المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل الثاني والعشرون   ‌ ‌فرانسيس الأول والإصلاح الديني في فرنسا ‌ ‌(1515 - 59)   1 - قصة الحضارة - جـ ٢٥

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الفصل الثاني والعشرون

‌فرانسيس الأول والإصلاح الديني في فرنسا

(1515 - 59)

1 -

الملك الأنف الكبير

ولد تحت شجرة في كوفياك في اليوم الثاني عشر من سبتمبر عام 1494، وجده هو شارل أورليان الشاعر، وربما كان الغناء وحب الجمال في دمه، وأبوه شارل أوير فالوا وأورليان، كونت أنجوليم، الذي مات بعد أن اقترف الكثير من الآثام، وكان فرانسيس لم يتجاوز بعد العام الثالث من عمره، وأمه لويز أميرة سافوي، وهي امرأة على جمال واقتدار وطموح، تتعشق الثراء والسلطة. وقد ترملت في السابعة عشرة من عمرها، وأبت الزواج من هنري السابع ملك إنجلترا، ووقفت جهدها - إذا استثنينا بعض العلاقات المحرمة - على إعداد ابنها ليكون ملكاً على فرنسا، ولم تشعر بالأسى عندما وضعن آن أميرة بريتاني، زوجة لويس الثاني عشر، ولداً ميتاً، وتركت لفرانسيس ولاية العهد. وعين لويس، وقلبه مفعم بالحزن، فرانسيس دوقاً لفالوا، ورتب له المربين لتلقينه فن تدبير الملك، وأسبغت عليه لويز، وكذلك أخته مرجريت، من عاطفة الأمومة ما وصل إلى درجة الوله، وأعداه ليكون ملكاً على قلوب النساء. وكانت لويز تناديه "مليكي" مولاي، قيصري، وغذته بقصص الفروسية وتباهت بمغامراته الغرامية، وكان يغمى عليها عندما ترى الضربات تكال

ص: 1

له في المبارزات التي شغف بها. وكان شاباً وسيماً مرحاً أنيساً شجاعاً، يواجه الأخطار بصدر رجب وكأنه رولان أو أماديس، وعندما أفلت خنزير بري من قفصه، وانطلق يعيث فساداً في فناء قصر فرانسيس، واجه الأمير الوحش، وذبحه في بطوله رائعة، في الوقت الذي فر فيه الآخرون لا يلوون على شيء.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره (1506) خطبوا له كلود أميرة فرنسا، ابنة لويس الثاني عشر، البالغة من العمر سبع سنوات. وكانت موعودة بأن تكون خطيبة للصبي الذي قدر له أن يصبح الإمبراطور شارل الخامس، إلا أن الخطبة فسخت لكي تتجنب فرنسا الوقوع في براثن أسبانيا، وكان هذا موضوعاً واحداً من مئات موضوعات الاستفزاز التي حفزت إلى الصراع بين بيتي هابسبورج وفالوا من الفتوة إلى الموت. وعندما بلغ فرانسيس الرابعة عشرة من عمره، أمر بأن يهجر والدته وأن ينضم إلى لويس في شينون، وتزوج كلود عندما بلغ العشرين، وكانت فتات بدينة بليدة عرجاء، ولوداً صالحة، وأنجبت منه أطفالاً في أعوام 1515، 1516، 1518، 1520، 1522، 1523 وماتت عام 1524.

وفي غضون ذلك أصبح ملكاً (أول يناير عام 1515)، وغمرت السعادة قلوب الجميع، وعلى رأسهم أمه التي أنعم عليها بدوقيتي أنجوليم وأنجو، وكونتيتي ماين وبوفور، وبارونية أمبواز. بيد أنه لم يكن أقل كرماً مع الآخرين - النبلاء والفنانين والشعراء والوصفاء العشيقات. وكان صوته المرح ودماثته وهدوء طبعه وحيويته المتدفقة وجاذبيته، وجمعه بين سمات الفروسية ومزايا عصر النهضة كل ذلك جعله أثيراً لدى أبنا جلدته، بل وحاشيته. واغتبطت فرنسا وعلقت عليه آمالاً عريضة. كما حدث في إنجلترا إبان تلك السنوات التي حكم فيها هنري الثامن، وفي الإمبراطوريّة إبان عهد شارل الخامس، وبدا العالم فتياً من جديد منتعشا

ص: 2

بشباب الملك، وصمم فرانسيس، وكان في تصميمه أقوى من ليو العاشر، على أن ينعم بعرشه.

ترى ماذا كان في الواقع ذلك الرجل الذي يجمع بين صفات آرثر ولانسلوت؟ إنه كان رائع التكوين من الناحية البدنية، لو لم يكن أنفه كبيراً على ذلك النحو. وقد أطلق عليه بعض معاصريه الذين يفتقرون إلى الاحترام لقب "الملك الأنف الكبير". وكان فارع القامة، طوله ست أقدام، عريض المنكبين، خفيف الحركة قوي البنية. وكان في وسعه أن يجري ويقفز، ويصارع ويبارز أمهر الخصوم، وكان يستطيع أن يستعمل سيفاً بمقبضين أو رمحاً ثقيلاً. وكانت لحيته الخفيفة وشاربه الرفيع لا يخفيان شبابه، فقد كان في الحادية والعشرين عندما توج ملكاً. وكانت عيناه الضيقتان تنمان على التيقظ وخفة الروح، وإن كانتا لا تدلان على الدهاء أو العمق. وإذا كان أنفه يدل على الفحولة، فإنه كان يطابق شهرته. وقد كتب برانتوم، الذي لا يعد كتابه "نسوة عاشقات" مصنفاً تاريخياً، في ذلك الوقت يقول: "لقد عشق الملك فرانسس الكثيرات، وأحب الكثيرات إلى حد الافراط، ولما كان شاباً فتياً حراً فقد كان يحتضن الواحدة حيناً، والأخرى أحياناً بلا اكتراث

ومن أجل ذلك أصيب بمرض الجدري الذي عجل بنهايته" (1). ويروى أن أم الملك قالت إنه لقي جزاءه حيث اقترف خطيئته

(1)

. وربما بالغ التاريخ في تنوع غرامياته. ومهما كان عددها، فإنه ظل وفياً مخلصاً في الظاهر أولاً لفرانسواز دي فوا، كونتيسة دي شاتوبريان، ثم لآن دي بسليو التي أنعم عليها بلقب دوقة ديتامت، وذلك من عام 1526 إلى أن قضى نحبه. ونشرت عنه

(1)

ومما هو أقرب إلى الأسطورة، قصة المحامي الذي وقع الاختيار على زوجته لابل فرويينر (بياعة الأدوات الحديدية الجميلة) للمخدع الملكي، فما كان منه إلا أن أصاب نفسه بعدوى المرض فنقل إليها مرض الزهري حتى تصيب به الملك.

ص: 3

الشائعات الباطلة مئات من الحكايات التي تدور حول مغامراته الغرامية - وأنه حاصر ميلان لا حباً في ميلان، ولكن من أجل سواد عيني فتاة لا تنسى، رآها هناك (3)، أو لأن امرأة لعوباً في بافيا أغرته وقادته إلى محور مأساته (4). ولا يسعنا على أية حال إلا أن يخالجنا شيء من العطف على ملك مرهف الحس إلى هذا الحد. لقد كان قادراً على الحنان والوله إلى درجة الخيال: وعندما رأى أن يطلق ابنه من كاترين دي مديتشي بعد أن ثبت أنها عاقر أثنته دموعها عن عزمه (5). وفي هذا قال أرازموس "لا يمكن أن يتخيل امرؤ وجود شخص أقل عاطفة من فرانسيس (6)) وإذا كان قد قال ذلك بسبب العطف لبعد المسافة، فإن بودس عالم الإنسانيات المتخصص في شئون فرانسيس وصفه بأنه "مهذب رقيق من السهل الحصول على رضاة (7) ".

وكان معجباً بنفسه لدرجة لا تنتظر من رجل، وكان ينافس هنري الثامن في فخامة ثيابه الملكية وفي إهمال فراء قلنسوته. واتخذ السمندل رمزاً له، مما يدل على الإصرار على البعث من كل احتراق، بيد أن الحياة لسعته مع ذلك بشواظها. وكان يحب أن يقابل بمظاهر التبجيل والامتياز والتملق، ويضيق ذرعاً بالنقد، وأمر بجلب ممثل لأنه هجا الحاشية، وقد واجه لويس الثاني عشر لذعات نفس الملاحظات الساخرة فاكتفى بالابتسام (8)، وكان جاحداً للجميل، كما حدث مع آن دي مونمورنسي، وظالماً كما كان مع شارل البوربوني، وقاسياً كما كان مع سمبلانساي، ولكنه كان على الجملة معروفاً بالصفح والكرم. وكان الإيطاليون يتعجبون من سخائه (9). ولم يظهر في التاريخ حاكم يفوقه في الرفق بالفنانين، وكان يعشق الجمال عشقاً يتسم بالقوة والفطنة، وكان على استعداد لأن ينفق على الفن كما ينفق على الحرب، وقدم نصف ما أنفق من مال في عصر النهضة الفرنسية.

ولم تكن قدرته الذهنية تضارع جاذبية شخصيته، وكان يعرف القليل من

ص: 4

اللاتينية، ولا يعرف شيئاً من اليونانية، بيد أنه أدهش الكثيرين بتنوع معارفه ودقتها عن الزراعة والصيد والجغرافية والعلوم الحربية والأدب والفن، وكانت الفلسفة تلذ له عندما لا تتعارض مع الحب أو الحرب. وكان شديد التهور والاندفاع إلى درجة لا يصلح معها قائداً عظيماً، خفيف الروح يعشق المتعة إلى حد لا يصلح معه لأن يكون سياسياً كبيراً، وكانت تسحره المظاهر فلا ينفذ إلى جوهر الأمور. ويتأثر في لطف بالخلان والحظايا فلا يستطيع أن يختار أصلح مَن لديه من القادة والوزراء، وكان شديد الصراحة لا يخفي أمراً إلى حد لا يصلح معه لأن يكون دبلوماسياً قديراً. وحزنت أخته مرجريت بسبب عجزه عن الحكم، وتنبأت بأن الإمبراطور الداهية العنيد سوف يزيحه عن فرسه في مقارعتهما التي دامت مدى الحياة، أما لويس الثاني عشر الذي كان يعجب به "بوصفه شاباً شهماً رقيقاً". فقد رأى في توجس إفراط خلفه في الملذات، وقال:"لا فائدة من كل ما نعمل، إن هذا الولد العظيم سوف يفسد كل شيء"(10).

‌2 - فرنسا

في عام 1515

كانت فرنسا وقتذاك تنعم برخاء تجود به تربة سخية، ويتحقق على يد شعب ماهر يحسن التدبير وحكم خير، وكان عدد السكان زهاء 16. 000. 000 نسمة في مقابل 3. 000. 000 نسمة في إنجلترا و 7. 000. 000 في أسبانيا. وكانت باريس بسكانها البالغ عددهم 300. 000 نسمة تعد أكبر مدينة في أوربا بعد القسطنطينية. وكان البناء الاجتماعي نصف إقطاعي: فكل الفلاحين تقريباً كانوا يملكون الأرض التي يفلحونها، ولكنهم كانوا يحتفظون بها عادة في إقطاع من الأرض - وكانوا يدفعون مكوساً أو يؤدون خدمات - لسادة وفرسان مهمتهم تنظيم الزراعة وتقديم الحماية العسكرية لإقليمهم وللأمة. وأدى التضخم الناتج من تكرار خفض العملات والتعدين

ص: 5

أو استيراد المعادن الثمينة إلى تيسير دفع المكوس المالية التقليدية، وأتاحت للفلاحين إمكان شراء الأرض رخيصة من الملاّك الأثرياء والنبلاء الفقراء، ومن ثم انتشر في الريف رخاء أشاع المرح في نفس الفلاح الفرنسي وجعله يتشبث بعقيدته الكاثوليكية، بينما كان الفلاح الألماني يقوم بثورة اقتصادية ودينية، وحفزت الملكية الطاقة الفرنسية فجنت من الأرض أفضل أنواع القمح والكروم في أوربا، وسمنت الماشية وتضاعف عددها، وكان اللبن والزبد والجبن يقدم على كل مائدة، والدجاج وغيره من الدواجن تربى في كل فناء تقريباً، وتقبل الفلاح الرائحة المنبعثة من حظيرة خنازيره كما لو كانت شذى مباركاً من أعراف الحياة.

أما العامل في المدينة - وهو في الغالب صانع ماهر يعمل في حانوته - فلم يكن له نسبياً نصيب من هذا الرخاء، لقد أدى التضخم إلى سرعة ارتفاع الأسعار بصورة تفوق زيادة الأجور، وساعدت التعريفات الجمركية التي فرضت لحماية السلع المحلية والاحتكارات الملكية، مثل استخراج الملح، على ارتفاع نفقات المعيشة. وأضرب العمال المتذمرون، ولكنهم جميعاً، على وجه التقريب، لم يظفروا إلا بالفشل والخيبة. وحرم القانون على العمال الاتحاد لأغراض اقتصادية. وكانت القوافل التجارية تنتقل متراخية على طول النهار الفياضة وتسير بصعوبة على طول الطرق السيئة، وتدفع لكل سيد ضريبة للمرور في أملاكه، وكانت ليون التي تلتقي فيها تجارة البحر الأبيض المتوسط القادمة صعوداً من الرون بسيل البضائع القادمة من سويسرة وألمانية، تعد ثاني مدينة بعد باريس في الصناعة الفرنسية، والثانية بعد أنتورب باعتبارها سوقاً للأوراق المالية أو مركزاً للاستثمار والتمويل. وكانت التجارة تنطلق من مارسيليا، وتجوب البحر الأبيض المتوسط، وتجني الربح بفضل العلاقات الودية التي جرؤ فرانسيس على الاحتفاظ بها مع سليمان والأتراك.

ص: 6

وغنم فرانسيس من هذا الاقتصاد، على غرار ما كانت تفعله الحكومات، دخولاً وصلت إلى الحد الذي يدفعه إلى التسامح. وكانت ضريبة الملك أو السيد، التي تفرض على الرءوس والأموال، تثقل كاهل الجميع، ما عدا النبلاء ورجال الدين، وكان الأخيرون يدفعون للملك ضرائب عشور ومنحاً كنسية، أما النبلاء فكانوا يقدمون الفرسان ويجهزونهم، وكان هؤلاء الفرسان لا يزالون عماد الجيوش الفرنسية وقوتها الضاربة. وتلقى فرانسيس درساً من البابوات فباع - وأنشأ للبيع - ألقاباً للنبلاء ومناصب سياسية. وبهذا كون الأغنياء الجدد على الأيام طبقة أرستقراطية جديدة (كما حدث في إنجلترا)، وأسس المحامون بشرائهم للمناصب، بيروقراطية قوية كانت تدير حكومة فرنسا - وأحياناً بغير علم الملك.

ولم يجد الملك بسبب انهماكه في الملذات وقتاً كافياً يدير فيه شئون الحكم، فأناب عنه في تولي مهامه، حتى في رسم سياساتها، رجالاً مثل أمير البحر بونيفيه وآن دي مونمورنسي والكردينالين دوبرا ودي تورنون والفيكونت دي لوتريك. وكانت هناك ثلاثة مجالس تعاون هؤلاء الرجال والملك وتشير عليهم بالرأي، وهي: مجلس خاص من النبلاء، ومجلس أخص للشئون، ومجلس موسع ينظر في طلبات الاسترحام المقدمة إلى الملك. وفيما عدا هذا كان المجلس النيابي في باريس، ويتألف من 200 عضو من العلمانيين ورجال الدين، يعينهم الملك مدى الحياة، بمثابة محكمة عليا. وكان له الحق في الاعتراض عليه عندما يرى أن مراسيمه تتعارض مع قوانين فرنسا الأساسية، وكانت مراسيمه تظل تفتقر إلى قوة القانون إلى أن تقوم هذه الهيئة القديمة بـ "تسجيلها"- بل بالتصديق عليها في واقع الأمر.

ولما كان المحامون والشيوخ يغلبون على المجلس النيابي في باريس، فقد أصبح الجهاز القومي السياسي للطبقات الوسطى وأضحى- بعد السوربون-

ص: 7

أكبر هيئة محافظة في فرنسا. وكانت المجالس النيابية المحلية والمحافظون الذين يعينهم الملك، يديرون شئون الحكم في المقاطعات. وتجاهل الجميع حيناً مجلس الطبقات، وحلت جباية الضرائب محل المنح التي تقدم على سبيل المساعدة، وتضاءل دور طبقة النبلاء في الحكومة.

وكان النبلاء يقومون بوظيفة مزدوجة: تنظيم الجيش وخدمة الملك في البلاط. وكانت الحاشية التي تتألف من الرؤساء الإداريين ورؤوس النبلاء وزوجاتهم وأبناء الأسرة وأصفياء الملك، قد أصبحت وقتذاك على رأس فرنسا وفي الصدر منها، ومرآة تعكس البدع والمهرجان الملكي الدائم المتحرك، وعلى قمة هذه الدورة كان مدير قصر الملك الذي كان ينظم كل شيء ويرعى البروتوكول، ثم الحاجب المكلف بغرفة نوم الملك، ثم أربعة من السادة الموكلين بمخدع الملك، أو كبار الوصفاء الذين كانوا دائماً رهن إشارة الملك لتلبية رغباته، وكان هؤلاء الرجال يستبدل بهم آخرون كل ثلاثة أشهر، وذلك لمنح غيرهم من النبلاء فرصة يحل فيها الدور عليهم للقربى البهيجة من الذات الملكية. ولكيلا يتعرض أحد للإغفال كان هناك عدد من السادة يتراوح بين عشرين وأربعة وخمسين لمخدع الملك يخدمون الأربعة الكبار، يضاف إلى هؤلاء اثنا عشر وصيفاً للمخدع، وأربعة حجاب للمخدع، وكانت أجنحة نوم الملك تلقى العناية المناسبة. وكان هناك عشرون سيداً يعملون مشرفين على مطبخ الملك، وينظمون أعمال جماعة تتألف من خمسة وأربعين رجلاً وخمسة وعشرين من سقاة الخمر. وكان هناك نحو ثلاثين غلاماً من وصفاء الشرف - أولاد لهم نسب جليل - يعملون وصفاء للملك، ويتألقون في زي مفضض خاص، وجمع من أمناء السر يضاعفون من طاقة الملك على التدوين والتذكر، وكان القس الأكبر للكنيسة الملكية كردينالاً، ويشرف أسقف على المحراب أو المصلى، وسمح لخمسين من الأساقفة الأبروشيين بإسباغ البركة على البلاط، وبذلك

ص: 8

يزدادون شهرة، وأنشئت مناصب شرف مثل:"خدم الغرفة الخاصة" بمرتب قدره 240 جنيهاً، وقد منحت للقيام بمهام مختلفة، كالتي أنعم بها على علماء مثل بوديه وشعراء مثل مارو. ولا يفوتنا أن نذكر سبعة أطباء وسبعة جراحين وأربعة حلاقين وسبعة مرتلين وثمانية صناع ماهرين وثمانية كتبة للطبخ وثمانية حجاب بقاعة الاجتماعات. وكان لكل ولد من أبناء الملك خدمه الخاصون به

مشرفون وكتاب سر ومربون ووصفاء وخدم. وكان لكل واحدة من الملكتين في البلاط - كلود ومرجريت - بطانة خاصة تتألف من خمس عشرة سيدة أو عشر سيدات يعملن وصيفات وست عشرة أو ثمان من وصيفات الشرف - آنسات. ومن أعظم ما اشتهر به فرانسيس أنه جعل للنساء مكانة عليا في بلاطه، وأنه كان يغمز بعين الخبير إلى علاقاتهن غير الشرعية، ويشجع ويستمتع باستعراض حليهن ومفاتنهن الرقيقة. وقال:"أي بلاط يخلو من السيدات حديقة مجردة من الأزهار (11) ". ولعل النساء - اللاتي وهبهن جمال الفن، الذي لا تلحقه الشيخوخة - هن اللاتي أضفين على بلاط فرانسيس الأول رونقاً جميلاً وحافزاً على البهجة لا نظير لها حتى في لقصور الإمبراطوريّة بروما. وكان كل الحكام في أوربا يفرضون المكوس على شعوبهم ليهيئوا لأنفسهم صورة مصغرة لهذا الحلم الباريسي.

وتحت هذا السطح المصقول كانت هناك قاعدة عريضة من الخدم: أربعة من الطهاة وستة من مساعدي الطهاة، وطهاة متخصصون في أطباق الحساء أو المرق المتبل أو الشواء، وعدد لا يحصى من الأشخاص، لتقديم الطعام إلى الملك وخدمته على المائدة، وفي المطبخ المشترك للحاشية، وتلبية احتياجات السيدات والسادة والسهر على راحتهم، وكان هناك موسيقيو البلاط يقودهم أشهر المغنين والملحنين والعازفين على الآلات في أوربا خارج روما. ويشرف على الحظائر الملكية مدرب للخيل، وخمسة وعشرون من

ص: 9

رؤساء الركائب النبلاء، وحشد من الحوذية والسواس، وهناك رؤساء يشرفون على الصيد، ومائة كلب و 300 صقر يدربها ويعنى بها مائة مدرب للصقور تحت إشراف كبير مدربي الصقور. وتألف حرس الملك من أربعمائة من الرماة، يضيئون البلاط بأزيائهم الملونة.

ولم يكن هناك مبنى في باريس يكفي لمآدب البلاط وحفلاته الراقصة وحفلات الاستقبال الدبلوماسية. وكان قصر اللوفر وقتذاك حصناً كئيباً، فانصرف عنه فرانسيس إلى القصور المنسقة المعروفة باسم ليه تورنل (الأبراج الصغيرة) قرب الباستيل، أو إلى القصر الفسيح الذي اعتاد المجلس النيابي أن ينعقد فيه، ومع أنه كان لا يزال يعشق الصيد فقد انتقل إلى فونتنبلو أو إلى قصوره الممتدة على نهر اللوار في بلوا أو شامبور أو أمبواز أو تور - ساحباً معه نصف الحاشية وثروة فرنسا. وقد وصف شليني بمبالغته المعهودة ولي نعمته الملك بأنه كان يسافر ومعه بطانة مكونة من 18. 000 شخص و 12. 000 جواداً (12). واحتج السفراء الأجانب على ما يتكبدونه من نفقات ومشقة، في سبيل لقاء الملك أو مسايرته، وإذا وجدوه فإنه يكون على الأرجح، نائماً في فراشه حتى الظهر، يفيق من المتع التي نعم بها في الليلة الماضية، أو منصرفاً إلى ما يلزم لرحلة صيد أو مباراة للفروسية. وكانت نفقات هذا المجد الطواف باهظة. وكانت الخزانة دائماً على شفا الإفلاس، والضرائب ترتفع على الدوام، والمصرفيون في ليون يكرهون على تقديم قروض للملك، يتعرضون فيها للمخاطر. وعندما أدرك الملك عام 1523 أن نفقاته تتجاوز موارده، وعد بوضع حد لإشباع رغباته الشخصية "وهي لا تشمل على أية حال المطلب العادي لاحتياجاتنا ومتعنا القليلة (13"). وكان يلتمس لنفسه عذراً في تبذيره بحاجته إلى التأثير في المبعوثين والتغلب على النبلاء الطموحين، وإدخال البهجة على قلوب العامة، ورأى أن الباريسيين يتعطشون للعروض، وأن إعجابهم بأبهة ملكهم يفوق استياءهم منه.

ص: 10

وأصبحت حكومة فرنسا آنذاك مزدوجة الجنس. فكان فرانسيس يحكم في الظاهر حكماً مطلقاً، بيد أنه كان يعشق النساء إلى درجة جعلته يخضع لأمه وشقيقته بل وزوجته. ولابد أنه كان يحب كلود إلى حد ما لأنها ظلت على الدوام حاملاً منه. وقد تزوجها لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، وشعر بأنه من حقه أن يقدر نساء أخريات خلقن في صورة فنية أجمل منها. وحذت الحاشية حذو الملك في ممارسة فن فحش ظريف. ووطن رجال الدين أنفسهم على قبول هذا الوضع بعد إبداء الاعتراض المناسب، أما الشعب فلم يبدِ أي اعتراض، ولكنه قلد شاكراً سنة الحاشية الدمثة - ما عدا فتاة واحدة، قيل لنا إنها شوهت جمالها عمداً لتنجو من الفسق الملكي (1524)(14).

وكانت أقوى النساء نفوذاً في البلاط والدة الملك، وقالت لويز أميرة سافوي إلى قاصد رسولي:"وجه خطابك لي، وسوف نسير في طريقنا، وإذا شكا الملك فإننا سنتركه يتكلم كما يشاء (15) "، وكثيراً ما كانت على صواب في نصيحتها. وعندما تولت الحكم كنائبة للملك، أصبحت البلاد خيراً مما كانت عليه بين يديه المتراخيتين. ولكن أطماعها دفعت دوق بوربون إلى خيانة الوطن، وأدت إلى هلاك جيش فرنسي جوعاً في إيطاليا. وغفر لها ابنها كل شيء، وشعر بالشكر لأنها جعلت منه إلهاً.

‌3 - مرجريت أميرة نافار

ولعله كان يحب شقيقته حباً لا يفوقه إلا حبه لأمه، وإن كان يزيد على حبه لعشيقاته - وقد منته مؤازرتها شيئاً أقل خلوداً وعمقاً من تمجيدها المجرد من الأنانية. وكانت لا تعيش إلا للحب - حب أمها وشقيقها وزوجها، وهو حب أفلاطوني وحب ديني صوفي. وثمة حكاية لطيفة تقول: "لقد ولدت وهي تبتسم، وتمد يدها الصغيرة لكل

ص: 11

قادم (16)، وقد أطلقت على أمها وشقيقها ونفسها اسم "ثالوثنا"، وقنعت بأن تكون "الزاوية الصغرى" في ذلك "المثلث المتساوي الأضلاع (17) ". وكانت بحكم مولدها مرجريت أميرة أنجوليم وأورليان وفالوا. وتكبر فرانسيس بعامين، فأسهمت في تنشئته وشاركته ألعاب الطفولة، وكانت بمثابة "أمه وعشيقته وزوجته الصغيرة (18) ". وسهرت عليه في كلف شديد كما لو كان إلهاً مخلصاً قد تحول إلى إنسان، وعندما وجدت أنه كان مسرفاً في شهواته الجنسية مثل "الأساطير" تقبلت ذلك التصرف منه باعتباره حقاً لإله من آلهة الأغريق، على الرغم من أنها بالذات لم تلحقها أي لوثة من بيئتها. وقد فاقت فرانسيس في الدراسات، ولكنها لم تضارعه قط في تقديره للفن بعين خبيرة. وتعلمت الأسبانيّة والإيطالية واللاتينية واليونانية وبعض العبرية، وأحاطت نفسها وقد تملكتها رغبة جامحة، بالأدباء والشعراء وعلماء اللاهوت والفلاسفة، ومع ذلك فإنها كانت تتحول يوماً بعد يوم إلى امرأة جذابة، ولم تكن جميلة الجسد إذ كان لها ذلك الأنف الطويل الذي اشتهر به آل فالوا، ولكنها كانت ذات سحر أخاذ بفضل مفاتن شخصيتها وذكائها. وكانت عطوفاً، لطيفة كريمة حنوناً، وكثيراً ما كانت تندفع في مجون مرح. وكانت تعد من أبرع الشواعر في هذا العصر، وكان بلاطها في نراك أوبو من أعظم المراكز الأدبية تألقاً في أوربا. وكان كل إنسان يحبها ويود أن يكون بقربها. وأطلق عليها أهل ذلك العصر الرومانسي الساخر لقب لؤلؤة آل فالوا- لأن مرجريتا Margarita باللاتينية معناه لؤلؤة، وانتشرت أسطورة جميلة تقول إن لويز أميرة سافوي حملت بها بعد أن ابتلعت لؤلؤة.

وتعد رسائلها لأخيها من أجمل وأرق ما كتب في الأدب، ولابد أنه كان يطوي جوانحه على الكثير من الخير، لينتزع منها مثل هذا الإخلاص. وكانت غرامياتها الأخرى تتفاوت مداً وجزراً وتتأجج أو تفتر، أما هذه

ص: 12

العاطفة الطاهرة فقد استمرت خمسين عاماً وكانت قوية على الدوام. وإن نسمات ذلك الحب كادت تطهر هواء ذلك العصر المعطر.

وقد أثار جاستون دي فواه، ابن أخي لويس الثاني عشر، أول مشاعر غرامها، ثم انطلق إلى إيطاليا ليغزو ويقضي نحبه في رافنا (1512)، وسقط جيوم دي بونيفيه صريع هواها، ولكنه وجد أن قلبها لا يزال مشغولاً بجاستون، فتزوج إحدى وصيفاتها، ليكون بالقرب منها، وزفت في السابعة عشرة من عمرها (1509) إلى شارل، دوق أنسون، وكان بدوره سليلاً لأسرة ملكية. وقد دعا فرانسيس إلى هذا الزواج توثيقاً لأواصر المصاهرة بين أسر متنافسة إلى درجة مزعجة، بيد أن مرجريت وجدت أن من العسر عليها أن تحب هذا الشاب. وعرض عليها بونيفيه أن تلتمس السلوى عن ذلك بالخنا، فشوهت وجهها بحجر حاد لتخمد سحر فتنتها له. وذهب كل من لنسون وبونيفيه إلى إيطاليا للقتال من أجل فرانسيس، ومات بونيفيه ميتة الأبطال في بافيا، أما لنسون فيقال أنه فر وقت تأزم المعركة، وعاد إلى ليون، ليجد نفسه موضع الاحتقار من الجميع، وانتهرته لويز أميرة سافوي، ووصفته بأنه جبان، فسقط مريضاً بداء ذات الجنب، وصفحت عنه مرجريت، وسهرت على تمريضه في حنان ولكنه مات (1525).

وبعد عامين من ترمل مرجريت، تزوجت، وكانت وقتذاك في الخامسة والثلاثين، من هنري دلبريه، الملقب بملك نافار، وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره. ولما كان هنري مبعداً عن إمارته بسبب مطالبة فرديناند الثاني وشارل الخامس بنافار، فإن فرانسيس نصب هنري حاكماً على غينا، وأنشأ بلاطاً مصغراً في نيراك وأحياناً في بو في جنوب غربي فرنسا. وعامل مرجريت معاملة الأم بل الحماة تقريباً، ولم يحذ حذوها في إخلاصها لعهود الزواج، واضطرت إلى أن تلتمس لنفسها السلوى بالقيام

ص: 13

بدور المضيفة والحامية لكتاب وفلاسفة ولاجئين من البروتستانت. وأنجبت عام 1528 إبنة لهنري هي جان دلبريه، التي قدر لها أن تحظى بالشهرة باعتبارها أم هنري الرابع، وبعد عامين أنجبت إبناً مات في مرحلة الطفولة، ومنذ ذاك لم تلبس إلا ثياب الحداد. وكتب لها فرانسيس رسالة تفيض ورعاً وحناناً كأي رسالة يمكن أن نتوقعها من يراعها. ومهما يكن من شيء فإنه سرعان ما أمرها هي وهنري بتسليم جان له، لتنشأ بالقرب من البلاط الملكي. فقد خشي أن يخطبها هنري لفيليب الثاني ملك أسبانيا، أو أن تشب بروتستانتية. وكان هذا الفراق أشد النوائب الكثيرة التي أصابت مرجريت قبل وفاة الملك ولكنه لم يصدها عن الإخلاص له. وإنه لأمر يدعو إلى الأسى، وإن كان هذا ضرورياً أن نروي ما حدث عندما أمر فرانسيس جين بالزواج من الدوق دي كليف، ورفضت جين، فأيدت مرجريت الملك إلى حد أنه أصدرت تعليماتها لمربية جين بجلدها إلى أن تذعن. وضربت جين مراراً عديدة، ولكن جين الشجاعة - وكانت فتاة في الثانية عشرة من عمرها - أصدرت وثيقة موقعة منها نصت على أنها إذا أكرهت على الزواج فإنها سوف تعتبره لاغياً. ومع ذلك فقد أعدت الترتيبات للزفاف على أساس نظرية تقول إن حاجات الدولة هي القانون الأعلى، وقاومت جين حتى آخر لحظة، وكان لابد من حملها إلى الكنيسة حملاً، وما أن انتهت مراسيم الحفل حتى فرت، وذهبت لتعيش مع أبويها في بو حيث كاد تبذيرها في الإنفاق على الثياب والبطانة واسرافها في التبرعات يؤدي بها إلى الخراب.

وكانت مرجريت نفسها المثال المجسم للإحسان. وكانت تسير دون أن يرافقها حارس في شوارع بو "مثل أي فتاة بسيطة"، وتسمح لكل مَن يريد بمقابلتها، وتستمع مباشرة إلى أشجان شعبها وقالت: "ينبغي ألا ينصرف أحد حزيناً أو مغموماً من حضرة أمير، لأن الملوك هم رعاة الفقراء

والفقراء عيال الله" (19). وأطلقت على نفسها لقب "رئيس

ص: 14

وزراء الفقراء" وكانت تزورهم في دورهم وتبعث إليهم بالأطباء من حاشيتها، وشارك هنري تماماً في هذا لأنه كان حاكماً ممتازاً، بقدر ما كان زوجها مقصراً، وكانت الأشغال العامة التي أدارها تصلح أنموذجاً لفرنسا، فقد مول هو ومرجريت تعليم عدد كبير من الطلبة الفقراء من بينهم أميو الذي ترجم فيما بعد كتاب بلوتارخ، وقدمت مرجريت المأوى والأمان لمارو ورابليه ويبرييه وليفيفر دينابل وكالفن ولكثيرين غيرهم، إلى حد أن أحد مَن أسبغت عليهم حمايتها قارنها بـ "دجاجة تتعهد أفراخها بعناية وترفرف عليهم بجناحيها (20) ".

وإلى جانب ما كانت تقوم به من أعمال البر كانت تهتم بثلاثة أمور غلبت على حياتها في نيراك وبو وهي: الأدب والحب الأفلاطوني واللاهوت الصوفي الذي وجد متسعاً للكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، وتسامح حتى مع الفكر الحر. وكان من عادتها أن تدعو الشعراء ليقرءوا عليها أشعارهم وهي تتلهى بالتطريز، وكانت تنظم أشعاراً تستحق بعض التقدير، يمتزج فيها الحب البشري بالحب الإلهي في وجد واحد مبهم. ونشرت إبان حياتها عدة مجلدات في الشعر والدراما، ليست في جودة رسائلها التي لم تطبع إلا عام 1841. ويعرف العالم بأسره كتابها الأيام السبعة، بسبب ما اشتهر به من حكايات بذيئة. ولكن أنصار الأدب المكشوف سوف يخيب ظنهم فيها. فهذه الحكايات رويت بأسلوب العصر، الذي وجد أعظم فكاهة في الخدع والأعمال، التي تتسم بالشذوذ وتقلبات الحب، وانحرافات الرهبان عن عهودهم، والحكايات نفسها تروى بتحفظ. وهذه الحكايات هي التي رواها الرجال والنساء من حاشية مرجريت، أو من حاشية فرانسيس، وقد دونتها بنفسها أو دونت لها (1544 - 48)، ولكنها لم تنشرها قط. وظهرت مطبوعة بعد وفاتها بعشر سنوات. وكانت تعتزم أن تؤلف بها مجموعة قصص أخرى على غرار "الأيام العشرة"، ولكن لم كان الكتاب قد توقف

ص: 15

في اليوم السابع من رواية الحكايات، فإن الناشر أطلق عليه اسم الأيام السبعة، ويبدو أن كثيراً من القصص الواردة فيه واقعية، أخفيت شخصياتها بتغيير أسمائهم. ويقول لنا برانتوم إن أمه، وكانت إحدى رواة القصص، تعرف حقيقة الأشخاص الذين تخفوا بأسماء مستعارة في الحكايات، ويؤكد لنا مثلاً أن الحكاية الرابعة من اليوم الخامس هي قصة محاولات بونيفيه مع مرجريت نفسها (21).

ويجب التسليم بأن ذوق عصرنا، المعترف به، سوف يكره على الإحساس بالخجل أمام قصص الإغراء التي رواها السادة والسيدات من الفرنسيين، الذين كانوا يتلهون ويقضون أيامهم في التلهي انتظاراً لفيضان يهبط عليهم ويسمح لهم بالعودة من حمّامات كوتيريه. وتثير بعض الملاحظات العارضة الذعر:"أتريد إذن أن تقول إن كل شيء مباح لمن يعشقون بشرط ألا يعرف أحد؟ أجل، في الحقيقة، إن الأغبياء فقط هم الذين يكتشف أمرهم (22) ". وإن الفلسفة العامة للكتاب لتجد ما يعبر عنها في جملة لها مغزاها، وردت في الحكاية الخامسة:"ما أتعس السيدة التي لا تحرص على الحفاظ على كنزها، الذي يمنحها الحفاظ التام عليه الكثير من الشرف، والذي يجللها بالكثير من العار إن ظلت حريصة عليه (23) ". ويتخلل الحكايات كثير من العبارات الساخرة المرحة تشيع فيها البهجة، من ذلك أننا نسمع عن صيدلي ورع من بو "لم يكن له شأن مع زوجته إلا في أسبوع الآلام على سبيل التفكير" (24) وكما هو الحال كتاب بوكاشيو فإن نصف ما في كتابها من فكاهة يعتمد على لهو الرهبان. وتقول شخصية في الحكاية الخامسة: إن هؤلاء الآباء الصالحين يعظوننا بالتزام العفو وهم يريدون أن يدنسوا شرف زوجاتنا". ويوافق على هذا زوج

ص: 16

انتهك شرفه ويقول: إنهم لا يتجاسرون على لمس المال ولكنهم على استعداد لأن يمسكوا بأفخاذ النساء وهي أخطر بكثير". ولابد أن يضاف إلى هذا كله أن رواة الحكايات المرحة يستمعون إلى القداس كل صباح ويطهرون كل صفحة يقلبونها بعد ذلك بأناشيد التقوى.

والقول بأن مرجريت قد استمتعت بهذه الحكايات أو جمعتها يشير إلى مزاج العصر، ويدفعنا إلى الحذر من تصويرها قديسة، وأنها ظلت كذلك حتى سنوات ذبولها. ومع ما يبدو من أنها هي بالذات كانت مثابرة على أن تحتفظ بطهارتها، إلا أنها كانت تبيح لغيرها الإنحلال، ولم تكن تبدي اعتراضات مدونة على توزيع الملك لسلطاته واستمرت بينها وبين عشيقاته الواحدة إثر الأخرى، علاقة صداقة حميمة. والظاهر أن الرجال ومعظم النساء كانوا يفكرون في تبادل الحب بين الجنسين بألفاظ جنسية لا تعرف الاحتشام. وشاعت بين الفرنسيات عادة جذابة إبان ذلك العهد الطروب، هي تقديم هدايا من أربطة سيقانهن لرجال لا وجود لهم إلا في الخيال (25). وكانت مرجريت ترى أن الرغبة الجسدية من الأمور التي يمكن أن يترخص فيها، إلا أنها هي نفسها أفسحت في قلبها مجالاً للحب الأفلاطوني والديني. وقد انتقلت عبادة الحب الأفلاطوني بين "نوادي الحب" في القرون الوسطى، وتدعمت بأناشيد إيطاليّة مثل أنشودة بمبو في نهاية قصة "رجل البلاط". وشعرت مرجريت بأن من الخير أن تقبل النساء، بالإضافة إلى العاطفة الجنسية المعتادة، ولاء رجال لا ينالون من الجزاء إلا صداقة دقيقة وبعض صلاة الود التي لا ضرر منها، وأن هذا الارتباط قمين بترويض الحساسية الجمالية في الذكر وتهذيب سلوكه، وتعليمه الالتزام بقواعد الأخلاق، ومن ثم فإن المرأة تقوم بتهذيب الرجل. ولكن كان في فلسفة مرجريت حب أرفع من الحب الجنسي أو الأفلاطوني هو حب الخير أو الجمال أو أي كمال، ومن ثم كان فوقها جميعاً حب الله. ولكن لكي يحب المرء الله لابد

ص: 17

له أولاً من أن يحب مخلوقاً بشرياً حباً تاماً (26)". وكانت عقيدتها الدينية معقدة ومبلبلة مثل مفهومها عن الحب. وكما أن أنانية أخيها لم تكدر ولاءها له فإن ما تعرضت له في حياتها من مآس وأحداث قاسية تركت عقيدتها الدينية خالصة متحمسة وغير محافظة على أية حال. وكانت تمر بها لحظات يراودها فيها الشك، فقد اعترفت في كتاب: "مرآة الروح الخاطئة" بأنها قد شكت في بعض الأوقات في الكتاب المقدس وفي الرب على السواء، واتهمت الرب بالقسوة، وتساءلت هل هو حقاً الذي أنزل الكتاب المقدس؟ (27). وفي عام 1533 استدعتها السوربون لتجيب على اتهام بالهرطقة، فتجاهلت الاستدعاء، وقال راهب لجمهور أبرشيته إنها تستحق أن توضع في جوال ويخاط عليها وتلقى في نهر السين (28). ولكن الملك أبلغ السوربون والرهبان بأن يتركوا شقيقته وشأنها، ولم يصدق ما وجه إليها من اتهام وقال: "إنها تحبني كثيراً إلى حد أنها لا تؤمن إلا بما أومن به (29"). وكانت سعادته بالغة وثقته بنفسه لا حد لها إلى درجة جعلته يحلم بأنه من الهوجنت. ولكن مرجريت استطاعت أن تفعل ذلك، وكان لديها إحساس بالاثم، وصنعت من هفواتها قنن جبال. وكانت تحتقر الهيئات الدينية وترى أنها تافهة لا جدوى منها. ولا هم لها إلا الإسراف في ارتكاب الخطايا، وشعرت بأن الإصلاح قد فات أوانه من عهد طويل. وقرأت طرفاً من الأدب اللوثري واستحسنت هجماته على فجور رجال الدين وجشعهم، ودهش فرانسيس عندما وجدها تصلي يوماً مع فرويل (30) - وهو يوحنا المعمدان - عند كالفن. وبينما كانت لا تنقطع للصلاة للعذراء في نيراك وبو في ورع الواثق بنفسه، فإنها أسبغت حمايتها على اللاجئين من البروتستانت ومنهم كالفن نفسه. ومهما يكن من شيء فإن كالفن ساءه كثيراً أن يجد في بلاطها مفكرين أحراراً مثل إتيين دوليه، بونافنتير ديبرييه وعنفها على تساهلها ولكنها استمرت فيه. ولكم كان يسرها لو أنها صاغت مرسوم

ص: 18

نانت لحفيدها. ولقد اجتمعت في مرجريت في لحظة من اللحظات خصائص عصر النهضة وعهد الإصلاح الديني (31).

وانتشر تأثيرها في فرنسا وكانت كل نفس حرة تتطلع إليها باعتبارها حامية لها ومثالاً للحرية. وقد أهدى إليها رابليه كتابه Gargantua. وكان رونسار ويواقين دي بلاي يحذوان حذوها بين آن وآخر في صوفيتها الأفلاطونية والأفلاطونية. وإن ترجمات مارو للمزامير لتفوح منها أنفاس روحها نصف الهيجونوتية. وترنم بايل في القرن الثامن عشر بنشيد لها في معجمه، وفي القرن التاسع عشر قدم لها ميشليه البروتستانتي في المحفوظة الشعرية المطولة الرائعة التي لا يمل الناس سماعها والمسماة "تاريخ فرنسا" ما يعبر عن شكره بقوله:"فلنتذكر دائماً ملكة نافار الرقيقة، هذه الملكة التي وجد قومنا الهاربون من السجن أو المحرقة في أحضانها الأمان والاحترام والصداقة. إننا نعبر عن شكرنا لكِ أيتها الأم الحبيبة لنهضتنا. لقد كان بيتكِ دار قديسينا وكان قلبكِ عشاً لحريتنا (32) ".

‌4 - الفرنسيون البروتستانت

لم يحاول أحد البحث في أن الحاجة ماسة لإصلاح ديني، وظهر هنا رجل الدين الصالح والشرير كما ظهر في أي مكان آخر: قساوسة مخلصون ورهبان متبتلون وراهبات قديسات. وظهر هنا وهناك أسقف نذر نفسه للدين أكثر مما نذرها للسياسة، وقساوسة جهلة أو خائرو العزيمة. ورهبان كسالى وفاسقون ورهبان ينبشون عن المال ويتظاهرون بالفقر. وأخواة ضعيفات في الأديان وأساقفة يؤثرون عرض الدنيا ويعرضون عن ثواب الآخرة. وبينما ارتفع شأن التعلم هوى الإيمان، وبينما كان لرجال الدين النصيب الأكبر في التعليم فإنهم أظهروا بسلوكهم أنهم لم يعودوا يتأثرون بفلسفة الحشر والنشر المروعة، التي أملتها عليهم يوماً عقيدتهم الرسمية. وخص بعض

ص: 19

الأساقفة أنفسهم بعدد وافر من المناصب والكراسي الأسقفية، وعلى هذا احتفظ جين ديلورين وتمتع بإيرادات من أسقفيات منز ونول وفردان وأبرشيات ريمس وليون وناربون وألبي وماكون وآجن ونانت وأديار جورز وفيكامب وكلوتي ومارموتيين وسالنا - أورين وسان ده لاون وسان جرميه وسان مدار ده سواسون وسان- مانس دي تول (33). ولم تكفيِ هذه لتلبية احتياجاته وشكا من الفقر (34). وندد الرهبان بتكالب الأساقفة على عرض الدنيا، وندد القساوسة بالرهبان، ويستشهد برانتوم بعبارة شاعت في فرنسا وقتذاك وهي:"إنه شحيح أو فاسق كأنه قسيس وراهب (35"). وأول جملة في الأيام السبعة تصف أسقف سيس بأنه يتلهف على إغراء امرأة متزوجة. وهناك اثنتا عشرة قصة في الكتاب تروي بالتفصيل الأعمال المماثلة لرهبان مختلفين، وتقول إحدى الشخصيات:"عندما تقع عيناي على راهب يتملكني رعب شديد إلى حد أني لا أستطيع حتى أن أعترف لهم، لأني أعتقد أنهم أسوأ من كل الرجال الآخرين (36) ". وتسلم وازيل - وهو الاسم الذي أطلقته مرجريت على أمها في الأيام السبعة - بأنه بينهم رجالاً صالحين ولكن هذه السيدة نفسها لويز أميرة سافوي كتبت في يومياتها تقول: "في عام 1522

بدأنا أنا وابني، بنعمة الروح القدس نعرف المنافقين، الأبيض والأسود والأشهب والقاتم. ومن كل الألوان أولئك الذين يحفظنا الرب برحمته الواسعة منهم ويدفع عنا أذاهم، لأنه إذا لم يكن المسيح كاذباً فليس بين كل أبناء البشرية جيل أخطر منهم (37) ".

ومع ذلك فإن جشع لويز وتعدد نساء ابنها وأخلاق حاشيتها النزاعة إلى الفوضوية لم تكن نموذجاً يحتذيه رجال الدين الذين كانوا خاضعين للملك إلى حد كبير. وفي عام 1516 حصل فرانسيس من ليو العاشر على اتفاقية بابوية تخوله الحق في تعيين أساقفة فرنسا ورهبانها، ولكنه لما أسرف

ص: 20

في هذا التعيين الذي لجأ إليه لمكافأة مَن أدوا له خدمات سياسية، تأكدت الصفة الدنيوية للأسقفية. ونصت الاتفاقية البابوية السارية المفعول على أن تكون الكنيسة الجاليقية مستقلة عن البابوية وتابعة للدولة. وبهذه الوسيلة حقق فرانسيس قبل أن ينشر لوثر رسائله بعام، في الواقع، وإن لم يبد ذلك لحس الحظ في الشكل، ما كان قميناً بأن يكسبه الأمراء الألمان وهنري الثامن بالحرب أو الثورة ألا وهو تأميم المسيحية. وماذا كان في وسع الفرنسيين البروتستانت أن يقدموه لملك فرنسا أكثر من هذا؟

لقد سبق أولهم لوثر. في عام 1512 قام جاك ليفيفر، المولود في أنابل في بيكاردي والذي قام بالتدريس في جامعة باريس بعد ذلك، بنشر ترجمة لاتينية لرسائل بولس مع شرح يفسر، بين هرطقات أخرى، اثنتين منها، كانتا حريتين بأن تكونا بعد عشر سنوات متفقتين في الأساس مع لوثر وهما:"إن الناس يمكنهم أن يظفروا بالخلاص لا بالأعمال الصالحات، ولكن بالإيمان برحمة الله التي ينالونها بتضحية المسيح للتكفير عن خطايا البشر، وإن المسيح موجود في القربان المقدس بفعله وإرادته الطيبة، لا بأي تجسيد كهنوتي للخبز والنبيذ. وطالب ليفيفر مثل لوثر بالعودة إلى الإنجيل، وسعى مثل أرازموس إلى استعادة النص الصحيح للعهد الجديد، وتوضيحه كوسيلة لتطهير المسيحية من أساطير القرون الوسطى والزيادات الكهنوتية. وأصدر عام 1523 ترجمة فرنسية للتوراة وللمزامير بعد ذلك بعام. وقال في إحدى تعليقاته: "ما اشد خزينا عندما نرى أسقفاً يطلب من الناس في إلحاح أن يشربوا معه، لا هم له إلا المقامرة

والصيد باستمرار، والتردد على البيوت سيئة السمعة (38") وأدانته السوربون وقضت بأنه هرطيق ففر إلى شتراسبورج (1525)، وتشفعت له مرجريت فاستدعاه فرانسيس وعينه أميناً للمكتبة الملكية في بلوا ومربياً لأطفاله. وفي عام 1531 عندما أغضبت أعمال البروتستانت التي تجاوزوا

ص: 21

فيها الحد الملك، لجأ ليفيفر إلى مرجريت في جنوبي فرنسا وعاش هناك حتى وفاته بالغاً من العمر سبعة وثمانين عاماً (1537).

وشرع تلميذه جيوم بريسونيه الذي عين أسقفاً لمو (1516) في إصلاح الأسقفية بروح أستاذه. وبعد أربع سنوات من العمل الحماسي شعر بأنه من القوة بحيث يستطيع أن يقدم على ابتداع تغييرات لاهوتية. فعين للإشراف على الصدقات مصلحين معروفين من أمثال ليفيفر وفاريل ولوي ده بركان وجيرار روسل وفرانسوا فاتابل وشجعهم على أن ينادوا في عظاتهم بـ "العودة إلى الإنجيل". وأثنت عليه مرجريت وعينته موجهاً روحياً لها. ولكن عندما أعلنت السوربون مدرسة اللاهوت التي تسيطر الآن على جامعة باريس - أدانتها للوثر (1521) أمر بريسوفيه زملاءه بمسالمة الكنيسة فقد كانت وحدة الكنيسة في نظره، مثله في هذا مثل أرازموس ومرجريت، أهم من الإصلاح.

ولم تستطع السوربون أن توقف تدفق الأفكار اللوثرية عبر نهر الراين، فقد كان الطلبة والتجار يجلبون مؤلفات لوثر من ألمانيا باعتبار أنها تمثل أعظم الأخبار إثارة وقتذاك، وأرسل فروبن نسخاً من بازيل لتباع في فرنسا. وتلقف العمال الساخطون العهد الجديد واعتبروه وثيقة ثورية واستمعوا بابتهاج إلى مبشرين استخلصوا من الإنجيل مدينة فاضلة تتحقق فيها المساواة الاجتماعية.

وعندما نشر الأسقف بريسونيه عام 1523 على أبواب كاتدرائيته كتاباً للبابا عن صكوك الغفران مزقه جان لكلير، وكان يعمل في تمشيط الصوف في مو ووضع مكانها إعلاناً ملصوقاً يصف البابا بأنه مناهض للمسيحية، فقبض عليه، ووسم بالنار على جبهته (1525) بناء على أمر المجلس النيابي لباريس. فانتقل إلى ميتز وهناك حطم التماثيل الدينية، التي كان من المقرر

ص: 22

أن يمر أمامها موكب لتقديم البخور. وقطعت يده اليمنى واجتث أنفه، وانتزعت حلمتا ثدييه بملقط، وربط رأسه بشريط من الحديد المحمى إلى درجة الاحمرار. وأحرق حياً (1526)(39). وأرسل عدد كبير من المتطرفين الآخرين إلى المحرقة في باريس بتهمة "التجديف" أو لإنكارهم ما للعذراء والقديسين من تفويض في الشفاعة (1526 - 27).

وكان شعب فرنسا يؤيد بوجه عام عمليات الإعدام هذه (40) وكان يحب عقيدته الدينية ويرى أنها وحي من لدن الله ومن قوله، ويمقت الهراطقة لأنهم يسلبون من الفقراء أعظم عزاء عندهم ولم يظهر في فرنسا رجل مثل لوثر. يثير الطبقة الوسطى ضد طغيان البابا، فقد كانت الاتفاقية البابوية تمنع استغاثة مثل هذه ولم يكن كالفن قد وصل بعد إلى الشهرة الجنيفية التي تتيح له أن يبعث بدعوته الصارمة للإصلاح. ووجد الثائرون بعض التأييد بين طبقة الأرستقراطية بيد أن السادة والسيدات كانوا قليلي الاهتمام إلى درجة أنهم لم يتشبثوا بالأفكار الجديدة إلى الحد الذي يخل بعقيدة الشعب أو يقض مضاجع الحاشية، وقد تسامح فرانسيس نفسه مع الدعاية اللوثرية ما دامت غير منطوية على أي تهديد بقيام فتنة اجتماعية أو سياسية، وكانت له بدوره شكوكه الخاصة - في سلطات البابا وبيع صكوك الغفران ووجود المطهر (41)، ولعله رأى أن يستخدم تسامحه مع البروتستانتية سلاحاً يشهره ضد بابا يميل كثيراً إلى الانحياز لشارل الخامس. وكان يعجب بأرازموس وسعى إليه لتعيينه في الكلية الملكية الجديدة، وكان يؤمن معه بتشجيع التعليم والإصلاح الكهنوتي - ولكن بخطوات لا تقسم الشعب إلى نصفين متحاربين أو تضعف تأثير الخدمات التي تقدمها الكنيسة لتهذيب أخلاق الأفراد والنظام الاجتماعي (42). وكتبت مرجريت إلى بريسونيه عام 1521 تقول:"إن الملك والسيدة (لويز أميرة سافوي) على أهبة الآن أكثر من أي وقت مضى لإصلاح الكنيسة (43")، وعندما قبضت

ص: 23

السوربون على لوي ده بركان لقيامه بترجمة بعض مصنفات لوثر (1523) أطلق سراحه بفضل تشفع مرجريت له عند الملك. ولكن فرانسيس أفزعته ثورة الفلاحين في ألمانيا التي يبدو أنها نشبت نتيجة الدعاية البروتستانتية، وقبل أن يرحل ليلقى الهزيمة في بافيا أمر الأساقفة بسحق الحركة اللوثرية في فرنسا.

وبينما كان الملك أسيراً في مدريد، سجن بركان مرة أخرى ولكن مرجريت حصلت ثانية على أمر بإطلاق سراحه. وعندما فك إسار فرانسيس نفسه انهمك في يوبيل للتحرر، ولعله فعل هذا إقراراً بفضل شقيقته التي سعت كثيراً، لتحريره، فاستدعى ليفيفر وروسل من المنفى وشعرت مرجريت بأن الحركة من أجل الإصلاح الديني قد ظفرت بيومها الموعود.

ووقع حادثا دفعا الملك إلى العودة لعقيدة المحافظين. فقد كان في حاجة للمال ولافتداء ولديه اللذين كان قد سلمهما لشارل مقابل حصوله على حريته. ووافق رجال الدين على منحه 1. 300. 000 جنيه ولكنهم أرفقوا بالمنحة التماساً بوقفة أكثر حزماً مع الهرطقة، فوافق (16 ديسمبر سنة 1527)، وفي يوم 31 مايو سنة 1528 هاله أن يعلم بتحطيم راس العذراء والابن في تمثال لهما خارج كنيسة في أبرشية سان جرمان أثناء الليل. وصاح الناس يطالبون بالانتقام، وعرض فرانسيس ألف كراون مكافئة لمن يعثر على المخربين وقاد موكباً حزيناً من الأساقفة وموظفي الدولة والنبلاء وعامة الناس لترميم التمثال المحطم برأسين من الفضة. وانتهزت السوربون فرصة رد الفعل لسجن بركان مرة أخرى وبينما كان فرانسيس غائباً في بلوا ودفع باللوثري الذي رفض التوبة إلى المحرقة (17 أبريل عام 1529) وسط فرحة الحاضرين من الجمهور (44).

وكان مزاج الملك يتغير تبعاً لتغيرات دبلوماسيته، ففي عام 1532، وقد أغضبه تعاون كليمنت السابع مع شارل الخامس قدم عروضاً للأمراء

ص: 24

اللوثريين الألمان وأذن لمرجريت بتنصيب روسل مبشراً لجماهير كبيرة في اللوفر، وعندما احتجت السوربون نفي زعماءها من باريس.

وفي أكتوبر سنة 1533 كان على وفاق مع كليمنت، فوعد باتخاذ إجراءات فعالة ضد الفرنسيين البروتستانت. وفي أول نوفمبر ألقى نيكولاس كوب خطابه في الجامعة، فاستشاطت السوربون غضباً وأمر فرانسيس باضطهاد جديد. ولكن اشتدت وقتذاك حدة نزاعه مع الإمبراطور فأرسل جيوم دي بلاي المناصر للإصلاح إلى فيتنبرج ليطلب من ميلانكتون أن يتوصل لصيغة توفيق بين العقيدة القديمة والأفكار الجديدة (1534) وبهذا يجعل في الإمكان عقد تحالف بين ألمانيا البروتستانتية وفرنسا الكاثوليكية. فأذعن ميلانكتون وأخذت الأمور تتحرك بسرعة عندما قامت جماعة متطرفة من المصلحين الفرنسيين بلصق إعلانات في شوارع باريس وأورليان وغيرهما من المُدن، بل وحتى على أبواب مخدع الملك في أمبواز تندد بالقداس وتصفه بأنه من قبيل عبادة الأوثان وبالبابا ورجال الدين الكاثوليك، وتصفهم بأنهم "ذرية دودة

مارقون، ذئاب

كذابون، كافرون ومزهقون للأرواح" (18 اكتوبر سنة 1534)(45). فاستشاط فرانسيس غضباً وأمر بسجن جميع المشتبه فيهم بدون تمييز وامتلأت السجون. وقبض على عدد كبير من الطابعين، وظلت الطباعة قاطبة محظورة لفترة ما. وانضمت مرجريت ومارو وكثير من البروتستانت المعتدلين إلى مَن استنكروا الإعلانات الملصقة. وسار الملك وأولاده والسفراء والنبلاء ورجال الدين في صمت مهيب، يحملون شموعاً موقدة ليستمعوا إلى قداس أقيم للتكفير في كاتدرائية نوتردام (21 يناير سنة 1525). وأعلن فرانسيس أنه سيقطع رأس أولاده إذا اكتشف أنهم يطوون جوانحهم على مثل هذه الهرطقات الخارجة على الدين. وفي عشية تلك الليلة أحرق ستة من البروتستانت حتى الموت في باريس بطريقة رئي

ص: 25

أنها تصلح لتهدئة المعبود. فقد علقوا فوق نار وكانوا يدلون إليها ويرفعون منها مراراً وتكراراً وذلك لإطالة أمد عذابهم (46). وأحرق في باريس أربعة وعشرون من البروتستانت وهم أحياء من العاشر من نوفمبر عام 1534 والخامس من مايو عام 1535. وزجر البابا بول الثالث الملك لهذه القسوة التي لا داعي لها وأمره بوقف الاضطهاد (47).

وقبل أن ينصرم العام كان فرانسيس يخطب ود البروتستانت الألمان من جديد. وكتب بنفسه إلى ميلانكتون (23 يوليو سنة 1535) يدعوه إلى الحضور "والتباحث مع بعض المبرزين من الدكاترة عندنا عن الوسيلة لإعادة توطيد دعائم ذلك التناسق السامي في الكنيسة، الذي أرى أنه أعز أمنية لدي على الإطلاق (48) ". ولم يحضر ميلانكتون ولعله ايتراب في أن فرانسيس يستخدمه شوكة في جبن الإمبراطور، وربما أثنه عن عزمه لوثر أو أمير ساكسونيا المختار الذي قال:"إن الفرنسيين ليسوا من الإنجيليين بل هم إرازميون (49) ". وكان هذا صحيحاً بالنسبة لمرجريت وبريسونيه ليفيفر وروسل، ولم يكن صحيحاً بالنسبة لأنصار لصق الإعلانات والهوجينوت الكالفينيين الذين بدأوا يتكاثرون في جنوب فرنسا. وتخلى فرانسيس عن كل جهوده لاسترضاء البروتستانت بعد مسالمة شارل (1538).

ولم يكن أعظم خزي لحق بعهده إلا نتيجة خطأه إلى حد ما فقد سمح للفوديين أو الولدانيين، الذين كانوا لا يزالون يحبون الآراء شبه البروتستانتية لبيتر والد ومؤسس طائفتهم في القرن الثاني عشر، بالاحتفاظ بوجودهم الذي يشبه نظام طائفة الكويكر، في ظل الحماية الملكية، في نحو ثلاثين قرية امتداد نهر دورانس في بروفانس. وفي عام 1530 شرعوا في مكاتبة المصلحين في ألمانيا وسويسرة، وبعد عامين استخلصوا اعترافاً بعقيدة تقوم على آراء بوسر وأويكو لامبادريوس، وعقد قاصد رسولي

ص: 26

بينهم محكمة للتفتيش فاستغاثوا بفرانسيس، فأمر بوقف الاضطهاد (1533). واكن الكاردينال ده تورنون ادعى أن الولدانيين كانوا يدبرون مؤامرة تنطوي على خيانة للحكومة، وأقنع الملك العليل المتذبذب بتوقيع مرسوم (أول يناير سنة 1545) ينص على أن كل الولدانيين الذين يكتشف أنهم مذنبون ويثبت عليهم تهمة الهرطقة يجب أن يعدموا. وفسر موظفو المجلس النيابي في إكس - أن - بروفانس - الأمر بأنه يعني الإبادة الجماعية. وأبا الجنود في مبدأ الأمر إطاعة الأمر وعلى أية حال فإنهم حملوا على قتل فئة قليلة ثم ألهبتهم حرارة القتل فحولوه إلى مذبحة. وفي خلال أسبوع واحد (12 - 18 أبريل) أحرقت بضع قرى حتى سويت بالأرض، وفي إحداها ذبح 800 رجل وامرأة وطفل، وفي مدى شهرين أزهقت أرواح 3. 000 نفس وهدمت اثنتان وعشرون قرية، وأكره 700 رجل على العمل في السفن. ولقيت خمس وعشرون امرأة مذعورة لجأن إلى كهف حنقهن خنقاً بنار أشعلت عند مدخله. ورفعت سويسرة وألمانيا البروتستانتيتان احتجاجات مروعة وبعثت أسبانيا بالتهاني إلى فرانسس (50) وبعد عام اكتشفت جماعة لوثرية صغيرة مجتمعة في سو برئاسة بيير لكلير شقيق جين الذي وسم بالنار وعذب أربعة عشر من الجماعة وأحرقوا كما أحرق ثمانية منهم بعد أن انتزعت ألسنتهم (7 أكتوبر سنة 1546).

وكانت هذه الاضطهادات أعظم فشل مني به عهد فرانسيس. وأضفت شجاعة الشهداء جلالاً وروعة على قضيتهم، ولابد أن ألوفاً من المشاهدين قد تأثروا وانزعجوا، ولولا عمليات الإعدام المشهودة هذه لما كلفوا أنفسهم قط عناء تغيير عقيدتهم الموروثة. وعلى الرغم من الأرهاب المتكرر فإن "حشوداً" سريعة من البروتستانت وجدت عام 1530 في ليون وبوردو وأورليان وريمس وأميان وبواتييه وبورج ونيم، ولا روشيل وشالون وديجون وتولور. وكأن الأرض قد انشقت عن فرق من الهوجينوت،

ص: 27

ولابد أن فرانسيس قد عرف وهو على فراش الموت أنه قد ترك ابنه تحدق به العداوة من إنجلترا وألمانيا وسويسرة ولم يكن يواجه هذا فحسب بل يواجه أيضاً إرثاً من الكراهية في فرنسا نفسها.

‌5 - هابسبورج وفالوا

1515 -

1526

لم يكن من المتوقع أن يرضى ملك متقلب مثل هذا بالتخلي عن كل الآمال التي كانت قد أثارت أسلافه إلى ضم ميلان، ونابلي إذا أمكن، ليكونا ذرتين في التاج الفرنسي. وقد قبل لويس الثاني عشر الحدود الطبيعية لفرنسا - أي أنه اعترف للألب بالسيادة. وسحب فرانسيس الاعتراف وتحدى حق الدوق مكسمليان سوفورزا في ميلان. وفي غضون المفاوضات التي دارت بينهما بضعة شهور حشد قوة هائلة وجهزها، وفي أغسطس عام 1515 سار على رأسها وسلك طريقاً جديداً محفوفاً بالمخاطر - واقتحم طريقه عبر جبال صخرية - فوق الألب وانحدر منها إلى إيطاليا - والتقى الفرسان والمشاة الفرنسيون في مارينيانو على مسيرة تسعة أميال من ميلان، بجنود سوفورزا من السويسريين المرتزقة، واستمر بينهما القتال يومين (13 - 14 سبتمبر سنة 1515) حدث فيهما مقتلة كبيرة لم تعرفها إيطاليا منذ الغزوات البربرية، وتركت جثث 10. 000 رجل مطروحة على الأرض. وخيل في فترة ما أن الفرنسيين قد هزموا وعندئذ اندفع الملك إلى الأمام وهاجم ونظم صفوف جنوده وجعل من نفسه مثالاً للجرأة. وجرى العرف أن يكافئ الحاكم المنتصر مَن يظهرون شجاعة خاصة بتنصيب طبقة جديدة من الفرسان في الميدان، ولكن فرانسيس قبل أن يفعل هذا أقدم على حركة لها مغزاها لم يسبقه إليها أحد. فقد ركع أمام بيير، سنيور دي بايار، وطلب تنصيبه فارساً على يد الفرس المشهور، الذي لم يتطرق إليه الخوف، ولم يوجه إليه اللوم، فاحتج بايار بأن الملك، بحكم

ص: 28

وظيفته، فارس الفرسان ولا حاجة به إلى تشريف إلا أن الملك الشاب، كان لا يزال في الحادية والعشرين من عمره، أصر على ذلك ومضى بايار يقوم بالمراسيم التقليدية بجلال، ثم طرح سيفه وهو يهتف "لا شك يا سيفي العزيز أنك سوف تحفظ كأي أثر، وتنال من التشريف فوق ما تناله السيوف الأخرى جميعاً، لأنك في هذا اليوم أضيفت على ملك وسيم قوي صفة الفروسية، وإني لن أحملك قط بعد ذلك إلا لمحاربة الأتراك والمغاربة والعرب (51"). ودخل فرانسيس بصفته صاحبها وبعث بدوقها المعزول إلى فرنسا وخصص له مرتباً مجزياً واستولى أيضاً على بارما وبياتشنزا ووقع مع ليو العاشر، في احتفالات رائعة في بولونيا، معاهدة واتفاقية يخولان البابا والملك على السواء أن يدعيا الحصول على نصر دبلوماسي.

وعاد فرانسيس إلى فرنسا معبودا لمواطنيه بل ولأوروبا تقريباً، فقد سحر جنوده بمشاطرته إياهم ما لاقوه من مشاق وتفوقه عليهم في الشجاعة، وعلى الرغم من أنه في غمرات انتصاره قد انغمس في التيه بنفسه، فإنه خفف من غلوائه، بالثقة بآخرين وتلطيف حدة كل أنانية بكلمات الثناء والتمجيد. وارتكب وهو ثمل بالشهرة أكبر خطأ في حياته. ذلك أنه رشح نفسه للتاج الإمبراطوري. وانزعج، وهو على حق، باحتمال أن يصبح شارل الأول، ملك أسبانيا ونابلي وكونت الفلاندرز وهو هولندة على رأس الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة - بكل تلك المطالب في لومباردي ومن ثم ميلان، التي غزا مكسمليان من أجلها إيطاليا مراراً، وسوف تكون فرنسا، في نطاق إمبراطورية جديدة مثل هذه، محاطة بأعداء لا يقهرون في الظاهر.

وقدم فرانسيس الرشا، وخسر أمام شارل الذي قدم من الرشا أكثر منه وفاز (1519)، وبدأت المنافسة المريرة التي جعلت غربي أوروبا يعج بالاضطرابات إلى ما قبل وفاة الملك بثلاث سنوات.

ص: 29

ولم يعدم شارل وفرانسيس من الأسباب ما يدعو إلى تبادل العداء، فقد زعم شارل، حتى قبل أن يصبح إمبراطوراً أن له الحق في أن يطالب بورغنديا لأنه حفيد ماري ابنة شارل الجسور، وأبى أن يعترف باتحاد بورغنديا مع التاج الفرنسي. وكانت ميلان من الوجهة الرسمية إقطاعية في الإمبراطوريّة، واستمر شارل في فرض الاحتلال الإسباني لنافار، وأصر فرانسيس على أن تعود إلى هنري دلبريه. وطرحت بواعث الحرب هذا السؤال العويص: مَن هو سيد أوروبا: شارل أم فرانسيس؟ وأجاب الأتراك بل سليمان.

ووجه فرانسيس الضربة الأولى، فعندما لاحظ أن شارل مشغول بثورة سياسية في أسبانيا وثورة دينية في ألمانيا أرسل جيشاً عبر جبال البرانس للاستيلاء على نافار من جديد، فهزم في حملة أهم حادث فيها هو إصابة أجناسيوس لويولا بجرح (1521). وانطلق جيش آخر جنوباً للدفاع عن ميلان، وتمرد الجند بسبب عدم دفع المرتبات، وهزمتهم الجنود الإمبراطوريّة المرتزقة هزيمة منكرة في لابيكوكا، وسارعت ميلان ترتمي في أحضان شارل الخامس (1522) وانطلق قائد الجيوش الفرنسية لمقابلة الإمبراطور لكي يتغلب على هذه الحوادث.

وكان شارل، دوق أف بورمبون رأس أسرة قوية قدر لها أن تحكم فرنسا من عام 1589 إلى عام 1792. وكان أغنى رجل في البلاد بعد الملك وبين تابعيه 500 نبيل، وكان آخر البارونات العظام الذين يستطيعون أن يتحدوا ملك الدولة المتمركزة وقتذاك. وقدم لفرانسيس خدمة جليلة في الحرب، وقاتل بشجاعة في مارنينيانو، أما في الحكم فلم يخدمه بهذا القدر إذ دفع أهالي ميلان إلى النفور منه بسبب حكمه الجائر، ولما وجد أن الملك لم يزوده بالأموال الكافية 100. 000 من ماله الخاص، وهو يتوقع أن تسدد له، ولكنه لم يتسلم شيئاً. وكان فرانسيس ينظر بعين الارتياب والحسد إلى هذا القيل الذي يوشك أن يكون ملكاً، فاستدعاه

ص: 30

من ميلان ووجه إليه إهانات حمقاء أو مقصودة تسببت في أن يكون بوربون خصمه اللدود، وكان الدوق قد تزوج سوزان أميرة بوربون التي أوصت أمها بأن تعود ضياعها الشاسعة إلى التاج إذا ماتت سوزان دون أن تعقب ذرية. وماتت سوزان (عام 1521) ولكن بعد أن حررت وصية تركت فيها كل أملاكها لزوجها. وطالب فرانسيس وأمه بالأملاك باعتبارهما أقرب سليلين لدوق بوربون السابق. وعارض شارل هذا الادعاء وأصدر المجلس النيابي في باريس قراراً ضده. واقترح فرانسيس عقد صلح بمقتضاه يكون للدوق الحق في ربع الأملاك حتى وفاته؛ بيد أنه رفض الاقتراح. وعرضت لويز، وكانت وقتذاك في الحادية والخمسين على الدوق البالغ من العمر واحداً وثلاثين عاماً أن يتزوجها مع صك ملكية صريح بالأملاك كبائنة لها، فرفض. وقدم له شارل الخامس عرضاً يبز العرض السابق: هو أن يزود شقيقته اليونورا وأن يؤيد مطالبه تأييداً كاملاً بجنود الإمبراطوريّة، وقبل الدوق وفر ليلاً عبر الحدود، وعين قائداً برتبة لفتنانت جنرال للجيش الإمبراطوري في إيطاليا (1523).

وأنفذ فرانسيس ضده لونيفيه. وأثبت عشيق مرجريت أنه غير كفء وسحق الدوق جيشه في رومانيانو، وفي اثناء تقهقر الجيش أصيب الشيفاليه دي بابار، قائد حرس المؤخرة الخطيرة بجرح قاتل بطلقة من سلاح ناري (30 أبريل سنة 1524) ووجده بوربون الظافر يحتضر تحت شجرة، فقدم له بعض عبارات الثناء على سبيل المواساة فرد عليه بايار "مولاي إني أستحق الرثاء، أنا أموت بعد أن أديت واجبي، ولكني أرثي لك إذ أراك تعمل ضد مليكك وبلدك وتحنث بقسمك (52) ". وتأثر الدوق ولكنه كان قد أحرق خلفه كل الجسور وعقد اتفاقاً مع شارل الخامس وهنري الثامن ينص على أن يقوم الثلاثة بغزو فرنسا في آن واحد، وأن يتغلبوا على كل القوات الفرنسية، ويقسموا البلاد بينهم. وكان نصيب الدوق من الصفقة أن يدخل

ص: 31

بروفالس، ويأخذ إكس ويضرب حصاراً على مرسيليا، ولكن حملته كانت تفتقر إلى المؤن وقوبلت بمقاومة عنيفة غير متوقعة وانهارت فتراجع إلى إيطاليا (سبتمبر سنة 1524).

ورأى فرانسيس أن من الحكمة أن يطارده، ويستولي من جديد على ميلان وأشار عليه بونيفيه، وهو أحمق حتى النهاية، بأن يستولي أولاً على بافيا ثم بنقض على ميلان من الجنوب، فوافق الملك وضرب عليها الحصار (26 أغسطس سنة 1524)، ولكن الدفاع هناك أيضاً كان أقوى من الهجوم، وظل الجيش الفرنسي محجوزاً عند الخليج أربعة اشهر، وفي غضونها جمع بوربون وشارل أمير لانوي (نائب الملك في نابلي) والمركيز دي بسكارا (زوج فتوريا كولونا) جيشاً جديداً قوامه 27. 000 رجل. وفجأة ظهرت هذه القوة خلف الفرنسيين. وفي اليوم نفسه (24 فبراير سنة 1525) وجد فرانسيس قواته يهاجمها هذا الحشد غير المتوقع من جانب، وقوات المحاصرين في بافيا من جانب آخر. وحارب كالعادة في طليعة المشتبكين، وقتل بسيفه الكثيرين من الأعداء، حتى ظن أن النصر قد تحقق، ولكنه ضحى بقيادته العسكرية في سبيل إظهار شجاعته، وكانت قواته موزعة توزيعاً سيئاً، ومشاته يسيرون بين مدفعيته والعدو، وبهذا جعلوا المدفعية الفرنسية المتفوقة عديمة الجدوى. وتفشى الاضطراب في صفوف الفرنسيين، وفر دوق النسون، وسحب معه حرس المؤخرة، وصاح فرانسيس في جيشه الذي دبت فيه الفوضى أن يسير وراءه إلى ساحة القتال، ولكن لم يرافقه إلا أعظم نبلائه شهامة. وأعقب هذا مذبحة في الفرسان الفرنسيين، وأصيب فرانسيس بجروح في وجهه وذراعيه وساقيه، ولكنه ظل يضرب بلا كلل، وتهاوى فرسه تحته ومع ذلك ظل يقاتل. وسقط فرسانه المخلصون واحداً إثر الآخر إلى أن ترك وحيداً، وأحدق به جنود الأعداء، وكان على وشك أن يلقى مصرعه، عندما تعرف عليه

ص: 32

ضابط فأنقذه واقتاده إلى لانوي، الذي تقبل سيفه، وهو يقوم بانحناءات خفيفة للدلالة على الاحترام.

