الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والثلاثون
الأدب في عصر رابليه
1517 - 1564
1 -
في صناعة الكتب
اتخذ حافز الإعلان عن النفس صورة جديدة بعد جوتنبرج، هي رغبة الكتاب الملحة في طبع مؤلفاتهم. على أن هذا الحافز كان غالي الثمن، لأن حتى التأليف الوحيد المعروف آنئذ كان "الامتياز الخاص" الذي تمنحه السلطات المدنية أو الكنسية لطبع كتاب بعينه، وهو منحة استثنائية، بدونها كان في استطاعة الناشرين المتنافسين، حتى في البلد الواحد، أن يسطوا على أثر حين يشاءون، وكان الناشر عادة-إذا راج الكتاب الذي ينشره-ينقد المؤلف أتعاباً، ولكن المطبوعات الوحيدة تقريباً التي غلت من الربح ما يكفي لحصول المؤلف على أتعابه هي الروايات الشعبية، وقصص السحر أو المعجزات، والنشرات الجدلية التي كان شرط رواجها أن تحشي بالمطاعن. أما الكتب العلمية والثقافية فكانت محظوظة إن غطت نفقاتها. وكان الناشرون يشجعون المؤلفين على إهداء هذه الآثار إلى كبار رجال الدولة أو الكنيسة أو إلى أثرياء الأعيان والأشراف بأمل الحصول على منحة لقاء هذا الزلفى.
واجتمعت الطباعة والنشر عادة في بيت واحد. وكان الرجل أو الأسرة المشتغلان بهما عنصراً حيوياً في مدينتهما وجيلهما. أما الشهرة عن طريق الطباعة وحدها فقط فكانت نادرة، وقد أفلح كلود جرامون الباريسي
في إحرازها بنبذة حرف الطباعة "القوطي" الذي اتخذه الطباعون الألمان نقلاً عن حروف المخطوطات، وبتصميمه حروف طباعة "رومانيا"(حوالي 1540) مبنياً على خط الكتابة الكارولنجي الصغير المنتشر في القرن التاسع كما طوره الإنسانيون الإيطاليون والمطبعة الألدية. واختار الطباعون الفرنسيون والإنجليز هذا الحرف الروماني، أما الألمان فقد تمسكوا بالحرف القوطي حتى القرن التاسع عشر. وما زالت أنماط من حروف الطبع تحمل اسم جرامون.
وتزعمت ألمانيا العالم في ميدان النشر. فقامت بيوت نشر نشيطة في بازل وستراسبورج وأوجزبورج ونورمبرج وفتنبرج وكولونيا وليبزج وفرانكفورت ومجدبورج. وكان الناشرون وتجار الكتب يلتقون مرتين كل عام في سوق فرانكفورت، فيشترون الكتب ويبيعونها ويتبادلون الأفكار. وأصدر طباع فرانكفورتي أول جريدة (1548) -وكانت ورقة توزع في السوق وتروي آخر الأحداث. وأصبحت أنتورب مركزاً للنشر حين عمد كرستوفر بلانتن إلى دكان التجليد الذي يملكه فحوله إلى مطبعة (1555)، وبعد عامين أرسل 1200 مجلد إلى سوق فرانكفورت. أما في فرنسا فكانت ليون مركزاً لصناعة الكتاب، وأتاحت لها مائتان من مؤسسات الطباعة أن تتحدى باريس بوصفها العاصمة الفكرية للبلاد.
وكان إتيين دولية الطباع والأديب الإنساني شعلة ليون المتأججة بالثورة. ولد في أورليان، وتلقى علومه في باريس، ثم أولع بشيشرون. "إنني لا أستحسن سوى المسيح وتللي". ولما سمع بأن كفر يحظى بحرية غير عادية في بادوا سارع إليها، وهناك تبادل الشعر الساخر البذيء مع الشكاكين من المتأثرين بفلسفة ابن رشد. وفي تولوز أصبح الروح المحركة لجماعة حرة التفكير تهزأ البابويين واللوثريين على حد سواء، فلما نفي
قصد ليون فيها واكتسب سمعة بكتابات الأشعار والمقالات، ولكنه قتل طباعاً أثناء احتدام الجدل بينهما، ففر إلى باريس حيث حصلت له مارجريت النافارية على عفو الملك. وهناك صادق مارو ورابليه، ثم تشاجر معهما. ولما عاد إلى ليون أنشأ مطبعة وتخصص في نشر الكتب المهرطقة، واستدعته محكمة التفتيش، وحاكمته وسجنته، فهرب من السجن، ولكنه قبض عليه أثناء زيارته ابنه خفية، وفي 3 أغسطس 1546 أحرق حياً.
أما أبرز الناشرين الفرنسيين فكانوا آل إتيين، وهم أسرة ثابرت على الطباعة مثابرة آل فوجير على التمويل. بدأ هنري إتيين مطبعته في باريس حوالي 1500، وواصل العمل من بعده أبناؤه فرانسوا وروبير وشارل، وإلى هؤلاء الأربعة تدين فرنسا بأفخر طبعاتها للآداب اليونانية واللاتينية. وصنف روبير قاموساً للغة اللاتينية (1532) أصبح سنداً أساسياً لجميع القوامس اللاتينية الفرنسية التالية له. وغدت اللاتينية لغة ثانية لآل إتيين يتكلمونها بانتظام داخل الأسرة. وامتدح فرانسوا الأول عملهم وأيد مارجريت في الدفاع عنهم ضد السوربون، وحضر في إحدى المناسبات اجتماعاً للفيف من الأدباء التقوا في حانوت روبير. وفي رواية مشهورة أن الملك ظل ينتظر في صبر ريثما يفرغ روبير من تصحيح تجربة طباعة عاجلة. وقدم فرانسوا المال الذي أتاح لروبير تكليف جرامون بتصميم وصب طقم طباعة جديداً للحروف اليونانية فيه من الجمال ما جعله نموذجاً لمعظم الطباعة اليونانية التالية. واستنكرت السوربون تلهي الملك بالثقافة الهيلينية، وقال أحد أساتذتها يحذر "البرلمان"(1539)"إن نشر المعرفة اليونانية والعبرية سيعمل على تدمير الدين كله". أما العبرية فكان رأي أحد الرهبان فيها "أنه من المعلوم جيداً أن كل من تعلموا العبرية أصبحوا من فورهم يهوداً"(1). ولما لاحقت السوربون روبير وأرهقته طوال ثلاثين عاماً نقل مطبعته إلى
جنيف (1552) وهناك أمام اللثام سنة وفاته (1559) عن ميوله البروتستنتية بنشره طبعة من "مبادئ كالفن". واحتفظ ابنه هنري إتيين الثاني بسمعة الأسرة إذ أصدر في باريس طبعات جميلة من الآداب القديمة، وصنف معجماً للغة اليونانية (1572) في خمسة مجلدات لا تزال إلى يومنا أكمل المعاجم اليونانية قاطبة. غير أنه أثار حقد السوربون عليه بنشره كتاباً سماه "دفاع عن هيردوت"(1566) أشار فيه إلى النظائر من المعجزات المسيحية والعجائب الغريبة التي رواها المؤرخ اليوناني ولجأ هو الآخر إلى جنيف، ولكنه وجد نظام الحكم الكالفني لا يقل تعصباً عن السوربون.
وكثير من مطبوعات هذا النصر نماذج تحتذي في الطبع والحفر والتجليد، فقد حل محل الأغلفة نصف المعدنية، الثقيلة، الشائعة في القرن الخامس عشر، أغلفة خف وزناً وأرخص ثمناً مصنوعة من الجلد أو الورق المتين أو الرق. ومن أمثلة هذا التقدم أن جان جرولييه دسيرفيير، وزير مالية فرنسا في 1534، كلف المجلدين بتجليد كتبه البالغ عددها 3. 000 بجلد الماعز المشرقي تجليداً بلغ من الأناقة حداً يضعها في صف أجمل الكتب إطلاقاً. وغدت المكتبات الخاصة الآن لا حصر لها، وفتحت المكتبات العامة في كثير من المدن-مثل كركاو (1517)، وهامبورج (1529)، ونورمبرج (1538)، وفي عهد فرانسوا الأول نقلت المكتبة الملكية القديمة التي جمعها شارل الثامن من اللوفر إلى فونتنبلو، وأثرتها مجموعات جديدة من الكتب وأغلفة فاخرة، وأصبحت هذه "المكتبة الملكية" بعد الثورة الفرنسية "المكتبة الأهلية". وقد دمر كثير من المكتبات الديرية في حركة الإصلاح البروتستنتي، ولكن الكثير منها انتقل إلى أيدي الأفراد ووجد كل ثمين فيها طريقه إلى دور الكتب العامة. لقد ضاع في التاريخ الكثير، ولكن احتفظ بالكثير جداً مما له قيمته وليس في استطاعة فرد ولو أوتي مائة عمر أن يستوعبه.
2 - المدارس
كان من الطبيعي أن تعمد الثورة الفرنسية حيناً إلى تمزيق نظام غربي أوربا التعليمي لأنه جلّه كان خدمة تابعة للكنيسة، ولم يكن في الإمكان تحدي نفوذ رجال الدين التقليديين بنجاح ما لم تحطم هيمنتهم على التعليم. وقد أنحى لوثر باللوم على مدارس ذلك العهد الثانوية التي تركز على تعليم اللغات القديمة، وقال إنها تعلم الطالب "من اللاتينية الرديئة ما يكفي لإعداده قسيساً وتمكينه من تلاوة القداس
…
ومع ذلك يظل طوال حياته جهولاً مسكيناً لا يلح لشيء" (2). أما الجامعات فبدت له مغامرات للقتلة، وهياكل للإله ملخ، ومجامع للفساد "لم يظهر على الأرض"
…
ولن يظهر
…
ما هو شر منها. " وخلص من هذا إلى أنها "لا تصلح إلا لهدمها وتسويتها بالتراب" (3). واتفق ملانكتون مع لوثر في الرأي، لأن الجامعات تحول طلابها إلى الوثنية (4). وتقبل الآباء الذين يضنون بنفقات تعليم أبنائهم، رأي كارلشتات، و "أنبياء" زفيكالو، والقائلين بتجديد المعمودية، في غير تردد-وهو أن التعليم زخرف لا غناء فيه، وخطر على الأخلاق، ومعوق للخلاص. وكانت حجة بعض الآباء أنه ما دام التعليم الثانوي موجهاً إلى حد كبير لإعداد الطلاب ليكونوا قساوسة، وما دامت هذه المهنة قد بارت سوقها، إذن فليس من المنطق أن يبعثوا بأبنائهم إلى الجامعات.
كان دعاة الإصلاح البروتستنتي يتوقعون أن يفرد جانب من دخل الأملاك الكنسية التي استولت عليها الدولة لإنشاء مدارس جديدة تحل محل تلك الآخذة في الزوال عقب إغلاق الأديار. ولكن "الأمراء والأشراف" على حد قول لوثر "شغلوا بشئون عالية وهامة- شئون كهف الخمور والمطبخ والمخدع- فلم يعد لديهم متسع من الوقت" لمد يد المعونة إلى التعليم. وكتب يقول في 1524 "إن المدارس في الولايات الألمانية ترك الآن في كل مكان لتصبح خراباً يباباً"(5). وما وافى عام 1530
حتى كان هو وملانكتون يرثيان ما أصاب الجامعات الألمانية من تدهور وانحلال (6). ففي إرفورت هبط عدد الملتحقين بالجامعة من 311 في عام 1520 إلى 120 في عام 1521، وإلى 34 في عام 1524، وفي روستوك هبط العدد من 300 في عام 1517 إلى 15 في عام 1525، وفي هيلدبرج كان في ذلك العام من الأساتذة عدد أكثر ممن كان فيها من الطلاب. وفي 1526 لم يلتحق بجامعة بال سوى خمسة طلاب (7).
وجاهد لوثر وملانكتون لإصلاح ما فسد. فناشر لوثر في "رسالته إلى العمد"(1524) السلطات الزمنية أن تنشئ المدارس. وفي عام 1530 تخطى زمانه بكثير فاقترح أن يقرر التعليم الأولي إجبارياً وأن يوفر للأطفال على حساب الدولة (8). أما الجامعات التي أعيد تأسيسها تدريجياً تحت الرعاية البروتستنتية فقد أوصي ببرنامج دراسة لها يتركز حول الكتاب المقدس، ولكنه يحوي أيضاً تعليم اللاتينية واليونانية والعبرية والألمانية والقانون والطب والتاريخ و "الشعراء والخطباء
…
الوثنيين منهم أو المسيحيين (9)". أما ملانكتون فقد جعل من إحياء التعليم مهمته الأولى، ففتح الكثير من المدارس تحت قيادته وبتشجيعه. وما وافت نهاية القرن السادس عشر حتى أصبح في ألمانيا 300 مدرسة. ثم وضع "خطة مدرسية" (1527) لتنظيم المدارس والجامعات، وألف كتباً مدرسية في النحو اللاتيني واليوناني، وفي البيان والمنطق وعلم النفس والأخلاق واللاهوت. ودرب آلاف الطلاب على الاضطلاع بالتعليم في المعاهد الجديدة. وقد لقبه وطنه بمعلم ألمانيا اعترافاً بجميله. وانتقلت جامعات شمالي ألمانيا الواحدة تلو الأخرى إلى أيد بروتستنتية: فتنبرج (1522)، وماربورج (1527)، وتوبنجن (1535)، وليبزج (1539) وكونجزبرج (1558). وطرد الأساتذة أو الطلاب المعارضون "للعقيدة الإنجيلية الصادقة الصحيحة" كما قال أولريش دوق فورتمبرج. ومنع الكالفنيون من دخول الكليات اللوثرية، والبروتستنت من دخول الجامعات التي لم تزل في أيدي الكاثوليك. ويمكن القول بصفة
عامة إنه بعد صلح أوجزيورج (1555) حرم على الطلبة الألمان أن يختلفوا إلى المدارس التابعة لمذهب آخر غير الذي يدين به أمير المقاطعة (10).
هذا وقد أتيح للتعليم الجديد أن يحرز تقدماً هائلاً على يد يوهان شتروم حين أنشأ مدرسة ثانوية "جمنازيوم" في ستراسبورج (1538)، ونشر في ذلك العام نبذة كان لها نفوذ كبير عنوانها "في فتح مدارس الآداب بالطريقة الصحيحة". وكان ككثيرين غيره من زعماء الفكر في وسط أوربا قد تلقى علومه على يد "إخوان الحياة المشتركة". ثم قصد لوفان وباريس حيث التقى برابليه. ولعل رسالة جارجانتوا الشهيرة في التعليم صدى لتأثير الرجلين المتبادل. ومع أن شتروم في "التقوى المقترنة بالحكمة" الهدف الأول للتعليم، فإنه أكد تأكيداً متزايداً أهمية دراسة اليونانية واللاتينية وآدابهما، وقد انتقلت هذه العناية والدقة في تعليم الآداب القديمة إلى مدارس ألمانيا الثانوية التالية، فربت جيش العلماء والأدباء الذي غزا العالم القديم وقتله بحثاً وتنقيباً في القرن التاسع عشر.
أما مدارس إنجلترا قد قاست أكثر حتى من مدارس ألمانيا نتيجة للثورة الدينية. وذابت مدارس الكاتدرائيات والأديار والنقابات والأوقاف في لهيب الهجوم على رذائل الكنيسة وتراثها. وكان أكثر طلاب الجامعات يفدون إليها من هذه المدارس، فلما توقف هذا السيل لم تخرج أكسفورد سوى 173 من حملة بكالوريوس الآداب، وكمبردج سوى 191 في عام 1548، وفي عامي 1547 و1550 لم تخرج أكسفورد منهم أحداً. (11) وأحس هنري الثامن بالمشكلة، ولكن حاجاته إلى المال للحرب أو لزيجاته العديدة حددت من قدرته، فاكتفى بإنشاء كلية ترنتي بكمبردج (1546) وبتمويل كراس بمنح ملكية في اللاهوت، والعبرية واليونانية، والطب، والقانون. وفي هذه الفترات قامت الهيئات الخاصة الخيرية بإنشاء كلية كوربس كرستي، وكلية كرايست تشيرس، وكلية سانت جون، وكلية ترنتي
بأكسفورد، وكلية ماجدلين بكمبردج. وقامت اللجنة الملكية التي أوفدها كرومويل إلى أكسفورد وكمبردج (1535) لتستولي الملك على براءاتهما وأوقافهما بإخضاع الكلية والمنهج للإشراف الحكومي. وهكذا قضى بضربة عاجلة على سلطان الفلسفة الكلامية في إنجلترا، وذرت في الريح-حقيقية لا مجازاً-أعمال دنزسكوتس (12)، ونحن القانون الكنسي جانباً، وشجعت الدراسات اليونانية واللاتينية، وصبغ المنهج بالصبغة العلمانية إلى حد كبير-ولكن الدجماطيقية لم تمت. فقد اشترط قانون صدر في 1553 على جميع طلاب الدرجات الجامعية أن يتعهدوا كتابة بقبول "مواد الدين الانجليكانية".
أما في فرنسا وفلاندر الكاثوليكيتين فقد تدهورت الجامعات لا من حيث أوقافها وعدد طلابها، بل من حيث قوة الحياة الفكرية وحريتها. وفتحت جامعات جديدة في رامس ودواي وليل وبيزانسون. ونافست جامعة لوفان جامعة باريس في عدد الطلاب (5000)، وفي الدفاع عن لون من الكاثوليكية التقليدية بداً متطرفاً حتى في نظر البابوات. وكان طلاب جامعة باريس كثيرين (6000)، ولكنها لم تعد تجتذب أي عدد مذكور من الطلاب الأجانب أو تتسامح كما كانت تفعل إبان عنفوانها في القرن الثالث عشر مع خميرة الأفكار الجديدة المنشطة. أما كلياتها فسيطرت عليها كلية اللاهوت-السوربون-حتى كاد يصبح هذا الاسم مرادفاً لاسم الجامعة. ورأى مونتيني في منهج اللاهوت والآداب القديمة المنقاة نمطاً سطحياً من الاستذكار والامتثال. أما رابليه فلم يتعب من ذم الشكليات المدرسية والتدريبات المنطقية السائدة في السوربون، وضياع سني الدراسة في مناظرات أبعدت في حرص عن الاهتمام الفعلي بالحياة الإنسانية. وأما كليمان مارو فقد صرح بقوله "إنني على استعداد للتضحية عن طيب خاطر بنصيبي في الجنة لو أن هؤلاء الوحوش الكبار (أي
الأساتذة) لم يدمروا شبابي" (13). ووجهت قوة الجامعة وسلطانها كله، لا لمقاومة البرتستنت الفرنسيين فحسب، بل الإنسانيين الفرنسيين أيضاً.
وبذل فرانسوا الأول ما وسعه لحماية الثقافة الفرنسية من مثبطات المحافظين المنبعثة من السوربون. وكان قد شرب من خمر إيطاليا والتقى ببعض رجال الكنيسة ممن تعمقوا أدب اليونان والرومان. وبحض من جيوم بوديه، والكردينال جان دبليه، ومارجريت المثابرة في غير كلل-قدم المال لإنشاء مدرسة مستقلة عن الجامعة (1529)، متفرغة بوجه خاص للدراسات الإنسانية. وبدئ بتعيين أربعة من "الأساتذة الملكيين" اثنان منهم لليونانية واثنان للعبرية، وسرعان ما أضيفت كراس للاتينية والرياضات والطب والفلسفة. وكان التعليم فيها مجاناً (14). وأصبحت هذه "الكلية الملكية" التي عدل اسمها فيما بعد إلى "كلية فرنسا" باعثة النشاط في الدراسات الإنسانية الفرنسية، وملاذ العقل الفرنسي الذي يجمع بين الحرية والنظام.
أما أسبانيا فقد قيض لها جامعات ممتازة برغم تحمس الدولة الكاثوليكية التقليدية، فكان عددها أربع عشرة عام 1553، شملت ما أسس منها حديثاً في طليطلة وسنتياجو وغرناطة. أما جامعة سلامنكا التي ضمت سبعين أستاذاً و6778 في عام 1584 فتثبت للمقارنة بأية جامعة أخرى من جامعات ذلك العهد. وأما جامعات إيطاليا فقد واصلت ازدهارها، فكان بجامعة بولونيا في 1543 سبعة وخمسون أستاذاً بكلية الآداب، وسبعة وثلاثون بكلية الحقوق، وخمسة عشر بكلية الطب. وكانت بادوا مقصد الطلاب المغامرين الوافدين من شمال الألب. وقدمت بولندة الدليل على عصرها الذهبي بقولها 15. 338 طالباً دفعة واحدة في جامعة كركاو (15)، وفي بوزنان خصص "اللوبرانسكياموم" الذي أنشأه الأسقف يوحنا لوبرانسكي (1519) للأبحاث والدراسات الإنسانية.
ويمكن القول على الجملة أن الجامعات في البلاد الكاثوليكية أوفر حظاً منها في البلاد البروتستنتية في هذا القرن العنيف.
على أن المعلم لم يلق ما هو خليق به من تقدير، وكان مغموط الأجر إلى حد أليم. كان الأستاذ في "الكلية الملكية" بفرنسا يتقاضى 200 كراون في العام (5000 دولار؟)، ولكن هذا كان استثناء نادراً. وكان الأساتذة في جامعة سلامنكا يختارهم الطلاب بعد فترة اختبار يعرض فيها الأساتذة المتنافسون عينات من محاضراتهم. وكان أكثر التعليم بالمحاضرات، وأحياناً تضفي عليها الحياة بالمناظرات. وكان أخذ المذكرات يحل عند كثير من الطلبة محل الكتب الدراسية، أما القواميس فنادرة، وأما المعامل فمجهولة علمياً إلا للمشتغلين بالكيمياء القديمة. وكان الطلاب يسكنون حجرات رخيصة سيئة التدفئة ويقعون فريسة للمرض بسبب قذارة الطعام ونقصه. وكان كثير منهم يشتغلون لتغطية نفقات الكلية. وتبدأ الفصول في السادسة صباحاً وتنتهي في الخامسة بعد الظهر. وكان النظام صارماً، يجوز بمقتضاه جلد الطلبة حتى من قارب منهم التخرج. وكان الطلاب يلتمسون الدفء في مشاجرات الشوارع وفي كئوس النبيذ وأحضان البغايا إذا تيسر لهم المال. وهكذا كانوا بطريقة أو بأخرى يحصلون قسطاً محدوداً من التعليم.
أما فتيات الطبقات الدنيا فظللن أميات، وكان كثيرات من بنات الطبقات الوسطى يظفرن بتعليم مدرسي متواضع في أديار الراهبات، أما الفتيات الغنيات فلهن مربون خصوصيون. وقد فاخرت هولندة بعدة سيدات يمكن مغازلتهن باللاتينية، وربما يستطعن تصريف الأفعال خيراً من تصريف الأسماء والضمائر والصفات. واشتهرت في ألمانيا زوجة يوتنجر وشقيقات بركهيمر وبناته بثقافتهن. وفي فرنسا كانت النساء المحيطات بالملك فرانسوا يجملن عبارات الغزل بمحسنات يقتبسنها من الآداب القديمة.
وفي إنجلترا كانت بعض النساء المثقفات-كبنات مور، وجين جراي، و "ماري الدموية"، وإليزابيث-مضرب المثل في سعة المعرفة والإطلاع.
وينتمي إلى هذا العصر معلمان شهيران. أما أقلهما شأناً فهو السير توماس إليوت، الذي وضع في كتابه "الحاكم"(1513) خطة تعليم تيسر إعداد الطلاب العريقي النسب للاشتغال بشئون الحكم. وقد بدأ كتابه بنقد الفجاجة الثقافية التي يتردى فيها نبلاء الإنجليز، وقارنهما بما روي عن ثقافة رجال الأعمال عند اليونان والرومان، ونقل ما روي عن الفيلسوف الكلبي ديوجين "حين رأى رجلاً جاهلاً جالساً على حجر فقال: انظر كيف يجلس حجر على حجر" (16).
وفي رأي إليوت أن الصبي متى بلغ السابعة يجب أن يعهد به إلى مرب يختار بعناية، فيعلمه مبادئ الموسيقى والتصوير والنحت، حتى إذا ناهز الرابعة عشرة تعلم وصف الكون والمنطق والتاريخ، ودرب على المصارعة والصيد والرمي بالقوس الطويل والسباحة والتنس، دون كرة القدم لأنها لعبة سوقية "ليس فيها غير الثورة الوحشية والعنف الظاهر". ويجب أن يعلم الصبي الآداب القديمة في كل مرحلة من مراحل تعليمه-فيبدأ بالشعراء، ثم المؤرخين، ثم القواد، ثم الفلاسفة، ويضيف إليوت إلى هذا الكتاب المقدس، وتكاد الإضافة تبدو فكرة لاحقة، وهو بهذا يعكس الخطة التعليمية التي وضعها لوثر. ويفضل إليوت الآداب القديمة على الكتاب المقدس برغم توكيداته. فهو يقول "رباه، يا لها من حلاوة لا نظير لها في كلمات كتب أفلاطون وشيشرون، وفي مادة هذه الكتب التي جمعت بين الرزانة والعذوبة، واقترنت فيها الحكمة الرائعة بالبلاغة الإلهية، والفضيلة المطلقة باللذة التي لا تصدق"، وهكذا "فإن هذه الكتب تكاد تكفي في ذاتها لإعداد الحاكم الكامل الممتاز (17) ".
أما ثاني المعلمين وهو جوان فيف، أكثر الأدباء الإنسانيين إنسانية،
فقد اختط هدفاً أوسع وترسم طريقاً أرحب. ولد في بلنسية في 1492 ورحل عن أسبانيا وهو في السابعة عشرة، ولم يرها بعد ذلك قط. وقد درس في باريس فترة أتاحت له حب الفلسفة واحتقار الفلسفة الكلامية، وحين بلغ السادسة والعشرين ألف أول تاريخ حديث للفلسفة. وفي السنة ذاتها تحدى الجامعات بهجوم على الطرائق السكولاستية في تعليم الفلسفة. فقد شعر بأن خطة النهوض بالفكر بالطريق المناظرة لا تشجع إلا الشجار العقيم حول مسائل لا وزن لها. ورحب إرزمس بالكتاب وأوصى مور بأن يقرأه، وقال في أدب إنه يخشى أن "يحجب .. فيف .. إرزمس. (18) " وعين فيف أستاذاً للدراسات الإنسانية في لوفان (1519) ربما بنفوذ إرزمس. ثم نشر بتشجيع إرزمس طبعة من كتاب أوغسطين "مدينة الله" عليها شروح ضافية وأهداها إلى هنري الثامن، وتلقى منه رداً رأى فيه من الود ما حمله على الانتقال إلى إنجلترا (1523). ورحب به مور والملكة كاترين التي تنتمي إلى وطنه (أسبانيا). وعينه هنري واحداً من أساتذة الأميرة ماري الخصوصيين. وربما ألف كتابه "في تربية الأطفال" لإرشادها (1523). وسارت الأمور على ما يرام إلى أن أعرب عن استنكاره لطلب هنري فسخ زواجه. فأوقف هذا راتبه واعتقله في بيته ستة أسابيع. ولما أطلق سراحه عاد إلى بروج (1528) وهناك أنفق سني حياته الباقية.
وإذا ظل مثالياً وهو في السابعة والثلاثين فقد وجه إلى شارل الخامس نداءً إرزمياً يدعوه فيه إلى إنشاء محكمة دولية للتحكيم بديلاً عن الحرب (1529) وبعد عامين أصدر أكبر كتبه، وهو أكثر رسائل النهضة الأوربية التعليمية تقدماً، وفيه دعا إلى تعليم موجه إلى "ضروريات الحياة، وإلى شيء من النهوض سواء بالجسد أو العقل، وإلى تربية الاحترام وزيادته (19) " وقال
إن على التلميذ أن يدخل المدرسة "كأنه يدخل هيكلاً مقدساً" ولكن دراسته فيها يجب أن تعده ليكون مواطناً كريماً نافعاً، وأن تغطي هذه الدراسات الحياة بأسرها مع مراعاة اتصالها بعضها ببعض كما تؤدي وظائفها في الحياة. ويجب أن تدرس الطبيعة كما تدرس الكتب، فالأشياء تعلم الطالب أكثر مما تعلمه النظريات، فليلاحظ إذن العروق والأعصاب والعظام وسائر أعضاء الجسم في تشريحها وفي أداء وظائفها. وليسأل المزارعين والصيادين والرعاة والبستانيين، وليفد من خبراتهم، فإن هذه المعلومات التي يلتقطها ستكون أنفع له من "الثرثرة السكولاستية التي أفسدت كل فروع المعرفة باسم المنطق"(20). وينبغي أن تظل الدراسات القديمة المنقاة خصيصاً للشباب جزاءاً حيوياً من المنهج، ولكن يجب أن يدرس أيضاً التاريخ الحديث والجغرافيا. كذلك يجب أن تدرس اللغات القومية كما تدرس اللاتينية، وكل هذه بالطريقة المباشرة المستعملة في الحياة اليومية.
لقد كان فيف متقدماً جد على جيله، فلم يفطن إليه ذلك الجيل، وتركه يموت فقيراً، وقد ظل كاثوليكياً إلى النهاية.
3 - العلماء
كانت المهمة المميزة للجامعات والأكاديميات والعلماء الإنسانيين في عصر النهضة هي جمع تراث العالم القديم، عالم اليونان والرومان، وترجمته ونقله إلى جيل الشباب في أوربا الحديثة. وقد أنجزت هذه المهمة على وجه رائع، وكان الكشف عن وحي العالم القديم كاملاً.
بقي رجلان يجب أن يخلد ذكرهما كاهنين لهذا الوحي، وأول الرجلين هو جيوم بوديه، الذي بلغ الثانية والستين وهو يعطل النفس بأن يجعل باريس وارثة للدراسات الإنسانية الإيطالية، ثم رأى هذا الأمل يتحقق
حين أنشأ فرانسوا الكلية الملكية. وقد بدأ بوديه دراساته في كبره بدرس القانون، فظل زهاء عشر سنوات يدفن نفسه في "قوانين جستنيان". ورغبة في تفهم هذه النصوص تفهماً أفضل، وهي لاتينية اللغة بيزنطية المعاني، راح يدرس اليونانية على يوحنا لاسكارس، ويدرسها في إخلاص وتفان حملا مدرسه عند رحيله أن يوصي له بمكتبته الثمينة العامرة بالكتب اليونانية. فلما نشر وهو في الحادية والأربعين كتابه (1508) Annotationes in xxlv libros Pandectarum توفرت للمرة الأولى في فقه النهضة، دراسة لخلاصة جستنيان تستهدف هذه الخلاصة ذاتها وبيئتها، بدلاً من أن تنحيها هوامش الشراع لعباراتها. وبعد ست سنوات أصدر أثراً جليلاً آخر من آثار البحث العميق ( De asse et Partibus) وهو في ظاهرة نقاش للعملات والمقاييس القديمة، ولكنه في حقيقته درس شامل للأدب القديم فيما يتصل بالحياة الاقتصادية. وأوقع من هذا "تعليقاته على اللغة اليونانية"(1529)، وهو كتاب مفكك الترتيب، ولكنه بالمعلومات والإرشادات المعجمية، بحيث وضع بوديه على رأس جميع الهيلنستيين الأوربيين. وأرسل له رابليه خطاباً أعرب فيه عن احترامه وتقديره. أما إرزمس فكانت تحيته له أنه غار منه. لقد كان إرزمس رجل دنيا ولم يكن الدرس إلا جزءاً من الحياة عنده، أما بوديه فكان الدرس والحياة عنده شيئاً واحداً. كتب يقول "إن فقه اللغة هو الذي ظل طويلاً رفيقاً وشريكاً لي، بل كان لي الخليلة التي ارتبطت بي بكل مواثيق الحب
…
ولكنني اضطررت إلى إرخاء ربط هذا الحب الذي ينهشني
…
حتى يكاد يدمر صحتي (21) ". وكان يحزنه أن يضطر إلى اقتناص بعض الوقت من دراساته ليأكل وينام. وفي لحظات لهوه تزوج وأنجب أحد عشر طفلاً. وفي الصورة التي رسمها له جان كلويه (المحفوظة بمتحف الفن المتروبولتاني في نيويورك) تبدو عليه مسحة من تشاؤم.
ولكن فرانسوا الأول لا بد قد وجد فيه شيئاً من الحيوية لأنه عينه أميناً لمكتبة فونتنبلو، وكان يحب أن يكون هذا العالم العجوز قريباً منه حتى في رحلاته. وفي إحدى هذه الرحلات مرض بودي بالحمى، وقد ترك تعليمات دقيقة بألا يصحب جنازته أي احتفال. وفارق هذه الدنيا في هدوء (1540). أما الأثر الذي خلده فهو كلية فرنسا.
ولم تكن باربس إبان حياته قد استوعبت بعد الحياة الثقافية لفرنسا. كان للدراسات الإنسانية اثنا عشر وطناً فرنسياً: منها بورج وبوردو ومونبلييه، وأهم من هذه كلها ليون، التي امتزج فيها الحب والدراسات الإنسانية، ونساء الطبقة الراقية والأدب، امتزاجاً ساراً مبهجاً. وفي آجن، التي ما كان أحد ليبحث فيها عن إمبراطور، هيمن يوليوس قيصر سكاليجر على مسرح فقه اللغة بعد موت بوديه هيمنة الإمبراطور المستبد. ولعل بادوا مسقط رأسه (1484). وقد وفد على آجن وهو في الحادية والأربعين، وفيها عاش حتى مات (1558). وكان كل العلماء يخشون بأسه لشدة تمكنه من لغة القدح اللاتينية، وقد اكتسب شهرة حين هاجم إرزمس لغضه من شأن "الشيشرونيين" أي المتمسكين بلاتينية شيرون دون غيرها. وانتقد رابليه، ثم انتقد دوليه لانتقاده رابليه. وفي مجلد من كتابه Exercitationes فحص كتاب جيروم كاردان De subtilitate وأخذ على عاتقه أن يثبت أن كل ما أكده الكتاب زائف، وكل ما أنكره صحيح. وكان كتابه في النحو اللاتيني أول أجرومية لاتينية مبنية على مبادئ علمية. أما تعليقاته على أبقراط وأرسطو فممتازة، سواء من حيث أسلوبها أو من حيث إسهامها في العلم. وكان ليوليوس خمسة عشر طفلاً أصبح أحدهم أعظم علماء الجيل التالي. وقد أسهم كتاب يوليوس Poetice الذي نشر بعد موته بأربع سنوات، وما قام به ولده من دراسات، وما أثر به الإيطاليون الذين
تبعوا كاترين مديتشي إلى فرنسا-كل هذا أسهم في تحويل تيار الدراسات الإنسانية الفرنسية وردها من الدراسات اليونانية إلى اللاتينية.
وقد أهدت حركة إحياء الدراسات اليونانية للثقافة عطاءً ممتازاً هو ترجمة أميو لكتاب بلوتارخ "التراجم". كان أميو أحد الرجال الكثيرين الذين حظوا برعاية مارجريت. وقد عين بنفوذها أستاذاً لكرسي اليونانية واللاتينية في بورج. وكوفئ على ترجماته لدافنيس خلوا وغيرها من قصص الحب اليونانية، على طريقة ذلك العصر العجيبة السخية، بمنحه رئاسة دير غني. وإذ كفل له الرزق على هذا النحو تنقل كثيراً بين أرجاء إيطاليا إرضاء لميوله الأثرية واللغوية. ولما نشر كتابه "التراجم"(1559) قدم له بدعوة بليغة لدراسة التاريخ بوصفه "خزانة البشرية"، والمتحف الذي يحتفظ بمئات الأمثلة للفضيلة والرذيلة، وللحكم الصالح والطالح، ليسترشد بها بنو البشر؛ وكان كنابليون يرى كتاب بلوتارخ في التاريخ معلماً للفلسفة خيراً من الفلسفة ذاتها. ومع هذا فقد اضطلع بعد هذا بترجمة كتاب بلوتاريخ Moralia أيضاً، وقد رقي إلى أسقفية أوجزير، ومات هناك معمراً في الثمانين (1539). أما لترجمته لكتاب بلوتارخ "التراجم" فلم تكن صحيحة دقيقة في كل جزء منها، ولكنها كانت أثراً أدبياً في ذاته، تميز بأسلوب طبيعي فردي لا يقل عن أسلوب الأصل. أما تأثيره فكان هائلاً. وقد استمتع به مونتيني أيما استمتاع، وانصرف عن فرنسا القديس بارتلميو إلى هذا الأثر القديم الذي أضفت عليه الترجمة روعة وسموا. واختار شكسبير ثلاث تمثيليات من ترجمة نورث القوية المنقولة عن ترجمة أميو، وأصبح المثال الذي رسمه بلوتارخ للبطل نموذجاً حاكاه عشرات الثوار وكتاب المسرحيات. وأعطى هذا الكتاب Vies des hommes illustres للأمة مجمعاً من الأبطال المشهورين خليقاً بأن يحرك ما تنطوي عليه الروح الفرنسية من الفضائل الأكثر رجولة وأشد قوة.
4 - النهضة الفرنسية
(الميلاد الجديد)
من الأشياء المألوفة والمغتفرة أن تطلق عبارة "الميلاد الجديد"، وهي عبارة حافلة بالمعاني الإضافية، على الفترة الممتدة بين ارتقاء فرانسوا الأول العرش (1515) واغتيال هنري الرابع (1610). كان هذا الازدهار البهي للشعر والنثر والعادات الاجتماعية والفنون والملابس الفرنسية في جوهره نضجاً أكثر منه ميلاداً جديداً. فقد استطاع الاقتصاد الفرنسي والروح الفرنسية أن يفيقا من حرب المائة عام بفضل ما أتيح للناس من مرونة صابرة وما استجد من نمو التربة التي ألقيت فيها البذار حديثاً. وكان لويس الحادي عشر قد منح فرنسا حكومة منظمة ممركزة قوية، ومنحها لويس الثاني عشر عقداً مثمراً من السلام. وظلت إبداعية العصر القوطي الحرة، الطليقة، الغريبة الأطوار، حية متوازنة غالبة على رابليه، الذي بلغ إعجابه بالآداب القديمة مبلغاً جعله يقتبس منها كلها تقريباً. ولكن اليقظة الكبرى كانت كذلك ميلاداً جديداً. فقد تأثر الأدب والفن الفرنسيان تأثراً لا ريب فيه بما أتيح لها من علم أوثق بالثقافة القديمة والأشكال الكلاسيكية. واستمرت هذه الأشكال وهذا المزاج الكلاسيكي- الذي يغلب الفكر المنظم على العاطفة المشبوبة- في الدراما والشعر والتصوير والنحت والمعمار الفرنسي زهاء ثلاثة قرون. أما العوامل المخصبة في هذا الميلاد الجديد فهي الكشف والغزو الفرنسيان لإيطاليا، والدراسة الفرنسية لآثار والفقه والآداب الرومانية وللآداب والفنون الإيطالية، وتدفق الفنانين والشعراء الإيطاليين على فرنسا. وأسهمت عوامل كثيرة أخرى في بلوغ هذه النهاية السعيدة: كالطباعة ونشر النصوص القديمة وترجمتها، والرعاية التي حظي بها العلماء والشعراء والفنانون من الملوك الفرنسيين ومن عشيقاتهم ومن مارجريت النافارية ومن رجال الكنيسة والأشراف، ومن إلهام النساء القادرات
على تذوق ألوان أخرى من الجمال غير جمالهن. كل هذه العناصر تضافرت للعمل على ازدهار فرنسا.
كان لفرانسوا الأول- الوريث لهذا التراث كله- تابع هو الشاعر الذي أدى مهمة الانتقال من القوطي إلى الكلاسيكي ومن فيون إلى النهضة. دخل هذا الشاعر- واسمه كليمان مارو- التاريخ صبياً مرحاً في الثالثة عشرة يروح عن الملك بالقصص الظريفة والردود الذكية البارعة. وبعد سنوات هش فرانسوا لأنباء مغامرات الفتى ومشاجراته مع "جميع سيدات باريس"، فقد وافقه على أنهن في الحق فاتنات جداً:
"إن المرأة الفرنسية كاملة لا عيب فيها
فالسرور رائدها، وهي لا تعبأ المال،
والفرنسيات- مهما قلت فيهن أو سخرت منهن-
هن أروع أعمال الطبيعة" (22).
كان مارو يثرثر بالشعر كأنه النبع الفوار، وقلّما اتصف شعره بالعمق، ولكنه كان في الكثير الغالب مشوباً بالعاطفة الرقيقة. كان شعر مناسبات، وحديثاً في أبيات قصيرة، أو أغنيات شعبية، أو قصائد غزلية صغيرة، أو أغنيات ذوات لوازم متكررة، أو هجائيات ورسائل تذكرك بهوراس أو مارتيال، وقد لاحظ في شيء من الغيظ أن النساء (برغم اعتراضه على هذا السلوك) يسهل إغراؤهن بالماس أكثر من القصائد العاطفية:
"حين تجد الغواني عشيقاً ثرياً يلوح بماسة أمام عيونهن الضاحكة الخضراء فإن رءوسهن تدور. أتضحك مما أقول؟ ملعون من يخطئ هنا. فالفضيلة العظمى لهذا الحجر الكريم هي التي تنشر الضباب أمام عيونهن. وإن عطايا وهدايا كهذه لأفضل من الجمال والحكمة والتوسلات. إنها تنوم الوصيفات، وتفتح الأبواب الموصدة كأنها السحر، وتعمي
عيون المبصرين، وتسكت نباح الكلاب. والآن أما زلت تكذبني؟ ".
وفي 1519 أصبح مارو وصيفاً خاصاً لمارجريت ووقع في غرامها ممتثلاً، وذكرت الأقاويل أنها بثته شكوى بشكوى، وأكبر الظن أنه لم ينل منها غير مذهبها. فقد عود نفسه الآن على التعاطف المعتدل مع قضية البروتستنت في فترات غرامياته. وتبع فرانسوا إلى إيطاليا، وحارب في بافيا وأبلى فيها بلاء الأبطال، ونال شرف الأسر مع مليكه، ثم أطلق سراحه- ولا عجب، فإن أحداً لا يتوقع أن يفتدي شاعر بالمال. ولما عاد إلى فرنسا جهر بأفكاره البروتستنتية في صراحة حملت أسقف شارتر على أن يستدعيه ويعتقله اعتقالاً كريماً في القصر الأسقفي. ثم أطلق سراحه بشفاعة مارجريت، ولكن سرعان ما قبض عليه لمساعدته المسجونين على الفرار من البوليس. وأطلق فرانسوا سراحه بكفالة وأخذه إلى بايون ليتغنى بمفاتن عروسه الجديدة إليانور البرتغالية. وبعد أن قضى في السجن فترة أخرى لأكله لحم الخنزير في الصوم الكبير تبع مارجريت إلى كاؤر ونيراك.
وسرعان ما تجددت الحملة على البروتستنت الفرنسيين نتيجة لحركة الملصقات. ونمى إلى مارو أن مسكنه في باريس فتش، وأن أمراً صدر بالقبض عليه (1535). وخاف ألا يجد مخبأ يكفي لإخفائه ولو كان مخدع مارجريت. ففر إلى إيطاليا لاجئاً إلى الدوقة رينيه في فررا. ورحبت به الدوقة، كأن فرجيلاً جديداً قد وصل من مانتوا، ولعلها كانت تعلم أنه يحب أن يربط اسمه باسم بوبليوس فرجيليوس مارو، ولكنه كان أكثر شبهاً بأوفيد العاشق المرح، أو بشاعره المفضل فيون، الذي أشرف على نشر قصائده، وترسم خطاه في حياته. ولما أذاع الدوق إركولي الثاني أنه اكتظ بالبروتستنت، انتقل كليمان إلى البندقية. وهناك بلغ فرانسوا عرض العفو عن المهرطقين المرتدين
عن ضلالهم. فأعلن مارو ارتداده، لأنه رأى أن نساء باريس جديرات بتضحية العقيدة،. ومنحه الملك بيتاً وحديقة، وحاول كليمان أن يعيش عيشة السادة البرجوازيين.
ثم طلب إليه فرانسوا فاتابل الذي كان يدرس العبرية في الكلية الملكية أن يترجم المزامير شعراً فرنسياً، وشرحها له كلمة كلمة. فترجمها شعراً رخيماً ونشرها مشفوعة بإهداء جميع العبارة إلى الملك. وأعجب بها فرانسوا إعجاباً حمله على أن يهدي نسخة خاصة منها إلى شارل الخامس، الذي كان صديقاً له في تلك الفترة. وبعث شارل إلى الشاعر بمائتي كراون (5000 دولار؟). وترجم مارو مزيداً من المزامير ونشرها في 1543 مع إهداء إلى غرامه الأول "سيدات فرنسا". ووضع لها جوديميل موسيقي كما رأينا، وبدأ نصف فرنسا ينشدها. ولكن إعجاب لوثر وكالفن أيضاً بها شكك السوربون، فشمت فيها رائحة البروتستنتية، أو لعل مارو عاد إلى التمتمة بهرطقاته في محنة نجاحه. وتجددت الحملة عليه، ففر إلى جنيف، ولكنه وجد المناخ اللاهوتي فيها أشد صرامة مما تحتمله صحته، فتسلل إلى إيطاليا ومات في تورين (1544) في التاسعة والأربعين، تاركاً ابنة غير شرعية لرعاية ملكة نافار.
5 - رابليه
أ- رابليه الإنسان
أن مؤلف "أمتع وأنفع ما روي من قصص"(23) هذا المؤلف الفذ، الواسع الحيلة، الشكاك، المرح، المثقف، البذيء- رأت عيناه النور في 1495، ابناً لموثق غني في شينون. وأدخل في سن مبكرة جداً ديراً فرانسسكانيا. وقد شكا بعد ذلك من أن النساء "يحملن الأطفال تسعة شهور تحت قلوبهن
…
ولكنهن لا يطقن تربيتهم تسع سنوات
…
ويكفي أن يضفن ذراعاً من القماش إلى ثيابهم ويحلقن شعرات لا أدري كم عددها من قمة رءوسهم ليحولنهم طيوراً بضع كلمات". وهو يعني جز شعورهم وتحويلهم رهباناً. وقد ارتضى الغلام حظه هذا لميله إلى الدرس، ولعله كإرزمس اجتذبته مكتبة الدير إلى الكتب. وهناك التقى براهبين أو ثلاثة آخر راغيين في دراسة اليونانية، وقد شدهم هذا العالم القديم الفسيح الذي فتح لهم الدرس والبحث مغاليقه. وأحرز فرانسوا من التقدم ما جعل بوديه نفسه يبعث إليه بخطاب ثناء. وبدا أن الأمور تسير على ما يشتهي. وفي عام 1520 رسم شكاك المستقبل قسيساً، ولكن نفراً من كبار الرهبان شموا الهرطقة في فقه اللغة، فاتهموا الهلنستيين الشبان بشراء الكتب بالأتعاب التي يتلقونها نظير الوعظ بدلاً من تسليمها للخزانة العامة. وحبس رابليه وراهب آخر حبساً انفرادياً، وحرما الكتب وهي لهما نصف الحياة. ونمى إلى بوديه هذا الاتجاه الرجعي فلجأ إلى فرانسسوا الأول، وأمر الملك بإطلاق سراح الأديبين ورد امتيازاتهما. وبفضل شفاعة أخرى صدر مرسوم بابوي أذن لرابليه بتغيير تبعيته وإقامته الديرتين. فترك الفرنسسكان، ودخل بيتاً بندكتياً في ماييزيه (1524)، وهناك أعجب به الأسقف جوفروا دستيساك إعجاباً حمله على أن يتفق مع رئيس الدير على السماح لرابليه بالذهاب حيث شاء للدرس؛ ذهب رابليه، ونسي أن يعود.
وبعد أن جرب عدة جامعات دخل مدرسة الطب في مونبليه (1530). ولا بد أنه كان قد حصل تعليماً سابقاً في الطب، لأنه نال درجة البكالوريوس في الطب عام 1531. على أنه لأسباب لا نعلمها لم يواصل دراسته لنيل الدكتوراه، بل عاد إلى تجواله حتى استقربه النوى في ليون في 1532، وجمع بين ممارسة الطب ودراساته الأدبية، شأنه في ذلك شأن سرفيتوس، ثم اشتغل مساعد تحرير للطباع سباستبان جريفيوس ونشر عدة نصوص
يونانية وترجم حكم أبقراط إلى اللاتينية. وانزلق برضاه إلى تيار الدراسات الإنسانية الذي كان يومها في عنفوان تدفقه في ليون. وفي 30 نوفمبر 1532 بعث بنسخة من "يوسيفوس" إلى إرزمس بخطاب زلفى يستغرب من رجل في السابعة والثلاثين، ولكنك تشم في رائحة ذلك العصر الجياش بالحماسة:
"بعث إلى جورج دارمناك مؤخراً
…
بتاريخ فلافيوس يوسيفوس
…
وطلب إلى
…
أن أرسله إليك. وقد تحينت هذه الفرصة مشتاقاً، يا أكثر الآباء إنسانية، لأدلل لك بالتقدير الشاكر على احترامي العميق لك وعلى ولائي البنوي. أقول هل دعوتك بأبي؟ أجدر بي أن أدعوك بأمي لو اتسع لذلك صدرك. فكل ما نعرف عن الأمهات، اللائي يغذين ثمرة بطونهن قبل أن يرينها وقبل أن يعرفن حتى ما ستكون عليه، واللائي يرعينها ويحمينها من قسوة الجو، كل هذا صنعته أنت بي، أنا الذي لم يكن وجهي معروفاً لك ولا كان اسمي المغمور ليستطيع أن يستهويك. لقد ربيتني وغذوتني من ذلك الصدر الطاهر، صدر معرفتك المقدسة. وكل ما أنا عليه، وكل ما أساويه، إنما أنا أدين به لك وحدك. ولو لم أجهر بهذه الحقيقة لكنت أشد الناس عقوقاً. تحية مرة أخرى أيها الأب المحبوب، يا شرف وطنك، ويا عماد الأدب، ويا نصير الحقيقة الذي لا يقهر" (24).
وفي نوفمبر من ذلك العام (1532) نجد رابليه طبيباً في الأوتيل- ديو، وهو مستشفى مدينة ليون، يتقاضى راتباً قدره أربعون جنيهاً (1000 دولار؟) في العام. ولكن يجب ألا نحسبه عالماً أو طبيباً مثالياً. صحيح أن ثقافته كانت منوعة وهائلة. فيبدو أنه كان كشكسبير له معرفة مهنية في ميادين شتى- كالقانون والطب والأدب واللاهوت والطهو والتاريخ والنبات والفلك والميثولوجيا. وهو يشير إلى مئات الأساطير القديمة، ويقتبس من عشرات المؤلفين القدامى، ونراه أحياناً
يعرض علمه الواسع عرض الهواة. ولكنه شغل بالحياة شغلاً لم يتح له وقتاً لبلوغ الدقة الشديدة في دراسته، ولم تكن الطبعات التي نشرها نماذج تحتذي في دقة التفاصيل. لم يكن في طبعه أن يكون أديباً إنسانياً متفانياً كإرزمس أو بوديه، فلقد كان يحب الحياة أكثر من الكتب. والصورة التي تركت لنا عنه صورة رجل تروع الناظر طلعته، فارع القامة حلو الوجه، ينبوع للثقافة ومحدث يشع نوراً وناراً (25). ولم يكن سكيراً كما استنتجت خطأ رواية قديمة متواترة من تحياته للسكارى ومن خمرياته. بل إنه على العكس عاش عيشة مهذبة غلى حد معقول، هذا إذا استثنينا طفلاً غير شرعي أنجبه، (26) ولم يعش سوى فترة قصيرة بحيث يمكن اعتباره خطيئة بسيطة. وقد كرمته أسمى عقول جيله، بما فيهم نفر عديد من أحبار الكنيسة. وكان في الوقت نفسه يتصف بكثير من صفات الفلاح الفرنسي، فيجد لذة في أنماط الفلاحين الصرحاء المرحين الذين يلقاهم في الحقول وال شوارع ويستمتع بفكاهاتهم وضحكهم وبقصصهم الطويلة وعباراتهم البذيئة المتفاخرة. وقد طغت شهرته دون عمد منه على شهرة إرزمس لأنه جمع هذه القصص، وربط بينها، وحسنها، ووسعها، وأضفى عليها الكرامة بالعلم الكلاسيكي ورفعها إلى مقام الهجاء البناء، وضمنها في حرص ما حوته من فحش وبذاءة.
ومن هذه القصص قصة كانت آنئذ ذائعة في كثير من أنحاء الريف، روت أخبار مارد لطيف يدعى جارجانتوا، وتحدثت عن شهيته الوحشية، وعن غرامياته ومظاهر قوته العظيمة، وكانت تنتشر هنا وهناك تلال وصخور ذكرت الروايات المحلية أنها تساقطت من سلة جارجانتوا أثناء مروره. وكانت هذه الأساطير لا تزال تروى في عام 1860 في الكفور الفرنسية التي لم تسمع قط برابليه. وقد دون كاتب مجهول- ربما كان رابليه نفسه- على سبيل التفكه بعض هذه الخرافات وطبعها
في ليون في كتاب سماه "الأخبار العظيمة الثمينة للمارد الكبير الهائل جارجانتوا"(1532). وراج الكتاب بسرعة حملت رابليه على التفكير في كتاب ملحق له عن ابن جارجانتوا. وهكذا ظهر في سوق ليون المنعقدة في أكتوبر 1532، غفلاً عن اسم المؤلف، كتاب عنوانه "الأعمال المرعبة المخيفة وأفعال البسالة التي قام بها بنتاجرويل الأشهر". وكان هذا الاسم قد استعمل من قبل في بعض الدرامات الشعبية، ولكن رابليه أضفى على صاحبه مستوى وعمقاً جديدين. ونددت السوربون والرهبان بالكتاب لبذاءته، وراج رواجاً حسناً. واستمتع به فرانسوا الأول، ووجد بعض رجال الدين لذة في قراءته. على أن رابليه لم يعترف بأنه مؤلف إلا بعد مرور أربعة عشر عاماً، فقد خشي أن يعرض للخطر سمعته كأديب، إن لم يعرض حياته.
وكان لا يزال شديد التعلق بالدرس، حتى أهمل واجباته في المستشفى فطرد. ولعله كان ملاقياً عنتياً في كسب قوته لولا أن جان دبلليه أسقف باريس والمشارك في تأسيس كلية فرنسا أخذ رابليه معه طبيباً في بعثة إلى إيطاليا (يناير 1534). ولما عاد رابليه إلى ليون في إبريل نشر في أكتوبر "قصة جارجانتاو الكبير، أبي بنتاجرويل، وحياته المرعبة جداً". وقد حوى هذا المجلد الثاني، الذي أصبح بعد ذلك الجزء الأول من الكتاب كله، هجاءً لرجال الدين حمل السوربون على التنديد به مرة أخرى. وسرعان ما راجت القصتان المنشورتان معاً رواجاً بز كل كتاب في فرنسا باستثناء الكتاب المقدس و "محاكاة المسيح"(27). وقد قيل أن الملك فرانسوا ضحك وصفق استحساناً في هذه المناسبة أيضاً.
ولكن لصق الإعلانات البروتستنتية المهينة في ليلة 17 - 18 أكتوبر 1534 على مباني باريس وعلى باب قصر الملك نفسه بدل الملك من حامي الأدباء الإنسانيين إلى مضطهد المهرطقين. وكان رابليه قد
أخفى مرة ثانية أنه مؤلف الكتاب، ولكن الشكوك الكثيرة حامت حوله، وحق له أن يخشى أن تطالب السوربون برأس الكتاب البذيء بعد أن حملت الملك في ركابها. وهنا بادر جان دبلليه مرة أخرى إلى إنقاذه، واختطف الكنسي الطيب الذي أصبح الآن كردينالاً ذلك الأديب الطبيب، والكاتب البذيء، من مخبئه في ليون وأخذه إلى روما (1525). وكان من حظ رابليه أن يجد على كرسي البابوية رجلاً مستنيراً. فاغتفر له بولس الثالث إهماله واجباته الديرية والكهنوتية وأذن له بممارسة الطب. وعكف رابليه- على سبيل التعويض والتفكير- على تنقية الطبعات التالية من كتابه، "المؤيد يومئذ تأييداً مضاعفاً"، من الفقرات التي تسيء إساءة شديدة إلى الذوق التقليدي. ولما احتال عليه إتيين دوليه فنشر دون إذنه طبعة غير منقاة، شطب اسمه من قائمة أصدقائه. ثم عاد إلى الدرس في مونبلييه برعاية الكردينال، ونال الدكتوراه في الطب، وحاضر الجماهير الكبيرة هناك، ثم عاد إلى ليون ليستأنف حياته طبيباً وأديباً. وفي يونيو 1537 ذكر دوليه أنه في درس تشريح شرح أمام جماعة من الطلاب جثة مجرم نفذ فيه حكم الإعدام.
بعد هذا لا نعرف عن حياته المتقبلة غير نتف من هنا وهناك. كان في حاشية الملك خلال الاجتماع التاريخي بين فرانسوا الأول وشارل الخامس في إيجمورت (يوليو 1538). وبعد عامين نجده في تورين طبيباً لجيوم دبلييه، شقيق الكردينال، بعد أن أصبح سفيراً لفرنسا في سافوا. وحوالي هذه الفترة وجد الجواسيس في رسائل رابليه فقرات أحدثت ضجة في باريس فسارع إلى العاصمة وواجه الموقف بشجاعة. ثم برأه الملك (1541)، وعلى الرغم من تنديد السوربون من جديد بجارجانتوا وبنتاجرويل عين فرانسوا المؤلف المطارد في وظيفة حكومية صغيرة هي وظيفة مأمور العرائض، ومنحه إذنا رسمياً بنشر
الجزء الثاني من بنتاجرويل الذي أهداه رابليه شاكراً إلى مارجريت النافارية. وقد أثار هذا الجزء من الاضطراب في أوساط اللاهوتيين ما رأى معه رابليه أن من الحكمة أن يلتجئ إلى متز، وكانت يومها جزءاً من الإمبراطورية. وهناك قضى عاماً يشتغل طبيباً بمستشفى المدينة (1546 - 47). وفي 1548 رأى أن لا خطر عليه في الرجوع إلى ليون، وفي 1549 عاد إلى باريس. وأخيراً حصل له جماعته من رجال الكنيسة على وظيفة قسيس لأبرشية مودون الواقعة إلى الجنوب الغربي من العاصمة مباشرة، وهكذا عاد هذا الكهل المزعج، المطارد، إلى ثيابه الكهنوتية. ويبدو أنه وكل إلى مرءوسيه أداء واجبات وظيفته الدينية واكتفى بالانتفاع بإيرادها (28). وكان على قدر علمنا لا يزال قسيس مودون حين نشر ما هو الآن الجزء الرابع من كتابه (1552)، وفي هذا الموقف شيء من الشذوذ. وقد أهداه إلى أوديه كردينال شاتيون، بإذن منه على الأرجح، وواضح أنه كان في فرنسا إذ ذاك بين رجال الكنيسة نفر أوتوا ثقافة كرادلة النهضة الإيطالية وتسامحهم. على أن السوربون نددت بالكتاب، وحظر "البرلمان" بيعه. وكان فرانسوا الأول ومارجريت قد ماتا، ولم يجد رابليه حظوة لدى هنري الثاني المكتئب المزاج. فغاب عن باريس حيناً ثم عاد إليها سريعاً. وهناك مات بعد مرض طويل. وتروي قصة قديمة أنه حين سئل عن فراش الموت إلى أين يتوقع أن يمضي أجاب "أما ماض لأبحث عن "ربما" كبيرة"(29) إنها أسطورة، ويا للأسف.
ب- جارجانتوا
تنبئ مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب (أو الجزء الثاني في الأصل) للتو بمذاق الكتاب كله ورائحته:
"يا أشرف السكارى وأذيعهم صيتاً، وأنتم يا أغلى الفتيان المرحين،
المفترى عليهم، (لأنه إليكم أنتم دون سواكم أهدي كتاباتي)
…
لو أنكم تأملتم شكل سقراط وقدرتموه حسب مظهره الخارجي لما ساوى في نظركم قشرة بصلة
…
إنكم يا تلاميذي الطيبين وغيركم من الحمقى المرحين، المؤثرين الراحة والدعة، إذ تقرءون العناوين السارة لبعض الكتب التي نخترعها
…
تتسرعون في الحكم بأنه ليس فيه سوى النكات والدعابات الساخرة والحديث الفاجر والأكاذيب المروحة عن النفس
…
ولكن
…
حين تطلعون على هذا المقال ستجدون
…
تعليماً ذا تفكير أعمق وأكثر تجرداً
…
سواء فيما يتصل بديننا أو شئون الحكم العام والحياة الاقتصادية
…
وقد يتكلم أحمق مغرور مشوش العقل بشر عن كتبي، فلا تعبأوا به، وامرحوا الآن يا أبنائي، واشرحوا صدوركم، واقرأوا بابتهاج
…
هيا إلى آخر كلمة".
وهذا الكلام منقول عن ترجمة أوركهارت الشهيرة، التي تتجاوز الأصل أحياناً، ولكنها هنا تلتزمه بدقة، حتى لتذكر الكلمات العنيفة التي لم يعد مسموحاً بها في حديث المثقفين. وفي هاتين الفقرتين تطالعنا روح رابليه وهدفه: الهجاء الجاد مغلفاً في تهريج يخفف من عنفه، وملطخاً أحياناً بسناج خالص. ونحن نمضي في هذه المغامرة على ما فيها من خطر، شاكرين لأن الكلمة المطبوعة لا تنبعث منها رائحة خبيثة، آملين أن نعثر وسط هذا الكوم من القمامة على بعض الأحجار الكريمة.
ويبدأ جارجانتوا بسلسلة نسب فريدة تحاكي أنساب التوراة شكلاً. أما أبو المارد فهو جرانجوزييه ملك يوتوبيا، وأما أمه فهي جارجاميل، حملته أحد عشر شهراً، ولما بدأت آلام مخاضها اجتمع أصدقاء الأسرة ليسمروا وهم يحتسون النبيذ، زاعمين أن الطبيعة تكره الفراغ. ويقول الأب الفخور لزوجته بلهجة من لا يعرف الألم "أمضى بشجاعة النعجة؛ وأخرجي لنا هذا الغلام بسرعة، وسنعكف بعدها على العمل فوراً
…
لنصنع غيره". وتتمنى الزوجة لحظة أن يلقى حظ أبيلار؛ ويقترح هو أن ينجز ما تتمناه للتو، ولكنها تعود فتعدل. أما جارجانتوا الجنين فإذ وجد المنفذ العادي للوليد مسدوداً بقابض أخذ في غير أوانه، فقد "دخل وريد جارجاميل الأجوف" وتسلق حجابها الحاجز وعنقها، ثم "انبثق من الأذن اليسرى". وما أن ولد حتى راح يصيح، ويصيح بصوت علا حتى أسمع إقليمين: "الشراب! الشراب! الشراب! " وخصص لطعامه 17. 913 صفيحة من اللبن، ولكنه منذ البدء أبدى إيثاره للنبيذ.
ولما آن أوان تعليم المارد الصغير وتهيئته لارتقاء العرش، عين له مرب خاص هو الأستاذ جوبلان الذي أحله فتى غبياً، لأنه حشا ذاكرته بالحقائق الميتة وأربك عقله بحجج الكلاميين. واضطر جارجانتوا إلى سلوك سبيل يائس، فنقل الغلام ووضعه في رعاية الأديب الإنساني بونوكراتيس. وانطلق الأستاذ وتلميذه إلى باريس لتحصيل أحدث تعليم فيها. وكان جارجانتوا يركب فرساً ضخمة قطع ذيلها الهفاف الغابات الفسيحة أثناء مرورها، وهكذا أصبح جزء من فرنسا سهلاً. ولما بلغا باريس التقى جارجانتوا برجاً من أبراج نوتردام واستهوته أجراس الكاتدرائية فسرقها ليعلقها حول عنق فرسه. وبدأ بونوكراتيس من جديد تعليم المارد الذي أفسد تعليمه، وذلك بإعطائه مسهلاً هائلاً ليطهر أمعاءه ومخه جميعاً، ولا غرو فكلاهما وثيق الصلة بالآخر. فلما تنقى جارجانتوا على هذا النحو أولع بالتعليم وبدأ بحماسة يدرب جسده وعقله وخلقه في وقت معاً. فدرس الكتاب المقدس والآداب القديمة والفنون؛ وتعلم أن يعزف على العود والبيان وأن يستمتع بالموسيقى. وكان يجري ويقفز ويصارع ويتسلق ويسبح، ومارس الركوب والدفع بمنكبيه والمهارات التي يحتاج إليها المقاتل في الحرب، والصيد ليربي شجاعته،
ولكي ينمي رئتيه كان يصيح حتى سمعته باريس كلها. وزار صناع المعادن وقاطعي الأحجار والصياغ والكيميائيين والنساجين وصانعي الساعات والطباعين والصباغين ودرس حرفهم "بإعطائهم شيئاً يشربونه" وكان في كل يوم يشارك في عمل بدني نافع، ويذهب أحياناً لحضور محاضرة أو مشاهدة تجربة أو الاستماع إلى "مواعظ الوعاظ الإنجيليين"(وتلك غمزة بروتستنتية).
وفجأة استدعى جارجانتوا وهو يتلقى هذا التعليم كله إلى مملكة أبيه لأن ملكاً آخر يدعى بكروشول أعلن الحرب على جرنجوزييه. لماذا؟ إن رابليه يسرق هنا قصة من كتاب بلوتارخ "حياة بيروس" ويروي أن قواد بكروشول راحوا يفاخرون بما يستطيعون فتحه من بلاد تحت قيادته: فرنسا وأسبانيا والبرتغال والجزائر وإيطاليا وصقلية وكريت وقبرص ورودس واليونان وأورشليم
…
ويغتبط بكروشول وتنتفخ أوداجه. غير أن فيلسوفاً عجوزاً يسأله: " وما نهاية كل هذه المتاعب والأسفار؟ " ويجيب بكروشول: "حين نعود سنجلس ونستريح ونبتهج". ويقترح عليه الفيلسوف هذا الرأي "ولكن هبك لم تعد إلى وطنك قط لطول الرحلة وخطرها، أفلا يحسن بنا أن نستريح من الآن؟ " وصاح بكروشول "كفى. امضوا بنا قدماً. إنني لا أخشى شيئاً
…
وليتبعني من يحبني" (1 - 33). وتكاد فرس جارجانتوا تنهي الحرب مع بكروشول بالفوز عليه لأنها أغرقت آلافاً من رجال العدو بدفقة بسيطة واحدة من بولها.
ولكن بطل الحرب الحقيقي هو الأخ يوحنا، وهو راهب أحب القتال أكثر من الصلاة، وسمح لتطلعه الفلسفي أن يغامر في مسالك أكثر خطراً. فهو يتساءل مثلاً "ما السبب في أن فخذي السيدة النبيلة تبدوان دائماً غضتين ربطتين؟ "- ومع أنه لا يجد في كتب أرسطو أو بلوتارخ ما ينيره في هذه المشكلة الجذابة، فإنه هو نفسه يجيب إجابات
غنية في العلم بفنون الأفخاذ. وقد أحبه كل رجال الملك، وهم يقدمون له من الطعام والنبيذ ما يشتهي، ويدعونه لخلع رداء الرهبنة حتى يستطيع ابتلاع المزيد من الطعام، ولكنه يخشى أن لا تتوفر له الشهية الطيبة لو خلعه. ويذم المؤلف جميع النقائص التي يرمي بها المصلحون البروتستنت جماعة الرهبان، عن طريق هذا العضو المرح من أعضاء هذه القبيلة: كالكسل والشره والإسراف في الشرب والتمتمة بالصلوات والعداء للدرس والأفكار كلها، اللهم إلا رقعة متضائلة منها. يقول الأخ يوحنا:"في ديرنا لا نعكف على الدرس أبداً مخافة أن نصاب بالتهاب الغدة النكفية". (1 - 39).
واقترح جارجانتوا أن يكافئ الراهب على حسن بلائه في الحرب بتعيينه رئيساً على دير قائم. ولكن يوحنا رجا بدل هذا أن يوفر له المال لتشييد دير جديد له قوانين "تناقض قوانين الأديار كلها" فيجيب أولاً ألا تقام حوله أي أسوار تحصره، وأن يكون نزلاؤه أحراراً في تركه حين يشاءون. ثانياً: يجب ألا تمنع النساء من دخول الدير، ولكن لا يدخله منهن سوى "الجميلات الحسنات الصورة الدمثات الخلق" ممن تتراوح أعمارهن بين العاشرة والخامسة عشرة. ثالثاً: لا يقبل من الذكور سوى ما كان بين الثانية عشرة والثامنة عشرة، على أن يكونوا وسيمي الوجوه كريمي المولد والطباع، ولا يسمح للسكيرين أو المتعصبين بالدخول، ولا للمتسولين أو المحامين أو القضاة أو الكتبة أو المرابين أو الجشعين النهابين أو المنافقين المتزلفين بدخول الدير. رابعاً: لا يسمح بنذور للعفة أو الفقر أو الطاعة؛ فللأعضاء أن يتزوجوا وأن يستمتعوا بالمال وأن يكونوا أحراراً في جميع شئونهم. ويطلق على الدير اسم تليمي أي "ماشئت"، أما قانونه الوحيد فهو "افعل ما تريد" لأن "الناس الأحرار الطيبي العنصر الحسني التربية الكريمي المعشر أتوا بالطبع
غريزة وحافزاً يدفعانهم للفعال الفاضلة ويبعدانهم عن الرذيلة، وهذه الغريزة اسمها الشرف" (1 - 57). وقد قدم جاجارنتوا المال اللازم لإقامة هذه الفوضى الأرستقراطية، وارتفع بناء الدير حسب المواصفات التي وضعها رابليه في تفصيل أغرى المعماريين برسم رسوم له. وقد زوده بمكتبة ومسرح وحمام سباحة وملعب للتنس وآخر لكرة القدم وكنيسة صغيرة وحديقة وأرض للصيد وبساتين فاكهة واسطبلات و9332 حجرة. لقد كان فندقاً أمريكياً مقاماً في بلد للنزهة. على أن رابليه نسي أن يزود الدير بمطبخ أو أن يدلنا على من يقوم بالأعمال الوضيعة في هذا الفردوس.
جـ- بنتاجرويل
بعد أن خلف جارجانتوا أباه على العرش جاء دوره في الإنجاب والتربية. فحين بلغ من العمر أربعمائة وثمانين وأربعة وأربعين عاماً أنجب بنتاجرويل من زوجته باديبيك التي ماتت وهي تلد الغلام فبكى عليها جارجانتوا "كما تبكي البقرة" و "ضحك كما يضحك العجل" حين رأى ولده القوي البدن. وشب بنتاجرويل حتى استفحل حجمه. وفي إحدى وجباته ابتلع رجلاً عن غير قصد، ولم يكن بد من إخراجه بعملية تعدين في قناة المارد الصغيرة الهضمية، ولما ذهب بنتاجرويل إلى باريس ليتلقى تعليمه العالي أرسل له جارجانتوا رسالة تشم فيها عبير النهضة الأوربية: -
ولدي الأعز:
.... مع أن المرحوم أبي الطيب الذكر جرانجوزييه بذل ما وسعه من جهد لييسر لي الإفادة من جميع نواحي العلم والمعرفة السياسية، ومع أن جهدي وعكوفي على الدرس قابلاً رغبته هذه بل جاوزاها، فإن
الزمن كما تعلم جيداً لم يكن يومها مواتياً كما هو الآن للتعلم
…
لقد كان زمناً مظلماً تحجب سماؤه غيوم الجهالة وينبعث فيه شيء من نحس القوط ونكبتهم، القوط الذين دمروا كل الأدب الطيب حيثما استقرت أقدامهم، ذلك الأدب الذي رد بفضل الله في عصري إلى سابق إشراقه وكرامته بحيث لا يكاد يسمح لي الآن بدخول الصف الأول في مدرسة ثانوية للصبيان ....
