبت البشائر النذر؛ وشرحت السماوات مع الكهنة العلماء؛ وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة، التي لا تتضح لأول وهلة. وكان من أسباب سروري أن اكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الأكدية التي تصعب قراءتها

وامتطيت الأمهار؛ ركبتها بحكمة حتى لا تجمح، وشددت القوس، وأطلق السهم، وتلك سمة المحارب، ورميت الحراب المرتجفة كأنها رماح قصيرة

وأمسكت بالأعنة كسائق المركبات

ووجهت ناسجي دروع الغاب ومجناته كما يفعل الرائد، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف أصنافهم حينما يحين وقت نضجهم، وتعلمت في الوقت نفسه ما يتفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية" (55).

ص: 285

الفصل الرابع

‌الفن الآشوري

الفنون الصغرى - النقش الغائر - التماثيل - البناء - صفحة من "سردناباس"

بلغت أشور في آخر عهدها ما بلغته معلمتها بابل في الفنون، وبزتها في النقوش الغائرة. فقد حفزت الثروة العظيمة التي تدفقت على أشور وكلخ ونينوى الفنانين والصناع الآشوريين إلى أن يخرجوا للإشراف ونساء الأشراف، وللملوك وقصور الملوك، وللكهنة والهياكل، حليا مختلفة الأشكال، فصهروا المعادن وبرعوا في تشكيلها وصناعتها كما نشاهد ذلك في أبواب بلاوات العظيمة،

ص: 286

وفي الأثاث الفخم الجميل، الشكل الدقيق الصنع المتخذ من أثمن الأخشاب، والمقوى بالمعادن، والمرصع بالذهب والفضة والبرنز والأحجار الكريمة (56). وكانت صناعة الفخار عندهم منحطة، وفي الموسيقى لم يزيدوا على ما أخذوه منها عن البابليين، ولكن التصوير بالطلاء الممزوج بالغراء وصفار البيض الزاهي الألوان أصبح من الفنون الآشورية الخاصة التي انتقلت إلى بلاد الفرس فبلغت فيها حد الكمال. وكان التصوير في أشور كما كان على الدوام في بلاد الشرق القديم فنا ثانويا تابعا للحرب يسير في ركابها.

وأخرج فن النقش الغائر في أيام المجد أيام سرجون الثاني وسنحريب وعسرهدن وأشور بانيبال وبتشجيع هؤلاء الملوك روائع هي الآن في المتحف البريطاني. على أن من أجمل آياته تحفة يرجع عهدها إلى أيام أشور بانيبال الثاني. وهي من المرمر النقي وتمثل مردك إله الخير يهزم تيمات الخبيث إله الفوضى (57). أما صور الآدميين المحفورة فهي جامدة خشنة وكلها متماثلة لا فرق بين الواحدة منها والأخرى، كأنما قد وضع لها نموذج واحد كامل وفرض عليها أن تحاكيه

ص: 287

في جميع العهود. ذلك أن للرجال جميعهم رؤوسا ضخمة وشوارب غزيرة، وبطونا كبير، وأعناقا لا تكاد تراها العين. وحتى الآلهة نفسها قد صورت بهذه الصورة الآشورية لا تستتر إلا قليلا. ولا تظهر حيوية الرجال في صورهم إلا في أحوال

ص: 289

جد نادرة، منها قطعة المرمر المنقوشة التي تمثل الأرواح تتعبد أمام نخلة هندية (58). وفي اللوحة الجيرية التي تمثل شمسى أداد السابع والتي عثر عليها في كلخ (59). أما النقوش التي تثير إعجابنا بحق فهي نقوش الحيوانات، وما من شك في أن الفن قديمه وحديثه لم ينجح في نحت الحيوانات نجاح الفن الآشوري. إن الألواح تكرر أمام الأعين مناظر مملة تمثل الحرب والصيد، ولكن العين لا تمل قط من النظر إلى حركات الحيوانات القوية ونفورها الطبيعي، وتصويرها البسيط الذي لا تكلف فيه، كأنما الفنان الذي حرم عليه أن يصور سادته في حقيقتهم وفرديتهم قد وهب كل علمه وحذقه لتصوير الحيوانات. وهو يصور منها أنواعا جمة لا عديد لها- يصور آسادا، وخيلا، وحميرا، ومعزا، وكلابا، ودببة، وظباء، وطيورا، وجنادب، ويصورها في كل وضع من أوضاعها ما عدا سكونها. وما أكثر ما يمثلها وهي تعاني سكرات الموت، ولكنه حتى في هذه الحال يجعلها مركز الحياة في صورته وفنه.

وهل هناك ما هو أروع من خيل سرجون الثاني في نقوش خراساباد (60)، أو اللبؤة الجريحة التي عثر عليها المنقبون في قصر سنحريب (61) في نينوى، أو اللبؤة المحتضرة المنقوشة على حجر المرمر والتي استخرجت من قصر أشور بانيبال (62)، أو مناظر صيد أشورناصربال الثاني وأشور بانيبال للآساد (63)، أو منظر اللبؤة المستريحة (64)، أو الأسد الذي أطلق من الشرك (65)، أو القطعة التي نقش عليها أسد ولبؤة يستظلان تحت الأشجار (66). كل هذه من أجمل روائع هذا الفن في العالم كله. ولسنا ننكر أن تمثيل الأشياء الطبيعية عن طريق الحفر كان عند الآشوريين فنا فجا خشنا يجري على سنن جامدة محددة، وأن أشكاله ثقيلة غير ظريفة، وأن خطوطه قاسية عسرة، وأن العضلات مبالغ فيها كثيرا، وأن كل ما روعي فيها من قواعد المنظور لا يعدو وضع الشيء البعيد في النصف الأعلى من الصورة بنفس الأبعاد التي رسم بها ما هو أقرب منه إلى الراسم، وما وضع من

ص: 290

تحته في الصورة، على أن المثالين في عهد سنحريب عرفوا كيف يعوضون هذه العيوب بما أخرجوه من صور واقعية قوية، مصقولة حسب الأصول الفنية، مثل فيها الفنانون حركاتها أوضح تمثيل، وليس ثمة فيما نقش من الحيوانات شيء

ص: 291

يفوقها حتى اليوم. لقد كان فن النقش الغائر للآشوريين ما كان فن النحت لليونان، أو التصوير الزيتي للإيطاليين في أيام النهضة، كان فنا محببا إليهم، يعبر تعبيرا فذا عن مثلهم الأعلى القومي في الشكل وفي الصفات.

هذا ما نقوله عن النقش عند الآشوريين، أما النحت فكان أقل منه شأنا وأحط منزلة. ويخيل إلينا أن الحفارين في نينوى وفي كلخ كانوا يفضلون النقش عن التصوير المجسم؛ ولذلك لم يصل إلينا من خرائب الآشوريين إلا قليل من التماثيل الكاملة. وليس فيما وصل إلينا منها ما هو ذو قيمة كبيرة. نرى تماثيل الحيوانات مليئة بالحياة والجلال، كأنها لا تشعر بأنها أعظم من الإنسان قوة فحسب بل تشعر فوق هذا بأنها أرقى منه خُلُقا- وحسبنا أن نذكر منها الثورين اللذين كانا يحرسان مدخل خراساباد (67)؛ وأما تماثيل الأناسى والأرباب فهي خشنة ثقيلة بدائية، مزينة ولكنها لا فروق بينها، منتصبة ولكنها ميتة. ولعل من الجائز أن نستثني من هذا الوصف تمثال أشورناصربال الثاني الضخم المحفوظ في المتحف البريطاني الآن. ذلك أن في وسع الناظر إليه أن يرى فيه من خلال خطوطه الثقيلة ملكا في كل شبر من جسمه! يرى الصولجان الملكي وقد قبض عليه قبضة قوية، والشفتين الغليظتين تنمان عن قوة العزيمة، والعينين القاسيتين اليقظتين ويرى عنقا كعنق الثور ينذر الأعداء والمزورين في أخبار الضرائب بالشر المستطير، ويرى قدمين ضخمتين متزنتين على ظهر الأرض أكمل اتزان.

على أننا يجب إلا نقسو في حكمنا على فن النحت الآشوري؛ فأكبر الظن أن الآشوريين كانوا كلفين بالعضلات المفتولة والرقاب القصيرة، وأنهم لو رأوا نحافة أجسامنا التي تكاد تشبه نحافة أجسام النساء أو رشاقة هرميز الناعمة الشهوانية كما صورها بركسنليز أو عُلّية أبلون لسخروا من هذا كله أشد السخرية. أما من حيث العمارة الآشورية فكيف نستطيع أن نقدر قيمتها إذا كان كل ما بقي منها أنقاضا وخرائب لا تكاد تعلو عما يحيط بها من رمال، ولا تفيد في شيء إلا أن

ص: 292

تكون مشجبا يعلق عليه علماء الآثار البواسل ما "يستعيدونه" بخيالهم من أشكال تلك العمائر القديمة. لقد كان الآشوريون كالبابليين الأقدمين والأمريكيين المحدثين لا ينشدون الجمال في مبانيهم بل كانوا ينشدون العظمة والفخامة وينشدونهما في ضخامة الأشكال. وجرى الآشوريون في عمائرهم على سنن الفن في أرض الجزيرة فاتخذوا اللبن مادة أساسية لمبانيهم، ولكنهم اختطوا لأنفسهم طريقة خاصة بهم، بأن اتخذوا واجهاتها من الحجارة أكثر مما فعل البابليون. وورث الآشوريون الأقواس والعقود من أهل الجنوب، ولكنهم أدخلوا عليها كثيرا من التعديل، وأجروا بعض التجارب على إقامة العمد، مهدوا بها السبيل للعمد التي في شكل النساء وللتيجان "الأيونية" اللولبية التي نشاهدها عند الفرس واليونان (68). ولقد أقاموا قصورهم على مساحات واسعة من الأرض، وكانوا حكماء إذ لم يعلوا بها أكثر من طبقتين أو ثلاث طبقات (69). وكان القصر يتألف عادة من عدد من الردهات والغرف تحيط بفناء هادئ ظليل. وكان يحرس مداخل القصور الملكية حيوانات مهولة من الحجارة، وتصف حول جدران الردهة القريبة من مدخل القصر وتعلق عليها نقوش غائرة وتماثيل تاريخية، وكانت تبلط بألواح المرمر، وتعلق على جدرانها أقمشة ثمينة مطرزة مزركشة، أو تكسى بالأخشاب النادرة الغالية وتحف بها حليات جميلة أما السقوف فكانت تقوى بكتل خشبية ضخمة، تغطى في بعض الأحيان برقائق من الفضة أو الذهب وتصور عليها من أسفلها بعض المناظر الطبيعية (70).

وكان أعظم المحاربين الستة من ملوك أشور هم أيضا أعظم البنائين منهم. فقد أعاد تغلث فلاصر الأول بناء هياكل أشور بالحجارة، وقال عن واحد منها أنه "جُعل داخله متلألئاً كقبة السماء، وزين جدرانه حتى كانت في لآلئ النجوم المشرقة، وجعله فخا ذا سناء وبريق"(71). وكان الملوك الذين جاءوا من بعده أسخياء فيما وهبوه للمعابد، ولكنهم كانوا كسليمان يفضلون عليها قصورهم،

ص: 293

فقد شاد أشورناصربال الثاني في كلخ قصرا عظيما من الآجر المبطن بالحجارة، وزينه بالنقوش التي تمتدح التقوى والحروب. وقد كشف راسام عند بلاوات بالقرب من هذا الموضع عن بقايا بناء آخر عثر فيه على بابين كبيرين عظيمين من البرنز دقيقي الصنع (72). وخلد سرجون الثاني ذكره بأن أقام قصرا فسيحا عند دور- شروكين "أي حصن سرجون" في موضع خراساباد الحالية. وكان على جانبي مدخله أثوار مجنحة، وعلى جدرانه نقوش وقرميد براق، وكانت حجراته الواسعة ذات آثار بديعة النقش والصنع، كما كانت تزينها تماثيل تبعث في النفس الروعة والمهابة. وكان سرجون كلما انتصر في واقعة جاء بالأسرى ليعملوا في هذا الصرح العظيم، وجاء بالرخام واللازورد، والبرنز، والفضة، والذهب ليجمله بها. وشاد حوله طائفة من الهياكل، وأقام من خلفه زجورات من سبع طبقات غطيت قمة أعلاها بالفضة والذهب. وشاد سنحريب في نينوى قصرا ملكيا سماه "المنقطع النظير" يفوق في ضخامته كل القصور القديمة (73). وكانت جدرانه وأرضه تتلألأ فيها نفائس المعادن والأخشاب والحجارة، وكانت قراميده تنافس في بريقها آيتي النهار والليل؛ وصب له صناع المعادن آسادا وأثوارا ضخمة من النحاس، ونحت له المثالون أثوارا مجنحة من حجر الجير والمرمر، ونقشوا على جدرانه الأغاني الريفية. وواصل عسرهدن توسيع نينوى وإعادة ما تهدم من عمائرها، وفاقت مبانيه مباني من سبقوه جميعهم في روعتها وفي أثاثها وأدواتها المترفة الثمينة. فقد كانت اثنتا عشرة ولاية تقدم إليه حاجته من الموارد والرجال؛ ونقل إلى بلاده آراء جديدة عن العمد والنقوش عرفها أثناء إقامته في مصر؛ ولما أتم بناء قصوره وهياكله ملأها بالتحف التي غنمها من جميع بلاد الشرق الأدنى وبما رآه فيها من روائع الفن (74).

وأسوأ ما يمكن أن يقال عن فن العمارة الآشورية أن قصر عسرهدن قد

ص: 294

انهار كله وأصبح أطلالاً بعد ستين سنة من بنائه (75). ويحدثنا أشور بانيبال أنه أعاد تشييده؛ ويخيل إلينا ونحن نقرأ نقشه أن القرون التي تفصل ما بيننا وبين هذا العصر قد انطوت، وأننا نخترق بأبصارنا قلب ذلك الملك:

"وفي ذلك الوقت تقادم عهد الحرم، مكان الراحة في القصر

الذي شاده جدي سنحريب ليقيم فيه، وذلك لطول ما استمتع فيه من بهجة وسرور وتداعت جدرانه. وإذ كنت أنا أشور بانيبال، الملك العظيم، الملك القادر، ملك العالم، ملك أشور،

قد نشأت في ذلك الحرم وحفظني فيه أشور، وسن، وشمش، ورامان، وبل، ونابو، وإشتار،

وأنا وليٌّ للعهد، وبسطوا علي حمايتهم الطيبة وملاذهم الرضى؛

ولم ينفكوا يبعثون إلي فيه أنباء سارة عن ظفرنا بأعدائنا، وإذ كانت أحلامي وأنا على سريري في الليل أحلاما سارة، كما كانت خيالاتي في الصباح مبهجة جميلة،

فقد مزقت خرائبه؛ وأردت أن أوسع رقعته فمزقتها جميعا. وشدت بناء مساحة أرضه خمسون تِبكى. وبنيت ربوة ولكنني وقفت خائفا أمام مزارات أرباب الآلهة العظام، فلم أعل بهذا البناء كثيرا؛ وصببت نبيذ السمسم ونبيذ العنب على قباء مؤنه، كما صببتهما على جداره الطيني. ولكي أشيد هذا الحرم كان أهل بلادي ينقلون اللبنات في عربات عيلام التي غنمتها منهم بأمر الآلهة. وسخرت ملوك بلاد العرب الذين نقضوا الهدنة معي، والذين أسرتهم في الحرب بيدي وهم أحياء، يحملون الأسفاط و (يلبسون) قلانس الفعلة ليشيدوا ذلك الحرم

وكانوا يقضون نهارهم في صنع اللبنات، ويرغمون على العمل فيه أثناء عزف الموسيقى. وشدت بناءه من قواعده حتى سقفه وأنا مغتبط مسرور، وأنشأت فيه من الحجرات أكثر مما

ص: 295

كان به قبلاً؛ وجعلت العمل فيه فخما، ووضعت فوقه كتلاً طويلة من أشجار الأرز التي تنمو على سِرارا ولبنان، وغطيت الأبواب المصنوعة من خشب الليارو ذي الرائحة الذكية بطبقة من النحاس وعلقتها في مداخله

وزرعت حوله أيكة حَوَت جميع أنواع الأشجار، والفاكهة

على اختلاف أصنافها

ولما فرغت من أعمال بنائه قربت القرابين العظيمة للآلهة أربابي، ودشنته وأنا مغتبط منشرح الصدر، ودخلته تحت ظلة فخمة (76).

ص: 296

الفصل الخامس

‌خاتمة أشور

آخر أيام ملك - أسباب انحلال أشور - سقوط نينوى

بيد أن "الملك العظيم، الملك القادر، ملك العالم، ملك أشور" أخذ في آخر أيامه يندب سوء حظه. وآخر ما خلفه لنا من الألواح يثير مرة أخرى مسألتي سفر الجامعة وسفر أيوب:

"لقد فعلت الخير لله والناس، للموتى والأحياء؛ فلم إذن أصابني المرض وحل بي الشقاء؟ إني عاجز عن إخماد الفتن التي في بلدي، وعن حسم النزاع القائم في أسرتي، وأن الفتائح المزعجة لتضايقني على الدوام، وأمراض العقل والجسم تطأطئ من إشرافي، وهأنذا أقضي آخر أيامي أصرخ من شدة الويل؛ بائسا في يوم إله المدينة، ويوم العيد. إن المنيّة تنشب في أظفارها، وتنحدر بي نحو آخرتي. أندب حظي ليلا ونهارا، وأنوح وأعول وأتوجع: "أي إلهي! هب الرحمة لإنسان وإن كان عاقا حتى يرى نورك! "

(1)

(1)

ويصور ديودور هذا الملك في صورة من أخذ يقض عمره في إشباع شهواته النسائية والفجور والفسق المخنث. ولسنا نعرف عن أي شيء استند ديودور. ثم إنه يعزو إليه أنه هو واضع هذه العبارة التي كتبت على قبره: إنك نعلم حق العلم أنك قد ولدت للفناء. فاطرب، وابتهج في الأعياد. وإذا مت فلن يبق لك بعدئذ ما يسرك، ومن أجل هذا فإني، وقد حكمت من قبل نينس العظيمة، لست الآن إلا ترابا. ولكن قد بقيت لي هذه الأشياء التي ابتهجت بها. في حياتي- الطعام الذي أكلته، واللهو الذي استمتعت به، وملاذ الحرب ومسراتها. أما ماعدا هذا من الأشياء التي يراها الناس نعما فقد تركتها خلفي. ولعلنا لا نجد شيئا من التناقض بين هذا المزاج وبين المزاج الذي تصوره نصوص هذا الكتاب؛ فقد يكون أحدهما تمهيدا طيبا للآخر.

ص: 297

ولسنا نعرف كيف قضى أشور بانيبال نحبه. فأما القصة التي وضعها بيرُن في قالب مسرحية، والتي تقول أنه أشعل النار في قصره فهلك وسط اللهب، فإن مردها إلى كتسياس (79) وهو مؤرخ مولع بإيراد كل ما هو غريب، وقد لا تكون إلا أسطورة من الأساطير. ومهما تكن ميتته فقد كانت نذيرا بما سيؤول إليه أمر بلاده ورمزا لآخرتها؛ لقد كانت هي الأخرى مقبلة على الفناء لأسباب بعضها من صنع يده. ذلك أن حياة أشور الاقتصادية كان جل اعتمادها على ما يصل إليها من خارجها، وقد أسرف ملوكها في الجري على هذه السياسة الحمقاء، فكان مصدر حياة البلاد هو الفتوح الخارجية التي تأتيها بالمال الوفير من الغنائم والمتاجر. وتلك سياسة تعرضها للخراب في أية لحظة إذا ما هزمت جيوشها في واقعة حاسمة. وسرعان ما أخذت الصفات الجسمية والخلقية. التي جعلت الجيوش الآشورية رهيبة لا تقهر في ميدان القتال، تضعف بتأثير الانتصارات التي نالها هؤلاء الجنود؛ ذلك أن كل واقعة تنتصر فيها أشور كان يهلك فيها أقوى جنودها وأبسلهم، فلا ينج من القتل إلا الضعاف والمترددون والحذرون يعودون إلى بلادهم ليكثروا من نسلهم، وتلك خطة مآلها إضعاف النسل، ولعلها كانت من أسباب ارتقاء الحضارة لأنها انتزعت من بلاد أشد الناس وحشية، ولكنها قوضت الأساس الحيوي الذي شادت عليه أشور قوتها. وكان اتساع فتوحها سببا آخر من أسباب ضعفها، ولم يكن إقفار الحقول وزراعها لإطعام إله الحرب النهم هو السبب الوحيد في هذا الضعف، بل كان له سبب آخر وهو أن فتوحها جاءت إليها بالأسرى وبملايين من الأجانب مملقين الذين تناسلوا كما يتناسل المعدمون البائسون، فلم يبقوا على شيء من الوحدة القومية في الجسم والخلق، وكانوا لكثرتهم المطردة قوة معادية تعمل على الضعف والانحلال بين الفاتحين أنفسهم. وأخذ هؤلاء الرجال القادمون من البلاد الأجنبية يزداد عددهم في الجيش نفسه، بينما كان الغزاة أنصاف الهمج يهاجمون البلاد من جميع أطرافها،

ص: 298

ويستنزفون مواردها في سلسلة لا آخر لها من الحروب للدفاع عن تخومها غير الطبيعية.

ومات أشور بانيبال في عام 626 ق. م، وبعد أربعة عشر عاما من موته اجتاح البلاد جيش من البابليين بقيادة نبوخذ نصر ومعه جيش من الميديين بقيادة سياخار وجحافل أخرى غير نظامية من السكوذيين أهل القفقاز. وسرعان ما استولت هذه الجيوش على القلاع الشمالية بسهولة عجيبة. وخربت نينوى تخريبا لا يقل في قسوته وشموله عما فعله ملوكها من قبل بالسوس وبابل، وأشعلت النار في المدينة، وذبح أهلها أو سيقوا أسرى، ونهب القصر الذي شاده أشور بانيبال من عهد قيصر ثم دُمّر أشنع تدمير. وهكذا اختفت أشور من التاريخ، ولم يبق منها إلا بعض أفانين الحرب وأسلحتها وتيجان لولبيّة لبعض عمدها النصف (الأيونية)، وبعض النظم الإدارية لحكم الولايات التي انتقلت منها إلى الفُرْس ومقدونية ورومة. وظل الشرق الأدنى بعض الوقت يذكر لها قسوتها في توحيد نحو اثنتي عشرة دولة صغيرة تحت سلطانها؛ وتحدّث اليهود عن نينوى حديثا ينطوي على الحقد والضغينة ووصفوها بأنها:"المدينة الدموية، التي تفيض بالكذب واللصوصية"(80). وما هي إلا فترة قصيرة حتى نسى الناس أسماء ملوكها العظام ما عدا أعظمهم قوّة وبطشا، وأصبحت قصورهم خربات دارسة تحت الرمال السافية. وبعد مائتي عام من الاستيلاء على نينوى وطأت جيوش زتوفون التي تبلغ عدتها عشرة آلاف مقاتل الأكوام التي كانت من قبل نينوى، ولم يدر بخلدها قط أن هذه الأكوام بعينها هي موضع الحاضرة القديمة التي كانت تحكم نصف العالم. ولم تقع أعين هذه الجيوش على حجر واحد من حجارة الهياكل التي حاول جنود أشور الأتقياء أن يجملوا بها أعظم عواصمهم. وحتى أشور نفسه إلهها الخالد أمسى في عداد الموتى

(1)

.

(1)

ملحوظة: استعنا في تحقيق أسماء الأماكن الواردة في هذا الباب والبابين السابقين بالخرائط الجغرافية والتاريخية التي تفضلت بإعارتنا إياها المفوضية العراقية بالقاهرة ووزارة الخارجية العراقية. (المترجم)

ص: 299

الباب الحادي عشر

‌خليط من الأمم

الفصل الأول

‌الشعوب الهندوربية

مسرح الأجناس - ميتانيون - الحيثيون - الأرمن

السكوذيون - الفريجيون - الأم المقدسة - الليديون-

كروسس - العملة - صولون وقورش

كان الشرق الأدنى في عهد نبوخد نصر يبدو للعين البعيدة الفاحصة كأنه بحر خضم يتلاطم فيه خليط من الآدميين، يأتلفون ثم يتفرقون، يستعبدون ثم يُستعبدون، يأكلون ويُؤكلون، ويَقتلُون ويُقتلَون إلى غير نهاية وكان من وراء الإمبراطوريات الكبرى ومن حولها- مصر وبابل وأشور والفرس يضطرب هذا الخليط من الشعوب نصف البدوية نصف المستقرة: الكمريين، والقليقيين، والكيدوكيين، والبثونيين، والأشكانيين، والميزيين، والميونيين، والكرييين، والبمفيليين، والبزيديين، واللوكوانيين، والفلسطينيين، والعموريين، والكنعانيين، والإدميين، والعمونيين، والمؤابيين، وعشرات العشرات من الشعوب الأخرى التي كان كل شعب منها يظن نفسه مركز الأرض ومحور التاريخ، ويعجب من جهل المؤرخين وتحيزهم إذ لم يخصوه إلا بفقرة أو فقرتين في كتبهم.

وكان هؤلاء البدو طوال تاريخ الشرق الأدنى خطراً يهدد الممالك التي كانت

ص: 300

أكثر منهم استقراراً، والتي كانوا يحيطون بها من كل الجهات تقريباً. وكان الجدب يدفع بهم من حين إلى حين إلى هذه الأصقاع الغنية فتشب بينها وبينهم الحرب، أو يتطلب منها ذلك الاستعداد الدائم للحرب (1). وكان الذي يحدث عادة أن تموت المملكة المستقرة وتحيا من بعدها القبيلة البدوية التي اجتاحت أراضيها في آخر الأمر. والعالم مليء بالأصقاع التي ازدهرت فيها الحضارة في يوم من الأيام والتي عاد البدو يجوسون خلالها من جديد.

وفي بحر الأجناس المتلاطم أخذت بعض الدول الصغرى تتشكل، ويكون لها نصيب صغير في تراث الجنس البشري، وإن لم يزد نصيبها هذا على أن تكون ناقلة وموصلة. ويهمنا من هذه الشعوب الميتانيون وليس ذلك لأنهم أعداء مصر الأقدمون في الشرق الأدنى بل لأنهم أول الشعوب الهندوروبية التي عرفناها في آسية، ولأنهم أول عبدة الآلهة- مثرا، وإندرا، وفرونا- التي انتقلت منهم إلى فارس والهند، فأعانتنا بانتقالها على تتبع حركات الجنس الذي كان يطلق عليه من قبيل التيسير الجنس "الآرى"

(1)

.

وكان الحيثيون من أقوى الشعوب الهندوروبية القديمة ومن أكثرها حضارة؛ وأكبر الظن أنهم جاءوا عن طريق بسفور والهسبنت (الدردنيل) وبحر إيجه، أو عن طريق القفقاز، واستقروا طبقة عسكرية حاكمة تسيطر على الزراع سكان البلاد الأصليين في شبه الجزيرة الجبلية الواقعة جنوبي البحر الأسود والمعروفة الآن باسم آسية الصغرى. ونراهم حوالي عام 1800 ق. م مستقرين قرب منابع دجلة والفرات، ثم نشروا بعدئذ جيوشهم وبسطوا نفوذهم في سوريا، وأقلقوا بال

(1)

كان أول ظهور لفظ الآريين عند الحرى إحدى قبائل أمة الميتاني. وكان هذا اللفظ اسما أطلقته على نفسها مجموعة الشعوب الضاربة بقرب شواطئ بحر قزوين أو التي كان أصلها ممن يضربون بالقرب من هذه الشواطئ. أما اليوم فإن هذا اللفظ يطلق بنوع خاص على الميتانيين والحيثيين، والميديين، والفرس، والهنود الفدا- أي على الشعبة الشرقية من الشعوب الهندوربية التي عمرت شعبتها الغربية بلاد أوربا.

ص: 301

مصر القوية حيناً من الزمان. ولقد رأينا كيف اضطر رمسيس الثاني أن يعقد الصلح معهم وأن يقروا لملك الحيثيين بأنه نده. واتخذ الحيثيون عاصمتهم عند بوغاز كوي

(1)

وجعلوا أساس حضارتهم في أول الأمر الحديد الذي استخرجوه من الجبال المتاخمة لأرمينية، ثم الشرائع التي تأثرت كثيراً بشرائع حمورابي، ثم ما طبعوا عليه من إدراك ساذج للجمال حفزهم إلى نحت تماثيل مجسمة ضخمة سمجة أو نقرها في صخور الجبال

(2)

. وكانت لغتهم تنتمي في أكثر ألفاظها إلى أسرة اللغات الهندوروبية؛ وقد حل رنزني رموزها من عهد قريب بدراسة الاثني عشر ألف لوح التي عثر عليها هيوجو ونكلر في بوغاز كوي، وهي في اشتقاقها وتصريفها شديدة الشبه باللغتين اللاتينية واليونانية، ومن كلماتها البسيطة ما هو ظاهر القرابة للكلمات الإنكليزية

(3)

وكان للحيثيين خط تصويري يكتبونه بطريقتهم الخاصة العجيبة. إذ كانوا يكتبون سطراً من الشمال إلى اليمين، ثم يكتبون السطر الذي يليه من اليمين إلى الشمال، ثم من الشمال إلى اليمين وهكذا دواليك. وأخذوا الخط المسماري عن البابليين، وعلموا أهل كريت صنع الألواح الطينية ليكتبوا عليها؛ ويظهر

(1)

في شرق نهر هاليس. وبالقرب منها على الضفة الأخرى من النهر تقع مدينة أنقرة عاصمة تركيا الحديثة، وهي ابنة أنقورة التي كانت في الأيام القديمة حاضرة فريجيا. وقد يكون مما يعيننا على رسم صورة ثقافية متناسبة الأبعاد أن ندرك أن الأتراك الذين نسميهم "مرعبين" يفخرون بقدم عاصمتهم ويرثون لحال أوربا التي يسيطر عليها البرابرة الكفرة. إن كل بقعة في العالم لتعد بلا جدال مركزاً له.

(2)

وقد كشف البارون فون أوبنهايم عند تل حلف وغيره من الأماكن كثيراً من تحف الحيثيين الفنية، وجمعها في متحفه، وهو مصنع مهجور في برلين. ويرجع كاشف هذه الآثار تاريخ معظمها إلى حوالي 1200 ق. م ويرجع بعضها إلى الألف الرابع قبل الميلاد. وتحتوي هذه المجموعة طائفة من الآساد منحوتة في الحجر نحتاً ساذجاً ولكنه قوي، وتماثيل لثالوث الآلهة الحيثية- إله الشمس، وإله الجو، وهبات إشتار الحيثيين. وأعظم ما يروعنا من هذه التماثيل تمثال لأبي الهول قبيح المنظر، وضع أمامه وعاء من الحجر ليقرب فيه القربان.

(3)

انظر مثلا فادار Water إزا Eat، أوجا أنا I (وباللاتينية Ego) توج hee، فش we، مو me، كوش who (وباللاتينية quis) ، كوت what (باللاتينية quid) وغيرها (3).

ص: 302

أنهم اختلطوا بالعبرانيين الأقدمين اختلاطا شديد أكسب هؤلاء أنفهم الأقني الشديد القنا. ومن ثم فإن من واجبنا أن نعد هذه الخاصة العبرية "آرية" حقة (4). ومن الألواح التي بقيت إلى هذه الأيام ما يحتوي على مفردات حيثية وما يقابلها باللغتين السومرية والبابلية؛ ومنها ما هو أوامر إدارية تكشف عن دولة عسكرية ملكية متماسكة؛ ومنها حطام ألواح تبلغ عدتها مائتين تحوى على طائفة من القوانين من بينها قواعد لتحديد أثمان السلع (5). ولقد اختفى الحيثيون من صفحة التاريخ اختفاء يكاد يشبه في غرابته وغموضه ظهورهم فيها، فقد اندثرت عواصمهم واحدة بعد واحدة- ولعل سبب اندثارها أن ميزتهم العظيمة التي فاقوا بها غيرهم من الشعوب، وهي معرفة الحديد، أضحت في متناول منافسيهم. وسقطت قرقميش آخر عواصمهم في يد الآشوريين عام 717 ق. م.

وكان إلى شمال بلاد أشور أمة مستقرة إذا قيست إلى غيرها من الأمم، يعرفها الآشوريون باسم أرارتو، والعبرانيون باسم أرارات، ومن جاء بعدهم من الأمم باسم الأرمن. واحتفظ الأرمن بحكومتهم المستقلة، وعاداتهم وفنونهم الخاصة، قروناً كثيرة تبدأ قبل فجر التاريخ المدون، وتستمر إلى أن بسط الفرس سلطانهم على آسية الغربية بأجمعها. وأثروا في أيام أرجستس الثاني أعظم ملوكهم (708 ق. م) من تعدين الحديد وبيعه في بلاد آسية واليونان، وبلغوا درجة عظيمة من الرخاء وسهولة العيش والحضارة والآداب العامة، وشادوا المباني العظيمة من الحجارة، وصنعوا المزهريات والتماثيل الصغيرة الجميلة الدقيقة. ولكنهم أضاعوا ثروتهم في الحروب الهجومية الكثيرة النفقات، وفي صد غارات الآشوريين عن بلادهم. ثم بسط عليهم الفرس سلطانهم في أيام قورش الفاتح.

وإلى شمال الأرمن وعلى ضفاف البحر الأسود، كان يتجوّل السكوذيون وهم عشائر حربية تتألف من خليط من المغول والأوربيين، جبابرة متوحّشون ملتحون، يقيمون في عربات، ويبقون نسائهم في عزلة شديدة (6)، ويركبون

ص: 303

الخيل البرية عارية، يحاربون ليعيشوا، ويعيشون ليحاربوا ويشربون دماء أعاديهم، ويتخذون جلود رؤوس هؤلاء الأعداء قطائل لهم (7). اضعفوا أشور بغاراتهم الدائمة عليها، واجتاحوا غرب آسية (حوالي عام 630 - 610 ق. م) وأخذوا يدمرون في طريقهم كل شيء ويقتلون كل إنسان، وتقدموا إلى مدن دال النيل نفسها، ثم فشا فيهم وباء غريب مجهول قضى على عدد كبير منهم، وغلبهم آخر الأمر الميديون، وردوهم على أعقابهم إلى مساكنهم في الشمال

(1)

. وإنا لنلمح في هذه القصة ومضة أخرى من المأساة التي تتكرر على الدوام في جميع العصور، وهي ما تفعله القبائل الهمجية الرابضة وراء الأمم القديمة جميعها والمحيطة بها.

وظهرت في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد قوة جديدة في آسية الصغرى، ورثت بقايا الحضارة الحيثية، وكانت حلقة اتصال بينها وبين ليديا وبلاد اليونان. وكانت الأساطير التي حاول بها الفريجيون أن يفسروا للمؤرخين المتشوفين قيام دولتهم قصة رمزية لقيام الأمم وسقوطها. فهم يقولون أن جورديوس أول ملوكهم كان فلاحاً بسيطاً لم يرث من أبويه إلا ثورين اثنين

(2)

، وأن ابنه ميداس ثاني أولئك الملوك كان رجلاً متلافاً أضعف الدولة بشراهته وإسرافه

(1)

يحدثنا أبقراط أن "نساءهم، طالما كن عذارى: يركبن الخيل، ويصدن، ويرمين بالحراب وهن على ظهور الخيل؛ ويحاربن أعدائهن. ولا يسمحن بفض بكارتهن إلا إذا قتلن ثلاثة من هؤلاء الأعداء

والمرأة التي تتخذ لها زوجاً لا تقاتل قط بعد الزواج، إلا إذا أرغمت على هذا العمل بالاشتراك في حملة عامة. وليس لهؤلاء النساء ثدي أيمن، وذلك لأن أمهاتهن يأتين بأداة من البرنز متوهجة من شدة حرارتها تصنع لهذا الغرض خاصة ويكوينهن بها وهن في سن الرضاع في مكان ثديهن الأيمن، فيقف بذلك نموه وتتحول كل قوته ونمائه إلى الكتف اليمنى والذراع اليمنى".

(2)

وأمر الهاتف زيوص الفريجيين أن يختاروا ملكا عليهم أول رجل يدخل الهيكل في عربة؛ وكان هذا الداخل هو جورديوس. ووهب الملك الجديد الإله عربته. وتنبأ هاتف جديد بأن من يفلح في حل العقدة المشكلة التي تربط النير بعريش العربة يحكم جميع بلاد آسية. فجاء الإسكندر- حسبما ترويه القصة- وقطع العقدة الجوردية بضربة سيفه.

ص: 304

اللذين مثلهما الخلف بالأسطورة المأثورة التي تقول إنه طلب إلى الآلهة أن تهبه القدرة على تحويل كل ما يمسه إلى ذهب. وأجابت الآلهة طلبه فكان كل ما يمس جسمه يستحيل ذهباً حتى الطعام الذي تلمسه شفتاه. وأوشك الرجل أن يموت جوعاً، لكن الآلهة سمحت له أن يطهر نفسه من هذه النقمة بأن يغتسل في نهر بكتولس- وهو النهر الذي ظل بعدئذ يخرج حبوباً من الذهب.

واتخذ الفريجيون طريقهم من آسية إلى أوربا وشادوا لهم عاصمة في أنقورة، وظلوا وقتاً ما ينازعون أشور ومصر السيادة على الشرق الأدنى، واتخذوا لهم إلهة- أُمَّا ُتدعى ما، ثم عادوا فسموها سيبيل، واشتقوا هذا الاسم من الجبال (سيبيلا) التي كانت تعيش فيها، وعبدوها على أنها روح الأرض غير المنزرعة، ورمز جميع قوى الطبيعة المنتجة. وأخذوا عن أهل البلاد الأصليين طريقة خدمة الإلهة بالدعارة المقدسة، ورضوا بأن يضموا إلى أساطيرهم الشعبية القصة التي تقول إن سيبيل أحبت الإله الشاب أرتيس

(1)

وأرغمته على أن يخصي نفسه تكريماً لها. ومن ثم كان كهنة الأمم العظيمة يضحون لها برجولتهم حين يدخلون في خدمة هياكلها (11). وقد سحرت هذه الخرافات الوحشية لب اليونان وتغلغلت في أساطيرهم وأدبهم. وأدخل الرومان الإلهة سيبيل رسمياً في دينهم، وكانت بعض الطقوس الخليعة التي تحدث في حفلات المساخر الرومانية مأخوذة عن الطقوس الوحشية التي كان الفريجيون يتبعونها في احتفالهم بموت أرتيس الجميل وبعثه (12).

وانتهى سلطان الفريجيين في آسية الصغرى بقيام مملكة ليديا الجديدة التي أسسها الملك جيجيس واتخذ سرديس عاصمة لها. ثم حكمها أليتيس أربعين سنة بلغت في خلالها درجة عظيمة من الرخاء والقوة ثم ورثها كروسس (570 - 546 ق. م) واستمتع بها أيما استمتاع، ووسع رقعتها بما فتحه من أقاليم

(1)

وتحدثنا الأساطير بأن أرتيس ولدته نانا، الإلهة العذراء بمعجزة من المعجزات، وبأنها حملت فيه بوضع رمانة بين ثدييها.

ص: 305

جديدة شملت آسية الصغرى جميعها تقريباً، ثم أسلمها آخر الأمر إلى الفرس واستطاع بفضل الرشى السخية التي كان يقدمها للساسة المحليين أن يخضع إلى ليديا الدويلات التي كانت تحيط بأملاكه واحدة بعد واحدة، كما استطاع بضحاياه المنقطعة النظير والتي كان يقدمها قربانا إلى الآلهة المحلية أن يهدئ من غضب شعوب تلك الدويلات، وأن يقنعها بأنه حبيب آلهتهم. وامتاز كروسس عن غيره من الملوك بسك نقود ذهبية وفضية ذات شكل بديع تضربها الدولة وتضمن قيمتها الاسمية. وليست هذه هي أولى المسكوكات الرسمية التاريخية كما اعتقد المؤرخون زمناً طويلاً؛ وليست هي بلا جدال بداية اختراع المسكوكات

(1)

، ولكنها مع هذا كانت مثالا ُيحتذى ساعد على انتشار التجارة في بلاد البحر الأبيض المتوسط. لقد ظل الناس قروناً طويلة يستخدمون معادن مختلفة لتقدير قيم البضائع وتسهيل تبادلها، ولكنها سواء كانت من النحاس أو البرنز أو الحديد أو الفضة أو الذهب كانت في أغلب البلاد تقدر قيمتها في كل عمل تجاري حسب وزنها أو حسب غيره من الاعتبارات. لهذا كان استبدال عملة قومية معترف بها رسمياً بهذه الوسائل المتبعة إصلاحاً عظيم القيمة في عالم التجارة؛ فقد يسرت هذه الوسيلة الجديدة انتقال السلع ممن يحسنون إنتاجها إلى من هم في أشد الحاجة إليها، فزاد ذلك من ثروة العالم، ومهد السبيل لقيام المدنيات التجارية كمدنيات الأيونيين واليونان، حيث استخدمت الثروة التي جاءت من طريق التجارة لتمويل الأعمال الأدبية والفنية.

ولم يصل إلينا شيء من الأدب الليدي؛ كذلك لم يبق قط شيء من المزهريات الجميلة القيمة المصنوعة من الذهب والحديد والفضة والتي تقرب بها كروسس للآلهة التي غلبها. وتدل المزهريات التي وجدت في مقابر الليديين والتي

(1)

وجدت مسكوكات أقدم من هذه عهداً عند موهنجو- دارو في الهند (2900 ق. م)، ولقد رأينا من قبل كيف سك سنحريب (حوالي عام 700 ق. م) قطعاً من النقود قيمتها نصف شاقل.

ص: 306

يحتويها الآن متحف اللوفر على أن ما كان لمصر وبابل من زعامة على الفن في ليديا أيام كروسس قد أخذ يحل محله نفوذ اليونان المتزايد؛ وكان لهذه المزهريات من دقة الصنع ما يعادل أمانتها وإخلاصها للطبيعة. ولما زار هيرودوت ليديا وجد أن عادات أهلها لا تكاد تمتاز عن عادات اليونان أهل بلاده؛ ويقول إن ما كان باقياً لديهم من هذه العادات التي تميزها عن اليونان هو أن بنات العامة منهن كن يكسبن بائناتهن من الدعارة (13). وهذا المؤرخ الثرثار نفسه هو أهم ما نعتمد عليه من المراجع في القصة التي تروي عن كيفية سقوط كروسس. فهو يقص علينا كيف عرض كروسس ثروته على صولون، ثم سأله عمن يراه أسعد الناس. وبعد أن ذكر صولون أسماء أشخاص ثلاثة كلهم من الموتى أبى أن يقول أن كروسس سعيد، وحجته في هذا أنه لا يعرف أي المصائب قد يأتي بها الغد. وأخرج كروسس المشرع العظيم من عنده معتقداً أنه إنسان أبله. ثم أخذ بعدئذ يأتمر ببلاد الفرس، وما لبث أن رأى جحافل قورش على أبوابه. وانتصر عليه الفرس بفضل ما كان لجِمالهم من رائحة نتنة قوية- كما يقول هذا المؤرخ نفسه- لم تطقها جياد الليديين؛ فجمحت ودحر الليديون، وسقطت سرديس. وتقول الرواية القديمة أن كروسس أعد كومة كبيرة من الحطب، واتخذ مكانه عليها ومن حوله أزواجه وبناته ومن بقي على قيد الحياة من أبناء بلاده، ثم أمر خصيانه أن يحرقوهم جميعاً. وذكر في اللحظات الأخيرة من حياته قول صولون، فأسف على جهله وقلة تبصره، وأخذ يلوم الآلهة التي تقبلت جميع قرابينه وجازته عليها بالخراب والهلاك. وأشفق عليه قورش- إذا جاز لنا أن نأخذ برواية هيرودوت (14) - وأمر بالنار أن تطفأ، وأخذ كروسس معه إلى فارس، وجعله من أقرب مستشاريه ومن أكثرهم جدارة بثقته.

ص: 307

الفصل الثاني

‌الأقوام الساميون

قدم العرب - الفينيقيون - تجارتهم العالمية - طوافهم حول

إفريقية - مستعمراتهم - صور وصيدا - آلهتهم - نشر

الحروف الهجائية - سوريا - عشتورت - موت أدنيس

وبعثه - التضحية بالأطفال

إذا حاولنا أن نقلل من اضطراب اللغات وتباينها في الشرق الأدنى بقولنا إن معظم الشعوب التي كانت تسكن في الأجزاء الشمالية من هذا الإقليم شعوب هندوربية وأن التي تقطن الأجزاء الوسطى والجنوبية منه والممتدة من أشور إلى جزيرة العرب شعوب سامية

(1)

، إذا حاولنا هذا فإن من واجبنا في الوقت نفسه أن نذكر أن الحقائق ليست واضحة المعالم إلى هذا الحد، وأن الفوارق بين الأجناس ليست بهذه الصورة التي نرسمها للتفرقة بينها تيسيراً للبحث. لسنا ننكر أن بلاد الشرق الأدنى تقسمها الجبال والصحاري إلى بيئات مختلفة منعزلة بعضها عن بعض بطبيعتها، وأنها لذلك تختلف في لغاتها وتقاليدها. ولكن التجارة قد عملت على مزج لغات هؤلاء الأقوام وعاداتهم وفنونهم في طرقها الرئيسية (كالطريق الممتد على شواطئ النهرين الكبيرين من نينوى وقرقميش إلى الخليج الفارسي). هذا إلى أن هجرة الشعوب ونقل جماعات كبيرة منها قسراً لأغراض استعمارية قد مزجا الأجناس واللغات المختلفة مزجاً كان من آثاره أن صحب اختلافها في الدم بعض التجانس في الثقافة. ومن ثم فإننا إذا سمينا بعض الشعوب هندوربية فإنما نقصد بهذه التسمية أن هذه هي الصفة الغالبة عليها؛ وإذا قلنا أن شعباً ما "سامياً" فإن

(1)

لفظة سامية مشتقة من سام الذي يقال أنه أبو الشعوب السامية كلها.