واعتقل الملك في قلعة بيزيجيتون بالقرب من كريمونا، حيث سمح له بأن يرسل إلى أمه التي كانت تحكم فرنسا أثناء غيابه رسالته التي كثيراً ما نقلت كما هي، وكثيراً ما نقلت محرفة:

"إلى نائبة الملك في فرنسا: سيدتي، بودي أن تعرفي مدى معاندة البقية الباقية من سوء حظي. لم يبقَ لي في لعالم سوى الشرف وحياتي التي أنقذت، ولكي تحمل إليكِ هذه الأنباء، وأنتِ في بؤسكِ، القليل من العزاء، توسلت إليهم أن يسمحوا لي بكتابة هذه الرسالة إليكِ

وأنا أتوسل إليكِ ألا تقدمي على أي عمل طائش، وأنتِ تباشرين ما عرفت به من فطنة معتادة، لأني أرجو، بعد كل شيء ألا يتخلى عني الله (53) ".

وبعث برسالة مماثلة إلى مرجريت التي ردت على الخطابين:

"مولاي: إن الفرحة التي مازلنا نشعر بها عندما تلقينا خطابيك الكريمين، اللذين أسعدك أن تكتبهما لي ولأمك، تجعلنا نحس بالسعادة لاطمئناننا على صحتك التي تتوقف عليها حياتنا، ويخيل إلي أننا ينبغي ألا نفكر في شيء سوى أن نحمد الله وأن نتوق إلى أن تصلنا باستمرار أنباؤك الطيبة، وهي خير زاد نستطيع أن نعيش عليه. وبما أن الخالق قد من علينا بأن يبقى ثالوثنا متحداً أبداً فإن الاثنين الآخرين يتوسلان إليك أن تتقبل هذا الخطاب، عندما يقدم إليك، وأنت الثالث، بنفس المودة القلبية التي تقدمها إليك خادمتاك المتواضعتان المطيعتان والدتك وشقيقتك".

لويز، مرجريت (54).

وكتب فرانسيس إلى الإمبراطور في مدريد رسالة جد متواضعة يقول له فيها "إذا كان يسرك أن ينطوي قلبك على قدر قليل من العطف، فتأخذ على عاتقك مهمة إنقاذ حياة ملك فرنسا الأسير إنقاذاً يستحقه عن

ص: 33

جدارة

ففي وسعك أن تكون على ثقة من الحصول على كسب بدلاً من أسير لا نفع منه، وبهذا تجعل ملك فرنسا عبدك إلى الأبد"، ولم يكن فرانسيس قد تدرب على احتمال المأساة (55).

وتلقى شارل أنباء انتصاره بهدوء ورفض أن يحتفل به، كما اقترح كثيرون في مهرجان رائع. وانسحب إلى مخدعه (كما يقال لنا) وركع يصلي. وأرسل إلى فرانسيس ولويز ما خيل له أنها شروط معتدلة لتحقيق السلام وتحرير الملك:

(1)

على فرانسيس أن يتخلى عن بورغنديا وأن يتنازل عن كل مطالبه في الفلاندرز وأرتوا وإيطاليا.

(2)

يجب تسليم الدوق بوربون كل الأراضي والمناصب التي يطالب لها.

(3)

يجب منح الاستقلال لكل من بروفانس ودوفيني.

(4)

يجب أن تعيد فرنسا إلى إنجلترا كل الأراضي الفرنسية التي كانت تابعة فيما سبق لبريطانيا - أي نورماندي وأنجو وغسقونيا وجين.

(5)

على فرانسيس أن يوقع حلفاً مع الإمبراطور وينضم إليه في حملة توجه ضد الأتراك.

فأجابت لويز بأن فرنسا لن تتنازل عن قيراط واحد من الأراضي، وأنها مستعدة للدفاع عن نفسها حتى آخر رجل. وتصرف نائبة الملك وقتذاك بقوة وعزم وذكاء مما حمل شعب فرنسا على أن يصفح عن أخطائها التي ركبت فيها رأسها. وعملت في الحال على تنظيم وإعداد جيوش جديدة وأقامتها لحراسة كل المراكز المحتمل أن تتعرض للغز ولكي تصرف ذهن الإمبراطور عن فرنسا حثت سليمان عاهل تركيا على أرجاء هجومه

ص: 34

على بلاد الفرس وأن يقوم بدلاً من ذلك بحملة تتجه غرباً، ولا نعرف الدور الذي لعبه توسلها في القرار الذي اتخذه السلطان، ولكنه زحف عام 1526 إلى هنغاريا وألحق هزيمة منكرة بجيش المسيحيين في موهاكس، بلغت من الشدة حداً جعل قيام شارل بأي غزو لفرنسا بمثابة خيانة للعالم المسيحي. وفي الوقت نفسه أوضحت لويز لهنري الثامن وكليمنت السابع أن إنجلترا والبابوية على السواء سوف تنحدران إلى مرتبة العبودية إذا سمح للإمبراطور بالحصول على كل الأراضي التي طلبها. وتردد هنري فألحت لويز وعرضت عليه تعويضاً قدره 2. 000. 000 كراون فوقع حلفاً دفاعياً هجومياً مع فرنسا (30 أغسطس سنة 1525) وفتحت هذه الدبلوماسية الأنثوية عيون الرجال وحطمت ثقة شارل بنفسه.

ونقل الملك الأسير إلى أسبانيا بمقتضى اتفاقية بين لويز ولانوي والامبراطور، وعندما وصل فرانسيس إلى بلنسية (2 يوليو سنة 1525) بعث إليه شارل برسالة رقيقة، ولكن معاملته لأسيره لم ترتفع إلى مقام الفروسية. وخصصت لفرانسيس غرفة ضيقة في قلعة قديمة في مدريد ووضعت عليه حراسة مشددة، وكانت الحرية الوحيدة التي منحت له هي أن يمتطي ظهر بغل بالقرب من القلعة تحت رقابة حراس مسلحين راكبين، وطلب مقابلة شارل ولكن شارل أجل هذه المقابلة وسمح بسجن فرانسيس أسبوعين سجناً أثار قلقه وغيظه، حتى يخضع فرانسيس لدفع ثمن باهظ مقال الحصول على حريته. وعرضت لويز أن تقابل الإمبراطور وتتفاوض معه ولكنه رأى من الأفضل أن يلعب على سجينه بدلاً من أن يتعرض لفتنة امرأة تجعله يجنح إلى التساهل. فأبلغته بأن ابنتها مرجريت، وهي أرملة وقتذاك سوف يسعدها أن تجدها جلالته الإمبراطوريّة، مناسبة له، ولكنه آثر عليها إزابلا أميرة البرتغال، بصداقها البالغ قدره 900. 000 كراون. فهي تستطيع

ص: 35

ان تزوده في الحال بالمخدع والمأوى، وبعد أن أمضى فرانسيس شهرين في سجنه يتلهف فيه على حريته سقط صريع مرض خطير. وانطلق الأسبان إلى كنائسهم يصلون من أجل الملك الفرنسي آسفين لقسوة الإمبراطور. وصلى شارل أيضاً، لأن الملك إذا مات فلن يكون له أهمية كرهينة سياسية، وزار فرانسيس زيارة قصيرة ووعده بقرب إطلاق سراحه وبعث لمرجريت يأذن لها بالحضور ومواساة أخيها.

وسافرت مرجريت بحراً من ايجسمورت (27 أغسطس سنة 1525) إلى برشلونه وهناك حملت في هودج بطيء ملتوٍ اخترق بها نصف طول أسبانيا إلى مدريد، ووجدت السلوى في قرض الشعر وبعث رسائل حارة متميزة إلى الملك، وقالت "مهما يطلب مني، حتى ولو كان أن أنثر رماد عظامي في مهب الريح لأؤدي لك خدمة، فليس فيه أمر غريب أو صعب أو شاق بالنسبة لي، وحسبي أن أجد فيه السلوى والراحة والطمأنينة والشرف (56) ". وعندما وصلت بعد لأي إلى مخدع أخيها وجدته يتعافى بشكل ملموس، بيد أنه أصيب بنكسة يوم 25 سبتمبر ودخل في غيبوبة، وخيل لمن حوله أنه يحتضر. وركعت مرجريت هي والأسرة يصلون، وناوله أحد القساوسة القربان المقدس. وتلت هذا فترة نقاهة مضنية. ولبثت مرجريت شهراً مع فرانسيس ثم انطلقت إلى طليطلة لتطلب من الإمبراطور الرحمة، فتلقى توسلاتها بفتور، وكان قد علم بحلف هنري مع فرنسا وتلهف على معاقبة حليفه الأخير على ريائه ولويز على جرأتها.

ولم تبقَ في يد فرانسيس إلا ورقة واحدة يلعب بها، ولو أن من المحقق أو يكاد أنها قد تعني سجنه مدى الحياة، وبعد أن أنذر شقيقته بمغادرة أسبانيا بأسرع ما يمكن وقع (نوفمبر سنة 1525) خطاباً رسمياً أعلن فيه تنازله عن العرش لابنه الأكبر، ولما كان فرانسيس الثاني هذا صبياً لا يتجاوز

ص: 36

عمره ثماني سنوات، فقد عين لويز - وتحل محلها في حالة وفاتها - مرجريت وصية على عرش فرنسا، وأدرك شارل في الحال أن ملكاً بلا مملكة، لا يملك شيئاً يتنازل عنه، لا فائدة ترجى منه، بيد أن جلد فرانسيس من الناحية البدنية كان أقوى من شجاعته المعنوية، ففي يوم 14 يناير سنة 1526 وقع مع شارل معاهدة مدريد وكانت شروطها في جوهرها هي بعينها التي عرضها الإمبراطور على لويز، بل كانت أقسى منها، لأنها اقتضت أم يسلم أكبر ابنين للملك إلى شارل رهينتين لضمان تنفيذ الاتفاقية بإخلاص، وفضلاً عن هذا فإن فرانسيس وافق على أن يتزوج إليونورا شقيقة الإمبراطور ملكة البرتغال الأرملة، وأقسم على أنه سيرجع إلى أسبانيا ليعود للسجن إذا لم ينفذ بنود المعاهدة (57). ومهما يكن من شيء فإنه أودع في يوم 22 أغسطس سنة 1525 مع مساعديه وثيقة رسمية تلغي مقدماً جميع العهود والاتفاقيات والتنازلات والمخالصات وكل إلغاء وانتقاص وقسم يمكن أن يتعارض مع شرفه وصالح تاجه. وفي عشية توقيع المعاهدة ردد هذه العبارة للمفاوضين معه من الفرنسيين وأعلن أنه وقع بطريق الإكراه، والقسر والاعتقال وطول السجن، وأن كل ما تضمنته الوثيقة كان، ويجب أن يظل باطلاً ولا أثر له (58).

وفي يوم 17 مارس 1526 سلم نائب الملك لانوي وفرانسيس إلى المارشال لوتريك على ظهر نقالة مليئة في نهر بيداسوا، الذي يفصل إيرون الأسبانيّة عن هنداي الفرنسية، وتسلم لانوي بدلاً منه الأميرين فرانسيس وهنري. ومنحهما أبوهما بركة ودمعة، وهرع إلى الأرض الفرنسية. وهناك قفز على ظهر جواد وصاح في ابتهاج "ها أنذا ملك من جديد؟ " وركب إلى بايون حيث كانت لويز ومرجريت في انتظاره وأمضى في بوردو وكونياك ثلاثة شهور قضاها في اللهو والرياضة ليسترد صحته وشغل نفسه بحب صغير. ولم لا؟ ألم يعش عاماً عيشة الرهبان؟ وكانت لويز التي

ص: 37

اشتجر النزاع بينها وبين الكونتيسة دي شاتوبريان قد أحضرت معها وصيفة شرف جميلة شقراء الشعر، تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً هي آن دي هيلي دي بسسليو التي أصابت بسهامها، كما كان مقدراً، عيني الملك الجائعتين، فتودد إليها في اندفاع، وسرعان ما ظفر بها حظية له. وشاركت الحظية الجديدة منذ تلك اللحظة إلى أن فرقهما الممات لويز ومرجريت قلب الملك. وتحملت في صبر زواجه بإليونورا وعلاقاته غير الشرعية العارضة. ومنحها لإنقاذ المظاهر زوجاً هو جين دي بروس، وأنعم عليه بلقب دوق كما أنعم عليها بلقب دوقة ديتامب، وابتسم في إعتزاز عندما انسحب جين إلى ضيعة نائية في بريتاني.

‌6 - الحرب والسلام

1526 -

1547

عندما عرفت شروط معاهدة مدريد بصفة عامة أثارت تقريباً عداء عالمياً لشارل، فقد ارتجف البوتستانت الألمان عندما توقعوا مواجهة عدو عزز قواه إلى هذا الحد. واستاءت إيطاليا من ادعائه الحق في السيادة على لومباردي، وأحل كليمنت السابع فرانسيس من قسمه الذي كان قد ارتبط به فرانسيس في مدريد، وانضم إلى فرنسا وميلان وجنوا وفلونا والبندقية في تكوين حلف كونياك للدفاع المشترك (22 مايو سنة 1526)، ووصف شارل، فرانسيس بأنه "ليس بالسيد المهذب"، وأمره أن يعود إلى سجنه الإسباني، وأصدر أوامره بتشديد اعتقال ابني الملك، وأطلق العنان لقواده لتأديب البابا.

وتدفق جيش إمبراطوري، احتشد في ألمانيا وأسبانيا، إلى إيطاليا وتسلق بالسلالم أسوار روما (مات الدوق بوربون في العملية)، ونهب المدينة نهباً كاملاً أكثر مما فعل بها القوط أو الوندال من قبل، وقتل 4. 000 روماني وسجن كليمنت في سان أنجيلو. وأكد الإمبراطور، الذي كان قد بقي في

ص: 38

أسبانيا لأوربا المذعورة أن جيشه الجائع قد تجاوز تعليماته، ومع ذلك فإن ممثليه في روما احتفظوا بالبابا سجيناً في سان أنجيلو من 6 مايو إلى 7 ديسمبر سنة 1527، وأكرهوا بابا يكاد يكون مفلساً على دفع تعويض قدره 368. 000 كراون.

واستغاث كليمنت بفرانسيس وهنري وطلب منهما العون، فبعث فرانسيس إلى إيطاليا لوتريك على رأس جيش نهب بافيا منتقماً منها في تهور لمقاومتها له عامين قبل ذلك، وتساءل الإيطاليون هل الأصدقاء الفرنسيون أفضل من الأعداء الألمان. ومر لوتريك على روما مرور الكرام وحاصر نابولي وبدأت المدينة تعاني من المجاعة. وفي غضون ذلك كان فرانسيس قد أغضب أندريا دوريا قائد بحرية جنوا، فاستدعى دوريا أسطوله من حصار نابولي وانضم إلى جانب الإمبراطور ومون المحاصرين. وهلك جيش لوتريك جوعاً بدوره، ومات لوتريك نفسه وذاب جيشه (1528).

ولا تكاد ملهاة الحكام تفرج كرب الشعب، وعندما ظهر مبعوثوا فرانسيس وهنري في بورجوس لإعلان الحرب بصفة رسمية، رد شارل على المبعوث الفرنسي رداً فاجعاً بقوله "إن ملك فرنسا ليس في موقف يسمح له بتوجيه مثل هذا الإعلان إلّي، إنه أسيري. إن مولاكم قد تصرف مثل أي جبان أفاق بعدم محافظته على وعده الذي ارتبط به في معاهدة مدريد، وإذا راقه أن يقول ما يخالف هذا فإني سوف أحافظ على وعدي له بحياتي مقابل حياته (59) ".

وقبل فرانسيس تواً هذا التحدي إلى البراز وبعث إليه رسولاً يقول له: "لقد قلت إفكاً وبهتاناً مبيناً": واستجاب شارل بعظمة، وعين مكان للنزال وطلب من فرانسيس أن يحدد موعد اللقاء، بيد أن النبلاء الفرنسيين اعترضوا طريق الرسول وأدت إجراءات التأخير المستأنية إلى تأجيل المباراة

ص: 39

إلى ما لا نهاية. فقد بلغت الأمم درجة من النمو لا يمكن عندها تسوية خلافاتها الاقتصادية أو مصالحها السياسية بنزال فردي أو بجيوش صغيرة من المرتزقة التي كانت تقوم بلعبة الحرب في إيطاليا إبان عصر النهضة، ولا شك أن الطريقة الحديثة لحسم الأمور بالتنافس في التدمير قد اتخذت شكلها في هذا النزاع بين آل هامسبورج وفالوا

(1)

.

واقتضى الأمر أن تتصدى امرأتان لتلقين الحاكمين فن السلام وحكمته، فقد اتصلت لويز أميرة سافوي بمرجريت النمسوية نائبة الملك في الأراضي المنخفضة، واقترحت عليها أن يتخلى فرانسيس، المتلهف على عودة ابنيه، عن كل مطالبه في الفلاندرز وارنوا وإيطاليا وأن يدفع فدية قدرها 2. 000. 000 كارون ذهبي، لإطلاق سراح ولديه، على ألا يتنازل أبداً عن بورغنديا، وأقنعت مرجريت ابن أخيها بإرجاء مطالبته ببورغنديا وأن ينسى مطالب الدوق بوربون، الذي مات وقتذاك في الوقت المناسب.

وفي 3 أغسطس عام 1529 وقعت المرأتان ومعاونوهما الدبلوماسيون معاهدة صلح السيدات في كامبراي، وحصلت الفدية من التجارة والصناعة ودم فرنسا، ونعم بالحرية من جديد أميرا البيت المالك بعد أربع سنوات من الأسر، وعادا بقصص تروى عن المعاملة القاسية التي أثارت فرانسيس وفرنسا. وبينما وجدت المرأتان القديرتان سلاماً دائماً- مرجريت عام 1530

(1)

كانت المبارزة في العصور الوسطى بمثابة إجراء مشروع تجيزه الملكية أو القضاء ويشرفان عليه يحتكم به الخصمان إلى الله. وأصبحت في القرن السادس عشر بمثابة دفاع فردي وخاص عن الشرف المهبض. وتطورت قوانينها الصارمة الخاصة بها خارج قوانين الدولة، وأسهمت إلى حد ما في تطوير قواعد السلوك المهذب والضبط الحصيف للنفس. وكانت المبارزة مصرحاً بها قانوناً في فرنسا بعد عام 1547، وظل الرأي العام يجيزها. أما في انجلترا فلم تكن تمارس في عهد اليزابث، وعلى أي حال فإن الاحتكام إلى المبارزة ظل مشروعاً هناك حتى عام 1817.

ص: 40

ولويز عام 1531 - أخذ الملكان يعدان العدة لاستئناف الحرب بينهما.

وتلفت فرانسيس حوله في كل مكان يطلب العون، فأرسل إلى هنري الثامن مبلغاً من المال للتهدئة لأنه تجاهله تقريباً في تسوية كامبراي، وتعهد هنري، وقد أغضبه شارل لمعارضته في "طلاقه"، بتأييد فرنسا. وفي عام أو نحوه تفاوض فرانسيس للدخول في أحلاف مع الأمراء البروتستانت الألمان ومع الأتراك ومع البابا. ومهما يكن من أمر فإن الحبر الأعظم المتذبذب سرعان ما عقد صلحاً مع شارل وتوجه إمبراطوراً (1530) - هو آخر تتويج لإمبراطور في الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة قام به بابا. ثم ارتاع كليمنت من ملك كان في الواقع قد حول إيطاليا إلى مقاطعة في ملكه، فسعى إلى عقد رابطة جديدة مع فرنسا بعرضه زواج ابنه أخيه كاترين دي مديتشي من ابن فرانسيس، هنري دوق أورليان، والتقى الملك والبابا في مارسيليا (28 أكتوبر سنة 1533)، وقام البابا بنفسه بمراسيم الزواج ذي المغزى التاريخي. ومات كليمنت بعد عام، ولم يكن قد استقر رأيه بعد على أي شيء.

وكان الإمبراطور، الذي شاخ وهو في الخامسة والثلاثين، يحمل أعباءه الملقاة على عاتقه في عزم واهن. وذعر عندما علم- من كلمة وزير السلطان إلى فرديناند ملك النمسا- أن حصار الأتراك لفيينا عام 1529، إنما تم استجابة لاستغاثة فرانسيس ولويز وكليمنت السابع لمساعدتهم ضد الإمبراطوريّة التي كانت تطوقهم (60). وفضلاً عن هذا فإن فرانسيس تحالف مع الزعيم التونسي خير الدين بارباروسا الذي كان يكدر صفو التجار المسيحيين في غربي البحر الأبيض المتوسط، ويغير على المُدن الساحلية ويسوق الأسرى من المسيحيين إلى أسواق النخاسة. وحشد شارل جيشاً آخر وأسطولاً ثانياً وعبر البحر إلى تونس (1535)، واستولى عليها،

ص: 41

وحرر 10. 000 عبد مسيحي وكافأ جنوده الذين لم تدفع رواتبهم بإطلاق العنان لهم لنهب المدينة وذبح السكان المسلمين.

وعاد شارل إلى روما (5 أبريل سنة 1536) بعد أن ترك حاميات في بونا ولاجوليتا عودة المدافع المظفر للعالم المسيحي ضد العالم الإسلامي وملك فرنسا. وفي غضون ذلك كان فرانسيس قد جدد مطالبته بميلان، وفي مارس عام 1536 غزا دوقية سافوي لإزالة العقبة التي تعترض طريقه إلى إيطاليا. واستشاط شارل غضباً، وفي خطاب حار ألقاه أمام بول الثالث البابا الجديد ومجمع الكرادلة بأسره أخذ يعدد مرة أخرى جهوده من أجل السلام. وانتهاك الملك الفرنسي لمعاهدتي مدريد وكامبواي و "الأحلاف التي عقدها جلالته نصير المسيحية العظيم"(كما كان يسمى فرانسيس) مع أعداء الكنيسة في ألمانيا وأعداء المسيحية في تركيا وإفريقية، وأنهى خطابه بتحدي فرانسيس مرة أخرى إلى البراز قائلاً:"دعونا لا نستمر في المجازفة بسفك دماء رعايانا الأبرياء، دعونا نحسم النزاع بالنزال رجلاً أمام رجل بأي أسلحة يروقه أو يختارها. وبعد ذلك دعوا القوات المتحدة لألمانيا وإسبانيا وفرنسا تستخدم لكسر شوكة الأتراك واستئصال الهرطقة من العالم المسيحي".

كان خطاباً بارعاً لأنه أجبر البابا على أن ينحاز إلى صف الإمبراطور، ولكن أحداً لم يأخذ عرضه الخاص بالمبارزة محمل الجد، فقد كان القتال بالتفويض أسلم، وغزا شارل بروفانس (25 يوليو سنة 1536) بجيش قوامه 50. 000 رجل وكان يأمل أن يهاجم جناح الفرنسيين أو يشغلهم في سافوي بالزحف أعلى الرون. ولكن القائد آن دي مونمورانس أمر القوات الفرنسية الضعيفة بأن تحرق أثناء انسحابها كل شيء يمكن أن يتزود به جنود الإمبراطور، وسرعان ما تخلى شارل عن الحملة وكان دائماً يعوزه

ص: 42

المال ولا يستطيع أن يقدم الطعام لرجاله. وكان بولس الثالث يتلهف على إطلاق يد شارل للقيام بهجوم على الأتراك أو اللوثريين فأقنع العملاق المشلول بالاتقاء معه- في حجرات منفصلة تثير الحماسة ت بمدينة نيس وتوقيع هدنة لمدة عشر سنوات (17 يونيه 1538). وبعد شهر قامت اليونورا، وهي زوجة أحدهما، وشقيقة الآخر، بتدبير لقاء شخصي بين الملك والإمبراطور في إيجسمورت. وهناك نسيا أنهما ملكان وأصبحا إنسانين، وركع شارل يحتضن أصغر أولاد الملك، وأعطاه فرانسيس ماسة ثمينة مركبة علة خاتم نقشت عليه عبارة:"شاهد ورمز للحب"، وخلع شارل من جيده طوق الجزة الذهبية، وانطلقا معاً لسماع القداس، وابتهج أهل المدينة لشيوع السلام وهتفوا:"الامبراطور! الملك"، وعندما ثارت غنت ضد شارل (1539) وانضمت إلى بروجس وإيبرس في عرض نفسها على فرانسيس، قاوم الملك الإغراء، وعندما وجد شارل، في أسبانيا أن سفن المتمردين أو خشية الإبحار تسد الطرق البحرية، أجاب فرانسيس طلبه المرور في فرنسا. وأشار على الملك مشيروه بأن يكره الإمبراطور وهو في الطريق، على توقيع تنازل عن ميلان للدوق أورليان، ولكن فرانسيس رفض وقال:"عندما تقوم بشيء كريم يجب أن تفعله كاملاً وبجرأة". ووجد مهرج البلاط يكتب في "يوميات مهرج" اسم شارل الخامس، لأنه كما قال تريبوييه أنه يكون أشد بلاهة مني لو أتى ليمر من خلال فرنسا" فساله الملك:"وماذا تقول إذا تركته يمر؟ " فقال: "سوف أمحو اسمه وأدون اسمك مكانه"(61). وترك فرانسيس، شارل يمر دون أن يعوقه أحد وأمر كل مدينة في الطريق أن تستقبل الإمبراطور بما يستحق من تكريم ملكي واحتفالات.

وانتهت الصداقة المقلقلة عندما أسر الجنود الأسبان بالقرب من بافيا المبعوثين الفرنسيين وهم يحملون عروضاً جديدة من فرانسيس إلى سليمان

ص: 43

للتحالف معه (يوليو سنة 1541). وفي هذه الفترة كان بارباروسا يغير مرة أخرى على المُدن الساحلية في إيطاليا. وسافر شارل بحراً من مالوركا مع أرمادا

(1)

أخرى للقضاء عليه، ولكن الأسطول واجه عواصف شديدة أجبرته على العودة خاوي الوفاض إلى أسبانيا. وكان حظ الإمبراطور في هبوط، فقد ماتت زوجته الشابة (1639) التي كان قد تعلم أن يحبها وكانت صحته تتدهور، وأعلن فرانسيس الحرب عليه عام 1542 بسبب ميلان، وكان حلفاء الملك وقتذاك السويد والدانمارك وجلدرلاند وكليف وسكوتلندة والأتراك والبابا، ولم يؤيد شارل إلا هنري الثامن في مقابل ثمن ما، ورفض المجلس التشريعي الإسباني الموافقة على إعانات مالية إضافية من أجل الحرب، وانضم الأسطول التركي إلى الأسطول الفرنسي في ضرب الحصار على نيس، وكانت وقتذاك أرضاً تابعة للإمبراطور (1543)، وفشل الحصار، إلا أن بارباروسا وجنوده المسلمين سمح لهم بقضاء الشتاء في طولون حيث باعوا علناً عبيداً من المسيحيين (62). واسترد الإمبراطور في صبر زمام الموقف فوجد وسيلة لإصلاح ذات البين مع البابا، وكسب إلى صفه فيليب الهسي بالتغاضي عن زواجه من اثنتين، وهاجم دوق كليف وتغلب عليه، ووثق صلته بحلفائه الإنجليز وواجه فرنسا بقوة عظيمة جداً حملت فرانسيس على الانسحاب والتسليم له بأمجاد الحملة (أكتوبر سنة 1543).

ورحب شارل مرة أخرى، بعد أن وجد أنه فقير جداً إلى حد لا يستطيع معه أن يزود جيشه بالميرة، بعرض للسلام ووقع مع فرانسيس معاهدو كريبي (18 سبتمبر سنة 1544). وتخلى الملك عن مطالبه في الفلاندرز وارتوا ونابلي ولم يعد شارل يطالب ببورغندا، وسوف تتزوج أميرة، من آل هايسبورج، من أمير فرنسي، وتقدم إليه ميلان صداقاً لها. (كان يمكن تدبير معظم ذلك سلمياً عام 1525).

(1)

أسطول حربي كبير شبيه بالإرمادا المشهورة.

ص: 44

وكان شارل وقتذاك مطلق اليد في التغلب على البروتستانت في ملبرج وقد صوره نيسيان هناك، وهو لا يشكو من داء النقرس، فخوراً منتصراً، منهوكاً متعباً بعد ألف من التقلبات ومائة من انقلابات عجلة الحظ الساخرة.

أما فرانسيس فقد انتهى أمره وانتهت معه كذلك فرنسا أو كادت، وهو إلى حد ما لم يفقد شيئاً سوى الشرف، وقد حافظ على بلادة بتعجل ترك المثل العليا للفروسية، ومع ذلك فقد كان يمكن قدوم الأتراك دون أن يوجه الدعوة إليهم، وقد أعان مجيئهم فرانسيس على كبح جماح الإمبراطور الذي لو لم يجد مقاومة، لنشر محكمة التفتيش الأسبانيّة في الفلاندرز وهولندة وسويسرا وألمانيا وايطاليا، وقد وجد فرانسيس فرنسا تنعم بالسلام والرخاء، وتركها مفلسة على حافة حرب أخرى. وقبل وفاته بشهر، وبينما كان يقسم مؤكداً صدقاته لشارل، أرسل 200. 000 كراون إلى البروتستانت في ألمانيا لتأييدهم ضد الإمبراطور (63)، وهو- وأقل درجة من ذلك شارل- يتفق في الرأي مع مكيافيلي بأن رجال السياسة الذين من واجبهم الحفاظ على بلادهم، يمكنهم مخالفة القانون الأخلاقي الذي يطالبون به مواطنيهم الذين لا هم لهم إلا الحفاظ على أرواحهم. وقد يغتفر له الشعب الفرنسي حروبه ولكنه لم يستسغ حلاوة أبهة مناهجه وبلاطه عندما أدرك فداحة الثمن. وكان قد فقد شعبيته فعلاً عام 1535.

وواسى نفسه بالاستمتاع بالجمال حياً وميتاً، وقد اتخذ في أواخر سني حياته من فونتنبلو مقراً أثيراً له وأعاد بناءه وابتهج بالفن الأنثوي الرشيق الذي كان الإيطاليون يزينونه به، وأحاط نفسه بفرقة صغيرة من النسوة الصغيرات اللاتي كن يمتعنه بطلعاتهن البهية ومرحهن. وأصيب عام 1538 في عاصمته بمرض وبدأ منذ ذاك يتلعثم تلعثماً مخجلاً، وحاول أن يعالج ما كان على الأرجح مرض الزهري بأقراص الزئبق، التي وصفها له

ص: 45

بارباروسا، ولكنها لم تنجح معه (64). وحطم روحه دمل عنيد كريه الرائحة، وأضفى على عينيه، التي كانتا حادتين يوماً نظرة شوهاء باكية، ودفعته إلى الاعتصام بورع لا يناسبه. وكان عليه أن يراقب طعامه لأن الشك خامره في أن بعض رجال الحاشية الذين يتوقعون رفعة شأنهم في عهد خلفه، يسعون إلى تسميمه. ولاحظ في حزن أن الحاشية تدور وقتذاك حول ابنه الذي كان بالفعل يوزع المناصب وينتظر في صبر حلول دوره في التحكم في موارد فرنسا. واستدعى وريثه الوحيد وهو على فراش الموت في رامبوييه وحذره من أن تسيطر عليه امرأة- لأن هنري كان مخلصاً بالفعل لديان دي بواتييه- واعترف الملك بخطاياه في تلخيص متعجل، ورحب بالموت وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة وهمس فرانسيس، دوق دي جيز، وكان واقفاً عند الباب، إلى الذين كانوا في الحجرة المجاورة، أن العاشق العجوز يحتضر (65)، ومات وهو يردد اسم يسوع. وكان في الثالثة والخمسين من عمره ولقد حكم اثنتين وثلاثين عاماً. وشعرت فرنسا بأن حكمه دام طويلاً، ولكن عندما استردت حريتها منه، غفرت له كل شيء، لأنه كان لبقاً حتى في ارتكاب آثامه، ولأنه عشق الجمال وكان فرنسا مجسدة.

ومات هنري الثامن في ذلك العام نفسه، ولحقت به مرجريت بعد عامين، وقد كانت بعيدة جداً عن فرانسيس، بل كانت أبعد من أن تدرك أن الموت يترقبه. وعندما وصلتها كلمة، وهي في دير بأنجوليم، تنبئها بأنه مصاب بمرض خطير كادت تفقد رشدها. وقالت: "إن مَن يأتي إلى عتبة بابي، كائناً مَن يكون، ويعلن لي أن شقيقي الملك قد أبل من مرضه، ولابد أن مثل هذا الرسول سيكون متعباً منهوك القوى تغطيه الأوحال والأوشاب، ومع ذلك فسوف أذهب إليه وأقبله وأحتضنه كما لو كان أعظم الأمراء والسادة أناقة في فرنسا، وإذا كان في حاجة إلى

ص: 46

فراش، فسوف أمنحه فراشي، وأرقد على الأرض مبتهجة لما حمله إلي من أنباء طيبة (66). وبعثت بالرسل إلى باريس فعادة وكذبوا عليها، وأكدوا لها أن الملك سليم معافى، إلا أن الدموع المختلسة التي انثالت من عيني راهبة كشفت عن الحقيقة، ولبثت مرجريت أربعين يوماً في الدير وهي تعمل رئيسة له، تردد الأناشيد المقدسة القديمة مع الراهبات.

وعندما عادت إلى بو أو نيران أسلمت نفسها للتقشف الشديد، وخيانات زوجها، وأهواء ابنتها المتقلبة، ووجدت السلوى، بعد السنوات التي أمضتها في شجاعة نصف بروتستانتية، في الشعيرة الكاثوليكية بألوانها وبخورها وموسيقاها الجذابة، وأسقمتها الكالفينية التي كانت تأسر جنوبي فرنسا، وأفزعتها، فعادت إلى تقواها التي عرفت بها في الطفولة.

وفي ديسمبر عام 1549، وبينما كانت ترقب مذنباً في السموات، أصيبت بحمى أثبتت أنها كانت عنيفة، إلى حد أنها حطمت هيكلاً وروحاً أوهنتهما قساوات الحياة. وكانت قبل ذلك بسنوات قد كتبت سطوراً وكأنها نصف عاشقة لخدر الموت:

رباه متى يأتي الموت

الذي طالما اشتقت إليه

والذي أجد نفسي بقوة الحب

منجذبة إليك؟

ألا فلتجفف دموع عيني الحزينتين

وسط تنهدات الفراق

وامنن علي بخير أنعمك على الإطلاق

وهي نعمة النوم اللذيذ

ص: 47

‌7 - ديان دي بواتييه

كان "العاشق العجوز" قد أنجب سبعة أطفال، كلهم من كلود، وكان الابن الأكبر فرانسيس مثل أبيه، وسيماً، جذاباً مرحاً. أما هنري المولود عام 1519 فكان هادئاً خجولاً، وأهمل قليلاً، ولم ينافس أخاه إلا في البأساء. فقد أمضيا أربع سنوات من الشدة والإذلال في أسبانيا تركت عليهما بصمات لا تمحى. ومات فرانسيس بعد إطلاق سراحه بست سنوات، أما هنري فقد غدا نزاعاً للصمت أكثر من ذي قبل، وانطوى على نفسه وأعرض عن المجون الذي انغمست فيه الحاشية، وكان له رفقاء، ولكنهم قلما رأوه مبتسماً، وقال الناس إنه قد غدا إسبانياً في إسبانيا.

ولم يترك له الخيار عندما تزوج من كاترين دي مديتشي، وهذا هو شأنها عندما تزوجت به. فقد مرت هي أيضاً بمحن، إذ مات والداها كلاهما متأثرين بمرض الزهري في خلال اثنين وعشرين يوماً من مولدها (1519)، وأخذت منذ ذلك الوقت حتى زواجها تنتقل من مكان إلى مكان، لا حول لها ولا قوة، ولا يرغب فيها أحد. وعندما أقصت فلورنسا حكامها من آل مديتشي (1527) احتفظت بكاترينا رهينة لضمان حسن سلوكهم، وعندما عاد هؤلاء المنفيون لحصار المدينة هددت بالإعدام إذا لم تصرفهم عنها. واستخدمها كليمنت السابع رهينة، ليكسب تأييد فرنسا لسياسته البابوية، وانطلقت طائعة إلى مرسيليا وهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وتزوجت من غلام في الرابعة عشرة من عمره أيضاً، لم يكد يتحدث معها إبان الاحتفال بأكمله. وعندما وصلا إلى باريس قوبلت باستقبال فاتر لأنها جلبت معها عدداً كبيراً من الإيطاليين، وأصبحت في نظر الباريسيين "الفلورنسية"، وعلى الرغم من أنها حاولت جهدها أن تسحرهم، فإنهم

ص: 48

لم يكنوا لها وداً قط، لا هم ولا زوجها. وظلت عشر سنوات عاقراً، على الرغم من الجهود العديدة، وارتاب الأطباء في أنها أصيبت بعدوى مرض وبيل، ورثته من أبويها. وعندما تبدد أمل كاترين دي مديتشي كما كانت تسمى في فرنسا، في لحصول على ذرية ذهبت تبكي إلى فرانسيس وعرضت عليه أن تقدم طلباً بالطلاق وتنزوي في دير، ورفض الملك في كرم منه هذه التضحية. وتفتحت أخيراً أبواب الأمومة، وجاء الأولاد واحداً إثر الآخر كل عام تقريباً. وبلغ عددهم على الإجمال عشرة، وهم بخاصة فرانسيس الثاني الذي قدر له أن يتزوج ماري ستيوارت واليزابث التي قدر لها أن تتزوج فيليب الثاني وشارل التاسع الذي شاءت الأقدار أن يصدر الأمر بمذبحة سان بارثولوميو وإدوارد الذي أصبح هنري الثالث بطل المأساة المعروفة ومرجريت دي فالوا التي قدر لها أن تتزوج هنري ملك نافار وتضطهده. وطوال كل تلك السنوات العقيمة أو الخصيبة باستثناء السنوات الأربع الأولى كان زوجها يمنح حبه لديان دي بواتيه في الوقت الذي كان ينجب فيه منها أولاداً.

وكانت ديان فريدة بين عشيقات الملوك اللاتي كان لهن دور رئيسي في التاريخ الفرنسي. ولم تكن جميلة. وعندما أحبها هنري، وهو في السابعة عشرة من عمره (1536) كانت في السابعة والثلاثين من عمرها، وبدأ الشيب يغزو شعرها، والتجاعيد تسجل سنوات عمرها على جبينها، وكانت مفاتنها الجسدية لا تعدو الطلاوة، والبشرة الناضرة بفضل غسلها بالماء البارد في جميع الفصول. ولم تكن عاهرة. وكانت فيما يبدو مخلصة لزوجها لويس دي بريزيه حتى وفاته وعلى الرغم من أنها انغمست مثل هنري، في علاقتين جانبيتين أو ثلاث، إبان علاقتها غير الشرعية بالملك، فإنها كانت مجرد حوادث تغتفر وألحان لطيفة في أغنية حبها. ولم تكن ممن يجنحون إلى الخيال، بل كانت عملية جداً، تصنع كل شيء في أوانه. ولم تستنكر

ص: 49

فرنسا أخلاقها بل أنكرت عليها بذخها ولم تكن مثل عشيقات فرانسيس - رءوساً جميلة ولكنها جوفاء، يقفزن على أقدام مرحة إلى أن تفاجئهن الأمومة، فقد تلقت ديان تعليماً لا بأس به، وكانت تتمتع بإدراك سليم، وسلوك حسن، وبديهة حاضرة، وها نحن أولاء أمام عشيقة تسحر الألباب بذهنها.

وكانت تنحدر من أسرة كريمة ونشأت في بلاط آل بوربون في مولان الذي اشتهر بفن الحب. وشارك أبوها جان دي بواتييه، كونت دي سان فالييه، الدوق دي بوربون في خيانة الوطن بعد أن حاول الوقوف في سبيلها، فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام (1523)، وحصل زوج ديان، وكان ذا حظوة لدا فرانسيس، على العفوا لأبيها

(1)

. وكان لويس دي بريزيه حفيد شارل السابع من أنييس سوريل، وكان ذا مقدرة أو نفوذ لأنه أصبح قيم القصر الأمير ومحافظ نورماندي. وكان في السادسة والخمسين من عمره عندما أصبحت ديان البالغة من العمر ستة عشر عاماً زوجة له (1515). وعندما مات شيدت تخليداً لذكراه في روبين قبراً ضخماً عليه كتابة قطعت على نفسها فيها عهداً بالوفاء الدائم له ولم تتزوج قط مرة أخرى، ولم ترتد بعد ذلك إلا الثياب السوداء والبيضاء. والتقت بهنري عندما سلم في بايون، وهو بعد صبي في السابعة من عمره، كرهينة بدلاً من والده. وبكى الصبي المرتبك فحنت عليه ديان، وكانت وقتذاك في السابعة والعشرين، حنان الأم الرؤوم وواسته، إذ كانت أمه كلود قد ماتت منذ عامين، ولعل ذكرى تلك الأحضان الحنونة قد بعثت في ذاكرته من جديد، عندما التقى بها بعد أحد عشر عاماً. وعلى الرغم من أنه كان قد مضى على زواجه وقتذاك أربعة أعوام فإنه كان لا يزال بعيداً عن النضج العقلي،

(1)

لا صحة للقصة التي أوردها هيجو في "الملك يلهو" من أن ديان اشترت العفو منها باستسلامها للملك (67).

ص: 50

كما كان سوداوي المزاج شديد الحياء بصورة غير مألوفة. كان يريد أماً أكثر مما يريد زوجة، وهنا ظهرت ديان من جديد، هادئة، رقيقة مواسية. وأقبل عليها أولاً إقبال الابن، وظلت العلاقات بينهما، فيما يبدو، تهيمن عليها العفة حيناً. وأكسبته محبتها ونصحها الثقة بنفسه، فكيف، وهو تحت وصايتها، عن معاداة الناس وأعد نفسه ليكون ملكاً. ونسب إليهما الرأي العام أنهما رزقا بطفلة واحدة وهي ديان دي فرانسيس، التي أنشأتها مع ابنتيها من بريزيه. وتبنت أيضاً ابنة هنري التي أنجبها في سنة 1538 من وصيفة بدومونتية دفعت ثمن لحظة لقائها بالملك بأن أصبحت راهبة مدى الحياة. وهناك طفل آخر غير شرعي كان ثمرة قصة هنري الأخيرة مع ماري فليمنج، مربية ماري ستيوارت. وعلى الرغم من هذه التجارب فان إخلاصه كان يزيد يوماً بعد يوم لديان بواتييه. ونظم لها قصائد ممتازة حقاً وأمطرها بالمجوهرات والضياع. ولم يهمل كاترين تماماً، وكان يتناول معها عادة طعام العشاء ويقضي وعها الأمسيات؛ وقبلت، شكراً منها لما نالته من شذرات حبه، في حزن صامت، أن ترى امرأة أخرى ولية عهد فرنسا الحقيقية. ولابد أنها أحست بأنها أصيبت بجرح آخر عندما رأت أن ديان كانت تستحث هنري من حين لآخر على أن ينام مع زوجته (86).

ولم يؤدِ ارتقاؤه العرش إلى خفض مكانة ديان. وكتب لها أذل الرسائل، يتوسل إليها أن تسمح له بأن يكون خادمها مدى الحياة. وقد جعلها ولهه بها غنية كالملكة تقريباً، وضمن لديان نسبة مئوية من كل المبالغ التي يتسلمها من بيع الوظائف، وكانت كل التعيينات فيها تقريباً في نطاق سلطانها. ومنحها جواهر التاج الذي كانت قد وضعته الدوقة ديتامب على رأسها، وعندما احتاجت الدوقة هددتها ديان باتهامها بالبروتستانتية، ولم ترض عنها إلا بعد أن قدمت لها هدية من العقار. وأذن لها هنري أن تحتفظ لنفسها بمبلغ 400. 000 تالر، كان فرانسيس قد أوصى به لتأييد الأمراء

ص: 51

البروتستانت في ألمانيا سراً (69). وبفضل هذه المنح أعادت ديان بناء قصر بريزيه الريفي القديم في آنيه، طبقاً لتصميم وضعه فيلبر ديلورم، وشيدت قصراً رحباً لم يصبح الدار الثانية للملك فحسب بل أصبح أيضاً متحفاً للفن ومنتدى جميلاً يلتقي فيه الشعراء والفنانون والدبلوماسيون والدوقات والقادة والكرادلة والمعشوقات والفلاسفة. وهنا كان المجلس الخاص للدولة يعقد في الواقع، وكانت ديان بمثابة رئيسة للوزراء، ذكية رصينة. وفي كل مكان - في آنيه وشينونسو وأمبواز واللوفر - كانت الأطباق والدروع المرسومة عليها الشعارات وأشغال الفن ومقاعد جوقة للترنيم تحمل الرمز الجريء لقصة الحب الملكية، فهناك حرفا د D موضوعان ظهر لظهر، بينهما شرطة تكون حرف H. وثمة أمر مثير للعاطفة وجميل في هذه الصداقة الفريدة، التي بنيت على الحب والمال، وإن دامت حتى الموت.

وفي أثناء كفاح الكنيسة ضد الهرطقة وضعت ديان كل ما تملك من نفوذ، لتأييد عقيدة المحافظين وسياسة القمع. وكانت لديها أسباب كثيرة تدعوها للتقوى: فقد كانت ابنتها متزوجة من ابن لفرانسيس هو الدوق دي جيز، وكان فرانسيس هو وشقيقه شارل، كاردينال اللورين، - وكلاهما من ذوي المكانة في آنيه - زعيمي الحزب الكاثوليكي في فرنسا. أما هنري فإن تقواه في الطفولة ازدادت شدة بالسنوات التي أمضاها في أسبانيا، وكانت خطاباته الغرامية تخلط بين الله وديان كمنافسين على قلبه، وأعانته الكنيسة، وأعطته 3. 000. 000 كراون ذهبي لإلغاء مرسوم والده الذي قيد فيه من سلطة المحاكم الكنسية (70).

ومع ذلك فإن البروتستانتية كان تشتد في فرنسا، وكان كالفن وآخرون غيره يرسلون مبعوثين أحرزوا نجاحاً رائعاً. وما أن حل عام 1559 حتى كانت عدة مُدن، كاين وبواتييه ولاروشيل ومدن كبيرة في بروفانس - يغلب عليها الهوجنوت، وقدر قس أن البروتستانت

ص: 52

الفرنسيين كانوا ربع عدد السكان (71) تقريباً في ذلك العام. ويقول مؤرخ كاثوليكي: إن أصل المروق في روما - فساد رجال الكنيسة - لم يستأصل، بل إنه قوى بفضل الاتفاقية البابوية بين ليو العاشر وفرانسيس الأول (72). وكانت البروتستانتية في الطبقتين الوسطى والدنيا إلى حد ما، احتجاجاً ضد حكومة كاثوليكية كبحت جماح الاستقلال الذاتي للبلدية، وفرضت ضرائب لا تحتمل، وبددت الدخول، وأزهقت الأرواح في الحرب. وكان النبلاء الذين جردهم الملوك من سلطانهم السابق ينظرون بعين الحسد إلى الأمراء اللوثريين الذين انتصروا على شارل الخامس، وربما أمكن استعادة إقطاع مماثل في فرنسا بإعلان استياء العامة من الناس على نطاق واسع من مظالم الكنيسة والحكومة. والحق أن نبلاء بارزين مثل جاسبار دي كوليني وشقيقه الأصغر فرانسوا دنديلو والأمير لويس دي كونديه وشقيقه انطوان دي بوربون قد شاركوا بجهد فعال في تنظيم ثورة البروتستانت.

وتبنت البروتستانتية الغالية في لاهوتها آراء كالفن في كتابه "النظم"، فقد كان مؤلفه فرنسياً ولغته فرنسية واستهوى منطقه العقلية الفرنسية؛ وكاد لوثر أن ينسى في فرنسا عام 1550، والحق أن اسم هوجنوت بالذات ورد من زيورخ عن طريق جنيف إلى بروفانس، وفي مايو عام 1559 شعر البروتستانت بأنهم أصبحوا من القوة إلى حد يمكنهم من إرسال مندوبين إلى أول مجمع مقدس عام لهم عقد سراً في باريس. وما أن حل عام 1561 حتى كان هناك 2. 000 كنيسة أخذت بأسباب الإصلاح الديني أو كالفينية في فرنسا (73).

وشرع هنري الثاني في سحق الهرطقة. ونظم المجلس النيابي لباريس، بناء على تعليماته، لجنة خاصة (1549) لقمع الخروج على الرأي، وأرسل من أدينوا إلى المحرقة، وأطلق على المحكمة الجديدة اسم "الغرفة المتأججة"، وقضى

ص: 53

مرسوم شاتوبريان (1551) بأن طبع أو بيع أو حيازة كتب الهرطقة يعد جريمة عظمى، وأن الإصرار على الآراء البروتستانتية يعاقب عليها بالإعدام، ونص على أن يتسلم المبلغون ثلث أموال المحكوم عليهم. وكان عليهم أن يبلغوا المجلس النيابي عن أي قاض يعامل الهراطقة باللين، ولم يكن في وسع أي رجل أن يعين قاضياً إلا إذا كانت عقيدته المحافظة لا يرقى إليها شك. وفي خلال ثلاث سنوات أرسلت "الغرفة المتأججة" ستين بروتستانتياً إلى الموت حرقاً. وعرض هنري على البابا بولس الرابع إقامة محكمة للتفتيش في فرنسا طبقاً للنموذج الروماني الجديد، ولكن المجلس النيابي اعترض على السماح لسلطة أخرى بأن تحل محل سلطته؛ واقترح أحد أعضائه، آن دي بورج في جرأة أن تتوقف كل مطاردة للهرطقة حتى يستكمل مجلس ترنت تعريفاته للعقيدة المحافظة. فأمر هنري بالقبض عليه وأقسم أن يراه وهو يحرق، إلا أن القدر اختلس من الملك هذا المشهد.

وفي غضون ذلك كان قد أغرى بتجديد الحرب ضد الإمبراطور فإنه، لم يستطع قط أن يصفح عن سجن أبيه وشقيقه وسجنه هو نفسه أمداً طويلاً. وكان يكره شارل بقدر حبه لديان. وعندما أعلن الأمراء اللوثريون مقاومتهم الحاسمة للإمبراطور من أجل المسيح والإقطاع سعوا إلى التحالف مع هنري ودعوه للاستيلاء على اللورين، فوافق على هذا في معاهدة شامبور (1552). وقام بحملة سريعة أدارها بكفاءة واستولى بعد عناء قليل على تول ونانسي ومتز وفردون. وكان شارل أكثر استعداداً للتسليم بالنصر للبروتستانتية في ألمانيا منه للتسليم به لآل فالوا في فرنسا، فوقع معاهدة صلح ذليلة مع الأمراء في باسوا، وهرع لضرب الحصار على الفرنسيين في متز. وأقام فرانسيس، دوق دي جيز شهرته هناك على ما أبداه من مهارة وعناد في الدفاع. واستمر الحصار من 19 أكتوبر إلى 26 ديسمبر سنة 1552، ثم سحب شارل جنوده الذين خارت قواهم وهو شاحب الوجه، زائغ البصر

ص: 54

أبيض اللحية كسيحاً وقال: "إني لأرى جيداً أن الحظ يشبه امرأة، تؤثر ملكاً فتياً على إمبراطور عجوز (74) "، وأردف قائلاً:"وقبل أن تمضي ثلاث سنوات سأتحول إلى رجل يربط حول وسطه شريطاً من حرير أي إلى راهب فرنسسكاني (75) ".

وفي عام 1555 - 56 تنازل لابنه عن سلطته في الأراضي المنخفضة واسبانيا، ووقع مع فرنسا هدنة فوسيل، وغادر أسبانيا (17 سبتمبر سنة 1556)، وظن أنه أورث فيليب مملكة تنعم بالسلام، ولكن هنري أحس أن الموقف يدعو إلى هجوم آخر على إيطاليا. ولم يكن لفيليب أي شهرة كقائد. وكان متورطاً على غير ما توقع في حرب البابا بولس الرابع، وخيل لهنري أن أمامه فرصة ذهبية. فأرسل جيز ليستولي على ميلان ونابلي، وتأهب لملاقاة فيليب في ساحات القتال القديمة في شمال شرقي فرنسا، وأظهر فيليب أنه أهل لمقابلة الموقف واقترض مليون وكات من أنطون فوجر وأغرى ماري ملكة إنجلترا بالدخول في الحرب. وفي سان كينتان (10 أغسطس سنة 1557) قاد الدوق أمانويل فليبرت أمير سافوي جيوش فيليب الموحدة إلى نصر كاسح وأخذ كوليني، ومونمورنسي أسيرين وتأهب للزحف على باريس. وكانت المدينة في ذعر، وبدا الدفاع عنها مستحيلاً. واستدعى هنري جيز وجنده من إيطاليا، فعبر الدوق فرنسا وفاجأ كاليه بحركة سريعة عجيبة واستولى عليها (1558)، وكانت إنجلترا تحتفظ بها منذ عام 1348، وكان فيليب يكره الحرب ويتوق إلى العودة لأسبانيا، فاقتنع تواً بتوقيع معاهدة كاتو - كامبريزي - (2 أبريل سنة 1559) وبمقتضاها وافق هنري على أن يبقى شمال الألب، ووافق فيليب على أن يدعه يحتفظ باللورين وبكاليه - على الرغم من دموع ماري. وفجأة أصبح الملكان صديقين. وقدم هنري ابنته اليزابث لتكون زوجة لفيليب، وتعهد بزواج شقيقته مرجريت أف بري من أمانويل فيلبرت الذي استعاد

ص: 55

وقتذاك سافوي، ونظم مهرجان ضخم حفل بالمبارزات والمآدب وليالي الزفاف.

وهكذا بينما ظل فيليب الحذر في الفلاندرز تجمع الأعيان من الفرنسيين والفلمنكيين والأسبان حول القصر الملكي ليتورنل في باريس، وعلقت قوائم في شارع سان أنطوان الذي يضم مظلات وشرفات مزينة بزخارف بهية، وانطلق الجميع يمرحون كما لو كانوا يسمعون ناقوس زفاف. وفي 22 يونيه استقبل الدوق ألفا، باعتباره وكيلاً لفيليب اليزابث باعتبارها ملكة لأسبانيا، وأصر هنري وهو وقتذاك في الأربعين من عمره على دخول المباراة. وفي مثل هذه المبارزات كان النصر يقضى به لراكب الفرس الذي يحطم ثلاث حراب على درع خصمه، دون أن يرمى عن الفرس. وقام هنري بهذا العمل أمام الدوق دي جيز والدوق دي سافوي اللذين عرفا كيف يقومان بدورهما الصحيح في المسرحية، بيد أن خصماً ثالثاً هو مونتجومري سمح في حمق للبقية الباقية الحادة من السلاح بالمرور تحت القناع الحديدي للملك بعد أن حطم حربة على درع الملك، فاخترقت عين الملك ووصلت إلى المخ. وظل يرقد تسعة أيام فاقد الوعي، وفي اليوم التاسع من يوليو احتفل بزواج فيليبرت ومرجريت، وفي اليوم العاشر من يوليو مات الملك وانسحبت ديان إلى آنيه، وعاشت بعد ذلك سبع سنوات، وارتدت كاترين دي مديتشي التي كانت ضمآى لحبه؛ ثياب الحداد بقية حياتها.

ص: 56

الفصل الثالث والعشرون

‌هنري الثامن والكاردينال ولزي

‌1509 - 1529

1 -

ملك واعد

1509 -

1511

لم يكن أحد ممن رأوا الفتى الذي ارتقى عرش إنجلترا عام 1509 يتنبأ بأنه هو البطل والغد معاً في أكر حكم درامي في التاريخ الإنجليزي. وعندما كان غلاماً في الثامنة عشرة من عمره كانت بشرته الرقيقة وتقاطيعه المنتظمة تجعله جذاباً كالفتاة أو يكاد، بيد أن ما يتمتع به من قوام رياضي وجرأة سرعان ما قضى على أي مظهر للأنوثة فيه. وتبارى السفراء الأجانب مع المادحين والطنيين في الثناء على شعره الأصحم، ولحيته الذهبية و "ربلة ساقه الفائقة الجمال" وفي تقرير كتبه جيوستنياني إلى مجلس شيوخ البندقية قال:"إنه مغرم بالتنس، وإن أجمل شيء في الوجود أن تراه وهو يلعب، وبشرته الجميلة تتألق من خلال قميص نسيجه جد رقيق (1) "، وكان في الرمي بالسهام والمصارعة يضارع أحسن الأبطال في مملكته ولم يكن يبدو عليه في الصيد قط أي تعب، وكان يخصص يومين كل أسبوع للمبارزات، ولم يكن في وسع أحد أن ينافسه إلا الدوق سفولك. وكان موسيقياً مثقفاً أيضاً، و "غنى وعزف على كل ضروب الآلات وأظهر موهبة نادرة"، (كما كتب القاصد الرسولي للبابا) ولحن قداسين لا يزالان باقيين، وكان يعشق الرقص وحفلات المساخر ومظاهر الأبهة

ص: 57

والثياب الجميلة. ويروقه أن يكسو نفسه ثياباً من فرو الفاقوم أو أردية أرجوانية، وكان القانون ينص على أن له وحده الحق في ارتداء الديباج الأرجواني أو الذهبي، وكان يأكل بتلذذ، ويصل أحياناً مآدب الغذاء الرسمية إلى بع ساعات، ولكنه في السنوات العشرين الأولى من حكمه كبح جماح شهيته. وكان كل الناس يحبونه ويعجبون بسماحة أخلاقه اللطيفة وسهولة الوصول إلى قلبه ومرحه وتسامحه وحلمه. ورحب الناس بارتقائه العرش وكأنه إيذان بفجر عصر ذهبي.

واغتبطت الطبقات المتعلمة أيضاً لأن هنري في أيام السكون تلك كان يطمح أن يكون عالماً بطلاً رياضياً على السواء وموسيقياً وملكاً، ولما كان قد أعد في الأصل ليكون من رجال الدين فقد أصبح على دراية بعض الشيء باللاهوت، وكان في وسعه أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس لأي غرض. وكان له ذوق جميل في الفن، واقتنى مجموعة تدل على درايته، وكان حكيماً في اختياره هولبين لتخليد كرشه. وقام بدور فعال في أعمال الهندسة وبناء السفن والتحصينات والمدفعية. وقال عنه سير توماس مور:"إنه أعلم من أي ملك انجليزي قبله (2) " - وليس هذا بالثناء العظيم. وتابع مور كلامه قائلاً: "ما الذي لا نتوقعه من ملك غذي بلبان الفلسفة وربات الفنون التسع (3)؟ " وكتب مونتجومري مبهوتاً إلى أرازموس، وكان حينذاك في روما، يقول: "ما الذي لا تعلل به نفسك من أمير تعلم جيداً ما فطر عليه من موهبة خارقة وخلق يكاد يكون إلهياً؟ ولكن عندما تعرف أي بطل يقيم الآن الدليل عليه، وكيف يتصرف بحكمة، وأي محب للعدالة والخير، وأي مودة يحملها للمتعلمين، فإني أتجاسر وأقسم لك بأنك لن تكون في حاجة إلى جناحين تطير بهما لتشهد هذا النجم الجديد السعيد.

ص: 58

أواه يا أرازموس العزيز. لو أنك استطعت أن ترى كيف أن العالم بأسره هنا مبتهج لأن عنده أميراً عظيماً كهذا، وكيف أن حياته هي كل ما يبتغون فلن تتمالك نفسك من أن تذرف دموع الفرح. إن السموات لتضحك والأرض لتبتهج (4) ".

وجاء أرازموس وشارك في هذا الهذيان لحظة. وكتب يقول: "فيما مضى كان قلب المعرفة بين مَن يزعمون أنهم من رجال الدين، والآن بينما ينصرف هؤلاء في الأغلب الأعم إلى شهوات البطون والترف والمال

(1)

فإن حب العلم ذهب منهم إلى الأمراء العلمانيين والحاشية والنبلاء وإن الملك لا يقبل في بلاطه رجالاً مثل مور فحسب، بل إنه يدعوهم ويجبرهم - على أن يرقبوا كل ما يفعل وأن يشاطروه تبعاته وملذاته. وهو يفضل صحبة رجال مثل مور على صحبة الأغبياء من الفتيان أو الفتيات أو الأغنياء (5) ". وكان مور أحد أعضاء مجلس الملك وليناكر طبيب الملك وكوليه واعظ الملك في كنيسة القدّيس بولس.

وفي السنة التي ارتقى فيها هنري العرش، أنفق كوليه الجانب من الثروة التي ورثها عن أبيه لتأسيس مدرسة القدّيس بولس. واختير نحو 150 طبيباً لكي يدرسوا هناك الأدب الكلاسي واللاهوت المسيحي وعلم الأخلاق، وخالف كوليه التقاليد بتعيين مدرسين علمانيين في المدرسة، وكانت أول مدرسة غير أكليروسية في أوربا. وعارض "الطرواديون" الذين كانوا ينددون في أكسفورد بتدريس الكلاسيات، برنامج كوليه بحجة أنه يؤدي إلى الشك الديني، بيد أن الملك حكم ضدهم ومنح كوليه تشجيعه الكامل. وعلى الرغم من أن كوليه نفسه كان محافظاً في عقيدته ومثالاً للتقوى،

(1)

بيد أن أصدقاء أرازموس من رجال الدين، دين كوليه وفيشر أسقف روشستر وكبير الأساقفة وارهام كنتربري كانوا أصدقاء مخلصين من ذوي المروءة والعلم.

ص: 59

فإن أعداءه اتهموه بالهرطقة، فأخرسهم وارهام كبير الأساقفة وأذعن هنري. وعندما رأى كوليه أن هنري يميل إلى الحرب مع فرنسا ندد علناً بسياسته وأعلن، كما فعل أرازموس، أن سلاماً ظالماً خير من أعدل الحروب. وندد كوليه بالحرب، حتى وهو مجتمع بالملك في الصلاة، باعتبارها صفعة في وجه تعاليم المسيح، ورجاه هنري على انفراد ألا يضعف معنويات الجيش، ولكن عندما حرض الملك على أن يخلع كوليه أجاب قائلاً: "ليكن لكل إنسان قسيسه الخاص

إن هذا الرجل هو قسيسي (6) ". واستمر كوليه يفسر تعاليم المسيحية تفسيراً جاداً. وكتب إلى أرازموس (1517) يقول بروح توما أكمبي: آه يا أرازموس لا حد هناك لكتب المعرفة، وليس هناك أفضل من أن نعيش حياة طاهرة مقدسة في هذا الأجل القصير الذي كتب علينا وأن نبذل جهدنا في حياتنا اليومية، وأن نتطهر ونتثقف

بالحب المتأجج والاقتداء بيسوع. ولهذا فإن أعظم رغباتي إلحاحاً هي أن نسير قدماً، معرضين عن كل السبل غير المباشرة مؤثرين بطريقة قصيرة توصل إلى الحقيقة. وداعاً (7).

وفي عام 1518 أعد قبره البسيط ولم ينقش عليه إلا اسم جوهانس كوليتس ودفن فيه، بعد عام، وأحس كثيرون أن قديساً قد مات.

‌2 - ولزى

كان هنري، الذي قدر له أن يصبح تجسيداً لأمير مكيافيلي، لا يزال بعد حدثاً بريئاً في السياسة الدولية. وعرف حاجته إلى الإرشاد وجعل من الرجال حوله نماذج. وكان مور ذكياً بيد أنه لم يتعدَ الحادية والثلاثين، وكان يميل إلى الطهارة والتقوى. وكان توماس ولزى يكبره بثلاثة أعوام فحسب، وكان قساً إلا أن اتجاهه بأكمله للسياسة، والدين عنده جزء من

ص: 60

السياسة. وقد ولد توماس في ابسوتش من "أصل وضيع ودم خسيس"(هكذا وصفه جويكيا رديني المعتز بنفسه)(8). وقد استوعب مقرر شهادة البكالوريا في أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وعندما بلغ الثالثة والعشرين عمل صرافاً في كلية مجادلين، وأظهر كفاءته باستخدام مبالغ مناسبة، تتجاوز السلطة المخولة له، لإتمام البرج الرائع لتلك القاعة. وعرف كيف ينجح. وأظهر فطنة في الإدارة والمفاوضة فقام بالوعظ في سلسلة من الكنائس ليخدم هنري السابع بتلك المقدرة والدبلوماسية.

وعندما ارتقى هنري الثامن العرش عينه موزعاً للصدقات - مديراً للبر والإحسان. وسرعان ما أصبح القس عضواً في المجلس الخاص. وأفزع واهرام كبير الأساقفة بدفاعه عن عقد حلف عسكري مع أسبانيا ضد فرنسا، وكان لويس الثاني عشر يغزو إيطاليا، ومن المحتمل أن يجعل البابوية تابعة لفرنسا من جديد. وعلى أية حال فإن فرنسا لابد أن تصبح قوية جداً. وخضع هنري في هذا الأمر لولزى وحميه فرديناند ملك أسبانيا، وكان هو نفسه يجنح في هذا الوقت للسلم. وقال لجيوستنياني:"إني راضٍ بما أملك، ولا أود أن أحكم إلا رعاياي، ولكني من جهة أخرى لا أقبل أن يبلغ أحد من القوة ما يجعله يتحكم في"(9)، ويكاد هذا يلخص حياة هنري السياسية. فقد ورث ادعاء الملوك الإنجليز أن لهم الحق في تاج فرنسا، ولكنه عرف أنه ادعاء أجوف. ووهنت الحرب سريعاً في موقعة المهاميز (1513). ودبر ولزى للسلام وأغرى لويس الثاني عشر بالزواج من ماري شقيقة هنري، وسر ليو العاشر لنجاته فعين ولزى رئيساً لأساقفة يورك (1514). وكاردينالاً (1515)، وعينه هنري، المنتصر، حاجباً (1515). وفاخر الملك لأنه حمى البابوية، وعندما رفض أحد البابوات أن يتولى فيما بعد تيسير زواجه عد هذا جحوداً.

ص: 61

وكانت السنوات الخمس الأولى التي قضاها ولزى في منصب الحاجب من أعظم السنوات توفيقاً في سجل الدبلوماسية الإنجليزية. وكان يهدف إلى تنظيم السلام في أوربا باستخدام إنجلترا وسيلة لحفظ التوازن في القوى بين الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة وفرنسا، وكان المفروض أن مما يدخل أيضاً في دائرة سلطانه أن يصبح حكماً لأوربا وأن يكون السلام في القارة في مصلحة تجارة إنجلترا الحيوية مع الأراضي المنخفضة. وتفاوض كخطوة أولى، لعقد حلف بين فرنسا وإنجلترا (1518)، وخطب ماري ابنة هنري البالغة من العمر عامين (أصبحت ملكة فيما بعد) إلى ابن فرانسيس الأول البالغ من العمر سبعة شهور، ولا شك أن ميله للضيافة الكريمة قد كشف عنه ما حدث عندما حضر المبعوثون الفرنسيون إلى لندن لتوقيع الاتفاقيات، فقد أقام لهم وليمة في قصر وستمنستر، قدم لهم فيها عشاء، قال عنه جيوستنياني:"أن مثيله لم يقدم قط، على مائدة كليوباترة وكاليجولا، وأن قاعة المأدبة بأسرها زينت بزهريات ضخمة من الذهب والفضة (10) ". غير أن الكاردينال المحب للدنيا يلتمس له العذر، فقد كان يقامر ليكسب رهاناً عظيماً، فكسب. وأصر على أن يكون الحلف مفتوحاً لينضم إليه الإمبراطور مكسمليان الأول وشارل الأول ملك أسبانيا والبابا ليو العاشر، ودعوا للانضمام إليه فقبلوا، وابتهج أرازموس ومور وكوليه، إذ داعبهم الأمل في أن يكون فجر عهد للسلام قد أشرق على العالم المسيحي بأسره. وتلقى ولزى التهاني حتى من أعدائه. وانتهز الفرصة لرشوة المندوبين الإنجليز (11) في روما لكي يضمن تعيينه قاصداً رسولياً للبابا في صف بريطانيا والعبارة تعني "في صف" وموضع ثقة، وكان أرفع تعيين لمبعوث بابوي. وكان ولزى وقتذاك الرئيس الأعلى للكنيسة الإنجليزية وحاكم إنجلتري - مع ولاء استراتيجي لهنري.

ص: 62

وعكر صفو السلام بعد عام تنافس فرانسيس الأول وشارل الأول على العرش الإمبراطوري. بل إن هنري رأى أن يقذف بقلنسوته في الحلبة غير أنه لم يجد رجلاً مثل فوجر. وزار الفائز، وهو وقتذاك شارل الخامس، انجلترا زيارة قصيرة (مايو سنة 1520) وقدم إحتراماته لعمته كاترين الأراجونية، الملكة زوجة هنري، وعرض أن يتزوج الأميرة ماري (التي كانت مخطوبة بالفعل لولي عهد فرنسا)، إذا وعدت إنجلترا أن تؤيد شارل في أي نزاع بينه وبين فرنسا، وهكذا السلام، أمر غير طبيعي، فرفض ولزى ولكنه قبل من الإمبراطور مرتباً قدره 7. 000 دوكات، وانتزع منه تعهداً بأن يساعده على أن يصبح بابا.

وحقق الكاردينال الذكي أعظم انتصار باهر له بتدبير لقاء بين العاهلين الفرنسي والإنجليزي في ميدان كلوث أف جولد (يونيو 1520). وهناك في أرض فضاء مكشوفة بين جين وآردر قرب كاليه برز فن العصر الوسيط والفروسية في روعة الغروب. وانطلق أربعة آلاف نبيل إنجليزي، اختارهم الكاردينال وعينهم، وكانوا يرتدون الملابس الحريرية والمزركشة والمخرمات من أزياء القرون الوسطى المتأخرة، في صحبة هنري بينما امتطى الملك الشاب ذو اللحية الحمراء صهوة فرس صغيرة لملاقاة فرانسيس الأول. وأخيراً وليس آخراً، أقبل ولزى نفسه مرتدياً ثياباً قرمزية من الأطلس ينافس بها أبهة الملوك. وقد شيد على عجل قصر لاستقبال صاحبي الجلالة ومرافقيهما من السيدات والموظفين، وأقيمت سقيفة يكسوها قماش تتخلله خيوط ذهبية، وتتدلى منه طنافس ثمينة ليظلل المؤتمر والمآدب، وكانت هناك نافورة يسيل منها النبيذ، وأخليت مساحة لألعاب الفروسية الملكية، وتدعم الحلف السياسي والعسكري بين الأمتين، وتبارى العاهلان السعيدان في المبارزة بل تصارعا، وخاطر فرانسيس بسلام أوربا بطرحه الملك الإنجليزي، وأصلح خطواته الخاطئة بكياسة فرنسية لا نظير لها بالذهاب مبكراً ذات

ص: 63

صباح وهو مجرد من السلاح مع بعض الأتباع غير المسلحين، لزيارة هنري في المعسكر الإنجليزي - وكانت لفتة تدل على الثقة الودية فهمها هنري. وتبادل الملكان الهدايا الثمينة والأيمان المغلظة.

والحق أن أحداً منهما لم يستطع أن يثق بالآخر، لأن التاريخ علمهم درساً مفاده أن الرجال يكذبون كثيراً عندما يحكمون دولاً. وبعد سبعة عشر يوماً أمضاها هنري ينعم بالولائم مع فرانسيس، انطلق ليمضي ثلاثة أيام في مؤتمر مع شارل في كاليه (يوليه سنة 1520). وهناك أقسم الملك والإمبراطور، في حضور ولزى، على الصداقة الأبدية واتفقا على ألا يقدما على خطوات أخرى لتنفيذ خطتيهما للزواج من الأسرة المالكة في فرنسا. وكانت هذه الأحلاف المنفصلة أساساً أشد قلقلة للسلام الأوربي من الاتفاق الودي متعدد الجوانب الذي كان ولزى قد دبر له قبل وفاة مكسمليان. وإن كان قد ترك إنجلترا في وضع الوسيط، والحكم في الواقع - وهو وضع أسمى بكثير من أي وضع يمكن أن يعتمد على ثروة الإنجليز أو سلطانهم. وكان هنري راضياً. وأمر رهبان سانت البانز باختيار ولزى رئيساً لديرهم ومنحه صافي دخلهم، وذلك مكافئة لحاجبه، لأن "سيدي الكادينال قد تحمل الكثير من التكاليف في هذه الرحلة". وأذعن الرهبان ووصل دخل ولزى إلى ما يقرب من احتياجاته.

وكان، على نطاق أوسع بكثير من معظمنا، مزيجاً من الفضائل والنقائض المركبة، وكتب جيو ستنياني يقول:"إنه وسيم جداً، فصيح للغاية، واسع المقدرة، لا يكل ولا يمل (12) ". وكانت أخلاقه لا تخلو من الشوائب، فقد انزلق مرتين إلى الأبوة غير الشرعية، وكانت تعد من الهفوات التي تغتفر في ذلك العصر الطروب.

ولكن إذا صدقنا ما قاله اسقف، فغن الكاردينال كان يعاني من

ص: 64

"الزهري (13") وقبل ما يمكن، أو ما لا يمكن أن يسمى بالرشا - هدايا عظيمة من المال تلقاها من فرانسيس وشارل على السواء، وحرص على أن يجعلهما يتنافسان على أن يأمرا له بمرتبات وهبات سخية قدماها، وكانت هذه من آداب مجاملة العصر، وأحس الكاردينال المبذر، الذي شعر بأن سياسته تخدم أوربا بأسرها، بأن أوربا كلها يجب أن تخدمه. وليس من شك في أنه كان يحب المال والترف والأبهة والسلطان. وكان جانب كبير من دخله يصرف في الحفاظ على مؤسسة قد يكون تبذيرها السطحي أداة من أدوات - الدبلوماسية، صممت لكي تعطي السفراء الأجانب فكرة مبالغاً فيها عن الموارد الإنجليزية. ولم يدفع هنري أي مرتب لولزى ولهذا كان على الحاجب أن يعيش ويولم لضيوفه على حساب موارده الكنسية ومرتباته التي يتقاضاها من الخارج. وحتى لو كان الأمر على هذا النحو فإننا قد نعجب لأنه احتاج لكل الدخل الذي كان يحصل عليه باعتباره صاحب الحق في دخل أبرشيتين، وست رواتب للقسس، ومرتب رئيس جامعة، ومرتب باعتباره رئيساً لدير سانت البانز وأسقفاً لباث وولز، ورئيساً لأساقفة يورك ومديراً لأبرشية ونشستر وشريكاً لأسقفي ورسستر وسالزبوري الإيطاليين الغائبين (14).

