المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الرابع   ‌ ‌النهضة في روما 1378 - 1521 - قصة الحضارة - جـ ٢٠

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الرابع

‌النهضة في روما

1378 -

1521

ص: 2

الباب الرابع عشر

‌أزمة الكنيسة

1378 -

1447

الفصل الأول

‌الانشقاق البابوي

1378 -

1417

أعاد جريجوري الحادي عشر البابوية إلى روما؛ ولكن هل تستطيع البابوية البقاء فيها؟ وكان المجمع الذي انعقد لاختيار من يخلفه مؤلفاً من ستة عشر كردنالا، لم يكن منهم إيطاليين غير أربعة، وقدم إليهم ولاة الأمور في المدينة معروضاً يطلبون إليهم فيه أن يختاروا رجلاً من أهل روما، فإن لم يكن فلا أقل من أن يكون إيطالياً؛ وأرادوا أن يؤيدوا هذا المطلب فاجتمعت طائفة منهم خارج الفاتيكان، وأنذرت المجتمعين بأنها ستقتل جميع الكرادلة غير الإيطاليين إذا لم ينتخب للبابوية أحد أبناء روما؛ وارتاع لذلك المقدس، فأسرع باختيار بارتولميو برنيانو Baratolommao Prignano، (1378) كبير أساقفة باري وتسمى باسم إربان السادس، ثم ولوا هاربين طلباً للنجاة، ولكن روما قبلت هذه الترضية (1).

وحكم إربان السادس المدينة والكنيسة بنشاط استبدادي عنيف، فعين هو أعضاء مجلس الشيوخ وكبار موظفي البلدية، وأخضع العاصمة الثائرة المضطربة للطاعة والنظام، وروع الكرادلة بأن أعلن عزمه على إصلاح

ص: 3

الكنيسة، وانه سيبدأ هذا الإصلاح من أعلى؛ وبعد أسبوعين من هذا الإعلان ألقى عظة عامة حضرها الكرادلة أنفسهم ندد فيها بفساد أخلاقهم وأخلاق كبار رجال الدين، ولم يترك نقيصة إلا رماهم بها. وقد أمرهم ألا يقبلوا معاشاً، وأن يقوموا بجميع الأعمال التي تحال إلى المحكمة البابوية دون أجور أو هدايا أيا كان نوعها. ولما تذمر الكرادلة وأخذوا يتهامسون مستائين قال لهم:"إياكم وهذا اللغو"، فلما احتج عليه الكردنال أرسيني Orisini قال له البابا إنه أبله لا يعقل، ولما اعترض عليه كردنال ليموج Limoges هجم عليه إربان يريد أن يضربه. وسمعت القديسة كترين بهذا فبعثت إلى البابا الثائر تحذره وتقول له: "افعل ما تريد أن تفعله باعتدال

وحسن نية، وقلب مسالم، لأن التطرف يدمر ولا يبني؛ وإني أستحلفك بحق الرب المصلوب أن تكبح بعض الشيء جماح هذه الحركات السريعة التي تدفعك إليها طبيعتك" (2). واصم إربان أذنه عن سماع هذا النداء، وأعلن عزمه على تعيين عدد من الكرادلة الإيطاليين يكفي لأن يجعل لإيطاليا أغلبية في مجلس الكرادلة.

واجتمع الكرادلة الفرنسيون في أنانيي، ودبروا الثورة، فلما كان اليوم التاسع من أغسطس عام 1379 أصدروا منشوراً يعلنون فيه أن انتخاب إربان باطل لأنه تحت ضغط غوغاء روما، وانضم إليهم جميع الكرادلة الطليان، وأعلن المجمع على بكرة أبيه في يوم 20 سبتمبر أن ربرت الجنيفي هو البابا الحق. واتخذ ربرت مقامه في أفنيون وتسمى باسم كلمنت السابع، أما إربان فقد تمسك بمنصبه الديني الأعلى وظل مقيماً في روما. وكان الانقسام البابوي الذي بدأ على هذه الصورة نتيجة أخرى من النتائج التي أسفر عنها قيام الدولة القومية، فقد كان في واقع الأمر محاولة من جانب فرنسا للاحتفاظ بعون البابوية الذي لا غنى لها عنه في حربها مع إنجلترا وفي كل نزاع مقبل مع ألمانيا أو إيطاليا. وحذت نابلي، وأسبانيا،

ص: 4

واسكتلندة حذو فرنسا، ولكن إنجلترا، وفلاندرز، والمانيا، وبولندة، وبوهيميا، وهنغاريا، والبرتغال رضيت بإربان، وأضحت الكنيسة ألعوبة في أيدي المعسكرين المتنافسين. وبلغ هذا الاضطراب غايته، وأثار ضحك الإسلام الآخذ في الانتشار وسخريته؛ فقد كان نصف العالم المسيحي يرى أن النصف الآخر زنادقة مجدفون، خارجون على الدين. ونددت القديسة كترين بكلمنت السابع وقالت إنه هو يهوذا؛ وأطلق القديس فنسنت فرر St. Vincent Ferrer الاسم عينه على إربان السادس (3). وادعت كلتا الطائفتين أن القربان المقدس الذي تقمه الطائفة الأخرى باطل، وأن الأطفال الذين تعمدهم، والتائبين الذين تتلقى اعترافهم، والموتى الذين تمسحهم، يبقون في حالة من الخطيئة الأخلاقية، ملقين في الجحيم أو في الأعراف إذا عاجلهم الموت. وبلغت العداوة بين الطائفتين درجة لا تعادلها إلا العداوة في أشد الحروب مرارة وعنفاً، ولما أن ائتمر كثيرون من كرادلة إربان الجدد عليه ليقتلوه لأنه عاجز شديد الخطورة أمر بالقبض على سبعة منهم، وعذبهم، ثم أعدمهم (1385).

ولم يحسم موته (1389) هذا النزاع، ذلك أن الأربعة عشر من الكرادلة الذين بقوا في معسكره اختاروا بيرو توماتشيلي Piero Tomacelli لمنصب البابوية، وتسمى بعد اختياره بونيفاس التاسع، وأطالت الأمم المنقسمة انقسام البابوية هذا، ولما مات كلمنت السابع (1394) رشح كرادلة أفنيون بيرو ده لونا Piero de Luna ليكون هو بندكت الثالث عشر، واقترح شارل السادس ملك فرنسا أن يستقيل البابوان كلاهما، ولكن بندكت لم يقبل هذا الاقتراح. فلما كان عام 1399 أعلن بونيفاس التاسع إقامة عيد عام في السنة التالية؛ وإذ كان يعلم أن كثيرين ممن ينتظر منهم أن يقدموا للاشتراك في هذا العيد سيبقون في أوطانهم بسبب ما يسود تلك الأيام من فوضى وأخطار، خول وكلاءه في

ص: 5

الأقاليم ـ أن يمنحوا كل ما يترتّب على الحج للاحتفال بالعيد من غفران للذنوب وامتيازات لكل مسيحي يعترف بذنوبه، ويتوب، ثم يهب الكنيسة الرومانية المال الذي يتطلبه السفر إلى روما. ولم يكن جباة هذه الأموال رجال دين ذوي ضمائر حية نزيهة، فقد كان كثيرون منهم يعرضون الغفران دون أن يتلقّوا اعترافاً ما؛ ولامهم بونيفاس على فعلتهم، ولكنّه كان يحس بأنه ما من أحد غيره يستطيع أن يفيد من المال الذي جمع بهذه الطريقة أحسن مما يفيده منه هو، ولم "يرو بونيفاس تعطّشه إلى الذهب"(4) كما يقول أمين سرّه وسط ما كان يعانيه من آلام الحصوة المبرحة. ولمّا أراد بعض الجباة أن يغتالوا بعض هذا المال أمر بتعذيبهم حتى يردوه إليه. ومزقت جماهير روما الغاضبة غيرهم من الجباة لأنهم سمحوا لبعض المسيحيين أن ينالوا الغفران دون أن يأتوا الى روما لينفقوا فيها نقودهم (5). وبينا كانت الاحتفالات قائمة على قدم وساق حرضت أسرة كولنا الشعب على أن يطالب بعودة الحكم الجمهوري، فلما رفض بونيفاس هذا الطلب، قادت هذه الأسرة جيشاً مؤلفاً من ثمانية آلاف محارب هجمت بهم عليه؛ وقاوم البابا الطاعن في السن الحصار بعزيمة ماضية في سانتا أنجيلو، وانقلب الشعب على آل كولنا، وتفرق جيش المتمردين، وزج واحد وثلاثين من زعماء الفتنة في غيابة السجون. ووعد واحد منم بالعفو والابقاء على حياته إذا رضى بأن يكون جلاد الباقين؛ فرضى بهذا العمل وشنق الثلاثين الباقين ومنهم أبوه وأخوه (6).

وشبت نار الفتنة من جديد لما مات بونيفاس واختير إنوسنت السابع لمنصب البابوية (1404) وفر إنوسنت إلى فتيربو Viterbo وهجم الغوغاء من أهل روما بقيادة جيوفني كولنا على قصر الفاتيكان، وأعملوا فيه السلب والنهب، ولطخوا شارات إنوسنت بالوحل، وبعثروا السجلات

ص: 6

البابوية والقرارات التاريخية في شوارع المدينة (1405)(1) ثم تراءى للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار، فعقد للشعب أن روما إذا خلت من البابوات حل بها الخراب والدمار، فعقد صلحا مع إنوسنت، فعاد إلى روما ظافراً ومات فيها بعد أيام قليلة من عودته (1406).

ودعا خلفه جريجوري الثاني عشر بندكت الثالث عشر إلى الاجتماع به في مؤتمر. وعرض بندكت أن يستقيل إذا رضى جريجوري أن يقوم هو أيضاً بنفس العمل، ولكن أهل جريجوري أشاروا عليه بألاّ يوافق على هذا الاقتراح؛ فما كان من بعض الكرادلة إلا أن انسحبوا إلى بيزا، ودعوا إلى عقد مجلس عام يختار بابا بترضية العالم المسيحي قاطبة. وحث ملك فرنسا مرة أخرى بندكت على أن يستقيل، فلما رفض ذلك للمرة الثانية أعلنت فرنسا عدم ولائها له، واتخذت موقف الحياد بين الطرفين المتنازعين. ولما تخلى كرادلة بندكت عنه فر إلى أسبانيا، وأنضم هؤلاء الكرادلة إلى الذين تخلوا عن جريجوري، وأصدروا جميعاً دعوة إلى مؤتمر بعقد في بيزا في الخامس والعشرين من شهر مارس عام 1409.

ص: 7

الفصل الثاني

‌المجالس والبابوات

1409 -

1417

كان الفلاسفة الثائرون قد وضعوا منذ قرن أو يكاد أساس " الحركة المجلسية". ذلك أن وليم الأكامي William of Occam قد احتج على القول بأن الكنيسة هي رجال الدين؛ وقال إن الكنيسة في اعتقاده هي جماعة المؤمنين، وإن الكل ذو سلطان على أي جزء من أجزائه؛ وإن في مقدور هذا الكل أن يعهد بسلطانه إلى مجلس عام يجب أن يكون له حق اختيار البابا، أو تعذيره، أو خلعه (8). وقال مرسيلوس Marsillius أحد رجال الدين في بدوا إن المجلس العام هو عقل العالم المسيحي مجتمعاً؛ ومن ذا الذي يجرؤ بمفرده على أن يضع عقله وحده فوق هذا العقل العالمي؟ وأضاف أن هذا المجلس يجب ألاّ يؤلّف من رجال الدين وحدهم، بل يجب أن يضم إليهم غير رجال الدين يخترهم الشعب نفسه؛ ويجب أن تكون مناقشاته متحررة من سيطرة البابوات (9). وطبق هنريخ فن لانجنشتين Heinrich von Langenstein أحد علماء اللاهوت في جامعة باريس هذه الآراء إلى الانشقاق البابوي في رسالة له عنوانها مجالس السلام (1381). وقال هنريخ في هذه الرسالة إنه مهما يكن من قوة المنطق في حجج البابوات الذين يؤيدون بها سلطتهم العليا المستمدة من الله نفسه، فإن أزمة قد نشأت لم يجد المنطق نفسه سبيلاً للنجاة منها، وليس ثمة وسيلة لإنقاذ الكنيسة من الفوضى التي أخذت تدك قواعدها إلاّ قيام سلطة غير البابوات، تعلو على سلطان الكرادلة، وليست هذه السلطة إلاّ سلطة المجلس العام. وقال جان جيرسن Jean Gerson مدير جامعة باريس في موعظة له ألقاها في ترسكون Tarascon أمام بندكت الثالث عشر نفسه إنه وقد عجزت قوة البابا وحده

ص: 8

عن عقد مجلس عام يقضي على انشقاق البابوية، فإن هذه القاعدة يجب إلغاؤها في هذه الأزمة الحاضرة، وأن يعقد مجلس عام بغير هذه الطريقة، يعهد إليه بالسلطة التي يستطيع بها القضاء على هذه الأزمة (10).

وعق مجلس بيزا بالنظام الذي وضع له. فقد اجتمع في الكنيسة الفخمة ستة وعشرون من الكرادلة، وأربعة من البطارقة، واثنا عشر من رؤساء الأساقفة، وثمانون أسقفاً، وسبعة وثمانون من رؤساء الأديرة، ورؤساء جميع طوائف الرهبان الكبرى، ومندوبون عن جميع الجامعات الكبيرةـ وثلاثمائة من رجال القانون الكنسي، وسفراء من قبل جميع الحكومات الأوربية ماعدا حكومات هنغاريا، ونابلي، وأسبانيا، واسكنديناوة، واسكتلندة، وأعلن المجلس أنه كنسي (مشروع حسب قانون الكنيسة) ومسكوني عالمي (أي أنه يمثل العالم المسيحي على بكرة أبيه) ـ وهي دعوى أغفلت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والروسية. ودعا هذا المجلس بندكت وجريجوري إلى المثول أمامه، فلمّا لم يلبّ كلاهما الدعوة، وأعلن المجلس خلعهما، ونادى بكردنال ميلان بابا باسم اسكندر الخامس (1409). وطلب هذا المجلس إلى البابا الجديد أن يدعو إلى الانعقاد مجلساً عاماً آخر قبل شهر مايو من عام 1412 ثم أعلن تأجيل جلساته.

وكان هذا المجلس يرجو أن يقضي على الانشقاق البابوي؛ ولكن بندكت وجريجوري كلاهما رفضا أن يعترفا بسلطانه، فإن النتيجة لم تسفر إلاّ عن وجود ثلاثة بابوات بدلاً من اثنين. ولم يساعد موت إسكندر الخامس (1410) على إصلاح ذات البين، فقد اختار كرادلته خلفاً له يوحنا الثالث والعشرين، أسلس الرجال قياداً، منذ أيام سلفه وسميه للجلوس على عرش البابوية. وكان بونيفاس التاسع قد عيّن بلدساري الكوسائي Baldassare of Cossa مندوباً بابوياً على بولونيا؛ فحكمها، كما يحكم رؤساء الجند المغامرون، حكماً مطلقاً لم يراع فيه ذمة

ص: 9

ولا ضميراً، فرض فيه الضرائب على كل شيء، بما في ذلك العهر، والميسر، والربا، ويتّهمه أمين سره الخاص بأنه أغوى مائتي عذراء وامرأة متزوجة، وأرملة، وراهبة (11). ولكنه كان ذا مواهب عالية في شئون السياسة والحرب، جمع أموالاً طائلة، وقاد بنفسه قوة من الجند تدين له هو نفسه بالولاء. ولعله كان يستطيع أن يستولي على الولايات البابوية من جريجوري، وأن يرغم جريجوري نفسه على الخضوع لسلطانه خضوع المفلس الذليل.

وتباطأ يوحنا الثالث والعشرون في دعوة المجلس العام إلى الانعقاد في بيزا أكثر ما يستطيع. ولكن سجسمند أصبح في عام 1411 ملكاً على الرومان والرئيس غير المتوج، ولكنه الرئيس المعترف به، للدولة الرومانية المقدسة. وقد أرغم يوحنا على أن يدعو مجلساً عاماً إلى الانعقاد، واختار مدينة كنستانس مكاناً لانعقاده لتحررها من الإرهاب الإيطالي وقابليتها للتأثر بالنفوذ الإمبراطوري. واتخذ سجسمند الكنيسة سنداً له ودعامة كما فعل قسطنطين آخر من قبله، فدعا جميع الأحبار، والأمراء، واللوردة، ورجال القانون في العالم المسيحي إلى حضور المؤتمر. وأجاب الدعوة كل من كان منهم في أوربا عدا البابوات الثلاثة وأتباعهم. وبلغ عدد من لبوا الدعوة وجاءوا حين سمحت لهم بذلك مراكزهم العالية، من الكثرة مبلغاً اقتضى جمعهم نصف عام. ولمّا رضى يوحنا الثالث والعشرون آخر الأمر أن يفتتح المجلس في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1414، لم يكن قد قدم إلاّ جزء صغير من البطارقة الثلاثة؛ والتسعة والعشرين كردنالاً، والثلاثة والثلاثين من رؤساء الأساقفة، والمائة والخمسين أسقفاً، والمائة من رؤساء الأديرة، والثلاثمائة من علماء اللاهوت، والأربعين من مندوبي الجامعات، والستة والعشرين من الأمراء، والمائة والأربعين من النبلاء، والأربعة الآلاف من رجال الدين، نقول إنه لم يكن قد قدم إلاّ عدد صغير من هؤلاء. ولو أنهم

ص: 10

حضروا جميعاً لكان هذا المجلس أكبر المجالس في التاريخ المسيحي، ولكان أعظم شأناً بعد مجلس نيقية (325) الذي قرر عقيدة الكنيسة المسيحية. وبينا كان سكان كنستانس في الأوقات العادية حوالي سنة آلاف نسمة، فقد أفلحت وقتئذ في أن تأوي وتطعم خمسة آلاف مندوب حضروا المجلس، وأن تمدهم فوق ذلك بحاجاتهم، وبجيش من الخدم، والأمناء، والأطباء، والبائعين الجائلين. والدجالين، والشعراء المداحين، وبألف وخمسمائة من العاهرات (12).

وما كاد المجلس يضع جدول أعماله حتى فوجئ بانسحاب البابا الذي دعاه إلى الانعقاد انسحاباً أشبه ما يكون بالأعمال المسرحية. ذلك أن البابا يوحنا الثالث والشرين قد هاله أن يعلم أن أعداءه كانوا يتأهبون لأن يعرضوا على المجلس سجلاً يحوي تاريخ حياته، وجرائمه، وتبذله. وأشارت عليه إحدى اللجان بأنه يستطيع النجاة من هذه الفضيحة إذا وافق على الانضمام إلى جريجوري وبندكت وأن ينزل الثلاثة عن عرش البابوية في وقت واحد (13). ووافق يوحنا على ذلك، ولكنه فر على حين غفلة من كنستانس متخفياً في زي سائس (20 مارس عام 1415) ووجد له ملجأ في قصر في شافهوزن مع فردريك أرشيدوق النمسا وعدو سجسمند. ثم أعلن في التاسع والعشرين من شهر مارس أن جميع الوعود التي قطعها على نفسه في مدينة كنستانس قد أرغم عليها إرغاماً بالقوة الجبرية، وأنها ليست لها من القوة ما يلزمه بالوفاء بها. وفي اليوم السادس من إبريل أصدر المجلس قراراً مقدساً وصفه أحد المؤرخين بأنه "أشد الوثائق الرسمية ثورية في تاريخ العالم" (14):

"إن مجلس كنستانس المقدس، الذي هو مجلس عام، والمنعقد انعقاداً قانونياً في الروح المقدس، لحمد الله، وللقضاء على الانشقاق القائم الآن، ولتوحيد كنيسة الله وإصلاحها بما في ذلك رأسها وأعضاؤها- إن هذا المجلس يأمر؛ ويعلن، ويقرر ما يأتي: أولاً، يعلن أن هذا المجلس

ص: 11

المقدس

يمثل الكنيسة المجاهدة، ويستمد معونته من المسيح رأساً، وعلى جميع الناس مهما تكن طبقتهم ومنزلتهم، بما فيها البابوات أيضاً، أن يطيعوا هذا المجلس في كل ما له صلة بشئون الدين، وفي القضاء على هذا الانشقاق، ولإصلاح الكنيسة إصلاحاً شاملاً في رياستها وأعضائها. وهو يعلن كذلك أن أي إنسان مهما تكن مرتبته، أو صفته، أو منزلته، بما في ذلك البابا أيضاً، يأبى أن يطيع الأوامر، والقوانين، والفروض، والقواعد التي يقرّها هذا المجلس المقدس، أو أي مجلس آخر ينعقد انعقاداً صحيحاً بقصد القضاء على الانشقاق أو إصلاح الكنيسة، يضع نفسه طائلة العقاب الحق

وستتخذ إذا اقتضى الأمر وسائل أخرى للاستعانة بها في تطبيق العدالة (15) ".

واحتج كثيرون من الكرادلة على هذا القرار، فقد خشوا أن يكون فيه قضاء على حق مجمع الكرادلة في انتخاب البابا؛ ولكن المجلس تغلب على معارضتهم، ولم يكن لهم بعد ذلك إلاّ شأن صغير في نشاطه.

وأوفد المجلس وقتئذ لجنة إلى يوحنا الثالث والعشرين تدعوه إلى النزول عن عرش البابوية، فلمّا لم تتلقّ منه جواباً صريحاً قبلت (في 25 مايو) ما عرض عليها من التهم الأربع والخمسين التي وجّهت إليه والتي تنص على أنه كافر، كاذب، متجر بالمقدسات والمناصب الكهنوتية، خائن، غادر، فاسق، لص (16)؛ وكانت هناك ست عشرة تهمة أخرى استبعدت لشدة قسوتها (17). وفي اليوم التاسع والعشرين من مايو قرر المجلس خلع يوحنا الثالث والعشرين، وقبل هو القرار بعد أن تحطمت آخر الأمر جميع آماله. وأمر سجسمند بأن يسجن في قلعة هيدلبرج طوال فترة انعقاد المجلس، وأفرج عنه في عام 1418، ووجد في شيخوخته ملجأ ومقاماً عند كوزيموده ميديتشي.

واحتفل المجلس بانتصاره باستعراض طاف جميع أنحاء مدينة كنستانس،

ص: 12

فلما عاد إلى العمل وجد نفسه في مأزق حرج؛ ذلك أنه إذا اختار باباً آخر عاد إلى ما كان في العالم المسيحي من انقسام ثلاثي، لأن كثيراً من أقاليمه كانت لا تزال تطيع بندكت أو جريجوري. وأنقذ جريجوري المجلس من ورطته بعمل دل على دهائه وشهامته: فقد وافق على أن يستقيل بشرط أن يسمح له بأن يدعو المجلس مرة أخرى ويخلع عليه الصفة الشرعية بما له من سلطة بابوية. ودعا المجلس إلى الانعقاد بهذه الصفة الجديدة، وقبل استقالته جريجوري في الرابع من شهر يوليه سنة 1415، وأيد صحة من عيّنهم في مناصبهم، واختاره حاكماً من قبل البابا على أنكونا حيث عاش هدوء طيلة السنتين الباقيتين من حياته.

أمّا بندكت فقد أصرّ على المقاومة، ولكن كرادلته تخلّوا عنه وتصالحوا مع المجلس، ولمّا حلّ اليوم السادس والعشرون من يوليه خلعه المجلس، فآوى إلى القصر الحصين الذي تقيم فيه أسرته في بلنسية، حيث مات في سن التسعين، وهو لا يزال يعد نفسه بابا بحق. وأصدر المجلس في شهر أكتوبر قراراً يحتم دعوة مجلس عام آخر إلى الانعقاد في خلال خمس سنين، وفي اليوم السابع عشر من نوفمبر اختارت لجنة المجلس الانتخابية الكردنال أدوني كولنا Oddone Colonna لمنصب البابوية، وتسمّى باسم البابا مارتن الخامس Martin V؛ وارتضاه العالم المسيحي بأجمعه، وبذلك انقضى عهد الانشقاق الأعظم بعد فوضى دامت تسعاً وثلاثين سنة.

وهكذا وصل المجلس إلى غرضه الأول، ولكن نجاحه في هذه النقطة حال بينه وبين تحقيق غرضه الآخر وهو إصلاح المسيحية. ذلك أنه لمّا جلس مارتن الخامس على عرش البابوية استمسك بكل ما لها من سلطان وامتيازات، فأغضب بذلك سجسمند الذي هو الرئيس الأعلى للمجلس، ثم لجأ إلى المجاملة والدهاء فأخذ يخاطب كل طائفة من الجماعات القومية الممثلّة في المجلس ويفاوضها في عقد معاهدة معها على حدة خاصة بإصلاح الكنيسة.

ص: 13

وعمل على إثارة المنافسة بين كل طائفة والأخرى حتى اقنع كل واحدة منها بقبول أقل قدر من الإصلاح، صاغه في عبارة غامضة يستطيع كل حزب أن يفسرها تفسيراً يدّعي فيه أنه هو الفائز، وأنه صاحب الفضل في كل إصلاح. واستسلم المجلس له لأنه ملّ النزاع، فقد ظل يكدح ثلاث سنين، حنّ أعضاؤه بعدها إلى أوطانهم، وشعروا بأن مجلساً مقدساً يعقد فيما بعد يستطيع أن يحل مشكلة الإصلاح بتفاصيل أوفى وأكثر دقّة من هذا المجلس. وفي الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 1418 أعلن المجلس فض جلساته.

ص: 14

الفصل الثالث

‌انتصار البابوية

1418 -

1447

لم يستطع مارتن الخامس أن يعود إلى روما بعد انتخابه مباشرة وإن كان هو من أهل روما. ذلك أن الطرق الموصلة إليها كانت في قبضة براتشيو دا منتونى Braccio da Montone الأفاق المغامر، ولهذا رأى مارتن أن بقاءه في جنيف، ثم في مانتوا، وفلورنس آمن له وأسلم. ولما وصل أخيراً إلى روما (1420) روعته حال المدينة، وما حاق بمبانيها من خراب وبأهلها من بؤس وشقاء، فقد كانت عاصمة العالم المسيحي أقل بلاد أوربا حضارة.

وإذا كان مارتن قد جرى على السنة السيئة التي جرى عليها أسلافه فعين في المناصب ذات المرتب الضخم والسلطان الكبير أقاربه من آل كولنا، فما كان ذلك إلا ليقوى أسرته ليضمن لنفسه السلامة في قصر الفاتيكان. ولم يكن لديه جيش، ولكن الولايات البابوية التي كانت تحيط بها من كل جانب جيوش نابلي، وفلورنس والبندقية، وميلان. وكانت هذه الولايات قد وقع معظمها مرة أخرى في أيدي طائفة من الطغاة الصغار، يسمون أنفسهم نواب البابا ولكنهم كادوا في أثناء الانشقاق البابوي يكونون سادة مستقلين في ولاياتهم. وقد ظل رجال الدين في لمباردي قروناً طوالا يناصبون أساقفة روما العداء. وكان فيما وراء جبال الألب عالم مسيحي مضطرب أضاعت البابوية فيه معظم ما كان لها من احترام، وكان يأبى أن يمدها بشيء من العون المالي.

وواجه مارتن هذه الصعاب كلها وتغلب عليها بشجاعته وقوة عزيمته؛

ص: 15

فقد اعتمد بعض المال لبناء أجزاء من عاصمته، وإن كان قد ورث خزانة تكاد تكون خاوية، وأفلح بما اتخذه من إجراءات قوية في طرد قطاع الطرق من روما والطرق المؤدية لها؛ وهدم حصناً للصوص في منتيليبو Monteipo، وأمر بقطع رؤوس زعمائهم (15)؛ وأعاد النظام إلى روما، وجمع في كتاب واحد قوانينها البلدية، وعين رجلا من أوائل الكتاب الإنسانيين هو بجيو برتشيوليني Poggio Bracciolini أميناً لسره، وعهد إلى جنتيل دا فبريانو، وأنطونيو بيزنيلو، ومساتشيو أن ينقشوا المظلمات التي في كنيستي سانتا ماريا مجيوري والقديس يوحنا في اللاتران؛ واختار رجالا من ذوي المواهب والأخلاق الكريمة أمثال جوليانو تشيزاريني Guiliano Cesarini، ولويس ألماند Louis Allemand، ودومينيكو كبرانيكا Domenico Capranica وبرسبيرو كولنا Prospero Colonna أعضاء في مجمع الكرادلة. وأعاد تنظيم أداة الحكم القانونية حتى تؤدي مهمتها على أحسن وجه، ولكنه لم يجد طريقة يحصل بها على ما يلزمه من المال إلا بيع المناصب والخدمات الدينية. ولما كانت الكنيسة قد عاشت قرناً كاملاً بغير إصلاح، ولكنها لا تستطيع البقاء أسبوعاً واحداً بغير مال، فقد حكم مارتن بأن المال ألزم للكنيسة من الإصلاح. ومن أجل هذا تذرع بمرسوم كنستانس فدعا مجلساً عاماً ينعقد في بافيا عام 1423. ولم يلب الدعوة إلى هذا المجلس إلا عدد قليل، وحتم انتشار الطاعون نقله إلى سينا، ولما عرض أن تكون له السلطة المطلقة أمره مارتن بأن ينفض، وأطاع الأساقفة أمره لخوفهم أن يفقدوا كراسيهم. وأراد مارتن أن يترضى نزعة الإصلاح فأصدر في عام 1422 قراراً بابوياً، فصل فيه بعض التغيرات الرائعة في إجراءات أداة الحكم البابوية وطريقة تمويلها؛ ولكن قامت في سبيل ذلك الإصلاح مئات من العقبات والاعتراضات، وما لبثت هذه الاقتراحات أن عفا عليها الزمان وجر عليها النسيان ذيوله. وفي عام 1430

ص: 16

بعث مندوب ألماني في روما إلى أميره برسالة تكاد تكون نذيراً بالإصلاح الذي جاء فيما بعد:

"أصبح الشره صاحب السلطان الأعلى في البلاط البابوي، وهو يبتكر في كل يوم له أساليب جديدة

لابتزاز المال من ألمانيا بدعوى أداء أجور رجال الدين. وهذا هو سبب الأصوات التي ترتفع بالتذمر والألم

وستثار كذلك أسئلة خاصة بالبابوية، وإلا فإن الناس سينفضون يدهم آخر الأمر من طاعة البابا فراراً من هذا الابتزاز الظالم للأموال؛ واعتقادي أن هذا المسلك الأخير سترتضيه كثير من البلاد (19).

وواجه البابا الذي خلف مارتن ما تجمع لدى البابوية من مشاكل مواجهة الراهب الفرنسيسي التقي الخاشع الذي لم يعد نفسه لتصريف الشئون السياسية. ذلك أن البابوية كانت حكومة أكثر مما كانت دينا؛ وكان لابد أن يكون البابوات رجال حكم، ومحاربين في بعض الأحيان، وقلما كان في مقدورهم أن يكونوا من أولياء الله الصالحين. نعم إن يوجنيوس الرابع كان من هؤلاء الأولياء في بعض الأحيان، وإنه كان عنيداً، صلب القناة لا يلين، وإن داء الرثية الذي كان يلازمه ويسبب له آلاماً مبرحة في يديه لا تكاد تفارقه قط، مضافاً إلى متاعبه الجمة، قد جعله ضجراً ملولا، محباً للعزلة، منطوياً على نفسه. ولكنه كان يعيش معيشة النساك، مقلا من الطعام، لا يشرب غير الماء، قليل النوم، مجداً كثير العمل، حريصاً على أداء واجباته الدينية بإخلاص وضمير حي، لا يحمل الحقد على أعدائه، جواداً سخياً بماله، لا يحتفظ بشيء لنفسه، بلغ من تواضعه أنه كان لا يرفع عينيه عن الأرض (20). ومع هذا كله قلما نجد من البابوات من كان له من الأعداء ما كان لهذا البابا.

وكان من أول هؤلاء الأعداء هم الكرادلة الذين انتخبوه. فقد أرادوا أن يتقاضوا ثمن أصواتهم وأن يحموا أنفسهم من أن يحكمهم رجل بمفرده

ص: 17

كما كان يحكمهم مارتن، فأقنعوه بأن يوقع مرسوماً Capitula - ومعناها الحرفي عناوين - يعدهم فيه بأن يطلق لهم حرية الكلام ويؤمنهم في مناصبهم، وأن يجعل لهم السيطرة على نصف إيرادهم، وأن يشاورهم في جميع الشؤون الهامة. وأصبحت "هذه الامتيازات" سنة متبعة وسابقة جرى بها العمل في الانتخابات البابوية طوال عصر النهضة. يضاف العمل في الانتخابات البابوية طوال عصر النهضة. يضاف إلى هذا أن يوجنيوس جعل آل كولنا أعداء له أقوياء. فقد أعتقد أن مارتن أقطع هذه الأسرة كثيراً من أملاك الكنيسة، فأمر بأن ترد إليها أجزاء كثيرة من هذه الأملاك، وأمر بتعذيب أمين مارتن السابق تعذيباً كاد يفضي إلى موته لكي ينتزع منه معلومات عن هذا الموضوع. وشن آل كولنا الحرب على البابا، ولكنه هزمهم بقوة الجند الذين أرسلوا إليه من مدينتي فلورنس والبندقية، غير أنه أثار بعمله هذا عداء روما نفسها. واجتمع بمدينة بازل في هذه الأثناء المجلس الذي دعا إليه مارتن، وكان اجتماعه في السنة الأولى من عهد البابا الجديد (1431)؛ واقترح مرة أخرى تأييد المجالس الكنسية العامة على البابوات. فما كان من يوجنيوس إلا أن أمره بأن ينفض؛ ولكنه لم يطع أمره، وطلب إليه أن يمثل أمامه، وبعث بجند من ميلان يهاجمونه في روما. وانتهز آل كولنا هذه الفرصة ليثأروا لأنفسهم منه، فدبروا ثورة في المدينة، وأقاموا حكومة جمهورية (1434)، وفر يوجنيوس في قارب صغير سار به نحو مصب التيبر، بينما كان العامة يرشقونه بالسهام، والحراب، والحجارة (21)، واتخذ له ملجأ في فلورنس، ثم في بولونيا، وظل هو وحكومته منفيين عن روما تسع سنين.

وكانت الكثرة الغالبة من المندوبين الذين حضروا مجلس بازل من الفرنسيين. وكان غرضهم، كما قال أسقف تور في صراحة، "إما أن ينتزعوا الكرسي الرسولي من الإيطاليين، وإما أن يجردوه من سلطانه بحيث لا يهمهم بعدئذ أين يكون مقره". وعملاً بهذه القاعدة استولى المجلس على

ص: 18

امتيازات البابوية واحداً بعد آخر: فأصدر هو صكوك الغفران؛ ومنح الإعفاءات من الفروض الدينية، وعين الموظفين الدينيين، وطلب أن تؤدى له هو لا للبابا باكورة مرتبات رجال الدين. وأصدر يوجنيوس قراراً آخر بحل المجلس، فرد عليه بأن أعلن خلعه هو (1439)، واختار أمديوس الثامن من سافوي بابا في مكانه باسم فليكس الخامس؛ وبهذا تجدد الانشقاق في البابوية مرة أخرى. وأراد شارل السابع ملك فرنسا أن يتم هزيمة يوجنيوس البادية للعيان، فعقد في بورج (1438) جمعية من كبار رجال الدين، والأمراء، ورجال القانون، كلهم من الفرنسيين، وأعلنت هذه الجمعية سيادة المجالس على البابوات، وأصدرت قرار بورج التنظيمي الذي ينص على أن المناصب الكهنوتية يجب أن تملأ من ذلك الحين بمن تنتخبهم جماعات الرهبان أو القساوسة، ولكن من حق الملك أن يصدر " توصيات"، وحرم استئناف الأحكام إلى المجلس البابوي الأعلى إلا بعد أن تستنفذ جميع الاحتمالات القضائية في فرنسا؛ ومنع جمع بواكير مرتبات القساوسة للبابا (22). وبذلك أوجد هذا التنظيم في واقع الأمر كنيسة فرنسية مستقلة رئيسها ملك فرنسا نفسه. واتخذ مجلس عقد في مينز بعد عام من ذلك الوقت قرارات مماثلة لهذه أنشئت بمقتضاها كنيسة قومية في ألمانيا؛ وكانت كنيسة بوهيميا قد انفصلت عن البابوية أثناء الثورة الهوسية Hussite؛ ووصف كبير أساقفة براج البابا بأنه "وحش سفر الرؤيا"(23)، ولاح أن صرح الكنيسة كله قد تحطم، وأصبح لا يرجى شعب صدعه، وأن الإصلاح القومي للكنيسة قد توطدت دعائمه قبل لوثر بمائة عام.

وكان الأتراك هم الذين أنقذوا يوجنيوس. ذلك أنه لما اقترب الأتراك العثمانيون من القسطنطينية قرر البيزنطيون أن مدينتهم خليقة بأن يكون فيها قداس روماني، وأن عودة الاتحاد بين المسيحية اليونانية والرومانية تمهيد لا بد منه للحصول على معونة عسكرية من الغرب. وبناء على هذا بعث الإمبراطور

ص: 19

يوحنا الثامن ببعثة إلى مارتن الخامس (1431) تعرض عليه اجتماع مجلس من رجال الكنيستين. وبعث مجلس بازل بمندوبين إلى يوحنا (1433) يقولون له إن المجلس أعلى سلطة من البابا، وإنه تحت حماية الإمبراطور سجسمند، وأنه سيرسل المال والجند للدفاع عن القسطنطينية إذا ما تعاملت الكنيسة اليونانية مع المجلس لا مع البابا. وأرسل سجسمند وفداً من عنده يعرض معونته بشرط أن يعرض الاقتراح الخاص باتحاد الكنيستين على مجلس جديد يدعوه هو نفسه إلى الانعقاد في فيرارا. وقرر يوحنا أن يظاهر يوجنيوس، واستدعى البابا إلى فيرارا من ثبتوا على ولائهم له من رجال الدين؛ وغادر كثيرون من رجال الأحبار، ومنهم شيراريني ونقولاس الكوزائي بازل وجاءوا إلى فيرارا، لأنهم شعروا أن أهم ما في الأمر هو مفاوضة اليونان. وطالت جلسات مجلس بازل، ولكنها كانت مفعمة بالغضب المتزايد، وأخذت مكانته تزداد انحطاطاً يوماً بعد يوم.

وأثار مشاعر أوربا كلها ما ترامى إليها من الأنباء عن عودة الوحدة إلى العالم المسيحي بعد انقسامه بين الكنيستين اليونانية والرومانية منذ عام 1045. وفي الثامن من فبراير عام 1438 قدم إلى البندقية، التي كانت لا تزال مدينة بيزنطية إلى حد ما، الإمبراطور البيزنطي، والبطريق يوسف بطريق القسطنطينية، وسبعة عشر من رؤساء الأساقفة اليونان، وعدد كبير من أساقفة الكنيسة اليونانية، والرهبان والعلماء. واستقبلهم يوجنيوس في فيرارا بأبهة لا نشك في أنها لم تكن لها قيمة كبيرة في نظر اليونان الذين اعتادوا على الاحتفالات الفخمة في بلادهم. ولما افتتح المجلس جلساته اختيرت عدة لجان لإزالة ما بين الكنيستين من خلاف على حقوق البابا في الرياسة، وعلى استعمال الخبز الفطير، وطبيعة الآلام التي تعانى في المطهر، وعلى انتقال الروح القدس من الأب والابن أو إليه. وظل العلماء ثمانية أشهر يجادلون في هذه المسائل، ولكنهم لم يصلوا فيها إلى اتفاق. وانتشر الطاعون في بلدة

ص: 20

فيرارا في هذه الأثناء، ودعا كوزيموده ميديتشي المجلس أن ينتقل إلى فلورنس، على أن يستضيفه هو وأصدقاؤه. وتم هذا الانتقال بتلك الصورة؛ ويؤرخ بعضهم بداية النهضة الإيطالية بدخول العلماء اليونان إلى فلورنس في ذلك الوقت (1439). وهنا تم الاتفاق على أن الصيغة التي يقبلها اليونان -وهي أن "الروح القدس يصدر من الأب عن طريق الابن (22) ( ex Patre per filium Procedit) - تعني بالضبط ما تعنيه الصيغة الرومانية وهي أنه "يصدر من الأب والابن" ex Patre Filioque procedit؛ ولم يستهل شهر يونية سنة 1439 حتى تم الاتفاق كذلك على طبيعة آلام المطهر. أما حقوق البابا في الرياسة فقد أثارت نقاشاً حاراً، حتى لقد أنذر الإمبراطور اليوناني أن ينفض المجلس. غير أن بيساريون Bessarion كبير أساقفة نيقية، وهو بطبيعته رجل مسالم يسعى إلى الصلح، استطاع التوفيق بين الطرفين إذ عثر على صيغة تعترف بسلطة البابا العامة، ولكنها تحتفظ بما كان للكنائس الشرقية وقتئذ من حقوق وامتيازات. وقبلت هذه الصيغة، ولما حل اليوم السادس من شهر يولية عام 1439 قرأ بيساريون باللغة اليونانية كما قرأ سيزاريني باللغة اللاتينية في الكاتدرائية الكبرى التي أقام فيها بروتيلسكو منذ ثلاث سنين لا أكثر قبتها الفخمة، نقول قرأ هذا وذاك المرسوم الذي وحدت به الكنيستان، وقبل الحبران كلاهما الآخر، وخر جميع أعضاء المجلس وعلى رأسهم الإمبراطور ركعاً أمام يوجنيوس الذي كان يبدو منذ وقت قريب إنساناً طريداً مرذولا.

لكن ابتهاج المسيحية كان قصير الأجل. ذلك أنه لما عاد الإمبراطور اليوناني وحاشيته إلى القسطنطينية، قوبلوا بالإهانات والشتائم، فقد رفض رجال الدين والشعب الخضوع إلى روما. وحافظ يوجنيوس على نصيبه في هذا الاتفاق، وأرسل الكردنال سيزاريني إلى بلاد المجر على رأس جيش للانضمام إلى قوات لادسلاس Ladislas وهنيادي Hunyadi،

ص: 21

وانتصرت هذه القوات عند نيش Nish على الأتراك ودخلت مدينة صوفيا ظافرة في مساء يوم عيد الميلاد عام 1443، ثم بدد شملها مراد الثاني في وارنه عام 1444، وسيطر الحزب المعارض للاتحاد في القسطنطينية على الموقف، ولم ير البطريق جريجورى الذي أيد هذا الاتحاد بداً من الفرار إلى إيطاليا. واستطاع جريجورى بعدئذ أن يشق طريقه بالقوة عائداً إلى صوفيا، وفيها قرأ مرسوم الاتحاد في عام 1452؛ ولكن الشعب ظل من ذلك الحين يتجنب الاتصال بالكنيسة الكبرى؛ ولعن رجال الدين المعارضون للاتحاد كل من يؤيدونه، ورفضوا أن يغفروا ذنوب كل من حضروا قراءة المرسوم، وأهابوا بالمرضى أن يموتوا دون تناول القداس بدل أن يتناولوه من يد قس "اتحادي"(24). ورفض بطارقة الإسكندرية، وإنطاكية، وبيت المقدس قرارات "المجلس الناهب" الذي عقد في فيرارا (24). ويسر محمد الثاني الأمر باتخاذ القسطنطينية عاصمة للدولة التركية (1453)، ومنح المسيحيين الحرية التامة في العبادة، وعين جناديوس Gennadius، وهو من ألد أعداء الوحدة بطريقاً في القسطنطينية.

وعاد يوجنيوس إلى روما في عام 1443؛ بعد أن قضى مبعوثه القائد والكردنال فيتليسكي Vitelleschi على الجمهورية المضطربة، وعلى أسرة كولنا المشاكسة بوحشية لا تضارعها وحشية الوندال أو القوط. وكان مقام البابا في فلورنس قد علمه تطور الآداب الإنسانية والفنون في عهد كوزيموده ميديتشي، وكان العلماء اليونان الذين شهدوا مؤتمر فيرارا وفلورنس قد أثاروا فيه الاهتمام بحفظ المحفوظات القديمة التي قد يضيعها أو يتلفها سقوط القسطنطينية المرتقب. ولهذا ضم إلى أمنائه بجيو، وفلافيو بيوندو، وليوناردو برونى، وغيرهم من الكتاب الإنسانيين الذين يستطيعون مفاوضة اليونان باللغة اليونانية. وجاء بالراهب أنجيلكو إلى روما، وعهد إليه نقش المظلمات في معبد القداس بقصر الفاتيكان. وكان يوجنيوس

ص: 22

يعجب بالأبواب البرنزية الكبرى التي صبها جيبرتي Ghiberti لمكان التعميد في كنيسة فلورنس، ولهذا عهد إلى فيلاريتي Filarete أن يصب أبواباً مثلها لكنيسة القديس بطرس القديمة (1433). ومن الأمور ذات البال، أن هذا المثال لم يضع على أبواب أشهر الكنائس في العالم المسيحي اللاتيني تماثيل المسيح، ومريم، والرسل فحسب، بل وضع معها أيضاً صور المريخ، وروما، وهيرون، ولياندر، وجوبتر، وجنيميد، ولم يكتف بهذا بل أضاف إليها ليدا والبجعة وإن كان عمله هذا لم يثر حتى في ذلك الوقت أي تعليق. وهكذا جاء يوجنيوس في ساعة انتصاره على مجلس بازل بالنهضة الوثنية إلى روما.

ص: 23

الباب الخامس عشر

‌النهضة تستحوذ على إيطاليا

1447 -

1492

الفصل الأول

‌قصبة العالم

لمّا اعتلى البابا نقولاس الخامس أقدم عرش في العالم

(1)

، لم يكن حجم روما يبلغ معشار حجم المدينة التي كانت تضمّها أسوار أورليان (270 - 275م)، وكانت أضيق رقعة وأقل سكاناً (80. 000 نسمة)(1) من البندقية، وفلورنس، وميلان. ولم يكن لها مورد لماء الشرب ثابت يعتمد عليه بعد أن دمّر البرابرة سقاياتها الكبرى، نعم إنه قد بقى لها بعض السقايات الصغيرة، وبعض العيون، وكثير من الأحواض والآبار، ولكن كثيرين من السكان كانوا يستقون من ماء التيبر (2). وكانت كثرة السكان تعيش في السهول غير الصحية، معرضة لفيضان النهر وعدوى الملاريا تتسرب إليها من المناقع المجاورة. وكان تل الكبتولين يسمّى الآن منتي كبرينو Monte Caprino لأن المعز ( Capri) كانت ترعى على سفوحه. وكان تل البلاتين ملجأً ريفياً، يكاد يخلو من السكان، وأصبحت القصور القديمة التي اشتق اسمه منها محاجر مترية. وكانت البرجو فاتيكان Borgo

(1)

هذا لأننا نعتقد أن القصة القائلة بأن الأسرة الإمبراطورية اليابانية قد تأسست في عام 660 ق. م خرافة لا تستند إلى دليل.

ص: 24

Vatican ( مدينة الفاتيكان) ضاحية صغيرة على الضفة الأخرى من النهر مقابلة لوسط المدينة مكدّسة حول ضريح القديس بطرس المتهدّم. وكانت بعض الكنائس مثل كنيسة سانتا ماريا مجيوري (القديسة مريم الكبرى) أو سانتا تشيتشيليا جميلة من داخلها ولكنها بسيطة من خارجها؛ ولم يكن في روما كنيسة تضارع كنيسة فلورنس أو ميلان؛ أو دير يضارع التشيرتوزا دي بافيا Certosa di Pavia، كما لم يكن فيها قاعة عامة تسمو إلى مكانة البلادسافينشيو (قصر فيتشيو) أو، كما لم يكن فيها قاعة عامة تسمو إلى مكانة البلادسافينشيو (قصر فيتشيو) أو الكاستيلوا اسفورديسكو Casello Sforzesco أو حتى البلاتسا بيليكو (القصر العام) في سينا. وكانت شوارع المدينة كلها تقريباً أزقة موحلة أو متربة؛ وقليل منها مرصوف بالحصباء. ولا يضاء فيها أثناء الليل إلاّ عدد قليل؛ ولم تكن تكنس إلاّ في أخص المناسبات، كعيد عام أو دخول شخصية جد خطيرة دخولاً رسمياً.

وكان عماد المدينة من الناحية الاقتصادية يجيء بعضه من المراعي وإنتاج الصوف، والماشية التي ترعى في الحقول القريبة منها، ولكن الجزء الأكبر منه يجيء من إيراد الكنيسة. وكانت الزراعة قليلة أو منعدمة، والتجارة أقل من القليل، أما الصناعة والتجارة الخارجية فقد كادتا تختفيان من الوجود لافتقارهما إلى الحماية وتعرضهما لاعتداء اللصوص وقطّاع الطريق. ولم تكد توجد في المدينة طبقة وسطى ـ فلم يكن فيها إلاّ الأشراف، ورجال الدين، والعامة- وكان الأشراف يمتلكون كل ما لم يقع في حوزة الكنيسة من الأراضي إلاّ القليل الذي لا يستحق الذكر، وكانوا يستغلون الفلاحين بلا وازع من رحمة ولا ضمير خليقين بالمسيحي الصحيح. وكانوا يقضون على العصيان بقسوة، ويتقاتلون فيما بينهم على أيدي الأوشاب السفاحين الأشدّاء، الذين يحتفظون بهم ويدربونهم على الضرب والفتك لينفذوا أغراضهم. واغتصبت الأسر الكبيرة- وخاصة أسرة كولنا وأسرة أرسيني- المقابر والحمامات، ودور التمثيل، وغيرها من المنشآت القائمة

ص: 25

في روما أو بالقرب منها، وحولتها إلى قلاع خاصة؛ وكانت قصورها الريفية مشيّدة بحيث تؤدي الأغراض الحربية، أو يبذلون جهدهم ليتولوا هم اختيار هؤلاء البابوات والسيطرة عليهم. وكثيراً ما أشاعوا الاضطراب الذي أدى إلى فرار البابوات من المدينة؛ حتى لقد كان البابا بيوس الثاني يدعو الله أن يجعل مدينة غير روما عاصمة ملكه (3). ولمّا أن حارب سكسنس الرابع واسكندر السادس أولئك الأعيان كانت حروبهما مجهوداً يغتفر لهما للتمتّع ببعض الأمن الذي لابد منه للكرسي البابوي.

وكان رجال الدين هم الذين يحكمون روما عادة، لأنهم كانت بأيديهم موارد الكنيسة على اختلاف أنواعها ينفقون منها. وكان الأهلون يعتمدون على ما ينصب في المدينة من الذهب الوارد من الأقطار المختلفة، وعلى ما يستطيع رجال الكنيسة أن يستخدموهم فيه من الأعمال بفضل هذا الذهب، وعلى الصدقات التي يستطيع البابوات أن يمدوهم بها منه. ولم يكن من شأن أهل روما أن يتحمّسوا لأي إصلاح في الكنيسة يقلّل من أنصباب هذا الذهب فيها. وإذ كانوا عاجزين عن العصيان الصريح فقد استبدلوا به الهجاء اللاذع الذي لا يضارعه في هذا هجاء آخر في أية مدينة غير روما في أوربا كلها. من ذلك أن تمثالاً في البياتسا نافونا Piazza Navona، وهو في أكبر الظن تمثال لهرقول، قد أطلق عليه اسم باسكوينو Pasquino- ولعل هذا الاسم قد أخذ من اسم خياط قريب منه- واتخذ لوحة تلصق عليها أحدث عبارات القذف والطعن، وكانت في العادة عبارة عن نكت باللغة الإيطالية أو اللاتينية، وكانت توجه في أكثر الأحيان إلى البابا الحاكم، وكان أهل روما قوماً متدينين في المناسبات الخاصة على الأقل؛ فكانوا يتزاحمون لتلقّي البركة من البابا، ويفخرون بأن يحذو حذو السفراء فيقبّلوا قدميه؛ ولكن لمّا أعجز داء الرثية البابا سكستس الرابع عن أن يظهر

ص: 26

أمامهم في الموعد المقرر لمنح هذه البركة وجّهوا إليه أقذع ما في جعبة أهل روما من السباب. ويضاف إلى هذا أن البابوات أصبحوا، بعد أن ألغى بوجينيوسش الرابع الجمهورية في روما، حكّام المدينة الزمنيين، وبذلك كان يوجّه إليهم ما يوجّه إلى الحكومات من شتائم. وكان من سوء حظ البابوية أن يكون مقرها بين أكثر أهل إيطاليا خروجاً على القانون.

وكان البابوات يشعرون بأن لهم الحق كل الحق في أن يطالبوا لأنفسهم بقسط من السلطة الزمنية ورقعة من الأرض يمارسون فيها هذه السلطة. ذلك بأنهم وهم رؤساء منظمة دولية، لا يقبلون أن يكونوا أسرى في أيدي دولة بمفردها كما كانت حالهم في واقع الأمر في أفنيون. فإذا ما ضيق عليهم إلى هذا الحد عجزوا لا محالة عن أن يقدّموا للناس جميعاً خدماتهم نزيهة من غير تفرقة بينهم؛ وعجزوا أكثر من هذا عن أن يحققوا حلمهم العظيم وهو أن يكونوا الحكّام الروحيين لجميع الحكومات. ولقد كانت "هبة قسطنطين" المزعومة وثيقة واضحة التزوير (كما اعترف بذلك نقولاس باستئجار فلاّ "، ولكن إهداء بيبين إيطاليا الوسطى للبابوية (755)، ذلك الإهداء الذي أيده شارلمان، (773) من الحقائق التاريخية التي لا شك فيها. وكان البابوات قد سكّوا لهم عملة خاصة منذ عام 782 إن لم يكن قبل ذلك التاريخ (4)، ولم يرتّب أحد في حقهم هذا قروناً طوالا. وكان توحيد السلطات المحلية، الإقطاعية أو الحربية، يسير في الولايات البابوية سيره في غيرها من الأمم الأوربية. فإذا كان البابوات من أيام نقولاس الخامس إلى أيام كلمنت السابع قد حكموا الولايات الخاضعة لهم حكم الملوك أصحاب السلطة المطلقة، فقد كانوا يتّبعون في هذا ما جرى به العرف في زمانهم، وكان من حقهم أن يشكّوا إذا قام مصلحون مثل جيرسن Gerson مدير جامعة باريس يطالب بالدمقراطية في الكنيسة ولكنه يستنكرها في الدولة. والحق أنه لا الدولة ولا الكنيسة كانت مستعدة للدمقراطية في

ص: 27

الوقت الذي لم تكن الطباعة قد أخذت فيه تعم وتنتشر. ذلك أن نقولاس الخامس قد ارتقى عرش البابوية قبل أن يطبع جوتنبرج الكتاب المقدس بسبع سنين، وقبل أن يصل فن الطباعة إلى روما بثلاثين سنة، وقبل أن ينشر ألدوس مانوتيوس أول كتاب من كتب الآداب القديمة. وملاك القول أن الديمقراطية ترف لا يستمتع به إلاّ إذا تثقفت العقول وساد الأمن والسلام.

وكان حكم البابوات الزمني ينبسط مباشرة على ما كان الأقدمون يسمّونه إقليم لاتيوم (وهو إقليم لادسيو في هذه الأيام)، وعلى جزء صغير من الإقليم المحصور بين تسكانيا، وأمبريا، ومملكة نابلي، والبحر الترهيني. وكانوا فضلاً عن هذا يدّعون أنهم أصحاب أمبريا نفسها وولايات الحدود، ورومانيا Romogna ( وهي رومانيا Romania القديمة). ويتكون من هذه الأصقاع الأربعة منطقة عريضة تمتد في عرض إيطاليا من البحر إلى البحر، وتضم نحو ست وعشرين مدينة كان البابوات متى شاءوا يحكمونها بأيدي نائبين عنهم أو يقسمونها بين حكّام الأقاليم الأخرى. وفضلاً عن هذا وذاك كان البابوات يدّعن أن صقلية ومملكة نابلي كلها إقطاعيتان باباويتان، مستندين في ذلك إلى اتفاق عقد بين البابا إنوسنت الثالث وفردريك الثاني؛ وأصبح أداء هاتين الدولتين جعلاً إقطاعياً للبابوية من أكبر أسباب النزاع بين حاكميها والبابوات. يضاف إلى هذا كله أن الكونتة ماتلدا كانت قد أوصت للبابوات (1107) بتسكانيا كلها تقريباً، بوصفها من ممتلكاتها الإقطاعية الخاصة، بما في ذلك فلورنس، ولوكا، وبستويا، وبيزا، وسينا، وأردتسو؛ وكان البابوات يطالبون بأن تكون لهم على جميع هذه الأملاك حقوق السادة الإقطاعية، ولكنهم قلّما كانوا يستطيعون أن ينفّذوا مطلبهم هذا ويجعلوه من الحقائق الواقعة.

وكانت البابوية تعاني الأمرّين من جرّاء الفساد الداخلي، وعجزها

ص: 28

الحربي والمالي، واشتباك الأحوال السياسية الأوربية بالإيطالية، والشئون الكنسية بالزمنية؛ وظلت وتلك حالها تكافح قروناً طوالا للمحافظة على ممتلكاتها التقليدية وتحول بينها وبين أن يمتلكها رؤساء العصابات الأفّاقون المستأجرون، وأن تعتدي عليها الدول الإيطالية الأخرى. مثال ذلك أن ميلان حاولت أكثر من مرة أن تمتلك بولونيا، وأن البندقية استولت على رافنا، وحاولت أن تضم إليها فيرارا، وأن نابلي حاولت أن تبسط سلطانها على لاتيوم. وقلّما كان البابوات يعتمدون في صد هذه الهجمات على جيشهم الصغير المؤلف من الجنود المرتزقين، بل كانوا يثيرون هذه الدول الطامعة بعضها على بعض؛ لينشئوا بذلك نوعاً من توازن القوى السياسية، ويحاولون أن يحولوا بين أية واحدة منها وبين أن يصبح لها من القوة ما يمكّنها من أن تلتهم الأملاك البابوية. ولقد كان مكيفلي وجوتشيارديني Guicciardini محقيّن حين أرجعا بعض أسباب تمزّق إيطاليا إلى هذه السياسة البابوية؛ ولقد كان البابوات على حق في الجري عليها لأنها كانت سبيلهم الوحيدة للمحافظة على استقلالهم الروحي والسياسي عن طريق سلطانهم الزمني.

وأحس البابوات بوصفهم حكّاماً سياسيين أنهم مضطرّون إلى استخدام نفس الأساليب السياسية التي يستخدمها أندادهم الحكّام الزمنيون. فكانوا يوزعون- وأحياناً يبيعون- المناصب والرتب الكهنوتية إلى ذوي النفوذ، حتى القصَّر منهم، لكي يوفوا بما عليهم من الديون السياسية، أو يحققوا أغراضاً سياسية، أو يكافئوا أو يعينوا رجالاً من الأدباء أو الفنانين. وكانوا يزوجون أقاربهم في الأسر ذات القوة السياسية. وكانوا يستخدمون الجيوش كما فعل يوليوس الثاني، أو أساليب الخداع كما استخدمها ليو العاشر (5)، للوصول إلى أغراضهم. وكانوا يغضّون النظر عن قيام درجات من البيروقراطية الخسيسة ـ كانوا يفيدون منها في بعض الأحيان- أكبر الظن

ص: 29

أنها لم تكن أشد خسّة مما كانت تتصف به معظم حكومات تلك الأيام. ولم تكن شرائع الولايات البابوية أقل شدة من شرائع غيرها من الدول، فكان مندوبو البابوات يشنقون اللصوص ومزيّفي النقود ويرون هذا شراً مريراً لابد للحكومات أن تسلكه. وكان معظم البابوات يعيشون معيشة بسيطة إلى الحد الذي تجيزه المظاهر والحفلات الرسمية الفخمة التي تتطلبها مناصبهم في زعمهم؛ وإن أسوأ القصص التي نقرأها عنه لهي أقاصيص غير مستندة إلى أساس صادق أذاعها عنهم هجّاءون غير مسئولين مثل برني Berni، أو طلاب المناصب الذين لم ينالوا بغيتهم أمثال أرتينو Artino، أو عملاء السلطات مثل آل إنفسورا Infessura المعادين للبابوية عدا شخصياً عنيفاً أو عداء دبلوماسياً. أما الكرادلة الذين كانوا يعرفون شئون الكنيسة الدينية والسياسية، فكانوا يرون أنفسهم شيوخاً في مجلس دولة غنية، وينظّمون حياتهم على أساس هذا الوضع، وشاد الكثيرون منهم لأنفسهم قصوراً فخمة، وناصر كثيرون غيرهم الآداب والفنون، وأباح بعضهم لأنفسهم الاتصال بالمحاظي والعشيقات، ولم يتحرجوا في اتباع القانون الأخلاقي السائد في أيام الاستهتار التي يعيشون فيها.

وواجه البابوات بوصفهم قوة روحية مشكلة التوفيق بين النزعة الإنسانية الأدبية وبين المسيحية. ولقد كانت النزعة الإنسانية نصف وثنية، وكانت الكنيسة قد أخذت على عاتقها اجتثاث أصول الوثنية وتقطيع فروعها، سواء كان ذلك في عقائدها أو في فنها. وكانت قد شجعت تدمير الهياكل والتماثيل الوثنية أو أباحت هذا التدمير. مثال ذلك أن كنيسة أرفيتو الكبرى كانت قد شُيّدت توّاً بالرخام الذي أخذ بعضه من كرارا وبعضه الآخر من الآثار الرومانية القديمة؛ وأن مندوباً بابوياً باع كتل الرخام المأخوذة من الكلوسيوم لكي تحرق ويصنع منها الجير (6)؛ وأن قصر البندقية قد بدء في تشييده في عام 1461 لا قبل بتدمير المدرج الفلافي. وقد استخدم نقولاس

ص: 30

نفسه، في حماسته المعمارية حمل ألفي عربة وخمسمائة من الرخام وصخور الترافرتين أخذها من الكلوسيوم، ومن حلبة مكسيموس وغيرهما من العمائر القديمة لكي يعيد بها بناء كنائس روما وقصورها (7). وكان انتهاج عكس هذه الخطة، والاحتفاظ بما بقى من الآثار الفنية والأدبية الرومانية واليونانية القديمة يتطلبان ثورة في التفكير الكنسي. وكانت منزلة النزعة الإنسانية في الأدب قد علت علوّاً كبيراً، وكانت الدوافع التي وراس الحركة الوثنية الجديدة قد اشتدت وقويت، والصبغة التي اصطبغ بها زعماؤها قد عظم تأثيرها، بحيث لم تر الكنيسة بدّاً من أن تجد مكاناً لهذه التطورات التي حدثت في الحياة المسيحية، وإلاّ خسرت الطبقات المثقفة في إيطاليا، ولعلها تخسر بعد ذلك هذه الطبقات في أوربا كلها. ومن أجل هذا احتضنت النزعة الإنسانية في أيام نقولاس الخامس، وانحازت بشجاعة ونبل إلى جانب الأدب الجديد والفن الجديد وتولت زعامتهما، وظلت مائة عام- تعد من أكثر الأعوام بهجة ورواء- (1447 - 1534) تتيح لعقل إيطاليا قدراً عظيماً من الحرية- الحرية التي لا يفيد منها العقل كما يقول فيليلفو- وللفن الإيطالي مناصرة، وفرصاً، ودوافع قائمة على التمحيص والتمييز جعلت روما مركز للنهضة، ومكّنتها من أن تستمتع بعصر من أكثر العصور لألاء في تاريخ البشرية.

ص: 31

الفصل الثاني

‌نقولاس الخامس

1447 -

1455

نشأ توماسو بارنتوتشيلي Fommosso Parentucelli نشأة فقيرة في سار دسانا، ولكنه استطاع بطريقة ما أن يلتحق بجامعة بولونيا، وأن يقضي فيها ست سنين. ولما نفذ ماله غادرها إلى فلورنس واشتغل مربياً خاصاً في بيتي رينلدو دجلي ألبتسي Rinaldo degli Albizzi وبلاده استرتسي Palla de Strozzi. ولمّا كثر ماله عاد إلى بولونيا وواصل الدرس وحصل وهو في سن الثانية والعشرين على درجة دكتور في اللاهوت. وعيّنه نقولو دجلي البرجاتي Niccolo degli Albergati، كبير أساقفة بولونيا مشرفاً على شئون بيت رياسة الأسقفية وأخذه إلى فلورنس ليكون في خدمة يوجنيوس الرابع حين كان هذا البابا يقضي عهد منفاه الطويل. واصبح هذا القس في السنين التي قضاها بفلورنس من أصحاب النزعة الإنسانية، دون أن يخرج بذلك على المبادئ المسيحية، وصار صديقاً حميماً لبرتي، ومارسوبيني، ومانتي، وأورسبا، وبجيو، وانضم إلى مجتمعاتهم الأدبية. وسرعان ما التهب قلب تومس ساردسانا، كما كان الإنسانيون يسمّونه، بنار تحمسهم للآداب القديمة، فكان ينفق كل دخله تقريباً في شراء الكتب، ويقترض المال لابتياع المخطوطات الغالية الثمن، وجهر بأمله في أن يمكّنه ماله يوماً ما من أن يجمع في مكتبة واحدة جميع الكتب العظيمة في العالم. وترجع نشأة مكتبة الفاتيكان إلى هذا المطمع العظيم (9). واستخدمه كوزيمو في عمل فهارس المكتبة المرقسية، وابتهج توماسو لوجوده بين مخطوطاتها؛ وقلّما كان يعرف أنه يعد نفسه لأن يكون أول بابوات النهضة.

وظل عشرين عاماً يقوم بخدمة ألبرجاتي في فلورنس وبولونيا. فلمّا

ص: 32

مات كبير الأساقفة (1443) عيّن يوجنيوس بارنتونشيلي خلفاً له؛ ثم عيّنه البابا بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت كردنالاً متأثراً في ذلك بعلمه، وصلاحه، ومقدرته الإدارية. وانقضى عام آخر، ومات يوجنيوس، ووجد الكرادلة أنفسهم في مأزق حرج بين أحزاب أرسيني وكولنا فرفعوا بارنتوتشيلي إلى عرش البابوية. وصاح هو في وجه فسبازياتو دا بستتشي Vespasiano da Bisticci قائلاً:"منذا الذي كان يظن أن عاملاً فقيراً يدق الجرس عند قسيس يصبح بابا، ويحدث بذلك الاضطراب في صفوف المتكبرين؟ "(10) وابتهج الإنسانيون في إيطاليا بهذا الاختيار ونادى أحدهم فرانتشيسكو بربارو Franceso Barbaro بأن رؤيا أفلاطون قد تحققت: فقد أصبح الفيلسوف ملكاً.

وكان لنقولا الخامس - وهذا هو الاسم الذي اختاره لنفسه - ثلاثة أهداف: أن يكون بابا صالحاً، وأن يعيد بناء روما، وأن يحيي الآداب والعلوم والفنون القديمة. وسلك في أعمال منصبه السامي مسلك التواضع والكفاية العظيمة، لا يكاد ينقطع عن مساع شئونه ساعة من ساعات النهار، واستطاع أن يحتفظ بعلاقات الود والصداقة بين كل من ألمانيا وفرنسا. وأدرك البابا المعارض فليكس الخامس أن نقولاس لن يلبث أن يكتسب ولاء العالم المسيحي كله، فتخلّى عن جميع دعاواه، وعفا عنه نقولاس فضلاً منه وكرماً؛ وانتقل المجلس الثائر الآخذ وقتئذ في الانحلال من بازل إلى لوزان ثم انفض (1449)؛ وانتهت بذلك حركة المجالس الكنسية، وانشعب الصدع الذي حدث في البابوية. غير أن المطالبة بإصلاح الكنيسة ظلت تجيء من وراء جبال الألب؛ وأحس نقولاس بأنه عاجز عن القيام بهذا الإصلاح أمام معارضة جميع ذوي المناصب الكبيرة الذين سيفقدون مناصبهم حتماً إذا ما تم هذا الإصلاح المنشود. وكان يأمل أن الكنيسة إذا ما تزعمت حركة إحياء العلوم، ستستعيد م كان لها من مكانة فقدتها

ص: 33

في أفنيون، وفي عهد الانشقاق. ولسنا نعني أن مناصرته للعلوم كانت منبعثة عن غايات سياسية، فنحن لا يخالجنا شك في أنها كانت رغبة صادقة تكاد تكون هياماً؛ فقد قام في أيامه الأولى برحلات شاقة فوق جبال الألب بحث فيها عن المخطوطات، وكان هو الذي كشف في بازل عن مؤلفات ترتليان.

والآن وقد امتلأت خزائنه بإيرادات البابويةـ فقد شرع يبعث العمال إلى أثينة والقسطنطينية، وإلى كثير من المدن في ألمانيا وإنجلترا ليبحثوا عن المخطوطات اليونانية واللاتينية، وثنية كانت أو مسيحية؛ ويشتروها أو ينسخوها. وحشد في الفاتيكان طائفة كبيرة من النساخين والناشرين، ولم يكد يترك كاتباً إنسانياً في إيطاليا إلاّ استدعاه إلى روما. وفي ذلك يقول فسبازيانو معجباً به وإن كان في قوله كثر من المبالغة:"وأقبل العلماء من جميع أنحاء العالم على روما في أيام البابا نقولاس، بعضهم من تلقاء أنفسهم، وبعضهم إجابة لطلبه"(1). وكافأهم على أعمالهم بسخاء لا يقل عن سخاء خلفاء المسلمين الذين تهز مشاعرهم نغمات الموسيقى أو قصائد الشعراء. من ذلك أن لورندسو فلا الخاضع لسلطان البابا تلقّى 500 دوقة (12. 500؟ دولار) لأنه ترجم كتاب توكيديدس إلى اللغة اللاتينية، ونال جوارينو دا فيرونا 1500 دوقة نظير ترجمة استرابون، ومنح نقولو بيترتي Niccolo Petrotti خمسمائة دوقة نظير ترجمة بوليوس، وكلّف بجيو بترجمة كتاب ديودور الصقلي؛ وأغلر ثيودورس جادسا Theodorus Gasa بالمجيء من فيرار ليخرج ترجمة لكتب أرسطو؛ ومنح فيليلفو بيتاً في روما، وضيعة في الريف، وعشر آلاف دوقة ليترجم الإلياذة والأوديسة إلى اللغة اللاتينية. وقد بلغ من ضخامة هذه المكافآت أن تردد بعض العلماء في قبولها، ولكن البابا تغلّب على التردد بأن حذّرهم بشيء من الفكاهة قائلاً" "لا ترفضوا، فقد لا تجدوا نقولاس آخر" (12) ولمّا أن

ص: 34

أخرجه الوباء من روما إلى فيرارا، أخذ مترجميه ونسّاخيه خشية أن يهلك الوباء واحداً منهم (13). على أنه في الوقت عينه لم يهمل ما يمكن أن نسمّيه الأدب المسيحي القديم. فقد عرض خمسة آلاف دوقة على من يستطيع أن يأتيه بإنجيل متّي بلغته الأصلية؛ واستخدم جيانتسومانتي وجورج الكربزوني ليترجما كتب سيريل Cyril، وباسل، وجريجوري تريانزين وجريجوري النتشائي وغيرها من الآداب الدينية؛ وعهد إلى مانتي وطائفة من مساعديه بأن يخرجوا ترجمة جديدة للكتاب المقدس عن النسخة العبرية الأصلية واليونانية، لكن موته حال دون هذا العمل أيضاً. وتمت هذه التراجم اللاتينية في عجلة، وكانت تشوبها كثير من العيوب، ولكنها فتحت لأول مرة كتب هيرودوت، وتوكيديدس، وأكسانوفون، وبولبيوس، وديودور، وأبيان، وفيلون، ونيوفرا سطوس، لطلاب العلم الذين لا يستطيعون قراءة اللغة اليونانية. وكتب فيليلفو مشيراً إلى هذه التراجم يقول:"لم تفن اليونان، بل هاجرت إلى إيطاليا، التي كانت في الأيام الخالية تسمى اليونان الكبرى"(14). ويقول مانتي معبّراً عن شكره واعترافه بالجميل، تعبيراً تعوزه الدقة العلمية، إن ما ترجم من الكتب في الثمان السنين التي جلس فيها نقولاس على عرش البابوية أكثر ممّا ترجم في الخمسة القرون السابقة بأجمعها (15).

وكان نقولاس يحب مظهر الكتب وشكلها كما كان يحب ما تحتويه صحائفها. وكان هو نفسه خطاطاّ؛ وأمر بأن يكتب له التراجم كتبة مهرة على الرق؛ وأن تجلّد أوراقها بالقطيفة القرمزية اللون، وأن تكون لها مشابك من الفضة. ولمّا كثر عدد كتبه - حتى بلغ أخيراً 824 مخطوطاً لاتينياً و352 مخطوطاً يونانياً - وضمّت هذه الكتب إلى مجموعات البابوات السابقين نشأت مشكلة المكان الذي توضع فيه هذه المجلدات الخمسة الآلاف - أكبر مجموعة من الكتب في العالم المسيحي - بحيث يضمن انتقال هذه

ص: 35

الذخيرة كاملة إلى الخلف، وكان تشييد دار الكتب في الفاتيكان من أصدق أماني نقولاس.

وكان بنّاءً كما كان عالماً تحريرياً، وقد صمم منذ جلس على عرش البابوية على أن يجعل روما خليقة بزعامة العالم. وكان عيد من أعيادها قد اقترب موعده إذ كان يحل في عام 1450. وكان ينتظر قدوم مائة ألف زائر إليها في هذا العيد، وينبغي ألاّ يجدوا روما خربات رثّة بالية، وتطلبت كرامة الكنيسة والبابوية أن يطالع حصن المسيحية الحصين زائريه (بمبان فخمة، تجمع بين حسن الذوق والجمال من جهة والفخامة والضخامة من جهة أخرى" بحيث "يرفع هذا من شأن كرسي الرسول بطرس". هكذا صرّح نقولاس بغرضه وهو على فراش الموت معتذراً عمّا قصّر فيه. وقد أعاد بناء أسوار المدينة وأبوابها الكبرى، ورمّم سقاية ماء فرجيني Aqua Vergine، وأمر أحد الفنانين بأن ينشئ فسقية عند مصبّها تزدان بها. وعهد إلى ليون ألبرتي بأن يخطط القصور، والميادين العامة، والشوارع الفسيحة، تقيها من الشمس والمطر البواكي المعمّدة. وأمر برصف كثير من الشوارع، وتجديد كثير من الجسور، ورمّم حصن سانت أنجيلو. وأقرض أعيان المواطنين الأموال ليساعدهم على بناء القصور التي تزدان بها روما. وجدّد برناردو رسلينو، إطاعة لأمره، كنائس سانتا ماريا مجبوري، وسان جيوفني لاترنو، وسان بولو، وسان لورندسو القائمة خارج أسوار المدينة، والكنائس الأربعين التي كان جريجوري الأول قد خططها لتكون محطات للصليب (16). ووضع تصميمات فخمة لبناء قصر جديد للفاتيكان يغطي بحدائقه جميع تل الفاتيكان، ويسع البابا وجميع موظفيه، وكرادلته، وجميع المكاتب الإدارية التابعة للحكومة البابوية. وعاش حتى أتم حجراته الخاصة (التي شغلها فيما بعد اسكندر السادس وسمّاها جناح بورجيا)، والمكتبة (وهي الآن البيناكوتيكا

ص: 36

فاتيكانا) والحجرات التي نقشها رفائيل فيما بعد. واستدعى بينيديتو بنتفجلي من بروجيا، واندريا دل كستنانيو من فلورنس لينقشوا رسوماً جصية - لم يبق لها أثر الآن - على جدران الفاتنكان؛ وأقنع الراهب أنجيلكو - وكان وقتئذ شيخاً طاعناً في السن - بأن يعود إلى روما لينقش في معبد البابا نفسه قصص القديس اصطفانوس، والقديس لورنس، وفكر في أن يهدم باسلقا القديس بطرس المتداعية، وأن يشيّد فوق قبره أروع كنيسة في العالم، وقُدّر ليوليوس الثاني أن يشرع هو في تحقيق هذا الغرض الجليل.

وكان يأمل أن يحصل على ما يلزمه من المال لتحقيق هذه الأغراض كلها مما يرد إلى روما في ذلك العيد القريب. وأعلن نقولاس أن هذا العيد سيكون احتفالاً بعودة السلام والوحدة إلى الكنيسة؛ ووافق ذلك هوى في نفوس شعوب أوربا. وتوافد الحجاج من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني بكثرة لم يسبق لها من قبل مثيل، وشبّههم شهود عيان بأسراب من النمل، وبلغ الزحام في روما درجة اضطر معها البابا إلى أن يحدد أقصى مدة يقيمها أي زائر فيها بخمسة أيام في أول الأمر، ثم بثلاثة، ثم بيومين اثنين. وحدث في يوم من الأيام أن قتل مائتا شخص حين تدافع الناس فهووا في نهر التيبر. فما كان من نقولاس بعدئذ إلاّ أن أمر بهدم بعض البيوت ليفسح الطريق إلى كنيسة القديس بطرس. وجاء الحجاج معهم بهدايا فاقت في قيمتها ما كان يتوقعه نقولا نفسه، ووفت بنفقات مبانيه الجديد، وما خصصه من المال للعلماء والمخطوطات (17). وعانت المدن الإيطالية الأخرى نقصاً في النقود لأن الأموال "كلها تدفقت في روما" ولكن أصحاب النزل في روما، ومبدّلي النقود والصيارفة، والتجار جنوا أرباحاً طائلة، حتى استطاع نقولاس أن يودع في مصرف آل ميديتشي وحده مائة ألف فلورين (2. 500. 000؟ دولار)(18). واشتد تذمر البلاد الواقعة وراء جبال الألب من انصباب الذهب إلى إيطاليا.

ص: 37

وحتى في روما نفسها شوّه بعض التذمر هذا الرخاء الطارئ. ذلك أن حكم نقولاس لهذه المدينة كان حكماً مستنيراً عادلاً كما يراه هو، وكان قد وعد بتحقيق بعض الآمال الجمهورية، بأن رشّح أربعة من المواطنين يعيّنون هم في المستقبل جميع موظفي البلدية، ويشرفون على شئون الضرائب التي تجبى من المدينة. ولكن أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان وهم الطبقة التي كانت تتولى حكم المدينة حين كان البابوات يقيمون في أفنيون وفي عهد الانشقاق، لم يرضوا عن الحكومة البابوية القائمة فيها، كما استاء العامة من تحويل الفاتيكان إلى قصر محصن يقوى على صد أي هجوم يماثل الهجوم الذي أدى إلى طرد يوجنيوس من روما. وكانت الأفكار الجمهورية التي ينادي بها أرنلد البيشائي، وكولا دي ريندسو Cola di Rienzo لا تزال تثير كثيراً من العقول. وحدث في السنة التي تربّع فيها نقولاس على عرش البابوية أن ألقى زعيم من أهل المدينة يدعى استفانو بركارو Stefaco Porcaro خطبة حماسية نارية يطالب فيها بإعادة الحكم الذاتي إلى المدينة؛ فما كان من نقولاس إلاّ أن نفاه من المدينة نفياً مريحاً، إذ عيّنه حاكماً لأنياني، ولكن بروكورو استطاع أن يعود إلى العاصمة، وأن ينادي بنداء الحرية أمام جمع مهتاج في حفلة مقنعة. ونفاه نقولاس مرة أخرى إلى بولونيا، ولكنه ترك له حريته الكاملة ولم يفرض عليه إلاّ أن يظهر كل يوم أمام المندوب البابوي في المدينة. بيد أن استفانو، الذي لم يكن شيء يثبّط همته أو يقعد به عن العمل، استطاع وهو في بولونيا أن يدبر مؤامرة محكمة أشرك فيها ثلاثمائة من أتباعه في روما. وكانت النية مبيتة على أن يهاجم المتآمرون قصر الفاتيكان في يوم عيد الغطاس أثناء قيام البابا والكرادلة بالقداس في كنيسة الرسول بطرس، ثم يستولوا على ما فيه من كنوز ليتمكنوا بها من إقامة جمهورية، ثم يلقوا القبض على نقولاس نفسه ويتخذوه أسيراً (19). وغادر بركارو بولونيا أسيراً (في 26 ديسمبر سنة

ص: 38

1452) وانضم إلى المتآمرين عشية يوم الهجوم المدبر. ولكن غيابه عن بولونيا عرف، وجاء رسول إلى الفاتيكان يحذر البابا من المؤامرة. واقتفى أثر استفانو، وعثر عليه، وزج في السجن، وضرب رأسه في اليوم التاسع من يناير في سانت أنجيلو. وعد الجمهوريون قتله اغتيالاً، وندد الكتاب الإنسانيون بالمؤامرة وعدّوها خيانة مروعة للبابا الخير الصالح.