ص: 308

كل ما نعنيه أن السامية غالبة فيه. ولكن الحقيقة أنه لا توجد سلالة صافية ولم توجد قط ثقافة لم تتأثر بثقافة جيرانها أو ثقافة أعدائها. ومن واجبنا أن ننظر إلى هذه الرقعة الواسعة على أنها بيئة تدفقت على أجناسها المختلفة طوائف من هذا الجنس أو ذلك؛ فغلب عليها الجنس الهندوربي تارة وغلب عليها السامي تارة أخرى؛ ولكن غلبة هذا الجنس أو ذاك لم تثمر من الناحية الثقافية إلا اصطباغ هؤلاء الغالبين بالصفات الثقافية العامة في مجموع هذه الأجناس. فقد كان بين حمورابي ودارا الأول مثلاً اختلاف كبير في الدم والدين، وكان يفصل بينهما من القرون ما يكاد يفصل منها بيننا وبين المسيح؛ ولكننا إذا درسنا هذين العاهلين العظيمين دراسة دقيقة، أدركنا أن من وراء هذا الاختلاف قرابة جوهرية بعيدة القرار.

ومهد الجنس السامي ومرباه جزيرة العرب، فمن هذا الصقع الجدب حيث ينمو "الإنسان شديداً عنيفاً، وحيث لا يكاد ينمو نبات على الإطلاق"، تدفقت موجة في إثر موجة في هجرات متتابعة من خلائق أقوياء شديدي البأس لا يهابون الردى، بعد أن وجدوا أن الصحراء والواحات لا تكفيهم، فكان لابد لهم أن يفتتحوا بسواعدهم مكاناً خصباً ظليلاً يعولهم ويقوم بأودهم. فأما من بقي منهم في بلادهم فقد أوجدوا حضارة العرب والبدو، وأنشئوا الأسرة الأبوية وما تتطلبه من طاعة وصرامة خلقية، وتخلقوا بالجبرية وليدة البيئة الشاقة الضنينة، والشجاعة العمياء التي تدفع أصحابها إلى وأد بناتهم وتقديمهن قرباناً للآلهة. على أن الدين لم يكن أمراً جدياً بين هؤلاء الأقوام حتى جاءهم محمد بالإسلام؛ ولم يعنوا بالفنون وملاذ الحياة لأنهم كانوا يرونها خليقة بالنساء ومن أسباب الضعف والانحلال. وظلوا وقتاً ما يسيطرون على التجارة مع الشرق الأقصى، تتكدس في ثغورهم غلات جزائر الهند، وتحمل قوافلهم تلك الغلات وتنقلها في الطرق البرية غير الآمنة إلى فينيقية وبابل. وشادوا في قلب جزيرتهم العريضة المدن والقصور

ص: 309

والهياكل، ولكنهم لم يكونوا يشجعون الأجانب على المجيء إليها ورؤيتها. ولقد بقي هؤلاء الأقوام آلاف السنين يحيون حياتهم الخاصة بهم، محافظين على عاداتهم وأخلاقهم، متمسكين بآرائهم، ولا يزالون إلى اليوم كما كانوا في أيام كيوبس وجوديا. ولقد شهدوا مئات الممالك تقوم وتفنى من حولهم، ولا تزال أرضهم مِلكاً لهم يعضون عليها بالنواجذ، ويحمونها من أن تطأها الأقدام الدنسة أو تنظر إليها الأعين الغريبة.

والآن يحق للقارئ أن يسأل من هم أولئك الفينيقيون الذين تردد ذكرهم في هذه الصحف، والذين مخرت سفنهم عباب البحار كلها فلم يكن يخلوا ثغر من تجارهم يساومون فيه ويبيعون ويشترون؟ إن المؤرخ ليستحي إذا ُسئل عن أصلهم فهو لا يرى بدا من الاعتراف بأنه لا يكاد يعرف شيئاً من التاريخ الباكر أو التاريخ المتأخر لهذا الشعب الذي نراه في كل مكان ولكنه يفلت منا إذا أردنا أن نمسك به لنخبره وندرسه (15). فلسنا نعرف من أين جاء الفينيقيون، أو متى جاءوا؛ ولسنا واثقين من أنهم ساميون

(1)

. أما تاريخ قدومهم إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط فليس في وسعنا أن نكذب ما قاله علماء صور لهيرودوت، وهو أن أجدادهم قدموا إلى بلدهم هذا من شواطئ الخليج الفارسي، وأنهم شادوا تلك المدينة في العهد الذي نسميه نحن القرن الثامن والعشرين قبل ميلاد المسيح (17). بل إن اسمهم نفسه لمن المشاكل العسيرة الحل. فقد يكون معنى لفظ الفوانكس الذي اشتق منه اليونان هذا الاسم هو الصبغة الحمراء التي كان يبيعها تجار صور، وقد يكون معناه النخلة التي تترعرع على الشواطئ الفينيقية

(2)

. وكان ذلك الشاطئ، وهو شريط ضيق من الأرض يبلغ طوله مائة ميل ولا يزيد عرضه على عشرة أميال،

(1)

يقول أوتران أنهم كانوا فرعاً من فروع الأقوام الذين أنشئوا الحضارة الكريتية.

(2)

يكتب هذا الاسم أحيانا بالواو بدل الياء فيقال فونيقية وفونيقي ولعل هذا أصوب وإن لم يكن مؤكداً كل التأكيد، ولكننا آثرنا اللفظ القديم المألوف لأنه لم يثبت خطأه. (المترجم)

ص: 310

محصوراً بين البحر من جهة وسوريا من الجهة الأخرى، وكان هو كل ما يطلق عليه اسم بلاد فينيقية. ولم ير أهله أن استيطان جبال لبنان القائمة في شرق بلادهم أو إخضاع هذا الإقليم لحكمهم عملاً خليقاً باهتمامهم؛ بل كانوا يقنعون بأن يظل هذا الحاجز المبارك قائماً شرق بلادهم يحميهم من الأمم ذات النزعة الحربية التي كانوا يحملون بضائعها إلى خلجان البحار.

وقد اضطرتهم هذه الجبال إلى العيش على ظهر البحار، وظلوا من عهد الأسرة السادسة المصرية إلى ما بعدها أنشط تجار العالم القديم؛ ولما تحرروا من حكم مصر (حوالي 1200 ق. م) أضحوا سادة البحر الأبيض المتوسط، ولم يكتفوا بنقل التجارة، بل كانت لهم مصنوعات عدة من الزجاج والمعادن، والمزهريات المنقوشة المطلية، والأسلحة والحلي والجواهر. وقد احتكروا لأنفسهم صنع الصبغة الأرجوانية التي استخرجوا مادتها من حيوان بحري رخوي يكثر بالقرب من شواطئهم (18)؛ ومن ثم اشتهرت نساء صور باستخدام الألوان الزاهية الجميلة التي كن يصبغن بها ما برعن في تطريزه من الأقمشة. وكانوا ينقلون هذه المصنوعات والفائض الذي يمكن نقله من غلات الهند والشرق الأقصى - من حبوب، وخمور، ومنسوجات، وحجارة كريمة - إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط قريبة كانت منهم أو بعيدة عنهم. وكانت سفنهم تعود من هذه الموانئ مثقلة بالرصاص، والذهب، والحديد من شواطئ البحر الأسود الجنوبية؛ وبالنحاس، وخشب السرو، والغلال من قبرص

(1)

، وبالعاج من إفريقية؛ والفضة من أسبانيا؛ والقصدير من بريطانيا؛ وبالعبيد من كل مكان. وكانوا تجاراً دهاه؛ أغروا في مرة من المرات أهل أسبانيا بأن يعطوهم نظير شحنة من الزيت مقداراً من الفضة لم تتسع له سفائنهم؛ فما كان من الساميين الماكرين إلا أن استبدلوا الفضة بما

(1)

إن الاسمين الإنجليزيين للنحاس والسرو Copper and Cypress مشتقان من لفظ قبرص.

ص: 311

كان في مراسي سفنهم من حديد وحجارة وأقلعوا بها مغتبطين (19). على أن هذا لم يكفهم، فأسروا الأهلين وسخروهم في العمل في المناجم ساعات طوال نظير أجور لا تكاد تكفي لابتياع أقواتهم

(1)

. ذلك أن الفينيقيين، ككل التجار الأقدمين، لم يكونوا يفرقون كثيراً في أعمالهم ولا في لغاتهم بين التجارة والغدر، أو بينها وبين اللصوصية، فكانوا يسرقون الضعيف، ويبتزون مال الغبي، أما من عدا هذين الصنفين فكانوا يراعون معهم ما يقضي به الشرف. وكانوا أحياناً يستولون على السفن في عرض البحار، ويصادرون ما فيها من بضاعة، ويأسرون من فيها من الملاحين؛ وكثيراً ما كانوا يخدعون الأهلين المشوقين إلى الاستطلاع فيغرونهم بزيارة سفنهم ثم يبحرون بهم ويبيعونهم عبيداً (21). وكان لهم أكبر الفضل في تشويه سمعة التجار الساميين الأقدمين وبخاصة عند اليونان الأولين، الذين كانوا يفعلون فعلهم

(2)

.

وكانت سفائنهم المنخفضة الضيقة البالغ طولها نحو سبعين قدماً طرازاً جديداً في بناء السفن؛ ذلك بأنهم لم يحتذوا فيها حذو السفن المصرية المنحني مقدمها إلى الداخل، بل جعلوه ينحني إلى خارجها وينتهي بطرف رفيع يشق الريح أو الماء أو مراكب الأعداء. وكان للسفينة شراع واحد كبير مستطيل الشكل مرفوع على سارية مثبتة في قاعها، وكان هذا الشراع يساعد العبيد الذين كانوا يدفعونها بصفين من المجاديف. وكان الجند يقفون على سطح السفينة فوق

(1)

انظر ما يقوله جين: "لقد شاءت الأقدار أن تكون أسبانيا في العالم القديم كما كانت بيرو والمكسيك في العالم الحديث. فلقد كان كشف تلك البلاد الغربية الغنية (يريد أسبانيا) على يد الفينيقيين، وظلم أهلها السذج وتسخيرهم للعمل في مناجمهم لفائدة الأجانب القادمين من بلادهم، كان هذا كله سابقة لا تفترق في شيء عما فعلته أسبانيا نفسها بأمريكا في العصر الوسيط").

(2)

وأطلق اليونان- وقد ظلوا خمسمائة عام لا ينقطعون عن القرصنة وشن الغارات - اسم فينيقي على كل من كان دأبه الختل والتلصص (22).

ص: 312

المجاديف يحرسونها وهم متأهبون للاتجار أو للحرب على السواء. وكانت هذه السفن الضعيفة لا تسترشد ببيت الإبرة ولا يزيد غاطسها في الماء على خمسة أقدام. ومن أجل ذلك كانت تخشى أن تبتعد عن شاطئ البحر وظلت زماناً طويلاً لا تجرؤ على السفر بالليل؛ ثم ارتقى فن الملاحة شيئاً فشيئاً حتى استطاع أدلاء السفائن الفينيقيون أن يسترشدوا بالنجم القطبي (أو النجم الفينيقي كما كان يسميه اليونان) ويتوغلوا في المحيطات، ويطوفوا آخر الأمر حول إفريقية، فساروا أولا بإزاء الساحل الشرقي متجهين نحو الجنوب و"كشفوا" رأس الرجاء الصالح قبل أن يكشفه فاسكو دا جاما بنحو ألفي عام. وفي ذلك يقول هيرودوت:"ولما أقبل الخريف، نزلوا إلى البر، وزرعوا الأرض، وانتظروا الحصاد، فلما أن حصدوا الحَب، أقلعوا بسفائنهم مرة أخرى. ولما أن مرت عليهم في عملهم هذا سنتان وصلوا في السنة الثالثة إلى مصر بعد أن طافوا بأعمدة هرقول (جبل طارق) "(23). ألا ما أعظم ما تقدّمنا عن أولئك الأقوام!

وأقاموا لهم حاميات في نقط منيعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط مازالت تكبر حتى أضحت مستعمرات أو مدناً غاصة بالسكان، أقاموها في قادز وقرطاجة، ومرسيلية، ومالطة، وصقلية، وسردانية، وقورسقة، بل وفي إنجلترا البعيدة. واحتلوا قبرص، وميلوس، ورودس (24)، ونقلوا الفنون والعلوم من مصر، وكريت، والشرق الأدنى، ونشروها في اليونان، وفي إفريقية، وإيطاليا، وأسبانيا؛ وربطوا الشرق بالغرب بشبكة من الروابط التجارية والثقافية، وشرعوا ينتشلون أوربا من براثن الهمجية.

وازدهرت المدن الفينيقية التي كانت تغذيها هذه التجارة الواسعة، والتي كانت تحكمها طبقة من التجار الأثرياء حذقت فنون السياسة الخارجية والمالية، وضنت بثروة البلاد أن تبدد في الحروب الخارجية. وأصبحت هذه المدن على مدى الأيام من أغنى مدن العالم وأقواها. ومن هذه المدن مدينة بيلوس التي كانت

ص: 313

تظن نفسها أقدم مدن العالم كلها وأنها أنشأها الإله إل في بداية الزمان. وظلت هذه المدينة إلى آخر أيامها القصبة الدينية لفينيقية. وكان البردي من أهم سلعها التجارية فاشتق اليونان من اسمها اسم الكتاب في لغتهم ببلوس - Biblos - ومن هذه الكلمة نفسها اشتقت كلمة Bible الإنجليزية اسماً للكتاب المقدس.

وكان إلى جنوبي ببلوس وعلى بعد نحو خمسين ميلاً منها مدينة صيدا؛ ولم تكن في بداية أمرها إلا حصناً من الحصون، ولكنها نمت نمواً سريعاً فكانت قرية، ثم بلدة، ثم مدينة مزدهرة غنية، أمدت خشيار شاي بأحسن المراكب في أسطوله. ولما أن حاصرها الفرس فيما بعد واستولوا عليها أبت عليهم أنفتهم وعزة نفوسهم أن يسلموها طائعين إلى أعدائهم فأضرموا النار في مبانيها ودمروها عن آخرها، وهلك في حريقها أربعون ألفاً من سكانها (25). ثم أعيد بناؤها بعدئذ حتى إذا جاءها الإسكندر وجدها مدينة مزدهرة، وسار بعض تجارها المغامرين في مؤخرة جيشه إلى بلاد الهند بقصد"الاتجار"26).

وكانت أعظم المدن الفينيقية كلها مدينة صور - أي الصخرة -؛ وقد أنشئت على جزيرة تبعد عدة أميال عن البر. وبدأت هي أيضاً حصناً، ولكن ميناءها الأمين وسلامتها من الغزو سرعان ما جعلاها حاضرة البلاد الفينيقية كلها، ومأوى الخليط من التجار والعبيد جاءوها من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. وما أن حل القرن التاسع قبل الميلاد حتى كانت صور مدينة غنية في عهد ملكها حيرام صديق الملك سليمان؛ وفي أيام زكريا (حوالي 520 ق. م) كانت الفضة التي تجمعت فيها كأنها التراب، وكان الذهب كأنه "وحل الطرقات"(27)، ويقول عنها استرابون:"إن بيوتها من طبقات كثيرة، بل إنها أكثر طبقات من بيوت رومة"(28)، وقد ظلت بفضل ثروتها وبسالة أهلها مستقلة إلى أيام الإسكندر. ورأى هذا الشاب المتغطرس في هذا الاستقلال تحدياً لعظمته فأخضعها بأن بنى طريقاً لها في البحر جعل منها شبه جزيرة ثم قضى

ص: 314

عليها القضاء الأخير ازدهار مدينة الإسكندرية.

وكان للفينيقيين آلهة كثيرة شأنهم في ذلك شأن كل أمة تشعر بالتيارات العالمية المعقدة. فكان لكل مدينة بعلها (أي سيدها) أو إلهها الخاص، وهو في اعتقاد أهلها جد ملوكها، ومخصب أرضها؛ فكانت الحبوب، والخمور، والتين والكتان كلها من عمل بعل المقدس. وكان بعل صور يسمى ماكراث؛ وكان كهرقول - الذي قال اليونان أنه صورة أخرى منه - إله القوة والبطولة قام بأعمال شبيهة بأعمال منشهوزن. وكانت عشتورت (إستارتي) الاسم الفينيقي لإشتار- ومن خصائصها أنها كانت تُعبد في بعض الأماكن على أنها إلهة الطُّهر، وفي أماكن أخرى على أنها إلهة الفجور والحب الشهواني؛ وقد جعلها اليونان في هذه الصفة الأخيرة صورة من إلهتهم أفروديت. وكما كانت إشتار - ميلتا تتقبل بكارى عابداتها من البنات في بابل، كذلك كانت النساء اللاتي يعبدن عشتورت في ببلوس يقدمن لها غدائرهن أو يستسلمن لأول غريب يعرض عليهن حبه في جوار الهياكل. وكما أحبت إشتار تموز، كذلك أحبت عشتورت أدني (أي الرب)؛ وكان يحتفل في ببلوس، وباثوس (في قبرص) كل عام بمقتله على أنياب خنزير بري بالنحيب وضرب الصدور. وكان من حسن حظ أدني أنه يقوم من بين الأموات كلما فارق الحياة، ويصعد إلى السماء على مشهد من عُبَّاده (29). وكان من آلهتهم أيضا مولوخ (أي الملك)، وهو الإله الرهيب، وكان الفينيقيون يتقربون له بأطفالهم ويحرقونهم أحياء أمام ضريحه. وقد حدث في قرطاجنة أثناء حصارها (307 ق. م) أن أُحرق على مذبح هذا الإله الغاضب مائتا غلام من أبناء أرقى أسرها (30).

ولكن الفينيقيين رغم هذا جديرون بأن تكون لهم مشكاة صغيرة في محراب الأمم المتحضرة، ذلك أن تجارهم في أغلب الظن هم الذين علموا الأمم القديمة الحروف الهجائية المصرية، وإن لم يكن الهيام بالأدب هو الذي وحد شعوب

ص: 315

البحر المتوسط بل كان سبب وحدتهم الشئون التجارية ومطالبها. ولسنا نجد خيراً من هذه المطالب مثالاً يوضح ما بين التجارة والثقافة من رابطة منتجة ومثمرة. كما أننا لا نعلم علم اليقين أن الفينيقيين هم الذين أدخلوا هذه الحروف الهجائية إلى بلاد اليونان، وإن كانت الرواية اليونانية تؤكد هذا بالإجماع (31)؛ وليس ببعيد أن تكون كريت هي التي أمدت الفينيقيين واليونان (32) كليهما بالحروف الهجائية، ولكن المرجح أن الفينيقيين أخذوا الحروف الهجائية من حيث أخذوا البردي. وإنا لنجدهم في عام 1100 ق. م يستوردون البردي من مصر (33). وكان هذا النبات ذا فائدة لا تقدر للأمة التي تعنى بحفظ السجلات الحسابية ونقلها من مكان إلى مكان. وذلك لما فيه من اليسر إذا وُوُزن بالألواح الطينية الثقيلة التي كانت تستخدم في أرض الجزيرة. كذلك كانت الحروف الهجائية المصرية أرقى كثيراً من المقاطع السمجة المستخدمة في غير مصر من بلاد الشرق الأدنى. وحسبنا أن نذكر عن هذه الحروف أن حيرام ملك صور وهب أحد آلهته في عام 960 ق. م كوباً من البرنز عليه نقش بالحروف الهجائية (34)، وأن ميشا ملك مؤاب أراد في عام 480 ق. م أن يخلد مجده فنقش على حجر في متحف اللوفر الآن نقشا بإحدى اللهجات السامية مكتوب من اليمين إلى اليسار بحروف شبيهة بالحروف الفينيقية. وقد قلب اليونان اتجاه بعض الحروف لأنهم كانوا يكتبون من اليسار إلى اليمين، ولكن حروفهم في جوهرها هي الحروف التي علمهم إياها الفينيقيون، والتي علموها هم أوربا. وهذه الرموز العجيبة هي بلا جدال أثمن ما ورثته الحضارة عن الأمم القديمة.

على أن أقدم ما كشف من كتابات الحروف الهجائية لم يكشف في فينيقية بل في سيناء. فقد عثر سيروليم فلندرز بيترى في سراية الخادم - وهي قرية صغيرة في موضع كان المصريون الأقدمون يستخرجون منه الفيروز - على نقوش بلغة عجيبة يرجع عهدها إلى تاريخ غير معروف على وجه التحقيق، ولعله يرجع إلى

ص: 316

عام 2500 ق. م ولم تحل رموز هذه النقوش بعد، ولكن من الجلي أنها ليست مكتوبة بالخط الهيروغليفي ولا بالكتابة المسمارية المقطعية، بل مكتوبة بحروف هجائية (35). كذلك وجد علماء الآثار الفرنسيون في زابونا بسوريا مكتبة كاملة من الألواح الطينية بعضها مكتوب بالهيروغليفية وبعضها بحروف هجائية سامية. ولما كانت زابونا قد دمرت حوالي عام 1200 ق. م قبل أن تستكمل نموها، فأكبر الظن أن هذه الألواح يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد (36)، وهي توحي إلينا مرة أخرى بما كانت عليه الحضارة من القدم في القرون التي يحملنا فرط جهلنا على أن نعزو إليها بدايتها.

وكانت سوريا تمتد خلف فينيقية في حِجْر تلال لبنان، وتتجمع فيها قبائلها تحت حكم تلك الحاضرة التي لا تزال تفخر على العالم بأنها أقدم مدنه، والتي لا تزال تأوي السوريين المتعطشين إلى الحرية. وظل ملوك دمشق زمناً ما يسيطرون على اثنتي عشرة أمة صغيرة من حولهم، وأفلحوا في مقاومة ما كان يبذله الآشوريون من جهود لإخضاع سوريا لحكمهم. وكان أهل هذه المدينة من التجار الساميين الذين استطاعوا أن يجمعوا ثروة طائلة من تجارة القوافل التي كانت تجتاز جبال سوريا وسهولها. وكانوا يستخدمون في أعمالهم الصناع والعبيد، ولم يكن هؤلاء سعداء أو راضين. فنحن نسمع أن البنائين نظموا لهم اتحادات عظيمة، وتحدثنا النقوش عن إضراب الخبازين في مجنيزيا؛ ونشعر من خلال القرون الطوال بما كان في إحدى المدن السورية القديمة من نزاع، وما كانت تضطرب به من حركة تجارية كبيرة (37). وقد حذق هؤلاء الصناع تشكيل الفخار الجميل، ونحت العاج والخشب، وصقل الحجارة الكريمة، ونسج الأقمشة ذات الألوان الزاهية لتتزين بها نساؤهم (38).

وكانت أزياء الأهلين في دمشق وعاداتهم وأخلاقهم شديدة الشبه بنظائرها في بابل، باريس الشرق القديم المتحكمة في أذواقه، وكانت الدعارة الدينية منتشرة

ص: 317

في البلاد، فكان خصب التربة يرمز له في سوريا كما كان يرمز له في بلاد آسية الغربية كلها بأم عظيمة أو إلهة اتصالها الجنسي بعشيقها هو الذي يوحي إلى جميع جهود الطبيعة وعملياتها الإنتاجية. ولم تكن التضحية بالبكارة في الهياكل عملاً يتقرب به إلى عشتورت وحسب، بل كان فوق ذلك مشاركة لها في التهتك الذي يرجى منه أن يوحي إلى الأرض إيحاء قوياً لا تستطيع مقاومته، وأن يضمن تكاثر النبات والحيوان والإنسان (39). وكان عيد عشتورت السورية كعيد سيبيل في أفريجيا يحتفل به في هيرابوليس حوالي الاعتدال الربيعي بحرارة تكاد تبلغ حد الجنون. فكانت نغمات الناي ودق الطبول تمتزج بعويل النساء على أدني سيد عشتورت الميت. وكان الكهنة الخصيان يرقصون رقصاً عاصفاً عجاجاً ويضربون أجسامهم بالسكاكين. وفي آخر الأمر كانت الحماسة تغلب الكثيرين من الرجال الذين لم يأتوا إلى الحفل إلا ليشاهدوه، فيخلعون ثيابهم ويخصون أنفسهم ليهبوا أنفسهم طول حياتهم لخدمة الإلهة، فإذا جن الليل جاء الكهنة إلى المكان بنور خفي مجهول، وفتحوا قبر الإله الشاب ونادوا نداء الظافرين أن أدني - الإله - قد قام من بين الأموات، ثم مسوا شفاه عُبَّاده ببلسم في أيديهم وأسروا إليهم وعدهم بأنهم هم أيضا سيقومون من قبورهم في يوم من الأيام (40).

ولم يكن آلهة سوريا الآخرون أقل تعطشاً للدماء من عشتورت. نعم إن الكهنة كانوا يعترفون بإله عام يضم في شخصه جميع الآلهة ويسمونه إِليِ أو إِلو كإلوهيم اليهود، ولكن الشعب لم يكن يلقي بالاً إلى هذا التجريد المعنوي الهادئ، وكان معبوده بعلاً. وقد جرت عادتهم على أن يوحدوا بين إله المدينة هذا وبين الشمس، كما كانوا يوحدون بين عشتورت والقمر؛ وكانوا إذا حل بهم أمر جلل يضحون بأطفالهم قرباناً له، كما كان يفعل الفينيقيون؛ فكان الآباء يأتون إلى الحفل وقد أخذوا زينتهم كأنهم في يوم عيد، وكانت دقات الطبول

ص: 318

وأصوات المزامير تغطي على صراخ أطفالهم وهم يحترقون في حجر الإله. على أنهم كانوا عادة يكتفون بتضحيات أقل من هذه وحشية، فكان القساوسة يضربون أنفسهم حتى تلطخ المذبح دماؤهم؛ أو تفتدي حياة الطفل بغلفته؛ أو ينزل القساوسة من عليائهم فيقبلون مبلغاً من المال يقدمونه للإله بدل الغلفة. لقد كان من الواجب أن يسترضي الإله بطريقة ما حتى يرضى؛ لأن عباده قد جعلوه صورة من أنفسهم، وحلماً من أحلامهم، ولم يكن يعنى بحياة البشر أو يأبه بعويل النساء (41).

وكانت القبائل السامية الضاربة في جنوب سوريا والتي كانت تملأ الأرض باضطرابها ولغاتها، تمارس عادات شبيهة بهذه العادات نفسها، ولا تختلف عنها إلا في أسمائها وتفاصيلها. ولقد حرم على اليهود أن "يجعلوا أطفالهم يمرون من خلال النار"، ولكنهم كانوا رغم هذا يفعلون هذه الفعلة (42)، ولم يكن إبراهيم وهو يوشك أن يضحي بإسحق

(1)

أو أجمنون وهو يضحي بإفجينيا إلا متبعين سنة قديمة كان أصحابها يحاولون بها أن يسترضوا الآلهة بالدماء البشرية. وقد ضحى ميشا ملك مؤاب بابنه الأكبر فحرقه بالنار ليفك عن مدينته الحصار؛ ولما أجاب ربه دعاءه وقبل دماء ابنه، ذبح سبعة آلا ف من بني إسرائيل شكراً لله على نعمته (43). وظل وادي نهر الأردن الذي يخترق هذا الإقليم مذ كان العموريون في عهد السومريين يجوبون سهول أمرو (حوالي عام 2800 ق. م) إلى أيام اليهود حين صبوا جام غضبهم المقدس على الكنعانيين، وحين استولى سرجون ملك أشور على السامرة، ونبوخد نصر على أورشليم (في عام 597 ق. م)، نقول ظل وادي نهر الأردن ترويه دماء الضحايا البشرية التي لها قلوب كثيرين من الأرباب. وليس من اليسير أن ندخل هؤلاء المؤابيين، والكنعانيين، والعموريين، والإدميين، والفلسطينيين، والآراميين في سجل البشرية الثقافي.

(1)

الذي يؤمن به المسلمون أن الذبيح إسماعيل لا إسحق. (المترجم)

ص: 319

لسنا ننكر أن الآراميين الكثيري النسل قد انتشروا في كل مكان، وجعلوا لغتهم اللهجة العامية التي يتخاطب بها أهل الشرق الأدنى، كما أن حروفهم الهجائية التي أخذوها عن المصريين أو الفينيقيين قد حلت محل كتابة أرض الجزيرة المسمارية المقطعية، فكانت أولاً واسطة التبادل التجاري ثم أضحت وسيلة نقل الآداب، وأمست آخر الأمر لغة المسيح وحروف العرب الهجائية في هذه الأيام (44). ولكن الدهر لا يحتفظ بأسماء هذه الشعوب لما قامت به هي نفسها من الأعمال الجليلة بقدر ما يحتفظ بها لأن أصحابها مثلوا دوراً ما على مسرح فلسطين الفاجع. وعلينا الآن أن ندرس شعبا آخر بتفصيل أوفى وأدق من دراستنا لجيرانه، ونعني به اليهود وهم قوم إذا نظرنا إلى قلة عددهم وضيق بلادهم لا نكاد نراهم جديرين بهذه الدراسة، ولكنهم أورثوا العالم أدبا من أعظم آدابه، ودينين من أقوى أديانه، وعدداً عظيماً من أذكى رجاله وأعمقهم تفكيراً.

ص: 320

الباب الثاني عشر

‌اليهود

الفصل الأول

‌الأرض الموعودة

فلسطين - مناخها - عهد ما قبل التاريخ - شعب

إبراهيم - اليهود في مصر - الخروج - فتح كنعان

في وسع كاتب مثل بُكَل Buckle أو مونتسكيو يريد أن يفسر تاريخ الأمة بالرجوع إلى موقع بلادها أن يجد ما يؤيد أقواله في فلسطين. إن بلاداً يبلغ طولها من دَاْن في الشمال إلى بير سبع في الجنوب نحو مائة وخمسين ميلاً، ويتراوح عرضها من مساكن الفلسطينيين في الغرب ومساكن السوريين والآراميين والعمونيين، والموآبيين والإدميين في الشرق خمسة وعشرين وثمانين ميلاً- إن بلاداً ضيقة الرقعة إلى هذا الحد لا يتوقع الإنسان أن يكون لها شأن في التاريخ أو أن تخلف وراءها أثراً أعظم مما خلفته بلاد بابل أو أشور أو فارس، بل لعله أعظم مما خلفته مصر أو بلاد اليونان. ولكن كان من حسن حظ فلسطين أو من سوء حظها أن تقع بين عواصم النيل وعواصم دجلة والفرات. وهذا الموقع قد جاء إلى بلاد اليهود بالتجارة كما جاءها بالحرب؛ وكم من مرة ضيق على اليهود فلم يجدوا مخرجاً لهم من ضيقهم إلا بالانضمام إلى أحد الطرفين في الصراع القائم بين الإمبراطوريات الكبرى، أو بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون؛ وكم من مرة اجتاح المصطرعون بلادهم، وكان من وراء التوراة، ومن وراء صراخ أصحاب المزامير والأنبياء وعويلهم وطلبهم الغوث من

ص: 321

رب السماء، كان من وراء هذا كله موقع اليهود الذي تتهدده الأخطار، بين شقي الرحى، من فوقهم دول أرض الجزيرة ومن تحتهم مصر.

ويحدثنا تاريخ الأرض المناخي مرة أخرى أن صرح الحضارة صرح مزعزع، وأن عدويها الألدين- الهمجية والجدب- يترصدانها ليقضيا عليها. لقد كانت فلسطين في يوم من الأيام " أرضاً تفيض لبناً وعسلاً " كما تصفها كثير من الفقرات في أسفار موسى الخمسة (1)؛ وكان بوسفوس في القرن الأول بعد المسيح لا يزال يقول عن فلسطين وأهلها أن بها من "الأمطار ما يكفي حاجة الزراعة، وأنها جميلة، وأن بها كثيراً من الأشجار، وأنها مملوءة بفاكهة الخريف البري منها والمنزرع

، وأن هذه الأشجار لا ترويها الأنهار رياً طبيعياً، ولكنها تنال معظم ما تحتاج إليه من الرطوبة من ماء المطر الذي لا ينقطع عنها قط" (2). وكانت أمطار الربيع التي تسقي الأرض تخزن في الأيام الخالية في صهاريج أو ترفع إلى سطح الأرض مرة أخرى من آبار كثيرة العدد، وتوزع في أنحاء البلاد في شبكة من القنوات؛ وكان ذلك هو الأساس المادي للحضارة اليهودية. وكانت الأرض التي تروى بهذه الطريقة تنتج الشعير والقمح والذرة، وتجود فيها الكروم، وتثمر أشجارها الزيتون والتين والبلح وغيرها من الفواكه على منحدرات الجبال جميعها؛ فإذا داهمتها الحروب وخربت حقولها التي أخصبتها الصناعة، أو جاءها فاتح فأخرج منها إلى بلاد نائية الأسر التي كانت تعنى بهذه الحقول، زحفت الصحراء عليها فأفسدت في بضع سنين ما أصلحته الأيدي العاملة في أجيال. وليس لنا أن نحكم على جدب أرض فلسطين بما نشاهده فيها الآن من فياف مقفرة، وواحات قليلة ضئيلة، تواجه اليهود الذين عادوا الآن إلى تلك البلاد بعد ثمانية عشر قرناً من النفي والعذاب والتشريد.

والتاريخ في فلسطين أقدم مما كان يظنه الأسقف أسشر Ussher، فقد

ص: 322

كشفت بقايا نيندرتالية قرب بحر الجليل، كما كشفت خمسة هياكل عظيمة نيندرتالية في كهف قرب حيفا. وليس ببعيد أن تكون الثقافة المُسْتِيرية التي ازدهرت في أوربا حوالي عام 000 ر 40 ق. م قد امتدت إلى فلسطين. فقد كشفت في أريحا

(1)

أرض حجرات ومواقد من مخلفات العصر الحجري الجديد، وهي ترجع بتاريخ هذا الإقليم إلى عصر برنزي متوسط (2000 - 1600 ق. م) جمعت في مدن فلسطين وسوريا من الثروة ما أغرى مصر بفتحها. وكانت أريحا في إبان القرن العشرين قبل الميلاد مدينة مسورة يحكمها ملوك يعترفون بسيادة مصر عليها. وقد وجدت في قبور هؤلاء الملوك التي كشفتها بعثة جارستانج Garstang مئات من المزهريات والهدايا الجنازية وغيرها من الأدوات التي تدل على وجود حياة مستقرة في تلك المدينة وقت سيطرة الهكسوس على مصر، وعلى وجود حضارة لا بأس بها في أيام حتشبسوت وتحتمس الثالث (3). ويبدو من هذا الكشف وأمثاله أن الأزمنة المختلفة التي تبدأ بها تواريخ الشعوب في ظننا إن دلت على شيء فإنما تدل على جهلنا؛ وتدل ألواح تل العمارنة على أن الحياة في فلسطين وسوريا بالصورة التي تطالعنا في بداية تاريخ اليهود ترجع إلى قرب دخولهم في وادي النيل. ومن المرجح- وإن لم يكن من المؤكد- أن "الخبيرو" الذين تتحدث عنهم هذه الألواح كانوا عبرانيين

(2)

.

(1)

Jericho.

(2)

لقد أعادت الكشوف التي ذكرناها في هذا الفصل كثيراً من الثقة إلى فصول سفر التكوين التي تقص تاريخ اليهود القديم. وإذا ما استثنينا من قصة اليهود، كما تميط عنها اللثام أسفار العهد القديم، حوادث المعجزات وخوارق العادات وأشباهها، رأينا أن هذه القصة قد صمدت للنقد وللبحوث التاريخية. وكل عام يمر يكشف فيه من الوثائق والآثار ما يؤيد أقوال العهد القديم. من ذلك أن القطع الخزفية التي استخرجت من تل الدوير في عام 1935 م تحمل من النقوش العبرية ما يؤيد أجزاء من قصة سفري الملوك. وعلى هذا فإن من حقنا أن نقبل قصص التوراة مؤقتاً حتى نجد ما ينقضها. أنظر كتاب بيتري "مصر وإسرائيل"(Egypt & Israel) طبعة لندن 1925 ص 108.

ص: 323

ويعتقد اليهود أن شعب إبراهيم (أو أبراهام) جاءوا من أور في بلاد سومر (5) واستقروا في فلسطين (حوالي 2200 ق. م) أي قبل موسى بنحو ألف عام أو أكثر؛ وأن انتصارهم على الكنعانيين لم يكن إلا استيلاء العبرانيين على الأرض التي وعدهم بها الله. والراجح أن أمرافَل الذي يقول عنه سفر التكوين (14: 1) أنه "ملك شنعار في تلك الأيام" كان هو أمربال والد حمورابي الذي كان يجلس قبله على عرش بابل (6). ولم تصل إلينا من مصادر معاصرة إشارات مباشرة إلى خروج بني إسرائيل من مصر أو إلى هزيمة الكنعانيين (7). وكل ما وصلنا من إشارات غير مباشرة هو ما كتب على اللوحة التي أقامها منفتاح (حوالي 1225 ق. م) والتي وردت فيها هذه العبارة:

لقد غُلب الملوك وقالوا "سلاما! "

وخربت تحينو.

وهدئت أرض الحيثيين،

وانتهبت كنعان، وحلت بها كل الشرور،

وخربت إسرائيل، ولم يعد لأبنائها وجود؛

وأضحت فلسطين أرملة لمصر،

وضمت كل البلاد. وهدئت؛

وكل من كان ثائراً قيَّده الملك منفتاح

وليس في هذه الأقوال ما يدل على أن منفتاح هو فرعون الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في عهده؛ وكل ما تثبته أن الجيوش المصرية اجتاحت فلسطين مرة أخرى. ولسنا ندري متى دخل اليهود مصر، وهل دخلوها أحراراً أو عبيداً

(1)

. ولربما كان من حقنا أن نرجح أن من هاجروا منهم إلى مصر

(1)

لعلهم جاءوا مصر في أثر الهكسوس، ولعل سيطرة هؤلاء الساميين على مصر قد أتاحت لهم بعض الحماية (9). ويرجع بيتري تاريخ دخولهم مصر إلى عام 1650 ق. م، وتاريخ خروجهم منها إلى عام 1220 ق. م (10)، وهو يعتمد في ذلك على ما ورد في التوراة من أن اليهود أقاموا في أرض مصر أربعمائة وثلاثين عاماً. تنبيه: رأينا في هذا الباب أن ننقل العبارات المقتبسة من الكتاب المقدس بنصها لا أن نترجمها عن الأصل الإنجليزي. (المترجم).

ص: 324

كانوا في بداية الأمر قليلي العدد (11)، وأن وجود الآلاف المؤلفة منهم في مصر أيام موسى كان نتيجة لكثرة تناسلهم، وأن شأنهم في ذلك الوقت كان كشأنهم في جميع العصور، فقد كان "عددهم يتضاعف وينمو كلما زاد اضطهادهم وتعذيبهم"(12). وأن قصة "استعباد" اليهود في مصر، وتسخيرهم في أعمال البناء الضخمة، وتمردهم، وهربهم- أو هجرتهم- إلى آسية لتحمل في ثناياها أدلة كثيرة على صدقها، وإن اختلط بها بطبيعة الحال كثير من الأقوال الغريبة وخوارق العادات كما يحدث عادة في جميع الكتابات التاريخية في الشرق القديم.

ص: 325

وحتى قصة موسى نفسها يجب ألا نتعجل فنرفضها من غير بحث وتحقيق، وإن كان من العجيب حقا أنه لم يرد له ذكر على لسان عاموس أو إشعيا، وهما اللذان سبقت خطبهما تأليف أسفار موسى الخمسة بنحو قرن من الزمان

(1)

.

ولما سار موسى باليهود إلى جبل سيناء، لم يكن في سيره هذا إلا متبعاً نفس الطريق الذي كانت تسلكه البعثات المصرية التي تبحث عن الفيروز منذ ألف عام. وتبدو الآن قصة الأربعين عاماً التي تاهوا فيها في الصحراء، والتي كان يظن من قبل أنها قصة غير معقولة، تبدو الآن من الأمور التي يقبلها العقل، لأنها تصف مسير قوم من البدو الذين كانوا طوال عهدهم قوماً رحلاً، كما أن هزيمتهم للكنعانيين ليست إلا مثلاً آخر لانقضاض جموع جياع على جماعة مستقرين آمنين. وقتل المهاجمون من الكنعانيين أكثر من استطاعوا قتلهم منهم وسبوا من بقي من نسائهم، وجرت دماء القتلى أنهاراً، وكان هذا القتل كما تقول نصوص الكتاب المقدس "فريضة الشريعة التي أمر بها الرب موسى".

(1)

ينقل يوسفوس عن مانيثون- وهو مؤرخ مصري عاش في القرن الثالث قبل الميلاد- قوله أن سبب خروج بني إسرائيل من مصر هو رغبة المصريين في أن يتقوا شر وباء فشى بين اليهود المستعبدين المملقين، وقوله أن موسى نفسه كان كاهناً مصرياً خرج للتبشير بين اليهود "المجذومين"، وأنه علمهم قواعد للنظافة على نسق القواعد المتبعة عند كهنة المصريين (13). ويفسر المؤرخون اليونان والرومان قصة الخروج هذا التفسير (14)، ولكن نزعتهم المعادية للسامية تجعلنا قليلي الثقة بأقوالهم. وفي التوراة آية تؤيد قول َوارْد Ward أن الخروج لم يكن إلا إضرابا عن العمل. وهذه هي الآية المشار إليها:"فقال لهما ملك مصر لماذا يا موسى وهرون تبطلان الشعب من أعماله اذهبا إلى أشغالكما"(15). وموسى اسم مصري لا اسم يهودي؛ ولعله اختصار للفظ أحموس (16). ويقول الأستاذ جارستانج عضو بعثة مارستن Marston التابعة لجامعة لفربول أنه كشف في مقابر أريحا الملكية أدلة تثبت أن موسى قد أنجته (في عام 1527 ق. م بالتحقيق) الأميرة حتشبسوت (الملكة حتشبسوت فيما بعد) وأنه تربى في بلاطها بين حاشيتها، وأنه فر من مصر حين جلس على العرش عدوها تحتمس الثالث (17). وهو يعتقد كذلك أن المخلفات التي وجدت في هذه القبور تؤيد قصة سقوط أريحا (يشوع 6). ويرجع سقوطها إلى حوالي عام 1400 ق. م كما يرجع الخروج إلى عام 1447 ق. م (18). ولما كانت هذه التواريخ لا تعتمد إلا ما ورد منقوشا على الجعلان والخزف، فإن من واجبنا أن نأخذها بالشك المقرون بالاهتمام.

ص: 326

و"زكاة للرب"(19). ولما استولوا على مدينتين من المدن قتلوا من أهلهما 000 ر 12 رجل. ولسنا نعرف في تاريخ الحروب مثل هذا الإسراف في القتل والاستمتاع به، ومثل هذه السهولة في تعداد القتلى إلا في تاريخ الآشوريين. ويقال لنا أن "الأرض استراحت من الحروب أحياناً"(20) فقد كان موسى من رجال السياسة المتصفين بالصبر والأناة، أما يشوع فلم يكن إلا جندياً فظاً؛ وقد حكم موسى حكماً سلمياً لم تسفك فيه دماء وذلك بما كان يفضي به من أحاديث جرت بينه وبين الإله، أما يشوع فقد أقام حكمه على قانون الطبيعة الثاني، وهو أن أكثر الناس قتلاً هو الذي يبقى حياً. وبهذه الطريقة الواقعية التي لا أثر فيها للعواطف استولى اليهود على الأرض الموعودة.

ص: 327

الفصل الثاني

‌سليمان في ذروة مجده

أصل اليهود - مظهرهم - لغتهم - نظامهم - القضاة

والملوك - شاؤل - داود - سليمان - ثروته -

الهيكل - نشأة المشكلة الاجتماعية في إسرائيل

كل ما نستطيع أن نقوله عن أصل اليهود من ناحية جنسهم هو ذلك القول الغامض، وهو أنهم ساميون لا يتميزون تميزاً واضحاً ولا يختلفون اختلافاً كبيراً عن غيرهم من الساميين سكان آسية الغربية، وأنهم لم يوجدوا تاريخهم، بل إن تاريخهم هو الذي أوجدهم، وإنا لنراهم من بداية ظهورهم خليطاً من سلالات كثيرة- والحق أن وجود جنس "نقي" في الشرق الأوسط بين الآلاف من تياراته الجنسية التي تتلاطم فيه أمر يتطلب مستوى من الفضيلة لا يعقله العاقل. على أن اليهود كانوا أنقى أجناس الشرق الأدنى غير النقية، لأنهم لم يتزوجوا بغيرهم من الأجناس إلا كارهين. ومن أجل هذا حافظوا على جنسهم، واستمسكوا به استمساكاً عجيباً. فالأسرى العبرانيون الذين نرى صورهم في النقوش المصرية والآشورية يشبهون كل الشبه يهود هذه الأيام رغم تحامل الفنانين وتحيفهم. ففي هذه النقوش نرى الأنف الحيثي الطويل الأقنى

(1)

، والوجنتين البارزتين، وشعر الرأس واللحية المتلوى، وإن كنا لا نرى في الرسوم المصرية الهزلية الأجسام الضامرة القوية، والأرواح الخبيثة العنيدة التي امتاز بها الساميون من عهد أتباع موسى "صلب الرقاب" إلى بدو هذه الأيام وتجارها الذين لا يسبر لهم غور. وكانوا في أيام فتوحهم الأولى يرتدون جلابيب بسيطة، وقبعات وطيئة

(1)

انظر ص 303 من هذا الكتاب.

ص: 328

أو قلانس شبيهة بالعمائم، ويحتذون أخفافا سهلة الخلع. ولما أن زادت ثروتهم استبدلوا بالأخفاف أحذية من الجلد وارتدوا فوق الجلابيب قفاطين ذات أهداب. أما نساؤهم- وهن من أجمل نساء الأمم القديمة- فكن يصبغن خدودهن ويكتحلن ويتحلين بكل ما يجدن من الحلي، ويلبسن أحسن الأزياء وأحدثها في بابل ونينوى ودمشق وصور (21).

وكانت اللغة العبرية أعظم اللغات الرنانة على ظهر الأرض، ألفاظها مليئة بالأنغام الموسيقية القوية رغم ما فيها من حروف حلقية. وقد وصفها رينان بقوله: أنها" كنانة مليئة بالسهام، وأبواق نحاسية تدوي في الهواء "(22). ولم تكن تختلف كثيراً عن لغة الفينيقيين أو الموآبيين. وكان اليهود يكتبون بحروف هجائية وثيقة الصلة بالحروف الفينيقية (23)، ويعتقد بعض العلماء أنها أقدم ما عرف من الحروف (23) أ. ولم يشغلوا أنفسهم بإضافة الحركات إلى الحروف، بل تركوها للقارئ يستخرجها من معنى العبارة، ولا تزال الحركات العبرية إلى اليوم مجرد علامات تزدان بها الحروف.