وكان له تقريباً الحق في الرئاسة الدينية والسياسية بأسرها في المملكة والمفروض أنه كان ينال مكافئة عن كل تعيين يتم. وقدر مؤرخ كاثوليكي أن ولزى كان يتلقى في أوج مجده ثلث دخول الكنيسة في إنجلترا (15). كان أغنى وأقوى الرعايا في الأمة. ومن رأي جيوستنياني أنه كان "أقوى من البابا- بسبعة أضعاف (16) " ويقول أرازموس: "إنه الملك الثاني" ولم يبقَ أمامه إلا خطوة واحدة- يقوم بها- البابوية. وحاول ولزى الحصول عليها مرتين، ولكن شارل الداهية فاقه في تلك اللعبة، متجاهلاً وعوده.

ص: 65

واعتقد الكاردينال أن التمسك بالمراسيم دعامة القوة، ويستطيع المرء بالقوة أن يبوأ السلطة ولكنه لا يستطيع أن يدعمها بثمن بخس وفي هدوء وسلام إلا بالتعود عليها أمام الجمهور، والناس تحكم على سمو المرء بمقدار تمسكه بالرسمية التي يحتمي بها. ولهذا فإن ولزى كان يظهر في الحفلات العامة والرسمية مرتدياً أفخر الملابس الرسمية التي خيل إليه أنها مناسبة لمثل كل من البابا والملك. قبعة كردينال حمراء، وقفازين حمراوين، وأردية من التافتاه القرمزة وحذاء من الفضة أو مموهاً بالذهب، ومرصعاً باللآلئ والأحجار الكريمة - ها هو ذا أنوسنت الثالث وبنيامين دزرائيلي وبروفل الجميل اجتمعوا معاً في شخص واحد. كان أول مَن لبس الحرير (17) بين رجال الدين في إنجلترا. وعندما كان يردد القداس (وهو أمر نادر) كان شمامسته من الأساقفة والرهبان، وفي بعض المناسبات كان النبلاء من حملة ألقاب دوق وايرل يصبون الماء الذي يغسل به يديه المقدستين. وأذن لتابعيه أن يركعوا وهم يخدمونه على المائدة. وخدمه في مكتبه وبيته خمسمائة شخص (18)، كثير منهم من ذوي النسب العريق. وكانت قلعة هامبتون التي شيدها لتكون مقراً له باذخة جداً إلى حد أنه أهداها للملك (1525) ليتقي شر حسده.

ومهما يكن من أمر فإنه نسي أن هنري كان ملكاً. وكتب جيوستنياني إلى عضو شيوخ من البنادقة: "لدى وصولي لأول مرة إلى إنجلترا اعتاد الكاردينال ان يقول لي إن جلالته سوف يفعل كذا وكذا". وبعد ذلك - بالتدريج نسي نفسه وبدأ يقول: "سوف نفعل كذا وكذا" أما الآن يقول: "سأفعل كذا وكذا"(19)، وكتب السفير مرة أخرى يقول:"إذا كان لابد من إغفال أمر الملك أو الكاردينال فمن الأفضل التغاضي عن الملك، فالكاردينال قد يستاء من السبق الذي يسلم به للملك (20) " وقلما كان الأشراف والدبلوماسيون يحصلون على الأذن بالمثول في حضرة الحاجب قبل تقديم

ص: 66

الالتماس الثالث. وكلما مر عام كان الكاردينال يحكم صراحة حكماً مطلقاً يشتد يوماً بعد يوم، واستدعى المجلس النيابي مرة إبان رئاسته، وكان قليل الاهتمام بالأشكال الدستورية، وقابل المعارضة بالاستياء والنقد والزجر. وكتب المؤرخ بوليدر فرجيل يقول:"إن هذه الوسائل سوف تؤدي إلى سقوط ولزى" فأرسل فرجيل إلى البرج، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تشفع له ليو العاشر مراراً. واشتدت المعارضة.

ولعل مَن عزلهم ولزى أو أدبهم هم الذين اعتصموا بآذان التاريخ، ونقلوا آثامه كما هي بلا غفران، إلا أن أحداً لم ينازع في مقدرته، أو انصرافه في مثابرة لكثير من مهامه. وقال جيوستنياني لعضو الشيوخ من البندقية المعتز بنفسه "إنه ينجز من العمل قدر ما يشغل كل القضاة وموظفي المكاتب والمجالس في البندقيو، في المحاكم المدنية والجنائية على السواء، وهو يدير كذلك كل شئون الدولة مهما كانت طبيعتها (21) ".

وكان محبوباً من الفقراء، مكروهاً من الأقوياء بسبب عدم تحيزه في تطبيق العدالة. وفتح بلاطه لكل مَن يشكون من الاضطهاد، ولا تكاد توجد سابقة لهذا في التريخ الإنجليزي بعد الفرد. وكان ينزل العقاب بالجاني الأثيم، مهما كان رفيع القدر (22)، دون خوف ولا وجل. وكان كريماً مع العلماء والفنانين وبدأ إصلاحاً دينياً بإحلال كليات محل أديار عديدة. وكان بصدد القيام بإصلاح مثير في التعليم الإنجليزي عندما تآمر ضده كل الأعداء الذين خلقهم اندفاعه في أعماله وقصر منظم كبير رائع، فتآمروا بخلق قصة خيالية ملكية لتدبير خطة لسقوطه.

‌3 - ولزي والكنيسة

وأدرك المساوئ التي لا تزال باقية في حياة رجال الدين في إنجلترا، ضرب لها مثلاً عظيماً: أساقفة غائبين ورجال دين متعلقين بالدنيا،

ص: 67

ورهباناً كسالى، وقساوسة وقعوا في شرك الأبوة. وكانت الدولة التي طالما دعت إلى إصلاح الكنيسة، مسئولة إلى حد ما عن الشرور، لأن الملوك كانوا يعينون الأساقفة. وكان بعض الأساقفة من أمثال مورتون، وواهرام وفيشر رجالاً على خلق رفيع، ذوي مقدرة عظيمة، وكان كثير من الآخرين منغمسين جداً فيما تتيحه لهم الأسقفية من حياة وادعة، فلم يستطيعوا أن يدربوا اتباعهم من رجال الدين على الكفاءة من الناحية الروحية، وكذلك على المثابرة في تدبير المال. وربما كانت أخلاقيات الجنس عند القساوسة أفضل مما هي عند زملائهم في ألمانيا، ولكن لم يكن ثمة مفر من وجود حالات من التسري بين رجال الدين، ومن الزنا والسكر والجريمة في الأبرشيات البالغ عددها 8. 000 في إنجلترا - وهي حالات - كثيرة دفعت كبير الأساقفة مورتون إلى أن يقول (1468):"إن ما يقترن بحياتهم من فضائح يعرض للخطر استقرار نظامهم (23) "، وأبلغ رتشارد فوكس، حوالي عام 1519، ولزى بأن رجال الدين في أسقفية ونشستر كانوا قد تردوا إلى هاوية كبيرة من الفسق والفساد، إلى حد أنه يئس من أن يشهد في حياته أية محاولة لإصلاح ديني (24). وارتاب القساوسة بالأبرشيات في أن ترقياتهم تتوقف على مقدار مقتنياتهم، فأخذوا يغتصبون ضرائب العشور أكثر مما فعلوا في أي وقت مضى. وكان البعض يستولي كل عام على عشر دجاج الفلاح وإنتاجه من البيض واللبن ولجبن والفاكهة، بل حتى من كل الأجور التي كانت تدفع لمعاونته، وكل إنسان لا يترك في وصيته ميراثاً للكنيسة يتعرض لخطر عظيم بحرمانه من الدفن طبقاً للطقوس المسيحية مع ما يترتب على ذلك من نتائج متوقعة مروعة إلى حد لا يمكن التفكير فيها. وبعبارة موجزة فرض رجال الدين مكوساً لتمويل مصالحهم في إصرار مثل الدولة الحديثة. وما أن حل عام 1500 حتى كانت الكنيسة تملك، وفقاً لتقدير كاثوليكي محافظ، حاولي خمس

ص: 68

الأملاك بأسرها في إنجلترا (25). وحسد النبلاء هناك كما في ألمانيا رجال الدين على هذه الثروة وتلهفوا على استعادة الأراضي والدخول التي تنازل عنها لله أسلافهم الأتقياء أو الخائفون.

وأجمل دين كوليه حالة رجال الدين العلمانيين مع مبالغة واضحة في خطاب وجهه إلى جمعية رجال الكنائس عام 1512 فقال: "أود أخيراً وأنا عالم بشهرتكم ومهنتكم، أن تفكروا في إصلاح أمور الكهنوت لأنه لم يحدث من قبل أن كان الأمر محتوماً كما هو الآن

لأن الكنيسة - زوجة المسيح - التي تمنى ألا تشوبها شائبة أو تدب فيها الشيخوخة قد أصبحت دنسة مشوهة"، وكما يقول إشعيا: "كيف صارت القرية الأمينة زانية

(1)

". وكما يقول أرميا: "أما أنت فقد زنيت بأصحاب كثيرين"

(2)

. وقد حملت بكثير من بذور الظلم وهي تنجب كل يوم أعظم الذرية دنساً. ولم يشوه شيء وجه الكنيسة مثل ما شوهته المعيشة العلمانية والدنيوية لرجال الدين

أي لحفة وجوع يشيعان في هذه الأيام بين رجال الدين بعد الشرف والوقار. وأي سباق تنقطع فيه الأنفاس من صدقة إلى صدقة ومن منفعة أقل إلى منفعة أكبر.

ألم تغرق الشهوة إلى الجسد، ألم تغرق هذه الرذيل الكنيسة بالفيضان

ولهذا فليس هناك ما يسعى إليه في حرص الجانب الأكبر من القساوسة أكثر مما يهيئ لهم اللذة الحسية؟ إنهم لينصرفون إلى المآدب والولائم

ويقفون حياتهم وينصرفون إلى القنص والصيد بالصقور، وهم غارقون في مباهج هذه الحياة الدنيا.

وقد تملك الجشع أيضاً

قلوب كل القسس

إلى حد أننا اليوم

(1)

العهد القديم: سفر إشعيا: الإصحاح الأول، آية 21.

(2)

العهد القديم: سفر أرميا: الإصحاح الثالث، آية 1.

ص: 69

لا نرى شيئاً سوى ما يخيله لنا أنه كفيل بأن يعود علينا بمغنم، ونحن نعاني في هذه الأيام من الهراطقة - وهم رجال يتصفون بحماقة عجيبة، إلا أن هرطقتهم ليست وبائية خبيثة بالنسبة لنا وللناس مثل حياة رجال الدين الفاسدين الغاوين. ولابد أن يبدأ الإصلاح الديني بكم (26).

وصاح نائب الأسقف مرة أخرى وهو يتميز غيظاً: "أيها القساوسة

يا طائفة القسس

أواه! إن الضلال المقيت الذي يسدر فيه هؤلاء القساوسة التعساء، الذين يضم منهم عصرنا عدداً كبيراً لا يخشون الاندفاع من أحضان بغي دنسة إلى حرم الكنيسة، وإلى مذبح المسيح، وإلى أسرار العشاء الرباني (27) ".

بل إن رجال الدين النظاميين أو الرهبانيين تعرضوا لاستنكار شديد، فقد اتهم كبير الأساقفة مورتون عام 1489 الراهب وليام من دير البانز بـ "الاتجار في المقدسات والرتب والوظائف الدينية والربا والاختلاس والعيش علناً وباستمرار مع العاهرات والعشيقات داخل أرياض الدير وخارجه" واتهم الرهبان بأنهم يحيون حياة داعرة

كلا بل يدنسون الأماكن المقدسة، حتى كنائس الرب بالذات مضاجعة الراهبات الممقوتة، ويحولون ديراً ثانوياً مجاور إلى "ماخور عام"(28).

وترسم سجلات الجولات التفتيشية الأسقفية صورة أقل إكفهراراً. فمن بين اثنين وأربعين ديراً تم التفتيش عليها بين عامي 1517 و 1530 وجد خمسة عشر ديراً لم تقترف فيها خطيئة كبيرة، وفي معظم الأديار الأخرى كانت جرائم التعدي على النظام أكثر منها على العفة (29). وكانت بعض الأديار لا تزال تمارس نظام الصلاة في القرون الوسطى والإقبال على العلم والضيافة والبر وتعليم الشباب. واستغل بعضها السذاجة وجمعت النقود من العامة لمخلفات وهمية نسبوا إليها شفاء معجزاً من الأمراض، وشكا أساقفة

ص: 70

من "الأحذية المنتنة والأمشاط القذرة

والزنارات الرثة وخصلات الشعر والخرق القذرة المقررة والموصى بها للجهلة من الناس. باعتبارها مخلفات صحيحة لنساء أو رجال مقدسين (30).

وعلى الجملة فإن الأديار الستمائة في إنجلترا أظهرت، طبقاً لتقدير آخر مؤرخ كاثوليكي، سوء سلوك على نطاق واسع وكسلاً متلافاً وإهمالاً يكلف غالياً في رعاية أملاك الكنيسة (31).

وفي عام 1520 كان في إنجلترا نحو 130 ديراً للراهبات. منها أربعة فقط تضم ما يزيد على ثلاثين نزيلة (32). وألغى الأساقفة ثمانية أديار، وقال الأسقف في إحدى الحالات بسبب "الأخلاق الداعرة لنساء البيت وتبذلهن بسبب مجاورتهن لجامعة كمبرج (33) ". وتمت ثلاث وثلاثون جولة تفتيشية لواحد وعشرين ديراً للراهبات في أبرشية لنكولن وقدمت عنها تقارير من بينها ستة عشر تقريراً مشجعاً، وأربعة عشر تقريراً تضمنت ملاحظات عن الافتقار إلى النظام أو الأخلاق وتقريران تحدثا عن راهبات كن يعشن في الخنا، وتقرير وجد راهبة حاملاً من قسيس (34). وكانت مثل هذه الانحرافات عن القواعد الصارمة تعد طبيعية في المناخ الأخلاقي السائد في تلك العصور، ولعل الخدمات الكريمة في التعليم والبر كانت ترجحها.

وكان رجال الدين لا يتمتعون بالشعبية. وكتب يوستاس شابويس السفير الكاثوليكي لشارل الخامس في إنجلترا إلى مولاه عام 1529 فقال: "إن كل الناس يكرهون القساوسة"(35). وندد كثير من الناس، من المتشبثين بعقيدة المحافظين تماماً بقسوة الضرائب التي فرضها رجال الدين وتبذير الأساقفة وثراء الرهبان وكسلهم. وعندما اتهم كاتب سر أسقف لندن بقتل هرطيق (1514) توسل الأسقف إلى ولزى أن يمنع المحاكمة أمام محلفين مدنيين "لأني واثق أن كاتب سري لو حوكم أمام أي أثنى عشر

ص: 71

رجلاً في لندن فإنهم سوف ينحازون في حقد إلى صف الهرطيق إلى حد أنهم سوف ينبذون كاتبي ويدينونه على الرغم من أنه بريء مثل هابيل" (36).

وأخذت الهرطقة تشتد مرة أخرى. وفي عام 1506 اتهم خمسة وأربعون رجلاً بالهرطقة أمام أسقف لنكولن وتراجع ثلاثة وأربعون عما قالوا، وأحرق أثنان. وفي عام 1510 حاكم أسقف لندن أربعين هرطقياً وأحرق أثنين، وفي عام 1521 حاكم خمسة وأربعين وأحرق خمسة، وتورد السجلات قائمة تضم 342 محاكمة مثل هذه في خلال خمسة عشر عاماً (37).

ومما كان يعد بين الهرطقات الجدل حول القربان المقدس وهل يظل يقدم من الخبز فحسب، وأن القساوسة لا حول لهم ولا قوة أكثر من الآحاد الآخرين من الناس في التكريس أو الحل، وأن القرابين المقدسة ليست ضرورية للحصول على الخلاص، وأن رحلات الحج إلى المزارات المقدسة والصلاة من أجل الموتى لا قيمة لها، وأن الصلوات يجب أن توجه لله وحده، وأن في وسع الإنسان أن يظفر بالنجاة بالإيمان وحده، بغض النظر عما يقدم من صالح الأعمال، وأن المسيحي المخلص فوق كل القوانين ما عدا شريعة المسيح، وأن الكتاب المقدس والكنيسة يجب أن يكونا القاعدة الوحيدة التي يحتكم إليها في العقيدة، وأن كل الرجال يجب أن يتزوجوا، وأن الرهبان والراهبات يجب أن يجحدوا اقسامهم بالتزام العفة.

وكانت بعض هذه لهرطقات أصداء لمذهب لولارد، وكانت بعضها انعكاسات لنفخات من بوق لوثر.

وفي أواخر عام 1251 كان الثائرون الشبان في أكسفورد يتلقفون في لهفة أنباء الثورة الدينية في ألمانيا، وآوت كامبردج في أعوام 1521 - 25 أثنى عشر من زعماء هراطقة المستقبل، وليام تيندال وكيلز كوفردال وهيولاتيمر وتوماس بلني وأدوارد فوكس ونسكولاس ردلي وتوماس

ص: 72

كرانمر

لقد هاجر كثير منهم: وهم يتوقعون الاضطهاد، إلى القارة، وطبعوا كراسات دينية مناهضة للكاثوليكية وبعثوا بها سراً إلى إنجلترا.

وأصدر هنري الثامن عام 1521 كتابه المشهور "قضية المقدسات السبعة ضد مارتن لوثر"، ولعله أصدره كرادع لهذه الحركة أو ربما لإظهار سعة علمه في اللاهوت، واعتقد الكثيرون أن ولزى هو المؤلف الخفي، ولعل ولزى هو الذي اقترح تأليف الكتاب، وصاحب ما ورد فيه من أفكار رئيسية كجزء من دبلوماسيته في روما، بيد أن أرازموس ادعى أن الملك قد فكر في الرسالة من أولها لآخرها وألفها، ويميل الحكم الآن إلى هذا الرأي. وهذا الكتاب له سمات المبتدئ، وهو لا يكاد يحاول تقديم رد عقلي يدحض به الآراء الأخرى، ولكنه يعتمد على فقرات منقولة من الكتاب المقدس والروايات الكنسية والتعسف الشديد، وكتب الثائر المنتظر ضد البابوية يقول: "إي ثعبان سام يصل إلى درجة مَن يصف سلطة البابا بأنها مستبدة؟

وأي جارحة من جوارح الشيطان تحاول أن تمزق أعضاء المسيح وتفصلها عن رأسها". ما من عقوبة يمكن أن تكون جسيمة عندما توقع على مَن يعصى القس الأكبر والقاضي الأعلى على الأرض لأن الكنيسة بأسرها ليست رعية للمسيح فحسب

بل لكاهن المسيح الوحيد، بابا روما (38). وكان هنري يغبط ملك فرنسا على ألقاب التشريف التي تسبغها الكنيسة عليه مثل:"أكثر المسيحيين مسيحية" وفردينان وايزابلا على لقب العاهلين الكاثوليكيين. وعندما قدم وكيله وقتذاك الكتاب إلى ليو العاشر طلب منه أن يمنح هنري وحلفاءه لقب - حامي العقيدة - ووافق ليو ووضع مَن استهل الإصلاح الديني في إنجلترا الكلمات على سكنه.

وتمهل لوثر في الإجابة. ورد عام 1525 رداً فريداً على ذلك "الحمار الأحمق"، و "ذلك المجنون الهائج

ملك الأكاذيب، الملك

ص: 73

هيتز، ملك إنجلترا يغضب الله

ولما كانت تلك الدودة اللعينة العفنة قد افترت كذباً بشر مبيت على مليكي في السماء فإنه يحق لي أن ألطخ هذا الملك الإنجليزي بقذره" (39) و "لم يتعود هنري على هذا الرشاش فاشتكى إلى أمير سكسونيا المختار الذي قال له بتأدب جم ألا يتطفل على الأسود، ولم يصفح الملك قط عن لوثر على الرغم من اعتذاره فيما بعد، ونبذ البروتستانت الألمان حتى عندما تمرد تماماً على البابوية.

وكان أعظم رد مفحم للوثر هو نفوذه في إنجلترا ففي ذلك العام نفسه 1525 نسمع عن "جمعية الاخوان المسيحيين"، في لندن التي انطلق وكلاؤها المأجورون يوزعون كراسات دينية لوثرية وهرطقية أخرى وأناجيل بالإنجليزية كلها أو بعضها.

وفي عام 1408 انزعج كبير الأساقفة أروندل بسبب توزيع نسخة الكتاب المقدس التي ترجمها ويكلف، فمنع القيام بأي ترجمة له باللغة الوطنية دون الحصول على موافقة من الأسقف، على أساس أن أي نسخة تترجم بدون ترخيص قد يحدث فيها تحريف للفقرات الصعبة، أو تلون التعبير لتأييد هرطقة. ولم يشجع كثير من رجال الدين قراءة الكتاب المقدس بأي صيغة، واحتجوا بأن الترجمة الصحيحة تستلزم معرفة خاصة، وأن المنتخبات من الكتاب المقدس كانت تستخدم لإثارة الفتنة (40). ولم تبدِ الكنيسة أي اعتراض رسمي على الترجمات السابقة لويكلف بيد أن هذا الإذن المفهوم ضمناً لم تكن له أهمية لأن كل النسخ الإنجليزية قبل عام 1526 كانت مخطوطة.

ومن ثم تأتي الأهمية الزمنية للعهد الجديد الإنجليزي الذي نشره تندال عام 1525 - 26. وكان قد فكر مبكراً في أيام دراسته في ترجمة الكتاب المقدس، لا من النسخة اللاتينية له كما فعل ويكلف، بل من الأصلين

ص: 74

العبري واليوناني. وعندما لامه كاثوليكي غيور وقال له: "خير لك أن تعيش بلا شريعة الرب، أي الكتاب المقدس من أن تعيش بشريعة البابا"، رد تندال بقوله:"إذا مد الله في عمري فلن تمضي بضع سنين حتى أجعل الصبي الذي يدفع المحراث يعرف من الكتاب المقدس أكثر مما تعرف أنت (42) ". ومنحه أحد معاوني بلدية لندن الفراش والمأوى لمدة ستة شهور عكف الشاب أثناءها على العمل. وذهب تندال عام 1524 إلى فنتبرج واستمر في العمل تحت إرشاد لوثر. وبدأ في كولونيا يطبع نسخة العهد الجديد المترجمة من النص اليوناني كما حققه أرازموس. وأثار وكيل إنكليزي السلطات عليه، ففر تندال من كولونيا الكاثوليكية إلى ورمز البروتستانتية، وهناك طبع 6. 000 نسخة، أضاف لكل منها مجلداً منفصلاً ضمنه تعليقات ومقدمات عدوانية، اعتمد فيها على مقدمات أرازموس ولوثر. وهربت كل هذه النسخ إلى إنجلترا وكانت بمثابة الوقود، الذي أشعل نار البروتستانتية الأولى، وزعم كوثبرت تونستال، أسقف لندن أن هناك أخطاءً شنيعة في الترجمة، وتحاملاً مغرضاً في التعليقات، وهرطقات في المقدمات، وحاول أن يمنع تداول الطبعة بشراء كل النسخ المكتشفة وأحراقها علناً في ميدان سانت بول كروس، بيد أن نسخاً جديدة ظلت ترد من القارة، وعلق مور على ذلك بقوله إن تونستال كان يمول مطبعة تندال. وكتب مور نفسه حواراً مستفيضاً (1528)، انتقد فيه النسخة الجديدة فرد عليه تندال، ورد مور على الرد في "تفنيد" يتألف من 578 صفحة من القطع الكبير. ورأى الملك أن يخمد الفتنة بمنع قراءة الكتاب المقدس بالإنجليزية وتداوله، إلى أن تصدر ترجمة معتمدة من ذوي الشأن (1530)، وفي غضون ذلك حرمت الحكومة كل طبع أو بيع أو استيراد أو حيازة للمؤلفات الهرطقية.

ص: 75

وبعث ولزى بأوامره بالقبض على تندال، إلا أن فيليب، حاكم لاندجراف هس أسبغ حمايته على المؤلف، وتابع في ماربورج ترجمته للأسفار الخمسة (1530). وترجم الجانب الأكبر من العهد القديم إلى الإنجليزية في أناة، بجهده الخاص أو تحت إشرافه. غير أنه سقط في أيدي الموظفين الإمبراطوريين في لحظة لم يتخذ فيها احتياطاته وسجن لمدة ستة عشر شهراً في فلفورد (قرب بروكسل)، وأعدم في المحرقة (1536) على الرغم من تشفع توماس كرومويل وزير هنري الثامن. وتحدثنا الرواية أن آخر كلماته كانت:"رباه، افتح عيني ملك انجلترا (43) " وقد عاش ما يكفي لإتمام رسالته، فالصبي الحارث يستطيع الآن أن يسمع المبشرين الإنجيليين الآن وهم يروون له بإنجليزية ثابتة واضحة قوية قصة المسيح الملهمة. وعندما ظهرت النسخة التاريخية المعتمدة (1611) كان 90 في المائة من أعظم ما كتب في الأدب الكلاسي الإنجليزي وأشدها تأثيراً كانت لتندال بلا تغيير (44).

وكان موقف ولزى تجاه هذا الإصلاح الديني الإنجليزي الوليد يتسم باللين، كما يمكن أن يتوقع من رجل على رأس الكنيسة والحكومة على السواء. فاستأجر شرطة سرية لكشف الهرطقة، وفحص الأدب المشكوك فيه والقبض على الهراطقة. غير أنه سعى إلى إغراء هؤلاء بأن يسكتوهم لا أن يعاقبوهم، ولم يصدر أوامره قط بإرسال هرطيق إلى المحرقة. وفي عام 1528 سجن ثلاثة من طلبة جامعة أكسفورد بتهمة الهرطقة، وترك أسقف لندن واحداً منهم يموت في الحبس وأنكر آخر ما قاله وأطلق سراحه، أما الثالث فأخذه ولزى ووضعه تحت رعايته وسمح له بالفرار (45). وعندما ندد هيو لاتيمر، أفصح المصلحين المدينيين الأوائل في القرن السادس عشر بإنجلترا، بفساد رجال الدين وطلب أسقف أيلي من ولزى منعه، منح ولزى لاتيمر ترخيصاً بالوعظ في أي كنيسة بالبلاد.

ص: 76

ورسم الكاردينال خطة ذكية لإصلاح الكنيسة. وفي رواية لأسقف برنت أنه كان يحتقر رجال الدين وبخاصة

الرهبان الذين لا يؤدون خدمة للكنيسة أو الدولة، ولكنهم بسبب حياتهم الفاضحة وصمة عار في جبين الكنيسة وحملاً على الدولة. ومن ثم قرر أن يوقف عدداً منهم ويحولهم إلى مؤسسة أخرى (46). ولم يكن إغلاق دير لا يؤدي وظيفته على ما يرام بالأمر الذي لم يسمع به من قبل، فقد حدث في كثير من الحالات قبل ولزى بأمر صدر من الكنيسة. وبدأ (1519) بإصدار تشريعات لإصلاح القوانين الكنسية نموذجية للغاية. وفوض كاتم سره توماس كرومويل في زيارة الأديار بنفسه أو بواسطة وكلاء له وأن يقدم له تقارير عن الأحوال الموجودة، وأتاحت هذه الجولات التفتيشية مهارة متمرسة لكرومويل في تنفيذ أوامر هنري فيما بعد بتقصي الحياة في الأديار بإنجلترا بشدة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من قسوة هؤلاء الوكلاء ومن تلقيهم "الهدايا" أو أخذها كرها، وعن مشاطرتهما كرومويل والكاردينال (47) في هذه الهدايا. وحصل ولزى عام 1524 على إذن من البابا كليمنت السابع بإغلاق الأديار التي تضم أقل من سبعة نزلاء وإنفاق دخول هذه الممتلكات على إنشاء كليات. وشعر بالسعادة عندما مكنته هذه الأموال من فتح كلية في موطنه ابسويتش وأخرى في أكسفورد وراوده الأمل في أن يستمر على هذا المنوال فيغلق المزيد من الأديار عاماً بعد عام ويستبدل بها كليات (48). إلا أن نياته الطيبة ضاعت في غمرات السياسة، وكانت أعظم نتيجة لإصلاحاته المتعلقة بالأديار هي أنه زود هنري بسابقة جديرة بالإجلال لخطة أبعد مدى، وتدر ربحاً أكثر.

ص: 77

وفي غضون ذلك كانت سياسة الكاردينال الخارجية قد أدت إلى نتيجة تدعو إلى الأسى. ولعله سمح لإنجلترا بالانضمام إلى شارل في حربه مع فرنسا (1522) لأنه كان يسعى إلى الحصول على تأييد الإمبراطور لترشيحه للبابوية (1521). ومنيت الحملات الإنجليزية بالفشل وتكلفت أموالاً طائلة، وأزهقت فيها أرواح كثيرة.

ودعا ولزى (1523) أول مجلس نيابي في سبع سنوات، لتمويل الجهود الجديدة وصدمه بطلب إعانة مالية لم يسبق لها مثيل قدرها 800. 005 جنيه - أي خمس ما يملكه كل علماني. واحتج أعضاء مجلس العموم ثم صوتوا على سبع فقط، واحتج رجال الدين بيد أنهم سلموا دخل نصف عام من كل الصدقات. وعندما وصلت الأنباء بأن جيش شارل قد تغلب على الفرنسيين في بافيا (1525) وأخذ فرانسيس أسيراً. رأى هنري وولزى أن من الحكمة أن يسهما في تقطيع أوصال فرنسا الذي يوشك أن يحدث. ووضعت خطة للقيام بغزو جديد واقتضى الأمر تدبير المزيد من الأموال وخاطر ولزى بآخر ما تبقى له من شعبية، بأن طلب من كل الإنجليز الذين يتجاوز دخلهم 50 جنيهاً (500 دولار) أن يسهموا بسدس أموالهم في "هبة ودية"، لمتابعة الحرب والوصول بها إلى غاية مجيدة، "ودعونا نتبرع ودياً حتى نمنع شارل من ابتلاع فرنسا بأسرها".

وقوبل الطلب بمقاومة انتشرت على نطاق واسع اضطر ولزى إلى أن يتحول إلى وضع برنامج للسلام. ووقعت معاهدة للدفاع المتبادل مع فرنسا كمحاولة أخرى لاستعادة توازن القوى

ولكن جنود الإمبراطور استولوا عام 1527 على روما وأسروا البابا وبدا أن شارل

ص: 78

قد أصبح وقت ذاك سيد القارة الذي لا يقهر، وقضى على سياسة ولزى القائمة على الصد والتوازن. وانضمت إنجلترا إلى فرنسا عام 1528، في الحرب ضد شارل.

وكان شارل ابن أخي كاثرين الأراجونية التي كان هنري شديد الرغبة في الطلاق منها، وكان كليمنت السابع، الذي يستطيع أن يمنحه لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة، أسيراً لشارل بشخصه وسياسته.

‌4 - طلاق الملك

جاءت كاترين الأراجونية، ابنة فرديناند وإيزابلا إلى إنجلترا عام 1501، وكانت في السادسة عشرة من عمرها وتزوجت (14 نوفمبر) من آرثر البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وهو أكبر أبناء هنري السابع. ومات آرثر في اليوم الثاني من أبريل عام 1502 وكان المفروض بوجه عام أن الزوج ذد دخل بزوجته. ومن ثم أرسل السفير الأسباني قياماً بالواجب "أدلة" إلى فرديناند، ولم ينتقل لقب أرثر، أمير ويلز رسمياً إلى شقيقه الأصغر هنري إلا بعد مرور شهرين على وفاة آرثر (49). ولكن كاثرين أنكرت أن زوجها دخل بها. وقد أحضرت معها صداقاً قدره 200. 000 دوكات (5. 000. 000 دولار) وكره هنري السابع أن يدع كاثرين تعود إلى أسبانيا ومعها هذه الدوكات، وتلهف على أن يجدد مصاهرته لفرديناند القوي فاقترح أن تتزوج كاثرين من الأمير هنري على الرغم من أنها كانت تكبر الصبي بست سنوات. وكانت هناك آية في الكتاب المقدس (سفر اللاويين إصحاح 20: آية 21) تحرم هذا الزواج:

ص: 79

"وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة

يكونان عقيمين" ومهما يكن من أمر فإن هناك آية أخرى تنص على خلاف ذلك: "إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم وليس له ابن

أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة". (سفر التثنية: إصحاح 25 آية 5). واستنكر كبير الأساقفة وارهام الزواج المقترح ودافع عنه الأسقف فوكس الونشستري إذا أمكن الحصول على محلل من البابا للمانع من المصاهرة. وطلب هنري السابع الحصول على المحلل. فمنحه له البابا يوليوس (1503) وجادل بعض خبراء القانون الكنسي في حق البابا في التحلل من مبدأ نص عليه الكتاب المقدس (50) وأكد البعض حقه في هذا، أما يوليوس نفسه فقد راودته بعض الشكوك (51). وأعلنت رسمياً الخطبة، وهي في الواقع زواج شرعي - عام 1503، ولما كان العريس لا يزال في الثانية عشرة من عمره فحسب فقد أجلت المعاشرة. وفي عام 1505 طلب الأمير هنري إعلان بطلان الزواج، لأن أباه أكرهه (52) عليه ولكنه أقنع بصحة الزواج على أساس أنه مصلحة إنجلترا.

وفي عام 1509، وبعد ستة أسابيع من ارتقائه العرش احتفل علناً بالزواج. وبعد سبعة شهور (31 يناير سنة 1510) أنجبت كاثرين أول طفل لها، وقد مات عند الولادة. وأنجبت بعد ذلك بعام ابناً وابتهج هنري بولادة وريث ذكر يصل به سلسلة نسب تيودور، ولكن الطفل مات بعد بضعة أسابيع وسقط ابن ثان وثالث بعد الولادة مباشرة (1513 و 1514). وبدأ هنري يفكر في الطلاق. أو بعبارة أدق في إعلان بطلان الزواج باعتباره غير صحيح. وحاولت كاثرين المسكينة مرة أخرى وفي عام 1516 أنجبت طفلة قدر لها أن تكون الملكة ماري. وأذعن هنري وقال لنفسه:"إذا كانت هذه المرة ابنة فإن الأبناء سوف يجيئون بعدها (53) "

ص: 80

بفضل الله ومنه. وفي عام 1518 أنجبت كاثرين ابناً آخر ولد ميتاً. واشتدت خيبة أمل الملك والبلاد لأن ماري البالغة من العمر عامين، كانت قد خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وإذا لم يرزق هنري بولد فإن ماري سوف ترث العرش الإنجليزي، وعندما يصبح زوجها ملكاً على فرنسا فإنه سيكون في الواقع ملكاً على إنجلترا أيضاً، وتصبح بريطانيا مقاطعة تابعة لفرنسا، وكان دوقات نورفولك وبكنجهام تداعبهم الآمال في أن يزيحوا ماري ويضمنوا التاج لأنفسهم، وأطلق بكنجهام لسانه فاتهم بخيانة البلاد وقطع رأسه (1521)، وعبر هنري عن خوفه من أن يكون حرمانه من إنجاب ولد عقاباً من الله لأنه استخدم محللاً بابوياً (54) من وصية واردة في الكتاب المقدس. وأقسم ليقودن حملة صليبية ضد الأتراك إذا أنجبت له الملكة ولداً. غير أن كاثرين لم تحمل بعد ذلك. وما أن حل عام 1525 حتى تخلى عن كل أمل في الحصول على ذرية أخرى منها.

وكان هنري منذ أمد بعيد قد فقد الميل إليها باعتبارها أنثى. وكان وقتذاك في الرابعة والثلاثين، أي في عنفوان الرجولة الفتية، وكانت في الأربعين وتبدو أكبر من سنها. ولم تكن قط مغرية، والحق أن مرضها المتكرر، أو ما صادفها من سوء الحظ، قد شوه جسدها وأضفى إلى روحها قتامة، وكانت تبز النساء بثقافتها ودماثتها ولكن الأزواج قلما يرون أن التضلع في العلم خصلة محمودة في الزوجة. وكانت زوجة صالحة مخلصة، تحب زوجها حباً لا يفوقه إلا حبها لإسبانيا. وكانت ترى نفسها باعتبارها - وكانت كذلك لفترة ما - سفيرة لإسبانيا وكانت ترى أن إنجلترا يجب أن تقف دائما في صف فرديناند أو شارل. وفي حوالي عام 1518 اتخذ هنري أول حظية له عرفها بعد الزواج وهي اليزابيث بلاوتد شقيقة مونتجوي صديق أرازموس، وأنجبت له ابناً عام 1519 وأنعم هنري على الصبي بلقب

ص: 81

دوق رتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة الهرش عليه. وفي عام 1524 اتخذ حظية أخرى، هي ماري بولين (55)، والحق أن سير جورج ثروكمورتون اتهمه في وجهه بالزنا مع أم ماري أيضاً (56). وكان هناك قانون غير مكتوب في ذلك العهد ينص على أن الملك إذا ما تزوج لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة ولم يكن ذلك باختياره، فإن له الحق في أن ينشد خارج الزواج الغرام الذي فقده في المخدع الشرعي.

وفي عام 1527 أو قبله حول هنري فتنته إلى آن شقيقة ماري. وكان والدهما سير توماس بولين، تاجراً دبلوماسياً حظي منذ وقت طويل بعطف الملك، أما أمهما فكانت من آل هوارد، وهي ابنة الدوق نورفولك. وأرسلت آن إلى باريس لإتمام دراستها فيها، وهناك عينت وصيفة للملكة كلود ثم لمرجريت دي نافار، ولعلها تشربت منها بعض النوازع البروتستانتية. وكان في وسع هنري أن يراها فتاة طروباً في الثالثة عشرة من عمرها في ميدان كلوث أف جولد، وعندما عادت إلى إنجلترا وهي في الخامسة عشرة من عمرها (1522) أصبحت وصيفة للملكة كاثرين. ولم تكن رائعة الجمال، وكانت قصيرة القامة لها بشرة قاتمة وفم واسع ورقبة طويلة، ولكنها خلبت لب هنري وآخرين غيره بعينيها السوداويين البراقتين وشعرها البني المسترسل ورشاقتها وذكائها ومرحها. وكان لها بعض العشاق المولهين بها، ومنهم توماس ويات الشاعر، وهنري برسي، الذي اصبح فيما بعد أيرل نور ثمبرلاند، واتهمها أعداؤها فيما بعد بأنها كانت متزوجة في السر من برسي قبل أن تضع أنظارها على الملك، إلا أن الدليل لم يكن قاطعا (57). ولا نعرف متى بدأ هنري يطارحها الغرام وأقدم رسائل الحب الباقية التي كتبها لها ترجع فيما يرجح إلى يوليه عام 1527.

ما هي العلاقة بين هذه القصة الغرامية والتماس هنري الحكم ببطلان

ص: 82

زواجه؟ مما لا جدال فيه أنه قد فكر في هذا الأمر في وقت يرجع إلى عام 1514 عندما كانت آن فتاة في السابعة من عمرها. ويبدو أنه طرح الفكرة جانباً حتى عام 1524، عندما كف عن مباشرة علاقاته الزوجية مع كاثرين، وفقاً لروايته (58). وأقدم إجراءات سجلت ببطلان الزواج اتخذت في مارس عام 1527، بعد تعرف هنري بآن بوقت طويل، وفي الوقت الذي حلت فيه محل شقيقتها في أحضان الملك، والظاهر أن ولزى كان لا يعلم شيئاً عن أي نية للملك في الزواج من آن عندما ذهب في يوليو عام 1527 إلى فرنسا لإعداد العدة للزواج بين هنري ورينيه، ابنة لويس الثاني عشر التي سرعان ما أثارت حركة بروتستانتية في إيطاليا. وأول إشارة لما انتواه هنري وردت في خطاب أرسله يوم 16 أغسطس سنة 1527 السفير الإسباني إلى شارل الخامس يبلغه فيه أن هناك اعتقاداً عاماً في لندن بان الملك إذا حصل على "طلاق" فإنه سوف يتزوج "إبنة سير توماس بولين (59) " ولم يكن هذا يعني ماري بولين لأن هنري وآن كانا يعيشان في شقتين متجاورتين تحت نفس القف في جرينوتش (60) عند حلول نهاية عام 1527. وقد نستنتج من هذا أن هنري سارع بطلب بطلان الزواج على الرغم من أنه يصعب أن يقال إن السبب في ذلك هو افتتانه بآن. وكان السبب الأساسي رغبته في الحصول على ولد يمكن أن ينقل إليه العرش مع شيء من الثقة في خلافة هادئة. وكانت إنجلترا بأسرها تشاطره ذلك الأمل. وتذكر الناس في فزع السنوات العديدة (1454 - 85) التي نشبت فيها الحرب بين بيتيورك ولانكاستر على التاج، ولك يكن قد مضى على ظهور أسرة تيودور غير اثنين وأربعين عاماً في سنة 1527، وكان حقها قي العرش مشكوكاً فيه، ولم يكن في وسع أحد أن يصل حبل الأسرة الحاكمة دون منازع إلا ولد شرعي ينحدر مباشرة من صلب الملك، ولو لم يلتقِ هنري قط بآن بولين فإنه كان قميناً

ص: 83

بأن يرغب في الحصول على طلاق وزوجة ولود بصورة مقبولة. ولا شك أنه يستحق هذا.

واتفق ولزى مع الملك في هذا الموضوع وأكد له أنه يمكن الحصول على قرار من البابا ببطلان الزواج، وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا الانفصال أمر مقبول بوجه عام، كإجراء حكيم لتلبية مثل هذه الضرورات الوطنية تماماً، ويمكن تقديم سوابق كثيرة. بيد أن تقدير الكاردينال المشغول لم يعمل حساباً لتطويرين بغيضين: فهنري لم يكن يريد رينيه بل كان يريد آن وبطلان الزواج سوف يصدر من بابا، كان عندما وصلته المشكلة، أسيراً لإمبراطور، كان لديه أكثر من سبب لمناصبة هنري العداء، وربما كان شارل حرياً بأن يعارض بطلان هذا الزواج ما دامت عمته تقاومه، وكان يعارض أكثر لو عقد زواج جديد، كما دير ولزى، بربط إنجلترا بحلف قوي مع فرنسا. ولم يكن السبب الأولي للإصلاح الديني الإنجليزي هو جمال آن بولين الصاعد، بل الرفض العنيد الذي بدا من كاثرين وشارل في إدراك عدالة رغبة هنري في الحصول على ولد. واشتركت الملكة الكاثوليكية مع الإمبراطور الكاثوليكي والبابا الأسير في انفصال إنجلترا عن الكنيسة. ولكن السبب النهائي للإصلاح الديني الإنجليزي لم يكن طلب هنري بطلان الزواج بقدر ما كان من ارتفاع شأن الملكية الإنجليزية وبلوغها درجة من القوة جعلتها قادرة على أن ترفض التسليم بسلطة البابا في التدخل في شئون انجلترا، وتحكمه في مواردها.

وأكد هنري أن رغبته العارمة في الحصول على بطلان الزواج إنما دعا إليها جبربيل دي جرامون الذي أقبل إلى إنجلترا في فبراير عام 1527 لمناقشة الزواج المقترح بين الأميرة ماري والأسرة الملكية الفرنسية. فقد أثار جرامون، كما يروي هنري، سؤالاً عن شرعية بنوة ماري،

ص: 84

على أساس أن زواج هنري بكاثرين قد يكون غير صحيح باعتباره مخالفة لأحد نواهي الكتاب المقدس ولا يستطيع البابا أن يمحوها. ظن البعض أن هنري لفق القصة (61)، ولكن ولزى رددها وأبلغت إلى الحكومة الفرنسية (1528)، ولم ينكرها، بقدر ما هو معروف جرامون، وجاهد جرامون لإقناع كليمنت بأن طلب هنري بطلان الزواج أمر عادل، وأبلغ شارل سفيره في إنجلترا (29 يوليو سنة 1527) أنه كان ينصح كليمنت برفض التماس هنري.

وبينما كان ولزى في فرنسا ابلغ على وجه التحديد بأن هنري لا يرغب في الزواج من رينيه بل يريد الزواج من آن. واستمر يعمل للحصول على البطلان، ولكنه لم يخفِ اكتئابه بسبب اختيار هنري. وتجاوز الملك حاجبه في خريف عام 1527، وبعث بكاتم سره وليام نايت لتقديم ملتمسين للبابا الأسير، الأول يتضمن أن كليمنت، إذ يتعرف على صحة زواج هنري الذي تكتنفه الشكوك وافتقاره إلى ذرية من الذكور وكراهية كاثرين للطلاق، يجب أن يسمح لهنري بالاحتفاظ بزوجتين. وأصدر الملك أمراً في آخر لحظة أثنى نايت عن تقديم هذا الاقتراح، وكانت جرأة هنري قد خمدت ولابد أنه ذهل، عندما تلقى، بعد ثلاث سنوات، خطاباً من جيوفاني كاسالي أحد وكلائه في روما، مؤرخاً في 18 سبتمبر سنة 1530 يقول فيه:"منذ بضعة أيام اقترح على البابا سراً أن يأذن لجلالتك باتخاذ زوجتين (62) ". وكان ملتمس هنري الثاني لا يقل غرابة، على البابا أن يمنحه محللاً للزواج من امرأة كان للملك علاقات جنسية مع أختها (63). ووافق البابا على هذا بشرط أن يعلن بطلان الزواج بكاثرين إلا أنه لم يكن على استعداد لإعلان بطلان هذا الزواج. وكان كليمنت لا يخشى شارل فحسب بل كان ينفر من القاعدة التي تقضي بأن أحد

ص: 85

البابوات السابقين قد ارتكب خطأ جسيماً بإعلان صحة الزواج. وتلقى في نهاية عام 1527 ملتمساً ثالثاً - بأنه يجب أن يعين ولزى قاصداً رسولياً آخر لعقد محكمة في إنجلترا تسمع الدليل وتحكم بصحة زواج هنري بكاثرين. وأذعن كليمنت (13 أبريل سنة 1528)، وعين الكاردينال كامبيجيو لعقد جلسة مع ولزي في لندن ووعد - في منشور بابوي لا يطلع عليه سوى ولزى وهنري - أن يؤيد أي قرار يتخذه المندوبان البابويان (64). وربما كان لانضمام هنري إلى فرانسيس (يناير سنة 1528) في إعلان الحرب على شارل وتعهدهما بتحرير البابا قد أثر في إذعان البابا.

واحتج شارل وأرسل إلى كيمنت نسخة من وثيقة ادعى أنها وجدت في المحفوظات الأسبانيّة، وفيها أكد يوليوس الثاني صحة المحلل الذي اقترح هنري وولزى بطلانه. وتعجل البابا، وهو لا يدر يما يفعل ولا يزال أسيراً لشارل، فأرسل تعليمات إلى كامبيجو بألا ينطق بحكم قبل أن يحصل على تفويض صريح من الآن فصاعداً

فإذا ألحق بالإمبراطور ضرر كبير، فإن كل أمل في السلام العالمي يكون قد تبدد ولا تستطيع الكنيسة أن تنجو من الخراب التام لأنها تخضع خضوعاً كاملاً لسلطات أتباع الإمبراطور

أجل بقدر الإمكان (65").

وعند وصول كامبيجو إلى إنجلترا (أكتوبر سنة 1528) حاول أن يحصل على موافقة كثرين بالاعتزال في دير للراهبات، فوافقت بشرط أن يحلف هنري أيمان الرهبان. ولكن لم تكن هناك أمور أبعد عن ذهن هنري من الفقر والخضوع والعفة، ومهما يكن من أمر فإنه اقترح أن يحلف هذا الأيمان إذا وعد البابا يحله منها عند الطلب ورفض كامبيجيو أن ينقل هذا الاقتراح إلى البابا وأبلغه بدلاً من ذلك (فبراير سنة 1529) بعزم الملك على الزواج من آن. وكتب يقول: "إن هذه العاطفة أمر خارق للعادة أنه لا يرى شيئاً ولا يفكر في شيء سوى حبيبته آن، إنه

ص: 86

لا يستطيع أن يستغني عنها ساعة واحدة. وإني لأشعر بالإشفاق عليه عندما أرى أن حياة الملك واستقرار وسقوط البلاد بأسرها تتوقف على هذه المسألة وحدها (66) ".

وحدثت تغيرات في الموقف الحربي جعلت البابا يتحول أكثر فأكثر ضد اقتراح هنري. وفشل الجيش الفرنسي، الذي كان هنري قد ساعده بتمويله، في حملته الإيطالية، وترك البابا في حالة اعتماد كلي على الإمبراطور. وطردت فلورنسا حكامها من آل مديتشي - وكان كليمنت مخلصاً لتلك العائلة مثله في ذلك مثل شارل الذي كان مخلصاً لآل هابسبورج.

وانتهزت (فينيسيا) البندقية فرصة عجز البابا لكي تنتزع رافتا من الولايات البابوية، فمن كان وقتذاك يستطيع أن ينقذ البابوية سوى آسرها؟ وقال كليمنت "لقد استقر رأيي تماماً على أن أصبح من أنصار النظام الإمبراطوري، وسوف أعيش وأموت وأنا متمسك بهذا الرأي (67) ". ووقع في التاسع والعشرين من يونيه معاهدة برشلونة، وبمقتضاها وعد شارل بإعادة فلورنسا لآل مديتشي ورافنا للبابوية والحرية لكليمنت، ولكن على شريطة ألا يوافق كليمن مطلقاً على بطلان زواج كاترين إلا برضا كاترين وإرادتها الحرة.

ووقع فرانسيس الأول في الخامس من أغسطس معاهدة كامبراي التي سلمت في الواقع إيطاليا والبابا للإمبراطور.

وفي 31 مايو افتتح كامبيجيو مع ولزى المحكمة المختصة بالقاصد الرسولي للنظر في الالتماس المقدم من هنري، بعد أن أجل افتتاحها لأطول مدة ممكنة. واستغاثت كاترين بروما، وأبت أن تعترف باختصاص المحكمة. ومهما يكن من أمر فإن كلاً من الملك والملكة حضرا يوم 31 يونيه.

ص: 87

وخرت كاترين على ركبتيها أمامه وتوسلت إليه بكلمات مؤثرة أن يستأنفا حياتهما الزوجية. وذكرته بأعمالها الكثيرة وإخلاصها التام، وصبرها على لهوه خارج الأسوار، وأقسمت أن الله يشهد على أنها كانت عذراء عندما تزوجها هنري، وتساءلت أي شيء صنعته أساءت به إليه (68)؟ فأنهضها هنري وأكد لها أنه لم يكن هناك ما يتمناه بحماسة أكثر التوفيق في زواجهما وأوضح لها أن الأسباب التي حملته على طلب الانفصال ليست شخصية، بل أملتها عليه مصلحة الأسرة المالكة والأمة. ورفض استغاثتها بروما على أساس أن الإمبراطور يسيطر على البابا، فانسحبت وهي تبكي، ورفضت أن تشترك بعد ذلك في الإجراءات القضائية. وتكلم الأسقف فيشر مدافعاً عنها ومن ثم اكتسب عداوة الملك. وطالب هنري بصدور قرار من المحكمة وتحايل كامبيجيو على المماطلة في إصدار الحكم وأخيراً (23 يوليو سنة 1529) أجل المحكمة إلى العطلة الصيفية. وألغى كليمنت القضية وحولها إلى روما لكي يجعل التردد أشد حسماً.

واستشاط هنري غضباً وشعر بأن كاترين عنيدة بصورة غير معقولة، فرفض أن تربطه بها أية علاقة بعد ذلك، وأخذ يقضي ساعات لهوه علناً مع آن وربما ترجع إلى هذه الفترة معظم رسائل الحب السبع عشرة التي نقلها كامبيجيو سراً من إنجلترا (69) والتي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان بين ذخائرها الأدبية. ويبدو أن آن المجربة التي خبرت أساليب معاملة الرجال والملوك لم تمنحه إلا تشجيعاً ودغدغة تثير عواطفه، وشكت وقتذاك من أن شبابها يضيع في الوقت الذي يتوانى فيه الكرادلة الذين لم يستطيعوا أن يدركوا رغبة عذراء في الظفر برجل ميسور عن اعتراف بحق هنري في أن يتوج الرغبة برباط الزواج. ولامت ولزى لأنه لم يتعجل البت في طلب هنري بعزم أشد وبلاغ أسرع، وشاركها الملك استياءها.

ص: 88

وقد بذل ولزى كل ما في وسعه وإن كان يعارض الأمر بكل جوارحه. وكان قد ارسل بالمال إلى روما لرشوة الكرادلة (70) ولكن شارل كان قد أرسل بدوره مالاً وجيشاً علاوة على هذا. بل إن الكردينال كان قد أغضى عن فكرة التزوج من اثنتين (71) كما فعل لوثر بعد بضع سنوات. ومع ذلك عرف ولزى أن آن وأقرباءها من ذوي النفوذ يقومون بمناورة لإسقاطه. وحاول أن يهدئ من تأثيرها بالأطعمة اللذيذة والهدايا الثمينة، غير أن عداءها كان يزداد كلما طال العهد على إصدار قرار ببطلان الزواج. وتحدث عنها فقال:"إنها العدو الذي لم تكتحل عيناه قط بالنوم، ولم يكف عن الدرس والتصور معاً، في النوم واليقظة على السواء، للقضاء المبرم عليه (72) ". وتنبأ بأن البطلان لو منح فغن آن سوف تصبح ملكة وتقضي عليه، وأنه لو لم يمنح ذلك القرار فإن هنري سوف يستغني عنه باعتباره رجلاً فاشلاً. ويطلب محاسبته على ادارته، حساباً مالياً دقيقاً مفصلاً.

وكان لدى الملك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن حاجبه، فقد فشلت السياسة الخارجية وأثبتت أن التحول من صداقة شارل إلى الحلف مع فرنسا قد أدى إلى عواقب وخيمة.

ولم يكن في إنجلترا وقتذاك أمرؤ يقول كلمة طيبة في صالح الكاردينال الذي تمتع يوماً بسلطة مطلقة، فقد كان رجال الدين يكرهونه بسبب حكمه المطلق، وكان الرهبان يخشون أن يشهدوا مزيداً من حل الأديار، والعامة يبغضونه لأنه أخذ أبناءهم وأموالهم لشن حروب لا طائل من ورائها، والتجار يمقتونه لأن الحرب مع شارل عاقت تجارتهم مع الفلاندرز، والأشراف يكرهونه بسبب ما انتزعه منهم ظلماً، ولكبريائه

ص: 89

الطارئة وثروته التي تضاعفت سريعاً. وأبلغ بعض الأشراف السفير الفرنسي (17 أكتوبر سنة 1525) بقولهم انهم "ينوون" عندما يموت ولزى أو يقضى عليه أن يتخلصوا من الكنيسة ويتلقوا أموال الكنيسة وولزى معاً (73). واقترح القماشون في كنت أن يوضع الكاردينال في قارب يتسرب منه الماء، ويترك لتتقاذفه الأمواج في البحر (74).

وكان هنري أشد دهاء. وفي اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1529 أصدر أحد وكلائه أمراً قضائياً باستدعاء ولزى للمثول أمام قضاة الملك، للرد على اتهام بأن أعماله كقاصد رسولي قد خالفت قانون الخضوع لسلطة التاج (1392)، الذي يقضي بمصادرة أموال أي إنجليزي يأتي بالكتب البابوية إلى إنجلترا. ولم يختلف الموقف لأن ولزى كان قد كفل سلطة القاصد الرسولي بناء على طلب الملك (75)، وأنه استخدمها بخاصة لصالح الملك. وادرك ولزى أن قضاة الملك سوف يدينونه فأرسل إلى هنري امتثالاً ذليلاً، يعترف بفشله ويلتمس أن يتذكر الملك أيضاً خدماته وآيات ولائه. ثم غادر لندن في نقالة مائية سارت في نهر التيمس. وتلقى في بوتنى رسالة رقيقة من الملك. وجثا على الطين في شكر بائس وحمد الله. واستولى هنري على المحتويات الثمينة في قصر كاردينال في هويتهول إلا أنه سمح له بالاحتفاظ بمنصب رئيس أساقفة يورك وبأموال شخصية تكفي احتياجات 160 جواداً تجر 72 عربة إلى مقره الأسقفي (76). وخلف الدوق نورفولك ولزى في رئاسة الوزارة وخلفه مور في منصب الحاجب (نوفمبر سنة 1529).

واقبل الكاردينال الذي جرد من سلطاته، على عمله، كبير أساقفة، في ورع ومثالية، وأخذ يزور أبرشياته بانتظام ويدبر ترميم الكنائس،

ص: 90

ويعمل قاضياً موثوقاً به للتحكيم. وتساءل رحل من يوركشاير: "مَن كان أقل نصيباً من الحب في الشمال من مولاي الكاردينال قبل أن يعيش بينهم؟ ومَن كان محبوباً أكثر بعد أن عاش هناك فترة ما (77)؟ " بيد أن الطموح استيقظ في أعماقه مرة أخرى وسكن روعه من الموت وكتب خطابا ليوستاس شابويس سفير الإمبراطور في إنجلترا، وضاعت هذه الخطابات، بيد أن هناك تقريراً من شابويس إلى شارل ورد فيه: "لدي خطاب من طبيب الكاردينال يقول إني سيده

رأى أن على البابا أن يمضي قدماً في إجراءات لوم أشد ويستدعي الجيش العلماني (78) ". أي الحرمان من غفران الكنيسة والغزو والحرب الأهلية.

وعلم نورفولك بهذه الرسائل المتبادلة وقبض على طبيب ولزى وانتزع منه، بوسائل لم تعرف على وجه التحقيق، اعترافاً بأن الكاردينال قد أشار على البابا بحرمان الملك من غفران الكنيسة. ولا نعرف هل كان السفير أو الدوق هو الذي ابلغ صدقاً عن الطبيب، أو هل كان الطبيب هو الذي ابلغ حقاً عن الكاردينال، وعلى أية حال فإن هنري أو الدوق أمر بالقبض على ولزى.

واستسلم في هدوء (4 نوفمبر سنة 1530) وودع أسرته وانطلق إلى لندن. وأصيب في شيفلد بارك بدوزنتاريا شديدة ألزمته الفراش. وهناك اقبل جنود الملك يحملون أوامر باقتياده إلى البرج. واستأنف رحلته، ولكن بعد مضي يومين من الركوب بلغ من الضعف حداً جعل حارسه يسمح له بأن يلزم الفراش في دير ليسيستر. وغمغم أمام ضابط الملك سير وليام كنجستون بالكلمات التي نقلها كافنديش واقتبسها شكسبير "لو أنني خدمت الله بإخلاص وجد كما خدمت الملك لما أسلمني في شيخوختي (79) ". ومات ولزى بالغاً من العمر خمسة وخمسين عاماً في دير ليسيستر يوم 29 نوفمبر سنة 1530.

ص: 91

الفصل الرابع والعشرون

‌هنري الثامن وتوماس مور

‌1529 - 1535

1 -

برلمان الإصلاح الديني

في المجلس النيابي الذي اجتمع في وستمنستر يوم 3 نوفمبر سنة 1529 اتفقت الجماعتان الحاكمتان - النبلاء في المجلس، والتجار ومجلس العموم على انتهاج ثلاثة ضروب من السياسة: تخفيض ثروة رجال الكنيسة وأضعاف سلطاتهم، والمحافظة على التجارة مع الفلاندرز وتأييد الملك في حملته للحصول على وريث ذكر. ولم ينطوِ هذا الاتفاق على الرضا عن آن بولين التي كانت تواجه باستنكار عام باعتبارها مغامرة، كما أنه لم يمنع وجود تعاطف عام مع كاترين (1). أما الطبقات الدنيا، وهي عاجزة من الناحية السياسة، فكانت حتى ذلك الوقت لا توافق على الطلاق، ووقفت المقاطعات الشمالية، وهي كاثوليكية شديدة التحمس، مع البابا (2) في إخلاص. وعمل هنري على تهدئة هذه المعارضة مؤقتاً بأن ظل محافظاً في كل شيء اللهم إلا حق البابوات في الهيمنة على الكنيسة الإنكليزية.

وكانت الروح القومية، وهي في إنجلترا وهي في إنجلترا أقوى منها في ألمانيا، تقف في تلك المسألة إلى جانب الملك، وعلى الرغم من فزع رجل الدين من تصور أن يكون هنري سيداً لهم فإنهم لم ينفروا من الاستقلال عن بابوية لا شبهة في خضوعها لسلطة أجنبية.

ونشر سيمون فش حوالي عام 1518 كتيباً من ست صفحات، قرأه هنري، دون أن يبدي احتجاجً فيما نعلم، وقرأه كثيرون بابتهاج

ص: 92

صادق، وأطلق عليه اسم "ابتهال الشحاذين" وطالب الملك بمصادرة ثروة الكنيسة الإنجليزية كلها أو جانب منها:

" في العهود الخوالي لأسلافك النبلاء (هناك) تسلل في دهاء إلى مملكتك

شحاذون وأفاقون مقدسون ومتبطلون

أساقفة ورؤساء أديار وشمامسة ورؤساء شمامسة ومعاونو أساقفة وقساوسة ورهبان ورجال دين وكهنة رهبان وبائعو صكوك غفران ومحضرون. ومَن يستطيع أن يحصي هذا الضرب المتبطل المخرب الذي (طرح كل عمل جانباً) ألح في السؤال إلحاحاً شديداً إلى حد أنهم حصلوا في أيديهم على أكثر من ثلث مملكتك بأسرها؟ إن أعظم المقاطعات واجمل الدور والأراضي والأقاليم ملك لهم، وكان لهم إلى جانب هذا عشر محصول الغلة والمراعي والمروج والكلأ والصوف والمهور والعجول والجملان والخنازير والأوز والدجاج

أي نعم وإنهم ليتطلعون في حرص شديد إلى أرباحهم إلى حد أن الزوجات المسكينات لابد وأن يكن مطالبات بأن يحسبن عشر كل بيضة وإلا فإن الزوجة لن تحصل على حقوقها في عيد الفصح

بأن يحسبن ومن التي تشرع في العمل مقابل ثلاثة بنسات في اليوم إذا كان في وسعها أن تحصل على عشرين بنساً على الأقل في اليوم لقاء نومها ساعة مع أخ أو راهب أو قس (3)

ولعل النبلاء والتجار قد رأوا أن هناك شيئاً من المبالغة في هذا الاتهام، بيد أنهم اعتقدوا أنه يؤدي إلى نتيجة سارة - وهي إضفاء الصبغة العلمانية على أملاك الكنيسة. وكتب السفير الفرنسي جان دي بلاي "إن هؤلاء السادة ينتوون

اتهام الكنيسة والتهام كل أموالها، ولا أكاد أجد نفسي في حاجة إلى تسجيل هذا بالشفرة، لأنهم يجهرون به صراحة، وأتوقع ألا يحصل القساوسة أبداً على خاتم الدولة - أي لن يكونوا على رأس الحكومة أبداً، مرة أخرى، وأنهم سوف يتعرضون في هذا المجلس

ص: 93

النيابي لمفازع هائلة (4) ". وكان ولزى قد منع هذا الهجوم على أملاك الكنيسة، بيد أن سقوطه ترك رجال الدين بلا حول لهم ولا طول، اللهم إلا ما يتمتعون به من إيمان الناس، وهو إيمان كان آخذاً في التقلص، ولعل السلطة البابوية التي كانت قنينة بأن تحميهم بهيبتها أو تحريمها أو بحلفائها كانت وقتذاك الهدف الرئيسي لسخط الملك وكرة القدم التي تتقاذفها السياسة الإمبراطوريّة، وكان العرف يقتضي موافقة المجمع الأكليروسي لرؤساء أساقفة كنتربري ويورك على كل تشريع يمس الكنيسة في إنجلترا أو تأييده. فهل كان في وسع هذا المجمع تخفيف سورة غضب الملك وكبح جماح الحركة المناهضة لرجال الدين في المجلس النيابي؟

وافتتح المعركة مجلس العموم. إذ وجه خطاباً إلى الملك يقر فيه عقيدة المحافظين، وإن انتقد رجال الدين بشدة. وهاجم "قرار الاتهام" المشهور المجمع الأكليروسي واتهمه بأنه سن القوانين، دون الحصول على موافقة الملك أو المجلس النيابي، التي تحدد حرية العلمانيين تحديداً خطيراً، وتعرضهم لتعزير شديد، وغرامات باهظة، واتهم رجال الأكليروس بأنهم أعطوا صدقات لـ "جموع من الأحداث، قالوا إنهم أبناء أخوتهم" على الرغم مما يتمتع به مثل هؤلاء المستفيدين من شباب أو جهل، واتهم المحاكم الأسقفية بأنها استغلت في جشع حقها في فرض رسوم وغرامات، وهذه المحاكم بأنها قبضت على أشخاص وسجنتهم دون أن تبين التهم الموجهة إليهم، وأنها اتهمت العلمانيين وعاقبتهم عقاباً شديداً لشبهة هرطقة طفيفة واختتمت الوثيقة بمطالبة الملك بإصلاح هذه العلل (5)، ولا شك في أن هنري الذي كان على علم بأسرار تأليف هذا الخطاب قدم نقاطه الرئيسية إلى المجمع الأكليروسي وطلب منه الرد.

ص: 94

وأقر الأساقفة وجود بعض الظلم وعزوا هذا إلى أفراد ظهروا إتفاقاً، وأكدوا تمسك محاكمهم بالعدالة، وأنهم يتأسون بالملك الورع الذي زجر لوثر في نبل عظيم، لمساعدتهم على قمع الهرطقة، ثم أخطأوا خطأً فظيعاً وأساءوا فهم المزاج الملكي فأضافوا كلمات كانت بمثابة غلان للحرب.

"ما دمنا نعلن ونتمسك بسلطتنا في سن القوانين التي تستند إلى ما في كتب الله المقدسة وما قررته الكنيسة المقدسة

فليس لنا أن نتخلى عن أعبائنا وواجباتنا، التي أمرنا بها الله على وجه التأكيد ونتركها لرضاك السامي، ومن ثم نلتمس من مراحمكم بكل خضوع

أن تحافظوا على هذه القوانين والشرائع وأن تدافعوا عنها مثلنا

وأن يعمل بتفويض من الرب إجلالاً له تعالى على دعم الفضيلة والحفاظ على عقيدة المسيح (6) ".

وعلق موضوع النزاع. ولم يواجهه هنري في الحال. وكان أول ما اهتم به هو الحصول على موافقة المجلس النيابي على طلب عجيب - أن يعفى من سداد القروض التي قدمها له رعاياه

(1)

. واحتج أعضاء مجلس العموم ثم وافقوا. وقدمت ثلاثة مشروعات أخرى بقوانين تستهدف كبح جماح سلطة رجال الأكليروس على الوصايا التي تم الإشهاد عليها وتقاضيهم رسوماً على الموتى واحتفاظهم بالصدقات المتعددة، وحظيت هذه المشروعات بقوانين بموافقة أعضاء مجلس العموم، وعارضها بشدة الأساقفة ورؤساء الأديار وأصحاب المقاعد في مجلس اللوردات، وقد عدلت، ولكنها أصبحت في جوهرها قوانين نافذة، وتأجل انعقاد المجلس النيابي إلى يوم 17 ديسمبر.

وتلقى الملك إبان صيف عام 1530 شيئاً من التشجيع الغالي، إذ اقترح توماس كرانمر، أستاذ اللاهوت في جامعة كمبردج، على هنري، أن تبدي

(1)

إن انخفاض قيمة العملة الآن يعفي الحكومات من الغلتجاء إلى مثل هذه اللصوصية الشريفة.

ص: 95

الجامعات الكبرى في أوربا رأيها في موضوع هو هل كان في وسع البابا أن يسمح لرجل بالزواج من أرملة شقيقه. وأعقب هذا الاقتراح مباراة مرحة في التنافس على الرشوة: ونثر وكلاء هنري المال للتحريض على إصدار أحكام سلبية، ولجأ وكلاء شارل إلى المال أو التهديد للحصول على ردود إيجابية (7)، وانقسمت ردود الجامعات الإيطالية، ورفضت الجامعات اللوثرية تقديم أي رد مريح للمدافع عن العقيدة، بيد أن جامعة باريس، تعرضت لضغط من فرانسيس (8) فقدمت الرد العزيز المنشود الذي كان يتلهف عليه. ووافقت جامعتا أكسفورد وكامبردج، بعد أن تسلمتا رسائل صارمة من الحكومة، على حق الملك في الحصول على قرار بطلان زواجه.

وعندما شعر بدعم مركزه إلى هذا الحد، أصدر عن طريق وكيله العام (ديسمبر سنة 1530) إعلاناً بأن الحكومة تعتزم رفع دعاوى ضد كل رجال الأكليروس الذين اعترفوا بسلطة ولزى قاصداً رسولياً، وعلى أساس أنهم خالفوا قانون الولاء للتاج. وعندما عاد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي للانعقاد (16 يناير سنة 1531) أعلن وكلاء الملك وهم سعداء أن الدعاوى سوف تسحب إذا اعترفوا بأنهم مذنبون ودفعوا غرامة قدرها 118. 000 جنيه (11. 800. 000 دولار) (90). فاحتجوا بأنهم لم يرغبوا قط في أن يكون لولزى مثل هذا السلطان وأنهم لم يعترفوا به قاصداً رسولياً إلا لأن الملك قد فعل هذا بتقديم التماسه للنظر أمام محكمة ولزى وكامبيجيو. وكانوا على حق كامل بالطبع، بيد أن هنري كان في حاجة ماسة إلى المال، ووافقوا، وهم يولولون، على سداد المبلغ من موارد أبرشياتهم. واستخف الطرب الملك فطالب وقتذاك بان يعترف به رجال الأكليروس "حامياً للكنيسة ورجال الدين في إنجلترا والرئيس الأعلى الوحيد لهم" أي أن ولاءهم للبابا لابد أن ينتهي وعرضوا اثنتي عشرة مصالحة وجربوا اثنتي عشرة عبارة مبهمة، وكان هنري قاسياً لا يرحم، وأصر على أن يردوا بكلمة "نعم"

ص: 96

أو "لا". وأخيراً (10 فبراير سنة 1531) عرض رئيس الأساقفة واهرام، وكان وقتذاك في الحادية والثمانين، في تبرم، إقرار صيغة الملك وأضاف إليها عبارة فيها تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وسكت المجلس الأكليروسي، واعتبر السكوت رضاً، وأصبحت الصيغة قانوناً، وهدأت ثائرة الملك، فسمح عندئذ للأساقفة بمطاردة الهراطقة.

وتأجل اجتماع المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (30 مارس سنة 1531). وفي يوليو ترك هنري كاثرين في وندسور على ألا يراها أبداً مرة أخرى. وسرعان ما نقلت بعد ذلك إلى أمبتهل بينما أقامت الأميرة ماري في رتشموند وطالب هنري بالجواهر التي كانت قد ارتدتها كاثرين بصفتها ملكة وأعطاها لآن بولين (10) واحتج شارل الخامس لدى كليمنت الذي وجه خطاباً قصيراً للملك (25 يناير سنة 1532) يؤنبه فيه لاقترافه الزنا، ويحضه على طرد آن والاحتفاظ بكاثرين ملكة شرعية إلى أن يصدر قراراً في الالتماس المقدم منه لإعلان بطلان الزواج. وتجاهل هنري التأنيب واستمر في غرامه. وكتب حوالي هذا الوقت إحدى رسائله الرقيقة لآن:

حبيبة قلبي، أكتب لكِ هذا لأعرب عن الوحدة التي أعيش فيها هنا منذ فراقكِ، لأني أؤكد لكِ أني أرى الوقت قد أصبح منذ رحيلكِ أطول مما تعودت أن أراه مدى أسبوعين كاملين، وأعتقد أن رقتكِ وحرارة حبي هما السبب

ولكني أفكر الآن وأنا قادم إليكِ، وآلامي قد خف نصفها، في أن يتحقق أملي في أمسية خاصة بين أحضان حبيبتي التي سوف أركن قريباً إلى نهديها الجميلين وأقبلهما. كتبته يد مَن كان ولا يزال لكِ وسوف يظل معكِ على الدوام بإرادته.

ص: 97

وعندما انعقد المجلس النيابي والمجلس الأكليروسي مرة أخرى (15 يناير سنة 1532) حصل هنري من المجالس الأربعة جميعاً على تشريع آخر مناهض لرجال الأكليروس ينص على: أن رجل الدين دون درجة مساعد شماس، يجب أن يحاكموا أمام المحاكم الدينية عند اتهامهم بالخيانة العظمى، وأن الرسوم والغرامات التي تتقاضاها المحاكم الكنسية يجب أن تخفض، وأن الرسوم الكنسية على الموتى ورسوم التثبت من صحة الوصايا يجب أن تخفض أو تلغى، وأن موارد السنة الأولى لأسقف حديث التعيين يجب ألا تدفع بعد ذلك للبابا وأن تحول الأموال الإنجليزية إلى روما من أجل محللات وصكوك غفران وخدمات بابوية أخرى يجب أن يتوقف، وأرسلت إشارة ماكرة إلى المجلس البابوي بأن موارد السنة الأولى للأسقف حديث التعيين سوف ترد إلى البابا إذا أعلن بطلان الزواج بكاثرين.

وفي هذا الوقت انحازت غالبية من الأساقفة إلى الرأي القائل بأنهم لن يفقدوا شيئاً من السلطة أو الدخل إذا استقلت الكنيسة الإنجليزية عن روما. وفي مارس سنة 1532 أعلن المجلس الأكليروسي استعداده للانفصال عن البابوية: "هلا تفضلتم يا صاحب السمو بوقف أعمال الاغتصاب الظالمة المذكورة

وإذا اتخذ البابا إجراء ضد هذه المملكة للحصول على موارد السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين

فلتتفضلوا سموكم بسن قانون من المجلس النيابي الحالي بسحب طاعة سموكم والشعب للكرسي البابوي في روما (12)". وفي 15 مايو قدم المجلس الأكليروسي تعهداً للملك بتقديم كل تشريع تال له إلى لجنة - نصفها من العلمانيين والنصف الثاني من رجال الأكليروس - لها الحق في الاعتراض على أي قوانين ترى أنها ضارة بالمملكة. وهكذا ولدت كنيسة إنجلترا في هذا "الإصلاح النيابي" الأسقفي وهذا المجلس الأكليروسي وأصبحت عضواً للدولة وتابعة لها.

ص: 98

وفي 16 مايو استقال توماس مور من منصب الحجابة بعد أن فشل في الوقوف أمام التيار المناهض لرجال الأكليروس وانسحب إلى بيته. ومات رئيس الأساقفة واهرام في أغسطس بعد أن أملى وهو على فراش الموت رسالة أبدى فيها رفضه لخضوع الملجلس الأكليروسي للملك. واستبدل هنري بتوماس مور توماس أودلي، وبواهرام، توماس كرانمر. ومضت الثورة قدماً. وأجاز المجلس النيابي "قانون الاستئناف" وبمقتضاه كان كل نزاع أرسل سابقاً إلى روما للفصل فيه يحسم "في المحاكم الروحية والزمنية داخل المملكة دون اعتبار، لأي منع أو حرمان من غفران الكنيسة أو تحريم يصدر من جهة أجنبية (13) ".

