الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثاني
الهند وجيرانها
(1)
(1)
"أسمى الحقائق هي هذه: الله كائن في الأشياء كلها؛ إنها صوره الكثيرة، ليس وراء هذه الكائنات إله آخر تبحث عنه
…
إننا نريد عقيدة دينية تعمل على تكوين الإنسان
…
اطرح هذه التصرفات المنهكة للقوى وكن قوياً
…
ومدى الخمسين عاماً المقبلة
…
لنمح كل ما عدا ذلك من آلهة من صفحات أذهاننا؛ جنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، يداه في كل مكان، قدماه في كل مكان، أذناه في كل مكان؛ إنه يشمل كل شيء
…
إن أولى العبادات كلها هي عبادة من حولنا
…
ليس يعبد الله إلا من يخدم سائر الكائنات جميعاً". فيفيكاناندا
الباب الرابع عشر
آساس الهند
الفصل الأول
مكان المسرحية
إعادة كشف الهند - نظرة عجلى إلى الخريطة - المؤتمرات المناخية
ليس ثمة ما يجلل طلب العلم في عصرنا بعارٍ أكثر من حداثة معرفته بالهند ونقص هذه المعرفة، فهاهنا شبه جزيرة فسيحة الأرجاء يبلغ اتساعها ما يقرب من مليوني ميل مربع، فهي ثلثا الولايات المتحدة في مساحتها، وهي أكبر من بريطانيا العظمى- صاحبة السيادة عليها
(1)
- عشرين مرة، ويسكنها ثلاثمائة وعشرون مليوناً من الأنفس، وهو عدد أكبر من سكان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية مجتمعتين، أو هو خُمسُ سكان الأرض جميعاً، وفيها اتصال عجيب في مراحل تطورها وفي مدنيتها من "موهنجو- دارو"، سنة 2900 ق. م أو قبل ذلك، إلى غاندي ورامان وطاغور، ولها من العقائد الدينية ما يمثل كل مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدق عقيدة في وحدة الوجود وأكثرها روحانية، ولها من الفلاسفة من عزفوا مئات الأنغام على وتر التوحيد بادئين من أسفار "اليوبانشاد" في القرن الثامن قبل الميلاد، إلى شانكارا في القرن الثامن بعد الميلاد، ومنها من العلماء الذين تقدموا بالفلك منذ ثلاثة آلاف عام والذين ظفروا بجوائز "نوبل" في عصرنا هذا، ويسودها دستور ديمقراطي لا نستطيع أن نتعقبه إلى أصوله الأولى في القرى، كما سادها في العواصم حكام حكماء خيّرون مثل "أشوكا" و "أكبر" وأنشد لها من الشعراء من تغنى لهم بملاحم عظمى تكاد تعادل هومر في قدم العهد، ومن
(1)
صدر الكتاب في الأصل الإنجليزي سنة 1935 م.
يستوقف أسماع العالم اليوم، ولها من رجال الفن من شيدوا لها المعابد الجبارة لآلهة الهندوس، تراها منتشرة من التبت إلى سيلان؛ ومن كامبوديا إلى جاوة، أو مَن زخرفوا القصور الرائعة بالعشرات لملوك المغول وملكاتهم- تلك هي الهند التي يفتح لنا أبوابها البحثُ العلمي الدءوب، كأنها قارة عقلية جديدة يفتتحها البحث العلمي أمام العقل الغربي الذي كان بالأمس يظن أن المدنية نتاج أوربي خالص لا يشاركها فيه بلد آخر
(1)
.
(1)
منذ عهد المجسطي الذي وصف الهند لليونان حوالي سنة 302 ق. م حتى القرن الثامن عشر، ظلت الهند في عيني أوربا أعجوبة ولغزاً غامضاًً، فلقد صور ماركو بولو (1254 - 1323) حافتها الغربية تصويراً غامضاًً، وعثر كولمبس على أمريكا في محاولته بلوغ الهند، وأبحر فاسكودا جاما حول أفريقيا ليعيد كشف الهند، وأطلقت ألسنة التجار في جشع تتحدث عن "ثروة جزائر الهند" أما العلماء فقد تركوا هذا المنجم وأوشكوا ألا يطرقوه، ثم افتتح لهم الطريق مبشر هولندي ذهب إلى الهند، هو "أبراهام روجر" بكتابه "باب مفتوح إلى الوثنية الخبيثة"(1651)؛ وبرهن "دريدن" على يقظته للعالم حين كتب مسرحيته "أورنجزيب"(1675) وبعدئذ جاء راهب نمساوي، هو "فرا باولينو دي س. بارتلوميو" فخطا بالموضوع خطوة بكتابين في قواعد اللغة السنسكريتية، ورسالة في "النظام البرهمي"(1792)(1 أ)، وفي سنة 1789 بدأ "سير وليم جونز" سيرة حياته كعالم عظيم في شئون الهند، بترجمته لـ "شاكنتالا" وهي من تأليف "كاليداسا" وقد أعيدت هذه الترجمة إلى اللغة الألمانية سنة 1791، فكان لها أعمق الأثر على "هردر" وجيته بل وعلى الحركة الابتداعية كلها بفضل أبناء شليجل؛ تلك الحركة التي تعلق رجاؤها بالشرق تلتمس عنده كل التصوف وكل الغموض الذي يظهر أن قد محاه من الغرب دخول العلم وموجة التنوير، ولقد أدهش "جونز" دنيا العلم حين أعلن أن اللغة السنسكريتية متحدة في أصولها مع لغات أوربا، ودليل ناهض على قرابتنا الجنسية بالهندوس أصحاب الفيدا؛ وتكاد هذه النتائج التي أعلنها تكون البداية الأولى لعلم اللغات وعلم أصول الأجناس البشرية الحيدثين، وفي سنة 1805 كتب "كولبرول" مقالاًً "في الفيدات" كشف به لأوربا عن أقدم ما جرى به الأدب الهندي، وحول الوقت نفسه ترجم "أنكتيل دبرون" أسفار "يوبانشاد" عن ترجمة فارسية، فاطلع عليها "شلنج" و "شوبنهور" وقال عنها الأخير أنها أعمق ما قرأ من فلسفة (2)، وكادت البوذية ألا يعرفها أحد باعتبارها فلسفة فكرية حتى نشر "برنوف" مقالته "في اللغة البالية"(1826) - أي اللغة التي كتبت بها وثائق البوذية؛ وبفضل "برنوف" في فرنسا، وتلميذه "ماكس مولر" في إنجلترا، تحرك العلماء ومهدوا السبيل إلى ترجمة كاملة "للكتب المقدسة في الشرق" وخطا "رايس ديفدز" بالمهمة خطوة إلى الأمام حين خصص كل حياته لعرض الأدب البوذي، وبفضل هذه المجهودات وبالرغم منها، تبين لنا أننا لا نعرف عن الهند إلا ما يصح أن نسميه ببداية المعرفة؛ فإلمامنا بأدبها يشبه في ضآلته إلمام أوربا بالآداب اليونانية والرومانية أيام شرلمان، وترانا اليوم وقد بهرنا الكشف الجديد نسرف في سخاء حين نقدر قيمة ما كشفنا عنه، فيعتقد فيلسوف أوربي أن "حكمة الهند أعمق ما عرف العالم من حكمة" وكتب كاتب قصصي عظيم يقول:"إني لم أصادف في أوربا أو أمريكا من الشعراء أو المفكرين أو الزعماء الشعبيين من يساوى، بل لم أجد من يصح أن يقارن بما نراه في الهند اليوم من هؤلاء وأولئك".
إن مسرح التاريخ مثلّث كبير تضيق جوانبه تدريجياً من ثلوج الهملايا الدائمة إلى حرارة سيلان التي لم تبرد منذ الأزل، وفي ركن من جهة اليسار تقع فارس التي تشبه الهند الفيدية شبهاً قوياً في أهلها ولغتها وآلهتها، فإذا ما تتبعت الحدود الشمالية متجهاً نحو الشرق، وقعت على أفغانستان، حيث ترى "قندهار"، وهي "جاندهار" قديماً، وفيها التقى النحت اليوناني الهندوسي
(1)
حيناً ثم افترقا بحيث لا يلتقيان إلى الأبد، وإلى الشمال ترى "كابل" التي أغار منها المسلمون والمغول تلك الإغارات الدموية التي مكنتهم من الهند مدى ألف عام؛ فإذا توغلْت في حدود الهند مسيرة يوم قصير وأنت راكب من "كابل" وصلت "بشاور" التي لا تزال على العهد القديم الذي ألفناه في أهل الشمال؛ وأعني به الميل إلى غزو الجنوب، والْحَظْ كم تقرب الروسيا من الهند عند جبال البامير وممرات هندوكوش، فها هنا سترى كثيراً من المشكلات السياسية يثور؛ وإلى الطرف الشمالي من الهند مباشرة يقع إقليم "كشمير" الذي يدل اسمه نفسه على مجلد تليد ظفرت به صناعات النسيج في الهند وجنوبيها يقع البنجاب، ومعناها (أرض الأنهار الخمسة) بمدينتيه العظيمتين "لاهور" و "شِمْلا" عاصمة الصيف عند سطح الهملايا، ومعناها (بيت الثلج).
ويجري نهر السند خلال الجزء الغربي من بنجاب، وهو نهر جبار طوله
(1)
كلمة هندي سنعني بها في هذا الكتاب أهل الهند بصفة عامة، وكذلك سنستخدم كلمة هندوسي أحيانا بهذا المعنى، على سبيل التغيير، متبعين في ذلك ما جرى عليه الفرس واليونان، ولكننا في المواضع التي نخشى عندها الخلط، سنستعمل كلمة هندوسي في معناها الأدق الذي شاع في العصور الأخيرة، وذلك أن نعني به واحداً من سكان الهند يعتنق إحدى العقائد الدينية الوطنية (فهناك في هذا الصدد الهندوسي من جهة والمسلم من جهة أخرى).
ألف ميل، واسمه مشتق من اللفظة الإقليمية التي معناها "نهر"(وهي سندو)، وقد حورها الفرس إلى كلمة "هندو" ثم أطلقوها على الهند الشمالية كلها في كلمتهم "هندوستان"(أي بلاد الأنهار)، ومن هذه الكلمة الفارسية "هندو" نحت الإغريق الغزاة كلمة "الهند" وهي التي بقيت لنا إلى اليوم.
وينبع من البنجاب نهرا جمنة والكنج، اللذان يجريان في خطوٍ وتيد، إلى الجنوب الشرقي، أما "جمنة" فيروي العاصمة الجديدة "دلهي" ويعكس على صفحته "تاج محل" عند "أجرا"، وأما نهر الكنج فيزداد اتساعاً كلما سار نحو "المدينة المقدسة" بنارس، ويطَّهر بمائه مائة ألف عابد من عُبَّاده كل يوم، ويخصب بمصباته الاثنى عشر إقليم البنغال والعاصمة البريطانية القديمة كلكتا؛ فإذا ما ازددت إيغالاً في مسيرك ناحية الشرق، ألفيت "بورما" بمعابدها الذهبية في رانجون وطريقها المشرق بشمسه إلى مندلاي، وعد من مندلاي عابراً الهند إلى مطارها الشرقي في كراتشي. تجدك قد قطعت في الهواء طريقاً يكاد يقرب من المسافة التي تقطعها بالطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس، وإذ أنت في طائرتك عائداً، سترى جنوبي السند إقليم راجبوتانا، وهو الإقليم الذي شهد مدن راجبوت المعروفة ببطولتها، والمشهورة على الدهر، وهي "جواليور" و "شيتور" و "جابور" و "آجمر" و "أورايبور"، وإلى الجنوب والغرب ترى "مكان الرئاسة" أو إقليم بمباي، الذي تموج مدائنه بأهليها: سورات، احمد أباد، بمباي، بونا، وإلى الجنوب والشرق تقع دويلتان متقدمتان يحكمهما حكام وطنيون، وهما حيدر أباد وميسور، بعاصمتيهما الرائعتين المسماتين بهذين الاسمين؛ وعلى الساحل الغربي تقع "جوا"، وعلى الساحل الشرقي تقع "بندشيري"، حيث ترك الغزاة البريطانيون للبرتغاليين وللفرنسيين- على هذا التوالي- بضعة أميال مربعة على سبيل التعويض، وعلى امتداد خليج البنغال تمتد "رئاسة مِدْرَاسْ" بمدينتها مِدْرَاسْ المعروفة بدقة الحكم فيها، مركزاً لها، وبمعابدها الفخمة في اكتئاب عند "نانجور" و "ترتشيفوبولي" و "مادورا" و "رامشفارام" تزين حدودها
الجنوبية، ثم يأتي "جسر آدم"- وهو خط من الجزائر الغائصة في الماء- يأتي بعدئذ فيشير لنا داعياً أن نعبر عليه المضيق إلى سيلان حيث ازدهرت المدينة منذ ستة عشر قرناً، وكل هذه الأرجاء لا تزيد عن جزء صغير من الهند.
فلا ينبغي إذن أن ننظر إليها نظرتنا إلى أمة واحدة مثل مصر أو بابل أو إنجلترا، بل لابد من اعتبارها قارة بأسرها فيها من كثرة السكان واختلاف اللغات ما في القارة الأوربية، وتكاد تشبه القارة الأوربية كذلك في اختلاف أجوائها وآدابها وفلسفاتها وفنونها؛ فالجزء الشمالي منها يتعرض للرياح الباردة التي تهب عليه من الهملايا، كما يتعرض للضباب الذي يتكون حين تلتقي هذه الرياح الباردة بشمس الجنوب؛ وفي البنجاب تكونت بفعل الأنهار سهول خصيبة عظيمة لا يدانيها في خصوبتها بلد آخر (4)، لكنك إذا ما توجهت جنوبي وديان تلك الأنهار، وجدت الشمس تحكم حكم المستبد الذي لا يقف استبداده شيء، ولهذا جفت السهول وتعرّت، وتحتاج في زراعتها لكي تثمر، لا إلى مجرد الفلاحة، بل تحتاج من الجهود الشاقة إلى ما يكاد يدنو من العبودية المميتة (5) ولذلك لا يقيم الإنجليز في الهند أكثر من خمس سنوات في المرة الواحدة،، فإذا رأيت مائة ألف إنجليزي يحكمون من الهنود عدداً يكبر عددهم ثلاثة آلاف مرة فاعلم أن سبب ذلك هو أنهم لم يقيموا هناك مدة تكفي لصبغهم بصبغة الإقليم.
وتنتشر في أرجاء البلاد هنا وهناك غابات بدائية لم تزل باقية تكوّن خُمْس البلاد، ترتع فيها النمور والفهود والذئاب والثعابين، وفي الثلث الجنوبي من الهند يقع إقليم "دِكن"
(1)
حيث تزداد حرارة الشمس جفافاً إلا إذا لطفتها نسائم تهب عليها من البحر، لكن الحرارة هي العنصر الرئيسي السائد من
(1)
كلمة "دكن" مشتقة من اصل لغوي معناه "اليمين" ومن ثم يكون لها معنى ثان هو "الجنوب" لان جنوب الهند يكون على يمين المصلي الذي يواجه مشرق الشمس.
دلهي إلى سيلان، تلك الحرارة التي أضعفت الأبدان، وقصرت الشباب، وأنتجت للناس هناك ديانتهم وفلسفتهم المسالمتين، فليس يخفف عنك هذه الحرارة إلا أن تجلس ساكناً، لا تعمل شيئاً، ولا ترغب في شيء، أو قد تأتي أشهر الصيف فتأتي رياحها الموسمية برطوبة منعشة ومطر مخصب من البحر، فإذا امتنعت الرياح الموسمية عن هبوبها، تضورت الهند بالجوع، وطافت بها أحلام النرفانا.
الفصل الثاني
أقدم المدنيات
الهند قبل التاريخ - موهنجو دارو - عصرها القديم
في العهد الذي كان المؤرخون فيه يفترضون أن التاريخ قد بدأ سَيْره باليونان، آمنت أوربا إيماناً اغتبطت له، بأن الهند قد كانت مباءة وحشية حتى هاجر إليها "الآريون" أبناء أعمام الأوربيين، هاجروا من شُطئان بحر قزوين ليحملوا معهم الفنون والعلوم إلى شبه جزيرة وحشية يكتنفها ظلام الليل، لكن الأبحاث الحديثة قد أفسدت هذه الصورة الممتعة- كما ستغير أبحاث المستقبل من الصورة التي نرسمها على هذه الصفحات، ففي الهند- كما سائر أقطار الأرض- بدايات المدنية دفينة تحت الثرى، ويستحيل على فؤوس البحث الأثري كلها أن تستخرجها جميعاً، فبقايا العصر الحجري القديم تملأ خزانات كثيرة في متاحف كلكتا ومِدْرَاسْ وبمباي، كما وجدت أشياء من العصر الحجري الحديث في كل دولة تقريباً (6)، ومع ذلك فقد كانت هذه ثقافات لم تصبح بعد مدنية.
وفي سنة 1924 م ارتجت دنيا العلم الجديد مرة أخري بأنباء جاءتها من الهند، إذ أعلن "سير جون مارشال" أن أعوانه الهنود- وبصفة خاصة "ر. د. بانرجي"- قد اكتشفوا عند "موهنجو- دارو" على الضفة الغربية من السند الأدنى- آثاراً من مدنية يبدو أنها أقدم عهداً من أية مدنية أخري يعرفها المؤرخون، فهنالك - كما في "هارابا" على بعد بضع مئات من الأميال ناحية الشمال- أزيلت طبقة من الأرض عن أربع مدن أو خمس بعضها فوق بعض طبقات، فيها مئات من المنازل والدكاكين بنيت بالآجر بناء متيناً، واصطفت على امتداد طرق واسعة حيناً وحارات ضيقة حيناً آخر،
وترتفع حالات كثيرة عدة طبقات، ولنترك "سير جون" يحدثنا عن تقديره لعمر هذه الآثار.
"تؤيد هذه الكشوف قيام حياة مدنية بالغة الرقي، في السند (وهو إقليم في "رئاسة بمباي" يقع في أعلى الشمال) والبنجاب خلال الألف الرابعة والثالثة من السنين قبل الميلاد، ووجود آبار وحمامات ونظام دقيق للصرف في كثير من هذه المنازل، يدل على حالة اجتماعية في حياة أهل تلك المدن تساوي على الأقل ما وجدناه في "سومر"، وتفوق ما كان سائداً في العصر نفسه في بابل ومصر .. وحتى "أور" لا تضارع بمنازلها من حيث البناء، منازل موهنجو- دارو"(7).
وبين الموجودات في هذه الأماكن آنية منزلية وأدوات للزينة، وخزف مطلي وبغير طلاء، صاغه الإنسان بيده في بعض الحالات وبالعجلة في بعضها الآخر، وتماثيل من الخزف، وزهْر اللعب وشطرنج، ونقود أقدم من أي نقود وجدناها من قبل، وأكثر من ألف ختم معظمها محفور ومكتوب بكتابة تصويرية نجهلها، وخزف مزخرف من الطراز الأول، وحفر على الحجر أجود مما وجدناه في سومر (8) وأسلحة وأدوات من النحاس، ونموذج نحاسي لعربة ذات عجلتين (وهي من أقدم ما لدينا من أمثلة للعربة ذات العجلات) وأساور وأقراط وعقود وغيرها من الحلي المصنوع من الذهب والفضة صناعة- كما يقول مارشال- "بلغت من دقة الإتقان ومهارة الصقل حداً يجعلها صالحة للعرض عند صائغ في شارع بُند (شارع في لندن مشهور بجودة معروضاته) في يومنا هذا، فذلك أقرب إلى المعقول من أن تستخرج من منزل مما قبل التاريخ يرجع إلى سنة 5000 ق. م"(9).
ومن العجيب أن الطبقات الدنيا من هذه الآثار أرفع في فنونها من الطبقات العليا- كأنما أقدم هذه الآثار عهداً يرجع إلى مدنية أقدم من مدنية زميلتها في الطبقات العليا بمئات السنين، وقد يكون بآلافها وبعض الآلات هناك
مصنوع من الحجر، وبعضها من النحاس، وبعضها من البرونز، مما قد يدل على أن هذه الثقافة السندية قد نشأت في مرحلة انتقال بين عصر الحجر، وعصر البرونز من حيث المادة التي تصنع منها الآلات (10).
وتنهض الدلائل على أن "موهنجو- دارو" كانت في ذروتها حين شيد خوفو الهرم الأكبر، وعلى أنها كانت تتصل مع سومر وبابل
(1)
بصلات تجارية ودينية وفنية، وأنها ظلت قائمة أكثر من ثلاثة آلاف عام، حتى كان القرن الثالث قبل الميلاد
(2)
، ولسنا نستطيع الجزم برأي فيما إذا كانت
(1)
هذه الصلات يدل عليها ما وجدناه من أختام متشابهة في موهنجو- دارو وفي سومر (خصوصاً عند كيش) كما يدل عليها ظهور "الناجا" أي الثعبان ذي الغطاء، بين الآثار القديمة فيما بين النهرين (11)، وفي سنة 1932 كشف الدكتور هنري فرانكفورت بين آثار وجدها في قرية "بابلية عيلامية" وهي ما يسمى الآن "بتل أسمر"(بالقرب من بغداد)، كشف عن أختام وخرزات خزفية هي في رأيه (ويوافقه سير جون مارشال) قد جاءتها من موهنجو- دارو حوالي سنة 2000 ق. م.
(2)
يعتقد "ماكدونل" أن هذه المدنية العجيبة قد استمدت أصولها من سومر (14) وأما "هول" فيرى أن السومريين قد نقلوا ثقافتهم عن الهند (15)، ورأي "وولي" هو أن الثقافتين السومرية والهندوسية القديمة قد جاءتا معاً من أصل مشترك وثقافة مشتركة في بلوخستان أو بالقرب منها (16)، ولقد دهش الباحثون حين رأوا أن الأختام المتشابهة الموجودة في بابل وفي الهند ترجع إلى أقدم مراحل الثقافة في أرض الجزيرة (ما بين النهرين)، أي إلى المرحلة السابقة لسومر، لكنها ترجع إلى آخر مرحلة من مراحل المدنية السندية (17) - مما يدل على أسبقية الهند، ويميل "تشايلد" إلى الأخذ بهذه النتيجة:"عند نهاية الألف الرابع من السنين قبل الميلاد، تستطيع الثقافة المادية في "أبيدوس" أو "أور" أو "موهنجو- دارو" أن تثبت للمقارنة مع مثيلتها في أثينا أيام بركليز، أو مع أية مدنية شئت من مدن القرون الوسطى
…
وإذا حكمنا بفن بناء المنازل وخراطة الأختام ورشاقة المصنوعات الخزفية، وجدنا أن المدنية السندية كانت سابقة للبابلية في بداية الألف الثالث من السنين (حوالي 3000 ق. م) غير أن ذلك كان مرحلة متأخرة في الثقافة الهندية، ومن الجائز أن قد كان لها زعامة لا تقل عن هذه في الأزمنة السابقة لذلك العهد، ألم تكن - إذن - المبتكرات والمكتشفات التي تتميز بها المدنية السومرية النمط، نباتاًً أنتجته تربة بابل نفسها وتعهدته في مراحل تطوره، بل كانت أثراً من آثار الإيحاء الهندي؟ ولو صح ذلك، فهل جاء السومريون أنفسهم من السند، أو على الأقل من مناطق تقع تحت تأثيرها المباشر؟ (18) هذه الأسئلة المثيرة للخيال لا يمكن الإجابة عنها الآن، لكنها تذكرنا بأن تاريخاًً نكتبه للمدنية قد يبدأ- بسبب جهلنا البشري - عند نقطة ربما كانت في حقيقة أمرها مرحلة متأخرة في مجرى التطور الثقافي.
"موهنجو- دارو" تمثل أقدم ما كشف عنه الإنسان من مدنيات، كما يعتقد "مارشال"، لكن إخراج ما تكنه الهند في جوفها قد بدأ أمس القريب، فالبحث الأثري لم ينتقل من مصر عبر الجزيرة إلى الهند، إلا في حياتنا، فلما ننكت تربة الهند كما فعلنا بتربة مصر، فربما نجد هناك مدنية أقدم من المدنية التي ازدهرت من غرين النيل
(1)
.
(1)
كشفت الحفريات الحديثة بالقرب من "تشتالدرج" في ميسور، عن ست طبقات من آثار الثقافة القديمة، بادئة من آلات العصر الحجري والمصنوعات الخزفية المزخرفة بأشكال هندسية التي يرجع عهدها في الغالب إلى سنة 4000 ق. م، إلى آثار هي من حدائة العهد بحيث ترجع إلى سنة 1200 بعد الميلاد.
الفصل الثالث
الهنود الآريون
السكان الأصليون - الغزاة - المجتمع
القروي - نظام الطبقات -المحاربون -
الكهنة - التجار - الصناع - المنبوذون
على الرغم مما تدل عليه آثار السند وميسور من اتصال في تسلسل التاريخ، فإنا نشعر بأن بين ازدهار "موهنجو - دارو" وبين دخول الآريين، فجوة في علمنا، أو ربما كان الأقرب إلى الصواب هو أن علمنا بالماضي فجوة شاءتها المصادفة في جهلنا، وتشتمل آثار السند على خاتم عجيب يتألف من رأسين من رؤوس الثعابين، وهو الرمز المميز لأقدم سكان الهند ممن عرف التاريخ - هؤلاء هم "الناجا" الذين كانوا يعبدون الثعبان، والذين وجدهم الآريون الغزاة قابضين على المناطق الشمالية، والذين لا تزال سلالتهم متلكئة على قيد الحياة في التلال البعيدة (20)، فإذا توغلت ناحية الجنوب، وجدت الأرض التي كان يسكنها عندئذ قوم سود البشرة فطس الأنوف، ويسمون "بالدرافيديين"- ولا نعلم أصل الكلمة - وقد كانوا على شيء من المدنية حين هبط عليهم الآريون، وبحارتهم المغامرون شقوا البحار حتى بلغوا سومر وبابل، وعرفت مدائنهم كثيراً من رقة العيش وأسباب الترف (21)، فيجوز أن الآريين قد استمدوا من هؤلاء الناس نظام الجماعة القروية وملكية الأرض والضرائب (22) ولا يزال "الدكن" إلى يومنا هذا مسكناً رئيسيأ للدرافيديين ومركزاً لعاداتهم ولغتهم وأدبهم وفنونهم.
ولم تكن غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة، وانتصارهم عليها، إلا حلقة
من سلسلة متصلة من الغزوات كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب، فينقض الشمال انقضاضاً عنيفاً على الجنوب المستقر الآمن، وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ، إذ أخذت المدنيات تعلو على سطحه وتهبط كأنها أدوار الفيضان يعلو عصراً بعد عصر، فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين، والآخيّون والدوريّون قد هبطوا على الكريتيِّين والإيجيِّين، والجرمان قد هبطوا على الرومان، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين، والجنوب يمده بالفنانين والقديسين، فالجنة إنما يرثها الجبناء.
فمن هؤلاء الآريون الذين كانوا يضربون في الأرض؟ أما هم أنفسهم فقد استعملوا كلمة "آري" ليعنوا بها "الأشراف"(في السنسكريتية آرياً معناها شريف)، لكن ربما كان هذا الاشتقاق المبنى على النزعة الوطنية أحد الأفكار البَعْدِيَّة التي تُلقي شعاعاً من التهكم المر على علم اللغات
(1)
، ومن المرجح جداً أن يكونوا قد جاءوا من تلك المنطقة القزوينية التي كان بنو أعمامهم من الفرس يسمونها "إيريانا فيجو" ومعناها "الوطن الآري"
(2)
، وفي نفس
(1)
يرى "مونيبه - وليمز" أن "آري" مشتقة من أصل سنسكريتي معناه يحرث (23)، ولك أن تقارن هذا الأصل (ri-ar) بكلمتين لاتينيتين (aratrum) ومعناها محراث، و (area) ومعناها سهل مكشوف، وعلى هذا الأساس تكون كلمة "آري" معناها في الأصل فلاح لا شريف.
(2)
نجد بعض الآلهة الفيديين الصميمين مثل "إندرا" و "مترا" و "فارونا" مذكورين في معاهدة عقدت بين الحيثيين الآريين والميتانيين في بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد (24)، وكذلك نرى أن أحد الطقوس الفيدية الخالصة، وهي شرب عصير "السوما" المقدس، يظهر أيضاً عند الفرس في احتفالهم بشرب عصير "الهوما" المقدس (مع ملاحظة أن حرف س في اللغة السنسكريتية يقابل حرف الهاء في الفارسية، ومن هنا "سوما" أصبحت "هوما" كما أصبحت كلمة "السندو" "هندو" عند الفارسيين)(25) فنخلص من هذا إلى أن الميتانيين والحيثيين والكاسيين والسومريين والبكتريين والميديين والفرس والآريين ممن غزو الهند كانوا كلهم فروعاًً من أصل "هندي أوربي" انتشر في الأرض من شواطئ بحر قزوين.
الوقت تقريباً الذي كان الكاسيّون الآريون يكتسحون فيه بابل، كان الآريون الفيديون قد أخذوا يدخلون الهند.
وكان هؤلاء الآريون أقرب إلى المهاجرين منهم إلى الفاتحين، شأنهم في ذلك شأن الجرمان في غزوهم لإيطاليا، لكنهم جاءوا ومعهم أجسام قوية، وشهيّة عارمة للطعام والشراب، ووحشية لا تتردد في الهجوم، ومهارة وشجاعة في الحروب، سرعان ما أدت بهم هذه الخصال كلها إلى السيادة على الهند الشمالية، وكانوا يحاربون بالقسىّ والسهام، يقودهم مقاتلون مدرعون في عربات حربية، أدواتهم في القتال هي الفؤوس إن كانوا على مقربة من العدو، والحراب يقذفون بها إن كانوا على مبعدة منه، وكانوا من الأخلاق البدائية على درجة لا تسمح بالنفاق، ولذلك أخضعوا الهند دون أن يدّعوا أنهم يرفعون مستواها، وكل ما في الأمر أرادوا أرضاً ومرعى لماشيتهم، ولم يحيطوا حروبهم بدعوى الشرف القومي، لكنهم قصدوا بالحرب صراحة إلى "رغبة في مزيد من الأبقار"(26)، وجعلوا خطوة فخطوة يزحفون شرقاً على امتداد نهري السند والكنج، حتى خضعت الهندوستان
(1)
كلها لسلطانهم.
ولما تحولوا من الحرب المسلحة إلى زراعة الأرض واستقرارها طفقت قبائلهم بالتدريج تأتلف لتِكوّن دويلات، كل منها يحكمها ملك يقيده مجلس من المقاتلين، وكل قبيلة يقودها "راجا" أو رئيس يحدد قوته مجلس قبلي، وكل قبيلة تتألف من جماعات قروية مستقل بعضها عن بعض استقلالاً نسبياً، ويحكم الجماعة القروية مجلس من رؤوس العائلات، ويروى عن بوذا أنه قال في سؤاله لمن كان له بمثابة القديس يوحنا:"هل سمعت يا "أناندا" أن الفاجيين يجتمعون عادة ليتشاوروا الأمر قبل الحسم فيه، وأنهم يرتادون الاجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم؟
…
فما دام الفاجيون يا "أناندا"
(1)
كلمة أطلقها الفرس القدماء على الهند شمالي نهر ناربادا.
يجتمعون هكذا عادة، ويرتادون الاجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم، فتوقع منهم ألا يصيبهم انحلال، بل يصيبهم النجاح" (27).
والآريون - كسائر الشعوب - كانت لهم قواعد الزواج في حدود العشيرة وخارج حدودها معاً، بمعنى أن يحرم الزواج خارج حدود جنسهم، كما يحرم داخل حدود الأقرباء الأقربين، ومن هذه القواعد استمد الهندوس أميز ما يميزهم من أنظمة اجتماعية، وذلك أن الآريين عندما رأوا أنفسهم قلة عددية بالنسبة إلى من أخضعوهم ومن يعدُّونهم أحط منهم منزلة، أيقنوا أنهم بغير تقييد التزاوج بينهم وبين هؤلاء، فسرعان ما تضيع ذاتيتهم العنصرية، بحيث لا يمضي قرن واحد أو قرنان من الزمان حتى تهضمهم الأغلبية في ثناياها وتمتصهم في جسمها امتصاصاً، وإذن فقد كان أول تقسيم للطبقات قائماً على أساس اللون لا على أساس الحالة الاجتماعية، فتفرّق الناس فريقين: فريق الأنوف الطويلة وفريق الأنوف العريضة، وبذلك ميزوا بين الآريين من جهة، و "الناجا" و "الدرافيديين" من جهة أخري، ولم تكن التفرقة عندئذ أكثر من تنظيم الزواج بحيث يحرم خارج حدود الجماعة (28)؛ وكاد نظام الطبقات ألا يكون له وجود في العهد الفيدي (29) بهذه الصورة التي اتخذها فيما بعد، حيث أسرف في تقسيم الناس على أساس الوراثة وعلى أساس العنصر وعلى أساس العمل الذي يزاولونه، أما بين الآريين أنفسهم فقد كان الزواج حراً من القيود (ما عدا ذوي القربى الأقربين)، ولم تكن المنزلة الاجتماعية تورث مع الولادة.
فلما انتقلت الهند الفيدية (2000 - 1000 ق. م) إلى عصر "البطولة"(1000 - 500 ق. م)، أو بعبارة أخري لما انتقلت الهند من ظروف حياتها كما صوّرتها أسفار الفيدا، إلى حياة جديدة ترى وصفها في "الماها بهارتا" و "رامايانا"، أصبحت أعمال الناس مقسمة بينهم بالنسبة إلى طبقاتهم الاجتماعية، بحيث يرث الولد عمل طبقته، وتحددت الفوارق بين
الطبقات في وضوح وجلاء، ففي القمة كان "الكشاتريّة" أو المقاتلون الذين عدوها خطيئة من الخطايا أن يموت الرجل منهم في مخدعه (30)، حتى المحافل الدينية في الأيام الأولى كان يؤديها الرؤساء أو الملوك على نحو ما كان يقوم قيصر بدور كبير الكهنة، وكان البراهمة، أي الكهنة، لا يزيدون عندئذ عن مجرد شهود في الاحتفال بتقديم القرابين (31)، ففي "رامايانا" ترى رجلاً من طبقة "الكشاترية" يحتج احتجاجاً حنقاً على زواج "عروس شماء الأنف فريدة" من عنصر المقاتلين "من كاهن براهمي ثرثار"(32)، وفي الأسفار "الجانتية" ترى زعامة "الكشاترية" أمراً مسلماً به، بل يذهب الأدب البوذي إلى حد أبعد، فيسمى "البراهمة":"من أصل وضيع"(33). وهكذا ترى الأشياء يصيبها التغير حتى في الهند.
لكن ما حَلَّتْ السلم محل الحرب، وبالتالي ازدادت الديانة أهمية اجتماعية وتعقداً في الطقوس، لأنها أصبحت عندئذ عوناُ إلى حد كبير للزراعة، تقيها شر الكوارث الجوية التي لا يمكن أعداد العدة لها، فقد تطلبت الديانة وسطاء فنيين بين الناس وآلهتهم؛ ولهذا ازداد البراهمة عدداً وثروة وقوة، فباعتبارهم القائمين على تربية النشء، والرواة لتاريخ أمتهم وآدابها وقوانينها، استطاعوا أن يعيدوا خلق الماضي خلقاً جديداً، وتشكيل المستقبل على صورتهم، بحيث يصبون كل جيل صبّاً يزيد من تقديسه للكهنة، فيبنون بهذا لطبقتهم مكانة ستمكنهم في القرون المقبلة من احتلال المنزلة العليا في المجتمع الهندوسي، وقد بدءوا بالفعل أيام بوذا يَتَحَدَّوْنَ سيادة طبقة "الكشاترية"، وعَدُّوهم طبقة أحط من طبقتهم، على نحو ما كان يعدهم "الكشاترية" من قبل أدنى منهم منزلة (34)، وأحس بوذا أن لكل من وجهتي النظر ما يؤيده، لكن "الكشاترية" مع ذلك لم تخف زعامتها الفكرية بالقياس إلى البراهمة، حتى في عهد بوذا نفسه، بل إن الحركة البوذية نفسها، التي أسسها شريف من
أشراف الكشاترية، نافست البراهمة زعامتهم الدينية على الهند مدى ألف عام.
وتحت هذه الأقليات الحاكمة طبقات في منازل أدنى، فهناك طبقة "الفيزيا" أو التجار والأحرار، الذين كادوا قبل بوذا ألا يكون لهم ما يميزهم طبقة قائمة بذاتها؛ وهناك طبقة "الشودرا" أو الصناع الذين يشملون معظم السكان الأصليين، وأخيراً هناك "البارْيا" أو المنبوذون، وقوامهم قبائل وطنية لم ترتد عن ديانتها مثل قبيلة "شاندالا"، وأسرى الحرب، ورجال تحولوا إلى عبيد على سبيل العقاب (35)، ومن هذه الفئة التي كانت بادئ أمرها جماعة صغيرة لا تنتمي إلى طبقة من الطبقات، تكونت طبقة " المنبوذين" في الهند اليوم وعددها أربعون مليوناً.
الفصل الرابع
المجتمع الآري الهندي
الرعاة - زراع الأرض - الصناع - التجار - العملة
والديون - الأخلاق - الزواج - المرأة
كيف كان هؤلاء الهنود الآريون يعيشون؟ بالحرب والسلب أول الأمر، ثم بالرعي والزراعة والصناعة على نمط ريفي كالذي ساد أوربا في العصور الوسطى لأنه حتى قامت الثورة الصناعية التي تظللنا اليوم، لبثت حياة الإنسان الرئيسية من حيث الاقتصاد والسياسة، على صورة واحدة لا تكاد تتغير في جوهرها منذ العصر الحجري الحديث؛ فكان الآريون الهنود يربون الماشية ويستخدمون البقرة دون أن ينزلوها من أنفسهم منزلة التقديس، ويأكلون اللحم أينما استطاعوا إليه سبيلاً، بعد أن يهبوا جزءاً منه للكهنة أو للآلهة (36)؛ ونعلم أن بوذا بعد أن أوشك على الموت جوعاً بما التزمه في شبابه من تقشف، كاد يودي بحياته بعد أكلة كبيرة من لحم خنزير (37)؛ وكذلك كانوا يزرعون الشعير، لكن يظهر أنهم لم يكونوا يعلمون عن الأرز شيئاً في العهد الفيدي؛ وكانت الحقول تقسمها الجماعة القروية بين عائلاتها، على أن يقوم الكل معاً بريّها، ولم يكن يجوز بيع الأرض لأجنبي عن القرية، ويمكن توريثها لأبناء الأسرة نفسها من نسل الذكور المباشر؛ وكانت الكثرة الغالبة من الناس فلاحين يملكون أرضهم التي يفلحونها، لأن الآريين كانوا يعدونه عاراً أن يعملوا لقاء أجر يتقاضونه؛ ويؤكد لنا العالمون بحياتهم أنه لم يكن بينهم مُلاّك كبار ولا متسولون، ولم يكن بينهم أصحاب الملايين ولا المعدمون (38).
وأما في المدن فقد ازدهرت الصناعات اليدوية على أيدي صناع وناشئين في الصناعة، كل منهم مستقل بذاته؛ ثم انتظمتم قبل ميلاد المسيح بنصف
ألف من السنين، نقابات قوية لصناع المعادن، وصناع الخشب، وصناع الحجر، وصناع الجلود، وصناع العاج، وصناع السلال، وطلاة المنازل والرسامين، والخزافين والصباغين والسماكين والبحارة والصيادين وبائعي جلود الحيوان، والجزارين وبائعي الحلوى والحلاقين والدلالين والزهارين والطهاة- إن مجرد النظر إلى هذه القائمة يبين لك كم كانت الحياة الآرية الهندية مليئة متعددة الجوانب؛ وكانت النقابات تقضي فيما ينشب بين مختلف الطوائف العمالية من أمور، بل كانت تقيم نفسها حكماً يفض النزاع بين الصناع وزوجاتهم؛ وكانت أسعار السلع تحدد-كما نفعل نحن اليوم- لا وفق قانون العرض والطلب، بل على أساس من غفلة الشاري؛ ومع ذلك فقد كان قصر الملك "مثمن" رسمي- يشبه ما لدينا الآن من مكتب لتحديد الأسعار- واجباته أن يخبر السلع المعروضة للبيع، ويملي الشروط على الصناع (39).
وتقدمت بينهم وسائل التجارة والسفر حتى بلغت مرحلة استخدام الجواد والعربة ذات العجلتين، لكنها كانت تعاني من الصعاب ما كانت تعانيه في القرون الوسطى؛ وكانت القوافل تستوقف للضرائب عند كل حد يفصل دويلة عن زميلتها مهما صغرت هذه الدويلات، كما كانت تتعرض لهجمات اللصوص في الطريق عند كل منعطف؛ وكان النقل بالنهر والبحر أكثر من ذلك رقياً؛ فكنت ترى في سنة 860 ق. م أو نحوها، سفناً تدفعها أشرعة متواضعة ومئات من المجاديف، في طريقها إلى بلاد الجزيرة وشبه جزيرة العرب ومصر، تحمل إليها منتجات تتسم بطابع الهند مثل العطور والتوابل والقطن والحرير والشيلان والنسيج الموصلي واللؤلؤ والياقوت والأبنوس والأحجار الكريمة ونسيج الحرير الموشى بالفضة والذهب (40).
وكان مما وقف في سبيل التجارة أساليب التبادل العقيمة التي اصطنعها الناس في معاملاتهم- فقد كانت وسيلتهم بادئ الأمر تبادل سلعة بسلعة؛ ثم
استخدموا الماشية عملة نقدية؛ حتى لقد كانت العروس تشترى بالأبقار (41)، كهؤلاء اللائي يقول عنهن هومر "عذارى يحملن أبقارا" وبعد ذلك ظهرت عملة نحاسية ثقيلة، لم يكن يضمن قيمتها إلا الأفراد بصفاتهم الشخصية؛ ولم يكن للقوم مصارف، ولذلك كان المال المخزون يُخبأ في المنازل أو يدفن في الأرض أو يوُدع عند صديق؛ ومن هنا تطور نظام للإيداع في عهد بوذا؛ وذلك أن التجار في المدن المختلفة كانوا ييسرون التجارة بأن يعطي كل منهم لزميله خطاباً يعترف فيه بما عليه له؛ وكان في المستطاع أن تستعير من هؤلاء- وهم أشباه أسرة روتشيلد- ديناً بربح مقداره ثمانية عشر في كل مائة (42) وكنت تسمع بين الناس حديثاً كثيراً عما بينهم من عهود مالية؛ وفي ذلك العصر لم تكن العملة النقدية من ثقل الوزن بحيث تثبط المقامرون عن استخدامها في قمارهم، وكان "زهر" القمار قد وطد لنفسه مكانة في المدينة؛ ففي حالات كثيرة كان الملك يعد قاعات للقمار لشعبه، على غرار "موناكو" إن لم تكن على صورتها؛ وكان جزء من المال المكسوب يذهب إلى الخزانة الملكية (43)؛ ولقد يبدو ذلك في أعيننا نظاماً يصم أصحابه بوصمة العار، لأننا لم نعتد أن نرى أنظمة القمار عندنا تمد رجال الحكم بيننا بالمال بطريقة مباشرة.
وكانت أخلاقهم في التجارة رفيعة المستوى؛ ولو أن الملوك في الهند الفيدية- كما كان أقرانهم في اليونان الهومرية- لم يرتفعوا عن اغتصاب الماشية من جيرانهم (44)، لكن المؤرخ اليوناني الذي أرخ لحملات الإسكندر، يصف الهنود بأنهم "يستوقفون النظر باستقامتهم، وأنهم بلغوا من سداد الرأي حداً يجعل التجاءهم إلى القضاء نادراً، كما بلغوا من الأمانة حداً يغنيهم عن الأقفال لأبوابهم وعن العهود المكتوبة تسجيلاً لما اتفقوا عليه، فهم صادقون إلى أبعد الحدود"(45). نعم إن في سفر "رج- فيدا" ذكراً للزواج المحرم وللتضليل وللعهر وللإجهاض وللزنا (46)، كما أن هناك علامات تدل على الانحراف الجنسي الذي يجعل الرجال يتصلون بالرجال (47)، إلا أن الصورة
العامة التي نستمدها من أسفار الفيدا ومن الملاحم، تدل على مستوى رفيع في العلاقات بين الجنسين وفي حياة الأسرة.
كان الزواج يتم باغتصاب العروس من أهلها أو بشرائها أو بالاتفاق المتبادل بين العروسين، لكن هذا النوع الأخير كان ينظر إليه بعين النقد إلى حد ما، فقد ظن نساؤهم أنه أشرف لهن أن يشترين وأن تدفع فيهن الأثمان، وأنه مما يزيد قدر المرأة أن يسرقها الزوج من أهلها (48)، وكان تعدد الزوجات جائزاً، ويشجعون عليه بين العلية، لأنه مما يسجل للرجل بالفخر أن يعول زوجات كثيرات وأن ينقل إلى الخلف قوته (49)، وكذلك كان هناك تعدد الأزواج، فقصة "دروبادي"(50) التي تزوجت خمسة إخوة دفعة واحدة تدل على وقوع تعدد الأزواج للزوجة الواحدة -في أيام الملاحم- حيناً بعد حين، وكان الأزواج عادة إخوة، وهي عادة بقيت في جزيرة سيلان حتى سنة 1859 م، ولا تزال متلكئة في بعض قرى الجبال في التبت (51)، لكن التعدد كان في العادة ميزة يتمتع بها الذكر دون الأنثى، لأنه عند الآريين هو رب الأسرة يحكمها حكماً لا ينازعه في سيادته منازع، فكان له حق امتلاك زوجاته وأبنائه، وله الحق في ظروف معينة أن يبيعهم أو يرمي بهم في عرض الطريق (52).
ومع ذلك فقد تمتعت المرأة بحرية في العصر الفيدي أكثر جداً مما تمتعت به منها في العصور التالية، فقد كان لها حينئذ رأي في اختيار زوجها، أكثر مما قد تدل عليه ظواهر المراسيم في الزواج؛ وكان لها حق الظهور بغير قيود في الحفلات والرقص، وكانت تشارك الرجل في الطقوس الدينية التي تقدم بها القرابين؛ ولها حق الدرس، بل ربما ذهبت في ذلك إلى حد بعيد مثل "جارجي" التي اشتركت في المجادلات الفلسفية (53)، وإذا تركها زوجها أرملة فلم يكن على زواجها من قيود (54)، أما في عصر "البطولة" فيظهر أن المرأة قد فقدت بعض هذه الحرية، فكانوا لا يشجعونها على المضي في الأبحاث العقلية،
على أساس أن "المرأة إذا درست أسفار الفيدا كان ذلك دليلاً على اضطراب المملكة"(55)، وقل زواج المرأة بعد موت زوجها الأول، وبدأت "البردة"- التي تعني عزل المرأة- وزادت بين الناس عادة دفن الزوجة مع زوجها وهي عادة لم تكد تعرفها الأيام الفيدية (56)، وأصبحت المرأة المثالية هي التي جاءت على نموذج بطلة "رامايانا"- وهي "سيتا" الوفية التي تتبع زوجها وتطيعه في خضوع مهما تطلب منها ذلك من ضروب الوفاء والشجاعة، حتى آخر يوم من حياتها.
الفصل الخامس
ديانة أسفار الفيدا
الديانة السابقة للفيدا - آلهة الفيدا - آلهة الأخلاق -
قصة الفيدا عن الخلق- الخلود - التضحية بالجوار
الظاهر أن أقدم ديانة نعرفها عن الهند، تلك الديانة التي وجدها الغزاة الآريون بين " الناجا " والتي لا تزال قائمة في الأجناس البشرية البدائية التي تراها هنا وهناك في ثنايا شبه جزيرة العظيمة، هي عبادة روحانية طموطمية لأرواح كثيرة تسكن الصخور والحيوان والأشجار ومجاري الماء والجبال والنجوم، وكانت الثعابين والأفاعي مقدسات- إذ كانت آلهة تعبد ومثلاً عليا تنشد في قواها الجنسية العارمة، كذلك شجرة "بوذِي" المقدسة في عهد بوذا كانت تمثل تقديسهم لجلال الأشجار الصامت (57)، وهو تقديس صوفي لكنه سليم: وهناك من آلهة الهنود الأولين ما هبط مع الزمن إلى هنود العصور التاريخية، مثل "ناجا" الإله الأفعوان، و "هاتومان" الإله القرد، و "ناندس" الثور المقدس، و "الياكشا" أو الآلهة من الأشجار (58)؛ ولما كان بعض هذه الأرواح طيباً وبعضها خبيثاً، فلا يستطيع حفظ الجسم من دخول الشياطين فيه وتعذيبه في حالات المرض أو الجنون، تلك الشياطين التي تملأ الهواء، إلا مهارة عظيمة في أمور السحر، ومن ثم نشأت مجموعة الرقى في "فيدا أثارفا" أي "سفر الإلمام بالسحر"، فلا بد للإنسان من صيغ سحرية يتلوها إذا أراد الأبناء أو أراد اجتناب الإجهاض، أو إطالة العمر، أو دفع الشر، أو جلب النعاس، أو إيقاع الأذى أو الارتباك بالأعداء
(1)
.
(1)
راجع "فيد أثارفا" الجزء السادس ص 138، والسابع ص 35، ص 90 حيث تجد رقى "تشتعل بالكراهية" أو "لغة فيها وحشية لا يضبطها ضابط" تجري على لسان نساء يحاولن إبعاد المنافسات لهن، أو إنزال العقم بهن، وفي أحد أسفار يوبانشاد، وهو سفر "بريها دار انياكا"(6 - 12) صيغ يراد بها أن تختطف امرأة بالتعزيم، وأخرى "لارتكاب الخطيئة بغير حَمْل".
وأقدم آلهة ذكرتها "أسفار الفيدا" هي قوى الطبيعة نفسها وعناصرها: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء والجنس (62)، فكان ديوس (وهو زيوس عند اليونان، وجوبتر عند الرومان)، أول الأمر هو السماء نفسها، كذلك اللفظة السنسكريتية التي معناها مقدس، كانت في أصلها تعني "اللامع" فقط، ثم أدت هذه النزعة الشعرية التي أباحت لهم أن يخلقوا لأنفسهم كل هذا العدد من الآلهة، إلى تشخيص هذه العناصر الطبيعية، فمثلاً جعلوا السماء أباً، وأسموها "فارونا"؛ وجعلوا الأرض أماً، وأطلقوا عليها اسم "بريثيفي"، وكان النبات هو ثمرة التقائهما بوساطة المطر (63)، وكان المطر هو الإله "بارجانيا"، والنار هي "آجني"، والريح كانت "فايو"، وأما إن كانت الريح مهلكة فهي "رودْرا"، وكانت العاصفة هي "إندرا"، والفجر "أوشاس"، ومجرى المحراث في الحقل كان اسمه "سيتا"، والشمس "سوريا" أو "مترا" أو "فشنو"؛ والنبات المقدس المسمى "سوما"، والذي كان عصيره مقدساً ومسكراً للآلهة والناس معاً، كان هو نفسه إلهاً يقابل في الهند ما كان "ديونيسوس" عند اليونان، فهي الذي يوحي الإنسان- بمادته المنعشة- أن يفعل الإحسان ويهديه إلى الرأي الثاقب، وإلى المرح، بل يخلع على الإنسان حياة الخلود (64).
ولما كانت الأمة كالفرد تبدأ بالشعر وتنتهي بالنثر، فقد تحول كل شئ لمّا أصبحت الأشياء في أعين الناس أشخاصاً، إذ أصبحت صفات الأشياء أشياء قائمة بذاتها، وباتت نعوتها بمثابة الأسماء، والعبارات التي تجري مجرى الحكمة أصبحت آلهة، والشمس التي تهب الحياة انقلبت إلهاً جديداً اسمه "سافيتار واهب الحياة"، وأما ضوءها فإله آخر اسمه "فيفاسفات" أي الإله
الساطع، والشمس التي تولد الحي أصبحت إلها عظيماً هو "براجاباتي" أي رب الأحياء جميعاً
(1)
.
ولبثت النار "وهي الإله أجني" حيناً من الدهر أهم آلهة الفيدا جميعاً، إذ كان هذا الإله هو الشعلة المقدسة التي ترفع القربان إلى السماء، وكان هو البرق الذي يثب في أرجاء الفضاء، وكان للعالم حياته النارية وروحه المشتعلة، غير "أن" إندرا "الذي يتصرف في الرعد والعاصفة كان أشيع الآلهة كلهم ذكراً بين الناس، لأنه هو الذي يجلب للآري الهندي الأمطار النفسية التي بدت له عنصراً جوهرياً يكاد يزيد في أهميته للحياة على الشمس ذاتها، لذا فقد جعلوه أعظم الآلهة مقاماً، يلتسمون معونة رعودة وهم في حومات القتال، وصوروه- بدافع الحسد له- في صورة البطل الجبار الذي يأكل العجول مئات مئات، ويشرب الخمر بحيرات بحيرات (66)، وكان عدوة المحبب إلى نفسه هو "كرشنا" الذي لم يذكر في أسفار الفيدا إلا على أنه إله محلي لقبيلة "كرشنا" إذ لم يكن حينئذ قد تجاوز هذه المرحلة؛ كذلك كان "فشنو" أي الشمس التي تجتاز الأرض بخطواتها الجبارة، إلهاً ثانوياً، كأنما هو لا يدري أن المستقبل له ولـ "كرشنا" الذي يجسده؛ وإذن فمن فوائد أسفار الفيدا لنا أن تعرض علينا الدين وهو في طريق التكوين، فنرى مولده ونموه وموت الآلهة والعقائد، ونرى ذلك بادئين من النزعة الروحانية البدائية حتى نبلغ وحدة الوجود الفلسفية، بادئين بالخرافة في "فيدا أثارفاً" (أي سفر السحر) ومنتهين إلى الوحدانية الجليلة كما ذكرت في أسفار "يوبانشاد".
كان هؤلاء الآلهة بشراً في صورة الجسم وفي الدافع المحرك للعمل، بل
(1)
كاد "براجاباتي" يعبد على أنه الإله الواحد، حتى جاء اللاهوت في العهد التالي فجعل براهما الذي يفني في نفسه كل شئ، يبتلع براجاباتي في جوفه.
كادت تكون بشراً في جهلها كذلك، فانظر أحدها وقد أحاطت به دعوات الداعي، فجعل يفكر ماذا عسى أن يهب هذا المتوسل:"هذا ما سأصنعه- كلا، لن أصنع هذا، سأعطيه بقرة- أم هل أعطيه جواداً؟ ترى هل تقرب إليّ حقاً بشراب السوما؟ "(67)، لكن بعض هؤلاء الآلهة قد صعد في العصور الفيدية المتأخرة إلى مستوى خلق رفيع، خذ مثلاً "فارونا" الذي كان بادئ ذي بدء هو السماء المحيطة بالأرض، أنفاسه هي ريح العواصف، ورداؤه هو السماء، هذا الإله قد تطور على أيدي عُبَّادُه حتى أصبح أكثر آلهة الفيدا علواً في الأخلاق وقرباً من المثل الأعلى للآلهة، أصبح يرقب العالم بعينه الكبرى، التي هي الشمس، يعاقب الشر ويكافئ الخير، ويعفو عن ذنوب التائبين، وبهذا كان "فارونا" حارساً على القانون الأبدي ومنفذاً له، ذلك القانون الذي يسمونه "ريتا" وهو الذي كان أول أمره قانوناً يقيم النجوم في أفلاكها ويحفظها هناك فلا يضطرب مسيرها، ثم تطور بالتدريج حتى أصبح قانون الحق إطلاقا، أصبح نغمة خلقية كونية لا مندوحة لكل إنسان عن مراعاتها إذا أراد أن يجتنب الضلال والدمار (68).
ولما كثر عدد الآلهة نشأت مشكلة، هي: أي هؤلاء الآلهة خلق العالم؟ فكانوا يعزون هذا الدور الأساسي تارة لـ "آجنى" وتارة لـ "إندرا" وطوراً لـ "سوما" وطوراً رابعاً لـ "براجاباتي"، وفي أحد أسفار "يوبانشاد" يعزي خلق العالم إلى خالق أول قهار:
"حقاً إنه لم يشعر بالسرور، فواحد وحده لا يشعر بالسرور، فتطلب ثانياً؛ كان في الحق كبير الحجم حتى ليعدل جسمه رجلاً وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثمَّ زوج تملؤه الزوجة، وعلى ذلك تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة
…
وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر؛ وسألت نفسها الزوجة قائلة:"كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه، فلأختف" واختفت في صورة
البقرة، وانقلب هو ثوراً، فزاوجها، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، فاتخذت لنفسها هيئة الفرس، واتخذ لنفسه الجواد، ثم أصبحت هي حمارة فأصبح هو حماراً، وزاوجها حقاً، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة فانقلب لها تيساً، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشاً، وزاوجها حقاً، وولدت لهما الماعز والخراف، وهكذا حقاً كان خالق كل شئ، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النمال، وقد أدرك هو حقيقة الأمر قائلاً:"حقاً إني أنا هذا الخلق نفسه، لأني أخرجته من نفسي، من هنا نشأ الخلق"(69).
في هذه الفقرة الفريدة بذرة مذهب وحدة الوجود وتناسخ الأرواح، فالخالق وخلقه شئ واحد، وكل الأشياء وكل الأحياء كائن واحد، فكل صورة من الكائنات كانت ذات يوم صورة أخرى، ولا يميز هذه الصورة من تلك ويجعلهما حقيقتين إلا الحس المخدوع وإلا تفريق الزمن بينهما؛ هذه النظرة لم تكن قد ظهرت بعد أيام الفيدا جزءاً من العقيدة الشعبية، وان تكن قد لقيت صياغتها على هذا النحو في "يوباتشاد"، فالآرى الهندي- مثل زميله الآري الفارسي- بدل أن يعتقد في تناسخ الأرواح على صور متتابعة، آمن بعقيدة أبسط، إذ آمن بالخلود الشخصي، فالروح بعد الموت تلاقي إما عذاباً أو نعيماً، فإما أن يلقيها "فارونا" في هوة مظلمة سحيقة، أو في جهنم ذات السعير، وأما أن يتلقاها "ياما" فيرفعها إلى الجنة حيث كل صنوف اللذائذ الأرضية قد كمأت ودامت إلى أبد الآبدين (70)، وفي ذلك يقول سفر "كاثا" من أسفار يوبانشاد:"يفني الفاني كما تفني الغلال، ويعود إلي الحياة في ولادة جديدة كما تعود الغلال"(71).
وليست تدلنا الشواهد على أن الديانة الفيدية في أولى مراحلها كان لها معابد وأصنام (72)، بل كانت مذابح القرابين تنصب من جديد لكل قربان يراد تقديمه، كما هي الحال في فارس الزرادشتية، وكان يناط بالنار المقدسة أن
ترفع القربان الممنوح إلى السماء، وفي هذه المرحلة تظهر آثار ضئيلة من التضحية بالإنسان، كما ظهرت في فاتحة المدنيات كلها تقريباً، لكنها آثار قليلة يحوطها الشك، وكذلك أشبهت الهند فارس في أنها كانت تحرق الحصان أحياناً ليكون قرباناً تقدمه للآلهة (74) وأن "أشفاميزا"- أو "تضحية الجواد"- لمن أغرب الطقوس جميعاً، إذ تخيل للناس فيها أن ملكة القبيلة زاوجت الحصان المقدس بعد ذبحه
(1)
على أن القربان المعتاد هو أن يكسب قليل من عصير "سوما" وأن يصب شيء من الزبد السائل في النار (77)، وكانوا يحيطون القربان برقى السحر، فلو قدمه على النحو الأكمل جاءته بالجزاء المطلوب بغض النظر عما هو حقيق به من ثواب بالنسبة إلى خلقه الشخصي (78)، وكان الكهنة يتقاضون أجوراً عالية على مساعدة المتعبد في أداء طقوس القربان التي أخذت تزداد مع مر الزمن تعقداً، فإذا لم يكن قد وسع المتعبد أن يدفع للكاهن أجره، رفض أن يتلو له الصيغ اللازمة، فأجره لا بد أن يسبق ما يدفع لله من أجر، ولقد وضع رجال الدين قواعد تضبط مقدار ما يدفعه صاحب هذه العبادة- كم من الأبقار والجياد وكم من الذهب، وقد كان الذهب بصفة خاصة عميق التأثير في الكهنة والآلهة (79) وفي "أوراق البراهمانا" التي كتبها البراهمة، إرشادات للكاهن تدله على الطريقة التي يستطيع بها أن يقلب الصلاة أو القربان شراً على رؤوس أصحابه إذا لم يؤجروه أجراً كافياً (80)، وكذلك سنوا قوانين أخرى تفصل دقائق المحافل والطقوس التي ينبغي أن تقام في كل ظرف من ظروف الحياة تقريباً، وهي عادة تتطلب معونة الكهنة في أدائها، وهكذا أصبح البراهمة شيئاً فشيئاً طبقة ممتازة، تسيطر على الحياة الفكرية والروحية في الهند سيطرة تهددت كل تفكير وكل تغيير بالمقاومة المميتة.
(1)
Ponebatque in gremtum regina genitalle victimae membrum
الفصل السادس
أسفار الفيدا باعتبارها أدباً
السنسكريتية والإنجليزية - الكتابة - الفيدات
الأربعة سفر دج - ترنيمة الخلق
إنه لمما ينبغي أن يثير اهتمامنا الخاص، هذه اللغة السنسكريتية التي كان يكتبها الآريون الهنود، ذلك لأنها تعد من أقدم مجموعات اللغات "الأوربية الهندية" التي تنتمي إليها لغتنا التي نتحدث بها، فإننا نشعر للحظة من الزمن شعوراً عجيباً باتصال حلقات الثقافة عبر هذه الآماد الفسيحة من الزمان والمكان، حين نلاحظ أوجه الشبه- في السنسكريتية واليونانية واللاتينية والإنجليزية- بين الألفاظ التي تدل على الأعداد، وعلى أنواع الصلة في الأسرة؛ وفي كلمات صغيرة وكبيرة الدلالة في هذا الصدد، وهي الكلمات التي أطلق عليها اسم "الفعل المزاوج" ولعل هذا الاسم قد أطلق عليها في غفوة من رجال الأخلاق
(1)
.
وبعيد جداً أن يكون هذا اللسان القديم الذي قال عنه "سير وليم جونز" أنه "أكمل من لغة اليونان، وأوسع من لغة الرومان، وأدق من كلتيهما معاً"(83)، بعيد جداً أن يكون هذا اللسان القديم هو ما كان يتحدث به الغزاة الآريون، فلسنا ندري بأية لغة كان هؤلاء يتكلمون، وكل ما نستطيعه في هذا الصدد هو أن نفرض فرضاً أنها كانت لغة قريبة الصلة باللهجة الفارسية القديمة التي كتبت بها "الأفستا"، وأما السنسكريتية التي كتبت بها أسفار الفيدا والملاحم فتحتوي بالفعل على علامات اللغة الأدبية الكلاسيكية التي
(1)
هنا يذكر المؤلف هامشاً فيه أمثلة توضح هذا الشبه بين اللغات في ألفاظها، مما يتعذر نقله في الترجمة (المعرب)
لا يستخدمها إلا العلماء والكهنة، بل إن كلمة "سنسكريتي" نفسها معناها "المعدة، أو الخالصة، أو الكاملة، أو المقدسة"، ولم يكن الناس في العصر الفيدي يستخدمون في كلامهم لغة واحدة، بل لغات، لكل قبيلة لهجتها الآرية الخاصة (84)، فلم يكن للهند في أي عصر من عصورها لغة واحدة.
ليس في الفيدات إشارة واحدة تدل على أن مؤلفيها عرفوا الكتابة، ولم يحدث إلا في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد أن جاء التجار الهنود- والأرجح أن يكونوا من طائفة الدرافيدين- من آسيا الغربية بكتابة سامية قريبة الشبه بالكتابة الفينيقية، وأطلق فيما بعد على هذه الكتابة اسم "الكتابة البراهمية" ومنها اشتقت كل أحرف الهجاء في الهند (85).
ولقد لبثت الكتابة قروناً طويلة- فيما يظهر- لا تستخدم إلا لأغراض تجارية وإدارية، دون أن يرد على أذهان الناس إلا خاطر جد ضئيل بأن يتخذوها وسيلة أدبية، "وكان التجار- لا الكهنة- هم الذين ارتقوا بهذا الفن الأساسي"(86) حتى القانون البوذي لم يدون- على الأرجح- قبل القرن الثالث السابق لميلاد المسيح وأقدم ما بقي لنا من كتابات الهند المحفورة على الجدران، هي محفورات "آشوكا"(87) وإنه ليتعذر علينا نحن الذين جعلت منا القرون المتعاقبة قوماً تعتمد على عقولهم على رؤية عيونهم للمكتوب والمطبوع (حتى جاء هذا العهد الذي امتلأ به الهواء من حولنا ألفاظا وأنغاما) يتعذر علينا أن نفهم كيف اطمأنت الهند- بعد أن عرفت الكتابة بزمن طويل- أن استمساكها بالأساليب القديمة في نقل التاريخ والأدب عن طريق الرواية والذاكرة، فأسفار الفيدا والملاحم كانت أناشيد أخذت تنمو على تتابع الأجيال التي تناقلها بالرواية جيلاً بعد جيل، ولم يقصد بها إلى الكتابة لتراها العيون،
بل قصد بها إلى أن تكون أنغاماً تسمعها الآذان
(1)
ومن هذا الإهمال للكتابة نشأت ضآلة علمنا بالهند القديمة.
إذن فما هي أسفار الفيدا التي نستمد منها جل عملنا بالهند في مرحلتها البدائية؟ إن كلمة "فيدا" معناها معرفة
(2)
وإذن فسفر الفيدا معناه الحرفي كتاب المعرفة، و "والفيدات" يطلقها الهندوس على كل تراثهم المقدس الذي ورثوه عن أولى مراحل تاريخهم، وهي شبيهة بالإنجيل عندنا في أنها تدل على أدب أكثر مما تتخذ لنفسها صورة الكتاب، ولو حاولت تنظيم هذه المجموعة وتبوبيها لأحدثت خلطاً فظيعاً، ولم يبق لنا من الفيدات الكثيرة التي شهدها الماضي إلا أربعة أسفار:
1 -
سفر رج، أو معرفة ترانيم الثناء.
2 -
سفر ساما، أو معرفة الأنغام.
3 -
سفر باجور، أو معرفة الصيغ الخاصة بالقرابين.
4 -
سفر أتارفا، أو معرفة الرقى السحرية.
وكل واحد من هذه الفيدات الأربعة، ينقسم إلي أربعة أقسام:
1 -
إلى "مانترا" أو الترانيم.
2 -
إلى "براهمانا" أو قواعد الطقوس والدعاء والرقي لهداية الكهنة في مهمتهم.
3 -
إلي "أرانياكا" أو نصوص الغابة، وهي خاصة بالقديسين الرهبان.
4 -
إلى "يوبانشاد" أو المحاورات السرية، وهي تقصد إلى الفلاسفة
(3)
(1)
ربما استعاد الشعر سلطانه القديم على هذا العصر، إذا ما عاودوا إلى إلقائه كلاماًً بدل قراءته في صمت.
(2)
ترى أشباه هذه الكلمة في كلمة "أويدا" اليونانية و "فيدو" اللاتينية و "ويز" الألمانية و "وت" و "وزدم" الإنجليزيتين.
(3)
ليس هذا التقسيم إلا نوعاً واحداً من أنواع التقسيم التي يمكن تطبيقها على مادة هذه الأسفار، وكان علماء الهندوس يضيفون عادة إلى الشروح "الموحى بها" في البراهمانا واليوبانشاد، مجموعات كثيرة لشروح أقصر من تلك، يصوغونها في عبارات موجزة ويطلقون عليها اسم "سترة"(ومعناها الحرفي خيوط)، أضافوا هذه الشروح إلى الفيدات، فاكتسبت على مر الزمن احتراماً تقليدياً يجعلها من مصادر الدين، على الرغم من أنها ليست منزلة من السماء؛ وكثير من هذه الشروح موجز إلى حد يتعسر معه فهم معناه، لكنها كانت تختصر العقيدة اختصاراً يسهل معه نقلها، أو قل كانت وسيلة تعين على حفظ الطلاب لها في عصر كانوا يعتمدون فيه على ذاكراتهم أكثر من اعتمادهم على الكتابة.
وليس بين أسفار الفيدا إلا سِفر واحد ينتمي إلى الآداب أكثر مما تنتمي إلى الدين أو الفلسفة أو السحر، فسفر "رج" ضرب من الدواوين الدينية، يتألف من 1028 ترنيمة، أو أنشودة من أناشيد الثناء يتوجه بها الناس إلى مختلف معبودات الآريين الهنود- الشمس والقمر والسماء والنجوم والريح والمطر والنار والفجر والأرض وغيرها
(1)
ومعظم الترانيم دعوات واقعية في سبيل القطعان والمحصول وطول العمر، وقليل جداً منها هو ما يرتفع إلى مستوى الأدب، وبينها عدد ضئيل يبلغ درجة "الأنشاد" في رشاقتها وجمالها (92) بعضها شعر طبيعي ساذج، كأنه الدهشة الفطرية يبديها الطفل إزاء ما يرى، فترنيمة أخرى تدهش لماذا لا تسقط الشمس على الأرض سقوطاً عمودياً حينما تبدأ في الانحدار، وترنيمة ثالثة تتساءل: كيف أمكن "لمياه الأنهار كلها أن تثب فواره إلى المحيط فلا تملؤه" ومنها ترنيمة على أسلوب "ثاناتويسيس" قيلت على جثمان زميل سقط صريعاً في ميدان القتال:
(1)
تتألف هذه الأناشيد من مقطوعات قوام الواحدة منها أربعة أبيات عادة، ويتكون البيت الواحد من خمسة مقاطع أو ثمانية أو أحد عشر أو اثني عشر، وليس فيه مراعاة للوزن إلا في المقاطع الأربع الأخيرة فيراعى فيها الوزن عادة.
هاأنذا آخذ القوس من يد ميتة كانت تشدها
لتكسب لنا ملكاً وقوة ومجداً،
فأنت هناك، ونحن هاهنا، أعزاء بأبنائنا الأبطال،
سنهزم كل هجمة يوجهها لنا الأعداء،
اقترب من صدر الأرض، آمنا،
هذه الأرض الفسيحة الأرجاء العطوف بأبنائها،
هذه الشابة الناعمة كأنها الصوف المندوف تحت جنوب الأسخياء،
هاأنذا أضرع إليها أن تصونك من أيدي الفناء،
انفرجي له أيتها الأرض، ولا تضمي جسده ضماً ثقيلاً،
كوني له مثوى هينً، ومجديه بعونك الشفوق،
فكما تدثر الأم بالثوب ابنها،
كذلك دثري هذا الرجل أيتها الأرض.
وقصيدة أخرى (رج، الجزء العاشر ص 10) عبارة عن حوار صريح بين الأبوين الأولين للبشر، هذين التوأمين من أخ وأخته، "ياما" و "يامي"، فأما "يامي" فتأخذ في إغراء أخيها أن يضاجعها على الرغم من تحريم مثل هذا الاتصال الجنسي بين أفراد الأسرة الواحدة، زاعمة له أن كل ما تريده من الأمر هو استمرار الجنس البشري، فيقاومها "راما" على أسس خلقية رفيعة، وتحاول معه كل ضروب الإغراء وتفشل، وأخيرً تصفه بالضعف، والقصة كما هي بين أيدينا ليست كاملة، ولو أنه في مقدرونا أن نحكم كيف يكون تماماً من منطق السياق، وأسمي أجزاء القصيدة قصة هائلة هي "ترنيمة الخلق" وفيها ترى عقيدة وحدة الوجود مبسوطة بظلالها الرقيقة، بل ترى ريبة التقي الورع، في هذا الكتاب الذي أقدم كتاب
ظهر بين أشد الشعوب تمسكاً بالدين:
لم يكن في الوجود موجود ولا عدم، فتلك السماء الوضاءة
لم تكن هناك، كلا ولا كانت بردة السماء منشورة في الأعالي،
فماذا كان لكل شئ غطاء؟ ماذا كان موئلاً؟ ماذا كان مخبأ؟
أكانت هي المياه بهوتها التي ليس لها قرار؟
ولم يكن ثمة موت، ومع ذلك لم يكن هناك ما يوصف بالخلود
ولم يكن فاصل بين النهار والليل
و"الواحد الأحد لم يكن هناك سواه
ولم يوجد سواه منذ ذلك الحين حتى اليوم،
كانت هناك ظلمة، وكان كل شئ في البداية تحت ستار
من ظلام عميق- محيط بغير ضياء -
والجرثومية التي لم تزل كامنة في اللحاء
برزت طبيعة واحدة من الحر الحرور
ثم أضيف إلى الطبيعة الحب، وهو الينبوع الجديد
للعقل- نعم إن الشعراء في أعماقهم يدركون
إذ هم يتأملون- هذه الرابطة بين ما خلق
وما يخلق، فهل جاءت هذه الشرارة من الأرض
تتخلل كل شيء وتشمل كل شيء، أم جاءت من السماء؟
ثم بذرت الحبوب، ونهضت جبابرة القوى -
فالطبيعة في أسفل، والقوة والإرادة أعلى-
من ذا يعلم السر الدفين؟ من ذا أعلنه هاهنا،
من أين، من أين جاءت هذه الكائنات على اختلافها
إن الآلهة أنفسها جاءت متأخرة في مراحل الوجود-
من ذا يعلم أنى جاء هذا الوجود؟
إن من صدر عنه هذا الخلق العظيم،
سواء خلقه بإرادته، أو صدر عنه وهو ساكن،
إنه هو ربنا الأعلى في السماوات العُلى،
إنه هو يعلم السر- بل لعله لا يعلم من الشر شيئاً (94)
ولبث الأمر هكذا حتى أدركه مؤلفو أسفار "يوبانشاد" فتناولوا هذه المشكلات بالحل، وهذه الإشارات بالتوضيح، فكان ما أخرجوه في ذلك أدل نتاج على العقل الهندوسي، بل لعله أعظم نتاج أخرجه ذلك العقل.
الفصل السابع
فلسفة أسفار يوبانشاد
مؤلفو هذه الأسفار - موضوعها - موازنة العقل بالبصيرة البديهية -
أثمان - براهمان - من هما - وصف الله - الخلاص - تأثير أسفار
يوبانشاد - ما يقوله إمرسن عن براهما
قال شوبنهور: "إنك لن تجد في الدنيا كلها دراسة تفيدك وتعلو بك أكثر مما تفيدك وتعلو دراسة أسفار يوبانشاد، لقد كانت سلواي في حياتي- وستكون سلاوي في موتي"(95) فلو استثنيت النتف التي خلفها لنا "فتاح حوتب"(المصري) في الأخلاق، كانت أسفار اليوبانشاد أقدم أثر فلسفي ونفسي موجود لدى البشر، ففيها مجهود بذله الإنسان دقيق دؤوب، يدهشك بدقته وما اقتضاه من دأب، محاولاً أن يفهم العقل وأن يفهم العالم وما بينهما من علاقة، إن أسفار اليوبانشاد قديمة قدم هومر، ولكنها كذلك حديثة حداثة "كانت".
والكلمة مؤلفة من مقطعين "يوبا" ومعناها "بالقرب" و "شاد" ومعناها "يجلس"، ومن "الجلوس بالقرب" من المعلم، انتقل معنى الكلمة حتى أصبح يطلق على المذهب الغامض الملغز الذي كان يسره المعلم إلى خيرة تلاميذه واجهتم إليه (96)، وفي الأسفار مائة وثمان محاورات مما جرى بين المعلم وتلاميذه، ألفها كثير من القديسين والحكماء بين عامي 800 و 500 ق. م (97)، وهي لا تحتوي على مذهب فلسفي متسق الأجزاء، بل تحتوي على آراء وأفكار ودروس لرجال عدة، كانت الفلسفة والدين عندهم ما يزاولان موضوعاً واحداً، وقد حاول هؤلاء الرجال بهذه الآراء أن يفهموا الحقيقة البسيطة الجوهرية التي تكمن وراء كثرة الأشياء الظاهرة، حتى إذا ما فهموا أنفسهم بها توحيداً يحوطه إجلال الورع، وهذه الأسفار كذلك
مليئة بالسخافات والمتناقصات، وهي في بعض مواضعها هنا وهناك تتسلف الاتجاه الذي سار فيه "هجل" فيما بعد بكل ما قاله من لغو الحديث (98)، وأحياناً فيها عبارات غريبة غرابة الصيغ التي يستعملها "توم سوير" في معالجته للزوائد الجلدية عند مرضاه (99)، ولكنها أحياناً أخرى تعرض عليك ما قد تظنه أعمق ما ورد في تاريخ الفلسفة من ضروب التفكير.
إننا نعلم أسماء مؤلفي هذه الأسفار (100) لكننا لا نعلم من حياتهم شيئاً إلا ما يكشفون لنا عنه حيناً بعد حين في ثنايا تعاليمهم، وأبرز شخصيتين بين هؤلاء هما:"ياجنافالكيا" الرجل و "جارجي" المرأة التي لها شرف الانخراط في سلك أقدم الفلاسفة، وقد كان "ياجنافالكيا" أحد لساناً من زميلته، ونظر إليه زملاؤه نظرهم إلي مجدد خطر، ثم جاء الخلف فاتخذ مذهبه أساساً للعقيدة السليمة التي لا يأتيها الباطل (101)، وهو يحدثنا كيف حاول أن يترك زوجتيه ليكون حكيماً راهباً، وأننا لنلمس في رجاء زوجته "ميتريى" له أن يأذن لها بصحبته، كم كان شغف الهند مدى قرون طوال بمتابعة التفكير في الفلسفة والدين.
"وبعدئذ كان ياجنافالكيا" على وشك أن يبدأ لوناً جديداً من ألوان الحياة.
قال ياجنافالكيا: "ميتريى! انظري، فأنا على وشك الرحيل من هنا لأجوب أقطار الأرض، فأصغيا إليّ أنت و "كاتيايانى" أقل لكما قولاً أخير".
وهنا تكلمت ميتريى: إذا ملئت لي هذه الأرض كلها الآن يا مولاي بالغني، أأكون بهذا كله بين الخالدين؟ "،
فأجابها ياجنافالكيا: "كلا! كلا! يستحيل أن يكون الثراء طريق الخلود".
وهنا تكلمت ميتريي: "فماذا عساي أن أصنع بمال لا يخلدني؟ اشرح لي يا مولاي كل ما تعلمه"(102).
وموضوع أسفار اليوبانشاد هو كل السر في هذا العالم الذي عز على الإنسان فهمه: "فمن أين جئنا، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون؟ أيا من يعرف "براهمان" نبئنا من ذا أمر بنا فإذا نحن هاهنا أحياء .. أهو الزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الذي كان سبباً في وجودنا، أم السبب هو من يسمي "بوروشا"- الروح الأعلى؟ (103)، لقد ظفرت الهند بأكثر من نصيبها العادل من الرجال الذين لا يريدون من هذه الحياة "ما لا يعد بألوف الألوف، وإنما يريدون أن يجدوا الجواب عما يسألون"، فتقرأ في سفر "ميتريى" من أسفار يوبانشاد عن ملك خلف ملكه وضرب في الغابة متقشفاً زاهداً، لعل عقله بذلك أن يصفوا ليفهم، فيجد حلاً للغز هذا الوجود، وبعد أن قضى الملك في كفارته ألف يوم، جاءه حكيم "عالم بالروح"، فقال له الملك: "أنت ممن يعلمون طبيعة الروح الحقيقية، فهلا أنبأتنا عنها؟ " فقال الحكيم منذراً:"اختر لنفسك مآرب أخرى" لكن الملك يلح، ويعبر في فقرة- لابد أن تكون قد لاءمت روح شوبنهور وهو يقرؤها- عن ضيقه بالحياة، وخوفه من العودة إليها بعد موته، ذلك الخوف الذي تمتد جذوره في كل ما تطرب به رءوس الهندوس من خواطر وأفكار، وهاك هذه الفقرة:
"سيدي، ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد النتن المتحلل، الذي يتألف من عظم وجلد وعضل ونخاع ومنيّ ودم ومخاط ودموع ورشح أنفي وبراز وبول وفساء وصفراء وبلغم؟ ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد الذي تملؤه الشهوة والغضب والجشع والوهم والخوف واليأس والحسد والنفور مما تنبغي الرغبة فيه والإقبال على ما يجب النفور منه، والجوع والظمأ والعقم والموت والمرض والحزن وما إليها؟ وكذلك نرى هذا العالم كله يتحلل بالفساد كما تتحلل هذه الحشرات الضئيلة وهذا البعوض وهذه الحشائش وهذه الأشجار التي تنمو ثم تذوي
…
وإني لأذكر من كوارث جفاف المحيطات الكبرى وسقوط قمم الجبال وانحراف النجم القطبي رغم ثباته
…
وطغيان البحر على
الأرض
…
في هذا الضرب من تعاقب أوجه الوجود. ما غناء إشباع الرغبات، مادام بعد إشباع الإنسان لها، سيعود إلى هذه الأرض من جديد مرة بعد مرة"؟ (104)
وأول درس سيعلمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يستطيع هذا المخ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة أن يطمع في أن يدرك يوماً هذا العالم الفسيح المعقد، الذي ليس مخ الإنسان إلا ذرة عابرة من ذراته؟ وليس معنى ذلك أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانه متواضعة، وهو يؤدي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أما إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللانهائية، أو الحقيقة في ذاتها، فما أعجزه من أداة! فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظواهر كلها دعامة لها، والتي تتجلى أمام الإنسان في وعيه، لابد لنا من عضو آخر ندرك به ونفهم، غير هذه الحواس وهذا العقل "فلسنا ندرك "أتمان" (أي روح العالم) بالتحصيل، لسنا نبلغه بالنبوغ وبالاطلاع الواسع على الكتب
…
فليطرح البرهمي العلم ليجعل من نفسه طفلاً
…
لا يبحثن البرهمي عن كلمات كثيرة، لأنها ليست سوى عناء يشق به اللسان" (105)، فأعلى درجات الفهم- كما كان سبينوزا يقول- هو الإدراك المباشر، أو نفاذ الرأي إلى صميم الأمر بغير درجات وسطى، إنه-كما كان الرأي عند برجسون- هو البصيرة، التي هي بصر باطني للعقل الذي أغلق- متعمداً- كل أبواب الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك من سبيل أن "براهمان" الواضح بذاته، قد تخلل فتحات الحواس من داخل حتى لقد استدارت هذه الفتحات إلى الخارج، ومن ثم كان الإنسان ينظر في الخارج، ولا ينظر إلى نفسه في داخل نفسه، أما الحكيم الذي يغلق عينيه ويلتمس لنفسه الخلود، فيرى النفس في دخيلته"(109).