ولم تتألف من الغزاة في يوم من الأيام أمة موحدة متماسكة، بل ظلوا زمناً طويلاً يؤلفون اثنا عشر سبطا مستقلين استقلالاً واسعا أو ضيقا، ونظامهم وحكمهم لا يقومان على أساس الدولة، بل على أساس الحكم الأبوي في الأسرة. فكان شيوخ العشائر يجتمعون في مجلس من الكبراء هو الحكم الفصل في شئون القبيلة، وهو الذي يتعاون مع زعماء القبائل الأخرى إذا ألجأتهم إلى هذا التعاون الظروف القاهرة التي لا مفر من التعاون فيها. وكانت الأسرة هي الوحدة الاقتصادية التي يقوم عليها زرع الأرض ورعي قطعان الضأن. وكانت مكانتها هذه مصدر قوتها ونفاذ كلمتها، وسلطانها السياسي. وكان في الأسرة قسط من الشيوعية يخفف بعض الشيء من صرامة النظام الأبوي، وهو الذي أوحى إلى الشعب بذكريات كان الأنبياء يرجعون إليها وهم محزونون حين غلبت على البلاد النزعة الفردية.

ص: 329

وذلك أنه حين دخلت الصناعة مدن اليهود وجعلت الفرد هو الوحدة الاقتصادية في الإنتاج، ضعف سلطان الأسرة كما ضعف في هذه الأيام، واضمحل النظام الفطري الذي كانت تقوم عليه الحياة اليهودية.

ولم يكن"القضاة" وهم الذين كانت القبائل جمعاء تطيعهم في بعض الحالات، موظفين عموميين، بل كانوا زعماء عشائر أو رجال حرب- حتى إذا كانوا من الكهنة (24). "ولم يكن في إسرائيل ملوك في تلك الأيام، بل كان كل إنسان يفعل ما يراه هو حقا"(25). غير أن هذا النظام "الجفرسوني"

(1)

غير المعقول- إن صح أنه كان قائماً بالفعل- قد انهار أمام مطالب الحرب الملحة، وكان خطر سيطرة الفلسطينيين على اليهود عاملاً هاماً في جمع الأسباط كلهم في وحدة شاملة مؤقتة، وحملهم على تعيين ملك ذي سلطان دائم عليهم. وقد حذرهم النبي صمويل من بعض الأضرار التي تنجم عن خضوعهم لحكم رجل واحد فقال:

"وقال هذا يكون قضاء الملك الذي يحكم عليكم يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه، فيركضون أمام مراكبه؛ ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيوتكم أجودها ويعطيها لعبيده، ويعشر زرعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده. ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشياتكم الحسان وحميركم ويستعملها لشغله، ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيداً. فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم. فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صمويل وقالوا لا بل يكون علينا ملك، فنكون نحن

(1)

أي الشبيه بالنظام الذي يدعو إليه تومس جفرسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة 1748 - 1826 م (المترجم)

ص: 330

أيضاً مثل سائر الشعوب ويقضي لنا ملكنا ويحارب حروبنا" (26).

وعلمهم ملكهم الأول شأول الخير والشر بأعماله؛ فحارب حروبهم بشجاعة، وعاش عيشة بسيطة من موارد مزرعته في جلعاد، وأخذ يطارد الشاب داود ليقتله، وقُطِع رأسه في أثناء فراره من الفلسطينيين. وسرعان ما عرف اليهود من بداية الأمر أن حروب الوراثة من مستلزمات المَلَكية. وإذا لم تكن ملحمة شأول ويوناثان وداود الصغيرة قصة موضوعة من روائع الأدب

(1)

(لأنا لا نجد ذكراً لهذه الشخصيات في غير التوراة) فإن مليكهم الأول هذا قد خلفه، بعد فترة من الاضطرابات الدموية، داود الشجاع قاتل جالوت، وحبيب يوناثان وكثير من الفتيات، الذي يرقص بكل قوته وهو نصف عارٍ (28)، ويجيد الضرب على القيثار، ويغني أغانيه العجيبة بصوته الرخيم، ملك اليهود القدير الذي ساسهم نحو أربعين عاماً. وقد استطاع الأدب في هذا العصر البعيد أن يرسم له صورة كاملة، صورة واقعية فيها كل ما في النفس الحية من عواطف وانفعالات متعارضة: فهو قاس غليظ القلب كما كان الناس في وقته، وكما كانت قبيلته، وكما كانت الصفات التي خلعها على إلهه، ولكنه مع هذا كان مستعداً لأن يعفو عن أعدائه كما كان يعفو عنهم قيصر والمسيح، يقتل الأسرى جملة كأنه ملك من ملوك الآشوريين، ويأمر ابنه سليمان أن " يحد بالدم إلى الهاوية " شيبة شمعي بن جيرا الذي لعنه منذ سنين كثيرة (29)، ويأخذ امرأة أورية الحيثي بين نسائه في غير حياء، ويرسل أورية إلى الصف الأول في ميدان القتال ليتخلص منه (30)، ويقبل زجر ناثان له في ذلة، ولكنه مع ذلك يحتفظ ببثشبع الجميلة، ويعف عن صمويل مرات تكاد تبلغ أربعمائة وتسعين، ولا يسلبه إلا درعه حين كان في مقدوره أن يسلبه حياته، وينجي مغيبوشت

(2)

ويعينه،

(1)

كقصة شمشون الظريفة الذي حرق حاصلات الفلسطينيين بأن أطلق عليهم ثلاثمائة ثعلب ربطت المشاعل في أذيالها، والذي قتل ألف رجل بعظم من فك حمار.

(2)

انظر صمويل الثاني 4: 4

ص: 331

وهو الذي قد يكون من الطالبين في العرش، ويعفو عن ابنه العاق أبشالوم بعد أن قبض عليه في ثورة مسلحة، ويحزن أشد الحزن على موت ابنه هذا في واقعة حربية حارب فيها جيوش أبيه:"يا ابني أبشالوم، يا ابني أبشالوم، يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني، يا ابني"(31). لذلك وصف رجل حقيقي لا رجل خيالي، اكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة، ينطوي على جميع بقايا الهمجية، وعلى كل مقومات الحضارة.

ولما ورث سليمان العرش قتل جميع منافسيه في الملك ليستريح من متاعبهم، ولكن عمله هذا لم يغضب يهوه الذي أحب الملك الشاب فوهبه حكمة لم يهبها أحداً من قبله ولا من بعده (32). ولعل سليمان خليق بما نال من شهرة؛ ذلك أنه لم يكفه أن يستمتع في حياته بكل نعيم ولذة وأن يقوم بجميع ما يفرضه عليه الملك من واجبات، بل إنه علم شعبه فضل القانون والنظام

(1)

، وما زال بهم حتى أقنعهم بنبذ الشقاق والحرب والالتفات إلى الصناعة والسلم. وكان عهد سليمان عهد سلام بحق

(2)

ففي حكمه الطويل أفادت أورشليم، التي اتخذها داود عاصمة له، من هذا السلم الذي لم تألفه من قبل، فزادت ثروتها وضاعفتها. وكانت المدينة

(3)

قد أقيمت في بادئ الأمر حول بئر، ثم حولت إلى حصن لأنها كانت على ربوة فوق السهل. أصبحت في أيام سليمان من أنشط الأسواق التجارية في الشرق الأدنى، وإن لم تكن على الطرق التجارية الكبرى. وحافظ سليمان على ما أنشأه داود من صلات ودية مع حيرام ملك صور، وشجع التجار الفينيقيين على أن يسيروا قوافلهم التجارية داخل أرض فلسطين، وازدهرت في أيامه تجارة رابحة قوامها استبدال مصنوعات صور وصيدا بغلات إسرائيل الزراعية. وأنشأ أسطولاً تجارياً في البحر

(1)

وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفا وخمساً.

(2)

اسمه مشتق من شالوم ومعناه السلم.

(3)

سميت في ألواح تل العمارنة باسم أورسلمو او أروسالم

ص: 332

الأحمر، وأغرى حيرام على أن يستخدم هذا الطريق الجديد بدل طريق مصر في تجارته مع بلاد العرب وإفريقية (34). والراجح أن جزيرة العرب هي التي استخرج سليمان منها الذهب وحجارة " أوفير" الكريمة (35)، ومن بلاد العرب جاءت إليه ملكة "سبأ" تخطب وده، ولعلها جاءت أيضا لتطلب معونته (36). وكان "وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة وستاً وستين وزنة ذهباً"(37) ومع أنه لا وجه للموازنة بين هذا القدر وبين موارد بابل أو نينوى أو صور فإنه جعل سليمان من أغنى ملوك زمانه

(1)

. واستخدم بعض هذه الثروة في ملاذه الشخصية، وأخص ما استخدمها في إشباع شهوته في جمع السراري- وإن كان المؤرخون ينقصون "زوجاته السبعمائة وسراريه الثلاثمائة إلى ستين وثمانين على التوالي"(29). ولعله أراد ببعض هذه الزيجات أن يوطد صلاته بمصر وفينيقية، أو لعل الباعث له عليها هو نفس الباعث الذي حمل رمسيس الثاني على هذا العمل بعينه، وهو رغبته في أن يترك وراءه طائفة من الأبناء لهم من القوة الجنسية العظيمة ما كان له هو. على أن سليمان قد استخدم معظم موارده في تقوية دعائم حكومته وتجميل عاصمته. ومن أعماله فيها ترميم الحصن الذي أقيمت حوله. وقد أقام فيها كثيراً من الحصون، ووضع حاميات في المواضع ذات الأهمية العسكرية في مملكته، ليرهب بها الغازين والثائرين على السواء. وقسم بلاده إلى اثني عشر قسماً إدارياً، وتعمد أن تكون

(1)

انظر ما قلناه قبل في ص 204 لمعرفة قيمة الوزنة في الشرق الأدنى. على أن هذه القيمة كانت تختلف من وقت إلى آخر، ولكننا لا نكون مغالين إذا قلنا أن الوزنة في أيام سليمان كانت لها قيمة شراءية تعادل قيمة 10000 ريال أمريكي من نقود هذه الأيام. وأكبر الظن أن الكاتب العبري كان وهو يكتب هذا أديباً، لا مؤرخاً يتوخى الحقائق الدقيقة، ولذلك فإن من واجبنا إلا نأخذ أقواله على علاتها. وإذا شاء القارئ أن يعرف شيئا عن تقلبات العملة اليهودية في تلك الأيام الخالية، فليقرأ "دائرة المعارف اليهودية" في موضوعات "المسكوكات" و "الشاقل". ولا تظهر النقود الحقيقية- لا الحلقات، والسبائك الذهبية والفضية- في فلسطين إلا حوالي عام 650 ق. م.

ص: 333

حدودها متفقة مع حدود منازل الأسباط الاثني عشر، وكان يرجو من وراء هذا أن يضعف النزعة الانفصالية بينهم، وأن يؤلف منهم شعباً واحداً. ولكنه أفلس في هذا وأفلست بلاد اليهود معه. ومن الوسائل التي استخدمها لتمويل حكومته أعداد البعثات لاستخراج المعادن الثمينة، ولاستيراد مواد الترف والسلع القيمة النادرة، ومن بينها "العاج والقردة والطواويس"(40) - وهذه كان يمكن بيعها للأثرياء المحدَثين بأثمان غالية. وكان يفرض الإتاوات على جميع القوافل المارة بفلسطين. وقد فرض جزية الرؤوس على جميع رعاياه، وطالب كل قسم من أقسام دولته ما عدا قسمه الخاص بقدر من المال، أعاد للدولة احتكارها القديم لتجارة الخيوط والخيل والمركبات (41). ويؤكد لنا يوسفوس أن سليمان جعل الفضة في أورشليم كحجارة الشوارع في كثرتها (42)، واعتزم أخيراً أن يزين المدينة بمعبد جديد ليهوه، وبقصر جديد له هو نفسه.

وفي وسعنا أن نستشف ما كان في الحياة اليهودية من اضطراب حين نذكر أن بلاد اليهود كلها حتى أورشليم نفسها لم يكن فيها قبل أيام سليمان هيكل كبير واحد على ما يظهر. وكان الأهلون يقربون القرابين ليهوه في هياكل محلية أو في هياكل ساذجة فوق التلال (43). ثم جمع سليمان ذوي الثراء من أهل المدن وأعلن إليهم عزمه على تشييد هيكل وخصه بكميات كبيرة من الذهب والفضة والشبَّة والحديد والخشب والحجارة الكريمة من مخازنه الخاصة، وأوحى إلى الناس في رفق أن الهيكل يرحب بتبرعات المواطنين. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال ناقل الرواية فإنهم تبرعوا له بخمسة آلاف وزنة من الذهب، وبضعفيها من الفضة، وبكل ما يحتاج إليه من الحديد والشبَّة. ومن وجد عنده حجارة أعطاها لخزينة بيت الرب" (44). واختبر لتشييده مكان فوق ربوة، وقامت جدران الهيكل كأنها امتداد للمنحدرات الصخرية

(1)

. وكان طرازه هو الطراز

(1)

ليس ببعيد أن يكون مكان الهيكل هو المكان الذي يشغله الآن الحرم الشريف في المسجد الأقصى، ولكن سائر أجزاء الهيكل لم يبق منها شيء على الإطلاق.

ص: 334

الذي أخذه الفينيقيون عن مصر، وأضافوا إليه ما أخذوه عن الآشوريين والبابليين من ضروب التزيين. ولم يكن هذا الهيكل كنيسة بالمعنى الصحيح، بل كان سياجاً مربعاً يضم عدة أجنحة. ولم يكن بناؤه الرئيسي كبير الحجم- فقد كان طوله حوالي مائة وأربعة وعشرين قدماً، وعرضه حوالي خمسة وخمسين، وارتفاعه اثنتين وخمسين، أي أنه كان في نصف طول البارثنون (46).

وكان العبرانيون الذين أقبلوا من جميع أنحاء البلاد اليهودية ليعملوا في إقامة الهيكل، وليتعبدوا بعدئذ فيه- كان هؤلاء العبرانيون يعتقدون أنه إحدى عجائب العالم. ومن حقهم علينا إلا نلومهم على هذا الاعتقاد، لأنهم لم يروا هياكل طيبة وبابل ونينوى التي لا يعد هيكلهم إلى جانبها شيئاً مذكوراً.

ص: 335

وكان في صدر البناء الرئيسي "مدخل" كبير يبلغ ارتفاعه مائة وثمانين قدماً، مرصعاً بالذهب، وكان الذهب فضلاً عن هذا يغشي كثيراً من أجزاء الهيكل- إذا جاز لنا أن نصدق المصدر الوحيد الذي نعتمد عليه في هذا الوصف-: على سقف البناء الرئيسي، والعُمُد، والأبواب والجدران، والثريات، والمصابيح، ومقصات الفتائل، والملاعق، والمباخر؛ وكان فيه "مائة حوض من الذهب". وكانت الحجارة الكريمة ترصع أجزاء متفرقة منه، كما كان ملكان مغطيان بصفائح الذهب يحرسان تابوت العهد (48). وشيدت الجدران من حجارة كبيرة مربعة، أما السقف والأعمدة والأبواب فكانت من خشب الأرز والزيتون المنقوش. وجيء بمعظم مواد البناء من فينيقية، وكان يقوم بمعظم الأعمال الفنية صناع من صيدا وصور (48). أما الأعمال التي لا تحتاج إلى شيء من المهارة فقد حشد لها 000 ر 150 عامل سخروا فيها تسخيراً بلا شفقة ولا رحمة، كما كانت العادة المألوفة في تلك الأيام (49).

ومضت سبع سنين والعمل في تشييد البناء قائم على قدم وساق، ليكون مقراً فخماً ليهوه مدى أربعة قرون. ثم واصل مهرة الصناع والفعلة العمل ثلاثة عشر عاماً أخرى ليشيدوا صرحاً أكبر من الهيكل يسكن فيه سليمان ونساؤه. وكان جناح واحد من أجنحته وهو- " بيت وعمر لبنان " أربعة أضعاف مساحة الهيكل كله (50). وكانت جدران البناء الرئيسي في القصر مقامة من كتل من الحجارة الضخمة طول الواحدة منها خمسة عشر قدماً وكانت تزينه التماثيل المنحوتة، والنقوش المحفورة، والصور المرسومة على الطراز الآشوري. وكان القصر يحتوي على أبهاء يستقبل فيها الملك كبار زائريه، وعلى أجنحة للملك نفسه، ومساكن للمحظوظات من زوجاته، ومستودع للسلاح كان هو العماد الأخير لحكومته. على أن هذا الصرح الضخم لم يبق منه حجر واحد، بل إن موضعه نفسه لا يعرفه أحد على وجه التحقيق (51).

ص: 336

ولما فرغ سليمان من إقامة ملكه شرع يستمتع به، وأخذت عنايته بالدين تقل على مر الأيام، كما أخذ يتردد على حريمه أكثر مما يتردد على الهيكل. ولشد ما يلومه كتاب أسفار التوراة على شهامته إذ أقام مذابح للآلهة الخارجية التي كانت تعبدها زوجاته الأجنبيات، ولا تطاوعهم أنفسهم على أن يصفحوا عنه لعدله الفلسفي- أو لعلمه السياسي- بين مختلف الآلهة. وأعجب الشعب بحكمته، ولكنه شعر بما في حُكمه من مركزية شديدة. وكان بناء الهيكل والقصر قد كلف الناس كثيراً من الذهب والدماء، ولم يكن حبهم لهما أكثر من حب عمال مصر لأهرامها. هذا إلى أن الإنفاق على الهيكل والقصر كان يتطلب فرض ضرائب باهظة، ولم نعهد قط أن حكومة من الحكومات استطاعت أن تجعل الضرائب من الواجبات المحببة إلى الشعب. فلما مات سليمان كانت موارد إسرائيل قد نضبت، ونشأت فيها طائفة من العمال الصعاليك لا يجدون عملاً دائماً يرتزقون منه، فكان ما قاسوه من العذاب هو الذي حول دين يهوه الحربي إلى دين أنبيائهم الذي لا يكاد يفترق عن الاشتراكية في كثير أو قليل.

ص: 337

الفصل الثالث

‌رب الجنود

تعدد الآلهة - يهوه - عقيدة الإله الأعظم - خصائص الدين

اليهودي - فكرة الخطيئة - القربان - الختان - الكهنوت - آلهة عجيبة

كان بناء الهيكل أهم الحادثات الكبرى في ملحمة اليهود، بعد نشر كتاب القانون؛ ذلك أن هذا الهيكل لم يكن بيتاً ليهوه فحسب بل كان أيضاً مركزاً روحياً لليهود، وعاصمة لملكهم، ووسيلة لنقل تراثهم، وذكرى لهم، كأنه علم من نار يتراءى لهم طوال تجوالهم الطويل المدى على ظهر الأرض. ولقد كان له فوق ذلك شأن في رفع الدين اليهودي من جيل بدائي متعدد الآلهة إلى عقيدة راسخة غير متسامحة، ولكنها مع ذلك إحدى العقائد المبدعة في تاريخ البشر.

وكان اليهود في أول ظهورهم على مسرح التاريخ بدواً رحلاً يخافون شياطين الهواء، ويعبدون الصخور والماشية والضأن وأرواح الكهوف والجبال (52). ولم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل؛ ذلك أن موسى لم يستطع منع قطيعه من عبادة العجل الذهبي لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر، وظلوا زمناً طويلاً يتخذون هذا الحيوان القوي آكل العشب رمزاً لإلههم. وإنا لنقرأ في سفر الخروج (الأصحاح 32 الآيات 25 - 28) كيف أخذ اليهود يرقصون وهم عراة أمام العجل الذهبي، وكيف أعدم موسى واللاويون ثلاثة آلاف منهم عقاباً لهم على عبادة هذا الوثن

(1)

. وفي تاريخ اليهود

(1)

ونجد آثاراً أخري من عبادة الحيوان بين اليهود الأقدمين في سفر الملوك الأول في الأصحاح الثاني عشر الآية الثامنة والعشرين، وفي حزقيال 8: 10، وقد عبد أهاب ملك إسرائيل الأبقار بعد سليمان بقرن واحد.

ص: 338

الباكر شواهد كثيرة تدل على أنهم عبدوا الأفعى. ومن هذه الشواهد صورة الأفعى التي وجدت في أقدم آثارهم (54). ومنها الأفعى النحاسية التي صنعها موسى والتي عبدها اليهود في الهيكل إلى أيام حزقيا (حوالي 720 ق. م)(55). وكانت الأفعى تبدو حيواناً مقدساً لليهود كما كانت تبدو لشعوب كثيرة عداهم، وذلك لأنها رمز للذكورة المخصبة من جهة، ولأنها من جهة أخرى تمثل الحكمة والدهاء والخلود- فضلاً عن أنها تستطيع أن تجعل طرفيها يلتقيان (56).

وكان بعض اليهود يعظمون بعل، الذي كان يرمز إليه بحجارة مخروطية قائمة كثيرة الشبه بلنجا إله الهندوس، وذلك لأنه في رأيهم الجوهر الذكر في التناسل، وزوج الأرض الذي يخصبها (57).

وكما أن آثار عبادة الآلهة الكثيرة البدائية قد بقيت في عبادة الملائكة والقديسين، وفي الأصنام الصغيرة المتنقلة التي كانوا يتخذونها آلهة لبيوتهم (58)، كذلك ظلت المعتقدات السحرية التي كانت منتشرة في العبادات القديمة، باقية عند اليهود إلى عهود متأخرة رغم احتجاج الأنبياء والكهنة. ويبدو أن الناس كانوا ينظرون إلى موسى وهرون على أنهما ساحران، وأنهم كانوا يناصرون السحرة والعرافين. وكان استطلاع المستقبل يحدث أحيانا برمي النرد (أريم وتميم) من صندوق (إفود) - وهي طريقة لا تزال تستخدم لمعرفة ما يريده الآلهة. ومما يذكر بالحمد لكهنة اليهود أنهم قاوموا هذه العادات، ودعوا الناس ألا يعتمدوا إلا على قوة سحرية واحدة هي قوة القربان والصلوات والتبرعات.

وما لبثت فكرة اتخاذ يهوه إله اليهود القومي الأوحد أن تبلورت وأكسبت الديانة اليهودية وحدة وبساطة كانتا سبباً في انتشالها من فوضى الشرك التي كانت تسود أرض الجزيرة. ويبدو أن اليهود الفاتحين عمدوا إلى أحد آلهة

ص: 339

كنعان%=@من بين الآثار التي وجدت في كنعان (عام 1931 م) قطع من الخزف من بقايا عصر البرنز (3000 ق. م) عليها اسم إله كنعاني يسمى ياه أو ياهو. @ فصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها، وجعلوا منه إلهاً، صارماً، ذا نزعة حربية، صعب المراس، ثم جعلوا لهذه الصفات حدوداً تكاد تبعث الحب في القلوب. ذلك أن هذا الإله لا يطالب الناس بأن يعتقدوا أنه عالم بكل شيء؛ وشاهد ذلك أنه يطلب من اليهود أن يميزوا بيوتهم بأن يرشوها بدماء الكباش المضحاة لئلا يهلك أبناءهم على غير علم منه مع من يهلكهم من أبناء المصريين (61). كذلك لا يرى أنه معصوم من الخطأ، ويرى أن أشنع ما وقع فيه من الأخطاء هو خلق الإنسان؛ ولذلك تراه يندم بعد فوات الفرصة على خلق آدم وعلى ارتضائه أن يكون شاؤل ملكاً. وتراه من حين إلى حين شرهاً، غضوباً، متعطشاً للدماء، متقلب الأطوار، نزقاً نكداً:"أتراءف على من أترأف، وأرحم من أرحم"(62). وهو يرضى عما استخدمه يعقوب من ختل وخداع في الانتقام من لابان (63)؛ وضميره لا يقل مرونة عن ضمير الأسقف الذي يندفع في تيار السياسة. وهو كثير الكلام، يحب إلقاء الخطب الطوال، وهو حي لا يسمح للناس أن يروا منه إلا ظهره (64). وقصارى القول أنه لم يكن للأمم القديمة إله آدمي في كل شيء كإله اليهود هذا.

ويلوح أنه كان في بداية الأمر إلهاً للرعد يسكن الجبال (65)، ويعبده الناس للسبب الذي كان جوركي الشاب يؤمن من أجله بالله إذا أرعدت السماء. وحوّل كاتبو أسفار موسى الخمسة، وهم الذين كانوا يتخذون الدين أداة للسياسة، إله الرعد هذا إلى إله الحرب، فأصبح يهوه في أيديهم القوية إلهاً للجيوش يدعو للفتح والاستعمار، يحارب من أجل شعبه بنفس القوة التي كان يحارب بها آلهةُ الإلياذة. وفي ذلك يقول موسى:"الرب رجل حرب"(66). ويردد داود صدى هذا القول نفسه فيقول: "الذي يعلّم يدي القتال"(67). ويعِد يهوه أن

ص: 340

"يطرد الحويين والكنعانيين والحيثيين" يطردهم: "قليلاً، قليلاً"(68)، ويزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم، وأعطيك جميع أعدائك مدبرين"، ويقول إن الأرض التي فتحها اليهود ملك له وحده (69). وهو لا يقطع معهم ولا مع أعدائهم عهداً سخيفاً؛ ويعرف أن الأرض، حتى الأرض الموعودة نفسها، لا تنال إلا بحد السيف ولا يحتفظ بها إلا بالسيف؛ وهو إله حرب لأنه لابد أن يكون إله حرب؛ وتمر عدة قرون من الهزائم العسكرية والخضوع السياسي، والتطور الأخلاقي، حتى يستحيل هذا الإله إلى والد هلل وإلى المسيح. وهو فخور معجب بنفسه كالجندي؛ يتقبل الثناء ويشتهيه، ويحرص على أن يتباهى بقدرته على إغراق المصريين في البحر: "فيعرف المصريون أني أنا الرب حين أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه" (70). وهو يرتكب في سبيل انتصار شعبه من ضروب الوحشية ما تشمئز منه نفوسنا اشمئزازاً لا يعادله إلا رضاء أخلاق ذلك العصر عنها، ويأمر شعبه بأن يرتكبوا هم هذه الوحشية؛ فهو يذبح أمماً بأكملها راضياً مسروراً من عمله رضاء جلفر Gulliver وهو يقاتل من أجل لليبت Lilliput.

ولما بدأ اليهود يزنون مع بنات موآب قال لموسى: "خذ جميع رؤوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس"(71)، وتلك هي أخلاق أشوربانيبال وأشور. وهو يعرض رحمته على الذين يحبونه ويتبعون أوامره، ولكنه يفعل ما تفعله جراثيم الأوبئة الفتاكة:"أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي"(72)؛ وهو إله جبار يفكر في إهلاك اليهود على بكرة أبيهم لأنهم عبدوا العجل الذهبي

(1)

؛ ويضطر موسى إلى أن يراجعه حتى يتملك عواطفه فيقول الرجل لربه: "ارجع عن حمو غضبك واندم على الشر بشعبك"، "فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله

(1)

نكرر هنا ما قلناه من قبل وهو أننا ننقل أقوال المؤلف كما هي وأن ذلك لا يدل على أننا نؤمن بها. (المترجم)

ص: 341

بشعبه"%=@هكذا تصور التوراة إله إسرائيل. @. ثم يريد يهوه أن يفني اليهود أصلاً وفرعاً لأنهم عصوا موسى، ولكن موسى يستثير فيه عواطفه الطيبة، ويأمره أن يفكر فيما يقوله الناس عنه إذا سمعوا بفعلته (74)، وهو يختبر قومه اختباراً قاسياً فيطلب إلى إبراهيم تضحية يالها من تضحية. ويعلم إبراهيم يهوه، كما يعلمه موسى، مبادئ الأخلاق السامية وينصحه إلا يهلك سدوم وعمورة، إذا وجد فيهما من الرجال خمسون، أو أربعون، أو ثلاثون، أو عشرون، أو عشرة صالحون (75). ولا يزال يغري إلهه بالرحمة، ويشرح له كيف يضطر الإنسان إلى أن يعيد تصوير أربابه لتتفق مع تطورات أخلاقه. وأن اللعنات التي يهدد بها يهوه شعبه المختار إذا ما عصاه لجديرة بأن تكون نماذج في القدح والسب، ولعلها هي التي أوحت إلى الذين حرقوا الكفرة في محاكم التفتيش الأسبانية أو حكموا على إسبنوزا بالحرمان أن يفعلوا ما فعلوا: "ملعوناً تكون في المدينة وملعوناً تكون في الحقل

ملعونة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك

ملعوناً تكون في دخولك وملعوناً تكون في خروجك، يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعاً من أجل سوء أفعالك إذ تركتني؛ يلصق بك الرب الوباء حتى يبيدك عن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها. يضربك الرب بالسل والحما والبرداء والالتهاب والجفاف واللفح والذبول فتتبعك حتى تفنيك

الخ يضربك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حتى لا تستطيع الشفاء، يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب

أيضا كل مرض وكل ضربة لم تكتب في سفر الناموس هذا بسلطة الرب عليك حتى تهلك" (76).

ولم يكن يهوه الإله الوحيد الذي يعترف اليهود بوجوده، أو يعترف هو نفسه بوجوده، وشاهد ذلك أن كل ما يطلبه في الوصية الأولى من الوصايا العشر

ص: 342

هو أن يكون مقامه فوق مقام سائر الأرباب: وهو يقر بأنه "إله غيور"، ويأمر أتباعه بهدم مذابحهم، وتكسير أصنامهم (77) وإبادتهم. وقلما كان اليهود قبل إشعيا يفكرون في أن يهوه إله الأسباط جميعاً، أو حتى إله العبرانيين جميعاً، فقد كان للموآبيين إلههم شمش، وكان نعومي يظن أن لا ضير من أن يظل راعوث على ولائه له (78). وكان بلزبوب إله عكرون، وملكرم إله عمون: ذلك أن النزعة الانفصالية التي كانت تتملك نفوس أولئك القوم من الناحيتين الاقتصادية والسياسية قد أدت بطبيعة الحال إلى ما تستطيع أن تسميه استقلالاً دينياً. ويقول موسى في أغنيته الشهير: "من مثلك بين الآلهة يا رب"(79). ويقول سليمان! " إلهنا أعظم من جميع الآلهة ".

ولم يكن جميع اليهود، اللهم إلا أعظمهم علماً، يعدون تموز إلهاً حقاً فحسب، بل إن عبادته فضلاً عن هذا كانت في وقت من الأوقات منتشرة في بلاد اليهود حتى لقد شكا حزقيال من أن البكاء حزناً على تموز كان يسمع في الهيكل (81). لقد كان ما بين اليهود من فوارق وما كان لهم من استقلال كافيين لأن تبقى لطوائفهم آلهتهم الخاصة حتى في زمن إرميا:"على عدد مدنك صارت إلهتكِ يا يهوذا"، ثم يظهر النبي الحزين غضبه على بني وطنه لأنهم يعبدون بعلاً ومولك (82). فلما أن نشأت الوحدة السياسية في أيام داود وسليمان، وتركزت العبادة في الهيكل بأورشليم، أخذ الدين يردد أصداء التاريخ والسياسة، وأمسى يهوه إله اليهود الأوحد. ولم يخط اليهود نحو التوحيد خطوة غير هذه الخطوة، وهي أن لليهود إلهاً واحداً يعلو على آلهة غيرهم من البشر، حتى كان زمن الأنبياء

(1)

. على أن الديانة العبرانية حتى في هذه المرحلة اليهودية كانت أقرب

(1)

لقد جهر إليشع في القرن التاسع قبل الميلاد بوجود إله واحد: "هو ذا قد عرفت أنه ليس إله في كل الأرض إلا في إسرائيل"(83). وجدير بنا أن نذكر أن التوحيد حتى في يومنا هذا إنما هو توحيد نسبي ناقص، فكما كان اليهود يعبدون إلهاً قبلياً، فإنا نحن أيضا نعبد إله أوربياً- أو إلهاً إنجليزياً أو ألمانياً أو إيطالياً. ولا تمر بنا لحظة واحدة نتواضع فيها قليلاً فنذكر أن الملايين الذين يسكنون الهند والصين واليابان- بل سكان الغابات المتفقهين في دينهم- لا يعترفون بدين آبائنا نحن. ولن يكون للعالم كله إله واحد حتى تربط الآلات الأرض وتؤلف بينها، وتجعلها وحدة اقتصادية، وتجمع الأمم كلها في حكومة واحدة.

ص: 343

إلى التوحيد من كل دين آخر قبل عصر الأنبياء إذا استثنينا عبادة الشمس القصيرة الأجل في عهد إخناتون. لقد كانت اليهودية تسمو كثيراً على غيرها من أديان ذلك الوقت في عظمتها وسلطانها، وفي وحدتها الفلسفية، وفيما تنطوي عليه من حماسة أخلاقية ومن أثر في نفوس أهلها، وكانت تضارع في عواطفها وشعريتها شرك البابليين واليونان إن لم تفقه من هاتين الناحيتين.

وهذا الدين القاسي المكتئب لم يتخذ له شيئاً من الطقوس المنمقة والاحتفالات المرحة التي كانت شائعة في عبادة الآلهة المصرية والبابلية. وكان يغشي التفكير اليهودي بأجمعه شعور بضآلة شأن الإنسان أمام رب قادر يسيره طوع أمره. وبقيت عبادة يهوه قروناً كثيرة ديناً قوامه الخوف لا الحب، والرهبة لا الرغبة، رغم ما بذله سليمان من جهود لكي يجمل باللون والنغم عبادة هذا الإله الرهيب. ولسنا ندري، إذا رجعنا بذاكرتنا إلى هذا الدين وأمثاله، هل عادت هذه الأديان على الإنسانية بالسلوى بقدر ما عادت عليها بالفزع. إن الأديان التي تبعث في النفوس الأمل والدب لا تكون إلا متعة من متع الأمن والنظام، ولم يكن الأمن والنظام من الصفات التي سادت طويلاً بلاد اليهود. أما الحاجة إلى قذف الرعب في قلوب الشعب، أو الثائرين من الأجانب الخاضعين لسلطانه، فقد جعلت معظم الأديان البدائية عبادات قوامها الخفاء والرعب.

ولقد كان تابوت العهد المحتوي على ملفات السنن والذي لم يكن يسمح لأحد أن يمسه، كان هذا التابوت رمزاً لطبيعة العقائد اليهودية. ولما مد عَزَّة الصالح يديه إلى التابوت ليمنعه أن يسقط على الأرض وأمسكه لحظة قصيرة "حمى غضب الرب على عزة وضربه الرب هناك لأجل أنه مد يده إلى التابوت فمات هناك أمام الله"(84).

ص: 344

وكانت الخطيئة هي الفكرة الأساسية في الدين اليهودي. ولم ير العالم شعباً آخر أولع بالفضيلة ولع اليهود- إلا إذا استثنينا طائفة المتطهرين الذين يخيل إلينا أنهم خرجوا من بين أسفار العهد القديم دون أن تمسهم الكثلكة الطويلة العهد بسوء. ولما كانت الطبيعة البشرية ضعيفة و "السنن" معقدة صعبة فلم يكن ثمة مفر من الوقوع في الخطيئة، وكثيراً ما كانت الروح اليهودية تتلبد بالغيوم لما ينجم عن الخطيئة من سيئ العواقب، كحبس المطر أو تدمير إسرائيل بقضها وقضيضها. ولم يكن في هذا الدين جحيم يخصص لعقاب المذنبين، ولكن شيول أو "أرض الظلام" التي تحت الأرض لم تكن تقل هولاً عن هذا الجحيم. وكان يلقى فيها الموتى جميعهم الطيب منهم والخبيث، لا يستثنى منهم إلا المقربون إلى الله كموسى وأخنوخ وإيليا. على أن اليهود قلما كانوا يشيرون إلى حياة أخرى بعد الموت، ولم يرد في دينهم شيء عن الخلود؛ وكان ثوابهم وعقابهم مقصورين على الحياة الدنيا. ولم تدر فكرة البعث في خلد اليهود إلا بعد أن فقدوا الرجاء في أن يكون لهم سلطان في هذه الأرض، ولعلهم أخذوا هذه الفكرة عن الفرس، أو لعلهم أخذوا شيئاً منها عن المصريين. ومن هذه الخاتمة الروحية ولدت المسيحية.

وكان يمكن اتقاء الخطيئة ونتائجها بالصلاة والتضحية. وبدأت التضحية عند الساميين كما بدأت عند "الآريين" بالضحايا البشرية (85) ثم حل الحيوان محل الإنسان فصار يضحي "بأولى ثمرات القطعان" وباكورة الطعام الذي تنتجه الحقول؛ ثم انتهى الأمر أخيراً بالاكتفاء بالتسبيح والثناء على الله. وكان الاعتقاد السائد في أول الأمر ألا يؤكل لحم حيوان إلا إذا ذبحه كاهن وباركه، وعُرِض وقتاً ما على الإله (86). وكانت عملية الختان نفسها من أعمال التضحية، ولربما كانت فدية لتضحية أخرى أشد منها قسوة يكتفي فيها الإله بأخذ جزء

ص: 345

من كل. وكان الحيض والولادة، كالخطيئة، يدنسان المرأة، ويتطلبان تطهيراً ذا مراسم وتقاليد، وتضحية وصلاة، على يد الكهنة. وكانت المحرمات تحيط بالمؤمنين من كل جهاتهم، كما كانت الخطيئة كامنة في كل شهوة من الشهوات، وكان لا بد من الهبات للتكفير عن هذه الخطايا، وقلما كانت هناك خطيئة لا يمكن التكفير عنها بهذه الوسيلة.

ولم يكن أحد غير الكهنة يستطيع أن يقرب القرابين بالطريقة الصحيحة أو يفسر الطقوس أو الأسرار الدينية تفسيراً آمنا من الخطأ. وكان هؤلاء طبقة مغلقة لا يستطيع أحد أن ينتمي إليها إلا أبناء ليفي

(1)

. ولم يكن من حقهم أن يرثوا مالاً (87)، ولكنهم كانوا معفيين من الضرائب وفرضة الرؤوس وسائر الإتاوات على اختلاف أنواعها (88). وكانوا يأخذون العشور على نتاج الضأن، وينتفعون بما يبقى في الهيكل من القرابين التي لم تستنفذها الآلهة (89). ونمت ثروة الكهنة بعد نفي اليهود بنمو المجتمع اليهودي الجديد؛ وإذا كانت هذه الثروة المقدسة قد أحسن القيام عليها، فقد جعلت كهنة الهيكل الثاني في دمشق، كما كان أمثالها في طيبة وبابل، أقوى من الملوك أنفسهم.

على أن نمو سلطان الكهنة وانتشار التربية الدينية لم يكفيا لتحرير عقول العبرانيين من الخرافات والأوهام ومن عبادة الأوثان، بل ظلت قلل التلال، والحراجُ مأوى للآلهة الأجنبية ومشهداً للطقوس الخفية، وظلت أقلية كبيرة من الشعب تسجد للحجارة المقدسة، أو تعبد بعل وعشتروت، أو تتنبأ بالغيب على الطريقة البابلية، أو تقيم الأنصاب وتحرق لها البخور، أو تركع أمام الحية النحاسية أو العجل الذهبي، أو تملأ الهيكل بضجيج الحفلات الوثنية (91)، أو ترغم أطفالها على أن " يجوزوا في النار " من قبيل التضحية (92)؛ بل إن بعض الملوك أنفسهم مثل سليمان وأهاب كانوا " يتملقون " الآلهة الأجانب. وقام

(1)

أحد أبناء يعقوب.

ص: 346

رجال صالحون كإيليا وإليشع ينادون بإبطال هذه العادات، وإن لم يصبحوا بعد كهنة، وحاولوا أن يهدوا الناس إلى طريق الحق باستقامتهم وحثهم على الاقتداء بهم. ونشأ من هذه الأحوال والبدايات، ومن انتشار الفاقة واستغلال الأهلين في إسرائيل، عظماء الرجال في الديانة اليهودية؛ نشأت طائفة الأنبياء المتحمسين، الذين طهروا الدين اليهودي، ورفعوا مقامه، وهيأوه للغلبة على أديان العالم الغربي.

ص: 347

الفصل الرابع

‌المتطرفون الأولون

حرب الطبقات - أصل الأنبياء - عاموس وأورشليم - إشعيا -

تنديده بالأغنياء - عقيدة المسيح المنقذ - أثر الأنبياء

لما كان الفقر ينشأ من الغنى، ولما كان الفقراء لا يعرفون أنهم فقراء إلا حين يبصرون الأغنياء بعيونهم، فإن حرب الطبقات لم يندلع لهيبها في إسرائيل إلا بعد أن رأى الناس بأعينهم ثروة سليمان الطائلة.

لقد تعجل سليمان، كما تعجل بطرس الأكبر ولينين، حينما أراد أن يحول البلاد من دولة زراعية إلى أخرى صناعية. وقد تطلبت هذه المشروعات الضخمة كثيراً من الكدح، وفرضت على الشعب أبهظ الضرائب؛ ولما أن تمت بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل، وُجدت في أورشليم طبقة من العمال المتعطلين كانوا من عوامل الشقاق السياسي والفساد الاجتماعي في فلسطين، كما كان أمثالهم في رومة فيما بعد. وكانت الأحياء القذرة تزداد شيئاً فشيئاً كلما نمت ثروة الأفراد وزاد ترف الحاشية، وأصبح استغلال الشعب والربا عادة مألوفة بين أصحاب الضياع الكبرى والتجار والمرابين الذين أحاطوا بالهيكل حتى قال عاموس أن المُلاّك "باعوا البارَّ بالفضة والبائس لأجل نعلين"(93).

وكانت الثغرة الآخذة في الاتساع بين ذوي الحاجة وذوي اليسار، وكان النزاع الشديد بين المدن والريف وهو النزاع الذي يصحب على الدوام قيام المدنيات الصناعية، من العوامل التي أدت إلى انقسام فلسطين بعد موت سليمان إلى مملكتين متعاديتين مملكة إفرايم

(1)

الشمالية وعاصمتها السامرة، ومملكة يهوذا

(1)

كثيرا ما كان أهل هذه المملكة يسمونها مملكة "إسرائيل" ولكنا في هذا الكتاب سنطلق هذا اللفظ الأخير على اليهود جميعهم لا على هذه المملكة وحدها.

ص: 348

الجنوبية وعاصمتها أورشليم. وأخذ الضعف من ذلك الحين يدب بين اليهود لما سرى في قلوبهم من أحقاد، وما قام بينهم من نزاع كانت تشتعل بينهم بسببه نيران الحرب العوان. ولم يمض على موت سليمان إلا زمن قليل حتى استولى شيشنق ملك مصر على أورشليم، وحتى سلّمت له ما جمعه سليمان من ذهب بالضرائب التي فرضها على الشعب في أثناء حكمه الطويل.

وكان هذا الجو المشحون بعوامل التفكك السياسي، والحرب الاقتصادية، والانحلال الديني، هو الذي ظهر فيه الأنبياء. ولم يكن أولئك الذين أطلق عليهم هذا اللفظ العبري (نبي) أول الأمر من طبقة عاموس وإشعيا الجديرة باحترامنا؛ بل كان بعضهم من المتنبئين الذين يستطيعون قراءة قلوب الناس وماضيهم ويخبرونهم بمستقبلهم حسبما يتقاضون منهم من أجور. ومنهم متعصبون متهوسون يستثيرون مشاعرهم بالأصوات الموسيقية الغريبة، أو المشروبات القوية، أو الرقص الشبيه برقص الدراويش، وينطقون في أثناء غيبوبتهم بعبارات يراها أصحابهم وحياً أوحي إليهم: أي بثتها فيهم روح غير روحهم (94). وقد سخر إرميا سخرية لاذعة من "كل رجل مجنون ومتنبئ"(95). وكان منهم من هو ناسك نكد كإيليا؛ ومنهم كثيرون يعيشون في مدارس أو أديرة مجاورة للهياكل، ولكن معظمهم كانت لهم أملاك خاصة وزوجات (96). ومن هذا الحشد الكبير من النساك خرج أنبياء بني إسرائيل وأصبحوا على مر الزمن نقدة لعصرهم وشعبهم ثابتين على نقدهم، عارفين بالتبعة الملقاة عليهم؛ وسياسيين ممتازين يسوسون بلادهم في الخفاء "أشد الناس معارضة للكهنة"(97) و"ألدهم عداء للسامية"(98) وكانوا مزيجاً من العرافين والاشتراكيين. ونخطئ أشد الخطأ إذا عددناهم أنبياء بالمعنى المألوف لهذا اللفظ؛ لقد كانت نبوءاتهم، إن صح أن نسميها نبوءات، مزيجاً من الوعد والوعيد، أو عبارات دالة على التقى والصلاح، يحشرونها في

ص: 349

أقوالهم حشراً (99)، أو إشارات إلى حوادث بعد وقوعها (100). ولم يكن الأنبياء أنفسهم يدعون أنهم يعلمون من الغيب ما يستطيعون أن ينطقوا به؛ بل كانوا أشبه الناس بالمعارضين البلغاء في إحدى الحكومات الدستورية الحديثة. وكانوا من بعض نواحيهم تلستويين

(1)

ثائرين على الاستغلال الصناعي والخداع الكهنوتي؛ خرجوا من أحضان الريف الساذج يصبون اللعنات على ثراء الحواضر الفاسدة.

وقد قال عاموس عن نفسه أنه لم يكن نبياً وإنما كان راعياً ريفياً ساذجاً. فلما أن ترك قطيعه ليشهد بيت إيل، هاله ما شاهده فيه من تعقد الحياة تعقداً غير طبيعي، ومن الفروق الواسعة بين الثروات، ومن منافسة مريرة قاتلة، وقسوة في استغلال الناس. فلما رأى هذا "وقف بالباب" وأخذ يصب غضبه على ذوي الثراء المنغمسين في الترف الذين لا يرعون في الناس عهداً ولا ذمة.

"من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هدية قمح، بنيتم بيوتاً من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كروماً شهية ولا تشربون خمرها

ويل للمستريحين في صهيون،

أنتم

المضطجعون على أسرّة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة، الهذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهّنون بأفضل الأدهان

"كرهت أعيادكم

إني إذا قد مّتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي

أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع، وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم" (101).