أما اليوم فقد زودت عقول الناس بشتى العلوم، وأحييت العلوم القديمة التي ظلت منقرضة أجيالاً كثيرة، وأعيدت لغات الثقافة إلى نقائها القديم- وأعني اليونانية (التي يخجل الإنسان بدونها من أن يعد نفسه أديباً أو عالماً)، والعبرية، والعربية، والكلدية، واللاتينية. كذلك شاع استعمالها الطباعة، أنيقة دقيقة بحيث لا يمكن تصور ما هو أرقى منها
…
وفي نيتي
…
أن تتعلم اللغات تعليماً كاملاً
…
أما التاريخ فلا يفتك حفظ أي جزء منه
…
وأما الفنون الحرة كالهندسة والحساب والموسيقى فقد أتحت لك تذوقها حين كنت بعد صبياً
…
فامض فيها قدماً
…
وأما الفلك فادرس كل أصوله، ولكنك دعك من التنجيم
…
لأنه ليس سوى غش وغرور خالصين
…
وأما القانون المدني فإني أريدك أن تحفظ نصوصه عن ظهر قلب ثم تبحثها مسترشداً بالفلسفة
…
وأما أعمال الطبيعة فإني أود أن تدرسها بدقة
…
ولا يفتك أن تطلع بعناية على كتب الأطباء اليونان والعرب واللاتين، ولا تحتقر التلموديين، والقبلانيين، واستكثر من التشريح لتلم إلماماً تاماً بذلك العالم الصغير، أعني الإنسان. كذلك أعكف في بعض ساعات النهار على درس الكتاب المقدس: أولاً العهد الجديد باليونانية، ثم العهد القديم بالعبرية
…
ولكن بما أن الحكمة كما قال سليمان الحكيم لا تدخل عقلاً شريراً، والعلم بدون ضمير ليس إلا مجلبة لخراب النفس، فإن من واجبك أن تخدم الله وتحبه وتخشاه
…
كن خدوماً لكل جيرانك وأحبهم كما تحب نفسك، واحترم معلمك وتجنب حديث من لا ترغب في التشبه بهم، ولا تضيع المواهب التي منحك الله إياها. فإذا رأيت أنك حصلت كل ما يجب تحصيله من العلم في تلك الناحية، فعد إليَّ لكي أراك وأمنحك بركتي قبل أن أموت
…
أبوك
جارجنتوا (30)
وعكف بنتاجرويل على الدرس في حماسة، وتعلم لغات كثيرة، وكان من الممكن أن يكرس وقته كله للقراءة والدرس لولا أنه التقى ببانورج. وهنا أيضاً يبرز التابع أكثر من السيد، بأوضح حتى من بروز الراهب يوحنا، كما يحجب سانشو بانزا أحياناً شخصية سيده دون كخوته. فرابليه لا يجد في جارجانتاو ولا في بنتاجرويل المجال الطليق لدعاباته البذيئة وألفاظه الصاخبة، إنما هو في حاجة إلى هذا المخلوق- الذي فيه أثر من الوغد، ومن المحامي، ومن الشاعر فيون، ومن الفيلسوف- ليستخدمه أداة للهجو. وهو يصف بانورج (ومعنى الاسم: مستعد لعمل أي شيء) بأنه نحيل كالقط الجائع، يسير في حذر شديد "كأنه يمشي على قشر بيض" وأنه إنسان شهم وإن شابه بعض الفجور، وأنه "عرضة لضرب من المرض
…
يسمى الإعسار"، وأنه نشال، "ومتشرد فاسق، ومحتال، وسكير
…
ورجل داعر جداً، ولكنه فيما عدا ذلك خير الناس في هذه الدنيا وأكثرهم فضيلة" (2 - 14، 16). وعلى فم بانورج يسوق رابليه أشد نكاته فحشاً
…
كان بانورج يمقت على الأخص ما درجت عليه نساء باريس من تزرير
أقمصتهن في أعلى ظهورهن، فقاضى النساء في المحكمة، ولعله كان خاسراً دعواه، ولكنه هدد بأن يبدأ عادة مماثلة في سراويل الرجال، وهنا أمرت المحكمة بأن يترك النساء فتحة متواضعة ولكنها سالكة من الأمام (2 - 17). وحدث أن غضب بانورج من امرأة احتقرته، فرش ثوبها وهي راكعة للصلاة في الكنيسة بسائل حيوان مدلل شديد الشهوة، فلما قامت تبعها جميع كلاب باريس الذكور- وعددها 600. 014 في ولاء إجماعي لا يعرف الكلل (2 - 21، 22). ويولع بنتاجرويل بهذا الوغد تخفقاً من الفلسفة، برغم أنه أمير بلغ غاية التهذيب، فيدعوه لمصاحبته في كل رحلاته.
وبينما تمض القصة في جذل إلى الجزء الثالث يناقش بانورج موضوع زواجه بين وبين نفسه وبينه وبين غيره. فيعدد ما للمشروع وما عليه خلال مائة صفحة فيها المشرق، والكثير فيها ممل، ولكننا في هذه الصفحات نلتقي بالرجل الذي تزوج امرأة خرساء، والفقيه الشهير بريدلجوس الذي ينتهي إلى أكثر أحكامه سلامة برمي الزهر، وتستوحي مقدمة الجزء الرابع لوكيان فتصف "مجمعاً للآلهة" في السماء، وجوبيتر يشكو من الفوضى اللا أرضية، التي تسود الأرض، والثلاثين حرباً المستعرة في وقت واحد، والكراهية المتبادلة بين الشعوب، وانقسامات اللاهوتيين، وأقيسة الفلاسفة "فماذا نحن فاعلون بهذه الحرب حرب راموس وجالان- هذين اللذين يحرشان باريس كلها بعضها ببعض؟ "- ويشير عليه الإله بريابوس بأن يحول هذين البطرسين Pierres إلى صخرتين ( Pierres) ، وهنا نرى رابليه يسطو على تورية من الكتاب المقدس.
ثم يعود إلى الأرض فيسجل في الجزئين الرابع والخامس
(1)
رحلات
(1)
نشر الجزء الرابع في 1562 بعد موت رابليه بتسع سنوات. ولعل الخمسة عشر فصلاً الأولى قد خلفها رابليه (31)، أما الفصول الاثنان والثلاثون الباقية فنسبتها إليه مشكوك فيها.
طويلة أشبه برحلات جلفر، خرج فيها بنتاجرويل وبانورج والأخ يوحنا وأسطول يوتوبي ملكي ليبحثوا عن "معبد القارورة المقدسة"، وليسألوا هل يحسن بيانورج أن يتزوج. وبعد عشرات المغامرات، وبعد التنديد بأصوام "الصوم الكبير"، وبكارهي البابا من البروتستنت، وبعباد البابا من المتعصبين، وبالرهبان، وبتجار الآثار المزيفة، وبالمحامين (القطط ذات الفراء)، وبالفلاسفة الكلاميين، وبالمؤرخين، تنتهي الرحلة إلى المعبد. وعلى بوابته كتابة يونانية تقول:"إن في النبيذ لحقاً". وفي نبع قريب قارورة غمرت في النبيذ إلى نصفها ينبعث منها صوت يقرقر قائلاً "ترنك"، وتقول الكاهنة باكبوك: إن النبيذ خير الفلسفات، وإن "ما يميز الإنسان ليس الضحك بلا شرب .... النبيذ الرطب اللذيذ". ويسعد بانورج أن تؤيد الكاهنة ما كان يعرفه طوال الوقت، فيصمم على أن يأكل ويشرب ويتزوج ويتحمل العواقب كما يخلق الرجال، وهو ينشد أغنية عرسية بذيئة، ثم تصرف باكبوك الجماعة بعد أن تمنحها هذه البركة "ليحفظكم ذلك المحيط الفكري الذي يوجد مركزه في كل مكان، ولا يوجد له نهاية في أي مكان، والذي تدعوه الله، في رعايته القوية القادرة". (5 - 47). وهكذا تختتم القصة العظيمة بمزيج مثالي من البذاءة والفلسفة.
د- مضحك الملك
أي معنى يتوارى خلف هذا الثراء، وهل من حكمة في هذا السيل الدافق من المرح الفاليرني- البريابي؟ يقول رابليه وهو يجري الكلام على لسان أحد حمقاه "نحن مهرجي الريف فينا شيء من الجلافة، نميل إلى تحطيم الألفاظ وتفكيك أوصالها". (5 - 18). إنه يحب الألفاظ، وعنده منها معين لا ينضب، وهو يخترع مئات من الكلمات الجديدة
ويشتقها كشكسبير من كل حرفة ومهنة، ومن كل ميدان في الفلسفة أو اللاهوت أو القانون. وهو يضع قوائم بالنعوت أو الأسماء أو الأفعال، وكأنما يلذه تأملها (3 - 38)، ثم يستكثر من المترادفات في النشوة من الإطناب، ولقد هذا الحشو من قبل حيلة قديمة في المسرح الفرنسي (32). وهو جزء من فكاهة رابليه التي لا حد لها ولا ضابط، وفيض تتضاءل أمامه حتى فكاهة أرستوفان أو موليير. أما بذاءته فوجه من وجوه هذا الفيض الذي لا يمكن التحكم فيه. ولعل بعضها رد فعل للنسك الديري، وبعضها لا مبالاة تشريحية لا تستغرب من طبيب، وبعضها تحد جرئ للحذقلة، وكثير منها يساير أسلوب العصر، وما من شك في أن رابليه قد غلا في فحشه غلوا شديداً، حتى أننا بعد أن نقرأ عشر صفحات أو نحوها من التفاصيل الملوثة بالتبول والتناسل والإفراز والغازات نمل القراءة وننصرف عنها. ولم يكن بد من مجيء جيل جديد من التأثر الكلاسيكي ليروض هذا الفروان البركاني ويخضعه للنظام.
على أننا نغتفر هذه العيوب لأن أسلوب رابليه ينطلق معنا في يسر كما انطلق معه؛ إنه أسلوب خال من التكلف والصنعة الأدبية، أسلوب طبيعي سهل متدفق، وهو بالضبط الأداة لسرد قصة طويلة. والسر في حيوية رابليه هو الخيال مضافاً إليه النشاط مضافاً إليهما الوضوح، وهو يرى مئات الأشياء التي لا يراها معظمنا، ويلحظ دقائق لا حصر لها في اللباس والسلوك والحديث، ثم يجمع بينها بطريقة خيالية غريبة، ويطلق هذه الأخلاط يطارد بعضها البعض فوق صفحاته الضاحكة.
ثم تراه يستعير يمنة ويسرة جرياً على عادة جيله، معتذراً عن هذا بما اعتذر به شكسبير من أنه يجود كل شيء يسرقه. فهو يتناول مئات من نتف الأمثال الواردة في كتاب إرزمس "أداجيا"(33)، ويحكى
الكثير مما سبقه في "مدح الحماقة" أو "الأحاديث"، وهو يتمثل خمسين موضوعاً من بلوتارخ، وذلك قبل سنوات من ترجمة آميو التي فتحت سجل العظماء هذا لأي لص من لصوص الأدب. وهو ينتحل من كتاب لوكيان "الحديث السماوي" وقصة فولنجو عن الخروف الذي أغرق ذاته، ويجد في كوميديات عصره قصة الرجل الذي ندم على أنه شفي زوجته من الخرس، ويستعمل عشرات الأفكار التي توحي بها الخرافات والقصص الصغيرة التي انحدرت من فرنسا الوسيطة. وحين يصف رحلات بنتاجرويل نراه يعتمد على الحكايات التي نشرها رواد الدنيا الجديدة والشرق الأقصى. ومع ذلك، فعلى الرغم من هذه الاستعارات كلها، ليس هناك مؤلف أكثر منه أصالة، ولسنا نجد في غير شكسبير وسرفانتيس مخلوقات واسعة الخيال، مفعمة بالقوة والحياة، كالراهب يوحنا، أو كبانورج. على أن رابليه نفسه هو أهم خلق خلقه الكتاب، إنه مزيج من بنتاجرويل، والراهب يوحنا، وبانورج، وإرزمس، وفيزاليوس، ويوناثان سويت؛ مزيج ثرثار، فوار، محطم للأصنام، عاشق للحياة.
وتعشقه للحياة هو الذي جعله يسلخ جلود أولئك الذين جعلوها أقل فتنة وإغراء. ولعله قسا بعض الشيء على الرهبان الذين لم يستطيعوا مشاركته ميوله أدبياً وإنسانياً، ولا بد أن محامياً أو محامين قد أنشبا براثنهما فيه، لأنه يمزق فراء المحامين في غل شديد. يقول محذراً قراءه "أنصتوا إلي، إن عشتم ست دورات أولمبية فقط مضافاً إليهما عمر كلبين، فسترون قطط القانون هؤلاء سادة على أوربا بأسرها". ولكنه يسوط أيضاً القضاة، والمدرسين، واللاهوتيين، والمؤرخين، والرحالة، وباعة صكوك الغفران، والنساء. ولا تكاد تعثر في الكتاب كله على كلمة طيبة عن النساء، وتلك هي أشد نقط رابليه عمىً، ولعلها الثمن الذي
دفعه راهباً وقسيساً وأعزب لافتقاره طول حياته إلى الحنان.
وقد اختلف المتشيعون له في أمره، أهو كاثوليكي أم بروتستنتي أم حر التفكير أن ملحد. فهو في رأي كالفن ملحد. أما عاشقه أناطول فرانس فينتهي إلى هذا الحكم "في اعتقادي أنه لم يصدق في أي شيء"(34). وكان أحياناً يكتب كأشد ما يكون الكلبيون سخرية من الناس واحتقاراً لهم، كما ترى في لغة الغنام في حديثه عن أمثل الطرق لإخصاب الحقول (4 - 7). كان يتهكم بالصوم، وبصكوك الغفران، وبرجال محاكم التفتيش، وبالمراسيم البابوية، ويلذه شرح الشروط التشريحية المطلوبة في المرشح للبابوية (4 - 48). ويبدو أنه لم يؤمن بالجحيم (2 - 30). وتراه يردد حجج البروتستنت الذي قالوا إن البابوية تنزح أموال الشعب (4 - 53)، وأن كرادلة روما يحيون حياة البطنة والنفاق (4 - 58 - 60). وكان يتعاطف مع المهرطقين من الفرنسيين، وقد قال إن بنتاجرويل لم يطل مكثه في تولوز لأن القوم هناك "يحرقون حكامهم أحياء كما تشوي الرنجة الحمراء". - مشيراً بذلك إلى إعدام أستاذ قانون مهرطق (2 - 5) ولكن يبدو أن ميوله البروتستنتية اقتصرت على الإنسانيين من البروتستنت دون غيرهم. ولقد تبع إرزمس في إعجاب، ولكنه لم يمل إلى لوثر إلا في اعتدال، وقد صدف في اشمئزاز عن جزمية كالفن وغلوه. كان يتسلح في كل شيء إلا عدم التسامح، وكان كجميع الإنسانيين إذا أكرهوا على الاختيار يؤثر الكاثوليكية بأساطيرها وعدم تسامحها وفنونها، على البروتستنتية بقدريتها وعدم تسامحها ونقائها. وكثيراً ما أكد إيمانه بالعقائد الأساسية في المسيحية، ولكن لعل هذا كان من قبيل الحصانة في رجل كان على استعداد في سبيل الدفاع عن آرائه لأن يلقى عقاب الحرق دون سواه. وقد أحب تعريفاً لله حباً جعله (أو جعل من أكمل كتابه)، يعيده غير مرة (3 - 13، 5 - 147). ويبدو أنه آمن بخلود النفس
(2 - 8، 4 - 27)، ولكنه آثر بوجه عام حديث الموضوعات الداعرة على حديث الأخرويات. ولقد اتهمه فاريل بالارتداد لأنه قبل وظيفة كاهن مودون (35). ولكن هذا القبول كما فهمه واهب الوظيفة ومتلقيها على حد سواء لم يكن سوى سبيل إلى الرزق.
أما إيمانه الحقيقي فكان بالطبيعة، ولعله في هذه الناحية كان لا يقل عن جيرانه المحافظين إيماناً وسذاجة. لقد آمن بأن قوى الطبيعة تعمل للخير في النهاية، ولم يقدر حيادها نحو الناس والحشرات على السواء حق قدره. وكان كروسو، وعلى النقيض من لوثر وكالفن، ويؤمن بطبيعة الإنسان الخيرة، أو يثق كغيره من الإنسانيين بأن التعليم الجيد والبيئة الطيبة كفيلان بجعل الإنسان خيراً. وقد نصح الناس كما نصحهم مونتيني بأن يتعبوا الطبيعة، ولعله كان ينظر بعد اهتمام خبيث بما قد يحدث عندها للمجتمع والحضارة. وقد يبدو في وصفه لدير تيليمي مبشراً بالفوضى الفلسفية، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فهو لا يسمح بدخول الدير إلا لمن يؤهله حسن تربيته وتعليمه وإحساسه بالشرف لامتحانات الحرية.
لقد كانت "البنتاجرويليه" فلسفته النهائية. وعلينا ألا نخلط بين هذه الكلمة وبين كلمة بنتاجرويليون، التي تعني عشباً مفيداً ليس في حقيقته غير القنب، وفائدته النهائية أنه يصلح لصنع أربطة رقبة مناسبة للمجرمين. أما البنتاجرويلية فهي العيش على طريقة بنتاجرويل في عشرة لطيفة متسامحة مع الناس والطبيعة، وفي استمتاع شاكر بكل طيبات الحياة، وفي تقبل بشوش لما يصيبنا من تقلبات ومن نهاية لا مفر منها. وقد عرف رابليه هذه البنتاجرويلية مرة بأنها "ضرب من فرح الروح كامن في احتقار أحداث الحياة"(4 - المقدمة). وهي تجمع بين فلسفات الرواقي زينون، والكلبي ديوجين، والفيلسوف أبيقور:
وخلاصتها تحمل كل الأحداث الطبيعية برباطة جأش، والنظر دون تضرر إلى جميع الحوافز والعمليات الطبيعية، والاستمتاع بكل لذة سليمة دون كبت ديني متزمت أو تبكيت لاهوتي للضمير. لقد كان بنتاجرويل "يتقبل كل شيء برضى، ويفسر كل فعل بأحسن نية، لا يناكد نفسه ولا يزعجها
…
لأن كل ما تحويه الأرض من متاع
…
لا يساوي أن تضطرب من أجله عواطفنا أو تختل، وأن نفكر أو نحير بسببه حواسنا أو أرواحنا" (3 - 2). ويجب ألا نبالغ فيما تحويه هذه الفلسفة من عنصر أبيقوري، فخمريات رابليه لفظية أكثر منها كحولية، وهي لا تنسجم تماماً مع ما وصفه به أحد معاصريه من أنه رجل "طلق المحيا لطيف الوجه هادئة" (36). أما الخمر الذي احتفى به فهو خمر الحياة. إن هذا الأمير المزعوم لمدمني الخمر يضع على فم جارجانتوا عبارة تصوغ في بضع كلمات تحدي العصر الذي نعيش فيه "إن العلم بغير ضمير ليس إلا مجلبة لخراب النفس". (2 - 8).
ولقد اعتزت فرنسا برابليه أكثر من اعتزازها بأي من عمالقة القلم فيها باستثناء مونتيني ومولير وفولتير. ووصفه إتيين باسكييه الذي عاش في قرنه بأنه أعظم كتاب العصر. وحين تصلبت عادات المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر تحت المخرمات والباروكات، وطغت الأشكال الكلاسيكية، فقد رابليه بعض مكانته في ذاكرة الأمة، ولكن حتى في تلك الفترة اعترف موليير وراسين ولافونتين بتأثرهم به، وأحبه فونتينيل، ولابرويير، ومدام دسفنيه، وانتحل باسكال تعريفه لله. أما فولتير فقد بدأ باحتقار جلافته، وانتهى بالولاء له. وحين تغيرت اللغة الفرنسية استعصى فهم رابليه على القراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر، ولعله اليوم أكثر شعبية في البلاد الناطقة بالإنجليزية منه في فرنسا. ذلك أن السر تومس أوركهارت نشر في 1653
و1693 ترجمة للجزأين الأول والثالث صاغها في إنجليزية قوية لا تقل حيوية وتدفقاً عن الأصل الفرنسي. ثم أكمل بيتر دمويته الترجمة في 1708، وبفضل جهود هذين الرجلين أصبح جارجانتوا وبنتاجرويل من عيون الأدب الإنجليزي. ولقد سرق منه سويفت كأنما يستند إلى حق انتمائه إلى الأكليروس، ولا بد أن ستيرن وجد في الكتاب خميرة لسخريته اللاذعة. إنه أحد الكتب التي لا تنتمي إلى أدب بلد بعينه بل إلى الأدب العالمي ..
6 - رونسار وجماعة البليارد
(النجوم السبعة) Pl (iade
كان فيض غامر من الشعر يتدفق خلال هذه الفترة على فرنسا. وقد وصل إلى علمنا أسماء نحو 200 شاعر فرنسي لمعوا إبان حكم فرانسوا الأول وأبنائه، ولم يكن هؤلاء الشعراء أصواتاً جوفاء تصرخ في برية لا تعبأ بهم، بل مقاتلين يخوضون معركة أدبية-معركة الشكل ضد المضمون، ورونسار ضد رابليه-قررت طبيعة الأدب الفرنسي حتى عصر الثورة.
ولقد ألهمتهم حماسة معقدة، فهم من ناحية يتوقون إلى مباراة اليونان والرومان في نقاء الأسلوب وكمال الشكل، ومنافسة كتاب السونيتات الإيطاليين في رشاقة الكلام وجمال الأخيلة، ولكنهم من ناحية أخرى مصممون على ألا يكتبوا باللاتينية كالأدباء الذين علموهم وأثاروا حماستهم، بل بلغتهم القومية وهي الفرنسية، وهم في الوقت ذاته يريدون أن يلينوا ويهذبوا هذه اللغة التي ما زالت خشنة، وذلك بتعليمها الألفاظ والعبارات والتراكيب والأفكار التي سرقوها بحكمة من الآداب الكلاسيكية. وافتقار رواية رابليه إلى الشكل المحدد، بما يتخللها من أحداث عرضية، جعلها في نظرهم إناءً خشناً من الطين شكل باليد على عجل ثم أعوزه
الطلاء والصقل. لذلك اعتزموا أن يضيفوا إلى حيوية رابليه "الأرضية" ضبطاً للشكل الصمم للغاية، وللشعور الخاضع لحكم العقل.
وبدأت الحملة الكلاسيكية في ليون إبان حياة رابليه نفسه. فقد أنفق موريس سيف جانباً من حياته فيما خاله تحديداً لموقع قبر لورا حبيبة بترارك، ثم كتب 446 مقطعاً شعرياً لحبيبته ديلي، ومعهد الطريق أمام رونسار بفضل ما تميز به شعره من رقة حزينة. وكان أقدر منافسيه في ليون امرأة تدعى "لويز لابيه" راحت وهي مدججة بسلاحها الكامل تقاتل كأنها جان دارك أخرى في برببنيان، ثم هدأت ثائرتها بزواجها من صانع حبال أغضى-على طريقة الفرنسيين اللطيفة-عن غرامياتها الجانبية. كانت تقرأ اليونانية واللاتينية والإيطالية والأسبانية، وتعزف على العود عزفاً ساحراً، وتحتفظ بصالون لمنافسيها وعشاقها، وقد كتبت بضع قصائد من أسبق وأروع ما كتب من سونيتات في اللغة الفرنسية. وحسبنا للحكم على شهرتها أن نستشهد بجنازتها (1566) التي قال مؤرخ إخباري أنها "كانت انتصاراً. فقد حمل نعشها مخترقاً المدينة ووجهها مكشوف ورأسها مكلل بتاج من الزهور. لقد عجز الموت عن أن يشوهها، وجلل أهل ليون قبرها بالزهور والدموع". (37) وعن طريق شعراء ليون هؤلاء انتقل الأسلوب والمزاج البتراركيان إلى باريس ودخل إلى جماعة البلياد.
وكانت البلياد ذاتها صدى يردد الكلاسيكية. ذلك أن إسكندرية القرن الثالث قبل الميلاد كان فيها كوكبة من شعراء سبعة أطلق عليهم هذا الاسم مأخوذاً من الثريا التي خلدت ذكر بنات أطلس وبليوني الاسطوريات. على أن رونسار، ألمع نجوم البلياد الفرنسي، قل أن استعمل هذا اللقب، وكانت نماذجه التي حاكاها هي أناكريون وهوراس
لا ثيوقريطس أو كليماخوس الإسكندريان. وفي 1548 التقى في فندق صغير بتروين ييواكيم دبلليه Du Bellay، وائتمر معه على توجيه الشعر الفرنسي صوب الكلاسيكية وضما إلى مشروعهما أربعة شعراء شبان آخرين هم: أنطوان دباييف، وريمي بيللو، وإتيين جوديل، وبونتيس دتيار، ثم انضم إليهم أيضاً الأديب جان دورا الذي كان لمحاضراته عن الأدب اليوناني في كلية فرنسا وكلية كوكيريه الفضل في تأجيج حماستهم للشعراء اليونان الغنائيين. وأطلقوا على أنفسهم لقب البريجارد (اللواء) وأقسموا أن ينقذوا ربة الشعر الفرنسي من أيدي جان دمونج ورابليه الخشنة، ومن بحور فيون ومارو المفككة. وكانوا يشمئزون من لغة جارجانتوا وبنتاجرويل الصاخبة وحكمتها المستترة، ولم يروا أي ضابط كلاسيكي في تلك الأفعال والنعوت المختلطة ولا في تلك التدفقات البذيئة، ولم يجدوا فيها أي شعور بجمال شكل المرأة أو الطبيعة أو الفن. ولاحظ أحد أعدائهم من النقاد أنهم سبعة شعراء، فأطلق عليهم لقب "البلياد". ولكن انتصارهم جعل من هذا اللقب ناراً على علم.
في 1549 أذاع الشاعر دبلليه البرنامج اللغوي لهذه الجماعة في كتابه "دفاع عن اللغة الفرنسية وجلاء لها". فأما الدفاع فقد قصد به أن في الاستطاعة تمكين الفرنسية من التعبير عن كل ما عبرت عنه اللغات القديمة، وأما الجلاء فقصد به أن في استطاعة الفرنسية أن تكتسب بريقاً جديداً، وأن تصقل ذاتها وتجلو نفسها بنبذ الكلام الخشن الذي يسود النثر الفرنسي، والأغاني الشعبية، والقصائد القصيرة المتكررة الأزمات، والألوان القديمة من الشعر الفرنسي، وأن تجدد وتثري ذاتها باقتباس العبارات ودراسة الأشكال الكلاسيكية، كما توجد في أناكريون وثيوقراطيس وفرجيل وهوراس وبترارك. ولا غرو فقد أصبح بترارك في نظر جماعة الشعراء السبعة كاتباً كلاسيكياً، وغدت السونيت أكمل الأنماط الأدبية قاطبة.
أما "بيير رونسار" فقد حقق في شعره تلك المثل التي أعرب عنها دبلليه في نثره الرائع. وهو سليل أسرة خلعت عليها النبالة مؤخراً، فقد كان أبوه رئيس خدم فرانسوا الأول، وعاش بيير حقبة من حياته في البلاط الملكي الفخم. وكان تابعاً للدوفن فرانسوا، ثم لمادلين التي تزوجت جيمس الخامس ملك إسكتلندة، ثم مرافقاً للأمير الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الثاني. وكان يصبو إلى المشاركة في المغامرات الحربية، ولكنه ابتلي بالصمم وهو بعد في السادسة عشرة. ومن ثم فقد أغمد سيفه وجرد عوضاً عنه قلمه. والتقى بشعر فرجيل صدفة، فرأى فيه كمالاً في الشكل واللفظ لا لهد فرنسا به. وأخذ دوريه بيده فانتقل به من اللاتينية إلى اليونانية، وعلمه قراءة أناكريون واسخيلوس وبندار وارستوفان. وصاح به الفتى "سيدي! لم أخفيت عني هذه الكنوز طوال هذا الزمن؟ "(38) وحين بلغ الرابعة والعشرين التقى بالثائر دبلليه. ومن ذلك التاريخ وزع وقته بإخلاص بين الأغاني والنساء والخمر.
وقد أكملت "قصائده الغنائية Odes"(1550) هذه الثورية الغنائية. وكانت تقليداً صريحاً لهوراس، ولكنها أدخلت هذا اللون في الشعر الفرنسي، ووقفت القصائد على قدميها سواء في نقاء اللغة أو جمال العبارة أو إحكام الشكل. وبعد عامين اتخذ بترارك نموذجاً له في 183 قصيدة من السونيتات التي نشرها في ديوانه "غراميات" وبلغ فيها من الرشاقة والصقل ما لم ييزه أحد قط في الشعر الفرنسي. وكان يكتب ليتغنى الناس بشعره، وقد لحنت له قصائد كثيرة في حياته، بعضها لحنه كبار الموسيقيين أمثال جانكان وجوديميل. وكان في قصائده يغري النساء اللاتي يتغزل فيهن بتلك الدعوة القديمة، دعوة الاستمتاع بالحياة ما دام حسنهن مضيئاً، ولكنه حتى في هذا الموضوع القديم راح يعزف نغمة أصيلة، كتنبيه فتاة حذرة إلى أنها ستندم يوماً ما لأنها فوتت فرصة الغواية من
شاعر شهير مثله. يقول: "حين يتقدم بك العمر كثيراً، إذ تجلسين في المساء إلى المدفأة تتحدثين وتخيطين على ضوء شمعة، ستنشدين قصائدي وتقولين في عجب: لقد أذاع رونسار اسمي يوم كنت جميلة. عندها لن يكون من بين خدمك الذين يسمعون بنبأ كهذا-حتى ولو بعث طنين المناسج النوم إلى أجفانهم-من لا يفيق وهو يسمع اسمي، ليباركك على ما حظيت به من مديح خالد. عندها سأكون راقداً تحت الثرى، شبحاً بلا عظم، ثاوياً تحت الآس. وستكونين يومها عجوزاً قد احدودب ظهرها وهي جالسة إلى المدفأة، وستأسفين على حبي وعلى ازدرائك الفخور. فاستمعي إليَّ وعيشي الآن دون انتظار لغد، واقطفي منذ اليوم ورود الحياة".
وكانت عظمة الأسلوب تليق ببلاط كاترين دمديتشي التي جلبت معها إلى فرنسا حاشية إيطالية حملت بترارك فيما حملت من كتب. وما لبث الشاعر الجديد-بمشيته المختالة برغم ما مسه من صمم، وبقوامه العسكري وشعر رأسه ولحيته الذهبي، ووجهه الشبيه بوجه هرمز كما وصفه براكسيتيليس-أن أصبح أثيراً لدى كاترين، وهنري الثاني، وماري ستيوارت، بل وإليزابث ملكة إنجلترا التي أهدته خاتماً من الماس بوصفها ابنة خاله السابعة عشرة. ووجدت أسطورة البلياد اليونانية الرومانية ترحيباً، وحين تحدث الشعراء عن أوليمبوس قدر البلاط لهم هذه التحية. (39) فهنري هو النظير لجوبيتر، وكاترين هي المقابل لجونو، أما ديان فهي ديانا، وأكدت هذا التشابه التماثيل التي نحتها المثال جوجون.
وبعد موت هنري واصل شارل التاسع مصادقة رونسار، دون أن تسفر هذه الصداقة عن نتيجة طيبة. ذلك أن الملك الشاب كان يبغي أن ينظم له الشاعر ملحمة عن فرنسا تطاول ملحمة الأنيادة. وكتب الملك المغفل يقول: "أستطيع أن أعطي الموت، أما أنت فتستطيع أن تعطي
الخلود (40). " وبدأ رونسار نظم "الفرنسيادة" المنشودة، ولكنه ألفى ربة شعره أقصر نفساً من أن تجري هذا الشوط الطويل، وما لبث أن أقلع عن المحاولة المزعومة، وعاد إلى غنائياته وحبه. وقضى أيامه في دعة وسلام حتى أدركته الشيخوخة وهو في مأمن من ضجيج الدنيا، محافظاً في السياسة والدين دون ما خطر، مكرماً من شباب الشعراء، محترماً من الجميع إلا من الموت. وقد وافته منيته في 1585 ودفن في تور، ولكن باريس منحته جنازة أولمبية مشى فيها كل أعيان العاصمة ليسمعوا أسقفاً يرتل "قصيدة جنائزية".
أما الشعراء الذين خلعوا عليه لقب الإمارة فقد أصدروا كثيراً من دواوين الشعر، ولكن شعر ميت برغم رقته. وكان أكثرهم كسيدهم وثنيين يعلنون كثلكتهم المحافظة حين يروقهم إعلانها، ويحتقرون الهيجونوت المتزمتين، وكانوا أرستقراطيين كبرياء، ودماً أحياناً، وإن خوت جيوبهم، يكتبون لدائرة من القراء أتيح لها من الفراغ ما يكفي للاستمتاع بالشكل. ورد رابليه على خصومتهم بالسخرية من حذلقتهم، ومن تقليدهم الوضيع للبحور والعبارات والنعوت اليونانية والرومانية، ومن ترديدهم التافه للموضوعات القديمة وللأخيلة والمراثي البتراركية. وفي هذا الصراع بين المذهبين الطبيعي والكلاسيكي تقرر مصير الأدب الفرنسي. فأما شعراء فرنسا وكتاب مآسيها المسرحية فآثروا الطريق المستقيم الضيق، طريق البناء الكامل والجمال المنحوت الدقيق؛ وأما كتاب النثر فقد استهدفوا إمتاع القراء بقوة مادتهم دون سواها. ومن ثم بات الشعر الفرنسي قبل عصر الثورة عصياً على الترجمة، فأنت لا تستطيع تحطيم إناء الشكل ثم إعادة صبه في قالب أجنبي، على أن هذين النهرين التقيا في فرنسا القرن التاسع عشر، وامتزج نصفا الحقيقة، واقترن المضمون بالشكل، وعقد اللواء للنثر الفرنسي.
7 - وايات وصري
مر التأثير الإيطالي بفرنسا وبلغ إنجلترا، لا فيضاً دافقاً بل نهراً ينطلق إلى البحر بمخارج كثيرة. فالعلم والدرس اللذان شغلا جيلاً ألهما الأدب في الجيل التالي، وأصبح وحي اليونان والرومان المقدس إنجيل النهضة. ففي عام 1486 مثلت مسرحيات بلوتوس في إيطاليا، ثم انتقلت سريعاً إلى بلاطي فرانسوا الأول وهنري الثامن والمتنافسين. وفي عام 1508 افتتحت مسرحية كالاندرا للكاتب ببينا عهد الملهاة الكلاسيكية المكتوبة باللغة الوطنية في إيطاليا. وفي عام 1552 بدأت المأساة الكلاسيكية المكتوبة بالفرنسية في فرنسا بمسرحية جوديل "كليوبطره أسيرة"، وفي عام 1553 أخرج نيكولاس أو دال أول ملهاة إنجليزية ذات شكل كلاسيكي، قال ناقد عنها "إن مسرحية رالف رويستر دويستر تشم فيها رائحة بلوتس"(41). وهذا حق، ولكنك تشم فيها أيضاً رائحة إنجلترا، ورائحة هذه الفكاهة القوية التي كان شكسبير مزعماً أن يقدمها للدهماء من رواد المسارح الإليزابيثية.
وتجلى التأثير الإيطالي في أروع صورة في الشعر إبان حكم أسرة تيودور. كان أسلوب العهد الوسيط لا يزال حياً في بعض القصائد الشعبية الجميلة مثل "العذراء غير السمراء"(1521)، ولكن حين انصرف الشعراء الذين أظلهم الملك الشاب هنري الثامن برعايته إلى قرض الشعر اتخذوا بترارك وأشعاره الغنائية "الكانزونييري" مثلاً يحتذونه. وقبل ارتقاء إليزابيث العرش بسنة واحدة نشر رتشرد توتل، أحد الطباعين اللنديين، كتاباً سماه "منوعات" كشفت فيه قصائد رجلين من رجال البلاط البارزين عن انتصار بترارك على تشوسر، وانتصار الشكل الكلاسيكي على فيض حماسة العهد الوسيط. أما أول الرجلين، وهو السر توماس وايات Wyatt فقد قام برحلات كثيرة إلى فرنسا وإيطاليا بوصفه دبلوماسياً
في خدمة الملك، وجلب معه بعض الإيطاليين ليعاونوه في تهذيب أصحابه وتمدينهم. ولقد أحرق أصابعه بنار الحب كما يخلق برجل بلاط أصيل يعيش في عصر النهضة. وفي رواية أنه كان واحداً من عشاق آن بولين الأوائل، وأنه سجن فترة قصيرة حين أرسلت إلى برج لتدن (42). وقد ترجم أثناء ذلك سونيتات بترارك، وكان أول من ضغط الشعر الإنجليزي في تلك الصورة المحكمة.
فلما مات وايات بالحمى وهو يعد في التاسعة والثلاثين (1542) تلقى القيثارة من يده شاعر رومانسي آخر من بلاط هنري يدعى هنرد هوارد (إيرل أف صري Surrey) . وتغنى صري في شعره بمفاتن الربيع، وأنحى باللوم على الصبايا العازفات بحبه، وأقسم ليكونن وفياً إلى الأبد لكل منهن بدورها. وقد ولع بالمغامرات الليلية في لندن، وقضى في السجن فترة عقاباً له على تحديه غريماً في مبارزة، وقدم للمحاكمة جزاء أكله اللحم في الصوم الكبير، وحطم بعض النوافذ بقوسه العابثة. وقبض عليه ثانية، ثم أفرج عنه، وأبلي في الحرب على أرض فرنسا بلاءً حسناً دفاعاً عن وطنه إنجلترا. ولما عاد راح يداعب فكرة ارتقاء العرش الإنجليزي على مسمع من الناس، فحكم عليه بالشنق وانتزع أحشائه وتقطيعه أرباعاً، واكتفى من ذلك كله بضرب عنقه (1547).
كان الشعر ترفاً عارضاً وسط حياة صري العنيفة. وقد ترجم بعض أجزاء من الإنيادة، وأدخل الشعر المرسل في الأدب الإنجليزي. وخلع على السونيت الشكل الذي استخدمه شكسبير فيما بعد. وقد وجه إلى أحد شعراء الرومان أنشودة رعوية حزينة تتغنى بحياة الريف الرتيبة ومما يشيع فيها من سلام وطمأنينة، ربما حين توقع أن مسالك المجد الذي لا حق لصاحبه فيه قد تورده موارد الحتوف. "أي مارتيال، إليك الأشياء التي ألفيتها مفضية إلى الحياة السعيدة: الزهد في المال الذي لا يكسب بالعرق،
والأرض المثمرة، والفكر الهادئ، والصديق الكفؤ لصديقه، لا بغضاء ولا شحناء، لا تغيير في السلطة ولا في الحكومة، حياة سليمة خلت من المرض، وأسرة متصلة الأجيال، وطعام بسيط لا ترف فيه، وحكمة صادقة مقرونة بالبساطة، وليل خلا من كل هم، لا تستبد فيه الخمر بالعقل، وزوجة وفية لا تلج في النقاش، ونوم يزجي الليل، ورضى بما ملكت يداك، لا تخشى الموت ولا تخاف صولته".
8 - هانز زاكس
في القرن الذي تلا مقالات لوثر تاه العقل الألماني في جدل المائة عام الذي مهد لحرب الثلاثين عاماً. وبعد عام 1530 توقف نشر الكتب الكلاسيكية القديمة إلى حد كبير، وقل عموماً عدد الكتب المنشورة، وحل محلها سيل من الرسائل الجدلية. فراح راهب فرنسسكاني اسمه توماس مورنز ذو قلم حاد يسوط الناس يمنة ويسرة بسلسة كتيبات عن الأوغاد أو الحمقى (طائفة الأوغاد، مجمع الحمقى)
…
وكلها منقول بتوسع من كتاب برانت Narrenschiff سفينة الحمقى
(1)
. وكثير من الحمق الذين هاجمهم مورنز كانوا من رجال الكنيسة، وفي البداية ظنه الناس لوثرياً، ولكنه أعلن أن لوثر "كلب صيد متوحش، ومارق مجنون، غبي، مجدف"(43). فوصله هنري الثامن بمائة جنية.
أما سبستيان فرانك فكان أنبل من صاحبه وأصفى معدناً. وكان كاهناً في أوجزبورج حين أقبلت حركة الإصلاح البروتستنتي، فرحب بها ثورة جريئة تمس إليها الحاجة، وأصبح بعد ذلك قساً لوثرياً
(1)
نقل الكسندر باركلي مثل هذا عن برانت في كتابه "سفينة الحماقات"(1509) مضيفاً إليه طعنات من عنده.
(1525)
. وبعد ثلاث سنوات تزوج من أوتيلي ببهام، وكان أخوتها من القائلين بتجديد العماد، فعطف على هذه الطائفة المضطهدة، وندد بالتعصب اللوثري، فطرد من استراسبورج، واحترف صناعة الصابون في أولم ليكسب قوته. وسخر من تحكم النبلاء الألمان في سلامة العقيدة، فقال:"إذا مات أمير فأدخل خليفته مذهباً آخر، أصبح هذا المذهب للتو كلمة الله"(44). "تتسلط على جميع الناس اليوم غيرة مجنونة تزعم أننا يجب أن نؤمن
…
أن الله إلهنا وحدنا، وأنه لا جنة ولا إيمان ولا روح ولا مسيح إلا في مذهبنا". أما إيمانه فكان الألوهية الكونية التي لا توصد باباً. "إن قلبي ليس غريباً عن أي إنسان. فلي أخوة بين الترك والبابويين واليهود وجميع الشعوب (45)". وكان يتوق إلى "مسيحية
…
حرة لا مذهبية
…
لا يقيدها أي شيء خارجي" حتى ولا الكتاب المقدس (46). وأقصته أولم هي الأخرى إذ صدمتها هذه المشاعر التي لا تليق بجيله، فعمل طباعاً في بال، وهناك مات شريفاً برغم فقره (1542).
ثم انغمس الشعر والدراما الألمانيان في اللاهوت انغماساً أفقدهما صفة الفن وأحالهما بعض أسلحة القتال. وفي هذه الحرب استحل الكتاب كل جعجعة وجلافة وفحش في القول. ولو أنك استثنيت الأغاني الشعبية والتراتيل لما وجدت للشعر أثراً إلا في وابل من طلقات القوافي المسمومة. ولم تعد الجماهير تتذوق مسرحيات القرن الخامس عشر الدينية التي ينفق على إخراجها بسخاء، فحلت محلها مهازل شعبية تتهكم بلوثر أو البابوات.
على أن ألمانيا لم تعدم بين الحين والحين رجلاً يطفو فوق هذا الحقد والعنف ليرى الحياة كاملاً متكاملاً. ولو أن هانز زاكس استمع إلى قضاة نورمبرج لظل صانع أحذية كما كان؛ ذلك أنه حين نشر تاريخاً منظوماً لبرج بابل دون أن يحصل على الإذن المدني بطبعه، صادروا الكتاب
وأكدوا لصاحبه أن الشعر ليس ميدانه ما في ذلك ريب، وأمروه أن يلتزم قوالب أحذيته (47). ولكن هانز كان يتمتع ببعض الحقوق التي نالها بفضل مروره بالمراحل العادية التي أهلته لأن يصبح رئيس فرقة المغنين. ولعل المفارقة التي تبدو لنا في كونه حذاء وشاعراً تنتفي إذا لاحظنا أن نقابة الغزالين والحذائين التي انتمى إليها كانت تمارس بانتظام الغناء الكورالي، وتعزف في حفلات موسيقية عامة ثلاث مرات في السنة. ولهذه النقابة، وفي أية مناسبة أخرى، كان زاكس يكتب الأغاني والتمثيليات في مثابرة وجد وكأنه يلوك في فمه مسامير أحذيته.
وعلينا ألا نحسبه شاعراً عظيماً، فما هو إلا صوت عاقل مبتهج يعلو وسط قرون من الكراهية. وكان شغله الشاغل هم البسطاء من الناس لا العباقرة، وتمثيلياته كلها تقريباً تدور حول هؤلاء. بل إن الله نفسه يبدو في هذه التمثيليات أحد العامة الخيرين ويتكلم كما يتكلم قسيس الناحية. وبينما راح معظم الكتاب يتبلون صحائفهم بالمرارة أو التبذل أو فحش القول، كان هانز يصور ويمجد فضائل المحبة والواجب والتقوى والوفاء الزوجي والحب الأبوي والبنوي. وقد بدأ بنشر قصائد (1516). تستهدف "زيادة الثناء على الله والتحدث بمجده" و "مساعدة إخوانه على أن يحبوا حياة التوبة"(48). وظلت هذه الروح الدينية تبعث الدفء في كتاباته إلى النهاية. وقد نظم نصف الكتاب المقدس، مستخدماً نص الترجمة التي قام بها لوثر، وحياة هانز ولقبه بـ "بلبل فتنبرج" الذي سينقي الدين ويرود الفضيلة. "استيقظوا؛ استيقظوا؛ فقد بزغ الفجر، وهأنذا أسمع في الغابات أنشودة تتردد. إنه البلبل العظيم تصدح موسيقاه فوق السهل والجبل. هاهو الليل يتلاشى في الغرب، والصبح يطلع من الشرق، والفجر يقبل فيطرد غيوم الليل المنصرم"(49).
وأصبح زاكس الآن شاعراً ملحمياً لحركة الإصلاح البروتستنتي،
وراح يندد بأخطاء الكاثوليك في إصرار ساخر. فكتب التمثيليات عن الأوغاد من الرهبان، وأرجع قبيلتهم إلى الشيطان، ونشر مسرحيات كاريكاتورية ساخرة وهزليات تعرض على سبيل المثال كاهناً يغوي فتاة أو يتلو القداس وهو مخمور. وفي 1558 نشر "تاريخاً منظوماً للبابة جوانا"-وهي قصة خرافية تقبلها معظم الوعاظ البروتستنت على أنها تاريخ. ولكن هانز ندد باللوثريين أيضاً، ورماهم بالتناقض الفاضح بين حياتهم وعقيدتهم. "إنكم معشر اللوثريين جلبتم على الإنجيل أشد الاحتقار بسبب نهمكم للحم، وضجيجكم الصاخب، وذمكم للكهنة، وشجاركم وسخريتكم وسبابكم وغير ذلك من مظاهر سلوككم الشائن (50). " وشارك الكثيرين في الحزن على ما شاب الجيل من جري وراء الكسب وفساد في الخلق.
ونحن إذا استثنينا فكرة فاجنر المثالية، وجدنا على الجملة أن هانز زاكس ربما كان الممثل للرجل الألماني الطيب برغم ما يشوبه من فجاجة وجلافة، والذي لا بد كان أغلبية في الجنوب على الأقل. ونحن نراه سعيداً في بيته، مترنماً بشعره طوال أربعين عاماً. ولما ماتت زوجته الأولى (1560) تزوج وهو في الثامنة والستين من حسناء في ربيعها السابع والعشرين، وظل ينعم بالحياة برغم هذه المحنة. ولا بد لنا من إنصاف عصر ومدينة مكنا حذاء من أن يصبح في ظلهما أديباً إنسانياً، وشاعراً، وموسيقياً، وأن يقتني مكتبة كبيرة ويستعملها، وأن يتعلم الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية، وأن ينظم 6000 قصيدة، وأن يعيش متمتعاً بقسط لا بأس به من الصحة والسعادة حتى وافته المنية وقد بلغ الثانية والثمانين.
9 - ربه الشعر الإيبيرية
1515 -
55
كانت هذه فترة مفعمة بالنشاط والحيوية في أدب البرتغال. ذلك أن حافز الاكتشاف المثير، والثروة المنتشرة بفضل التوسع في التجارة، والتأثير الإيطالي، والأدباء الإنسانيين في كويمبرا ولشبونة، والرعاية التي بسطها بلاط مثقف-كل هذا تضافر لإحداث ازدهار سيبلغ ذروته في "لوزيادات" كاموينز (1572). ونشبت معركة مرحة بين "المدرسة القديمة"-مدرسة جل فيتشنتي الذي تعلق بالموضوعات والقوالب القومية، ومدرسة أبناء القرن الخامس عشر (ويقابله عندنا السادس عشر) الذين اتبعوا صادي مراندا في تحمسه للنماذج والأساليب الإيطالية والكلاسيكية. قد ظل فيتشنتي-وهو "شكسبير البرتغالي"- طوال أربعة وثلاثين عاماً مهيمناً على المسرح بفصوله التمثيلية البسيطة
…
ورضى البلاط عنه، وتوقع منه إحياء كل حدث ملكي بمسرحية، وحين دب الشقاق بين الملك والبابا، سمح لجل بأن يهجو البابوية في غير تحرج حتى قال الياندر بعد أن شاهد إحدى هذه التمثيليات في بروكسل "ظنتني في قلب سكسونيا استمع إلى لوثر"(51). وكان هذا الكاتب المسرحي الخصب يكتب تارة بالإسبانية، وتارة بالبرتغالية، وتارة بكلتيهما، متخللاً كتاباته بنتف من الإيطالية والفرنسية واللاتينية الكنسية والعامية الريفية. وكثيراً ما كان يقطع حركة المسرحية- كشكسبير- بأشعار غنائية تتسلل إلى قلوب الشعب. وكان جل كشكسبير ممثلاً كما كان كاتب تمثيليات ومديراً للمسرح ومشرفاً على تنظيم مكان وزمان المشاهد المسرحية، وكان إلى ذلك من خيرة صاغة الذهب في جيله.
وفي 1524 عاد فرانشسكو صادي مراندا من إيطاليا بعد أن قضى فيها ست سنوات وجلب معه الحمى الكلاسيكية التي أتت بها النهضة. وكما
فعل رونسار وجماعة البلياد في فرنسا، وسبنسر وسدني في إنجلترا، رأى مراندا أن يضفي الكرامة والوقار على الأدب القومي بصوغ موضوعاته وبحوره وأسلوبه على غرار القوالب الكلاسيكية. وقد سلك بترارك في عداد الكلاسيكيين- شأنه في ذلك شأن يواكيم دبلليه- وقدم السونيت لمواطنيه. وكما فعل جوديل، كتب مراندا أول مأساة كلاسيكية بلغته القومية (1550)، وكان من قبل (1527) قد ألف أول ملهاة نثرية برتغالية ذات شكل كلاسيكي. أما صديقه برنارديم ربيرو فنظم شعراً ريفياً بأسلوب فرجيل، وعاش مأساة على طريقة تاسو، فقد أثار بغرامه بإحدى نساء البلاط ضجيجاً عالياً انتهى بنفيه من وطنه، ثم عفا عنه ورضى عنه مليكه، وأخيراً مات مجنوناً (1552).
وقد سجلت مدرسة من المؤرخين تنبض كتبهم بالحياة الانتصارات التي أحرزها المستكشفون. ومن هؤلاء المؤرخين كاسبار كوريا الذي ارتحل إلى الهند وارتقى في السلم الوظيفي حتى أصبح أحد سكرتيري ألبوكيرك، وندد بفساد الموظفين الحكوميين، ثم قتل في ملقا في 1565. وقد ألف إبان هذه الحياة النشيطة، في خمسة مجلدات، كتاباً سماه "خلاصة موجزة" للفتح البرتغالي للهند، مفعماً بالأوصاف البهية التي اتسم بها عصر التوسع هذا. أما فرناو لوبيس دي كاستانهيدا فقد قضى نصف حياته في الشرق، وأنفق جهداً امتد عشرين عاماً في كتابة "تاريخ لكشف البرتغال وفتحها للهند". أما جواو دي باروس فقد شغل عدة وظائف إدارية في "بيت الهند" بلشبونة على مدى أربعين عاماً، وأخجل سلفه بزهده في جمع المال. وكانت المحفوظات والسجلات جميعها في متناوله، فألف بينها في تاريخ اكتفى بتسميته "آسيا" ولكن الكتاب اكتسب اسماً آخر هو "العقود" لأن ثلاثة من مجلداته الأربعة الضخمة تناول كل منها فترة عشر سنوات تقريباً، والكتاب في ترتيبه ودقته
ووضوحه بثبت للمقارنة بأي مؤلف تاريخي معاصر له باستثناء أعمال مكيافللي وجويتشارديني. ولو أخذ رأي أمته الفخورة لأنكرت هذين الاستثنائيين، فقد خلعت على باروس لقب "ليفي البرتغالي".
كانت اللغة القشتالية قد أصبحت اللغة الأدبية لأسبانيا. وعاشت اللهجات الجليقية والبلنسية والكتلونية والأندلسية في الحديث الدارج، وأصبحت اللهجة الجليقية اللغة البرتغالية، ولكن استخدام القشتالية لغة للدولة والكنيسة أيام فرديناند وإييزابيللا وكسيمينيس ارتفع بهذه اللهجة إلى مقام لا يضارع، ومنذ ذلك العهد إلى يومنا هذا كان رنينها القوى الأداة المعبرة عن أدب أسبانيا. وقد أبدى بعض كتاب هذا العصر ولعاً باللغة. فضرب أنطونيو دي جيفارا المثل في البحوث اللغوية والمحسنات البلاغية. وقد أعانت ترجمة اللورد بيرنرز لكتاب جيفارا "مزولة الأمراء"(1529) على صياغة ذلك التأنق اللفظي الذي يتسم به كتاب جون لابلي Euphues واللعب السخيف بالألفاظ الذي نلحظه في كوميديات شكسبير الأولى.
وتغنى الأدب الأسباني بالدين والحب والحرب. وبلغ الولع بروايات الفروسية مبلغاً حمل مجلس النواب الأسباني في 1555 على أن يوصي بحظرها قانوناً، وقد صدر هذا المرسوم فعلاً في أمريكا الإسبانية، ولو أنه نفذ في أسبانيا لكان من الجائز أن نحرم من دون كخوته". ومن بين الروايات التي أبقى عليها الكاهن أثناء تنقيته لمكتبة "الفارس" رواية ألفها جورجي دي مونتيمايور تدعى Diana enamorata (1542) ، وهي تقليد لرواية "أركاديا" التي كتبها الشاعر الأسباني الإيطالي ساناتزارو (1504)، وقد قلدها هي الأخرى السر فليب سدني في قصة أركاديا (1590). ورواية موننيمايور النثرية الشعرية مثال من مئات الأمثلة على تغلغل النفوذ الإيطالي في الأدب الأسباني، وهنا أيضاً نرى المغلوب
وقد غلب غالبيه. وترجم جوان بوسكان " Cortigiano" لكاستليوني نثراً لا يقل روعة عن الأصل، ووافق على اقتراح الشاعر البندقي نافاجيرو بتعميم شكل السونيت في أسبانيا.
وللتو تقريباً التقى صديقه جاركيلازو دي لافيجا بالسونيت إلى مرتبة الكمال في اللغة القشتالية. وكان ككثيرين من كتاب هذه الفترة الأسبان سليل أسرة عريقة، إذ أن أباه كان سفيراً لفرديناند وإيزابللا في روما. وقد ولد جاركيلازو بطليطلة عام 1503، ونذر للجندية مثل صباه. وفي 1532 أبلى أحسن البلاء في رد الترك عن فينا، وفي 1535 جرح مرتين جراحاً خطيرة في حصار تونس، وبعد ذلك بشهور شارك في حملة شارل الخامس الفاشلة على بروفانس. وفي فريجي تطوع بأن يقود هجوماً على قلعة تعرقل تقدم الجيش، وكان أول المتسلقين لسور القلعة، فتلقى ضربة على رأسه قضت عليه بعد أيام وهو في الثالثة والثلاثين. وفي إحدى قصائده السبعة والثلاثين التي تركها لصديقه بوسكان تسمع نغمة تتردد في كل الحروب: يقول "والآن أصابت اللعنة أشد ما أصابت جيلنا هذا، وكل ما مضى يتغير من سيئ إلى أسوأ، وأحس كل منا وطأة الحرب-حرب تتلوها حرب، ونفي وأخطار ورعب-وكلنا سئم في صميم نفسه من رؤية دمه مراقاً على رمح وهو حي لأن الرمح لم يصب هدفه. وقد فقد بعض القوم بضاعتهم وكل متاعهم، وذهب كل شيء، حتى اسم المنزل والأسرة والزوجة والذكرى. وما جدوى هذا كله؟ أبعض الشهرة؟ أم شكران الأمة؟ أم مكان في التاريخ؟ سيكتبون يوماً كتاباً، وعندها سنرى"(52).
ولم يعش ليره، ولكن مئات الكتب خلدت ذكراه في إعزاز كبير. وسجل المؤرخون موته باعتباره أحد أحداث عصره الكبرى. وطبعت أشعاره في مجلدات سهلة التداول حملها الجنود الأسبان في جيوبهم
إلى عديد من الأقطار. ولحن الموسيقيون الأسبان شعره قصائد غنائية، وأحال كتاب المسرحيات حوار قصائده الرعوية تمثيليات.
أما المسرحية الأسبانية فتوقفت عن الحركة، ولم تدر أنها عما قليل ستكون قريعاً للمسرحية الإليزابيثية. وكانت الملهاة ذات الفصل الواحد، والهزليات الناقدة، والفصول المأخوذة من الروايات الشعبية، يمثلها الممثلون الجوالون في الميادين العامة أو في أفنية الفنادق الصغيرة، وأحياناً في مقر أمير أو بلاط ملك. وقد حقق لوبي دي رويدا، الذي خلف جل فيتشنتي باعتباره أهم مورد للفصول التمثيلية لهذه الفرق، لنفسه الشهرة، وأعطانا لفظاً جديداً، بمهرجيه (البوبو).
وكثر عدد المؤرخون. وعين شارل الخامس جونزالو فرنانديز دي أوفيدو مؤخراً رسمياً للدنيا الجديدة، وأنجز عملاً متوسط الجودة هو تأليف كتاب ضخم سيئ الترتيب سماه "التاريخ العام والطبيعي لجزر الهند الغربية"(1535)، وقد أثرى خلال الأعوام الأربعين التي قضاها في أمريكا اللاتينية بفضل التنقيب عن الذهب، وساءه كتاب "قصة خراب جزر الهند"(1539 وما بعدها) الذي فضح فيه بارتلمي دلاس كازاس الاستغلال القاسي للعمال الوطنيين المستعبدين في المناجم الأمريكية. وكان لاس كازاس قد أبحر مع كولمبوس في 1502، وأصبح أسقفاً لكيابا بالمكسيك، وكرس حياته كلها تقريباً للدفاع عن قضية الهنود الحمر. وقد وصف في "مذكراته" التي وجهها للحكومة الإسبانية السرعة التي يموت بها الوطنيون في ظروف العمل الشاقة التي فرضها عليهم المستعمرون. فقال إن الهنود لم يألفوا غير العمل الخفيف بسبب حرارة مناخهم وبساطة طعامهم، ولم يستخرجوا الذهب من مناجمهم بل قنعوا بأخذه من سطح الأرض أو من قيعان
الجداول الضحلة، ولم يستعملوه إلا حيلة. وقد قدر لاس كازاس أن السكان الوطنيين لجزر الهند تناقصوا من 12. 000. 000 (وهو رقم مغالي فيه ولا ريب) إلى 14. 000 في ثمانية وثلاثين عاماً (53). وانضم المرسلون الدومنيكان والجزويت إلى لاس كازاس في الاحتجاج على هذا الرق الهندي (54)، وكانت إيزابللا لا تفتأ تندد به (55). ووضع فريداند وكسيمينيس شروطاً رحيمة بعض الشيء لتجنيد العمال الهنود (56)، ولكن تعليمات هؤلاء السادة بشأن معاملة الوطنيين كانت تلقي الإهمال في أغلب الأحيان أثناء استغراقهم الشديد في شئون السياسة الأوربية.
وقام جدل صغير حول فتح المكسيك. ذلك أن فرانشسكو لوييز دجومارا كتب يروي قصة هذا السطو الظالم في انحياز شديد لكورتيز. واحتج برنال دياز ديل كاستيللو على الرواية بأن ألف في 1568 "التاريخ الحقيقي لفتح إسبانيا الجديدة" وفيه دان كورتيز على اختصاصه نفسه بكل مفاخر الفتح ومكاسبه دون أن يترك إلا أقل القليل للجنود البواسل من أمثال برنال، هذا مع ثنائه على كورتيز مما يستحقه. والكتاب يستهوي القارئ لأنه يزخر بشهوة الحركة وبهجة الانتصار والدهشة البريئة مما كانت ترفل فيه مكسيك الأزاتكة من ثراء وترف. يقول "حين شاهدت ما أحاط بي من مناظر قلت لنفسي هذه جنة الدنيا" ثم يضيف "وهذا كله دمر"(57).
وقد نسبت أنضج المؤلفات في تاريخ إسبانيا، وأشهر رواية إسبانية كتبت في هذه الفترة، إلى كاتب واحد، اسمه ديجو أورتادو دي مندوزا ولد بغرناطة بعد أن فتحها فرديناند بنحو أحد عشر عاماً. وكان أبوه قد ظفر بالمجد لحسن بلائه في حصارها، فعين حاكماً للمدينة بعد سقوطها. وتلقى الفتى علومه في سلمنقة، وبولونيا، وبادوا، فحصل ثقافة عريضة في اللاتينية واليونانية والعربية، وفي الفلسفة والقانون، وراح
يجمع النصوص الكلاسيكية بحماسة أمير من أمراء النهضة، وحين أراده سليمان القانوني أن يحدد المكافأة التي يختارها جزاء خدمات معينة أداها للباب العالي، لم يطلب سوى بعض المخطوطات اليونانية. وقد حظي بمكانة مرموقة خلال خدمته الدبلوماسية لشارل الخامس في البندقية وروما ومجمع ترنت، ولما وبخه البابا بولس الثالث على حملة رسالة جافة من شارل إلى البابا، أجاب بكل كبرياء النبيل الأسباني:"إنني فارس، وكان أبي فارساً قبلي، وبهذا الوصف أرى أن واجبي يقتضيني أن أصدع بأوامر سيدي الملك، دون أن يساورني أي خوف من قداستكم، ما دمت أراعي واجب التبجيل لنائب المسيح. إنني خادم لملك أسبانيا .. وما دمت ممثلاً له فأنا في مأمن حتى من سخط قداستكم"(58).
وتتشكك الأبحاث الحديثة في صحة نسبة أول رواية بطلها متشرد ( Picaresque) في الأدب الأوربي لمندوزا، واسم الرواية "حياة ومغامرات لازاريللو دي تورميس". ومع أنها لم تطيع إلا عام 1553 فالراجح أنها كتبت قبل ذلك بأعوام كثيرة. ومما يثير الغرابة أن سليلاً لأسرة لا تفوقها في النبالة إلا الأسرة المالكة يختار لصاً ليكون بطلاً للقصة، وأشد غرابة أن رجلاً ربي في صباه ليكون قسيساً يهجو رجال الدين هجواً لاذعاً خمل محكمة التفتيش على حظر أي طبعات جديدة من الكتاب قبل تنقيته من جميع الشوائب المؤذية (59). ولازاريللو
(1)
هذا صبي متشرد يتعلم حيل السرقات الصغيرة أثناء اشتغاله قائداً لمتسول مكفوف، ثم يرتقي إلى جرائم أكبر حين يعمل خادماً لكاهن، ثم لراهب، ثم لقسيس كنيسة خاصة، ثم لناظر زراعة، ثم لبائع متجول لصكوك
(1)
ومعناها "لعازر الصغير"، إشارة إلى لعازر المسكين الوارد في إنجيل لوقا الإصحاح 16، ثم أصبح "متسولاً صغيراً" ثم صبياً يقود شحاذاً أعمى.
الغفران. ولكن حتى هذا اللص الشاب، المتمرس بشئون هذه الدنيا، تروعه بعض الغرائب التي لجأ إليها بائع صكوك الغفران المتجول ترويجاً لبضاعته. يقول "يجب أن أعترف أنني-ككثيرين غيري-كنت مخدوعاً وقتها فحسبت سيدي آية في القداسة"(60). وقد أدخلت هذه الرواية المرحة "أسلوب المتشرد" gusto picaresco في القصص، وابتعثت عدداً لا يحصى من الروايات المقلدة لها، والتي بلغت الذروة في أشهر قصص التشرد، وهي جيل بلا (1715 - 35) لمؤلفها ألان لساج Lesage.
واعتكف مندوزا في غرناطة بعد أن نفي من بلاط فيليب الثاني لأنه جرد سيفه في جدل بينه وبين غريم، وهناك نظم أشعاراً خفيفة فيها من التحرر ما حال دون طبعها وهو حي، ثم روى قصة ثورة المغاربة في 1568 - 70 في "تاريخ حرب غرناطة" في نزاهة وإنصاف للمغاربة حبسا هذا الكتاب أيضاً عن النشر، فلم يتيسر طبعه إلا في 1610، ولم يطبع منه وقتها غير جزء واحد، واتخذ مندوزا من صالوست مثلاً يحتذيه ولكنه تفوق عليه، وسرق من تاسيتوس موضوعاً أو اثنين، ولكن يمكن القول على الجملة أن كتابه كان أول مؤلف أسباني تجاوز مجرد السرد الإخباري أو الدعاية إلى التاريخ الواقعي المفسر بإدراك فلسفي، والمعروض بمهارة أدبية. ومات مندوزا عام 1575 وهو في الثانية والسبعين، وكان من أكثر الشخصيات تكاملاً في عصر حفل بالرجال المتكاملين.
في هذه الصفحات العجلى يدخل الضمير دائماً في سباق مع الزمن، وينبه القلم المستعجل إلى أنه، كالمسافر المسرع، إنما يمس السطح فقط. فكم من ناشرين ومعلمين وعلماء وأدباء ورعاة للعلم وشعراء وروائيين وثوار متهورين جاهدوا نصف قرن لينتجوا هذا الأدب الذي ضغطناه
في هذه الصفحات. كم من روائع أغفلنا اسمها، وأمم ضربنا صفحاً عن ذكرها، وأشخاص كانوا يوماً في عداد العباقرة الخالدين أهملناهم إلا من كلمات معدودات! ولكن لا حيلة لنا في هذا. فالمداد ينضب، ويجب قبل نضوبه أن نقنع بما يسفر عنه رشاشة وخطوطه من صورة غائمة لرجال ونساء يتخففون برهة من عناء اللاهوت والحرب، ويحبون أشكال الجمال كما يحبون سراب الحقيقة والقوة، يبنون الألفاظ وينحتونها ويصورونها-إلى أن يجد الفكر فناً يكسوه، وتمتزج الحكمة بالموسيقى، وينهض الأدب ليتيح لأمة أن تتكلم، ولعصر أن يصب روحه في قالب شكل في شغف كبير ليصونه الزمن نفسه وينقله خلال مئات الكوارث تراثاً للبشرية.
الفصل السادس والثلاثون
الفن في عصر هولبين
1517 - 1564
1 -
الفن، والإصلاح البروتستنتي، والنهضة
لقد فرض على الفن أن يقاسي من جراء حركة الإصلاح البروتستنتي، ولو لمجرد إيمان البروتستنتية بالوصايا العشر. ألم يقل الرب الإله، "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض"(خروج 20 - 4) فأنى للفن التصويري أن يعيش بعد هذا التحريم الشامل؟ فأما اليهود فقد صدعوا بالأمر وأغفلوا الفن. وأما المسلمون فكادوا يغفلونه، واكتفوا بجعل فنهم فناً زخرفياً، تجريدياً إلى حد كبير، يمثل في أغلبه الأشياء، وقل أن يمثل الأشخاص، ولا يمثل الله أبداً. واتبعت البروتستنتية هذا الخط السامي بعد أن كشف العهد القديم من جديد، وأما الكاثوليكية التي طغى تراثها اليوناني الروماني على أصلها اليهودي فقد تجاهلت هذا التحريم المرة بعد المرة. وشكل النحت القوطي القديسين والآلهة من الحجر، وصور الرسم الإيطالي قصة الكتاب المقدس، ونسيت النهضة كل النسيان هذه الوصية الثانية وسط ازدهار الفن التصويري ازدهاراً رائعاً. فلعل هذا الخطر القديم قصد به تحريم التصوير لأغراض السحر؛ وكان لرعاة الفن في إيطالية النهضة من الفطنة وسلامة الإدراك ما جعلهم يضربون صفحاً عن تحريم بدائي لم يعد له الآن معنى.
وكانت الكنيسة، وهي أعظم رعاة الفن قاطبة، قد استخدمت الفنون لتنشئ غير المتعلمين على عقائد الإيمان وأساطيره. وبدا ذا الاستخدام أمراً معقولاً في نظر رجل الدولة الكنسي، الذي شعر بأن الأساطير ضرورة لا غنى عنها للأخلاق. ولكن حين احتالت الكنيسة بأساطير- كأسطورة المطهر- لتجمع المال الذي تنفقه في مختلف وجوه الإسراف والفساد، تمرد المصلحون- ولهم العذر- على التصوير والنحت اللذين يثبتان الأساطير في عقول الناس. وفي هذا الأمر كان لوثر معتدلاً، حتى إذا اضطره الأمر لمراجعة الوصايا. "أنا لا أزعم أن على الإنجيل أن يدمر كل الفنون كما يعتقد بعض المؤمنين بالخرافات. فأنا على العكس أتمنى أن أرى جميع الفنون .... تخدمه تعالى وهو الذي خلقها ووهبنا إياها. إن ناموس موسى لم يحرم سوى تمثال الله"(1). وفي عام 1526 دعا أتباعه إلى "مهاجمة
…
الوثنيين الذين يعبدون عدو المسيح (بابا روما) بالتصوير" (2). وحتى كالفن، الذي كان أتباعه أشد محطمي الأصنام حماسة، وافق على التماثيل موافقة محدودة فقال: "لست شديد التزمت بحيث أحكم بتحريم كل التماثيل
…
ولكن بما أن فن التصوير والنحت
…
آت من الخالق، فإني أريد أن تصان ممارسة الفن نقية مشروعة. لذلك يجب ألا يرسم أو ينحت شيء إلا ما يرى بالعين (3)". ولكن المصلحين الأقل إنسانية من لوثر، والأقل حذراً من كالفن، آثروا تحريم الصور والنحت الدينيين بتاتاً، وتجريد كنائسهم من الزخارف إطلاقاً. وأقصى "الصدق" الجمال لأنه كافر. أما في إنجلترا وإسكتلندة وسويسرة وشمالي ألمانيا فكان التدمير بالجملة وبلا تمييز. وأما في فرنسا فقد صهر الهيجونوت أوعية الذخائر والنفائس الدينية وغيرها من الآنية التي عثروا عليها في الكنائس التي وقعت في أيديهم. وعلينا أن نتصور غيرة رجال خاطروا بحياتهم ليصلحوا الدين قبل أن نستطيع فهم سورة
الغضب التي دمرت في لحظات الانتصار تلك التماثيل التي عاونت على إخضاعهم. لقد كان التخريب وحشياً وهمجياً، ولكن الذنب فيه يجب أن يلقي على تلك المؤسسة التي ظلت قروناً تضع العقبات في طريق إصلاح ذاتها.
وانتهت حياة الفن القوطي في هذه الفترة، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي لم تكن سوى سبب واحد من أسباب موته. صحيح أن الانتقاض على الكنيسة الوسيطة رافقه زهد في طرز العمارة والزخرفة التي طالما اقترنت بهذه الكنيسة. بيد أن الفن القوطي كان يحتضر حتى قبل أن يتكلم لوثر. كان يشكو في فرنسا الكاثوليكية شكواه في ألمانيا وإنجلترا المتمردتين؛ لقد احترق في وهج ناره، وكانت النهضة كما كانت حركة الإصلاح البروتستنتي كارثة عليه. ذلك أن النهضة أقبلت من إيطاليا التي لم تحب القوطي قط، والتي سخرت منه حتى وهي تقتبسه، وقد انتشرت النهضة أكثر ما انتشرت بين المتعلمين الذين لم يستطع تشككهم المهذب أن يتفهم ذلك الإيمان المشبوب، إيمان الحروب الصليبية وعهد القوط، وإذ تقدمت حركة الإصلاح البروتستنتي، أصاب الكنيسة ذاتها، التي وجدت في العمارة القوطية التعبير الفني الأسمى لها، فقر شديد من جراء فقدها بريطانيا وألمانيا وإسكندناوة، ومن جراء الغارات التي شنها الملوك الكاثوليك على دخلها بحيث لم تقو على تمويل الفن بالسخاء الذي مولته به من قبل، أو على تقرير الذوق والطراز الفني. وراحت النهضة- تلك الحركة ذات التأثير الدنيوي والوثني-تؤكد يوماً بعد يوم ميولها ونزعاتها الكلاسيكية التي تغلبت على التقاليد المقدسة، تقاليد الإيمان والشكل الوسيطين. وتخطى الناس-في غير تقوى-قروناً من التقوى والخوف ليستعيدوا من جديد مشاعر العصر القديم الشبوبة، مشاعر حب العالم وحب اللذة. وأعلنت الحرب على الفن القوطي بوصفه
فن الهمج الذين دمروا الإمبراطورية، وعاد إلى الحياة الرومان المغلوبون، فبنوا معابدهم من جديد، وأخرجوا من ظلام الإهمال تماثيل آلهتهم، وأمروا إيطاليا أولاً، ثم فرنسا وإنجلترا، أن تستأنف ذلك الفن الذي تجسد فيه مجد اليونان وعظمة الرومان. وهكذا هزمت النهضة الفن القوطي، أما في فرنسا فقد هزمت الإصلاح البروتستنتي.