وروع نقولاس، وتبدلت حاله لمّا تبين له أن قسماً كبيراً من أهل المدينة يرونه طاغية مهما تكن فعاله الخيّرة. وأقضّت مضجعه الظنون السيئة، وملأ الغضب صدره، وعذبه مرض الرثية، فأخذ ينحدر انحداراً سريعاً نحو الشيخوخة. ولمّا جاءته الأنباء بأن الأتراك استولوا على القسطنطينية فوق خمسين ألفاً من جثث المدافعين عنها، وأنهم اتخذوا كنيسة أياً صوفياً مسجداً (1453)، خيل إليه أن ما ناله في أثناء بابويته كان بهرجاً كاذباً وعبثاً باطلاً قصير الأجل. وأهاب بالدول الأوربية أن تضم صفوفها لتقوم بحملة صليبية تستعيد بها حصن المسيحية الشرقية الحصين، وطالب بعشر إيراد أوربا الغربية بأجمعه ليمول به هذه الحملة، وتعهّد بأداء جميع إيرادات الأملاك البابوية، والحكومة البابوية، وغيرها من الموارد الكنسية؛ ثم طال بوقف جميع الحروب المستعرة بين الأمم المسيحية، وإلا حرم القائمون بها من حظيرة الدين، لكن أوربا أصمت أذنيها عن سماع النداء. وقال الناس إن الموال التي جمعها البابوات السابقون لتمويل حروب صليبية استخدمت في أغراض أخرى. وآثرت البندقية أن تعقد مع الأتراك اتفاقاً تجارياً، وأفادت ميلان من متاعب البندقية فاستردت برستشيا، ونظرت فلورنس بعين الرضا إلى فقدان البندقية تجارتها مع الشرق (20). وأحنى نقولاس رأسه أمام الحقيقة الواقعة، وبرد دم الحياة في عروقه. وتوفى الرجل في عام 1455 في الثامنة والخمسين من عمره بعد أن أنهكته متاعب الدبلوماسية غير المجدية وجوزي على خطايا أسلافه.

ص: 39

لكنه أعاد السلام إلى داخل الكنيسة، وأعاد النظام والمجد إلى روما، وأنشأ أعظم مكتبة في أوربا كلها، ووفق بين الكنيسة والنهضة، ولم يدنس يده بالحرب، ولم يتحيز لذوي القربى، وبذل ك لما يستطيع من الجهد ليخرج بأوربا من النزاع المؤدي إلى الانتحار. وكان هو نفسه يحيا حياة بسيطة وسط موارد لم يسبق لها في ضخامتها مثيل، وكان محباً للكنيسة ولكتبه، ولم يسرف إلاّ في عطاياه. وقد عبّر إخباري محزون عن شعور إيطاليا حين وصف البابا العالم بأنه رجل "حكيم، عادل، خيّر، رحيم، مسالم، شفيق، محسن، متواضع

متصف بجميع الفضائل" (21). نعم إن هذا هو حكم المحبين، وقد لا يرى بركورو هذا الرأي، ولكن لا بأس من أن نسجل هذا الحكم.

ص: 40

الفصل الثالث

‌كلكستس الثالث

1455 -

1468

وكان تفرق إيطاليا هو الذي قرر نتيجة انتخاب البابا الذي خلف نقولاس: ذلك أن الكرادلة قد عجزوا عن الاتفاق على اختيار أحد الكرادلة الإيطاليين، فعمدوا من أجل ذلك إلى اختيار كردنال أسباني هو أفنسو بورجيا Alfonso Borgia الذي تسمّى باسم كلمنت الثالث. وكان البابا الجديد قد بلغ السابعة والسبعين من العمر، وكان موته مرتقباً بعد قليل، فتتاح بذلك للكرادلة فرصة اختيار أخرى قد تكون أعود عليهم بالفائدة، وكان كلكستس متخصصاً في القانون الكنسي بارعاً في الدبلوماسية، ولذلك كان ذا عقلية قانونية، قليل العناية بالعلوم القديمة التي شغف بها نقولاس. وضعف في عهده شأن الكتّاب الإنسانيين الذين لم تكن لهم أصول ثابتة في روما إذا استثنينا منهم فلا Valla الذي ظل بعد أن صلحت حاله أميناً للبابا.

وكان كلكستس رجلاً صالحاً يعطف على أقاربه، فلم تنقض على تزويجه عشرة أشهر حتى رفع إلى مقام الكردنالية اثنين من أبناء أخيه - هما لويس جوان داميلا Luis Juan da Maila، وردريجو بورجيا - ودن جيمي البرتغالي Don Jayme، وكانت سنّهم على التوالي خمسة وعشرين عاماً، وأربعة وعشرين، وثلاثة وعشرين. وكان يعيب ردريجو (الذي أصبح فيما بعد البابا أسكندر السادس) شيء آخر وهو أنه كان رجلاً صريحاً مستهتراً في أمور عشيقاته؛ لكن كلكستس مع ذلك منحه أكثر المناصب كسباً في البلاط البابوي - فجعله نائب رئيس الحكومة البابوية (1457)، ثم عيّنه في العام نفسه قائداً عاماً للقوات البابوية. وهكذا

ص: 41

بدأت محاباة الأقارب، وهي الخطة التي اتبعها البابوات، واحداً بعد واحد فوهبوا المناصب البابوية لأبناء أخوتهم وأخواتهم وغيرهم من أقاربهم، وكانوا في كثير من الأحيان أبناء البابا نفسه، وأغضب كلكستس الإيطاليين إذ أحاط نفسه برجال اختارهم من بلده فأضحت روما الآن يحكمها القطلانيون. على أن البابا كانت تدعوه إلى ذلك أسباب معقولة: منها أنه كان أجنبياً في روما؛ وأن الأعيان والجمهوريون كانوا يحيكون المؤامرات ضده، وكان يريد أن يكون بالقرب منه رجال يعرفهم، يحمونه من الدسائس - بينما كان يوجّه اهتمامه إلى أهم ما يعنيه - ألا وهو الحرب الصليبية. هذا إلى أن البابا كان يريد أن يكون ثمة نفر من أصدقائه في مجمع الكرادلة الذي لا ينفك لجعل البابوية ملكية انتخابية ودستورية، تخضع في جميع قراراتها للكرادلة بوصفهم مجلساً للشيوخ أو مجلساً مخصوصاً، وكان البابوات يقاومون هذه الحركة، وأفلحوا في التغلب عليها، كما كان الملوك يحاربونها، وكما أفلحوا في القضاء عليها، لا فرق بين هؤلاء وأولئك. وكان النصر في كلتا الحالتين حليف الملكية المطلقة؛ ولكن لعل استبدال الاقتصاد القومي بالاقتصاد المحلي، واتساع مجال العلاقات الدولية وتعقّدها، يتطلبان، إلى وقت ما، تركيز الزعامة والسلطان. وأنهك كلكستس آخر قطرات نشاطه في محاولته غير المجدية لإثارة أوربا والأهابة بها إلى مقاومة الأتراك. ولمّا مات احتفلت روما بانتهاء حكم "البرابرة" لها. ولمّا رشّح الكردنال بكولوميني Piccolomini خلفاً له، ابتهجت روما كما لم تبتهج من قبل لاختيار أي بابا في خلال المائتي العام الأخيرة.

ص: 42

الفصل الرابع

‌بيوس الثاني

1458 -

1464

بدأ إنياسلفيو ده بكولوميني Enea Silvio de Piccolomini حياته في عام 1405 في بلدة كرستيانو القريبة من سينا. وكان أبواه فقيرين ولكنهما من أروما مجيدة. ودرس القانون في جامعة سينا، ولكن القانون لم يرق له، لأنه كان يميل إلىالأدب، غير أنه أكسب عقله وحدة وانتظاماً في التفكير، وأعدّه لواجبات الإدارة والسياسة. ودرس الآداب الإنسانية في فلورنس على فيليلو، وظل من ذلك الوقت ذا نزعة إنسانية، ثم عيّنه الكردنال كبرانيكا أميناً له ورافقه إلى مجلس بازل، وهناك اجتمع مع طائفة من أعداء بوجنيوس الرابع؛ وبقي بعد ذلك كثيراً من السنين يدافع عن حركة المجالس ضد سلطان البابوية، ثم اشتغل وقتاً ما أميناً لفليكس الخامس البابا المعارض. ولكنه أدرك أنه قد راهن على الجواد الخاسر، فأغرى أحد الأساقفة بأن يقدمه للإمبراطور فردريك الثالث، وما لبث أن عين في منصب في البلاط الملكي، حتى إذا كان عام 1442 رافق فردريك إلى النمسا، وظل مرتبطاً به بعض الوقت.

ولم تبد عليه في تلك السنين التي كان يتكون فيها عقله نزعة خاصة، وكل ما في الأمر أنه كان إنساناً نشيطاً يرقى إلى المناصب، غير ذي مبادئ يحرص عليها، أو هدف يبتغيه غير النجاح؛ فقد كان يتنقل من جانب إلى جانب دون أن يدب اليأس إلى قلبه، ومن امرأة إلى امرأة وهو مرح متقلب تقلباً يبدو له - كما كان يبدو لمعظم معاصريه - أنه هو التدريب الصحيح لواجبات الزوجية، وشاهد ذلك أنه كتب إلى صديق له رسالة يقصد بها التغلب على عناد فتاة تؤثر الزواج على الفجور (22). وكان له

ص: 43

عد من الأبناء غير الشرعيين بعث بواحد منهم إلى أبيه وطلب إليه أن يربيه، واعترف له بأنه "ليس أكثر قداسة من داود، ولا حكمة من سليمان"(23)؛ وكان في وسع الشاب الخبيث أن يقتبس من الكتاب المقدس ما يؤيد أغراضه. وكتب رواية من طراز كتابات بوكاتشيو، ترجمت إلى اللغات الأوربية كلها تقريباً، وكانت مما يجابه به لمّا تولى منصبه الديني. وقد تردد طلايلا في لبس المسوح، وإن كان يعلم أن رقيه في المستقبل يتطلب أن ينخرط في سلك رجال الدين؛ وذلك لأنه كان يشك كما يشك أوغسطين في قدرته على التعفف (24). وكتب يعارض مبدأ عدم زواج رجال الدين (25).

ولكنه احتفظ وسط هذا التقلب كله بالإخلاص للأدب. ذلك أن إحساسه المرهف بالجمال، وهو ذلك الإحساس الذي أفسد أخلاقه، قد جعله يهوى الطبيعة، ويولع بالأفكار؛ وهو الذي كوّن أسلوبه الذي جعله أكثر الكتّاب إمتاعاً، وأفصح الخطباء في القرن الخامس عشر كله. وقد كتب في فروع الأدب كلها تقريباً ـ وكانت كلها إلاّ القليل باللغة اللاتينية؛ كتب في القصص، والشعر، والفكاهات الشعرية، والحوار، والمقالات، والتواريخ، والأسفار، والجغرافية؛ وكتب الشروح والتعليقات، والمذكرات، وكتب مسلاة، وكانت كلها بتحمس وظرف لا يقلاّن في ذلك عن أجمل ما في كتابات بترارك النثرية. وكان يسعه أن يكتب أية وثيقة من وثائق الدولة، ويعد أو يرتجل خطبة بمهارة تقنع قارئها أو سامعها، وتأثر بسلاستها عقل من يطّلع عليها. وكان من خصائص ذلك العصر أن إينياس سلفيوس Aeneas Sylvius بدأ من لا شيء ولكنه ارتقى إلى مقام البابوية على سن قلمه. ولسنا ننكر أن أشعاره لم يكن لها من العمق أو القدر ما يخلدها، ولكنها بلغت من الرقة حداً جعله يتلقى تاج العشر من فردريك الثالث (1442) دليلاً على اغتباطه بشعره. وكان لمقالاته

ص: 44

سحر وخفة عوضا ما كان ينقص كاتبها من قوة العقيدة أو التمسك بالمبدأ، وكان يسعه أن ينتقل من حديث عن "شقاء حياة البلاط"(26) التي يقول فيها إن "الرذائل كلها تنصب في بلاط الملوك كما تنصب مياه الأنهار في البحار" إلى رسالة في "طبيعة الخيل والعناية بها". وكان من الخصائص الأخرى لذلك العصر أن خطابه الطويل في التربية ـ الذي كتبه إلى لادسلاس ملك بوهيميا، ولكنه كان يقصد نشره - لم يقتبس فيه إلاّ من الكتّاب الوثنيين، اللهم إلاّ عبارة واحدة اقتبسها من غيرهم، وأنه لم يضرب إلاّ أمثلة مستمدة من هؤلاء الكتّاب، وأنه نظم عقود المديح لدراسات الإنسانية، وحث الملك على أن يعد أبناءه لتحم لمشاق الحرب وتبعاتها لأن "المسائل الجدية لا تسوّيها القوانين بل قوة السلاح"(27). وتعد مذكراته التي كتبها عن أسفاره خير ما كتب من نوعها في أدب النهضة كله، ذلك أنه لم يكتف بوصف المدن والمناظر الريفية وصفاً ذا فتنة ومتعة؛ بل وصف فوق ذلك صناعات البلاد التي زارها، وغلاتها، وأحوالها السياسية، ونظمها الحكومية، وعادات أهلها وأخلاقهم، ولم يكتب أحد بعد بترارك عن الريف بمثل ما كتب هو من حب وإعزاز. وكان هو دون غيره من الإيطاليين في قرون عدة الذي أحب ألمانيا؛ وكان يجد كلمة طيبة يقولها عن الصخابين من أهل المدن الذين يملأون الهواء بأغانيهم ويملأون بالجعة بطونهم، بدل أن يغتال بعضهم بعضاً في الشوارع. وكان يصف نفسه بأنه حريص على أن يرى مختلف الأشياء (28)، وكن من أقواله المأثورة التي يكررها على الدوام "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال"(29). وحول قلمه المطواع لكتابة التاريخ، فكتب عدة تراجم قصيرة للمشهورين من معاصريه؛ وكتب سيرة بترارك، وتاريخ الحرب الهوسية Hussite Wars، وموجزاً لتاريخ العالم. ثم وضع خطة لكتابة تاريخ العالم وجغرافيته أكبر من التاريخ السابق، وظل يعمل فيه وهو بابا، وأتم قسمه الخاص بآسية والذي عني

ص: 45

كولمبس بقراءته (30). وكان وهو بابا يكتب من يوم إلى يوم مذكرات Commentaria يسجل فيها تاريخ حكمه حتى مرض مرضه الأخير. وكان وهو في هذه المرحلة من حياته "يقرأ ويملي حتى وهو راقد على فراشه حتى منتصف الليل، كما يقول معاصرة بلاتينا Platina، ولم يكن ينام أكثر من خمس ساعات أو ست"(31). وكان يعتذر لأنه يقضي وقت البابوية في الأعمال الأدبية ويقول: "إنا لم نختلس وقتاً من واجباتنا؛ بل إننا منحنا الكتابة من الوقت ما كان يجب أن نقضيه في النوم؛ وقد حرمنا شيخوختنا من الراحة حتى نورث الأجيال القديمة لما نعرف أنه خليق بأن يخلّد"(32).

وبعث الإمبراطور باينياس سلفيوس رسولاً إلى البابا في عام 1445. واعتذر الرجل الذي هاجم يوجنيوس مائة مرة اعتذاراً تأثر من فصاحته الباب الرحيم فلم يسعه إلاّ أن يعفو عنه، وأصبحت روح إينياس من ذلك اليوم ملكاً ليوجنيوس. ورسم قسيساً (1446)، ولمّا بلغ الحادية والأربعين من العمر ركن إلى العفة والطهارة، وعاش من ذلك الحين معيشة مثالية، واحتفظ بولاء فردريك للبابوية؛ واستطاع بسياسته الحصيفة، الملتوية في بعض الأحيان، أن يعيد ولاء الناخبين والأحبار الألمان إلى الكرسي الرسولي. وأيقظت زياراته لروما وسينا حبه لإيطاليا من جديد، فحل روابطه بفردريك شيئاً فشيئاً، وأحكمها ببلاط البابا (1455). لأنه كان يرغب على الدوام في أن يعود إلى معمعان السياسة وإلى موطنه الأول؛ ذلك أنه في روما سيكون في مركز الحركة كلها؛ ومن يدري لعله وهو في وسط الحادثات الصاخبة وتقلباتها يتنسَّم عرش البابوية. فلمّا كان عام 1449 عين أسقفاً لسينا، وفي عام 1456 أصبح الكردنال بكولوميني.

ولمّا حل الوقت الذي يجب أن يختار فيه خليفة لكالكستس، أراد الإيطاليون في المجمع المقدس أن يتفادوا اختيار الكردنال دستونيفيل Cardinal d' Estouteville، فأعطوا أصواتهم لبكولوميني. لأن الكرادلة

ص: 46

الإيطاليين صمموا أن يحتفظوا بالمجمع المقدس إيطالياً صميماً؛ وكان تصميمهم هذا مبنياً على أسباب شخصية وعلى خوفهم من أن البابا الغير الإيطالي قد يعيد الانشقاق إلى العالم المسيحي بانحيازه إلى بلاده، أو بنقل كرسي البابوية من إيطاليا. ولم يجابه أحد إينياس بذنوب شبابه، ولم يتردد الكردنال ردريجو المرح في أن يدلي له بصوته في غير مواربة؛ وأحست الكثرة الغالبة أن الكردنال بكولوميني، وإن لم يرتد القلنسوة الحمراء

(1)

إلاّ من عهد قريب، كان واسع التجربة، كما كان دبلوماسياً ناجحاً واسع الاطلاع على شئون ألمانيا المتعبة، وعالماً يرفع بعلمه مكانة البابوية.

وكان وقتئذ في الثالثة والخمسين من العمر، وكانت حياته الكثيرة المغامرات قد أثرت كثيراً في صحته حتى بدا وكأنه شيخ طاعن في السن. وبينما هو مسافر من هولندا إلى إسكتلندة (1435)، إذ اضطرب البحر اضطراباً بعث في نفوس المسافرين أشد الهول والانزعاج - حتى لقد استغرقت الرحلة من سلويس Sluys إلى دنبار Dunbar اثني عشر يوماً - فأقسم إذا نجا أن يسير حافي القدمين إلى أقرب ضريح للعذراء. وحدث أن كان هذا الضريح في هويت كيرك Whitekirk على بعد عشرة أميال من المكان الذي نزل فيها. وبرَّ بيمينه، ومشى المسافة كلها وهو حافي القدمين فوق الثلج والجليد، وأصيب بداء الرثية وظل يعاني منه أشد الآلام ما بقى من حياته، ولم يحل عام 1458 حتى كان مصاباً بحصاة في الكلوتين، وبسعال مزمن. وغارت عيناه، وامتقع لون وجهه، "ولم يكن في وسع الناس أحياناً" كما يقول بلاتينا "أن يقولوا إنه حي إلاّ حين يسمعون صوته"(33). وكان وهو بابا يعشي عيشة بسيطة يراعي فيها جانب الاقتصاد؛ وكانت نفقات بيته في الفاتيكان أقل ما سجله التاريخ من نفقات هذا البيت.

(1)

أي لم يصبح كردنالاً (المترجم).

ص: 47

وكان إذا أمكنته واجبات منصبه يأوي إلى ضاحية في الريف، يعيش فيها كما يعيش القروي الشريف المتواضع لا كما يعيش البابوات" (34). وكان أحياناً يحضر مجمع الكرادلة أو يستقبل السفراء، في ظلال الأشجار أو بين غياض أشجار الزيتون، أو إلى جوار عين باردة أو ماء جار. وكان يسمي نفسه من قبيل التورية سلفارم أماتور Silvarum Amator أي محب الغابات.

وقد اشتق اسمه البابوي من عبارة فرجيل التي يكررها كثيراً وهي prius Aeneas أي إينياس التقي. وإذا جاز لنا أن نتغاضى عمّا في ترجمة هذه الصفة من خطأ قليل أجَلَّه العرف، قلنا إنه عاش عيشة ينطبق عليها هذا الوصف. فقد كان تقيّاً، أميناً في أداء واجباته، خيّراً، متسامحاً، معتدلاً، حليماً، كسب قلوب جميع الناس حتى الساخرين من أهل روما. ولمّا كبر تخلى عن شهوانية شبابه، وأصبح من الناحية الأخلاقية بابا نموذجياً. ولم يحاول قط أن يخفي ما كان له في أيامه الأولى من مغامرات في الحب، أو ما قام به من دعوة للمجالس الكنسية المعارضة للبابوية، ولكنه أصدر قراراً يستنكر فيه ما فعل (1463)؛ ويضرع فيه إلى الله وإلى الكنيسة أن يغفرا له أخطاءه وذنوبه. وخاب رجاء الكتّاب الإنسانيين الذين كانوا يتوقعون أن يبسط عليهم البابا ذو النزعة الإنسانية رعايته ويغدق عليهم عطاياه، وذلك حين وجدوا أنه لا يؤدي إليهم أجوراً عالية، وإن كان يستمتع بصحبتهم، وإن عيّن بعضهم في مناصب إدارية في حكومته البابوية؛ بل كان يحتفظ بأموال البابوية ليجهز بها حملة صليبية على الأتراك. على أنه ظل في أوقات فراغه إنساني النزعة: فقد كان يعنى اشد العناية بدراسة الآثار القديمة، ونهى عن تدمي شيء آخر منها؛ وأمن أهل أربينو Arpino لأن شيشرون ولد في تلك المدينة؛ وأمر بترجمة هوميروس ترجمة جديدة، وعين بلاتينا وبيندو في أمانته العلمية. واستقدم مينو دا فيسولي Mino da Fiesole ليقوم ببعض أعمال النحت في كنائس روما، كما استقدم

ص: 48

فلبينو لبي Eilippino Lippi لينقشها. وأطلق العنان لخيلائه بأن شيّد من تصميم وضعه برنارو رسلينو، كنيسة كبرى وقصر بكولوميني في بلدته كرسنيانو Corsignano التي سمّاها بيندسا Pienza باسمه. وكان يفخر بكرم محتده فخر الفقراء العريقي النسب، وأفرط في ولائه لأصدقائه وأقاربه إفراطاً أضر بمصالح الكنيسة، فقد أصبحت الفاتيكان في أيامه خلية بكولومينية.

وكانت مدة بابويته تزدان بعالمين من جلة العلماء، أحدهما فلافيو بيندو Flavio Biondo الذي كان أميناً للبابوية من أيام نقولاس الخامس، والذي كان رمزاً للنهضة المسيحية. وكان فلافيو مولعاً بالآثار القديمة، أنفق نصف حياته في كتابة تاريخها ووصف بقاياها؛ ولكنه كان طوال الوقت مسيحياً تقياً، صادق الإيمان، لا ينقطع عن أداء الشعائر الدينية. وكان بيوس يعرف له قدره ويتخذه مرشداً له وصديقاً، ويفيد من مرافقته في زيارة الآثار الرومانية. ذلك أن بيندو كان قد كتب موسوعة من ثلاثة أجزاء أسماها روما العالمة، روما الظافرة، وإيطاليا الباهرة، سجّل فيها تخطيط إيطالي القديمة، وتاريخها، وأنظمتها، وشرائعها، ودينها، وعاداتها، وفنونها. وأعظم من هذه الموسوعة على عظمتها كتابه المسمى تاريخ انحطاط الرومان وهو سبيه بكتاب "اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها"، وإن كان أكبر منه حجماً، وهو يصف أحوالها من 476 حتى 1250، أي في أولى الفترات العصيبة من العصور الوسطى. ولم يكن بيندو صاحب أسلوب أدبي رفيع، ولكنه كان مؤرخاً يفرق بين الغث والثمين، وكانت مؤلفاته هي التي قضت على الأقاصيص الخرافية التي كانت تحتفظ بها المدن الإيطالية وتعزو بها نشأتها إلى أصول طروادية أو غير طروادية. وكان العمل الذي أخذ على عاتقه القيام به أعظم من أن تتسع له سنو بيندو الخمس والسبعون؛ ولهذا لم يتمه حين توفى في عام 1463؛ ولكنه ضرب

ص: 49

به المثل للمؤرخين الذين جاءوا بعده في الدراسة الواسعة النزيهة.

وكان الكردينال جون بيساريون أداة حية لنقل الثقافة اليونانية التي كانت تدخل وقتئذ إلى إيطاليا. وكان مولده في طربزون، وتلقّى في القسطنطينية دراسة واسعة في العشر، والخطابة، والفلسفة اليونانية؛ وواصل دراسته على الفيلسوف الأفلاطوني الذائع الصيت جمستوس بليثو Gemistus Pletho في مسترا Mistra. ثم قدم إلى مجلس لورنس بوصفه كبيراً لأساقفة نيقية، وكان له شأن عظيم في توحيد الكنيستين اليونانية واللاتينية. ولمّا عاد إلى القسطنطينية، نبذه صغار رجال الدين والشعب هو وغيره من "الاتحاديين". وعيّنه البابا يوجنيوس كردنالاً (1439)، وانتقل بيساريون إلى إيطاليا ومعه مجموعة قيّمة من المخطوطات. فلمّا قدم إلى روما أصبح بيته ندوة للكتّاب الإنسانيين؛ وكان بجيو، وفلا، وبلاتينا، من أقرب المقربين إليه من الأصدقاء؛ وكان فلا يسميه "أعلم العلماء الهلنستيين بين اللاتين"، وأكثر العلماء اللاتينيين تهذيباً بين اليونان (35). وقد أنفق كل دخله تقريباً في شراء المخطوطات أو نسخها. وترجم هو نفسه كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، ولكنه وهو من مريدي جمستوس كان يؤثر عليه أفلاطون؛ وكان يتزعم المعسكر الأفلاطوني في الجدل العنيف الذي حمى وطيسه وقتئذ بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين. وانتصر أفلاطون في هذه الحرب وانتهت بذلك سيطرة أرسطو الطويلة على الفلسفة الغربية. ولمّا عين البابا نقولاس الخامس بيساريون قاصداً رسولياً له في بولونيا ليحكم منها رومانيا وأقاليم التخوم، قام بيساريون بواجبات الحكم خير قيام، فلم يسع إلاّ أن يسميه "ملك السلام". وقد عهد إليه بيوس الثاني بعدة مهام دبلوماسية شاقة في ألمانيا التي أخذت مرة أخرى تغلي فيها مراجل الثورة على الكنيسة الرومانية. ولمّا قربت منيته أوصى بمكتبته إلى مدينة البندقية، حيث لا تزال تكوّن جزءاً لا تقدّر قيمته من المكتبة المرقسية Biblioteca Marciana.

ص: 50

وكاد ينتخب للجلوس على عرش البابوية في عام 1471، ثم مات بعد عام من ذلك الوقت، وهو موضع الإجلال والتكريم في جميع أنحاء العالم لعلمه الغزير.

وأخفقت بعثته إلى ألمانيا. ويرجع بعض السبب في إخفاقها إلى أن الجهود التي بذلها بيوس الثاني لإصلاح الكنيسة لم تفلح، ويرجع البعض الآخر إلى أن محاولة جديدة بذلت لتحصيل العشور لتمويل حملة صليبية، قد بعثت كراهية الشعوب التي وراء جبال الألب لروما. وعين بيوس في بداية ولايته لجنة من كبار الأحبار لوضع منهاج للإصلاح؛ وقبل في ذلك مشروعاً عرضه عليه نقولاس الكرسائي وأعلنه في مرسوم بابوي، ولكنه لم يجد أحداً في روما يريد الإصلاح، لأن نصف من فيها من الكبار كانوا يجنون نفعاً كبيراً من المفاسد التي طال عليها العهد؛ وتغلب الجمود والمقاومة السلبية على جهود بيوس؛ وكانت الصعاب التي واجهها في الوقت عينه في ألمانيا، بوهيميا، وفرنسا قد استنفذت قواه، كما أن الحرب الصليبية التي كان يدبر أمرها قد استنفذت جميع عواطفه الدينية، وتطلبت منه المال الكثير. ولهذا قنع بأن يلوم الكرادلة على حياتهم الشهوانية. وأن يقوم من حين إلى حين ببعض الإصلاحات المتقطعة في نظم الأديرة. وأصدر في عام 1463 آخر نداء إلى الكرادلة قال فيه:

يقول الناس إنّا نسعى وراء اللذة، وجمع الثراء، وإنّا متغطرسون، نمتطي البغال السمينة، والأمهار الجميلة، ونجر أذيال أثوابنا من خلفنا، ونطل بوجوهنا المستديرة المكتنزة من تحت القبعة الحمراء، والقلنسوة البيضاء، ونربي الكلاب للصيد، وننفق الكثير من المال على الممثلات والطفيليين والطفيليات، ونضن بالقليل على شئون الدين. وإن لهم لبعض الحق فيما يقولون: ذلك أن من بين الكرادلة وغيرهم من الموظفين في بلاطنا من يحيون هذا النوع من الحياة. وإذا شئتم الحقيقة قلت لكم إن

ص: 51

الترف والأبهة الكاذبة قد زاد في بلاطنا على الحد؛ وهذا هو الذي جعل الناس يمقتوننا مقتاً يمنعهم من أن يستمعوا لنا، حتى حين ننطق بما هو حق ومعقول. وماذا تظنون أنا فاعلوه في هذه الحال التي تجللنا العار؟

يجب علينا أن نبحث عن الوسائل التي كسب بها أسلافنا ما كان لهم من سلطان واحترام في داخل الكنيسة

ثم علينا بعد ذلك أن نحتفظ بسلطاننا بهذه الوسائل ذاتها. إن الذي سما بالكنيسة الرومانية وجعلها سيدة العالم كله هو الاعتدال، والعفة، والطهارة، والغيرة على الدين

واحتقار الدنيا، والرغبة في الاستشهاد (46).

وقدّر على البابا أن يقاسي إخفاقاً في اتصالاته بالدول الأوربية مع أنه لاقى قبل أن يجلس على عرش البابوية نجاحاً مطرداً في مهامه الدبلوماسية. نعم إن لويس الحادي عشر قد أتاح له نصراً قصير الأجل بإلغائه قرار بورج التنظيمي، ولكن لويس عاد فألغى هذا الإلغاء في واقع الأمر لما رفض بيوس أن يساعد بين أنجو فيما كان يدبره من الخطط لاسترداد نابلي. وواصلت بوهيميا ثورتها التي ألهب لظاها جون هوس John Huss؛ ذلك أن الإصلاح الديني كان قد بدأ فيها قبل أيام لوثر Luther بقرن كامل، وكان ملكها الجديد جورج بوديبراد George Podebrad يمدّها بمعونته القديمة. وظل رجال الدين على اختلاف درجاتهم يؤيدون الأمراء الألمان في مقاومتهم لجباية العشور، وجددوا الصيحة القديمة صيحة عقد مجلس عام لإصلاح الكنيسة والإشراف على أعمال البابا. ورد بيوس على هذا بإصدار قرار اللعن الذي يندد بأي محاولة ترمي إلى عقد مجلس عام لا يوافق البابا على عقده، ويكون هو الداعي إليه، ويحرم هذه الدعوة؛ وبرر هذا القرار بقوله إنه إذا كان في مقدور المعارضين لسياسة البابوات عقد هذا المجلس في أي وقت من الأوقات، تعرضت حقوق البابا التشريعية للأخطار على الدوام، وشل النظام الكنسي من أوله إلى آخر.

ص: 52

ولقد أفسد هذا النزاع ما كان يبذله البابا من جهود لتوحيد أوربا ضد الأتراك، وجهر يوم تتويجه نفسه بارتياعه الشديد من تقدم المسلمين بازاء نهر الدانوب في طريقهم إلى فينا، واختراقهم بلاد البلقان إلى البوسنة. وكانت بلاد اليونان، وإبيروس، ومقدونية، والصرب، والبوسنة تتساقط كلها في أيدي المسلمين. ومنذا الذي كان يستطيع أن يقول متى يعبرون البحر الأدريادي وينقضون على إيطاليا؟ ولم يمض على تتويج بيوس شهر واحد حتى أرسل إلى جميع الأمراء المسيحيين يدعوهم للانضمام إليه في مؤتمر كبير يعقد في مانتوا ليضعوا الخطط التي تكفل حماية العالم المسيحي الشرقي من تيار العثمانيين الجارف.

ووصل هو إلى مانتوا في السابع والعشرين من مايو عام 1459، يرتدي أفخم الأثواب الخاصة بمنصبه الرفيع، واخترق المدينة في محمل يحف به أعيان المدينة وموظفو الكنيسة. وألقى على الجموع المحتشدة لاستقباله خطبة من أقوى الخطب التي ألقاها في حياته وأعظمها تأثيراً. ولكن أحداً من ملوك الأقاليم الواقعة وراء جبال الألب وأمراءها لم يلب الدعوة، بل لم يرسل واحد منهم ممثلين لهم الحق في أن يزجوا بدولتهم في الحرب. ذلك أن النزعة القومية قد بلغت وقتئذ من القوة ما يجعل البابوية تتضرع بغير جدوى أمام عروش الملوك. وحث الكرادلة البابا على الرجوع إلى روما؛ ولم يكونوا فضلاً عن هذا راغبين في أن ينزلوا عن عشر إيرادهم لتمويل الحرب الصليبية المرتقبة. فمنهم من انغمسوا في ملاذهم، ومنهم من جابهوا بيوس بسؤاله هل يريد منهم أن يموتوا بالحمى في صيف مانتوا الشديد الحرارة؟ وانتظر البابا قدوم الإمبراطور زمناً طويلاً؛ ولكن فردريك الثالث آثر أن يعلن الحرب على المجر يريد بذلك أن يضم إلى ملكه الأمة التي كانت أنشط الأمم استعداداً لمقاومة الأتراك، آثر هذا على القدوم لمساعدة الرجل الذي قدم له فيما مضى أجل الخدمات. واشترطت فرنسا لمعونتها أن يؤيدها البابا في حملة لها

ص: 53

على نابلي، وتلكأت البندقية خشية أن تكون أملاكها الباقية لها في بحر إيجة أولى ضحايا الحرب التي تنشب بين أوربا المسيحية والأتراك. وجاءت أخيراً بعثة في شهر أغسطس من فليب الطيب دوق برغندية؛ وفي سبتمبر أقبل فرانتشيسكو وتبعه غيره من أمراء إيطاليا؛ وعقد المؤتمر أولى جلساته في السدس والعشرين من هذا الشهر بعد أربعة أشهر من قدوم البابا؛ ومرت أربعة أشهر أخرى في الجدل والنقاش، واستطاع فليب آخر الأمر أن يضم برغندية وإيطاليا إلى جانب في خطته المرتقبة للقيام بحرب مقدسة، وذلك بعد أن اتفق المؤتمرون على تقسيم الأملاك التركية وقتئذ والأملاك البيزنطية السابقة بين الدول المنتصرة. وقد طلب إلى جميع المسيحيين من غير رجال الدين أن يتبرعوا بجزء من ثلاثين من دخلهم، وإلى جميع اليهود بجزء من عشرين منه، ومن جميع رجال الدين بجزء من عشرة من هذا الإيراد. وعاد البابا إلى روما وهو يكاد يكون خائر القوى من أثر ما بذله من جهود، ولكنه أمر بإنشاء أٍطول بابوي، وأعد العدة رغم ما كان ينتابه من أمراض الرثية، والسعال، والحصاة، لأن يقود الحملة الصليبية بنفسه.

ولكنه مع ذلك كان يهاب الحرب بفطرته، ويحلم بأن ينال النصر عن طريق السلم. ولعل ما كان يشاع من أن محمداً الثاني الذي كانت أمه مسيحية يميل في السر إلى دينها قد بعث الشجاعة في قلب بيوس، فوجّه إلى السلطان (1461) دعوة حارة لقبول إنجيل المسيح كانت أبلغ ما كتب حتى ذلك الوقت:

"إذا اعتنقت المسيحية، لم يبق أمير على وجه الأرض يفوقك في المجد أو يضارعك في السلطان. ولئن فعلت لنعترفن بك إمبراطوراً على اليونان وعلى بلاد الشرق، وتصبح البلاد، التي استوليت عليها بالقوة، والتي تحتفظ بها ظلماً وعدواناً، ملكاً لك مشروعاً

وما أعظم السلم التي

ص: 54

يؤدي إليها هذا العمل وأكملها، إذن لعاد إلى الوجود عصر أغسطس الذهبي الذي يتغنى به الشعراء. فإذا انضممت إلينا فلن يلبث الشرق كله أن يعتنق الدين المسيحي. إن إرادة واحدة تستطيع أن تبسط لواء السلم على العالم كله، وهذه هي إرادتك! " (37).

ولم يرد محمد الثاني على هذه الرسالة؛ ذلك أنه، مهما تكن آراؤه الدينية، كان يعلم أن الذي يحميه آخر الأمر من قوى أوربا الغربية ليس هو وعود البابا، بل الحماسة الدينية التي تضطرم في قلوب شعبه. وانقلب بيوس رجلاً أكثر واقعية من قبل، فأخذ يجمع العشور من رجال الدين، وهيأت له الأقدار في عام 1462 حظاّ غير مرتقب، وذلك حين عثر في أرض من الأملاك البابوية في طلفا Tolfa في غربي لاتيوم على رواسب من حجر الشب، واستخدم عدة آلاف من الرجال ليعملوا في استخراج هذه المادة العظيمة القيمة للصباغين؛ وسرعان ما كانت مناجمها تدر على الكرسي البابوية نحو مائة ألف فلورين كل عام، وأعلن بيوس أن هذا الكشف من المعجزات، وأنه معونة من عند الله للحرب التي سيشنها على الأتراك (38)، وأضحت الولايات البابوية في ذلك الوقت أغنى دولة في أوربا، تليها في ذلك البندقية التي لا تنقص عنها إلاّ قليلاً، ثم نابلي، فميلان، ففلورنس، فمودينا، فسينا، فمانتوا (39).

وأيقنت البندقية أن البابا جاد في غرضه مصمم على بلوغه، فأسرعت في استعدادها. ولكن الدول الأخرى تلكأت، أو أمرت تقديم معونة رمزية، وواجهت جباة الضرائب اللازمة للحملة الصليبية مقاومة عنيفة في كل مكان تقريباً. وفترت همة فرانتشيسكو اسفوردسيا في مد يد المساعدة لهذا المشروع بحجة أنه سيؤدي إلى تقوية البندقية إذ يعيد إليها ما فقدته من أملاكها ومن تجارتها، وضنت جنى بالثمان السفن ذات الصفوف الثلاثة

ص: 55

من المجاديف وهي المعونة التي وعدت بتقديمها. وحث دوق برغندية البابا على أن يؤجل العمل إلى يوم يكون فيه أسعد حظاً من أيامه تلك؛ ولكن بيوس أعلن أنه ذاهب إلى أنكونا، لينتظر فيها انضمام الأسطولين البابوي والبندقي، ثم يعبر بهما إلى راجوسا Ragusa، وينضم إلى قوات اسكندر بك في البوسنة، وماثياس كرفينوس Mathias Corvinus الهنغاري، ثم يتولى بنفسه قيادة الحملة الزاحفة على الأتراك. واحتج الكرادلة كلهم تقريباً على هذه الخطة؛ ذلك أنهم لم يكونوا يرغبون في اختراق بلاد البلقان، وحذروا البابا من أحوال البوسنة التي كانت تعج بالمارقين من الدين ويفشو فيها الطاعون. غير أن البابا المريض حمل الصليب، وودع روما التي لم يكن يتوقع أن يراها مرة أخرى، وأقلع بأسطوله إلى أنكونا (18 يونية سنة 1464).

وفي هذا الأثناء كانت الجيوش التي يظن أنها ستقابله قد ذابت كأنما كان ذلك بسحر ساحر شرقي. فأما الجيوش التي وعدت بها ميلان في أول الأمر فلم تأت، وأما التي بعثت بها فلورنس فقد كانت مجهزة تجهيزاً بلغ من الضعف حداً جعلها عديمة النفع؛ ولمّا وصل بيوس إلى أنكونا (19 يولية) وجد أن معظم الصليبيين الذين تجمعوا فيها قد غادروها لأنهم سئموا الانتظار، وقاسوا المتاعب في سبيل الحصول على الطعام. وفشا الطاعون في أسطول البندقية بعد أن غادر أمواهها الضحلة؛ وأخر وصوله اثني عشر يوماً. وبقى بيوس بعض الوقت في أنكونا بعد أن فت في عضده احتفاء الجند، وعدم ظهور أسطول البنادقة، واشتدت عليه العلة حتى كادت تقتله. ثم تراءى له الأسطول آخر الأمر، وبعث البابا بسفائنه لتستقبله في عرض البحر، وأمر فحمل هو نفسه إلى نافذة يستطيع أن يرى منها المرفأ. ولمّا اقترب الأسطولان المتحدان بحيث يمكن أن تراهما العين توفي البابا (14 أغسطس سنة 1464). واستعادت البندقية أسطولها،

ص: 56

وتفرق من كان باقياً من الجند، وأخفقت الحملة الصليبية. ذلك هو البابا الألمعي المتعدد المواهب الذي ارتقى إلى الدرجات العلا، والذي أحرز وسط الصعاب الجمة نصراً بعد نصر حتى وصل إلى عرش العروش، فزانه لعلوم الدنيا وفضائل المسيحية، وشرب كأس الإخفاق والإذلال، والهزيمة حتى الثمالة، لكنه قد كفر عن خطايا شبابه بخشوعه وتقواه في رجولته، وسربل أقرانه الساخرين منه ثوب العار بنبل موته.

ص: 57

الفصل الخامس

‌بولس الثاني

1464 -

1471

كثيراً ما تذكرنا سير عظماء الرجال بأن أخلاق الإنسان يمكن أن تتكون بعد مماته. فإذا استطاع الحاكم مثلاً أن يدلل المؤرخين الإخباريين الذين يلتفون به، فقد يرفعونه بعد موته إلى مكان القداسة، وإذا ما أساء إليهم فقد يسمون جثته بعد مماته بميسم العار، أو يلطخونها بالقار، وشاهد ذلك أن بولس تنازع مع بلاتينا، وأن بلاتينا كتب سيرته التي يعتمد عليها معظم ما كتب عن بولس، وأسلمه للخلف وحشا ملء إهابه الغرور، والأبهة الكاذبة، والشره.

وكان لهذا الاتهام بعض ما يبرره، وإن لم يزد هذا المبرر على أكثر مما يوجد في أية سيرة لا يخفف البر حدتها. لقد كان بيترو ياربو، كردنال سان ماركو، يفخر بجمال مظهره كما يفخر بذلك الناس كلهم تقريباً؛ ولما أن اختير بابا اقترح أن يسمى فورموزوس Formosus - أي الوسيم الخلق - وأكبر الظن أن ذلك كان من قبيل المزاح. لكنه رضى أن يعدل عن رأيه، واتخذ لقب بولس الثاني. وكان بسيطاً في حياته، ولكنه كان يعرف ما للفخامة من تأثير يخدر نفوس من حوله، فاحتفظ لنفسه ببلاط فخم، وكان سخياً جواداً في استضافة أصدقائه وزائريه. ولمّا دخل المجمع المقدس الذي اختاره بابا تعهد بأنه إذا اختير سيشن الحرب على الأتراك كما تعهد غيره من البابوات، وأن يعقد مجلساً عاماً، وأن يحدد عدد الكرادلة بأربعة وعشرين، وألاّ يتجاوز عدد أقارب البابا من بينهم كردنالاً واحداً، وألاّ يرفع أحداً إلى رتبة الكردنالية إذا لم يبلغ سن الثلاثين، وأن يستشير الكرادلة في جميع الشئون الخطيرة. فلمّا تم انتخاب بولس نبذ كل ما أخذه

ص: 58

على نفسه من مواثيق بحجة أنها تناقض التقاليد والسلطات المرعية التي رفع الزمان شأنها. واسترضى الكرادلة بأن جعل أدنى حد لإيرادهم السنوي أربعة آلاف فلورين (100. 000؟ دولار). وكان وهو ابن أسرة من التجار يعتز بالفلورينات، والدوقات، والسكوديات، والجواهر التي تظهر ثراء المرء أمام الأعين. وكان يلبس تاجاً بابوياً تزيد قيمته على قيمة قصر من القصور. وكان وهو كردنال يشغل أوقات الصائغين بصنع الجواهر، والمدليات، والحلي المنقوشة التي كان يتجلى بها ثراءه بأجّل المظاهر؛ وقد جمع هذه كلها مع مخلفات الفن القديم الغالية الثمن في قصر سان ماركو الفخم الذي بناه لنفسه عند قاعدة الكبتول

(1)

. ولكنه رغم حبه الجم للجمال لم ينحط إلى بيع المناصب الكهنوتية، ومنع بيع صكوك الغفران، وحكم روما حكماً عادلاً وإن لم يكن رحيماً.

وشر ما يذكره عنه الخلف هو نزاعه مع الإنسانيين الرومان. فقد كان بعض هؤلاء أمناء للبابا أو الكرادلة، وكانت كثرتهم الغالبة تشغل مناصب أقل من هذا المنصب شأناً، فكانوا "كتّاب مختصرات" أو حفظة سجلات للحكومة البابوية. وفصل بولس هذه الجماعة كلها، ووزع عملها على إدارات أخرى، فأصبح نحو سبعين من أولئك الكتّاب الإنسانيين بلا عمل أو عينوا في مناصب أقل من مناصبهم السابقة أجراً. ولسنا نعلم أكان هذا إجراء يراد به الاقتصاد أم كان يقصد به تخليص "هيئة المختصرين" من أهل سينا الثمانية والخمسين الذين عينهم فيها بولس الثاني، وكان أفصح أولئك الإنسانيين المفصولين لساناً هو بارتولميو ده ساتشي Bartolommeo ds Sacchi الذي اتخذ له اسماً لاتينياً هو بلاتينا اشتقه من موطنه بيادينا Piadena القريبة من كريمونا؛ وقد طلب إلى البابا أن يعيد

(1)

وأهدى بيوس الرابع هذا القصر إلى البندقية، ومن ثم عرف فيما بعد باسم قصر البندقية Pilazza Venezia. وقد اتخذه بنيتو مسولويني مقره الرسمي أثناء الحكم الفاشي.

ص: 59

الكتّاب المفصولين إلى مناصبهم، فلمّا رفض بولس طلبه وجّه إليه خطاب تهديد، فأمر بولس بالقبض عليه، وأبقاه أربعة أشهر في سانت أنجيلو، مقيداً بسلاسل ثقال. واستطاع الكردنال جندساجا أن يطلق سراحه، ولكن بلاتينا كان يسعه، كما ظن بولس، أن يظل يترقب فرصته.

وكان زعيم الإنسانيين في روما هو يوليو بمبونيو ليتو Julio Pomponio Leto، ويقال إنه ابن غير شرعي للأمير ساتسفرينو من سالرنو. ووفد يوليو على روما في شبابه، واتصل بفلا وأصبح من تلاميذه، خلفه أستاذاً للغة اللاتينية في الجامعة. وأولع بالأدب الوثني ولعاً جعله يعيش في روما كما كانت في أيام كاتو وقيصر ومعاصريهما لا كما هي في عهد نقولاس الخامس أو بولس الثاني. وكان أول من نشر كتابي فارو Varro وكولوملا القديمين في الزراعة، واتبع القواعد التي وضعاها في العناية بكرومه. وبقى الرجل قانعاً راضياً بشعره العلمي، يقضي نصف وقته بين الآثار التاريخية، يتحسر على نهبها وتخريبها، وصبغ اسمه صبغة لاتينية فسمة نفسه بمبونيوس لينوس، وكان يسير إلى حجرة دراسته في ثياب رومانية. وقلّما كانت قاعة من القاعات تتسع للجموع التي تحتشد عند مطلع الفجر لتستمع إلى محاضراته، وبلغ من شدة الزحام أن كان بعض الطلاب يفدون في منتصف الليل كي يجدوا لهم مكاناً. وكان يحتقر الدين المسيحي، ويتهم وعاظه بالنفاق، ويدرب تلاميذه على آداب الرواقيين لا على آداب المسيحيين. وقد جعل بيته متحفاً للعاديات الرومانية، وملتقى لطلاب المعارف الرومانية ومعلميها؛ وقد نظمهم حوالي عام 1460 في مجمع علمي روماني، اتخذ أعضاؤه لهم أسماء رومانية، وسموا أبناءهم وقت تعميدهم أسماء رومانية أيضاً، واستبدل بالدين المسيحي عبادة دينية هي عبادة عبقرية روما؛ ومثل مسالي لاتينية، واحتفل بتأسيس روما احتفالات وثنية سمى الأعضاء الذين يقومون بالخدمة فيها القديسين وأطلق على ليتوس اسم الكاهن الأعظم وكان من الأعضاء

ص: 60

المتحمسين من يحلم بإعادة الجمهورية الرومانية (40).

وتقدم أحد المواطنين إلى الشرطة البابوية في أوائل عام 1468 بتهمة قال فيها إن المجمع العلمي يأتمر بالبابا ليخلعه ويعتقله. وأيد التهمة بعض الكرادلة، وأكدوا للبابا أن إشاعة راجت في روما تقول إنه سيموت بعد وقت قصير. وأمر بولس باعتقال ليتوس، وبلاتينا وغيرهما من زعماء المجمع، فكتب بمبونيوس معتذراً متذللاً ومعلناً اعترافه بالدين القويم؛ فأطلق سراحه بعد العقاب اللائق بأمثاله، وواصل محاضراته ولكنه حرص على أن يجعلها مطابقة للدين، حتى أن أربعين من الأساقفة شيعوا جنازته بعد موته (1498) أما بلاتينا فقد عذب ليقر بوجود مؤامرة. ولم يعثر قط على دليل يثبت وجودها، ولكن بلاتينا ظل في السجن عاماً كاملاً رغم ما كتب من رسائل الاعتذار التي تزيد على عشر. وأعلن بولس حل المجمع بحجة أنه معشش الإلحاد، وحرّم تدريس الآداب الوثنية في مدارس روما. وأجاز البابا الذي خلفه إعادة فتح المجمع بعد أن عدل وأصلح، وعهد إلى بلاتينا بعد أن تاب وأناب الإشراف على مكتبة الفاتيكان؛ وفيها وجد المادة التي أخذ منها سيرته الواضحة الظريفة للبابوات، ولمّا وصل في كتابته إلى بولس الثاني انتقم لنفسه منه، ولعله لو احتفظ بتهمه لسكستس الرابع لكان أكثر عدلاً وإنصافاً.

ص: 61

الفصل السادس

‌سكستس الرابع

1471 -

1484

كان من بين الكرادلة الثمانية عشر الذين اجتمعوا ليختاروا البابا الجديد، خمسة عشر إيطالياً؛ وكان ردريجو بورجيا Raderigo Borgia اسبانياً، ودستوتفيل d'Estouteville فرنسياً، وبيساريون Bessarion يونانياً. ووصف أحد الذين اشتركوا في انتخاب الكردنال فرانتشيسكو دلا روفيري Francesco della Rovere هذا الانتخاب بأنه كان نتيجة "الدسائس والرشوة"( ex arbitus et corruptelis)(41) ، ولكن يبدو أن هذا القول لا يعني إلاّ أن بعض الكرادلة قد وعدوا ببعض المناصب ثمناُ لأصواتهم. وكان البابا الجديد مثلاً فذاً لتكافؤ الفرص (بين الإيطاليين) ومقدرتهم على أن يصلوا إلى عرش البابوية. فقد ولد لأسرة من الفلاحين في بيكوريلي Pecorille القريبة من سافونا Savona. وكثيراً ما انتابه المرض في طفولته، ولذلك نذرته أمه إلى القديس فرانسس وهي تدعو إلى الله أن يمن عليه بالشفاء. ولمّا بلغ التاسعة من عمره أرسل إلى دير من أديرة الرهبان الفرنسيس ثم انضم فيما بعد إلى المنوريين Minorites. ثم اشتغل بعدئذ مربياً خاصاً في أسرى الروفيري التي اتخذ أسمها اسماً له. ودرس الفلسفة واللاهوت في باريس، وبولونيا، وبدوا، واشتغل بتدريس العلمين في هذه المدن وفي غيرها لفصول بلغ ازدحامها أن قيل أن كل عالم إيطالي من علماء الجيل التالي يكاد يكون تلميذه.

ولمّا صار، وهو في السابعة والخمسين من عمره، البابا سكستس الرابع اشتهر بأنه من العلماء المشهورين بغزارة علمهم واستقامة أخلاقهم. وتبدل الرجل بين يوم وليلة تبدلاً من أغرب ما حدث في التاريخ فأصبح سياسياً

ص: 62

ومحارباً. ولمّا وجد أن أوربا منقسمة على نفسها وأن حكومتها فاسدة، وأن هذا الانقسام والفساد يحولان بينها وبين الأقدام على حرب صليبية ضد الأتراك استقر رأيه على أن يكر س جهوده الدنيوية لإصلاح أحوال إيطاليا. وقد وجدها هي أيضاً لا تخلو من الانقسام - فقد كان الحكام المحليون يتحدون سلطة البابا في الولايات البابوية، وكان في لاتيوم حكم غاشم يقوم به النبلاء متجاهلين سلطان البابا، وفي روما غوغاء بلغ من اختلال نظامهم أن رجموا محمله في موكب التتويج بالحجارة لأنهم غضبوا من حدوث اصطدام نشأ من وقوف الفرسان فجاءة. وكان سكستس يعتزم إعادة النظام إلى روما، وتقوية سلطان القاصد الرسولي في الولايات البابوية، وإخضاع إيطاليا لحكم البابا الذي يعمل على توحيدها.

وكان سكستس تحيد به الفوضى من كل جانب، وكان قليل الثقة بالغرباء، شديد التأثير بصلات القربى؛ ولهذا حبا أبناء أخوته الجشعين بمناصب تدر عليهم المال والسلطان. وكان من أشد المحن التي لاقاها في أيام رياسته الدينية أن من يحبهم أعظم الحب كانوا شر الناس جميعاً، وأنهم استغلوا مراكزهم استغلالاً سافلاً جلب عليهم احتقار إيطاليا بأجمعها. وكان أحب الناس إليه بيترو (أو بيرو) رياريو Pietro (Piero) Riario ابن أخيه - وهو شاب وسيم الطلعة إلى حد ما، مرح، فَكِه، مجامل، كريم، ولكنه مولع بالترف والشهوات الجسمية ولعاً لم تستطع معه المناصب الكهنوتية التي حباه بها البابا والتي تدر عليه المال الوفير أن توفي بمطالب هذا الراهب الذي كان من قبل معدماً متسولاً. وعينه سكستس كردنالاً في الخامسة والعشرين من عمره (1471)، ونفحه بأسقفيات تريفيزو وسنجاليا Senigallia، واسبالاتو، وفلورنس، كما نفحه بمراكز أخرى عالية الشأن، درت عليه دخلاً قدره ستون ألف دوقة (1. 500. 000؟ دولار) كل عام. وكان بيرو ينفق هذا الدخل كله، وأكثر منه، في شراء آنية من الفضة والذهب، والثياب الجميلة، والسجف المنقوشة، والأقمشة

ص: 63

المطرزة، وعلى الحاشية الفخمة، وحيوانات الصيد التي تكلفه الأموال الطائلة، وعلى مناصرة المصورين، والشعراء، والعلماء. وكانت حفلاته ـ ومنها مأدبة دامت ست ساعات استقبل فيها هو وجوليانو Guiliano ابن عمه في روما أليونورا Eleonora ابنة فيرانتي Ferrante. وقد بلغ البذخ فيها درجة لم ير لها نظير منذ أيام لوكلس Lucullus أو نيرون. وأخل السلطان باتزان عقله فقام برحلة كرحلات القواد المظفرين في فلورنس، وبولونيا، وفيرارا، والبندقية، وميلان، كرم في كل واحدة منها كما يكرم كل أمير يجري في عروقه الدم الملكي، وكان يعرض فيها عشيقاته يرتدين أفخم الثياب، وكان في هذه الرحلات يعد العدة ليكون بابا بعد ممات عمه أو قبل مماته. ولكنه توفي قبل أن يعود إلى روما (1474) من إسرافه على نفسه. وكان وقتئذ في الثامنة والعشرين من عمره بعد أن أنفق 200. 000 دوقة في عامين وبعد أن استدان ستين ألفاً أخرى (42). وعين أخوه جيرولامو قائداً لجيوش البابا، وسيداً لامولا Imola وفورلي Forli. وقد تحدثنا عنه بما فيه الكفاية عند كلامنا على هذين البلدين. وعين ابن أخ آخر للبابا مديراً لشرطة روما، ولمّا مات دلا روفيري الذي يحتاج إلى باب خاص في هذا الكتاب حين يصبح البابا يوليوس الثاني. وكانت حياته طيبة صالحة إلى حد معقول، وقد ارتفع إلى عرش البابوية بعد أن تغلب على كل ما في طريقه من صعاب بقوة عقلة وخلقه.

وأحدثت الخطط التي وضعها سكستس لتقوية الولايات البابوية اضطراباً لدى الحكومات الإيطالية الأخرى. فقد كان لورندسو ده ميديتشي كما ذكرنا من قبل يعمل على ضم إمولا لفلورنس؛ ولكن سكست سبقه في مسعاه واتخذ آل باتسي Pazzi مصرفيين للبابوية بدل الميديتشيين؛ فما كان من لورندس إلاّ أن عمل على خراب آل باتسي المالي؛ ورد هؤلاء بأن حاولوا قتله. ووافق سكستس على المؤامرة ولكنه استنكر

ص: 64

القتل، وقال للمتآمرين "افعلوا ما شئتم على شريطة أن تتجنبوا القتل"(43). وأسفرت هذه الأعمال عن حرب دامت (1478 - 1480) حتى هدد الأتراك باجتياح إيطاليا. فلمّا زال هذا الخطر، أتيحت لسكستس مرة أخرى فرصة تحرير الولايات البابوية. وحدث في أواخر عام 1480 أن انقرضت أسرة أرديلفي Ordelaffi في فورلي، وأن طلب أهلها إلى البابا أن يستولي على المدينة، فما كان من سكستس إلاّ أن أمر جيرولامو أن يتولى حكم إمولا وفورلي جميعاً. وعرض جيرولامو أن تكون الخطوة التالية هي الاستيلاء على فيرارا، وأقنع سكستس وحكومة البندقية بأن يشتركا في حرب يشنونها على الدوق إركولي Ercole (1482) . وبعث فيرانتي صاحب نابلي جنداً للدفاع عن صهره؛ وساعدت فلورنس وميلان أيضاً فيرارا، وهكذا وجد البابا أنه قد ألقى بإيطاليا كلها في أتون الحرب وهو الذي بدأ عهده بالسعي إلى نشر لواء السلام على ربوع أوربا. وأحاطت به نابلي من الجنوب، وفلورنس من الشمال، وأزعجه اضطراب الأحوال في روما، فعقد الصلح مع فيرارا بعد عام من الفوضى وسفك الدماء. ولمّا رفض البنادقة أن يحذوا حذو هاتين المدينتين أصدر قراراً بحرمانهم، وانضم إلى فلورنس وميلان في محاربة حليفته السابقة.

وكان أعيان العاصمة قد شهروا أن من حقهم أن يجددوا منازعاتهم التي تُسَرُّ بها نفوسهم متبعين في ذلك سنّة الرئيس الديني المحب للحرب. وكان من العادات المألوفة الطريفة في روما أن ينهب قصر الكردنال حين يختار بابا. وحدث حين كان أهالي روما ينهبون قصر أحد كرادلة آل روفيري أن أصيب شاب من أعيان المدينة يدعى فرانتشيسكو دي سانتا كروتش Francesco di Santa Croce بجرح من بد أحد أبناء أسرة فالي Vall وثأر هذا الشاب لقريبهم بشج رأس فرانتشيسكو. وثأر برسبيرو دي سانتا كوتشي بأن قتل بيرو مرجاني Piero Margani. وانتشر القتال في جميع أنحاء المدينة، وانضمت أسرة أرسيني والقوات البابوية إلى سانتا كروتشي،

ص: 65

ودافع آل كولنا عن أسرة فالي، وأسر لورندسو أدوني كولنا Lorenzo Oddoni Colonna، وحوكم، وعذب حتى اعترف، ثم أعدد في سات أنجيلو، وإن كان أخوه فبريدسيو Fabridizio قد اسلم سكستس حصنين من حصون آل كولنا أملاً في إنقاذ حياة لورندسو. وانضم برسبيرو كولنا إلى نابلي في حربها ضد البابا، وعاث في أرض الكمبانيا فساداً، وأغار على روما. واستأجر سكستس ربرت مالاتيستا Robert Malatesta من ريميني ليقود جنود البابا. وهزم ربرت جيوش نابلي وآل كولنا في كمبو مورتو Campo Morto، وعاد ظافراً إلى روما، حيث مات من الحمى التي أصيب بها في مستنقعات كمباتيا. وحلب جيرلامو رياريو محله وبارك سكستس رسمياً المدفعية التي صوبها ابن أخيه على حصون آل كولنا. ولكن جسم البابا انهار بتأثير الأزمات التي توالت عليه وإن ظل روحه متعطشاً إلى القتال. وفي شهر يونية من عام 1484 أصيب هو أيضاً بالحمى. وجاءته الأخبار في الحادي عشر من أغسطس بأن حلفاءه قد عقدوا الصلح مع البندقية غير عابئين باحتجاجه؛ ورفض هو التصديق على هذا الصلح، ولكنه مات في اليوم الثاني.

لقد كان سكستس من كثير من الوجوه مثلاً سابقاً ليوليوس الثاني، كما كان جيرولامو رياري مثلاً لحياة سيزاري بورجيا. كان سكستس قساً استعمارياً شديد الشكيمة يحب الفن، والحرب، والسلطان، ويعمل لنيل مآربه دون وخز من ضمير أو مراعاة لآداب، ولكنه يعمل إليها بهمة وحشية وشجاعة لا تفتر أو ينال غرضه. ولقد خلق لنفسه أعداء. كما خلق غيره من البابوات محبي الحرب؛ وقد حاول هؤلاء الأعداء أن يضعفوا قواه بتسوئة سمعته. من ذلك أن بعض الثرثارين عللوا إسرافه في تأييد

ص: 66

بيترو وجيرولامو بأنهما من أولاده (44)، ووصفهما آخرون مثل إنفيسورا Infessura بأنه كان يعشقهما، ولم يترددوا في أن يتهموا البابا "باللواط"(45)

(1)

. على إن الصورة التي لدينا للبابا سيئة دون حاجة إلى هذه التهم التي لا يقبلها العقل ولا تجد لها ما يؤيدها. فقد كان سكستس يمول حروبه ببيع المناصب الكهنوتية لمن يؤدي عنها أغلى الأثمان، بعد أن استنفذ على أبناء اخوته كل ما خلفه بولس الثاني من الأموال الطائلة. ويروى عنه سفير بندقي معاد له قوله إن "البابا لا يحتاج إلاّ إلى قلم وحبر لينال كل ما يرغب فيه"47). ولكن هذا القول يصدق بهذا القدر نفسه على معظم الحكومات الحديثة، التي لا تختلف قراطيسها ذات الربح في كثير من الأحوال عن الوظائف الدينية ذات المرتب الضخم والعمل القليل التي كان البابوات يبيعونها بالمال. على أن سكستس لم يقنع بهذه الوسيلة. فقد احتكر لنفسه بيع الغلال في جميع الولايات البابوية؛ وكان يبيع أحسنها في خارج هذه الولايات، وأسوأها لشعبه، ويجني من وراء ذلك أرباحاً طائلة (48). وكان قد تعلّم هذه الحيلة من حكام زمانه مثل فيرانتي صاحب نابلي، وفي ظننا أنه لم يطلب لنفسه أكثر مما كان يطلبه غيره من الأفراد المحتكرين لو كانوا في مكانه؛ ذلك أن من قوانين علم الاقتصاد غير المسطورة أن ثمن أية سلعة إنما يعتمد على غفلة المشتري. ولكن الفقراء تذمروا - وإنّا لنغفر لهم تذمرهم - لأنهم رأوا أن جوعهم يتخذ وسيلة لإشباع ترف آل رياريو. وخلّف سكستس وراءه رغم هذه وغيرها من الأساليب التي اتبعها لجمع المال، ديوناً يبلغ مجموعها 150. 000 دوقة (3. 750. 000؟ دولار).

(1)

كتب استفانو إنفيسورا تاريخاً لروما في القرن الخامس عشر مستمداً من سجلات الأسر ومن ملاحظاته الخاصة. وكان استفانو هذا جمهورياً متحمساً، يرى أن البابوات حكام مستبدون؛ وكان فوق ذلك من أشياع آل كولنا؛ ولهذا كله فإنّا لا نستطيع أن نثق به حين يروي تفاصيل قصص عن آثام البابوات لا نجد ما يؤيدها في مصادر أخرى.

ص: 67

وكان ينفق قدراً كبيراً من دخله على الفن والأشغال العامة؛ وقد حاول عبثاً أن يجفف المستنقعات الموجودة حول فولنيو، وكان يحلم على الأقل بتجفيف مستنقعات بنتيني Pontine، وأمر بتخطيط شوارع روما الكبرى من جديد وجعلها مستقيمة خالية من الالتواء، ووسّعها، ورصفها، وأصلح موارد مياه الشرب، وأعاد بناء الجسور، والسوار، والأبواب، والأبراج، وأقام على نهر التيبر جسر سستو Ponte Sisto المسمى باسمه، وشاد مكتبة جديدة للفاتيكان ومن فوقها معبد سستيني، وأنشأ مرنمة سستيني Cistine Choir، وأعاد بناء مستشفى سانتو اسبريتو Santa Spirito المخرب الذي كان يبلغ 365 قدماً في الطول ويتسع لألف مريض. وأعاد تنظيم جامعة روما وفتح للجمهور متحف الكبتولين الذي أنشأه بولس الثاني قبله، فكان هذا المتحف بذلك أول المتاحف العامة في أوربا. وشيدت في أيام ولايته، وبتوجيه بتيشيو بنتيلي في الغالب، كنيستا سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace وسانتا ماريا دلا بوبولو Santa Maria della Popolo، ورممت كنائس أخرى كثيرة. ونحت مينو دا فيسولي Mino da Fiesole واندريا برنيو Andrea Bregno في كنيسة سانتا ماريا دلا بوبولو قبراً فخماً للكردنال كرستوفورو دلا روفيري Cristoforo della Rovere ( حوالي 1477) كما صور بنتو رتشيو في كنيسة سانتا ماريا ببلدة إراكوئيل Aracoeli حياة القديس برنردينو السنائي مظلمات من أجمل ما وجد من المظلمات في روما (حوالي 1484).

وكان الذي صمم معبد سستينو هو جيوفني ده دلتشي Giovanni de Dolci؛ وكان تصميمه بسيطاً متواضعاً ليقيم فيه البابوات وكبار رجال الدين الصلوات شبه الخاصة. وكان معبداً جميلاً يحتوي على ستر رخامي لحرمه من صنع مينو دا فيسولي، وعلى مظلمات واسعة تقص على الجدار الجنوبي مناظر من حياة موسى، وعلى الجدار الشمالي مناظر مقابلة لها من

ص: 68

حياة المسيح. واستدعى سكستس إلى روما لتصوير هذه المناظر أعظم الفنانين في زمانه: بوجينو، وسنيوريلي، وبنتورتشيو، ودومنيكو، وبندتوغرندايو، وبتيتشلي، وكوزيمو روزلي، وبيرو دي كوزيمو. وعرض سكستس جائزة إضافية لأحسن صورة من الصور الخمس عشرة التي رسمها هؤلاء الفنانون هناك. وكان روزلي يدرك تفوق غيره عليه في التصميم فقرر أن يخاطر بكل شيء في سبيل بهجة التلوين؛ وكان زملاؤه الفنانون يسخرون من إسرافه في اللونين اللازوردي والذهبي، ولكن سكستس منحه الجائزة.

واستدعى البابا المحارب مصورين آخرين إلى روما، ونظمهم في نقابة ترعاهم شفيعها القديس لوقا، وكان سكستس هو الذي قام له ملتسو دا فورلي بخير أعماله. فقد جاء هذا الفنان إلى روما حوالي عام 1472 بعد أن درس مع بيرو دلا فرانتشيسكا، وصوّر في كنيسة سانتي أبستولي مظلماً يمثل صعود المسيح أثار حماسة فاساري؛ وقد اختفى هذا المظلم كله ما عدا قطعاً قليلة منه حين جدد بناء الكنيسة في عام 1702 وما بعدها. وصورتا الملك وعذراء البشارة المحفوظتان في معرض أفيزي ظريفتان رقيقتان، وأظرف منهما صورة الملكين الموسيقيين Angeli Musicanti أحدهما يعزف على الكمان والثاني على العود ـ الموجودة في الفاتيكان. وخير ىيات ملتسو الفنية على الإطلاق هي المظلم المصور في مكتبة الفاتيكان، والذي نقل بعدئذ على القماش. وقد صُوّر في هذا المظلم القائم أمام عمد المكتبة المزخرفة وسقفها أصدق تصوير وأقواه ستة أشخاص: سكستس راكعاً، ضخماً، فخماً؛ وعن يمينه بيترو رياري المرح؛ ويقف أمامه جوليانو دلا روفيري القاتم اللون الطويل القامة؛ ويركع أمامه بلاتينا صاحب الجبهة العالية يتلقى أمر تعيينه أميناً للمكتبة، ومن خلفه جيوفني دلا روفيري والكونت جيولامو رياريو؛ تلك صورة حية لحبر كانت أيامه مليئة بالأحداث.

ص: 69

وكانت مكتبة الفاتيكان في عام 1475 تحتوي 2527 مجلداً باللغتين اللاتينية واليونانية، فأضاف إليها سكستس 1100 مجلد غيرها، وفتح لأول مرة أبوابها للجماهير. وأعاد الكتّاب الإنسانيين إلى سابق مكانتهم وإن لم يكن يؤدي إليهم الأموال بانتظام لانشغاله عنهم بغيرهم من الأعمال. واستدعى فيليلفو إلى روما، وظل هذا الرجل رب السيف والقلم متحمساً في مديح البابا حتى تأخر له مرتبه السنوي البالغ 600 فلورين (15. 000دولار) واستدعى يوآنس أرجيوبولس Joannes Argyropoulos من فلورنس إلى روما، حيث كانت محاضراته في اللغة اليونانية وآدابها يحضرها الكرادلة، والأساقفة، والطلاب الأجانب مثل ريتشلين. واستدعى سكستس إلى روما كذلك العالم الألماني جوهان مولر رجيو منتانس Johann Muller Regiomontanus ـ وعهد إليه إصلاح التقويم اليولوسي، ولكن مولر توفي بعد عام من مجيئه (1476) وكان لابد أن يتأخر إصلاح التقويم مائة عام أخرى (1582).

ومن أغرب الأشياء أن يصبح راهب من الفرنسسكان وأستاذ للفلسفة واللاهوت أول بابا يوجه النهضة وجهة دنيوية ـ أو إن شئت الدقة أن يصبح أول بابا من بابوات النهضة يهتم أعظم ما يهتم بدعم سلطان البابوية وجعلها أعظم القوة السياسية في إيطاليا. ولعلنا إذا استثنينا حالة فيرارا Ferrara التي أدى حكامها الأمناء ما عليهم من الالتزامات الإقطاعية، قلنا أن سكستس كان محقاً كل الحق في سعيه لأن يجعل الولايات البابوية بابوية بحق، ولأن يجعل روما وما حولها مكاناً أميناً للبابوات. وربما غفر له التاريخ، كما غفر ليوليوس الثاني اتخاذه الحرب وسيلة لبلوغ هذه الغايات. وربما أقر أن دبلوماسيته لم تكن إلاّ إتباعاً للمبادئ التي كانت تسير عليها الدول الأخرى والتي لا تتقيد بالقيود الأخلاقية. ولكن التاريخ لا يجد شيئاً من المتعة في أن يشهد أحد البابوات يأتمر مع المغتالين، ويبارك المدافع، أو يخوض غمار

ص: 70

الحرب بقوة ارتاع لها أهل زمانه. لقد كان موت ألف رجل عند كامبومورتو خسارة في الأرواح أكبر مما حدث في أية معركة شبت نارها حتى ذلك الوقت في إيطاليا أثناء النهضة. وكان ممّا زاد انحطاط الأخلاق في بلاط روما التحيز للأقارب بلا مبالاة، وبيع الرتب الكهنوتية بلا حياء، والقصف الفاحش الذي كان سنّة يجري عليها أقارب البابا. بهذه الأساليب وغيرها مهّد سكستس السبيل إلى إسكندر السادس، وكان له نصيب في انحلال إيطاليا الأخلاقي، لأنه استجاب لدواعي هذا الانحلال. وكان سكستس هو الذي نصّب توركويمادا Torquemada رئيساً لمحكمة التفتيش الأسبانية؛ وسكستس هو الذي أثار ما في روما من وباء الهجاء والإباحية فخوّل محكمة التفتيش الحق في أن تحرّم طبع أي كتاب لا ترغب هي في طبعه. وكان خليقاً عند موته بأن يعترف بأنه عاجز عن القيام بأمور كثيرة - ضد لورندسو، ونابلي، وفيرارا، والبندقية، وحتى آل كولنا أنفسهم لم يكونوا قد أخضعوا بعد. لكنه نجح نجاحاً باهراً في ثلاثة أمور: فقد جعل روما مدينة أصح وأكثر جمالاً مما كانت قبله، وحباها بالهواء الطلق الذي أفاد أهلها قوة، وأعاد البابوية إلى مكانها بين أقوى الدول الملكية في أوربا.

ص: 71

الفصل السابع

‌إنوسنت الثامن

1484 -

1492

أكدت الفوضى التي ضربت أطنابها في روما بعد موت سكستس عجزه عن بلوغ أهدافه. ذلك أن الفوغاء نهبوا الأهراء البابوية، وسطوا على مصارف الجنويين، وهاجموا قصر جيرولامو رياريو، وجرّد خدّام الفاتيكان هذا القصر من أثاثه، وتسلحت أحزاب النبلاء، وأقيمت المتاريس في الشوارع، واضطر جيرولامو أن يقف حملته على آل كولنا، ويعود على رأس جنوده إلى المدينة، فعاد آل كولنا إلى الاستيلاء على كثير من حصونهم. ودعا مجمع مقدس عاجل في الفاتيكان تبودلت فيه الوعود والرشا (49) بين الكردنال بورجيا والكردنا جوليانو دلا روفيري، وأدت إلى انتخاب جيوفني باتستا تشيبو الجنوي Giovanni Battista Cibo of Genoa وتسمى باسم إنوسنت الثامن.

وكان عند انتخابه في الثانية والخمسين من عمره، طويل القامة، وسيم الطلعة، لطيف المعشر، مسالماً وديعاً إلى حد الضعف، متوسط الذكاء والتجربة، وقد وصفه أحد معاصريه بأنه "غير جاهل كل الجهل"(50). وكان له على الأقل ابن وابنة، ولكنه كان له في أغلب الظن غيرهما من الأبناء (51)، يعترف بهم صراحة، ولمّا ارتدى الثياب الكهنوتية عاش كما يظهر عيشة العزاب. وكان الفكهون من أهل روما يكتبون النكات عن أبنائه، ولكن قل من الرومان من كان يأخذ على البابا هذا الإخصاب في أيام شبابه؛ غير أنهم اعترتهم الدهشة حين احتفل بزواج أبنائه وأحفاده في الفاتيكان.

والحق أن إنوسنت بعد أن صار بابا قد قنع بأن يكون جداً، وأن يستمتع

ص: 72

بالحب الأبوي والراحة المنزلية. وقد منح بوليتيان مائتي دوقة لأنه أهدى إليه ترجمة لكتاب هيرودوت، ولكنه فيما عدا هذا قلّما كان يعبأ بالكتّاب الإنسانيين. وظل يعمل على مهل مستعيناً بغيره من الرجال لتجديد بناء روما وتجميلها، فاستخدم أنطونيو بلا يولو في بناء بيت بلفدير في حدائق الفاتيكان، واندريا مانتنيا في تصوير المظلمات في معبد مجاور لهذا البيت؛ لكنه كان في الأغلب الأعم يترك تشجيع الآداب والفنون لكبار الموظفين والكرادلة. وجرى على هذه السنّة نفسها، سنّة ترك الأمور تجري في أعنتها، فهد بشئون السياسة الخارجية إلى الكردنال دلا روفيري، ثم إلى لورندسو ده ميديتشي. وعرض المصرفي الثري أن يزوج ابنته مدالينا Maddelena ذات البائتة الكبيرة من فرانتشيسكو تشيبو ابن البابا؛ ووافق إنوسنت على هذا الزواج، وعقد حلفاً مع فلورنس (1487)، وترك من ذلك الحين الفلورنسي المجرب المسالم يقود السياسة البابوية، واستمتعت إيطاليا بسلم دامت خمس سنين.

وحدثت في عهد جم حادثة. أشبه ما تكون بالتمثيليات المضحكة يستمتع بها أهل زمانه، وكانت من أعجب التمثيليات التي حدثت في التاريخ. وتفصيل ذلك أن بايزيد الثاني وجم ابني محمد الثاني أوقدا نار حرب داخلية بعد موت أبيهما (1481) في نزاعهما على عرش آل عثمان. ولمّا هزم جم في بروصة أراد أن ينجو من القتل بالاستسلام إلى فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس (1482). وأبقاه رئيس الفرسان بيير دو بسون Pieere d'Aubusson عنده يهدد به بايزيد. وارتضى السلطان أن يؤدي إلى الفرسان 45. 000 دوقة كل عام لإنفاقها على جم في الظاهر ولكنها في الحقيقة كانت إغراء لهم على ألاّ يشجعوا جم على المطالبة بعرش السلطنة العثمانية، وألاّ يتخذوه عوناً نافعاً لهم في شن حرب صليبية مسيحية على الأتراك. وأراد دوبسون أن يضمن سلامة هذا الأسير

ص: 73

الذي يدر المال الكثير فبعثه ليقيم تحت حراسة الفرسان في فرنسا. وعرض كل من سلطان مصر، وفرديناند وإزبلا ملك أسبانيا وملكتها، وماتياس كرفينوس Matthias Corvinus ملك المجر، وفيرانتي Ferrante ملك نابلي، وإنوسنت نفسه، عرض كل واحد من هؤلاء مبالغ طائلة على أوبسون إذا رضى بأن ينقل جم إلى بلده ليكون فيها مشمولاً بعنايته. وفاز البابا إذا رضى بأن ينقل جم إلى بلده ليكون فيها مشمولاً بعنايته. وفاز البابا بذلك لأنه وعد رئيس الفرسان بقلنسوة حمراء

(1)

فضلاً عن الدوقات، وأنه ساعد شارل الثامن ملك فرنسا على أن يتزوج آن صاحبة بريطاني ويحصل بذلك على هذه المقاطعة لنفسه. وبناء على هذا سار "التركي العظيم" كما كن جم يسمى في ذلك الوقت، في الثالث عشر من شهر مارس عام 1489 في موكب فخم من الفرسان مخترقاً شوارع روما حتى وصل إلى قصر الفاتيكان حيث سجن سجناً يستمتع فيه بضروب الترف والمجاملة. وأراد بايزيد أن يضمن حسن مقاصد البابا فبعث إليه بمرتب ثلاث سنين نفقة لجم، ثم بعث إليه في عام 1492 رأس حربة أكد له أنه هو الذي نفذ في جنب المسيح. وشك بعض الكرادلة في هذا، ولكن البابا أعد العدة لنقل هذا الأثر من أتكونا إلى روما، ولمّا وصل إلى "باب الشعب"(بورتا دل بوبولو Porta del Popolo) تلقّاه هو بنفسه وحمله في موكب فخم رهيب إلى الفاتيكان، ورفعه الكردنال بورجيا عالياً ليعظّمه الناس ثم عاد بعدئذ إلى عشيقته.