تلك نغمة جديدة في آداب العالم. نعم إن عاموس يثلم حد مثاليته بما ينطق به إلهه من وعيد كالتيار الجارف لا يستطيع القارئ لكثرته وشدته أن يحاجز نفسه

(1)

أي أشبه بتولستوي الفيلسوف الروسي. (المترجم)

ص: 350

عن العطف في بعض اللحظات على شاربي الخمر ومستمعي الموسيقى. ولكنا هنا نرى الضمير الاجتماعي لأول مرة في آداب آسية يتخذ صورة محددة واضحة ويفيض على الدين بما يرفعه من دين حفلات وملق إلى دعوة للنبل وحث على مكارم الأخلاق، وما من شك في أن إنجيل المسيح يبدأ في الحقيقة بظهور عاموس

(1)

.

ويبدو أن نبوءة من أشد نبوآته إيلاماً تحققت وهو لا يزال حيا: "هكذا قال الرب. كما ينزع الراعي من فم الأسد كراعين أو قطعة أذن، هكذا ينتزع بنو إسرائيل الجالسون في السامرة في زاوية السرير وعلى دمقس الفراش

فتبيد بيوت العاج وتضمحل البيوت العظيمة"

(2)

. وقام نبي آخر حوالي ذلك الوقت نفسه يهدد السامرة بالخراب في عبارة من تلك العبارات الواضحة المأثورة التي صاغها المترجمون في عهد الملك جيمس من كنوز التوراة ليرددها الناس في حديثهم كل يوم. قال هوشع: "إن عجل السامرة يصير كسراء، إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة"(104). وفي عام 733 هددت إفرايم وحليفتها سوريا، مملكة يهوذا الناشئة، فاستغاثت هذه بأشور. فأغاثتها واستولت على دمشق، وأخضعت سوريا وصور وفلسطين وأرغمتها على دفع الجزية، وعرفت ما يبذله اليهود من جهود للحصول على معونة مصر، فغزت البلاد مرة أخرى واستولت على السامرة، ودخلت في مفاوضات سياسية مع ملك يهوذا (105)، وعجزت عن الاستيلاء على أورشليم، ثم عادت جيوشها إلى نينوى مثقلة بالغنائم ومعها 000 ر 200 من أسرى اليهود ليكونوا عبيداً للآشوريين (106).

(1)

يجدر بالقارئ أن يرجع إلى كتاب "فجر الضمير" لبرستد ليوازن بين ما فيه وبين ما ورد في هذه الأقوال، فإن برستد يرجع بداية هذه الدعوة إلى المصريين الأقدمين. (المترجم)

(2)

واضح أنه يشير هنا إلى الحجرة التي بنيت كلها من العاج في قصر السامرة الذي كان يقيم فيه الملك أهاب مع ملكته إيزابل (حوالي 875 - 850 ق. م)، وقد عثرت بعثة مكتبة هارفرد في خرائب قصر يقال أنه قصر أهاب على عدد من قطع العاج.

ص: 351

وفي أثناء حصار أورشليم أصبح النبي إشعيا من أعظم شخصيات التاريخ العبري

(1)

. وكان إشعيا أوسع أفقا من عاموس، ولذلك كانت آراء أولهما أبقى أثراً في السياسة من آراء الثاني. ولم يكن يشك في أن يهوذا الصغيرة لا تستطيع الوقوف في وجه أشور الجبارة ذات السلطان الواسع ولو أعانتها مصر البعيدة- تلك القصبة المرضوضة التي تدمي يد من يحاول أن يمسكها ليدفع بها عن نفسه- فأخذ يتوسل إلى الملك أهاب ثم إلى الملك حزقيا أن يظلا على الحياد في الحرب القائمة بين أشور وإفرايم. ذلك أنه لم يكن يشك- كما لم يكن عاموس وهوشع يشكان- في أن السامرة (108) لابد ساقطة، وأن المملكة الشمالية مقبلة على آخر أيامها. فلما أن حاصر الآشوريون أورشليم أشار إشعيا على حزقيا ألا يسلم المدينة. وبدا أن انسحاب جيوش سنحريب المفاجئ مبرر قوي لهذه النصيحة. ومن أجل ذلك علا شأنه زمناً ما لدى الملك والشعب على السواء. وكان ينصح على الدوام بأن يعامل الناس بالعدل، وأن يترك أمرهم بعد ذلك إلى يهوه، فيستخدم أشور أداة له يؤدبهم بها، ولكنه سيهلكها هي نفسها في آخر الأمر. وكان من أقواله أن يهوه سيقضي على جميع الأمم المعروفة له، وهو يقول في بعض فصول سفره (من الأصحاح السادس عشر إلى الثالث والعشرين) أن موآب وسوريا وأثيوبيا ومصر سيكون مصيرها الدمار و"كلها يولول"(109). وهذا الدعاء بالخراب وهذه اللعنات المتكررة تفسد ما في سفر إشعيا من جمال، كما تفسد كل ما في التوراة كلها من نبوءات، ولولاها لكانت من أجمل ما كتب في الأدب.

على أن تشهيره هذا إنما ينصب على ما يجب أن ينصب عليه- على الاستغلال الاقتصادي والشراهة، فهو إذا تحدث عنهما سما في حديثه إلى أرقى

(1)

يتكون الكتاب الذي يحمل اسمه من مجموعة من "التنبؤات"(أي المواعظ) كتبها مؤلفان أو أكثر من مؤلفين عاشا في الفترة المحصورة بين 710، 300 ق. م وتعزى الفصول من 1 إلى 39 عادة إلى "إشعيا الأول" الذي نتحدث عنه في هذه الصفحات.

ص: 352

ما وصل إليه الأدب في أسفار العهد القديم، في فقرات تعد من أروع ما كتب من النثر في أدب العالم كله:

"الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم، وأنتم قد أكلتم الكرم. سلبُ البائس في بيوتكم. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين؟

ويل للذين يصلون بيتاً ببيت، ويقرنون حقلاً بحقل حتى لم يبق موضع، فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض!

ويل للذين يقضون أقضية البطل، وللكتبة الذين يسجلون زورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم، ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم، وينهبوا الأيتام. وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد؟ إلى من تهربون للمعونة؟ وأين تتركون مجدكم؟ " (110).

وهو يزدري أشد الازدراء من يتظاهرون في العالم بالتقوى وهم يبتزون أموال الفقراء:

"لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات

رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي. صارت عليَّ ثقلاً. مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً. اغتسلوا تنقوا. اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق. انصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة" (111).

وهو ممتلئ القلب حقداً، ولكنه غير يائس من شعبه؛ وكما أن عاموس قد ختم مواعظه بنبوءة، يحاول اليهود الآن تحقيقها وهي عودتهم إلى بلادهم (112)، كذلك يختتم إشعيا مواعظه بترديد أمل اليهود في ظهور من يقضي على ما بينهم من انقسام سياسي، وخضوع للأجنبي، وما هم فيه من بؤس وشقاء، ومن يعيد إلى الأرض الإخاء والسلام:

ص: 353

"ها! العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل

لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام

ويخرج قضيب من جذع يسى

ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب

يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتيه، ويكون البر منطقة مثنيه، والأمانة منطقة حقويه، ويسكن الذئب مع الخروف، ويربض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسمن معاً، وصبي صغير يسوقها

فيطبعون سيوفهم سككا، ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد" (113).

ذلك إلهام جد عجيب؛ ولكنه إلهام لن يعبر عن مزاج اليهود حتى تمر بهم أجيال كثيرة. وكان كهنة الهيكل ينصتون بعطف مكظوم إلى هذه الدعوة النافعة التي تحث الناس على التقى والصلاح؛ وكانت شيع من اليهود تتطلع إلى هؤلاء الأنبياء تتلقى عنهم هذه الدعوة الملهمة؛ ولعل هذا الأقوال التي تدعوهم إلى نبذ الشهوات الجسمية كان لها بعض الأثر في تقوية ما أوجدته الصحراء في اليهود من نزعة إلى التزمت في الدين. غير أن حياة القصور والخيام، والأسواق والحقول، ظلت في أغلب الأحيان تجري على سننها القديم؛ فكانت الحرب تقضي على من تصطفي من كل جيل، وظل الاسترقاق مصير الغريب، وظل التاجر يطفف الكيل ويغش في الميزان، ثم يحاول التكفير عن ذنبه بالتضحية والصلاة (114).

وترك الأنبياء أعمق آثارهم في يهودية ما بعد التقى، ثم في العالم كله عن طريق اليهودية والمسيحية. وفي أسفار عاموس وإشعيا نرى بداية المسيحية والاشتراكية والمعين الذي فاضت منه الدعوات إلى إقامة عالم مطهر من الشرور لا يطوف به طائف الفقر أو الحرب فيكدر ما فيه من أخوة وسلام.

وهذه الأسفار هي منشأ العقيدة اليهودية الأولى التي تقول بمجيء مسيح

ص: 354

يقبض على زمام الحكم، ويعيد إلى اليهود سلطانهم الدنيوي، ويجعل الصعاليك المملقين الحاكمين بأمرهم في العالم كله. وكان إشعيا وعاموس هما اللذين بدآ في عصر الحروب يمجدان فضائل البساطة والرحمة والتعاون بين الناس والإخاء، وهي الفضائل التي جعلها عيسى أساساً جوهرياً لدينه. وكانا أول من اضطلع بذلك العبء الثقيل عبء تحويل رب الجنود إلى إله حب وهما اللذان جندا يهوه واستعاناه على نشر المبادئ الإنسانية، كما جند المسيح متطرفو الاشتراكيين في القرن التاسع عشر ليستعيناه على نشر المبادئ الاشتراكية. وهما اللذين بثا في عقول الألمان- بعد أن طبعت التوراة في أوربا- الإيمان بمسيحية جديدة وأوقدا شعلة الإصلاح الديني، وكانت فضائلهم القوية غير المتسامحة هي التي أخرجت طائفة المتطهرين المسيحيين. وكانت فلسفتهم الأخلاقية تقوم على نظرية أجدر من غيرها بالتسجيل- وهي أن الطيب سوف يوفق وينجح، وأن الخبيث سوف يصرع؛ وقد تكون هذه نظرية مخادعة، ولكن ما فيها من خداع- إن كان فيها خداع- هو خداع العقل النبيل. ولئن كان هؤلاء الأنبياء لا يتصورون الحرية أو يفكرون فيها، فإنهم كانوا يحبون العدالة ويدعون إلى القضاء على ما كان يضعه الأسباط من قيود على الأخلاق الطيبة. ولقد أقاموا أمام البائسين في العالم أملاً في التآخي، كان تراثاً غالياً، ظلوا يتوارثونه على مدى الأجيال

(1)

.

(1)

يتبين القارئ من هذا الفصل أن دولة اليهود لم تمكث في فلسطين في الزمن القديم إلا فترة وجيزة، فقد قامت في عهد شاول وبلغت أوجها في عهد خلفة داود ودب فيها الضعف في عهد سليمان وانقسمت من بعده ثم زالت زوالاً سريعاً من الوجود. ترى هل هذه الفترة الوجيزة تكفي لأن تجعل ليهود اليوم حقاً في الاستيلاء على فلسطين وإخراج أهلها منها بعد أن قاموا فيها أربعة وعشرون قرناً من الزمان؟ هذا والله منطق غريب لو صح لكان من حق العرب أن يستولوا على أسبانيا وجزء كبير من فرنسا وصقلية وجنوبي إيطاليا، وقد حكموا بعضها أكثر مما حكم اليهود فلسطين. (المترجم)

ص: 355

الفصل الخامس

‌موت أورشليم وبعثها

مولد التوراة - تدمير أورشليم - الأسر البابلي - إرميا -

حزقيال - إشعيا الثاني - تحرير اليهود - الهيكل الثاني

كان أهم أثر للأنبياء في معاصريهم هو كتابة التوراة. وكان سبب كتابتها أن الشعب شرع يرتد عن عبادة يهوه إلى عبادة الآلهة الأجنبية، فأخذ الكهنة يتساءلون ألم يَأْنِ لهم أن يقفوا وقفة قوية يمنعون بها تدهور العقيدة القومية. ورأوا الأنبياء يعزون إلى يهوه ما يجيش في صدورهم من عواطف يؤمنون بها ويعتقدونها، فاعتزموا أن يبلغوا الناس رسالة من الله نفسه في صورة سنن إلهية تبعث النشاط والقوة في حياة الأمة الخلقية، ويضمنون بها معونة الأنبياء، وذلك بما تتضمنه من آرائهم القليلة التطرف. وسرعان ما ضموا إلى جانبهم الملك يوشيا. فلما كانت السنة الثامنة عشرة أو نحوها من حكمه أبلغ الكاهن حلقيا الملك أنه "وجد" في سجلات الهيكل ملفاً عجيباً قضى فيه موسى نفسه في جميع المشكلات التاريخية والخلقية التي كانت مثار الجدل العنيف بين الأنبياء والكهنة. وكان لهذا الكشف أثر عظيم في نفوس القوم، فدعا يوشيا كبارهم إلى الهيكل وتلا عليهم فيه "سفر الشريعة" في حضرة آلاف من الشعب (حسبما تقول الرواية)، ثم أقسم ليطيعن من ذلك الوقت ما جاء في ذلك السفر "وأوقف كل الموجودين في أورشليم وبنيامين فعمل سكان أورشليم حسب عهد الله"(115).

ولسنا نعلم علم اليقين ماذا كان "سفر الشريعة" هذا. فقد يكون سفر الخروج من الأصحاح العشرين إلى الثالث والعشرين، وقد يكون سفر تثنية الاشتراع (116). وليس ثمة ما يضطرنا إلى أن نفترض أنه قد وضع في تلك

ص: 356

الساعة؛ فكل ما فيه أنه يقنن ويسجل أوامر ومطالب ونصائح نطق بها خلال عدة قرون أنبياء بني إسرائيل وكهنة المعبد. ومهما يكن مصدرها فإن الذين استمعوا لها وهي تقرأ عليهم، أو سمعوا بها ولم يكونوا حاضرين وقت قراءتها، قد تأثروا بها أشد التأثر. واغتنم الملك يوشيا هذه الفرصة السانحة فاستعان هذه العواطف الجياشة على تحطيم مذابح الآلهة المنافسين ليهوه في يهوذا. وأخرج "من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل"، "ولا شيء كهنة الأصنام

والذين يوقدون للبعل، للشمس والقمر والمنازل ولكل أجناد السماء" و "نَجَّس تُوفة

لكيلا يُعَبّر أحد ابنه أو ابنته في التار لِمُولَك. وحطم المذابح التي بناها سليمان لكموش، ولملكوم، ولعشتورت" (117).

ويبدو أن هذه الإصلاحات لم ترض يهوه فتحمله على أن يقدم المعونة لشعبه. نعم إن نينوى قد سقطت كما قال الأنبياء، ولكن سقوطها لم يكن له من أثر إلا أن ترك يهوذا خاضعة لحكم مصر أولا ثم لحكم بابل فيما بعد. ولما أن حاول تخاو ملك مصر أن يمر بفلسطين في زحفه على سوريا وقف يوشيا في وجهه عند مجدو حيث كانت الواقعة القديمة الشهيرة ظناً منه أن إلهه سيعينه على خصمه، ولكنه هزم وقتل. وبعد بضع سنين من ذلك الوقت انتصر نبوخدنصر على تخاو في قرقميش واستولى على يهوذا وجعلها ولاية لبابل. وحاول خلفاء يوشيا بالوسائل الدبلوماسية السرية أن يلقوا عن كاهلهم نير بابل، وأرادوا أن يستعينوا في سعيهم هذا بمصر ولكن نبوخدنصر علم بالأمر، فزحف بجيوشه على فلسطين، واستولى على أورشليم، وأسر الملك يهوياقيم، ورفع صدقيا على عرش يهوذا، ثم عاد إلى بلاده ومعه عشرة آلاف أسير من اليهود. ولكن صدقيا كان أيضاً محباً للحرية أو للسطان فخرج إلى بابل، فعاد إليه نبوخدنصر معتزماً أن يحل المشكلة اليهودية حلاً نهائياً كما يظن، فاستولى مرة أخرى على أورشليم وحرقها عن آخرها وهدم هيكل سليمان وقتل أبناء صدقيا أمام عينيه،

ص: 357

ثم سمل عينيه هو نفسه وأسر جميع سكان المدينة تقريباً وساقهم أمامه إلى بابل (118). وقد خلد أحد شعراء اليهود فيما بعد ذكرى هذه القافلة البائسة في أغنية من أروع أغاني العالم قال:

على أنهار بابل جلسنا وبكينا على ذكرى صهيون

وفي وسط الصفصاف علقنا أعوادنا

لأن من سَبونا طلبوا إلينا أن نغنيهم، والذين عذبونا

أرادوا أن نطربهم، ونادونا هلا أنشدتمونا أحد أناشيد صهيون؟

وهل نستطيع أن ننشد نشيد الله في بلد غريب؟

ولئن نسيتك يا أورشليم فلتنس يميني حذقها

وليلتصق لساني بسقف حلقي إن لم أذكرك يا أورشليم

وإن لم تكوني لدي خيراً من أفراحي (119).

وفي هذه الأزمة كلها ظل إرميا أفصح الأنبياء وأشدهم حقداً على قومه يدافع عن بابل ويعلن في الملأ أنها سوط عذاب في يد الله، ويتهم حكام يهوذا بأنهم بلهاء معاندون وينصحهم بأن يسلموا أمرهم كله إلى نبوخدنصر؛ حتى ليكاد من يقرأ أقواله في تلك الأيام أن يظن أنه من صنائع بابل المأجورين. انظر إلى قول إرميا على لسان ربه:

"إني إن صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذي على وجه الأرض بقوتي العظيمة وبذراعي الممدودة وأعطيتها لمن حسن في عيني، والآن قد وقعت كل هذه الأرض ليد نبوخدنصر ملك بابل عبدي

فتخدمه كل الشعوب

ويكون أن الأمة أو المملكة التي لا تخدم نبوخدنصر ملك بابل، والتي لا تجعل عنقها تحت نير ملك بابل أني أعاقب تلك الأمة بالسيف والجوع والوباء- يقول الرب- حتى أفنيها بيده" (120).

قد يكون هذا الرجل خائناً أو لا يكون، أما من الناحية الأدبية فإن كتاب

ص: 358

نبوءاته التي يقال أنه تلقاها عند تلميذه باروخ ليعد من أبلغ ما كتب في الآداب كلها ومن أعظمها قوة؛ وذلك لما فيه من تصوير حي واضح وتأنيب شديد لا رحمة فيه ولا هوادة. وفيه فوق ذلك إخلاص يبدأ بسؤال الرجل نفسه ثم يختتم بارتياب شريف في خطته وحياته كلها من بدايتها إلى نهايتها: "ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض، لم أقرض ولا أقرضوني، وكل واحد يلعنني

ملعون اليوم الذي ولدت فيه" (121).

واشتعلت في صدره نيران الغضب حين رأى ما عليه قومه وزعماؤهم من انحطاط في الأخلاق وحمق في السياسة. ورأى فرضاً عليه أن يدعو بني إسرائيل إلى التوبة والندم. وخيل إلى إرميا أن كل ما يشهده من انحلال قومي، وضعف سياسي، وخضوع للأجنبي، قد أنزله يهوه باليهود عقاباً لهم على ما ارتكبوا من الذنوب. "طوفوا في شوارع أورشليم، وانظروا، واعرفوا، وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها"(122). لقد ساد الظلم في كل مكان وعم الفسق والفجور: "ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا، صاروا حصنا ملعونة سائبة، صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه"(123).

ولما حاصر البابليون أورشليم أراد سراة المدينة أن يسترضوا يهوه فأطلقوا من كان عندهم من عبيد عبرانيين، فلما أن رفع الحصار فترة قصيرة من الوقت وخيل إليهم أن الخطر قد زال، قبض هؤلاء السراة على عبيدهم السابقين وأرغموهم على عبوديتهم القديمة. لقد كانت هذه فترة جمعت من تاريخ الإنسانية ما لم يستطع إرميا أن يقف أمامه صامتاً ساكناً لا يبدي حراكاً (124)، فأخذ كغيره من الأنبياء يتوعد المنافقين الذين يجيئون إلى الهيكل متظاهرين بالتقى والصلاح يحملون بعض ما جمعوا من كدح الفقراء وطحن عظامهم، ويذكرهم بأن الله لا يطلب إلى الناس أن يقربوا له القرابين بل يطلب إليهم أن يكونوا منصفين عادلين (125). وهو يرى أن الكهنة والأنبياء لا يكادون يقلون فساداً

ص: 359

عن التجار؛ وأنهم كالشعب نفسه في حاجة إلى أن تطهر أخلاقهم أو تصاغ من جديد، وأن يختتنوا في أرواحهم كما يختتنون في أجسامهم كما يقول إرميا بعبارته العجيبة:"اختتنوا للرب وانزعوا غُرَل قلوبكم"(126).

وكان هذا النبي يخطب قومه مندداً بما كان منتشراً بينهم من فساد بألفاظ من نار لا يعادلها في شدتها إلا خطب القديسين في جنيفا واسكتلندة وإنجلترا في عهد الإصلاح الديني. فكان يسب اليهود أقذع سباب ويصور لهم وهو جذلان ما سيحل بمن لا يستمعون إليه من هلاك (127). وكم من مرة تنبأ لهم بتخريب أورشليم وسبيهم على يد البابليين، ورثى لما سيحيق بالمدينة (التي يسميها بنت صهيون) من قضاء نعتهم بعبارات ما أشبهها بعبارات المسيح:"يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع، فأبكي ليلاً ونهاراً قتلى بنت شعبي"(128).

وخيل إلى الأمراء في حاشية صدقيا أن هذا كله غدر بالوطن وخيانة له وتفريق لآراء اليهود وأرواحهم في ساعة المحنة. ولكن إرميا لم يعبأ بأقوالهم وأخذ يسخر منهم وحمل نيراً خشبياً فوق عنقه، وأخذ يقول أن يهوذا كلها يحب أن تخضع لنير البابليين، وأن من الخير لها أن يكون خضوعها هذا خضوعاً سلمياً بلا حرب ولا قتال، ولما انتزع منه ضانياً نيره صاح قائلاً أن يهوه سيصب لكل يهودي نيراً من حديد. وحاول الكهنة أن يثنوه عن عمله هذا بوضع رأسه في الدهق، ولكنه وهو في هذا الوضع ظل يشهر بهم، فما كان منهم إلا أن استدعوه إلى الهيكل وأرادوا أن يقتلوه، غير أنه استطاع أن يفلت منهم بمعونة صديق له بين الكهنة. ثم قيض عليه الأمراء وربطوه في حبال وأنزلوه بها في بئر مملوءة بالوحل، ولكن صدقيا خفف هذا العقاب بأن سجنه في فناء القصر وفيه وجده البابليون حين سقطت أورشليم في أيديهم. أمر نبوخدنصر رجاله أن يحسنوا معاملته، وأن يعفوه من قرار النفي العام. وتقول إحدى الروايات الموثوق بها أنه كتب "مراثيه" في أخر أيامه (128)! وهذه المراثي هي أبلغ أسفار العهد القديم بأجمعها

ص: 360

وفيها أخذ يندب نصره الكامل وما حل بأورشليم من دمار، ورفع إلى السماء ذلك السؤال الذي سأله أيوب ولم يجد له جواباً:

"كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب! كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم! السيدة في البلدان صارت تحت الجزية!

أما إليكم يا جميع عابري الطريق، تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني

أنت يا رب أبر من أن أخاصمك، لكن أكلمك من جهة أحكامك. لماذا تنجح طريق الأشرار؟ اطمأن كل الغادرين غدراً" (129).

وفي هذه الأثناء كان خطيب آخر في بابل يحتمل عن إرميا عبء التنبؤ، وهذا الخطيب هو حزقيال. وكان حزقيال هذا رجلاً من أسرة من الكهنة سيقت إلى بابل في أيام السبي الأول من أورشليم. وبدأ خطبه كما بدأها إشعيا الأول وإرميا مندداً أشد التنديد بما شاع في أورشليم من وثنية في الدين وانحلال في الأخلاق. وشبه أورشليم بالزانية وأخذ يبدي في ذلك ويعيد، لأنها باعت عبادتها للآلهة الغرباء (130)؛ وشبه السامرة وأورشليم بزانيتين توأمين. وكانت هذه الكلمة تجري على لسانه كما كانت تجري على ألسنة الكُتَّاب المسرحيين أيام عودة آل استيورت إلى عرش إنجلترا. ووضع ثبتاً طويلاً بذنوب أورشليم ثم قضى عليها بالتخريب والسقوط في أيدي الأعداء. وفعل ما فعله إشعيا، فأدان الأمم كلها من غير تمييز بينها وشهر بخطأ موآب وصور ومصر وأشور وأنذرها بالهلاك والسقوط. وحتى أمة ماجوج العجيبة لم تنج من هذا التشهير (131). ولكنه لم يكن في قلبه من الحق عليها ما كان في قلب إرميا، فقد رق قلبه لها في آخر الأمر وأعلن أن الله سينجي "بقية" من اليهود، وتنبأ بأن المدينة ستبعث حية (132). وأخذ يصف ما يراه بعين الخيال من بناء المعبد الجديد فيها، وتصور قيام مدينة فاضلة للكهنة فيها الكلمة العليا والمقام الأعظم، يقيم فيها يهوه مع شعبه أبد الدهر.

ص: 361

وكان يرجو أن يُبقي بهذه الخاتمة السعيدة على نفسية بني وطنه المنفيين ويؤخر اندماجهم في الثقافة البابلية وفي الدم البابلي. فقد خيل إليه كما خيل إلى غيره في هذه الأيام أن هذا الاندماج سيقضي على مجدة اليهود وعلى كيانهم أيضا؛ ذلك أنهم قد أثروا وحسنت حالهم في أرض الجزيرة الغنية، حيث كانوا يتمتعون بقسط موفور من الحرية في عاداتهم وفي عبادتهم؛ وسرعان ما زاد عديدهم ونمت ثروتهم، وأيسروا فيما عاد به عليهم خضوعهم من هدوء ووفاق لم يتعودوهما من قبل. أخذت طائفة منهم مطردة الزيادة تعبد الآلهة البابلية، وتؤلف الأساليب الشهوانية الشائعة في العاصمة القديمة، حتى إذا كان الجيل الثاني من أبناء المنفيين كان ذكرى أورشليم قد محيت أو كادت تمحى من أذهانهم.

وقد رأى المؤلف المجهول، الذي أخذ على عاتقه أن يكمل سفر إشعيا، أن يعيد ذلك الجيل المرتد إلى دين إسرائيل. وكان مما يمتاز به هذا المؤلف وهو يعمل على إعادتهم إلى دينهم القديم أن يرقى بهذا الدين إلى مستوى رفيع لم يرق إليه دين من الأديان التي ظهرت في الشرق الأدنى حتى ذلك الوقت

(1)

؛ فبينما كان بوذا في الهند ينادي بقمع الشهوات، وبينما كان كنفوشيوس في الصين يصوغ الحكمة لشعبه، كان "إشعيا الثاني" هذا يعلن لليهود المنفيين في نثر جزل مشرق مبادئ التوحيد، ويعرض عليهم إلهاً جديداً شفيقاً عليهم رحيماً بهم، يفوق في شفقته ورحمته ما كان عليه يهوه الغضوب كما صوره إشعيا الأول نفسه. وشرع هذا النبي العظيم يعلن في الناس رسالته بعبارات اختارها أحد الأناجيل المتأخرة ليستحث بها المسيح الشاب على أن يؤدي هو الآخر رسالته. ولم تكن هذه

(1)

ولسنا نعرف شيئاً من تاريخ هذا الكاتب الذي اختار أن يتحدث على لسان إشعيا، وهي طريقة أدبية كانت شائعة في ذلك الوقت. وكل ما نستطيع أن نحزره من أمره أنه كتب قبيل تحرير اليهود على يد قورش أو بعيد هذا التحرير. ويعزو دارسو التوراة إلى هذا الكاتب الأصحاحات من 49 إلى 55 كما يعزونا إلى كاتب آخر مجهول أو كتاب مجهولين الأصحاحات من 56 إلى 66.

ص: 362

الرسالة الجديدة هي صب اللعنات على الشعب لما ارتكب من الذنوب، بل كانت تهدف إلى بث الأمل في قلوبهم أيام استعبادهم. "روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب مكسوري القلب، لأنادي بالمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق"(133)؛ فقد وجد هذا الكاتب أن يهوه ليس إله حرب وانتقام بل أباً محباً؛ وملأه هذا الكشف الجديد سعادة، وأوحى إليه أناشيد فخمة. فأخذ يبشر بالإله الجديد منقذ شعبه.

"صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا، كل وطاء يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيماً، والعراقيب سهلا

(1)

،

هو ذا الرب بقوة يأتي، وذراعه تحكم له

كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات".

ثم يبشر هذا بالمسيح المنقذ ويرفع من شأن هذا البشرى حتى تصير من الآراء السائدة بين شعبه ويصف "الخادم" الذي سينجي إسرائيل بالتضحية الأليمة:

"محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن

محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبجبره شفينا

والرب وضع عليه إثم جميعنا"

(2)

.

ويتنبأ إشعيا الثاني بأن بلاد الفرس ستكون أداة هذا التحرير. وينادى بأن قورش رجل لا يقهر وأنه سيفتح بابل وينقذ اليهود من الأسر فيعودون إلى أورشليم ويشيدون هيكلاً جديداً ومدينة جديدة تكون جنة بحق. "الذئب والحمل يرعيان معاً، والأسد يأكل التبن كالبقر، أما الحية فالتراب طعامها،

(1)

لعله يشير بهذا القول إلى الطريق الممتد من بابل إلى أورشليم.

(2)

لا ترى البحوث الحديثة أن لفظ "الخادم" هنا نبوءة بالمسيح.

ص: 363

لا يؤذون ولا يُهلِكون، في كل جبل قدسي يقول الرب" (135). ولعل الذي أوحى إلى هذا النبي فكرة وجود إله واحد للكون كله هو نهضة الفرس وانتشار قوتهم، وإخضاعهم دول الشرق الأدنى كلها، وجمعها في وحدة إمبراطورية أوسع رقعة وأحسن حكماً من أي نظام اجتماعي عرفه الناس من قبل. وهذا الإله لا يقول كما كان يقول يهوه:

"أنا الرب إلهك

لن تكون لك آلهة غريبة أمامي" بل يقول الآن: "أنا الرب وليس آخر لا إله سواي" (136)، ويصف النبي الشاعر هذا الإله العالمي في فقرة من أروع فقرات التوراة:

"من كان بكفه المياه، وقاس السموات بالشبر، وكال بالكير تراب الأرض، ووزن الجبال بالقبان، والآكام بالميزان

هو ذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان

هو ذا الجزائر يرفعها كَدُقّة

كل الأمم كلا شيء قدامه من العدم والباطل تحسب عنده. فبمن تشبهون الله؟ وأي شبه تعادلون به؟

الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب، والذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن

ارفعوا إلى العلاء عيونكم، وانظروا من خلق هذه" (137).

وكانت ساعة من أروع الساعات في تاريخ إسرائيل حين دخل قورش بابل فاتحاً عالمياً بعد طول انتظار، وأباح لليهود أن يعودوا إلى أورشليم بكامل حريتهم. ولكنه خيب رجاء بعض الأنبياء أظهر ما كان في طباعه من حضارة أرقى من حضارتهم، إذ ترك بابل وشأنها ولم يمس أهلها بسوء، وأظهر خضوعه لآلهتها، وإن كان في الواقع خضوعاً مشكوكاً فيه. كذلك أعاد قورش لليهود ما كان باقياً في خزائن الدولة البابلية من الذهب والفضة اللذين اغتصبهما نبوخدنصر من الهيكل، وأمر الجماعات التي كان اليهود المنفيون يعيشون بينها أن تعينهم بالمال الذي يحتاجونه في أثناء رحلتهم الطويلة إلى وطنهم. ولم يتحمس شباب اليهود

ص: 364

لهذا التحرير لأن الكثيرين منهم قد تأقلموا في التربة البابلية وامتدت أصولهم فيها، فترددوا طويلا في ترك حقولهم الخصبة وتجارتهم الرائجة ليعودوا إلى القفار الخربة في المدينة المقدسة. ومرت سنتان بعد مجيء قورش قبل أن تبدأ الفصيلة الأولى من اليهود المتحمسين رحلتها الطويلة التي دامت ثلاثة شهور إلى الأرض التي خرج منها آباؤها قبل ذلك الوقت بمائة عام (138).

ولم يجد هؤلاء العائدون ترحيباً كبيراً في وطنهم القديم، كما لا يجد العائدون إليه في هذه الأيام. ذلك أن أقواماً آخرين من الساميين قد استقروا في تلك البلاد، وتملكوا الأرض بحق احتلالها والعمل فيها، أخذت هذه القبائل تنظر بعين المقت إلى أولئك الذين خالوهم مغيرين على بلادهم وحقولهم، ولولا تلك الدولة القوية الصديقة التي كانت تحمي اليهود العائدين لما استطاعوا أن يستقروا في فلسطين. وأذن دارا الأول ملك الفرس للأمير زرَّ بابل أن يعيد بناء الهيكل، واستطاع هو وشيعته أن يتموا بناءه بعد اثنتي عشرة سنة من عودة اليهود، رغم قلة عدد أولئك المهاجرين وضآلة مواردهم، ورغم ما كانوا يصادفونه من عقبات في كل خطوة يخطونها بسبب هجمات الأهلين المعادين لهم وتآمرهم عليهم، وعادات أورشليم كما كانت مدينة يهودية شيئاً فشيئاً، وترددت في الهيكل أصداء الأناشيد التي كانت تتغنى بها بقية منهم آلت على نفسها أن تعيد اليهودية إلى سابق قوتها. وكانت عودتهم هذه نصراً عظيماً لا يفوقه إلا ذلك النصر الذي شهدناه في هذه الأيام

(1)

.

(1)

لعله يقصد "بالنصر الذي شهدناه في هذه الأيام" عودة اليهود إلى فلسطين وقيام دولة إسرائيل المزعومة. (المترجم)

ص: 365

الفصل السادس

‌أهل الكتاب

سفر الشريعة - تأليف الأسفار الخمسة - أساطير

"التكوين" - الشريعة الموسوية - الوصايا العشر - فكرة

الله - السبت - الأسرة اليهودية قيمة الشرائع الموسوية

لم يكن في وسع اليهود بعد عودتهم أن يقيموا لهم دولة حربية؛ ذلك أنهم لم يكن لهم من العدد ومن الثروة ما يمكنهم من إقامة هذه الدولة. ولما كانوا في حاجة إلى نوع من الإدارة يعترفون فيه بسيادة الفرس عليهم ويهيئ لهم هذا الوقت نفسه سبيل الوحدة القومية والنظام، فقد شرع الكهنة في وضع قواعد حكم ديني يقوم حكم يوشيا على المأثور من أقوال الكهنة وتقاليدهم، وعلى أوامر الله. وفي عام 444 ق. م دعا عزرا، وهو كاهن عالم، اليهود إلى اجتماع عام خطير، وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه "سفر شريعة موسى". وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما تحتويه ملفات هذا السفر. ولما فرغوا من قراءتها أقسم الكهنة والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ويتخذوها دستوراً لهم يتبعونه ومبادئ خلقية يسيرون على هديها ويطيعونها إلى أبد الآبدين (139). وظلت هذه الشرائع من تلك الأيام النكدة إلى يومنا هذا المحور الذي تدور عليه حياة اليهود، ولا يزال تَقيُّدهم بها طوال تجوالهم ومحنهم من أهم الظواهر في تاريخ العالم.

تُرى ماذا كان "كتاب شريعة موسى" هذا؟ لم يكن هذا الكتاب هو بعينه "كتاب العهد" الذي قرأه يوشيا من قبل، لأن هذا العهد قد جاء فيه بصريح العبارة أنه قُرئ على اليهود مرتين كاملتين في يوم واحد، على حين أن قراءة الكتاب الآخر قد احتاجت إلى أسبوع (140) كامل. وكل ما في وسعنا

ص: 366

أن نفعله هو أن نحزر أن الكتاب الكبير كان يحتوي على جزء هام من أسفار العهد القديم الخمسة التي يسميها اليهود "توراة" ويسميها غيرهم البنتاتوش أو الأسفار الخمسة

(1)

.

كيف كتبت هذه الأسفار؟ ومتى كتبت؟ وأين كتبت؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه ولكنه سؤال كتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة نتركه بعدها من غير جواب.

إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين، تتحدث إحداهما عن الخالق باسم "يهوه" على حين تتحدث الأخرى عنه باسم إلوهيم. ويعتقد هؤلاء العلماء أن القصص الخاصة بيهوه كتبت في يهوذا، وأن القصص الخاصة بإلوهيم

(2)

كتبت في إفرايم، وأن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة. وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يعرف بالتثنية

(1)

التوراة: لفظ عبري معناه الهدى أو الإرشاد، والبنتاتوش كلمة يونانية معناها اللغات الخمسة. (المترجم).

(2)

وهي تفرقة كان أول من أشار إليها جان أستروك Jean Astruc في عام 1753 م. ومن الفقرات التي تعزى إلى كاتب قصص يهوه في سفر التكوين الفقرات المحصورة بين الآية الرابعة من الأصحاح الأول والآية الرابعة والعشرين من الأصحاح الثالث، وكذلك الأصحاحات 4، 6 - 8، 11 من 1 إلى 9، والأصحاحين 12، 13، 18 - 19، 24، 27، الآيات 1 - 45، والأصحاحات 32، 43 - 44؛ وفي سفر الخروج الأصحاحات 4 - 5، الآيات المحصورة بين الآية رقم 20 في الأصحاح الثامن إلى الآية رقم 7 في الأصحاح التاسع، والأصحاحان 10، 11، والآيات المحصورة بين الآية رقم 12 من الأصحاح الثالث والثلاثين إلى الآية رقم 26 من الأصحاح الرابع والثلاثين؛ وفي سفر العدد الآيات من 29 إلى 36 من الأصحاح الحادي عشر الخ؛ أما الفقرات الإلوهية التي لا شك فيها فهي التي في سفر التكوين في الأصحاح الحادي عشر من عشرة إلى 32، وفي الأصحاح العشرين 1 - 17، والحادي والعشرين 8 - 32 والثاني والعشرين 1 - 14 والأصحاحات 40 - 42؛ و 45 وفي سفر الخروج الآيات من 20 إلى 23 من الأصحاح الثامن عشر والأصحاحات 20 - 22، والآيات من 7 إلى 11 في الأصحاح الثالث والثلاثين؛ وفي سفر العدد الأصحاحات 12؛ 22 - 24 الخ.

ص: 367

أكبر الظن أن كاتبه أو كتابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر. وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد. والرأي الغالب أن هذه الفصول تكون الجزء الأكبر من "سفر الشريعة" الذي أذاعه عزرا (142 أ)، ويبدو أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام 300 ق. م (143).

وكانت أساطير الجزيرة هي المعين الغزير الذي أخذت منه قصص الخلق والغواية والطوفان التي يرجع عهدها في تلك البلاد إلى ثلاثة آلاف سنة أو نحوها قبل الميلاد. ولقد رأينا صوراً قديمة من هذه القصص فيما مر بنا من صفحات من هذا الكتاب، ولعل اليهود قد أخذوا بعضها من الأدب البابلي في أثناء أسرهم (144). ولكن أرجح من هذا أنهم أخذوها قبل ذلك العهد بزمن طويل من مصادر سامية وسومرية قديمة كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى.

وتقول القصص الفارسية وقصص التلمود الخاصة بالخلق أن الله خلق في بادئ الأمر إنساناً مكوناً من ذكر وأنثى متصلين من الخلف كالتوأمين السياميين، ثم رأى فيما بعد أن يفصل أحدهما عن الآخر. وتحضرنا في هذه المناسبة جملة غريبة وردت في سفر التكوين (الآية الثانية من الأصحاح الخامس):

"يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ذكراً وأنثى، خلقة وباركه ودعا اسمه آدم"؛ ومعنى هذا أن ابنا الأول كان ذكراً وأنثى معا- ويبدو أن أحد من رجال الدين إذا استثنينا أرسطو فانيز لم يفطن إلى هذه العبارة

(1)

.

أما قصة الجنة فتظهر في جميع القصص الشعبية في العالم كله- في مصر، والهند، والتبت، وبابل، وبلاد الفرس، واليونان

(2)

وبولينيزيا والمكسيك

(1)

قارن هذا "بمائدة" أفلاطون.

(2)

قارن هذا بما كتبه الشاعر اليوناني هزيود (حوالي 750 ق. م) في العمل والأيام "كان الناس يعيشون كالآلهة مبرئين من الرذائل والشهوات والعضب والنصب، يقضون أيامهم هادئين مسرورين سعداء في رفقة الكائنات الإلهية

وكانت الأرض في تلك الأيام أجمل مما هي الآن، وكانت تخرج من نفسها مقداراً عظيماً من الفاكهة المختلفة الأنواع

وكان الرجال وهم في سن المائة يعدون غلماناً لا أكثر".

ص: 368

وغيرها من البلاد (145). وفي معظم هذه الجنان أشجار محرمة وفيها كذلك أفاع وهولات سلبت الناس الخلود أو نفثت السم في الجنة (147). وأكبر الظن أن الحية والتينة كانتا رمزين للشهوات الجنسية.

وتشير هذه القصة إلى أن الشهوة الجنسية والمعرفة تقضيان على الطُهر والسعادة، وأنهما مصدر كل الشرور. وترى هذه الفكرة بعينها في آخر "العهد القديم" في سفر الجامعة، كما تراها هنا في بدايته.

والمرأة في معظم هذه القصص هي الأداة التي تتخذها الحية أو يتخذها الشيطان وسيلة لإيقاع الإنسان في الشر- الجميل، سواء كانت هذه المرأة هي حواء، أو بندورا، أو بوسي الواردة في الأساطير الصينية. فقد جاء في قصص شي جنج أن "كل الأشياء كانت في بداية الأمر خاضعة للإنسان، ولكن امرأة ألقت بنا في ذل الاستعباد فشقاؤنا إذن لم يأتنا من السماء بل جاءت به المرأة، لأنها هي التي أضاعت الجنس البشري. آه! ما أشقاكِ يا بوسي! لقد أشعلت النار التي أحرقتنا والتي تزداد كل يوم ضراماً

لقد ضاع العالم، وطغت الرذيلة على كل شيء".

وقصة الطوفان أكثر انتشاراً من قصة الخلق نفسها، فلا يكاد يوجد في الأمم القديمة أمة لم تعرفها، وقلما يوجد جبل في آسية لم يرس عليه نوح أو شمش- نيشتيم بعد أن أضناه التعب من ضربات المياه (148). ولقد كانت هذه القصص في العادة هي الوسيلة الشعبية أو الطريقة المجازية التي عبر بها القدماء عن قضاء فلسفي أو موقف أخلاقي لخصوا فيه بإيجاز تجارب طويلة مرت بالجنس البشري- وهي أن الشهوة الجنسية والمعرفة تُنتجان من الآلام أكثر مما تنتجان من اللذة، وأن الحياة البشرية تتعرض من حين إلى حين لأخطار الفيضانات أي لطغيان الأنهار العظيمة التي كان ماؤها سبباً في قيام الحضارات القديمة. وإن الذين يسألون هل هذه القصص صحيحة أو غير صحيحة ليسألون في الواقع أتفه الأسئلة

ص: 369

وأبعدها عن المقصود منها، ذلك أن أهميتها ليست فيما تقصه من قصص، بل فيما تعرضه من أحكام. ومع ذلك فليس من العقل في شيء ألا يستمتع الإنسان ببساطتها التي تخلب اللب وبقصصها الواضحة وأحداثها السريعة.

وكانت الأسفار التي تليت على الشعب بأمر يوشيا وعزرا هي التي صيغت منها القوانين "الموسوية" التي قامت عليها الحياة اليهودية كلها فيما بعد. ويقول سارتن Sarton، وهو المعروف بشدة حرصه فيما يكتب، معلقاً على هذه الشرائع:" إن أهميتها في تاريخ الأنظمة والقوانين تفوق كل تقدير"(149). لقد كانت أكبر محاولة في التاريخ لاتخاذ الدين قاعدة لسياسة الأمم وأداة لتنظيم كل صغيرة وكبيرة في الحياة كلها. وفي ذلك يقول رينان Renan: " لقد صارت تلك الشريعة أضيق رداء شد على جسم الحياة الإنسانية"(150)، فقد جعلت الطعام

(1)

، والدواء، والشئون الصحية الفردية، وشئون الحيض والولادة، والشئون الصحية العامة، والانحراف الجنسي والشهوات البهيمية (152)، كل هذه جعلتها من موضوعات الفروض والهداية الإلهية. وفيها نشهد مرة أخري كيف أخذ الطبيب يفترق افتراقاً بطيئاً عن الكاهن (153) - ليصبح فيما بعد ألد أعدائه. فترى سفر اللاويين يحرص أشد الحرص على وضع القوانين الخاصة لعلاج الأمراض التناسلية، ويعنى بها أشد العناية، فينص على عزل المصابين وما يتطلبه علاجهم من تطهير وتبخير بل وحرق المنزل الذي فشا فيه المرض عن آخره إذا دعت الحال

(2)

. وكان اليهود الأقدمون هم الذين وضعوا قواعد الوقاية من

(1)

انظر الأصحاح الرابع عشر من سفر التثنية. ويعزو ريناخ Reinach، وروبرتسن سمث Robertson Smith وسير جيمس فريزر Sir James Frazer تحريم لحم الخنزير إلى عبادة أسلاف اليهود الطوطمية للخنزير (أو للخنزير البري) لا إلى ما كان لديهم من معلومات صحية أو رغبتهم في اتقاء الأمراض (151). على أن عبادة الخنزير البري قد لا تكون إلا وسيلة لجأ إليها الكهنة للنهي عن أكل لحم الخنزير "لنجاسته". وأن ما في الشريعة الموسوية من قواعد صحية حكيمة ليبرر الشك فيما فسر به ريناخ هذا التحريم.

(2)

وظلت الطرق التي يشير بها سفر اللاويين (في الأصحاحان 13، 14) لعلاج الجذام متبعة في أوربا حتى آخر العصور الوسطى.

ص: 370

المرض (156)، ولكن يلوح أنهم لم يكونوا يعرفون من الجراحة غير عملية الختان، ولم تكن هذه السنة الدينية- الشائعة بين المصريين الأقدمين، وبين الساميين المحدثين- مجرد تضحية لله وفريضة يفرضها الولاء للجنس

(1)

، بل كانت فوق هذا وقاية صحية من الأقذار التي تتعرض لها الأعضاء التناسلية (158). ولعل ما في الشريعة من قواعد خاصة بالنظافة هو الذي أبقى على اليهود خلال تجوالهم الطويل وتشتتهم ومحنتهم.