(2) فن النهضة الفرنسية
1 -
مرض البناء
خاض الفن القوطي معركة في المعمار الكنسي الفرنسي ليمد في أجله حيناً، ونجح في معركته. فأضافت بعض الكاتدرائيات القديمة عناصر جديدة كانت بالضرورة قوطية، وهكذا أكملت كنيسة القديس بطرس بمدينة كان خورسها الشهير، وبنت كنيسة بوفيه جناحها الجنوبي، وبذل الفن القوطي جهد المحتضر تقريباً حين شيد جان فاست فوق معبد هذا الجناح برجاً ارتفع 500 قدم (1553). فلما انهارت هذه الجرأة الشامخة في عيد الصعود عام 1573 وسقط البرج فوق الخورس المتهدم، كانت الكارثة رمزاً لخاتمة أنبل الطرز في تاريخ العمارة.
وارتفعت في هذه الفترة مفاخر قوطية أقل من هذه شأناً في بونتواز وكوتانس وأكثر من عشر مدن فرنسية أخرى. وفي باريس التي تكشف كل نظرة إليها عن معجزة من معجزات ماض مؤمن، بنيت كنيستان قوطيتان جميلتان: سانت إتيين دمون (1492 - 1626)، وسانت أوستاش (1532 - 1654). غير أن ملامح النهضة تسللت إليهما: كالحجاب الحجري الفخم الذي يستدير فوق الخورس في كنيسة سانت إتيين، والعمد المركبة والتيجان شبه الكورنثية في سانت أوستاش.
كان حلول عمارة النهضة اللادينية محل العمارة القوطية الكنسية انعكاساً
لذوق فرانسوا الأول، ولإتكاء النزعة الإنسانية على اللذة الدنيوية دون الرجاء السماوي. وانصرفت الآن كل ثمرات الازدهار الاقتصادي، والرعاية الأرستقراطية، ونزعة اللذة الوثنية- هذه كلها التي غذت من قبل نيران الفن في إيطالية النهضة، انصرفت إلى تغذية الجهود المخلصة التي بذلها المعماريون والرسامون والنحاتون والخزافون والصائغون في فرنسا. واستقدم الفنانون الإيطاليون إلى فرنسا ليمزجوا بين مهاراتهم وعناصرهم الزخرفية وبين ما تخلف من الأشكال القوطية. وتضافرت روعة التصميم الإيطالي، وواقعية التصوير الفلمنكي، وذوق الأرستقراطية الفرنسية وجمالها الخنثوي، لتنتج في فرنسز فناً تحدى تفوق الفن الإيطالي وورث هذا التفوق. ولم يقتصر هذا الفن على باريس وحدها، بل جاوزها إلى فونتنبلو، ومولان، وتور، وبورج، وأنجيه، وليون، وديجون، وأفنيون، وإكس أن بروفانس.
وكان على رأس الحركة ملك أحب الفن حب المتيم المتحمس ولكن في فهم وتمييز. وتركت روح فرانسوا الأول الخلية المشرقة طابعها على المعمار خلال حكمه. وكان يقول لفنانيه الجرأة الجرأة! " (4) ويتركهم ليجربوا بطريقة لم تسمح بها حتى إيطاليا من قبل. وقد تبين براعة الفنانين الفلمنك في تصوير الأشخاص، فاحتفظ بجان كلويه رساماً لبلاطه، وطلب إلى جوس فان كليف أن يرسم صوراً له ولحاشيته. ولكن إيطاليا كانت ملهمته في جميع فنون الصقل والزخرفة. فقد زار ميلان وبافيا وبولونيا وغيرها من المدن الإيطالية عقب انتصاره في مارنيانو (1515)، وراح يدرس في حسد عمارة هذه المدن ورسومها وفنونها الصغيرة. وقد نقل تشلليني عنه قوله: "أذكر جيداً أنني فحصت خيرة الأعمال الفنية التي أبدعها عظم الفنانين في إيطاليا كلها" (5). ولعل هذه المبالغة أن تكون من صنع تشلليني المتحمس. على أن
فازاري يلاحظ في مواضع كثيرة شراء فرانسوا الأول للآثار الفنية الإيطالية بوساطة عملاء له في روما وفلورنسة والبندقية وميلان. وبفضل هذه الجهود استطاعت "موناليزا" ليوناردو، و "ليدا" ميكل أنجيلو، و "فينوس برونزينو وكيوبيده"، و "مجدلية" تيشان (تزيانو)، ومئات الزهريات والمداليات والرسوم الصغيرة والصور الزيتية وقطع النسيج المرسومة- استطاعت هذه كلها أن تعبر جبال الألب لتستقر آخر المطاف في اللوفر.
ولو كان الأمر بيد هذا الملك المتحمس لاستقدم نوابغ الفنانين الإيطاليين جميعاً. وكان هذا يقضي إغراءهم بإغداق المال عليهم. قال لتشلليني واعداً "سأتخمك ذهباً" وجاءه بنفينوتو ومكث فترات متقطعة (1541 - 45)، كانت كافية لإرساء قدم الصياغة الفرنسية في تقليد من التصميمات البديعة والأساليب الفنية الرائعة. وكان دومنيكو برنابي "بوكادورو" قد وفد على فرنسا أيام شارل الثامن، فوكل إليه فرانسوا الأول رسم "أوتيل دفيل" جديد لباريس (1532). وقد استغرق إنجازه قرابة قرن، وأحرقه كومون 1817، فبني من جديد وفق التصميم الذي وضعه بوكادورو. وأقبل ليوناردو في شيخوخته (1516)، وقدمت إليه دنيا الفن والنبالة الفرنسية فروض العبادة، ولكنا لا نعرف له أثراً أبدعته يداه في فرنسا. وجاء أندريا ديل سارتو (1518)، ولكنه سرعان ما هرب. وأغرق جوفاني باتيستا "إلروسو" بالرحيل عن فلورنسة (1530) فأقام بفرنسا حتى مات منتحراً. وتلقى جيولو رومانو دعوات عاجلة، ولكن مانتوا كانت تفتنه بسحرها؛ على أنه أوفد مساعده النابغة فرانشسكو بريماتيتشيو (1532)، وجاء فرانشسكو بللجرينو، وكذلك جاكومو دا فنيولا، ونيكولو دللاباتي، وسبستيانو سرليو، وربما كثيرون غيرهم. وشجع الفنانون الفرنسيون في الوقت ذاته على الذهاب إلى إيطاليا ودراسة قصور فلورنسة وفراراً وميلان وكنيسة القديس
بطرس الجاري تشييدها في روما. ولم يحدث مثل هذا النقل الفني للدم الثقافي منذ أن غزا الفن والفكر اليونانيان روما القديمة.
وساء الفنانين الوطنيين والفلمنلكيين هذا الإغواء الإيطالي، وسجل تاريخ العمارة الفرنسية احتدام معركة ملكية طوال نصف قرن (1498 - 1545) بين طراز قوطي تأصلت جذوره في التربة الفرنسية وسط حب الناس له وتعلقهم به، وبين البدع الإيطالية المتسللة إلى فرنسا في أذيال الفاتحين المغلوبين. وتجلى الصراع في الحجر في قصور اللوار، ففيها ظل الفن القوطي صاحب الكلمة العليا، وسيطر مهرة البنائين الغالبين على تصميم البناء: قلعة إقطاعية يحيط بها خندق يحميها، وأبراج أشبه بالحصون تعلو في الأركان في سمت عمودي جليل، ونوافذ فسيحة ذات عمد لتغري الشمس بالدخول، وأسطح مائلة تنزلق من فوقها الثلوج، ورواشن ناتئة من السقوف كأنها المونوكلات. على أنه سمح للغزاة الإيطاليين بخفض الباكية المدببة لتعود إلى شكلها المستدير القديم، وبتنظيم الواجهات في صفوف من النوافذ المستطيلة المدعمة بالعمد والمتوجة بالقواصر، وزخرفة الداخل بزخارف كلاسيكية من الأعمدة والتيجان والأفاريز والقوالب والحليات المدورة والنقوش العربية والحليات القرنية المنحوتة الممثلة للنبات والزهر والفاكهة والحيوان وصدور الأباطرة والآلهة الأسطورية. كان الطرازان القوطي والكلاسيكي من الناحية النظرية متناقضين، ولكنه مزج الفرنسيين بينهما في هذا الجمال المتسق بفضل التمييز والذوق الفرنسيين أعان على جعل فرنسا يونان العالم الحديث.
وتسلطت على فرنسا، أو قل على فرانسوا "حمى البناء" كما سماها قائد أخذ منه العجب كل مأخذ (6). فأضاف إلى قصر بلوا القديم (1515 - 19) للمملكة كلود جناحاً شمالياً كان مهندسه المعماري فرنسياً يدعى جاك سوردو، ولكن الطراز الذي بناه به كان طراز النهضة
بعينه. وإذ رأى سوردو من غير المناسب أن يبني سلماً داخل الجناح المضاف فقد صمم رائعة من روائع العصر المعمارية- وهي بيت للسلم حلزوني خارجي يرقى في برج مثمن، بثلاثة طوابق، إلى بهو معمد أنيق يبرز من السطح، وكل طابق يحليه زخرف فاخر من شرفة منحوتة.
وبعد أن ماتت مليكته المرهقة، وجه فرانسوا شغفه بالمعمار إلى شامبور، وتقع على ثلاثة أميال جنوبي اللوار وعشرة أميال شمال شرقي بلوا. وكان أمراء أورليان قد بنوا هناك استراحة للصيد، فبنى فرانسوا عوضاً عنها قصراً غلب عليه الطراز القوطي، وبلغ اتساعه حداً احتاج معه إلى جهد 1. 800 عامل على مدى اثني عشر عاماً، ولا غرو فقد احتوى على 440 حجرة، ومرابط لخيل يصل عددها إلى 1. 200. وأبدع مصمموه الفرنسيون رسم واجهته الشمالية ولكنها اختلطت بمتاهة من الأبراج، و "الفوانيس"، والقمم، والزخارف المنحوتة. وميزوا داخل القصر ببيت للسلم حلزوني فخم جداً، فريد بممره المزدوج الذي يفصل المصعد عن المهبط. وكان فرانسوا يؤثر شامبور ويراها مكاناً ممتعاً للصيد، وفيها أحبت حاشيته أن تحتشد في كل زينتها، وفيها قضى سني عمره الأخيرة. وقد دمر الثوار في 1793 معظم الزخرف الداخلي للقصر بدافع الانتقام المتأخر من إسراف الملوك الفرنسيين، وهناك قصر آخر شيد على عهد فرانسوا- وهو قصر مدريد في غابة بولون- وقد حلاه جيرولامو ديللا روبيا بواجهة من الخزف الإيطالي (الميوليك)، ولكنه دمر تدميراً تاماً أيام الثورة.
على أن الإسراف لم يقتصر على الملك وحده. ذلك أن كثيراً من مساعديه شادوا لأنفسهم قصوراً ما زالت تبدو وكأنها مجلوبة من أرض الجان. ومن أروعها آزيه- لو- ريدو، على جزيرة في الآندر، أما صاحبه
جيل برتيلو، الذي بناه في 1521، فلم يكن خازناً لفرنسا عبثاً، وبنى توما بوييه كبير مأموري الضرائب في نورماندية قصر شينونسو (1513 وما بعدها)، وأعاد جان كوتو وزير المالية بناء قصر مانتنون، وشيد جيوم دمونمورنسي في شانتبي (1530) قصراً فخماً كان ضحية أخرى من ضحايا الثورة. وبنى ابنه آن دمونمورنسي، أحد كبار موظفي الأمن في فرنسا، قصر إيكوان (1531 - 40) على مقربة من سان دنيس. ورمم جان ليبرتون، وزير الدولة، قصر فيللاندريه، وأكمل شارل دسبيني قصر أوسيه. أضف إلى هذه كلها "أوتيلات" أو قصور فالنسي، وسمبلانسي في تور، واسكوفيل في كان، وبرنوي في تولوز، ولالمون في بورج، وبور- ترولد في روان، وعشرات غيرها، وكلها من نتاج هذا العهد المسرف، وفي وسعنا أن نحكم الآن على مدى ثراء النبلاء وفقر الشعب في تلك الفترة.
وأحس فرانسوا أن قصر فونتنبلو الذي يسكنه لا يفي بأغراضه، فقرر أن يعيد بناء ما بناه لويس السابع ولويس التاسع من قبل، لأن فونتنبلو كانت كما قال تشلليني "أحب بقاع المملكة إلى الملك". لذلك رمم البرج المحصن والكنيسة. أما باقي القصر فهدم، وأقام جيل دبريتون وبيير شامبيج مكانه، بطراز النهضة، مجموعة من القصور ربط بينها "بهو فرانسوا الأول" الرشيق. أما مظهر القصر فلم يكن جذاباً، ولعل الملك رأى- كما رأى أقطاب التجارة بفلورنسة- أن واجهة ضخمة لقصر قريب جداً من المدينة قد تثير حسد الجماهير. فاحتفظ بميوله الجمالية ليشبعها بزخرفة الداخل، واعتمد في هذه المهمة على فنانين إيطاليين نشئوا على التقاليد الزخرفية التي أرساها رفائيل وجوليو رومانو.
وظل إل روسو- الذي اشتق لقبه هذا من تورد وجهه- عشر سنوات (1531 - 41) عاكفاً على زخرفة بهو فرانسوا الأول. ويصف فازاري
هذا الفنان الذي كان يومها في عامه السابع والثلاثين بأنه رجل "ذو طلعة مشرقة، وحديث رزين لطيف، موسيقار كفء، وفيلسوف ضليع" و "معماري ممتاز"، وهو إلى ذلك نحات ومصور (7). وكذلك كان الرجال المتكاملون من أهل عصر التوسع الذي نحن بصدده. وقسم روسو الجدران إلى خمسة عشر حشوة، كلها محلي بطراز النهضة المسرف: قاعدة من السنديان الجوزي المنقوش والمطعم، ولوحة جصية جدارية ذات مناظر من الأساطير الكلاسيكية أو التاريخ، ومحيط غني من الزخارف الجصية في التماثيل، والودع، والسلاح، والمداليات، وأشكال الحيوان أو الإنسان، وأكاليل الزهر أو الفاكهة، ثم سقف من الخشب العميق الحفر يكمل تأثير اللون الدافئ، والجمال الحسي، والبهجة العابثة. وكان هذا كله ينسجم غاية الانسجام مع ذوق الملك، فأنعم على روسو ببيت في باريس، وبمعاش قدره 1. 400 جنيه (35. 000 دولار؟) في العام. يقول قازاي "وعاش الفنان في بذخ النبلاء، يحف به من خدمه وخيوله، ويولم الولائم لأصدقائه"(8). وقد جند لخدمته من المصورين والنحاتين ستة من الإيطاليين، وعدة فرنسيين، وهم الأصل والنواة ل "مدرسة فونتنبلو". وفي قمة نجاحه وعظمته قضى طبعه الإيطالي الحاد على نشاطه. ذلك أنه اتهم أحد مساعديه المدعو فرانشسكو بللجرينو بالسرقة. ولكن براءة بللجرينو تكشفت بعد أن عذب عذاباً شديداً. وشعر روسو بالخزي وتأنيب الضمير، فتجرع السم ومات معذباً، ولما يجاوز السادسة والأربعين (1541).
وحزن عليه فرانسوا، ولكنه كان قد وجد في بريماتتشيو فناناً قادراً على مواصلة عمل روسو بالأسلوب ذاته، أسلوب الخيال الشهواني. كان بريماتتشيو فني وسيماً في السابعة والعشرين يوم وطئ أرض في فرنسا عام 1532. وسرعان ما تبين الملك كفاياته المتعددة معمارياً ومثالاً ومصوراً.
فعين له عدد من المساعدين، وراتباً طيباً، ثم اختصه بعد ذلك بموارد أحد الأديار، وهكذا حولت عطايا المؤمنين إلى فن لعله كان يصدم مشاعر الرهبان لو شهدوه. وصمم بريماتتشيو رسوماً للمصنع الملكي لنسيج المرسوم، وحفر رفاً رائعاً لمدفأة حجرة الملكة إليونورا بقصر فونتنبلو، ورد على رعاية الدوقة ديتامب وحمايتها إياه بتزيين حجرتها في القصر بصور وتماثيل جصية. وقد ماتت الصور مرات تحت ترميماتها العديدة، ولكن التماثيل محتفظة بروعتها، وبينها تمثال من الجص لسيدة ترفع يديها إلى طنف، وهو من أبدع التماثيل في الفن الفرنسي. ترى كيف يسع ملكاً تعشق مثل هذا العري المتظاهر بالاحتشام أن يرتضي الكالفنية بديلاً عن كنيسة تبتسم في تسامح لتصوير هؤلاء العاريات الفاتنات؟.
ولم تهتز مكانة بريماتتشيو ولا هذب أسلوبه بعد موت هذا الملك "الساطير" وارتقاء هنري الثاني للعرش، فقد عكف الآن (1551 - 56) بمساعدة فيليبير ديلورم ونيكولو ديللاباتي على تصميم بهو هنري الثاني في فونتنبلو وتصويره ونقشه وتزيينه بشتى الزخارف. وقد دمرت اللوحات هي الأخرى، ولكن جمال التماثيل الأنثوية ما زال يخلب الألباب، وفي الجدار النهائي من العناصر الكلاسيكية ما يجعله الروعة مجسمة والجلال متجسداً. وفاق بهو أوليس في روعته حتى بهو هنري الثاني على ما روي (لأن البهو دمر في 1738)، وقد زينه بريماتتشيو ورفاقه بمواضيع مختارة من الأوديسا بلغ عددها 161.
ويعين قصر فونتنبلو انتصار الطراز الكلاسيكي في فرنسا. وقد ملأ فرانسوا قاعاته بتماثيل وتحف اشتريت له في إيطاليا فدعمت روعتها رسالة الفن الكلاسيكي. وفي هذه الأثناء نشر سباستيانو سيرليو، الذي عمل فترة في قصر فونتنبلو، كتابه Opere di arehitettura، (1548) ، وفيه بشر بالكلاسيكية الفتروفية التي دان بها أستاذه بالداسار
بتروتزي، وقد قام بترجمته إلى الفرنسية لتوه جان مارتان، الذي ترجم أيضاً فتروفيوس (1547). وراح الفنانون الفرنسيون الذين دربهم روسو أو بريماتتشيو ببثون من مدرسة فونتنبلو القواعد والمثل الكلاسيكية في أرجاء فرنسا، فظلت مسيطرة عليها قروناً هي وما يقابلها من أشكال الأدب الكلاسيكية التي بدأتها جماعة البلياد. وذهب الفنانون الفرنسيون أمثال جاك أ. دسرسو، وجان بوللان، وديلورم، إلى إيطاليا منفعلين بسرليو وفتروفيوس، لكي يدرسوا آثار العمارة الرومانية، ونشروا بعد عودتهم أبحاثاً صاغوا فيها الأفكار الكلاسيكية. ونددوا كما ندد رونسار ودبلليه بالطرز الوسيطة لما فيها من همجية، وصمموا على تهذيب المضمون وإحالته شكلاً. وبفضل هؤلاء الرجال وكتبهم انبعث المعماري فناناً متميزاً عن البناء الماهر، ذا مكان مرموق في السلم الاجتماعي. ولم تعد بذلك حاجة إلى الفنانين الإيطاليين في حركة البناء الفرنسية، لأن فرنسا تخطت الآن إيطاليا إلى روما القديمة ذاتها تستوحيها فنون المعمار، وجمعت جمعاً رائعاً بين الأساليب الكلاسيكية وتقاليد فرنسا ومناخها.
في هذا الجو- جو الفكر والفن- ارتفع أنبل بناء مدني في فرنسا. والمتأمل للوفر اليوم من شاطئ السين الأيسر، والمتجول يوماً بعد يوم خلال متحف العالم هذا الحافل بالكنوز، يتضاءل خشوعاً ورهبة أمام ضخامة هذا الأثر. ولو خيرنا أي بناء فرد نرى الإبقاء عليه في كارثة عالمية مدمرة لاخترقنا اللوفر. كان فليب أغسطس قد بدأ تشييده حوالي عام 1191 قلعة محصنة تقي باريس شر الغزو على طول نهر السين. ثم أضاف شارل الخامس جناحين جديدين (1537) وبيتاً للسلم من خارج ريما كان الموحى بتحفة قصر بلوا. ولما وجد فرانسوا أن هذا البناء الوسيط، نصف القصر ونصف السجن، غير صالح لسكناه ولهوه،
أمر بهدمه وعهد إلى ببير ليسكو (1556) أن يقيم في مكانه قصراً يليق بملك يتربع على عرش فرنسا النهضة. ولما مات فرانسوا بعد عام أمر هنري الثاني بالمضي في المشروع.
كان ليسكو نبيلاً وقسيساً، فهو سيد كلاني الإقطاعي، ورئيس دير كليرمون، وكاهن نوتردام، ومصور ونحات معماري. وهو الذي صمم علية الصليب في كنيسة سان جرمان لوكسروا (التي دمرت في 1745) والقصر الذي أصبح الآن "أوتيل كارنافاليه". وقد استعان في هذين العملين بصديقه جان جوجون ليقوم بالنحت الزخرفي، وحين تقدم العمل في اللوفر الجديد دعا جوجون ليزينه. وفي 1548 شيد ليسكو الجناح الغربي للقصور التي تضم اليوم فناء اللوفر المربع (الكوركاريه). أما الواجهة فهي من الأرض إلى السطح من إملاء طراز النهضة الإيطالية، على وجه الحصر (كما كان رابليه يقول لو رآها): ثلاثة صفوف من النوافذ المستطيلة، وتفصل بين الصفوف كرانيش من الرخام، أما النوافذ فتفصل بينها عدة أعمدة كلاسيكية، ثم ثلاثة أروقة تعتمد على عمد كلاسيكية أنيقة، ولم يكن فرنسياً غير السقف المائل، ولكن الحلبات المعمارية كانت هنا أيضاً ذات جمال كلاسيكي. ولولا أن جوجون أدخل تماثيل في كوي الأروقة وحفر نقوشاً بديعة في القواصر وتحت الكرانيش، وتوج النتوء الأوسط بشعار هنري وديانا- لولا هذا لكان المنظر العام شديد الصرامة. وفي داخل جناح ليسكو هذا بني جوجون قاعة تسمى Salle des Cariatides- أربع إناث رائعات يسندن شرفة للموسيقيين؛ وجوجون أيضاً هو الذي زخرف قبو السلم الكبير المؤدي إلى الحجرة الملكية التي نام فيها ملوك فرنسا ابتداء من هنري الرابع إلى لويس الرابع عشر. واستمر العمل في بناء اللوفر وزخرفته أيام شارل التاسع وهنري الرابع ولويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر
ونابليون الأول ونابليون الثالث، ملتزماً على الدوام الطراز الذي حدده ليسكو وجوجون بحيث أصبح هذا الصرح الفسيح هو العصارة المركزة لثلاثة قرون ونصف من حضارة طحنت كد الشعب لتخرج منه هذه الروائع الفنية. ترى، أكان ممكناً بناء اللوفر لو أنصفت الأرستقراطية الشعب؟.
وأبدع فيليبير ديلورم لهنري الثاني وديان دبواتييه آيات في العمارة كأنها في سحرها جنات عدن. وقد درس فيليير في شبابه آثار روما القديمة وقومها، فأحبها، ولكنه أعلن عقب عودته إلى فرنسا أن العمارة الفرنسية يجب منذ الآن أن تكون فرنسية. وكانت روحه- روح الوثنية الكلاسيكية والوطنية الفرنسية- هي بالضبط برنامج جماعة البلياد. وقد صمم سلم "الكورد يزادييه" Cour des Adieux بفونتنبلو على شكل حدوة حصان، والمدفأة والسقف الغائر النقوش في بهو هنري الثاني. وشيد لديان في آنيه (1548 - 53) مدينة حقيقية من القصور والحدائق الرسمية، وهناك وضع تشلليني تمثاله "حورية فونتنبلو" في قوصرة، وبز جوجون المثال الفلورنسي بمجموعته التي تمثل ديانا وأيلها. ومعظم هذا الفردوس النفيس حل به الدمار، ولم يبق منه سوى بوابة لا تثير إعجاباً بذكر في فناء مدرسة الفنون الجميلة بباريس. ولأجل هذه الخليلة المنتصرة نفسها أكمل قصر شنوسو- هدية صغيرة من مليكها المتيم، وفيليب هو الذي فكر في مد القصر عبر الشير. ولما أخذت كاترين مديتشي القصر من ديان، واصل ديلورم جهوده الشاقة فيه حتى اكتملت هذه الآية الفنية. على أن أسلوبه الرياضي المسرف لم ينل الرضا حيناً، فاعتكف ليؤلف بحثاً موسوعياً في العمارة. ثم دعته كاترين ثانية في شيخوخته ليستأنف العمل، فصمم لها قصراً جديداً هو التويلري (1564 - 70) الذي دمره كومون
1871.
وقد تلقى الفنان من جميع رعاة فنه مكافآت سخية. فأصبح قسيساً، شغل عدة وظائف كنسية مجزية. ثم مات في 1570 كاهناً لنوتردام، بعد أن دبر في وصيته مستقبل طفليه غير الشرعيين (9).
كان جان بولان الثالث المعماريين النوابغ الذين زينوا فرنسا في عهود زوج كاترين وأبنائها. وقد اكتسب شهرته في ثلاثيناته بمدينة أكوان إذ صمم قصراً ريفياً لآن دمونمورنسي بلغ الكمال في خطوطه الكلاسيكية. وفي ستيناته خلف ديلورم في بناء التويلري وواصل العمل إلى أن مات- "من يوم إلى يوم، أموت وأنا أتعلم" على حد قوله.
لقد درج الناس على أن يأسفوا لاستيراد العمارة الفرنسية للطرز الإيطالية، وعلى أن يقولوا إن الفن القوطي الوطني لو ترك دون أن يحرفه هذا التأثير لتطور إلى عمارة مدنية أنسب للرشاقة الفرنسية من الخطوط الصارمة نسبياً التي اتسمت بها الطرز الكلاسيكية. ولكن الفن القوطي كان في طريقه إلى الموت من الشيخوخة، ربما من الإسراف الهرم والزوقة العتيقة؛ لقد جرى شوطه وانتهى. وكان اتكاء الفن اليوناني على ضبط النفس والاستقرار والخطوط البنائية الواضحة خير ما يصلح للتخفيف من الاندفاع الفرنسي والسير به إلى نضج مهذب. وقد ضحى في هذا السبيل ببعض طرافة العصر الوسيط، ولكن هذه أيضاً عاشت أيامها وانقضت، وهي لا تبدو جذابة إلا لأنها ماتت. ولما طور معمار النهضة الفرنسية طابعه القومي الخاص، مازجاً الرواشن والسطوح المائلة بالأعمدة والتيجان والقواصر، منح فرنسا طوال ثلاثة قرون طرازاً في البناء كان مثار حسد أوربا الغربية. ونحن نحس الآن أن هذا الطراز كان جميلاً لأنه هو الآخر في طريقه إلى الزوال.
2 - الفنون الملحقة
قام مئات من الصناع الفنانين بتزيين الحياة الفرنسية في هذا العصر المرح، عصر فرانسوا الأول وهنري الثاني. ونقش النجارون مقاعد المرتلين في كنائس بوفيه، وآميان، وأوخ، وبرو، وتجرءوا على زخرفة المباني القوطية بمناظر حية من النهضة تمثل آلهة الحقوق، والعرافات. وأتباع باخوس والسواتير، بل تمثل بين الحين والحين فينوس أو كيوبيد، أو جانيميد. أو قد تراهم- لكي نلاحقهم ملاحقة محمومة- يصنعون الموائد، والكراسي، والإطارات، والمراكع، والأسرة، والخزائن، وينقشونها بزخارف ربما كانت مسرفة، أو يكتفونها بالمعادن أو يطعمونها بالعاج أو الأحجار الكريمة. أما صناع الأشغال المعدنية الذين بلغوا الآن ذروة الإتقان فقد خلعوا الجمال الرائع على الأواني والأسلحة بزخرفتها بالنقوش الدمشقية أو بحفرها، ورسموا النوافذ ذات المصبعات- بقصائد من الشعر في زخرف حديدي من الشجر- للكنائس والهياكل والحدائق والمقابر، أو صنعوا مفصلات كتلك التي نراها على أبواب نوتردام الغربية، وفيها من الجمال ما جعل الأتقياء ينسبون صنعها إلى أيدي الملائكة. وقد اعترف تشلليني، وهو الذي لم يبق لغيره مديحاً يذكر بعد أن أشيع حاجاته منه، بأن الصباغ الفرنسيين قد بلغوا في صنعهم آنية الكنائس- أو آنية المنازل كتلك التي حفرها جان دوريه لهنري الثاني- "درجة من الإتقان والكمال لا تجدها في أي بلد آخر"(10). أما الزجاج الملون (المعشق) في كنيسة مرجريت النمساوية في برو، أو في كنيسة سانت إتيين في بوفيه، أو في كنيسة سانت إتيين دمون في باريس، فقد كشف عن عظمة لم تكن فارقت فرنسا بعد. وقد أنشأ فرانسوا في فونتنبلو مصنعاً تنسج فيه قطع النسيج
المرسومة قطعة واحدة بدلاً من صنعها أجزاء منفصلة تخاط معاً كما كانت الحال من قبل، وخلطت الخيوط الذهبية والفضية في سخاء بالحرير والصوف المصبوغين. وبعد عام 1530 لم تعد نماذج قطع النسيج الفرنسي المرسوم ومواضيعه قوطية وفروسية، بل اتبعت تصميمات النهضة وموضوعاتها المجلوبة من إيطاليا.
وغلبت رسوم النهضة الزخرفية على الحراريات في خزف ليون (المايوليك)، وفي قاشاني جنوبي فرنسا، وفي صناعة المينا بليموج. ورسم ليونار ليموزان وغيره بألوان المينا المصهورة البراقة أشكالاً أنيقة من النبات والحيوان والآلهة والبشر على الأواني النحاسية كالأحواض والزهريات والأباريق والكئوس والأطباق وغيرها من الأواني المتواضعة التي سموا بها إلى مرتبة التحف الفنية. وهنا أيضاً كان لفرانسوا فضل المشاركة، فقد وضع ليونار على رأس مصنع المينا ملكي بليموج، وخلع عليه لقب "الوصيف الخاص للملك". وتخصص ليونار في رسم صور الأشخاص بالمينا على الأطباق النحاسية، وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك نموذج رائع منها يصور فرانسوا نفسه، وغير هذا كثير في قاعة أبوللو باللوفر مما يشهد في هدوء لهذا العهد الذهبي.
كان تصوير الأشخاص فناً مكتمل النضج في فرنسا قبل قدوم الإيطاليين. فمن الفنانين الإيطاليين في فرنسا كان بوسعه أن يرسم أروع من صورة جيوم دمونمورنسي التي رسمها فنان كبير لم يذكر عليها اسمه حوالي عام 1520، والمحفوظة اليوم بمتحف ليون؟ - Voila un homme! " هاكم رجل"- إنها ليست تحية مصورة، إنها رجل. لقد جلب روسو وبريماتتشيو وديللاباتي وغيرهم من مدرسة فونتنبلو إلى فرنسا ما تعلموه من رفائيل أو برينو ديلفاجاً أو جوفاني دا أوديني أو جوليو رومانو عن زخرفة العمد والكرانيش والأسقف
…
بال "جروتسك" أو الأشكال العابثة- أشكال الملائكة (الكاروبيم) والأطفال واللوالب والزخارف العربية والنبات. وقد رسم عضو مجهول من أعضاء هذه المدرسة لوحة "ديان دبواتييه" المحفوظة الآن بمتحف ورستر بولاية ماساشوستس- جالسة إلى أخوان زينتها وعلى رأسها تاج. وبعد عام 1545 قدم إلى فرنسا كثير من المصورين الفلمنك، فيهم بروجل الأب، ليدرسوا الأعمال الفنية في فونتنبلو. ولكن أسلوبهم كان أعمق جذوراً من أن يستسلم للتأثير الإيطالي. وتغلبت القوة الواقعية التي اتسم بها فنهم على الجمال الأنثوي الذي تجلى في فن ورثة رفائيل.
وكادت أسرة فلمنكية واحدة في فرنسا أن تؤلف مدرسة قائمة بذاتها. كان يوحنا كلويه Clouet ملحقاً ببلاط فرانسوا في تور وباريس، وكل الناس يعرفون الصورة التي رسمها للملك حوالي 1525 والمحفوظة الآن باللوفر، وجسم فيها الملكية المستكبرة المغرورة السعيدة قبيل كبوة من كبواتها. وخلف فرانسوا كلويه أباه يوحنا مصوراً للبلاط، وسجل بالطباشير أو الزيت صور كبار القوم خلال حكم أربعة من ملوك فرنسا. واللوحة التي رسم فيها هنري الثاني أروع من تلك الصور التي صور فيها أبوه فرانسوا الأول. ويدهشنا أن نرى في اللوحة تلك الهوة بين العاشق المرح والابن المكتئب المزاج، وفي وسعنا أن نفهم منها كيف استطاع هذا الرجل أن يصدق على تشكيل "الغرفة الغيور" لاضطهاد المهرطقين، وإن لم نلمح في الوجه- الذي يكاد يكون بورجياً- أي إلماع لوفائه المقيم لديان. ووجدت أسرة كلويه من تحداها بعض الوقت في شخص كورني الليوني الذي نافسها بمرسم خاص به، وظهر هذا التحدي في صور كصورة المرشال بونيفيه، عشيق مرجريت. ولكن أحداً من المعاصرين في فرنسا لم يستطع مجاراة فرانسوا
كلويه في ذلك الحشد من الصور التي رسمها لكاترين مدتشي، وفرانسوا الثاني، وماري ملكة إسكتلندة، وإليزابيث فالوا، وفيليب الثاني، ومرجريت زوجة هنري الرابع المقبلة، وشارل التاسع في شبابه- وقد بدا ألطف من أن نتبين فيه ملك "المذبحة" المرتاع. في هذه الصور نرى الواقعية والصدق الفلمنكيين وقد خففت من حدتهما الرقة والدقة والحيوية الفرنسية، فالنبرة خافتة، والخط دقيق مطمئن، وعناصر الشخصية المعقدة مقتنصة وموحدة. مثل هذا المؤرخ النابض بالحياة لن تستمتع بفنه غير إنجلترا هوليين.
كان النحت خادماً للعمارة، ومع ذلك فهو صاحب الفضل في تألقها. والواقع أن النحت الفرنسي راح يخرج سيلاً متدفقاً من الروائع التي لم ينفقها إلا تلك التي كان ميكل أنجيلو وغيره ينحتونها من كارارا، مثال ذلك المقابر الفخمة، كمقبرة لويس الثاني عشر ومقبرة آن البريتانية اللتين نحتهما جوفاني دي جيوستوبتي (في سان دنيس)، وكمقبرتي اثنتين من كرادلة آمبواز نحتهما رولان لرو وجان جوجون (في روان)، وكمقبرة لوي دبريزيه، زوج ديان، في الكاتدرائية ذاتها، التي نحتها مثال غير معروف على التحقيق. وتبدو مقبرتا روان أوفر زينة مما يليق بجلال الموت، ولكن الكردينالين يكادان يبعثان من جديد على صورة حكام أقوياء لا يحاول المثالان خلع الكمال عليهما، إنما الدين عندهما أمر عارض وسط مهام الحكم. وقد دفن فرانسوا الأول، وزوجته كلود، وابنته شارلوت، بسان دنيس في مقبرة من طراز النهضة صممها ديلورم، تزينها منحوتات فخمة نحتها بيير بونتم. وعلى مقبرة منها رائعة صغيرة من صنع بونتم- هي وعاء جنائزي لقلب الملك. وهكذا لم يعد المثالون الفرنسيون في حاجة إلى الوصاية الإيطالية ليرثوا فن روما الكلاسيكي.
ولقد ورث جان جوجون الجمال الكلاسيكي على الأقل. ونحن نسمع به لأول مرة في سنة 1540، وقد ورد في القائمة أنه "حجار وبناء" في روان. وفي روان قطع الأعمدة التي يرتكز عليها الأرغن في كنيسة سان ماكلو، ونحت تماثيل لمقبرتي الكردينالين، وربما لمقبرة بريزيه. وقد زين حجاب الصليب في كنيسة سان جرمان لوكسروا بمنحوتات محفوظ بعضها في اللوفر. وهي تذكرنا بالنقوش الهلنستية البارزة في الأناقة المتناغمة التي اتسمت بها خطوطها. وقد قاربت الكمال تلك الموهبة المميزة لفن جوجون، وهي تجسيد الجمال الأنثوي، في تمثال "الحوريات"، الذي شارك به في "نافورة الأبرياء" التي صممها ليسكو (1547)، وفي رأي برنيني أن هذه التماثيل أجمل آثار الفن في باريس. وقد ذكرنا من قيل تمثال جوجون "ديانا والأيل" في آنيه، ومنحوتاته في اللوفر. وتماثيله للآلهة الوثنية، ولجسد المرأة الممثل في صورة كاملة، توحي بأن فرنسا قد انتصرت فيها النهضة على حركة الإصلاح البروتستنتي، والأفكار الكلاسيكية على الأفكار القوطية، والمرأة على منتقصي قدرها في العهد الوسيط. ومع ذلك وصف الرواة جوجون بأنه هيجونوتي. وعقاباً له على حضوره عظة لوثرية، حكم عليه حوالي عام 1542 بأن يسير في شوارع باريس بقميصه وبأن يشهد حرق واعظ بروتستنتي (11)، وحوالي عام 1562 رحل عن فرنسا قاصداً إيطاليا. ومات في بولونيا قبل عام 1568، مغموراً مهملاً إهمالاً لا يستحقه رجل ارتقى بفن النهضة إلى ذروته في فرنسا.
3 - بييتر بروجل
1520 -
1569
كان هذا العصر مقفراً في فن الأراضي المنخفضة إذا استثنينا بروجل والنسيج المرسوم. وتذبذب فن التصوير بين تقليد الإيطاليين- في
الأسلوب المهذب والألوان الغنية والأساطير الكلاسيكية والنساء العاريات والخلفيات المعمارية الرومانية- وبين الميل المتأصل إلى التصوير الواقعي لكبار الشخصيات وللأشياء العادية. ولم يحظ الفنانون بالرعاية من البلاط والكنيسة والنبلاء فحسب، بل نالوها باطراد من أغنياء التجار الذين عرضوا أجسادهم البدنية وألغادهم المتهدلة ليعجب بها الخلف، وأحبوا أن يروا في الصور المناظر المألوفة والمشاهد الطبيعية لحياتهم الفعلية. وحلت روح الفكاهة، وحب "الجروتسك" أحياناً، محل الإحساس بالتسامي في فن كبار الفنانين الإيطاليين. وقد أنتقد ميكل أنجيلو ما رآه افتقاراً إلى التمييز والسمو في الفن الفلمنكي فقال: "إنهم لا يرسمون في فلاندر إلا ليخدعوا العين الظاهرة، أشياء تبهجك
…
حشائش الحقول، وظلال الأشجار، والكباري والأنهار
…
وأشياء صغيرة هنا وهناك
…
دون عناية بالاختيار أو الرفض" (12). ولا غرو فالفن عند ميكل أنجيلو هو الاختيار ذو الدلالة لإبراز السمو، لا التمثيل غير المميز للواقع، وكانت طبيعته الوقور، المحبوسة في حذائه الذي لا ينزع وعزلته الكارهة للناس، محصنة ضد التأثر بجلال الحقول الخضراء وحرارة الحب العائلي.
أما نحن فإننا ننحني إنحناءة العرفان ليواكيم باتينير، ولو لما صورته لوحته "القديس جيروم" من منظر طبيعي يذكرنا بأسلوب ليورنادو دافنشي، ولجوس فان كليف على لوحته الجميلة التي رسم فيها اليانور البرتغالية، ولبرنيرت فان أورلي اللوحة "العائلة المقدسة" في البرادو، ولتصميماته للنسيج المرسوم، ولزجاجه المعشق في كنيسة سانت جودول ببروكسل؛ وللوكاس فإن ليدن لما حفلت به سنوه التسعة والثلاثون من حشد النقوش والكلشيهات الخشبية، ولجان فإن سكوريل على صورة المجدلية وهي تعتز بقارورة الطيب التي غسلت منها أرجل المسيح،
ولأنطونيس مور على صوره القوية لدوق ألفا، وللكردينال جرانفيل، ولفيليب الثاني، ولماري تيودور، ولصورة ليست أقل شأناً من كل أولئك، وهي صورته هو.
وليلاحظ القارئ كيف تركز فن التصوير بالأراضي المنخفضة في الأسر. من ذلك أن جوس فان كليف ورث بعض مهارته لابنه كورنيليس، الذي رسم صوراً ممتازة قبل أن يصاب بالجنون. كذلك نرى جان ماسيس الذي ورث مرسم أبيه كوينتين يؤثر رسم العاريات أمثال "يهوديت"، و "سوسنة والشيوخ"، وواصل ابنه كوينتين ماسيس الثاني هذه الحرفة، في حين خمل أخوه كورنيليس فنه إلى إنجلترا ورسم لوحة لهنري الثامن في شيخوخته وقد بدا منتفخ البدن بشع المنظر. ورسم بييتر بوربوس وابنه فرانس لوحات للأشخاص وصوراً دينية في بروج، ورسم فرانس بوربوس الثاني، وهو ابن فرانس، لوحات في باريس ومانتوا. وكان هناك إلى هؤلاء بييتر بروجل "المضحك" وزوجته المصورة، وحماته المصورة، وأبناه بييتر بروجل "الجحيم" وجان بروجل "المخمل"، وحفدته المصورون، وأبناء حفدته المصورون
…
أما بييتر بروجل الأب، الذي أصبحت شهرته من موضات عصرنا التي لا مهرب منها، فلعل اشتق اسمه من إحدى قريتين في برابانت اسمهما بروجل، وكانت إحداهما قريبة من هرتوجنبوش مسقط رأس هيرونيموس بوش. وربما رأى بييتر في كنائس هذه القرية عدة رسوم بريشة الرجل الذي أثر في فنه تأثيراً لم يفقه غير تأثير الطبيعة ذاتها. وحين ناهز الخامسة والعشرين (حوالي عام 1545) هاجر إلى أنتورب وتتلمذ لبييتر كوك، وربما أعانت محفورات كوك الخشبية للمناظر الطبيعية على تكوين ميل المصور الشاب إلى الحقول والغابات والمياه
والسماء. وكان بييتر كوك هذا قد أنجب فتاة تدعى ماريا، كان بييتر يهدهدها بين ذراعيه وهي طفلة، وقد أصبحت فيما بعد زوجاً له. وفي عام 1552 اتبع التقليد الذي جرى عليه المصورون، ورحل إلى إيطاليا ليدرس التصوير، ثم عاد إلى أنتورب بكراسة تضخمت برسوم المناظر الإيطالية، ولكن لم يبد على أسلوبه الفني تأثير إيطالي واضح. وقد ظل إلى النهاية يهمل من الناحية العلمية تلك الدقة في التشكيل، وفي توزيع الضوء والظل (الكياروسكيورو)، وفي التزويق (الكولورا تورا) التي أخذ بها الفنانون الجنوبيون. ولما عاد إلى أنتورب عاش مع امرأة كانت خليلة ومدبرة لبيته. وقد وعدها بأن يتزوجها إذا أمسكت عن الكذب. وكان يسجل أكاذيبها بثلمات يحدثها في عصا. وإذ لم يكن محتفظاً بعصا لذنوبه هو، فقد هجرها حين فاضت العصا بالثلمات. وفي أواسط أربعيناته (1560) تزوج ماريا كوك وقد بلغت السابعة عشرة، واستمع إلى دعوتها إياه للرحيل إلى بروكسل، ولم يكن باقياً له من العمر سوى ست سنوات.
ومع أن رسومه حملت الناس على تلقيبه بـ "بروجل الفلاح" فإنه كان إنساناً مثقفاً قرأ هومر وفرجل وهوراس وأوفيد ورابليه، وفي الغالب إرزمس. (13) وقد وصفه كاريل ماندر (فازاري هولندة) بأنه "هادئ، منظم، قليل الكلام، ولكنه ممتع الحديث إذا كان في صحبة، يبتهج بإفزاع سامعيه .... بقصص الأشباح والأرواح المنذرة (14). وربما كان هذا علة لقبه الثاني "بروجل المضحك". وكانت فكاهته تميل إلى الهجاء ولكنه خفف بالعطف، وفي حفر معاصر يبدو في لحية كثة ووجه يحمل سمات التفكير الجاد (15). وكان أحياناً يقتدي ببوش في نظرته إلى الحياة على أنها اندفاع معظم النفوس إلى الجحيم دون مبالاة. وفي لوحته المسماة "دوللي جريت" صور الجحيم تصويراً بشعاً مشوشاً
كما يفعل بوش نفسه، وفي لوحته "انتصار الموت" لم يتخيل الموت نوماً طبيعياً لأجساد مكدودة، بل تقطيعاً بشعاً للأطراف والحياة- هياكل عظمية تهاجم الملوك والكرادلة والفرسان والفلاحين بالسهام والبلط والأحجار والمناجل- ومجرمين تدق أعناقهم أو يشنقون أو يوثقون إلى عجلة التعذيب- وجماجم وجثثاً تركب عربة؛ هنا مثل مغاير آخر ل "رقصة الموت" التي تسري وسط فن هذا العهد القاتم.
وتواصل صور بروجل الدينية هذا المزاج الجاد. فهي خلو من فخامة الصور الإيطالية ومن جمالها الرشيق على السواء، وليست سوى ترجمة جديدة لقصة الكتاب المقدس بلغة المناخ والملامح والثياب الفلمنكية. وندر تكشف عن عاطفة دينية، وأكثرها معاذير لتصوير الجماهير. وحتى الوجوه في هذه الصور خلو من العواطف، فترى الناس المتدافعين بالمناكب ليشاهدوا المسيح وهو يحمل صليبه وكأنهم لا يبالون بآلامه، إنما هم تواقون لاتخاذ موقف يشهدون منه المنظر بوضوح. وبعض هذه الصور أمثال من الإنجيل كصورة "الزارع"، وبعضها يقلد بوش فيتخذ الأقوال المأثورة موضوعاً له. فصورة "عميان يقودون عمياناً" ترينا صفاً من الفلاحين لهم عيون ذابلة. وفيهم قبح شنيع، يتلو بعضهم بعضاً في طريقهم إلى مصرف للمياه. ولوحة "الأمثال الهولندية"، توضح في صورة مكتظة واحدة، قرابة مائة من الأقوال المأثورة القديمة، بعضها تشم فيه عبير الحكم الرابليه.
كان هم بروجل الأكبر تصوير جماهير الفلاحين، والمناظر التي تنتظم بخيرها وشرها على السواء أنشطة البشر العقيمة المغتفرة. ولعله ظن أن في تصوير الجماهير سلامة، فلا حاجة به عند تصويرها لأن يميز الوجوه أو يشكل الأجساد. وقد أبى أن يصور شخصاً يجلس أو يقف أمامه خدمة للفن أو للتاريخ، وآثر أن يظهر الرجال والنساء والأطفال يمشون
ويجرون ويقفزون ويرقصون ويلعبون بكل ما في الحياة من ألوان الحركة والفطرة. وقد رجع إلى مشاهد طفولته، وأمتعه أن يتأمل ويشارك في مباهج الفلاحين وولائمهم وموسيقاهم وأعراسهم. وكان في عدة مناسبات يصطحب صديقاً ويتنكران في زي مزارعين ليحضرا أسواق القرية وأفراحها، ثم يقدمان الهدايا للعروسين متظاهرين بأنها من أقربائهما (17). ولا شك أن بييتر كان في هذه النزهات يحمل كراسته لأن بين رسومه الباقية كثيراً مما تظهر فيه وجوه الفلاحين وأحداث الريف. ولم يكن ذوقه يسيغ النبلاء الذين وجد مور وتيشان في تصويرهم مجلبة للربح الوفير، ولا كلف بتصويرهم. ولم يرسم سوى بسطاء الناس، بل إن الكلاب التي رسمها كانت كلاباً حقيرة مهجنة كتلك التي تلقاها في أي زقاق بالمدينة أو كوخ بالقرية. لقد خبر الجانب المر في حياة الفلاح، وصور هذا الجانب أحياناً خليطاً محتشداً من الحمقى. ولكنه أحب رسم ألعاب الأطفال القرويين، ورقصات كبارهم، وصخب أفراحهم. وفي لوحته "أرض كوكين" ترى الفلاحين الذين أرهقهم الكد أو الحب أو الشراب منبطحين على العشب في الخلاء وهم يحملون بعالم سعيد. وكأن بروجل يقول لنا إن الفلاح دون سواه هو الذي يعرف كيف يلعب وكيف ينام، كما يعرف كيف يشتغل وكيف يتزوج وكيف يموت.
ولم ير أمام الموت غير عزاء واحد- هو أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، تلك الطبيعة التي تقبلها في جميع صورها من جمال وقبح، ومن نمو وانحلال وتجدد. والمنظر الطبيعي عنده يفتدي الإنسان، وسخف الجزء يغتفر في جلال الكل. لقد كان دأب المصورين من قبله- باستثناء ألتدورفر- أن يرسموا المناظر الطبيعية خلفيات وملحقات للناس والأحداث. أما بروجل فقد جعل المنظر الطبيعي ذاته هو اللوحة، وليس الإنسان فيها سوى عرض من الأعراض. ففي لوحته "سقوط إيكاروس" ترى السماء والمحيط والجبال والشمس وقد استغرقت انتباه
المصور والمشاركين في اللوحة، أما إيكاروس فليس سوى ساقين غير ملحوظتين تغوصان في البحر بشكل مضحك. وفي لوحته "العاصفة" لا تكاد ترى الإنسان، فهو ضائع عاجز بين حرب العناصر وبطشها.
ويبلغ فن بروجل وفلسفته قمتهما في اللوحات الخمس الباقية من مجموعة خططها لبيان تقلبات العام. ففي لوحة "حصاد القمح" يصور تخطيطياً قطع حزم القمح وتكديسها، وترى فيها العمال يتناولون غداءهم أو يرقدون في إغفاءة في قيظ الصيف وسكون هوائه الواضحين. وفي لوحة "حصاد الدريس" يحمل الصبيان والبنات فاكهة الحقول الخريفية في سلال على رءوسهم، ويشحذ فلاح منجله، وتقلب الدريس نسوة أشداء، ويرفعه الرجال إلى أعلى حمل العربة، وتمضغ الخيل طعامها في فترة راحة. ولوحة "عودة القطيع" نذير بقدوم الشتاء- فالسماء تكفهر والماشية تساق عائدة إلى مرابطها. وأجمل لوحات المجموعة هي "الصيادون في الثلوج"، وفيها ترى الأسطح والأرض بيضاء ناصعة، والمساكن تنتظم في منظور مدهش على طول السهول والتلال، والرجال يتزلقون ويلعبون الهوكي ويسقطون على الجليد، والصيادين وكلابهم ينطلقون لاقتناص الطعام، والأشجار عارية ولكن زقزقة العصافير في الأغصان تبشر بمقدم الربيع. أما لوحة "اليوم الكئيب" فهي الشتاء مكفهراً إكفهرارة الوداع. في هذه اللوحات بلغ بروجل قصاراه، ووضع سابقة لرسم مناظر الثلوج ليحتذيها فن الأراضي المنخفضة المقبل.
ولا يستطيع الحكم على هذه الصور في مرتبتها وأسلوبها الفنيين سوى رسام أو خبير. ويبدو بروجل قانعاً بأن يعطي أشكاله بعيدين، ولا يكترث لخلط الظل بمادتها، وهو يترك لخيالنا أن يضيف لبعديه
بعداً ثالثاً إن لم يكن من هذا بد. واهتمامه بالحشود أكبر من أن يتيح له الاهتمام بالأفراد، وهو يجعل كل فلاحيه تقريباً متماثلين، كتلاً غليظة من اللحم. وهو لا يزعم أنه واقعي إلا في المجموع، وهو يضع الكثير من الناس أو الأحداث في لوحة واحدة بحيث يبدو أنه يضحي بالوحدة. ولكنه يقتنص الوحدة اللاشعورية- وحدة قرية، أو حشد، أو موجة من موجات الحياة.
فما الذي يريد أن يقوله؟ أهو ساخر فقط، ضاحك من الإنسان لأنه "فجلة مشعبة" غريبة الشكل، ومن الحياة لأنها اختيال غبي نحو الفناء؟ لقد كان يستمتع بما في رقص الفلاحين من هز عنيف، ويتعاطف مع كدهم، وينظر في مرح متسامح إلى نومهم المخمور. ولكنه لم يفق قط من تأثير بوش. فقد كان يجد لذة ساخرة كتلك التي وجدها ذلك "جيروم" المجرد من التقوى في تصوير الجانب المر من الكوميديا البشرية- المقعدين والمجرمين، المهزومين أو الداعرين، انتصار الموت الذي لا رحمة فيه. ويبدو أنه كان يبحث عن الفلاحين الدميمي الخلقة، يرسمهم رسوماً ساخرة، ولا يسمح لهم أبداً بالابتسام أو الضحك، فإذا أضفى على جلافة وجههم أي تعبير فهو تعبير اللامبالاة الغبية، والحساسية التي محتها لطمات الحياة (17). وكان يثيره ويؤلمه ذلك الجمود الذي يحتمل به المحظوظون شقاء الأشقياء، وتلك السرعة والراحة التي ينسى بها الأحياء الأموات. وكان يحزنه منظور الطبيعة الشاسع- تلك السماء الهائلة التي تبدو تحتها كل الأحداث البشرية غارقة في الضآلة، وتلوح الفضيلة والرذيلة، والنمو والانحلال، والشرف والخسة، مضيعة في عبث مترامٍ لا يفرق ولا يميز، والإنسان قد ابتلعه منظر العالم.
ولا ندري أهذه فلسفة بروجل الحقيقية أم أنها دعابة فنه لا أكثر.
كذلك لا ندري لم كف عن المعركة بهذه السرعة وقضى وهو بعد في التاسعة والأربعين (1569). ولعله لو مد في أجله لخفقت السنون من غضبه. وقد أوصى لزوجته بلوحة غامضة هي "الطريق المرح إلى المشنقة"، وهي تشكيل رائع في ألوان خضراء نضرة وزرقاء نائية، والفلاحون يرقصون قرب مشنقة القرية ومن فوقها حط طائر العقعق، ويرمز به للسان الثرثار.
4 - كراناخ والألمان
توارى المعمار الكنسي الألماني خلال حركة الإصلاح البروتستنتي. فلم تشيد للفن ولا للدين كنائس جديدة، وترك الكثير من الكنائس دون أن يكمل، وهدم الكثير منها وبنيت بأحجاره قلاع الأمراء. أما الكنائس البروتستنتية فقد انصرفت إلى البساطة الصارمة، وأما الكنائس الكاثوليكية فقد أسرفت في زينتها كأنها تتحدى البروتستنتية، وذلك أثناء انتقال النهضة إلى طراز الباروك.
وحلت العمارة المدنية وعمارة القصور محل بناء الكاتدرائيات في الوقت الذي حل فيه الأدواق محل الأساقفة واحتوت الدولة الكنيسة. وبعض المباني المدنية الجميلة في هذه الفترة كان من ضحايا الحرب العالمية الثانية: مثل الألتاوس في برنزويك، ومقر طائفة الجزارين في هيلدسهايم، والراتهاوس أو قاعة مدينة نيميجين المبنية بطراز النهضة. واتخذ أكثر معمار هذا العهد والعهد الذي تلاه طموحاً شكل القلاع الضخمة المشيدة لأمراء الأقاليم: كقلعة درسدن التي كلفت الشعب 100. 000 فلورين (2. 500. 000 دولار؟)، وقصر دوق كرستوفر في شتوتجارت الذي أسرف الدوق في تأثيثه وفرشه حتى أن قضاة المدينة حذروه من أن بذخ بلاطه يتناقض تناقضاً مخزياً مع فقر شعبه، وقلعة هيدلبرج المترامية
التي بدأ تشييدها في القرن الثالث عشر وأعيد بناؤها بطراز النهضة في 1556 - 63 ودمر جزء منها في الحرب العالمية الثانية.
أما الحرف الفنية فقد احتفظت بتفوقها في خدمة الأمراء والنبلاء والتجار ورجال المال. فتجارو الأثاث، ونقاشو الخشب والعاج، والحفارون، وصناع المنمنمات، والنساجون، وخراطو الحديد، والخزافون، والصائغون، وصناع السلاح، والجواهرية- كل أولئك احتفظوا بالمهارات القديمة التي كانت لأهل العصور الوسطى وإن نحوا إلى تضحية الذوق والشكل في سبيل الزخرف المعقد. ورسم كثير من المصورين تصميمات للكلشيهات الخشبية بعناية فائقة كأنهم يرسمون صور الملوك. وعكف رسامو الكلشيهات من أمثال هانز لوتزبورجر البازلي على أعمالهم بتفان يليق بمصور كدورر. وبلغ صائغو نورمبرج وميونخ وفينا القمة بين أهل الحرفة، وكان في وسع صائغ كفنتزل يامنتزر أن يتحدى رجلاً كتشلليني. وحوالي عام 1547 بدأ الفنانون الألمان يرسمون الزجاج بألوان المينا، وهكذا اتخذت الأواني والنوافذ أشكالاً وتصميمات غنية رغم فجاحتها، واستطاع البورجوازي السري أن يرى صورته وقد مزجت بألواح الزجاج في بيته.
واحتفظ المثالون الألمان بحبهم للتماثيل والنقوش البارزة المعدنية. فواصل أبناء بيتر فشر فنه. أما بيتر الابن فصحب لوحة برونزية لـ "أورفيوس ويوربديس". وأما هانز فصمم تمثالاً جميلاً يسمى "نبع أبوللو" لفناء قاعة مدينة نورمبرج، وأما بول فينسب له عادة تمثال لطيف من الخشب يعرف بعذراء نومبرج. وصب بيتر فلوتنز النورمبرجي نقوشاً بارزة رائعة مثلت الحسد، والعدالة، وساتورن، وربة الرقص. ومن أمتع محتويات اللوفر تمثال نصفي صنعه يواكيم دشلر لأوتو هينريش،
كونت بالاتين، يبلغ ارتفاعه ست بوصات ونصفاً، وعرضه مثل هذا لبدانته، وله وجه وليد أعوام من النهم. هنا ترى الفكاهة الألمانية أكثر ما تكون انطلاقاً.
أما فخر الفن الألماني فقد ظل في التصوير. فقد أدرك هولبين دورر، ثم لحق بهما كراناخ، وألف بالدونج جرين، وألتدورفر، وأمبرجر، صفاً ثانياً مشرفاً. فأما هانز بالدونج جرين فقد اكتسب شهرته برسم لوحة لمذبح كاتدرائية فرايبورج إيم- برايسجاو، ولكن لوحة "العذراء ذات الببغاء" أكثر جاذبية، وتبدو فيها فتاة تيوتونية ممتلئة الوجه ذات شعر ذهبي، وببغاء تنقر خديها. وأما كرستوفر أمبرجر فرسم صوراً أنيقة، ويحتفظ متحف ليل بلوحة "شارل الخامس" التي يبدو فيها مخلصاً، ذكياً، في أول عهده بالتعصب. وفي "صورة رجل" المحفوظة بمعهد الفن بشيكاغو وجه مهذب دقيق القسمات. وأما ألبرشت التدورفر فيتميز بين هذه المجموعة الصغيرة بغنى مناظره الطبيعية. ففي لوحته "القديس جورج" يكاد الفارس والتنين يختفيان وسط محيط من الشجر المتزاحم، وحتى لوحته "معركة أرابيلا" يتوه فيها الجيشان المقتتلان وسط الكثير من الأبراج والجبال والمياه والسحاب والضياء. وتعد هاتان اللوحتان، مضافاً إليهما لوحته "وقفة خلال الهروب إلى مصر"، ومن طلائع التصوير الصادق للمناظر الطبيعية في عصرنا الحديث.
اتخذ لوكاس كراناخ الأب اسمه من مسقط رأسه كروناخ في فرانكونيا العليا. ولا نكاد نعرف عنه أكثر من هذا إلى أن عين في الثانية والثلاثين من عمره مصوراً للبلاط لدى الناخب فردريك الحكيم في فتنببرج (1504). وقد احتفظ بوظيفته في البلاط السكسوني، سواء في فتنبرج أو في فايمار، زهاء خمسين عاماً. وقابل لوثر، وأعجب به،
وصوره المرة بعد المرة، ورسم لبعض كتابات المصلح صوراً كاريكاتورية للبابوات، على أنه رسم أيضاً صوراً لبعض أقطاب الكاثوليك أمثال دوق ألفا وألبرشت رئيس أساقفة ماينز. وقد أوتي عقلية تجارية عملية، فحول مرسمه إلى مصنع لتصوير الأشخاص ورسم الصور الدينية، وإلى جوار المرسم باع الكتب والعقاقير، وأصبح عمدة لفتنبرج في عام 1565، ثم مات شبعان مالاً وأياماً.
كان التأثير الإيطالي خلال ذلك قد وصل إلى فتنبرج. وهو واضح في جمال الصور الدينية التي رسمها كراناخ، وأوضح في صوره الأسطورية، وأكثر وضوحاً من هذه وتلك في صورة العارية. وقد أصبح مجمع الآلهة الوثنية ينافس الآن مريم والمسيح والقديسين كما نافسهم في إيطاليا، بيد أن روح الفكاهة الألمانية يضفي الحيوية على التقليدي المتوارث، وذلك بالسخرية من آلهة ماتوا ولم يعد هناك ما يخشى منهم. من ذلك أن لوحة كراناخ "حكم باريز" رسمت العاشق الطروادي (الذي أغوى هيلانه) بمضي إلى فراشه للنوم بينما الحسان المنتفضات من البرد ينتظرن حتى يستيقظ ويقضي بينهن. وفي لوحته "فينوس وكيوبيد" تبدو إلاهة الحب في جسدها العاري كالعادة، إلا من قبعة ضخمة- وكأن كراناخ يلمع في خبث إلى أن الرغبة وليدة العادة، بحيث يمكن تهدئتها بإضافة غير مألوفة. ومع ذلك فقد أقبل الناس على لوحة فينوس، وأخرج كراناخ منها- بمساعدة غيره- أكثر من عشرة أشكال لتضيء في فرانكفورت، ولننجراد، والقاعة البورجية، والمتحف المتروبوليتاني للفن
…
وفي فرانكفورت تخفي فينوس مفاتنها ليستشفها الناظر من خلف خيوط رقيقة كنسيج العنكبوت، وهذه أيضاً تستخدم في لوحة "لوكريشيا" ببرلين، إذا تتأهب في ابتهاج لافتداء شرفها بطعنة من خنجر صغير. وفي لوحة "حورية الربيع"(نيويورك) رسم كراناخ
هذه السيدة ذاتها راقدة على فراش من الأوراق الخضراء إلى جوار بركة. وفي متحف جنيف تصيح "يهوديت"، التي لم تعد عارية، بل مرتدية ثيابها لتقتل، رافعة سيفها فوق رأس هولوفيرن المقطوع، الذي يغمز بعينه في سخرية من سوء طالعه. وأخيراً تعود السيدة إلى عريها فتصبح حواء في لوحة "الفردوس" بفينا، ولوحة "آدم وحواء" يدرسدن، ولوحة "حواء والحية" بشيكاغو التي ترى فيها أيلاً جميلاً ينضم إلى جماعتها ويسميها باسمها. وكل هؤلاء العرايا تقريباً يتميزن بخلة تنقذهن من تهمة الإثارة الجنسية- هي فكاهة خبيثة، أو دفء في اللون، أو رهافة إيطالية في الخط، أو نحافة في قوام الأنثى تخرج على المألوف الوطني، فها هنا محاولة جريئة لاختزال بدانة المرأة الألمانية (الفراو).
وصور الأشخاص التي تدفقت من أيدي كراناخ ومساعديه أكثر طرافة من نساء العاريات المكررات، وبعضها يضارع صور هولبين. فلوحة "أنا كسبنيان" هي الواقعية تخففها الرقة والأثواب الفاخرة وقبعة في شكل البالون. وقد جلس زوجها يوحنا كسبنيان إلى صورة أبدع حتى من صورة زوجته- فكل مثالية الأديب الإنساني الشاب انعكست في عينيه المفكرتين ورمز لها بكتاب يمسك به في شغف. وقد خلد عشرات من كبار القوم في الألوان الزيتية أو الطباشيرية في هذا المرسم الشعبي، ولكن أحداً منهم لا يستحق الخلود كما يستحقه الطفل "أمير سكسونيا"(واشنطن) الذي يفيض براءة ورقة وعقائص ذهبية. وفي الطرف الآخر من الحياة صورة الدكتور يوحنا شونر وقد بدا رهيب الملامح ولكن في صورته صنعة رفيعة. ثم نلتقي هنا وهناك في صور كراناخ بحيوانات رائعة الشكل، كلها عريق النسب، وظباء تبدو طبيعية جداً حتى أن صديقاً للمصور زعم أن "الكلاب تنبح حين تراها"(18).
ولولا أن كراناخ وفق هذا التوفيق السريع الكبير لجاز أن يكون فناناً أعظم. فكثرة رعاته وزعت عبقريته فلم يكن في وقته متسع لينصرف بكل هذه العبقرية إلى عمل واحد فقط. لذلك لم يكن بد حين جاوز الحادية والثمانين أن يعتريه الكلل والتراخي، وأصبح رسمه الذي كان في الماضي دقيقاً كرسم دورر مشوباً بالإهمال، وراح يتجنب رسم التفاصيل ويكرر نفس الوجوه والعرايا والأشجار تكراراً أفقدها الحياة. ولا مفر لنا في النهاية من أن نتفق مع الكهل دورر في هذا الحكم الذي أصدره على كراناخ الشاب- "إن لوكاس يستطيع رسم الملامح لا الروح"(19).
وحين بلغ الثامنة والسبعين في 1550 رسم لنفسه صورة بدا فيها عضو مجلس المدينة والتاجر البدين أكثر منه المصور والحفار، في رأس مربع قوي، ولحية بيضاء مهيبة، وأنف عريض وعينين ممتلئتين كبرياء وقوة شخصية. وبعد ثلاثة أعوام أسلم جسده للزمن، مخلفاً ثلاثة أبناء كلهم فنانون، يوحنا لوكاس، وهانز، ولوكاس الابن الذي نقلت لوحته "هرقول النائم" موضوعاً من رابليه إلى سويفت، إذ أظهرت المارد وهو يتجاهل في هدوء تلك السهام التي أصابته بالجهد في طبقة المضغة الظاهرة من الأقزام المحيطين به. ولعل لوكاس الأب كان يتجاهل بمثل هذا الهدوء نقد الناقدين الذين نددوا به لمثله البرجوازية وعجلته التي لا يراعى فيها الذمة، وهو اليوم راقد تحت نصب قبره الذي كتبت عليه عبارة مديح تحتمل معنيين:"أسرع المصورين".
وبموته انقضى العصر الذهبي للتصوير الألماني. ولعل السبب الأساسي في هذا الانحطاط هو حدة النزاع الديني أكثر من رفض البروتستنت للتصوير الديني. ومن الجائز أن موجة من الفساد الخلقي كانت سبباً في تبذل التصوير الألماني بعد 1520. فبدأت أجساد العرايا تلعب دوراً
قيادياً وانصرفت الصور- حتى المأخوذ منها من الكتاب المقدس- إلى موضوعات مثل سوسنة والشيوخ، أو زوجة فوطيفار تراود يوسف، أو بثشبع في حمامها. وتراجع التصوير الألماني بعد موت كراناخ فترة قرين من الزمان وارتد وراء قوى اللاهوت والحرب.
5 - الطراز التيودوري
1517 -
1558
بدأ حكم هني الثامن برائعة من روائع الفن القوطي في كنيسة هنري السابع، وانتهى بمعمار النهضة المتمثل في القصور الملكية، وكان تغير الطراز انعكاساً صحيحاً لانتصار الدولة على الكنيسة. وتعطلت العمارة الكنسية زهاء مائة عام نتيجة لهجوم الحكومة على الأساقفة والأديار والموارد الكنسية.
كان هنري السابع وهو يتوقع موته قد خصص 140000 جنيه (14. 000. 000 دولار؟) لبناء كنيسة صغيرة للسيدة العذراء في دير وستمنستر لتحوي قبره. وهي رائعة فنية، لا في بنائها بل في زخرفها، ابتداءً من المقبرة ذاتها إلى الخصلة الحجرية المتشابكة في القبو المرحي، التي وُصِفت بأنها "أعجب ما صنعته يد الإنسان في فنون البناء". ولما كان تصميم الكنيسة قوطياً وزخرفها ينتمي إلى طراز النهضة، فإن فيها تتجلى بداية الطراز التيودوري أو المنمق. ولم يلبث هنري الثامن، الإنساني الشاب، أن افتتن بالأشكال المعمارية الكلاسيكية، فاستقدم هو وولزي عدة فنانين إيطاليين إلى إنجلترا. وكلف أحدهم وهو بييتر وتوريجيانو بتصميم مقبرة والديه. ومن ثم أفاض المثال الفلورنسي على التابوت المصنوع من الرخام الأبيض والحجر الأسود زخارف مسرفة سواء بالحفر أو البرونز المذهب: أشخاص ممتلئو الأبدان، وأكاليل زهر غاية في الرشاقة، ونقوش بارزة للعذراء وشتى القديسين، وملائكة جالسين على قمة المقبرة مادين أرجلهم الجميلة في الفضاء،
وفوق هذا كله تمثالان مضطجعان لهنري السابع وزوجته إليزابث. وكان هذا نحتاً لا عهد لإنجلترا به قط، ولم يبزه في إنجلترا نحت من بعد. "هنا- كما قال فرانسس بيكون- ينزل الملك الشحيح الذي يحرص على البنسات لينفق الجنيهات في موته منزلاً أبهى مما كان ينزل حياً في أي من قصوره"(30).
لم يكن هنري الثامن بالرجل الذي يسمح لأي إنسان بأن يدفن في أبهة تفوق أبهة دفنه. ففي عام 1518 تعاقد على أن يدفع لتوريجيانو 2. 000 جنيه نظير تصميمه مقبرة "أعظم بالربع" من مقبرة أبيه (21). ولكن لم يكتب لهذه المقبرة أن تتم، ذلك أن الفنان أوتي كما أوتي الملك طبعاً ملكياً حاداً، وغادر توريجيانو إنجلترا في سورة غضب (1519)، ولما عاد إليها لم يضف مزيداً إلى المقبرة الثانية. وبدلاً من ذلك صمم لكنيسة هنري السابع مذبحاً عالياً، وحاجزاً خلفه، ومظلة فوقه، دمرها رجال كرومويل في عام 1643. وفي عام 1521 رحل توريجيانو إلى أسبانيا.
واستؤنفت مهزلة الموت هذه حين كلف ولزي فلورنسيا آخر يدعى بنديتو دا روفتسانو بأن يبني له مقبرة في كنيسة القديس جورج بوندزور. كتب هربرت لورد تشوربري يقول: "إن تصميمها أفخم جداً من تصميم مقبرة هنري السابع"(23). ولما سقط الكردينال توسل إلى الملك أن يسمح له على الأقل بالاحتفاظ بتمثاله ليوضع على مقبرة أكثر تواضعاً في يورك. فأبى هنري، وصادر المقبرة كلها لتكون مثوى له، وأمر الفنانين أن يحلوا تمثاله محل تمثال ولزي، ولكنه شغل بمشكلات الدين والزواج، ولم يتم قط بناء هذا الأثر الجنائزي. ثم أراد تشارلز الأول أن يدفن فيه، ولكن برلمانه الذي ناصبه العداء باع الزخارف قطعة قطعة، فلم يبق منها سوى تابوت
الرخام الأسود ليؤلف آخر المطاف جزءاً من ضريح نلسن في كنيسة القديس بولس (1810).