وقد وجد إنوسنت صعوبة كبيرة في موازنة دخله ونفقاته رغم المعونة السخية التي يحبا بها السلطان الكنيسة. ولهذا أخذ يجري على الستة التي جرى عليها سكستس الرابع، ومعظم حكام أوربا. فملأ خزانته بالأموال التي كان يتقاضاها من طلاب المناصب الكبيرة، ولمّا وجد ما في هذا من نفع كبير أنشأ مناصب جديدة وعرضها للبيع؛ فرفع أمناء البابوية إلى

(1)

أي أن يعينه كردنالاً. (المترجم)

ص: 74

ستة وعشرين وحصل بذلك على 62. 400 دوقة؛ ثم رفع عدد حاملي الأختام، وكان واجبهم الثقيل هو مهر القرارات البابوية بخاتم من الرصاص، إلى اثنين وخمسين، وجنى من ذلك 2500 دوقة من كل واحد عينه في المنصب الجديد. ولقد كان يسع الإنسان ألاّ يرى في هذه الأعمال ما هو أسوأ من ضريبة تؤدي نظير تأمين على منصب لولا أن من أدوا هذا المال لم يكونوا يعوضون أنفسهم عمّا أدوه بمرتبهم الضخم فحسب بل بابتزاز المال بأسفل الطرق في مناصبهم. من ذلك أن اثنين من أمناء البابا أقرّا بأنهما زورا في عامين أكثر من خمسين مرسوماً بابوياً أحلاّ فيها بعضهم من الفروض الدينية؛ وغضب البابا من هذا العمل فأمر بشنق الرجلين وإحراق جثتيهما لأنهما تجاوزا في السرقة الحد الذي يجيز منصباهما (1489)(52). وبدا أن كل شيء في روما يمكن شراؤه، من الإعفاء من الأحكام القضائية إلى مقام البابوية نفسه (53). ويحدثنا أنفيسورا الذي لا يوثق بكثير من أقواله أن رجلاً ضاجع ابنتيه ثم قتلهما قد عفا عنه بعد أداء ثمانمائة دوقة (54). ولمّا سئل الكردنال بورجيا عن السبب في عدم إقامة الحد، أجاب كما تقول الرواية:"إن الله لا يريد أن يموت الآثم، بل يريد أن يعيش ويؤدي الثمن"(55). وكان فرانتشيسكو تشيبو Franceschetto Cibo وغدا مجرداً من الذمة والضمير، وكان يشق طريقه إلى بيوت الأهلين "لأغراض دنيئة"؛ ويحرص على أن يستولي على قدر كبير من الغرامات التي تحصلها المحاكم الكنسية في روما، لينفقه في الميسر. وقد خسر في إحدى الليالي 14. 000 دوقة (350. 000؟ دولار) كسبها منه الكردنال رفائيلي رياريو Raffaelle Riario، ثم شكا إلى البابا بأنه خدع في اللعب، وحاول إنوسنت أن يسترد له المال، ولكن الكردنال أقر بأنه أنفقه على البلاتسا دلا كنتشيليربا Palazza della Cancelleria الذي كان يشيّده.

ص: 75

وكان تحويل البابوية إلى سلطة زمنية - انهماكها في السياسية، والحرب، وشئون المال ـ سبباً في امتلاء هيئة الكرادلة برجال اشتهروا بمقدرتهم الإدارية، ونفوذهم السياسي، وقدرتهم على أن يؤدوا أثمان مناصبهم. وقد أضاف إنوسنت إلى مجمع الكرادلة ثمانية آخرين كثرتهم غير صالحة قط لشغل هذه المناصب السامية، مع أنه وعد ألاّ يزيد عدد أعضاء هذا المجمع على أربعة وعشرين. وبذلك خلع لقب كردنال على جيوفني ده ميديتشي، وكان كثير من الكرادلة رجالاً متعلمين تعليماً عالياً، خيّرين، مناصرين للآداب، والموسيقى، والتمثيل، والفن. وكانت قلة منهم نقية طاهرة؛ وكان منهم من لم يتجاوزوا المراتب الصغرى في السلك الكهنوتي ولم يصبحوا قسيسين. لكن الكثيرين منهم كانوا رجال دنيا، تتطلب منهم واجباتهم السياسية، والدبلوماسية، والمالية أن يشتغلوا بالشئون الدنيوية، وكانوا قادرين على أن يواجهوا أمثالهم من الموظفين في الحكومات الإيطالية أو حكومات البلاد التي ما وراء جبال الألب بنفس الكفاية العلمية والدهاء السياسي. ومنهم من حذا حذو النبلاء الإيطاليين، فحصنوا قصورهم واحتفظوا برجال مسلحين يحمونهم من هؤلاء النبلاء، ومن غوغاء روما، ومن غيرهم من الكرادلة (57)

(1)

ولعل باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي العظيم قد أفرط في القسوة بسبب مهامهم الدنيوية حين قال:

لقد كانت المنزلة المنحطة التي وضع فيها لورندسو ده ميديتشي مجمع الكرادلة أيام إنوسنت الثامن قائمة لسوء الحظ على أساس صحيح. فقد كان الكرادلة أسكانيو اسفوؤدسا Ascanito Sforza، ورياريو، وأرسيني

(1)

حدث في مجمع الكرادلة عقد في شهر يونية عام 1486 أن لام الكردنال بورجيا زميله الكردنال بالو لأنه ثمل، فرد عليه بالو بأن قال للكردنال الذي أصبح فيما بعد البابا إسكندر الثالث أنه "ابن الزانية".

ص: 76

واسكا لفيناتوس Scalfenatus، وجان ده لا بالو Jean de la Balue وجوليانو دلا روفيري، وسافلي Savelli، وردريجو بورجيا من أبرز الكرادلة الزمنيين، سرت إليهم عدوى الفساد الذي كان منتشراً في إيطاليا بين الطبقات العليا في عصر النهضة. فقد أحاطوا أنفسهم في قصورهم الفخمة بأكبر ما تتيحه المدنية الراقية من أعظم ضروب الترف؛ فكانوا يعيشون كما يعيش الأمراء الزمنيون، ويبدو أنهم كانوا يحسبون أن أثوابهم الكهنوتية ليست إلاّ زينة تتطلبها مراتبهم. وكانوا يصيدون، ويقامرون، ويقيمون الولائم وضروب التسلية الفخمة ويشتركون في جميع ضروب المرح التمثيلي الذي تجري به المساخر المقنعة؛ وينغمسون في الفساد الخلقي الطليق من كل قيد؛ وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على ردريجو بورجيا (58).

وكان الفساد المنتشر في تلك الطبقة العليا صورة من الفوضى الأخلاقية السائدة في روما كما كان من أسباب انتشارها. فقد كان العنف، واللصوصية، والسلب والنهب، والرشوة، والتآمر، والانتقام من الأعمال اليومية العادية. وكان كل صباح يكشف في الأزقة عن رجال قتلوا في أثناء الليل. وكان قطاع الطرق يترصدون الحجاج وسفراء الدول، ويجردونهم أحياناً من ثيابهم حين يقتربون من عاصمة العالم المسيحي (59). وكانت النساء يهاجمن في الشوارع وفي البيوت. وسرقت قطعة من الصليب الحق مغلفة بالفضة من مكان المقدسات في كنيسة سانتا ماريا في تراستيفيري Trastevere، ثم وجد خشبه مجرداً من غلافه الفضي في كرمة (60). وكان هذا التشكك الديني واسع الانتشار؛ وشاهد ذلك أن أكثر من خمسمائة أسرة في روما أدين أفرادها بالإلحاد في الدين ثم عفي عنهم بعد أن أدوا غرامات. ولعل حكومة البابا المأجورة في روما كانت خيراً من محكمة التفتيش المأجورة السفاحة التي كانت أعمالها تروع أسبانيا في تلك الأيام. وحتى القساوسة أنفسهم لم يكونوا مبرئين من

ص: 77

الشكوك الدينية، من ذلك أن أحدهم قد اتّهم بأنه استبدل بعبارة التجسد الواردة في القداس عبارة أخرى من عنده تقول:"أيها المسيحيون البلهاء، يا من تعبدون الطعام والشراب وتتخذونهما إلهين من دون الله! "(61).

ولما قربت ولاية البابا إنوسنت من نهايتها ظهر المتنبئون يلعنون اقتراب القيامة، وعلا في فلورنس صوت سفنرولا يصم ذلك العهد بأنه عهد المسيح الدجال.

وفي ذلك يقول أحد الإخباريين: "في العشرين من شهر سبتمبر حدث اضطراب شديد في مدينة روما، أغلق التجار على أثره حوانيتهم، ورجع من كانوا في الحقول والكروم إلى بيوتهم مسرعين؛ وكان سبب ذلك ما أعلن من أن البابا إنوسنت قد مات"(62). ورويت قصص غريبة عمّا حدث في ساعات وفاته، فقيل إن الكرادلة وضعوا جم تحت حراسة خاصة خشية أن يستحوذ عليه فرانتيسكتو تشيبو، وإن الكردناليين يورجيا ودلا روفيري كادا يتلاكمان إلى جانب سرير الميت. وإنفيسورا الذي لا يوثق بأقواله هو مصدر الرواية القائلة إن ثلاثة أولاد ماتوا من كثرة ما نقل من دمائهم إلى البابا المحتضر أملاً في إنقاذ حياته (63). وأوصى إنوسنت بثمانية وأربعين ألف دوقة (600. 000؟ دولار) لأقاربه، ومات ودفن في كنيسة القديس بطرس؛ وغطى أنطونيو بلايونو خطيئاته بضريح فخم.

ص: 78

الباب السادس عشر

‌آل بورجيا

1492 -

1503

الفصل الأول

‌الكردينال بورجيا

ولد أظرف بابوات النهضة على الإطلاق في أكساتيفا Xativa من أعمال أسبانيا في اليوم الأول من شهر يناير عام 1413. وكان والداه ابني عم كلاهما من آل بورجيا، وهي أسرة يمكن أن تعد من الأشراف. وتلقّى ردريجو Roderigo تعليمه في أكساتيفا، وبلنسيةـ وبولونيا، ولمّا أصبح عمه كردنالاً ثم البابا كلكستس الثالث Calixtus III فتح أمام الشباب طريق التقدم في السلك الكهنوتي. وانتقل ردريجو إلى إيطاليا وغير اسمه إلى بورجيا، وأصبح كردنالاً وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ولمّا بلغ السادسة والعشرين عين نائباً لقاضي القضاة أي رئيساً للحكومة البابوية وقام بواجبات منصبه بحزم وكفاية، ونال بعض الشهرة في حسن الإدارة، وعاش عيشة التقشف، واتخذ له كثيراً من الأصدقاء من كلا الجنسين، ولم يكن بعد قساً- ولن يكون حتى يبلغ السابعة والثلاثين من العمر.

وكان في أيام شبابه وسيم الخلق، جذاباً حلو الطبع، حاراً في عشقه، مرحاً في مزاجه، قوياً مقنعاً في بلاغته وفكاهته المرحة. وقد بلغ في هذه الصفات كلها درجة يصعب معها على النساء أن يقاومنه. وإذا كان ردريجو

ص: 79

قد نشأ في جو التساهل الأخلاقي الذي كان يسود إيطاليا في القرن الخامس عشر، حيث يرى كثيرين من رجال الدين والقساوسة يبيحون لأنفسهم التمتع بالنساء، فقد قرر ردريجو أن يستمتع بكل النعم التي منحهم ومنه إياها الله سبحانه. يروى أن بيوس الثاني لامه مرة لحضوره "رقصاً خليعاً مثيراً للشهوات" 1460، ولكن البابا قبل اعتذار ردريجو وأبقاه نائباً لقاضي القضاة ومعينه وموضع ثقته (1). وفي ذلك العالم ولد لردريجو ابنه الأول بدرو لويس Pedro Luis أو جيء له به، وولدت له كذلك ابنته جيرولاما التي تزوجت في عام 1482 (2). أو جيء له بها. ولسنا نعرف من كانت أم ابنة أو ابنته. وعاش بدرو في أسبانيا حتى عام 1488ثم انتقل في ذلك العام إلى روما حيث مات بعد مجيئه إليها بقليل. ورافق ردريجو بيوس الثاني إلى أنكونا في عام 1464 وهناك أصيب بمرض تناسلي خفيف "لأنه لم ينم بمفرده" على حد تعبير طبيبه (3).

ثم عقد حوالي عام 1466 صلة أكثر دواماً من صلاته النسائية السابقة مع فانتسا ده كاتاني Vanozza de' Catanei، وكانت وقتئذ في حوالي الرابعة والعشرين من العمر. وكان من سوء الحظ أنها تزوجت بدومينيكو دا رنيانو Domenico d'Arignano ولكن دومينيكو تركها في عام 1476 (4). وولدت فانتسا لردريجو (الذي أصبح قساً في عام 1468) أربعة أبناء: جيوفني في عام 1474، وسيزاري في عام 1476، ولكرديسيا في 1480، وجيوفري في 1481. وقد نسب هؤلاء إلى فانتسا على شاهد قبرها. واعترف بهم ردريجو أبناء له في أوقات مختلفة (5). ويوحي وجود هؤلاء الأبناء به واحداً بعد واحد وجود علاقة بين ردريجو وفانتسا بمفردها

(1)

؛ ولعل الكردنال بورجيا إذا قورن بغيره من رجال الكنيسة يمتاز بقسط من الوفاء والاستقرار

(1)

وقد كان رسكو Roscoe حكيماً حين قال: "يبدو أن علاقته بفانتسا كانت علاقة إخلاص وانتظام؛ وأنه كان يراها زوجة شرعية، وإن كانون القانون ينكرها بطبيعة الحال"(6).

ص: 80

في علاقاته النسائية. وكان أباً خيّراً رحيماً؛ وكان مما يؤسف له أن ما بذله من الجهود لترقية أبنائه في المناصب الكنسية لمن يكن على الدوام مما يرفع من شأن الكنسية. ولمّا أن تطلع ردريجو إلى كرسي البابوية وجد لفانتستا زوجاً متسامحاً، وعمل على أن تعيش في رخاء ونعيم. وقد ترملت مرتين، وتزوجت بعد ترملها، ثم عاشت في عزلة بعيدة عن المظاهر الفخمة، وابتهجت حين علا صيت أبنائها وأثروا، وحزنت لفراقها إياهم، واشتهرت بعدئذ بالتقي والصلاح، وتوفيت في السادسة والسبعين من عمرها. (1518)؛ وأوصت بأملاكها العظيمة القيمة للكنيسة. وأرسل ليو العاشر رئيس تشريفاته للاشتراك في موكب جنازتها (7).

وإنا لنخطئ في فهم معنى التاريخ إذا حكمنا على أسكندر السادس من وجهة النظر الأخلاقية في عصرنا هذا ـ أو على الأصح في أيام شبابنا. وكان معاصروه ينظرون إلى خطيئاته الجنسية قبل أن يرقى عرش البابوية على أنها آثام مرذولة حسب قوانين الكنيسة لا أكثر، ولكنهم يرونها بالنسبة للجو الأخلاقي السائد في زمانه من الصفات التي يتسامح فيها ويعفى عنها، بل إن الرأي العام حتى أثناء الجيل المحصور بين الوقت الذي أنب فيه بيوس ردريجو على استهتاره وارتقائه عرش البابوية قد أصبح اكثر تسامحاً في نظره إلى الانحراف الجنسي وعدم إطاعة قانون الكنيسة الذي يفرض العزوبة على رجال الدين. بل إن بيوس الثاني نفسه كان له أطفال من عشيقاته في أيام شبابه، قبل أن ينتظم في سلك رجال الدين، ولقد دعا هو نفسه في وقت من الأوقات إلى إباحة زواج القساوسة؛ كذلك كان لسكستس الرابع عدة أبناء، وجاء إنوسنت الثامن بأبنائه إلى الفاتيكان. ولقد ندد بعضهم بأخلاق ردريجو، ولكن يبدو أن أحداً لم يذكر شيئاً عن هذه الأخلاق حين انعقد المجلس المقدس ليختار خلفاً إنوسنت. وكان خمسة بابوات منهم نقولاس الخامس ذو الفضائل المعقولة قد عينوه في مناصب موفورة الدخل خلال تلك السنين كلها، وعهدوا إليه بمهام شاقة ووضعوه في مناصب عظيمة

ص: 81

التبعة؛ ويلوح أنهم لم يعبأوا قط بما كان له من أبناء كثيرين (إذا استثنينا منهم بيوس الثاني في وقت من الأوقات)(9). وكان كل الذي عنوا بملاحظته في عام 1492 هو إنه قد عيّن مرتين نائباً لرئيس المحكمة البابوية العليا، وأنه قضى في ذلك المنصب خمساً وثلاثين، وأن خمسة من البابوات المتعاقبين عينوه وأعادوا تعيينه فيه؛ وأنه قام بمهامه بجد وحزم ملحوظين، وأن فخامة قصره في الظاهر تخفي وراءها حياة خاصة بسيطة إلى حد عجيب. وقد وصفه ياقوبو دا فلتيرا في عام 1486 بأنه:"رجل ذو ذكاء يمكّنه من عمل أي شيء يريد، وذو عقل كبير؛ وهو خطيب سريع البديهة، فطن بطبيعته، حاذق حذقاً عجيباً في تصريف الأمور"(10). وكان أهل روما يحبونه، لأنه متّعهم بالألعاب؛ ولمّا أن بلغته أنباء سقوط غرناطة في أيدي المسيحيين متّعهم بمصارعة الثيران على الطراز الأسباني.

ولعل الكرادلة الذين اجتمعوا في المجمع المقدس قد تأثروا أيضاً بثروته لأن المناصب الإدارية التي تولاها في خلال حكم خمسة من البابوات قد جعلته أغنى الكرادلة الذين شهدتهم روما إذا استثنينا دستوتفيل من هذا التعميم وكانوا يعتمدون عليه فيما سيمنحه من الهدايا القيّمة لمن يعطونه أصواتهم في الانتخاب، ولم يخيب هو رجاءهم فيما أمّلوه. فقد وعد الكردنال أسفوردسا بأن يعينه نائباً عنه في المحكمة البابوية العليا، كما وعده بعدة مناصب تدر عليه إيراداً كبيراً، وبقصر آل بورجيا في روما. أما الكردنال أرسيني فقد وعده بأسقفية قرطاجنة الأسبانية وإيراد كنائسها، وببلدتي منتيتشيلي وسريانو، وبأن يتولى حكم أقاليم الحدود. ووعد الكردنال سافيلي Savelli بتشيفيتا كستيلانا Civita Castellana وأسقفية مايورقة، وما إلى ذلك. وقد وصف إنفيسورا هذه الأعمال بأنها:"توزيع إنجيلي لبضائعه على الفقراء"- (11). على أنها لم تكن من الأعمال الغير مألوفة، فقد كان يستخدمها كل مرشح للبابوية، في كثير من المجاميع المقدسة الماضية، كما يستخدمها كل مرشح للمناصب

ص: 82

السياسية في هذه الأيام. ولسنا واثقين من أن الرشا النقدية كان لها أيضاً نصيب في هذا الانتخاب (12). وقد كان صاحب الصوت الحاسم هو الكردنال غراردو Gherardo وهو رجل في السادسة والتسعين من عمره "لا يكاد يحتفظ بقواه العقلية"(13). واندفع الكرادلة جميعاً آخر الأمر فانضموا إلى الجانب الفائز حتى كان انتخاب ردريجو بورجيا بإجماع الآراء (10 أغسطس سنة 1492). ولما سئل أي اسم يريد أن يسمى به وهو بابا أجاب بقوله: "باسم الإسكندر الذي لا يقهر". وكانت هذه بداية وثنية لولاية دينية وثنية.

ص: 83

الفصل الثاني

‌إسكندر السادس

وكان اختيار المجمع المقدس هو الاختيار الذي يريده الشعب. ولم يحدث أن كان ابتهاج الناس بانتخاب البابا مماثلاً لابتهاجهم في هذه المرة (14)، كما كان تتويج واحد من البابوات أفخم من تتويجه. لقد ابتهج الشعب بالموكب الفخم المؤلف من الخيول البيضاء، والأشخاص الرمزيين، والسجف المنقوشة، والصور الملونة، والفرسان، والعظماء، والجنود الرماة، والخيالة الأتراك، والقساوسة السبعمائة، والكرادلة في أثوابهم ذات الألوان الزاهية، وأخيراً بالإسكندر نفسه، وهو في الواحدة والستين من العمر، ولكنه رائع المنظر، منتصب طويل القامة، يفيض صحةً ونشاطاً وكبرياءً. "رصين الوجه مهيب الطلعة" كما يصفه شاهد عيان (15)، يبدو كأنه إمبراطور حتى وهو يبارك الجموع المحتشدة. ولم يكن أحد غير عدد قليل من ذوي الأصالة أمثال جوليانو دلا روفيري وجيوفني ده ميديتشي يبدي مخاوفه من أن يستخدم البابا الجديد، المعروف بأنه أب مغرم بأبنائه، سلطانه في رفع شأن أسرته بدل أن يستخدمه في تطهير الكنيسة وتقويتها.

وبدأ أعماله بداية حسنة. فقد حدثت في روما في الستة والثلاثين يوماً بين موت إنوسنت وتتويج الإسكندر مائتان وعشرون من حوادث الاغتيال التي عرفت. ولكن البابا الجديد ضرب المثل بأول قاتل قبض عليه؛ فقد شنق هذا المجرم، وشنق معه أخوه، وهدم بيته، وارتضت المدينة هذه القسوة، وأخفت الجريمة رأسها؛ وعاد النظام إلى روما، وأبتهجت إيطاليا كلها إذ وجدت يداً قوية تقبض على أزمة الشئون (16).

وكان الأدب والفن يترقبان من يأخذ بناصرهما. وقد وجدا في الإسكندر

ص: 84

نصيرهما، فقد شاد البابا الجديد كثيراً من المباني داخل روما وخارجها، وتبرع بالمال الذي أنشئ به سقف جديد لكنيسة سانتا ماريا مجيوري مضافاً إلى هدية من الذهب الأمريكي من عند فرديناند وإزبلا، وأعاد تخطيط ضريح هدريان فأحاله إلى قصر سانت أنجيلو الحصين، وأعاد زخرفته من الداخل ليجعل منه سجوناً انفرادية للمساجين البابويين، وأجنحة مريحة للبابوات المنهكين. وأنشأ بين هذا القصر والفاتيكان طريقاً مغطىً طويلاً وقاه من شارل الثامن في عام 1494، وأنجى كلمنت السابع من مكيدة لوثرية أثناء أنتهاب روما. واستخدم بنتورتشيو في تزيين مسكن بورجيا في الفاتيكان، فأعيد بناء أربع من حجره الست، وفتحت للجمهور أيام ليو الثامن؛ وتحتوي كوة في واحدة منها صورة رائعة للإسكندر نفسه - ذات وجه مشرق، وجسم ممتلئ سليم، وأثواب فخمة. وفي حجرة أخرى صورت مريم تعلم الطفل القراءة، وقد وصفها فاساري (17) بأنها صورة لجويليا فارنيزي Guilia Farnese وهي عشيقة مزعومة للبابا. ويضيف فاساري إلى قوله السابق أن الصورة تحتوي أيضاً "رأس البابا إسكندر تزدان به" ولكنّا لا نرى صورة له واضحة هناك.

وأعاد بناء جامعة روما، واستدعى إليها طائفة من المعلمين الممتازين وكان يؤدي إليهم أجورهم بانتظام لم يسمع بمثله في تلك الأيام. وكان يحب التمثيل، ويسره أن يمثل طلاب المجمع العلمي في روما بعض المسالي والتمثيليات الراقصة في الحفلات التي تقيمها أسرته؛ وكان يؤثر الموسيقى الخفيفة على الفلسفة الثقيلة؛ ومن أعماله أنه أعاد الرقابة على المطبوعات في عام 1501 بأن أصدر مرسوماً يحرم أي كتاب إلاّ بعد أن يوافق عليه كبير الأساقفة المحلي. ولكنه ترك حرية واسعة للهجاء والمناظرة. وكان يضحك عليه سيزاري بورجيا من وجوب تأديب هؤلاء الهجائين.

ص: 85

وقال يوماً لسفري فيرارً: "إن روما مدينة حرة يستطيع كل إنسان فيها أن يقول أو يكتب ما يشاء. وهو يقولون عني كثيراً مما يسوءني ولكنني لا أبالي يما يقولون"(18).

وكان تصريفه شئون الكنيسة في السنين الأولى من ولايته تصريفاً يشهد له بالقدرة والكفاية إلى حد غير مألوف. ومن الأدلة على ذلك أن إنوسنت السابع ترك الخزانة مدينة، "في حاجة إلى كل ما وهب الإسكندر من مقدرة لإصلاح حال المالية البابوية، وتطلبت منه موازنة الميزانية سنتين كاملتين"(18).

وقد تذرع إلى ذلك بإنقاص عدد موظفي الفاتيكان، وتخفيض النفقات، ولكن السجلات كان يعتني بحفظها وتدوينها، وكانت مرتبات الموظفين تؤدى في أوقاتها (19). وكان الإسكندر يواظب على إقامة المراسم الدينية الشاقة التي يستلزمها منصبه بأمانة، ولكنه كان يملها ملل الرجل الكثير المشاغل. وكان رئيس تشريفاته رجلاً ألمانياً يدعى جوهان بركهارد Hojann Burchard، عمل على تخليد شهرة مولاه وسوء سمعته بأن دوّن في يومياته كل ما شاهده تقريباً بما في ذلك الكثير مما كان الإسكندر يود ألاّ يطلع عليه الناس. وقد وفى الإسكندر للكرادلة بما وعدهم به في المجمع المقدس، بل إنه كان أكثر سخاء لمن كانوا أطول الناس مقاومة له أمثال الكردنال ده ميديتشي، وعين بعد سنة من توليته أثني عشر كردنالاً جديداً وزيادة على الكرادلة الأصليين. ومن هؤلاء من كانوا ذوي مقدرة وكفاية حقة، ومنهم من عينوا استجابة لرغبة بعض السلطات السياسية التي كان من الحكمة استرضاؤها؛ وكان اثنان منهم صغيري السن إلى حد يدعو للقيل والقال، وهما إبوليتو دست ولم يكن يتجاوز الخامسة عشرة وسيزاري بورجيا وكان في الثامنة عشرة؛ ومنهم ألسندو فرنيزي الذي كان مديناً بمنصبه إلى أخته جويليا فرنيزي وهي في اعتقاد الكثيرين

ص: 86

عشيقة البابا. وكان أهل روما طويلو اللسان، الذين لم يدركوا وقتئذ أنهم سيلقبون ألسندرو في يوم من الأيام بولس الثالث، يسمونه الكردنال ذا التنورة. وغضب جوليانو دلا رو فيري أقوى الكرادلة الشيوخ حين وجد أنه وهو الذي كان يسيطر على إنوسنت الثامن ليس له نفوذ عند الإسكندر بعد أن اتخذ الكردنال اسفوردسا مستشاره الأمين وقربه إليه، وانتابته نوبة من القنط فذهب إلى كرسيه الأسقفي في أستيا وأنشأ لنفسه حرساً مسلحاً، ثم فر إلى فرنسا بعد عام من ذلك الوقت، وطلب إلى شارل الثامن أن يغزو إيطاليا، ويعقد مجلساً عاماً، ويخلع الإسكندر الذي لا يتورع عن بيع المناصب الكهنوتية.

وكان الإسكندر في ذلك الوقت يواجه المشاكل السياسية القائمة أمام بابوية تكتنفها القوى الإيطالية التي تأتمر بها من كل جانب. وكانت الولايات البابوية قد وقعت مرة أخرى في أيدي طغاة محليين، يدعون أنهم خدام الكنيسة ولكنهم انتهزوا الفرص التي أتاحها لم إنوسنت الثامن فاستردوا الاستقلال الفعلي الذي فقدوه هم وأسلافهم في عهد ألبرنوز أوسكستس الرابع. وكانت الدول المجاورة للمدن البابوية قد استولت على بعض هذه المدن، فاستولى نابلي مثلاً على سورا Sora وأكويليا في عام 1467، استولت ميلان على تورلي في عام 1488. ولها كان أول واجبات الإسكندر هو أن يخضع هذه الولايات تحت حكم بابوي مركزي، يفرض عليها الضرائب، كما أخضع ملوك أسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا السادة الإقطاعيين. وكانت هذه هي المهمة التي عهد بها إلى سيزاري بورجيا والتي أنجزها بسرعة وقسوة جعلت مكيفلي يعجب به ويدهش من مقدرته.

وكان أقرب إلى روما وأشَّد مضايقة للبابا وإقلاقاً لراحته النبلاء أشباه المستقلين الخاضعون للبابا نظرياً والمعادون له والخطرون عليه فعلاً. وكان

ص: 87

ضعف البابوية من الناحية الزمنية منذ أيام بنيفاس الثامن (المتوفى عام 1303) قد ترك لهؤلاء النبلاء سيادة إقطاعية على ضياعهم شبيهة بما كان لأمراء الإقطاع في العصور الوسطى، فكانوا يسنون لأنفسهم قوانينهم، وينظمون جيوشهم، ويحاربون، كلما شاءوا، حروبهم الخاصة غير مبالين بالبابوات أنفسهم، وقد أدى هذا كله إلى اضطراب النظام وكساد التجارة في لاتيوم. ولم يمض على ارتقاء الإسكندري عرش البابوية إلاّ قليل من الوقت حتى باع فرانتشيسكتستو كسيبو إلى فرجينو أرسيني Virginio Orisini ضياعاً خلفها له والده إنوسنت الثامن بمبلغ 40. 000 دوقة (500. 000 دولار)؛ ولكن أرسيني هذا كان ضابطاً كبيراً في جيش نابلي؛ وكان قد تلقى من فيرانتي الجزء الأكبر من المال الذي ابتاع به الضياع، والواقع أن نابلي كانت قد امتلكت في الأراضي البابوية حصنين ذوي مركزين حربيين خطيرين (22). ورد الإسكندر على هذا بأن عقد حلفاً مع البندقية، وميلان، وفيرارا، وسينا، وبتجنيد جيش، وتحصين الأسوار القائمة بين سانت أنجيلو والفاتيكان. وخشي فرديناند الثاني ملك أسبانيا أن يؤدي الهجوم المشترك على نابلي إلى القضاء على سلطان أرغونة في إيطاليا، فأقنع الإسكندر وفيرنتي أن يتفاوضا؛ ونفح أرسيني البابا بأربعين ألف دوقة نظير احتفاظه بالأملاك التي اشتراها، وخطب الإسكندر لابنه جيوفري، وكان وقتئذ في الثالثة عشرة من عمره، سانتشيا Sancia حفيدة ملك نابلي الحسناء (1494).

وكافأ الإسكندر فرديناند على وساطته الموفقة بأن منحه الأمريكتين. ذلك أن كولمبس كان قد كشف "جزائر الهند" بعد شهرين من تولية الإسكندر ومنح فرديناند وإزبلا تلك البلاد. غير أن البرتغال طالبت بملك العالم الجديد بالاستناد إلى مرسوم صدر من كالكستس Calixtus الثالث (1479)، يؤيد فيها امتلاكها جميع الأراضي الواقعة على شاطئ المحيط الأطلنطي. وردت أسبانيا على هذا بان المرسوم لم يكن يقصد غير الأراضي

ص: 88

الواقعة على الشاطئ الشرقي من ذلك المحيط. وكانت نيران الحرب وشيكة الاشتعال بين الدولتين حين أصدر الإسكندر مرسومين (في الثالث والرابع من شهر مايو سنة 1493) يمنحان أسبانيا جميع الأراضي المكتشفة في غرب خط وهمي يمتد من أحد القطبين إلى القطب الثاني على بعد مائة فرسخ إسباني من جزائر أزوره والرأس الأخضر، كما يمنح البرتغال جميع الأراضي المكتشفة في شرقه، مشترطاً ألاّ تكون الأراضي ما يسكنه المسيحيون، وأن يبذل الفاتحون كل ما أوتوا من جهد في أن ينشروا الدين المسيحي بين رعاياهم الجدد. ولم تكن "منحة" البابا بطبيعة الحال إلاّ تأييداً لحق الفتح بالسيف، ولكنها حافظت على السلم في شبه جزيرة أيبريا؛ ويبدو أن أحداً لم يفكر قط في أن لغير المسيحيين أي حق في الأراضي التي يسكنونها.

وإذا كان في مقدور الإسكندر أن يوزع القارات، فقد وجد كثيراً من الصعوبة في الاحتفاظ بالفاتيكان. فقد حدث عقب وفاة فيرنتي صاحب نابلي (1494) أن استقر رأي شارل الثامن على غزو إيطاليا وإعادة نابلي إلى أملاك فرنسا. وخشي الإسكندر أن يخلع من عرشه فخطا تلك الخطوة الخطيرة وهي طلب المعونة من سلطان الأتراك. ولهذا بعث في شهر يولية من عام 1494 بأمين له يدعى جيورجيو بتشياردو Giorgio Bocciardo ليحذر بايزيد الثاني من عزم شارل على دخول إيطاليا والاستيلاء على نابلي، وخلع البابا أو السيطرة عليه، وتحريض جم على المطالبة بعرش آل عثمان، واستغلال هذا في حرب صليبية ضد القسطنطينية. وعرض الإسكندر أن ينضم إلى البابوية، ونابلي، ضد فرنسا، وربما انضمت إليهم أيضاً البندقية. واستقبل بايزيد بنتشياردو بالحفاوة المأثورة عن الشرقيين، ورده بالأربعين ألف دوقة المستحقة عليه نظير نفقات جم يصحبه رسول من عنده إلى الإسكندر. ولمّا وصل بتشياردو إلى سنغاليا Sengallia قبض عليه

ص: 89

جيوفني دلا روفير أخو الكردنال الحانق، واستولى على الأربعين ألف دوقة، وعلى خمس رسائل قيل إنها مرسلة من السلطان إلى البابا. وتشير إحدى هذه الرسائل على البابا بأن يقتل جم ويرسل جثته إلى القسطنطينية على أن يؤدي السلطان عقب وصولها ثلاثمائة ألف دوقة (3. 750. 000؟ دولار):(تستطيع بها يا صاحب العظمة أن تبتاع أملاكاً لأبنائك)(23)، وأرسل الكردنال دلا روفيري صوراً من هذه الرسائل إلى ملك فرنسا. وقال الإسكندر إن الكردنال قد زور الرسائل، وأنه اخترع القصة من أولها إلى آخرها. والشواهد التي لدينا تؤيد رسالة البابا إلى بايزيد، ولكنها لا تؤيد رد السلطان وتنطق بأنه في أغلب الظن مزيف (24). وكانت البندقية ونابلي قد دخلتا من قبل في مفاوضات مثل هذه مع الأتراك، وسنرى فرانسيس الأول يحذو حذوهما فيما بعد؛ ذلك أن الدين عند الحكام إنما هو أداة من أدوات السلطان.

وأقبل شارل، وتقدم مجتازاً ميلان الصديقة، وأرهب فلورنس واقترب من روما (ديسمبر عام 1494). وساعده آل كولنا باستعدادهم لغزو العاصمة. واستولى أسطول فرنسي على أستيا - مرفأ روما على منصب التيبر - وهدد بمنع وصول الحبوب إليها من صقلية. وأعلن كثيرون من الكرادلة، ومنهم اسكانيو اسفوردسا تأييدهم لشارل؛ وفتح فرجينو أرسيني قصوره للملك، وتوسل إليه نصف الكرادلة في روما أن يخلع البابا (24). وانسحب الإسكندر إلى قصر سانت أنجيلو، وبعث مندوبين عنه ليفاوضوا الفاتح. ولم يكن شارل يريد أن يثير أسبانيا ضده بإقدامه على خلع البابا، بل إن هدفه كان الاستيلاء على نابلي التي لم يكن ثراؤها يغيب قط عن عقول ضباطه. ولهذا عقد الصلح مع الإسكندر مشترطاً أن يسمح لجيوشه باختراق لاتيوم دون عائق، وأن يعفو البابا عن الكرادلة الذين انضموا إلى شارل، وأن يسلمه جم. وقبل الإسكندر هذه الشروط، وعاد

ص: 90

إلى الفاتيكان، واستمتع بركوع شارل ثلاث ركعات أمامه، وتفضل فمنعه من أن يقبل قدمي البابا، وتلقّى من الملك "طاعة" فرنسا الرسمية - أي تخليه عن جميع خططه التي كانت تهدف إلى خلع البابا. وزحف شارل على نابلي في الخامس والعشرين من يناير ومعه جم، ومات جم في الخامس والعشرين من فبراير على أثر نزلة شعبية، ويقول بعضهم إن الإسكندر الماكر سقاه بطيئاً، ولكن أحداً لم يعد يصدق هذه القصة (25).

وما كاد الفرنسيون يرحلون حتى استرد الإسكندر شجاعته. وأكبر الظن أنه أيقن في ذلك الوقت أن ولايات بابوية قوية، وجيشاً صالحاً، وقائداً محنكاً لا غنى عنها لسلامة البابوات من سيطرة أصحاب السلطة الزمنية (26). ولهذا عقد مع البندقية، وألمانيا، وأسبانيا، وميلان حلفاً مقدساً (31 مارس من سنة 1495) هدفه في ظاهر الأمر الدفاع المتبادل ومحاربة الأتراك، ولكنه يهدف في السر إلى طرد الفرنسيين من إيطاليا. وعرف شارل السر، وارتد إلى بيزا عن طريق روما؛ وأراد الإسكندر أن يتحاشى الاصطدام به فراح إلى أرفينو وبروشيا. ولما فر شارل عائداً إلى فرنسا دخل الإسكندر روما دخول الظافرين، وطلب إلى فلورنس أن تنظم إلى الحلف، وأن تطرد منها سفنرولا صديق فرنسا وعدو البابا أو ترغمه على السكوت، وأعاد تنظيم الجيش البابوي، ووضع على رأسه جيوفني أكبر أبنائه الأحياء، وأمره أن يفتح حصون آل أرسيني الثائرة ويضمها لأملاك البابوية. (1496). ولكن جيوفني لم يكن قائداً محنكاً فهزم في سريانو Soriano وعاد إلى روما يجلله العار، وأنغمس في الشهوات التي أدت في أغلب الظن إلى موته المبكر. لكن الإسكندر رغم هذا استرد الحصون التي بيعت لفرجينو أسيني، كما أسترد أستيا من الفرنسيين. وبدا له أنه تغلب على كل الصعاب، فأمر بنتورتشيو أن ينقش على جدران الجناح البابوي في سانت أنجيلو مظلمات تمثل انتصار البابا على الملك. وكان الإسكندر وقتئذٍ قد وصل إلى ذروة مجده.

ص: 91

الفصل الثالث

‌الآثم

وحمدت له روما حسن إدارته الداخلية ونجاحه رغم تردده في سياسته الخارجية، ولامته لوماً خفيفاً على مغامرات حبه، ولوماً عنيفاً على سعيه لتوفير الثراء لأبناءه، وحقدت عليه لتعيينه في مناصب الدولة بروما حشداً كبيراً من الأسبان كان منظرهم الأجنبي ولغتهم الأجنبية مثاراً لغضب الإيطاليين. وكان عدد ضخم من الأسبانيين من أقارب البابا قد هرعوا إلى روما "حتى لم تعد مائة بابوية تكفي ذلك الحشد من أبناء الأعمام"؛ كما يقول شاهد عيان (27). وكان الإسكندر وقتئذ قد أصبح إيطالياً كاملاً في ثقافته، وسياسته، وأساليبه ولكنه لا يزال يحب أسبانيا، ويتحدث بالإسبانية أكثر مما يجب مع سيزاري ولكريدسيا، ورفع إلى مقام الكردنالية تسعة عشر أسبانياً، وأحاط نفسه بخدم ومساعدين قطلانيين، حتى لقبه الإيطاليون الحاسدون آخر الأمر "البابا الهجين"(28) يشيرون بذلك إلى انحداره من يهود أسبانيين اعتنقوا المسيحية. ورد الإسكندر على هذا بقوله إن كثيرين من الإيطاليين، وبخاصة في مجمع الكرادلة، قد غدروا به، وإنه لا بد أن يجمع حوله طائفة من الأنصار يرتبطون معهم برباط الولاء الشخصي القائم على علمهم بأنه هو حاميهم الأوحد في روا.

وكان هو، وأمراء أوربا حتى زمن نابليون، يقولون هذا القول عينه ليبرروا ترقية أقاربهم إلى مناصب الثقة والسلطان. وقد ظل البابا

(1)

(1)

أنظر ما يقوله كريتون Creighton: " لم يكن الحلفاء ممن يوثق بهم في الظروف السياسية الإيطالية المزعزعة إلا إذا اعتمد إخلاصهم على بواعث المنفعة الخاصة لهم. ولهذا فإن الإسكندر السادس اتخذ صلات الزواج في أسرته وسيلة يحيط بها نفسه بحزب سياسي قوي. ولم يكن يثق بأحد غير أبنائه يتخذهم أدوات لتنفيذ خططه" من كتاب م. كريتن M. Creighton " تاريخ البابوية في عهد الإصلاح الديني" الجزء الثالث 263. وهذا الأسقف الأنجليكاني لا يضارعه في نزاهته وغزارة علمه في هذا الميدان إلا أمانة لدفج فن باستون Ludwig von Paston وعلمه الواسع في كتابه "تاريخ البابوات" وكان وجود هذين التاريخين العظيمين خليقاً أن يمحو من زمن يعيد غيوم الأقاصيص الخرافية التي نشرها الكتاب المتحزبون حول بابوات النهضة.

ص: 92

فترة من الوقت يأمل أن يعينه ابنه جيوفني على حماية الولايات البابوية، ولكن جيوفني ورث عن أبيه حسه المرهف نحو النساء غير مصحوب بقدرته على حكم الرجال. وأدرك الإسكندر أن ابنه سيزاري دون سائر أبناءه هو الذي أوتي العزيمة والصرامة اللتين لا بد منهما لخوض غمار السياسة الإيطالية في ذلك العصر المليء بالعنف، فخلع عليه عدداً كبيراً من المناصب الدينية تدر عليه إيراداً يفي بنفقات هذا الشاب ذي السلطان المطرد الزيادة. وحتى لكريدسيا الظريفة نفسها اتخذت أداة سياسية، فالفت نفسها وقد ارتقت إلى حكم إحدى المدن أو إلى فراش الدوق جليل الشأن. وكان البابا يحب لكريدسيا حباً أدى ببعض المغتابين النمامين إلى اتهامه بمضاجعتها وتصويره بالوالد الذي ينافس أبناءه في عشقها (29). وقد حدث في مرتين اضطر فيهما ألكسندر إلى الغياب عن روما أن عهد إلى لكريدسيا بحجرة في الفاتيكان وخولها حق فض رسائله وتصريف جميع الشؤون العادية. وكان تخويل النساء مثل هذه السلطة كثير الحدوث في بيوت الحكام بإيطاليا - كما حدث في فيرارا، وأرمينو، ومانتوا - ولكن هذا العمل روع روما نفسها وهي المتخمة بالمفاسد. ولما أن قدم جيوفري وسانتشيا من نابولي بعد زفافهما، خرج سيزاري لكريدسيا لاستقبالهما، وهرول الأربعة إلى الفاتيكان، وسعد الإسكندر بقربهم. وفي ذلك يقول جوتشيارديني Guicciardini " لقد اعتاد غير الإسكندر من البابوات أن يخفوا فضائحهم بأن يسموا أبنائهم أبناء أخواتهم، ولكن الإسكندر كان يسره أن يعرف العالم كله أنهم أبناءه (30).

ص: 93

وكانت روما قد غفرت للبابا علاقته بفانتسا الساذجة، ولكنها دهشت لعلاقته بجويليا التي تنقلت من عشيق إلى عشيق. واشتهرت جويليا فرنيزي Gullia Farnese بجمالها الرائع وخاصة بشعرها الذهبي؛ فإذا أرسلته ووصل إلى قدميها كان له منظر يلهب دم رجال أقل توقداً من الإسكندر. وكان أصدقاؤها يلقبونها "الجميلة La Belle". ويصفها سانودو Sanudo بأنها "محبوبة البابا، وأنها فتاة رائعة الجمال، قوية الإدراك، رحيمة، ظريفة (31). ووصفها إنفيسورا في عام 1493 فقال إنها شهدت مأدبة زواج لكريدسيا في الفاتيكان، وسماها "محظية الإسكندر؛ وأطلق ماتارتسو المؤرخ البيرولوجي هذا اللقب ذاته على جويليا ولكنه في أغلب الظن كان ينقل عن إنفيسورا، وسماها أحد الظرفاء الفلورنسيين في عام 1494 "عروس المسيح Sposa di Cristo" وتلك عبارة لا تطلق عادة إلاّ على الكنيسة (32). وقد حاول بعض العلماء أن يطهروا اسم جويليا بحجة أن لكريدسيا التي دل البحث عن نقاء سريرتها - ظلت صديقتها إلى آخر أيامها، وأن أرسينو أرسيني Orsino Orsini زوج جويليا بنى معبداً تكريماً لذكراها الشريفة (33). وولدت جويليا في عام 1492 ابنة سميت لورا Laura، قيدت رسمياً منسوبة إلى أرسيني، ولكن الكردنال ألسندرو فارنيزي اعترف بأن الطفلة ابنة الإسكندر نفسه (34)

(1)

. وينسب إلى البابا أيضاً ابن غامض خفي ولد له من امرأة أخرى حوالي عام 1498 ويعرف في يومية بركهار باسم الطفل رومانوس Infans Romanus، (35) . وليست نسبته إلى البابا مؤكدة، ولكن زيادة واحد أو نقصه في عدد أولئك الأبناء أمر غير ذي بال.

وليس ثمة شك في أن الإسكندر هذا كان رجلاً شهوانياً حار الدم

(1)

يرى باستور في الجزء الخامس هامش ص (417) أن هذا دليل قاطع على إثم الإسكندر، ولكن المغتابين المعادين للبابا قد سوءوا سمعته تسويئاً يجعل المشفقين عليه لا يتسرعون في الحكم على أخلاقه استناداً إلى هذا الدليل.

ص: 94

إلى درجة لا تتفق قط مع العزوبة. والشواهد على ذلك كثيرة: منها أنه أقام احتفالاً عاماً في الفاتيكان مثلت فيه مسلاة (فبراير، 1503)، وأنه استمتع في هذه المناسبة بكثير من ضروب الملاهي، وسره أن يلتف حوله عدد من النساء الرائعات الجمال، وأن يجلسن على مقاعد منخفضة عند قدميه. ذلك أنه كان رجلاً، ويبدو أنه كان يشعر بما يشعر به كثيرون من رجال الدين في تلك الأيام، وهو أن فرض العزوبة على رجال الدين خطأ وقع فيه هلدبراند، وأن الكرادلة أنفسهم يجب أن يسمح لهم بأن يستمتعوا بلذة صحبة النساء، وإحنهن. وكان يظهر لفانتسا مشاعر الحنان الزوجي، ولعله كان يظهر لجويليا الحب الأبوي. لكن إخلاصه لأبنائه، الذي كان يتغلب في بعض الأحيان على إخلاصه لمصالح الكنيسة، يمكن أن يتخذ حجة تبرر بها حكمة القانون الكنسي الذي يفرض العزوبة على القسيسين.

وكان الإسكندر في السنين الوسطى من ولايته، وقبل أن يطغى عليه فيها سيزاري بورجيا، تتصف بكثير من الفضائل. نعم إنه كان في تصريف الشئون العامة مهيباً ذا شمم وكبرياء، ولمنه في أحواله الخاصة مرحاً، طيب السريرة، بشوشاً، حريصاً على الاستمتاع بالحياة، يستطيع أن يضحك ملء شدقيه حين يرى من نافذة غرفته استعراضاً للرجال المقنعين "ذوي أنوف مزيفة طويلة كبيرة الحجم في شكل عضو التذكير"(36).

وكان وقتئذ بديناً إلى حد ما إذا جاز لنا أن نثق بصورته وهو يصلي التي رسمها له بنتورتشيو والتي يبدو لنا أنها صورة صادقة. ومع هذا فإن كل ما كتب عنه يشهد بأنه كان مقتصداً في طعامه وشرابه، وأن مائدته كانت تبلغ من البساطة حداً ينفر منه الكرادلة (37). وأنه لم يكن يرعى حق بدنه أثناء قيامه بالشئون الإدارية، فكان يقضي في العمل جزءاً كبيراً من

ص: 95

الليل، ويراقب بجد ونشاط شئون الكنيسة في جميع أنحاء العالم المسيحي.

ترى هل كان استمساكه بالدين المسيحي تصنعاً ورياءً؟ أكبر الظن لا. ودليلنا على ذلك أن رسائله حتى التي تختص منها بجويليا مليئة بعبارات التقى التي لم تكن من مستلزمات الرسائل الخاصة (38). ولقد كان هو رجل نشاط وعمل تغلبت عليه أخلاق زمانه السهلة غير المتحرجة، حتى لم يكن يرى، إلاّ في القليل النادر من الأوقات، أن ثمة تناقضاً بين حياته وبين مبادئ الأخلاق المسيحية. وكانت كمعظم الذين يستمسكون بقواعد الدين كاملة، يسلك مسلك رجال الدنيا كاملاً. ويبدو أنه كان يشعر أن البابوية في الظروف المحيطة بها في عهده تحتاج إلى حاكم سياسي لا إلى ولي من أولياء الله الصالحين. وكان يعجب بالتقى والصلاح، ولكنه كان يظن أن هذا من مستلزمات الرهبنة والحياة الخاصة، لا من صفات يضطر إلى أن يعامل في كل خطوة من خطواته طغاة، دهاة، يعملون للكسب والسلطان، أو دبلوماسيين غادرين لا ذمة لهم ولا ضمير. وانتهى به الأمر إلى اتباع جميع أساليبهم، واصطناع أكثر ما تحوم حوله الريب من حيل من سبقوه في البابوية.

واضطرته حاجته إلى المال لأداء نفقات حكومته وحروبه، فباع المناصب، واستولى على ضياع الموتى من الكرادلة، واستغل عيد سنة 1500 أتم استغلال، فكان الإعفاء من الواجبات الدينية والإذن بالطلاق يمنحان على أنهما عملان مربحان في المساومات السياسية. مثال ذلك أن لادسلاس ملك المجر دفع 30. 000 دوقة نظير إلغاء زواجه ببياتريس أميرة نابلي؛ ولو أن هنري الثامن قد وجد بابا كالإسكندر يتعامل معه، لبقى إلى آخر أيامه حامي حمى الدين. ولمّا لاح أن العيد سيخفق من الناحية المالية لأن الذين كانوا يريدون الحج قعدوا في منازلهم خوفاً من اللصوص، أو الوباء أو الحروب، لم يشأ الإسكندر أن يخسر ما قدره لنفسه من مال، وجرى على

ص: 96

سنة أسلافه البابوات، فأصدر مرسوماً بابوياً (4 مارس سنة 1500) يفصل فيه ما يستطيع المسيحيون أداءه من المال ليحصلوا على الغفران الذي كانوا سيحصلون عليه بالحج إلى رومة؛ وبأي ثمن يستطيع التائبون أن يغفر لهم زواجهم من المحارم؛ وكم يؤدي رجل الدين لكي يغفر له بيع المناصب أو "الشذوذ"(39). وأمر في السادس عشر من ديسمبر أن يمد العيد حتى يوم الغطاس. ووعد الجباة دافعي المال بأن أموالهم ستستخدم في حرب صليبية على الأتراك، ووفى بهذا الوعد بالنسبة إلى الأموال المجموعة من بولندة والبندقية، ولكن سيزاري بورجيا استخدم ما تجمع من الأموال فيما شنه من الحروب لاستعادة الولايات البابوية (40).

وأراد الإسكندر أن يزيد حفلات العيد جلالاً فعين في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1500 اثني عشر كردنالاً جديداً بلغ مجموع ما أدوه ثمناً لمناصبهم 120. 000 دوقة؛ ويقول جوتشيارديني إن هذه المناصب "لم يرق إليها أكثر الناس جدارة بها بل كانت من نصيب من يؤدون فيها أغلى الأثمان" (41). ثم عين في عام 1503 تسعة كرادلة آخرين حصل منهم على أثمان مجزية (42). وأنشأ كذلك في هذه السنة ذاتها ثمانين منصباً في الحكومة البابوية لا موجب لها على الإطلاق، وبيع كل منصب من هذه المناصب بسبعمائة وستين دوقة كما يقول جوستيانيني Guistianini سفير البندقية وأحد أعداء البابا (43). ولصق أحد الهجائين على تمثال بسكوينو (1503) هذا الهجاء اللاذع:"إن المفاتيح ومذابح الكنائس والمسيح يبيعها الإسكندر؛ وحق له أن يبيعها، فقد أدى هو ثمنها"(44).

وكان القانون الكنسي ينص على أن تعود أملاك رجال الدين إلى الكنيسة بعد وفاتهم، إلاّ إذا قضى البابا غير هذا (45). وكان الإسكندر يقضي بغير هذا على الدوام إلاّ إذا كان المتوفى من الكرادلة. واستجاب الإسكندر لضغط سيزاري بورجيا وإلحاحه فجعل الاستيلاء على الثروة التي يتركها

ص: 97

وراءهم كبار رجال الكنيسة من المبادئ العامة المقررة، وجاءت بهذه الطريقة أموال موفورة إلى بيت المال. وخدع كثيرون من الكرادلة البابا بمنح هبات كثيرة من أموالهم قبل وفاتهم، ومنهم من عمد في أثناء حياته إلى إنفاق أموال كثيرة لإعداد أنصاب تذكارية لهم تبقى بعد موتهم. ولمّا مات الكردنال ميشيل (1503) جرد عملاء البابا من فورهم بيته من كل ما كان فيه، وقبض البابا ثمنه، إذا صدقنا ما يقوله جوستنيانا، البالغ مائة وخمسين ألف دوقة. وكان مما يشكو منه الإسكندر أنه لم يتسلم منه نقداً سوى 23. 832 دوقة (46).

وسنرجىء هنا البحث المفصل فيما يعزى للإسكندر أو سيزاري بورجيا من دس السم لكبار رجال الكنيسة الذين تطول أعمارهم، ولكننا نقبل مؤقتاً النتيجة القائلة بأنّا "لا نجد قط دليلاً يثبت أن الإسكندر قد دسّ السم لإنسان"(47). على أن قولنا هذا لا يثبت براءته، وربما كان هو أمهر من أن يترك وراءه للتاريخ ما يدينه؛ لكنه مع ذلك لم ينج من الهجائين والنمامين، وغيرهم من الظرفاء الذين كانوا يبيعون نكاتهم القاتلة إلى أعداءه، وقد رأينا كيف كان سنادسارو يسلط شعره القاتل المقفى على البابا وولده أثناء النزاع الذي شجر بين البندقية ونابلي؛ كذلك سخر أنفيسورا قلمه للتشنيع على البابا خدمةً لآل كولنا، وكان جيرونيمو منشيوني Geronimo Mancioni في يد بارونات سافلي أقوى من فرقة عسكرية. وكان من الوسائل التي استخدمها الإسكندر نفسه في حروبه مع نبلاء كمبانيا، أن أصدر في عام 1501 مرسوماً بابوياً يفصل فيه الجرائم التي ارتكبها آل سافلي وكولنا. وكان أشد من هذا مبالغة - الرسالة الذائعة الصيت التي كتبها منتشيوني والمسماة "رسالة إلى سلفيوسافلي" يعدد فيها رذائل الإسكندر وسيزاري بورجيا وجرائمهما. وقد نشرت هذه الوثيقة في مدى واسع، وكان لها أثر كبير في تصوير الإسكندر بصورة وحش في قسوته

ص: 98

وشذوذه (48). وفاز الإسكندر في حرب السيف، ولكن أعداءه النبلاء، الذين لم يكبح جماحهم عدوه البابا يوليوس الثاني ظفروا به في حرب القلم ونقلوا صورته التي صوروه بها إلى التاريخ.

ولم يكن يبالي قط بالرأي العام، وقلما كان يرد على السباب التي ضاعفت من غير رحمة عيوبه الحقة. لقد عقد الرجل العزم على إقامة دولة قوية، وكان يظن أن هذه الدولة لا تقام بالأساليب المسيحية. وكان استخدامه لأدوات السياسة المأثورة التقليدية - الدعاوة، والخداع، والدسائس، والنظام، والحرب - لابد أن يسيء إلى أعيان روما، ودول إيطاليا الذين يرون أن من مصلحتهم أن يسود الضعف والفوضى في البابوية نفسها وفي ولاياتها. وكان الإسكندر في بعض الأحيان يقف ليحكم على حياته حسب المقاييس الإنجيلية، ثم يقر بأنه كان يبيع الرتب الكهنوتية، وأنه فاسق، وأنه قضى بالحرب على حياة بني الإنسان. وقد فقد مرة مبادئه المكيفلية التي لا تقيد صاحبها بالتبعة الأخلاقية، واعترف بذنوبه وأقسم أن يصلح من أمره وأمر الكنيسة.

وكان يحب ابنه جيوفني حباً يفوق لكريدسيا نفسها؛ ولما أنبه ابنه بدرو لويس حرص الإسكندر على أن يهب جيوفني دوقية غنية في أسبانيا.

وكان من اليسير أن تحب فتاة هذا الصبي، فقد كان وسيماً، رقيقاً، مرحاً. ولكن الأب الشفوق بولده لم يكن يرى أن الشاب خلق للحب بل للحرب؛ ولهذا عينه قائداً للجند، وأثبت القائد الشاب أنه غير كفء لهذا العمل، فقد كان جيوفني يرى أن امرأة جميلة أثمن من فتح مدينة. وفي الرابع عشر من شهر يونية تعشى مع أخيه سيزاري وغيره من الضيوف في بيت أمه فاثندسا، وافترق جيوفني عن سيزاري وسائر الضيوف وهو عائدون، وقال إنه يريد أن يزور سيدة من معارفه.

ص: 99

ولم يُر حياً بعد تلك الساعة. ولما لوحظت غيبته طلب البابا أن يبحث عن أبنه الحبيب، واعترف صاحب زورق أنه رأى جثة تلقى في نهر التيبر في ليلة الرابع عشر من الشهر؛ ولما سئل لِمَ لَم يبلغ عنها، قال أنه شاهد في حياته مائة حادث من هذا النوع، وإنه تعلم ألا يشغل باله بها. وفتش مجرى النهر، ووجدت الجثة، مطعونة في تسعة مواضع مختلفة؛ ويلوح أن الدوق الشاب هاجمه عدد من الأشخاص؛ وحطم الحزن قلب الإسكندر وأدى به إلى أن يغلق على نفسه باب غرفته الخاصة، ويمتنع عن الطعام، وكان أنينه يسمع في الشارع نفسه.

وأمر أن يبحث عن القتلة، ولكن لعله ارتضى بعد قليل من الوقت أن يبقى الحادث في طي الخفاء. وكانت الجثة قد عثر عليها بالقرب من قصر أنطونيو بيكو مير ندولا Antonio Pico della Mirandola ويقال إن الدوق أغوى ابنته الحسناء؛ ويعزو كثيرون من المعاصرين ومنهم أسكالونا Scalona سفير مانتو مقتله إلى جماعة من السفاحين المتشردين أستأجرهم الكونت لهذا الغرض؛ ولا يزال قولهم هذا أقرب التفاسير احتمالاً (49). ويعزو آخرون ومنهم سفيرا فلورنس وميلان في روما هذه الجريمة إلى أحد أبناء أسرة أرسيني التي كانت وقتئذ مشتبكة مع البابا في حرب (50)؛ ويقول بعض الثرثارين النمامين إن جيوفني غازل أخته لكريدسيا، وإن مقتله كان بأيدي بعض أتباع زوجها جيوفني اسفوردسا (51). ولم يتهم أحد في ذلك الوقت سيزاري بورجيا، ويبدو أن سيزاري، وهو وقتئذ في الحادية والعشرين من عمره، كان على أتم وفاق مع أخيه؛ فقد كان كردنالاً، وكان يسير في طريق الرقي الخاص به، ولم يغير هذا الطريق ويسلك طريق الجندية إلا بعد أربعة عشر شهراً من الحادث؛ ولم يفد شيئاً ما من مقتل أخيه، ولم يكن هو ليتنبأ بأن جيوفني سيفارقه في طريقه وهما عائدان من بيت فاندسا. ولم يرتب الإسكندر وقتئذ

ص: 100

في سيزاري، بل إنه فعل ما يدل على عكس هذا، فعينه مصفياً لتركته. وكان أول ما ورد من الأقوال عن أن سيزاري هو القاتل في رسالة كتبها بنيا Pinga سفير فيراراً في الثاني والعشرين من فبراير عام 1498 بعد ثمانية عشر شهراً من وقوع الحادث، ولم يربط الرأي العام بينه وبين الجريمة إلا بعد أن كشف عن كل ما في أخلاقه من قوة وقسوة؛ وحينئذ فقط اتفق مكيفلي وجوتشيا رديني على اتهامه بها. ولعله كان قادراً على ارتكابها في مرحلة أخرى من مراحل تطوره لو أن جيوفني عارضه في أمر من الأمور الحيوية؛ ولكنا نكاد نجزم أنه برئ من هذه الجريمة.

ولما أسترد البابا سلطانه على نفسه جمع مجلساً من الكرادلة (19 يونية سنة 1497)، وتلقى تعازيهم وأبلغهم أن "دوق غنديا كان أحب إليه من أي شخص في آخر العالم"، وقال إن هذه المصيبة "هي أكبر المصائب التي يمكن أن تحل به" عقاباً له من عند الله على ذنوبه، ثم أضاف "ولقد عقدنا العزم على أن نصلح من شأن حياتنا، وأن نصلح الكنيسة .... وستكون المناصب من هذه الساعة وقفاً على من يستحقونها، تعطى حسب أصوات الكرادلة. ولن نتحيز قط لأقاربنا، وسنبدأ الإصلاح بإصلاح أنفسنا، ثم نسير به في جميع مراتب الكنيسة حتى ننجز العمل كله"(53). وعينت لجنة من ستة كرادلة لتعد برنامجاً للإصلاح؛ وأخذت تعمل بجد وقدمت للإسكندر مرسوماً بهذا الإصلاح بلغ من عظم الشأن درجة لو نفذت معها مواده لنجت الكنيسة من حركات الإصلاح الديني التي حدثت في هذه الفترة ومن حركة الإصلاح المضادة. غير أنه لما سئل الإسكندر كيف تقوم موارد البابوية، بغير المال الذي يدفع نظير التعيين في المناصب الكنسية، بالوفاء بنفقات الحكومة، لم يجد جواباً شافياً. ولكن لويس الثاني عشر يتأهب في ذلك الوقت لغزو إيطاليا

ص: 101

مرة أخرى، وعرض سيزاري بورجيا أن يسترد الولايات البابوية "نائبي البابا" المعاندين. واستحوذ على روح البابا ذلك الأمل العظيم وهو إيجاد صرح قوي يهب الكنيسة سلطاناً مادياً ومالياً في عالم متمرد غير مستقر. ولهذا أخذ يرجئ الإصلاح من يوم إلى يوم؛ ثم نسيه آخر الأمر وسط الانتصارات المثيرة التي نالها ولد له أخذ يفتح له مملكة، ويجعله ملكاً بحق.

ص: 102

الفصل الرابع

‌سيزاري بورجيا

وكان لدى الإسكندر أسباب كثيرة للفخر بالابن الذي أصبح الآن أكبر أبنائه، فقد كان سيزاري أشقر شعر الرأس واللحية، كما يريد كثير من الإيطاليين أن يكونوا، حاد البصر، فاره الطول، معتدل القامة، قوي البنية، ثابت الجنان لا يعرف الخوف له سبيلاً إلى قلبه. ويقال عنه، كما يقال عن ليونادرو إنه لا يستطيع أن يلوي حذاء فرس بيده العارية. وكان يمتطي صهوة الجياد الجامحة التي كان يجمعها لأسطبله. وكان يخرج إلى الصيد بتلهف الكلب الذي شم رائحة الدم. وقد أدهش جماعة من الناس في أثناء عيد روما حين قطع رأس ثور في مصارعة للثيران في أحد ميادين روما بضربة واحدة من يمينه. وفي اليوم الثاني في شهر يناير سنة 1502، ركب إلى حلبة مصارعة للثيران نظمها هو في ميدان سان بيترو، ومعه تسعة غيره من الأسبان، وهاجم بمفرده وبيده حربته ثوراً من اثنين هما أشد الثيران وحشية أطلقا في الحلبة؛ فقد نزل عن جواده وأخذ يصارعه راجلاً بعض الوقت، حتى إذا أثبت ما يكفي من بسالته ومهارته ترك الحلبة إلى المحترفين (54). وقد أدخل هذا الصراع إلى رومانيا Romagna كما أدخله إلى روما؛ ولكنه رد إلى أسبانيا بعد أن قتل فيه عدد من المصارعين الهواة.

ونحن إذا ما صورناه في صورة وحش ضار أخطأنا في هذا التصوير أشد الخطأ؛ وقد وصفه أحد معاصريه بأنه: "شاب عظيم النشاط إلى حد لا يضارعه أحد فيه، وذو استعداد ممتاز، بشوش، بل قل مرح، عالي الهمة على الدوام"(55). ووصفه آخر بقوله إنه "يفوق أخاه دوق

ص: 103

غنيديا في منظره وذكائه" (56). وقد أدرك الناس دماثة أخلاقه، واعجبوا بملبسه الغالي البسيط، ونظرته المسيطرة الآمرة، وطلعة الرجل الذي يشعر بأنه قد ورث العالم. وكانت النساء يعجبن به ولكنهن لا يحيينه، فقد كن يعرفن أنه يستخف بهن حين يتصل بهن وحين ينبذهن. وكان قد درس من القانون في جامعة بروجيا ما يكفي لأن يقوي من حدة ذهنه الفطرية؛ ولم يكن يجد إلاّ القليل من الوقت ينفقه في قراءة الكتب أو في "تثقيف" عقله، وإن كتب الشعر من آن إلى آن كما يفعل كل الناس، وبلغ منه أن كاد يزدهي على شاعر بين موظفيه. وكان يقدر الفن تقدير العارف على التفريق بين الطيب منه والخبيث؛ وشاهد ذلك أنه لما رفض الكردنال رفائلو رياريو أن يبتاع صورة لكيوبيد لأنها لم تكن قديمة بل كانت من صنع شاب فلورنسي غير مشهور يدعى ميكل أنجيلو عرض فيها سيزاري ثمناً عالياً.

وما من شك في أنه لم يخلق ليكون من رجال الدين؛ ولكن الإسكندر الذي كانت له أسقفيات لا إمارات تحت تصرفه عيّنه كبيراً لأساقفة بلنسية (1492)، ثم كردنالاً (1493)؛ ولم يكن أحد من الناس يرى أن هذه مناصب دينية بحق، بل كانت في نظر الناس وسائل تدر دخلاً على الشبان الذين لهم أقارب ذوو نفوذ، والذين يستطاع تدريبهم لتصريف شئون أملاك الكنيسة والإشراف على موظفيها. وتدرج سيزاري في المراتب الكهنوتية الصغرى، ولكنه لم يصبح قط قساً. ولما كان قانون الكنيسة يحرم الأبناء غير الشرعيين من الكردنالية، فقد أعلن الإسكندر بمرسوم صادر في 19 م سبتمبر سنة 1493 أنه ابن شرعي لفاندسا ودارنيانو d'Arignano. ولم يكن من الأمور الهينة أن يصفه البابا سكستس الرابع في مرسوم أصدره في 16 أغسطس سنة 1482 بأنه ابن "ردريجو، الأسقف ونائب رئسي المحكمة". وغض الجمهور النظر عن هذا التناقض، واكتفى بالابتسام.

ص: 104

فقد اعتاد أن يرى الأكاذيب القانونية تستر الحقائق التي لم يحن بعد وقت إعلانها.

وسافر سيزاري إلى نابلي في عام 1497 بعد قليل من وفاة جيوفني، مندوباً من قبل البابا، وكان من حظه أن توّج ملكاً من الملوك. ولعل لمس التاج قد أثار وقتئذ عواطفه، فلمّا عاد إلى روما ألح على أبيه أن يسمح له بالتخلي عن منصبه الكنسي؛ ولم تكن ثمة وسيلة لتخليه عنه إلاّ بأن يعترف الإسكندر صراحة أمام مجمع الكرادلة بأن سيزاري ابن غير شرعي له. وهذا ما صرح به فعلاً، وأعقبه إعلان يقول إن تعيين النغل الشاب كردنالاً مخالف للقانون (17 أغسطس عام 1498)(57). ولمّا عادت إلى سيزاري بنوته غير الشرعية، أنهمك بكليته في الأعمال السياسية.

وكان الإسكندر يرجو أن يرضى فدريجو Federigo الثالث ملك نابلي بسيزاري زوجاً لابنته كارلتا Carlotta؛ ولكن فدريجو كانت له ميول غير هذه الميول. وساء ذلك البابا أشد إساءة، فولى وجهه شطر فرنسا يرجو أن يستعينها على استعادة الولايات البابوية. وواتته الفرصة حين طلب إليه لويس الثاني عشر أن يبطل زواجاً أرغم عليه في شبابه وادعى الآن أنه لم يصل إلى غايته. ولما حل شهر أكتوبر من عام 1479 أرسل الإسكندر ابنه سيزاري إلى فرنسا يحمل إلى الملك مرسوماً بالطلاق ومائتي ألف دوقة يخطب بها زوجة له. وسر لويس هذا الطلاق، وسره فوق ذلك إذن البابا بزواج آن البريطانية أرملة شارل الثامن، فعرض على سيزاري يد شارلوت دالبرت Chorlotte'd Albert أخت ملك نبرة؛ ولم يكتف بهذا بل منح سيزاري لقب دوق فلنتنوا Valentinois وديوا Diois، وهما مقاطعتان فرنسيتان للبابوية عليهما بعض الحق القانوني. وفي شهر مايو من عام 1499 تزوج الدوق الجديد فلنتينو Valentino - وهو الاسم الذي تسمى به بعدئذ في إيطاليا - شارلوت الثرية؛ الحسناء، الطيبة؛ وأقامت رومة،

ص: 105

حين أبلغها الإسكندر النبأ، معالم الأفراح، وأطلقت الألعاب النارية ابتهاجاً بزواج أميرها. وأوجب هذا الزواج على البابوية أن تعقد حلفاً مع ملك يستعد علناً لغزو إيطاليا ويستولي على ميلان ونابلي. وبذلك لم يكن جرم الإسكندر في عام 1499 أقل من جرم لودفيكو وسفونارولا في عام 1494. وأفسد هذا الحلف جميع أعمال الحلف المقدس الذي كان للإسكندر يد في عقده سنة 1495 ومهد السبيل لحروب يوليوس الثاني. وكان سيزاري بورجيا من بين الأعيان الذين ساروا في ركاب لويس الثاني عشر إلى ميلان في السادس من أكتوبر سنة 1499، وقد وصف كستجليوني الذي كان فيها وقتئذ دوق فلنتينو بأنه أطول رجال حاشية الملك قامة وأعظمهم جمالاً (58). ولم يكن كبرياؤه يقل عن مظهره. وقد نقش على خاتمه:"أفعل ما يجب أن تفعله، وليكن بعد ذلك ما يكون". أما سيفه فقد نقشت عليه مناظر من حياة يوليوس قيصر؛ وكان يحمل شعارين: فكان على أحد وجهيه: "ألقى النرد" وعلى الوجه الآخر: "إما قيصر أو لا أحد"(59).

ووجد الإسكندر أخيراً في هذا الشاب الجريء والمحارب السعيد القائد الذي ظل يبحث عنه زمناً طويلاً ليقود قوات الكنيسة المسلحة ويستعيد بها الولايات البابوية. وأمده لويس بثلاثمائة من حملة الرماح الفرنسيين، وجند أربعة آلاف من الغسقونيين والسويسريين، وألفين من المرتزقة الإيطاليين. وكان هذا جيشاً أقل مما يحتاج إليه للتغلب على اثني عشر من الحكام المستبدين، ولكن سيزاري كان تواقاً إلى هذه المغامرة. وأراد البابا أن يضيف الأسلحة الروحية إلى الأسلحة العسكرية، فأصدر مرسوماً يعلن فيه ذلك الإعلان الخطير وهو أن كترينا اسفوردسا وابنها أنافيانو يمتلكان إمولا وفورلي - وبندلفو مالاتستا يمتلك ريميني - وجويليو فارانو Giulio Varano يمتلك كمرينو - وأستوري منفريدي Astorre Manfredi يمتلك فائندسا - وجويدويلدو يمتلك أربينو - وجيوفني اسفوردسا يمتلك بيزارو - لأنهم

ص: 106

اغتصبوا أرضين، وأملاكاً وحقوقاً تختص بها الكنيسة قانوناً وعدلاً، وأنهم جميعاً طغاة مستبدون أساءوا استخدام سلطتهم، واستغلوا رعاياهم، وأن عليهم الآن أن يتخلوا عن أملاكهم أو يطردوا منها قوةً واقتداراً (60). ولربما طاف بخاطر الإسكندر - كما يتهمه بعضهم - أن يضم هذه الإمارات كلها في مملكة واحدة يحكمها ابنه. ولكنه لم يكن يفكر جدياً في هذا العمل، ذلك أنه كان يدرك بلا ريب أن خلفاءه لن يسكتوا، وأن الدول الإيطالية لن تسكت، زمناً طويلاً على هذا الاغتصاب الذي هو أشد مخالفة للقانون، وأكثر بغضاً لهم، من أي حكم يراد أن يحل محله. وربما كان سيزاري نفسه يحلم ببلوغ هذه الغاية؛ وكان مكفيلي يرجو تحقيقها، ويسره أن يرى يداً قوية مثل يد سيزاري توحد إيطاليا وتخرج مها جميع الغزاة؛ غير أن سيزاري نفسه ظل حتى آخر أيام حياته يعلن أنه لا غاية له غير أن يسترد ولايات الكنيسة للكنيسة، وأنه يقنع بأن يكون حاكماً على رومانيا Romagna من قبل البابا (61).

وزحف سيزاري على رأس جيشه في شهر يناير من عام 1500 على فورلي بعد أن اجتاز جبال الأبنين؛ وسلمت إمولا من فورها لمندوبه، وفتح أهل فورلي أبوابها ترحيباً به، ولكن كترينا اسفوردسا فعلت ما فعلته قبل اثني عشر عاماً من ذلك الوقت فامتنعت هي وحاميتها في القلعة ودافعت عنها دفاع الأبطال. وعرض عليها سيزاري شروطاً سهلة، ولكنها آثرت أن تقاتل، واستطاعت القوات البابوية بعد حصار قصير أن تقتحم القلعة وتعمل السيف في رقاب المدافعين عنها. وأرسلت كترينا إلى روما، واستضيفت ضيفة لا ترغب فيها في جناح بلفدير بقصر الفاتيكان، وأبت أن تنزل عن حقها في حكم فورلي وإمولا، حاولت الفرار، فنقلت إلى سانت أنجيلو؛ ثم أطلقت سراحها بعد ثمانية عشر شهراً، وآولت إلى دير للنسا. وكانت امرأة باسلة، ولكنها كانت سليطة صخابة (62)، وحاكمة

ص: 107

إقطاعية من أسوأ طراز، وكان رعاياها وغيرهم من أهل رومانيا Romagna يرون أن قيصر منتقم بعثه الله ليطهر البلاد من الظلم والاستبداد اللذين داموا عصوراً طوالاً" (63).

ولكن انتصار سيزاري الأول كان قصير الأجل، فقد تمرد جنوده الأجانب لأنه لم يجد ما يكفي من المال لأداء أجورهم، وما كاد يسترضيهم، حتى استدعى لويس الثاني عشر الفرقة الفرنسية لتساعده على استرداد ميلان التي استعادها لدوفيكو من وقت قريب. وسار سيزاري على رأس الباقين من جنوده إلى روما، واستقبل فيها استقبالاً لا يكاد يقل مهابة عن استقبال القواد الرومان المنتصرين. وابتهج الإسكندر بانتصار ابنه، وفي ذلك يقول سفير البندقية:"إن البابا أكثر ابتهاجاً مما رأيته في أي وقت من الأوقات"(64). وعين سيزاري نائباً عن البابا في المدن المفتوحة، وشرع من ذلك الحين يدفعه الحب الشديد إلى قبول نصائح ولده؛ وامتلأت خزائنه بالأموال التي جمعها من عيد روما ومن بيع مناصب للكرادلة، واستطاع سيزاري بفضلها أن يضع خطة حملة أخرى. وكان أول ما عمله أن عرض مبلغاً مغرياً من المال على باولو أرسيني ليقنعه بأن ينضم هو ورجاله إلى القوات البابوية؛ وجاء باولو كما جاء على أثره عدد آخر من النبلاء. وبهذه الضربة الماهرة قوى سيزاري جيشه، وحمى روما من غارات البارونات أثناء غياب الجيوش البابوية وراء الابنين. ولعل هذه المغريات نفسها، وما بذله لمناصريه من وعود بالغنائم هي التي ضمن بها خدمات جيان بولو بجليوني سيد بورجيا وجنوده، واستخدم بها فيتيلتسو فيتلي Vitelozzo Vitolli ليقود مدفعيته. وبعث إليه لويس الثاني عشر بلواء صغير من حملة الرماح، ولكن سيزاري لم يعد يعتمد على الإمدادات الفرنسية. فلما تم له هذا الاستعداد هاجم في سبتمبر من عام 1500 بتحريض الإسكندر القصور التي يحتلها آل كولنا وسفلى المعادين له في لاتيوم.

ص: 108

واستسلمت له هذه القصور الحصينة واحداً بعد واحد، وسرعان ما كان في مقدور الإسكندر أن يطوف وهو آمن طواف المنتصر بالأقاليم التي فقدتها البابوية من زمن طويل؛ واستقبل في كل مكان بالترحاب من الشعب (65)، لأن رعايا البارونات الإقطاعيين لم يكونوا يحبونهم.

ولمّا بدأ سيزاري حملته الكبرى الثانية (أكتوبر عام 1500) كان تحت إمرته جيش مؤلف من 14. 000 جندي، ومعه حاشية من الشعراء، وكبار رجال الدين، والعاهرات لخدمة جنوده. وعرف بنيلفو مالاتستا أنهم زاحفون على ريميني فأخلاها قبل ووصلهم إليها، وفر جيوفني اسفوردسا من بيزارو، ورحبت المدينتان بمقدم سيزاري وعدتاه محرراً لهما، لكن استوري مانفريدي قاومه في فائندسا، وأيده أهلها بإخلاص ولاء؛ وعرض عليه بورجيا شروطاً للتسليم كريمة رفضها منفريدي؛ ودام حصار المدينة طوال الشتاء، ثم استسلمت فائندسا آخر الأمر بعد أن وعدها سيزاري بأن يكون رحيماً بأهلها جميعاً. وكان مسلكه مع أهلها بعد استسلامها حسناً، وأثنى على منفريدي ودفاعه القوي ثناءً مستطاباً أحبه من أجله - كما يبدو - القائد المهزوم ولبث معه ضمن حاشيته أو أركان حربه. وفعل هذا الفعل نفسه أخر أصغر لأستوري، وإن كان هو ومنفريدي قد أجيز لهما أن يذهبا إلى حيث شاء (66)، وظلا شهرين يسيران في ركاب سيزاري في جميع تجواله، ويعاملان معاملة إجلال ولكنهما ما أن وصلا إلى روما حتى زج بهما فجأة في قصر سانت أنجيلو الحصين، حيث بقيا عاماً كاملاً، حتى إذا كان اليوم الثاني من شهر يونيه سنة 1502 قذفت مياه نهر التيبر بجثتيهما على الشاطئ. ولسنا نعرف السبب الذي من أجله قتلهما سيزاري أو الإسكندر، وستظل هذه الحادثة كغيرها من الحوادث الكثيرة التي تبلغ المائة عدا من الأسرار الغامضة التي لا يسبر غورها إلاّ العارفون.

وأخذ سيزاري بعد أن أضاف "رومانيا" إلى ألقابه يدرس الخريطة، وقرر بعد دراستها أن يتم الواجب الذي عهد به إليه أبوه. وكان

ص: 109

قد بقى عليه أن يستولي على كينو وأربينو. ولا شك في أن أربينو كانت بابوية في شرائعها، ولكنها كانت دولة نموذجية من جهة النظر السياسية في تلك الأيام؛ وبدا أن من العار أن يخلع عن عرشها شخصان محبوبان مثل جويدويلو وإلزبتا، ولعلهما في هذه الأيام الأخيرة كان يقبلان أن يكونا نائبين عن البابا بالاسم وبالفعل معاً. ولكن سيزاري كان يدعى أن تلك المدينة تسد أسهل طريق له إلى البحر الأدريادي، وأن في مقدورها إذا وقعت في أيد معادية له أن تقطع عليه سبل الاتصال مع سيزارو وريمني. ولسنا نعرف هل وافق الإسكندر على هذه الحجج؛ ويبدو أن ذلك بعيد احتمال، لأنه أقنع جويدويلدو في ذلك الوقت بأن يعير جيش البابوية مدافعه (67). وأقرب من هذا إلى العقل أن سيزاري خدع أباه، أو بدل خططه. وسواء كان هذا أو ذات فإنه بدأ حملته الثالثة في الثاني عشر من يونيه عام 1502 وبصحبته ليوناردو دافنشي كبيراً لمهندسيه؛ وكان متجهاً في الظاهر نحو كميرينو Camerino. لكنه بدل خطته على حين غفلة، فاتجه نحو الشمال، واقترب من أربينو بسرعة لم يجد معها حاكمها المريض متعساً من الوقت للعرب إلاّ بشق الأنفس. وترك هذا الحاكم المدينة تسقط في يدي سيزاري دون أن تدافع عن نفسها (21 يونيه). وإذا كان هذا الفتح قد تم بعلم الإسكندر وموافقته، فإنه يكون من أدنأ أنواع الغدر وأوجبها للاحتقار في التاريخ، وإن كان مكفيلي يبتهج بما ينطوي عليه من مكر ودهاء. وعامل المنتصر أهل المدينة برقة شبيهة برقة السنانير، ولكنه استحوذ على ما كان للدوق المغلوب من مجموعات فنية ثمينة وباعها ليؤدي بها رواتب جنده.