وفي 15 يناير سنة 1533 تزوج هنري من آن التي كانت حاملاً منذ أربعة شهور (14). وكان لدى الملك وقتذاك أسباب ملحة لإعلان بطلان زواجه من كاثرين، ولما كان قد بعث بطلب آخر للبابا دون أن يؤدي إلى نتيجة، فقد حصل من المجلس الأكليروسي على موافقة على "طلاقه"(أبريل سنة 1533) وفي 23 مايو أعلن كرانمر بصفته رئيس أساقفة كنتربري أن الزواج بكاثرين مخالف للشريعة وباطل، وفي 28 مايو أعلن أن آن زوجة شرعية لهنري، وركبت آن بعد ثلاثة أيام وهي ترتدي الديباج وتتزين بالجواهر لكي تتوج ملكة لإنجلترا في احتفال ملكي مهيب، وضعت تصميمه التقاليد وهانز هولبين الصغير. ولاحظت وسط مظاهر الابتهاج صمت الجماهير الدال على الاستنكار، ولعلها تساءلت إلى متى يحمل رأسها القلق التاج؟.

وأعلن البابا كليمنت بطلان الزواج الجديد، وأن الأولاد الذين سيكونون ثمرة له غير شرعيين، وحرم الملك من غفران الكنيسة (22 يوليو سنة 1533).

ص: 99

وولدت اليزابث يوم 7 سبتمبر وأبلغ سفير شارل مولاه أن حظية الملك أنجبت ابنة سفاح (15).

واستأنف المجلس النيابي الذي كان قد أجل يوم 4 مايو جلساته في 15 يناير سنة 1534. وكانت موارد الأساقفة الجدد في السنة الأولى والموارد البابوية الأخرى قد خصصت نهائياً وقتذاك للتاج، وأصبح تعيين الأساقفة امتيازاً للملك من الناحية القانونية، كما جرى العمل به فعلاً. ونقلت دعاوى الاتهام بالهرطقة من القضاء الكنسي إلى القضاء المدني.

وفي عام 1533 أذاعت اليزابث بارتون وهي راهبة من كنت أنها تلقت أوامر من الرب بإدانة الزواج الثاني للملك، وأنها قد سمح لها برؤية المكان الذي يعد إستقبال هنري في الجحيم. وعرضتها المحكمة الملكية لاختبار قاس، وانتزعت منها اعترافاً بأن رؤاها الإلهية كانت إفكاً وخداعاً، وأنها سمحت لآخرين باستخدامها في مؤامرة للإطاحة بالملك (16). وحوكمت هي وستة "شركاء في الجريمة" أمام مجلس اللوردات وقضي عليهم بالادانة، ونفذ فيهم حكم الإعدام (5 مايو سنة 1534)، واتهم الأسقف فيشر بأنه علم بالمؤامرة وتقاعس عن تحذير الحكومة، واتهم أيضاً بأنه كان هو وكاثرين مطلعين على أسرار خطة وضعها شابويس ولم يشجعها شارل، لغزو إنجلترا في الوقت الذي يقوم فيه أنصار كاثرين بالتمرد (17). وأنكر فيشر التهم الموجهة إليه، ولكنه ظل موضع الاشتباه بالخيانة.

وكان توماس كرومويل أشد وكلاء هنري العدوانيين في هذه الأمور. وقد ولد عام 1485، وهو ابن حداد من بوتني، ونشأ في فقر ومسغبة، ومضى يضرب سنوات في أرض فرنسا وإيطاليا أفاقاً بالفعل، وعاد إلى إنجلترا واشتغل بصناعة النسيج وأصبح مرابياً وكون ثروة، وخدم ولزى بإخلاص خمس سنوات، ودافع عنه في أيام البؤس، واكتسب احترام

ص: 100

هنري بسهب صناعته وولائه. وعين على التوالي حاجباً لخزانة الدولة وأميناً للسجلات وكاتم سر للملك (مايو سنة 1534)، وكان في الفترة من عامي 1531 و 1540 المدبر الأكبر لشئون الحكومة باعتباره منفذاً مطيعاً للإرادة الملكية. واتهمه أعداؤه الأرستقراطيون، الذين احتقروه بوصفه حديث نعمة يرمز لخصومهم الصاعدين، رجال الأعمال، بأنه يطبق مبادئ "أمير" مكيافلي، بقبول الرشا وبيع المناصب وحب الثروة والسلطان حباً يجاوز الحدود. وكان هدفه، الذي سعى جاهداً لإخفائه، هو أن يجعل الملك صاحب الكلمة العليا في كل مجال من مجالات الحياة الإنجليزية، وأن يمول ملكية مطلقة بثروة الكنيسة المصادرة، وأظهر في سعيه لتحقيق أغراضه مقدرة تامة لا تعرف تأنيب الضمير، وضاعف ثروته، وكسب كل معركة خاضها ما عدا الأخيرة، والراجح أن هنري، وقد أزعجه تزايد عداء الشعب له، استدرج المجلس النيابي، بناء على اقتراحه وعن طريق احتياله، إلى الموافقة على قانون وراثة العرش (30 مارس سنة 1534) الذي أعلن أن الزواج بكاثرين غير صحيح، وحول ماري إلى ابنة سفاح، وعين اليزابث وريثة للعرش إلا إذا أنجبت آن ولداً، ونص على أن أي شخص يجادل في صحة زواج آن بهنري يستحق أقصى عقاب. وقضى القانون بأن يحلف جميع الإنجليز رجالاً ونساء يميناً بالولاء للملك. وأخذ مندوبون للملك يؤازرهم جنود، يخترقون البلاد راكبين، ودخلوا البيوت والقصور وأديار الرهبان وأديار الراهبات، وانتزعوا اليمين كرهاً. ولم يرفض حلف اليمين إلا قلة ضئيلة من بينهم الأسقف فيشر وتوماس مور: وعرضوا أن يحلفوا على ما جاء بشأن وراثة العرش على ألا يقسموا على باقي ما تضمنه القانون. وحكم عليهم بالسجن في البرج. وصوت المجلس النيابي آخر الأمر على قانون السيادة الحاسم (12 نوفمبر سنة 1534)، وأكد هذا القانون سيادة الملك على الكنيسة والدولة في إنجلترا، وعمد الكنيسة الوطنية الجديدة باسم الكنيسة

ص: 101

الأنجليكانية، وخول الملك كل هذه السلطات على الأخلاق والتنظيم والهرطقة والعقيدة والإصلاح الكنسي، وكانت حتى وقتذاك من اختصاص الكنيسة. ونص القانون على أن المرء يرتكب جريمة الخيانة إذا تحدث عن الملك أو كتب عنه أنه مغتصب أو طاغية أو انقسامي أو هرطيق أو كافر. وطلب من جميع الأساقفة أن يحلفوا يميناً جديدة بأنهم يقبلون سيادة الملك المدنية والكنسية دون تحفظ "بقدر ما تسمح شريعة المسيح"، وأنهم لن يرضوا أبداً في المستقبل باستئناف السلطة البابوية في إنجلترا. وانتشرت كل قوات الحكومة لشل حركة المعارضة لهذه المراسيم، التي لم يسبق لهذا مثيل، وتظاهر رجال الأكليروس العلمانيون بالخنوع شيئاً فشيئاً، وأحجم كثير من الرهبان والأخوان الرهبان عن حلف الأيمان، نظراً لولائهم للبابا، وأسهمت مقاومتهم في اتخاذ الملك قراره الأخير بإغلاق الأديار.

وأحنق عناد الاخوة الرهبان في تشارنر هاوس، وهو دير كاتوزي في لندن، هنري وكرومويل بخاصة. وجاء ثلاثة من رؤساء الأديار الكارتوزيين إلى كرومويل ليقدموا له إيضاحاً عن إحجامهم عن الاعتراف بأي علماني رئيساً للكنيسة في إنجلترا، فبعث بهم كرومويل إلى سجن البرج. وفي يوم 26 أبريل سنة 1535 حوكموا هم وراهب آخر وقسيس علماني أمام قضاة الملك الذين كانوا يميلون إلى الصفح عنهم، غير أن كرومويل خشي أن يشجع الرفق على المزيد من المقاومة، فطالب بقرار بالإدانة وأذعن القضاة.

وفي يوم 3 مايو جر الرجال الخمسة وكانوا لا يزالون يرفضون قبول قانون السيادة على زحافات إلى تيبرن وعلقوا واحداً وراء الآخر وأسقطوا بقطع الحبال وهم أحياء وقطعوا أرباً (18) وعلقت ذراع مبتورة على مدخل عقد تشارتر هاوس لتلقين الرهبان الباقين درساً، ولكن أحداً منهم لم

ص: 102

يتراجع عن رفضه. وسجن ثلاثة في البرج وشد وثاقهم وهم منتصبون بسلاسل من حديد حول أعناقهم وأقدامهم، وأكرهوا على الوقوف في هذا الوضع سبعة عشر يوماً، وقدم إليهم الطعام، ولكن لم يفك وثاقهم لقضاء أي حاجة طبيعية. أما باقي الرهبان الكارتوزيين، وكانوا لا يزالون يبدون عناداً ومشاكسة فقد تشتتوا في أديا أخرى ما عدا عشرة منهم، سجنوا في نيوجيت ومات تسعة من هؤلاء من "حمى السجن وقذره (19) ".

وكان هنري وقتذاك هو الحكم الوحيد فيما يتعين على الشعب الإنجليزي أن يؤمن به في مجالي الدين والسياسة. ولما كان لاهوته لا يزال كاثوليكياً من كل وجه فيما عدا السلطة البابوية فقد اتخذ مبدأ مطاردة النقاد البروتستانت للمذهب الكاثوليكي بغير تحيز، والنقاد الكثالكة لسيادته الكنسية، والحق أن مطاردة الهراطقة قد استمرت وظلت طوال مدة حكمه. وفي عام 1531 أحرق توماس بلني بأمر أصدره الحاجب توماس مور، لأنه انتقد الصور الدينية، ورحلات الحج والصلوات من أجل الميت. وقبض على جيمس بينهام لأنه اعتبر أن المسيح لا يكون حاضراً في القربان المقدس إلا بروحه فعذب لكي ينتزع منه أسماء هراطقة آخرين، وتشبث بما قال وأحرق في سمثفيلد في أبريل عام 1532. واحرق آخران في ذلك العام وعرض أسقف لندن أن يمنح في خلال أربعين يوماً صك غفران للمسيحيين الصالحين الذين يحملون حزمة من الحطب لتغذية النار (20).

ووصل عهد الإرهاب إلى ذروته في اضطهاد فيشر ومور، وقد وصف أرازموس أسقف روشستر بأنه "شخص مثقل بكل فضيلة (21") بيد أن فيشر نفسه قد اقترف ذنب الاضطهاد، وقد انضم إلى السفير الإسباني في حث شارل على غزو إنجلترا وخلع هنري (22). وقد اقترف في نظر القانون جريمة خيانة الدولة، وهو أمر لم يشفع له عندما احتج بأنه كان مخلصاً للكنيسة. وارتكب الحبر الأعظم الجديد، بولس الثالث خطأ بتعيين

ص: 103

الأسقف المسجون كاردينالاً، وعلى الرغم من أن فيشر أعلن إنه لم يسعَ إلى هذا الشرف، فإن هنري رأى وقتذاك في هذا التعيين تحدياً له. وفي 17 يونيه سنة 1535 قدم الأسقف، وكان وقتذاك في عامه الثمانين، إلى محاكمة أخيرة ورفض مرة أخرى أن يوقع على قسم يعترف فيه بهنري رئيساً للكنيسة الإنجليزية، واقتيد في 22 يونيه إلى كتلة على تل تاور. ووصفه شاهد عيان بأنه "جسد طويل أعجف، لا شيء فيه سوى الجلد والعظام، إلى حد أن معظم مَن شاهدوه دهشوا من رؤية رجل لا يزال فيه رمق من حياة، على الرغم من بلوغه هذا الحد من الوهن (23) ".

وتلقى وهو على منصة المقصلة عرضاً بالعفو عنه إذا حلف اليمين فرفض وعلق رأسه المقطوع فوق جسر لندن. وقال هنري: "في وسعه أن يذهب الآن، إذا استطاع، إلى روما ويحصل على قلنسوة الكاردينال (24) ".

ومع ذلك فقد بقي هناك مكابر عنيد أشد مراساً.

‌2 - مؤلف المدينة الفاضلة

كان والد توماس مور محامياً ناجحاً وقاضياً بارزاً. وتلقى توماس تعليمه في مدرسة سانت أنطوني بلندن، وعمل وصيفاً لرئيس الأساقفة مورتون، وكان لهذا الفضل في تثبيت عقيدته المحافظة وتكامله وتقواه المرحة. وتنبأ مورتون، كما يقال لنا، بأن "هذا الطفل الذي يخدم هنا على المائدة

سوف يثبت انه رجل عجيب (25) ". وذهب الشاب إلى أكسفورد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وسرعان ما فتن بالأدب الكلاسي إلى درجة حملت والد الشاب على انتزاعه من الجامعة، لإنقاذه من أن يصبح أديباً خاوي الوفاض وبعث به لدراسة القانون في لندن، وكانت أكسفورد وكامبردج لا تزالان تستهدفان إعداد الطلاب للعمل في سلك الكهنوت. وكانت كلية

ص: 104

نيو إن وكلية لنكولن إن

(1)

تدربان الرجال الذين كانوا وقتذاك يشرفون بين رجال الأكليروس على الحكومة في إنجلترا، ولم يتلقَ من أعضاء مجلس العموم تعليماً جامعياً سوى ثمانية أعضاء بينما كانت هناك نسبة مرتفعة من المحامين ورجال الأعمال.

وفي عام 1499 إلتقى مور، وكان في الحادية والعشرين من عمره، بأرازموس وافتتن بالمذهب الإنساني. وتعد صداقتهما من أطيب العطور شذى في ذلك العصر. فقد وهب كلاهما مرحاً بقدر ما، وجعلا لدراستهما طعماً مستساغاً بالهجو الضاحك. وكانا يشتركان في كراهية الفلسفة الكلامية التي قال مور إن ما تنطوي عليه من خبث في التفريق بين الأشياء يعود على المرء بفائدة توازي ما يكسبه من حلب تيس في غربال (26). وكانا يأملان في إصلاح الكنيسة من الداخل وتجنب تفكك أواصر الوحدة الدينية والتواصل التاريخي. ولم يكن مور نداً لأرازموس في العلم أو التسامح، والحق أن رقته المألوفة وكرمه كان يشوبهما في بعض الأوقات تطرف في الدين، وكان في الجدل ينحني بين آن وآخر مثل كل معاصريه، ليوجه لخصومه طعناً شديداً مريراً (27). ولكنه كان يفوق أرازموس في الشجاعة والإحساس بالكرامة والإخلاص لقضية. ولا شك أن الرسائل التي تبادلاها تعد شاهداً ثميناً على أفضال عصر فظ. فهناك رسالة لمور يقول في ختامها "وداعاً يا أرازموس الحبيب يا مَن هو أعز علي من عيني (28) ".

وكان من أعظم رجال الدين في القرن الذي عاش فيه، أخزى بتقواه - العلمانية تهافت رجال الكهنوت من أمثال ولزى على الدنيا. وفي الثالثة والعشرين عندما تبحر في دراسة القانون فكر في أن يصبح قساً. وألقى

(1)

كليتان لدراسة الحقوق على النظام الداخلي اشبه بنظاو "الرواق" في الأزهر الشريف - المترجم.

ص: 105

محاضرات عامة (1501) عن مدينة الرب التي بشر بها أوغسطين، وجلس بين مستمعيه علماء تحارير أكبر منه سناً مثل جروسين.

وعلى الرغم من انتقاده الرهبان لتقاعسهم عن الامتثال لما يفرضه عليهم نظامهم فإنه أعجب إعجاباً شديداً بنظام الدير المخلص، وأسف أحياناً لأنه لم يختر هذا النظام، وظل وقتاً طويلاً يرتدي قميصاً من شعر الخيل لا يلبس تحته شيئاً، وكان بين آن وآخر يسحب منه دماً يكفي لتلطيخ ثيابه ببقع من الدماء ترى بوضوح. وكان يؤمن بالمعجزات ويصدق قصص القديسين والمخلفات التي تستخدم للعلاج والصور الدينية ورحلات الحج (29). وكتب مصنفات ولائية لها نغمة القرون الوسطى أن الحياة سجن وأن الهدف من الدين والفلسفة تهيئة نفوسنا للموت، وتزوج مرتين وأنجب عدة أطفال أنشأهم على حب نظام مسيحي يتسم بالوقار والانشراح في آن واحد، وتصحبه صلاة متكررة وحب متبادل واتكال كامل على العناية الإلهية. وكانت "دار مانور" في تشلسي التي انتقل إليها في عام 1523 مشهورة بمكتبتها وصالة العرض فيها وحدائقها الممتدة إلى مائة ياردة إلى نهر التاميز.

واختير وهو في السادسة والعشرين من عمره (1504) نائباً بوصفه مواطناً حراً في المجلس النيابي. وهناك ناقش بنجاح ضد إجراء اقترحه هنري السابع مما دفع الملك إلى أن يسجن مور الكبير فترة قصيرة. ويفرض غرامة باهظة كوسيلة منحرفة لتلقين الخطيب الشاب درساً في مواساة المواءمة.

وعند إغلاق ذلك المجلس النيابي عاد مور إلى الحياة الخاصة ونجح في مزاولة القانون. وأقنع عام 1509 بتولي منصب مساعد المشرف في المدينة، أي في لندن القديمة شمالي نهر التيمس. وكان مكلفاً بتبعات تتفق ومزاجه، وهي وظائف لها صيغة قانونية أكر مما تتسم بالمخاطرة. وأكسبته أحكامه

ص: 106

شهرة واسعة، لما اتسمت به من حكمة وعدم تحيز، وخالف برفضه المهذب للهدايا من المتخاصمين، سوابق العهد الشائنة التي كانت لا تزال في عنفوانها أيام فرانسيس بيكون. وسرعان ما عاد إلى المجلس النيابي وما أن حل عام 1515 حتى كان خطيب مجلس العموم.

ووصف أرازموس في خطاب بعث به إلى هوتن مور (23 يوليه 1517)، بأنه متوسط القامة له بشرة شاحبة وشعر أصحم لا يهتم بالملبس أو المظهر زاهد في الطعام والشراب، منشرح سريع النكتة حاضر الابتسامة، يميل إلى الدعابات والخدع ويحتفظ في بيته بمهرج وقرد وكثير من الحيوانات المدللة الصغيرة، "وكانت كل الطيور في تشلزيا تأتي إليه ليطعمها". وكان زوجاً مخلصاً وأباً محباً يعبد أولاده وخطيباً مقنعاً ومستشاراً أصيل الرأي ورجلاً شديد الحرص على البر وخدمات الأصدقاء - واختتم هذا الرسم التمهيدي الذي يدل على الوله به بأنه "باختصار ماذا خلقت الطبيعة الطف وأحلى وأسعد من عبقرية توماس مور؟ (30) ".

ووجد أمامه متسعاً من الوقت لتأليف كتب وبدأ بكتاب "تاريخ رتشارد الثالث"، ولكن نزعته كانت حادة ضد الحكم المطلق، وكان يجلس على العرش حاكم مطلق، ورأى أن من الفطنة أن يتجنب قضاء الكلمة المطبوعة. ونشر بعد وفاته وكتب شكسبير مسرحية تقوم عليه، ولعل السيرة الذاتية التي أذاعتها الدراما تحمل بعض المسئولية عن الخلق الذي يحمله رتشارد، وفي عام 1516 طرح مور باللاتينية، كما لو كان يقوم بدعاية، كتاباً من أشهر الكتب بأسرها، مبدعاً كلمة، وواضعاً سابقة مقدماً على خطوة للمُدن الفاضلة الحديثة ومتوقعاً نصف الاشتراكية، ومعبراً عن نقد للاقتصاد والمجتمع والحكومة في إنجلترا إلى حد أنه تسلح من جديد بالإقدام بعد التروي ونشر المجلد في الخارج في ست طبعات لاتينية قبل أن يسمح بطبعه

ص: 107

باللاتينية كذلك في إنجلترا. واعترف بأنه كتبه للتسلية دون أن يقصد نشره على الجمهور بيد أنه شكر أرازموس لإطلاعه عليه في المطبعة بلوفان (31) وترجم إلى الألمانيّة والإيطالية والفرنسية قبل أن تظهر النسخة الإنجليزية (1551) بعد وفاة المؤلف بستة عشر عاماً. وما أن حل عام 1520 حتى كان حديث القارة.

وأطلق عليه مور اسم "ليس في موضع" ولا نعرف من خطر له ذلك الخاطر السعيد بتغيير هذا العنوان وسط الطباعة إلى المرادف اليوناني يوتوبيا أو المدينة الفاضلة (32) وثم إخراج الحكاية بصورة بارعة جداً دفعت كثيراً من القراء إلى الاعتقاد بأنها قصة حقيقية ويقال إن مبشراً دينياً قد فكر في السفر وتحويل سكان المدينة الفاضلة إلى المسيحية (33). وكان هنري الثامن قد أرسل مور سفيراً إلى بروجس (1515) ومن هناك انتقل إلى أنتورب برسالة قدمه فيها أرازموس إلى بيتر جيلس كاتب المدينة. وادعت المقدمة أن جيلس قد قدم مور إلى ملاح برتغالي له لحية، لوحت بشرته تقلبات الطقس، يدعى رافاييل هيثلوداي، وترادف باليونانية "ماهر في الهذر" كان قد سافر بحراً مع أمريجو فسبوتشي عام 1504، ودار حول الكرة الأرضيّة (ست سنوات قبل رحلة ماجلان)، وزار في العالم الجديد، جزيرة سعيدة حل سكانها معظم المشكلات التي كانت تعاني منها أوربا في ذلك العهد. وجعلت طبعة لوفان للسخرية أكثر تقبلاً بأن بدأت بحفر الخشب للجزيرة وعينة من لغة المدينة الفاضلة. ولم يكشف المؤامرة إلا هفوة واحدة: "فهيتلد واي يميل إلى الثناء على رئيس الأساقفة مورتون بكلمات (34) أقرب إلى فطرة مور التي تعترف بالجميل من تجربة الملاح.

ويصف ماجلان الوهمي شيوعية سكان الجزيرة بقوله: "لما كان كل شيء على المشاع، بين سكان المدينة الفاضلة فإن كل شيء متوفر لدى كل

ص: 108

إنسان. وأنا أقارن بينهم وبين كثير من الأمم

حيث يقول كل إنسان إن كل ما قد حصل عليه ملك خاص له وإنه أموال خاصة. وأنا أستمسك جيداً بما قاله أفلاطون

إن كل الناس يجب أن يحصلوا ويتمتعوا بحصص متساوية من الثروة والأمتعة

لأنه حيث ينتزع كل إنسان، يتخذ ألقاباً معينة ويتمسك بادعاءات ما، ويختطف أكبر قدر يستطيع الحصول عليه بحيث نجد أن قلة هي التي تتقاسم فيما بينها كل الثروات فلن يترك للباقين سوى العوز والفاقة (35).

وكل إنسان في المدينة الفاضلة يأخذ إنتاجه إلى المخزن العام ويتسلم منه حسب ما تتطلبه احتياجاته. ولا أحد يطلب أكثر مما يكفيه لأن الأمان من الحاجة يصده عن الجشع. ويتناول الناس الوجبات على مائدة مشتركة ولكن للمرء أن يأكل في بيته إذا شاء. وليس في المدينة الفاضلة عملة ولا شراء بثمن رخيص ولا بيع بثمن غال، وآفات الغش والسرقة والنزاع على الملكية غير معروفة. ولا يستخدم الذهب بوصفه عملة، ولكن لصناعة أشياء نافعة مثل الأواني التي نقضي فيها الحاجة. وهي لا تعرف المجاعات أو السنوات العجاف، لأن المخازن العامة تحتفظ باحتياطي للطوارئ. وكل أسرة تشتغل بالزراعة والصناعة معاً، يستوي في ذلك الرجل والنساء. ولكي يتحقق إنتاج مناسب لابد أن يعمل كل بالغ ست ساعات يومياً، ويتحدد اختيار المهنة باحتياجات الجماعة. وسكان المدينة الفاضلة أحرار بمعنى الحرية من الجوع والخوف، ولكنهم ليسوا أحراراً في أن يعيشوا على حساب الآخرين. وفي المدينة الفاضلة قوانين بيد أنها بسيطة وقليلة، ومن ثم ينتظر من كل إنسان أن يدافع عن قضيته ولا حاجة لوجود محامين. ويحكم على الذين يخالفون القانون بالعمل عبيداً للجماعة، ويقومون بأداء المهام الكريهة، ولكنهم يستعيدون المساواة الكاملة بأقرانهم بعد انتهاء دورهم. أما الذين يكدرون صفو الأمن تكديراً خطيراً فيحكم عليهم بالإعدام في بلاد أخرى.

ص: 109

ووحدة المجتمع في المدينة الفاضلة هي الأسرة الأبوية "والزوجات يهيمن على أزواجهن، والأولاد ينسبون لآبائهم (36) ". والزواج من واحدة هو الشكل الوحيد الذي يسمح به في مجال الارتباط الجنسي.

وقبل الزواج ينصح الخطيبان بأن يرى أحدهما الآخر وهو مجرد من الملابس، حتى يكتشف العيوب الجسمانية في حينه، وإذا بلغت درجة كبيرة من الجسامة فإن العقد قد يلغى. وتذهب الزوجة لتعيش مع زوجها في دار والده بعد الزواج، ويسمح بالطلاق بسبب الزنا أو برضى الطرفين بشرط موافقة مجلس الجماعة. وتختار كل ثلاثين أسرة زعيم قبيلة كل عام ليحكمها ويختار كل عشرة من زعماء القبائل رئيساً لإدارة مقاطعة بها 300 أسرة. ويكون المائتا زعيم للقبائل مجلساً قومياً ينتخب أميراً أو ملكاً مدى الحياة.

ومن التبعات الأساسية الملقاة على عاتق زعماء القبائل المحافظة على صحة الجماعة بتزويدها بالماء النظيف واتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على الصحة العامة وتوفير العناية الطبية والعلاج بالمستشفيات لأن الصحة أهم النعم على الأرض وينظم الحكام التعليم للأطفال والكبار ويهتمون اهتماماً شديداً بالتدريب المهني ويؤيدون العلم ولا يشجعون التنجيم وقراءة الطالع والخرافة. ولهم أن يشنوا الحرب على الشعوب الأخرى إذا رأوا أن هذا يقتضيه صالح الجماعة: "إنهم يعتبرون أن أعدل سبب للحرب يتوفر عندما يحتفظ أي شعب بقطعة من الأرض فضاء ولا تستغل بأي صورة نافعة أو مربحة، ويمنع الآخرين من الاستفادة منها أو حيازتها، وهم بحكم قانون الطبيعة يجب أن يطعموا ويفرج عنهم (37) (هل كان هذا دفاعاً عن استعمار أمريكا؟). بيد أن سكان المدينة الفاضلة لا يمجدون الحرب، إنهم يكرهونها باعتبارها عملاً وحشياً واضحاً، ومناقضاً لشعور كل أمة أخرى تقريباً. ويرون أنه لا شيء أكثر خسة وتفاهة من المجد المستمد من الحرب (38) ".

والدين في المدينة الفاضلة لا يكاد يكون حراً تماماً. وتعامل بالتسامح

ص: 110

أي عقيدة، اللهم إلا الإلحاد وإنكار خلود الإنسان. وفي وسع ساكن المدينة الفاضلة إذا شاء أن يعبد الشمس أو القمر. ولكن الذين يلجئون إلى العنف في العمل أو الكلام عن أي دين معترف به يقبض عليهم ويعاقبون لأن القوانين تستهدف منع النزاع الديني (39). والذين ينكرون الخلود لا يعاقبون بل يبعدون عن الوظيفة ويحرم عليهم إبداء آراءهم لأي إنسان اللهم إلا للقساوسة و"أصحاب الشأن". وإلا "فإنه يباح لكل إنسان أن يؤثر ويتبع أي دين يشاء

ويستطيع أن يبذل كل جهده لإقناع آخر برأيه ما دام يفعل هذا سلمياً وفي رصانة، وفي غير ما عجلة وبلا زجر أو قدح يصدران عن نزاع ضد الآخرين (40)". ومن ثم فإن في المدينة الفاضلة عدة أديان بيد أن "أعظم وأحكم دور

هو الإيمان بوجود قوة إلهية معروفة، دائمة، لا تدرك ولا تفسر، أعظم من أن يدركها عقل الإنسان ومقدرته، متفرقة في أنحاء العالم (41)". والرهبانية مسموح بها بشرط أن يشغل الرهبان أنفسهم بأعمال البر والمنفعة العامة، مثل إصلاح الطرق والجسور وتطهير الخنادق وقطع الأخشاب والعمل خدماً بل ورقيقاً، وفي وسعهم أن يتزوجوا إذا رغبوا. وهناك قساوسة، ولكنهم يتزوجون أيضاً. وتعتبر الدولة أن أول وآخر كل شهر وكل عام بمثابة أعياد دينية، ولكن في تأدية الاحتفالات الدينية في هذه العطلات، "لا يرى تمثال أي إله في الكنيسة"، ولا تؤدى صلوات، ولكن في وسع كل إنسان أن يتلو صلاة ما في جرأة دون أن يسيء إلى أي طائفة (42). وفي كل يوم من هذه العطلات تسجد الزوجات والأطفال أمام أزواجهن أو آبائهم، ويطلبون الصفح عن أي ذنب قد اقترفته أو أي واجب يكونون قد أخلوا به، ولا يسمح لأحد بالحضور إلى الكنيسة إلا بعد أن يسود الوئام والسلام بينه وبين عدوه. وهذه لمسة مسيحية، ولكن إنسانية مور الفتية تبدو في قبوله الجزئي لوجهة النظر اليونانية عن الانتحار. إذا عانى الإنسان من مرض عضال غير قابل للشفاء، فإنه

ص: 111

يسمح له ويشجع على إنهاء حياته. أما في الحالات الأخرى فإن مور يعتقد أن الانتحار جن، ويروى "أن الجثة يجب أن تلقى دون دفن في مستنقع نتن (43).

ولا نعرف كم من هذه يمثل النتائج التي توصل إليها مور بعد ترو، وكم منها كان من تفكير أرازموس، وكم منها كان من وحي ألاعيب الخيال. وعلى أية حال فإن السياسي الشاب أبعد نفسه في حرص عن اشتراكية سكان المدينة الفاضلة، وهو يتمثل نفسه يقول لهيثلوداي: "أرى أن كل الناس لن يعيشوا في ثراء حيث تكون كل الأشياء على المشاع. لأنه كيف تكون هناك وفرة في السلع

حيث نجد أن نظرة الإنسان إلى مكاسبه الشخصية لا تدفعه إلى العمل، ولكن الأمل يراوده في أن يجد في عناء الآخرين ما يجعله ينعم بالكسل. لا يمكن أن تكون كل الأمور على ما يرام، ما لم يكن كل الناس صالحين، وهو ما اعتقد أنه لن يحدث في هذه السنين العديدة الطويلة (44)". ومع ذلك فإن بعض التعاطف على ضروب الحنين المتطرفة لابد أن يكون قد استلهم بصورة كبيرة المثال الشيوعي. وثمة صفحات أخرى في المدينة الفاضلة تنتقد في غضب قسوة استغلال الأغنياء للفقراء. وفيها تنديد بإحاطة اللوردات الإنجليز لبعض الأراضي العامة بسياج، وذلك بصورة مفصلة وروح لا يتوقعان فيما يبدو، من أجنبي. ويقول هيثلوداي لمور: "إن الطمع الجائر للقلة قد تحول إلى الخراب التام لجزيرتك. إن هؤلاء الأغنياء لا يطيقون إلا أن يشتروا كل شيء ليتلهوا ويستأثروا بكل شيء ويتحكموا في السوق وحدهم كما يشاءون باحتكارهم (45) ". وعندما أفكر وأزن بعقلي كل هذه الحكومات التي تزدهر الآن في كل مكان فإني لا أفهم - وليساعدني الله - إلا أن هناك مؤامرة، يدبرها الأغنياء لترويج سلعهم باسم الجمهور. إنهم يخترعون ويتوسلون بكل الوسائل والخدع

ص: 112

كيف يستأجرون

ويتعسفون

في جهد الفقراء مقابل مبلغ صغير بقدر الإمكان

وهذه الحيل تؤدي إلى سن القوانين (46).

وهكذا يكاد يكون صوت كارل ماركس يحرك العالم من سفح فضاء في المتحف البريطاني، ولا شك أن المدينة الفاضلة هي أقوى ضروب الاتهام وأولها للنظام الاقتصادي الذي استمر في أوربا الحديثة حتى القرن العشرين، وإنها سوف تظل معاصرة مثل اقتصاد يسير وفق خطة معينة ومثل رفاهية الدولة أيضاً.

‌3 - الشهيد

كيف تأتى لرجل تعج في رأسه مثل هذه الأفكار أن يعين في مجلس هنري الثامن في السنة التالية لنشر كتاب المدينة الفاضلة؟ الراجح أن الملك على الرغم مما اشتهر به من علم، لم يستطع أن يتحمل قراءة الكتاب للاتينية ومات قبل أن ينشر بالإنجليزية. واحتفظ مور بخواطره المتطرفة لأصدقائه. وعرفه هنري مزيجاً نادراً من المقدرة والكمال، وقدره باعتباره صلة وثيقة بينه وبين مجلس العموم، ونصبه فارساً وعينه وكيلاً للخزانة (1521)، وعهد إليه بمهام دبلوماسية دقيقة.

وعارض مور السياسة الخارجية التي انتهجها ولزى وقاد بها إنجلترا للحرب مع شارل الخامس، إذ أن الإمبراطور في نظر مور لم يكن داهية خطيراً فحسب، بل كان أيضاً البطل المدافع عن العالم المسيحي ضد الأتراك. وعندما سقط ولزى نسي مور حتى وقتذاك أخلاقياته ليراجع - في المجلس النيابي - زلاته وأخطاءه التي أدت إلى السقوط. وكان، بصفته زعيماً للمعارضة، الخليفة المنطقي للكردينال، وظل يعمل رئيساً لوزراء (حاجباً) إنجلترا واحداً وثلاثين شهراً.

ص: 113

ولكن الملك كان الخليفة الحقيقي لولزى. فقد اكتشف هنري قوته ومقدرته وقال إنه قرر أنه يحرر نفسه من بابوية تكن له العداوة وتقف في طريقه وأن يسبغ صفة الشرعية على زواجه بامرأة أحبها وتستطيع أن تنجب له وريثاً للعرش.

ووجد مور نفسه لا يوجه السياسة بل يخدم الأهداف التي تسير في اتجاه مضاد لأعمق مشاعر الولاء التي يطويها بين جوانحه. وواسى نفسه بتأليف كتب ضد اللاهوت البروتستانتي وبمطاردة زعماء البروتستانت. واتفق في كتاب حوار يتعلق بالهرطقة (1528) وفي كتب متأخرة، مع فرديناند الثاني وكالفن والأمراء اللوثريين على ضرورة الوحدة الدينية لتحقيق القوة والسلام القوميين. وخشي انقسام الإنجليز إلى اثنتي عشرة أو مائة طائفة دينية. ومع أنه كان قد دافع عن ترجمة أرازموس للعهد الجديد إلى اللاتينية فإنه احتج ضد نسخة تندال الإنجليزية باعتبارها تحريفاً للنص بصورة تثبت وجهات النظر اللوثرية، وشعر بأن ترجمات الكتاب المقدس يجب ألا تتحول إلى أسلحة يشرعها فلاسفة الحانة. وعلى أية حال فإنه تمسك بأن الكنيسة كانت أداة ثمينة جداً للنظام والمواساة والإلهام، بحيث لا يجوز تمزيقها إرباً بالاستدلال المتسرع من مجادلين معجبين بأنفسهم.

وانتقل من هذه الحال إلى إحراق البروتستانت على المحرقة. أما الاتهام الذي وجه إليه بأنه أمر بجلد رجل في بيته بسبب الهرطقة (47) فإنه موضع خلاف، ويبدو أن رواية مور عن المذنب بعيدة عن اللاهوت "إذا نظر خلسة لأية امرأة وهي تركع" في الصلاة و "إذا تدلى من رأسها شيء في تذرعاته فإنه عند إذ يتسلل وراءها. يعمل على رفع كل ثيابها ويقذف بها فوق رأسها (48) ". ويمكن أن يقال إنه في أحكام الإعدام الثلاثة التي أعلنت في أسقفيته إبان توليه منصب الحاجب، كان يستجيب فيها للقانون، الذي كانت الدولة في حاجة إليه ليكون العضد العلماني للمحاكم الكنسية (49)،

ص: 114

ولكن ليس من شك في أنه وافق على عمليات الإحراق (50). ولم يسلم بوجود أي تناقض بين سلوكه والتسامح الكبير في الاختلافات الدينية الذي أبداه في مدينته الفاضلة، لأنه حتى هناك رفض التسامح مع الملحدين والمنكرين للخلود، وهؤلاء الهراطقة الذين لجئوا إلى العنف أو توسلوا بالطعن. ومع ذلك فقد ارتكب هو نفسه جريمة الطعن بمجادلته البروتستانت الإنجليز

(1)

.

وجاء الوقت الذي رأى فيه مور أن هنري أخطر الهراطقة على الإطلاق. ورفض الموافقة على زواجه من آن بولين ورأى في التشريع المناهض لرجال الدين الذي صدر في 1529 - 32 اعتداء صارخاً على كنيسة يرى أنها بمثابة قاعدة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي. وعندما تقاعد من المنصب وانسحب إلى خلوة بيته في تشلسي (1532) كان لا يزال في عنفوانه، في الرابعة والخمسين من عمره، ولكنه كان يرتاب في أنه لن يعيش طويلاً. وحاول أن يهيئ أسرته للمأساة بالحديث (هكذا يقول زوج ابنته وليام روبر) عن حياة الشهداء الأحرار وعن جلدهم العجيب وعما كابدوه من آلام وعن ميتتهم التي آثروا فيها أن يتعرضوا للعذاب على أن يسيئوا إلى

(1)

"ومع ذلك فهناك خنزير لا يتلقى أي تعليم إلا ليدنسه وهناك كلاب تمزق بأنيابها كل علم نافع

ولا يكفي أن يعظ الناس أمثال هؤلاء الكلاب بل يجب جلدهم بالسياط والمقارع بعنف، والحيلولة بينهم وبين تمزيق العلم النافع بأنيابهم

إلى أن يستكينوا ويصيخوا لما يقال لهم. وبهذه الوسائل يمنع الخنزير من إلحاق الأذة، والكلاب تخضع أحياناً للتعليم إلى حد

أنها تتعلم كيف ترقص على مزمار سيدها. والعقاب رادع في حين أن التعليم المجرد منه لا يكفي. فمَن هم الكلاب بمعنى الكلمة الآن سوى هءلاء الهراطقة الذين ينبحون على القرابين المقدسة المباركة

ومَن هم الخنازير بمعنى الكلمة سوى هراطقة أيامنا هذه، وهم من ضرب نجس لم يشهده أحد قط من قبل؟ وفي مثل هذا الموكب الرزين أقسم جميع أصحاب القداسة على العفة

وتحولوا إلى جرية قذرة شائنة ينعم بها الرهبان بنكاح الراهبات"

ص: 115

الرب، فأي شيء أسعد وأكثر بركة من أن يحب الله وأن يتعرض لفقد المال والسجن وضياع الأرض بل والحياة أيضاً. وكان فضلاً عن هذا يقول لهم معتصماً بعقيدته إذا أدرك أن أبناءه سوف يشجعونه على الترحيب بالموت في سبيل هدف سام فإنه سوف يجد في هذا من السلوى ما يملأ نفسه حبوراً ولهذا السبب يهرع إلى الموت مبتهجاً (52).

وتحقق كل ما توقعه، فقد اتهم عام 1534، ووجهت إليه تهمة بأنه كان على علم بمؤامرة تتعلق براهبة كنت، فأقر بأنه التقى بها، وآمن بأنها تتلقى الوحي، ولكنه أنكر أنه كان على علم بالمؤامرة. وتشفع كرومويل، وتفضل هنري بالصفح عنه. ولكن في السابع عشر من أبريل حكم على مور بالسجن في البرج لأنه رفض أن يحلف اليمين على قانون الوراثة، الذي رأى عندما قدم إليه أنه ينطوي على إنكار لسيادة البابا على الكنيسة في إنجلترا.

وكتبت إليه ابنته الأثيرة، مرجريت رسالة ترجوه فيها أن يحلف اليمين، فرد عليها بأن توسلها سبب له ألماً أشد مما سببه له سجنه. وزارته زوجته (الثانية) في البرج وانتهرته (كما يقول روبر) لعناده:

"إني لأعجب لك في هذا العام يا مستر مور، يا مَن كنت أحسبك حتى الآن رجلاً عاقلاً، لماذا تتظاهر بالحمق، فترقد هنا في هذا السجن الضيق القذر، وترضى بأن تحبس بين الفئران والجرذان، بينما في وسعك أن تكون حراً في الخارج، وتنعم بحظوة ورضا الملك ومجلسه، إذا فعلت فقط ما فعله كل الأساقفة وخير المتعلمين في هذه المملكة. وعندما أرى أن لك في تشلسي بيتاً جميلاً لائقاً، وأرى مكتبتك وكتبك وقاعة صورك وحديقتك وبستانك وكل الضروريات الأخرى، تبدو جميلة من حولك، حتى لتستطيع أن تسعد برفقتي، أنا زوجتك، ورفقة أولادك وأسرتك، فإني أتأمل باسم الرب ماذا تعني بمكوثك هنا وكلفك بإطالة أمده (53) ".

ص: 116

وبذلت محاولات أخرى لزحزحته عن موقفه، بيد أنه قاومها كلها بابتسامة.

وفي أول يوليه سنة 1535 قدم لمحاكمة أخيرة. فدافع عن نفسه جيداً ولكن حكم عليه بالإدانة لخيانة الدولة، وبينما كان عائداً وستمنستر إلى البرج اقتحمت ابنته مرجريت صفوف الحرس، واحتضنته وتقبلت بركته الأخيرة. وفي اليوم السابق لإعدامه أرسل قميصه المصنوع من الشعر إلى مرجريت ومعه رسالة "غداً نلتقي) لكي نذهب إلى الله

وداعاً يا ابنتي العزيزة، صلي من أجلي، وسوف أصلي من أجلكِ، ومن أجل جميع أصدقائكِ، لكي نلتقي في السماء مسرورين (54).

وعندما ارتقى منصة المقصلة (في 7 يوليو) ووجد أنها ضعيفة توشك أن تنهار قال لأحد التابعين: "أرجوك أيها الملازم أن تراعي أن أكون في أمان وأنا في أعلاها، وبالنسبة لنزولي دعني أحتال لنفسي (55) ". وطلب منه الجلاد الصفح والمغفرة فاحتضنه مور. وكان هنري قد أصدر تعليمات بألا يسمح للسجين إلا ببضع كلمات. وطلب مور من المشاهدين أن يصلوا من أجله، وأن يشهدوا بأنه تعرض للموت في سبيل عقيدة الكنيسة الكاثوليكية المقدسة، ومن أجلها، ثم طلب منهم أن يصلوا من أجل الملك، وأن ينعم الله عليه بمشير صالح، واحتج بأنه مات وهو خادم صالح للملك، ولكنه خادم الرب أولاً (56)، وتلا المزمور الحادي والخمسين، ثم وضع رأسه على الكتلة، وسوى بعناية لحيته البيضاء الطويلة، حتى لا تتعرض لأي أذى وقال:"مما يؤسف له أنها سوف تقطع، وأنها لم ترتكب جريمة خيانة الدولة (57) "، وعلق رأسه على جسر لندن.

وسرت موجة من الرعب في إنجلترا التي أدركت وقتذاك قسوة الملك، التي أصر عليها، وسرت في أوربا قشعريرة من الفزع. وشعر أرازموس

ص: 117

أنه هو نفسه قد مات لأنه، "ليس لنا إلا روح واحدة تتردد بيننا (58) " وقال إنه لم تعد لديه وقتذاك أي رغبة في الحياة. وبعد عام مات هو أيضاً. وعلم شارل الخامس بالحادث وقال للسفير الإنجليزي:"لو كنت سيداً لخادم مثل هذا توفرت لي - أنا نفسي - عن أعماله خبرة غير ضئيلة في هذه السنوات العديدة، فإني كنت أفضل أن أفقد أحسن مدينة في ممتلكاتي ولا افقد مثل هذا المستشار الجليل (59) ". وصاغ البابا بولس الثالث نشرة بابوية بحرمان هنري الخارج على القانون من زمالة العالم المسيحي، وتحريم الصلوات الدينية في إنجلترا، ومنع كل تجارة معها، وحل كل الرعايا البريطانيين من إيمانهم بالولاء للملك، وأمرهم هم وكل الأمراء المسيحيين بخلعه فوراً. ولما كان كل من شارل وفرانسيس لا يرحبان بهذه الإجراءات، فإن البابا حجز صدور النشرة البابوية حتى عام 1538. وعندما أصدرها، منع شارل وفرانسيس نشرها في مملكتيهما، إذ لم يرضيا التصديق على الادعاءات البابوية بوجود سلطة له على الملوك. وكان فشل النشرة البابوية إيذاناً بضعف السلطة البابوية، وارتفاع سلطة الدولة القومي.

ورأى دين سزيفت أن مور رجل "يتمتع بأعظم الفضائل" - ولعله يستخدم الكلمة بمعناها القديم الخاص بالشجاعة - "بين الرجال الذين أنجبتهم هذه المملكة (60) ". وفي الذكرى الأربعمائة لإعدام توماس مور وجون فيشر أدرجتهما كنيسة روما بين قديسيها.

‌4 - حكاية ثلاث ملكات

فقد هنري ثلاثاً من ست ملكات في خلال ثلاثين شهراً من وفاة مور. فقد تلاشت حياة كاثرين في معتزلها الشمالي، وهي لا تزال تدعي أنها زوجة هنري الشرعية الوحيدة، وملكة إنجلترا صاحبة الحق الشرعي، واستمرت

ص: 118

وصيفاتها في إطلاق هذا اللقب عليها. وفي عام 1535 نقلت إلى قلعة كيمبالتون قرب هنتنجدون، وهناك حبست نفسها في حجرة واحدة ولم تكن تتركها إلا لحضور القداس. واستقبلت زواراً و"عاملتهم في كرم زائد (61) " وحجزت ماري، وكانت وقتذاك في التاسعة عشرة في هاتفيلد التي لا تبعد إلا بمسيرة عشرين ميلاً، غير أنه لم يسمح للأم ولا لابنتها بأن ترى إحداهما الأخرى، ومنعا من الاتصال ببعضهما، ومع ذلك فإنهما تراسلا، وتعد رسائل كاثرين من أعظم الرسائل المؤثرة في الأدب بأسره. وعرض هنري عليهما دارين آخريين أفضل من داريهما، إذا اعترفتا بملكته الجديدة، فرفضتا. وعينت آن بولين عمتها مربية لماري وأمرتها بأن تحتفظ "بإبنة السفاح" وتلزمها حدها بـ "لكمة على الأذنين بين آن وآخر (62) ". ومرضت كاثرين في ديسمبر سنة 1535 وكتبت وصيتها وبعثت برسالة للإمبراطور تطلب منه حماية ابنتها ووجهت وداعاً مؤثراً لـ "سيدها وزوجها العزيز" الملك.

"إن ساعة وفاتي تقترب ولا حيلة لي إلا أن أنصحك، بحكم ما أكنه لك من حب، بأن تعنى بطهارة روحك التي يجب أن تؤثرها على كل الاعتبارات في الدنيا، أو على أي جسد تشتهيه مهما كان، والذي من أجله قذفت بي في كوارث عديدة، وبنفسك في متاعب كثيرة، ولكني أغفر لك كل شيء، وأرجو الله أن يغفر لك أيضاً، وبالنسبة للباقي أوصيك خيراً بابنتنا ماري، وأتوسل إليك أن تكون لها أباً صالحاً

وأخيراً فإني أردد هذا القسم بأن عيني تريدان أن تبصراك فوق كل شيء وداعاً (63").

وبكى هنري عندما تسلم الرسالة، وعندما ماتت كاثرين (7 يناير سنة 1536) بالغة من العمر خمسين عاماً، أمر الحاشية بإعلان الحداد، فرفضت آن (64).

ص: 119

ولم تستطع آن أن تعرف أنها ستموت أيضاً في خلال خمسة شهور، ولكنها أدركت أنها خسرت الملك، فقد أدى طبعها الحاد وسورات غضبها المتسمة بالصلف، ومطالبها التي تبعث على الضجر، إلى إنهاك هنري الذي رأى أن لسانها السليط يتناقض مع رقة كاثرين (65). وفي اليوم الذي دفنت فيه كاثرين ولدت آن طفلاً ميتاً. وبدأ هنري الذي كان لا يزال يتلهف على ولد يفكر في طلاق آخر - أو في بطلان الزواج كما سوف يفعل، وروي عنه أنه قال إن زواجه الثاني تم تحت إغراء السحر، ومن ثم فإنه باطل (66). وبدأ من أكتوبر سنة 1535 يولي اهتماماً خاصاً بإحدى وصيفات آن وهي جين سيمور. وعندما أنبته آن أمرها بأن تتحمله في صبر، كما فعل مَن هن أفضل منها (67)، ولعله انتهج حيلاً قديمة عندما اتهمها بالخيانة. إذ يبدو إنه مما لا يصدق أن تخاطر حتى امرأة نزقة بعرشها بلحظة تبذل، ولكن يبدو أن الملك كان قد آمن في إخلاص بأنها مذنبة. وأشار إلى الشائعات الدائرة عن غرامياتها التي وصلت إلى مجلسه، فاستقصي الأمر وأبلغ الملك أنها اقترفت الزنا مع خمسة أعضاء من البلاط، هم سير وليام بريتون، وسير هنري نوريس، وسير فرانسيس وستون، ومارك سمينون، وأخيها اللورد روشوورد، وأرسل الرجال الخمسة إلى البرج وتبعتهم آن في اليوم الثاني من مايو سن 1536.

وكتب لها هنري يعللها بالآمال في الصفح عنها والرفق بها إذا كانت صادقة معه. فردت بأنها ليس لديها ما تعترف به. وزعم خدمها في السجن أنها أقرت بأنها تلقت عرضين بتبادل الحب مع نوريس ووستون، بيد أنها ادعت أنها صدمتهما. وفي يوم 11 مايو وبعد أن طلب من هيئة المحلفين الكبرى في مدلسكس أن تقوم بتحقيق محلي في الجرائم التي يقال إن الملكة قد ارتكبتها في تلك البلاد، أبلغت أنها وجدتها مذنبة لاقترافها الزنا مع جميع الرجال الخمسة المتهمين، وقدمت أسماء وتواريخ معينة (68). وفي

ص: 120

يوم 12 مايو حوكم أربعة من هؤلاء الرجال في وستمنستر أمام هيئة محلفين، منهم والد آن الإيرل أف ولتشاير. واعترف سميتون أنه مذنب كما اتهم، أما الآخرون فدافعوا عن أنفسهم بأنهم غير مذنبين وحكم بإدانة الأربعة جميعاً. وفي يوم 15 مايو حوكمت آن هي وأخوها أمام جماعة مكونة من ستة وعشرين نبيلاً برئاسة الدوق أف نورفولك وهو عمها، ولكنه عدوها السياسي. وأكد الشقيقان أنهما بريئان، ولكن كل عضو من جماعة القضاة أعلن أنه مقتنع بأنهما مذنبان، وحكم عليهما بأن يحرقا أو يقطع رأساهما كما يتراءى للملك. وفي يوم 17 مايو شنق سميتون، أما الرجال الأربعة الآخرون فقد قطعت رءوسهم كما يليق برتبهم. وفي ذلك اليوم طلب وكلاء الملك من رئيس الأساقفة كرانمر أن يعلن عدم صحة الزواج بآن وأن اليزابث ابنة سفاح فأذعن. ولا تعرف الأسس التي بني عليها هذا الحكم، ولكن يظن أن زواج آن السابق المزعوم بلورد نورثمبرلاد أعلن وقتذاك أنه حقيقي.

وركعت آن عشية وفاتها أمام لادي كنجستون زوجة الحارس وطلبت منها منة أخيرة: أن تذهب وتركع أمام ماري، تتوسل إليها باسم آن أن تصفح عن الأخطاء التي ارتكبت في حقها، بسبب كبرياء امرأة تعسة غير متبصرة (69)، وطلبت أن ينفذ فيها حكم الإعدام فوراً يوم 19 مايو. والظاهر أنها استمدت شيئاً من العزاء من فكرة خطرت لها هي:"لقد سمعت أن الجلاد بارع جداً ولي عنق صغير" - ومن أجل ذلك ضحكت واقتيدت ظهر ذلك اليوم إلى منصة المقصلة، وطلبت من المشاهدين أن يصلوا من أجل الملك "لأنه ليس هناك أمير يبزه في الرقة والرأفة (70) "، ولم يكن هناك أحد يقطع بأنها مذنبة، ولكن قليلين أسفوا لسقوطها.

وفي يوم وفاتها منح كرانمر للملك محللاً بالزواج مرة أخرى في سعيه

ص: 121

المتجدد للحصول على ولد، وفي اليوم التالي خطب هنري، جين سيمور سراً، وتزوجا يوم 30 مايو 1536، ونودي بها ملكة يوم 4 يونيه. وكانت سليلة أسرة ملكية، إذ أنها تنحدر من ادوارد الثالث، وكانت لها صلة قرابة من الدرجة الثالثة أو الرابعة بهنري، مما دعا إلى الحصول على محلل آخر من كرانمر المطيع. ولم تكن تتمتع بجمال خاص، بيد أنها أثرت في الجميع بذكائها ورقتها بل وتواضعها، ووصفها الكاردينال بول خصم هنري اللدود بأنها:"ممتلئة بالطيبة"، ولم تشجع محاولات الملك التقرب بها إبان حياة آن، ورفضت قبول هداياه، وأعادت رسائله دون أن تفتحها، وطلبت منه ألا يحدثها إلا في حضور آخرين (71).

وكان أول عمل تم بعد الزواج هو القيام بالتوفيق بين هنري وماري. وقام هنري به بطريقته الخاصة فأمر كرومويل بأن يبعث لها برسالة عنوانها: "إعتراف لادي ماي". وهي تعترف بالملك رئيساً أعلى للكنيسة في إنجلترا وتنكر "سلطة أسقف روما المزعومة"، وتعترف أن زواج هنري بكاثرين "من قبيل سفاح القربى وغير شرعي". وطلب من ماري أن توقع باسمها على كل جملة، ووقعت ولم تصفح عن نفسها قط. وبعد ثلاثة أسابيع أقبل الملك والملكة لرؤيتها وقدما إليها هدايا و 1000 كراون، وأطلق عليها مرة أخرى لقب أميرة، وفي يوم عيد الميلاد لعام 1536 استقبلت في البلاط، وهناك لابد أن شيئاً طيباً كان في هنري وفي "ماري الدموية" - لأنها كادت تتعلم في السنوات الأخيرة أن تحبه.

وعندما اجتمع المجلس النيابي مرة أخرى (18 يونيه سنة 1536) أصدر بناء على طلب الملك قانوناً جديداً بوراثة العرش وبمقتضاه أعلن أن اليزابث وماري على السواء بنتان غير شرعيتين، وتقرر أن يقتصر التاج على الذرية المتوقع أن تنجبها جين سيمور.

ص: 122

ومات الدوق آن رتشموند ابن هنري غير الشرعي، وتعلقت آمال الملك كلها في حمل جين. وهللت إنجلترا معه عندما ولدت "12 أكتوبر سنة 1537" ولداً هو أدوارد السادس في المستقبل. بيد أن جين المسكينة التي ارتبط بها الملك وقتذاك ارتباطاً عميقاً، بقدر ما سمحت روحه، التي تتركز حول ذاته، ماتت بعد ولادة ابنها بأثنى عشر يوم. وظل هنري رجلاً محطماً بعض الوقت. وعلى الرغم من أنه تزوج مرة أخرى ثلاث مرات فانه طلب عند وفاته أن يدفن بجانب المرأة التي ضحت بحياتها في سبيل حمل ابنه.

ماذا كانت ردود الفعل لدى الشعب الإنجليزي بالنسبة لأحداث هذا العهد المضطرب؟ من الصعب أن نقول شيئاً، فالدليل فيه تحامل ويكتنفه الغموض ومشتت. وروى شابويس عام 1533 أن رأي الكثيرين من الإنجليز أن "الملك رتشارد السابق لم يكن قط مكروهاً من شعبه إلى هذا الحد مثل هذا الملك (72) ". وقد تعاطف الشعب بوجه عام مع رغبة هنري في الحصول على ولد، وأدان قسوته على كاثرين وماري ولم يذرف دموعاً على آن، ولكنه صدم صدمة عميقة بإعدام فيشر ومور. وكانت أغلبية الأمة السابقة لا تزال تدين بالكاثوليكية (73)، وكان رجال الأكليروس - بعد أن حققت الحكومة وقتذاك لنفسها موارد الأساقفة حديثي التعيين في السنة الأولى - يأملون في التوفيق مع روما. ولكن لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بنقد الملك. وتلقى نقداً، ومن إنجليزي ولكن مع وجود القتال بينه وبين ذراع الملك.

كان ريجينالد بول ابن مرجريت بلانتا حينت كونتيسة سالزبوري، وهي نفسها ابنة أخ أدوارد الرابع ورتشارد الثالث. وقد تعلم على نفقة هنري، وكان يتسلم مرتباً من الملك قدره 500 كراون كل عام، والظاهر أنه كان يعد لتولي أعلى المناصب في الكنيسة الإنجيلية. ودرس في باريس

ص: 123

وبادوا، وعاد إلى إنجلترا، وهو يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، ولكن عندما أصر هنري على سماع رأيه في الطلاق، رد ريجينالد صراحة أنه لا يستطيع أن يوافق عليه ما لم يصدق عليه البابا. ولم يقطع هنري مرتب الشاب وسمح له بالعودة إلى القارة.

وهناك لبث بول اثنين وعشرين عاماً وارتفع في تقدير البابا باعتباره عالماً ومتضلعاً في اللاهوت، ونصب كاردينالاً وعمره ستة وثلاثون عاماً (1536). وألف في ذلك العام باللاتينية رسالة هجوم على هنري هي دفاع عن وحدة الكنيسة. ورأى أن الأخذ بسيادة هنري على الشئون الكنسية في إنجلترا يدعو إلى الانقسام بين أبناء الديانة المسيحية وتشعبهم إلى قوميات منوعة، وأن التصادم الناتج بين العقائد سيؤدي إلى فوضى اجتماعية وسياسية في أوربا. واتهم هنري بأنه مصاب بجنون حب الذات والحكم المطلق. ولام الأساقفة الإنجليز على تسليمهم بعبودية الكنيسة للدولة. وندد بالزواج من آن باعتباره زنا، وتنبأ (ولم يكن هذا من الحكمة إلى حد كبير) بأن النبلاء الإنجليز سوف يعدون اليزابث "ابنة سفاح لعاهرة إلى الأبد (74) "، وطالب شارل الخامس بألا يضيع أي ذخيرة حربية في حرب الأتراك وأن يحول القوات الإمبراطوريّة للقتال ضد ملك إنجلترا الكافر. كانت رسالة طعن شديدة، أتلفتها كبرياء الشباب في الفصاحة. واشار الكاردينال كونتاريني على المؤلف بالا ينشر الرسالة، بيد أن بول أصر، وأرسل نسخة إلى إنجلترا.

وعندما نصب بولس الثالث بول كاردينالاً اعتبر هنري هذا عملاً من أعمل الحرب. وتخلى الملك عن كل فكرة تدور حول المصالحة، واتفق مع كرومويل على أن الأديار في إنجلترا يجب أن تحل، وأن تضم أملاكها إلى التاج.

ص: 124

الفصل الخامس والعشرون

‌هنري الثامن والأديار

‌1535 - 47

1 -

تقنية الحل

كان هنري عام 1535 مشغولاً جداً بالحب والحرب فلم يستطع أن يلعب دور البابا جملة أو تفصيلاً، فعين كرومويل الذي يؤمن بفلسفة اللاأدرية (1)"نائباً للملك في كل قضائه الكنسي". ووجه كرومويل وقتذاك السياسة الخارجية التشريع الوطني والسلطة القضائية العليا والمجلس الخاص والمخابرات وقاعة النجم وكنيسة إنجلترا، ولم يكن لولزى في أوج مجده قط أصابع طويلة متشبثة بفطائر عضة بهذه الكثرة. وكان يراقب أيضاً كل الطباعة والنشر وأقنع الملك بأن يحرم طبع الكتب أو بيعها أو استيرادها إلا بعد الحصول على موافقة وكلاء التاج، وأمر بنشر الكتب المناهضة للبابوية على نفقة الحكومة.

وقام جواسيس كرومويل، وهم لا يحصون، بإبلاغ كرومويل بكل حركات أو بيانات المعارضين لهنري أو له. وكانت أية إشارة تدل على الإشفاق على فيشر أو مور وأي دعابة تدور حول الملك يمكن أن تؤدي إلى محاكمة سرية وسجن طويل (2)، وكان التنبؤ بوفاة الملك يعرض المرء لفقد حياته (3).

وقام كرومويل، في بعض القضايا الخاصة بدور ممثل الاتهام والمحلفين

ص: 125

والقاضي ليصل إلى نتائج محققة. وكان كل واحد في إنجلترا يخشاه ويكرهه.

وكانت أكبر معضلة واجهها هي أن هنري كان مفلساً، على الرغم من سلطانه العظيم. وكان الملك يتوق إلى زيادة حجم البحرية والإكثار من مرافئه وموانيه أو تحسينها، وكانت حاشيته تتجاوز الحدود ونفقاته الشخصية باهظة، ونظام كرومويل في الحكم يحتاج إلى نهر عريض من الأموال. فكيف يجمع المال؟ كانت الضرائب مرتفعة إلى الحد الذي تقابل فيه بمقاومة تجعل الجباية تكلف من النفقات أكثر مما تدر من الربح، وكان الأساقفة قد استنزفوا أبرشياتهم لتهدئة سورة الملك، ولم يكن هناك ذهب يتدفق من أمريكا، كما يتدفق يومياً لإغاثة الإمبراطور عدو إنجلترا. ومع ذلك كانت في إنجلترا مؤسسة واحدة ثرية وموضع ريبة وعاجزة لا تجد مَن يدافع عنها وهي الأديار. كانت موضع ريبة لأن ولاءها الأخير كان للبابا، واشتراكها في قانون السيادة يعد من قبيل المداهنة وغير تام، وكانت في نظر الحكومة هيئة أجنبية ملزمة بتأييد أي حركة كاثوليكية ضد الملك، وكانت عاجزة لأنها في كثير من الحالات كفت عن القيام بوظائفها التقليدية في مجالات التعليم والضيافة والبر، وكانت لا تجد مَن يدافع عنها لأن الأساقفة استاءوا من إعفائهم من المراقبة الأسقفية، ولأن الأشراف، وقد أفقرتهم الحرب الأهلية، طمعوا في ثروتها، ولأن طبقة رجال الأعمال كانوا يرون في الرهبان والاخوة من الرهبان متلفين كسالى للموارد الطبيعية، ولأن القسم الأكبر من العامة، ومنهم كثير من الكثالكة الصالحين، لم يعودوا يؤمنون بفاعلية المخلفات التي كان الرهبان يعرضونها، أو بالقداسات التي كان يقيمها الرهبان للموتى، إذا دفع لهم الأجر. وكانت هناك سوابق رائعة لإغلاق الأديار، فقد أغلقها زونجلى في زيورخ والأمراء اللوثريون في ألمانيا وولزى في إنجلترا. وكان المجلس النيابي قد صوت (1533)

ص: 126

بالموافقة على تخويل الحكومة سلطة التفتيش على الأديار وإجبارها على تقويم اعوجاجها.

وأرسل كرومويل في صيف عام 1535 ثالوثاً من "المفتشين" كل منهم معه عدد كبير من الموظفين لفحص حالة أديار الرهبان والراهبات في إنجلترا من النواحي البدنية والأخلاقية والمالية وتقديم تقرير عنها، وكذلك للتفتيش على الجامعات والكراسي الأسقفية كإجراء مقبول. وكان هؤلاء "المفتشون" شباناً متهورين، "من المرجح أن يقوموا بتنفيذ عملهم في إتقان أكثر مما يتوسلون في تنفيذه بالرقة (4) "، ولم يكونوا في عصمة من قبول "الهدايا"(5)، وكان "الهدف من مهمتهم الحصول على قضية للتاج، ولعلهم لجئوا إلى كل الوسائل المخولة لهم لحث الرهبان والراهبات على إدانة أنفسهم (6) ". ولم يكن من الصعب أن يعثر في 600 دير في إنجلترا على عدد مقنع ويدل على وجود انحرافات جنسية - وأحياناً انحرافات جنسية شاذة (7) - ونظام متحلل واستغلال لمخلفات زائفة هدفه اكتناز المال، وبيع أوعية مقدسة أو مجوهرات مقدسة لإضافة المزيد إلى ثروة الدير، وما فيه من ضروب الراحة (8)، وإهمال الشعيرة أو الضيافة أو البر (9). ولكن التقارير أغفلت عادة ذكر نسبة الرهبان الآثمين إلى الرهبان الجديرين بالتقدير، والتمييز بوضوح بين الثرثرة والدليل (10).

وقدم كرومويل للمجلس النيابي الذي انعقد في 3 فبراير عام 1536 "كتاباً أسود"، ضاع الآن، يكشف عن الأخطاء في الأديار، وينصح، باعتدال استراتيجي، بإغلاق أديار الرهبان والراهبات التي يبلغ دخلها 200 جنيه (20. 000 دولار) أو أقل في العام. فوافق المجلس النيابي الذي كان معظم أعضائه قد اختيروا بواسطة معاوني كرومويل (11). وعين الملك محكمة المزايدات لكي تتسلم لصالح خزانة الملك أموال وموارد هذه الأديار الصغرى البالغ عددها 376. وأطلق سراح ألفي راهب ليذهبوا لدور

ص: 127

أخرى أو يخرجوا إلى العالم - وفي الحالة الأخيرة كانوا يمنحون مبلغاً صغيراً أو معاشاً يسد رمقهم إلى أن يجدوا عملاً. ولم يكن بين 130 دير للراهبات سوى 18 ديراً يتجاوز دخلها 200 جنيه، ولكن لم يغلق منها وقتذاك إلا نصفها.

وقامت في الشمال ثورة ثلاثية قطعت دراما الحل. وكما نشأت المسيحية في المُدن ووصلت إلى القرويين - الوثنيين - فكذلك نهض الإصلاح الديني في المُدن بسويسرة وألمانيا وإنجلترا، ولقي مقاومة دامت طويلاً في الريف. وتقلص ظل البروتستانتية في إنجلترا وسكوتلندة كلما ابتعدت المسافة من لندن أو أدنبرة، ووصلت متأخرة إلى ويلز وشمالي إنجلترا، ولقيت ترحيباً ضئيلاً في إيرلندة. وفي المراكز الشمالية بإنجلترا أشعل سلب الأديار الصغرى نار الاستياء التي كانت مهيأة للاشتعال منذ وقت طويل بسبب الضرائب المتزايدة والحكم الملكي المطلق على رجال الأكليروس والتحريض الخفي للقساوسة. وانضم الرهبان، الذين جردوا من أموالهم ووجدوا أن من الصعب عليهم الحصول على مرتباتهم أو على عمل، إلى المتعطلين العديدين المكتئبين، أما الراهبات اللاتي جردن من أملاكهن واللاتي كن يتجولن من مأوى إلى مأوى فقد أثرن غضب الجمهور ضد الحكومة. وألهب معاونو كرومويل "نار" الغضب بتزيين أنفسهم بأسلاب المعابد بالأديار وصناعة صديريات من القباء، وسروج من صدرات القساوسة وقرابات خناجر من محافظ المخلفات (12).

وفي يوم 2 أكتوبر سنة 1536 هاجم جمهور في لوث مفتشاً، كان قد أغلق تواً ديراً للراهبات في لجبورن المجاورة لها، وتم الاستيلاء على سجلاته وأوراق اعتماده وأحرقت وصوب إلى صدره سيف وأكره على أن يحلف يمين الولاء للعامة. وحلف كل مَن كان حاضراً بين الجمهور يميناً بأن يكون مخلصاً للملك والكنيسة الرومانية المقدسة. وفي اليوم التالي احتشد

ص: 128

جيش ثائر في كايستور على مسيرة بضعة أميال، حرضه قساوسة ورهبان لا مأوى لهم، واضطر أعيان الجهة - ومنهم مَن فعل ذلك باختياره - إلى الانضمام لجيش الثوار. وفي اليوم نفسه تجمع حشد كبير من القرويين في هورن كاسل، وهي مدينة أخرى تقع في لنكولنشاير. واتهم حاجب أسقف لنكولن بأنه عميل لكرومويل، وانتزع من فراشه، وضرب حتى الموت بالهراوات. وصمم الثوار علماً يصور محراثاً وقدحاً وبوقاً، و"الكلمات الخمس الأخيرة" للمسيح، واستخلصوا مطالب أرسلت إلى الملك: يجب أن تعاد الأديار وتخفف الضرائب أو تيسر، وألا يدع رجال الأكليروس ضرائب العشور أو موارد السنة الأولى من التعيين إلى التاج، وأن يبعد "الدم الخبيث"(أي كرومويل) من المجلس الخاص، وأن يقال الأساقفة الهراطقة - وبخاصة كرانمر ولاتيمر - ويعاقبون.

وانضم إلى الثورة مجندون من الأقاليم الشمالية والشرقية. واحتشد في لنكولن حوالي 60. 000 رجل، ولبثوا يرقبون رد الملك.

وكان رده عنيفاً لا يقبل التفاهم. واتهم الثوار بإنكار جميل حاكم كريم، وأصر على أن إغلاق الأديار الصغرى إنما تم بإرادة الأمة التي عبرت عنها عن طريق المجلس النيابي، وأمر الثائرين بتسليم زعمائهم، وأن يتفرقوا وينصرفوا إلى بيوتهم، وإلا تعرضوا لعقوبة الإعدام ومصادرة أموالهم. وفي الوقت نفسه أمر هنري أعوانه بحشد قواتهم والزحف بقيادة ايرل أف سفولك لمساعدة اللورد شروسبري، الذي كان قد نظم تابعيه لصد الهجوم، وكتب رسائل خاصة إلى الأشراف القلائل الذين كانوا قد انضموا إلى الثورة. وعندما أدرك هؤلاء وقتذاك أن الملك لا يمكن إرهابه، وأن الثوار المسلحين تسليحاً سيئاً سوف يقهرون وشيكاً، اقتنع الكثيرون منهم بالعودة إلى قراهم، وسرعان ما ذاب جيش الثوار فوق احتجاجات

ص: 129

القساوسة. وسلمت لوث خمسة عشر زعيماً وأسر مائة آخرون، وأعلن صدور عفو ملكي عن الباقين. وأخذ الأسرى إلى لندن والبرج وشنق ثلاثة وثلاثون، منهم سبعة قساوسة، وأربعة عشر راهباً، وأطلق سراح الباقين على مهل (13).

وفي غضون ذلك كانت هناك فتنة أشد خطورة قد نمت في يوركشاير. وجد رتشارد آسك، وهو محام شاب، نفسه متورطاً بدنياً وعاطفياً في الحركة. وأفزع محام آخر فتولى قيادة فرقة ثائرة في بفرلي، وأعار اللورد دارسي أف تمبلهرست، وهو كاثوليكي متحمس، الثورة تأييده الخفي، وانضم اثنان من أسرة برسي، وحذا حذوهم معظم أشراف الشمال.

وفي 15 أكتوبر سنة 1536 ضرب الجيش الرئيسي، المكون من 9. 000 رجل، الحصار على يورك. وأجبر المواطنون في المدينة العمدة على فتح الأبواب. ومنع آسك رجاله من نهب المدينة، وحافظ بوجه عام على نظام ملحوظ في جيشه غير المدرب. وأعلن إعادة فتح الأديار، وعاد إليها الرهبان في اغتباط، وأدخلوا السرور على أفئدة الأتقياء بحرارة ترانيمهم الجديدة. وتقدم آسك واستولى على بومفريه، واستولى ستابلتون على هل دون إراقة دماء. وانضم آخرون إلى رجال لنكولنشير في تقديم المطالب وأرسلوا للملك: "أن يقمع كل الهراطقة وكتبهم، ويستأنف الروابط الكنسية مع روما، وأن يسبغ صفة الشرعية على ماري، ويعزل مفتشي كرومويل ويعاقبهم، ويلغي كل تسوير للأراضي العامة منذ عام 1489.

كانت هذه أحرج لحظة في عهد هنري. كان نصف البلاد يحمل السلاح ضد سياسته، وكانت إيرلندة في ثورة، وكان بولس الثالث

ص: 130

والكاردينال بول يحثان فرانسيس الأول وشارل الخامس على غزو إنجلترا وخلع الملك. واستجمع قواه المتخاذلة، وأرسل أوامر إلى كل الجهات بحشد فرق موالية، وفي الوقت نفسه أصدر تعليمات للدوق أف نورفولك بأن يتغفل الزعماء الثائرين بإجراء مفاوضات. ورتب الدوق مداولة مع آسك وعدة نبلاء وأغراهم بوعد منه بالعفو عنهم جميعاً. ودعا هنري آسك إلى لقاء شخصي ومنحه جواز أمان. فجاء إلى الملك وافتتن بعبير الملكية، وعاد وديعاً، ولم يلحقه أذى إلى يوركشاير (يناير سنة 1537)، وعلى أية حال فإنه قبض عليه هناك وأرسل سجيناً إلى لندن. وانقطعت صلة الجيش الثائر بقواده فانشعب إلى فرق غاضبة وساده اضطراب همجي، وتضاعفت حالات التمرد. وبينما كانت فرق الملك المتحدة تقترب اختفى الجيش الثائر كسراب تبدد (فبراير سنة 1537).

وعندما استوثق هنري من انهيار الثورة والغزو معاً أنكر وعد نورفولك بالعفو العام، وأمر بالقبض على مَن يمكن العثور عليه من الزعماء مثيري الفتنة، وأعدم الكثيرون منهم ومن ضمنهم آسك، وكتب إلى الدوق يقول: "يسرنا أن نراك قبل أن نطوي علمنا مرة أخرى أن تقوم بإعدام مروع لعدد لا بأس به من السكان في كل مدينة وقرية ومحلة تكون قد أجرمت، حتى يكون في هذا عبرة لكل مَن تسول له نفسه أن يقوم بمثل ذلك في المستقبل

ومادامت هذه الاضطرابات كلها قد نتجت من تحريض الرهبان والكنسيين في هذه البقاع ومؤامراتهم الغادرة، فإننا نريد منك في هذه الربوع التي تأمر فيها، ودافعوا عن بيوتهم بالقوة

أن تأمر بلا رحمة أو شفقة بشد وثاق هؤلاء الرهبان رجال الكنيسة الذين ثبت خطؤهم بأية وسيلة دون تأخير أو اجراء رسمي (14).