ونحن إذا استثنينا هذه الجهود الفنية، وما زينت به كنيسة الكلية الملكية بكمبردج من حجاب خشبي ومقاعد وزجاج معشق وقبو. وكلها رائع فاخر، وجدنا أن المعمار البارز في هذا العصر كرس لإضفاء العظمة على بيوت النبلاء الريفية حتى تصبح قصوراً أشبه بقصور الجان قائمة وسط حقول إنجلترا وغاباتها. وكان المعماريون هنا إنجليزاً، ولكن اثني عشر إيطالياً جندوا لأشغال الزخرفة. هنا ترى واجهة عريضة عرضاً مهيباً امتزج فيها الفن القوطي بفن النهضة، وبوابة ذات أبراج تفضي إلى فناء، وقاعة فسيحة للاحتفالات المكتظة بالناس، وبيت سلم ضخماً يصنع عادة من الخشب المنقوش، وحجراتها تزينها الصور الجدارية أو قطع النسيج المرسومة وتضيئها نوافذ شبكية أو ناتئة، وحول المباني حديقة ومسرح للغزلان ومن خلفها أرض للصيد- تلك هي فكرة الشريف الإنجليزي المسبقة، الشكاكة، عن النعيم.
وأشهر قصور النبلاء التيودورية هذه هو هامبتن مورت، الذي بناه ولزي لنفسه (1515) وأوصى به لمليكه وهو في رهبة منه (1525). ولا يختص بفضل بنائه معماري واحد، بل لفيف من كبار البنائين الإنجليز الذي شيدوه أساساً على الطراز القوطي العمودي ووفق تصميم وسيط فيه الخندق والأبراج والأسوار ذوات الفوهات؛ وأضاف جوفاني دا مايانو لمسة من لمسات فن النهضة تمثلت في حلي مستديرة من التراكوتا على الواجهة. وقد وصف دوق فورتمبرج الذي زار إنجلترا في 1592 هامبتن كورت هذا بأنه أفخم قصور الدنيا قاطبة (24). وهناك قصور أخرى لا تقل عنه كثيراً في الفخامة، مثل صاتون بليس في صري، الذي بنى للسر رتشارد وستون (1521 - 27)، وقصر
نونستشن الذي بدئ بتشييده لهنري الثامن في 1538 على نطاق إمبراطوري. تقول رواية قديمة إنه "جلب له أمهر الصناع والمعماريين والنحاتين والمثالين من شتى الأمم، إيطاليين وفرنسيين وهولنديين وإنجليزاً من وطنه، فأتوا كلهم بمثال معجز من فنهم في زخرفة القصر، وزينوه من الداخل والخارج بتماثيل تذكرنا بآثار الرومان القديمة من حيث المحاكاة الدقيقة لها، ولكنها فيما عدا ذلك تفوقها إتقاناً". (25) واستخدم مائتان وثلاثون رجلاً بصفة مستمرة في بناء هذا القصر الذي قصد به أن يفوق بهاؤه بهاء قصري فرانسوا الأول في شامبور وفونتنبلو. ونادراً ما بلغ الملوك الإنجليز هذا الثراء، أو الشعب الإنجليزي هذا الفقر. ومات هنري قبل الفراغ من قصر نوستش. وقد جعلته إليزابث مقرها المحبب، ووهبه تشارلز الثاني لخيلته الليدي كاسلمين (1670) فأمرت بهدمه، وباعت أجزاءه قطعاً، لأنها رأت في هذه الوسيلة الوحيدة لتحويل هذا العبء المالي إلى ثروة.
6 - هولبين الابن
1497 -
1543
ما أشد عجز الألفاظ أمام عمل من أعمال الفن! فكل فن يقاوم بنجاح ترجمته إلى أي وسيط آخر، ذلك أن له سمة لاصقة به إما أن تتكلم عن نفسها أولاً تتكلم على الإطلاق. وليس في طاقة التاريخ إلا أن يسجل كبار الفنانين وآياتهم الفنية، أما توصيل هذه الآيات فذلك ما يعجز عنه. والجلوس في صمت أمام لوحة هولبين التي تمثل زوجته وأبناءه خير من ترجمة لحياة الفنان. ومع ذلك
…
كان هولبين محظوظاً في نسبه عنه في زمانه. فقد كان أبوه من كبار المصورين في أوجزبورج. ومنه تعلم هانز مبادئ التصوير، ومن هانز بوركمير شيئاً من الجمال والتشكيل الإيطاليين. وفي عام 1512
رسم أربع حشوات للمذبح محفوظة الآن بمتحف أوجزبورج - متوسطة الجودة حقاً، ولكنها جيدة إلى حد مدهش بالنسبة لغلام في الخامسة عشرة. وبعد عامين ارتحل هو وأخوه أمبروز، وهو رسام أيضاً، إلى بال. ولعل أباهما كان قد غالى في التشبث بأسلوبه الذي ما زال قوطياً، أو لعله لم يتوافر في أوجزبورج من مال الطبقة المتعلمة ما يكفي إلا لإعالة قلة من الفنانين، على أي حال قليلاً ما يتعلق الشباب والعبقرية بالبقاء في الوطن. وفي بال اكتشف الغلامان أن الحرية امتحان. ورسم هانز صورة لعدة كتب من بينها كتاب إرزمس "في مدح الحماقة"، وقام ببعض أشغال الطلاء البسيطة، وصنع لافتة لأحد المدرسين، وزخرف رأس مائدة بمشاهدة حية من قصة القديس المجهول الاسم- ذلك النكرة الذي يسهل تناوله، والذي اتهم بكل الخبائث المجهولة ولم ينبس بكلمة دفاعاً عن نفسه. وكان جزاء هانز على هذا العمل مهمة مثمرة وكلت إليه- هي رسم لوحات للعمدة يعقوب ماير وزوجته (1517). وذاع صيت هذه اللوحات، وما لبث يعقوب هرتنشتين أن استقدم هانز إلى لوسرن، وهناك رسم صوراً جصية على واجهة دار رب البيت وجدرانه، ورسم لوحة بندكت هرتنشتين المحفوظة الآن بمتحف المتروبوليتان بنيويورك. ولعله انتقل من لوسرن إلى إيطاليا، فقد أفصح فنه منذ الآن عن تأثير إيطالي من حيث دقة التشريح والخلفيات المعمارية وتكييف الضوء. فلما عاد إلى بال وقد بلغ الثانية والعشرين أقام لنفسه مرسماً وتزوج من أرملة (1519). وفي هذه السنة مات أخوه، وفي 1524 مات أبوهما.
وامتزجت الواقعية الألمانية بالعمارة الرومانسكية والزخارف الكلاسيكية في الصور الدينية التي راح هولبين يرسمها الآن. وأنها لواقعية يجفل لها الناظر- وتذكر بمانتينيا- تلك التي تطالعنا في لوحة "المسيح في القبر"،
الجسد ليس سوى عظم وجلد، والعينان مفتوحتان بصورة رهيبة، والشعر أشعث، والفم فاغر في جهد أخير للتنفس، كل هذا يبدو موتاً لا رجعة فيه، فلا عجب أن قال دستويفسكي عن الصورة أنها قد تدمر إيمان المرء (26). وحوالي هذه الفترة رسم هولبين صوراً جدارية لقاعة المجلس الكبير في بال. فسر بها أعضاء المجلس، وكلفه أحدهم بأن يرسم لوحة مذبح لدير كارتوزي. وهذه اللوحة، واسمها "آلام المسيح" أوذيت في حوادث الشغب التي قامت في 1529 لتحطيم الصور، ولكن أنقذ منها مصراعان، وأهديا لكاتدرائية فرايبورج- إيم- برايسجاو. وهما يستعيران الكثير من بالدونج جرين، ولكنهما يتفردان بقوة تتجلى في تلك الحركة العجيبة للضوء المنبعث من "الطفل". وفي عام 1522 طلب كاهن مدينة بال لوحة مذبح أخرى. وقد استخدم هولبين في رسم هذه "المادونا" ذات الجمال الهادئ- والمحفوظة بمتحف الفن بسولوتورن- زوجته وابنه نموذجين، وكانت الزوجة يومها امرأة ذات حسن متواضع لم تمسه المأساة بعد. ولعله حوالي هذه الفترة (27) أخرج رائعته الدينية "العذراء والطفل مع أسرة العمدة ماير"- وهي فريدة تكويناً وخطاً ولوناً، حارة عاطفة. وفي وسعنا أن نفهم في تعاطف أكثر صلاة العمدة للعذراء إذا علمنا أن ولديه المرسومين عند قدميه، وإحدى الزوجتين الجاثيتين إلى اليمين، كانوا قد فارقوا الحياة.
ولكن أجر هذه الصور الدينية كان ضئيلاً بالقياس إلى ما تطلبته من عناية وجهد. وأما صور الأشخاص فأربح للمصور، الذي اقتضاه ازدياد أفراد أسرته مزيداً من نفقات إعاشتهم. ففي عام 1519 رسم هولبين صورة للعالم الشاب بونيفاكوس أمرباخ- وجه نبيل ما زال محتفظاً بالمثالية رغم النظرة الثاقبة إلى العالم. وحوالي عام 1522 رسم لوحة للطباع الكبير فروبن- رجل متفان في عمله، قلق، برته
الحياة نتيجة جهوده الخلاقة. وعن طريق فروبن عرف هولبين إرزمس. ففي عام 1523 رسم صورتين من صوره الكثيرة للأديب الإنساني الذي غشيه الحزن. وفي لوحته التي بدا فيها إرزمس في ثلاثة أرباع قامته، وفق القانون، وقد بلغت قدراته غايتها، في تفهم روح رجل عمر أكثر مما ينبغي، فالمرض ولوثر عمقا تجاعيد وجهه واكتئاب عينيه. أما الصورة الجانبية المحفوظة بمجمع الفن ببال فيبدو فيها أكثر هدوءاً وحيوية، فالأنف ينبري للنزال كأنه سيف مجالد روماني. ولعل المخطوط الذي يرى تحت قلمه مسودة لكتابه De libero arbitrio (1524) الذي بدأ يدخل به صفوف المعارضين للوثر. وأكبر الظن أن هولبين صور إرزمس مرة أخرى في عام 1524 صورته المحفوظة بمتحف اللوفر، وهي أفضل صورة قاطبة؛ ونظرة إلى هذا الوجه العميق الذي طهره الألم تذكر المرء بتعقيب لنيزار فيه إدراك وتفهم "لقد كان إرزمس أحد أولئك الذين كان فخرهم في أن يفهموا الكثير ويجزموا بالقليل"(28).
وحوالي 1523 صور هولبين نفسه وقد بلغ السادسة والعشرين وبدت عليه آثار النعمة، ولكن النظرة الباردة توحي ببعض الامتعاض المناضل مما مني به في الحياة من صدمات. وترميه الرواية بإدمان غير مفرط على الخمر والنساء، وتصوره رجلاً غير سعيد مع زوجته. ويبدو أنه كان يشارك لوثر بعض آرائه. فلوحاته الخشبية المحفورة "رقصة الموت"(حوالي 1525) تهجو الأكليروس- ولكن هذا فعله حتى الأكليروس أنفسهم في ذلك العهد. وتصور هذه المجموعة الموت يتعقب خطوات كل رجل أو امرأة أو طبقة- آدم، وحواء، والإمبراطور، ونبيلاً، وطبيباً، وراهباً، وكاهناً، وبابا، ومليونيراً، ومنجماً، ودوقة، ومهرجاً، ومقامراً، ولصاً- كلهم في طريقهم إلى الدينونة الأخيرة،
واللوحة عمل فني يضارع في قوته أي عمل لدورر استخدم فيه هذا الوسيط. وإذا استثنينا هذه الرائعة من روائع الرسم، وعذراء ماير، لم نتبين في هولبين أي عاطفة دينية واضحة. ولعله تشرب بعض التشكك من إرزمس وإنساني بال (29). لقد كان اهتمامه بالتشريح أشد من اهتمامه بالدين.
ولقد عصفت حركة الإصلاح البروتستنتي بسوق صوره في بال على الرغم من رضائه المرجح عنها. فلم تعد تطلب منه صور دينية. وتوقف دفع أجور اللوحات التي رسمها لقاعة المجلس. أما سراة القوم فقد لاذوا بالعزلة والشح إذ روعتهم حرب الفلاحين، ورأوا أن الوقت غير مناسب للتصوير. كتب إرزمس من بال في 1526 يقول:"إن الفنون تتجمد هنا"(30). وقد زود هولبين بخطابات قدمه فيها لأصدقائه في أنتورب ولندن، وانطلق هولبين إلى بلاد الشمال سعياً وراء المال بعد أن ترك أسرته في البيت. وزار كوينتين ماسيس، وما من شك في أنهما تبادلا الرأي في إرزمس. ومن أنتورب عبر البحر إلى إنجلترا. وضمن له خطاب إرزمس لقاءً حاراً من تومس مور الذي هيأ له مسكناً في بيته بتشلسي، وهناك رسم صورته (1526) المحفوظة الآن بصالة فريك في بنيويورك. ويرى المؤرخ، بإدراكه المؤخر، في العينين المتوترتين اللتين يغشاهما بعض الاكتئاب إيذاناً بورع الشهيد وصلابته. أما أعجب ما في اللوحة كما تراها بصيرة الفنان فهو فراء الكم وتلافيفه. وفي عام 1527 رسم هولبين "تومس مور وأسرته"- وهي أقدم لوحة جماعية معروفة في الفن غير الديني عبر الألب.
وفي أواخر عام 1528 عاد هولبين إلى بال بعد أن كسب بضعة جنيهات وشلنات، وأعطى إرزمس نسخة من لوحة "مور وأسرته" ثم لحق بزوجته من جديد. وعكف الآن على رسم صورة من أعظم
صوره وأصدقها، ترينا أسرته بواقعية لم يضن بها على نفسه. فكل وجه من الوجوه الثلاثة قد غشيه الحزن، الفتاة مستسلمة بل تكاد تكون يائسة، والصبي يتطلع إلى أمه مكتئباً، أما هي فترمقهما بأسى وحب انعكسا انعكاساً عميقاً في عينيها- أسى زوجة فقدت حب زوجها، وحب أم لا يربطها بالحياة سوى ولديها. وترك هولبين أسرته ثانية بعد ثلاثة أعوام من رسمه هذا الاتهام الرائع لشخصه.
ورسم خلال إقامته هذه في بال لوحة أخرى لفروبن، وست صور لإرزمس يعوزها تميزت به صور 1523 - 24 من عمق شديد. وجدد مجلس المدينة طلب رسوم جصية لحجراته، ولكنه شجب الصور الدينية كافة مستسلماً لمحطمي الصور المنتصرين، وأفتى بأن "الله لعن جميع من يصنعونها"(31). وهبط الطلب على الصور، وفي عام 1532 عاد هولبين إلى إنجلترا.
وهناك رسم صوراً بلغت من الكثرة حداً ظهر معه معظم الأشخاص، الذين سيطروا على مسرح الأحداث في إنجلترا خلال تلك السنوات الصاخبة، وقد دبت فيهم الحياة بفضل ريشة هولبين الساحرة. ففي مكتبة الملكة بقصر وندزور سبعة وثمانون رسماً تخطيطياً بالفحم أو الطباشير، بعضها أعد لرسوم هزلية، وأكثرها للوحات، والظاهر أن الفنان لم يحتج لأكثر من جلسة أو جلستين من أصحاب رسومه، ثم صورهم على لوحاته نقلاً عن هذه الرسوم. وسعى التجار الهانسيون في لندن إلى فنه، ولكنهم لم يوحوا إليه بأفضل ما عنده. وقد رسم لقاعة نقابة الهانسيين صورتين جداريتين، محفوظتين في نسخ أو رسوم لهما فقط، مثلت إحداهما "انتصار الفقر"، والأخرى:"انتصار الغنى". وكلتاهما معجزة في الشخصية المميزة، والحركة الحية، والتصميم المتماسك، وهما توضحان شعار النقابة- "إن الذهب أبو الفرج وابن الهم، المفتقر إليه حزين، والمالك له قلق (32) ".
وفي عام 1534 أسلم تومس كرمويل وجهه الجامد وجسده الهش لريشة هولبين، وكان مزمعاً أن يكون بشخصه مصداق هذه الحكمة. وعن طريق اتصل الفنان بأرفع الشخصيات في البلاط. ورسم لوحة "السفراء الفرنسيين" ووفق توفيقاً غير عادي في تصوير واحد منهم يدعى شارل دسولييه، إذ كشف عن الرجل المتواري خلف رداء المنصب وشارته. وهناك أربعة وآخرون- هم السر هنري جلفورد (مراقب البيت الملكي)، والسر نيكولاس كاريو (قيم الإسطبلات الملكية)، وروبرت تشيسمان (بازدار الملك) والدكتور جون تشيمبرز (طبيب الملك) - هؤلاء الأربعة تستشف في صورهم صفاقة في الجلد لولاها لاستحال عليهم العيش في مأمن مع هذا الملك الناري الطبع. وقد أصبح هولبين واحداً منهم حوالي 1537 بوصفه المصور الرسمي للبلاط. وأفرد له مرسم خاص في قصر هوايتهول، ونزل مسكناً مريحاً، وكان له كغيره عشيقات وأبناء غير شرعيين، وغدا يرفل في الخز والأثواب البهية (33). وطلب إليه أن يزخرف لحجرات، ويصمم الأثواب الرسمية، وأغلفة الكتب، والأسلحة، ومفارش المائدة، والأختام، والأزرار والمشابك الملكية، والأحجار الكريمة التي كان هنري يهديها إلى زوجاته، وفي عام 1538 أوفده الملك إلى بروكسل ليصور الأميرة كرستين الدنمركية، وقد تبين أن فيها كثيراً من الفتنة، وود هنري لو اتخذها زوجة، لولا أنها اختارت الدوق فرانسوا اللوريني بدلاً منه، ولعلها آثرت أن تعلق في قاعة للصور عن أن يقطع رأسها. وانتهز هولبين الفرصة لزيارة بال زيارة قصيرة. وهناك عين راتباً سنوياً لزوجته قدره أربعون جلدراً (1. 000 دولار؟) ثم أسرع بالعودة إلى لندن. وبعد عودته بقليل كلف بأن يصور آن كليفنز، وكاد هولبين أن يتنبأ بمصيرها في العينين الحزينتين اللتين تطالعانك من صورتها المحفوظة الآن باللوفر.
أما الملك فقد رسم له عدة لوحات كبيرة فقدت كلها تقريباً. وبقيت منها واحدة في قاعة "باربر سيرجنز" بلندن: "هنري الثامن يمنح مرسوم شركة تضامنية لشركة باربر سيرنز" ويرى فيها هنري وقد طغى على المشهد في أثوابه الرسمية. ورسم الفنان صوراً جذابة لزوجة هنري الثالثة جين سيمور، ولزوجته الخامسة كاترين هوارد. وكان إذا جلس أو وقف له هنري نفسه يرتفع إلى مستوى التحدي ويخرج لوحات لا يفوقها من إنتاجه سوى صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال. ولوحة عام 1526 تظهر الملك بديناً بدانة التيوتون، مزهواً زهوهم. وأعجب بها هنري على الرغم منه، وكلف هولبين بتصويره الأسرة المالكة صورة جصية ملونة بقصر وايتهول. وقد دمرت النيران هذه الصورة الجدارية عام 1698. ولكن نسخة أخرجت منها عام 1667 لتشارلز الثاني تشف عن براعة التصميم: ففي أعلى اليسار يرى هنري السابع، تقياً متواضعاً، وفي أسفل ولده يلوح بشعارات السلطة ويمد ساقيه كأنه العملاق. وإلى اليمين أمه وزوجته الثالثة، وفي الوسط أثر من الرخام يفصل باللاتينية فضائل الملوك. وقد فصل وجه هنري الثامن بواقعية ترددت باسمها أسطورة تحكي أن أشخاصاً دخلوا الحجرة وحسبوا أن الصورة هي الملك الحي ذاته. وفي عام 1540 رسم هولبين صورة أشد وقعاً في النفس حتى من هذه. وهي "هنري الثامن في ثياب العرس. " وأخيراً (1542) أظهر لنا الرسام هنري في انحلال عقله وجسده. وكان عمل ربة الانتقام هنا بطيئاً متأنياً. فمدت في ثأر الآلهة، وبدلاً من الميتة الهادئة أو المباغتة قضت عليه بانحلال طويل مذل.
وهناك صورتان جميلتان تكفران عن سيئات قاعة الصور الملكية، إحداهما للأمير إدوارد في الثانية من عمره وهو يفيض براءة، والأخرى لإدوارد في السادسة (بمتحف المتروبوليتان للفنون). وهذه اللوحة الثانية
بهجة للناظرين. وفي وسعنا أن نحكم على فن هولبين حين نراه خلال سنة أو سنتين يصور في غير إحجام كبرياء الأب البدين، ثم يلتقط بمثل هذه البراعة المحيرة وداعة الابن البريئة.
وصور الفنان نفسه مرة أخرى حين بلغ الخامسة والأربعين (1542)، وبذات الموضوعية التي رسم بها الملك: رجلاً مرتاباً مشاكساً ذا شعر ولحية وخطهما الشيب وبدا عليهما الإهمال؛ ثم مرة أخرى عام 1543 في صورة مستديرة تظهره في حالة أرق وألطف. في ذلك العام اجتاح الطاعون لندن واختاره واحداً من ضحاياه.
كان من الناحية التقنية واحداً من عظماء المصورين. فهو يرى في تدقيق بالغ، ويرسم كما يرى، وهو يمسك بكل خط، أو لون، أو موقف، بكل زاوية أو تغير في الضوء، يمكن أن يكشف عن دلالة أو مغزى، ويثبته على الورق أو القماش أو الخشب أو الجدار
…
وأي دقة في الخطوط، وعمق ونعومة ودفء في الألوان، وبراعة في ترتيب التفاصيل ليؤلف بينها تأليفاً موحداً! ولكننا في كثير من اللوحات، التي لم يكن الهدف منها تصوير الشخص بل تقاضي الأجر، نفتقد ذلك التعاطف القادر على رؤية نفس الإنسان الخفية وعلى مشاركتها شعورها. هذا التعاطف نجده في صور إرزمس المحفوظة باللوفر وبال، وفي صورة أسرته، وإذا استثنينا عذراء ماير، فإننا نفتقد المثالية التي سمت بالواقعية في لوحة فان إيك "عبادة الحَمَل". وقد قصر به عدم مبالاته بالدين عن بلوغ السمو الذي بلغه جرونفالد، وأبعده عن دورر الذي ظل على الدوام محتفظاً بإحدى قدميه في العصور الوسطى. ولم يكن هولبين فنان النهضة الخالص كتيشان، ولا فنان الإصلاح البروتستنتي الخالص ككراناخ، لقد كان ألمانياً- هولندياً- فلمنكياً- إنجليزياً في واقعيته وإحساسه العملي. ولعل نجاحه حال دون دخول مبادئ التصوير الإيطالية ورقته
دخولاً قوياً إلى إنجلترا. وبعد موته انتصرت البيورتانية على العاطفة الإليزابيثية، وراح فن التصوير الإنجليزي يتعثر حتى جاء هوجارث. وفي الوقت ذاته فارق المجد التصوير الألماني. ولم يكن بد من أن يتدفق فوق أوربا الوسطى سيل من الهمجية قبل أن يعود الإحساس بالجمال إلى التعبير عن نفسه هناك مرة أخرى.
7 - الفن في أسبانيا والبرتغال
1515 -
1555
لم تعرف أسبانيا قط النهضة بالمعنى الإيطالي الغني على الرغم من الجريكو وفيلاسكيز، وسرفانتيس وكالديرون. فثروتها التي جاءتها من أقطار نائية أضفت على ثقافتها المسيحية زخارف جديدة، وأتاحت لها إجزال العطاء للوطنيين النابغين في الأدب والفن، ولكنها لم تتدفق كما تدفقت الثروة في إيطاليا وفرنسا إلى أي جهود مثيرة لاستعادة تلك الحضارة الوثنية التي ازدان بها عالم البحر المتوسط قبل المسيح وبعده، والتي أنجبت سنيكا ولوكان ومارتيال وكونتيليان وتراجان وهادريان على أرض أسبانيا ذاتها. لقد طغى على ذكرى العهد الكلاسيكي طول الصراع بين المسيحية الإسبانية والمغاربة، وكل الذكريات المجيدة كانت ذكريات ذلك الانتصار المتطاول، وغدا الإيمان الذي حققه مقترناً بتلك الذكرى الفخور لا ينفصل عنها. وبينما كانت الدولة تذل الكنيسة في كل أرجاء أوربا الأخرى، كان النظام الكنسي في أسبانيا يزداد قوة على الزمن، فتحدى البابوية وتجاهلها، حتى حين كان الأسبان يحكمون الفاتيكان، وعاش رغم الاستبداد الورع الذي فرضه فرديناند وشارل الخامس وفيليب الثاني، ثم سيطر على كل نواحي الحياة الأسبانية. وكانت الكنيسة في أسبانيا الراعي الوحيد تقريباً للفنون، ومن ثم فقد قررت اللحن الذي تريده، وحددت الموضوعات، وجعلت الفن كالفلسفة خادماً للاهوت. وعينت محاكم التفتيش الإسبانية مفتشين
لتحريم العرى أو البذاءة أو الوثنية أو الهرطقة في الفن، ولتحديد طريقة تناول المواضيع المقدسة في النحت والتصوير، ولتوجيه الفن الأسباني وجهة التبصير بالإيمان وتثبيته.
ومع ذلك كان التأثير الإيطالي يتدفق إلى أسبانيا. فارتقاء الأسبان عرش البابوية وفتح ملوك الأسبان نابلي وميلان، وحملات الجيوش الأسبانية وبعثات رجال الدولة والكنيسة إلى إيطاليا، والتجارة الرائجة بين أسبانيا والثغور الإيطالية، وزيارة الفنانين الأسبان أمثال فورمنت وبيروجويتي وابنه لإيطاليا، والفنانين الإيطاليين أمثال توريجيانو وليوني ليوني لأسبانيا- هذه العوامل كلها أثرت في الفن الأسباني من حيث طرائقه وزخرفته وأسلوبه، ولم نؤثر تأثيراً يذكر في روحه أو موضوعه؛ أثرت في التصوير أكثر مما أثرت في النحت، وكانت أقل ما تكون تأثيراً في العمارة.
وسيطرت الكاتدرائيات على مشاهد الريف والمدن سيطرة الدين على الحياة. فالرحلة في أسبانيا أشبه بالحج من هيكل إلى آخر من هذه الهياكل الجبارة. وضخامتها المهيبة، وغنى زخارفها الداخلية، وصمت أبهائها الذي يلفه ضوء خافت، وأشغال الحجر المكرسة التي تبني بها أروقتها، كلها تبرز البساطة والفقر الواضحين في مساكن الآجر الجميلة المتزاحمة في أسفلها وهي تتطلع إليها كأنها الوعد بعالم أفضل. وظل الطراز القوطي هو السائد في الكاتدرائيات الشامخة التي ارتفعت في سماء سلمنقة (1513) وسقوبية (1422)، ولكن المعماري ديبجو دي سيلوي، وكان ابن نحات قوطي الفن، صمم الأجزاء الداخلية من كاتدرائية غرناطة بأعمدة وتيجان كلاسيكية، وتوج التصميم القوطي بقبة كلاسيكية (1525). وأزاح طراز النهضة الإيطالية الطراز القوطي إزاحة تامة في قصر شارل الخامس بغرناطة. وكان شارل قد وبخ أسقف قرطبة
على إتلافه المسجد الكبير ببناء كنيسة مسيحية داخل أعمدته البالغ عددها 850 (34)، ولكنه ارتكب ذنباً لا يكاد يقل فداحة حين هدم بعض قاعات قصر الحمراء وأبنيته ليفسح مكاناً لبناء كان من الجائز أن يتقبل المرء ضخامته الصارمة وتماثله السخيف دون تأذ لو أنه قام وسط أبنية مماثلة له في روما، ولكنه ظهر نابياً أشد النبو وسط القلعة المغربية برشاقتها الهشة وتنوعها البهيج.
وظهر شيء من ميل المغاربة للزخارف المعمارية في طراز "الأطباق" الذي طبع أكثر ما طبع المعمار المدني في ذلك العهد. وقد اشتق اسمه من الشبه بينه وبين الحلي المعقدة الرقيقة التي كان صائغو الفضة (البلاتيرو) أو الذهب يحلون بها آنية المائدة وغيرها من تحف فنهم. وقد ملأ هذا الطراز قمم وجوانب البوابات والنوافذ بأحجار ملتفة عربية الطراز، وحفر الأعمدة أو لولبها أو زهرها بخيال إسلامي غريب، وثقب النوافذ المصّبعة والداربزينات بورق شجر وبوشي من الرخام. وكان هذا الطراز طابع كنيسة أوبيسبو في مدريد، وكنيسة سانتو توماس في أفيلا، وخورس كاتدرائية قرطبة. وقد أطلق لنفسه العنان في قاعة مدينة إشبيلية (1526). واقتبست البرتغال هذا الطراز على بوابة حفلت بالحلي وأعمدة نقشت بالزخارف في دير سانتا ماريا الفخم في بيليم (1517)، وحمله شارل الخامس إلى الأراضي المنخفضة وألمانيا حيث نشر طابعه على قاعات مدينتي أنتورب وليدن وقلعة هيدلبرج. ولكن فيليب الثاني وجد في هذا الطراز إسرافاً في الزخرف لا يطيقه ذوقه، فمات موتاً مبكراً تحت عبساته.
أما النحت الأسباني فقد خضع للمد الإيطالي المتعاظم بأيسر مما خضع المعمار. فبعد أن كسر بيترو توريجيانو أنف ميكل أنجيلو في فلورنسة، وتحدى هنري الثامن في لندن، استقر في إشبيلية (1521) وصنع من
الطين المحروق تمثالاً غليظاً للقديس جيروم، ارتأى فيه جوياً رأياً خاطئاً، هو أنه أعظم أعمال النحت الحديث (35). وأحس توريجيانو أنه نقد أجراً حقيراً لقاء صنعه تمثالاً للعذراء، فحطمه شذر مذر، وقبضت عليه محكمة التفتيش فمات في سجونها (36). أما دميان فورمنت فقد حمل روح النهضة على إزميله وفي عباراته الطنانة بعد عودته إلى أرجوان من إيطاليا. كان يصف نفسه بأنه "قريع فيدياس وبراكسيتيليس". وتقبله الناس بالقدر الذي قدر به نفسه، فسمحت له السلطات الكنسية بحفر صور له ولزوجته على قاعدة حاجز المذبح الخلفي الذي صنعه لدير مونتي أرجوان. ثم صنع من المرمر لكنيسة نويسترا سينورا ديل بيلار في سرقسطة رافدة مذبح كبيرة بالنقوش ضئيلة بالبروز، مزج فيها العناصر القوطية بعناصر النهضة، والتصوير بالنحت، واللون بالشكل. وكرس فورمنت لرافدة مذبح أخرى في كاتدرائية وشقة في السنوات الثلاث عشرة الباقية من حياته (1520 - 1533).
وكما أن بدرو برجويتي هيمن على التصوير الأسباني في نصف القرن السابق على شارل الخامس، فكذلك أصبح ابنه أكبر النحاتين الأسبان في العهد الذي نحن بصدده. وقد تعلم ألونسو فن اللون من أبيه، وذهب إلى إيطاليا واشتغل مع رفائيل مصوراً، ومع برامانتي وميكل أنجيلو مثالاً. فلما عاد إلى أسبانيا (1520) جلب معه ولع ميكل أنجيلو بالوجوه تلتقط في حدة الانفعال أو عف المواقف. وعينه شارل مثالاً ومصوراً للبلاط. وظل ست سنوات في بلد الوليد ينحت من الخشب حجاباً لمذبح كنيسة سان بنيتو إل ريال، طوله اثنان وأربعون قدماً وعرضه ثلاثون، ولم يبق منه إلا قطع متناثرة، أهمها صورة للقديس سباستيان ذات ألوان حية، والدم يتدفق من جروحه. وفي 1535 اشترك مع أهم منافسيه، فيليبي دبورجونا، في نقش مقاعد للمرتلين في كاتدرائية طليطلة، وهنا
أيضاً كان أسلوب ميكل أنجيلو هو الموجه ليده، والمنبئ بطراز الباروك في أسبانيا. ولما قارب الثمانين كلف أن يقيم في مستشفى القديس يوحنا بطليطلة أثراً تذكارياً لمؤسسه الكاردينال جوان دي تافيرا. وأخذ معه ابنه ألونسو مساعداً، وأبدع إحدى الروائع الكبرى في النحت الأسباني، ثم مات خلال هذه المحاولة وقد بلغ الخامسة والسبعين (1561).
أما التصوير الأسباني الذي كان لا يزال آنئذ تحت وصاية إيطاليا وفلاندر فلم يجد بفنان بارز في عهد شارل الخامس. وكان الإمبراطور يؤثر المصورين الأجانب، فاستقدم أنطونيس مور ليصور أعيان الأسبان، أما عن نفسه فقد صرح بأنه لن يسمح لأحد أن يصوره غير تيشان العظيم. والمصور الأسباني الوحيد الذي عبرت سمعته جبال البرانس هو لويس دي موراليس. وقد قضى السنين الخمسين الأولى من حياته فقيراً مغموراً في بلدته بطليوس، يرسم الصور للكنائس كبيرها وصغيرها في إقليم استريمادورا. وكان يناهز الرابعة والخمسين حين أمره فيليب الثاني بالحضور والتصوير في الأسكوريال (1564). فقدم نفسه للملك في ثياب بهية رأى فيليب أنها لا تليق بفنان، ولكنه لان حين علم أن لويس أنفق مدخرات العمر ليعد لنفسه ثياباً تليق بالمثول بين يدي جلالته. ولم تستهو الملك لوحته "المسيح حاملاً الصليب"، فعاد إلى بطليوس وحياة الضنك. وتعرض عدة لوحات بريشته في الجمعية الأسبانية بنيويورك، وكلها جميلة، غير أن أفضل مثال لفنه هو لوحة "العذراء والطفل" في البرادو- وهي تذكرنا من بعض وجوهها برفائيل تذكيراً شديداً. ولما اجتاز فيليب ببلدة بطليوس في عام 1581 خصص معاشاً متأخراً للفنان الذي أعجزه الفالج وضعف البصر، فيسر له بذلك القوت المنتظم في السنوات الخمس الباقية له من عمره.
أما صناع أسبانيا المهرة فكثيراً ما كانوا فنانين في كل شيء ولا ينقصهم غير الاسم. فقد ظلت أشغال التخريم والجلد تحظى بأرفع مكانة في أوربا. كذلك كان النجارون لا ضريب لهم، وعند تيوفيل جوتييه أن الفن القوطي لم يدن قط من الكمال دنوه في مقاعد المرتلين بكاتدرائية طليطلة. أما المشتغلون بالمصنوعات المعدنية فقد جعلوا من حجب الهياكل، ومصبعات النوافذ، وداربزينات الشرفات، ومفصلات الأبواب، بل من المسامير، تحفاً فنية. وأحال صاغة الذهب والفضة بعض المدن النفيس المتدفق من أمريكا حلياً للأمراء وآنية للكنيسة، واشتهر من أشغالهم الآنية التي صاغوها بتخريم الفضة أو الذهب لاحتواء القربان المكرس. ولم يقنع جل فيتشنتي بمكانته زعيماً لكتاب المسرحية في البرتغال وأسبانيا في هذه الفترة، بل صنع وعاء للقربان المقدس- يخرج به الكاهن على جمهور المصلين- قيل في تقديره "انه أروع أشغال الصياغة في البرتغال"(37). وواصل فرانشيسكو دي هولاندا، البرتغالي برغم اسمه، زخرفة المخطوطات ببراعة، وهي فن كان بسبيله إلى الزوال.
ويمكن القول على الجملة إن هذه الفترة التي تقل عن نصف قرن قد وفقت توفيقاً مشرفاً في مجال الفن على الرغم من استنفاد الطاقات وتمزقها في الثورة الدينية. لم يكن كبار المعماريين والنحاتين والمصورين ممن يثبتون للمقارنة بالعمالقة الذي زلزلوا باللاهوت أوربا، وكان الدين لحن العهد، وقصارى ما كان يستطيعه الفن أن يكون مصاحباً له. بيد أن إل روسو، وبريماتتشيو، وليسكو، وديلورم، وجوجون، وآل كلويه في فرنسا، وبروجويتي وابنه في أسبانيا، وبروجل في فلاندر، وكراناخ في ألمانيا، وهولبين في كل بلد- كل أولئك كانوا قائمة نبيلة من الفنانين لعهد شديد الاضطراب بالغ القصر. إن
الفن نظام، ولكن كل شيء كان فوضى- لا الدين فحسب، بل الأخلاق، والنظام الاجتماعي، والفن نفسه. وكان الفن القوطي يخوض معركته الخاسرة مع الطرز والأساليب الكلاسيكية، واضطر الفنان بعد أن اقتلع من ماضيه أن يجرب بمحاولات اجتهادية لم تستطع أن تمنحه جلال الاستقرار المتأصل في زمان واثق من نفسه. كذلك كان الإيمان متردداً وسط هذا الاضطراب الشامل، فلم يعد يعطي الفن أوامر وتوجيهات واضحة، وهوجمت الصور الدينية وحطمت، وأخذت الموضوعات المقدسة تفقد قدرتها على استثارة العبقرية أو الإعجاب أو التقوى بعد أن كانت مبعت إلهام لمبدع الجمال ولمشاهده على السواء. أما في مجال العلم فقد راحت أعظم الثورات قاطبة تخلع الأرض عن عرشها اللاهوتي، وتضيّع في الفراغ اللانهائي تلك الكرة الصغيرة التي كان الافتقاد الإلهي لها سبباً في تكوين العقل الوسيط وخلق الفن الوسيط. ترى، متى يعود الاستقرار ثانية؟
الفصل السابع والثلاثون
العلم في عصر كوبرنيق
(1517 - 65)
(1)
1 -
الإيمان بالمستور
(السحر والتنجيم وما إليهما)
من الحقائق الجديرة بالملاحظة أن هذا العهد الذي استغرقه اللاهوت والثقافة المدرسية قد أنجب رجلين لهما أرفع مقام في تاريخ العلم-كوبرنيق وفيزاليوس، ومن العجيب أن الكتب التي احتوت عصارة حياتهما قد ظهرت في سنة واحدة، هي "سنة العجائب"1543. لقد وكان بعض الظروف مواتيا للعلم. فاكتشاف أمريكا وارتياد آسيا، ومطالب الصناعة واتساع التجارة-كل هذا أثمر معرفة كثيراً ما ناقضت المعتقدات المتوارثة وشجعت التفكير الأصيل. وكان للترجمات من اليونانية والعربية، ولطبع كتاب أبوللونيوس "الأشكال المخروطية"(1537) والنص اليوناني لأرخميدس (1544)، الفضل في حفز العلوم الرياضية والفيزيائية. غير أن كثيراً من الرحالة كانوا كاذبين أو مهملين، ونشرت الطباعة العراء على نطاق أوسع من نشرها للمعرفة، وكانت الأدوات العلمية بدائية برغم تعددها. فالمكروسكوب والتلسكوب والترمومتر والبارومتر والمكرومتر والمكركرنومتر كلها كانت في ضمير الغيب. أما النهضة فقد ولعت بالأدب والأسلوب، واهتمت بالفلسفة اهتماماً مؤدباً، ولم تكد تكترث للعلم. حقيقة أن
(1)
انظر الفصل 30 في العلم الإسلامي، والفصل 32 في العلم اليهودي، والفصل 19 من فصول النهضة في العلم الإيطالي.
بابوات النهضة لم يقفوا موقف العداء من العلم. فقد استمع ليو العاشر وكلمنت السابع إلى أفكار كوبرنيق بذهنين مفتوحين، وتقبل بولس الثالث في غير خوف إهداء كوبرنيق كتابه له، "كتاب الدورات" الذي زلزل العالم. ولكن رد الفعل الذي جاء في عهد بولس الرابع، وتطور محكمة التفتيش في إيطاليا، وقرارات مجمع ترنت القطعية، كل هذا جعل الدراسات العلمية شاقة خطرة بصورة متزايدة بعد عام 1555.
ولم تستطع البروتستنتية أن تؤيد العلم، لأنها أسست صرحها على كتاب مقدس معصوم. ورفض لوثر فلك كوبرنيق لأن التوراة ذكرت أن يشوع أمر الشمس-لا الأرض-أن تقف. أما ملانكتون فكان ميالاً للعلم، فدرس الرياضيات، والفيزياء، والفلك، والطب، وحاضر في تاريخ الرياضيات في العصور القديمة، ولكن روحه السمحة غلبتها طبيعة أستاذه القوية وطغيان لوثرية ضيقة الأفق بعد موت لوثر. أما كالفن فلم يكن به كبير تقدم للعلم، وأما نوكس فلا تقدير على الإطلاق.
وظل مناخ مثبط من الإيمان بالمستور يحدق بعلماء الغد ويشوش أذهانهم بل يهدد سلامة عقولهم أحياناً كما حدث لكاردن وبارسيلسوس. فالسحر والكيمياء القديمة من مصر، والفيثاغورية والأفلاطونية الجديدة الصوفيتان من اليونان، والقبلانية من اليهودية، كلها حيرت مئات العقول المتلمسة طريقها. وغزت القصص الأسطورية وقصص المعجزات كتابة التاريخ الرسمي، وروى الرحالة حكايات عن تنانين تنفث اللهب وفقراء يتسلقون الحبال. وكاد يفسر كل حدث شاذ في الحياة العامة أو الخاصة بأنه ليس إلا تدبيراً من الله أو الشيطان لإنذار الإنسان أو تهذيبه، لفتنته أو تدميره. وآمن الكثيرون بأن
المذنبات والنيازك إن هي إلا كرات من النار يقذف بها إله غاضب (1)، ودخلت الكتب الرخيصة كل بيت قارئ، مؤكدة إمكان تحويل المعادن الخسيسة ذهباً. وكما ذكرت رواية معاصرة، كان "كل الخياطين والحذائين والخدم والخادمات الذين يسمعون ويقرأون عن هذه الأشياء يعطون كل ما يوفرون من نقود
…
للجائلين والمحتالين" من المشتغلين بهذه الخدع (2). وقد ذكر مشعوذ يدعى وليم وتشرلي في محاكمته بإنجلترا عام 1549 أن في الجزيرة خمسمائة مشعوذ مثله (3). وكان الطلاب المتجولون في ألمانيا يبيعون الأحجبة الواقية من الساحرات والشياطين. وأقبل الجند على التعاويذ والطلاسم التي تكفل تحويل رصاص البنادق عن هدفه (4). وكثيراً ما كان القداس يستعمل رقية لجلب المطر أو ضوء الشمس أو النصر في الحرب. وشاعت إقامة الصلوات استدراراً للمطر، وكانت أحياناً تبدو موفقة فوق ما يطلب، فتقرع أجراس الكنائس لتنبيه السماء إلى الكف عن المطر (5). وفي 1526 - 31 كان رهبان تروا يوقعون حرماً رسمياً على الديدان التي ابتليت بها المحاصيل، ولكنهم يضيفون إلى هذا أن الحرم لا يجدي إلا في الأطيان التي يدفع زراعها عشورهم للكنيسة (6).
ولعل الأحداث التي نسبت إلى الشيطان كانت أكثر من تلك التي نسبت إلى الله. يقول كاتب بروتستنتي في عام 1563 متفجعاً: "ندر أن تمر سنة دون أن نسمع بأبشع الأنباء من الإمارات والمدن والقرى عن الأساليب الفاجرة الرهيبة التي يحاول بها ملك الجحيم، بظهوره جسدياً أو في شتى الصور والأشكال، أن يطفئ النور الجديد الساطع، نور الإنجيل المقدس"(7). وشارك لوثر عامة الناس في نسبة معظم الأمراض إلى الأرواح الشريرة التي تدخل الجسد-وهي فكرة لا تتناقض على أية حال تناقضاً تاماً مع نظريتنا الشائعة الآن. وكان
الكثيرون يؤمنون بأن الأمراض تنجم عن العين الشريرة أو غيرها من أعمال السحر، وأن في الإمكان شفائها بالجرعات السحرية-وهذا أيضاً لا يبعد كثيراً عن عاداتنا في هذه الأيام، وكان أكثر العلاج يعطى حسب موقع الكواكب، ومن هنا دراسة طلبة الطب للتنجيم.
وقد اقترب التنجيم من العلم لأنه افترض حكم القانون في الكون ولأنه اعتمد إلى حد كبير على التجربة. صحيح أن الاعتقاد بأن حركات النجوم ومواقعها هي التي تقرر الأحداث البشرية لم يكن شاملاً كما كان من قبل، ومع ذلك فقد كان في باريس 30. 000 منجم في القرن السادس عشر، (8) كلهم على استعداد لكشف الطالع لقاء قطعة من النقود. وراجت التقاويم الحاوية لتنبؤات المنجمين رواجاً كبيراً. وقد قلدها رابليه ساخراً في "التنبؤات البنتاجرويلية" للسيد ألكوفريباس. ووافقه في هذه النقطة اللوثر والسوربون، فنددا بالتنجيم في جميع صوره. واستنكرت الكنيسة رسمياً تنبؤات المنجمين لأنها تتضمن معنى الحتمية وخضوع الكنيسة للنجوم؛ ومع ذلك فإن البابا بولس الثالث، وهو من أعظم مفكري ذلك العصر، كان على حد قول سفير في القصر البابوي، "يأبى أن يدعو لأي اجتماع هام لمجمع الكرادلة، وأن يخرج في أي رحلة، دون تخير للأيام الملائمة ورصد لحركات الأبراج". (9) وكان فرانسوا الأول، وكاترين دمديتشي، وشارل التاسع، ويوليوس الثاني، وليو العاشر، وأدريان السادس- كانوا كلهم يستشيرون المنجمين (10). وقد غير ملانكتون تاريخ مولد لوثر ليهيئ له طالعاً أسعد، (11) وتوسل إليه ألا يسافر والقمر هلال بعد (12).
وما زال أحد منجمي هذه الفترة مشهوراً، فالمنجم نوستراداموس كان بالفرنسية ميشيل دنوتردام. وقد زعم أنه طبيب وفلكي،
وارتضته كاترين دمديتشي منجماً شبه رسمي، وبنت له مرصداً في ليزال، وفي عام 1564 تنبأ لشارل التاسع بأنه سيعمر إلى التسعين (13)، ولكنه مات بعد عشر سنوات في الرابعة والعشرين. وقد ترك هذا المنجم عند موته (1566) كتاب تنبؤات صاغها بحكمة بحيث تحتمل معنيين. وبحيث يمكن أن تصدق بعض سطور الكتاب على أي حدث تقريباً في التاريخ اللاحق.
كان مسيحيو القرن السادس عشر يؤمنون بإمكان نيل قوى خارقة من الشياطين، وكان الخوف من الشياطين يغرس فيهم منذ نعومة أظفارهم، لذلك شعروا بأنهم ملتزمون بحرق الساحرات. وأيد لوثر وكالفن البابا إنوسنت الثامن في الحث على محاكمتهن. يقول لوثر "إني لأرفض العطف على هؤلاء الساحرات، وبودي لو أحرقتهن على بكرة أبيهن"(14). وقد أحرق أربعة منهن في فتنبرج في 19 يونيو 1540، وأربعة وثلاثون في جنيف عام 1545 (15). وكان لدى دعاة الإصلاح البروتستنتي بطبيعة الحال مبرر من الكتاب المقدس لهذا الحرق، وأضاف استناد البروتستنتية إلى الكتاب إلحاحاً جديداً على إتباع ما ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج، وشجعت عادة إخراج الشياطين الكاثوليكية الإيمان بالسحر، لأنها افترضت أن قوة الشياطين تسكن في البشر. وزعم لوثر أن خصمه الليبزجي يوهان إيك قد وقع ميثاقاً مع الشيطان، ورد يوهان كوخلايوس بأن لوثر نتاج جانبي لعبث الشيطان مع مارجريت لوثر (16).
وكان الناس يلجئون أحياناً إلى اتهام أعدائهم بالسحر للتخلص منهم. وكان للمتهمة الخيار في أن يوقع بها تعذيب طويل الأمد لاستخلاص اعتراف منها، أو أن تموت نتيجة للاعتراف. وقد نظم تعذيب المتهمين بالسحر في أوربة القرن السادس عشر "بوحشية
هادئة لم تعهد
…
في الأمم الوثنية" (17). ويبدو أن كثيراً من الضحايا آمن بذنبهن-بأن لهن مع الشياطين معاملات وصلات، جنسية أحيانا (18). وكان بعض المتهمات ينتحرن، وقد دون قاضٍ فرنسي خمس عشرة حالة انتحار في سنة واحدة (19). وكثيراً ما بز القضاة العلمانيون رجال الكنيسة في التحمس لهذا الاضطهاد. وقد نصت قوانين هنري الثامن (1541) على عقوبة الإعدام لأي من عدة أفعال نسبت إلى الساحرات (20)، ولكن محكمة التفتيش الأسبانية دمغت قصص السحر والاعترافات بالسحر بأنها أوهام العقول الضعيفة، ونهبت مندوبيها (1538) إلى تجاهل طلب الجماهير لحرق الساحرات (21).
كانت الأصوات التي ارتفعت لحماية الساحرات أقل من تلك التي ارتفعت للدفاع عن المهرطقين، وكان المهرطقون أنفسهم يؤمنون بالساحرات. ولكن حدث في عام 1563 أن أصدر طبيب في كليفز يدعى يوهان فير بحثاً سماه "في الخدع الشيطانية" جرؤ في استيحاء وتردد على التخفيف من هذا الجنون. ولم يتشكك الطبيب في وجود الشياطين، ولكنه ألمع إلى أن الساحرات هن الضحايا الأبرياء لمس الشياطين، وأن الشياطين يخدعهن ليصدقن السخافات التي يعترفن بها. وفي رأيه أن النساء والأشخاص المصابين بعلة في البدن أو العقل يتعرضون أكثر من غيرهم لمس الشياطين، وخلص من هذا إلى أن السحر ليس جريمة بل هو مرض، ثم ناشد ملوك وأمراء أوربا أن يقفوا إعدام هؤلاء النسوة العاجزات. وبعد بضع سنوات عدل فير وضعه ليتلاءم مع جيله، فكتب وصفاً مفصلاً للجحيم وزبانيتها، ونظامها، وعملها.
وعبرت روح العصر عن ذاتها في قصة فاوست. وأول سماعنا بجيورج فاوست كان في خطاب كتبه يوهان تريتيميوس عام 1507،
وهو يصفه بالمشعوذ، ثم في 1513 إذا يذكره موتيانوس روفوس بوصف ليس بأرق من هذا. وقد كتب فيليب بيجاردي، أحد أطباء فورمز في 1539 يقول: "في السنوات الأخيرة كان رجل عجيب يجوب كل إقليم وإمارة ومملكة تقريباً
…
ويفاخر ببراعته الفائقة لا في الطب فحسب بل في قراءة الكف، والفراسة، والعرافة بالتحديق في الكرة البلورية، وما شابه ذلك من فنون
…
ولم ينكر أن اسمه فاوستوس" (22) (ومعناه المحظوظ). ويبدو أن فاوست التاريخي مات في 1539 - ويقول ملانكتون إن الشيطان لوى عنقه. وبعد موته بأربع سنوات ظهرت أسطورة فاوست حليف الشيطان في كتاب "عظات مرحة" بقلم قسيس بروتستنتي في بال يدعى يوهان جاست. وقد تضافرت فكرتان قديمتان على تحويل الدجال التاريخي إلى شخصية بارزة أو علم سواء في الأسطورة والمسرحية والفن: أولاهما أن الإنسان قد يكتسب قدرات سحرية بتحالفه الوثيق مع الشيطان، والأخرى أن العلم اللاديني إنما هو غرور وقح قد يؤدي بصاحبه إلى الجحيم. وفي فترة ظن الناس أن الأسطورة كاريكاتور كاثوليكي يسخر من لوثر، ولكن نظرة أعمق للأسطورة رأت أنها تعبير عن استنكار الدين للعلم "الدنيوي" الذي يناقض تقبل الكتاب المقدس في تواضع، لأن فيه الكفاية من العلم والحقيقة. أما جوته فقد استنكر هذا الاستنكار، وسمح لتعطش الإنسان للعلم بأن يطهر ذاته باستخدامه للصالح العام.
وتجسدت أسطورة فاوست تجسداً مراً في شخص هنري كورنيليوس أجريبا. وقد ولد من أسرة طيبة بكولونيا (1547) ثم شق طريقه إلى باريس، وهناك التقى مصادفة بنفر من المتصوفة أو الدجاجلة الذين ادعوا الحكمة الخفية. وإذ كان متعطشاً للمعرفة والشهرة، فقد احترف الكيمياء القديمة، ودرس القبلانية، واقتنع بأن هناك
عالماً من الاستنارة بعيد المنال على الإدراك أو التفكير العادي. وأرسل إلى الناشر تريتميوس مخطوطاً في فلسفة السحر De occulta philosophia مشفوعاً بالخطاب الشخصي التالي: -
"لقد أخذني العجب الشديد، لا بل السخط، لأن أحداً لم ينبر إلى اليوم ليبرئ دراسة في مثل هذا السمو والقدسية من تهمة الضلال. وهكذا استثيرت روحي
…
وشعرت أنا أيضاً بالرغبة في التفلسف، معتقداً أنني سأخرج كتاباً يستحق الثناء
…
إذا استطعت أن أدافع عن
…
ذلك السحر القديم، الذي درسه جميع الحكماء، مطهراً ومنقي من عيوب الضلال، ومزوداً بنسقه المعقول" (23).
ورد عليه تربتميوس مسدياً إليه هذا النصح الجميل. "تكلم على الأشياء العامة للعامة، ولا تتكلم على الأشياء السامية والخفية إلا لأسمى وأخص أصحابك. إن الثور يطعم الدريس، والببغاء يطعم السكر. ففسر هذا القول تفسيراً صحيحاً وإلا أصابك ما أصاب غيرك وداستك الثيران"(34).
وسواء كان الدافع لأجريبا هو الحذر أم الافتقار إلى ناشر، فانه أمسك عشرين عاماً عن دفع كتابه إلى المطبعة. ودعاه الإمبراطور مكسمليان للقتال في إيطاليا، فأبلي في المعركة بلاءً حسناً، ولكنه انتهز الفرصة ليحاضر عن أفلاطون في جامعة بيزا، ولينال درجات في القانون والطب من بافيا. ثم عين محامي مدينة في ميتز (1518)، ولكن سرعان ما فقد ذلك المنصب نتيجة تدخله في محاكمة شابة متهمة بالسحر، وقد حصل على أمر بإطلاق سراحها من محكمة التفتيش، ولكنه رأى من الحكمة بعد ذلك أن يغير موطنه (1519). وأنفق عامين طبيباً للويز أميرة سافوا، غير أن تورط في خلافات كثيرة حملتها على قطع راتبه، فانتقل إلى أنتورب مع زوجته الثانية
وأبنائه، وعيّن مؤرخاً رسمياً وأمين مكتبة لبلاط مرجريت الوصية على عرش النمسا، ووفق في كسب قوته بطريقة منتظمة. وعكف الآن على تأليف أهم كتبه "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقد نشره عام 1530، ثم نشر كتاب "فلسفة السحر" الذي ألفه في شبابه-ونشره الآن مما يثير العجب، وصدره بمقدمة تنصل فيها من استمرار إيمانه بالتعاويذ والمعميات الصوفية المفصلة فيه. وتأذى الراسخون في العلم من الكتابين جميعاً.
أما كتابه "فلسفة السحر" فقد أكد أن "روح الكون" تسود العالم وتحكمه كما أن روح الإنسان تسود الجسد وتحكمه، وأن هذا المستودع العظيم لقوة الروح يمكن أن يستمد منه العقل إذا طهر خلقياً ودرب في صبر على الأساليب المجوسية. ومتى اكتسب العقل هذه القوة، استطاع أن يكشف الخصائص الخفية للأشياء والأعداد والحروف والكلمات، وأن ينفذ إلى أسرار النجوم، وأن يسيطر على قوى الأرض وشياطين الهواء. وراج الكتاب رواجاً كبيراً، وأفضى تعدد طبعاته بعد موت أجريبا إلى قصص أسطورية حول تحالفه الوثيق مع شيطان كان يرافقه متنكراً في صورة كلبه (25)، ويمكنه من الطيران فوق الكرة الأرضية والنوم في القمر (26).
وقد خففت صروف الدهر من مزاعم أجريبا عن التجربة التي ترق فوق الحس، فتعلم أنه ليس في مقدور أي سحر أو كيمياء (قديمة) إطعام أسرته أو حمايته من السجن بسبب الدين. وانقلب في خيبة أمل غاضبة على البحث عن المعرفة، فكتب في عامه التاسع والثلاثين أكثر كتب القرن السادس عشر تشككاً قبل مونتيني "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقال في تصديره للكتاب "إنني أدرك جيداً أي معركة دامية على أن أخوضها
…
أولاً سيثير النحويون القذرون
ضجة، وكذلك
…
الشعراء المتبرمون، والمؤرخون الكاسدة بضاعتهم، والخطباء المتفيهقون، والمناطقة العنيدون
…
والمنجمون المنحوسون، والسحرة البشعون
…
والفلاسفة المجادلون". فالمعرفة كلها غير يقينية، والعلم كله عبث، و "أسعد الناس من لا يعرف شيئاً". المعرفة هي التي قضت على سعادة آدم وحواء، واعتراف سقراط بالجهل هو الذي أكسبه القناعة والشهرة. "ليست العلوم كلها إلا قوانين الناس وآرائهم، وهي تستوي ضرراً ونفعاً، وأذى وفائدة، وشراً وخيراً، هي بعيدة كل البعد عن الكمال، مشكوك فيها، حافلة بالخطأ والخلاف" (27).
ويبدأ أجريبا هجومه المدمر بالأبجدية، فيأخذ عليها تناقضات النطق المحيرة. ويسخر من النحويين الذين تفوق شواذهم قواعدهم، والذين تتغلب عليهم أصوات الشعب المرة بعد المرة. أما الشعراء فمجانين، فما من إنسان "مالك لصوابه" يستطيع أن يكتب شعراً. والتاريخ أكثره حديث خرافة. لا "خرافة متواضع عليها"، كما سيصفه فولتير خطأ، بل خرافة دائمة التبديل، يغيرها كل مؤرخ وجيل من جديد. أما الخطابة فهي إفساد البلاغة للعقول. وأما السحر فخدعة؛ وينبه أجريبا قراءه الآن إلى أن كتابه في السحر كان "زائفاً، أو كاذباً إن شئتم". وإذا كان قد مارس في ماضيه التنجيم والسحر والعرافة والكيمياء القديمة وغيرها من "الجهالات" فإنما كان أكثر ذلك استجابة لفرط إلحاح مشجعيه القادرين على إجزال العطاء له في طلب المعرفة السرية. أما القبلانية فما هي إلا "عقيدة خرافية وبيلة". وأما الفلاسفة فإن اختلاف آرائهم خلافاً يبطلها كفيل بإبقائهم خارج هذه المحكمة؛ فلنتركهم إذن يدحضون آراء بعضهم بعضاً. وما دامت الفلسفة تسعى إلى استنباط الفضيلة من العقل، فسيحبطها
التناقض اللاعقلي للأخلاق في الزمان والمكان، إذ يحدث من جراء هذا التناقض أن ما كان في زمن ما رذيلة، يعد في زمن آخر فضيلة، وما هو في مكان ما فضيلة، هو رذيلة في مكان آخر". أما الفنون والمهن قد أفسدها كما أفسد العلوم الكذب والغرور. وكل بلاط "مدرسة للعادات الفاسدة، ومأوى للشر الكريه". والتجارة غدر وخيانة. والأمناء على الأموال لصوص لصقت بأيديهم الفخاخ وفي أناملهم الخطاطيف. والحرب مذبحة للكثرة تلهو بها القلة. والطب "فن من فنون القتل الخطأ" وكثيراً ما يكون "في الطبيب والدواء من الخطر ما يفوق خطر المرض نفسه".
فما نتيجة هذا كله؟ وإذ كان العلم هو الرأي العابر السريع الزوال، والفلسفة هي التأمل المغرور في طبيعة اللانهائي من عقول حقيرة كالديدان، فبمَ يحيا الإنسان؟ بكلمة الله وحدها معلنة في الكتاب المقدس. وفي هذا الرأي رنين تبشيري، والواقع أننا نلتقي بتأكيدات عديدة لآراء أجريبا "الإنجيلية" مبعثرة وسط شكوكه. فهو يرفض سلطان البابوات الزمني، بل سلطانهم الروحي إذا خالف الكتاب المقدس. وهو يرمي محكمة التفتيش بأنها لا تقنع الناس بالمنطق والكتب المقدسة بل "بالنار والحطب"، وهو يود لو قل إنفاق الكنيسة على الكاتدرائيات وزاد على أعمال البر، ولكنه يتجاوز رجال الإصلاح الديني حين يعترف بأن كتاب العهدين القديم والجديد كانوا عرضة للخطأ. فالمسيح وحده هو المصيب والصادق دائماً، وهو وحده الذي يجب أن نثق به، وفيه الملاذ الأخير للعقل والروح.
وقد استمتع أجريبا بما أحدثته ثورته هذه من غضب، ولكنه دفع ثمن هذه المتعة غالياً خلال ما بقي له من عمر. طالبه شارل الخامس
بسحب نقده للكنيسة، فلما رفض قطع راتبه. ولما سجن بسبب دينه ألقى التبعة على الإمبراطور لتخلفه في دفع راتب مؤرخ بلاطه الرسمي. وأطلق سراحه بشفاعة الكردينال كامبيجيو وأسقف لييج، ولكن شارل نفاه من إمبراطوريته (1531). وانتقل أجريبا إلى ليون حيث سجن ثانية بسبب الدين كما تقول رواية غير مؤكدة. ولما أفرج عنه انتقل إلى جرينوبل، وهناك مات بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً. ولعل له بعض الفضل في تكوين نزعة مونتيني الشكاكة، ولكن كتابه الرائج الوحيد كان في السحر الذي تنكر له. وظلت الأفكار والعادات المتصلة بالسحر مزدهرة إلى نهاية القرن.
2 - الثورة الكوبرنيقية
كان للخطوات التي خطتها العلوم الرياضية، والتي تبدو لنا اليوم تافهة، الفضل في شحذ أدوات الحساب في العصر الذي نحن بصدده. فأدخل كتاب مايكل ستايفل Arithmetica integra (1544) علامات الزائد والناقص، وكان كتاب روبرت ريكورد Whetstone of Wit (1577) أول الكتب المطبوعة التي استعملت علامة "يساوي". أما كتب الحساب التي ألفها آدم ريزي، والتي كانت في زمانها ذائعة الصيت، فقد أقنعت ألمانيا بالانتقال من الحساب بالفيشات إلى الحساب التحريري. ونشر يوهان فرنر (1522) أول بحث حديث عن المخاريط، وواصل جيورج ريتيكوس عمل ريجيو مونتانوس في حساب المثلثات، فضلاً عن أنه ساعد كوبرنيق على نشر نظريته.
أما الفلك فقد أتيح له من الحسابات خير مما أتيح من الآلات. وعلى أساس هذه الحسابات تنبأ بعض المنجمين بطوفان ثان يقع في
"فبراير 1524" حين يلتقي المشتري وزحل في برج الحوت، مما حمل مدينة تولوز على بناء فلك للاحتماء به، والأسر الشديدة الحيطة على خزن الطعام في قمم الجبال (28). وكان أكثر الآلات الفلكية من مخلفات العصر الوسيط: كرات سماوية وأرضية، وعصا يعقوب، وإسطرلاب، وكرة ذات حَلَق، وربعيات واسطوانات، وساعات كبيرة، وبوصلات، وعدة أدوات أخرى ليس من بينها التلسكوب ولا الفوتوغرافيا. بهذا الجهاز استطاع كوبرنيق أن يزلزل الدنيا.
وميكولاي كوبرنيك هذا كما تدعوه بولندة، أو نيكلاس كوبرنيج كما تدعوه ألمانيا، أو نيكولاوس كوبرنيكوس كما يدعوه العلماء، ولد في 1473 بمدينة تورن على نهر فستولا في بروسيا الغربية، وكان الفرسان التيوتون قد نزلوا عنها لبولندة قبل ذلك بسبع سنوات. وأمه من أسرة بروسية غنية، أما أبوه فقدم من كراكاو وأقام في تورن واشتغل بتجارة النحاس. ولما مات الأب (1483) كفل أبناءه شقيق الأم، لوكاس فاتزيلرودي، أسقف إيرملاند وأميرها. وأرسل نيكولاس إلى جامعة كراكاو حين بلغ الثامنة عشرة ليعد نفسه للقسوسية. على أنه أقنع خاله بأن يسمح له بالدراسة في إيطاليا لأنه لم يحب الفلسفة الكلامية التي حظرت الدراسات الإنسانية. فعين بنفوذ خاله كاهناً
(1)
في كاتدرائية فراونبورج ببروسيا الشرقية البولندية، ثم منحه أجازة ثلاث سنوات.
وفي جامعة بولونيا (1497 - 1500) درس كوبرنيق الرياضيات، والفيزياء، والفلك. وكان من بين معلميه أستاذ اسمه دومنيكو دي
(1)
" canon" من هيئة كهان الكاتدرائية، وليس من الضروري أن يكون قسيساً. وليس لدينا دليل واضح على أن كوبرنيق ارتقى من الرتب الدينية الصغرى إلى القسوسية قبل سني عمره الأخيرة. وفي 1527 زكى لشغل وظيفة الأسقفية، مما يشير إلى أنه كان وقتها قسيساً. (29)
نوفارا، تتلمذ من قبل على ريجيو مونتانوس، وانتقد ما في نظرية الفلكي بطليموس من تعقيد سخيف، وعرف تلاميذه بقدامى الفلكيين اليونان الذين تشككوا في ثبات الأرض ووضعها المركزي. فقد كان من رأي فيلولاوس البيثاجوري، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، أن الأرض وسائر الكواكب تدور حول هستيا، وهي نار مركزية لا نراها لأن كل أجزاء الأرض المعروفة تحول بعيداً عنها. وقد روى شيشرون أن هيكيتاس السيراكيوزي، وهو من فلكي القرن الخامس ق. م. أيضاً، كان يعتقد أن الشمس والقمر والنجوم ثابتة، وأن حركتها الظاهرية مرجعها دوران الأرض حول محورها. وذكر أرخميدس وبلوتارخ أن أريستارخوس الساموسي (310 - 230 ق. م.) رأى أن الأرض تدور حول الشمس، وأنه اتهم بالضلال، وأنه عدل عن رأيه، ويقول بلوتارخ أن سلوقس البابلي أحيا الفكرة في القرن الثاني قبل الميلاد. وكان من الجائز أن ينتصر هذا القول بوضع الشمس المركزي في العصور القديمة، لولا أن كلوديوس بطليموس الإسكندري أكد من جديد، في القرن الثاني بعد الميلاد، نظرية وضع الأرض المركزي، وأكدها بقوة وعلم كبيرين بحيث قل من جرؤ بعده على تحديها. وكان بطليموس نفسه قد قرر أن على العلم وهو يحاول شرح الظواهر الطبيعية أن يتبنى أبسط ما يمكن من فروض متفقة مع الشاهدات المسلم بها. ومع ذلك فإن بطليموس، كهيبارخوس من قبله، حين أراد تفسير حركة الكواكب الظاهرية، اضطرته نظرية وضع الأرض المركزي إلى افتراض مجموعات معقدة تعقيداً محيراً من الدوائر الصغيرة ( epicycles)
والدوائر مختلفة المركز ( eccentrics)
(1)
. فهل من سبيل إلى فرض أبسط؟ نيكولي أوريسمى (1330 - 82) ونيكولاس الكوزاوي (1410 - 64) فجددا فكرة دوران الأرض، وكتب ليوناردو دافنشي (1452 - 1519) قبيل ذلك يقول: "إن الشمس لا تتحرك
…
وليست الأرض في مركز دائرة الشمس، ولا هي في مركز الكون" (30).
وأحس كوبرنيق أن نظرية مركزية الشمس تستطيع أن "تنقذ المظاهر"-بشرحها الظواهر الطبيعية المشاهدة-بإحكام أشد من الرأي البطلمي. ففي سنة 1500 ذهب إلى روما وقد بلغ السابعة والعشرين، ربما لحضور اليوبيل، وألقى هناك محاضرات تقول رواية إنه شرح فيها نظرية دوران الأرض على سبيل التجربة. وكانت أجازته قد انتهت، فعاد للقيام بواجباته الدينية كاهناً في فراونبورج. ولكن رياضيات مركزية الأرض كانت تشوش صلواته. فطلب الإذن باستئناف دراساته في إيطاليا، مقترحاً الآن أن يدرس الطب والقانون الكنسي- وهو ما بدا لرؤسائه أدخل في مهنته من الفلك. وقبل ختام القرن الخامس عشر كان قد عاد إلى إيطاليا. ونال درجة القانون في فرارا (1503)، ولم ينل درجة في الطب فيما يبدو، ثم ارتضى الرجوع ثانية إلى فراونبورج. وما لبث خاله أن عينه سكرتيراً وطبيباً (1506)، ربما ليتيح له متسعاً من الوقت للاستزادة من الدرس. وعاش كوبرنيق ست سنوات في قلعة الأسقفية بهايلسبرج وهناك وضع الرياضيات الأساسية لنظريته، ثم دونها في مخطوط.
فلما مات الأسقف الكريم عاد كوبرنيق إلى مكانه في فراونبورج. وواصل ممارسة الطب، وكان يعالج الفقراء مجاناً (31). وقد مثل كهنة
(1)
الـ eepicycle دائرة مركزها محمول على محيط دائرة أكبر منها، أما الـ eccentric فدائرة ليس لها نفس المركز الذي لدائرة أخرى محتواه إلى حد ما في داخلها.
الكاتدرائية في مهام دبلوماسية وأعد لسجسموند الأول ملك بولندة خطة لإصلاح العملة البولندية. وفي مقال من مقالاته الكثيرة عن المالية ذكر هذه العبارة التي عرفت فيما بعد بقانون جريشام: العملة الرديئة
…
تطرد العملة القديمة الأحسن منها (32). وهو يعني أنه إذا أصدرت حكومة ما عملة منحطة اختزنت العملة الجيدة أو أصدرت وامتنع تداولها، ودفعت الضرائب بالعملة الرديئة، و "نقذ الملك من عملته". بيد أن كوبرنيق واصل أبحاثه الفلكية وسط هذه المشاغل المتنوعة. ولم يكن وضعه الجغرافي مواتياً لأبحاثه هذه، ففراونبورج قريبة من البلطي. يلفها الضباب أو السحاب نصف الوقت. وكان يحسد كلوديوس بطليموس، الذي كانت "سماؤه أبهج، حيث لا ينفث النيل الضباب الذي ينفثه نهر نافستولا. لقد حرمتنا الطبيعة تلك الراحة وذلك الهواء الهادئ"(33). لا عجب إذن أن يعبد كوبرنيق الشمس أو يكاد. ولم تكن أرصاده الفلكية كثيرة ولا دقيقة. ولكنها لم تكن ذات أهمية حيوية لهدفه. وكان في أغلب أحيانه ينتفع بالبيانات الفلكية التي خلفها له بطليموس، واعتزم أن يثبت في كل ما وصل إليه من مشاهدات يتفق خير اتفاق مع نظرية مركزية الشمس.
وحوالي عام 1514 لخص ما انتهى إليه من استنتاجات في "تعقيب موجز". ولم يطبع الكتاب في حياته، ولكنه وزع بعض نسخ مخطوطة على سبيل جس النبض. وقد قرر فيه استنتاجاته ببساطة واقعية، وكأنها لم تكن أعظم ثورة في التاريخ المسيحي. قال:
1 -
ليس هناك مركز واحد لميع الكرات السماوية.
2 -
إن مركز الأرض ليس مركز الكون، بل هو نقطة مركز الجاذبية والكرة القمرية.
3 -
كل الكرات (الكواكب) تدور حول الشمس بوصفها نقطتها الوسطى، وإذن فالشمس مركز الكون.
4 -
نسبة المسافة بين الأرض والشمس إلى ارتفاع قبة السماء أصغر بكثير من نسبة نصف قطر الأرض إلى بعدها عن الشمس بحيث أن المسافة من الأرض إلى الشمس لا تدرك لضآلتها بالقياس إلى ارتفاع قبة السماء.
5 -
إن الحركة التي تظهر في قبة السماء لا تنشأ عن أي حركة في قبة السماء بل عن تحرك الأرض. والأرض هي وعناصرها المحيطة بها تدور دورة كاملة حول قطبيها الثابتين في حركة يومية، في حين تظل القبة الزرقاء والسماوات العليا ثابتة لا تتغير.