واستولى قائده فيتيلي Vitelii في هذه الأثناء على أردسو التي كانت تابعة لفلورنس من زمن طويل، ويبدو أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه وعلى مسئوليته. وارتاع مجلس السيادة فأرسل أسقف فلتيرا، ومعه مكفيلي، ليستغيث بسيزاري في أربينو. واستقبلهم القائد بلطف كان له

ص: 110

الفضل في بلوغه ما يصبو إليه. فقد قال بهم: "إني لم آت إلى هنا لأكون طاغيةً مستبداً، بل جئت لأقضي على الطغاة المستبدين"(68). ووافق على أن يمنع زحف فيتيلي، وأن يعيد أردسو إلى طاعة فلورنس، وطلب في نظير هذا ان توضع سياسة محددة المعالم للصداقة المتبادلة بينه وبين فلورنس. وظل الأسقف أنه مخلص في قوله، وكتب مكفيلي إلى مجلس السادة بحماسة غير دبلوماسية يقول:

إن هذا السيد جليل عظيم، وإنه ليبلغ من الجرأة حداً يبدو معه كل مشروع مهما عظم شأنه صغيراً في عينه. وهو يحرم نفسه من الراحة ليظفر بالمجد ويستحوذ على الأمصار، ولا يجد الخطر ولا التعب سبيلاً إلى نفسه. وهو يصل إلى المكان الذي يريده قبل أن يدرك الناس من نواياه؛ وهو يكسب محبة جنوده، وقد اختارهم من أحسن الناس في إيطاليا. وأدى هذا كله إلى نصره وقوته، وساعده على ذلك حظه الموفق على الدوام" (69).

وسلمت كميرينو في 20 يوليه إلى قواد سيزاري، وعادت الولايات البابوية بابوية كما كانت من قبل. وحكمها سيزاري بنفسه أو على أيدي نوابه حكماً صالحاً يبرر ما كان يدعيه من أنه تل عروش الطغاة؛ وبلغ من ذلك أن هذه المدن كلها، إذا استثنينا منها أربينو فائندسا، حزنت لسقوطه (70). وسمع سيزاري أن جيان فرنتشسيسكو جندساجا (أخا إلزبتا وزوج إزبلا) ذهب هو وجماعة من الأشخاص البارزين إلى ميلان ليستعدوا عليه لويس الثاني عشر، فأسرع باختراق إيطاليا، وواجه أعداءه، ولم يلبث أن استعاد رضا الملك (أغسطس سنة 1502). ومما هو جدير بالملاحظة أن يجمع أسقف، ومليك، ودبلوماسي اشتهر يجمع هؤلاء على الإعجاب بسيزاري ويؤمنوا بعدالة مسلكه وأهدافه.

ص: 111

لكن إيطاليا كانت مع ذلك لا تخلو من رجال في أماكن مختلفة منها يتمنون سقوطه. فالبندقية مثلاً، وإن كانت قد منحته مواطنيتها الفخرية، لم يكن يسرها أن تعود الولايات البابوية قوية كما كانت من قبل، وأن تسيطر على جزء كبير من شاطئ البحر الأدريادي. وامتعضت فلورنس وهي تفكر أن فورلي التي لا تبعد عن أرضها أكثر من ثمانية أميال كانت في يدي شاب عبقري في شئون السياسة والحرب مجرد من الضمير ولا يحسب حساباً للعواقب. وعرضت بيزا عليه أن يتولى أمرها؛ فرفض هذا العرض في أدب؛ ولكن من يدري، فقد يبدل خطته كما بدلها وهو في طريقه لكميرينو. وربما كانت الهدايا التي بعثت بها إزبلا له ستاراً يخفي ما تشعر به هي ومانتوا من استياء لاغتصابه أربينو. ولقد خربت انتصاراته بيوت آل كولنا وسافلي، وكذلك آل أرسيني وإن لم يصب هؤلاء ما أصاب بيوت الأسرتين الأوليين، وكانوا جميعاً يترقبون الساعة التي يستطيعون فيها أن يكونوا حلفاً معادياً له. ولم يكن "أحسن رجاله"، الذين قادوا فيالقه ونالوا له النصر، واثقين من أن خطوته التالية لن تكون هي الهجوم على بلادهم هم أنفسهم، ومنها ما كانت تطالب به الكنيسة. وكان جيان بولو بجليوني ترتعد فرائصه فرقاً من استحواذ سيزاري على بورجيا، كما كانت ترتعد فرائص جيوفني بنتيفجليو لحكمه بولونيا؛ وكان باولو أرسيني، وفرانتشيسكو أرسيني، ودوق جرافيو يتساءلون كم من الزمن يمضي قبل أن يفعل سيزاري بآل أرسيني ما فعله بآل كولنا. وقد ثارت ثائرة فيتيلي بعد أن اضطر إلى التخلي عن أردسو، فدعا هؤلاء ومعهم ألفيرتو Oliveretto صاحب فرمو ويندلفو بيتروتشي صاحب سينا وممثلين لجويدوبلدو للاجتماع في لامجيوني La Mageone على بحيرة تراز ميني Lake Trasimeen ( سبتمبر سنة 1502). واتفقوا في هذا الاجتماع على أن يوجهوا جيوشهم ضد

ص: 112

سيزار ي فيقبضوا عليه، ويخلعوه، ويقضوا على حكمه في رومانيا وأقاليم التخوم، ويعيدوا الأمراء الذين تلت عروشهم. وكانت هذه مؤامرة قوية واسعة النطاق، لو أنها نجحت لكانت سبباً في القضاء على الخطط التي أحسن تدبيرها الإسكندر وولده.

وبدأت المؤامرة بسلسة من الانتصارات الباهرة. فقد نظمت الفتن في أربينو وكميرينو واستعين على تنظيمها بأهل المدينتين، وطردت الحاميات البابوية منهما، وعاد جويدوبلدو إلى قصره (18 أكتوبر سنة 1502)؛ ورفع الأمراء الساقطون رؤوسهم في كل مكان، وأخذوا يضعون الخطط لاستعادة ما كان لهم من سلطان. ووجد سيزاري فجاءة أن قواده يعصون أوامره، وأن قواه قد نقصت إلى حد يستحيل عليه معه أن يحتفظ بفتوحه، واسعفه الحظ في هذه الأزمة فمات الكردنال فيراري Ferrari، وأسرع الإسكندر فاستولى على الخمسين ألفاً من الدوقات التي تركها وراءه، وباع بعض المناصب التي كان الكردنال يتولاها، وأعطى ما حصل عليه إلى سيزاري، فبادر هذا بتجييش جيش جديد قوامة ستة آلاف جندي. وأخذ الإسكندر في ذلك الوقت يتفاوض وحده مع المتآمرين، وبذل لهم وعوداً سخية، ورد الكثيرين منهم إلى طاعته، فلم ينته شهر أكتوبر حتى عقدوا جميعهم الصلح مع سيزاري. وكان هذا عملاُ دبلوماسياً رائعاً مدهشاً؛ وقبل سيزاري معذرتهم بصمت المتشكك المرتاب، ولم يفته أن يلاحظ أن آل أرسيني لا يزالون يستولون على حصون دوقية أربينو وإن كان جويدوبلدو قد فر منها مرة أخرى.

وفي شهر ديسمبر حاصر قواد سيزاري تنفيذاً لأمره بلدة سنجاليا القائمة على البحر الأدرياوي، وسرعان ما استسلمت المدينة، ولكن قائد الحصن أبى أن يسلمه إلاّ لسيزاري نفسه، فأرسل رسولاّ إلى الدوق في سيسينا، فاستحث الخطى بإزاء الساحل ومن ورائه ثمانمائة من أشد جنوده إخلاصاً له.

ص: 113

فلما بلغ سنجاليا حيا زعماء المؤامرة الأربعة - فيتيدلدسو فيتلي، وباولو، وفرانتشيسكو أرسيني، وألفرتو - تحية طيبة في الظاهر، ودعاهم إلى مؤتمر يعقدونها معه في قصر الحاكم؛ فما جاءوا أمر بالقبض عليهم، وأمر في تلك الليلة نفسها (31 ديسمبر سنة 1502) بخنق فيتلي وألفرتو. أما باولو وفرانتشيسكو أرسيني فقد أودعا السجن حتى يفاوض سيزاري أباه في شأنهما؛ ويبدو أن آراء الإسكندر كانت تتفق مع آراء ولده؛ وفي اليوم الثامن عشر من يناير أعدم الرجلان.

وازدهى سيزاري بضربته الحاذقة في سنجاليا؛ فقد كان يظن أن من حقه على إيطاليا أن تشكره إذ أنجاها بهذه الوسيلة الطريفة من أربعة رجال لم يكتفوا بأن يكونوا إقطاعيين مغتصبين لأراضي الكنيسة، بل كانوا فوق ذلك مستبدين رجعيين ظالمين لرعاياهم الضعفاء المساكين. ولربما أحس بقليل من وخز الضمير لأنه اعتذر عن فعلته لمكيفلي بقوله:"إن من الخير أن نقتنص الذين أثبتوا براعتهم في اقتناص غيرهم"(72). ووافقه مكيفلي على هذا أتم الموافقة؛ وكان في ذلك الوقت يرى أن سيزاري أعظم الناس بسالة وحكمة في إيطاليا كلها. ويرى باولو جيوفيو paolo Giovio، المؤرخ والأسقف، في القضاء على المتآمرين الأربعة "حيلة من أظرف الحيل"(73). وأرادت إزبلا دست أن تضمن لنفسها النجاة فأرسلت تهنئ سيزاري على فعلته، كما أرسلت إليه مائة قناع يتسلى بها "بعد كفاحه وتعبه في هذه الحملة المجيدة"، وأثنى لويس الثاني عشر على هذه الضربة ووصفها بأنها "عملاً خليقاً بأيام روما المجيدة (74) ".

وكان في وسع الإسكندر وقتئذ أن يعبر عن غضبه الشديد من المؤامرة التي دبرت ضد ولده، ومن المدن التي استردتها الكنيسة، فادعى أن لديه من الأدلة ما يثبت أن الكردنال أرسليني قد ائتمر مع أقاربه لاغتيال سيزاري (75)، ثم أمر باعتقال الكردنال وطائفة أخرى من المشتبه فيهم

ص: 114

(3 يناير سنة 1503)، واستولى على قصره وصادر كل أملاكه. وقضى الكردنال نحبه في السجن في الثاني والعشرين من فبراير، ولعل موته كان بسبب اهتياج أعصابه وانهيار قواه، وإن كانت روما تقول إن البابا قد سمه.

وأشار الإسكندر على سيزاري أن يستأصل شأفة آل أرسيني بأجمعهم من روما وكمبانيا؛ لكن سيزاري لم يكن مثله شديد الرغبة في هذا العمل، ولعله هو أيضاً كان منهوك القوى؛ فأجل عودته إلى العاصمة بعض الوقت، ثم شرع على كره منه (76) في محاصرة حصن جيوليو أرسيني الحصين في تشيري Ceri (14 مارس من عام 1503). واستخدم في هذا الحصار - ولعله استخدم في غيره أيضاً - بعض الآلات الحربية التي اخترعها ليوناردو. ومن هذه الآلات برج متحرك يتسع لثلاثمائة رجل، ويمكن رفعه إلى أعلى أسوار العدو (77). واستسلم جويليو، ورافق سيزاري إلى الفاتيكان يطلب إليها الصلح؛ وارتضى الإسكندر أن يصطلح على شرط أن ينزل آل أرسيني عن جميع قلاعهم في الأملاك البابوية؛ وقبل جويليو هذا الشرط. وكانت بروجيا وفيمو قد قبلتا في هدوء حاكمين عليهما بعث بهما سيزاري. ولم تكن بولونيا قد استردت بعد، لكن فيرارا ارتضت مسرورة أن تكون لكريدسيا دوقة لها. وإذا استثنينا هاتين الإمارتين الكبيرتين - وهما اللتان شغلتا خلفاء الإسكندر - استطعنا أن نقول إن البابوية استردت أملاكها بتمامها، وبهذا وجد سيزاري بورجيا نفسه وهو في الثامنة والعشرين من عمره يحكم مملكة لا يضارعها من حيث اتساع رقعتها في شبه الجزيرة إلاّ مملكة نابلي؛ وأجمع الناس كلهم على أنه أقوى رجال إيطاليا وأعلاهم شأناً.

وظل بعدئذ وقتاً ما هادئاً هدوءاً غير معتاد في الفاتيكان. ولقد كنا نتوقع أن يرسل في ذلك الوقت في طلب زوجته، ولكنه لم يفعل. وكان قد تركها في فرنسا عند اسرتها، وكانت قد ولدت له طفلاً في أثناء غيابه

ص: 115

في الحرب؛ وكان يكتب إليها ويرسل لها الهدايا أحياناً، ولكنه لم يرها بعد قط. وعاشت دوقة فالنتنوا عيشة متوسطة منعزلة في بورج Bourge أو في قصر لاموت في La Motte feuilly في الدوفينيه؛ يداعبها الأمل في أن يبعث في طلبها أو أن يأتي هو إليها. ولمّا أن نكب وتخلى عنه من حوله حاولت أن تذهب هي إليه، ولمّا مات علقت الستر السوداء على بيتها، وظلت تلبس ثياب الحزن عليه حتى توفيت. ولعله كان يبعث في طلبها فيما بعد لو أنه أتيحت له فترة من السلم دامت أكثر من بضعة أشهر، وأكثر من هذا احتمالاً أنه لم يكن ينظر إلى زواجه بها إلاّ على أنه صفقة سياسية لا أكثر، وأنه لم يكن يشعر نحوها بشيء من الحنان. ويبدو أنه لم يكن بفطرته حنوناً إلاّ بقدر معتدل، وأنه كان يحتفظ بهذا القدر للكريدسيا التي كان يحبها حباً هو كل ما يستطيع أن يحب به امرأة. وشاهد ذلك أنه وهو يسرع من أربينو إلى ميلان مع لويس الثاني عشر ليخادع بذلك أعداءه، خرج عن خط سيره ليزور أخته في فيرارا وكانت وقتئذ في أشد حالات المرض. ووقف عند فيرارا مرة أخرى وهو عائد من ميلان، واحتضنها بين ذراعيه، بينما كان الأطباء يحجمونها، وبقى معها حتى زال عنها الخطر (78). وجملة القول أن سيزاري لم يكن قد خلق للزواج؛ وكانت له عشيقاته، ولكن عشقه لم يدم لأيهن طويلاً؛ وسبب ذلك أن حرصه على السلطان كان يستنفذ كل جهوده، فلا يترك لأية امرأة مكاناً تنفذ منه إلى نفسه وتستولي على عواطفه.

ولمّا كان في روما كان يعيش معيشة العزلة، ويكاد يكون مختفياً عن الناس؛ وكان يقضي الليل في العمل وقلما كان يراه أحد بالنهار. ولكنه كان يشتغل بجد حتى في الوقت الذي يبدو أنه يستريح فيه من عناء الأعمال؛ وكان يفرض رقابة شديدة على عماله في الولايات البابوية، ويعاقب من يسيئون استخدام سلطتهم، وأمر بإعدام واحد منهم لقسوته

ص: 116

واستغلاله نفوذه؛ وكان على الدوام يجد من الناس من يحتاجون إلى أن يعلمهم كيف يحكمون رومانيا أو يحافظون على النظام في روما. وكان الذين يعرفونه يقدرون ذكاءه، وقدرته على أن ينفذ مباشرة للب الموضوع الذي يعالجه، واغتنامه كل فرصة تتيحها له الظروف وإقدامه على العمل السريع الحاسم المثمر. وكان محبوباً من جنده، لأنهم كانوا يعجبون في السر بنظامه الذي ينجيهم من المهالك بقسوته: وكانوا يوافقون كل الموافقة على كل ما يلجأ إليه من الرشا، وأساليب المكر والخداع التي قلل بها من عدد أعدائه وأضعف بها عنادهم، وأنقص من عدد المعارك الحربية التي خاضها جنوده وعدد قتلاهم فيما خاضوه منها (79). وكان الدبلوماسيون يغصبون إذ يجدون أن هذا القائد الشاب السريع الحركة الذي لا يهاب الردى يفوقهم في القدرة على التفكير والمحاجة والدهاء، وأن في مقدوره إذا دعت الحاجة أن يكون مثلهم في الكياسة والفصاحة والفتنة.

وقد جعلته نزعته إلى السرية هدفاً سهلاً للهجائين في إيطاليا، وللشائعات الوقحة التي كان في وسع السفراء المعادين أو الأشراف الساقطين أن يخترعوها عنه أو ينشروها. وليس في استطاعتنا الآن أن نميز الحقيقة من الخيال في هذه التهم الفظيعة. ومن هذه الأقوال الواسعة الانتشار أنه كان من عادة الإسكندر وولده أن يعتقلا الأغنياء من رجال الكنيسة لتهم تذاع عنهم، ثم يطلقاهم إذا أدوا مبالغ كبيرة من المال فدية أو غرامة. فقد قيل مثلاً إن أسقف تشيوينا سجن في قلعة سانت أنجيلو بدعوى أنه ارتكب جريمة لم تذع حقيقتها، ثم أطلق سراحه بعد أن دفع للبابا عشرة آلاف دوقة (81).

وليس في وسعنا أن نقول أهذه عدالة أم لصوصية؛ ولكننا إنصافاً للإسكندر يجب ألاّ ننسى أنه كان من عادة المحاكم الكنسية والمدنية في

ص: 117

تلك الأيام أن تحم في الجرائم بغرامات كبيرة تؤدى للمحكمة بدل السجن الذي يكلف الدولة نفقات باهظة. ويقول جوستنياني سفير البندقية وفيتوربو سوديرني سفير فلورنس إن اليهود كثيراً ما كانوا يعتقلون متهمين بالإلحاد، وإن الطريقة الوحيدة التي يستطيعون بها إثبات إيمانهم هي أداء مبالغ ضخمة للخزانة البابوية (82). وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن روما اشتهرت في تلك الأيام بحسن معاملة اليهود، ولم يكن أي يهودي يعد من الملاحدة، أو يقدم لمحكمة التفتيش لأنه يهودي.

وتتهم كثير من الشائعات آل بورجيا بتسميم الكرادلة لتعجل بعودة ضياعهم إلى الكنيسة. وخيّل إلى الناس أن بعض هذه الحوادث ثابت صحيح - يؤيد صحته التواتر لا البراهين - ولذلك ظل المؤرخون البرتستنت بوجه عام يصدقونه حتى زمن يعقوب بركها ردت (1818 - 1897) الفطن الأريب (83)؛ وكان باستور Pastor المؤرخ الكاثوليكي يعتقد أن "من الأمور المرجحة كل الترجيع أن سيزاري سم ميشيل ليحصل بذلك على ما يريده من المال"(84). وقد بنى حكمه هذا على أن مساعد شماس في عهد يوليوس الثاني (وهو الشديد العداء للإسكندر) يدعى أكوينو دا كلوريدو Aquino da Colloredo أقر بعد أن عذب أنه سم الكردنال ميشيل بتحريض الإسكندر وسيزاري (85). وقد يعذر مؤرخ في القرن العشرين إذا شك في اعترافات تنتزع من صاحبها بالتعذيب؛ ولقد أثبت إحصائي مغامر أن نسبة الوفيات بين الكرادلة لم تكن في أيام الإسكندر أعلى منها في العهود السابقة له أو اللاحقة (86)؛ ولكن الذي لا شك فيه أن روما كانت في الثلاث السنين الأخيرة من حكمه ترى أن أشد الأخطار أن يكون الرجل كردنالاً وغنياً (87). وقد كتبت إزبلا دست إلى زوجها تحذره بأن يكون حريصاً كل الحرص فيما يقوله عن سيزاري لأنه " لا يتردد مطلقاً في أن يدبر المؤامرات للقضاء على ذوي قرباه"(88). والظاهر أنها

ص: 118

صدقت القصة التي تروى عن قتله دوق غنديا. وكان الثرثارون من أهل روما يتحدثون عن سم بطيء المفعول يسمونه الكنتريلا Cantarela أهم عناصره الزرنيخ، ويقولون إنه إذا وضع مسحوقه في الطعام أو الشراب - وحتى في نبيذ العشاء الرباني نفسه - فإنه يحدث موتاً بطيئاً يصعب تبع سببه. غير أن المؤرخين في هذه الأيام يرفضون بوجه عام ما يروى من القصص عن الموت البطيء في أيام النهضة ويرون أنها من خلق الخيال، وإن كانوا يعتقدون أن آل بورجيا في حالة أو حالتين قد سموا بعض الكرادلة الأغنياء" (89)

(1)

. وقد تؤدى البحوث في مستقبل الأيام إلى تكذيب هذه الحالات بأجمعها.

ورويت قصص شر من هذه عن سيزاري. منها واحدة تؤكد لنا أنه أراد مرة أن يسلي الإسكندر ولكريدسيا فأطلق في فناء عدداً من المسجونين حكم عليهم بالإعدام، ثم وقف هو في مكان أمين وأظهر حذقه في الرماية بإطلاق سهام قاتلة عليهم واحداً بعد واحد بينما كانوا هم يبحثون عن عاصم لهم من سهامه (90). والمصدر الوحيد لهذه القصة هو كابيلو مندوب البندقية: ونحن في هذه الحال بين اثنتين، فإما أن السياسي كاذب في قوله وإما أن سيزاري قد أتى هذا الأمر حقاً، ولكن أول الفرضين أرجح في رأينا من ثانيهما.

أما أبعد فضائع آل بورجيا عن العقل فهي التي تظهر في يوميات بيركهارد Burchard رئيس التشريفات في عهد الإسكندر، وهي يوميات

(1)

يميل الباحثون بوجه عام إلى تبرئته من أفظع ما يرمى به من التهم الأخلاقية، وإن كانوا ينبذون جميع المحاولات الباطلة التي يراد بها إظهار الإسكندر في صورة المثل الأعلى للبابوات. وتبقى بعد هذا تهمة التسميم السري بسبب جشعه المالي، وهي تهمة يبدو أنها ثابتة، أو قريبة من الثبات، في حالة واحدة لا أكثر، ولكن هذه الحالة قد يستدل منها على أن حالات أخرى صحيحة. "تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History المجلد أول، ص 242".

ص: 119

يوثق بها عادة. ففيها نجد تحت تاريخ 10 أكتوبر من عام 1501 وصفاً لعشاء في جناح سيزاري يورجيا في قصر الفاتيكان، أخذت فيه العاهرات العاريات يجرين وراء عدد من الكستناءات نثرت على الأرض والإسكندر ولكريدسيا ينظران إليهن (91). وتظهر هذه القصة أيضاً في أقوال المؤرخ البروجي ماتارتسو الذي ينقلها عن بركهارد (لأن اليوميات كانت لا تزال سراً مكنوناً) بل أخذها عن الشائعات التي انتشرت من روما في أنحاء إيطاليا ويقول:"إن هذا كان معروفاً في طول البلاد وعرضها"(92). فإذا كان هذا صحيحاً فإن من العجيب ألاّ يرد له ذكر في تقرير سفير فيرارا، وقد كان وقتئذ في روما، وعهد إليه فيما بعد أن يفحص عن اخلاق لكيدسيا، وهل تليق بأن تتزوج ألفنسوا ابن الدوق إركولي. بل إن هذا السفير قد أثنى عليها أعظم الثناء في تقريره هذا (كما نرى ذلك بعد)؛ فإمّا أن يكون الإسكندر قد رشاه وإمّا أنه لم يلتفت إلى الشائعات التي لا يقوم عليها الدليل. ولكن ترى كيف وصلت هذه القصة إلى يوميات بركهارد؟ فهو لا يدّعي أنه كان من الحاضرين في هذا المجلس، ومن أبعد الأشياء أن يكون من حاضريه لأنه كان من ذوي الأخلاق القويمة. وهو لا يضمن مذكراته عادة إلاّ ما يشهده من الحوادث، أو ما ينقل إليه مؤيداً بالدليل. ترى هل أقحمت القصة إقحاماً في المخطوط؟ إن كل ما بقى من المخطوط الأصلي لا يزيد على ست وعشرين صفحة تبحث كلها في أحوال الفترة التي أعقبت مرض الإسكندر الأخير. أما ما بقى من اليوميات فإنه لا توجد منه إل نسخ منقولة عنها، وكل هذه النسخ تذكر القصة، ولربما كانت قد دسها فيها كاتب معاد ظن أنه يستطيع تفكهة التاريخ الجاف بقصة من القصص الطريفة، أو لعل بركهارد قد أجاز مرة للشائعات أن تتسرب إلى مذكراته، أو لعل النسخة الأصلية قد نبهت إلى أن هذه القصة من الشائعات لا أكثر، وأكبر الظن أن هذه القصة تعتمد على مأدبة أقيمت فعلاً، وأن الزخرف المكفهر قد أضافه إليها الحقد أو الخيال. وقد كتب

ص: 120

فرنتشيسكو بيي سفير فلورنس، وهو الذي كان على الدوام من أعداء آل بورجيا لأن فلورنس كانت في جميع الأوقات على خلاف معهم، كتب في غداة هذا الحادث يقول: إن البابا ظل يسير إلى ساعة متأخرة من الليلة السابقة في جناح سيزاري، وأنه كان في هذا الجناح "رقص وضحك"(93). ولم يرد في قوله هذا ذكر للعاهرات. وليس من المعقول أن يخاطر البابا، الذي كان يبذل غاية الجهد ليزوج ابنته من وارث دوقية فيرارا، بإفساد سعيه في هذا الزواج وفي عقد حلف دبلوماسي جليل الخطر بالنسبة له، وذلك بأن يسمح للكريدسيا بأن تشهد مثل هذا المنظر (94).

ولننتقل الآن إلى لكريدسيا نفسها.

ص: 121

الفصل الخامس

‌لكريدسيا

1480 -

1519

كان الإسكندر يعجب بولده، ولعله كان يخافه، ولكنه كان يحب ابنته بكل ما في الطبيعة البشرية من عاطفة قوية. ويبدو أنه كان يجد في جمالها المتوسط، وفي شعرها الذهبي الطويل (الذي بلغ من الثقل حداً يسبب لها الصداع)، وفي قوامها الخفيف المتزن حين ترقص (95)، وفي إخلاصها البنوي له في كل ما عاناه من تحقير وحرمان، نقول يبدو كأنه كان يجد في هذا كله متعة أكثر مما وجده يوماً من الأيام في مفاتن فانتسا أو جويليا. ولم تكن ذات جمال بارع غير معتاد، ولكنها وصفت في أيام شبابها بأنها حلوة الوجه docle ciera؛ وقد احتفظت بهذا "الوجه الحلو" إلى آخر حياتها التقية بين ما كان يحيط بها من فظاظة وانحلال، وفي خلال ما مر بها من مرارة الطلاق، وارتياعها وهي ترى زوجها يقتل، وتقول إنها تكاد ترى مقتلة بعينها. ويدل على احتفاظها به أن ذلك من الأقوال التي تتردد على ألسنة الشعراء في فيرارا.

وتتفق الصورة التي رسمها لها بنتو رتشيو والمحفوظة في جناح آل يورجيا في الفاتيكان مع وصفها لهذا في أيام شبابها.

وذهبت لكريدسيا إلى دير النساء لتتلقى فيه تعليمها كما كانت تذهب إليه كل من تستطع أداء نفقات هذا التعليم من البنات الإيطاليات، وانتقلت في سن غير معروفة من بيت أمها فانتسا إلى بيت دنا أدريانا ميلا، وهي عمة للإسكندر. وفي هذا البيت عقدت صداقة وثيقة دامت طول حياتها مع جويليا فرنيزي Giulia Farnese كنة أدريانا، وعشيقة والدها المزعومة. وقد وهبت لكريدسيا كل ما يستطيع الحظ الطيب أن يهبها إياه ما عدا

ص: 122

البنوة الشرعية. ولهذا نشأت في جو من الأنوثة المرحة المبتهجة، وكان الإسكندر سعيداً لسعادتها.

وانتهى هذا الشباب الذي لم يتسرب إليه الهم بالزواج؛ وأكبر الظن أنها لم يسئها قط أن أباها هو الذي اختار لها زوجاً؛ فقد كان هذا هو العادة المألوفة في زواج البنات الإيطاليات؛ ولم يكن لينشأ عن هذا الاختيار من الشقاء أكثر مما ينشأ عن اعتمادنا نحن على الحكمة الكامنة في الاختبار القائم على الحب الغرامي. وكان الإسكندر يرى، كما يرى أي حاكم سواه، أن زواج أبنائه يجب أن يكون سبيلاً لضمان مصالح الدولة، وما من شك في أن هذا أيضاً كان يبدو أمراً معقولاً لا غبار عليه في عيني لكريدسيا. وكانتنابلي وقتئذ عدوة للبابوية، وميلان عدوة لنابلي؛ ولهذا فإن زواجها الأول قيدها وهي في سن الثالثة عشرة بجيوفني اسفوردسا سيد بيزارو، وابن أخي لدفيكو، ونائب حاكمميلان (1493)؛ وكان وقتئذ في سن السادسة والعشرين، وأخذ الإسكندر يشبع حبه الأبوي بتهيئة بيت للزوجين في قصر الكردنال دسينو القريب من الفاتيكان.

ولكن أسفوردسا كان مضطراً إلى الإقامة في بيزارو بعض الوقت، ومن أجل ذلك اصطحب زوجته الشابة معه. وقد ذبلت نضرتها في هذه الشواطئ النائية، بعيدة عن أبيها المغرم بها، ومباهج روما ومتعتها، ولم تنقض على انتقالها إلاّ بضعة أشهر حتى عادت إلى العاصمة. ولحق بها جيوفني فيها فيما بعد، ولكنه ظل بعد عيد الفصح من عام 1497 في بيزارو وبقيت هي في روما. وفي الرابع عشر من شهر يونية طلب إليه الإسكندر أن يفصم عرى الزوجية بحجة أن الزوج عنين - وهي الحجة الوحيدة التي يرى القانون الكنسي أنها تجيز فصم عرى الزواج؛ وآوت لكريدسيا بعدئذ إلى دير النساء لتدفن فيها حزنها أو عارها، أو لتقطع ألسنة الوشاة (96). ثم قتل أخوها دوق غنديا بعد بضعة أيام من ذلك الوقت،

ص: 123

وتهامس الفكهون المتظرفون من أهل روما أن مقتله كان بأيدي عملاء اسفوردسا لأنه حاول إغواء لكريدسيا (97). وأنكر زوجها أنه عنين، وأشار إلى أن الإسكندر كان يضاجع ابنته. وعين البابا لجنة، يرأسها اثنان من الكرادلة، لتنظر هل بلغ الزواج غايته، وأقسمت لكريدسيا أنه لم يبلغها، وأكدت اللجنة للإسكندر أنها لا تزال عذراء. وعرض لدفيكو على جيوفني أن يثبت قدرته الجنسية أما لجنة تضم المندوب البابوي في ميلان، ولكن جيوفني رفض هذا العرض، ولسنا نجد مأخذاً عليه في رفضه. بيد أنه وقّع وثيقة رسمية يعترف فيها بأن الزواج لم يبلغ غايته، ورد إلى لكريدسيا بائنتها البالغ قدرها 31. 000 دوقة، وفصمت عروة الزوجية في 20 ديسمبر من عام 1497. وولدت لكريدسيا لزوجيها التاليين أبناء وإن لم تلد أبناء لجيوفني؛ ولكن زوجة اسفوردسا الثالثة ولدت في عام 1505 ولداً يظن أنه ولده (98).

وكان يظن من قبل أن الإسكندر إنما فصم عقدة الزواج، ليستطيع عقد زواج آخر أكثر فائدة سياسية من الزواج الأول. ولكنا لا نجد دليلاً يؤيد هذا الادعاء؛ وأكثر من هذا احتمالاً أن لكريدسيا قد أفصحت عن الحقيقة المحزنة. ولم يشأ الإسكندر أن يبقيها بلا زوج؛ فأخذ يسعى إلى التقرب من نابلي ألد أعداء البابوية؛ وعرض على الملك فدريجو أن يزوج لكريدسيا من دن ألفنسو دوق بستشيجلي Besceglie، وهو ابن نغل لألفنسو الثاني ولي عهد فدريجو. ووافق الملك على هذا العرض، ووقع عقد الخطبة الرسمي (في يونية سنة 1498). وكان وكيل فدريجو في هذا الزواج هو الكردنال اسفوردسا، عم جيوفني مطلق لكريدسيا. وشجع لدفيكو صاحب ميلان فيدريجو على قبول هذه الخطة (99)، ويبدو أن عم جيوفني لم يسئه قط فصم عرى الزوجية الأولى، واحتفل بالزفاف في الفاتيكان في شهر أغسطس التالي.

ص: 124

ويسرت لكريدسيا الأمور بأن أحبت زوجها؛ ويسرها فوق ذلك أن تكون له بمنزلة الأم، فقد كانت هي وقتئذ في الثامنة عشرة من عمرها وهو بعد طفل في السابعة عشرة. ولكن كان من سوء حظهما أن يكونا شخصين ذوي شأن في العالم، وأن يكون للسياسة مكان في فراشهما الزوجي. ذلك أن نابلي رفضت أن تقدم زوجة لسيزاري بورجيا فذهب إلى فرنسا يطلب فيها هذه الزوجة (أكتوبر سنة 1498). وتحالف الإسكندر مع لويس الثاني عشر عدو نابلي اللدود؛ وساء بستشيجلي الشاب أن يجد روما تتفاوض مع وكلاء ملك فرنسا، فما كان منه إلاّ أن فر مسرعاً إلى نابلي. وحطم هذا الفرار قلب لكريدسيا؛ وأراد الإسكندر أن يسترضيها، ويجبر قلبها المكلوم فعينها نائبة عنه في اسبليتو (أغسطس عام 1499)؛ وعاد ألفنسو فانضم إليها هناك، وزارهما الإسكندر في نيبي، وطمأن الشاب، وعاد بهما إلى روما؛ وفيها وضعت لكريدسيا ولداً سمى ردريجو باسم أبيها.

ولكن سعادتهما كانت في هذه المرة أيضاً قصيرة الأجل؛ ذلك أن ألفنسو قد امتلأ بغضاً لسيزاري يورجيا، وربما كان سبب ذلك البغض أن ألفنسو نفسه كان متوتر الأعصاب حاد المزاج، أو لعل سببه أن سيزاري يورجيا كان في نظره رمزاً للحلف الفرنسي مع البابوية، وبادله سيزاري بغضاً ببغض وزاد عليه الاحتقار. وحدث في مساء اليوم الخامس عشر من يولية سنة 1500 أن هجم على ألفنسو جماعة من السفاحين المأجورين أثناء خروجه من كنيسة القديس بطرس. وأصيب ألفنسو بعدة جراح، ولكنه استطاع أن يصل إلى بيت كردنال سانتا ماريا في برتيكو. واستدعيت لكريدسيا له فلمّا رأته أغمى عليها، ولكنها سرعان ما أفاقت، وأخذت هي وأخته سانتشيا تعنى به أعظم عناية. وأرسل الإسكندر حرساً مؤلفاً من خمسة عشر رجلاً ليدفع عنه أذى آخر، ونقه ألنسو على مهل؛ وأبصر يوماً ما سيزاري يسير في حديقة قريبة منه، ولم يكن يخالجه أدنى شك في

ص: 125

أن هذا هو الرجل الذي استأجر من كانوا يريدون قتله، فأمسك بقوس وسهم وأطلق السهم يريد أن يقتله به. وأخطأ السهم الهدف خطأً يسيراً، ولم يكن سيزاري بالرجل الذي يتيح لعدوه فرصة أخرى، فاستدعى حراسه، وبعث بهم إلى حجرة أفنسو، ويبدو أنه أمرهم بقتله؛ فوضعوا وسادة على وجهه ومازالوا يضغطون بها عليه حتى مات مختنقاً، وبما كان ذلك على مرأى من زوجته وأخته (10). وصدق الإسكندر رواية سيزاري للقصة، وأمر بدفن ألفنسو في غير احتفال وبذل كل ما في وسعه لمواساة لكريدسيا التي كان خطبها أفدح من أن يواسى.

وانزوت لكريدسيا فيبيبي، وهناك كتبت رسائلها المسماة أتعس الأميرات وأمرت بإقامة الصلوات تطلب بها الرحمة لألفنسو. ومن الغريب أن سيزاري زارها في بيبي (أول أكتوبر سنة 1499)؛ ولمّا يمض على موت ألفنسو أكثر من شهرين ونصف شهر، وأنها استضافته طول الليلة. ذلك أن لكريدسيا كانت صبوراً لينة الجانب؛ ويبدو أنها أخذت مقتل زوجها على أنه رد فعل طبيعي من أخيها على محاولة قتله. ويلوح أنها لم تكن تعتقد أن سيزاري هو الذي استأجر السفاحين الذين حاولوا اغتيال ألفنسوا ولم يفلحوا في محاولتهم؛ وإن كان يخيل إلينا أن هذا هو أرجح التفاسير لهذه المأساة التي هي إحدى المآسي الغامضة في عصر النهضة؛ ولقد أظهرت في المدة الباقية من حياتها كثيراً من الشواهد على أن حبها لأخيها لم تمحه جميع هذه المحن. ولعل حبه لها وحب أبيها، اللذين يبلغان من القوة كل ما تستطيع العاطفة الإنسانية الجائشة، هو الذي جعل الفكهين من أهل روما، أو بالأحرى من أهل نابلي (101) المعادية، يتهمونها على الدوام بمضاجعة أبيها وأخيها، حتى لقد وصفها أحد الكتّاب ذلك الوصف الجامع الموجز بأنها:"ابنة البابا، وزوجته، وزوجة ابنه"(102). وصبرت على هذا أيضاً وهي هادئة مستسلمة؛ ولقد أجمع المطلعون الباحثون

ص: 126

في هذه الفترة أن هذه كلها اتهامات قاسية لا نصيب لها من الصحة (103)؛ ولكن هذه المطاعن ظلت تدنس اسمها عدة قرون

(1)

.

ولسنا نرجح أن سيزاري قتل ألفنسو ليزوجها من بعده زواجاً أكثر نفعاً من الوجهة السياسية. فقد عرضت بعد فترة الحزن على كبير من أسرة أرسيني، ثم على آخر من أسرة كولنا- وهما زواجان لا يبلغان من الفائدة السياسية مبلغ زواجها من ابن وارث عرش نابلي. ولسنا نسمع بأن الإسكندر عرض على إركولي دوق فيرارا أن يزوجها من ابنه ألفنسو (104)، إلاّ في نوفمبر من عام 1500، كما أننا لم نسمع إلاّ في سبتمبر من عام 1501 أنها خطبت له. ويلوح أن الإسكندر كان يأمل أن فيرارا التي يحكمها زوج ابنته، ومنتوا التي ارتبطت مع فيرارا بالزواج من زمن بعيد ستكونان في واقع الأمر ولايتين بابويتين؛ وأيد سيزاري هذه الخطة لأنها تؤمن له فتوحه أكثر من ذي قبل، وتضع في يده قاعدة طيبة يهجم منها على بولونيا. وتردد إركولي وألفنسو للأسباب التي سبق تفصيلها؛ وكان ألفنسو قد عرضت عليه يد كونتة أنجوليم Angouleme ولكن الإسكندر أضاف إلى عرضه وعداً ببائنة ضخمة، وبما يكاد يكون إلغاءً تاماً للجزية التي كانت فيرارا تعطيها للبابوية. على أن أحداً رغم هذا كله لا يصدق أن أسرة من أقدم الأسر الحاكمة في أوربا، وأعظمها ثراء كان يقبل لكريدسيا زوجة لدوقها المرتقب لو أنها كانت تصدق القصص القذرة التي كان يذيعها سراً الكتّاب النمامون في روما. وإذ لم يكن إركولي أو ألفنسو قد رأيا لكريدسيا حتى ذلك الحين، فإنهما جريا على الخطة المألوفة في مثل هذا الزواج السياسي، وطلبا إلى سفير فيرارا

(1)

انظر تاريخ كيمبردج الحديث Cambridge Modern History المجلد الأول ص 239: "لا شيء ابعد عن لكريدسيا الحقيقية من لكريدسيا التي يصفها كتّاب المسرحيات والروايات الغرامية.

ص: 127

في روما أن يبعث لهما بتقرير عن شكلها وأخلاقها، وميزاتها. وجاءهم الرد الآتي:

سيدي العظيم: ذهبت اليوم مع دن جيرارد سراتشيني Gerardo Saraceni في زيارة إلى السيدة العظيمة لكريدسيا لنبلغها احترامنا بوصفنا نائبين عن فخامتكم وعن جلالة دن ألفنسو. وتحدثنا إليها طويلاً في مختلف الشئون. وخرجتا من حديثنا معها على أنها غاية في الذكاء والظرف، وأنها سيدة غاية في الرشاقة. والنتيجة التي وصلنا إليها أنك يا صاحب الفخامة ودن ألفنسو العظيم ستسرون منها غاية السرور. فهي فضلاً عن رشاقتها الفائقة في كل شيء، متواضعة، ودودة، مؤدبة؛ وهي إلى هذا كله مسيحية مؤمنة تخاف الله. وستذهب غداً للاعتراف، وستتناول العشاء الرباني في أسبوع عيد الميلاد. وهي في منتهى الجمال، ولكن سحر أدبها وظرفها ليدهشنا أكثر من جمالها؛ وجملة القول أن أخلاقها تنفي عنها كل مظنة "السوء". بل أننا على العكس منن هذا لا نجد فيها إلاّ كل ما هو خليق بالثناء

روما في 23 ديسمبر سنة 1501.

خادمكم

جوانس لوكاس Joannes Lucas، (105)

واقتنع صاحبا الفخامة والجلالة من آل استنسي وبعثا بطائقة فخمة من الفرسان تصحب العروس من روما إلى فيرارا. وأعد سيزاري بورجيا من عنده مائتي فارس لهذا الغرض عينه، كما أعد طائفة من الموسيقيين والمهرجين لتسليتها في رحلتها الشاقة. ودل الإسكندر على افتخاره وسعادته بأن أمدها بحاشية من 180 شخصاً تضم خمسة أساقفة. وحمل جهازها على عربات صنعت لهذه الرحلة خاصة، وعلى مائة وخمسين بغلاً؛ وكان من هذا الجهاز حلة تبلغ قيمتها 150. 000 دوقة (187500؟ دولار)، وقبعة قيمها عشرة آلاف دوقة، و 200 صدرة كلفت كل

ص: 128

واحدة منها مائة دوقة (106). وبدأت لكريدسيا سفرها في اليوم السادس من يناير عام 1502 بعد أن استأذنت سراً من والدتها فائندسا، وعبرت إيطاليا للانضمام إلى طيبها، وأخذ الإسكندر بعد أن ودعها ينتقل في الموكب من مكان إلى مكان، ليلقي عليها نظرة أخرى وهي ممتطية صهوة جوادها الأسباني الصغير المكسو كله بالجلد والذهب، وظل يرقبها حتى اختفت عن الأنظار هي وحاشيتها التي تضم ألف رجل وامرأة، ولعله كان يظن أنه لن يراها مرة أخرى.

وأكبر الظن أن روما لم تشهد قط من قبل مثل هذا الموكب يخرج منها، كما أن فيرارا لم تشهد قط موكباً مثله يدخلها. واستقبل لكريدسيا بعد رحلة دامت سبعة وعشرين يوماً، الدوق إركولي ودن ألفنسو على رأس موكب كبير من الأعيان، والأساتذة، وخمسة وسبعين من الرماة حملة الأقواس، وثمانين من النافخين في الأبواق والمزامير، وأربع عشرة عربة مستوية السطح تحمل سيدات من بنات الأسر الكريمة في ثياب فخمة. ولمّا بلغ الموكب الكنيسة الكبرى نزل من أبراجها رجلان ممن يمشون على الحبال، وقدّما التحية لكريدسيا. ولمّا بلغ الموكب قصر الدوق، أطلق سراح جميع المسجونين؛ وابتهج الشعب بجمال دوقته المقبلة وبسماتها، وسعد ألفنسو بأن كانت له هذه الزوج العظيمة الفاتنة (107).

ص: 129

الفصل السادس

‌انهيار سلطان آل بورجيا

يبدو أن الإسكندر قضى سني حياته الأخيرة سعيداً موفقاً. فقد تزوجت ابنته في أسرة من الأدواق، وكانت فيرارا كلها تجلّها وتعظمها؛ كذلك أنجز ولده ما عهده إليه بوصفه قائداً وحاكماً؛ وكانت الولايات البابوية مزدهرة ذات حكومة ممتازة. ويصف سفير البندقية البابا في تلك السنين بأنه مرح نشيط، يبدو أنه مرتاح الضمير "لا ينغّص عليه حياته شيء". وقد بلغ في أول يناير من عام 1501 سن السبعين ولكنه، كما يصفه السفير:"يخيل إلى من يراه أنه ينقص في السن يوماً عن يوم، "(108).

وحدث في الخامس من شهر أغسطس من عام 1503 أن كان الإسكندر، وسيزاري، وجماعة غريهما يتعشون في الهواء المطلق في بيت الكردنال أدريانو كرنتينو Adriano da Corneto الخلوي غير البعيد عن الفاتيكان، وبقوا جميعاً في حديقة المنزل حتى منتصف الليل لأن حرارة الجو داخل الدار لم تكن تطاق. فلمّا كان اليوم الحادي عشر أصيب الكردنال بحمى شديدة دامت ثلاثة أيام ثم زالت. وفي اليوم الثاني عشر أصيب البابا وولده بحمى وقيء واضطرا لملازمة الفراش. وتحدثت روما كعادتها عن السم وقال النمامون إن سيزاري أمر بدس السم للكردنال ليحصل على ماله، وإن الضيوف كلهم تقريباً أكلوا خطأ من الطعام المسموم. لكن المؤرخين الآن متفقون مع الأطباء الذين عالجوا البابا على أن الحمى هي عدوى من الملاريا سببها طول التعرض لهواء الليل في روما في منتصف الصيف (109). وقد أصيب بهذا المرض نفسه نصف آل بيت

ص: 130

البابا، وكان كثير من هذه الإصابات مميتاً (110)، وقد مات بها في روما عدة مئات في ذلك الفصل عينه.

وظل الإسكندر ثلاثة عشر يوماً بين الحياة والموت، يستعيد صحته تارة حتى يستطيع عقد المجالس الدبلوماسية؛ بل حدث في الثالث عشر من أغسطس أن تسلى بلعب الورق. وحجمه الأطباء عدة مرار، ولعلهم قد أخذوا من دمه في إحداها أكثر مما يجب، بحيث استنزفوا قواه الطبيعية. وتوفي البابا في الثامن عشر من أغسطس؛ وما لبثت جثته أن أصبحت سوداء اللون كريهة الرائحة، تؤيد زعم من يشيعون بأنه مات مسموماً. ويقول بركهارد إن النجارين والمجدفين كانوا يتفكهون، ويجدفون وهم يجدون من الصعب عليهم أن يحشروا الجثة المنتفخة في التابوت الذي أعد لها (111). ويضيف الثرثارون أنهم رأوا شيطاناً صغيراً ساعة أن مات الإسكندر يحمل روحه إلى الجحيم (112).

وأبتهج أهل روما لموت البابا الأسباني؛ وانتشر الشغب في المدينة، وطرد "القطلانيون" منها أو قتلوا وهم في طريقهم إلى خارجها، ونهب الغوغاء بيوتهم، وحرق مائة بيت منها. ودخل المدينة جنود آل كولنا وأرسني المسلحون في الثاني والعشرين والثالث والعشرين من أغسطس غير عابئين باحتجاج مجمع الكرادلة. وفي ذلك يقول جوتشيارديني الوطني الفلورنسي:

"وتجمع أهل روما بسرعة لا يكاد يصدقها الإنسان، وتزاحموا حول جثة الباب في كنيسة القديس بطرس، ولم يكن في مقدورهم أن يشبعوا عيونهم من منظر ذلك الأفعوان الهالك الذي طمس على قلوب العالم كله، وأعمى بصائره بمطامعه التي تجاوزت كل حد، وبغدره البغيض، وما أرتكبه من أعمال القسوة الرهيبة التي لا يحصى لها عدد، وفجوره الوحشي، وعرضه للبيع كل ما هو مقدس وغير مقدس دون تفرقة بين هذا

ص: 131

وذاك (113). ويتفق مكيفلي مع جوتشيارديني فيقول إن الإسكندر:

لم يؤثر عنه إلاّ الخداع، وإنه لم يكن يفكر في غير هذا طول حياته كلها، ولم يقسم قط إنسان أيماناً أقوى من أيمانه بإنجاز الوعود ثم ينقض هذه الأيمان فيما بعد، ولكنه مع هذا نجح في كل شيء لأنه كان ملماً كل الإلمام بهذا الجزء من العالم (114).

وقد بينت هذه الأحكام على فرضين أساسيين أولهما أن القصص التي كانت تروى في روما عن الإسكندر صادقة، وثانيهما أن الإسكندر لم يكن محقاً في سلوك السبل التي سلكها لاستعادة الولايات البابوية. ويشترك المؤرخون الكاثوليك في الطعن على أساليب الإسكندر وأخلاقه، وإن كانوا يدافعون عن حقه في استعادة سلطان البابوية الزمني. ومن ذلك ما يقول باستور الأمين:

"إن الناس بوجه عام يصفونها بأنه حيوان لا إنسان، ويلصقون به كل أنواع الجرائم الشنيعة. ولكن البحث النقدي الحديث يحكم عليه حكماً أعدل من هذا، وينفي عنه بعض ما يلصق به من أشنع التهم؛ غير أننا وإن كان م واجبنا أن نكون حذرين في قبول القصص التي يرويها معاصرو الإسكندر عنه دون بحث وتحقيق، وإن كان الفكهون الحاقدون من الرومان قد وجدوا متعة لهم في أكل لحمه ميتاً دون رحمة، فوصفوا حياته في مطاعنهم الشعبية ونكاتهم الشعرية أوصافاً قذرة لا يصدقها إنسان، نقول إنه وإن كان من واجبنا أن نكون حذرين في قبول هذا كله فإن ما ثبت عليه من هذه التهم ليضطرنا إلى رفض ما يبذل في هذا الأيام من محاولات ترمي إلى تبرئته، لأن في هذه المحاولات عبثاً بالحقيقة لا يليق

ويستحيل علينا من وجهة النظر الكاثوليكية أن نتجاوز الحد اللائق في لوم الإسكندر وتعنيفه.

وكان المؤرخون البروتستنت كراماً في حكمهم إلى الإسكندر، فاصطنعوا

ص: 132

معه اللين في بعض الأحيان. فقد كان وليم رسكو William Roscoe من أوائل الذين قالوا كلمة طيبة عن البابا وذلك في كتابه الشهير حياة ليو العاشر وبابوية (1827):

"مهما تكن جرائمه، فإن الذي لا شك فيه إنها قد بولغ فيها كثيراً، فليس ثمة من ينكر أنه قد صرف جهوده في رفع شأن أسرته، وأنه استخدم السلطة التي أسبغها عليه منصبه في فرض سيطرته الدائمة على إيطاليا في شخص ابنه، ولكن يبدو أننا نظلم الإسكندر إذا وصمناه بقسط خاص غير عادي من السفالة والإسفاف في الوقت الذي كان فيه أمراء أوربا كلهم تقريباً يحاولون تحقيق مطامعهم بوسائل لا تقل إجراماً عن وسائله. فينا كان لويس ملك فرنسا، وفرديناند ملك أسبانيا يتآمران للاستيلاء على مملكة نابلي واقتسامها بينهما، ويستخدمان في ذلك أساليب من الغدر لا يمكن أن نوفيها ما تستحقه من المقت واللعنات، فإن للإسكندر بلا ريب أن يظن نفسه محقاً في كبح جماح البارونات المشاكسين، الذين ظلوا أجيالاً طوالاً يمزقون أملاك الكنيسة بالحروب الداخلية، وفي إخضاع صغار الأمراء في رومانيا، وهم الذين كانوا يعترفون له بحق السيادة عليهم، والذين حصل معظمهم على أملاكهم بوسائل لا نجد لها ما يبررها، وهي أبعد عن العدالة من الوسائل التي استخدمها هو ضدهم. أما التهم التي يعتقد بصدقها كثيرون من الناس، وما يعزى إليه من الصلة الإجرامية بينه وبين أخته

فليس من العسير أن نثبت بعدها عن الصواب. يضاف إلى هذا أن رذائل الإسكندر كان يصحبها، وإن لم يعوضها، كثير من الصفات الطيبة العظيمة التي يجب ألاّ نم بها صامتين في حكمنا على أخلاقه

وإن أشد الناس عداوة لها لا ينكرون أنه ذو عبقرية فذة، وذاكرة عجيبة، وأنه كان فصيح اللسان، يقظاً، بارعاً في تصريف جميع شئونه (116) ".

وقد أوجز الأسقف كريتن Creighton أخلاق الإسكندر وأعماله

ص: 133

بما يتفق بوجه عام مع حكم رسكو عليه، وكان أكثر رأفة به من باستور (117). وثمة حكم آخر متأخر عن حكم هؤلاء جميعاً وهو أرحم به منهم ونعني حكم العالم البروتستنتي رتشرد جارنت Richard Garnett في تاريخ كيمبردج الحديث:

"لقد كسبت أخلاق الإسكندر بلا ريب من بحوث المؤرخين المحدثين. وقد لكان من الطبيعي أن يظهر بمظهر الظلم والفجور رجل اتهم بهذه الجرائم الكثيرة، وكان بلا ريب مصدر الكثير من الفضائح. غير أ، هذا الوصف أو ذلك لا يليق به. لقد كان العامل الأساسي في أخلاقه كلها فطرته الغزيرة الفياضة. ويسميه سفير البندقية الرجل "الجسدي" وهو لا يقصد بهذا أن يعزو إليه أية نقيصة من النقائص الخلقية، بل يقصد أنه رجل حاد الطبع، عاجز عن السيطرة على عواطفه وانفعالاته النفسية. وكانت طبيعته هذه مبعث الحيرة للإيطاليين الهادئين غير دوي العواطف الجياشة من رجال الصنف الدبلوماسي الذي يكثرون بين الحكام ورجال السياسة؛ وقد أساءوا كثيراً إلى الإسكندر بعجزهم عن فهمه على حقيقته، مع أنه في واقع الأمر لم يكن أقل إنسانية من معظم أمراء زمانه بل كان يفوقهم كثيراً في هذا المجال. وكانت هذه الغريزة الجسدية العارمة مصدر كثير من الخير والشر فيه. ذلك أنها قد ساقته إلى شهوانية عارمة من نوع ما، وإن كان في نواح أخرى معتدلاً زاهداً، وسبب ذلك أنه لم تكن تقيده مبادئ أخلاقية قوية أو أفكار روحية مستمدة من الدين. أما في صورتها التي هي أدعى إلى الإجلال والتقدير، وهي حبه لأسرته فقد ساقته هذه النزعة إلى الاعتداء على جميع مبادئ العدالة، وإن لم يفعل حتى في هذه الناحية أكثر من قيامه بعمل ضروري محتوم لا يمكن أداؤه "بالماء المقدس" كما قال أحد عماله. لكن دماثة أخلاقه ومرحه قد أبعداه عن الاستبداد بالمعنى العادي لهذا اللفظ

فقد كان في العادة يعنى بمصالح شعبه من الناحية المادية، ولهذا يعد من

ص: 134

خير الحكام في زمانه، وكان في حكمه يضارع خير حكام تلك الأيام من الناحية العملية. غير أن عدم تقيده في سياسته بالمبادئ الأخلاقية قد أفسد عليه ما كان يستطيع أن يدركه ببصيرته القوية النفاذة، ذلك أنه كانت تعوزه الحكمة العليا التي تمكنه من أن يدرك خصائص الفترة التي يعيش فيها ويتنبأ بمجريات أمورها، ولم يكن يعرف للمبدأ معنى" (118).

والذين لهم ما للإسكندر من إحساس مرهف بمفاتن النساء ورشاقتهن لا تطاوعهم نفوسهم على أن يقذفوه بالحجارة بسبب عشقه وهيامه بالنساء، ذلك أن ما يؤخذ عليه في هذه الناحية قبل أن يرتقي عرش البابوية لم يكن فيه من الفضائح أكثر مما في مغامرات إينياس سلفيوس Aeneas Sylius المحب إلى المؤرخين، أو يوليوس الثاني الذي أكرمته الأيام فغفرت له آثامه. ولم يسجل التاريخ أن هذين البابوين قد عينا بعشيقاتهما وأبنائهما كما عنى الإسكندر بعشيقاته وأبنائه. والحق أن الجو الذي كان يحيط بالإسكندر كان فيه من خصائص الأسرة والمنزل ما كان يجعله رجلاً خليقاً بالاحترام إلى حد ما، لو أن قوانين الكنيسة وعادات إيطاليا في عصر النهضة، وألمانيا وإنجلترا في زمن الإصلاح الديني، قد أجازت زواج رجال الدين. ذلك أن خطاياه لم تكن خطايا ارتكبها ضد الطبيعة البشرية، بل كانت ضد القواعد التي تلزم رجال الدين بأن يظلوا عزاباً، وهي القواعد التي رفضها نصف العالم المسيحي بعد قليل من ذلك الوقت. وليس في مقدورنا أن نقول إن صلته بجويليا فرنيزي كانت صلة جسدية؛ ومبلغ علمنا أن فائندسا، ولكريدسيا، وزوج جويليا لم يعترضوا قط على هذه الصلة؛ ولعلها لم تكن أكثر من المتعة البسيطة التي يجدها الرجل السوي فيما تستمتع به امرأ ة جميلة من جاذبين ومرح وحيوية.

ومن واجبنا حين نحكم على أعمال الإسكندر السياسية أن نفرق بين غاياته ووسائله. فأما غاياته فقد كانت كلها غايات مشروعة- هي استعادة

ص: 135

"ميراث الرسول بطرس"(وأهم ما فيه لا تيوم القديمة) من البارونات الإقطاعيين أصحاب النظام الفاسد المضطرب، وأن يسترد من الطغاة المغتصبين الولايات التي هي من أملاك الكنيسة من أقدم الأزمنة. وأما الوسائل التي استعان بها الإسكندر وسيزاري على تحقيق هذه الغايات فقد كانت هي بعينها التي استعانت بها جميع الدول الأخرى في ذلك الوقت وذلك المكان - الحرب، والدبلوماسية، والخداع، والغدر، وخرق المعاهدات، والتخلي عن الحلفاء. لقد كان ترك الإسكندر الحلف المقدس، وشراؤه الجنود الفرنسيين والمعونة الفرنسية بتسليم ميلان لفرنسا، من الجرائم الكبرى في حق إيطاليا؛ وأن هذه الوسائل لتشمئز منها نفوسنا إذا استخدمها البابا تعهد أن يحافظ على مبادئ المسيح. وأياً كان الخطر الذي تتعرض له الكنيسة في أن تصبح خاضعة لسلطان حكومة مسيطرة عليها - كما خضعت لفرنسا أيام وجودها في افنيون - إذا ما فقدت أملاكها، فقد كان أفضل لها أن تضحي بسلطتها الزمنية كلها، وأن تعود فقيرة كما كان صيادو الجليل، من أن تلجأ إلى الأساليب الدنيوية لتحقيق أغراضها السياسية. ذلك أنها حين لجأت إلى هذه الوسائل ووفرت لها ما يلزمها من المال قد كسبت دولة وخسرت ثلث العالم المسيحي.

ولنعد إلى سيزاري بورجيا فنقول إنه بعد أن شفى شفاءً بطيئاً من المرض الذي قضى على حياة البابا، وجد نفسه محوطاً بما لا يقل عن عشرة أخطار لم يكن يتوقعها. ومن ذا الذي كان يتنبأ بأنه هو وأباه سيعجزان كلاهما عن العمل في وقت واحد. فبينا كان الأطباء يحمونه استرد آل كولنا المخلوعون من رومانيا، تشجعهم البندقية يطالبون باستعادة إماراتهم؛ وكان غوغاء روما الذين أفلت الآن زمامهم بعد أن مات

ص: 136

الإسكندر يتحفزون لنهب الفاتيكان في أية لحظة من اللحظات. وينهبون الأموال التي يعتمد عليها سيزاري في أداء رواتب جنده. فلم ير سيزاري بداً من أن يرسل عدداً من الرجال المسلحين إلى الفاتيكان؛ وأرغم هؤلاء الكردنال كسانوفا Cassanuova بقوة السيف على أن يسلمهم ما في الخزانة من الأموال؛ وهكذا فعل سيزاري ما فعله يوليوس قيصر قبل خمسة عشر قرناً من ذلك الوقت. فقد جاء إليه الجند بمائة ألف دوقة ذهباً، كما جاءوا إليه بصحاف وجواهر قيمتها ثلاثمائة ألف دوقة؛ وأرسل في الوقت عينه سفناً وجنوداً ليمنع بها الكردنال جوليانو دلا روفيري أقوى أعدائه من الوصول إلى روما؛ وكان يحس بأنه إن لم يستطع إقناع المجمع المقدس بانتخاب بابا من أنصاره فقد ضاعت كل آماله.

وأصر الكرادلة على أن يجلو جنود سيزاري وآل أرسيني وكولنا عن روما حتى يستطيعون أن يختاروا البابا الجديد في جو خال من الإرهاب. ووافق الأطراف الثلاثة على هذا المطلب، فانسحب سيزاري ورجاله إلى تشفيتا كستلانا Civita Castellana، في الوقت الذي دخل فيه الكردنال جوليانو روما، وتزعم في مجمع الكرادلة القوى المعادية لآل بورجيا. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1503 اختارت الأحزاب المتنافسة. في مجمع الكردنال فرانتشيسكو بكولوميني Francesco Piccolomini بابا مرضاة لجميع الأطراف المتنازعة، وتسمى باسم بيوس الثالث، تكريماً لعمه إبنياس سلفيوس. وكان بيوس رجلاً غزير العلم طيب الخلق، وإن كان أيضاً أباً لأسرة كبيرة (119). وكان وقتئذ في الرابعة والستين من عمره مصاباً بخراج في ساقه. وكان من أصدقاء سيزاري ولذلك سمح له بالعودة إلى روما، ولكن بيوس مات في الثامن عشر من شهر أكتوبر.

وأيقن سيزاري أنه لا يستطيع وقتئذ أن يمنح انتخاب الكردنال دلا روفيري وهو بلا ريب أقدر رجل في المجمع المقدس. لهذا عقد سيزاري

ص: 137

اجتماعاً خاصاً مع جوليانو وأزالا في ظاهر الأمر ما كان بينهما من عداء: فقد وعد جوليانو بتأييد الكرادلة الأسبان (الأوفياء لسيزاري)، ووعده جوليانو إذا اختير للبابوية بتثبيته دوقاً على رومانيا وقائداً للجيوش البابوية. وابتاع جوليانو أصوات بعض الكرادلة الآخرين برشا بسيطة (120). وبذلك اختير جوليانو دلا روفيري بابا (في 31 أكتوبر سنة 1503) واتخذ لنفسه اسم يوليوس الثاني كأنه يريد أن يكون نفسه قيصراً، وأن يفوق الإسكندر. وأجل تتويجه حتى اليوم السادس والعشرين من نوفمبر لأن المنجمين تنبأوا باقتران بعض الكواكب في ذلك اليوم اقتراناً يبشر بالخير.

ولم تنتظر البندقية مطلع نجم سعيد، فقد استولت على ريميني، وحاصرت فائندسا، وكشفت عن نيتها في أن تستولي على كل ما تستطيع الاستيلاء عليه من رومانيا قبل أن تتمكن الكنيسة من إعادة تنظيم قواها. وأمر يوليوس سيزاري بالتوجه إلى إمولا وتجيش جيش جديد لحماية الولايات البابوية. ووافق سيزاري على هذا وسار إلى أستيا معتزماً أن يبحر منها إلى بيزا. لكن رسالة جاءت إليه من البابا وهو في بيزا تأمره بأن يسلم ما في يديه من حصون رومانيا. وارتكب سيزاري في تلك الساعة خطأً موبقاً يوحي إلينا بأن المرض قد أفسد عليه رأيه إذ رفض أن يطيع أمر البابا، وإن كان من واجبه أن يعلم حق العلم أنه أمام رجل لا يقل عنه في قوة إرادته إن لم يفقه. وأمره يوليوس أن يعود إلى روما؛ وأطاع سيزاري الأمر، فلمّا عاد قبض عليه في منزله. وجاءه جويدوبلدو الذي أعيد في ذلك الوقت إلى أربينو، ثم عيّن فوق ذلك قائداً للجيوش البابوية ليرى سليل آل بورجيا الساقط؛ وأذل سيزاري نفسه أمام الرجل الذي خلعه ونهب أملاكه، وأطلعه على كلمة السر في الحصون، وأعاد إليه بعض نفائس الكتب والستر المزركشة التي بقيت بعد نهب أربينو، وتوسل

ص: 138

إليه أن يتوسط بينه وبين يوليوس. ورفضت تشيزينا Cesena وفورلي أن تطيعا كلمة السر حتى يطلق سراح سيزاري، ولكن يوليوس رفض أن يطلق سراحه إلاّ بعد أن يقنع قلاع رومانيا بالتسليم إلى البابا؛ وتوسلت لكريدسيا إلى زوجها أن يساعد أخاها؛ ولكن ألفنسوا (ولم يكن وقتئذ قد جلس على عرش الدوقية بل كان فقط ولي عهد لها) لم يفعل شيئاً. فما كان منها إلاّ أن لجأت إلى إزبلادست؛ ولم يكن حظها معها بأحسن من حظها مع أفنسو، ولعلها هي وألفنسو قد عرفا أن يوليوس لن يتحول عن رأيه، فلم ير سيزاري آخر الأمر بداً من أن يطلب إلى مؤيديه في رومانيا أن يسلموا الحصون؛ وأطلق البابا سراحه، ففر إلى نابلي (19 إبريل سنة 1504).

ورحب به فيها جندسالوده كردويا (جندسالو القرطبي) الذي أمنه على حياته أثناء مروره بها. وعادت إليه شجاعته أسرع من عودة بصيرته فنظم قوة صغيرة، وبينا كان يستعد إلى الإبحار بها إلى بيومبينو Piombino ( بالقرب من لغورن Leghorn) إذ قبض عليه جندسالو بأمر فرديناند ملك إسبانيا؛ وكان يوليوس هو الذي دفع هذا "الملك الكاثوليكي" إلى العمل لأنه لم يشأ أن يثير سيزاري في البلاد حرباً أهلية. ونقل سيزاري إلى أسبانيا في شهر أغسطس وظل يعاني مرارة السجن عامين كاملين. وحاولت لكريدسيا مرة أخرى أن تطلق سراحه ولكنها لم توفق. كذلك دافعت عنه زوجته التي هجرها عند أخيها جان دالبرت Jean d'Albert ملك نبرة، ودبرت له الخطة للهرب، وخرج سيزاري من السجن مرة أخرى وأصبح طليقاً في نبرة في شهر نوفمبر من عام 1506. وسرعان ما واتته الفرصة ليرد لدا لبرت الجميل. ذلك أن كونت لرين Leirn، وهو من أتباع الملك خرج على سيده، فتولى سيزاري قيادة جزء من جيش جان وهاجم به حصن الكونت في فيانا Viana. وخرج الكونت على رأس

ص: 139

الحامية من الحصن وهجم على سيزاري، فصده هذا، وتعقب القوة المهزومة بتهور وقلة مبالاة؛ وجاء المدد إلى الكونت وقتئذ، وهجم عدوه، وفر جنو سيزاري القلائل، ولم يثبت إلاّ هو نفسه ورفيق له واحد، وحارب حتى أثخن بالجراح ومات في القتال (12 مارس سنة 1507) وهو في سن الحادية والثلاثين.

وكانت هذه خاتمة شريفة تحيط بها الريب. ذلك أ، في حياة سيزاري بورجيا أشياء كثيرة لا تروقنا، نذكر منها كبرياؤه وتبجحه، وإهماله زوجته الوفية، ومعاملته النساء كأنهن أدوات لملذاته العابرة، وقسوته على أعدائه في بعض الأحيان - مثال ذلك حكمه بالإعدام على جويليوفارنو Giulio Varno صاحب كميرينو Camerino وعلى ولديه؛ وقتله فيما يبدو اثنين من أبناء منفريدي Manfredi؛ وهي قسوة تناقض كل التناقض رأفة الرجل الذي يتسمى باسمه

(1)

. وكان يعمل عادة بالمبدأ القائل إن تحقيق أغراضه يبرر في رأيه كل وسيلة يستخدمها لهذه الغاية، فالغاية في رأيه تبرر الوسيلة. لكننا نذكر مع هذا أنه كان يجد نفسه محوطاً بالأكاذيب، وأنه استطاع أن يتفوق في الكذب على من عداه حتى كذب عليه يوليوس. ونكاد نجزم بأنه لم تكن له يد في مقتل أخيه جيوفني، ولكن أكبر الظن أنه هو الذي حرّض السفاحين على قتل دوق بستشجيلي Bisceglie، ولعله كانت تنقصه - بسبب مرضه - القدرة على مواجهة مصاعبه بشجاعة وكرامة؛ وكان موته هو العمل الوحيد الذي شرفت به حياته.

ولكنه حتى هو كان يتصف ببعض الفضائل، فما من شك في أنه كان ذا كفاية غير عادية مكنته من أن يرقى هذا الرقي السريع، وأن يتعلم بهذه السرعة فنون الزعامة، والتفاوض، والحرب. ولمّا أن عهد إليه بذلك الواجب الشاق، واجب استعادة سلطة البابا في الولايات البابوية، ولم يكن

(1)

يربد يوليوس قيصر (المترجم).

ص: 140

تحت لوائه إلاّ قوة صغيرة، قام بهذا الواجب بحركة سريعة مدهشة، ومهارة في الفنون العسكرية، واقتصاد في الوسائل. ولمّا عهد إليه أن يحكم وأن يفتح، حبا رومانيا بأكثر ما استمتعت به منذ قرون من عدالة في الحكم ورخاء في السلم. ولمّا أمر بأن يطهر الكمبانيا من الأتباع العصاة المتمردين المشاكسين، قام بهذا العمل بسرعة يصعب على يوليوس قيصر نفسه أن يبزه فيها؛ ولعله حين طافت هذه الأعمال العظيمة برأسه قد راوده الحلم الذي راود بترارك ومكيفلي: وهو أن يهب إيطاليا، بالفتح إذا لزم الأمر، الوحدة التي تمكنها من أن تقف في وجه قوتي فرنسا وأسبانيا المرتكزتين

(1)

. ولكن انتصاراته، وأساليبه، وقوته، وأعماله السرية الخفية، وهجماته السريعة التي لا يحصى لها عدد، جعلته سوط عذاب على إيطاليا بدل أن تجعله عاملاً على تحريرها. ذلك أن عيوبه الخلقية كانت سبباً في القضاء على ما أنجزه من الأعمال بقوته العقلية. وكانت مأساته الأساسية أنه لم يتعلم قط أن يحب.

ولنقل مرة أخرى كلمة موجزة عن لكريدسيا: ألا ما أكبر الفرق بينها وبين أخيها الذي هوى من حالق مجده، في تواضعها، وهناءتها في سنيها الأخيرة. ذلك أنها، وقد كانت في روما مضغة في فم كل نمام،

(1)

"أضحت هذه الأمم" -فرنسا، وأسبانيا، وإنجلترا، وهنغاريا- "وقتئذ دولاً ملكية قوية ليس في مقدور تلك الإضمامة المفككة من الدويلات" الإيطالية "أن تقف في وجهها. ولقد كان يسع رجلاً مثل سيزاري بورجيا، في أغلب الظن، أن ينجيها لو أنه كان يقوم بأعماله في أوائل القرن الخامس عشر لا في نهايته

وكان أقرب ما حدث إلى الوحدة فيها هو إقامة سلطة البابا الزمنية التي كان الإسكندر ويوليوس أكبر العاملين عليها. ولسنا ننكر أن ما استخدم من الوسائل لإنشائها كثيراً من ضعف لو لم تنشأ، والثمرة الطيبة التي أثمرها وجودها بعد أن أصبحت هي كل ما بقى في إيطاليا من آثار الكرامة والاستقلال". تاريخ كيمبريدج الحديث، المجلد الأول ص 252.

ص: 141

قد أحبها أهل فيرارا ورأوا فيها مثلاً أعلى للفضائل النسوية (121). فقد حاولت فيها أن تنسى جميع محن ماضيها ومآسيه؛ واستعادت مرح شبابها ولم تخرج في ذلك عن حدود الاعتدال والأناة، وأضافت إلى مرحها هذا اهتماماً كريماً بحاجات غيرها من الناس. وقد أثنى عليها أريستو، وتيبليو Tibaldeo، وبمبو وتيتو، وإركولي اسفوردسا في أشعارهم ثناء جنت منه أكبر الفائدة؛ فقد وصفوها بأنها "أجمل فتاة" ولم يشر أحد منهم إليها بسوء. ولعل بمبو أراد أن يكون لها كما كان أبلار لهلواز Heloise

(1)

، وقد أضحت لكريدسيا وقتئذ تجيد عدة لغات فتتكلم الإسبانية، والإيطالية، والفرنسية، وتقرأ "قليلاً من اليونانية وأقل منها من اللاتينية". ويقول بعضهم إنها كانت تقرض الشعر بهذه اللغات جميعاً (122)، وقد أهدى إليها ألدوس مانيتيوس Aldus Manitius الطبعة التي أصدرها من ديوان استرتسي Strozzi وأشار في المقدمة إلى أنها عرضت عليه أن تمول مشروعه العظيم في الطباعة (123).

وقد وجدت بين هذه المشاغل العلمية الكثيرة متسعاً من الوقت حملت فيه لزوجها الثالث ثلاثة بنين وبنتاً واحدة. وقد سر منها ألفنسو على طريقته الدافقة العارمة. من ذلك أنه لما دعاه الداعي إلى مغادرة فيرارا في عام 1506 أنابها عنه في حكمها، فقامت بواجبات الحكم فيها بحكمة وحسن بصيرة جعلتا أهل فيرارا يميلون إلى مسامحة الإسكندر إذ تركها في وقت ما تشرف على شئون الفاتيكان.

(1)

كان أبلار أول الأمر معلماً لهلواز، ثم هام بها وانتهى حبهما بأشد المآسي وأروعها في التاريخ. وقد دارت بينهما رسائل أدبية تعد من أشهر الرسائل في آداب العصور الوسطى. وقد ترجمت هذه الرسائل إلى كثير من اللغات ومنها اللغة العربية. أنظر قصتهما ورسائلهما في كتابنا:"أشهر الرسائل العالمية". (المترجم)

ص: 142

وكرست جهودها في السنين الأخيرة من حياتها لتربية أبنائها وتعليمهم، ولأعمال البر والرحمة، وأضحت راهبة فرنسيسية من الطبقة الثالثة. ووضعت في الرابع عشر من شهر يولية عام 1519 طفلها السابع، ولكنه مات قبل أن يرى الضوء، ولم تغادر قط فراش المرض، حتى إذا كان اليوم الرابع والعشرون من ذلك الشهر ماتت وهي في سن التاسعة والثلاثين لكريدسيا بورجيا التي ظلمها الناس أكثر مما ظلمت هي نفسها.

ص: 143

الباب السابع عشر

‌يوليوس الثاني

1503 -

1513

الفصل الأول

‌المحارب

إذا ما وضعنا أمامنا صورة رفائيل الفاحصة العميقة ليوليوس الثاني حكمنا من فورنا بأن جوليانو دلا روفيرى كان من أقوى الشخصيات التي جلست على كرسي البابوية. ذلك أننا نرى في الصورة رأساً ضخما ينحني من فرط الإجهاد ومن التواضع المتوالي، وجبهة عريضة عالية، وأنفاً كبيراً ينم عن العناد، وعينين وقورتين، عميقتين، نفاذتين، وشفتين منطبقتين تشهدان بالصلابة والعزيمة، ويدين مثقلتين بأختام السلطة، ووجهاً مكتئباً يكشف عما في السلطة من خداع. وهذا هو الرجل الذي ظل عشر سنين يقذف بإيطاليا في أتون الحرب والاضطراب، والذي حررها من الجيوش الأجنبية، وهدم كنيسة القديس بطرس القديمة، واستدعى برامنتى ومائة غيره من الفنانين إلى رومة؛ وكشف، ونمى، ووجه مايكل أنجيلو ورفائيل، وقدم للعالم على أيديهم كنيسة للقديس بطرس جديدة، وسقفاً جديداً لمعبد سستينى وقاعات الفاتيكان. ذلك رجل ليس كمثله كثيرون في الرجال.

وأكبر الظن أن طبعه الحاد كان يميزه منذ نشأته. وكان مولده بالقرب

ص: 144

من سافونا Savona، لسكستس الرابع، وقد وصل إلى الكردنالية في السابعة والعشرين من عمره، وظل فيها قلقاً ساخطاً ثلاثا وثلاثين سنة قبل أن يرقى إلى المنصب الذي كان يرى أنه حقه الواضح، ولم تكن عنايته باليمين التي أقسمها بأن يبقى عزباً أكثر من عناية معظم زملائه (1) فقد قال كبير حجابه في الفاتيكان بعدئذ إن يوليوس الثاني لم يكن يسمح بأن تقبل قدمه لأن "المرض الفرنسي" كان يشوهها (2). وكانت له ثلاث بنات غير شرعيات (3)، ولكن مشاغله الكثيرة في محاربة الإسكندر لم تكن تتيح له وقتا ما لإظهار العطف الأبوي الذي كان يظهره الإسكندر نفسه والذي كان يغضب المنافقين من بني الإنسان. وكان يكره الإسكندر لأنه في رأيه دخيل إسباني، ولا يرى أنه يليق للبابوية، ويسميه نصابا، ومغتصبا (4)، وقد بذل كل ما في وسعه لخلعه، ولم يتورع حتى من استعداء فرنسا على إيطاليا ودعوتها إلى غزوها. وكان الإسكندر يشن الحرب باسمه أما يوليوس فكان يخوضها بشخصه، فقد لصبح البابا ابن الستين من العمر جنديا، وكان ارتداء الثياب العسكرية أيسر له من المسوح البابوية، وكان يحب المعسكرات وحصار المدن، وتصويب المدافع ومشاهدة الهجمات توجه أمام عينيه. وكان يسع الإسكندر أن يعبث ويلعب؛ أما يوليوس فكان يجد اللعب من أشق الأعمال لأنه يحب أن يواجه الناس برأيه فيهم؛ "وكثيراً ما كانت لغته تتجاوز كل الحدود في وقاحتها وعنفها" و "كان هذا العيب يزداد زيادة واضحة كلما تقدمت به السن"(5). ولم تكن شجاعته، كما لم تكن لغته، تعرف لها حدا؛ وكان حين تنتابه العلة المرة بعد المرة أثناء حروبه يحير أعداءه إذ يستعيد صحته وينقض عليهم مرة أخرى.

وكان لا بد له أن يفعل ما فعله الإسكندر فيبتاع بالمال عدداً قليلا من الكرادلة لييسروا له سبيله إلى عرش البابوية، ولكنه شهر بهذه العادة في

ص: 145

مرسوم له أصدره عام 1505. وإذا لم يكن قد أسرع في إصلاح هذه العادة إسراعا يسبب له المتاعب، فإنه قد رفض التحيز للأقارب رافضا يكاد يكون تاما، وقلما كان يعين أحداً من أقاربه في منصب ما. بيد أنه كان يحذو حذو الإسكندر في بيع المناصب الكنسية والترقي إلى الدرجات العليا فيها، وقد أغضب ألمانيا ببيع صكوك الغفران وبناء كنيسة الرسول بطرس (6). وكان حسن الإدارة لموارده المالية، وينفق المال في شؤون الحرب وعلى الفن في وقت واحد، وترك لليو في خزانته بعض المال الزائد على حاجته. وقد أعاد النظام الاجتماعي إلى روما بعد أن ضعف هذا النظام في السنين الأخيرة من بابوية الإسكندر، وحكم ولايات الكنيسة حكما صالحا امتاز بالحكمة في تعيين الموظفين وحسن توجيههم؛ وسمح لآل أرسيني وكولنا بالعودة إلى احتلال حصونهم، وسعى لكسب ولاء هاتين الأسرتين القويتين بالزواج بينهما وبين أقاربه.