فإذا ما نظر الإنسان إلى طوية نفسه ولم يجد شيئاً على الإطلاق، فذلك لا يقوم إلا على دقة استبطانه، لأنه لا يجوز لإنسان أن يتوقع مشاهدة
الأبدي في نفسه إذا كان غارقاً في الظواهر وفي الجزئيات، فقبل أن يحس الإنسان هذه الحقيقة الباطنية، ينبغي له أولاً أن يطهر نفسه تطهيراً تاماً من أدران العمل والتفكير، ومن كل ما يضطرب به الجسد والروح (107)، يجب أن يصوم الإنسان أربعة عشر يوماً، لا يشرب إلا الماء (108)، وعندئذ يتضور العقل جوعاً- إذا صح هذا التعبير- فيخلد إلى سكينة وهدوء، وتتطهر الحواس وتسكن، وكذلك تهدأ الروح هدوءاً يمكنها من الشعور بنفسها وبهذا المحيط الخصم من الأرواح، التي ليست هي إلا جزءاً منه، وبعدئذ لا يعود الفرد موجوداً باعتباره فرداً، ويظهر "الاتحاد وتظهر الحقيقة الذاتية" لأن الرائي لا يرى في هذه الرؤية الداخلية النفس الفردية الجزئية، فتلك النفس الجزئية إن هي إلا سلسلة من حالات مخية أو عقلية، إن هي إلا الجسم منظوراً من الداخل، إنما يبحث الباحث عن "أتمان"
(1)
نفس النفوس كلها، وروح الأرواح كلها، والمطلق الذي لا مادة له ولا صورة، والذي ننغمس فيه بأنفسنا جميعاً إذا نسينا أنفسنا كل النسيان.
تلك إذن هي الخطوة الأولى في "المذهب السري": وهي أن جوهر النفس فينا ليس هو الجسم، ولا هو العقل، ولا هو الذات الفردية، ولكنه الوجود العميق الصامت الذي لا صورة له، الكامن في دخيله أنفسنا، هو "أتمان"؛ وأما الخطوة الثانية فهي "براهمان"
(2)
وهو جوهر العالم الواحد الشامل الذي لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى
(3)
غير المشخص في صفاته، المحتوي لكل شيء
(1)
اشتقاق هذه الكلمة موضع شك، فيظهر (من سفر رج القسم العاشر ص 16) أن معناها في الأصل نفس، ثم أصبح معناها الجوهري الحيوي، ثم أصبح الروح.
(2)
براهمان معناها هنا روح العالم غير المشخصة، ويجب تمييزها من لفظة براهما الذي هو أكثر منها تشخصاًً، وهو أحد الثالوث الإلهي (براهما وفشنو وشيفا) كما يجب تمييزها من لفظة "برهمي" التي تدل على العضو في طبقة الكهنة، ومع ذلك فليس التمييز بين اللفظتين الأوليتين بملحوظ دائماًً فقد تجد براهما بمعنى براهمان.
(3)
المفكرون الهنود أقل الفلاسفة الدينيين تأثراً بالشخصية البشرية في تصويرهم لله، فهم حتى في الأجزاء الأخيرة من سفر "رج" في الفيدا، يشيرون إلى الكائن الأعلى دون أن يذكروا له جنسا، فهم آناًً يجعلونه مذكراً عاقلاً وآناًً يشيرون إليه بضمير غير العاقل، ليدلوا بذلك على أنه فوق التفرقة الجنسية (الذكر والأنثى).
والكامن في كل شيء، الذي لا تدركه الحواس، هو "حقيقة الحقيقة" هو الروح الذي لم يولد ولا يتحلل ولا يموت (110)، أن "أتمان" الذي هو روح الأشياء كلها، هو روح الأرواح كلها، هو القوة الواحدة التي هي وراء جميع القوى وجميع الآلهة، وتحت جميع القوى وجميع الآلهة، وفوق جميع القوى وجميع الآلهة.
ثم سأله فيداجاداساكايلا قائلاً: كم عدد الآلهة ياجنافالكيا؟
فأجابه: "عددهم هو المذكور في "الترنيمة للآلهة جميعاً" فهم ثلاثمائة وثلاثة، وهم ثلاثة آلاف وثلاثة".
نعم، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟
عددهم ستة.
نعم، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟
هما اثنان.
نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟
إله ونصف إله.
نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟
إنه إله واحد.
والخطوة الثالثة من أهم الخطوات جميعاً: "أتمان" و "براهمان" إن هما إلا إله واحد بعينه، إن الروح (اللافردية) أو القوة الكائنة فينا هي هي بعينها روح العالم غير المشخص، إن أسفار يوبانشاد لا تدخر وسعاً في تركيز هذا المذهب في عقل طالب العقيدة، فما تزال تكرره وتعيده لا تمل له تكراراً
وإعادة وإن قل ذلك السامعون، فعلى الرغم من كل هذه الصور الكثيرة وهذه الأقنعة الكثيرة، فإن هو ذاتي وموضوعي شئ واحد، الإنسان في حقيقته التي تتجرد من الفردية، هو هو بعينه الله باعتباره جوهراً للكائنات جميعاً، يوضح ذلك معلم في تشبيه مشهور:
هات لي تينة من ذلك التين
هذه هي يا مولاي
اقسمها نصفين
هاأنذا قد قسمتها يا مولاي
ماذا ترى هناك؟
أرى هذه الحبيبات الدِقّاق يا مولاي
تفضل فاقسم حُبيبة منها نصفين
هاأنذا قد قسمتها يا مولاي
ماذا ترى هناك؟
لست أرى شيئا على الإطلاق يا مولاي
حقاً يا ولدي العزيز، إن هذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر والذي لا تستطيع رؤيته
حقاً إنه من هذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر قد نبتت هذه الشجرة العظيمة،
فصدقني يا ولدي العزيز، إن روح العالم هو هذا الجوهر الذي ليس في دقته جوهر سواه
هذا هو الحق في ذاته
هذا هو "أتمان"، هذا هو أنت يا شاوناكيتو
هل لك أن تزيدني بالأمر علماً يا مولاي؟
ليكن لك يا ولدي العزيز.
هذا التقابل بين "أتمان" و "براهمان" وما ينشأ عن تلاقيهما في حقيقة
واحدة- الذي يكاد يكون تطبيقاً للتقابل الديالكتيكي عند هجل- هو صميم أسفار اليوبانشاد، وكثير غير هذا من الدروس نصادفه في هذه الأسفار، لكنها دروس فرعية بالقياس إلى ذلك، ففي هذه المحادثات نرى عقيدة تناسخ الأرواح قد تم تكوينها
(1)
، كما نرى الشقوق إلى الخلاص من هذه الدورات التناسخية الفادحة، فهذا هو "جاناكا" ملك "الفيديها" يتوسل إلى "ياجنافالكيا" أن ينبئه كيف يمكن التخلص من العودة إلى الولادة من جديد، ويجيب "ياجنافالكيا" بشرح "اليوجا" (أي رياضة النفس) فيقول: إذا اقتلع الإنسان بالتزهد كل شهوات نفسه، لم يعد هذا الإنسان فرداً جزئياً قائماً بذاته، وأمكنه أن يتحد في نعيم أسمي مع روح العالم، وبهذا الاتحاد يخلص من العودة إلى الولادة من جديد، وهنا قال له الملك الذي غلبته حكمه الحكيم على أمره، قال "أي سيدي الكريم، إني سأعطيك شعب الفيديها وسأعطيك نفسي، لنكون لك عبيداً"(118)، وإنها لجنّة صارمة تلك التي يعدها "ياجنافالكيا" ذلك الملك المتبتل، لأن الفرد هناك لن يشعر بفرديته (119)، بل كل ما سيتم هنالك هو امتصاص الفرد في الوجود، هو عودة الجزء إلى الاتحاد بالكل الذي انفصل عنه حيناً من الدهر، " فكما تتلاشى الأنهار المتدفقة في البحر، وتفقد أسماءها وأشكالها، فكذلك الرجل الحكيم إذا ما تحرر من اسمه وشكله، يفنى في الشخص القدسي الذي هو فوق الجميع"(120).
مثل هذا الرأي في الحياة والموت لن يصادف قبولاً عند الغربي الذي تتغلغل الفردية في عقيدته الدينية كما تتغلغل في أنظمته السياسية والاقتصادية، لكنه رأي اقتنع به الهندوسي الفيلسوف اقتناعاً يدهشك باستمراره واتصاله، فسنجد
(1)
أول ما تظهر هذه العقيدة تظهر في سفر ساتاباتا من أسفار يوبانشاد حيث يكون تكرار الولادة عقاباًً تنزله الآلهة بالإنسان إذا عاش على الشر في حيات، ومعظم القبائل البدائية تعتقد أن روح الإنسان يمكن انتقالها إلى حيوان أو العكس، وربما كانت هذه الفكرة- عند سكان الهند السابقين للعنصر الآري- هي الأساس الذي بنيت عليه العقيدة في التناسخ.
هذه الفلسفة التي وردت في اليوبانشاد- هذا اللاهوت التوحيدي، هذا الخلود الهندي من بوذا إلى غاندي، ومن ياجنافالكيا إلى طاغور، فأسفار اليوبانشاد قد ظلت للهند إلى يومنا هذا بمنزلة العهد الجديد للأقطار المسيحية- مذهباً دينياً سامياً- يمارسه الناس أحياناً، لكنهم يجلّونه بصفة عامة، بل إن هذه الفلسفة اللاهوتية الطموحة لتجد حتى في أوربا وأمريكا ملايين بعد ملايين من الأتباع، من نساء مللن العزلة ورجال أرهقهم التعب، إلى شوبنهور وإمرسن، فمن ذا كان يظن أن الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي دعا إلى الفردية سيجري قلمه بتعبير كامل للعقيدة الهندية بأن الفردية وهم من الأوهام؟
براهما
إذا ظن القاتل المخضب بدماء قتيله أنه القاتل
أو إذا ظن القتيل أنه قتيل
فليسا يدريان ما اصطنع من خفي الأساليب
فأحفظها لدي، ثم أنشرها، ثم أعيدها
البعيد والمنسي هو إليّ قريب
والظل والضوء عندي سواء
والآلهة الخفية تظهر لي
وشهرة الإنسان بخيره أو بشره عندي سواء
إنهم يخطئون الحساب من يخرجونني من الحساب
إنهم إذا طيروني عن نفوسهم فأنا الجناحان
إنهم إن شكوا في وجودي فأنا الشك والشاك معاً
وأنا الترنيمة التي بها البراهمي يتغنى.
الباب الخامس عشر
بوذا
الفصل الأول
الزنادقة
المتشككون - العدميون - السوفسطائيون -
الملحدون - الماديون - ديانات بغير إله
إن أسفار اليوبانشاد نفسها تدل على أنه قد كان بين الناس متشككون حتى في أيام اليوبانشاد؛ فقد كان الحكماء أحيانا يسخرون من الكهنة، مثال ذلك في سفر "شاندوجيا" من أسفار اليوبانشاد، تشبيه لرجال الدين المتشددين في تمسكهم بالعقيدة إذ ذاك بموكب من الكلاب أمسك كل منها ذيل سابقه، وهو يقول في ورع:"أم دعونا نأكل، أم دعونا نشرب"(1)، وفي سفر "سواسانفد" من أسفار اليوبانشاد تصريح بأنه لا إله، ولا جنة، ولا نار، ولا تناسخ، ولا عالم؛ وإن أسفار الفيدا واليوبانشاد ليست إلا تأليفاً من عند جماعة من الحمقى المغرورين، وأن الأفكار أوهام والألفاظ كلها باطلة، وأن من تخدعهم العبارات البراقة يتمسكون بالآلهة، وبالمعابد، و "بالقديسين" مع أنه لا فرق في حقيقة الواقع بين "فشنو"(الإله) وبين كلب من الكلاب (2)، وإن قصة لتروى عن "فيروكانا" الذي عاش اثنين وثلاثين عاماً تلميذاً للإله العظيم "براجاباتي" نفسه، وأنه تعلم علماً كثيراً عن النفس "التي خلصت" من الشرور، والتي لا تشيخ، ولا تموت، ولا تحزن، ولا تجوع، ولا تظمأ، والتي لا ترغب إلا في الحق، ثم عاد "فيروكانا" بغتة إلى الأرض وطفق يعلم
الناس هذا المذهب الآتي الذي هو فضيحة الفضائح: "حياة الإنسان إنما تسعد هاهنا على الأرض، ونفس الإنسان لا بد من إشباع رغباتها، فمن استطاع أن يسعد نفسه على هذه الأرض، وأن يشبع رغبات نفسه، كسب الدارين معاً، هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة"(3)، وإذن فقد يكون البرهميون الصالحون الذين صانوا تاريخ بلادهم، قد خدعونا قليلاً حين أفهمونا أن نزعة التصوف والتقوى بين الهندوس كانت عامة لم يشذ عنها أحد.
والحق أنه كلما كشف لنا البحث العلمي عن شخصيات لم تكن في المنزلة العليا من احترام الناس، ممن اشتغلوا بالفلسفة الهندية قبل بوذا، ارتسمت لنا صورة تبين لنا إلى جانب القديسين السابحين في تأملاتهم عن إلههم "براهما"، طائفة من الأشخاص احتقرت الكهنة وشكت في الآلهة، وسميت- دون أن ترتاع لهذا الاسم- سميت بطائفة "اللا أدريين" و "العدميين"؛ فمثلاً رفض "سانجايا" اللا أدري أن يثبت أو أن ينفي الحياة بعد الموت، وتشكك في إمكان حصول الإنسان على العلم اليقيني، وحصر الفلسفة في محاولة استتباب السلام؛ كذلك أبى "بورانا كاشيابا" أن يعترف بالفوارق الخلقية، وعلم الناس أن الروح عبد للمصادفة لا يملك لها دفعاً؛ وذهب "ماسكارين جوسالا" إلى أن القدر قد خط في لوحه كل شئ يصيبه الإنسان بغض النظر عما هو جدير به حقاً؛ ورد "أجيتا كاسا كامبالين" الإنسان إلى عناصر هي التراب والماء والنار والهواء، وقال:"إن الحمقى وأرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد، فكلاهما يزول وينعدم ولا يكون له وجود بعد الموت"(4)، ولقد صور لنا مؤلف "رامايانا" صورة نموذجية للمتشكك حين صور لنا "جابالي" الذي جعل يسخر من راما" لأنه رفض مملكة ليفي بوعد تعهد بالوفاء به:
"جابالي وهو برهمي عالم وسوفسطائي مهر في الكلام، تشكك في الإيمان وفي القانون والواجب، وراح يحدث سيد أيوذيا الشاب قائلاً:
أنى لك يا "راما" هذه الحكم السخيفة التي ترين على قلبك وتكتنف عقلك.
هذه الحكم التي تضلل السذج ومن لا يتعمقون التفكير من بني الإنسان
…
؟
أواه، إني لأبكي من أجل هؤلاء الفانين من الناس حين يخطئون فيكبون على واجب باطل.
ويضحون بهذه المتعة الحبيبة إلى النفس حتى تنقضي حياتهم القاحلة.
وما ينفكون يقدمون العطايا للآلهة وللأسلاف؛ ياله من ضياع للطعام!
لأنه لا الإله ولا السلف يأخذ منا هذا الذي نقدمه إليه في ولاء وتقوى!
وهل إذا أكل الطعام آكل، تغذى به ناس آخرون؟
فهذا الطعام تقدمونه لبرهمي، هل يمكن له إذن أن يشبع الآباء السالفين؛ إن الكهنة بخبثهم قد صاغوا هذه الحكم، وهم يقولون إذ هم ينظرون إلي أغراض أنانية:
"قدم قربانك وتب إلى الله؛ واترك مالك الدنيوي وأخلص للصلاة! "
كلا، يا "راما" ليس هناك حياة آخره، وكلها أباطيل
هذه الآمال وهذه العقائد عند الإنسان
فابحث عن لذائذ الحاضر، واطرد عن نفسك هذه الأوهام العابثة الواهية (5)
ولما شب بوذا رجلاً، وجد القيعان والشوارع بل وجد الغابات في شمال الهند، تتجاوب كلها بأصداء نزاع فلسفي، كان في جملته ينحو نحواً إلحاديا مادياً. وإنك لترى الأسفار الأخيرة من "يوبانشاد"، كما ترى أقدم الأسفار البوذية ملئاً بالإشارات إلى هؤلاء الزنادقة (6)؛ فقد كان هناك طائفة كبيرة من السوفسطائيين الجوالين- ويسمونهم باريباجاكا أو المتجولين- تنفق أحسن أيام السنة في الرحلة من مكان إلى مكان، باحثة لها عن تلاميذ أو معارضين في البحث الفلسفي؛ وبعضهم كان يعلم المنطق على أنه الفن الذي تستطيع به أن
تبرهن على أي شئ، ولذلك أطلق عليهم بحق اسم "من يشققون الشعرة" أو "من يتلون تلوي ثعابين الماء"؛ وآخرون طفقوا يبرهنون على عدم وجود الله وعدم ضرورة اصطناع الفضيلة؛ وكانت جموع كبيرة من الناس تحتشد لتسمع أمثال هذه المحاضرات والمناقشات، وبنيت قاعات لهم خاصة، وكان الأمراء أحيانا يكافئون الظافرين في أمثال هذه الحلبات الفكرية (7)؛ حقاً لقد كان عصراً يدهشك بحرية فكره، وبألوان التجارب التي أجراها أهله في عالم الفلسفة.
ولم يبق لنا كثير مما قاله هؤلاء المتشككة، والفضل في خلود ذكراهم يرجع كله تقريباً إلى ما هاجمهم به أعداؤهم (8)، وأقدم اسم بين تلك الطائفة هو "بريهاسباتي"، لكن أقواله الهدامة قد فنيت كلها، بحيث لم يبق لنا منها إلا قصيدة واحدة تحط من شأن الكهنة في لغة لا يشوبها غموض الميتافيزيقا:
ليس للجنة وجود، وليس هناك خلاص أخير؛
فلا روح، ولا آخرة، ولا طقوس للطبقات
…
إن فيدا ذات الوجوه الثلاثة، وأمر الإنسان لنفسه بلغات ثلاث؛
وهذه التوبة بكل ما فيها من تراب ورماد.
كل هذه وسائل عيش لقوم
خلوا من الذكاء والرجولة
…
كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح تراباً
أن يعود إلى الظهور على الأرض؟ وإذا كان في وسع الشبح أن يمضي
إلى عوالم أخرى، فلماذا لا يجذبه الحب الشديد
لمن يخلفهم وراءه، فيرجعه إليهم؟
إن هذه الطقوس الغالية التي تقام لمن يموتون
ليست إلا وسائل عيش دبّرها
دهاء الكهنة- لا أكثر من ذلك
…
فما دمت حياً، أنفق حياتك مطمئن البال
مرح النفس؛ ليقترض الإنسان مالا
من أصدقائه جميعاً، ويطعم نفسه بالزبد المذاب.
وعلى أساس القواعد التي أذاعها "بريهاسباتي" هذا، نشأت مدرسة هندوسية مادية بأسرها، أطلق عليها اسم واحد من رجالها، وهو "شارفاكا" وكان أتباع هذه المدرسة يضحكون من سخف الرأي القائل: أن أسفار الفيدا قد احتوت على الحق كما أوحى به الله، وقالوا في حجاجهم إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق الحواس؛ وحتى العقل لا يجوز الركون إليه والثقة به، لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد في صوابه على الملاحظة الدقيقة والتدليل الصحيح فحسب، بل يعتمد كذلك على افتراض أن المستقبل سيجيء على غرار الماضي؛ واليقين في مثل هذا الافتراض مستحيل، كما كان "هيوم" ليقول في الموضوع عندئذ (10)؛ قال فريق "الشارفاكا" إن ما لا تدركه الحواس ليس له وجود، وإذن فالروح وهم من الأوهام والإله "أتمان" أبطولة من الأباطيل؛ أننا لا نصادف في تجاربنا ولا في تجارب السالفين، إذ نستبطن أنفسنا، أية علامة تدل على وجود قوى خارقة للطبيعة في العالم؛ كل الظواهر طبيعية، ولا يردها إلى الشياطين أو الآلهة إلا السذج (11)؛ والمادة هي وحدها الحقيقة التي لا حقيقة سواها؛ والجسم مجموعة من ذرات اجتمع بعضها ببعض (12) وما العقل إلا مادة تفكر؛ والجسم- لا الروح- هو الذي يشعر ويرى ويسمع ويفكر (13)"من ذا الذي رأى روحاً موجودة في استقلال عن الجسم؟ " فليس هناك خلود ولا عودة إلى الحياة؛ والدين كله تخليط وهذيان وسفسطة خادعة؛ وافتراض وجود الله لا ينفع شيئاً في شرح العالم أو فهمه، وإذا اعتقد الناس بضرورة الدين، فما ذاك إلا لأنهم تعوّدوه، ولذا فهم يحسون كأنما ضاع منهم ضائع، ويشعرون كأنهم في خلاء لا تطمئن
له النفوس، حين تنمو معارفهم نمواً يهدم العقيدة الدينية (14)؛ وكذلك الأخلاق أمر طبيعي؛ فهي عرف اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع، وليست بالأمر الصادر من الله؛ والطبيعة لا تأبه لخير أو لشر، لفضيلة أو رذيلة، وهي تشرق بشمسها في غير تفرقة بين الأوغاد والقديسين؛ فلو كان للطبيعة صفة أخلاقية إطلاقاً، فهي منافاتها للأخلاق كما تعرفها حدود البشر؛ ولا حاجة بالإنسان إلى إلجام غرائزه وشهواته، لأن هذه هي الإرشادات التي رسمتها الطبيعة للناس؛ الفضيلة غلطة من الغلطات، وغاية الحياة هي أن تعيش، والحكمة الوحيدة هي أن تعيش سعيداً (15).
كانت الفلسفة الثائرة التي أخذ بها فريق "الشارفاكا" ختاماً لأسفار الفيدا وأسفار اليوبانشاد؛ وزعزعت سلطة البراهمة على العقل الهندي، وتركت في المجتمع الهندوسي فراغاً كاد يضطر الناس اضطراراً أن يصطنعوا لأنفسهم ديناً جديداً؛ لكن أنصار المذهب المادي هؤلاء كانوا قد أجادوا أداء مهمتهم إجادة جعلت الديانتين اللتين نشأتا لتحلا محل العقيدة الفيدية، ديانتين ملحدتين، أو عقيدتين تعبديتين بغير إله- ولو أن هذا القول قد يبدو للقارئ تناقضاً- فكلتا الديانتين الجديدتين كانتا شعبتين من الحركة الهدامة؛ وكلتاهما لم تكونا من إنشاء الكهنة البراهمة، بل ابتدعهما فريق من "الكشاترية" أي طبقة المقاتلين، ليردوا بهما فعل اللاهوت والطقوس الكهنوتية؛ وبظهور هاتين الديانتين، وهما الجانتية والبوذية، بدأ التاريخ الهندي عصراً جديداً.
الفصل الثاني
ماهافيرا والجانتيوُّن
البطل العظيم - العقيدة الجانتية - تعدد
الآلهة والشرك بالله - التقشف - الخلاص
بالانتحار - تاريخ الجانتية في مراحلها الأخيرة
حول منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولد صبي لرجل ثري من أشراف قبيلة "لِشَّافي" في ضاحية من ضواحي مدينة "فابشالي" في الإقليم الذي يسمى الآن بالإقليم "بهار"
(1)
. وكان أبواه على ثرائهما ينتميان إلى عقيدة تنظر إلى العودة إلى الحياة على أنها لعنة نزلت بمن يعود، وتنظر إلى الانتحار على أنه ميزة ينعم بها المنتحر؛ فلما أن بلغ وليدهما عامه الحادي والثلاثين، أزهقا روحيهما بجوع متعمد؛ فتأثر ابنهما الشاب تأثراً بلغ منه سويداء نفسه، فأطرح العالم كله وأساليب العيش فيه، وخلع عن جسده كل ثيابه، وضرب في أرجاء الإقليم الغربي من البنغال زاهداً متقشفاً، ينشد تطهير نفسه من أدرانها كما يقصد أن يزداد بسر الوجود فهماً وعلماً، وبعد أن قضى في إنكار ذاته على هذا النحو ثلاثة عشر عاماً، أعلنت جماعة من أتباعه أنه "جنا"(أي قاهر)؛ ومعنى ذلك أنه معلم من عظماء المعلمين الذين يكتب لهم القدر- هكذا كانوا يعتقدون- أن يظهروا على فترات دورية ليهدوا شعب الهند سواء السبيل.
واختار هؤلاء الأتباع لزعيمهم اسماً جديداً هو "ماهافيرا" أو "البطل العظيم"، واتخذوا لأنفسهم اسماً اشتقوه من اسم عقيدتهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم "الجانتيين"؛ ونظم "ماهافيرا" طائفة من رجاله يكونون
(1)
يروي الرواة أن ماهافيرا عاش بين سنتي (599 - 527 ق. م) لكن جاكوبي يعتقد أن (549 - 477 ق. م) أقرب إلى الصواب.
رهباناً عزاباً، وطائفة من النساء يكن راهبات عانسات؛ فلما أن جاءته منيته وهو في الثانية والسبعين من عمره، ترك وراءه أربعة عشر ألفاً من أشياع مذهبه.
وأخذت هذه العقيدة شيئاً فشيئاً تخرج من جوفها مذهباً من أعجب ما شهده تاريخ الديانات من مذاهب؛ فقد بدأ هؤلاء الأتباع بمنطق واقعي، إذ وصفوا المعرفة بأنها لا تتجاوز حدود النسبي الذي يقع في الزمان؛ فكانوا يعلمون الناس أن ليس ثمة حق إلا من وجهة نظر معينة، ولو نظر إلى هذا الحق من وجهات نظر أخرى لكان الأرجح أن يكون باطلاً؛ وكان يلذ لهم دائماً أن يرووا قصة العميان الستة الذين وضعوا أيديهم على أجزاء مختلفة من جسم الفيل، فمن وضع يده على أذنه ظن على أن الفيل مروحة ضخمة لذر الغلال، ومن وضع يده على ساقه قال أن الفيل عمود مستدير كبير (17)، فالأحكام كلها- إذن- محدود بحدود ومشروطة بشروط، وأما الحقيقة المطلقة فلا تتكشف إلا لهؤلاء المخلصين للبشر الذي يظهرون على فترات منتظمة، أو طائفة "الجنا" كما كانوا يسمونهم؛ وليست تنفع أسفار الفيدا لسد هذا النقص، لأنها لم تهبط من إله، وأقل ما يقال في التدليل على ذلك أن ليس هنالك إله؛ وقد قال الجانتيون أنه ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول، فكل طفل يستطيع أن يفند مثل هذا الفرض بقوله إن الخالق الذي لم ُيخْلَق أو السبب الذي لم يسبقه سبب، لا يقل صعوبة على الفهم عن افتراض عالم لم تسبقه أسباب ولم يخلقه خالق؛ وإنه لأقرب إلى المنطق السليم أن نعتقد أن الكون كان موجوداً منذ الأزل، وأن تغيراته وأطواره التي لانهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة، من أن تعزو هذا كله إلى صناعة إله (18).
لكن مناخ الهند لا يساعد على عقيدة طبيعية تقوم بين الناس وتثبت، فلما أفرغ الجانتيون السماء من إلهها، لم يلبثوا أن عمروها من جديد بطائفة من القديسين المؤلهين ممن روى أخبارهم تاريخ الجانتين وأساطيرهم، وراحوا
يعبدونهم مخلصين لهم العبادة مقيمين لهم الشعائر؛ لكنهم اعتبروا هؤلاء المؤلهين أنفسهم خاضعين للتناسخ والتحلل، ولم يعدوهم خالقين للعالم أو سادة عليه يحكمونه بأي معنى من المعاني (19)، وليس معنى ذلك أن الجانتين كانوا يعتنقون مذهباً مادياً خالصاً، لأنهم فرقوا بين العقل والمادة في كل الكائنات، ففي كل شئ، حتى الأحجار والمعادن، أرواح كامنة، وكل روح تحيا حياتها بغير شائبة تلام عليها، تصبح "بارماتمان"- أو روحاً سامية- وكانت تنجو بذلك من التقمص في جسد آخر، مدى حين، على أنها تتقمص جسدها الجديد إذا ما نالت من الجزاء حقها الموفور، ولا ينعم "بالخلاص" الكامل إلا أعلى الأرواح وأكملها؛ ومن هؤلاء تتكون طائفة "الأرْهات"- أي السادة المعظمين- الذين كانوا يعيشون، مثل آلهة أبيقور، في مملكة بعيدة ظليلة، وهم عاجزون عن التأثير في شئون الناس، لكنهم ينعمون بارتفاعهم عن كل احتمال يؤدي إلى عودتهم إلى الحياة (20).
والطريق المؤدية إلى الخلاص في رأي الجانتيين، هي توبة تقشفية، واصطناع "أهْمِساَ" موفورة كاملة، و"أهمسا" معناها الامتناع عن إيذاء أي كائن حي؛ ولزام على كل متقشف جانتي أن يأخذ على نفسه عهوداً خمسة؛ ألا يقتل كائناً حياً، وألا يكذب، وألا يأخذ ما لم يعطه، وأن يصون عفته، وأن ينبذ استمتاعه بالأشياء الخارجية كلها؛ وفي رأيهم أن اللذة الحسية خطيئة دائماً؛ والمثل الأعلى هو ألا تأبه للذة أو ألم وأن تستغني استغناءً تاماً عن الأشياء الخارجية كلها؛ فالزراعة حرام على الجانتي لأنها تمزق التربة وتسحق الحشرات والديدان؛ والجانتي الصالح يرفض أكل العسل لأنه حياة النحل، ويصفى الماء قبل شرابه خشية أن يقتل ما عساه أن يكون كامناً فيه من كائنات؛ ويغطى فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياء عالقة في الهواء فيقتلها، ويحيط مصباحه بستار حتى يقي الحشرات لذع النار، ويكنس الأرض أمامه وهو يمشي خوفاً من
أن تدوس قدمه الحافية على كائن حي فترديه؛ ولا يجوز للجانتي أبداً أن يذبح حيواناً أو يضحي به؛ ولو كان "جانتياً" صميماً أقام المستشفيات والمصحات- كما ترى في احمد أباد- للحيوانات إن هرمت أو أصابها أذى؛ والحياة التي يجوز له أن يزهقها هي حياته دون غيرها؛ فالعقيدة الجانتية تجيز الانتحار ولا تقيم في سبيله العقبات، خصوصاً إذا تم بوسيلة الجوع، لأن ذلك أبلغ انتصار تظفر به الروح على إرادة الحياة العمياء؛ ولقد مات جانتيون كثيرون على هذا النحو، وقادة المذهب يبارحون هذه الدنيا- حتى في عصرنا هذا- بتجويع أنفسهم حتى الموت (21).
إن عقيدة دينية كهذه، قائمة على أساس من الشك العميق في قيمة الحياة والإنكار الشديد لها، كان يمكن أن تجد في الناس شيوعاً في بلد ما فتئت الحياة فيه عسيرة شاقة؛ لكن هذا التطرف في الزهد قد حال دون إقبال الناس عليها حتى في الهند؛ فمنذ ظهور المذهب الجانتي، والجانتيون صفوة مختارة؛ وعلى الرغم من أن "يوان شوانج" وجدهم عديدي النفر أقوياء الأثر في القرن السابع (22). فإنهم كانوا عندئذ في أوج حياتهم التي سلخت سيرتها في هدوء؛ وحدث سنة 79 م أن انشقوا فريقين تفصلهما هوة سحيقة من اختلاف الرأي على موضوع العري؛ ومنذ ذلك الحين، كان الجانتي إما إن يكون منتسباً إلى طائفة "شويتامْبَارا"- أي طائفة ذوي الأردية البيض- وأما أن يكون منتسباً إلى طائفة "ديجامبارا"- أي المتزملين بالسماء، أو ذوي الأجساد العارية؛ وكلتا الطائفتين تلبس الثياب العادية كما يقضي المكان والزمان، وقدّيسوهم وحدهم هم الذين يجوبون الطرقات عراة الأجسام؛ وهذان المذهبان الفرعيان لهما فروع، فطائفة "ديجامبارا" لها أربعة فروع، وطائفة "شويتامبارا" لها أربعة وثمانون فرعاً (23)، ويبلغ عدد أتباع الطائفتين معاً مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة من عدد السكان الذين يبلغون ثلاثمائة وعشرين
مليوناً (24)، ولقد كان غاندي شديد التأثر بالمذهب الجانتي، واصطنع " أهمسا "- ومعناها الامتناع عن إيذاء الكائنات الحية على اختلافها- أساساً لسياسته وحياته، ورضي من الثياب بقطعة صغيرة من القماش تستر ردفيه، ولم يكن يستحيل عليه أن يزهق نفسه جوعاً؛ ومن يدري؟ فلعل الجانتيين يسلكونه في طائفة "الجنا"، فيعدونه تجسّداً جديداً للروح العظمى التي تتقمص جسداً من لحم على فترات منتظمة من الدهر لتخلص العالم.
الفصل الثالث
أسطورة بوذا
بطانة بوذية - الولادة المعجزة - النشأة - أحزان
الحياة - الهرب - أعوام التقشف - الهداية -
رؤية النرفانا
إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل "باتاليبُترا" و "فايشالي"؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس- ولن نذكر في الهند أيام بوذا- أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق؛ فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس
حررت نفسها ونعمت في حياتها بالفراغ
(1)
.
وتصف الرواية الهندوسية والد بوذا- شُدْ ذُوذانا- بأنه رجل غمس نفسه في الحياة، وهو من أبناء عشيرة "جواتاما" التي تنتسب إلى قبيلة "شاكيا" المُدِلَّة بنفسها؛ كان أميراً أو ملكاً على "كابيلافاستو" عند سفح الهمالايا (25)؛ ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف شيئاً عن بوذا معرفة اليقين؛ فلو رأيتنا قد قصصنا عليك هاهنا القصص التي تجمعت حول اسمه، فليس ذلك لأنها تاريخ نريد إثباته، ولكننا نرويها لأنها جزء ضروري من الأدب الهندي والديانة الآسيوية، ويحدد العلماء مولد بوذا بعام يقرب من سنة 563 ق. م. ثم لا يستطيعون أن يضيفوا إلى ذلك شيئاً، فتتناول الأساطير بقية قصته، وتكشف لنا عن الغرائب التي قد تحدث حين تحمل الأمهات بأعلام الرجال، فيذكر لنا سفر من أسفار "جاتاكا"
(2)
. أنه في ذلك الوقت:
"في مدينة كابيلافاستو" أعلن عن الاحتفال بالبدر؛ وبدأت الملكة "مايا" قبل موعد البدر بسبعة أيام تقيم حفلاتها بالعيد دون أن تقدم فيها المسكرات، مكتفية بما أغرقت به ولائمها من أكاليل الزهور والعطور؛ وفي اليوم السابع- يوم اكتمال البدر- استيقظت مبكرة واستحمت في ماء عبق بالعطر،
(1)
لاحظ كثيرون أن هذه الفترة تميزت بكثرة الأنجم اللوامع في تاريخ العبقرية؛ فـ "ماهافيرا" و "بوذا" في الهند؛ و "لاوتس" و "كونفوشيوس" في الصين؛ و "آراميا" و "إشعيا الثاني" في الأمة اليهودية؛ وفلاسفة ما قبل سقراط في اليونان؛ وربما كان ذلك أيضا عهد "زرادشت" في فارس؛ ومثل هذا التعاصر في النبوغ يدل على تبادل المؤثرات بين هذه الثقافات القديمة بدرجة أكبر مما يمكننا أن نتعقبه اليوم على سبيل التحديد.
(2)
وهي قصص عن ولادة "بوذا" كتبت حول القرن الخامس الميلادي وهنالك كذلك أسطورة أخزي عنوانها "لا ليتا فستارا" التي ترجمها إلى الإنجليزية سير إدون أرنلد بعنوان "ضوء آسيا".
وأحسنت للفقراء بأربعمائة ألف قطعة من النقد؛ ولما أخذت زخرفها وازينت، جلست تأكل طعامها من أطيب الطعام، وقطعت على نفسها عهود "أبوساذا"
(1)
ثم دخلت مخدعها الرسمي المزدان، واستلقت على سريرها، فأخذها النعاس ورأت هذا الحلم:
رأت أربعة ملوك عظماء يرفعونها في سريرها ويأخذونها إلى جبال الهمالايا ويضعونها على هضبة مانوسيلا
…
ثم رأت ملكات هؤلاء الملوك الأربعة، يأتين إليها فيأخذنها إلى بحيرة أنوتانا، ويغمسنها في الماء ليزلن عنها الصبغة البشرية، ويلبسنها أردية سماوية ويعطرنها بالعطور ويزينها بالزهور القدسية؛ ولم يكن على مبعدة منها أن رأت جبلاً من فضة وعليه قصر من ذهب؛ وهنالك أعددن لها سريراً إلهياً رأسه إلى الشرق، وأرقدنها عليه؛ وهاهنا انقلب "بوذيساتاوا"
(2)
فيلاً أبيض؛ وكان على مقربة من المكان جبل من ذهب، فلما أن بلغه هبط منه إلى جبل الفضة آتياً إليه من جهة الشمال؛ وفي جعبته التي أشبهت حبلاً من فضة، كان يحمل زهراً أبيض من زهور اللوتس؛ وبعدئذ نفخ في الصور ودخل قصر الذهب ودار تجاه اليمين دورات ثلاثاً حول سرير أمه، ثم ضرب جنبها الأيمن وظهر لها كأنه يدخل رحمها؛ وبهذا تلقى
…
حياة جديدة.
واستيقظت الملكة في اليوم التالي وروت حلمها للملك؛ فدعا الملك إلى حضرته أربعة وستين من أعلام البراهمة، وخلع عليهم خلع التكريم وأشبعهم طعاماً فاخراً وقدم إليهم الهدايا؛ فلما أن رضيت نفوسهم بهذه اللذائذ كلها،
(1)
هي عهود تقال في أربعة أيام مقدسة من كل شهر، وهي أيام البدر والهلال واليوم الثامن بعد كل منهما.
(2)
شخص أراد له القدر أن يكون بوذا، ومعناها هنا "بوذا" نفسه، ومعنى كلمة بوذا "المستنير" وهي بين كثير من الألقاب التي تخلع على "السيد" الذي كان اسمه الشخصي "سدذارتا" واسم عشيرته "جواتاما"؛ كذلك كان يسمى "شاكيا- موني" ومعناها "حكيم جماعة شاكيا" كما كان يسمى أيضا "تاذاجاتا" ومعناها "الرجل الذي ظفر بالحق"؛ ومع ذلك فلم يطلق بوذا على نفسه لقباًً من هذه الألقاب أبداً فيما نعلم.
أمر بالحلم أن تقص عليهم قصته، واستفسرهم ما يكنه الغيب، فقال البراهمة: لا يأخذنك الهم أيها الملك، فقد حملت الملكة، حملت ذكراً لا أنثى، وسيكون لك ابن؛ ولو سكن ذلك الولد بيتاً فسيكون ملكاً، سيكون ملكاً على الدنيا بأسرها، وأما إن ترك داره وخرج من أحضان العالم، فسيصبح بوذا، وسيكون في هذا العالم رافع الغشاوة عن أعين الناس (غشاوة الجهل)
…
وحملت الملكة "مايا""بوذيساتاوا" عشرة أشهر كأنه الزيت في القدح، ولما أن جاءها أو أنها رغبت في الذهاب إلى بيت أهلها، ووجهت الخطاب إلى الملك "شدذوذانا" قائلة:"أريد أيها الملك أن أذهب إلى "ديفاداذا" مدينة أسرتي" فوافق الملك وأمر بالطريق من "كابيلا فاستو" إلى "ديفاداذا" أن يمهد وأن يزين بأصص النبات، وبالرايات والأعلام، وأجلسها في هودج من ذهب يحمله ألف من رجال البلاط، وأرسلها إلى بيت أهلها في حاشية كبيرة؛ وبين البلدين حرج يملكه أهل المدينتين جميعاً، هو حرج يمرح فيه الناس يتألف من أشجار "الملح" ويسمى "حرج لمبيني"، وكان الحرج إذ ذاك كتلة واحدة من الزهر الذي يغطي الأشجار من جذورها إلى رؤوسها
…
فلما رأته الملكة رغبت في أن تمرح في الحرج، وذهبت إلى جذع شجرة كبيرة من أشجار "الملح" وأرادت أن تمسك بغصن من غصونها، فانحنى الغصن حتى بات في متناول يدها كأنه الطرف الأعلى من قصبة لينة، ومدت يدها وتناولته، وفي هذه اللحظة عينها اهتزت بالمخاض، فأقامت لها الحاشية ستاراً يسترها، وأبعدت عنها، فوضعت وليدها وهي لم تزل واقفة ممسكة بغصن الشجرة في يدها؛ ولم ينزل "بوذيساتاوا"- كما ينزل سائر الأطفال من أجواق أمهاتهم- ملوثاً بالشوائب؛ بل نزل "بوذيساتاوا" كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، نزل كأنه الرجل ينزل السلم، ومد يديه وقدميه، ووقف لا يلوثه القذر ولا تدنسه شائبة من الشوائب، وقف مشرقاً بالضوء كأنه جوهرة موضوعة على ثوب بنارسي، هكذا هبط من جوف أمه" (28).
وفوق ذلك ينبغي أن تعلم أن عند مولد بوذا ظهر في السماء ضوء لامع، وسمع الأصم، ونطق الأبكم، واستقام الأعرج على ساقيه، وانحنت الآلهة من علياء سمائها لتمد له أيدي المعونة، وأقبل الملوك من نائي البلاد يرحبون بمقدمه، وتصور لنا الأساطير صورة زاهية لما أحاط نشأته من أسباب العز والترف؛ وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور "كأنه إله"، وكان أبوه يقيه، مدفوعاً بحبه الأبوي، شر الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة، ولما بلغ الرشد، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له؛ ولما كان ينتمي إلى طبقة "الكشاترية"- أي المقاتلين- أحسن تدريبه في الفنون العسكرية، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره (29)؛ وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة.
ويروى الرواة الصالحون أنه خرج من قصره ذات يوم إلى الطرقات حيث عامة الناس، وهنالك رأى شيخاً كهلاً؛ وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً؛ وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً
…
فاسمع له يروي القصة بنفسه- كما نقلها عنه أتباعه في الكتب المقدسة- يرويها فيحرك في نفسك كامن الشعور:
"وبعدئذ أيها الرهبان جرت خواطري على النحو الآتي- فيما كنت فيه من جلال عيش ورفاهية بالغة- قلت لنفسي: "إن رجلاً جاهلاً من سواد الناس، ستنال منه الكهولة كما نالت من ذلك الشيخ، وليس هو بالبعيد عن نطاق الشيخوخة، يضطرب ويستحي وتعاف نفسه حين يبصر بشيخ كهل، لأنه يتصور نفسه في مثل حالته؛ إنني كذلك قابل للشيخوخة، ولست بعيداً عن نطاقها؛ أفينبغي لي- وأنا القابل للشيخوخة- إذا ما رأيت شيخاً كهلاً، أن أضطرب وأن أستحي وأن تعاف نفسي؟ " لم أر ذلك مما يليق؛ ولما طاف برأسي هذا الخاطر، ذهب عني بغتة كل تيه بشبابي
…
وهكذا أيها الرهبان، قبل أن أهتدي سواء السبيل، لما وجدتني ممن تجوز عليهم الولادة، بحثت في طبيعة هذه الولادة ماذا تكون؛ ولما وجدتني ممن تجوز عليهم الشيخوخة بحثت في طبيعة هذه الشيخوخة ماذا تكون، وكذلك المرض، وكذلك الحزن، وكذلك الدنس؛ ثم فكرت لنفسي: "مادمت أنا نفسي ممن تجوز عليهم الولادة، فماذا لو بحثت في طبيعتها
…
فلما رأيت ما في طبيعة الولادة من تعس، جعلت أبحث عمن لا يولد، أبحث عن السكينة العليا، سكينة النرفانا" (30).
إن الموت هو أصل الديانات كلها؛ ويجوز أنه لم يكن هناك موت لما كان للآلهة عندنا وجود؛ هذه النظرات كانت بداية "التنوير" عند بوذا؛ وكما يرتد الإنسان عن دينه في لحظة، كذلك حدث لبوذا أن صمم فجأة أن يترك أباه
(1)
وزوجته وابنه الرضيع، ليضرب في الصحراء زاهداً؛ ولما أسدل الليل ستاره، تسلل إلى غرفة زوجته، ونظر إلى ابنه "راهولا" نظرة أخيرة؛ وتقول الأسفار المقدسة البوذية، ففي فقرة يقدسها اتباع "جوتاما" جميعاً، أنه في هذه اللحظة عينها:
"كان مصباح يضيء بزيت عبق، وكانت أم "راهولا" نائمة على سرير مليء بأكداس الياسمين وغيره من ألوان الزهور، واضعة راحتها على رأس ابنها؛ فنظر "بوذيساتاوا"- بوذا المنتظر- وقدماه عند الباب، وقال لنفسه:
"لو أزحت يد الملكة لآخذ ابني، فستستيقظ الملكة، وسيكون ذلك حائلاً دون فراري؛ إنني إذا ما أصبحت بوذا سأعود لأراه" ونزل من القصر (31).
وفي ظلمة الصباح الباكر خلف المدينة على ظهر جواده "كانثاكا" يصحبه سائق عربته "شونا" وقد تعلق يائساً بذيل الجواد؛ وعندئذ تبدى له "مارا" أمير الشر، وأغواه بمُلك عريض، لكن بوذا أبى عليه غوايته، وظل راكباً جواده حتى صادفه نهر عريض فوثب من شاطئه إلى شاطئه بوثبة
(1)
ماتت أمه في ولادته.
واحدة جبارة وطافت بنفسه رغبة أن ينظر إلى بلده لكنه أبى على نفسه اللفتة ليرى؛ ثم استدارت الأرض العظيمة حتى لا تصبح أمامه سبيل إلى النظر إلى وراء (32).
ووقف عند مكان اسمه "يوروفيلا" يقول: "قلت لنفسي إن هذا المكان رائع، وإن هذه لغابة جميلة؛ فالنهر ينساب صافياً، وأماكن الاستحمام تبعث في النفس السرور، وكل ما حولي مروج وقرى". وهاهنا في هذا الموضوع أخضع نفسه لأشق أنواع التقشف؛ ولبث ستة أعوام يحاول أساليب "اليوجا"- رياض النفس- التي كانت قد ظهرت قبل ذاك في ربوع الهند؛ وعاش على الحبوب والكلأ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من الأرز كل يوم، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب لذات العذاب؛ وكان ينفق الساعات الطوال واقفاً أو راقداً على الشوك، وكان يترك التراب والقذر يتجمع على جسده حتى يشبه في منظره شجرة عجوزاً؛ وكثيراً ما كان يرتاد مكاناً تلقى فيه جثث الموتى مكشوفة ليأكلها الطير والوحش، فينام بين هذه الجثث العفنة. ثم اسمع له مرة أخرى يروي لك قصته:
"قلت لنفسي: ماذا لو زممت الآن أسناني، وضغطت لساني إلى لهاتي، وألجمت عقلي وسحقته وأحرقته بعقلي (وهكذا فعلت) ونضح العرق من إبطي
…
ثم قلت لنفسي: ماذا لو اصطنعت الآن غيبوبة شعورية يقف فيها التنفس؟ وهكذا أوقفت النفس شهيقاً وزفيراً من أنفي وفمي؛ ولما فعلت ذلك سمعت صوتاً عنيفاً للهواء يخرج من أذني
…
وكما يحدث للرجل إذا ما أراد أن يهشم لإنسان رأسه بسن سيفه، فكذلك رجت الرياح العنيفة رأسي
…
ثم قلت لنفسي: ماذا لو قللت من طعامي، فلا آكل اكثر مما تسع راحتي من عصير الفول أو العدس أو البسلة أو الحمص
…
فضمر جسدي ضموراً شديداً، وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت العلامة التي أتركها على الأرض إذا ما جلست، في هيئة أثر الخف يتركه البعير على الرمال؛ وكان من أثر
تقليل الطعام أن برزت عظام فقراتي إذا ما حنيتها أو فردتها حتى أشبهت صفاً من رؤوس المغازل؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت عيني تبرقان عميقتين وطيئتين في محجريهما، كما يبرق الماء عميقاً وطيئاً في بئر عميقة؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن ذبل جلد رأسي كما تتشقق وتذوي القرعة المرة المفصولة عن فرعها وهي فجة، بفعل الشمس والمطر؛ ولما كنت أمد يدي لأمس جلدة بطني، كنت أجدني في حقيقة الأمر أمسك بفقرات ظهري؛ وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا ما أردت برازاً وجدتني انبطح على الأرض سطيحاً، وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا أردت راحة لجسمي وأخذت أدلكه بكفي، كانت الشعرات الذاوية تساقط منه" (33).
لكن فكرة أشرقت على بوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد؛ وربما كان في ذلك اليوم أشد جوعاً منه في سائر الأيام، أو ربما ثارت في نفسه إذ ذاك ذكرى من ذكريات الجمال؛ ذلك أنه لم يلحظ تنويراً جديداً يأتيه من هذه الحياة القاسية بزهدها؛ "إنني بمثل هذه القسوة لا أراني أبلغ العلم والبصيرة الساميتين على مستوى البشر، وهما العلم والمعرفة اللتان تتصفان بالرفعة الحقيقية"؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إن تعذيبه لنفسه قد ولد فيه شعور الزهو بنفسه مما يفسد أي نوع من أنواع التقديس التي كان من الجائز أن تفيض من نفسه؛ فأقلع عن زهده وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل
(1)
وجلس هناك جلسة مستقيمة لا حركة فيها، مصمماً ألا يبرح ذاك المكان حتى يأتيه التنوير؛ وسأل نفسه: ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت؟ وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي؛ ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة؛ وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد. "وهكذا
(1)
هي "شجرة بوذى" التي ستصبح فيما بعد معبودة عند البوذيين، ولا تزال هناك تعرض على السائحين عند مرورهم بـ "بوذجايا".
ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء
…
ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة؛ وبنظرة قدسية مطهرة إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من "كارما" وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة، أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسداً آخر.
إن رؤيته لهذا التعاقب السخيف سخفاً لا يخفي على الرائي، هذا التعاقب بين الموت والولادة، هي التي جعلته يزدري الحياة البشرية ازدراء؛ فقال لنفسه: إن الولادة أم الشرور جميعاً، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حد، أنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه؛ فلو استطعنا وقف هذه الولادة
…
لماذا لا نقفها؟
(1)
لأن قانون "كارما" يتطلب حالات جديدة من التقمص للروح، لكي يتاح لها أن تكفر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات؛ وإذن فإن استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل، حياة يسودها صبر وشفقة لا يمتنعان إزاء الناس جميعاً، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي- عندئذ يجوز أن يجنب نفسه العودة إلى الحياة، وسيغيض معين الشر بالنسبة إليه؛ لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأسوأها آثراً، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية؛ فيالها من سكينة تحل بقلب طهر نفسه من شهواته الذاتية تطهيراً تاماً! - وهل ترى قلباً، لم يطهر نفسه على هذا النحو، قد عرف إلى السكينة سبيلاً؟ إن السعادة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة كما يتوهم
(1)
تتفرع فلسفة شوبنهور من هذه الأرومة عند هذه النقطة.
أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنا كل شهواتنا، هو النرفانا.
وهكذا بعد سنوات سبع قضاها متأملاً، أدرك "النبي المستنير" سبب ما يعانيه الناس من آلام فأخذ سمته نحو "المدينة المقدسة" مدينة بنارس، وهناك في روضة الغزلان عند "سارنات" طفق يبشر الناس بالنرفانا.
الفصل الرابع
تعاليم بوذا
(1)
صورة الزعيم - أساليبه - الحقائق السامية الأربع - الطريق ذو
الخمس شعب - قواعد الأخلاق الخمس - بوذا والمسيح - لا أدرية
بوذا ومناهضته لرجال الدين - إلحاده - علم النفس بغير نفس- معنى النرفانا
كانت وسيلة بوذا في نشر تعاليمه- شأنه في ذلك شأن سائر المعلمين في عصره- هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل؛ ولما لم يدر في خلده قط- كما لم يدر في خلد سقراط أو المسيح- أن يدون مذهبه، فقد لخصه في "عبارات مركزة" أريد بها أن يسهل وعيه على الذاكرة؛ وهذه المحادثات- على الصورة التي احتفظ لنا بها الرواة من أتباعه- تصور تصويراً لاشعورياً أول شخصية واضحة الحدود والمعالم في التاريخ الهندي: رجل قوى الإرادة، صادق الرواية، مزهو بنفسه، وديع المعاملة، رقيق الكلام، محسن إحساناً
(1)
أقدم ما لدينا من وثائق تحتوي على تعاليم بوذا هي الـ "بتاكات" ومعناها "سلال القانون"، التي أعدت لتعرض على المجلس البوذي الذي انعقد سنة 241 ق. م، وقد وافق هذا المجلس على أن ما في هذه الوثائق هو تعاليم بوذا بغير تحريف، تلك التعاليم التي لبثت أربعة قرون يتناقلها بالرواية الشفوية جيل عن جيل، أي أنها لبثت كذلك منذ وفاة بوذا حتى انتهى بها الأمر إلى التدوين باللغة "البالية" حول سنة 80 ق. م؛ وهذه "البتاكات" تقع في ثلاثة مجموعات:"السوتا" أي الحكايات، و "الفنايا" أي التشريع، و"الأبيذوما" أي المذهب؛ أما أولى هذه المجموعات- أعني بتاكة الحكايات- فتحتوي على محاورات بوذا، التي يضعها "رايس دافيدز" في منزلة واحدة مع محاورات أفلاطون (34) وإذا أردنا الدقة في القول، وجب أن نقول أن هذه المدونات لا تحتوي بالضرورة على تعاليم بوذا نفسه، بل تحتوي على تعاليم المدارس البوذية؛ ويقول "سير تشارلز إليت": على الرغم من أن هذه الحكايات أخذت تتزايد على مر القرون، فلست أرى ما يبرر الريبة بأن أقدم الطبقات في هذا البناء المتراكم تحتوي على ما دونه صحابة الزعيم معتمدين على تذكرهم لما سمعوه منه.
لا ينتهي عند حد معلوم؛ ولقد زعم لنفسه "الاستنارة" لكنه لم يدّعِ الوحي، فما زعم قط للناس أن إلهاً كان يتكلم بلسانه؛ وهو في جدله مع خصومه أكثر صبراً ومجاملة من أي معلم آخر ممن شهدت الإنسانية من أعلام المعلمين؛ ويصوره لنا أتباعه- وربما كانوا يضيفون إليه ما ليس فيه لتكمل صورته- يصورنه لنا مصطنعاً لـ "أهمسا" على أتم درجاتها (والأهمسا هي الامتناع عن قتل الكائنات الحية على اختلافها)؛ فيقولون عنه: "أن جوتاما الذي اعتزل الناس قد رفع نفسه عن الفتك بالحياة، بأن كف عن قتل الأحياء؛ لقد خلع عن نفسه الهراوة والسيف (مع أنه كان يوماً من طبقة الكشاترية- أي طبقة المقاتلين) وهو يزورُّ عن غلظة المعاملة ازوراراً، ويمتلئ قلبه بالرحمة، فهو رحيم شفوق بكل كائن تدب فيه بالحياة
…
وترفع عن النميمة، أو رفع نفسه عن دناءة الغيبة
…
هكذا كان يعيش رابطاً لما انحلت عراه، مشجعاً لدوام الصداقة بين الأصدقاء، مصلحاً ذات البين عند الخصوم، محباً للسلام، متحمساً للسلام، متحدثاً بكلمات تهيئ للسلام" (36)؛ لقد كان مثل "لاوتسي" ومثل "المسيح" يود أن يرد السيئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أسيء إليه في النقاش أو أسيء التفاهم بينه وبين من يحاوره، آثر الصمت: "إذا أساء إلي إنسان عن حمق، فسأرد عليه بوقاية من حبي إياه حباً مخلصاً، وكلما زادني شراً، زدته خيراً"؛ فإذا جاءه غر وإهانة، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسان يا بني أن يقبل منحة تقدم إليه فمن يكون صاحبها؟ " فيجيبه الرجل: "إن صاحبها عندئذ هو من قدمها"؛ فيقول له بوذا: "إني أرفض يا بني قبول إهانتك، والتمس منك أن تحفظها لنفسك" (37). إن بوذا- على خلاف الكثرة الغالبة من القديسين- كانت له روح الفكاهة، لأنه أدرك أن البحث الميتافيزيقي بغير ضحك يصاحبه، من ضروب الكبرياء.
كانت طريقته في التعليم فريدة لا يماثلها نظير، ولو أنها مدينة بشيء "للجوالين" أو السوفسطائيين المتنقلين الذي عاصروه في بلده؛ فكان ينتقل من بلد إلى بلد، وفي صحبته تلاميذه المقربون، وفي أثره ما يقرب من ألف ومائتين من أتباعه المخلصين؛ ولم يكن أبداً يهتم لغده، فكان يكتفي بالزاد يقدمه له أحد المعجبين من سكان البلد الذي يحل فيه؛ ولقد وصم ذات يوم أتباعه بالعار، لأنه أكل في منزل امرأة فاجرة (38)؛ كانت طريقته دائماً أن يقف السير عند مدخل قرية من القرى، ويضرب خيامه في حديقة أو غابة أو على ضفة نهر؛ وكان يخصص ساعات العصر لتأملاته، وساعات المساء للتعليم؛ وكانت محادثاته تجري في صورة سقراطية من الأسئلة وضرب الأمثلة الخلقية والتلطف في الحوار، أو كان يسوق تعاليمه في عبارات مقتضبة يرمي بها إلى تركيز آرائه تركيزاً يجعلها في صورة من الإيجاز والترتيب بحيث تقر في الأذهان؛ وأحب "عباراته التعليمية المقتضبة" إلى نفسه هي "الحقائق السامية الأربع" التي بسط فيها رأيه بأن الحياة ضرب من الألم، وأن الألم يرجع إلى الشهوة، وأن الحكمة أساسها قمع الشهوات جميعاً:
1 -
تلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن الألم: الولادة مؤلمة، والمرض مؤلم، والشيخوخة مؤلمة، والحزن والبكاء والخيبة واليأس كلها مؤلم
…
2 -
وتلك أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن سبب الألم: سببه الشهوة، الشهوة التي تؤدي إلى الولادة من جديد، الشهوة التي تمازجها اللذة والانغماس فيها، الشهوة التي تسعى وراء اللذائذ تتسقطها هنا وهناك، شهوة العاطفة، وشهوة الحياة، وشهوة العدم.
3 -
وتلك- أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن وقف الألم:
أن نجتث هذه الشهوة من أصولها فلا تبقى لها بقية في نفوسنا، السبيل هي الانقطاع والعزلة والخلاص وفكاك أنفسنا مما يشغلها من شئون العيش.
4 -
وتلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن السبيل المؤدية إلى وقف الألم: إنها السبيل السامية ذات الشعب الثماني، ألا وهي: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة ما نعني به، وسلامة التركيز (39).
كانت عقيدة بوذا التي يؤمن بصدقها، هي أن الألم أرجح كفة من اللذة في الحياة الإنسانية، وإذن فخير للإنسان ألا يولد؛ وهو في ذلك يقول أن ما سفح الناس من دموع لأغزر من كل ما تحتوي المحيطات العظيمة الأربعة من مياه (40)؛ فعنده إن كل لذة تحمل سمها في طيها، لمجرد أنها لذة عابرة قصيرة:"أذلك الذي يزول ولا يقيم هو الحزن أم السرور؟ "ألقى هذا السؤال على أحد تلاميذه، فأجابه هذا بقوله:"إنه الحزن يا مولاي"(41)؛ إذن فأس الشرور هو "تامبا"- وليس معناها الشهوة كائنة ما كانت، بل الشهوة الأنانية؛ الشهوة التي يوجهها صاحبها إلى صالح الجزء أكثر مما يريد بها صالح الكل؛ وفوق الشهوات كلها الشهوة الجنسية، لأنها تؤدي إلى التناسل الذي يطيل من سلسلة الحياة إلى ألم جديد بغير غاية مقصودة؛ وقد استنتج أحد تلاميذه من ذلك أنه- أي بوذا- بهذا الرأي يجيز الانتحار، لكن بوذا عنفه على استنتاجه ذاك، قائلاً: إن الانتحار لا خير فيه، لأن روح المنتحر- بسبب ما يشوبها من أدران- ستعود فتولد من جديد في أدوار أخرى من التقمص، حتى يتسنى لها نسيان نفسها نسياناً تاماً.
ولما طلب تلاميذه منه أن يحدد معنى الحياة السليمة في رأيه لكي يزيد الرأي وضوحاً، صاغ لهم "قواعد خلقية خمسة" يهتدون بها- وهي بمثابة
الوصايا لكنها بسيطة مختصرة، غير أنها قد تكون "أشمل نطاقاً وأعسر التزاماً، مما تقتضيه الوصايا العشر"
(1)
:
وأما وصاياه الخمس فهي:
1 -
لا يقتلن أحد كائناً حياً.
2 -
لا يأخذن أحد ما لم يعطه.
3 -
لا يقولن أحد كذباً.
4 -
لا يشربن أحد مسكراً.
5 -
لا يقمن أحد على دنس.
وترى بوذا في مواضع أخرى يضيف إلى تعاليمه عناصر يتسلف بها تعاليم المسيح على نحو يدعو إلى العجب: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير
…
إن النصر يولد المقت لأن المهزوم في شقاء
…
إن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب" (44). وهو كالمسيح لم يكن يطمئن نفساً في حضرة النساء، وتردد كثيراً قبل أن يسمح لهن بالانضمام إلى الطائفة البوذية؛ ولقد سأله تلميذه المقرب "أناندا" ذات يوم:
"كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟ ".
"كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا".
"لكن ماذا نصنع لو تحتمت علينا رؤيتهن؟ ".
"لا تتحدث إليهن يا أناندا"
"لكن إذا ما تحدثن إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟ "
"كن منهن على حذر تام يا أناندا"
(1)
يشير إلى الوصايا العشر التي جاءت بها الديانة اليهودية: لا تسرق، لا تقتل الخ
كانت فكرته عن الدين خلقية خالصة؛ فكان كل ما يعنيه سلوك الناس، وأما الطقوس وأما شعائر العبادة، وما وراء الطبيعة واللاهوت، فكلها عنده لا تستحق النظر؛ وحدث ذات يوم أن هم برهمي بتطهير نفسه من خطاياها باستحمامه في "جايا"، فقال له بوذا:"استحم هنا، نعم هاهنا ولا حاجة بك إلى السفر إلى جايا أيها البرهمي؛ كن رحيماً بالكائنات جميعاً؛ فإذا أنت لم تنطق كذباً، وإذا أنت لم تقتل روحاً، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمناً في حدود إنكارك لذاتك- فماذا تجني من الذهاب إلى "جايا"؟ إن كل ماء يكون لك عندئذ كأنه جايا"(46)، إنك لن تجد في تاريخ الديانات ما هو أغرب من بوذا يؤسس ديانة عالمية، ومع ذلك يأبى أن يدخل في نقاش عن الأبدية والخلود والله؛ فاللانهائي أسطورة- كما يقول- وخرافة من خرافة الفلاسفة، الذين ليس لديهم من التواضع ما يعترفون به بأن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون؛ وإنه ليبتسم (47) ساخراً من المحاورة في موضوع نهائية الكون أو لا نهائيته؛ كأنما هو قد تسلف بنظره إذ ذاك ما يدور بين علماء الطبيعة والرياضيات اليوم من مناقشة حول الموضوع مناقشة ما أقربها من حديث الأساطير؛ لقد رفض أن يبدي رأياً عما إذا كان للعالم بداية أو نهاية، أو إذا كانت النفس هي هي البدن أو شيئاً متميزاً منه، أو إذا كان في الجنة ثواب للناس حتى أقدس القديسين من بينهم؛ وهو يسمي هذه المشكلات "غاية التأمل النظري وصحراءه وبهلوانه والتواءه وتعقيده"(48) ويعتزم ألا يكون له شأن بأمثال هذه المسائل، فهي لا تؤدي بالباحثين فيها إلا إلى الخصومة الحادة، والكراهية الشخصية والحزن؛ ويستحيل أن تؤدي بهم إلى حكمة أو سلام؛ إن القدسية والرضى لا يكونان في معرفة الكون والله، وإنما يكونان في العيش الذي ينكر فيه الإنسان ذاته، ويبسط كفه للناس إحسانا (49)؛ ثم يضيف إلى ذلك تهكماً بشعاً فيقول أن الآلهة أنفسهم، لو كان
لهم وجود، لما كان في وسعهم أن يجيبوا عن أمثال هذه المسائل.
حدث ذات مرة يا "كفاذا" أن طاف الشك بزميل من طائفة الزملاء هذه، حول النقطة الآتية:"أين تمضي هذه العناصر الأربعة الكبرى: التراب والماء والنار والهواء، بحيث لا تترك وراءها أثرا؟ " وجعل ذلك الزميل يقدح زناد عقله حتى أخذته حالة من الوجد اتضحت له معها السبيل المؤدية إلى الله.
وعندئذ يا "كفاذا" صعد هذا الزميل إلى مملكة الملوك الأربعة الكبار، وخاطب آلهتهم قائلاً: "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة
الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟ "
فلما أن فرغ من سؤاله هذا، أجابه آلهة في سماء الملوك الأربعة الكبار:"إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك الملوك الأربعة الكبار، هم أقوى منا وأعظم، سلهم يجيبوك".
وعندئذ يا "كفاذا" ذهب ذلك الزميل إلى الملوك الأربعة وسأل نفس السؤال فأحيل بمثل ذلك الجواب إلى "الثلاثة والثلاثين" الذي أحالوه بدورهم إلى ملكهم "ساكا" الذي أحاله إلى آلهة "ياما"، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوياما" الذي أحاله إلى آلهة "توسيتا"، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سانتوسيتا"، الذي أحاله إلى آلهة "نمانا- رتى"، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوني ميتا" الذي أحاله إلى آلهة "بارانيميتا فاسافاتى"، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "فاسافاتى" الذي أحاله إلى آلهة العالم البرهمي).
وبعدئذ يا "كفاذا" جعل ذلك الزميل يركز تفكيره في نفسه تركيزاً استنفذ كل ذرة من انتباهه، وانتهى به ذلك التفكير المركز إلى شهوده بعقله الذي أمسك هكذا بزمامه، طريق العالم البرهمي واضحاً؛ فدنا من الآلهة التي تتألف منها حاشية براهما، وقال:"أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟ ".
"فلما فرغ من سؤاله أجابته الآلهة التي تؤلف حاشية براهما قائلاً: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك براهما، براهما العظيم، الواحد العلي، الواحد القدير، الواحد البصير، من بيده الأمر وله التدبير في جميع الشئون، فهو ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ
…
هو السابق للزمان، وهو والد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! إنه أقوى منا وأعظم، سله يجبك".
"أين إذن هذا البراهما العظيم؟ ".
"إننا يا أخانا لا ندري أين يكون براهما، ولا لماذا كان ولا من أين جاء؛ ولكن يا أخانا إذا ما بدت لنا بوادر مجيئه، إذا ما أشرق الضوء وسطع المجد، عندئذ سيبتدي للناظرين، لأن بادرة ظهور براهما هي إشراق الضوء وسطوح المجد".
ولم يمض طويل وقت بعد ذاك يا "كفاذا" حتى تبدى براهما العظيم، فدنا منه أخونا ذاك وسأله:"أين يا صديقي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟ ".
فما فرغ من سؤاله أجابه براهما العظيم: "أنا يا أخي براهما العظيم العلي القوي البصير، بيدي الأمر والتدبير في كل شئ، وأنا ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ، أعين لكل شئ مكانه، أنا السابق للزمان ووالد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! ".
عندئذ أجاب الأخ براهما قائلاً: "أنا لم أسألك يا صديقي هل أنت حقاً كل هذا الذي ذكرت من صفات، لكني سألتك أين تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً؟ ".
فأجابه براهما نفس الجواب مرة أخرى يا "كفاذا".
وأعاد أخونا سؤاله للمرة الثالثة إلى براهما.
فأخذ براهما العظيم- يا "كفاذا"- أخانا ذاك ونحاه جانباً وقال:
"إن هذه الآلهة التي منها تتألف حاشية براهما، تعتقد أني- يا أخي- أرى كل شئ وأعلم كل شئ وأتبين حقيقة كل شئ؛ ولهذا لم أجبك في حضرتهم؛ ولكنني، أيها الأخ، لست أدري أين تذهب هذه العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً (50).
فإذا ما قال لبوذا بعض تلاميذه، إن البراهمة يزعمون الإلمام بحلول هذه المسائل، أجابهم بوذا ساخراً:"هنالك يا إخواني بعض الرهبان وبعض البراهمة يتلوون مثل ثعابين الماء، فإذا ما ألقيت عليهم سؤالاً في هذا الموضوع أو ذاك، عمدوا إلى غموض القول، وإلى تلوي الثعابين"(51)؛ ولو بدت من بوذا حدة إزاء أحد إطلاقاً، فإنما كان حاداً تجاه كهنة عصره، فهو يهزأ بدعواهم أن أسفار الفيدا من وحي الإله (52)، ويفضح البراهمة المعتزين بطبقتهم بقبوله في طائفته أعضاء الطوائف جميعاً بغير تفريق؛ إنه لا يهاجم نظام الطبقات مهاجمة صريحة، لكنه يقول لتلاميذه في وضوح وجلاء:"انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة؛ قولوا للناس إن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعيان، كلهم سواء، وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل فعل الأنهار تصب كلها في البحر"(53)، وهو يرفض الأخذ بفكرة التضحية في سبيل الآلهة، ويفزع أشد الفزع لرؤية الحيوان يذبحونه ليقيموا أمثال هذه الطقوس (54)؛ ويرفض كل اعتقاد وكل عبادة لكائنات أعلى من هذه الطبيعة، ويربأ بنفسه عن التعزيم والرقى والتقشف والدعاء (55)، ويقدم للناس في هدوء وبغير محاجة ولجاج ديناً حراً أكمل الحرية من جمود الفكر ومن صناعة الكهنوت، ويفتتح طريقاً للخلاص، للكافرين والمؤمنين أن يسلكوه على السواء.
وقد يتحول هذا القديس أحياناً، الذي هو أشهر من عرف الدهر من قديسي الهندوس، قد يتحول من اللا أدرية إلى إلحاد صريح
(1)
؛ إنه لا ينحرف عن جادته لينكر وجود الله، بل إنه حيناً بعد حين يذكر براهما كأنما هو حقيقة واقعة أكثر منه مثلاً أعلى (58) ثم هو لا يحرم عبادة الآلهة الشائعة بين الناس (59) لكنه يسخر من فكرة إرسال الدعوات إلى "المجهول"، وفي ذلك يقول "إنه لمن الحمق أن تظن أن سواك يستطيع أن يكون سبباً في سعادتك أو شقائك (60) لأن السعادة والشقاء دائماً نتيجة سلوكنا نحن وشهواتنا نحن؛ وهو يأبى أن يبني تشريعه الخلقي على عقوبات تفرضها قوة وراء الطبيعة، كائنة ما كانت تلك العقوبات، ولا يجعل جزءاً من عقيدته جنة ولا مطهراً ولا جحيماً (61)؛ وهو أرهف حساسية للألم والقتل الذي ينزل بالكائنات الحية بحكم العملية البيولوجية في الحياة، من أن يفرض أن هذا القتل وذاك الألم قد أرادهما إله مشخص إرادة عن عمد وتدبير، وهو يرى أن هذه الأغلاط في نظام الكون ترجح ما فيه من آيات تدل على تدبير وتنسيق (62)؛ إنه لا يرى على هذا المسرح الذي تمتزج فيه الفوضى والنظام، والخير والشر، مبدأ ينم عن الدوام، ولا مركزاً لحقيقة أبدية خالدة (63)، وكل ما يراه في الحياة دوامة تدور وحركة ما تنفك في تغير؛ إن الحقيقة الميتافيزيقية النهائية في هذه الحياة هي التغير.
وكما أنه يقترح لاهوتاً بغير إله، فكذلك يقدم لنا علم النفس بغير النفس؛ فهو يرفض الروحانية في شتى صورها حتى في حالة الإنسان؛ وهو يوافق هرقليطس وبرجسن في رأيهما عن العالم، كما يوافق هيوم في رأيه عن العقل، فكل ما نعرفه هو إحساساتنا، وإذن، فإلى الحد الذي نستطيع أن نبلغه بعلمنا، لا نرى سوى أن المادة كلها ضرب من القوة، والعناصر كلها نوع من الحركة،
(1)
يقول سير تشارلز إليت إن البوذية "لا ترى العالم على أنه من خلق شخصية إلهية، كلا ولا ترى القانون الأخلاقي على أنه من أمرها؛ فكون الديانة تستطيع أن تقوم بغير هذه الأفكار أمر عظيم الخطر"
الحياة تغير، هي مجرى دافق محايد من صيرورة وفناء؛ إن "الروح" أسطورة من الأساطير، فرضناها بغير مبرر يؤديها، لنريح بهذا الفرض أذهاننا الضعيفة، فرضناها قائمة وراء سلسلة الحالات الشعورية المتعاقبة (64) إن هذا "الرابط الذي يربط المدركات دون أن يكون واحداً منها"، هذا "العقل" الذي ينسج خيوط إحساساتنا وإدراكاتنا في نسيج من الفكر، إن هو إلا شبح توهمناه؛ وكل ما هو موجود حقاً هو الإحساسات نفسها والإدراكات نفسها، تتكون بصورة آلية في هيئة تذكرات وأفكار (65)؛ حتى هذه "الذات" النفسية ليست كائناً قائماً بذاته متميزاً من سلسلة الحالات العقلية؛ ليست الذات سوى استمرار هذه الحالات، وتذكر الحالات اللاحقة للحالات السابقة، مضافاً إلى ذلك ما يتعوده الجسم العضوي من عادات عقلية وسلوكية، وما يتكون لديه من ميول واتجاهات (66)؛ إن تعاقب هذه الحالات لا تسببه "إرادة" أسطورية تضاف إليها من أعلى، بل تقررها الوراثة والعادة والبيئة والظروف (67) فهذا العقل السائل الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من حالات عقلية، هذه النفس أو هذه الذات التي ليست إلا ميلاً نحو سلوك معين أو هوى إلى اتجاه بذاته، كونته الوراثة التي لا حول لها ولا قوة، كما كونته كذلك الخبرة العابرة خلال تجارب الحياة، أقول إن هذه النفس أو هذه الذات أو هذا العقل يستحيل أن ينطبق عليه معنى الخلود، إذا فهمنا من هذا المعنى استمرار الفرد في وجوده (68) فليس القديس، بل ليس بوذا نفسه بخالد بعد موته خلوداً يحفظه بشخصه (69).
ولكن إن كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن يعود الحي إلى الحياة من جديد في ولادة ثانية؟ إذا لم يكن هناك روح، فما الذي يتقمص أجساداً أخرى في ولادات تالية، ليلقي عذابه على خطاياه إذ هو حال في صورة الجسد؟ تلك هي أضعف الجوانب في فلسفة بوذا، فهو لا يحاول أبدا أن يزيل التناقص الكائن بين علم نفسه العقلي وبين قبوله لمذهب التقمص قبولاً
أعمى؛ إن هذا الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوة وشمول بحيث يعتنقه كل هندوسي على أنه بديهية أو فرض لا بد من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلف نفسه عناء التدليل عليه؛ فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أن يفر منه، بأن القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد- أو بأن الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه -؛ ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مر الهواء في أنفاسه؛ فهذا الهواء يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة التي لم يشك فيها قط على ما يبدو (70)؛ إنه سلم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون "كارما" وتفكيره كله إنما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.
ولكن ما "النرفانا"؟ أنه من العسير أن تجد لهذا السؤال جواباً خاطئاً، لأن الزعيم قد ترك الموضوع غامضاً، فجاء أتباعه وفسروا الكلمة بكل ما يستطيع أن يقع تحت الشمس من ضروب التفسير؛ فالكلمة في السنسكريتية بصفة إجمالية معناها " منطفئ "كما ينطفئ المصباح أو تنطفئ النار؛ أما الكتب البوذية المقدسة فتستعملها بمعان:(1) حالة من السعادة يبلغها الإنسان في هذه الحياة باقتلاعه لكل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً؛ (2) تحرير الفرد من عودته إلى الحياة؛ (3) انعدام شعور الفرد بفرديته؛ (4) اتحاد الفرد بإلهه؛ (5) فردوس من السعادة بعد الموت؛ أما الكلمة في تعاليم بوذا فمعناها فيما يظهر إخماد شهوات الفرد كلها، وما يترتب على ذلك الإنكار للذات من ثواب وأعني به الفرار من العودة إلى الحياة (71)؛ وأما في الأدب البوذي، فكثيراً ما تتخذ الكلمة معنى دنيوياً، إذ يوصف القديس في هذا الأدب مراراً بأنه اصطنع النرفانا في حياته الدنيا، بجمعه لمقوماتها السبعة وهي: السيطرة على
النفس، والبحث عن الحقيقة، والنشاط، والهدوء، والغبطة، والتركيز، وعلو النفس (73)؛ تلك هي مكنونات النرفاثا، لكنها تكاد لا تكون عواملها التي تسبب وجودها، أما العامل المسبب لوجودها، والمصدر الذي تنبثق عنه النرفانا، فهو إخماد الشهوة الجسدية؛ وعلى ذلك تتخذ كلمة "نرفانا" في معظم النصوص معنى السكينة التي لا يشوبها ألم، والتي يثاب بها المرء على إعدام نفسه إعداماً خلقياً (74)؛ يقول بوذا:"والآن فهذه هي الحقيقة السامية عن زوال الألم؛ إنه في الحق فناء المرء حتى لا تعود له عاطفة تشتهي، إنه إطّراح هذا الظمأ اللاهث، والتخلص منه والتحرر من ربقته، ونبذه من نفوسنا نبذاً لا عودة له"(75) وأعني به هذه الحمى التي تنتابنا من شهوتنا في البحث عن أنفسنا؛ إن كلمة "نرفانا" في تعاليم الأستاذ الزعيم تكاد دائماً ترادف في معناها كلمة نعيم (76) وهو رضى النفس رضى هادئاً بحيث لا يعنيها بعدئذ أمر نفسها؛ لكن النرفاثا الكاملة تقتضي العدم: وإذن فثواب التقوى في أسمى منازلها هو ألا يعود التقي إلى الحياة (77).
ويقول بوذا إننا في نهاية الأمر ندرك ما في الفردية النفسية والخلقية من سخف؛ إن نفوسنا المضطرمة ليست في حقيقة الأمر كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنها موجات عابرة على مجرى الحياة الدافق؛ إنها عقد صغيرة تتكون وتتكشف في شبكة القدر حين تنشرها الريح؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كل، وإذا ما أصلحنا أنفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكل، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام من موت لا مهرب منه ولا مفر، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبنا لأنفسنا حباً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء.
الفصل الخامس
بوذا في أيامه الأخيرة
معجزاته - زيارته لبيت أبيه - الرهبان البوذيون - موته
ننتقل من هذه الفلسفة العالية إلى الأساطير الساذجة التي هي كل ما لدينا عن بوذا في حياته الأخيرة وفي موته؛ فعلى الرغم من ازدرائه للمعجزات، انتحل تلاميذه ألف حكاية عن الأعاجيب التي تمت على يديه؛ فقد سار عبر نهر الكنج في لمحة بفعل السحر؛ وأسقط من يده شظية من الخشب كان يزيل بها ما بين أسنانه من فضلات الطعام، فنبتت الشظية شجرة؛ وعندما اختتم وعظه ذات يوم "اهتز العالم كله من أقصاه إلى أقصاه"(80)؛ ولما أطلق عليه عدوه "ديفانداتا" فيلاً مفترساً، "غلبه بوذا بالحب" حتى خضع الفيل له خضوعاً كاملاً (81)؛ وقد انتهى "سِنْارت" وآخرون إلى نتيجة من أمثال هذه المُلَح، وهي أن أسطورة "بوذا" قد تكونت على أساس من أساطير الشمس القديمة (82) ومهما يكن من أمر، فبوذا معناه عندنا الأفكار التي تنسب إليه في الأدب البوذي، ولاشك في أن "بوذا" صاحب هذه الأفكار كان حقيقة تاريخية.