أما ما بقي من شريعة موسى فيدور كله حول الوصايا العشر (سفر الخروج الآيات 1 - 17 من الأصحاح العشرين) التي قدر لها أن يرددها نصف سكان العالم

(2)

. وتضع الوصية الأولى أساس المجتمع الديني الجديد، وهو المجتمع الذي لا يقوم على أي شريعة مدنية بل على فكرة الله وهو الملك القدوس الذي لا تدركه الأبصار، والذي أنزل كل قانون، وفرض كل عقوبة، والذي سُمّي شعبُه بعدئذ شعب إسرائيل أي المدافعين عن الله.

لقد قامت الدولة العبرية ولكن الهيكل ظل باقياً، وشرع كهنة يهوذا

(1)

وذلك لأن هذه العادة تجعل من المستحيل على اليهودي أن يخفي عن الناس حقيقة أمره. ويقول برفولت Briffault: " إن هذه السنة اليهودية لم تتخذ صورتها التي هي عليها الآن إلا في عهد متأخر كثيراً هو عهد المكابيين (167 ق. م). وفي ذلك الوقت كانت العملية تجرى بطريقة تجعل في مقدور اليهوديات أن يتقين استهزاء غير اليهوديات منهن إذ كانت هذه العملية يعمل بحيث لا يدرك الإنسان أنها عملت، ولهذا أمر الكهنة الوطنيون أن تزال الغلفة عن آخرها"(157).

(2)

كان من المألوف في الأزمان القديمة أن تعزى كتب القوانين إلى الوحي الإلهي. ولقد رأينا من قبل كيف كانت قوانين مصر القديمة تعزى إلى الإله تحوت، وكيف أنزل شمش إله الشمس قانون حمورابي. كذلك أعطى أحد الأرباب الملك مينوس على جبل دكتا القوانين التي حكمت بمقتضاها جزيرة كريت. وكان اليونان يمثلون ديونيسس الذي يسمونه أيضا "المشرع" وأمامه منضدتان حجريتان نقشت عليهما القوانين، ويقول أتقياء الفرس أن زردشت كان في يوم من الأيام يصلي على جبل عال فتبدى إليه أهورا- مزدا بين الرعود والبروق، وأنزل عليه "كتاب القانون" (159). وفي هذا يقول ديودور الصقلي:"لقد فعلوا كل هذا لأن الفكرة التي تسمو بالبشرية فكرة رائعة قدسية؛ أو لأن السوقة تكون أكثر طاعة للقوانين إذا حولت أبصارها إلى ما يمنع به من تعزى إليهم من جلال وسلطان"(160).

ص: 371

يحاولون كما يحاول بابوات رومة أن يعيدوا ما عجز الكهنة عن إنقاذه. ومن ثم كان وضوح الوصية الأولى وما فيها من تكرار ونصها على أن الكفر وذكر الله بما لا يليق يعاقب عليهما بالإعدام ولو كان الكافر أقرب أقرباء الإنسان (161). ذلك أن الكهنة الذين وضعوا القانون كانوا يعتقدون كما يعتقد رجال محاكم التفتيش الأتقياء أن الوحدة الدينية شرط أساسي لقيام النظام والتضامن الاجتماعيين. وكان هذا التعصب الديني منضماً إلى الكبرياء الجنسي هو الذي أبقى على اليهود وأوقعهم في كثير من المشاكل.

وسمَت الوصية الثانية بفكرة الله بقدر ما حطّت من شأن الفن، إذ حرّمت أن تصور له أية صورة منحوتة. وقد افترضت هذه الوصية وجود مستوى عقلي راق لدى اليهود، لأنها نبذت كل الخرافات كما نبذت فكرة تجسد الإله، وحاولت أن تصور الله منزهاً عن جميع الأشكال والصور بالرغم من الصورة البشرية المحضة التي ترسمها ليهوه أسفار موسى الخمسة. وهي تخص الدين بكل ما تنطوي عليه قلوب العبرانيين من إخلاص وولاء، ولا تترك فيهما- في الأيام القديمة- مكاناً للعلم والفن. وحتى علم الفلك نفسه قد أهمل أمره لكيلا يزداد عدد الآلهة الزائفين أو تعبد النجوم وتتخذ آلهة من دون الله. وكان في هيكل سليمان قبل ذلك العهد عدد من الصور والتماثيل يكاد يجل عن الحصر (163)؛ أما الهيكل الجديد فلم يكن فيه شيء منها. ذلك أن التماثيل والصور القديمة قد نقلت من قبل إلى بابل، ويبدو أنها لم تعد مع ما أعيد من آنية الفضة والذهب (164). ومن أجل هذا لا نجد نحتاً ولا تصويراً ولا نقشاً بعد الأسر البابلي، كما لا نجد إلا القليل منها قبل الأسر إذا استثنينا عهد سليمان الذي يكاد أن يكون عهداً أجنبياً عن العبرانيين. وكل ما كان الكهنة يجيزونه من الفنون فنا العمارة والموسيقى؛ وكانت الأغاني والمراسم التي تقام في الهيكل هي التي تخفف من أكدار حياة الشعب وشقائه، فكانت فرقة موسيقية معها مختلف الآلات تنضم

ص: 372

إلى جوقة المغنين في ترتيل المزامير، فتبدو "صوتاً واحداً لتسبيح الرب وحمده" وتمجيد الهيكل (165):"وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان، وبالرباب، وبالدفوف، وبالجنوك، وبالصنوج"(166).

وتنطق الوصية الثالثة بما كان يستمسك به اليهودي من تقى وتدين. فهو لا يحرم عليه أن ينطق باسم الله عبثاً فحسب، بل يحرم عليه أن ينطق باسم الله تحريماً مطلقاً، فإذا ورد اسم يهوه في صلاته وجب عليه أن يستبدل به اسم أدنيه- الرب. ولن نجد لهذه التقوى نظيراً إلا بين الهندوس.

وقدست الوصية الرابعة يوم الراحة الأسبوعي- السبت- وصار هذا التقديس سنة من أرسخ السنن البشرية. وهذه التسمية- ولعل هذه العادة نفسها- قد جاءتهم من البابليين. فقد كان هؤلاء يطلقون على الأيام "الحُرُم" أيام الصوم والدعاء اسم شيتو (167). وكان لديهم فضلاً عن هذه العطلة الأسبوعية أعياد أخري عظيمة منها مواسم كنعانية قديمة للزرع والحصاد، ومنها أعياد دورية للقمر والشمس: فكان مَزُّوث في بادئ الأمر عيد بداية حصاد الشعير، وشباؤوث الذي سمي فيما بعد بنتكست عيد ختام حصاد القمح؛ وسكوث عيد الكروم، وبساتش أو عيد الفصح عيد بداية نتاج قطعان الضأن؛ وكان رش- ها- شناه عيد رأس السنة. ولم تعدل هذه الأعياد لتخلد بها حوادث هامة في تاريخ اليهود إلا بعد ذلك الوقت (168 أ). وكانوا في أول يوم من أيام عيد الفصح اليهودي يذبحون حملاً أو جدياً ويأكلونه ويرشون دمه على الأبواب إشارة على أن هذا الدم هو نصيب الإله، ثم ربط الكهنة فيما بعد هذه العادة بعادة قتل يهوه لأبناء المصريين البكر. وكان الحمل في أول الأمر طوطماً لإحدى القبائل الكنعانية. وكان عيد الفصح عند الكنعانيين عيد تقريب حمل لأحد الآلهة

ص: 373

المحليين%=@وأصبح هذا الطوطم فيما بعد حمل بسكال في الدين المسيحي، وقيل أنه هو نفسه تخليد ذكرى موت المسيح. @ ونحن حين نقرأ الآن "في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج"

(1)

قصة هذا العيد، ثم نرى اليهود في هذه الأيام يحتفلون به على النحو الذي كانوا يحتفلون به قديماً، ندرك قدم هذه العبادة وقوة استمساك هذا الشعب بطقوسه القديمة.

والوصية الخامسة تقدس الأسرة وتضعها من حيث بناء المجتمع في منزلة لا تفوقها إلا منزلة الهيكل. وظلت المثل العليا التي طبع بها نظام الأسرة باقية في أوربا طوال تاريخها المتوسط والحديث حتى جاء الانقلاب الصناعي وأدى إلى انحلالها. لقد كانت الأسرة العبرانية الأبوية نظاماً اقتصادياً وسياسياً ضخماً يتألف من أكبر رجل متزوج فيها، ومن أزواجه، وأبنائه غير المتزوجين، وأبنائه المتزوجين وأزواجهم وأبنائهم، ومن عبيدهم إن كان لهم عبيد. وكان الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه هذه الجماعة هو قدرتها على زراعة الأرض؛ أما قيمتها السياسية فتنحصر في أنها كانت تهيئ للبلد نظاماً اجتماعياً بلغ من القوة حداً تكاد الدولة أن تصبح معه لا ضرورة لها إلا في زمن الحرب. وكان للأب على أفراد أسرته سلطاناً لا يكاد يُحد؛ فكانت الأرض ملكاً له، ولم يكن في وسع أبنائه أن يبقوا على قيد الحياة إلا إذا أطاعوا أمره؛ فقد كان هو الدولة، وكان في وسعه إن كان فقيراً أن يبيع ابنته قبل أن تبلغ الحلم لتكون جارية؛ كما كان له الحق المطلق في أن يزوجها بمن يشاء وإن كان في بعض الأحيان ينزل عن بعض حقه فيطلب إليها أن ترضى بهذا الزواج (170). وكانت الفكرة الشائعة أن الأولاد من نتاج الخصية اليمنى، وأن البنات من نتاج الخصية اليسرى، وكانت هذه في اعتقادهم أصغر وأضعف من اليمنى (171). وكان الزواج في أول الأمر

(1)

في الأصل الإنجليزي الحادي عشر وهو خطأ مطبعي. (المترجم)

ص: 374

يستتبع انتقال الزوج إلى دار زوجته، فقد كان عليه أن "يترك أباه وأمه وينضم إلى زوجته في عشيرتها"؛ لكن هذه العادة أخذت تزول شيئاً فشيئاً بعد تأسيس الملكية. وكانت أوامر يهوه إلى الزوجة هي:"ستكون رغبتك لزوجك، وسيكون له الحكم عليك".

ومع أن المرأة كانت من الوجهة الرسمية خاضعة للزوج، فإنها كانت في الواقع ذات كرامة وذات سلطان كبير؛ وقد اشتهرت في تاريخ اليهود أسماء سيدات مثل سارة، وراحيل، ومريم، وإستر؛ وكانت دبورة إحدى قضاة إسرائيل (172). وكانت النبية خلدة هي التي استشارها يوشيا في أمر الكتاب الذي وجده الكهنة في الهيكل (173). وكانت الأم الولود تضمن لنفسها الطمأنينة والكرامة، ذلك بأن هذه الأمة الصغيرة كانت تتوق إلى زيادة عددها، لأنها تشعر كما تشعر اليوم في فلسطين بما يتهددها من الخطر وسط الأقوام المحيطين بها. ومن أجل هذا كانت ُتعلي من شأن الأمومة، وترى العزوبة خطيئة وجريمة، وتجعل الزواج إجبارياً بعد سن العشرين، لا تستثني من ذلك الكهنة أنفسهم، وتزدري العذارى اللاتي في سن الزواج، والنساء العاقرات، وتنظر إلى الإجهاض وقتل الأطفال وغيرهما من وسائل تحديد النسل على أنها من أعمال الكفرة البغيضة التي تؤذي خياشيم الرب (174):"فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت ليعقوب هب لي بنين وإلا فأنا أموت"(175). وكانت الزوجة الكاملة هي التي لا تنقطع عن الكد في بيتها وحوله، ولا تفكر إلا في زوجها وأطفالها. وفي الأصحاح الأخير من سفر الأمثال وصف للمرأة المثالية كما يراها الرجل:

"امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها قلا يحتاج إلى غنيمة، تصنع له خيراً لا شراً كل أيام حياتها، تطلب صوفاً وكتاناً، وتشتغل بيدين راضيتين، هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد،

ص: 375

وتقوم إذ الليل بعد، وتعطي أكلاً لأهل بيتها وفريضة لفتياتها، تتأمل حقلاً فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرماً؛ تنطق حقويها بالقوة وتشدد ذراعيها، تشعر أن تجارتها جيدة، سراجها لا ينطفئ في الليل، تمد يديها إلى المغزل وتمسك كفاها بالفلكة، تبسط كفيها للفقير وتمد يديها إلى المسكين. لا تخشى على بيتها من الثلج لأن كل أهل بيتها لابسون حللاً، تعمل لنفسها موشيات، لبسها البز وأرجوان، زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض، تصنع قمصاناً وتبيعها، وتعرض مناطق على الكنعاني، العز والبهاء لباسها، وتضحك على الزمن الآتي، تفتح فمها بالحكمة وفي لسانها سنة المعروف، تراقب طرق أهل بيتها ولا تأكل خبز الكسل، يقوم أولادها ويطربونها، ويقوم زوجها أيضاً فيمدحها، بنات كثيرات عملن فضلاً، أما أنتِ ففقتِ عليهن جميعاً، الحسن غش والجمال باطل؛ أما المرأة المتقية الرب فهي تمدح، أعطوها من ثمر يديها، ولتمدحها أعمالها في الأبواب"

(1)

.

والوصية السادسة مبدأ مثالي صعب المنال. ذلك أننا لا نرى في كتاب ما نراه في أسفار العهد القديم من حديث عن التقتيل والتدمير، ففصوله كلها ما بين وصف لمذابح وتناسل لتعويض آثارها. لقد كان النزاع بين الأسباط، والانقسامات الحزبية، وعادة الأخذ بالثأر المتوارثة، كل هذه كانت لا تبقي على فترات السلم المنقطعة المملة إلا قليلاً. ولم يكن أنبياء إسرائيل من دعاة السلم رغم ما جاء في بعض أقوالهم من تمجيد للمحاريث ومناجل التشذيب. وكان الكهنة أنفسهم- إذا جاز لنا أن نحكم عليهم من خطبهم التي يُنطقون بها يهوه-

(1)

هذه هي المرأة المثالية في عين الرجل؛ وإذا جاز لنا أن نصدق إشعيا (3: 16 - 23) فإن نساء أورشليم كن في الواقع كنساء العالم كله، يحببن الملابس الجميلة والزينة ويغرين الرجال بمطاردتهن:"من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق، وغامزات بعيونهن، وخاطرات في مشيهن، ويخشخشن بأرجلهن" الخ؛ ولعل المؤرخين كانوا يخدعوننا على الدوام فيما يقولونه عن النساء!

ص: 376

مولعين بالحروب ولعهم بالمواعظ. ولقد قتل ثمانية من ملوك إسرائيل التسعة عشر (177). وكانت العادة المتبعة أن تدمر المدن التي يستولون عليها في حروبهم، وأن تقطع بحد السيف رقاب جميع الذكور من سكانها، وأن تتلف الأرض حتى لا تصلح للزرع إلا بعد زمن طويل، شأنهم في هذا شأن الناس في تلك الأيام (178). ولعل أعداد القتلى الواردة في أقوالهم كان يبالغ فيها كثيراً. فليس من المعقول مثلا أن "يقتل بنو إسرائيل من الآراميين

(1)

مائة ألف رجل في يوم واحد" (179) بغير آلات الحرب الحديثة. وكان اعتقادهم أنهم شعب الله المختار (180) سبباً في ازدياد الكبرياء الطبيعي في أمة تشعر بما لها من مواهب متفوقة، كما كان سبباً في تقوية ما لديهم من نزعة إلى اعتزال غيرهم من الشعوب من الوجهتين العقلية والروحية، وفي حرمانهم من أن ينظروا إلى الأمور نظرة أممية كان أبناؤهم جديرين بأن يصلوا إليها. لكنهم مع ذلك بلغوا درجة عظيمة من الفضائل المتصلة بصفاتهم هم أنفسهم، وكان منشأ عنفهم هو ما كانوا يتصفون به من حيوية عارمة جامحة؛ وكانت عزلتهم ناشئة من تقواهم، كما كان ميلهم إلى الخصام والتذمر ناشئاً من حساسيتهم القوية التي أمكنتهم من إنتاج أعظم آداب الشرق الأدنى؛ وكان كبرياؤهم العنصري أقوى سند لشجاعتهم في خلال قرون التعذيب الطوال. ذلك أن الناس يكونون كما تضطرهم الظروف أن يكونوا.

والوصية السابعة تعترف بأن الزواج هو الأساس الذي تقوم عليه الأسرة، كما تعترف الخامسة بأن الأسرة هي أساس المجتمع، وهي تضفي على الزواج كل ما يستطيع الدين أن يضفي عليه من عون. ولا تذكر شيئاً عن العلاقات الجنسية قبل الزواج، ولكن ثمة أنظمة أخري تحتم على الفتاة أن تثبت أنها عذراء

(1)

في الأصل الإنجليزي "من السوريين" ولكن الذي تذكره الآية أنهم من الآراميين. (المترجم)

ص: 377

في يوم زواجها وإلا رجمت حتى تموت (181). ولكن الزنا كان رغم هذا منتشراً بين اليهود، ويلوح أن اللواط لم ينقطع بعد تدمير سدوم وعمورة (182). ولما كان القانون فيما يلوح لم يحرم الاتصال بالعاهرات الأجنبيات، فإن السوريات، والموآبيات والمَدْينيات وغيرهن من "النساء العازبات" انتشرن في الطرق العامة، حيث كن يعشن في مواخير وخيام، ويجمعن بين الدعارة وبيع مختلف السلع الصغيرة. ولما كان سليمان لا يتشدد كثيراً في هذه الأمور، فإنه قد تساهل في تطبيق القانون الذي كان يحرم على تلك النساء السكنى في أورشليم؛ وسرعان ما تضاعف عددهن حتى كان الهيكل نفسه في أيام المكابيين ماخوراً للزنا والفجور كما وصفه مصلح غضوب (183).

ويلوح أن الحب كان له عندهم نصيب، فقد "خدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها"(183)، ولكن الحب لم يكن له إلا شأن قليل في اختيار الأزواج. وكان هذا الزواج قبل نفي بني إسرائيل من الأمور المدنية المحضة، يعقده أبوا الزوجين أو يعقده الخطيب وأبو العروس. وفي أسفار العهد القديم شواهد على زواج السبايا؛ ويجيز يهوه الزواج من سبايا الحروب (185)، ولما نقص عدد النساء أوصى الكبار "بني بنيامين قائلين امضوا واكمنوا في الكروم، وانظروا فإذا خرجت بنات شيلوه ليدرن في الرقص فاخرجوا أنتم من الكروم واخطفوا لأنفسكم كل واحد امرأته من بنات شيلوه واذهبوا إلى أرض بنيامين"(186). ولكن هذه الخطة كانت من الخطط النادرة، أما السنة المألوفة فكانت سنة الزواج بطريق الشراء، فقد ابتاع يعقوب ليئة وراحيل بعمله. واشترى بوعز راعوثَ اللطيفة شراء سافراً. وكان ممن أشد ما ندم عليه النبي هوشع أنه ابتاع زوجته بخمسين شاقلاً (187). وكان الاسم الذي يطلقه العبرانيون على الزوجة وهو "بولة"

(1)

يعني "المملوكة"(188). وكان

(1)

لعل هذا المعنى ذو صلة بكلمة "بولة" العربية بمعنى بنت الرجل. (المترجم)

ص: 378

والد الزوجة يعطيها في مقابل ما يتقاضاه ثمناً لها بائنة- وهو نظام يفيد أعظم فائدة في تضييق الثغرة الفاصلة بين نضج الأبناء الجنسي ونضجهم الاقتصادي في حضارة المدن، وهي ثغرة مفككة للمجتمع.

وإذا كان الرجل ثرياً أبيح له أن يتزوج بأكثر من واحدة؛ وإذا كانت الزوجة عاقراً، مثل سارة، أشارت على زوجها بأن يتخذ له خليلة. وكان الهدف الذي ترمي إليه هذه السنن هو تكثير النسل. وكان طبيعياً لديهم أن تقدم راحيل وليئة خادماتهما إلى يعقوب بعد أن ولدتا له كل ما تستطيعان أن تلدا من الأبناء، لكي يلدن له هن أيضاً أبناء (188). ولم يكن يسمح للمرأة بأن تظل عقيماً؛ ومن أجل ذلك فإن الأخ إذا مات أخوه كان يحتم عليه أن يتزوج أرملته مهما كان عدد زوجاته؛ فإذا لم يكن للميت أخ فرض هذا الواجب على أقرب الأحياء من أسرته (189). ولما كانت الملكية الفردية أساس النظام الاقتصادي اليهودي فقد كان لكل من الرجل والمرأة معيار خلقي خاص. فللرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، أما المرأة فكانت تختص برجل واحد. وكان معنى الزنى عندهم اتصال رجل بامرأة ابتاعها رجل آخر بماله؛ ومن أجل ذلك كان اتصاله بها اعتداء على قانون الملكية تعاقب عليه المرأة والرجل بالإعدام (190). وكان الفسق محرماً على المرأة غير المتزوجة، أما الرجل غير المتزوج فقد كان عمله هذا ذنباً يغتفر له (191). وكان الطلاق مباحاً للرجل، ولكنه كان قبل أيام التلمود من أشق الأمور على المرأة (192). ويلوح أن الزوج لم يسرف في إساءة استعمال ماله من ميزة على المرأة في هذه الناحية، فهو يصور لنا على أنه في الجملة إنسان مخلص لزوجته وأبنائه، غيور عليهم، وكثيرا ما كان الزواج يثمر حبَّاً وإن لم يكن الحب هو الذي يقرر الزواج. "وأخذ إسحق رفقة فصارت له زوجة وأحبها، فتعزى إسحق بعد موت أمه"(193). ولعل الحياة في الأسرة لم تصل في أي شعب آخر- إذا استثنينا شعوب الشرق الأدنى- إلى ذلك المستوى الراقي الذي وصلت إليه عند اليهود.

ص: 379

والوصية العاشرة تقدس الملكية الفردية

(1)

، وكانت هي والدين والأسرة الأسس الثلاثة التي قام عليها المجتمع العبري. وتكاد الملكية كلها تنحصر في ملكية الأرض، ذلك أن اليهود قبل أيام سليمان قلما كان لديهم شيء من الصناعات غير صناعتي الخزف والحديد. وحتى الزراعة نفسها لم ترق رقياً كبيراً، وكانت الكثرة العظمى من الشعب منصرفة إلى تربية الضأن والماشية، وزراعة الكروم والزيتون والتين. وكانت أغلب معيشتهم في الخيام لا في البيوت المبنية، حتى لا يجدوا صعوبة في انتجاع مراعي جديدة. ولما نمت ثروتهم وزاد ما ينتجونه على حاجتهم بدءوا يتجرون، وأخذت السلع اليهودية تروج في دمشق وصور وصيدا وحول الهيكل نفسه بفضل ما اتصف به التجار اليهود من مهارة وصبر على المشاق. وظلوا إلى ما قبل أيام الأسر لا يستخدمون نقوداً، وكان الذهب والفضة أساس التبادل عندهم وكانا يوزنان في كل عملية تجارية. وقامت بينهم مصارف كثيرة العدد لتمويل التجارة والمشروعات الاقتصادية. ولم يكن غريبا أن يتخذ هؤلاء "المقرضون" ساحات الهيكل موضعاً لعملهم، فقد كانت هذه عادة شائعة في الشرق الأدنى، ولا تزال باقية في كثير من أقطاره إلى هذا اليوم (196). وكان يهوه يطل من عليائه مغتبطا بسلطان رجال المال المتزائد، ومن أقواله في هذا المعنى:" فتقرض أمماً كثيرة وأنت لا تقترض"(197) وهي فلسفة كريمة جمعت لليهود ثروة طائلة، وإن لم يبد في هذا القرن أنها من وحي الدين. وكان اليهود يتخذون أسرى الحروب والمذنبين عبيداً لهم، وشأنهم في هذا شأن غيرهم من أمم الشرق الأدنى: ويستخدمون مئات الآلاف منهم في قطع الأخشاب ونقل مواد البناء للمنشآت العامة كهيكل سليمان وقصره. ولكن السيد

(1)

لقد كانت الأرض من الوجهة النظرية ملكا ليهوه.

ص: 380

لم يكن له على عبيده حق الحياة والموت، كما كان من حق العبد أن يمتلك المال ويبتاع به حريته (198). وكان يباح بيع الرجال المدينين ليكونوا خدماً أرقّاء إذا عجزوا عن أداء ديونهم، وكان في وسعهم أن يبيعوا أبناءهم بدلا منهم. وقد بقيت هذه العادة إلى أيام المسيح (199)، غير أن الصدقات السخية وما كان يقوم به الكهنة والأنبياء من حملات عنيفة على استغلال هؤلاء الأرقاء قد خففت في بلاد اليهود من آثار هذه النظم التي كانت منتشرة في بلاد الشرق الأدنى. وكان من القواعد الواردة في شريعة موسى:"ألا يغبن أحدكم أخاه"(200)، كما أنها كانت تطلب إليهم أن يطلقوا سراح الأرقاء من العبرانيين وأن يلغوا ما عليهم من الديون كل سبع سنين (211). ولما تبين أن هذا الأمر أكثر مما يطيقه سادة هؤلاء الأرقاء جاء القانون بسنة العيد الخمسيني، فكان كل العبيد والمدينين يعتقون كل خمسين سنة: "وتقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها. تكون لهم يوبيلاً وترجعون كل إلى مالكه وتعودون كلّ إلى عشيرته (202).

وليس لدينا ما يدل على أن هذه الوصية الجميلة قد أطيعت، وسواء كان ذلك أو لم يكن فإننا يجب أن نقر بالفضل للكهنة الذين لم يتركوا درساً في الإحسان إلا علموه:"إن كان فيك فقير أحد من أخوتك .. فلا تقس قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، واقرضه مقدار ما يحتاج إليه"، "لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة"(203). ويجب أن تشمل عطلة السبت كل العاملين، بل يجب أن تشمل الحيوانات نفسها فتترك ما عساه أن يكون على الأرض من النبات المقطوع والفاكهة الساقطة من الأشجار في الحقول والبساتين يجمعها الفقراء لأنفسهم (204). ومع أن اليهود هم الذين كانوا مقصودين بهذه الصدقات فإن الفقير الذي عند الأبواب يجب أن يعامل هو

ص: 381

الآخر معاملة طيبة رحيمة، وأن يؤوى الغريب ويطعم ويعامل معاملة كريمة. وكان اليهود يؤمرون في كل حين بأن يذكروا أنهم هم أيضاً كانوا في وقت من الأوقات لا مأوى لهم بل أنهم كانوا عبيداً أرقاء في أرض غير أرضهم.

وكانت الوصية التاسعة تطلب أن يكون الشهود شرفاء أمناء إلى أقصى حد، وبذلك جعلت الدين عماداً للشريعة اليهودية بقضها وقضيضها. لقد كان الشاهد يقسم اليمين في حفل ديني، ولم يكن يكتفي بأن يضع المقسم يده على عورة من يقسم له كما كانت العادة قديماً (205)، بل كان يطلب إليه الآن أن يشهد الله نفسه على صدقه، وأن يُحَكّمه في أمره. وكان القانون ينص على أن يعاقب شاهد الزور بنفس العقاب الذي كان يراد توقيعه على المتهم بالاستناد إلى شهادته (206). لقد كانت شريعة إسرائيل كلها هي الشريعة الدينية وحدها، وكان الكهنة هم القضاة والهياكل هي المحاكم، وكان يحكم بالإعدام على من لا يخضعون لأحكام الكهنة (207). وكانت هناك حالات خاصة يترك الحكم فيها لله، وذلك بأن يشرب المتهم ماء ساماً إذا كانت جريمته مشكوكاً فيها (208). ولم تكن لديهم أداة لتنفيذ القانون سوى الأداة الدينية وحدها؛ فكان تنفيذه يترك إلى ضمير المتهم وإلى سلطان الرأي العام، وكانت بعض الجرائم الصغرى يكفر عنها بالاعتراف والفداء (209). وكانت جرائم القتل وخطف الآدميين؛ وعبادة الأوثان، والزنا، وضرب أحد الوالدين أو سبهما، وسرقة العبيد، أو "مضاجعة بهيمة" يحكم فيها بالإعدام بأمر يهوه، وأما قتل الخادم فلا يعاقب عليه بالإعدام (210)؛ كذلك كان الإعدام عقاباً على السحر:"لا تدع ساحرة تعيش"(211). وكان يرضى يهوه أن يقوم الأفراد أنفسهم في تنفيذ القانون في حالة القتل: "ولي الدم يقتل القاتل، حين يصادفه يقتله"(212). على أنهم كانوا يفردون بعض المدن يستطيع

ص: 382

المجرم أن يفر إليها، فإذا فعل كان على ولي الدم أن يؤجل ثأره (213).

وفي وسعنا أن نقول بوجه عام أن المبدأ الذي كان يقوم عليه العقاب هو قانون القصاص: "وإن حصلت أذية تُعطى نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكيَّاً بكي، وجرحاً بجرح، ورضَّاً برض (214). وما من شك في أن هذه المبادئ كانت ُمثلاً ُعليا لم تتحقق كلها على الوجه الأكمل، وإذا شئنا أن نقول كلمة عامة عن قانون اليهود الجنائي، قلنا إن هذا الجزء من القانون لا يفضل قانون حمورابي، وإن كان قد كُتب بعده بألف وخمسمائة سنة على الأقل. أما من حيث تنظيم القضاء نفسه فإن فيه رجوعاً كثيراً إلى الوراء، لأنه يعود بهذا التنظيم إلى السيطرة الكهنوتية البدائية.

ويتضح لنا من الوصية العاشرة كيف كانوا ينظرون إلى المرأة على أنها جزء من متاع الرجل: "لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك"(215). ولكنها مع هذا كانت تحوي مبادئ قيمة عظيمة، لو تقيد الناس بها لنجا العالم من نصف ما فيه من قلق واضطراب. ومن أعجب الأمور أن أفضل الوصايا كلها لم تكن بين هذه الوصايا العشر، وإن كانت جزءاً من "الشريعة" الموسوية. ونقصد بذلك ما ورد في الآية الثامنة عشرة من الأصحاح التاسع عشر من سفر اللاويين تائهاً بين "طائفة من القوانين المتكررة المختلفة الأنواع" ولا يزيد نصها على هذه العبارة:"تحب قريبك كنفسك".

وقصارى القول أن الوصايا العشر شريعة سامية، فيها من العيوب ما لا يزيد على عيوب العصر الذي وضعت فيه، ولكن فيها من الفضائل ما لا يوجد في غيرها من الشرائع. ومن واجبنا أن نذكر على الدوام أنها كانت قانوناً لا أكثر، بل أن نذكر فوق هذا أنها كانت:"طوبى كهنوتية"(216)، ولم تكن وصفاً صادقاً للحياة اليهودية. وكانت ككل

ص: 383

القوانين تعظم في عين أصحابها حين يخرقونها، ويمتدحونها كلما اعتدوا عليها، ولكن أثرها في سلوك أصحابها لم يكن يقل عن أثر معظم الشرائع القضائية أو الأخلاقية. وكان من أهم آثارها أنها جعلت لليهود في خلال تجوالهم الذي بدأ عقب وضعها بزمن قليل، والذي دام ألفي عام، "وطنا يحملونه معهم" كما سماه هين Heine فيما بعد، ودولة روحية لا تراها العين ولا تلمسها اليد، وضمت شملهم رغم تشتتهم وأبقت لهم كبرياءهم رغم هزائمهم، وأوصلتهم خلال القرون الطوال إلى وقتنا هذا وهم شعب قوي يبدو لنا أنه لن يبيد أبداً.

ص: 384

الفصل السابع

‌أدب التوراة وفلسفتها

التاريخ - القصص - الشعر - المزامير - نشيد الأنشاد - الأمثال-

أيوب - فكرة الخلود - تشاؤم سفر الجامعة - مجيء الإسكندر

ليس العهد القديم شريعة فحسب، بل هو فوق ذلك تاريخ، وشعر، وفلسفة من الطراز الأول. وإذا ما أنقصنا من قيمة الكتاب ما فيه من أساطير بدائية، ومن أغلاط مبعثها صلاح الكاتبين وتقواهم، وأقررنا أن ما فيه من أسفار تاريخية لا تبلغ من الدقة أو من القدم ما كان أجدادنا السابقون يفترضونه فيها، إذا ما فعلنا هذا كله فإنا لا نجد في الكتاب طائفة من أقدم الكتابات التاريخية فحسب، بل نجد فيه كذلك طائفة من أجمل تلك الكتابات. ولربما كانت أسفار القضاة وصموئيل والملوك قد وضعت على عجل، كما يعتقد بعض العلماء (217)، وفي أثناء السبي أو بعده بقليل ليجمع فيها واضعوها التقاليد القومية لشعب مشتت كسير، ويحتفظوا بها على مدى القرون؛ ولكن قصة شاؤل وداود وسليمان تفوق في جمال مبناها وأسلوبها غيرها من الكتابات التاريخية في الشرق الأدنى القديم. بل إن سفر التكوين نفسه- إذا استثنينا منه ما فيه من سلاسل الأنساب، وقرأناه ونحن ندرك الهدف الذي ترمي إليه الأقاصيص- إن هذا السفر نفسه لهو قصة ممتعة عظيمة، قُصَّت علينا من غير حواش ولا زينة في بساطة ووضوح وقوة. ولسنا نجد فيها تاريخاً فحسب، بل نجد فيها نوعاً من فلسفة التاريخ. ذلك أنها أول ما دوّن من الجهود التي بذلها الإنسان ليؤلف من الحوادث الماضية التي لا عداد لها وحدة متناسقة بالبحث عما يسري فيها من وحدة في الغرض، ومن مغزى، ومن تتابع العلة والمعلول على نحو ما، ومن إيضاح لحاضر

ص: 385

الأشياء ومستقبلها. ولقد بقيت فكرة التاريخ- كما تصورها الأنبياء والكهنة واضعو أسفار موسى الخمسة- ألف عام بعد اليونان والرومان، وأصبحت آراء عالمية يعتنقها المفكرون الأوربيون من بوثيوس Boethius إلى بوسويه Bossuet.

والقصص الغرامية الساحرة الواردة في التوراة وسط بين التاريخ والشعر. وليس في المنثور من الكتابة ما هو أدنى إلى الكمال من قصة راعوث؛ ولا تقل عنها كثيراً قصة إسحق ورفقة، ويعقوب وراحيل، ويوسف وبنيامين، وشمشون ودليلة، وإستر، ويهوديت ودانيال. ويبدأ الأدب الشعري "بنشيد موسى"(سفر الخروج الفصل الخامس عشر) و "نشيد دبورة"(القضاة الفصل الخامس عشر) ويبلغ ذروته في المزامير. وكانت ترانيم "التوبة" البابلية هي التي مهدت السبيل إلى هذه الأناشيد، ولعل أناشيد اليهود قد أخذت منها مادتها كما أخذت عنها صورتها. ويخيل إلينا أن قصيدة إخناتون في الشمس كانت ذات أثر في المزمور الخامس والخمسين بعد المائة. وأكبر الظن أن المزامير ليست كلها من وضع داود وحده بل من وضع طائفة من الشعراء كتبوها بعد الأسر اليهودي بزمن طويل، ويغلب أن يكون ذلك في القرن الثالث قبل المسيح (218). على أن هذا البحث التاريخي كله لا يعنينا كما لا يعنينا اشتقاق اسم شكسبير أو المصادر التي استمد منها مسرحياته؛ إنما الذي يعنينا هو أن المزامير تحتل المكان الأول في شعر العالم الغنائي. ولم يكن يقصد بها أن يطالعها الإنسان في جلسة واحدة، أو أن يطالعها مطالعة الناقد المدقق؛ بل إن أجمل ما فيها أنها تصف لحظات من نشوة التقى والهيام الروحي والإيمان القوي المحرك للعواطف. ولكنها يفسدها علينا ما فيها من لعنات مريرة، و "تأوهات" وشكايات مملة، وملق لا ينتهي ليهوه الذي يصب الدخان صباً من خياشيمه والنار من فمه (المزمور الثامن)، ويتوعد الأشرار بالحرق في نار الجحيم (المزمور التاسع). يتقبل الملق ويهدد "بقطع جميع الشفاه الملقة"(المزمور الثاني عشر). والمزامير مليئة بالحماسة

ص: 386

الحربية البعيدة كل البعد عن الروح المسيحية، ولكنها مع ذلك تسري فيها روح الحجيج المجاهدين. على أن من المزامير ما يفيض رحمة وحناناً وما يعد مثلا في الخضوع والتذلل: "إننا تراب نحن

الإنسان مثل العشب أيامه، كزهر الحقل كذلك يزهر، لأن ريحاً تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد" (المزموران 39، 103). ونحس في هذه الأناشيد بأوزان الشعر الشرقي القديم ونكاد نسمع فيها أصوات المرنمين وهم يردون على المنشدين. وليس في الشعر كله ما يفوقه في تشبيهاته وتصويره، وليس ثمة ما يضارعه في قوة تعبيراته ووضوحها. ولهذه القصائد في نفوسنا من الأثر ما يفوق أثر أية أغنية من أغاني الحب، فهي تحرك أقسى العواطف وأكثر النفوس شكاً، لأنها تعبر في صورة عاطفية قوية عما في العقل الناضج من شوق إلى نوع من الكمال يهب له كل جهوده. وتقابلنا في أماكن متفرقة من الترجمة الإنجليزية التي صدرت في عهد الملك جيمس عبارات بليغة جرت على لسان جميع الناطقين باللغة الإنجليزية كقولهم: Out of the Mouths of babes (من أفواه الأطفال والرُّضَّع في المزمور الثامن)، The apple of the eye (حدقة العين في المزمور السابع عشر)، Trust not in princes (لا تتكلوا على الرؤساء- المزمور السادس والأربعون بعد المائة). وفي الأصل العبراني تشبيهات واستعارات لم تفقها تشبيهات واستعارات في أية لغة من اللغات. انظر إلى قوله في المزمور التاسع عشر، إن الشمس المشرقة: "مثل العروس الخارج من حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق". ولا يسعنا إلا أن نتصور ما لهذه الأناشيد من جلال وجمال في لغتها الأصلية الطنانة الرنانة

(1)

.

وإذا ما وضعنا إلى جانب هذه المزامير "نشيد سليمان" لاح لنا ما في الحياة

(1)

ولو أننا طلب إلينا أن نختار من هذه المزامير أحسنها لوقع اختيارنا في أكبر ظننا على المزامير رقم 8، 23، 51، 104، 137، 139. وبين المزمور الأخير وبين نشيد هوتمان Whitman " للنشوء والارتقاء" شبه عجيب.

ص: 387

اليهودية من عنصر شهواني دنيوي، لعل ُكتَّاب العهد القديم- وهم الذين يكادون كلهم أن يكونوا من الأنبياء والكهنة- قد أخفوه عنا، كما يكشف سفر الجامعة عن تشكك لا نتبينه فيما عنى الكتاب باختياره ونشره من أدب اليهود الأقدمين. وفي هذه الكتابات الغرامية العجيبة مجال واسع للحدس والتخمين. فقد تكون مجموعة من الأغاني البابلية الأصل، تشيد بذكر إشتار وتموز، وقد تكون من وضع جماعة من شعراء الغزل العبرانيين تأثروا بالروح الهيلينية التي دخلت إلى بلاد اليهود مع الإسكندر الأكبر (لأن في هذه الأغاني ألفاظاً مأخوذة من اللغة اليونانية)، أو قد تكون زهرة يهودية ترعرعت في الإسكندرية وقطفتها نفس محررة من ضفاف النيل (وذلك لأن العاشقَين يخاطب أحدهما الآخر بقوله أخي أو أختي كما يفعل المصريون الأقدمون). ومهما يكن أصلها فإن وجودها في التوراة سر خفي ولكنه سر ساحر جميل. ولسنا ندري كيف غفل- أو تغافل- رجال الدين عما في هذه الأغاني من عواطف شهوانية فأجازوا وضعها بين أقوال إشعيا والخطباء:

صرة المر حبيبي لي، بين ثديي يبيت

طاقة فاغبة حبيبي لي في كروم عين جدي (Engadi)

ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان

ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر

أنا نرجس شارون سوسنة الأودية

أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة جداً.

أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظنّ

ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء

حبيبي لي وأنا له الراعي له بين السوسن

ص: 388

إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال. ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي

أو غُفر الأيائل على الجبال المشعبة

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى

لنبكرنّ إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل

نوّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي.

هذا هو صوت الشباب أما الأمثال فصوت الشيوخ. إن الناس يتطلبون كل شيء من الحب والحياة؛ وهم ينالون ما يتطلبون إلا قليلاً، ولكنهم يظنون أنهم لم ينالوا شيئا؛ وتلك هي المراحل الثلاث التي يتنقل فيها الإنسان المتشائم. وهكذا ترى هذا السليمان الأسطوري

(1)

يحذر الشباب من شر المرأة. "لأنها طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء

أما الزاني بامرأة فعديم العقل

ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السموات، وطريق حية على صخر، وطريق سفينة في قلب البحر، وطريق رجل بفتاة" (221). وهو يتفق مع القديس بولص في أن أفضل للإنسان أن يتزوج من أن يحترق! "افرح بامرأة شبابك، الظبية المحبوبة، والوعلة الزهية، ليروك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائماً

أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة" (222). بحقك هل هذه ألفاظ من كانت له سبعمائة زوجة؟

ويلي الكسلُ الدنسَ في البعد عن الحكمة: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان

إلى متى تنام أيها الكسلان؟ " (223).

"أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله؟ - أمام الملوك يقف"(224). ولكن

(1)

لا يقصد الكاتب أن سليمان شخص أسطوري، فقد تحدث عنه من قبل حديث من يعتقد أنه شخصية تاريخية، بل يقصد كما يقول هو نفسه أن الأمثال ليست من وضع سليمان وإن كان بعضها قد قالها هو نفسه ثم كتبت فيما بعد. إن على هذه الأمثال مسحة من الأدب المصري والفلسفة اليونانية، ولعلها جمعت في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد، ولعل جامعها يهودي متأغرق من أهل الإسكندرية.

ص: 389

هذا الفيلسوف لا يطيق الإسراف في الطمع: "المستعجل إلى الغنى لا يبرأ"، و "راحة الجهّال (225) تبيدهم" والعمل هو الحكمة، أما الكلام فحمق وسخف:"في كل تعب منفعة، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر"

"الجاهل يظهر كل عبطه، والحكيم يسكنه أخيراً"، "ذو المعرفة يبقى كلامه وذو الفهم وقور الروح، بل الأحمق إذا سكت يحسب حكيماً ومن ضمّ شفتيه فهيماً"(226).

ومن النصائح التي لا ينفك ذلك الحكيم يرددها حكمة تكاد تنطبق ألفاظها على وصف سقراط للفضيلة والحكمة، تفوح بعطر مدارس الإسكندرية حيث كان علم اللاهوت العبري يمتزج بالفلسفة اليونانية لتخرج لنا من مزيجهما العقلية الأوربية: "الفطنة ينبوع حياة لصاحبها، وتأديب الحمقى حماقة

طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم، لأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها، في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد، طرقها طرق نعم، وكل مسالكها سلام" (227).

وسِفر أيوب أسهل من سِفر الأمثال؛ ولعل ذلك السِفر قد كتب في أيام السبي، ولعله يصف بطريق القياس الأَسْر البابلي

(1)

ويقول فيه كارليل وهو

(1)

ويظن العلماء أن هذا السفر قد كتب في القرن الخامس قبل الميلاد (228). ونصوصه أكثر تهويشاً حتى من الكتب المقدسة في أية أمة من الأمم القديمة. ويرفض جاسترو هذه النصوص كلها ما عدا الفصول 3 - 31، ويرى أن ما بقي من الفصول تعديلات أدخلت عليها لتدعيمها، وحتى الفصول التي يقبلها يظن أن فيها عبارات ليست منها قد أقحمت فيها إقحاماً، وأن بعض العبارات الأصلية قد أسيئت ترجمتها. من ذلك ما جاء في الآية الخامسة من الفصل الثالث عشر:"هو ذا يقتلني فهذا يعود إلى إخلاصي"(الأصحاح 13: 15) فهذه الآية يجب أن تترجم هكذا: "ولكني لا أرتجف" أو "ولكني لا أرجو شيئاً"(229)[ونص الآيات كاملاً هو: "هو ذا يقتلني، لا انتظر شيئاً، فقط أزكي طريقي قدامه، فهذا يعود إلى إخلاصي" (المترجم)].

ص: 390

من أشد الناس تحمسا له: "وأنا أقول عنه أنه من أعظم ما خط بالقلم

فهو كتاب نبيل؛ وهو كتاب الناس أجمعين! وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها- مشكلة مصير الإنسان وتصرف الله معه على ظهر هذه الأرض

واعتقادي أن لا شيء في التوراة أو في غير التورات يضارعه في قيمته الأدبية" (230 أ) وقد قامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هذه الدنيا. ذلك أنه لما كانت الجنة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة (231) فقد كان من الواجب المحتم أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم، وإلا لم يكن لها ثواب على الإطلاق. ولكنهم كثيراً ما كان يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأن أشد الآلام قد اختص بها خيار الناس، فَلِمَ إذن كما يقول كاتب المزامير: "هؤلاء هم الأشرار يكثرون ثروة" (232)؟ ولِمَ يخفي الله نفسه ولا يعاقب الأشرار ويثيب الأخيار؟ (233)، وها هو ذا مؤلف سفر أيوب يسأل هذه الأسئلة وهو أكثر ممن سبقه عزماً وثباتاً ولعله يعرض بطله أمام الناس رمزاً لعقيدته. ولقد كان بنو إسرائيل كلهم يعبدون يهوه (في فترات متقطعة) كما كان يعبده أيوب، وكانت بابل تجحده وتكفر به؛ ومع ذلك فقد ازدهرت بابل، وتمرغ بنو إسرائيل في الوحل، ولبسوا الخيش حين أسروا وشردوا. فماذا يقول الإنسان في هذا الإله؟

وجاء في مقدمة لهذا السفر، لعل كاتباً أريباً قد دسها فيه ليمحو منه تلك الوصمة، أن الشيطان قال ليهوه أن أيوب إنسان "كامل مستقيم" لأنه رجل محظوظ، فهل يستمسك بتقواه إذا أصابه الضر؟ فيسمح يهوه للشيطان بأن يصب ألوانا من المصائب على رأس أيوب. ويظل البطل وقتاً ما صابراً "صبر أيوب" ولكن صبره هذا يفارقه في آخر الأمر، ويفكر في الانتحار، ويلوم ربه أشد اللوم لأنه نبذه وتخلى عنه. ويصر صوفَر- وقد خرج ليستمتع بآلام صديقه- على أن الله عادل وأنه سيثيب الإنسان الصالح في هذه الدنيا نفسها؛ ولكن أيوب يقطع عليه حديثه محتداً:

ص: 391

"إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة، غير أنه لي فهم مثلكم، لست أنا دونكم، ومن ليس عنه مثل هذه!