ولما ارتقى كرسي البابوية وجد ولايات الكنيسة مضطربة، ووجد أن نصف أعمال الإسكندر وسيزاري بورجيا قد تصدعت؛ فقد استولت البندقية على فائندسا، ورافنا، وريميني (1503)، وعاد جيوفني اسفوردسا إلى بيزارو، وأصبح آل بجليوني مرة أخرى سادة في بروجيا، وآل بنتيفجلي سادة في بولونيا. وكان ما فقده من إيراد هذه المدن يهدد الإدارة البابوية بالإفلاس، وكان يوليوس يتفق مع الإسكندر في أن استقلال الكنيسة الروحي يتطلب امتلاكها الدائم للولايات البابوية؛ وارتكب من أول الأمر الخطأ الذي ارتكبه الإسكندر إذ استعان بفرنسا - وبألمانيا وإسبانيا أيضاً- على أعدائه الإيطاليين. ووافقت فرنسا على أن ترسل ثمانية آلاف من جنودها نظير تعيين ثلاثة من رجالها الدينيين في مناصب الكرادلة؛ ووعدت نابلي، ومانتوا، وأربينو، وفيرارا، وفلورنس بأن ترسل إمدادات صغيرة. وفي أغسطس من عام 1506 خرج يوليوس

ص: 146

من روما على رأس قوته الصغيرة -المكونة من أربعمائة فارس، ومن حرسه السويسري، وأربعة كرادلة. وعين جويدو يلدو، دوق أربينو الذي عاد إلى حكمها، قائداً عسكرياً للجيوش البابوية، ولكن البابا سار على رأسها بنفسه- وكان ذلك منظراً لم تره روما من عدة قرون. وظن جيان باولو بجليوني أنه لا يستطيع هزيمة هذا الحلف، فجاء إلى أرفيتو، واستسلم للبابا، وطلب إليه المغفرة. وزمجر الإسكندر قائلا:"إني أغفر لك خطاياك الجسدية ولكني سأعاقبك عليها جميعا حين ترتكب أول خطيئة صغرى"(7).

واعتمد يوليوس على سلطته الدينية فدخل بروجيا بحرس قليل العدد، وكان في استطاعة بجليوني أن يأمر رجاله بالقبض عليه وإغلاق أبواب المدينة وهو في داخلها، ولكنه لم يجرؤ على هذا العمل. ودهش مكيفلي، وكان وقتئذ قريباً منه، إذ أضاع بجليوني هذه الفرصة التي كان يستطيع فيها أن "يعمل عملاً خالد الذكر؛ فقد كان في وسعه أن يكون أول من يظهر للقساوسة عدم احترام الناس لمن يحيا حياتهم ويحكم مثل حكمهم، وكان في مقدوره أن يضرب ضربة تبلغ من العظمة حدا يرجح ما فيها من إثم، وكل ما قد يعقبها من أخطار"(8). وكان مكيفلي يعارض في أن تكون للبابوية سلطة زمنية كما كان يعارض في ذلك معظم الإيطاليين، ويعارض كذلك البابوات الذين كانوا ملوكاً. ولكن بجليوني كان أيضاً يخشى على حياته ويعرف قيمها، ولعله كان يرى أن نجاة روحه أجل شأناً من شهرته بعد موته.

ولم يقض يوليوس في بروجيا إلا وقتاً قصيراً، فقد كانت بولونيا هدفه الحقيقي؛ ولهذا قاد جيشه الصغير في الطرق الوعرة واجتاز به جبال الأبنين إلى سيزينيا، ثم انقض على بولونيا من الشرق؛ بينما كان الفرنسيون يهاجمونها من الغرب. وأيد يوليوس هذا الهجوم بمرسوم بابوي يقضي بحرمان آل بنتيفجلي وأشياعهم، ويعرض فيه الغفران الشامل على كل من

ص: 147

يقتل أي واحد منهم. وكان هذا طرازاً جديداً من الحرب، ولم يجد معه بنتيفجلي بدا من الفرار، ودخل يوليوس المدينة في هودج محمول على أكتاف الرجال، وحياه أهلها تحية محررهم من الظلم والاستبداد (11 نوفمبر سنة 1506). فلما تم له ذلك أمر مايكل أنجيلو بأن يقيم له تمثالاً في مدخل سان بيترونيو San Petronio، وعاد بعدئذ إلى روما وسار في شوارعها راكباً عربة النصر وحياه أهلها تحية قيصر المنتصر.

ولكن البندقية كانت لا تزال تمتلك فائندسا، ورافنا، وريميني؛ وكانت عاجزة عن أن تقدر روح البابا الحربية. وجازف يوليوس بإيطاليا في سبيل الاستيلاء على رومانيا، فاستنجد بفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا لإخضاع البندقية ملكة البحر الأدرياوي. وسنرى فيما بعد استجابتها في حلف كمبريه (1508) لهذه الدعوة، وأنهم لم يحرصوا على مساعدة يوليوس بل كانوا يحرصون على تقطيع أوصال إيطاليا؛ أما يوليوس فإنه بانضمامه إلى تلك الدول قد غلب غضبه الحق من البندقية على حبه إيطاليا. وبينما كان حلفاؤه يهاجمون البندقية بجيوشهم وجه إليها يوليوس مرسوماً بالحرمان واللعنة يعد من أصرح المراسيم وأقواها في التاريخ كله. وكتب النصر ليوليوس، وردّت البندقية المدن المختلسة إلى الكنيسة، وقبلت أشد الشروط إذلالاً لها، وتلقى مندوبوها غفران البابا ومحو اللعنة في موكب طويل آلم أرجلهم وركبهم أشد الألم (1510). وندم يوليوس في ذلك الوقت على استنجاده بالفرنسيين، فبدل سياسته معهم وأخذ يعمل على طردهم من إيطاليا، وأقنع نفسه بأن الله يبدل سياسته المقدسة تبعاً لهذا. ولما أن أبلغه السفير الفرنسي نبأ انتصار الفرنسيين على البنادقة، وأضاف إلى هذا النبأ أن "هذه إرادة الله" رد عليه يوليوس مغضباً بقوله "إن هذه إرادة الشيطان".

ثم حول نظراته العسكرية نحو فيرارا. فها هي ذي إقطاعية بابوية لا ينكر

ص: 148

أحد تبعيتها له، ولكن الإسكندر اكتفى منها بعد خطبة لكريدسيا بجزية رمزية. يضاف إلى هذا أن الدوق ألفنسو، بعد أن انضم إلى فرنسا في الحرب ضد البندقية بناء على طلب البابا، رفض أن يعقد الصلح معها بناء على طلب البابا نفسه، وبقى حليفاً لفرنسا. ولهذا صمم يوليوس على أن تصبح فيرارا ولاية بابوية بقضها وقضيضها. وبدأ حملته بمرسوم بابوي بحرمانها من حظيرة الكنيسة (1501)، وبهذا المرسوم أصبح صهر أحد البابوات ابناً جائراً ومصدر هلاك ودمار في نظر بابا آخر. واستولى يوليوس على مودينا دون عناء كبير، وبمساعدة البندقية. وبينما كان جنود البابا يستريحون في المدينة ارتكب هو خطأ موبقاً بذهابه إلى بولونيا؛ حيث وردت إليه الأنباء على حين غفلة بأن جيشاً فرنسياً يقف على أبوابها بأوامر تقضي بمساعدة ألفنسو. ولم يكن في وسع الجيوش البابوية أن تقوم بمساعدته لبعدها وقتئذ عن المدينة، ولم يكن في داخل بولونيا أكثر من تسعمائة جندي، كما أنه لم يكن من المستطاع الاعتماد على مقاومة أهل المدينة للغزاة الفرنسيين لأن المندوب البابوي الكردنال ألدوزي Alidosi كان قد سامهم الخسف. وتملك اليأس فترة من الوقت يوليوس وكان وقتئذ مصاباً بالحمى وطريح الفراش، ففكر في أن يتجرع السم (10)، وأوشك أن يوقع مع فرنسا صلحاً مذلاً، وإذا المدد يصل إليه من إسبانيا والبندقية. وارتد الفرنسيون، وبعث يوليوس وراءهم بمنشور مقذع يحرمهم فرداً وجماعة من حظيرة الدين.

وكانت فيرارا في ذلك الوقت قد سلحت نفسها تسليحاً قوياً رأى يوليوس معه أن قواه لا تكفي للاستيلاء عليها. غير أنه لم يشأ أن يحرم وقتئذ من مجده العسكري فسار بنفسه على رأس جيش إلى حصار ميراندولا Mirandola، وهي مركز أمامي من مراكز دوقية فيرارا. (1511). ومع أنه كان وقتئذ في السادسة والثمانين من عمره، فقد سار فوق الثلج الكثيف الطبقات، وخالف السوابق الماضية بأن خاض غمار الحرب في

ص: 149

الشتاء، ورأس المجالس العسكرية الفنية، ووجه العمليات الحربية ومواقع المدفعية، وفتش على جنده بنفسه، وأولع بحياة الجندية، ولم يسمح لأحد بأن يفوقه في الشتائم والنكات العسكرية (11). وكان الجنود أحياناً يسخرون منه ويضحكون، ولكنهم كانوا في الأغلب الأعم يثنون على بسالته. ولما أن قتلت نيران العدو جندياً كان بجانبه، انتقل إلى موضع آخر من الميدان، ولما أن وصلت قذائف مدفعية ميراندولا إلى هذا الموضع الثاني، عاد إلى موضع الأول، وهز كتفيه المقوستين استخفافاً بخطر الموت. واستسلمت ميراندولا بعد مقاومة دامت أسبوعين، وأمر البابا بأن يعدم جميع من يوجد فيها من الجنود الفرنسيين؛ ولعل الطرفين قد دبرا معاً أن لا يوجد فيها أحد من أولئك الجنود. وحمى البابا المدينة من النهب، وفضل أن يطعم جيشه ويموله بأن يبيع ثماني كردناليات جديدة (12).

وذهب إلى بولونيا ينشد الراحة، ولكنه ما لبث أن حاصره فيها الفرنسيون مرة أخرى؛ ففر منها إلى ريميني، وأعاد الفرنسيون آل بنتيفجلي إلى الحكم. ورحب الأهلون بعودة حكامهم الظالمين المطرودين، ودمروا القصر الحصين الذي أنشأه يوليوس من قبل، وحطموا التمثال الذي أقامه له مايكل أنجيلو، وباعوا قطعه البرونزية إلى ألفنسوا دوق فيرارا. وصب هذا الدوق الصارم ذلك البرونز وصنع منه مدفعاً سماه لاجويليا تكريماً منه للبابا. ورماه البابا بقرار آخر حرم فيه كل من اشترك في القضاء على السلة البابوية في بولونيا. ورد الجنود الفرنسيون على هذا بالاستيلاء على ميرندولا من جديد؛ ووجد يوليوس في ريميني وثيقة موقعاً عليها من الكرادلة ملصقة بباب كنيسة سان فرانتشيسكو، تدعو إلى عقد مجلس عام في مدينة بيزا في أول سبتمبر من عام 1511، لبحث مسلك البابا.

وعاد يوليوس إلى روما محطم الجسم، تكتنفه المصائب من كل جانب ولكنه لم تذله الهزائم. وفي هذا يقول جوتشيارديني:

ص: 150

لقد وجد البابا نفسه وقد خدعته آماله الكاذبة أشد الخداع؛ ولكنه كان يبدو في مظهره شبيهاً بما وصف به كتاب الخرافات القديمة أناتيوس Anataeus الذي كان إذا لمس الأرض كلما قطع أوصاله البطل هرقل عادت إليه قواه ومِرَّته. فقد كان للشدائد على البابا هذا الأثر نفسه؛ ذلك أنه حين كان يبدو في أشد حالات الانقباض واليأس، لا يلبث أن يستعيد نشاطه، ويعود مرة أخرى أصلب مما كان عوداً وأكثر مما كان ثباتاً وأقوى إصراراً وعزيمة.

وأراد أن يقوم بحركة مضادة لحركة الكرادلة المتذمرين، فدعا إلى عقد مجلس عام في قصر لاتران في التاسع عشر من إبريل سنة 1512. وظل يكدح ليلاً ونهاراً لينشئ حلفاً ضد فرنسا. وأوشك أن ينجح في غرضه وإذا هو يصاب بحمى شديدة الوطأة (17 أغسطس سنة 1511). وظل بين الحياة والموت ثلاثة أيام كاملة، حتى إذا كان اليوم الحادي والعشرون من شهر أغسطس أغمي عليه إغماءه بلغ من طولها أن استعد الكرادلة لعقد مجمع مقدس لاختيار خلفه. ودعا بمبيو كولنا Pompeo Colonna أسقف ريتي Rieti في الوقت عينه أهل روما إلى الثورة على حكم البابا مدينتهم وإعادة جمهورية ريندسو Rienzo. ولكن البابا أفاق من الإغماءه في اليوم الثاني والعشرين، وتغلب على أطبائه، وشرب جرعة كبيرة من النبيذ؛ ولشد ما أدهش جميع الناس، وخيب ظن الكثيرين منهم، بشفائه من مرضه؛ وزالت الحركة الجمهورية وعفت آثارها من روما. وأعلن يوليوس في الخامس من أكتوبر أنه أنشأ حلفاً مقدساً من البابوية، والبندقية، وإسبانيا، وفي السابع عشر من نوفمبر انضم إليه هنري الثامن ممثلاً إنجلترا. فلما حصل على هذا التأييد، جرد الكرادلة الذين دعوا إلى مجلس بيزا من مناصبهم، وحرم اجتماع هذا المجلس؛ ولما أذن مجلس السيادة في فلورنس بناء على أمر ملك فرنسا بأن يجتمع المجلس المحرم في

ص: 151

بيزا؛ أعلن يوليوس الحرب على فلورنس وأخذ يعمل في الخفاء لعودة آل ميديتشي. واجتمع في بيزا سبعة وعشرون من رجال الكنيسة وممثلون لملك فرنسا، وبعض الجامعات الفرنسية، (5 نوفمبر 1911)؛ ولكن أهل المدينة غضبوا غضبة تنذر المجتمعين بالخطر، ولم تكن فلورنس نفسها راضية عن هذا العمل، فاضطر المجلس للانتقال إلى ميلان (12 نوفمبر) حيث كان في مقدور المؤتمرين المنشقين أن يتجملوا وهم آمنون سخرية الشعب تحت حماية الجنود الفرنسيين.

ولما كسب يوليوس هذه المعركة، معركة الأساقفة، عاد مرة أخرى إلى حرب السلاح، واستعد لها بأن ابتاع التحالف مع السويسريين الذين سيروا جيشاً ليهاجم الفرنسيين في ميلان؛ ولكن هذا الهجوم أخفق، وعاد السويسريون إلى بلادهم، فلما حل عيد الفصح في الحادي عشر من إبريل عام 1512 أوقع الفرنسيون بقيادة جاستن ده فوا Gaston de foix وبمعونة مدفعية ألفنسو القوية هزيمة منكرة بجيش حلف رافنا المختلط، وانتقلت رومانيا كلها تقريباً تحت سيطرة فرنسا. وتوسل كرادة يوليوس إليه أن يعقد الصلح، ولكنه أبى؛ واحتفل المجلس المنعقد في ميلان بهذا النصر المؤزر بأن أعلن خلع البابا؛ وضحك يوليوس من هذا الإعلان. وفي اليوم الثاني من شهر مايو حملوه في هودج إلى قصر لاتران، حيث افتتح مجلس لاتران الخامس، ولم يلبث إلا قليلاً حتى تركه يتطور تطوره البطيء، وأسرع هو إلى ميدان القتال.

وفي اليوم السابع عشر من شهر مايو أعلن أن ألمانيا قد انضمت إلى الحلف المقدس ضد فرنسا. واشترى يوليوس السويسريين مرة أخرى فدخلوا إيطاليا عن طريق التيرول Tirol وزحفوا ليلقوا جيشاً فرنسياً أفسد نظامه النصر وموت قائده. وكان الزاحفون أكبر عدداً من الفرنسيين فترك هؤلاء رافنا، وبولونيا، وميلان نفسها، وانسحب الكرادلة المنشقون إلى

ص: 152

فرنسا؛ وفر آل بنتيفجلي مرة أخرى، وأصبح يوليوس سيد بولونيا وإقليم رومانيا؛ وانتهز هذه الفرصة للاستيلاء على بارما، وبياتشندسا، وكان يأمل الآن أن يستولي على فيرارا التي لم يعد في وسعها أن تعتمد على مساعدة تأتيها من فرنسا. وعرض ألفنسو أن يأتي إلى روما ويطلب الغفران وشروط الصلح إذا أمنه البابا على حياته في الذهاب والعودة؛ وأجابه يوليوس إلى طلبه، وجاء ألفنسو، وتفضل البابا فغفر له؛ ولكنه لما رفض أن يستبدل بفيرارا بلدة أستي Asti الصغيرة، أعلن يوليوس أن ما وعده به من الأمان غير قائم، وأنذره بالسجن والاعتقال. وأحس فبريدسيو كولنا Fabrizio Colonna الذي كان مكلفاً بحراسة الدوق في مجيئه أن شرفه قد مس، فساعد ألفنسو على الهرب من رومة؛ فعاد إلى فيرارا بعد أن قاسى أشد الأخطار في الطريق، وفيها عاد مرة أخرى يسلح حصونه وأسواره.

وفي ذلك الحين أخذ يضمحل ما كان يتمتع به البابا المحارب من نشاط جبار، فآوى إلى فراش المرض في أواخر شهر يناير من عام 1513 مصاباً بعدة أدواء. وقال الثرثارون النمامون الذين لا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلوبهم إن مرضه هو النتيجة التي تعقب "الداء الفرنسي"، وقال غيرهم إن منشأه الإفراط في الطعام والشراب (14): ولما لم يفلح كل علاج في تخفيف وطأة الحمى، استسلم للموت، وأصدر التعليمات التي تتبع في موكب جنازته، وحث مجلس لاتران على أن يواصل عمله دون انقطاع، واعترف بأنه من أشد الآثمين، وودع الكرادلة، ومات شجاعاً كما عاش شجاعاً (20 فبراير 1513). وحزنت عليه روما بأجمعها، واحتشد لتوديع جثمانه وتقبيل قدميه جمع كبير لم يسبق له مثيل.

وبعد فليس في وسعنا أن نقدر منزلته في التاريخ إلا بعد أن ندرسه بوصفه محرراً لإيطاليا، ومشيداً لكنيسة القديس بطرس؛ وأكبر نصير للفن عرفته البابوية في تاريخها كله. غير أن معاصريه كانوا على حق حين

ص: 153

نظروا إليه على أنه حاكم ومحارب أولاً وقبل كل شيء. فقد كانوا يخشون نشاطه الجبار، واندفاعه، ولعناته وغضبته الشديدة التي يبدو أنها إذا اندلع لهيبها لا تخمد أبداً. ولكنهم كانوا يشعرون أن وراء عنفه روحاً في وسعها أن ترحم وتحب

(1)

. ولقد رأوه يدافع عن الولايات البابوية بقسوة وشدة غير مقيدة بمبدأ أو ضمير كما كان آل بورجيا يفعلون، ولكنه لم يكن يسعى إلى عظمة أسرته؛ وكان الناس جميعاً، إذا استثنينا أعداؤه وحدهم، يمجدون أهدافه، حتى في الوقت الذي كانوا يرتجفون فيه من ألفاظه، ويأسفون لما يلجأ إليه من وسائل. ولم يحسن يوليوس حكم الولايات التي استردها كما كان يحسنه سيزاري بورجيا، لأن ولعه الشديد بالحرب كان يحول بينه وبين إصلاح أداة الحكم؛ ولكن فتوحه كانت فتوح باقية على مدى الزمان، حتى لقد بقيت الولايات البابوية من ذلك الحين موالية للكنيسة إلى أن قضت ثورة عام 1870 على سلطة الباباوات الزمنية. ولقد أخطأ يوليوس - كما أخطأت البندقية، وكما أخطأ لدوفيكو والإسكندر، في استدعاء الجيوش الأجنبية إلى إيطاليا، ولكنه أفلح في ما لم يفلح فيه سابقوه ولاحقوه وهو تطهير إيطاليا من تلك القوات بعد أن أدت مهمتها. ولعله قد أضعف إيطاليا حين أنجاها من أعدائها، وعلم "البرابرة" أن في وسعهم أن يحاربوا حروبهم في سهول لمباردي ذات الشمس الساطعة. ولقد كانت في عظمته عناصر من القسوة، وكانت الرغبة في الكسب هي التي دفعته إلى مهاجمة فيرارا والاستيلاء على بياتشندسا وبارما. ولم يكن يحلم بالاحتفاظ بأملاك الكنيسة المشروعة فحسب، بل كان يحلم فوق ذلك بأن يجعل نفسه سيد أوروبا، والآمر المطاع للملوك. وقد شهر به جوتشيارديني لأنه "جاء للكرسي الرسولي بدولة استخدم فيها قوة السلاح، وسفك فيها دماء المسيحيين، بدل أن يعنى

(1)

أنظر حبه الشديد لفدريجو ابن إزبلادست، وقد بلغ من هذا الحب أن المغتابين لم يستنكفوا أن يفسروه أقذر تفسير.

ص: 154

بأن يضرب للناس مثلاً في الحياة الصالحة" (16). ولكنا يصعب علينا أن ننتظر من يوليوس، في زمانه ومكانه، أن يتخلى عن الولايات البابوية للبندقية وغيرها من المعتدين، وأن يجازف بجعل الكنيسة تعتمد على الأسس الروحية دون غيرها، وذلك في الوقت الذي لم يكن فيه كل العالم الذي حوله يعترف بحق ما إلا للذين يسلحون أنفسهم بالقوة المادية. لقد كان هو ما يجب أن يكونه في ظروف وقته وفي الجو الذي كان يعيش فيه، ولقد غفرت له الأيام ما ارتكبه من ذنوب.

ص: 155

الفصل الثاني

‌العمارة الرومانية

1492 -

1513

كان تشجيع الفن أبقى أعمال يوليوس؛ ذلك أن حاضرة النهضة انتقلت في أيامه من فلورنس إلى روما، وفيها وصلت النهضة في الفن إلى ذروتها في الأدب والعلم. ولم يكن يوليوس كثير العناية بالأدب، لأن الأدب كان أهدأ وأكثر أنوثة من أن يوائم مزاجه، أما الضخامة في الفن فكانت توائم فطرته وحياته، ولهذا أخضع للعمارة كل ما عداها من الفنون، وترك وراءه كنيسة جديدة للقديس بطرس لتكون دليلاً خالداً على روحه، ورمزاً للدين الذي أنجى سلطانه الزمني. وإن من عجائب النهضة ومن أسباب الإصلاح الديني أن يمد يوليوس بالمال برامنتي، ومايكل أنجيلو ورفائيل ومائة غيرهم من الفنانين، وأن يجد المال اللازم لأكثر من عشر حروب، ثم يترك وراءه في الخزانة البابوية مائة ألف فلورين.

ولم يستقدم رجل غيره إلى روما مثل هذا العدد الذي استقدمه هو من الفنانين؛ فقد كان هو مثلاً الذي استدعى جويوم ده مارسلات Guillaume de Marcillat من فرنسا ليركب النوافذ الزجاجية الملونة لكنيسة سانتا ماريا دل بوبولو. وكان مما يمتاز به تفكيره وإدراكه أنه حاول التوفيق بين المسيحية والوثنية في الفن، كما حاول ذلك نقولاس الخامس في الأدب؛ وهل مصورات رفائيل إلا تناسق مقرر بين الأساطير والفلسفة القديمتين، وبين اللاهوت والشعر العبريين، وبين العاطفة والعقيدة المسيحيتين؟ وأي شيء يمكن أن يمثل اتحاد الفن والشعور الوثنيين والمسيحيين غير الباب والقبة، والعمد الداخلية، والتماثيل والصور الملونة، ومقابر كنيسة

ص: 156

القديس بطرس؟ وحذا حذو البابا كبار رجال الدين والأعيان، ورجال المصارف والتجار الذين امتلأت بهم روما بعد أن زاد فيها الثراء، فشادوا القصور تكاد تضارع في فخامتها قصور الأباطرة العظام، ينافس بها بعضهم بعضاً في الثراء، وشقت شوارع رئيسية واسعة خلال المدينة وفيما كان عليه تخطيطها في العصور الوسطى من فوضى واضطراب، وفتحت مئات من الشوارع الفرعية الجديدة لا يزال واحد منها يحمل اسم البابا العظيم،، وقصارى القول أن روما القديمة قامت من بين خرائبها وأنقاضها وأضحت من جديد موطناً لقيصر من القياصرة العظام.

وإذا ما استثنينا كنيسة القديس بطرس كان لنا أن نقول إن ذلك العصر كان في روما عصر القصور لا عصر الكنائس. وكانت هذه القصور من الخارج بسيطة متماثلة في مظهرها! فكانت واجهة القصر على شكل مستطيل كبير مقام من الآجر، أو الحجر، أو الجص، وكان مدخله من الحجر يزين في العادة برسوم، وفي كل طابق صفوف متماثلة من النوافذ، من فوقها قوصرات مثلثة إهليجية الشكل، وتكاد تعلوها على الدوام شرفة تكون رشاقة شكلها الخارجي محكاً خاصاً للمهندس وموضعاً لعنايته. وكان أصحاب الثراء الموفور يخفون وراء الواجهة المتواضعة ما لا حصر له من الزخرف والأبهة التي قلما تقع عليها عين الشعب الغيور الحاسدة: فقد كان من خلف هذه الواجهة بئر مركزية تحيط بها أو تفصلها عما حولها درج عريضة من الرخام؛ وكانت في الطابق الأرضي حجرات بسيطة تستخدم لإنجاز الأعمال أو خزن المتاع، وفي الطابق الأول -أو الثاني كما يسميه الأمريكيون- حجرات الاستقبال والولائم الرحبة، ومعارض الفن، أرضها من الرخام أو القرميد الصلب الملون، وفيها الأثاث، والطنافس، والأنسجة البديعة في مادتها وأشكالها، والجدران تقويها العمد المربوعة؛ والسقف ذات اللوحات المزخرفة الغائرة مستديرة، أو مثلثة، أو ماسية الشكل، أو مربعة،

ص: 157

وعلى الجدران والسقف صور من صنع الفنانين الذائعي الصيت، تمثل في العادة موضوعات وثنية، لأن الطراز الحديث في تلك الأيام كان يقضي بأن يحيا السادة المسيحيون، حتى رجال الدين منهم، وسط مناظر مستقاة من الأساطير القديمة. وفي الأطباق العليا كانت الحجرات الخاصة بالسادة والسيدات، والخدم أصحاب الأزياء الخاصة، والأطفال والمراضع والمربيات، والمعلمين الخصوصيين والمعلمات، والوصيفات. وكان للكثيرين من الناس من الثراء ما يمكنهم من أن يتخذوا لهم فضلاً عن تلك القصور بيوتاً خلوية في الريف أو الضواحي يلجأون إليها من صخب المدينة أو حر الصيف. وقد تخفي هذه البيوت الريفية الكثير من الجلال، والزخرف، وأسباب النعيم، والروائع الفنية التي أخرجتها أيدي رفائيل، وبيروتشي، وجويليورومانو، وسباستيانو دل بيمبو Sebastino del Piombo

وقد كانت هندسة القصر والبيت الريفي السالفة الذكر فناً أنانياً في كثير من نواحيه؛ تظهر فيه الثروة المنتزعة من العمال الذين لا تقع عليهم عين الثري، ولا يحصيهم عد، ومن الأراضي القاصية، وتفخر بالزخرف الزاهي الذي تستمتع به أقلية من أصحاب الثراء. ولقد كانت بلاد اليونان القديمة وأوربا في العصور الوسطى أنبل روحاً وأرق طبعاً في هذه الناحية. ذلك أن هذه أو تلك لم تكن تنفق ثروتها في الترف والملاذ الخاصة، بل كانت تنفقها في تشييد الهياكل والكنائس التي كانت ملك الناس جميعاً ومصدر فخرهم وإلهامهم، وكانت بيوت الشعب كما كانت بيوت الله.

وكان اثنان من بين المهندسين المعماريين في روما في عهد الإسكندر السادس أخوين، وكان ثالث ابن أخ لهما. وأحد هذين الأخوين هو جوليانوا دا سنجلو Guiliano da Sangallo، الذي بدأ حياته مهندساً عسكرياً في جيش فلورنس، ثم انتقل إلى خدمة فيرانتي صاحب نابلي؛ وأصبح صديقاً لجوليانو دلا روفيري، في الأيام الأولى من كردناليته.

ص: 158

وحول جوليانو المهندس لجوليانو الكردنال دير جرتا فيراتا Grottaferrata إلى حصن حصين؛ وهو الذي صمم السقف ذا اللوحات الغائرة المزخرفة في كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وكفتها بأول ما جيء به من الذهب من القارة الأمريكية. ورافق الفنان الكردينال دلا روفيري في منفاه، وشاد له قصراً في سافونا، وانتقل معه إلى فرنسا، ثم عاد إلى روما لما اعتلى نصيره آخر الأمر عرش البابوية. وطلب إليه يوليوس أن يعرض عليه رسوماً لكنيسة القديس بطرس الجديدة؛ فلما فضل البابا عليها رسوم برامنتي، وجه المندس الشيخ اللوم إلى البابا، ولكن يوليوس كان يعرف ما يريده هو لا ما يريده له غيره. وعاش سنجلو بعد أن مات برامنتي ويوليوس، وعيّن فيما بعد مشرفاً على أعمال رفائيل ومساعداً له في بناء كنيسة القديس بطرس، ولكنه مات بعد عامين من تعيينه في ذلك المنصب. وكان أخوه الأصغر دا سنجلو قد قدم في هذه الأثناء من فلورنس ليكون مهندساً معمارياً وعسكرياً للإسكندر السادس، وشاد ليوليوس كنيسة سانتا ماريا دي لوريتو Santa Maria di Loreto ذات الروعة والفخامة، وشرع كذلك أنطونيو بكوني دا سنجلو Antonio Picconi da Sangallo ابن أخيهما في عام 1512 في بناء أفخم قصور النهضة على الإطلاق وهو قصر فرنيزي Pallazo Farnese.

غير أن أعظم الأسماء كلها في عمارة ذلك العصر هو اسم دوناتو برامنتي Donato Bramante. وكان قد بلغ السادسة والخمسين من عمره حين قدم إلى روما من ميلان (1499)، ولكن دراسته للخرائب بروما ألهبت في صدره حماسة الشباب وأثارت فيه رغبة قوية في أن يطبق الأشكال الرومانية القديمة على مباني النهضة، وقد بدأ هذا التطبيق في بناء دير للرهبان الفرنسيس قريب من سان بيترو San Pietro في منتوريا Montoria إذ خطط معبداً صغيراً Tempietto ذا عمد وسقف مستدير شبيه كل الشبه بالمعابد الرومانية القديمة إلى حد دعا المهندسين إلى دراسته وقياس أبعاده، كأنه آية من آيات الفن

ص: 159

القديم كشفت حديثاً. وانتقل برامنتي من هذه البداية إلى عدد من الروائع الفنية الأخرى: منها الطريق المقنطر المسقوف في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace، والبهو الظريف في سان داماسو

وغمره يوليوس بالمطالب، سواء منها ما يختص بالعمارة وما يختص بالهندسة العسكرية. فأنشأ طريق جويليا Via Guilia، وأتم قصر بلفدير، وبدأ الشرفة المكشوفة في قصر الفاتيكان، ووضع رسماً جديداً لكنيسة القديس بطرس. وقد بلغ شغفه بعمله درجة لم يكن يعنى معها بالمال، حتى اضطر يوليوس أن يأمره بأن يقبل مناصب تدر عليه إيراداً يفي بنفقاته (17). لكن بعض منافسيه اتهموه باختلاس أموال البابا، وباستخدام المواد الرخيصة في مبانيه (18). أما غيرهم فقد وصفوه بأنه شخص مرح كريم الطبع، جعل بيته مقاماً مفضلاً لبروجينو، وسنيوري، وبنتورتشيو، ورفائيل وغيرهم من أهل الفن في روما.

وكان قصر بلفدير قصراً صيفياً مشيداً للبابا إنوسنت الثامن، ويقوم على ربوة تبعد نحو مائة ميل عن سائر مباني الفاتيكان. وقد اشتق اسمه من البل فدير bel vedere أي المنظر الجميل الذي يمتد أمامه، وتسمت باسمه بعدئذ عدة تماثيل وضعت في حجراته أو في فنائه. وكان يوليوس من زمن طويل مولعاً بجمع روائع الفن القديم، وكان أثمن ما يملكه منها تمثال لأبلو كشف في أثناء بابوية إنوسنت الثامن، فلما ارتقى عرش البابوية وضعه في فناء البلفدير، وأصبح أبلو بلفدير من أشهر تماثيل العالم على الإطلاق. وأنشأ رامنتي للقصر واجهة جديدة وفناء جديد ذا حديقة، ووضع خطة لتوصيله بقصر الفاتيكان نفسه بطائفة من المباني والحدائق الجميلة، ولكنه هو ويوليوس عاجلتهما المنية قبل أن تنفذ هذه الخطة.

وإذا ما عزونا سبب النهضة بوجه عام إلى بيع صكوك الغفران لتبني بالمال الذي تجمع من هذا البيع كنيسة القديس بطرس، كانت أهم حادثة

ص: 160

في ولاية يوليوس هي هدم كنيسة القديس بطرس القديمة وبدء الكنيسة الجديدة. وتقول الرواية المأثورة أن الكنيسة القديمة قد بناها البابا سلفستر Sylvester الأول (326)، فوق قبر الرسول بطرس بالقرب من حلبة نيرون. وفي هذه الكنيسة توج كثير من الأباطرة من أيام شارلمان وما بعدها، وكثير من البابوات. وقد وسعت رقعتها المرة بعد المرة حتى كانت في القرن الخامس عشر باسلقا رحبة ذات صحن وجناحين مزدوجين تحيط بهما كنائس، وأمكنة للصلاة، وأديرة. ولكنها ظهر عليها قبيل أيام نقولاس الخامس أثر الأحد عشر من القرون التي مرت بها، فظهرت شقوق طويلة في الجدران، وخشي الناس أن تنهار في أي وقت من الأوقات، وقد تنهار على من فيها من المصلين. ومن أجل هذا كلف برناردو رسيلينو Bernardo Rosellino وليون باتستا ألبيرتي Leon Battista Alberti في عام 1452 بأن يقويا هذا الصرح بإنشاء جدران له جديدة. وما كاد العمل يبدأ حتى توفي نقولاس، ووقف من جاء بعده من البابوات العمل فيها لحاجتهم إلى المال في الحروب الصليبية. فلما كان عام 1505 صمم يوليوس الثاني، بعد أن فحص عدة رسوم مختلفة ورفضها جميعاً، أن يهدم الكنيسة القديمة ويبني ضريحاً جديداً كله فوق المكان الذي قيل إنه قبر القديس بطرس. ولهذا دعا عدداً من المهندسين أن يعرضوا عليه رسوماً لها. وفاز برامنتي وكان مشروعه يقضي ببناء باسلقا جديدة على شكل صليب يوناني (ذي ذراعين متساويتين في الطول)، وأن يتوج ملتقى الجناحين الفرعيين بقبة ضخمة؛ وقال بالعبارة الذائعة الصيت التي تعزى إليه إنه سيقيم قبة الباتثيون على باسلقا قسطنطين. وكان برامنتي يعتزم أن يمتد الصرح الفخم على 28. 900 ياردة مربعة -أي أكثر من المساحة التي تشغلها كنيسة القديس بطرس في هذه الأيام بأحد عشر ألفاً وستمائة من الياردات المربعة. وبدئ في حفر الأساس في شهر إبريل من عام 1506، وفي 11 إبريل نزل

ص: 161

يوليوس، وكان وقتئذ في الثالثة والستين من عمره، على سلم طويل مهتز من الحبال إلى عمق كبير ليضع حجر الكنيسة الأساسي. وسار العمل ببطيء لأن يوليوس أخذ يزداد انهماكاً في الحرب وتزداد نفقاته عليها. ثم توفي برامنتي في عام 1514، وهو لا يعرف لحسن حظه إن مشروعه لن ينفذ.

وصدمت مشاعر كثيرين من المسيحيين الصالحين حين فكروا في أن الكنيسة الكبرى القديمة المعظمة سوف تهدم. وعارضت كثرة الكرادلة في هدمها أشد المعارضة، وشكا كثيرون من الفنانين من أن برامنتي قد حطم في غير مبالاة ما كان في صحن الكنيسة القديم من عمد وتيجان ظريفة، وقالوا إنه لو بذل أكثر مما بذل من عناية لاستطاع أن يحتفظ بها سليمة. ونشر أحد الكتاب فيه هجاء بعد ثلاث سنين من موت المهندس قال إن القديس عنف برامنتي أشد التعنيف حين وصل إلى باب كنيسته، وإنه منع من دخول الجنة. ويزيد الهجاء على ذلك قوله: ولكن برامنتي لم يعجبه نظام الجنة مطلقاً، أو الطريق الشديد الانحدار الموصل إليها وقال:"سأنشئ طريقاً جديداً، واسعاً، مريحاً، تستطيع الأرواح الضعيفة الطاعنة في السن أن تسير فيه على ظهور الخيل، ثم أنشئ بعد ذلك جنة جديدة تحوي مساكن مبهجة للصالحين الأبرار". فلما رفض بطرس هذا العرض طلب برامنتي لأن ينزل إلى جهنم، ويبني فيها جحيماً خيراً من جحيمها القديم، لأن هذا الجحيم قد طال به العهد فكاد بلا شك يحترق عن آخره. ولكن بطرس عاد فسأله:"قل لي بحق، ما الذي دعاك إلى هدم كنيستي؟ " وحاول برامنتي أن يهدئ من غضبه فقال: "إن البابا ليو سيشيد لك كنيسة جديدة"، فرد عليه الرسول بقوله:"عليك إذن أن تنتظر عند باب الجنة حتى يتم ذلك العمل"(19).

وتم العمل فعلاً في عام 1626.

ص: 162

الفصل الثالث

‌رفائيل الشاب

‌1 - نشأته

لما مات برامنتي عين ليو العاشر خلفاً له في منصب المشرف على العمل في كنيسة القديس بطرس الجديدة مصوراً شاباً في الحادية والثلاثين من عمره، ينوء لصغر سنه بعبء ذلك العمل الضخم، وهو إقامة قبة برامنتي، ولكنه أصبح أسعد الفنانين في التاريخ كله، وأعظمهم نجاحاً، وأقربهم إلى القلوب.

وبدأ الحظ يبسم له من يوم أن ولد لجيوفني ده سانتي Giovanni de' Santi حامل لواء المصورين في أربينو في ذلك الوقت. وقد بقيت لدينا صور من عمل جيوفني، وهي توحي بأنه ذو ذكاء عادي؛ ولكنها تدل على أن رفائيل- وهو اسم أجمل الملائكة جميعاً- نشأ محباً أعظم الحب للتصوير؛ وكثيراً ما كان بعض الفنانين يزورون جيوفني ويقيمون في منزله. وكان جيوفني ملماً بفن زمانه إلماماً يمكنه أن يكتب في تاريخ أربينو المقفى كتابة تنم عن العقل والذكاء في أكثر من عشرة من المصورين والمثالين الإيطاليين وأمثالهم من الفلمنكيين. وتوفى جيوفني ولما يتجاوز رفائيل السابعة من عمره، ولكن يلوح أن الأب كان قد بدأ يغرس حب الفن في نفس ولده. وأكبر الظن أن تيموتيو فيتي Timoteo Viti، وكان قد عاد من بولونيا إلى أربينو في عام 1405 بعد أن درس مع فرانتشيا Francia، واصل تعليم رفائيل، وجاء إليه بما كان قد أخذه عن فرانتشيا، وتورا، وكستا. ونشأ الغلام في تلك الأثناء في محيط من

ص: 163

يستطيعون الاتصال بالبلاط؛ وكان المجتمع الرقيق الظريف الذي وصفه كستجليوني بعدئذ في كتابه المسمى رجل الحاشية قد أخذ ينشر بين الطبقات المتعلمة في أربينو دماثة الخلق، ورقة الأدب، والحديث، وهي الصفات التي أظهرها رفائيل بفنه وحياته. وفي المتحف الأشمولي Ashmolean Museum بأكسفورد صورة عجيبة تعزى إلى رفائيل في الفترة الواقعة بين عامي 1497 و 1500، وتظن الرواية المتواترة أنها تمثله هو. ووجهه في هذه الصورة يكاد يكون وجه أنثى، أما عيناه فرقيقتان كعيون الشعراء. وهذه هي المعارف التي سنلتقي بها مرة أخرى فيما بعد، وسنلتقي بها أكثر قتاماً وفيها القليل من القلق والبلبال، في الصورة الجذابة التي رسمها لنفسه (في عام 1506 في الغالب) والمحفوظة في معرض بتي Pitti.

فليتصور القارئ ذلك الشاب كما تظهره الصورة الأولى وهو ينتقل في السادسة من عمره من أربينو التي يسودها الهدوء والنظام إلى بروجيا كان فيها بروجينو الذي طبقت شهرته جميع أنحاء إيطاليا؛ وأحس أعمام رفائيل الذين كانوا يتولون أمره أن مواهب الشاب البادية للعيان خليقة بأن تتلقى التعليم من أعظم المصورين في إيطاليا. وكان يسعهم أن يرسلوه إلى ليوناردو في فلورنس حيث يستطيع أن يتشرب ما في فن ذلك الأستاذ من نزعة للغموض والخفاء؛ ولكن الفنان الفلورنسي العظيم كان يتصف بشيء خاص به، شيء غير مألوف أو، بعبارة أخرى، شيء يساري، شيء مشئوم- في عشقه- لا يروق في أعين كل الأعمام الصالحين. يضاف إلى هذا أن بروجيا كانت أقرب إلى أربينو من فلورنس، وأن بروجينو كان عائداً من بروجيا (1499) ومعه جميع الحيل التطبيقية (2) التي يعرفها المصورون الفلورنسيون ويطبقونها في يسر ودون كلفة. وهكذا ظل الغلام الوسيم ثلاث سنين يعمل عند بترو فانوتشي Pietro Vannucci، ويساعده في

ص: 164

زخرفة الكمبيو Cambio، حتى ألم بجميع أسراره، وعرف كيف يصور العذارى زرقاء خاشعة كعذارى بروجيو نفسه. وكانت تلال أمبريا Umbria، وخاصة ما كان منها فوق أسيسي وحولها، زالتي كان في وسع كما أرجو أن يبصرها من هضبة بروجيا، وكانت هذه التلال تمد المعلم والطالب وفيض كامل من الأمهات الساذجات الوفيات ذوات الشباب الجميل، ولكن الجو الفرنسيسي الذي يستنشقنه كان يصوغهن فيجعل منهن أمهات تقيات موثوق بتقواهن.

ولما عاد بروجينو إلى فلورنس (1502) بقي رفائيل في بروجيا ووقع عليه عبء المطالب التي نماها أستاذه في تلك البلدة للصور الدينية. ففي عام 1503 رسم لكنيسة القديس فرانسس صورة تمثل تتويج العذراء توجد الآن في الفاتيكان: وفيها يقف الرسل ومعهم مجدلين حول تابوت خال، ويتطلعون إلى أعلى حيث يقف المسيح فوق السحب ويضع تاجاً على رأس مريم، بينما يحييها الملائكة بالعود والرق. وتبدو في هذه الصور شواهد كثيرة على عدم النضوج: فالرؤوس ليس فيها ما يكفي من الانفرادية، والوجوه قليلة التعبير، والأيدي ليست حسنة التشكيل، والأصابع جامدة غير لينة، والمسيح نفسه أكبر بلا شك من أمه الجميلة، وهو يتحرك حركات سمجة كأنه ناشئ حديث التخرج. ولكن رفائيل أظهر في صورة الملائكة الموسيقيين - في رشاقة حركاتهم، وهفهفة أثوابهم، وفي الخطوط الخارجية لمعارفهم- ما سوف يكونه في المستقبل.

ويبدو أن الصورة لاقت نجاحاً؛ وشاهد ذلك أن كنيسة أخرى تدعى كنيسة سان فرانتشيسكو في تشتا دي كاستلو Citta di Castello تبعد نحو ثلاثين ميلاً من بروجيا طلبت إليه أن يرسم لها صورة مثل الصورة السابقة هي صورة الأسبوسالدسيو Sposalizio أو زواج العذراء (المحفوظة في بريرا brera) . وتكرر في هذه الصور بعض أشكال الصورة الأولى،

ص: 165

وتحذو في شكلها حذو صورة مماثلة لها من عمل بروجينو. ولكن العذراء نفسها تبدو عليها سمات نساء رفائيل ورشاقتهن - في الرأس المائل في تواضع، والوجه الحنون الحيي، والانحناء الخفيف في الكتف والذراع والثياب. ومن خلف العذراء امرأة أكثر منها مرحاً وحيوية، شقراء جميلة. وإلى اليمين شاب في ملابس ضيقة تدل على أن رفائيل قد عكف على دراسة الجسم البشري؛ والأيدي كلها الآن حسنة الرسم وبعضها جميل.

وكان بنتورتشيو قد تعرف حوالي ذلك الوقت برفائيل في بروجيا فدعاه إلى سينا ليكون مساعداً له؛ وفيها رسم رفائيل صوراً تخطيطية، وأخرى تمهيدية، لبعض المظلمات الرائعة التي يقص بها بنتورتشيو في مكتبة الكنيسة أجزاء من قصة إينياس سلفيوس قصصاً خليقة بالبابوات. واسترعت أنظار رفائيل في تلك المكتبة طائفة من التماثيل القديمة الطراز. هي تماثيل ربات الجمال التي جاء بها الكردنال بكولوميني من روما إلى سينا. ورسم الفنان الشاب صورة سريعة لهذه التماثيل، ليساعد بها ذاكرته على ما نظن. ويبدو أنه وجد في هذه الصور الثلاث العارية عالماً مختلفاً، وأخلاقاً مختلفة، عما انطبع في ذهنه في أربينو وبروجيا - عالماً كانت فيه المرأة إلهة مبتهجة من ربات الجمال، بدل أن تكون أم الإله الحزينة، وتعد فيه عبادة الجمال عملاً مشروعاً لا يقل في ذلك عن تعظيم العفة والطهارة. ونما في ذلك الوقت الجانب الوثني من رفائيل، وهو الذي أمكنه في مستقبل الأيام من رسم نساء عاريات في حمام أحد الكرادلة، ووضع فلاسفة اليونان إلى جانب القديسين المسيحيين في حجرات الفاتيكان، وتطور هذا الجانب تطوراً هادئاً ملازماً لتلك الناحية من طبعه وفنه الذين أنتجا فيما بعد صورتي قداس بلسينا Bolsena وعذراء سستيني. وسنجد في صور رفائيل أكثر مما نجده في أي بطل آخر من أبطال النهضة، الإيمان المسيحي والبعث الوثني يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وانسجام.

ص: 166

وعاد رفائيل بعد زيارته إلى سينا أو قبل هذه الزيارة بزمن قصير إلى أربينو حيث قضى قليلاً من الوقت؛ وهناك رسم لجويدو بلدو صورتين ترمزان في أغلب الظن لانتصار الدوق على سيزاري بورجيا: وهما صورتا القديس ميخائيل والقديس جورج، وكلتاهما في متحف اللوفر. ومبلغ علمنا أن الفنان لم يفلح قبل ذلك الوقت في تمثيل العمل والحركة مثل ما أفلح رفائيل في هاتين الصورتين؛ فصورة القديس جورج وهو يستل سيفه ليهوي به على الهولة، بينما يقفز جواده على خلفيتيه من شدة الرعب، وتنشب الهولة مخالبها في ساق الفارس، ذلك كله يدهش الناظر بقوته ولكنه مع ذلك يسر العين برشاقته؛ وهكذا بدأ رفائيل الرسام يعرف قدر نفسه.

وتدعوه وقتئذ فلورنس كما دعت من قبله بروجينو ومائة غيره من المصورين الشبان. ويبدو أنه شعر بأنه إن لم يعش فترة من الزمان في تلك الخلية الحافزة التي ديدنها التنافس والنقد، فيتعلم فيها مباشرة وعن كثب آخر تطورات الخطوط والتأليف واللون، في المظلمات والتصوير الزلالي والزيتي، إن لم يفعل هذا وذاك فلن يكون أكثر من رسام إقليمي، موهوب ولكنه محدود المجال، قدر عليه آخر الأمر أن يظل مغموراً في بيته وفي المدينة التي ولد بها. ومن أجل هذا رحل إلى فلورنس في أواخر عام 1504.

وفيها سلك كعادته مسلك الرجل المتواضع، فدرس أعمال النحت القديمة وقطعاً من فن العمارة جمعت في المدينة، وذهب إلى الكارميني Carmine ونقل صور ماساتشيو Masaccio، وبحث عن الصور التمهيدية التي أعدها ليوناردو وميكل أنجيلو لتكون صوراً في قاعة المجلس في قصر فيتشيو. ولعله التقى هنا بليوناردو، وما من شك في أنه خضع وقتاً ما إلى تأثير هذا الأستاذ الذي يحير كل من يخضع له؛ وبدا له وقتئذ أن جميع الصور التي أخرجتها مدارس الفن في فيرارا، وبولونيا، وسينا، وأربينو

ص: 167

إذا قيست إلى صورتي عبادة المجوس، وموناليزا، وصورة العذراء والطفل، والقديسة آن بدت وكأنها ميتة لا حياة فيها؛ بل إن عذارى بروجينو لم تكن إذا قيست إليها إلا دمى جميلة، أو فتيات غير ناضجات من بنات الريف وهبن على حين غفلة قداسة غير موائمة لهن. تُرى كيف كانت لليوناردو هذه الرشاقة في رسم الخطوط، وهذه المهارة في تصوير الوجوه، وهذا الإتقان في تمثيل ظلال الألوان؟ وما من شك في أن رفائيل قلد صورة موناليزا في صورة مدالينا دوني Maddalena Doni ( المحفوظة في بتي Pitti) ، وإن كان قد حذف منها ابتسامتها لأن سيدة دوني لم تكن فيما يبدو تبتسم؛ ولكنه أجاد تصوير جسم السيدة الفلورنسية القوي المتين البناء، ويديها الناعمتين، المكتنزتين، المتخمتين، اللتين تمتاز بهما صاحبات المال المنعمات، ونسيج الثياب الغالي ذي اللون الجميل الذي يكسب هذا الشكل إجلالاً ومهابة. وصور رفائيل في الوقت عينه زوجها أنجيلو دوني Angelo Doni أسمر اللون، يقظاً، صارماً.

وانتقل من عند ليوناردو إلى الراهب بارتولميو، فزاره في صومعته في سان ماركو، ودهش مما شاهده في فن الراهب الحزين من حنان التعبير، وحرارة الشعور، ورقة الخطوط الخارجية، وانسجام التأليف، وعمق الألوان وكمالها. وزار الراهب بارتولميو رفائيل بعدئذ في روما عام 1514 ودهش هو أيضاً كما دهش رفائيل قبله من السرعة التي علا بها شأن الفنان المتواضع حتى بلغ ذروة المجد في عاصمة العالم المسيحي. والحق أن رفائيل قد بلغ هذه الدرجة من العظمة لأنه كان في مقدوره أن يسرق بنفس الطهارة التي كان يسرق بها شكسبير، ولأنه كان بمقدوره أن يجرب وسيلة بعد وسيلة وطرازاً بعد طراز، ويأخذ من كل طراز ما فيه من عناصر ثمينة، ثم يخرج ما أخذه منها مدفوعاً بتحمسه للخلق وللإبداع فيجعل منه أسلوباً لا شك في أنه أسلوبه الخاص دون سواه.

ص: 168

ولقد استحوذ على تقاليد التصوير الإيطالي الفنية جزءاً جزءاً وما لبث أن بلغ بها حد الكمال.

وكان في هذه الفترة الفلورنسية (1504 - 1505، 1506 - 1507) قد شرع يرسم صوراً تطبق الآن شهرتها العالم المسيحي وغير العالم المسيحي. ففي متحف بودابست Budapest مثلاً صورة شاب -لعلها صورة له هو- له نفس البيرية

(1)

ونظرة العينين الجانبية التي نشاهدها في صورة معرض بتي. ورسم رفائيل وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره صورة مادنا دل غراندوقا Madonna del Granduca أي سيدة الدوق الأكبر (معرض بتي) التي صور وجهها ذا الشكل البيضي الكامل، وشعرها الحريري، وفمها الصغير، وجفونها الشبيهة بجفون نساء ليوناردو وقد خفضتها في حب حزين، نقول إنه صور هذه المعارف ليعارض بها معارضة قوية قناعها الأخضر ورداءها الأحمر. وكان فرديناند الثاني دوق تسكانيا الأكبر يجد من السرور في مشاهدة هذه الصورة ما يحمله على أن يأخذها معه في أسفاره- ومن هنا اشتق اسمها. ولا تقل عن هذه جمالاً صورة مادنا دل كارديلينو Madonna del Cardellino أي سيدة الحسُّون

(2)

(في متحف أفيزي)، فالطفل المسيح في هذه الصورة آية رائعة من آيات التفكير، ولكن القديس يوحنا، الذي يصل ظافراً بالطائر مقبوضاً عليه يلعب به، بهجة للعقل والعين، ووجه العذراء يمثل تمثيلاً لا يمكن أن ينمحي من الذاكرة حنان الأم الشابة المتسامحة. وقد أهدى رفائيل لورندسو ناسي Lorenzo Nasi هذه الصورة بمناسبة زفافه؛ ولكن زلزالاً حدث في عام 1547 هدم بيت ناسي وحطم الصورة؛ ثم جمعت قطعها بحذق وعناية لا يستطيع أحد معها أن يحدس ما أصابها

(1)

Beret لباس للرأس. (المترجم)

(2)

طائر أوربي صغير براق اللون من طيور الزينة. (المترجم)

ص: 169

إلا بيرينسون Berenson بعد أن شاهدها في متحف أفيزي. لكنه كان في صورة السيدة في المرج (المحفوظة في متحف فينا) أقل توفيقاً منه في الصورة السابقة، وإن كان رفائيل يرسم لنا فيها منظراً طبيعياً فذا، مغموراً في ضوء المساء الأزرق الخفيف المتساقط على الحقول الخضراء، والمجرى الأملس المستوي السطح، والمدينة ذات الأبراج، والتلال النائية. وصورة البستاني الجميل (متحف اللوفر) لا تكاد تستحق أن توصف بأنها صورة أجمل السيدات الفلورنسيات. فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل من صورة سيدة المرج، وهي تمثل يوحنا المعمدان من أنفه إلى قدمه تمثيلاً مضحكاً سخيفاً، ولا يرفع من شأنها إلا صورة الطفل المثالية وهو واقف بقدميه المكتنزتين على قدم العذراء العارية، رافعاً عينيه نحوها في حب وثقة. وأحسن صور ذلك العهد وأعظمها طموحاً نحو الكمال صورة مادنا دل بلداتشينو (سيدة المظلة) Madonna del Baldacchino ( المحفوظة في معرض بتي) - وفيها ترى الأم العذراء جالسة فوق مظلة، يفتح طياتها ملكان، ويقف إلى جانبيها قديسان، ويغني عند قدميها ملكان آخران. والصورة كلها عمل تقليدي عرفي سبب شهرتها الوحيد أنها من صنع رفائيل.

وقطع مقامه في فلورنس عام 1505 ليزور بروجيا ويقوم فيها بعملين، أحدهما هو ستار المذبح الذي رسم عليه صورة لراهبات دير القديس أنطونيوس، وهو الآن من أنفس الصور في معرض نيويورك الفني. وفيه نجد العذراء في داخل إطار منحوت نحتاً جميلاً، جالسة على عرش، تشبه "راهبة" وردسورث Wordsworth التي "تتقطع أنفاسها من العبادة"؛ والطفل في حجرها يرفع إحدى يديه ليبارك الرضيع القديس يوحنا؛ وفيها صورتان لسيدتين- هما القديسة تشيتشيليا والقديسة كترين الإسكندرية- تحيطان بالعذراء. ويرى في مقدمه الصورة القديس بطرس

ص: 170

عابساً، والقديس بولس يقرأ، وفي مشكاة في أعلاها يرى الله الأب يحيط به الملائكة، ويبارك أم ابنه ويمسك العالم بإحدى يديه. وفي إحدى اللوحات يصلي المسيح على جبل الزيتون والرسل نائمون، وفي لوحة أخرى ترفع مريم جسم المسيح الميت ومجدلين تقبل قدميه الجريحتين. وإن ما في الصورة من تأليف كامل لأشتاتها، وصورة القديسات التي تأخذ بمجامع القلوب، وهن يفكرن في قلق. والفكرة القوية التي أوحت بصورة بطرس المنفعل، والمنظر الفذ للمسيح وهو على الجبل، كل هذا يجعل هذه الصورة التي رسمت لآل كولنا الروائع التي أخرجها رفائيل لا ينازعها في ذلك منازع. ورسم الفنان في تلك السنة نفسها سنة 1506 صورة أقل من هذه روعة: صورة سيدة (محفوظة الآن في المعرض القومي بلندن) لأسرة أنسيدي Ansidie. فيها ترى العذراء على عرشها الضيق، تعلم الطفل القراءة، وإلى يسارها نقولاس قديس باري Bari في ثيابه الأسقفية الفخمة منهمك أيضاً في الدرس؛ وإلى يمينها يوحنا المعمدان وقد بلغ فجاءة سن الثلاثين بينا رفيقه في اللعب لا يزال طفلاً، وهو يشير بإصبعه التقليدية إلى ابن الله.

ويبدو أن رفائيل سافر من بروجيا إلى أربينو مرة أخرى (1506)، وفيها رسم لجويلدوبلدو صورة أخرى للقديس جورج (توجد الآن في ليينجراد) يمسك هذه المرة برمح، وهو في هذه الصورة فارس شاب وسيم مغطى بالزرد تكشف زرقته البراقة عن ناحية أخرى من براعة رفائيل. وأكبر الظن أنه في هذه الزيارة نفسها قد رسم لأصدقائه أكثر صوره الذاتية شهرة (معرض بتي)، وفيها يلبس بيرية سوداء فوق عذائر من الشعر الطويل الأسود؛ ووجه لا يزال في نضرة الشباب، لم يظهر فيه بعد أثر لشعر اللحية؛ وأنف طويل، وفم صغير، وعينين رقيقتين - وقصارى القول أن الوجه كله من الوجوه التي تطالعنا في كل

ص: 171

حين وهو أشبه ما يكون بوجه كيتس Keats - ويكشف عن روح طاهرة ناضرة مرهفة الحس بكل ما في العالم من جمال.

وعاد إلى فلورتس في أواخر عام 1506، وفيها رسم بعض صوره الأقل من الصور السابقة شهرة ومنها الصورة المعروفة باسم صورة نقوليني كوبر " Niccolini Cowper"، وهي صورة العذراء والطفل (واشنجتن). وسبب تسميتها بالاسم الأول أن إيرل كوبر الثالث فر بها من فلورنس خلسة مخبأة في بطانة فرش عربته. وليست هي من أحسن صور رفائيل، ولكن أنردو ملون Andrew Mellon ابتاعها بمبلغ 850. 000 دولار ليضمها إلى مجموعته (1928) (20). وبدأ رفائيل وهو في فلورنس عام 1507 صورة أعظم من هذه كثيراً هي صورة دفن المسيح الموجودة في معرض آل بورجيا. وقد كلفته برسمها لكنيسة سان فرانتشيسكو في بروجيا السيدة أطلنطا بجليوني Atlanta Baglioni التي خرت راكعة فوق ابنها المحتضر في شارع المدينة قبل سبع سنين من ذلك الوقت، ولعلها أرادت أن تعبّر عن حزنها بحزن مريم على ولدها. وقد اتخذ رفائيل صورة بروجيا التي تمثل الوديعة نموذجاً له، فألف بين أجزاء صورته تأليفاً بارعاً لا يكاد يقل في قوته عن تأليف منتينيا Montegna: ففيها يرى المسيح الميت الضامر الجسم يحمله في غطاء شاب متين البنية قوي العضلات ورجل ملتح مجهد؛ وفيها أيضاً صورة رائعة لرأس يوسف الأرمتيائي of Arimathea، وصورة جميلة لمجدلين وهي تنحني فوق الجثة، ومريم أم المسيح فاقدة وعيها في أحضان المحيطات بها من النساء. وقصارى القول أن كل من في الصورة يختلف في موقفه عن غيره، ولكنهم جميعاً قد صوروا تصويراً دقيقاً من حيث تشريح الجسم، ورشيقاً لا يقل عن رشاقة كريجيو، Corregio، وقد امتزجت فيها الألوان الحمراء، والزرقاء، والبنية، والخضراء امتزاجاً ألف منها وحدة متناسقة مشرقة، بين منظر طبيعي جميل شبيه بمناظر

ص: 172

جورجيوني تظهر فيه صلبان جلجوثا Golgotha الثلاثة تحت سماء المساء.

وتلقّى رفائيل وهو في فلورنس عام 1508 دعوة غيرت مجرى حياته. ذلك أن فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري دوق أربينو الجديد كان ابن أخي يوليوس الثاني، وكان برامنتي الذي يمت بصلة القرابة البعيدة لرفائيل من المقربين وقتئذ للبابا؛ ويلوح أن الدوق والمهندس أوصيا يوليوس برفائيل، وسرعان ما تلقى المصور الشاب دعوة بالمجيء إلى رومة. وقد سره أن يسافر إليها لأن روما لا فلورنس، كانت وقتئذ المركز المثير الحافز لعالم النهضة. وكان يوليوس قد مل رؤية جويليا فرنيزي تمثل كذباً صورة العذراء على جدران جناح آل بورجيا بعد أن أقام في هذا الجناح أربع سنين، ورغب لذلك أن ينتقل إلى الحجرات الأربع التي كان يسكنها في وقت ما نقولاس الخامس العظيم. وأراد أن تزين هذه الحجرات بصور توائم ما فطر عليه من بطولة وما يبتغيه من أغراض. وسافر رفائيل إلى روما في صيف عام 1508.

‌2 - رفائيل ويوليوس الثاني

1508 -

1513

قّلما اجتمع في مدينة عدد من الفنانين العظام منذ أيام فيدياس مثل العدد الذي اجتمع منهم في روما في تلك الأيام. لقد كان فيها ميكل أنجيلو يحفر صوراً للقبر الضخم المنشأ ليوليوس، كما كان ينقش سقف معبد سستيني، وكان برامنتي، يخطّط كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ والراهب جيوفني فنان فيرونا البارع في الحفر على الخشب يحفر أبواباً وكراسي، ومقاعد للحجرات؛ وكان بيروجينو، وسنيوريلي، وبرودسي، وسودومان ولتو، وبنتورتشيو، كان هؤلاء قد نقشوا بعض الجدران؛ وكان أمبروجيو فبا Ambrogio Foppa المسمى كردسا Caradossa تشيليني زمانه بصنع الذهب على اختلاف أشكاله.

ص: 173

وعهد يوليوس إلى رفائيل بنقش حجرة التوقيعات Stanza della Sewnatora التي سميت بهذا الاسم لأن البابا كان يستمع فيها لاستئناف الأحكام ويوقع العفو عمن صدرت عليهم أحكام نهائية. وقد سرته النقوش الأولى التي قام بها هذا الشاب في هذه الحجرة، ورأى فيه عاملاً له ممتازاً طيعاً، في مقدوره أن ينفذ الأفكار العظيمة التي يمتلئ بها ذهن البابا؛ وبلغ من هذا السرور أن فصل من خدمته بروجينو، وسنيوريلي، وسودوما؛ وأمر أن تغطى رسومهم بالجير، وعرض على رفائيل أن ينقض هو جميع جدران الحجرات الأربع. غير أن رفائيل أقنع البابا بأن يحتفظ ببعض الأعمال التي قام بها الفنانون الأولون؛ لكن معظم هذه النقوش غطيت حتى تكون للنقوش الكبرى وحدة التفكير والتنفيذ. ونال رفائيل على نقش كل حجرة 1200 دوقة (15. 000 دولار)، وقضى في الحجرتين اللتين نقشهما ليوليوس أربعة أعوام ونصف عام؛ وبلغ وقتئذ السادسة والعشرين من العمر.

وكان تصميم حجرة التوقيعات فخماً سامياً؛ فقد كان المراد من النقوش أن تمثل اتحاد الدين والفلسفة، والثقافة القديمة والدين المسيحي؛ والكنيسة والدولة، والأدب والقانون، اتحاد هذه كلها في حضارة النهضة. ولعل البابا هو الذي تصور الفكرة العامة، واختار الموضوعات بعد استشارة رفائيل وعلماء بلاطه - إنغيرامي Inghirami وسادوليتو Sadoleto ثم بمبو وبينا Bibiena فيما بعد. وقد رسم رفائيل، في نصف الدارة الكبرى التي يكونها أحد الجدران الجانبية، الدين ممثلاً في أشخاص الثالوث والقديسين، اللاهوت في صورة أباء الكنيسة وعلمائها وهم يبحثون طبيعة الدين المسيحي مركزاً في عقيدة العشاء الرباني. وفي وسعنا أن ندرك هذا

ص: 174

من الدراسات الثلاثين المبدئية التي قام بها لكي يستعد لرسم صورة النقّاش في موضوع العشاء الرباني. فقد درس لهذا الغرض صورة يوم الحساب التي رسمها الراهب بارتولميو في كنيسة سانتا ماريا نوفا في فلورنس، والصورة التي رسمها هو لعبادة الثالوث في كنيسة سان سفيرو في بروجيا، وعلى أساس هاتين الصورتين وضع خطته.

وكانت النتيجة التي تمخض عنها هذا العمل منظراً كاملاً فخماً رائعاً، يكاد يحيل أكثر المتشككين عناداً إلى رجل مؤمن بأسرار الدين. وقد رسم في قمة العقد خطوطاً متشععة تتقارب حتى تجتمع إلى أعلى، ويخيل معها إلى الناظر أن الصور العليا تنحني إلى الأمام؛ أما في أسفل العقد فإن الخطوط المجتمعة في الطور الرخامي تكسب الصورة عمقاً. وفي القمة يرى الله الأب - في صورة إبراهيم الوقور الرحيم - يمسك الكرة الأرضية بإحدى يديه، ويبارك المنظر باليد الأخرى. ويجلس الابن أسفل منه، عرياناً إلى وسطه، كأنه في قوقعه؛ وإلى يمينه مريم خاشعة متعبدة، وإلى يساره المعمدان وهو لا يزال ممسكاً بعصا الراعي يتوجهها الصليب، وأسفل منه يمامة تمثل الروح القدس وهو الشخص الثالث من الثالوث المقدس؛ فكأنك ترى في هذه الصورة كل شيء. وجلس على سحابة زغبية حول المسيح المنقذ أثنا عشر شخصاً عظيماً ممن ورد ذكرهم في العهد القديم أو التاريخ المسيحي: آدم في صورة رجل رياضي كأشخاص ميكل أنجيلو، يكاد يكون عارياً من الثياب؛ وإبراهيم؛ وصورة فخمة لموسى، وفي يده ألواح الشريعة؛ وداود ويهوذا مكابيوس، وبطرس، وبولس، والقديس يوحنا يكتب إنجيله؛ ويوحنا الأكبر، والقديس اسطفانوس، والقديس لورنس، وشخصان آخران لا تعرف هويتهما على وجه التحقيق، وبين هؤلاء جميعاً وفي السحب يقفز ملائكة من مختلفي الطبقات والأصناف يدخلون في هذه السحب ويخرجون، ومنهم من

ص: 175

يدورون الهواء على أجنحة الأغاني. ويفرق هذا الجمع السماوي ويضمه ملكان في الحشد الأرضي الأسفل منه يمسكان بالإنجيل، ومسهدة

(1)

تحتو يعلى القربان المقدس. وتجتمع حول هذا المشهد طائفة مختلفة من رجال الدين لتبحث المشاكل اللاهوتية: وتضم هذه الطائفة القديس جيروم، ومعه ترجمته اللاتينية للإنجيل وأسده؛ والقديس أوغسطين يملي كتابه مدينة الله؛ والقديس أمبروز في ثيابه الأسقفية، والبابا أنكليتس Anacletus والبابا إنوسنت الثالث؛ والفلاسفة أكويناس وبنا فنتورا، ودنزاسكوتس؛ ودانتي العنيد، متوجاً بما يشبه الشوك؛ والراهب أنجيلكو الظريف وسفنرولا المغضب (وتمثل صورته انتقاماً آخر ليوليان من الإسكندر السادس)؛ وأخيراً نجد في ركن من الصورة برامنتي صديق رفائيل وحاميه أصلع الرأس دميم الخلقة. وقد وصل الفنان الشاب في جميع هذه الصور البشرية إلى درجة مدهشة من الانفرادية، جعلت كل وجه من وجوههم ترجمة لصاحبه لا يرى العقل ما يمنعه من قبولها؛ وخلع على كثيرين منهم كرامة فوق الكرامة الآدمية تسمو بالصورة كلها وبالموضوع كله وتكسبه جلالاً ونبلاً. وأكبر الظن أننا لا نجد في كل ما رسم قبل ذلك الوقت صورة نجحت في تمثيل ملحمة عظيمة العقيدة المسيحية كما نجحت في تمثيلها هذه الصورة.

ولكن هل يستطيع هذا الشاب نفسه، وهو الآن في الثامنة والعشرين من عمره، أن يمثل - بهذه العظمة ذاتها - الدور الذي يضطلع به العلم والفلسفة بين الآدميين؟ إنّا لا نجد دليلاً على أن رفائيل كان واسع القراءة والاطلاع على الكتب؛ لقد كان يتحدث بفرشاته، ويستمع بعينيه، ويعيش في عالم من الأشكال والألوان ليس للألفاظ فيه إلاّ شأن حقير، إلاّ إذا عبرت عنها الأعمال ذات الخطر التي يقوم بها الرجال والنساء.

(1)

وعاء كنسي يعرض فيه القربان المقدس. (المترجم)

ص: 176

وما من شك في أنه قد أعد بنفسه لهذا العمل بالقراءة السريعة، وبالانغماس في كتابات أفلاطون وديوجين ليرتيوس، ومارسيلو فنتشينو Marsilio Ficino، وبالحديث القليل ذي الخطر مع العلماء، وذلك لكي يسمو في ذلك الوقت إلى فكرته العليا فيصور مدرسة أثينة - المشتملة على نحو خمسين صورة لخص فيها قروناً غنية بالتفكير اليوناني، جمعها كلها في لحظة خالدة تحت عقد ذي لوحات غابرة في رواق معمد وثني ضخم. وهناك على الجدار وفي مواجهة صورة تأليه الفلسفة مباشرة التي تحتويها صورة الجدل نرى تمجيد الفلسفة: نجد أفلاطون ذا الجبهة الشبيهة بجهد الإله جوبتر، والعينين الغائرتين، وشعر الرأس واللحية الأبيض الطويل المرسل، يرفع إصبعه إلى أعلى مشيراً بها إلى مكانته الكاملة؛ ونرى أرسطو يسير هادئاً ساكناً بجواره وهو أصغر منه بثلاثين عاماً، وسيماً مبتهجاً، يمد يده وراحتها إلى أسفل، كأنه يريد أن ينزل بمثالية أستاذه العليا فيرجعها إلى الأرض وإلى حدود الممكنات؛ وترى سقراط يعد نقط نقاشه على أصابعه، وألقبيادس المسلح يصغي إليه وهو بادي الحب؛ وفيثاغورس يحاول أن يحصر في جداول مؤتلفة متوافقة موسيقى الأكوان، وسيدة حسناء قد تكون أسبازيا؛ وهرقليطس يكتب ألغازاً إفيزيه Ephesian وديوجين وقد رقد عارياً في غير مبالاة على الدرج الرخامية؛ وأرخميدس يرسم أشكالاً هندسية على لوح من الاردواز ليعلم أربعة غلمان مكبين على الدرس؛ وبطليموس الفلكي وزرداشت يتبادلان كرات سماوية؛ وغلاماً إلى اليسار يهرول في اهتمام شديد متأبطاً كتباً، وهو بلا شك يبحث عمن يكتب له ذكرياته، وصبياً مجداً جالساً في أحد الأركان يدون مذكرات، وترى إلى اليسار فيدريجو مانتو ابن إزبلا، ومدلل يوليوس، يطل بنصف عين؛ وترى كذلك برامنتي مرة أخرى؛ ثم نرى رفائيل نفسه متواضعاً مختفياً لا يكاد يرى، وقد طر الآن شاربه. وهناك غير هؤلاء كثيرون

ص: 177

نترك للعلماء ممن يتسع وقتهم للنقاش والجدل أن يتناقشوا في حقيقة أشخاصهم، وكل ما نقوله هنا أن مجتمعاً من الحكماء مثل هذا المجتمع لم تضمه من قبل صورة من الصورة، بل لعل أحداً لم يفكر قط في أن تضعه. وأكثر من هذا أن هذه الصورة ليس فيها كلمة واحدة عن الإلحاد، ولا فيلسوف واحد ممن حرق بسبب آرائه؛ بل إن هذا المسيحي الشاب الذي كان يتمتع بحماية بابا أكبر من أن يشغل نفسه بالفروق بين خطأ وآخر، قد جمع فجاءة بين كل أولئك الوثنيين، وصورهم بأخلاقهم وبإدراك عجيب وعطف كبير، ووضعهم حيث يستطيع علماء الدين أن يروهم ويتبادلوا الأخطاء معهم، وحيث يستطيع البابا، خلال الفترات التي بين كل وثيقة وأخرى أن يتدبر سير التعاون بين أفكار البشر ونشأتها. وتمثل هذه الصورة عي وصورة الجدل المثل الأعلى لتفكير النهضة - تمثل عهد الوثنية القديم والدين المسيحي يعيشان معاً مؤتلفين منسجمين في حجرة واحدة. وإذا نظر الإنسان إلى هذه اللوحات المتنافسة في تفكيرها وتأليفها، وفنها رأى فيها ذروة من فن التصوير الأوربي التي لم يرق إليها أحد حتى يومنا هذا.

بقيت بعد ذلك حجرة ثالثة، أصغر من الحجرتين السابقتين تتخللها نافذة يبدو معها أن وحدة الموضوع في الصورة التي ترسم عليها مستحيلة. ولهذا كان من الاختيار الرائع الموفق أن يمثل على سطح هذا الجدار الشعر والموسيقى. وهكذا خفف من ثقل الحجرة المثقلة باللاهوت والفلسفة وأضفى عليها كثيراً من البهجة والآلاء المستمد من عالم الخيال المطرب المنسق، بحيث تستطيع الألحان اللطيفة أن ترسل نغماتها الصامتة خلال القرون في أرجاء تلك الحجرة التي تصدر منها أحكام بالحياة أو الموت لا تقبل نقضاً. وفي مظلم فرناسوس Parnassus هذا نرى أبلو جالساً تحت أشجار الغار على قمة الجبل المقدس يستمد من كمانه الكبير "ترانيم خالية من النغم"؛ وإلى جانبه إحدى ربات الشعر متكئة في رشاقة وراحة،

ص: 178

تكشف عن صدرها الجميل إلى القديسين والحكماء المصورين على الجدران المجاورة؛ ونرى هومر ينشد أشعاره السداسية الأوتاد في نشوة المكفوفين؛ وترى دانتي ينظر في صرامة لا تقبل مسالمة أو مهادنة إلى هذه الزمرة الطيبة من الشعراء والظرفاء؛ وترى سابفو، وهي أجمل من أن تكون لزبية Lesbian، تضرب على قيثارتها؛ وفرجيل وهوراس، وأوفد، وتيبلوس، وغيرهم من المغنين الذين اختيروا ليمثلوا عصوراً متعاقبة، تراهم يختلطون مع بترارك، وبوكاتشيو، وأريستو، وسنادسارو وغيرهم من شعراء إيطاليا الأحداث منهم عهداً والأقل منهم شأناً. وهكذا يوحي الفنان الشاب بأن "الحياة إذا خلت من الموسيقى كانت خطأ من الأخطاء"(21)، وأن نغمات الشعر، وخيالاته قد ترفع الآدميين إلى درجات لا تقل سمواً عن درجات الحكمة القصيرة النظر، واللاهوت وما فيه من وقاحة.

وعلى الجدار الرابع الذي تخترقه أيضاً نافذة كرَّم رفائيل مكانة القانون في الحضارة. فقد صور في مشكاة صورة تمثل الفطنة، والقوة، والاعتدال؛ وصور على أحد جانبي النافذة القانون المدني في صورة الإمبراطور جستنيان ينشر مجموعات القوانين، وعلى جانبها الآخر القانون الكنسي في صورة البابا جريجوري العاشر ينشر المراسيم البابوية. وأراد هنا أن يتملق سيده المحنق الغاضب فصور جريجوري في صورة يوليوس، وكانت هذه أيضاً صورة قوية ذات روعة. ورسم الفنان في دوائر السقف المزخرف، وأشكاله السداسية ومستطيلاته، آيات صغيرة من آياته الفنية مثل حكم سليمان وأشكالاً رمزية تمثل اللاهوت والفلسفة، وفقه القانون، وعلم الهيئة، والشعر. وبهذه الصور وأمثالها من النقوش على الأصداف وبعض المدليات التي تركها سووما تمت زخرفة حجرة التوقيعات.

وأفرغ رفائيل في هذا العمل كل ما كان له من جهد، ولم يبلغ بعد

ص: 179

قط ما بلغه فيه من مستوى رفيع ممتاز، ولهذا فإنه حين بدأ في عام 1511 يزخرف الحجرة الثامنة التي تسمى الآن حجرة إليودورو باسم أهم صورة فيها، بدا أن الإلهام التصوري للبابا والفنان قد فقد قوته وناره. ولم يكن من السهل أن ينتظر من يوليوس أن يخصص جناحه كله لتمجيد الاتحاد بين الثقافة الرومانية واليونانية القديمة وقتئذ أن يخصص عدداً قليلاً من الحجرات لتخليد ذكريات من الكتب المقدسة وقصة المسيحية. ولعله أراد أن يركز إلى ما يتوقعه من طرد الفرنسيين من إيطاليا، فاختار لإحدى نواحي الحجرة الوصف الحي الواضح الموجود في كتاب المكابيين الثاني والذي يقول إن هليودورس وجماعته الوثنيين حاولوا اختلاس كنوز معبد أورشليم (186 ق. م) فهجم عليهم ثلاثة من الملائكة المحاربين. ونرى في هذه الصورة الكاهن الأكبر أنياس Onias راكعاً عند المذبح أمام خلفية معمارية من العمد العظيمة، واللوحات الغائرة، يطلِب العون من الله. وإلى اليمين ملاك راكب شديد الغضب يدوس القائد السارق، ويتقدم منقذان سماويان غيره ليهاجما الكافر الساقط، الذي تتناثر على الأرض نقوده المسروقة. وإلى اليسار يجلس يوليوس الثاني جلال هادئ يرقب طرد الغزاة، ويحتقر الفنان بوضعه هذا الدقة التاريخية احتقاراً لا يسعنا إلاّ أن نشهد له بالسمو في التفكير. ويختلط عند قدميه جماعة من النساء اليهوديات برفائيل (وهو الآن رجل ملتح وقور) وبصديقيه مركنتونيو رايمندي Morcantonia Raymondi الحفار، وجيوفني دي فلياري Giovanni di Foliari أحد أمناء البابا. ولا يرتفع هذا المظلم إلى الدرجة التي يرتفع إليها مظلم الجدل أو مدرسة أثينة؛ فقد خصص كله تخصيصاً واضحاً لا خفاء فيه لتمجيد حبر واحد من الأحبار وموضوع واحد سريع الزوال، مضحياً في ذلك بالوحدة في التأليف؛ ولكنه مع ذلك آية فنية بلا ريب، تنبض بالعمال، ذات فخامة معمارية، ويكاد ينافس ميكل

ص: 180

أنجيلو في إظهار التشريح العضلي وقت الغضب.