إن الكتب البوذية المقدسة تصور لنا بوذا في صورة تشرح الصدور؛ فقد التف حوله أتباع كثيرون، وذاعت شهرته في مدائن الجزء الشمالي من الهند؛ ولما سمع أبوه أنه على مقربة من "كابيلافاستوا" أرسل إليه رسولاً يدعوه لقضاء يوم في مَدْرَج طفولته؛ وذهب بوذا إلى أبيه الذي كان قد حزن على أميره المفقود، فسُّرَ أبوه لعودة القديس ساعة من الزمن؛ وجاءته زوجته التي أخلصت له طوال غيابه عنها، فجثت أمامه وأمسكت بعقبيه، ووضعت قدميه حول رأسها، وقدسته كما تقدس الله؛ وقص عليه الملك "شدذوذانا" قصة حبها له حباً شديداً: "مولاي، إن زوجتك حين علمت أنك تلبس رداء
أصفر (وهو ثوب الزاهدين) لبست هي الأخرى رداء أصفر؛ ولما علمت أنك تأكل وجبة واحدة كل يوم، أكلت هي الأخرى وجبة واحدة؛ ولما علمت أنك أبيت النوم على سرير كبير، نامت هي الأخرى على كنبة ضيقة؛ ولما علمت أنك رفضت أكاليل الزهور ورفضت العطور، رفضتها هي الأخرى" فباركها بوذا ومضى إلى سبيله (83).
ثم جاءه ابنه "راهولا" وعبر له عن حبه قائلاً: "إن ظلك أيها الزاهد ليسر النفس"؛ وضمه بوذا إلى طائفته الدينية، ولو أن أم "راهولا" كانت تأمل أن ترى ابنها ملكاً؛ لهذا نصبوا أميراً آخر، وهو "ناندا" ولياً للعهد يتولى العرش حين يحين الحين؛ لكن "ناندا" ترك حفلة التنصيب- كأنه في غيبوبة -، تركها قبل ختامها وغادر المملكة وقصد إلى بوذا، طالباً إليه أن يضمه هو أيضاً إلى طائفته الدينية؛ فلما سمع بذلك الملك "شدذوذانا" حزن والتمس عند بوذا مكرمة، قائلاً له:"لما طلق مولانا هذه الدنيا، لم يكن ذلك هين الوقع على نفسي، وكذلك حين غادرنا "ناندا" وقل ما هو أكثر من هذا عن فراق "راهولا"؛ إن حب الوالد لولده يحز الجلد واللحم والمفاصل والنخاع؛ فرجائي إليك يا مولاي ألا تدع أتباعك الأشراف يضمون إلى طائفتكم ابناً إلا باستئذان أبيه وأمه" فوافق "بوذا" وجعل استئذان الوالدين شرطاً لازماً لانضمام العضو الجديد إلى طائفته (84).
ويظهر أن هذه العقيدة الدينية التي أرادت أن تستغني عن الكهنوت، كانت بالفعل قد كونت لنفسها طائفة من النساك الرهبان لا تقل خطراً عن كهنة الهندوس؛ ولن يطول الأمد بعد موت بوذا حتى يحيطوا أنفسهم بكل أسباب المجد التي كان البراهمة يحيطون أنفسهم بها؛ ولا عجب، فأول المتحولين من البرهمية إلى البوذية، إنما جاءوا من صفوف البراهمة أنفسهم، ثم تحول إلى البوذية بعدئذ جماعة من أغنى الشباب في بنارس والمدن المجاورة لها؛ واصطنع
هؤلاء الرهبان في حياة بوذا قاعدة بسيطة، فكانوا يحيون بعضهم بعضاً، كما يحيون كل من يتحدثون إليهم بعبارة جميلة هي:"السلام على الكائنات جميعاً"
(1)
فلم يكن يجوز لهم أن يقتلوا كائناً حياً؛ ولم يكن يجوز لهم أن يأخذوا شيئاً لم يعطوه؛ وكان واجباً عليهم أن يجتنبوا الكذب والنميمة، وأن يصلحوا ما بين الناس من خصومة ويشجعوهم على الوفاق؛ وكان حتماً عليهم أن يظهروا الرحمة دائماً بالناس جميعاً والحيوان جميعاً، وأن يجتنبوا كل لذائذ الحس والجسد، فيجتنبوا الموسيقى ورقصات "ناوتش" والملاهي والألعاب وأسباب الترف واللغو في الحديث والنقاش والتنبؤ بالغيب؛ ولم يكن يجوز لهم أن يؤدوا شيئاً من التجارة بكل صنوف البيع والشراء، وفوق هذا كله، كان لا بد لهم أن يصونوا عفتهم، وأن يجانبوا النساء ويعيشوا في طهر كامل (85)، ولقد توجهت إلى بوذا التماسات كثيرة ناعمة، فاستجاب لها وأذن للنساء أن يدخلن طائفته راهبات، لكنه لم يوافق أبداً من صميم نفسه على هذا القرار، وفي ذلك قال:" إذا لم نأذن يا "أناندا" للنساء بالدخول في طائفتنا، دامت العقيدة الخالصة حيناً أطول، فالتشريع الصالح كان ليقاوم الفناء- بغير دخول النساء- ألف عام؛ أما وقد أذن لهن بالانضمام إلينا، فلن يدوم تشريعنا أكثر من خمسمائة عام"(86)، وكان في ذلك على صواب فعلى الرغم من أن الطائفة العظيمة قد لبثت حتى عهدنا هذا؛ إلا أنها قد أفسدت تعاليم الأستاذ منذ زمن طويل، بما أدخلته عليها من سحر وتعدد للآلهة وخرافات لا تقع تحت الحصر.
ولما دنت حياته الطويلة من ختامها، راح أتباعه يؤلهونه، لم ينتظروا في ذلك موته، على الرغم من أنه كان دائماً يحفزهم على الشك في صحة ما يقوله لهم، حتى يفسح كل منهم مجال التفكير الحر أمام نفسه؛ وورد في محاورة من أواخر محاوراته:
(1)
انظر أيضا صيغة السلام الجميلة التي يستعملها اليهود (والمسلمون)"السلام عليكم"؛ فالناس في نهاية الأمر لا ينشدون السعادة، ولكن ينشدون السلام.
وجاء "ساريبوتا" الوقور إلى حيث كان النبي المعظم، وحياه وجلس إلى جانبه في احترام وقال:
"مولاي، إن إيماني بالنبي العظيم ليبلغ من القوة بحيث لا أظن أن أحداً فيما مضى أو فيما هو آت، أو أن أحداً فيمن يعاصروننا، سواء أكان من طائفة المتجولين أو طائفة البراهمة، أعظم وأحكم من النبي العظيم .... فيما يخص الحكمة العليا".
فأجابه الأستاذ: "كلماتك عظيمة جريئة يا "ساريبوتا" الحق أنك بعبارتك هذه قد رحت تنشد أغنية كما ينشد النشوان أغانيه! وكأني بك- إذن- قد عرفت كل الأنبياء المعظمين فيما مضى
…
وفهمت آراءهم بعقلك، فعلمت كيف كانوا يسلكون وفيم كانوا يفكرون
…
وأي ضروب التحرر قد بلغوا؟ "
"لا يا سيدي، لم أبلغ من الأمر كل هذا".
"إذن فلا أقل يا "ساريبوتا" من أن تكون قد عرفتني
…
وأن تكون قد تغلغلت في ضمير عقلي؟ "
…
"حتى ولا هذا يا مولاي".
"إذن فها أنت ذا ترى يا "ساريبوتا" إنك لا تعلم أفئدة الأنبياء القادرين المتيقظين الذين ظهروا فيما مضى، والذين سيظهرون في المستقبل؛ لماذا إذن تقول مثل هذه الكلمات العظيمة الجريئة؟ لماذا تنطلق منشداً لأغنية النشوان؟ "(87)
وكذلك لقن "أناندا" أعظم دروسه وأشرفها:
"إن كل من صار لنفسه- يا أناندا- مصباحاً يهدي، وكل من صار لنفسه ملاذاً يؤوي، سواء في حياتي أو بعد موتي، فلن يلتمس لنفسه من غير
نفسه مأوى، وسيستمسك بالحق مصباحاً
…
فلا يطلب من غير نفسه ملاذاً- أمثال هؤلاء
…
هم الذين سيبلغون أعلى الذرى! لكن ينبغي أن يكون بهم شغف بالمعرفة" (88).
ومات بوذا عام 483 ق. م، وهو في عامه الثمانين، وكانت آخر كلماته لرهبانه:"والآن أيها الرهبان، هاأنذا أوجه إليكم الخطاب؛ إن كل ما هو مركب مصيره إلى الفساد، فجاهدوا جهاد المخلص الجاد".
الباب السادس عشر
من الإسكندر إلى أورانجزيب
الفصل الأول
تشاندرا جوبتا
الإسكندر في الهند - تشاندرا جوبتا محرر بلاده - الشعب - جامعة
تاكسيلا - القصر الملكي - يوم في حياة ملك - مكيافلي أسبق عهداً من مكيافلي
الحديث - الإدارة - القانون - الصحة العامة - النقل والطرق - الحكومة البلدية
في سنة 327 ق. م، عبر اسكندر الأكبر جبال هندوكوش آتياً في طريقه من فارس، وهبط على بلاد الهند؛ ولبث عاماً يجول بحملته بين دول الشمال الغربي من الهند، التي كانت جزءاً من أغنى أجزاء الإمبراطورية الفارسية وأخذ يجمع منها المؤن لجنوده والذهب لخزائنه؛ وعبر نهر السند في الجزء الأول من سنة 326 ق. م. وشق طريقه بالقتال بطيئاً، متخللا "تاكْسِلا" و "روالبندي" متجهاً نحو الجنوب والشرق، والتقى بجيش الملك بورس حيث هزم من جيش المشاة ثلاثين ألفاً، ومن الفرسان أربعة آلاف، ومن العربات الحربية ثلاثمائة، ومن الفيلة مائتين، وقتل اثني عشر ألف رجل، فلما أن أسلم "بورس" بعد أن قاتل حتى استنفذ جهده، أمره الإسكندر أن يقول على أي نحو يريده أن يعامله، ذلك لأنه أعجب بشجاعته وقوامه وجمال قسماته؛ فأجابه "بورس":"عاملني يا اسكندر معاملة تليق بالملوك" فقال الإسكندر: "سأعاملك معاملة الملوك بالنسبة إلى نفسي، وأما بالنسبة إليك أنت، فمر بما تريد"، لكن "بورس" أجاب بأن كل شئ يريده
متضمن فيما طلب أولاً؛ وأعجب الإسكندر بهذا الجواب إعجاباً شديداً، ونصب "بورس" ملكاً على الهند المفتوحة كلها، باعتباره تابعاً خاضعاً لمقدونيا، ولقد وجده بعدئذ حليفاً نشيطاً أميناً (1)؛ وأراد الإسكندر أن يتقدم بجيوشه حتى يبلغ البحر من ناحية الشرق، لكن جنوده احتجوا على ما أراد؛ وكثر في ذلك بينهم القول وازداد التجهم، فخضع الإسكندر لمشيئتهم وقادهم- خلال قبائل معادية له إشفاقا على أوطانهم من اعتدائه، مما اضطر جنود الإسكندر أن يحاربوا في سيرهم عند كل قدم من الطريق، أو كادوا- قادهم حذاء "هِداسب" وإلى جوار الساحل؛ حتى اخترق بهم "جدروسيا" إلى بلوخستان؛ فلما وصل "سوزا" بعد عشرين شهراً من عودته بعد فتوحه لم يعد جيشه أكثر من فلول منهوكة من الجيش الذي كان قد دخل به الهند قبل ذلك بثلاثة أعوام.
وبعد ذلك بسبعة أعوام كان كل أثر للسلطان المقدوني قد زال عن الهند زوالاً تاماً (2)، وكان العامل الأول في زوال ذلك السلطان، رجل هو من أروع من يثير الخيال في تاريخ الهند من رجال؛ فهو وإن يكن أقل منزلة في صفاته العسكرية من الإسكندر، الا أنه أعظم منه حاكماً؛ ذلك هو "تشاندرا جوبتا" الشريف الشاب الذي ينتمي إلى طبقة الكشاترية المقاتلة، وقد نفته من "مجاذا" أسرة "ناندا" الحاكمة التي كان هو من أبنائها؛ وكان إلى جانبه ناصح مكيافلي ماكر، هو "كوتيلا تشاناكيا" الذي أعانه على تنظيم جيش صغير اكتسح به الحاميات المقدونية، وأعلن الهند حرة من الغازي؛ ثم تقدم إلى "باتاليبوترا"
(1)
عاصمة مملكة "مجاذا" التي حكمت الهندستان وأفغانستان مدى مائة وسبعة ثلاثين عاماً؛ ولما استلم "تشاندرا جوبتا" بشجاعته لحكمه "كوتيلا" التي لم يكبح جماحها ضمير، سرعان ما أصبحت
(1)
هي ما تسمى الآن " باننا ".
حكومته أقوى حكومة كان يعرفها العالم عندئذ؛ حتى إنه لما جاء المجسطي سفيراً في "باتاليبوترا" عن "سلوكس نكتار" ملك سوريا، أدهشه أن يرى هناك مدنية وصفها اليونان المدققين المتشككين الذي كانوا عندئذ لم يزالوا في موضع قريب من أوج حضارتهم، فقال إنها مدنية مساوية للمدنية اليونانية مساواة تامة (3).
وصف لنا هذا الإغريقي الحياة الهندية في عصره وصفاً ممتعاً، ربما مال فيه نحو التهاون في الدقة ليكون في صالح الهنود؛ وأول ما استوقف نظره هناك هو ألاّ ِرَّق في الهند
(1)
على خلاف ما عهده في أمته، وهو اختلاف يجعل الأولى أعلى من الثانية منزلة في هذه الناحية، وإنه على الرغم من انقسام السكان إلى طبقات حسب ما يؤدونه من أعمال، فقد قبل الناس هذه الأقسام على أنها طبيعة ومقبولة؛ يقول السفير عنهم في تقريره أنهم كانوا "يعيشون عيشاً سعيداً" لأنهم:
"في سلوكهم يتصفون بالبساطة، وهم كذلك مقتصدون فهم لا يشربون الخمر قط إلا في الاحتفال بتقديم القرابين
…
والدليل على بساطة قوانينهم ومواثيقهم هو أنهم قلما يلجئون إلي القانون؛ فهم لا يتقدمون إلى محاكمهم بقضايا عن خرق العهود أو نهب الودائع، بل هم لا يحتاجون إلى أختام أو شهود، لكنهم يودعون أشياءهم على ثقة بعضهم ببعض
…
إنهم يقدرون الحق والفضيلة قدراً عظيماً
…
والجزء الأعظم من أرضهم يزرع بالري، ولذلك ينتج محصولين في العام
…
ولهذا كان من الثابت أن الهند لم تعرف المجاعة قط، ولم يكن بها قحط عام في موارد الطعام اللازم للتغذية" (5).
وأقدم المدائن الألفين التي كانت في الهند الشمالية في عهد "تشاندرا جوبتا" هي مدينة "تاكسيلا" التي تبعد عشرين ميلاً- جهة الشمال الغربي- عن
(1)
يقول "أريان": "هذا شيء عظيم في الهند، أعني أن يكون سكانها جميعاً أحراراً، ليس بينهم هندي واحد من الرقيق".
مدينة "روالبندي" الحديثة؛ ويصفها "أريان" بأنها: "مدينة عظيمة مزدهرة"؛ ويقول "سترابو": "إنها كبيرة وبها أرقى القوانين"، فقد كانت مدينة عسكرية ومدينة جامعية في آن معاً، إذ تقع من الوجهة العسكرية على الطريق الرئيسية المؤدية إلى آسيا الغربية، وكان بها أشهر الجامعات الكثيرة التي كانت في الهند إذ ذاك، فكان يحج إليها الطلاب زرافات، كما كانوا يحجون زرافات إلى باريس في العصور الوسطى؛ ففي وسع الطلاب أن يدرسوا بها ما شاءوا من فنون وعلوم على أيدي أساتذة أعلام، وخصوصاً مدرستها للطب، فقد ذاع اسمها في العالم الشرقي كله مقروناً بالتقدير العظيم
(1)
.
ويصف المجسطى مدينة "باتاليبوترا" عاصمة الملك "تشاندرا جوبتا" فيقول أنها تسعة أميال في طولها وميلان تقريباً في عرضها (10) وكان القصر الملكي بها من خشب، لكن السفير الإغريقي وضعه في منزلة أعلى من منزلة المساكن الملكية في "سوزا" و "إكياتانا" ولا يفوقه إلا قصور "برسوبوليس"(أي مدينة الفرس)؛ فأعمدته مطلية بالذهب ومزخرفة بنقوش من حياة الطير ومن ورق الشجر، وهو من الداخل مؤثث تأثيثاً فاخراً ومزدان بالأحجار الكريمة والمعادن النفسية (11)؛ وقد كان في هذه الثقافة قسط من حب الشرقيين للتظاهر، فمثلاً ترى ذلك واضحاً في استخدامهم لآنية من الذهب قطر الواحدة منها ست أقدام (12)؛ لكن مؤرخاً إنجليزياً يبحث الآثار المادية والأدبية والتصويرية لتلك المدينة فيصل إلى نتيجة، هي أنه "في القرنين الرابع والثالث قبل المسيح لم يكن ما يتمتع به ملك موريا من أسباب الترف بكل
(1)
كشفت حفريات سير جون مارشال في "تاكسيلا" عن أحجار منحوته نحتاًً دقيقاًً، وعن تماثيل مصقولة صقلاًً بلغ الغاية، وعن نقود ترجع إلى سنة 600 ق. م. وعن مصنوعات زجاجية دقيقة الصناعة لم تفقها أية صناعة من نوعها في الهند بعدئذ (8)؛ ويقول فنست سمث:"إنه من الواضح أنهم بلغوا من الحضارة حداً بعيداً، وأن كل الفنون والصناعات التي تصاحب حياة مدنية غنية مثقفة، كانت معروفة لهم".
ضروبها، والصناعات اليدوية الماهرة بكل أنواعها، أقل مما كان يتمتع به أباطرة المغول بعد ذلك بثمانية عشر قرناً" (13).
أقام "تشاندرا جوبتا" في هذا القصر، بعد أن استولى على العرش بالقوة، مدى أربعة وعشرين عاماً، فكان كأنما يعيش منه في سجن مطلي بالذهب؛ وكان يظهر للشعب حيناً بعد حين، مرتدياً ثوباً من الموصلي الموشى بالأرجوان والذهب، محمولاً في محفة ذهبية، أو على فيل مطهم بأفخر الطهم؛ وكان وقته مليئاً بأعمال مملكته المتزايدة، إلا ساعات كان يقضيها في الصيد أو في غيره من أنواع التسلية؛ فيومه ينقسم ستة عشر جزءاً طول الجزء منها تسعون دقيقة، فكان يستيقظ في الجزء الأول من يومه فيعد نفسه بشيء من التأمل؛ وفي الثاني يقرأ التقارير التي يرفعها إليه موظفوه، ويصدر فيها تعليمات سرية؛ وفي الثالث يجتمع بمستشاريه في قاعة المقابلات الخاصة؛ وفي الرابع يبحث في أمور المالية والدفاع القومي؛ وفي الخامس يصغي إلى شكاوي رعيته وقضاياها؛ وفي السادس يستحم ويتناول غداؤه ويقرأ شيئاً من كتب الدين؛ وفي السابع يتقبل الضرائب والجزية ويضرب المواعيد الرسمية؛ وفي الثامن يلتقي بمستشاريه مرة ثانية ويستمع إلى ما يقرره له الجواسيس الذين كان يرصدهم، وبين هؤلاء عاهرات استخدمن لهذه الغاية (14)؛ وخصص الجزء التاسع من يومه للاستحمام والصلاة، والعاشر والحادي عشر للشئون العسكرية؛ والثاني عشر للتقارير السرية مرة أخرى؛ والثالث لحمام المساء ووجبته؛ والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للنوم (15)؛ ويجوز أن يكون المؤرخ قد صور لنا بهذه الصورة ما كان يمكن أن تجري عليه حياة "تشاندرا جوبتا" من نظام؛ أو هو يصور لنا بها ما أراد "كوتيلا" أن يتصوره الناس عن مليكه، أكثر مما يصور لنا حقيقة ذلك الملك في حياته، فالحقيقة قلما تفلت من أجواق القصور.
كان زمام الحكم الحقيقي في يد وزيره الماكر "كوتيلا" و "كوتيلا"
برهمي عرف القيمة السياسية للدين، لكنه لم يتخذ من الدين هداية خلقية؛ فهو شبيه بدكتاتوريي هذا العصر، في إيمانه بأن كل الوسائل لها مبررات ما دامت تنتهي إلى صالح الدولة؛ وكان غادراً لا يزجره من نفسه ضمير، إلا إزاء مليكه؛ فقد خدم "تشاندرا جوبتا" في منفاه وفي هزيمته وفي مغامراته وفي دسائسه وفي اغتياله للناس وفي نصره؛ واستطاع بفضل حكمته ودهائه أن يجعل ُملك سيده أعظم ما عرفته الهند في تاريخها كله؛ ولقد رأى "كوتيلا"- كما رأى الأمير من بعده مؤلف "الأمير"
(1)
- أنه من المفيد أن يدون للأجيال القادمة آراءه التي عالج بها الأمور العسكرية والسياسية؛ وأن الرواية لتنسب إليه كتاب "أرذاشاسترا" وهو أقدم كتاب مما بقي لنا من الأدب السنسكريتي (16)؛ ولكي نسوق لك مثلاً من واقعيته الدقيقة، نذكر لك ما ذكره من الوسائل التي تتبع في الاستيلاء على أحد الحصون، وهي:"الدسائس والجواسيس واستمالة شعب الأعداء، والحصار والهجوم"(17) - وفي هذه الدسائس اقتصاد حكيم للمجهود البدني.
لم تزعم الحكومة لنفسها اصطناع الأساليب الديمقراطية؛ والأرجح أنها كانت حكومة لم تشهد الهند طوال تاريخها حكومة أكفأ منها (18)؛ فلم يكن لدى "أكبر"- وهو أعظم المغول- "ما يماثلها كفاءة، ومما يدعوا إلى الشك أن يكون بين المدن اليونانية القديمة ما يفوقها نظاماً"(19)؛ كانت تقوم صراحة على القوة العسكرية؛ فكان "لشاندرا جوبتا" جيش قوامه- إذا أخذنا برأي المجسطي (الذي يجب أن يكون موضع ريبه كأي مراسل أجنبي آخر) - ستمائة ألف من المشاة، وثلاثون ألفا من الركبان، وتسعة آلاف من الفيلة، وعدد لم يحدد من العربات الحربية (20)؛ وكان البراهمة والفلاحون يعفون من الخدمة العسكرية، فيصف لنا "سترابو" هؤلاء الفلاحين وهم
(1)
مؤلف كتاب "الأمير" هو مكيافلي صاحب السياسة الوصولية المشهور (المعرب)
يحرثون الأرض في هدوء وآمن وسط حومات تضطرب بالقتال (21).
وكانت سلطة الملك مطلقة من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فكان يحدها مجلس للشورى كان من شأنه التشريع- أحيانا في حضور الملك وأحيانا في غيابه- وتنظيم المالية القومية والشئون الخارجية، وهو الذي كان يعين لكل المناصب الهامة في الدولة رجالها؛ ويشهد المجسطي بما كان لأعضاء ذلك المجلس من "خلق سام وحكمة عالية" كما يذكر ما كان لهم من نفوذ فعال (22).
كانت الحكومة مقسمة أقساماً لكل منها واجبات واضحة الحدود، وموظفون يتدرجون في درجاتهم تدرجاً أحسن تدبيره؛ فتقوم هذه الأقسام بالإشراف على الدخل، والجمارك، والحدود، وجوازات السفر، والمواصلات، والضرائب، والمناجم، والزراعة، والماشية، والتجارة، والمخازن، والملاحة، والغابات، والألعاب العامة، والدعارة، وسك النقود- لكل من هذه قسم خاص؛ وكان للمشرف على قسم ضريبة الإنتاج حق رقابة بيع العقاقير والمسكرات، وكان يقيد عدد الخانات ومواضعها، وكمية الخمور التي يجوز لها أن تبيعها؛ وللمشرف على المناجم أن يؤجر مواقع الاستنجام لأفراد يدفعون للحكومة أجراً معلوماً وجزءاً معيناً من الربح؛ وللإشراف على الزراعة نظام كهذا، لأن الأرض كلها كانت ملكاً للدولة؛ وللمشرف على الألعاب العامة الرقابة على قاعات القمار، وأن يقدم الزهر (زهر اللعب) للاعبين ويتقاضاهم رسماً على استخدامه، كما كان يقتطع لخزانة الدولة خمسة في كل مائة مما يدفعه اللاعبون؛ وأما المشرف على الدعارة، فكان من شأنه أن يراقب العاهرات، ويضبط أجورهن ومصروفهن، وكان يحدد لأعمالهن يومين من كل شهر، ويأخذ منهن اثنتين للقصر الملكي، تقومان هناك للمتعة من جهة وللجاسوسية من جهة أخرى؛ وفرضت الضرائب على كل مهنة وكل عمل وكل صناعة؛ أضف إلى ذلك ما كان الأغنياء يحملون على دفعه من "تبرعات" للملك؛ وكانت الحكومة تراقب الأسعار، وتراجع الموازين والمقاييس حيناً بعد حين؛ ثم كان للدولة مصانع خاصة بها تقوم
فيها الحكومة بصناعة بعض الأشياء، كما كانت تبيع الخضر وتحتكر المناجم والملح والخشب والمنسوجات الدقيقة والجياد والفيلة (23).
وكان يقوم على القانون في الريف رؤساء محليون في القرى، أو مجالس قروية قوام الواحد منها خمسة رجال؛ وأما في المدن والأقاليم والمناطق فيعهد بأمره إلى محاكم دنيا ومحاكم عليا، وفي العاصمة يتولاه المجلس الملكي باعتباره محكمة عليا، ويتولاه الملك نفسه على أنه محكمة استئناف، لا نقض ولا إبرام لحكمها؛ وكانت العقوبات صارمة، منها بتر الأعضاء والتعذيب والموت، وهي تقوم عادة على مبدأ " العين بالعين والسن بالسن " أي مبدأ القصاص المتعادل؛ لكن الحكومة لم تكن مجرد أداة للضغط على الشعب، بل كانت كذلك تعني بالصحة العامة، فأقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء، وكانت توزع في السنين العجاف ما قد يكون في مخازن الدولة استعداداً لأمثال هذه الطوارئ؛ وتضطر الأغنياء إلى المشاركة في معاونة المعوزين، وتنظم مشروعات عامة كبرى للعناية بالمتعطلين في سني الأزمات (24).
وأما قسم الملاحة فكان اختصاصه تنظيم النقل المائي ووقاية المسافرين في الأنهار والبحار؛ وكانت كذلك ترعى الجسور والمواني، وتهيئ "معدّيات" حكومية تعمل جنباً إلى جنب مع "المعدّيات" الخاصة التي يملكها ويديرها أفراد (25) - وهو نظام جميل يمكن الحكومة بدخولها في المنافسة من الحد من إسراف الأفراد في استغلال الجمهور، كما تمكن المنافسة الحرة من الحد من إسراف الحكومة بذبحها؛ وكان من واجب قسم المواصلات أن يشق الطرق ويعبدها ثم يقوم على صيانتها في أرجاء الإمبراطورية، من المدقات الضيقة التي تعد للعربات في الريف، إلى الطرق التجارية التي يبلغ عرض الواحد منها اثنين وثلاثين قدماً، ثم إلى الطرق الملكية التي يبلغ عرضها أربعاً وستين قدماً؛
وكان طريق من هذه الطرق الملكية يمتد ألفاً ومائتين من الأميال، من "باتاليبترا" إلى الحدود الشمالية الغربية (26) - وهي مسافة تساوي نصف الطريق من هاتيك الطرق الرئيسية التي تعبر الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها؛ وعند كل ميل تقريباً من هذه الطرق- فيما يقول المجسطي- كانت تقوم أعمدة تشير إلي الاتجاهات وتبين المسافات إلى مختلف البلدان (27)، وكنت تجد على طول الطريق أشجاراً ظليلة وآباراً ومراكز للشرطة وفنادق، أعدوها على مسافات دورية من الطريق (28)؛ وكانت وسائل النقل هي العربات والمحفات والعربات تجرها الثيران، ثم الجياد والجمال والفيلة والحمير والناس؛ وكانت الفيلة من ألوان الترف التي تقتصر عادة على الملك وكبار رجال الدولة، وكانت من غلو القيمة عندهم بحيث عدُّوا عفة المرأة ثمناً متواضعاً للواحد منها
(1)
.
وكان يتبع في حكومات المدن مثل هذا النظام بعينه من حيث تقسيم الإدارة إلى أقسام، فالعاصمة " باتاليبترا " كان يحكمها مجلس مؤلف من ثلاثين عضواً، ينقسمون ستة أقسام، يقوم قسم منها على تنظيم الصناعة، وآخر يراقب الأجانب فيعد لهم المساكن ويعين لهم من يقوم بخدمتهم ويراقب حركاتهم، وقسم ثالث يسجل المواليد والوفيات، ورابع يرخص للتجار مباشرة تجارتهم، وينظم بيع المحصول، ويراجع المقاييس والموازين، وخامس يراقب بيع المصنوعات، وقسم سادس يجمع ضريبة قدرها عشرة في كل مائة عن المبيعات كلها؛ وفي ذلك يقول "هافِلْ":"وصفوة القول أن باتاليبترا في القرن الرابع قبل الميلاد، فيما يظهر، قد كانت مدينة على أتم ما تكون المدن نظاماً، وتقوم عليها إدارة تتمشى مع أحسن المبادئ في علم الاجتماع"(28)؛ وكذلك يقول "فنست سْمِث": "إن الكمال الذي بلغته هذه النظم التي
(1)
"إن نساءهم اللاتي يحرصن كل الحرص على عفافهن، ولا يغويهن بالفجور شئ كائناً ما كان، كن إذا ما قدم لهن الرجل فيلاً قبلت الواحدة منهن مضاجعة الواهب؛ إذ ليس في عرف الهنود أنه مما يشين المرأة أن تسلم عرضها لقاء فيل، بل إن المرأة عندهم لتراه مدعاة للفخار أن يكون جمالها مساوياًً في قيمته لفيل "أريان".
أشرنا إليها، ليثير العجب حتى إن اقتصرت في ذكره على موجز مقتضب؛ ثم تزداد عجباً- إذا ألممت بتفصيلات الإدارة- كيف أمكن لمثل هذا النظام أن تدبَّر قواعده، وأن ينفذ تنفيذاً دقيقاً في الهند في سنة 300 ق. م" (28 ب).
والنقص الوحيد في هذه الحكومة هو استبدادها، وبالتالي اعتمادها اعتماداً متصلاً على القوة وعلى الجواسيس؛ فحاكمها "تشاندرا جوبتا" شأنه شأن كل حاكم مستبد آخر- كان قلقاً على عرشه، لا ينقطع خوفه من الثورة والاغتيال؛ فكان ينام كل ليلة في مخدع يختلف عن مخدع الليلة السابقة، ولم يخل قط من حراسة الحراس؛ وتروي الراوية الهندية، ويؤيدها المؤرخون الأوربيون، أنه لما أطبقت مجاعة طويلة على مملكة "تشاندرا جوبتا"(راجع المجسطي) حمله اليأس على النزول عن عرشه؛ وعاش بعدئذ اثني عشر عاماً زاهداً جانتياً، ثم انتهى به الأمر أن فرض على نفسه الجوع حتى مات به؛ يقول فولتير:"إنك لو وضعت كل الظروف موضع الاعتبار، ألفيت حياة النوتي في "جندوله" خيراً من حياة حاكم المدينة، لكني أعتقد أن الفرق بين حياتيهما أتفه من أن يستحق منا التدقيق في أمره"(29).
الفصل الثاني
الملك الفيلسوف
أشوكا - مرسوم التسامح - أشوكا يرسل بعوثاً دينية - فشله - نجاحه
كان الذي خلف "تشاندرا جوبتا" في الحكم هو "بندوسارا" وهو رجل ذو نزعات عقلية لا تخفى؛ فيقال إنه طلب إلى "أنتيخوس" ملك سوريا أن يبعث إليه بفيلسوف إغريقي، وكتب إليه قائلاً إنه على استعداد أن يدفع ثمناً عالياً لفيلسوف إغريقي من الطراز الصحيح (30) ولكن "أنتيخوس" لم يستطيع إلى إجابة الطلب سبيلاً، لأنه لم يجد فيلسوفاً يونانياً معروضاً للبيع؛ ثم شاءت المصادفة أن تعوض "بندوسارا" خيراً، فجعلت له من ابنه فيلسوفاً.
وتولى "أشوكا فارذانا" العرش سنة 273 ق. م فوجد أنه يشمل بسلطانه إمبراطورية أوسع رقعة من أي قطر حكمه في الهند حاكم من قبله: فهو يشمل أفغانستان وبلوخستان، وكل الهند الحديثة إلا طرفها الجنوبي- وهي ما يسمى "بأرض تامِلْ"؛ ولبث حيناً من الدهر يحكم على غرار جده "تشاندرا جوبتا"، أي لبث يحكم بلاده في قسوة، لكنه يحكمها حكماً جيداً؛ فيحدثنا "يوان تشوانج" الرحالة الصيني الذي أنفق أعواماً طوالاً في الهند إبان القرن السابع الميلادي، بأن السجن الذي كان قائماً في عهد "أشوكا" شمالي العاصمة، لم يزل يذكره الناس في الهند جيلاً عن جيل باسم "جحيم أشوكا"؛ إذ أنبأه المنبئون أن كل أنواع العذاب والتعذيب التي تشتمل عليها الجحيم الحقيقية، قد استعملت فعلاً في ذلك السجن عقاباً للمجرمين، بل إن الملك قد أضاف إلى تلك الأنواع التقليدية من عذاب الجحيم، مرسوماً بأن كل من يدخل ذلك الجب المخيف، لا يجوز له قط أن يخرج منه حياً؛ ولكن حدث ذات يوم أن ألقي في ذلك
السجن قديس بوذي بغير أن يكون هناك ما يبرر ذلك السجن، فقذفوا به في إناء كبير فيه ماء ساخن، فأبى الماء أن يغلي بما فيه؛ فأرسل السجان بالنبأ إلى "أشوكا"، وجاء "أشوكا" ورأى وأخذه العجب؛ ولما استدار الملك ليأخذ طريقه إلى خارج السجن، ذكره السجان بأمره، قائلاً إنه لا يجوز له أن يغادر السجن حياً؛ فحزت هذه الملاحظة في نفس الملك بقوتها، وأمر بالسجان أن يقذف في إناء الماء الساخن.
ويقال أن "أشوكا" لما وصل إلى قصره، نال من نفسه انقلاب عجيب؛ وأمر من فوره أن يهدم السجن وأن يخفف قانون العقوبات؛ وفي نفس الوقت جاءه النبأ بأن جنوده قد ظفروا بانتصار باهر على قبيلة "كالنجا" الثائرة، وأنهم قد فتكوا بآلاف من الثائرين، وأسروا منهم عدداً كبيراً؛ فجعل "أشوكا" عندئذ يعاني لذعات ضميره كلما طاف برأسه كل هذا "العنف والتقتيل وإبعاد الأسرى عن ذويهم "فأمر أن يطلق سراح الأسرى، ورّد إلى قبيلة "كالنجا" أرضها، وأرسل إلى أهلها اعتذار لم يسبق له في التاريخ مثيل، ولم يقلده من بعده إلا القليل؛ وبعدئذ التحق بالطائفة البوذية، ولبس مسوح الرهبان حيناً، وأبطل الصيد وأكل اللحم، واصطنع "السبيل الشريفة ذات الإرشادات الثمانية"(31).
وإنه ليستحيل علينا الآن أن نقول كم من هذه الأنباء قد اختلقه الخيال اختلاقاً؛ وكم منها تاريخ صحيح، كما يستحيل علينا- والشقة بيننا وبين ذلك العهد بهذا البعد- أن نرى الدوافع التي حفزت الملك إلى ما فعل؛ فيجوز أنه رأى البوذية تتسع انتشاراً، وظن أن تعاليمها من تسامح وهدوء تصلح تشريعاً مفيداً لشعبه، فتوفر على الدولة عدداً لا يحصى من رجال الشرطة؛ وفي العام الحادي عشر من حكمه، أخذ يصدر مرسومات هي أعجب ما عرفناه في تاريخ الحكومات؛ وأمر أن تنقش هذه المرسومات على الصخور وعلى الأعمدة
في عبارة بسيطة وباللهجات التي يفهمها الناس، حتى يتسنى لكل هندي يعرف القراءة أن يفهم فحواها؛ ولقد عثرنا على "مرسومات الصخور" في كل جزء من أجزاء الهند تقريباً؛ ولا تزال عشرة أعمدة باقية في مكانها، وعرفنا أماكن عشرين أخرى؛ وتقرأ هذه المرسومات فتجد أن الإمبراطور يوافق على العقيدة البوذية بحذافيرها، ويطبقها في شأن من شئون الناس هو آخر ما تتوقع لها أن تطبق فيه وأعني السياسة؛ وشبيه بهذا أن تعلن إمبراطورية حديثة فجأة أنها صممت منذ الآن فصاعداً أن تتبع المسيحية في سياستها.
وعلى الرغم من أن هذه المرسومات بوذية العقيدة، فهي لا تبدو لنا دينية خالصة؛ فهي تفرض وجود حياة آخرة، وبهذا ترى كيف أنه لم يلبث تشكك بوذا أن زال ليحل محله عند أتباعه إيمان، لكنها إلى جانب ذلك لا تورد في نصوصها عبارة تدل على العقيدة بإله مشخص، بل لا تذكر الله في نصوصها إطلاقاً (32)، كلا، ولا هي تذكر كلمة واحد عن بوذا؛ فهذه المرسومات لا تعنى باللاهوت؛ فمرسوم "سارنات" يطالب الناس بالسير على مقتضى قواعد الدين، ويضع عقوبات لمن يشقون عليها عصا الطاعة (33)، أما سائر المرسومات فهي لا تنى تذكر مرة بعد مرة ضرورة التسامح الديني؛ فعلى المرء أن يحسن إلى كهنة البراهمة كما يحسن إلى كهنة البوذيين سواء بسواء؛ ولا ينبغي لأحد أن يسيء بالقول إلى عقيدة من العقائد؛ ويعلن الملك أن كل أفراد شعبه هم بمثابة أبنائه الذين يحنو عليهم، فهو لن يفرق بينهم بسبب اختلافهم في العقيدة (34)، فهذا هو "مرسوم الصخر" رقم 12 يتحدث بما يكاد أن يكون معاصراً لنا من حيث سداد رأيه:
"إن جلالة الملك المقدس الرحيم يقدم إجلاله للناس من شتى المذاهب، سواء في ذلك الزاهدون أو أصحاب الأسر، وهو يقدم إجلاله هذا بالهدايا وغيرها من مختلف ألوان التوقير.
على أن جلالة الملك المقدس لا تعنيه كثيراً هذه الهدايا وهذا التوقير الظاهر، بقدر ما يعنيه أن ينمو في كل هذه العقائد لبها وجوهرها؛ ونمو هذا الجوهر وذلك اللب إنما يكون بطرائق شتى، لكن أساسها جميعاً هو ضبط اللسان عن الكلام، وأعني بذلك ألا يبجل المرء عقيدته وألا يحط من شأن عقيدة غير عقيدته إلا بما يمليه العقل؛ إن الحط من شأن العقائد الأخرى لا ينبغي أن يكون إلا لأسباب عقلية معينة، ذلك لأن عقائد الناس على اختلافها جديرة بالاحترام لهذا السبب أو ذاك.
وبمثل هذا التصرف، يرفع المرء من عقيدته، وينفع في الوقت نفسه سائر العقائد؛ وبالتصرف المضاد لهذا، يؤذي المرء عقيدته ويضر عقائد الناس
…
إن انسجام الأفراد أمر عظيم".
هذا إلى أن "مرسوم العمود الثاني" يلقى لنا ضوءاً أكثر على المقصود من "جوهر الموضوع"- وهي العبارة التي وردت في المرسوم الذي ذكرناه الآن- إذ يقول: "إن قانون التقوى شيء جميل، لكن مم يتكون قانون التقوى؟ يتكون من هذه الأشياء: قليل من عدم التقوى، وكثير من الأفعال الخيرة، والرحمة، والإحسان، والصدق، والصفاء"؛ ولكي يضرب "أشوكا" المثال لما يريد، أمر موظفيه في كل مكان أن ينظروا إلى الناس نظرتهم إلى أبنائه، وأن يعاملوهم بالصبر والحسنى، فلا يعذبوهم ولا يسجنوهم بغير مبرر معقول؛ وأمر موظفيه أن يقرءوا هذه الإرشادات قراءة دورية على الشعب (35).
فهل كان لهذه المرسومات الخلقية أثر كائناً ما كان في إصلاح سلوك الناس؟ يجوز أنها ساعدت على نشر فكرة "الأَهِمْسا"- وهي عدم قتل الحيوان- كما شجعت على الامتناع عن أكل اللحم وشرب المسكرات بين الطبقات العليا من أهل الهند (36)؛ ويعتقد "أشوكا" اعتقاداً جازماً- شأنه في ذلك شأن المصلحين- أن لوعظه المنقوش على الحجر أبلغ الأثر؛ وهو يعلن في "مرسوم الصخر" رقم 4، أنه لمس بالفعل نتائج طيبة لمرسوماته، وربما أعان ملخصه على توضيح أساس مذهبه:
أما وقد اصطنع صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك أسباب التقوى في حياته، فقد سكتت أصداء طبول الحروب ليهتز الهواء بأصداء القانون
…
لقد امتنع الناس اليوم، بفضل قانون التقوى الذي سنه صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، عن ذبح الكائنات الحية ليقدموها في قرابينهم، أكثر من امتناعهم عن ذلك من قبل؛ امتنعوا عن قتل الأحياء، وسلكوا إزاء أقربائهم سلوكاً فاضلاً، وكذلك إزاء البراهمة، وأصبحوا يستمعون لما يأمرهم به آباؤهم وأمهاتهم ومن هم أكبر منهم سناً؛ على هذا النحو- وعلى غيره من الأنحاء الكثيرة- ازداد إقبال الناس فوق هذه الزيادة.
إن أبناء صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، وأحفاده وأحفاد أحفاده، سيعملون على زيادة اصطناع الناس لقانون التقوى، زيادة تضطرد إلى يوم الدين ".
لكن الملك الصالح قد بالغ في تقوى شعبه وولاء أبنائه؛ أما هو نفسه فقد بذل مجهوداً عظيماً في سبيل الديانة الجديدة، فجعل من نفسه رئيساً للطائفة البوذية، وأجزل لها العطايا، وشيد لها ثمانية وأربعين ألفاً من الأديرة لرجالها (37) وبنى باسمها في أرجاء مملكته كلها مستشفيات للإنسان والحيوان (38) وأرسل مبشرين بالعقيدة البوذية إلى أجزاء الهند جميعاً وإلى جزيرة سيلان، بل أرسل هاتيك البعوث إلى سوريا ومصر واليونان (39) حيث يحتمل أن تكون قد هيأت الطريق هناك للأخلاق المسيحية (40) ولم يمض بعد وفاته إلا زمن قصير حتى غادرت بعوث المبشرين بلاد الهند ليعظ رجالها الناس بالتعاليم البوذية في التبت والصين ومنغوليا واليابان، وبالإضافة إلى هذا النشاط الديني، توجه "أشوكا" بحماسة نحو إدارة بلاده في شئونها الدنيوية؛ فكان يطيل من ساعات العمل في يومه، ولم تكن الحوائل لتحول بينه وبين معاونيه، فلهؤلاء أن يتصلوا
به في شئون الدولة في أي ساعة شاءوا (41).
ونقيصته البارزة هي الأنانية؛ فمن العسير أن تكون متواضعاً ومصلحاً في آن معاً؛ إن احترامه لنفسه يسطع في كل مرسوم من مراسيمه، مما يجعله أخاً "لمرقس أورليوس"
(1)
في شتى الوجوه؛ ولم يستطع أن يدرك أن البراهمة كانوا يمقتونه، ويتربصون به الدوائر ليفتكوا به، كما فتك كهنة طيبة بإخناتون قبل ذلك بألف عام؛ ولم يقتصر مقته على البراهمة الذي اعتادوا ذبح الحيوان من أجل أنفسهم ومن أجل آلهتهم، بل جاوزهم إلى ألوف مؤلفة من الصيادين والسماكين الذين كرهوا المراسيم التي فرضت كل هذه القيود القاسية على قتل الحيوان؛ حتى الفلاحون أخذوا يجأرون بالشكوى من الأمر الصادر "بألا يحرق قش الغلال خشية أن تحترق معه الكائنات الحية الكامنة فيه"(42)، فنصف الشعب في الإمبراطورية كان ينتظر موت "أشوكا" كما يرقب الإنسان تحقيق الأمل.
ويروي لنا "يوان تشوانج" أن رواة البوذيين يتناقلون النبأ بأن " أشوكا " في أخريات أعوامه، أكره على النزول عن عرشه، على يدي حفيده الذي فعل ما فعله بمعونة رجال البلاط؛ وحرم الملك كل سلطانه شيئاً فشيئاً، ووقف تيار الهدايا التي كان يمنحها للطائفة البوذية؛ بل إن ما كان يسمح به "لأشوكا" من أشياء، حتى الطعام، نقص مقداره، حتى بلغت به الحال أن أصبح نصيبه من الطعام في اليوم نصف ثمرة من ثمار "الأمالاكا"؛ ونظر الملك إلى نصف الثمرة نظرة حزينة، ثم أرسلها إلى إخوانه البوذيين قائلاً إنها كل ما يملك مما يستطيع تقديمه إليهم (43)؛ لكن حقيقة الأمر هي أننا لا ندري شيئاً عن أعوامه الأخيرة، بل لا ندري في أي سنة وافته منيته؛ ولم يمض بعد موته إلا مدى جيل واحد، حتى كانت إمبراطوريته- كإمبراطورية إخناتون- قد تقوض بنيانها؛ ذلك أنه لما تبين أن نفوذ العرش في مملكة "مجاذا" كانت تسنده
(1)
حاكم روماني حكيم. (المعرب)
قوة الدفع القديمة أكثر مما تدعمه إدارة قائمة على قوة الحاكم، فقد أخذت الدول التابعة له تعلن انسلاخها، دولة في إثر دولة، عن ملك الملوك في "باتاليبترا"؛ نعم إن سلالة "أشوكا" لبثت تحكم "مجاذا" حتى القرن السابع الميلادي، لكن أسرة "موريا" الحاكمة التي أنشأها "تشاندرا جوبتا" بلغت ختامها حين قتل الملك "برهادراذا"، وأن ذلك لدليل على أن الدول لا تبقي على المثل العليا، إنما ينهض بنيانها على طبائع الناس.
مني "أشوكا" بالفشل السياسي، ولو أنه من ناحية أخرى قد أدى مهمة من أعظم المهام في التاريخ؛ ففي القرنين التاليين لموته، انتشرت البوذية في أرجاء الهند، وبدأت غزوها لآسيا غزواً لا تراق فيه الدماء؛ فإذا رأيت إلى يومنا هذا، وجه "جوتاما"
(1)
الهادئ يأمر الناس من "كاندي" في سيلان إلى "كاماكورا" في اليابان، أن يعامل بعضهم بعضاً بالحسنى، وأن يحبوا السلام، فاعلم أنه مما أدى إلى ذلك أن حاكماً، وإن شئت فقل قديساً، كتب له يوماً أن يتربع على عرش الهند.
(1)
هو بوذا. (المعرب)
الفصل الثالث
العصر الذهبي في الهند
عصر غزوات - ملوك كوشان - إمبراطورية جوبتا - رحلات
"فا - هين" - نهضة الأدب - قبائل الهون في الهند - هرشا
الكريم - رحلات يوانج تشوانج
منذ وفاة "أشوكا" إلى قيام إمبراطورية "جوبتا"- وهي مدة تكاد تبلغ ستمائة سنة- تقل النقوش والوثائق الهندية قلة تجعل تاريخ هذه الحقبة يضطرب بالغموض (44)؛ وليس هو بالضرورة عصراً مظلماً لقلة علمنا بتاريخه، فقد ظلت به جامعات عظيمة مثل جامعات "تاكسيلا" قائمة تنشر العرفان؛ كما أنه حدث في الجزء الشمالي الغربي من الهند إبان تلك الفترة أن ازدهرت حضارة في إثر غزوة الإسكندر، بتأثير الفرس في فن العمارة، واليونان في فن النحت؛ ففي القرنين الأول والثاني قبل المسيح، نزحت جموع من السوريين واليونان والسُّكيسْت إلى البنجاب، ففتحوه وأقاموا فيه هذه الثقافة "اليونانية البكترية" التي ظلت هناك ما يقرب من ثلاثمائة عام: وفي القرن الأول مما تواضعنا فيما بيننا نحن الغربيين أن نسميه بالعصر المسيحي، استولت قبيلة كوشان من قبائل أواسط آسيا، وهي قبيلة تصلها وشائج القربى بالأتراك، استولت هذه القبيلة على "كابل"، واتخذتها عاصمة نشرت منها نفوذها في أرجاء الجزء الشمالي الغربي من الهند ومعظم آسيا الوسطى؛ فتقدمت الفنون والعلوم في عهد أعظم ملوكها "كانشكا"، فها هنا أنتج النحت "اليوناني البوذي" مجموعة من أروع آياته؛ كما أقيمت مبان جميلة في "بشاور" و "تاكسيلا" و "ماثورة" وكذلك تقدم "تشاراكا" بفن الطب؛ ووضع "ناجارجونا" و "أشفاغوشا" الأسس التي قام عليها أحد المذاهب البوذية- هو مذهب
ماهايانا، ومعناها، العربة الكبرى- الذي ساعد "جوتاما"
(1)
على كسب الصين واليابان في صف مذهبه؛ وكان "كانشكا" متسامحاً مع كثير من الديانات، وجرب بنفسه كثيراً من الآلهة يعبدها، حتى انتهى به الأمر أخيرا إلى اختيار البوذية الجديدة الأسطورية التي جعلت من بوذا إلهاً، والتي ملأت أجواز السماء ببوذوات منتظرة وقديسين من أشباه بوذا؛ ودعا إلى انعقاد مجلس عظيم من رجال اللاهوت البوذي، ليصوغوا هذه العقيدة فيتسنى نشرها في بلاده، وأوشك أن يكون "أشوكا" آخر في عمله على نشر العقيدة البوذية، ودون هذا المجلس قواعد بلغ عددها ثلاثمائة ألفاً، وهبط بالفلسفة البوذية إلى حاجات العاطفة عند النفس العادية، ورفع بوذا نفسه إلى منزلة الآلهة.
وكان "تشاندرا جوبتا الأول"(وهو غير تشاندرا جوبتا موريا على الرغم من اتفاقهما في الاسم والعدد الترتيبي) قد أنشأ حينئذ أسرة "جوبتا الحاكمة في مجاذا التي قوامها ملوك من أهل البلد أنفسهم؛ وأتيح لخلفه في الحكم، وهو "سامدرا جوبتا" أن يحكم خمسين عاماً فيجعل من نفسه ملكاً في طليعة ملوك الهند في تاريخها الطويل؛ وكان مما فعله أن نقل عاصمة الحكم من "باتاليبترا" إلى "أبوذيا"- التي هي الموطن القديم لـ " راما "، ذلك الشخص الأسطوري- ثم بعث بجيوشه الفاتحة ومحصلي ضرائبه إلى بلاد البنغال وأسام ونيبال والهند الجنوبية؛ وأنفق ما تدفق عليه من أموال تلك الأقطار التابعة له، في النهوض بالأدب والعلم والدين والفنون؛ بل برع هو نفسه، فيما تخلل الحروب من فترات السلم، في الشعر والموسيقى؛ وجاء بعده ابنه "فِكرامادتيا" (ومعناها شمس القوة) فوسع من رقعة هذه الفتوحات الحربية والغزوات العقلية، وأيد أديب المسرحية "كالداسا" وجمع حوله في عاصمته "يوجين" طائفة ممتازة من الشعراء والفلاسفة والفنانين والعلماء والباحثين
(1)
هو بوذا (المعرب)
حتى لقد بلغت الهند من التقدم في عهد هذين الملكين ذروة لم تكن قد جاوزتها منذ بوذا، كما بلغت في وحدتها السياسية مبلغاً لم تبلغ مثيله إلا في عهد "أشوكا" وعهد "أكبر".
ونستطيع أن نتتبع الخطوط الرئيسية في مدنية "جوبتا" من الوصف الذي قدمه "فارهين" عن زيارته للهند في مستهل القرن الخامس الميلادي؛ وهو أحد البوذيين الكثيرين الذين جاءوا من الصين إلى الهند إبان هذا العهد الذهبي من تاريخها؛ بل إن هؤلاء الحجاج الدينيين كانوا على الأرجح أقل عدداً من التجار والسفراء الذين طفقوا حينئذ- رغم ما يحيط بالهند من حواجز الجبال- يفدون إليها وقد اشتملها السلام، يفدون إليها من الشرق والغرب، بل يفدون إليها من روما النائية؛ وكانوا في وفودهم إليها يجتلبون معهم عاداتهم وأفكارهم، فسرعان ما تكون هذه الأفكار وتلك العادات الواردة من خارج حافزاً للبلاد على التغيير في أوضاعها؛ جاءها "فا- هين" فألفى نفسه، بعد أن تعرضت حياته للخطر أثناء مروره في الجزء الغربي من الصين، آمناً في الهند أمناً لا يأتيه الخطر من أية ناحية من نواحيه، فجعل ينتقل في طول البلاد وعرضها، دون أن يصادفه من يعتدي عليه بالإيذاء أو بالسرقة (45)؛ وهو يحدثنا في يومياته كيف استغرق في طريقه إلى الهند ستة أعوام، وأنفق في ربوع الهند ستة أعوام، ثم عاد إلى وطنه في الصين عن طريق سيلان وجاوه في ثلاثة أعوام (46).
وإنه ليصف لنا وصفاً يعبر به عن إعجابه بما كان للشعب الهندي من ثروة وازدهار وفضيلة وسعادة، ومن حرية دينية واجتماعية؛ ولقد أدهشته المدن الكبرى بكثرتها وحجمها وعدد سكانها، كما أدهشته المستشفيات المجانية وغيرها من مؤسسات الإحسان التي امتلأت بها أرجاء البلاد
(1)
؛ وعجب
(1)
سبقت هذه المستشفيات أول مستشفى شهدته أوروبا بثلاثة قرون، وأعني به "ميزون ديية Maison Dieu" الذي بنى في باريس في القرن السابع الميلادي.
لعدد الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات والأديرة، وللقصور الملكية الهائلة بعظمتها وفخامتها (48)؛ وإنك لتقرأ وصفه فلا تجد فيه إلا مدينة فاضلة (يوتوبيا)، إذا استثنيت عادتهم في قطع الأيدي لبعض الآثمين:
"الناس كثيرون وسعداء، فليس ثمة ما يلزمهم بتسجيل أفراد أسرهم، ولا ما يضطرهم إلى المثول بين أيدي القضاة أو الاستماع إلى ما يسنون من قوانين؛ ولم يكن بينهم من يدفع شيئاً سوى زراع الأرض الملكية، فهؤلاء يدفعون جزءاً من غلة الأرض؛ ولمن شاء أن يسافر أو يقيم حيث شاء؛ والملك يحكمهم لا يقتل منهم أحداً ولا ينزل بأحد منهم عقاباً، ولا يطالب المجرمون بأكثر من غرامة
…
وحتى في الحالات التي يتهم فيها الآثم بالثورة المتكررة التي يشق بها عصا الطاعة، لم يكن يحكم عليه بأكثر من قطع يده اليمنى
…
واذهب حيث شئت من أرجاء البلاد جميعاً فلن تجد أحداً يقتل كائناً حياً، أو يأكل البصل أو الثوم، إذا استثنيت قبيلة "شاندالا"
…
إنهم في تلك البلاد لا يربون الخنازير والطيور الداجنة ولا يبيعون الماشية حية، فلست ترى في أسواقهم دكاناً لقصاب ولا حانوتاً لبيع المسكرات" (49).
ولم يكد "فا- هين" يلحظ أن البراهمة، الذين كانوا من المغضوب عليهم لدى أسرة موريا الحاكمة منذ عهد "أشوكا" قد أخذوا يزدادون من جديد في ثرائهم ونفوذهم، في ظل التسامح الذي أبداه ملوك أسرة "جوبتا"، فأحيوا تقاليدهم الدينية والأدبية التي كانت قائمة قبل العهد البوذي، وإنهم كانوا يطورون اللغة السنسكريتية بحيث تصبح هي لغة التفاهم المشتركة بين العلماء في أنحاء الهند كلها: فقد كتبت الملحمتان الهنديتان العظيمتان، "ماهابهاراتا" و "رامايانا" في صورتهما الحاضرة (50) في ظل هؤلاء الملوك وبرعايتهم؛ وكذلك بلغ الفن البوذي في عهد أسرتهم ذروة مجده في النقوش الموجودة بكهوف "أجانتا"، وفي رأي عالم هندي معاصر أن "مجرد هذه الأسماء:"كاليداسا" و "فاراهاميهيرا" و "جنافارمان" و "فاشوباندو" و "أريابهاتا"
و "براهما جوبتا" يكفي ليجعل عصرهم ذاك أوج الثقافة الهندية" (51) ويقول "هَافِل": "في وسع المؤرخ المحايد أن يقول في غير إجحاف أن أعظم فوز ظفرت به الإدارة البريطانية للهند هو أن تعيد لتلك البلاد كل ما كانت قد بلغته في القرن الخامس الميلادي" (52)
لكن هذا العصر الزاهر للثقافة القومية قد اعترضته موجة من غزوات الهون التي كانوا يجتاحون بها إذ ذاك آسيا وأوربا، فيدمرون حضارة الهند وحضارة روما على السواء حيناً من الدهر؛ ففي الوقت الذي كان يجتاح فيه "أتلا" ربوع أوربا، كان "تورامانا" يستولي على "مالْوَا" كما كان "ميهيراجولا" الفظيع يطوح بملوك أسرة "جوبتا" من فوق عرشهم؛ وهكذا لبثت الهند قرناً كاملاً تتدهور إلى عبودية وفوضى؛ وبعدئذ جاء فرع من سلالة أسرة "جوبتا"، وهو فرع "هارشا- فارذانا"، وعاد فاستولى من جديد على الهند الشمالية، وابتنى عاصمة له في "كانوج" فأتاح لتلك المملكة الفسيحة سلاماً وأمنا مدى اثنين وأربعين عاماً، ازدهرت فيها مرة أخرى فنون البلاد وآدابها؛ وتستطيع أن تصور لنفسك عاصمتهم تلك "كانوج" من حيث اتساعها وفخامتها وازدهارها، إذا علمت هذه الحقيقة الآتية التي تعز على التصديق، وهي أن المسلمين حين أتوا عليها بالتخريب (سنة 1018 م) دمروا عشرة آلاف معبد (53)، ولم تكن حدائقها العامة الجميلة وأحواض السباحة المجانية فيها، إلا جزءاً ضئيلاً من حسنات الأسرة الجديدة؛ وكان "هارشا" نفسه أحد هؤلاء الملوك القلائل الذين يخلعون على الملكية مظهراً- ولو إلى حين- بحيث تبدو أفضل ألوان الحكم على اختلافها؛ فقد كان رجلاً له سحره وله جوانب كثيرة من الثقافة، فقرض شعراً وأنشأ مسرحيات لا تزال تقرأ في الهند حتى يومنا هذا، على أنه لم يسمح لهذه الصغائر أن تتدخل في إداراته الحازمة لمملكته، وفي ذلك يقول "يوان تشوانج":"كان لا يعرف الشعب، ويرى اليوم أقصر من أن يسد له مطالبه، حتى لقد نسي النوم في إخلاصه لأعمال الخير التي كان يقوم بإنشائها"(54) ولقد بدأ في ديانته عابداً
لـ "شيفا" لكنه تحول بعدئذ إلى العقيدة البوذية، وأصبح شبيهاً بـ "أشوكا" في حسناته التي صدر فيها عن تقواه؛ فحرم أكل الحيوان، وأقام محطات ينزل بها المسافرون في أرجاء ملكه جميعاً، وأنشأ ألوف الأضرحة البوذية على ضفاف الكنج.
ويروى لنا "يوان تشوانج"- وهو أشهر البوذيين من أهل الصين- وقد زار الهند، أن "هارشا" كان يعلن كل خمسة أعوام عن حفل عظيم لأعمال البر، كان يدعو إليه كل رجال الديانات على اختلافها، كما يدعو إليه كل الفقراء والمعوزين في مملكته، وكانت عادته في هذا الاجتماع أن يحسن على ملأ من الناس بكل الفائض عن حاجته في خزانة الدولة منذ الاحتفال الخمسي الماضي؛ ولكم دهش "يوانج" لما رأى مقداراً كبيراً من الذهب والفضة والنقود والجواهر والأثواب الدقيقة النسج والغلالات الموشاة، مكدساً أكواما في ميدان مكشوف يحيط به عشرات من الأروقة يضم كل منها ألف شخص؛ وكانت الأيام الثلاثة الأولى تخصص للطقوس الدينية، ثم يبدأ توزيع الصدقات في اليوم الرابع (لو أخذنا بما يقوله هذا الحاج وإنه لقول من العسير تصديقه)؛ وكانوا في ذلك الحفل يطعمون عشرة آلاف من الرهبان البوذيين، ويقدمون لكل منهم لؤلؤة وثياباً وأزهاراً وعطوراً ومائة قطعة من الذهب؛ وبعدئذ يعطون البراهمة من الصدقات ما يكاد يبلغ هذا المقدار، ثم يعطون الجانتيين صدقاتهم، ثم يعقبون على ذلك بسائر العقائد الدينية وبعد ذلك يحسنون على الفقراء واليتامى الذين جاءوا من كل ركن من أركان المملكة من غير رجال الدين؛ وكان التوزيع أحياناً يستغرق ثلاثة شهور أو أربعة؛ وفي ختام الحفل يخلع "هارشا" عن نفسه أرديته الثمينة ومجوهراته، ليضيفها إلى الصدقات (55).
وتدلنا مذكرات "يوان تشوانج" على أن الروح العقلي الذي ساد ذلك العصر كان روحاً من نشوة دينية؛ وهو يرسم لنا بمذكراته صورة رائعة تنم عن شهرة الهند إذ ذاك في سائر الأقطار؛ فهذا الصيني الأرستقراطي يغادر حياته المترفة الهينة في بلده النائي "تشانجان" ليعبر الصين الغربية التي لم تبلغ من الحضارة إلا مبلغاً ضئيلاً، ويمر بطشقند وسمرقند (التي كانت مدينة زاهرة إذ ذاك)، ثم يتسلق الهمالايا ليدخل الهند، يقيم ثلاثة أعوام يدرس دراسة المتحمس في جامعة الدير بمدينة "نالاندا"؛ ولما كان "يوان تشوانج" ذائع الصيت باعتباره عالماً وباعتباره إنساناً له مكانته الاجتماعية، فقد توجه إليه أمراء الهند بالدعوات؛ وسمع "هارشا" أن "يوان" كان في بلاط "كومارا" ملك أسام، فدعا "كومارا" إلى زيادة " كانوج " مستصحباً "يوان"، فرفض "كومارا" دعوته قائلاً أن "هارشا" يستطيع أن يفصل رأسه لكنه لا يستطيع أن يأخذ منه ضيفه؛ فأجابه "هارشا" قائلاً:"إنني لا أقلقك إلا ساعياً في سبيل رأسك" وجاءه "كومارا" وعندئذ أعجب "هارشا" بعلم "يوان" وأدبه، وأمر بأعيان البوذيين فعقدوا اجتماعاً أنصتوا فيه إلى "يوان" وهو يعرض عليهم مذهب "ماهايانا"؛ وعلق "يوان" قائمة بآرائه على باب الرواق الذي أعد للاجتماع والنقاش، وأضاف إلى تلك الآراء حاشية على طريقة ذلك العصر، يقول فيها:"إذا وجد أحد من الحاضرين هنا غلطة في تسلسل آرائي، واستطاع تفنيد قول من أقوالي، فله أن يبتر رأسي عن جسدي"؛ ودامت المناقشة ثمانية عشر يوماً، استطاع خلالها "يوان"(هكذا يقول يوان نفسه) أن يرد كل اعتراض، وأن يصد كل الزنادقة (وهناك رواية أخرى تقول أن معارضيه ختموا الاجتماع بإشعال النار في الرواق (56)؛ وبعد مغامرات كثيرة التمس "يوان" طريقه عائداً إلى بلده "تشانجان" حيث عمل إمبراطورها المستنير على صيانة الآثار البوذية في معبد فاخر، تلك الآثار البوذية التي أحضرها معه هذا الرحالة الورع،
الذي يشبه "ماركوبولو" في رحلاته؛ ثم عين له طائفة من العلماء يعاونونه على ترجمة المخطوطات التي اشتراها من الهند (57).
ومع ذلك كله، فقد كان هذا المجد الذي ازدهر به حكم "هارشا" مصطنعاً زائلاً، لأنه كان يعتمد على ملك واحد بما له من قدرة وسخاء، والملك يموت كما يموت البشر؛ فلما مات، اغتصب عرشه مغتصب وأبدى من الملكية وجهها الأقتم، وجاءت في أثره الفوضى، ثم دامت ما يقرب من ألف عام عانت الهند خلالها عصورها الوسطى- كما حدث لأوروبا- واجتاحها البرابرة، كما غزاها الغزاة ومزقوها وخربوها، فما عرفت للسلم والاتحاد طعماً إلا حين أدركها "أكبر" العظيم.
الفصل الرابع
أبناء راجبوتانا
ساموراي الهند - عصر الفروسية - سقوط شيتور
كانت ملحمة راجبوتانا بمثابة السراج الذي أضاء "العصر المظلم" أمداً قصيراً؛ ففي ذاك العهد قام في دويلات "موار" و "ماروار" و "عنبر" و "بيكانر" وكثير غيرها مما يرنّ بأسماء كهذه رنين النغمات، قام في هذه الدويلات شعب خليط، هو نتيجة تزاوج الوطنيين بالسُّكيَّت والهون الغزاة، وأقام مدينة إقطاعية تحت سلطان طائفة من الأمراء المقاتلين الذين جعلوا همهم فن الحياة أكثر مما جعلوه حياة الفن، وقد بدءوا بالاعتراف بسلطة الأسرتين الحاكمتين "موريا" و "جوبتا"، ثم انتهوا بعدئذ إلى الدفاع عن استقلالهم، ثم الدفاع عن الهند بأسرها في وجه الجموع المحتشدة من المسلمين الذين جاءوها زاحفين؛ وكانت قبائل هؤلاء الأمراء تتميز بشهامة عسكرية وشجاعة لا نعهدهما عادة في أهل الهند
(1)
؛ فلو جاز لنا أن نأخذ بما يقوله عنهم مؤرخهم "تود" المعجب بهم، فكل رجل من رجالهم كان " كشاتريَّاً " جريئاً (الكشاترية هي طبقة المقاتلين) وكل امرأة من نسائهم كانت بطلة مقدامة؛ بل إن اسم هذه القبائل، وهو "أهل راجبوت" معناه "أبناء الملوك"، فإن رأيتهم أحياناً يطلقون على بلادهم اسم "راجستان" فما ذاك إلا ليصفوها بأنها "مقر العنصر الملكي".
ولو نظرت إلى أنباء هذه الدويلات الباسلة لرأيت فيها كل ما جرينا على نسبته إلى "عصر الفروسية" من صفات الشجاعة والولاء والجمال والخصومات
(1)
لكن راجع ما يقوله "أريان" عن الهند القديمة، إذ يقول:"إن الهنود في الحروب كانوا أشجع بكثير من سائر الأجناس التي كانت تسكن آسيا في ذلك الوقت"
وقتل بعضهم بعضاً بالسم والاغتيال والحروب وخضوع المرأة وما إلى ذلك كله من عبث القول وتفخيم الوصف؛ فيقول "تود": "إن رؤساء راجبوت كانوا يتحلون بكل الفضائل التي عرف بها الرجل من فرسان الغرب، ثم هم يفوقونه بكثير من قدراتهم العقلية "(59) وكان لهم نساء جميلات لم يترددوا في الموت من أجلهن، وكانت المجاملة وحدها تحمل هؤلاء النساء على أن يصحبن أزواجهن إلى القبر مصطنعات طقوس قومهم في هذا الشأن؛ ومن هؤلاء النسوة فريق كان له حظ من التربية والتهذيب، كما كان بين الراجات شعراء وعلماء، حتى لقد شاع بينهم حيناً من الدهر ضرب رقيق من ضروب التصوير بألوان الماء على النمط الفارسي الوسيط، ولبثوا قروناً أربعة يزدادون في ثرائهم حتى بلغوا منه حداً استطاعوا معه أن ينفقوا عشرين مليوناً من الريالات على تتويج ملك المواريين (60).
وكان موضع فخرهم هو نفسه مأساتهم، وذلك أنهم يمارسون القتال على أنه أعلى ما تسمو إليه الفنون، لأنه الفن الوحيد الذي يليق بالسيد من أهل راجبوت ولقد مكنتهم هذه الروح الحربية من الصمود للمسلمين في بسالة يسجلها التاريخ
(1)
، لكن هذه الروح الحربية نفسها جعلت دويلاتهم الصغيرة على حال من الانقسام والضعف الناشئ عن مقاتلة بعضهم بعضاً، بحيث لم تعد شجاعتهم كلها قادرة على صيانة كيانهم في نهاية الأمر؛ وتقرأ ما يقوله "تود" في وصف سقوط شيتور- وهي إحدى عواصم الراجبوت- فتقرأ وصفاً لا يقل في خياله الشعري عن أية أسطورة من أساطير "أرثر" أو "شرلمان". ولما كان هذا الوصف مستمداً من مصدر واحد، وهو ما قاله المؤرخون الوطنيون الذين دفعهم إخلاصهم لوطنهم أن يحيدوا عن الصدق
(1)
يقول الكونت كيسلرنج عن شيتور: "لن تجد على ظهر الأرض مكاناًً شهد ما شهده هذا البلد من بطولة وفروسية وشهامة في مواجهة الموت".
فيما رووا، فلا شك أن هذه الأنباء العجيبة، "أنباء راجستان"، يجوز أن تكون ذات نزعة أسطورية تقرّبها من "موت أرثر"
(1)
أو "أنشودة رولان"، وفي رواية هؤلاء المؤرخين أن الفاتح المسلم علاء الدين لم يطلب شيتور لذاتها، بل سعياً للحصول على الأميرة "بودميني"
(2)
- "وهذا لقب تلقب به من كانت فاتنة بجمالها فتنة ليس بعدها مزيد"- وقد عرض الرئيس المسلم أن يرفع الحصار عن شيتور إذا قبل القائم بالحكم فيها نيابة عن الملك أن يسلم له الأميرة، فلما رفض طلبه هذا، عاد علاء الدين فعرض أن ينسحب إذا أتيح له أن يرى "بودميني"، وأخيراً وافق على الرحيل إذا مكّن له من رؤية "بودميني" في مرآة، لكنهم أبوا عليه حتى هذا، وبدل أن يجيبوا له رجاءه تضافرت نساء شيتور وانضممن إلى صفوف الدفاع عن مدينتهن، فلما رأى أهل راجبوت زوجاتهم وبناتهم يمتن إلى جوارهم، لبثوا يقاتلون حتى فني آخر رجل من رجالهم، حتى إذا ما دخل علاء الدين المدينة، لم يجد داخل أبوابها أثراً واحداً من آثار الحياة البشرية، فقد مات رجالها جميعاً في ميدان القتال، وأحرق زوجاتهم أنفسهن مصطنعات تلك الطقوس المخيفة التي كانت تعرف عندهم باسم "جوهور"(62).
(1)
هاتان القصيدتان مشهورتان من نتاج العصور الوسطى في أوربا. (المعرب)
(2)
هذه القصة لم ترد إلا في المصادر الهندية، وإنه لمن الخطأ الادعاء بأن مثل هذا الباعث المنحرف كان من دوافع فتح بعض أقاليم الهند. (الإدارة الثقافية).
الفصل الخامس
الجنوب في أوجه
ممالك الدكن - فيجايا ماجار - كرشنا رايا - مدينة عظمى
في العصر الوسيط - القوانين - الفنون - الدين - مأساة
كلما تقدم المسلمون في الهند تراجعت الحضارة الهندية نحو الجنوب خطوة بعد خطوة، حتى إذا ما دنت هذه العصور الوسطى من ختامها، كانت الدكن قد باتت بين أرجاء الهند تنتج أسمى ما تنتجه الحضارة الهندية؛ وكانت قبيلة "شاليوكا" قد استطاعت أن تكوّن نفسها مملكة مستقلة لبثت قائمة حيناً من الدهر، تمتد عبر الهند الوسطى، وكان لها من القوة والمجد في عهد "بولاكشين الثاني" ما تمكنت به من أن تهزم "هارشا" وأن تجذب إليها "يوان تشوانج" وأن تظفر من "خسرو الثاني" ملك الفرس بسفارة محترمة؛ وكذلك تمت في عهد "بولاكشين" وفي أرض مملكته أعظم التصاوير الهندية، وأعني بها نقوش أجانتا؛ ثم أسقط "بولاكشين" عن عرشه ملك الفلاويين الذي لبث حيناً قصيراً أعظم قوة في الهند الوسطى؛ وأما في أقصى الجنوب فقد أقام "البانداويون" ملكاً في عهد مبكر يقع في القرن الأول الميلادي، ويشتمل "مِدْراس" و "تِنِفلي" وبعض أجزاء" ترافانكور"؛ وقد جعلوا من مدينة "مادورا" بلداً من أجمل بلدان الهند في العصر الوسيط وزينوها بمعبد شامخ وبمئات من الآثار المعمارية الفنية الصغرى؛ ودار الزمن دورته فإذا هم كذلك يُشَّل عرشهم على أيدي "الكوليين" أولا ثم على أيدي المسلمين بعد ذلك؛ فأما "الكوليّون" فقد بسطوا سلطانهم على الجزء الواقع بين "مادورا" و "مِدْراس" ومن ثم مدوا أرجاءه تجاه الغرب إلى "ميسور"؛ ويمتد تاريخهم
إلى عهد بعيد في القِدَم، إذ ترى اسمهم مذكوراً في مراسيم "أشوكا"، لكننا لا ندري عنهم شيئاً حتى القرن التاسع حين بدءوا شوطاً طويلاً تملؤه الغزوات التي جاءتهم بأموال الجزية من الهند الجنوبية كلها بما في ذلك جزيرة سيلان؛ ثم اضمحل سلطانهم وانطووا تحت حكم أعظم الدويلات الجنوبية، وهي دولة "فيجاياناجار"
(1)
.
أن "فيجاياناجار"- وهو اسم يطلق على مملكة وعلى عاصمتها معاً- مَثلٌ حزين يساق للمجد الذي يعفى عليه النسيان؛ وقد كانت في أيام عزها تشتمل على الدويلات التي يحكمها الأهلون اليوم في جنوبي شبه الجزيرة، كما تشتمل على ميسور وعلى اتحاد مِدْراس بكل أجزائه؛ وحسبك إذا أردت أن تتصور ما كان لها من سلطان وثراء، أن تتذكر أن ملكها "كرشنارايا" زحف إلى موقعة تاليكونا بجيش قوامه 000 ر 703 من المشاة، و 600 ر 32 من الفرسان، و 551 فيلاً، يصحبهم ما يقرب من مائة ألف من التجار والبغايا وغير هؤلاء وأولئك ممن كانوا يصحبون معسكرات الجند في ذلك العصر إذا ما زحف الجيش في غزواته (63) ولقد حد من أوتوقراطية الملك قدر من الاستقلال الذاتي تمتعت به القرى، كما حد منها كذلك ملوك كانوا يظهرون آناً بعد آن، يتميزون عن سواهم بعقولهم المستنيرة وقلوبهم الرحيمة.
ولك أن تقارن "كرشنارايا" الذي حكم "فيجاياناجار" بمعاصرة هنري
(1)
في هذه المجموعة المتباينة من الممالك التي نكاد ننسى ذكرها اليوم، ترى فترات من الخلق الأدبي والفني، ومن الخلق المعماري بصفة خاصة؛ فقد كان لها عواصم غنية وقصور فاخرة وملوك أقوياء؛ لكننا إزاء الهند برقعتها الفسيحة وبتاريخها الطويل، لا يسعنا في هذه الفقرة المزدحمة بذكر الحوادث، إلا أن نمر برجال كانوا يظنون في عهودهم أنهم سادة الأرض كلها، لا يسعنا إلا نمر برجال كهؤلاء دون أن نذكر أسماءهم؛ خذ لذلك مثلاً "فكرامادتيا" الذي حكم الشاليوكيين مدى نصف قرن (1076 م- 1126 م) فقد بلغ من التوفيق في حروبه حداً جعله يفكر (مثل نيتشه) في أن يضع للعالم تاريخاًً زمنياًً جديداً يقسم التاريخ كله إلى ما قبل حكمه وما بعد حكمه؛ ومثل هذا الرجل قد أصبح اليوم حاشية تذكر في هامش الكتاب.
الثامن مقارنة ستكشف لك عن تفوقه على هنري الثامن الذي ما فتئ محباً للنساء لأنك سترى فيه ملكاً أنفق حياته في العدل والرحمة، وبسط كفه بالإحسان الغزير. وتسامح إزاء الديانات الهندية، وكان له شغف بالآداب والفنون فأيدها، وكان كريماً مع من سقط في يديه من أعدائه فعفا عنهم ولم يمس مدنهم بسوء، وانصرف بجهده كله حتى الإفراط، إلى شئون الحكم، ولقد كتب مبشر برتغالي- هو دومنجوزبيز سنة 1522 م- فوصفه بقوله:
"إنه بلغ أقصى ما يمكن لملك أن يبلغه من الهيبة والكمال وهو ذو مزاج بهيج وشديد المرح، ومن صفاته أنه لا يألو جهداً في تكريم الأجانب وفي الحفاوة بهم
…
إنه حاكم عظيم ورجل يغلب على أخلاقه العدل، ولكنه يثور بالغضب فجأة حيناً بعد حين
…
وهو بحكم منزلته أسمي منزلة من سائر الحاكمين، لما له من جيوش وسعة سلطان، لكنه فيما يبدو لم يكن في واقع الأمر يحظى بما كان ينبغي لرجل في مثل مكانته أن يحظى به؛ فهو من الشهامة والكمال في كل شئ بمكان"
(1)
.
وربما كانت العاصمة التي تأسست سنة 1336 م أغنى مدينة عرفتها الهند حتى ذلك الزمان؛ زارها "نيكولوكونتي" حول سنة 1420 م فقدر محيطها بستين ميلاً، ووصفها "بيز" فقال إنها "في اتساع روما وتراها العين فترى جمالاً خلاباً" ثم أضاف إلى ذلك قوله:"إن بها أحراشاً كثيرة من الشجر وقنوات مائية عدة" ذلك لأن مهندسيها قد أقاموا سداً ضخماً على نهر تنجابادرا وأنشئوا بذلك خزاناً ينتقل الماء منه إلى المدينة بقناة طولها خمسة عشر ميلاً، وقد كان الخزان منحوتاً في صخر أصم مدى عدة أميال؛ وقال "عبد الرزاق" الذي شهد المدينة سنة 1443 م أن فيها "ما لم تر مثيله في أي جزء من أجزاء العالم عين ولا سمعت بمثيله أذن" واعتبرها "بيز" "أوفر بلاد الدنيا مؤونة
…
ففيها من كل شئ وفرة" ويروى لنا أن عدد دورها قد أربى على مائة ألف،
(1)
كان بين هذه المقتنيات المتواضعة اثنتا عشرة ألف زوجة.
يسكنها نصف مليون من البشر، وتراه يدهش لقصر من قصورها كانت فيه غرفة بنيت كلها من العاج؛ "إنها من الثراء والجمال بحيث يكاد يستحيل أن تجد لها ضريباً في أي مكان آخر"(66).
ولما تزوج "فيروز شاه" سلطان دلهي من ابنة ملك "فيجاياناجار" في عاصمة هذا الأخير، فرشت الطرقات لمسافة ستة أميال بالمخمل والحرير ورقائق الذهب وغير ذلك من المواد النفيسة (67)، لكن أذكر مع ذلك أن كل رحالة كذاب.