خيام المُخَرّبين مستريحة والذين يغيظون الله مطمئنون؛ الذين يأتون بإلههم في يدهم

هذا كله رأته عيني، سمعته أذني وفطنت به

أما أنتم فملفقو كذب أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتاً، يكون ذلك لكم حكمة" (234).

ثم يفكر في قصر الحياة وطول الموت فيقول:

"الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً، يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف،

لأن للشجرة رجاء أن قطعت تخلف ولا تعدم حراً عيبها

أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحر، والنهر ينشف ويجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم .. أن مات رجل أفيحيا؟ " (235).

ويظل الجدل قائماً بشدة، ويزداد شك أيوب بربه، حتى يدعوه خصيمه، ويتمنى أن يهلك خصمه هذا نفسه بكتاب يكتبه- على نمط فسلفة ليبنتز Leibnitz وأقواله في العدالة الإلهية. وتوحي العبارة التي جاءت في ختام هذا الفصل"تمت أقوال أيوب"- بأن هذا كان في الأصل ختام حديث يمثل كما يمثل سفر الجامعة آراء أقلية جاحدة بين اليهود

(1)

. ولكن فيلسوفاً آخر- إليهو- يبدأ الكلام من هذه النقطة ويشرح في مائة وخمس وستين آية عدالة الله في خلقه. وأخيراً يُسمع صوت من بين السحاب يتحدث حديثاً هو أجل ما في التوراة كلها.

(1)

يقول رينان وهو الفيلسوف المتشكك: " إن المتشكك لا يكتب إلا قليلاً، ثم إن كتاباته نفسها كثيرة التعرض للضياع. ولما كانت مصاير اليهود مرتبطة كل الارتباط بالدين فقد كان لا بد من التضحية بالقسم الدنيوي من أدبهم"(236). وإن في تكرار هذه العبارة: "قال الجاهل في فلبه ليس إله" في المزمورين (14: 1، 53: 1) ليدل على أن هؤلاء الجهال كانوا من الكثرة بين بني إسرائيل بحيث يثيرون بعض المتاعب. ويلوح أن ثمة إشارة إلى هذه الأقلية في صفنيا 1: 12.

ص: 392

فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال:

"من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. اشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسستُ الأرض. أخبر إن كان عندك فهم من وضع قياسها، لأنك تعلم؟ أو من مد عليها مطماراً؟ على أي شيء قرت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها، عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بنى الله؟ ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم، إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وضرمتُ عليه حدى، وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعد وهنا تتخم كبرياء لججك؟ هل في أيامك أمرت الصبح؟ هل عرفت الفجر موضعه؟

هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة القمر تمشيت؟ هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت؟ هل أدركت عرض الأرض؟ أخبر إن عرفته كله؟

أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد؟

هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ُربُط الجبار؟ هل عرفت سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض؟

من وضع في الضحاء حكمة أو من أظهر في الشهب فطنة؟

"هل يخاصم القديرَ موبخهُ، أم المحاج الله يجاوبه؟ أسألك فتعلمني"(237).

ويذل أيوب نفسه لهول ما يرى؛ ويرضى يهوه بهذا فيعفو عنه، ويقبل تضحيته، ويتوعد أصدقاء أيوب لما نطقوا به من حجج واهية (238)، ويهب أيوب نفسه أربعة عشر ألفاً من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من الثيران، وألف أتان، وسبعة بنين، وثلاث بنات، وعاش بعد هذا مائة وأربعين سنة. وتلك خاتمة عرجاء ولكنها خاتمة سعيدة؛ لأن أيوب يحصل على كل شيء إلا جواب أسئلته؛ فالمشكلة تظل باقية؛ وسوف تكون لها آثار بعيدة في تفكير اليهود فيما بعد. ففي أيام دانيال (حوالي 167 ق. م) سكت اليهود عن هذه المشكلة وعدوها من المشاكل التي شرحها

ص: 393

بعبارات تدركها العقول في هذه الحياة الدنيوية، ولا يستطاع الإجابة عنها- كما يقول دانيال وأخنوخ و (كانت Kant) إلا إذا آمن الإنسان بحياة بعد الممات، ترفع فيها كل المظالم وتصحح كل الأخطاء، يعاقب فيها المسيء، ويثاب المحسن أجزل الثواب. وكانت هذه إحدى الأفكار المختلفة التي سرت في المسيحية، وكانت من اكبر أسباب انتصارها على غيرها من الأديان المعاصرة لها.

ويجيب سفر الجامعة عن هذه المسألة جواباً متشائماً، فيقول إن الهناءة والشقاء في هذا العالم لا شأن لها بالفضيلة والرذيلة

(1)

:

"قد رأيت الكل في أيام بُطْلى، قد يكون بارٌّ يبيد في برّه، وقد يكون شرير يطول في شره

ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس: فهو ذا دموع المظلومين ولا مقر لهم، ومن يد ظالميهم قهر

إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر

لأن فوق العالي عالياً" (241).

وليست الفضيلة والرذيلة هما اللتين تقوم عليهما سعادة الإنسان وشقاؤه، وإنما تقوم السعادة والشقاء على المصادفة العمياء:"فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف، ولا الحرب للأقوياء، ولا الخبز للحكماء، ولا الغني للفهماء، ولا النعمة لذوي المعرفة، لأن الوقت والفُرَصْ يلاقيانهم كافة"(242). وحتى الثروة نفسها لا بقاء لها ولا تسعد صاحبها طويلا: "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل. هذا أيضا باطل

نوم المشتغل حلو إن أكل قليلاً أو كثيراً. ووفر الغني لا يربحه حتى ينام" (243). ويذكر الكاتب أهله فيجمع مبادئ مالتس Maltus في سطر واحد: "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها" (244). كذلك لا يخفف من آلامه ما يقال

(1)

لا يعرف مؤلف هذا السفر ولا وقت تأليفه. ويرجعه سارتن إلى الفترة الواقعة ما بين عامي 250، 168 ق. م. ويطلق المؤلف على نفسه اسمين أدبيين مستعارين نخلط بينهما وهما "كحيلة" و"ابن داود ملك أورشليم" أي سليمان.

ص: 394

له عن ماض ذهبي أو مستقبل هنيء، فهو يرى أن الأمور جميعها كانت في ماضيها كما هي في حاضرها وكما ستكون في مستقبلها على الدوام:"لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه؟ لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا"(245). ومن واجب الإنسان أن يعنى باختيار مؤرخيه: "ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له انظر: هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي قبلنا"(246). وهو يظن أن الرقي وهم باطل فالمدنيات القديمة قد نسيت وستنسى أيضاً المدنيات القائمة (247).

وهو يرى أن الحياة بوجه عام عمل محزن، وأن لا ضير من التخلص منها، فهي حركة دائرية لا غاية لها ولا هدف ولا نتيجة باقية، تنتهي حيث تبدأ؛ وهي صراع عقيم باطل ليس فيه شيء محقق إلا الهزيمة:

"باطل الأباطيل قال الجامعة؛ باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس، دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة

فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد بعد، الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس

الصيت خير من الدهن الطيب، ويم الممات خير من يوم الولادة" (248).

وهو يقضي بعض الوقت يبحث عن حل للغز الحياة في الانغماس في الملذات. "فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح". ولكن "هذا أيضا باطل". والصعوبة التي تواجهنا في مسراتنا هي المرأة، ويلوح أن الواعظ قد لاقى منها شراً لم يستطع نسيانه. "رجلاً واحداً

ص: 395

بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد

فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قُدّام الله ينجو منها" (251). وهو يختم استطراده في دنيا الفلسفة الغامضة بالعودة إلى نصيحة سليمان وفلتير، وهي النصيحة التي لم يعمل بها كلاهما: "ألتذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس" (252).

وحتى الحكمة نفسها مسألة مشكوك فيها؛ فهو يكيل لها المدح جزافاً، ولكنه يظن أن العلم إذا لم يكن بالقدر القليل كان بالغ الخطورة، فهو يقول في غير حذر:"لعمل كتب كثيرة لا نهاية، والدرس الكثير تعب للجسد"(253). وفي رأيه أنه قد يكون من الحكمة أن يسعى الإنسان للحكمة لو أن الله قد جعلها تثمر مالاً أكثر مما تثمره فعلاً: "الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس"

(1)

. فإذا لم يصحبها المال كانت شريكاً يقضي على طلابها (254). (إن الحكمة شبيهة بيهوه الذي قال لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش"

(2)

). والحكيم يموت آخر الأمر كما يموت الأبله وكلاهما ينتهي إلى جيفة نتنة.

"ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت الشمس. هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح

أنا ناجيت قلبي قائلاً هأنذا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم؛ وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة؛ ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل،

(1)

هذا هو النص في الترجمة العربية للكتاب المقدس، ولكن معنى النص الإنجليزي الذي أورده المؤلف:"الحكمة صالحة مع الميراث". (المترجم)

(2)

"ربِ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني" قرآن كريم.

ص: 396

فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً" (256).

ولو أنه كان من مبادئ هذا الدين أن الرجل العادل يستطيع أن يتطلع إلى شيء من السعادة بعد الموت لكان في مقدوره أن يتحمل سهام مصائب الدهر وقلبه عامر بالأمل والشجاعة؛ ولكن كاتب سفر الجامعة "يحس" بأن هذا أيضاً وهم باطل، فالإنسان حيوان يموت كما يموت غيره من الحيوانات:

"لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما

فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه، لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده؟

كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (257).

إلا ما أغرب هذا تعليقاً على الحكمة التي يسبّح بحمدها سفر الأمثال! ولا شك في أن هذه الأقوال إنما تعبر عن الحضارة التي بلغت آخر مراحلها، فلقد نضب معين شباب إسرائيل في الكفاح المرير الذي قام بينها وبين الإمبراطوريات المحيطة بها، والتي لم ينقذها منها يهوه الذي كانت تعتمد على معونته، فلما تأزمت أمورها وافتقرت وتشتت رفعت إلى السماء في آدابها هذا الصوت وهو أشد الأصوات مرارة لتعبر به عن أعمق الشكوك التي طافت في يوم من الأيام بالنفس البشرية.

نعم إن أورشليم قد أعيد بناؤها، ولكنها لم تعد لتكون حصنا لإله لا يقهر، بل عادت لتكون مدينة تخضع للفرس حيناً ولليونان حيناً آخر. فقد وقف الإسكندر الشاب على أبوابها في عام 334 ق. م، وطلب إلى تلك العاصمة أن

ص: 397

تستسلم له. وأبى الكاهن الأكبر في أول الأمر أن يجيبه إلى ما طلب، ولكنه صدع بالأمر في صباح اليوم الثاني على أثر حلم رآه في نومه، فأمر الكهنة أن يرتدوا من ملابسهم أعظمها روعة وأشدها وقعاً في النفوس، كما أمر الأهلين أن يلبسوا ثياباً بيضاً لا شية فيها، ثم سار على رأس الشعب إلى خارج أبواب المدينة في هدوء وسلام ليعرضوا الصلح على الغازين. وانحنى الإسكندر تعظيماً للكاهن الأكبر وأظهر له إعجابه ببني إسرائيل وبإلههم وتقبل منهم أورشليم (258).

على أن هذا لم يكن آخر حياة اليهود، بل كان هو الفصل الأول من هذه المسرحية العجيبة التي تمتد فصولها المختلفة طوال أربعين قرناً من الزمان، والتي تدور حوادث فصلها الثاني حول المسيح، وحوادث الفصل الثالث حول أحاسوروس. واليوم يمثل من هذه المسرحية فصل آخر ولكنه ليس آخر فصولها. لقد خربت أورشليم وأعيد بناؤها، ثم خربت وأعيد بناؤها من جديد.

ص: 398

الباب الثالث عشر

‌فارس

الفصل الأول

‌قيام دولة الميديين وسقوطها

(1)

أصولهم - حكامهم - معاهدة سرديس الدموية - انحطاطهم

ترى من هم الميديون الذين كان لهم شأن أيما شأن في تحطيم دولة أشور؟ أما معرفة أصلهم فأمر معجز الدرك عزيز المطلب، ذلك أن التاريخ كتاب يجب أن يبدأه الإنسان من وسطه. وأول ما وصل إلينا من أخبارهم في لوحة تسجل حملة بعث بها شلما نصّر الثالث إلى بلد يسمى بارسوا في جبال كردستان (837 ق. م). ويلوح أنه كان في ذلك البلد سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية قليلة السكان يسمى أهلها أماداي أو ماداي أو ميديين. وهم أقوام من الجنس الهندوربّي يرجح أنهم جاءوا من شواطئ بحر الخزر إلى غرب آسية قبل المسيح بنحو ألف عام، ويشيد الزند- أبستاق وهو كتاب الفرس المقدس بذكر هذا الموطن القديم ويصفه بأنه جنة من الجنان.

ذلك أن الأرض التي نقضي فيها شبابنا، وأيام هذا الشباب نفسه، جميلة على الدوام على شريطة ألا نضطر إلى الحياة من جديد في تلك الأرض أو في تلك الأيام.

(1)

تسمى أحياناً دولة الماديين وقد ذكرت في التوراة بهذا الاسم. (المترجم)

ص: 399

ويلوح أن الميديين كانوا يضربون في إقليم بخارى وسمرقند، وأنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً، حتى وصلوا آخر الأمر إلى بلاد فارس (1)، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي اتخذوها موطناً لهم جديداً (2)، ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم، فقد أخذوا يفلحون أرض السيول وسفوح التلال وعاشوا عيشة رخية.

وفي إكباتانا

(1)

أي "ملتقى الطرق الكثيرة" الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال أنشأ ديوسيس أول ملوكهم عاصمته الأولى، وزينها بقصر ملكي يشرف عليها ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض. ويقول هيرودوت في فقرة من كتابه لم تجد ما يؤيدها: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة. فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبر وأصدر أوامر تقضي "بأن لا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن بعرض أمره على يد رسله، وأن يعد من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وقد أراد بهذه المراسم التي فرضها حوله

أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم" (3). واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية الاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد أشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة. وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوئتها ولكنها وجدتها لا تمل الكفاح لنيل حريتها. واستطاع سياخار (سيساكزارس) أعظم ملوك الميديين أن يحسم هذا النزاع بتدمير نينوى. وأوحى هذا النصر آمالاً كباراً فاجتاحت جيوشه بلاد آسية الغربية حتى وصلت إلى أبواب سرديس، ولم يَرُدّ هذه الجيوش عنها إلا كسوف الشمس. فقد ارتاع القائدان المتقاتلان لهذا الذي ظناه نذيراً لهما من السماء، فوقّعا معاهدة للصلح أبرماها بأن شرب كل

(1)

والراجح أنها مدينة همذان الحالية.

ص: 400

منهما جرعة من دماء عدوه (4). ومات كيخسرو في السنة التالية بعد أن وسع رقعة دولته في خلال حكمه وحده فأصبحت إمبراطورية تشمل أشور وميديا وفارس بعد أن كانت خاضعة لسلطان غيرها. لكن هذه الإمبراطورية قضي عليها ولم يمض على وفاة هذا الملك جيل واحد.

وقد كانت هذه الدولة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا ما استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة بلاد الفرس. فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين (5)، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهيه أهورا- مزدا، وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من تماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن "شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ"(6). أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر.

على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم نفسياً. فقد أثبت استياجس، الذي خلف أباه سياخار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك.

لقد ورث المُلك مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها فنسيت أخلاقها الجافة الشديدة وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة،

ص: 401

فلبس الرجال السراويل المطرزة الموشاة، وتجملت النساء بالأصباغ والحلي، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تزين بالذهب (7). وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كل السرور في أن تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشنة غليظة قطعت من سوق الأشجار (8)، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة.

وبعد أن كان الملوك الأولون يفخرون بعدالتهم جاء استياجس فغضب يوماً على هرباجس فقدم له أشلاء ابنه بعد أن قطع رأسه وأرغمه على أن يأكل لحمه (9)، فأكله هرباجس وهو يقول إن كل ما يفعله المليك يسره، ولكنه انتقم لنفسه بأن أعان قورش على خلع استياجس؛ ذلك أن قورش الشاب النابه حاكم ولاية أنشان الفارسية التي كانت تابعة للميديين خرج على طاغية إكتابانا المخنث، وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد للاحتجاج عليه. وما هي إلا واقعة واحدة حتى انقلبت الآية فلم تعد ميديا سيدة فارس بل أصبحت فارس سيدة ميديا وأخذت تعد العدة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله.

ص: 402

الفصل الثاني

‌عظماء الملوك

قورش صاحب الشخصية الروائية - خططه السياسية

المستنيرة - قمبيز - دار الأكبر - غزو بلاد اليونان

وكان قورش من الحكام الذين خُلقوا ليكونوا حكاما والذين يقول فيهم إمرسن أن الناس كلهم يبتهجون حين يتوجون. فلقد كان ملكاً بحق في روحه وأعماله، قديراً في الأعمال الإدارية والفتوح الخاطفة المسرحية، كريماً في معاملة المغلوبين، محبوباً من أعدائه السابقين- فلا عجب والحالة هذه أن يتخذ اليونان منه موضوعاً لعدة روايات، وأن يصفوه بأنه أكبر أبطال العالم قبل الإسكندر.

ومما يؤسفنا أننا لا نستطيع أن نرسم له صورة موثوقاً بصحتها مما نقرئه عنه في هيرودوت أو زينوفون. ذلك بأن أول الرجلين قد خلط تاريخه بكثير من القصص الخرافية (10)، وأن الثاني قد جعل السيروبيديا (سيرته) مقالة عن فنون الحرب تتخللها في بعض المواضيع محاضرات في التربية والفلسفة؛ ونرى زينوفون أحياناً يخلط بين قورش وسقراط. فإذا ما أخرجنا هذه الأقاصيص لم يبق لنا من شخصية قورش إلا أنه طيف خيال ممتع جذاب. وكل ما نستطيع أن نقوله عنه واثقين أنه كان وسيماً بهي الطلعة- لأن الفرس اتخذوه نموذجاً لجمال الجسم حتى آخر أيام فنهم القديم (11)؛ وأنه أسس الأسرة الأكمينية أسرة "الملوك العظام" التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيامها وأعظمها شهرة، وأنه نظم قوات ليديا وفارس الحربية فجعل منها جيشاً قوياً لا يقهر، وأنه استولى على سرديس وبابل، وقضى على حكم الساميين في غرب آسية فلم تقم له بعدئذ قائمة،

ص: 403

مدى ألف عام كاملة، وضم إلى الدولة كل البلاد التي كانت من قبل تحت سلطان أشور، وبابل، وليديا، وآسية الصغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطورية أوسع المنظمات السياسية في العالم القديم قبل الدولة الرومانية، ومن أحسنها حكماً في جميع عصور التاريخ.

ويبدو- على ما نستطيع أن نتصوره فيما يحيط به من سُدُم الأساطير والأوهام- أنه كان أحب الفاتحين إلى النفوس، وأنه أقام دولته على قواعد من النبل وكريم السجايا؛ وأن أعداءه كانوا يعرفون عنه لين الجانب فلم يحاربوه بتلك القوة المستيئسة التي يحارب بها الرجال حين لا يجدون بداً من أن يَقتلوا أو يُقتلوا. ولقد مر بنا من قبل- على ما يرويه هيرودوت- كيف أنجى كروسس من الحطب المحروق الذي وضع عليه في سرديس، وكيف أكرمه وجعله من أعظم مستشاريه، ومر بنا كذلك كرمه وحسن معاملته اليهود. وكانت أولى القواعد السياسية التي تقوم عليها دولته أن يترك للشعوب المختلفة التي تتألف منها حرية العبادة والعقيدة الدينية، لأنه كان عليماً كل العلم بالمبدأ الأول الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو أن الدين أقوى من الدولة؛ ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المدن ويخرب المعابد، بل نراه يبدي كثيراً من الإكبار والمجاملة لآلهة الشعوب المغلوبة، ويساهم بماله في المحافظة على أضرحتها؛ بل إن البابليين أنفسهم، وهم الذين قاوموا طويلاً، قد التفوا حوله وتحمسوا له حين رأوه يحافظ على هياكلهم ويعظم آلهتهم. وكان أينما سار في فتوحه التي لم يسبقه إليها فاتح من قبله قرب القرابين إلى الآلهة المحلية في تقى وورع. وكان كنابليون يعترف بالأديان كلها على السواء، ويفوقه فيما يظهره من بشاشة وكياسة وهو يكرم جميع الآلهة.

وهو يشبه نابليون من ناحية أخرى، وهو أنه مات ضحية الإسراف في المطامع. ذلك أنه لما فرغ من فتح الشرق الأدنى بأجمعه وضمه إلى ملكه،

ص: 404

أراد أن يحرر ميديا وفارس من غزو البدو الهمج الضاربين في أواسط آسية. ويلوح أنه أوغل في حملاته حتى وصل إلى ضفاف نهر جيحون شمالاً وإلى الهند شرقاً؛ فلما وصل إلى ذروة مجده قتل فجأة وهو يحارب المسجيتة إحدى القبائل المجهولة التي كانت نازلة على السواحل الجنوبية لبحر الخزر، فكان كالإسكندر افتتح إمبراطورية متسعة الرقعة ولكن المنية عاجلته قبل أن ينظمها. لكن أخلاق قورش قد شابتها شائبة كبيرة، تلك هي قسوته المفرطة في بعض الأحيان.

وجاء بعده ابنه قمبيز وكان به شِبْهُ جِنّة، فورث عن أبيه قوته وإن لم يرث عنه شيئاً من كرمه. وبدأ قمبيز حكمه بأن قتل أخاه سمرديس منافسه في المُلك، ثم أغوته ثروة مصر الطائلة فزحف عليها ليمد حدود الإمبراطورية الفارسية إلى نهر النيل. وأفلح فيما كان يبتغيه، ولكنه على ما يظهر أضاع في سبيل ذلك رشده. ولم يكلفه الاستيلاء على منف كبير مشقة، ولكن الجيش الذي أرسله للاستيلاء على واحة أمون هلك في الصحراء، كما أخفقت حملة سيرها إلى قرطاجنة لأن بحارة الأسطول الفارسي الفينيقيين أبوا أن يهاجموا مستعمرة فينيقية؛ وجن جنون قمبيز، فذهبت عنه حكمة أبيه، وما كان يتصف به من رحمة وتسامح، فأخذ يسخر من دين المصريين، وطعن بخنجره العجل أبيس معبودهم وموضع إجلالهم وتقديسهم وهو يستهزئ به. ولم يكفه هذا، بل أخرج الجثث المحنطة من مدافنها ونبش قبور الملوك ولم يبال في ذلك بما كان عليها من لعنات قديمة، ودنس الهياكل وأمر بإحراق ما فيها من الأصنام، ظناً منه أن عمله هذا سوف يشفي المصريين من خرافاتهم وأوهامهم، فلما انتابه المرض- ويلوح أن مرضه كان نوبات مرض تشنجية- لم يبق لدى المصريين شك في أن مرضه إنما هو عقاب حل به من قبل آلهتهم وأن دينهم لم يبق فيه بعدئذ ريبة لمرتاب. وكأن قمبيز قد أراد أن يبرهن مرة أخرى على مساوئ الملكية المطلقة، ففعل ما فعله

ص: 405

نابليون في بعض ساعات امتعاضه، إذ أعدم ركسانا أخته وزوجته، وقتل ابنه بركسبيس بسهم من قوسه، ودفن اثني عشر من أعيان الفرس أحياء، وقضى بإعدام كروسس، ثم ندم على ما فعل، وسر حين علم أن حكمه لم ينفذ، ثم عاقب الموظفين الذين تأخروا عن تنفيذه (12). وعلم وهو عائد إلى بلاده أن مغتصباً قد استولى على عرش فارس وأن ثورة صماء اندلع لهيبها في طول البلاد وعرضها لتأييده. ومن هذه اللحظة يختفي قمبيز من التاريخ، وفي بعض الروايات أنه انتحر (13).

وكان المغتصب قد ادعى أنه سمرديس وأنه نجا بإحدى المعجزات من حسد أخيه قمبيز واعتزامه قتله. أما الحقيقة فإنه كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي. ثم شبت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه، وكان الذين نظموها سبعة من أشراف البلاد اختاروا بعدئذ واحداً منهم هو دارا بن هشتسبش ورفعوه على العرش. وبهذه الوسيلة الدموية بدأ أعظم ملوك الفرس حكمه.

وكانت وراثة العرش في الممالك الشرقية تقترن بالفتن في القصور الملكية تقوم بين المتنازعين على أزمة الحكم، كما تقترن بالثورات في المستعمرات الخاضعة لحكمها، فقد كانت هذه المستعمرات تنتهز فرصة ما ينشأ عن الفتن الداخلية من فوضى واضطراب، أو عن تولي المُلك حاكم غير مجرب فتعمل لاسترداد حريتها. وكان اغتصاب المُلك في هذه المرة واغتيال سمرديس فرصة ثمينة انتهزتها الولايات الخاضعة لفارس، فخرج عليها حكام مصر وليديا، وثارت عليها في وقت واحد سوزانه، وبابل وميديا، وأشور، وأرمينية، وساكيا، وغيرها من الولايات. ولكن دارا أخضعها جميعا واستخدم في إخضاعها منتهى القسوة. من ذلك أنه لما استولى على مدينة بابل بعد حصار طويل أمر بصلب ثلاثة آلاف من أعيانها ليرهب بذلك بقية الأهلين ويرغمهم على طاعته، ثم أتبع

ص: 406

ذلك بسلسلة من الوقائع الحربية السريعة "هدأ" بها الولايات الثائرة واحدة بعد واحدة.

ولما رأى أن هذه الإمبراطورية الواسعة قد تتقطع أوصالها إذا حلت بها أزمة من الأزمات، خلع دروع الحرب وأصبح من أعظم الحكام الإداريين وأعلمهم كعباً في التاريخ كله، وأخذ يعيد تنظيم ملكه على نسق أصبح مثالاً يحتذى في جميع الإمبراطوريات القديمة إلى سقوط الدولة الرومانية. وبفضل هذا النظام نعمت بلاد غربي آسية بفترة من الطمأنينة والرخاء لم ينعم هذا الصفح المضطرب بمثلها من قبل.

وكان يرجو بعدئذ أن يحكم بلاده في ظل السلام، ولكن سنة الأقدار قد جرت على ألا تنقطع الحروب في الإمبراطوريات، ذلك بأن الشعوب المقهورة يجب أن يعاد قهرها من آن إلى آن، وأن الغالبين يجب أن يحافظوا في شعوبهم على فنون الحرب وعادات المعسكرات وميادين القتال، وأن الأقدار التي لا تترك شيئاً على حاله قد تتمخض عن إمبراطورية جديدة تتحدى الإمبراطورية القديمة؛ وتلك ظروف تحتم خلق الحروب إن لم تشتعل نارها من تلقاء نفسها؛ ولابد إذن من أن يعود كل جيل على احتمال مشاق القتال، وأن يعلم بالمران كيف يستسيغ الموت في سبيل الأوطان.

ولعل هذا كان من الأسباب التي حدت بدارا إلى أن يزحف بجيوشه إلى جنوب الروسيا مجتازاً مضيق البسفور ونهر الدانوب إلى الفلجا ليؤدب السكوذيين الذين كانوا لا ينفكون يغيرون على أطراف الإمبراطورية الفارسية، وأن يقودها مرة أخري مخترقاً أفغانستان، ويجتاز العشرات من سلاسل الجبال حتى يصل إلى وادي نهر السند، وأن يضم بذلك إلى مملكته أقاليم واسعة الرقعة وآلاف من الأنفس والكثير من الأموال. أما حملته على بلاد اليونان فيجب أن نبحث لها عن سبب أقوى من هذا. ويريد هيرودوت أن يحملنا على الاعتقاد بأنه خطا هذه الخطوة

ص: 407

التاريخية الموفقة لأن أتوسا إحدى زوجاته كايدته بها في فراشه (14). لكن أكرم من هذا أن نعتقد أن الملك أدرك ما تتمخض عنه دويلات المدن اليونانية ومستعمراتها من إمبراطورية أو من حلف يهدد سيادة الفرس على غربي آسية. فلما ثارت أيونا وتلقت العون من إسبارطة وأثينا رضي دارا أن يخوض غمار الحرب وهو كاره لها. والعالم كله يعرف قصة اجتيازه بحر إيجه، وهزيمة جيشه في سهل مراثون، وعودته كسير القلب إلى فارس. وهناك أخذ يستعد استعداداً عظيماً ليحاول ضرب اليونان ضربة أخرى، ولكنه أصيب في هذه الأثناء بمرض مفاجئ أضعفه وقضى على حياته.

ص: 408

الفصل الثالث

‌الحياة الفارسية والصناعات

الإمبراطورية - الشعب - اللغة - الزراع -

الطرق الإمبراطورية - التجارة والشئون المالية

كانت الدولة الفارسية حين بلغت أعظم اتساعها في أيام دارا تشمل عشرين ولاية أو "إمارة"(ستربية) تضم: مصر، وفلسطين، وسوريا، وفينيقية، وليديا، وفريجية، وأيونيا، وقبادوش، وقليقية، وأرمينية، وأشور، وقفقاسية، وبابل، وميديا، وفارس، والبلاد المعروفة في هذه الأيام باسم أفغانستان، وبلوخستان، والقسم الممتد من الهند غرب نهر السند، وسيمديانا، وبكتريا (بلخ)، وأقاليم المسجينة وغيرهم من قبائل آسية الوسطى. ولم يسجل التاريخ قبل هذه الإمبراطورية أن حكومة واحدة حكمت مثل هذه الرقعة الواسعة من البلاد.

ولم تكن بلاد الفرس في تلك الأيام، وهي البلاد التي قدر لها أن تحكم هذه الأربعين مليوناً من الأنفس مدى مائتي عام، هي بعينها البلاد المعروفة الآن باسم بلاد فارس، والتي يسميها بلاد إيران، بل كانت هي الإقليم الأصغر المصاحب للخليج الفارسي مباشرة من جهة الشرق، والمعروفة لدى الفرس الأقدمين باسم بارش والفرس المحدثين باسم فارس أو فارستان (15). وهذا الإقليم يكاد يكون كله صحراوات وجبالاً، أنهاره قليلة، معرضة للبرد القارس والحر الجاف اللافح

(1)

، ولذلك فإنه لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكانه البالغ عددهم مليونين من الأنفس (17)، إلا إذا استعانوا بما قد يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق

(1)

يقول استرابون إن حرارة الصيف في السوس تبلغ من الشدة درجة لا تستطيع معها الأفاعي والسحالي أن تعبر شوارع المدينة بالسرعة التي تكفي لنجاتها من الاحتراق بحرارة الشمس.

ص: 409

التجارة والفتح. وأهل البلاد الجبليون الأشداء ينتمون كما ينتمي الميديون إلى الجنس الهندوربي، ولعلهم جاءوا إلى تلك البلاد من جنوب الروسيا؛ وتكشف لغتهم وديانتهم المبكرة عن صلة نسب وثيقة بينهم وبين الآريين الذين عبروا أفغانستان، وأصبحوا الطبقة الحاكمة في شمال الهند. ولقد وصف دارا الأول نفسه في نقش- رستم بأنه:"فارسي ابن فارسي، آرى من سلالة آرية". ويسمي الزردشتيون وطنهم الأول: إيريانا فيجو أي "موطن الآريين"

(1)

، ويطلق استرابون لفظ أريانا على البلاد التي يطلق عليها الآن هذا اللفظ الذي لا يكاد يختلف عن اللفظ الأول وهو إيران (18).

ويلوح أن الفرس كانوا أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم. فالآثار الباقية في عهدهم تصورهم شعباً معتدل القامات، قوي الأجسام، قد وهبته حياة الجبال شدة وصلابة، ولكن ثروتهم الطائلة رققت طباعهم، وهم ذوو ملامح متناسبة متناسقة، شم الأنوف لا يكادون يفترقون في ذلك عن اليونان، تبدو على وجوههم سمات النبل والروعة؛ ولبس معظمهم الملابس الميدية ثم تحلوا فيما بعد بالحلي الميدية. وكانوا يعدون من سوء الأدب كشف أي جزء من أجزاء الجسم خلا الوجه، ولذلك كان كل جسمهم مغطى من عمامة الرأس أو عصابته أو قلنسوته إلى خفي القدمين أو حذاءيهما. فكان لباسهم سروالاً مثلث الطيات، وقميصاً أبيض من التيل، ومئزراً من طبقتين، ذا كُمّين يغطيان اليدين، ومنطقة في وسط الجسم. وكانت هذه الملابس تحفظ أجسامهم، دفئة في الشتاء، حارة في الصيف. أما الملك فكان يمتاز بلبس سروال مطرز قرمزي، وحذاءين ذوي أزرار زعفرانية اللون. ولم تكن ملابس النساء تختلف عن ملابس الرجال إلا بفتحة عند الصدر. وكان الرجال يطيلون لحاهم ويتركون شعر رأسهم ينساب في غدائر، ثم استبدلوا بهما فيما بعد شعراً مستعاراً (19). ولما زادت الثروة

(1)

والاعتقاد السائد أن هذا الإقليم هو بعينه إقليم أران الواقع على نهر الأراك.

ص: 410

في عهد الإمبراطورية أكثر الأهلون رجالهم ونساؤهم من استعمال أدوات التجميل، فاستعملوا الأدهان لتجميل الوجه، والأصباغ الملونة لدهن الجفون، لكي يزيدوا بذلك من سعة العينين وبريقهما الظاهر. ومن ثم نشأت عندهم طبقة من"المزينين" سماهم اليونان "الكزمتاي" كانوا خبراء في فن التجميل، وعملهم تجميل الأثرياء. وكان الفرس خبراء في عمل الروائح العطرية، وكان القدماء يعتقدون أنهم هم الذين اخترعوا أدهان التجميل. ولم يكن مليكهم يخرج إلى الحرب إلا ومعه علبة ثمينة من الزيوت العطرية، يتعطر بها في حالتي النصر والهزيمة (20).

وتكلم الفرس عدة لغات في أثناء تاريخهم الطويل. فكانت الفارسية القديمة لغة البلاط وأعيان البلاد في عهد دارا الأول، وهذه اللغة وثيقة الارتباط باللغة السنسكريتية حتى ليبدو لنا جلياً أن اللغتين كانتا في وقت من الأوقات لهجتين من لغة أقدم منهما عهداً، وأنهما هما واللغة الإنكليزية فروع من أصل واحد

(1)

. وتطورت اللغة الفارسية القديمة وتفرعت إلى فرعين هما الزندية- لغة الزند- أبستاق. والبهلوية وهي لغة هندية اشتقت منها اللغة الفارسية الحالية (22). ولما مارس الفرس الكتابة استخدموا في نقوشهم الخط المسماري واستخدموا الحروف الهجائية الآرامية لكتابة وثائقهم (23). وبسطوا مقاطع اللغة البابلية الثقيلة الصعبة، فأنقصوها من ثلاثمائة رمز إلى ست وثلاثين

(1)

وهاهي بعض الأمثلة تثبت هذه الصلة: الفارسية القديمة: Pitar- Nama- Napat- Bar- Matar- Bratar- Cta. السنسكريتية: Piter- Nama- Napat- Bhri- Matar- Bhratar- Stha. اليونانية: Pater- Anoma- Anepsios- Perein- Meter- Phrater- Istemi. اللاتينية: Pater- Nomen- Nopes- Ferre- Mater- Frater- Sto. الألمانية: Vater- Nahme- Netfe- Fuhren- Mutter- Bruder- Steben. الإنجليزية: Pather- Name- Nephew- Bear- Mother- Brother- Stand

ص: 411

علامة، تبدلت شيئاً فشيئاً من مقاطع إلى حروف حتى صارت حروفاً هجائية مسمارية (24). على أن الكتابة كانت تبدو للفرس لهواً خليقاً بالنساء لا يكادون يقتطعون له وقتاً من بين مشاغلهم الكثيرة في الحب والحرب والصيد، ولم ينزلوا من عليائهم فينشئوا أدباً.

وكان الرجل العادي أمياً راضياً عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض. ومجدت الزند- أبستاق الأعمال الزراعية وعدتها أهم أعمال الجنس البشري وأشرفها، يبتهج لها أهور- مزدا الإله الأعلى أكثر مما يبتهج بغيرها من الأعمال. وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأراضي (25). والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته؛ وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب (ولم يكونوا قط فرساً). وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من حديد تجرها الثيران. وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيراً من اللحم ويتجرعون كثيراً من الخمر. وقد أمر قورش بتقديم الخمر لجيوشه (26). ولم تكن مناقشة جدية في الشئون السياسية تدور في مجالس الفرس إلا وهم سكارى

(1)

وإن كانوا يحرصون على أن يعيدوا النظر في قراراتهم في صباح اليوم التالي. وكان من مشروباتهم مشروب مسكر يسمى الهوما يقدمونه قرباناً محبباً لآلهتهم؛ وكانوا يعتقدون أنه لا يبعث في مدمنه الهياج والغضب، بل يبعث فيه التقى والاستقامة (28).

(1)

وفي ذلك يقول استرابون: "وهم يمضون في أهم مناقشاتهم وهم يحتسون الخمر، ويرون أن ما يصدرونه من قرارات وهم على هذه الحال اتقى مما يصدرونه وهم غير سكارى".

ص: 412

ولم يكن للصناعة شأن في فارس؛ فقد رضيت أن تترك لأمم الشرق الأدنى ممارسة الحرف والصناعات اليدوية، واكتفت بأن تحمل هذه الأمم إليها منتجاتها مع ما يأتيها من الخراج. أما في شئون النقل والاتصال فكانت أكثر ابتكاراً منها في شئون الصناعة. فقد انشأ المهندسون إطاعة لأمر دارا الأول طرقاً عظيمة تربط حواضر الدولة بعضها ببعض. وكان طول إحدى هذه الطرق وهي الممتدة من السوس إلى سرديس ألفاً وخمسمائة ميل. وكان طولها يقدر تقديراً دقيقاً بالفراسخ (وكان الفرسخ 3. 4 ميل) ويقول هيرودوت:"إنه كان عند نهاية كل أربعة فراسخ محاط ملكية ونُزل فخمة، وكان الطريق كله يخترق أقاليم آمنة عامرة بالسكان"(29). وكان في كل محطة خيول بديلة متأهبة لمواصلة السير بالبريد، ولهذا فإن البريد الملكي كان يجتاز المسافة من السوس إلى سرديس بالسرعة التي يجتازها بها الآن رتل من السيارات الحديثة، أي في أقل قليلاً من أسبوع، مع أن المسافر العادي في تلك الأيام الغابرة كان يجتاز تلك المسافة في تسعين يوماً. وكانوا يعبرون الأنهار الكبيرة في قوارب، ولكن المهندسين كانوا يستطيعون متى شاءوا أن يقيموا على الفرات أو على الدردنيل نفسه قناطر متينة تمر عليها مئات الفيلة الوجلة وهي آمنة. وكان ثمة طرق تصل فارس بالهند مجتازة ممرات جبال أف انستان، وقد جعلت هذه الطرق مدينة السوس مستودعاً وسطاً لثروة الشرق التي كانت حتى في ذلك العهد البعيد ثروة عظيمة لا يكاد يصدقها العقل. وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية، وذلك لتسيير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضاً في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار، كما أفادت في تبادل خرافات الجنس البشري وهي من مستلزماته التي لا غنى له عنها. من ذلك أن الملائكة والشياطين قد انتقلت على هذه الطرق من الأساطير الفارسية إلى الأساطير اليهودية والمسيحية.

ص: 413

ولم تبلغ الملاحة في فارس ما بلغه النقل البري من رقي عظيم. فلم يكن للفرس أسطول خاص بهم، بل كانوا يكتفون باستئجار سفن الفينيقيين أو الاستيلاء عليها لاستخدامها في الأغراض الحربية، وقد احتفر دارا الأول قناة عظيمة تصل فارس بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق البحر الأحمر والنيل، ولكن إهمال خلفائه ترك هذا العمل العظيم تبعث به الرمال السافية.

وأصدر خشيارشاي أمره الملكي إلى قسم من قواته البحرية بأن يطوف حول إفريقية، ولكنه لم يكد يجتاز أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق الحالي) حتى عاد من رحلته يجلله الخزي والعار (30). وكانت الأعمال التجارية تترك في الغالب لغير أبناء البلاد- للبابليين والفينيقيين واليهود؛ ذلك أن الفرس كانوا يحتقرون التجارة ويرون أن الأسواق بؤرة للكذب والخداع. وكانت الطبقات الموسرة تفخر باستطاعتها الحصول على معظم حاجاتها من حقولها وحوانيتها بغير واسطة، دون أن تدنس أصابعها بأعمال البيع والشراء (31). وكانت الأجور والقروض وفوائد الأموال تؤدى في بادئ الأمر سلعاً، وأكثر ما كانت تؤدى به الماشية والحبوب؛ ثم جاءتهم النقود من ليديا، وسكّ دارا "الداريق" من الذهب والفضة وطبع عليه صورته

(1)

.، وكانت نسبة قيمة الدريق الذهبي إلى الدريق الفضي كنسبة 13. 5 إلى 1. وكان هذا بداية وضع نسبة بين النقدين في الوقت الحاضر (33).

(1)

ليس هذا اللفظ صلة ما باسم دارا، بل إن لفظ دريق مشتق من كلمة زريق الفارسية وهي القطعة من الذهب. وكانت قيمة الدريق الذهبي الاسمية 5 ريالات أمريكية. وكانت ثلاثة آلاف دريق ذهبي تعدل منا فارسياً

ص: 414

الفصل الرابع

‌تجربة في نظام الحكم

الملك - الأشراف - الجيش - القانون - عقاب

وحشي - الحواضر - الولايات - عمل جليل في الإدارة

كانت حياة فارس حياة سياسية وحربية أكثر منها اقتصادية؛ عماد ثروتها القوة لا الصناعة؛ ومن أجل ذلك كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعاً غير قائم على أساس طبيعي. وكان النظام الإمبراطوري الذي يمسك هذا الكيان المصطنع من أقدر الأنظمة ولا يكاد يوجد له شبيه؛ فقد كان على رأسه الملك أوخشترا أي المحارب

(1)

، وهو لقب يدل على منشأ الملكية الفارسية العسكري وصبغتها العسكرية. وإذا كان تحت سلطانه ملوك يأتمرون بأمره فقد كان الفرس يلقبونه "ملك الملوك" ولم يعترض العالم القديم على هذه الدعوة، غير أن اليونان لم يكونوا يسمونه بأكثر من باسليوس أي الملك (34).

وكان له من الوجهة النظرية سلطة مطلقة؛ فكانت كلمة تصدر من فمه تكفي لإعدام من يشاء من غير محاكمة ولا بيان للأسباب، على الطريقة التي يتبعها أحد الحكام الطغاة في هذه الأيام. وكان في بعض الأحيان يمنح أمه أو كبيرة زوجاته حق القتل القائم على النزعات والأهواء (35). وقلما كان أحد من الأهلين، ومن بينهم كبار الأعيان، يجرؤ على انتقاد الملك أو لومه، كما كان

(1)

ولا يزال هذا اللفظ باقياً حتى الآن في اسم ملك الفرس (الشاه) وكذلك لا يزال أصله باقياً في لفظ سترب، الذي يسمى به حكام الأقاليم في فارس وفي لفظ كشاتريا أو الطبقة الحاكمة في الهند.

ص: 415

الرأي العام عاجزاً عجزاً مصدره الحيطة والحذر، فكان ما يفعله الذي يرى الملك يقتل ابنه البريء أمام عينيه رمياً بالسهام أن يثني على مهارة الملك العظيمة في الرماية، وكان المذنبون الذين يلهب السياط أجسادهم بأمر الملك يشكرون له تفضله بأنه لم يغفل عن ذكرهم (36). ولو أن ملوك الفرس كان لهم من النشاط ما لقورش ودارا الأول لكان لهم أن يملكوا ويحكموا؛ ولكن الملوك المتأخرين كانوا يعهدون بأكثر شئون الحكم إلى الأشراف الخاضعين لسلطانهم، أو إلى خصيان قصورهم. أما هم فكانوا يقضون أوقاتهم في الحب أو لعب النرد أو الصيد (37). وكان القصر يموج بالخصيان يسرحون فيه ويمرحون، يحرسون النساء ويعلمون الأمراء، وقد استخدموا ما تخولهم هذه الأعمال من ميزة وسلطان في حبك الدسائس وتدبير المؤامرات في عهد كل ملك من الملوك

(1)

. وكان من حق الملك أن يختار خلفه من بين أبنائه، ولكن وراثة العرش كانت تقرر في العادة بالاغتيال والثورة.

غير أن سلطة الملك كانت تقيدها من الوجهة العملية قوة الأعيان، وكانوا هم الواسطة بين الشعب والعرش. وقد جرت العادة أن يكون لأسر الرجال الستة الذين تعرضوا مع دارا الأول لأخطار الثورة التي قامت على سمرديس الزائف ميزات استثنائية. وأن يستشاروا في مهام الدولة الحيوية، وكان كثير من الأشراف يحضرون إلى القصر ويؤلفون مجلساً يولي الملك مشورته في أكثر الأحيان أعظم رعاية. وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم؛ وكانوا في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء- فكانوا يجبون الضرائب، ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء ويحتفظون بقواتهم المسلحة.

(1)

كان خمسمائة من الغلمان الخصيان يرسلون من بابل كل عام ليكونوا "حفظة على النساء" في القصور الإيرانية.

ص: 416

وكان الجيش العماد الحقيقي لسلطان الملك والحكومة الإمبراطورية، ذلك أن الإمبراطوريات إنما تدوم ما دامت محتفظة بقدرتها على التقتيل.