وصور رفائيل على جدار آخر قداس بلسينا Bolsena. فقد حدث حوالي عام 1263 أن ارتاع قسيس بوهيمي من بلسينا (القريبة من أرفيتو)، كان يرتاب في أن الخبز المقدس يتحول حقاً إلى جسد المسيح ودمه، إذ رأى نقطاً من الدم تنضح من الخبز الذي كرسه تواً في القداس. وأراد البابا إربان الرابع أن يخلد هذه المعجزة فأمر ببناء كتدرائية في أرفيتو، كما أمر بأن يحتفل في كل عام بعيد الجسد الطاهر. ورسم رفائيل هذا المنظر الرائع رسماً رائعاً عظيماً، ترى فيه نظرات القس المرتابة في الخبز المقدس ينضح منه الدم، والقندلفت الذي خلفه يدهش من هذا المنظر؛ وفي أحد الجوانب نساء وأطفال وفي الجانب الآخر الحرس السويسري، وهؤلاء يعجزون عن رؤية المعجزة، فلا يتحركون. ويبدو عجزهم عن هذا التحرك واضحاً لا خفاء فيه. ويحدق الكردنالات رباريو واسكنر Schinner وغيرهما من رجال الكنيسة في هذا المنظر إحداقاً تمتزج فيه الدهشة بالرعب. وفي الجهة المقابلة للمذبح يرى يوليوس الثاني راكعاً على مركع نحت عليه صور مضحكة عجيبة يتطلع في مهابة وهدوء، كأنه قد عرف طوال الوقت أن الخبز المقدس سيسيل منه الدم. وإذا نظرنا إلى هذه الصورة من الناحية الفنية حكمنا أنها من أحسن مظلمات الحجر: فقد وزع رفائيل أشخاصه بمهارة حول النافذة التي في الجدار وفوقها؛ وصورهم بثبات في الخطوط وعناية في التنفيذ، وخلع على أجسادهم وثيابهم حدة في العمق وقوة في التلوين. وتمثل صورة يوليوس الراكع البابا نفسه في آخر سنة من حياته. ومع أنه لا يزال هو المحارب القوي الصارم، وملك الملوك الفاجر، فإنك تراه رجلاً أنهكه الكدح والجهد والكفاح تلوح عليه سمات الموت واضحة.

وأخرج رفائيل وهو يقوم بهذه الأعمال الكبرى عدة صور للسيدات ذات روح خليقة بالخلود، منها صورة العذراء ذات التاج التي يعود فيها إلى

ص: 181

طرازه التقي المتواضع، ومنها مادنا دلا كاسا ألبا Madonna della Casa Alba أي "سيدة البيت الأبيض" - وهي مدرسة طريفة في ألوان قرنفلية، وخضراء، وذهبية، خطوطها كبيرة منسابة كخطوط عرافات ميكل أنجيلو. وقد ابتاع أندرو ملن Andrew Mellon هذه الصورة من حكومة السفيت بمبلغ 1. 166. 400 دولار. وصورة مادنا دي فولينو Madonna di Foligno المحفوظة في الفاتيكان هي صورة عذراء جميلة وطفلها فوق السحاب، يشير إليها المعمدان المصفر الوجه، ويقدم لها القديس جيروم البدين واهب هذه الصورة: سجسمندو ده كنتي سيد فولينو وروما. ويرقى رفائيل في هذه الصورة إلى مجد جديد في الألوان الزاهية متأثراً في ذلك بنفوذ سبستيانو دل بيمبو Sebastiano del Piombo الفنان البندقي. ومادنا دلا بيستشي Madonna della Pesce أي "سيدة السمك"(المحفوظة في برادو) جميلة في جميع أجزائها: في وجه العذراء ومزاجها؛ وفي الطفل - الذي لم تسم على صورته صورة غيرها من رسم رفائيل، وفي صورة طوبيت الشاب يقدم لمريم السمك الذي ردت صورته قوة البصر لأبيه، وفي ثوب الملاك الذي يقوده، وفي صورة رأس الأب القديس جيروم. وتضارع هذه الصورة من حيث التأليف، واللون، والضوء صورة مادنا سستيني نفسها.

وآخر ما نقوله في هذا المجال أن رفائيل قد ارتقى بالتصوير الملون في هذه الفترة إلى مستوى لم يرق إليه أحد يغره فيما بعد إلاّ تيشيان. لقد كانت الصورة الملونة من نتاج عصر النهضة المميزة له، وهي صورة أخرى من تحرر الفرد تحرراً نبيلاً عزيزاً على النفس في هذا العصر عثر المباهاة والتفاخر. وليست الصور التي رسمها رفائيل كثيرة العدد ولكنها كلها ترقى إلى أعلى مستوى في الفن، ومن أجملها كلها صورة بندو ألتوفيتي. ومنذا الذي تستطيع نفسه أن تحدثه بأن هذا الشاب الظريف، اليقظ رغم ظرفه،

ص: 182

الصحيح الجسم النافذ البصر، الجميل جمال الفتيات، لم يكن شاعراً بل كان مصرفياً، وأنه كان من أنصار الفنانين من رفائيل إلى تشيليني؟ وكان هذا الشاب حين صوره رفائيل في الثانية والعشرين من عمره؛ ثم وافته المنية في روما عام 1556 بعد أن بذل جهداً نبيلاً مضنياً جر عليه الوبال ليحفظ به استقلال سينا من اعتداء فلورنس. وكانت هذه هي الفترة التي أخرج فيها رفائيل أعظم صوره على الإطلاق وهي صورة يوليوس المحفوظة في معرض أفيزي (حوالي 1512)؛ ولسنا نستطيع أن نقول إن هذه هي الصورة الأصلية التي خرجت من يد رفائيل، فقد تكون نسخة أخرى منها الصورة احتفظ بها في المرسم، وقد رسم النسخة العجيبة الفذة من هذه الصورة في قصر بتي منافسه الكبير المصور تيشيان. أما الصورة الأصلية فلم يعرف مصيرها بعد.

وتوفي يوليوس نفسه قبل أن تتم صور حجرة إليودورا ولم يكن يدري هل يستطيع إتمام المشروع العظيم مشروع نقش الحجرات الأربع. ولكن كيف يستطيع بابا مثل ليو العاشر المفتن بالشعر وبالفن افتتاناً لا يقل في عمقه عن افتتانه بالدين، أن يتردد في إتمام المشروع؟ وقد قدر للشاب الآتي من أربينو أن يجد في ليو أوفى صديق له، وهكذا عرف صاحب عبقرية السعادة الحية تحت رعاية بابا سعيد أسعد سني حياته.

ص: 183

الفصل الرابع

‌ميكل أنجيلو

‌1 - الشاب

1475 -

1505

تركنا إلى آخر هذا الباب الحديث عن أحب المصورين والمثالين إلى يوليوس، أي عن الرجل الذي يضارعه في مزاجه ورهبته، وفي قوة روحه وعمقها، أعظم الرجال في السجلات البشرية وأكثرهم حزناً.

كان والد ميكل أنجيلو هو لدوفيكو دي بوناروتي سيموني Lodovico di Lionardo Buonerroti Simoni محافظ بلدة كبريسي Caprese الصغيرة القائمة على الطريق الذي يصل فلورنس باردسو، وكان لدوفيكو يقول إنه يمت بصلة القرابة البعيدة إلى كونتات كانوسا Canossa وقد تفضل واحد منهم فاعترف بهذه الصلة؛ وكان ابنه ميكل أو ميخائيل أو ميكائيل يفخر على الدوام بأن في عروقه لتراً أو لترين من دم النبلاء، غير أن البحث الذي لا يرحم قد اثبت أنه مخطئ في هذا (22) ".

وكان مولده في كبريسي في السادس من شهر مارس عام 1475، وقد سمي باسم أحد الملائكة الكبار كما سمي رفائيل باسم واحد منهم. وكان ميكل أنجيلو رابع أخوة أربعة؛ وربى بالقرب من محجر للرخام عند ستنيانو Settignano فتنفس بذلك تراب النحت منذ مولده. وقد قال فيما بعد إنه رض الأزاميل والمطارق مع لبن مرضعته (23). ثم انتقلت الأسرة إلى فلورنس حين بلغت سنه ستة أشهر، وفي هذه البلدة تلقى من التعليم ما مكنه فيما بعد من أن يكتب شعراً إيطالياً جيداً. ولم يتعلم اللغة اللاتينية، ولم يخضع كل الخضوع لسحر العهود القديمة كما خضع له كثير

ص: 184

من الفنانين في ذلك العصر؛ بل كان ذا نزعة عبرية لا رومانية أو يونانية قديمة؛ وكان في رومة بروتستنتياً أكثر ممّا كان كاثوليكياً.

وكان يفضل الرسم على الكتابة - التي هي - في رأيه إفساد للتصوير. وأسف والده لهذه النزعة، ولكنه خضع لها آخر الأمر، ووضع ميكائيل وهو في سن الثالثة عشرة ليتتلمذ على دمنيكو غيرلندايو Dominico Ghirlandio، أشهر المصورين في فلورنس وقتئذ. وكان العقد يلزم الشاب بأن يقيم مع دمنيكو ثلاث سنين" ليتعلم فن التصوير"؛ على أن يتقاضى أجراً قدره ستة فلورينات في السنة الأولى، وثمانية في الثانية، وعشرة في الثالثة، بالإضافة إلى الطعام والمسكن فيما نظن. وكان الشاب يكمل ما يناله من التعليم على يدي لندايو بأن يظل على الدوام مفتوح العينين أثناء تجواله في فلورنس فيرى في كل شيء تحفة فنية. وفي ذلك يقول صديقه كنديفي Condivi:" فكان لذلك يتردد على سوق السمك، يدرس فيها أشكال زعانفه وظلال ألوانه، وألوان عيونه، وكل ما يتصل به؛ وقد أبرز كل هذه التفاصيل بأعظم ما يكون من الجد والمهارة في صوره"(24).

ولم يكد يتم العام مع غرلندايو حتى اجتمعت عليه الفطرة والمصادفة فحولته إلى النحت؛ وكان له، كما كان لكثيرين غيره من طلاب الفن، أن يدخل بكامل حريته الحدائق التي وشع فيها آل ميديتشي مجموعات التماثيل والعمارة القديمة. وما من شك في أنه قد نسخ صوراً من بعض الألواح الرخامية باهتمام خاص وحذق خاص؛ وشاهد ذلك أنه لمّا أراد لورندسو أن ينشئ في فلورنس مدرسة للنحت، طلب إلى غرلندايو أن يبعث إليه ببعض الطلاب الذين تلوح عليهم مخايل النجابة في هذه الناحية؛ فبعث إليه دمنيكو بفرانتشيسكو جانتشي Franceso Ganacci وميكل أنجيلو بوناروتي. وتردد والد الغلام في السماح له بالانتقال من

ص: 185

فن إلى فن، وكان يخشى أن ينتهي الأمر بولده إلى أن يكلف بقطع الحجارة؛ والحق أن ميكائيل قد استخدم بعض الوقت في القيام بهذا العمل، فكان يقطع الحجارة للمكتبة اللورنتية. ولكن الغلام ما لبث أن أخذ ينحت التماثيل. والعالم كله يعرف قصة تمثال فاون

(1)

الرخامي. وكيف نحت ميكائيل قطعة من الرخام عثر عليها مصادفة في صورة فاون عجوز، وكيف لاحظ لورندسو وهو مار بهذا التمثال أن هذا الشيخ الطاعن في السن يندر أن تكون أسنانه كاملة كما تظهر في التمثال، فما كان من ميكائيل إلاّ أن أصلح هذا الخطأ بضربة واحدة خلع بها سنّاً من فكه الأعلى. وسر لورندسو من إنتاج الغلام وحسن استعداده، فأخذه إلى بيته وعامله فيه معاملة الآباء للأبناء. وظل الفنان الشاب عامين كاملين (1490 - 1492) يقيم في قصر آل ميديتشي، يطعم دائماً على مائدة واحدة مع لورندسو، وبولتيان، وبيكو، وفنتشينو، وبلشي Pulci، ويستمع إلى أكثر الأحاديث استنارة في السياسة، والأدب، والفلسفة، والفن. وخصه لورندسو بحجرة طيبة، ووظف له خمس دوقات (62. 50؟ دولار أمريكي) كل شهر لمصروفه الخاص. وكان كل ما يخرجه ميكائيل من التحف الفنية يبقى ملكاً خاصاً به يتصرف فيه كما يشاء.

ولولا بيترو ترجيانو Pienro Torrigiano لكانت هذه السنون التي قضاها ميكائيل في قصر آل ميديتشي سني نشأة سعيدة في حياة الشاب. وتفصيل ذلك أن بيترو ساءه في يوم من الأيام استهزاء ميكائيل "فما كان مني"(كما قال هو نفسه لسلني)"إلاّ أن قبضت يدي ولكمته لكمة على أنفه أحسست معها أن عظمه وغضروفه قد تحطما تحت عظام أصابعي كأنهما بقسماط هش، وسيحمل اثر ضربتي هذه معه إلى قبره"(25). وهكذا كان؛ فقد كان أنف ميكل أنجيلو يبدو طوال الأعوام الأربعة والسبعين

(1)

Faun رب الحراج عند الرومان الأقدمين. (المترجم)

ص: 186

التالية مكسور العرنين ولم يكن هذا الحادث ليرقق من طبعه.

وفي هذه السنين نفسها كان سفنرولا يذيع تعاليمه المتزمتة النارية التي يدعو فيها إلى الإصلاح. وكثيراً ما كان ميكائيل يذهب ليستمع إليه، ولم ينس قط تلك المواعظ أو الرجفة الباردة التي كانت تسري في دمه الغض حين تنفذ في سكون الكتدرائية الغاصة بالمستمعين صيحة رئيس الدير الغاضبة معلنة ما سوف يحل بإيطاليا الفاسدة من دمار. وبقى شيء من روح سفنرولا بعد موته في نفس ميكل أنجيلو: بقى منها الرعب مما يراه حوله من فساد خلقي، وكراهيته الشديدة للاستبداد، وشعوره الحزين من سوء المصير. واجتمعت هذه الذكريات والمخاوف فكانت من العوامل التي شكلت أخلاقه، ووجهت مَنحته وفرشاته؛ فكان وهو مستلق على ظهره في نقش معبد يذكر سفنرولا؛ وكان وهو يرسم صورة يوم الحساب يستعيده حياً في خياله، ويقف بإرعاد الراهب وإبراقه خلال القرون.

وتوفي لورندسو في عام 1492 وعاد ميكل بعد موته إلى بيت أبيه وواصل عمله في النحت والتصوير، وأضاف وقتئذ تجربة عجيبة إلى ما تلقاه من تعليم. ذلك أن رئيس مستشفى سانتو أسبريتو (الروح القدس) Santo Spirito سمح له أن يشرح الأجسام البشرية في حجرة خاصة. وبلغت الأجسام التي شرّحها من الكثرة حداً غثيت من معدته، فظلت بعض الوقت لا تستبقي فيها طعاماً أو شراباً. ولكنه تعلم التشريح ولاحت له فرصة سخيفة يظهر فيها علمه هذا حين طلب إليه بيرو ده ميديشي أن يصنع من الثلج تمثال رجل في بهو القصر؛ فأجابه ميكل إلى ما طلب، وأقنعه بيرو بأن يعود إلى الحياة في قصر آل ميديتشي (يناير سنة 1494).

وحدث في عام 1494 أن هرب ميكل أنجيلو في إحدى نوبات اضطرابه الكثيرة إلى بولونيا مخترقاً ثلوج جبال الأبنين. وتقول إحدى القصص إن صديقاً له رأى فيما يرى النائم تحذيراً له من سقوط بيترو؛ ولكن

ص: 187

لعل فطنته هي التي نبهته مقدماً إلى هذا المصير؛ ومهما يكن من شيء فإن فلورنس قد لا تكون في هذه الحال مكاناً أميناً لشخص له ما لميكل أنجيلو من الحظوة عند الميديتشيين. وأخذ وهو في بولونيا يعنى عناية كبيرة بدراسة النقوش التي صورها ياقوبو دلا كوبرتشيا على واجهة سان بترونيو؛ ثم طلب إليه أن يتم قبر القديس دمنيك، فنحت له ملكاً رائعاً رشيقاً؛ وانذره في ذلك الوقت مثالو بولونيا المجتمعون في منظمة لهم بأنه، وهو الشخص الأجنبي المتطفل، إذا ظل ينتزع العمل من أيديهم، فإنهم سيتخلصون منه بإحدى الأساليب الكثيرة التي ابتكرها عصر النهضة. وكان سفنرولا في ذلك الوقت قد أصبح صاحب السيادة في فلورنس، وامتلأ جو المدينة بالفضيلة وبالحديث عن الفضيلة. وعاد إليها ميكل في عام 1495.

ووجد فيها نصيراً له في شخص لورندسو دي بيرفرانتشيسكو Lorenzo di Pierfranceso الذي ينتمي إلى فرع آخر من أسرة ميديتشي. وقد نحت له تمثال كيوبد النائم الذي كان له تاريخ عجيب. فقد اقترح عليه لورندسو أن يعالج سطح التمثال حتى يبدو كأنه تمثال قديم؛ ووافق ميكل على هذا الاقتراح؛ ثم بعث لورندسو بالتمثال إلى روما حيث بيع لأحد التجار بثلاثين دوقة، وباعه هذا التاجر إلى رفائلو رياريو Raffaello Riario كردنال ده سان جيورجيو بمائتي دوقة. وبيع بعدئذ إلى سيزاري بورجيا، وباعه سيزاري إلى جويدو بلدو صاحب أربيني؛ واسترده سيزاري حين استولى على تلك المدينة، وأرسله إلى إزبلا دست، ووصفته إزبلا هذه بأنه " لا نظير له بين جميع أعمال الأيام الحديثة"(26). ولسنا نعرف شيئاً من تاريخه بعدئذ.

وقد صعب على ميكل، رغم كفاياته المتعددة، أن يكسب قوته بأعماله الفنية في مدينة يكاد عدد الفنانين فيها يبلغ عدد سكانها. ودعاه أحد عمال رياريو إلى روما، وأكد له أن الكردنال سيعهد إليه بعمل، وأن

ص: 188

رومة مليئة بأنصار الفن أصحاب الثراء. وهكذا انتقل ميكل أنجيلو في عام 1496 إلى العاصمة وهو مفعم القلب بالأمل، وخص بمكان في بيت الكردنال. وتبين أنرياريو غير كريم؛ غير أن ياقوبو جالو Iacopo Gallo، أحد رجال المصارف عهد إلى ميخائيل أن ينحت تمثالاً لباخوس وآخر لكيوبد. يوجد أولهما الآن في متحف برجيلو Bargello بفلورنس والآخر بمتحف فكتوريا وألبرت بلندن. وتمثال باخوس صورة غير ممتعة لإله الخمر الشاب وهو في حالة سكر شديد؛ ورأس التمثال صغير لا يتناسب مع جسمه، كما يليق بالسكير، ولكن الجسم متقن التصوير أملس ناعم نعومة خنثوية. وكيوبد شاب جاثم أكثر شبهاً بالشاب الرياضي منه بإله الحب، ولعل ميكل أنجيلو لم يسمه بهذا الاسم الذي لا يتفق مع صورته؛ وإذا نظرنا إليه من حيث هو تحفة من تحف النحت حكمنا من فورنا بأنه تحفة ممتازة. فقد ميز فيه الفنان من البداية أو فيما يكاد يكون من البداية، عمله بأن أظهر صاحب التمثال في لحظة من لحظات العمل وفي موقف من مواقفه. ذلك أنه لم يكن كاليونان يفضل في الفن مواقف الراحة وعدم العمل، لا نستثني من ذلك إلاّ تمثال بييتا Pieta؛ ومثل هذا يقال - مع الاستثناء ذاته - عن حب اليونان للتعميم أي تصوير أنماط عامة؛ أما ميكل أنجيلو فكان يؤثر تصوير الفرد خيالياً في فكرته، واقعياً دقائقه؛ ولم يقلد الأشكال القديمة، إلاّ في ملابسها؛ أما بقية أعماله فكانت خاصة به، فهي لم تكن مولداً جديداً للصورة القديمة، بل كانت خلقاً فذاً وإبداعاً على غير مثال يحتذيه.

وأعظم ما أخرجه الفنان أثناء مقامه الأول في روما هو تمثال بييتا وهو الآن أحد الآيات الفنية التي تفتخر بها كنيسة القديس بطرس. وقد وقع العقد الذي أنشئ بمقتضاه هذا التمثال الكردنال جان ده فليير Jean de Villier سفير فرنسا في البلاط البابوي (1498). وكان الأجر

ص: 189

المتفق عليه هو 45 دوقة (8525؟ دولاراً)؛ والزمن الذي يتم فيه سنة واحدة، وأضاف المصرفي صديق ميكائيل ضمانه الكريم:

أتعهد، أنا ياقوبو جالو، بشرفي إلى السيد المبجل، أن المدعو ميكل أنجيلو سيتم العمل المذكور في خلال عام واحد، وأنه سيكون أجمل عمل في الرخام تستطيع أن تتباهى به روما في هذه الأيام؛ وأن أستاذاً أياً كان في أيامنا هذه لن يستطيع أن يصنع خيراً منه

وأتعهد كذلك بشرفي إلى المدعو ميكل أنجيلو أن الكردنال المبجل سيؤدي الأجر حسب المواد المدونة المبينة في هذا العقد (27).

وإناّ لنجد بعض العيوب في هذه المجموعة الرائعة من صورة الأم العذراء التي تمسك بابنها الميت في حجرها: فالثياب فيها تبدو كثيرة مسرفة في الكثرة، ورأس العذراء صغير لا يتناسب مع جسمها، وهي تمد يدها اليمنى في حركة لا تناسبها، ووجهها وجه امرأة في مقتبل العمر لا يشك أحد في أنها أصغر من ابنها. ويقول كنديفي Condivi إن ميكل أنجيلو رد على هذه الشكوى الأخيرة بقوله:

ألا تعلمون أن النساء الطاهرات يحتفظن بنظارتهن أكثر ما يحتفظ بها غير الطاهرات منهن؟ وأكثر ما يكون هذا في حالة عذراء لم تتسرب إلى قلبها في يوم من الأيام شهوة يمكن أن يتأثر بها الجسم! بل إنّي لأذهب إلى أبعد من هذا فأجازف بالاعتقاد بأن نضرة الشباب الطاهرة، التي احتفظت بها لأسباب طبيعية، ربما فاضت عليها لتقنع العالم بأن الأم عذراء طاهرة إلى غير أجل محدود (28).

ذلك خيال يبعث في النفس السرور خليق بأن نغفر لصاحبه ما فيه من بعد عن المعقول، ولا يلبث معه الإنسان أن يألف الوجه الظريف، الذي لا تمزقه الآلام، والهادئ في حزن صاحبته وألمها، كما يألف صورة الأم المستسلمة لإرادة الله، والتي يعزيها عن آلامه أن تحتفظ

ص: 190

في تلك اللحظات الأخيرة بالجسم العزيز الذي طهر من جراحه، وتحرر من عوامل حقده، يرقد فيحجر المرأة التي حملت به ولم يفارقه جماله حتى في ساعة موته. وإنّا لنجد في هذه المجموعة الساذجة كل ما تتضمنه الحياة من لباب، ومآس، وفداء! نجد فيها سلسلة التوالد التي تخلد بها المرأة حياة الجنس البشري، ونجد فيها الموت الذي لا مفر منه والذي هو العقاب المحتوم لكل مولد؛ والحب الذي يسمو بالفناء بما يخلعه عليه من رحمة وحنان ويتحدى كل موت بمولد جديد. ولقد كان فرانسس الأول محقاً حين قال إن هذه الصورة هي أجمل ما أبدعه ميكل أنجيلو على الإطلاق (29)؛ ذلك أنها لم يخرج أحسن منها فنان آخر في تاريخ النحت كله، ولربما جاز لنا أن نستثني من هذا التعميم الفنان اليوناني غير المعروف الذي نحت تمثال دمتر المحفوظ في المتحف البريطاني.

ولم يكن نجاح بييتا سبباً في شهرة ميكل أنجيلو فحسب - وهي شهرة خليقة بأن يستمتع بها كل إنسان، بل إن هذا النجاح قد در عليه المال الكثير الذي كان أله على استعداد لأن يستمتعوا معه به. ذلك أن أباه فقد بسبب سقوط آل ميديتشي المنصب الصغير الذي حباه به لورندسو الأكبر؛ وكان الأخ الأكبر لميكائيل قد دخل أحد الأديرة؛ وأمّا الأخوان الصغيران فكانا فتيين مسرفين، وبذلك اصبح ميكائيل عماد تلك الأسرة، وكان يشكو من هذه الحال التي فرضتها عليه الظروف ولكنه كان كريماً سخياً مع أسرته.

وأكبر الظن أن اضطراب أحوال أسرته المالية هو الذي دعاه إلى فلورنس، فعاد إليها في عام 1501 حيث عهد إليه في شهر أغسطس من ذلك العام نفسه بعمل فذ. ذلك أن مجلس الأعمال (الأبراري Operai) في كتدرائية المدينة كان يمتلك كتلة كبيرة من رخام كراراً ارتفاعها ثلاث عشرة قدماً ونصف قدم، ولكنها ظلت مطروحة على الأرض لا ينتفع بها

ص: 191

مائة عام كاملة لعدم انتظام شكلها. وسأل المجلس ميكل أنجيلو هل يستطاع نحت تمثال منها، فوافق على أن يحاول ذلك، ووقع معه مجلس الكنيسة ونقابة الصوف عقد القيام بالعمل وقد جاء فيه:

إن الأستاذ الجليل ميكل أنجيلو

قد اختير لكي يصور، ولينجز ويتم إلى حد الكمال تمثالاً لرجل وهو التمثال المسمى الضخم Il gigante والذي يبلغ ارتفاعه تسع أذرع

على أن يتم العمل في خلال عامين يبدءان من شهر سبتمبر، وأن يتقاضى مرتباً قدره ستة فلورينات في الشهر، وأن يمده المجلس بما يحتاجه لإنجاز هذا العمل من العمال، والخشب وما إلى ذلك؛ وحين يتم صنع التمثال يقدر مستشارو النقابة ومجلس العمال

هل يستحق مكافأة أكثر، على أن يترك هذا لذمتهم (30).

وظل المثال يكدح في هذه المادة القاسية عامين ونصف عام، حتى انتزع منها بجده وبطولته تمثال داود، وانتفع بكل إصبع من ارتفاعها، ثم دعا مجلس العمل في 25 يناير سنة 1504 مجلساً من كبار رجال الفن في فلورنس ليقرروا أين يوضع التمثال الضخم كما كانوا يسمون تمثال داود. وكان المجتمعون هم كوزيموروزيلي Cosimo Roselli، وساندروبتيتشلي، وليوناردو دافنشي، وجليانو وأنطونيو داسينجلو، وفلبينولبي، ودافد غرلندايو، وبروجينو، وجيوفني بفيرو Giovanni Piffero ( والدتشليني)، وبيودي كوزيمو. ولم يتفق هؤلاء على المكان، فتركوا ذلك آخر الأمر لميكل أنجيلو، فطلب أن يقام التمثال على رصيف قصر فيتشيو؛ ووافق مجلس السيادة على هذا الطلب؛ ولكن عملية نقل التمثال الضخم من المصنع القريب من الكنيسة إلى القصر تطلبت أن يعمل في ذلك أربعين رجلاً أربعة أيام؛ وكان لابد من تعلية أحد المداخل بهدم جدار فوقه كي يمر فيه التمثال، وتطلب رفعه في مكانه واحداً وعشرين يوماً أخرى. وظل

ص: 192

قائماً في فراغ مدخل القصر المكشوف معرضاً للجو، وعبث الأطفال وللثورة عليه؛ وتقول للثورة لأنه كان بمعنى ما إعلاناً صريحاً للتقدمية المتطرفة، ورمزاً للجمهورية الفخورة التي عادت إلى الوجود، وتهديداً صارماً للمغتصبين. ولمّا عاد آل ميديتشي إلى السلطة في عام 1513 لم يمسوه بسوء؛ ولكن لما قامت الثورة التي انتزعت السلطة منهم مرة أخرى (1527) سقط عليه مقعد ألقى من إحدى نوافذ القصر فحطم ذراع التمثال اليمني. وجمع فرانتشيسكو سيلفياتي Francesco Salviati وجيورجيو فاساري، وكانا وقتئذ غلامين في السادسة عشرة من العمر، القطع المحطمة واحتفظا بها، وضم عضو آخر من أسرة ميديتشي جاء فيما بعد، وهو الدوق كوزيمو، هذه الأجزاء وثبتها في مكانها. وفي عام 1873 نقل داود بعد جهد جهيد، إلى مجمع الفنون الجميلة Accaademea della Bell Arti بعد أن أثر فيه الجو فشوه معالمه، ولا يزال فيها يحتل مكان الشرف، وهو أحب التماثيل إلى الشعب في فلورنس.

لقد كان هذا العمل من أعمال البطولة، وهو بهذا الوصف لا يمكن أن نوفيه حقه من الثناء، تغلب فيه الفنان بحذق كبير على الصعاب الآلية وإذا ما حكم عليه الإنسان من ناحية الحماسة استطاع أن يجد فيه بعض العيوب! فاليد اليمنى أكبر مما ينبغي أن تكون، والعنق مفرط في الطول، والساق اليسرى أطول في جزئها الذي تحت الركبة مما يليق، والإلية اليسرى ليست متضخمة بالقدر الذي يجب أن تتضخم به أية إلية سليمة. وكان بيروسدريني رئيس الجمهورية يرى أن الأنف مفرط في الضخامة، ويروي فاساري قصة - لعلها مختلفة - تقول إن ميكل أنجيلو صعد سلماً وهو يمسك في يده بعض التراب، وتظاهر بأنه سينحت قطعة من أنف التمثال، وأن يتركه سليماً كما كان، ثم أسقط تراب الرخام من يده أمام رئيس الجمهورية، وأن الرئيس أعلن بعدئذ أن التمثال قد صلح. والأثر

ص: 193

العام الذي يحدثه التمثال فيمن ينظر إليه يقطع لسان كل ناقد! فالهيكل الرائع، الذي لم يضخمه ميكل أنجيلو كما ضخم التماثيل التي نحتها لأبطاله المتأخرين، وبنية الجسم المصقول، والمعارف القوية الرقيقة رغم هذه القوة، والخياشيم المتوترة من الاهتياج، والتجهم المنبعث من الغضب، ومظهر العزيمة المشوبة بشيء من الحياء حين يواجه الشاب جالوت الرهيب ويستعد لملء مقلاعه والقذف به - كل هذه أشياء تجعل داود أشهر تمثال في العالم كله إذا استثنينا من ذلك تمثالاً واحداً لا غير

(1)

. ويرى فاساري أنه "يفوق كل ما عداه من التماثيل قديمها وحديثها لاتينية كانت أو يونانية"(31).

وأدت لجنة الكنيسة إلى ميكل أنجيلو أربعمائة فلورين أجراً لتمثال داود وإذا أدخلنا في اعتبارنا انخفاض النقد فيما بين عامي 1400 و 1500 جاز لنا أن نقدر هذا المبلغ بما يقرب من 5000 دولار حسب قيمة النقد في عام 1952. ويبدو أن هذا أجر قليل لعمل دام ثلاثين شهراً، ونحن نظن أنه قام في خلال تلك المدة بمهام أخرى. والحق أن المجلس ونقابة الحرف قد استخدماه أثناء عمله في نحت تمثال داود في نحت تماثيل أخرى، يبلغ ارتفاع الواجد منها ست أقدام ونصف قدم، للرسل الاثني عشر كي توضع في الكتدرائية. وقد أمهل اثنتي عشرة سنة للقيام بهذا العمل، واتفق على أن يُؤدّى له فلورينان كل شهر، وأن يبني له بيت يقيم فيه من غير أجر. ولم يبق من هذه التماثيل الأخيرة إلاّ تمثال الرسول متي الذي لا يظهر إلاّ نصفه من الكتلة الحجرية كأنه تمثال من عمل Rodin. وإذا نظرنا إليه في مجمع فلورنسي العلمي أدركنا أحسن من ذي قبل ما كان يعنيه ميكل أنجيلو حين عرَّف النحت بأنه الفن "الذي يعمل بقوة الانتزاع"،

(1)

يجب أن يكون هذا الاستثناء هو تمثال هرمس لبركتليز، ولكن أغلب الظن أن الناس يرون أنه تمثال الحرية المقام في مرفأ نيويورك.

ص: 194

وما قاله مرة أخرى في إحدى قصائده: "إن مجرد إزالة السطح من الحجر الصلب الخشن يكفي لأن يخلق منه صورة تزيد وضوحاً كلما واصل الإنسان النحت (32) " وكثيراً ما كان يقول عن نفسه إنه يبحث عن الصورة المخبوءة في الحجر، فيزيل سطحه كأنه يسعى للعثور على عامل منجم دفن تحت أنقاض الصخور الهاوية.

ونحت حوالي عام 1505 لتاجر فلمنكي تمثال العذراء الجالسة في كنيسة نتردام في بروج. وقد أثنى على هذا التمثال ثناءً جمّاً، ولكنه من أضعف ما أخرجته يد الفنان - فالثياب بسيطة تخلع على صاحبها الوقار، ورأس الطفل لا يتناسب مطلقاً مع جسمه، ووجه العذراء عابس حزين، كأنها تحس أن كل ما وقع خطأ في خطأ. وأعجب من هذا شكل العذراء في الصورة الملونة التي رسمت (1505) لأنجيلو دوني Angelo Doni. والحق أن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى كثيراً بالجمال، بل كان يهتم بالأجسام، ويفضل منها أجسام الذكور، وكان يمثلها في بعض الأحيان بكل ما في أشكالها الظاهرة من عيوب، وفي أحيان أخرى لكي تنقل إلى الناس عظة أو فكرة، ولكنه قلّما كان يهدف إلى التقاط الجمال وحبسه في الحجر الخالد. وهو في هذه الصورة الأخيرة يسيء إلى الذوق السليم بوضعه صفاً من الشبان العارين على سور خلف العذراء. ولسنا نقصد بهذا إنه كان يتحول إلى النزعة الوثنية، فهو يبدو مسيحياً مخلصاً بل قل متزمتاً، غير أن افتتانه بالجسم الآدمي في هذه الصورة قد تغلب على تقواه كما تغلب عليها في صورة يوم الحساب. كذلك كان شديد الاهتمام بتشريح الأجسام في أوضاعها المختلفة، وفيما يحدث للأعضاء، والأطراف، والهيكل، والعضلات حين يغير الجسم وضعه. فهنا مثلاً تتكئ العذراء إلى الخلف، لتتلقى، فيما يبدو الطفل يسلمه لها القديس يوسف من وراء كتفها. والتمثال منحوت نحتاً ممتازاً ولكن الصورة لا حياة فيها، وتكاد تكون تصويراً خالياً من اللون؛ وكثيراً

ص: 195

ما قال ميكل أنجيلو إن التصوير لم يكن هو العمل الذي يبرع فيه.

لهذا نعتقد أنه لم يغتبط قط حين دعاه سدريني (1504) ليرسم له نقشاً جدارياً في ردهة المجلس الكبير بقصر فيتشيو، بينا كان بغيضه ليوناردو دافنشي ينقش جداراً مقابلاً له. وكان ميكل أنجيلو يبغض ليوناردو لأسباب كثيرة - لآدابه الأرستقراطية، وثيابه الغالية التي يتباهى بها، واتباعه من الشبان الحسان؛ ولعله كان يبغضه كذلك لأنه كان حتى ذلك الوقت أكثر منه نجاحاً وأوسع شهرة في التصوير. ولم يكن أنجيلو واثقاً من أنه وهو المثال يستطيع أن ينافس ليوناردو في التصوير، ولكنه قرر أ، يجرب حظه وكان ذلك منه دليلاً على الشجاعة. وكانت الصورة التخطيطية الأولية عبارة عن لوحة من الورق على قماش من التيل مساحتها 288 قدماً مربعة. ولم يكد يتقدم بضع خطوات في هذه الصورة التخطيطية حين تلقى دعوة من روما: ذلك أن يوليوس كان في حاجة إلى أحسن المثالين في إيطاليا كلها. واستشاط مجلس السيادة غضباً، ولكنه سمح لميكل أنجيلو بأن يلبي الدعوة. ولعله هو لم يأسف لترك القلم والفرشاة، والعودة إلى العمل المجهد الذي كان يحبه.

‌2 - ميكل أنجيلو ويوليوس الثاني

1505 -

1513

وما من شك في أنه قد أدرك لأول وهلة أنه سيكون من أشقى الناس مع يوليوس، فقد كانا متماثلين إلى حد كبير. فكلاهما متقلب المزاج ذو أهواء؛ والبابا متغطرس حاد الطبع، والفنان مكتئب فخور. وكلاهما جبار في روحه وهدفه، لا يقر لغيره بالتفوق عليه، ولا يقبل التراضي أو النزول عن بعض مطالبه، يتنقل من هدف عظيم إلى آخر مثله، ويطبع شخصيته على زمنه، ويجد ويكدح بنشاط جنوني إلى حد خيل إلى الناس بعد وفاتهما أن إيطاليا قد خارت قواها فلم تبق لها جهود.

ص: 196

وسار يوليوس على السنة التي جرى عليها الكرادلة منذ زمن بعيد، فأراد أن ينشئ لعظامه تابوتاً يشهد حجمه وفخامته بما كان له من عظمة ويخلدها للأجيال الطويلة من بعده. وكان ينظر بعين الحسد إلى القبر الجميل الذي فرغ أندريا سان سوفينو Andrea Sansovino في كنيسة سان ماريا دل بوبولو. وعرض ميكل أنجيلو أن يكون هذا القبر أثراً ضخماً طوله سبع وعشرون قدماً وعرضه ثمان عشرة، يزينه أربعون تمثالاً: يرمز بعضها إلى الولايات البابوية التي استردت، ويمثل بعضها فنون التصوير، والهندسة المعمارية، والنحت، والشعر، والفلسفة، واللاهوت - أسرها كلها البابا القوي الذي لا تقف قوة ما أمام سلطانه؛ وترمز تماثيل أخرى إلى أسلافه الكبار كموسى مثلاً؛ ومنها يمثلان ملكين، أحدهما يبكي لانتقال يوليوس من الأرض، والآخر يبتسم لدخوله الجنة؛ وفي أعلى هذا النصب الضخم ينشأ تابوت جميل تحفظ فيه رفات البابا المتوفى. واقترح أن تنقش على أوجه هذا النصب نقوش من البرنز تروي جلائل أعمال البابا في الحرب، والحكم والفن. وكان في النية إقامة هذا كله عند منبر كنيسة القديس بطرس، وكان هذا المشروع يتطلب كثيراً من أطنان الرخام، وآلاف الدوقات، ويحتاج نحته إلى عدد كبير من السنين تقتطع من حياة المثال. ووافق يوليوس على المشروع، وأعطى أنجيلو ألفي دوقة ليبتاع بها لرخام المطلوب، وأرسله إلى كراراً وأمره أن يختار منها أحسن عروق الرخام. وأبصر ميكل وهو فيها تلاً مطلاً على البحر، وفكر في أ، ينحت هذا التمثال نفسه في صورة إنسان ضخم، إذا أضيء من أعلاه كان منارة يهتدي بها الملاحون من بعيد؛ غير أن قبر يوليوس أعاده مرة أخرى إلى روما. ولمّا وصلها ما اشتراه من الرخام، ووضع في كومة كبيرة بالقرب من مسكنه بجوار كنيسة القديس بطرس، عجب الناس

ص: 197

من ضخامة حجمه وكثرة ما أبتيع من المال، وابتهج لذلك قلب يوليوس.

لكن المسرحية استحالت إلى مأساة. ذلك أن برامنتي كان يحتاج إلى المال ليشيد به كنيسة القديس بطرس الجديدة، فكان ينظر شزراً إلى هذا المشروع الضخم؛ هذا إلى أنه كان يخشى أن يحل ميكل أنجيلو محله فيصبح فنان البابا المقرب إليه؛ ولهذا استعان بنفوذه على تحويل أموال البابا وحماسه إلى غير طريق الضريح المقترح. وكان يوليوس نفسه يعد العدة لشن الحرب على بروجيا وبولونيا (1506)؛ ورأى أن الحرب تتطلب الكثير من المال، وأن الضريح يمكن أن يؤجل حتى تسود السلم. ولم يكن أنجيلو في هذه الأثناء قد أعطى مرتبه، وكان قد أنفق في شراء الرخام كل ما أعطاه يوليوس من المال مقدماً، وأنفق من ماله الخاص ما يحتاجه لتأثيث البيت الذي أعده البابا. ولهذا ذهب إلى قصر الفاتيكان في يوم سبت النور من عام 1506 يطلب المال؛ فقيل له إن عليه أن يعود في يوم الاثنين التالي؛ فلمّا عاد قيل له أن يجيء في يوم الثلاثاء. وأجيب هذا الجواب نفسه في أيام الثلاثاء، والأربعاء، والخميس. ولمّا جاء يوم الجمعة طرد وقيل له في غلظة إن البابا لا يحب أن يراه. فعاد إلى منزله وكتب إلى يوليوس الرسالة التالية:

أيها الأب المبارك: لقد طردت اليوم من القصر بناءً على أوامرك؛ ومن أجل هذا أبلغك أنك إذا احتجت إليّ بعد هذه الساعة فعليك أن تطلبني في غير روما (33).

وأمر ميكل أن يبتاع ما اشتراه من أثاث لبيته، وركب الجواد إلى فلورنس، فلمّا بلغ بجيبنسي Poggibonsi لحقه بعض الرسل، ومعهم رسالة من البابا يأمره فيها أن يعود من فوره إلى روما. وإذا كان لنا أن نصدق روايته هو (ولقد كان رجلاً غاية في الصدق والأمانة) فإنه رد على البابا بقوله إنه لن يعود إلاّ إذا وافق البابا على أن يوفي بالشروط التي تفاهما عليها لبناء الضريح، ثم واصل السير إلى فلورنس.

ص: 198

وهناك عاد إلى العمل في الرسم التمهيدي لمعركة بيزا. ولم يختر لموضوعه حرباً حقيقية بالذات، ولكنه اختار لها اللحظة التي دعا فيها فجاءة الجند الذين كانوا يسبحون في نهر الآرنو إلى القتال. ذلك بأن ميكل لم يكن يهتم بالمعارك، بل كان يرغب في أن يدرس ويصور أجسام الرجال العارية في كل وضع من الأوضاع؛ وقد أتاح له هذا الموضوع فرصته المرتقبة؛ فقد أظهر رجالاً يخرجون من النهر، وآخرين يجرون لأخذ أسلحتهم، وغيرهم يحاولون أن يلبسوا جوارب في سوقهم المبتلة، وبعضهم يقفزون أو يركبون الخيل، وبعضهم يعدلون دروعهم، وآخرين يجرون إلى المعركة عراياً كما ولدتهم أمهاتهم: ولم يكن في هذه الصورة منظر طبيعي خلفي، لأن ميكل أنجيلو لم يكن يعنى قط بالمناظر الطبيعية، أو بشيء ما في الطبيعة عدا الأجسام البشرية. ولمّا أتم الصورة التمهيدية وضعها إلى جانب صورة ليوناردو في بهو البابا في كنيسة سانتا ماريا نوفلا؛ وظلت الصورتان المتنافستان فيها مدرسة يتلقى منها دروساً في التصوير مائة من الفنانين أمثال أندريا دل سارتو، وألنسو بيرجويتي Alonso Berrugueet، ورفائيل، وياقوبو سان سنوفينو Iacopo San Sanovino، وبيرينو دل فاجا Perino del Vaga، ومائة غيرهم. ونقل تشيليني Cellini صورة ميكل أنجيلو حوالي عام 1513، ووصفها وصف الشاب المتحمس بقوله إنها:" بلغت من الروعة درجة ليس في كل ما بقى من آيات الفن القديم أو الحديث ما يرقى إلى الذروة التي سمت إليها. ولم يصل ميكل أنجيلو القدسي أيام تقواه فيما بعد إلى نصف الذروة من القوة التي وصّل إليها هذه الصورة، وإن كان قد أتم معبد سستيني العظيم"(34).

تلك مبالغة لا نقول بها نحن. إن الصورة نفسا لم ترسم الرسم النهائي، والرسم التمهيدي قد فقد، ولم يبق من النسخ التي نقلت عنه إلاّ قطع صغيرة. وبينما كان ميكل أنجيلو يعمل في الرسم التمهيدي بعث البابا يوليوس بالرسالة

ص: 199

تلو الرسالة إلى مجلس السيادة في فلورنس، يأمره فيها بأن يعيده إلى روما. وكان سدريني يحب الفنان ويخشى عليه إذا عاد إلى رومة، فأخذ يحاور ويداور؛ حتى إذا جاءته الرسالة الثالثة من البابا، رجا أنجيلو أن يلبي الأمر، وقال إن عناده يعرّض السلام بين فلورنس والبابا للخطر. وطلب أنجيلو أن يعطي ضماناً بسلامته يمضيه كردنال فلتيرا Voltera. وحدث في أثناء هذا الأخذ والرد أن استولى يوليوس على بولونيا (نوفمبر سنة 1506)؛ فلمّا تم له ذلك أرسل إلى فلورنس أمراً باتاً صريحاً يطلب فيه قدوم ميكل أنجيلو إلى بولونيا للقيام بعمل هام. وعبر ميكل مرة أخرى ثلوج الأبنين مسلحاً برسالة من سدريني إلى يوليوس يرجو فيها البابا "أن يظهر له حبه، وأن يعامله بالحسنى". غير أن يوليوس قابله وهو عابس مقطب الوجه، وأخرج من الحجرة أسقفاً جرؤ على أن يؤنب الفنان على عدم امتثاله أمر البابا، وعفا عن أنجيلو بألفاظ خشنة غليظة، وعهد إليه بمهمة تتفق مع ما جبل عليه البابا من الصفات فقال:"أريد منك أن تجعل تمثالي ضخماً وأن تصبه من البرونز، وأنا أريد أن أقيمه على واجهة سان بترونيو"(35). وسر ميكل أن يعود إلى فن النحت، وإن لم يكن واثقاً من قدرته على أن ينجح في صب تمثال لشخص جالس يبلغ ارتفاعه أربع عشرة قدماً. وخص يوليوس هذا العمل بأربعة آلاف دوقة، ولكن ميكل أبلغه فيما بعد أنه أنفق المبلغ جميعه عدا أربعة دوقات في شراء المواد اللازمة للعمل، وبذلك لم ينل جزاء له على كدحه سنتين كاملتين في بولونيا سوى هذا الجزاء الضئيل. وكان العمل شاقاً موئساً لا يقل في ذلك عن الجهد الذي وصفه تشيليني والذي تطلبه صب تمثال رسيوس وإقامته في شرفة لكنيسة؛ فقد كتب هذا المثال إلى أخيه بونروتو Buonarroto يقول:"إني أكد ليلاً ونهاراً؛ وإذا اضطررت إلى أن أبدأ العمل كله من جديد، فلست أظن أن حياتي تطول حتى أتمه"(56). وأقيم التمثال في مكانه فوق المدخل الرئيسي للكنيسة في شهر فبراير من عام 1508؛ وعاد ميكل إلى فلورنس في شهر مارس،

ص: 200

وأكبر الظن أنه كان يتمنى ألاّ يرى يوليوس مرة أخرى، وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت صهر التمثال كما سبق القول لتصنع منه مدافع.

ولم يكد يفرغ من العمل حتى استدعاه البابا فرجع إلى روما، وساءه أن يعرف أن يوليوس لا يرغب في نحت الضريح العظيم، بل يطلب إليه أن ينقش معبد سكستس الرابع. وتردد ميكل في أن يواجه مشكلتي المنظور والتناسب والتصغير في نقش سقف يعلو فوق الأرض ثماني أقدام وستين قدماً؛ فاحتج مرة أخرى بأنه مثال لا مصور؛ وأوصى باستخدام رفائيل في هذا العمل لأنه أجدر به منه. ولكن البابا لم يأبه لصيته. وأخذ يوليوس يأمره ويتملّقه، ويتعهد بأن يؤجره ثلاثة آلاف دوقة (37. 500؟ دولار). وكان ميكل يخشى البابا ويحتاج إلى المال؛ فقبل المهمة الشاقة التي لا توافق هواه، وهو كاره يردد قوله:"ليست هذه صناعتي". وبعث إلى فلورنس يطل بخمسة مساعدين مدربين على الرسم؛ وأنزل المحالات السمجة التي نصبها برامنتي، وأقام محالاته مكانها، وبدأ العمل، فأخذ يقيس ويرسم السقف الذي تبلغ مساحته عشرة آلاف قدم مربعة، ووضع الخطة العامة، ورسم الصور التمهيدية لكل جزء من أجزائه، بما في ذلك البندريلات، والحلي البارزة والهلالية. وقدر عد الأشكال كلها بثلاثمائة وثلاثة وأربعين شكلاً؛ وقام بدراسة أولية كثيرة بعضها دراسات للأحياء. ولمًا أتم إعداد الرسم التمهيدي الأخير حمل فوق المحالات ووضع في السقف؛ متجهاً بوجهه إلى الخارج ملتصقاً بالسطح الذي طلي حديثاً بالجص، كل جزء منه في المكان المقابل له. ثم حفرت خطوط في الجص من فوق الرسوم، ورفعت بعدئذ الصور التمهيدية، وبدأ يلون الرسم.

وظل أنجيلو يعمل في سقف سستيني أكثر من أربع سنين - من مايو عام 1508 إلى أكتوبر 1512. ولم يكن العمل يدوم بلا انقطاع، فقد كانت تتخلله فترات تطول وتقصر يقف فيها مثال ذلك الفترة التي ذهب

ص: 201

فيها إلى بولونيا ليلح على يوليوس في طلب المال. ولم يكن يعمل وحده، فقد كان له معاونون يطحنون الألوان، ويعدون الجص، ولعل منهم من كان يرسم أو يلون بعض الأشكال الصغيرة، وإن بعض المظلمات لتدل على أنها من صنع أيد أقل من يديه حذقاً. ولكن الفنانين الخمسة الذين استدعاهم إلى روما سرعان ما فصلوا من العمل؛ ذلك أن طراز أنجيلو في التفكير، والتخطيط، والتلوين، كان يختلف عن طرازهم وعن تقاليد فلورنس اختلافاً رأى معه أنهم يعطلونه أكثر مما يعينونه. هذا إلى أنه لم يكن يعرف كيف يقوم بالعمل مع غيره من الأعوان، وكان من أسباب سلواه، وهو فوق المحالات أنه بمفرده، يستطيع أن يفكر وهو هادئ وإن يكن وهو متألم، ويستطيع أن يحقق بشخصه قول ليوناردو:"إن كنت وحدك كان لك السلطان الكامل على نفسك". وزاد يوليوس الصعاب الفنية بصعاب خلقها بنفسه، وذلك بتعجله إتمام العمل العظيم وإظهاره للناس. وفي وسع القارئ أن يتصور البابا الشيخ، يصعد الإطار الواهن الذي نصب ليؤدي إلى مكان الفنان، ثم يبدي له إعجابه ويسأله في كل مرة:"متى ينتهي العمل؟ " فيكون الجواب درساً في الشرف والاستقامة: "سينتهي حين أفعل كل ما أعتقد أن الفن يتطلبه ويراضيه"(37) فيرد عليه يوليوس مغضباً: "أتريد أن أقذف بك من فوق هذه المحالة؟ "(38). وخضع أنجيلو فيما بعد لإلحاح البابا واستعجاله فأنزل المحالات قبل أن يصقل العمل الصقل الأخير. وفكر يوليوس وقتئذ في أن من الواجب أن يضاف قليل من الذهب إلى هذا المكان أو ذاك، ولكن الفنان المتعب أقنعه بأن الزخارف الذهبية لا تليق بصور الأنبياء أو الرسل. ولمّا نزل ميكل عن المحالة آخر مرة، كان منهوك القوى هزيل الجسم، شيخاً قبل الأوان. وتقول إحدى القصص إن عينيه لم تكونا تقويان على مواجهة ضوء الشمس لطول ما اعتادتا من الضوء الضعيف في المعبد (39)، كما تقول قصة أخرى إن القراءة وهو ناظر

ص: 202

إلى أعلى وقتئذ أيسر له من أن يقرأ وهو يمسك الصفحة تحت عينيه (40).

وكانت الخطة الأولى التي أرادها يوليوس لنقش السقف لا تزيد على تصوير طائفة من الرسل، ولكن ميكل أنجيلو حمله على أن يقبل بدلها خطة أوسع وأكثر نبلاً. ونتيجة لهذا قسم ميكل القبة المحدبة إلى ما يزيد على مائة لوحة بأن صور فيها عمداً تتخللها حليات، وزاد من خداع الأبعاد الثلاثة بإضافة صور لشبان أقوياء يرمقون الأطناف أو يجلسون على تيجان العمد. وصور أنجيلو على اللوحات الكبرى الممتدة على طول قمة السقف حوادث من سفر التكوين: عملية الخلق الأولى تفصل بين الضوء والظلمة؛ والشمس، والقمر، والكواكب تنشأ وتتكون بأمر الخالق الأعظم الذي صور على هيئة إنسان مهيب جليل، صارم الوجه، قوي الجسم، ذي لحية وأثواب تهفهف في الهواء. وفي لوحة أخرى تمتد اليد اليمنى لله العلي الأعلى، وهو هنا أجمل شكلاً وملامح مما هو في الصورة السابقة، ليخلق آدم، ويمسك بيده اليسرى ملاكاً جميل الصورة. وتعد هذه اللوحة أروع ما صوره ميكل أنجيلو. وفي صورة ثالثة يُخرِج الله، وهو الآن رب أكبر في السن تبدو عليه سمات الأبوة، حواء من ضلع آدم؛ ويأكل آدم وحواء فاكهة الشجرة المحرمة، ويطردان من الجنة. ويُعِد نوح وأبناؤه قرباناً يقربان لله ويعلو الطوفان؛ ويحتفل نوح بعيد من الأعياد يُشرب فيه كثير من الخمر. وكل ما في هذه اللوحات مأخوذ من كتاب العهد القديم، وكله من القصص العبري، ذلك أن ميكل أنجيلو من أتباع الأنبياء الذين ينذرون بآخرة العالم، وليس من المبشرين الذين ينشرون إنجيل الحب.

وصور أنجيلو في البندريلات التي فوق كل عقد اثنين من العقود صوراً رائعة لدانيال، وإشعيا، وزكريا، ويوئيل، وحزقيال، وإرميا، ويونان. أما البندريلات الأخرى فقد صور فيها المتنبآت الوثنيات

ص: 203

اللاتي يعتقد الناس أنهن بشرن بالمسيح: سيبيل اللوبية الرشيقة، تمسك في يدها كتاباً مفتوحاً يتحدث عن المستقبل؛ وسيبيل القومائية المكتئبة، الشقية، القوية، والمتنبئة الفارسية، العالمة، ومتنبئة دلفي، ومتنبئة أرثريا؛ تلك هي الرسوم الملونة التي تضارع تماثيل فيدياس؛ فالحق أن الإنسان ليظن أن هذه كلها تماثيل لا صوراً ملونة؛ وأن ميكل أنجيلو قد جند للعمل في فن غريب عليه، فأحاله إلى الفن الذي يوائمه. واحتفظ الفنان في المثلث الكبير الذي في نهاية السقف، وفي مثلثين آخرين في النهاية الأخرى بموضوعات العهد القديم، بالحية الفظة في البيداء، وبانتصار داود على جالوت، وبشنق هامان، وبقتل يهوديت لهلوفرينس. ثم صوّر أنجيلو في آخر الأمر مناظر يوضح فيها نسب مريم والمسيح، وكأنه فعل هذا بعد أن أعاد مرة ثانية إلى التفكير يريد أن يذعن لأمر غير راغب فيه.

وليس فذ هذه الصور كلها صورة تضارع في فكرتها، أو رسمها، أو تلوينها، أو طريقتها الفنية صورة مدرسة أثينة لرفائيل؛ ولكنها إذا نظر إليها في مجموعها كانت أعظم عمل قام به أي فنان في تاريخ التصوير كله. ذلك أن الأثر الكلي الناشئ من تكرار التفكير وشدة العناية يفوق كثيراً الأثر الذي ينطبع في الذهن إذا ما نظر الإنسان إلى الحجرات. ففي صورة رفائيل نحس بالكمال الفني الذي وفق صاحبه فيه كل التوفيق، ونرى اجتماع التفكير الديني والمسيح في وداعة ورقة، أما في صورة أنجيلو فلسنا ندرك فقط الدقة العظيمة في مراعاة الأصول الفنية التطبيقية - في المنظور، وطول الأشكال وقصرها، واختلاف المواقف والأوضاع اختلافاً يضارع سواه؛ بل ندرك فوق هذا قوة العبقرية وأثرها في نفوسنا، العبقرية التي تكاد تبلغ من القدرة على الخلق ما تبلغه صورة الله جل شأنه، التي تهب عليها الريح وهي ترفع آدم عن ظهر الأرض.

وهنا أيضاً أطلق ميكل أنجيلو العنان لعاطفته المسيطرة عليه، فجعل

ص: 204

موضوع فنه وهدفه الذي يبتغيه هو الجسم الآدمي، وإن كان المكان الذي يعمل فيه هو مصلى البابوات. ولقد كان، كما كان اليونان الأقدمون، أقل عناية بالوجه وما ينطق به، منه بالجسم كله مجتمعاً. وإنّا لنجد سقف سستيني نحو خمسين من الذكور العارين وعدداً قليلاً من النساء العاريات؛ وليس فيه مناظر طبيعية، ولا نباتاً إلاّ في صورة خلق النبات، ولا نرى فيه نقوشاً من الطراز العربي؛ وفيه يصبح الجسم الآدمي، كما هو في مظلمات سنيوريلي في أرفيتو، الوسيلة الوحيدة للزخرف كما هو الوسيلة الوحيدة لتمثيل المعاني والأفكار المجردة. وكان سنيوريلي المصور الوحيد، كما كان ياقوبو دلاكويرتشيا Jacopo della Querica المثال الوحيد، الذي عني ميكل أنجيلو بالأخذ عنه والتعلم منه. وشاهد ذلك أن كل بقعة صغيرة في السقف خلت من تصميم الصورة العامة قد شغلت بصورة إنسان عار، لا يعنى فيها بالجمال بقدر ما يعنى بالقوة والجسم الرياضي. وليس في هذه الصور ما يوحي بالغريزة الجنسية، بل الذي فيها هو الكشف الدائم عن الجسم بوصفه أعلى ما يتجسم فيه النشاط، والحيوية، والحياة نفسها. ولقد احتج بعض ذوي النفوس الضعيفة الحائرة على كثرة ما في بيت الله من الأجسام العارية، ولكننا لا نجد في السجلات ما يدل على أن يوليوس اعترض عليها؛ ذلك أن البابا كان واسع الأفق في تفكيره بقدر ما كان واسعاً في عداواته؛ وكان يدرك عظمة الفن حين تقع عليها عينيه. ولعله كان يفهم أنه لم يخلد اسمه بالحروب التي انتصر فيها، بل خلده بأن أطلق العنان للنزعة القدسية، القوية، العجيبة، التي كانت تضطرب في نفس أنجيلو فاستطاعت أن تلهو في قبة مصلى البابا.

ومات يوليوس بعد أربعة أشهر من إتمام نقوش سقف سستيني؛ وكان ميكل أنجيلو وقتئذ يقترب من ذكرى مولده الثامن والثلاثين؛ وكان قد حمل لواء المثالين الإيطاليين جميعهم بتمثالي داود وبيتا؛ أما بهذا

ص: 205

السقف فقد ضارع في التصوير رفائيل أو بزه؛ وكأنه لم يبق أمامه عالم آخر يفتحه؛ وما من شك في أن أحداً من الناس، حتى هو نفسه، قلّما كان يظن أنه سيعيش من الزمان أكثر من خمسين سنة أخرى، وأن أشهر صوره، وأكثر تماثيله نضوجاً، لم تخرج إلى الوجود بعد. وقد حزن لوفاة البابا العظيم، ولم يكن يدري هل يولع ليو بغريزته بالفن النبيل كما كان يولع به يوليوس؛ ولهذا آوى إلى مسكنه يترقب ما له في ذمة المستقبل.

ص: 206

الباب الثامن عشر

‌ليو العاشر

1513 -

1521

الفصل الأول

‌الكردينال الغلام

إن البابا الذي خلع اسمه على عصر من أزهى العصور وأكثرها خلوداً في تاريخ روما ليدين بتاريخه الكنسي إلى ما كان لأبيه من دهاء سياسي وخطط سياسية بارعة، ذلك أن سكستس الرابع كاد يقضي على لورندسو ده ميديتشي، وكان لورندسو هذا يرجو أن يعلو سلطان أسرته وأن يكون أبناؤه وحفدته آمنين على أنفسهم ومراكزهم في فلورنس إذا كان أحد أبناء هذه الأسرة من بين أعضاء مجمع الكرادلة، يشغل مكاناً في الدوائر الداخلية للكنيسة. ولذلك أخذ يعد ابنه الثاني جيوفني للمنصب الكنسي وكاد يفعل به هذا منذ مولده. ولمّا بلغ الغلام العاشر من عمره (1482) حلق شعر يافوخه

(1)

، وما لبث أن نفخ بمناصب ذات أجر من غير عمل؛ فقد عين وصياً على بعض أملاك الكنيسة، على أن يكون له الفائض من ريعها. وفي السنة الثامنة عين رئيساً لدير فون دوس Font Douce في فرنسا، وفي سن التاسعة كانت له رياسة دير باسنيانو Passignano ذات الإيراد الضخم،

(1)

كان هذا في طقوس الكنيسة الكاثوليكية تمهيداً للتعيين في المناصب الكنسية. (المترجم)

ص: 207

وفي الحادية عشرة كان رئيساً لدير منتي كسينو ذي الذكريات التاريخية؛ وقبل أن يختار جيوفني للجلوس على عرش البابوية كان قد اجتمع له ستة عشر من هذه المناصب (1). وقد عيّن وهو في سن الثامنة كبيراً للموثقين البابويين، ثم عين كردنالاً في سن الرابعة عشرة

(1)

.

وقد زود هذا الحبر بكل ما يتاح لأبناء الواسعي الثراء من ضروب التربية والتعليم؛ فنشأ بين العلماء، والشعراء؛ ورجال الحكم، والفلاسفة، وعين مارتشيلو فنتشينو Marcilio Ficino مربياً به، وتعلم اللغة اليونانية على دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondylese، والفلسفة على برناردو دا ببينا Bernardo Bibbiena الذي أصبح فيما بعد أحد كرادلته. وأشرب، مما في قصر والده وما حوله من مجموعات فنية ومن حديث حول الفن، حب الجمال الذي كاد يكون له ديناً حينما نضجت سنه. ولعله قد أخذ عن والده سخاءه العظيم وعدم مبالاته بالمال، كما أخذ عنه حياته المرحة، التي تكاد تكون أبيقورية، وهاتان الصفتان هما اللتان امتازت بهما حياته وهو كردنال وكذلك وهو بابا، وكانت لهما آثار بعيدة المدى في العالم المسيحي. ولمّا بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بالجامعة التي أنشأها والده في بيزا، وظل فيها ثلاث سنين يدرس الفلسفة واللاهوت، والقانون الكنسي والمدني. ولمّا بلغ السادسة عشرة سمح له علناً بأن ينضم إلى مجمع الكرادلة في روما؛ وقد بعثه إليه لورندسو (12 مارس من عام 1492) مزوداً برسالة تعد من أكثر الرسائل طرافة في التاريخ.

من واجبك ومن واجبنا جميعاً نحن الذين يهتمون بمصلحتك أن نعتقد أن الله حبانا بعنايته؛ وليس ذلك لما أفاضه على بيتنا من النعم ومظاهر التبجيل والتكريم فحسب، بل لأنه فضلاً عن هذا وأعظم منه قد أسبغ

(1)

يجب أن نذكر أنه كان في وسع الشخص أن يكون كردنالاً دون أن يكون قساً، وأن الكرادلة كانوا يختارون لمقدرتهم السياسية، وصلاتهم لا لصفاتهم الدينية.

ص: 208

علينا، في شخصك أنت، أعظم ما استمتعنا به حتى الآن من عز وكرامة، وهذه النعمة التي أنعمها علينا، والتي هي في حد ذاتها من أجل النعم، ليزيد من قدرها ما يصاحبها من الظروف، وخاصة ما كان منها متصلاً بشبابك وبمكانتنا نحن في العالم. ولهذا فإن أول ما أعرضه عليك، هو أنه ينبغي لك أن تسبح بحمد الله، وأن تذكر على الدوام أن كل ما نالك من خير ليس مرده ما تتصف به من فضائل، أو فطنة، أو حسن تدبير، بل إن مرده هو فضل الله عليك، وهو دين لا تستطيع أن توفيه إلاّ بالتقوى؛ والعفة، وأن تجعل حياتك مثلاً يحتذى. وإن ما يفرضه عليك أداء هذا كله من واجبات ليزداد ويعظم لأنك قد بانت عليك في سنيك المبكرة مخايل تدل على أن العالم سيجني منك هذه الثمار الطيبة متى نضج عقلك وجسمك

فاعمل إذن على أن تخفف العبء الملقى على كرامتك المبكرة، بالتزام النظام في حياتك، وبمثابرتك على دراسة العلوم التي تؤهلك لمنصبك. ولشد ما سرّني إذ علمت أنك في خلال العام المنصرم، قد أكثرت من تناول العشاء الرباني ومن الاعتراف، وأنك فعلت هذا من تلقاء نفسك. ولست أعتقد أن ثمة طريقة ينال بها رضاء الله خيراً من أن تعتاد أداء هذه الواجبات وأمثالها

وإني لأعلم حق العلم أنك، وأنت تقيم الآن في روما بؤرة المظالم والشرور جميعها، ستزداد في وجهك الصعاب حين تحاول أن تأخذ نفسك بالتزام هذه النصائح. نعم إن تأثير القدوة الطيبة لا يزال منتشراً قائماً لم تدرس معالمه، ولكنك ستلتقي في أكبر الظن، بأقوام يحاولون جهدهم إفساد خلقك وإغراءك بارتكاب الإثم؛ ذلك أنه ليس بخاف عليك أن ما بلغته من مكانة سامية في هذه السن المبكرة قد جر عليك حسد الحاسدين؛ وأن الذين عجزوا عن أن يحولوا بينك وبين هذه المكانة السامية لن يدخروا وسعاً في الحط منها وذلك بإغرائك على أن تأتي من الأعمال ما تفقد به تقدير

ص: 209

الشعب لك، فيدفعونك بهذا إلى الهاوية التي تردوا هم فيها، ولهم في شبابك ما يغريهم ويؤكد لهم في ظنهم أنهم لا شك ناجحون فيما يحاولون. فحصّن نفسك إذن لملاقاة هذه الصعاب بكل ما تستطيع من قوة العزيمة، لأن الفضائل لا تزال في هذه الأيام ضعيفة الشأن بين إخوانك في مجمع الكرادلة. ولست أنكر بطبيعة الحال أن من بينهم رجالاً صالحين، أوتوا قسطاً كبيراً من العلم والمعرفة، يضربون بحياتهم أحسن الأمثلة لغيرهم من الناس، وأنا أوصيك بأن تتخذ هؤلاء قدوة لك، وأن تسلك في حياتك مسلكهم، فأنت إذا حذوت حذوهم وسرت على سيرتهم، ازداد تقدير الناس لك وانتشر صيتك بقدر ما تميزك سنك ومكانتك عن غيرك من زملائك. بيد أني أنصحك بأن تباعد ما بينك وبين ملق المتملقين؛ وأحذر الخيلاء والمظاهر الباطلة في سلوكك وحديثك؛ ولا تتصنع الزهد، وحتى الجد نفسه لا تبد مسرفاً فيه؛ وأرجو أن تفهم في مستقبل الأيام معنى هذه النصيحة وتسير عليها سيراً يفوق كل ما أستطيع الإفصاح عنه.

على أنك لست بغافل عمّا للأخلاق التي ينبغي لك أن تتخلق بها من شأن عظيم، لأنك تعلم حق العلم أن العالم المسيحي على بكرة أبيه سوف يزدهر ويعمّه الرخاء إذا اتصف الكرادلة بما يجب أن يتصفوا به من أخلاق طيبة؛ ذلك أنهم إن كانوا كذلك كان البابا حتماً من الصالحين في جميع الأوقات. وطمأنينة العالم المسيحي، كما تعلم، إنما تعتمد على وجود البابا الصالح. فاعمل إذن على أن تكون بحث إذا كان سائر الكرادلة مثلك، كان لنا أن نرجو نيل هذه النعمة الشاملة. وليس من السهل أن أسدي إليك نصائح مفصلة دقيقة تسترشد بها في سلوكك وحديثك، ولهذا فحسبي أن أنصحك بأن تكون العبارات التي تستخدمها في حديثك مع الكرادلة وغيرهم من ذوي الدرجات العلي خالية من التشامخ، يزنيها تقديرك واحترامك لمن يحدثك

على أن من الخير لك في زيارتك هذه لومة - وهي أولى

ص: 210

زياراتك لهذه المدينة، أن تصغي إلى غيرك من الناس لا أن تكثر أنت من التحدث إليهم

واجعل عدتك وثيابك في المناسبات الرسمية دون الدرجة الوسطى لا فوقها، واعلم أن البيت الجميل، والأسرة الحسنة التنظيم أفضل من الحاشية الكبيرة والمسكن الفخم

وأن الحرير والجواهر لا تليق بمن هم في مثل مركزك؛ وإنك لتستطيع أن تظهر ذوقك بأحسن مما تظهره هذه الثياب والجواهر بأن تحصل على عدد قليل من الآثار القديمة الظريفة، أو بجمع الكتب الجميلة الشكل، وبأن يكون أتباعك من المتعلمين الحسني التربية لا بالكثيرين. وادع غيرك إلى دارك أكثر مما تتلقى الدعوات إلى دور غيرك، وإن كان عليك ألا تسرف في هذه أو تلك. وليكن طعامك بسيطاً، ومارس الرياضة البدنية بالقدر الكافي؛ لأن من يلبسون الثياب التي تلبسها سرعان ما تصيبهم الأمراض إذا لم يعنوا بأجسامهم أعظم العناية

واعلم أن قلة الوثوق بالناس عن الحد الواجب حير من الإسراف في الثقة بهم. وثمة قاعدة ألفت إليها نظرك وهي لدى أفضل من كل ما عداها: استيقظ من النوم مبكراً، فإن هذا الاستيقاظ المبكر لن يفيدك صحة في الجسم فحسب، بل إنه سيمكنك فوق ذلك من أن تنظّم أعمال اليوم وتنجزها؛ وإذ كان مركزك يحتم عليك القيام بأعمال متعددة، كأداء الصلوات والخدمات الدينية؛ والدرس، والاستماع إلى ذوي الحاجات وما إلى ذلك، فإنك ستفيد من هذه النصيحة أكبر فائدة

وسيطلب إليك في أغلب الظن أن تتوسط لدى البابا في ظروف معينة. ولكن عليك ألاّ تكثر من الإلحاح عليه ومضايقته، لأن مزاجه يجعله أعظم ما يكون سخاء على أقل الناس إلحاحاً برجائهم ومطالبهم. إن عليك أن تراعى هذه النصيحة لئلاّ تغضبه، وألاّ يفوتك أن تتحدث إليه في بعض الأوقات في موضوعات أحب إلى النفس من هذه الشفاعات؛

ص: 211

وإذا كان لابد لك أن تطلب إليه منه، فاطلبها بالتواضع والخضوع الذين يسرانه ويوائمان مزاجه. استودعك الله (2).

وتوفي لورندسو قبل أن يمضي بعد هذا الوقت شهر واحد، ولم يكد جيوفني يصل إلى "بؤرة الفساد والظلم". حتى عجّل بالعودة إلى فلورنس ليؤيد بيرو أخاه الأكبر في أن يرث سلطانه السياسي المزعوم. وكان من المصائب القليلة التي لاقاها جيوفني في حياته أنه كان في فلورنس حين سقط بيرو عن عرشه. ولم يجد هو وسيلة للنجاة من غضب المواطنين على آل ميديتشي، ذلك الغضب الذي لم يفرقوا فيه بين أفراد هذه الأسرة، إلا أن يتخفى في زي راهب فرنسيسي، وأن يشق طريقه وهو متخف في هذا الزي بين الجماهير المعادية، وأن يطلب الالتحاق بدير سان ماركو الذي سخا عليه أسلافه بالهبات، ولكنه كان وقتئذ تحت سيطرة سفنرولا عدو أبيه. ولهذا أبى الرهبان قبوله فيه، فاختفى وقتاً ما في إحدى ضواحي المدينة، ثم اتخذ سبيله فوق الجبال لينضم إلى أخوته في بولونيا؛ وقد تجنب الذهاب إلى روما لأنه كان يكره الإسكندر السادس؛ وعاش ست سنين هارباً أو منفياً، ولكن يلوح أنه لم يكن في خلالها يعوزه المال. وقد زار في هذه الأثناء مع جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد الباب كلمنت السابع) وبعض أصدقائه ألمانيا، وفلاندرز، وفرنسا. ثم اصطلح آخر الأمر مع الإسكندر فاتخذ مقامه في روما (1500).

وأحبه كل من كان في تلك المدينة. فقد كان متواضعاً، بشوشاَ، سخياً في غير تظاهر، وقد بعث بهبات قيّمة إلى معلميه بوليتيان وكلكنديلس، وأخذ يجمع الكتب والتحف الفنية؛ وحتى دخله الكبير نفسه لم يكد يفي بما يقدمه من هبات الشعراء، والفنانين، والموسيقيين، والعلماء. وكان يستمتع بجميع فنون الحياة وطيباتها؛ بيد أن جيوتشيارديني Guicciardini الذي لم يكن قلبه يخلو من كره للبابوات، يصفه بأنه "قد اشتهر بأنه إنسان

ص: 212

طاهر الذيل، مبرأ من كل نقيصة خلقية" (3)؛ وقد هنأه ألدوس مانوتيوس Aldus Manutius بحياته التقية النقية"(4).

وبدأت الأقدار تعاكسه من جديد حين عينه يوليوس الثاني مندوباً بابوياً يحكم بولونيا وإقليم رومانيا (1511)، ورافق الجيش البابوي إلى رافنا؛ وخاض المعركة وهو أعزل يشجع الجند ويشد عزائمهم؛ وأطال المكث فوق ما ينبغي في ميدان الهزيمة؛ يصلي على الموتى، حتى قبضت عليه سرية يونانية تعمل في خدمة الفرنسيين المنتصرين. ولمّا سيق أسيراً إلى ميلان، سرّه أن يرى أن الجنود الفرنسيين أنفسهم قلّما كان يعنيهم أمر الكرادلة المنشقين ومجلسهم الذي لا يستقر في مكان، وأنهم كانوا يحرصون على المجيء إليه لينالوا بركته، ومغفرته، ولعلم أيضاً قد جاءوا لينالوا رفده. واستطاع أن يفر من آسريه الرفيقين به، وأن ينضم إلى القوات البابوية - الإسبانية التي نهبت براتو Prato واستولت على فلورنس، واشترك مع أخيه جوليانو في إعادة آل ميديتسي إلى سلطانهم (1512)؛ ثم استدعى بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت إلى روما ليشترك في اختير من يخلف يوليوس على عرش البابوية.

ولم يكن وقتئذ قد جاوز السنة السابعة والثلاثين من عمره، وقلّما كان يتوقع أنه هو نفسه سيختار بابا. وقد دخل المجمع المقدس محمولاً على محفة يعاني آلام ناسور في الشرج (5). واحتدم النقاش أسبوعاً، اختير بعده جيوفني ده ميديتشي بابا (11 مارس سنة 1513)، ويلوح إن الرشا لم تكن من أسباب هذا الاختيار، وتسمى باسم ليو العاشر؛ ولم يكن قد رسم بعده قسيساً، ولكن هذا النقص قد تدور في 15 مارس.

ودهش الناس جميعاً من هذا الاختيار وابتهجوا له؛ فقد سرهم وأثلج صدورهم، بعد دسائس الإسكندر وسيزاري بورجيا السوداء وحروب يوليوس واضطراباته هو وأحفاده، أن يتزعم الكنيسة في ذلك الوقت شاب

ص: 213

امتاز وهو لا يوال فتياً بقلبه الطيب السمح، وكياسته ودماثة خلقه ومجاملته، ومناصرته السخية للآداب والفنون، وأن يقودها كما يبدو في طريق السلام. ولم يخش ألفنسو صاحب فيرارا، الذي حاربه يوليوس بلا هوادة، المجيء إلى روما؛ ورد إليه ليو كل ما كان له في دوقيته من امتيازات، وشكر له الأمير هذه اليد فأمسك بركاب ليو حين امتطى جواداً بيسير في موكب التتويج في السابع عشر من شهر مارس. وكانت هذه الحفلات التي أقيمت بمناسبة تتويجه فخمة لم سبق لها مثيل من قبل أنفقت فيها مائة ألف دوقة (6). وقدم فيها المصرفي أغستينو تشيجي Agostino Chigi مركبة نقش عليها باللغة اللاتينية ذاك النقش الذي يعلن فيه أمل الشعب:"لقد حكمت من فيل فينوس"(أي الإسكندر)، "وحكم بعدئذ المريخ"(يريد يوليوس)، و "الآن تحكم بالاس Pallas" و (الحكمة) وطاف الناس بشعار أكثر من هذا إيجازاً وإحكاماً:"كان المريخ، وتكون بالاس، وأنا فينوس، سأكون أبداً"(7). وابتهج الشعراء، والمثالون، والمصورون، والصيّاغ؛ وانبعثت في قلوب الكتّاب الإنسانيين آمال بعودة عصر أغسطس الذهبي، وقصارى القول أن أحداً لم يتربع على كرسي البابوية من قبل أن تحف به هذه البشائر والآمال والبهجة التي تغمر قلوب الشعب على بكرة أبيه.

وإذا جاز لنا أن نصدق الملفقين من كتّاب ذلك العصر فإن ليو نفسه قد قال لأخيه وهو منشرح الصدر: "فلنستمتع بالبابوية ما دام الله قد وهبنا إياها"(8). ولعل هذا القول مدسوس عليه، وحتى إن صح لا يدل على شيء من عدم الاحتشام، بل ينم على روح جذلة، لا تنسى أن تكون كريمة كما تكون سعيدة، وهي لا تدري وقد واتاها الحظ السعيد أن تصف العالم المسيحي كأنه يتمخض بالثورة على الكنيسة.

ص: 214

الفصل الثاني

‌البابا السعيد

وبدأ ليو عمله بداية طيبة إلى أبعد حد، فعفا عن الكرادلة الذين دبروا مؤتمر بيزا وميلان المعادي له، وانتهى بذلك خطر الانقسام؛ ووعد ألاّ يمس الضياع التي يتوفى عنها الكرادلة، ووفى بهذا الوعد. وأعاد افتتاح مجلس لاتران، ورحب بمندوبيه بلغته اللاتينية البليغة. وأدخل على الكنيسة بعض إصلاحات صغيرة، وخفف الضرائب؛ ولكن مرسومه الذي دعا فيه إلى الإصلاحات الكبرى (3 مايو سنة 1514) لقي مقاومة شديدة من الموظفين الذين كانوا يخشون من أن تنقص هذه الإصلاحات من دخلهم، ولهذا لم يبذل جهداً كبيراً في تنفيذه (9) وقال في هذا:"سأتدبر الأمر، لأرى كيف أستطيع أن أرضي كل إنسان"(10) لقد كان هذا هو طبعه، وكان طبعه هذا سبباً فيما حاق به من بلاء.

وليست الصورة التي رسمها له رفائيل (المحفوظة في بتي) والتي أخرجها بين عامي 1517 و 1519 مشهورة شهرة صورة يوليوس، ولكن ليو نفسه ملوم على هذا بعض اللوم! فقد كان حين صور أقل عمقاً في التفكير، وأقل بطولة في العمل، وأقل قدرة في قرارة نفسه. ولم تكن هذه الصفات لتكسب ظاهر وجهه وجسمه روعة وجلالاً. وكانت الصورة صادقة إلى أبعد حدود الصدق. فقد أظهرته رجلاً ضخماً، يتجاوز الحظ الأوسط في الطول، كما يتجاوزه أكثر من هذا في وزن الجسم. وقد اختفت بدانته التي تقلل من هيبته تحت ستار ثوبه المصنوع من المخمل الأبيض والموشى بالفراء الثمين، والحرملة الحمراء القرمزية؛ له يدان ناعمتان رخوتان، جردتا في الصورة من الخواتم الكثيرة التي تزينهما في الأوقات العادية؛

ص: 215

ومنظار للقراءة يساعد عينيه القصيرتي النظر؛ ورأس مستدير وخدان منتفخان، وأنف ضخم وأذنان عريضتان؛ وتمتد بعض الخطوط الدالة على الحقد والضغينة من الأنف في طرفي الفم، وعينان ثقيلتان، وجبهة عابسة بعض العبوس ذلك هو ليو الذي كشرت له الدبلوماسية عن نابها، ولعله قد آلمته حركة الإصلاح التي كانت قاسية عليه، وليس هو ليو الصياد والموسيقي المرح، ونصير الآداب والفنون الجواد الكريم؛ الرجل المثقف الذي ينتهب اللذات، والذي ابتهجت روما بتتويجه أعظم ابتهاج. وإذا ما شئنا أن ننصفه وجب أ، نضم سجل حياته إلى صورته، ذلك أن الرجل منا رجال كثيرون عند مختلف الرجال وفي مختلف الأوقات؛ وليس في مقدور أبرع مصور أن يظهر كل هذه الصفات في وجه إنسان ما في لحظة واحدة.