6 -
إن ما يبدو لنا حركات للشمس لا ينشأ عن تحركها بل عن تحرك كوكبنا الأرضي، الذي يجعلنا ندور حول الشمس كأي كوكب آخر.
7 -
أن ما يبدو من تراجع الكواكب وحركتها المباشرة لا ينشأ عن حركتها بل عن حركة الأرض. إذن فحركة الأرض وحدها تكفي لتفسير الكثير من المفارقات البادية في السماوات (34).
ولم يلق الفلكيون القلائل الذين قرأوا كتاب التعقيب كبير بال إليه. وأيدي البابا ليو العاشر اهتماماً لا تحيز فيه بالنظرية حين أحيط بها علماً وطلب إلى أحد الكرادلة أن يكتب إلى كوبرنيق طالباً إيضاح فكرته. وحظي الفرض برضى كبير في البلاط البابوي المستنير دام بعض الوقت (35). أما لوثر فقد رفض النظرية حوالي عام 1530 قائلاً: "إن الناس يستمعون إلى منجم محدث حاول التدليل على أن الأرض تدور، لا السموات ولا القبة الزرقاء، ولا الشمس ولا القمر
…
فهذا الأحمق يريد أن يقلب نظام الفلك كله رأساً على عقب. ولكن الكتاب المقدس ينبئنا بأن يشوع أمر الشمس لا الأرض أن تقف" (36). وأما كالفن فقد أجاب كوبرنيق بآية من المزمور الثالث والتسعين "أيضاً تثبتت المسكونة، لا تتزعزع" ثم تساءل: "فمن يجرؤ على ترجيح شهادة
كوبرنيق على شهادة الروح القدس؟ (37)". هذه الاستجابة لكتاب "التعقيب" فتت في عضد كوبرنيق حتى أنه أبعد أن أكمل كتابه الكبير حوالي عام 1530 قرر أن يحبسه عن النشر. وواصل القيام بواجباته في هدوء، وحاول الاشتغال قليلاً بالسياسة، وفي ستيناته اتهم بأن له خليلة (38).
ولكن في عام 1539 اندفع إلى قلب هذه الشيخوخة المستسلمة رياضي شاب متحمس يدعى جيورج ريتيكوس. كان فتى في الخامسة والعشرين، بروتستنتياً، يحظى برعاية ملانكتون، ويعمل أستاذاً في جامعة فتنبرج. وكان قد قرأ "التعقيب" واقتنع بصدقه وتاقت نفسه لمساعدة الفلكي العجوز الذي كان يعيش بعيداً في بلدة مغمورة على البلطي كأنها مخفر أمامي على حدود الحضارة، منتظراً في صبر أن يرى الآخرون معه دورة الأرض غير المرئية حول نفسها وحول الشمس. وأحب الفتى كوبرنيق حباً جماً، ووصفه بأنه "خير الرجال وأعظمهم" وتأثر تأثراً عميقاً بإخلاصه للعلم. وظل ريتيكوس عشرة أسابيع مكباً على دراسة المخطوط الكبير. ثم حث كوبرنيق على نشره، ولكنه أبى، غير أنه وافق على أن يقوم ريتيكوس بنشر تحليل مبسط لفصوله الأربعة الأولى. وعليه فقد أصدر العالم الشاب في عام 1540، في مدينة دانتزج، كتابه "أول تقرير عن كتاب دورات الأجرام السماوية". وأرسل نسخة منه إلى ملانكتون والأمل يراوده، ولكن اللاهوتي الكريم لم يقتنع. ولما عاد ريتيكوس إلى فتنبرج (في مطلع 1540) وأثنى على نظرية كوبرنيق في فصله، "أمر"-كما روي-أن يحاضر بدلاً من ذلك عن كتاب يوهان دي ساكروبوسكو Sphaera (39) . وفي 16 أكتوبر 1541 كتب ملانكتون إلى صديق له يقول: "يظن البعض أن من الإنجازات البارزة أن يؤلف
إنسان نظرية مجنونة كذلك الفلكي البروسي الذي يحرك الأرض ويثبت الشمس. حقاً إن واجب الحكام العقلاء أن يروضوا من جموح العقول" (40).
وفي صيف عام 1540 عاد ريتيكوس إلى فراونبورج ومكث بها حتى سبتمبر 1541. ورجا أستاذه المرة بعد المرة أن ينشر على العالم مخطوطه. فلما انضم إليه في هذا الرجاء رجلان بارزان من رجال الدين، استجاب كوبرنيق، ربما لاطمئنانه إلى أنه يضع الآن إحدى قدميه في القبر. وأدخل على المخطوط إضافات نهائية، ثم أذن لريتيكوس أن يبعث به غلى ناشر في نورمبرج تكفل بجميع النفقات والتبعات (1542). وإذ كان ريتيكوس قد رحل عن فتنبرج ليدرس في ليبزج فقد وكل إلى صديقه أندرياس أوزياندر، وكان قسيساً لوثرياً في نورمبرج، مهمة الإشراف على طبع الكتاب.
كان أوزياندر قد كتب إلى كوبرنيق (20 أكتوبر 1541) مقترحاً تقديم الرأي الجديد على أنه فرض لا حقيقة ثابتة، وذكر في خطاب بنفس التاريخ أرسله إلى ريتيكوس أنه بهذه الطريقة "سيهدئ الأرسطاطاليون واللاهوتيون من روعهم في غير مشقة"(41). وكان كوبرنيق نفسه قد وصف نظرياته غير مرة بأنها فروض، لا في تعقيبه الموجز فحسب، بل في كتابه المطول (42)، وفي الوقت ذاته زعم في الإهداء أنه دعم آراءه "بأعظم الأدلة وضوحاً". ولا علم لنا بم ردّ على أوزياندر. على أية حال قدم أوزياندر للكتاب على نحو التالي دون أن يوقع باسمه:
"إلى القارئ، حول فروض هذا الكتاب.
نظراً إلى ما ذاع من سمعة هذه الفروض الجديدة، فإن علماء كثيرين ستصدهم ولا ريب نظريات هذا الكتاب صدمة قوية
…
على أن
…
فروض الأستاذ ليست بالضرورة الصحيحة، ولا حتى
مرجحة. ويكفي جداً أن تؤدي إلى حساب يتفق والمشاهدات الفلكية
…
وسيبادر الفلكي بإتباع أسهل الفروض فهماً. أما الفيلسوف فربما طالب بترجيح أكثر، ولكن لا هذا ولا ذاك سيستطيع اكتشاف أي شيء يقيني
…
ما لم يكشف له عنه بالوحي الإلهي. فلنسلم إذن بأن الفروض الجديدة التالية ستتخذ لها مكاناً إلى جوار الفروض القديمة التي ليست أكثر منها رجحاناً. وعلاوة على ذلك فإن هذه الفروض جديرة بالإعجاب وسهلة الفهم حقاً، وفضلاً على هذا فإننا واجدون هنا كنزاً من المشاهدات الدالة على علم واسع. أما فيما عدا هذا فلا يتوقعن أحد من الفلك اليقينية فيما يتصل بالفروض. فهو لا يستطيع أن يعطي هذه اليقينية. ومن يأخذ كل شيء وضع لأغراض أخرى مأخذ الحقيقة سيترك هذا العلم في أغلب الظن أجهل مما كان حين بدأ فيه" (43).
وكثيراً ما ندد الناس بهذه المقدمة باعتبارها عنصراً مقحماً وقحاً (44). ولعل كوبرنيق قد استنكرها، ذلك أن هذا الشيخ بعد أن عايش نظريته ثلاثين عاماً أصبح يشعر بأنه بضعة من حياته ودمه، وبأنها وصف لحقائق الكون الفعلية. ولكن مقدمة أوزياندر كان فيها حصافة وإنصاف، فقد خففت من المقاومة الطبيعية التي تقاوم بها عقول كثيرة فكرة قلقة وثورية، وهي ما زالت مذكراً طيباً لنا بأن أوصافنا للكون إن هي إلا آراء عرضة للخطأ صادرة من قطرات ماء عن البحر، وأنها تحتمل هي الأخرى الرفض أو التصحيح.
وظهر الكتاب أخيراً في ربيع 1543 يحمل هذا العنوان: "الجزء الأول من كتاب نيكولاي كوبرنيقي عن الدورات"، وعرف الكتاب بعد ذلك بهذا الاسم:"في دورات الأجرام السماوية"، ووصلت إحدى نسخ الكتاب الأولى إلى يد كوبرنيق
في 24 مايو 1543. وكان على فراش الموت، فقرأ صفحة العنوان، وابتسم، ثم مات في نفس الساعة.
وكان إهداء الكتاب إلى البابا بولس الثالث في ذاته جعداً لنزع السلاح من يد المقاومة لنظريته تناقض حرفية الكتاب المقدس، كما أيقن كوبرنيق، مناقضة صريحة. وقد بدأ بتأكيدات وروعة فقال:"ما زلت أومن أن علينا أن نتجنب النظريات البعيدة كل البعد عن سلامة العقيدة". وذكر أنه تردد طويلاً في نشر الكتاب متسائلاً" أليس الأفضل أن أحذو حذو الفيثاغوريين
…
الذين درجوا على توصيل أسرار الفلسفة بالفم لا بالكتابة، ولأقربائهم وأصدقائهم دون سواهم". ولكن رجلين من رجال الكنيسة المثقفين وهما نيقولا شونبرج كردينال كبوا، وتدمان جيزي أسقف كولم-كانا قد ألحا في توصيته بنشر كشوفه. (وقد وجد كوبرنيق أن من الحكمة عدم ذكر اللوثري ريتيكوس). ثم اعترف بفضل الفلكيين اليونان عليه، ولكنه في زلة قلم أغفل اسم أرستارخوس. وقال إنه يعتقد إن الفلكيين في حاجة إلى نظرية أفضل من النظرية البطلمية، لأنهم يجدون الآن صعوبات كثيرة في الرأي القائل بمركزية الأرض، ولا يستطيعون على هذا الأساس أن يحسبوا طول السنة حساباً دقيقاً. ثم إنه لجأ إلى البابا بوصفه رجلاً "عظيماً
…
في محبته للعلوم جمعها حتى الرياضيات". لكي يحميه من "لدغ المفترين" الذين سيدعون لأنفسهم الحق في الحكم على هذه الأشياء. أو "سيهاجمون نظريتي محتجين بفقرة من الكتاب المقدس" (45)، وذلك دون إلمام كاف بالرياضيات.
ويبدأ العرض بهذه المسلمات، أولاً أن الكون كروي، ثانياً، أن الأرض كروية-لأن المادة إذا تركت وشأنها تنجذب نحو مركز،
ومن ثم تكيف نفسها في شكل كروي، ثالثاً، أن حركات الأجرام السماوية حركات دائرية متماثلة، أو مكونة من هذه الحركات-لأن الدائرة هي "أكثر الأشكال كمالاً" ولأن "العقل يقشعر رعباً" من الفرض القائل بأن الحركات السماوية ليست متماثلة. (والصواب في التفكير محال ما لم يكن هناك صواب في سلوك موضوعات التفكير).
ويلاحظ كوبرنيق نسبية الحركة: "كل تغير يرى في الوضع مرجعه الحركة سواء حركة المشاهد أو حركة الشيء الذي يشاهده، أو مرجعه التغيرات الطارئة على وضع الاثنين بشرط أن يكونا مختلفين. لأنه إذا حركت الأشياء بنسبة متساوية إلى نفس الأشياء، لم تلحظ أية حركة بين الشيء المرئي وبين المشاهد"(46). إذن فدوران الكواكب اليومي الظاهري حول الأرض يمكن تعليله بدوران الأرض يومياً حول محورها، وحركة الشمس السنوية الظاهرية حول الأرض يمكن تعليلها إذا افترضنا أن الأرض تدور سنوياً حول الشمس.
ويتوقع كوبرنيق الاعتراضات على نظريته. فقد زعم بطليموس أن السحب والأجسام الموجودة على سطح أرض دائرة تتطاير بعيداً عنها وتترك وراءها. ويرد كوبرنيق بأن هذا الاعتراض أحرى أن يعترض به على دوران الكواكب الكبرى حول الأرض، لأن مسافاتها الشاسعة تعني أن لها أجراماً هائلة وسرعات عظيمة. كذلك زعم بطليموس أن الجسم المدفوع مباشرة إلى أعلى من أرض دائرة لا يعود في سقوطه إلى نقطته الأصلية. ويرد كوبرنيق بأن هذه الأجسام، شأنها شأن السحب، هي "أجزاء من الأرض" وأنها تحمل معها في سيرها. أما الاعتراض بأن دوران الأرض سنوياً حول الشمس لو صح "لتجلي في تحرك النجوم "الثابتة" (وهي النجوم الواقعة وراء مجموعتنا الكوكبية) كما تشاهد في طرفين
متقابلين لمدار الأرض، فيرد عليه كوبرنيق بأن هذا التحرك موجود فعلاً، ولكن البعد الشاسع للنجوم ("القبة السماوية") لا يتيح لنا رؤيته. (ويمكن اليوم رصد درجة معتدلة من هذه الحركة).
ثم يجمل نظريته في فقرة جامعة مانعة:
"أولاً وقبل كل شيء هناك مجال النجوم الثابتة، الذي يحتوي ذاته وكل الأشياء، وهو لهذا السبب عينه ثابت
…
أم الأجسام المتحركة (الكواكب) فأولها زحل الذي يتم دورته في ثلاثين سنة. ثم يأتي المشتري الذي يتمها في اثنتي عشرة سنة، ثم المريخ الذي يدور كل عامين. ويلي هذا في الترتيب دورة رابعة تقع كل سنة
…
وهي تحتوي الأرض ومعها مدار القمر كدائرة صغيرة يدور مركزها على محيط دائرة أكبر. أما الكوكب الخامس فهو الزهرة التي تدور حول الشمس في تسعة شهور. ثم يشغل عطارد المكان السادس، وهو يدور دورته في ثمانين يوماً. وفي وسط هذه الكواكب جميعها تقوم الشمس
…
ولم يخطئ البعض إذ وصفوها بمصباح الكون، ووصفها غيرهم بعقل الكون، وغيره بسيده الحاكم
…
والقول صواب لأن الشمس وهي متربعة على عرشها الملكي تحكم أسرة النجوم المحيطة بها .... وهكذا نجد بفضل هذا التنسيق تماثلاً عجيباً في الكون، وعلاقة انسجام محددة في حركة الأجرام السماوية وضخامتها وهي علاقة من نوع يستحيل تحقيقه بأي طريقة أخرى
(1)
" (47).
ويمكن القول بوجه عام إن أي تقدم يحرزه الإنسان في نظرية ما يحمل معه الكثير من مخلفات النظرية القديمة المتروكة. فقد أقام
(1)
يفترض الفلك الحديث وجود تسعة كواكب وفترات دوران: عطارد (88 يوماً)، والزهرة (225)، والأرض (365 - 66)، والمريخ (687)، والمشتري (11. 86 سنة)، وزحل (26. 46 سنة) وأورانوس (84. 02 سنة)، ونبتون (164. 79 سنة)، وبلوتو (248 سنة).
كوبرنيق تصوراته على مشاهدات موروثة من بطلميوس، واحتفظ بالكثير من تفاصيل الجهاز السماوي البطلمي، كالدوائر، والدوائر الصغيرة التي تدور مراكزها على محيط دائرة أكبر، والدوائر المنحرفة عن المسار الدائري، أما رفض هذه التفاصيل فسوف يتم على يد كبلر. وكان أغرب الأشياء حساب كوبرنيق أن الشمس ليست بالضبط في وسط مدار الأرض. فقد حسب أن مركز الكون "يبعد عن الشمس بمقدار ثلاثة أمثال قطر الشمس"، وأن مراكز أفلاك السيارات هي كذلك خارج الشمس، وأنها ليست واحدة على الإطلاق. وقد نقل كوبرنيق من الأرض إلى الشمس فكرتين يرفضهما العلم اليوم، أولاهما: أن الشمس هي المركز التقريبي للكون، والأخرى أنها ساكنة. وحسب أن الأرض ليست لها دورة حول محورها وأخرى حول فلكها فحسب، بل حركة ثالثة ظنها ضرورية لتفسير ميل محور الأرض ومبادرة الإعتدالين.
وعلى ذلك يجب ألا نبتسم-ونحن ندرك الموقف بعد هذه القرون-سخرية من أولئك الذين تأخروا طويلاً في اعتناق نظرية كوبرنيق. ذلك أنه لم يطلب إليهم مجرد تصور الأرض وهي تدور وتندفع في الفضاء بسرعة رهيبة على عكس ما تشهد به حواسهم شهادة مباشرة، بل أكثر من ذلك أن يسلموا بعمليات حسابية تتوه فيها العقول ولا تقل في تحييرها للإفهام عن حسابات بطليموس إلا بقدر طفيف. ولم تبد النظرية الجديدة متفوقة على القديمة بصورة واضحة إلا بعد أن صاغ كبلر وجاليليو ونيوتن جهازها ليحقق بساطة ودقة أعظم، وحتى بعد هذا يجب أن نقول عن الشمس تلك الكلمات التي ربما قالها جاليليو عن الأرض "ومع ذلك فهي تدور". هذا وقد رفض تيكو براهي فرض مركزية الشمس بحجة أن كوبرنيق لم يرد على اعتراضات بطليموس
رداً مقنعاً. وأعجب من هذا الرفض تلك السرعة النسبية التي قبل بها النظرية الجديدة فلكيون كريتيكوس، وأوزياندر، وجون فيلد، وتومس ديجيز، وإرزمس رينهولد-الذي بنى "جداوله البروتنية"(1551) للحركات السماوية على نظرية كوبرنيق إلى حد كبير. ولم تبد الكنيسة الكاثوليكية اعتراضاً على النظرية الجديدة ما دامت تعرض ذاتها على أنها فرض، ولكن محكمة التفتيش لم تعرف رحمة في العقاب حين اعتبر جوردانو برونو الفرض حقيقة مؤكدة، وبينت في وضوح نتائجها على الدين. وفي 1616 حرمت "لجنة الفهرس" قراءة كتاب "الدورات" إلى أن يصحح، وفي 1620 أذن للكاثوليك أن يقرءوا طبعات حذفت منها تسع عبارات تمثل النظرية على أنها حقيقة. ثم اختفى الكتاب من فهرس 1758 المراجع، ولكن الحظر لم يلغ صراحة إلا في 1828.
كانت نظرية مركزية الأرض تلائم بصورة معقولة لاهوتاً يفرض أن كل الأشياء خلقت لمنفعة البشر. أما الآن فقد شعر هؤلاء البشر أنهم يترنحون فوق كوكب صغير اختزل تاريخه إلى "مجرد فقرة محلية في أخبار الكون". (48) فماذا يمكن أن تعنيه كلمة "السماء" إذا كانت كلمتا "فوق" و "تحت" قد فقدتا كل معنى لهما، وإذا كانت إحداهما تنقلب فتصبح الأخرى في نصف يوم؟ كتب جيمس وولف إلى تيكو براهي في 1575 يقول:"ما من هجوم على المسيحية أشد خطراً من القول بضخامة السماوات وعمقها اللانهائيين"-مع أن كوبرنيق لم يقل بلا نهائية الكون. فلا بد أن الناس حين توقفوا للتأمل في المعاني التي تتضمنها النظرية الجديدة راحوا يتساءلون عن صواب القول بأن خالق هذا الكون الهائل المنظم قد أرسل ابنه ليموت على هذا الكوكب المتوسط الحجم. وبدا أن كل شعر المسيحية الجميل،
"يتصاعد دخاناً"(كما قال جوته فيما بعد) تحت لمسة هذا الكاهن البولندي. وأجبر الفلك القائل بمركزية الشمس الناس على أن يتصوروا الخالق من جديد في صورة أقل ضيقاً في الأفق وأقل تجسداً، وواجه اللاهوت أقوى تحد في تاريخ الدين. ومن ثم كانت الثورة الكوبرنيقية أشد عمقاً من حركة الإصلاح البروتستنتي، فقد جعلت الفروق بين العقائد الكاثوليكية والبروتستنتية تبدو تافهة، وتخطت حركة الإصلاح البروتستنتي إلى حركة التنوبر، من أرزمس ولوثر إلى فولتير، وحتى إلى ما بعد فولتير، إلى لا أدريه القرن التاسع عشر المتشائمة، هذا القرن الذي سيضيف الكارثة الداروينية إلى الكارثة الكوبرنيقية. ولم يكن هناك سوى واق واحد من أمثال هؤلاء الرجال، وهو أن قلة قليلة فقط في أي جيل هي التي ستدرك ما ينطوي عليه فكرهم من معان. فسوف "تشرق" الشمس و "تغرب" حين كوبرنيق قد طوى في زوايا النسيان.
في عام 1581 أقام الأسقف كرومر نصباً تذكارياً لكوبرنيق على السور الداخلي لكاتدرائية فراونبورج بجوار قبر الكاهن. وفي عام 1746 أزيل النصب ليفسح مكاناً لتمثال للأسقف زمبك. فمن هو هذا الأسقف؟ من يدري؟.
3 - ماجلان وكشف الأرض
تقدم ارتياد الأرض بخطى أسرع من رسم خريطة السماء، وكان لهذا التقدم تقريباً نفس التأثيرات المزعجة على الدين والفلسفة. أما الجيولوجيا فكانت أقل من غيرها تقدماً، لأن نظرية الخلق كما وردت في الكتاب المقدس أصبحت في مأمن من الشك بفضل الإيمان بمصدرها الإلهي. قال المصلح الإيطالي-الإنجليزي بيتر مارتر فرميلي "لو شاع
بين الناس رأي خاطئ عن الخليقة كما وردت في سفر التكوين لبطلت كل وعود المسيح وفقد ديننا حياته كلها" (49). وأهم كتب الجيولوجيا التي صدرت في النصف الأول من القرن السادس عشر كتاب ألفه جروج أجريكولا (هذا فضلاً عن آراء ليوناردو المبعثرة هنا وهناك). تأمل هذه الفقرة من كتابه De ortu et causis subterranoerum ( بال 1546) عن منشأ الجبال: "تتكون التلال والجبال بفعل قوتين، إحداهما قوة المياه، والأخرى قوة الرياح، ويجب أن نضيف إليهما النار التي في باطن الأرض
…
ذلك أن السيول تجرف أولاً التربة اللينة، ثم تحمل التربة الأكثر صلابة، ثم تدحرج الصخور، وهكذا تحفر السهول أو السفوح في بضع سنوات و
…
ونتيجة لهذا الحفر في عصور كثيرة يتكون مرتفع ضخم
…
هو الأنهار
…
والأنهار تحدث نفس النتيجة باندفاعها وجرفها، ولذا كثيراً ما ترى جارية بين جبال شامخة كونتها هذه الأنهار، أو بقرب الساحل الذي يحفها
…
وتكون الرياح تلالاً وجبالاً بطريقتين
…
إما بتحريك الرمال وإثارتها بعنف، وإما بكفاحها للخروج بقوة .... بعد أن تكون قد دفعت إلى شقوق الأرض الخفية" (50).
أما كتاب أجريكولا De natura fossilium، (1546) فأول بحث منسق عن علم المعادن، ويحتوي مقاله De metallica على أول بحث نسقي عن علم الطبقات، وفيه كما رأينا أول تعليل للرواسب المعدنية.
أما الأثنوغرافيا (علم نشوء الأعراق) فقد أتحفتنا بكتابين كبيرين: أولهما Cosmographia universalis (1544) ، لسباستيان مونستر، وثانيهما Descriptio Africa، (1550) لليو الأفريقي Leo Africanus. كان الحسن بن محمد الوزان مسلماً من غرناطة، وقد تنقل في أرجاء أفريقيا ووصل جنوباً إلى السودان
يحدوه ولع شديد بالأسفار كولع ابن بطوطة. وقد أسره القراصنة المسيحيين وبعثوا به إلى روما هدية للبابا ليو العاشر الذي أعتقه ورتب له معاشاً بعد أن أعجب بما حصله من علم وثقافة. واستجاب لهذا العطف باعتناقه المسيحية واتخاذ "ليو" اسماً له. ثم أنفق الثلاثين السنة التالية في تأليف كتابه هذا بالعربية أولاً ثم بالإيطالية. وقبل الفراغ من طبعه الكتاب عاد إلى تونس، وهناك مات عام 1552 على دين آبائه فيما يبدو. (51)
وكان العصر مثيراً بالنسبة للجغرافيا. فقد جاءت الأنباء والتقارير تتري، من المبشرين والفاتحين الأسبان والملاحين والرحالة، مضيفة إضافات هائلة إلى معرفة أوربا بالكرة الأرضية. وكان الأسبان الذين فتحوا المكسيك وكاليفورنيا وأمريكا الوسطى وبيرو في هذه الفترة مغامرين وطلاب ثراء أولاً، سئموا الفقر والحياة الرتيبة في وطنهم، واقتحموا المخاطر في تلك الأقطار النائية الغريبة. وفي غمرة الشدائد التي عانوها في مغامراتهم المستهترة نسوا قيود الحضارة، واعتنقوا بصراحة أخلاقيات المدافع المتفوقة، واقترنوا عملاً من أعمال السطو والغدر والقتل لا يغتفر، إلا أن يرى طرف ذو مصلحة أن نتيجته النهائية كانت كسباً للحضارة. ومع ذلك فما من شك في أن المغلوبين كانوا في ذلك الوقت أعظم تحضراً من الغالبين الفعليين. وحسبك أن تتأمل حضارة ألمانيا التي وجدها هرنانديز القرطبي في يوكاتان (1517)، وإمبراطورية المونتزوميين الأزتيكية التي غزاها هرناندو كورتيز (1521)، وحضارة الإنكا الاشتراكية التي دمرت إبان فتح فرانشسكو بيزارو لبيرو (1526 - 32). ولا ندري أي صور نبيلة أو خسيسة كانت هذه الحضارات متطورة إليها لو أتيح لها سلاح تدافع به عن نفسها.
ومضى الكشف الجغرافي المثير قدماً. فارتاد سبستيان كابوت تحت الراية الأسبانية الأرجنتين وأورجواي وبراجواي. واخترق دي سوتو فلوريدا وولايات الخليج حتى بلغ أوكلاهوما. واكتشف بدرو دي الفرادو إمبراطورية تكساس، واخترق فرانشسكو دي كورنادو أريزونا وأوكلاهوما حتى بلغ كانزاس. وبدأت مناجم بوتوزي في بوليفيا تبعث بفضتها إلى أسبانيا (1545)، وكانت خريطة العالم الجديد ترسم سنة بعد سنة بالذهب والفضة والدم. وتخلف الإنجليز والفرنسيون في هذه القارة الكبرى لأن أرجاء أمريكا الشمالية التي تركها لهم الأسبان والبرتغال كانت فقيرة في معادنها النفيسة، وعرة في غاباتها. وأبحر جوت رت بحذاء ساحل نيوفوندلند ومين. وبعث فرانسوا الأول بجوفاني دا فيرانانو ليبحث عن مسلك شمالي غربي إلى آسيا، فرساً على كارولينا الشمالية، ودخل ميناء نيويورك (التي تذكره بتمثال عند بطاريتها)، ودار حول رأس كود حتى وصل مين. وأبحر جاك كارتييه وهو يرفع على فرنسا مصعداً في السانت لورنس حتى بلغ مونتريال، مدعماً بذلك دعوى فرنسا بحقها في امتلاك كندا.
على أن أعظم المغامرات إثارة في هذا الجيل الثاني من أجيال الارتياد فيما وراء المحيط هي الدوران حول الكرة الأرضية. كان فرناو دي ماجالايس برتغالياً قد شارك بنشاط في كثير من الرحلات والغزوات البرتغالية، ولكنه انتقل إلى خدمة أسبانيا بعد أن غضبت عليه حكومته، وفي عام 1518 أقنع شارل الأول (الخامس) بأن يمول بعثة تبحث عن ممر جنوبي غربي آسيا. ولم يكن الملك الشاب قد أصاب يومها ما أصاب من ثراء بعد هذا، لذلك كانت السفن الخمس التي أعطاها لماجلان عتيقة بالية حتى أن أحد القباطنة
حكم بعد صلاحيتها للملاحة. وكانت حمولة أكبرها 120 وطناً، وأصغرها 75 طناً. وعاف الملاحون الخبيرون بالبحر التطوع بين بحارة هذه المراكب، واقتضى الأمر اختيار معظم بحارتها من بين حثالة أهل الساحل. وفي 20 سبتمبر 1519 أقلع الأسطول من نهر الوادي الكبير عند سان لوكار. وكان يتمتع بميزة الإبحار من الصيف في الأطلنطي الشمالي إلى الصيف في الأطلنطي الجنوبي، ولكن الشتاء أدركه في مارس 1520، فألقت المراكب مراسيها، وأنفق الملاحون خمسة شهور مملة في بتاجونيا. أما الوطنيون العمالقة الذين زاد طول الواحد منهم في المتوسط على ستة أقدام فقد أبدوا نحو الأسبان القصار القامة بالقياس لهم وداً فيه تلطف وتنازل، ولكن كثرة المشاق واستمرارها حملا بحارة ثلاث من السفن الخمس على التمرد، وأكره ماجلان على مقاتلة رجاله ليجبرهم على المضي في هذه المغامرة. على أن سفينة منها تسللت عائدة إلى أسبانيا، وتحطمت أخرى على حاجز صخري. وفي أغسطس 1520 استؤنفت الرحلة، وكان ماجلان يستطلع كل خليج يمر به عسى أن يكون مصباً لطريق مائي وراء المحيط. وفي 28 نوفمبر تكلل البحث بالنجاح، ودخل الأسطول الذي تناقص عدد سفنه المضايق التي تحمل اسم ماجلان. وهكذا استغرقت رحلة 320 ميلاً من البحر إلى البحر ثلاثة وثمانين يوماً.
ثم بدأ الأسطول عبوراً كئيباً موحشاً للمحيط الهادي الذي لم تبد له نهاية. ولم يقع نظر الملاحين خلال ثمانية وتسعين يوماً إلا على جزيرتين صغيرتين. وتناقصت المؤن بشكل خطر، وأصيب الملاحون بالإسقربوط. وفي 6 مارس 1521 مست السفن ساحل جوام، ولكن عداء الوطنيين حمل ماجلان ورجاله على مواصلة الإبحار. وفي 6 أبريل وصلوا إلى الفلبين، وفي اليوم السابع رسوا على جزيرة
كيبو. ورغبة في ضمان الحصول على المؤن من الجزيرة اتفق ماجلان مع الحاكم المحلي على أن يساعده في حربه مع أعدائه المجاورين. فشارك في حملة على جزيرة ماكتان، وقتل في المعركة التي دارت هناك في 27 أبريل 1521. وهكذا لم يدر ماجلان حول الأرض، ولكنه كان أول من حقق حلم كولومبس في الوصول إلى آسيا بالإبحار غرباً (52).
كان عدد الملاحين قد هبط الآن بعد موت من مات منهم بحيث لم يكف إلا لتزويد سفينتين فقط بالرجال. أما إحدى السفينتين فقد قفلت عائدة عبر المحيط الهادي، ربما سعياً وراء الذهب الأمريكي. ولم يبق من سفن الأسطول غير "فكتوريا". واضطلع بقيادتها جوان سبستيان ديلكانو، فقاد السفينة الصغيرة التي لم تزد حمولتها على خمسة وثمانين طناً مخترقاً جزر البهار، عابراً المحيط الهندي، دائراً حول رأس الرجاء الصالح، مصعداً في ساحل أفريقيا الغربي. وأرسى الملاحون السفينة تجاه إحدى جزر الرأس الأخضر وهم يتحرقون شوقاً للزاد والمئونة، ولكن البرتغاليين هاجموهم، وأودع السجن نصفهم. وأفلح الباقون وعددهم اثنان وعشرون في الهروب. وفي 8 سبتمبر 1522 بلغت السفينة فكتوريا إشبيلية وهي لا تحمل سوى ثمانية عشر رجلاً (والباقون من أهل الملايو) هم كل من بقي من 280 رجلاً أقلعوا من أسبانيا قبل ثلاث سنوات تقريباً. وسجلت يومية السفينة هذا التاريخ باعتباره 7 سبتمبر. وعلل الكاردينال جاسبارو كونتاريني الفرق باتجاه الرحلة الغربي. لقد كانت المغامرة من أجرأ المغامرات في التاريخ، ومن أحفلها بالثمار للجغرافيا.
وبقي على الجغرافيين واجب اللحاق بالرواد. وقد يسر لهم جيامياتستا راموزيو- وهو ها كلويت الإيطالي- هذه المهمة بجمعه
خلال ثلاثين عاماً القصص والأخبار التي جلبها الرحالة وغيرهم من المسافرين، وقد ترجمها وعلق عليها، ثم نشرت في ثلاثة مجلدات (1550 - 59) بعد موته بثلاثة عشر عاماً. ويظهر التقدم الذي حققه الجغرافيون في عشر سنوات إذا قارنا بين الكرة الأرضية كما رسمت عام 1520، المحفوظة بالمتحف القومي الألماني في نورمبرج، والتي تبدو فيها جزر الهند الغربية دون أثر لقارة أمريكية، ثم تقفز هذه الجزر فوق محيط ضيق إلى آسيا، وبين ثلاث خرائط رسمها (1527 - 29) ديوجو ريبيرو، وقد ظهرت فيها شواطئ أوربا وأفريقيا وجنوب آسيا مرسومة بدقة عظيمة، والساحل الشرقي للأمريكتين من نيوفوندلند حتى مضايق ماجلان، والساحل الغربي من بيرو إلى المكسيك، ولعل "خريطة راموزيو"(البندقية 1534) البديعة للأمريكتين، المحفوظة بمكتبة نيويورك العامة، منقولة عن ريبيرو هذا. وفي نفس "المكتبة الأم" خريطة قديمة وخاطئة رسمها جرهادوس مركاتور (1538) أطلق فيها على أمريكا الشمالية والجنوبية اسمها هذا لأول مرة. (أما "خريطة نركاثور البارزة" فترجع إلى عام 1569). وأضاف بيتر أبيان (1524) إلى علم الجغرافيا بمحاولته إخضاع المسافات الجغرافية لمقاييس مضبوطة.
وقد ظهرت آثار هذه الارتيادات في كل منحى من مناحي الحياة الأوربية. فرحلات 1420 - 1560 زادت وجه الكرة المعروفة للبشر أربعة أضعاف تقريباً. وكان للجديد من الحيوان والنبات، والأحجار الكريمة والمعادن، والأطعمة والعقاقير، الفضل في إثراء نبات أوربا وحيوانها وجيولوجيتها وموائدها وعقاقيرها. وتساءل الناس كيف وجد ممثلو الأنواع الجديدة كلها مكاناً في فلك
نوح. وتغير الأدب، فأخلت قصص الفروسية القديمة مكانها لقصص الأسفار أو المغامرات في القطار النائية، وحل البحث عن الذهب محل البحث عن الكأس المقدسة في رمزية لا شعورية للمزاج الجديد. وفتحت أعظم ثورة تجارية في التاريخ (قبل أن تبلغ الطائرة مرحلة النضج) المحيط الأطلنطي وغيره من المحيطات للتجارة الأوربية، وخلفت البحر المتوسط في حالة ركود تجاري، ومن ثم ركود ثقافي تبعه بعد قليل. وانتقلت النهضة من إيطاليا إلى دول الأطلنطي. وراحت أوربا، التي كانت تملك سفناً ومدافع أفضل وسكاناً أصلب وأشد رغبة في التملك والمغامرة، راحت تفتح-وأحياناً تستعمر-البلد تلو البلد من الأقطار المكتشفة. وأكره السكان الوطنيون على العمل المتصل الشاق الذي لم يتعودوه لإنتاج السلع لأوربا، وأصبح الرق نظاماً راسخاً. وغدت أصغر القارات تقريباً أعظمها ثراءً. وبدأت حركة صبغ الكرة الأرضية بالطابع الأوربي، وهي الحركة التي قلبت قلباً حاداً في عصرنا. ووجد عقل الرجل الغربي حافزاً قوياً في بعد الشقة بينه وبين الأقطار الجديدة وفي ضخامتها وتنوعها. وربما كان لبعض تشكك مونتيني جذور في سحر الدخيل المجلوب من العادات والعقائد. واتخذت العوائد والأخلاق نسبية جغرافية أوهنت القديم من العقائد القطعية واليقينية. وكان لزاماً أن ينظر إلى المسيحية ذاتها في منظور جديد بوصفها دين قارة صغيرة تقوم وسط عالم من العقائد المنافسة. وكما أن المذهب الإنساني كشف عالماً قبل المسيح، وكما أن كوبرنيق أماط اللثام عن ضآلة الأرض الفلكية، كذلك كشف ارتياد الأراضي الجديدة وما تلاه من تجارة عن أقطار شاسعة تقوم وراء المسيحية دون اكتراث لوجودها. وتزعزعت مكانة أرسطو وغيره من اليونان حين ظهرت قلة ما عرفوا عن هذا الكوكب. واضمحل
إعجاب النهضة الأعمى باليونان، واستعد الإنسان، التياه بكشوفه الجديدة تيه أهل النهضة، لنسيان حجمه الفلكي المتناقص أمام اتساع معارفه وتجارته. وظهر العلم والفلسفة العصريان، واضطلعا بمهمة خطيرة، مهمة تصور العالم من جديد.
4 - بعث علم الأحياء
بعثت الآن من جديد علوم الأحياء التي لم تكد تحرز أي تقدم منذ عصر الإغريق. فكافح علم النبات ليتحرر من قبضة الصيدلة ويقف على قدميه، ونجح في هذا الكفاح، ولكن لم يكن بد من أن يظل المهيمنون عليه من رجال الطب. وبدأ الحركة أوتو برونفيلز، الطبيب المدني في برن، بكتاب "صور حية للنبات"(1530 - 36)، وقد سرق معظم نصه من ثيوفراستوس، وديوسقوريدس، وغيرهما من السلف، ولكنه أضاف أيضاً وصفاً للنباتات الألمانية الموطن، وكانت رسومه المحفورة على الخشب وعددها 135 نماذج من الأمانة. وأنشأ يوريكيوس كوردوس، طبيب مدينة بريمن، أول حديقة نباتية (1530) شمال جبال الألب، وحاول كتابة خلاصة مستقلة لعلم النبات الوليد في كتابه Botanilogicon (1534) ثم عاد إلى مجال الطب في كتابه Liber de urinis. وقام ابنه فاليريوس كوردوس بجولات مستهترة في سبيل درس النبات، وقد قلى حتفه أثناءها وهو في التاسعة والعشرين (1544)، ولكنه ترك من بعده للنشر كتابه "تاريخ النبات"، وفيه وصف حي دقيق لخمسمائة نوع من النبات. وقد بدأ ليونارد فوكس، أستاذ الطب بتوبنجن، بدراسة النبات سبيلاً إلى الأقرباذين، ثم انتهى بدراسته لذاته ولما فيه من متعة. وكان كتابه Historia stripium،
(1542)
مثالاً للتفاني في العلم، وقد حوى 343 فصلاً حللت 343 جنساً وشرحتها في 515 رسماً محفوراً على الخشب يشغل كل منها صفحة كبيرة كاملة. وأعد للطبع كتاباً أشمل حتى من سابقه، وبه 1. 500 لوحة، ولكن أحداً من أصحاب المطابع لم يقبل أن يتكفل بنفقات نشره. أما أثره الحي الباقي فهو جنس "الفوشيا".
وربما كانت أهم فكرة مفردة أسهم بها في علم الأحياء في هذه الفترة هي شرح بيير بيلون في كتابه Histoire.... Des oyseaux، (1555) لذلك التقابل المدهش بين عظام الإنسان والطير. ولكن أعظم أبطال "العلم الطبيعي" في هذا العصر هو كونراد جسنر، الذي شمل إنتاجه وعلمه ميداناً بلغ من الاتساع مبلغاً حمل كوفييه على أن يطلق عليه اسم بليني ألمانيا، بل كان يحق له أن يسميه أرسطو ألمانيا أيضاً. وقد ولد في أسرة فقيرة بزيورخ (1516)، وأبدى من الاستعداد والدأب على الدرس ما جعل المدينة تتعاون مع رعاته الخاصين على تمويل تعليمه العالي في ستراسبورج وبورج وباريس وبال. وقد وضع أو جمع 1. 500 رسم توضيحي لكتابه "تاريخ النبات"، ولكن تبين أن تكاليف طبع الكتاب ستكون باهظة، فظل مخطوطاً ولم يطبع إلا عام 1751، وقد تأخر نشر تصنيفه البارع لأجناس النبات حسب بنياتها التناسلية بحيث لم يستطع ليناوس الاستعانة به. وقد نشر في حياته أربعة مجلدات (1551 - 58)، وخلف مجلداً خامساً، من كتاب ضخم في "تاريخ الحيوان" أورد فيه كل نوع من أنواع الحيوان تحت اسمه اللاتيني، ووصف شكله، وأصله، وموطنه، وعاداته، وأمراضه، وصفاته العقلية والعاطفية، وفوائده الطبيعية والمنزلية، ومكانه في الأدب، وكان التصنيف أبجدياً لا علمياً، ولكن تكديسه الموسوعي للمعلومات أعان علم
الأحياء على أن يتخذ له شكلاً محدداً. على أن هذه الجهود لم تُنضب معين جسنر، فبدأ موسوعته "المكتبة العالمية" في واحد وعشرين مجلداً عكف فيها على وضع فهارس بجميع الكتابات اليونانية واللاتينية والعبرية المعروفة، وأكمل منها عشرين مجلداً، واستحق بذلك لقب "أبي الببليوغرافيا". وفي قسم جانبي يسمى "متريداتيس"(1555) حاول تصنيف 130 لغة من لغات العالم. ويبدو أن كتابه Descriptio Montis Pilati، (1541) كان أول دراسة منشورة للجبال بوصفها إحدى صور الجمال، وعرفت سويسرة الآن أنها بلد جليل رائع. وكل هذه المؤلفات أنجزت بين عامي 1541 و1565. وفي هذه السنة مات كونراد جسنر، روح الدراسة المتجسد.
وفي غضون ذلك كان لكتاب جوان فيف Deanima et vita (1538) معظم الفضل في خلق علم النفس التجريبي الحديث. وكأن فيف أراد أن يتحاشى التشكك، الذي كان هيوم مزمعاً أن يبسطه بعد قرنين، حول وجود "عقل" بالإضافة إلى العمليات العقلية، فنصح الطالب ألا يسأل ما هو العقل أو ما هي النفس، لأننا (كما أحس) لن نعرف هذا أبداً، إنما يجب أن نسأل ماذا "يفعل" العقل؛ وعلى السيكولوجيا ألا تكون غيبيات نظرية، وأن تصبح علماً مبنياً على مشاهدات محددة ومتجمعة، في هذا سبق فيف فرانسس بيكون بقرن من الزمان في توكيده للاستقراء. ودرس بالتفصيل ترابط الأفكار، وعمل الذاكرة وتحسينها، وعملية المعرفة، ودور الشعور والعاطفة، ونحن نشهد في كتابه هذا علم النفس منبعثاً في ألم، انبعاث كثير من العلوم قبله، ومن بطن أم واحدة للجميع، هي الفلسفة.
5 - فيساليوس
في عام 1543 نشر أندرياس فيساليوس كتاباً قال عنه السر وليم أوسلر إنه أعظم ما كتب في الطب قاطبة (53). كان أبوه أندرياس فيسل صيدلياً غنياً في بروكسل، وجده طبيباً لماري البرجندية ثم لزوجها مكسمليان الأول، أما جده الأكبر-وكان طبيباً-فقد كتب تعليقاً على كتاب ابن سينا "القانون". هنا نجد حالة من الوراثة الاجتماعية تفوق حالة أسرة باخ. وما لبث فيساليوس أن أغرم بالتشريح بعد أن درب عليه منذ نعومة أظفاره. "فلم ينج من مبضعه حيوان. فهو يشرح الكلاب والقطط والجرذان والفيران والخلدان تشريحاً غاية في الدقة (54) " غير أنه لم يهمل الدراسات الأخرى. ففي الثانية والعشرين من عمره حاضر في اللاتينية، وكان يقرأ اليونانية في يسر. ثم درس التشريح في باريس (1533 - 36) على جاك دويوا الذي أطلق على كثير من العضلات والأوعية الدموية أسماءها التي ما زالت تحملها إلى اليوم. وظل فيساليوس طويلاً، كأساتذته، يؤمن بجالينوس إنجيلاً له، ولم يفقد احترامه له قط، ولكنه كان يحترم سلطان المشاهدة والمناقشة أكثر كثيراً. وقام هو وبعض زملائه الطلبة برحلات كثيرة إلى مستودعات جثث الموتى حيث جمعت العظام المستخرجة من جبانة الأطفال، وهناك ألفوا منظر أجزاء الهيكل البشرى ألفة أتاحت لهم كما روي "أن نجرؤ أحياناً، حتى ونحن معصوبو الأعين، على مراهنة رفاقنا، وخلال نصف ساعة لم تكن تقدم لنا عظمة
…
إلا وعرفناها باللمس (55)". وحدث غير مرة في محاضرات دوبوا أن كان المشرح الشاب الجريء يزيح "الحلاقين الصحيين" الذين كان الأستاذ الطبيب يكل إليهم عادة مهمة التشريح الفعلي، ويقوم هو بعرض الأعضاء موضوع المحاضرة عرض خبير (56).
واعتكف فيساليوس في لوفان حين غزا مليكه شارل الخامس فرنسا عام 1536. وقد عطل نشاطه هناك نقص الجثث، فخطف جثة من الهواء هو وصديق له يدعى جيما فريزيوس (الذي اشتهر فيما بعد رياضياً). وتكشف روايته للحادث عن ولعه بالتشريح. يقول:
بينما كنا نتمشى ونبحث عن عظام في المكان الذي يوضع فيه عادة من أعدموا، على الطريق الريفية، وقعت على جثة متيبسة
…
وكانت العظام مجردة من اللحم كلية ولا يمسكها غير الأربطة. وتسلقت الخازوق بمساعدة جيما وجذبت عظم الفخذ، وأتبعته العظم الكتفي والذراعين واليدين
…
وبعد أن حملت الساقين والذراعين إلى البيت خفية وفي رحلات متتالية
…
تركت نفسي حبيساً خارج المدينة في المساء حتى آتى بالصدر، وكان مربوطاً ربطاً وثيقاً بسلسة، وكنت أتحرق شوقاً إلى إتمام مهمتي
…
وفي الغد نقلت العظام جزءاً فجزءاً خلال بوابة أخرى من بوابات المدينة". (57)
وأدرك عمدة المدينة الأمر، ومن بعدها كان يعطي فصول التشريح ما أمكن الإفراج عنه من الجثث. يقول فيساليوس "وكان هو نفسه يحضر بانتظام كلما قمت بالتشريح (58) ".
وما كان في استطاعة رجل كهذا "يتحرق شوقاً" أن يحتفظ بطبعه هادئاً. فلما لبث أن اشتبك في نزاع حاد مع مدرس حول طرائق شق الوريد، ورحل عن لوفان (1537) وركب هابطاً الرين عابراً جبال الألب إلى إيطاليا. وكان قد بلغ من الكفاية مبلغاً أتاح له الحصول قبل نهاية تلك السنة على درجة الطب في بادوا "بأقصى خفض" في الرسوم، لأنه كلما علا تقدير الطالب انخفضت رسوم تخرجه. وفي اليوم التالي نفسه (6 ديسمبر 1537) عينه مجلس شيوخ البندقية أستاذاً للجراحة والتشريح بجامعة بادوا. وكان يومها في الثالثة والعشرين.
وقام في الأعوام الستة التالية بالتدريس في بادوا وبولونيا وبيزا، وشرح مئات الجثث بيديه، وأصدر بعض الكتب الصغيرة. وقد رسم تلميذه لتيشان يدعى جان ستيفان فان كالكار، تحت إشرافه، ست لوحات نشرت عام 1538 بعنوان Tabulae anatomicae sex وبعد عام أيد فيساليوس في رسالته عن "شق الأوردة" بيير بريسو الباريسي في طرق الفصد. وفي معرض مناقشته للموضوع كشف عن بعض نتائج تشريحه للجهاز الوريدي، وقد أعانت ملاحظاته هذه على كشف الدورة الدموية. وفي 1541 - 42 اشترك مع علماء آخرين في نشر طبعة جديدة من النص اليوناني لجالينوس. وقد أدهشته أخطاء ندت عن جالينوس وكانت خليقة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان كقوله مثلاً: إن الفك السفلي قسمان، وإن القص سبع عظام متميزة، والكبد عدة فصوص. وما كان ممكناً تعليل هذه الأخطاء واغتفارها إلا على فرض أن جالينوس لم يشرح قط آدميين بل حيوانات. وشعر فيساليوس أنه قد حان الوقت لمراجعة علم تشريح الإنسان بتشريح الآدميين. وهكذا أعد أعظم كتبه.
وحين طبع يوهان أوبورينوس عام 1543 بمدينة بازل كتابه هذا المسمى "بنية جسم الإنسان" في 663 صفحة من القطع الكبير، لا بد أن الشيء الذي أدهش القارئ لتوه كان صفحة الغلاف-وكانت حفراً جديراً بالفنان دورو، يمثل فيساليوس يشرح تشريح ذراع مفتوحة، ومن حوله خمسون طالباً يرقبونه. ثم الرسوم التوضيحية: 277 رسماً مطبوعاً من كليشيهات خشبية ذات دقة تشريحية لم يسبق لها نظير وبراعة فنية عظيمة، معظمها من صنع فان كالكار، وخلف الأشكال مناظر لا تتصل علمياً بالموضوع ولكنها جذابة من الناحية الفنية-فترى مثلاً هيكلاً عظيماً عند مقعد للقراءة. وكانت هذه الرسوم المطبوعة من الجمال بحيث خالها بعضهم مصممة في مرسم تيشان
ربما بإشرافه؛ ولا بد أن نضيف إلى هذا أن فيساليوس رسم عدة رسوم منها بيده. وقد رافق الكليشيهات الخشبية ساهراً على سلامتها في الرحلة على ظهر بغل من البندقية إلى بال عبر جبال الألب. وحين تم طبع الكتاب حفظت الكليشيهات بعناية، وفي تاريخ لاحق اشتريت، ثم تبودلت، ثم فقدت، وفي عام 1891 عثر عليها مخبأة في مكتبة جامعة ميونيخ، وقد دمرتها القنابل في الحرب العالمية الثانية.
أما الذي كان ينبغي أن يثير في النفس دهشة أعظم مما أثارته هذه الرسوم فهو النص-وهو نصر طباعي ولكنه غلى ذلك ثورة علمية-كان من صنع فتى لم يتجاوز التاسعة والعشرين. وهو ثورة لأنه أنهى سلطان جالينوس على التشريح، وراجع العلم كله بلغة التشريح، وبهذا أرسى دعائم الأساس الفيزيائي للطب الحديث، الذي يبدأ بهذا الكتاب. فهنا وصف لأول مرة سير الأوردة الصحيح وتشريح القلب؛ وهنا ورد ذلك القول الخطير، وهو أن التشريح البالغ الدقة لم يظهر أياً من تلك المسام التي افترض جالينوس أن الدم يمر عن طريقها من بطين إلى آخر؛ وبهذا أصح الطريق معبداً لسرفيتوس وكولومبو هارفي. وقد صححت أخطاء جالينوس المرة بعد المرة-فيما يتصل بالكبد، والقنوات المرارية، والفكين، والرحم. وقد ارتكب فيساليوس هو أيضاً أخطاء، حتى في المشاهدة، وأخفق في أن يقفز القفزة الكبرى من تشريح القلب إلى دورة الدم. ولكن هنا أوصاف صادقة لعشرات من الأعضاء لم تحظ قط بمثل هذا الوصف الدقيق من قبل، وفتح كل جزء من أجزاء الجسم للعلم بيد واثقة قديرة.
على أن فيساليوس عانى من عيوب فضائله. ذلك أن الكبرياء التي سندته طوال دراسته الموفقة جعلته سريع الغضب، بطيئاً في
الاعتراف بمنجزات سابقيه وتقدير حساسية منافسيه. وبلغ ولعه بذلك "الإنجيل الصادق
…
ألا وهو جسم الإنسان وطبيعة الإنسان" (9) مبلغاً جعله يؤذي شعور عدد كبير من أقطاب اللاهوتيين. وكان يشير في تهكم إلى رجال الكنيسة الذين يشتد إقبالهم على غرفة محاضراته حين يكون موضوع الدرس والعرض هو الأعضاء التناسلية (60). وقد أثار عداء الكثيرين، ومع أن جسنر وفالوبيو رحبا بكتابه، فإن أكثر الأساتذة القدامى، ومنهم أستاذه السابق دوبوا، نددوا بالمؤلف بوصفه محدثاً وقحاً، وجدوا في تسقط العيوب في كتابه. وقال دوبوا إن جالينوس لم يخطئ، ولكن جسم الإنسان عراه تغير منذ عهد جالينوس، وعلى ذلك فعظام الفخذين الواضحة الاستقامة، والتي ليست مقوسة كما وصفها جالينوس، إنما هي في رأيه نتيجة لارتداء أورُبيّي عصر النهضة سراويل ضيقة (61).
وفي عاصفة من خيبة الأمل في موقف هؤلاء الرجال أحرق فيساليوس مجلداً ضخماً من كتاب "التعليقات" Annotationes وتفسيراً للأجزاء العشرة التي يتألف منها كتاب الرازي "كتاب المنصوري"-وهو موسوعة في الطب (62). وفي عام 1544 رحل عن إيطاليا ليصبح طبيباً ثانياً بين أطباء شارل الخامس الذي سبق أن أهداه في حصافة كتابه "فابريكا" Fabrica. ومات أبوه في نفس العالم تاركاً له ثروة طيبة. فتزوج وبنى بيتاً جميلاً في بروكسل. وصدرت طبعة ثانية لكتابه "فابريكا" عام 1555، مزيدة ومنقحة. وقد بين الكتاب أن التنفس الصناعي يمكن أن يبقي على حياة الحيوان رغم شق صدره، وأن القلب الذي توقف نبضه يمكن أحياناً رد الحياة إليه باستعمال منفاخ. بعد هذا لم يضف فيساليوس جديداً إلى التشريح. فقد استغرق في العناية بمرضاه من أسرة الإمبراطور ومن دونهم، وفي ممارسة
الجراحة ودراستها. وأصبح فيساليوس طبيباً ثانياً لفيليب الثاني بعد أن اعتزل شارل الملك. وفي يوليو 1559 أوفده الملك ليساعد أمبرواز باريه في محاولة لإنقاذ حياة هنري الثاني الجريح، ولجأ فيساليوس إلى اختبارات إكلينيكية أظهرت استحالة شفائه. وفي تاريخ لاحق من هذه السنة رافق هو وأسرته فيليب إلى أسبانيا.
في غضون ذلك أضاف آخرون جديداً إلى التشريح. فلاحظ جيامباتستا كانو صمامات الأوردة (1547)، وشرح سرفيتوس دورة الدم في الرئتين (1553)، ووصل ريالدو كولومبو إلى هذا الكشف ذاته (1558)، وأثبته بإجراء تجربة على القلب الحي. ولكن سبعين سنة أخرى انقضت قبل أن يأتي هارفي بوصفه الخطير لسير الدم من القلب إلى الرئتين، فإلى القلب، فإلى الشرايين، فإلى الأوردة، ثم إلى القلب. وكان الطبيب العربي ابن النفيس قد سبق سرفيتوس عام 1285 (63)، وربما انحدرت الرواية المتواترة بنظريته إلى أسبانيا في شباب سرفيتوس.
وبقيت لفيساليوس بضع مغامرات. من ذلك أن الأطباء الوطنيين في البلاط الأسباني كانوا يصرون على إهمال تشخيصه باعتبار هذا موقفاً يحتمه الشرف. فلما شكا ابن فيليب الوحيد، الدون كارلوس، من ارتجاج في المخ إثر سقطة (1562)، أشار فيساليوس بإجراء تربنة له. ولكن النصيحة رفضت، وأشرف الفتى على الهلاك. ووضعت على الجرح التمائم وآثار القديسين، وجلد الأتقياء أنفسهم توسلاً إلى السماء أن تشفيه بمعجزة، ولكن هذا كله لم يجد فتيلاً. وأخيراً أصر فيساليوس على فتح الجمجمة، ففتحت، وسحبت منها كمية كبيرة من الصديد. وما لبث الأمير أن تماثل للشفاء، وبعد إجراء العملية بثمانية أيام سار فيليب في موكب مهيب لتقديم الشكر لله (64).
وبعد عامين رحل فيساليوس عن أسبانيا لأسباب ما زالت محل خلاف. وقد روي أمبرواز باريه قصة مشرح أثار عليه غضب أسبانيا بأسرها لأنه فتح بطن امرأة كان الظن أنها ماتت من "اختناق الرحم"، قال باريه أن ضربة أخرى من مبضع الجراح ردت المرأة فجأة إلى الحياة، "الأمر الذي بعث في قلوب جميع أصدقائها من الإعجاب والرعب
…
ما جعلهم ينظرون إلى الطبيب- الذي كان من قبل واسع الشهرة طيب السمعة- نظرتهم إلى رجل مجرم بغيض" (65)، ولا عجب فالأقرباء لا يقدرون دائماً مثل هذا الشفاء غير المتوقع. وواصل الجراح الهيجونوتي روايته فقال "لذلك لم ير سبيلاً أمامه إلا مغادرة البلاد إن ابتغى لنفسه السلامة". وروى هيجونوتي آخر يدعى لوبير لانجيه قصة كهذه (حوالي 1579)، وذكر أن الطبيب هو فيساليوس، وزعم أن فيساليوس وقع تحت طائلة محكمة التفتيش لأنه شرح شخصاً حياً، وقد نجا من المحاكمة حين أخذ على نفسه عهداً بالحج إلى فلسطين تكفيراً عن خطيئته. والحادثة لم ترد في أي مصدر معاصر، والمؤرخون الكاثوليك يرفضونها لأنها في رأيهم قصة خرافية (66). ولعل السبب لا يعدو أن فيساليوس مل البقاء في أسبانيا.
وعاد إلى إيطاليا، وأبحر من البندقية (أبريل 1564)، ويبدو أنه بلغ أورشليم. وفي رحلة العودة تحطمت سفينته، ومات من التعرض للجو، نائياً عن أصدقائه، على جزيرة زنطة تجاه ساحل اليوناني الغربي (15 أكتوبر 1564)، وكان يومها في عامة الخمسين. وفي هذا العام ذاته مات ميكل أنجيلو، وولد شكسبير. لقد كان البهاء الذي سطعت شمسه قرناً في سماء إيطاليا ينتقل إلى الشمال.
6 - نهضة الجراحة
ظل علم الطب وفنه يسيران في ركاب أئمة الطب من اليونان والعرب، على الرغم مما أحرزه التشريح من تقدم. ولم يكن لشهادة الحواس كبير وزن أمام كلمة جالينوس أو ابن سينا، لا بل إن فيساليوس نفسه قال حين ناقض تشريحه رأي جالينوس "لم أكد أصدق عيني". وكانت طبعات أو ترجمات جالينوس أو أبقراط تنشر المعلومات القديمة وتثبط القيام بالتجارب الجديدة-بالضبط كما كانت الجهود التي بذلها بترارك ورونسار لكتابة ملاحم فرجيلية تؤذي نبوغهما الفطري وتحرف مجراه. وحين أسس ليناكر كلية الطب التي أطلق عليها فيما بعد كلية الأطباء الملكية (1518)، كانت كتبها الرئيسية هي ترجماته لجالينوس.
وقد أفاد علاج الأمراض من العقاقير الجديدة المجلوبة إلى أوربا كالكينا، وعرق الذهب، والرواند، المجلوبة من أمريكا، والزنجبيل ولبان الجاوي من سومطرة، والقرنفل من جزر ملقا، والصبر من كوتشين الصينية، والكافور والزنجفر من الصين، ووسع هذا التطور استعمال النباتات الوطنية. وصنف فاليريوس كوردوس أول فارما كوبيا ألمانية (1546)، وشاع علاج الزهري بنقيع خشب الغويقم المجلوب من جزر الهند الغربية، حتى أن آل فوجير جمعوا ثروة ثانية بحصولهم على احتكار بيعه في أملاك شارل الخامس الذي كان مديناً لهم.
على أن فقر جماهير الناس وقذارتهم كانا سبباً في تخلف الدواء عن المرض دائماً. وكانت أكوام القمامة أو روث البهائم تسمم الهواء، وتنتشر هنا وهناك في الشوارع أحياناً. وكان لباريس شبكة مجار أراد هنري الثاني إفراغها في نهر السين لولا أن ثناه
رجال البلدية عن هذه الفعلة بتبصيره بأن النهر هو مورد مياه الشرب الوحيد لنصف السكان (67). وأنشئت في إنجلترا لجان للمجاري في عام 1532، ولكن لم يكن فيها حتى عام 1844 سوى مدينتين اثنتين تنقل فيهما القمامة من الأحياء الفقيرة على حساب الدولة.
أما الأوبئة فكانت أقل فتكاً منها في العصور الوسطى، ولكنها كفت- هي ووفيات النفساوات والأطفال- لتثبيت السكان عند حد لا يكادون يتجاوزونه. وقد اكتسحت الطواعين ألمانيا وفرنسا المرة تلو المرة بين عامي 1500 و1568. وانتشرت حمى التيفوس في إنجلترا في أعوام 1422، و1577 و1586 نتيجة لهجرات القمل. واجتاح إنجلترا "المرض المعرق"- ولعله ضرب من الأنفلونزة-في أعوام 1528 و1529 و1551 و1578؛ وألمانيا في 1543 - 45، وفرنسا في 1550 - 51. وقيل إن هذا المرض فتك بألف شخص في بضعة أيام في كل من هامبورج وآخن (68). وكان الناس يعزون الأنفلونزة إلى "تأثيرات" influences سماوية، ومنها اشتقت اسمها. وعاد الطاعون الدبلي إلى الظهور في ألمانيا في عام 1562، ففتك بتسعة آلاف من بين سكان نورمبرج البالغ عددهم أربعين ألفاً (69) - وإن جاز لنا أن نفترض المبالغة في جميع الإحصاءات الخاصة بالطاعون. أما جوانب الصورة الأكثر إشراقاً فهي تضاؤل الإصابة بالجذام وبعض الاضطرابات العقلية كرقصة سانت فيتوس.
وكان سير التطبيب أبطأ من سير المعرفة الطبية. فما زال دجاجلة الطب يملأون الأرض؛ وكان من اليسير الاشتغال بالطب دون الحصول على درجة جامعية برغم القوانين المقيدة. وكان أكثر الأطفال يخرجون إلى النور على أيدي القابلات. أما التخصص فلم
يكد يبدأ. فطب الأسنان مثلاً لا يفصل عن الطب أو الجراحة، وكان الحلاقون الصحيون يخلعون الأسنان ويستبدلون بها أسناناً من العاج. وترك جميع الأطباء تقريباً-وفيساليوس أحد القلائل الذين شذوا-مهمة الجراحة للحلاقين الصحيين، الذين يجب على أي حال ألا ننظر إليهم على أنهم حلاقون، لأن كثيراً منهم كانوا رجالاً ذوي دربة ومهارة.
فأمبرواز باريه بدأ حياته صبياً لحلاق، ثم ارتقى حتى أصبح جراحاً للملوك. وقد ولد في بورج-إرسان في مين (1517)، ثم شق طريقه إلى باريس، وفتح كشك حلاقته في ميدان سان ميشيل. وخلال حرب 1546 اشتغل جراحاً لفرقة من فرق الجيش. وكان في علاجه بالجنود يسلم بالنظرية السائدة التي زعمت أن جروح الرصاص سامة، ودرج (كما درج فيساليوس) على كيها بزيت البلسان المغلي، فكان الكي يحيل الألم عذاباً. وذات ليلة فرغ الزيت، فضمد باريه الجروح بمرهم من مح البيض، وزيت الورد، والتربنتينا. وفي الغد كتب يقول:
" أرقني بالأمس طول التفكير في المصابين الذين لم أستطع كي جروحهم. وتوقعت أن أجدهم جميعاً أمواتاً في الصباح. وبهذه الفكرة قمت مبكراً لأتفقدهم، فما راعني إلا أن أجد من عالجتهم بالمرهم لا يشكون غير ألم بسيط جداً في جروحهم دون أي التهاب
…
وقد قضوا ليلتهم في نوم مريح. أما الباقون الذين عولجت جروحهم بزيت البلسان المغلي فقد ارتفعت حرارتهم والتهبت جروحهم
…
وآلمتهم ألماً حاداً. وعلى ذلك صممت على ألا أعود ثانية إلى كي هؤلاء التعساء بمثل هذه الطريقة القاسية" (70).
ولم يحظ باريه بتعليم يذكر، ولم ينشر كتيبه عن "طريقة
علاج الجروح"- وهو اليوم كتاب مشهور في علام الطب- إلا في عام 1545. وفي حرب 1552 أثبت أن ربط الشريان أجدى من الكي في وقف النزف الذي تسبب عمليات البتر. وقد وفق بفضل عملياته الجراحية في حمل العدو على الإفراج عنه بعد أسره. ولما عاد إلى باريس عين كبيراً للجراحين بكلية سان كلوم، الأمر الذي أثار فزع السوربون التي تنظر إلى أستاذ جاهل باللاتينية كأنه هولة بيولوجية. وعلى الرغم من هذا أصبح جراحاً للملك هنري الثاني، ثم لفرانسوا الثاني، ثم لشارل التاسع، ومع أنه كان يجهر ببروتستنتيته، فقد أبقي أمر ملكي على حياته في مذبحة سان بارتلميو. ولم يضف مؤلفه "كتابان في الجراحة" (1573) لنظرية الجراحة إلا قليلاً، ولكنه أضاف الكثير للتطبيق. فقد اخترع أدوات جديدة، وأدخل الأطراف الصناعية، وأشاع استعمال الحزام في الفتق، وحسن من تعديل وضع الجنين في الولادة، وأجرى أول إعادة لمفصل الكوع، ووصف التسمم بأول أوكسيد الكربون، وقرر أن الذباب حامل للمرض. ومن الأقوال المشهورة في حوليات الطب اعتراضه على ما تلقى من تهانئ لنجاحه في علاج حالة مستعصية، "أنا عالجته، والله شفاه". وقد مات عام 1590 بالغاً الثالثة والسبعين بعد أن رفع كثيراً من مكانة الجراحين وكفايتهم، ومنح فرنسا زعامة في الجراحة احتفظت بها قروناً من بعده.
7 - باراسيلسوس والأطباء
في كل جيل يظهر رجال ينكرون على الأطباء محافظتهم المشوبة بالحيطة، ويدعون الوصول إلى أنواع ممتازة من العلاج بوسائل خارجة على التقاليد الطبية، ويرمون رجال المهنة بالتخلف الوحشي، ويأتون بالأعاجيب حيناً، ثم يتبددون في ضباب الغلو والعزلة اليائسين. ومن الخير أن يظهر ذباب الخيل هذا بين الحين والحين لينبه الفكر الطبي، ومن الخير أن يكبح الطب جماح البدع المتعجلة في تعامله مع الحياة البشرية. ففي هذا الميدان، كما في ميداني السياسة والفلسفة، يتعاون الشباب المتطرف، والشيخوخة المحافظة، على غير إرادتهما، ليحدثا توازناً بين الاختلاف والوراثة، ذلك التوازن الذي تتخذه الطبيعة أداة للتطور.
كان فيليبوس ثيوفراستوس بومباستوس فون هوهنايم يتخذ له اسم أوريولوس رمزاً لنبوغه، واسم باراسيلسوس-وهو على الأرجح ترجمة لاتينية للقب هوهنايم (71). وكان أبوه فلهلم بومباست فون هوهنايم ابناً غير شرعي لنبيل سوابي حاد الطبع. ولما ترك فلهلم ليدبر شئونه بنفسه، مارس الطب بين فقراء القرويين قرب أينزيدلن في سويسرة، وتزوج من إلزا أوخسنر، وكانت بنت صاحب حانة وممرضة مساعدة، وقد أصيبت بعد قليل بحالة اكتئاب جنوني. وربما كان تضارب هذا النسب سبباً في ميل فيليب إلى عدم الاستقرار، وإلى إحساس ساخط بقدرات لم ترعها ببيئته رعاية كافية. وقد ولدفي 1493 وشب وسط مرضى أبيه، وربما في ألفة في الحانات غير صالحة له، تلك الحانات التي ظلت حياتها الطليقة تستهويه على الدوام. وتزعم قصة غير مؤكدة أن الصبي خصاه خنزير بري أو جنود مخمورون.
ولم يعرف أن امرأة ظهرت في حياته بعد البلوغ. وحين كان في التاسعة أغرقت أمه نفسها، ولعل هذا هو السبب في رحيل الوالد والولد إلى فيلاخ بالتيرول. وتقول رواية متواترة أن فلهلم كان يقوم بالتدريس هناك في مدرسة للمناجم ويشتغل بالكيمياء القديمة على سبيل الهواية. ولا بد أنه كان مناجم بقرب المدينة ومصنع لصهر المعادن، ومن المحتمل أن يكون فيليب قد تعلم هناك طرفاً من الكيمياء التي سيحدث فيها ثورة في دنيا العلاج.
ولما بلغ الرابعة عشرة قصد هايدلبرج للدراسة. وتكشف طبعه القلق في انتقاله السريع من جامعة لأخرى-فرايبورج، وإنجولشتات، وكولونيا، وتوبنجن، وفينا، وأرفورت، وأخيراً (1513 - 15) فيرارا-ولو أن هذا التنقل بين دور العلم كان مألوفاً في العصور الوسطى. وفي عام 1515، التحق فيليب-وقد سمى نفسه الآن باراسيلسوس-حلاقاً صحياً في جيش شارل الأول ملك أسبانيا، دون أن يحصل على درجة جامعية. فلما انتهت الحملة عاد إلى حياة الترحل. وهو يزعم أنه مارس الطب في غرناطة، ولشبونة، وإنجلترا، والدنمرك، وبروسيا وبولندة، ولتوانيا، والمجر، و "غيرها من الأقطار"(72) وكان في سالزبورج إبان حرب الفلاحين عام 1525، وعالج جروحهم وتعاطف مع أهدافهم. وقد ولع حيناً بالاشتراكية، فهو يندد بالمال، والفائدة، والتجار، ويدعو للشيوعية في الأرض والتجارة، وللمساواة بين الناس في الأجور (73). وفي كتابه الأول المسمى " Archidoxa"( أي الحكمة العظمى-1524) رفض اللاهوت وامتدح التجربة العلمية (74). ولما قبض
عليه بعد إخفاق ثورة الفلاحين، أنقذته من حبل المشنقة شهادة بأنه لم يحمل سلاحاً قط، ولكنه نفي من سالزبورج، فغادرها على عجل.
وفي عام 1527 كان في ستراسبورج يمارس الجراحة ويحاضر الحلاقين الصحيين، وكان تعليمه لهم مزيجاً مهوشاً من المعقول وغير المعقول، ومن السحر والطب-ولو أن الله وحده يعلم كيف سيصف المستقبل بقينياتنا الحاضرة. وقد رفض التنجيم، ثم سلم به، وكان يأبى أن يحقن مريضاً بحقنة شرجية ما لم يكن القمر في تربيعه الصحيح. وكان يسخر من عصا الكهانة، ولكنه زعم أنه أحال المعادن ذهباً (75). وإذ كان-كأجريبا في شبابه-يحدوه تعطش للمعرفة فقد بحث في شوق عن "حجر الفلاسفة"-أي عن صيغة عامة تفسر الكون. وكتب في سذاجة المصدق عن الأقزام الخرافية، وسلامندر الأسبستوس، و "الإرشادات"، وهي علاج الأعضاء المريضة بعقاقير شبيهة بها لوناً وشكلاً. ولم يستنكف من استخدام التعاويذ والتمائم السحرية علاجاً (76) -ربما بوصفها طباً إيحائياً.