وعندما رأى كرومويل ما لحق بالمعارضة من رعب شديد مضى قدماً

ص: 131

في إغلاق الدور الدينية الباقية في إنجلترا. وحلت يوماً كل أديار الرهبان والراهبات التي كانت قد انضمت إلى الثورة وصودرت ممتلكاتها لمصلحة الدولة. وامتد مجال الزيارات التفتيشية، وأثمرت تقارير عن الخروج على النظام والفجر والخيانة والانحلال. وتوقع كثير من الرهبان سلفاً إغلاق الأديار فباعوا المخلفات والنفائس التي في دورهم إلى أعلى مزايد، وبلغ ثمن إصبع لسانت اندرو أربعين جنيهاً (15). وأدين الرهبان في والسنجهام بتزييف معجزات، وألقي تمثال العذراء، الذي كان يدر عليهم أرباحاً، في النار. وهدم ضريح سانت توماس بيكيت التاريخي في كانتربري، وأعلن هنري الثامن أنه في انتصاره على هنري الثاني لم يكن قديساً حقاً، وأحرقت المخلفات التي أساءت إلى كوليه، وتفكه بها أرازموس، ونقلت التحف الثمينة التي وهبها الحجاج الورعون في خلال 250 عاماً إلى الخزانة الملكية (1538)، ولبس هنري بعد ذلك في إبهامه خاتماً محلى بياقوتة كبيرة أخذت من الضريح. وسعت بعض الأديار إلى خداع القدر بإرسال المال والهدايا لكرومويل، وقبل كرومويل كل شيء وأغلقها جميعاً. وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل الأديار وكل الأملاك الديرية ما عدا كنائس دير الكاتدرائية قد انتقلت إلى الملك.

وعلى الجملة فقد أغلق 578 ديراً للرهبان وحوالي 139 ديراً للراهبات، ونشئت 6521 راهباً أو أخاً و 1560 راهبة. وتخلى حوالي خمسين راهباً وراهبتان من هؤلاء عن الرداء الديني، بيد أن الكثيرين توسلوا أن يسمح لهم بمتابعة حياتهم التي ألفوها في الدير في مكان آخر (16)، وفقد حوالي 12. 000 شخص، كانت الدور الدينية تستخدمهم فيما مضى أو كانوا يعتمدون عليها في معيشتهم، وظائفهم أو مخصصاتهم من الصدقات، وكانت الأراضي والمباني المصادرة تدر دخلاً سنوياً قدره حوالي 200. 000 جنيه

ص: 132

(20. 000. 000 دولار) غير أن عقود البيع التي أبرمت سريعاً خفضت الدخل السنوي للأملاك بعد التأميم إلى حوالي 37. 000 جنيه، ولابد أن يضاف إلى هذا المبلغ 85. 000 جنيه من المعدن الثمين المصادر، ومن ثم قد يبلغ ما حصل عليه هنري إبان حياته من جملة الأسلاب والدخل حوالي 1. 423. 500 جنيه (17).

وكان الملك سخياً بهذا الأسلوب. فقد وهب بعض هذه الممتلكات - ومعظمها باعه بأسعار بعد مساومة - لنبلاء صغار أو مواطنين أحرار كبار - تجار أو محامين - ممن أيدوه أو وجهوا سياسته. وتسلم كرومويل أو اشترى ستة أديار لها دخل سنوي قدره 2239 جنيهاً، وتسلم ابن أخيه سير رتشارد كرومويل سبعة أديار تدر دخلاً قدره 2552 جنيهاً (18) وكانت هذه أصل الثروة التي جعلت من أوليفر الحفيد الثاني لرتشارد رجلاً من رجال الثروة المادية والنفوذ في القرن التالي. وذهبت بعض الأسلاب لبناء سفن وحصون وموان وبعضها ساعد في تمويل الحرب وذهب بعضها إلى القصور الملكية في وستمنستر وتشلسي وهامبتون كورت، وفقد الملك بعضها في لعب النرد (19). وأعيدت ستة أديار إلى كنيسة الأنجليكانية لتستخدم كراسي أسقفية، وخصص مبلغ صغير لمواصلة أعمال البر العاجلة التي كان يقدمها فيما سبق الرهبان والراهبات، وأصبحت الأرستقراطية الجديدة التي نشأت بفضل هدايا هنري وعقود البيع التي أبرمها، عضداً قوياً للعرش التيودوري، ودعامة للمصلحة الاقتصادية ضد أي عودة للكاثوليكية. وقد أبادت الأرستقراطية الإقطاعية القديمة نفسها، أما الأرستقراطية الجديدة، التي تأصلت جذورها في التجارة والصناعة، فإنها غيرت طبيعة الأشراف من السلبية المحافظة إلى عمل إيجابي، وصبت دماً جديداً وطاقة جديدة في الطبقات العليا بإنجلترا. ولعل هذا - والأسلوب كان مصدر خصب العهد الإليزبيثي.

ص: 133

وكانت نتائج التحلل معقدة بلا حدود. ولعل الرهبان المتحررين قد أسهموا بدور متواضع أو لم يسهموا في زيادة عدد سكان إنجلترا من حوالي 2. 500. 000 عام 1485 إلى حوالي 4. 000. 000 عام 1547 (20) وساعدت زيادة مؤقتة في عدد المتعطلين على تخفيض أجور الطبقات الدنيا جيلاً كاملاً، وأثبت ملاّك الأراضي الجدد أنهم أكثر جشعاً من القدامى (21).

وكانت النتيجة من الناحية السياسية هي زيادة سلطة الملكية، وفقدت الكنيسة آخر معقل للمقاومة، وكانت النتائج من الناحية الأخلاقية ازدياد الجرائم والخصاصة والتسول وتقلص الموارد اللازمة لأعمال البر (22). وأغلق ما يزيد على مائة مستشفى تديرها الأديار، وقامت السلطات البلدية بتزويد قلة منها بالحاجة. أما المبالغ التي أوصت بها الأرواح الخائفة أو الموقرة للقساوسة، كتأمين ضد نار جهنم أو نار المطهر، فقد صودرت على أساس أن هناك أملاً في ألا يلحق الموتى أذى، وانتزع الملك (23) 2374 من الهبات الموقوفة على إقامة قداسات للأرواح. وكانت أقسى النتائج في مجال التعليم. فقد كانت أديار الراهبات تهيئ مدارس للبنات، وكانت الأديار والقساوسة المشرفون على الهبات المخصصة للقداسات قد حافظت على مدارس وتسعين كلية للبنين، وحلت كل هذه المؤسسات.

وبعد أن ذكرنا الحقائق بإنصاف لا يشوبه إلا تحامل يصدر عن اللاوعي، فإنه يسمح للمؤرخ بإضافة تعليق افتراضي يعترف به. إن جشع هنري وجور كرومويل هما اللذان ساعدا في مدى جيل على تخفيض حتمي في عدد الأديار الإنجليزية وإضعاف نفوذها. وكانت هذه الأديار قد قامت يوماً بعمل يدعوا للإعجاب في مجالات التعليم والبر والعناية بالمرضى في المستشفيات، بيد أن إسباغ الصفة العلمانية على هذه الوظائف كان يسير قدماً في سائر أنحاء غربي أوربا، حتى في المناطق التي كانت تغلب عليها

ص: 134

الكاثوليكية. وكان ضعف الغيرة الدينية والنزعات الدنيوية الأخرى تحتجز تدفق المترهبين على المؤسسات الديرية. وانخفض عدد هؤلاء المترهبين إلى حد بدا أنه لا يتناسب مع فخامة مبانيهم والدخل الذي تدره أراضيهم. ومما يؤسف له أن الموقف قوبل بالاندفاع الفجائي الفظ من كرومويل، بدلاً من خطة ولزى الإنسانية، والأسلم، وتنحصر في تحويل المزيد من الأديار إلى كليات.

وكانت الوسيلة التي لجأ إليها هنري هنا، كما فعل من قبل في سعيه للحصول على ابن، أسوأ من الهدف الذي ينشده. لم يكن هنا بأس في وضع نهاية، إلى حد ما، لاستغلال ورع ساذج بغش يتظاهر بالورع. وإنا لنعرب عن عظيم أسفنا لما حدث للراهبات اللاتي كن في الغالب الأعم يشقين قياماً بالواجب في إقامة الصلوات والتدريس وأعمال البر، بل إن المرء الذي لا يستطيع أن يشاركهن إيمانهن الذي لا يتزعزع يجب أن يكون شاكراً لأن لهن مثيلات يمددن يد العون مرة أخرى، بإخلاص يدوم مدى الحياة، ويلبين حاجة المرضى والفقراء.

‌2 - الإيرلندي العنيد

1300 -

1558

برر الملوك الإنجليز سيطرتهم على إيرلندة على أساس أن قوة معادية في القارة يمكن في أي لحظة أن تستخدم هذه الجزيرة المخضرة للقيام بهجوم جانبي على إنجلترا، وأصبح هذا الاعتبار، بعد حب السلطة، أشد قوة عندما فشلت إنجلترا البروتستانتية في كسب إيرلندة إلى صفها من الكنيسة الرومانية. وكان الشعب الإيرلندي، الذي يعشق البطولة والفوضى والمشهور بالرجولة والعنف، والموهبة الشاعرية، والذي يفتقر إلى النضج السياسي، يقاوم كل يوم خضوعه لدم أجنبي ولغة دخيلة.

ص: 135

وازدادت سيئات الاحتلال الإنجليزي. وعاد كثير من أملاك الأراضي الإنجلو-إيرلنديين إلى إنجلترا في عهد إدوارد الثالث، ليعيشوا هناك في يسر على ما تدره إيجارات الأراضي الإيرلندية، وعلى الرغم من أن المجلس النيابي الإنجليزي ندد مراراً بهذا العمل فإن "ملكية الأرض الغائبة" ازدادت خلال ثلاثة قرون، لتصبح حافزاً أكبر للثورات الإيرلندية. ومال الإنجليز الذين ظلوا في إيرلندة إلى الزواج من فتيات إيرلنديات، وامتزجوا تدريجياً بالدم الإيرلندي، الذي يسيطر عليه المقيمون الإنجليز، ويغلب عليه النفوذ الإنجليزي، تواقاً إلى سد هذه البالوعة السلالية فأجاز قانون كلكتى الشهير (1366) الذي منع، مع بعض النصوص السخية التي لا تخلو من حكمة، الزواج المختلط أو التربيب أو أي علاقات ألفة أخرى بين الإنجليز والإيرلنديين في إيرلندة وأي حديث بالإيرلندية أو تقليد للعادات الإيرلندية أو ارتداء الزي الإيرلندي بواسطة الإنجليز، وإلا تعرضوا للسجن وخسارة الممتلكات، ولم يكن يحق لإيرلندي آنذاك أن يستقبل في أي منظمة دينية إنجليزية، ولا لمنشدين أو قصاصين إيرلنديين أن يدخلوا بيوتاً إنجليزية (24). وفشل هذا الحظر فقد تألقت الورود الإيرلندية، وفاقت سلطة القانون واستمر الاندماج السلالي في تلك المناطق الضيقة مارش أو بوردر أو بيل التي لم يجرؤ الإنجليز على السكنى إلا فيها وحدها

(1)

.

وكان يمكن لإيرلندة إبان حروب الوردتين أن تطرد الإنجليز، لو أن الزعماء الإيرلنديين اتحدوا، ولكنهم آثروا النزاع الأخوي، وشجعهم أحياناً على هذا الذهب الإنجليزي. ووطد هنري السابع من جديد السلطة

(1)

كانت منطقة "بيل" في عام 1500 مقصورة على كونتيات دبلن وميث ولوث وجزء من كليدار.

ص: 136

الإنجليزية في منطقة بيل، ودفع نائبه الإقطاعي سير إدوارد بويننجز في المجلس النيابي الإيرلندي "قانون بويننج" المذل (1494)، ونص على أنه ليس للمجلس النيابي الإيرلندي أن ينعقد في المستقبل حتى تكون كل مشروعات القوانين المقدمة له قد وافق عليها الملك والمجلس الخاص في إنجلترا.

وأصبحت الحكومة الإنجليزية في إيرلندة، بعد أن أضعفت إلى هذا الحد، أشد الحكومات في العالم المسيحي عجزاً وجوراً وفساداً. وكانت حيلتها الأثيرة هي تعيين واحد من ستين زعيماً إيرلندياً كمندوب لنائب الملك، وتفويضه في شراء أو إخضاع الباقين. وحقق جيرالد إيرل كلدار الثامن، الذي عين على هذا النحو، شيئاً من التقدم في هذا الاتجاه وخفف من حدة التمرد بين القبائل، مما ساعد المظالم الإنجليزية على إبقاء إيرلندة ضعيفة وفقيرة. وعند وفاته (1513) عين ابنه جيرالد فيتز جيرالد ليخلف كنائب. وكان لهذا الإيرل التاسع لكلدار سير حياة جارية نمطية للوردات الإيرلنديين. واتهم بالتآمر مع إيرل أف دزموند بالسماح لقوة فرنسية بالنزول إلى أرض إيرلندية، فاستدعي إلى إنجلترا وحكم عليه بالسجن في البرج، وأطلق هنري الثامن سراحه، وعينه من جديد نائباً لدى وعده بمساعدة القضية الإنجليزية بإخلاص. وسرعان ما اتهم بسوء الحكم وأحضر إلى إنجلترا مرة أخرى وأرسل من جديد إلى البرج حيث مات خلال عام (1534)، وأعلن ابنه المخلص "سلكن توماس"(توماس الحريري) فتزجيرالد على الفور الحرب على الإنجليز، وحارب بشجاعة وتهور أربعة عشر شهراً وقهر وشنق (1537).

وفي هذا الوقت كان هنري الثامن قد أكمل إجراءات انفصاله عن الكنيسة الرومانية. وأمر المجلس النيابي بقحة تميز بها أن يعترف به رئيساً للكنيسة في إيرلندة، وكذلك في إنجلترا، فأذعن، وطلب من جميع الموظفين

ص: 137

الحكوميين في إيرلندة أن يحلفوا يميناً بقبول سيادته الكنسية، وفرض أن تدفع كل ضرائب العشور الكنسية مذ ذاك إلى الملك. ودخل المصلحون الدينيون إلى الكنائس في منطقة النفوذ الإنجليزي في إيرلندة وحطموا المخلفات والتماثيل الدينية. وأغلقت الأديار جميعاً ما عدا قلة في مكان قصي، واستولت الحكومة على ممتلكاتها، وطرد رهبانها على أن يمنحوا معاشاً إذا لم يثيروا ضجيجاً، ووزعت بعض الأسلاب على الزعماء الإيرلنديين وقبل معظمهم، بعد أن رشوا على هذا النحو، ألقاب نبلاء من الملك الإنجليزي، واعترفوا بسيادته الدينية وأنكروا قسمهم للبابا (1539)(25). وألغي نظام العشيرة، وأعلن أن إيرلندة مملكة، وهنري ملك لها (1541).

كان هنري ولكنه فان، ومات في خلال خمس سنوات من انتصاره. وبقيت الكاثوليكية في إيرلندة. واعتبر الزعماء مروقهم حادثاً عابراً في السياسة وظلوا كثالكة (كما فعل هنري)، اللهم إلا فيما يختص بتجاهل البابا، وظل القساوسة الذين أيدوهم في خدماتهم الدينية وتقبلوها محافظين تماماً في العقيدة. ولم تتعرض عقيدة الشعب لأي تغيير أو بالحري اكتسبت حيوية جديدة، لأنها حافظت على عزة القومية في وجه ملك ينزع إلى الانشقاق. وفيما بعد أمام ملكة بروتستانتية. وأصبح الكفاح من أجل الحرية أشد مما كان عليه من قبل، لأنه كان وقتذاك يدور لصالح الجسد والروح.

‌3 - ملك من قمة رأسه إلى أخمص قدميه

كان هنري في عام 1540 أعظم ملك يحكم حكماً مطلقاً عرفته إنجلترا، وكان النبلاء النورمنديون القدامى الذين كبحوا جماح وليام الفاتح، يخضعون صاغرين في جبن، ونسوا تقريباً العهد الأعظم (الماجناكارتا) الذي نص

ص: 138

على امتيازاتهم. أما النبلاء الجدد، الذين أثروا من التجارة وأنعم عليهم الملك، فقد وقفوا حاجزاً أمام الثورات الأرستقراطية أو الدينية. وأذعن له مجلس العموم الذي كان يوماً الحامي الغيور للحريات الإنجليزية، وكان وكلاء الملك وقتذاك قد اختاروه بعناية، وخول تقريباً سلطات لم يسبق لها مثيل: الحق في مصادرة الأملاك وتعيين مَن يشاء خلفاً له، وتجديد العقيدة المحافظة والهرطقة، وإرسال رجال للإعدام بعد محاكمة مزيفة، وإصدار إعلانات لها سلطة القوانين الصادرة من المجلس النيابي "كانت روح الاستقلال الإنجليزية في عهد هنري تشتعل خافتة في وقبها وحب الحرية غدا فاتراً (26) ". وقبل الشعب الإنجليزي هذا الحكم المطلق بسبب الخوف من ناحية، ولأنه خيل إليه أنه البديل لحرب ورد أخرى. كان النظام أهم من الحرية.

وأغرت نفس البديلات الإنجليز بتحمل سيادة هنري على الشئون الكنسية، وعندما رأى هنري أن الكثالكة والبروتستانت على استعداد لأن يمسك كل منهما بخناق الآخر، ورأى أن المواطنين الكاثوليك والسفراء والحكام يتآمرون ضده إلى حد الغزو تقريباً، اعتقد أن النظام لا يمكن أن يستتب في الحياة الدينية في إنجلترا إلا بتحديد الملك للعقيدة والشعيرة، وقبل ضمناً حالة السلطة في الدين التي كانت من صنع الكنيسة. وحاول أن يملي مَن يجب أن يتلو الكتاب المقدس. وعندما صادر الأساقفة ترجمة تندال للكتاب المقدس، أمرهم بإعداد ترجمة أفضل، وعندما توانوا طويلاً سمح لكرومويل بتفويض مايلز كوفردال في اعداد ترجمة جديدة. وظهرت أول نسخة كاملة بالإنجليزية في زيورخ عام 1535. ونشرت عام 1539 طبعات منقحة، وأمر كرومويل بأن يوضع هذا "الكتاب المقدس العظيم" في كل كنيسة إنجليزية. ومنح هنري "بدافع من الكرم والطيبة الملكيين" المواطنين امتياز تلاوة الكتاب المقدس في بيوتهم، وسرعان ما أصبح تقليداً

ص: 139

يومياً عند كل أسرة إنجليزية تقريباً. ولكنه كان ينبوعاً للشقاق والإلهام أيضاً، فقد أنبتت كل قرية مفسرين هواة، أثبتوا أي شيء أو عكسه بما ورد في الكتاب المقدس، وتجادل المتعصبون حوله في الكنائس، وتعرضوا لضربات بشأنه في الحانات (27). ومنح بعض الرجال الطموحين زوجاتهم أوامر قضائية بالطلاق، أو احتفظوا بزوجتين في آن واحد، بحجة أن هذا عمل سليم أباحه الكتاب المقدس (28). وأسف الملك لحرية التلاوة التي منحها للناس، وعاد إلى مظاهرة الكاثوليك. وحث المجلس النيابي عام 1543 على سن قاعدة بأنه لا يجوز قانوناً حيازة الكتاب المقدس إلا للنبلاء والملاّك، ولا يجوز لغير القساوسة الوعظ به أو الجدال فيه علناً (29).

وكان من الصعب على الناس - وحتى على الملك - أن يعرف ما يدور في ذهن الملك. واستمر الكثالكة يرسلون إلى المحرقة أو المقصلة بسبب إنكارهم سيادته في الشئون الكنسية، والبروتستانت بسبب جدلهم في اللاهوت الكاثوليكي؛ وعُلِّق فورست وهو رئيس شعبة المتشددين من الفرنسسكان الممتثلين في جرينوتش، رفض أن ينكر سلطة البابا، على نار وهو مكبل بالأغلال، وشوي ببطيء حتى مات (31 مايو سنة 1537)(30).

وقبض على جون لامبرت؛ وهو بروتستانتي بسبب إنكاره وجود المسيح حقيقة في القربان المقدس، وحاكمه هنري بنفسه، وحكم عليه هنري بالموت وأحرق في سمثفيلد (16 نوفمبر سنة 1538) ومع تزايد نفوذ استيفن جاردنر أسقف ونشستر مال هنري أكثر وأكثر نحو العقيدة المحافظة، وفي عام 1539 أعلن الملك والمجلس النيابي والمجمع الأكليروسي بـ "قانون المواد الستة" موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في موضوعات الحضور الحقيقي للمسيح وعزوبة رجال الأكليروس وأقسام رهبان الدير والقداسات من أجل

ص: 140

الموتى، وضرورة الاعتراف السرّي أمام قسيس وكفاية تناول القربان المقدس من ضرب واحد. وكل مَن ينكر شفاهاً أو كتابة، الحضور الحقيقي للمسيح، يتعرض للموت حرقاً دون أن تتاح له فرصة لإنكار ما قال أو للاعتراف أو الغفران، وكل مَن ينكر أية مادة أخرى يجب أن تصادر أملاكه عند ارتكابه الذنب لأول مرة وتزهق روحه عند ارتكابه له مرة أخرى.

وأعلن أن كل الزيجات التي عقدها القساوسة حتى وقتذاك باطلة، وأي قسيس يحتفظ بزوجته بعد ذلك يعد مرتكباً لجريمة الخيانة العظمى (31). وكان الناس لا يزالون محافظين من حيث العقيدة، فوافقوا على هذه المواد، غير أن كرومويل بذل جهده لتخفيفها عند التطبيق، وفي عام 1540 تحول الملك مرة أخرى، فأمر بوقف المطاردة بموجب هذا القانون

ومع ذلك فإن الأسقفين لاتيمر وشاكستون، اللذين لم يوافقا على مواد القانون، عزلا وسجنا. وفي يوم 30 يوليو سنة 1540 تعرض ثلاثة من البروتستانت وثلاثة من الكاثوليك للموت في سمثفيلد في وفاق تم رغم إرادتهم، أما البروتستانت فلأنهم حاولوا التشكيك في بعض العقائد الكاثوليكية، وأما الكثالكة فلأنهم رفضوا الاعتراف بسيادة الملك على الشئون الكنسية (32).

وكان هنري قوياً شديداً في الحكم وفي اللاهوت، وعلى الرغم من أنه احتفظ بحاشية كثيرة العدد، وقضى وقتاً طويلاً في التهام الطعام، فإنه تعب كثيراً في الاضطلاع بأعباء الحكم. واختار أعواناً مهرة وجائرين مثله. وأعاد تنظيم الجيش، وجهزه بأسلحة جديدة، ودرس آخر ما توصل إليه الخبراء في التكتيك والاستراتيجية. وبنى أول أسطول بحري ملكي دائم طهر السواحل والقناة من القراصنة، وأعد العدة للانتصارات البحرية التي تمت في عهد اليزابث، ولكنه فرض على شعبه مكوساً إلى الحد الذي

ص: 141

يحتمله، وخفض قيمة العملة مراراً، وصادر الأملاك الخاصة بحجج واهية، أو طلب "اشتراكات"، وأنكر ديونه، واقترض من آل فوجر، وروج الاقتصاد الإنجليزي مؤملاً أن يعود عليه بدخل إضافي.

وكانت الزراعة في تدهور، وكان رق الأرض لا يزال منتشراً. ولم ينقطع تسوير الأراضي لترعى فيها الأغنام وضاعف ملاك الأراضي الجدد، الذين لم تصدهم تقاليد الإقطاع، إيجارات الأراضي مرتين أو أربع مرات على مستأجريهم، بحجة إرتفاع الأسعار، ورفضوا تجديد عقود الإيجار المنتهية "وشق آلاف المستأجرين الذين جردوا من أراضيهم المستأجرة طريقهم إلى لندن وطرقوا بشدة أبواب المحاكم لرفع الظلم، وهو أمر لم يستطيعوا الحصول عليه (33) ".

ورسم مور الكاثوليكي صورة مؤثرة للفلاحين المتسولين (34)، وندد لاتيمر البروتستانتي بـ "اللوردات الحديثي النعمة الذين يرفعون الإيجارات"، ورأى مثل لوثر ماضياً مثالياً كاثوليكياً. عندما كانت أفئدة الرجال مفعمة بالشفقة والحنان (35). "وفرض المجلس النيابي عقوبات صارمة على الضرب في الآفاق والتسول. وكان قانون 1530 - 31 يفرض على كل مَن يتسول، ويكون قادراً جسمانياً على العمل، سواء كان رجلاً أو امرأة، أن يشد وثاقه إلى عربة وهو عار ويجلد بالسياط في سائر أنحاء المدينة إلى أن يتلطخ جسده بالدم". وإذا عاد لارتكاب الذنب مرة أخرى تقطع أذنه، وإذا ارتكب مرة ثالثة تقطع أذنه الأخرى، ومهما يكن من أمر فإن ارتكاب الذنب للمرة الثالثة كان يعرض المتسول للإعدام (36). ووجد الفلاحون المبعدون تدريجياً عملاً في المُدن وخففت الإغاثة المقررة للفقراء من وقع الخصاصة. وارتفعت إنتاجية الأرض في آخر الأمر بالزراعة على نطاق واسع بيد أن عجز الحكومة عن تخفيف التحول كان بمثابة فشل إجرامي قاس للحنكة السياسية.

ص: 142

وأسبغت الحكومة نفسها الحماية على الصناعة بالتعريفات الجمركية. وأفاد أصحاب المصانع من رخص أجر العمل، الذي تيسر بهجرة الفلاحين للمُدن، وأعادت الطرق الرأسمالية تنظيم صناعة النسيج، ورفعت طبقة جديدة من الأثرياء، لتقف إلى جانب التجار في مساندة الملك. وحل القماش محل القماش محل الصوف باعتباره أهم صادرات إنجلترا. وكانت معظم الصادرات من الضروريات التي تنتجها الطبقة الدنيا، وكانت معظم الواردات من سلع الترف التي لا يحصل عليها إلا الأغنياء (37).

وأفادت التجارة والصناعة من قانون صدر عام 1536 يغير أسعار الفائدة بواقع 10 في المائة. وكان ارتفاع الأثمان السريع في صالح المشروع وبمثابة عقاب حكم به على العمال والفلاحين واللوردات الإقطاعيين من النمط القديم. وارتفعت الإيجارات إلى 1000 في المائة بين عامي 1500 و 1576 (38). وارتفعت أسعار الطعام من 250 إلى 300 في المائة، وارتفعت الأجور بمقدار 150 في المائة (39). وكتب توماس ستار في حوالي عام 1537:"أن الفقر يسود الآن إلى حد يقف فيه أمام أي خير حقيقي ومزدهر للجماعة (40) ".

ووجد أعضاء الطوائف الحرفية شيئاً من الفرج في التأمين والمساعدة المتبادلة، زودهم بما يسد رمقهم، أمام الفقر والنار، غير أن هنري صادر عام 1545 أملاك الطوائف الحرفية (41).

‌4 - التنين يتقاعد

أي ضرب من الرجال كان هذا الملك الغول؟ لقد رسم هولبين الصغير، الذي جاء إلى إنجلترا حوالي عام 1536، صوراً شخصية لهنري وجين سيمور. فالكساء الفاخر يكاد يخفي بدانة الملك، والأحجار الكريمة

ص: 143

وفرو الفاقم، واليد التي تقبض على سيف محلى بالجواهر، تكشف عن استعلاء السلطة وزهو رجل لم يجد مَن يقاومه، والوجه العريض المكتنز ينم على ميل شديد للذات الحسية، والأنف دعامة قوية، والشفتان المضمومتان والعينان القاسيتان تنم على طاغية مستبد سريع الغضب بارد إلى حد القسوة. وكان هنري وقتذاك في السادسة والأربعين، في أوج مجده السياسي، ولكن بدأ الضعف يدب في جسده. وقدر له أن يتزوج ثلاثاً مرة أخرى، ومع ذلك لم يرزق بعدها بذرية. ولم ينجب من زوجاته الست سوى ثلاثة أطفال، عاشوا إلى ما بعد سن الطفولة. وأحد هؤلاء الثلاثة، وهو إدوارد السادس، كان معتل الصحة، ومات في الخامسة عشرة من عمره، وظلت ماري عاقراً بائسة عندما تزوجت، أما إليزابث فإنها لم تجرؤ قط على الزواج، وربما كان ذلك لشعورها بوجود عائق جسماني. وأصابت لعنة شبه العقم أو العيب الجسماني أعظم الأسر الحاكمة اعتزازاً بنفسها في التاريخ الإنجليزي.

وكان هنري حاد الذهن وحكمه على الرجال يدل على الفراهة، وشجاعته عظيمة، وقوة إرادته هائلة. وكان سلوكه فظاً ووساوسه تبددت مع شبابه، ومهما يكن من أمر فإنه ظل مع أصدقائه شفوقاً كريماً، ولطيفاً بشوشاً، قادراً على كسب ودهم وإخلاصهم. وقد ولد ليكون ملكاً، وأحيط منذ ولادته بالخضوع والملق، ولم يجرؤ على معارضته إلا قليلون، وقد دفنوا بعد أن قطعت رءوسهم. وكتب مور عن سجن البرج: "مما يؤسف له كثيراً ولا شك أن نرى أي أمير مسيحي على استعداد لأن يلبي رغباته بواسطة مجلس يركع أمامه، وبواسطة رجال دين ضعاف

والملق، فاشتط في ظلم الناس بصورة مخجلة (42) "، كان هذا هو المصدر الخارجي لنكوص هنري على عقبيه في الخلق - فقد أدى عدم وجود مقاومة

ص: 144

لإرادته، بعد وفاة مور، إلى أن يصبح خائراً معنوياً وبدنياً: ولم يكن أكثر تهاوناً في الجنس من فرانسيس الأول ويبدو أنه بعد حادث آن بولين قد أصبح أشد تحمساً للزواج بواحدة، على التوالي، من شارل الخامس. ولم يكن الانحلال الجنسي أسوأ نقيصة فيه. وكان نهمه للمال لا يقل عن نهمه للسلطة، وقلما سمح لاعتبارات إنسانية أن تقف في زجه استيلائه على الأموال. وليس من شك في أن استعداده المتسم بالجحود لقتل النساء اللاتي أحبهن أو الرجال، أمثال مور وكرومويل، الذين خدموه بإخلاص سنوات طوال، أمر خسيس، ومع ذلك يمكن القول أنه لم يسفك من الدماء عشر ما سفكه شارل التاسع حسن النية، عندما أجاز مذبحة سانت بارتلوميو، أو شارل الخامس عندما صفح عن نهب روما، أو الأمراء الألمان عندما حاربوا ثلاثين عاماً للحصول على حقهم في تحديد المعتقدات الدينية لرعاياهم.

والأصل الداخلي لفساده هو ما تعرضت له إرادته من إحباط متكرر في الحب والأبوة. فقد خاب أمله طويلاً في الحصول على ابن، وصد بطريقة خادعة في طلبه المعقول إعلان بطلان زواجه الأول، وخدعته (كما اعتقد) الزوجة التي خاطر من أجلها بعرشه، وفقد سريعاً الزوجة الوحيدة التي أنجبت له وريثاً، وخدعته في الزواج امرأة أجنبية تختلف عنه تماماً في اللغة والمزاج، وخانته (كما ظن) زوجة خيل إليه أنها ستحقق له آخر الأمر بيتاً تخيم عليه السعادة - ها هو ملك كان يملك إنجلترا بأسرها، ولكنه حرم من المباهج العائلية التي يستمتع بها أبسط زوج في مملكته، وكان يعاني من ألم متقطع بسبب قرحة في ساقه، وكافح الثورات والأزمات في سائر مدة حكمه، واضطر في كل لحظة تقريباً أن يتسلح لصد الغزو والخيانة والاغتيال - فكيف كان في وسع رجل مثل هذا أن ينمو ويصبح سوياً، أو يتحاشا الفساد والتورط في الشك والدهاء

ص: 145

والقسوة؟ وكيف يتأتى لنا، نحن الذين نغضب من وخز محنة نتعرض لها، أن نفهم رجلاً جمع في عقله وفي شخصه عاصفة الإصلاح الديني الإنجليزي وثقله، وحرم شعبه بخطوات محفوفة بالمخاطر من ولاء جذوره عميقة، ومع ذلك لابد أنه كان حرياً بأن يشعر في روحه المنقسمة بدهشة مفتتة - أحرر أمة أو مزق شمل المسيحية؟

كان الوسط الذي عاش فيه هو الخطر وكذلك السلطة. ولم يكن في وسعه قط أن يعرف المدى الذي يصل إليه أعداؤه، أو متى ينجحون. وفي عام 1538 أمر بالقبض على سير جيوفري بول شقيق ريجينالد. وخشي جيوفري أن يتعرض للتعذيب، فاعترف بأنه هو وشقيق آخر يدعى لورد مونتاجو، وسير ادوار فيفيل والمركيز والمركيزة أف إكستر كانوا يتبادلون رسائل تنطوي على خيانة الدولة مع الكاردينال. وظفر جيوفري بالصفح أما إكستر ومونتاجو وآخرون عديدون فقد شنقوا وشطروا إلى أربعة أقسام (1538 - 39)، وأما ليدي اكستر فقد سجنت، ووضعت الكونتيسة أف سالزبوري، والدة بول واخوته الأشقاء تحت الحراسة. وعندما زار الكاردينال شارل الخامس في طليطلة (1539) يحمل له طلباً لا طائل تحته من بول الثالث يرجو فيه من الإمبراطور أن ينظم إلى فرانسيس في تحريم التجارة مع إنجلترا (43)، انتقم هنري بالقبض على الكونتيسة، التي كانت وقتذاك في السبعين من عمرها، ولعله كان يأمل بالاحتفاظ بها في البرج، أن يكبح جماح الكاردينال للغزو. كان كل شيء عادلاً في لعبة الحياة والموت.

وبعد أن ظل هنري عامين دون أن يتزوج أمر كرومويل أن يبحث له عن حلف بالمصاهرة يقوي سلطانه ضد شارل. فنصح كرومويل بالزواج من أخت زوجة الأمير المختار لساكسونيا، وشقيقة الدوق أف كليفس الذي كان وقت ذاك على خلاف مع الإمبراطور. وآلى كرومويل على نفسه

ص: 146

أن يتم هذا الزواج الذي كان يعلق عليه آمالاً بتكوين حلف من الولايات البروتستانتية آخر الأمر، وبهذا يجبر هنري على إلغاء المواد الست المناهضة للوثر. وأرسل هنري المصور هولبين لرسم صورة للسيدة، ولعل كرومويل أضاف بعض التعليمات للفنان، وجاءت الصورة، ورأى هنري أنها محتملة، فهي تبدو حزينة، لا تشجع في الصورة التي رسمها هولبين، والمعلقة في متحف اللوفر، ولكن تقاطيعها ليست أقل وضوحاً من جين سيمور التي رققت لحظة من قلب الملك.

وعندما جاءت آن بشحمها ولحمها، ووقعت أنظار هنري عليها (أول يناير سنة 1540) مات الحب لدى أول نظرة. وأغمض عينيه وتزوجها، وتضرع مرة أخرى أن يرزقه الله بإبن يوطد به وراثة العرش في آل تيودور إذ كان مظهر الأمير إدوارد وقتذاك يدل على ضعفه الجسماني. ولكنه لم يصفح قط عن كرومويل.

وأمر بالقبض على وزيره الذي أفاده أكثر من أي وزير آخر بعد أربعة شهور زاعماً غلطه وفساده. ولم يكن يعترض عليه، فقد كان كرومويل تابعاً يحظى بأكبر نصيب من الكراهية في إنجلترا - بسبب أصله ووسائله وخسته وثروته. وطلب في سجن البرج أن يوقع بيانات يعارض فيها صحة الزواج. وأعلن هنري أنه لم يكن قد قدم "رضاه الباطني" عن الزواج، وأنه لم يدخل بزوجته قط. واعترفت آن بأنها لا تزال عذراء ووافقت على بطلان الزواج، مقابل معاش يوفر لها سبيل الراحة. وكرهت أن تواجه أخاها، فاختارت أن تعيش وجيدة في إنجلترا، وكان لها عزاء صغير في أنها دفنت في مقابل دير وستمنستر عند وفاتها (1557). وقطعت رأس كرومويل يوم 28 يوليو سنة 1540.

وفي اليوم نفسه تزوج هنري من كاثرين هوارد، البالغة من العمر

ص: 147

عشرين عاماً، وهي من أسرة كاثوليكية لا تحيد عن عقيدتها قيد أنملة، وكان هذا كسباً للحزب الكاثوليكي، وكف الملك عن أن يتقرب من البروتستانت بالقارة، وعقد صلحاً مع الإمبراطور، وعندما شعر بأنه أصبح أخيراً آمناً في ذلك الحمى تحول بفكره شمالاً معلقاً الآمال على ضم سكوتلندة، وبذلك يكمل دائرة الحدود الجغرافية لبريطانيا ويضمن لها الأمن. وصرفته عن هذا ثورة أخرى في شمالي إنجلترا. وقبل أن يرحل لقمعها وإخماد مؤامرة دبرت وراء ظهره، أمر بإعدام جميع المسجونين السياسيين في البرج ومنهم الكونتيسة أف سالزبوري (1541). وانهارت الثورة وعاد هنري إلى هامبتون كورت يتخبط في الهموم، لينشد السلوى عند ملكته الجديدة.

وكانت كاثرين الثانية أجمل زوجاته، وتعلم الملك كيف يحبها تقريباً، وهو يعتمد أكثر من قبل على الخدمات الجديرة بزوجة، وحمد الله على الحياة الطيبة التي كان يعيشها، والتي راوده الأمل في أن يحققها تحت إشرافها، ولكن في اليوم الذي ردد فيه تسبيحة الشكر هذه (2 نوفمبر سنة 1541) سلمه رئيس الأساقفة كرانمر وثائق تدل على أن كاثرين كانت لها علاقات سابقة للزواج مع ثلاثة خاطبين متعاقبين. واعترف اثنان من هؤلاء وكذلك اعترفت الملكة. وقال السفير الفرنسي في تقرير له: أن هنري تملكه حزن شديد، حتى ساد الاعتقاد بأنه جن (44). وأمضه الخوف من أن تكون لعنة الله قد حلت بكل زيجاته. وكان يميل إلى الصفح عن كاثرين، ولكن قدم إليه دليل على أنها اقترفت الزنى مع ابن عمها بعد زواجها بالملك. وأقرت بأنها استقبلت ابن عمها في جناحها الخاص في ساعة متأخرة بالليل، ولكن حدث هذا في حضور الليدي روشفورد، وأنكرت أنها ارتكبت أي ذنب وقتها، أو في أي وقت منذ زواجها، وشهدت ليدي روشفورد بصحة هذه البيانات بقدر ما وصل إلى علمها (45). بيد أن المحكمة

ص: 148

الملكية أعلنت أن الملكة مذنبة. وفي يوم 13 نوفمبر سنة 1542 قطع رأسها في نفس البقعة التي سقط فيها رأس آن بولين قبل ذلك بست سنوات، أما عشاقها فقد حكم عليهم بالسجن مدى الحياة.

وكان الملك وقتذاك رجلاً محطماً. وأعيت قرحته طب عصره، وكان الزهري الذي لم يشفَ منه تماماً ينتشر ويعيث فساداً في هيكله (46). وبعد أن فقد لذة الحياة سمح لنفسه بأن يصبح كتلة ضخمة من اللحم، وكان خداه متهدلين ويكادان يغطيان فكيه، وكادت عيناه الضيقتان أن تختفيا في تلافيف وجهه. ولم يكن في وسعه أن يسير من غرفة إلى أخرى دون أن يستند إلى أحد. وأدرك أنه لن يعيش إلا بضع سنوات فأصدر (1543) مرسوماً جديداً يحدد فيه وراثة عرشه: يتولاه أولاً إدوارد ثم ماري ثم اليزابث، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن مَن تليهم في سلسلة النسب هي ماري ستيوارت ملكة أسكوتلندة. وقام بمحاولة لكي ينجب ولداً صحيحاً معافى، بعد أن حثه مجلسه مراراً فبنى بزوجة سادسة (12 يوليو سنة 1543). وكانت كاثرين بار قد عاشت بعد وفاة زوجين سابقين، ومع ذلك فإن الملك لم يعد يصر على الزواج من عذارى. وكانت امرأة على حظ من الثقافة والفطنة، فقامت برعاية مريضها الملك في صبر، وصالحته مع ابنته اليزابث، التي طال إهماله لها، وحاولت أن تلطف لاهوته، وتخفف حماسته للاضطهاد.

ولم تنقطع المشاعل اللاهوتية حتى نهاية حكمه، فأحرق ستة وعشرون شخصاً بتهمة الهرطقة في الثماني السنوات الأخيرة من عهده. وفي عام 1543 أبلغ الجواسيس الأسقف جاردنر أن هنري فيلمر قال:"إذا كان الرب موجوداً حقاً (في القربان المقدس) فإني أكون قد أكلت في حياتي عشرين رباً". وأن روبرت تسوود حذر القسيس عند رفع القربان المقدس، من أن يترك الرب يسقط، وأن أنتوني بيرسون وصف كل

ص: 149

قسيس يعظ الناس بأي شيء سوى "كلمة الله" - أي الكتاب المقدس - يكون لصاً. وأحرق كل هؤلاء الرجال تنفيذاً لأوامر أصدرها الأسقف الأنجليكاني، في مرج أمام القصر الملكي في وندسور. وانزعج الملك لأنه وجد أن الدليل الذي قدمه شاهد في هذه القضايا كان قسماً زوراً، وأرسل الجاني الأثيم إلى سجن البرج (47). وفي عام 1546 أدان جاردنر أربعة آخرين، وأرسلهم إلى المحرقة لإنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان المقدس. وكانت إحداهم امرأة شابة تدعى آن أسكيو تشبثت بهرطقتها طوال خمس ساعات من الاستجواب وقالت في محاكمتها:"إن ما تسمونه ربكم قطعة من الخبز، والدليل على ذلك أنكم لو تركتموها في صندوق لمدة ثلاثة شهور لتعفنت". وعذبت حتى أشرفت على الموت لكي تكشف عن أسماء هراطقة آخرين، وظلت صامتة لم تنبس ببنت شفة، وهي تتوجع، وسارت إلى حتفها وهي تقول:"إنني سعيدة كواحدة كتب عليها أن تتجه للسماء (48) ". ولم يكن للملك دور فعال في هذه المطاردات غير أن الضحايا استغاثوا به دون جدوى.

واشتبك عام 1543 في حرب مع أسكتلندة و"أخيه المحبوب" فرانسيس الأول، وسرعان ما وجد نفسه متحالفاً مع عدوه القديم شارل الخامس، ولكي يمول حملاته طالب رعاياه بتقديم "قروض" جديدة، وامتنع عن سداد قروض عام 1542 وصادر الهبات للجامعات (49). وحمل إلى ميدان القتال ليشترك فيها شخصياً وأشرف على حصار بولونيا والاستيلاء عليها. وغزت جيوشه أسكتلنده، وهدمت أديار ملروز ودرايبورج وخمسة أديار أخرى، ولكنها هزمت هزيمة منكرة في انكرم مور (1545)، وأبرم اتفاق فيه فائدة مع فرنسا (1546)، واستطاع الملك أن يموت في سلام.

وكان وقتذاك ضعيفاً واهناً إلى حد أن الأسر النبيلة أخذت تتنازع

ص: 150

فيما بينها على مَن تكون له الوصاية على إدوارد الصغير. وكان إيرل أف سوري، وهو شاعر، واثقاً أن أباه الدوق أف يورك سوف يكون وصياً إلى حد أنه اتخذ درعاً وضع عليه شارة لا تصلح إلا لولي العهد، وقبض هنري عليهما معاً فاعترفا بأنهما مذنبان وقطع راس الشاعر في التاسع من يناير عام 1547، أما الدوق فقد سجل في قائمة انتظار الذين ينفذ فيهم حكم الإعدام بعد السابع والعشرين فوراً.

ولكن الملك مات في اليوم الثامن والعشرين، وكان في الخامسة والخمسين من عمره، ولكنه عاش عمره عشرات المرات. وترك مبلغاً كبيراً، يدفع لإقامة قداسات لكي ترقد روحه في اطمئنان.

وقد دام عهده سبعة وثلاثين عاماً، حول إنجلترا إلى بلاد أخرى أعمق مما كان يتصور أو يشتهي. وفكر في أن يخلف البابا، ويترك العقيدة القديمة التي عودت الناس على القيود الأخلاقية والخضوع للقانون دون أن يمسها بتغيير، ولكن تحديه للبابوية الذي صادفه التوفيق، وتشتيته السريع للرهبان والمخلفات، وإذلاله المتكرر لرجال الأكليروس، ونزعه لملكية الكنيسة وإسباغ الصفة العلمانية على الحكومة، كل ذلك أضعف الهيبة الكنسية والسلطة الدينية إلى حد كبير، مما أدى إلى حدوث التغييرات اللاهوتية التي أعقبت ذلك في عهدي إدوارد وإليزابث. كان الإصلاح الديني الإنجليزي أقل اعتماداً على العقيدة من الإصلاح الديني الألماني، ولكنهما أثمرا نفس النتيجة البارزة - وهي انتصار الدولة على الكنيسة. ونجا الشعب من براثن بابا معصوم ليقع في أحضان ملك مستبد.

ولم يغنم شيئاً من الناحية المادية. فقد دفع ضرائب العشور كما دفع من قبل، غير أن صافي الفائض عاد إلى الحكومة. وكان كثير من لفلاحين يزرعون وقتذاك أراضيهم المستأجرة "للورداتهم المحدثين"، وكانوا

ص: 151

أشد قسوة من الرهبان الذين اتخذ منهم كارلايل مثالاً في كتابه "الماضي والحاضر".

ومن رأي وليام كوبت أن "الإصلاح الديني الإنجليزي" كان في الحقيقة من وجهه الاجتماعي، ثورة قام بها الأغنياء ضد الفقراء (50)، وتشير سجلات الأسعار والأجور إلى أن العمال الزراعيين وعمال المُدن كانوا أحسن حالاً عندما ارتقى هنري العرش منهم عند وفاته (51).

وكانت المظاهر الأخلاقية لهذا العهد سيئة، فقد ضرب الملك للأمة مثلاً يدل على فساد خلقه بانغماسه في علاقات جنسية وبانتقاله الفظ في خلال بضعة أيام من مصرع زوجة إلى فراش الزوجة التالية وبقسوته الهادئة وعدم أمانته المالية وجشعه المادي. وأشاعت الطبقات العليا الفوضى في البلاط والحكومة بما دبرته من مؤامرات فاسدة. وتبارى الأعيان مع هنري في الاستحواذ على ثروة الكنيسة وابتز رجال الصناعة عمالهم وابتزهم الملك. ولم تكمل الصورة باضمحلال البر لأنه بقي هناك الخضوع الحقير لحاكم مطلق أناني من شعب يرتجف هلعاً. ولم ينقذ الموقف سوى شجاعة الشهداء البروتستانت والكاثوليك وأشرفهم فيشر ومور قد اضطهدا في دورهما.

وإذا تأملنا بمنظور واسع هذه السنوات المريرة نجد أنها كانت تحمل بعض الثمار الطيبة. ولم يكن هناك بد من الإصلاح الديني. ولابد أن نذكر أنفسنا مراراً وتكراراً بهذا ونحن نسجل شيطنة القرن الذي ولد فيه، كان الانفصام عن الماضي عنيفاً ومؤلماً ولم يكن في الإمكان زعزعة قبضته على أذهان الناس إلا بتوجيه ضربة وحشية. وعندما أزيل الكابوس أصبحت روح القومية، التي سمحت في أول الأمر بالاستبداد، حماسة شعبية وقوة خلاقة. وأدى تخلص الشئون الإنجليزية من البابوية إلى ترك الناس تحت رحمة الدولة حيناً من الزمن، ولكنه أجبرهم في المدى الطويل على الاعتماد

ص: 152

على أنفسهم في كبح جماح حكامهم والمطالبة، عقداً وراء عقد، بقدر من الحرية يكافئ ذكائهم. ولن تكون الحكومة قوية دائماً كما كانت في عهد هنري الرهيب، بل سوف تكون ضعيفة في عهد ابن عليل وابنة تطوي جوانحها على مرارة شديدة، ثم تنهض الأمة بعد أن تتفجر طاقتها المنطلقة من عقالها في عهد ملكة مذبذبة، ولكنها ظافرة، وترفع نفسها إلى مرتبة زعامة الفكر الأوربي. ولو لم تكن إنجلترا قد تحررت على يد أسوأ وأقوى ملوكها فربما كان قدر للعالم ألا يرى إليزابث وشكسبير.

ص: 153

الفصل السادس والعشرون

‌إدوارد السادي وماري تيودور

‌1547 - 1558

1 -

حماية سومرست

لقد رسم هولبين صورة تعد من أعظم صوره على الإطلاق جاذبية للصبي البالغ من العمر عشر سنوات، والذي ارتقى عرش إنجلترا باسم إدوارد السادس، وذلك قبل ارتقائه العرش بأربع سنوات: قلنسوة مزينة بالريش، وشعراً أحمر، ورداء له بنيقة من فرو للفاقم، ووجهاً فيه من الدعة والرقة التي تنم على قلق دفين، ما يدفعنا إلى الظن بأنه ورث كل هذه الصفات من جين سيمور ولم يرث شيئاً من هنري الثامن. ولعله ورث عنها ضعفها الجسماني الذي جعلها تدفع حياتها فداء له، ولم يوفق يوماً في الحصول على القوة التي تعينه على الحكم. ومع ذلك فإنه قام بالتبعات الملقاة على عاتقه باعتباره أميراً أو ملكاً بإخلاص نبيل، فدرس اللغات والجغرافية وفن تدبير الحكم والحرب بشغف، وفرض رقابة دقيقة على كل شئون الدولة التي تصل إليها معرفته، وأبدى للجميع ما عدا الكثالكة المنشقين شفقة عظيمة وحسن نية كبيرة، إلى حد أن إنجلترا ظنت أنها دفنت غولاً لتتوج قديساً. وتعلم على يد كرانمر فأصبح بروتستانتياً متحمساً، ولم يكن من أنصار توقيع أي عقوبة قاسية على مَن يتهم بالهرطقة، ولكنه كره أن يترك أخته غير الشقيقة ماري تحضر القداس، لأنه كان يؤمن بإخلاص أن القداس أشد ضروب عبادة الأوثان كفراً. وقبل مسروراً القرار الذي اتخذه المجلس

ص: 154

الملكي باختيار عمه إدوارد سيمور- الذي أنعم عليه حالاً بلقب دوق أف سومرست- وصياً عليه، وقد آثر انتهاج سياسة بروتستانتية.

كان سومرست رجلاً على حظ من الذكاء والشجاعة، ويتصف بتماسك، يشوبه بعض النقص، وإن كان في عصره من السجايا البارزة، وكان وسيماً رقيق الحاشية كريما، وأخجل بسيرته الطبقة الأرستقراطية الجبانة التي كانت لا تنشد إلا مصلحتها، وتغفر له كي شيء إلا تعاطفه مع الفقراء. وعلى الرغم من أنه كان يتمتع بسلطة مطلقة تقريباً، فإنه قضى على الحكم المطلق الذي أقامه هنري السابع وهنري الثامن، وسمح للناس بحرية أكبر في التعبير بالكلام، وخفض عدد الأفعال التي كانت تعد فيما سبق من قبيل خيانة الدولة أو الخيانة العظمى، واقتضى وجود دليل أقوى للحكم بثبوت الجريمة، وأعاد إلى أرامل المحكوم عليهم صداقهن، وألغى القوانين الجائرة الخاصة بالدين والتي صدرت في العهد السابق. وظل الملك رئيساً للكنيسة الإنجليزية. وكان الحديث في غير خشوع عن القربان المقدس جريمة تستحق العقاب، بيد أن القانون نفسه أمر بأن يقدم القربان المقدس بالصورتين المعروفتين، ونص على أن الإنجليزية هي لغة الصلاة، ورفض المطهر والقداسات للموتى. وعاد البروتستانت الإنجليز الذين كانوا قد فروا من إنجلترا ومعهم لقاح لوثر وزونجلى وكالفن، وعندما اشتم مصلحون أجانب عبير الحرية الجديدة، جاءوا معهم إلى الجزيرة المضطربة بأناجيل متعددة.

وأقبل بيتر مارتير فيرمجلي ومارتن بوسر من ستراسبورج، وجاء برنادرينو أوكينو من أجسبورج، وجان لاسكي من إمدن. وعبر المنكرون للتعميد والقائلون بوحدة الكنيسة القناة للتبشير في إنجلترا بهرطقات أفزعت البروتستانت بقدر ما أفظعت الكاثوليك. وأزالت الجماهير محطمة الأصنام في لندن والصلبان والصور والتماثيل من الكنائس، ووعظ نيكولاس ريدلي، عميد كلية بمبروك، بجامعة كامبردج بعنف ضد الصور الدينية والماء المقدس،

ص: 155

ولكي يتفوق عليهم جميعاً رئيس الأساقفة كرانمر "أكل اللحم علناً في الصوم الكبير، وهو أمر لم يشهده أحد قط من قبل مذ أصبحت إنجلترا بلداً مسيحياً (1) ". ورأى المجلس الملكي أن هذا قد تجاوز الحد، ولكن سومرست تغلب عليه، وأطلق الحرية للإصلاح الديني. وأصدر المجلس النيابي (1547) برئاسته أمراً بنزع كل صورة على جدار كنيسة أو نافذتها تشيد بذكر نبي أو حواري أو قديس "حتى لا تبقى هناك أي ذكرى له نفسه". وحطم معظم الزجاج الملون في الكنائس وسحقت أغلب التماثيل، واستبدل بالصلبان شعارات ملكية، واتخذت الجدران المبيضة بالكلس والنوافذ ذات الزجاج الأبيض لونها من ديانة إنجلترا.

وكان في كل محلة كفاح مرير من أجل فضة الكنيسة وذهبها، واستولت الحكومة عام 1551 على ما تبقى. وبقيت تقريباً كاتدرائيات القرون الوسطى الفخمة.

وكان الأسقف كرانمر هو الذي تزعم حركة القيام بهذه التغيرات، وكان خصماها الكبيران أدموند بونر، أسقف لندن، وستيفن جاردنر، أسقف ونشستر، وقد أمر كرانمر بإرسالهما إلى سجن فليت

(1)

. وفي غضون ذلك كان الأسقف يقوم منذ سنوات بمحاولة ليقدم في كتاب واحد بديلاً للكتاب المقدس وكتاب الصلوات عند الكنيسة المغلوبة على أمرها. وساعده بيتر مارتير وعلماء آخرون، بيد أن هذا الكتاب الأول للصلاة العامة (1548) كان أصلاً ثمرة جهد شخصي لكرانمر، امتزجت فيه الحماسة للعقيدة الجديدة بإحساس رقيق لجمال رزين في الشعور واللفظ بل أن ترجماته من اللاتينية فيها سحر عبقريته.

(1)

سجن في لندن أطلق عليه هذا الاسم بسبب قربه من نهر فليت، وهو مصب (مغطى الآن) لنهر التيمس.

ص: 156

ولم يكن الكتاب ثورياً تماماً فقد أخذ ينتهج بعض السوابق اللوثرية مثل رفض سمة التضحية في القداس، ولكنه لم ينكر أو يؤكد التجسيد، واحتفظ بالكثير من الشعيرة الكاثوليكية، وكان يمكن قس من أنصار الكنيسة الرومانية لا يدقق كثيراً أن يقبلها. ولم يقدمه كرانمر إلى المجمع الأكليروسي بل قدمه إلى المجلس النيابي، ولم تكن هذه الهيئة العلمانية تطوي بين جوانحها أي تبكيت مصدره سلطة قضائية في النص على شعيرة أو عقيدة دينية. وأصبح الكتاب قانوناً للمملكة، وصدرت الأوامر لكل كنيسة في إنجلترا للعمل به. وأعيد سجن بونروجاردنر، وكانا قد أطلق سراحهما في عفو عام 1549، وذلك عندما رفضا الاعتراف بحق المجلس النيابي في سن تشريع في مجال الدين. وسمح للأميرة ماري بحضور قداس في خلوة بجناحها.

ونشأ موقف دولي خطير أدى إلى تهدئة الجدل العنيف بين الكثالكة والبروتستانت إلى حين. وطلب هنري الثاني ملك فرنسا الجلاء عن بولونيا، وعندما رفض طلبه أعد لحصارها، والحق إن ماري ستيوارت، ملكة الاسكتلنديين، وكانت وقتذاك في الخامسة من عمرها وتقيم في فرنسا، كانت حرية بأن تدخل إسكتلندة في الحرب. وعندما علم سومرست أن الاسكتلنديين يتسلحون ويثيرون فتنة في إيرلندة قاد قوة عبر بها الحدود وهزمهم في بنكي كليو (10 سبتمبر سنة 1547)، وكانت الشروط التي عرضها على الاسكتلنديين سخية وتدل على بعد نظر: لن يتعرض الاسكتلنديون إلى التفريط في حريتهم أو مصادرة أملاكهم، وتتحد إسكتلندة وإنجلترا في "إمبراطورية بريطانيا العظمى". ولكل أمة أن يكون لها حكم ذاتي تطبق فيها قوانينها الخاصة، ولكن كلا البلدين تحكمهما، بعد الحكم الجاري، ذرية ملكة الاسكتلنديين، وكان هذا على وجه الدقة الاتحاد الذي تم في عام 1603، اللهم إلا إذا استثنينا أنه يسر عودة الكاثوليكية

ص: 157

إلى إنجلترا وتواصلها في إسكتلندة. ورفض الكثالكة في إسكتلندة المشروع خشية أن تصل عدوى البروستانتية الإنجليزية إلى بلادهم، وإلى جانب هذا كان النبلاء الاسكتلنديون يتلقون مرتبات من الحكومة الفرنسية، وكانوا يرون أن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.

وأحبطت مساعي سومرست في سبيل السلام وواجه الحرب مع فرنسا، وجاهد أن يرسي دعائم مصالحة بين عقائد لا تعرف المصالحة في الوطن، وترامى إلى أسماعه دقات متجددة لطبول ثورة زراعية في إنجلترا، فشرب كأس السلطة حتى الثمالة عندما دبر شقيقه مؤامرة للإطاحة به. ولم يقنع توماس سيمور بأن يكون اللورد الأمير البحار وعضو المجلس الخاص بل كان يريد أن يصبح ملكاً. فتودد إلى الأميرة ماري ثم إلى الأميرة اليزابيث، ولكن عبثاً. وتلقى مالاً مسروقاً من دار السكة وأسلاباً من القراصنة الذين سمح لهم بالدخول في القناة، وعندما حصل على الأموال اللازمة حشد مخازن سرية للأسلحة والذخيرة. واكتشفت مؤامرته، واتهمه إيرل وأورويك وإيرل سوثهامبتون، وأدانه مجلسا البرلمان بالإجماع تقريباً وحكم عليه في 20 مارس سنة 1549 بالإعدام، وحاول سومرست أن يحميه، ولكنه فشل، وسقطت وضاعت هيبة الحامي بسقوط راس أخيه.

وألحقت ثورة كيت الخراب الشامل بسومرست. وأوضحت تلك الثورة مدى ما تتسم به من شذوذ ظاهر، فبينما كانت ثورة الفلاحين في ألمانيا بروتستانتية، كانت في إنجلترا كاثوليكية، وفي كل حالة كان الدين مظهراً للاستياء من الحالة الاقتصادية، وفي إنجلترا كان المظهر كاثوليكياً لأن الحكومة كانت وقتذاك بروتستانتية. وكتب فرود البروتستانتي يقول:"في التجربة التي خاضها فقراء المزارعين كانت زيادة معاناة الأشخاص نتيجة رئيسية للإصلاح الديني (2) ".

ص: 158

ومما يفاخر به رجال الدين البروتستانت في هذا العهد- كرانمر ولاتيمر وليفر كراولي، أنهم استنكروا الاستغلال الشديد للفلاحين، ولقد ندد سومرست في غضب شديد باغتصاب الملاك الجدد "الذين برزوا من الحضيض" لثورة المدينة (3).

ولم يكن في وسع المجلس النيابي أن يفكر في وسائل علاج أكثر حكمة من إجازة قوانين صارمة ضد التسول، وأن يوجه الكنائس بأن تتولى جمع تبرعات للفقراء كل أسبوع: وأرسل سومرست لجنة تتقصى الحقائق عن الأراضي المسورة والإيجارات المرتفعة، وقوبلت بمقاومة مستورة حيناً أو صريحة حيناً آخر من ملاّك الأراضي، وأرهب المستأجرون إلى حد العمل على إخفاء أخطائهم، ورفض المجلس النيابي الأخذ بالتوصيات المتواضعة للجنة وكان يمثل الأعيان فيه ملاك المناطق الزراعية. وافتتح سومرست محكمة خاصة في داره لسماع شكاوى الفقراء، وانضم عدد من النبلاء، أخذ يتزايد يوماً بعد يوم، ويتزعمهم جون دولي، إيرل أف وأرويك، إلى حركة تستهدف خلعه.

ولكن الفلاحين كانوا وقتذاك غاضبين بسبب الأخطاء المتراكمة وفشل القضايا المرفوعة لرد الحيف، فانفجروا في ثورة امتدت من أقصى إنجلترا إلى أدناها، وثارت أولاً سومر ستشاير ثم ولتز وجلوسستر شاير ودورست وهامبشاير وبروكس وأكسفورد وبكنجهام في الغرب كورنول وديفون، وفي الشرق نورفولك وكنت. ونظم روبرت كنت وهو من صغار ملاّك الأراضي في نورويتش، الثوار وقبض على زمام الحكم البلدي وأقام كومونا للفلاحين تولى حكم المدينة وما وراءها شهراً. وضرب كنت مخيماً عسكر فيه 16. 000 رجل، وهناك كان يجلس يومياً تحت شجرة سنديان للحكم بين ملاّك الأراضي المذنبين الذين قبض عليهم الفلاحون. ولم يكن متعطشاً للدماء، فالذين أدانهم وحكم عليهم سجنوا وقدم إليهم الطعام. ولم يكن يقيم وزناً كبيراً لحقوق

ص: 159

الملكية وصكوكها وأمر رجاله بأن ينقبوا في الأراضي الريفية المجاورة وأن يقتحموا المنازل في الضياع، ويصادروا كل الأسلحة ويسوقوا كل الماشية، ويستولوا على كل المؤن حيثما وجدت لصالح الكومون. أما الأغنام، وهي أكبر خصوم للفلاح في الانتفاع بالأرض، فقد جمع منها 20. 000 رأس، ووزعت للاستهلاك في كثير من السرف، "عجول لا تحصى" وبجع وأيلات وبط وغولان وخنازير. ومع ذلك فقد حافظ كنت وسط هذه الوليمة على نظام عجيب، بل وسمح لواعظ بدعوة الرجال إلى التخلي عن الثورة. وشعر سومرست بكثير من التعاطف مع الثوار، ولكنه اتفق في الرأي مع وأرويك على تشتيتهم، لئلا يهدم البناء الاقتصادي بأسره في الحياة الإنجليزية. وأنفذ وأرويك مرة أخرى لقتالهم ومعه جيش كان قد حشد حديثاً للقتال في فرنسا. وعرض على الثوار منحهم عفواً عاماً، إذا عادوا إلى بيوتهم وآثر كت في القبول، بيد أن بعض المتهورين رأوا حسم الأمر بالمعركة، فأذعن كت لهم. وتقررت النتيجة يوم 17 أغسطس سنة 1549، وانتصر تكتيك وأرويك، وقتل 3500 ثائر، ولكن عندما استسلم الباقون قنع وأرويك بشنق تسعة، وأرسل كت وأحد أشقائه إلى السجن في لندن. ووصلت أنباء الهزيمة إلى جماعات الثوار الأخرى فخارت عزيمتهم، ووضعت جماعة إثر أخرى أسلحتها، بعد أن وعدت بالحصول على عفو عام. واستخدم سومرست نفوذه لإطلاق سراح معظم الزعماء وبقي أشقاء كت على قيد الحياة إلى حين.

واتهم الحامي بأنه شجع على الثورة بتعاطفه الصريح مع الفقراء، ووصم بالفشل في الشئون الخارجية لأن فرنسا كانت وقتذاك تحاصر بولونيا. واتهم بحق بالسماح بالفساد بين موظفي الحكومة وتخفيض قيمة العملة ومضاعفة ثروته وبناء بيت سومرست الفخم، وسط الظروف التي أشرفت فيها الأمة إلى الإفلاس. وتزعم وأرويك وسوثهامبتون حركة لإقصائه عن مقعده،

ص: 160

وكان معظم النبلاء على استعداد للتغاضي عن ثروته، ولكنهم لن يغفروا له أبداً عطفه على فلاحيهم، فانتهزوا الفرصة للإنتقام. وفي 12 أكتوبر سنة 1549 سيق الدوق أف سومرست باعتباره سجيناً في موكب اخترق شوارع لندن وسجن في البرج.

‌2 - حماية وارويك

(1549 - 53)

كان أعداء سومرست رقيقي الحاشية بمقاييس ذلك العهد. وحرم من الأملاك التي اكتسبها إبان وصايته على العرش، وأطلق سراحه يوم 6 فبراير سنة 1550، واسترد عضويته في المجلس الملكي في مايو. ولكن وارويك كان وقتذاك حامي المملكة.

وكان مكيافيليا صريحاً، وعلى الرغم من أنه كان ينزع في أعماق نفسه إلى الكاثوليكية إلا أنه سلك نهجاً بروتستانتياً لأن خصمه سوثهامبتون كان الزعيم الذي ارتضاه الكاثوليك لهم، وكان أغلب النبلاء مرتبطين مالياً بالعقيدة الجديدة. وقد تعلم جيداً فن الحرب ولكنه أدرك أنه لن يستطيع أن يحتفظ ببولونيا أمام فرنسا التي تملك ضعف موارد إنجلترا، معتمداً على حكومة مفلسة وشعب معدم، وسلم المدينة إلى هنري الثاني ووقع معاهدة صلح مهينة كان لابد منها (1550).

وفي ظل سيطرة ملاك الأراضي من النبلاء أو العامة وافق المجلس النيابي (1549) على قانون يعاقب بشدة على ثورة الفلاحين. وأيد قانون صريح وجود الأراضي المسورة، وألغيت الضرائب التي كان سومرست قد فرضها على الأغنام والصوف لكي تفتر همة الناس في إقامة الحظائر. ونص القانون على عقوبات صارمة توقع على العمال الذين يتحدون لرفع أجورهم (4). وأعلن عدم شرعية الاجتماعات التي تعقد لمناقشة تخفيض الإيجارات أو الأسعار، ومصادرة ممتلكات الأشخاص الذين يحضرونها. وشنق روبرت

ص: 161

كت وأخوه، واشتد الفقر، بيد أن دور البر التي اكتسحتها الثورة الدينية لم تنشأ دور بدلاً منها، وأصبح المرض متوطناً، ولكن المستشفيات كانت مهجورة. وتضور الناس جوعاً، ولكن العملة خفضت قيمتها مرة أخرى وارتفعت الأسعار. ثم إن ملاك الأراضي في إنجلترا الذين كانوا أقوياء في يوم من الأيام أخذوا يهلكون، وكان أفقر الفقراء يغرقون في بحر الهمجية (5). وكانت الفوضى الدينية لا تقل عن الفوضى الاقتصادية، وظلت أغلبية الناس كاثوليكية (6)، بيد أن انتصار وارويك على سوثهامبتون تركهم بلا قائد وشعروا بضعف موقف الذين يظاهرون الماضي. وأدى انهيار سلطة القساوسة الروحية والأدبية، وكذلك عدم استقرار الحكومة وفسادها إلى السماح لا بازدياد الفجور فحسب، ولكن إلى استفحال الهرطقة، بصورة أفزعت الكثالكة والبروتستانت على السواء. ووصف جون كليمنت (1551) "الأنواع العجيبة من الطوائف التي احتشدت في كل مكان لا من أنصار البابوية فحسب

ولكن من الآريوسيين المنكرين للتعميد وكل صنوف الهراطقة الآخرين أيضاً

بعضهم ينكر أن الروح القدس هو الرب، والبعض ينكر الخطيئة الأولى، والبعض الآخر ينكر القدر

وعدد لا يحصى من أمثال هؤلاء، يقصر بنا المقام عن ذكرهم (7). وكتب روجر هتشنسون (حوالي عام 1550) عن "الصدوقيين والفاسقين (أحرار الفكر)، الذين يقولون: "إن الشيطان" ليس إلا

غرام دنس بالجسد

وأنه ليس هناك موضع للطمأنينة أو العذاب بعد هذه الحياة الدنيا، وأن الجحيم ليس إلا ضميراً يائساً يعذب صاحبه، وأن الجنة ضمير مبتهج ساكن مرح (8) ".

وتحدث جون هوبر، أسقف جلوسستر البروتستانتي فقال: "هناك مَن يقول إن روح الإنسان ليست أفضل من روح حيوان، وأنها فانية وهالكة، وهناك أشقياء يتجاسرون في اجتماعاتهم على القول بأن

ص: 162

المسيح ليس هو المخلص لنا، بل يذهبون إلى أن الطفل المبارك مؤذ ومحتال (9) ".

وأفاد الناس من الحرية التي منحها لهم سومرست فطعن جناح متهور من البروتستانتية في الدين القديم طعناً قاسياً وتهكم طلبة جامعة أكسفورد بالقداس بمحاكاته في مسرحياتهم الهزلية، ومزقوا كتب القداس إرباً، واختطفوا الخبز المقدس من المذبح ووطئوه بالأقدام. وأطلق وعاظ لندن على هؤلاء القساوسة اسم:"عفاريت بغى بابل" - أي البابا (10). والتقى رجال الأعمال في مؤتمرات بكاتدرائية سانت بول، واجتمع هناك الشبان من ذوي النخوة وقاتلوا وقتلوا. وكانت الحماية الجديدة وقتذاك بروتستانتية على التحقيق. وعين المصلحون الدينيون في أسقفيات بشرط أن يحولوا جانباً من دار الأسقفية إلى رجال الحاشية الذين كان لهم الفضل في تعيينهم (11)، وقضى المجلس النيابي (1550) بإزالة كل اللوحات والتماثيل من أي كنيسة في إنجلترا ما عدا "الصور التذكارية للملوك أو النبلاء الذين لم يسلكوا قط في عداد القديسين" وأتلفت كل كتب الصلاة (12) ما عدا كتاب كرانمر. وصودرت أو بيعت ووهبت الثياب الكهنوتية والقباءات وكسوة المذبح، وسرعان ما ازدانت بها بيوت النبلاء (13). وأصدر المجلس أمراً بمصادرة كل آنية مخصصة للتبرعات بقيت في الكنائس بعد عام 1550 لصالح الخزنة. وانتزع المجلس النيابي فيما بعد للحكومة العملات التي في صناديق التبرعات للفقراء بالكنائس (14). ووجدت أموال أخرى للحكومة أو لموظفيها بإلغاء المنح الدراسية للطلبة الفقراء ومنع الأستاذيات المعانة من الدولة بالجامعات، والتي أنشأها هنري الثامن (15). وأوصى المجلس النيابي لعام 1552 بأن يبقى رجال الأكليروس بلا زواج ولكنه أذن لهم بالزواج إذا ثبت أن العفة تضنيهم.

ص: 163

وكان الاضطهاد الديني للهراطقة، الذي قام به الكثالكة منذ عهد بعيد، قد نهض به وقتذاك البروتستانت في إنجلترا، وكذلك في سويسرة وألمانيا اللوثرية، وذلك بمطاردة الهراطقة والكثالكة. وأعد كرانمر بياناً بالهرطقات التي يعاقب مرتكبوها بالإعدام إذا لم يرتدوا عنها، وتضمنت تأكيد وجود المسيح حقاً في القربان المقدس أو السيادة الكنسية للبابا، وإنكار الوحي في العهد القديم، أو الطبيعتين في المسيح أو التزكية بالإيمان (16). وذهبت جوان بوشر الكونتيسة إلى المحرقة لشكها في تجسد الإقنوم الثاني (1550). وقالت لريدلي: أسقف لندن البروتستانتي الذي توسل إليها أن تتراجع عما تقول: "لقد أحرقتم آن أسكيو منذ عهد غير بعيد من أجل قطعة من الخبز (لإنكارها التجسد)، ومع ذلك حدث أن آمنتم بالعقيدة التي أحرقتموها من أجلها، وأنتم سوف تحرقونني الآن من أجل قطعة من اللحم (تشير إلى العبارة الواردة في الإنجيل الرابع). "لقد صنعت الكلمة لحماً، وسوف تؤمنون بهذا أيضاً آخر الأمر (17)". ولم يحرق في عهد إدوارد إلا هرطقيان، ومهما يكن من أمر فإن كثيراً من الكثالكة سجنوا لحضورهم القداس أو لانتقادهم علناً العقيدة المحافظة المقبولة (18). وأقيل القساوسة الكاثوليك المتشبثون بآرائهم من مناصبهم وأرسل بعضهم إلى سجن البرج (19)، وعرض على جاردنر، وكان لا يزال هناك، الحرية إذا وافق على التبشير بالعقيدة التي يقول بها أنصار الإصلاح الديني. وعندما رفض نقل إلى "مسكن أحقر" في البرج وحرم من الورق والقلم والكتب. وفي عام 1552 أصدر كرانمر كتابه الثاني عن الصلاة العامة وفيه أنكر وجود المسيح حقاً في القربان المقدس، ونبذ تقديم القربان المقدس بالمسيح المغالى فيه، وراجع في ظروف أخرى الكتاب الأول باتجاه بروتستانتي.

ووافق المجلس النيابي وقتذاك على قانون ثان بشأن التجانس، اقتضى

ص: 164

أن يحضر جميع الأشخاص بانتظام وألا يحضروا سوى الصلوات الدينية التي تقام طبقاً لما ورد في كتاب الصلاة العامة هذا، وكل مَن يخالف هذا القانون ثلاث مرات، يعاقب بالإعدام، وفي عام 1553 أصدر المجلس الملكي اثنين وأربعين "مادة في الدين" وضعها كرانمر وجعلها إلزامية على كل الإنجليز.

وفي الوقت الذي أصبحت فيه الفضيلة والمحافظة على العقيدة بمثابة قانون تميزت حماية وارويك بفسادها في عصر فاسد، ولم يمنع هذا إدوارد الشاب المطاوع من تعيين وارويك دوقاً لنورثمبرلاند (4 أكتوبر سنة 1551). وبعد بضعة أيام كفر الدوق عن خطيئته التي ارتكبها بقيامه بعمل من أعمال حسن التصرف - إطلاق سراح سومرست - وذلك باتهام سلفه بالقيام بمحاولة لاستعادة السلطة لنفسه. وقبض على سومرست وحوكم وأدين في الغالب بناء على دليل قدمه سير توماس بالمر، وزيف أمر صادر من الملك بالدعوة إلى إعدام سومرست، وفي 22 يناير سنة 1552 لقي حتفه بشجاعة وإباء. وعندما واجه نورثمبرلاند الإعدام بدوره، اعترف أن سومرست قد اتهم زوراً بفضل وسائله، واعترف بالمر قبل وفاته أن الدليل الذي أقسم على صحته كان من اختراع نورثمبرلاند (20).