وإذا ما نفذت ببصرك وراء هذا الستار من الغنى، وجدت شعباً من عبيد وفعلة يعيشون في مسبغة وخرافة، ويخضعون لتشريع اصطنع القسوة الوحشية ليصون بين الناس ضرباً منشوداً من ضروب الأخلاق التجارية، فكان العقاب يتراوح بين قطع الأيدي أو الأقدام وقذف المذنب إلى الفيلة وجذ رأسه ووضعه حياً على قضيب مدبب ينفذ خلال معدته، أو تعليقه على مشبك من أسفل ذقنه وتركه هكذا حتى يموت (68)، وهذه العقوبة الأخيرة كانت تنزل بالمغتصب أو بالسارق الذي يمعن في سرقته؛ وكان البغاء مسموحاً به، تنظمه القوانين بحيث تجعل منه مورداً من موارد العرش، ويقول (عبد الرزاق) إنه رأى "أمام دار السكة ديوان عميد المدينة الذي قيل عنه أنه يهيمن على اثني عشر ألفاً من رجال الشرطة، الذين تدفع لهم رواتبهم
…
مما يجبى من مواخير البغاء، وإنه لمما يعز على الوصف تصوير فخامة هذه الدور وجمال آهلاتها من الفاتكات بالقلوب، وما لهن من فتنة الحديث وحلاوة الغزل" (69)، وقد كان للمرأة عندهم منزلة دنيا، وكان عليها أن تقتل نفسها عند وفاة زوجها، فكانوا يتركونها أحياناً تلقي بنفسها حية في القبر (70).
وازدهر الأدب في عصر "ملوك الرايا"- أي ملوك فيجاياناجار-
ازدهر مكتوباً بالسنسكريتية القديمة وبلهجة "تلوجو" التي ينطق بها أهل الجنوب؛ وكان "كرشنارايا" نفسه شاعراً كما كان راعياً سخياً للآداب، وإنهم ليضعون أمير شعرائه "آلاساني بدانا" في الرعيل الأول من شعراء الهند كلها؛ وكذلك ازدهر التصوير وفن العمارة، فشيدت المعابد الضخمة، وزينت في كل جزء من أجزائها تقريباً بالتماثيل والنقوش البارزة؛ وكانت البوذية قد فقدت سلطانها على الناس، وحل محلها ضرب من البراهمية التي تقدس " فشنو " قبل تقديسها لغيره من الآلهة، وكانت البقرة عندهم مقدسة فلا تمتد إليها أيديهم بالذبح، ولهم أن يقدموا للآلهة قرابين من ضروب الماشية الأخرى ومن الطيور الداجنة، كما كان لهم أن يأكلوا لحوم هذه الصنوف؛ وبالجملة كان الدين قاسي الأحكام على حين كانت أخلاق التعامل بين الناس على شئ من التهذيب.
لكن هذا السلطان كله وهذا الترف كله قد انمحى بين عشية وضحاها، وأخذ المسلمون الغزاة يشقون طريقهم رويداً رويداً بين الجنوب، وتحالف سلاطين "بيجابور" و "احمد ناجار" و "جولكوندا" و "بدار" فركزوا قواهم جميعاً ليخضعوا هذا المعقل الأخير الذي تحصن فيه ملوك الهند الوطنيون، والتقت جيوشهم المتحالفة بجيش "راماراجا" الذي يبلغ عدده نصف المليون في موقعة "تاليكوتا" وكان الغلب للمغيرين بسبب كثرة عددهم، ووقع "راماراجا" في الأسر وقطع رأسه على مرأى من أتباعه، فدب الرعب في أنفس هؤلاء الأتباع ولاذوا بالفرار، لكن عدداً يقرب من مائة ألف منهم قتل في طريق الفرار حتى اصطبغت بدمائهم مجاري الماء؛ وراح الجنود الفاتحون ينهبون العاصمة الغنية، وكانت الغنائم من الكثرة بحيث "أصبح كل جندي بسيط من جنود الجيوش المتحالفة غنياً بما ظفر به من ذهب ومجوهرات ومتاع وخيام وسلاح وجياد ورقيق"(71) ودام النهب خمسة أشهر، جعل الظافرون خلالها يفتكون بمن لا حول لهم من الأهالي في وحشية لا تفرق بين إنسان وإنسان، وراحوا يفرغون المخازن والدكاكين، ويقوضون المعابد
والقصور، وبذلوا ما استطاعوا من جهد لإتلاف كل ما تحويه المدينة من تماثيل وتصاوير؛ وبعدئذ جاسوا خلال الشوارع يحملون المشاعل الموقدة فيشعلوا النار في كل ما يصلح وقوداً للنار، حتى إذا ما غادروا المدينة آخر الأمر، كانت " فيجاياناجار " قد باتت خراباً بلقعاً كأنما زلزل زلزلها فما أبقي منها حجراً على حجر؛ وهكذا كان الدمار فضيعاً لم يُبْق على شئ، يصوّر أدق تصوير غزو المسلمين للهند، ذلك الغزو الشنيع الذي كان قد بدأ قبل ذلك بألف عام، وبلغ حينئذ ختام مراحله
(1)
.
(1)
هذه الصور رسمها بالطبع كاتب لا ينظر إلى الموقف نظرة من يحسب حساباً لديانة جديدة تنتشر، فما هو في رأيه فظاعة وبشاعة قد يكون في حقيقته أشعة ضوء جديد ينفذ خلال الظلام فيقشعه. (المعرب)
الفصل السادس
الفتح الإسلامي
(1)
إضعاف الهند - محمود الغزنوي - سلطنة دلهي - انحرافاتها
الثقافية - سياستها الوحشية - عبرة التاريخ الهندي
لعل الفتح الإسلامي للهند أن يكون أكثر قصص التاريخ تلطخاً بالدماء
(2)
؛ وإن حكاية الفتح لمما يبعث اليأس في النفوس لأن مغزاها الواضح هو أن المدنية مضطربة الخطى، وأن مُركبَّها الرقيق الذي قوامه النظام والحرية، والثقافة والسلام، قد يتحطم في لحظة على أيدي جماعة من الهمج تأتي من الخارج غازية
(3)
، أو تتكاثر في الداخل متوالدة؛ فهؤلاء هم الهندوسيون قد تركوا أنفسهم للانقسام والقتال الداخليين يفتان في عضدهم، واتخذوا لأنفسهم البوذية والجانتية ديناً، فأخمد مثل هذا الدين جذوة الحياة في قلوبهم بحيث عجزوا عن الصمود لمشاقها؛ ولم يستطيعوا تنظيم قواهم لحماية حدودهم وعواصمهم وثروتهم وحريتهم من طوائف السُّكيَّت والهون والأفغان والأتراك الذين ما فتئوا يجوبون حول حدود البلاد يرقبون ضعف أهلها لينفذوا إلى جوفها، فكأنما لبثت الهند أربعة قرون (من 600 إلى 1000 م) تغري الفاتحين بفتحها، حتى جاءهم هذا الفتح حقيقة واقعة آخر الأمر.
وكانت أول هجمة للمسلمين إغارة عابرة منهم على "ملطان" التي تقع في الجزء الغربي من البنجاب (سنة 664 م)، ثم وقعت من المسلمين إغارات أخرى شبيهة بهذه كان فيها النجاح حليفهم مدى الثلاثة القرون التالية، حتى انتهى بهم الأمر إلى توطيد سلطانهم في وادي نهر السند في نحو الوقت الذي
(1)
في هذا الفصل تحامل ظاهر على الفتح الإسلامي للهند، لكننا مضطرون إلى تركه كما هو لتناوله المؤرخون بالرد، وليقرأه القارئون قراءة النقد لا قراءة التسليم. (المعرب)
(2)
إن المنهج العلمي الأمين يرفض مثل هذه الإطلاقات، ويرفض استعمال أفعل التفضيل بهذه البساطة، وإلقاء القول على عواهنه دون بينة حاسمة أكيدة
…
وليس من المنتظر أن يكون هناك حرب دون دماء، وقد شهد التاريخ في أزمنة وأمكنة متعددة، حتى في العصر الحديث سفك دماء أكثر مما سفك في الفتح الإسلامي للهند
…
(3)
إن حقائق التاريخ تعرف أن المسلمين حين فتحوا الهند لم يكونوا "جماعة من الهمج" ولو كانوا كذلك لما تركوا آثارهم الواضحة على حضارة الهند، مما أوضحه كبار مثقفي الهنود من غير المسلمين مثل الزعيم نهرو في كتاباته التاريخية. (الإدارة الثقافية)
كان زملاؤهم في الدين يقاتلون في الغرب موقعة "تور"(732 م) ليخلصوا منها إلى فرض سيادتهم على أوربا، على أن الفتح الإسلامي الحقيقي للهند لم يقع إلا بعد نهاية الألف عام الأولى من التاريخ الميلادي.
ففي سنة 997 م تولى شيخ من الشيوخ الأتراك يسمى محمود سلطنة دولة صغيرة؛ تقع في الجزء الشرقي من أفغانستان، وهي دولة غزنة؛ وأدرك محمود أن ملكه ناشئ وفقير، ورأى الهند عبر الحدود بلداً قديماً غنياً، ونتيجة هاتين المقدمتين واضحة؛ فزعم لنفسه حماسة دينية تدفعه إلى تحطيم الوثنية الهندوسية، واجتاح الحدود بقوة من رجاله تشتعل حماسة بالتقوى التي تطمع في الغنيمة، والتقى بالهندوسيين آخذاً إياهم على غرة في "بهمناجار"، فقتلهم ونهب مدائنهم وحطم معابدهم وحمل معه كنوزاً تراكمت هناك على مر القرون؛ حتى إذا ما عاد إلى غزنة، أدهش سفراء الدول الأجنبية بما أطلعهم عليه من "الجواهر واللآلئ غير المثقوبة والياقوت الذي يتلألأ كأنه الشرر، أو كأنه النبيذ جمده الثلج، والزمرد الذي أشبه غصون الريحان اليانعة، والماس الذي ماثل حب الرمان حجماً ووزناً"(72)؛ وكان محمود كلما أقبل شتاء هبط على الهند وملأ خزائنه بالغنائم، وأمتع رجاله بما أطلق لهم من حرية النهب والقتل، حتى إذا ما جاء الربيع عاد إلى عاصمة بلاده أغنى مما كان؛ وفي "ماثورة"(على جمنه) أخذ من المعبد تماثيله الذهبية التي كانت تزدان بالأحجار الكريمة؛ وأفرغ خزائنه من مكنونها الذي كان يتألف من مقادير كبيرة من الذهب والفضة والجواهر؛ وأعجبه فن العمارة في ذلك الضريح العظيم، ثم قدر أن بناء مثله يكلف مائة مليون دينار وعملاً متصلاً مدى قرنين، فأمر به أن يغمس في النفط، وأن يترك طعاماً للنار حتى أتت عليه (73)، وبعد ذلك بستة أعوام، أغار على مدينة غنية أخرى تقع في شمال الهند، وهي مدينة "سمنة" فقتل سكانها جميعاً وعددهم خمسون ألف نسمة، وحمل كنوزها إلى غزنة؛ ولعله في نهاية أمره قد أصبح أغنى ملك عرفه التاريخ؛ وكان أحياناً يبقي على سكان المدن المنهوبة ليأخذهم معه إلى وطنه فيبيعهم هناك رقيقاً، لكن هؤلاء
الأسرى بلغوا من الكثرة حداً أدي بهم إلى البوار بعد بضعة أعوام، بحيث يتعذر أن تجد من يدفع أكثر من شلنات قليلة ثمناً للعبد من هؤلاء؛ وكان محمود كلما هم بعمل حربي هام، جثا على ركبتيه مصلياً يدعو الله أن يبارك له في جيشه؛ وظل يحكم ثلث قرن، فلما جاءته منيته، كان قد أثقلته السنون ودواعي الفخار، فوصفه المؤرخون المسلمون بأنه أعظم ملوك عصره، ومن أعظم الملوك في كل العصور (74).
فلما رأى سائر الحكام المسلمين ما خلعه التوفيق من جلال على هذا اللص
(1)
العظيم، حذوا حذوه، ولم يستطيع أحد منهم أن يبزه في خطته؛ ففي عام 1186 م قامت قبيلة تركية من الأفغانستان، وهي قبيلة الغوريين، بغزو الهند والاستيلاء على دلهي، وخربوا معابدها وصادروا أموالها ونزلوا بقصورها ليؤسسوا لأنفسهم بذلك سلطنة دلهي - وهي سلطنة استبدادية وفدت إلى البلاد من خارج، وجثمت على شمالي الهند ثلاثة قرون، لم يخفف من عبئها إلا حوادث الاغتيال والثورة؛ وكان أول هؤلاء السلاطين الأشرار هو "قطب الدين أيبك" الذي يعد نموذجاً سوياً لنوعه - فهو متهوس في تعصبه غليظ القلب لا يعرف الرحمة؛ ويروي لنا عنه المؤرخ المسلم فيقول أن عطاياه "كانت توهب بمئات الألوف، وقتلاه كانوا كذلك يعدون بمئات الألوف ففي قصر واحد ظفر به هذا المحارب "الذي كان قد بيع عبدا "وضع في أغلال الرق 50 ألف رجل واسودت بطاح الأرض بالهنود"(75)؛ وكان "بَلْبان"- وهو سلطان آخر- يعاقب الثائرين وقطاع الطرق برميهم تحت أقدام الفيلة، أو ينزع عنهم جلودهم، ثم يحشو هذه الجلود بالقش ويعلقها على أبواب دلهي؛ ولما حاول بعض السكان المنغوليين الذين كانوا قد استوطنوا دلهي واعتنقوا الإسلام، أن يقوموا بثورة، أمر السلطان علاء الدين (فاتح شيتور) بالذكور جميعاً- ويقع عددهم بين خمسة عشر ألفاً وثلاثين ألفاً-
(1)
إن شريعة الحرب تجيز إضعاف العدو مادياً ومعنوياً بكل سبيل، وليس من الإنصاف تلوين الفتح الإسلامي للهند بأنه كان سلباً ونهباً مثلما ورد في هذا الموضع، إن وصف السلطان الغزنوي بهذا الوصف هو غبن لهذا الفاتح العظيم. (الإدارة الثقافية)
فقتلوا في يوم واحد؛ وجاء السلطان محمود بن طغلق فقتل أباه وتولى العرش من بعده، وقد أصبح في عداد العلماء الأعلام والأدباء أصحاب الأسلوب الرشيق، فدرس الرياضة والطبيعة والفلسفة اليونانية، ولكنه مع ذلك بز أسلافه في سفك الدماء وارتكاب الفظائع، من ذلك أنه جعل من ابن أخ له ثار عليه طعاماً أرغم زوجة القتيل وأبناءه على أكله؛ وأحدث في البلاد تضخماً مالياً باستهتاره فجلب الدمار إلى البلاد، وتركها خراباً بما أجراه فيها من نهب وقتل، حتى لقد لاذ سكانها بالفرار إلى الغابات، ولقد أوغل في قتل الهنود حتى قال عنه مؤرخ مسلم:"إن أمام رواقه الملكي وأمام محكمته المدينة لم يخل المكان قط من أكداس الجثث، حتى لقد مل الكناسون والجلادون، وأتعبهم جر الأجساد - أجساد الضحايا- لأعمال القتل فيهم زرافات"(76)؛ ولما أراد أن ينشئ عاصمة جديدة في "دولة أباد" أخرج سكان دلهي من بلدهم لم يبق منهم أحداً، وخلف المدينة قفراً يباباً؛ وسمع أن رجلاً أعمى قد ظل مقيماً في دلهي، فأمر به أن يجر على الأرض من العاصمة القديمة إلى العاصمة الجديدة، ولما بلغوا بالمسكين آخر رحلته لم يكن قد بقى من جسده إلا ساق واحدة (77) وشكا السلطان من نفور الشعب منه وعدم اعترافهم بعدله الذي لم ينحرف عن جادة السبيل.
وظل يحكم الهند ربع قرن ثم وافته منيته وهو في فراشه؛ وتبعه "فيروز شاه" فغزا البنغال، ووعد أن يكافئ كل من جاءه برأس هندي، حتى لقد دفع في ذلك مكافآت عن مائة وثمانين ألفاً من الرؤوس، وأغار على القرى الهندية طلباً للرقيق، ومات وهو شيخ معمر، بلغ من العمر ثمانين عاماً؛ وجاء السلطان احمد شاه، فكان يقيم الحفلات ثلاثة أيام متوالية كلما بلغ القتلى في حدود ملكه من الهنود العزل عشرين ألفاً في يوم واحد (78).
وكثيراً ما كان هؤلاء الحكام رجالاً ذوي قدرة، كما كان أتباعهم يمتلئون بسالة جريئة ونشاطاً؛ وبغير هذا الفرض فيهم لا نستطيع أن نفهم كيف أتيح
لهم أن يصونوا ملكهم وسط شعب معاد لهم ويفوقهم عدداً بنسبة كبيرة؛ وكانوا جميعاً مسلحين بعقيدة دينية حربية النزعة لكنها أسمى بكثير في توحيدها الجاد من كل المذاهب الدينية الشائعة إذ ذاك في الهند؛ ولقد عملوا على طمس ما لعقيدتهم تلك من ظاهر جذاب، بأن أرغموا الهنود على عدم القيام بشعائر دينهم علناً، وبهذا مهدوا للهنود طريق الانغماس في صميم الروح الهندية إلى أعماقها؛ وكان لبعض هؤلاء الحكام المستبدين العطشى للطغيان ثقافة إلى جانب ما كان لهم من قدرة، فرعوا الفنون وهيئوا سبل العيش لرجال الفن والصناعة- وهؤلاء عادة من أصل هندي- بأن استخدموهم في بناء المساجد والأضرحة الفخمة؛ وكذلك كان بعضهم علماء يمتعهم أن يحاوروا المؤرخين والشعراء ورجال العلوم؛ ولقد صحب محموداً الغزنوي إلى الهند عالم من أعظم علماء آسيا، وهو البيروني وهناك كتب استعراضاً علمياً عن الهند قريب الشبه بكتاب "التاريخ الطبيعي" لمؤلفه "بِلْني" وكتاب "الكون""الهمبولت" وكان للمسلمين مؤرخون يكادون يبلغون عدد ما كان لهم من قادة الجيش، ولم يقلوا عنهم في حبهم لسفك الدماء والحرب؛ وأما السلاطين فقد ابتزوا من الشعب كل ما في مستطاع الناس أن يدفعوه من مال على سبيل الجزية، واصطنعوا في ذلك الوسائل العتيقة في فرض الضرائب، كما لجاءوا أيضا إلى السرقة الصريحة، لكنهم كانوا يقيمون في الهند وينفقون غنائمهم تلك في الهند، فأعادوا إلى الحياة الاقتصادية في الهند ما استلبوه منها؛ ومهما يكن من أمر فقد كانت وسائلهم الإرهابية واستغلالهم للناس مما زاد من إضعاف البنية الهندية وإضعاف الروح المعنوية بين الهنود، وهو إضعاف عمل عليه قبل ذلك مناخ البلاد المنهك للقوى وقلة ما يأكلونه من طعام، وتمزق البلاد من الوجهة السياسية والنظرة المتشائمة التي توحي بها دياناتهم.
وقد رسم علاء الدين تخطيطاً واضحاً للسياسة التي جرى عليها السلاطين في
معظم الأحيان، وذلك أنه طلب إلى مستشاريه أن يسنوا "قواعد وقوانين يكون من شأنها أن تسحق الهنود سحقاً، وأن تسلبهم تلك الثروة وهاتيك الكنوز التي كانت تولد في نفوسهم البغضاء والثورة"(80)؛ فكانت الحكومة تستولي على نصف مجموع المحصول الزراعي، بعد أن كان الحكام الوطنيون قبل ذلك يستولون من ذلك المحصول على سدسه فقط؛ يقول مؤرخ مسلم: "لم يستطيع هندي أن يرفع رأسه، ولم تكن لترى في دورهم أثراً لذهب أو فضة
…
بل لم تكن لترى هناك شيئاً مما يزيد عن ضرورات الحياة
…
وكانوا يجبرون على دفع الضريبة باللطمات وتقييد الأقدام والشد بالأغلال والزج في السجن"، وكان علاء الدين إذا ما احتج مستشاريه على سياسته هذه، أجابه بقوله: "أيها الفقيه، إنك متبحر في العلم لكنك خلو من الخبرة، أما أنا فلا علم عندي لكني رجل محنك؛ فكن على يقين أن الهنود لن يذلوا أو يطيعوا حتى ننزل بهم الفقر، ولهذا أصدرت أمري بألا يترك في أيديهم إلا الضروري لحفظ الحياة مما يجمعونه عاماً بعد عام من محصول الغلال واللبن والجبن، وألا يسمح لهم قط بادخار الأموال والأملاك" (81).
وفي هذا سر التاريخ السياسي للهند الحديثة؛ فقد مزقها الانقسام حتى جثت أمام الغزاة ثم أفقرها هؤلاء الغزاة فأفقدوها قوة المقاومة، فاستجارت من هذا البلاء بعزاء في الحياة الآخرة، ومن هنا راحوا يؤمنون بأن السيادة والعبودية كلاهما وهم زائل، ويعتقدون بأن حرية البدن أو حرية الأمة لا تكادان تستحقان الجهاد في مثل هذه الحياة القصيرة؛ والعبرة المرة التي نستخلصها من هذه المأساة هي أن اليقظة الساهرة أبداً هي ضمان دوام المدنية؛ فالأمة ينبغي أن تحب السلام، لكنها يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد للقتال.
الفصل السابع
أكبر العظيم
(1)
تيمورلنك، بابور - هميون، أكبر، حكومته - شخصيته -
رعايته للفنون - تحمسه للفلسفة - حسن علاقته بالهندوسية
والمسيحية - ديانته الجديدة - أكبر في أخريات أيامه
إن من طبيعة الحكومات أن يصيبها الانحلال، لأن القوة- كما قال شلي- تسمم كل يد تمسها (82) فقد أدي إسراف سلاطين دلهي إلى فقدانهم تأييد الهنود لهم، بل فقدانهم تأييد أتباعهم من المسلمين كذلك؛ حتى إذا ما أغارت على البلاد جيوش مغيرة جديدة من الشمال، مني هؤلاء السلاطين بالهزيمة بغير عناء كما كانوا هم أنفسهم قد كسبوا الهند بغير عناء.
وأول من انتصر عليهم في ذلك هو "تيمورلنك" الذي كان قد اعتنق الإسلام ليتخذ منه سلاحاً ماضياً، كما قد أعد لنفسه قائمة أنساب ترده إلى "جنكيز خان" لكي يعينه ذلك على كسب طائفة المغول إلى جانبه؛ فلما أن فرغ من استيلائه على عرش سمرقند، ولم يزل يحس الرغبة في مزيد من الذهب، أشرقت عليه فكرة مؤداها أن الهند لم تزل حينئذ مليئة بالكفار، لكن قواده كانوا يعلمون بسالة المسلمين، فلم يذهبوا معه في الرأي، موضحين له أن الكفار الذين يمكن الوصول إليهم من سمرقند، كانوا بالفعل تحت الحكم الإسلامي، ثم أفتى له الفقهاء العلماء بالقرآن بآية تبعث الحماسة في الصدور وهي:"يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"(83) فما هو إلا أن عبر تيمور نهر السند (1398 م) وقتل أو استعبد كل من وقعت عليهم يداه من السكان فلم يستطيعوا الفرار منه، وهزم جيوش السلطان محمود طغلق
(1)
في الوقت الذي اشتط فيه المؤلف بتجنيه على المسلمين- فيما تقدم- بغير سند أو حجة، نراه هنا- وهو في معرض الحديث عن "سلاطين دلهي" يقصر تقصيراً معيباًً في بيان آثارهم الإصلاحية، ويكتفي بالإشارة العابرة إليهم وإلى أتباعهم، دون أن يسعف القارئ بكلمة عن هؤلاء السلاطين وكيف قاموا، وعن هؤلاء المسلمين وكيف ظهروا!!! (الإدارة الثقافية)
واحتل دلهي، وذبح مائة ألف من الأسرى ذبحاً متعمداً، وسلب من المدينة كل أموالها التي كانت الأسرة الأفغانية المالكة قد كدستها هناك، وحملها معه إلى سمرقند، مستصحباً كذلك عدداً كبيراً من النساء والعبيد، تاركاً وراءه الفوضى والمجاعة والوباء (84).
وعاد سلاطين دلهي فاعتلوا عرشهم، واستغلوا الهند قرناً آخر من الزمان، حتى جاءهم الفاتح الحقيقي، وهو "بابور" الذي أسس أسرة المغول
(1)
العظيمة وهو يشبه الإسكندر كل الشبه في شجاعته وجاذبيته، ولما كان سليل تيمور وجنكيز خان معاً، فقد ورث كل ما اتصف به هذان الحاكمان- اللذان ألهبا آسيا- من قدرة، دون أن يرث ما كان لهما من غلظة القلب؛ وكان يعاني من فيض نشاط في جسده وعقله، فطفق يقاتل ويخرج للصيد وللرحلة دون أن يروى بذلك غلته، ولم يكن عليه عسيراً أن يقتل بمفرده خمسة أعداء في خمس دقائق (87)، وحدث أن قطع في يومين مائة وستين ميلاً وهو راكب على ظهر جواده، ثم واصل مجهوده ذاك فسبح نهر الكنج مرتين كأن الرحلة لم تكفه دليلاً على نشاطه؛ ولقد قال وهو في أواخر سنيه أنه منذ عامه الحادي عشر لم يصم رمضان مرتين في مكان واحد (88).
وله "ذكريات" يستهلها بقوله: "لما بلغت من العمر اثني عشر عاماً أصبحت حاكماً على فرغانة"(89) ولما بلغ الخامسة عشرة حاصر سمرقند واستولى عليها، ثم ضاعت من يده لعجزه عن دفع رواتب جنده، واعتلّت صحته حتى أوشك على الموت، واعتصم بالجبال حيناً، ثم عاد إلى المدينة فاستولى عليها بقوة قوامها مائتان وأربعون رجلاً، وعاد من جديد ففقدها بخيانة غادر؛ فاختبأ في غمرة من الفقر عامين، حتى لقد فكر في نفض يده
(1)
"المغول" و "المنغول" اسمان على مسمى واحد؛ والمغول في حقيقة أمرهم أتراك، لكن الهنود كانوا يسمون- ولا يزالون يسمون- المسلمين الشماليين (ماعدا الأفغان) بالمغول وكلمة "بابور" كنية منغولية معناها أسد، أما الاسم الحقيقي لأول إمبراطور مغولي سيطر على الهند فهو زهير الدين محمد.
من حياة الجهاد مكتفياً بحياة الفلاحة في حقول الصين؛ لكنه عاود نفسه فنظم جيشاً جديداً وأبدى من الشجاعة ما ألهب الشجاعة في نفوس جنده واستولى على كابل وهو في عامه الثاني والعشرين من عمره، بعد أن أنزل الهزيمة الساحقة بجيش السلطان إبراهيم في موقعة بانبات، وقوامه مائة ألف جندي، مع أن جيشه لم يزد على اثني عشر ألفاً، ومعهم عدد من حر الجياد؛ وقتل الأسرى ألوفاً ألوفاً، واستولى على دلهي، وأسس بها أعظم وأكرم أسرة أجنبية مما حكم الهند من أجانب؛ وأخيراً نعم بحياة وادعة أربعة أعوام، كان يقرض فيها الشعر ويكتب ذكرياته، ومات في سن السابعة والأربعين بعد أن عاش قرناً كاملاً إذا عدت السنون بما فيها من نشاط وتجربة.
وكان ابنه "هميون" من الضعف والتردد والإدمان في الأفيون بحيث لم يستطع أن يتابع السير في طريق أبيه "بابور"، فهزمه "شرشاه" وهو من شيوخ الأفغان، في موقعتين دمويتين، واستعاد حيناً من الدهر سلطة الأفغان في الهند؛ ولئن كان "شرشاه" قديراً على القتل في أحسن صوره الإسلامية، إلا أنه كذلك أعاد بناء دلهي في ذوق معماري جميل، وأقام في إدارة الحكم إصلاحات مهدت السبيل للحكم المستنير الذي تم على يدي "أكبر"؛ وبعد أن تولى الملك شاهان قليلاً الشأن مدى عشرة أعوام، نظم "هميون" قوة في فارس، بعد اثني عشر عاماً قضاها في صعاب وتجواب، ثم عاد إلى الهند واستعاد العرش، لكنه لم يلبث بعد ذلك إلا ثمانية أشهر، إذ سقط من شرفة مكتبته فقضى نحبه.
وكانت زوجته قد أنجبت له أثناء نفيه وفقره ولداً أسماه (محمداً) تبركاً بهذا الاسم، لكن الهند أطلقت عليه "أكبر"- ومعناها "البالغ في عظمته حداً بعيداً"- ولم يدخروا من وسعهم شيئاً لتنشئته رجلاً عظيماً، بل إن أسلافه قد تعاونوا على اتخاذ التدابير كلها ليبلغوا به قمة العظمة، ففي عروقه تجري دماء "بابور" و "تيمور" و"جنكيز خان" وأعد له المُربّون في كثرة، لكنه رفضهم جميعاً وأبى أن يتعلم القراءة؛ وأخذ يعد نفسه بدل ذلك لتولي
المُلك بالرياضة الخطرة التي ما فتئ يرتاضها، فأصبح فارساً يتقن ركوب الخيل إلى حد الكمال، وكان يلعب بالكرة والصولجان لعب الملوك، ومهر في فن سياسة الفيلة مهما بلغت من حدة الافتراس، ولم يتردد قط في ارتياد الغابة لصيد الأُسْد والنمور وفي تحمل المشاق مهما بلغ عناؤها، وفي مواجهة المخاطر كلها بشخصه؛ ولكي يكون تركياً أصيلاً، لم يضعف ضعف الإناث فيمج طعم الدماء البشرية؛ من ذلك أنه لما كان في عامه الرابع عشر، دعي ليظفر بلقب "غازي"- ومعناها قاتل الكفار- بأن قدموا له أسيراً هندياً ليقتله فبتر رأس الرجل بتراً في لمحة سريعة وبضربة واحدة من حسامه؛ تلك كانت البدايات الوحشية لرجل كتب له أن يكون من أحكم وأرحم وأعلم من عرفهم تاريخ الدنيا من ملوك
(1)
.
لما بلغ الثامنة عشرة من عمره تسلم مقاليد الأمور من يد الوصي على عرشه، وكانت رقعة ملكه تمتد حينئذ فتشمل أكثر من ُثمن مساحة الهند كلها- فهي شريط من الأرض يبلغ عرضه نحو ثلاثمائة ميل، ويمتد من الحدود الشمالية الغربية عند ملطان إلى بنارس في الجانب الشرقي؛ وامتلأ بما كان يمتلئ به جده من حماسة وجشع، فشرع يوسع هذه الحدود، واستطاع بسلسلة من الحروب التي لم تعرف الرحمة أن يبسط سلطانه على الهندستان كلها، ماعدا مملكة راجبوت التي تخضع لأسرة موار؛ فلما عاد إلى دلهي نزع عن نفسه السلاح، وكرس جهده لإعادة تنظيم حكومة ملكه؛ وكان سلطانه مطلقاً فهو الذي يعين الرجال للمناصب الهامة كلها، حتى ما يقع منها في الأقاليم النائية؛ وكان معاونوه الأساسيون أربعة: رئيس الوزراء ويسمى "فقيراً"، ووزير المالية ويسمى "وزيراً"، وأحياناً يسمى "ديواناً"،
(1)
عرف قيمة الكتب في مرحلة متأخرة من حياته، ولما لم يكن قد تعلم القراءة، فقد كان ينصت لغيره ساعات وهو يقرأ له، وكثيراً ما كانوا يقرءون له كتباً صعبة معقدة، حتى أصبح في نهاية الأمر عالماً لا يقرأ، يحب الآداب والفنون، ويؤيدهما بسخاء الملوك.
ورئيس للقضاء ويسمى "بخشي" ورئيس للديانة الإسلامية ويسمى "صدراً"؛ وكان كلما ازداد حكمه استقراراً ورسوخاً في القلوب، قل اعتماده على القوة الحربية، مكتفياً بجيش دائم من خمسة وعشرين ألفاً، فإذا ما نشبت حرب، زادت هذه القوة المتواضعة بمن يجندهم الحكام العسكريون في الأقاليم- وهو نظام متصدع الأساس كان من عوامل سقوط الإمبراطورية المغولية في حكم "أورنجزيب"
(1)
وفشت الرشوة والاختلاس بين هؤلاء الحكام ومعاونيهم، حتى لقد انفق "أكبر" كثيراً من وقته في مقاومة هذا الفساد؛ واصطنع الاقتصاد الدقيق في ضبط نفقات حاشيته وأهل أسرته، فحدد أسعار الطعام وسائر الأشياء التي كانت تشترى لهم، كما حدد الأجور التي تدفع لمن تستخدمهم الدولة في شئونها؛ ولما مات، ترك في خزينة الدولة ما يعادل بليون ريال، وكانت إمبراطوريته أقوى دولة على وجه الأرض طرًّا (90).
كانت القوانين والضرائب كلاهما قاسياً، لكنهما كانا مع ذلك أقل قسوة منهما قبل ذلك العهد، فقد كان مفروضاً على الفلاحين أن يعطوا الحكومة مقداراً من مجموع المحصول يتراوح بين السدس والثلث، حتى لقد بلغت ضريبة الأراضي في العام ما يساوي مائة مليون ريال؛ وكان الإمبراطور يجمع في شخصه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ وكان إذا ما جلس في كرسي القضاء الأعلى، أنفق الساعات الطوال ينصت إلى أقوال المتخاصمين في القضايا الهامة؛ وكان من قوانينه تحريم زواج الأطفال وتحريم إرغام الزوجة على قتل نفسها عند موت زوجها، وأجاز زواج الأرامل، ومنع استرقاق الأسرى وذبح الحيوان للقرابين، وأطلق حرية العقيدة للديانات كلها، وفتح المناصب
(1)
كان الجيش معداً بخير سلاح عرفته الهند حتى ذلك الحين، لكنه كان في هذه الناحية أقل إعداداً من جيوش أوربا إذ ذاك، وفشل "أكبر" في محاولته الحصول على بنادق خير من بنادق جيشه، فتظافر سوء معدات القتل في جيشه مع انحلال خلفه من بعده، على تيسير الفتح الأوربي للهند.
لذوي الكفاءة مهما يكن من أمر عقيدتهم أو جنسهم، ومنع ضريبة الرءوس التي كان الحكام الأفغان يفرضونها على الهندوسيين الذين يأبون الدخول في الإسلام (91)، وكان تشريعه في بداية حكمه يبيح عقوبات من قبيل بتر الأعضاء، أما في نهاية عهده فربما بلغ التشريع في بلاده من الرقي ما لم تبلغه أية حكومة أخرى في القرن السادس عشر؛ إن كل دولة تبدأ بالعنف ثم تأخذ في طريق الملاينة الذي ينتهي إلى الحرية (ذلك إن أمنت على نفسها الخطر).
لكن قوة الحاكم كثيراً ما تكون ضعفاً في حكومته، فقد كان بناء الحكم قائماً إلى حد كبير على "أكبر" بما كان له من صفات عقلية وخلقية ممتازة، ولذلك كان من البديهي أن يتعرض كل ذلك للانهيار بعد موته؛ وبالطبع قد تحلى بمعظم الفضائل ما دام قد استأجر معظم أقلام المؤرخين: فكان خير رياضي وخير فارس وخير محارب بالسيف، ومن خيرة المهندسين في فن العمارة، وكان كذلك أجمل رجل في البلاد كلها، أما الواقع فإنه كان طويل الذراعين، مقوس الساقين، ضيق العينين كسائر المنغوليين، رأسه يميل نحو اليسار، وفي أنفه ثؤلول (زائدة جلدية)(93)، لكنه كان يكتسب شكلاً محترماً بنظافته ووقاره وهدوئه وعينيه اللامعتين اللتين كانتا تتلألآن (كما يقول أحد معاصريه):"تلألأ البحر في ضوء الشمس" أو كانتا تشتعلان على نحو ترتعد له فرائص المعتدي كما حدث لفاندام أمام نابليون، كان ساذج الثياب، يغطي رأسه بغطاء مزركش، ويرتدي صدراً وسراويل، ويرصع نفسه بالجواهر، ويترك قدميه عاريتين؛ وكان لا يميل كثيراً إلى أكل اللحم، ثم امتنع عنه امتناعاً تاماً تقريباً في أواخر سنيه قائلاً "إنه لا يجمل بالإنسان أن يجعل من معدته مقبرة للحيوان" ومع ذلك فقد كان قوي الجسد قوي الإرادة، وبرع في كثير من أنواع الرياضة التي تحتاج إلى حركة ونشاط، واستخف بستة وثلاثين ميلاً يمشيها في يوم واحد، وكان يحب اللعب بالكرة والصولجان
حباً حدا به أن يخترع كرة منيرة ليتمكن اللاعبون من القيام بلعبتهم هذه في ظلمة الليل؛ وورث من أسلافه في أسرته ميولها الاندفاعية القوية، وكان في شبابه (مثله في ذلك مثل معاصريه من المسيحيين) قادراً على حل مشكلاته بالاغتيال؛ لكنه راضَ نفسه شيئاً فشيئاً على أن يجلس على بركان نفسه- على حد تعبير وودرو ولسن- وامتاز من عصره امتيازاً بعيد المدى في ميله إلى العدل، وهو صفة لا يتميز بها حكام الشرق دائماً؛ يقول "فرِشْتا":"إن رحمته لم تعرف حدوداً، بل إنه كثيراً ما ذهب في هذه الفضيلة حتى جاوز بها حدود الحكمة"(93) وكان كريماً ينفق الأموال الطائلة إحساناً، أحبه الناس جميعاً، وخصوصاً الطبقات الدنيا، فيقول عنه مبشّرٌ جوويتيّ: "إنه كان يتقبل من أهل الطبقات الدنيا عطاياهم الحقيرة بوجه باسم، فيتناولها بيديه ويضمها إلى صدره، مع إنه لم يكن يفعل مثل ذلك مع أفخر الهدايا التي كان يقدمها له الأشراف، وقال عنه أحد معاصريه إنه كان مصاباً بالصرع؛ وروى عنه كثيرون أن داء السوداء كثيراً ما كان يستولي عليه إلى درجة تسود معها نظرته إلى الحياة اسوداداً مخيفاً، وكان يشرب الخمر ويأكل الأفيون في اعتدال، ولعله فعل ذلك ليكسب واقع حياته المظلم شيئاً من البريق، ولقد كان أبوه كما كان أبناؤه يشربون الخمر كما شربها ويأكلون الأفيون كما فعل، لكنهم لم يكونوا يشبهونه في ضبطه لنفسه
(1)
وكان له حريم يتناسب مع سعة ملكه، فيروي لنا أحد الرواة " أن الملك له في "أجرا" وفي "فتحبور- سِكْرى"- هكذا يروون بصيغة الصدق- ألف فيل وثلاثون حصاناً وألف وأربعمائة غزال وثمانمائة خليلة" لكنه لم يكن له فيما يظهر شهوات حسية ولا ميول تدفعه إلى الانغماس فيها؛ نعم إنه أكثرَ من زوجاته، لكنه كان زواجاً سياسياً، فكان يتودد إلى أمراء الراجبوت بزواج بناتهم، وبهذا كسبهم في تعضيد عرشه،
(1)
مات اثنان من أبنائه في شبابهما بسب الإدمان في الخمر
وأصبحت الأسرة الحاكمة المغولية منذ ذلك الحين نصف وطنية فيما يجري في عروقها من دماء؛ ولقد أعلى رجلاً من أسرة راجبوت حتى نصبه قائداً أعلى لجيشه، كما رفع أحد الراجات إلى منصب كبير وزرائه؛ وكانت أمنيته التي يحلم بها أن يوحد الهند (94).
لم يكن ذا عقل واقعي دقيق له برودة المنطق كما كان قيصر أو نابليون، بل كان ينزع بعاطفته نحو دراسة الميتافيزيقا، ولو أنه خلع عن عرشه لكان من الجائز أن يصبح صوفياً معتزلاً؛ كان لا يكف عن التفكير ولا ينقطع عن اختراع الجديد واقتراح الإصلاح لما هو قائم (95)؛ وكان من عادته مثل هارون الرشيد أن يعس بالليل متنكراً، ثم يعود إلى مأواه وهو جياش الصدر برغبة الإصلاح؛ واستطاع وسط هذه المناشط الكثيرة أن يفسح بعض الوقت لجمع مكتبة عظيمة تتألف كلها من مخطوطات جميلة الخط والنقش، دبجها له نساخون بارعون كانت لهم عنده منزلة الفنانين، فهم في عينه لا يقلون مكانة عن المصورين والمهندسين المعماريين الذين كانوا يزينون ملكه؛ وكان يزدري الطباعة باعتبارها آلية لا تتجلى فيها شخصية الكاتب، ولم يلبث أن استغنى عن العينات المختارة من الرسوم الأوربية المطبوعة التي قدمها له أصدقاؤه من الجزويت؛ ولم تزد مكتبته على أربعة وعشرين ألف كتاب، لكن قيمتها بلغت ما يساوي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف ريال (97) عند أولئك الذين حسبوا أن أمثال هذه الكنوز الروحية يمكن تقديرها بأرقام مادية؛ وأجزل العطاء للشعراء بغير حساب، وقرب أحدهم من نفسه- هو بربال الهندي- تقريباً جعله ذا حظوة كبرى في حاشية قصره، وأخيراً نصبه في الجيش قائداً، فكان من نتيجة ذلك أن قام " بربال " بحملة حربية أظهر فيها عجزاً شديداً، وقتل في جو أبعد ما يكون الجو عن خيال الشعراء
(1)
(1)
كان "بربال" بغيضاًً لدى المسلمين، ولذا فرح هؤلاء لموته، حتى لقد سجل أحدهم- وهو المؤرخ بادوني- حادثة موته بنشوة وحشية فقال:"إن بربال الذي فر خوفاًً من حياته، قد قتل ودخل جهنم منخرطاًً في صف الكلاب"
وأمر "أكبر" أعوانه من الأدباء أن يترجموا إلى الفارسية- وقد كانت لغة قصره- آيات الأدب والتاريخ والعلم في الهند، وراجع بنفسه ترجمة الملحمة الخالدة "ماهابهاراتا"(100) وازدهرت الفنون كلها في ظله وبتشجيعه، فشهدت الموسيقى الهندية والشعر الهندي في عهده عصراً من أعظم عصورهما، وبلغ التصوير- الفارسي منه والهندي- مرتبة تالية في ارتفاعها للأوج بفضل تشجيعه (101) وأشرف في "أجرا" على بناء "الحصن" المشهور، وأمر أن يبنى بداخله خمسمائة بناء، عدها معاصروه من أجمل ما تراه العين في العالم كله؛ لكن هذه المباني قد تحطمت تحطيماً على يدي "شاه جهان" الأرعن، وليس في مقدورنا أن نحكم عليها إلا استنتاجاً من آثار العمارة الباقية من عهد "أكبر" مثل مقبرة "هميون" في دلهي، والآثار الباقية في "فتحبور- سكرى" حيث أقيم ضريح لصديق "أكبر" المحبوب، الزاهد الشيخ سليم شستي، وهو بناء من أجمل ما في الهند من بناء.
ثم كان له اتجاه آخر أعمق من هذه الاتجاهات كلها، وهو ميله إلى التأمل، فهذا الإمبراطور الذي أوشك أن يكون قادراً على كل شئ، تحَرَّق فؤاده شوقاً إلى أن يكون فيلسوفاً- كما يشتهي الفلاسفة أن يكونوا أباطرة، ولا يستطيعون أن يسيغوا حمق القدر في حرمانه إياهم ما هم جديرون به من عروش، فبعد أن فتح "أكبر" العالم، أحس شقاء نفسه لأنه لم يستطع فهماً لهذا العالم الذي فتحه وقد قال: "على الرغم من أني أسود مثل هذا المُلك الفسيح، وزمام الحكومة كلها في يدي، فلست مطمئن الفؤاد لهذه العقائد الكثيرة والمذاهب المختلفة من حولي، مادامت العظمة الحقيقية كائنة في تنفيذ إرادة الله، فدع عنك هذه الأبهة الظاهرة المحيطة بي، وقل لي كيف أطيب بالاً، في مثل هذا اليأس، إذا
ما حملت عبء الإمبراطورية؟ إني لأرقب ظهور رجل حصيف ذي مبدأ ليزيح عن ضميري هذه المشكلات التي يتعذر عليّ حلها
…
إن الحديث في الفلسفة يفتنني فتنة تصرفني عن كل ما عداها، وإني لأنصرف عن سماعها رغم أنفي حتى لا أهمل واجباتي التي تقتضيها أمور الساعة" (102) ويقول باودني:"كان يحج إلى قصره طوائف العلماء من كل أمة، والحكماء من كل ملة ومذهب، وكانوا يظفرون لديه بشرف استماعه إليهم؛ وإذا ما فرغوا من بحثهم وتقصيهم اللذين كانا شغلهم الشاغل ومهمتهم الأولى ليلاً ونهاراً، تحدثوا في مسائل عميقة في العلم، ونقط دقيقة في الوحي، وأعاجيب التاريخ وغرائب الطبيعة"(103)؛ ويقول "أكبر": "إن سيادة الإنسان تعتمد على جوهرة العقل"(104).
ولما كان فيلسوفاً فلا عجب أن يأخذه شغف شديد بالدين؛ فقد أغرته قراءته الدقيقة لملحمة "ماهابهاراتا" ودراسته الوثيقة لشعراء الهنود وحكمائهم، بدراسة العقائد الهندية؛ ولبث حيناً- على الأقل- يؤمن بمذهب التناسخ، وخيب فيه ظن أتباعه من المسلمين حين ظهر على الملأ بعلامات دينية هندية على جبهته؛ فقد كان له شغف بملاطفة أصحاب العقائد كلها، لذلك تودد إلى الزرادشتيين بأن لبس ما يلبسوه من قميص ومنطقة مقدسين تحت ثيابه؛ وانصاع للجانتيين حين طلبوا إليه أن يمتنع عن الصيد، وأن يحرم قتل الحيوان في أيام معلومة، ولما سمع بالديانة الجديدة المسماة بالمسيحية، التي جاءت إلى الهند مع بعثة "جوا" البرتغالية، أرسل خطاباً إلى هؤلاء المبشرين التابعين لمذهب بولس، يدعوهم أن يبعثوا له باثنين من علمائهم؛ وحدث بعد ذلك أن قَدِم جماعة من الجزويت مدينة دلهي، وحببوه في المسيح حتى أمر كتابة أن يترجموا له العهد الجديد (105) وأباح لهؤلاء الجزويت كل حرية في أن ينصروا من شاءوا بل عهد إليهم بتربية أحد أبنائه؛ وفي الوقت الذي كان الكاثوليك يفتكون بالبروتستنت في فرنسا، والبروتستنت- في عهد اليصابات- يفتكون بالكاثوليك في إنجلترا، ومحاكم التفتيش تقتل اليهود في أسبانيا
وتسلبهم أملاكهم و "برونو" يقذف به في النار في إيطاليا، كان "أكبر" يوجه الدعوة إلى ممثلي الديانات كلها في إمبراطوريته ليعقدوا مؤتمراً، وتعهد لهم بحفظ السلام بينهم وأصدر المراسيم بوجوب التسامح مع المذاهب كلها والعقائد كلها، ولكي يقيم الدليل على حياده، تزوج من نساء البراهمة، ومن نساء البوذية، ومن نساء المسلمين جميعاً.
وكان ألذ ما يمتعه بعد أن بردت في نفسه جذوة الشباب المضطرمة، المناقشات الحرة في العقائد الدينية؛ ولقد ترك تعاليم الإسلام الجامدة تركاً تاماً حتى أغضب بحياده هذا في الحكم رعيته من المسلمين؛ يقول عنه "سانت فرانسس زافير" في شئ من المغالاة:"لقد حطم هذا الملك مذهب محمد الفاسد، وهاجمه هجوماً بحيث لم يبق له فضيلة واحدة، ولم يعد في هذه المدينة مسجد أو قرآن- هو كتاب شريعتهم- وأما ما كان هناك من مساجد فقد اتخذوا منها حظائر للخيل أو مخازن"؛ ولم يؤمن الملك أقل إيمان بالوحي، ولم يكن ليصدق شيئاً لا يقوم على صحته برهان من العلم والفلسفة؛ وكثيراً ما كان يجمع طائفة من أصدقائه ومن رجال العقائد الدينية المختلفة ثم يأخذ في مناقشة الدين معهم من مساء الخميس إلى ظهر الجمعة، فإذا ما اعترك فقهاء المسلمين مع قساوسة المسيحيين، زجرهم قائلاً إن الله ينبغي أن يعبد بالعقل لا بالتمسك الأعمى بوحي مزعوم؛ وكان مما قاله، فجاء شبيهاً بروح كتاب "اليوبانشاد"، بل ربما كان في قوله هذا متأثراً "باليوبانشاد" و "كابر":"كل إنسان يسمى الكائن الأسمى باسم يلائم وجهة نظره، والواقع أن تسميتنا لما يستحيل علينا إدراكه ضرب من العبث" واقترح بعض المسلمين أن تخبر المسيحية إزاء الإسلام بمحنة النار، وذلك أن يمسك شيخ من شيوخ المسلمين بالقرآن، وأن يمسك قسيس بالإنجيل، ثم يخوضان معاً في النار، فمن خرج منهما سالماً من الأذى، اعترف له منادياً في الأرض بصوت الحق،
وتصادف أن "أكبر" لم يكن يحب الشيخ المسلم الذي اقترحوه لهذه التجربة، فتحسس للاقتراح، لكن الجزويت رفضوه لأنه إفك وخروج على الدين، لا لأنه خطر على حياة من تقع عليه التجربة؛ وجعل اللاهوتيون المتنافسون يجتنبون أمثال هذه الاجتماعات شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحضرها إلا "أكبر" نفسه مع أصدقائه من أصحاب النظرة العقلية (106).
وضاق "أكبر" ذرعاً بالانقسامات الدينية في مملكته، وأفزعه الاحتمال بأن تؤدي هذه الديانات المتنافسة إلى تمزيق المملكة بعد موته، فاستقر رأيه آخر الأمر على أن يكون منها ديانة جديدة، تضم أهم تعاليم العقائد المختلفة في صورة بسيطة ويحكي لنا المبشر الجزويتي هذا النبأ كما يأتي:
"عقد اجتماعاً عاماً دعا إليه كل رجال العلم البارزين والقواد العسكريين في المدن المجاورة، لم يستثن أحداً إلا الأب "رِدُلفو" الذي كان من العبث أن ترجو منه شيئاً غير مناصبة هذه الدعوة الدينية العداء؛ فلما أن اجتمعوا جميعاً أمامه، خطبهم بأسلوب سياسي ماهر ماكر قائلاً:
"إنه لمن الشر في إمبراطورية يحكمها رأس واحد أن ينقسم الأعضاء بعضهم على بعض وأن يتباينوا في الرأي
…
ومن ثم نشأ في البلاد أحزاب بمقدار ما فيها من عقائد دينية؛ وإذن فلزام علينا أن ندمج هذه العقائد كلها في دين واحد، على نحو يجعلها كلها ممثلة في هذا الواحد، وتكون الفائدة الكبرى التي يجنيها كل من هذه الديانات، أنه لن يخسر شيئاً من جوانبه الحسنة. ثم يكسب كل ما هو حسن في سائر الديانات؛ وبهذا وحده نمجد الله ونهيئ للناس سلاماً وللإمبراطورية أمناً" (107).
ووافق المجلس مرغماً، فأصدر "أكبر" مرسوماً يعلن نفسه رئيساً دينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الرئاسة الدينية هي أهم ما أثرت به المسيحية على الديانة الجديدة؛ وكانت هذه العقيدة الجديدة توحيداً يمثل التقاليد الهندية في التوحيد خير تمثيل، مضافاً إليه قبس من عبادة
الشمس والنار مأخوذاً من العقيدة الزرادشتية، وفيه عنصر شبيه بالمذهب الجانتي في إيثاره للامتناع عن أكل اللحوم، وعد ذبح الأبقار كبيرة من الكبائر، فما أشد ما اغتبط لذلك الهندوس، وما أقل ما اغتبط له المسلمون؛ وصدر بعدئذ مرسوم يجعل الاقتصار على أكل النبات إلزاماً على الناس جميعاً مدى مائة يوم على الأقل كل عام، ثم سار مع ميول الوطنيين خطوة أخرى فحرم الثوم والبصل، وحرم تشييد المساجد وصيام رمضان والحج إلى مكة وغير ذلك من شعائر المسلمين؛ ولما أراد المسلمون مناهضة هذه المراسيم، نفي كثيراً منهم (108)؛ وأقيم وسط "محكمة السلام" في "فتحبور- سكرى" معبد للديانة المتحدة الجديدة (ولا يزال هذا المعبد قائماً) رمزاً للأمل الذي كان يضطرم في صدر الإمبراطور، وهو أن يكون أهل البلاد جميعاً- بفضل العقيدة الجديدة- إخواناً يعبدون إلهاً لا يختلف من طائفة إلى طائفة.
ولم يكن النجاح حليف "الدين الإلهي باعتباره ديناً، ووجد "أكبر" أن التقاليد أقوى من أن يهدمها بقوله أن يجل عن الخطأ؛ نعم إن بضعة آلاف من الناس التفوا حول الدين الجديد، كان معظمهم ممن يريدون من وراء ذلك اكتساب حظوة عند الدولة، لكن الأغلبية العظمى مازالت مستمسكة بآلهتها الموروثة؛ وأما من الوجهة السياسية فقد كان لخطته الدينية بعض النتائج المعينة؛ فلئن كان "أكبر" بوحيه الديني الجديد قد أبدى شيئاً من الأنانية ومن الإسراف، فقد عوض عن ذلك خير العوض بإلغائه لضريبة الرؤوس وضريبة الحج المفروضتين على الهندوس، وبإطلاقه الحرية للعقائد الدينية كلها
(1)
، وبإضعافه لروح التعصب الديني والجنسي وما يتبع ذلك من جمود الرأي وانقسام الطوائف؛ ولقد كسب إلى جانبه بفضل دينه الجديد ولاء الهندوس، حتى أولئك لم يعتنقوا منهم تلك العقيدة الجديدة، فاستطاع بذلك أن يحقق غايته الرئيسية إلى حد بعيد، وأعني بها الوحدة السياسية للبلاد.
(1)
إذا استثنينا اضطهاد الإسلام لفترة من الزمن (1582 - 5).
لكن هذا "الدين الإلهي" كان مصدر كراهية شديدة له في نفوس إخوانه في الإسلام، حتى لقد انتهى الأمر بهم مرة إلى شق عصا الطاعة علناً، وإثارة الأمير "جهان كير" على أبيه بحيث أخذ بحيث يدبر له المكائد ُخفْية؛ وكان مما أثار القلق في نفس الأمير أن "أكبر" قد ظل يحكم البلاد أربعين عاماً، وأن بنيته لم تزل من القوة بحيث لا أمل في موت قريب يصيبه؛ لهذا حشد "جهان كير" جيشاً من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرخ القصر وأحب الأصدقاء إلى نفس الملك، ثم أعلن نفسه إمبراطوراً؛ لكن "أكبر" حمل الأمير الشاب على التسليم، وعفا عنه بعد يوم واحد، غير أن خيانة الابن لأبيه عملت على قتل أمه وقتل صديقه، وحطمت قوته النفسية، وتركته فريسة هينة "للعدو الأعظم" حتى لقد تنكر له أبناؤه في أواخر أيامه وبذلوا جهدهم كله في النزاع على العرش، ومات "أكبر" فلم يكن إلى جانبه إلا طائفة قليلة من أصدقائه المقربين- مات بمرض الديسنتاريا، أو مات مسموماً بتدبير "جهان كير" على اختلاف الآراء في ذلك، وجاء الشيوخ الدينيون إلى فراش الموت يحاولون أن يردوه إلى الإسلام، لكنهم منوا الفشل؛ وهكذا "قضى الملك دون أن يجد من يصلي على روحه بين أنصار أية عقيدة أو مذهب"(109) ولم يشيع جنازته عدد كبير من الناس، فكانت جنازة متواضعة، ولبس أبناؤه ورجال حاشيته ثياب الحداد بمناسبة موته، لكنهم خلعوها في مساء اليوم نفسه، فرحين بوراثتهم للملك من بعده فكان موته موتاً مريراً، مع أنه أعدل وأحكم حاكم شهدته آسيا في كل عصورها.
الفصل الثامن
تدهور المغول
بناء العظماء - جهان كير - شاه جهان - عظمته - سقوطه -
أورنجزيب - تعصبه - موته - قدوم البريطانيين
عَزَّ على الأبناء الذين ظلوا يرقبون موته في صبر نافذ أن يبقوا للإمبراطورية على وحدتها، تلك الإمبراطورية التي خلقها نبوغه خلقاً، فلماذا يحدث غالباً أن ينسل عظماء الرجال سلالة متوسطة القدرات والمواهب؟ أيكون ذلك لأن البذور التي كانت قد أنتجت هؤلاء العظماء- أعني امتزاج عناصر الأسلاف وممكنات البيئة الحيوية- إنما سارت مدفوعة بالمصادفة وحدها، فمن الشطط أن نتوقع لها عودة إلى الظهور من جديد؟ أم يكون ذلك لأن العبقري يستنفذ في تفكيره وفي جهوده قوة كان يمكن أن يوجهها نحو رعاية أبنائه، وبذلك لا يبقى لورثته من بعده من دمه إلا أضعفه؟ أم يكون ذلك لأن الأبناء ينحلون في ظل النعمة واليسار، فتحرمهم بحبوحة العيش في سنّهم الباكر الحوافز نحو الطموح والرقي؟
على أن "جهان كير" لم يكن متوسط القدرات والمواهب بقدر ما كان منحلاً قادراً؛ فقد ولد لأب تركي وأميرة هندية، وانفتحت أمامه الفرص كلها التي تسنح لولي العهد، فانغمس في الخمر والدعارة، وأطلق لنفسه العنان في التمتع السادي بالقسوة على الآخرين، وقد كان هذا الميل مجبولاً في فطرة أسلافه "بابور" و "هميون" و "أكبر "لكنهم دسوه دساً في دمائهم التترية، فكان يمتعه أن يرى الناس يسلخون أحياء، أو تنفذ فيهم "الخوازيق" أو يقذفون إلى الفيلة تمزقهم تمزيقاً: وهو يروي لنا في "مذكراته" أن سائسه
وطائفة من الخدم قدموا ذات يوم إلى ساحة صيده، وكانوا من عدم الحذر بحيث أدى ظهورهم هناك إلى فزع الطرائد التي كان يتربص لها في صيده، حتى أفلتت منه تلك الطرائد، فأمر بالسائس أن يقتل، وبخدم السائس أن تخلخل ركبهم فيعيشوا أعمارهم كساحاً؛ وهو يقول إنه بعد أن أشرف على تنفيذ أمره هذا "مضى في صيده"(110)؛ ولما تآمر عليه ابنه "خسرو" جاء بسبعمائة من أنصار الثائر وأنفذ فيهم "الخوازيق" وصفهم صفاً على امتداد الشوارع في لاهور، وهو يذكر لنا في نشوة من السرور كم انقضى على هؤلاء الرجال من زمن حتى فاضت أرواحهم (111)، وكان له حريم من ستة آلاف امرأة يرعين له حياته الجنسية (112) لكنه فيما بعد انصرف إلى زوجة مفضلة، هي "نورجهان"
(1)
، التي ظفر بها بقتل زوجها؛ وكان يسود حكومته عدل محايد لكنه قاسٍ؛ غير أنه إلى جانب ذلك قد أسرف في نفقاته إسرافاً أبهظ أمة كانت قد أصبحت أغنى أمم الأرض طرا بفضل ما أبداه "أكبر" في سياسته لها من حكمة، وما أسداه عليها أمْنٌ طال أمده أعواماً كثيرة.
ولما دنا عهد "جهان كير" من ختامه، زاد الرجل انغماساً في خمره، وأهمل واجباته الرسمية في الحكومة، فكان من الطبيعي أن تنشأ المؤامرات لملء مكانه، وحدث فعلاً سنة 1622 م أن حاول ابنه "جهان" أن يعتلي العرش، ثم لما فاضت روح "جهان كير" جاء "جهان" هذا مسرعاً من الدكن حيث كان مختفياً، وأعلن نفسه إمبراطوراً، وقتل كل إخوته ليضمن لنفسه راحة البال؛ وقد ورث عن أبيه صفات الإسراف وضيق الصدر والقسوة؛ فأخذت نفقات قصره والرواتب العالية التي كان يتقاضاها موظفوه الكثيرون، تزداد نسبتها بالقياس إلى دخل الأمة الذي كانت تنتجه لها صناعة مزدهرة وتجارة نافقة؛ وبعد التسامح الديني الذي أبداه "أكبر" وعدم المبالاة التي
(1)
معناها "نور العالم" وهي تسمى كذلك "نور محل" ومعناها "نور القصر"، جهان جير معناها "فاتح العالم" وشاه جهان بالطبع معناها "ملك العالم".
أظهرها "جهان كير" جاء "جهان" فعاد إلى العقيدة الإسلامية، واضطهد المسيحيين، وراح يحطم أضرحة الهندوس تحطيماً واسع النطاق لا يعرف إلى الرحمة سبيلاً.
وعوَّض شاه جهان بعض نقائصه بسخائه لأصدقائه، وكرمه للفقراء، وبذوقه وتحمسه للفن مما حفزه إلى تزيين الهند بأجمل فن معماري شهدته في تاريخها السابق كله، ثم بإخلاصه لزوجته "ممتاز محل"- ومعناها "زينة القصر"- ولقد تزوج منها وهو في سن الحادية والعشرين، بعد أن أنجب طفلين من خليلة أخرى، وأنجبت "ممتاز" لزوجها الذي لم يعرف الكلل، أربعة عشر طفلاً في ثمانية عشر عاماً، ثم قضت نحبها في سن التاسعة والثلاثين، وهي تلد آخر هؤلاء الأبناء، فأقام "شاه جهان""تاج محل" وهو آية بلغت حد الكمال، أقامه تخليداً لذكراها وذكرى خصوبتها، ثم انتكس بعدئذ إلى دعارة مخجلة (113)، وهذا القبر الذي هو أجمل قبور الدنيا جميعاً، إن هو إلا واحد من مائة آية فنية شيدها "جهان"، خصوصاً ما شيده منها في "أجرا" وفي "دلهي الجديدة" التي نمت تحت إشرافه؛ وأن ما كلفته هذه القصور من مال، وما غرقت فيه حاشية القصر من بذخ، وما استنفذه "عرش الطاووس" من أحجار كريمة
(1)
ليدل بعض الدلالة على ما فرض على الناس في سبيل ذلك من ضريبة جاءت على الهند خراباً؛ ومع ذلك كله، ورغم ما شهدته الهند إبان عهد "شاه جهان" من مجاعة هي من أسوأ ما مر بها في تاريخها من مجاعات، فقد كانت أعوامه الثلاثون التي قضاها في الحكم بمثابة الأوج
(1)
يتألف هذا العرش الذي تطلبت صناعته سبعة أعوام، من جواهر ومعادن ثمينة وأحجار كريمة، ولا شئ غير هذه، فقوائمه الأربع من ذهب، ويحمل سقفه المطلي بالبناء اثنا عشر عموداً من الزمرد، وعلى كل عمود طاووسان مغطيان بالجواهر، وبين كل طاووسين شجرة يغطيها الماس والزمرد والياقوت واللآلئ، وبلغ مجموع التكاليف أكثر من سبعة ملايين ريال، ولقد استولى "نادر شاه" على هذا العرش ونقله إلى فارس (1739 م) وهناك أخذت أجزاؤه تنتزع شيئاًً فشيئاًً لتسد نفقات الأسرة المالكة في فارس.
في ازدهار الهند وعلو مكانتها؛ لقد كان هذا الملك الشامخ بأنفه حاكماً قديراً، ولئن أهلك أنفساً كثيرة في حروبه الخارجية، فقد هيأ لبلاده جيلاً كاملاً من السلام؛ كتب حاكم بريطاني عظيم لبمباي، هو "مونت ستيوارت إلْفِنْستون" يقول:
إن من ينظر إلى الهند في حالتها الراهنة قد يميل إلى الظن بأن الكتاب الوطنيين إنما يسرفون في وصف ثراء البلاد قديماً؛ لكن المدن المهجورة والقصور الحاوية والقنوات المسدودة التي لا نزال نراها، بما هناك من خزانات كبرى وجسور في وسط الغابات، والطرق المتهدمة والآبار ومحطات القوافل التي كانت على امتداد الطرق الملكية، كل ذلك يؤيد شهادة الرحالة المعاصرين بحيث يميل بنا إلى العقيدة بأن هؤلاء المؤرخين كانوا يقيمون أقوالهم على سند صحيح" (115).
كان "جهان" قد بدأ حكمه بقتل إخوته، لكن فاته أن يقتل أبناءه كذلك فَكُتِب لأحد هؤلاء الأبناء أن يخلعه عن العرش، وذلك هو "أورنجزيب" الذي أثار ثورة سنة 1657 م وجاء زاحفاً من الدكن؛ فأمر الشاه- شأنه في هذا شأن داود- أمر قواده أن يهزموا الجيش الثائر، على ألا يقتلوا ابنه إن وجدوا إلى إنقاذ حياته من سبيل؛ لكن "أورنجزيب" غلب جميع الجيوش التي أرسلت لمحاربته، وألقى القبض على أبيه وسجنه في "حصن أجرا" حيث لبث الملك المخلوع تسعة أعوام يعاني مُرَّ العذاب، لم يزره ابنه في سجنه قط، ولم يكن إلى جواره من يرعاه سوى ابنته المخلصة "جهانارا"؛ وكان ينفق أيامه جالساً في "برج الياسمين" مرسلاً بصره عبر "جمنة" إلى حيث ترقد زوجته الحبيبة "ممتاز" في قبرها المزدان بالجواهر.
على أن هذا الابن الذي خلع أباه على هذا النحو القاسي، كان من أعظم القديسين في تاريخ الإسلام، بل ربما كان أميز الأباطرة المغول جميعاً بما كاد يتفرد به من صفات؛ فشيوخ الدين الذين تولوا تنشئته صبغوه بالدين صبغاً حتى لقد فكر هذا الأمير الشاب يوماً في أن ينفض يده من الإمبراطورية
بل من العالم كله، ليعتزل الدنيا راهباً متعبداً؛ ولبث حياته كلها- رغم طغيانه ودهاء سياسته وتوهمه بأن أخلاق لا تكون إلا في مذهبه الديني- لبث حياته كلها رغم ذلك مسلماً ورعاً، يقيم الصلاة وينفق فيها وقتاً طويلاً، ويحفظ القرآن كله، ويجاهد في قتال الكفار؛ وما أكثر ما قضى من ساعات يومه في عبادته، وما قضى من أيام حياته صائماً؛ وكان في معظم الأحيان يخلص في أداء شعائر دينه إخلاصه في الدعوة إليها؛ نعم لقد كان في السياسة بارداً يقدر عواقب الأمور تقديراً دقيقاً، وله قدرة على الكذب الماهر في سبيل بلاده وربه؛ لكنه مع ذلك كله كان أقل المغول قسوة وألطفهم مزاجاً؛ قل القتل في عهده، وكاد يستغني عن اصطناع العقاب في محاكمة المجرمين؛ وكانت شخصيته متسقة الجوانب فتواضع في عزة، وصبر في وجه المعتدي، وهدوء نفس في أوقات المحنة؛ وامتنع عن كل ما يحرمه دينه من ألوان الطعام والشراب وأسباب الترف امتناعاً كان يرقبه فيه ضميره؛ وعلى الرغم من براعته في عزف الموسيقى، أقلع عنها لأنها ضرب من اللذة الحسية والظاهر أنه نفذ ما صمم عليه وهو ألا ينفق على نفسه إلا ما كسبت يداه بالعمل (116) فكأنه كان بمثابة القديس أوغسطين أجلس على العرش.
كان "شاه جهان" قد خصص نصف دخله لترقية العمارة وغيرها من الفنون، أما "أورنجزيب" فلم يعبأ بالفنون، وهدم ما فيها من آثار "الكفر" مدفوعاً بتعصب ديني ساذج، وظل خلال نصف القرن الذي حكم البلاد فيه، يحارب في سبيل محو الديانات كلها من الهند إلا ديانته؛ وأمر عماله في الأقاليم وغيرهم من أتباعه أن يقوضوا كل المعابد التي تتبع الهندوس أو المسيحيين، وأن يحطموا الأصنام جميعاً، وأن يغلقوا مدارس الهندوس بغير استثناء؛ فكان من جرّاء ذلك أنه في عام واحد (1679 - 1680 م) هدم ستة وستين معبداً في "عنبر" وحدها، وثلاثة وستين معبداً في "شيتور"، ومائة وثلاثة وعشرين معبداً في "أودايبور"(117)، وأقام مسجداً إسلامياً (118) في مكان
معبد كان قائماً بنارس وكان موضع قدسية خاصة عند الهندوس، بغية الإساءة المتعمدة إليهم؛ وحرم إقامة الشعائر الهندوسية علناً، وفرض ضريبة فادحة على كل هندي لم يعتنق الإسلام (119)، فكان من نتيجة هذا التعصب الديني أن خربت ألوف المعابد التي كان يتمثل في بنائها؛ أو تحتوي داخل جدرانها فنون الهند مدى ألف عام، فيستحيل علينا اليوم إذا ما أرسلنا الأبصار في جنبات الهند، أن نعلم شيئاً مما كان لها من جلال وجمال.
استطاع "أورنجزيب" أن يحول حفنة من جبناء الهندوسيين إلى الإسلام لكنه حطم أسرته وبلاده معاً، ولئن عده بعض المسلمين على أنه من القديسين، فقد عده ملايين الشعب الهندي الذين أخرست ألسنتهم وأرعبت قلوبهم، شيطاناً رجيماً، وفروا من جباة ضرائبه وتضرعوا إلى الله داعين له بالموت؛ نعم بلغت الإمبراطورية المغولية في الهند أثناء حكمه أوج رفعتها، إذ امتدت رقعتها إلى بطاح الدكن، لكنها كانت قوة لا تقيم أساسها على حب الشعب، وكان لا بد لها أن تنهار عند أول لمسة معادية قوية، حتى لقد بدأ الإمبراطور نفسه في أواخر سنيه يتبين أنه قد جلب الدمار إلى تراث آبائه بورعه الضيق الأفق، وأن ما كتبه في فراش موته من خطابات، ليعد وثائق تساق لمأساتها، يقول فيها:
"لست أدري من أنا، ولا إلى أين يكون مصيري ولا أعلم ماذا عساه أن يصيب هذا الآثم المليء بالذنوب
…
لقد انقضت أعوامي بغير غناء؛ كان الله ماثلاً في قلبي، لكن عيني المظلمتين لم يشهدا نوره
…
ليس لي في المستقبل رجاء؛ لقد ذهبت عني الحمى، لكن لم يعد لي من الجسد إلا إهابه، لقد كنت كبير الإثم ولست أدري أي عذاب أنا ملاقيه
…
وعليك سلام الله" (120).
وأمر قبل موته أن تكون جنازته بسيطة إلى حد الزهد، وألا ينفق في كفنه إلا الروبيات الأربع التي كسبها بحياكة الطواقي؛ وأن يغطى نعشه بقطعة
من "الخيش" الساذج؛ وترك للفقراء ثلاثمائة روبية كسبها بنسخه صورة من القرآن (121)، ومات وعمره تسعة وثمانون عاماً، بعد أن عمر على الأرض أمداً أكثر جداً مما أراد له أهل الأرض أن يعيش.
ولم تمض بعد موته سبعة عشر عاماً حتى تحطمت إمبراطوريته إرباً إرباً؛ وكان ما كسبه "أكبر" بحكمته من مناصرة الناس للحكومة، قد أضاعه "جهان كير" بقسوته، و "جهان" بإسرافه، و "أورنجزيب" بتعصبه؛ وكانت الأقلية المسلمة قد انهدمت قواها بحرارة الهند، وفقدت النخوة العسكرية والقوة الجسدية التي كانت لها أيام شبابها، ولم تأت إليها حملات جديدة من الشمال تشد أزر قواها المنهارة؛ ثم حدث في الوقت نفسه أن بعثت جزيرة صغيرة نائية في الغرب بطائفة من تجارها لتحصد في الهند من كنوز، ولم تلبث بعدئذ أن أرسلت مدافعها لتستولي على هذه الإمبراطورية الفسيحة الأرجاء، التي تعاون فيها الهندوس والمسلمون على بنيان حضارة من حضارات التاريخ الكبرى.
الباب السابع عشر
حياة الشعب
(1)
الفصل الأول
منتجو الثروة
البداية في الغابة - الزراعة - التعدين - الصناعات
اليدوية - التجارة - المال - الضرائب - المجاعات - الفقر والغنى
لم تتلق تربة الهند بذور المدنية عن رضى، فقد كان شطر عظيم منها تغطيه الغابات تسكنها وتذود عنها سباع ونمور وفيلة وثعابين وغيرها من الكائنات الفردية غير الاجتماعية التي تزدري المدنية على مذهب روسو؛ فقام صراع حيوي لانتزاع الأرض من هذه الأعداء، ودام الصراع متخفياً وراء ستار الحركات الاقتصادية والسياسية جميعاً؛ فقد كان "أكبر" يصيد النمور بالقرب من "مأثورة" ويمسك بالفيلة المتوحشة في أماكن كثيرة تخلو منها اليوم خلواً تاماً؛ وقد كنت تصادف الأُسْد إبان العصور الفيدية أينما سرت في الشمال الغربي من الهند أو في أجزائها الوسطى، أما اليوم فلا يكاد يوجد في شبه الجزيرة كلها؛ لكن الثعبان وصنوف الحشرات لا تزال هناك ماضية في حربها؛ ففي سنة 1926 م فتكت الحيوانات المفترسة من الهنود بما يقرب من ألفين (من بين هؤلاء 875 قتلتهم النمور الضارية في أرجاء البلاد)، أما سم الأفاعي فقد أودى بعشرين ألفاً من الهنود ذلك العام (1).
(1)
ينطبق التحليل الآتي إلى حد كبير جداً على الهند بعد عصر الفيدا وقبل الحكم البريطاني؛ وليذكر القارئ أن الهند اليوم في تغير دائم، وأن النظم والأخلاق وأساليب العيش التي كانت تميزها فيما مضى، قد تكون في طريقها إلى الزوال اليوم.
ولما خلصت الأرض على مر الزمن من الكواسر، تحولت إلى حقول يزرع فيها الأرز والقطاني والذرة والخضر والفواكه؛ فلقد رضيت الكثرة الغالبة من السكان خلال الشطر الأعظم من تاريخ الهند بعيش متواضع قوامه هذه الأغذية الطبيعية، وكانوا يجففون اللحم والسمك والطيور لطائفتي المنبوذين والأغنياء
(1)
، ولكي يجعلوا طعامهم أشهى- أو ربما أرادوا معونة أفروديت (4) - زرعوا وأكلوا مقداراً غير مألوف في سائر البلاد من التوابل، مثل البهار الهندي والزنجبيل والقرنفل والقرفة؛ ولقد صادفت هذه التوابل تقديراً عظيماً عند الأوربيين حتى لقد انطلقوا في البحار سعياً وراءها فوقعوا على نصف الكرة الأرضية الذي كان مجهولاً؛ مع أننا جميعاً نظن أن أمريكا قد كشفت لتكون للحب مسرحاً؛ كانت الأرض في العصور الفيدية ملكاً للشعب في الهند (5) ومنذ أيام "تشاندرا جوبتا موريا" أصبح العرف بين المُلاَّك أن يطالبوا لأنفسهم بملكية الأرض كلها، ثم يؤجرونها للزراع مقابل أجر وضريبة يدفعان كل عام (6) وكان الري في العادة من واجبات الحكومة، ولقد ظل أحد السدود التي شيدها "تشاندرا جوبتا" حتى سنة 150 م، ولا نزال نشاهد آثار القنوات القديمة في شتى أرجاء الهند، كما نشاهد آثار البحيرة التي احتفرها احتفاراً "راج سنج"- راجبوت رانا في موار- لتكون خزاناً لمياه الري (1661 م) وأحاطها بحائط من المرمر طوله اثنا عشر ميلاً (7).
والظاهر أن قد كان الهنود أول شعب استنجم الذهب (8) فيحدثنا هيرودوت (9) والمجسطي (10) عن "النمل الكبير الذي يحفر الأرض طلباً للذهب، وهو أصغر قليلاً في حجمه من الكلاب، لكنه أكبر من الثعالب" وقد عاون هذا النمل عمال المناجم في إخراجهم للذهب، وذلك حين يخدش
(1)
كانت فيجاياناجار شذوذاً في القاعدة، لأن أهلها كانوا يأكلون لحوم الطير والحيوان (ويحرمون منها الثيران والأبقار) كما يأكلون الضب والفئران والقطط.
الرمل فيظهر الذهب الدفين
(1)
ولقد كانت الهند مصدراً لكثير من الذهب الذي استخدم في امبراطورية فارس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ كذلك استنجمت هناك الفضة والنحاس والرصاص والقصدير والزنك والحديد- وكان استنجام الحديد في وقت باكر من التاريخ إذ كان في سنة 1500 ق. م (11)؛ وارتقت صناعة طرق الحديد وصبه في الهند قبل ظهورها المعروف لنا في أوربا بزمن طويل، فمثلاً أقام "فكرامادتيا"(حوالي سنة 380 م) في دلهي عموداً من حديد لا يزال محتفظاً ببريقه حتى اليوم، بعد أن انقضى عليه خمسة عشر قرناً؛ ولا يزال سر احتفاظه ببريقه من عوامل الصدأ والتآكل، الذي يرجع إلى نوع المعدن ذاته أو إلى طريقة طرقه وصبه، لا يزال سر ذلك لغزاً يحير علم المعادن الحديث (12)؛ وقد كان صهر الحديد في أفران صغيرة توقد بالفحم من كبرى صناعات الهند قبل الغزو الأوربي لتلك البلاد (13) لكن هذه الصناعة الهندية لم تصمد لمقاومة مثيلتها في أوربا، لأن الثورة الصناعية في أوربا علمتها كيف تؤدي هذه الصناعة بنفقات قليلة وعلى نطاق واسع؛ ولم يعد الناس من جديد إلى استغلال الموارد المعدنية الغنية في الهند واستكشافها إلا في يومنا هذا (14).
وظهرت زراعة القطن في الهند في عصر سابق لظهوره في أي بلد آخر، والأرجح أنه كان ينسج قماشاً في "موهنجو دارو"(15) يقول هيرودوت في نص هو أقدم ما بين أيدينا من مراجع عن القطن، يقول في جهل ممتع:"وهناك أشجار حوشية تثمر الصوف بدل الفاكهة، وصوفها يفوق صوف الأغنام جودة وجمالاً؛ ويصنع الهنود ثيابهم من هذه الأشجار"(16)؛ فلما شن الرومان حروبهم في الشرق الأدنى، عرفوا هذا "الصوف" الذي تثمره الأشجار (17)؛ وروى لنا الرحالة العرب الذين زاروا الهند في القرن التاسع بأنه "في هذه البلاد يصنع الناس أثواباً يبلغون بها درجة من الكمال لا تصادف
(1)
لسنا ندري ما قصة هذا النمل، لكن الأرجح عندنا أن المقصود حيوانات آكلة للنمل، لا النمل ذاته.
لها مثيلاً في أي مكان آخر- فهي من الحياكة والغزل على درجة من الرقة تسمح لك أن تنفذ الثوب من خاتم متوسط الحجم" (18)، ونقل العرب في العصر الوسيط هذا الفن عن الهند، ومن الكلمة العربية "قطن" أخذنا نحن كلمتنا الانجليزية (19) وكلمة "موسلين" أطلقت بادئ ذي بدء على الغزل الرقيق الذي كان يصنع في الموصل على غرار النماذج الهندية؛ وكذلك كلمة "كالكو" (أي البفتة) أطلقت على مسماهما لأن هذا الصنف من القماش جاءنا لأول مرة (1631 م) من مدينة كلكتا الواقعة على الشواطئ الجنوبية الغربية؛ ويحدثنا "ماركوبولو" عن "جوجارات" في سنة 1293 م فيقول: "إنهم هنا يطرزون بالوشي على نحو من الدقة لا يبلغه أي بلد من بلاد العالم" (20)، وما تزال "شيلان" كشمير، و"سجاجيد" الهند شاهدة حتى اليوم على براعة النسج الهندي من حيث حبك الديباجة وتصميم الزخارف
(1)
، على أن النسج لا يعدو أن يكون واحداً من صناعات يدوية كثيرة في الهند، والنساجون إن هم إلا فئة واحدة من فئات الصناعة والتجارة التي أشرفت على تنظيم الصناعة في الهند وإخضاعها لقواعد وأصول، ونظرت أوربا إلى الهنود نظرتها إلى الخبراء في كل ضروب الصناعة اليدوية تقريباً- صناعة الخشب وصناعة العاج وصناعة المعادن وتبييض القماش والصباغة والدبغ وصناعة الصابون ونفخ الزجاج والبارود والصواريخ النارية والإسمنت وغيرها (21)، واستوردت الصين من الهند مناظير سنة 1260 م؛ ويصف لنا "برتييه" الرحالة الذي جاب الهند في القرن السابع عشر يصف لنا الهند بأنها تطنّ بأصوات الصناعة طنيناً؛ وكذلك رأى "فتشي" سنة 1585 م أسطولاً من مائة وثمانين مركباً تحمل متنوعات شتى من السلع على نهر جمنة.
(1)
راجع السجادة الحمراء التي ترجع إلى القرن السابع عشر في الهند، والتي أهداها مستر ج. ب. مورجن لمتحف الفن العاصمي (غرفة د 3).