ولكن هذا الرجل نفسه، الذي ينضح بأوهام جيله، أدخل تحسينات جريئة على استخدام الكيمياء في الطب. وكان يتحدث أحياناً حديث الماديين "إن الإنسان مشتق من المادة، والمادة هي الكون كله"(77). والإنسان بالنسبة للكون كالعالم الصغير (الميكروكوزم) بالنسبة للعالم الكبير (الماكروكوزم) " وكلاهما من نفس العناصر-وأساسهما الأملاح، والكبريت، والزئبق؛ والمعادن والأملاح المعدنية التي تبدو عديمة الحياة هي في الواقع مفعمة بالحياة (78). والعلاج الكيمياوي هو استخدام العالم الكبير
لشفاء العالم الصغير. والإنسان من حيث بدنه مركب كيميائي، والمرض تنافر، لا في "الأمزجة" كما زعم جالينوس، بل في مكونات البدن الكيميائية؛ وهذه أول نظرية حديثة للأيض أو التمثيل الغذائي. وكان العلاج في ذلك العهد يعتمد في عقاقيره إلى حد كبير على عالم النبات والحيوان، أما باراسيلسوس، الغارق في كيميائه القديمة، فقد أكد ما للمواد غير العضوية من قدرات علاجية. وجعل الزئبق، والرصاص، والكبريت، والحديد، والزرنيخ، وكبريتات النحاس، وكبريتات البوتاسيوم، أجزاء من أقرباذينه، وأشاع استعمال الصبغات والخلاصات الكيميائية، وكان أول من صنع "صبغة الأفيون" التي نسميها اللودنوم. وقد شجع استعمال الحمامات المعدنية، وشرح خواصها وآثارها المتنوعة.
ولاحظ بارسيلسوس العوامل المهنية والجغرافية المؤثرة في المرض، ودرس السل الرئوي المتليف في المعدنين، وكان من أول من ربط بين القماءة والغوطر المتوطن. وأدخل تحسينات على فهم الصرع، وعزا الشلل واضطرابات النطق إلى إصابات الرأس. ومع أن الفكرة المسلم بها عموماً في ذلك العصر عن النقرس والتهاب المفاصل هي أنهما رفيقان للشيخوخة لا شفاء منهما، فإن بارسيلسوس رأى أنهما قابلان للشفاء إذ شخصا على نتيجة لأحماض تكونها بقايا الطعام التي استغرقت طويلاً في القولون. قال "كل الأمراض يمكن ردها إلى تخثر المادة غير المهضومة في الأمعاء"(79). وقد أطلق على هذه الأحماض الناشئة عن التعفن المعوي اسم "الطرطير" لأن رواسبها في المفاصل، والعضلات، والكلى، والمثانة "تحرق كالجحيم، وطرطروس
هي الجحيم" (80). "إن الأطباء يفاخرون بمعرفتهم بالتشريح، ولكنهم عاجزون عن رؤية "الطرطير" اللاصق بأسنانهم" (81). وعلق هذا المعنى بالكلمة الجديدة. واقترح وقف تكون هذه الرواسب في الجسم بالغذاء الصحي، والمقويات، وتحسين الإخراج، وحاول "تليين" الرواسب باستعمال زيت الغار ومركبات الراتنج، أما الحالات الشديدة فقد دعا فيها إلى الجراحة حتى يسمح للرواسب الملتصقة بالهروب أو تتاح إزالتها. وقد زعم أنه شفى كثيراً من حالات النقرس بهذه الوسائل، ويعتقد بعض الأطباء في عصرنا هذا أنهم شفوا مرضى بإتباع تشخيص باراسيلسوس.
ووصلت إلى بال أنباء طرق العلاج التي توصل إليها بارسيلسوس في ستراسبورج. وكان المصور الشهير فروبن يشكو هناك ألماً حاداً في قدمه اليمنى، فأشار الأطباء ببتر القدم. ودعا فروبن باراسيلسوس إلى بال ليشخص الحالة. وجاء باراسيلسوس، ووفق في علاجها دون الالتجاء إلى السلاح. واستشار أرزمس باراسيلسوس، وكان يومها يعيش مع فروبن ويشكو أوجاعاً كثيرة، فوصف له علاجاً لا ندري مدى توفيقه فيه. على أية حال أضاف هؤلاء المرضى المشهورون شهرة جديدة إلى شهرة الطبيب الشاب، وقربه خليط غريب من الظروف من منصب الأستاذ الجامعي الذي كانت تهفو إليه نفسه.
كان البروتستنت فيتلك الحقبة أغلبية في مجلس مدينة بال، ففصلوا الدكتور فونيكر طبيب المدينة على الرغم من اعتراضات أرزمس والأقلية الكاثوليكية، بحجة أنه "تفوه بعبارات جديدة ضد الإصلاح البروتستنتي"(82) وعينوا باراسيلسوس مكانه
وافترض المجلس وباراسيلسوس أن هذا التعيين يتضمن حقه في التدريس في الجامعة، ولكن الكلية استنكرت التعيين واقترحت عقد امتحان علني لباراسيلسوس في التشريح وهي على بينة من ضعفه فيه. فتهرب من الاختبار، وبدأ يمارس مهنته طبيباً بالمدينة، ويحاضر في قاعة خاصة دون موافقة الجامعة (1527). وقد جمع إليه الطلاب بدعوة مميزة لخلقه هذا نصها: -
"من ثيوفراستوس بومباست فون هونهايم، الدكتور في فرعي الطب، والأستاذ، تحيات لطلبة الطب. إن الطب وحده دون جميع العلوم
…
هو المعترف به صناعة مقدسة. ومع ذلك فإن قلة من الأطباء يمارسونه اليوم بنجاح، ومن ثم فقد حان الوقت لرده إلى مكانه المرموق السابق، ولتنقيته من خميرة الهمج، وتطهيره من أخطائهم. وسنقوم بهذه المهمة، لا بالتزام قواعد الأقدمين، بل بشيء واحد دون سواه هو دراسة الطبيعة واستخدام الخبرة التي اكتسبناها خلال سنوات طويلة من الاشتغال بالطب. ومن ذا الذي يهل أن معظم الأطباء المعاصرين يفشلون لأنهم استعبدوا أنفسهم لتعاليم ابن سينا وجالينوس وأبقراط؟
…
وقد يفضي بهم هذا الطريق إلى ألقاب فخمة، ولكنه لا يكوّن طبيباً بمعنى الكلمة
…
فليس الطبيب في حاجة إلى الفصاحة أو الإلمام باللغة أو الكتب .... بل إلى المعرفة العميقة بالطبيعة وأعمالها
…
ولقد اعتزمت، بفضل المنحة السخية التي قدمها سادة بال لهذا الغرض، أن أشرح الكتب الدراسية التي ألفتها في الجراحة وعلم الأمراض، مخصصاً لذلك ساعتين في كل يوم، على سبيل التمهيد لطرق الشفاء التي أمارسها. وأنا لا أصنف هذه الكتب
من مختارات أنقلها عن أبقراط أو جالينوس. ولكنني بطول الكد والكدح خلقتها من جديد على أسس من الخبرة، التي هي أسمي معلم لجميع الأشياء. فإذا شئت إثبات شيء ما أفعل هذا بالنقل عن هؤلاء القدامى، بل بالتجربة والتفكير المبني عليها. فإن شعرت أيها القارئ العزيز بدافع يدفعك إلى إستكناه هذه الخفايا المقدسة، وإن شئت أن تسبر أغوار الطب في زمن وجيز، فأقبل إلى في بال
…
بال في 5 يونيو 1527" (83).
وسجل ثلاثون طالباً أسماءهم في هذه الدراسة. وفي يوم الافتتاح طلع بارسيلسوس في الرداء الجامعي المألوف، ولكنه خلعه عنه لتوه، ووقف في ثوب الكيميائي الخشن ومئزرته الجلدية المتسخة بالسناج. وقد أقلى محاضرته في الطب مكتوبة بلاتينية أعدها له سكرتيره أوبورينوس (الذي طبع في تاريخ لاحق كتاب فيساليوس "فابريكا"، أما محاضرات الجراحة فألقاها بالألمانية. وكانت هذه صدمة جديدة للأطباء التقليديين، ولكنها لم تزعجهم بقدر ما أزعجهم رأي باراسيلوس وهو "أنه يجب ألا يؤدي الصيدلي عمله متواطئاً مع أي طبيب" (84). وكأنه أراد أن يعلن على الملأ ازدراءه للطب التقليدي، فقذف في النار وهو مبتهج بنص طبي حديث لعله Summa Jacobii- وكان الطلاب قد أوقدوا النار احتفالاً بعيد القديس يوحنا (24 يونيو 1527)، ثم قال "لقد ألقيت في نار القديس يوحنا "بخلاصة" الكتب، حتى تصعد جميع المحن والبلايا في الهواء مع الدخان. وهكذا طهرت مملكة الطب من أدرانها". وقارن الناس بين هذه الحركة وبين إحراق لوثر لمرسوم أصدره البابا.
أما حياة باراسيلسوس في بال فكانت خارجة على العرف
خروج محاضراته. يقول أوبورينوس "لقد أنفق العامين اللذين صحبته خلالهما في السكر والشره ليل نهار
…
وكان متلافاً، تأتي عليه أوقات لا يجد في جيبه فيها فلساً
…
وكان في كل شهر يوصي بصنع سترة جديدة، ويعطي القديمة لأول قادم، ولكنها كانت من القذارة بحيث لم أتمن قط سترة منها لنفسي (86)" وقد ترك لنا هنريش بولينجر وصفاً لباراسيلسوس مماثلاً لهذا، فهو مدمن للخمر، "ورجل في منتهى القذارة (87)" ولكن أوبورينوس يشهد بحالات عجيبة من الشفاء حققها أستاذه، "في علاج القرح أتى بما يقرب من المعجزات في حالات يئس منها غيره" (88).
أما رجال الطب فقد برئوا منه دجالاً عاطلاً من الدرجة الجامعية، مجرباً مستهتراً، عاجزاً عن تشريح الجثث، جاهلاً بعلم التشريح. أما هو فقد عارض التشريح بحجة أن الأعضاء لا يمكن فهمها إلا وهي تؤدي وظيفتها في الجسم الحي أداءً متحداً طبيعياً. ورد على احتقار الأطباء له بلغة سوقية غاية في المرح. فسخر من وصفاتهم الوحشية، وقمصانهم الحريرية، وخواتمهم، وقفازاتهم الناعمة، ومشيتهم المتغطرسة، وتحداهم أن يخرجوا من حجرات الدرس إلى المعمل الكيميائي، وأن يرتدوا المآزر، ويوسخوا أيديهم بالعناصر الكيميائية وينحنوا فوق الأفران ليتعلموا أسرار الطبيعة بالتجربة وعرق الجبين. وقد عوض عن افتقاره إلى الدرجة الجامعة باتخاذ ألقاب مثل "أمير الفلسفة والطب" و "دكتور في فرعي الطب"(أي طبيب وجراح)، و "ناشر الفلسفة"، وداوى جراح غروره بالثقة في دعاواه. كتب يقول "سيتبعني الجميع، وستكون مملكة الطب مملكتي
…
كل الجامعات وكل الكتاب القدامى مجتمعين أقل مواهب من
…
" (89). وإذ ألفى نفسه مرفوضاً
من الغير، فقد اتخذ لنفسه هذه الحكمة شعاراً "لا يملكنك أحد إذا استطعت أن تملك نفسك"(90). أما التاريخ فقد وبخ تفاخره، إذ جعل لقب أسرته "بومباست" اسماً نكرة (بمعنى الفشر).
وحدث أن ظريفاً مجهول الاسم في بال-متواطئاً مع كلية الجامعة، أو في تمرد عفوي من الطلبة على مدرس دجماطي-كتب قصيدة هجائية لاذعة وعرضها في مكان ظاهر، والقصيدة باللاتينية الرديئة، توهم أن جالينوس نفسه هو الذي كتبها من "الجحيم" يرد بها على منتقص قدره، وقد سماه كاكوفراستوس-خطيب الروث. وهزأت الأبيات هزءاً شديداً بمصطلحات باراسيلسوس الغيبية، ونعتته بالجنون، وأشارت عليه بأن يشنق نفسه. وحاول باراسيلسوس أن يعثر على الجاني ففشل، لذلك طلب إلى مجلس المدينة أن يستجوب الطلاب واحداً واحداً ويعاقب المذنب. ولكن المجلس تجاهل الطلب. وحوالي هذه الفترة عرض قسيس في كاتدرائية بال أن يدفع مائة "جلدر" لمن يشفيه من مرضه، وشفاه باراسيلسوس في ثلاثة أيام، ودفع له القسيس ستة جلدرات، وأبى أن يدفع الباقي بحجة أن العلاج لم يسغرق سوى وقت قصير جداً. فقاضاه باراسيلسوس، ولكنه خسر دعواه، وخسر معها هدوء طبعه، فرمى نقاده بأنهم "غشاشون حكاكون للظهور"، ونشر نبذة غفلاً من اسم الكتاب رمى فيها رجال الدين والقضاء بالفساد؛ وأمر المجلس بالقبض عليه، ولكنه أجل تنفيذ الأمر حتى الصباح. وهرب باراسيلسوس تحت جنح الظلام (1518)، بعد أن قضى في بال ثمانية شهور.
وفي نورمبرج أعاد باختصار تجربته في بال. وكل إليه آباء المدينة مستشفى سجن، فاستخدم ألواناً من العلاج أثارت الإعجاب. ولكنه ندد بحساده من أطباء المدينة لافتقارهم إلى الذمة، ولثرائهم، ولبدانة نسائهم. ثم دافع عن الكاثوليكية حين لاحظ
أن أغلب أعضاء المجلس من البروتستنت. وانزعج آل فوجير الذين يبيعون الغويقم حين زعم أن هذا "الخشب المقدس" عديم الجدوى في علاج الزهري. وفي عام 1530 أغرى طباعاً مغموراً بأن ينشر "ثلاثة فصول عن المرض النفسي" عنف فيها الأطباء تعنيفاً أثار عليه عاصفة من المعارضة أكرهته على أن يعود إلى تجواله من جديد. وأراد أن ينشر كتاباً أكبر في الموضوع ذاته، ولكن مجلس المدينة منع طبعه. ودافع باراسيلسوس في خطاب كتبه إلى المجلس عن حرية الطبع بفصاحة لم تغنه فتيلاً، ولم ير الكتاب النور قط في حياته. وكان يحتوي على أفضل وصف إكلينيكي كتب عن مرض الزهري، وقد أشار باستعمال جرعات باطنية من الزئبق دون الاستعمالات الظاهرة له. وأصبح هذا المرض ساحة احتدمت فيها المعركة بين العلاج النباتي والعلاج الكيميائي.
وانتقل باراسيلسوس إلى سان- جال، وسكن نصف عام منزل أحد مرضاه. وهناك وفي فترة لاحقة ألف كتبه "العمل العجيب جداً" و "معارضة الطبيعة؟ " و "الجراحة الكبرى"، وكلها بالألمانية الدارجة. وهي أكوام من الخامات الخشنة التي تعثر أحياناً على حجر كريم في ثناياها. وفي عام 1543 انتكس إلى السحر، وألف كتابه Philosophia sagax وهو خلاصة وافية في السحر.
ولما مات مريضه في سان- جال راح يضرب في الأرض من جديد، متنقلاً بين ربوع ألمانيا، مستجدياً قوته أحياناً. وكان قد فاه في شبابه ببعض الهرطقات الدينية- كقوله إن دلالة العماد رمزية لا أكثر، وإن تناول الأسرار المقدسة نافع للأطفال والمغفلين،
عديم الفائدة للأذكياء، وإن الصلوات للقديسين مضيعة للوقت (91). أما الآن (1532)، بعد أن هدّه الفقر والهزيمة، فقد اختبر "التحول" الديني. فصام، ووهب متاعه الباقي للفقراء، وكتب المقالات التعبدية، وعزى نفسه بآمال الجنة. وفي عام 1540 قدم له أسقف سالزبورج الملجأ، فقبله الرجل شاكراً، مع أنه هو الذي شجع الثورة هناك قبل خمسة عشر عاماً. وكتب وصيته، فترك نقوده القليلة لأقاربه، وأدواته لحلاقي المدينة الصحيين، وفي 24 سبتمبر 1541 أسلم جسده للتراب.
لقد كان رجلاً قهرته عبقريته، غنياً في الخبرة المنوعة والأحاسيس الذكية، ناقصاً في تعليمه المدرسي نقصاً أعجزه عن فصل العلم عن السحر، مفتقراً إلى ضبط النفس اللازم للسيطرة على حماسته المتأججة، حاد الخصومة بحيث لم يستطع التأثير في جيله. ولعل حياته وحياة أجريبا أعانتا على تضخيم أسطورة فاوست. وإلى القرن الماضي كان يحج إلى قبره في سالزبورج ضحايا وباء تفشي في النمسا والأمل يراودهم في الشفاء بسحر روحه أو بسحر رفاقه (92).
8 - الشكاكون
لم يكن القرن السادس عشر بالزمان الصالح للفلسفة، فقد استغرق اللاهوت المفكرين الناشطين، وسير الإيمان العقل في ركابه بعد أن سيطر على كل شيء. ورفض لوثر العقل لأنه ينزع بصاحبه إلى الكفر (93)، ولكن حالات الكفر كانت نادرة. فقد أحرق قسيس هولندي في لاهاي (1512) لإنكاره الخليقة والخلود ولاهوت المسيح (94)، ولكنه لم يكن واضح الكفر. كتب أخباري إنجليز تحت سنة 1539 "مات هذا العام في جامعة باريس
طبيب عظيم أنكر وجود الله، وكان هذا رأيه الذي ثبت عليه مذ كان في العشرين، وقد عمر إلى ما بعد الثمانين، واحتفظ بضلالته هذه سراً طوال هذه السنين (95) ". وفي عام 1552نشر جيوم بوستل كتابه Contra atheos ولكن كلمة atheist ( أي الملحد) قل أن مينز القوم بينها وبين القاتل بمذهب الألوهية، أو القائل بوحدة الوجود، أو الشكاك.
على أنه وجد من الشكاكين عدد يكفي لنيل صفعة من لوثر، فقد روى أنه قال "إن مواد قانون الإيمان أسمى من أن يدركها أبناء هذا العالم العميان. فوحدة الأقانيم الثلاثة في إله واحد، وتجسد ابن الله الحق، ووجود طبيعتين للمسيح هما لاهوته وناسوته، إلخ ..... كل هذا يؤذيهم لأنهم يرون فيه حديث خرافة". ثم أضاف إن بعضهم يتشككون في أن الله خلق أناساً عرف من قبل أنهم هالكون (96). وكان في فرنسا بعض المتشككين في الخلود (97). من ذلك أن بونافنتور دسبرييه سخر في كتابه Cymbalum mundi، (1537) بالمعجزات، وبتناقضات الكتاب المقدس، وباضطهاد أصحاب البدع الدينية. وقد ندد كالفن والسوربون بكتابه هذا، فأحرقه جلاد الدولة. واضطرت مارجريت إلى إقصائه عن بلاطها في نيراك، ولكنها بعثت إليه بالملل لتحفظ عليه حياته في ليون. وفي عام 1544 قتل نفسه، وترك مخطوطاته لمارجريت "دعامة كل صلاح وحاميته"(98).
وظهرت روح الشك في ميدان السياسة متخذة صورة هجمات على حق الملوك الإلهي وحصانتهم، وكان الشكاك هنا عادة إما من المفكرين البروتستنت الذين ضايقهم الحكام الكاثوليك، وإما من المفكرين الكاثوليك الذين يدفعون الثمن غالياً إذا انتصرت الدولة.
وقد نشر الأسقف جون بونيت-وكان ساخطاً على ماري تيودور-في عام 1558 "بحثاً موجزاً في السلطة السياسية". قال فيه "إن الأمثلة الكثيرة والمتصلة، التي وجدت بين الحين والحين، لخلع الملوك وقتل الطغاة تؤكد على وجه اليقين أن من أحق الحق والعدل والتمشي مع قضاء الله
…
القول بأن سلطان الملوك والأمراء والحكام مصدره الشعب
…
وإن للناس أن يستردوا تفويضهم
…
حين يشاءون" (99). كذلك كان من رأي أستاذ اسكتلندي يدعى جون ميجر، (وكان له بعض الفضل في تكوين عقل جون نوكس)، أنه ما دام كل سلطان زمني مشتقاً من إرادة الجماعة، فإن من الجائز خلع الملك الطالح وإعدامه، شريطة اتخاذ الإجراء القانوني الواجب.
أما أطرف خصوم الحكم الملكي المطلق فهو كاثوليكي شاب حقق قدراً متواضعاً من الخلود يموته بين ذراعي مونتيني. يقول كاتب المقالة الفذ "إن إتيين دلا بوليتي كان فيما أعلم أعظم رجل في عصرنا (100) ". وقد ولد إتيين هذا لموظف كبير في بيرجور، ودرس القانون في أورليان، ثم عين مستشاراً في "برلمان" بوردو قبل بلوغه السن القانونية. وحوالي عام 1549، يوم كان فتى في التاسعة عشرة ألهمته الأفكار الجمهورية دراسته للأدب اليوناني والروماني، كتب هجوماً عنيفاً على الحكم المطلق- ولكنه لم ينشره قط- وسمى كتابه "مقال عن العبودية الاختيارية". Discours sur la servitude volontaire ولكن بما أن الكتاب ندد بدكتاتورية فرد واحد يتحكم في الكثيرين، فقد سمي Contr' un ( أي خصم الواحد). فليسمع القارئ نداءه:
"أي عار وأي خزي في أن يطيع عدد لا يحصى من الرجال طاغية عن رضى واختيار، بل بروح العبيد! طاغية لا يدع لهم حقوقاً في عقار أو أبوين أو زوجة أو ولد، ولا حتى في حياتهم ذاتها-فأي نوع من الرجال هذه الطاغية؟ ما هو بهرقول ولا بشمشون؛ بل كثيراً ما يكون قزماً، وكثيراً ما يكون أشد الجبناء تخنثاً في الشعب كله- فليست قوة بدنه هي التي تضفي عليه النفوذ والسلطة، وكثيراً ما يكون عبداً لأحط المومسات. ليت شعري ما أشقى رعاياه وأحقرهم؛ إن كان اثنان، أو ثلاثة. أو أربعة، لا يثورون على واحد، فذلك معناه الواضح أن الشجاعة تعوزهم. أما إذا كان المئات والألوف لا يخلعون عنهم نير فرد، فما الذي يبقى من الإرادة الفردية والكرامة الإنسانية؟
…
إن حصول الفرد على حريته لا يقتضي بالضرورة استعمال القوة ضد الطاغية. إنه يسقط حالما تمل البلاد وجوده. ولا حاجة بالشعب الذي أذله واستعبده أن يحرمه أي حق له. فالتحرر لا يتطلب شيئاً أكثر من الإرادة الصادقة لخلع النير
…
فاعزموا عزماً صادقاً ألا تكونوا عبيداً بعد اليوم- وإذا أنتم أحرار! أمسكوا عن الطاغية المعونة يسقط ويتحطم كأنه تمثال عملاق سحبت قاعدته من تحت قدميه (101).
ومضى لابوييتي يشكل بآرائه فكر روسو وتوم بين من بعده. فهو يقول إن الإنسان يتوق بطبعه إلى الحرية، ومفارقات الحظ هي بنت الصدفة، وهي تحمّل المحظوظين الالتزام بخدمة إخوتهم في الإنسانية، وكل الناس إخوان "صنعوا من طينة واحدة"، وصانعهم إله واحد. والعجيب أن قراءة هذا الرأي المتطرف هي التي جذبت مونتيني- على ما طبع عليه من اتزان وحيطة- إلى لابوييتي، وأفضت (1557) إلى صداقة من أشهر الصداقات
في التاريخ. وكان مونتيني يومها في الرابعة والعشرين، وإتيين في السابعة والعشرين، ولعل مونتيني كان آنئذ من الحداثة بحيث يستطيع تقبل العواطف المتطرفة. على أن صداقتهما سرعان ما ختمت بكون لابوييتي ولما يجاوز الثاني والثلاثين (1563)، ووصف مونتيني أيامه الأخيرة وكأنه يتذكر وصف أفلاطون لموت سقراط. وبلغت حدة إحساسه بفقد ذلك الفتى المشبوب العاطفة مبلغاً جعله يذكر موته- بعد أن انقضت عليه سبعة عشر عاماً- بشعور أشد عمقاً من ذكره لأي تجربة أخرى جاز بها في حياته. ولم يكن راضياً عن طبع كتاب صديقه ( Discours) وحزن حين نشره راعي كنيسة في جنيف (1576). وقد علل تأليف الكتاب بروح الشباب السمحة، وأرجع كتابته إلى سن أسبق هي السادسة عشرة. لقد أوشك هذا الصوت أن يكون صوت الثورة الفرنسية.
9 - راموس والفلاسفة
كانت حياة بتروس راموس- بيير دلاراميه- لا تقل شاعرية عن حية لابوييتي، وموته أشد عنفاً. لقد آلى على نفسه أن يخلع نير أرسطو.، إذ رأى فيه حكم رجل واحد دام نيفاً وثلاثة قرون، لا على أمة واحدة فحسب بل على أنن كثيرة، لا على الجسد بل على العقل، بل كاد يبسط سلطانه على الروح. أو لم ينصب هذا المفكر الوثني فيلسوفاً رسمياً للكنيسة؟ لقد فكر إنسانيو النهضة في إحلال أفلاطون محله، ولكن حركة الإصلاح البروتستنتي- أو الخشية من الحركة- أخذت تخنق الحركة الإنسانية، وظلت الكلامية الأرسطاطالية، سواء في ألمانيا
البروتستنتية أو في فرنسا الكاثوليكية، متربعة على العرش حين مات لوثر (1546) الذي لعنها. وبدا خلع هذا المقدوني عن عرشه في نظر الشاب المفكر أحل صورة من صور قتل الطغاة. فلما تقدم راموس لدرجة الأستاذية من جامعة باريس عام 1536، وكان يومها في عامه الواحد والعشرين، اتخذ موضوعاً لرسالته هذه الدعوى القاطعة التي كان عليه أن يدافع عنها يوماً بطوله أمام من تحدوه من الكلية وخارجها:"كل ما قاله أرسطو باطل".
كانت حياة راموس أشبه بنشيد يتغنى بالتعليم. فقد ولد قرب مدينة كالفن "نوايون" في إقليم بيكاردي، وحاول مرتين السفر إلى باريس على قدميه يحدوه تعطش إلى كلياتها، ولكنه أخفق في المرتين وقفل إلى قريته مهزوماً. ثم حالفه التوفيق في عام 1528، حين بلغ الثانية عشرة، إذ التحق بخدمة طلب غني يحضر للجامعة في كلية نافار- وهي نفس الكلية التي سرقها فيون. وشق بيير طريقه في منهج كلية الآداب العسير طوال سنوات ثمان، يخدم نهاراً ويذاكر ليلاً. وكاد يفقد بصره خلال ذلك، ولكنه عثر على أفلاطون. يقول:
"حين جئت باريس وقعت فريسة لتدقيقات السفسطائيين، فعلموني الآداب الحرة بالأسئلة والمجادلات، دون أن يدلوني على أية فائدة أو منفعة أخرى. فلما تخرجت
…
انتهيت إلى أن هذه المجادلات لم تكن سوى مضيعة لوقتي. ولما أفزعتني هذه الفكرة، وهداني ملك كريم، وقعت على زينوفون ثم على أفلاطون، ووصلت إلى معرفة فلسفة سقراط" (102).
ما أكثر من وصلوا منا في عهد الشباب إلى هذا الكشف المبهج، وسعدوا يوم التقوا في أفلاطون بفيلسوف سرت الخمر والشعر في عروقه، وسمع صوت الفلسفة في هواء أثينا نفسه، وأمسك بها وهي محلّقة، وأسلمها
إلى الأجيال التالية وهي لا تزال تحمل نسمة الحياة، وأصوات سقراط وتلاميذه لا تزال تجلجل بقوة النقاش ونشوة الجدل حول أشد المسائل إثارة في العالم! يا لها من راحة يستمتع بها المرء بعد صفحات أرسطو المملة، بعد الإسهاب في حديث "توسط الطريق"، "والوسط غير الأمثل"! بالطبع كنا- وكان راموس- غير منصفين لأرسطو، إذ نقارن مذكرات محاضراته المحكمة بمحاورات أستاذه الميسرة، ولا يستطيع تقدير الفيلسوف المقدوني سوى الراسخين في العلم. فلقد كان أرسطو الذي عرفه راموس هو أولاً منطق "الأورجانون"، أرسطو المدارس، الذي لا يكاد يثبت لمحنة الترجمة إلى لاتينية الكلاميين، ومحنة التحويل السحري إلى أكوينية تقليدية مسيحية طيبة. ويقول راموس إنه أنفق ثلاث سنين في دراسة منطق أرسطو دون أن يبصره أحد بفائدة واحدة أو تطبيق واحد له في العلم أو الحياة (103).
وأنها لمفخرة لكلية باريس، ولعلم راموس وحذقه وشجاعته، أن يمنح درجة الأستاذية التي تقدم لنيلها، ولعل الأساتذة أيضاً كانوا قد سئموا المنطق والاعتدال. ولكن بعضهم صدموا وأحسوا أن بضاعتهم لحقها ضرر من نقاش ذلك اليوم. وبدأت عداوات لم تفتأ تلاحق راموس حتى مماته.
وخولت له درجة الأستاذية الاشتغال بالتدريس، فبدأ لفوره في الجامعة سلسلة من المحاضرات مزج فيها الفلسفة بأدب اليونان والرومان. وكثر تلاميذه، وتضاعف كسبه، واستطاع أن يرد لأمه الأرملة ما بذلته من مدخراتها لتدفع رسوم تخرجه. وبعد سبعة أعوام من التحضير أصدر سنة 1543 (وهي نفس "سنة العجائب" التي صدرت فيها كتب كوبرنيق وفيساليوس)، كتابين واصلا حملته لإسقاط منطق أرسطو. وكان أحدهما، وهو: Aristotelicae animadversiones" هجوماً مباشراً صاغه أحياناً
في عبارات من القدح لا هوادة فيها، أما الآخر عن أقسام المنطق فقد قدم نسقاً جديداً يحل محل القديم. فأعاد تعريف المنطق باعتباره فن الحديث، وجمع بين المنطق والأدب والخطابة في طريقة إقناع فنية واحدة. وتوجس المهيمنون على الجامعة- ولهم العذر في توجسهم- مما قد يجر إليه هذا المأخذ من أخطار. يضاف إلى هذا ارتيابهم في بعض قضايا راموس التي شموا منها رائحة الهرطقة، كقوله مثلاً:"إن عدم التصديق بداية المعرفة"(104) - وهذا تشكك ديكارتي سابق لديكارت، أو طلبه مزيداً من دراسة الكتب المقدسة بدلاً من دراسة مجلدات الفلاسفة الكلاميين- وكان لهذا الطلب رنين بروتستنتي، أو تعريفه اللاهوت بأنه doctrina bene vivendi وهو تعريف هدد بإحالة الدين أخلاقاً. ثم هناك طرق راموس المثيرة للغيظ، وكبرياؤه ومشاكسته، وأسلوبه الجدلي العنيف، وترفعه القاطع على القطع بالعقيدة.
وما إن نشر الكتابان حتى دعا مدير الجامعة راموس للمثول أمام رئيس بلدية باريس بوصفه عدواً للدين، ومكدراً للسلام العام، ومفسداً للشباب بالبدع الخطرة وعقدت المحاكمة أمام لجنة ملكية من خمسة أعضاء- اثنان عينهما راموس، واثنان متهموه، وخامس فرانسوا الأول. ولم يرض رامواس عن إجراءات للمحاكمة، فسحب مندوبيه. وأصدر الثلاثة الباقون حكمهم ضده (1544)، فمنع بأمر ملكي من المحاضرة، أو النشر، أو المزيد من مهاجمة أرسطو. وعلقت صورة الحكم في أرجاء عديدة من المدينة، وأرسلت إلى الجامعات الأخرى. وأخرى الطلاب هزليات تهكموا فيها براموس، وسخر رابليه من هذا الشجار بإشراك الآلهة فيه.
ولزم راموس الصمت فترة، ثم بدأ سلسلة من المحاضرات في كلية آفي ماريا، ولكنه اقتصر على تدريس البلاغة والرياضيات، وأغضت الحكومة عن المخالفة. وفي عام 1545 أصبح المدير المساعد لكلية بريسل،
وما لبثت قاعة محاضراته أن ازدحمت بالطلاب. فلما تولى هنري الثاني العرش بعد فرانسوا الأول ألغى الحكم الصادر على راموس وتركه "حر اللسان والقلم"، وبعد عام في كرسي بالكلية حيث يعفى من أشراف الجامعة.
أما وقد بلغ راموس قصاراه إذ غدا أشهر معلم في باريس، فإنه خصص الكثير من وقته وجهده لإصلاح الطرق التربوية. وإذا كان قد اتكأ على "البلاغة"- وكانت آنئذ تعني الأدب- فلم يكن هذا لتنشيط الفلسفة بالشعر فحسب، بل لبث إنسانية نابضة بالحياة في مناهج صيرتها التجريدات والقواعد الكلامية جافة عسيرة. وفي خمس مقالات عن النحو طبق المنطق على اللغة، ورجا أن يصبح الهجاء الفرنسي صوتياً، ولكن هذا الهجاء واصل سيره المترنح، على أنه نجح في أن يدخل في الأبجدية الفرنسية حرفي j و v ليحلا محل الحرفين الساكنين I و u. ثم شجع تقرير المنح الدراسية لفقراء الطلبة، ذاكراً كفاحه وهو مملق في سبيل التعليم، وندد بالرسوم الباهظة التي تقاضاها الجامعات عن التخرج، وناضل في الوقت نفسه لرفع رواتب المدرسين.
وفي عام 1555 نشر كتابه Dialectique، وهو أول كتاب في المنطق بالفرنسية. وكان يحاج الآن لا عن الإقناع بالجدل والمنطق فحسب، بل دفاعاً عن العقل. كان بفطرته عدواً للنزعة التقليدية ولمجرد الاستشهاد بالثقاة، وقد رأى في العقل المرجح الوحيد الذي يحتكم إليه، وآمن في حماسة رجال النهضة أن العقل سيبلغ بالعلوم جميعها مرتبة تقرب من الكمال في قرن واحد له أطلق له العنان (105). كتب يقول: "كان شغلي الشاغل أن أزيح من طريق الآداب الحرة
…
كل العقبات والمعوقات الفكرية، وأن أعبد هذا الطريق وأقومه، لا تيسيراً للتفكير فحسب، بل لممارسة الآداب الحرة واستخدامها (106) ".
وأغراه خلقه وفلسفته بالتعاطف مع الثورة البروتستنتية. فلما حصل الهيجونوت حيناً على التسامح مع الحكومة، بل وعلى الاشتراك فيها، أعلن راموس إتباعه المذهب الإصلاحي الجديد (1561). وفي بواكير عام 1562 مزق بعض تلاميذه الصور الدينية المعلقة في كنيسة كلية بريسل. وواصلت الحكومة دفع راتبه، ولكن مركزه كان يزداد حرجاً. فلما نشبت الحرب الأهلية (1562) غادر باريس بترخيص مرور من كاترين دي مديتشي، ثم عاد بعد عام حين وقعت معاهدة الصلح. وقد رفض في أدب دعوة وهت إليه ليشغل كرسياً في جامعة بولونيا، معتذراً بأن فرنسا طوقت عنقه بدين لا يسمح له بالرحيل عنها.
أما المعركة التي أفضت إلى موته فقد أصبحت علنية حين أفلح ألد أعدائه المدعو جاك شاربنتييه، في أن يشتري بالمال كرسي الرياضيات بالكلية الملكية (1565)(107)، على الرغم من اعترافه صراحة بجهله في العلوم الرياضية. وندد راموس بهذا التعيين، فهدد شاربنتييه، ولجأ راموس إلى المحاكم لتحميه، فأودع شاربنتييه السجن، ولكن أفرج عنه بعد قليل، وحاول بعضهم اغتيال راموس مرتين، فلما استؤنفت الحرب الأهلية بين الكاثوليك والبروتستنت (1567) غادر باريس ثانية. وقضت الحكومة الآن بألا يقوم بالتدريس في الجامعة أو الكلية الملكية غير الكاثوليك. فلما عاد راموس إلى باريس اعتزل الحياة العامة، ولكن كاترين واصلت دفع راتبه وضاعفته، وأصبح حراً في أن يفرغ للدرس والتأليف.
وفي يوليو 1572 دعاه مونلوك أسقف فالانس للانضمام إلى بعثة موفدة لبولنده، ولعل الأسقف توقع حدوث مذبحة القديس بارتولوميو، وفكر في حماية الفيلسوف الشيخ. ولكن راموس رفض، إذ لم يرقه مشروع تنصيب الأمير هنري أنجو على عرش بولندة. وسافر مونلوك في 17 أغسطس،
وبدأت المذبحة يوم 24. وفي اليوم السادس والعشرين اقتحم رجلان مسلحان كلية بريسل وصعدا إلى الطابق الخامس حيث مكتب راموس. ووجداه يصلي فرماه أحدهما برصاصة في رأسه، وطعنه الآخر بسلاحه، ثم قذفه الاثنان معاً من النافذة. وجر الطلبة أو الرعاع الجسد الذي ما زال ينبض بالحياة إلى نهر السين وألقوه فيه، وأخرجه نفر آخر منهم وقطعوه إرباً (108). أما من الذي استأجر القتلة فعلمه عند الله، ويبدو أنها ليست الحكومة، فالظاهر أن شارل التاسع وكاترين ظلا راضيين عن راموس إلى النهاية (109). واغتبط شاربنتييه بالمذبحة وبقتل خصمه: "هذه الشمس الساطعة التي أضاءت فرنسا خلال شهر أغسطس
…
لقد زال الهراء بزوال صاحبه. وكل الناس الطيبين يفيضون بشراً (110) ". وبعد عامين مات شاربنتييه نفسه، بتأنيب الضمير كما يقول بعضهم، ولكن ربما كان هذا شرفاً لا يستحقه.
لقد بدا راموس مهزوماً سواء في الحياة أو التأثير. فأعداؤه انتصروا عليه، ومع أن بعض "الراموسيين" سمعت أصواتهم في الجيل التالي في فرنسا وهولندة وألمانيا، فإن الفلسفة الكلامية التي حاربها استعادت تفوقها، ونكست الفلسفة الفرنسية رأسها حتى جاء ديكارت. ولكن إذا كانت الفلسفة لم تحرز في هذه الحقبة إلا كسباً ضئيلاً، فإن الخطوات التي خطاها العلم كانت خطيرة؛ لقد بدأ العلم الحديث بكوبرنيق وفيساليوس. وتضاعفت المساحة المعروفة من الدنيا، وتغير منظر العالم كما لم يتغير قط من قبل في التاريخ المدون. وأخذت المعرفة تنمو سريعاً من حيث المجال والانتشار، وراح استعمال اللغات الوطنية في العلم والفلسفة- على نحو ما فعل باريه وباراسيلسوس في الطب، وراموس في الفلسفة- يتسع فيشمل تعليم الطبقات الوسطى وأفكارها التي اقتصرت من قبل على المتخصصين من العلماء والقساوسة. وتحطمت "كعكة التقاليد"، وانكسر قالب العقيدة، وتهاوت قبضة الاستناد إلى السلف. وحل الإيمان من مراسيه فتدفق بحرية جديدة متخذة أشكالاً لا حصر لها.
كان كل شيء يجري متدفقاً إلا الكنيسة. ووقفت حيناً وسط هذه الثورة حائرة مشدوهة، لا تكاد أول الأمر تدرك خطورة الأحداث. ثم تصدت في عزيمة وتصميم لذلك السؤال الخطير الذي واجهها: أمن واجبها أن تكيف تعاليمها وفق مناخ الأفكار وسيولتها الجديدين، أم تقف جامدة وسط كل التقلبات، وتنتظر حتى يرد بندول الفكر والعاطفة الناس، في تواضع وتعطش، إلى تعزياتها وسلطانها؟ وكان جوابها عن هذا السؤال هو الفيصل في تاريخها الحديث.
الكتاب الخامس
معارضة الإصلاح البروتستنتي
1517 -
1565
الفصل الثامن والثلاثون
الكنيسة والإصلاح
1517 - 65
1 -
المصلحون البروتستنت الإيطاليون
ما كان المرء ليتوقع أن يجد في إيطاليا الوثنية مناخاً، المشركة بنية، المحبذة لإيمان لطيف فنان، الآهلة بالقديسين الخالدين تنتقل صورهم-سواء المرهبة منها والمحبوبة-كل سنة بين الشوارع، المثرية بفضل الذهب الذي يبعث به إلى الكنيسة العديد من الدول التابعة-نقول إن المرء ما كان ليتوقع أن يجد في بلد كهذا رجالاً ونساءً آلوا على أنفسهم أن يغيروا هذا الإيمان الجميل المقدس-ولو لقوا دون هذا حتفهم أحياناً-بعقيدة كابية ندها السياسي هو كره أمم الشمال أن تسمن إيطاليا بعائدات تدينها. ومع ذلك فقد ظهر في كل مكان بإيطاليا أناس شعروا بالمفاسد التي حطت من قدر الكنيسة شعوراً أحد وأصدق حتى من شعور الألمان أو السويسريين أو الإنجليز. وكانت الطبقات المتعلمة تطالب في إيطاليا أكثر منها في أي بلد آخر بتحرير العقل من الولاء للأساطير التي سحرت الجماهير وسيطرت عليها حتى ولو كان هذا الولاء ظاهرياً، هذا مع أن هذه الطبقات المتعلمة كانت تتمتع فعلاً بقسط من حرية التعليم والتفكير.
ظهرت بعض كتابات لوثر في أكشاك الكتب بميلانو في عام 1519، وبالبندقية في عام 1520. واجترأ راهب في كاتدرائية القديس مرقس نفسها (بالبندقية) على التبشير بتعاليم لوثر. وكتب الكردينال كارافا إلى البابا كلمنت السابع (1532) يقول إن الدين هبطت أسهمه
في البندقية، وإن القليلين جداً من البنادقة يراعون الأصوام أو يجلسون على كرسي الاعتراف. وإن كتب الهرطقة رائجة هناك. ووصف كلمنت نفسه البدعة اللوثرية بأنها واسعة الانتشار بين صفوف الكهنة والعلمانيين في إيطاليا، وفي عام 1535 زعم المصلحون الدينيون الألمان بأن لهم ثلاثين ألفاً من الأتباع في موطن الكنيسة الكاثوليكية (1).
كانت أرفع السيدات مقاماً في فرارا بروتستنتية غيوراً. فقد تشربت رينيه ابنة لويس الثاني عشر الأفكار الجديدة من مارجريت النافارية من جهة، ومن مربيتها مدام سوبيز من جهة أخرى. وجاءت الأميرة بهذه السيدة معها حين تزوجت (1528) من إركولي دستي، الذي أصبح (1534) ثاني دوق بهذا الاسم يحكم فرارا. وزارها كالفن هناك (1536) وزاد معتقداتها البروتستنتية قوة وحدة. ووفد عليها كليمان مارو، ثم أوبير لانجيه الفقيه الهيجونوتي. وتلقاهم إركولي جميعاً بأسلوب النهضة المهذب إلى أن صاح أحدهم خلال عبادة الصليب في يوم السبت المقدس (1536)" idolatria! "( أي عبادة أوثان!)، وهنا سمح إركولي لمحكمة التفتيش باستجوابهم. فهرب كالفن ومارو، أما الباقون فيلوح أنهم نجوا بعد أن أكدوا سلامة عقيدتهم. ولكن رينيه جمعت بعد عام 1540 حاشية بروتستنتية جديدة وانقطعت عن حضور الصلوات الكاثوليكية. وهدأ إركولي ثائرة البابا بنفيها إلى فيلا الدوق في كونساندولو على نهر بو، ولكنها أحاطت نفسها هناك أيضاً بالبروتستنت، ونشأت بناتها على المذهب الإصلاحي الجديد. ولما خشي إركولي أن تصبح بناته البروتستنت بياذق عديمة القيمة في شطرنج الزيجات السياسية نقلهن إلى دير للراهبات. وأخيراً سمح لمحكمة التفتيش بتوجيه الاتهام إلى رينيه وأربعة وعشرين شخصاً من بيتها. فدينت بالهرطقة وحكم عليها بالسجن المؤبد (1554). وهنا أعلنت إنكارها للهرطقة، وتناولت القربان المقدس، وأعيدت إلى حظيرة الدين
والسياسة (2)، ولكن آرائها الحقيقية وجدت تعبيراً صامتاً في تلك العزلة الحزينة التي أنفقت فيها سني عمرها الأخيرة. وبعد موت إركولي (1559) عادت إلى فرنسا، حيث جعلت من بيتها في مونتارجي ملاذاً يحتمي به الهيجونوت.
كذلك مرت مودينا بلحظة بروتستنتية مثيرة، وكانت هي أيضاً تحت حكم إركولي. وذلك أن أكاديمية العلماء والفلاسفة فيها سمحت بقسط كبير من حرية النقاش. واشتبه في هرطقة بعض رجالها ومنهم جابرييلي فاللوبيو تلميذ فيساليوس وخليفته. وكان راهب سابق يدعى باولو ريتشي يندد بالبابوية صراحة في عظاته. وراح الناس يناقشون الأفكار اللوثرية في الحوانيت والميادين والكنائس. وقبض على ريتشي وآخرين. وبسط الكاردينال سادوليتو حمايته على الأكاديميين بحجة أنهم موالون للكنيسة وأن من الواجب إطلاق البحث لهم بوصفهم علماء (3). وقنع البابا بولس الثالث بتوقيعاتهم على اعتراف بالإيمان، ولكن إركولي فض الأكاديمية (1546)، وأعدم لوثري عنيد في فرارا (1550). وفي عام 1567، حين عنفت الرجعية الكاثوليكية، أحرق ثلاثة عشر رجلاً وامرأة واحدة بتهمة الهرطقة في مودينا.
وفي لوكَّا أنشأ بييترو مارتيري فرميلي، رئيس دير الكهنة الأغسطينيين، أكاديمية رفيعة المستوى، وجلب لها أفذاذ المعلمين، وشجع حرية المناقشة، وقال لجمهوره الكبير من المصلين إن لهم أن ينظروا إلى سر القربان لا على أنه تحول معجز بل تذكر ورع لآلام المسيح، وكان في هذا لوثرياً أكثر من لوثر. فلما استدعي للمثول بين يدي مجلس رهبنته في جنوة لاستجوابه هرب من إيطاليا، وندد بأخطاء الكاثوليكية، ومفاسدها، وقبل وظيفة أستاذ للاهوت في أكسفورد (1548). وقد شارك في صياغة كتاب "الصلوات العامة"(1552) بقسط مختلف
فيه، وغادر إنجلترا حين استعادت الكاثوليكية سلطانها فيها، ومات أستاذاً للعبرية بزيوريخ عام 1562. وقد حذا ثمانية عشر كاهناً من ديره في لوتشا حذوه، "فهجروا رهبنتهم ورحلوا عن إيطاليا".
كان الفضل في توجيه فرميلي وسورانو أسقف برجامو وكثيرين غيره هذين إلى الأفكار الجديدة لرجل يدعى جوان دي فالديس. ولعله هو وشقيقه ألفونسو، وهما من أسرة قشتالية عريقة، ألمع التوائم مواهب في التاريخ. أما ألفونسو، تلميذ إرزمس الوفي، فقد أصبح سكرتيراً لاتينياً لشارل الخامس، وكتب Dialogo de Lactaico (1529) ، وفي هذا الحوار دافع عن "تهب روما"، وقال إن لوثر ما كان ليترك الكنيسة قط لو أنها أصلحت المفاسد التي ندد بها عن بدلاً من أن تحكم بإدانته. وأما جوان فقد شارك في هذا الكتاب ذاته بحوار سماه Dialogo de Mercurio y caron، كانت هرطقاته سياسية، من ذلك قوله إن من الواجب إلزام الأغنياء بكسب قوتهم، وإن ثروة الأمير ملك للشعب، وينبغي ألا تتبدد في حروب أمبريالية أو دينية (4). وآثر كلمنت السابع جوان بطبيعة الحال، فعينه أميناً بالقصر البابوي حين كان في الثلاثين من عمره. على أن جوان رحل إلى نابولي حيث انقطع للتأليف والتدريس، وظل على ولائه للكنيسة، ولكنه حبذ عقيدة لوثر في التبرير بالإيمان، ورأى للتصوف المخلص قدراً يسمو فوق أي طقس خارجي من طقوس العبادة. والتف حوله جماعة ممتازة من الرجال والنساء وارتضوا زعامته: كفرميلي، وأوكينو، والشاعر ماركانطونيو فلامينيو، وبيترو كارنيزيكي، وفيتوريا كولونا، وكوستانزا دافالوس دوقة أمالفي، وإيزابللا مانريكيز أخت رئيس محكمة التفتيش الأسبانية، وجوليا جونزاجا التي عرفنا ما كانت تتمتع به من جمال رائع. وبعد أن مات جوان فالديس (1541) تفرق تلاميذه في أرجاء
أوربا. وظل بعضهم وفياً للكنيسة كفتوريا كولونيا، وطور آخرون تعاليمه فبلغوا بها الهرطقة السافرة. وقطعت رءوس ثلاثة من صغار تلاميذه وأحرقوا في نابلي عام 1564، وكذلك كانت نهاية كارنيزيكي بروما في عام 1567. أما جوليا جونزاجا فقد أنقذها موت البابا بولس الرابع، وكان رجلاً قاسياً لا يرحم، ودخلت ديراً للراهبات (1566) وهكذا انتهت جماعة الإصلاح النابولية.
أما برناردينو أوكينو فقد جاز بكل مراحل التطور الديني. عاش في مدينة سيينا بقرب مسقط رأس القديسة كاترين، حياة تضارع حياتها تقوى وورعاً. وانضم إلى رهبان الفرنسسكان ولكنه وجد نظامهم أكثر رخاوة مما يلائم مزاجه، فانتقل إلى رهبنة الكبوشيين الأكثر صرامة. وقد عجب الرهبان من نكرانه النسكي لذاته، وإذلاله العنيف لجسده، ولما نصبوه وكيلاً عاماً لهم أحسوا أنهم اختاروا قديساً. وترددت مواعظه في أرجاء إيطاليا-في سيينا، وفلورنسة، والبندقية، ونابلي، وروما؛ إذ لم تسمع البلاد نظيرها حرارة أو بلاغة منذ عهد سافونارولا قبل ذلك بقرن. وذهب شارل الخامس ليسمعه، وتأثرت فتوريا كولونا به أعمق التأثر، أما بيترو أريتينو، الذي جرب كل الخطايا تقريباً، فقد حركه الاستماع إليه فانقلب مفرطاً في تقواه. وضاقت كل الكنائس بسامعيه على رحابتها، ولم يخطر ببال أحد أن هذا الرجل سيموت مهرطقاً.
ولكنه التقى بفالديس في نابلي، وبفضله ألم بمؤلفات لوثر وكالفن. ووافقت عقيدة التبرير بالإيمان روحه، فبدأ يلمح لها في عظاته. وفي عام 1542 دعي للمثول أمام السفير البابوي في البندقية ومنع من الوعظ. وما لبث البابا بولس الثالث أن دعاه إلى روما ليناقش معه الآراء الدينية لبعض الرهبان الكبوشيين. ولعل أوكينو كان يثق بالبابا المستنير، ولكنه خاف ذراع محكمة التفتيش الطويلة، وحذره الكردينال كونتاريني من
الخطر المحدق به. وفجأة قرر قديس إيطاليا ومعبودها هذا، بعد أن التقى ببيتر فرميلي في فلورنسة، أن يحذو حذوه ويعبر جبال الألب إلى بلد بروتستنتي، وأعطاه أخ لفتوريا كولونا جواداً، وفي فرارا أعطته رينيه ثياباً. ومضى مخترقاً إقليم جريزون إلى زيوريخ ومنها إلى جنيف. وقد أبدى استحسانه للنظام البيورتاني الذي كان كالفن يرسي أسسه هناك، ولما كانت ألمانيته أقوى من فرنسيته فقد انتقل إلى بازل ثم إلى استراسبورج ثم إلى أوزبورج، محاولاً كسب قوته بلسانه أو قلمه. وفي عام 1547 دخل شارل الخامس أوجزبورج سيداً على ألمانيا بعد أن سحق البروتستنت في مولبرج. ونمى إليه أن الراهب الكبوشي الذي سمعه في نابلي يعيش هناك رجلاً متزوجاً، فأمر القضاة بالقبض عليه، ولكنهم تستروا على فرار أوكينو، الذي هرب إلى زيوريخ وبازل. ولما أوشك زاده على النفاد، تلقى دعوة من رئيس الأساقفة كرامر للذهاب إلى إنجلترا. وهناك عكف على العمل بوصفه كاهناً فخرياً يتقاضى معاش تقاعد في كنتربري ست سنوات (1547 - 53)، وقد ألف كتاباً كان له أثر قوي في قصيدة ملتن "الفردوس المفقود"، ولكنه عجل بالعودة إلى سويسرة حين اعتلت ماري تيودور العرش.
وحصل على وظيفة راع للكنيسة في زيوريخ، ولكن الشعب استاء من آرائه التوحيدية، وطرد حين نشر حواراً بدا فيه المدافع عن تعدد الزوجات أقوى حجة من نصير الزواج الواحد. ومع أن ذلك كان في شهر ديسمبر (1563)، فقد أمر بمغادرة المدينة خلال ثلاثة أسابيع. ورفضت بازل الإذن له بالإقامة فيها. وسمح له بالمكث فترة وجيزة في نورمبرج، وما لبث أن خرج بأسرته قاصداً بولندة، وكانت يومها بالقياس إلى غيرها ملاذاً للمريبين من المفكرين. واشتغل بالوعظ في كركاو زمناً ولكنه طرد حين نفى الملك جميع الأجانب غير الكاثوليك (1564). وفي الطريق من بولندة إلى مورافيا قضى الطاعون على ثلاثة من أبنائه الأربعة. ولم
يعش بعدهم سوى شهرين، ومات في شاكاو في ديسمبر 1564. وكانت آخر كلماته تقريباً "لست أريد أن أكون بولنجرياً ولا كالفيناً ولا بابوبياً، بل مسيحياً فقط" (5). ولم يكن هناك أشد من هذا خطراً.
أما أن تتحول إيطاليا إلى البروتستنتية فكان بالطبع ضرباً من المحال. فقد كان عامة الشعب هناك برغم عدائهم للأكليروس متعلقين بالدين وإن لم يؤموا الكنائس. كانوا يحبون الاحتفالات والمراسيم التي قدسها مرور الزمن، ويحبون القديسين المعينين أو المعزين، ويحبون العقيدة التي ندر تشككهم فيها، والتي رفعت حياتهم من فقر بيوتهم إلى سمو أعظم الدرامات التي تصورها عقل الإنسان-وهي افتداء الإنسان الساقط بموت إلهه. وأعان خضوع إيطاليا السياسي لأسبانيا المغالية في التدين على إبقاء شبهي الجزيرة كاثوليكيتين. وكانت ثروة البابوية ميراثاً إيطالياً ومصلحة إيطالية راسخة، وأي إيطالي يرى القضاء على هذه المنظمة الجابية للجزية كان يبدو في نظر معظم الإيطاليين مشرفاً على الجنون. وقد اختلفت الطبقات العليا مع البابوية باعتبارها قوة سياسية تتسلط على وسط إيطاليا، ولكنها اعتزت بالكاثوليكية عوناً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والحكومة الحافظة للسلام، وأدركت أن عظمة الفن الإيطالي مرتبطة بالكنيسة بفضل إلهام أساطيرها ومعونة ذهبها. لقد أصبحت الكاثوليكية ذاتها فناً، وطغت عناصرها الحسية على عناصرها النسكية واللاهوتية؛ فالزجاج المعشق، والبخور، والموسيقى، والعمارة، والنحت، والتصوير، وحتى الدراما-هذه كلها كانت في الكنيسة ومن الكنيسة، وبدت في مجموعها المعجز جزءاً لا ينفصل عنها. ولم يكن بفناني إيطاليا وعلمائها حاجة إلى التحول عن الكاثوليكية، لأنهم حولوا الكاثوليكية إلى العلم والفن. وكان المئات بل الألوف من العلماء والفنانين يتمتعون بمعونة الأساقفة والكرادلة والبابوات، وارتقى الكثير من الإنسانيين، وبعض الشكاكين المؤدبين،
إلى مكانة مرموقة في الكنيسة. وأحبت إيطاليا الجمال القريب المنال حباً جماً لم يسمح لها أن تسلب نفسها في سبيل الحقيقة البعيدة المنال. وهل وجد الحقيقة هؤلاء التيتون المتعصبون، أو ذلك البابا المصغر، المتجهم، الحاكم لجنيف، أو ذلك الغول القاسي المتربع على عرش إنجلترا؟ وأي هراء محزن يتصايح به هؤلاء المصلحون-في الوقت الذي نسيت فيه الطبقات المثقفة في إيطاليا الجحيم والهلاك كل النسيان! كان في وسع المرء أن يفهم الرفض الصامت المستتر للاهوت المسيحي إيثاراً لربوبية غامضة لطيفة، أما تغيير سر التحول (تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه) ليحل محله هول جبرية محتومة فذلك أشبه بالانتقال من رمزية مبهجة إلى سخافة انتحارية. وفي هذا الوقت بالذات، بعد أن بسطت الكنيسة جناحيها الغافرين على نزعات الإيطاليين الوثنية، كان كالفن يطلب الدنيا بأن تكفل نفسها بأغلال بيورتانية تهدد بتجريد الحياة من كل فرح وتلقائية. وأتى للبهجة والفن الإيطاليين أن يدوما إذا كف هؤلاء التيوتون والإنجليز الهمج عن إرسال نقودهم أو جلبها إلى إيطاليا؟.
2 - المصلحون الكاثوليك الإيطاليون
ونتيجة لهذا كله اتجه الإجماع في إيطاليا إلى ضرورة الإصلاح داخل الكنيسة. والحق أن رجال الكنيسة المخلصين ظلوا قروناً يسلمون بالحاجة إلى الإصلاح الكنسي بل ويطالبون به. ولكن تفجر حركة الإصلاح البروتستنتي وتقدمها أضافا إلحاحاً جديداً على الحاجة والمطالبة "وانصب على رأس الأكليروس سيل غامر من الشتائم في المئات والألوف من النبذ والصور الساخرة"(6). ومس "نهب وما" ضمير الكرادلة وجماهير الشعب المرتاعين كما س دخولهم. وأعلن عشرات من القساوسة أن هذه الكارثة نذير من الله. وفي عظة للأسقف ستافيليو أمام الروتا (وهو فرع قضائي
من الإدارة البابوية) عام 1528 علل ضرب الله لعاصمة العالم المسيحي بعبارات أشبه ما تكون بلغة البروتستنت فقال "لأن البشر كلهم فسدوا؛ إننا لسنا مواطني مدينة روما المقدسة، بل مواطني بابل، مدينة الفساد"(7). وهو ما قاله لوثر.
قبيل عام 1517، في تاريخ غير مؤكد، أسس جوفاني بييترو كارافا والكونت جاتانو داتيني "مصلى الحب الإلهي" في روما للصلاة وإصلاح الذات. واختلف إلى المصلى الخمسون من الرجال النابهين، منهم إياكوبو سادوليتو، وجانماتيو جيبرتي، وجوليانو داتي. وفي عام 1524 أسس جاتانو طريقة للأكليريكيين النظاميين، وهم قساوسة علمانيون يخضعون نفسهم للنذور الديرية. وفض المصلى بعد "نهب روما"، والتحق كارافا وآخرون بالطريقة الجديدة التي اتخذت لها اسماً هو التياتية، نسبة إلى تياتي أوتشييتي، مقر أسقفية كارافا. وقبل في الطريقة رجال مرموقون مثل: بييتر وبيميو، وماركانطونيو فلامينيو، ولويجي بريولي، وجاسبارو كونتاريني، وريجينالد بولي
…
وكلهم نذروا أنفسهم للفقر، والعناية بالمرضى، وحياة الفضيلة الصارمة، وكان هدفهم كما قال أول مؤرخ لهم:"تعويض ما في الأكليروس من نقص، بعد أن أفسدت رجاله الرذيلة والجهل مما أفضى إلى خراب الشعب"(5). وانتشر أعضاء الطريقة في شتى أنحاء إيطاليا، وأسهم المثل الذي ضربوه كما أسهمت الإصلاحات البابوية والمجمعية، والمثل الذي ضربوه الكبوشيون والجزويت، في إصلاح خلق الأكليروس الكاثوليكي والبابوات. وضرب كارافا المثل بالتخلي عن كل وظائفه الكنسية ذات الموارد، وتوزيع ثروته الكبيرة على الفقراء.
وكان جيبرتي في شخصه وسيرته صورة للإصلاح الكاثوليكي. فهو في بلاط ليو العاشر من أئمة الإنسانيين، وفي عهد كلمنت السابع أمين أول للإدارة البابوية. وإذ هزته كارثة عام 1527، اعتكف في
أسقفيته بفيرونا، وعاش عيشة الراهب المتقشف وهو بدير أسقفيته. وأزعجه انحلال الدين هناك-فالكنائس متهدمة، والوعظ نادر، والقساوسة يجهلون اللاتينية التي يتلون بها القداس، والشعب لا يجلس إلى كرسي الاعتراف إلا نادراً. واستطاع بالقدوة الحسنة والمبدأ القويم والنظام الحازم أن يصلح أكليروسه. يقول مؤرخ كاثوليكي "وسرعان ما ملئت السجون بالقساوسة ذوي الخليلات"(9) وأعاد جيبرتي إنشاء أخوة البر Confraternita della Carita التي أسسها الكردينال جوليانو دي مديتشي عام 1519، وبنى ملاجئ للأيتام، وفتح مصارف الشعب لإنقاذ المقترضين من براثن المرابين. وقام بمثل هذه الإصلاحات الكردينال إركولي جوزانجا (ابن إيزابللا دستي) في مانتوا، وماركو فيدا في ألبا، وفابيو فجيلي في سبوليتو، وكثير غيرهم من الأساقفة الذين أدركوا أن على الكنيسة أن تصلح ذاتها أو تموت.
وسلكت الكنيسة في تاريخ لاحق العديدين من أبطال الإصلاح الكاثوليكي، الذين عاونوا على إنقاذها، في عداد قديسيها. ومن هؤلاء القديس فيليب نيري، وهو نبيل فلورنسي شاب، أسس في روما (حوالي عام 1540) جماعة غريبة تدعى Trinita de Pellegrini ويقضي نظام هذه المجموعة أن يحضر اثنا عشر علمانياً قداس الأحد، ثم يحجون إلى إحدى الباسلقات، أو إلى أحد المروج الريفية، وهناك يلقون أو يسمعون أحاديث التقوى والورع، ويرنمون بالموسيقى الدينية. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة قساوسة، وسموا أنفسهم "آباء المصلى"، ومن ميولهم الموسيقية أضافت كلمة oratorio- التي تعني في الأصل مكان الصلاة-معنى جديداً إلى معناها القديم، وهو الترنيمة الكورالية. ومنهم القديس شارل بوروميو-ابن أخي البابا بيوس الرابع- الذي استقال من وظيفة الكردينال الرفيعة في روما ليطهر الحياة الدينية في ميلانو.
فأقر النظام بين رجال الأكليروس بوصفه رئيساً للأساقفة هناك، وكان لهم في تقشفه وتعبده الأسوة الحسنة. وقد لقي في سبيل الإصلاح بعض المقاومة. ذلك أن طريقة دينية تدعى "أوميلياتي"، كانت من قبل تفخر بتواضعها، انحدرت إلى درك الراحة والدعة بل الإباحية. وأمر الكردينال رهبانها أن يطيعوا قانون رهبنتهم، فأطلق أحدهم النار عليه وهو يصلي في الكنيسة. وكانت نتيجة هذه الفعلة أن تحولت رهبة الشعب إلى إجلال لهذا الرجل الذي رأى في الإصلاح خير رد على حركة الإصلاح البروتستنتي. وبفضل جهوده إبان حياته وفي أرجاء أبرشيته أصبح الخلق المهذب القاعدة الفاشية بين الأكليروس والعلمانيين على حد سواء. وأحس الناس بتأثيره في جميع أنحاء إيطاليا، وقد أسهم هذا التأثير في تحويل الكرادلة من نبلاء متعلقين بنعيم الدنيا إلى كهنة أتقياء.
وبدأ البابوات يوجهون اهتمامهم الصادق إلى الإصلاح الكنسي بعد أن حفزهم أمثال هؤلاء. ففي وسط عهد البابا بولس الثالث قدم له الفقيه الشهير جوفان باتيستا كاتشيا بحثاً في إصلاح الكنيسة قال في ديباجته "أرى أن الكنيسة أمنا المقدسة
…
قد اعتراها من التغير الكبير ما تبدو معه وقد تجردت من سمات طابعها التبشيري؛ وليس فيها أثر للتواضع وضبط النفس والتعفف والقوة الرسولية" (10). وأظهر البابا بولس ميله بقبوله إهداء الكتاب إليه. وفي 20 نوفمبر 1534 عهد إلى الكرادلة بيكولوميني، وسانسفيرينو، وتشيزي، أن يضعوا برنامج تجديد خلقي للكنيسة، وفي 15 يناير 1535 أمر بتنفيذ مراسيم الإصلاح التي أصدرها البابا ليو العاشر عام 1513 تنفيذاً دقيقاً. على أنه أجل الإصلاح الإيجابي بعد أن وقع في شراك السياسة البابوية والإمبراطورية، وأحدق به خطر زحف العثمانيين، وكره وسط هذه الأزمات أن يهز بنيان الإدارة البابوية أو أداءها لوظيفتها بتغييرات جذرية؛ ولكن الرجال
الذين رفعهم إلى مرتبة الكردينالية كانوا كلهم تقريباً معروفين بالنزاهة والتقوى. وفي يوليو عام 1536 قرر عقد مؤتمر إصلاحي في روما دعا إليه كونتناريني، وكارافا، وسادوليتو، وكورتيزي، وألياندر، وبولي، وتومازو باديا، وفيديريجو فريجوزي أسقف جوبيو، وكلهم رجال ملتزمون بالإصلاح، وأمرهم أن يكتبوا تقريراً عن الرذائل الفاشية في الكنيسة، والوسائل التي يشيرون بها للتخفيف منها. وافتتح سادوليتو المؤتمر بأن قرر في جرأة أن البابوات أنفسهم كانوا أهم سبب في تدهور الكنيسة بخطاياهم وجرائمهم وشرههم للمال (11). وظل المؤتمر يجتمع يومياً على مدى ثلاثة شهور. أما روحه الكبير، وهو جاسبارو كونتاريني، فكان ألمع رجال الإصلاح الكاثوليكي. ولد في البندقية (1483) من أسرة شريفة، وتلقى علومه في بادوا المتحررة، وما لبث أن تقلد منصباً مرموقاً في حكومة البندقية. وقد أوفد سفيراً لدى شارل الخامس في ألمانيا، وصحبه إلى إنجلترا وأسبانيا، ثم مثل مجلس الشيوخ في البلاط البابوي (1527 - 30). واعتزل السياسة وانقطع للدرس، وجعل من بيته ملتقى لخيرة رجال الدولة والكنيسة والفلاسفة والإنسانيين في البندقية. ومع أنه كان علمانياً فإنه كان يطيل التفكير في الإصلاح الكنسي، وتعاون تعاوناً نشيطاً مع كارافا. وجيبرتي، وكورتيزي، وبولي. وعرفته إيطاليا كلها مزيجاً نادراً من الذكاء والخلق، وفي عام 1535، ودون أي التماس منه، عينه بولس الثالث كردينالاً مع أنه لم يلتق به قط (12).
وفي مارس 1537 قدمت اللجنة للبابا "نصيحة الكرادلة المعينين لإصلاح الكنيسة"، وقد فضحت هذه النصيحة الاجتماعية، بحرية مذهلة، مفاسد الحكم البابوي، وعزتها بشجاعة أولاً "إلى مغالاة الفقهاء الكنسيين عديمي الضمير في سلطة البابا مغالاة مستهترة". ورأى التقرير "أن بعض
البابوات ادعوا الحق في بيع الوظائف الكنسية، وقد أفشت هذه المتاجرة بالرتب الكهنوتية الرشوة والفساد في الكنيسة على نطاق واسع بحيث أشرفت هذه المنظمة العظمى على الخراب بسبب انعدام الثقة في نزاهتها. وحث التقرير على فرض رقابة صارمة على كل نشاط تقوم به الإدارة البابوية، وعلى فرض رقابة على الإعفاءات الكنسية، وعلى وقف دفع المال لنيلها، وعلى مستوى أعلى في جميع الوظائف وفي شروط اختيار الكرادلة والقساوسة، وحظر الجمع بين عدة وظائف كنسية ذات دخل أو الانتفاع بهذه الوظائف غيابياً. وأضاف التقرير "لقد هجر معظم الرعاة قطعانهم في العالم كلها ووكلوها إلى الأجراء". أما الطرق الديرية فيجب تجديدها، وأما أديار الراهبات فيجب إخضاعها للرقابة الأسقفية، لأن زيارة الرهبان لها أفضت إلى الفضائح وتدنيس المقدسات. وأما صكوك الغفران فيجب الإعلان عنها مرة واحدة في العام فقط. واختتم التقرير بهذا النداء الحار للبابا.
"لقد أرضينا ضمائرنا، ولنا وطيد الأمل في أن نرى كنيسة الله وقد صلحت حالها تحت رياستكم .... لقد تسميتم باسم بولس، فلعلكم تحاكونه في محبته. لقد اختير أداة لحمل اسم المسيح إلى الوثنيين، وأملنا أن تكونوا قد اخترتم لتحيوا في قلوبنا وأعمالنا ذلك الاسم الذي نسى منذ أمد بعيد بين الوثنيين ومنا نحن الأكليروس، ولتشفوا علتنا، وتجمعوا خراف المسيح من جديد في حظيرة واحدة، ولتصرفوا عنا غضب الله وانتقامه الذي يتهددنا"(13).
وتقبل بولس بروح طيبة هذه "النصيحة الذهبية" كما سماها الكثيرون، وأرسل صورة منها لكل كردينال. أما لوثر فقد ترجمها إلى الألمانية، ونشرها تبريراً كاملاً لاختصامه روما، على أنه حكم على كاتبي الوثيقة بأنهم "كذابون
…
وأوغاد يائسون، يصلحون الكنيسة بالتملق" (14). وفي
20 أبريل 1537 عين بولس أربعة كرادلة-كونتاريني، وكارافا، وسيمونيتا، وجينوتشي-لإصلاح قسم الوثائق، وهو ذلك القسم من الإدارة البابوية الذي استشرت فيه الرشوة في منح تلك الإعفاءات، والإنعامات، والامتيازات، والترخيصات، والوظائف ذات الدخل، المحجوزة لتصرف السلطة البابوية. وكانت المهمة تتطلب الشجاعة، لأن قسم الوثائق كان يسلم البابا كل سنة 50. 000 دوكاتية (1. 250. 000 دولار؟) -وهي نصف دخله تقريباً (15). وللفور تعالت صرخة ألم من موظفي القسم ومن يلوذ بهم، فشكوا من غلاء المعيشة في روما، وزعموا أن أسرهم سيحل بها العوز سريعاً لو أنهم أكرهوا على مراعاة حرفية القانون. ومضى بولس في حذر، ومع ذلك كان "عمل الإصلاح يسير بهمة" كما كتب ألياندر إلى موروني (27 أبريل 1540). وفي 13 ديسمبر دعا بولس ثمانين من رؤساء الأساقفة والأساقفة المقيمين بروما، وأمرهم بالعودة إلى كراسيهم. وهنا ارتفعت مئات الاعتراضات مرة أخرى. وحذر موروني البابا من أن العجلة في تنفيذ هذا الأمر قد تحمل بعض الأساقفة على الانضمام إلى اللوثريين إذ يعودون إلى مناطق غلب عليها الآن المذهب البروتستنتي، وهذا ما حدث فعلاً في عدة حالات. وسرعان ما تاه بولس في ميدان السياسة الإمبراطورية، وترك الإصلاح لخلفائه من بعده.
وانتصرت الحركة المطالبة بالإصلاح الداخلي حين ارتقى زعيمهما كارافا كرسي البابوية (1555) باسم بولس الرابع. وصدر الأمر إلى الرهبان الغائبين عن أديارهم دون موافقة رسمية وضرورة واضحة بالعودة إليها فوراً. وفي ليلة 22 أغسطس 1558 أمر البابا بإغلاق جميع أبواب روما والقبض على جميع الرهبان الآبقين. واتبعت إجراءات مماثلة في جميع الولايات البابوية، وأرسل بعض المدنيين للعمل في سفن تشغيل الأسرى.