وكانت الصفة الأساسية في أخلاق ليو، والتي هي وليدة حياته المحظوظة هي طيبة قلبه. فقد كان يجد كلمة طيبة يقولها لكل من يلقاه، وكان يرى خير النواحي في كل إنسان عدا البروتستنت (الذين لم يكن يسعه أن يبدأ بفهمهم)؛ وكان يسخو على كثيرين من الناس سخاء استنزف كثيراً من أموال الكنيسة، وكان من أسباب حركة الإصلاح الديني. ونحن نسمع الشيء الكثير عن أدبه، ورقة حاشيته، وكياسته، وبشاشته، ومرحه حتى في أوقات المرض والألم (فقد أجريت له عدة جراحات لاستئصال ناسوره ولكنه كان يعود بعدها على الدوام، وكان في بعض الأحيان يجعل تحركه عذاباً ليس بعده عذاب). وكان يترك لغيره من الناس، على قدر ما يستطيع، أن يحيوا حياتهم كما يشاءون. وقد تغلبت القسوة على اعتداله وحنوه الأصليين حين تبين له أن بعض الكرادلة يأتمرون به ليقتلوه. ولقد كان شديداً صارماً مجرداً من الرحمة في بعض الأوقات، فعل ذلك مع فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري رجل أربينو وجيان باولوبجيلوني رجل بروجيا (11).

ص: 216

وكان يسعه أن يكذب كما يكذب الدبلوماسي إذا أرغمته الظروف على الكذب، وكان من حين إلى حين يتفوق على الساسة الغادرين الذين يريدون أ، يوقعوه في حبائلهم. لكنه كان في أكثر الأحيان ذا قلب رحيم؛ ونتبين هذا حين نهى (دون جدوى) عن استعباد الهنود الأمريكيين، وحين بذل كل ما في وسعه ليقاوم وحشية محاكم التفتيش التي كان يلجأ إليها فرديناند الكاثوليكي (12). وكان رغم نزعته الدنيوية العامة يؤدي جميع واجباته الدينية بذمة وأمانة، فكان يصوم، ولا يرى أي تناقض أساسي بين الدين والمرح، وقد اتهم بأنه قال لبمبو يوماً ما:"إن الأجيال جميعها لتعلم حق العلم كيف أفدنا من هذه الخرافة - خرافة المسيح"؛ ولكن المصور الوحيد الذي ورد فيه هذا القول هو مؤلًّف جدلي عنيف يسمى موكب البابوات The Pageant of Popes كتبه حوالي 1574 رجل إنجليزي لا شأن له يدعى جون بيل john Bale، وحتى بايل الذي لا يؤمن بدين ورسكو Rosucoe البروتستنتي يرفضان هذه القصة ويعتقدان أنها هي نفسها خرافة (13).

وكانت متعه ومسرّاته تختلف من الفلسفة إلى المهرجين الماجنين. وكان قد تعلم على مائدة أبيه أن يقدر الشعر، والنحت، والتصوير، والموسيقى، والخط الجميل، وزخرفة الكتب، والمنسوجات الرفيعة الجميلة، والمزهريات والزجاج، وكل أشكال الجمال مع جواز استثناء أصلها ومعيارها وهو المرأة؛ وكانت رعايته للفنانين والشعراء جرياً منه في روما على التقاليد الكريمة التي كان يسير عليها أسلافه في فلورنس، وإن كان استمتاعه بالفنون شاملاً شمولاً لا يصل به إلى حد الذي يجعله هادئاً مرشداً للذوق الفني. وقد كانت طبيعته السهلة مانعة له من أن يعني بالفلسفة عناية جدية، وكان يعرف أن النتائج والأحكام المستخلصة من المقدمات المنطقية كلها زعزعة غير أكيدة، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء

ص: 217

تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي Bernard Accolti ( المسمى يونيكو أريتينو Unico Aretino لأنه ولد في أدسو ولأنه لم يكن يجاريه أحد في سموله ارتجاله الشعر والقطع الموسيقية) بفضل الأجور التي نالها من ليو أن يشتري دوقية نيبي Nepi الصغيرة؛ وحصل منه يهودي عازف على العود على قصر ولقب كونت؛ وعُيّن المغني جبريل مرينو Gabrial Merino كبير أساقفة (14) ووصلت جوقة المرنمين في الفاتيكان بفضل تشجيع ليو ورعايته إلى درجة من السمو لم يسبق لها من قبل مثيل. وكان رفائيل صادقاً كل الصدق حين صور البابا وهو يقرأ كتاباً في الموسيقى الدينية. وكان ليو يجمع الآلات الموسيقية لجمالها وحسن أنغامها، وكان منها أرغن مزدان بقطع من المرمر يرى جستليوني أنه أجمل أرغن رآه أو سمعه.

كذلك كان ليو يحب أن يحتفظ في بلاطه بعدد من المازحين والمهرجين؛ وكان هذا مما يتفق مع ما أعتاده أبوه ومعاصروه من الملوك، ولم تروع له روما التي كانت تحب الضحك حباً لا يزيد عليه إلاّ حب الثروة والجماع، وقد يبدو لنا إذا عدنا بنظرنا إلى تلك الأيام الخالية أن مما تعافه نفوسنا أن تتردد أصداء النكات الخفيفة والقبيحة في أرجاء البلاط البابوي بينما كانت ثورة الإصلاح الديني الجامعة تشعل نارها في ألمانيا. ومما يحكى عن ليو أنه قد سره مرة أن يرى أحد المهرجين من رهبانه يبتلع حمامة دفعة واحدة، أو أربعين بيضة متتابعة (15)؛ وأنه قد قبل مسروراً من وفد برتغالي حين شاهد قداسته (16). وإذا جيء له بشخص يستطيع بفكاهته، أو صورته المشوهة، أو بلاهته أن يدخل السرور عليه، كان هذا طريقاً

ص: 218

مؤكداً لكسب رضاه (17). ويبدو أنه كان يحس بأن الترويح عن نفسه بهذه الوسائل من حين إلى حسن يشغله عن آلامه الجسمية، ويخفف عن نفسه عبء المتاعب النفسية، ويطيل حياته (18). وكانت له عادة تمت بصلة إلى عادات الأطفال وتقلل من حقد الحاقدين عليه. ذلك أنه كان يلعب الورق أحياناً مع الكرادلة، ويبيح للجمهور أن يشاهد اللعب حتى إذا فرغ منه وزع قطعاً من الذهب على الحاضرين.

وكان الصيد أحب ضروب التسلية إليه؛ فقد كان هذا مانعاً له من البدانة التي كان مستعداً لها بطبيعته، وكانت تمكنه من الاستمتاع بالهواء الطلق وبمناظر الريف بعد أن كان سجيناً في الفاتيكان. وكان له إسطبل به كثير من الجياد يخدمها مائة سائس؛ وكان من عادته أن يفرغ في شهر أكتوبر كله للصيد والقنص. وكانت أطباؤه يحبذون هذه العادة أعظم التحبيذ، ولكن باريس ده جراسيس Paris de Grassis كبير تشريفاته كان يشكو من أن البابا يظل منتعلاً حذاءيه الثقيلتين زمناً طويلاً "لا يستطيع أحد معه أن يقبل قدميه"، وكان ليو يضحك من هذا بكل قلبه (19). ونحن نرى البابا أرق حاشية مما نراه في صورة رفائيل حين نقرأ أن الفلاحين. أهل القرى كانوا يفدون عليه لتحيته حين يمر في طرقهم، وأنهم كانوا يقدمون له عطاياهم المتواضعة - وأن البابا كان يجزل لهم العطاء حتى كان هؤلاء ينتظرون بشوق زائد رحلات الصيد التي يقوم بها. وكان يهب بناتهم الفقيرات بائنات الزواج، ويؤدون ديون المرضى والطاعنين في السن، وآباء الأسر الكبيرة (20). وكان أولئك الأقوام السذج يخلصون له الحب أكثر من الألفين من الرجال الذين تتألف منهم حاشيته في الفاتيكان

(1)

.

(1)

وكان المكان المحبب الذي ينزل فيه ليو خلال رحلات الصيد هذه هو البيت الريفي المعروف بقصر مجليانا Magliana وكان هذا القصر قد شيد لسكستس الرابع ووسّعه إنوسنت الثاني ويوليوس الثاني، وزينه جيوفني دي بيترو الأمبري (المعروف باسم لو أسبانيا Lo Spagna) ليوليوس بمظلمات تمثل أبلو روبات الفن. وصمم رفائيل لمعبده (بين 1513 و 1520) ثلاث مظلمات بقى منها اثنان حتى الآن في متحف اللوفر. والراجح أن لو أسبانيا قد صورها من صور تمهيدية لرفائيل.

ص: 219

بيد أن بلاط لو لم يكن مجرد بؤرة للتسلية والمرح، بل كان إلى هذا ملتقى رجال الحكم المسئولين، ومن بينهم ليو نفسه، وكان مركز ذوي الأحلام، والعلم، والفكاهة في روما، والمكان الذي يقيم فيه العلماء، ورجال التربية، والشعر، والفنانون، والموسيقيون، ويلقون فيه أعظم الترحيب؛ وكان هو الذي تصرف فيه الأعمال الكنيسة الجدية، وتقدم فيه الاحتفالات الفخمة لاستقبال المبعوثين الدبلوماسيين، وتؤدب فيه المآدب الغالية، وتمثل فيه المسرحيات أو تقام فيه الحفلات الموسيقية، وينشد فيه الشعر، وتعرض فيه روائع الفن. وما من شك في أنه كان أرقى بلاط في العالم كله في ذلك الوقت. والحق أن بلاط ليو قد بلغ بفضل ما بذله البابوات من أيام نقولاس إلى ليو نفسه من الجهود لإصلاح قصر الفاتيكان وزخرفته، وحشد العدد الجم من عباقرة الأدب والفن، وأقدر السفراء في أوربا بأجمعها، نقول إن بلاط ليو قد بلغ بفضل هذا ذروة آداب النهضة وبهجتها، ولا نقول إنه قد بلغ ذروة الفن لأنه كان قد بلغ هذه الذروة في عهد يوليوس. ولم يشهد التاريخ قبل أيامه ثقافة بالقدر الذي شهده منها في هذا العهد، لا نستثني من ذلك عصر بركليس في أثينة أو عصر أغسطس في رومة (22).

وعم الرخاء المدينة واتسعت رقعتها بفضل ما كان يجري في شرايينها الاقتصادية من ذهب ليو، ويقول سفير الفاتيكان في هذا إن عشرين ألف بيت قد بنيت في روما في الثلاثة عشر عاماً التي تلت ارتقاءه عرش

ص: 220

البابوية، وقد شاد أكثرها القادمون الجدد من شمالي إيطاليا الذين قدموا إليها بعد هجرة عصر النهضة. وازدحم فيها الفلورنسيون بوجه خاص لينالوا رفد البابوية الفلورنسية. وقد باولو جيوفو Paolo Giovo الذي كان يتبختر في البلاط البابوي سكان روما في ذلك الوقت بخمسة وثمانين ألفاً (23)، ولسنا ننكر أنها لم تكن قد بلغت بعد ما بلغته فلورنس او البندقية من جمال، ولكنها كانت بإجماع الآراء محور المدنية الغربية؛ وقد سماها مارتشيلو ألبريني Marcello Alberini في عام 1527، "ملتقى العالم كله"(24). ولم يغفل ليو، وسط ملاهيه وشئونه الخارجية، عن تنظيم استيراد الطعام وتحديد أثمانه، وإلغاء الاحتكارات، وابتياع بعض السلع بأجمعها للتحكم في أثمانها

(1)

، وخفض الضرائب، ووزع العدالة بغير محاباة، وبذل جهده لتجفيف المستنقعات البنتية Pontine Marshes، وعمل على تقدم الزراعة في الكمبانيا، وواصل أعمال الإسكندر ويوليوس في شق الشوارع في روما وتحسينها (30). وسار على نهج أبيه في فلورنس فعنى بالضروريات والكماليات فاستخدم الفنانين لينظموا له المواكب الفخمة، وشجع الاحتفالات المقنعة عيد المساخر، وبلغ من أمره أن سمح بإقامة مصارعات الثيران التي جاء بها آل بورجيا في ميدان القديس بطرس نفسه. ذلك أنه كان يرغب في أن يشترك الشعب في مرح العصر الذهبي الجديد وسعادته.

وسارت المدينة على نهج البابا، وأطلقت للمرح والبهجة العنان، فأسرع رجال الدين، والشعراء، والطفيليون، والقوادون، والعاهرات إلى روما ليعبوا كأس السعادة عبا. وكان الكرادلة وقتئذ أغنى من الأشراف القدامى، بفضل ما حباهم به البابوان، وخاصة ليو نفسه، من المناصب التي جاءتهم بالإيراد من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وبينا كان

(1)

هذا هو الذي يسمونه في عالم التجارة "ركناً Corner"( المترجم)

ص: 221

أولئك الأشراف القدامى ينحدرون إلى هاوية الاضمحلال الاقتصادي والسياسي، كان دخل بعض الكرادلة يبلغ ثلاثين ألف دوقة في العام (أي نحو 375. 000دولار)(31). فاستطاعوا بذلك أن يسكنوا في مساكن فخمة، يقوم فيها على خدمتهم ثلاثمائة من الخدم في بعض الأحيان (32)، وتزدان بكل ما عرف في ذلك الوقت من روائع الفن والترف. ولم يكونوا يرون أنهم رجال دين بقدر ما كانوا يرون أنهم رجال حكم، ودبلوماسيون، ومديرون؛ لقد كانوا هم مجلس الشيوخ الروماني، وكانوا يريدون أن يحيوا كما أحيا أعضاء مجلس الشيوخ. وكانوا يسخرون من أولئك الأجانب الذين يتطلبون منهم أن يحيوا حياة التقى والعفة التي يحياها القساوسة؛ وكانوا يزنون السلوك، كما يزنه كثيرون من أبناء عصرهم، بموازين الجمال لا بالموازين الأخلاقية، فلم يكونوا يرون بأساً من خرق بعض الأوامر الإلهية إذا تجملوا في خرقها وفعلوا ذلك بظرف وذوق سليم. وقد أحاطوا أنفسهم بالغلمان، والموسيقيين، والشعراء، والكتّاب الإنسانيين، وكانوا من حين إلى حين يتناولون عشاءهم مع محاظي البلاط (33). ويأسفون أشد الأسف لأن ندواتهم كانت خالية من النساء، فها هو ذا الكردنال بينا يقول "إن روما على بكرة أبيها تنادي بأنّا لا ينقصنا هنا إلاّ سيدة تكون هي واسطة عقد الندوة"(34). وكانوا يحسدون فيرارا، وأربينو، ومانتوا لما تستمتع به من هذه الناحية، ولشد ما اغتبطوا حين جاءت إزبلا دست لتبسط أثوابها ومفاتنها النسوية على حفلاتهم التي لم تكن تضم إلاّ الذكور.

وبلغ الظرف، والذوق، ولطف الحديث، وتقدير الفن غايته ذلك الوقت، ونالت الفنون والآداب على اختلاف أنواعها أعظم التشجيع، ولسنا ننكر أنه كان هناك حلقات مثقفة في العواصم الصغرى،

ص: 222

وأن كستجليوني كان يفضل ندوات أربينو الهادئة على حضارة روما الزاهية، الومضية، الصاخبة، التي تجتمع فيها كل الأجناس، غير أن أربينو لم تكن إلاّ جزيرة صغيرة من الثقافة، أما روما فكانت مجرى دافقاً أو بحراً عجاجاً. وأقبل عليها لوثر ورآها، وهاله ما رأى واشمأزت منها نفسه، ثم جاءها إرزمس Erasmus ورآها وافتتن بها افتتاناً بلغ حد النشوة (35). ونادى مائة شاعر وشاعر بأن العصر الذهبي قد عاد.

ص: 223

الفصل الثالث

‌العلماء

في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1513 أصدر ليو مرسوماً بضم معهدين من معاهد العلم افتقرا إلى المال: هما كلية القصر المقدس أي الفاتيكان، وكلية المدينة، وأصبح المعهدان من ذلك الوقت هما جامعة روما، وخصص لهما بناء لم يلبث أن عرف باسم سابيندسا Sapienza (36) . وكان هذا المعهدان قد ازدهرا في أيام البابا اسكندر، ولكنهما اضمحلا في عهد يوليوس الذي استولى على أموالهما لينفقها في الحروب، والذي كان يفضل السيف على الكتاب. وأمد ليو الجامعة الجديدة بالمال بسخاء وظل يسخو عليها حتى تورط هو الآخر في سباق للتدمير. فقد جاء إليها بعدد جم من العلماء الممتازين المخلصين لعلمهم، فلم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى كان في المعهد الجديد ثمانية وثمانون أستاذاً - منهم خمسة عشر في الطب وحده - يتقاضى الواحد منهم ما بين 50 فلورينا و 530 (من 825 إلى 6625؟ دولاراً) في العام. وكان ليو في تلك السنين الأولى من ولايته يبذل كل ما في وسعه ليجعل الكليتين المجتمعتين أعظم جامعات إيطاليا علماً وأكثرها ازدهاراً.

وكان من أفضاله أنه أنشأ في هذه الجامعة دراسة اللغات السامية. ذلك أنه خصص في جامعة روما كرسياً لتعليم اللغة العبرية، وعين تيسيو أمبروجيو Teseo Ambrogio لتدريس اللغتين السريانية؛ والكلدانية في جامعة بولونيا. ورحب ليو حين أهدى له كتاب في نحو اللغة العبرية ألفه أجاتشيو جويداتشريو Agacio Guidacerio؛ ولمّا علم أن سانتي بجنيني Sante Pagnini كان يترجم العهد القديم من الأصل العبري إلى اللغة اللاتينية،

ص: 224

طلب أن يرى أنموذجاً من الترجمة؛ فلمّا رآه أعجبه، وتعهد من فوره بأن يتكفل بنفقات هذا المشروع الشاق الكبير.

وكان ليو أيضاً هو الذي أعاد دراسة اللغة اليونانية بعد أن أخذت دراستها في الاضمحلال. وشرع في ذلك بأن دعا إلى روما العالم الشيخ جون لسكارس John Lascaris الذي كان يعلّم اللغة اليونانية في فلورنس، وفرنسا، والبندقية، ونظم بمساعدته مجمعاً علمياً في روما، منفصلاً عن الجامعة. وكتب بمبو على لسان ليو (في 7 أغسطس سنة 1513) خطاباً إلى ماركس موسوروس Marcus Musurus أكبر مساعدي مانوتيوس Manutius يطلب فيه إلى هذا العالم أن يحصل من بلاد اليونان على "عشرة، أو أكثر من عشرة حسبما يرى، من الشبان المتبحرين في العلم، المشهود لهم بالأخلاق الفاضلة لتؤلف منهم حلقة من الدراسات الحرة، ولكي يتلقى عليهم الإيطاليون العلم باللسان اليوناني وحسن الانتفاع به"(37). وبعد شهر من ذلك الوقت نشر مانوتيوس طبعة أفلاطون التي أتمها موسوروس من قبل، وأهدى الطابع العظيم هذا الكتاب إلى البابا. ورد عليه ليو بأن منح ألدوس دون غيره الحق في أن يعيد طبع كل ما أصدره ألدوس من الكتب اليونانية أو اللاتينية حتى ذلك الوقت، وما سيطبعه في خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة التي سيظل فيها وحده صاحب هذا الحق. وأعلن فوق هذا أن كل من يتعدى على هذا يحوم من حظيرة الدين، ويعرض نفسه للعقاب. وكان هذا الامتياز الفردي في طباعة المؤلفات هو الوسيلة التي تمنح بها النهضة طابعاً ما حق طبع الكتاب الذي أنفق المال على إعداده. غير أن ليو أضاف إلى هذا الامتياز وصيته بأن يكون ما يطبع من كتب ألدوس معتدل الثمن، وقد كان.

وأنشئت الكلية اليونانية في بيت آل كولتشي Colocci على الكويرنال Quirinal، وأقيمت هناك أيضاً مطبعة لطبع الكتب الدراسية والشروح

ص: 225

للطلاب. وأنشئ حوالي ذلك الوقت عينه في فلورنس "مجمع علمي ميديتشي" شبيه به للدراسات اليونانية؛ وجمع فارينو كامرتي Varlno Camerti - الذي اتخذ لنفسه اسماً لاتينياً هو فافورينوس Favorinus - بتشجيع ليو أحسن معجم يوناني - لاتيني نشر في عالم النهضة حتى ذلك الوقت.

وكادت غيرة البابا على الآداب القديمة تكون ديناً له وعقيدة. وشاهد ذلك أنه تلقى من البنادقة "عظماً من كتف ليفي" بنفس التقوى التي يتلقى بها أثراً من آثار كبار القديسين (38)، وانه أعلن بعد جلوسه على كرسي البابوية بقليل أنه سيكافئ بسخاء كل ما يحصل له على أي مخطوط في الأدب القديم لم ينشر بعد. ثم إنه فعل ما فعله أبوه فأرسل مبعوثيه وعماله إلى البلاد الأجنبية ليبحثوا عمّا عساه أن يكون فيها من المؤلفات القديمة، وعن كل الأشياء ذات القيمة وثنية كانت أو مسيحية، وأن يبتاعوها له، وكان في بعض الأحيان يوفد الوفود لهذا الغرض خاصة لا لغرض سواه، ويزودهم بالرسائل للملوك والأمراء يطلب إليهم فيها أن يعاونوا أولئك الرسل في البحث والتنقيب. ويبدو أن عماله كانوا في بعض الأحيان يسرقون هذه المخطوطات إذا لم يستطيعوا شراءها؛ ويلوح أن هذا هو ما فعلوه في الستة الكتب الأولى من حوليات تاسيتوس التي وجدوها في دير كورفي Corvey بوستفاليا Westphalia، لأن لدينا رسالة ممتعو موجهة إلى هيتمرس Heitmers عامل البابا كتبها ليو نفسه أو أمر بكتابتها بعد أن تم طبع هذه الحوليات ونشرها:

لقد بعثنا بنسخة من الكتب بعد أن روجت وطبعت مجلدة تجليداً جميلاً إلى رئيس الدير وإلى رهبانه، لكي يضعوها في مكتبتهم بدلاً من النسخة التي أخذت منها، وإذا كنا نريد فوق ذلك أن يعرفوا أن هذا الاختلاس قد عاد إليهم بالخير أكثر مما عاد عليهم بالأذى، فقد وهبنا كنيستهم غفراناً جماعياً (39).

وأعطى ليو فلبو بروالدو Filipo Beroaldo المخطوط المختلس، وأمره

ص: 226

أن يصلح النص وينشره، على أن يطبعه طبعة أنيقة ولكنها في صورة سهلة القراءة. وكان مما ورد في كتاب التكليف هذا:

لقد كان من عادتنا، حتى في السنين الأولى من حياتنا، أن نرى أ، لا شيء مما وهبه الخالق لخلقه أجل شأناً وأعظم نفعاً - لا نستثني من ذلك إلاّ العلم به وعبادته الدقة - من هذه الدراسات التي هي زينة الحياة الإنسانية ومرشدها إلى الخير؛ والتي يمكن فوق هذا تطبيقها على كل وضع خاص من أوضاع الحياة والانتفاع بها فيه؛ والتي هي سلوى الإنسان في الشدة، ومصدر بهجته وشرفه في الرخاء. والتي لولاها لحرم الإنسان كل ما هو جميل في الحياة وكل ما يزدان به المجتمع. ويبدو أن المحافظة على هذه الدراسات وتوسيع نطاقها يقف على أمرين: عدد العلماء، وتزويدهم بكفايتهم من النصوص الممتازة. فأما الأمر الأول فإنّا نرجو ببركة الله، أن نظهر رغبتنا الأكيدة في أن نكافئ أولئك العلماء الممتازين ونكرمهم وحرصنا على هذه المكافأة وذلك التكريم أكثر مما أظهرناها من قبل، وإن كان ذلك الحرص وتلك الرغبة هما منذ زمن بعيد مصدر سرورنا الأكبر .... أما الحصول على الكتب، فإناّ نحمد الله أن أتاح لنا في ذلك أيضاً الفرصة التي نستطيع بها إسداء الخير لبني الإنسان (40).

وكان ليو يظن أن الكنيسة هي التي تعين ما يفيد بني الإنسان من كتب الأدب، وشاهد ذلك أنه جدد مرسوم الإسكندر الذي يفرض رقابة الكنيسة على الكتب.

وبددت بعض الكتب التي جمعها أسلاف ليو حين نهب قصر آل ميديتشي (1494). غير أن ديرسان ماركو كان قبلئذ قد ابتاع بعض هذه الكتب، وكان ليو وهو لا يزال كردنالاً قد ابتاع الكتب التي نجت من النهب بمبلغ 2652 (33. 150؟ دولاراً) ونقلها إلى قصره في روما. ثم أعيدت

ص: 227

هذه المكتبة إلى فلورنس بعد موت ليو، وسنعرف مصيرها فيما يلي من الصفحات.

وكانت مكتبة الفاتيكان قد بلغت من الضخامة حداً تحتاج معه إلى طائفة من العلماء للعناية بها. ولمّا جلس ليو على كرسي البابوية كان كبير أمنائها توماسر إنغيرامي Tommaso Inghirami - وهو من أبناء الأشراف، وشاعر، ومحدث مشهود له بالذكاء وحسن الفكاهة والتألق في ندوات الفكهين البارعين. ثم كان إلى ذلك ممثلاً، أطلق عليه من قبيل السخرية اسم فيدرا Fedra لنجاحه في تمثيل دور فيدرا Phaedra في مسرحية هبوليتس Hippolytus لسنكا. ولمّا مات في حادثة من حوادث شوارع المدينة عام 1516 حل محله في أمانة المكتبة فلبو بروالدو الذي قسم قلبه وعواطفه بين تاسيتوس والحظية العالمية إمبيريا Imperia، وكتب شعراً لاتينياً بلغ من الجودة أن كانت له ست ترجمات إلى اللغة الفرنسية إحداها بقلم كليمان مارون Clement Maron. وكان جيرولامو أليندرو Girolamo Aleandro الذي أصبح أميناً في عام 1519، رجلاً حاد الطبع، غزير العلم، عظيم المواهب، يتكلم اللغات اللاتينية، واليونانية، ويتكلم العبرية بطلاقة جعلت لوثر يخطئ في أصله فيظنه يهودياً. وقد حاول في مجلس أجزبرج (1520) أن يصد تيار البروتستنتية، وكانت حماسته في ذلك أقوى من حكمته. وقد رفعه بولس الثالث إلى مقام الكردنالية (1535)، ولكن أليندر توفي بعد أربع سنين من ذلك الوقت لإسرافه في عنايته بصحته وفي تعاطي الأدوية (41). وقد غضب أشد الغضب لأنه أعفي من عمله حين بلغ الثانية والستين من العمر، وأساء إلى أصدقائه باعتراضه الشديد على تصرفات القدرة الإلهية (42).

وكثرت المكتبات الخاصة وقتئذ في روما، فقد كان للإسكندر نفسه مجموعة عظيمة من الكتب أوصى بها إلى البندقية، وكان عند الكردنال

ص: 228

جريماني محسود إرزمس ثمانية آلاف مجلد مكتوبة بلغات مختلفة، أوصى بها إلى كنيسة سان سلفادور بمدينة البندقية حيث دمرتها النار. وكان للكردنال سادوليتو مكتبة قيمة وضعها في سفينة ليرسلها إلى فرنسا، فغرقت في البحر. وكانت مكتبة بمبو غنية بما فيها من دواوين أشعار بروفنسال والمخطوطات الأصلية مثل مخطوطات كتب بترارك؛ وانتقلت هذه المجموعة إلى أربينو، ومنها انتقلت إلى الفاتيكان. وحذا العلمانيون الأغنياء أمثال أجستينو تشيجي Agostino Chigi حذو البابوات والكرادلة في جمع الكتب، واستخدام الفنانين ومد يد المعونة للشعراء ورجال العلم.

وكثر هؤلاء جميعاً في روما على عهد ليو على كثرة لم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد. وكان كثيرون من الكرادلة أنفسهم علماء؛ ومنهم من أصبحوا كرادلة لأنهم كانوا قبل ذلك علماء قضوا في خدمة الكنيسة زمناً طويلاً؛ ونذكر من هؤلاء أجيديو كانيزيو Egidio Canisio، وسادوليتو، وببينا. وقد اعتاد معظم الكرادلة في روما أن يناصروا الآداب والفنون بما يكافئون بها أصحابها على إهدائهم أعمالهم ومؤلفاتهم، ولم يكن يفوق بيوت الكرادلة رياريو، وجريماني، وببينا، والدوزي، وبتوتشي، وفارنيزي، وسدريني، وسانسفرينو، وجندسا، وكازينيو، وجويليوده ميديتشي لم يكن يفوق بيوت هؤلاء إلاّ بلاط البابوات بوصفه ملتقى أصحاب المواهب العقلية والفنية في المدينة. وقد كان لكستجليوني الوديع الطبع الدمث الخلق الذي كسب به صداقة رفائيل المحب الودود وميكل أنجيلو الصارم العنيد، كان لكستجليوني هذا ندوة متواضعة خاصة به.

وكان ليو بطبيعة الحال أكبر المناصرين على الإطلاق، فلم يكن أحد في مقدوره أن ينشئ نكتة شعرية لاتينية يخرج من عنده دون عطاء. وكان العلم في أيامه يؤهل صاحبه، كما كان يؤهله في أيام نقولاس الخامس

ص: 229

لمنصب من المناصب الرسمية الكثيرة في الكنيسة، وأضيف الشعر إلى العلم في أيام ليو. فأما أصحاب المواهب الصغرى فكانوا يصبحون كتبة، ومختزلين، وأمّا من هم أكبر من هؤلاء موهبة فكانوا يصبحون قساوسة في الكنائس الكبرى، وأساقفة، وكبار موثقين؛ وأما الممتازون منهم أمثال سادوليتو، وببينا، فقد صاروا كرادلة. وترددت أصداء خطب شيشرون وبلاغته في روما مرة أخرى، وكان أسلوب الرسائل يعلو ويهبط بانتظام كأنه الألحان الموسيقية، كما كان شعر فرجيل وهوراس ينساب من ألف رافد ورافد إلى نهر التيبر ملتقاه الطبيعي. وقد حدد بمبو نفسه مستوى أسلوب الكتابة، فقد كتب إلى إزبلا دست يقول:"أن يخطب الإنسان كما كان يخطب شيشرون خير له من أن يكون بابا (43) ". وبز صديقه وزميله ياقوبو سادوليتو معظم الكتّاب الإنسانيين بأن جمع بين الأسلوب اللاتيني البليغ والخلق الذي لا تشوبه شائبة. وكان بين كرادلة ذلك العصر كثيرون من ذوي الاستقامة والخلاق الفاضلة؛ وكانت الكثرة الغلبة من كتّاب عصر ليو الإنسانيين أفضل أخلاقاً وأرق مزاجاً من أمثالهم في الجيل الذي قبله (44)، وإن كان بعضهم قد ظلوا وثنيين في كل شيء ما عدا عقيدتهم الرسمية، ولقد كان من القوانين غير المسطورة ألاّ ينطق سيد مهذب بكلمة نقد للكنيسة المتسامحة من الناحية الخلقية السخية في مناصرة العلم والأدب والفن مهما تكن عقائده أو شكوكه.

وقد اجتمعت هذه الصفات كلها في برناردو دوفيسي دا بينا Bernardo Dovizi da Bibbiena - فقد كان عالماً، وشاعراً، وكاتب مسرحيات، ودلوماسياً، وخبيراً في الفن، ومحدثاً، ووثنياً، وقساً، وكردنالاً؛ غير أن الصورة التي رسمها رفائيل له لم تظهر إلاّ جزءاً قليلاً منه - عينيه الخبيثتين، وأنفه الحاد؛ ذلك أنها غطت صلعته بقبعة حمراء،

ص: 230

كما غطت مرحه بوقار لم يكن من عادته. وكان خفيف القدم، والحديث، والروح، يفر من ظروف الدهر كلها بابتسامة. ولمّا استخدمه لورندسو الأكبر أميناً له ومربياً لأبنائه، اشترك مع هؤلاء الأبناء في الهجرة التي حدثت عام 1494؛ ولكنه دل على مهارته بذهابه إلى أربينو حيث فتن هذه الدائرة المتحضرة بنكاته الشعرية، وأنفق بعض فراغه في كتابه مسرحية بذيئة تدعى كالندرا Calandra وتمثيلها (حوالي عام 1505)، وهذه المسرحية هي أقدم المسرحيات الإيطالية النثرية. واستدعاه يوليوس الثاني إلى روما، وعمل برناردو لانتخاب ليو بابا بأقل قدر من الجلية والاحتكاك، فجازاه ليو على هذا بأن عينه من فوره كبير الموثقين الرسوليين، ثم عينه في اليوم الثاني صراف البيت البابوي، ولم تمض ستة أشهر حتى عينه كردنالاً. ولم تمنعه مناصبه السامية من أن يضع في خدمة ليو خبرته العظيمة بالفنون وتنظيم مواكبه في الحفلات. ومثلت مسرحيته في حضرة البابا واستمتع بها ولم يعترض عليها. ولمّا أرسل قاصداً رسولياً إلى فرنسا، شغف حباً بفرانسس الأول، وكان لابد من استدعائه لأه أرق حساسية من أن يصلح للمناصب الدبلوماسية، وزخرف له رفائيل حمامه بصورة تاريخ فينوس وكيوبدة وهي طائفة من الصور تروي انتصار الحب، وكلها تقريباً مرسومة على طراز صور مدينة بمبي القديم، وتقحم المسيحية في عالم لم يسمع قط بالمسيح؛ وكان الكردنال نفسه هو الذي اختار هذه الزخارف. وتظاهر ليو بأنه لم يلاحظ شذوذ ببينا الجنسي وظل وفياً له إلى آخر أيامه.

وكان ليو يحب التمثيل - يحب المسلاة بجميع أشكالها ودرجاتها من أبسط الهزليات الماجنة إلى أكثر الملاهي غموضاً كمسرحيات ببينا ومكيفلي. وقد افتتح في أول سنة من ولايته دار تمثيل على الكبتول، شهد فيها عام 1518

ص: 231

تمثيلاً لمسرحية أريستو Ariosto المسماة سبوزيتي Suppositi وضحك من كل قلبه من النكات الملتبسة المعاني التي كانت تتفرع من حبكتها - كالعبارات التي يلقيها شاب من الشبان ليغوي بها فتاة (45). ولم يكن هذا التمثيل المطرب تمثيلاً لمسالي فحسب، بل كان يشمل فوق ذلك وضع مناظر مسرحية فنية (وكان الذي رسمها في هذه المسرحية بالذات رفائيل نفسه)، ورقصاً فنياً، وموسيقى بين الفصول تتكون من أغان وفرقة من العازفين على العود والكمان، وأرغن صغير، والنافخين في القرون، والقرب، والفيف.

وقد كُتب في عهد ليو كتاب من أكبر الكتب التاريخية في عهد النهضة، كتبه باولو جيوفيو. وكان باولو هذا من أبناء كومو Como، وكان يمارس فيها وفي ميلان وروما صناعة الطب، ولكن الحماسة الأدبية التي انبعثت في البلاد عندما جلس ليو على كرسي البابوية أوحت إليه بأن يخصص ساعات فراغه لكتابة تاريخ العصر الذي يعيش فيه - من غزو شارل الثامن لإيطاليا حتى ولاية ليو - وأن يكتبه باللغة اللاتينية. وسمح له بأن يقرأ القسم الأول من هذا الكتاب على ليو، فلمّا سمعه قال بكرمه المعتاد إنه أفصح وأظرف ما كتب في التاريخ منذ عهد ليفي Livy، وأجازه عليه بأن خصص له معاشاً من فوره. ولمّا توفي ليو، استخدم جيوفيو ما أسماه "قلمه الذهبي" في كتابة ترجمة لحياة ليو شاد فيها بنصيره الراحل، كما استخدم "قلمه الحديدي" للشكوى من البابا أدريان السادس الذي لم يعبأ به. وواصل في هذه الأثناء الكدح في تاريخ عصره حتى وصل به آخر الأمر إلى عام 1547. ولمّا نهبت روما في عام 1527 أخفى المخطوط في إحدى الكنائس، ولكن أحد الجنود عثر عليه، وطلب إلى المؤلف أن يبتاع كتابه؛ ولكن كلمنت السابع أنقذ باولو من هذه المذلة إذ أقنع اللص بأن يقبل بدل المال يؤدي إليه فوراً، منصباً في أسبانيا؛ وعيّن

ص: 232

جيوفيو في الوقت نفسه أسقفاً لنوتشيرا Nocera. وأثنى الناس على كتاب التاريخ وعلى التراجم التي أضيفت إليه لأسلوبه السلس الواضح، ولكنهم عابوا عليه عدم العناية بتحري الحقائق، والتحيز الظاهر فيما يصدره من أحكام. وقد أقر جيوفيو في صراحة وعدم مبالاة بأنه يمدح أشخاص قصته إذا كانوا هم أو أقاربهم قد سخوا عليه، وأنه كان يندد بهم إذا كان هؤلاء قد ضنوا عليه بالعطاء.

ص: 233

الفصل الرابع

‌الشعراء

لقد كان البابا أعظم مفاخر ذلك العصر، وكان كل إنسان في روما - من البابا نفسه إلى مهرّجيه - يقرض الشعر، كما كان يقرضه كل إنسان في اليابان في عهد الساموراي Samurai، من الفلاح إلى الإمبراطور، وكان كل إنسان قريباً يصر على أن يقرأ آخر أبيات قالها إلى البابا السمح. وكان البابا يحب المهارة في الارتجال، وكان هو نفسه بارعاً في هذا؛ وكان الشعراء يتبعونه أينما ذهب بقوا فيهم وقصائدهم الطوال، وكان هو في العادة يجيزهم عليها بطريقة ما، وإن كان في بعض الأحيان يكتفي بأن يرد عليها بارتجال بعض النكت الشعرية اللاتينية. وقد أهدى له ألف كتاب، أجاز أنجيلو كويتشي على واحداً منها بأربعمائة دوقة (5. 000؟ دولار)؛ لكنه حين أهدى إليه جيوفني أو جوريلي Giovanni Augurelli رسالة بالشعر عنوانها كريسوبيا Chrysopoeia - أي فن صنع الذهب باستخدام الكيمياء - أرسل إلى المؤلف كيسا خلوا من النقود. ولم يكن يجد متسعاً من الوقت يقرأ فيه جميع الكتب التي قبل أن تهدى إليه؛ وكان من هذه الكتب المهداة التي لم يقرأها طبعة من ديوان روتليوس ناماتيانوس Ruititius Namatianus - وهو شاعر روماني عاش في القرن الخامس الميلادي - كان يدعو إلى مقاومة المسيحية لأنها في رأيه سم مضعف للأعصاب، ويطالب بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية القوية المتصفة بصفات الرجولة (47). أما أريستو - الذي ربما بدا لليو أنه يجد ما يكفيه من العناية في فيرارا - فلم يكافئه إلاّ بمرسوم بابوي يحرّم سرقة شعره. وبَرِم أريستو من هذا وابتأس لأنه كان يرجو أن ينال مكافأة تتناسب مع طول ملحمته.

ص: 234

ولما خسر ليو أريستو قنع من فوره بشعراء أقل منه لألاء وأقصر نَفَساً؛ وكثيراً ما كان سخاؤه يضله فيؤدي به إلى مكافأة ذوي المواهب السطحية نفس المكافأة التي يمنحها العباقرة. من ذلك أن جيدو بستومو سلفستري Guido Postumo Sitvestri، أحد أشراف بيزارو، كان قد قاتل بعنف، وكتب بعنف، ضد الإسكندر ويوليوس لاستيلائهما على بيزارو وبولونيا. فلمّا ارتقى ليو عرش البابوية بعث إليه بقصيدة ظريفة يمتدحه فيها ويوازن بين سعادة إيطاليا في عهد البابا الجديد، وما كانت عليه من البؤس والاضطراب في العهود السابقة. وقدّر له البابا عمله وأجازه عليه بأن رد له ما صودر من ضياعه، واتخذ رفيقاً له في صيده. لكن جيدو مات بعد قليل من ذلك الوقت، ويقول بعض معاصريه إنه مات من كثرة ما كان يتناوله من الطعام على مائدة ليو (48). وأسرع أنطونيو تيبلديو Antonio Tebaldeo، الذي كان قد نال بعض الشهرة في قول العشر في نابلي، إلى روما عقب انتخاب ليو، ونال منه (كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها) خمسمائة دوقة جزاء له على نكتة شعرية مشهية (49)، وسواء كانت هذه الرواية صادقة أو كاذبة فإن البابا عيّنه مشرفاً على جسر سورجا Sorga وجمع المكوس ممّن يعبروه حتى "يستطيع تيبلديو بهذا أن يعيش عيشة راضية"(50). ولكن يبدو أن المال الذي قد يعين على إنماء مواهب العلماء، قلّما يشحذ عبقرية الشعراء. فأخذ تيبلديو يكتب قصائد المدح، وأصبح يعتمد بعد موت ليو على صدقات بمبو، ولم يعاد يبارح فراش النوم وغن كان لا يشكو من شيء إلاّ من فقد شهيته لشرب الخمر" كما يقول صديق له. وطال حياته وهو مستريح مستلق على ظهره، وتوفي في الرابعة والسبعين من عمره. ونبغ فرانتشيسكو ماريا ملدسا Franseco Maria Molza من أهل مودينا بعض النبوغ في الشعر قبل إرتقاء ليو، ولكنه سمع بحب البابا للشعر

ص: 235

وسخاته للشعراء، ترك أهله، وزوجته، وأبناءه، وهاجر إلى روما، حيث أنساه إياهم افتتانه بسيدة رومانية. وقال في روما قصيدة رعوية قصيرة بليغة اسمها حورية تبيرينا La ninfa Tiberina يمتدح بها فوستينا منتشيني faustina Mancini، وهجم عليه أحد المجرمين وأصابه بجرح بليغ. وغادر الرجل روما بعد وفاة ليو، وانضم إلى بولونيا إلى حاشية الكردنال إبوليتو ده ميديتشي، الذي كان في بلاطه، على حد قولهم، ثلاثمائة شاعر، وموسيقى وفكِه. وكانت قصائد ملدسو الإيطالية أظرف ما قيل من الشعر في ذلك الوقت لا تستثنى من ذلك قصائد أريستو نفسها. وكانت أغانيه تضارع أغاني بترارك في أسلوبها، وتفوقها في حرارتها، وذلك لأن ملدسو كان يتقلب على نيران الحب واحدة بعد واحدة، وكان على الدوام يحترق بها. ومات بداء الزهري في عام 1544.

وكان حكم ليو يزدان باثنين من كبار صغار الشعراء أحدهما ماركنطونيو فلامينو Marcantonio Flamino الذي يظهر ذلك العهد في أضواء سارة - يظهر عطف البابا الدائم على رجال الأدب، ويكشف عمّا كان يحبو به فلامينو ونافاجيرو Navagero وفرانكستورو Francastoro وكستجليوني من صداقة لا يحسد أحدهم عليها غيره؛ وإن كانوا الأربعة شعراء؛ كما يكشف عن الحياة النظيفة التي كان يحياها أولئك الرجال في عصر كانت فيها الإباحية الجنسية مماّ تتغاضى عنه كثرة الناس. وقد ولد فلامينو في سرافالي Serravalle من أعمال فينيتو Veneto، ووالده هو جيان أنطونيو فلامينو Gianatonia Flamino وهو أيضاً شاعر. ودرب الوالد ابنه على قرض الشعر وشجعه عليه، مخالفاً في ذلك ألفاً من السوابق، وبعثه وهو في السادسة عشرة من عمره ليهدي إلى ليو قصيدة قالها الشاب يدعو فيها إلى حرب صليبية على الأتراك. ولم يكن ليو ممن يرتاحون إلى الحروب الصليبية، ولكنه أظهر ارتياحه لشعر الشاب، وكفل له مواصلة التعلم في روما. وتولاّه كستجليوني

ص: 236

بعنايته، وجاء به إلى أربينو (1515)؛ ثم بعث الوالد بابنه فيما بعد ليدرس الفلسفة في بولونيا. ثم استقر الشاعر أخيراً في فتيربو Viterbo في رعاية الكردنال الإنجليزي رجنلدبول Reginald Pole. وامتاز عن غيره بأن رفض منصبين عاليين، منصب أمين ليو مشتركاً في ذلك مع سودوليتو، ومنصب أمين لمجلس ترنت، وكان يحصل على تأييد وهبات جمة من كثير من الكرادلة رغم ارتيابهم في أنه يعطف على حركة الإصلاح البروتستانتي. وكان طوال تجواله كله يتوق للحياة الهادئة والهواء النظيف اللذين يجدهما في بيت أبيه الريفي بالقرب من إمولا. وكانت قصائده كلها تقريباً باللغة اللاتينية كما كانت كلها تقريباً قصائد قصارا في صور أغان، وأناشيد رعاة، ومراث، وترانيم، ورسائل للأصدقاء من طراز رسائل هوراس، ولكنه يعود فيها مرة بعد مرة إلى حبه لمرابضه الريفية القديمة:

سأبصرك الآن مرة أخرى، وسيبتهج ناظري لرؤية الأشجار التي غرستها يد أبي، وسيفيض قلبي فرحاً حين أتذوق قليلاً من النوم الهادئ في غرفتي الصغيرة. وكان يشكو من أنه سجين في ضوضاء روما وصخبها، ويحسد صديقاً له صوّره بأنه يختفي في ملجأ قروي يقرأ "كتب سقراط" و "لا يفكر مطلقاً في التكريم التافه الذي يمنحه إياه الجمهور الحقير" (52) وكان يحلم بالتجوال في الوديان الخضراء مع فلاحي فرجيل ورعاة ثيوفريطس ويتخذهم له رفاقاً. وأشد أشعاره تأثيراً هي الأبيات التي كتبها إلى أبيه وهو على فراش الموت:

"لقد عشت يا أبتاه عيشة طيبة سعيدة، لم تكن فيها بالفقير ولا بالغني، حصلت فيها على كفايتك من العلم ومن الفصاحة، وكنت على الدوام قوي الجسم، سليم العقل؛ بشوشاً تقياً لا يجاريك في تقواك أحد. حتى إذا أتممت الثمانين من عمرك انتقلت إلى شواطئ الآلهة المباركة. ارحل إليها يا أبتاه، وخذ بعد قليل ابنك معك إلى مقعدك الأعلى في السماء".

ص: 237

وكان ماركو جيرولامو فيدا Marco Girolamo Vida أطوع لأغراض ليو من غيره من الشعراء. وقد ولد ماركو هذا في كريمونا، وأتقن اللغة اللاتينية، وبرع فيها براعة أمكنته من أن يكتب بها كتابة ظريفة القصائد التعليمية في ن الشعر نفسه، أو في تربية دود القز، أو في لعبة الشطرنج. وقد سر ليو من هذا سروراً حمله على أن يرسل في طلب فيدا، ويثقله بالهبات، ويرجوه أن يتوج آداب ذلك العصر بملحمة لاتينية في حياة المسيح. وهكذا بدأ فيدا ملحمة الكرستيادة Christiad التي مات ليو السعيد قبل أن يراها. وحذا كلمنت الشابع حذو ليو في رعاية فيدا، وحباه بمنصب أسقف ليعيش منه، ولكن كلمنت أيضاً مات قبل أن تنشر الملحمة (1535). وكان فيدا راهباً قبل أن يبدأها، وأسقفاً حين فرغ منها، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه عن الإشارات المتصلة بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة التي كانت تملأ الجو نفسه في أيام ليو، وإن بدت مضطربة سخيفة في نظر الذين أخذوا ينسون أساطير اليونان والرومان ويجعلون المسيحية نفسها أساطير أدبية. فنحن نرى فيدا في هذه الملحمة يقول عن الإله الأب إنه "أبو الآلهة مسخر السحاب"، وإنه "حاكم أوليس"؛ ولا ينفك يصف يسوع بأنه هيروس ويأتي بالفرغونات؛ وربات الانتقام، والقنطورات، والأفاعي الكثيرة الرءوس

(1)

لتطالب بموت المسيح. لقد كان هذا الموضوع النبيل خليقاً ببحر من الشعر أكثر مواءمة له بدل أن يقلد الشاعر الإنياذة. وليست أجمل الأبيات في شعر فيدا هي التي يخاطب بها المسيح في الكرستيادة، بل هي التي يخاطب بها فرجيل في فن الشعر وهي أبيات تعز على الترجمة ولكننا سنحاول نقلها فيما يأتي:

(1)

كل هذه كائنات خرافية غريبة ورد ذكرها في الأساطير اليونانية القديمة. (المترجم)

ص: 238

أي مجد إيطاليا! يا أسطع الأضواء بين الشعراء! وإنّ لنعبدك بما نقدمه لك من الأكاليل والبخور والأضرحة؛ وإليك ننشد على الدوام ما أنت خليق به من التسابيح القدسية، ونستعيد ذكراك بالترانيم: مرحباً بك يا أعظم الشعراء قداسة! إن ثناءنا عليك لا يزيد قط من مجدك، وليس هذا المجد في حاجة إلى أصواتنا. ألا فأقبل وانظر إلى أبنائك، وصب روحك الدافئة في قلوبنا الطاهرة، أقبل يا أبتاه، وامزج نفسك بأرواحنا.

ص: 239

الفصل الخامس

‌صحوة إيطاليا

كان من أسباب قوة الروح الوثنية في ذلك العصر وجود الفن القديم فيها ونجاته من الدمار؛ وكان بجيو، وبيندو، وبيوس الثاني قد نددوا بتدمير المباني الرومانية القديمة وقاوموا هذا التدمير، ولكنه ظل مع ذلك يجري في مجراه، وأكبر الظن أنه قد ازداد حين استطاعت روما بما تدفق فيها من المال أن تشيد عمائر جديدة أكبر من عمائرها القديمة وتستخدم فيها بقايا هذه العمائر في عمل الجير. واستخدم بولس الثاني جدار الكلوسيوم الحجري في بناء قصر سان ماركو؛ ودم سكستس الرابع معبد هرقول وحوّل أحد جسور نهر التيبر إلى قذائف للمدافع، وانتزعت المواد التي بنيت بها كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وفسقيتان عامتان، وقصر للبابا في الكويرينال، انتزعت هذه كلها من معبد الشمس. بل إن الفنانين أنفسهم كانوا همجاً مخربين دون أن يشعروا، فهاهو ذا ميكل أنجيلو مثلاً يستخدم أحد العمد في معبد كاستروبلكس ليصنع منه قاعدة لتمثال ماركس أورليوس الفارس، وهاهو ذا رفائيل يأخذ جزءاً من عمود آخر في هاذ المعبد نفسه ليصنع منه تمثالاً ليونان (يونس)، واقتلعت المواد اللازمة لبناء معبد سستيني من تابوت هدريان، وأخذ الرخام الذي شيدت به كنيسة القديس بطرس كله تقريباً من المباني القديمة؛ وانتزعت إلى هذا الضريح الجديد نفسه أحجار القدمة

(1)

؛ والدرج، والقوصرة من هيكل أنطونيوس وفوستينا، وأقواس النصر التي أقيمت لفابيوس مكسيموس وأغسطس، وهيكل

(1)

الجدار المحيط بالرملية التي يتجالد فيها المتجالدون. (المترجم)

ص: 240

رميولوس بن مكسنتيوس. وهدم البناءون الجدد أو جردوا في أربع سنين بالضبط (من 1546 - 1549) هياكل كاستروبلكس، ويوليوس قيصر، وأغسطس (55). وكانت حجة أولئك الهدامين أنه قد بقى في البلاد بعد هذا الهدم كفايتها من الآثار الوثنية، وأن الخربات القديمة المهملة تشغل فراغاً عظيم القيمة، وتحول دون إعادة بناء المدينة بنظام حسن، وأن المواد التي يستولون عليها كانت في معظم الأحوال تستخدم في تشييد كنائس مسيحية لا تقل عن هذه الآثار القديمة جمالاً، وهي بطبيعة الحال أحب منها إلى الله. وكانت الأتربة التي تراكمت فوق هذه الآثار على مدى الأيام دون أن تستبين العين فعلها قد دفنت في الوقت عينه السوق الكبرى وغيرها من الأماكن التاريخية تحت طبقات متتالية من الثرى، والأنقاض، والنبات، حتى أصبحت السوق تحت مستوى ما يحيط بها من أرض المدينة بثلاث وأربعين قدماً؛ وقد ترك موضعها حتى أصبح نعظمه أرضاً للرعي سميت "حقل البقر" Campo Vaccino. ألا إن الزمان هو أكثر عوامل التخريب والتدمير.

وكان تدفق الفنانين والكتّاب الإنسانيين على روما سبباً في إبطاء سرعة التدمير، وفي إيجاد حركات تهدف إلى المحافظة على الآثار القديمة. وأخذ البابوات يجمعون آثار النحت الوثنية وقطعاً من الأبنية القديمة يضعونها في متحف الفاتيكان والكبتول؛ كما أخذ بجيو، وآل ميديتشي، وبجنيوس ليتوس، ورجال المصارف، والكرادلة يجمعون كل ما يستطيعون الحصول عليه من الآثار القديمة ذات القيمة ليكوّنوا منها لأنفسهم مجموعات خاصة. ومن أجل هذا اتخذت كثير من تحف النحت القديمة طريقها إلى قصور الأفراد وحدائقهم؛ وبقيت فيها حتى القرن التاسع عشر؛ ووجدت من ثم أسماء مثل فاون

(1)

بربيني، وعرش لدوفيزي Ludovisi وهرقول فرنيزي.

(1)

Faun إله الحراج عند الرومان. (المترجم)

ص: 241

واهتزت روما كلها من نشوة الفرح حين كشف المنقّبون (1506) بالقرب من حمامات تيتوس عن مجموعة من التماثيل جديدة كثيرة التعقيد. وأرسل يوليوس الثاني جوليانو دا سنجا ليو لفحصها، وذهب أيضاً ميكل أنجيلو لهذا الغرض، ولم يكد جوليانو يبصر التمثال حتى صاح من فوره:"هذا هو اللاكؤن الذي ذكره بلني" واشتراه يوليوس ليضعه في قصر بلفدير، ووظف لمن عثر عليه ولابنه معاشاً سنوياً طول حياتهما قدره 600 دوقة (7500؟ دولار)؛ ذلك أن روائع النحت القديمة قد أضحت في ذلك الوقت عظيمة القيمة. وشجعت هذه المكفآت المنقبين عن التحف الفنية؛ وحدث بعد عام من ذلك الوقت أن عثر واحد منهم على مجموعة أخرى هي هرقول مع الطفل تلفوسي، ولم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى عثر على أدريانا النائمة، وأضحى الحرص على كشف التحف الفنية القديمة لا يقل قوة عن التحمس للكشف عن المخطوطات القديمة. وكانت هاتان العاطفتان صفتين قويتين من صفات ليو. ففي أيام ولايته كشف عمّا يسمّونه الأفطبنوس وعن تمثالي النيل والتيبر، وقد وضع هذان التمثالان في متحف الفاتيكان. وكان ليو يبتاع بالمال كلمّا استطاع من الجواهر، والحلي المنقوشة، وغيرها من روائع الفن المتفرقة التي كانت في وقت ما ملكاً لآل ميديتشي، ويضعها كلها في قصر الفاتيكان. وأخذ ياقوبو مدسوكي Jacopo Mazochi وفرانتشيسكو ألبرتيتي بفضل مناصرته ينقلان مدى أربعة أعوام كل ما يعثران عليه من نقوش على الآثار الرومانية، وواصلا بذلك ما قام به قبلهما الراهب جيوكندو وغيره من الرهبان. ثم نشرا هذه النقوش باسم النقوش القديمة في المدن الرومانية (1521)، وكان نشرها حادثاً هاماً في علم الآثار الرومانية القديمة.

وفي عام 1515 عين ليو رفائيل مشرفاً على الآثار القديمة؛ ووضع

ص: 242

المصور الشاب بمعونة مدسوكي، وأندريا فلفيو، وفابيو كلفا، وكستجليوني. وغيرهم من الفنانين خطة أثرية واسعة؛ وفي عام 1518 وجه إلى ليو رسالة يستحلف فيها هذا الحبر الجليل أن يستعين بسلطان الكنيسة على حفظ جميع الآثار الرومانية القديمة. وقد تكون ألفاظ الرسالة هي ألفاظ كستجليوني، أما روحها القوية ففيها نغمة رفائيل:

"إنا حين نفكر في قداسة تلك الأرواح القديمة

وحين نبصر جثة هذه المدينة الجليلة، أم العالم وملكته، وقد تدنست هذا التدنيس الشائن

لا يسعنا إلاّ أن نتصور كم من الأحبار قد أجازوا تخريب المعابد، والتماثيل، والعقود وغيرها من المباني القديمة. التي تنطق بمجد من شادوها!

ولست أتردد في القول إن روما الجديدة هذه بأجمعها التي نشاهدها أمامنا الآن، مهما بلغت من العظمة ومهما حوت من جمال وازدانت بالقصور، والكنائس، وغيرها من الصور الفخمة - لست أتردد في القول إن روما هذه قد أمسكها الجير الذي صنع من الرخام القديم"

وتذكرنا هذه الرسالة بمقدار ما حدث من التدمير حتى في خلال السنوات العشر التي قضاها رفائيل في روما؛ وهي تلقي نظرة عامة على تاريخ العمارة، وتندد بالهمجية الفجة التي كان يتسم بها الطرزان الرومنسي والقوطي (واللذين يسميان فيها القوطي التيوتوني)، وتمجد الأنماط اليونانية - الرومانية، وتراها نماذج لكمال وحسن الذوق؛ وتقترح الرسالة أخيراً تكوين هيئة من الخبراء، وتقسيم روما إلى الأقسام الأربعة عشر التي حددها أغسطس في الزمن القديم، على أن يمسح كل قسم منها مسحاً دقيقاً وأن يسجل كل ما فيه من الآثار القديمة. غير أن موت رفائيل المبكر الذي أعقبه بعد قليل موت ليو قد أخر تنفيذ هذا المشروع الجليل زمناً طويلاً.

وظهر تأثير هذه المخلفات المكتشفة في كل فرع من فروع الفن

ص: 243

والتفكير، وتأثر بها يرونلسكو، وألبرتي، وبرامنتي؛ ووصل هذا الأثر إلى الدرجة العليا حتى لم يكن الفن عند بلاديو Palladio إلاّ صورة أخرى من الأشكال القديمة تكاد تكون خاضعة لها كل الخضوع. وكان جبرتي ودوناتليو قد حاولا من قبل أن يتخذا الأشكال القديمة نماذج لهما، فلّما جاء ميكل أنجلو وصل في تقليد الفن القديم إلى درجة الكمال في تمثال بروتس، ولكنه بقي فيهما عداه هو ميكل أنجلو نفسه صاحب النفس القوية غير الخاضعة للفن القديم. وحول الأدب علوم الدين المسيحية إلى أساطير وثنية واستبدل أو ليس بالجنة، أما في التصوير فقد ظهر تأثير الفن القديم في صورة موضوعات وثنية وأجسام عارية وثنية لم تخل منها الموضوعات المسيحية نفسها. وحسبنا دليلاً على هذا أن رفائيل نفسه محبوب البابوات قد رسم صوراً لسيكي Psyhe

(1)

، وفينوس وكيوبد على جدران القصور؛ وكانت الرسوم القديمة والزخارف العربية تعلو العمد وتمتد على الطنف والأفاريز في ألف بناء من أبنية روما.

وظهر انتصار الفن القديم بأجلى مظاهره في كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ وقد عين ليو فيها برامنتي: رئيساً للأعمال. واحتفظ به في هذا المنصب أطول وقت مستطاع؛ ولكن المهندس المعماري الطاعن في السن أقعده داء الرثية، ولذلك عهد إلى الراهب جيوكندو أن يساعده في عمل الرسوم التخطيطية؛ بيد أن جيوكندو نفسه كان يكبر برامنتي الذي كان في السبعين من عمره، بعشر سنين. وفي شهر يناير من عام 1514 عين ليو جوليانو دانسجليو، وهو أيضاً في سن السبعين، للإشراف على العمل؛ ولمّا حضرت برامنتي الوفاة حضر البابا أن يعهد بالمشروع إلى رجل في مقتبل العمر، وذكر له اسم رفائيل بالذات. وأرتأى ليو أن يحب المشكلة حلاً وسطاً؛ فعين في شهر أغسطس من عام 1514 الشاب روفائيل

(1)

في الأساطير الرومانية القديمة أميرة حسناء دبت الغيرة من جمالها في قلب فينوس جمالها. (المترجم)

ص: 244

والشيخ الراهب جيوكندو مديرين مشتركين للمشروع؛ وقضى رفائيل بعض الوقت يعمل بهمة وحماسة في العمل الذي لم يكن يتفق مع مزاجه وهو عمل المهندس المعماري؛ وقال إنه لن يعيش بعد ذلك الوقت إلاّ في روما يغريه بهذا "حبه في بناء كنيسة القديس بطرس

أعظم بناء رآه الإنسان حتى ذلك الوقت"؛ ثم يقول بعد ذلك بتواضعه المعروف.

"ستبلغ تكاليف المشروع مليون دوقة ذهبية، وقد أمر البابا بتخصيص 60. 000 للعمل، وهو لا يفكر في زيادتها؛ وقد ضم إليَّ راهباً تعوزه الخبرة تجاوز سن الثمانين، وهو يرى أن هذا الراهب لن يعيش طويلاً، ولهذا اعتزم قداسته أن يجعلني أفيد من علم هذا الصانع الممتاز حتى أبلغ أعظم درجة من الكفاية في فن المعمار، الذي يعلم الراهب من أسراره ما لا يعرفه سواه .... والبابا يستقبلنا ويستمع إلينا كل يوم، ويظل وقتاً طويلاً يحدثنا عن مشروع البناء.

وتوفي الراهب جيوكندو في أول شهر يوليو من عام 1515 وفي اليوم نفسه انسحب جوليان دلسنجلو من جماعة المصممين. وبذلك أصبح الرئيس الأعلى للعمل كله، فرآى أن يستبدل بتخطيط برامنتي لقاعدة الكنيسة تخطيطاً آخر على شكل صليب لاتيني غير متساوي الأذرع، ووضع تصميماً لسقف مقبب أثبت أنطونيو دلنسجلوا (ابن أخي جوليانو) أنه ثقيل لا تتحمله العمد التي يقوم عليها. وفي عام 1517 عين أنطونيو مهندساً معمارياً مشتركاً مع رفائيل، ولكن الخلاف نشأ بينهما في كل خطوة من خطوات العمل، وكثرت في الوقت عينه أعمال رفائيل في التصوير، ففقد اللذة في المشروع. وحدث أيضاً أن أعوز المال ليو، فحاول أن يجمع ما يستطيعه منه ببيع صكوك الغفران، وكانت نتيجة هذا أن اصطدم بدعاة الإصلاح الديني الألماني (1517). ولم يتقدم بناء كنيسة القديس بطرس إلاّ بعد أن عهد إلى ميكل أنجيلو بالعمل في عام 1546.

ص: 245

الفصل السادس

‌ميكل أنجيلو وليو السادس

كان يوليوس الثاني قد ترك أموالاً لمنفذي وصيته ليستخدموها في إتمام القبر الذي صممه له ميكل أنجيلو أو بالأحرى لينفذوا صورة مصغرة من هذا التصميم. وأخذ الفنان يقوم بهذا الواجب خلال السنين الثلاث الأولى من بابوية ليو، وتلقى من منفذي الوصية في السنين 6100 دوقة (76. 250؟ دولاراً). والراجح أن معظم الأجزاء الباقية من هذا الأثر حتى الآن قد أنشئت في ذلك الوقت هي وتمثال قيام المسيح في كنيسة سانتا ماريا وهي تمثال لشخص رياضي عار وسيم ستر فيما بعد حقواه بغطاء من البرونز ليتفق مع ذوق عصر من ستروه. ويصف ميكل أنجيلو في خطاب له كتبه في شهر مايو من عام 1518 كيف جاء سنيورلي Signorelli إلى مرسمه، واقترض منه جويليا (8000؟ دولار) لم يردها له أبداً، ثم يضيف إلى ذلك قوله:"ورآني أعمل في تمثال من الرخام يبلغ ارتفاعه أربع أذرع ويداه مشدودتان وراء ظهره"(57). وأكبر الظن أن هذا التمثال هو أحد التماثيل الأسرى وهي تماثيل يراد بها تصوير المدن أو الفنون التي أسرها البابا المحارب؛ وفي متحف اللوفر تمثال ينطبق عليه وصفها: فهو يمثل شخصاً مفتول العضلات عارياً إلاّ من قطعة من النسيج تستر حقويه، ويداه مربوطتان خلف ظهره برباط بلغ من شدته أن الحبال غائرة في لحمه. ويرى بالقرب منه أسير أجمل منه عار إلاّ من عصابة ضيقة حول الصدر؛ وهنا لم يغتال الفنان في إبراز العضلات، والجسم يجمع بين الصحة والجمال متناسبين ويظهر فيه الفن اليوناني بأكمل مظاهره. وفي المجمع العلمي

ص: 246

بمدينة لفورنس تماثيل لأربعة من العبيد، كان يقصد بها فيما يظهر أن تكون عمداً في صورة نساء يستند عليها ما فوقها من بناء القبر. ويوجد هذا القبر الناقص الآن في كنيسة يوليوس في سان بيترو ببلدة فنكولي Vincoli، وهو يمثل عرشاً فخماً ضخماً، ذا عمد منحوتة نحتاً ظريفاً، وعليه صورة موسى- وهي صورة مخلوق ضخم فظيع غير متناسب الأجزاء ذي لحية وقرنين وجبهة تنم عن الغضب الشديد، يمسك بيده ألواح الشريعة. وإذا شئنا أن نصدق قصة بعيدة عن المعقول يرويها فاساري، فإن اليهود كانوا يشاهدون في كل سبت وهم يدخلون الكنيسة ليعبدوا هذا التمثال، لا على أنه من صنع البشر بل على أنه شيء إلهي" (58). ونرى ليحا عن يسار موسى وراشل عن يمينه، وهما تمثالان يسميهما ميكل: "الحياة العاملة المفكرة" أما ما بقى من الأشكال على القبر فقد نحتها مساعدوه في غير عناية: ومن هذه صورة للعذراء فوق صورة موسى، وعند قدميها صورة يوليوس الثاني نصف متكيء، وعلى رأسه التاج البابوي. والأثر كله عمل ناقص يمثل كدحاً غير متواصل في سنين متفرقة ما بين 1506 و 1545، وهو عمل مضطرب مرتبك، ضخم، غير متناسق وسخيف.

وبينما كان الفنان وأعوانه ينحتون هذه الأشكال، لاحت لليو - ولعل ذلك كان أثناء إقامته في فلورنس - فكرة إتمام كنيسة سان لورندسو في تلك المدينة. وكانت هذه الكنيسة أولاً ضريح آل ميديتشي، وتضم قبور كوزيمو، ولورندسو وكثيرين غيرهما من أفراد تلك الأسرة. وكان برونكسكو قد بنى الكنيسة، ولكنه لم يتم واجهتها. ولهذا طلب ليو إلى رفائيل، وجوليانو داسنجلو، وباكشيو دا نيولو Baccio d'Agnolo، وأندريا، وياقوبو سانسو فينو أن يعرضوا عليه. تصميماً يضعونه لإتمام واجهتها. لكن ميكل أنجيلو بعث إلى البابا بتصميم وضعه هو، ويظهر أنه وضعه من تلقاء نفسه، وقبله ليو لأنه رآه أحسن من كل ما عرض عليه.

ص: 247

ومن ثم فإنه لا يصلح أن يوجه اللوم إلى البابا، كما وجهه إليه الكثيرون لأنه إلهي ميكل عن عمله في قبر يوليوس. وبعث ليو بميكل إلى فلورنس ومنها ذهب إلى كرارا ليقطع من محاجرها أطناناً من الرخام. ولمّا عاد إلى فلورنس استأجر مساعدين لمعاونته في العمل، ثم تشاحت معهم، وردهم على أعقابهم، وقضى بعض الوقت يفكر ولا يعمل شيئاً فيما ألقي عليه م عمل لا يستريح له، هو عمل المهندس المعماري. وحدث أن استولى الكردنال جويليو ابن عم ليو على بعض الرخام الذي لم يكن ينتفع به ليستخدمه في الكنيسة؛ فغضب لذلك ميكل ولكنه ظل يتباطأ في العمل، حتى إذا كان عام 1520 أعفاه ليو أخيراً من العقد الذي وقعه، ولم يطلب حساباً عن المال الذي دفعه مقدماً للفنان. ولمّا أن طلب سيستيانو دل بيمبو إلى البابا أن يعهد إلى ميكل أنجيلو بعمل آخر، لم يستجب ليو لهذا اطلب. فقد كان يقر لميكل أنجيلو بتفوقه في الفن، ولكنه قال:" إنه رجل مزعج، كما ترى ذلك أنت بنفسك، ولا أرى سبيلاً إلى الاتفاق معه": ونقل سيستيانو هذا الحديث إلى صديقه، وأضاف إليه قوله:" لقد قلت لقداسته إن أساليبه المزعجة لم تسبب أذى لأي إنسان، وإن إخلاصك للعمل العظيم الذي وهبت نفسك له وحده الذي يجعلك تبدو مزعجاً لغيرك من الناس"(59).

ترى ما هذا الإزعاج الذي اشتهر به ميكل أنجيلو. إنه أولاً وقبل كل شيء جهده العظيم، وهو تلك القوة العاصفة، المضنية التي كانت تعذب جسم ميكل أنجيلو، ولكنها أبقت عليه مدى تسع وثمانين سنة؛ وهي ثانياً قوة في الإرادة ظلت تسخّر هذا الجهد وتوجهه نحو هدف واحد - هو الفن - وتغفل كل ما عداه تقريباً. والجهد الذي توجهه إرادة جامعة موحدة يكاد يكون هو التعريف الصحيح للعبقرية. ولقد كان ذلك الجهد الذي يرى في الحجر الذي لا شكل له تحدياً له، ثم ينشب فيه مخالبه، ويدقه بمطرقته،

ص: 248

ويحفره بمثقبه حتى ينكشف عن شيء ذي معنى، هو نفس القوة التي اكتسحت أمامها وهي غاضبة كل ما يحولها عن غرضها من سفاسف الحياة، فلا تفكر في الملبس، ولا النظافة، ولا المجاملات السطحية؛ ثم أخذت تتقدم نحو غايتها تقدماً إن لم يكن أعمى فقد كان على عينيه غماء، يسير فوق وعود حانثة، وصداقات خاسرة، وصحة منهوكة، وأخيراً فوق روع محطمة، تترك الجسم والعقل مهشمين، ولكنها تنجر العمل - تنجز أروع الصور، وأروع الآثار المنحوتة، وعدداً من أعظم المباني، التي تمت في ذلك الزمن. ولقد صدق ميكل أنجيلو حين قال:"إذا أعانني الله فسأخرج أجمل ما شهدته إيطاليا في حياتها كلها"(60).

وكان ميكل أنجيلو أقل الناس وسامة في عصر اشتهر بجمال الجسم وفخامة الثياب. كان متوسط الطول، عريض المنكبين، نحيل الجسم، كبير الرأس، مرتفع الجبهة، أذناه بارزتان إلى ما بعد وجنتيه، وصدغاه بارزان إلى ما بعد الأذنين، وجهه مستطيل قاتم، وأنفه أفطس، وعيناه صغيرتان حادتان، وشعر رأسه ولحيته أشمط - هكذا كان ميكل أنجيلو في مقتبل عمره. وكان يرتدي ملابس قديمة، ويتعلق بها حتى تصبح وكأنها جزء من جسمه، ويبدو أن كان يطيع نصف نصيحة أبيه:"أحرص على ألا تغتسل، حُكَّ جسمك ولكن لا تغتسل"(61). وكان، هو الرجل الغني، يعيش معيشة الفقراء، معيشة الاقتصاد، يأكل أي شيء تصل إليه يداه، ويكتفي أحياناً بكسرة من الخبز. ولمّا كان في بولونيا، كان هو والعمال الثلاثة الذين يشتغلون معه يسكنون في حجرة واحدة، وينامون على سرير واحد. ويقول عنه كنديفي: "وكان وهو في عنفوان الصبا ينام في ثياب النهار، لا يخلع منها شيئاً حتى حذاءيه الطويلين، اللذين كان يحتذيهما على الدوام لأنه كان لديه استعداد للإصابة بتقلص

ص: 249

العضلات .... وكان في بعض فصول السنة يظل محتذياً هذين الحذاءين زمناً بلغ من طوله أنه إذا خلعهما انسلخ جلده مع جلد الحذاء" (62). ويقول فاساري في هذا: "إنه لم يكن يرغب في أن يخلع ثيابه، لا لسبب إلاّ لأنه لا يريد أن يضطر إلى لبسها مرة أخرى" (63).

وكان يفخر بكرم محتده المزعوم، ولكنه كان يفضل الفقراء على الأغنياء، والسذج على ذوي العقول الراجحة، وكدح العامل على ما يتيحه الثراء من فراغ وترف. وكان يخرج عن معظم مكسبه ليعول أقاربه العاجزين؛ وكان يحب العزلة، لا يطيق أن يتحدث بضع كلمات إلى ذوي العقول الخاملة؛ وكان أينما وجد يتابع أفكاره الخاصة. وكان قليل العناية بالنساء الحسان، واقتصد الكثير من المال بالتزام العفة

ولمّا أن أظهر أحد القساوسة أسفه لأن ميكل أنجيلو لم يتزوج ولم ينجب أبناء رد عليه ميكل أنجيلو بقوله: "إن الفن عندي أكثر من زوجة، وهو زوجة سببت لي ما يكفيني من المتاعب؛ أما أبنائي فهم الأعمال التي سأخلفها، وإذا لم تكن هذه الأعمال ذات قيمة كبيرة، فلا أقل من أنها ستبقى بعض الوقت"(64) ولم يكن يطيق وجود النساء في بيته، وكان يفضل عليهن الذكور في رفقته وفي فنه على السواء. وقد رسم النساء ولكنه رسمهن دائماً وهن أمهات ناضجات، ولم يرسمهن وهن فتيات فاتنات ساحرات. ومن الغريب أنه هو وليوناردو كانا فيما يلوح لا يحسان بجمال المرأة الجثماني، مع أن معظم الفنانين كانوا يرونه منبع الجمال. بل الجمال نفسه مجسداً. وليس لدينا ما نستدل منه على أنه كان لائطاً، ويبدو أن كل ما كان لديه من نشاط يمكن أن ينصرف إلى الاتصال الجنسي، كان يستنفذه عمله. ولمّا كان في كرارا كان يقضي اليوم كله راكباً جواده، يصدر التعليمات إلى قاطعي الحجارة ومعبدي الطريق، ويقضي المساء في مسكنه يدرس

ص: 250

الخطط في ضوء الصباح، ويحسب النفقات، ويرتب أعمال الغد. وكانت تنتابه فترات يبدو فيها خاملاً، ثم تتملكه فجاءة حمى الإنتاج، فلا يبالي بأي شيء حتى انتهاب روما.

وقد حال انهماكه في العمل بينه وبين صداقة الناس، وإن كان له بعض الأصدقاء الأوفياء، "وقلّما كان صديق أو غير صديق يطعم على مائدته"(65). وكان يقنع بصحبة خادمه الأمين فرانتشيسكو ديجلي أمادوري Franecesco degli Amadore الذي ظل خمساً وعشرين سنة يعنى به، وظل كثيراً من السنين يشاركه فراشه. وقد اغتنى فرانتشيسكو من هبات ميكل، ولمّا مات (1555) تفطر قلب الفنان حزناً عليه. أما في معاملة غيره من الناس فقد كان حاد الطبع سليط اللسان، عنيفاً في نقده، سريعاً في غضبه، يرتاب في كل الناس. وكان يصف بروجيا بأنه أبله، وعبّر عن رأيه في صور فرانتشيا بأن قال لابن فرانتشيا الوسيم إن والده يرسمن الأشكال بالليل أحسن مما يرسمه منها بالنهار" (66). وكان فرانتشيا يغار من نجاح رفائيل وحب الناس إياه؛ ومع أن كلا الفنانين كان يحب صاحبه فإن مؤيديهما انقسموا إلى فئتين متشاحنتين، حتى بلغ من أمرهم أن بعث ياقوبو سانسو فينو برسالة إلى ميكل يسبه فيها سباً قاذعاً ويقول: "لعنة الله على ذلك اليوم الذي تنطق فيه بأي خبر عن أي إنسان على ظهر الأرض (67) ". ولقد مرت به أيام قليلة ينطبق عليها هذا الوصف، منها أن ميكل شاهد صورة لألفنسو دوق فيرارا من عمل تيشيان فقال إنه لم يكن يظن أن الفن يمكن أن يصنع هذا الصنع العجيب، وإن تيشيان وحده هو الخليق بأن يسمى مصوراً (68). وكان مزاجه المرير، وطبيعته المكتئبة هما المأساة التي لازمته طول حياته؛ فكانت تمر به أوقات يشتد فيها اكتئابه حتى يشرف على الجنون،، استحوذ عليه خوف الجحيم حتى ظن أن فنه

ص: 251

من الخطايا، وأخذ يتبرع بالبائنات إلى الفقيرات من الفتيات ليسترضي بذلك ربه الغضوب (69). وسبب له إحساسه المرهف اضطراباً في الأعصاب جلب عليه شقاء لم يكد يفارقه يوماً واحداً. انظر إلى ما كتبه لوالده في عام 1508 لا بعد:"لقد مضت الآن خمسة عشر عاماً منذ استمتعت بساعة واحدة من الطمأنينة"(70). ولم يستمتع بعدئذ بكثير من هذه الساعات، وإن كان قد بقى من عمره ثمان وخمسون سنة.

ص: 252

الفصل السابع

‌رفائيل وليو العاشر

1513 -

1520

يرجع بعض السبب في إهمال ليو لميكل أنجيلو إلى أن البابا كان يحب الرجال والنساء ذوي الخلق المعتدل المتزن، كما يرجع بعضه الآخر إلى أنه لم يكن شديد الحب لفن العمارة أو إلى الضخامة في الفن بوجه عام، فقد كان يفضل الجوهرة النفيسة على الكنيسة الكبرى، ويفضل الزخارف الصغرى على الآثار الضخمة. وقد شغل كردسا Caradossa، وسانتي ده كولاسيا Santi de Cola Sabba، ومشيلي نارديني Michele Nardini وغيرهم من الصياغ بصنع الجواهر، والنقش عليها، والمدليات، والنقود، والآنية المقدسة. وترك وراءه بعد وفاته مجموعة من الحجارة النفيسة، والياقوت، والياقوت الأزرق (الصغير)، الزمرد، والماس، واللؤلؤ، وتيجان البابوات والأساقفة، وترك من الصور ما تبلغ قيمته 204. 655 دوقة أي أكثر من 2. 500. 000 دولار. على أننا يجب أن نذكر أن الجزء الأكبر من هذه الثروة قد ورثها من أسلافه، وأنها كانت جزءاً من الكنوز البابوية التي لا يصيبها تخفيض قيمة العملة المتداولة.

وقد دعا نحو عشرين من المصورين إلى روما، ولكن رفائيل يكاد يكون هو المصور الوحيد الذي عني به حقاً. لقد جرب ليوناردو ثم طرده لأنه كان في رأيه مهذاراً مضيعاً لوقته، وجاء الراهب بارتولميو إلى روما في عام 1514 ورسم صورة للقديس بطرس وأخرى للقديس بولس. ولكن هواء روما وما فيها من حركة وما تثيره في النفس من اهتياج لم توافقه، فل يلبث أن عاد إلى الهدوء الذي اعتاده في دير فلورنس، وأحب ليو عمل سودوما، ولكنه لم يكد يجرؤ على أن يترك هذا المستهتر يجول حراً في قصر

ص: 253

الفاتيكان؛ واستحوذ جوليو ده ميدتشي ابن عم ليو على سبستيانو دل بيمبو.