وكان يفرض على كل رجل صحيح الجسم بين الخامسة عشرة والخمسين من عمره أن ينضم إلى القوات العسكرية كلما أعلنت الحرب (41). وحدث مرة أن طلب والد ثلاثة أبناء أن يُعفى واحد منهم من الخدمة العسكرية فما كان من الملك إلا أن أمر بقتلهم هم الثلاثة؛ وأرسل والد آخر أربعة من أبنائه إلى ميدان القتال، ثم رجا خشيارشاي أن يسمح ببقاء أخيهم الخامس ليشرف على ضيعة الأسرة فقطع جسم هذا الابن نصفين بأمر من الملك، ووضع كل نصف على أحد جانبي الطريق الذي سيمر منه الجيش (42). وكان الجنود يسيرون إلى الحرب وسط دوي الموسيقى العسكرية وهتاف الجماهير التي تجاوزت سن التجنيد.

وكانت أهم فرق الجيش فرقة الحرس الملكي المؤلفة من ألفين من الفوارس وألفين من المشاة وكانت مهمتهم حراسة الملك.

وكان الجيش العامل كله بلا استثناء من الفرس والميديين، وكان يؤخذ من هذه القوات الدائمة معظم الحاميات القائمة في النقط العسكرية الهامة في الإمبراطورية لترهيب من تحدثه نفسه بالخروج عليها.

أما القوات الحربية الكاملة فكانت تتألف من فرق تجند من جميع الأمم الخاضعة لسلطان الفرس، وكانت كل فرقة تتكلم بلغتها، وتقاتل بأسلحتها وتتبع أساليبها الحربية الخاصة، ولم يكن عتادها وأتباعها أقل اختلافا من أصولها: فهناك القسي والسهام، والسيوف والحراب، والخناجر والرماح، والمقاليع والمدي، والتروس والخوذ، والمجنات المتخذة من الجلد، والزرد. وكانوا يركبون الجياد والفيلة، ويصحبهم المنادون، والكتبة، والخصيان، والعاهرات، والسراري، ومعهم العربات التي سلح كل جزء من عجلاتها بمناجل الصلب الكبيرة. وهذه الجحافل الجرارة التي بلغت عدتها في حملة

ص: 417

خشيارشاي 000 ر 800 ر 1 مقاتل لم تتألف منها قط وحدة كاملة، ومن أجل ذلك فإن أول بادرة من بوادر الهزيمة كانت تحيلها إلى جموع من الغوغاء العديمة النظام. وكانت تهزم أعداءها بقوة عددها لا غير، وبمقدرته على استيعاب قتلاها، فإذا ما لاقاها جيش حسن التنظيم يتكلم أفراده لغة واحدة ويخضعون لنظام واحد حاقت بها الهزيمة. وهذا هو السر فيما أصابها عند مرثون وبلاتية.

ولم يكن يوجد في مثل هذه الدولة قانون غير إرادة الملك وقوة الجيش. ولم تكن فيها حقوق مقدسة تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين، كما أن التقاليد والسوابق لم تجد نفعاً إلا إذا كانت مستمدة من أمر ملكي سابق؛ ذلك أن الفرس كانوا يفتخرون بأن قوانينهم لا تبديل لها، وأن الوعد أو المرسوم الملكي لا ينقض بحال من الأحوال، فقد كان اعتقادهم أن قرارات الملك وأحكامه إنما يوحيها إليهم الإله أهورا- مزدا نفسه.

وعلى هذا الأساس كان قانون المملكة مستمداً من الإرادة الإلهية، وكان كل خروج على هذا القانون يعد خروجاً على إرادة الإله. فكان الملك صاحب السلطة القضائية العليا، ولكنه كان في العادة يعهد هذا العمل إلى أحد العلماء الشيوخ من أتباعه. ثم يأتي من بعده المحكمة العليا المؤلفة من سبعة قضاة، ومن تحتها محاكم محلية منتشرة في أنحاء المملكة. وكان الكهنة هم الذين يضعون القوانين، وظلوا زمناً طويلاً ينظرون في المظالم، ثم كان النظر فيها في العهود المتأخرة رجال بل نساء من غير رجال الدين ونسائه، وكانت الكفالة تقبل من المتهم في جميع القضايا إلا ما كان منها خطير الشأن، وكانوا يتبعون في المحاكمات إجراءات منتظمة. وكانت المحاكم تأمر أحياناً بمنح المكافآت كما كانت تأمر بتوقيع العقوبات، وكانت وهي تنظر في الجرائم تقدر ما للمتهم من حسنات وما أداه من خدمات. ولكي يحولوا بين إطالة الإجراءات القضائية كانوا يحددون

ص: 418

زمناً معيناً تنتهي فيه كل قضية، ويعرضون على الخصوم أن يختاروا لهم حَكماً يحاول فض ما بينهم من نزاع بالطرق السلمية.

ولما تكاثرت السوابق القانونية وتعقدت القوانين نشأت طائفة من الناس يسمون "المتحدثين في القانون" كانوا يعرضون على المتخاصمين أن يفسروا لهم القانون ويساعدوهم على السير في قضاياهم (43). وكان يطلب إلى المتقاضين أن يقسموا الأيمان، وكانوا في بعض الأحيان يلجأون إلى الحكم الإلهي (44)، (فيفوضون أمر المتهم إلى الآلهة تقضي له أو عليه بوسائلها الخاصة، بأن تنجيه من النار أو الغرق إن كان بريئاً وتقضي عليه بهما إن كان مذنباً)

(1)

، وكانوا يقاومون الرشوة بجعل عرضها أو قبولها جريمة كبرى يعاقب مرتكبها بالإعدام.

وكان مما عمله قمبيز لضمان القضاة أن أمر بأن يسلخ جلد القاضي الظالم حياً وأن يستخدم جلده لتنجيد مقاعد القضاة، ثم كان يعين ابن القاضي القتيل بدلاً منه (45).

وكانت الجرائم الصغرى يعاقب عليها بالجلد- من خمس جلدات إلى مائتي جلدة- بسوط من سياط الخيل، وكان عقاب من يسمم كلب راع مائتي جلدة، ومن يقتل آخر خطأ كان عقابه تسعين جلدة (46). وكانت الدولة تحصل على بعض المال اللازم للشؤون القضائية من استبدال الغرامة بالجلد باحتساب كل ست روبيات للجلدة الواحدة (47). أما الجرائم التي هي أشد من هذه فكان يعاقب عليها بالوسم بالنار أو بتشويه الأعضاء أو بتر بعض الأطراف، أو سمل العين أو السجن أو الإعدام. وكان نص القانون يحرم على أي إنسان حتى الملك نفسه أن يحكم على إنسان بالقتل عقاباً على جريمة صغرى، ولكنه يحل القتل عقاباً على خيانة الوطن، أو هتك العرض، أو اللواط، أو القتل، أو الاستمناء، أو حرق الموتى، أو دفنهم سراً، أو الاعتداء على حرمة القصر الملكي، أو الاتصال

(1)

هذا الشرح لنا وضعناه لإيضاح معنى عبارة "الحكم الإلهي".

ص: 419

بإحدى سراريه، أو الجلوس مصادفة على عرشه، أو الإساءة إلى أحد أفراد البيت المالك (48).

وكان المذنب في هذه الحالات يعدم إما بإرغامه على تجرع السم، أو خزقه أو صلبه، أو شنقه (وكان المجرم يشنق ورأسه عادة إلى الأسفل)، أو رجمه بالحجارة أو دفن الجسم إلى ما دون الرأس، أو تهشيم رأسه بين حجرين كبيرين، أو خنقه في رماد ساخن، أو بتوقيع ذلك العقاب الذي لا يصدقه العقل والمعروف باسم عقاب "الزورقين"

(1)

. وقد ورث الأتراك الذين أغاروا على البلاد فيما بعد بعض هذه العقوبات الهمجية، وأورثوها العالم من بعدهم.

واستعان الملك هذه القوانين وهذا الجيش على حكم الولايات العشرين التابعة لدولته من عواصمه الكثيرة. وكانت العاصمة الأصلية بزارجادة، ولكنه كان ينتقل منها أحياناً إلى برسبوليس، وكانت إكباتانا عاصمته الصيفية. أما معظم إقامته فكانت في مدينة السوس عاصمة عيلام القديمة التي يجتمع فيها

(1)

يقول بلورتاخ إن الجندي مثرداتس قال ساخراً وهو يحتسي الخمر أن ليس الفضل في قتل قورش الأصغر في واقعة كوناكسا للملك، بل الفضل فضله هو- فأمر أرت خشتر الثاني أن يعدم مثرداتس بطريقة القاربين- على النمط الآتي: يؤخذ قاربان صنعا بحيث ينطبق أحدهما على الآخر تمام الانطباق. ثم يوضع المذنب الذي يراد تعذيبه على ظهره في أحدهما، ويغطى بالقارب الثاني بحيث يترك رأسه ويداه وقدماه في خارج القاربين، أما سائر جسمه فيكون بينهما. ثم يقدم له الطعام فإذا أبى أن يطعمه أرغموه على ذلك بوخز عينيه. وبعد تناوله يسقونه مزيجاً من اللبن والعسل يصبونه في فمه وعلى وجهه بأكمله. ويظل وجهه في هذه الأثناء موجها نحو الشمس على الدوام، فلا يلبث أن تغطيه عن آخره أسراب الذباب الذي يحط عليه. ولما كان هو في القارب يفعل ما لابد أن يفعله كل من يأكلون ويشربون، فإن الحشرات والديدان تتولد من البراز والأقذار، وتتسرب إلي أمعائه فيتآكل جسمه. فإذا اتضح لهم أن الرجل قد مات بلا ريب، ورفع أعلى القاربين، ظهر جسمه وقد تآكل لحمه، وشوهدت هذه الحشرات الكريهة تنهشه، كأنها قد توالدت في أحشائه. وبهذه الطريقة قضى مثرداتس في آخر الأمر نحبه بعد عذاب دام سبعة عشر يوما". ملحوظة: ورد اسم Artaxerxes، Xerxes بصيغ مختلفة فسمى أولها خشيرشا وأخشويرش وسمي الثاني أردشير وأرت خشتر أو أرتخشتر وأرتخشيرشا. ويسميه المسعودى أرطحشست، ويقول البيروني أن بهمن أردشير هو ابن أخشويرش.

ص: 420

تاريخ الشرق القديم برمته ويرتبط أوله بآخره. وكان من مميزات هذه المدينة صعوبة الوصول إليها، كما كان من عيوبها بُعدها عن سائر عواصم الإمبراطورية، فلما أراد الإسكندر أن يستولي عليها كان لابد له أن يجتاز لها طريقاً طوله ألفا ميل؛ ولكنها كان عليها أن ترسل جيوشها ألفاً وخمسمائة ميل لتخضع الثروات التي تقوم في ليديا أو مصر. ولما أنشئت الطرق العظيمة في آخر الأمر كانت كل فائدتها أن مهدت السبل لليونان والرومان الذين غزوا بجيوشهم غرب آسية، كما ساعدت غرب آسية على أن يغزو اليونان ورومة بعقائده الدينية.

وكانت الإمبراطورية مقسمة إلى ستريبات أو ولايات لتسهل بذلك إدارتها وجباية خراجها. وكان في كل ولاية نائب "لملك الملوك" قد يكون أحياناً أميراً خاضعاً لسلطانه، ولكنه في العادة "سترب"(حاكم) يعينه الملك ويبقى في منصبه ما دام حائزاً لرضا البلاط الملكي.

وأراد دارا أن يضمن خضوع الوالي لسلطانه فبعث إلى كل ولاية بقائد من قواد جيشه ليشرف على ما فيها من قوى مسلحة مستقلاً عن الوالي؛ ولكي يضمن خضوع هذا وذاك عين لكل ولاية أميناً من قبله مستقلاً عن الوالي والقائد جميعاً، مهمته أن يبلغ عن مسلكهما. وزيادة في الاحتياط كان للملك إدارة للمخابرات السرية تعرف باسم "عيون الملك وآذانه" يفاجئ موظفوها الولايات ليفحصوا عن سجلاتها وشئونها الإدارية والمالية. وكان الوالي يعزل أحياناً بلا محاكمة، وأحياناً يتخلص منه بهدوء، وذلك بأن يسمه خدمه بأمر الملك نفسه. وكان تحت إمرة الوالي والأمين حشد من الكتبة يصرفون من شئون الحكم ما ليس في حاجة مباشرة إلى القوة. وكان هؤلاء يستمرون في عملهم وإن تغيرت الإدارات، بل وإن تغير الملوك، فالملك يموت ولكن البيروقراطية الحكومية باقية مخلدة.

ولم يكن موظفو الولايات يتناولون رواتبهم من الملك، بل كانوا يتناولونها

ص: 421

من أهل الولاية التي يحكمونها. وكانت هذه الرواتب عالية تكفي لأن يكون لهؤلاء الولاة قصور وحريم. وبساتين للصيد، كان الفرس يسمونها بذلك الاسم التاريخي المأثور وهو الفردوس أي "الجنة". وكان على كل والٍ فضلاً عن هذا أن يبعث إلى الملك في كل عام قدراً معلوماً من المال والبضائع ضريبة مقررة على ولايته. فكانت الهند ترسل 680 ر 4 تالنتا، وأشور وبابل ألفاً، ومصر سبعمائة، وولايات آسية الصغرى الأربع ترسل مجتمعة 1760 الخ. فكان مجموع ما ترسله الولايات كلها 560 ر 14 في السنة، قدرت قيمتها تقديراً يختلف من 000 ر 000 ر 160 ريال أمريكي إلى 000 ر 000 ر 218 ريال؛ وفوق هذا فقد كان ينتظر من كل ولاية أن تمد الملك بحاجته من السلع والمؤن: فقد كان على مصر مثلاً أن تمده في كل عام بما يحتاجه 000 ر 120 رجل من الغلال، وكان الميديون يمدونه بمائة ألف من الضأن، والأرمن بثلاثين ألف من الأمهار، والبابليون بخمسمائة من الغلمان الخصيان. وكانت هناك مصادر أخرى تستمد منها الخزانة المركزية الأموال الطائلة. وحسبنا دليلاً على مقدار هذه الثروة أن الإسكندر حين استولى على عاصمة الفرس وجد في الخزائن الملكية 000 ر 180 تالنت (وزنة) تبلغ قيمتها بحساب هذه الأيام 000 ر 000 ر 700 ر 2 ريال أمريكي، وذلك بعد مائة وخمسين عاماً من إسراف الفرس وتبديدهم، وبعد مائة حرب وثورة باهظة النفقات، وبعد أن حمل دارا الثالث معه في فراره 000 ر 8 تالنت (51).

ومع هذا كله فقد كانت الإمبراطورية الفارسية على الرغم من نفقاتها الإدارية الطائلة أنجح تجربة في نظام الحكم الإمبراطوري شهدتها بلاد البحر الأبيض المتوسط قبل الإمبراطورية الرومانية التي قدر لها أن ترث قسطاً كبيراً من النظم السياسية والإدارية لتلك الإمبراطورية القديمة. وإذا كانت هذه الإمبراطورية قد شهدت ما كانت عليه ملوكها المتأخرين من قسوة وبذخ، وما كان في بعض شرائعها من همجية، وما كان ينوء به كاهل الأهلين من ضرائب فادحة، فقد

ص: 422

كان يقابل هذه المساوئ ما كان يسود البلاد بفضل حكومتها من نظام وأمن أثرت في ظله الولايات على الرغم من هذه الأكلاف الباهظة، وما كانت تستمتع به تلك الولايات من حرية لم تستمتع بها الولايات الخاضعة لأكثر الإمبراطوريات رقياً واستنارة. ذلك أن كل إقليم كان يحتفظ بلغته، وشرائعه، وعاداته، وأخلاقه، ودينه، وعملته، كما كان يحتفظ في بعض الأحيان بالأسرة الحاكمة من أهله. وكانت بعض الأمم التي تؤدى إليها الجزية كبابل وفينيقية وفلسطين راضية كل الرضا بالوضع الذي وضعت فيه، ظناً منها أن قوادها وجباتها من أهلها لو وكل إليهم أمرها لكانوا أكثر من حكامها الفرس قسوة وأشد بطشاً. لقد بلغت الإمبراطورية الفارسية في عهد دارا الأول من حيث النظام السياسي مبلغاً لم يصل إليه غيرها من الإمبراطوريات إذا استثنينا الإمبراطورية الرومانية في عهد دراجان، وهدريان، والأنطونيين.

ص: 423

الفصل الخامس

‌زردشت

رسالة النبي - الديانة الفارسية قبل زردشت -

كتاب الفرس المقدس - أهورا مزدا - الأرواح

الطبية والخبيثة - كفاحها للاستيلاء على العالم

تروي الأقاصيص الفارسية أن نبياً عظيماً ظهر في إيريانا- فيجو، "موطن الآريين" القديم قبل ظهور المسيح بمئات السنين، وكان شعبه يسميه زرثسترا. ولكن اليونان لم يكونوا يطيقون هجاء "البرابرة" أسموه زروسترز. وقد حملت به أمه حملاً إلهياً قدسياً: ذلك أن الملاك الذي كان يرعاه تسرب إلى نبات الهَوْما، وانتقل مع عصارته إلى جسم كاهن حين كان يقرب القرابين المقدسة. وفي ذلك الوقت نفسه دخل شعاع من أشعة العظمة السماوية إلى صدر فتاة راسخة النسب متناسقة في الشرف. وتزوج الكاهن بالفتاة، وامتزج الحبيسان الملاك والشعاع، فنشأ زرثسترا من هذا المزيج (53). فلما ولد قهقه عالياً من أول يوم ولد فيه، ففرت من حوله الأرواح الخبيثة التي تجتمع حول كل كائن، وهي مضطربة وجلة (54). وأحب الوليد الحكمة والصلاح فاعتزل الناس وآثر أن يعيش في برية جبلية، وأن يكون طعامه الجبن وثمار الأرض. وأراد الشيطان أن يغويه ولكنه أخفق. وشق صدره بطعنة سيف وملئت أحشاؤها بالرصاص المنصهر، فلم يشك أو يتململ بل ظل مستمسكا بإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم. وتجلى له أهورا- مزدا ووضع في يديه الأبستاق أي كتاب العلم والحكمة، وأمره أن يعظ الناس بما جاء فيه. وظل العالم كله زمناً طويلاً يسخر منه ويضطهده، حتى سمعه أخيراً أمير إيراني

ص: 424

عظيم يدعى فشتشبا أو هستسبس، فأعجبه ما سمع، ووعده أن ينشر الدين الجديد بين شعبه، وهكذا ولد الدين الزردشتي. وعمر زرثسترا نفسه طويلاً، حتى أحرقه وميض برق وصعد إلى السماء (55).

ولسنا نعرف ما في هذه القصة من حق وما فيها من باطل. ولعل يوشع كيوشع بنى إسرائيل هو الذي كشف هذا النبي، ولكن اليونان صدقوا أن زرثسترا هذا كان شخصية تاريخية حقة وشرفوه بأن حددوا له تاريخاً يسبق تاريخهم بخمسة آلاف وخمسمائة عام (56). ويقرب بروس البابلي هذا التاريخ إلى عام 2000 ق. م (57). أما من يؤمن بوجوده من المؤرخين المحدثين فيحددون تاريخه فيما بين القرن العاشر والقرن السادس قبل الميلاد

(1)

. ولما ظهر بين أسلاف الميديين والفرس، وجد بني وطنه يعبدون الحيوانات كما يعبدون أسلافهم (60)، ويعبدون الأرض والشمس، وأن لهم دينا يتفق في كثير من عناصره وآلهته مع دين الهندوس في العهد الفيدي.

وكان أكبر الآلهة في الدين السابق للدين الزردشتي مثرا إله الشمس، وأنيتا إلهة الخصب والأرض، وهَوْما الثور المقدس الذي مات ثم بعث حياً، ووهب الجنس البشري دمه شراباً ليسبغ عليه نعمة الخلود. وكان الإيرانيون الأولون يعبدونه بشرب عصير الهَوْما المسكر وهو عشب ينمو على سفوح جبالهم (61). وهال زردشت ما رأى من هذه الآلهة البدائية، وهذه الطقوس الخمرية، فثار على المجوس أي الكهنة الذين يصلون لتلك الآلهة ويقربون لها القرابين، وأعلن في شجاعة لا تقل عن شجاعة معاصريه عاموس وإشعيا أن ليس في العالم إلا إله واحد هو في بلاده أهورا- مزدا إله النور والسماء، وأن غيره من الآلهة ليست إلا مظاهر له وصفات من صفاته. ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً

(1)

وإذا ثبت أن فشتسبا الذي نشر هذا الدين كان والد دارا الأول، كان آخر هذه التواريخ في ظننا أرجحها.

ص: 425

ملهماً لشعبه، ودعامة لحكومته، فشرع منذ تولى الملك يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة.

وكان الكتاب المقدس للدين الجديد هو مجموعة الكتب التي جمع فيها أصحاب النبي ومريدوه أقواله وأدعيته. وسمى أتباعه المتأخرين هذه الكتب الأبستا (الأبستاق)، وهي المعروفة عند العالم الغربي باسم الزند- أبستا، بناء على خطأ وقع فيه أحد العلماء المحدثين

(1)

. ومما يروع القارئ غير الفارسي في هذه الأيام أن يعرف أن المجلدات الضخمة الباقية- وإن كانت أقل كثيراً من كتاب التوراة- ليست إلا جزءاً صغيراً مما أوحاه إلى زرثسترا إلهه

(2)

.

(1)

لقد أضاف أنكتيل- دوبرون (حوالي 1771 ب. م) زند إلى هذا اللفظ. وليست هذه إلا كاسعة كان الفرس يضعونها قبله للدلالة على أن ما يليها ليس إلا ترجمة أو تفسيراً للأبستاق. أما لفظ أبستاق نفسه فأصله غير معروف على وجه التحقيق، والراجح أنه مشتق من فيد وهو الأصل الآري الذي اشتق منه "فيدا" ومعناه المعرفة.

(2)

وتروى الرواية الفارسية قصة أبستاق أخرى اكبر من هذه في واحد وعشرين كتابا يسمى وأحدها "النسك" وتقول أن هذه الكتب الأخيرة نفسها ليست جزءً صغيراً من الكتاب المقدس الأصلي، وأن كتاباً من هذه الكتب وهو الوند داد قد بقي سليماً. أما الكتب الأخرى فلم تبق منها إلا أجزاء مبعثرة في مؤلفات متأخرة كالدنكرد والبندهيش. ويروي مؤرخو العرب أن النص الكامل للكتاب الفارسي المقدس كان يشتمل على 000 ر 12 جلد من جلود البقر. وتقول إحدى الروايات الدينية أن الأمير فشتسبا كتب من هذا الكتاب نسختين، التهمت أحدهما النار حين أحرق الإسكندر القصر الملكي في برسوبوليس، أما الأخرى فقد أخذها اليونان المنتصرون معهم إلى بلادهم، فلما ترجموها كانت هي المصدر الذي أخذوا عنه كل معلوماتهم العلمية (كما يقول الثقات من الفرس). فلما كان القرن الثالث بعد الميلاد أمر فلجيس الخامس أحد الملوك البارثيين من الأسرة الأرساسية أن يجمع كل ما بقي من أجزاء الكتاب المتفرقة المكتوبة منه والباقي في صدور المؤمنين. فاتخذ الكتاب من ذلك الوقت صورته الباقية إلى هذا اليوم، وكان قانون الزردشتية في القرن الرابع الميلادي، وأساس الدين الرسمي للدولة الفارسية. ثم عبثت الأيدي مرة أخرى بهذا الكتاب لما فتح المسلمون بلاد الفرس في القرن السابع بعد الميلاد. ويمكن تقسيم القطع الصغيرة الباقية من هذا الكتاب إلى خمسة أجزاء:1. اليزنا: وتتألف من خمسة وأربعين فصلاً من الطقوس الدينية التي كان الكهنة الزردشتيون يترنمون بها، ومن سبعة وعشرين فصلاً (من الفصل الثامن والعشرين إلى الرابع والخمسين) وتسمى الجتها، وتشتمل على أحاديث النبي وما أوحي إليه مصوغة في عبارات موزونة كما يظهر. 2. الوسبرد: ويشتمل على أربعة وعشرين فصلاً أخرى من الطقوس الدينية. 3. الونديداد: ويشتمل على اثنين وعشرين فصلاً أو فرجوداً، وهي تشرح فقه الزردشتيين وقوانينهم الأخلاقية، وهي التي تتألف منها الآن شريعة البارسيين الكهنوتية (في الهند). 4. اليشت: أي التسبيحات الغنائية، وهي واحد وعشرون نشيداً في الثناء على الملائكة تتخللها أقاصيص تاريخية ونبوءة عن آخر العالم. 5. وآخرها الخرد أبستاق: أي الأبستاق الصغيرة وهي صلوات تتلى في مناسبات في الحياة المختلفة.

ص: 426

وهذا الجزء الباقي يبدو للأجنبي الضيق الفكر كأنه خليط مهوش من الأدعية، والأناشيد، والأقاصيص، والوصفات، والطقوس الدينية، والقواعد الخلقية، تجلوها في بعض المواضع لغة ذات روعة، وإخلاص حار، وسمو خلقي، أو أغان تنم عن رقي وصلاح. وهي تشبه العهد القديم من الكتاب المقدس فيما تثيره في النفس من نشوة قوية. وفي وسع الدارس أن يجد في بعض أجزائها ما يجده في الرج- فدا من آلهة وآراء، ومن كلمات وتراكيب في بعض الأحيان. وتبلغ هذه من الكثرة حداً جعل بعض علماء الهنود يعتقدون أن الأبستاق ليست وحياً من عند أهورا- مزدا، بل هي مأخوذة من كتب الفِدا. ويعثر الإنسان في مواضع أخرى منها على فقرات من أصل بابلي قديم، كالفقرات التي تصف خلق الدنيا على ست مراحل (السماوات، فالماء، فالأرض، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان)، وتسلسل الناس جميعاً من أبوين أولين، وإنشاء جنة على الأرض (66)، وغضب الخالق على خلقه، واعتزامه أن يسلط عليهم طوفاناً يهلكهم جميعا إلا قلة صغيرة منهم (67). ولكن ما فيها من عناصر إيرانية خالصة يشتمل على كثير من الشواهد التي تكفي لصبغ الكتاب كله بالصبغة الفارسية العامة. فالفكرة السائدة فيه هي ثنائية العالم الذي يقوم على مسرحه صراع يدوم اثني عشر ألف عام بين الإله أهور- مزدا والشيطان أهرمان؛ وأن أفضل الفضائل

ص: 427

هما الطهر والأمانة وهما يؤديان إلى الحياة الخالدة؛ وأن الموتى يجب أن لا يدفنوا أو يحرقوا، كما كان يفعل اليونان أو الهنود القذرون، بل يجب أن تلقى أجسامهم إلى الكلاب أو الطيور الجارحة (68).

وكان إله زردشت في بادئ الأمر هو: "دائرة السماوات كلها" نفسها. فأهورا مزدا "يكتسي بقبة السماوات الصلبة يتخذها لباساً له؛

وجسمه هو الضوء والمجد الأعلى، وعيناه هما الشمس والقمر". ولما أن انتقل الدين في الأيام الأخيرة من الأنبياء إلى الساسة صُوّر الإله الأعظم في صورة ملك ضخم ذي جلال مهيب. وكان بوصفه خالق العالم وحاكمه يستعين بطائفة من الأرباب الصغار، كانت تصور أولا كأنها أشكال وقوى من أشكال الطبيعة وقواها- كالنار، والماء، والشمس، والقمر، والريح، والمطر. ولكن أكبر فخر لزردشت أن الصورة التي تصورها لإلهه هي أنه يسمو على كل شيء. وأنه عبَّر عن هذه الفكرة بعبارات لا تقل جلالاً عما جاء في سفر أيوب:

هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا: من ذا الذي رسم مسار الشموس والنجوم؟ - ومن ذا الذي يجعل القمر يتزايد ويتضاءل؟

ومن ذا الذي رفع الأرض والسماء من تحتها وأمسك السماء أن تقع؟ - من ذا الذي حفظ المياه والنباتات- ومن ذا الذي سخر للرياح والسحب سرعتها- ومن ذا الذي أخرج العقل الخيّر يا أهورا مزدا؟ (69)

وليس المقصود "بالعقل الخير" عقلاً إنسانياً ما، بل المقصود به حكمة إلهية لا تكاد تفترق في شيء عن "كلمة الله"

(1)

يستخدمها أهورا مزدا واسطة لخلق الكائنات. وكان أهورا مزدا كما وصفه زردشت سبعة مظاهر أو سبع صفات

(1)

يعتقد دارمستر أن فكرة "العقل الطيب" أن هي إلا تطبيق- شبيه بتطبيق الأوربيين- لفكرة الكلمة الإلهية عند فيلون. وهو لهذا يرجع تاريخ اليزنا إلى القرن الأول قبل الميلاد.

ص: 428

هي: النور، والعقل الطيب، والحق، والسلطان، والتقوى، والخير، والخلود. ولما كان أتباعه قد اعتادوا أن يعبدوا أرباباً متعددة فقد فسروا هذه الصفات على أنها أشخاص (سموهم أميشا اسبننا أو القديسين الخالدين) الذين خلقوا العالم ويسيطرون عليه بإشراف أهورا مزدا وإرشاده. وبذلك حدث في هذا الدين ما حدث في المسيحية فانقلبت الوحدانية الرائعة التي جاء بها مؤسسه شركا لدى عامة الشعب. وكان لديهم فضلاً عن هذه الأرواح المقدسة كائنات أخرى هي الملائكة الحرّاس. وقد اختص كل رجل وكل امرأة وكل طفل- حسب أصول اللاهوت الفارسي- بواحد منها، وكان الفارسي التقي يعتقد (ولعله كان في هذا الاعتقاد متأثراً بعقيدة البابليين في الشياطين) أنه يوجد إلى جانب هؤلاء الملائكة والقديسين الخالدين الذين يعينون الناس على التحلي بالفضيلة سبعة شياطين (ديو) أو أرواح خبيثة تحوم في الهواء، وتغوي الناس على الدوام بارتكاب الجرائم والخطايا، وتشتبك أبد الدهر في حرب مع أهورا- مزدا ومع كل مظهر من مظاهر الحق والصلاح. وكان كبير هذه الزمرة من الشياطين أنكرا- مينبوما أو أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان هو الذي خلق الأفاعي، والحشرات المؤذية، والجراد، والنمل، والشتاء، والظلمة، والجريمة، والخطيئة، واللواط، والحيض، وغيرها من مصائب الحياة. وهذه الآثام التي أوجدها الشيطان هي التي خربت الجنة حيث وضع أهورا مزدا الجدين الأعليين للجنس البشري (71).

ويبدو أن زردشت كان يعد هذه الأرواح الخبيثة آلهة زائفة، وأنها تجسيد خرافي من فعل العامة للقوى المعنوية المجردة التي تعترض رقى الإنسان. ولكن أتباعه رأوا أنه أيسر لهم أن يتصوروها كائنات حية فجسدوها وجعلوا

ص: 429

لها صوراً مازالوا يضاعفونها حتى بلغت جملة الشياطين في الديانة الفارسية عدة ملايين (72).

ولقد كانت هذه العقائد وقت أن جاء بها زردشت قريبة كل القرب من عقيدة التوحيد، بل إنها حتى بعد أن أقحموا فيها أهرمان والأرواح ظل فيها من التوحيد بقدر ما في المسيحية بإبليسها وشياطينها وملائكتها. والحق أن الإنسان ليسمع في الديانة المسيحية الأولى أصداء كثيرة للثنائية الفارسية، لا تقل عما يسمع فيها من أصداء التزمت العبراني، أو الفلسفة اليونانية. ولعل الفكرة الزردشتية عن الإله كانت ترضى عقلاً يهتم بدقائق الأشياء وتفاصيلها كعقل ماثيو آرنلد. ذلك أن أهورا مزدا، كان جماع قوى العالم التي تعمل للحق؛ والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالتعاون مع هذه القوى. هذا إلا أن في فكرة الثنائية بعض ما يبرر ما تراه في العالم من تناقض والتواء وانحراف عن طريق الحق لم تفسره قط فكرة التوحيد وإذا كان رجال الدين الزردشتيون يحاجون أحياناً كما يحُاجّ متصوفة الهنود والفلاسفة المدرسيون، بأن الشر لا وجود له في حقيقة الأمر (73)، فإنهم في الواقع يعرضون على الناس ديناً يصلح كل الصلاحية لأن يمثل لأوساط الناس ما يصادفهم في الحياة من مشاكل خلقية تمثيلاً يقربها إلى عقولهم وتنطبع فيها انطباع الرواية المسرحية، وقد وعدوا أتباعهم بأن آخر فصل من هذه المسرحية سيكون خاتمة سعيدة- للرجل العادل. ذلك أن قوى الشر ستُغلب آخر الأمر ويكون مصيرها الفناء بعد أن يمر العالم بأربعة عهود طول كل منها ثلاثة آلاف عام يسيطر عليه فيها على التوالي أهورا مزدا وأهرمان. ويومئذ ينتصر الحق في كل مكان وينعدم الشر فلا يكون له من بعد وجود. ثم ينضم الصالحون إلى أهورا مزدا في الجنة ويسقط الخبيثون في هوة من الظلمة في خارجها يطعمون فيها أبد الدهر سُمَّاً زعافاً (74).

ص: 430

الفصل السادس

‌الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية

الإنسان ميدان قتال - النار المخلدة - الجحيم

والمطهر والجنة - عبادة مثرا - المجوس - البارسيين

لمّا صوّر الزردشتيون العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظوا بعملهم هذا في خيال الشعب حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة عن القوى البشرية، يحض على الأخلاق الفاضلة ويصونها. وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة؛ وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً، أراد ذلك أو لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو يغفله يرجح قضية أهورا مزدا أو قضية أهرمان. وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين- إذا سلمنا بأن الناس في حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليه النظرة العالمية القائلة بأن الإنسان ليس إلا حشرة دنيئة لا حول لها ولا طول (كما كان يقول أهل العصور الوسطى)، أو آلة تتحرك بنفسها كما يقول أهل هذه الأيام. ذلك أن بني الإنسان حسب تعاليم زردشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية؛ بل كانت لهم إرادة حرة، لأن أهورا مزدا، كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهرمان هو الكذبة المخلدة، وكان كل كذاب خادماً له.

ص: 431

ونشأ من هذه الفكرة قانون أخلاقي مفصل رغم بساطته يدور كله حول القاعدة الذهبية وهي أن "الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيراً له هو نفسه"

(1)

. وتقول الأبستاق أن على الإنسان واجبات ثلاثة. "أن يجعل العدو صديقاً وأن يجعل الخبيث طيباً، وأن يجعل الجاهل عالماً"(76). وأعظم الفضائل عنده هي التقوى، ويأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً. وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً (77). ورأس الخطايا كلها (في الشريعة الأبستاقية كما هي في الشريعة الموسوية) هو الكفر. ولنا أن نحكم من العقوبات الصارمة التي كانت توقع على الملحدين بأن الإلحاد كان له وجود بين الفرس، وكان المرتدون عن الدين يعاقبون بالإعدام من غير توان (78). لكن ما أمر به السيد من إكرام ورحمة لم يكن يطبق من الوجهة العملية على الكفار، أي على الأجانب، لأن هؤلاء كانوا صنفاً منحطاً من الناس أظلهم أهورا- مزدا فلم يحبوا إلا بلادهم وحدها لكي لا يغزو بلاد الفرس، ويقول هيرودوت أن الفرس:"يرون أنهم خير الناس جميعاً من جميع الوجوه ". وهم يعتقدون أن غيرهم من الأمم تدنوا من الكمال بقدر ما يقرب موقعها الجغرافي من بلاد فارس، وأن " شر الناس أبعدهم عنها"(79). إن لهذه الألفاظ نغمة حديثة وإنها لتنطبق على جميع الأمم في هذه الأيام.

ولما كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق فإن أول ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد الله بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزردشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدسة على قمم الجبال، وفي القصور، أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لأهورا- مزدا

(1)

ولكن جاء في الآية السادسة من الفصل السادس والأربعين من كتاب يزنا: "خبيث من يسدي الخير للخبيث" إن الكتب الموحى بها قلما تتفق نصوصها.

ص: 432

أو لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمونها أنار، ويعتقدون أنها ابن إله النور. وكانت كل أسرة تجتمع حول موقدها، تعمل على أن تظل نار بيتها متقدة لا تنطفئ أبدا، لأن ذلك من الطقوس المقررة في الدين. وكانت الشمس نار السماوات الخالدة تعبد بوصفها أقصى ما يتمثل فيها أهورا- مزدا أو مثرا كما عبدها إخناتون في مصر. وقد جاء في كتابهم المقدس: "يجب أن تعظم شمس الصباح إلى وقت الظهيرة وشمس الظهيرة يجب أن تعظم إلى العصر، وشمس العصر يجب أن تعظم حتى المساء

والذين لا يعظمون الشمس لا تحسب لهم أعمالهم الطيبة في ذلك اليوم" (80)، وكانوا يقربون إلى الشمس، والى النار، والى أهورا- مزدا القرابين من الأزهار، والخبز، والفاكهة، والعطور، والثيران، والضأن، والجمال، والخيل، والحمير، وذكور الوعول. وكانوا في أقدم الأزمنة يقربون إليها الضحايا البشرية شأن غيرهم من الأمم (81). ولم يكن ينال الآلهة من هذه القرابين إلا رائحتها، أما ما يؤكل منها فقد كان يبقى للكهنة والمتعبدين، لأن الآلهة- على حد قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية (82). وظلت العادة الآرية القديمة عادة تقديم عصير الهوما المسكر قرباناً إلى الآلهة باقية بعد انتشار الدين الزردشتي بزمن طويل، وإن كان زردشت نفسه جهر بسخطه على هذه العادة، وإن لم يرد لها ذكر في الأبستاق. وكان الكهنة يحتسون بعض هذا العصير المقدس، ويوزعون ما بقي منه على المؤمنين المجتمعين للصلاة (83). فإذا حال الفقر بين الناس وبين تقديم هذه القرابين الشهية، استعاضوا عنها بالزلفى إلى الآلهة بالأدعية والصلوات. وكان أهورا مزدا كما كان يهوه يحب الثناء ويتقبله، ومن ثم فقد وضع للمتقين من عباده طائفة رائعة من صفاته أضحت من الأوراد المحببة عند الفرس (84).

فإذا ما وهب الفارسي حياة التقى والصدق كان في وسعه أن يلقى الموت في

ص: 433

غير خوف؛ ومهما يكن من الأغراض التي يهدف إليها الدين فإن هذا المطلب كان أحد مطالبه الخفية. وكان من العقائد المقررة أن أستواد إله الموت يعثر على كل إنسان أيا كان مقره؛ فهو الباحث الواثق، الذي لا يستطيع الإفلات منه آدمي ولو كان من أولئك الذين يغوصون في باطن الأرض. كما فعل أفرسياب التركي الذي شاد له تحت أطباق الثرى قصراً من الحديد يبلغ ارتفاعه قدر قامة الإنسان ألف مرة، وأقام فيه مائة من الأعمدة، تدور في سمائه النجوم والقمر والشمس تغمره بأشعة النهار. وكان في هذا القصر يفعل كل ما يحلو له ويحيا أسعد حياة. ولكن لم يستطع رغم قوته وسحره أن يفر من أستواد

كذلك لم يستطع النجاة منه من حفر الأرض الواسعة المستديرة التي تمتد أطرافها إلى أبعد الحدود كما فعل دهاق إذ طاف بالأرض شرقاً وغرباً يبحث عن الخلود فلم يعثر عليه. ولم يفده بأسه وقوته في النجاة من أستواد

ذلك أن أستواد المخاتل يأتي متخفياً إلى كل إنسان، لا يعظّم شخصاً، ولا يتقبل الثناء ولا الارتشاء، بل يهلك الناس بلا رحمة (85).

ولما كان من طبيعة الأديان أن ترهب وتنذر، كما تأسو وتبشر، فإن الفارسي رغم هذا كله لم يكن ينظر إلى الموت في غير رهبة إلا إذا كان جندياً يدافع عن قضية أهورا مزدا. فقد كان من وراء الموت، وهو أشد الخفايا كلها رهبة، وجحيم، وأعراف، وجنة. وكان لا بد لأرواح الموتى بأجمعها أن تجتاز قنطرة تصفى فيها، تجتازها الأرواح الطيبة فتصل في جانبها الثاني إلى "مسكن الفناء" حيث تلقاها وترحب بها "فتاة عذراء، ذات قوة وبهاء، وصدر ناهد، مليء"؛ وهناك تعيش مع أهورا- مزدا سعيدة منعمة إلى أبد الدهر.

أما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز القنطرة فتتردى في درك من الجحيم يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب (86). ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب إليها كل الأرواح طيبة كانت أو خبيثة كما تصفها الأديان الأقدم عهداً

ص: 434

من الدين الزردشتي، بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين (87). فإذا كانت حسنات الإنسان ترجح على سيئاته قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنوب، وإذا كان قد ارتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل الخير، لم يلبث في العذاب إلا اثني عشر ألف عام يرفع بعدها إلى السماء (88).

ويحدثنا الزردشتيون الصالحون بأن العالم يقترب من نهايته المحتومة؛ ذلك بأن مولد زردشت كان بداية الحقبة العالمية التي طولها ثلاثة آلاف سنة، وبعد أن يخرج من صلبه في فترات مختلفة ثلاثة من النبيين ينشرون تعاليمه في أطراف العالم، يحلّ يوم الحساب الأخير، وتقوم مملكة أهورا- مزدا، ويهلك أهرمان هو وجميع قوى الشر هلاكاً لا قيام لها بعده. ويومئذ تبدأ الأرواح الطيبة جميعها حياة جديدة في عالم خال من الشرور والظلام والآلام (89): "فيُبعث الموتى، وتعود الحياة إلى الأجسام، وتترد فيها الأنفاس

ويخلو العالم المادي كله إلى أبد الدهر من الشيخوخة والموت والفساد والانحلال" (90).

وهنا أيضاً نستمع، كما نستمع في كتاب الموتى المصري، إلى التهديد بيوم الحساب الرهيب، وهو تهديد يلوح أنه انتقل من فلسفة الحشر الفارسية إلى الفلسفة اليهودية أيام أن كانت للفرس السيادة على فلسطين- ألا ما أروعه من وصف خليق بأن يرهب الأطفال فيصدعوا أوامر آبائهم!

ولما كان من أغراض الدين أن ييسر ذلك الواجب الصعب الضروري، واجب تذليل الصغار على يد الكبار، فإن من حق الكهنة الزردشتيين أن نقرّ لهم بما كانوا عليه من مهارة في وضع قواعد الدين. وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً رائعاً أقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان المعاصرة له، وكان خليقاً بألا يُقضى عليه هذا القضاء العاجل.

وأتى على هذا الدين حين من الدهر في عهد دارا الأول كان فيه المظهر الروحي لأمة في أوج عزها. ولكن بني الإنسان يولعون بالشعر أكثر من ولعهم

ص: 435

بالمنطق، والناس يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير. ومن أجل هذا ظلت عبادة مثرا وأنيتا- إله الشمس وإلهة الإنبات والخصب والتوالد والأنوثة- ظلت هذه العبادة قائمة إلى جانب دين أهورا- مزدا الرسمي تجد لها أتباعاً مخلصين، وعاد إسماهما إلى الظهور من جديد في النقوش الملكية أيام أرت خشتر الثاني، وأخذ اسم مثرا بعدئذ يعظم ويقوى، كما أخذ أهورا- مزدا يضمحل. وما أن وافت القرون الأولى من التاريخ الميلادي حتى انتشرت عبادة مثرا الإله الشاب ذو الوجه الوسيم- الذي تعلو وجهه هالة من نور ترمز إلى الوحدة القديمة بينه وبين الشمس- في جميع أنحاء الدولة الرومانية، وكان انتشارها هذا من أسباب الاحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين

(1)

. ولو أن زردشت كان من المخلدين لتوارى خجلاً حين يرى تماثيل أنيتا أفرديتي الفرس، تقام في كثير من مدن الإمبراطورية الفارسية بعد بضعة قرون من وفاته (91). وما من شك في أنه كان يسوئه أن يجد صحفاً كثيرة من صحف وحيه قد خصها المجوس بطلاسم لشفاء المرضى والتنبؤ بالغيب والسحر (92) وذلك أن "الرجال العقلاء" أي كهنة المجوس قد غلبوا زردشت على أمره، كما يغلب الكهنة في آخر الأمر كل عاتٍ عاصياً كان أو زنديقاً، وذلك بأن يضموه إلى دينهم أو يستوعبوه فيه؛ فسلكوا أولاً في عداد المجوس، ثم لم يلبثوا أن نسوا ذكره (93). وما لبث هؤلاء المجوس بزهدهم وتقشفهم، واقتصارهم على زوجة واحدة، ومراعاتهم لمئات من الطقوس المقدسة، ومن تطهرهم بمئات الأساليب اتباعا لأوامر الدين وطقوسه، وبامتناعهم عن أكل اللحوم، وبملبسهم البسيط الذي لا تكلف ولا تظاهر فيه، ما لبث هؤلاء أن اشتهروا بالحكمة بين الشعوب الأجنبية،

(1)

كان عيد الميلاد في بداية الأمر عيداً شمسياً يحتفل به وقت الانقلاب الشتائي (حوالي 2 ديسمبر) ببداية طول النهر وبانتصار الشمس على أعدائها، وأصبح فيما بعد عيد لمثرا، ثم صار من الأيام المقدسة عند المسيحيين.

ص: 436

ومنهم اليونان أنفسهم، كما أصبح لهم على مواطنيهم سلطان لا تكاد تعرف له حدود. لقد أصبح ملوك الفرس أنفسهم من تلاميذهم، لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد استشارتهم فيه، فقد كانت الطبقات العليا منهم حكماء، والسفلي متنبئين وسحرة، ينظرون في النجوم ويفسرون الأحلام (94)؛ وهل ثمة شاهد على كعبهم اكبر من أن اللفظ الإنكليزي المقابل لكلمة "السحر" Magic مشتق من اسمهم. وأخذت العناصر الزردشتية في الديانة الفارسية تتضاءل عاماً بعد عام؛ نعم إنها انتعشت وقتاً ما أيام الأسرة الساسانية (226 - 651 ب. م)، ولكن الفتح الإسلامي وغزو التتار قضيا عليها القضاء الأخير. ولا يوجد أثر للديانة الزردشتية في هذه الأيام إلا بين عشائر قليلة العدد في ولاية فارس، وبين البارسيين من الهنود الذين يبلغ عددهم تسعين ألفاً.