ونادراً ما كانت الإدارة في إنجلترا قد وصلت إلى هذا الحد من الكراهية، فقد انقلب البروتستانت ضد الحامي الجديد الذي أثنوا عليه شكراً منهم لتأييده وذلك بسبب ازدياد جرائمه. وكان الملك إدوارد يقترب من الموات وقد عينت ماري تيودور بمقتضى قانون أصدره المجلس النيابي ولية للعهد إذا ظل إدوارد بلا ذرية. وإذا قدر لماري أن تصبح ملكة فإنها سوف تنتقم في الحال من هؤلاء الذين حولوا إنجلترا عن العقيدة القديمة. وشعر نورثمبرلاند بأن حياته معرضة للخطر. وكان عزاؤه الوحيد أن وكلاءه قد دربوا إدوارد على طاعته. وأغرى الملك المحتضر بأن يقرر التاج لليدي جين جراي، ابنة الدوق سفولك وحفيدة شقيقة

ص: 165

هنري الثامن، وفضلاً عن هذا فإن جين كانت قد تزوجت حديثاً من ابن نورثمبرلاند. ولم يكن إدوارد قد خول مثل أبيه السلطة من المجلس النيابي لتعيين خلفه، وكانت إنجلترا بأسرها تقريباً ترى أن ارتقاء الأميرة ماري العرش أمر لا مفر منه وعادل. واحتجت جين بأنها لم ترغب قط في أن تكون ملكة. وكانت امرأة نالت قسطاً غير عادي من التعليم: وكتبت باليونانية ودرست العبرية وتراسلت مع بولينجر بلغة لاتينية لا تقل جمالاً عن لغته. ولم تكن قديسة، وكان في وسعها أن تنتقد الكثالكة بشدة، وسخرت من التجسيد. ولكن نسب إليها من الآثام أكثر مما أثمت. وحسبت في أول الأمر أن خطة حميها من قبيل الدعابة، وعندما أصرت حماتها قاومت جين. وأمرها زوجها في آخر الأمر أن تقبل العرش فأطاعت "دون أن تختار أن تعصي زوجها" كما قالت، وأعد نورثمبرلاند وقتذاك العدة للقبض على كبار أنصار ماري وإيداع الأميرة نفسها في البرج حيث يمكن أن تتعلم التنازل.

وأوشك الملك على نهايته في أوائل يوليه، وسعل وبصق دماً، وتورمت ساقاه تورماً مؤلماً، وتفشى الطفح على جسده، وسقط شعره، ثم سقطت أظافره، ولم يستطع أحد أن يجزم بالمرض الغريب الذي يعاني منه، وراود الشك الكثيرين أن نورثمبرلاند قد سممه. وأخيراً مات إدوارد بعد أن عانى كثيراً (6 يوليو سنة 1553) ولم يتعد الخامسة عشرة من عمره، وأصغر كثيراً من أن يشارك فيما ارتكب في عهده من آثام.

وفي صباح اليوم التالي ركب نورثمبرلاند إلى هنسدون للقبض على الأميرة. بيد أن ماري هربت، بعد أن حذرت، إلى أصدقاء كاثوليكيين في سفولك، وعاد نورثمبرلاند إلى لندن دون أن يحصل على فريسته. وأقنع المجلس الخاص بالوعود أو التهديدات أو الرشاوى بالانضمام إليه في المناداة

ص: 166

بجين جراي ملكة، وأغمي عليها، وعندما أفاقت ظلت تحتج على أنها لا تصلح للشرف المحفوف بالمخاطر، الذي أكرهت عليه. وتوسل إليها أقاربها بحجة أن حياتهم تتوقف على قبولها. وفي التاسع من يوليو أقرت في نفور أنها ملكة إنجلترا.

ولكن في العاشر من يوليو وصلت إلى لندن أنباء تقول إن ماري قد نادت بنفسها ملكة، وإن النبلاء في الشمال كانوا يتقاطرون لتأييدها، وأن قواتهم كانت تزحف على العاصمة. وحشد نورثمبرلاند سريعاً ما استطاع جمعه من جنود، وقادهم لتقرير مصير المعركة. وأبلغه جنوده في بورى أنهم لن يسيروا خطوة أخرى للقتال ضد عاهلتهم الشرعية. وأرسل نورثمبرلاند أخاه، مزوداً بالذهب والمجوهرات والوعد بكاليه وجينس ليرشوا هنري الثاني ملك فرنسا، للقيام بغزو إنجلترا تتويجاً لجرائمه. وعلم المجلس الخاص بالمهمة ومنعها، وأعلن ولاءه لماري. وانطلق الدوق أف سفولك إلى غرفة جين وأبلغها أن حكمها الذي استمر عشرة أيام قد انتهى. فرحبت بالأنباء وسألت ببراءة هل تستطيع الآن أن تذهب إلى البيت، ولكن المجلس، الذي كان قد أقسم على خدمتها أمر بسجنها في البرج. وسرعان ما سجن هناك أيضاً نورثمبرلاند وأخذ يطلب الصفح عما ارتكب، وإن أخذ يترقب موته.

وبعث المجلس برسل ينادون بأن ماري تيودور ملكة وتلقت إنجلترا الأخبار بفرح وحشي. وظلت النواقيس تقرع والمشاعل تتوهج طوال تلك الليلة من ليالي الصيف. وجلب الناس موائد الطعام وأولموا في الخلاء ورقصوا في الشوارع.

وبدا أن الأمة آسفة على الإصلاح الديني، وأنها تتطلع بشغف إلى ماضٍ كان في الإمكان وقتذاك أن يعد نموذجاً، طالما أنه لن يعود. والحق أنه الإصلاح الديني لم يظهر حتى الآن إلى جانبه المرير لإنجلترا: لم يكن تحريراً

ص: 167

من المذهبية ومحاكم التفتيش والطغيان، بل كان تثبيتاً لها، ولم يكن انتشاراً للاستنارة، بل كان سلباً للجامعات وإغلاق مئات المدارس، ولم يكن توسعاً في الرقة، بل كان تقريباً قضاء على البر، ورقعة بيضاء للجشع، ولم يكن تخفيفاً للفقر، بل كان سحقاً للفقراء بلا رحمة لم تعرفه إنجلترا منذ قرون - ولعلها لم تعرفه قط (21). وكان كل تغيير يكاد يلقى ترحيباً ما دام يؤدي إلى تخليصهم من نورثمبرلاند وطغمته.

ثم إن الأميرة ماري المسكينة، التي ظفرت بحب إنجلترا في الخفاء بفضل صبرها على الإذلال طوال اثنين وعشرين عاماً - هذه المرأة المهذبة سوف تكون ولا شك ملكة رقيقة.

‌3 - الملكة الرقيقة

(1553 - 54)

لابد لكي نفهمها من أن نكون قد عشنا معها شبابها المأساوي الذي لم تذق خلاله قط طعماً للسعادة. ولم تكن تتجاوز الثانية من عمرها (1518)، عندما شغل أبوها بالحظايا، وأهمل أمها المحزونة. وكانت في الثامنة عندما طلب إعلان بطلان زواجه، وفي الخامسة عشرة عندما افترق والداها، وذهب كل من الأم والبنت إلى منفى منفصل. ومنعت الابنة من الذهاب إلى أمها حتى وهي تحتضر (22). وأعلن أن ماري ابنه سفاح بعد مولد اليزابث (1533) وجردت من لقبها كأميرة. وخشي سفير الإمبراطور أن تسعى آن بولين إلى قتل ابنة غريمتها المنافسة لها على العرش. وعندما انتقلت إليزابث إلى هاتفيلد أجبرت ماري على أن تذهب إلى هناك لخدمتها وأكرهت على أن تعيش في "أسوأ غرفة في البيت (23") وأخذ منها خدمها، واستبدل بهم آخرون، يخضعون لمس شلتون أف هاتفيد التي قالت لها تذكرها بأنها ابنة سفاح:"لو كنت في موضع الملك لطردتكِ من بيت الملك لعدم طاعتكِ". وأخبرتها أن هنري قد عبر عن عزمه على قطع رأسها (34).

ص: 168

وكانت ماري مريضة طوال ذلك الشتاء الأول الذي قضته في هاتفيلد (1534)، وتحطمت أعصابها بسبب الإهانة والخوف وكادت تشرف على الموت جسماً وروحاً على غير كره منها. ثم رق لها الملك ومنحها بعض محبته إلى حين، ونعمت بوضع ميسور في باقي أيام حكمه. ولكن طلب منها أن توقع إقراراً بسيادة هنري الكنسية وبأن "زواج أمها من قبيل سفاح ذوى القربى" وبأن ميلادها غير شرعي (25) وذلك ثمناً لهذه الرقة القاسية.

وتأثر جهازها العصبي على الدوام بهذه المحن، و"كانت عرضة لأن تشكو من قلبها (26) " وظلت صحتها ضعيفة حتى آخر يوم في حياتها. وعاودتها شجاعتها عندما أعلن المجلس النيابي في عهد حماية سومرست أنها ولية العهد. ولقد نشأت عقيدتها الكاثوليكية، في طفولتها مشبعة بحرارتها الاسبانية، وقويت بما أثارته حياة أمها ومماتها في نفسها من ألم، وكانت عوناً ثميناً لها في أحزانها، فرفضت أن تتخلى عنها عندما حومت على حافة السلطة، وعندما أمرها مجلس الملك أن تكف عن سماع القداس في حجراتها (1549) لم تذعن لأمره. وأغضى سومرست عن مقاومتها، ولكن سومرست سقط، وصدق أخوها الملك على الأمر، وأرسل ثلاثة من خدمها إلى سجن البرج بسبب تجاهله (1551)، وأخذ منها القس الذي رتل لها القداس، ووافقت آخر الأمر على أن تكف عن ممارسة الشعيرة المحبوبة. وعندما تحطمت روحها طلبت من سفير الإمبراطور أن يدبر لها الهرب إلى القارة، ورفض الإمبراطور الحذر أن يجيز الخطة، وخاب فألها.

وجاءت لحظة انتصارها أخيراً عندما عجز نورثمبرلاند عن أن يجد رجلاً يحارب ضدها، ولم يطلب الذين أقبلوا المدججين بالسلاح لمناصرة قضيتها أي أجر، بل إنهم أحضروا معهم مؤنهم، وعرضوا عليها ثرواتهم لتمويل الحملة. وعندما دخلت لندن كملكة (3 أغسطس سنة 1553) هبت تلك المدينة نصف البروتستانتية للترحيب بها بالإجماع. وجاءت اليزابث تمشي على

ص: 169

استحياء لملاقاتها عند أبواب المدينة، وهي تتساءل على تتمسك ضدها بالشتائم التي تعرضت لها باسم اليزابث. ولكن ماري حيتها بقبلة حارة وقبلت جميع السيدات المرافقات لأختها غير الشقيقة. وكانت إنجلترا سعيدة كما كانت عندما ارتقى العرش هنري الثامن وهو شاب وسيم كريم.

كانت ماري وقتذاك في السابعة والثلاثين من عمرها، وكان الزمن القاسي قد ترك على وجهها خطوطاً تنذر بالذبول. وقلما مرت بها سنة كاملة دون أن تصاب بمرض خطير. وكانت تشكو من الاستسقاء وسوء الهضم ونوبات صداع تحطم الرأس، وعولجت مراراً بالحجامة مما تركها عصبية شاحبة. وأدى تكرار انقطاع الطمث عنها إلى استغراقها أحياناً في حزن هستيري مصحوب بخوف من آلا تحمل أبداً (27). وكان جسدها وقتذاك نحيلاً هزيلاً وجبينها ممتلئاً بالتجاعيد وشعرها المائل للاحمرار تتخلله شعرات بيضاء وعيناها ضعيفتين جداً إلى حد أنها لم تكن تستطيع القراءة إلا إذا أمسكت بالصحيفة قرب وجهها. وكانت تقاطيعها واضحة، تكاد تشبه تقاطيع الرجال، وكان صوتها عميقاً كصوت الرجل، وقد وهبتها الحياة كل ما فيها من وهن وحرمتها من المفاتن ومن الأنوثة. وكانت لديها بعض المواهب الأنثوية، فكانت تحيك في جلد وتطرز بمهارة وتعزف على العود، وأضافت إلى هذه المواهب معرفة باللغات الأسبانيّة واللاتينية والإيطالية والفرنسية. وكان يمكن أن تكون امرأة صالحة لو لم تلحقها لعنة اليقين اللاهوتي والسلطة الملكية. وكانت أمينة إلى درجة البساطة، عاجزة في مجال الدبلوماسية ومتلهفة إلى درجة يرثى لها لأن تحب وتكون محبوبة. وكانت تتعرض لسورات غضب ولها لسان سليط. وكانت عنيدة ولكنها لم تكن متكبرة، وأدركت قصور قدراتها الذهنية وأصاخت السمع للنصيحة في تواضع. ولم تكن تلين لها قناة إذا كان الأمر يتعلق بعقيدتها فحسب، وفي غير هذه الحالة كانت حليمة حنوناً وحرة الفكر مع التعساء، وتواقة إلى رفع الحيف الذي تسببت فيه

ص: 170

أخطاء القانون، وكثيراً ما زارت بيوت الفقراء وهي متنكرة وجلست وتحدثت مع ربات البيوت وسجلت مذكرة بالحاجات والمظالم وقدمت كل ما في وسعها من مساعدة (28). وأعادت إلى الجامعات الهبات التي اختلسها منها أسلافها.

وطهر أحسن جانب من خلقها في التسامح النسبي في أول عهدها، فهي لم تطلق سراح جاردنر وبونر وغيرهما ممن سجنوا لرفضهم قبول اعتناق البروتستانتية فحسب، بل إنها صفحت تقريباً عن كل مَن حاولوا أبعادها عن العرش، ومهما يكن من أمر فإنها أجبرت بعض هؤلاء، مثل الدوق أف سفولك، على دفع غرامات باهظة للخزانة، ثم خفضت الضرائب تخفيضاً جوهرياً بعد تقديم هذه المساعدة إلى الدخل. ومنحت جوازات أمان لبيتر مارتير وغيره من البروتستانت الأجانب لكي يغادروا البلاد. وعقد مجلس الملكة محاكمة عاجلة لنورثمبرلاند وستة آخرين تآمروا على القبض على ماري، وتوجوا جين جراي، وحكم على السبعة جميعاً بالموت. وأبدت ماري رغبتها في الصفح عن نورثمبرلاند، ولكن سيمون رينار سفير الإمبراطور وقتذاك أثناها عن عزمها، وقام الثلاثة الذين لم يصفح عنهم جميعاً باعتناق عقيدة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في آخر لحظة. ووصفت جين جراي الحكم بالعدل والاعترافات بالجبن (29).

وكان من رأي ماري أن تطلق سراحها، ولكنها أذعنت لآراء مستشاريها إلى حد بعيد وأمرت بأن تبقى طليقة من كل قيد في الاعتقال داخل أراضي سجن البرج (30).

وأصدرت الملكة في 13 أغسطس إعلاناً رسمياً بأنها لن "تكره الضمائر أو تلزمها" بشيء في مسألة المعتقد الديني (31)، وكان هذا أحد الإعلانات الأولى في التسامح الديني تصدره حكومة حديثة. وكانت تأمل في براءة أن

ص: 171

تحول البروتستانت بالحجة فنظمت مناظرة عامة بين علماء اللاهوت المتعارضين في الرأي، ولكنها تبخرت في جدل مرير عقيم. وبعد ذلك بوقت قصير قذف واعظ الأسقف بونر بخنجر انطلق من جمهور استاء من وعظه الكاثوليكي، وأنقذه من الموت اثنان من رجال الدين البروتستانت (32). وراع ماري تسامحها فأمرت (18 أغسطس سنة 1553) بعدم التصريح بعظات تتعلق بالعقائد إلا في الجامعات، وذلك إلى أن يتيسر اجتماع المجلس النيابي وينظر في المشكلات التي أثارها النزاع بين العقائد. وأمر كرانمر، وكان لا يزال رئيساً للأساقفة، بملازمة قصره في لامبث، فرد على ذلك بمهاجمة القداس ووصفه بأنه "كفر بغيض"، وحكم عليه هو ولاتيمر بالسجن في البرج (سبتمبر سنة 1553). أما ريدلي أسقف لندن الذي كان قد وصف ماري وإليزابث معاً بأنهما ابنتا سفاح فكان قد ذهب إلى سجن البرج قبل ذلك بشهرين. وعلى الجملة فإن سلوك ماري في هذه الشهور الأولى من حكمها فاق في اللين والتسامح سلوك غيرها من عظماء الحكام في عصرها.

وكانت المشكلات التي واجهتها حرية بان تقهر امرأة تفوقها كثيراً من الذكاء والفطنة. وصدمت بالارتباك والفساد السائدين في الإدارة وأمرت بوقف الفساد، غير أنه أخفى رأسه ولم ينقطع. وضربت مثالاً حسناً بتخفيض نفقات الأسرة الملكية، وتعهدت بتثبيت قيمة العملة، وتركت انتخابات المجلس النيابي حرة لم تتأثر بأي نفوذ ملكي. وكانت الانتخابات الجديدة "أعدل انتخابات حدثت منذ سنوات (33) "، ولكن تخفيضها للضرائب ترك دخل الحكومة أقل من مصروفاتها، ولكي تحصل على الفرق فرضت ضريبة صادر على القماش وضريبة وارد على الأنبذة الفرنسية وأدت هذه الإجراءات التي كان ينتظر أن تساعد الفقراء إلى نكسة تجارية. وحاولت أن توقف نمو الرأسمالية بتحديد عدد ما يملكه أي فرد بنول أو اثنين. ونددت بـ "القماشين الأغنياء" بسبب دفعهم أجوراً منخفضة وحظرت دفع

ص: 172

الأجور عيناً (34)، ولكنها لم تجد في حاشيتها رجالاً يملكون القوة والكمال اللازمين لإنجاز إرادتها الطيبة، وتغلبت القوانين الاقتصادية على أهدافها.

بل إنها قوبلت بعقبات اقتصادية قاسية حتى في أمور الدين. ولم تكن هناك أسرة لها نفوذ في إنجلترا لا تحتفظ بأملاك انتزعتها من الكنيسة (35)، وعارضت هذه الأسر بالطبع أي عودة للعقيدة الرومانية. وكان البروتستانت أقلية من حيث العدد وأقوياء بفضل ما لديهم من مال، وكانوا بذلك في موقف يسمح لهم بأن يهيئوا في أية لحظة أسباب الثورة التي تضع إليزابث البروتستانتية على العرش.

وكانت ماري تتلهف على إعادة حق الكثالكة في العبادة طبقاً لشعيرتهم، ومع ذلك فإن الإمبراطور الذي ظل يحارب البروتستانتية اثنين وثلاثين عاماً حذرها وطلب منها أن تتحرك ببطيء، وأن تقنع بترديد القداس سراً لنفسها وفي محيطها المباشر. ولكن شعورها نحو دينها كان عميقاً ولا تستطيع أن تكون سياسية فيما يتصل به. وتعجب الجيل الذي ينزع إلى الشك الذي نشأ في لندن من كثرة صلواتها وحرارتها، ولعل السفير الإسباني اعتقد أنها تطلب أمراً إدّا عندما سألته أن يركع بجوارها ويطلب الهداية من الله. وشعرت بأن لها رسالة مقدسة تستعيد بها العقيدة التي أصبحت عزيزة عليها لأنها قاسم من أجلها. وبعثت برسول إلى البابا تطلب منه أن يرفع التحريم الذي فرضه على إقامة الصلوات بإنجلترا، ولكن عندما أبدى الكاردينال بول رغبته في الحضور إلى إنجلترا قاصداً رسولياً، اتفقت مع شارل على أن الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه الحركة الجريئة.

ولم يكن المجلس النيابي الذي اجتمع في 5 أكتوبر سنة 1553 مجدياً بالمرة. فقد وافق على إلغاء كل تشريع يتعلق بالدين، صدر في عهد إدوارد، وخفض العقوبات المنصوص عليها في قوانين هنري الثامن وإدوارد السادس إلى ما كانت عليه من قبل. وأبلغ الملكة في تلطف أن "عدم شرعية

ص: 173

النسب المتعلقة بشخصكِ الأمثل" قد ألغي وأنها لم تعد ابنة سفاح، ولكنه أبى أن ينظر في إعادة أملاك الكنيسة إليها وقاوم أي تلميح إلى أن سيادة البابا يجب أن يعترف بها، وترك هذا ماري رئيسة للكنيسة الإنجليزية رغم أنفها. وبمقتضى هذه السلطة المخولة لها استبدلت بالأساقفة البروتستانت الأساقفة الكاثوليك الذين كانوا قد أقصوا عن مناصبهم، وعاد بونر أسقفاً للندن وجاردنر أسقفاً لونشستر ومشيراً مقرباً للتاج. وطرد القساوسة المتزوجون من أبرشياتهم. وسمح بإقامة القداس مرة أخرى ثم شجع، (ويقول مؤرخ بروتستانتي): "إن اللهفة التي أبدتها البلاد في الإفادة بوجه عام من الإذن بإعادة الشعيرة الكاثوليكية تدل بلا شك على أن الشعور العام كان مع الملكة (36) فيما عدا لندن وبضع مُدن كبيرة". وأعيدت العبادة الكاثوليكية إلى ما كانت عليه تماماً بمقتضى مرسوم صدر في 4 مارس سنة 1554. وعدت الهرطقات الأخرى غير شرعية وحرم كل وعظ بروتستانتي أو نشرة بروتستانتية.

وكان انزعاج الأمة بعودة التذبذب اللاهوتي أقل كثيراً من انزعاجها بخطط زواج ماري. كانت تخشى الزواج من الناحية الدستورية، ولكنها واجهت المحنة أملاً في أن تنجب وريثاً يحول دون ارتقاء اليزابث البروتستانتية العرش. وادعت ماري أنها عذراء، والراجح أنها كانت كذلك، ولعلها لو كانت قد أثمت هونا ما لكانت أقل كآبة وتوتراً ويقيناً. وأوصى مجلسها باختيار إدوارد كورتاني حفيد إدوارد الرابع، ولكن طرق عيشه المتبذلة لم تصادف هوى في نفس ماري، وعندما رفضته دبر أن يتزوج اليزابث، ويخلع ماري ويولي اليزابث على العرش ويحكم إنجلترا عن طريقها- ولم يحلم قط بضآلة فرصته في السيطرة على تلك السيدة المسترجلة. وعرض شارل الخامس على ماري الزواج من ابنه فيليب الذي كان يوشك أن يوصى له بكل شيء سوى اللقب الإمبراطوري، وتعهد

ص: 174

بتقديم الأراضي المنخفضة لأي ولد يكون ثمرة لهذا الزواج. وتهللت ماري عندما خطر لها أن زوجها سيكون حاكماً لإسبانيا والفلاندرز وهولندة ونابلي والأمريكتين، وتدفقت دماؤها نصف الأسبانيّة ساخنة في عروقها وهي تتوقع إنشاء اتحاد سياسي وديني بين إنجلترا وإسبانيا. وأشارت في الواضح إلى أن سنها الأكبر- أكبر من فيليب بعشر سنوات- تقف عائقاً، وخشيت ألا تكفي مفاتنها الذابلة لإرضاء حيويته وشبابه أو خياله، إنها لم تكن واثقة أنها سوف تعرف كيف تطارحه الغرام (37). وكان فيليب من ناحيته يشعر بالنفور فقد أبلغه وكلاؤه الإنجليز أن ماري كانت "قديسة كاملة" وأنها ترتدي ملابس قبيحة (38)، أفلا يمكن أن يوجد شيء أكثر إغراء بين الأسر المالكة في أوربا؟ وأقنعه شارل بالإشارة إلى أن الزواج سوف يتيح لأسبانيا حليفاً قوياً ضد فرنسا وعوناً ثميناً في الأراضي المنخفضة التي كانت مرتبطة تجارياً بإنجلترا. ولعل البروتستانتية في ألمانيا يمكن قمعها بعمل موحد من أسبانيا وفرنسا وإنجلترا باعتبارها دولاً كاثوليكية؛ ثم إن المصاهرة بين آل هابسبورج وآل تيودور يؤلف قوة قادرة على منح أوربا الغربية سلاماً إجبارياً يدوم جيلاً.

وأدرك مجلس الملكة والشعب الإنجليزي قوة هذه الاعتبارات ولكنهم خشوا أن يؤدي الزواج إلى تحويل إنجلترا إلى بلد تابع لإسبانيا ويورط إنجلترا في الحروب المتكررة مع فرنسا. وواجه شارل الموقف بإجراء مضاد عرض باسم ابنه عقد زواج بمقتضاه لا يحمل فيليب لقب ملك إنجلترا إلا في حياة ماري ولها أن تحتفظ وحدها بالسلطة الملكية الكاملة على الشئون الإنجليزية ولها أن تشارك فيليب بجميع ألقابه، وإذا مات دون كارلوس (ابن فيليب من زواج سابق) دون أن يعقب ذرية ترث ماري أو ابنها الإمبراطوريّة الأسبانيّة وعلاوة على هذا أضاف الإمبراطور الداهية أن لماري الحق في أن تتلقى مدى الحياة 60. 000 جنيه من

ص: 175

الموارد الإمبراطوريّة، وبدا هذا كله عرضاً سخياً جداً، وصدق المجلس الإنجليزي على الزواج مع تعديلات يسيرة في النصوص.

وأخذت ماري، على الرغم من حيائها المتواضع تتطلع في لهفة إلى المستقبل، فكم طال انتظارها لعاشق!

ولكن الشعب الإنجليزي استاء من اختيارها، فالأقلية البروتستانتية التي كانت تصبر على الاضطهاد، آملة في أن تخلف اليزابث قريباً ماري العاقر الضعيفة خشيت على حياتها إذا وقفت قوة أسبانيا بجانب ماري في إعادة الكاثوليكية بالقوة، وارتجف النبلاء الذين اغتنوا بضم الأملاك الكنسية عندما خطر لهم أنهم سوف يخرجون ما في بطونهم. بل إن الإنجليز الكاثوليك اعترضوا على وضع أجنبي قاس على العرش. وهو ولا شك سوف يستخدم إنجلترا لتحقيق أغراضه الأجنبية. وارتفعت أصوات الاحتجاج من كل مكان في البلاد، وسرى الذعر في مدينة بلايماوث، فطلبت من ملك فرنسا أن يضعها تحت حمايته. ووضع أربعة نبلاء خططا لثورة تبدأ في 18 مارس سنة 1554، فكان على الدوق أف سفولك (والد جين جراي الذي صدر العفو عنه) أن يحدث ثورة في وارويكشاير وعلى سير جيمس كروفت أن يتزعم مستأجريه الولزيين، وعلى سير بيتر كارو أن يثير ديفونشاير، وعلى سير توماس ويات الصغير أن يقود ثورة في كنت. وكان ويات الكبير- الشاعر- قد استولى على مجموعة من أراضي الكنيسة- كره ابنه أن يسلمها. وأخطأ المتآمرون بأن أسروا بخططهم لكورتناي، وكانت مهمته تنحصر في ضمان اشتراك اليزابث معهم، وكان الأسقف جاردنر يراقب كورتناي باعتباره خاطباً منبوذاً لماري يتلهف على الانتقام، فأمر بالقبض عليه، وأفشى كورتناي أسرار المؤامرة، بتأثير التعذيب على الأرجح.

وآثار المتآمرون أن يلاقوا حتفهم في المعركة بدلاً من المقصلة فخفوا

ص: 176

سريعاً إلى الأسلحة واشتعلت نيران الثورة في أربعة أقطار في الحال (فبراير سنة 1554) وقاد ويات جيشاً قوامه 7000 رجل وزحف نحو لندن، وبعث بنداء إلى كل المواطنين أن يمنعوا إنجلترا من أن تصبح إقطاعية لإسبانيا، وبدأ الجانب البروتستانتي من أهالي لندن في وضع خطة لفتح الأبواب لويات، وتردد مجلس الملكة في أن يرتبط بشيء، ولم يحشد جندياً واحداً للدفاع عنها، ولم تستطع ماري أن تدرك لماذا ترفض البلاد التي رحبت كثيراً بارتقائها العرش أن تتمتع بالسعادة وتحقيق أمانيها التي حلمت بها طوال سنوات التعاسة العديدة. وإذا لم تمسك بزمام الأمور في يديها بعزم غير عادي فإن حكمها وحياتها سوف ينتهيان وشيكاً. ولكنها ذهبت بنفسها إلى جلدهول وواجهت اجتماعاً ثائراً كان يتباحث إلى أي جانب ينحاز. وقالت للجميع إنها على استعداد تام لأن تتخلى عن فكرة الزواج الإسباني إذا كانت هذه رغبة العموم، وقالت حقاً "إني على استعداد لأن أمسك عن الزواج طوال حياتي" ولكنها لن تسمح في الوقت نفسه أن يتحول موضع الخلاف إلى "عباءة إسبانية" لثورة سياسية. وقالت:"إني لا أستطيع أن أقول كيف تحب الأم طفلها بفطرتها لأني لم أكن يوماً أماً، ولكن لا شك أنه إذا كانت الملكة يمكن أن تحب رعاياها حباً طبيعياً وحاراً كما تحب الأم طفلها، فإني أؤكد أني باعتباري سيدتكم ومولاتكم، أحبكم حباً حاراً رقيقاً وأعطف عليكم (39) ". وقوبلت كلماتها وروحها بتصفيق حار، وتعهد الجميع بتأييدها. واستطاع وكلاء الحكومة، في يوم تقريباً، أن يحشدوا 25. 000 رجل مسلح وقبض على سفولك وفر كروفت وكاريو إلى مخبأ. أما ويات فقد قاد، بعد أن تخلى عنه زملاؤه على هذا النحو، قوة صغيرة قاتل بها في شوارع لندن، وشق طريقه تقريباً إلى قصر الملكة في هويتهول

وتوسل الحراس إلى ماري أن تهرب، ولكنها رفضت وأخيراً غلب رجال ويات

ص: 177

على أمرهم فاستسلم بعد أن وهن منه الجسد والروح وأخذ إلى سجن البرج وتنسمت ماري عبير الأمان مرة أخرى ولكنها لم تعد قط الملكة الرقيقة.

‌4 - ماري الدموية

1554 -

1558

كثيراً ما أدان مستشاروها سياستها القائمة على الصفح. وقد لامها الإمبراطور وسفيره على السماح بالحياة بل وبالحرية لأشخاص تآمروا ضدها وسوف يكونون أحراراً لتكرار هذا - وسئلت كيف يستطيع فيليب أن يأمن على نفسه في بلد ترك فيه أعداؤه يمرحون بلا عائق ليدبروا مؤامرة لإغتياله؟ وكان من رأي الأسقف جاردنر أن الرحمة بالأمة تتطلب إعدام الخونة. وتملك الذعر الملكة فمالت إلى العمل بآراء مستشاريها. وأمرت بإعدام الليدي جين جراي التي لم ترغب قط في أن تكون ملكة، وزوج جين الذي أراد أن يكون ملكاً. وانطلق جين، وهي في السابعة عشرة من عمرها، إلى حتفها وهي تؤمن بأن هذا قدرها، دون أن تبدي احتجاجاً أو تذرف دموعاً (12 فبراير سنة 1554). وقطع رأس والدها سفولك وشنق مائة من صغار الثوار. وأبقي على حياة بعض المتآمرين إلى حين أملاً في أن ينتزع منهم اعترافات مفيدة، واتهم ويات في مبدأ الأمر اليزابث بأنها على علم بالخطة، ولكن عندما وقف على المنصة (11 أبريل سنة 1554) برأها من كل علم بها. وأطلق سراح كورنتاي بعد أن سجن عاماً وأقصي عن البلاد. وأشار شارل على ماري بإعدام كورنتاي واليزابث باعتبارهما مصدر تهديد دائم لحياتها. وأرسلت ماري إلى اليزابث بالحضور واحتفظت بها في قصر سانت جيمس شهراً ثم سجنتها شهرين في البرج. وحثها رينارد على تنفيذ حكم الإعدام فيها فوراً، ولكن ماري اعترضت وقالت إنه لم يثبت اشتراك اليزابث في الجريمة (40)، وظلت حياة اليزابث خلال هذه الشهور المشئومة معلقة في الميزان، وساعد هذا الرعب على تكوين شخصيتها القائمة على الريبة

ص: 178

واستشعار الخطر، وكان له صداه فيما اتسم به عهدها المتأخر من قسوة عندما ساورها بشأن ماري ستيوارت نفس القلق الذي كان يساور ماري تيودور وقتذاك حول اليزابث. وفي 18 مايو نقلت مَن أصبحت ملكة في الأيام التالية إلى وود ستوك حيث عاشت مطلقة السراح في معتقل تحت الرقابة. وأدى خوف ماري من مؤامرة أخرى تدبر لتولية اليزابث على العرش إلى أن تتعجل ماري الزواج أملاً في أن تحظى في الأمومة.

ولم يكن فيليب متلهفاً إلى هذا الحد. وتزوج ماري يوم 6 مارس سنة 1554 بطريق الوكالة ولكنه لم يصل إلى إنجلترا قبل يوم 20 يوليو، ودهش الإنجليز وسرهم أن يجدوه شخصاً يمكن احتماله بدنياً واجتماعياً: وجه غريب مثلث الشكل تقريباً ينحدر من جبهة عريضة إلى ذقن مدبب يزينه شعر أصفر ولحية، ولكه يمتاز بخلق كريم وبديهة حاضرة ومواهب تصلح لأي شيء، ولم يبدِ أي إيماءة بأنه هو وحاشيته يعدون الإنجليز برابرة. بل إنه قال كلمة رقيقة في صالح اليزابث، ولعله كان يتنبأ بأن ماري ربما لا ترزق بذرية وأن اليزابث قد تكون يوماً ملكة، وذلك يكون شراً أهون من أن ترتقي ماري ملكة الإسكوتلنديين - التي ارتبطت منذ عهد بعيد بفرنسا - عرش إنجلترا. وعلى الرغم من أن ماري كانت أكبر سناً بكثير من فيليب فإنها تطلعت إليه بإعجاب ساذج، وكانت متعطشة إلى الحب طوال سنوات عديدة، فابتهجت وقتذاك لفوزها بأمير ساحر وقوي إلى هذا الحد، ومنحته نفسها بإخلاص لا شك فيه إلى حد أن الحاشية تساءلت هي أصبحت إنجلترا بالفعل تابعة لإسبانيا، وكتبت لشارل الخامس في تواضع رسالة تقول فيها إنها:"أسعد مما أستطيع التعبير عنه لأني في كل يوم أكتشف في زوجي الملك من الفضائل العديدة وصفات الكمال ما يدفعني باستمرار إلى أن أتضرع إلى الله أن يهبني العون لأسعده (41) ".

ص: 179

وكانت رغبتها في أن تلد ابناً لفيليب وولي عهد لإنجلترا، عارمة استغرقت كل اهتمامها إلى حد أنها سرعان ما تصورت أنها حامل. ولقي انقطاع الطمث عندها وقتذاك ترحيباً، باعتباره شارة ملكية، وألجم الأمل ألسنة مَن خطر لهم أن تلك الحالة حدثت لها كثيراً من قبل. وتقبل الناس الاضطرابات الهضمية على أنها أدلة أخرى على الأمومة، وأبلغ سفير البندقية أن "حلمتي" الملكة قد انتفختا ودر ثدياها لبناً. وابتهجت ماري وقتاً طويلاً عندما راودتها فكرة أنها أيضاً يمكن أن تحمل طفلاً شأنها في هذا شأن أفقر امرأة في مملكتها، ولا نستطيع أن نتصور مدى تعاستها عندما أقنعها أطباؤها آخر الأمر أن انتفاخ بطنها إنما حدث بسبب الاستسقاء. وفي غضون ذلك كانت شائعات حملها قد اكتسحت إنجلترا وأقيمت الصلوات ونظمت المواكب من أجل ولادتها السعيدة، وسرعان ما انتشرت شائعة بأنها أنجبت ولداً. وأغلقت الحوانيت ابتهاجاً واعتبر اليوم عطلة واحتفل الرجال والنساء في الشوارع، وقرعت نواقيس الكنائس وأعلن أحد رجال الدين أن الطفل "أشقر وجميل" كما يليق بأمير (42). وتحطمت ماري من الإحباط والخجل فانزوت شهوراً عن أنظار الجمهور.

وشعرت بالعزاء إلى حد ما بعودة الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان شارل قد أخر بول عن السفر في بروكسل لأنه عارض الزواج الاسباني، أما وقد تم هذا الزواج فإن اعتراضات الإمبراطور هدأت، وعبر الكاردينال القناة بصفته قاصداً رسولياً (20 نوفمبر سنة 1554) إلى البلاد التي كان قد تركها منذ اثنين وعشرين عاماً، وقوبل بترحيب حار من الموظفين ورجال الأكليروس والشعب أثبت الرضا العام عن تجديد العلاقات مع البابوية. وحيا ماري بعبارة تكاد تكون منتقاة من معجمه: "السلام عليك يا مريم، الممتلئة بالنعمة، الرب معكِ، أنت مباركة بين النساء Ave Maria، gratia Plena Dominus tecum، benedicta tu in mulieribus وكان على ثقة

ص: 180

من أنه قريباً سوف يردف قائلاً: "مباركة ثمرة رحمك (43) ".

وعندما علم المجلس النيابي أن بول جاء معه بموافية البابا على احتفاظ الحائزين الحاليين بأملاك الكنيسة المصادرة فرح الجميع، كما يحدث في أي زفاف. وأعرب أعضاء المجلس النيابي وهم راكعون عن ندمهم لما ألحقوه من إساءات بالكنيسة ومنح الأسقف جاردنر التائبين الغفران بعد أن اعترف بتذبذبه. واعترف بسيادة البابا في الشئون الكنسية وتأكد حقه في دخول السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين و"الثمرات الأولى" وأعيد إنشاء المحاكم الأسقفية وأعيدت ضرائب العشور الأبرشية لرجال الأكليروس وجددت القوانين القديمة ضد اللوردية وأعيدت الرقابة على المطبوعات من سلطات الدولة إلى سلطات الكنيسة. وبدا كل شيء كسابق عهده بعد فتنة دامت عشرين عاماً.

ولبث فيليب مع ماري ثلاثة عشر شهراً يأمل في أن يرزق بطفل، وحينما لم يظهر أي دليل مؤكد رجاها أن تسمح له بالذهاب إلى بروكسل حيث كان نزول والده عن العرش يقتضي حضوره. ووافقت في حزن وانطلق معه إلى النقالة المائية التي سوف تقله إلى أدنى نهر التيمس، وأخذت ترقب النقالة من نافذة إلى أن اختفت (28 أغسطس سنة 1555). وشعر فيليب أنه قد أدى واجبه طوال سنة لقي فيها من أمره عسراً وهو يطارح الغرام امرأة مريضة، وكافأ نفسه بسيدات بروكسل القويات البنية.

وكان بول وقتذاك أعظم رجل يتمتع بالنفوذ في إنجلترا. وشغل نفسه بإعادة تنظيم الكنيسة الإنجليزية وإصلاحها. وأعاد فتح بعض أديار الرهبان ودير للراهبات بمساعدة ماري. وسعدت ماري عندما رأت بعث العادات الدينة القديمة، وسرها أن ترى الصلبان والصور المقدسة في الكنائس مرة أخرى، وأن تشترك في مواكب تتسم بالورع مع القساوسة أو الأطفال والطوائف المهنية فتجلس أو تركع لتحضر قداسات تقام للأحياء والأموات.

ص: 181

وغسلت وقبلت يوم خميس العهد عام 1556 أقدام إحدى وأربعين امرأة مسنة وهي تدلف على ركبها من واحدة لأخرى ومنحتهن جميعاً صدقات (44). وما دام الأمل في الأمومة قد تبدد أصبح الدين سلواها التي تعينها على الاحتمال.

ولكنها لم تستطع أن تبعث الماضي تماماً. فقد حفزت الأفكار الجديدة إلى اضطراب مثير في عقول أهل المدينة، وكانت لا تزال هناك اثنتا عشرة طائفة تنشر كتبها وعقائدها في الخفاء. وتألمت ماري عندما سمعت عن جماعات تنكر ألوهية المسيح ووجود الروح القدس وانتقال الخطيئة الأولى. وخيل إليها أن الهرطقات تعد جرائم مهلكة بالنسبة لإيمانها الساذج وأنها أسوأ بكثير من خيانة الدولة. هل في وسع الهراطقة أن يعرفوا كيف يعاملون الروح البشرية خيراً مما يعرفه كاردينالها المحبوب؟ وترامى إلى أسماعها أن واعظاً تضرع بصوت عال أمام جمهور أبرشيته أن يهديها الله أو يرفعها من الأرض (45). وألقي يوماً كلب ميت، حلق شعر رأسه جرياً على عادة الرهبان، وحول عنقه حبل، من نافذة في غرفة الملكة (46). وفي كنت جدع أنف قسيس (47). ورأت ماري أنه من غير المعقول أن يقوم المهاجرون البروتستانت الذين سمحت لهم بالرحيل عن إنجلترا في سلام، بإرسال كتيبات يهاجمونها فيها ويصفونها بأنها حمقاء رجعية ويتحدثون عن "صلاة لاتينية مكروهة عند إقامة قداس وثني (48) ". وحثت بعض الكتيبات قوادها على أن يهبوا في ثورة ويخلعوا الملكة (49). وعقد اجتماع من 17. 000 شخص في اولدجيت (14 مارس سنة 1554) ونادى بوضع اليزابث على العرش (50). وكانت حوادث التمرد في إنجلترا من تدبير البروتستانت الإنجليز في الخارج.

وكانت ماري تنزع بفطرتها وعادتها إلى الرحمة - حتى عام 1555. فماذا حولها إلى ملكة تحظى بأكبر قدر من الكراهية بين الملكات

ص: 182

الإنجليزيات؟ هناك استفزاز الهجمات التي أظهرت عدم الاحترام لشخصها أو عقيدتها أو مشاعرها من ناحية، وهناك الخوف من أن تكون الهرطقة ستاراً لثورة سياسية من ناحية ثانية، وهناك الشدائد التي عانتها وخيبة الأمل المتكررة التي كدرت صفو روحها وجعلت حكمها على الأشياء مظلماً من ناحية ثالثة، وهناك إيمانها الذي لا يتزعزع بصواب آراء مستشاريها الذين تثق بهم أكثر من أي شخص آخر - فيليب وجاردنر وبول - التي تذهب إلى أن الوحدة الدينية أمر لا غنى عنه للتضامن القومي وبقائه. وسرعان ما أفصح فيليب عن مبادئه في الأراضي المنخفضة. وكان الأسقف جاردنر قد أقسم بالفعل (ربيع عام 1554) أن يحرق الأساقفة البروتستانت الثلاثة - هوبر وريدلي ولاتيمر - ما لم يرتدوا عن عقيدتهم (51). وكان الكاردينال بول، مثل ماري، ينزع بفطرته إلى الرحمة ولكنه كانت لا تلين له قناة في العقيدة، وقد أحب الكنيسة حباً جماً إلى حد أنه كان يرتجف للتشكك في عقائدها أو سلطتها. ولم يكن له دور قيادي مباشر أو شخصي فيما قامت به ماري من اضطهاد، وأشار بالاعتدال وأطلق مرة سراح عشرين شخصاً كان الأسقف بونر قد حكم عليهم بالموت حرقاً (52).

ومع ذلك فإنه أصدر تعليماته لرجال الأكليروس بأنه إذا فشلت كل طرق الإقناع سلمياً فإن كبار الهراطقة يجب أن تنتزع منهم الحياة ويستأصلوا مثل الأطراف الفاسدة من الجسد (53). وأعربت ماري عن رأيها في تردد. "نعتقد أن إثارة عقاب الهراطقة يدب أن يتم بغير اندفاع ولا نتخلى في الوقت نفسه عن إقامة العدالة لهؤلاء الذين يسعون إلى خداع البسطاء (54) ". وكانت مسئوليتها في بادئ الأمر مقصورة على الإذن ولكنها كانت حقيقة.

وعندما تبين لها (1518) أن الحرب مع فرنسا قد عادت عليها وعلى

ص: 183

إنجلترا بالوبال عزت الفشل إلى غضب الله عليها لترفقها بالهرطقة وتشددت قطعاً بعد ذلك في الاضطهاد.

وافتتح جاردنر عهد الإرهاب بأن استدعى إلى محكمته الأسقفية ستة من رجال الأكليروس (22 يناير سنة 1555) كانوا قد رفضوا قبول العقيدة التي توطدت من جديد

(1)

.

وارتد واحد منهم وأحرق أربعة منهم جون هوبر وأسقف جلوسستر وورسستر الذي أقيل (4 - 8 فبراير سنة 1555). ويبدو أن جاردنر أصيب بانتكاس في الشعور بعد تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام فلم يشترك بعد ذلك في الاضطهاد، وانهارت صحته ومات في نوفمبر من هذا العام واضطلع الأسقف بونر بالمذبحة. ونصح فيليب، وكان لا يزال بإنجلترا، بالاعتدال وعندما أدان بونر ستة، وحكم عليهم بالحرق اعترض سفير الإمبراطور رينار على "هذا التهور البربري (57) " وندد كاهن الاعتراف الخاص لفيليب، وهو أخ أسباني من الرهبان، وهو يعظ أمام الحاشية،

(1)

إن المصدر الأساسي لما قامت به ماري من اضطهاد هو كتاب حون فوكس وعنوانه: "في أمور الكنيسة وفي التعليق على مآثرها Rerum iu ecclesia gestarum Commentarll"، (1559) الذي ترجم إلى الإنجليزية بعنوان:"أفعال وآثار"(1563) ويعرف بغير كلفة باسم "كتاب الشهداء" وأصبح الوصف الواضح لمحاكمات البروتستانت ووفياتهم من المقتنيات الحبيبة عند الأسرة بعد الكتاب المقدس عند المتطهرين (البيوريتان)، وعلى الرغم من أن القساوسة من الآباء اليسوعيين نشروا (1503) خمسة مجلدات تهاجم صحة ما ورد فيه فقد كان له أثر قوي في تكون مزاج إنجلترا في عهد اوليفر كرومويل. وقد انتقده الكثيرون من رجال الكنيسة البروتستانت لما فيه من المبالغة والخطأ في النقل والتحامل وعدم العناية بالتفاصيل (55). ويقارن مؤرخ كاثوليكي بينه وبين سير القديسين في القرون الوسطى في مدى ما يمكن الوثوق به مما ورد فيه، ويختم كلامه بقوله إنه على الرغم مما يكتنف الكثير من التفاصيل من شكوك "فليس هناك مَن يشك في أن هذه الأحداث وقعت بالفعل".

ص: 184

بالأحكام باعتبارها مخالفة للروح المعتدلة والمتسامحة التي حث عليها المسيح (58) مراراً وتكراراً. وأوقف بونر الأحكام لمدة خمسة أسابيع، ثم أمر بتنفيذها، واعتقد أنه كان رقيقاً متساهلاً، والحق أن مجلس الملكة أنبه يوماً لأنه لا يظهر حماسة كافية في مطاردة الهرطقة (59). وعرض على كل هرطيق منحه عفواً كاملاً إذا ارتد عما يقول، وكثيراً ما أضاف وعداً بتقديم مساعدة مالية أو عمل صريح (60)، ولكن عندما كانت هذه الإغراءات تفشل كان يجيز الحكم بشراسة، وكانت توضع عادة حقيبة ممتلئة بالبارود بين ساقي المحكوم عليه حتى تؤدي ألسنة اللهب إلى موت سريع، ولكن الخشب احترق ببطيء في حالة هوبر، وخاب أثر البارود فلم ينفجر، وقاسى الأسقف السابق آلاماً استمرت ساعة تقريباً.

وكان معظم الشهداء عمالاً بسطاء تعلموا تلاوة الكتاب المقدس وشجعوا على العمل بالتفسير البروتستانتي له إبان الحكم السابق. ولعل المضطهدين رأوا أن من العدل استدعاء رجال الدين الذين بذلوا الجهد لتحفيظ مبادئ العقيدة البروتستانتية، ليشهدوا لها بالاستشهاد، وفي سبتمبر سنة 1555 أحضر كرانمر وعمره ستة وستون عاماً، وريدلي وعمره خمسة وستون عاماً، ولاتيمر، البالغ من العمر ثمانين عاماً، من سجن البرج ليقفوا للمحاكمة في أكسفورد. وكان لاتيمر قد لطخ صفحة حياته البليغة بالموافقة على إحراق المنكرين للتعميد والفرنسسكان العنيدين في عهد هنري الثامن. وكان ريدلي قد أيد بنشاط اغتصاب جين جراي للعرش، ووصف ماري بأنها ابنة سفاح وساعد في خلع بونر وجاردنر من كرسيهما الأسقفيين.

وكان كرانمر الرأس المفكر للإصلاح الديني الإنجليزي، فقد أحل زواج هنري وكاثرين، وزوج هنري من آن بولين، واستبدل بالقداس كتاب الصلاة العامة، واضطهد فريث ولامبرت وغيرهما من الكثالكة،

ص: 185

ووقع وصية إدوارد بالتاج لجين جراي، وندد بالقداس باعتباره كفراً، وكان هؤلاء الرجال وقتذاك في البرج منذ عامين يتوقعون الموت كل يوم.

وحوكم كرانمر في أكسفورد في اليوم السابع من سبتمبر. وقام قضاته بكل جهد ممكن للحصول منه على إنكار لما ذهب إليه. فتمسك بموقفه بحزم وحكم عليه بأنه مذنب، ولكن لما كان رئيساً للأساقفة فإن الحكم عليه ترك للبابا وأعيد إلى سجن البرج. وفي 30 سبتمبر حوكم ريدلي وتشبث بموقفه وفي اليوم نفسه اقتيد لاتيمر أمام المحكمة الكنسية، وكان وقتذاك رجلاً لا يبالي بالحياة، يرتدي ثوباً قديماً مهلهلاً ورأسه الأبيض تكسوه قلنسوة فوق طاقية نوم فوق منديل وتتدلى نظارتاه من عنقه وربطت بزنارة نسخة من العهد الجديد. وفي اليوم الأول من أكتوبر حكم عليهم بالإدانة وأحرقوا في اليوم السادس من أكتوبر. وركعوا أمام المحرقة وصلّوا معاً. وربطوا بالأغلال إلى عمود حديدي وعلقت حول عنق كل لجر حقيبة ممتلئة بالبارود وأشعلت حزم الحطب وقال لاتيمر:"تهلل ولا تبتئس يا سيد ريدلي وتصرف كرجل، فإننا في هذا اليوم سوف نشعل شمعة بفضل الله في إنجلترا، وأنا على يقين أنها لن تطفأ أبداً (61) ".

وفي الرابع من ديسمبر أيد البابا الحكم على كرانمر. واستسلم رئيس الإساقفة البروتستانتي الأول في كنتربري لخوف يغتفر له، ولم يكن في وسع رجل استطاع أن يكتب بإنجليزية قوية الدلالة كتاباً مثل كتاب الصلاة العامة مواجهة هذه المحن دون أن يتعرض لآلام غير عادية في الجسد والعقل.

ولعل كرانمر تأثر بنداء بول الحار فقرر قوله إنه: "تخلى عن كل طرق الهرطقة وأخطاء لوثر وزونجلى وكرهها وأبغضها". وأقر بإيمانه بالشعائر المقدسة السبع واعترف بالتجسيد والمطهر وكل تعاليم الكنيسة الرومانية.

ص: 186

وكان إنكاره هذا قميناً بأن يستبدل به الحكم بسجنه جرياً على ما حدث في جميع السوابق، ولكن ماري (طبقاً لما قاله فوكس) رفضت إنكاره لمعتقده على أساس أنه يفتقر إلى الإخلاص وأمرت بإعدام كرانمر (62).

وفي كنيسة سانت ماري بأكسفورد تلاقى صبيحة يوم إعدامه (31 مارس سنة 1556) إنكاره السابع والأخير. ثم أضاف لدهشة جميع الحاضرين.

وأجيء الآن إلى الأمر العظيم الذي يؤرق ضميري أكثر من أي شيء آخر فعلته أو قلته طوال حياتي وذلك هو تدبيج رسالة في الخارج تخالف الحقيقة. وأنا الآن أتبرأ منها وأرفضها

إنها كتبت خوفاً من الموت

وذلك شأن جميع البيانات والأوراق التي كتبتها أو وقعت عليها بيدي منذ تجريدي من منصبي

وما دامت يدي قد أثمت، بكتابة ما يخالف صدق مشاعري فإن يدي سوف تعاقب على ذلك لأنها

سوف تحرق أولاً

أما بالنسبة للبابا فإني أرفض اعتباره عدواً للمسيح وخارجاً على المسيحية (63).

وعندما اقتربت ألسنة النيران من جسده وهو على المحرقة مد يده فيها واحتفظ بها هناك، كما يقول فوكس: "ثابتة لا تتحرك

حتى يستطيع كل الناس أن يروا يده تحترق قبل أن تمس النار جسده. وأخذ يردد كثيراً كلمات ستيفن "رباه! تقبل روحي" في عظمة اللهب الذي سلم الروح القدس (64).

وكانت وفاته دليلاً على بلوغ الاضطهاد ذروته. ومات نحو 300 شخص في أثنائه منهم 273 في السنوات الأربع الأخيرة من ذلك العهد. وكلما مضت المحرقة قدماً أصبح من الواضح أنها كانت خطأ. واستمدت البروتستانتية القوة من شهدائها كما فعلت المسيحية في بواكير عهدها وانزعج كثير

ص: 187

من الكثالكة في عقيدتهم وشعروا بالخزي من ملكتهم بسبب ما كابده الضحايا من آلام وما أظهروه من جلد. وعلى الرغم من أن الأسقف بونر لم ينعم بالعمل فقد أطلق عليه اسم "بونر الدموي" لأن أسقفيته شهدت معظم ما نفذ من أحكام الإعدام ووصفته امرأة بأنه "الذباح المعروف وعبد المجزرة العامة لكل الأساقفة في إنجلترا (65) "، ووجد المئات من الإنجليز البروتستانت ملجأ في فرنسا الكاثوليكية وسعوا هناك إلى وضع نهاية للعهد الحزين.

وبينما كان هنري الثاني يطارد البروتستانت الفرنسيين فإنه شجع على تدبير المؤامرات الإنجليزية ضد ماري الكاثوليكية التي أدى زواجها بملك أسبانيا إلى ترك فرنسا محاطة بقوى معادية. واكتشف العملاء البريطانيون في أبريل عام 1556 مؤامرة يتزعمها هنري ددلي لخلع ماري وتولية اليزابث على العرش. وتم القبض على عدة أشخاص منهم اثنان من أفراد بين اليزابث، وأقحم اعتراف اسم اليزابث نفسها والملك الفرنسي. وقمعت الحركة ولكنها تركت ماري في خوف دائم من الاغتيال.

وواجهت جماعة من الهاربين محناً كشفت عن مزاج العصر الذي تتسلط العقيدة عليه، فقد جاء إلى لندن عام 1548 جان لاسكي، وهو كالفيني بولندي وأنشأ هناك أول كنيسة مشيخية في إنجلترا. وبعد ارتقاء ماري العرش بشهر ترك لاسكي وجانب من جمهور المصلين معه لندن في سفينتين دنمركيتين. وفي كوبنهاجن منعوا من الدخول ما لم يوقعوا على الاعتراف الرسمي اللوثري الخاص بالعقيدة. فأبوا باعتبارهم كالفينيين متمسكين بعقيدتهم. ولم يسمح لهم بالنزول فسافروا بحراً إلى وسمار ويبسك وهامبورج، وفي كل حالة كانوا يواجهون بالمطلب نفسه ويردون بالرفض (66). ولم يذرف اللوثريون في ألمانيا أية دموع على ضحايا ماري بل نددوا بهم باعتبارهم هراطقة مكروهين و"شهداء للشيطان" بسبب إنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان (67) المقدس. وأدان كالفن تعصب اللوثريين الذي لا يعرف الرحمة، وفي ذلك العام

ص: 188

(1553)

أحرق سرفيتوس في المحرقة. وبعد أن ظل الهاربون تتقاذفهم أمواج بحر الشمال معظم أيام الشتاء سمح لهم بالدخول أخيراً ووجدوا معاملة إنسانية في إمدن.

وسارت ماري إلى نهايتها المحتومة بقدر كئيب. وكان زوجها التقى في حرب غير منطقية وقتذاك مع البابوية وكذلك مع فرنسا، وجاء إلى إنجلترا (20 مارس سنة 1557) وحث الملكة على أن تشترك إنجلترا في الحرب باعتبارها حليفة. ولكي يخفف من كراهية الإنجليز لمهمته، أقنع ماري بالاعتدال في الاضطهاد (68)، ولكنه لم يستطع أن يكسب بسهولة تأييد الجمهور بل كان الأمر على العكس، فبعد شهر من وصوله أشعل توماس ستافورد، ابن أخي الكاردينال بول، ثورة لتحرير إنجلترا من ماري وفيليب على السواء، ولكنه هزم وشنق (28 مايو سنة 1557) ولقد اترع البابا كاس الملكة تعاسة برفضه الاعتراف ببول قاصداً رسولياً واتهم بالهرطقة. وكانت ماري في لهفة لإرضاء فيليب ومقتنعة أن هنري الثاني قد أيد ستافورد في مؤامرته، وأعلنت الحرب على فرنسا في 7 يونيه. وبعد أن حقق فيليب غرضه غادر إنجلترا في يوليو وراود الشك ماري في أنها لن تراه أبداً مرة أخرى. وقالت:"سوف أعيش ما بقي من أيامي دون رفيق من الرجال (69) ". وفقدت إنجلترا في هذه الحرب التي لم ترغب فيها كاليه (6 يناير سنة 1558) التي كانت قد احتفظت بها 211 عاماً وآلاف الإنجليز من الرجال والنساء الذين عاشوا هناك وفروا الآن إلى بريطانيا، لاجئين معدمين، وأذاعوا الاتهام المرير المنسوب إلى حكومة ماري بأنها أهملت إهمالاً إجرامياً في الدفاع عن آخر ممتلكات إنجلترا في القارة. وعقد فيليب صلحاً موافقاً له دون أن يطب استعادة كاليه. وكانت ثمة عبارة قديمة تتردد هي أن ذلك الميناء الثمين كان "ألمع جوهرة في التاج الإنجليزي". وأضافت ماري عبارة أخرى إلى الحكاية "عندما أموت وتفتحون صدري فسوف

ص: 189

تجدون كاليه في قلبي (70) ". وفي أوائل عام 1558 اعتقدت الملكة مرة أخرى أنها حامل. وكتبت وصيتها إذ كانت تتوقع أن تكون ولادتها خطيرة وبعثت برسالة إلى فيليب تتوسل إليه فيها أن يحضر الحادث السعيد

فبعث إليها بتهانيه ولكن لم تكن هناك ضرورة لحضوره، فقد كانت ماري على خطأ. وكانت وقتذاك امرأة مهجورة من الجميع، ولعلها كانت مخبولة إلى حد ما. كانت تجلس على الأرض الساعات الطوال وركبتاها مرفوعتان إلى ذقنها، وكانت تتجول في قاعات القصر مثل شبح، وكتبت رسائل لطختها بدموعها للملك الذي توقع وفاتها، فأمر عملاءه في إنجلترا أن يستميلوا قلب اليزابث للزواج من أمير إسباني أو من فيليب نفسه.

وفي أيام الصيف الأخير من حياة ماري انتشر وباء حمى البرداء في إنجلترا. وأصيبت به الملكة في سبتمبر عام 1558 وتحالف مع الاستسقاء و"زيادة الصفراء السوداء" فأضعفها إلى حد أن رغبتها في الحياة تلاشت. وفي 6 نوفمبر بعثت بجواهر التاج إلى اليزابث. وكان هذا عملاً كريماً أذعن فيه حبها للكنيسة لرغبتها في منح إنجلترا وراثة منظمة للعرش. وتعرضت للغيبوبة فترات طويلة واستيقظت من إحدى هذه الغيبوبات لتروي كيف رأت حلماً سعيداً عن أطفال يلعبون ويغنون أمامها (71). وفي 17 نوفمبر سمعت القداس مبكراً وهتفت بالعبارات التي يرددها المصلون عادة وراء القس بحرارة. وماتت قبل الفجر.

وفي اليوم نفسه مات الكاردينال بول، الذي مني بهزيمة منكرة مثل ملكته. ولابد لنا عند تقديره أن نسجل الحقيقة المرة وهي أنه كان قد أدان ثلاثة رجال وامرأتين وحكم عليهم بالموت حرقاً بتهمة الهرطقة في مستهل الشهر الأخير. صحيح أن كل الطوائف ما عدا المنكرين للتعميد في تلك السنوات التي عرفت جنون اليقين ووافقت على ضرورة المحافظة على الوحدة الدينية ولو أدى الأمر بالضرورة إلى معاقبة المنشقين بالإعدام، ولكن لم

ص: 190

يحدث في أي مكان في العالم المسيحي المعاصر - حتى في أسبانيا - أن أحرق هذا العدد الكبير من الرجال والنساء بسبب آرائهم كما حدث في عهد تولى ريجينالد بول رئاسة الكنيسة الإنجليزية.

وفي وسعنا أن نقول كلمة رقيقة عن ماري. فقد أدى الحزن والمرض وكثير مما تعرضت له من أخطاء إلى انحراف عقلها. ولم تتحول من الحلم إلى القسوة إلا بعد مؤامرات كانت تستهدف حرمانها من التاج الذي تضعه على رأسها وأصاخت السمع في ثقة زائدة لرجال الدين الذين سعوا إلى الانتقام بعد أن تعرضوا هم أنفسهم للاضطهاد. وكانت تعتقد حتى آخر لحظة في حياتها أنها بالقتل إما تؤدى فرائضها نحو العقيدة التي أحبتها كمجال حيوي لبقائها. وهي لا تستحق اسم "ماري الدموية" ما لم تسحب تلك الصفة على عصرها بأسره، فهو يهون بلا رحمة من شأن شخصية فيها الكثير من الصفات التي تستحق الحب.

وإن امتيازها العجيب إنما هو استمرارها في العمل الذي بدأه والدها لإبعاد إنجلترا عن روما. وأظهرت لإنجلترا، ولما تزل كاثوليكية، أسوأ جانب للكنيسة التي خدمتها، ولما ماتت كانت إنجلترا مهيأة أكثر من ذي قبل لاعتناق العقيدة الجديدة التي جاهدت للقضاء عليها.

ص: 191

الفصل السابع والعشرون

‌من روبرت بروس إلى جون نوكس

‌1300 - 1561

1 -

الإسكوتلنديون الذين لا يقهرون

إن الجنوب الحار اللطيف يولد الحضارة والشمال البارد القاسي يتغلب مراراً على الجنوب المتهاون الكسول ويستوعب الحضارة ويحورها، وإن بلاد أقصى الشمال - سكوتلندة والنرويج والسويد وفنلندة - لتكافح العناصر التي تكاد تشبه الظروف القطبية الشمالية لتقوم بشيء من الترحيب بالحضارة وتسهم فيها وهي تواجه ألف عاقبة.

ولقد شجعت الهضاب المجدبة الخالية من الطرق على قيام الإقطاع ولم تشجع على الزراعة، بينما رحبت الأراضي المنخفضة الخضراء الخصيبة بغزوة بعد غزوة قام بها الإنجليز الذين لم يستطيعوا أن يدركوا لماذا لا تستقبل سكوتلندة تدفعهم عليها هم وملوكهم. وكان الإسكوتلنديون قديما ً من الكلتيين واختلطوا في القرون الوسطى بالإيرلنديين والنرويجيين والإنجليز والساكسون والنورمانديين، وما أن حل عام 1500 حتى كانوا قد أصبحوا شعباً ضيق الأفق في المشاعر والأفكار - ومثلهم في ذلك مثل شبه جزيرتهم، عميق الغور في الخرافة والأساطير مثل الضباب المنتشر عندهم معتزاً بنفسه مثل قننه البحرية، فظاً مثل أرضه، متهوراً مثل سيوله الجارفة، وهو شرس ورقيق، قاسٍ وشجاع في آن واحد، ولا يقهر أبداً. ويبدو أن الفقر ضارب

ص: 192

بجذوره وظروفه الجغرافية والأخلاق في فقره، وهكذا نشأ الشح من التربة الحانقة، وكان الفلاحون يرزحون تحت وطأة الكدح والنصب، فلم يكن لديهم متسع من الوقت لكتابة الرسائل، أما النبلاء الذين أبقوهم في العبودية فقد فاخروا بالأمية، إذ وجدوا ألا فائدة من تعلم حروف الأبجدية في ثاراتهم أو حروبهم، وقسمت الجبال والعشائر السكان المشتتين إلى طوائف متناظرة متهورة لا يعفون عن أعدائهم في الحرب ويعطون أماناً في السلم. ولما كان النبلاء يملكون تقريباً كل أسباب السلطة العسكرية في فرقهم الخاصة فإنهم سيطروا على المجلس النيابي وعلى الملوك. وكان لدى آل دوجلاس وحدهم 5000 تابع ودخولهم تضارع دخل التاج.

وقبل عام 1500 كانت الصناعة بدائية ومنزلية والتجارة مضطربة، والمُدن قليلة وصغيرة، وكان تعداد سكان سكوتلندة كلها وقتذاك 600. 000 نسمة نصف سكان جلاسجو اليوم. وكانت جلاسجو بلدة صغيرة تعمل بالصيد وكانت برت هي العاصمة حتى عام 1542، وكان بأدنبرة 16. 000 نسمة.

وعبرت روح الاستقلال الفردية والمحلية والقومية عن نفسها في الأنظمة القروية والبلدية التي تتمتع بالحكم المحلي داخل إطار الإقطاع والملكية، وسمح لأوساط الناس - المواطنين المحررين من سكان المُدن - بأن يكون لهم ممثلون في المجلس النيابي أو مجلس المقاطعات، ولم يكن يحق لهم أن يجلسوا بين زملائهم من أعضاء العموم كما في إنجلترا، ولكن بين ملاّك الأراضي من الإقطاعيين، وكانت أصواتهم تضيع في الأغلبية التي للنبلاء. ولما كان الملوك لا يستطيعون أن يوطدوا سلطانهم ضد النبلاء بالتحالف مع التجار والأغنياء والمُدن الآهلة بالسكان، كما هو الحال في فرنسا، فإنهم سعوا إلى الحصول على التأييد من ثروة الكنيسة ونفوذها.

أما النبلاء فكانوا على طرفي نقيض مع الملوك وتعلموا أن يكرهوا الكنيسة ويحبوا أملاكها وانضموا في إطلاق الصرخة العامة التي تنادي

ص: 193

بأن الثروة القومية إنما تصب في روما. وكان النبلاء في إسكوتلندة - وليس الملوك والتجار كما في إنجلترا - هو الذين نهضوا بالإصلاح الديني، أي تحرير العلمانيين من سلطة الكنسيين (1).

وحققت الكنيسة الإسكوتلندية عن طريق تسلطها على تقوى الناس لنفسها ثراء وسط فقر متقع وآمال معلقة على العالم الآخر. وقام مبعوث بابوي حوالي نهاية القرن الخامس عشر بإبلاغ البابا أن دخل الكنيسة في إسكوتلندة يعادل كل الدخول الأخرى مجتمعة (2). وكان الوعاظ وأوساط الناس يكادون يحتكرون معرفة القراءة والكتابة. وكان رجال الأكليروس الإسكوتلنديون في القرن السادس عشر مشهورين بالتضلع في العلم، وكانت الكنيسة بالطبع هي التي أسست جامعتي سانت أندروز وأبردين وحافظت عليهما. وكانت الأساقفة ورؤساء الأديار بعد عام 1487 ينصبون - وفي الواقع يعينون - بمعرفة الملوك الذين جعلوا من هذه المناصب مكافآت على خدمات سياسية أو رواتب لأبنائهم غير الشرعيين. ووهب جيمس الخامس ثلاثة من أبنائه من السفاح دخولاً كنسية من كلسو وملرز وهوليرود وسانت أندروز. وكانت الميول الدنيوية لهؤلاء المعينين من الأسرة الملكية مسئولة إلى حد ما عن فساد رجال الأكليروس في القرن السادس عشر.

ولكن الانحلال العام للأخلاق والنظام الذي اتسمت به الكنيسة أواخر العصور الوسطى، كان واضحاً في إسكوتلندة قبل تعيين الملوك للأساقفة بعهد طويل. وكتب هيلير بلوك الكاثوليكي المتزمت يقول:"إن فساد الكنيسة الذي استفحل شره في كل مكان في سائر أرجاء أوربا في القرن الخامس عشر، قد وصل في إسكوتلندة إلى درجة لم تعرف في أي مكان آخر (3"). ومن هنا نشأ إلى حد ما عدم المبالاة الذي نظر به عامة الناس، على ما عرفوا به من محافظة على العقيدة، إلى إحلال رجال الدين البروتستانت محل رجال الدين الكاثوليك. وشكا الملك جيمس الأول عام

ص: 194

1425 من فجور الرهبان وكسلهم، وفي عام 1455 اضطر قسيس في لينلثجو قبل أن يتسلم وظيفته أن يعدي عهدا بأن لن يرهن أملاك كنيسته ولن يحتفظ بـ "حظية دائمة"(4). وكان للكاردينال بيتون ثمانية أبناء من السفاح، وضاجع ماريون أو جيلفي ليلاً قبل أن يمضي ليلقى خالقه (5)، وحصل جون رئيس أساقفة هاملتون من جلسات مختلفة عقدها المجلس النيابي الإسكوتلندي على خطابات بشرعية ذريته المتزايدة. ولم يبخل شعراء من قبل الإصلاح الديني في إسكوتلندة بكلمات في هجاء رجال الأكليروس، بل إن رجال الأكليروس أنفسهم، في المجمع المقدس الكاثوليكي الإقليمي لعام 1549 عزوا انحطاط الكنيسة في إسكوتلندة إلى "الفساد في الأخلاق والفسق الدنس في حياة رجال الكنيسة من جميع الدرجات تقريباً (6) ". ومهما يكن من شيء فلابد من أن نضيف أن أخلاق رجال الأكليروس كانت مجرد انعكاس لأخلاق العلمانيين - وفوق كل شيء النبلاء والملوك.

‌2 - وقائع ملكية

1314 -

1554

إن الحقيقة الأساسية في تاريخ الدولة الإسكوتلندية هي الخوف من إنجلترا، والحق أن الملوك الإنجليز حاولوا مراراً أن يلحقوا إسكوتلندة بالتاج الإنجليزي من أجل سلامة إنجلترا من هجوم يباغتها من الخلف. وقبلت إسكوتلندة التحالف مع فرنسا عدو إنجلترا اللدود لكي تحمي نفسها. ولذلك تبرز هذه الوقائع.

لقد ظفر الإسكوتلنديون بحريتهم من إنجلترا في بانوكبرن (1314) بالأقواس والسهام والفؤوس المستخدمة في القتال. ولما كان روبرت بروس قد قادهم هناك إلى النصر، فقد ظل يحكمهم حتى وفاته متأثراً بداء الجذام (1329). وتوج ابنه دافيد الثاني، شأنه في هذا شأن الملوك الإسكوتلنديين منذ أمد بعيد على "حجر القدر" المقدس في دير سكون.

ص: 195

ولما بدأ إدوارد الثالث ملك إنجلترا حرب المائة سنة مع فرنسا، رأى أنه من الحزم أن يضمن حدوده الشمالية، فهزم الإسكوتلنديين في هاليدون هل، وأقام إدوارد باليو ألعوبة له على عرش إسكوتلندة سنة 1333، ولم يسترد دافيد الثاني التاج إلا بعد أن دفع للإنجليز فدية قدرها 100. 000 مارك (6. 667. 000 دولار)، ونظراً لأنه لم يترك وريثاً مباشراً عند وفاته (1371) انتقلت المملكة إلى ابن أخيه روبرت ستيوارت الذي بدأت به أسرة ستيوارت المشئومة.

وسرعان ما استؤنفت حرب نصفي إنجلترا ضد الكل. وأرسل الفرنسيون جيش إلى إسكوتلندة، وعاث الإسكوتلنديون والفرنسيون فساداً في بلاد إنجلترا الواقعة على الحدود، واستولوا على درهام وأعدموا كل سكانها - رجالاً ونساء وأطفالاً وراهبات ورهباناً وقساوسة. وقام الإنجليز بالحركة التالية في لعبة الشطرنج الملكي هي فغزوا إسكوتلندة، وأحرقوا برث ودندي ودمروا دير ملروز (1385)، وسار روبرت الثالث في الطريق نفسه، ولكن عندما أسر الإنجليز ابنه جيمس (1406) مات حزناً. واحتفظت إنجلترا بالملك الصبي في سجن لطيف إلى أن وقع الإسكوتلنديون "صلحاً دائماً"(1423) وتخلوا عن كل تعاون بعد ذلك مع فرنسا.

وقد تعلم جيمس في الأسر، قدراً لا بأس به، وحصل على عروس انجليزية، وألف في مدح هذه "الحمامة البيضاء" بلسان الإسكوتلنديين "كتاب الملك" وهو قصيدة مجازية يستكثر على ملك أن ينظم مثلها. والحق أن جيمس كان مبرزاً في عشرات الأمور، فقد كان واحداً من أحسن المصارعين والعدائين والفرسان ورماة السهام وقاذفي الحراب والصناع المهرة والموسيقيين في إسكوتلندة، وكان حاكماً مقتدراً كريماً. وفرض عقوبات على التجارة التي تفتقر إلى الأمانة والزراعة المهملة، وبنى المستشفيات وألزم الحانات بالإغلاق في الساعة التاسعة، وحول طاقات الشباب من كرة القدم

ص: 196

إلى التدريبات العسكرية، وطلب إصلاح النظام الكنسي وتقويم حياة الرهبان في الأديار. وعندما بدأ حكمه النشيط (1424) تعهد بالقضاء على الفوضى والجريمة في إسكوتلندة، ووضع حد الحروب الخاصة بين النبلاء واستبدادهم الإقطاعي "إذا لم يهبني الله سوى حياة كلب فإني سوف أجعل المفتاح يحرس القلعة والسرخس يرعى البقر"، أي يقضي على السطو على البيوت والماشية - في كل أنحاء إسكوتلندة (7). وسرق لص من أهل الجبال بقرتين من امرأة فأقسمت ألا تلبس أحذية أبداً حتى تسير إلى الملك لتندد بضعف القانون، فقال اللص "أنتِ تكذبين وسوف أعمل على أن تحتذي" وسمر حذوتي حصان في قدميها العاريتين. ومع ذلك وجدت طريقها إلى الملك وأمر بمطاردة اللص وطوف به حول برث ومعه لوحة من الخيش صورت عليها جريمته وحرص على أن يشنق الوحش بلا إمهال. وفي غضون ذلك اشتجر النزاع في وقته بينه وبين بارونات يضعون العراقيل في طريقه فأتى بقليل منهم إلى منصة الإعدام وصادر الزيادة في الأراضي المستأجرة وفرض المكوس على اللوردات وأوساط الناس على السواء وأعطى للحكومة الأموال التي احتاجت إليها لكي تستبدل بطغاة عديدين طاغية واحدة.

ودعا أصحاب الأرض - ملاّك الضياع الأقل مساحة - إلى المجلس النيابي وجعلهم هم والطبقة الوسطى بديلاً للنبلاء ورجال الأكليروس. وفي عام 1437 قتلته عصبة من النبلاء.