وازدهرت التجارة الداخلية، حتى لقد كانت جوانب الطرقات- وما تزال- أسواقا للبيع والشراء؛ وأما تجارة الهند الخارجية فهي من القدم مثل تاريخها (22) فهناك آثار وجدناها في سومر وفي مصر تدل على تبادل تجاري بين هذين القطرين والهند، وفي عهد ليس أحدث تاريخاً من سنة 3000 ق. م (23)؛ وازدهرت التجارة بين بابل والهند عن طريق الخليج الفارسي بين عامي 700 و 480 ق. م؛ ومن يدري فلعل "العاج والقردة والطواويس" التي جاء بها سليمان، إنما جاءت من المورد نفسه وعن نفس الطريق؛ وأخذت سفن الهند تشق البحار إلى بورما والصين في عهد "تشاندرا جوبتا"؛ وازدحمت أسواق الهند "الدرافيدية" بالتجار اليونان الذين أطلق عليهم الهنود اسم "يافنا"(الآيونيين)، وكان ذلك في القرون التي سبقت والتي لحقت مولد المسيح (24)؛ وكذلك اعتمدت روما في أيام ترفها المادي، على الهند في استيراد التوابل والعطور والدهون، ودفعت أثماناً عالية فيما ابتاعته من الهند من حرير ووشي وموصلي وأثواب الذهب، حتى لقد اتهم "بلني" روما بالإسراف لأنها كانت تنفق كل عام خمسة ملايين دولار على ما تستورده من الهند من أسباب الترف؛ وكانت روما تستعين كذلك بالفهود والنمور والفيلة التي تأتي بها من الهند، على إقامة ألعابها في المصارعة، وتأدية طقوس القرابين عند الكولوسيوم (25)؛ وما حاربت روما الحروب البارئية إلا ليظل لها طريق التجارة إلى الهند مفتوحاً؛ ثم حدث في القرن السابع أن استولى العرب على فارس ومصر، ومنذ ذلك الحين، أخذت التجارة بين أوربا وآسيا تمر خلال أيدي المسلمين، ومن ثم قامت الحروب الصليبية، وظهر كولمبس؛ وانتعشت التجارة الخارجية من جديد في ظل المغول؛ ولهذا ازدهرت بالغنى مدينة البندقية ومدينة جنوا وغيرهما من المدن الإيطالية، بسبب قيامها بما تقوم به الموانئ للتجارة الأوربية مع الهند والشرق؛ وإن النهضة الأوربية لتدين للثروة التي جاءت بها هذه التجارة، أكثر مما تدين للمخطوطات التي جاء بها اليونان إلى إيطاليا؛ وكان
"لأكبر" إدارة بحرية تشرف على بناء السفن وتنظم حركة الملاحة في المحيطات، فاشتهرت موانئ البنغال والسند ببناء السفن، وبلغت تلك الموانئ بهذه الصناعة حداً من الاتقان حدا بسلطان القسطنطينية أن يصنع سفنه هناك بدل صناعتها في الإسكندرية، لقلة النفقات هناك؛ بل إن "شركة الهند الشرقية" ذاتها بنت كثيراً من سفنها في موانئ البنغال (26).
واستغرق تطور النقد الضروري لتيسير هذه التجارة عدة قرون؛ ففي أيام بوذا كانت قطع النقد مستطيلة الشكل غليظة الصنعة، وكانت تصدرها سلطات اقتصادية وسياسية مختلفة، ولم تصل الهند إلى مرحلة النقد الذي تضمن الحكومة قيمته إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، بتأثير فارس واليونان (27)؛ فأصدر "شرشاه" قطعاً نقدية جميلة الشكل من النحاس والفضة والذهب، وجعل الروبية العملة الأساسية في أرجاء المملكة (28).
وفي عهد "أكبر" و "جهان كير" كانت قطع النقود في الهند أرقى من مثيلاتها في أية دولة أوربية حديثة من حيث تصميم شكلها من الوجهة الفنية، وصفاء معدنها (29)، وكما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى، كذلك كانت في الهند في تلك العصور، مع أن نمو الصناعة والتجارة قد عاقته هنا وهناك كراهة دينية للربا.
يقول المجسطي: "إن الهنود لا يقرضون مالهم بالربا ولاهم يعرفون كيف يقترضون؛ وإنه لمما يجافي الأوضاع المقررة عند الهندي أن يقترف الخطأ في حق غيره أو أن يحتمل الإيذاء من غيره، ولهذا تراهم لا يبرمون عقوداً ولا يطلبون الضمانات"(30).
فإذا ما عجز الهندي عن استغلال ما ادخره في مشروعاته التي يقوم بها بنفسه آثر أن يخفيه أو أن يشتري به جواهر لكونها ثروة يسهل إخفاؤها (31)، ولعل عجزهم هذا عن اصطناع نظام ييسر القروض كان مما عاون "الثورة الصناعية" أن تمهد سبيل السيطرة الأوربية على آسيا؛ ومع ذلك فعلى الرغم
من كراهة البراهمة للاقتراض، أخذت عمليات الاقتراض تزداد شيئاً فشيئاً، وكانت نسبة الربح تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المقترض، من اثني عشرة إلى ستين في المائة، وكان المتوسط في جملته عشرين في المائة (32)، ولم يكن الإفلاس يتخذ وسيلة لتصفية الديون، وإذا مات مدين عن دين، كان على أبنائه وأبناء أبنائه إلى الجيل السادس أن ينوبوا في الوفاء بذلك الدين (33).
وفرضت ضرائب باهظة على الزراعة والتجارة تدعيماً لأركان الحكومة، وكان على الفلاح أن يتنازل من محصوله عن مقدار يتراوح بين سدسه ونصفه، وكذلك فرضت ضرائب كثيرة على تبادل السلع وإنتاجها كما كانت الحال في أوربا في عصورها الوسطى، وفي أوربا في عصرنا القائم (34)؛ جاء "أكبر" فرفع ضريبة الأراضي إلى ثلث المحصول، لكنه لقاء ذلك ألغى كل صنوف الضرائب الأخرى (35)؛ ولئن كانت هذه الضريبة على الأرض باهظة، إلا أن من حسناتها أنها كانت ترتفع مع ازدهار المحصول وتهبط مع الأزمات؛ وإذا ما أصيبت البلاد بمجاعة، فقد كان الفقراء- على الأقل- يموتون دون أن تفرض عليهم الضرائب؛ ولم تخل البلاد من سني المجاعة حتى في أيام "أكبر" ذات الرخاء (1595 - 1608)، والظاهر أن مجاعة سنة 1556 م أدت بالناس إلى أكل اللحوم البشرية وإلى الخراب الشامل؛ إذ كانت الطرق رديئة والمواصلات بطيئة الحركة، فلم يكن يسيراً على فائض منطقة من المناطق أن يطعم أخرى مما أصيب بالقحط.
وكما هي الحال في كل أرجاء العالم، كان في الهند إذ ذاك تفاوت واسع بين الفقر والغنى، ولكنه لم يبلغ اليوم في الهند أو أمريكا؛ ففي أسفل السُّلَّم كانت هناك أقلية صغيرة من العبيد، ويتلوهم صعوداً فئة "الشودرا" الذين لم يكونوا عبيداً بقدر ما كانوا مأجورين على عملهم، ولو أن منزلتهم الاجتماعية كإجراء كانت تُوَرَّث، كما هو الحال في سائر المنازل الاجتماعية
بين الهنود؛ وكان الفقر الذي وصفه "الأب دِبْوَا"(1820 م)(36) نتيجة الخمسين عاماً من الفوضى السياسية، ولو أن حالة الشعب في ظل المغول كانت مزدهرة نسبياً (37)، فلئن كانت الأجور متواضعة تتراوح بين ما يساوي ثلاث سنتات (السنت عملة أمريكية تساوي مليمين) وتسعاً كل يوم في عهد "أكبر" إلا أن الأثمان كانت بخسة بما يقابل تلك الأجور القليلة؛ ففي سنة 1600 م كانت الروبية (وهي تساوي في المتوسط 5 ر 32 سنت) تشتري 194 رطلاً من القمح أو 287 رطلاً من الشعير؛ وأما في سنة 1901 م فلم تكن الروبية تشتري إلا 29 رطلاً من القمح أو 44 رطلاً من الشعير (38)؛ ولقد وصف الحالة إنجليزي سكن الهند في سنة 1616 م فوصف "وفرة المواد كلها "بأنها" وفرة عظيمة جداً في طول البلاد وعرضها".
ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن كان إنسان هناك في مستطاعه أن يجد زاده من الخبز في وفرة لا تعرف قحطاً"(39). وقال إنجليزي آخر طاف بالهند في القرن السابع عشر: "إن نفقاته كانت تبلغ في المتوسط أربع سنتات كل يوم"(40).
بلغت ثروة البلاد ذروتها في عهد "تشاندرا جوبتا موريا" و "شاه جهان" فقد ضربت الأمثال في أرجاء العالم كله بثروة الهند في ظل ملوك "جوبتا"؛ وصور "يوان شوانج" مدينة هندية بقوله إنها جميلة تزينها الحدائق وأحواض الماء، ومعاهد الآداب والفنون، "وسكانها من ذوي اليسار وبينهم أسر على ثراء عظيم؛ وتكثر بالمدينة الفاكهة والأزهار
…
وللناس مظهر رقيق يلبسون أردية الحرير اللامعة؛ وحديثهم
…
واضح يوحي بالمعاني، وهم منقسمون نصفين متعادلين، نصف يتبع الأرثوذكسية في الدين، ونصف آخر يمقت هذه الرجعية الدينية" (41)، ويقول "إلْفِنْستون": "إن الممالك الهندية التي ثل المسلمون عروشها كانت من الثراء بحيث كَلَّ المؤرخون عن ذكر ما غنمه الغزاة هناك من جواهر هائلة المقدار ونقود كثيرة" (42)، ووصف "نِكُولو كونتي" ضفاف الكنج (حوالي سنة 1420 م) فقال إنها تمتلئ بصف من
المدن الزاهرة واحدة في إثر أخرى، وكلها حسن التخطيط غني بالحدائق والبساتين والفضة والذهب والتجارة والصناعة (43)؛ وكانت خزينة "شاه جهان" مفعمة بما فيها حتى لقد احتفر تحت الأرض غرفتين قويتين، سعة كل منهما 000 ر 150 قدماً مكعبة، وتكاد تمتلئ بالفضة والذهب (44) ويقول "فنسنت سمث":"إن الشواهد المعاصرة لذلك الزمن لتقطع باليقين الذي لا يعرف الشك أن سكان الحضر الذين كانوا يسكنون أهم المدن، كانوا من ذوي اليسار"(45)، ووصف الرحالة مدينتي "أجرا" و"فتحبور سكرى" بأن كلاً منهما أعظم من لندن وأعرض منها ثراء (46)؛ ولقد ألفى "أنكتيل دوبرون" نفسه حين طاف بأقاليم "الماهاراتا" سنة 1760 م "وسط العصر الذهبي ببساطته وسعادته .. فقد كان الناس باسمين أقوياء وفي صحة جيدة"(47)، وزار "كلايف" مرشد أباد سنة 1759 م فقال إن تلك العاصمة القديمة للبنغال تساوي لندن التي عرفها في عصره مساحة وعدد سكان وثراء، وفيها من القصور ما لا تقاس إليه قصور أوربا، ومن الأغنياء رجال لا يدنو منهم غنيٌّ في لندن (48)، ويقول "كلايف":"كانت الهند قطراً لا ينفد ثراؤه"(49)، ولقد حاكمه مجلس النواب على الإسراف في الأموال التي اغتصبها لنفسه، فدافع كلايف عن نفسه في براعة، إذ جعل يصف الغنى الذي وجد نفسه محاطاً به في الهند- فمدنٌ غنية تعرض عليه أي مبلغ أراد ليجنيها من فوضى النهب، وأغنياء يفتحون له أسراباً تكدس فيها الذهب والجواهر أكداساً أكداساً ليأخذ منها ما أراد، ثم ختم دفاعه قائلاً:"إنني في هذه اللحظة أقف هاهنا دهشاً كيف قنعت بالقليل الذي أخذت"(50)
الفصل الثاني
تنظيم المجتمع
الملكية - القانون - تشريع مانو - تطور نظام الطبقات - نشأة
البراهمة - امتيازاتهم ونفوذهم - واجباتهم - دفاع عن نظام الطبقات
لما كانت الطرق رديئة والمواصلات عسيرة، كان غزو الهند أيسر من حكمها؛ فلقد حتمت طبيعة سطحها أن تظل هذه البلاد الشبيهة بأن تكون قارة بأسرها، خليطاً من دويلات مستقل بعضها عن بعض، حتى جاءتها السكك الحديدية فوصلت ما تفرق من أجزائها؛ وفي مثل هذه الظروف لا يمكن لحكومة أن تضمن لنفسها البقاء إلا بجيش قوي؛ ولما كان الجيش بحاجة إلى قائد مستبد الرأي ليحكمه بكلمة منه دون التأثر بفصاحة الكلام يقوله غيره في شئون السياسة، فإن صورة الحكومة التي تكونت في الهند هي الملكية بطبيعة الحال؛ ولقد تمتع الناس بقدر كبير من الحرية في ظل الأسرات الحاكمة الوطنية، وذلك من جهة يرجع إلى الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به القرى في الريف ونقابات العمال في المدن، كما يرجع من جهة أخرى إلى القيود التي فرضتها الطبقة الأرستقراطية البرهمية على سلطة الملك (51)؛ وإنك لتجد في قوانين "مانو" تعبيراً عن الأفكار الرئيسية في الهند عن الملكية، على الرغم من أن تلك القوانين أقرب إلى التشريع الخلقي منها إلى التشريع القانوني لأوضاع الحياة الجارية؛ فعندهم إن الملكية ينبغي أن تكون قوية الشكيمة في حياد، وأن ترعى مصالح الناس رعاية الوالد لولده (52)؛ غير أن الحكام المسلمين كانوا أقل مبالاة من أسلافهم الهنود بهذه المثل العليا وهذه القيود؛ لأنهم كانوا أقلية فاتحة، فأقامت حكمها صراحة على تفوقها العسكري؛ فيقول مؤرخ مسلم في وضوح جميل: "إن
الجيش هو عدة الحكومة وعتادها" (53)، وقد كان أكبر شذوذاً في هؤلاء الحكام المسلمين، لأنه اعتمد قبل كل شئ على رضى الشعب لازدهاره تحت حكومته المستبدة في اعتدال ورحمة؛ ولعل حكومته في ظروفها كانت خير حكومة يمكن قيامها، وأهم عيوبها - كما أسلفنا - هو اعتمادها على شخصية الملك، لأن السلطة العليا المتركزة في يد الحاكم كانت خيراً في عهد "أكبر" لكنها كانت شراً مستطيراً في عهد "أورنجزيب"؛ ولما كان الحكام الأفغان والمغول قد ارتفعوا إلى سلطانهم بالعنف، فقد كانوا دائماً عرضة إلى الهبوط عن سلطانهم بالاغتيال، وكادت الحروب التي تشن ليحل ملك مكان آخر، تكلف من النفقات ما تكلفه الانتخابات في عصرنا الحديث، ولو أن تلك الحروب لم تكن عقبة في سبيل اضطراد الحياة الاقتصادية كما هي الحال مع انتخاباتنا اليوم
(1)
.
لم يكن القانون في ظل الحكام المسلمين إلا إرادة الإمبراطور أو السلطان؛ وأما في ظل الملوك الهنود فقد كان مزيجاً مضطرباً من الأوامر الملكية ومن تقاليد القرى وقواعد الطبقات وكان الذي يتولى القضاء رئيس
(1)
إن قصة اغتيال ناصر الدين لأبيه غياث الدين سلطان دلهي بالسم (1501 م) توضح الفكرة الإسلامية عن الاستيلاء على العرش بطريقة سلمية، وهاهو ذا "جهان كير" الذي لم يدخر وسعاًً في إنزال أبيه "أكبر" عن عرشه، يقص القصة: "وبعد ذلك ذهبت إلى البناء الذي يحتوي على أضرحة الحكام الخالجيين، وكان بينها قبر ناصر الدين الذي وصم وصمة العار إلى الأبد، فكلنا يعرف أن هذا المنكود قد ارتقى إلى العرش باغتيال أبيه، فجرعه السم مرتين، واستطاع أبوه في كلتا الحالتين أن يطهر آثار السم بترياق كان يحمله على ذراعه؛ وفي المرة الثالثة مزج الابن قطرات السم بكوب من الشراب وقدمه إلى أبيه بنفسه
…
ولما كان أبوه يعلم ما يبذله ابنه من جهود في سبيل التخلص منه، فقد نزع عن ذراعه التميمة وقذف بها أمامه، ثم أدار وجهه في خضوع وخشوع إلى عرش الخالق وقال: اللهم إني قد بلغت من العمر ثمانين عاماًً أنفقتها في ازدهار وسعادة لم يتمتع بمثلها ملك قبلي؛ ولما كانت هذه آخر لحظات حياتي، فأضرع إليك اللهم ألا تحول بين ناصر وبين قتلي وأن تعد موتي أمراً من أمرك فلا تنتقم لي منه"؛ وبعد أن فاه بهذه الكلمات جرع ذلك الكوب من الشراب المسموم بجرعة واحدة وأسلم روحه إلى ربه. ويضيف "جيهان كير" الفاضل إلى ذلك قوله:"ولما ذهبت إلى قبره (أي قبر ناصر) ركلته عدة ركلات".
الأسرة، أو رئيس القرية، أو شيوخ الطبقة، أو محكمة النقابة، أو مدير الإقليم أو زير الملك أو الملك نفسه (55) على أن المحاكمة كانت سريعة الإجراء سريعة الحكم، ولم تعرف البلاد نظام المحاماة في القضايا على أيدي رجال القانون إلا بعد قدوم البريطانيين (56) وكان التعذيب مألوفاً في عهود الأسرات الحاكمة كلها حتى ألغاه "فيروزشاه"(57) والموت هو العقوبة في عدد كبير جداً من الجرائم، فقد كانوا يعاقبون به سرقة المنازل وإتلاف أملاك الملك خاصة، أو السرقة على النطاق الذي نراه اليوم يجعل من السارق عموداً من عمدان المجتمع؛ وكانت سائر ألوان العقاب قاسية تشمل بين أنواعها بتر الأيدي والأقدام والأنوف والآذان وفقء الأعين وصب الرصاص المصهور في الحلوق وتهشيم عظام الأيدي والأقدام بمطرقة خشبية وإحراق الجسم بالنار وإنفاذ المسامير في الكفوف والأقدام والصدور، وقطع أعصاب المفاصل ونشر الناس بمناشير الخشب ثم قطع جسومهم أجزاء وإنفاذ القضبان المسنونة فيهم وشويهم على النار أحياء وقذفهم تحت أقدام الفيلة لتدقهم دقاً حتى يموتوا أو رميهم فريسة للكلاب المتوحشة الجائعة
(1)
.
ولم يكن هناك تشريع قانوني واحد يشتمل الهند بأسرها، فكان يحل محل القانون في شئون الحياة اليومية ما يسمونه "ذارماشاسترا" أي النصوص العرفية التي تفصل ما للطبقات من نظم وواجبات، والذي كتب هذه النصوص رجال من البراهمة، كتبوها من وجهة نظر برهمية خالصة؛ وأقدم هذه النصوص ما يسمى "بتشريع مانو"؛ ومانو هذا هو السلف الأسطوري الذي تسلسلت عنه جماعة المانوية (أو مدرستها الفكرية) المؤلفة من براهمة بالقرب من دلهي؛ وقد صورته هذه النصوص ابناً لله يتلقى القوانين من براهما نفسه (59) وهذا التشريع مؤلف من 2685 بيتاً من الشعر، كانوا يرجعونه إلى سنة 1200 ق. م، لكن الباحثين اليوم يردونه إلى القرون الأولى بعد ميلاد المسيح (60)
(1)
وتجد في كتاب ديبوا ص 659 أنواعا من العقاب أدق من هذه في إظهار روح الشر.
ولقد أريد بهذا التشريع بادئ الأمر أن يكون بمثابة الدليل أو الكتاب الصغير الذي يرشد براهمة المانوية هؤلاء إلى أوضاع السلوك الصحيح، لكنه أخذ على التدريج يتطور فيصبح تشريعاً يحدد قواعد السلوك للمجتمع الهندي كله، وعلى الرغم من أن ملوك المسلمين لم يعترفوا به قط، إلا أنه اكتسب كل ما للقانون من قوة داخل حدود نظام الطبقات، وستتبين خصائص هذا التشريع إلى حد ما خلال الصفحات الآتية بما أوردناه فيها من تحليل للمجتمع الهندي وأخلاقه، لكنه على وجه العموم كان يتسم بمظهر خرافي من حيث قبوله لمبدأ المحاكمة بالمحنة
(1)
وتطبيقه تطبيقاً متزمتاً لقانون العين بالعين والسن بالسن، وإشادته مرة بعد مرة بطبقة البراهمة في فضائلها وحقوقها ونفوذها (62)، وكان من تأثير هذا الكتاب أن زاد زيادة عظيمة من سيطرة نظام الطبقات على المجتمع الهندي.
كان هذا النظام الطبقي قد ازداد تزمتاً وتعقيداً منذ العصر الفيدي، لأن طبيعة النظم الاجتماعية من شأنها أن تزيد تلك النظم صلابة على مر الزمن، ولأن اجتياح الهند- من جهة أخرى- بالشعوب الأجنبية والعقائد الخارجية قد زاد من صلابة نظام الطبقات ليقوم سداً قوياً يحول دون امتزاج دم المسلمين بدم الهنود، فقد كان أساس الطبقات في العصر الفيدي هو اللون، ثم أصبح الأساس في العصور الوسطى الهندية هو المولد، وكان معنى التقسيم الطبقي شيئين،
(1)
"الأب ديبوا" صادق على الجملة، على الرغم من عدم عطفه على الهنود، وهو يصور لنا المحن التي كانوا ينزلونها بالمتهمين في عصره (1820 م) فيقول:"وهناك أنواع أخرى كثيرة للمحاكمة بالمحن، منها أن يغلي الزيت ممزوجاً بروث البقرة وعلى المتهم إن يدس فيه ذراعه حتى المرفق؛ ومنها محنة الثعبان، وتفصيلها أن يوضع ثعبان من أخطر الثعابين سماًً في سلة مقفلة، ويضعون في السلة خاتماًً أو قطعة من النقود، وعلى المتهم أن يخرج هذه القطعة أو ذلك الخاتم وعيناه معصوبتان؛ فإذا لم يصب جلده بحروق في الحالة الأولى، أو إذا لم يعضه الثعبان في الحالة الثانية، عد ذلك برهان براءته القاطع".
معناه من جهة وراثة الوضع الاجتماعي، ومعناه من جهة أخرى قبول كتاب "ذارما"- أي قبول ما تفرضه التقاليد على أفراد كل طبقة من التزامات وصنوف أعمال.
وعلى رأس الطبقات وأكبر المستفيدين من نظامها، وهم الثمانية ملايين من ذكور طبقة البراهمة (63)؛ وكانت طبقة البراهمة هذه قد أصابها الضعف حيناً من الزمن بسبب نهضة البوذية في عهد "أشوكا" لكن البراهمة بما كان لهم من دأب وصبر يتصف بهما الكهنة على اختلاف أوطانهم، مالوا للحوادث، ثم استعادوا نفوذهم وسيادتهم في ظل ملوك "جوبتا"؛ وما نزال نرى وثائق منذ القرن الثاني بعد الميلاد بمنح عظيمة - خصوصاً إقطاعيات من الأرض - توهب لطبقة البراهمة
(1)
وكانت هذه المنح - شأنها شأن أملاك البراهمة كلها - معفاة من الضرائب حتى جاء البريطانيون (66) فتشريع مانو يحذر الملك من فرض ضريبة على برهمي، حتى إن نضبت كل موارد المال الأخرى، لأن البرهمي إذا ما أثار غضبه يستطيع أن يسحق الملك وجيشه جميعاً بتلاوة لعنات ونصوص سحرية (67)؛ ولم يكن من عادة الهنود أن يوصوا بشيء قبل موتهم فيما يختص بميراثهم، لأن من تقاليدهم أن أملاك الأسرة لا بد أن تظل ملكاً مشاعاً للأسرة كلها، وهي تنتقل انتقالاً آلياً من موتى الذكور في الأسرة إلى أحيائهم
(2)
لكن الأوربيين بما يسودهم من نزعة نحو الفردية، لم يكادوا يدخلون في الهند نظام الوصايا، حتى رحب به البراهمة ترحيباً عظيماً، ليتخذوا منه حيناً بعد حين وسيلة للاستيلاء على الأراضي لأغراض كهنوتية (70) وكان أهم عنصر في تقديم القرابين للآلهة هو الرسوم التي تدفع للكاهن المشرف على إقامة الطقوس الخاصة بذلك، ورأس التقوى كلها هو السخاء في دفع تلك الرسوم (71) وكذلك كان من موارد الكهنة الخصبة الإتيان بالمعجزات
(1)
يعتقد "تود" أن بعض هذه الوثائق مزور تزويراً دفعت إليه التقوى الدينية.
(2)
لكن جماعة الدرافيديين تنقل الإرث إلى طبقات إناثهم
وغير ذلك من ألوف الخرافات، فلقاء رسم معين يستطيع البراهمي أن يجعل من العاقر ولوداً، ونظير أجر معلوم ينبئ البرهمي بما خط في لوح القدر؛ وكان البراهمة يستخدمون رجالاً يطلبون إليهم أن يتظاهروا بالجنون وأن يعترفوا بأن هذا المس الذي أصابهم إنما جاءهم جزاء وفاقاً لما قتروا في العطاء للكهنة؛ وكان الرجل من البراهمة يقصد في كل حالات المرض أو المحاكمات أو حالات التشاؤم ببعض النذر السيئة أو الأحلام المزعجة أو البدء في مشروع جديد، كان الرجل من البراهمة يقصد في كل تلك الحالات طلباً لمشورته، وللمشير أجر مشورته (72).
وكان البراهمة يستمدون نفوذهم من احتكارهم للعلم، فهم القائمون على صيانة التقاليد وهم الذين يدخلون على تلك التقاليد ما شاءوا من تعديل؛ وهم الذين يتولون تربية النشء، ويكتبون الأدب أو يقومون على نشر المكتوب منه، وهم الخبراء بكتب الفيدا التي هبط بها الوحي ولا يأتيها الباطل؛ ولو أنصت رجل من طبقة "الشودرا" إلى تلاوة الكتب المقدسة، امتلأت أذناه بالرصاص المصهور (هكذا تقول كتب القانون البرهمية)، وإن تلاها هو انشق لسانه، ولو حفظ شيئاً منها قطع جسده نصفين (73)، هذه النذر وأمثالها - التي لم توقع فعلاً إلا في حالات نادرة - هي التي كان يلجاً إليها الكهنة ليصونوا لأنفسهم العلم فلا يشاركهم فيه معتد؛ وهكذا أصبحت البرهمية مذهباً خاصاً بفئة معينة تحيط نفسها بسياج، لا تأذن لأحد من غير أفرادها أن يسهم في العلم به (74) وينص تشريع مانو على أن يكون من حق البرهمي سيادته على سائر الكائنات (75) على أن الفرد منهم لم يكن ليتمتع بكل ما للبراهمة من نفوذ وامتيازات حتى ينفق في مرحلة الاستعداد أعواماً كثيرة، وبعدئذ "يولد ولادة جديدة" وتجري له طقوس الخيط الثلاثي (76)، فإذا ما تم له ذلك، أصبح منذ هذه اللحظة كائناً مقدساً، وأصبح شخصه وملكه مما لا يجوز عليه الاعتداء؛ بل يذهب "مانو" في ذلك بعيداً فيقرر أن "كل
ما هو كائن في الوجود ملك للبراهمة" (77)؛ وكان لا بد لصيانة الطبقة البراهمية من منح عامة وخاصة - وهي لا توهب لهم على سبيل الإحسان، بل من باب الواجب المقدس (78) وكان السخاء في العطاء للبرهمي من أسمى الواجبات الدينية؛ ويستطيع البرهمي الذي لا يجد ترحيباً كريماً في أحد المنازل أن يُذهِبَ عن صاحب البيت كل ما كان استحقه من جزاء عن حسناته السابقة جميعاً
(1)
ولو اقترف البرهمي كل جريمة ممكنة، لما حَقَّ عليه القتل، فللملك أن ينفيه، لكن لا بد له أن يأذن بالاحتفاظ بملكه (82) ومن حاول أن يضرب برهمياً، كان لزاماً عليه أن يصلى عذاب النار مائة عام، وأما من ضرب برهمياً بالفعل، فقد حقت عليه الجحيم ألف عام (83) وإذا اعتدى رجل من الشودرا على عفاف زوجة رجل من البراهمة، صودرت أملاكه وحكم عليه بالخصي (84) وإذا قتل رجل من الشودرا زميلاً له من الشودرا، كان له أن يكفر عن جريمته بعشر بقرات يهبها للبراهمة، فإذا قتل أحداً من "الفيزيا" كانت كفارته للبراهمة مائة بقرة، وإذا قتل أحداً من "الكشاترية" ارتفعت كفارته إلى ألف بقرة يعطيها للبراهمة، أما إذا قتل برهمياً فلا بد من قتله، ذلك لأن جريمته القتل عندهم لم تكن إلا بقتل برهمي (85).
وكان على البرهمي في مقابل هذه الامتيازات أعمال والتزامات كثيرة وفادحة؛ فلم يكن يقوم بواجبات الكاهن العملية وكفى
(2)
، لكنه كان إلى جانب ذلك يعد نفسه للمهن الكتابية والتربوية والأدبية، وكان ينتظر منه
(1)
يظهر أن بعض فئات البراهمة كان من حقهم بعض الأجور الإضافية يتقاضونها على هيئة متعة جنسية، فبراهمة نامبوردي كانوا يتمتعون "بحق الليلة الأولى" عند كل عروس تزف في منطقة نفوذهم، وكهنة بوشتيمارجيا في بمباي ظلوا يحتفظون بهذا الحق حتى العصور الحديثة (80) ولو أخذنا بما يقوله "الأب ديبوا" فإن كهنة معبد تيروباتي (في جنوب الهند الشرقي) كانوا على استعداد لمعالجة العقم في المرأة إذا ما قضت ليلة في المعبد.
(2)
لم يكن الكهنة كلهم من البراهمة، وأخيراً لم يكن كثير من البراهمة كهنة؛ ففي "الأقاليم المتحدة" تجد عدداً كبيراً منهم يشتغل بالطهي.
أن يدرس القانون وأن يحفظ كتب الفيدا وكل واجب آخر من واجباته، إنما يأتي بعد ذلك في الأهمية (86)، ولو لم يستطع البرهمي سوى إن يتلو كتب الفيدا، فإنه بذلك وحده يصبح جديراً بطمأنينة النفس بغض النظر عما قام به غير ذلك من طقوس أو إنتاج (87)، أما إن حفظ عن ظهر قلب كتاب "رج فيدا"، فإنه يستطيع بعد ذلك أن يحطم العالم تحطيماً دون أن يعد ذلك منه اقترافاً لجريمة (88)، وليس من حقه أن يتزوج خارج طبقته، فإن تزوج امرأة من طبقة الشودرا، عد أبناؤه من الطبقة الدنيا، طبقة "الباريا"، وفي ذلك جاء في كتاب مانو:"إن الرجل الطيب العنصر بمولده إنما يفسد عنصره بصحبة الأَدْنين، أما من كان دنياً بمولده فيستحيل أن يسمو بصحبة الأعلين"(89)، كان على البرهمي أن يستحم كل يوم، وأن يعود فيستحم مرة أخرى إذا حلق له حلاق من الطبقة الدنيا؛ وعليه أن يطهر المكان الذي أعده لنومه بروث البقر، ولا بد له أن يراعي طقوساً صحية دقيقة في مباشرته لضرورات طبيعته (90)، ومحتوم عليه أن يمتنع عن أكل البصل والثوم ونبات الفطر ونبات الكرات؛ ولم يكن يجوز له أي ضرب من ضروب الشراب غير الماء، ويشترط أن يستخرجها وأن يحملها برهمي (91)، وتحرم عليه صنوف الدهون والعطور واللذة الحسية والجشع والغضب (92)، وإذا مس شيئاً نجساً، أو لمس أجنبياً (حتى إن كان ذلك الأجنبي هو الحاكم العام للهند) كان لا بد له من أن يطهر نفسه بالوضوء الذي تحدده الطقوس، ولو اقترف إثما، كان لزاماً عليه أن يتقبل عقاباً أعنف مما يقع على مرتكب الإثم نفسه من طبقة دنيا؛ فمثلاً لو سرق رجل من طبقة الشودرا شيئاً، حكم عليه أن يدفع غرامة
قدرها ثمانية أمثال قيمة الشيء المسروق، وإذا سرق رجل من طبقة " الفيزيا " شيئاً دفع غرامة تساوي ستة عشر مثلاً، والرجل من "الكشاترية" يدفع اثنين وثلاثين مثلاً، وأما البرهمي فيدفع غرامة قدرها أربعة وستين مثلاً؛ وكان يستحيل على البرهمي أن يؤذي كائناً حياً (93).
وأخذت قوة الكهنة تزداد من جيل إلى جيل حتى أصبحوا أطول ما عرفه التاريخ من طبقات الأرستقراطية بقاء على وجه الدهر، وذلك لاعتدالهم في مراعاة هذه القواعد من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم وجدوا شعباً أثقلته فلاحة الأرض فأخضعته لتقلبات الجو التي بدت لهم كأنها تقلبات أهواء شخصية، فشغلهم ذلك كله عن النهوض بأنفسهم من الخرافة إلى نور العرفان؛ فيستحيل أن تجد هذه الظاهرة العجيبة في أي مكان آخر غير الهند - وهي ظاهرة نموذجية تمثل بطء التغير في الهند - وأعني بها أن تظل طبقة عليا محتفظة بامتيازاتها وعلو مكانتها على مر العصور بكل ما شهدته من غزوات وأسر حاكمة وحكومات مدى 2500 عام؛ ولا ينافسهم طول البقاء إلا "الشاندالا" طريدة الطبقات؛ أما فئة "الكشاترية" القديمة التي كان لها السلطان على الميدان الفكري والسياسي في عهد بوذا، فقد توارت بعد عصر جوبتا؛ وعلى الرغم من أن البراهمة اعترفوا بمحاربي "راجبوت" واعتبروهم بمثابة تطور طرأ على الطبقة المحاربة القديمة، إلا أن الكشاترية - بعد سقوط راجبوتانا- لم يلبثوا أن زالت دولتهم، وأخيراً لم يبق إلا طائفتان كبيرتان، وهما طائفة البراهمة التي كانت طبقة الحكام في الهند من الناحية الاجتماعية والفكرية، ثم يأتي تحتهم ثلاث آلاف طبقة هي في حقيقة الأمر عبارة عن النقابات الصناعية
(1)
.
ولو استثنيت نظام الزوجة الواحدة من حيث إساءة تطبيقه، لجاز لك أن تقول إن نظام الطبقات أكثر النظم الاجتماعية سوء تطبيق، ولولا ذلك لوجدت ما تقوله في الدفاع عن هذا النظام، فله حسنة التصفية الاجتماعية التي تصون ما نزعم أنه دم نقي من الشوائب ومن الانقراض اللذين ينتجان حتماً عن فك
(1)
راجع الفصل التاسع، في قسمه الرابع لتلم بنظام الطبقات في عصرنا.
قيود الامتزاج بالزواج؛ وكذلك لنظام الطبقات حسنة أخرى، وهي تدعيمه لطائفة من عادات الطعام والنظافة التي كان يتحتم على كل إنسان أن يراعيها وأن يسمو إليها صوناً لكرامته؛ وكذلك خلع ثوب النظام على ما بين الناس من تفاوت وفروق، لولاه لأصبحت فوضى بغير ضابط، ووفّر على الناس هذه الحمى التي تطغى عليهم في عصرنا الحديث، حمى الصعود في سلم المجتمع والزيادة من كسب المال؛ ونظم الحياة لكل إنسان بأن حدد له تشريعاً معيناً للسلوك في طبقته، كما أعطى أفراد الطبقة الواحدة وسائل تعينهم على الاتحاد في العمل ضد كل استغلال أو استبداد؛ ثم هيأ نظام الطبقات أيضاً مهرباً من الطغيان أو الدكتاتورية العسكرية اللذين لا محيص عن أحدهما بديلاً للأرستقراطية، وأتاح لبلد حرم الاستقرار السياسي بسبب ما قاساه من مئات الغزوات والثورات أتاح له نظاماً واستقراراً في شؤونه الاجتماعية والخلقية والثقافية، لم ينافسه فيهما بلد آخر إلا الصين؛ ولقد طرأ على الدولة مئات التغيرات الفوضوية، لكن البراهمة احتفظوا باستقرار المجتمع بفضل نظام الطبقات، وبهذا احتفظوا بالمدنية وزادوا منها ونقلوها إلى الخلَف، واحتملتهم الأمة صابرة، بل احتملتهم فخورة بهم، لأنه لم يغب عن إنسان واحد أنهم في النهاية هم القوة الحاكمة التي ليس للهند عنها محيص.
الفصل الثالث
الأخلاق والزواج
"ذارما" - الأطفال - زواج الأطفال - فن الحب - الزنا - الحب
الشعري - الزواج - الأسرة - المرأة - حياتها العقلية - حقوقها -
"البردة" - السوتي (أي موت الزوجة لموت زوجها) - الأرملة
إذا ما انقرض من الهند نظام الطبقات، تحتم أن يطرأ على الحياة الخلقية فيها طور طويل الأمد تسوده الفوضى، لأن التشريع الخلقي في هذه البلاد قد ارتبط بنظام الطبقات ارتباطاً يكاد لا يكون له انفصام، والأخلاق عندهم هي "ذارما"- أي أنها هي قواعد السلوك في الحياة لكل إنسان كما تحددها له طبقته؛ فلأن تكون هندوسي المذهب، فليس معنى ذلك اعتناقك لعقيدة بقدر ما هو اتخاذك مكاناً معيناً في نظام الطبقات، وقبولك "الذارما" أي الواجبات التي تترتب على مكانك ذاك، وفق ما تقضي به التقاليد والقوانين؛ ولكل مكان من ذلك النظام التزاماته وقيوده وحقوقه، ولا مندوحة للهندوسي الورع أن يسلك حياته ملتزماً تلك الالتزامات والقيود والحقوق، واجداً فيها قناعة الراضي بالطريق الذي مهد له لكي يسير فيه، ولا يطوف بباله قط أن يجاوز حدود طبقته إلى طبقة أخرى؛ جاء في كتاب "بهاجافادجيتا" (98):"خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيئاً من أن تؤدي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً"؛ إن "ذارما" للفرد من الناس هي بمثابة النمو الطبيعي للبذرة- تحقيق مرسوم الطريق لطبيعة كامنة فيها وقضاء مكتوب عليها (99)، ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذر على الهندوس جميعاً ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معينة، تهديهم وتقيدهم وقوانينها؛ وفي ذلك يقول
مؤرخ إنجليزي: "يستحيل تصور المجتمع الهندي بغير نظام الطبقات"(100).
وإلى جانب "ذارما" الخاصة بكل طبقة على حدة؛ نرى الهندوسيين يعترفون "بذارما" عامة، أي التزامات تلتزم بها جميع الطبقات، وتتضمن قبل كل شئ احتراماً للبراهمة وتقديساً للبقر (101)؛ ويأتي بعد ذلك في الأهمية واجب النسل، ففي تشريع "مانو" ما يلي (102):"النسل وحده يكمل الرجل، فهو يكمل إذا ما أصبح ثلاثة- شخصه وزوجه وابنه"؛ فليس الأبناء حسنة اقتصادية لآبائهم فحسب، يعولونهم في شيخوختهم بغير أدنى تردد في هذا الواجب؛ بل هم إلى جانب ذلك سيمضون في عبادة الأسرة لأسلافها، ويقدمون لأرواح هؤلاء الأسلاف طعاماً آناً بعد آن، حتى لا تفنى أرواحهم إذا امتنع عنها الطعام (103)، وبناء على ذلك لم يعرف الهنود ضبط النسل، وعد الإجهاض جريمة تساوي في فداحتها جريمة قتل برهمي (104)، نعم كان يحدث أحيانا أن تقضي الأمهات على الأجنة (105)، لكن ذلك كان نادر الوقوع، لأن الوالد كان يسره أن ينسل الأبناء، ويفخر إذا كان له منهم عدد كبير؛ وإن حنان الشيوخ على الصغار بين الهنود لمن أجمل ظواهر المدنية الهندية (106).
ولم يكد الطفل عندهم يشهد النور حتى كان يأخذ أبواه في التفكير في زواجه، لأن الزواج- في النظام الهندي- إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات، ليس له في المجتمع مكانه ولا اعتبار، وكذلك بالنسبة للفتاة إن طال بها الأمد عذراء بغير زواج، فذلك عار أي عار (107) على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، أو لدفعة الحب تدفع العاشق إلى زواج من يهوى، بل كان الزواج عندهم أمراً حيوياً تهتم له الجماعة كلها والجنس كله، فيستحيل أن يوكل أمره إلى العاطفة بما لها من قصر بعواقب الأمور، أو إلى المصادفة تجمع من شاءت بمن شاءت (108) فلا بد أن يتولى الوالدان أمر زواج الوليد قبل أن تستولي عليه حمى الرغبة
الجنسية فتقذف به إلى زواج مصيره في نظر الهنود- إلى خيبة الرجاء واليأس المرير: ولقد أطلق "مانو" اسم "زواج الجانذارفا" على الزيجات التي تتم باتفاق الزوجين، ووصف أمثال هؤلاء وصفاً شائناً إذ وصفهم بأنهم وليدو الشهوة؛ نعم إن التشريع يبيح مثل هذا الزواج، لكن الزوجين عندئذ يوشكان ألا يجدا عند الناس شيئاً من الاحترام.
ولقد أدى النضوج المبكر بين الهنود، الذي يجعل البنت في سن الثانية عشرة مساوية لزميلتها في أمريكا في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إلى خلق مشكلة عويصة في النظام الاجتماعي والخلقي
(1)
فهل الأفضل أن يدبر الزواج بحيث يطابق سن النضوج الجنسي، أم الأفضل أن يرجأ- كما في أمريكا- حتى يبلغ الرجل نضوجه الاقتصادي؟ والظاهر أن الحل الأول للمشكلة يؤدي إلى ضعف البنية في أبناء الأمة (110) ويزيد من عدد السكان زيادة سريعة لا تتمشى مع مقتضيات الظروف، ويضحي بالمرأة تضحية تكاد تكون تامة في سبيل النسل؛ وأما الحل الثاني فيؤدي إلى مشكلة أخرى وهي التأخير الذي تأباه الطبيعة، وإلى كبح الرغبة الجنسية كبحاً يؤدي إلى حبوطها، كما يؤدي إلى الدعارة والأمراض السرية؛ ولقد آثر الهنود لأنفسهم زواج الأطفال على اعتبار أنه أهون الشرين، وحاولوا أن يخففوا من أخطاره بأن يجعلوا بين الزواج وبين إثماره فترة تبقى فيها العروس مع والديها حتى يتم نضجها (111)؛ هذا عندهم نظام اجتماعي قديم، ومن قدمه جاءت قداسته، وإنما نبتت جذوره بادئ ذي بدء في رغبة الناس في منع التزاوج بين الطبقات تزاوجاً قد تسببه مجرد الجاذبية الجنسية العابرة (112) ثم ازداد في نفوس الناس
(1)
يجب أن نضيف هنا أن غاندي ينكر أن يكون هذا التبكير في النضوج قائماًً على أساس جثماني، فهو يقول:"إني امقت وأكره زواج الأطفال، ويهتز كياني إن رأيت أرملة طفلة، ولست أرى أمعن في التخريف من خرافة تقول أن مناخ الهند يسبب التبكير في النضوج الجنسي؛ فالذي يسبب النضوج قبل أوانه هو الجو الفكري والخلقي الذي يحيط بالأسرة في حياتها".
قوة فيما بعد، بسبب أن المسلمين الغزاة، الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى لو لم يكونوا غزاة فاتحين، كانت ديانتهم لا تحرم عليهم أن يسبوا النساء المتزوجات ليكن لهم إماء (113)؛ وأخيراً اتخذ النظام شكله الجامد الذي جعله تصميماً عند الأبوين على وقاية ابنتهما من استثارة الذكور لحساسيتها الجنسية.
والدليل على أن هذه الحساسية عند البنت كانت مرهفة إلى حد ما، وعلى أن الذكر قد يعهد إليه أداء وظيفته البيولوجية لأقل مثير يثير شهوته، ظاهر في أدب العشق عن الهنود؛ فكتاب "كاما سوترا" ومعناها "مذهب الشهوة" هو أشهر كتاب من بين مجموعة كبرى كلها تعبر عن اشتغال عقولهم إلى حد ملحوظ بفنون العلاقة الجنسية في صورتيها الجسدية والعقلية؛ ويؤكد لنا مؤلف الكتاب أنه كتبه "وفق المبادئ التي جاءت في الكتاب المقدس لفائدة العالم؛ وكاتبه هو فاتسيابانا، كتبه عندما كان يحيا حياة طالب ديني في بنارس، ولا يعينه شئ في الدنيا سوى التأمل في ذات الله"(114) ويقول هذا الناسك: "إن من يهمل فتاة، ظناً منه أنها أكثر حياء من أن تكون موضع صلة جنسية، تزدريه هذه الفتاة نفسها وتعده حيواناً يجهل طبيعة ما يدور في عقل المرأة"(115) ويصور لنا "فاتسيابانا" صورة جميلة لفتاة عاشقة (116) لكنه يتجه بمعظم حكمته إلى تصوير فن الأبوين في التخلص منها بالزواج، وفن الزواج في إشباع رغبات جسدها.
ولا يجوز لنا أن نفرض بأن الحساسية الجنسية عند الهنود وقد انتهت بهم إلى إباحية أكثر من الحد المألوف عند غيرهم؛ فقد أقام زواج الأطفال سداً في وجه العلاقات الجنسية السابقة للزواج؛ والعقوبات الدينية الصارمة التي كانوا ينذرون بوقوعها ليحملوا الزوجة على الوفاء لزوجها، جعلت الزنا أصعب جداً وأندر جداً مما هو عليه في أوربا أو أمريكا؛ وكان الزنا في الأعم الأغلب مقصوراً على المعابد؛ ففي الأصقاع الجنوبية كانت رغبات الرجل الشهواني
تشبعها له من كن يطلق عليهن "خادمات الله" طائعات في ذلك أوامر السماء، وما خادمات الله- أو "دفاداس" كما يسمونهن- إلا العاهرات؛ وفي كل معبد في "تامل" مجموعة من "النساء المقدسات" اللائي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة البراهمة؛ وبعض هؤلاء النسوة- فيما يظهر- قد قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهانها، وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته، على شريطة أن يدفعن لرجال الدين جزءاً من كسبهن عن هذا الطريق، وكان كثير من زانيات المعابد- أو فتيات الرقص- يقمن بالرقص والغناء في الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة، على نحو ما يفعل فتيات "الجيشا" في اليابان؛ وكان بعضهن يتعلمن القراءة، فيكن وسيلة أحاديث ثقافة في المنازل حيث لا تجد الزوجة ما يشجعها على القراءة، ولا يسمح لها بمخالطة الأضياف، وهؤلاء الفتيات القارئات شبيهات بمن كن يسمين hetairai عند اليونان؛ ويحدثنا نص مقدس أنه في سنة 1004 م كان في معبد الملك الكولي "راجا راجا" في تانجور أربعمائة امرأة من "خادمات الله"؛ وأكسب الزمان هذه العادة صبغة الجلال، فلم ير فيها أحد ما يتنافى مع الأخلاق؛ حتى إن السيدات المحترمات كن آناً بعد آن يهبن ابنة إلى مهنة العهر في المعابد، بنفس الروح التي يوهب بها الابن إلى الكهنوت (117)، ويصف "ديبوا"- في أول القرن التاسع عشر- معابد الجنوب بأنها في بعض الحالات كانت "تتحول إلى بيوت للدعارة ولا شئ غير هذا"، وكانت عامة الناس تطلق على "خادمات الله"- بغض النظر عن مهمتهن في بداية الأمر- اسم الزانيات، ويستخدمونهن على هذا الأساس؛ ولو أخذنا بقول هذا "الأب" الكهل، الذي لم يكن أمامه ما يبرر أن يتعصب للهند فيما يكتب، علمنا أن:
"واجباتهن الرسمية تتألف من الرقص والغناء داخل المعابد مرتين كل يوم
…
وكذلك في الاحتفالات العامة كلها؛ وهن يؤدين الرقص أداء رشيقاً إلى درجة مرضية، على الرغم من أن طريقة الرقص تثير الشهوة وليس في إشارتهن شئ من الوقار؛ وأما غناؤهن فيكاد كله يتألف من أشعار فاحشة تصف ما مر في تاريخ آلهتهم من حوادث الإباحية الجنسية" (118).
في هذه الظروف التي يسودها عهر المعابد وزواج الأطفال، لم يبق أمام ما نسميه "بالحب الشعري" إلا أضيق الفرص؛ نعم إن التفاني المثالي الذي يبديه أحد الجنسين تجاه الآخر، له آثاره الظاهرة في الأدب الهندي- مثال ذلك ما نراه في أشعار "شاندي داس" و "جاياديفا"- لكنه في الأغلب يتخذ رمزاً للروح تسلم زمامها لله؛ أما في الحياة الواقعة، فأكثر ما تظهر فيه هذه الروح هو تفاني الزوجة في زواجها تفانياً كاملاً؛ وأحيانا ترى شعرهم الغزلي من الطراز الخيالي السامي كالذي يصوره شعراؤنا المحافظون على تقاليد الأخلاق المتزمتة من أمثال "تنسن" و "لنجلفو"، وأحياناً أخرى تراه من الطراز الجسدي الحسي كالذي نعرفه في عصر اليصابات (119)؛ فهذا أديب منهم يوحد بين الدين والحب، ويرى الجانبين معاً متمثلين في نشوة الدين ونشوة الحب؛ وهذا أديب آخر يذكر قائمة من ثلاثمائة وستين عاطفة مختلفة تملأ قلب المحب، ويعد الأشكال المختلفة التي رسمتها أسنانه على جسد حبيبته، أو يصف كيف أخذ يزين نهدي حبيبته برسوم أزهار من معجون الصندل العبق؛ وكذلك يصف لنا مؤلف قصتي "نالا" و "داما يانتي" في ملحمة "ماهابهاراتا" آهات المحبين الحزينة وشحوبهم كأحسن ما تراه عند الشعراء الجوالين في فرنسا (120).
لكن أمثال هذه الأهواء المتقلبة لم يركن إليها نادراً في تقرير الزواج في الهند؛ ولقد أباح "مانو" ثمانية صنوف من الزواج، كان أدناها في القيمة الخلقية هو الزواج بالاغتصاب والزواج "بالحب"؛ وأما الزواج بالشراء فهو
الصورة المقبولة على أنها الطريقة المعقولة لتدبير الزواج بين رجل وامرأة؛ فالمشرع الهندي من رأيه أن صور الزواج التي تنبني على أسس اقتصادية هي في نهاية الأمر أسلم الصنوف عاقبة (121)، وفي أيام "دبوا" كانت العبارة الهندية التي تعنى "يتزوج"، والعبارة التي تعني "يشتري زوجة""عبارتين مترادفتين"
(1)
.
وأحكم الزواج زواج يدبره الوالدين مراعين فيه كل قواعد الزواج من داخل أو من خارج، فالشاب ينبغي أن يتزوج داخل طبقته الاجتماعية، لكنه يختار زوجته من خارج مجموعته العائلية (123)؛ وله أن يتزوج من زوجات كثيرات لكن واحدة منهن فقط يكون لها السيادة على الأخريات، ويشترط فيها أن تكون من طبقته الاجتماعية؛ على أن الأفضل- في رأي مانو- أن يقتصر الزوج على زوجة واحدة
(2)
وكان على الزوجة أن تحب زوجها في تفان ُيصبّره على المكاره، وأما الزوج فلم يكن ينتظر منه أن يبدي لزوجته حباً شعرياً، بل حماية أبوية (126).
كانت الأسرة الهندية من الطراز الأبوي الصميم، فالوالد هو السيد الكامل السيادة على الزوجة والأبناء والعبيد (127) وكانت المرأة مخلوقاً جميلاً يحب،
(1)
يصف لنا سترابوا (حوالي 20 ميلادية) معتمداً على أرستوبولس "بعض العادات الجديدة غير المألوفة في تاكسيلا فأولئك الذين يعجزون عن تزويج بناتهم بسبب الفقر يسوقونهن إلى ساحة السوق وهن في عنفوان شبابهن، فيسرن على صوت الأبواق والطبول (وهي الآلات نفسها التي كانوا يستخدمونها في نداء المقاتلين إلى حومة القتال) وبهذا يجمعون حشداً من الناس، فإذا ما أقبل رجل كائناً من كان أخذ الفتيات في عرض ظهورهن حتى العوانق، وبعدئذ كن يعرض أجزاءهن الأمامية، فإذا أعجبت واحدة منهن رجلاً، ثم قبلت هي ذلك الرجل على شروط متفق عليها، فإنه يتزوج منها".
(2)
لو أخذنا برأي "تود" فمن المألوف في أسرة راجبوت المالكة أن يختار الأمير مجموعة من الزوجات لكل يوم من أيام الأسبوع تختلف عن مجموعات سائر الأيام.
لكنها أحط منزلة من الرجل؛ تقول أسطورة هندية: أن "تواشتري" المبدع الإلهي، حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق قد نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فإزاء هذه المشكلة طفق يصوغ المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك:
"فأخذ استدارة القمر، وتثنى الزواحف وتعلق المحلاق وارتعاش الكلأ ودقة قصبة الغاب وازدهار الزهور وخفة أوراق الشجر وانخراط خرطوم الفيل ونظرات الغزال وتجمع النخل وخلاياه، وبهجة أشعة الشمس المرحة وبكاء السحاب وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وطراوة صدر الببغاء، وصلابة جلمود الصخر، وحلاوة العسل، وقسوة النمر، ووهج النار الدافئ وبرودة الثلج وثرثرة أبي زريق، وهديل الحمام، ونفاق الكركي ووفاء الشكرافاكا، ومزج كل هذه العناصر مزجاً صنع منه المرأة ثم وهبها للرجل"(129) لكن على الرغم من هذه العدة كلها، لم يكن للمرأة في الهند ألا أسوأ الحظوظ؛ فمكانتها العالية التي بلغتها في العصور الفيدية، زالت عنها بتأثير نفوذ الكهنة وبفعل المثل الذي رسمه المسلمون؛ فترى الروح العامة في "تشريع مانو" موجهة ضدها في عبارات تذكرنا بمرحلة أولى من مراحل اللاهوت المسيحي:"إن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء في الجهاد هو المرأة، ومصدر الوجود الدنيوي هو المرأة، وإذاً فإياك والمرأة "(130) وفي فقرة أخرى تقرأ: "إن المرأة لا تقتصر قدرتها على تضليل الأحمق عن جادة السبيل في هذه الحياة، بل هي كذلك قادرة على تضليل الحكيم؛ فهي تستطيع أن تمسك بزمامه وأن تخضعه لشهوته أو لغضبته"(131) ولقد نص التشريع على أن المرأة طوال حياتها ينبغي أن تكون تحت إشراف الرجل، فأبوها أولاً وزوجها ثانياً وابنها ثالثاً (132)، وكانت الزوجة تخاطب زوجها في خشوع قائلة له:"يا مولاي" و "يا سيدي" بل "يا إلهي" وهي تمشي خلفه
بمسافة إن مشيا على مرأى من الناس، وقلما يوجه إليها هو كلمة واحدة (133) وينتظر من المرأة أن تبدي إخلاصها بخدماتها في كل المواقف، بإعدادها للطعام، وبأكلها لما يتبقى بعد أكل زوجها وأولادها، وبضمها لقدمي زوجها إذا حانت ساعة النوم (124) يقول مانو: "إن الزوجة الوفية ينبغي أن تخدم
…
سيدها كما لو كان إلهاً، وألا تأتي شيئاً من شأنه أن يؤلمه، مهما تكن حالته، حتى إن خلا من كل الفضائل" (135) أما الزوجة التي تعصي زوجها فمآلها أن تتقمص روحها جسد ابن آوى في خلقها التالي (136).
ولم يكن نساء الهند يتلقين تعليماً -كأخواتهن في أوربا وأمريكا قبل عصرنا هذا الحديث- إلا إن كن من سيدات الطبقة الراقية أو من زانيات المعبد (137)، ففن القراءة كان في عرفهم لا يليق بامرأة؛ ذلك لأن سلطانها على الرجال لا يقوى به، ثم هو يؤدي إلى نقص فتنتها؛ فيقول "طاغور" على لسان "شترا" في إحدى مسرحياته:"إن المرأة يسعدها أن تكون امرأة فقط- أن تلف نفسها حول قلوب الرجال بابتسامتها وتنهداتها وخدماتها وملاطفاتها؛ فماذا يجدي عليها العلم وجليل الأعمال؟ "(138) وليس من حقها أن تلم بكتب الفيدا (139)، ففي الماهابهاراتا:"إذا درست المرأة كتب الفيدا كانت هذه علامة الفساد في المملكة"
(1)
، ويروي المجسطي عن أيام "تشاندرا جوبتا":"إن البراهمة يحولون بين زوجاتهم- ولهم زوجات كثيرات- وبين دراسة الفلسفة، لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرة فلسفية، أصابهن مس من جنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن"(141).
(1)
لايجوز لنا أن نقارن هذه الحالة بآرائنا في أوربا وأمريكا اليوم، بل ينبغي أن نوازنها بكراهية رجال الدين في العصور الوسطى لقراءة عامة الناس للإنجيل، ولتربية المرأة تربية عقلية. ?
ثلاثة أشخاص في تشريع مانو لا يجوز لهم أن يملكوا شيئاً: الزوجة والابن والعبد، فكل ما يكسبه هؤلاء يصبح ملكاً لسيد الأسرة (142)؛ على أنه يجوز للزوجة أن تحتفظ بملكية المهر والهدايا التي جاءتها عند زواجها، وكذلك يجوز لأم الأمير أن تحكم البلاد في مكان ابنها حتى يبلغ الرشد (143)؛ ومن حق الرجل أن يطلق الزوجة لخيانتها الزوجية، لكن الزوجة لا تستطيع أن تطلق زوجها لأي سبب من الأسباب (144)، وفي مقدور الزوج إذا ما شربت زوجته الخمر أو إذا مرضت أو إذا شقت عليه عصا الطاعة أو كانت مسرفة أو شكسة، أن يتزوج من غيرها في أي وقت شاء (لا أن يطلقها)؛ على أن في "التشريع" فقرات توحي بالرفق المستنير في معاملة المرأة: فلا يجوز ضربهن "حتى بزهرة" ولا يجوز مراقبتهن مراقبة تجاوز الحدود في صرامتها، لأن دهاء مكرهن عندئذ يجد سبيلاً للشر، وإذا أحببن جميل الثياب فمن الحكمة أن تشبع فيهن ما أحببن "لأن الزوجة إذا حرمت أنيق الثياب فلن تثير في صدر زوجها ميلاً إليها" على حين أنه "إذا زينت الزوجة زينة بهيجة، اكتسب المنزل كله مسحة الجمال"(145)، ويجب أن تخلى الطريق للمرأة كما تخليه للكهول والكهنة، والواجب أن يطعم "الحاملات والعرائس والكواعب قبل سائر الأضياف"(146) ولئن فات المرأة عندهم أن تحكم باعتبارها زوجة، فلها أن تحكم بوصفها أما، وإن كانت المرأة أما لأطفال كثيرين، استحقت عند الناس أعظم العطف والتقدير؛ فحتى تشريع مانو الذي يؤيد سيطرة الوالد في الأسرة، ينص على أن "الأم أولى بالتوقير من ألف والد"(147).
ولاشك أن دخول الأفكار الإسلامية كان عاملاً على تدهور مكانة المرأة في الهند بعد العصر الفيدي، فقد جاءت إليها عادة "البردة"(أي الستار) - وهي عزل النساء المتزوجات- مع الفرس والمسلمين، ولذلك فهي أقوى جذوراً في شمال البلاد منها في الجنوب؛ ولكي يحمي الأزواج الهنود
زوجاتهم من المسلمين- وهذا عامل من عدة عوامل- فقد اصطنعوا نظام "البردة" وتمسكوا به في تزمت بلغ من شدته أن المرأة المحترمة لا تستطيع أن تبدي نفسها لغير زوجها وأبنائها، ولا يمكنها الانتقال خارج دارها إلا مستورة بقناع سميك؛ حتى الطبيب الذي يعالجها ويجس نبضها، لا مندوحة له عن أداء واجبه خلال ستار (148)؛ وإنه لمن الخروج على القواعد الخلقية في بعض الأوساط أن تسأل عن زوجة غيرك أو أن تتحدث وأنت ضيف إلى سيدات البيت الذي يضيفك (149).
كذلك عادة إحراق الأرامل على الكومة التي احترق فيها أزواجهن جاءت إلى الهند من خارج، ويقول عنها "هيرودوت" أنها كانت عادة جارية بين السُّكَّيت القدماء وأهل تراقيا؛ ولو كان لنا أن نصدقه في روايته، إذن لعلمنا أن زوجات الرجل من أهل تراقيا كن يقتتلن تسابقاً على امتياز القتل على قبر الزوج (150)، ولعل هذه الشعيرة قد هبطت إلى الهنود من عادة قديمة كادت تشمل شعوب العالم البدائية كلها، وهي التضحية بواحدة أو اكثر من زوجات الأمير أو الغني، أو من خليلاته، والتضحية معها بطائفة من عبيده، وغير ذلك مما لابد من تقديمه قرباناً إثر وفاته، وذلك ليعنى هؤلاء بالميت في الحياة الآخرة (151)؛ ويذكرها كتاب "إتارفا فيدا" على أنها عادة قديمة؛ أما "رج فيدا" فيذكر لنا أن هذه العادة في العصر الفيدي كانت قد خف شأنها حتى أصبحت محصورة في مطالبة الأرملة بالرقاد على كومة الحطب التي أعدت لزوجها لحظة قبل إحراق جثته (152).
ثم تعود قصيدة "ماهابهاراتا" فتصف هذه العادة الاجتماعية وصفاً يدل على عودتها كاملة بغير شعور من الناس بفداحة ما يفعلون، وهي تذكر أمثلة
كثيرة لهذه العادة
(1)
ثم تضع للناس قاعدة عامة مؤداها أن الأرملة الطاهرة لا تحب أن تحيى بعد زوجها، بل تراها تدخل النار فخورة بصنيعها (153)، وكانوا في هذه المناسبات يحرقون جسد الزوجة في حفرة من الأرض، أو يدفنونها حية، كما كان يحدث بين قبيلة "تلوج" في الجنوب (154)؛ ويروي لنا سترابو أن عادة قتل الزوجة بعد موت زوجها كانت شائعة في الهند أيام الإسكندر، وأن قبيلة "كاثي"- وهي قبيلة تسكن البنجاب- اتخذت من هذه العادة قانوناً حتى لا تدس زوجة لزوجها السم فتقتله (155) ولا يذكر "مانو" عن هذه العادة شيئاً؛ ولقد عارضها البراهمة أول الأمر، لكنهم عادوا فقبلوها، وأخيراً خلعوا عليها قداسة دينية تحميها من العبث، وذلك بأن جعلوها مرتبطة بأبدية الرابطة الزوجية: فالمرأة إذا ما تزوجت رجلا كان عليها أن تظل زوجته إلى الأبد، وستعود إلى الارتباط الزوجي به في حياته المقبلة (156)؛ وهذه الملكية المطلقة من الزوج لزوجته، اتخذت في "راجستان" صورة ما يسمونه "جوهور" وهي عادة تقضي على الرجل من أهل راجبوت، إذا ما أصابه نوع معين من الهزيمة، أن يضحي بزوجاته قبل أن يتقدم هو إلى الموت في ساحة القتال (157)؛ وانتشرت العادة في حكم المغول انتشارا واسعاً على الرغم من كراهية المسلمين لها، ولقد فشل ملوك المسلمين، حتى "أكبر" بكل نفوذه، في زحزحة هذه العادة من النفوس، وحاول "أكبر" ذات مرة أن يثني عروساً هندية عن تقديم نفسها طعاماً للنار على كومة الحطب التي أحرقت خطيبها الميت، وتوسل إليها البراهمة بما يؤيد رجاء الملك، لكن العروس أصرت على التضحية فلما دنت منها السنة اللهب، وكان "دانيال"- ابن "أكبر"- عندئذ ماضيا في إقناعها بالعدول، إجابته قائلة:"كفى، كفى"؛ وحدث كذلك لأرملة أخرى أن رفضت مثل هذه التوسلات بالإقلاع عن التضحية بنفسها، ووضعت إصبعها في شعلة مصباح حتى التهمتها النار،
(1)
تسمى " سوتي " Suttee ومعناها " الزوجة المخلصة لزوجها ".
ولكونها أمسكت عن إظهار ألمها بأية علامة من علاماته، فقد عبرت عن ازدرائها لأولئك الذين نصحوها بالإقلاع عن إحراق نفسها جرياً مع الطقوس (158)؛ وفي "فيجاياناجار" كان قتل الزوجة هذا يتخذ صورة جمعية، فلا يكتفي فيه بقتل زوجة واحدة أو عدد قليل من زوجات الأمير أو القائد بعد موته، بل كان لابد لكل زوجاته أن يتبعنه إلى الموت؛ ويروى لنا "كونتي" أن "الرايا" أو الملك قد اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ عددهن اثني عشر ألفاً، ليكن مقربات له "على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وأن ذلك ليعد شرفاً عظيماً لهن"159) وأنه من العسير علينا أن نحكم إلى أي حد كانت الأرملة الهندية في عصور الهند الوسطى راضية النفس عن هذه العادة بقوة التأثير الديني والعقيدة، وبقوة الرجاء في أن تعود إلى الاتحاد بزوجها في الحياة الآخرة.
وأخذت "السوتي"- قتل الزوجة بعد موت زوجها- تقل شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الهند اتصالاً بأوربا، ولو أن الأرملة لم تزل تعاني صعاباً كثيرة، فما دام الزواج قد ربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، فإن زواجها مرة ثانية بعد موت زوجها كان يعد جريمة فادحة، ومن نتائجه المحتومة أن يحدث للزواج اضطراباً في حياته المقبلة، وعلى ذلك كان لابد للأرملة وفق قانون البرهمي أن تظل بغير زواج وأن تحلق شعرها وتحيى حياتها (إذا لم تؤثر لنفسها القتل في نار زوجها) معنية بأطفالها ومشتغلة بأعمال البر والإحسان (160) ولم يكن يحكم على الأرملة بالفقر، بل الأمر على عكس ذلك، إذ كان لها الحق الأول في أملاك زوجها (161) غير أن هذه القواعد لم تجد قبولاً إلا عند النساء المحافظات على التقاليد من نساء الطبقتين العليا والوسطى- وهؤلاء نسبتهن ثلاثون في المائة من مجموع السكان- وأما المسلمون والسيخ والطبقات الدنيا فقد أهملوا تلك القواعد إهمالاً تاماً (162) والرأي عند الهنود هو أن هذه العذرية الثانية التي تصطنعها الأرملة عندهم شبيهة بامتناع الراهبات في المسيحية عن الزواج
ففي كلتا الحالين ترى طائفة من النساء يرفضن الزواج ويكرسن حياتهن لأعمال الإحسان
(1)
(1)
عند النظر في عادات الشعوب الأخرى، يجب أن نذكر أنفسنا تذكيراً لا ينقطع بأن تقاليد الشعوب الأخرى لا يمكن الحكم عليها حكماً يقبله العقل، وفق تشريعنا الخلقي، يقول تود:"فالباحث السطحي النظر، الذي يطبق معياره هو على عادات الأمم كلها يرثى لحالة المرأة الهندية في تدهورها رثاء يدفعه إليه عطف إنساني مفتعل، لأنه سيجد تلك المرأة قليلة الرغبة في مشاركته تلك العاطفة". راجع الفصل التاسع "الثاني والعشرين في الأصل" لتعلم ما طرأ في عصرنا من تغيرات في هذه العادات.
الفصل الرابع
آداب السلوك والعادات والأخلاق
الاحتشام الجنسي - الصحة - الملبس - المظهر - رقة الفن
عند الهنود- سيئات وحسنات - الألعاب - الأعياد - الموت
إن العقل الساذج قد يصعب عليه التصوير بأن هؤلاء الناس الذين قبلوا نظماً اجتماعية مثل زواج الأطفال وعهر المعابد وقتل الزوجة بعد موت زوجها، هم كذلك غاية في رقة الحاشية والاحتشام والمجاملة؛ فلو غضضت النظر عن عدد قليل هن زانيات المعابد، لوجدت البغاء نادراً في الهند، وألفيت العفة الجنسية مصونة إلى حد يستوقف النظر؛ يقول "دبوا" الذي لا يعطف على الهنود في كتابته:"لابد من الاعتراف بأن آداب السلوك واحترام المعاملة الاجتماعية أوضح في قواعدها وأكثر اتباعاً لدى طبقات الهنود كلها، حتى أدنى هذه الطبقات منزلة، منها عند أي شعب أوربي له ما للهنود من مكانة اجتماعية"(164)؛ فالدور الرئيسي الذي يلعبه الجنس في الحديث وفي النكات عند الغربيين، لا تعرفه آداب السلوك بين الهنود، فهذه الآداب تحرم تحريماً قاطعاً كل علاقة علنية بين الرجال والنساء من شأنها أن تعبر عما بينهم من ارتفاع الكلفة، وهي تعتبر التلاصق البدني بين الجنسين في الرقص شيئاً مرذولاً قبيحاً (165)؛ وتستطيع المرأة الهندية أن تذهب خارج دارها أنى شاءت دون أن تخشى من أحد اعتداء أو إساءة (166)؛ بل إن الوضع في عين الشرقي على عكس ذلك؛ إذ يرى الخطر في ذلك واقعا كله على الجنس الآخر، فترى "مانو" يحذر الرجال:"إن المرأة نزاعة بطبعها دائماً أن تغري الرجل، ومن ثم كان واجباً على الرجل ألا يجلس في عزلة مع امرأة حتى إن كانت من أقرب ذوات قرباه" ولا ينبغي لرجل أن ينظر إلى أعلى من عقبي فتاة عابرة (167).
وتأتي النظافة في منزلة بعد العبادة مباشرة؛ فليست القواعد الصحية "بالخلق الأوحد" كما ظن أناتول فرانس، بل هي عندهم جزء حيوي من العبادة؛ ولقد سن "مانو" من عدة قرون تشريعاً يستلزم تهذيب البدن، ففي تعليماته مثلاً:"يجب على البرهمي أن يستحم في الصباح الباكر وأن يزن جسده وينظف أسنانه، ويغسل عينيه ويعبد الآلهة"(168) والمدارس الأهلية تجعل أولى المواد في برامجها آداب السلوك الطيب والنظافة الشخصية؛ فعلى الهندي ذي المكانة المحترمة أن يغسل جسده كل يوم وأن يغسل ثوبه الذي سيرتديه، وإنه ليقشعر تقززاً إذا ما لبس الثوب- بغير غسل- أكثر من يوم واحد (169) ويقول "سير وليم هيوبر":"إن الهنود يضربون المثل لنظافة الأجسام بين القبائل الأسيوية كلها، بل لعلهم يضربونه بين أجناس العالم بأسره ولقد أصبح وضوء الهنود يجري مجرى الأمثال"%=?@قال هندي كبير- هو لاجبات راي- مخاطباً أوربا: "قبل أن تعرف الشعوب الأوربية شيئاً من قواعد الصحة بزمن طويل، وقبل أن تتبين فوائد فرجون الأسنان والاستحمام اليومي بزمن طويل، كان الهنود بصفة عامة يتبعون العادتين، فلم يكن في منازل لندن أحواض الاستحمام حتى عشرين سنة مضت، وكان فرجون الأسنان من أسباب الترف الكمالي"(171). @
وفيما يلي وصف عادات الأكل عند الهنود كما وصفها يوان شوانج منذ ألف وثلاثمائة عام:
"إنهم يندفعون إلى التطهر بدافع من أنفسهم، لا يجبرهم عليه أحد، فحتم عندهم أن يغتسل الآكل قبل وجبته، ويستحيل أن تقدم الفتات والبقايا لوجبة أخرى؛ ولا تستعمل أوعية الطعام لأكثر من أكلة واحدة، فما كان منها مصنوعاً من الخزف أو من الخشب يجب رميه بعد استعماله، وأما ما كان منها مصنوعاً من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد، وجب إعادة صقله؛ ولا يلبث الهنود بعد فراغهم من طعامهم أن يلوكوا مساويكهم لتنظيف أسنانهم، ولا يلمس أحد منهم أحداً إلا إذا اغتسلوا متوضئين"(172).
فمن عادة البرهمي أن يغسل يديه وقدميه وأسنانه قبل كل وجبة وبعدها؛ وهو يأكل بأصابعه من الطعام الذي يقدم على ورقة من أوراق الشجر، اعتقاداً منه مما يتنافى وقواعد النظافة أن يأكل مرتين من طبق واحد، بسكين واحدة أو شوكة واحدة، حتى إذا ما فرغ من طعامه، غسل أسنانه سبع مرات (173) وفرجون أسنانه دائماً، لأنها غصن شجرة يقطعه لتوه لأن الهندي يعتقد أنه مما يسئ إلى سمعته أن ينظف أسنانه بفرجون من شعر الحيوان، أو أن يستعمل الفرجون الواحد مرتين (174)، فما أكثر السبل التي يستطيع بها الناس أن يحتقروا بعضهم بعضاً؛ ولا ينفك الهندي يمضغ ورقة من أوراق نبات الفلفل التي تصبغ الأسنان صبغة قاتمة لا يرضاها لنفسه الأوربي؛ بل لا يرضاها الهندي لنفسه، لكن هذه المضغة مضافة إلى الأفيون الذي يأكله حيناً بعد حين، يعوضانه عن امتناعه المألوف عن تدخين التبغ واحتساء المسكرات.
في كتب القانون الهندي نصوص صريحة على ما ينبغي اتباعه من القواعد الصحية في حيض المرأة (175)، وفي تلبية نداء الطبيعة؛ فلن تجد من القوانين ما هو أدق في ذكر التفصيلات وأرصن في طريقة التعبير، من تلك التي تذكر طقوس التبرز عند البراهمة (176) فالبرهمي إذا ما انخرط في سلك الكهنوت وجب ألا يستعمل في هذه الطقوس إلا يده اليسرى، ويجب أن يستخدم الماء في تنظيف هذه الأجزاء، وإنه ليعد بيته نجساً إذا دخله الأوربيون، لأنهم يكتفون في هذه العملية بالورق (177)؛ وأما المنبوذون وكثيرون من طبقة الشودرا فهم أقل من ذلك مراعاة للدقة، وقد يزيلون هذه الضرورة الطبيعية في أي مكان من جانب الطريق (178)، ولذا فإن الأحياء التي تسكنها هذه الطوائف يكتفي فيها من أجل الصحة العامة "بمجرور" مفتوح يشق في وسط الطريق (179).
وفي مناخ حار كمناخ تلك البلاد، تكون الثياب نافلة، فكنت ترى السائلين والأولياء الصالحين عراة الأجسام، وبذلك العرى أكملوا درجات
السلم الاجتماعي؛ ولقد تهددت إحدى طوائف الجنوب- كما فعلت قبيلة دوخوبور في كندا- بالهجرة إلى مكان آخر لو اضطر أفرادها إلى لبس الثياب (180)، وكانت العادة حتى أواخر القرن الثامن عشر- على الأرجح- أن يسير الجنسان في الهند الجنوبية (ولا يزال الناس على هذه الحال في بالي) عراة فيما يعلو أوساطهم (181)، وكان الأطفال يكتسون في الأغلب بخرزات وحلقات؛ ومعظم الناس يمشون حفاة الأقدام؛ وإن لبس الهندي الأصيل حذاء اتخذه من القماش، لأنه لا يجوز تحت أي ظرف أن ينتعل حذاء من الجلد؛ وعدد كبير من الرجال كان يكفيه من الثياب خرقة على ردفيه، فإذا أرادوا الزيادة من الغطاء لفوا أوساطهم بثوب، وطرحوا طرفه المرسل على الكتف اليسرى؛ وأما أهل راجبوت فكانوا يلبسون السراويل من كل لون وشكل، وصداراً مخروماً بمنطقة في أسفله، ولفاعاً حول الرقبة، وخفاً أو حذاء في القدم، وعمامة على الرأس؛ جاءتهم هذه العمامة مع المسلمين، ثم أخذها الهنود، وجعلوا من عاداتهم أن يلفوها لفاً متقناً حول رءوسهم في أشكال مختلفة تدل على طبقة لابسيها، لكنها في جميع الحالات تتألف من قماش حريري لا ينتهي طوله، تظل تفكه بغير نهاية كأنه مسحور، فقد يبلغ طول القماش في العمامة الواحدة إذا ما نشرته- سبعين قدماً (182)؛ ونساؤهم يلبسن أثواباً فضفاضة من حرير يسمونها "ساري" أو يلبسن "خداراً" من نسيج البلاد، يتلفعن به على أكتافهن، ويربطنه عند الوسط ربطاً وثيقاً، ثم يرسلنه على القدمين، وهن يتركن أحيانا جزءاً من أجسادهن البرونزية عارياً تحت الثديين؛ ومن عاداتهم كذلك أن يطلوا شعورهم بالزيت فيقيهم حرارة الشمس اللافحة؛ أما الرجال فيفرقون شعورهم في الوسط، ثم يجمعون أطرافه في حزمة خلف الأذن اليسرى، وأما النساء فيضفرن بعض شعرهن حوية فوق الرأس، ثم يرسلن بقية الشعر إرسالاً، وكثيراً ما يزينه بالزهور، أو يغطينه بلفاع؛ فكان لرجالهم هندام لطيف، ولفتياتهم جمال، وجميعهم
ذوو قوام رائع (183)، وكثيراً ما يكون الهندي من عامة الناس بقماشة ثوبه على ردفيه أكثر في طلعته جلالا من دبلوماسي أوربي كامل الثياب الرسمية.
ومن رأى "بييرلوتي": "أنه مما لا يحتمل جدالا أن جمال الجنس الآري يبلغ ذروة كماله ورقته في الطبقة العليا في الهند"(184) وكلا الجنسين ماهر في استخدام الدهون للتجمل. ونساؤهم يشعرن كأنما هن عراة إذا كن بغير حلى، وعندهم أن خاتماً يوضع في جانب الأنف الأيسر يدل على الزواج، وفي معظم الحالات، تراهم يرسمون على الجبهة رمزاً يدل على العقيدة الدينية.
وإنه لمن العسير أن تنفذ خلال هذه الظواهر الخارجية لتصف أخلاق الهنود، لأن كل شعب فيه خليط من فضائل ورذائل، وترى الزائرين يختارون من هذه ما يروقهم بحيث يؤيدون وجهة نظرهم أو يزينون روايتهم بما يمتع. يقول "الأب دبو": "أظن أن أبشع رذائلهم هي الخيانة والخداع والغش
…
وهي صفات شائعة بين الهنود جميعاً
…
ويقيناً إنك لن تجد على الأرض شعباً يستخف بحلف اليمين أو شهادة الزور كما يستخفون (185). ويقول "وستر مارك": "لقد قيل أن الكذب هو الرذيلة القومية عند الهنود"(186). ويقول ماكولي: "الهنود مخادعون متلونون"(187) فالكذب إذا اقترف بنية حسنة كان مغتفراً في رأي "مانو" وفي مواضعات الحياة العملية؛ فمثلاً إن كان قول الصدق سيؤدي إلى موت كاهن، فالكذب عندئذ له ما يبرره (188) لكن "يوان شوانج" يروى لنا فيقول: "إنهم لا يعرفون الخدع ويرعون التزاماتهم التي أقسموا عليها
…
وهم لا يعتدون على ما ليس لهم متعمدين، ويتنازلون عن حقوقهم أكثر مما تقتضي العدالة" (189). ويقول "أبو الفضل" الذي لا يذهب بهواه من الهنود، يقول عن هنود القرن السادس عشر: "إنهم متدينون، محببون إلى النفوس، مرحون، محبون للعدل، زاهدون في الحياة، قادرون في التجارة، يدعون للصدق، ويعترفون بالجميل، ويتصفون بالوفاء
الذي لا حد له" (190). ويقول عنهم "كير هاردي" الأمين: "إن أمانتهم مضرب الأمثال، فهم يقترضون ويقرضون، لا تلزمهم في ذلك إلا كلمة غير مكتوبة، ويكادون لا يعرفون عدم الوفاء للدين" (191). ويقول قاض بريطاني في الهند:"لقد عرضت أمامي مئات القضايا التي كانت أملاك الفرد منهم وحريته وحياته متوقفة كلها على كذبة يقولها، ومع ذلك يأبى على نفسه الكذب"(192). فكيف لنا أن نوفق بين هذه الشهادات المتضاربة؟ يجوز أن يكون التوفيق بينها غاية في البساطة، وهو أن بعض الهنود أمين وبعضهم خائن.