ولا تزال هذه الجماعة حفيظة على كتبها المقدسة، تخلص لها وتدرسها، وتعبد النار والتراب، والأرض والماء، وتقدسها، وتعرض موتاها في "أبراج الصمت" للطيور الجارحة كي لا تدنس العناصر المقدسة بدفنها في الأرض أو حرقها في الهواء. وهم قوم ذوو أخلاق سامية وآداب رفيعة، وهم شاهد حي على فضل الدين الزردشتي وما له من أثر عظيم في تهذيب بني الإنسان وتمدينهم.

ص: 437

الفصل السابع

‌آداب الفرس وأخلاقهم

العنف والشرف - قانون النظافة - خطايا

الجسد - العذارى والأعزب - الزواج - النساء-

الأطفال - آراء الفرس في التربية والتعليم

إن الذي يدهشنا بحق هو ما بقي لدى الميديين والفرس من وحشية رغم دينهم هذا. انظر إلى ما كتبه دارا الأول أعظم ملوكهم في نقش بهستون: "وقبض على فرافارتش وجيء به إليَّ. فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وقطّع لسانه، وفقأت عينيه، وأبقيته في بلاطي مقيداً بالأغلال يراه كل الناس. ثم صلبته بعدئذ في إكباتانا

وكان أهورا- مزدا أكبر معين لي، فقد بطش جيشي برعاية أهورا- مزدا بالجيش الثائر، وقبضوا على سترنكخارا وجاءوا به إليَّ، فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وفقأت عينيه. وبقى مقيداً بالأغلال في بلاطي يراه الناس جميعاً، ثم صلبته" (95). وإن في حوادث الإعدام التي يقصها أفلوطرخس في سيرة أرت خشتر لصورة مروعة لما كانت عليه أخلاق ملوك الفرس في العهد الأخير. لقد كان الخونة يقضى عليهم بلا شفقة ولا رحمة: فكانوا يصلبون هم وزعمائهم، ثم يباع أتباعهم بيع الرقيق، وتنهب مدنهم، ويخصي غلمانهم، وتسبى بناتهم (96) ويبعن. ولكن ليس من العدالة في شيء أن يحكم الإنسان على شعب بأسره من سيرة ملوكه. ذلك أن الفضيلة لا ترويها الأخبار، وأفاضل الناس لا تاريخ لهم، شأنهم في هذا شأن الأمم الهنيئة السعيدة. بل إن الملوك أنفسهم كانوا يبدون في بعض المناسبات شيئاً من مكارم الأخلاق، وكانوا يشتهرون بين اليونان الغادرين بوفائهم. فإذا عاهدوا أوفوا بعهدهم، وكان من دواعي فخرهم

ص: 438

أنهم لا ينقضون كلمتهم (97). ومما يجب أن نذكره للفرس مقروناً بالثناء والتقدير، أن من العسير علينا أن نجد في تاريخهم فارسياً قد استؤجر ليحارب الفرس، على حين أن أي إنسان كان يسعه أن يستأجر اليونان ليحارب اليونان

(1)

.

وخليق بنا أن نذكر أن خلافهم لم تبلغ من القسوة ذلك الحد الذي يتبادر إلى أذهاننا من قراءة تاريخهم الحافل بالدم والحديد. لقد كان الفرس يتحلون بالصراحة والكرم وحفظ الود وسخاء اليد (99). يراعون آداب المجالس ويحرصون عليها حرصاً لا يكاد يقل عن حرص الصينيين. وكانوا إذا تقابل منهم شخصان متساويان في المرتبة تعانقا وقبل كل منهما الآخر في شفتيه؛ فإذا قابل الواحد منهم من هو أعلى منه منزلة انحنى له انحناءة كبيرة تشعر بالخضوع والاحترام، وإذا التقى بمن هو أقل منه قدّم له خده ليقبله، فإذا قابل أحد السوقة اكتفى بإحناء رأسه (100). وكانوا يستنكرون تناول شيء من الطعام أو الشراب على قارعة الطريق، كما يسوؤهم أن يبصق الإنسان أو يتمخط أمام الناس (101). وقد ظلوا أيام خشيرشا مقتصدين في مأكلهم ومشربهم، لا يطعمون إلا وجبة واحدة في اليوم، ولا يشربون إلا الماء القراح (102). وكانوا يعدون النظافة أكبر النعم لا تفضلها إلا الحياة نفسها، وأن الأعمال الطيبة إذا صدرت عن أيد قذرة كانت لا قيمة لها، "لأن الإنسان إذا لم يقض على الفساد (ولعله يريد "الجراثيم") فإن الملائكة لا تسكن جسمه"(103). وكانوا يفرضون أشد العقوبات على من يتسببون في نشر الأمراض المعدية. وكان الأهلون يجتمعون في الأعياد وكلهم يرتدون الملابس البيضاء (104). وكانت الشريعة الأبستاقية كالشريعتين البرهمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة. وفي كتاب الزردشتيين المقدس فقرات طويلة مملة خصت كلها بشرح القواعد

(1)

لما حارب الفرس الإسكندر عند نهر غرانيقوس كانت فرق المشاة الفارسية كلها تقريباً من مرتزقة اليونان. وفي موقعة أسوس كان قلب الجيش الفارسي مؤلفاً من ثلاثين ألفاً من مرتزقة اليونان.

ص: 439

الواجب اتباعها لطهارة الجسد والروح (105). وقد جاء فيها أن قلامة الأظفار، وقصاصات الشعر، وإخراج النفس من الفم كلها أقذار يجب على الفارسي العاقل أن يتجنبها إلا إذا كانت قد طهرت من قبل (106).

كذلك كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية، فكان الاستمناء باليد يعاقب عليه بالجلد، وكان عقاب من يرتكب جريمة الزنا واللواط والسحاق من الرجال والنساء "أن يقتلوا لأنهم أحق بالقتل من الأفاعي الزاحفة والذئاب العاوية" (107). لكن في مقدورنا أن نستدل من الفقرة الآتية التي أوردها هيرودوت على وجود الخلف المعتاد بين القول والعمل:"يرى الفرس أن خطف النساء قوة واقتداراً عمل لا يأتيه إلا الأشرار، ولكن اشتغال الإنسان بالثأر لهن إذا اختطفن من أعمال الحمقى؛ أما إهمالهن إذا اختطفن فمن أعمال الحكماء؛ فغير خاف أنهن لو لم يكن راغبات لما اختطفن"(108). ويقول في موضع آخر إن الفرس "قد أخذوا عن اليونان اشتهاء الغلمان"(109)، وإنا وإن كنا لا نستطيع أن نثق بكل ما يقوله هذا الراوية العظيم لنستشف ما يؤيد قوله هذا في العبارات القاسية التي تشنع بها الأبستاق على اللواط. فهي تقول في مواضع كثيرة إن هذا الذنب لا يغتفر وإنه " لا شيء يمحوه قط"(110).

ولم يكن القانون يشجع البنات على أن يظللن عذارى ولا العزاب على أن يبقوا بلا زواج، ولكنه كان يبيح التسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء. وفي ذلك تقول الأبستاق:"إن الرجل الذي له زوجة يفضل كثيراً من لا زوجة له، والرجل الذي يعول أسرة يفضل كثيراً من لا أسرة له، والذي له أبناء يفضل من لا أبناء له، والرجل ذو الثراء أفضل كثيراً ممن لا ثروة له"(111)، وتلك كلها معايير للمركز الاجتماعي شائعة بين مختلف الأمم، وكانت الأسرة لديهم أقدس النظم الاجتماعية.

ص: 440

وكان من الأسئلة التي ألقاها زردشت على أهورا- مزدا: "أي إلهي خالق العالم المادي- إلهي القدوس! ما هو المكان الثاني الذي تحس الأرض فيه أنها أسعد ما تكون؟ ". ويجيبه أهورا- مزدا عن سؤاله هذا بقوله: "إنه المكان الذي يشيد فيه أحد المؤمنين بيتا في داخله كاهن، وفيه ماشية، وفيه زوجة، وفيه أطفال، وفيه أنعام طيبة، والذي تكثر فيه الماشية بعدئذ من النتاج، وتكثر فيه الزوجة من الأبناء، وينمو فيه الطفل، وتشتعل فيه النار، وتزداد فيه جميع نعم الحياة"(112).

وكان الحيوان- خاصة الكلب- جزءاً أساسياً من الأسرة، كما كان شأنه في الوصية الأخيرة التي أنزلت على موسى، وكان واجبا مفروضاً على أقرب الأسر إلى أنثى الحيوان الحامل الضالة أن تعنى بها (113)، وفرضت أشد العقوبات على من يطعمون الكلاب طعاماً فاسداً، أو طعاماً شديد الحرارة؛ وكان عقاب من "يضرب كلبة علتها ثلاث كلاب "أن يجلد أربعمائة وألف جلدة (114). وكانوا يعظمون الثور لما له من قدرة عظيمة على الإخصاب. كما كانوا يصلون للبقرة ويقربون لها القربان (115).

وكان الآباء ينظمون شئون الزواج لمن يبلغ الحُلُم من أبنائهم. وكان مجال الاختيار لديهم واسعاً، فقد قيل لنا إن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها (116). وكان التسريّ من المتع التي اختص بها الأغنياء، ولم يكن الأشراف يخرجون للحرب إلا ومعه سراريهم (117). وكان عدد السراري في قصر الملك في العصور المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية يتراوح بين 360 ر 329، فقد أصبحت العادة في تلك الأيام ألا يضاجع الملك امرأة مرتين إلا إذا كانت رائعة الجمال (118).

وكان للمرأة في بلاد الفرس مقام سام في أيام زردشت كما هي عادة القدماء؛

ص: 441

فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه، وكانت تمتلك العقار وتصرف شئونه، وكان في وسعها أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه. ثم انحطت منزلتها بعد دارا، وخاصة بين الأغنياء، فأما المرأة الفقيرة فقد احتفظت بحريته في التنقل لاضطرارها إلى العمل، وأما غير الفقيرات فقد كانت العزلة المفروضة عليهن في أيام حيضهن على الدوام تمتد حتى تشمل جميع حياتهن الاجتماعية، وكان ذلك أساس نظام البردة عند المسلمين. ولم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤن على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحرم على المتزوجات منهن أن يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوانهن. ولم تذكر النساء قط أو يرسمن في النقوش أو التماثيل العامة في بلاد الفرس القديمة. أما السراري فكن أكثر من غيرهن حرية، إذ كان للنساء في جميع الأوقات سلطان قوى في بلاط الملوك حتى في العهود الأخيرة، وكن ينافسن الخصيان في تدبير المؤامرات، والملوك في تمحيص وسائل التعذيب

(1)

.

وكان الأبناء كما كان الزواج من الشروط الأساسية للإجلال والإكبار. فالذكور منهم ذوو فائدة اقتصادية لآبائهم وحربية لملوكهم؛ أما البنات فلم يكن يرغب فيهن، لأنهن كن ينشأن لغير بيوتهن، وليستفيد منهن غير آبائهن. ومن أقوال الفرس في هذا المعنى:"إن الرجال لا يدعون الله أن يرزقهم بنات، والملائكة لا تحسبهن من النعم التي أنعم بها على بني الإنسان"(120).

(1)

كانت استاثيرا زوجة أرت خشتر الثاني مثلاً صالحاً للأزواج، ولكن أمة باريستا قتلتها مسمومة غيرة منها وحسداً، وشجعت الملك على أن يتزوج ابنته أتوسا، وحدث أن أخذت تلعب النرد معه وتراهنه على حياة أحد خصيانه، فلما كسبت الرهان أمرت بسلخه حياً. وأمر أرت خشتر مرة بإعدام جندي كاري، فما كان من باريستا إلا أن هذبت أمره. فاستبدلت بهذا الإعدام شده على عذراء عشرة أيام كاملة وسمل عينيه، وصب مصهور الرصاص في أذنيه حتى يموت".

ص: 442

وكان الملك في كل عام يرسل الهدايا إلى الآباء الكثيري الأبناء، كأن هذه الهدايا ثمناً لدمائهم يدفع مقدماً (121).

وكان الحمل سفاحاً سواء ممن لم يتزوجن من البنات أو ممن تزوجن منهن يغتفر أحياناً إذا لم تجهض الحامل، ذلك أن الإجهاض كان في تقديرهم أشد جرماً من سائر الجرائم، وكان عقابه الإعدام (122).

وقد ورد في أحد الشروح القديمة المسماة بالبندهش وصف لجملة وسائل لمنع الحمل، ولكنها تحذر الناس من الالتجاء إليها.

ومما جاء فيها: "وفيما يختص بالتناسل قيل في الكتاب المنزل إن المرأة إذا خرجت من الحيض تظل عشر ليال وعشرة أيام عرضة للحمل إذا اقترب منها الرجال"(123).

وكان الوليد يبقى في أحضان أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة، وفي هذه السنة يدخل المدرسة. وكان التعليم يقصر في الغالب على أبناء الأغنياء، ويتولاه الكهنة عادة. فكان التلاميذ يجتمعون في الهيكل أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة ألا تقوم مدرسة بالقرب من السوق حتى لا يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش سبباً في إفساد الصغار (124). وكانت الكتب الدراسية هي الأبستاق وشروحها، وكانت مواد الدراسة تشمل الدين، والطب أو القانون، أما طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب، وتكرار الفقرات الطويلة غيباً (125). أما أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يفسدون بتلقي ذلك النوع من التعليم، بل كان تعليمهم مقصوراً على ثلاثة أشياء- ركوب الخيل، والرمي بالقوس، وقول الحق (126). وكان التعليم العالي عند أبناء الأثرياء يمتد إلى السنة العشرين أو الرابعة والعشرين، وكان من يعد إعداداً خاصا لتولي المناصب العامة أو حكم الولايات؛ وكانوا كلهم بلا استثناء يدربون على القتال. وكانت حياة الطلاب في هذه المدارس العليا

ص: 443

حياة شاقة. فكان التلاميذ يستيقظون مبكرين، ويدربون على الجري مسافات طويلة، وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها، والسباحة، وصيد الحيوان، ومطاردة اللصوص، وفلاحة الأرض، وغرس الأشجار، والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللافح أو البرد القارس؛ وكانوا يدربون على تحمل جميع تقلبات الجو القاسية، وأن يعيشوا على الطعام الخشن البسيط، وأن يعبروا الأنهار دون أن تبتل ملابسهم أو دروعهم (127).

لقد كان هذا في الحق تعليماً ينشرح له صدر فردرك نتشة في اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان الأقدمين وما فيها من تنوع وبريق.

ص: 444

الفصل الثامن

‌العلوم والفنون

الطب - الفنون الصغرى - قبرا قورش ودارا -

قصور برسبوليس - نقش الرماة - قيمة الفن الفارسي

يلوح أن الفرس قد تعلموا ألا يعلموا أبناءهم أي فن من الفنون عدا فن الحياة. فأما الأدب فقد كان في رأيهم ترفاً قل أن يحتاجوا إليه، وأما العلوم فقد كانت سلعاً يستطيعون أن يستوردوها من بابل. نعم إنهم كانوا يستسيغون بعض الاستساغة الشعر والروايات الخيالية، ولكنهم تركوا هذين الفنين للمستأجرين وذوي المنزلة الدنيا منهم، وآثروا متعة الحديث الفكه على لذة السكون والوحدة في البحث والقراءة.

وكان الشعر عندهم ُيغنى أكثر مما يقرأ، فلما مات المغنون مات الشعر معهم. وكان الطب في بادئ الأمر من أعمال الكهنة، وكانوا يمارسونه على أساس أن الشيطان خلق 99999 مرضاً يجب أن تعالج بمزيج من السحر ومراعاة قواعد الصحة العامة. وكانوا يعتمدون في علاج المرضى على الرقى أكثر من اعتمادهم على العقاقير، وحجتهم في هذا أن الرقى، إن لم تشف من المرض، لا تقتل المريض، وهو ما لا يستطاع قوله عن العقاقير (128). إلا أن الطب مع ذلك قد نشأ بين غير رجال الدين حينما زادت ثروة الفرس زيادة مطردة، حتى إذا كان عهد أرت خشتر الثاني تكونت في البلاد نقابة للأطباء والجراحين وحدد القانون أجورهم- كما حددها قانون حمورابي- وفقاً لمنزلة المريض الاجتماعية (129).

وقد نص القانون على أن يعالج الكهنة من غير أجر، وكان يطلب إلى الطبيب الناشئ عند الفرس أن يبدأ حياته الطبية بعلاج الكفرة والأجانب،

ص: 445

كما نفعل نحن هذه الأيام، إذ يقضي الطبيب المقيم سنة أو سنتين في المران على أجسام المهاجرين والفقراء. بذلك قضى ربُّ النور نفسه إذ قال:

"يا خالق الكون يا قدوس، إذا شاء عبد من عباد الله أن يمارس فن العلاج، فأي الناس يجب أن يجرب فيهم حذقه؟ أيجربه في عباد أهورا- مزدا أم في عبدة الشياطين؟. فأجاب أهورا- مزدا بقوله: يجب أن يجرب نفسه في عبدة الشياطين لا في عباد الله؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانياً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثاً من عبدة الشياطين فمات، كان غير صالح أبد الدهر؛ ويجب أن يمتنع عن علاج أي عبد من عباد الله

وإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين وشفى؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانيا من عبدة الشياطين وشفى؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثا من عبدة الشياطين وشفى، كان صالحا أبد الدهر؛ وكان له إذا أراد أن يعالج عباد الله، ويشفيهم من أمراضهم بالمبضع" (130).

ولما كان الفرس قد وهبوا أنفسهم لإقامة صرح الإمبراطورية، فإن وقتهم لم يتسع لغير الحرب والقتال، ولذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية، شأنهم في هذا شأن الرومان سواء بسواء. نعم إنهم كانوا يتذوقون جمال الأشياء، ولكنهم كانوا يكلون إلى الفنانين الأجانب أو إلى من في بلادهم من الفنانين أبناء الأجانب صنع هذه الأشياء، ويحصلون من الولايات التابعة لهم على المال الذي يؤدون منه أجور أولئك الفنانين. وكانت لهم بيوت جميلة وحدائق غنّاء، تستحيل في بعض الأحيان بساتين للصيد ومسارح للحيوان؛ وكان لهم أثاث قّيم غالي الثمن: من نضد مصفحة برقائق الفضة والذهب أو مطعمة بها، وسرر فرشت عليها أغطية جاءوا بها من غير بلادهم، وطنافس لينة جمعت كل ألوان الأرض والسماء يفرشون بها أرض حجراتهم (131). وكانوا يشربون في كؤوس من الذهب،

ص: 446

ويزينون نضدهم ورفوفهم بمزهريات من صنع الأجانب

(1)

. وكانوا مولعين بالعزف والغناء وبأنغام الناي والقيثار والنقر على الطبول والدفوف.

وكانت الجواهر كثيرة لديهم من تيجان وأقراط، إلى خلاخيل وأحذية مذهبة. وحتى الرجال أنفسهم كانوا يتباهون بحليهم يزينون بها أعناقهم وآذانهم وأذرعهم. وكانوا يستوردون اللؤلؤ، والياقوت، والزمرد، واللازورد من خارج بلادهم؛ أما الفيروز فكانوا يستخرجونه من المناجم الفارسية، وكان هو المادة التي تصنع منها الطبقة الموسرة أختامها. وكانت لهم حليّ ذات أشكال رهيبة غريبة تمثل في ظنهم ملامح الشياطين المعروفة لديهم. وكان ملكهم يجلس على عرش من ذهب تغطيه أكنان ذهبية مرفوعة على قوائم من الذهب (133).

ولم يكن للفرس طراز فني خاص إلا في العمارة. فقد شادوا في أيام قورش، ودارا الأول، وخشيارشاى الأول مقابر وقصوراً، كشف علماء الآثار القليل منها، وقد يستطيع المعول والمجرف- وهما المؤرخان اللذان لا ينقطعان عن البحث والتنقيب- أن يكشفا لنا في المستقبل القريب ما يعلي من تقديرنا للفن الفارسي

(2)

. ولقد أبقى لنا الإسكندر بفضل ما أثر عنه من كريم الشيم قبر قورش في بازار جادة، فأصبح طريق القوافل في هذه الأيام يمر بالطوار العاري الذي كان يقوم عليه من قبل قصر قورش وقصر ابنه المخبول. ولم يبق الآن من هذين القصرين غير عمد قليلة محطمة في مواضع متفرقة، أو كتف باب أو نافذة عليها نقوش تمثل ملامح قورش. وعلى مقربة من هذا الطوار في السهل المجاور له يشاهد القبر وقد

(1)

وقد عرضت إحدى هذه المزهريات في المعرض الدولي للفن الفارسي الذي أقيم في لندن عام 1931 م. وكان عليها نقش يثبت أنها من مزهريات أرت خشتر الثاني.

(2)

تعمل الآن بعثة من بعثات معهد الشرق التابع لجامعة تشكاجو في التنقيب في أنقاض برسبوليس بإشراف الدكتور جيمس. هـ. برستد. ولقد كشفت هذه البعثة في عام 1931 م عن طائفة من التماثيل لا يقل عددها عن كل ما كان معروفاً قبلها من التماثيل الفارسية (كتب هذا قبل وفاة الدكتور برستد). (المترجم)

ص: 447

عدا عليه الزمان في خلال القرون الأربعة والعشرين، التي مرت به؛ فهو الآن ضريح حجري بسيط، يوناني في شكله وتحرج صانعه، يرتفع إلى ما يقرب من خمس وثلاثين قدماً فوق قاعدة مدرجة. وما من شك في أن هذا الأثر كان أعلى مما هو الآن وأنه كانت له قاعدة تتناسب مع ضخامته. أما الآن فإنه يبدو عارياً عطلاً من الزينة مهجوراً، توحي صورته بالجمال الذي لا يكاد يبقى منه أثر فيه؛ وكل ما يبعثه في النفس هو الأسى والحزن، لأن الجماد أبقى على الزمان من سواه. وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس يقوم قبر دارا الأول منحوتاً في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح هندوسي، وقد نقش مدخله ليمثل لمن يراه واجهة قصر لا قبر، وأقيمت عند هذا المدخل أربعة عمد دقيقة حول باب غير شامخ. ومن فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلاد الخاضعة للفرس تحمل منصة رسم عليها الملك كأنه يعبد أهورا- مزدا والقمر. والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها تسري فيهما روح البساطة والرقة الأرستقراطية.

والمباني الفارسية الأخرى التي نجت من الحروب والغارات والسرقات وفعل الأجواء مدى ألفين من الأعوام، هي خرائب القصور. فقد شاد ملوك الفرس الأولون في إكباتانا مسكناً لهم من خشب الأرز والسرو المصفح بالمعادن، كان لا يزال قائماً في أيام يوليبويس (حوالي 150 ق. م)، أما الآن فلم يبق له اثر. أما أروع الآثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الأرض الكتوم يوماً بعد يوم فهي الدرج الحجرية والأرصفة والأعمدة التي كشفت في برسبوليس. ذلك أن دارا ومن جاء بعده من ملوك الفرس قد أقاموا لهم فيها قصوراً يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي تنسى فيه أسمائهم. ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي شيدت عليها القصور.

ص: 448

وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت توصل إلى الزجورات، أي أبراج أرض الجزيرة، وتلتف حولها، ولكنها كان لها مع ذلك خصائص لا يشاركها فيها غيرها من المباني. ذلك أنها كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من ركاب الخيل أن يصعدوها جنبا إلى جنب

(1)

. وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخلا بديعاً إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الأرض المجاورة له علواً يتراوح بين عشرين وخمسين قدماً، والذي يبلغ طوله خمسمائة وألف قدم، وعرضه ألفاً، والذي شيدت عليه القصور الملكية

(2)

. وكان عند ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير نصبت على جانبيه تماثيل ثيران مجنحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلفه الفن الآشوري. وكانت في الجهة اليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر الفارسية على الإطلاق، ونعنى بها الجهل- منار أو الردهة العظمى التي شادها خشيارشاى الأول، والتي كانت هي وغرفات الانتظار المتصلة بها تشغل رقعة من الأرض تربى مساحتها على مائة ألف قدم مربع، فهي أوسع- إذا كان للسعة قيمة- من معبد الكرنك الفسيح ومن أية كنيسة أوربية عدا كنيسة ميلان (138).

وكانت هناك مجموعة أخرى من الدرج تؤدي إلى هذه الردهة الكبرى، وتحف بها من كلا الجانبين جدر لزينتها قليلة الارتفاع، وعلى جوانبها نقوش بارزة قليلاً هي أجمل ما كشف من النقوش الفارسية القليلة البروز إلى هذا اليوم (139). ولا يزال ثلاثة عشر عموداً من الاثنين والسبعين التي كانت قائمة في قصر خشيارشاى باقية إلى اليوم بين خربات القصر، كأنها جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة. وتعد هذه الأعمدة المبتورة من الأعمال البشرية القريبة من الكمال، وهي أرفع من

(1)

وصفها فرجسون بأنها "أروع مثل للدرج وجدت في أية بقعة من بقاع العالم".

(2)

وكانت تجرى تحت هذا الطور سلسلة معقدة من القنوات لتصريف الماء يبلغ قطر الواحدة منها ستة أقدام، تحت الكثير منها الصخر الأصم.

ص: 449

مثيلاتها في مصر القديمة أو اليونان، وتعلو في الجو علواً لا تصل إليه معظم الأعمدة الأخرى، إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قدماً، وقد خطت في جذوعها ستة وأربعون محزاً، وتشبه قواعدها أجراساً تغطيها أوراق أشجار مقلوبة الوضع، ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الأزهار تكاد تشبه اللفائف "الأيونية"، يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقرنين يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف. ولسنا نشك في أن هذه العوارض كانت من الخشب، لأن أمثال هذه العمد المتباعدة السريعة العطب لا تقوى على تحمل الدعامات الحجرية الثقيلة. وكانت أكتاف الأبواب وكفافات النوافذ من حجارة سود مزخرفة براقة كالأبنوس. أما الجدران فكانت من الآجر يغطيها القرميد المصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهاراً. وكانت العمد والفصوص والدرج من حجر الجير الجميل أو الرخام الأزرق الصلد. وقام من خلف الجهل- منار، أي من شرقيها "بهو العمد المائة" ولم يبق من هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام. ولعل هذين القصرين كانا أجمل ما شاده الإنسان في العالم القديم والحديث على السواء.

وأقام أرت خشتر الأول والثاني في مدينة السوس قصرين لم يبق منهما إلا أساسهما. ذلك أنهما شُيّدا من الآجر المكسو بأجمل ما عرف من القرميد ذي الطلاء الزجاجي. وفي السوس عثر المنقبون على "نقش الرماة" وهم في أكبر الظن "المخلدون" الأمناء حراس الملك. ويبدو للناظر إلى هؤلاء الرماة ذوي الطلعة المهيبة أنهم قد ازينوا لحضور حفلة في القصر وليسوا خارجين لقتال أو حرب. فجلابيبهم تخطف الأبصار بألوانها الزاهية، وشعورهم ولحاهم مجعدة تجعيداً عجيباً، وهم يمسكون بأيديهم في قوة وخيلاء رماحهم رمز مناصبهم الرسمية. ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم فنين مستقلين، بل كانا تابعين لفن العمارة، كذلك كانت الكثرة الغالبة من التماثيل من صنع

ص: 451

فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلاد اليونان (140).

وفي وسع الإنسان أن يقول عن الفن الفارسي ما يستطيع أن يقوله عن الفنون كلها تقريباً، وهو أن عناصره كلها مستعارة من خارج البلاد. فقبر قورش استعير شكله الخارجي من ليديا، وعمده الحجرية الرفيعة منقولة عن مثيلاتها من العمد الآشورية مع شيء من التحسين، وبهو الأعمدة الضخمة والنقوش القليلة البروز تشهد بأنها قد أوحت بها أبهاء مصر ونقوشها، وتيجان الأعمدة التي على صورة الحيوان عدوى تسربت إليهم من نينوى وبابل. أما الذي جعل فن العمارة الفارسي فناً قائماً بذاته مختلفاً عن غيره من فنون العمارة فهو اجتماع هذه العناصر كلها والمواءمة بينها، وهو الذوق الأرستقراطي الذي رقق العمد المصرية المهولة وكتل أرض الجزيرة الثقيلة فأحالها بريقاً ورشاقة، وتناسباً وتناغماً، يطالعنا في برسبوليس.

وكان اليونان يستمعون إلى وصف هذه الأبهاء وقصورهم وهم أشد ما يكونون دهشة منها وإعجابا بها، لأن تجارهم المجدين العاملين وساساتهم المطلعين كانوا يحدثونهم عن فنون الفرس وترفهم بما يثير عواطفهم ويحفزهم على منافستهم. وسرعان ما استبدلوا برؤوس العمد المزدوجة وبالحيوانات ذوات الأعناق الجامدة المتصلبة القائمة فوق العمد الرشيقة، نقول سرعان ما استبدلوا بها الفصوص الملساء التي نراها في تيجان العمد الأيونية؛ ثم قصروا سوقها، وزادوها قوة لكي تتحمل أي عارضة ترتكز عليها سواء أكانت من الخشب أو الحجر. والحق أنه لم يكن بين فني العمارة في برسبوليس وأثينا إلا خطوة واحدة، فقد كان عالم الشرق الأدنى على بكرة أبيه، وقد أوشك أن يستغرق في سبات عميق كأنه الموت إلا أنه موت لا يدوم إلا ألف عام، كان عالم الشرق يتأهب ليستودع اليونان تراثه القديم.

ص: 453

الفصل التاسع

‌الانحطاط

كيف تموت الأمم - خشيارشاي - فقرة عن

التقتيل - أرت خشتر الثاني - قورش الأصغر -

دار الصغير - أسباب الانحطاط السياسية والحربية

والخلقية - الإسكندر - فتح فارس والزحف على الهند

لم تكن الإمبراطورية التي أقامها دارا تعمر إلا قرناً من الزمان. ذلك أن قواها الطبيعية المادية والأدبية قد تصدعت على أثر الهزائم التي منيت بها في مراثون، وسلاميس، وبلاتية. وأهمل الأباطرة شئون الحرب، وانغمسوا في الشهوات، وتردت الأمة في مهاوي الجمود والفساد. ويكاد اضمحلال فارس أن يكون في جملته وتفاصيله صورة معجلة من سقوط روما؛ فقد اقترن فيه عنف الأباطرة وإهمالهم بفساد أخلاق الشعب وانحلالهم، وحل بالفرس ما حل بالميديين قبلهم، إذ استحال ما كانوا يتصفون به من تقشف وزهد منذ أجيال قليلة إلى استمتاع طليق، وأصبح أكبر ما تهتم به الطبقات الأرستقراطية بملء بطونها بلذيذ المأكل والمشرب؛ وشرع هؤلاء الرجال الذين فرضوا على أنفسهم من قبل ألا يتناولوا إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم يفسرون معنى الوجبة الواحدة بأنها وجبة تمتد من الظهر إلى غسق الليل، فامتلأت مخازن مؤنهم بكل ما لذ وطاب، وكثيراً ما كانوا يقدمون الذبائح كاملة لضيوفهم، وملئوا بطونهم باللحوم السمينة النادرة، وتفننوا في ابتكار أنواع المُشَهّيات والحلوى (140 أ). وغُصّت بيوت الأثرياء بالخدم الفاسدين المفسدين، وأصبح السُّكْر الرذيلة الشائعة بين كل الطبقات (140 ب). وملاك القول أن قورش ودارا قد خلقا بلاد الفرس وأن خشيارشاي ورثها عنهما ثم جاء من خَلَفَهُم من الملوك فدمروها تدميرا.

ص: 454

وكان خشيارشاي الأول ملكاً اجتمعت فيه كل صفات الملوك- الجسمية -؛ كان طويل القامة، قوي الجسم، يقر له الملوك بأنه أجمل إنسان في الإمبراطورية كلها (141). ولكن الرجل الوسيم غير المغتر لم يخلق بعد في هذا العالم، كما لم يخلق فيه بعد الرجل المغتر الذي لم تَقُدْهُ امرأة من أنفه. لقد كان خشيارشاي َنهِباً لسراريه، وما كان أكثرهن، وضرب أسوأ الأمثال لشعبه في الفسق والفجور. ولقد كانت هزيمته في سلاميس هزيمة طبيعية متوقعة؛ ذلك أن كل ما كان له من أسباب العظمة هو حب التعاظم لا قدرته على مغالبة الخطوب، والتحلي بصفات الملوك الحقة إذا دعا الداعي وتأزمت الأمور. وبعد أن قضى هذا الملك عشرين عاماً في غمرة الدسائس الشهوانية، والتراخي والإهمال في شئون الحكم، اغتاله أرتيان

(1)

أحد رجال حاشيته، ووري في قبره باحتفال ملكي مهيب واغتباط شامل.

وليس في التاريخ كله ما يماثل المجازر المروعة والدم المراق اللذين تطالعنا بهما سجلات الفرس الملكية إلا سجلات رومة بعد تيبيريوس. لقد اغتال أرت خشتر الأول مغتال خشيارشاي، وبعد أن حكم أرت خشتر حكماً طويلاً خلفه خشيارشاي الثاني، ثم اغتاله بعد بضعة أسابيع من حكمه أخ له غير شقيق يدعى سجديانوس، ثم قتله دارا الثاني بعد ستة أشهر كما أمر بقتل تريتتشميس فأخمد بقتله فتنة أثار عجاجها في البلاد، ثم أمر بتقطيع زوجته إربا ودفن أمه وأخوته وأخواته أحياء. وخلف دارا الثاني على العرش ابنه أرت خشتر الثاني، واضطر هذا الملك أن يقاتل في واقعة كونسكا أخاه قورش الأصغر قتالاً مريراً، لأن هذا الشاب حاول أن يغتصب الملك. وحكم أرت خشتر حكماً طويلاً، وقتل ابنه دارا لأنه ائتمر به، ثم مات بائساً حزيناً إذ وجد أن ابناً آخر له يدعى أوكوس يأتمر به ليقتله. وحكم أوكوس عشرين سنة ثم مات مسموماً على يد

(1)

يكتب أحياناً أردوان ويسميه اليونان أرتيانوس. (المترجم)

ص: 455

قائده بجواس، وأجلس هذا القائد السفاح "صانع الملوك" ابناً لأوكوس يسمى أرسيس على العرش، واغتال أخاً لأرسيس ليثبت بذلك مركز صنيعته، ثم اغتال أرسيس وابناه الصغار، ورفع على العرش كودومانوس، وهو صديق له مخنث مطواع. وحكم كودومانوس ثماني سنين، وتسمى باسم دارا الثالث ثم مات وهو يحارب الإسكندر في واقعة إربل حين كانت بلاده تلفظ آخر أنفاسها. ولسنا نعرف في دولة من الدول حتى الدول الديمقراطية في هذه الأيام قائداً أقل كفاية وجدارة بقيادة الجيوش من هذا القائد.

أن الإمبراطوريات بطبيعة تكوينها سريعة الانحلال، وإن الذين يرثونها تعوزهم جهود الذين ينشئونها، وذلك في الوقت الذي تهب فيه الشعوب الخاضعة لسلطانها وتستجمع قواها لتناضل في سبيل ما فقدته من حريتها. كذلك ليس من طبيعة الأشياء أن تبقي الأمم التي تختلف لغاتها وأديانها وأخلاقها وتقاليدها متحدة متماسكة زمناً طويلاً. ذلك أن هذه الوحدة لا تقوم على أساس متماسك يحفظها من التصدع، ولا بد من الالتجاء إلى القوة مرة بعد مرة للاحتفاظ بهذه الرابطة المصطنعة. ولم يعمل الفرس في عهد إمبراطوريتهم التي دامت مائتي عام شيئاَ يخفف ما بين الشعوب الخاضعة لحكمهم من تباين، أو يضعف من أثر القوى الطاردة التي تعمل على تفكيك دولتهم، بل قنعت هذه الإمبراطورية بأن تحكم خليطاً من الأمم، ولم تفكر في يوم من الأيام في أن تنشئ منها دولة حقيقية. لذلك أخذ الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية يزداد صعوبة عاماً بعد عام، وكلما تراخى عزم الأباطرة قويت أطماع الولاة وزادوا جرأة، وأخذوا يرهبون أو يبتاعون بالمال قواد الجيش وأمناء الإمبراطور الذين أرسلوا إلى الولايات ليشتركوا مع الولاة في الحكم ويحدوا من سلطانهم. ثم أخذ الولاة يقودون مواردهم كما يحلو لهم، ويأتمرون بالملك المرة بعد المرة. وأوهنت الثورات والحروب المتكررة حيوية فارس الصغيرة، ذلك أن الحروب قد قضت على زهرة شبابها القوى حتى لم يبق من

ص: 456

أبنائها إلا كل حذر محتاط. فلما أن جند هؤلاء لمواجهة الإسكندر تبين أنهم لا يكاد يوجد فيهم إلا كل منخوب القلب جبان. ولم يكن شئ من التحسين قد أدخل على تدريب الجنود أو على عتادهم الحربي، ولم يكن قوادهم على علم بما يستجد من فنون القتال. فلما دارت رحى الحرب ارتكب هؤلاء القواد أشنع الأغلاط، وكانت عساكرهم المختلة النظام، والتي كان معظمها مسلحاً بالسهام، أهدافاً صالحة لرماح المقدونيين الطويلة وفيالقهم المتراصة (142). لقد كان الإسكندر يلهو ويعبث، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا بعد أن يتم له النصر، أما قواد الفرس فقد جاءوا معهم بسراريهم، ولم يكن منهم من هو راغب في القتال، ولم يكن في الجيش الفارسي جنود جديرون بهذا الاسم إلا مرتزقة اليونان.

ولقد تبين منذ اليوم الذي فر فيه خشيارشاي بعد هزيمته في سلاميس أن اليونان سيتحدون الدولة الفارسية في يوم من الأيام. ذلك أن فارس كانت تسيطر على أحد طرفي الطريق التجاري العظيم الذي يربط غرب آسية بالبحر الأبيض المتوسط، وأن بلاد اليونان تسيطر على طرفه الثاني، وكان ما ركب من طباع الناس من أقدم الأزمنة من طمع وحرص على الكسب مما يجعل هذه الحال مثارا للحرب بين الأمتين، ولم يكن اليونان ينتظرون لبدء الهجوم إلا أن يقوم بينهم سيد منهم يضم شتاتهم ويؤلف بين قلوبهم.

واجتاز الإسكندر مضيق الدردنيل دون أن يلقى مقاومة، ومعه قوة من رجاله، خالها الآسيويون ضئيلة، إذ كانت مؤلفة من ثلاثين ألفاً من المشاة وخمسة آلاف من الفرسان

(1)

. وحاول جيش فارسي مؤلف من أربعين ألف مقاتل أن يصد جيش الإسكندر عند نهر غرانيقوس، فخسر الفرس في الواقعة عشرين ألف مقاتل، ولم يخسر الجيش اليوناني إلا 115 رجلاً (144). واتجه

(1)

ويقول يوسفوس "أن كل من كان في آسية كان مقتنعاً بأن اليونان لن يجرءوا على الاشتباك في حرب مع الفرس لكثرتهم".

ص: 457

الإسكندر جنوباً وشرقاً، يخضع بعض المدائن، ويستسلم له البعض الآخر؛ ودام على ذلك عاماً كاملاً. وجمع دارا الثالث في هذه الأثناء خليطاً من 000 ر 600 رجل بين جندي ومغامر. وتطلَّب عبورهم نهر الفرات على جسر من القوارب خمسة أيام، كما تطلَّب حمل أموال الملك ستمائة بغل وثلاثمائة جمل (145). ولما تقابل الجيشان عند أسوس، لم يكن مع الإسكندر إلا ثلاثون ألفاً من رجاله، ولكن دارا كان يتصف بكل ما تتطلبه تصاريف الأقدار من غباء، فاختار للقتال ميداناً لا يتسع إلا لجزء صغير من جيشه أن يقاتل اليونان على حين يبقى سائره معطلاً. فلما انتهت المجزرة وجد أن اليونان قد خسروا نحو 450 رجلاً، وخسر الفرس 000 ر 110 رجل، قتل معظمهم وهم يفرون مذعورين. وطارد الإسكندر الجيوش المهزومة مطاردة طائشة عبر في أثنائها مجرى مائياً على جسر من جثث الفرس (146). وفر دارا من الميدان فرار الأنذال، وترك فيه أمه وزوجة من أزواجه وابنتين وعربة وخيمة مترفة. وعامل الإسكندر السيدات الفارسيات بشهامة أدهشت مؤرخين اليونان، واكتفى بأن تزوج إحدى ابنتي دارا. وإذا جاز لنا أن نصدق ما قاله كونتس كورتيس، فإن أم دارا أحبت الإسكندر حباً لم تر معه بدَّا من أن تقضي على حياتها بالامتناع عن الطعام حين علمت بوفاته (147).

وواصل الشاب الفاتح بعدئذ سيره في بطئ، يخيل إلى الإنسان أنه بطئ المستهتر، يريد أن يبسط سلطانه على غرب آسية بأجمعه. غير أن بطأه هذا لم يكن إلا ناشئاً من رغبته في ألا يتقدم قبل أن ينظم فتوحه، ويؤمن مواصلاته. وخرج سكان مدينة بابل على بكرة أبيهم، كما خرج أهل بيت المقدس من قبل، للترحيب به، وقدموا له مدينتهم وما فيها من ذهب؛ فتقبل منهم ما عرضوه في لطف وبشاشة، وسرّهم بأن أمر بإصلاح هياكلهم التي هدمها خشيارشاي من قبل دون تدبر وروية. وأرسل إليه دارا يعرض عليه الصلح، وكان مما عرضه أن يقدم للإسكندر

ص: 458

عشرة آلاف تالنت من الذهب

(1)

، إذا رد إليه أمه وزوجته وابنتيه، وأن يزوجه ابنته، وأن يعترف له بالسيادة على جميع بلاد آسية الواقعة في غرب الفرات، وأنه لا يطلب إليه في نظير هذا كله إلا أن يأمر الإسكندر بوقف القتال وأن يتخذه صديقاً له. وقال بارمنيو القائد الثاني لجيوش اليونان أنه لو كان الإسكندر لقبل هذه العروض الطيبة مسروراً بشرفه من شر هزيمة قد تكون ساحقة. فما كان جواب الإسكندر إلا أنه لو كان هو برمنيو لقبل هذه العروض، أما وهو الإسكندر فقد رد على دارا بأن عروضه لا معنى لها، لأنه (أي الإسكندر) يمتلك بالفعل ما يعرضه عليه من بلاد آسية، ولأن في وسعه أن يتزوج ابنة الإمبراطور متى شاء. ووجد دارا أن لا أمل له في عقد الصلح مع هذا المنطق المستهتر، فوجّه همه على كره منه لجمع جيش آخر أكبر من جيشه الأول.

وكان الإسكندر في أثناء ذلك قد استولى على صور، وضم مصر إلى أملاكه، ثم اخترق إمبراطوريته العظيمة متجهاً نحو حواضرها النائية. وبعد مسيرة عشرين يوماً بعد بابل وصل جيشه إلى مدينة السوس، واستولى عليها دون أن يلقى مقاومة، ثم تقدم إلى برسبوليس بسرعة لم تمكن حراس الخزائن الملكية من إخفاء ما فيها من أموال. وفيها أتى الإسكندر عملاً يعد وصمة عار في حياته الحافلة بجلائل الأعمال، وأتاه رغم نصيحة برمنيو ليكسب بذلك- كما يقول مؤرخوه- رضاء تييس إحدى سراريه

(2)

. ذلك أنه أحرق قصور برسبوليس عن آخرها، وأباح لجنوده نهب المدينة. فلما أن رفع روح جنوده المعنوية بما أباح لهم من السلب، وبما أغدقه عليهم من العطايا، اتجه نحو الشمال ليلقى دارا لآخر مرة.

وكان دارا قد جمع من الولايات الفارسية- وخاصة من ولاياته الشرقية-

(1)

تقدر قيمتها على الأرجح بنحو 60000000 ريال أمريكي من نقود هذه الأيام.

(2)

يتفق بلورتاخ، وكونتس كورتيس وديودور فيما يروونه عن هذه القصة، وهي لا تتعارض مع ما عرف عن الإسكندر من تهور واندفاع، ولكن من واجبنا مع ذلك أن نقابل هذه الرواية بشيء من الشك.

ص: 459

جيشاً جديداً عدته ألف ألف مقاتل (148) - يتألف من فرس، وميديين، وبابليين، وسوريين، وأرمن، وكبادوشيين، وبلخيين، وأرخزيان، وساكى، وهنود. ولم يسلحهم بالقسى والسهام، بل جهزهم بالحراب، والرماح والدروع، وأركبهم الخيل والفيلة والعربات ذات الدواليب التي ركبت فيها المناجل لكي يحصد بها أعدائه حصد الحنطة في الحقول.

حشدت آسية العجوز هذه القوة الهائلة لتحاول بها مرة أخرى أن تدفع عن نفسها أوربا الناهضة الفتية. والتقى الإسكندر ومعه سبعة آلاف من الفرسان، وأربعون ألفا من المشاة بهذا الخليط المختل النظام غير المتجانس، ودارت رحى القتال عند كواكميلا

(1)

. واستطاع بتفوق أسلحته وحسن قيادته وشجاعته أن يبدد شمله في يوم واحد- واختار دارا مرة أخرى أن يفر من الميدان، ولكن قواده ساءهم هذا الفرار المزري للمرة الثانية، فقتلوه غيلة في خيمته. وأعدم الإسكندر من استطاع أن يقبض عليهم من قاتليه، وأرسل جثة دارا مكرمة إلى برسبوليس في موكب حافل، وأمر أن تدفن كما تدفن أجسام الملوك الأكمينيين وسرعان ما انضوى الشعب الفارسي تحت راية الإسكندر إعجابا منه بكرم أخلاقه ونضرة شبابه. ونظم شئون فارس وجعلها ولاية من ولايات الدولة المقدونية، وترك فيها حامية قوية لحراستها، ثم واصل زحفه إلى الهند.

(1)

وهي مدينة تبعد ستين ميلاً عن إربل، وقد سميت هذه الواقعة باسمها.

ص: 460