وأبطل الاحتفاظ برياسة الأديار لإعالة الموظفين الغائبين بدخولها. وطلب إلى الأساقفة ورؤساء الأديار الذين لا يخدمون الإدارة البابوية فعلاً في وظيفة ثابتة أن يعودوا إلى وظائفهم وألا حرموا من دخلهم. وحظر الانتفاع بالدخول الكنيسة المتعددة. وأمرت كل أقسام الإدارة البابوية بخفض رواتبها، وإبعاد كل شبهة اتجار في التعيين للوظائف الكهنوتية، وبعد أن خفض البابا بولس موارده على هذا النحو، بذل تضحية أخرى فوقع دفع رسم التثبيت الذي كان يؤديه من يرقون رؤساء أساقفة. وصدرت عدة مراسين بابوية ضد المرابين، والممثلين، والبغايا؛ أما القوادون فتقرر إعدامهم. وطلب إلى دانييل دا فولتيرا أن يغطي بطريقة العضلات الخياطية أكثر الملامح التشريحية افتضاحاً في لوحة ميكل أنجيلو "الدينونة الأخيرة"؛ ويجب التسليم بأن ذلك المجزر الرهيب، مجزر الأجساد الهالكة أو المخلصة، لم يجد له من قبل مكاناً مناسباً فوق مذبح البابوات. واتخذت روما الآن مظهراً من التقوى والفضيلة الخارجية لا يلائم طبيعتها. وأصلحت الكنيسة أكليروسها وأخلاقها في إيطاليا، ووراء إيطاليا بصورة أقل وضوحاً، تاركة عقائدها سليمة في كبرياء. لقد تأخر الإصلاح طويلاً، ولكنه حين أتى كان مخلصاً وباهراً.
3 - القديسة تريزا والإصلاح الديري
وكان التجديد الخلقي يجري في الوقت ذاته في الطرق الديرية. وفي وسعنا أن نتصور سمعة هذه الطرق من ملحوظة أبداها ميكل أنجيلو التقى السليم العقيدة، ذلك أنه حين نمى إليه سباستيان ديل بيومبو سيرسم صورة راهب في كنيسة سان بيترو بمونتوريو نصحه بألا يفعل، لأنه إذا كان الرهبان قد أفسدوا الدنيا على ما بها من سعة، فلا غرابة في أن يفسد
راهب الكنيسة وهي بهذا الصغر (16). وصمم جريجوريو كورتيزي أن يصلح الرهبنة البندكتية في بادوا في صبر وأناة، وجيرولامو سيريباندو الكهنة الأوغسطينيين، وإيجيديو كانيزيو النساك الأوغسطينيين، وباولو جوستنباني الكامالدوليين.
وقامت طق ديرية جديدة شددت على الإصلاح. فأسس أنطونيو ماريا لاكاريا كهنة القديس بولس النظاميين في ميلانو (1533)، وهم جماعة من القساسوة ينذرون حياة الفقر الديرية. وكانوا أول الأمر يلتقون في كنيسة القديس برنابا، ومن هنا تسميتهم بالبرنابيين. وفي عام 1535 وضعت القديسة أنجيلاً نظام الراهبات الأورسوليات ليقمن بتعليم الفتيات ورعاية المرضى أو الفقراء، وفي عام 1540 أسس القديس يوحنا الإلهي جماعة "إخوان الرحمة" في غرناطة للخدمة في المستشفيات. وفي عام 1523 اعتزم ماتيو دي باسي، مدفوعاً بالرغبة الحارة في الاقتداء بالقديس فرنسيس الأسيسي، أن يتبع حرفياً نظام الرهبنة الأخير الذي خلفه مؤسس الطريقة الفرنسسكانية لرهبانها. وانضم إلى غيره من الرهبان، وما وافى عام 1525 حتى شجع تكاثرهم ماتيو على أن يتلمس من البابا اعتماد فرع جديد من الفرنسسكان ملتزم بأشد قواعد الرهبنة صرامة. واستطاع الرئيس الإقليمي للطريقة أن يستصدر أمراً بإيداعه السجن لعصيانه، ولكن سرعان ما أطلق سراح ماتيو، وفي عام 1528 ثبت البابا كلمنت السابع طريقة الرهبان الكبوشيين الجديدة. وقد أطلق عليها هذا الاسم لأن رهبانها كانوا يلبسون نوع القلنسوة cappuccio التي لبسها فرنسيس. وكانوا يرتدون أخشن الثياب، ويعيشون على الخبز والخضر والفاكهة والماء، ويصومون أصواماً قاسية، ويسكنون قلالي ضيقة في أكواخ حقيرة، ولا يسافرون إلا مشاة، ويمشون حفاة طوال العام. وقد اكتسبوا مكانة مرموقة بفضل رعايتهم المضحية لمرضى وباء
1528 -
29. وكان روعهم عاملاً في إبقاء فتوريا كولونا ونفر آخر ممن اعتنقوا البروتستنتية حديثاً في حظيرة كنيسة ما زالت قادرة على إنجاب أمثال هؤلاء المسيحيين الغيورين.
أما أكثر الأشخاص إثارة للاهتمام في عصر الإصلاح الديري الذي نحن بصدده فرئيسة دير أسباني رقيقة البدن شديدة السيطرة، هي تريزا دي تشييدا. كانت ابنة فارس قشتالي من آبلة، فخور باستقامته المتطرفة وولائه للكنيسة. وقد درج على أن يقرأ على أسرته جانباً من حياة القديسين (17). أما الأم، المصابة بعلة مزمنة، فكانت تطرد السأم عنها بقراءة روايات الفروسية، وتشارك من فراش مرضها في مغامرات أماديس الغالي. وتذبذب خيال تريزا في طفولتها بين الحب الشاعري والاستشهاد الطاهر المقدس. وحين بلغت العاشرة نذرت على نفسها حياة الرهبنة. ولكنها لم تلبث بعد سنوات أربع أن تفتح صباها عن حسناء تطفر بفرحة الحياة، وتنسى ثوب الدير أمام الأثواب البهية التي ضاعفت من مفاتنها. وتوافد عليها المعجبون، ووقعت في حب أحدهم على تهيب ووجل، فدعاها إلى موعد لقاء. وفي اللحظة الحاسمة أحست بالخوف، واعترفت لوالدها بالمؤامرة الرهيبة. ولما كانت أمها قد ماتت، فإن الدون ألونزو دي تشييدا أودع الفتاة الحساسة ديراً للراهبات الأوغسطينيات في آبلة.
وكرهت تريزا حياة الدير ونظامه الكئيبين. ورفضت أن تقسم يمين الرهبنة، وتطلعت في صبر نافدٍ إلى عيد ميلادها السادس عشر حين يسمح لها بمغادرة الدير. ولكن ما إن دنا هذا الهدف حتى مرضت مرضاً خطيراً وأشرفت على الموت. ثم تماثلت للشفاء، ولكن مرح الشباب ولى. ويبدو أن ضرباً من الصرع الهستيري أصابها، ربما نتيجة للتمرد المكبوت على قيود غريبة عن غرائزها. وكانت النوبات تعلوها ثم تتركها
خائرة القوى. ونقلها أبوها من الدير وأرسلها لتعيش مع أخت لها غير شقيقة في الريف. وفي طريقها أعطاها أحد أعمامها كتاباً من تأليف القديس جيروم. وقد وصفت الرسائل الحية التي احتواها الكتاب أهوال الجحيم، وصورت مغازلات الجنسين كأنها الطريق المزدحم المفضي إلى الهلاك الأبدي. وقرأت تريزا الرسائل بشغف. وبعد نوبة شديدة أخرى طلقت كل فكرة في السعادة الدنيوية، وعزمت على الوفاء بنذر طفولتها. فعادت إلى آبلة ودخل دير التجسد الكرملي (1534).
وسعدت حيناً وسط روتين الدير المهدئ، روتين القداديس، والصلوات والاعترافات المطهرة، ولما تناولت القربان شعرت بالخبز كأنه المسيح حقاً على لسانها وفي دمها. ولكن نظام الدير الرخو أقلقها. فالراهبات لا يسكن القلالي بل الحجرات المريحة، ويأكلن الطعام الفاخر برغم الأصوام الأسبوعية، ويتزين بالقلائد والأساور والخواتم، ويستقبلن الزوار في قاعة الاستقبال، ويتمتعن بالإجازات الطويلة خارج أسوار الدير. وأحست تريزا أن هذه الظروف لا توفر لها الحماية الكافية من مغريات الجسد وأحلامه. ولعل هذه المغريات والأحلام، بالإضافة إلى سخطها المتزايد، جعلت نوباتها أكثر حدوثاً وأشد ألماً. وهنا أرسلها أبوها ثانيةً إلى أختها، وأعطاها عمها ثانيةً كتاباً دينياً اسمه "الأبجدية الثالثة" لفرانسسكو دي أوزونا. وكان أبجدية في الصلاة الصوفية، الصلاة دون كلام، لأن "الذين يدنون من الله في صمت هم وحدهم الذين يمكن أن يسمعهم ويعطيهم جواباً" على حد قول المؤلف (81). وفي عزلتها الريفية مارست تريزا هذه الصلاة الصامتة المتأملة التي لاءمت كل الملائمة ما أحدثته بها النوبات من حالة شبيهة بالوجد.
وحاول طبيب يعالج بالأعشاب أن يداويها، ولكن مستحضراته كادت تقتلها. ولما عادت إلى صومعتها في آبة (1537) كانت مشرفة
على الموت، تواقة إليه. ثم أصابتها أشد نوبتها عنفاً، وراحت في غيبوبة خالها الراهبات غيبوبة الموت، وظلت يومين باردة لا حراك بها، تبدو مقطوعة النفس؛ وحفر الراهبات لها قبراً. ثم أفاقت، ولكنها ظلت ضعيفة جداً بحيث لم تستطع أن تهضم طعاماً جامداً أو تحتمل أية لمسة. ورقدت ثمانية أشهر في مستشفى الدير فيما يقرب من الشلل الكلي. وتحسنت حالها فأصبح شللها جزئياً، ولكن "الفترات التي لم ترهقني فيها الآلام المبرحة كانت في الحق نادرة (19) ". وأقلعت عن كل أنواع العلاج الطبي، وصممت على أن تعتمد كلية على الصلاة. وظلت ثلاث سنوات تتعذب وتصلي. وفجأة، في صباح يوم من أيام سنة 1540، استيقظت العليلة طريحة الفراش، التي بدت ميئوساً من شفائها، لتجد أطرافها وقد فارقها الشلل. فقامت ومشت. ويوماً بعد يوم أخذت تشارك بنصيب أنشط في أعمال الدير. وهلل الناس لشفائها باعتبارها معجزة، وكذلك كان اعتقادها فيه. ولعل الصلاة قد هدأت من ثائرة جهاز عصبي أرهقته الرغبات المصطرعة، والشعور بالإثم، وخوف الجحيم؛ ومنحت أعصابها التي هدأت، وبعد الأطباء عنها، جسدها سلاماً لم تعهده من قبل.
وذاع صيت دير التجسد باعتباره المكان الذي حدث فيه شفاء معجز. وتوافد الناس من المدن المحيطة ليروا الراهبة التي شفاها الله، وتركوا نقوداً وعطاياً للدير المقدس. وشجعت رئيسة الدير هذه الزيارات، وأمت تريزا بالظهور أمام الزوار. وأزعج تريزا أن تجد أنها تستشعر لذة في هذه الزيارات، وفي هذه الشهرة، وفي وجود رجال وسيمي الوجوه. وعادوها شعور بالإثم. وذات يوم (1542) بينما كانت تتحدث في قاعة الاستقبال إلى رجل استهواها بصفة خاصة، خيل إليها أنها ترى المسيح واقفاً إلى جوار الزائر. وراحت في غيبوبة، واقتضى الأمر حملها إلى قلايتها على نقالة.
وظلت ترى هذه الرؤى طوال الستة عشر عاماً التالية، وأصبحت عندها أكثر واقعية من الحياة. وفي عام 1558 فيما هي غارقة في صلاتها أحست بنفسها تخرج من جسدها وتصعد إلى السماء حيث رأت المسيح وسمعته. ولم تعد هذه الرؤى تضنيها، بل على العكس من ذلك تنعشها. كتبت تقول:
"إن النفس التي كثيراً ما تضنيها وترهقها الآلام الرهيبة قبل حالة الوجد تخرج منها ممتلئة عافية مقبلة على العمل بشكل يدعو إلى الإعجاب
…
كأن الله شاء أن يشارك الجسد ذاته في سعادة النفس بعد أن أطاع رغباتها
…
والنفس بعد هذه المنحة يملؤها قدر من الشجاعة عظيم إلى حد يجعل الجسد لا يشعر إلا بأوفر راحة لو مزق في تلك اللحظة إرباً في سبيل الله" (20).
وفي مناسبة أخرى خيل إليها أن "ملاكاً رائع الحسن" قذف "سهماً طويلاً من الذهب" في رأسه نار "مخترقاً قلبي عدة مرات، حتى وصل إلى صميم أحشائي".
"كان الألم حقيقياً بحيث اضطرني إلى الأنين بصوت عال، ومع ذلك كان عذباً إلى حد مدهش لم أتمن معه الخلاص منه. ليس في مباهج الحياة ما يستطيع أن يهب رضى أكثر من هذا. وحين سحب الملاك السهم تركني وقد اضطرمت كلي يحب عظيم لله
(1)
" (21).
هذه الفقرات وأشبابها مما كتبته القديسة تريزا تقبل بسهولة تفسيرات التحليل النفسي، ولكن أحداً لا يستطيع التشكك في إخلاص القديسة الشديد. فقد أيقنت كما أيقن اجناتيوس بأنها رأت الله، وأن أعوص المشكلات كانت تحل لها في هذه الرؤى.
"ذات يوم وأنا أصلي وهب لي أن أدرك في لحظة واحدة كيف أن
(1)
يحتفل أتقياء الأسبان بذكرى رؤيا الطعن هذه في عيد مقدس يقع في 27 أغسطس من كل عام.
الله يرى ويحتوي كل الأشياء
…
وهذه من أبرز النعم التي منحني الله إياها
…
فقد جعلني الرب أفهم كيف أن إلهاً واحداً يمكن أن يكون في ثلاثة أقانيم. وجعلني أرى هذا في وضوح شديد بحيث أخذني عجب شديد كما غمرتني سكينة عظمى
…
والآن حين أفكر في الثالوث الأقدس
…
أشعر بسعادة لا ينطق بها" (22).
أما الراهبات أخوات تريزا فقد عللن رؤاها بأنها ليست سوى أوهام ونوبات مرضية (23)، وإلى هذا الرأي كان يميل آباء اعترافها، فقد قالوا لها في جفاء "لقد خدع الشيطان حواسك". وخال أهل المدينة أن الشياطين مستها، وطالبوا محكمة التفتيش بفحصها، واقترحوا أن يطرد قسيس شياطينها بالتعزيم. ونصحتها صديقة بأن تبعث للمحكمة بقصة حياتها ورؤاها، فكتبت سيرتها في كتابها المشهور " Vida"، ففحصه رجال المحكمة، وحكموا بأنه وثيقة مقدسة خليقة بأن تشدد إيمان كل من يقرؤها.
فلما أن دعم هذا الحكم مركز تريزا، صممت-وقد بلغت الآن السابعة والخمسين-أن تصلح طريقة الراهبات الكرمليات. وبدلاً من محاولة إعادة نظام النسك القديم في دير التجسد، قررت افتتاح دير منفصل دعت إليه من الراهبات وطالبات الرهبنة كل من تقبل عيشة الفقر المطلق. لقد كان الكرمليات القدامى يلبسن الخيش الخشن، ويمشين حافيات، ويقتصدن في الطعام ويصمن أصواماً كثيرة. واشترطت تريزا على راهباتها الكرمليات الحافيات نظاماً أقرب ما يكون إلى هذا النظام الصارم، لا بوصفه غاية في ذاته، بل رمزاً للتواضع ولنبذ هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات. وقامت في طريقها مئات العقبات؛ فندد أهل آبلة بالخطة لأنها تهدد قطع كل اتصال بين الراهبات وأقاربهن. ورفض رئيس الطريقة الإقليمي الإذن لها بفتح دير جديد، فلجأت تريزا إلى البابا بيوس
الخامس، وظهرت بموافقته. ووجدت أربع راهبات قبلن الانضمام إليها، وكرس دير القديس يوسف الجديد في عام 1562 في شارع ضيق من شوارع آبلة. وكانت راهباته يلبسن صنادل من الحبال، وينمن على القش ويصمن عن اللحم، ويلتزمن ديرهن لزوماً دقيقاً.
ولم يرق رهبات الدير الأقدم-وعددهن 180 - هذا الفضح البسيط لأساليب حياتهن المتهاونة. وأمرت رئيسة الدير تريزا بأن تستأنف ارتداء ثوبها الأبيض السابق، ولبس حذائها، وأن تعود إلى دير التجسد، زاعمة أنها التزمت قِبلها بنذر الطاعة. وأطاعت تريزا. ودينت بخطيئة الكبرياء، وحبست في صومعتها. وقرر مجلس المدينة إغلاق دير القديس يوسف، وأوفد أربعة رجال أشداء لإجلاء الراهبات اللاتي لم يعد لهن الآن رئيسة. ولكن العذارى لابسات الصنادل قلن "إن الله يريدنا أن نمكث هاهنا، فنحن إذن ماكثات". ولم يجرؤ الموظفون القانونيون القساة على إكراههن على الجلاء. أما تريزا فقد قذفت الرعب في قلب الرئيس الكرملي الإقليمي حين أومأت إليه أنه إنما يسئ إلى الروح القدس بوضعه العراقيل في طريق خططها؛ فأمر بالإفراج عنها. وغادرت الدير معها أربع راهبات، وسارت النسوة الخمس إلى دارهن الجديدة وسط الثلوج. وحيا الراهبات الأربع القدامى تريزا " Madre أما" لهن وهن سعيدات، وأصبحت الآن معروفة في أسبانيا كلها تقريباً باسم تريزا يسوع، صديقة الله الحميمة.
وكان نظام رهبنتها يتسم بالمحبة والبهجة والحزم. فالبيت موصد في وجه العالم، لا يسمح للزوار بدخوله، والنوافذ مكسوة بالقماش، والأرض المبلطة هي الأسِرة والموائد والمقاعد. وبني في الجدار قرص دائر، وأي طعام يضعه الناس على نصفه الخارجي يقبله الدير بشكر، ولكن ليس للراهبات أن يستجدين. وكن يكملن ما نقص من قوتهن
بالغزل وأشغال الإبرة، وتوضع منتجاتهن خارج باب الدير، ولأي مشتر أن يأخذ منها ما شاء ويترك مقابله ما شاء. وأقبلت راهبات جديدات على الرغم من هذا التقشف كله، ومن بينهن امرأة كانت أجمل نساء آيلة وأشدهن فتنة للرجال. ولما زار الرئيس العام للأديار الكرملية هذا الدير الصغير بلغ به التأثر أشده، فطلب إلى تريزا أن تؤسس بيوتاً مماثلة له في سائر أرجاء أسبانيا. وفي عام 1567 استصحبت بضع راهبات، وسافرن في عربة حقيرة قطعت سبعين ميلاً على طرق رديئة لتؤسس ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في مدينا ديل كاميو. وكان البيت الوحيد الذي عرض عليها بناءً مهجوراً متهدماً تداعت جدرانه ورشح سقفه، ولكن حين رأى أهل المدينة الراهبات يحاولن العيش فيه، توافد النجارون والمبلطون لإصلاح الدار وصنع أثاث بسيط له دون أن يدعوهم لذلك أحد أو يتقاضوا على عملهم أجراً.
وجاء إلى تريزا رئيس دير الرهبان الكرمليين في مدينا طالباً إليها قواعد رهبنتها رغبة منه في إصلاح رهبانه المتراخين. وكان الرجل فارع القوام، ولكن جاء في صحبته شاب قصير هزيل جداً حتى أن تريزا قالت بعد رحيلهما في دعابتها التي كانت تضفي الإشراق على نسكها "تبارك الله، فإن عندي الآن راهباً ونصفاً لتأسيس ديري الجديد (24) ". أما هذا الرويهب، واسمه جوان دي أيبس ألفاريز، فقد كتب له أن يصبح سان جوان دي لاكروز، أي القديس يوحنا الصليبي، روح الرهبان الكرمليين الحفاة وفخرهم.
ولم تنته مصاعب تريزا. ذلك أن الرئيس الإقليمي للأديار الكرملية عينها رئيسة على دير التجسد، ربما اختباراً لحكمها وشجاعتها. وكان راهبات هذا الدير يكرهنها، وقد خشين أن تذيقهن الآن ألوان الذل والهوان انتقاماً منهن. ولكنها عاملتهن بكثير من التواضع والرقة حتى
كسبتهن الواحدة بعد الأخرى، وما لبث النظام الجديد الأكثر صرامة أن حل شيئاً فشيئاً محل التراخي القديم. ومن هذا الانتصار تقدمت تريزا لإنشاء دير جديد في إشبيلية.
وصمم الرهبان الطريقة التي تراخى نظامها على وقف امتداد الإصلاح. فهرَّب بعضهم عميلة تنكرت في زي راهبة حافية إلى دير إشبيلية. وما لبث هذه المرأة أن أعلنت على الملأ في أسبانيا أن تريزا تجلد راهباتها وتتلقى الاعترافات كأنها كاهن. وطلب إلى محكمة التفتيش التحقيق معها ثانية. ودعيت للمثول أمام المحكم الرهيبة، واستمتعت المحكمة إلى شهادتها وأصدرت هذا الحكم "لقد برئت من كل التهم
…
فاذهبي وواصلي عملك (25)". ولكن أعدائها كسبوا سفيراً بابوياً إلى صفوفهم. فندد بتريزا "امرأة عاصية متمردة، تنشر التعاليم المؤذية تحت قناع التقوى، تركت ديرها مخالفة بذلك أوامر رؤسائها؛ امرأة طماعة، تعلم اللاهوت كأنها من فقهاء الكنيسة، محتقرة بذلك القديس بولس الذي منع النساء من أن يعلّمن". ثم أمرها أن تعتكف حبيسة في دير للراهبات بطليطلة (1575).
وحارت تريزا إلى من تلجأ في هذا التغير الجديد، فكتبت إلى الملك. وكان فيليب الثاني قد قرأ "حياتها". وأحب الكتاب. فأرسل مبعوثاً خاصاً من بلاطه يدعوها لمقابلة الملك، واستمع إليها، واقتنع بورعها. وسحب السفير البابوي أمره السابق بفرض القيود على تريزا بعد أن وبخه الملك، وأعلن أنه زود بمعلومات كاذبة.
وفي وسط أسفارها وشدائدها كتبت كتيبات تعبدية صوفية شهيرة مثل "طريق الكمال 1567" و "الحصن الداخلي 1577". وقد كشفت في هذا الكتيب عن عودة آلامها الجسدية فقالت "يخيل إلي أن أنهاراً مفعمة بالمياه تتدافع داخل رأسي فوق منحدر سحيق، ثم أعود فاسمع الطيور في غنائها وصفيرها بعد أن طغى عليها ضجيج المياه. وأنا أرهق ذهني وأزيد صداعي"(26)، وعاودتها النوبات القلبية، وكان عسيراً
على معدتها أن تحتفظ بالطعام، وراحت على الرغم من هذا تتنقل في ألم من دير إلى دير من تلك الأديار الكثيرة التي أسستها، فاحصة مصلحة، ملهمة. وفي ملقا أصابتها نوبة شلل. ثم شفيت، ومضت إلى طليطلة، فنزلت بها نوبة أخرى. ثم شفيت، ومضت إلى سقوبية وبلد الوليد، وبلنسيه، وبرغش وألبه، وهناك اضطرها نزف في رئتيها أن تتوقف. واستقبلت الموت ببشاشة، واثقة أنها إنما ترحل عن عالم من الألم والشر إلى صحبة المسيح الخالدة.
ودفنت في وسقط رأسها بعد منافسة معيبة بين ألبة وآبلة وخطف جسدها المرة بعد المرة. وزعم المصلون الأتقياء أن جسدها لم يفسد قط، وروى حدوث العجائب الكثيرة عند قبرها. وفي عام 1593 تلقت طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات اعتماد البابا. واشترك نفر من أشهر الأسبان مثل سرفانتس ولوبي دي فيجا في توجيه نداء إلى البابا يلتمسون فيه على الأقل تطويبها. وهذا ما حدث (1614)، وبعد ثماني سنوات تقرر أن تكون تريزا إحدى اثنين من قديسي أسبانيا الحامين، أما الثاني فهو الرسول يعقوب.
في غضون هذا خرج من أسبانيا من هو أعظم من تريزا ليصلح الكنيسة ويهز الدنيا.
4 - إجناتيوس لويولا
ولد الدون إينيجو دي أونيز اللويولي في قلعة لويولا بإقليم جويبوزكوا، وهو من أقاليم الباسك، في عام 1491. وكان أحد ثمانية أبناء وخمس بنات للدون بلتران دي أونيز اللويولي، الذي ينتمي غلى طبقة النبلاء الأسبان العظام. وقد ربى الصبي ليكون جندياً، لذلك لم يتلق من التعليم المدرسي إلا القليل، ولم يبد ميلاً إلى الدين. واقتصرت قراءاته على قصة "أماديس
الغالي" وأشباهها من روايات الفروسية. ولما بلغ السابعة أرسل ليكون تابعاً للدون جوان فيلاسكويز دي كويللار، وبفضله أتيح له بعض الاتصال بالبلاط الملكي. وحين بلغ الرابعة عشرة أحب جرمين دفوا. الملكة الجديدة لفيناند الكاثوليكي، ولما حان وقت تقليده رتبة الفروسية اختارها مليكة له، ولبس شعارها، وحلم بالفوز بمنديل مخرم من يدها جزاء انتصاره في مباراة للفروسية (27). على أن هذا لم يمنعه من الدخول في الغراميات والمشاجرات العارضة التي كانت نصف حياة الجندي. ولم يحاول إخفاء هذه الأعمال الطائشة الطبيعية في سيرته الذاتية، البسيطة الأمينة، التي أملاها في 1553 - 56.
ثم انتهى شبابه الخلي حين عين للخدمة العسكرية العامة في بانبلونة عاصمة نافار. وهناك أنفق أربع سنوات يحلم بالمجد ولا يفتح عينيه إلا على حياة رتيبة. وواتته الفرصة لكي يثبت كفايته، فقد هاجم الفرنسيون بانبلونة، وشدت بسالة إينيجو أزر المدافعين، ولكن العدو استولى على القلعة، وأصيبت ساق إينيجو اليمنى بكسر من قذيفة مدفع (20 مايو 1521). وترفق المنتصرون به، وجبروا عظامه، وأرسلوه على نقالة إلى حصن أسلافه. ولكن العظام أخطئ جبرها، فاقتضى الأمر كسرها وجبرها من جديد. ثم تبين أن العملية الثانية أسوأ من سابقتها، لأن جدعة من العظم برزت من الساق. واستقامت العظام بعد عملية ثالثة، ولكن الساق أصبحت الآن أقصر مما ينبغي. وظل إينيجو الأسابيع يعاني عذاب جبيرة جعلته ضعيفاً عاجزاً يشكو ألماً لا يبرحه.
وخلال أشهر النقاهة الطويلة المملة طلب كتباً، لا سيما قصة مثيرة عن الفروسية والأميرات اللاتي يتهددن بالخطر. ولكن مكتبة القلعة لم يكن بها سوى كتابين لا ثالث لهما: أولهما "حياة المسيح" بقلم لودلفوس، أما الثاني فيحكي سير القديسين. Flos sanctorum، وضاق الجندي ذرعاً بالكتابين أول الأمر، ثم تسلطت عليه صورتا المسيح ومريم،
وتبين له أن أساطير القديسين لا تقل عجباً عن ملاحم الحب النبيل والحرب، ففرسان المسيح هؤلاء هم من كل الوجوه أبطال كفرسان قشتالة. وتكونت في عقله شيئاً فشيئاً فكرة مؤداها أن أنبل الحروب هي حرب المسيحية مع الإسلام. وجعلت جدة الإيمان الأسباني الدين عنده، كما جعلته عند دومنيك من قبل، لا تعبداً هادئاً كتعبد الراهب الألماني توماس أكمبيس، ولكن رغبة مشوبة في الصراع، بل حرباً مقدسة. وصمم على الذهاب إلى بيت المقدس وتحرير الأماكن المقدسة من سيطرة غير المسيحيين. وذات ليلة ظهرت له العذراء وابنها في رؤيا، وبعدها (كما أخبر الأب جونزاليز فيما بعد) لم يهاجمه قط أي إغراء جنسي (28). ونهض من فراشه، وجثا على ركبتيه، وأقسم أن يكون جندياً للمسيح ومريم حتى الموت.
وكان قد قرأ أن الكأس المقدسة خبئت مرة في قلعة بمونتسرات في إقليم برشلونة. هنالك، كما ورد في أشهر الروايات قاطبة، قضى أماديس ليلة بطولها ساهراً أمام صورة العذراء تأهباً للفروسية. وما إن وجد إينيجو في نفسه القدرة على السفر حتى امتطى بغلاً وانطلق إلى ذلك المزار البعيد. وظل حيناً يرى في نفسه جندياً مرتدياً شكة النزال. ولكن القديسين الذين قرأ أخبارهم لم يحملوا سلاحاً ولا درعاً، إنما كانت عدتهم أفقر الثياب وأرسخ الإيمان. فلما بلغ مونتسرات طهر روحه بالاعتراف والتكفير ثلاثة أيام، ثم خلع ثيابه الغالية على شحاذ، وارتدى عباءة حاج من قماش خشن. وقضى طوال ليلة 24 - 25 مارس 1522 وحيداً في كنيسة صغيرة بدير بندكتي، راكعاً أو واقفاً أمام مذبح العذراء. وأخذ على نفسه العهد بحياة العفة والفقر الدائمين. وفي صباح الغد تناول القربان، وأعطى بغله للرهبان، ثم انطلق إلى أورشليم وهو يعرج على قدمه.
كانت أقرب المواني إليه برشلونة، وفي طريقه إليها توقف عند قرية مانريزا. ودلته عجوز على مغارة يأوي إليها. فجعلها مسكنه أياماً، وإذ كان حريصاً على أن يبز القديسين في نسكهم، فقد مارس هناك من التقشف الصارم ضروباً كادت تقضي عليه. وفي ندمه على ما أسلف من خيلاء بمظهره، كف عن تنظيف شعره أو قصه أو تمشيطه-فسقط بعد قليل. وأبى أن يقص أظافره أو يستحم أو يغسل يديه أو وجهه أو قدميه (29)، وعاش على ما وسعه استجداؤه من طعام، إلا أن يكون لحماً؛ وكان يصوم أياماً بطولها، ويصوم نفسه ثلاث مرات في اليوم، وينفق الساعات في الصلاة كل يوم. وأمرت امرأة تقية بنقله إلى بيتها مخافة أن يؤدي هذا التقشف الصارم بحياته، وهناك مرضته حتى استعاد عافيته. ولكنه عاود جلد نفسه حين نقل إلى قلاية في دير دومنيكي بمانريزا. لقد أرعبته ذكرى ذنوبه الماضية، فشن الحرب على جسده باعتباره الأدلة لذنوبه، وصمم على أن ينتزع بالجلد كل فكرة خطيئة من جسده. وبدا الصراع أحياناً ميئوساً منه. ففكر في الانتحار. وهنا جاءته الرؤى التي شددته، واعتقد وهو يتناول القربان مرة أنه لا يرى قربانة بل المسيح الحي، وفي مرة أخرى ظهر له المسيح وأمه، ومرة رأى الثالوث، وفهم- بومضة من بصيرته يقصر دونها اللفظ أو الفكر- سر الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، وفي "مرة أخرى" كما يروي "أذن الله أن يفهم كيف خلق العالم"(30). وأبرأت هذه الرؤى الصراع الروحي الذي ابتعثها، فطرح وراء ظهره كل قلق بسبب حماقات شبابه، وخفف من غلواء نسكه، وإذ قهر جسده فقد استطاع الآن أن يطهره دون غرور. ومن خبرة هذا الصراع الذي امتد قرابة عام وضع "الرياضيات الروحية" التي يمكن أن يخضع فيها الجسد الوثني للإرادة المسيحية. ورأى أن في وسعه الآن أن يمثل أمام المزارات المقدسة في أورشليم.
وأبحر من برشلونة في فبراير 1523. وفي طريقه تخلف أسبوعين في روما، ثم لاذ بالفرار قبل أن تثنيه روحها الوثنية عن طريق القداسة. وفي 14 يوليو استقل سفينة من البندقية إلى يافا. وأصابته خطوب كثيرة قبل أن يبلغ فلسطين، ولكن رؤاه المتصلة شدت من أزره. وكانت أورشليم نفسها إحدى المحن، فالترك الذين يسيطرون عليها يسمحون للزوار المسيحيين بدخولها، ولكنهم يمنعون التبشير فيها، وحين اقترح إينيجو تحويل المسلمين إلى المسيحية برغم هذا الحظر، أصدر الرئيس الفرنسسكاني المحلي، الذي وكل إليه البابا حفظ السلام هناك، أمراً للقديس بالعودة إلى أوربا. وفي مارس 1524 عاد إلى برشلونة.
ولعله أحس الآن أنه وإن كان سيداً على جسده فإنه عبد لأوهامه. فصمم على تهذيب عقله بالتعليم. واشترك مع تلاميذ المدارس في تعلم اللاتينية مع أنه كان في الثالثة والثلاثين. ولكن شهوة التعليم كانت فيه أقوى من إرادة التعلم. وسرعان ما بدا إجناتيوس-وهو اسمه المدرسي-في تبشير لفيف من النساء التقيات الفاتنات. وندد به عشاقهن مفسداً لمتعتهم وضربوه ضرباً وحشياً. فانتقل إلى القلعة (1526)، وعكف على دراسة الفلسفة واللاهوت وهنا أيضاً راح يعلم جماعة خاصة صغيرة جلها من فقيرات النساء، فيهن نفر من البغايا المتعطشات إلى الخلاص. وحاول أن ينتزع منهن ميولهن الخاطئة بالرياضة الروحية، ولكن بعض تلميذاته أصابتهن نوبات أو غشيات، فاستدعته محكمة التفتيش للمثول أمامها. وأودع السجن شهرين (31)، ولكنه في النهاية أقنع المفتشين بسلامة عقيدته، فأفرج عنه، غير أنه منع من التعليم. ومضى إلى سلمنقه (1517)، وجاز تجربة مماثلة انتقل فيها من مرحلة التعليم إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، إلى السجن، إلى الإفراج ثم إلى الكف عن التعليم. فلما خاب ظنه في أسبانيا، يمم شطر باريس، دائماً سيراً على الأقدام في رداء الحاج، سائقاً أمامه الآن حماراً يحمل أسفاراً.
وفي باريس عاش في ملجأ الفقراء، وكان يستجدي في الشوارع طعامه ونفقة تعليمه. ودخل كلية مونتيجي، حيث كان بوجهه الشاحب المهزول، وبدنه الأعجف، ولحيته المهوشة، وثيابه العتيقة، محط الأنظار غير العطوفة، ولكنه واصل السعي إلى أهدافه في حرص ملك عليه حواسه حتى أن بعض الطلبة بدأوا ينزلونه منزلة القديس. فمارسوا بإرشاده ألوان الرياضة الروحية من صلاة وتفكير وتأمل. وفي عام 1529 انتقل إلى كلية سانت-بارب، وهناك أيضاً التف حوله نفر من التلاميذ. وانتهى مساكناه بطريقتين مختلفتين إلى الإيمان بقداسته. فأما بيير فافر، الذي كان من قبل راعياً في إقليم السافو الألبي، فكان يتعذب عذاباً مبرحاً من مخاوف وهمية أو واقعية، وبتأثيرها نذر حياة العفة الدائمة. وكان يخفي الآن وهو في العشرين تحت طباعه المهذبة روحاً تكافح مغريات الجسد كفاحاً محموماً، ومع أن إجناتيوس لم يدع لنفسه توقد الذكاء، فقد كان يملك القدرة على الإحساس بحياة الآخرين الداخلة بفضل شفافية حياته. وعلى فقد حدس مشكلة صديقه الشاب، وأكد له أن نزعات الجسد يمكن السيطرة عليها بالإرادة المدربة. وكيف تدرب الإرادة؟ أجاب إجناتيوس، بالرياضة الروحية. وراحا يمارسان هذه الرياضة معاً.
وأما نزيل غرفته الآخر، واسمه فرانسوا زافير، فكان أصله من بنبلونة حيث مارس لويولا الجندية، وسليل عدد كبير من الأسلاف النابهين، وسيماً، غنياً، فخوراً، فتى مستهتراً، مرحاً، عليماً بحانات باريس وبناتها (32). وسخر الفتى من صاحبيه الزاهدين وراحي يباهي بما أصاب من توفيق مع النساء. على أنه كان ذكياً في دراساته (32)، حصل من قبل على درجة الأستاذية، وهو يحضر الآن للدكتوراه. وذات يوم رأى رجلاً نقر الزهري وجهه، فأوقفه المنظر ملياً. وبينما كان مرة يفيض في الحديث عما يجيش في صدره من طموح للشهرة والمجد، ذكر له إجناتيوس في هدوء هذه الآية من الإنجيل: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح
العالم كله وخسر نفسه؟ "، وساء السؤال زافير، ولكنه لم يستطع نسيانه. فبدأ ينضم إلى لويولا وفابر في رياضتهما الروحية، ولعل كبرياءه دفعته إلى مباراة زميله في القدرة على احتمال الحرمان والبرد والألم. وراحوا يجلدون أنفسهم، ويصومون، وينامون في قمص رقيقة على أرض حجرية غير مدفأة، ويقفون حفاة عراة تقريباً على الثلوج ليخشنوا أجسادهم وليخضعوها في الوقت ذاته، وبلغت التدريبات الروحية التي بدأت في مانريزا شكلاً أكثر تحدداً. وصاغتها إجناتيوس في كتيب على غرار "رياضة الحياة الروحية" (1500) الذي وضعه الدون جارسيا دي كزنيروس، رئيس دير مونسترات البندكتي (33)، ولكنه سكب في هذا القالب من حرارة العاطفة والخيال ما جعل كتيبه قوة محركة في التاريخ الحديث. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها لويولا هي عصمة الكتاب المقدس والكنيسة، فهو يرى أن الحكم الفردي في الدين إنما هو ادعاء باطل مولد للفوضى تدعيه عقول ضعيفة متكبرة. "علينا دائماً أن نكون على استعداد للإيمان بأن ما يبدو لنا أبيض إنما هو أسود إذا عرفته كذلك الكنيسة ذات الكهنوت المسلسل (34) " وعلينا إذا أردنا تجنب الهلاك الأبدي أن ندرب ذواتنا على أن نكون خداماً ممتثلين لله، وللكنيسة التي استخلفها الله على الأرض.
أما أول تدريب روحي فهو تذكرنا خطايانا الكثيرة، والتفكر في مقدار العقوبة الذي تستحقه. لقد حكم على الشيطان بالجحيم لخطيئة واحدة، أفليست كل خطية نقارفها تمرداً على الله كتمرد الشيطان؟ فلنحتفظ بحساب يومي لذنوبنا بعلامات على سطور تمثل الأيام، ولنحاول كل يوم أن ننقص عدد هذه العلامات. وفيما نحن راكعون في حجرتنا أو صومعتنا بعد إظلامها، لنتخيل الجحيم بأجلى ما نستطيع؛ يجب أن نستحضر كل فظائع هذه النار التي لا تموت، يجب أن نتصور عذاب
الهالكين، ونسمع صرخات الألم وصيحات اليأس المنبعثة منهم؛ يجب أن نشم الأبخرة المنتنة التي تتصاعد من الكبريت واللحم المحترقين؛ يجب أن نحاول الإحساس بألسنة اللهب تلك وهي تلذع أجسادنا؛ ثم يجب أن نسأل أنفسنا، كيف السبيل إلى النجاة من هذا العذاب الأبدي؟ لا سبيل إلا تضحية الفداء التي قدمها الله نفسه في المسيح على الصليب
(1)
. فلنتأمل إذن حياة المسيح، في كل دقائقها، علينا أن نكون حضوراً بالخيال في تلك الأحداث التي هي أعمق الأحداث في تاريخ العالم. يجب أن نجثو في الخيال أمام الأشخاص المقدسين في تلك الملحمة الإلهية، وأن نلثم هدب أثوابهم. وبعد أن ننفق أسبوعين في مثل هذه التأملات يجب أن نصحب المسيح في كل خطوة من خطوات آلامه، في كل مرحلة من مراحل الصليب؛ نصلي معه في جثسيماني، ونشعر بأننا نجلد معه، ويبصق علينا، ونسمر على الصليب، يجب أن نقاسي كل لحظة من لحظات عذابه، أن نموت معه، وأن نقبر معه. وفي الأسبوع الرابع يجب أن نتخيل أنفسنا وقد قمنا منتصرين من القبر، وصعدنا أخيراً معه إلى السماء. وإذ تشددنا هذه الرؤية المباركة، فستكون على أهبة الانخراط جنوداً مكرسين في المعركة لهزيمة الشيطان وبح النفوس للمسيح، وفي تلك الحرب المقدسة سنحتمل باغتباط كل ما نلقى من شدائد وننفق حياتنا في بهجة وفرح.
ووجدت هذه الدعوة للتعبد الممتد طوال الحياة تسعة طلاب في باريس على استعداد لقبولها. ولعل هؤلاء الشبان الجادين، الذين شعروا لأول مرة بما في العالم من غموض محير، وتاقت نفوسهم لمرساة من الإيمان والأمل وسط خضم من الشكوك والمخاوف-نقول لعلهم دفعوا بثقل المطالب
(1)
لاحظ أن لوثر جاز بمثل هذه المخاوف من الجحيم، وبمثل ضروب التقشف التكفيرية هذه، وبمثل هذا التحرر بفضل الإيمان بتضحية المسيح الفادية، الذي كان المحرك لحياة إجناتيوس
الملقاة على كواهلهم إلى المشاركة بمصيرهم وحياتهم وخلاصهم في خطة لويولا. فاقترح أن يذهبوا معاً في الوقت المناسب إلى فلسطين، ويحيوا هناك حياة أقرب ما تكون غلى حياة المسيح. وفي 15 أغسطس 1534 اجتمع لويولا، وفافر، وزافير، ودييجو لاينيز، وألونسو ساليرون، ونيكولا بوباديللا، وسيمون رودريجيز، وكلود لوجي، وجان كودير، وباسكاز برويه-اجتمع هؤلاء العشرة في كنيسة صغيرة بمونمارتر، ونذروا حياة العفة والفقر، وأخذوا العهد على أنفسهم بالذهاب إلى الأراضي المقدسة والعيش فيها بعد قضاء عامين آخرين في الدرس. ولم يكن لديهم إلى الآن فكرة واضحة عن مكافحة البروتستنتية، وبدا الإسلام لهم تحدياً أعظم. ولم يكن بهم ميل إلى المجادلات اللاهوتية. فهدفهم إنما هو حياة القداسة، وحركتهم تمد جذورها في تربة الصوفية الأسبانية لا صراعات العصر الفكرية. وخير حجة يقدمونها هي التقي والورع.
وفي شتاء 1536 - 37 اخترقوا فرنسا سيراً على الأقدام، وعبروا الألب، ثم إيطاليا غلى البندقية حيث كانوا يأملون العثور على سفينة تحملهم إلى يافا. ولكن البندقية كانت تخوض حرباً مع الترك. فاستحال عليهم السفر. وخلال فترة التخلف التقى إجناتيوس بكارافا، وانضم حيناً إلى التياتين. وكانت لخبرته مع هؤلاء القساوسة الأتقياء بعض الأثر في تغيير خطته من العيش في فلسطين إلى خدمة الكنيسة في أوربا. واتفق هو وتلاميذه على أن يتقدموا للبابا طالبين أداء أي خدمة يكلها إليهم، إذا انقضت عليهم في هذا الانتظار سنة دون أن ينفتح أمامهم الطريق إلى فلسطين. وحصل فافر على إذن لهم جميعاً برسامتهم قساوسة.
كان لويولا قد بلغ إذ ذاك السادسة والأربعين، أصلع الرأس به عرج خفيف لم يفارقه إثر جرحه. وما كان له بقامته التي لم تزد على
خمسة أقدام وبوصتين أن يقع من نفوس ناظريه أي موقع لولا رهافة أرستقراطية في قسمات وجهه، وتدبب في أنفه وذقنه، ولولا ما في عينيه من سواد ونفاذ وعمق واكتئاب، وما في طلعته من رزانة وعزم؛ وكان قد غدا القديس المستغرق في تأملاته، العازف عن الفكاهة. لم يكن مضطهداً لخصوم الدين، ومع أنه وافق على وجود محكمة التفتيش (35) فقد كان ضحيتها أكثر منه عميلها. كان صارماً في عطف، بخدم المرضى عن طيب خاطر في المستشفيات وإبان تفشي الطاعون، حلمه أن يربح نفوساً بالإيمان لا بالنار أو السيف بل بالسيطرة على الخلق في الشباب الطيع وتشكيله تشكيلاً ثابتاً في الإيمان. ولم يكن هذا المؤسس لأنجح نظم التربية في التاريخ شديد التأكيد على العلم أو الذكاء. لم يكن لاهوتياً، ولم يشترك في مجلدات الكلاميين أو تدقيقاتهم؛ وقد أثر الإدراك الحسي المباشر على الفهم العقلي. ولم يرى ضرورة للجدل حول وجود الله، ومريم والقديسين، فقد كان مقتنعاً بأنه رآهم، وأحس بهم أقرب إليه من أي شيء أو شخص في محيطه، وكان على طريقته رجلاً ثملاً بمعرفة الله ومحبته. ومع ذلك فإن تجاربه الصوفية لم تجعل منه رجلاً غير عملي. لقد كان في وسعه أن يجمع بين مرونة الوسائل وصلابة الغايات، يأبى تبرير أي وسيلة لغاية يراها حسنة، ولكن في مقدوره أن يتريث حيناً للفرصة. ويعتدل في آماله ومطالبه، ويلائم بين أساليبه والأشخاص والأحوال، ويستعمل الدبلوماسية إذا اقتضى الأمر استعمالها، ويرى الرأي الثاقب في الرجال، ويحسن اختيار مساعديه وعماله، ويسوس الرجال كأنه قائد يقود فرقة عسكرية-وهو ما كان يراه في نفسه فعلاً. وقد أطلق على فرقته الصغيرة اسماً حربياً "فرقة يسوع"، ولا عجب، فهم جند تطوعوا مدى الحياة لمحاربة الإلحاد وانحلال الكنيسة. أما هم فقد قبلوا النظام العسكري للعمل المنسق تحت قيادة مطلقة، باعتبار هذا القبول أمراً طبيعياً وضرورياً.
وفي خريف 1537 خرج لويولا وفاقر ولاينيز من البندقية قاصدين روما ليلتمسوا موافقة البابا على خططهم. وقطعوا الطريق كله سيراً، يستجدون طعامهم ويعيشون أكثر الوقت على الخبز والماء. ولكنهم كانوا يترنمون بالمزامير في سعادة وهم ماضون في رحلتهم، وكأنهم عليمون بأن فئتهم هذه الصغيرة ستنبثق منها منظمة قوية رائعة.
5 - اليسوعيون
فلما بلغوا روما لم يلتمسوا المثول بين يدي البابا من فورهم، لأن بولس الثالث كان غارقاً في الدبلوماسية الحرجة. لذلك تطوعوا بالخدمة في المستشفى الأسباني، عنوا بالمرضى، وعلموا الصغار. وفي مطلع عام 1538 استقبلهم بولس، وأثرت فيه رغبتهم في الذهاب إلى فلسطين والعيش فيها رهباناً مثاليين. وأسهو هو وبعض الكرادلة بمبلغ 210 كراونا (5 - 250 دولاراً؟) في نفقات رحلة الفرقة. ولما اضطر النساك إلى التخلي عن الفكرة لاستحالة تنفيذها ردوا المال إلى واهبيه (36). واستدعي من ظل من الأعضاء في الشمال إلى روما، فبلغ عدد الجماعة الآن أحد عشر عضواً، وعين البابا بولس فافر ولاينيز أستاذين في السابينزا (جامعة روما)، في حين انقطع إجناتيوس والباقون لأعمال البر والتعليم. ونظم لويولا بعثة خاصة لهدايا المومسات، وأسس بتبرعات مؤيديه "بيت مرثا" لاستقبال هؤلاء النسوة، وقد أثار عداء الكثيرين له في روما بمواعظه الحماسية التي هاجم فيها الخطايا الجنسية.
وأصبح من المرغوب فيه تحديد مبادئ الفرقة وقانونها نظراً إلى انضمام أعضاء جدد إليها. وأضيف نذر الطاعة إلى نذري العفة والفقر، واشترط طاعة "القائد" الذي يختارونه طاعة ليس فوقها إلا الطاعة للبابا فقط. ثم نذر رابع "بخدمة بابا روما باعتباره خليفة الله على الأرض، و"بالتنفيذ
الفوري الذي لا تردد فيه ولا اعتذار لكل ما يأمرهم به البابا الحاكم أو خلفاؤه لفائدة النفوس أو لنشر الإيمان" في أي مكان في العالم. وفي عام 1539 طلب لويولا إلى الكردينال كونتاريني أن يرفع إلى البابا بولس الثالث مواد التنظيم هذه، وأن يلتمس تثبيته للفرقة باعتبارها طريقة دينية جديدة. وكان البابا ميالاً إلى الموافقة، وخالفه بعض الكرادلة لأنهم رأوا في الجماعة نفراً من الغلاة الذين تستعصي سياستهم، ولكن بولس تغلب على اعتراضاتهم، وبمقتضى المرسوم البابوي المسمى "لأجل تنظيم الكنيسة المجاهدة" أنشأ رسمياً ما سماه المرسوم "جماعة يسوع" (27 سبتمبر 1540). وسمى أعضاؤها اسماً مناسباً هو "الاكليريكيون النظاميون في جماعة يسوع". ولم يظهر اسم "الجزويت" إلا عام 1544، وكان آنئذ لفظ هجو قبل كل شيء، استعمله كالفن وغيره من النقاد (37)، ولم يستعمله قط إجناتيوس نفسه. وبعد موته استل نجاح الطريقة الدينية الجديدة من اللفظ حمته القديمة، فأصبح في القرن السادس عشر شارة شرف.
وفي 17 أبريل 1541 انتخب إجناتيوس قائداً. وظل عدة أيام بعد انتخابه يغسل الأطباق ويؤدي أحقر الأعمال (38). وقد جعل مقامه في روما فيما بقي من عمره (وكان الآن في الخمسين)، وأصبحت المدينة المقر الدائم للجماعة. وبعد طول التفكير والتجربة، وضع "دساتير" الجماعة بين عامي 1547 و1552، وهي بتغييرات طفيفة قانون الجزويت اليوم. وقد نص على أن توضع سلطة الطريقة النهائية في أيدي الأعضاء "المنذورين" نذراً كاملاً. ويختار هؤلاء مندوبين من كل إقليم، وهؤلاء المندوبون-هم الرؤساء والإقليميون، والقائد، ومعاونوه-يؤلفون "المجمع العام". وينتخب هذا المجمع قائداً جديداً إذا لزم الأمر، ثم يفوض إليه سلطته ما لم يقترف ذنباً خطيراً. وقد أعطى "ناصحاً"، وأربعة مساعدين. يراقبون كل أعماله، ويحذرونه من أي خطأ جسيم، ويدعون المجمع العام لخلعه إذا اقتضى الأمر.
ويتعين على طالبي عضوية الجماعة أن يقضوا فترة اختبار من عامين، يدربون خلالهما على هدف الجماعة ونظامها، ويمارسون الرياضة الروحية، ويخضعون للرؤساء في "طاعة مقدسة" مطلقة. وعليهم أن يتخلوا عن إرادتهم الفردية، ويرتضوا أن يؤمروا كما يؤمر الجند، وينقلوا "كأنهم الجثث"(39)، وعليهم أن يتعلموا الإحساس بأنهم بطاعتهم رؤساءهم إنما يطيعون الله. ويجب أن يوافقوا على إبلاغ رؤسائهم أخطاء زملائهم، وعلى ألا يستشعروا أي غضاضة في أن تبلغ أخطاؤهم لرؤسائهم (40). لقد كان هذا النظام صارماً ولكن فيه تمييزاً ومرونة، وقل أن حطم الإرادة أو قضى على المبادرة. والظاهر أن الاستعداد للطاعة هو أول خطوة في تعلم الأمر، لأن هذا التدريب أخرج العدد الكبير من الرجال الأكفاء المغامرين.
والذين يطيقون فترة الاختبار القاسية هذه يأخذون على أنفسهم عهوداً "بسيطة"-أي قابلة للسحب-بالفقر والعفة والطاعة، ويدخلون "الطبقة الثانية". وبعض هؤلاء يمكثون على هذا الوضع اخوة علمانيين، وبعضهم "مدرسين مؤهلين" يبتغون القسوسية، ويدرسون الرياضيات والآداب القديمة والفلسفة واللاهوت، ويعلمون في المدارس والكليات. أما الذين يجوزون مزيداً من الاختبارات فيدخلون الطبقة الثالثة، طبقة "المساعدين المؤهلين"، وبعض هؤلاء قد يرقون إلى الطبقة الرابعة-طبقة "المنذورين"-وكلهم قساوسة يتعهدون خصيصاً بالاضطلاع بأي عمل أو بعثة يكلها إليهم البابا. وكان هؤلاء "المنذورون" عادة قلة صغيرة-لا تتجاوز أحياناً العُشر-بين أعضاء الجماعة كلها (41). وعلى الطبقات الأربع أن تعيش عيشة مشتركة كالرهبان، ولكن نظراً إلى واجباتهم الإدارية والتربوية الكثيرة فقد أعفوا من الالتزام الديري بتلاوة صلوات العبادة اليومية السبع ولم يطلب إليهم أي ممارسات نسكية، وإن جاز
إسداء النصح لهم إذا اقتضى الأمر. ونص على الاعتدال في الطعام والشراب؛ دون صوم متشدد، ويجب أن يحفظ الجسم والعقل جميعاً صالحين لأداء جميع الأعمال. وللعضو أن يحتفظ يحقه في أي أملاك يمتلكها حين دخوله الطريقة، ولكن كل دخل يأتيه منها يجب أن يعطي للجماعة، التي تأمل أن تكون الوريثة النهائية. وكل المقتنيات والأنشطة الجزويتية يجب أن تكرس لمجد أعظم، مجد الله.
لقد ندر أن حملت مؤسسة ما بصمات شخصية واحدة على هذا النحو القاطع. وامتد أجل لويولا سنين أتاحت له تنقيح دساتيره ليصوغ منها نظام رهبنة يعمل بنجاح. وراح من حجرته العارية الصغيرة يقود بسلطان صارم وحذق عظيم حركات جيشه الصغير في كل أرجاء أوربا وفي كثير من أنحاء العالم الأخرى. وكانت مهمة حكم الجماعة، وإنشاء وإدارة كليتين وعدة مؤسسات خيرية في روما، أثقل من أن يحتملها طبعه كلما تقدم به العمر، فأصبح غاية في الجفاء مع أقرب مرءوسيه، وإن ظل عطوفاً على الضعفاء (42). على أنه كان أقسى ما يكون على نفسه. وكثيراً ما كانت وجباته حفنة من البندق وكسرة من الخبز وكأساً من الماء. وكثيراً ما كانت ساعات نومه لا تزيد على أربعة في اليوم، بل اختزل إلى نصف ساعة في اليوم في تلك الفترة التي يخصصها للرؤى والاستنارة السماوية (43). ولما مات (1556) شعر الكثير من أهل روما أن ريحاً حادة توقفت عن الهبوب، ولعل بعض أتباعه امتزجت مشاعر الحزن عندهم بإحساس الراحة. ولم يستطع الناس أن يدركوا بهذه السرعة أن هذا الأسباني الذي لا يقهر سيثبت أنه من أعظم الرجال تأثيراً في التاريخ الحديث.
كانت الجماعة تضم عند موته قرابة ألف عضو، منهم نحو خمسة وثلاثين عضواً "منذوراً"(44). وبعد خلافات أظهرت قدراً كبيراً من إرادة القوة لدى هؤلاء اليسوعيين الذين خالهم الناس محطمي الإرادة، اختير
دييجو لانيز قائداً (1558)، وقد اعترض بعض النبلاء الأسبان ممن كان لهم شيء من النفوذ في الطريقة على اختياره لأن أسلافه منذ أربعة أجيال كانوا يهوداً. وخاف البابا بولس الرابع أن ينتهي الأمر بمنصب قائد الجزويت إلى منافسة البابوية، لأنه يتولاه مدى الحياة. فأمر بمراجعة دساتير الجماعة لقصر رياسة القائد على ثلاث سنوات، ولكن بيوس الرابع ألغى الأمر، وأصبح القائد "البابا الأسود"(كما لقبته الأجيال التالية نسبة إلى رداء الكاهن الأسود). وما لبثت الطريقة أن ازدادت حجماً وقوة بعد أن انضم إليها فرانسيس بورجيا، دوق جانديا، ووهبها ثروته. ويوم أصبح هذا الرجل قائدها الثالث (1565) كانت تضم 3. 500 عضو يعيشون في 130 بيتاً في ثمانية عشر إقليماً أو دولة.
ولم تكن أوربا سوى قطاع صغير في نشاطها. فقد أوفدت مبعوثيها إلى الهند والصين واليابان والدنيا الجديدة. وكانوا في أمريكا الشمالية رواداً مغامرين لا تثنيهم المثبطات، يحتملون كل الكروب والخطوب على أنها عطية من الله. أما في أمريكا الجنوبية فقد جاهدوا كما لم تجاهد أي جماعة أخرى لتطوير التعليم والزراعة العلمية. وفي عام 1541 غادر القديس فرنسيس زافير لشبونة على سفينة برتغالية، وبعد عام من الرحلة والمعاناة بلغ جوا. وهناك أخذ يمشي في الشوارع رائحاً غادياً وهو يقرع ناقوساً يدعو الناس للاستماع إليه. فلما التفوا حوله بسط لهم العقيدة المسيحية بكل إخلاص وبلاغة، ثم أوضح الخلق المسيحي عملياً بمشاركته في عيشه أفقر المستمعين إليه مشاركة مغتبطة، حتى استطاع أن يحول إلى المسيحية آلاف الهندوس والمسلمين، بل إنه أقنع بالإيمان بعض المسيحيين البرتغاليين المغتربين الذين قست الشدائد قلوبهم. ولعل إبراءه المرضى راجع إلى الثقة التي بثها فيهم أو إلى معرفته العارضة بالطب، وقد نسبت إليه المعجزات فيما بعد. ولكنه لم يدع لنفسه واحدة منها. أما المرسوم
البابوي الذي سلكه في زمرة القديسين (1622)، فقد نسب إليه "موهبة الألسن"-أي القدرة على التحدث بأي لغة عند الحاجة، ولكن الحقيقة أن هذا القديس البطل كان لغوياً ضعيفاً ينفق الساعات الطويلة في حفظ المواعظ بالتأملية أو الملاوية أو اليابانية، وكان إيمانه أحياناً أشد من أن تسايره إنسانيته، فقد حث يوحنا الثالث ملك البرتغال على إنشاء محكمة للتفتيش في جوا (46)، وأوصى بألا يرسم للقسوسية أي هندوسي ما لم ينحدر من أجيال عدة من الأسلاف المسيحيين، ولم يكن يطيق فكرة اعتراف برتغالي لقسيس وطني (47). وأخيراً غادروا جوا لأنها بلد تتعدد فيه اللغات تعدداً لا يعينه على تحقيق أهدافه. قال "أريد أن أكون حيث لا يوجد مسلمون ولا يهود. أعطوني وثنيين خلصاً"(48) -فلقد أحس أن الوثنيين أطوع إيماناً لأنهم أقل رسوخاً في دين آخر. وفي عام 1549 قصد اليابان، ودرس اليابانية في طريقه إليها. ولما رسا في كاجوشيما، راح هو وزملاؤه يبشرون في الشوارع والناس يستمعون إليهم في أدب. وبعد عامين عاد إلى جوا، وقوم خللاً ظهر بين المسيحيين هناك، ثم أبحر ليبشر الصين (1552). وبعد عناء شديد نزل جزيرة تشانج-تشوين، أسفل مصب نهر كانتون. وكان إمبراطور الصين قد قرر اعتبار دخول أوربي للصين جريمة كبرى، ومع ذلك ما كان هذا ليثني عزم زافير لو أنه وجد وسيلة للانتقال. وخلال انتظاره مرض، ثم فارق الحياة في 2 ديسمبر 1552 وهو يبكي قائلاً "فيك يا رب رجائي، فلا تجعلني ملعوناً إلى الأبد (49) ". وكان إذ ذاك في السادسة والأربعين.
وقد تفانى اليسوعيون في عملهم في أوربا تفانيهم في البعثات الأجنبية. فلزموا أماكنهم وعنوا بالمرضى في فترات تفشي الطاعون (48). وبشروا كل الطبقات، وكيفوا لغتهم وفق كل موقف. وجعلهم تعليمهم الممتاز وطباعهم المهذبة آباء الاعتراف المفضلين عند النساء والنبلاء، ثم عند
الملوك. وشاركوا في شئون الدنيا بنشاط ولكن بحكمة ولباقة، وقد نصحهم إجناتيوس بأن قسطاً أكبر من الحكمة وأقل من التقوى خير من قدر أكبر من التقوى وأقل من الحكمة (51). وكانوا عادة رجالاً على خلق عظيم، أما الأخطاء التي رموا بها في فترة لاحقة فلم تكد تظهر في العصر الذي نحن بصدده (52). ومع أنهم وافقوا جماعة على محكمة التفتيش (53)، فإنهم وقفوا على مبعدة منها، مؤثرين أداء رسالتهم عن طريق التعليم. وقد اضطرتهم قلة عددهم إلى ترك تعليم الأطفال لغيرهم، أما هم فركزوا جهودهم على التعليم الثانوي، وإذ وجدوا أن الجامعات قد سبقتهم في الهيمنة عليها طرق دينية أخرى أو السلطة الزمنية أو رجال الدين البروتستنت، فقد نظموا كلهم كليات خاصة، وحاولوا تدريب شبان مثقفين ليكونوا مراكز للتأثير في الجيل التالي. وهكذا أصبحوا أعظم المربين في زمانهم.
لقد أنشئوا في نقط هامة في أوربا معاهد دنيا-تقابل الجمنازيوم الألماني والليسيه الفرنسية-وكليات عليا. واستطاعوا أحياناً أن يتسلموا جامعات موجودة فعلاً كما حدث في كواميرا ولوفان. وروعوا منافسيهم بتعليمهم التلاميذ مجاناً. وأكبر الظن أن منهج الدراسة الذي وضعوه يدين بالفضل للمدارس التي أنشأها في هولندا وألمانيا "إخوان الحياة المشتركة"، ولجمنازيوم شتورم في ستراسبورج، ولأكاديميات ألمانيا وإيطاليا الإنسانية. وكان هذا المنهج يقوم على الآداب القديمة ويدرس باللاتينية، أما استعمال اللغة القومية فمحظور على الطلبة إلا في العطلات (54)، وأعيدت دراسة الفلسفة الكلامية في الفرق العليا. وزيد الاهتمام بتربية الخلق-أي الفضائل والعادات-وربط من جديد بين هذه التربية وبين العقيدة الدينية، وغرس الإيمان التقليدي في التلاميذ، فأشربهم نظام من الصلاة، والتأمل، والاعتراف، والتناول، والقداس، واللاهوت، سلامة في العقيدة قل معها من انحرف منهم في القرن السادس عشر عن هذا السبيل
المطروق. وردت الدراسات الإنسانية من الوثنية إلى المسيحية. على أن هذا النظام كانت فيه مآخذ خطيرة، فهو مفرط في الاعتماد على الذاكرة، مثبط للأصالة، ناقص في العلوم كغيره من مناهج ذلك العهد، وقد نقّى التاريخ تحقيقاً للهيمنة على الحاضر. وع ذلك فإننا نجد مفكراً ذا نزعة استقلالية قوية مثل فرانسس بيكن يبادر إلى القول في مدارس اليسوعيين، "وودت لو كانت هذه المدارس مدارسنا ولو بوضعها الراهن"(55). وسنرى في القرنين التاليين أن خريجيها سيبرزون في كل مناحي الحياة تقريباً عدا البحث العلمي.
وقبيل وفاة لويولا كان هناك مائة كلية يسوعية. وبفضل التعليم والدبلوماسية والتفاني في العمل، وبفضل الحماسة التي يضبطها النظام، وبفضل التنسيق بين الأهداف والتوزيع البارع في الوسائل، أفلح الجزويت في صد المد البروتستنتي، واستردوا للكنيسة جانباً كبيراً من ألمانيا، ومعظم المجر وبوهيميا، وكل بولندا المسيحية. وندر أن حققت جماعة بمثل هذا الحجم الصغير، مثل هذا النجاح الكبير، بمثل هذه السرعة الفائقة. ومضت سمعتها ونفوذها ينموان العام بعد العام، إلى أن اعترف بعد عشرين عاماً من تأسيسها الرسمي بأنها أروع نتاج للإصلاح الكاثوليكي. ويوم اجترأت الكنيسة في نهاية المطاف على دعوة ذلك المجمع العام الذي طال ارتقاب أوربا له ليهدئ صراعها اللاهوتي ويبرئ جراحها الدينية، كانت حفنة من الجزويت- بثقافتهم، وولاتهم، وحصافتهم، وسعة حيلتهم، وبلاغتهم- هي التي ناط بها البابوات مهمة الدفاع عن سلطتهم المتحداه، والمحافظة على الإيمان القديم كاملاً غير منقوص.
الفصل التاسع والثلاثون
البابوات والمجتمع
1517 - 1565
1 -
البابوات يكرهون على الدفاع
لقد أرجأنا إلى آخر هذا المجلد هذه المهمة الشاقة على كاتب غير كاثوليكي، مهمة فهم رد فعل البابوات للتحدي الذي واجههم به الإصلاح البروتستنتي، ثم وصفه في غير ميل ولا تحيز.
لقد كان رد فعل أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، ربما باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة أن يكونوا، لا مجردين من حب الذات أو خالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أو شراً منها في كل إدارة علمانية؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهل يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في أن تبدو بعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أو الفيلسوف- وهل
التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أو أسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر أن تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إن التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولو أن هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، ربما بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس دعاة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أو السعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك
(1)
؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا أن ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل؟ وأي مبررات قاهرة تدعو في رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.
إننا لا نستطيع أن نعرف هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا أن نتصور الموقف النفسي للبابا ليو العاشر (1513 - 21) على هذا النحو، إذ وجد البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد أن دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال
(1)
يقول ناقد من أقوى وأعلم نقاد الكنيسة "قبل أن تنشب ثورة لوثر كانت كل أرجاء أوربا الكاثوليكية تتمتع بقدر كبير من حرية الفكر والكلام". "هنري لي، تاريخ محكمة التفتيش في أسبانيا، ص 411 الجزء الثالث.
الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول أن يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن أن تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضو في أسرة مديتشثي، ولنتصور أن الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليو محقاً! لقد حسب ليو حركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكو بيكو ديللا ميراندولا (ابن أخي بيكو الأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لو أن ليو
…
أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى أن الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف" (1). ولكن ليو انصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً
…
وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى (2) ".
وخير برهان على أنه لم يعد سبيل للإصلاح إلا أن يأتي بضربة من الخارج هو إخفاق أدريان السادس (1522 - 23). ذلك أنه سلم بهذه المفاسد واضطلع بإصلاحها في القمة، ولكن أهل روسا سخروا منه وسبوه لأنه يهدد مواردهم من ذهب الأقطار الواقعة وراء الألب. وبعد عامين من النضال ضد هذه الأنانية الجاهلة مات أدريان قهراً.
بيد أن العاصفة المتجمعة تفجرت على رأس كلمنت السابع (1523 - 34). لقد كان من خيرة البابوات فكراً وخلقاً، رحيماً كريماً، دافع عن اليهود المطاردين، ولم يشارك في الانحلال الجنسي أو المالي المحيط به،
وواصل غلى نهاية حياته المضطربة تغذية الفن والأدب الإيطاليين برعايته الذكية المميزة. ولعل ما حظي به من تعليم رفيع حال بينه وبين أن يكون إدارياً ناجحاً، وكان في ذكائه من الحدة ما أتاح له رؤية المبررات الحسنة لكل مسلك في كل أزمة؛ وأوهن علمه من شجاعته، وأغضبت ذبذباته الدولة تلو الدولة. على أننا لا نملك إلا التعاطف مع رجل توافر له حسن النية الشديد، رجل رأى روما تنهب تحت بصره، ورأى نفسه سجين غوغاء وإمبراطور؛ رجل منعه ذلك الإمبراطور من محاولة الوصول إلى صلح معقول مع هنري الثامن؛ رجل أكره على أن يختار بين أمرين أحلاهما مر، أن يخسر إما هنري وإنجلترا، وإما شارل وألمانيا؛ رجل قيل له حين احتج على تحالف فرانسوا مع العثمانيين، والقائل هو ذلك الملك. "المسيحي جداً"، إنه إذا بدر منه مزيد من الاحتجاج فإن فرنسا ستطلق البابوية. إن أحداً من البابوات لم يتجرع مثله كأس المنصب حتى هذه الثمالة المرة.
وكانت أخطاؤه وبيلة. فهو حين أساء تقدير خلق شارل وموارده، وبهذا شجع على "نهب روما" أصاب البابوية بلطمة شجعت شمال ألمانيا على نبذ الولاء لروما. وحين توج الرجل الذي أذن بذلك الهجوم فقد احترام العالم، حتى العالم الكاثوليكي. وقد أذعن لشارل من جهة لافتقاره إلى القوة المادية اللازمة للمقاومة، ومن جهة أخرى لخشيته من أن إمبراطوراً أقصاه البابا عن وده قد يدعو مجمعاً عاماً من العلمانيين ومن رجال الدين، ويمسك بزمام السلطتين الكنسية والزمنية جميعاً، ويتم إخضاع الكنيسة للدولة المتمردة، بل ربما يخلعه باعتباره ابناً غير شرعي (3). ولو أتيحت لكلمنت الشجاعة التي أبداها عمه لورنزو مديتشي في نابلي عام 1479، لبادر بدعوة مجمع قد يوفق تحت قيادته المتحررة في إصلاح أخلاقيات الكنيسة وتعاليمها، وفي إنقاذه وحدة العالم المسيحي الغربي.
أما خليفته فقد بدا لأول وهلة حائزاً على جميع شروط الذكاء والخلق. وأقر الجميع بأن أليساندرو فارنيزي، الذي اتخذ اسم بولس الثالث، هو الرجل الصالح لأرفع منصب في العالم المسيحي، فقد ولد في أسرة غنية مثقفة، وتعلم الآداب القديمة على يد بومبونيوس لايتوس، ونضج أديباً إنسانياً وسط أسرة مديتشي بفلورنسة، وقربه بابا أوقعته أخته من قبل في شباك شعرها الذهبي، ورسم كردينالاً في الخامسة والعشرين (1493)، وأثبت كفايته في مهام دبلوماسية عسيرة، وارتقى إلى مقام مرموق وغير منازع في مجمع الكرادلة، ثم انتخب للبابوية بالإجماع في عام 1534. ولم ينل من قدره كثيراً إنجابه أربعة أبناء قبل أن يرسم قسيساً في عام 1519، ومع ذلك فقد ظهر في خلقه، كما ظهر في مجرى حياته العملية، تقلب وتناقضات، وبعض هذا راجع لأنه وقف كعمود مهزوز بين النهضة التي أحبها وبين حركة إصلاح بروتستنتي لم يستطع فهمها أو اغتفارها. ومع أنه كان رفيق البدن، فقد سلخ خمسة عشر عاماً من الزعازع السياسية والداخلية. ومع أنه تزود بكل ثقافة عصره، فإنه كان يلجأ بانتظام إلى المنجمين ليحددوا له أكثر الساعات مواتاة لرحلاته أو قراراته بل ومقابلاته (4). ومع أنه كان رجلاً شديد الحساسية، ميالاً بين الحين والحين غلى نوبات الغضب، فقد كان معروفاً بضبطه لنفسه. وقد وصفه تشلليني-الذي اضطر لإيداعه السجن-بأنهر جل "لا إيمان له بالله ولا بغيره"(5). وهذا يبدو غلواً في الحكم عليه، فما من شك في أن بولس كان يؤمن بنفسه، غلى أن أضعف مسلك ذريته في سنوات عمره الأخيرة إرادة الحياة فيه. وقد عوقب حيث أثم، فقد أعاد محاباة الأقرباء التي كانت طابع بابوية عصر النهضة، وأعطى بياتشنزا وبارما لولده بيرلويجي، وكاميرينو لحفيده أوتافيو، وخلع القبعة الحمراء على ابني أخيه البالغين من العمر أربعة عشر وسبعة عشر عاماً ورقاهما على الرغم
مما ذاع عنهما من فساد خلق. لقد كان يملك شخصية بلا خلق، وذكاء بلا حكمة.