وكذلك قل إن الهنود غاية في القسوة وغاية في الرقة في آن معاً؛ فلقد استحدثت اللغة الإنجليزية لفظة قصيرة قبيحة، استعارتها من تلك الجمعية السرية العجيبة- التي تكاد تكون طبقة اجتماعية- جمعية "الغادرين" التي ارتكبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر آلاف الجرائم الشنيعة، وذلك- كما قالوا- بغية تقديم هؤلاء الضحايا قرابين للإلهة "كالي"(193)، وأما الكلمة التي استحدثتها اللغة الإنجليزية لتدل على هؤلاء الغادرين فهي Jhugs وقد كتب عنهم "فنسنت سمث" بلغة ليست غربية عن عصرنا هذا، فقال:
"هذه العصابات توشك ألا تخشى أحداً، وتكاد تتمتع بحصانة تامة
…
فلها دائماً حماة أقوياء؛ ولقد هبط الشعور الخلقي عند الناس هبوطاً بحيث لا تشهد فيهم أثراً للجزع من هذه الجرائم المدبرة التي يقترفها هؤلاء "الغادرون"، وذلك أن هذه الفئة المجرمة قد انخرطت في مجرى أمور الحياة جزءاً منها لا يتجزأ؛ وقبل أن يفتضح سر هذه الجمعية،
…
كان يستحيل عادة أن تظفر بدليل يثبت الجريمة على هؤلاء الغادرين، حتى الذين اشتهروا منهم بين الناس" (193 أ).
ورغم ذلك فالجرائم في الهند قليلة نسبياً، وحوادث الاعتداء نادرة، فالعالم كله مجمع على أن الهنود من الوداعة بما أوشك أن يكون جبناً وضعفاً (194)
فهم يجاوزون الحدود في التزلف وحسن الطوية، وقد طحنتهم رحى الغزو والحكومات المستبدة الأجنبية زمناً امتد وطال إلى حد افقدهم القدرة على أن يكونوا من المقاتلين الأشداء، إلا إذا فهمنا القتال بمعنى احتمال الألم، عندئذ ترى لديهم من الشجاعة ما لا يشق لهم فيه غيار (195) ولعل أبشع سيئاتهم عدم المبالاة والكسل، ولو أن هاتين الصفتين في أعين الهنود ليستا من السيئات، بل هما ضرورتان للمناخ ومواءمة أنفسهم لجو بلادهم، مثل حلاوة الطبع، التي تتصف بها الشعوب اللاتينية؛ والحمى الاقتصادية التي جن بها الأمريكيون؛ والهنود حساسون، عاطفيون، ذوو أهواء وأصحاب خيال؛ ولذلك تراهم أبرع في الفن والشعر منهم في الحكم والتنفيذ، فلئن وجدتهم يستغلون بعضهم بعضاً استغلالاً فيه من الشدة والعنف ما تلمسه في المستغلين بسواهم في أي بلد من بلاد العالم، فقد كانوا كذلك يتصفون بسخاء لا يقف عند حد، وهم أكرم أهل الأرض للضيف، إذا ما غضضت النظر عن الشعوب الهمجية الأولى (196) فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلا الاعتراف بحسن مجاملتهم (197)؛ وهذا هو إنجليزي سمح الأخلاق يلخص لنا تجاربه الطويلة فيعزو للطبقات العليا من أهل كلكتا "آداب السلوك المهذبة ووضوح التفكير وكماله وشعور التسامح والتمسك بالمبدأ، مما يطبعهم بطابع السادة المهذبين في أي بلد من بلاد العالم"(198).
والعبقرية الهندية في عين الغريب عن البلاد تبدو حزينة سوداء، ولاشك في أن الهنود لم يصادفهم في الحياة كثير مما يبرر لهم المرح؛ وتشير محاورات بوذا إلى أنواع كثيرة مختلفة من اللعب، بينها لعبة شديدة الشبه جداً بلعبة الشطرنج%=@الشطرنج من القدم بحيث ترى نصف الشعوب القديمة تدعيه لنفسها، لكن الرأي السائد بين الباحثين في منشأ هذه اللعبة هو أنها نشأت في الهند، ويقيناً أننا نجد هناك أقدم شبيه لها مما لا يحتمل الجدل (حوالي سنة 750 م)، وكلمة شطرنج بالإنجليزية chess جاءت اشتقاقاً من الكلمة الفارسية شاه ومعناها ملك، وكلمة "كش الملك" بالإنجليزية Checkmate هي في الأصل "شاه مات" أي "مات الملك" ويسميه الفرس "شطرنج" ولقد أخذوا الكلمة واللعبة كليهما من الهند عن طريق العرب، وكانت اللعبة في الهند يطلق عليها اسم "شاطورنجا" ومعناها "الزوايا الأربع"- الفيلة والجياد والعربات الحربية والمشاة؛ ولا يزال العرب يسمون القطعة التي هي بالإنجليزية " Bishop" بالفيل (200).
ويروى لنا الهنود أسطورة ممتعة يعللون بها نشأة اللعبة، فتقول هذه الأسطورة أنه في بداية القرن الخامس من التاريخ الميلادي، أساء ملك هندي إلى أعوانه المعجبين به من طبقتي البراهمة والكشاترية، وذلك بأن أهمل مشورتهم ناسيا أن حب الشعب له هو أرسخ دعامة لعرشه، فأخذ برهمي- يدعى سيسا- على نفسه أن يفتح عيني الملك الشاب باختراعه لعبة تكون فيها القطعة التي تمثل الملك- رغم سموها عما عداها في الجلال والقيمة (كما هي الحال في حروب الشرق) - إن تركت وحدها تكاد تتجرد من كل حول وقوة، ومن ثم جاءت لعبة الشطرنج؛ ولقد أعجب الملك باللعبة إعجابا دعاه إلى أن يطلب إلى سيسا أن يحدد لنفسه ما شاء من جزاء، فطلب سيسا في تواضع حفنة من أرز، وإنما يحدد مقدارها بأن توضع حبة واحدة من الأرز في المربع الأول من مربعات رقعة الشطرنج، وعددها أربعة وستون، ثم يضاعف في كل مربع لاحق عدد حبات الأرز في المربع السابق، فوافق الملك من فوره، لكنه سرعان ما دهش إذ رأى أن وعده ذاك يقتضي أن يدفع كل ما في ملكه، فانتهز "سيسا" هذه الفرصة السانحة، وأشار إلى مولاه كيف يمكن الملك أن يضل عن جادة السبيل إذا ازدرى رأي مستشاريه. @، لكن لا هذه الألعاب التي أعقبتها تدل على فرح
ومرح كاللذين تراهما في ألعاب الغربيين؛ وأدخل "أكبر" لعبة "البولو"
(1)
في الهند في القرن السادس عشر، التي جاءت على الأرجح من بلاد فارس ثم شقت طريقها عبر التبت إلى الصين واليابان (202) وكان يمتعه أن يلعب بلعبة "باشيسي"(وهي التي تسمى اليوم بارشيسي) في مربعات تحفر في أرض فناء القصر في "أجرا" وكان يتخذ اللعبة قطعاً حية من الإماء الجميلات (203).
وكانت الأعياد الدينية الكثيرة تخلع لوناً زاهياً على حياة الشعب، وأعظم هذه الأعياد "دورجا- بوجا" الذي يقام تكريماً للإلهة الكبرى أم الإلهات "كالي"، فيأخذ الهنود في الاحتفال والغناء عدة أسابيع قبل قدوم ذلك العيد؛ ثم يأتي يوم الحفل العظيم، فيسير موكب تحمل فيه كل أسرة تمثالاً للإلهة، ويتجه صوب الكنج حيث يلقون في النهر بتلك التماثيل الصغيرة، ثم يعود الجميع إلى ديارهم ليس على وجوههم شئ من علائم المسرح السابق (204).
(1)
وهي من كلمة في التبت تنطق " Pulu"، وجعلتها اللهجة الهندية البالتية " Polo" ومعناها كرة Ball: راجع علاقة الكلمة باللاتينية Pila.
وأما الاحتفال "المقدس" الذي كانوا يقيمونه تكريماً للإلهة "فاسانتي" فقد كان يصطبغ بشيء من المجون، إذ يحملون- وهم مشاة في صف- رموزاً للعلاقة الجنسية يهزونها هزات تمثل حركات العملية الجنسية (205) وكان وقت الحصاد في "شوتاناجبور" إيذاناً بإباحية خلقية "حيث يطّرح الرجال جانباً كل أوضاع التقاليد، ويخلع النساء عن أنفسهن كل حياء، ويترك للفتيات الحبل على الغارب يفعلن ما شئن بغير قيود"؛ وهناك قبيلة تدعى "بارجاني"- وهي طبقة من الفلاحين تسكن تلال "راج محل"- تقيم احتفالاً زراعياً كل عام، يباح فيه لغير المتزوجات أن ينغمسن في علاقات جنسية حرة من كل ضابط أو نظام (206).
ولاشك أن في هذه الحفلات آثاراً من السحر الزراعي القديم، الذي كان مراده أن يزيد الأسر والحقول خصوبة؛ وأما حفلات الزواج التي تتمثل فيها أكبر حادثة في حياة الهندي، فقد كانت أكثر احتشاماً؛ وكم من أب جلب على نفسه الخراب في إعداد وليمة فاخرة بمناسبة زواج ابنته أو ابنه (207).
وفي ختام الحياة يقام حفل ختامي- هو الاحتفال بإحراق جثمان الميت، فقد كانت الطريقة المألوفة في أيام بوذا هي الطريقة الزرادشتية في تعريض الجثة لسباع الطير؛ إلا إن كان الميت علماً من الأعلام البارزين، فعندئذ تحرق جثته بعد موته، على كومة من الحطب، ثم يدفن رماده في ضريح يحفظ ذكراه (208) لكن هذه الطريقة في إحراق الجثة عمت الناس جميعاً فيما بعد، حتى لترى كل ليلة حطباً يجمع ويكوم لإحراق الموتى؛ وفي عصر "يوان شوانج" لم يكن من الحوادث النادرة أن يقبل الكهول المتقدمون في السن على الموت راضين، فيطلبوا إلى أبنائهم أن يسبحوا بهم في زورق على نهر الكنج إلى منتصفه حيث يقذفون بأنفسهم في نهر الخلاص (209) ومثل هذا الانتحار في ظروف معينة قد صادف في الشرق قبولاً أكثر مما صادف في الغرب؛ فكان مباحاً في عهد "أكبر" للكهول وللمرضى الذين لا رجاء
في شفائهم، ولأولئك الذين ابتغوا تقديم أنفسهم قرباناً للإلهة؛ وأن بين الهنود آلافاً كان آخر عبادتهم أن يجيعوا أنفسهم حتى الفناء، أو أن يدفنوا أنفسهم في الثلج، أو يهيلوا على أنفسهم روث البقر ثم يشعلوا فيه النار، أو أن يتركوا أنفسهم للتماسيح تلتهمهم عند مصب الكنج؛ ولقد نشأ بين البراهمة نوع من "الهاراكيري"(وهو اسم للانتحار عند اليابانيين يأتونه تخلصاً من عار) فينتحر المنتحر ليرد عن نفسه أذى أو يحتج على إهانة؛ وحدث أن فرض أحد ملوك راجبوت ضريبة على طبقة الكهنة، فطعن عدد كبير من أغنى البراهمة أنفسهم انتحاراً بين يديه، وهم يستنزلون عليه لعنة هي في زعمهم أبشع اللعنات وأشدها أثراً- ألا وهي لعنة يستنزلها كاهن وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة؛ وتنص كتب التشريع البرهمي على أن من أراد أن ينتزع روحه بيده، عليه صيام ثلاثة أيام، وأما من حاول الانتحار وفشل في إنجازه فعليه أن يؤدي أقسى ما عرفوه من كفارة وتوبة (210)، إلا أن الحياة مسرح له مدخل واحد ومخارج عدة.
الباب الثامن عشر
فردوس الآلهة
لم تبلغ العقيدة الدينية من القوة أو الأهمية في أي قطر من أقطار الأرض ما بلغته في الهند؛ فلئن أباح الهنود لحكومات أجنبية أن تقوم عليهم مرة بعد مرة، فبعض السبب في ذلك هو أنهم لم يأبهوا كثيراً من ذا عسى أن يحكمهم أو أن يستغلهم- فسواء أكان هؤلاء من بني وطنهم أم من الأجانب- ذلك لأن الأمر الخطير في رأيهم هو الدين، لا السياسة؛ الروح لا البدن، هو الحيوات الآتية التي لا نهاية لعددها، لا هذه الحياة العابرة؛ وأن قوة الدين وتمكنها من أقوى الرجال بأساً لتظهر جلية في اصطناع "أشوكا" حياة القديسين، وفي إقبال " أكبر" على الديانة الهندية إقبالاً كاد يكون تاماً؛ وهانحن أولاء في عصرنا هذا نرى أن من وحد أجزاء الهند أمة واحدة رجل أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.
الفصل الأول
الشطر الثاني من تاريخ البوذية
البوذية في أوجها- البلاغان - "ماهايانا" - البوذية
والرواقية والمسيحية - تدهور البوذية - انتشارها في
سيلان، وبورما، وتركستان، وتبت، وكمبوديا، والصين، واليابان
بلغت البوذية أوج رفعتها في الهند بعد موت "أشوكا" بمائتي عام؛ وقد كانت الفترة التي ارتفعت فيها البوذية من "أشوكا" إلى "هارشا" فترة صعود بمعان كثيرة، صعود في الدين والتعليم والفن؛ غير أن البوذية التي سادت لم تكن بوذية بوذا؛ والأقرب إلى الصواب أن نقول في وصفها أنها بوذية تلميذه الثائر "صَجاذا" الذي قال للرهبان عند سماعه بموت أستاذه:"كفى يا سادة! كفوا عن البكاء وعن الرثاء! فلقد تخلصنا من "سامانا" العظيم، لقد أسأمنا أن يقال لنا: هذا يجدر بكم وهذا لا يجدر، أما الآن ففي مقدورنا أن نصنع ما شاء لنا هوانا، وأما ما لا يصادف من نفوسنا هوى، فلن يلزمنا أحد على أدائه"(1).
وأول ما أوحت لهم حريتهم أن يصنعوه هو أن ينشقوا أحزاباً؛ فلم يمض على موت بوذا قرنان من الزمان، حتى انقسم تراثه ثمانية عشر مذهباً متبايناً فأما أتباع البوذية في جنوب الهند وجزيرة سيلان، فقد استمسكوا حيناً بمذهب صاحب العقيدة في بساطته وصفائه؛ وقد أطلق على هذه الشعبة من مذهبه فيما بعد اسم "هنايانا" ومعناها "البلاغ الأصغر"؛ فقد عبدوا بوذا باعتباره معلماً عظيماً، لا إلهاً؛ وكان كتابهم المقدس هو النصوص المكتوبة باللغة "الباليّة" التي تبسط العقيدة في صورتها القديمة؛ وأما في الأرجاء الشمالية من الهند والتبت ومنغوليا والصين واليابان، فالبوذية التي سادت هي التي يطلق عليها اسم "ماهايانا" ومعناها "البلاغ الأكبر" الذي رسم حدوده ونشر
دعوته "مجلس كانِشْكا"؛ فأعضاء هذا المجلس، وهم من اللاهوتيون الموهوبين (من الوجهة السياسية) قد أعلنوا ألوهية بوذا وأحاطوه بالملائكة والقديسين، واصطنعوا تقشف "اليوجا" الذي عرف في "باتانجالي" وأصدروا باللغة السنسكريتية مجموعة جديدة من المراسيم المقدسة التي على الرغم من قبولها بعد حين قصير للشقشقة الميتافيزيقية والاسكولاتية إلا أنها قد أعلنت وأيدت عقيدة دينية أقرب إلى نفوس الناس من الصورة السوداء المتشائمة المتزمتة التي عرفت في "شاكيا موني".
كان مذهب "ماهايانا" بوذية خففت من حدتها آلهة وطقوس وأساطير برهمية، ولاءمت بين نفسها وبين حاجات قبائل التتار في "كوش" والمنغول في التبت، الذين بسط عليهم "كاتشكا" سلطانه؛ فقد صور ذلك المذهب جنة فيها بوذيون كثيرون، كان أحبهم إلى عامة الناس "أميدا بوذا" المخلص؛ وهذه الجنة وجهنم التي تقابلها كانتا ثواباً أو عقاباً لما يأتيه الناس على هذه الأرض من خير أو شر؛ وهذان العاملان الرادعان كان لهما أثر في تحويل بعض جنود الملك من رقابة سلوك الناس إلى خدمات أخرى؛ وأعظم القديسين في هذا اللاهوت الجديد هم فئة "بوذا بساتوا" ومعناها "بوذا المستقبل" الذين امتنعوا باختيارهم عن القيام بالنرفانا (ومعناها هنا التخلص من العودة إلى ولادة جديدة) التي كانت من حقهم وفي مقدورهم، وذلك لكي يولدوا في حياة بعد حياة، فيساعدوا غيرهم من الناس في هذه الدنيا والاهتداء إلى سواء السبيل
(1)
وهؤلاء القديسون (مثلهم مثل نظائرهم في مسيحية البحر الأبيض المتوسط- سرعان ما ظفروا بحب الناس لهم حتى كاد عبادهم والمعجبون بهم من رجال الفن يزحمون بهم وبتماثيلهم مدافن العظماء؛ وازدهرت في البوذية كما ازدهرت في مسيحية العصور الوسطى- بل لعلها ظهرت في
(1)
في كتاب من "البورنا" أسطورة نموذجية عن ملك كان جديراً بالجنة لكنه آثر البقاء في جهنم ليواسي المعذبين، وأبى أن يغادرها حتى أطلق سراح المغضوب عليهم جميعا.
البوذية في تاريخ أسبق
(1)
- قدسية الآثار الباقية من السلف، واستخدم الماء المقدس، والشموع، والبخور، والمسبحة، والثياب الكهنوتية، ولغة الكهنوت الميتة، والرهبان والراهبات وقص الشعر والفردية مما تقتضيه حياة الأديرة والاعتراف والصيام أياماً معينة، وتدشين القديسين والتطهير والصلاة والدعاء للموتى؛ ولقد أصبح كتاب "ماهايانا" بالقياس إلى "هنايانا" أي البوذية الأولى ما كانت الكاثوليكية بالنسبة إلى الرواقية والمسيحية الأولى؛ فقد أخطأ بوذا- كما أخطأ لوثر- في ظنه أن شعائر الطقوس الدينية العلمية يمكن أن تحل محلها المواعظ والدروس الأخلاقية؛ وما أقرب الشبه بين نجاح البوذية حين امتلأت بالأساطير والمعجزات والاحتفالات والقديسين الذين يتوسطون بين الأرض والسماء بالنجاح الذي لقيته الكاثوليكية قديماً وحاضراً، لما فيها من زخرف وتمثيل، وانتصارها على المسيحية الأولى والبروتستنتية الحديثة في بساطتها الخالية من كل زخرف.
وإيثار عامة الناس لتعدد الآلهة والمعجزات والأساطير، هذا الإيثار نفسه الذي قضى على بوذية بوذا، قضى كذلك في نهاية الأمر على بوذية " البلاغ الأكبر " نفسها في الهند؛ ذلك لأن البوذية- ودعنا هاهنا نتحدث بحكمة المؤرخ التي تشرق بعد فوات الحوادث- إذا كانت لا تأخذ كل هذا الذي أخذته من الديانة الهندية ومن أساطيرها وطقوسها وآلهتها، فما كان ليمضى وقت طويل قبل أن تنمحي الفوارق بين الديانتين ولا يبقى من مميزات الواحدة من الأخرى إلا قليل جد قليل؛ وإذن تمتص إحداهما الأخرى شيئاً فشيئاً، والتي يتاح لها أن تطغي على الأخرى هي التي تكون أعمق الديانتين جذوراً
(1)
يقول برجسون: "كانت البوذية أسبق من الكنيسة الرومانية بخمسة قرون في ابتكار واصطناع الحفلات والمراسم المشتركة بين الديانتين"، وقد بين "إدمندز" بالتفصيل ما بين كتب البوذية المقدسة وإنجيل المسيحية من شبه عجيب، ومع ذلك، فعلمنا بنشأة هذه العادات والعقائد يبلغ من الإبهام حداً لا يجيز أن نصل إلى نتائج إيجابية فيما يختص بأسبقية فريق على فريق.
وأقربها إلى نفوس الناس وأكثرها مالاً وأعزها سنداً سياسياً؛ لهذا أخذت الخرافة- ولعلها أن تكون من جنسنا البشري بمثابة دماء الحياة- أخذت تتدفق من العقيدة الأقدم إلى العقيدة الأحدث تدفقاً سريعاً، حتى رأينا الظواهر الجنسية الانفعالية نفسها التي كانت من طقوس العقائد "الشاكتية" تلتمس لنفسها مكاناً في طقوس البوذية واستعاد البراهمة في صبر ودأب نفوذهم ورعاية السلطان لهم شيئاً فشيئاً؛ وأخيراً جاء نجاح الفيلسوف الشاب "شانكارا" في استعادة الكلمة العليا لكتب الفيدا، وجعلها أساسا للتفكير الهندي، بمثابة الخاتمة لزعامة البوذيين العقلية في الهند.
وجاءت الضربة القاضية من الخارج، وكانت البوذية نفسها هي التي هيأت لهذه الضربة سبيلها، على وجه من الوجوه؛ ذلك أن حسن السمعة التي كان يتمتع بها أتباع بوذا، واسمهم "سانفا" قد اجتذب إلى تلك الفئة- بعد عهد أشوكا- صفوة أهل "مجازا" وبهذا قضى على خير دماء القوم أن تفنى في طائفة من رجال الدين لا تتزوج ولا تجاهد في الحياة، فشكا بعض المحبين لوطنهم، حتى في أيام بوذا نفسه، من أن الراهب "جوتاما" لا يسمح للآباء أن ينسلوا الأبناء، ويؤدي بالأسر إلى الانقراض (5)؛ وكان من نتائج انتشار البوذية ونظام الأديرة في السنة الأولى من التاريخ المسيحي، أن امتصت من الهند عصارة الرجولة، وتآمر ذلك العامل مع عامل الانقسام السياسي، فأدى العاملان إلى فتح أبواب الهند للغزو الخارجي بغير عناء؛ ولما جاء العرب وأخذوا على أنفسهم أن ينشروا وحدانية بسيطة رواقية النزعة، نظروا في ازدراء إلى الرهبان البوذيين الكسالى الذي يفتحون أيديهم للرشوة ويتجرون بالمعجزات؛ وحطموا الأديرة وقتلوا ألوف الرهبان، ونفروا كل حريص على حياته من نظام الرهبنة في الدير، فأما من أفلتوا من يد القتل من هؤلاء الرهبان، فقد عادوا واندمجوا في الديانة الهندية التي كانت الأرومة الأولى
لهم؛ وفتحت هذه الديانة القديمة الأصلية صدرها تستقبل هؤلاء الزنادقة التائبين، وهكذا "قتلت البرهمية البوذية بضمة أخوية"(6).
ولا عجب فقد كانت البرهمية دائماً متسامحة، تجادل البوذية وغيرها من مئات المذاهب إبان ارتفاعها وسقوطها، بل قد تطيل معها الجدال، لكنك لن تجد في تاريخها كله مثلاً واحداً للاضطهاد، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ ترى البرهمية قد يسرت سبيل العودة لهؤلاء الخارجين عليها أن اعترفت ببوذا إلهاً (اعتبرته مجسداً للإله فشنو) وأقلعت عن التضحية بالحيوان، وقبلت في صميم طقوسها مذهب البوذيين في تقديس حياة الحيوان بأسره؛ وهكذا أخذت البوذية تختفي في هدوء وسلام من الهند، إبان خمسة قرون كانت خلالها نهباً لعوامل التدهور البطيء
(1)
.
لكنها في ذلك الوقت نفسه كانت تكسب لنفسها كل ماعدا الهند من العالم الآسيوي تقريباً؛ فانتشرت أفكارها وأدبها وفنها في سيلان وشبه جزيرة الملايو في الجنوب، وفي التبت وتركستان في الشمال، وفي بورما وسيام وكمبوديا والصين وكوريا واليابان في الشرق؛ وعلى هذا النحو امتصت كل هذه الأصقاع- ماعدا الشرق الأقصى- ما استطاعت امتصاصه وهضمه من المدنية؛ بنفس الطريقة التي امتصت بها أوربا وروسيا الحضارة من الرهبان الرومانيين والبيزنطيين في العصور الوسطى؛ فمعظم هذه الأمم قد بلغ ذروة ثقافته بحافز من البوذية؛ ولقد لبثت "أنورا ذابورا" في سيلان من منذ عهد أشوكا حتى انحلال البوذية في القرن التاسع، إحدى المدن الكبرى في العالم الشرقي، وظل الناس هناك ألفي عام يعبدون شجرة التين المقدسة عند
(1)
عدد البوذيين اليوم في الهند نفسها ثلاثة ملايين، أي واحد في المائة من السكان.
البوذيين، وكان المعبد القائم على قمة جبال كاندي كعبة يحج إليها مائة وخمسون مليوناً من البوذيين في آسيا
(1)
.
ولعل البوذية في بورما أخلص ما بقي من ألوان البوذية من الشوائب الدخيلة، وكثيراً ما يدنوا رهبانها من المثل الأعلى الذي ضربه بوذا؛ واستطاع أهل بورما البالغ عددهم ثلاثة عشر مليوناً من الأنفس أن يبلغوا بفضل تعاليم أولئك الرهبان مستوى من العيش أعلى مما في الهند بدرجة ملحوظة (7)؛ وكشف "سفن هيدن" و "أورل شتاين" و "بليوت" من جوف الرمال في بلاد التركستان مئات من المحفوظات البوذية وغيرها من شواهد الثقافة التي ازدهرت هناك منذ عهد "كانشكا" حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وحدث في القرن السابع من تاريخنا المسيحي أن أقام المحارب المتنور "سترونج- تسانجامبو" حكومة قادرة في التبت وضم إليها ينبال، وبنى مدينة "لهاسا" لتكون عاصمة لها، وهيأ لها طريق الغنى بجعلها محطاً وسطاً في التجارة بين الصين والهند، ودعا طائفة من الرهبان البوذيين من الهند لينشروا البوذية والتعليم في شعبه، وعندئذ ترك الحكم أربعة أعوام أنفقها في تعلم القراءة والكتابة؛ فكأنما كان فاتحة عهد ذهبي في بلاد التبت؛ فأقيمت آلاف الأديرة في الجبال وعلى النجد الفسيح، ونشر كتاب تشريعي يضم الكتب البوذية، ويقع في ثلاثة وثلاثين وثمانمائة مجلد، حفظت للعلم الحديث كثيراً من أحوال هذه الكتب التي كانت قد ضاعت أصولها الهندية منذ زمن طويل (8)، وهاهنا، في هذه الصومعة التي أغلقت أبوابها دون العالم بأسره، راحت البوذية تتطور في شبكة معقدة من الخرافات والرهبنة والكهنوت، لا ينافسها في ذلك سوى
(1)
يحتوي معبد كاندي على "ناب بوذا" المشهور- وطوله بوصتان، وقطره بوصة- وهو محفوظ في وعاء مرصع بالجواهر، ومستور عن أعين الناس في حرص شديد؛ وله موسم يحملونه فيه في موكب رصين يجتذب البوذيين من كل بقاع الشرق؛ وعلى جدران المعبد تصاوير تمثل بوذا الوديع وهو يقتل الأشرار في جهنم؛ وهكذا تذكرنا حيوات العظماء كيف تتحول طبائعهم بعد موتهم تحولاً ليس لهم يد فيه.
أوربا في أوائل عصورها الوسطى؛ ولا يزال "دالاي لاما"(أي الكاهن الشامل لكل شيء) الذي اختفى في دير بوتالا العظيم الذي يطل على مدينة لهاسا، موضع عقيدة عند أهل التبت، بما تنطوي عليه نفوسهم من السذاجة الطيبة، بأنه تجسيد حي "لبوذا المستقبل"(بوذا المنتظر)(9)؛ وفي كمبوديا والهند الصينية تعاونت البوذية مع الديانة الهندية في تخطيط الإطار الذي قامت عليه روائع الفن في عصر هو من أغنى العصور في تاريخ الفن الشرقي؛ وهكذا ترى البوذية- مثل المسيحية- قد ظفرت بأعظم انتصاراتها خارج الأرض التي أنبتتها، وإنما ظفرت بتلك الانتصارات دون أن تريق نقطة واحدة من دماء.
الفصل الثاني
الآلهة الجديدة
الديانة الهندية - براهما، فشنو، شيفا - كرشنا - كالي
الآلهة الحيوانية - البقرة المقدسة - تعدد الآلهة والوحدانية
لم تكن الديانة الهندية التي حلت محل البوذية ديانة واحدة، كلا ولا كانت مقتصرة على كونها عقيدة دينية؛ بل كانت خليطاً من عقائد وطقوس لا يشترك القائمون بها في أكثر من أربع صفات؛ فهم يعترفون بنظام الطبقات وبزعامة البراهمة، وهم يقدسون البقرة باعتبارها تمثل الألوهية على نحو تمتاز به من سواها، وهم يقبلون قانون "كارما" وتناسخ الأرواح، وهم يضيفون إلى آلهتهم الجديدة آلهة الفيدات؛ ولقد كان بعض هذه العقائد أسبق من عبادة الطبيعة التي جاءت بها الفيدا، كما ظلت قائمة بعد زوال تلك العبادة، وأما بعضها الآخر فقد نشأ من أن البراهمة كانوا يغضون أبصارهم عن ضروب من الطقوس والآلهة والعقائد لم ينص عليها كتابهم المقدس، بل تناقضه روح الفيدا مناقضة ليست باليسيرة؛ فأتيحت الفرصة لتلك العقائد أن تنضج في وعاء الفكر الديني عند الهنود، ومضت في نضجها ذاك حتى في الفترة العابرة التي ارتفعت فيها البوذية إلى مكان السيادة العقلية في البلاد.
كان آلهة العقيدة الهندية يتميزون بكثرة أعضائهم الجسدية التي يمثلون بها على نحو غامض قدرتهم الخارقة في العلم والنشاط والقوة؛ "فبراهما" الجديد كان له أربعة وجوه، وكان لـ "كارتكيا" ستة وجوه، ولـ "شيفا" ثلاثة أعين، ولـ "هندرا" ألف عين؛ وكل إله عندهم تقريباً كان له أربع أذرعة (10) وعلى رأس هذه المجموعة الجديدة من الآلهة "براهما" الذي كان له من الشهامة ما أبعده عن الميل مع الهوى، وهو سيد الآلهة المعترف له بتلك السيادة، على الرغم
من أنه مهمل في شعائر العبادة الفعلية إهمال الملك الدستوري في أوربا الحديثة؛ و"براهما" و"شيفا" و"فشنو" هم الثلاثة الآلهة (لا الثالوث) الذي يسيطرون على الكون، وأما "فشنو" فهو إله الحب الذي كثيراً ما انقلب إنسانا ليتقدم بالعون إلى بني الإنسان؛ وأعظم من يتجسد فيه "فشنو" هو "كرشنا"، وهو في صورته "الكرشنية" هذه، قد ولد في سجن وأتى بكثير من أعاجيب البطولة والغرام، وشفى الصم والعمي، وعاون المصابين بداء البرص، وذاد عن الفقراء، وبعث الموتى من قبورهم؛ وكان له تلميذ محبب إلى نفسه، وهو "أرجونا"، وأمام "أرجونا" تبدلت خلقة "فشنو" حالاً بعد حال؛ ويزعم بعض الرواة أنه مات مطعوناً بسهم، ويزعم آخرون أنه قتل مصلوباً على شجرة؛ وهبط إلى جهنم ثم صعد إلى السماء، على أن يعود في اليوم الآخر ليحاسب الناس أحياءهم وأمواتهم (11).
الحياة، بل الكون كله، لها في رأي الهندي ثلاثة وجوه رئيسية: الخلق، والاحتفاظ بالمخلوق، ثم الفناء؛ ومن ثم كان للألوهية عنده ثلاث صور: براهما الخالق، وفشنو الحافظ، وشيفا المدمر؛ تلك هي "الأشكال الثلاثة" التي يقدسها الهنود أجمعين ماعدا الجانتيين منهم
(1)
؛ والناس منقسمون بحبهم طائفتين: إحداهما تميل إلى ديانة فشنو، والأخرى إلى ديانة شيفا؛ وكلتا العقيدتين بمثابة الجارتين المسالمتين، بل قد تتقدم كلتاهما بالقرابين في معبد واحد (13)، والحكماء من البراهمة- تتبعهم الأكثرية العظمى من سواد الناس- تكرم الإلهين معاً بغير تمييز لأحدهما؛ أما الفشنيون الأتقياء فيرسمون
(1)
في تعداد سنة 1921 م، ينقسم الناس من حيث دياناتهم كما يلي: الديانة الهندوسية 000 ر 261 ر 216؛ والسيخ 000 ر 139 ر 3؛ والجانتيون 000 ر 179 ر 1؛ والبوذية 000 ر 571 ر 11 (تقريبا كلهم من أهل بورما وسيلان)؛ والزرادشتية (أو الفارسية) 000 ر 102؛ والمسلمون 000 ر 735 ر 68؛ واليهود 000 ر 22؛ والمسيحيون 000 ر 754 ر 4 (أغلبهم أوربيون).
على جباههم كل صباح بالطين الأحمر علامة فشنو، وهي شوكة ذات أسنان ثلاث؛ وأما الشيفيون المخلصون لعقيدتهم فيرسمون ثلاثة خطوط أفقية على جباههم برماد من روث البقر، أو يلبسون "اللنجا"- رمز عضو الذكورة- ويربطونه على أذرعتهم أو يعلقونه حول أعناقهم (14).
وعبادة "شيفا" هي من أقدم وأعمق وأبشع العناصر التي منها تتألف الديانة الهندية؛ فيقدم لنا "سير جون مارشل""دليلاً لا يأتيه الباطل" على أن عقيدة "شيفا" كانت موجودة في "موهنجو- دارو"، متخذة أحياناً صورة شيفا ذي الرءوس الثلاثة، وأحياناً أخرى صورة أعمدة حجرية صغيرة، يزعم لنا أنها ترمز لعضو الذكورة على نحو ما ترمز له عندهم بدائلها في العصر الحديث؛ وهو يخلص من ذلك إلى نتيجة هي أن "العقيدة الشيفية أقدم عقيدة حية في العالم كله"
(1)
.
واسم الإله- أعني كلمة شيفا- لفظة أريد بها التخفيف من بشاعة هذا الإله، فالكلمة شيفا معناها الحرفي "العطوف" مع أن شيفا في حقيقة الأمر إله القسوة والتدمير قبل كل شئ آخر؛ هو تجسيد لتلك القوة الكونية التي تعمل واحدة بعد أخرى، على تخريب جميع الصور التي تتبدى فيها حقيقة الكون- جميع الخلايا الحية وجميع الكائنات العضوية، وكل الأنواع، وكل الأفكار وكل ما أبدعته يد الإنسان، وكل الكواكب، وكل شيء؛ ولم يسبق الهنود شعب قط في شجاعتهم في مواجهة الحقيقة التي هي عدم ثبات الأشياء على صورها ووقوف الطبيعة من كل شئ موقف الحياد، مواجهة صريحة؛ ولم يسبقهم شعب قط في اعترافهم اعترافاً واضحاً بأن الشر يتوازن مع الخير، والهدم
(1)
ومع ذلك فلا تجد اسم "شيفا"- كما لا تجد اسم براهما نفسه- في كتاب "رج- فيدا"؛ ويذكر لنا "باتانجالي" النحوي صوراً شيفية ومريدين شيفيين حوالي سنة 150 ق. م.
يساير الخلق خطوة خطوة، وأن ولادة الأحياء بأسرها جريمة كبرى عقابها الموت؛ فالهندي الذي تعذبه آلاف العوامل من عثرة الحظ والآلام، يرى في تلك الألوان من التعذيب أثراً ينم عن قوة نشيطة يمتعها- فيما يظهر- أن تحطم كل ما أنتجه براهما، وهو القوة الخالقة في الطبيعة؛ إن "شيفا" ليطرب راقصاً إذا ما سمع نغمة العالم فأدرك منها عالماً لا يني يتكون وينحل ويعود إلى التكون من جديد.
ولكن كما أن الموت عقوبة الولادة، فكذلك الولادة تخييب لرجاء الموت؛ فالإله نفسه الذي يرمز للتدمير، يمثل كذلك للعقل الهندي تلك الدفعة الجارفة نحو التناسل الذي يتغلب على موت الفرد باستمرار الجنس؛ وهذه الحيوية الخلاقة الناسلة (شاكتي) التي يبديها شيفا- أو الطبيعة- تتمثل في بعض جهات الهند، وخصوصاً في البنغال، في صورة زوجة شيفا، واسمها "كالي"(بارفاتي، أو أوما أو درجا) وهي موضع عبادة في عقيدة من العقائد الكثيرة التي تأخذ بمذهب "الشاكتي" هذا؛ ولقد كانت هذه العبادة- حتى القرن الماضي- وحشية الطقوس كثيراً ما تتضمن في شعائرها تضحية بشرية، لكن الآلهة اكتفت بعدئذ بضحايا الماعز (17)؛ وهذه الآلهة صورتها عند عامة الناس شبح أسود بفم مفغور ولسان متدل، تزدان بالأفاعي وترقص على جثة ميتة؛ وأقراطها رجال موتى، وعقدها سلسلة من جماجم، ووجهها وثدياها تلطخها الدماء (18) ومن أيديها الأربعة يدان تحملان سيفاً ورأساً مبتوراً، وأما اليدان الأخريان فممدودتان رحمة وحماية؛ لأن "كالي- بارفالي" هي كذلك الإله الأمومة كما أنها عروس الدمار والموت؛ وفي وسعها أن تكون رقيقة الحاشية كما في وسعها أن تكون قاسية، وفي مقدورها أن تبتسم كما في مقدورها أن تقتل؛ ولعلها كانت ذات يوم إلهة أماً في سومر، ومن ثم جاءت إلى الهند قبل أن تتخذ هذا الجانب البشع من جانبيها (19) ولاشك أنها هي وزوجها قد اتخذا أبشع صورة ممكنة لكي يلقيا الرعب في نفوس الرعاديد من
عبادها فيحتشموا، أو قد تكون هذه البشاعة كلها قد أريد بها أن يلقي الرعب في نفوس العباد فيجودوا بالعطاء للكهنة
(1)
.
تلك هي أعظم آلهة الهندوسيين، لكنا لم نذكر إلا خمسة من ثلاثين مليوناً من الآلهة تزدحم بها مقبرة العظماء في الهند؛ ولو أحصينا أسماء هاتيك الآلهة لاقتضى ذلك مائة مجلد؛ وبعضها أقرب في طبيعته إلى الملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، وطائفة منها أجرام سماوية مثل الشمس، وطائفة منها تمائم مثل "لاكشمي"(إلهة الحظ الحسن)، وكثير منها هي حيوانات الحقل أو طيور السماء؛ فالهندي لا يرى فارقاً بعيداً بين الحيوان والإنسان، فالحيوان روح كما للإنسان، والأرواح تمضي دواماً متنقلة من بني الإنسان إلى بني الحيوان، ثم تعود إلى بني الإنسان مرة أخرى؛ وكل هذه الصنوف الإلهية قد نسجت خيوطها في شبكة واحدة لا نهاية لحدودها، هي "كارما" وتناسخ الأرواح؛ فالفيل مثلاً قد أصبح الإله "جانيشا" واعتبروه ابن شيفا (21)، وفيه تتجسد طبيعة الإنسان الحيوانية، وكانت صورته في الوقت نفسه تتخذ طلسماً يقي حامله من الحظ السيئ؛ كذلك كانت القردة والأفاعي مصدر رعب، فكانت لذلك من طبيعة الآلهة؛ فالأفعى التي تؤدي عضة واحدة منها إلى موت سريع، واسمها "ناجا" كان لها عندهم قدسية خاصة؛ وترى الناس في كثير من أجزاء الهند يقيمون كل عام حفلاً دينياً تكريماً للأفاعي، ويقدمون العطايا من اللبن والموز لأفاعي "الناجا" عند مداخل جحورها (22)؛ كذلك أقيمت المعابد تمجيداً للأفاعي كما هي الحال في شرقي ميسور، وهناك في هذه المعابد تسكن جموع زاخرة من الزواحف، ويقوم
(1)
ومع ذلك فكهنة العقيدة الشيفية يندر أن يكونوا من البراهمة، ومعظم البراهمة ينظرون نظرة ازدراء واسف الى المذهب "الشاكتي".
الكهنة على إطعامها والعناية بها (23)؛ وللتماسيح والنمور والطواويس والببغاوات، بل والفئران حقها من العبادة (24).
وأكثر الحيوان قدسية عند الهندي هي البقرة، فنرى تماثيل الثيرة مصنوعة من كل مادة وفي شتى الأحجام تراها في المعابد والمنازل وميادين المدن؛ وأما البقرة نفسها فأحب الكائنات الحية جميعاً إلى الهنود، ولها مطلق الحرية في ارتياد الطرقات كيف شاءت، وروثها يستخدم وقوداً أو مادة مقدسة يتبركون بها، وبولها خمر مقدس يطهر كل ما في الجسم من نجاسة في الظاهر والباطن؛ ولا يجوز للهندي تحت أي ظرف أن يأكل لحمها أو أن يصطنع من جلدها لباساً يرتديه- فلا يصنع منه غطاء للرأس ولا قفازاً ولا حذاء؛ وإذا ماتت البقرة وجب دفنها بجلال الطقوس الدينية (25)، ولعل السياسة الحكيمة هي التي رسمت فيما مضى هذا التحريم احتفاظاً للزراعة بحيوان الجر حتى يسد حاجة السكان الذين يتكاثرون (26)، وقد بلغ عدد البقر اليوم ربع عدد السكان (27) ووجهة نظر الهندي في ذلك هي أنه ليس أبعد عن المعقول أن تشعر بالحب العميق للبقرة والمقت الشديد لفكرة أكلها، من أن تكن أمثال هذه المشاعر للحيوانات المستأنسة من قطط وكلاب، لكن الذي يبعث على السخرية المرة في الأمر هو عقيدة البراهمة بأن الأبقار لا يجوز ذبحها قط، وأن الحشرات لا يحل إيذاؤها قط، وأن الأرامل من النساء ينبغي أن يحرقن أحياء؛ فحقيقة الأمر هي أن عبادة الحيوان قد ظهرت في تاريخ الشعوب كلها، فإن جاز للإنسان أن يؤلمه الحيوان اطلاقاً، فالبقرة الرحيمة الهادئة حقها في هذا التقديس؛ ولا يجوز لنا أن نغلو في كبريائنا حين تأخذنا الدهشة لهذه المعارض الحيوانية من آلهة الهنود، فلنا كذلك إبليس عدن في صورة حية، والثور الذهبي في العهد القديم من الإنجيل، والسمك المقدس في سراديب الموتى، وحمل الله الوديع.
إن سر تعدد الآلهة هو عجز العقل الساذج عن التفكير فيما ليس
مشخصاً؛ فأيسر عليه أن يفهم الأشخاص من أن يعقل القوى، وأن يفهم الإرادات من أن يتصور القوانين (28)، والظن عند الهندي هو أن حواسنا البشرية لا ترى من الحوادث التي تدركها سوى ظاهرها، ويعتقد أن وراء هذه الظواهر كائنات روحية لا حصر لعددها، يمكن إدراكها بالعقل لا بالحواس- على حد تعبير "كانت"؛ ولقد أدى تسامح البراهمة ذو المسحة الفلسفية، إلى الزيادة من ذخيرة آلهتهم حتى ازدادت كثرة على كثرة، وذلك أن الآلهة المحليين وآلهة القبائل المختلفة قد صادفت عند الهندي سهلاً ومرحباً، فقبلها وفسرها بأنها جميعاً تصور جوانب من آلهته الأصلية؛ فكل عقيدة يسمح لها بالدخول عندهم إن كان في مستطاعها أن تدفع الضريبة على ذلك؛ حتى كاد كل إله آخر الأمر أن يكون صورة أو صفة أو تجسيداً لإله آخر، ثم تناول العقل الهندي الرشيد كل هذه الآلهة فدمجها في إله واحد؛ هكذا تحول تعدد الآلهة إلى عقيدة بوحدة الوجود، أوشكت عندهم أن تكون توحيداً، والتوحيد بدوره أوشك أن يكون عندهم واحدية فلسفية؛ فكما يتوجه المسيحي الورع بالدعاء إلى العذراء، أو إلى قديس من آلاف القديسين ومع ذلك لا يتحول عن توحيده لله، بمعنى أنه لا يعترف إلا بإله واحد على أنه ذو الجلال الأسمى، فكذلك الهندي يتوجه بالدعاء إلى "كالي" أو "راما" أو "كرشنا" أو "جانيشا" دون أن يتطرق إلى ذهنه لحظة واحدة أن هذه آلهة لها السيادة العليا
(1)
فترى بعض الهنود يتخذ من "فشنو" إلهاً أعلى، وبعضهم يتخذ من "شيفا" إلهاً أعلى، ويجعل فشنو أحد ملائكته؛ وإذا وجدت بين الهنود أقلية تعبد "براهما" فما ذلك إلا لأنه مجرد عن التشخص، ممتنع على الحواس، بعيد عن البشر، ولهذا السبب عينه ترى معظم الكنائس في البلاد المسيحية قد أقيمت تكريماً لمارية أو لأحد القديسين، وكان على المسيحية أن تنتظر حتى يجيئها فولتير فيقيم معبداً لله.
(1)
فيما يلي عبارة مقتبسة من التقرير عن تعداد سنة 1901، المرفوع إلى الحكومة البريطانية في الهند:"إن النتيجة العامة التي انتهيت إليها من البحث هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد راسخة في كائن واحد أعلى"
الفصل الثالث
العقائد
كتب "بيورانا" - عودة الكون بالتناسخ مرة بعد مرة
تقمص الروح في عدة أجساد - "كارما" - جوانبها
الفلسفية - الحياة باعتبارها شراً - الخلاص
ويمتزج بهذا اللاهوت المعقد، مجموعة معقدة من الأساطير فيها التخريب وفيها عمق الفكرة في آن معاً؛ فلما كانت كتب الفيدا قد دفنت في اللغة التي كتبت بها، ثم لما كانت فلسفة البراهمة الميتافيزيقية تجاوز حدود أفهام الناس، فقد نهض "فياسا" وآخرون في مدة تطاولت إلى ألف عام (من 500 ق. م إلى 500 م) وأنشئوا كتب "بيورانا"- ومعناها القصص القديمة- أنشئوها شعراً في أربعمائة ألف دوبيت (الدوبيت بيتان من الشعر) يعرضون فيها لعامة الناس حقيقة خلق العالم بصورتها الدقيقة، وما يطرأ عليه من مراحل الكون والفساد المتعاقبة على فترات دورية، ونسب الآلهة، وتاريخ عصر البطولة؛ وليست تدعي هذه الكتب لنفسها قالباً أدبياً ولا نظاماً منطقياً، ولا اعتدالاً في تقدير الأشياء بالأعداد، من ذلك مثلاً أنها تذكر عن الحبيبين "إرفاشي" و "بورورافاس" أنهما قضيا واحداً وستين ألف عام في سرور وغبطة (30)؛ لكنها مع ذلك أصبحت للديانة الهندية إنجيلاً ثانياً لوضوح لغتها وروعة قصصها وسلامة العقيدة التي تشرحها، كما أصبحت تلك الكتب للديانة الهندية مستودعاً عظيماً لخرافاتها وأساطيرها، بل وفلسفتها؛ فهناك على سبيل المثال قطعة من "فشنوبورانا" تعبر عن أقدم فكرة جالت برأس الهندي وما فتئت تعاوده على طول الزمن- وأعني بها الفكرة القائلة بأن استقلال الأفراد في ذوات منفصل بعضها عن بعض، وهم، وأن الحياة كلها حقيقة واحدة:
"جاء "ربهو" بعد ألف عام.
إلى "نداغا" في مدينته ليزيده علماً.
فرآه خارج المدينة.
في نفس اللحظة التي كان الملك فيها على وشك الدخول بحشد كبير من الأتباع،
رآه واقفاً على معبده، معتزلاً بنفسه عن الزحام،
ذاوي العنق من أثر الصيام، وكان في طريقه عائداً من الغابة ومعه بعض الوقود والكلأ
لما رآه "ربهو" قصد إليه وحياه قائلاً:
"أيها البرهمي! فيم وقوفك هاهنا وحيداً؟ "
فقال "نداغا": "انظر إلى الحشد محيطاً بالملك
الذي يوشك أن يدخل المدينة؛ هذا هو علة وقوفي وحيداً"
فقال "ربهو": "أي هؤلاء يكون الملك؟
ومن عسى أن يكون الآخرون؟
أنبئني فيبدو عليك أنك بالأمر عليم"
فقال "نداغا": "إن من يركب الفيل الأحمر، عالياً برأسه كأنه قمة الجبل
هذا هو الملك، والآخرون هم تابعوه".
فقال "ربهو": "إنك تشير إلى هذين، إلى الملك والفيل
دون أن تميز بينهما بفاصل
قل لي أين أجد الفاصل بين هذا وذاك؟
أريد أن أعلم أي هذين هو الملك، وأيهما يكون الفيل؟ "
فقال "نداغا": "الفيل أسفل، والملك من فوقه،
من ذا الذي لا يعلم علاقة الحامل بالمحمول؟ "
فقال "ربهو": "علمني ذلك فقد أستطيع تعلمه"،
ما هذا الذي تشير إليه بقولك "أسفل" وبقولك "فوقه"؟
فوثب نداغا من فوره على المعلم وخاطبه قائلاً:
"هاأنذا أعلمك ما أردت أن تتعلمه مني،
أنا "أعلى" مثل الملك وأنت "أسفل" مثل الفيل،
وإنما أسوق لك هذا المثل لأعلمك"
فقال ربهو: "إذا كنت في موضع الملك، وأنا في موضع الفيل
فما أزال أطلب منك أن تنبئني: أينُّا أنت أينُّا أنا؟ "
فما لبث نداغ أن جثا أمامه وأمسك بقدميه وقال:
"حقاً إنك "ربهو" أستاذي
…
بجوابك هذا عرفت أنك أنت شيخي قد أتى "
فقال "ربهو": "نعم، جئت لأعلمك
لأنك فيما سبق أبديت استعداداً لخدمتي،
أنا هو "ربهو" قد جئت إليك
وهذا الذي علمتك إياه اختصاراً-
وهو صميم الحقيقة العليا- يتلخص في نفي الثنائية من الوجود"
(1)
وبعد أن فرغ الشيخ "ربهو" من حديثه هذا مع نداغا، مضى لسبيله
ومن ثم أدار نداغا فكره- مهتدياً بهذا الدرس الرمزي الذي تعلمه- فركزه كله في اللاثنائية
(1)
وهم يسمون عدم الثنائية بكلمة Advaitam، وتعتبر هذه الكلمة مركز الفلسفة الهندية كلها، وسنعود إلى ذلك في فصل تال.
ومن ذلك الحين أخذ ينظر في الكائنات كلها فلا يجد فيها ما يفرق شيئاً منها عن نفسه
وبهذا شاهد براهما، وحقق الخلاص الأعظم.
في كتب "بيورانا" هذه، وفي أمثالها من آثار الهند في عصورها الوسطى، تقرأ نظرية عن الكون بعينها النظرية التي يقول بها العصر الحديث؛ فليس هناك خلق بمعنى التكوين بعد العدم، إنما هو كون يعقبه فساد أبد الدهر، هو نماء يعقبه ذبول، دورة بعد دورة؛ كهذا الذي تراه متمثلاً في كل نبات في العالم وكل حيوان؛ والذي يحفظ مراحل هذه السيرة فلا تقف دورتها، هو براهما- أو إن شئت فقل براجاباتي كما يسمى الخالق في هذه الكتب التي نحن الآن بصددها- براهما هو القوة الروحية التي تفعل ذلك، ولسنا ندري كيف بدأ العالم، إن كانت للعالم بداية؛ يجوز أن يكون براهما- كما تذهب كتب بيورانا- قد جعل بداية العالم بيضة ثم احتضنها حتى أفرخت؛ ويجوز أن يكون هذا العالم غلطة عابرة من الصانع، أو فكاهة رأى فيها قليلاً من تسلية (32)؛ وكل دورة- أو كالبا كما يسمونها- في تاريخ الكون منقسمة إلى عصور كبرى- ويسمون كل عصر منها ماهايوجا- طول الواحد منها 000 ر 320 ر 4 عام؛ ثم ينقسم كل "ماهايوجا" إلى أربعة "يوجات"- أي عصور "يطرأ على الجنس البشري خلالها تدهور تدريجي؛ ولقد مضت ثلاثة أعصر من "الماهايوجا"- أي العصر الأعظم- الحاضر، بلغ مداها 888 ر 888 ر 3 عام، ونحن الآن نعيش في العصر الرابع- ويسمونه "اليوجا الكالي" ومعناها عصر الشقاء؛ ومن هذه المرحلة الرابعة انسلخ 035 ر 5 عام، وبقى منها 965 ر 426 عام، وعندئذ يصيب العالم موت من ميتاته الدورية، بعدها يبدأ براهما يوماً آخر من "أيام براهما" وما يومه إلا "كالبا" أي دورة طولها 000 ر 000 ر 320 ر 4 عام؛ وفي كل دورة "كالبية" من هذه الدورات يتطور الكون بفعل العوامل الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية، وبفعل العوامل
الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية يعود إلى الانحلال، وفناء العالم كله لا يقل في يقينه عن موت فأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك كله في نظر الفيلسوف بأخطر من موت الفأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك نحوها الكون، أي ليس هناك "تقدم" بل كل ما هناك تكرار لا ينتهي (33).
وحدث إبان هذه العصور صغراها أن تحولت بلايين الأنفس من نوع إلى نوع ومن جسم إلى جسم ومن حياة إلى حياة في دورات من التناسخ تبعث الملل لتكرارها؛ فليس الفرد فرداً في حقيقة أمره، وإنما هو حلقة في سلسلة الحياة، وصفحة واحدة من تاريخ نفس من الأنفس؛ والنوع من الأحياء ليس في حقيقة أمره نوعاً قائماً بذاته، لأن الأنفس الحالّة في هذه الزهور أو هذه البراغيث ربما كانت أمس، أو ربما تكون غداً، أرواحاً من أرواح البشر؛ فالحياة كلها واحدة؛ وإذن فالإنسان إن هو إلا إنسان إلى حد ما؛ لأنه كذلك حيوان، ولا تزال عالقة به نتف وأصداء من حيواته الدنيا الماضية، مما يجعله أقرب صلة بالحيوان منه إلى الحكيم من الناس؛ إن الإنسان جزء من طبيعة لا أكثر، فليس هو من هذه الطبيعة مركزها ولا سيدها (34)، والحياة الواحدة في الفرد ليست إلا فصلاً واحداً من سيرة نفس واحدة، وليست هي كل ما تتألف منه هذه النفس؛ فكل صورة من صور الأحياء مصيرها التغير، وأما الحقيقة فدائمة وواحدة؛ والأبدان الكثيرة التي تحل فيها النفس واحداً بعد واحد، شبيه بالأعوام أو بالأيام في حياة الفرد الواحد، وقد تعلو بالنفس نحو النماء حيناً أو قد تهبط بها نحو الذبول حيناً آخر؛ فكيف يمكن لحياة الفرد الواحد، وهي على هذه الحالة من القصر في تيار الأجيال المتعاقبة العنيف الجارف، فكيف يمكن أن تشتمل على كل ما للنفس الفردة من تاريخ، أو أن تهيئ لها ما هي جديرة به من
عقاب أو ثواب على شرها أو خيرها؟ وإذا فرضنا للنفس خلوداً، فكيف يجوز لحياة واحدة قصيرة أن تقرر مصيرها إلى الأبد؟
(1)
يقول الهندي إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس تعاني العذاب أو تتمتع بالثواب، جزاء وفاقاً لما وقع من النفس في حياة ماضية من رذيلة أو فضيلة؛ إذ يستحيل على فعل صغير أو كبير، خير أو شرير، أن يمضى بغير أثر؛ إن كل شئ لا بد له من أثر يظهر ذات يوم، ذلك هو قانون "كارما"- ومعناه قانون الفعل- أو قانون السببية في دنيا الروح، وهو أسمى قوانين العالم وأبشعها؛ فإذا أقام إنسان العدل، وكان رحيماً دون أن يقترف خطيئة، فيستحيل أن يجيء جزاؤه في مرحلة واحدة فانية من مراحل الحياة، بل يمتد نطاقه إلى حيوات أخرى يولد فيها ليكون ذا مكانة أعلى وحظ أوفر، لو ظل على فضيلته الأولى؛ أما إن عاش حياته عيش الرذيلة، أعيدت ولادته في حياة تالية منبوذاً أو ابن عِرْس أو كلباً
(2)
، وقانون "كارما" هذا- مثل قانون القَدَر عند اليونان- هو فوق الآلهة والبشر معاً لأن الآلهة أنفسهم لا يستطيعون تغيير سننه التي يطّرد فعلها؛ أو إن شئت فقل ما قاله رجال اللاهوت، وهو أن "كارما" وإرادة الآلهة أو فعلها، شيء واحد بذاته (38)، لكن ليس "كارما" و "القدر" بشيء واحد، لأن "القدر" يتضمن عجز الإنسان عن تقرير مصير نفسه، أما "كارما" فتجعل الإنسان (إذا أخذنا كل حيواته جملة واحدة) خالق مصير نفسه؛ وليست الجنة والجحيم بخاتمة ينتهي عندها فعل "كارما"، وهو سلسلة الولادات والميتات؛ نعم إن الروح بعد موت جسدها، يجوز
(1)
إذا سئل الهندي: لماذا لا نتذكر ما مر بنفوسنا وهي في أبدانها السابقة، أجاب بأننا كذلك لا نتذكر حوادث الطفولة الأولى؛ فكما أننا لا نعلل مرحلة رشدنا إلا على أساس مرحلة الطفولة، فكذلك لا يمكن تفسير موضعنا ونصيبنا من هذه الحياة الحاضرة إلا على أساس حيوات النفس الماضية.
(2)
قد علل أحد الرهبان شهيته بأنه في حياة سابقة لروحه كان فيلاًً، ثم نسي "كارما" أن يغير شهيته ما غير بدنه (36)، ويعتقدون أن المرأة ذات الرائحة القوية كانت فيما مضى سمكة
أن ترسل إلى الجحيم لتلقى عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فشيلة بذاتها لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، وقليل من الأرواح هي التي يسمح لها بالإقامة في الجنة إلى الأبد؛ ذلك لأن الروح لا بد لها بعد فترة تقضيها في الجنة أو الجحيم، أن تعود إلى الأرض من جديد، لتنفذ بحياة جديدة ما يقضي به عليها "كارما"
(1)
كان هذا المذهب صادقاً من الوجهة البيولوجية إلى حد كبير، فلا ريب في أننا حقاً تجسيد جديد لأسلافنا، وسنعود بدورنا فنتجسد من جديد في أبنائنا، وعيوب الآباء تهبط على الأبناء إلى حد ما (ولو أنها لا تهبط بالمقدار الذي يفرضه الجامدون الخيرون) حتى ولو بعد أجيال كثيرة؛ فقد كان "كارما" أسطورة بارعة في صرف الحيوان البشري عن القتل والسرقة والمماطلة والتقتير في العطايا، فضلاً عن أنها وسعت من نطاق الوحدة الخلقية والشعور بالواجب حتى شمل ذلك النطاق مراحل الحياة كلها، ومهدت أمام التشريع الخلقي سبيل التطبيق على نطاق أوسع رقعة وأكثر منطقاً مما وجده في أية حضارة
(1)
يعتقد الهنود في سبع سموات، إحداهما على الأرض، وبقيتها ترتفع عن الأرض على تفاوت في الدرجات بينها، وهناك في عقيدتهم إحدى وعشرون جحيماًً مقسمة سبعة أقسام؛ وليس العقاب أبدياً، لكنه أنواع؛ وإن الوصف الذي يصف به "الأب دبوا" جحيمات الهنود، لينافس في بشاعته جحيم دانتي، وهو- مثله- يصور ما يضطرب به صدر الإنسانية من مخاوف كثيرة وخيال ينزع بالناس نحو إيقاع الأذى. "فمن ألوان العذاب النار والحديد والثعابين والحشرات السامة والحيوانات الكاسرة وسباع الطير، ومر الشراب والسم والروائح الكريهة؛ واختصاراً، تستخدم كل وسيلة ممكنة في تعذيب المغضوب عليهم؛ بعضهم ينفذ في مناخيرهم يظلون يساقون به إلى الأبد فوق نصال سكاكين غاية في الإرهاف وبعضهم يحكم عليهم بالمرور خلال سم الخياط؛ وبعضهم يوضعون بين صخرتين مستويتين تضمانهم ضما فتسحقانهم دون أن تقتلاهم؛ وبعضهم تطلق عليهم طيور العقاب الجائعة فتظل تنقر عيونهم بغير انقطاع؛ وملايين منهم يقضى عليهم بالسباحة الدائمة في بركة مليئة ببول الكلاب أو مخاط الآدميين"، ويجوز أن تكون هذه العقائد قاصرة على أدنى طبقات الهنود وعلى المتزمتين من رجال اللاهوت؛ ويسهل علينا التسامح إذا تذكرنا أن جهنمنا- على اختلافها عن جهنم الهنود- ليست منوعة العذاب فحسب، بل هي أبدية فوق ذلك.
أخرى، فالهنود الأخيار لا يقتلون الحشرات إذ وسعهم ذلك، " وحتى أولئك الذين يتواضعون منهم في طموحهم الخلقي يعاملون الحيوان معاملتهم لأخوة لهم أدنى شأناً، لا معاملتهم لكائنات أحط نوعاً سلطهم الله عليهم"(41)، وقد فسرت "كارما" للهنود- من الوجهة الفلسفية- كثيراً من الحقائق التي كانت تكون بغيرها غامضة المعنى أو مجحفة إجحافاً يوغر الصدور؛ فهذه الفوارق الأزلية التي تفرق بين أقدار الناس والتي تخيب آمال الناس منذ الأزل في المساواة والعدل؛ وهذه الشرور في صورها المختلفات التي تسود وجه الأرض وتصبغ بحمرة الدماء مجرى للتاريخ؛ وهذه الآلام التي تدخل حياة الإنسان مع ولادته ثم يصاحبه حتى وفاته؛ كل هذه وهذه وتلك بدت معقولة للهندي إذا ما انعقد في "كارما"؛ ذلك لأن هذه الشرور وهذا الظلم وهذه الفوارق المتدرجة من الخبل العقلي إلى النبوغ، وهذه الدرجات من الفقر والغني، كل هذه نتيجة للحيوات الماضية وهي نتيجة لازمة تترتب على فعل قانون، إن رأيته ظالماً مدى حياة واحدة أو لحظة واحدة، فستراه أعدل ما تكون القوانين في نهاية الأمر كله
(1)
، فكارما إحدى الوسائل الكثيرة التي ابتكرها الإنسان لنفسه لتعينه على تحمل الشر صابراً، وعلى مواجهة الحياة متفائلاً؛ فالمهمة التي اضطلعت بها معظم الديانات وحاولت أداءها هي أن تفسر الشر وأن تشرح للناس نظاماً كونياً يبرر لهم أن يقبلوا الشر جزءاً منه، قبولاً إلا يكن مليئاً بالبِشْر، فحسبه أن يكون مصحوباً بسكينة الفؤاد، ولما كانت مشكلة الحياة الحقيقية ليست هي آلامها، لكنها الآلام التي تصادف من لا يستحقونها، فإن ديانة الهند تخفف من هذه المأساة البشرية بأن تخلع
(1)
الاعتقاد في"كارما" وفي التناسخ هو أعظم عقبة من الوجهة النظرية تحول دون محو نظام الطبقات في الهند، لأن الهندي المتمسك بعقيدته يرى أن الفوارق الطبقية قد تقررت نتيجة لسلوك في حيواتها الماضية، وإنها جزء من تدبير الله، ومن الكفر أن تغير فيما دبر الله.
على الحزن والألم شيئاً من المعنى وقدراً من القيمة؛ فللروح- بناء على اللاهوت الهندي- هذا العزاء على الأقل، وهو أنها لا بد لها أن تتحمل نتائج فعلها وحدها دون أفعال سواها؛ فما لم تضجر الروح من الوجود كله جملة واحدة، فستجد نفسها راضية عن الشر باعتباره عقاباً عابراً مؤقتاً، وسترقب تحقيق آمالها في ثوابها على ما أتت من فضيلة.
لكن الهنود في حقيقة الأمر يرتابون في قيمة الوجود كله جملة واحدة؛ ذلك أنه لما كانت البيئة ترهق قواهم إرهاقا، ولما كان الحاكم يذل قوميتهم إذلالاً، ويستغل مواردهم استغلالاً، فقد مالوا إلى النظر إلى الحياة على أنها عقوبة مُرة أكثر منها فرصة سانحة أو ثواباً يرتجى؛ فكتب الفيدا التي كتبها القوم وهم أشداء عند قومهم من الشمال، كانت في تفاؤلها لا تقل عما يكتبه اليوم أديبنا "وتمن"؛ ومضت خمسمائة عام، وظهر بوذا من هؤلاء القوم أنفسهم، لكنه أنكر قيمة الحياة؛ ثم مضت خمسة قرون أخرى، وظهرت كتب " بيورانا " فعبرت عن نظرة بلغت في تشاؤمهما حداً لم يبلغه متشائم في الغرب، إذا استثنينا لحظات شرودا من الشك الفلسفي
(1)
؛ لقد تعذر على الشرق- حتى تناوله أطراف الثورة الصناعية- أن يفهم هذه الحماسة التي يقبل بها الغرب على الحياة، ولم يجد إلا سذاجة وطفولة في مشاغلنا التي لا تعرف الرحمة، ومطامعنا التي لا تقنع، ورسائلنا التي تحطم الأعصاب وتوفر العمل،
(1)
أرجع شوبنهور- مثل بوذا- كل آلام الحياة والنسل، وبشر بانتحار الجنس كله انتحاراً تكون وسيلته العقم نصطنعه اختيارا؛ كذلك "هيني" لم يكد يكتب مقطوعة واحدة من شعره دون أن يتحدث فيها عن الموت؛ واستطاع أن يكتب في روح هندية هذين السطرين: النعاس حلو، لكن الموت أحلى، وأحلى من كل حلو ألا يولد الإنسان أبداً. وازدرى "كانت" تفاؤل ليبنتز، وكتب متسائلاً":"هل يمكن لأي إنسان سليم العقل عاش من أعوامه ما يكفي ليفهم ويتأمل في قيمة الحياة البشرية، هل يمكن لهذا الإنسان أن يرضى أن تعاد عليه فصول الحياة في روايتها الهزيلة، لا أقول بنفس الظروف التي شهدها هو في حياته، بل بأي ظروف يشاء؟ ".
وتقدمنا وسرعة سيرنا؛ لم يفهم الشرق من الغرب هذا الانغماس العميق في سطوح دون لبابها، ولا هذا الرفض الماكر منه أن يواجه حقائق الوجود مواجهة صريحة؛ لكن الغرب في الوقت نفسه لم يستطع أن يسبر في الشرق التقليدي أغوار هذا السكون الهامد، ولا هذا "الركود" و "اليأس"؛ إلا أن الحرارة لا تفهم البرودة.
"ياما" يوجه السؤال إلى "يودشتيرا" قائلاً: "ما أعجب شئ في العالم؟ " فيجيبه "يودشتيرا": "أن يموت الإنسان في أثر الإنسان، وأن يرى الناس ذلك ثم ينطلق في سعيهم كأنهم من الخالدين"(44) وجاء في "الماهابهاراتا": "العالم مصاب بكارثة الموت، ومقيد في نشاطه بالشيخوخة، والليالي متتابعات، تأتي ثم تمضي، لا تتخلف أبداً؛ فإذا ما أيقنت أن الموت يستحيل عليه الوقوف، فماذا أرتجي من السير تحت غطاء من الحكمة"(45)؛ وتدعو "سيتا" في "رامايانا" لما رأت أن ثوابها على وفائها رغم ما يصادفها من إغراء ومحنة هو الموت ولا شئ غير الموت، تدعو قائلة:
لو كنت بوفائي لزوجي قد برهنت على أني زوجة أمينة.
فيا أمنا الأرض أريحي ابنتك "سيتا" من أعباء هذه الحياة (46).
وهكذا ترى الكلمة الأخيرة في التفكير الديني عند الهنود هي ما يسمونه "فكشا" ومعناها الخلاص- الخلاص أولاً من الشهوة، ثم الخلاص من الحياة؛ والنرفانا هي هذا الخلاص أو ذاك، لكنها لا تبلغ غاية أمدها إلا إذا تحقق الخلاصان معاً؛ ولقد عبر الحكيم "بهارتري- هاري" عن الخلاص الأول فقال:
"إن كل شئ على الأرض يبرر الخوف، والطريق الوحيدة للخلاص من الخوف هي في إنكار الشهوات إنكاراً تاماً
…
لقد مضى على عهد كانت تطول فيه أيامي حين كان سؤال الحسنة من الأغنياء يثخن في قلبي أليم الجراح؛ ثم بدت أيامي قصيرة كل القصر حين جعلت أسعى نحو تحقيق كل رغباتي وغاياتي
الدنيوية؛ أما الآن فقد تفلسفت وجلست على حجر صلب في كهف على سفح الجبل، وتراني لا أنفك عن الضحك كلما فكرت في حياتي الماضية" (47).
ويعبر غاندي عن الصورة الثانية من صورتي الخلاص فيقول:
"لست أريد عودة إلى ولادة جديدة"(48) إن أسمي وآخر ما يتمانه الهندي هو أن ينجو من العودة إلى الحياة في جسد آخر، وأن تزول عنه هذه الحمى التي تلتهب بها الذات كلما عاودتها الحياة في بدن جديد وولادة جديدة؛ وليس طريق الخلاص إيماناً، كلا ولا نتاجاً، إنما طريق الخلاص إنكار للذات إنكاراً متصلاً، ونفاذ بالبصيرة إلى الكل الذي يبتلع في جوفه الأجزاء، حتى ينتهي الأمر بالنفس إلى الموت الذي يفنيها ولا يبقي منها ما يولد مرة أخرى؛ وهكذا يتحول جحيم الفردية إلى سكينة الاتحاد مع سائر الوجود وفردوسه المقيم؛ هكذا تتحول الفردية إلى فناء تام في "براهما" الذي هو من العالم روحه أو قوته.
الفصل الرابع
غرائب الدين
الخرافات - التنجيم - عبادة العلاقة الجنسية -
الطقوس - الضحية - التطهير - المياه المقدسة
في هذا الجو اللاهوتي المفعم بالخوف والألم، ازدهرت الخرافة- وهي أول معونة ترسلها القوة الكامنة فوق الطبيعة لتعالج بها الأدواء الصغرى في الحياة- ازدهاراً خصيباً، حتى أصبحت القرابين، والتمائم، وإخراج الشياطين الحالّة في الأبدان، والتنجيم، والنبوءة بالغيب، والتعزيم، والنذور، وقراءة الكف، والعرافة، وطائفة الكهان التي بلغت 812 ر 728 ر 2، و "فاتحو البخت" الذين يبلغون المليون، ومروضو الثعابين بالسحر وعددهم مائة ألف، و "الفقراء" وهم مليون، ومن يمارسون "اليوجا" وغيرهم من الأولياء- أصبح ذلك كله جانباً واحداً من الصورة التاريخية التي تمثل الهند؛ فقد كان للهنود منذ ألف ومائتي عام عدد كبير من الكتب التي تشرح أصول التصوف والسحر والعرافة وتذكر الصيغ السحرية التي تهيئ السبيل لتحقيق أية غاية شئت؛ وأما البراهمة فقد نظروا نظرة ازدراء صامت إلى هذه الديانة التي يملؤها السحر، واحتملوا وجودها لأنهم من جهة خشوا أن تكون الخرافة بين عامة الناس عاملاً ضرورياً لصيانة قوة البراهمة أنفسهم، لأنهم من جهة أخرى ربما ظنوا أن لا خرافة يستحيل فناؤها، فإن ماتت في إحدى صورها، فما ذاك إلا لكي تعود إلى الوجود في صورة أخرى، وأحس البراهمة أن أقل الحكمة يقتضي ألا تقاوم مثل هذه القوة التي في وسعها أن تجسد نفسها في كل هذه الصور.
اعتقد الهندي الساذج- كما يعتقد كثيرون من الأمريكان المثقفين- في
التنجيم، وسلموا تسليماً بأن كل نجمة لها تأثير خاص على أولئك الذين ولدوا وهي في أوجها (50)؛ فالنساء إبان الحيض كن- مثل أوفيليا- يتقين ضوء الشمس، فذلك قد يسبب لهن الحمل (51)؛ وجاء في كتاب "كاوشيتاكي يوبانشاد" أن سر النجاح المادي هو تقديس الهلال كما ظهر؛ وكان العرافون والسحرة والمنبئون بالغيب، إذا ما أجريتهم أجراً زهيداً، يعلنون لك ماضي الحوادث ومستقبلها بدراستهم للأكف أو للبراز، أو للأحلام، أو لعلامات في السماء، أو للخروق التي أحدثتها الفئران في الثياب؛ ويزعمون بترتيلهم لعبارات السحر التي لم يكن ترتيلها في مقدور أحد سواهم، أنهم يخدمون الشياطين ويسحرون الثعابين، ويستعبدون الطيور، ويلزمون الآلهة أنفسهم بمعاونة من دفع لهم أجر ما يصنعون؛ كذلك كان السحرة نظير أجر معلوم يسلطون الشيطان على العدو، أو يطردونه من هذا الذي يؤجرهم، كانوا ينزلون الموت المفاجئ على العدو أو يلحقون به علة ليس لها شفاء؛ حتى البرهمي إذا ما تثاءب، جعل يفرقع بأصابعه ذات اليمين وذات الشمال حتى يطرد الأرواح الشريرة فلا يسمح لها بالدخول من فمه المفتوح
(1)
؛ وكان الهندي في شتى عصوره- مثل كثيرين من الفلاحين الأوربيين- يتحوط من عين الحسد؛ فأعداؤه قد يستخدمون السحر في أية لحظة شاءوا لينزلوا به تعاسة الحظ أو ليقضوا على حياته؛ ويستطيع الساحر فوق هذا كله أن يجدد الحيوية الجنسية أو أن يخلق الحب في أي إنسان لأي إنسان، أو أن يهيئ سبيل الولادة للعاقرات من النساء (53).
لم يكن يعدل رغبة الهنود في الأطفال شيء حتى النرفانا، ومن ثم إلى حد ما كانت رغبة الهندي الشديدة في القوة الجنسية، وكان تقديسه الديني للرموز التي تشير إلى النسل والخصوبة؛ فعبادة العلاقة الجنسية التي سادت
(1)
وكذلك يتمتم الأوربيون الأتقياء بعبارات يستنزلون بها البركة عقب العطاس، والأصل فيها صيانة الروح حتى لا تخرج بقوة الزفير.
معظم الأقطار في هذا العصر أو ذاك، قد لبثت قائمة في الهند من العصور القديمة إلى القرن العشرين؛ وكان إلههاً هو شيفا، ورمزها هو عضو التذكير، وكتابها المقدس هو "أجزاء من التانترا"(ومعناها كتب للنصوص)؛ و "شاكتي"(ومعناها القوة التي تبعث النشاط) بالنسبة إلى شيفا هي- كما كانوا يتصورونها أحياناً- زوجته كالي، وأحيانا أخرى يتصورون تلك القوة الباعثة شيفا على نشاطه الجنسي، عنصراً نسوياً في طبيعة شيفا نفسه، وبهذا تكون طبيعته مشتملة على قوتي الذكورة والأنوثة في آن معاً؛ وهاتان القوتان يمثلها الهنود بأوثان يطلقون عليها اسم "لنجا" أو "يوني"، وهي تصور عضوي التناسل عند الرجل والمرأة (53) وأينما سرت في الهند ألفيت آثاراً لهذه العبادة للعلاقة الجنسية: تراها في التماثيل الرمزية لأعضاء التناسل في معبد نياليز، وغيره من المعابد في بنارس، وتراها في أوثان "اللنجا" الهائلة التي تزين أو تحيط بمعابد شيفا في الجنوب، وتراها في المواكب والاحتفالات التي يرمزون بها إلى العملية الجنسية، ثم تراها قي تمائم ترمز إلى تلك العلاقة الجنسية أيضا، ويلبسونها على الذراع أو حول العنق؛ بل قد تصادف أحجار " اللنجا " ملقاة في عرض الطريق، ومن عادة الهنود أن يكسروا على هاتيك الأحجار جوز الهند الذي ينوون تقديمه في قرابينهم (54)، وهم يغسلون حجر "اللنجا" في معبد "رامشفرام" كل يوم بماء الكنج، ثم يباع ذلك الماء فيما بعد للمتدينين (55) كما كان يباع الماء المقدس في أوربا؛ وطقوس هذه العبادة الجنسية في العادة تكون بسيطة وملتزمة حدود الاحتشام، فقوامها أن يصب على الحجر ماء مقدس أو زيت مقدس ويزين بأوراق الشجر (56).
ولا ريب في أن الطبقات الدنيا من الهنود تستمد بعض المتعة الداعرة من مواكب العلاقة الجنسية (57)، لكن الكثرة الغالبة من الناس- فيما يظهر- لا يجدون حافزاً إلى الفاحشة في "اللنجا" أو "اليوري" أكثر مما يجد المسيحيون
من هذا الحافز في تأملهم للعذراء وهي ترضع طفلها؛ إن العادة تزيل الفحش عن أي شيء، والزمن يخلع القداسة على أي شئ؛ ويظهر أن الناس قد نسوا الرمزية الجنسية في هذه الأشياء منذ زمن طويل، ولم تعد هذه الأوثان الآن إلا وسائل تقليدية مقدسة تمثل لهم قوة شيفا (58)؛ ولعل الفرق بين تصور الأوربي وتصور الهندي للأمر منشؤه الفارق بين سن الزواج في أوربا وسن الزواج في الهند؛ فالزواج المبكر ينفس عن تلك الدوافع الطبيعية التي إن طال أمد كبحها، دارت على نفسها وأنتجت إما دعارة وأما حباً عذرياً؛ وعلى وجه الجملة تجد الأخلاق والعادات الخاصة بالعلاقات الجنسية في الهند أعلى منها في أوربا وأمريكا، وهي هناك أكثر منها هنا احتشاماً وعفة بدرجة كبيرة، وعبادة شيفا هي من أكثر العبادات في الهند تزمتاً وتقشفاً، وأخلص عُبَّاد "اللنجا" عقيدةٌ هم "اللنجايات"، وهم يمثلون أشد مذاهب الهند تزمتاً وطهراً (59)، يقول غاندي:"جاءنا أضيافنا الغربيون آخر الأمر يفتحون أعيننا لجوانب الفحش التي في طقوسنا، بعد أن كنا نمارسها حتى عهدهم ممارسة بريئة؛ لقد عرفت لأول مرة أن "شيفا لنجام" ترمز إلى فاحشة، من كتاب لمبشر مسيحي"(60).
إن استخدام الهنود "للنجا" و "اليوني" ليس إلا صورة واحدة من ألوف الصور في طقوسهم التي تبدو للعين العابرة الغربية عن البلاد، لا مجرد صورة للديانة الهندية، بل جزءاً أساسياً من صميم لبابها؛ ذلك لأن كل فعل من أفعال الحياة، حتى الغسل ولبس الثياب، له عندهم طقوسه الدينية؛ وفي كل دار يسكنها متدينون ترى آلهة خاصة بأهل تلك الدار، تمثل لهم أشياء معينة، كما ترى أسلافاً يضعونها موضع التكريم كل يوم؛ والواقع أن الديانة للهندي واجب يؤدى في الدار أكثر مما يؤدى في مراسم المعابد التي يحتفظون بها لأيام الأعياد؛ ومع ذلك فالناس يمرحون مرحاً عظيماً في الأعياد الدينية الكثيرة التي تملأ السنة الكهنوتية، فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من
الحجاج، قاصدين إلى الأضرحة القديمة؛ ولم يكونوا ليفهموا ما يقال من عبارات الصلاة في تلك المعابد، لأنها كانت تقال بالسنسكريتية، لكنهم كانوا يفهمون الأوثان، فيزينونها بالحلي ويطلونها بالطلاء ويرصعونها بكريم الأحجار؛ وكانوا أحياناً يعاملونها كأنها كائنات بشرية فيقضونها ويغسلونها ويلبسونها الثياب، ويطعمونها ويؤنبونها وينيمونها في مخادعها عند خاتمة النهار (61).
وأعظم الطقوس الجماعية هي تقديم القرابين، وأعظم الطقوس الخاصة الفردية هي التطهير؛ فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية، لأنه يعتقد أنه إذا لم يعقد الآلهة طعاماً فإنها تموت جوعاً (62) ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم ضحية بشرية؛ وكانت "كالي" تحب أن يكون قربانها رجالاً، ثم فسر البراهمة هذا بأنها إنما تحب أن تأكل رجالاً من أهل طبقات الدنيا وحدها
(1)
فلما تقدمت الأخلاق، أخذ الآلهة يكتفون بالحيوان قرباناً؛ فكان الناس يضحون لهم بكثير منه؛ على أن الماعز كان ذا منزلة خاصة في هذه الاحتفالات؛ ثم جاءت البوذية والجانتية و "أهمسا" فحرمت التضحية بالحيوان في بلاد الهندستان (67) ثم عادت العادة إلى مجراها القديم حين حلت الديانة الهندية محل البوذية؛ ولبثت قائمة على نطاق يثير الدهشة باتساعه، حتى يومنا هذا؛ وإنه لمن حسنات البراهمة أنهم رفضوا أن يسهموا بنصيب في أية تضحية فيها إراقة للدماء (68).