واستمر أبناء النبلاء الذين كان قد أسقطهم في الحياة أو انتزع منهم الأملاك في مقاومة جيمس الثاني في الكفاح ضد الملكية التي تنزع إلى المركزية، وبينما كان الملك الجديد لا يزال بعد صبياً في السابعة من عمره دعا وزراؤه ايرل أف دوجلاس الصغير وشقيقا أصغر لينزلا ضيفين على الملك فحضرا وقدما لمحاكمة هزلية وقطع رأساهما (1440) ودعا جيمس الثاني نفسه بعد أثنى عشر عاماً وليام، ايرل أف دوجلاس، لبلاطه في ستيرلنج ومنحه عهد الأمان

ص: 197

وأنزله في ضيافته الملكية وقتله بتهمة تبادل رسائل فيها تآمر على خيانة الدولة مع إنجلترا. واستولى على كل القلاع الإنجليزية الحصيفة في إسكوتلندة إلا قلعة واحدة، ومزق إرباً إثر انفجار عارض من مدفعه. وكفر جيمس الثالث عن فظاظة أبيه فبعد مهاجمات وحشية أسره النبلاء وقتل لتوه (1488)، وتزوج جيمس الرابع من مرجريت تيودور شقيقة هنري الثامن، وبفضل هذا الزواج طالبت ماري ملكة الإسكوتلنديين بعرش إنجلترا.

ومع ذلك فإن هنري الثامن عندما انضم إلى أسبانيا والنمسا والبندقية والبابوية في الهجوم على فرنسا (1511) شعر جيمس بأنه ملزم بمساعدة حليفة إسكوتلندة القديمة المعرضة للخطر، على هذا النحو بغزو إنجلترا. وحارب بشجاعة جنونية في فلودن فيلد، بينما استدار الكثيرون من رجاله وفروا لا يلوون على شيء، ومات في تلك الكارثة (1513).

وكان جيمس الخامس وقتذاك لا يبلغ من العمر إلا عاماً واحداً، واستتبع هذا كفاح متشابك من أجل الوصاية على العرش. وفاز بالجائزة دافيد بيتون - وهو أحد رجال الكنيسة المعروفين بالمقدرة والشجاعة وتقدير النساء، ونصب كبيراً لأساقفة سانت اندروز، ثم كاردينالاً، ودرب الملك الصغير على الولاء الحار للكنيسة. وتزوج جيمس على 1538 من ماري أمير اللورين، شقيقة فرانسيس، الدوق دي جيز زعيم الحزب الكاثوليكي في فرنسا المنقسمة على أساس مذهبي، وتطلع النبلاء الإسكوتلنديون، ومناهضتهم لرجال الأكليروس تتزايد يوماً بعد يوم، باهتمام إلى الانفصام القائم بين إنجلترا والبابوية، وحسدوا اللوردات الإنجليز الذين انتزعوا أو تلقوا أملاك الكنيسة وأخذوا "أجوراً" من هنري الثامن لمعارضة تحالف ملكهم مع فرنسا. وعندما شنَّ جيمس الخامس الحرب على إنجلترا رفض النبلاء أن يؤيدوه. وهزم في سولواي موس (1542) ففر يجر أذيال الخزي إلى

ص: 198

فولكلاند، ومات هناك في 14 ديسمبر، وأنجبت زوجته في الثامن من ديسمبر ماري، التي أصبحت ملكة للإسكوتلنديين وعمرها ستة أيام.

وأبرز بيتون وصية من الملك الراحل عينه فيها وصياً على الملكة الرضيعة، وتشكك النبلاء في صحة الوثيقة وسجنوا الكاردينال واختاروا جيمس، إيرل أف أران وصياً على العرش، بيد أن أران أطلق سراح بيتون وعينه كبيراً للوزراء. وعندما جدد بيتون الحلف مع فرنسا عقد هنري الثامن النية على شنَّ حرب لا هوادة فيها، وبعث لجيشه في الشمال أمراً بإحراق كل شيء في طريقه وتدميره، و"أن يعمل النار والسيف في كل رجل وامرأة وطفل دون استثناء أينما يجد مقاومة" وبخاصة "ألا يبقوا على حياة مخلوق" في بلدة سانت أندروز (7) مقر بيتون. وبذل الجيش جهده، وأحال كل دير ومزرعة وقلعة ومحلة إلى خراب شامل (9)". وتعرضت أدنبرة يومين للسلب والحرق، ونهبت قرى الفلاحين في دائرة قطرها سبعة أميال ودكت دكاً، وسيق إلى إنجلترا (1544) 1000 راس من الماشية ذوات القرون و 12. 000 رأس من الأغنام و 1300 جواد. وعرض سير جيمس كير كالداي ونورمان لزلي وغيرهما من السادة الإسكوتلنديين أن يساعدوا الإنجليز على "حرق أماكن يملكها الحزب المتطرف في الكنيسة، وأن يقبضوا ويسجنوا كبار خصوم الحلف الإنجليزي، وأن يعتقلوا ويقتلوا الكاردينال نفسه (10)". ورحب هنري بالعرض ووعد بتقديم 1000 جنيه إنجليزي لمواجهة النفقات. وفشلت الخطة إلى حين، ولكنها نفذت في اليوم التاسع والعشرين من مايو سنة 1546، واقتحم اثنان من آل كير كالداي واثنان من آل لزلي وعصبة عديدة من النبلاء والقتلة قصر الكاردينال عنوة وقتله "في حالة تلبس" تقريباً لأنه، "كما يقول نوكس" كان مشغولاً بحساباته مع السيدة اوجيلفي في تلك الليلة (11). وأردف نوكس قائلاً: "والآن بما أن الطقس حار فقد رأى أن من الأفضل لمنعه من أن يتعفن أن يعطوه جرعة كبيرة كافية من الملح،

ص: 199

وقباء من الرصاص

انتظاراً لما سوف يعده له إخوانه الأساقفة من طقوس الفن. ونحن إنما نسجل هذه الأمور ابتهاجاً (12) ". وانسحب القتلة إلى قلعة سانت اندروز على الساحل وانتظروا وصول العون من إنجلترا بطريق البحر.

وعاد أران إلى الاضطلاع بعبء الحكم، ولكي يضمن مساعدة الفرنسيين وعد بأن يزوج الملكة الطفلة ماري ستيوارت لولي عهد فرنسا، ولكي يحال بينها وبين الوقوع في أيدي الإنجليز، أرسلت سراً إلى فرنسا (13 أغسطس سنة 1548). وقضى ارتقاء ماري تيودور العرش في إنجلترا على خطر قيام الإنجليز بغزوات أخرى إلى حين. وكانت الكاثوليكية وقتذاك تسيطر على جانبي الحدود. وتغلب النفوذ الفرنسي إلى أران فحمله على أن يتنازل عن وصية العرش (1554) إلى ماري أميرة اللورين، أم الملكة الغائبة، وكانت امرأة على حظ من الذكاء والجلد والشجاعة، لم تذعن إلا لروح العصر الغلابة ووهبت ثقافة النهضة الفرنسية، فقابلت العقائد الدينية المناظرة التي كانت تضطرم بالغضب حولها بابتسامة تنم على التسامح. وأمرت بإطلاق سراح العديد من البروتستانت المسجونين، وسمحت للهراطقة بحرية كبيرة في الوعظ والعبادة، إلى حد أن الكثير من البروتيتانت الإنجليز الذين فروا من ماري تيودور وجدوا ملجأ، وسمح لهم بتكوين جماعات دينية برئاسة ماري أميرة اللورين. كانت أعظم حاكمة رقيقة العاطفة متمدنة عرفتها إسكوتلندة قروناً طوالاً.

‌3 - جون نوكس

1505 -

1559

كانت الدعاية للإصلاح الديني قد مضى عليها مائة عام في إسكوتلندة في عام 1433 اتهم بول كراور بإدخال عقيدتي ويكليف وهس، وقضت الكنيسة بإدانته وأحرقته الدولة. وفي عام 1494 استدعي

ص: 200

ثلاثون "لولاردا من كيل" للمثول أمام أسقف جلاسجو بتهمة رفض الاعتقاد في المخلفات والصور الدينية والاعتراف السري أمام قسيس، ورسامة القساوسة وسلطانهم والتجسد والمطهر، وصكوك الغفران والقداسات من أجل الموتى ورهبانية رجال الدين والسلطة البابوبة (13). وبذلك نجد أنفسنا أمام تلخيص يكاد يكون كاملاً لمبادئ الإصلاح الديني قبل نشر رسائل لوثر بثلاثة وعشرين عاماً. ومن الواضح أن المتهمين تراجعوا عما قالوا به.

وسرعان ما دخلت رسائل لوثر إلى إسكوتلندة بعد عام 1523، وانتشرت ترجمة للعهد الجديد باللغة الإسكوتلندية من إعداد ويكليف في مخطوطة، وارتفع نداء يطالب بمسيحية تعتمد على الكتاب المقدس وحده دون سواه.

وذهب باتريك هاميلتون إلى باريس ولوفان، ودرس تعاليم أرازموس والفلسفة اليونانية ومضى إلى فتنبرج وعاد إلى إسكوتلندة مشبعاً بالعقائد الجديدة ونادى بالتزكية بالإيمان ودعاه جيمس (عم دافيد) وبيتون، ثم رئيس أساقفة سانت اندروز للحضور، وإيضاح ما يعنيه بأقواله، فجاء وتمسك بآرائه وأحرق (1528). وفي عام 1534 أحرق اثنان آخران من "العلماء" كما كان المصلحون الدينيون الإسكوتلنديون الأوائل يسمون أنفسهم. وشنق أربعة رجال وأغرقت امرأة عام 1544، وطبقاً لما يرويه نوكس الذي لا يعتمد على روايته دائماً، ذهبت إلى حتفها وعلى صدرها طفل رضيع (14).

وكانت عمليات القتل العمد هذه موزعة على عصور ومواضع مختلفة، إلى حد جعلها لا تثير رد فعل عام قوي. بيد أن شنق جورج ريشارت مس شغاف قلوب الكثيرين، وكان أحول حادث له أثره في الإصلاح الديني الإسكوتلندي. وقد ترجم ريشارت حوالي عام 1543 الاعتراف السويسري البروتستانتي الأول، ومن سوء الحظ أن هذا الإعلان البروتستانتي أمر السلطات

ص: 201

العلمانية بمعاقبة الهراطقة (15). وأزاحت الاتجاهات البروتستانتية السويسرية منذ ذاك - وكانت في مبدأ الأمر زونجالية تتسم بالرحمة ثم أصبحت كالفينية صارمة - اللوثرية يوماً بعد يوم في الحركة الإسكوتلندية. وقدم ريشارت عضاته في مونتروز ودندي ولازم بشجاعة مرضى وباء منتشر، وفسر العقيدة الجديدة في أدنبرة في وقت كان فيه دافيد بيتون يعقد مجمعاً أكليروسياً من رجال الدين الإسكوتلنديين هناك، فأمر الكاردينال بالقبض عليه بتهمة الهرطقة، وحكم عليه بالإدانة وقتل خنقاً وأحرق (1546).

وكان من بين مَن تحولوا عن مذهبهم على يديه، شخصية من أقوى الشخصيات في التاريخ وأعظمها نفوذاً. وقد ولد جون نوكس بين عامي 1505 و 1515 قرب هندنجنون ونذره والداه الفلاحان ليكون قسيساً، ودرس في جلاسجو ورسم قساً (حوالي عام 1532، وأصبح معروفاً بتضلعه في القانون المدني والقانون الكنسي على السواء. ولا تتحدث سيرته الذاتية "تاريخ إصلاح الدين داخل مملكة إسكوتلندة" بشيء عن شبابه ولكنها تقدمه فجأة (1546) بوصفه مريداً متحمساً لجورج ريشارت وحارساً شجاعاً له، يحمل سيفاً له مقبضان. وأخذ نوكس يتجول من مخبأ إلى آخر بعد القبض على ريشارت، ثم انضم في عيد الفصح عام 1547 في قلعة سانت اندروز إلى العصبة التي قتلت الكاردينال بيتون.

واستشعر الرجال المطاردون الحاجة إلى الدين فطلبوا من نوكس أن يكون واعظاً لهم. فاحتج بأنه لا يصلح، ثم وافق وسرعان ما اتفقوا على أنهم لم يسمعوا قط مثل هذا الوعظ الملتهب من قبل. وأطلق على الكنيسة الرومانية أسم:"هيكل الشيطان" وجعلها مرادفة للوحش المخيف الذي ورد وصفه في سفر الرؤيا. وتبنى العقيدة اللوثرية التي تذهب إلى "أن الإنسان يظفر بالخلاص"، بأن يؤمن فحسب بأن دم يسوع المسيح يكفر عن خطايانا جميعاً (16) ". وفي يوليو أبحر أسطول فرنسي وقذف القلعة بالقنابل. وقاوم

ص: 202

المحاصرون أربعة أسابيع، وأخيراً غلبوا على أمرهم، وظل نوكس والآخرون يعملون عبيداً في السفن تسعة عشر شهراً. وليس لدينا إلا تفاصيل قليلة عن معاملتهم باستثناء ما ذكر من أنهم كانوا يدفعون لسماع القداس (ويقول لنا نوكس) أنه رفض بشدة، ولعل هذه الأيام المريرة، وأثر صوت الملاحظ على الأجسام ساهم في اشتداد نزوع نوكس إلى الكراهية وجنوح لسانه وقلمه إلى العنف في العبارة.

وعندما أطلق سراح الأسرى (فبراير سنة 1549) عمل نوكس قساً بروتستانتياً في إنجلترا براتب تقاضاه من حكومة سومرست. وكان يقوم بعظاته يوميا طوال الأسبوع "إذا سمحت له بذلك الجيفة الخبيثة". ونحن أبناء اليوم الذين لا ننعم كثيراً بالعظات ليس في مقدورنا إلا أن نتصور بصعوبة مدى إحساس الناس في القرن السادس عشر بالتعطش إليها. وقد ترك قساوسة الأبرشيات الوعظ للأساقفة الذين تركوه بدورهم للأخوان الرهبان وكانوا يقومون به بين آن وآخر. وأصبح الوعاظ في البروتستانتية بمثابة صحيفة يومية للأخبار والرأي، وكانوا يروون على المصلين أحداث الأسبوع أو أحداث اليوم، وكان الدين وقتذاك ممتزجاً بالحياة إلى الحد الذي جعل كل حدث تقريباً يمس العقيدة أو القائمين عليها ونددوا بنقائص رجال الأبرشية وأخطائهم ونبهوا الحكومة إلى واجباتها وأخطائها. وفي عام 1551 كان نوكس يعظ أمام إدوارد السادس ونورثمبرلان فتساءل كيف تأتى في الغالب الأعم لأنقى الأمراء أن يتخذوا مستشاريهم من أفسق الناس. وحاول الدوق أم يسكته بمنحه منصب أسقفية ولكنه فشل.

وكانت ماري التيودورية أشد خطورة عليه، ففر نوكس إلى دبيب وجنيف (1554) بعد شيء من التباطؤ الذي أملاه الحرص، وزكاه كالفن لدى جماعة تتحدث بالإنجليزية في فرانكفورت، ولكن مبادئه وملامحه كانت جد قاسية بالنسبة لمستمعيه، فطلب منه أن يرحل. وعاد إلى جنيف (1555)، ونحن نستطيع

ص: 203

أن نحكم على قوة شخصية كالفن من التأثير الذي سيطر به وقتذاك على شخصية إيجابية وقوية تماثل شخصيته. ووصف نوكس، مدينة جنيف في عهد كالفن بأنها:"أكمل مدرسة للمسيح ظهرت على وجه الأرض منذ أيام الحواريين (17) ". واتفقت الكالفينية مع مزاجه لأن تلك العقيدة كانت واثقة من نفسها، وعلى ثقة من أنها تتلقى الوحي من الرب، وواثقة من أن الله قد فرض عليها أن تلزم الفرد بانتهاج سلوك محدد واعتناق عقيدة معينة، وواثقة من حقها في توجيه الدولة، ولقد تغلغل هذا كله في أعماق روح نوكس، ثم في التاريخ الإسكوتلندي عن طريقه. وتوقع في فزع حكم ماري ستيوارت الكاثوليكية لإسكوتلندة، فسال كالفن وبولينجر هل يحق لشعب أن يرفض إطاعة "حاكم يرغم الناس على عبادة الأوثان ويلغي الدين الصحيح" فلم يحيرا جواباً، ولكن جون نوكس كان يعرف ما يدور في خلده.

وفي خريف عام 1555، وكان وقتذاك في الخمسين من عمره على الأرجح أظهر الجانب الرقيق من شخصية جافة بالعودة إلى ماري تيودور ملكة إنجلترا والذهاب إلى برويك والزواج من مرجريت بويز لأنه أحب أمها. وكانت لمس بويز خمسة أولاد وعشر بنات وزوج كاثوليكي، وكان لوعظ نوكس الفضل في اكتسابها لصف البروتستانتية، وأسرت له بمتاعبها المنزلية ووجد متعة في أن يشير عليها بما يجب، وعزاء في صداقتها، ومن الواضح أن العلاقة بينهما ظلت روحية إلى النهاية.

وعندما تزوج نوكس من مرجريت تركت مس بويز زوجها وذهبت لتعيش مع ابنتها وكاهن الاعتراف الخاص بها. وماتت الزوجة بعد خمس سنوات من عقد الزواج. وتزوج نوكس للمرة الثانية، ولكن مسز بويز بقيت معه. ومن النادر أن توجد في التاريخ حماة محبة ومحبوبة بهذا القدر.

وذهب الثلاثي الغريب إلى إسكوتلندة، حيث كانت ماري أميرة اللورين

ص: 204

لا تزال ترى التسامح مفيداً في كسب تأييد الحزب البروتستانتي من النبلاء، وأثنى على الوصية على العرش باعتبارها "أميرة جديرة بالاحترام". وهبت حكمة وكياسة تفردت بهما (18). "ونظم اجتماعات بروتستانتية للمصلين في أدنبرة وغيرها من الأماكن وكان له الفضل في أن يتحول على يديه إلى المذهب البروتستانتي أشخاص من ذوي النفوذ، مثل وليام ميتلاند، سيد ليثنجتون، وجيمس ستيوارت الشقيق غير الشرعي لماري ستيوارت الذي قدر له أن يكون وصياً على العرش باسم إيرل أف مراي أو موراي. ولم ترض محكمة كنسية عن هذا التطور، فاستدعت نوكس ليقدم حساباً عن أعماله، وآثر أن يسلك سبيل التروي فتسلل من إسكوتلندة مع زوجته وأمها، (يوليو سنة 1556). ولم تستطع المحكمة الكنسية أن تحرق في غيابه سوى تمثال له، وأضفى عليه هذا التجسيم لاستشهاده بدون ألم نبلاً في عيون البروتستانت الإسكوتلنديين، ومنذ تلك اللحظة جعلوه زعيماً للإصلاح الديني الإسكوتلندي، حيث ما حل.

ولقد طور وهو في جنيف، باعتباره راعياً لأبرشية إنجليزية، البرنامج الكالفيني الكامل فيما يتصل بإشراف رجل الدين أخلاق رعايا أبرشيته وسلوكهم، ودعا في الوقت نفسه مسز آن لوك، التي تحولت عن عقيدتها على يديه في لندن، إلى أن تترك زوجها وتأتي مع ابنتها لتعيش بالقرب منه في جنيف، وكتب لها رسائل لا تقاوم:

"يا أعز أخت، لو استطعت أن أعبر لكِ عما أكابده من اشتياق وضنى لحضوركِ فسوف أبدو وقد تجاوزت الحد. نعم إني لأبكي وأبتهج عندما أذكركِ، ولكن ذلك سوف يزول بما أجده من عزاء في حضوركِ، الذي أؤكد لكِ أنه جد عزيز لدي إلى حد أنه لو لم يكن عبء هذه الجماعة الصغيرة، المجتمعة هنا باسم المسيح، قد عاقني، لحضرت إليكِ قبل رسالتي. ولو لم يمنعكِ بعلكِ (زوجكِ) إلى حد ما

لوددت من أعماق قلبي،

ص: 205

نعم، وما كنت لأستطيع أن أتوقف عن أن أتمنى رضى الله بهدايتكِ إلى هذا المكان (19) ".

وتركت مسز لوك لندن ضاربة عرض الحائط بمعارضة بعلها، ووصلت إلى جنيف (1557) مع ابن، وابنة وخادمة. وماتت الابنة بعد ذلك ببضعة ايام، ولكن مسز لوك ظلت قرب نوكس وعاونت مسز بويز التي تقدمت بها السن، ولم تعد وقتذاك مصدراً للراحة كما كانت من قبل، في تلبية حاجات الواعظ. وليس لدينا دليل على وجود علاقات جنسية. ولا نسمع أي شكوى من مسز نوكس، بل إننا لا نكاد نسمع عنها على الإطلاق. إن هادم البيوت القديم سوف يتخذ لنفسه أماً، وكانت له طريقته باسم المسيح.

بل كانت له طريقته في كل شيء تقريباً. وكان مثل كثير من الظماء، صغير الجسم، بيد أن كتفيه العريضتين كانتا تنمان على القوة، ومحياه الصارم يدل على اليقين والتطلع إلى السلطة. شعر أسود وجبهة ضيقة وحاجبان كثيفان وعينان نفاذتان وأنف ينم على التطفل وخدان أسيلان وفم واسع وشفتان غليظتان ولحية طويلة، وأصابع مستطيلة، ونحن نجد في هذا تجسيداً للإخلاص والرغبة في السلطة، وهو رجل يتميز بنشاط مبعثه التعصب. وكان يحب الوعظ مرتين أو ثلاثاً كل أسبوع لمدة ساعتين أو ثلاثاً كل مرة، وكان علاوة على هذا يدير الشئون العامة ويوجه حياة الأفراد، فلا عجب "ألا أجد في الأربع والعشرين ساعة أربع ساعات أخلو فيها من العمل للراحة الطبيعية (20) ". ويلطف من شجاعته، حياء يعتروه إلى حين، وكانت عنده بديهة تنبهه إلى الفرار من الموت وشيك الوقوع. واتهم بتحريض البروتستانت على القيام بثورة محفوفة بالمخاطر في إنجلترا أو إسكوتلندة في الوقت الذي بقي فيه في جنيف أو دبيب، ومع ذلك فإنه واجه عشرات الأخطار وندد بفساد نورثمبرلاند في وجهه وجاهر فيما بعد بالديمقراطية في وجه ملكة. ولم يكن في الإمكان شراؤه بالمال. وظن أو ادعى أن صوته هو صوت الله.

ص: 206

وصدق كثيرون ادعاءه وحيوه باعتباره رسولاً من قبل الله، ولذلك فإنه عندما خطب قال سفير إنجلترا:"إنه ينفخ فينا من الحياة أكثر مما يفعله 100 بوق تضج في آذاننا (21) ".

وكانت العقيدة الكالفينية مصدراً من مصادر قوته. لقد قسم الله كل الناس إلى الصفوة والملعونين، وكان نوكس وأنصاره من الصفوة، ومن ثم كتب لهم النصر من الله، وكان خصومهم أشقياء، وسوف تكون جهنم مثواهم عاجلاً أو آجلاً. وكتب يقول:"إننا مقتنعون بأن كل ما يفعله خصومنا عمل شيطاني (22) ". وهؤلاء الخصوم الملعونون من الله لا يستحقون أي حب مسيحي لأنهم أبناء الشيطان لا الرب. وهم لا يطوون جوانحهم على أي خير، ويحسن استئصال شأفتهم تماماً من الأرض. ونعم بتلك "الكراهية الكاملة التي يثيرها الروح القدس في قلوب صفوة الرب ضد أولئك الذين يزدرون تماثيله المقدسة (23) " وفي الصراع مع الأشقياء كانت جميع الوسائل مباحة - الكذب والغدر (24) وتناقضات السياسة (25) المرنة. فالغاية تبرر الوسيلة.

ومع ذلك فإن فلسفة نوكس الأخلاقية في ظاهر أمرها كانت تتعارض تماماً مع فلسفة مكيافيلي. فهو لم يسلم بأن يتحرر الساسة من القانون الأخلاقي المطلوب من المواطنين، وطالب بأن يطيع الحكام والمحكومون على السواء تعاليم الكتاب المقدس. غير أن الكتاب المقدس كان يعني بالنسبة إليه في الغالب العهد القديم، وكان أنبياء يهود المتوعدون أصلح لغايته من الرجل الذي استشهد على الصليب. فقد كان في وسعه أن يستميل الأمة إلى إرادته أو يحرقها بنبوءات ملتهبة. وادعى أنه يملك قوة تنبئية، وتنبأ حقاً بوفاة ماري تيودور المبكرة وسقوط ماري ستيوارد - أو لعل هذه الأماني تحققت لحسن الحظ - وكان صائب الرأي لا يخطئ الحكم على أخلاق الرجال الآخرين

ص: 207

وأحياناً على أخلاقه. إذ اعترف (26) في سماحة "إنني بفطرتي جلف غليض"، وعزا فراره من إسكوتلندة إلى الضعف البشري والخبث (27).

وكان وراء زمجرته دعابة جافة، وكان في وسعه أن يكون رقيقاً بقدر ما كان عنيفاً. وأكب بإخلاص كامل على عمله وهو إنشاء سلطة يتمتع بها نظام كهنوتي مطهر وعالم يشرف على الجنس البشري ويبدأ بالإسكوتلنديين، وكان من رأيه أن النظام الكهنوتي الفاضل إنما يستلهم الله، وعلى هذا فإنه في مجتمع حساس على هذا النحو سيكون الله والمسيح هما الملك. وكان يؤمن بالحكم بأمر الله ولكنه عمل للديمقراطية أكثر مما فعل أي رجل آخر في عصره.

ولم تكن رسائله مجرد تمارين أدبية بل كانت وكأنها هزيم رعد سياسي وكانت تضارع رسائل لوثر في قوة الهجاء. وكانت الكنيسة الرومانية عنده، كما هو الحال عند لوثر، "بغياً

دنستها تماماً كل ضروب الفجور الروحي (28)". وكان الكثالكة "بابويين أضر من الوباء" و"تجار قداس" وكان قساوستهم "ذئاباً مفترسة". ولم يكن هناك رجل يبزه فصاحة في ذلك العصر الفصيح. وعندما تزوجت ماري تيودور من فيليب الثاني انفجر نوكس غضباً في رسالة بعنوان: "تحذير مخلص إلى معلمي حقيقة الرب في إنجلترا" (1554).

ألم تثبت ماري أن خائنة صراح لتاج إنجلترا الإمبراطوري باستقدامها أجنبياً، وتنصيب ملك إسباني متعجرف ليلحق الخزي والعار والدمار بالنبلاء وذويهم، وليسلبهم ألقاب شرفهم وأراضيهم ومقتنياتهم ومناصبهم الكبيرة ومراتبهم الرفيعة، حتى يلحق البوار التام بخزائن المملكة وأسباب تجارتها وبحريتها وحصونها، وحتى يحط من شأن ملاّك الأراضي، ويجعل عامة الناس يرسفون فيها في قيود العبودية، ويطيح بالمسيحية وديانة الرب الصحيحة، وحتى يقوض آخر الأمر دعائم الأملاك العامة ورفاهية إنجلترا بأسرها

إن الله برحمته السابغة، يبعث بنحاس أو إليا

ص: 208

أو يهوه، عسى أن يهدئ دم عبدة الأوثان المقيت غضب الرب ولا يهلك الجمع بأسره (31)؟

ولكنه كتب بين آن وآخر، وإن كان هذا نادراً، فقرات تفيض رقة وجمالاً، وجديرة بسانت بول الذي ألهمه، مثل "رسالة إلى إخوانه في إسكوتلندة" لن ألجأ إلى أي تهديد، لأني كبير الأمل في أنكم سوف تمشون مثل أبناء الضوء، وسط هذا الجيل الخبيث، وأنكم سوف تكونون مثل النجوم في الليل، التي لا تتغير مع ذلك في الظلام، ومثل قمحة وسط صدفة

ومن عداد الرجال المتبتلين العقلاء، وتملأون مصابيحكم بالزيت من جديد كل يوم، كأولئك الذين ينتظرون في صبر الظهور المجيد ليسوع الرب ومجيئه، وهو الذي تحكم روحه القديرة وتعلمكم وتنير قلوبكم وعقولكم في كل ما يوجه إليكم من هجوم الآن وإلى الأبد (32).

وهناك رسالة موجهة متميزة أكثر من غيرها هي أول "نفخة في البوق ضد كتيبة النساء المروعة" التي دبجت في دبيب عام 1558 ضد ما خيل لنوكس أنه وباء الحاكمات من النساء في أوربا - ماري تيودور وماري أميرة اللورين وماري ستيوارت وكاثرين دي مديتشي. وفي وسعنا أن ندرك مدى هلعه من تطبيق ماري تيودور لمبادئه، ولكن حتى إذا لم تضطهد ماري أعداءها فإن نوكس يعدها وحشاً ووصمة سياسية تنتهك القاعدة الطبيعية التي تقول إن الرجال يجب أن يحكموا الدول. وبدأ يقول "لا عجب أن نجد بين كثير من العقول الخصيبة التي أنجبتها جزيرة بريطانيا العظمى كثيراً من الوعاظ الورعين والمتحمسين بقدر ما طعمت أحياناً، ولا يوجد بين الكثيرين من علماء اللاهوت والرجال ذوي الرأي الرصين الذين نفتهم إيزابيل (ماري تيودور)، رجل مقدام شجاع ومخلص للرب

يجرؤ على تنبيه سكان تلك الجزيرة إلى مدى ما وصلت إليه من بغض

ص: 209

أمام الله، إمبراطورية أو ملك امرأة، بل خائنة وابنة سفاح، وماذا في وسع شعب أو أمة تركت مجردة من راس شرعي أن تفعل بسلطة الرب في انتخاب وتعيين حكام وقضاة للعموم

إننا نسمع عن سفك دم إخواننا أتباع يسوع المسيح بأشد قسوة والإمبراطورية المتوحشة لامرأة قاسية، نعلم أنها وحدها سبب كل هذا الشقاء

إن الارتقاء بامرأة لكي تنهض بحكم أو سيادة أو سلطان أو إمبراطورية تفوق أي مملكة أو أمة أو مدينة أمر يخالف الطبيعة ويعد إهانة للرب، ومتناقضاً لإرادته التي جلاها وشريعته المسلّم بها، وأخيراً فإنه تقويض لدعائم نظام وطيد، ولكل إنصاف وعدل، مَن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن تعيين الأعمى لقيادة المبصرين وتوجيههم إنما يتناقض مع الطبيعة؟ ومَن ذا الذي يقول إن الضعفاء والمرضى والعاجزين يطعمون الأقوياء جميعاً؟ وأخيراً مَن يقول أن الحمقى والمجانين والمخبولين يحكمون العقلاء ويقدمون المشورة لأصحاب العقول الرصينة؟ وهكذا كل النساء إذا قورن بالرجال في احتمال السلطة

فالمرأة في أكمل صورة خلقت لتخدم الرجل وتطيعه لا لتحكمه وتأمره (33).

واستشهد نوكس بوثيقة لا جدال فيها من الكتاب المقدس لكي يثبت هذا، ولكنه عندما تغلغل في أعماق التاريخ، وبحث عن أمثلة لدول هدمتها نساء حكمتها، اختلط عليه الأمر تماماً، لأنه وجد أن التاريخ سجل أنهن أفضل بكثير من الملوك. ومع ذلك فإنه ختم رسالته بلعنة الواثق من حكمه:

إن إيزابل اللعينة ملكة إنجلترا هي وجيل البابويين المقيت المؤذي كالوباء لا يألون جهداً في الزهو والتفاخر بأنهم لم ينتصروا على ويات فحسب، بل انتصروا أيضاً على كل مَن دبر شيئاً ضدهم

وأنا لا أخشى أن أقول إن يوم الإنتقام، الذي سوف يقبض فيه على ذلك المسخ

ص: 210

الفظيع جيزيل ملكة إنجلترا

فقد تحدد في مجلس الحي الباقي

وليعلم هذا الناس جميعاً لأن البوق قد نفخ فيه (34).

وأخذ نوكس مخطوطة كتابه "نفخة" إلى جنيف وطبعها سراً ولك يضع عليه اسمه، وأرسل نسخاً منه إلى إنجلترا، فحرمت ماري تداول الكتاب باعتباره تحريضاً على الثورة، وجعلت حيازته جريمة يعاقب عليها بالإعدام.

وعاود نوكس الهجوم في رسالة بعنوان: "نداء إلى نبلاء إسكوتلندة وطبقات سكانها (يوليو سنة 1558) ".

لا أحد ممن يحرضون الناس على عبادة الأوثان

(1)

ينبغي أن يعفى من عقوبة الإعدام

ويجب تطبيق الحكم نفسه في مكان يؤمن بيسوع المسيح وإنجيله

اللذين اعترف بهما الحكام والناس في خشوع، ووعدوا بالدفاع عنهما، كما حدث في عهد الملك إدوارد في الأيام الأخير بإنجلترا. وفي مثل هذا المكان أقول إن عقوبة الإعدام ليست مشروعة على مَن يعمل على تقويض دعائم الدين فحسب، بل إن الحكام والناس ملتزمون بأن ينتهجوا هذا السبيل، إلا إذا أرادوا أن يثيروا غضب الله عليهم

وأنا لا أخشى أن أؤكد أن واجب النبلاء والقضاة والحكام والشعب في إنجلترا كان لا يقتضي منهم أن يقاوموا ماري، تلك الإيزابل، ويعارضوها فحسب

بل عليهم أن يقتصوا منها بإعدامها (36).

وحث نوكس شعب إسكوتلندة على تطبيق هذا الرأي الخاص بالثورة الشرعية على ماري أميرة اللورين. وشكا من أن الوصية على العرش قد أحاطت نفسها بحاشية فرنسية وجنود فرنسيين ليأكلوا مدخرات الإسكوتلنديين: بينما يؤتى بالأغراض لسحقنا نحن وخيرنا العام وذريتنا.

(1)

كتب نوكس عام 1560: "إننا نقصد بعبادة الأوثان القداس والتوسل بالقديسين وعبادة الصور واستيفاءها والاحتفاظ بها وكل عبادة للرب لا يحويها كتابه المقدس (35").

ص: 211

وبينما يحافظ على عبادة الأوثان ويستخف بالدين الصحيح ليسوع المسيح، وبينما ذوو الكروش والطغاة الدمويون الأساقفة يبقون، ويضطهد رسل المسيح الصادقون، وأخيراً بينما تحتقر الفضيلة وتمجد الرذيلة. فأي رجل ورع يمكن أن يساء إليه لأننا سوف ننشد تقويم هذه الأعمال الفاضحة (نعم، حتى لو اقتضى الأمر الالتجاء إلى قوة السلاح، إذا رأينا أنه لن يتيسر لنا بخلاف ذلك)

إن العقوبة على ارتكاب جرائم مثل عبادة الأوثان والكفر وغيرهما، التي تمس الله سبحانه وتعالى، لا يختص بها الملوك وكبار فحسب، بل تخص بها أيضاً الهيئة الكاملة لذلك الشعب، وتخص كل عضو في الهيئة، طبقاً لما يتيحه الله من إمكان وفرصة للانتقام من الضرر الذي لحق بمجده (37).

وهنا نجد مزيجاً غريباً من الثورة والرجعية في بيانات نوكس. وكان لابد أن يتفق معه في تبرير قتل الطغاة من آن لآخر كثير من المفكرين ومنهم هوجينوت فرنسيون مثل هوتمان ويسوعيون مثل ماريانا. ومع ذلك فإن اقتناعه، بأن هؤلاء الذين كانوا واثقين من لاهوتهم يجب أن يسحقوا - وإذا اقتضى الأمر يقتلوا - خصومهم، رجع فيه إلى أكثر ممارسات محكمة التفتيش شؤماً. واعتبر نوكس أن الإصحاح الثالث عشر من سفر التثنية لا يزال ساري المفعول وفسره حرفياً، وكل هرطيق يجب أن يعدم، والمُدن التي تغلب عليها الهرطقة يجب أن يقتص منها بالسيف وتدمر تماماً، ويقضى على ما فيها من ماشية، وكل بيت فيها يجب أن يحرق حتى ينهدم. ويعترف نوكس أن هذه الأوامر الخالية من الرحمة أفزعته في بعض الأحيان: قد يبدو هذا الحكم حتى للرجل المادي صارماً وقاسياً، أجل، وقد يبدو وكأنه صدر عن غضب لا عن تعقل

وأي مدينة

لا يوجد فيها أبرياء مثل الرضع والأطفال وبعض السذج والجهال لا يقترفون الكفر أو يستسلمون له؟ ومع ذلك فإننا لا نجد استثناء بل إن الجميع مكتوب عليهم الموت القاسي. بيد أنه في مثل هذه الأحوال أرادت مشيئة الله أن تنحني جميع المخلوقات وتغطى وجوهها، وتكف عن التفكير المنطقي، إذا كان هناك أمر منه تعالى بتنفيذ إرادته (38).

ص: 212

وعلينا ألا نحاكم نوكس بمقاييسنا الراهنة عن التسامح، فقد أعرب بإصرار شديد عن الروح العامة لعصره تقريباً.

وكانت السنوات التي قضاها في جنيف، حيث كان سرفينوس قد أحرق لتوه، قد أكدت نزعته نحو الالتزام بالحرفية الصارمة واليقين الذي يصل إلى درجة الغرور. ولو أنه قرأ ما احتج به كاستليو لتبرير التسامح لطابت نفسه على الأرجح برد بيز عليه. ومع ذلك فإن رجلاً مغموراً ممن ينكرون وجوب التعميد كتب في تلك السنوات نفسها نقداً للكالفينية بعنوان:"مهمل بالضرورة" وأرسله البروتستانت الإسكوتلنديون إلى نوكس ليرد عليه رداً مفحماً، وكأنما كان صوت العقل يهمس لحظة وسط حرب العقائد. وتساءل المؤلف كيف جاز للكالفينيين بعد أن عرفوا مفهوم المسيح عن أب محب، أن يؤمنوا بأن الله قد خلق بشراً كتب عليهم، وشاء لهم اللعنة الأبدية. وقال المنكر لوجوب التعميد أن الله قد وهب الناس ميلاً طبيعياً لأن يحبوا ذريتهم، فإذا كان الله قد خلق الإنسان على صورته، فكيف يكون الله أقسى من الإنسان؟ واستطرد المؤلف قائلاً إن الكالفينيين قد أتوا من الشرق أكثر مما أتى به الملحدون "لأن الذين يؤمنون بأن الله ليس جائراً وقاسياً وظالماً أقل قذفاً في حق الله ممن يقولون بأنه كذلك" ورد نوكس "أن هناك أسراراً تخفى على العقل البشري، ولسوف تحطم كبرياء أولئك الذين لا يقنعون بإرادة الله التي تتجلى، ويسرهم أن يصعدوا ويحلقوا فوق السماوات ليتساءلوا عن إرادة الله الخفية". وكتب يقول في موضع آخر "والطبيعة والعقل إنما يضلان الناس عن الله الحق. وأي وقاحة أن يفضل المرء الطبيعة الفاسدة والعقل الأعمى على كتب الله المقدسة (39)؟ ".

ولم يقتنع نوكس بقوة الاستدلال واعتقد في قرارة نفسه أنه مخلص لروح المسيح، فأرسل عام 1559، عندما كانت تحكم إنجلترا ملكة بروتستانتية، إلى شعبها رسالة بعنوان:"عظة موجزة" ينصحه فيها بأن يكفر عما قامت

ص: 213

به ماري من اضطهاد يجعل العقيدة الكالفينية ونظامها الأخلاقي إجباريين في سائر البلاد، ورفضت إنجلترا العمل بالنصيحة. وعاد نوكس في ذلك العام إلى إسكوتلندة ليشرف على إيديولوجية ثورتها.

‌4 - جماعة أتباع يسوع المسيح

1557 -

1560

لقد امتزجت دعواته للإسكوتلنديين إلى الإطاحة بنير الخضوع لروما بتعاليم المصلحين الدينيين الآخرين وتدفق البروتستانت من إنجلترا وتسلل الأناجيل والنشرات من إنجلترا إلى القارة الأوربية، وتعطش النبلاء الإسكوتلنديين للأرض وإبعادهم الموغر للصدور على يد الفرنسيين الذين يضعون المساحيق على وجوههم من رجال الحاشية، فعملت على رفع درجة حرارة الثورة إلى نقطة الانفجار. واحتمل سكان أدنبرة، الكاثوليك المتمسكون بعقيدتهم عام 1543 بطريق مباشر وباستياء شديد تدفق الغاليين المتغطرسين أثناء وصاية ماري أمير اللورين على العرش. وحدث كل شيء يحيل حياة الدخلاء بؤساً وشقاء. واشتد الإحساس بالذات في كلا الجانبين، ولما كان رجال الأكليروس قد أيدوا الفرنسيين فإن روح القومية رددت نعمات عالية مناهضة للكاثوليكية وسارت مواكب دينية - حملت فيها تماثيل للعذراء والقديسين عبدت فيما يبدو، وعرضت مخلفات وقبلت باحترام - فأثارت المزيد من السخرية والشك.

وفي سبتمبر عام 1557 استولت جماعة من المتشككين المتحمسين على تمثال لسانت جيلس في "الكنيسة الأم" التي تحمل هذا الاسم في أدنبرة وغمروها في بركة، وأحرقوها فيما بعد حتى تحولت إلى رماد. ويروي نوكس أن هجمات مماثلة استهدفت تحطيم الأصنام حدثت في كل أرجاء البلاد.

وفي الثالث من ديسمبر عام 1557 اجتمعت في أدنبرة (التي كانت قد أصبحت عاصمة للبلاد عام 1542)"عصبة مشتركة" من النبلاء المناهضين

ص: 214

لرجال الدين أرجيل وجلنكرن ومورتون ولورن وارسكين - ووقعوا "أول ميثاق إسكوتلندي" وأطلقوا على أنفسهم: "لوردات جماعة المصلين ليسوع المسيح" لتعارض "جماعة المصلين للشيطان" - أي الكنيسة، وتعهدوا بالمحافظة على "كلمة الله المباركة أكثر من أي شيء"، ودعوا إلى "إصلاح في الدين والحكومة، وطلبوا من الوصية على العرش الحرية التي تبيح لنا أن نمارس أمور الدين والضمير كما ينبغي استجابة لأمر الله". وصمموا على إنشاء كنائس تأخذ بأسباب الإصلاح الديني في سائر إسكوتلندة، وأعلنوا أن كتاب الصلاة العامة الذي كتب لإنجلترا في عهد إدوارد السادس يجب أن تعمل به كل جماعات المصلين. واحتج الأساقفة البروتستانت على هذا الانشقاق الجريء وحثوا رئيس الأساقفة هاميلتون على قمعه. فأمر في شيء من التبرم (28 أبريل سنة 1558) - بإحراق والتر ميلن - وهو قسيس عجوز كان قد تجرد من ملابس الكهنوت وتزوج واعتاد أن يبشر بعقيدة الآخذين بالإصلاح الديني بين الفقراء، وكان الناس يكنون احتراماً عظيماً للرجل العجوز فأعربوا عن فزعهم لهذا الإحراق الأخير لبروتستانتي إسكوتلندي بتهمة الهرطقة، وقاموا ببناء هرمي الشكل من الأحجار فوق الموضع الذي مات فيه. وعندما استدعي واعظ آخر للمحاكمة امتشق المدافعون عنه السلاح، واقتحموا طريقهم إلى حضرة الوصية، وانذروها أنهم لن يسمحوا بمزيد من الاضطهاد من أجل العقيدة الدينية وأنذر لوردات جماعة المصلين الوصية (نوفمبر سنة 1558) أنها ما لم تمنح الناس حرية العبادة فإنهم لن يكونوا مسئولين "إذا حدث أن قومت المظالم بالعنف (40) وأرسلوا في ذلك الشهر رسالة إلى نوكس بأنهم سوف يحمونه إذا عاد.

وتمهل في العودة ولكنه وصل إلى أدنبرة في اليوم الثاني من مايو سنة 1559. وقدم يوم 3 مايو في برث العظة التي أطلقت الثورة من عقالها، ويقول لنا إنها كانت عظة "عنيفة ضد عبادة الأوثان" وقد فسرت "ما في

ص: 215

القداس من عبادة للأوثان وما فيه من أمور بغيضة" و"الوصية التي أمر بها الله بتدمير الأنصاب لهذا السبب (41)". وخرج "الجمع الأثيم" كما يصفه عن الطاعة، وعندما حاول قس في كنيسة مجاورة أن يقيم قداسا صاح أحد الشبان: "إن هذا لا يطاق لأنه في الوقت الذي لعن فيه الرب عبادة الأوثان صراحة في كتابه، فإننا نقف لنراها تعبد على الرغم من ذلك" وجاء في رواية لنوكس أن القسيس وجه للصبي ضربة شديدة، فتناول في غمرة غضبه حجراً وقذف به القسيس وأصاب قدس الأقداس، وحطم أحد التماثيل، وما لبث أن قذف الجمع كله المحتشد حوله الأحجار وأعملوا أيديهم في قدس الأقداس المزعوم وفي سائر آثار عبادة الأوثان (42). وتدفق الجمهور إلى ثلاثة أديار ونهبوها وحطموا التماثيل، ولكنهم سمحوا للاخوة الرهبان أن يأخذوا معهم ما تستطيع أكتافهم أن تتحمله. وما هي إلا يومان أو ثلاثة حتى كانت هذه المواضع الثلاثة الكبيرة

قد دمرت ولم يبقَ منها قائماً سوى الجدران (43).

وكانت الوصية على العرش بين نارين، ونصحها أخوها كاردينال اللورين أن تسير على نهج ماري تيودور، وأن تقضي على كبار البروتستانت، وكان الثوار المنتصرون في برث وحولها في غضون ذلك يهددون بقتل أي قسيس يجرؤ على إقامة القداس (44). وفي 22 مايو أرسل لها لوردات جماعة المصلين، وكان يظاهرهم وقتذاك أتباعهم المسلحون، إنذاراً نهائياً مشئوماً:

"إلى عظمة الوصية على المملكة، بعد تقديم كل فروض الاحترام والخضوع، بما أننا حتى الآن قد خدمنا السلطة في اسكوتلندى، هي وعظمتكم، بالمخاطرة بأرواحنا وبقلوب راضية

فإننا الآن والأسى يملأ جوانحنا مكرهون، تحت وطأة استبداد ظالم يدبر لنا، أن نعلن لعظمتكم أنه ما لم تتوقف هذه القسوة بفضل حكمتكم، فإننا سوف نكون مضطرين إلى امتشاق الحسام للدفاع العادل في وجه كل مَن يطاردوننا في سبيل الدين

إن جريمة القتل القاسية الظالمة التي بلغت أقصى درجات الاستبداد والموجهة إلى المُدن

ص: 216

والجماهير، كانت ولا تزال السبب الوحيد لتمردنا على خضوعنا التقليدي، الذي نعد بإخلاص أمام الله أن نقدمه لمولاتنا (ماري ملكة الإسكوتلنديين) ولزوجها ولعظمتكم، بشرط أن تنعم ضمائرنا بالطمأنينة والحرية اللتين اشتراهما لنا بدمه يسوع المسيح

رعايا عظمتكم الخاضعون لكم في جميع الأمور التي لا تغضب الرب - جماعة المصلين المخلصين ليسوع المسيح في إسكوتلندة (45) ".

وفي الوقت نفسه بعثت جماعة المصلين نداء إلى النبلاء بتأييد الثورة وخطاباً مفتوحاً حذروا فيه "جيل المناهضين للمسيح والأساقفة المؤذين كالوباء ورهبانهم

إذا مضيتم في قسوتكم الحاقدة فإنكم سوف تعاملون، أينما يقبض عليكم كقتلة وأعداء للرب صراحة. ولن يبرم معكم عقد صلح قط إلا إذا انقطعتم عن عبادتكم الصريحة للأوثان واضطهادكم القاسي لأبناء الرب (46) ".

ودخلت الوصية ماري مدينة برث بقدر ما استطاعت أن تحشد من كتائب الجند، ولكن أنصار جماعة المصلين تجمعوا صفاً مسلحاً، وأدركت ماري أنها لن تستطيع أن تتغلب عليهم، فوقعت معهم هدنة (29 مايو سنة 1559) وانسحب نوكس إلى سانت أندروز، ولم يعبأ بنواهي كبير الأساقفة، فوعظ في كنيسة الأبرشية ضد عبادة الأوثان (11 - 14 يونيه). وتأثر مستمعوه بحرارة عباراته فأزالوا كل أثر ينم عن عبادة الأوثان، عن كنائس المدينة وأحرقوا هذه التماثيل أمام عيني رجال الدين الكاثوليك (47). وهرب كبير الأساقفة إلى برث، ولكن قوات جماعة المصلين ادعت أن ماري قد خرقت نصوص الهدنة باستخدام الأموال الفرنسية في دفع رواتب جنودها الإسكوتلنديين، وهاجمت القلعة، واستولت عليها (25 يونيه). وفي الثامن والعشرين نهبت دير سكون وأحرقته.

وإذا جاز لنا أن نصدق أحياناً ما يقوله نوكس المعروف برحابة خياله فإن "ربة بيت" فقيرة طاعنة في السن قالت وهي ترى ألسنة اللهب المتصاعدة:

ص: 217

"الآن أرى وأدرك أن أحكام الرب عادلة، فإن هذا المكان بقدر ما تسعفني الذاكرة لم يكن إلا وكراً للقوادين. إنه لأمر لا يصدق

كم من زوجة زنى بها، وكم من عذراء أفتض بكارتها الوحوش الدنسة، التي كانت تحتضن هذا الوكر، وبخاصة ذلك الرجل الخبيث، الأسقف (48).

وكانت ماري أميرة اللورين وقتذاك مصابة بمرض خطير، تتوقع وفاتها في أية لحظة، فهربت إلى ليث وحاولت أن تؤخر تقدم البروتستانت المنتصرين بالمفاوضات إلى أن يصل إليها العون من فرنسا. واكن جماعة المصلين تفوقت عليها بالمباراة، وذلك بالفوز بتأييد إليزابث ملكة إنجلترا. وكتب نوكس إلى الملكة خطاباً يؤكد لها فيه أنه لم يتعرض لها في رسالته "نفخة البوق" ضد الملكات. ونصح وليام سيسل الوزير الأول ملكته إليزابث بأن تساعد الثورة الإسكوتلندية كإجراء يحقق اعتماد إسكوتلندة على إنجلترا سياسياً. وأدركت أن هذا إجراء وقائي مشروع ضد ماري ستيوارت، التي كانت قد طالبت، عندما أصبحت ملكة فرنسا (1559) بعرش إنجلترا أيضاً، على أساس أن إليزابث ابنة سفاح مغتصبة للعرش. وسرعان ما أغلق أسطول إنجليزي في مضيق فورث الطريق أمام نزول أي مساعدة فرنسية للوصية على العرش إلى البر، وانضم جيش إنكليزي إلى قوات جماعة المصلين في مهاجمة ليث. وانسحبت ماري أميرة اللورين إلى قلعة ادنبرة، وماتت (10 يونيه سنة 1560) بعد أن قبلت حاشيتها واحداً واحداً. لقد كانت امرأة طيبة قدر عليها أن تقوم بالدور الخطأ في مأساة لا فكاك منها.

واستسلم آخر المدافعين عنها، بعد أن سدت في وجوههم السبل وأوشكوا على الموت جوعاً. وفي السادس من يوليو سنة 1560 وقع ممثلو جماعة المصلين وماري ستيوارت وفرنسا وإنجلترا معاهدة أدنبرة التي

ص: 218

قدر لموادها أن تكون من صميم أسباب الصراع الأخير بين ماري وإليزابث

وكان على كل الجنود الأجانب ما عدا 120 فرنسياً مغادرة إسكوتلندة. وكفت ماري ستيوارت وفرانسيس الثاني عن مطالبتهما بالتاج الإنجليزي، واعترف بماري ملكة على إسكوتلندة، ولكن حظر عليها أن تشن حرباً أو تعقد صلحاً بدون موافقة أمراء الإقطاع، وكان على هؤلاء أن يختاروا خمسة رجال أو أثنى عشر رجلاً للتعيين في مجلسها الخاص، ولا يجوز أن يشغل أجنبي أو رجل من رجال الأكليروس منصباً رفيعاً، ولابد من إعلان عفو عام، مع إستثناءات يعينها أمراء الإقطاع. كانت معاهدة صلح مهينة للملكة الغائبة، وانتصاراً مبيناً لجماعة المصلين لم تكد تسفك فيه دماء.

وقبل المجلس النيابي، الذي اجتمع في أول أغسطس سنة 1560 اعترافاً بالعقيدة أعده نوكس ومعاونوه وخفف من غلواء بعض نصوصه ميتلاند ليشنجتون ولم يصوت ضده إلا ثمانية أعضاء. ولما كان لا يزال العقيدة الرسمية لكنيسة إسكوتلندة المشيخية نرى لزاماً علينا أن نسجل بعض مواده الأساسية تذكيراً بها:

1 -

نعترف ونقر بوجود إله واحد أحد

في ثالوث.

2 -

نعترف ونقر أن إلهنا هذا قد خلق بشراً ندرك أنه أبونا الأول آدم - خلق منه الله امرأة على صورته

حتى لا نلاحظ أي نقص في طبيعة الإنسان الكاملة، ومن هذا الشرف والكمال سقط الرجل والمرأة معاً.

فالمرأة خدعتها الحية والرجل أصغى لصوت المرأة.

3 -

وبهذه الزلة، التي يطلق عليها عادة اسم الخطيئة الأولى دنست صورة الرب تماماً في الإنسان، وأصبح هو وذريته من الطبيعة أعداء للرب، عبيداً للشيطان وخدماً للخطيئة، ومادام ذلك الموت كانت له، وسوف تكون له دائماً، قوة وسلطان، على كل مَن لم يولد أو ولد

ص: 219

أو سوف يولد من أعلى، وهذا الميلاد من جديد يتم على يد الروح القدس، وهو يعمل في أفئدة أصفياء الرب فتمتلئ إيماناً لا يتزعزع بوعد الرب. وبهذا الإيمان يدركون يسوع المسيح.

8 -

وذلك الرب والأب البار نفسه

برحمته وحدها اختارنا في يسوع المسيح

قبل خلق العالم

16 -

إننا نؤمن بإخلاص شديد، بأنه كانت منذ البداية، ولا تزال، وسوف تكون إلى نهاية العالم، كنيسة أي صحبة وجماعة من الناس اختارهم الله، لكي يعبدوه بحق، ويحتضنوه بالإيمان الصحيح بيسوع المسيح

وخارج هذه الكنيسة لا توجد حياة ولا نعيم أبدي. ومن ثم فإننا نمقت بشدة كفر مَن يؤكدون أن الناس يعيشون، وهم يراعون الإنصاف والعدل سوف يظفرون بالخلاص أياً كان الدين الذي يعتنقونه.

21 -

نحن لا نقر إلا اثنتين من المقدسات: التعميد والعشاء الرباني

لا لأننا نتصور تحول الخبز إلى جسد الرب الطبيعي

ولكننا نؤمن بأن صنيع الروح القدس إنما يعني أن المؤمنين بالاستخدام الصحيح لمائدة الرب يأكلون جسد السيد يسوع ويشربون دمه.

24 -

نعترف ونقر بأن الإمبراطوريات والممالك والمستعمرات والمُدن أقيمت بفضل الله

في الغالب وبصفة رئيسية للملوك والأمراء والحكام، وذلك من أجل الحفاظ على كل ما يتصل بالدين وتطهيره، ولهذا فإنهم لا يعينون من أجل السياسة المدنية وحدها، ولكن من أجل المحافظة على الدين الصحيح ومنع عبادة الأوثان والخرافة أياً كانت أيضاً (49).

وترتب على هذا الاعتراف أن المجلس النيابي الإسكوتلندي الآخذ بأسباب الإصلاح الديني رفض التسليم بالسلطة القضائية للبابا، وجعل العقيدة والشعيرة اللتين تبناهما الإصلاح الديني إجباريين، ومنع إقامة القداس وإلا تعرض مَن يقيمه للعقوبة البدنية ومصادرة أمواله عند ارتكاب أول جريمة، والنفي

ص: 220

عند ارتكابه لها للمرة الثانية، والإعدام إذا ارتكبها مرة ثالثة. ولكن لما كان النبلاء الذين يتحكمون في المجلس النيابي يريدون الأرض أكثر مما يريدون سفك الدماء، وبما أنهم لم يتبعوا اللاهوت الكالفيني حرفياً فإن مطاردة هؤلاء الإسكوتلنديين الذين ظلوا كثالكة، بقي معتدلاً نسبياً، ولم يصل قط إلى توقيع عقوبة بدنية. وبعد أن سمح للنبلاء برفض الاعتراف بالمطهر باعتباره أسطورة، ادعوا أنهم غبنوا في جانب من ذمتهم المالية بالهبات التي قدمها أجدادهم من الأرض أو المال لدفع أتعاب لقساوسة يرتلون قداسات من أجل الموتى، الذين قدر عليهم طبقاً للاهوت الجديد، الخلاص أو اللعنة قبل خلق العالم، ولهذا فإنه يمكن التعبير في بهجة عن نزع ملكية الكنيسة بأنه استرداد للأموال المختلسة، وأغلقت معظم الأديار الإسكوتلندية، واستولى النبلاء على ثروتها ولم تدبر الحكومة في مبدأ الأمر أي مورد للقساوسة الكالفينيين، وكان هؤلاء قد استخدموا كمعاونين إيدولوجيين في الثورة، ولكن النبلاء كانوا قد فقدوا وقتذاك الاهتمام باللاهوت. وكان نوكس ورفقاؤه من الوعاظ الذين خاطروا وضحوا بالكثير من أجل النظام الجديد قد توقعوا، أن تستخدم أملاك الكنيسة في مساندة الكنيسة الإسكوتلندية ورجال الأكليروس بها. والتمسوا من المجلس النيابي إقرار هذا التدبير فلم يتلقوا جواباً، ولكن خصص لهم في آخر الأمر سدس الأسلاب. ووجد أن هذا يقصر عن تحقيق مطالبهم فانقلبوا ضد الأرستقراطية النهمة وبدأ الحلف التاريخي بين أتباع الكنيسة المشيخية الإسكوتلندية والديمقراطية.

وتفردت حركة الإصلاح الديني الإسكوتلندي بين حركات الإصلاح الديني جميعاً بأنه لم يسفك فيها إلا أقل قدر من الدماء، وكانت مع ذلك أبقاها، وقاسى الكثالكة في صمت، وهرب أساقفتهم وقبل معظم قساوسة الأبرشيات التغيير باعتباره ليس أسوأ من ظلم الأساقفة وزياراتهم التفتيشية.

ص: 221

وفقدت المناطق الريفية مفارق طرقها الجانبية، وهجرت مزاراتها القديمة، التي كان الحجاج يشدون إليها الرحال، ولم يعد القديسون يهيئون للناس عطلات يرتاحون فيها. وليس من شك في أن نفوساً كثيرة قد حزنت على الماضي وبالغت في مثاليته. وليس من شك أيضاً في أن كثيرين أخذوا يترقبون، والأمل يراودهم، مجيء ملكتهم الشابة من فرنسا.

ولقد ضاع الكثير مما كان يشيع المرح والجمال في الحياة. والكثير مما كان وحشياً وقاسياً وخداعاً، ولسوف تحدث أمور كثيرة جافة كئيبة، ومع ذلك لم يكن هناك بد من التغيير.

وخفت وطأة تبادل التهم وهيأ الناس أنفسهم، لتقبل النظام الجديد، وأصبح التقاء مواقف ما يشبه العقيدة بالصفوف المشايعة للملكية، والتي يقترب بعضها من بعض، بعد نعمة كبرى، لأنه سيضع حداً للحروب المريرة بين الإسكوتلنديين والإنجليز، وسرعان ما تمنح الأمة الأضعف البلد الأقوى ملكاً. وبريطانيا ستصبح مملكة واحدة.

ص: 222

الفصل الثامن والعشرون

‌هجرات الإصلاح الديني

‌1517 - 1560

1 -

المشهد الإسكنديناوي

(1470 - 1523)

ما أن حل عام 1500 حتى كانت تقوى الناس قد جعلت الكنيسة تسيطر على اقتصاد إسكنديناوة. وكانت الكنيسة تملك نصف الأرض في الدنمرك، وكان يفلحها مستأجرون في منزلة تقرب من الرق (1). وكانت كوبن هاجن نفسها إقطاعية للكنيسة، ورجال الأكليروس والنبلاء يتمتعون بالإعفاء من ضرائب الأرض. أما النبلاء فلأنهم اشتركوا في الحرب على نفقتهم الخاصة، وأما رجال الأكليروس فلأنهم نظموا العبادة والأخلاق والتعليم والبر.

وكانت الجامعات في كوبنهاجن وأبسالا بالطبع في أيدي رجال الكنيسة، وكانت الكنيسة تتقاضى سنوياً عشر كل ناتج أو دخل يُحَصَّل خارج مجال الكنيسة، وتقاضت رسماً صغيراً على كل بناء يقام وكل طفل يولد وكل اثنين يتزوجان وكل جثة تدفن، وطالبت بالتبرع بيوم عمل في السنة من كل فلاح. ولم يكن في وسع أحد أن يرث عقاراً، دون أن يقدم عنه حصة للكنيسة، باعتبارها محكمة إشهاد للتثبيت من صحة الوصايا (2). وكان يدافع عن هذه الضرائب بأنها تمول الخدمة الكهنوتية في الكنيسة، ولكن الشكاوى ارتفعت بأن الكثير من متحصلات المعاملات التجارية ذهبت لكي يعيش الأساقفة في أبهة ملكية. وأزعج تجار الدنمرك السيادة الهنزية في بحري الشمال والبلطيق، فتميزوا غيظاً من المنافسة الإضافية للنبلاء ورجال الأكليروس، الذين كانوا يصدرون فائض إنتاج ضياعهم في سفنهم الخاصة غالباً. وفي

ص: 223

إسكنديناوة كما في غيرها من البلاد، تطلع النبلاء في شوق إلى أراضي الكنيسة. ولقد حدث هناك، كما حدث في كل موضع آخر صراع بين القومية، وبين الكنيسة التي تسمو على كل قومية، وأيدت الكنيسة في كل البلاد الثلاث اتحاد كلمار الإسكنديناوي، الذي كان كريستيان الأول ملك الدنمرك قد جدده (1457). ولكن حزباً قومياً يتألف من سكان المُدن والفلاحين رفض الاعتراف بالاتحاد، باعتباره في الحقيقة سيادة دنمركية، ونادوا بستن ستور الأصغر نائب ملك يحكم أمة مستقلة (1512). ودافع رئيس الأساقفة جوستاف ترول من أبسالا - وكانت وقتذاك عاصمة للسويد - عن الاتحاد، فأقاله ستن ستور الصغير وأمر البابا ليو العاشر بإعادته إلى وظيفته فرفض ستور. وحرم ليو تقديم الخدمات الدينية في السويد وفوض كريستيان الثاني ملك الدنمرك في غزو السويد ومعاقبة نائب الملك، وفشلت أول محاولة لكريستيان، واضطر إلى توقيع هدنة، ولكنه حمل معه عند العودة إلى كوبنهاجن عدة رهائن كضمان لالتزام السويديين بنصوص الهدنة، وكان جوستاف فازا أحد هذه الرهائن. وظفر كريستيان في حملة ثانية بنصر حاسم، ومات ستور متأثراً بالجروح، التي أصيب بها في المعركة. وأعدت أرملته على عجل جيشاً احتفظ بستكهولم لمدة خمسة شهور أمام حصار دنمركي، وأخيراً سلمت مقابل وعد قدمه قائد كريستيان بالحصول على عفو عام. وفي 4 نوفمبر توج كريستيان ملكاً على السويد على يد ترول الظافر الذي أعيد إلى وظيفته.

وفي السابع من نوفمبر استدعى كبار السويديين الذين أيدوا ستور للمثول أمام الملك في قلعة ستوكهولم. واتهمهم ممثل لترول بارتكاب جرائم عظمى بخلعهم كبير الأساقفة وتدمير قلعته، وطالب الملك بالانتقام منهم لهذه الأخطاء. وعلى الرغم من العفو العام الذي صدر فقد حكم على سبعين من كبار السويديين بالإعدام. وقطعت رؤوسهم في الثامن من نوفمبر في الميدان

ص: 224

الكبير، وقبض على آخرين عديدين في التاسع من نوفمبر وأعدموا، وأضيف إلى مَن قتلوا في هذه المذبحة بعض المشاهدين الذين أعربوا عن تعاطفهم مع المحكوم عليهم، وصودرت أملاك الموتى لصالح الملك، وصرخ كل السويديين من الرعب، وقال الناس إن اتحاد كالمار أغرق في "حمّام الدم بستوكهولم" وانحطت مكانة الكنيسة كثيراً في نظر الجماهير لأنها بدأت المذبحة. وقد رأى كريستيان أن يجعل حكمه آمناً بالقضاء على عقول الحزب القومي. والحق أنه مهد طريق العرش للرهينة الشاب الذي قدر له أن يحرر السويد.

واسمه جوستافوس أركسون، ولكن ذريته أطلقوا عليه اسم فازا، وهو مشتق من كلمة vasa السويدية و fascis. اللاتينية ومعناها حزمة من العصى ظهرت في شعار أسرته. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره أرسل ليدرس في أبسالا، وعندما بلغ العشرين من عمره استدعي لبلاط ستور الصغير الذي تزوج أختاً غير شقيقة لجوستافوس من أمه، وهناك تلقى مزيداً من التعليم على يد رئيس الوزراء، الأسقف همينج جاد، وفي عام 1519 فر من المراقبة في الدنمرك واتخذ طريقه إلى لوبك، وأقنع أعضاء مجلس الشيوخ فيها (وكانوا في عداء دائم للدنمرك)، أن يقرضوه مالاً ويعيروه سفينة، وعاد إلى شواطئ بلاده (31 مايو سنة 1520)، وأخذ يضرب على غير هدى وهو متنكر أربعة شهور أو كان يختبئ في قرى مغمورة. وفي نوفمبر وصلت الأنباء إليه بأن ما يقرب من مائة من الوطنيين المخلصين، ومنهم أبوه، قتلوا في ستوكهولم، فامتطى صهوة أسرع جواد استطاع العثور عليه، وركب شمالاً إلى موطنه مقاطعة داليكارليا، وصمم على أن ينضم هناك من ملاّك الأراضي الجسورين طلائع جيش يمكن أن يحرر السويديين من الدنمركيين.

وكانت حياته وقتذاك ملحمة جديرة بأن يتغنى بها هوميروس. فقد مضى

ص: 225

يسير في طرقات ثلجية، والتمس الراحة في بيت زميل سابق له في المدرسة. وقدم له هذا الصديق واجبات الضيافة ثم انطلق ليخطر الشرطة الموالية للدنمركيين أن الرهينة الهاربة يمكن القبض عليها وقتذاك، غير أن الزوجة أنذرت جوستافوس ليلوذ بالفرار. وبعد أن قطع راكباً عشرين ميلاً وجد ملجأ لدى قسيس أخفاه أسبوعاً. وسافر بعد ذلك ثلاثين ميلاً وحاول أن يحرض مدينة راتفيك على الثورة بيد أن أهلها لم يكونوا قد سمعوا بعد بقصة حمام الدم ولم يصدقوها. فركب فازا وسار في مروج متجمدة خمسة وعشرين ميلاً شمالاً إلى مورا، وتوسل مرة أخرى للفلاحين أن يقوموا بثورة، بيد أنهم أصغوا إليه متشككين في تبلد. ووجد نفسه منبوذاً وتملكه اليأس لحظة، فاستدار بفرسه نحو الغرب، وتخلى عن البحث عن ملجأ في النرويج. وقبل أن يصل إلى الحدود أدركه رسول من مورا، ورجاه أن يعود، وتعهد له بأنه سوف يجد وقتذاك أذناً صاغية بروح تفيض حماسة مثل روحه. فقد سمع الفلاحون أخيراً بأنباء الرعب في ستوكهولم، وعلاوة على هذا انتشرت شائعة بان الملك كان يفكر في القيام برحلة يخترق فيها السويد، وأنه أمر بإقامة المشانق في كل مدينة كبرى. وتقرر فرض مكوس جديدة على شعب كان يكافح من أجل الحياة أمام جشع السادة واستبداد المبادئ الأساسية. وعندما خاطب جوستافوس المواطنين في مورا مرة أخرى أعطوه حرساً مكوناً من ستة عشر من سكان المناطق الجبلية، وأقسموا أن يسلحوا أنفسهم، وينظموا صفوفهم، ويسيروا وراءه حيثما يقودهم لمقاتلة الدنمركيين.

ولم يعرفوا وقتها سوى الأقواس والسهام وفئوس الحرب، وعلمهم فازا كيف يصنعون الرماح والحراب برؤوس من حديد. ودربهم بكل حمية يطويها بين جوانحه شاب يحفزه حب الوطن والسلطة، وبهذه الحماسة استولوا على فستيريس ثن ابسالا، وفر كبير الأساقفة ترول مرة أخرى، وكسب الجيش النامي في صبر وتصميم مقاطعة إثر أخرى من الحاميات الدنمركية.

ص: 226

ولم يستطع كريستيان الثاني الحضور ليتولى بنفسه قيادة قواته لأنه واجه في بلده ذاتها حرباً أهلية إلا أن أسطوله أغار مراراً على الشواطئ السويدية، وبعث جوستافوس برسل إلى لوبك لكي يطلبوا سفناً حربية. وجهزت المدينة التجارية عشرة سفن صرفت نشاط الأسطول الدنمركي، وذلك مقابل وعد بالحصول على مبلغ كبير. وفي السابع من يونية سنة 1523 نادى الثوار المنتصرون، في ركسراد جديدة بقائدهم ملكاً باسم جوستافوس الأول، وفي العشرين من يونيه استسلمت ستوكهولم واتخذ فازا منها بعد ذلك عاصمة له. وفي غضون ذلك كان كريستيان الثاني قد خلع عن عرشه في الدنمرك، وتخلى خلفه فريدريك الأول عن كل المطالب الدنمركية في السيادة على السويد. وانتهى اتحاد كالمار (1397 - 1523) وبدأت أسرة فازا.

‌2 - الإصلاح الديني السويدي

كان جوستافوس لا يزال شاباً في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن فارع الطول، كما نعهد في الرجال من أهل الشمال، ولكنه كان يتمتع بقوة بدنية مثل أي قرصان إسكنديناوي، وكان وجهه المستدير متورداً بحمرة الصحة، ولحيته الصفراء الطويلة تضفي عليه وقار الملك أكثر من دلالتها على سنه، وكانت أخلاقه رائعة بالنسبة إلى ملك، بل إن الكنيسة التي قدر له أن ينبذها بعد ذلك بوقت قصير لم تستطع أن تجادل في تقواه. ووقف نفسه على القيام بأعباء الحكم بنشاط لا يعرف الأناءة، جعله ينزلق أحياناً إلى التوسل بالعنف أو الاستبداد، بيد أن ظروف السويد عند ارتقائه العرش كانت تبرر أو تكاد طبعه وحكمه المطلق. وقد ترك آلاف الفلاحين، غمرة فوضى الحرب، حقولهم دون أن يزرعوها، وهجر عمال التعدين مناجمهم، ودمر الصراع المدن، وخفضت قيمة العملة وأفلست الخزانة العامة، وأزهقت أرواح أصحاب

ص: 227

العقول المدبرة في البلاد في "حمّام الدم". واعتبر البارونات الإقطاعيون الباقون على قيد الحياة جوستافوس حديث النعمة، ونظروا باحتقار إلى ادعائه الحق في الحكم. ودبرت المؤامرات لخلعه فقضى عليها بيد من حديد. وكانت فنلندة، التي كانت جزءاً من السويد، لا تزال في أيدي الدنمركيين، وكان سورن نوربي أمير البحر الدنمركي يحتفظ بجزيرة جوتلاند الاستراتيجية، وضجت لوبك مطالبة بسداد قروضها.

وكانت أول حاجة ملحة استشعرتها الحكومة مال يدفع للقوات المسلحة التي تحميها، ثم للموظفين الذين يقومون على شؤونها، أو وعد بدفع هذا المال، ولكن الضرائب في السويد أيام فازا كانت تكاد تكلف في جبايتها أكثر من المتحصل منها لأن الذين كان في وسعهم وحدهم أن يدفعوها كانوا أقوياء جداً إلى الحد الذي يقاومون فيه جبايتها. وخضع جوستافوس لما اقتضته الحاجة الملحة من تخفيض قيمة العملة مرة أخرى، بيد أن العملات الرديئة سرعان ما هبطت إلى قيمتها الفعلية، وكانت إيرادات الدولة أسوأ مما كانت عليه من قبل، ولم تكن في السويد إلا جماعة واحدة غنية - هي طبقة رجال الأكليروس، فتحول جوستافوس اليهم، وطلب منهم المساعدة، واعتقد أن من العدل أن تخفف ثروة الكنيسة وطأة الفقر الذي يرزح تحته الشعب والحكومة. وكتب عام 1523 رسالة إلى الأسقف هانز براسك من لنكوبنج، يطلب فيها هبة قدرها 5. 000 جيلدر للدولة. فاحتج الأسقف ثم أذعن. وأرسل فازا طلباً عاجلاً إلى كنائس السويد وأديارها بضرورة تسليم كل الأموال والمعادن الثمينة، التي ليست ضرورية لمواصلة خدماتها، إلى الحكومة بصفة قرض، ونشر قائمة بالمبالغ التي يتوقع الحصول عليها من كل مصدر. ولم تكن الاستجابة إليه كما توقع، وبدأ يتساءل: ما إذا كانت الحكمة تقضي منه أن يفعل كما كان يفعل الأمراء اللوثروين في ألمانيا - فيصادر ثروة الكنيسة تلبية لحاجات

ص: 228

الدولة. ولم ينسَ أن أغلب كبار رجال الأكليروس قد عارضوا الثورة، وأنهم عضدوا حكم كريستيان الثاني في السويد.

وفي عام 1519 عاد أولاوس بترى، وهو ابن صاحب مصنع حديد سويدي بعد أن قضى بضع سنوات في الدراسة بفيتنبرج، وسمح لنفسه ببعض الهرطقات، وهو شماس في المدرسة الكاتدرائية في سترانجنارس وقال إن المطهر أسطورة، وإن الصلوات يجب أن يخاطب بها الله وحده وان الاعتراف يوجه إليه وحده، وإن الدعوة إلى ما ورد في الإنجيل من شعيرة القداس. وبدأ الناس يتداولون رسائل لوثر في السويد. فألح براسك على فازا أن يمنع بيعها، فأجاب الملك بأن "تعاليم لوثر عرضت على قضاة عدول فلم يجدوا فيها زيفاً (3) ". ولعله رأى أن من حسن السياسة الاحتفاظ على سبيل الاحتياط بهرطيق يساوم الكنيسة عليه.

وأصبحت الأمور أشد إثارة عندما رفض البابا أدريان السادس أن يصادق على تعيين قاصده الرسولي جوهانس ماجنوس رئيساً لأساقفة أبسالا، واقترح إعادة جوستاف تروي عدو الثورة. فأرسل فازا إلى مجلس شورا الفاتيكان رسالة كان حرية وقتذاك (1523) بأن تفزع هنري الثامن وتسعده فيما بعد:

إذا كان عند أبينا المقدس أي اهتمام بسلام بلدنا فإنه يسرنا أن نراه يصادق على اختيار قاصده الرسولي

وسوف نستجيب لرغبات البابا فيما يختص بإصلاح الكنيسة والدين. ولكن إذا أيد قداسته أنصار كبير الأساقفة ترول الموصومين بالجريمة، مخالفاً بذلك كرامتنا وسلامة رعايانا، فإننا سوف نسمح لقاصده الرسولي بالعودة إلى روما، وسوف ندبر أمور الكنيسة في هذه البلاد بمقتضى السلطة المخولة لنا باعتبارنا ملكاً.