وقد اعترف بعدالة النقد الذي وجهه دعاة الإصلاح البروتستنتي إلى إدارة الكنيسة، ولو كان الإصلاح الكنسي هو العقبة الوحيدة في سبيل المصالحة لجاز أن ينهي حركة الإصلاح هذه. ففي عام 1553 أوفد بيير باولو فرجيريو ليسبر القادة البروتستنت حول حضورهم مجمعاً عاماً، ولكنه أبى أن يعد بالسماح بأي تغيير جوهري في العقيدة المعرفة أو في سلطة البابوات. وعاد فيرجيريو من ألمانيا بخفي حنين، فقد أبلغ البابا أن الكاثوليك هناك انضموا إلى البروتستنت في التشكك في إخلاص البابا في اقتراح عقد المجمع (6)، وأن الأرشيدوق فرديناند شكا من أنه لا يستطيع العثور على أب اعتراف لم يكن زانياً أو سكيراً أو جهولاً (7). وكرر بولس المحاولة في عام 1536، وكلف بيتر فان درفورست أن يتفق مع اللوثريين على شروط عقد مجمع، ولكن ناخب سكسونيا صد بيتر فلم يظفر بشيء. وأخيراً بذل بولس قصارى جهد الكنيسة في الوصول إلى تفاهم مع ناقديها، فأرسل إلى مؤتمر براتسبون الكردينال جاسبارو كونتاريني، وكان رجلاً لا يتطرق الشك إلى إخلاصه في الحركة الكاثوليكية الداعية للإصلاح.
ونحن لا نملك غير العطف على الكردينال الشيخ الذي اقتحم ثلوج الأبنين والألب في فبراير ومارس 1541 وهو يتوق لتتويج حياته بتنظيم السلام الديني. وقد تأثر كل من كان في راتسبون بتواضعه، وبساطته، وحسن نيته. وقد توسط في صبر القديسين بين الكاثوليك إيك وفلوج وجروبر، والبروتستنت ملانكتون وبوكر وبيستوريوس. وأمكن التوصل إلى إنفاق حول الخطية الأصلية، والإرادة الحرة، والعماد، والتثبيت، والرسامة. وفي 3 مايو كتب كونتاريني إلى الكردينال فارنيزي مغتبطاً
"حمداً لله؛ بالأمس وصل اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنت إلى اتفاق حول عقيدة التبرير"، ولكن لم يتيسر الوصول إلى حل وسط مقبول حول سر القربان، فقد أبى البروتستنت الاعتراف بأن في استطاعة قسيس أن يحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وشعر الكاثوليك أن التخلي عن عقيدة التحول هذه معناه التخلي عن صميم القداس وطقوس كنيسة روما. وقفل كونتاريني عائداً إلى روما وقد أضناه الإخفاق والحزن، ليدمغه أتباع الكردينال كارافا المتزمتين في الكثلكة التقليدية بتهمة اللوثرية. ولم يفصح بولس نفسه عن استطاعته قبول الصيغ التي وقع عليها كونتاريني، على أنه استقبله استقبالاً ودياً وعينه ممثلاً للبابا في بولونيا. وهناك مات بعد وصوله بخمسة أشهر.
وأصبحت سياسة الدين أشد اكفهراراً واختلاطاً. وتساءل بولس ألا يظفر الإمبراطور شارل الخامس من وراء تصالح البروتستنت مع الكنيسة بدولة ألمانية موحدة، يسود السلام ربوعها، بحيث تطلق يده في أن يولي وجهة صوب الجنوب، ويربط أملاكه في شمالي وجنوبي إيطاليا بالاستيلاء على الولايات البابوية والقضاء على سلطة البابوات الزمنية؟ أما فرانسوا الأول فإنه لخشيته أيضاً من تهدئة ألمانيا اتهم كونتاريني بالاستسلام المخزي للمهرطقين، وتعهد بتأييد بولس تأييداً كاملاً إن هو رفض في حزم مصالحة اللوثريين (8) -الذين كان فرانسوا يسعى إلى التحالف معهم. ويبدو أن رأي بولس استقر على أن التفاهم الديني سيكون مجلبة خراب سياسي. وفي عام 1538 استطاع بالدبلوماسية البارعة أن ينع شارل وفرانسوا بتوقيع هدنة في نيس، ولما أمن شر شارل في الغرب على هذا النحو حرضه على الهجوم على اللوثريين. وحين قارب شارل الانتصار 1546 سحب بولس الفرقة البابوية التي كان قد أرسلها إليه، لأنه هنا أيضاً أي ارتعد فرقاً من أن يكون في خلاص الإمبراطور من وجود
مشكلة بروتستنتية في مؤخرته ما يغريه بإخضاع إيطاليا كلها لسلطانه. وأصبح البابا بروتستنتياً مؤقتاً، ونظر إلى اللوثرية كأنها حامية إلى البابوية-تماماً كما كان سليمان القانوني حامياً للوثرية. وفي هذه الأثناء كان فرانسوا الأول-درعه الثاني ضد شارل-يحالف العثمانيين الذين هددوا المرة بعد المرة بغزو إيطاليا والهجوم على روما. ولعلنا نغتفر بعض هذا التذبذب لبابا أرهقه الخصوم وأحدقت به المشكلات على هذا النحو، وما من عدة لديه غير حفنة من الجند، ولا دفاع غير إيمان لا يعمر فيما يبدو إلا قلوب الضعفاء. وفي وسعنا أن ندرك ضآلة الدور الذي لعبه الدين في هذه الصراعات على القوة حين نسمع تعليق شارل للسفير البابوي إذ علم أن بولس حول وجهه شطر فرنسا: قال الإمبراطور إن البابا أصابته في شيخوخته عدوى مرض يصيب الناس عادة في شبابهم، هو المرض الفرنسي (9).
ولم يصد بولس البروتستنتية ولا أدخل أي إصلاحات جوهرية، ولكنه نفخ الحياة في البابوية ورد لها عظمتها ونفوذها، وظل إلى النهاية واحداً من بابوات النهضة. فقد شجع جهود ميكل أنجيلو وغيره من الفنانين وأمدهم بالمال، وجمل روما بالمباني الجديدة، وزين الفاتيكان بـ "الصالاريجيا" و "الكابيلاباولينا"، وشارك في حفلات الاستقبال الفخمة، ورحب بالجميلات من النساء على مائدته، واستقبل الموسيقيين والمهرجين والمغنيات والراقصات في بلاطه (10)، وحتى في ثمانيناته لم يكن سليل فارنيزي هذا ليفسد اللعبة على لاعبيها. وقد نقله لنا تيشان في سلسلة من اللوحات القوية. وفي أفضل هذه اللوحات (المحفوظة بمتحف نابلي) يبدو هذا الحبر الأعظم، الذي سلخ من عمره خمسة وسبعين عاماً، محتفظاً بقوته، على وجهه أخاديد حفرتها مشكلات الدولة والأسرة، ولكن رأسه لم ينحن بعد للزمن. وبعد ثلاث سنوات رسم تيشان لوحة لبولس وابني أخيه أوتافيو
والسندرو (محفوظة هي الأخرى بنابلي) كادت تتنبأ بمصيره، فالبابا الذي انحنى الآن ظهره ونال منه الإعياء، يبدو فيها وكأنه يستجوب أوتافيو مستريباً في أمره. ذلك أن بييرلويجي، بن بولس، اغتيل عام 1547، وفي عام 1548 تمرد أوتافيو على أبيه، ودخل في اتفاق مع أعداء بولس ليجعل بارما ولاية إمبراطورية. وأسلم البابا العجوز نفسه للموت (1549) بعد أن هزمه حتى أبناؤه.
وقد أخطأ خليفته في تسمية نفسه بيوليوس الثالث (15500 - 55)، إذ لم يكن فيه شيء من فحولة يوليوس الثاني ولا قوته ولا أهدافه الطموحة. بل إنه استأنف أساليب ليو العاشر السهلة الهينة، واستمتع بالبابوية في إسراف لطيف، وكأن حركة الإصلاح البروتستنتي ماتت بموت لوثر. فخرج للصيد، واحتفظ بندماء البلاط، وقامر بمبالغ كبيرة، ورعى مصارعات الثيران، ورقى لمنصب الكاردينالية تابعاً له يعنى بنسناسته، وأعطى روما على الجملة آخر رشفة رشفتها من وثنية النهضة سواء في الأخلاق والفن (11). وقد كلف فينولا وغيره بأن يشيدوا له خارج "البورتا ديل بوبولو" بيتاً جميلاً "فيللا دي بابا جوليو"(1553) جعله مركزاً للفنانين والشعراء والاحتفالات. ثم كيف نفسه في هدوء وفق سياسات شارل الخامس. وشكا النقرس في غير أوانه، فحاول علاجه بالصوم، ويبدو أن هذا البابا الأبيقوري مات من الزهد في الطعام (12)، وقيل من الانغماس في اللذات (13).
وجاء البابا مارتشيللوس الثاني، وكان أقرب إلى القديسين. فحياته الخلقية بلا لوم، وتقواه عميقة، واختياره لشاغلي المناصب مثالي، وجهوده لإصلاح الكنيسة مخلصة، ولكنه مات في اليوم الثاني والعشرين من تقلده منصب البابوية (5 مايو 1555).
وكأن الكرادلة أرادوا أن يعلنوا على الملأ أن معارضة الإصلاح
البروتستنتي قد وصلت إلى البابوية، فقلدوها رجلاً كان روح حركة الإصلاح في الكنيسة وصوتها، وهو الناسك جوفاني بييترو كارفا، الذي سمى نفسه بولس الرابع (1555 - 59). وكان وقد بلغ التاسعة والسبعين ثابتاً على آرائه لا يحيد عنها قيد أنملة، مكرساً نفسه لتنفيذها برسوخ في الإرادة وحدة في العاطفة لا يكادان يناسبان رجلاً في سنه. كتب السفير الفلورنسي يقول:"إن البابا رجل قد من حديد، بل إن الأحجار التي يمشي فوقها تنفث الشرر"(14). كان مولده في بينيفنتو، لذلك حمل حرارة جنوبي إيطاليا في دمه، وبدت النار دائمة التوقد في مقلتيه الغائرتين. وكان في طبعه فورة البركان، ولم يجرؤ على معارضته سوى السفير الأسباني تدعمه فرق الدوق ألفاً. وقد كره بولس الرابع أسبانيا لأنها سيطرت على إيطاليا، وكما حلم يوليوس الثاني وليو العاشر بطرد الفرنسيين، كذلك كان أول أهداف هذا الثمانيني النشيط تحرير إيطاليا والبابوية من السيادة الأسبانية-الإمبراطورية. فاتهم شارل الخامس بأنه ملحد مقنّع (15)، وابن مجنون لأم مجنونة، وشخص "كسيح جسداً وروحاً"(16)، ودمغ الشعب الأسباني بأنه حثالة من الساميين (17)، وأقسم أنه لن يعترف بفيليب والياً على ميلان. وفي ديسمبر 1555 عقد معاهدة مع هنري الثاني ملك فرنسا وإيركولي الثاني أمير فرارة لطرد جميع القوات الأسبانية أو الإمبراطورية من إيطاليا، فإذا تم للحلفاء النصر أخذت البابوية سيينا، والفرنسيون ميلان، وحكموا نابلي بوصفها ولاية بابوية، ووجب عزل شارل وفرديناند لقبولهما شروط البروتستنت في أوجزبورج (18).
وبمهزلة من هذه المهازل التي يمكننا رؤيتها، ونحن على بعد كاف، في مآسي التاريخ، وجد فيليب الثاني نفسه في حرب مع البابوية وهو أشد أنصار الكنيسة غيرة وتحمساً، فأمر الدوق ألفاً على مضض بأن يزحف بجيش نابولي على الولايات البابوية. ولم تمض أسابيع حتى هزم الدوق
بجنوده المتمرسين بالقتال، البالغ عددهم 10. 000، قوات البابا الضعيفة، واستولى على المدينة تلو المدينة، ونهب أناني، واستولى على أوستيا، وهدد روما (نوفمبر 1556). وبارك بولس معاهدة بين فرنسا والعثمانيين، ولجأ وزير خارجيته، الكردينال كارلو كارافا، إلى سليمان القانوني ليهاجم نابلي وصقلية (19). وأرسل هنري الثاني جيشاً إلى إيطاليا يقوده فرانسوا دوق جيز، فاستعاد أوستيا، وهلل البابا، ولكن هزيمة الفرنسيين في سان-كنتان أكرهت جيز على العودة برجاله سريعاً إلى فرنسا، وزحف ألفاً على أبواب روما دون مقاومة. وولول أهل روما فرقاً، وودوا لو أن حبرهم الديني الطائش كان نزيل قبره (20)، ورأى بولس أن المزيد من القتال قد يعيد "نهب روما" الرهيب، بل قد يحمل أسبانيا على الانفصال عن كنيسة روما. لذلك وقع في 12 سبتمبر 1557 معاهدة صلح مع ألق، الذي عرض شروطاً سخية، واعتذر عن انتصاره، ولثم قدم البابا المغلوب (21). وردت إلى البابا جميع أراضيه التي سبق الاستيلاء عليها، ولكن السيادة الأسبانية على نابلي وميلان والبابوية تأكدت. وبلغ انتصار الكنيسة على الدولة منتهاه، حتى أن الأمراء الناخبين هم الذين توجوا فرديناند حين تسلم لقب الإمبراطور من شارل الخامس (1558)، ولم يسمح لأي ممثل للبابا بالقيام بأي دور في مراسيم الاحتفال. وهكذا كانت نهاية تتويج البابوات لأباطرة الدولة الرومانية المقدسة، وتحقق آخر المطاف انتصار شارلمان في خلافه مع ليو الثالث.
والآن وقد تخفف بولس الرابع طوعاً أو كرهاً من أعباء الحرب، فإنه فرغ فيما بقي له من فترة بابويته للإصلاحات الكنسية والأخلاقية التي ذكرناها من قبل. وقد توجها بطرد وزيره الإباحي الكردينال كارلو كارافا، وإن جاء هذا الطرد متأخراً، وبنفي ابني أخ آخرين من روما؛ وكانا قد شوها سمعة بابويته. وأجليت عن الفاتيكان أخيراً سبة محاباة الأقرباء التي استشرت فيه قرناً من الزمان.
2 - الرقابة ومحكمة التفتيش
وهذا البابا الحديدي هو الذي بلغت رقابة المطبوعات في عهده غاية الصرامة واتساع المدى، وأصبحت محكمة التفتيش ضرباً من الإرهاب كادت تبلغ وحشيته في روما ما بلغته في أسبانيا. ولعل بولس الرابع شعر بأن رقابة المطبوعات وقمع الهرطقة واجبان لا مندوحة عنهما لكنيسة أجمع الرأي البروتستنتي والكاثوليكي على أن مؤسسها هو ابن الله. لأنه إذا كانت الكنيسة من الله، فخصومها إذن لا بد عملاء للشيطان، والحرب الدائمة على هؤلاء الشياطين التزام ديني قِبل إله مهان.
والرقابة قديمة قدم الكنيسة نفسها تقريباً. فالمسيحيون في أفسس أحرقوا في عصر الرسل كتباً في "فنون غريبة" قيل إن قيمتها بلغت "50. 000 قطعة من الفضة (22) "، وحرم مجمع أفسس (150) تداول "أعمال بولس" (23) غير القانونية. وفي فترات مختلفة أمر البابوات بحرق التلمود أو غيره من كتب اليهود. وحظرت ترجمة ويكليف وما تلاها من الترجمات البروتستنتية للكتاب المقدس لاحتوائها مقدمات وهوامش وتصحيحات معرضة للكاثوليكية. وزاد اختراع الطباعة من حرص الكنيسة على ألا تفسد أبناءها التعاليم الباطلة. فأمر مجمع اللاتيران الخامس (1516) بألا تطبع بعده كتب دون أن تفحصها الكنيسة وتوافق عليها. وأصدرت السلطات الزمنية بيانات بمحظوراتها من المطبوعات غير المرخصة: مجلس شيوخ البندقية في 1508، ومجلس نواب فورمز ومراسيم شارل الخامس وفرانسوا الأول في 1521، وبرلمان باريس في 1542. وفي 1543 وسع شارل الرقابة الكنسية على المطبوعات فشملت أمريكا الأسبانية. وفي عام 1544 نشرت السوربون أول فهرس عام بالكتب المحرمة، ونشرت محكمة التفتيش أول قائمة إيطالية في عام 1545.
وفي عام 1559 نشر بولس الرابع أول فهرس بابوي بالكتب المحظورة، وقد ورد فيه ثمان وأربعون طبعة مهرطقة للكتاب المقدس، وأوقع الحرم على واحد وستين طابعاً وناشراً (24). وقد فرض على كل كاثوليكي الامتناع عن قراءة أي كتاب نشر منذ سنة 1519 دون أن يحمل اسمي المؤلف والطابع ومكان النشر وتاريخه، وحرمت قراءة أي كتاب بعد ذلك لم يحصل على إذن كنسي " impramtur" بطبعه. وشكا باعة الكتب وطلاب العلم من أن هذه الإجراءات معطلة لهم أو قاضية عليهم، ولكن بولس أصر على الطاعة التامة. وأحرقت آلاف الكتب في روما وبولونيا ونابلي وميلان وفلورنسة والبندقية-10. 000 في البندقية في يوم واحد (25). وبعد موت بولس انتقد نفر من قادة الكنيسة إجراءاته لما فيها من مغالاة في العنف وعدم التمييز، ورفض مجمع ترنت فهرسه، وأصدر تحريماً أكثر تنظيماً، هو "الفهرس الثلاثي"(1564). وشكلت لجنة خاصة للفهرس في 1571 لمراجعة القائمة وإعادة نشرها بصفة دورية.
ومن العسير الحكم على أثر هذه الرقابة. وعند باولو ساربي، وكان راهباً سابقاً، ومعارضاً للأكليروس، أن الفهرس "هو أبدع سر كشف إلى الآن
…
لفرض البلاهة على الناس (26) ". ولعله شارك في إحداث اضمحلال إيطاليا الفكري بعد عام 1600، واضمحلال أسبانيا بعد عام 1700، ولكن العوامل الاقتصادية والسياسية كانت أهم. والفكر الحر، كما يقول أقوى مؤرخ إنجليزي له، عاش في الدول الكاثوليكية خيراً مما عاش في الدول البروتستنتية، وتبين حتى عام 1750 أن الحكم المطلق للكتب المقدسة الذي فرضه اللاهوتيون البروتستنت أشد إيذاء للبحث والتفكير المستقلين من فهارس الكنيسة ومحكمة تفتيشها (27). أياً كان الأمر فإن الحركة الإنسانية ذبلت، في الدول الكاثوليكية والبروتستنتية على السواء. وخف التأكيد على الحياة في الأدب، واضمحلت دراسة اليونانية ومحبة الآداب
الوثنية، ورمى اللاهوتيون المنتصرون الإنسانيين الإيطاليين (ولهم بعض العذر في هذا) بأنهم كفرة متغطرسون فاسقون.
ونفذت الرقابة على الكتب في تراخ حتى وكلها بولس الرابع إلى محكمة التفتيش (1555). وكانت هذه المؤسسة التي أنشئت أولاً عام 1217 قد انتكست سلطتها وسمعتها نتيجة لتساهل بابوات النهضة. ولكن حين أخفقت آخر محاولة للمصالحة مع البروتستنت في راتسبون، وظهرت التعاليم البروتستنتية في إيطاليا ذاتها، حتى بين رجال الأكليروس، وخيف أن تتحول مدن بأسرها مثل لوكا ومودينا إلى البروتستنتية (28) اشترك الكردينال جوفاني كارافا، وإجناتيوس لويولا، وشارل الخامس في الإلحاح على إعادة محكمة التفتيش. وأذعن بولس الثالث (1542)، وعين كارافا وخمسة كرادلة آخرين لإعادة تنظيم المؤسسة، وخول لهم سلطة تفويض كنسيين خاصين في أرجاء العالم المسيحي، وشرع كارافا في التنفيذ بما عهد فيه من صرامة، وأنشأ مقراً للمحكمة وسجناً، ووضع هذه القواعد لمرءوسيه:
1 -
حين يكون الإيمان موضع شك يجب ألا يكون هناك أي تأجيل، ولابد من اتخاذ الإجراءات الصارمة بكل سرعة إذا قامت أقل شبهة.
2 -
يجب ألا يكون هناك أي اعتبار لأي أمير أو حبر مهما علا منصبه.
3 -
الصرامة المتناهية أولى أن تستعمل مع أولئك الذين يحاولون الاحتماء بأي حاكم. ولا يعامل بالرفق والعطف الأبوي إلا من اعترف اعترافاً كاملاً.
4 -
يجب ألا يحط إنسان من قدره بإبداء التسامح نحو المهرطقين أياً كان نوعهم، ونحو الكالفنبين على الأخص (29).
فأما بولس الثالث ومارتشيللوس الثاني فقد قيدا حماسة كارافا، واحتفظا بحق العفو عند الاستئناف. وأما يوليوس الثالث فكان أهن من أن يتدخل في عمل كارافا، فأحرق في عهده نفر من المهرطقين في روما.
وفي عام 1550 أمرت محكمة التفتيش الجديدة بمحاكمة أي كاهن كاثوليكي لا يعظ ضد البروتستنتية. فلما ارتقى كارافا نفسه عرش البابوية باسم بولس الرابع، انطلقت المؤسسة إلى العمل بكل طاقتها، "واكتسبت المحكمة بفضل صرامته الخارقة سمعة واسعة، بحيث لم يكن هناك كرسي قضاء آخر في الأرض يتوقع الناس منه إصدار أحكام أشد بشاعة وإرهاباً" على حد قول الكردينال سيريباندو (30). ووسع اختصاص محكم التفتيش حتى شمل التجديف والمتاجرة بالرتب الكهنوتية (السيمونية)، واللواط، والزواج المتعدد، وهتك العرض، والقوادة، وانتهاك نظم الكنيسة في الصوم، وغير هذه من الذنوب التي لا تمت للهرطقة بسبب. ونحن نسوق أيضاً هذه الفقرة من كلام مؤرخ كاثوليكي عظيم:
"كان البابا العجول السريع التصديق يعير أذناً صاغية لكل اتهام ولو كان شديد السخف
…
وكان رجال محكمة التفتيش الذين لم يفتر البابا عن حضهم يشمون الهرطقة في حالات كثيرة ما كان المراقب الهادئ الحذر ليكشف فيها أثراً لهرطقة
…
وحرض الحاسدون والمفترون على بذل الجهد في تسقط الكلمات المريبة من شفاه رجال كانوا عمداً راسخة للكنيسة ضد المبتدعين، وعلى تلفيق تهم الهرطقة لهم
…
وبدأ عصر إرهاب فعلي ملأ روما كلها بالخوف" (31).
وفي قمة هذا العنف (31 مايو 1557) أمر بولس بالقبض على الكردينال جوفاني موروني، أسقف مودينا، وفي 14 يونيو أمر الكردينال بولي بأن يتخلى عن سلطة الممثل البابوي في إنجلترا ويحضر إلى روما ليواجه محاكمته بتهمة الهرطقة. وقال البابا إن مجمع الكرادلة نفسه سرت إليه دعوى الهرطقة. أما بولي فقد بسطت عليه الملكة ماري حمايتها ومنعت تسليم الاستدعاء البابوي له. وأما موروني فقد اتهم بأنه وقع اتفاق راتسبون حول عقيدة التبرير بالإيمان، وبأنه تهاون مع المهرطقين الداخلين في
نطاق سلطته، وبأنه كان صديقاً لبولي، وفتوريا كولونا، وفلامينيو، وغيرهم من الشخصيات الخطرة، وبعد أن قضى ثمانية عشر يوماً سجيناً في قلعة سانت أنجيلو أصدر قضاة التفتيش حكمهم ببراءته، وأمروا بالإفراج عنه، ولكنه أبى أن يبرح زنزانته حتى يقر بولس ببراءته. ولكن بولس رفض، فظل موروني سجيناً حتى أطلقه موت البابا. وأما فلامينيو فقد فوت على محكمة التفتيش غرضها بموته، "ولكننا أحرقنا أخاه شيزاري في الميدان المواجه لكنيسة المينرفا"(32)، كما قال بولس. وراح الحبر المجنون يطارد أقرباءه هو بشبهات الهرطقة في عناد لا يعرف التحيز. قال "لو أن أبي ذاته كان مهرطقاً لجمعت الحطب لحرقه"(33).
كان بولس لحسن الحظ بشراً نهايته الموت، فمضى لحسابه. بعد أربع سنوات من الحكم. واحتفلت روما بموته بأربعة أيام من الشغب المرح، حطمت خلالها الجماهير تمثاله، وجرته في الشوارع، ثم أغرقته في نهر تيير، وأحرقت مباني محكمة التفتيش، وأطلقت سجناءها، وأتلفت وثائقها (34). ولعلع البابا كان يرد على هذا بأنه ما كان في استطاعة رجل أن يصلح أخلاق روما ومفاسد الكنيسة إلا إذا أوتي صرامته وشجاعته اللتين لا هوادة فيهما، وأنه وفق في هذه المغامرة بينما أخفق أسلافه. ومن أسف أنه في محاولته إصلاح الكنيسة تذكر توركويمادا ونسي المسيح.
وتنفس غرب أوربا كله الصعداء حين اختار مجمع الكرادلة سنة 1559 جوفاني أنجيلو دي مديتشي حبراً أعظم باسم البابا بيوس الرابع. لم يكن مليونيراً مديتشياً، بل ابن جاب للضرائب ميلاني، اشتغل بالمحاماة ليكسب قوته، وظفر بإعجاب بولس الثالث وثقته، فعين كردينالاً، واشتهر بالذكاء والميل إلى أعمال البر، فلما ارتقى عرش البابوية ابتعد عن الحرب ووبخ أولئك الذين كانوا يشيرون بالسياسات العدوانية، ولم يقض على محكمة التفتيش، ولكنه أشعر قضاتها بأنهم
"يسرونه أكثر لو باشروا عملهم بلطف السادة المهذبين لا بجلافة الرهبان"(35). وأراد اغتياله متعصب حسبه مفرطاً في اللين، ولكنه شل رهبةً حين مر به البابا هادئاً مجرداً من أسباب الدفاع. وقد برهن على ما أوتي من روح المصالحة إذ سمح لأساقفة ألمانيا الكاثوليك بمناولة سر القربان بالخبز والخمر كليهما. وأعاد عقد مجتمع ترنت، وقاده إلى خاتمة اتسمت بالنظام، ثم فارق الحياة عان 1565 بعد رياسة دعمت في هدوء حركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي.
3 - مجمع ترنت
(1545 - 1563)
قبل أن يأتي لوثر بزمن طويل ارتفعت مئات الأصوات مطالبة بعقد مجمع يصلح الكنيسة. وطالب لوثر بعرض نزاعه مع البابا على مجمع عام حر، وطالب شارل الخامس بعقد مجمع كهذا بأمل نفض يده من المشكلة البروتستنتية، وربما بأمل تأديب البابا كلمنت السابع، واستطاع ذلك البابا الذي أنهكته الهجمات المتكررة أن يجد مائة عذر لتأجيل مثل هذا المجمع حتى يصبح بعيداً عن متناوله. فقد تذكر ما حدث للسلطة البابوية في مجمعي كونستانس وبازل، وما كان ليسمح لأساقفة معادين له، أو لمندوبي الإمبراطور، بدس أنوفهم في سياساته أو مصاعبه الداخلية أو مولده. ثم كيف يستطيع مجمع أن ينقذ الموقف؟ ألم يرفض لوثر الاعتراف بالمجامع كما رفض الاعترافات بالبابوات؟ ولو قبل البروتستنت في مجمع وسمح لهم بحرية الكلام فإن النزاع الذي سيسفر عنه هذا القبول سيوسع الانشقاق ويزيده مرارة ويزعج أوربا بأسرها؛ ولو حيل بينهم وبينه لأثاروا غضب التمرد والعصيان. وأراد شارل أن يعقد المجمع على أرض ألمانية، ولكن فرانسوا أبى السماح للأكليروس الفرنسي بحضور اجتماع خاضع لسيادة الإمبراطور. يضاف إلى هذا
رغبة فرانسوا في الإبقاء على النيران البروتستنتية مشتعلة في المؤخرة الإمبراطورية. لقد كان الموقف مختلطاً أشد الاختلاط.
فلما جاء بولس الثالث ساورته كل مخاوف كلمنت، ولكنه كان أشجع منه. في عام 1536 أصدر دعوة لمجمع عام يجتمع في مانتوا في 23 مايو 1537، ودعا البروتستنت لحضوره. وافترض أن جميع الأطراف التي ستحضره ستقبل النتائج التي يخلص إليها المجمع؛ ولكن ما كان للبروتستنت وهم أقلية في مؤتمر كهذا أن يقبلوا مثل هذا الالتزام. وأشار لوثر بعدم الحضور، ورد مؤتمر البروتستنت المنعقد في شمالكالدين دعوة البابا دون أن يفتحها. وواصل الإمبراطور إصراره على عقد المجمع في أرض ألمانية، وكانت حجته أنه لو عقد في أرض إيطاليا لازدحم بالأساقفة الإيطاليين ولأصبح لعبة في يد البابا. وبعد الكثير من المفاوضات والتأجيلات وافق بولس على عقد المجمع في ترنت، وكانت تقع في أرض إمبراطورية وتخضع لشارل على الرغم من غلبة الإيطاليين على سكانها. ودعا المجمع للانعقاد فيها في أول نوفمبر 1542.
ولكن ملك فرنسا رفض أن يلعب دوره. وأبى نشر دعوة البابا في أرجاء ملكه، وهدد بالقبض على أي فرد من الأكليروس الفرنسي يحاول حضور مجمع منعقد على أرض عدوه، فلما افتتح المجمع لم يكن حاضراً سوى بضعة أساقفة كلهم إيطاليون، وأجل بولس الاجتماع حيناً حتى يسمح شارل وفرانسوا بانعقاد المجمع بكامل عدده. وبدا أن صلح كريبي قد أزاح العقبات من الطريق، ودعا بولس إلى عودة انعقاد المجمع في 14 مارس 1545. ولكن تجدد الخطر على الإمبراطور من العثمانيين أكرهه ثانية على مصالحة البروتستنت، فطلب تأجيل المجمع مرة أخرى، ولم يبدأ "المجمع المسكوني التاسع عشر للكنيسة المسيحية" دوراته النشيطة إلا في 13 ديسمبر 1545.
ولكن حتى هذه البداية لم يحالفها التوفيق، ولم تبلغ قط مبلغ "نصف العمل". ذلك أن البابا الذي قارب الثمانين ظل في روما، يرأس المجمع "غيابياً"، ولكنه ندب عنه ثلاثة كرادلة يمثلونه: ديل مونتي، وتشرفيني، وبولي. وكان قوام المجمع كردينال ترنت مادروزو، وأربعة رؤساء أساقفة، وعشرين أسقفاً، وخمسة من قادة الطرق الديرية، ويعض رؤساء الأديار، وبضعة لاهوتيين؛ ولم يكن في وسع المجمع حتى ذلك الحين الزعم بأنه "مسكوني"-أي عالمي (36). وبينما كان حق التصويت في مجمع كونستانس وبازل متاحاً للقساوسة، والأمراء، وبعض العلمانيين، كما كان متاحاً للأساقفة، وكان التصويت بالمجموعات القومية، فإن هذا الحق قصر هنا على الكرادلة والأساقفة والقواد ورؤساء الأديار، وكان التصويت بالأفراد، ومن ثم فإن الأساقفة الإيطاليين-وأكثرهم مدين للبابوية أو موال لها لأسباب أخرى-سيطروا على المجمع بأغلبيتهم العددية. وحضّرت اللجان المجتمعة في روما بإشراف البابا المسائل التي لا يمكن عرض غيرها للمناقشة (37). وقد لاحظ مندوب فرنسي أنه ما دام المجمع يزعم بأنه يعمل بإرشاد الروح القدس، فإن الأقنوم الثالث كان يأتي إلى ترنت بانتظام في حقيبة البريد القادمة من روما (38).
ودارت أولى المناقشات حول الإجراءات: أمن الواجب البدء بتعريف الإيمان ثم البحث في الإصلاحات، أم العكس؟ فأما البابا ومؤيدوه الإيطاليون فأرادوا البدء بتعريف للعقائد، وأما الإمبراطور ومؤيدوه فأرادوا البدء بالإصلاح، أملاً من شارل في تهدئة البروتستنت أو إضعافهم أو إحداث مزيد من الانقسام في صفوفهم، وأملاً من الأحبار الألمان والأسبان أن تقلل الإصلاحات من سلطة البابا على الأساقفة والمجامع. وقد أمكن الوصول إلى حد وسط، فاتفق على أن تحضر لجان متزامنة القرارات حول العقيدة والإصلاح، وتعرض هذه القرارات على المجمع بالتناوب.
وفي مايو 1546 أوفد بولس اثنين من اليسوعيين هما لاينيز وسالميرون ليساعدوا مندوبيه في الشئون اللاهوتية وفي الدفاع عن البابا؛ ثم انضم إليهما بيتر كانيزيوس وكلود لوجي. وما لبث تفقه اليسوعيين الذي لم يضارعهم فيه أحد أن أكسبهم نفوذاً طاغياً في المناقشات، وقاد إصرارهم على سلامة العقيدة المجمع إلى إعلان الحرب على أفكار الإصلاح البروتستنتي بدلاً من التماس التوفيق أو الوحدة. وكان حكم الأغلبية فيما يبدو أن أي تنازلات للبروتستنت لن ترأب الصدع؛ وأن الملل البروتستنتية تعددت وتنوعت بحيث لا يمكن لأي حل وسط أن يرضي بعضها دون أن يغضب البعض الآخر، وأن أي تغيير جوهري في العقائد التقليدية من شأنه أن يضعف بنيان الكاثوليكية العقائدي واستقرارها كله؛ وأن السماح للعلمانيين بالسلطات الكهنوتية سيفوض السلطة الأدبية للكهنوت والكنيسة، وأن هذه السلطة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي؛ وأن لاهوتاً يرتكز بصراحة على الإيمان سيحبط نفسه إذا خضع لأهواء التفكير الفردي. وبناءً عليه فإن دورة المجمع الرابعة (أبريل 1546) أكدت من جديد كل فقرة من فقرات العقيدة النقوية، وادعت سلطاناً متساوياً لتقليد الكنيسة وللكتاب المقدس، وأعطت الكنيسة الحق دون غيرها في شرح الكتاب وتفسيره، وأعلنت أن ترجمة جيروم اللاتينية هي الترجمة والنص النهائيان للكتاب. وتقرر أن القديس توما الأكويني هو الشارح العمدة للاهوت النقي من الشوائب، ورفع كتابه "خلاصة اللاهوت" إلى مقام لا يعلوه فيه إلا الكتاب المقدس والمراسيم البابوية (39). وهكذا نرى أن الكاثوليكية بوصفها ديناً ذا سلطان معصوم بدأت عملياً من مجمع ترنت، وتبلورت على هيئة استجابة عنيدة لذلك التحدي الذي واجهتها به البروتستنتية، والعقلانية، والرأي الفردي. وانتهى بذلك "اتفاق الجنتلمان" بين كنيسة النهضة والطبقات المفكرة.
ولكن إذا كان الإيمان حيوياً إلى هذا الحد. فهل كان أيضاً كافياً في ذاته لاستحقاق الخلاص كما زعم لوثر؟ لقد ارتفعت في الدورة الخامسة (يونيو 1546) مناقشات عنيفة حول هذه النقطة، وأمسك أحد الأساقفة بلحية آخر وانتزع منها حفنة من الشعر الأبيض، ولما سمع الإمبراطور بما وقع أرسل إلى المجمع يقول إنه لم يهدأ فسيأمر بإلقاء نفر من الأساقفة في نهر أديج ليهدئ ثائرتهم (40). ودافع ريجنالد بولي عن رأي قريب قرباً خطراً من رأي لوثر، حتى أن الكردينال كارافا (الذي أصبح بولس الرابع فيما بعد) دمغه بالهرطقة، وانسحب بولي من المعركة قاصداً بادوا، واعتذر بالمرض عن التخلف عن حضور المجمع (41). ودافع الكردينال سيريباندو عن الصيغة التوفيقية التي عرضها في راتسبون الكردينال كونتاريني، وكان قد مات، ولكن لاينيز أقنع المجمع بأن يشدد على أهمية الأعمال الصالحة وحرية الإرادة، معارضاً بذلك لوثر معارضة كاملة.
أما إجراءات الإصلاح الكنسي فكانت حركتها أقل نشاطاً من تعريفات العقيدة. كان أسقف كاتدرائية القديس مرقس قد افتتح دورة 6 يناير 1546 برسمه صورة قاتمة للفساد الذي استشرى في العالم، والذي لن يفوقه في ظنه فساد الأجيال القادمة إطلاقاً، وقد عزا هذا الفساد "إلى شر الرعاة دون سواه". وقال إن هرطقة لوثر سببها الرئيسي خطايا الأكليروس، وإن إصلاح الأكليروس خير سبيل لقمع هذا التمرد (42). ولكن الإصلاح الجوهري الوحيد الذي تحقق في هذه الدورات الأولى كان ذلك الذي حرم على الأساقفة الإقامة بعيداً عن أسقفياتهم، أو شغل أكثر من أسقفية. واقترح المجمع على البابا أن ينتقل إصلاح قسم الوثائق من التوصيات النظرية إلى الأوامر الفعلية، ولكن بولس كان يريد أن تترك شئون الإصلاح للبابوية، فلما أصر الإمبراطور على مزيد من السرعة في مناقشات الإصلاح في المجمع، أمر البابا مندوبيه بأن يقترحوا نقل
المجمع إلى بولونيا-التي تسمح لروما بأن تشرف على أعمال المجمع إشرافاً أسرع لأنها واقعة في الولايات البابوية. ووافق الأساقفة الإيطاليون، أما الأساقفة الإسبان والإمبراطوريون فاحتجوا، وظهر في ترنت طاعون غير ذي بال في الوقت المناسب فقضى على أحد الأساقفة، وانتقلت الأغلبية الإيطالية إلى بولونيا، أما الباقون فظلوا في ترنت. ورفض شارل الاعتراف بدورات بولونيا. وهدد بعقد مجمع منفصل في ألمانيا. وبعد عامين من الجدل والمناورة خضع بولس وعطل مجمع بولونيا (سبتمبر 1549).
وخف توتر الموقف بموت بولس. ووصل يوليوس الثالث إلى تفاهم مع الإمبراطور، فدعا المجمع للانعقاد مرة أخرى في ترنت في مايو 1551 لقاء وعد من شارل بالامتناع عن تأييد أي إجراء من شأنه اختزال سلطة البابا، ووافق البابا على إعطاء اللوثريين فرصة الإدلاء بأقوالهم. ولكن هنري الثاني ملك فرنسا رفض الاعتراف بالجمع لأنه كره هذا التقارب بين البابا والإمبراطور. فلما اجتمع كان عدد الحاضرين ضئيلاً فاضطر إلى تأجيل اجتماعاته. ثم عاد إلى الاجتماع في أول سبتمبر بحضور ثمانية من رؤساء الأساقفة، وستة وثلاثين أسقفاً، وثلاثة رؤساء أديار، وخمسة قادة، وثمانية وأربعون لاهوتياً. ويواكيم الثاني ناخب براندنبورج، وسفراء يمثلون شارل وفرديناند.
وأكدت الدورة الثالثة عشرة للمجمع (أكتوبر 1551) من جديد عقيدة التحول الكاثوليكية، فالكاهن بتقديسه الخبز والخمر في سر القربان يحولهما فعلاً إلى جسد المسيح ودمه. بعد هذا لم يعد هناك جدوى من الاستماع إلى البروتستنت، ولكن شارل أصر على هذا. واختار دوق فورتمبرج، وموريس ناخب سكسونيا، وبعض مدن جنوبي ألمانيا-اختار هؤلاء أعضاء وفد بروتستنتي، ووضع ملانكتون بياناً بالعقيدة اللوثرية لرفعه
إلى المجمع. وضمن شارل للمندوبين سلامة المرور، ولكنهم إذ تذكروا كونستانس وهس طلبوا أيضاً ضماناً بسلامة المرور من المجمع ذاته. وبعد نقاش طويل منحهم المجمع الضمان. ولكن راهباً دومنيكياً ذكر في عظة تدور حول مثل هذا الزوان، ألقاها في ذات الكاتدرائية التي انعقدت فيها دورات المجمع، أن زوان المهرطقين قد يمهلون إلى أجل، ولكن لا بد في النهاية من حرقهم (43).
وفي 14 يناير 1552 ألقى المندوبون البروتستنت كلمتهم في المجمع. فاقترحوا تأكيد المراسيم التي أصدرها مجمعاً كونستانس وبازل بشأن تخويل المجامع سلطاناً أعلى على البابوات، وأن يحل أعضاء المجمع الحاضر من عهد الولاء للبابا يوليوس الثالث، وأن جميع القرارات التي وصل إليها المجمع حتى ذلك التاريخ يجب إلغاؤها، وأنه يجب أن يعيد مجمع موسع يمثل فيه البروتستنت تمثيلاً كافياً مناقشة الموضوعات من جديد (44). ومنع يوليوس الثالث بحث هذه المقترحات. وقرر المجمع تأجيل البت فيها إلى 19 مارس، وهو التاريخ الذي يتوقع فيه وصول مزيد من المندوبين البروتستنت.
وفي أثناء هذه العطلة طرأت على اللاهوت تطورات حربية على نحو غير متوقع. ففي يناير 1552 وقع ملك فرنسا حلفاً مع البروتستنت الألمان، وفي مارس زحف موريس أمير سكسونيا على إنزيروك، وفر شارل، وما كان لأية قوة أن تمنع موريس إن شاء من الاستيلاء على ترنت والإطاحة بالمجمع. واختفى الأساقفة واحداً بعد الآخر، وفي 28 أبريل عطل المجمع رسمياً. ونزل فرديناند بمقتضى معاهدة باساو (2 أغسطس) عن الحرية الدينية للبروتستنت المنتصرين حربياً، فلم يعد المجمع يهمهم في شيء بعد هذا.
ورأى بولس الرابع أن من الحكمة أن يدع المجمع يسبت خلال
رياسته. فلما جاء البابا بيوس الرابع، وكان شيخاً دمث الخلق، راودته فكرة مؤداها أن منح سر القربان بالخبز والخمر قد يهدئ البروتستنت كما هدأ البوهيميين من قبل. فطلب إلى المجمع أن ينعقد من جديد في ترنت في 6 أبريل 1561، ودعا إليه جميع الأمراء المسيحيين سواء الكاثوليك أو البروتستنت. وقد جلب المندوبون الفرنسيون إلى هذه الدورة الجديدة قائمة رهيبة بالإصلاحات التي ينشدونها: القداس باللغة القومية، والتناول بالخز والخمر، وزواج القس، وإخضاع البابوية للمجامع العامة، وإنهاء نظام الإعفاءات البابوية (45)، ويبدو أن مزاج الحكومة الفرنسية كان في تلك اللحظة شبه هيجونوتي. وأيد فرديناند الأول هذه المقترحات، وكان الآن إمبراطوراً، وأضاف أن "البابا يجب أن يتواضع، ويخضع لإصلاح شخصه ودولته وإدارته"، أما أساطير القديسين فينبغي أن تنقى من السخافات. وأما الأديار فينبغي إصلاحها حتى "لا تعود ثروتها الطائلة تنفق بمثل هذه السفه"(46). وأنذر الموقف بالخطر على بيوس، وترقب مندوبوه افتتاح الدورة في شيء من الذعر.
وبعد تأجيلات كان دافعها الروية أو الاستراتيجية التأم شمل الدورة السابعة عشرة للمجمع في 28 يناير 1562، بحضور خمسة كرادلة، وثلاثة بطارقة، وأحد عشر رئيس أساقفة، وتسعين أسقفاً، وأربعة قادة، وأربعة رؤساء أديار، ومختلف الممثلين العلمانيين للأمراء الكاثوليك. واستجابة لطلب من فرديناند عرض ضمان بسلامة المرور لأي مندوب بروتستنتي قد يرغب في الحضور، ولكن أحداً لم يحضر. وتزعم رئيس أساقفة غرناطة وشارل كردينال اللورين حركة ترمي إلى الحد من امتيازات البابا، فأكد أن الأساقفة لا يستمدون سلطانهم عن طريقه بل بـ "الحق الإلهي" المباشر، وردد أسقف سقوبية هرطقة من هرطقات لوثر،
إذ أنكر أنه كان على البابا سيادة على غيره من الأساقفة في الكنيسة الأولى (47). على أن هذا التمرد الأسقفي أطفأته البراعة البرلمانية التي أبداها مندوبو البابا، وولاء الأساقفة الإيطاليين والبولنديين للبابا، وبعض المجاملات البابوية التي وجهت في الوقت المناسب إلى كردينال اللورين. وانتهى الأمر بتوسيع سلطة البابا لا بالحد منها، واشترط على أسقف أن يقسم يمين الطاعة الكاملة للبابا. وأمكن تهدئة فرديناند بوعده أن البابا سيسمح في ختام المجمع بأن يعطي القربان بالخبز والخمر كليهما.
أما وقد فرغ المجمع من أهم نزاع واجهه، فقد انتهى بسرعة من أعماله الباقية. فحرم زواج الأكليروس، وقرر توقيع عقوبات صارمة على تسري القساوسة. وشرع الكثير من الإصلاحات الصغيرة للنهوض بأخلاق رجال الأكليروس ونظامهم. وقرر إنشاء كليات لاهوتية يدرب فيها الراغبون في القسوسية على عادات التقشف والتقوى. أما سلطات الإدارة البابوية فقد اختزلت. ووضعت قواعد لإصلاح الموسيقى والفن الكنسيين، وتقرر تغطية صور العرايا بما يكفي لمنع إثارتها للخيال الحسي. ووضع الفارق بين عبادة الصور وعبادة الأشخاص الذين تمثلهم الصور، وتأييد استعمال الصور الدينية بالمعنى الثاني. أما المطهر والغفرانات والتوسل إلى القديسين فقد دوفع عنها وأعيد تعريفها. وهنا اعترف المجمع في صراحة بالمفاسد التي انبعثت عن شررها نار التمرد اللوثري، وقد نص أحد القرارات على ما يأتي: -
"إن المجمع يقرر بصدد منح الغفرانات
…
إنه يجب القضاء كلية على كل كسب إجرامي متصل بها، باعتباره مصدراً لفساد محزن بين الشعب المسيحي؛ أما عن غير ذلك من ضروب الخلل والفوضى الناجمة عن الخرافة أو الجهل أو الاستهانة بالمقدسات أو أي سبب كائناً ما كان-فيما أن هذه كلها لا يمكن القضاء عليها بالتحريمات الخاصة نظراً إلى
انتشار الفساد على نطاق واسع، فإن المجمع يلقى على عاتق كل أسقف واجب التعرف على ما يوجد في أسقفيته من مفاسد، وعرضها على المجمع الإقليمي التالي، وإبلاغها إلى الحبر الأعظم في وما بعد موافقة الأساقفة الآخرين (48).
وأجمع البابا والإمبراطور على أن المجمع قد بلغ الآن نهاية نفعه، وفي 4 ديسمبر 1563 فض نهائياً وسط ابتهاج المندوبين المرهقين، بعد أن حدد طريقة الكنيسة لقرون قادمة.
لقد نجحت معارضة الإصلاح البروتستنتي في أهدافها الأساسية. صحيح أن الرجال-سواء في الأقطار الكاثوليكية أو البروتستنتية-ظلوا يكذبون ويسرقون، يغوون العذارى ويبيعون الوظائف، يقتلون ويشنون الحرب (49). ولكن أخلاق الأكليروس تحسنت، وروّضت الحرية الجامحة التي اندفعت فيها إيطاليا النهضة فتكيفت تكيفاً مهذباً وفق مزاعم البشر. فالبغاء الذي كان صناعة كبرى في روما والبندقية أيام النهضة أخفى الآن رأسه، وأصبحت العفة طابع العصر. وتقرر اعتبار تأليف الكتب القذرة أو نشرها جريمة كبيرة في إيطاليا. وهكذا شنق نيكولو فرانكو، سكرتير أريتينو وعدوه، بأمر من البابا بيوس الخامس عقاباً على تأليفه كتاب Priapeia (50) . أما أثر القيود الجديدة على الفن والأدب فلم يكن مؤذياً أذى مطلقاً لا خلاف عليه؛ مثال ذلك أن فن الباروك انبعث على استيحاء من مكانه المغمور؛ كذلك إذا نظرنا من زاوية أدبية خالصة فإننا لا نجد تاسو، وجواريني، وجولدوني، يهبطون هبوطاً عنيفاً عن مرتبة بوياردو، وأريوستو، ومكافيللي المسرحي. وقد أقبل أعظم عصور أسبانيا الأدبية والفنية في ملء "الرجعية الكاثوليكية". ولكن الفرحة التي كانت طابع إيطاليا النهضة انطفأت، وفقدت النساء الإيطاليات بعض ذلك السحر والابتهاج الذي أتاهن من حريتهن السابقة لحركة الإصلاح البروتستنتي. وساد إيطاليا عصر أقرب ما يكون إلى
البيورتانية نتيجة لقيام أخلاقية قاتمة واعية. وانتعشت الديرية. وكانت خسارة للنوع الإنساني، من وجهة نظر العقل الحر، أن تقضي الرقابة الكنسية والسياسية على حرية الفكر النسبية التي سادت أيام النهضة، وكانت مأساة أن تعاد محكمة التفتيش في إيطاليا وغيرها من البلاد في الوقت الذي أخذ العلم ينبثق فيه محطماً قشرته الوسيطة، وضحت الكنيسة عن عمد بالطبقات المفكرة في سبيل الأكثرية المتدينة التي صفقت لقمع أفكار قد تذيب إيمانها المعزي.
كانت الإصلاحات الكنسية حقيقية ودائمة. وإذ كانت الملكية البابوية قد رفع مقامها فوق الأرستقراطية الأسقفية للمجامع، فإن هذا كان يساير روح العصر، حيث كانت الأرستقراطيات في كل بلد، عدا ألمانيا، تفقد سلطانها ليتقلده الملوك. وأصبح البابوات الآن أرق من الأساقفة خلقياً، وأمكن تنفيذ النظام الذي تطلبه الإصلاح الكنسي على يد سلطة ممركزة خيراً من سلطة مقسمة، وأنهى البابوات محاباتهم لأقربائهم، وشفوا الإدارة البابوية من تسويفاتها الباهظة الثمن ورشوتها المفضوحة. وأصبحت إدارة الكنيسة بشهادة من فحصوا هذا الأمر من غير الكاثوليك نموذجاً للكفاية والنزاهة (51). وأدخل استعمال مقصورة الاعتراف المظلمة (1547) وجعل إجبارياً (1614)، ولم يعد القسيس عرضة لأن يفتنه جمال بعض المعترفات. أما باعة صكوك الغفران الجائلون قد اختفوا، وأما الصكوك فقد خصصت في معظم الحالات للعبادة الورعة ولأعمال البر لا التبرعات المالية، وبدلاً من أن يتقهقر رجال الأكليروس الكاثوليك أمام زحف البروتستنت أو الفكر الحر، انطلقوا ليعيدوا اقتناص فكر الشباب وولاء السلطان. وأصبحت روح اليسوعيين، تلك الروح الواثقة، الإيجابية، النشيطة، المدبرة على النظام، هي روح الكنيسة المجاهدة.
لقد كان شفاء الكنيسة في جملته شفاءً مذهلاً، وثمرة من أروع الثمرات التي جادت بها حركة الإصلاح البروتستنتي.
كلمة ختامية
النهضة، والإصلاح البروتستنتي، والتنوير
إن النهضة والإصلاح البروتستنتي هما ينبوعا التاريخ الحديث، والمصدران المتنافسان للتجديد الفكري والخلقي الذي طرأ على الحياة الحديثة. وقد ينقسم الناس حسب ميولهم وانتسابهم هنا، حسب دينهم الواعي الذي يدينون به للنهضة التي أطلقت العقل من عقاله وأضفت الجمال على الحياة، أو حسب عرفانهم بصنيع الإصلاح البروتستنتي الذي شحذ الإيمان الديني والحس الخلقي. والخلاف بين إرزمس ولوثر متصل، وسوف يتصل، لأن الحقيقة التي قد يصل إليها الناس في هذه الأمور الكبيرة هي ثمرة الجمع بين الأضداد، وستشعر هذه الحقيقة دائماً بأبوتها المزدوجة.
ويمكن القول إن الخلاف من بعض النواحي سلالي وجغرافي، خلاف بين اللاتين والتيوتون، بين الجنوب الحسي الطلق والشمال الجلد المعتم، بين شعوب هزمت على يد روما وتلقت منها التراث الكلاسيكي، وشعوب قاومت روما-وبعضها هزم روما-وأحبت جذورها وأرضها أكثر كثيراً من اليونان جالبي المواهب أو الرومان حاملي القانون. لذا قسمت إيطاليا وألمانيا فيما بينهما تشكيل النفس الحديثة، وإيطاليا بالرجوع إلى الأدب والفلسفة والفنون الكلاسيكية، وألمانيا بالرجوع إلى الإيمان والشعائر المسيحية الأولى. وكانت إيطاليا على وشك النجاح في محاولتها الثانية لغزو ألمانيا-بالعشور والمذهب الإنساني هذه المرة؛ ولكن ألمانيا قاومت ثانية، وطردت الكنيسة وأسكتت الإنسانيين. وأنكرت حركة الإصلاح البروتستنتي النهضة واهتمامها بالشئون والمباهج الدنيوية، وعادت إلى تلك الناحية (وهي ناحية واحدة فقط!) من نواحي العصور الوسطى التي عدت إنجازات البشر ومباهجهم تافهة باطلة، ووصفت الحياة بأنها واد
للدموع، ودعت الخطاة إلى الإيمان والتوبة والصلاة. فأما إيطاليو النهضة الذين قرأوا مكيافللي وأريتينو، فقد رأوا في هذا انتكاساً إلى العصور الوسطى، وعوداً إلى عصر الإيمان في مرحلة المراهقة المناضلة التي يمر بها عصر العقل. وقد ابتسم الإيطالي الذي استمع إلى يومبوناتزي، وعاش تحت حكم بابوات النهضة الهين اللين، حين وجد لوثر وكالفن هنري الثامن يحتفظون بكل العقائد الخارقة التي اتسم بها الإيمان الوسيط-كتاب مقدس من إملاء الله، وإله مثلث الأقانيم، وإيمان بالقضاء والقدر، وخليقة خلقت بأمر إلهي، وخطيئة أصلية، وتجسد، وولادة من عذراء، وتكفير، ودينونة أخيرة، وجنة ونار-ثم يرفضون بالضبط عناصر المسيحية الوسيطة-كعبادة العذراء، والإيمان بإله ملؤه المحبة والرحمة، وتوسل إلى القديسين الشفعاء، والطقوس التي تزدان بكل الفنون-تلك العناصر التي أضفت على ذلك الإيمان رقة وعزاءً وجمالاً يبرر التغاضي عن الأساطير تغاضياً سمح بالاستمتاع بالفنون.
كان الكاثوليكي الصادق الإيمان حجته ضد حركة الإصلاح البروتستنتي. فهو أيضاً يكره العشور، ولكنه لا يستطيع أن يتصور القضاء على الكنيسة. لقد كان عليماً بأن الرهبان أخذ يفلت زمامهم، ولكنه شعر بأنه ينبغي أن يفسح في الدنيا مكان ومؤسسات لرجال انقطعوا للتأمل والدرس والصلاة، وكان يقبل كل كلمة من الكتاب المقدس بشرطين: أن ناموس المسيح أبطل ناموس موسى، وأن للكنيسة سلطاناً مساوياً لسلطان الكتاب لأن مؤسسها هو ابن الله، ويجب أن يكون لها الحق النهائي في تفسير الكتاب والملائمة بينه وبين حاجات العيش المتغيرة. وماذا تكون النتيجة لو أن فقرات من الكتاب ملتبسة متناقضة في ظاهرها تركت ليفسرها كل فرد تفسيراً حراً ويحكم عليها كما يشاء. أفلا تمزق مئات العقول الكتاب إرباً، وألا تتحطم المسيحية وتتبدد شيعاً مقتتلة لا حصر لها؟.
ويواصل الكاثوليكي العصري الحجة مروراً بكل ناحية من نواحي الحياة العصرية فيقول "لقد كان إصراركم على الإيمان دون الأعمال مدمراً، فأفضى إلى دين توارت برودة القلب فيه خلف ورع العبارة، وكاد البر أن يموت طوال مائة عام في مراكز انتصاركم. ولقد قضيتم على سر الاعتراف وخلفتم مئات التوترات في نفوس البشر الذين تتنازعهم الغريزة والحضارة، وها أنتم أولاء تعيدون متأخرين ذلك النظام الشافي تحت أشكال مريبة. ولقد دمرتم جل المدارس التي أنشأناها، وأضعفتم الجامعات التي أسستها الكنيسة وطورتها حتى أشرفتم بها على الموت. إن قادتكم يسلمون بأن تمزيقكم الإيمان أدى إلى تدهور خلقي خطر في ألمانيا وإنجلترا. فلقد أطلقتم على الناس فوضى من الفردية في الأخلاق والفلسفة والصناعة والحكم. ولقد انتزعتم من الدين كل بهجته وجماله، وملأتموه بدراسة الشياطين وبالرعب، وحكمتم على الجماهير الكبيرة من الناس باللعنة الأبدية لأنهم "مرفوضون"، وعزيتم قلة وقحة بفخر "الاختيار" والخلاص. لقد خنقتم نمو الفن، وحيثما انتصرتم ذبلت الدراسات القديمة. لقد صادرتم أملاك الكنيسة لتعطوها للدولة والأغنياء، ولكنكم تركتم الفقراء أفقر مما كانوا، وأضفتم الاحتقار إلى فقرهم وتعاستهم. لقد تغاضيتم عن الربا والرأسمالية، ولكنكم حرمتم العمال أيام الراحة المقدسة التي منحتهم إياها كنيسة رحيمة. لقد رفضتم البابوية لا لشيء إلا لتمجدوا الدولة، وأعطيتم الأمراء الأنانيين حق تقرير ديانة رعاياهم، واستخدام الدين سنداً لحروبهم. لقد فرقتم بين الأمة والأمة، وقسمتم كثيراً من الأمم والمدن على ذواتها؛ لقد حطمتم الضوابط الأدبية الدولية على القوى القومية، وخلفتم فوضى من القوميات المقتتلة. لقد أنكرتم سلطان كنيسة أسسها ابن الله باعترافكم، ولكنكم أقررتم الملكية المطلقة، ومجدتم حق الملوك الإلهي. ودمرتم وأنتم لا تدرون
قوة "الكلمة"، وهي البديل الوحيد لقوة المال أو السيف. وادعيتم حق الحكم الشخصي، ولكنكم أنكرتموه على غيركم حالما أمكنكم هذا، وكان رفضكم التسامح من المنشقين أقل وضوحاً للإفهام من رفضنا، لأننا لم ندافع قط عن التسامح، فليس في وسع إنسان أن يتسامح إلا في الأشياء التي لا يبالي بها. ثم انظروا ما أفضى إليه حكمكم الشخصي هذا. فكل رجل يصبح بابا. ويحكم على تعاليم الدين قبل أن يبلغ من العمر ما يتيح له فهم وظائف الدين في المجتمع والأخلاق، وحاجة الناس إلى إيمان ديني. وإن ضرباً ن جنود التمزيق والتفريق لا تكبحه أي سلطة مجمّعة موحّدة يلقي بأتباعكم في منازعات بلغ من سخفها وعنفها أن الناس راحوا يتشككون في الدين كله، وكادت المسيحية ذاتها تصبح في خطر الانحلال، وكاد الناس يتركون في عرى روحي أمام الموت، لولا وقوف الكنيسة صامدة وسط كل تقلبات الرأي والجدل، وكل مستحدثات العلم والفلسفة، لولا أنها تحفظ قطيعها الذي التأم شمله، منتظرة ذلك الوقت الذي يخضع فيه المتفهمون منكم، والمسيحيون الحقيقيون، كبرياء الفردية والعقل لحاجات البشر الدينية، ويعودون إلى الحظيرة الوحيدة القادرة على صون الدين برغم الايديولوجيات المجدفة التي راجت في هذا العصر الشقي".
ترى أيستطيع البروتستنت الرد على هذا الاتهام؟ "يجب ألا ننسى السبب في إنشقاقنا. فلقد فسدت كنيستكم الكاثوليكية سواء في ممارستها أو في أشخاصها، وكف قساوستكم عن أداء وظائفهم، وكان أساقفتكم متعلقين بنعيم الدنيا، وبابواتكم معرة العالم المسيحي؛ ألا يعترف مؤرخوكم بهذا؟ لقد طالبكم رجال أمناء بأن تلحوا ما فسد، محتفظين بولائهم للكنيسة؛ فوعدتم وتظاهرتم بالإصلاح، ولكنكم لم تفعلوا، بل إنكم على العكس من ذلك أحرقتم بالنار رجالاً من أمثال هس وجيروم البراغي لأنهم رفعوا عقائرهم مطالبين بالإصلاح. لقد بذلت مئات الجهود
لإصلاح الكنيسة من الداخل، ولكنها أخفقت، إلى أن أكرهتكم حركة إصلاحنا البروتستنتي على العمل؛ وحتى بعد ثورتنا أصبح البابا الذي حاول تطهير الكنيسة مثار هزأ روما وسخريتها.
"إنكم تتباهون بأنكم خلقتم النهضة، ولكن الكل مجمعون على أن النهضة كانت تنبعث وسط فساد خلقي، وعنف، وخيانة، لم تعرفها أوربا منذ عهد نيرون؛ أفلم نكن محقين في الاحتجاج على هذه الوثنية، التي تختال عجباً حتى في الفاتيكان؟ وإذا سلمنا أن الأخلاق انحدرت حينا بعد أن بدأت حركة إصلاحنا، فإن إعادة بناء حياة خلقية بليت أسسها وخدماتها الدينية استغرق بعض الوقت، وأخيراً أصبحت أخلاقيات البلاد البروتستنتية أسمى بكثير من أخلاقيات فرنسا وإيطاليا الكاثوليكيتين. قد ندين بيقظتنا الذهنية للنهضة، ولكنا ندين بشفائنا الخلقي لحركة الإصلاح البروتستنتي، فقد أضافت دعم الخلق إلى تحرير العقل، ثم إن نهضتكم اقتصرت على الأرستقراطية والمفكرين، لقد احتقرت الشعب، وأغضت عن خداع باعة صكوك الغفران لأفراده، وعن غش مستغلي الخرافات من المتظاهرين بالنسك. أو لم يكن خيراً تحدى هذا الاستغلال المالي الصارخ لآمال البشر ومخاوفهم. لقد رفضنا الصور والتماثيل التي بثثتموها في كنائسكم، لأنكم كنتم تسمحون للناس أن يعبدوا الصور ذاتها، كما كان يحدث حين فرضتم عليهم الركوع أمام الدمى المقدسة المحمولة في مواكب تخترق الشوارع. أما نحن فقد جرؤنا على إرساء ديانتنا فوق إيمان قوي نشيط، بدلاً من محاولة تخدير عقول الناس بالطقوس.
"وقد اعترفنا بأن السلطة الزمنية من عند الله-كما اعترف لاهوتيوكم من قبلنا-لأن النظام الاجتماعي يتطلب حكومة محترمة. ولم نرفض سلطة البابوات الدولية إلا بعد أن استعملوها استعمالاً فاضحاً، لا للحكم بالعدل بين الأمم بل لخدمة مآربهم المادية. وعجز بابواتكم الأنانيين عن توحيد
أوربا في حملة صليبية ضد العثمانيين يدل على أن خيانة البابوية حطمت وحدة العالم المسيحي قبل حركة الإصلاح البروتستنتي بزمن طويل. ومع أننا أيدنا حق الملوك الإلهي، فإننا أيضاً شجعنا نمو الديمقراطية في إنجلترا واسكتلندة وسويسرة وأمريكا، في حين كان قساوستكم في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا يخضعون للملوك؛ وقد حطم تمردنا على سلطة كنيستكم تعويذة الحكم المطلق، وهيأ أوربا لمسائلة كل ألوان الاستبداد دينية كانت أو علمانية. إنكم تعتقدون أننا جعلنا الفقراء أفقر مما كانوا. ولكن هذه أيضاً كانت مرحلة عابرة، فالرأسمالية ذاتها التي استغلت فقر الفقراء حيناً تعلمت أن تغني الرجل المتوسط كما لم يغن من قبل؛ وما من ريب في أن مستوى المعيشة في إنجلترا وألمانيا وأمريكا البروتستنتية أعلى منه في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا الكاثوليكية.
"وإذا كنتم اليوم أقوى مما كنتم بالأمس، فإنما الفضل في هذه القوة لنا. فماذا كان يحدث لو لم تكرهكم حركة الإصلاح البروتستنتي على إصلاح الإدارة البابوية، وإنقاذ أكليروسكم من التسري، وتنصيب رجال مؤمنين على كرسي البابوية بدلاً من الوثنيين؟ ولمن تدينون بالفضل لما يتمتع به أكليروسكم اليوم من سمعة النزاهة؟ المجمع ترنت؟ ولكن لمن تدينون بالفضل في مجتمع ترنت إن لم يكن لحركة الإصلاح البروتستنتي؟ فلولا ذلك الضابط لواصلت كنيستكم انحدارها من المسيحية إلى الوثنية حين ينتهي الأمر بتتويج بابواتكم على عالم لا أدري أبيقوري. وحتى مع هذا التجديد الذي فرضناه على كنيستكم، فإن الشعوب التي تقبل عقيدتكم أشد إهمالاً للدين، وتشككاً في المسيحية، من الشعوب التي اعتنقت الإصلاح البروتستنتي؛ ويكفي أن تقارنوا بين فرنسا وإنجلترا.
ولقد تعلمنا أن نوفق بين تديننا وبين حرية العقل، وأقطارنا البروتستنتية هي التي شهدت أعظم ازدهار للعلم والفلسفة. ونحن نأمل
أن نلائم بين مسيحيتنا وبين تقدم المعرفة-ولكن أنى يتيسر هذا لكنيسة ترفض كل علم القرون الأربعة الماضية؟ ".
وهنا يتدخل الإنسان في المناقشة، فيهدم البيتين جميعاً على رأسه. هذا فخر البروتستنتية وضعفها، فهي تستهوي العقل، الذي لا يفتأ يتغير، أما قوة الكاثوليكية ففي رفضها أن تكيف نفسها وفق نظريات العلم، التي تثبت من الخبرة التاريخية أنها قلّما تعيش بعد القرن الذي ولدت فيه. إن الكاثوليكية تستهدف إشباع مطالب الناس الروحية، الناس الذين قلّما سمعوا بكوبرنيق وداروين، ولم يسمعوا قط بسبينوزا وكانت؛ وهؤلاء الناس كثيرون خصيبون، ولكن أنى لدين يتحدث إلى العقل، ويتمركز حول العظة، أن يكيف نفسه وفق كون آخذ في الاتساع، كون أصبح فيه الكوكب الذي ادعى أنه تلقى ابن الله نقطة عابرة في الفضاء، وليس النوع الذي مات من أجله سوى لحظة في مشهد الحياة الدائم التغيير؟ وما الذي يحدث للبروتستنتية إذا أخضع الكتاب الذي اتخذتها أساسها الوحيد والمعصوم للنقد "الأعلى" الذي يحيله من كلمة الله إلى أدب العبرانيين وإلى تحول المسيح في لاهوت بولس الصوفي؟.
"ليست المشكلة الحقيقية التي تواجه العقل الحديث ذلك الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ولا بين الإصلاح البروتستنتي والنهضة؛ إنها بين المسيحية والتنوير-هذه الحقبة التي ليس من اليسير تحديد تاريخها، والتي بدأت بفرانسس بيكن، وعقدت آمالها على العقل والعلم والفلسفة. وكما كان الفن ركيزة النهضة، والدين روح الإصلاح البروتستنتي، فكذلك أصبح العلم والفلسفة إلهي التنوير، ومن وجهة النظر هذه كانت النهضة تسير في الخط المباشر للتطور العقلي الأوربي، وأفضت غلى الاستنارة، أما حركة الإصلاح البروتستنتي فكانت انحرافاً عن ذلك الخط، ورفضاً للعقل، وتأكيداً جديداً للإيمان الوسيط.
"ومع ذلك فإن حركة الإصلاح البروتستني برغم تعصبها في أول عهدها أسدت صنيعين لحركة التنوير، فقد حطمت سلطان العقيدة، وبعثت عشرات الملل والنحل التي لو وجدت قبلها لماتت حرقاً، وسمحت بأن يقوم فيما بينها جدل كان من القوة بحيث اعترف في النهاية بأن العقل هو المحكمة التي يتعين على جميع المذاهب أن تترافع أمامها عن قضاياها ما لم تكن مسلحة بقوة مادية لا تقاوم. وفي تلك المرافعة، في ذلك الهجوم والدفاع، تضعضعت كل المذاهب والعقائد، ولم ينقض قرن على تمجيد لوثر للإيمان حتى أعلن فرانسيس بيكن أن المعرفة قوة. وفي ذلك القرن السابع عشر بعينه قدم المفكرون من أمثال ديكارت وهويز وسبينوزا ولوك الفلسفة بديلاً للدين أو أساساً له، وفي القرن الثامن عشر جهر هلفتيوس وهولباك، ولا متري بالإلحاد، ونعت فولتير بالتعصب لأنه آمن بالله. هذا هو التحدي الذي واجهته المسيحية، في أزمة أعمق كثيراً من الجدل بين الترجمة الكاثوليكية والبروتستنتية لعقيدة العصر الوسيط. والجهد الذي بذلته المسيحية للبقاء برغم كوبرنيق وداروين هو المسرحية الأساسية للقرون الثلاثة الأخيرة. فليت شعري أي قيمة لصراعات الدول والطبقات بالقياس إلى تلك المعركة الفاصلة الكبرى، هرمجدون النفس الأسبانية؟ ".
والآن إذا نلقي إلى الوراء بنظرة على هذه القصة المتعرجة التي روتها هذه الصفحات الألف، ندرك أننا نستطيع التعاطف مع جميع الأطراف المقاتلة. نستطيع أن نفهم غضب لوثر على فساد روما وتسلطها، وكره الأمراء الألمان أن يروا العطايا الألمانية تسمن إيطاليا، وعزم كالفن ونوكس على بناء جماعات خلفية مثالية، ورغبة هنري الثامن في أن يكون لملكه وريث، وأن يكون له على مملكته سلطان. ولكنا نستطيع أن نفهم أيضاً آمال إرزمس في إصلاح لا يسمم العالم المسيحي بالحقد، ونستطيع أن نشعر بفزع الأتقياء من أساقفة روما مثل كونتاريني مما يحتمل من تمزيق
كنيسة ظلت القرون حاضنة وحارسة للحضارة الغربية، وما زالت أمنع حصن ضد فساد الخلق والفوضى واليأس.
إن شيئاً من هذه الجهود لم يضع سدى. فالفرد يستسلم للموت، ولكنه لا يموت إذا خلف للبشرية شيئاً. لقد عاونت البروتستنتية في الوقت المناسب على تجديد حياة أوربا الخلقية، وطهرت الكنيسة نفسها فغدت منظمة أضعف سياسياً وأقوى خلقياً مما كانت. وثمة درس واحد ينبعث ويعلو فوق دخان المعركة. وهو أن الدين يكون في أفضل حالاته إذا اضطر للعيش في ظروف المنافسة؛ هو ينزع إلى التعصب متى وحيثما افتقر إلى التحدي وغدا السيل الأعلى. وأعظم ما جادت به حركة الإصلاح البروتستنتي هو تزويدها أوربا وأمريكا بتلك المنافسة الدينية التي تشحذ همة كل مذهب، وتنبه إلى التسامح، وتهب عقولنا الهشة لذة الحرية وامتحانها.
تشجع أيها القارئ! فلقد قاربنا النهاية.