وأما طقوس التطهير فقد كانت تستغرق من حياة الهندي ساعات كثيرة، لأن مخاوف النجاسة كانت من الكثرة في الديانة الهندية كما هي في قواعد
(1)
يسجل التاريخ هذه القرابين البشرية حتى سنة 854 م (64) وكان المعتقد سابقاً أن المخلصين لدينهم كانوا يقدمون أنفسهم قرابين، مثل الذي يروي عن المتهوسين الدينيين الذين كانوا يلقون بأنفسهم تحت عجلات عربة "ججر نوت"(65)؛ لكن الرأي مجمع الآن على أن الحالات النادرة التي حدثت فيها التضحية بالنفس كانت على الأرجح من قبيل المصادفات.
الصحة الحديثة؛ فما أكثر ما قد يصاب الهندي بما يرده نجساً- إن أكل طعاماً حراماً، وإن لمس قمامة أو مس إنساناً من طبقة الشودرا، أو منبوذاً أو جثة أو امرأة في فترة حيضها، وغير ذلك مئات الحالات؛ وبالطبع كانت المرأة نفسها ينجسها حيضها أو وضعها وليداً؛ ولذا تطلب القانون البرهمي عزل المرأة في مثل هذه الحالات، واشترط تحوطات صحية معقدة (69)؛ وبعد كل هذه النجاسات- أو احتمال العدوى على حد تعبيرنا الحديث- كان من واجب الهندي أن يؤدي طقوساً تطهيرية معينة؛ فأما الحالات الصغرى فتكفيها طقوس بسيطة كأن يرش من إصابته النجاسة بالماء المقدس (70) وأما الحالات الكبرى فلا بد لهما من طرائق معقدة تبلغ أقصى مداها في بشاعة ما يسمونه "بانشاجافيا" وهو ضرب من التطهير كان يحكم به عقاباً لمن انتهك قوانين الطبقات على خطورتها (مثال ذلك أن يغادر الهند) ويتألف ذلك التطهير من شرب مزيج فيه "خمسة عناصر" من البقرة المقدسة: اللبن، والخثارة، والسمن، والبول، والروث
(1)
.
وأقرب من ذلك قليلاً إلى ذوقنا ما يوجبه عليهم دينهم من استحمام كل يوم؛ فهاهنا كذلك ترى تدبيراً صحياً تمس إليه الحاجة مساً شديداً في مناخ شبه استوائي؛ وترى هذا التدبير الصحي مصبوباً في قالب من الدين حتى يكون أقوى تأثيراً في النفوس؛ ولهذا بنيت برك وأحواض "مقدسة"، وجعلت أنهار كثيرة أنهاراً مقدسة وقيل للقوم إنهم إذا استحموا في هذه الأماكن تطهروا جسماً وروحاً؛ وقد كان ملايين الناس في أيام الرحالة "يوان شوانج" يستحمون في نهر الكنج كل صباح (73)؛ ومنذ ذلك العهد إلى يومنا لم تشهد تلك الأمواج شروقاً للشمس دون أن تسمع صلوات المستحمين الذين جاءوها
(1)
السمن هو زبد مصفى، ويقول "الأب دبوا"(1820 م) عن البول "إنه في نظرهم أفعل وسائل التطهير من أي ضرب من ضروب النجاسة، فكثيراً ما شاهدت هنوداً ممن يؤمنون بالخرافة، وهم يتبعون البقر إلى مراعاة، ينتظرون اللحظة التي يستطيعون فيها الحصول على هذا السائل الثمين في أوعية من نحاس أصفر، ويسرعون به إلى دورهم وهو ما يزال دافئاًً، وكذلك شاهدتهم يرقبون أخذه في حفنات أيديهم، فيشربون بعضه ثم يمسحون وجوههم ورءوسهم ببقيته".
سعياً وراء الطهر والخلاص، يرفعون أذرعهم نحو السماء المقدسة، ويصيحون في نغمة الصابرين:"أوم، أوم، أوم" وأصبحت بنارس هي المدينة المقدسة للهند، إذ باتت كعبة لملايين الحجاج، يؤمها الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء، جاءوا من كل أرجاء البلاد ليستحموا في النهر. حتى يستقبلوا الموتى برآء من كل إثم أطهاراً من كل رجس؛ إن الإنسان ليأخذه الخشوع، بل يأخذه الفزع، حين يتذكر أن أمثال هؤلاء الناس قد حجموا إلى بنارس مدى ألفي عام، وغمسوا أنفسهم في مياهها وهم يرتعشون من لذعة البرد في فجر الشتاء؛ وشموا بنفس متقززة لحم الموتى وهو يحترق، فعلوا كل ذلك وهم يفوهون بنفس الدعوات التي كان يقينهم أن تجاب، فعلوا كل ذلك قرناً بعد قرن، توجهوا بالدعاء إلى نفس الآلهة التي لبثت على صمتها؛ لكن عد استجابة إله من الآلهة لا يحول دون تعلق القلوب به، فلا تزال الهند تعتقد اليوم بنفس القوة التي كانت تعتقد بها في أي عصر مضى، في الآلهة الذي لبثوا كل هذا الزمن ينظرون إلى فقرها وبؤسها فلا تأخذهم من أجلها الرحمة.
الفصل الخامس
القديسون والزاهدون
أساليب التقديس - الزنادقة - السامح - نظرة عامة في ديانة الهنود
يظهر أن القديسين في الهند أكثر منهم في أي بلد آخر، حتى ليشعر الزائر في تلك البلاد أنهم نتاج طبيعي لها كالخشخاش والثعبان، وللقداسة في رأي المتدين الهندي ثلاث وسائل: الأولى طريق "جنانا- يوجا" أي طريق التأمل، والثانية "كارما- يوجا" أي طريق العمل؛ الثالثة "بهاكتي- يوجا" أي طريق الحب؛ ولا يمانع البرهمي في أي من هذه الطرق الثلاث، بما يقضي به قانون " الأَشْرامات " الأربع، أي مراحل القداسة، فعلى البرهمي الناشئ أن يبدأ الطريق بأن يكون "براهما شاري" يقسم على صيانته لعفته قبل زواجه، وعلى أن يلتزم التقوى ويواصل الدرس، وأن يكون صادقاً، خدوماً "لشيخه" أي لأستاذه الذي يعلمه؛ فإذا ما تزوج- ولا ينبغي أن يتأخر زواجه عن الثامنة عشرة من عمرة- كان عليه أن يدخل المرحلة الثانية من الحياة البرهمية، وهي مرحلة "جريها ستا" أي رب الأسرة، التي ينسل فيها الأبناء ليعبدوه ويعنوا به وبأسلافه؛ وفي المرحلة الثالثة (وقلما يمارسها الآن واحد) ينسحب الطامع في القداسة مع زوجته ليعيش كـ "فانا براستا" أي ساكن الغابات، فيتقبل عسر الحياة مطمئناً راضياً، ويحصر العلاقة الزوجية في نسل الأطفال، وأخيراً إن أراد فيصبح "ساناياسي" أي "الهاجر" للعالم، مستغنياً عن كل أملاكه وكل أمواله وكل ما يربطه بغيره من علاقات، فلا يحتفظ إلا بجلد وعل يغطي به جسده، وعكازة يتوكأ عليها، وقرعة ماء لظمئه؛ ويجب عليه أن يلطخ جسده بالرماد كله يوم، وأن يشرب "العناصر
الخمسة" مراراً متقاربة، وأن يعيش معتمداً على صدقات المحسنين؛ وتنص القاعدة البرهمية على أنه "لا بد أن ينظر إلى الناس على أنهم سواسية، فلا يتأثر بأي شيء مما يحدث، وأن تكون له القدرة على النظر إلى الأشياء نظرة هادئة لا يعرف هدوءها معنى الاضطراب، حتى إن بلغ الأمر حد الثورات التي تثل العروش؛ وغايته الوحيدة ينبغي أن تكون حصوله على ذلك القدر من الحكمة ومن الروحانية الذي يمكّنه في نهاية الأمر من الاتحاد بالربوبية العليا، تلك الربوبية التي تفصلنا عنها شهواتنا العاطفية وبيئاتنا المادية"
(1)
.
وإنك لتصادف أحياناً وسط هذا التدين صوتاً شكاكاً يرتفع كصرير النشاز في نغمات الحياة الهندية التي تسودها استكانة التسليم؛ لا شك أن الشُكّاك كانوا كثيرين حينما كانت الهند غنية، لأن الإنسانية تزداد تشككاً في آلهتها ازدياداً يبلغ أقصاه في حالات ازدهارها المادي، وتزداد لها تعبداً ازدياداً يبلغ غاية مداه حين يعمها البؤس؛ ولقد أسلفنا القول في فئة "شارفاكا" وغيرهم من زنادقة العصر البوذي؛ وهنالك مؤلف يكاد يساوي في قدمه ذلك العصر، وهو يسمى - على طريقة الهنود في تطويل الأسماء- "شواسا مْفِديُوبانشاد" الذي يبسّط اللاهوت في أربع قضايا:
(1)
أن ليس هناك عودة للروح إلى تجسيد جديد، ولا إله ولا جنة ولا نار ولا عالم.
(2)
وأن كل الكتب الدينية التقليدية من تأليف جماعة من الحمقى المغرورين.
(1)
ويضيف إلى ذلك "دبوا" الذي يرتاب في كل شئ إلا فيما يعتقد هو فيه: "إن أغلب هؤلاء الزاهدين ينظر إليهم على أنهم نصابون، وذلك هو ما يراه فيهم أكثر مواطنيهم تنورا"
(3)
وأن ما يحكم الأشياء كلها هو "الطبيعة" التي تبدع، و "الزمان" الذي يهدم؛ وهما لا يأبهان بفضيلة أو برذيلة حين يقسمون بين الناس أنصبتهم من السعادة والشقاء.
(4)
وأن الناس تخدعهم حلاوة الكلام فيعتنقون الاعتقاد في الآلهة والمعابد والكهنة، مع أنه من الواقع لا فرق بين فشنو وكلب (76).
وهناك قانون بوذي مكتوب باللغة الباليّة، تراه يضم المتناقضات، شأنه في ذلك شأن أي كتاب مقدس يحمي مصالح الكهنوت، وفي هذا القانون رسالة تستوقف النظر لعلها قديمة قدم المسيحية، وتسمى "أسئلة الملك مِلِنْدا" وفيها المعلم البوذي "نجاسينا" يجيب إجابات جد مثيرة للأسئلة الدينية التي يوجهها إليه "الملك مناندر" الإغريقي الباكتريّ الذي حكم شمالي الهند في مستهل القرن الأول قبل المسيح؛ يقول "نجاسينا" إن الدين لا ينبغي أن يتخذ مجرد وسيلة فرار يلوذ بها المعذبون، بل يجب أن يكون سعي الزاهد حتى يبلغ مرحلة القداسة والحكمة دون أن يزعم وجود جنة أو إله، لأن هذا القديس يؤكد لنا أنه لا وجود لجنة أو إله (77).
وتهاجم ملحمة "الماهابهاراتا" هؤلاء الشكاك والملاحدة الذين- كما تزعم لنا- ينكرون حقيقة الأرواح ويحتقرون الخلود، وهي تقول أن أمثال هؤلاء الناس "يضربون في فجاج الأرض كلها"؛ وهي تنذرهم بعقابهم المقبل، ضاربة لهم مثلاً ابن آوى الذي يعلل وجوده ووجود نوعه بقوله إنه كان في حياته الماضية "باحثاً عقلياً، وناقداً لكتب فيدا
…
مهيناً للكهنة معارضاً لهم
…
كافراً بكل شيء شكاكاً في كل شئ" (78)؛ ويشير "بهاجافاد- جيتا" إلى الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ويصفون الدنيا بأنها "لا تزيد عن كونها منزلاً للشهوات" (79) وكثيراً ما كان البراهمة أنفسهم شكاكين لكنهم كانوا يذهبون في الشك إلى غاية مداه بحيث لا يسمحون لأنفسهم أن يهاجموا عقيدة الناس؛ وعلى الرغم من أن شعراء الهند بصفة عامة يتميزون بالورع الشديد
ترى بعضهم، مثل "كابر" و "فيمانا" يدافعون عن نوع من العقيدة في الله متحلل من كثير جداً من القيود، فقد كتب "فيمانا"- وهو شاعر ظهر في جنوبي الهند في القرن السابع عشر- بروح السخرية من الرهبان الزاهدين ومن حجاج المعابد، ونظام الطبقات؛ يقول:
"عزلة الكلب، تأمل الكركيّ، ترتيل الحمار، استحمام الضفدعة"
…
كيف تكون أحسن حالاً إذا لطخت جسمك بالرماد؟ إنه ينبغي أن تركز فكرك في الله وحده، أما عن بقية ما تصنعه، فالحمار في وسعه أن يتمرغ في الوسخ كما تفعل
…
إن كتب "الفيدا" أشبه ما تكون بالفاجرات اللائي يخدعن الرجال وليس لهن أغوار تسبر؛ وأما علم الله الخبئ فهو شبيه بالزوجة الشريفة
…
أيمكن لتلطيخ الجسم بالرماد الأبيض أن يذهب برائحة وعاء الخمر؟ أيمكن؟ لحبل تلفه حول عنقك أن يجعل منك إنساناً آخر؟
…
لماذا نرى واجباً علينا أن نسيء إلى طبقة الباريا إساءة لا تنقطع؟ أليس المنبوذ مثلنا في لحمه ودمه؟ ومن أي طبقة عسى أن يكون الإله الذي يحل جسد البراريا؟
…
إن من يقول "إني لا أعلم شيئاً" هو أبلغ الناس حكمه (80).
وإنه لمما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن تذاع أقوال كهذه بغير مؤاخذة قائليها، في مجتمع تتحكم في عقوله طبقة من الكهان؛ فلوا استثنينا كبح الحكم الأجنبي للهنود (بل ربما جاز أن نقول أنه بسبب وجود الحكام الأجانب الذين لم يكونوا يأبهون للعقائد الدينية الأهلية) فقد تمتعت الهند بقدر من حرية الفكر أعظم جداً مما تمتعت به أوربا في عصورها الوسطى، وهي الفترة التي تقابلها مدنية الهند؛ ولقد باشر البراهمة نفوذهم في تدبر ورفق؛ وكان اعتمادهم في صيانة العقيدة الأصلية على الفقراء وما يتصفون به من جمود على القديم؛ وكان هؤلاء الفقراء في ذلك عند حسن ظن البراهمة بهم؛ فإذا ما شاعت في الناس ضروب في الزندقة أو الآلهة الغريبة شيوعاً يعد خطراً على العقيدة، تسامح البراهمة إزاءها حتى يمتصوها امتصاصاً في ذلك الغور
الفسيح الأبعاد الذي منه تتكون العقيدة الهندية، فإذا أضفت إلى تلك العقيدة إلهاً أو حذفت منها إلهاً، فلا يكون لهذا أثر كبير؛ ومن ثم قلت الحزازات المذهبية قلة نسبية في المجتمع الهندي، ولم تشتد إلا بين الهندوس والمسلمين؛ كذلك لم تسفح على أرض الهند دماء من أجل الدين، اللهم إلا دماء سفحها الفاتحون (81)؛ وجاء التعصب الديني إلى البلاد مع الإسلام والمسيحية، أما المسلمون فقد كانوا يبغون شراء الجنة بدم "الكفار" وأما البرتغاليون حين استولوا على "جوا" فقد أدخلوا فيها محاكم التفتيش (82).
وإذا بحثنا في هذا الخليط من العقائد عن عناصر مشتركة تعرف بها ديانة الهنود فسنجدها فيما يوشك أن يكون إجماعاً بين الهندوس على عبادة فشنو وشيفا معاً، وعلى تبجيل الفيدات والبراهمة والبقرة، وعلى اعتبار ملحمتي "ماهابهاراتا" و "رامايانا" لا مجرد ملحمتين أدبيتين، بل اعتبارها آيات مُنَزَّلة تأتي في التقديس بعد الفيدات (83) وإنه لمما ينم عن مغزى: أن نرى آلهة الهند وتقاليدها الدينية اليوم مختلفة عما قررته كتب الفيدا؛ فإلى حد ما يمكن القول بأن الديانة الهندية تمثل انتصار الهند الدرافيدية الأصلية على آريي العصر الفيدي؛ فقد كان من نتائج الغزو والنهب والفقر، أن أوذيت الهند جسماً وروحاً، والتمست ملاذاً من الهزيمة الأرضية النكراء، في انتصارات سهلة ظفرت بها الأساطير والخيال؛ فالبوذية رغم ما فيها من عناصر الشمم، هي- كالرواقية- فلسفة للعبيد، ولا يغير الموقف أن ينطق بها أمير؛ لأنها ترمي إلى وجوب الزهد في كل شهوة وفي كل كفاح حتى لو كانت الشهوة وكان الكفاح من أجل الحرية الفردية أو الحرية القومية؛ ومثلها الأعلى هو حالة جمود لا يعرف الرغبات؛ وواضح أن حرارة الهند التي تنهك الأجسام، هي التي نطقت بهذا اللسان الذي يعبر عن التعب تعبيراً يلتمس سنداً من العقل؛ إن الديانة الهندية ما انفكت تفت في عضد الهند، بأن غلّت نفسها عن طريق
نظام الطبقات بأغلال العبودية الدائمة للكهنوت؛ وتصورت آلهتها تصوراً لا تراعي فيه حدود الأخلاق، واحتفظت خلال القرون بعادات وحشية مثل التضحية بأفراد من الإنسان وإحراق الأرملة عند وفاة زوجها؛ تلك العادات التي كان كثير من الأمم قد نبذها منذ زمن طويل؛ وصورت الحياة على أنها شر لا مفر منه، وعملت على تثبيط الهمة عند اتباعها وإشاعة الكآبة في نفوسهم؛ واستحالت الظواهر الدنيوية على يديها أوهاماً، فمحت بذلك الفوارق بين الحرية والعبودية، بين الخير والشر، بين الإفساد والإصلاح؛ ولقد قال في ذلك هندي جرئ "إن الديانة الهندية
…
قد استحالت الآن إلى عبادة أوثان وطقوس تقليدية، تعتبر الظواهر الشكلية كل يء، واللباب لا شيء" (84) ولما كانت الأمة يمسك الكهنة بزمامها، وينخر القديسون عظامها، فإن الهند لترقب في شغف لم يجد اللسان المعبر به: " ترقب النهوض والإصلاح الديني وحركة التنوير.
ومع ذلك فلا ينبغي أن نفكر في الهند بغير أن تكون صورتنا التاريخية ماثلة أمام أعيننا؛ فقد كان لنا كذلك فترة كانت لنا عصورنا الوسطى، حيث آثرنا التصوف على العلم وحكومة الكهنة على حكومة الأغنياء- ولعلنا نعود إلى ذلك مرة أخرى، إننا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء المتصوفة، لان أحكامنا في الغرب مبنية على خبرة جسدية ونتائج مادية، وهي فيما يظهر أمور لا تمس الموضوع الذي تحكم عليه ولا تتعمق الأشياء في رأي القديس الهندي؛ فماذا لو تبين أن الثروة والقوة والحرب والفتح كلها أوهام تجري على السطح لا أكثر، وليست جديرة بالتفكير عند العقل الناضج؟ ماذا لو كان هذا العلم الذي يقيم نفسه على ذرات وعوامل وراثة كلها فروض، وعلى كهارب وخلايا، وغازات يتولد منها عباقرة مثل شكسبير، وعناصر كيماوية يتمخض عنها المسيح، ماذا لو كان كل هذا لا يزيد على عقيدة لا أكثر، سبقتها عقائد، بل إنها لعقيدة من أغرب العقائد، وأبعدها عن التصديق
وأكثرها ميلاً نحو التغير والزوال؟ إن الشرق في مقاومته لما هو فيه من ذل ومرض، قد يغمس نفسه في العلم والصناعة في نفس اللحظة التي ينظر فيها أبناء الغرب إلى آلاتهم التي أفقرتهم وإلى علومهم التي أزالت عن أعينهم غلالة الخيال، فينزلوا بمدائنهم وآلاتهم الخراب بما يثيرونه من ثورات فوضوية أو حروب؛ ثم هم قد يعودون بعد ذلك مهزومين مكدودين جائعين، إلى الزراعة حيث يصوغون لأنفسهم إيماناً صوفياً جديداً يبث فيهم الشجاعة في وجه الجوع والقسوة والظلم والموت؛ فإنك لن تجد بين المتفكهين من يتفكه كما يتفكه التاريخ.
الباب التاسع عشر
الحياة العقلية
الفصل الأول
العلم الهندي
أصوله الدينية - الفلكيون - التفكير الرياضي - الأعداد "العربية" -
النظام العشري - الجبر - الهندسة - الطبيعة - الكيمياء -علم وظائف
الأعضاء - الطب الفيدي - الأطباء الجراحون - البنج - التطعيم - التنويم
جهود الهند في العلم قديمة جداً وحديثة جداً في آن معاً؛ فهي حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحثاً مستقلاً دنيوياً، وهي قديمة إذا نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين هو لب الحياة الهندية وصميمها، فإن العلوم التي كان من شأنها أن تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو: فالفلك قد نشأ من عبادة الأجرام السماوية ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام الأعياد والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة الملحة بأن تكون كل صلاة وكل صيغة دينية، صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها، على الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة (1) فقد كان علماء الهند - كما كانت الحال في عصورنا الوسطى - هم كهنتها، بكل ما في ذلك من خير ومن شر.
نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة، ثم أخذ رويداً رويداً ينفض عن نفسه الأغلال في ظل اليونان؛ وأقدم الرسائل الفلكية - وهي السِدْ ذانتا حوالي 425 ق. م - كانت قائمة على أساس العلم اليوناني (2) حتى لقد اعترف "فارهاميرا" الذي أطلق على مؤلفه الموسوعي اسماً له مغزاه إذ أطلق
عليه "مجموعة كاملة للتنجيم الطبيعي" - اعترف صراحة باعتماده على اليونان، وحث "آريا بهاتا"- وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود - في قصائد منظومة موضوعات مثل المعادلات الرباعية والجيب (في حساب المثلثات) وقيمة النسبة التقريبية المستعملة في استخراج مساحة الدائرة. كما علل الكسوف والخسوف والاعتدالين والانقلابين (في حركة الأرض حول الشمس) وأعلن عن كروية الأرض ودورتها اليومية حول محورها، وجاء ما يأتي فيما كتبه سابقاً لعلم النهضة الأوربية سبقاً جريئاً:"إن عالم النجوم ثابت، والأرض في دورانها هي التي تحدث كل يوم ظهور الكواكب والنجوم من الشرق واختفاءها في الغرب"(4) وجاء بعده خلفه المشهور "براهما جوبتا" فنسق المعلومات الفلكية في الهند، ولو أنه أعاق تقدم الفلك هناك برفضه لنظرية "آريا بهاتا" الخاصة بدوران الأرض، هؤلاء الرجال وأتباعهم هم الذين لاءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء إلى أبراج، وهم الذين قسموا العام اثني عشر شهراً، كل شهر منها ثلاثون يوماً، وكل يوم ثلاثون ساعة، وكانوا يضيفون شهراً زائداً كل خمسة أعوام، وحسبوا بدقة تستوقف النظر قطر القمر وخسوف الشمس، وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها (5)، وشرحوا نظرية الجاذبية- ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها- عندما كتبوا في "سِدْ ذانت":"إن الأرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة جاذبة"(6)
ولكي يحسبوا هذه العمليات المعقدة، فكر الهنود في حساب رياضي يفوق ما كان لليونان في كل شيء إلا الهندسة (7)، ولذا فان من أهم ما ورثناه عن الشرق الأعداد "العربية" والنظام العشري، وقد جاءنا كلاهما من الهند على أيدي العرب؛ فإن ما يسمى خطأ بالأعداد "العربية" نراها منقوشة على "صخرة المراسيم" التي خلفها "أشوكا"(256 ق. م)، أي قبل استخدامها
في الكتابات العربية بألف عام؛ يقول "لابلاس" العظيم النابغ:
"إنها الهندية هي التي علمتنا الطريقة العبقرية في التعبير عن كافة الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمة تستمد من مكانة في العدد فضلاً عن قيمته الذاتية المطلقة، وإنها لفكرة عميقة هامة تبدو لنا اليوم من البساطة بحيث ننسى ما هي جديرة به من خطر؛ لكن بساطتها هذه، والسهولة العظيمة التي أدخلتها في العمليات الحسابية كلها، قد جعلتا من علم الحساب عندنا مخترعاً لعظمة هذا الابتكار إذا ما تذكرنا أنه غاب عن عبقرية أرشميديس وأبولونيوس، وهما من أعظم من أنجبت العصور القديمة من رجال"(8).
وعرف "آريا بهاتا" و "براهما جوبتا" النظام العشري قبل ظهوره في كتابات العرب والسوريين بزمن طويل؛ وأخذته الصين عن المبشرين البوذيين ويظهر أن محمداً بن موسى الخوارزمي- وهو أعظم رياضي في عصره (مات حوالي 850 م) - قد أدخله في بغداد؛ أما الصفر فأقدم استخدام له معروف لنا في آسيا وأوربا
(1)
هو في وثيقة عربية تاريخها 873 م. أي قبل أول ظهور له- فيما نعلم- في الهند بثلاثة أعوام؛ لكن الرأي مجمع على أن العرب قد استعاروا الصفر أيضاً من الهند (9)؛ هكذا ترى أكثر الأعداد تواضعاً وأكبرها نفعاً كان هدية من الهدايا الرقيقة التي قدمتها الهند لسائر البشر.
وتقدم الجبر عند الهنود وعند اليونان دون أن يأخذ فريق عن فريق فيما يظهر
(2)
لكن احتفاظنا باسمه العربي (الجبر كلمة عربية معناها ملاءمة
(1)
كان الصفر مستعملاًً عند الماياويين في أمريكا في القرن الأول الميلادي، ويعرف الدكتور "برستد" للبابليين القدماء علماًً بقيمة الأرقام المستمدة من مواضعها في الأعداد (راجع مجلة السبت الأدبية، الصادرة في نيويورك في 13 يوليو سنة 1935 ص 15)
(2)
أقدم عالم في الجبر معروف لدينا هو "ديوفانتوس" اليوناني (سنة 360 م) وهو أقدم من آريا بهاتا بقرن، لكن "كاجوري" يعتقد بأنه اتخذ الوحي من الهند.
التركيب) يدل على أن العلم به قد أتى إلى أوربا الغربية من العرب- وهذا معناه أنه جاء إليها من الهند لا من اليونان (11)، وأبطال هذا الميدان من الهنود هم- كما في علم الفلك- آريا بهاتا وبراهما جوبتا وبهاسكارا؛ ويظهر أن أخيرهم (ولد سنة 1114 م) قد ابتكر العلامة الجذرية وكثيراً غيرها من الرموز الجبرية (12)، وهؤلاء الرجال هم الذين ابتكروا فكرة الكمية السلبية التي كان يستحيل الجبر بغيرها (13)، وصاغوا القواعد التي يمكن بها إيجاد التباديل والتوافيق، وحسبوا الجذر التربيعي للعدد 2، وحلوا في القرن الثامن الميلادي معادلات غير متعينة من الدرجة الثانية، كانت تجهلها أوربا حتى أيام "يولر" بعد ذلك بألف عام (14)، ولقد صاغوا علمهم هذا في قالب شعري، وخلعوا على مسائل الرياضة رشاقة تميز العصر الذهبي في تاريخ الهند، وهناك مثلين يوضحان الجبر في صوره البسيطة عند الهنود:
"هناك خلية من النحل، استقر خمسها على زهرة كادامبا، وهبط ثلثها على زهرة سلنذرة، وطار ثلاثة أمثال الفرق بين هذين العددين إلى زهر الكوتاجا، وظلت نحلة واحدة- وهي كل ما تبقى- حائمة في الهواء فأنبئيني أيتها المرأة الفاتنة عدد النحل كله
…
لقد اشتريت لك يا حبيبتي هذه الياقوتات الثماني، والزمردات العشر، واللؤلؤات المائة، التي ترينها في قرطك، واشتريتها بأثمان متساوية، وكان مجموع أثمان الأنواع الثلاثة من الأحجار الكريمة أقل من نصف المائة بثلاثة، فأنبئيني ثمن كل منها أيتها المرأة المجدودة" (15).
غير أن الهنود لم يكونوا على هذه الدرجة من التوفيق في الهندسة؛ ولو أن الكهنة استطاعوا في قياس مذابح القرابين وبنائها أن يصوغوا النظرية الفيثاغورسية (التي مؤداها أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين) قبل ميلاد المسيح ببضع مئات من السنين (16) وكذلك استطاع "آريا بهاتا"- وقد يكون متأثراً باليونان في ذلك-
أن يحسب مساحة المثلث والمعَّين والدائرة وأن يقدر قيمة النسبة التقريبية (في حساب النسبة بين طول قطر الدائرة ومحيطها) بـ 1416 ر 3 - وهو رقم لم يعادله في دقة الحساب رقم آخر حتى عهد "بير باخ"(1423 - 61) في أوربا (17)؛ وكان "بهاسكارا" سباقاً إلى حساب التفاضل، إذ فكر فيه على نحو تقريبي، وأعد "آريا بهاتا" قائمة بحساب الجيب، وجاء في كتاب "سوريا سِدْ ذانتا" مجموعة منسقة في حساب المثلثات، كانت أرفع مستوى من كل ما عرفه اليونان في هذا الباب (18).
ولدى الهنود مدرستان فكريتان لكل منهما نظرية فيزيائية شبيهة بما كان لليونان في ذلك شبهاً يوحي بما كان بين البلدين من اتصال؛ مذهب "كانادا" مؤسس الفلسفة الفايشيشيكية، إلى أن العالم مؤلف من ذرات يبلغ عدد أنواعها عدد العناصر المختلفة؛ وأما الجانتيون فقد ازدادوا شبهاً بديمقريطس في مذهبهم بأن كافة الذرات من نوع واحد، تحدث آثاراً مختلفة بسبب الاختلاف في طريقة تركيبها (19)؛ ويرى "كانادا" أن الضوء والحرارة ظاهرتان مختلفتان لعنصر واحد؛ ويذهب "يودايانا" إلى أن جميع الحرارة مصدرها الشمس؛ ويفسر "فاشاسباتي"- مثل نيوتن- الضوء بأنه مؤلف من ذرات صغيرة تنبعث من الأشياء وتطرق العين (20)؛ وتجد في رسائل الهنود التي ألفوها في الموسيقى تحليلاً وحساباً رياضياً للنغمات الموسيقية وأطوال موجاتها، وكذلك ارتفاع النغمة، يتناسب عكسياً مع طول الوتر فيما بين نقطة اتصاله ونقطة لمسه؛ وهنالك ما يدل على أن البحارة الهنود في القرون الأولى
بعد الميلاد، قد استعملوا بوصلة صنعوها من سمكة جديدة تسبح في إناء من الزيت وتشير إلى الشمال (21).
وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا"، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وفي تاريخ بلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب (22)، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية"(22 أ).
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة
الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وأنواع من العضلات أكثر مما نستطيع أن نتبينه من جثة حديثة (23).
وقد زلَّ أطباء الهند في العصر السابق لميلاد المسيح في نفس الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته، وظنوا أن الأعصاب تصعد من القلب وتهبط إليه، لكنهم فهموا عمليات الهضم فهماً يستوقف النظر بدقته- أعني الوظائف المختلفة للعصارات المعدية، وتحول الكيموس إلى كيلوس، ثم تحول الكيلوس إلى دم (24)، وسبق "أتريا"، "وايزمان" بألفين وأربعمائة عام حين ذهب (حوالي 500 ق. م) إلى أن نطفة الوالد مستقلة وكانوا يحبذون فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم على الزواج؛ وجاء في تشريع "مانو" تحذير من عقد الزواج بين أشخاص مصابين بالسل أو الصرع أو سوء الهضم المزمن أو البواسير أو شقشقة اللسان (26) وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة 500 ق. م، ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللاهوت، وهو يقوم على نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يوماً من موعد الحيض (27)؛ ووصفوا تطور الجنين وصفاً فيه كثيراً جداً من الدقة، وكان مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين لا يتعين إلا بعد مدة، وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالات يمكن التأثير فيه بفعل الطعام أو العقاقير (28).
وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب "أترافا- فيدا"، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جداً من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم أخذ على مر الزمن يزيد من اعتماده على
الوسائل الدنيوية، ماضياً إلى جواز ذلك في تعاويذه السحرية لتكون هذه معينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض.
وفي ذيل كتاب "أترافا- فيدا" ملحق يسمى "أجو- فيدا"(ومعناها علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في وحد من العناصر الأربعة (الهواء والماء والبلغم والدم) وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية؛ ولا يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذاً به في الهند اليوم، وإن ذلك ليصيب من النجاح أحياناً ما يثير الغيرة في صدور الأطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب "رجْ- فيدا" نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض؛ على أن الأطباء والجراحين حتى في العهد الفيدي كانوا يتميزون بما يفرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها الأعشاب الطبية (29).
وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن الخامس قبل الميلاد و "شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب "سوشروتا"- وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس، باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معمله "ذانوانتاري"؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة والتوليد والطعام الصحي والاستحمام والعقاقير وتغذية الرضع والعناية بهم والتربية الطبية (30)، وأما "شاركا" فقد أنشأ "سامهيتا"(ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذاً بها في الهند (31)؛ وبث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقرب من فكرة أبقراط:"لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاء منفعة لأنفسكم، ولا إشباعاً لشهوة كافة ما كانت من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذبة، بهذا تفقدون سائر الناس"(32) ويتلو هذين الاسمين التماعاً في تاريخ الطب الهندي اسم "فاجبهاتا"
(625 م) الذي أعد موسوعة طبية نثراً ونظماً، ثم اسم "بهافامِسْراً"(1550 م) الذي جاء في كتابة الضخم عن التشريح ووظائف الأعضاء والطب، ذكر الدورة الدموية قبل أن يذكرها "هارفي" بمائة عام، ووصف الزئبق علاجاً لذلك المرض الجديد- مرض الزهري- الذي كان من عهد قريب مع البرتغاليين، جزءاً من التراث الذي خلّفته أوربا للهند (33).
وصف "سوشوترا" كثيراً من العمليات الجراحية- الماء في العين، والفتق وإخراج الحصاة من المثانة، وبقْر الأمهات عن الأجنة وغير ذلك، كما ذكر إحدى وعشرين ومائة أداة من أدوات الجراحة منها المشارط والمسابير والملاقط والقثاطير ومناظير القُبُل والدُّبرُ (34)، وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، جعل يدافع عن ضرورة ذلك في تدريب الجراحين؛ وكان أول من رقع أذناً جريحة بقطع من الجلد اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم، وعنه وعن أتباعه من الهنود أخذ الطب الحديث عملية تقويم الأنف (35)؛ ويقول "جارِسُنْ":"لقد أجرى قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريباً، ما عدا عملية ربط الشرايين"(36)؛ فقد بتروا الأطراف، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير؛ وقَعَّد "سوشوترا" القواعد الدقيقة لإجراء الجراحة، ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة (37)؛ ويذكر لنا "سوشوترا" و "شاراكا" كلاهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في تخدير الجسم عند الألم، وحدث في سنة 927 م أن قام جراحان بتربنة الجمجمة لملك هندي، فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى "ساموهيني"
(1)
.
(1)
أقيمت المستشفيات في سيلان منذ سنة 427 ق. م، وفي شمال الهند منذ 226 قبل الميلاد (39).
وأوصى "سوشوترا" بأن تتبع في تشخيص الأمراض التي أحصى منها ألفاً ومائة وعشرين، طريقة النظر بالمنظار وطريقتا جس النظر والتسمع بالأذن (40) وقد جاء وصف لجسّ النبض في رسالة تاريخها 1300 م (41)؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص الأمراض؛ حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على شفاء أي مريض دون النظر في أي شئ يتعلق به ما عدا بوله (42)؛ وكان العلاج الطبي في الهند في عهد يوان شوانج، يبدأ بصيام مداه سبعة أيام، وكثيراً ما كان يشفى المريض في هذه الفترة، فإذا بقى المريض لجئوا بعدئذ إلى استخدام العقاقير (43) لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدام العقاقير حتى في أمثال هذه الحالات، إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام الملائم والاستحمام والحقن الشرجية والاستنشاق والحقن في مجاري البول وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس (44)، وكان لأطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات السموم، ويزالون يفوقون الأطباء الأوربيين في علاج عضة الثعبان (45)؛ ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة 550 م، مع أن أوربا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر، ذلك لو حكمنا من نص يعزى إلى "ذانوانتاري" وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: "خذ السائل من البثور التي تراها على ضرع البقرة
…
خذه على سنان المشرط، ثم طعم به الأذرعة بين الأكتاف والمرافق، حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حمى الجدري" (46) ويعتقد الأطباء الأوربيون المحدثون أن التفرقة بين الطبقات تفرقه تعزل بعضها عن بعض، منشؤها إيمان عند البراهمة بوجود عوامل خفية في نقل الأمراض؛ وكثير من قوانين الصحة التي أوصى بها "سوشوترا" و "مانو" تسلم تسليماً- فيما يظهر- بما نسميه نحن المحدثون الذين نحب الأسماء الجديدة نطلقها على ما هو قديم، أقول إنها تسلم بما نسميه نحن المحدثون بنظرية المرض عن طريق الجراثيم (47)؛ ويبدو لنا أن التنويم كوسيلة للعلاج قد نشأ عند
الهنود الذين كثيراً ما كونا ينقلون مرضاهم إلى المعابد لمعالجتهم بالإيحاء التنويمي أو "نعاس المعبد" كما كان يحدث في مصر واليونان (48) والأطباء الإنجليز الذين أدخلوا طريقة العلاج بالتنويم في إنجلترا- وهم "بريد" و"ازديل" و"إِليوتسُن""ولاشك في أن ما أوحى لهم بآرائهم تلك، وببعض خبرتهم، هو اتصالهم بالهند"(49).
فالطب الهندي بصفة عامة قد تطور تطوراً سريعاً في العهدين الفيدي والبوذي، ثم أعقب ذلك قرون سار فيه التقدم بخطوات الوئيد الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين "أتريا" و "ذانوانتاري" و "سوشوترا" لليونان، وكم تدين اليونان لهم؛ يقول "جارسن" إنه في أيام الإسكندر "كان لأطباء الهنود وجراحيهم شهرة- هم جديرون بها- بما يتميزون به من تفوق في العلم والمهارة في العمل"، وحتى أرسطو نفسه- في رأي طائفة من الباحثين- مدين لهم (50) وكذلك قل في الفرس والعرب، فمن العسير أن تقطع برأي في مدى ما أخذه الطب الهندي من بغداد، ومن الطب البابلي في الشرق الأدنى عن طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلاج مثل الأفيون والزئبق، وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض، قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر؛ لكنك من جهة أخرى ترى الفرس والعرب قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلادي موسوعتي "سوشوترا" و "شراكا" اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام (51) ولقد اعترف الخليفة هارون الرشيد بالتفوق العلمي والطبي للهنود، واستدعى الأطباء الهنود لتنظيم المستشفيات ومدارس الطب في بغداد (52)؛ وينتهي "لورد آمِتهِل" إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها الطبي للعرب بطريق مباشر، وللهند عن طريق العرب (53)؛ ولعل هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأبعدها عن اليقين، قد نشأ في بلاد مختلفة في وقت واحد تقريباً، ثم جعل يتطور بما كان بين الأمم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلات وتبادل فكري.
الفصل الثاني
الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة
قِدَمْ الفلسفة الهندية - أهميتها - أعلامها -
ألوانها - مذهب القدماء - مزاعم الفلسفة الهندية
إن تفوق الهند أوضح في الفلسفة منه في الطب؛ ولو أن أصول الأشياء هاهنا أيضا، ينسدل عليها ستار يخفيها وكل نتيجة نصل إليها إن هي إلا ضرب من الفروض؛ فبعض كتب "يوبانشاد" أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، ويظهر أن فيثاغورس وبارمنيدس وأفلاطون قد تأثروا بالميتافيزيقا الهندية؛ أما آراء طاليس وأنكسمندر وأنكسمينس، وهرقليطس، وأناكسجوراس وأمباذقليس، فهي لا تسبق فلسفة الهنود الدنيوية فحسب، بل يطبعها طابع من الشك ومن البحث في الطبيعة المادية، يميل بنا إلى ردها إلى ما شئت من أصول ما عدا الهنود؛ ويعتقد " فكتور كوزان "أننا" مضطرون اضطراراً أن نلتمس في هذا الميدان الذي درجت فيه الإنسانية، منشأ الفلسفة العليا"(54) والأرجح عندنا أنه ليس بين المدنيات المعروفة لنا جميعاً، مدنية واحدة كانت أصلاً لكل عناصر المدنية.
لكنك لن تجد بين بلاد العالمين بلداً اشتدت فيه الرغبة في الفلسفة شدتها في الهند؛ فهي عند الهنود لا تقتصر على كونها حلية للإنسان أو تفكهة يسرّي بها عن نفسه، بل هي جانب هام لا غني لنا عنه في تعليقنا بالحياة نفسها وفي معيشتنا لتلك الحياة؛ وإنك لتجد حكماء الهند يتلقون من إمارات التكريم ما يتلقاه في الغرب رجال المال والأعمال؛ فأي أمة سوى الأمة الهندية قد فكرت في الاحتفال بأعيادها بمناظرات ينازل فيها زعماء المدارس الفلسفية المتنافسة بعضهم بعضاً؟ فتقرأ في اليوبانشاد كيف خصص ملك الفيديهيين يوماً
لمناقشة فلسفية باعتبارها جزءاً من الاحتفال الديني، بين "ياجنافالكيا" و "أسفالا" و "أرتابهاجا" و "جارجي"؛ ووعد الملك أن يثيب الظافر منهم- وكان عند وعده- بمكافأة قدرها ألف بقرة ومائة قطعة من الذهب (56)، وكان المألوف للمعلم الفيلسوف في الهند أن يتحدث أكثر مما يكتب؛ فبدل أن يهاجم معارضيه عن طريق المطبعة المأمون الجانب، كانوا يطالبونه بملاقاتهم في مناظرة حية، وبالذهاب إلى مقارّ المدارس الأخرى ليضع نفسه هناك تحت تصرف أتباعها في جداله وسؤاله؛ ولقد أنفق أعلام الفلاسفة، مثل "شانكارا" شطراً عظيماً من أعوامهم في أمثال تلك الرحلات الفكرية (57)؛ وكان الملوك أحياناً يسهمون في هذه المجادلات، في تواضع يليق بالملك وهو في حضرة الفيلسوف- ذلك إن أخذنا بما يرويه لنا الفلاسفة أنفسهم عن ذلك؛ وينزل الظافر في مناظرة هامة من تلك المناظرات، منزلة عالية من البطولة في أعين الناس، كهذه المنزلة التي يحتلها قائد عسكري عاد من انتصاراته الدامية في ميادين الحروب (58).
وترى في صورة راجبوتية من القرن الثامن عشر (59) نموذجاًً "لمدرسة فلسفية" هندية- فالمعلم جالس على حصير تحت شجرة، وتلاميذه جالسون القرفصاء أمامه على نجيل الأرض؛ وكنت تستطيع أن ترى مثل هذا المنظر أينما سرت في الهند، لأن معلمي الفلسفة هناك كانوا في كثرة التجار في بابل، ولن تجد في بلد أخر غير الهند عدداً من المدارس الفكرية بمقدار ما تجده منها هناك؛ ففي إحدى محاورات بوذا ما يدلنا على أنه قد كان في الهند في عصره اثنان وستون رأياً في النفس يأخذ بها الفلاسفة المختلفون (60)؛ يقول "الكونت كسرلنج":"إن هذه الأمة الفلسفية قبل كل شيء، لديها من الألفاظ السنسكريتية التي تعبر بها عن الفكر الفلسفي والديني أكثر مما في اليونانية واللاتينية والجرمانية مجتمعة"(61).
لما كان الفكر الهندي قد انتقل بالحديث الشفوي أكثر منه بالكتابة، فأقدم صورة هبطت إلينا عن مذاهب المدارس المختلفة، هي الحِكَم ويسمونها "سُترات"- ومعناها "خيوط" - يكتبها المعلم أو الطالب، لا لتكون وسيلة لشرح رأيه لغيره بل لتعينه على وعيها في ذاكرته؛ وهذه السُترات ترجع إلى عصور مختلفة فبعضها قديم يرجع تاريخه إلى سنة 200 م، وبعضها حديث يرجع إلى سنة 1400 م؛ وهي جميعاً على كل حال أحدث جداً من التراث الفكري الذي تلخصه، والذي تناقلته العصور بالشفاه، ذلك لأن نشأة هذه المدارس الفلسفية قديمة قدم بوذا، بل لعل بعضها- مثل السانخْيا- كان قد ثبت أساسه عندما ولد بوذا (62).
يبوِّب الهنود مذاهبهم الفلسفية كلها في صنفين: المذاهب الأستيكية التي تُثبت، والمذاهب الناستيكية التي تنفي
(1)
.
وقد فرغنا فيما مضى من دراسة المذاهب الناستيكية التي أخذ بها على وجه التخصيص أتباع (شارفاكا) وأنصار بوذا والجانتيون؛ والعجيب أن هذه المذاهب إنما سميت (ناستيكا) أي الكافرة الهدامة، لا لأنها شكت أو أنكرت وجود الله (ولو أنهم فعلوا ذلك) بل لأنها شكت وأنكرت أو تجاهلت أحكام الفيدات؛ وكثير من مذاهب (آستيكا) شكت في وجود الله كذلك أو أنكرت وجوده، لكنها مع ذلك سميت بالمذاهب المؤمنة بأصول الدين، لأنها سلمت بصواب الكتب المقدسة صواباً لا يأتيه الباطل، كما قبلت نظام الطبقات؛ ولم يفكر أحد في تقييد الحرية الفكرية، مهما بلغت من الإلحاد، عند تلك المذاهب التي اعترفت بهذه الأسس الجوهرية التي تقوم عليها الجماعة الهندية الأصلية؛ ولما كان تفسير الكتب المقدسة يفتح مجالاً واسعاً لاختلاف الرأي، بحيث استطاع مهرة المفسرين أن يجدوا في الفيدات أي مذهب شاءوا، فقد
(1)
آستي معناها موجود، وناستي معناها معدوم.
أصبح الشرط الوحيد في واقع الأمر، الذي لا بد من تحققه إذا ما أراد الإنسان أن يكون ذا مكانة عقلية في نفوس الناس، هي أن يعترف بالطبقات؛ حتى لقد أصبح هذا النظام هو مصدر السلطان الحقيقي في البلاد؛ معارضته تعدّ خيانة كبرى، وقبوله يغفر عن كثير من السيئات؛ وإذن فالواقع هو أن فلاسفة الهند تمتعوا بحرية أكبر جداً مما أتيح لزملائهم في أوربا الوسيطة حين سادت الفلسفة الاسكولائية (أي المدرسية)، لكن ربما كان هؤلاء الهنود الفلاسفة أقل حرية من مفكري الدولة المسيحية في ظل البابوات المتنورين الذين سادوا أيام النهضة الأوربية.
وآلت السيادة لستة من المذاهب "الأصيلة"- المؤمنة بأصول الفيدات- أو "الدارشانات"(ومعناها البراهين)، حتى لقد أصبح لزاماً على كل مفكر هندي ممن يعترفون بسلطان البراهمة، أن يعتنق هذا المذهب أو ذاك من تلك المذاهب الستة؛ وهي كلها مجمعة على طائفة معينة من الآراء تعتبر ركائز التفكير الهندي: وهي أن الفيدات قد هبط بها الوحي، وأن التدليل العقلي أقل جدارة بالركون إليه في هدايتنا إلى الحقيقة والصواب، من إدراك الفرد وشعوره المباشرين إذا ما أعد الفرد إعداداً صحيحاً لاستقبال العوامل الروحية وأرهفت نفسه إرهافاً باصطناع الزهد والتزام الطاعة مدى أعوام لمن يقومون على تهذيب نفسه؛ وأن الغاية من المعرفة ومن الفلسفة ليست هي السيطرة على العالم بقدر ما هي الخلاص منه؛ وأن هدف الفكر هو التماس الحرية من الألم المصاحب لخيبة الشهوات في أن تجد إشباعها، وذلك بالتحرر من الشهوات نفسها؛ تلك هي الفلسفات التي ينتهي إليها الناس إذا ما أتعب نفوسهم الطموح والكفاح والثراء و "التقدم" و "النجاح".
1 - مذهب نيايا
منطق هندي
أول المذاهب "البرهمية" بالترتيب المنطقي للتفكير الهندي (لأننا لا ندري في يقين ترتيبه الزمني، وكل المذاهب في أجزائها الجوهرية متعاصرة) مجموعة من النظريات المنطقية تمتد إلى ألفي عام؛ فكلمة (نيايا) معناها تدليل، أو طريقة لهداية العقل حتى ينتهي إلى نتيجة، وأهم نصوصه هو النص المسمى (سوترا نيايا) الذي يعزى في غير تأكيد الواثق إلى رجل يسمى (جوتاما) عاش في زمن يختلف فيه المؤرخون، وتتراوح تقديراتهم بين القرن الثالث قبل المسيح والقرن الأول بعده (63)، ويفصح جوتاما عن الغاية من مؤلفه فيقول - كما يقول كل مفكري الهنود - إنها تحقيق النرفانا، أو الخلاص من طغيان الشهوات، وإنما تتحقق هذه الغاية في مجال المنطق بالتفكير الواضح المتسق؛ لكنا نشك في أن غايته المباشرة كانت هداية الحائرين في الصراع الذي كان يقوم به المتناظرين من فلاسفة الهنود؛ فهو يصوغ لهم مبادئ الحِجَاج، ويعرض عليهم أحابيل النقاش، ويحصر المغالطات الشائعة في التفكير؛ وتراه - كأنما هو أرسطو آخر - يلتمس بناء التدليل العقلي في طريقة القياس، ويجد عقدة كل تدليل في الحد الأوسط من حدود القياس
(1)
وكذلك تراه - كأنما هو جيمس آخر أو ديوى آخر، يعتبر المعرفة والفكر أداتين عمليتين ووسيلتين فعالتين يستخدمها الإنسان في إشباع حاجاته وقضاء إرادته، ومقياس صحتهما هو قدرتهما على الوصول إلى فعل ناجح (64) فهو
(1)
يلاحظ أن القياس في "نيايا" قوامه خمس قضايا: النظرية، والعلة، والمقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، والنتيجة، مثال ذلك:(1) سقراط فان؛ (2) لأنه إنسان؛ (3) وكل إنسان فان؛ (4) وسقراط فان؛ (5) وإذن فسقراط فان.
واقعي، ولا شأن له قط بالفكرة السامية التي تزعم أن العالم ينعدم وجوده إذا لم يعد هناك من يدركه، والظاهر أن أسلاف جوتاما في مذهب نيايا كانوا ملاحدة، وأما أتباعه فقد شغلوا أنفسهم بنظرية المعرفة (65) وكانت مهمته أن يقدم للهند دستوراً جديداً للبحث والتفكير، وقاموساً غنياً بالألفاظ الفلسفية.
2 - مذهب فايشيشيكا
ديمقريطس في الهند
وكما أن جوتاما هو في الهند بمثابة أرسطو، فكذلك "كانادا" هناك بمثابة ديمقريطس؛ وأن اسمه الذي معناه "آكل الذرات" ليدل بعض الدلالة على احتمال أن يكون شخصاً أسطورياً خلقه خيال المؤرخين؛ ولم يتحدد بالدقة تاريخ صياغة هذا المذهب الفايشيشيكي، فيقال أنه لم تتم صياغته قبل سنة 300 ق. م ولا بعد سنة 800 م، واسمه مشتق من كلمة "فيشيشا" ومعناها "الجزئية": فالعالم في مذهب "كانادا" مليء بطائفة من الأشياء، لكنها جميعاً لا تزيد على كونها تركيبات مختلفة من الذرات، صيغت في هذا القالب أو ذاك، وتتغير القوالب، لكن الذرات يستحيل عليها الفناء؛ ويذهب "كانادا"- على أتم شبه بديمقريطس فيما يذهب إليه- يذهب إلى أنه ليس في العالم إلا "ذرات وفراغ" وأن الذرات لا تتحرك وفق إرادة إلهية عاقلة، بل بدافع من قوة غير مشخصة، هي القانون- أو "أدرشتا" ومعناها "الخفي" ولما كان الثائر في تفكيره لا ينسل إلا خَلفَاً جامداً، فكذلك كان الأنصار المتأخرون لمذهب فايشيشيكا يعجبون كيف يمكن لقوة عمياء أن تخلع على الكون نظاماً ووحدة، فوضعوا عالماً من أنفس دقيقة جنباً إلى جنب مع عالم الذرات، ثم جعلوا فوق العالمين إله عاقل (66) وهكذا ترى نظرية ليبنتز في "التناسق الأزلي" موغلة في القدم.
3 - مذهب سانخيا
شهرته الذائعة - الميتافيزيقا - التطور - الإلحاد - المثالية -
الروح - الجسد والعقل والنفس - غاية الفلسفة - تأثير سانخيا
يقول مؤرخ هندي عن هذا المذهب "إنه أبعد المذاهب الفلسفية التي أنتجتها الهند دلالة"(67) ولقد وجد الأستاذ "جارْب" الذي كرّس شطراً كبيراً من حياته لدراسة سانخيا، عزاء لنفسه إذ وجد أن "مذهب كابيلا قد اشتمل لأول مرة في تاريخ العالم استقلال العقل الإنساني وحريته الكاملتين، وثقته التامة بقدراته"(68) وهو أقدم المذاهب الستة (69) ولعله أقدم مذهب فلسفي
(1)
ولسنا ندري شيئاً عن "كابيلا" نفسه، سوى أن الرواية الهندية تزعم - في استهتار بدقة التواريخ كالذي تراه عند التلميذ الناشئ - تمجيداً له، أنه مؤسس فلسفة سانخيا في القرن السادس قبل الميلاد (71).
يجمع "كابيلا" في شخصه الواقعية والاسكلائية، وهو يبدأ كلامه بما يكاد يشبه أقوال الأطباء، إذ يضع قاعدة في أول حكمه يسوقها، وهي "أن انعدام الألم انعداماً تاماً
…
هو أكمل غاية ينشدها الإنسان"، وهو يرفض الاكتفاء بمحاولة الإنسان اجتناب الألم بوسائل جسمانية، ويدحض بشعوذة منطقية آراء الباحثين في الموضوع واحداً واحداً؛ ثم يأخذ بعد ذلك في تكوين مذهبه الميتافيزيقي الخاص به، في سلسلة من "السوترات" المقتضبة الغامضة؛ وهو يسرد في سانخيا أنواع الحقائق وهي خمس وعشرون، ومن هذا السرد للأنواع جاءت كلمة سانخيا (لأن معناها السرد) وهو يسمي هذه الحقائق
(1)
أقدم ما بقي لنا من مدوناته، وهو "سانخيا - كاريكا" الذي كتبه الشارح "إشفارا كرشنا" لا يرجع تاريخه إلا إلى القرن الخامس الميلادي؛ و "سانخيا سوترا" الذي كان ينسب إلى "كابيلا" لا يرجع تاريخه إلى ما قبل القرن الخامس عشر غير أن أصول المذهب يرجح أنها أسبق من البوذية نفسها فالنصوص البوذية وماهابهاراتا كثيراً ما تشيران إليه، ويقول "ونترْ ِنتز" إنه يرى آثاره في فيثاغورس.
"تاتوات"(أي الذلكات جمع ذلك) ومنها يتألف العالم في رأي "كابيلا"؛ وهو يرتب هذه الحقائق في علاقة مركبة تربط بعضها ببعض، ويمكن توضيحها بالقائمة التالية:
(1)
أ - العنصر (برا كريتي، أي المنتج) وهو مبدأ فيزيقي عام ينتج بما له من قُوىً تطورية (واسمها جونات).
(2)
أ- الذكاء (بوذي) وهو قوة الإدراك الحسي، وهذا بدوره ينتج بما له من قُوىً تطورية.
(3)
أ- العناصر الخمسة الدقاق، أو القوى الحاسة للعالم الداخلي، وهي:
(4)
1 - البصر
(5)
2 - السمع
(6)
3 - الشم
(7)
4 - الذوق
(8)
5 - اللمس
والحقائق المرقومة من (1) إلى (8) تتعاون على إنتاج الحقائق المرقومة (10) إلى (24)
(9)
ب - العقل (واسمه ماناس) وهو الإدراك الفكري.
جـ - أعضاء الحس الخمسة، وهي التي تقابل الحقائق المرقومة (4) إلى (8)
(10)
1 - العين
(11)
2 - الأذن
(12)
3 - الأنف
(13)
4 - اللسان
(14)
5 - الجلد
د- أعضاء الفعل الخمسة
(15)
1 - الحنجرة
(16)
2 - اليدان
(17)
3 - القدمان
(18)
4 - أعضاء الإفراز
(19)
5 - أعضاء النسل
هـ- عناصر العالم الخارجي الخمسة الغلاظ.
(20)
1 - الأثير
(21)
2 - الهواء
(22)
3 - النار والضوء
(23)
4 - الماء
(24)
5 - التراب
(25)
ب - الروح (بوروشا أي "الشخص") وهو مبدأ نفسي عام وهو الذي يحرك ويحيي "براكريتي" على الرغم من أنه عاجز عن فعل شئ بذاته، وهو يستثير كل ما في "براكريتي" من قوى تطورية لتباشر أوجه نشاطها.
وإن هذا ليبدو في أوله مذهباً مادياً خالصاً، فعالم العقل والنفس، مثل عالم الجسم والمادة، عبارة - فيما يظهر - عن حركة تطورية تتأثر بالعوامل الطبيعية، ومعنى ذلك أنه يسير في حركة مستمرة التكوين والفساد، بادئاً من أدنى الدرجات ومنتهياً إلى أعلاها، ثم يعود إلى أدناها من جديد، كل ذلك والعالم هو هو من حيث عناصره في وحدتها واستمرارها؛ فكأنما كان "كابيلا" يشق الطريق أمام "لامارك" حين يقول إن حاجة الكائن العضوي (النفس) تولد الوظيفة (البصر والسمع والشم والذوق واللمس) ثم تنتج الوظيفة عضوها (العين والأذن والأنف واللسان والجلد)؛ وليس في هذا
المذهب فجوة، بل ليس في أية فلسفة هندية تمييز بين اللاعضوي والعضوي من الكائنات، أو بين عالم النبات وعالم الحيوان، أو بين الحيوان وبين الإنسان؛ فهذه كلها حلقات من سلسلة الحياة الواحدة، أو قل إنها قضبان عجلة التطور والانحلال، أي عجلة الولادة والموت ثم الولادة من جديد؛ وإنما يتحدد مجرى التطور اعتباطاً بتأثير الخصائص أو القوى (الجونات) الثلاث الفاعلة في "العنصر": ألا وهي الطهر والفاعلية والجهل الأعمى، وليست هذه القوى بذات هوى نحو التقدم مناهضة للانحلال، بل إنها تنتج الواحد في إثر الآخر على دورات لا تنتهي، مثلها مثل ساحر عابث يظل يخرج أشياء لا تنتهي صنوفها من قبعة، ثم يعيد وضعها في القبعة، ماضياً في هذه العملية إلى الأبد؛ كما يقول هربرت سبنسر في عصر متأخر هو أن كل مرحلة من مراحل التطور تحتوي في ذاته ميلاً إلى الانحلال باعتباره مكملاً لها ونهاية لا محيص عنها.
وكان "كابيلا" شبيها بلابلاس حين لم يجد ضرورة لفرض قوة إلهية يقسر بها الخلق أو التطور (72)؛ وليس من الغرابة في شئ أن تجد ديانات أو فلسفات بغير إله في هذه الأمة التي هي أكثر الأمم إمعاناً في الدين والفلسفة؛ وإنك لتجد في كثير من نصوص "سانخيا" إنكاراً صريحاً لوجود خالق مشخص، والخلق عندهم شئ لا يمكن للعقل أن يتصوره لأن "الشيء لا يخرج من لا شئ"(73) والخالق والمخلوق جانبان لشيء واحد (74)، وترى "كابيلا" يكفيه اطمئنانا أن يكتب (كأنه "عمانوئيل كانت" على وجه الدقة) بأن الخالق المشخص يستحيل أن يقيم عليه الدليل عقل بشري، لأن كل ما هو موجود - في رأي هذا الشكاك الدقيق - لا يخرج على أحد فرضيتين، فإما أن يكون مقيداً أو حراً، ولا يمكن لله أن يكون هذا أو ذاك ولو كان الله كاملاً لما مست به الحاجة إلى خلق العالم، ثم لو كان ناقصاً لما كان إلهاً؛ ولو كان الله خيراً وله قدرات إلهية، لما أمكن قط أن يخلق عالماً على هذا النقص الذي نراه في العالم
القائم، الذي يغص بكثرة ما فيه من آلام، ولا يأخذه التردد في الموت (75)؛ وإنه لمما يفيدنا أن نرى كيف يناقش مفكرو الهنود هذه المسائل في هدوء، وقل أن يلجئوا فيها إلى اضطهاد أو إهانة، فقد كانوا يرتفعون بالنقاش إلى مستوى لا يسمو إليه في عصرنا الحاضر إلا ما يدور بين أنضج العلماء من جدل؛ وإنما ضمن "كابيلا" الوقاية لنفسه من الأذى باعترافه بصحة الفيدات، وهو يقول "إن الفيدات مرجع صحيح ما دام مؤلفها كان يعرف الحقيقة الثابتة"(76) وبعد أن أرسل هذا القول إرسالاً راح يفكر كما يشاء دون أن يأبه بالفيدات في شيء.
لكنه ليس بالفيلسوف المادي، بل عكس ذلك هو الصحيح، لأنه مثالي وروحي على طريقته الخاصة به، فهو يجعل إدراكنا الحسي مصدراً للعالم الواقع كله، فما لدينا من أعضاء الحس ومن تفكير يخلع على العالم حقيقته وصورته ومغزاه، ويستحيل عليه أن تكون له حقيقة أو صورة أو مغزى بالنسبة لنا إلا هذه؛ أما ماذا يمكن للعالم أن يكون في حقيقته بغض النظر عن حواسنا وأفكارنا فسؤال أخرق ليس له معنى ولا يمكن أن يكون له جواب (77)؛ ثم هو بعد أن يسرد قائمة بأربعة وعشرين عنصراً (تاتوات) تنطوي - في مذهبه الفلسفي - تحت حركة التطور الفيزيقي، قَلَبَ ماديته هذه التي بدأ بها، وأضاف جانباً جديداً على أنه الحقيقة النهائية، وهو أغرب العناصر كلها، بل لعله أهمها، وأعني به "بوروشا"(أي الشخص) أو النفس؛ وليست النفس على غرار ثلاثة وعشرين من العناصر الأخرى، تأتي نتيجة للمادة (براكريتي) أو نتيجة للقوة الفيزيقية، بل هي مبدأ نفسي قائم بذاته، موجود في كل الوجود، أزلي أبدي، عاجز عن الفعل بذاته لكنه رغم ذلك لا يُستغنى عنه في أي فعل؛ لأن "براكريتي"(المادة) يستحيل أن تتغير في سيرها نحو الترقي، والقوى (وتسمى الجونات) يستحيل أن تفعل فعلها، إلا عن طريق الوحي يأتيها من "بوروشا"؛ وهكذا ترى ما هو فيزيقي تدب فيه الحركة والحياة والفاعلية بحيث يتطور، بدافع من المبدأ النفسي أينما وجهت للنظر
في جنبات الوجود (78) وهاهنا يتحدث "كابيلا" على غرار أرسطو فيقول: " هنالك في الروح تأثير فعال (على براكريتي أي العالم المتطور) سببه ما بينهما من تجاور، على نحو ما يفعل الحجر الممغنط (يجذب الحديد إليه) أعني أن تجاور "بوروشا" و "براكريتي" يجبر هذه الأخيرة على السير في خطوات معلومة للإنتاج؛ وهذا اللون من التجاذب بين الجانبين يؤدي إلى الخلق؛ وبغير هذا المعنى لا تكون الروح عاملاً فعالاً ولا يكون لها شأن بالخلق إطلاقاً"
(1)
.
والروح متعددة بمعنى أنها موجودة في كل كائن عضوي، لكنها متشابهة في هذه الكائنات جميعاً، ولذا فهي لا تكون عنصراً في تكوين الشخصية الفردية، فالفردية فيزيقية، ونحن ما نحن لا بسبب ما فينا من روح، بل بسبب الأصل الذي عنه نشأنا، أعني التطور والخبرة التي تطرأ على أجسامنا وعقولنا، وفي "سانخيا" يعتبر العقل جزءاً من الجسم كأي عضو آخر؛ فلئن كانت هذه الروح المعتزلة بنفسها البعيدة عن التأثر بغيرها، والتي تكمن فينا، لئن كانت هذه الروح حرة، فإن العقل والجسم مقيدان بقوانين و "جونات"(أي خصائص) العالم الفيزيقي (81) وإذن فليست الروح هي الفاعلة وهي المجبرة، بل الفاعل المجبر هو اتحاد الجسم والعقل؛ كلا ولا هي تتعرض للانحلال والتحول اللذين يصيبان الجسد والشخصية، بل هي محصنة عن تيار الولادة والموت؛ يقول "كابيلا":"العقل يجوز عليه الفساد، أما الروح فلا"(82) والنفس الجزئية التي ترتبط بالمادة وبالجسم هي وحدها التي تولد وتموت وتعود إلى الولادة من جديد، في هذه الذبذبات التي لا تنتهي
(1)
يقول أحد الشراح الهنود لفلسفة كابيلا: "ليس لتطور براكريتي من غاية سوى أن يهيئ مجالاًً لمتعة الروح" فيجوز أن تكون خير طريقة في النظر إلى العالم - كما يقول نيتشه - هو أن نعده مشهداً فنياًً مسرحياًً.
ولا تنفك تتناول بالتغيير صور المادة التي منها يتألف تاريخ العالم الخارجي (83)؛ وإذا استطاع "كابيلا" أن يشك في كل شئ، فإنه لم يشك قط في انتقال الروح من جسد إلى جسد.
وهو كسائر المفكرين الهنود ينظر إلى الحياة على أنها خير مشكوك فيه إلى حد كبير، إن كانت خيراً على الإطلاق؛ فقليلة هي أيام المرح، وقليلة هي أيام الأسى؛ والثروة شبيهة بنهر طافح بالماء، والشباب شبيه بجسر متهدم لذلك النهر الطافح بمائه، والحياة شبيهة بشجرة على ذلك الجسر المتهدم" (84)؛ والألم نتيجة لكون النفس والعقل الفرديين مقيدين بالمادة، وفريستين لقوى التطور العمياء، فأين المفر من هذا الألم؟ يجيب فيلسوفنا ألا فرار إلا بالفلسفة؛ لا فرار إلا بإدراكنا أن كل هذه الآلام والأحزان، وكل هذا الانقسام وهذا الفوران بين الأنفس المكافحة، إن هو إلا "مايا" أي وهمُ، هو زينة خادعة تصفُّها أمام عيوننا الحياة والزمن؛ "والعبودية تنشأ من غلطة عدم التمييز" (85) - بين النفس التي تعاني الآلام وبين الروح المحصنة، بين السطح المضطرب وبين الأعماق التي تظل ممتنعة على كل اضطراب وتغير؛ فلكي تسمو على هذه الآلام، لا يقتضيك إلا أن تتبين أن جوهر الإنسان، وهو روحه، يجاوز حدود الخير والشر والسرور والألم والولادة والموت؛ هذه الضروب من النشاط والكفاح، وهذه الألوان من النجاح والهزيمة، لا تغمنا إلا بمقدار ما يفوتنا أن ندرك أنها لا تؤثر في الروح ولا تصدر عنها؛ والإنسان المستنير إنما ينظر إليها كأنما يبصرها من خارج حدودها فكأنه متفرج على الحياد ينظر إلى مسرحية ُتمَثل؛ فلتتبين الروح استقلالها عن الأشياء، وستظفر بالحرية من فورها؛ فعملية إدراكها لهذه الحقيقة كافية في حد ذاتها أن تهيئ لها الفرار من سجن المكان والزمان والألم والعودة إلى التجسد من جديد (86)؛ يقول كابيلا: "إن التحرر الذي يظفر به الإنسان من إلمامه بالحقائق الخمسة والعشرين، يعلمه العلم الذي لا علم سواه - وهو وأنني لست موجوداً، ولا شئ يتعلق بي" (87) ومعنى ذلك أن انفصال
الأفراد وهمٌ، وكل الموجود هو هذا الزبَّد المتطور المتحلل من مادة وعقل، وأجسام ونفوس، هذا من جهة ومن جهة أخرى هنالك الروح التي لا تتغير ولا تضطرب في خلودها الساكن.
مثل هذه الفلسفة لا يجدي في إراحة الإنسان إذا ما وجد عسراً في فصل نفسه عن بدنه المتألم وذكرياته المعذبة، لكنها فلسفة - فيما يظهر - قد عبرت تعبيراً صادقاً عن الحالة النفسية التي سادت الهند في تأملها الفلسفي؛ وليس هناك من المذاهب الفلسفية الأخرى - إذا استثنينا فيدانتا - ما أثر في العقل الهندي بمثل الأثر العميق الذي كان لهذه الفلسفة فيه؛ وإنا لنلمس أثر "كابيلا" في مثالية بوذا المصطبغة بالإلحاد وبالبحث عن كيفية وصول الإنسان إلى معرفته بالعالم، كما نلمس أثره في فكرة بوذا عن النرفانا، وكذلك نلمس أثر "كابيلا" الماهابهاراتا وفي تشريع مانو، وفي أشعار "البوراتا" وفي "التانترات" - وهي التي تُحَوّر "بوروشا" و "براكريتي" فتجعلهما مبدأي الذكورة والأنوثة اللذين جاءا بالخلق (88)، ثم نلمس فوق هذا كله في مذهب "اليوجا" الذي لا يزيد على كونه تفريغاً لسانخيا من الناحية العملية، فهو يقوم على ما في سانخيا من آراء، ويستخدم ما فيها من عبارات؛ وليس لكابيلا أتباع مباشرون اليوم لأن العقل الهندي قد أسره "شانكارا" و "الفيدانتا"؛ لكن حكمة قديمة ما تزال ترفع صوتها في الهند حيناً بعد حين، ألا وهي:"ليس في ضروب العلم ما يوازي سانخيا من آراء، وليس في صنوف القوة ما يساوي اليوجا"(89).
4 - مذهب اليوجا
القديسون - قدم عهد "اليوجا" - معناها -
مراحل الرياضة الروحية الثماني - غاية "اليوجا" -
معجزات الآخذين "باليوجا" - إخلاص "اليوجا"
في مكان ساكن جميل
ألقى عصاه ليستقر، ولم يكن المكان موغلاً في الارتفاع
ولا مكان موغلاً في الانخفاض؛ وهناك فليسكن؛ متاعه
قماشةٌ وجلد غزال وحشيشة "الكوشا"؛
هناك ركّز فكره تركيزاً في "الواحد"
ممسكاً بزمام قلبه وحواسه، صامتاً، هادئاً،
هناك فليمارس "اليوجا" ليخلص إلى طهارة الروح،
ويضبط جسمه فلا يتحرك
منه عنق ولا رأس؛ ونظرته مستغرقة كلها
في طرف أنفه، محجوباً عن كل ما حوله،
هادئاً في روحه، خالياً من الخوف،
مفكراً في نذر (البراهما كاريا) الذي نذره على نفسه،
مخلصاً، مفكراً "فيّ" تائهاً في تفكيره "عني"
(1)
.
على سُلَّم المستحمين، ترى "القديسين" جالسين هنا وهناك، يحيط بهم هنود ينظرون إليهم نظرة الإجلال، ومسلمون ينظرون في عدم اكتراث، وسائحون يحدقون بالأبصار؛ ويسمى هؤلاء القديسون باليوجيين؛ وهم بمثابة
(1)
راجع كتاب "بهاجادفادجيتا" الذي ترجمه إدْوِن آرنلد بعنوان "الأنشودة السماوية" وطبع في لندن سنة 1925 م، الكتاب الرابع ص 35؛ وبراهما كاريا هو نذر العفة الذي يتعهد به طالب الزهد؛ والمقصود بكلمتي "فيّّ" و"عن" هو كرِِشْنا.
المعبّر عن الديانة الهندية والفلسفة الهندية تعبيراً ليس بعد وضوحه وغرابته وضوح أو غرابة؛ ثم تراهم كذلك في عدد أقل، في الغابات وعلى جنبات الطرق، لا يتحركون ويستغرقون في تفكيرهم؛ منهم الكهول ومنهم الشباب، منهم من يلبس خرقة بالية على كتفيه ومنهم من يضع قماشاً على ردفيه، ومنهم من لا يستره إلا تراب الرماد ينثره على جسده وخلال شعره المزركش؛ تراهم جالسين القرفصاء وقد لفوا ساقاً على ساق، لا يتحركون، ويركزون أبصارهم في أنوفهم أو سُرَرِهم، بعضهم يحدقون في الشمس ساعات متواليات بل أياماً متعاقبة، فيفقدوا إبصارهم شيئاً فشيئاً، وبعضهم يحيطون أنفسهم بألسنة حامية من اللهب في قيظ النهار، وبعضهم يمشون حفاة على جمرات النار، أو يصبون الجمرات على رؤوسهم؛ وبعضهم يرقدون عرايا الأجساد مدى خمسة وثلاثين عاماً على أسرّة من حراب الحديد وبعضهم يدحرجون أجسامهم على الأرض آلاف الأميال حتى يصلون مكاناً يحجون إليه وبعضهم يصفدون أنفسهم بالأغلال في جذوع الشجر، أو يزجون بأنفسهم في أقفاص مغلقة حتى يأتيهم الموت، وبعضهم يدفنون أنفسهم في الأرض حتى الأعناق ويظلون على هذا النحو أعواماً طوالاً، أو طول الحياة، وبعضهم يُنْفِذون سلكاً خلال الأصداغ، حتى يمر من الصدغين؛ فيستحيل عليهم فتح الفكين، وبهذا يحكمون على أنفسهم بالعيش على السوائل وحدها، وبعضهم يحتفظون بأيديهم مقبوضة حتى تنفذ أظفارهم من ظهور أكفهم وبعضهم يرفعون ذراعاً أو ساقاً حتى تذبل وتموت؛ وكثير منهم يجلسون صامتين في وضع واحد، وربما ظلوا في وضعهم أعواماً، يأكلون أوراق الشجر وأنواع البندق التي يأتيهم بها الناس؛ وهم في ذلك كله يتعمدون قتل إحساسهم ويركزون كل تفكيرهم بغية أن يزدادوا علماً؛ وأغلبهم يجتنبون هذه الطرائق التي تستوقف الأنظار، ويبحثون عن الحقيقة في سكينة ديارهم.
لقد كان لنا رجال كهؤلاء في عصورنا الوسطى، أما اليوم فإذا أردت أن تصادف أشباههم في أوربا وأمريكا فعليك أن تبحث في زوايا البلاد وأركانها؛ لكن الهند عرفت هؤلاء الناس مدى ألفين وخمسمائة عام - ويجوز أن يرجع عهدهم إلى ما قبل التاريخ حين كانوا للقبائل الهمجية - فيما نظن - بمثابة الأولياء وهذه الطريقة في التأمل الزاهد التي تعرف باسم "يوجا" كانت موجودة أيام "الفيدات"(90)؛ و"يوبانشاد" و "الماهابهاراتا" كلاهما اعترفتا بهذه الطريقة التي ازدهرت في عصر بوذا (91)؛ حتى الإسكندر قد استوقف انتباهه قدرة هؤلاء الناس على رياضة أنفسهم في تحمل الألم صامتين، فوقف يفكر في أمرهم، ثم دعا أحدهم أن يصحبه ليعيش معه، لكن (اليوجي) رفض في عزم وثبات - كما رفض "ديوجنيس" - قائلاً إنه لا يريد شيئاً من الإسكندر، مقتنعاً بخلاء وفاضه؛ وكذلك ضحكت جماعة الزاهدين بأسرها سخرية من الرغبة الصبيانية التي جاشت في صدر ذلك المقدوني أن يفتح العالم، على حين أن مساحة لا تتجاوز أقدام قليلة من الأرض - كما قالوا له - تكفي الإنسان كائناً من كان، حياً أو ميتاً؛ وحكيم آخر صحب الإسكندر إلى فارس، وهو (كالَانسْ)(سنة 326 ق. م) فمرض هناك، واستأذن الإسكندر في أن يموت، قائلاً إنه يؤثر الموت على المرض؛ وصعد على كومة من حطب مشتعل، هادئاً، واحترق لم يبعث صوتاً، فأدهش اليونان الذين لم يكونوا قد رأوا قط هذا الضرب من الشجاعة التي تقذف بالنفس في الموت دون أن يكون في الأمر عنصر الاغتيال الإجرامي (92)؛ ومضى بعد ذلك قرنان (حوالي 150 ق. م) وعندئذ جمع "باتانجالي" أجزاء المذهب من أقوال وأفعال في كتابه المشهور "قواعد اليوجا" الذي لا يزال يتخذ مرجعاً في جماعات اليوجيين من بنارس إلى لوس أنجلس (93)؛ وقد ذكر يوان شوانج الذي زار البلاد في القرن السابع الميلادي، أن هذا المذهب كان عندئذ كثير
الأتباع (94) ووصفه (ماركوبولو) حوالي سنة 1296 م وصفاً حياً (95)، وبعد كل هذه القرون، لا نزال اليوم نرى المتطرفين من أتباعه وعددهم يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين في الهند (96) يعذبون أنفسهم بغية أن يظفروا بسكينة المعرفة؛ إن (اليوجا) لتعد من أقوى الظواهر تأثيراً وأوقعها في النفس في تاريخ الإنسان بشتى ظواهره.
وبعد، فما هي "يوجا"؟ معنى الكلمة الحرفي هو النير، وليس المقصود أن يخضع الإنسان نفسه؛ أي يدمجها في الكائن الأسمى (97)، بمقدار ما يقصدون بالكلمة إخضاع الإنسان لنير النظام التقشفي المتزهد الذي يلتزمه الطالب ليبلغ ما يريده لنفسه من طهارة الروح من كل أدران المادة وقيودها، ويحقق ما يسمو على الطبيعة من ذكاء وقوة (98)؛ إن المادة هي أس الآلام والجهل؛ ومن ثم كانت غاية اليوجا أن تتحرر النفس من كل ظواهر الحس وكل ارتباطات الجسد بشهواته؛ فهي محاولة أن يبلغ الإنسان التنوير الأعلى والخلاص الأسمى في حياة واحدة، بأن يكفر في وجود واحد عن كل الخطايا التي اقترفها في تجسدات روحه الماضية كلها (99).
ومثل هذا التنوير لا يأتي بضربة واحدة، بل يجب على المريد أن يخطو إلى غايته خطوة خطوة؛ وليس في الطريق مرحلة واحدة يمكن فهمها لأي إنسان إذا لم يكن قد مر على المراحل السابقة كلها، فلا سبيل إلى بلوغ اليوجا إلا بعد درس ورياضة للنفس طويلين صابرين، ومراحل اليوجا ثمان:
1 -
"ياما" أو موت الشهوة، وهاهنا ترضى النفس بقيود "أشما" و "براهما كاريا" وتمتنع عن كل سعي وراء مصالحها وتحرر نفسها من كل رغباتها وجهادها الماديين، وتتمنى الخير للكائنات جميعاً (100).
2 -
"نياما" وهي اتبّاع أمين لبعض القواعد المبدئية للوصول إلى اليوجا، كالنظافة والقناعة والتطهر والدراسة والتقوى.
3 -
"أسانا" ومعناها وضع معين للجسد، والغرض منه إيقاف كل
إحساس؛ وأفضل "أسانا" لهذه الغاية هي أن تضع القدم اليمنى على الفخذ اليسرى، والقدم اليسرى على الفخذ اليمنى، وأن يتصالب الذراعان وأن تمسك بالإصبعين الكبريين في القدمين، وأن تحني الذقن على الصدر وتوجه النظر إلى طرف الأنف (101).
4 -
"براناياما" ومعناها تنظيم التنفس، فهذه الرياضة قد تعين صاحبها على نسيان كل شئ ما عدا حركة التنفس، وبهذا يفرغ عقله من شواغله استعداداً للخلاء القابل الذي يجب أن يسبق استغراق تفكيره في تأملاته؛ وفي الوقت نفسه قد يتعلم الإنسان بهذه الرياضة طريقة الحياة على الحد الأدنى من الهواء فيستطيع أن يدفن نفسه في التراب أيام كثيرة دون أن يختنق.
5 -
"براتياكارا" ومعناها التجريد، وهاهنا يسيطر العقل على جميع الحواس ويباعد بين نفسه وبين كل المُحَسَّات.
6 -
"ذارانا" أو التركيز، وهو أن يملأ العقل والحواس بفكرة واحدة أو موضوع واحد بحيث يصرف النظر عن كل ما عداه
(1)
فتركيز الانتباه في موضوع واحد كائناً ما كان مدة كافية من شأنه أن يحرر النفس من كل إحساس، وكل تفكير في موضوع معين وكل شهوة أنانية، ما دام العقل قد تجرد عن الأشياء فقد يصبح حراً بحيث يحس الجوهر الروحي للوجود على حقيقته
(2)
.
(1)
راجع هبز: إذا أحسست بشيء واحد دائماً، كان ذلك بمثابة عدم إحساسك بشيء.