وكان رفائيل يتفق مع ليو في مزاجه وذوقه جميعاً، فقد كان كلاهما أبيقورياً ظريفاً أحال المسيحية لذة ومتعة، ونعم بالجنة على ظهر الأرض، ولكن كلاهما كان يكدح بقدر ما كان يعبث. وقد أثقل ليو الفنان السعيد بالواجبات: إتمام الحجرات، وتخطيط الرسوم المبدئية للأقمشة التي يزدان بها معبد سستيني، وزخارف شرفات الفاتيكان، وبناء كنيسة القديس بطرس، وحفظ التحف الفنية الرومانية القديمة. وقبل رفائيل هذه المهام كلها، وقبلها مسروراً بها راغباً فيها؛ ووجد فوق ذلك من وقته متسعاً لرسم نحو عشرين من الصور الدينية، وعدة مجموعات من المظلمات الوثنية، ونحو خمسين من صور العذراء وغيرها كانت كل واحدة منها بمفردها خليقة بأن تأتيه بالثروة الطائلة والصيت العريض. واستغل ليو وداعته ولين جانبه. فكان يطلب إليه أن ينظم له احتفالاته، وأن يرسم المناظر اللازمة لإحدى التمثيليات، وأن يصور له فيلاً كان يحبه (71). ولعل الإجهاد والحب هما اللذان قصّرا أجل رفائيل.

ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه في عنفوان القوة ونعيم الرخاء. وقد كتب في أول يولية سنة 1514 رسالة إلى عمه "العزيز سيمون

الذي أعزه كما أعز أبي"، وكان سيمون هذا قد لامه لإصراره على البقاء عزباً، وكانت رسالته إلى عمه هذا تنم عن ثقته بنفسه واغتباطه بهذه الثقة قال:

أما عن الزوجة، فلا بد أن أخبرك أني أحمد الله كل يوم على أني لم أتزوج بمن قدرت لي أن أتزوجها، أو بغيرها من النساء

ولقد كنت في هذه المسألة بالذات أعقل منك

ولست أشك في أنك سترى الآن أنني بحالي التي أنا عليها خير ممّا كنت أكونه لو تزوجت

إن لي مالاً في روما يبلغ 3000 دوقة، ودخلاً مؤكداً لا يقل عن خمسين دوقة أخرى. وقد وظف لي قداسة البابا مرتباً قدره 300 دوقة نظير إشرافي

ص: 254

على إعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ولن ينقطع عن هذا المرتب طول حياتي .... وهم يعطونني فوق هذا كل ما أطلبه نظير عملي. ولقد شرعت في زخرفة ردهة كبيرة لقداسة البابا سأتقاضى من أجلها 1200 كرون ذهبي. ومن هذا ترى حتماً يا عمي العزيز أنني أعمل ما يشرّف أسرتي وبلدي (72).

ولمّا بلغ الواحدة والثلاثين من عمره أدرك أنه دخل في دور الرجولة، فربى لحية سوداء أراد أن يستر بها شبابه؛ وعاش في رغد، بل قل في أبهة في قصر شاده برامنتي وابتاعه رفائيل بثلاثة آلاف دوقة، وارتدى من الثياب ما يرتديه شباب الأسر الشريفة؛ وكان إذا زار قصر الفاتيكان صحبته حاشية كحاشية الأمراء من تلاميذه وعملائه. وأنبه على هذا ميكل أنجيلو بأن قال له:"إنك تسير ومن خلفك حاشية كأنك قائد جيش"، فرد عليه رفائيل بقوله:"وأنت تسير وحدك كالجلاّد"(73). وكان لا يزال وقتئذ فتى طيب القلب، مبرءاً من الجسد، ولكنه شديد الحرص على أن يسمو على غيره من الناس، ولم يكن من التواضع بالقدر الذي كان عليه من قبل (وأنّى له أن يكون كذلك)، ولكنه كان على الدوام يقدّم العون لغيره، ويهدي أصدقاءه روائع فنه، ولقد بلغ من أمره أن كان معيناً ونصيراً للفنانين الأقل منه حظاً وموهبة. ولكن فكاهته كانت لاذعة في بعض الأحيان؛ مثال ذلك أن كردنالين زارا مرسمه في يوم من الأيام، فأخذا يتسليان بذكر عيوب في صوره - فقالا مثلاً إن وجوه الرسل مسرفة في الاحمرار - فرد عليهم بقوله:"لا تعجبوا من هذا، يا صاحبي العظمة، فلقد رسمتها بهذا الشكل عامداً، أليس من حقنا أن نظن أن أصحابها ستعلوهم حمرة الخجل في السماء حين يرون الكنيسة يحكمها رجال من أمثالكم؟ "(74). على أنه مع ذلك كان يقبل ما يصحح له من أغلاط من غير أن يغضب، كما حدث في تصميم بناء كنيسة القديس بطرس. وكان في وسعه أن يثني

ص: 255

على طائفة من الفنانين بتقليد روائع فنهم، دون أن يفقد مع ذلك استقلاله وما يمتاز له من موهبة الابتكار، ولم يكن في حاجة إلى الوحدة يرجع فيها إلى نفسه.

على أن أخلاقه لم تسم كما سمت آدابه؛ ولم يكن في مقدوره أن يصور النساء بتلك الصور الجذابة لو لم يكن قد افتتن بمحاسنهن، وقد كتب أغاني في الحب على ظهر رسومه؛ واتخذ له طائفة من العشيقات واحدة بعد واحدة؛ ولكن يبدو أنه ما من أحد - بما في ذلك البابا نفسه - يظن أن من كان مثالاً عظيماً لا يحق له أن يستمتع بمثل هذه المتع. وهاهو ذا فاساري، بعد أن وصف شذوذ رفائيل الجنسي لا يرى فيما يبدو أي تعارض في أن يقول بعد صفحتين من هذا الوصف إن "اللذين يحاكمونه في حياته الفاضلة سيثابون على ذلك في الجنة"(75). ولمّا أن سأل كستجليوني رفائيل أين يجد نماذج النساء الحسان اللاتي يصورهن، أجابه بأنه يخلقهن خلقاً في خياله بأن يجمع عناصر الجمال المختلفة التي تمتاز بها مختلف النساء (76)؛ ومن ثم كان في حاجة إلى أمثلة منهن متعددة. ومع هذا فإن في أخلاقه وفي أعماله طابعاً صحيحاً يرفع من قدر الحياة، ووحدة وطمأنينة وصفاء في سيرته وسط ما كان يحيط به من نزاع، وفرقة، وحسداً، ومثالب كانت تسود ذلك العصر. ولم يكن يعبأ بالشئون السياسية التي يحترق بلظاها ليو وإيطاليا كلها، ولعله كان يشعر بأن الخصومات التي تتكرر من حين إلى حين بين الأحزاب والدول الطامعة في السلطان، وفي الامتيازات، إن هي إلاّ الزبد الذي يعلو أمواج التاريخ، والذي لا بد أن يذهب جفاء، وأن ليس لشيء ما قيمة ونفع إلاّ الإخلاص للكمال، والجمال، والحق.

وترك رفائيل البحث عن الحقيقة لمن كانوا أكثر منه جرأة وحماسة، وقنع بخدمة الجمال دون غيره؛ فواصل في السنة الأولى من حكم ليو نقش! حجرة إليودورو Stanza d'Eliodoro. فقد شاءت الظروف أن يختار

ص: 256

يوليوس منظر الالتقاء التاريخي بين أتلا Atilla وليو الأول (452). ليكون النقش الثاني من أهم النقوش الجدارية في حجرته، وليجعله رمزاً لطرد البرابرة من إيطاليا. وكان رفائيل في تصويره قد جعل ملامح ليو الأول هي بعينها ملامح يوليوس الثاني، ولكن حدث وقتئذ أن اعتلى عرش البابوية ليو العاشر. فما كان من رفائيل إلاّ أن عدل رسمه فجعل ليو هو ليو. وكان أكثر من هذه المجموعة الكبيرة نجاحاً صورة أصغر منها رسمها رفائيل في عقد فوق نافذة في هذه الحجرة من نفسها. وهنا اقترح البابا الجديد أن يكون موضوع الصورة نجاة بطرس من السجن على يدي أحد الملائكة؛ ولعله أراد بهذا أن يخلد ذكرى نجاته من ميلان. واستعان رفائيل بكل ما وهبه الفن من قدرة التأليف والتكوين ليبعث الوحدة والحياة في الصورة التي قسمتها النافذة إلى ثلاثة مناظر: منظر الحراس النائمين إلى اليسار، وملك يوقظ بطرس في أعلى النافذة، وملك إلى اليمين يقود الرسول الحائر الذي يداعب الناس أجفانه إلى الحرية. وإن ما يشع في حجرة السجن من تألق الملك يسطع على دروع الجند ويغشى أبصارهم؛ والهلال الذي ينعكس نوره على السحب فيجعلها ناصعة البياض، إن هذا وذاك ليجعلان هذه الصورة نموذجاً فنياً لدراسة الضوء.

وكان الفنان الشاب ظمئاً إلى تطبيق للفن جديد. وكان برامنتي قد أخذ صديقه في السر، دون إذن من ميكل أنجيلو، ليشاهد المظلمات التي في قبة سستيني قبل تمامها. وتأثر رفائيل بمنظرها أشد التأثر، ولعله أحس، بما لا يزال يصحب كبرياءه من تواضع، بأنه ماثل في حضرة فنان أعظم منه عبقرية وإن كان أقل منه رقة ولطافة. وترك رفائيل هذه المؤثرات الجديدة تحركه في موضوعات المظلمات التي صورها على سقف حجرة هليدورس وفي أشكال هذه المظلمات: فقد مثل فيها الله يظهر إلى نوح؛ وإبراهيم يضحّي بولده، وحلم يعقوب، والأجمة المحترقة. ويظهر أيضاً

ص: 257

في صورة النبي إشعيا التي رسمها لكنيسة القديس أوغسطين. وشرع في عام 1514 ينقش الحجرة التي عرفت باسم حجرة حريق المدينة Stanza dell' Incendio del Borgo، ويريد بالمدينة الجزء المحيط بالفاتيكان من روما. وتفصيل هذا أن إحدى قصص العصور الوسطى تروي أن البابا ليو الثالث أطفأ حريقاً كان ينذر بالتهام هذا الجزء من المدينة، ولم يكلفه هذا اكثر من أن يرسم أكثر من الصورة التمهيدية لهذا الرسم الجداري، ثم عهد إلى تلميذه جيان فرانتشيسكو بني Gianfransesco Penni بإتمامها وتلوينها. وهي مع هذا صورة قوية في تأليفها، ومن طراز رفائيل الممتاز الذي يروي فيه حادثات الأيام. وقد مزج رفائيل في هذه الصورة القصة الرومانية القديمة بالقصة المسيحية، فصور إلى اليمين إينياس وسيما مفتول العضلات يحمل أباه أنكبسيز Anchises الشيخ ذا العضلات القوية لينجيه من اللهب، وهناك أيضاً صورة أخرى متقنة الرسم إلى أبعد حد تمثل رجلاً عارياً يتعلق في أعلى جدار البناء المحترق، ويتأهب لإلقاء نفسه على الأرض؛ ويظهر في هذه الصور الثلاث العارية تأثير ميكل أنجيلو في رفائيل. لكن ثمة صوراً أكثر اتفاقاً مع نزعة رفائيل نفسه، منها صورة أم مرتاعة تطل من فوق الجدار لتسلم طفلها إلى رجل يقف فوق الأرض على أطراف أصابع قدميه. وترى بعين عمد فخمة جماعات من النساء يتلمسن معونة البابا، فيأمر من إحدى الشرفات النار أن تخمد. ولا يزال رفائيل في هذه الصورة في عنفوان مجده.

ورسم رفائيل الرسوم التمهيدية لبقية الصور التي في هذه الحجرة؛ ولعل تلاميذه قد ساعدوه حتى في هذه الصور الباقية نفسها. ومن الرسوم التمهيدية رَسَمَ بيرينول فاجا Perino del Vaga فوق النافذة صورة قسم ليو الثالث وهو يبرئ نفسه أمام شارلمان (800)؛ وصوَّر جويليو رومانو وهو تلميذ

ص: 258

آخر أعظم من التلميذ السابق على الجدار المجاور لباب الحجرة واقعة أستيا التي رد فيها ليو الرابع (وهو يظهر في الصورة شديد الشبه بليو العاشر) الغزاة المسلمين (849). وجويليو رومانو هو الفنان الوحيد من أهل روما الذي علا نجمه في فن النهضة. وصوّر أولئك التلاميذ النابهون في أماكن أخرى صوراً لملوك أحسنوا إلى الكنيسة، وجعلوا هذه الصور مثالية لا واقعية. وفي الصورة الأخيرة صورة تتويج شارلمان يصبح ليو العاشر هو ليو الثالث بعينه، ويصوّر فرانسس الأول كأنه شارلمان يحقق (بالنيابة عن شارلمان) أمله في أن يكون إمبراطوراً. والحقيقة أن هذه الصور تمثل التقاء ليو بفرانسس في بولونيا في العام السابق (1516).

ورسم رفائيل رسوماً تخطيطية مبدئية للحجرة الرابعة وهي المعروفة بردهة قسطنطين Sala Constantino؛ وقد رسمت هذه الصور ولونت بعد وفاته برعاية البابا كلمنت السابع. وكان ليو في هذه الأثناء يستحثه على أن يبدأ بزخرفة الشرفات المكشوفة التي بناها برامنتي لكي تحيط بفناء القديس دماسوس St. Damasus بالفاتيكان. وكان رفائيل نفسه هو الذي أكمل تشييد هذه الشرفات؛ ثم صمم وقتئذ (1517 - 1519) لسقف واحدة منها اثنين وخمسين مظلماً تروي قصص الكتاب المقدس من خلق العالم إلى يوم الحساب. وقد عهد بالتصوير نفسه إلى جويليو رومانو، وجيان فرانتشيسكو بني، وبرينودل فاجا، وبليدورو كلدارا داكر فجيو Potidoro Caldara da Caravaggio، وغيرهم؛ بينما قام جيوفني دا يوديني Giovanni de Udine بزخرفة العمد المربوعة، والأجزاء الداخلية من العقود بصور رائعة ونقوش عربية الطراز في الجس وبالألوان. وقد استخدمت أحياناً في مظلمات الشرفات هذه موضوعات مما عولج في سقف سستيني، ولكنها أخف منها يداً، وأقل منها تصنعاً، وأكبر مرحاً؛ لا تهدف إلى الفخامة أو التعالي بل تصور حادثات لطيفة كصورة آدم وحواء

ص: 259

وأبنائهما يستمتعون بفاكهة الجنة، وصورة إبراهيم يستقبل الملائكة الثلاثة، واسحق يعانق رفقة، ويعقوب وراحيل عند البئر، ويوسف وزوجة فرعون، والتقاط موسى، وداود وباثشيع، وعبادة الرعاة. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الصور الصغيرة لا يمكن أن تضارع صور ميكل أنجيلو، فهذه في عالم غير عالم تلك ومن صنف غير صنفها - لأنها تمثل عالماً ذا رشاقة نسوية، لا عالماً ذا قوة عضلية؛ وهي شاهد على رفائيل المرح في الخمس السنين الأخيرة من حياته؛ على حين أن سقف سستيني إنما يمثل ميكل أنجيلو في عنفوان قوته.

ولعل ليو قد دبَّ في قلبه شيء من الغيرة من جمال هذا السقف، ومما أفاءه على حكم يوليوس من مجد، فلم يكد يعتلي العرش حتى فكر في تخليد عهده بنقش جدران معبد سستيني بصور الطنافس المزركشة. ولم يكن في إيطاليا من النساجين ممن يضارعون تساجي فلاندرز، وظن ليو أنه لم يكن في فلاندرز من المصورين من يضارعون رفائيل. ولهذا عهد إلى هذا الفنان (1515)، أن يرسم عشر صور تمهيدية تمثل مناظر من أعمال الرسل. وقد ابتاع روبنز (1630) ستاً من هذه الصور في بركسل لتشارلس الأول ملك إنجلترا، وهي الآن محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت بلندن، وتعد من أعظم ما رسم من الصور في أي عصر من العصور. وقد أغدق عليها رفائيل كا ما لديه من علم في التأليف، والتشريح، والتأثير المسرحي؛ وقلّما يوجد في ميدان التصوير كله قطع نفوق صورة معجزة جر السمك، أو عهد المسيح إلى بطرس، أو موت أنانياس، أو بطرس يداوي الأعرج، أو بولس يعظ في أثينة - وإن كان شكل بولس الجميل في هذه الصورة الأخيرة مسروق من مظلمات مساتشيو في فلورنس.

وأرسلت الرسوم التمهيدية العشرة إلى بركسل، حيث أشرف برنارت

ص: 260

فان أورلي Bernaert van Orley، الذي تتلمذ على رفائيل في روما، على نقل هذه الرسوم على الحرير والصوف. وتمت سبع من هذه الطنافس في فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنين، وتم صنع العشر كلها قبل عام 1520؛ وفي السادس والعشرين من ديسمبر عام 1519 علقت سبع منها على جدران سستيني ودعي لمشاهدتها الصفوة المختارة من أهل روما. وذهل الحاضرون من جمالها وروعتها، فقال باريس ده جراسيس Paris de Grassis في يومياته:"وذهل كل من في الكنيسة حين وقعت أعينهم على هذه الستر، وأجمعوا كلهم بلا استثناء على ا، هـ ليس في العالم كله ما هو أجمل منها"(77). وقد أنفق على كل واحدة منها ألفا دوقة (25. 000؟ دولار)، وكانت نفقاتها جميعاً من أسباب إقفار خزائن ليو وإغرائه على بيع صكوك الغفران والمناصب الكنسية

(1)

. وما من شك في أن ليو قد أحس وقتئذ بأنه التقى هو ورفائيل مع يوليوس وميكل أنجيلو في معركة فنية في كنيسة واحدة وأنهما قد انتصرا في هذه المعركة.

وإن ما يتصف به رفائيل من خصب في الإنتاج وهو في سن السابعة والثلاثين أعظم من خصب ميكل أنجيلو في سن التاسعة والثمانين - نقول إن ما يتصف به من خصب في هذه السن ليجعل من الصعب علينا أن ننصفه حين نصف روائع أعماله الفنية وصفاً موجزاً شاملاً، وذلك لأن كل عمل من أعماله تقريباً كان آية خليقة بأن تخلد. لقد رسم صوراً في الفسيفساء، والخشب، والجواهر، وعلى المدليات، والفخار، والآنية البرنزية،

(1)

رهنت هذه الطنافس عند موت ليو ليخفف ثمنها من الضائقة المالية التي حلت بالبابوية؛ ثم أصابها تلف شديد في أثناء انتهاب روما، فمزقت إحداها إرباً، وبيعت اثنتان منها إلى القسطنطينية، ثم ردت كلها إلى معبد سستيني في عام 1554؛ وصارت تعرض في كل عام في عيد الجسد الطاهر على العشب في ميدان القديس بطرس. وقد أمر لويس الرابع عشر أن ترسم لها صور بالزيت. اغتصبها الفرنسيون في عام 1798، وأعيدت مرة ثانية إلى الفاتيكان في عام 1808. وهي معروضة هناك الآن في قاعة خاصة بها تدعى ردهة الطنافس.

ص: 261

والنقوش المحفورة البارزة، وصناديق العطور، وعلى التماثيل، والقصور. واضطراب ميكل أنجيلو حين سمع أن رفائيل صنع نموذجاً لتمثال يونس راكباً حوته، وأن المثال لفلورنسي لورندستو لتي Lorenzetto Lotti نحت من هذه النماذج تمثالاً رخامياً له. ولكن النتيجة أعادت إليه سكينته لأن رفائيل بعمله هذا قد خرج من ميدانه الخاص وهو ميدان التصوير الملون، ولم يكن في خروجه هذا حكيماً. لكنه كان أكثر توفيقاً في ميدان العمارة لأن صديقه برامنتي كان يرشده في هذا الميدان. ولمّا عهد إليه حوالي عام 1514 العمل في كنيسة القديس بطرس، طلب إلى صديقه فابيو كلفو Fabio Calvo أن يترجم له كتاب فتروفيوس Vitrivius إلىاللغة الإيطالية، وشغف منذ ذلك الحين حباً بالطرز المعمارية الرومانية القديمة ووسر ليو من استمراره في العمل في شرفة برمنتي سروراً جعله يعينه مديراً لجميع المصالح المعمارية والفنية في الفاتيكان. وشاد رفائيل بعض القصور الممتازة في روما، واشترك في تخطيط فلا ماداما Villa Madama للكردنال جويليو ده ميديتشي. على أن هذا العمل يرجع معظم الفضل فيه إلى جويليو رومانو المهندس المعماري، والمصور، وإلى جيوفنيدا أوديني Giovanni da Udine الذي قام بزخرفته ولم يبق من آيات رفائيل المعمارية إلاّ قصر بندلفيني Palazzo Pandolfini الذي بنى بعد موته على أساس رسومه التخطيطية، ولا يزال هذا القصر معدوداً ن أجمل القصور في فلورنس. وسخر رفائيل بعدئذ مواهبه لخدمة صديقه المصرفي تشيجي Chigi وكان ذلك منه تضحية تعلّي من قدره. وقد شاد لهذا الصديق معبداً في كنيسة سانتا ماريادل بوبولو، وبنى لجياده اسطبلات (الاسطبلات الشجيانية Stalle Chigiani 1514) تليق لأن تكون قصوراً. وإذا شئنا أن نفهم رفائيل، وروما في عهد ليو، حق الفهم، وجب علينا أن نتريث قليلاً لنلقي نظرة على ذلك الرجل العظيم تشيجي.

ص: 262

الفصل الثامن

‌أجستينو تشيجي

يمثل أجستينو تشيجي طائفة من أهل روما: طائفة أغنياء التجار أو رجال المصارف، وأصلهم عادة من غير أهلها علا شأنهم على شأن نبلاء الرومان الأقدمين، ولم يكن يعلو عليهم في سخائهم على الفنانين والكتّاب إلاّ سخاء الكرادلة والبابوات. وكان مولده في سينا، وكأنما طَعِم الدهاء في الشئون المالية مع طعامه اليومي. وقبل أن يبلغ الثالثة والأربعين من عمره أصبح أكبر مقرضي المال الإيطاليين إلى الجمهوريات والمماليك مسيحية كانت أو غير مسيحية. وكان يمول التجارة المتبادلة بين أكثر من عشرة بلاد من بينها تركيا، وحصل بعقد من يوليوس الثاني على احتكار الشب والملح (78). وفي عام 1511 أتاح ليوليوس سباً جديداً من أسباب الحرب على فيرارا - ذلك أن الدوق ألفنسو قد جرؤ على أن يبيع الملح بثمن أقل مما يستطيع أجستينو أن يتقاضاه (79). وكان لشركته فروع في كل مدينة إيطالية كبيرة، كما كان لها فروع في القسطنطينية، والإسكندرية، والقاهرة، وليون في فرنسا، ولندن، وأمستردام، وكانت مائة سفينة وسفينة تمخر عباب اليم رافعة رايته، كما كان عشرون ألف رجل عمالاً مأجورين عنده. وكان بضعة ملوك وأمراء يبعثون إليه بالهدايا، وكان أحسن جواد عنده هدية من سلطان تركيا؛ ولمّا زار البندقية (وكان قد أقرضها 125. 000 دوقة) وضع مقعده بجوار مقعد الدوج نفسه (80). ولمّا سأله ليو العاشر عن مقدار ثروته أجابه أن الرد على ذلك مستحيل، ولعل الباعث له على هذا الجواب هو التهرب من الضرائب، على أن دخله السنوي كان يقدر بنحو 70. 000 دوقة (875. 000؟ دولار). وكانت صحافه الفضية

ص: 263

وجواهره تعدل ما عند نبلاء روما كلهم مجتمعين. وكان سريره محفوراً في العاج ومرصعاً بالذهب والحجارة الكريمة، وكانت أدوات حمامه من الفضة (81). وكان له اثنا عشر من القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق، أجملها كلها بيت تشيجي الريفي القائم على الضفة الغربية لنهر التيبر. وكان الذي خططه هو بلدساري بروتشي، وزينه بالصور بروتشي ورفائيل، وسودوما، وجويلي رومانو، وسبستيانو دل بيمبو؛ وقد وصفه الرومان حين تم بأنه أفخم قصور روما بأجمعها.

وكان لموائد تشيجي من الشهرة ما يضارع شهرة موائد لوكلس Lucullus في أيام قيصر. ولمّا أتم رفائيل بناء أسطبلاته وقبل أن توضع فيها جياد أجمل من الرجال، استقبل فيها أجستينو البابا ليو وأربعة عشر من الكرادلة في عام 1518، وأقام لهم فيها مأدبة كان يتباهى بأنها كلفته ألفي دوقة (25. 000؟ دولار). وقد سرقت في أثناء هذه الحفلة الممتازة صحاف فضية كبيرة، وأكبر الظن أن اللذين سرقوها خدم في حاشية بعض المدعوين. وأمر تشيجي ألاّ يجري أي تفتيش، وأظهر دهشته في لطف ومجاملة من قلة ما سرق (82). ولمّا انتهت المأدبة، ورفعت الطنفسة الحريرية، وطنافس الجدران، والأثاث الدقيق، ملأت الاسطبلات بمائة جواد.

وأقام المصرفي الثري بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت حفلة عشاء أخرى، وأقامها هذه المرة في شرفة القصر الريفي المطلة على نهر التيبر، وكانت الصحاف الفضية، بعد الفراغ من كل صنف من الطعام، تلقى في النهر على مشهد من المدعوين، حتى يتأكدوا من أن أية صفحة منها لن تستعمل أكثر من مرة واحدة. ولمّا انتهت المأدبة استخرج خدم تشيجي الصحاف من النهر بشبكة كانت قد وضعت سراً في مجراه تحت نافذة الشرفة (83). وحدث في مأدبة عشاء أقيمت في قاعة القصر الريفي في 28 أغسطس 1519 أن قدم الطعام لكل مدعو وفيهم البابا ليو واثنا عشر كردنالاً - في صحاف من

ص: 264

الفضة أو الذهب نقش عليها شعاره، وتاجه، ودرعه، وأطعم كل واحد منهم نوعاً خاصاً من السمك، واللحم، والخضر، والفاكهة، والمشهيات، والنبيذ المستورد حديثاً من بلده أو منطقته لهذا الغرض خاصة.

وحاول تشيجي أن يكفر عن هذا التظاهر الوضيع بالثراء، بمناصرته الأدب والفن مناصرة سخية كريمة - من ذلك أنه أدى إلى العالم كرنيليو بنينيو Corneiio Benigo من فيتيربو Viterbo نفقات طبع أشعار بندار، وأنه أنشأ في بيته مطبعة تلك المؤلفات؛ وكانت الحروف اليونانية التي عملت لتلك المطبعة تفوق في جمالها الحروف التي استخدمها ألدوس مانوتيوس في نشر قصائده قبل ذلك بعامين. وكان هذا أول نص يوناني طبع في روما (1515). وبعد عام من ذلك الوقت أصدرت المطبعة طبعة صحيحة من ثيوقريطس. وكان أجستينو نفسه واسع المعرفة، ولكنه كان يفخر بأن من أصدقائه بمبو، وجيوفيو، وأرتينو نفسه. وقد أغدق أرتينو هذا المال بسخاء، وكان يتباهى بإنفاق هذا المال. وكان أكثر ما يحبه بعد المال وعشيقته هو جميع أنواع الجمال التي يستطيع الفن أن يصورها. وكان ينافس ليو فيما يعهد به من الأعمال إلى الفنانين، وقد فاقه كثيراً في تفسيره الوثني للنهضة، وجمع في قصوره في المدينة وضواحيها مقادير من التحف الفنية تكفي لإنشاء متحف من المتاحف. ويبدو أنه كان يعتقد أن قصره ليس بيتاً فحسب، بل هو إلى ذلك معرض عام للفن يسمح للجماهير أن تدخله من حين إلى حين.

وحدث في ذلك القصر الذي أقيمت فيه مأدبة العشاء السالفة الذكر في 25 أغسطس سنة 1519، أن تزوج تشيجي بعشيقته الوفية التي ظل يعيش معها طوال الست السنين السابقة، وقام بمراسيم الزواج البابا ليو نفسه. لكنه توفي بعد ثمانية أشهر من ذلك الوقت بعد أيام قليلة من موت رفائيل.

ص: 265

وقسم الجزء الأكبر من ثروته التي قدرت بثمانمائة ألف دوقة (10. 000. 000 دولار) بين أبنائه. وعاش لورندسو أكبر هؤلاء البناء عيشة البذخ والفساد، وحكم عليه بالجنون في عام 1553. أما بيت تشيجي الريفي الواقع على ضفة التيبر فقد بيع إلى الكردنال ألسندرو فرنيزي الثاني بثمن زهيد حوالي عام 1580؛ وأطلق عليه من ذلك الحين اسم الفارنيزينا Farensina.

ص: 266

الفصل التاسع

‌رفائيل (خاتمة المطاف)

وكان رفائيل قد قبل أن يقوم للمصرفي المرح الظريف بأعمال فنية منذ عام1510، وفي عام 1514 رسم له صوراً جصية ملونة في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace. وكان المكان الذي خصص لهذه الصور ضيقاً غير منتظم؛ ولكن رفائيل جعله يبدو صالحاً للرسم بأن وزع عليه صوراً لأربع عرافات - تومائية، وفارسية، وفريجية، وتيبورتية، وهن متنبئات وثنيات سلبتهن قواهن في هذا الرسم الملائكة المحيطة بهن. وصورهن رشيقة لأن رفائيل كان يصعب عليه أن يصور شيئاً خالياً من الرشاقة. ويظن فاساري أنهن أجمل ما أنتجه الفنان الشاب؛ والصور جميعها ما عدا صورة العرافة التيبورتية محاكاة ضعيفة لعرافات أنجيلو. أما صورة هذه الكاهنة الأخيرة الهزيلة الجسم التي أوهنها الكبر، وروعها المستقبل البشع الذي تتنبأ به، فهي صورة ذات قوة مبتكرة مسرحية. وتقول قصة لا يمكن الرجوع بها إلى ما قبل القرن السابع عشر، إن شيئاً من سوء التفاهم حدث بين رفائيل والقائم على أموال تشيجي خاصاً بالأجر الذي يتقاضاه الفنان عن هذه الصور. وكان رفائيل قد أخذ منه خمسمائة دوقة، ولكنه طلب المزيد من الأجر بعد أن أتمها؛ وظن خازن أموال تشيجي أن الخمسمائة من الدوقات التي أخذها رفائيل هي كل ما يحق له أن يأخذه. وعرض رفائيل أن يعين الخازن فناناً خبيراً ليقدر قيمة الرسوم؛ فاختار الخازن ميكل أنجيلو لهذا الغرض ووافق رفائيل على هذا الاختيار. وحكم ميكل أنجيلو، رغم ما يزعم الناس وجوده بينه وبين رفائيل من غيرة، أن كل رأس في الصورة يساوي مائة دوقة. ولمّا جاء الخازن

ص: 267

المذهول بهذا الحكم إلى تشيجي أمره المصرفي بأن يؤدي إلى رفائيل أربعمائة دوقة أخرى وحذره قائلاً: "واستعمل معه الرفق حتى يرضى بهذا القدر، لأنه إن اضطرني إلى أداء اجر الأثواب التي تلبسها العرافات أفلست لا محالة"(84).

وكان من واجب تشيجي أن يصطنع الحذر، لأن رفائيل كان في ذلك العام نفسه يرسم مظلماً أنيقاً في قصر تشيجي الريفي - وهو مظلم غلاطية. وقد أخذ قصته من جيوسترا Giostra تأليف بولتيان، ومضمون القصة إن بوليفيموس Polyphemus السيكلوب

(1)

Cyclops الأعور يحاول إغراء الحورية غلاطية بأغانيه ومزماره، ولكنها تبتعد عنه في ازدراء - كأنها تقول: من هي التي ترضى أن تتزوج فناناً؟ - ثم تسلم الزمام إلى دلفينين يجذبان سفينتها الصدفية الشكل إلى البحر. وتقف إلى جانب غلاطية حورية ممتلئة الجسم مرحة يمسك بها تريتون قوي، وفي السحب عدد من آلهة الحب (كيوبد) يطلقون سهاماً كثيرة يؤيدون بها الحب القائم بينهما. وتتجلى النهضة الوثنية في هذه الصورة بأجلى مظاهرها، ويغتبط رفائيل إذ يصور النساء كما يجب أن يكن حسب ما يصورهن خياله الساطع.

وفي عام 1516 نقش حمام الكردنال بببينا مظلمات تمجد فينوس وانتصار الحب. وفي عام 1517 نقش سقف القاعدة الوسطى في قصر تشيجي الريفي وزواياه بصور أكثر من الصور السابقة تبذلاًّ. فقد هداه خياله المرح في هذه المرة إلى قصة استمدها من كتاب التناسخ لأبوليوس Apuleius. وخلاصة هذه القصة أن سيكي Psyche ابنة أحد الملوك تستثير بجمالها حسد فينوس، فتأمر هذه الإلهة الحقود ابنها كيوبد أن يوحي إلى سيكي بأن تحب أحقر رجل في الوجود. ويهبط كيوبد إلى

(1)

أحد الجبابرة في الأساطير اليونانية. (المترجم)

ص: 268

الأرض ليؤدي رسالته، ولكنه لا يكاد يمس سيكي حتى يهيم بها حباً. ويزورها في ظلمة الليل، ويأمرها أن تكبت في نفسها غريزة حب الاستطلاع فلا تسأله من هو. غير أنها لا يسعها إلاّ أن تنهض من فراشها ذات ليلة، وتضيء مصباحاً، فتتبين أنها تنام مع أجمل الأرباب كلهم. ولكنها في اضطرابها تسقط منها نقطة من الزيت على كتف إله الحب، فيستيقظ من نومه ويؤنبها لفرط تشوفها، ويتركها وهو غاضب غير عالم أنه إذا حرمت المرأة من غريزة حب الاستطلاع في مثل هذه الأحوال أدى هذا إلى فساد أخلاق المجتمع. وتخرج سيكي هائمة على وجهها في الأرض محزونة يائسة وتضع فينوس كيوبد في السجن لأنه عصى أمه، وتشكو إلى جوبتر من ضعف النظام السماوي، فيرسل جوبتر عطارد ليأتيه بسيكي وتصبح بعدئذ أمة مغواة عند فينوس. ويهر بكيوبد من سجنه ويرجو جوبتر أن يهبه سيكي. ويقع الإله في حيرة إذ يجد نفسه وسط مطالب متعارضة، فيدعو أرباب أولمبس للنظر في هذا الأمر. وينحاز هو إلى كيوبد مدفوعاً إلى هذا بما جبل عليه من التأثر بمفاتن الذكور؛ أما الآلهة الآخرون ذو القلوب الرقيقة فيطلبون إطلاق سراح سيكي، ورفعها إلى مقام الإلهات، وإعطائها لكيوبد؛ ويحتفلون في المنظر الأخير بزواج كيوبد وسيكي ويقيمون لهذه المناسبة وليمة يطعمون فيها طعام الآلهة. ويؤكد رواة القصة أنها كلها رموز واستعارات، وأن سيكي تمثل النفس البشرية، التي تدخل الجنة بعد أن يطهرها العذاب؛ لكن رفائيل وتشيجي لم يريا في هذه القصة أية رموز دينية، وإنما هي فرصة أتيحت لهما ليتأملا كمال الأجسام البشرية في الذكور والإناث على السواء. لكننا نرى مع ذلك نزعة رفائيل الشهوانية رقةً وظرفاً يفلان سلاح المتزمتين؛ ويبدو أن ليو المتسامح الدمث المرح لم يجد في هذه الرسوم ما يأخذه على الرجلين. وليس رفائيل في هذه الصور إلاّ الأشكال والتأليف؛ أما في عدا هذا فإن جويليو رومانو

ص: 269

وفرانتشيسكو بني هما اللذان صورا المناظر الملونة بعد أن خططها رفائيل، ثم أضاف إليها جيوفني دا أوديني أكاليل جذابة مغرية مثقلة بالأزهار والثمار. وهكذا نرى أن مدرسة رفائيل الفنية قد أصبحت منطقة انتقال لا يكاد يوجد أدنى شك في أن ثمارها النهائية ستكون صورة ما من وصر الجمال.

ولم تمتزج الوثنية والمسيحية امتزاجاً ممتعاً كامتزاجهما في صور رفائيل. فهذا الفتى ذو النزعة الدنيوية الذي كان يعيش كما يعيش الأمراء، ويحب كثيراً من النساء حباً عابراً مؤقتاً، والذي كان يعبث على السقف (إذا جاز هذا التعبير) بالذكور العراة والنساء العاريات، نقول إن هذا الفتى نفسه رسم في تلك السنين (1513 - 1520) عدداً من أكثر الصور جاذبية في التاريخ كله. وكان رغم شهوانيته الظاهرة المكشوفة يعود دائماً إلى العذراء موضوعه الحبيب، فقد رسم لها خمسين صورة، يساعده فيها أحياناً أحد تلاميذه كما في صورة مادنا دل أمباناتا Madonna dell' Impannata ( العذراء المؤفخرة)

(1)

؛ ولكنه كان في معظم الأحيان يعمل في هذا الطراز من الصور بيده هو، وفي قلبه مسحة من تقى أمبريا Umbria القديم. وفي هذه السنة التي نتحدث عنها (1515) رسم عذراء سستيني لدير سان سستو San Sisto القائم في بياتشندسا

(2)

، وهي في الواقع مجموعة من الأشكال في شكل هرم كامل يحتوي على صورة الشهيد القديس سكستس الطاعن في السن، والقديسة بربارا المتحاشمة المفرطة قليلاً في الجمال وفي

(1)

التأفخر من الأفخارستيه وهو المذهب القائل إن المسيح يتجسد في العشاء الرباني من غير أن يصيبه تغير في الجوهر. (المترجم)

(2)

وقد اشتريت هذه الصورة في عام 1753 لفردريك أغسطس الثاني ملك سكسونيا بمبلغ 60. 000 ثالر Thaler ( أي نحو 450. 000؟ دولار)، وظلت مائتي عام تقريباً أشهر كنوز معرض درسدن Dresden. وقد اغتصب الروس المنتصرون من ألمانيا هذه الصورة مع صورة "الليلة المقدسة" لكريجيو، وصورة فينوس لجيورجيوني ونحو 920. 000 تحفة فنية أخرى بعد الحرب العالمية الثانية (85).

ص: 270

فخامة الملبس؛ وثوب العذراء الأخضر اللون فوق مسة من الاحمرار، تهفهفه ريح السماء، وصورة المسيح الطفل الذي يبدو إنساناً يحق في سذاجته وشعره الأشعث؛ ووجه العذراء الوردي الساذج تعلوه مسحة من الحزن والدهشة (كأن لافرنرينا التي ربما كانت نموذج هذه الصورة قد أدركت أنها غير أهل لهذا الوضع)، والسجف التي يزيحها المكان وراء العذراء لتيسر بينهما إلى الجنة: هذه هي أحب الصور إلى العالم المسيحي كله، وأحب ما رسمته يد رفائيل إلى العالم أجمع. ولا تكاد تقل عن هذه ظرفاً ورقةً رغم التزامها الشكل التقليدي صورة الأسرة المقدسة تحت شجرة البلوط (المحفوظة في برادو Prado) ، وهي التي تسمى أيضاً لابيرلا La Perla ( عذراء اللؤلؤة). وفي صورة عذراء سيديا أو سجيولا Seggiola ( الموجودة في بتي) نرى النزعة الدينية أقل منها في الصورة السابقة والنزعة البشرية أكثر ظهوراً. فالعذراء أم إيطالية صغيرة السن مرحة ذات عواطف هادئة تضم طفلها السمين ويبدو على محياها الحب الممتزج بغريزة المِلكية والرعاية، وهو يلتصق في وجل بجسمها، كأنه قد سمع بإحدى الأساطير التي تروي قصة قتل الأطفال البريئين، إن صورة للعذراء تغفر له كثيراً من صور فرنارين.

والصور التي رسمها رفائيل للمسيح قليلة إذا قورنت بغيرها من الصور. ذلك أن روحه المرحة كانت تأبى أن تفكر في تصوير العذاب والألم، أو لعله كان يدرك كما يدرك ليوناردو استحالة تصوير الموضوعات الإلهية. وكان من هذه الصور القليلة صورة المسيح يحمل الصليب التي رسمها في عام 1517 لدير سانتا ماريا دلو إسبازيو Maria dello Spasino في مدينة بالرم، والتي سميت من أجل ذلك لو اسبازيمو دي تشيتشيليا La Spasimo di Cicilia وأكبر الظن أن بتي كان يساعده في رسمها. ويقول فاساري إنه كان لهذه

ص: 271

الصورة تاريخ مليء بالمغامرات: فقد هبت عاصفة على السفينة التي كانت تحملها إلى صقلية فحطمتها؛ وطفت الصورة الموضوعة في قفص على سطح الماء ووصلت سالمة إلى جنوي، لأن "الرياح والأمواج الثائرة نفسها قد أكبرت وأجلت هذه الصورة الرائعة". كما يقول فاساري. ونقلت الصورة سفينة أخرى وأقيمت في بالرم حيث "أضحت أوسع شهرة من جبال فلكان"(86). وفي القرن السابع عشر أمر بها فليب الرابع ملك أسبانيا فنقلت سراً إلى مدريد. وليس المسيح في هذه الصورة إلاّ رجلاً مغلوباً منهوك القوى لا يلوح عليه أنه يحمل رسالة ارتضاها وقام بأدائها. لكن رفائيل وفق أكثر من هذا في الإيحاء بالألوهية في صورة أخرى هي صورة رؤيا حزقيال وإن كان يستعير آلهة الأجل في هذه الصورة من صورة خلق آدم لميكل أنجيلو.

ومن الصور التي رسمت في هذه الفترة أيضاً صورة القديسة تشيتشيليا التي لا تكاد تقل شهرة عن صورة عذراء سستيني. وكان سبب رسمها أن سيدة من بولونيا أعلنت في خريف عام 1513 أنها سمعت أصواتاً سماوية تأمرها بأن تقيم معبداً للقديسة تشيتشليا في كنيسة سان جيوفني دل منتي San Giovanni del Monte. وتعهد أحد أقاربها بأن يبني المعبد، وطلب إلى عمه الكردنال لورندسو بتشي Lorenzo Pucci أن يطلب إلى رفائيل صورة قياسية للمذبح نظير ألف اسكودي Scudi ذهبي. وأناب رفائيل عنه جيوفني دا أوديني في رسم الآلات الموسيقية، وأتم هو الصورة في عام 1516 وأرسلها إلى بولونيا مع رسالة رقيقة إلى فرانتشيا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ولا حاجة بنا إلى أن نعتقد أن فرانتشيا قد ذهل بجمال هذه الصورة ذهولاً أحس معه بما فيها من روعة، وشعر بأن ما ينبعث من نغمات من آلاتها الموسيقية يكاد يكون نغمات سماوية، وأدرك جمال صورة القديس

ص: 272

بولس في "حلم اليقظة"، والقديس يوحنا في نشوة لا تكاد تقل عن نشوة البنات، وتشيتشليا الجميلة، ومجدلين الأجمل منها - والتي خلع عليها هنا طهراً ساحراً- والأضواء الحية والظلال الملقاة على الأثواب وعلى قدمي مجدلين.

وفي هذه الفترة أيضاً رسمت صورة أخرى رائعة منها صورة بلدساري كستجليوني (متحف اللوفر) وهي إحدى الصور التي عمل فيها رفائيل بذمة وضمير حي، وهي قوة الإغراء، ولا تزيد عليها في قيمتها من صور رفائيل إلاّ صورة يوليوس الثاني. وفيها تقع عين الإنسان أولاً على غطاء الرأس الزًّغبي، ثم يستلفته بعدئذ ثوب الفراء، واللحية الكثة، فيخيل إليه أن الجرل أحد شعراء المسلمين أو فلاسفتهم، أو حاخام إسرائيل صوّره رمبرانت Rembrandt؛ ويشاهد بعد ذلك العينين الرقيقتين، والفم، واليدين المقبوضتين، وكلها تكشف عن وزير إزبلا الثاكل ذي العقل الرحيم، والعاطفة الجائشة، وقد انتقل إلى بلاط ليو. وخليق بالإنسان أن يطيل التأمل في هذه الصورة قبل أن يقرأ كتاب "حامل الرسائل The Courier". وتظهر صورة ببينا Bibbiena الكردنال في آخر سني حياته وقد ملّ رؤية صور فينوس وارتضى المسيحية.

ولسنا نستطيع الجزم بأن صورة لادنا فيلاتا La donna Velata من صنع رفائيل، ولكنا نكاد نجزم بأنها هي التي يقول فاساري إنها صورة عشيقة رفائيل؛ فملامحها هي الملامح التي استعان بها على رسم صورة مجدلين وصورة تشيتشيليا نفسها في صورة القديسة تشيتشيليا التي سبق الكلام عليها، ولعلها أيضاً الملامح التي نشاهدها في عذراء سستيني - وهي هنا سمراء متحاشمة، يتدلى من رأسها قناع طويل، وحول جيدها عقد من الجواهر،

ص: 273

وتلتف على جسمها أثواب فضفاضة تستهوي العين. وأكبر الظن أن صورة لافرنرينا La Fornarina المحفوظة في المعرض البرغيزي Borghese هي أيضاً من صنع رفائيل، ولكنها لا تمثل عشيقته في وضوح كما كان يظن الخبراء الأقدمون. ومعنى كلمة فرترينا الخبازة أو زوجة الخباز أو ابنته، ولكن هذا الاسم وأمثاله كحداد أو نجار لا يعني حتماً أن صاحبه ينتسب إلى هذه المهنة. وليست هذه السيدة فانتة ساحرة إلى حد كبير، ذلك أن المرء لا يجد فيها النظرة المتواضعة التي تجعل من هذه الإيحاءات غير المتواضعة أكثر فتنةً وسحراً

(1)

. ويبدو أن من غير المعقول أن تكون صورة السيدة ذات القناع المتواضعة هي صورة لنفس هذه السيدة التي توزع المتع السريعة في جرأة على طالبها؛ ولكنا لسنا بحاجة إلى البحث في هذا فقد كان لرفائيل أكثر من عشيقة.

بيد أنه كان أكثر وفاءاً لعشيقته مما ينتظره الإنسان من الفنانين الذين يتأثرون بالجمال أكثر مما يتأثرون بالعقل. وشاهد ذلك أنه لما حثه الكردنال ببينا على أن يتزوج ماريا ببينا ابنة أخيه لم يقبل رفائيل إلحاحه إلاّ وهو كاره (1514) مع أنه كان مديناً للكردنال بأعمال درت عليه المال الكثير، ثم أخذ يتملص من إتمام الزواج شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، وتقول الرواية المأثورة إن ماريا أثر فيها هذا الإرجاء فماتت حزينة كسيرة القلب (87). ويشير فاساري إلى أن رفائيل كان يرجئ هذا الزواج أملاً منه بأنه سيصبح كردنالاً؛ والزوج عقبة كبرى في سبيل هذا المنصب السامي؛ أما العشيقة فإنها من العقبات التي يمكن التغلب عليها. ويبدو أن الفنان كان يجعل عشقته قريبة منه يسهل عليه الوصول إليها حينما كان يقوم بعمله. ولمّا أن وجد تشيجي أن المسافة بين قصره الريفي الذي كان رفائيل يصور فيه تاريخ سيكي

(1)

وفي معرض أفيزي خبازة أخرى أجمل من هذه من صنع بستيانو دل بيمبو.

ص: 274

ومسكن عشقته تضيع على الفنان كثيراً من وقته، جاء المصرفي بالسيدة وأسكنها في شقة من هذا القصر؛ ويقول فاساري إن "ذلك هو السبب في إتمام العمل"(88). ولسنا نعرف هل هذه هي السيدة التي انغمس معها رفائيل في "الدعارة الطليقة غير المألوفة" هي التي يعزو إليها فاساري سبب موته (89).

وكانت آخر صورة له إحدى تفسيراته السامية لقصة الإنجيل. ذلك أن الكردنال جويليو ده ميدشتشي كلّف رفائيل وسبستيانو دل بيمبو في عام 1517 أن ينقشوا ستار مذبح لكنيسة نربونة التي عينه فرانسيس الأول أسقفاً لها، وكان سبستيانو يحس من زمن بعيد أن موهبته الفنية لا تقل عن موهبة رفائيل إن لم تسم عليها، وإن لم يكن مثله معترفاً له بهذه الموهبة. وهاهي ذي الفرصة قد لاحت له لإثبات موهبته. واختار لموضوعه "ارتفاع المجذوم الأبرص" واستعان بميكل انجيلو في رسم الصورة الأولية. واستثارت المنافسة رفائيل فسما إلى فوزه النهائي، واختار لموضوعه رواية منى لحادث جبل تابور:

"وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه .... ولمّا جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثياً له وقائلاً يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألمن شديداً، ويقع كثيراً في النار وكثيراً في الماء، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه (90) ".

وأخذ رفائيل هذين المنظرين كليهما ووحدهما، وتعسف كثيراً في وحدة الزمان والمكان. فالمسيح يظهر فوق قلة الجبل يسبح في الهواء. وقد تبدل وجهه من فرط النشوة، وظهرت ثيابه بيضاء ناصعة لسقوط الضوء عليها من السماء. وعلى أحد جانبيه موسى وعلى الجانب الآخر إيليا،

ص: 275

ومن تحتهم الرسل الأربعة المحببون يرقدون فوق هضبة. وعند سفح الجبل يظهر أب يائس يدفع إلى الأمام ابنه المسلوب العقل، وتركع الأم هي وامرأة أخرى، وكلتاهما رائعة الجمال، إلى جان بالغلام وتطلبان إلى الرسل التسعة المجتمعين إلى اليسار علاجاً للغلام. ويفزع أحد أولئك الرسل وهو منكب على كتاب يقرؤه، ويشير رسول آخر إلى المسيح الذي بدلته النشوة، ويقول إنه هو وحده الذي يستطيع أن يعالج الغلام. وقد اعتاد النقاد أن يثنوا على الجزء الأعلى من الصورة ويصفوا المجموعة السفلى منها بالخشونة والعنف؛ وهذه المجموعة هي التي رسمها جويليو رمانو؛ ولكن الحقيقة أن مقدمتها السفلى تحتوي صورتين من أجمل الصور هما صورة القارئ الفزع، والمرأة الرائعة ذات الكتف العارية والأكواب المتلألئة الساطعة.

وبدأ رفائيل العمل في صورة تجلّي المسيح عام 1517 ولكنه توفي قبل الفراغ منها. ولسنا نعرف ما في قصة فاساري من الصدق لأنه كتبها بعد ثلاثين عاماً من وقوع الحادث. وإلى القارئ هذه القصة:

"لقد أطلق رفائيل العنان لملذاته الخفية إلى أقصى حد؛ وحدث بعد ليلة حمراء صاخبة أنه عاد إلى بيته وقد انتابته حمى شديدة، واعتقد الأطباء أن قد أصابه برد شديد. ولم يعرف هو بسبب اضطرابه، فحجمه الأطباء خطأ منهم وقلة دراية، وبذلك اضعفوا حسمه وهو في أشد الحاجة إلى ما يعيد إليه قوته، فما كان منه إلاّ أن كتب وصيته، بعد أن أخرج عشيقته من بيته، كما يفعل المسيحي الصادق، وترك لها من المال ما تستطيع به أن تعيش عيشة شريفة، ثم قسم ما عنده بين تلاميذه جويليو رومانو الذي كان يؤثره بحبه على الدوام، وجيوفني فرانتشيسكو بني من أهل فلورنس، وقس من أربينو، وأحد أقاربه .... وبعد أن اعترف وتاب وأناب

ص: 276

اختتم حياته في مثل اليوم الذي ولد فيه يوم الجمعة الحزينة، ولمّا يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره (6 أبريل سنة 1520)(91) ".

ورفض القس الذي جاء ليتلقى اعترافه أن يدخل حجرة المريض قبل أن تخرج عشيقة رفائيل من بيته؛ ولعل سبب ذلك الرفض هو شعور القس بأن استمرار وجودها في البيت قد يوحي بأن رفائيل تعوزه الندامة التي لا بد منها قبل أن تغفر له ذنوبه. ولهاذ منعت حتى من الاشتراك في تشييع الجنازة، فانتابها الحزن والكمد حتى كادت تصاب بالجنون لولا أن أقنعها الكردنال ببينا بأن تترهب. وسار على جميع الفنانين في روما في جنازة الشاب الراحل حتى ووري الثرى، وحزن ليو على فقدان مصوره المحبوب؛ وأخرج أمين سر البابا وشاعره، وهوبمبو Bembo الذي تنقصه البلاغة الممتازة في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخرج بمبو هذا كل ما أوتي من فصاحة وكتب قبرية لرفائيل في البنثيرون لم يزد فيها على أن قال:

llle Hec est Raphael

" إن الذي هنا هو رفائيل"

وكفاه هذا. وبعد فقد كان رفائيل بإجماع معاصريه أعظم المصورين في عصره. نعم إنه لم يخرج شيئاً يضارع في سموه سقف سستيني، ولكن ميكل أنجيلو لم يخرج قط شيئاً يضارع في جماله الكلي صور العذراء الخمسين التي أخرجها رفائيل. ولقد كان ميكل أنجيلو أعظم الفنانين لأنه كان عظيماً في ميادين ثلاثة، وكان أعمق من سائر الفنانين في تفكيره وفي فنه. ولمّا أن قال عن رفائيل:"إنه مثل لما تستطيع الدراسة العميقة أن تثمره"(92) كان يعني في أكبر الظن أن رفائيل قد نال بفضل المحاكاة كل الصفات الممتازة التي يتصف بها كثيرون من المصورين، وإنه صاغها بفضل ما وهب من الجد والمثابرة حتى أصبحت طرازاً بلغ ذروة الكمال. على أن ميكل أنجيلو لم يشعر أن رفائيل قد أوتي تلك القوة العاصفة المبدعة

ص: 277

التي تطرح المحاكاة وتشق لنفسها طريقاً خاصاً بها، تجتازه بقوة تكاد تصل إلى حد العنف، وتصلبه إلى ما تريد. ويبدو أن رفائيل قد بلغ من السعادة حداً يمنعه أ، يكون عبقرياً بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ؛ وهو المعنى الذي يجعل العبقرية تشرف على الجنون. ولقد تخلص رفائيل من صراعه الداخلي حتى لم تعد تظهر عليه إلاّ قلة من أعراض الروح أو القوة الشيطانية التي تحرك أعظم النفوس، فتدفعها إلى الإبداع والمآسي؛ ولهذا كان عمل رفائيل ثمرة الحذق الكامل المصقول لا الشعور العميق أو العقيدة. وقد كّيف نفسه لحاجات يوليوس وأهوائه في أول الأمر، ثم لحاجات ليو وأهوائه من بعده، ومن بعدهما لتشيجي، ولأنه ظل على الدوام الشب الذي لا يعرف الختل والخداع، والذي يتقلب وهو مغتبط بين صور العذارى والعشيقات؛ وكانت هذه هي وسيلته المرحة للتوفيق بين الوثنية والمسيحية.

وإذا فهمنا من لفظ الفنان معناه التطبيقي الآلي كان رفائيل أبرع الفنانين لا يعلو عليه واحد منهم. ذلك أن أحداً لم يضارعه قط في ترتيب عناصر الصورة، ولا في انسجام أجزائها، أو الانسياب الهادئ لخطوطها. وكانت حياته كلها مكرسة لإتقان الشكل، ولهذا كان ينزع إلى البقاء على ظاهر الأشياء، فنحن لا نراه يسبر غور ما في الحياة أو العقيدة من أسرار خفية أو متناقضات. وكان دهاء ليو، وإحساس ميكل أنجيلو بمآسي الحياة عديمي المعنى بالنسبة له، وكان حسبه بهجة الحياة ومتعتها، وخلق الجمال وتملكه، ووفاء الصديق والحبيب. وكان رسكن Ruskin صادقاً حين قال إنه كانت تظهر من حين إلى حين في النحت القوطي، وفي التصوير بإيطاليا وفلاندرز "قبل عصر رفائيل" بساطة، وإخلاص وسمو في الإيمان والأمل، يتعمقان النفس أكثر مما تتعمقها صور العذراء وفينوس الجميلة التي أبدعها رفائيل. ومع هذا فإن صورتي يوليوس الثاني وعذراء

ص: 278

اللؤلؤة لا يمكن وصفهما بأنهما من الصور السطحية غير ذات العمق الكبير. ذلك أنهما تصلان إلى لب مطامع الذكور وحنان الأثاث، فصورة يوليوس أعظم وأعمق من صورة موناليزا.

وليوناردو يبعث في نفوسنا الحيرة، وميكل أنجيلو يبعث فيها الخوف، أما رفائيل فيبسط علينا السلام، وهو لا يلقى أسئلة، ولا يثير شكوكاً، ولا يستثير مخاوف، بل يعرض علينا جمال الحياة كأنه شراب الآلهة. وهو لا يقر بوجود صراع بين العقل والشعور، أو بين الجسم والروح؛ بل كل شيء فيه توافق وتناسق بين الأضداد، تتألف منه موسيقى فيثاغورية. وفنه يسمو بكل ما يمسه فيجعل منه مثلاً أعلى، أو حتى حرباً؛ وإذ كان هو سعيداً محظوظاً فقد كان يشع على كل ما حوله كل ما أوتي من نعمة وصفاء نفس. ومكانه في سلم العبقريات التعسفي بل أعظم عظماء العباقرة مباشرة، ولكنه في زمرتهم: دانتي، وجيته، وكيتس؛ وبيتهوفن، وباخ، وموزار؛ وميكل أنجيلو، وليوناردو، ورفائيل.

ص: 279

الفصل العاشر

‌ليو السياسي

وكان من دواعي الأسف أن ليو اضطر وهو بين كل هذا الفن والأدب أن يخوض بحر السياسة الخضم. ولكن عذره في هذا أنه رئيس دولة، وأنه يعيش، وأنه الدول التي وراء الألب كان على رأسها جميعاً زعماء ذوو مطامع، ولها جيوش جرارة، وقواد أشداء؛ ولم يكن يستبعد أن يتفق لويس الثاني عشر ملك فرنسا، وفرديناند الكاثوليكي، في أي وقت من الأوقات على اقتسام إيطاليا كما اتفقا من قبل على اقتسام مملكة نابلي. وأراد ليو أن يواجه هذا التهديد، وأن يقوى في الوقت ذاته البابوية ويعلّي شأن أسرته، فعمل على أن يضم فلورنس (التي كان يحكمها وقتئذ على يد جوليانو أخيه ولورندسو ابن أخيه) وميلان، وبياتشندسا، وبارما، ومودينا، وفيرارا، وأربينو في اتحاد قوي جديد يحكمه أفراد من آل ميدشيتشي الموالين له؛ وأن يجمع هذه الولايات وبين ولايات الكنيسة الموجودةوقتئذ، لتكون حاجزاً يصد المغيرين من الشمال، وأن يحصل بزواج أحد أعضاء أسرته إن استطاع على عرش نابلي بعد خلوه من شاغله؛ فإذا تم له بهذه الطريقة توحيد إيطاليا وتقويتها، أمكنه أ، يقود لأوربا في حرب صليبية أخرى ضد الأتراك الذين لا يفتئون يهددونها بالغزو. ورحّب مكيفلي، وهو الرجل الذي لم يكن يميل إلى المسيحية ولا إلى البابوات، بهذه الخطة، أو أنه في القليل رحب بما يتصل منها بتوحيد إيطاليا وحمايتها، وكانت هذه هي الفكرة الأساسية في كتاب الأمير.

وسعى ليو لتحقيق هذه الأغراض بما كان تحت تصرفه من الموارد

ص: 280

العسكرية المحدودة، فلجأ إلى جميع الأساليب السياسية والدبلوماسية التي كان يلجأ إليها أمراء زمانه. نعم إنه لم يكن من اليسير على رئيس الكنيسة أن يكذب، ويحنث بالوعد، ويسرق ويقتل؛ ولكن الملوك كلهم كانوا مجمعين على أن هذه الأساليب لا غنى عنها لحفظ كيان الدولة؛ واندفع ليو، وهو الميديتشي أولاً والبابا بعدئذ، في هذ الخطة بالقدر الذي تسمح له به بدانته، وناسوره، وصيده، وسخاؤه وأمواله. وندد به كل الملوك لأنه لم يسلك مسلك القديسين، وقال في ذلك جوتشيارديني: "إن ليو قد خيب الآمال المعقودة عليه وقت تتويجه، فقد بدا أنه ذو بصيرة نفاذة، ولكنه أقل صلاحاً مما كان يتصوره جميع الناس (93). وظل أعداؤه وقتاً طويلاً يظنون أن دهاءه المكيفلي إنما يرجع إلى نفوذ جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد كلمنت السابع) أو إلى الكردنال ببينا، لكن تطور الحوادث فيما بعد أوضح أنهم لا بد لهم أن يحسبوا حساب ليو نفسه، وأن ليو هذا ليس أسداً بل ثعلباً، وأنه لين زلق، ماكر لا يسبر غوره، نهاز زائغ، يخاف في بعض الأحيان ويتردد في أغلبها؛ ولكنه إذا جد الجد قادر على اتخاذ القرار الحاسم، ماض في عزيمته، عنيد في خططه السياسية.

وسنرجئ الحديث عن علاقاته بالدول الواقعة شمال جبال الألب إلى فصل آخر من هذا الكتاب، ونقصر بحثنا هنا على الشئون الإيطالية، فنتحدث عنها بإيجاز لأن فنون عهد ليو أبقى على الزمن من سياسته. لقد كان يمتاز كثيراً عن أسلافه، لأن فلورنس التي قاومت من قبل الإسكندر ويوليوس كانت وقتئذ جزءاً من دولته، ولأنه أفاء على أهلها كثيراً من نعمه. ولمّا أن زار المدينة التي حكمها أسلافه أقامت له أكثر من عشر أقواس فنية ترحيباً به. ومن هذه القاعدة ومن روما نفسها استخدم رجاله الدبلوماسيين ومن يدينون له بالفضل، كما استخدم جنوده، في توسيع رقعة دولته؛ فاستولى أولاً على مودينا في عام 1514، ولمّا أن تأهب فرانسس الأول

ص: 281

في عام 1515 لغزو إيطاليا والاستيلاء على ميلان، حشد ليو لمقاومته جيشاً وعقد حلفاً إيطالياً، وأمر دوق أربينو، بوصفه تابعاً للكرسي البابوي وقائداً في خدمة الكنيسة، أن ينضم إليه في بولونيا على رأس أكبر قوة يستطيع حشدها. ولكن الدوق رفض المجيء رفضاً صريحاً، وإن كان ليو قد حباه من وقت قصير بما يلزمه من المال لأداء رواتب جنوده. وظن البابا، وله بعض الحق في أن يظن، أنه قد تفاهم في السر مع فرنسا (94)؛ فلم يكد يتخلص من مشاكله الخارجية، حتى استدعى فرانتشيسكو إلى روما؛ فلم يسع الدوق إلاّ أن يفر إلى مانتوا. فحرمه ليو من حظيرة الدين وأصم أذنيه عن سماع تضرع إلزبتا جندساجا وإزبلا دستا وتوسلاتهما، وكانت أولاهما عمة الأمير الطائش وثانيتهما أم زوجته. واستولت جنود البابا على أربينو دون أن تلقى مقاومة، وأعلن خلع فرانتشيسكو، كما نودي بلورندسو ابن أخي ليو دوقاً على أربينو (1516). لكن أهل المدينة ثاروا بعد عام من ذلك الوقت وطردوا لورندسو، وحشد فرانتشيسكو جيشاً استعاد به دوقيته؛ ولاقى ليو أشد الصعاب في جمع المال والجنود لاستعادتها لنفسه؛ ونجح في لذك بعد حرب دامت ثمانية أشهر، ولكن نفقات الحرب أفقرت خزانة البابوية، واحفظت قلوب الإيطاليات على ليو وأسرته الطامعة المغتصبة.

وانتهز فرانسس الأول هذه الفرصة لكسب صداقة البابا، وعرض أن يتزوج لورندسو دوق أربينو الذي عاد إلى عرشه نم مادلين ده لافور دوفرني Madeleine de La Four d'Auvergne الت كان له دخل كبير لا يقل عن عشرة آلاف كرون (125. 000؟ دولار) في العام. ووافق ليو على هذا العرض، وسافر لورندسو إلى فرنسا (1518)، كأنه صدى صوت بورجيا، وعاد بمدلين وبائنتها. وماتت مادلين بعد عام من ذلك الوقت أثناء وضعها بنتاً هي كترينا Caterina التي صارت فيما بعد كترين

ص: 282

ده ميدشتشي ملكة فرنسا؛ ثم مات لورندسو بعد ذلك بقليل، ويقال إن سبب موته مرض سري أصيب به وهو في فرنسا (95). وحينئذ أعلن ليو أن أربينو ولاية بابوية وأرسل مندوباً من قبله ليحكمها.

وكان لابد له أثناء هذه الارتباكات أن يعاني الأمرين من مسألتين تقضان مضجعه وتشهدان بضعفه السياسي وكره الشعب إياه كرهاً مطرد النماء. أما أولاهما فهي أ، قائداً من قواده هو جيان باولو بجليوني حاكم بروجيا برضاء البابا كان قد انضم هو وبروجيا نفسها إلى فرانتشيسكو ماريا؛ فما كان من ليو إلاّ أن خدع جيان بالو فأغراه بالمجيء إلى روما بعد أ، أمنه على نفسه في المجيء والعودة، فلمّا جاء أمر به فقتل (1520). وكان بجليوني هذا قد اشترك في مؤامرة تهدف إلى اغتيال البابا يتزعمها ألفنسو بتروتشي وغيره من الكرادلة (1517). وكان أولئك الكرادلة قد أثقلوا على كرمه بمطالب لا يستطيع مع سخائه العظيم أن يجيبهم إليها؛ كما أ، بروتشي كان فوق ذلك غاضباً مغتاظاً لأن أخاه أبعد عن حكم سينا، ولأن البابا قد غض النظر عن هذا العمل فلم يتدخل لمصلحته. ولهذا فكر أولاً في قتل ليو بيده، ولكنه أشير عليه بدلاً من هذا أن يرشو طبيب ليو ليدس السم للبابا وهو يعالجه من ناسوره. وكشفت المؤامرة، وقتل الطبيب وبتروتشي، وسجن عدد من الكرادلة الذين اشتركوا فيها، وعزلوا من مناصبهم، ثم أطلق سراح بعضهم بعد أن أدوا غرامات باهظة.

وكانت حاجة ليو إلى إيطاليا تنغص عليه وقتئذ حكمه الذي كان من قبل موفقاً سعيداً. ذلك أن عطاياه للأقارب والأصدقاء، والفنانين، والكتاب، والموسيقيين، ونفقات بلاطه الذي لم يكن له من قبل مثيل، ومطالب كنيسة القديس بطرس الجديدة التي لا حد لها، ونفقات حب أربينو والاستعداد إلى حرب صليبية، كل هذا كان يقود خزينة البابا إلى هاوية الإفلاس. ولم يكن إيراده العادي البالغ 420. 000 دوقة (2. 250. 000؟

ص: 283

دولار) في العام والذي يستمده من الأجور، والمرتب الأول لموظفي الكنيسة، والعشور، لم يكن هذا الإيراد العادي يكفي هذه النفقات. على أن هذا الإيراد نفسه كان يصعب دائماً تحصيله من أوربا التي لم تكن راضية عن انسياب هذه الأموال الكنسية إلى روما. وأراد ليو أن يملأ خزانته بالمال فأنشأ في عام 1353 مناصب جديدة يبيعها لطالبيها وبلغ مجموع المال الذي جمع ممن عينوا في هذه المناصب 889. 000 دوقة (11. 112. 500؟ دولار). على أننا يجب ألاّ نغالي في استنكار هذا العمل؛ ذلك أن معظم هذه المناصب لا يؤدي من يشغلها عملاً، وإن تطلبت شيئاً قليلاً منه فقد كان من المستطاع أن يعهد به إلى من ينوبون عن أصحابها؛ وكانت الأموال التي يقدمها شاغلوها في واقع الأمر قروضاً للبابوية، وكان متوسط راتبها البالغ عشرة في المائة كل عام من المال الأصلي المدفوع عنها بمثابة فائدة لهذه القروض. فكان ليو في الحقيقة يبيع ما نسميه في أيامنا هذه سندات حكومية (96)، وكان من حقه بلا ريب أن يقول إنه يؤدي عنها فوائد أكثر مما تؤديه أية حكومة 'ن أوراقها المالية في هذه الأيام. على أنه لم يبع هذه المناصب الاسمية وحدها، بل باع أيضاً أعلى المناصب الكنسية كوظيفة رئيس التشريفات البابوية (97). وفي شهر يولية من عام 1517 رشح واحداً وثلاثين كردنالاً جديداً، كثيرون منهم ذوو كفايات عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم قد اختير أفرادها لقدرتهم على أداء ثمن ما يستمتعون به فيها من الجاه والسلطان. ولنضرب لذلك مثلاً الكردنال بندستي - الطبيب، والعالم، والمؤلف - الذي أدى ثمناً لمنصبه 30. 000 دوقة. وبلغ مجموع دخل ليو في هذه المرة بجرّة قلم نصف مليون دوقة (98). وروعت لذل ك إيطاليا نفسها وهي التي فسدت عقليتها في هذه الناحية فلم تعد تفرق بين ما هو خير منها وما هو شر؛ وكانت قصة هذا العمل بعد أن وصلت إلى ألمانيا مما زاد من حدة غضب لوثر وثورته. (أكتوبر 1517). وكان

ص: 284

من جراء هذا أنه لما فتح السلطان سليم بلاد مصر في تلك السنة الحاسمة في التاريخ وضمها إلى أملاك الأتراك العثمانيين، ونادى البابا بحرب صليبية، لم يلب أحد نداءه. ودفع البابا تهوره الأعمى إلى أن يبعث بعماله في جميع أنحاء اللابد المسيحية يعرضون صكوك غفران واسعة المدى إلى درجة غير عادية على من يتوبون، ويعترفون، ويتبرعون بنفقات الحرب الصليبية.

وكان في بعض الأحيان يقترض المال من مصارف روما بفائدة تبلغ أربعين في المائة. وكان أصحاب هذه المصارف يتقاضون منه هذا السعر المرتفع لأن إهماله في إدارة الشئون المالية البابوية لابد أن يؤدي في رأيهم إلى الإفلاس. ورهن البابا ضماناً لبعض هذه القروض صحافه الفضية، وطنافس جردان قصره، وجواهر. وقلّما كان يفكر في مراعاة الاقتصاد في الإنفاق، فإذا ما اقتصد كان ذلك بالشح على مجمعه العلمي اليوناني، وجامعة روما، فلم يكد يحل عام 1517 حتى أغلق المجمع لحاجته إلى المال. ومع هذا فقد واصل البابا خيراته بلا حساب، فكان يرسل الأموال الطائلة إلى الأديرة، والمستشفيات، والمعاهد الخيرية في جميع أنحاء العالم المسيحي، ويغدق المال وألقاب الشرف على آل ميديتشي، ويولم الولائم الفخمة إلى أضيافه يقدم لهم فيها الأطعمة الشهية النادرة على حين أنه هو نفسه كان يراعي جانب الاعتدال في طعامه وشرابه (99). وقد بلغ مجموع ما أنفقه خلال جلوسه على كرسي البابوية 4. 500. 000 دوقة (56. 250. 000؟ دولار)، ومات وعليه فوق ذلك دين يبلغ 400. 000 دوقة. وقد هجاه أهل روما بقصيدة تفصح عن رأيهم فيه فقالوا:"لقد التهم ليو ثلاث بابويات: أموال يوليوس الثاني، وإيراد ليو، ودخل من خلفه من البابوات (100) ". ولما مات عانت روما أزمة من شر ما حدث في التاريخ كله من أزمات.

وكانت آخر سنة في حياته سنة اشتعلت فيها نار الحرب. ذلك أنه قد بدا

ص: 285

له، بعد أن استرد أربينو وبروجيا، أن لابد له من السيطرة على فيرارا ونهر البو لضمان سلامة الولايات البابوية، وتمكينها من صد فرنسا عند ميلان. وكان الدوق ألفنسو قد خلق هو نفسه سبب الحرب بإرساله الجنود والسلاح إلى فرانتشيسكو ماريا ليستخدمها ضد البابا، وحارب ألفنسو بشجاعته المألوفة مع أنه كان مريضاً منهوك القوى بعد أن ظل جيلاً كاملاً يناصب البابا العداء حتى أنجاه موت ليو من سوء المصير.

وانتاب المرض البابا أيضاً في أغسطس عام 1521؛ وكان بعض سببه الآلام الناشئة من ناسوره، وبعضه الآخر متاعب الحرب وما تسببه من قلق واضطراب بال. وشفي من مرضه، ولكنه عاوده في شهر أكتوبر من ذلك العام نفسه. واسترد صحته في نوفمبر بالقدر الذي أمكن معه نقله إلى قصره الريفي في مجليانا؛ وفيه ترامت إليه الأنباء أن الجيش البابوي - الإمبراطوري قد استولى على ميلان من الفرنسيين. وعاد في الخامس والعشرين من ذلك الشهر إلى روما واستقبل فيها ذلك الاستقبال الرائع الصاخب الذي لا يستقبل به إلاّ الغزاة الفاتحون. وأجهد نفسه في السير على قدميه في ذلك اليوم، وتصبب عرقه حتى ابتلت منه ملابسه، فلمّا كان صباح اليوم التالي لزم الفراش مصاباً بالحمى، وسرعان ما زادت حالته سوءاً وأدرك أن منيته قد اقتربت. وفي أول يوم من ديسمبر جائته الأنباء بأن الجيوش البابوية استولت على بياتشندسا وبارما فعلا وجهه البشر؛ وكان قد أعلن في يوم من الأيام أنه يسره أن يضحي بحياته ثمناً لضم هذين المدينتين إلى ولايات الكنيسة. ومات في منتصف ليلة 1 - 2 من ديسمبر سنة 1521 قبل أن يتم السنة الخامسة والأربعين من العمر بعشرة أيام. ونقل كثيرون من الخدم، وبعض أفراد آل ميدتشي من الفاتيكان كل ما يستطيعون الاستيلاء عليه من الكنوز. وظن جيوتشيارديني، وجيوفيو، وكستجليوني أنه مات مسموماً؛ وأن ذلك ربما كان بتحريض ألفنسو أو فرانتشيسكو ماريا،

ص: 286

ولكن يلوح أنه مات بحمى الملاريا كما مات بها الإسكندر السادس (101).

وابتهج ألفنسو حين بلغه النبأ، وضرب مدلاة جديدة كتب عليها "من أنياب الأسد". وعاد فرانتشيسكو ماريا إلى أربينو وجلس مرة أخرى على عرشه. واستولى رجال المال على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وكان مصرف بيتي قد أقرض ليو 200. 000 دوقة، ومصرف جدي Gaddi قد أقرضه 32. 000، ومصرف ريكاسولي Ricasoli 10. 000؛ وفوق هذا فإن الكردنال بتشي أقرضه 150. 000 والكردنال سلفياتي 80. 000 (102) وكان من حق البابوات أن يستولوا قبل غيرهم على كل ما أنقذ من أملاك البابا؛ ولكن ليو مات وهو شر من المفلس. واشترك غير هؤلاء في التشنيع على البابا واتهامه بسوء الإدارة المالية، ولكن روما كلها تقريباً حزنت عليه، وكانت تعده أكرم من رأته من المحسنين في تاريخها كله. وأدرك الفنانون، والشعراء، والعلماء، أن يوم سعدهم قد مضى، وإن لم يكونوا قد فكروا بعد في مدى خسارتهم، وفي ذلك يقول باولو جيوفيو:"إن المعارف، والفن، ورفاهية الشعب بأكمله، ومباهج الحياة، - وملاك القول إن كل ما هو خير - قد ووري التراب مع ليو"(103).

وبعد فقد كان ليو رجلاً صالحاً قضت عليه فضائله. وقد أثنى إزرمس على رحمته وإنسانيته، وشهامته، وعلمه الغزير، ومناصرته الفنون، ووصف عهد ليو بأنه عهد الذهب (104). ولكن ليو كان قد اعتاد التصرف في الذهب حتى فقد عنده قيمته. فقد نشأ في القصور، فتعلم الترف كما تعلم الفن، ولم يشتغل قط ليكس بالمال، وإن كان قد واجه الأخطار بجنان ثابت، ولمّا وضعت موارد البابوية تحت إشرافه انزلقت من بين أصابعه لقلة عنايته بشأنها، بينما كان ينعم بالسعادة التي ينعم بها من يتلقاها أو يعد العدة لحرب لا تبقي ولا تذر. وسار ليو على الخطة التي سلكها الإسكندر ويوليوس، وورث ما قاما به من جلائل الأعمال؛ ورفع الولايات البابوية

ص: 287

إلى درجة من القوة لم تشهدها من قبل، ولكنه خسر ألمانيا بتبذيره وتشدده في جمع المال. وكان في وسعه أن يشاهد جمال وعاء من أوعية الزهر، ولكنه لا يستطيع رؤية الإصلاح الديني البروتستنتي يتشكل وراء الألب، وأصم أذنه عن سماع مئات النذر التي كانت ترسل إليه، بل ظل يطلب المزيد من الذهب من أمة ثائرة عليه، فكان بذلك سبب مجد الكنيسة ونكبتها معاً.

وكان أكرم أنصار العلم والأدب، ولكنه لم يكن أكثرهم استنارة، ولم يزدهر قط أدب عظيم في أيامه رغم سخائه على الأدباء. فقد كان أريستو ومكيفلي فوق مداركه وإن كان في وسعه أن يقدر بمبو Bembo وبولتيان. ولم يكن تذوقه للفن سامياً أكيداً كما كان تذوق يوليوس له؛ ولم يكن هو الذي ندين له بكنيسة القديس بطرس أو بمدرسة أثينة. وكان مسرفاً في حبه جمال الشكل مقلاً في إدراك المعاني التي يكشف عنها الفن العظيم الذي يغشى الشكل الجميل. وقد أنهك رفائيل بكثرة العمل، وكان سبباً في انهيار صحة ليوناردو، ولم يستطع كما استطاع يوليوس، أن يجد سبيله إلى عبقرية ميكل انجيلو بعد أن يجتاز إليها مزاج هذا الفنان الحاد. وكان مفرطاً في حب النعيم إفراطاً يحول بينه وبين العظمة. ويؤسفنا أن يكون هذا هو حكمنا عليه لأنه كان خليقاً بحبنا.

وسُمي العصر الذي كان يعيش فيه باسمه، ولعله كان خليقاً بأن يسمى به؛ ذلك بأنه وإن طبع بطابع العصر ولم يطبع العصر نفسه بطابعه، كان هو الذي جاء من فلورنس إلى روما بما خلفه آل ميديتشي من الثروة وحسن الذوق، وما شاهده في بيت أبيه من مناصرة للعلم والأدب والفن خليقة بالملوك والمراء؛ وبفضل هذه الثروة والرعاية البابوية وجد الحافز القوي الذي رفع الدب والفن إلى ما بلغاه من جمال الأسلوب والشكل. وكان هو مثلاً احتذاه غيره من الرجال، فأخذوا يبحثون عن المواهب ويمدونها بالعون، ويضربون بدورهم لأوربا الشمالية مثلاً في تقدير القيم العالية ومستوى

ص: 288

رفيعاً تجعله نصب عينيها. وقد عمل أكثر مما عمله غيره من البابوات لحماية بقايا الآداب الرومانية القديمة، وشجع الكتاب على محاكاتها. وقد ارتضى متع الحياة الوثنية، ولكنه بقي في مسلكه الخاص عفيفاً في عصر أطلق لشهواته العنان. وساعد بفضل تأييده للكتاب الإنسانيين في روما على غرس بذور الآداب والأشكال القديمة في فرنسا، وأصبحت روما برعايته قلب الثقافة الأوربية النابض، يهرع إليها الفنانون ليصوروا، أو يحفروا، أو يشيدوا؛ والعلماء ليدرسوا؛ والشعراء لينشدوا؛ والفكهون ليتلألأوا؛ وفي ذلك يقول إزرمس: "عليّ قبل أن أنساك يا روما أن أغرق في نهر النسيان

(1)

ألا ما أعظم ما فيك من حرية ثمينة، وما حوته خزائنك من كتب قيمة، وما أغزر ما في صدور علمائك من معارف، وما فيك من صلات اجتماعية نافعة! وهل يستطيع الإنسان أن يجد في غيرك من المدائن مثل ما يجده فيك من مجتمع أدبي راق، أو تعدد في المواهب مجتمعة كلها في مكان واحد؟ " (105). وأنى يستطيع الإنسان أن يجد مرة أخرى وفي مدينة واحدة وفي عقد من السنين، مثل هذا الحشد العظيم من الأعلام: كستجليوني الظريف، وبمبو المهذب، ولسكارس العالم، والراهب جيوكندو، ورفائيل؛ وآل سانسو فيتي، وسنجلي، وسبستيانو وميكل أنجيلو.

(1)

نهر في الجحيم في الأساطير اليونانية القديمة. (المترجم)

ص: 289