وأدت وفاة أدريان وانصراف كليمنت السابع بجهوده لمقاومة لوثر وشارل الخامس وفرانسيس الأول، إلى ترك فازا حراً في المضي قدماً بالإصلاح

ص: 229

الديني السويدي، فعين أولاوس بترى في كنيسة سانت نيكولاس استكهولم، وعين لورانتيوس شقيق أولاس أستاذاً للاهوت في جامعة أبسالا، ورفع مصلحاً دينياً ثالثاً وهو لورانتيوس أندريا إلى رتبة رئيس شمامسة الكاتدرائية. ودافع أولاوس بترى عن اللوثرية في مناظرة دارت بينه وبين بيترجال (27 ديسمبر سنة 1524) في مقر الأسقفية بالكاتدرائية، برئاسة الملك وقضى فازا بفوز أولاوس، ولم ينزعج عندما اتخذ أولاس زوجة له (1525)، قبل زواج لوثر باربعة شهور، ومهما يكن من أمر فإن الأسقف براسك فزع بسبب هذه المخالفة لرهبانية رجال الأكليروس، وطلب من الملك أن يقضى على بترى بالحرمان. فأجاب جوستافوس بأن أولاوس يجب أن يعاقب إذا كان قد ارتكب خطأ، ولكن "يخيل إلي أن من العجب أن يعاقب المرء بسبب الزواج (وهو شعيرة لا يحرمها الله)، ولا يقع المرء تحت طائلة الحرمان بسبب الفسوق وغيره من الآثام (4) " وبدلاً من أن يحكم على بترى لأنه خالف القانون انتدبه هو وشقيقه لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة السويدية. وساعدت النسخة المترجمة إلى اللغة الدارجة، كما حدث في كثير من البلاد الأخرى، على تكوين اللغة القومية وتحرير الدين القومي. وعد جوستافوس، مثل معظم الحكام، أي إجراء يقوم به لتدعيم مركز بلاده أو عرشه مسارياً للأخلاق، وحرص على ترقية الأساقفة الذين يذعنون لخططه إلى مرتبة المطرانيات السويدية ووجد أسباباً لا يستطيع دفعها لنزع ملكية أراضي الأديار، ولما كان قد تقاسم الأسلوب مع النبلاء فإنه فسر ذلك بأنه إنما كان يعيد إلى العلمانيين ما أغرى أجدادهم على أن يهبوه للكنيسة، وشكا البابا كليمنت السابع من أن القساوسة السويديين كانوا يتزوجون، ويقدمون القربان بالخبز والنبيذ، ويهملون شعيرة المسح الأخير ويغيرون شعيرة القداس وبعث بنداء للملك بأن يظل مخلصاً للكنيسة، ولكن جوستافوس كان قد قطع شوطاً بعيداً فلم يستطع أن يتراجع، وكانت

ص: 230

العقيدة المحافظة حرية بأن تخرب خزائنه، ونادى في مجلس فستيريس (1527) بالإصلاح الديني علناً.

كان اجتماعاً تاريخياً في تكوينه ونتائجه معاً. فقد اجتمع أربعة أساقفة وأربعة من كبار القساوسة وخمسة عشر عضواً الركسراد Riksraad و129 نبيلاً واثنان وثلاثون من أوساط الناس وأربعة عشر نائباً لعمال المناجم و104 ممثلاً للفلاحين، وكان هذا مجلساً وطنياً يمثل أعرض قاعدة بين المجالس في القرن السادس عشر. وطرح كبير وزراء الملك اقتراحاً ثورياً أمام المجلس، فقال إن الدولة قد افتقرت إلى المال إلى حد عجزها عن القيام بتبعاتها لخير الشعب، وأن الكنيسة كانت غنية جداً إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحول جانباً كبيراً من ثروتها إلى الحكومة، ويبقى لها مع ذلك ما يكفي لأن تقوم بجميع التزاماتها. وحارب الأسقف براسك لآخر لحظة من أجل مثله العليا وأملاكه العقارية، فأعلن أن البابا قد أمر رجال الأكليروس بالدفاع عن أملاكهم. وصوت المجلس في صف القائلين بإطاعة البابا. ورأى جوستافوس أن يقامر على كل شيء برمية واحدة، فأعلن أنه إذا كان هذا حكم المجلس والأمة فإنه سيستقيل ويرحل عن السويد، وظل المجلس في نقاش مستمر طوال ثلاثة أيام. ووقف الأوساط ورجال الفلاحين إلى جانب الملك، وكان لدى النبلاء سبب وجيه للتحرك في الاتجاه نفسه، واقتنع المجلس آخر الأمر بأن فازا أعظم قيمة للسويد من أي بابا، فوافق على رغبات الملك. وتحولت الأديار في فترة العطلة أو في ختام مجلس فستيريس إلى إقطاعيات للملك، وإن سمح للرهبان بالإفادة منها، وتقرر إعادة كل الأملاك التي منحها النبلاء للكنيسة منذ عام 1454 إلى ورثة الواهبين، وأن يسلم الأساقفة قصورهم إلى التاج، وحرم على الأساقفة أن يسعوا إلى الحصول على تأييد البابا لتعيينهم، وتقرر أن يسلم رجال الأكليروس إلى الدولة كل دخل ليست شعائرهم الدينية في حاجة إليه، ووضع حد للاعتراف السري، وتقرر أن تعتمد العظات كلها على الكتاب المقدس وحده. وكان الإصلاح الديني في السويد، بصورة قاطعة أكثر منه في أي مكان آخر، تأميماً للدين وانتصاراً للدولة على الكنيسة.

ص: 231

وعاش فازا بعد هذه الأزمة ثلاثاً وثلاثين عاماً، وظل حتى النهاية حاكماً مطلقاً

قوياً ولكنه يعمل لخير شعبه

وكان مقتنعاً بأن السلطة المركزية وحدها هي التي تستطيع أن تعيد النظام والرخاء إلى السويد، وأنه في مهمة معقدة كهذه لا يستطيع أن يتوقف عند كل خطوة ليستشر مجلساً متروياً. وبفضل تشجيعه وتنظيمه صبت مناجم الشمال حديدها في أدوات الحرب السويدية، واتسعت رقعة الصناعة، وأبرمت معاهدات تجارية مع إنجلترا وفرنسا والدنمرك وروسيا أوجدت أسواقاً للسلع السويدية، وجلبت إلى السويد منتجات من أثنى عشرة بلداً، وأضفت تهذيباً جديداً وثقة على حضارة كانت قبله معتقلة في سذاجة ريفية وأمية. وازدهرت السويد وقتذاك كما لم تزدهر من قبل.

واشتبك جوستافوس في عدة حروب، وقمع أربع ثورات وعقد قرانه على ثلاث زوجات على التعاقب، وأنجبت له الأولى ولداً أصبح فيما بعد أريك الرابع عشر، وأنجبت له الثانية خمسة أولاد وخمس بنات أما الثالثة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها وهو في السادسة والخمسين فقد عمرت بعده ستين عاماً. وأغرى الرجسراد Rigsraad بأن يقبل أبناءه ورثة للعرش وأن يجعل وراثة العرش مقصورة على الذكور كقاعدة تتبع في الملكية السويدية.

وصفحت السويد عن حكمه المطلق لأنها أدركت أن النظام أصل الحرية وليس ثمرة لها. وعندما مات (29 سبتمبر سنة 1560)، بعد حكم دام سبعة وثلاثين عاماً دفن في كاتدرائية أبسالا في احتفال صدر عنه بالحب وتميز بالشرف وهو لم يمنح شعبه الحرية الشخصية التي كانوا يستحقونها بصفة خاصة فيما يبدو، ولكنه منحهم حرية جماعية من السيطرة الأجنبية في الدين أو الحكم، وقد هيأ الظروف التي استطاعت أمته في ظلها أن تصل إلى درجة

ص: 232

النضج في مجالات الاقتصاد والأدب والفن. كان الأب الحقيقي للسويد الحديثة.

‌3 - الإصلاح الديني الدنمركي

كان كريستيان الثاني ملك الدنمرك (حكم 1513 - 23) شخصية لامعة مثل جوستافوس فازا الذي هزمه في السويد. وقد أكرهه البارونات على التوقيع على شروط استسلام مهينة ثمناً لانتخابه، فأحاط نفسه بمستشارين من الطبقة المتوسطة وتجاهل الريجسراد Rigsraad ( مجلس النواب) الدنمركي، المكون من الأعيان من ذوي النسب، وعين أم عشيقته الهولندية الجميلة كبيرة لمستشاريه ولابد أن هذا المجلس الخاص كان يتمتع بشيء من المقدرة والروح، لأن سياسة كريستيان الوطنية كان بناءة بقدر ما كانت مغامراته الأجنبية فاشلة لا طائل تحتها، وعمل جاهداً في تدبير الملك، وأصلح حكم المُدن، وراجع القوانين، وقضى على القرصنة، ومهد الطرق، وشرع في إقامة نظام بريدي عام، وألغى أسوأ آفات الرق، وأبطل عقوبة الإعدام على ممارسة السحر، ونظم الإعانة للمحتاجين، وفتح المدارس للفقراء، وجعل التعليم إجبارياً، وطول جامعة كوبنهاجن، فأصبحت مكاناً يشع بالضياء وملاذاً للعلم. وتعرض لعداء لويك بتقييد سلطة الهانز Hanse، وشجع التجارة الدنمركية وأسبغ عليها حمايته، ووضع حداً للعادة الهمجية التي خولت للقرويين المقيمين بجوار البحر الحق في نهب كل السفن التي تتحطم على شواطئهم.

وأرسل ليو العاشر عام 1517 جيوفاني أركمبولدو إلى الدنمرك ليعرض صكوك الغفران، فندد بول هلجزن، وهو راهب كرملي بما بدا له بيعاً لصكوك الغفران هذه، وهو بذلك سبق رسائل لوثر (5). واشتجر النزاع بين القاصد الرسولي وبين الملك حول تقسيم هذه المبالغ المتحصلة من البيع. وهرب أركمبولدو إلى لوبك بجانب منها، وصادر كريستيان الباقي، عندما

ص: 233

وجد كريستيان أسباباً وجيهة لاعتناق البروتستانتية دفعاً للمظالم الحقيقية التي ارتكبتها الكنيسة وثروتها القائمة، عين هلجزن في منصب بجامعة كوبنهاجن، حيث تزعم أرازموس الدنمرك الفصيح هذا، إلى حين، حركة للإصلاح الديني. وعندما تحول هلجزن إلى رجل يأخذ بأسباب الحيطة أرسل كريستيان إلى فردريك الحكيم الأمير المختار لسكسونا، كي يبعث إليه بلوثر نفسه، أو يبعث إليه على الأقل بعالم في اللاهوت من مدرسة لوثر. وجاء كارلشتادت، ولكنه لم يمكث طويلاً. واصدر كريستيان قانوناً بالإصلاح الديني: لا يجوز رسامة أحد دون أن يكون قد درس دراسة كافية ليفسر الإنجيل باللغة الدنمركية، ولا يستطيع رجال الأكليروس قانوناً أن يملكوا عقاراً، أو يتسلموا تركات ما لم يتزوجوا، وأمر الأساقفة بأن يتخففوا من الترف الذي يعيشون فيه، وفقدت المحاكم الكنسية الاختصاص القضائي، عندما يتعلق الأمر بنظر قضية خاصة بالملكية، وخولت محكمة عليا، عينها الملك، السلطة النهائية في الشئون الكنسية والمدنية على السواء. ومهما يكن من أمر فإنه عندما وضع مجلس دايت ورمس لوثر تحت نير الحرمان الإمبراطوري، أوقف كريستيان إصلاحاته وأشار هلجون بعقد صلح مع الكنيسة.

وبينما كانت هذه السياسة الوطنية التي انتهجها كريستيان تثير شعبه فقد أزمة الموقف بفشله في الشئون الخارجية. وأدت قسوته في السويد إلى أن ينقلب عليه كثير من الدنمركيين. وأعلنت لوبك الحرب عليه بسبب هجماته على السفن الهانزية، وتجاهل النبلاء ورجال الأكليروس، الذين نفرتهم منه الضرائب المرتفعة والتشريع المعادي، ودعواته لعقد مجلس وطني، ونادوا بعمه الدوق فريدريك أف شلسفيج - هولشتين، ملكاً جديداً للدنمرك، وفر كرستيان إلى الفلاندرز مع الملكة زوجته، شقيقة شارل الخامس البروتستانتية، وعقد صلحاً مع الكنيسة، مؤملاً أن يجد مملكة لقداس،

ص: 234

وقبض عليه وهو يقوم بمحاولة، لا طائل تحتها، لاستعادة عرشه، وعاش سبعة وعشرين عاماً في سجون سوندربورج، لا رفيق له إلا قزم نرويجي أحمق. وقادته سبل المجد إلى رمسه، يجلله الخزي والعار رويداً (1559).

ولم يجد فردريك الأول ما كان ينشده من سعادة في ظل تاجه المهدد، فقد رضى به النبلاء ورجال الأكليروس بشروط كثيرة، أحدها أنه لن يسمح أبداً لهرطيق بالوعظ في الدنمرك، وبينما كان هلجزن يواصل نقده لنقائض الكنيسة، حول وقتذاك معظم مناظراته، التي تشتعل حماسة، ضد البروتستانت، وألح على أن إصلاحها دينياً، يتم بالتدريج خير من ثورة يسودها الشغب. ولكنه لم يستطع أن يقف في وجه التيار. فقد كان الدوق كريستيان، ابن فردريك، لوثرياً قبل ذلك، وتزوجت ابنة الملك، بموافقته، البرخت البراندنبرجي الرئيس اللوثري السابق للفرسان النيوتون، وفي عام 1526 مال فردريك مع الريح، وعين هانزتاوزن قساً خاصاً له، وكان قد درس على يد لوثر. فترك تاوزن ديره، وتزوج ودافع علناً عن آراء لوثر. ووجد فردريك أن من المناسب أن يأمر بأن تدفع له لا للبابا، رسوم التصديق على تعيين الأساقفة. وتشجع الوعاظ اللوثريون وتضاعف عددهم، وطلب الأساقفة نفيهم، فرد عليهم فردريك بأنه لا ولاية له على أرواح الناس، وأنه قرر أن يترك العقيدة حرة - وهو إجراء غير مألوف للغاية. وظهرت عام 1524 ترجمة للعهد الجديد باللغة الدنمركية، ونشر كريستيان بدرسن عام 1529 نسخة أفضل من الأولى، دفعت الحركة البروتستانتية دفعة كبيرة. وكان الناس يتلهفون على وضع حد لضرائب العشور التي تدفع لرجال الأكليروس، فقبلوا اللاهوت الجديد، وما أن حل عام 1530 حتى كان اللوثريون يسيطرون على كوبنهاجن وفيبورج. وفي ذلك العام عقدت مناظرة في المجلس بكوبنهاجن، بين زعماء الكاثوليك والبروتستانت، وقضى الملك والشعب بفوز البروتستانت، وظل الاعتراف

ص: 235

بالعقيدة الذي قدمه هناك هانز تاوزن مدى عقد من الزمان، المذهب الرسمي للوثريين الدنمركيين.

وكانت وفاة فردريك (1533) مقدمة الفصل الأخير من الإصلاح الديني الدنمركي. فقد انضم كبار التجار في الدنمرك إلى أعدائهم القدامى في لوبك، وقاموا بمحاولة لإعادة كريستيان إلى العرش، وقاد الكونت كريستوفر أف أولدنبرج قوات لوبك وأطلق اسمه على هذه الحرب فسميت باسم "حرب الكونت"، وسقطت كوبنهاجن في يده، وأخذت لوبك تحلم بحكم الدنمرك بأسرها. بيد أن أوساط الناس والفلاحين نظموا صفوفهم تحت علم كريستيان ابن فردريك، وتغلب جيشهم على أولدنبرج، واستولى على كوبنهاجن بعد حصار ضربه حولها دام عاماً (يوليو سنة 1536). وقبض على جميع الاساقفة، ولم يطلق سراحهم، إلا بعد أن وعدوا بالبقاء إلى جانب النظام البروتستانتي وانعقد المجلس الوطني في أكتوبر سنة 1536، وأنشأ رسمياً كنيسة الدولة اللوثرية، ورئيسها الأعلى كريستيان الثالث. وصودرت جميع أملاك الأسقفيات والأديار لصالح الملك، وفقد الأساقفة كل صوت لهم في الحكم. وقبلت النرويج وأيسلندة كريستيان الثالث وتشريعه، وكتب النصر التام للوثرية في إسكنديناوة (1554).

‌4 - البروتستانتية في شرقي أوربا

نعمت بولندة بعصرها الذهبي في عهد سجسموند الأول (1506 - 48) وابنه سجسموند الثاني (1548 - 72). وكانا رجلين على حظ من الثقافة والذكاء، وراعيين متذوقين للأدب والفن، وكلاهما منح للفكر والعبادة حرية، وعلى الرغم من أنها لم تكن كاملة، فإنها جعلت معظم أمم أوربا تبدوا قروسطية إذا قورنت ببولندة. وتزوج سجسموند الأول بونا سفورزا المرحة الموهوبة (1518)، وهي ابنة الدوق جيا بجاليازو أمير

ص: 236

ميلان، وأحضرت معها إلى كراكو بطانة من رجال الحاشية والعلماء، وبدلاً من أن يتبرم بهم الملك، رحب بهم باعتبارهم جسراً يصل بينه وبين النهضة، وتملكت الأرستقراطية نزعة إلى الترف بارتداء الثياب المنمقة واقتناء الرياش الثمينة، وأصبحت اللفة أكثر صقلاً، والأخلاق أكثر تهذيباً، وازدهرت الآداب والفنون، وكتب أرازموس (عام 1523): "إني أهنئ هذه الأمة

التي بلغت فيها العلوم وفقه القانون والأخلاق والدين وكل ما يفصلنا عن الهمجية درجة من الازدهار تستطيع بها أن تنافس أرفع الأمم شأناً وأعظمها مجداً (6"). وسيطرت بونا على زوجها بجمالها ورشاقتها ودهائها، فأصبحت ملكة فعلاً، وملكة في الزي على السواء. وكان ابنها سجسموند الثاني عالما بالإنسانيات ولغوياً وخطيباً وميالاً إلى التزيي بزي النساء (7). وأضرت الحروب هذه العهود اللامعة لأن بولندة كانت مشتبكة مع السويد والدنمرك وروسيا في نزاع على السيطرة على بحر البلطيق وموانيه، وفقدت بولندة بروسيا، بيد أنها ضمت مازوفيا وتشمل وارسو (1529) وليفونيا وتضم ريجا (1561). وكانت بولندة في هذا العصر دولة أوربية كبرى.

وفي غضون ذلك تسلل الإصلاح الديني من ألمانيا وسويسرة. وقد عودت حرية العبادة، التي ضمنها التاج البولندي لرعاياه من الروم الكاثوليك، الأمة على التسامح الديني، وجعلت ثورة الهسيين والأتراكويين في بوهيميا المجاورة. والتي دامت قرناً من الزمان، بولندة لا تعبأ إلى حد ما بالسلطة البابوية البعيدة. وكان الأساقفة، الذين يعينهم الملك، رجالاً مثقفين محبين لوطنهم، من أنصار الإصلاح الكنسي، مع الاعتصام بحيطة أرازمية، ويؤيدون الحركة الإنسانية تأييداً عظيماً، ومهما يكن من أمر فإن هذا لم يخفف من شدة الحسد الذي تطلع به النبلاء، وسكان المُدن، إلى أملاكهم ومواردهم. وازدادت الشكاوى من استنزاف الثروة

ص: 237

القومية إلى روما، ومن صكوك الغفران التي تكلف مشتريها غالياً بصورة غير معقولة، ومن اتجار رجال الدين بالمقدسات والرتب والوظائف الدينية، ومن ارتفاع نفقات التقاضي أمام المحاكم الأسقفية. واستاء صغار النبلاء الزلاخته Sziachka بصفة خاصة من إعفاء رجال الأكليروس من الضرائب ومن جباية رجال الأكليروس لضرائب العشور من النبلاء أنفسهم. ولعل بعض البارونات من ذوي النفوذ قد استمعوا في تعاطف إلى نقد لوثر للكنيسة، لأسباب اقتصادية، وكان لما يتمتع به اللوردات الإقطاعيون من شبه سيادة الفضل في إسباغ الحماية على الحركات البروتستانتية المحلية، كما كان لاستقلال الأمراء الألمان الفضل في إمكان نشوب الثورة وحماية لوثر. ودافع راهب دانزج على رسائل لوثر ودعا إلى القيام بإصلاحات كنسية، وتزوج وارثة (1518)؛ وانتهج واعظ آخر نهج لوثر فعلاً إلى حد أن عدة جماعات من المصلين أزالت كل الصور الدينية من كنائسها (1522)، وما أن حل عام 1540 حتى كانت كل منابر الوعظ في دانزج في أيدي البروتستانت. وعندما قدم بعض رجال الأكليروس في براونزبرج البولندية البروسية الشعيرة اللوثرية وشكا كبراء القساوسة في الكاتدرائية إلى أسقفهم، رد بأن "لوثر بنى آراءه على الكتاب المقدس وكل مَن يشعر بأن في مقدوره أن يدحضها فليضطلع بالعبء (1510) (8"). وأقنع سجسموند الأول بفرض رقابة على المطبوعات، ومنع دخول كتابات لوثر، غير أن كاتم سره وكاهن الاعتراف الفرنسسكاني الخاص ببونا إعتنقا العقيدة المحرمة سراً وكسبتهما إلى صفها، وأهدى كالفن عام 1539 كتابه "تعليق على القداس" لولي العهد.

وعندما الأمير ملكاً باسم سجسموند الثاني انتشرت اللوثرية والكالفينية على السواء بسرعة. وترجم الكتاب المقدس إلى اللغة البولندية، وبدأت اللغة الدارجة تحل محل اللغة اللاتينية في الشعائر الدينية. وأعلن

ص: 238

القساوسة المبرزون مثل جان لاسكي تحولهم إلى البروتستانتية. وفي عام 1548 انتقل الاخوة البوهيميون من بلادهم إلى بولندة، وسرعان ما كانت هناك ثلاثون جمعية سرية من طائفتهم في البلاد: وقام رجال الأكليروس الكاثوليك بمحاولة لاتهام بعض أفراد صغار النبلاء Szlachta بالهرطقة ومصادرة أملاكهم، فأدت إلى قيام كثير من صغار النبلاء بالثورة ضد الكنيسة (1552) وصوت المجلس النيابي الوطني لعام 1555، وأقر الحرية الدينية لكل العقائد التي تعتمد على "كلمة الله الخالصة"، وأسبغ صفة الشرعية على زواج رجال الأكليروس، ومناولة القربان المقدس بالخبز والنبيذ، وكان الإصلاح الديني في بولندة في أوج ازدهاره.

وتعقد الموقف في بولندة بتطور أقوى حركة للقائلين بوحدة الكنيسة، إبان القرن السادس عشر في أوربا، وفي أوائل عام 1546 نوقشت محاولات سرفيتوس المنكرة للقول بالتثليث، وذلك في هذا الشرق الأقصى من العالم المسيحي اللاتيني، وزار لايليوس سوكينوس بولندة عام 1551 وترك خمائر من الأفكار المتطرفة، وواصل جيورجيو بلاندرانا الحملة، وفي عام 1561 أصدرت الجماعة الجديدة اعترافاً بالعقيدة. وواصل أعضاؤها الخلط الذي اتسم به لاهوت سرفيتوس، فقصروا الألوهية الكاملة على الرب الأب، ولكنهم جاهروا بالإيمان بالمولد الخارق للمسيح ووحيه الإلهي ومعجزاته وبعثه وصعوده. ورفضوا التسليم بفكرتي الخطيئة الأولى وتكفير المسيح عن خطايا البشر، وسلموا بالتعميد والقربان المقدس كرمزين فحسب، ولقنوا الناس أن الخلاص يتوقف فوق كل شيء على العمل الواعي بتعاليم المسيح. وعندما أدان المجمع المقدس الكالفيني في كراكو (1563) هذه العقائد، أنشأ القائلون بوحدة الكنيسة لهم كنيسة منفصلة. ولم تبلغ الطائفة أوج ازدهارها إلا على يد فاوستوس

ص: 239

سوكينوس ابن أخ لايليوس، الذي وصل إلى بولندة عام 1579.

وحاربت الكنيسة الكاثوليكية هذه التطورات بالاضطهاد والكتابات والدبلوماسية، وفي عام 1539 أرسل أسقف كراكو إلى المحرقة امرأة في الثمانين من عمرها بتهمة أنها رفضت عبادة القربان المقدس (9). وتصدى استانسلاوس هوزيوس، أسقف كولم في بروسيا، والكاردينال فيما بعد، لتعبئة الهجوم المضاد بمقدرة وحماسة، وعمل جاهداً من أجل الإصلاح الكنسي، ولكنه لم يكن متعاطفاً مع اللاهوت البروتستانتي أو الشعيرة البروتستانتية. وبناء على اقتراحه أرسل لودوفيكوليبومانو أسقف فيرونا إلى بولندة مندوباً بابوياً، وعين ديوفاني كومندوني، أسقف زانتي قاصداً رسولياً في كراكو. وكسبوا تأييد سجسمون الثاني الفعال للكنيسة بتأكيد الانقسامات بين البروتستانت وتضخيم صعوبة تنظيم الحياة المعنوية للأمة بمثل هذه العقائد الضارة المذبذبة. وفي عام 1564 جاء هوزيوس وكمندوني باليسوعيين إلى بولندة. وضمن هؤلاء الرجال المدربون المخلصون مناصب استراتيجية في النظام التعليمي، واستمالوا آذان الشخصيات البارزة، وإعادة الشعب البولندي إلى اعتناق العقيدة التقليدية.

وكان البوهيميون من البروتستانت قبل لوثر، ولم يجدوا في أفكاره ما يفزعهم إلا قليلاً. وقبل جانب كبير من الألمان على الحدود الإصلاح الديني. وكان الاخوة البوهيميون ويبلغ عددهم حوالي عشرة في المائة من مجموع السكان البالغ 400. 000 نسمة، أشد تمسكاً بالبروتستانتية من لوثر. وكان 60 في المائة أتراكويين كاثوليك تناولوا القربان المقدس بالنبيذ وبالخبز على السواء، وتجاهلوا احتجاج البابوات (10). وما أن حل عام 1560 حتى كان ثلثا سكان بوهيميا من البروتستانت، ولكن فرديناند أدخل اليسوعيين عام 1561، وتحول التيار إلى العقيدة الكاثوليكية المحافظة.

ص: 240

وعرفت هنغاريا الإصلاح الديني عن طريق المهاجرين الألمان وهم يحملون أنباء لوثر، ذلك الرجل الذي استطاع أن يتحدى الكنيسة والإمبراطورية وعاش مع ذلك. وتطلع الفلاحون الهنغاريون الذين ظلمهم الإقطاع الذي تساعده الكنيسة، بشيء من التحيز للبروتستانتية يمكن أن تضع حداً لضرائب العشور والمكوس التي تجبيها الكنيسة، وتطلع البارونات الإقطاعيون بعيون جشعة إلى أملاك الكنيسة الشاسعة، التي كانت منتجاتها تنافس منتجات أراضيهم، ورأى عمال المُدن، الذين أصيبوا بعدوى مبادئ المدينة الفاضلة، أن الكنيسة هي العقبة الكبرى التي تقف في طريق أحلامهم، وانهمكوا في نشوات تحطيم التماثيل، وتعاونت الكنيسة في إقناع الحكومة باعتبار اعتناق البروتستانتية جريمة يستحق مرتكبها الإعدام. وسعى الملك فرديناند في غربي هنغاريا جاهداً للحصول على مصالحة، وأراد أن يسمح لرجال الأكليروس بالزواج وبتقديم القربان المقدس بصورتيه المعروفتين، وانتشرت البروتستانتية بلا قيود في شرقي هنغاريا في ظل حكم تركي ينظر باحتقار وبلا مبالاة إلى الاختلاف بين المذاهب المسيحية، وما أن حل عام 1550 حتى بدا أن هنغاريا بأسرها سوف تصبح بروتستانتية. ولكن الكالفينية بدأت وقتذاك تنافس اللوثرية في هنغاريا، وأيد المجريون، وهم بفطرتهم مناهضون للألمان، النمط السويسري من الإصلاح الديني "وما أن جاء عام 1558 حتى كان الكالفينيون من الكثرة إلى حد أنهم استطاعوا عقد مجمع مقدس في زنجر"، كان له أثره الكبير. وشطرت مراكز القوى المتنافسة للإصلاح الديني الحركة إلى شطرين، وعاد كثير من الموظفين أو مَن تحولوا من عقيدتهم، ممن ينشدون الاستقرار الاجتماعي أو الهدوء الفكري إلى الكاثوليكية، وفي القرن السابع عشر استعاد اليسوعيون بزعامة ابن أحد الكالفينيين، هنغاريا إلى حضيرة الكاثوليكية.

ص: 241

‌5 - شارل الخامس والأراضي المنخفضة

كانت تجارة نافقة في بلاد الفلاندرز إبان نضج شارل أفضل من الانصراف إلى صناعة ضعيفة مشتتة. وساد الكساد في بروجس وغنت، وعاشت بروكسل باعتبارها قصبة فلمنكية، وكانت لوفان تشكل اللاهوت وتصنع الجعة وأنتورب تتحول - وسوف تكون عند حلول عام 1550 - أغنى مدينة في أوربا وأكثرها حركة وعملاً. وحولت التجارة الدولية والمال ذلك الميناء الهزيل على نهر شلدت العريض الصالح للملاحة بفضل انخفاض المكوس الجمركية على الواردات والصادرات والارتباط السياسي مع أسبانيا وبورصة متخصصة، وشعارها يقول بأنها أنشئت ad usum mercatorum cuiusque gentis ac linguae ( ليفيد منها التجار القادمون من كل البلاد والمتحدثون بجميع الألسنة (11)". وكان القيام بمشروع أي عمل حراً من قيود الطائفة الحرفية والحماية البلدية، التي أبقت الصناعة القروسطية غير متقدمة لحسن الحظ. وفتح المصرفيون الإيطاليون هناك وكالات وأقام "التجار المغامرون" الإنجليز مستودعاً وركز آل فوجر وجوه نشاطهم التجاري، وبنى الهانز مؤسستهم العظيمة بيت الشرقيين (1564). وشهد الميناء 500 سفينة تدخل إليها أو تغادرها كل يوم و 5. 000 تاجر يشتغلون بتبادل السلع. وكانت حوالة مالية مسحوبة على أنتورب وقتذاك أشيع شكل للعملة الدولية. وفي هذه الفترة حلت أنتورب بالتدريج محل لشبونة، وأصبحت أكبر ميناء أوربي لتجارة التوابل، وكان الوكلاء الفلمنكيون يشترون حمولات السفن الداخلة إلى لشبونة قبل أن تفرغ ثم ترسل مباشرة إلى أنتورب لتوزيعها في شمالي أوربا. وكتب سفير البندقية يقول: "لقد حزنت لرؤية أنتورب لأني شهدت مدينة تبز البندقية (12) "، وكان يشهد التحول التاريخي للزعامة التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى شمال الأطلنطي. وحفزت هذه التجارة الصناعة الفلمنكية فانتعشت حتى في غنت،

ص: 242

وأمدت الأراضي المنخفضة شارل الخامس بمبلغ 1. 500. 000 جنيه (37. 500. 000 دولار) سنوياً، وهو يعادل نصف دخله الكلي (13).

واستجاب بمنح الفلاندرز وهولندة حكماً صالحاً معتدلاً، اللهم إلا في مجال الحرية الدينية - وهي هبة لم يكد يدركها أصدقاؤه أو أعداؤه. وكانت سلطته من الناحية الدستورية مقيدة بتعهده الذي أقسم على تنفيذه بمراعاة مواثيق المُدن والمقاطعات وقوانينها المحلية، وبالحقوق الشخصية والعائلية، التي حافظ عليها سكان المُدن بشجاعة، وبمجالس الدولة والمالية، ومحكمة للاستئناف أنشئت لتكون جزءاً من الإدارة المركزية. وكان شارل بوجه عام يحكم الأراضي المنخفضة حكماً غير مباشر عن طريق نواب يقبلهم المواطنون: أولاً عمته، وحاضنته ومربيته مرجريت النمساوية، ثم شقيقته ماري، ملكة هنغاريا السابقة، وهما امرأتان تتمتعان بكفاءة وإنسانية ومهارة. ولكن شارل أصبح أشد استبدادً باتساع رقعة الإمبراطوريّة وأقام حرساً أسبانياً في المُدن المتكبرة، وقمع بقسوة أي مخالفة خطيرة لسياسته الدولية، فعندما رفضت غنت أن تصوت على قرار بالاعتمادات العسكرية التي طلبها ومنحتها له المُدن الأخرى، أخمد شارل الثورة باستعراض قوة لا جدال فيها، واقتضى إعانة مالية وتعويضاً، وألغى الحريات التقليدية التي كانت تتمتع بها البلدية، واستُبْدِل بالحكومة المختارة محلياً موظفون معينون من قبل الإمبراطور (1540)(14). ولكن لم يكن هذا المتبع في الأغلب. وعلى الرغم من هذه القسوة العارضة فقد ظل شارل يحظى بشعبية بين رعاياه في الأراضي المنخفضة، ونال الثقة لما حققه من استقرار سياسي ونظام اجتماعي، وطدا دعائم الرخاء الاقتصادي، وعندما أعلن تنازله عن العرش حزن كل المواطنين تقريباً (15).

وسلم شارل بالنظرية المتداولة القائلة بأن السلام القومي والقوى يتطلبان حدة المعتقد الديني، وخشي أن تؤدي البروتستانتية في الأراضي المنخفضة

ص: 243

إلى تعريض جناحه للخطر في نزاعه مع فرنسا وألمانيا اللوثرية، فأيد الكنيسة تأييداً كاملاً في قمع الهرطقة في الفلاندرز وهولندة. وكانت حركة الإصلاح الديني هناك معتدلة قبل لوثر، ودخلت بعد عام 1517، مثل ما دخلت اللوثرية ومذهب المنكرين للتعميد من ألمانيا، والزونجيلية والكالفينية من سويسرة والألزاس وفرنسا. وسرعان ما ترجمت رسائل لوثر إلى الهولندية وشرحها وعاظ في انتورب وغنت ودوردرخت واترخت وتسفولى ولاهاي. وتزعم الأخوة الرهبان الدومنيكان حركة معارضة نشيطة دحضوا فيها آراء خصومهم، وقال أحدهم إنه يود لو استطاع أن ينشب أسنانه في زور لوثر، وإنه لن يتردد في أن يذهب لتناول العشاء الرباني والدم يلطخ فمه (16). ورأى الإمبراطور، وهو لا يزال شاباً، أن يخمد الهياج بنشر "إعلان ملصوق" بناء على طلب البابا، يحرم طباعة مصنفات لوثر أو قراءتها. وفي العام نفسه أمر الحاكم العلمانية بتنفيذ منشور ورمس في سائر الأراضي المنخفضة ضد كل مَن يعرض آراء لوثر. وفي اليوم الأول من يوليو عام 1523 أرسل هنري فوس وجوهان إيك، وهما راهبان أوغسطينيان إلى المحرقة في بروكسل، فكانا أول شهيدين من البروتستانت في الأراضي المنخفضة. وسجن هنري الزتفيني، وهو صديق وتلميذ للوثر، ورئيس الدير الأوغسطيني في أنتورب، وفر، وقبض عليه في هولستاين وأحرق هناك (1524) وكان تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام بمثابة إعلان لآراء المصلحين الدينيين.

وعلى الرغم من الرقابة فإن ترجمة لوثر للعهد الجديد انتشرت على نطاق واسع، وتداولها الناس في هولندة بحماسة أكثر من الفلاندرز الغنية. وكانت هناك أمنية لإعادة المسيحية إلى بساطتها الأولى، فنشأ عنها أمل، بعد مرور ألف عام، في عودة المسيح مبكراً، وإنشاء أورشليم جديدة لا تكون فيها حكومة، ولا زواج ولا ملكية، وامتزجت بهذه الأفكار نظريات

ص: 244

شيوعية عن المساواة وتبادل العون بل "والحب الحر (17) ". وتكونت جماعات تنكر التعميد في أنتورب وماسترخت وأمستردام. وجاء ملشيور هوفمان من أمدن إلى أمستردام عام (1531) وأعاد جون الليدني عام 1534 الزيارة يحمل معه يحمل معه عقيدة المنكرين للتعميد من هارلم إلى منستر. وقدر أن ثلثي السكان في بعض المُدن الهولندية كانوا من المنكرين للتعميد. بل إن العمدة في ديفنتز تحول لنصرة القضية. وشحذت المجاعة الحركة، فأصبحت ثورة اجتماعية. وكتب صديق لأرازموس عام 1534 يقول "إن اشتعال حماسة المنكرين للتعميد في هذه المقاطعات يجعلنا نشعر بقلق بالغ لأنه يتصاعد مثل ألسنة اللهب ولا تكاد توجد بقعة أو مدينة لا تتأجج فيها سراً شعلة التمرد (18"). وحذرت ماري الهنغارية الإمبراطور؛ وكانت وقتذاك نائبة له، من أن الثوار قد وضعوا خطة لانتهاب كل ضروب الملكية من النبلاء ورجال الأكليروس والأرستقراطية التجارية، وتوزيع الغنائم على كل رجل حسب حاجته (19). وفي عام 1535 أرسل جون الليديني مبعوثين لتدبير ثورة في نفس الوقت يقوم بها المنكرون للتعميد في عدة محلات هولندية، وبذل الثوار جهود الأبطال، فقد استولت جماعة على دير في فريزلاند الغربية، وحصنته، وحاصرهم الحاكم بالمدفعية الثقيلة، ومات 800 وهم يدافعون دفاعاً لا أمل فيه، (1535) وفي 11 مايو اقتحم بعض المنكرين للتعميد المسلحين قاعة المدينة في أمستردام واستولوا عليها، فطردهم سكان المدينة، ونكلوا بالزعماء، وانتقموا منهم انتقاماً مفزعاً من رجال مفزعين، فاستلت الألسنة، ومزقت القلوب من أجساد الأحياء، وألقي بها في وجوه المحتضرين أو الموتى (20).

وظن شارل أن ثورة شيوعية تتحدى البناء الاجتماعي بأكمله، فاستقدم محكمة التفتيش إلى الأراضي المنخفضة، وخول موظفيها سلطة سحق الحركة وكل الهرطقات الأخرى، مهما قضى ذلك على الحريات المحلية. وأخذ

ص: 245

بين عامي 1521 و 1555 يصدر الإعلان الملصق بعد الإعلان ضد الانقسام بين الطبقات الاجتماعية أو الانشقاق الديني. وقد كشف أعنف هذه الإعلانات (25 سبتمبر سنة 1550) عن تدهور الإمبراطور، ووضعت الأسس التي قامت عليها ثورة الأراضي المنخفضة ضد ابنه:

لا يحق لأحد أن يطبع أو يكتب أو ينسخ أو يخفي أو يبيع أو يشتري أو يعطي في الكنائس أو في الشوارع أو غير ذلك من الأماكن أي كتاب أو رسالة من تأليف مارتن لوثر، أو جون أو يكولا مباديوس، أو أولريخ زونجلى، أو مارتن بوسر، أو جون كالفن، أو غيرهم من الهراطقة، الذين استهجنت أعمالهم الكنيسة المقدسة

ولا يحق له أن يحطم أو يؤذي بأي صورة أخرى تماثيل العذراء المقدسة، أو القديسين الذين اعترفت بهم الكنيسة

وليس له أن يعقد اجتماعات سرية أو اجتماعات غير قانونية، أو يحضر أي اجتماع من هذه الاجتماعات، التي يدعو فيها أنصار الهراطقة المذكورين ويعمدون ويدبرون مؤامرات ضد الكنيسة المقدسة والصالح العام

ونحن نمنع جميع الأشخاص العلمانيين من أن يتحدثوا أو يجادلوا في أمر يتعلق بالكتب المقدسة جهراً أو سراً

أو أن يقرأوا أو يعلموا أو يفسروا الكتب المقدسة، ما لم يكونوا قد درسوا اللاهوت في حينه، أو اعترفت بهم إحدى الجامعات المشهورة، أو يرحبوا بأي رأي من آراء الهراطقة المذكورين

وإلا تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها فيما يلي

الرجال (تقطع رؤوسهم) بالسيف والنساء يدفن أحياء إذا لم يصررن على أخطائهن، وإذا أصررن عليها فإنهن يعدمن حرقاً، وفي كلتا الحالتين تصادر أملاكهن كلها لمصلحة التاج.

وتمنع كل الأشخاص أن ينزلوا عندهم أو يستضيفوا أو يزودوا بالطعام أو الدفء أو الملابس أو يؤيدوا بأية طريقة أخرى أي امرئ يعتقد أنه هرطيق، أو يشتبه في أن له سمعة سيئة كهرطيق، وكل من يتخلف

ص: 246

عن التنديد بأي واحد من هؤلاء الذين نأمر بإدانتهم يكون عرضة للعقوبات المذكورة آنفاً

وكل مَن يعرف شخصاً موصوماً بالهرطقة يجب أن يبلغ عنه ويسلمه

ويكون للمبلغ، في حالة الإدانة، الحق في نصف أملاك المتهم

ولكي لا يكون لدى القضاء والموظفين أي ذريعة - بحجة أن العقوبات جسيمة جداً وشديدة، ولم ينص عليها إلا لإثارة الفزع في قلوب المجرمين - ليوقعوا عليهم عقوبة أقل مما يستحقون (نأمر) بأن يعاقب المجرمون حقاً بالعقوبات التي أعلنا عنها سابقاً، ونحظر على جميع القضاة أن يغيروا أو يخففوا العقوبات بأية طريقة، ونحظر على أي أحد، في أي ظرف أن يطلب منا، أو من أي أحد أو سلطة، أن يمنح عفواً عن، أو أن يقدم التماس في صالح، هؤلاء الهراطقة أو المنفيين أو الهاربين، وإلا تعرض للحكم عليه إلى الأبد بعدم الأهلية لتولي الوظائف المدنية أو العسكرية، ولأن يعاقب بعقوبة يقضى بها عليه بطريقة تحكمية (21).

وعلاوة على هذا كان يطلب من أي شخص يدخل البلاد المنخفضة أن يوقع على تعهد بالولاء للعقيدة المحافظة بحذافيرها (22).

وتحولت الأراضي المنخفضة عن طريق هذه المنشورات اليائسة، إلى ساحة قتال بين الشكلين للقديم والجديد من المسيحية، وقدر سفير البندقية في بلاط شارل أن 30. 000 شخص، وهم كل المنكرين للتعميد تقريباً، هلكوا عام 1546 في هذه المذبحة الإمبراطوريّة الطويلة (23)، التي قتل فيها الآمنون من المواطنين، وخفض تقدير آخر أقل إثارة عدد الضحايا إلى 10. 000 شخص (24). وبقدر ما كان الهولنديون المنكرون للتعميد مهتمين، بقدر ما نجحت محكمة التفتيش الكارولينية، وظل بقية منهم على قيد الحياة في هولندة بإبداء عدم المقاومة، وهرب بعضهم إلى إنجلترا، حيث أصبحوا من أنصار البروتستانتية النشطين في عهد إدوارد السادس

ص: 247

وإليزابث. وانهارت الحركة الشيوعية في الأراضي المنخفضة بعد أن روعها الاضطهاد وخنقها الرخاء.

ولكن عندما انحصرت موجة المنكرين للتعميد تدفق نهر من الهوجينوت المطاردين إلى الأراضي المنخفضة من فرنسا، وجاءوا معهم بإنجيل كالفن، وراقت الحماسة الصارمة القائلة بالحكم الديني للهرطقة الجديدة، لمن ورثوا تقاليد المتصوفة وإخوان الحياة المشتركة، وكان قبول كالفن للعمل باعتباره كرامة بدلاً من أن يعد لعنة، وللثورة باعتبارها بركة بدلاً من أن تعد جريمة، وللنظم الجمهورية باعتبارها أكثر موافقة من الملكية للمطامح السياسية لطبقة رجال الأعمال، يحتوي على أجزاء تلقى ترحيباً متفاوتاً من كثير من العناصر بين السكان. وما أن حل عام 1555 حتى كانت هناك جماعات كالفينية للمصلين في إيبرس وتورناي وفالنسينس وبروجس وغنت وأنتروب، وكانت الحركة تنتشر في هولندة ويرجع الفضل إلى الكالفينية لا إلى اللوثرية، أو مذهب المنكرين للتعميد، في أن ابن شارل سوف يحصر خلال جيل مرير، في صراع قدر له أن يشطر الأراضي المنخفضة إلى قسمين، ويحرر هولندة من السيطرة الإسبانية، ويجعلها موطناً وملجأ من أعظم المواطن والملاجئ للفكر الحديث.

وفي عام 1555 طرح شارل الخامس كل أحلامه ما عدا حلمه بأن يموت في طهارة، وتخلى عن أمله في قمع البروتستانتية في ألمانيا والأراضي المنخفضة أو مهادنة الكاثوليكية في مجلس ترنت، وتخلى عن طموحه في زعامة البروتستانت والكاثوليك والألمان والفرنسيين، في زحف رائع يقوم به ضد سليمان والقسطنطينية والتهديد التركي للعالم المسيحي. وقد أدى إفراطه في الطعام والشراب والعلاقات الجنسية وحملاته المنهكة وأعباء منصب واجه صدمة تغيير ثوري إلى تحطيم جسده وتبلد سياسته وتحطيم

ص: 248

إرادته. وكان يشكو من قروح، وهو في الثالثة والثلاثين، واكتهل في الخامسة وأصيب وهو في الخامسة والأربعين بالنقرس والربو وسوء الهضم والتأتأة، وكان وقتذاك يقضي نصف وقت يقظته في ألم، ووجد أنه من الصعب عليه أن ينام، وكثيراً ما كانت الصعوبة التي يجدها في التنفس تجعله يجلس منتصباً طوال الليل، وكانت أصابعه مشوهة بداء المفاصل، إلى درجة أنه لم يكد يستطيع أن يقبض على القلم، الذي وقع به على صلح كريبي. وعندما قدم كوليني رسالة من هنري الثاني، لم يستطع شارل أن يفتحها إلا بصعوبة وقال متسائلاً:"ما رأيك في يا سيدي أمير البحر؟ ألست فارساً رائعاً يستطيع أن يهاجم ويحطم حربة، أنا الذي لا أستطيع أن أفتح خطاباً إلا بعد مشقة كبيرة؟ (25) ". ولعل قسوته العارضة وشيئاً من الوحشية التي هاجم بها البروتستانتية في الأراضي المنخفضة، ترجع إلى نفاد صبره بسبب آلامه. وأمر بقطع أقدام الأسرى من الجنود الألمان المرتزقة، الذين حاربوا في صفوف فرنسا، على الرغم من أن ابنه الذي قدر له أن يكون فيليب الثاني الصلب الرأي، طلب لهم الرحمة (26)، وقد حزن حزناً مريراً دام طويلاً لوفاة زوجته الحبيبة إيزابلا (1539)، ولكنه سمح في حينه بحضور عذارى لا حول لهن ولا طول إلى مخدعه (27).

ودعا في خريف عام 1555 إلى عقد اجتماع لمجلس الطبقات في الأراضي المنخفضة، يوم 25 أكتوبر، واستدعى إليه فيليب من إنجلترا. وفي قاعة دوقات برابانت الواسعة المغطاة بالسجاجيد في بروكسل حيث اعتاد فرسان الجزة الذهبية أن يعقدوا اجتماعاتهم، اجتمع النواب والنبلاء والحكام من سبع عشرة مقاطعة في نطاق حرس من الجند المدججين بالسلاح. ودخل شارل يستند على كتف وليام أف أورانج، الذي قدر له أن يكون عدواً لابنه في المستقبل. وتبعه فيليب مع نائبة الإمبراطور ماري الهنغارية، ثم أمانويل فيليبرت أف سافوي، ومستشارو الإمبراطور، وفرسان الجزة

ص: 249

الذهبية، وكثير من الأعيان الآخرين الذين أقبلت عليهم الدنيا يوماً قبل أن تنساهم. وعندما جلس الجميع نهض فيليبرت وشرح في إسهاب ووضوح اغتبط لهما شارل، الأسباب الصحية والعقلية والسياسية التي حدت بالإمبراطور إلى إبداء رغبته في أن يتنازل عن حكم الأراضي المنخفضة لابنه. ثم وقف شارل نفسه وهو يتكئ من جديد على أمير أورانج الوسيم فارع القامة، وتحدث ببساطة، وفي صميم الموضوع، ولخص كيف ارتقى إلى أن بلغ آفاقاً متسعة من السلطان على التعاقب وتحدث عن ذوبان حياته في الحكم. وتذكر أنه زار ألمانيا تسع مرات وإسبانيا ستاً وفرنسا أربعاً وإنجلترا وأفريقية مرتين، وقام بإحدى عشرة رحلة بالبحر واستأنف كلامه قائلاً:

هذه هي المرة الرابعة التي أفكر فيها في الذهاب لإسبانيا من الآن

ولم يسبق أن جربت شيئاً سبب لي مثل هذا الألم العظيم

الذي أشعر به وأنا أفترق عنكم من اليوم دون أن أترك خلفي ذلك السلام والهدوء اللذين طالما رغبت في تحقيقهما

ولكني لم أعد قادراً على مباشرة شئوني دون أن أشعر بتعب شديد يسري في بدني، وبالتالي ألحق بالدولة الضرر

وإن ما يتطلبه تحمل المسؤولية من اهتمام عظيم، وما تسببه خور بالغ للعزيمة، وصحتي التي تدهورت من قبل، كل هذه لم تعد تترك لي القوة اللازمة للحكم

وينبغي لي في حالتي هذه أن أقدم لله والانسان حساباً خطيراً إذا لم أطرح السلطة عن كاهلي

وأن ابني، الملك فيليب قد وصل إلى سن تكفي لأن يكون قادراً على حكمكم، وهو، كما ارجو، أمير صالح لكل رعاياي المحبوبين (28).

وعندما تهالك شارل متألماً في مقعده نسى الحاضرون خطاياه واضطهاده وهزائمه، رثاء لرجل عمل جاهداً مدى أربعين عاماً، حسب ما أملته عليه آراؤه وسمحت به قدرته، تحت وطأة أثقل الالتزامات في عصره، وبكى كثير من السامعين. ونصب فيليب رسمياً حاكماً للأراضي المنخفضة، وحلف

ص: 250

يميناً مغلظة (كما سوف يذكر بها فيما بعد) أن يراعى كل القوانين والحقوق التقليدية للمقاطعات. وفي أوائل عام 1556 سلم له شارل تاج إسبانيا، بكل ممتلكاته في العالم القديم والعالم الجديد، واحتفظ شارل باللقب الإمبراطوري، وكان يأمل أن ينقله لابنه قريباً، ولكن فرديناند احتج، وفي عام 1558 تنازل الإمبراطور عن لقبه لأخيه. وسافر شارل بحراً في السابع عشر من سبتمبر سنة 1556 من فشلنج إلى أسبانيا.

‌6 - إسبانيا

أ- ثورة العامة

1520 -

1522

كانت نعمة مشكوكاً فيها لإسبانيا أن يصبح الملك شارل الأول (1516 - 56) الإمبراطور شارل الخامس (1519 - 58). وولد وتربى في الفلاندرز: وتعلم مناهج الحياة الفلمنكية، واكتسب الأذواق الفلمنكية، إلى أن تغلبت عليه روح إسبانيا في سنواته. ولم يكن في وسع الملك إلا أن يصبح جزءاً صغيراً من الإمبراطور، الذي كان مشغولاً تماماً بالإصلاح الديني والبابوية وسليمان وبارباروسا وفرانسيس الأول، وشكا الإسبان أنه لم يمنحهم إلا القليل من وقته، وأنه أنفق الكثير من مواردهم البشرية والمادية في المحلات التي كانت في الظاهر لا تهم المصالح الأسبانيّة، وكيف كان في وسع إمبراطور أن يتعاطف مع نظم جماعية جعلت إسبانيا تتمتع بنصف ديمقراطية، قبل مجيء فرديناند الكاثوليكي، وكانت تتوق كثيراً إلى أن تستعيدها؟.

وقام بأول زيارة لمملكته (1517) ولم تكسبه حب أحد، وعلى الرغم من مضي عشرين شهراً عليه وهو ملك، فإنه كان لا يزال لا يعرف الإسبانيّة وكان عزله الفظ لأكسيمينس صدمة للدماثة الإسبانية. وجاء يحيط فلمنكيون، ظنوا إسبانيا بلداً همجياً تنتظر مَن يحلبها. وعين الملك البالغ من العمر سبعة عشر عاماً هذه الديدان الطبية في أعلى المناصب، ولم تخفِ المجالس التشريعية الإقليمية المختلفة التي يسيطر عليها صغار النبلاء، نفورها وعدم رضاها

ص: 251

عن ملك أجنبي. ورفض المجلس التشريعي في قشتالة أن يعترف له باللقب، ثم اعترف به على كره منه حاكماً، تشترك معه في الحكم أمه المعتوهة جوانا، وجعله يفهم أنه لابد من أن يتعلم الإسبانيّة، ويعيش في إسبانيا، وألا يعين مزيداً من الأجانب في أي منصب. وقدمت المجالس التشريعية طلبات مماثلة. ووسط مظاهر الإذلال التي تعرض لها شارل تلقى أنباء بأنه انتخب إمبراطوراً، وأن ألمانيا كانت تدعوه للحضور لكي يتوج. وعندما سأل المجلس التشريعي في بلد الوليد (وكانت وقتذاك العاصمة) أن يمول الرحلة مني بالفشل والخيبة، وساد هرج هدد حياته. وحصل آخر الأمر على المال من المجلس التشريعي في كورونا وأسرع إلى الفلاندرز. ولكي يجعل الأمور محفوفة بالمخاطر أضعافاً مضاعفة أرسل نواباً corregidores لحماية مصالحه في المُدن، وترك مربيه السابق أدريان كاردينال أترخت نائباً له في إسبانيا.

وثارت البلديات الإسبانيّة واحدة وراء الأخرى في "ثورة أعضاء الكومون" ونفوا النواب corregidores وقتلوا بعض النواب الذين صوتوا بالموافقة على منح أموال لشارل، وتحالفوا فيما يعرف باسم Santa Communidad الذي تعهد بالإشراف على الملك. وانضم النبلاء ورجال الكنيسة وأوساط الناس إلى الحركة ونظموا في أفيلا (أغسطس سنة 1520) الـ Santa Iunta أو الاتحاد المقدس ليكون بمثابة حكومة مركزية. وطالبوا بضرورة اشتراك المجالس التشريعية مع المجالس الملكية في اختيار نائب الملك، وعدم شنَّ حرب بغير موافقة المجالس التشريعية، وألا يحكم المدينة النواب بل يحكمها قضاة، أو عمد يختارهم المواطنون (29). ودافع أنطونيو دي أكونيا أسقف سمورة علناً عن قيام جمهورية، وحول أتباعه من رجال الأكليروس إلى محاربين ثوريين، وقدم موارد أسقفية للثورة. وعين جوان دي باديلا، وهو نبيل من طليطلة، قائداً لقوات الثوار. فقادها لتستولي على نورديسيلاس، وأخذ جوانا لالوكا رهينة،

ص: 252

وحثها على أن توقع وثيقة، تخلع فيها شارل، وتعين نفسها ملكة، وكانت عاقلة في جنونها، فرفضت.

ولم يكن لدى أدريان ما يكفي من الجند لقمع الثورة، فاستغاث بشارل وطلب منه العودة، وألقى تبعة قيام الثورة صراحة على تحكم الملك وحكمه الغيابي. ولم يحضر شارل، ولكنه وجد هو أو مستشاروه سبيلاً لإشاعة الانقسام والانتصار. فقد حذر النبلاء أن الثورة كانت تهديداً لطبقات أصحاب الأملاك وللتاج على السواء، والحق أن الطبقات العاملة، التي ظلمت منذ عهد بعيد بالأجور الثابتة، والعمل سخرة، وتحريم الاتحاد، كانت قد استولت من قبل على السلطة في عدة مُدن. وفي بلنسية والمنطقة المجاورة لها قبض الجرمانيا Germania أو اخوة أبناء الطوائف الحرفية على الزمام، وسيطروا على لجان العمال. وكانت هذه الدكتاتورية البروليتارية نقية على غير العادة، وفرضت على آلاف المغاربة الذين ظلوا في المقاطعة أن يختاروا بين التعميد والموت. وقتل آلاف من الذين رفضوا في عناد (30). وثار العامة في ماجوركا، الذين عاملهم سادتهم كالعبيد، ثورة مسلحة، وخلعوا الحاكم المعين من قبل الملك، وذبحوا كل نبيل لم يستطع أن يفلت منهم. وتخلت كثير من المُدن عن روابطها مع الإقطاعيين ومستحقاتها لهم، وفي مدريد وسجونزا ووادي الحجارة أقصت الحكومة البلدية الجديدة كل النبلاء والأعيان من المناصب، وقتل الأشراف هنا وهناك، وفرض الاتحاد Iunta ضرائب على أملاك النبلاء السابق إعفاؤها. وأصبح النهب عاماً، وأحرق العامة قصور النبلاء وذبح النبلاء العامة. وانتشر الصراع بين الطبقات في أرجاء إسبانيا.

وقضت الثورة على نفسها بالتوسع في أهدافها، توسعاً جاوز حدود طاقاتها، وانقلب عليها النبلاء، وحشدوا قواتهم، وتعاونوا مع قوات الملك، واستولوا على بلنسية، وأطاحوا بالحكومة البروليتارية، بعد أيام سقط فيها

ص: 253

قتلى من الجانبين (1521)، وانقسم جيش الثوار، عندما بلغت الأزمة ذروتها، إلى فرقتين متنافستين بقيادة باديلا ودون بدرو جيرون، وانقسمت الجماعة السياسية إلى أحزاب، يناصب بعضها بعضاً العداء، وواصلت كل مقاطعة ثورتها، دون تآزر مع باقي المقاطعات.

وانطلق جيرون، وانضم إلى الملكيين الذين استولوا من جديد على تورديسلاس وجوانا. أما جيش باديلا الذي تضاءل عدد جنوده فقد هزم هزيمة منكرة في فيلالار، وأعدم باديلا. وعندما عاد شارل إلى إسبانيا (يوليو سنة 1522) ومعه 4. 000 جندي ألماني، كان النبلاء قد فازوا بالنصر، وقد أضعف النبلاء والعامة بعضهم بعضاً إلى حد أنه استطاع أن يتغلب على البلديات والطوائف الحرفية، ويروض المجالس التشريعية، ويوطد أركان ملكية تكاد تكون مطلقة. وقد قمعت الحركة الديمقراطية تماماً بحيث ظل كل العامة الأسبان خائفين خاضعين، حتى القرن التاسع عشر. وخفف شارل سلطته بالدماثة، وأحاط نفسه بالنبلاء، وتعلم الحديث بلغة إسبانية سليمة، وسرت إسبانيا عندما علق قائلاً إن الإيطالية هي اللغة اللائقة لكي تتحدث بها النساء، والألمانية هي لغة الأعداء، والفرنسية لغة الأصدقاء، والإسبانية لغة الرب (31).

ب- البروتستانت الإسبان

لم تكن هنا إلا قوة واحدة تستطيع أن تتحدى شارل - هي الكنيسة - وكان نصيراً للكاثوليكية، ولكنه مناهض للبابوية. وسعى، مثل فرديناند الكاثوليكي، إلى جعل الكنيسة الإسبانيّة مستقلة عن البابوات ونجح في هذا إلى حد أن التعيينات في مناصب الكنيسة ودخول الكنيسة إبان حكمه كانت في يديه، واستخدمت لرفع شأن السياسة الحكومية: ولم تكن هناك حاجة للإصلاح الديني في إسبانيا، كما هو الحال في فرنسا، لكي تتبع الكنيسة

ص: 254

الدولة. ومع ذلك فإن الحماسة للعقيدة المحافظة الإسبانيّة، إبان نصف مدة حكمه، التي قضاها في مملكته، استحثته إلى حد أنه في سنواته الأخيرة لم يكن هناك أمر (باستثناء قوة آل هايسبرج) يهمه أكثر من قمع الهرطقة.

وبينما حاول البابوات أن يخففوا من وطأة محكمة التفتيش فإن شارل أيدها حتى وفاته. وكان مقتنعاً بالهرطقة في الأراضي المنخفضة كانت تؤدي بها إلى الفوضى والحرب الأهلية، وصمم أن يمنع حدوث مثل هذا التطور في إسبانيا.

وأخمدت محكمة التفتيش الإسبانيّة سورة غضبها، ولكنها مدت رقعة اختصاصها القضائي في عهد شارل. فاضطلعت بعبء الرقابة على المصنفات، وقامت بتفتيش كل مخزن للكتب، وأمرت بإحراق الكتب الموصومة بالهرطقة (32). واستقصت حالات الانحراف الجنسي وعاقبت عليها: ووضعت قواعد نقاء الدم Limpieza، التي أغلقت كل طرق التمييز أمام ذرية المتحولين إلى غير دينهم Conversos وكل مَن عاقبتهم المحكمة. وكانت تنظر إلى المتصوفة نظرة قاسية، لأن بعض هؤلاء ادعوا أن صلتهم المباشرة بالله أعفتهم من حضور الصلاة في الكنيسة، وأضفى آخرون على حالات وجدهم الصوفي طعماً جنسياً مشبوهاً. وأعلن الواعظ العلماني بدرو رويز دي الكراز أن الجماع هو اتحاد بالرب حقاً، وقال الأخ الراهب فرانسيسكو أورتيز مفسراً أنه عندما يرقد مع زميلة متصوفة جميلة فإنه لا يرتكب خطيئة من خطايا الجنس، بل ينعم بمتعة روحية (33). وعاملت محكمة التفتيش برفق هؤلاء المتنورين Alumbrados واحتفظت بأقسى إجراءاتها ضد البروتستانت في إسبانيا.

وكما حدث في شمالي أوربا وقعت مناوشة أرازمية قبل معركة البروتستانت، وهتف بعض رجال الكنيسة المتحررين استحساناً لانتقادات علماء الإنسانيات لأخطاء رجال الأكليروس، ولكن أكسيمنيس وآخرين

ص: 255

كانوا قد قوموا من قبل المظالم البارزة أكثر من غيرها، قبل مجيء شارل. ولعل اللوثرية كانت قد تخللت أرض إسبانيا مع الألمان والبلجيكيين المتكلمين بالفلمنكية في الحاشية الملكية. وأدانت محكمة التفتيش ألمانيّاً في بلنسية عام 1524، لأنه جاهر بالتعاطف مع لوثر، وحكم على فلمنكي بالسجن مدى الحياة عام 1528، لتشككه في المطهر وصكوك الغفران، وأحرق في المحرقة فرانسيسكو دي سان رومان، أول مَن عرف من اللوثريين الأسبان عام 1542، بينما كان المشاهدون المتحمسون يطعنونه بسيوفهم. واعتنق جوان ديازاف كوينكا، الكالفينية في جنيف، فاندفع أخوه الفونسو من إيطاليا ليحوله مرة أخرى إلى العقيدة المحافظة، وعندما فشل الفونسو عمل على قتله (1546)(34) وسجن جوان جيل، أو أجيديو، وهو كبير قساوسة متعلم في أشبيلية، لمدة عام بسبب وعظه ضد عبادة الصور والصلاة للقديسين وفاعلية الأعمال الصالحات في الفوز بالخلاص. ونبشت عظامه بعد وفاته وأحرقت، وواصل رفيقه كبير القساوسة كونستانتينو بونس ديلافوينتي، دعايته، ومات في سجون محكمة التفتيش. وأحرق أربعة عشر من زملاء كونستانتينو، ومنهم أربعة رهبان وثلاثة نساء، وحكم على عدد كبير بعقوبات مختلفة، ودك البيت الذي اجتمعوا فيه حتى سوي بالأرض.

وتطورت جماعة نصف بروتستانتية أخرى في بلد الوليد، وهنا تورط نبلاء من ذوي النفوذ ورجال دين من أصحاب الرتب الرفيعة. ووشي بهم لمحكمة التفتيش، وقبض عليهم جميعاً تقريباً وحكم عليهم بالإدانة، وحاول البعض مغادرة إسبانيا فقبض عليهم وأعيدوا. وكان شارل الخامس وقتذاك يستحم في يوستى، فأوصى بعدم إظهار أية رحمة في معاملتهم، وقطع رأس النائبين وإحراق مَن يرفضون التوبة. وفي يوم أحد الثالوث الموافق 21 مايو سنة 1559 أعدم أربعة عشر من المحكوم عليهم أمام جمع متهلل (35). وتراجع الجميع عما قالوا إلا واحداً، وعوملوا برفق، وقطعت رءوسهم، أما أنطونيو

ص: 256

دي هرزويلو الذي رفض التوبة فقد أحرق حياً. وسمح لزوجته ليونور دي سيزنيروس البالغة من العمر ثلاثة وعشرين عاماً بالسجن مدى الحياة. وبعد أن أمضت عشر سنوات في السحن، عدلت عن إنكارها لما قالت وجاهرت بهرطقتها، وطالبت أن تحرق حية مثل زوجها فأجيبت إلى ملتمسها (36). وعرض ستة وعشرون آخرون من المتهمين للحرق أحياء في اليوم الثامن من أكتوبر سنة 1559، أمام حشد مكون من 200. 000 شخص، يرأسه فيليب الثاني. وحرقت ضحيتان وهما حيتان وخنق عشرة.

وكان بارتلومي دي كارانزا، رئيس أساقفة طليطلة ورئيس أساقفة إسبانيا، أشهر فريسة وقعت في براثن محكمة التفتيش في هذه الفترة. وكان باعتباره من الكومنيكان قد قام بنشاط كبير من مطاردة الهراطقة والإيقاع بهم، وعينه شارل مبعوثاً له في مجلس ترنت، وأرسله إلى إنجلترا لحضور زواج فيليب والملكة ماري. وعندما انتخب رئيساً للأساقفة (1557) كان الاختيار بالإجماع ما عدا صوته. ولكن بعض "البروتستانت" الذين قبض عليهم في بلد الوليد شهدوا بأن كارانزا كان قد تعاطف سراً مع آرائهم، ووجد أنه كان قد راسل المصلح الديني الإسباني الإيطالي جاون دي فالديس، واتهمه عالم اللاهوت ذو النفوذ ملشيور كانو بأنه كان يعضد العقيدة اللوثرية في التزكية بالإيمان. ولم يقبض عليه إلا بعد سنتين من ارتفاع شأنه ووصوله إلى أعلى منصب كنسي في إسبانيا، ونستطيع أن نحكم من هذا على مدى قوة محكمة التفتيش. وظل سبعة عشر عاماً معتقلاً في سجن أو غيره، بينما كانت تصرفاته في حياته ورسائله تتعرض للفحص والاستقصاء في طليطلة وروما. وأعلن جريجوري الثالث عشر أنه "مشتبه فيه بشدة" بالهرطقة وأمره بأن ينكر ستة عشر ادعاء، وأوقفه لمدة حمس سنوات عن مباشرة وظيفته. وتقبل كارانزا الحكم في ذلة،

وحاول أن

ص: 257

يؤدي الكفارات التي فرضت عليه، ولكنه مات في خلال خمسة أسابيع بعد أن أنهكه السجن والإذلال (1556).

وبموته زال خطر البروتستانتية عن إسبانيا، وحدث أن أعدم حوالي 200 شخص بين عامي 1551 و 1600، لما نسب إليهم من هرطقات بروتستانتية - أي بواقع أربعة أشخاص كل عام. وقد تجمد طبع الناس، الذي كان قوامه من كراهية المغاربة واليهود، التي تأصلت جذورها قروناً طويلة، في عقيدة محافظة لا تتزعزع، وامتزجت الكاثوليكية وحب الوطن، ووجدت محكمة التفتيش أن من اليسير أن تسحق، في خلال جيل أو جيلين، المغامرة الإسبانيّة العابرة التي اتسمت بفكر مستقل.

جـ- الإمبراطور يموت

1556 -

1558

وقام شارل الخامس في الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 1556 بالدخول إلى إسبانيا لآخر مرة. واستغنى في برجوس عن خدمات معظم الذين كانوا قد عملوا معه ومنحهم مكافآت، وودع شقيقته، ماري الهنغارية والينورا، أرملة فرانسيس الأول. وأبديا رغبتهما في مشاركته اعتزاله في الدير، ولكن القواعد منعتهما، فاتخذا لهما مسكناً في موضع لا يبعد كثيراً عن هذا الشقيق الذي يبدو أنه لم يكن هناك مَن يحبه وقتذاك سواهما. وبعد أن أقيمت له عدة احتفالات في الطريق، وصل قرية جوانديلا في وادي بلازنسيا، على مسيرة نحو 120 ميلاً غربي مدريد، ولبث هناك عدة شهور، ريثما أكمل العمال الحجرات التي أمر بتجهيزها وتأثيثها في دير يوستى (سانت جوستوس) على مسيرة ستة أميال. وعندما قام بالمرحلة الأخيرة من رحلته (3 فبراير سنة 1557)، لم ينتقل إلى خلوة في دير بل إلى قصر ريفي فسيح، اتسع لإقامة المقربين من تابعيه الخمسين. وابتهج الرهبان بوجود ضيف عظيم مثله، بيد أنهم اكتأبوا عندما

ص: 258

وجدوا أنه ليس لديه النية في أن يشاركهم حميتهم ونظامهم، فقد كان يأكل ويشرب كميات كبيرة، كما كان يفعل من قبل - أي بإفراط، وكانت عجات السردين وسجق الأسترمادورا وفطائر ثعبان السمك، ولحم الحجل المملح والديوك الخصية السمينة وأنهار من النبيذ والجعة، تختفي في كرشه الإمبراطوري، واضطر أطباؤه إلى أن يصفوا له كميات كبيرة من السنامكي والراوند للتخلص من الزيادة في وزنه.

وبدلاً من أن يتلو شارل تسابيحه وأوراده ومزاميره كان يقرأ رسائل من ابنه أو يملي رسائل له، وكان يعرض عليه النصيحة في كل وجه من وجوه الحرب واللاهوت والحكم. وأصبح في العام الأخير من عمره متعصباً متطرفاً قاسياً، وأوصى بتوقيع عقوبات وحشية "لاستئصال جذور" الهرطقة، وأسف لأنه كان قد سمح للوثر بالهرب منه في ورمس. وأمر بجلد أي امرأة مائة جلدة إذا اقتربت من أسوار الدير قاب قوسين أو أدناه (37). وراجع وصيته لكي ينص فيها على إقامة 30. 000 قداس من أجل طمأنينة روحه. ويجب ألا نحكم عليه من أعماله في أيام الشيخوخة هذه، ولعل لوثة خبل قد انتقلت إليه بالوراثة من أمه.

وفي أغسطس عام 1558 انقلب النقرس الذي يشكو منه إلى حمى ملتهبة. وعاودته هذه بصورة متقطعة، وأخذت تشتد يوماً بعد يوم، وظل شهراً يتعذب بكل آلام النزع الأخير قبل أن تزهق روحه (21 سبتمبر سنة 1558). وفي عام 1574 أمر فيليب بنقل الجثة إلى الأسكوريان حيث يرقد تحت نصب تذكاري فخم.

وكان شارل الخامس أكبر فاشل في عصره، بل إن فضائله كانت أحياناً بؤساً وشقاء للإنسانية. ومنح إيطاليا السلام، ولكن لم يتم هذا إلا بعد مرور عقد من الزمان. تعرضت فيه للتخريب، وبإخضاعها

ص: 259

هي والبابوية لإسبانيا، وجف عود النهضة الإيطالية تحت رئاسته الكئيبة، وهزم فرانسيس وأسره، ولكن ضاعت منه في مدريد فرصة ملكية ليبرم معه معاهدة كانت حرية بأن تنقذ ما كل الوجوه ومائة ألف روح. وعاون في إعادة سليمان إلى بلاده في فيينا، وصد بارباروسا في البحر الأبيض المتوسط، وقوى مركز آل هايسبورج، ولكنه أضعف الإمبراطوريّة، وفقد اللورين وسلم بورغنديا، وأحبط أمراء ألمانيا محاولة لتركيز السلطة هناك، وكانت الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة منذ عهده نسيجاً واهياً، تنتظر نابليون ليحكم بإعدامها، وفشلت جهوده لسحق البروتستانتية في ألمانيا، وترك الأسلوب الذي انتهجه في قمعها في الأراضي المنخفضة تراثاً محزناً لابنه. وكان قد وجد المُدن الألمانية مزدهرة وحرة، وتركها ترزح ألماً تحت وطأة إقطاع رجعي، وعندما جاء إلى ألمانيا كانت تنبض بالحياة، فيها أفكار ونشاط تبز بهما أية أمة أخرى في أوربا وعندما تنازل عن عرشه كانت ضعيفة واهنة روحياً وفكرياً، وظلت جدباء مدى قرنين. وكانت السياسة التي انتهجها في ألمانيا وإيطاليا سبباً واهياً لما لحقهما من ضعف، أما في إسبانيا فكان عمله هو الذي سحق حرية البلديات وقوتها، وكان حرياً بأن يبقي إنجلترا في حظيرة الكنيسة بإقناع كاثرين أن تسلم بحاجة هنري إلى وريث، وبدلاً من أن يفعل ذلك أجبر كليمنت على اتخاذ موقف فيه تذبذب، يؤدي إلى الخراب.

ومع ذلك فإن استبصارنا المتأخر هو الذي يرى أخطاءه وجسامتها، وفي وسع حسنا التاريخي أن يصفح عنها باعتبارها متأصلة بجذورها في قيود بيئته العقلية وفي أوهام العصر العاتية. وكان اقدر سياسي بين معاصريه، ولكنه لم يكن كذلك إلا بمعنى أنه عالج بشجاعة أعمق موضوعات النزاع في أوسع مدى وصلت إليه. وكان رجلاً عظيماً حطت من شأنه مشكلات عصره وحطمته.

ص: 260

ونفذت إلى حكمه الطويل حركتان أساسيتان، وكانت أعظمهما نمو القومية في عهد ملكيات تنزع إلى المركزية، وفي هذه لم يكن له فيها نصيب. وأعظمها من الناحية الدرامية ثورة دينية، حفزت إليها الانقسامات والمصالح القومية والإقليمية. وقبلت شمالي ألمانيا وإسكنديناوة اللوثرية، أما جنوب ألمانيا وسويسرة والأراضي المنخفضة فقد انقسمت إلى طائفتين بروتستانتية وكاثواليكية، وأضحت إسكوتلندة كاللفينية مشيخية، وإنجلترا كاثوليكية أنجيلكانية أو بيوريتانية كالفينية. وظلت إيرلندة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال موالية لبابوية بعيدة أو مهذبة. ومع ذلك نشأ تكامل واهٍ، وسط ذلك الانقسام المزدوج: فقد وجدت الولايات المستقلة المعتزة بنفسها أنها في حاجة إلى بعضها البعض، لضمان استقلالها، كما لم يحدث من قبل، وأنها مرتبطة بصورة متزايدة في نسيج اقتصادي، وأنها تؤلف مسرحا رحيباً لمناهج سياسية متشابكة العلاقات، وحروب وقانون بأدب وفن. كانت أوربا التي عرفها شبابنا تتخذ شكلها.

ص: 261