(2)
يقارن "إلليَتْ" بهذه الفقرة - لكي يوضح هذه المرحلة - فقرة من شوبنهور، كانت لا شك من وحي دراسته للفلسفة الهندية وهي:"إذا ما حدث لنا بسبب مفاجئ أو انحراف داخلي، أن ارتفعنا عن تيار الإرادة الذي لا ينتهي، فإن الانتباه لا يعود منصباًً على دوافع الإرادة، بل يفهم الأشياء مستقلة عن علاقتها بالإرادة، وبهذا يلاحظها بغير النظرة الذاتية، أي يلاحظها من حيث هي في موضوعيتها الخالصة، ويصرف الانتباه نفسه صرفاًً تاماًً للنظر إليها باعتبارها أفكاراً، لا باعتبارها دوافع لإرادته؛ عندئذ ترى السكينة التي طالما نشدناها، والتي ما انفكت تفلت منا حين كنا نتابع طريق إشباع الشهوات، ترى هذه السكينة قد هبطت إلينا من تلقاء نفسها، فنحسن بذلك حالاًً".
7 -
"ذيانا" أو التأمل، وهي حالة تكاد تكون تنويماً مغناطيسياً تنتج عن "ذارانا"، ويقول "باتانجالي" إنها يمكن استحداثها من الدأب على تكرار المقطع المقدس "أوم"؛ وأخيراً يصل الزاهد إلى المرحلة التالية التي تعد خاتمة المطاف في سبيل اليوجا.
8 -
"ساماذي" أو تأمل الغيبوبة؛ فهاهنا يمحى من الذهن كل تفكير، فإذا ما فرغ العقل من مكنونه، فقد الشعور بنفسه على أنه كائن مستقل بذاته (103) وينغمس في مجموعة الوجود، ويجمع كل الأشياء في كائن واحد، وهو تصوّرٌ إلهيّ مبارك؛ ويستحيل وصف هذه الحالة بكلمات لمن لم يمارسها، وليس في وسع الذكاء الإنساني أو التدليل المنطقي أن يجد لها صيغة تعبر عنها " فلا سبيل إلى معرفة اليوجا إلا عن طريق اليوجا"(104).
ومع ذلك فليس ما ينشده "اليوجيُّ" هو الله أو الاتحاد بالله؛ ففي فلسفة اليوجا ليس الله "واسمه إشفارا" هو خالق الكون أو حافظه، وليس هو من يثيب الناس أو يعاقبهم؛ بل هو لا يزيد على كونه فكرة من فكرات كثيرة مما يجوز لنفس أن تركز فيها تأملها وتتخذها وسيلة لمعرفة الحقيقة؛ الغاية المنشودة في صراحة هي فصل العقل عن الجسد، هي إزاحة كل العوائق المادية عن الروح، حتى يتسنى لها - في مذهب اليوجا - أن تكسب إدراكاً وقدرة خارقتين للطبيعة (105) لأنه إذا نفضت عن الروح كل أثار خضوعه للجسد واشتباكها فيه، فإنها لا تتحد مع براهما وكفى، بل تصبح براهما نفسه؛ إذ أن براهما ليس إلا ذلك الأساس الروحي الخبئ، ذلك الروح اللامادي الذي لا يتفرد بنفس، والذي يبقى بعد أن تطرد بالرياضة كل أعلاق الحواس؛ فإذا الحد الذي تستطيع عنده الروح أن تحرر نفسها من بيئتها وسجنها الماديين، إلى هذا الحد تستطيع أن تكون براهما بحيث تمارس ذكاء برهمياً وقوة برهمية؛ وهنا يظهر الأساس السحري للدين من جديد، حتى ليكاد يتهدد الدين نفسه بالخطر - هو عبادة القوى التي هي أسمى من الإنسان.
كانت "اليوجا" في أيام "اليوبانشاد" صوفية خالصة - أعني محاولة تحقيق اتحاد الروح بالله؛ وتروي الأساطير الهندية أنه في سالف الأيام قد أتيح "لحكماء" سبعة (واسمهم أرشاء) أن يظفروا بالتوبة والتأمل بمعرفة تامة بكافة الأشياء (106)؛ ثم اختلطت "اليوجا" بالسحر حتى أفسدها في العهود المتأخرة من تاريخ الهند؛ وأخذت تشغل نفسها بالتفكير بالمعجزات أكثر مما تفكر في سكينة المعرفة؛ ويعتقد "اليوجي" أنه بوساطة "اليوجا" يستطيع أن يخدر أي جزء من أجزاء جسده بتركيز فكري فيه وبذلك يجعله تحت سلطانه (107) فيمكنه إن أراد أن يخفى عن الأبصار، أو أن يحول بين جسده وبين الحركة مهما كان الدافع إليها أو أن يمر في أية لحظة شاء أو من أي جزء شاء من أجزاء الأرض جميعاً، أو أن يحيى من العمر ما شاء أن يحيا، أو أن يعرف الماضي أو المستقبل كما يعرف أبعد النجوم (108).
ولزاماً على المتشكك أن يعترف بأنه ليس في هذه الأشياء كلها ما هو مستحيل؛ ففي وسع الجانبين أن يبتكروا من الفروض ما يستحيل على الفلاسفة أن يدحضوه؛ وكثيراً ما يشترك الفلاسفة وإياهم في مثل هذا الابتكار للفروض الغريبة؛ فشدة النشوة والتخليط الذهني يمكن إحداثهما بالصوم وتعذيب النفس؛ والتركيز يمكن أن يميت شعور الإنسان بالألم في موضع معين، أو بصفة عامة، وليس في وسعنا أن نجزم بألوان الطاقة الكامنة والقدرات المدخرة في العقل المجهول؛ ومع ذلك فكثير من "اليوجيين" لا يزيدون على كونهم سائلين الناس مالاً، يتحملون هاتيك الكفارات الأليمة طمعاً في الذهب، الذي ُيتهَّم الغربيون وحدهم بالطمع فيه، أو هم يتحملونها سعياً وراء ما يسعى إليه الإنسان مدفوعاً بطريقته الفطرية، من لفت الأنظار واستثارة الإعجاب
(1)
؛ إن الزهد هو ما يقابل الانغماس في شهوات الحس، أو هو
(1)
يصفهم "دبوا" بما له من برود في الحس، بقوله إنهم "جماعة من المتشردين" وكلمة "فقير" التي تطلق أحياناً على أصحاب اليوجا، كلمة عربية معناها في الأصل "فقر من المال" وهي لا تنطبق انطباقاًً صحيحا إلا على أعضاء الجمعيات الإسلامية الدينية الذين يسلمون أنفسهم للزهد في حطام الدنيا.
على أحسن تقدير محاولة التحكم في زمام تلك الشهوات؛ ولكن هذه المحاولة نفسها تدنو من شهوة أخرى هي رغبة إيقاع الأذى، مما يجعل الزاهد يكاد ينتشي من الغبطة كلما أنزل بنفسه الألم؛ ولقد كان البراهمة من الحكمة بحيث حرموا على أنفسهم مثل هذه الرياضات، ووعظوا أتباعهم بأن ينشدوا القداسة في أداء الواجبات المألوفة في شؤون الحياة، أداءً يرضي ضمائرهم (110).
5 - بيرفا- ميمانسا
انتقالنا من "اليوجا" إلى "بيرفا- ميمانسا" هو انتقال من أشهر المذاهب الستة للفلسفة البرهمية إلى أقلها شهرة وأهمية؛ وكما أن "اليوجا" أدخلت في السحر والتصوف منها في الفلسفة، فكذلك هذا المذهب أقرب إلى الدين منه إلى الفلسفة، بل هو بمثابة رد الفعل من جانب المتمسكين بأصل الدين لينهضوا به مذاهب الزندقة التي قال بها الفلاسفة؛ فصاحب هذا المذهب، وهو "جيميني" يحتج على "كابيلا" و"كانادا" في إنكارهما لحجة الفيدات، مع اعترافهما بهذه الكتب المقدسة، ويقول "جيميني" إن العقل الإنساني أضعف من أن يحل مشكلات الميتافيزيقا واللاهوت فالعقل مستهتر يقدم نفسه لخدمة الأهواء كائنة ما كانت فهولا يعطينا "علماً" و"حقيقة" بل يكتفي بصبغ ميولنا الحسية وزهونا بصبغة المنطق؛ إن الطريق إلى الحكمة والسلام لا يمتد في المنطق والتواءاته الفارغة، بل تراه في التسليم المتواضع بما جاء عن طريق الوحي ونقله الخلف عن السلف، وفي الأداء المتواضع للشعائر كما فصّلتها الكتب المقدسة، وهذه وجهة من النظر لا تعدم وجهاً للدفاع.
6 - مذهب الأفيدانتا
أصله - شانكارا - المنطق - نظرية المعرفة -
"مايا" - علم النفس - اللاهوت - الله - الأخلاق -
مشكلات المذهب - موت شانكارا
كلمة "فيدانتا" معناها في الأصل ختام الفيدات- أعني اليوبانشاد؛ أما اليوم فيطلقها الهنود على المذهب الفلسفي الذي حاول أن يدعم بالمنطق بناء الفكرة الأساسية التي وردت في كتب اليوبانشاد- تلك الفكرة التي تسود نغمتها جوانب الفكر الهندي بأسره- وهي أن الله (براهما) والروح (أتمان) شيء واحد؛ وأقدم صورة وصلتنا لهذه الفلسفة التي هي أوسع الفلسفات الهندية شيوعاً، هي كتاب "براهما- سوترا" لصاحبه "بدارايانا"(حوالي 200 ق. م) وقوام الكتاب خمسمائة وخمسة وخمسون حكمة، تعلن أولاها الغاية من الكتاب كله، وهي:"لنفرغ الآن إلى الرغبة في معرفة براهما"؛ وكادت تمضي بعد ذلك ألف عام، حين كتب "جودايادا" تعليقا على هذه "السوترات"(أي الحكم) ثم علم "جوفندا" أسرار المذهب، وهذا بدوره لقَّنها لشانكارا، الذي ألف أشهر ما كتب عن الفيدانتا من شروح، وكان بما ألف أعظم الفلاسفة الهنود جميعاً.
استطاع "شانكارا" في حياته القصيرة البالغة اثنين وثلاثين عاماً، أن يحقق الاتحاد بين شخصيتي الحكيم والقديس، بين صفتي الحكمة والرحمة، وهو اتحاد يتصف به أسمى ما أنجبته الهند من صنوف الإنسان؛ ولد بين جماعة نشيطة في البحث العقلي من براهمة ملبار، وهم المعروفون باسم البراهمة النمبرديين، وزهد في ترف الدنيا، وانخرط في سلك "الساميناسيين" وهو لم يزل يافعاً، يعبد الآلهة الهندية على اختلافها دون أن يزعم لنفسه القدرة على فهمها على الرغم من أنه كان مغموراً في موجة من التصوف تكشف له عن فكرة "براهما" الواحد الذي يضم الآلهة جميعاً؛ وخُيّل إليه أنه ما ورد في
كتب اليوبانشاد، هو أعمق الدين واعمق الفلسفة في آن معاً؛ فهو يستطيع أن يعفوا عن عامة الناس في عبادتهم لآلهة متعددة، لكنه لا يجد ما يغفر به عن الإلحاد في "سانخيا" أو عن لا أدرية "بوذا"؛ سافر إلى الشمال ليمثل الجنوب فيه فاكتسب هناك شهرة في جامعة بنارس، حدت بالجامعة أن تخلع عليه أسمى ما عندها من أسباب التكريم، وبعثت به مصحوباً بطائفة كبيرة من الأتباع، ليذود عن البرهمية في كل ساحات المناظرة في الهند؛ ولعله كتب وهو في بنارس شرحه المشهور لليوبانشاد، وألف "بهاجافاد- جيتا" الذي هاجم فيه بحماسة دينية ودقة اسكولائية طوائف الزنادقة في الهند، وأعاد للبرهمية زعامتها الفكرية التي سلبها إياها "بوذا" و "كابيلا".
يشيع في هذه الأبحاث الجدلية كثير من الميتافيزيقا، وفيها أقفار يباب من نصوص معروضة، لكننا نغفر ذلك كله لرجل استطاع وهو في سن الثلاثين أن يكون في الهند "أكويناس" و "كانت" معاً؛ فهو مثل "أكويناس" يسلم بكل ما في الكتب المقدسة في بلده من حجة على أنها وحي سماوي ثم يطوف باحثاً عن أدلة من خبرته ومن منطق العقل، يؤيد بها كل تعاليم تلك الكتب المنزلة؛ لكنه مع ذلك يختلف عن "أكويناس" في أنه ينكر على العقل وحده قدرته على القيام بهذه المهمة؛ بل هو على عكس ذلك، يتساءل قائلاً ألم نبالغ في قوة العقل وما يقوم به، وفي وضوحه وجدارته بالركون إليه؟ (111) فقد أصاب "جيميني" حين قال إن العقل محام مستعد للبرهنة على كل ما نريد البرهنة عليه؛ لأن العقل يستطيع أن يجد لكل حجة حجة تدحضها وتكون مساوية لها؛ والنتيجة التي ينتهي إليها هي شك يزعزع كل ما في أخلاقنا من قوة، ويزلزل كل ما في حياتنا من قيم؛ ويقول "شانكارا": ليس المنطق هو الذي يعوزنا إنما تعوزنا البصيرة النافذة؛ وهي ملكة (شبيهة بملكة الفنون) ندرك بها دفعة واحدة ما هو حيوي في الأمر الذي نحن بصدده، فنميزه مما ليس
بذي خطر، ونفرق بها بين ما هو أبدي وما هو زمني عابر، ونخرج بها الكل من الجزء؛ تلك هي أول ما يلزم للفلسفة من شروط؛ والشرط الثاني هو أن نقبل إقبالاً عن طواعية على الملاحظة والبحث والتفكير، لا نبتغي من ذلك كله غاية وراء المعرفة لذاتها، لا نريد من ورائه اختراعاً أو ثراء أو قوة؛ إنه بمثابة انسحاب الروح حتى لا تتعرض لكل ما يصاحب العمل من استثارة وميل مع الهوى واستمتاع بالثمرة؛ وثالث الشروط هو أن يكتسب الفيلسوف ضبطاً لنفسه وصبراً وهدوءاً، ولابد له أن يروض نفسه على الحياة المترفعة عن الإغراء الجسدي والمشاغل المادية وأخيراً يجب أن تشتعل في أعماق نفسه رغبة في "الموكشا" ومعناها التحرر من الجهل، والقضاء على كل الشعور بنفسه الفردية المنفصلة عن سواها، والاندماج السعيد في براهما الذي هو المعرفة الكاملة والاتحاد اللانهائي (112) واختصاراً، ليس الطالب بحاجة إلى منطق العقل بقدر ما هو بحاجة إلى تطهير الروح ورياضتها رياضة تزيد أغوارها عمقاً؛ ولعل في ذلك سر التربية الحقيقية في شتى صورها.
أقام "شانكارا" أساس فلسفته عند نقطة عميقة دقيقة، لم يستطع أحد بعده أن يدركها إدراكاً واضحاً، حتى قيض الله لها بعد ألف عام (عمانوئيل كانت) فكتب كتابه (نقد العقل الخالص)؛ ذلك أنه ألقى على نفسه سؤالاً هو: كيف تمكن المعرفة؟ إن كل علمنا فيما يبدو آت من الحواس، فهو لا يكشف عن الواقع الخارجي كما هو في ذاته، بل يكشف عن طريقة تشكيلنا لذلك الواقع بحواسنا- وربما بلغ التشكيل حد التغيير من الصورة الأصلية تغييراً أساسياً- وإذن فبالحس وحده يستحيل أن نعرف "الحقيقي" معرفة تامة؛ وكل ما قد نعرفه عنه هو العلم به وهو في ثوب المكان والزمان والسببية، وقد يكون ذلك الثوب نسيجاً خلقته حواسنا وعقولنا، فصَوَّرته أو طوَّرته على نحو يتيح له أن يتصيد ثباتاً من هذا الواقع السيال المفلات، وأن يمسك بهذه الصور الثابتة عنه، مع أننا إن استطعنا
أن نحدس بوجود ذلك الواقع الخارجي، فيستحيل علينا أبداً أن نصف خصائصه الموضوعية كما تقع في ذاتها؛ ذلك لأن أسلوبنا في الإدراك سيظل إلى الأبد ممتزجاً بالشيء المدرك امتزاجاً لا سبيل إلى عزل الواحد عن الآخر.
وليس هذا بالذاتية الجوفاء، التي يقول بها من يريد أن يغلق على طويته دون أن يجد سبيلاً لاتصاله بالعالم الخارجي، والذي يظن أنه مستطيع أن يحطم العالم تحطيماً إذا تركه واسترسل في النعاس؛ إن العالم موجود، لكنه "مايا" وليس معنى الكلمة أنه وهم بل هو ظواهر، هو مظهر اشترك عقل الإنسان في تكوينه؛ وعجزنا عن إدراك الأشياء إلا في صورها التي تعرض علينا وهي في الزمان والمكان، ثم عجزنا عن التفكير فيها إلا على أساس السببية والتغير، إن هو إلا قصور فطري في طبائعنا، هو "أفيديا" أو جهل مرتبط ارتباطاً شديداً بطريقة إدراكنا نفسها، وعلى ذلك فهو جهل كتب على الجسد أن يصاب به؛ إن "مايا" و "أفيديا" هما الجانبان الذاتي والموضوعي للوهم الأعظم الذي يحمل العقل على الظن بأنه يعرف حقيقة العالم؛ إننا نرى كثرة في الأشياء وتياراً من التغير، بسبب "مايا وأفيديا" أعني بسبب ما ورثناه منذ الولادة من جهل محتوم؛ وحقيقة الأمر هي أن ثمة كائناً واحداً، وما التغيير إلا "مجرد اسم" نطلقه على تغير صور الأشياء في سطوحها الظاهرة؛ ووراء "المايا" أي النقاب الذي يحجب عنا الحقيقة، والذي قوامه تغير الأشياء، تستطيع أن تنفذ إلى الحقيقة الكلية الواحدة، براهما، لا بطريق الحواس ولا بقوة العقل، بل بالبصيرة النافذة والإدراك الفطري المباشر من روح مرنت على ذلك الضرب من الإدراك.
هذا القصور الطبيعي للحس والعقل، الذي تسببه لهما أعضاء الحس وصور التفكير العقلي، يحول كذلك بيننا وبين إدراك الروح الواحد الصمد الذي يكمن وراء الأرواح والعقول الجزئية الفردية، فنفوسنا المنعزل بعضها عن بعض، والتي نراها بالإدراك الحسي والتفكير العقلي، لا تقل بطلاناً عن خيالات الزمان والمكان؛ إن الفروق بين الأفراد، والتمييز بين الشخصيات
مرتبطان بالجسم والمادة، وهما من خصائص عالم التغير الذي يشبه في تغيره تصاوير الكاليدوسكوب وهذه النفوس التي لا تزيد على مجرد ظواهر زائلة، ستمضي بانقضاء الظروف المادية التي هي جزء منها، أما الحياة الكامنة وراءها والتي نحسها في دخائلنا حين ننسى المكان والزمان والسببية والتغير، هي جوهرنا الصميم وحقيقتنا الأصيلة؛ تلك هي "أتمان" التي نشترك فيها مع سائر النفوس والأشياء، والتي لا تتجزأ ولا يخلو منها مكان، وهي وبراهما، أي الله، شيء واحد بعينه (113).
ولكن ما الله؟ إنه كما في النفس نفسان: الذات و "أتمان"، والعالم عالمان: عالم الظواهر وعالم الحقائق فكذلك الرب ربان: إشفارا، أي الخالق، وهو الذي تعبده عامة الناس لما يتبدى لهم من مكان وزمان وسببية وتغير، وبراهما أي الكائن الخالص، وهو الذي يعبده المتدينون المتفلسفون الذين يبحثون- ويجدون- حقيقة واحدة عامة وراء الأشياء والنفوس المستقل بعضها عن بعض؛ وتلك الحقيقة الواحدة لا تتغير وسط هذه التغيرات كلها، ولا تتجزأ رغم هذه الانقسامات كلها. أبدية رغم تغير الأشياء في صورها ورغم كل ما نشاهده من ولادة وموت؛ فتعدد الآلهة- بل العقيدة في وجود الله نفسها- نتيجة تتفرع عن عالم "المايا" و "الأفيديا"؛ وهي صور تعبدية تقابل صور الإدراك الحسي والتفكير؛ وهي ضرورية لحياتنا الخلقية على نحو ما يكون المكان والزمان والسببية عناصر ضرورية لحياتنا الفكرية، لكن حقيقتها ليست مطلقة، وليس لها صدق موضوعي في واقع الوجود (114).
وليس وجود الله معضلة في رأي شانكارا، لأنه يعرّف الله بالوجود، ويجعل الكون الحقيقي كله والله شيئاً واحداً بعينه؛ أما عن وجود إله مشخص، يكون خالقاً ومُخَلّصاً، فقد يكون هناك- في رأيه- موضع للشك؛ مثل هذا الإله في مذهب هذا المفكر الذي سبق "كانت" في تفكيره، لا تمكن البرهنة عليه بالعقل، وكل ما نستطيعه إزاءه هو أن نفرض وجوده فرضاً باعتباره ضرورة عملية (115) يهب الطمأنينة لعقولنا القاصرة والتشجيع
لأخلاقنا المتهافتة؛ قد يجوز للفيلسوف أن يعبد الله في أي معبد شاء، ويركع أمام أي إله بغير تفريق، لكنه سيجاوز هذه الصور العامية في العقيدة الدينية، التي ُتغْتفَر للعوام، وسيشعر بما في هذا التعدد من وهم خادع، مدركاً ما بين الأشياء كلها من وحدة لا تعرف التعدد
(1)
، إنه سيقدس الكون نفسه على أنه الكائن الأعلى- هذا الكائن الذي يعز على الوصف، لا تحده الحدود، ولا يحصره المكان ولا الزمان ولا يخضع للسببية، ولا يطرأ عليه التغير؛ إنه مصدر الحقيقة كلها ومادتها
(2)
، ويجوز لنا أن نصف براهما بأنه "شاعر بذاته" و "عاقل" بل و "سعيد" ما دام براهما يشتمل على النفوس كلها، ويمكن أن تتصف النفوس بأمثال هذه الصفات (116) لكن إلى جانب ذلك أيضاً يمكن أن نصف براهما بسائر الصفات جميعاً، مادام مشتملاً على خصائص الأشياء كلها؛ وبراهما في جوهره محايد يرتفع عن كونه مشخصاً أو مذكراً أو مؤنثاً، وهو يسمو على الخير والشر، وهو فوق كل الفوارق الخلقية، وكل أوجه الاختلاف بين الأشياء وكل الخصائص والصفات وكل الشهوات والغايات؛ إن براهما هو السبب والمسبب معاً وهو جوهر العالم الخفي الذي لا تحدده قيود الزمان.
وهدف الفلسفة هو أن تجد ذلك السر بحيث يذوب الواجد فيما وجد من سرّ؛ ففي رأي شانكارا أن اندماج الإنسان بالله معناه أن يسمو على- أو يغوص إلى ما دون- انفصال النفس عن سائر النفوس، وقِصَر أمدها في الحياة، وكل ما لها من مصالح وأغراض توافه؛ وأن يصبح على غير شعور بالأجزاء
(1)
ومن ثم كثيراً ما يطلق اسم "أدفينا" أي اللاثنائية على فلسفة الفيدانتا.
(2)
شانكارا والفيدانتا لا يذهبان إلى وحدة الوجود بكل معنى الكلمة؛ فالأشياء ليست براهما إذا نظرت إليها من جهة تميزها بعضها من بعض، وهي براهما في جوهرها وحقيقتها الأساسية التي لا تعرف انقساماًً أو تغيراً، يقول شانكارا:"إن براهما لا يشبه العالم، (ومع ذلك) ليس ثمة شيء ماعدا براهما؛ وكل ما يبدو أنه موجود خارج حدوده يستحيل أن يكون له وجود (خارج عنه) اللهم إلا وجوداً وهمياًً، كالسراب الذي يبدو في الصحراء ماء".
والأقسام والأشياء جميعاً، وأن يكون مندمجاً في سكينة، وفي اتحاد نرفاني خال من كل شهوة، بذلك المحيط الكوني العظيم الذي لا تصطرع فيه الغايات ولا تتنافس النفوس، وليس فيه أجزاء ولا تغير ولا مكان ولا زمان
(1)
؛ ولكي يظفر الإنسان بهذه السكينة السعيدة (التي تسمى أناندا) فلا يكفي الإنسان أن ينكر العالم، بل يجب إلى جانب ذلك أن ينكر ذاته؛ لا ينبغي أن يأبه لأملاك أو أدوات للمتاع، بل لا ينبغي أن يأبه حتى بخير أو شر؛ يجب أن ينظر إلى الألم والموت نظرته إلى "مايا"، أي حوادث تقع على سطح الجسم والمادة والزمان والتغير؛ ولا يجوز له أن يفكر فيما يصيب شخص من قضاء أو أن يفكر فيما له من خصائص؛ فلحظة واحدة يعني فيها بمصلحة ذاته أو يزهى فيها بنفسه كافية لهدم طريق الخلاص الذي يرجوه (119)؛ إن أعمال الخير لا تهيئ للإنسان خلاصاً، لأن أعمال الخير إنما تكون ذات قيمة أو معنى في عالم " المايا " وحده، أي عالم المكان والزمان؛ ولا يأتي بإخلاص إلى معرفة القديس، وما الخلاص إلا في إدراك الاتحاد بين النفس والكون، "أتمان"
(1)
راجع بليك في قوله: "سأغوص إلى حيث هلاك النفس والموت الأبدي. حتى لا يحين يوم الحساب فيجدني قائماً غير منعدم. وعندئذ يمسكون بي ويناولوني إلى نفسي من جديد". أو راجع قصيدة تنسن "الحكيم القديم": "لأكثر من مرة حين جلست وحيداً، أدير في نفسي كلمة هي رمز لنفسي فُكَّت عني حدود "النفس" التي تقضي عليها بالفناء. وانقضت عني إلى "المجهول" كما تذوب السحابة. في أسماء، ومسست أطرافي، فكانت الأطراف. غريبة عني، لم تكن أطرافي- ومع ذلك فليس ثمة من شك، وكل ما هنالك وضوح جلّيّ: وعن طريق فقداني لنفسي- كسبت حياة فسيحة الأرجاء تضارع هذه الحياة القائمة. إذا أشرقت في جنباتها الشمس- لا تطمسها ظلال الألفاظ. التي إن هي إلا ظلال في عالم من ظلال"
و "براهما"، أي الروح والله، وامتصاص الجزء في الكل (120)؛ ويستحيل أن تقف دورة حلول الروح في أجساد جديدة إلا إذا تم هذا الامتصاص عندئذ سيتبين أن الروح الجزئية والشخصية المفردة، التي تصيبها عودة التجسد، وَهْمٌ ليس له وجود (121) وأن الذي يعيد الولادة للنفس على صعيد العقاب أو الثواب هو "إشفارا" أي إله "مايا"؛ ويقول شانكارا "إنه إذا ما عرفت وحدة أتمان وبراهما، اختفت على الفور الروح الجزئية واختفى براهما باعتباره خالقاً (أي باعتباره إشفارا"(122) وتنتمي "إشفارا" و "كارما"- كما تنتمي الأشياء والأنفس- إلى مذهب فيدانتا المعروف، في صورته المحورة تحويراً يناسب حاجات الرجل من عامة الناس؛ أما الجانب الخفي السري من المذهب، فيعتبر الروح وبراهما شيئاً واحداً، لا يتجزأ ولا يموت ولا يتغير (123). وإنها لحكمة من شانكارا أن يحصر الجانب الخفي من مذهبه في الفلاسفة وحدهم؛ لأنه- كما رأى فولتير- كما أنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش بغير قانون إلا مجتمع من فلاسفة، فكذلك لا يستطيع أن يعيش فوق الخير والشر إلا مجتمع من الإنسان الأعلى؛ ولقد توجه الناقدون بنقد، هو أنه إذا كان الخير والشر جانبين من "مايا" أي من العالم الزائف إذن فلا يعود للفوارق الخلقية وجود، وتصبح الشياطين والقديسون في منزلة واحدة؛ وهاهنا يجيب شانكارا في ذكاء، بأن هذه الفوارق الخلقية حقيقية داخل عالم الزمان والمكان، وهي ملزمة لهؤلاء الذين يعيشون في هذه الدنيا، وليس فيها إلزام على الروح التي دمجت نفسها في براهما؛ فمثل هذه الروح لا تقترف الإثم، لأن الإثم يتضمن الشهوة وتحقيقها بالعمل، والروح التي تحررت- بحكم تعريفها- لا تتحرك في دنيا الشهوات والعمل (الذي يحقق لها شهواتها)، إن ما يُنْزل الأذى بغيره عامداً، يعيش في مستوى "مايا"، ويخضع لما فيها من فوارق ومن أخلاق وقوانين، فلا حرّ إلا الفيلسوف، ولا حرية إلا الحكمة
(1)
.
(1)
لسنا ندري كم يكون إلحاح بارمنيدس في أن "الكثرة" زائفة وأنه لا وجود إلا "للواحد" مديناًً لليوبانشاد، أو كم يكون رأيه ذاك ذا فضل على مذهب شانكارا؛ كما أننا لا نستطيع أن نؤكد وجود علاقة سببية أو إيجابية بين شانكارا وبين فلسفة عمانوئيل كانت التي تشبهها شبها يثير العجب.
لقد كانت هذه الفلسفة أدق وأعمق مما ينتظر من صبي في العقد الثالث من عمره؛ ولم يكْف شانكارا أن يفصل أجزاءها فيما كتب، وأن يوفق في الدفاع عنها في نقاشه مع الناس، لكنه كذلك عبّر عن أجزاء منها في شعر هو من أرهف الشعر الهندي الديني إحساساً؛ ولما أن فرغ شانكارا من رد كل اعتراض وُجّه إليه، انتبذ صومعة في الهمالايا، وتقول الرواية الهندية إنه مات في سن الثانية والثلاثين (124)، ونشأت عشر جماعات دينية تحمل اسمه، واعتنق فلسفته كثير من الأتباع، ثم ارتقوا بها؛ وقد كتب أحد هؤلاء الأتباع- وبعضهم يقول: إن شانكارا نفسه هو الذي كتب- عرضاً شعبياً للفيدانتا، واسماه "موهامودجارا" ومعناها "مطرقة الحماقة"- عرض أسس المذهب عرضاً موجزاً في وضوح وقوة:
"أيها الأحمق! امح من نفسك هذا الظمأ للمال، واقتلع من قلبك كل الشهوات، واقنع نفساً بما تكسبه لك من "كارما"
…
لا يأخذنك زهو بمال أو أصدقاء أو شباب؛ إن الزمن يقضي عليها جميعاً في لحظة واحدة؛ فإذا ما أسرعت وتركت كل هذا- وإنه لملئ بالأوهام- فادخل حيث براهما
…
إن الحياة رجراجة مثل قطرة الماء على ورقة اللوتس
…
إن الزمن لاه والحياة زائلة- ومع ذلك فأنفاس الأمل لا تنقطع؛ إن الجسد قد أصابه التجعيد والشعر قد شاب، والفم قد خلا من أسنانه، والعصا ترتعش في قبضة اليد، ومع ذلك فالإنسان لا يني متشبثاً بمواضع الرجاء
…
احتفظ باتزانك دائماً
…
إن فشنو وحده يسكن فيك وفيّ الآخرين؛ ومن العبث أن تغضب أو تثور؛ انظر إلى نفس جزئية في النفس الكلية الشاملة، ولا تعد تفكر فيما بيننا من فوارق (125).
الفصل الثالث
نتائج الفلسفة الهندية
الانهيار - ملخص - نقد - أثرها
جاءت الفتوح الإسلامية فختمت على عصر الفلسفة الهندية؛ وأدت هجمات المسلمين- ثم هجمات المسيحيين فيما بعد- على الديانة القومية إلى انكماش هذه العقيدة القومية نفسها دفاعاً عن نفسها، فوحّدت أجزاءها، وحرّمت كل جدل في الدين، وألجمت حركة الزندقة مع أنها مصدر التجديد، بحيث لم يبق إلا اطراداً راكداً في التفكير؛ ولما جاء القرن الثاني عشر، وجد مذهب "الفيدانتا"- الذي حاول على يدي شانكارا أن يكون ديناً للفلاسفة- من يفسره من القديسين، مثل "رامانوجا"(حوالي 1050 م) - تفسيراً لا يجعل فرقاً بينه وبين العبادة الأصلية القديمة لفشنو، وراما، وكرشْنا؛ ولما حرم على الفلسفة أن تفكر فكراً جديداً، لم يكفْها أن تنحدر إلى اسكولائية، بل باتت عقيماً، وجعلت تتلقى العقائد من الكهنوت، وراحت تتعب نفسها في البرهنة عليها، بحيث تبين ما بينها من مميزات للواحدة عن الأخرى دون أن تدل تلك المميزات على فروق حقيقية، مصطنعة في ذلك منطقاً بغير عقل (126).
ومع ذلك فالبراهمة قد استطاعوا في عزلتهم التي أووا إليها وتحت درع واقية اتخذوها من إلغاز عباراتهم إلغازاً لا يفهمه أحد سواهم، استطاعوا أن يصونوا المذاهب القديمة من العبث، بأن صبوها في (سُوترات)(أي حِكَم أو عبارات موجزة) غامضة، وتعليقات ملغزة؛ وبهذا نقلوا نتائج الفلسفة الهندية عبر الأجيال والقرون؛ وقد كانت كل هاتيك المذاهب، برهمية كانت أو غير برهمية، تعتبر ملكات العقل ضعيفة لا حول لها، أو خادعة إزاء
حقيقة الكون التي يراها الإنسان أو يحسها رؤية وإحساساً مباشرين
(1)
.
وكل اتجاهاتنا العقلية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، إن هي في رأي الميتافيزيقي الهندي إلا محاولة سطحية عابثة لإخضاع الكون الذي يستحيل حساب دقائقه، لتصورات سيدة رقيقة ممن يرتدن "الصالونات الأدبية"؛ "في ظلام دامس يمضي أولئك الذين يعبدون الجهل، وفي ظلام أشد دماسة يتخبط أولئك الذين يطمئنون نفساً بما لهم من علم"(129)؛ إن الفلسفة الهندية تبدأ حيث تنتهي الفلسفة الأوربية- وهو البحث في طبيعة المعرفة وفي حدود العقل؛ فهي لا تبدأ بمثل فيزيقياً "طاليس" و "ديمقريطس" ولكن بمثل نظرية المعرفة عن "لُكْ" و "كانْت"؛ والعقل عندها هو ذلك الذي ندركه إدراكا مباشراً، ولذا فهي تأبى أن تحلله إلى معلوم عرفناه بطريق غير مباشر، أي عرفناه بالعقل، وهي تسلّم بالعالم الخارجي، لأنها لا تؤمن بأن حواسنا في مقدورها أن تعرفه على حقيقته الواقعة؛ إن العلوم كلها جهل "رسميٌّ" وهو ينتمي إلى دنيا الظواهر "مايا" فهي تصوغ في ألفاظ وعبارات لا تنفك متغيرة، الجانب العقلي من عالم ليس العقل فيه إلا جزءًا يسيراً- إن العقل في هذا العالم تيار واحد متنقل في بحر ليس له حدود؛ بل إن الشخص نفسه الذي يقوم بالتدليل العقلي لا يزيد على ظاهرة "مايا" أي أنه وهم من الأوهام؛ فماذا عسى أن يكون سوى التقاء مؤقت لطائفة من حوادث، أو سوى عُقدة عابرة في مسارات المادة والعقل خلال المكان والزمان؟ - وماذا عسى أن تكون أفعاله وأفكاره سوى نتيجة لطائفة من القُوى التي سبقت بوجودها وجوده بعهد بعيد؟ ليس ثمة من حقيقة إلا براهما، ذلك المحيط الكوني الفسيح الذي
(1)
ليس هناك قديس هندي واحد نظر إلى المعرفة المكسوبة بالعقل أو بالحواس بغير احتقار، إن حكماء الهنود لم يقعوا أبدا في الخطأ الذي يمثلنا أصدق تمثيل، وهو أن نأخذ أي شيء مما يركبه العقل أخذاً جاداً بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، فهذه التركيبات العقلية لا تزيد جوهراً على أي تركيب آخر مما تعرضه علينا "مايا"(أي عالم الظواهر).
لا تكون صورة أي شئ إلا بمثابة موجة عابرة فيه، أو إن شئت فقل لا تكون صورة الشيء إلا نقطة زَبَدِ على موجة من موجاته؛ فليست الفضيلة هي ما في أعمال الخير من بطولة صامتة، كلا ولا هي نشوة من التقوى ينتشيها من يوصف بها؛ بل هي مجرد الاعتراف بوحدة النفي مع كل نفس أخرى في حقيقة واحدة هي براهما؛ والحياة الخلقية إن هي إلا ضرب من الحياة يكون أساسه الشعور بما بين الأشياء كلها من اتحاد
(1)
، "إن من يدرك كل الكائنات في نفسه، ويدرك نفسه في كل الكائنات، لن يصيبه شئ من القلق بعدئذ، إذ كيف يمكن أن يصاحبه بعد ذلك وهم أو أسى؟ "(130).
إن ما حال دون أن توسع هذه الفلسفة نطاقها بحيث تؤثر في المدنيات الأخرى، هو بعض الخصائص المميزة لها، التي لا يرى الهندي من وجهة نظرة شيئاً يعاب؛ فمنهجها، واصطلاحاتها الاسكولائية ومزاعمها الفيدية تحول بينها وبين أن تجد إقبالاً في أمم لها مزاعم أخرى، أو تثقفت بثقافات أكثر اتصالاً بهذا العالم الذي تعيش فيه؛ فمذهبها الخاص "بالمايا"- أي الظواهر- لا يبعث إلا قليلاً على الحياة الخلقية وفعل الفضيلة، وتشاؤمها هو بمثابة الاعتراف منها بأنها لم تفسر الشر، على الرغم من نظرية "الكارما" التي تحتوي عليها؛ وقد كان بعض تأثير هذه المذاهب الفلسفية، أن تزيد في حمل الناس على السكينة الهامدة في وجه الشرور التي كان يمكن عقلاً أن تصحح، أو إزاء عمل كان كأنما يصيح منادياً لعله يجد من يؤديه؛ ومع ذلك ففي هذه التأملات عمق، إذا ما قارنته بالفلسفات التي تحض على النشاط، والتي نشأت في مناطق أبعث على الفاعلية، أقول إن في هذه الفلسفات عمقاً يصبغ الفلسفات الأخرى الباعثة على النشاط، بلون التفاهة؛ فيجوز أن تكون
(1)
راجع سبينوزا: "إن أعظم الخير هو معرفة الاتحاد بين العقل وسائر الطبيعة، فالحب العقلي لله" هو ما يلخص الفلسفة الهندية.
مذاهبنا الغربية التي وثقت وثوقاً شديداً بأن "المعرفة قوة" بمثابة أصوات شباب مضى، كان فيه شهوة تضخم له الطبيعة قدرة الإنسان ومستطاعه حتى إذا ما أنهكت قوانا في كفاحنا اليومي ضد الطبيعة التي لا تعبأ بنا، والزمن الذي يناصبنا العداء، ازددنا عندئذ رحابة صدر حين ننظر إلى الفلسفات الشرقية التي توصي بالاستسلام والسلام؛ ومن ثم كان أثر الفكر الهندي على الثقافات الأخرى أشد ما يكون، في العهود التي تتعرض فيها تلك الثقافات لعوامل الضعف والانهيار؛ فلما كانت اليونان تحرز نصراً بعد نصر، لم تصرف إلا قليلاً من سمعها لما يقوله فيثاغورس أو بارمنيدس؛ ثم لما أخذت اليونان في التدهور، ذهب أفلاطون وذهب معه الكهنة الأورفيون مذهب تناسخ الأرواح، وطفق زينون الشرقي يبشر بما أوشك أن يكون استسلاماً للقضاء والقدر، وتسليماً للدهر وصروفه؛ ولما كانت اليونان تحتضر، ارتاد أنصار الأفلاطونية الجديدة والغنوسطيون (الذين يأخذون بإمكان معرفة الله) حياض الهند يعبون من أعماقها؛ والظاهر أن ما أصاب أوروبا من فقر بسقوط روما وفتوح المسلمين للطرق الموصلة بين أوروبا والهند، قد كان حجر عثرة مدى ألف عام، يعرقل تبادل الأفكار بين الشرق والغرب تبادلاً مباشراً؛ لكن لم يكد البريطانيون يثبتون أقدامهم في الهند حتى جعلت كتب اليوبانشاد تحرك الفكر الغربي بإعادة نشرها، أو بترجمتها؛ فتصور فخته مذهباً مثالياً على شبه شديد بمثالية شانكارا (132) وأوشك شوبنهور أن يدخل في فلسفته مذاهب البوذية واليوبانشاد والفيدانتا، إدخالاً يجعلها جزءاً من فلسفته لا يتجزأ؛ وكانت اليوبانشاد في رأي شلنج وهو في شيخوخته أنضج ما وصل إليه الإنسان من حكمة؛ أما نيتشه فقد خالط بسمارك واليونان أمداً أطول من أن يتيح له الفرصة للعناية بثقافة الهند، ومع ذلك فقد اعتنق آخر الأمر فكرة آثرها على كل فكرة سواها، وهي فكرة ظلت متشبثة بعقله لا تبرحه إلا وهي فكرة دورة الحياة دورة أبدية تظل فيها تعيد ما مضى من مراحل- وما تلك
الفكرة إلا صورة من مذهب عودة الروح إلى التقمص في أجساد كثيرة.
إن أوروبا في عصرنا هذا تزداد أخذاً من فلسفة الشرق
(1)
كما يزداد الشرق أخذاً من علوم الغرب؛ ويجوز أن تنشأ حرب عالمية أخرى فتفتح أبواب أوروبا (كما انفتحت اليونان عند تحطم إمبراطورية الإسكندر، وكما انفتحت روما عند سقوط الجمهورية الرومانية) بحيث تتدفق فيها فلسفات الشرق وعقائده؛ فثورة الشرق على الغرب ثورة متزايدة، وفقدان الأسواق الآسيوية التي كان من شأنها أن تقيم صناعة الغرب وازدهاره، وضعف أوروبا لما يصيبها من فقر وانقسام وثورة، كل ذلك قد يجعل من هذه القارة المنقسمة على بعضها غنيمة سهلة لديانة جديدة تجعل الناس يعقدون رجاءهم في السماء، ويفقدون الأمل في الأرض؛ ويجوز جداً أن يكون الهوى وحده هو الذي يجعل مثل هذا المصير مستحيلاً في رأي الناس في أمريكا، لأن السكينة والاستسلام لا تتلاءم مع الجو الكهربائي الذي نعيش فيه، أو مع الحيوية التي تنشئ عن مصادر الثروة الغزيرة والأرض الفسيحة الأرجاء؛ ولا شك في أن مناخنا سيكون لنا في نهاية الأمر درعاً واقية.
(1)
راجع برجسون، وكسلرنج، والتطبيب بالعقيدة، والفلسفة الدينية.
الباب العشرون
أدب الهند
الفصل الأول
لغات الهند
السنسكريتية - اللهجات القومية - النحو
كما أن الفلسفة وكثيراً من الأدب في أوربا الوسيطة كانا يكتبان بلغة ميتة لا يفهمها الشعب، فكذلك كانت الفلسفة والأدب الكلاسيكي في الهند يكتبان بسنسكريتية كانت قد أهملت بين الناس كأداة للتفاهم منذ زمن طويل، لكنها عاشت لتكون لغة للعلماء الذين لا تربطهم لغة مشتركة أخرى، كأنها في ذلك لغة "الإسبرنتو"(التي يحاولون صناعتها لتكون أداة تفاهم بين الشعوب المختلفة الآن).
ولما كانت هذه اللغة الأدبية بعيدة عن الاتصال بحياة الأمة؛ فقد أصبحت نموذجاً يحتذيه من أراد أن يكون اسكولائيَّ التفكير أو مهذب اللسان؛ وكانت الكلمات الجديدة تصاغ - لا بخلق تلقائي يصدر من عامة الناس - بل تبعاً لحاجة المدارس في بحوثها الفنية؛ حتى انتهى الأمر بالسنسكريتية التي كتبت بها الفلسفة إلى فقدانها للبساطة القوية التي تلمسها في الترانيم الفيدية، وأصبحت أفعواناً صناعياً تزحف كلماتها على الصفحات زحفاً كأنها شرائط الدود
(1)
.
(1)
خذ هذه الأمثلة لكلمات سنسكريتية وقعت من عدة أجزاء: (citerapratisamkvamayastadakavapattau)(upadauavisvamasattakakaruapattih)
ولكن عامة الناس في الوقت نفسه كانوا - في شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد - قد حوروا السنسكريتية إلى براكريتية، وما أشبه ذلك بإيطاليا حين غيرت اللاتينية إلى الإيطالية فأصبحت اللغة البراكريتية حيناً من الدهر لغة البوذية والجانتية، ولبثت كذلك حتى تطورت بدورها إلى الباليّة - وهي اللغة التي كتب بها أقدم ما هبط إلينا من الأدب البوذي (2)؛ فلما أن كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي، كان قد تولد عن هذه اللغات التي شهدتها "الهند الوسيطة" لهجات مختلفة كان أهمها اللغة "الهندية" ثم ولّدت هذه بدورها في القرن الثاني عشر اللغة الهندستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند؛ وأخيراً جاء الغزاة المسلمون وملئوا الهندستانية بألفاظ فارسية فكوّنوا بذلك لهجة جديدة هي الأردية؛ وهذه كلها لغات "هندية جرمانية" انحصرت في الهندستان؛ أما الدكن فقد احتفظت بلغتها الدرافيدية القديمة وهي: لغات "تامِلْ" و "تلوجو" و "كاناريس" و "وملايالام" وأصبحت لغة "تامِل" من بينها هي الأداة الأدبية الرئيسية في الجنوب؛ ولما كان القرن التاسع عشر حلّت الباليّة محل السنسكريتية لغة أدبية في البنغال، وكان الكاتب القصصي ("شاترجي" لهذه اللغة بمثابة "بوكاتشو" للإيطالية الحديثة) كما كان لها الشاعر طاغور بمثابة "بترارك"؛ وإنك لترى مائة لغة في الهند حتى في يومنا هذا على أن أدب الحركة الاستقلالية يستخدم لغة الفاتحين أداة للتعبير.
ولقد أخذت الهند منذ تاريخ عريق في القدم تتعقب جذور الألفاظ وتاريخها وعلاقاتها وتركيبها، ولم يظللها القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت قد اصطنعت لنفسها
(1)
علم النحو، وأنجبت من يجوز أن يكون أعظم النحاة جميعاً ممن نعرف وهو بانيني؛ وكانت دراسات بانيني، وباتايخالي (حوالي 150 م) وبهارْتريهاري (حوالي 650 م) هي الأسس التي قام عليها علم اللغات؛
(1)
ولقد حدث للبابليين مثل هذا، راجع الجزء الخاص ببابل من هذه السلسلة.
كما أن هذا العلم الشائق الذي يبحث في ولادة الألفاظ اللغوية، مدين بكل حياته تقريباً في العصور الحديثة لإعادة كشف الغطاء عن السنسكريتية.
ولم تكن الكتابة - كما رأينا - شائعة في الهند الفيدية، فحوالي القرن الخامس قبل الميلاد، اقتبست الكتابة الخاروسثية من أصول سامية، وبدأنا نسمع عن كاتبين في أدب الملاحم وفي الأدب البوذي (3)، وكانت أوراق النخيل ولحاء الشجر يستخدمان أداة للكتابة كما كان القلم شبيه بمسمار من الحديد؛ وكانوا يدبغون لحاء الشجر دبغاً يجعله أصلب ديباجه، ثم يحفرون عليه الأحرف بالقلم، ويلطخون اللحاء بالحبر فيبقى في فجوات الحروف المحفورة ثم تمحى بقيته (4) ولما جاء المسلمون أدخلوا معهم الورق (حوالي 1000 م) لكن الورق لم يحل محل اللحاء تماماً إلا في القرن السابع عشر، وكانوا ينفذون خيطاً سميكاً في صفحات اللحاء لتربطها معاً على الترتيب المطلوب، على أن تجمع الكتب المكونة من أمثال هذه الصفحات في مكتبات أطلق الهنود عليها اسم "خزائن إلهة الكلام" وقد بقيت لنا مجموعات ضخمة من هذا الأدب الخشبي على الرغم مما تعاورها من تدميرات الزمن والحروب
(1)
.
(1)
ليس هناك أثر للطباعة قبل القرن التاسع عشر - وقد يكون ذلك راجعاًً - كما هو الحال أيضاًً في الصين - إلى أن تكييف الحروف المفككة بحيث تلائم أنواع الكتابة الأهلية أكثر نفقة مما يحتمل، أو قد يكون ذلك راجعاًً إلى أنهم نظروا إلى الطباعة على أنها سليل مبتذل يخلف فن الخط، وكان الإنجليز هم الذين جاءوا إلى الهنود بالصحف والكتب المطبوعة، لكن الهنود أدخلوا تحسينات على ما تعلموه من الإنجليز في هذا الصدد، واليوم ترى في الهند 517 ر 1 جريدة، و 627 ر 3 مجلة، وأكثر من 000 ر 17 كتاب جديد تنشر في المتوسط كل عام.
الفصل الثاني
التعليم
المدارس - الطرق - الجامعات - التعليم
الإسلامي - إمبراطور يتحكم في التعليم
لبثت الكتابة ضئيلة القدر جداً في التعليم الهندي حتى القرن التاسع عشر ويجوز أن يكون مرجع ذلك إلى أن الكهنة لم يكن في صالحهم أن يجعلوا النصوص المقدسة أو الاسكولائية سرًّا مكشوفاً للجميع (6)؛ أما التعليم فقد كان له نظام قائم تراه في تاريخهم مهما أوغلت في ماضيه (7)، وكان يتولاه رجال الدين ويفسحون مجاله في أول الأمر لأبناء البراهمة وحدهم، ثم أخذوا على مرّ الزمن يوسّعون من نطاقه بحيث يشمل طبقة بعد طبقة، حتى نراه اليوم لا يستثني من الناس أحداً فيما عدا طبقة المنبوذين؛ ولكل قرية هندية معلمها يُنْفَق عليه من الرصيد العام وكان في البنغال وحدها - قبل مجيء البريطانيين - حوالي ثمانين ألفاً من المدارس الأهلية - مدرسة لكل أربعمائة نفس من السكان (8) وربما كانت نسبة التعليم في ظل "أشوكا" أعلى منه اليوم في الهند (9).
كان الأطفال يذهبون إلى مدرسة القرية من سبتمبر إلى فبراير، ويدخلونها في سن الخامسة ليتمُّوها في سن الثامنة (10) وكان التعليم ذا صبغة دينية غالبة كائناً ما كان موضوع الدراسة، وكانت الطريقة المألوفة هي الحفظ على ظهر القلب، ولم يكن لأحد مفرٌّ من حفظ نصوص الفيدات، ويشتمل منهج التعليم على القراءة والكتابة والحساب، لكنها لم تكن الهدف الأساسي للتعليم؛ وكان الخلق أجدر عندهم بالاعتبار من الذكاء، والنظام هو جوهر التعليم في المدارس؛ نعم إننا لا نسمع في تاريخهم شيئاً عن ضرب التلاميذ أو ما شابه ذلك من صارم الوسائل التأديبية، لكننا نجد أكثر اهتمامهم منصباً قبل كل
شئ على تكوين عادات للسلوك في الحياة بحيث تكون سليمة من المآخذ والشوائب (11)، وفي سن الثامنة ينتقل التلميذ إلى "شيخ" يتولاه بعناية أكثر مراعاة للقواعد، و "الشيخ" هو معلم خاص أو رائد يعيش معه التلميذ، ويحسن أن يظل في صحبته تلك حتى سن العشرين؛ وكان يطلب إلى التلميذ أن يؤدي له بعض الخدمات، منها أحياناً ما كان حقيراً؛ كما يطالب بالتزام العفة والتواضع والنظافة والامتناع عن أكل اللحم في وجباته (12)، وقوام التعليم "الشاسْترات الخمس" أي العلوم الخمسة وهي: النحو، والفنون والصناعات، والطب، والمنطق، والفلسفة؛ وبعدئذ يطلق في الحياة مزوداً بنصح حكيم هو أن التعليم يأتي ربعه فقط من المعلم، وربعه من الدراسة الخاصة، وربعه من الزملاء، وربعه من الحياة (13).
وللطالب في نحو السادسة عشرة أن ينتقل من "شيخ" إلى إحدى الجامعات الكبرى التي كانت مفخرة الهند القديمة والوسيطة: بنارس وتاكسيلا وفداربها وأجانتا ويوجين ونالاندا؛ وكانت جامعة بنارس حصناً حصيناً للتعاليم البرهمية الأصيلة في أيام بوذا، كما لا تزال كذلك إلى يومنا هذا؛ وكانت جامعة تاكسيلا في عهد غزوة الإسكندر معروفة في آسيا كلها على أنها مقر الزعامة في البحث العلمي في الهند، وأشهر ما اشتهرت به مدرسة الطب فيها؛ واحتلت جامعة "يوجين" مكانة عالية في أسماع الناس بما فيها من علماء الفلك، كما اشتهرت جامعة أجانتا بتعليم الفنون؛ وإن واجهة أحد المباني المخربة في أجانتا لتدل بعض الدلالة على فخامة هذه الجامعات القديمة (14) وأنشئت جامعة "نالاندا" - وهي أشهر الجامعات بالمعاهد البوذية العالية - بعد موت منشئ العقيدة البوذية بزمن قصير وخصصت لها الدولة دخل مائة قرية لينفق عليها منه، وكان بها عشرة آلاف طالب، ومائة قاعة للمحاضرات، ومكتبات ضخمة، وست بناءات كبيرة للسكنى، وارتفاعها أربعة طوابق
يقول يوان شوانج أن مراصدها "كانت تنبهم معالمها في ضباب الصباح، وتعلو غرفاتها العليا على السحاب"(15)، وقد أحب هذا الحاج الصيني الكهل رهبان "نالاندا" العلماء وأحراشها الظليلة حباً جعله يقيم هناك خمسة أعوام؛ وهو يروي لنا أن الكثرة الغالبة من أولئك الذين أرادوا الدخول في حلقات المناقشة من النزلاء الأجانب " في نالادا " كانت تنسحب أمام ما تلاقيه من صعوبة المشكلات؛ وكان يسمح بالدخول لأولئك الذين تعمقوا العلوم القديمة والحديثة، لكن لم ينجح من كل عشرة أكثر من اثنين أو ثلاثة " (16).
وكان الطلاب الذين يساعدهم الحظ في الدخول يتعلمون مجاناً بما في ذلك أيضاً المسكن والغذاء، لكنهم لقاء ذلك كانوا يخضعون لنظام أوشك أن يكون كنظام الأديرة؛ ولم يكن الطالب يسمح له بالتحدث إلى امرأة، أو برؤية امرأة بل إن مجرد الرغبة في النظر إلى امرأة كان يعد عندهم خطيئة كبرى، على نحو ما جاء في العهد الجديد من قول هو أشد ما فيه من أقوال؛ وإذا اقترف طالب إثماً جنسياً، كان عليه أن يلبس جلد حمار مدة عام كامل، على أن يظل الذيل مرفوعاً إلى أعلى، وأن يجوب الآثم الطرقات، يطلب الصدقات ويعلن عن خطيئته؛ وكان الطلبة جميعاً يطالبون كل صباح بالاستحمام في أحواض السباحة العشرة الكبرى التابعة للجامعة؛ ومدة الدراسة اثنا عشر عاماً، ولو أن بعض الطلبة كان يقيم بالجامعة ثلاثين عاماً، وبعضهم يقيم بها حتى الممات (17).
وجاء المسلمون فهدموا الأديرة (في شمال الهند) كلها تقريباً، بوذيّها وبرهميّها على السواء، وأحرقت جامعة "نالاندا" إحراقاً أتى عليها سنة 1197 م وقتل كل رهبانها، وإنه ليستحيل علينا أبد الدهر أن نقدر ما كان في حياة الهند القديمة من خصوبة مسترشدين بما أبقى عليه هؤلاء المسلمون المتعصبون؛ ومع ذلك فلم يكن هؤلاء المخربون من الهمج، بل كان لهم ذوق في الجمال كما كان لهم براعة تشبه براعة العصر الحديث في استخدام التقوى لتحقيق ما يشاءون من
نهب وسلب؛ فلما اعتلى المغول عرش الحكم، جاءوا معهم بمستوى عال - ولو أنه ضيق الأفق - من الثقافة، فقد أحبوا الأدب حبهم للسيف، وعرفوا كيف يمزجون حصاراً ظافراً بقصائد الشعر؛ وكان التعليم عند المسلمين فردياً في أغلبه، فيستخدم أغنياء الآباء لأبنائهم المعلمين الخواصّ؛ وكانت نظرتهم إلى التعليم نظرة أرستقراطية تجعله شيئاً للزينة - وقليلاً ما اتخذوا التعليم وسيلة لغاية - يزدان به رجل الأعمال أو صاحب السلطان، كما تجعله عنصراً من عناصر الثورة والخطر العام إذا ما لُقّن لرجل قضي عليه بالفقر وضعة المنزلة؛ ويمكننا أن نتبين طرائق المعلمين من خطاب هو من رسائل التاريخ العظمى - وهو ما أجاب به أورنجزيب - وهو ملك - على معلمه السابق، وقد طلب إليه ذلك المعلم أن يخلع عليه منصباً وراتباً:
"ماذا تريد مني أيها المعلم؟ أيمكن في حدود العقل أن تطلب مني أن أجعلك أحد كبراء الأمراء في حاشيتي؟ دعني أقلها لك قولة صريحة، لو أنك علمتني كما كان أن ينبغي لك أن تفعل، لما كان ثمة أعدل من مثل هذا الطلب؛ لأنني أعتقد بأن الناشئ الذي أحسنت تربيته وتعليمه، مدين لأستاذه على الأقل بمقدار ما هو مدين لأبيه؛ ولكن أين عساي أن أجد مثل هذا التعليم الجيد مما لقّنتني؛ فقد علمتني أولاً أن الفرنجة جميعاً (هكذا يسمون الأوربيين فيما يظهر) لم يكونوا إلا جزيرة صغيرة، الله أعلم بضآلة قدرها، وأن ملك البرتغال هو أعظم ملوكها ثم يتلوه ملك هولندة، فملك إنجلترا، أما عن الملوك الآخرين كملك فرنسا وملك الأندلس، فقد صورتهم لي مثل صغار الراجات عندنا، قائلاً لي إن ملوك الهندستان يبزونهم جميعاً، وأنهم (ملوك الهندستان)
…
هم الأعلون بين الملوك وهم غزاة العالم وحاكموه؛ وأن ملوك فارس وأزبك وكشغر والتتر وكاني وبيجو والصين وماشينا يرتعشون خوفاً عند ذكر أسماء ملوك الهندستان؛ ألا ما أجمل ذلك من علم بأقطار العالمين! لقد كان واجب عليك أن تعلمني علماً دقيقاً بهذه الدول كلها، بحيث أميز
بعضها من بعض، وأفهم جيد الفهم ما هي عليه من قوة وأساليب حرب وعادات وديانات وحكومات ومصالح؛ وكان أوجب عليك أن تطلعني على صحيح التاريخ حتى أعلم نشأة تلك الدول وتقدمها وانهيارها، ومن ثم كنت أعلم كيف وبأي سبب من الأحداث والأخطاء حدثت تلك التطورات الكبرى والثورات العظمى في الإمبراطوريات والممالك؛ لقد كدت لا أعلم منك أسماء أجدادي، بناة هذه الإمبراطورية الأعلام، بَلْهَ أن تعلمني تاريخ حياتهم وما صنعوه حتى تم لهم مثل هذا الفتح العظيم؛ كنت منكباً على تعليمي اللغة العربية قراءة وكتابة؛ والحق أني شاكر لك ما سببته لي من مضيعة لوقتي في لغة تتطلب عشرة أعوام أو اثني عشر عاماً لكي يجيدها الطالب، كأنما ابن الملك يرى شرفاً له أن يكون عالماً نحوياً أو متضلعاً في القانون وأن يتعلم لغات غير لغات جيرانه، مع أنه يستطيع أن يحيا بغيرها خير حياة، ذلك الذي يحرص على وقته الثمين لكثير من مهام الأمور، هذه الأمور هي التي كان ينبغي أن يتعلمها؛ ودع عنك ابن الملك، وقل لي أين تلك الروح التي تستعبد نفسها - بغير شئ من النفور، بل بغير شئ من الشعور بالمهانة - في دراسة كئيبة جافة طويلة مملة، مثل هذه الدراسة لألفاظ اللغة" (18).
ويقول "بيرْنيَر" المعاصر: "هكذا كان أورنجزيب يمقت التحذلق في التعليم الذي كان يصطنعه معلموه؛ وبعض الدلائل في بلاطه تدل على أنه
…
أضاف إلى قوله ذاك قولاً آخر
(1)
وهو:
"ألا تعلم أن الطفولة إذا أُحْكِمَ الإشراف عليها، وهي كما نعلم حالة مصحوبة عادة بالذاكرة الجيدة، في مستطاعها أن تتلقى آلاف المبادئ السليمة
(1)
لا نستطيع الجزم من العبارة المقتبسة الآتية "بل قد لا نستطيع ذلك أيضاًً بالنسبة للعبارة السالفة" من كلام "بيرنير"، وكم منها من كلام أورنجزيب؛ وكل ما نعلمه عنها أن فيها علامات تدل على أنها نسخة وليست أصلاًً.
والتعاليم بحيث تنقش فيها نقشاً عميقاً ما بقي الإنسان حياً، وتحفز عقل الإنسان دائماً إلى جليل الأعمال؟ أليس يمكن تعلم القانون والصلاة والعلوم بلغتنا القومية كما نتعلمها بالعربية؟ لقد أنبأت أبي "شاه جهان" أنك ستعلمني الفلسفة؛ نعم إني أذكر جيداً أنك لبثت أعواماً طوالاً تسليني بمشكلات فارغة عن أشياء لا ترضي العقل في شيء على الإطلاق، وليست هي بذات نفع في المجتمع الإنساني، وهي أفكار خاوية ومجرد سبحات في الخيال، وليس فيها ما يميزها سوى أنها شديدة الصعوبة على الفهم، شديدة السهولة في النسيان
…
إني لا أزال أذكر أنك بعد أن أمتعتني - ولست أذكر كم طال أمد تلك المتعة - بفلسفتك الدقيقة، كان كل ما وعيته منها طائفة كبيرة من ألفاظ حوشية معقدة، تصلح لإيقاع الربكة والحيرة والملل في أحسن العقول؛ ولعلها لم توجد إلا لتستر غرور أمثالك من الرجال وجهلهم، هؤلاء الذين يحاولون إيهامنا بأنهم يعلمون كل شيء، وأن وراء هذه الألفاظ الغامضة المبهمة تختفي أسرار عظيمة لا يستطيع فهمها سواهم؛ فلو أنك أنضجتني بتلك الفلسفة التي تهيئ العقل للاستدلال المنطقي، وتعدّه شيئاً فشيئاً، الإعداد الذي يجعله لا يرضى بشيء إلا الحجج القوية؛ لو أنك زودتني بتلك المبادئ السامية والمذاهب الرفيعة التي تعلو بالروح على نكبات الزمن، وتركّزها في حالة نفسية لا يزعزعها شيء ولا يثيرها مثير، وتجنّبها الغرور بالنجاح في الحياة والانهيار أمام المحن؛ لو أنك حرصت على أن تمدني بمعرفة أنفسنا ومعرفة المبادئ الأولى للأشياء، وساعدتني على تكوين فكرة طيبة في عقلي عن عظمة الكون، وعما فيه من نظام عجيب وحركة في أجزائه؛ أقول لو أنك غرست في نفسي هذا الضرب من الفلسفة، لرأيت نفسي مديناً لك أكثر مما كان الإسكندر مديناً لأرسطو كثرة لا تدع مجالاً للمقارنة بين الحالتين، ولأيقنت أن من واجبي أن أعوضك على نحو يختلف عما جزاه هو به؛ ألم يكن واجباً عليك - بدل ريائك لي - أن تعلمني شيئاً
عن ذلك الموضوع البالغ الأهمية لملك، ألا وهو الواجبات المتبادلة بين الملك وشعبه، ماذا يجب على الملك إزاء الرعية، وماذا يجب على الرعية إزاء الملك؟ ألم يكن ينبغي عليك أن تذكر أنني لا بد يوماً مضطر إلى استخدام السيف في نزاعي مع أخوتي على حياتي وتاجي؟
…
هل عنيت قط بأن تعلمني كيف أحاصر مدينة أو أن أُجَيَّش جيشاً؟ إنني مدين بهذه الأشياء لغيرك لا لك، اذهب وعد إلى القرية التي منها أتيت ولا تدع أحداً يعلم من أنت، ولا ماذا صار من أمرك" (19).
الفصل الثالث
الملاحم
"الماهابهاراتا" - قصتها - قالبها - "البهاجافاد - جيتا" -
ميتافيزيقا الحرب - ثمن الحرية - "الرامايانا" ترنيمة الغابة-
اغتصاب سيتا - الملاحم الهندية والملاحم اليونانية
لم تكن المدارس والجامعات إلا جزءاً من النظام التعليمي في الهند؛ فلما كانت الكتابة أقل قيمة هناك منها في سائر المدنيات، وكان التعليم الشفوي هو وسيلة الاحتفاظ بتاريخ الأمة وشعرها، ووسيلة نشرها في الناس، فقد نشرت الرواية الشفوية العلنية بين الناس أنفَس ما في تراثهم الثقافي من أجزاء؛ فكما قام رواة مجهولون بين اليونان بنقل الإلياذة والأوذيسية، وتوسيعها على مر الأجيال، كذلك فعل الرواة والخطباء في الهند بنقل الملاحم من جيل إلى جيل، ومن بلاط السلطان إلى عامة الشعب، تلك الملاحم التي ركز فيها البراهمة أساطيرهم الشعبية.
وفي رأي عالم هندي أن "الماهابهاراتا" هي (أعظم آية من آيات الخيال التي أنتجتها آسيا)(20) وقال عنها سير تشارلز إلْيَتْ إنها: (قصيدة أعظم من الإلياذة)(21) ولا ارتياب في صدق هذا الحكم الأخير بمعنى من معانيه؛ بدأت الماهابهاراتا (حوالي سنة 500 ق. م) قصيدة قصصية قصيرة، لا يتجاوز طولها حداً معقول، ثم أخذت تضيف إلى نفسها في كل قرن من القرون المتعاقبة حكايات ومقطوعات، وامتصت في جسمها قصيدة (بهاجافادجيتا) كما ضمت بعض أجزاء من قصة راما، حتى بلغ طولها في نهاية الأمر 000 ر 107 زوج من أبيات الشعر الثمانية المقاطع - أي ما يساوي الإلياذة والأوذيسية مجتمعين سبع مرات واسم مؤلفها أسطوري، إذ ينسبها الرواة
لمن يسمونه (فياسا) وهي كلمة معناها "المنظم"(22) فقد كتبها مائة شاعر، وصاغها ألف منشد، ثم جاء البراهمة في عهد ملوك جوبتا (حوالي 400 م) فصبوا أفكارهم الدينية والخلقية في هذا المؤلف الذي بدأ على أيدي أفراد من طبقة الكشاترية؛ وبهذا خلعوا على القصيدة تلك الصورة الجبارة التي نراها عليها اليوم.
لم يكن موضوع القصيدة الأساسي مقصوداً به الإرشاد الديني بمعنى الكلمة الدقيق، لأنها تقص قصة عنف ومقامرة وحروب، فيقدم الجزء الأول من القصيدة "شاكونتالا" الجميلة (التي أريد لها أن تكون بطلة في أشهر مسرحية هندية) وابنها القوي (بهارفا)؛ الذي من أصلابه جاءت قبائل (بهاراتا العظيم)(أي الماهابهاراتا) وقبائل كورو وباندافا التي تتألف من حروبها الدموية سلسلة الحكاية ولو أنه كثيراً ما تخرج الحكاية عن موضوعها لتعرج على موضوعات أخرى؛ فالملك "يوذسشيرا" - ملك البندافيين - يقامر بثروته حتى تضيع كلها، ثم بجيشه وبمملكته وبإخوته وأخيراً بزوجته "دراوبادي" وكان في هذه المقامرة يلاعب عدواً له من قبيلة كورو، كان يلعب بزهرات مغشوشة، وتم الاتفاق على أن يسترد الباندافيون مملكتهم بعد اثني عشر عاماً يتحملون فيها النفي من أرض وطنهم وتمضي الاثنا عشر عاماً، ويطالب الباندافيون أعداءهم الكوريين برد أرضهم، لكن لا جواب، فتعلن الحرب بين الفريقين ويضيف كل فريق إلى نفسه حلفاء حتى تشتبك الهند الشمالية كلها تقريباً في القتال
(1)
وتظل الحرب ناشبة ثمانية عشر يوماً، وتملأ من الملحمة خمسة أجزاء، وفيها يلاقي الكوريون جميعا مناياهم، كما يقتل معظم الباندافيين فالبطل (بهشما) وحده يقتل مائة ألف رجل في عشرة أيام، ويروي لنا الشاعر الإحصائي أن عدد من سقط في القتال قد بلغ عدة مئات من ملايين الرجال (23)؛ وتسمع "جانذاري"-
(1)
تدل إشارات في الفيدا إلى بعض شخصيات الماهابهاراتا، على أن حربا حقيقية عنيفة بين القبائل وقعت في الألف الثاني من السنين قبل الميلاد.
الملكة زوجة ملك كورو الأعمى واسمه "ذريتا راشترا" - تسمعها وسط هذا المشهد الدامي المترع بمناظر الموت، تصرخ جازعة عندما تبصر العقبان محومة في لهفة الشره فوق جثة ابنها الأمير "درْيوذان":
ملكة طاهرة وامرأةٌ طاهرة، فاضلة أبداً خيِّرةٌ أبداً
هي "جانذارا" التي وقفت وسط الميدان شامخة في حزنها العميق
والميدان مليء بالجماجم، وجدائل الشعر انعقدت عليها الدماء،
وقد اسود وجهه بأنهار من دم متجمد؛
والميدان الأحمر مليء بأطراف من لا يحصيهم العد من المقاتلين
…
وعواء أبناء آوي الطويل المديد يرن فوق منبطح الأشلاء
والعُقاب والغراب الأسحم يرفرفان أجنحة كريهة سوداء
وسباع الطير تملأ السماء طاعمة من دماء المحاربين
وجماعات الوحش البغيضة تمزق الأجساد الملقاة شلوا شلوا
سيق الملك الكهل في هذه الساحة، ساحة الأشلاء والموت
ونساء كورو بخطوات مرتعشة خطون وسط أكداس القتلى
فدوت في أرجاء المكان صرخات عالية من جزع
عندما رأين القتلى أبنائهن وآبائهن وأخوتهن وأزواجهن
عندما رأين ذئاب الغابة تطعم بما هيأ لها القدر من فرائس
عندما رأين جوَّابات الليل السود ساعيات في ضوء النهار
ورنت أرجاء الميدان المخيف بصرخات الألم وولولة الجزع
فخارت منهن الأقدام الضعيفة، وسقطن على الأرض
وفقد أولئك الراثيات كلَّ حسٍّ وكل حياة، إذ هن في إغماءة من حزن مشترك.
ألا إن الإغماءة الشبيهة بالموت، التي تعقب الحزن، فيها لحظة قصيرة من راحة للمحزون.
ثم انبعثت من صدر "جانذاري" آهةٌ عميقة من قلب مكروب ونظرت إلى بناتها المحزونات،
وخاطبت كرِشنا قائلة:
"انظري إلى بناتي اللائي ليس لهن عزاء، انظري إليهن وهن ملكاتٌ أرامل لبيت كورو.
انظري إليهن باكيات على أعزائهن الراحلين، كما تبكي إناث النسور ما فقدت من نسور
انظري كيف يثير في قلوبهن حب المرأة كلُّ قَسْمة من هاتيك القسمات الباردة الذاوية
انظري كيف يجبن بخطوات قلقة وسط أحساد المقاتلين وقد أخمدها الموت
وكيف تضم الأمهات قتلى أبنائهن إذ هم في نومهم لا يشعرون
وكيف تنثني الأرامل على أزواجهن فيبكين في حزن لا ينقطع
…
هكذا جاءت الملكة "جانذاري" لتبلّغ "كرِشْنا" حزين أفكارها؛
وعندئذ - واحسرتاه - وقع بصرها الحائر على ابنها "درْيوذان"
فأكل صدرها غمٌّ مفاجئ، وكما زاغت حواسُّها عن مقاصدها
كأنها شجرة هزتها العاصفة، فسقطت لا تحس الأرض التي سقطت عليها؛
ثم صحت في أساها من جديد، وأرسلت بصرها من جديد
إلى حيث رقد ابنها مخضباً بدمائه يلتحف السماء
وضمت عزيزها درْيوذان، ضمته قريباً من صدرها
وإذ هي تضم جثمانه الهامد اهتز صدرها بنهنهة البكاء
وانهمرت دموعها كأنها مطر الصيف، فغسلت به رأس النبيل
الذي لم يزل مزدانا بأكاليله، لم يزل تكلله أزاهير المشكا ناصعة حمراء
"لقد قال لي ابني العزيز درْيوذان حين ذهب إلى القتال، قال:
"أماه ادْعي لي بالغبطة وبالنصر إذا ما اعتليت عجلة المعمعة"
فأجبت: عزيزي درْيوذان: "اللهم - يا بني - اصرف عنه الأذى ألا إن النصر آت دائماً في ذيل الفضيلة"
ثم انصرف بقلبه كله إلى المعركة، ومحا بشجاعته كلَّ خطاياه
وهو الآن يسكن أقطار السماء حيث ينتصر المحارب الأمين
ولست الآن أبكي دريوذان، فقد حارب أميراً ومات أميراً
إنما أبكي زوجي الذي هده الحزن، فمن يدري ماذا هو ملاقيه من نكبات؟
"اسمع الصيحة الكريهة يبعثها أبناء آوي، وأنظر كيف يرقب الذئاب الفريسة -
وأرادت العذارى الفاتنات بما لهن من غِناء وجمال أن يحرسنه في رقدته،
اسمع هاتيك العقبان البغيضة المخضبة مناقيرها بالدماء، تصفق بأجنحتها على أجسام الموتى -
والعذارى يلوحن بمراوح الريش حول درْيوذان في مخدعه الملكي
انظر إلى أرملة درْيوذان النبيلة، الأم الفخورة بابنها الباسل لاكشمان
إنها في جلال الملكة شباباً وجمالاً، كأنها قُدّتْ من ذهب خالص
انتزعوها من أحضان زوجها الحلوة، ومن ذراعي ابنها يطوقانها
كتب عليها أن تقضي حياتها كاسفة حزينة، رغم شبابها وفتنتها
ألا مزق اللهم قلبي الصلب المتحجر، واسحقه بهذا الألم المرير
هل تعيش "جانذاري" لتشهد ابنها وحفيدها النبيلين مقتولين؟
وانظر مرة أخرى إلى أرملة درْيوذان، كيف تحتضن رأسه الملطخ بدمه الخاثر
انظر كيف تمسك به على سريره في رفق بيدين رقيقتين رحيمتين
انظر كيف تدير بصرها من زوجها العزيز الراحل إلى ابنها الحبيب
فتختنق عبرات الأم فيها أنّةَ الأرملة وهي أنَّةٌ مريرة
وإن جسدها لذهبي رقيق كأنه من زهرة اللوتس
أواه يا زهرتي، أواه يا ابنتي، يا فخر "بهارات" ويا عز "كورو"
ألا إن صدقتْ كتب الفيدا، "فدريوذان" الباسل حي في السماء
ففيم بقاؤنا على هذا الحزن، لا ننعم بحبه العزيز؟
إن صدقت آيات "الشاسترا" فابني البطل مقيم في السماء
ففيم بقاؤنا في حزن مادام واجبهما الأرضي قد تأدَّى.
فالموضوع موضوع حب وحرب، لكن آلاف الإضافات زيدت عليه في شتى مواضعه؛ فالإله "كرشنا" يوقف مجرى القتال حيناً بقصيدة منه يتحدث فيها عن شرف الحرب و "كرِشنا" و "بهشْما" وهو يحتضر، يؤجل موته قليلاً حتى يدافع عن قوانين الطبقات والميراث والزواج والمِنَح وطقوس الجنائز، ويشرح فلسفة كتب "السانخيا" و "يوبانشاد" ويروي طائفة من الأساطير والأحاديث المنقولة والخرافات، ويلقي درساً مفصلاً على "يودشثيرا" في واجبات الملك؛ كذلك ترى أجزاء مُعْفَرَّة جدباء في سياق الملحمة تقص شيئاً عن الأنساب وعن جغرافية البلاد وعن اللاهوت والميتافيزيقا، فتفصل بين ما في الملحمة من رياض نضرة فيها أدب مسرحيٌّ وحركة، وفي ملحمة
"الماهابهاراتا" حكاية جامحة الخيال، وقصص خرافية، وغرامية، وتراجم للقديسين، فيتعاون كل هذا على جعل الملحمة أقل قيمة في صورتها الفنية، وأخصب فكراً، من الإلياذة أو الأوذيسية؛ فهذه القصيدة التي كانت في بادئ أمرها معبرة عن طبقة الكشاترية (المحاربين) من حيث تبجيلها للحركة والنشاط والبطولة والقتال، قد أصبحت على أيدي البراهمة أداة لتعليم الناس قوانين "مانو" ومبادئ "اليوجا" وقواعد الأخلاق وجمال النرفانا؛ وترى "القاعدة الذهبية" معبَّراً عنها في صور كثيرة
(1)
وتكثر في القصيدة الحِكَم الخلقية ذات الجمال وصدق النظر
(2)
وفيها قصص جميلة عن الوفاء الزوجي ("نالا" و "دامايانتي" و "سافترْي") تصور للنساء اللائي يستمعن لها، المثل العليا البرهمية للزوجة الوفية الصابرة.
وفي غضون الرواية عن هذه المعركة الكبرى، بُثت قصيدة هي أسمى قصيدة فلسفية يعرفها الشعر العالمي جميعاً، وهي المسماة "بهاجافاد - جيتا" ومعناها (أنشودة المولى)، وهي بمثابة "العهد الجديد" في الهند، يبجلونها بعد كتب الفيدا نفسها، ثم يستعملونها لحلف الأيمان في المحاكم كما يستعمل الإنجيل أو القرآن (28)؛ ويقرر "ولهلم فون همبولت" أنها "أجمل أنشودة فلسفية موجودة في أي لغة من اللغات المعروفة، وربما كانت الأنشودة الوحيدة الصادقة في معناها
…
ويجوز أن تكون أعمق وأسمى ما يستطيع العالم كله أن يبديه من آيات" (29)؛ وقد هبطت إلينا "الجيتا" بغير اسم ناظمها أو تاريخ
(1)
مثال ذلك "لا تصنع مع غيرك ما لو صنع معك ألحق بك الألم"، "حتى العدو إذا طلب النجدة، فإن الرجل الخيّر يكون على استعداد لنجدته"، "اقهر الغضب بالتذلل، واغلب الشر بالرحمة، واعط البخلاء تنتصر عليهم، وقابل الأكاذيب بالحق تمحها".
(2)
مثال ذلك "كما تتلاقى قطعة الخشب بقطعة الخشب في المحيط العظيم ثم تفترق عنها، كذلك تتلاقى المخلوقات لتفترق".
نظمها، وهي في ذلك تشاطر سائر ما للهند من آيات الإبداع في الجهل بأصحابها، وعلة ذلك أن الهند لا تعنى بما هو فرديّ أو جزئيّ؛ وربما يرجع تاريخها إلى سنة 400 ق. م (30) أو ربما كانت أحدث من ذلك بحيث ترجع إلى سنة 200 م (31).
ومشهد القصيدة هو المعركة التي نشبت بين الكوريين والباندافيين؛ والموقف الذي قيلت فيه هو ما أبداه "أرجونا" المحارب الباندافي من رغبة عن قتال ذوي قرباه في صفوف الأعداء قتالاً مميتاً؛ فاسمع "أرجونا" وهو يوجّه الخطاب إلى "المولى كرشنا" الذي كان يحارب إلى جواره كأنه إله من آلهة هومر، لترى كيف يعبر بخطابه عن فلسفة غاندي والمسيح:
"إن الأمر كما أراه هو أن هذا الحشد من ذوي قربانا
قد تجمع هاهنا ليسفك دماً مشتركاً بيننا؛
ألا إن جسدي ليخور وَهَناً، ولساني يجف في فمي
…
ليس هذا من الخير يا "كِشاف"! يستحيل أن ينشأ خير
من فريقين يفتك كل منهما بالآخر! انظر،
إنني أمقت النصر والسيادة، وأكره الثروة والترف
إن كان كسبهما عن هذا الطريق المحزن! وا أسفاه،
أي نصر يسرّ يا "جوفندا" وأي الغنائم النفيسة ينفع،
وأي سيادة تعوض، وأي أمد من الحياة نفسها يحلو،
إن كان شيء من هذا كله قد اشتريناه بمثل هذه الدماء؟
…
فإذا ما قتلنا
أقرباءنا وأصدقاءنا حباً في قوة دنيوية
فيالها من غلطة تنضح شراً!
إنه لخير في رأيي، إذا ما ضرب أهلي ضربتهم،
أن أواجههم أعزل من السلاح، وأن أعَرّي لهم صدري،
فيتلقى منهم الرماح والسهام، ذلك في رأي خير من مبادلتهم ضربة بضربة).
وهاهنا يأخذ "كرشنا"- الذي تحمل ربوبيته على الحد من نشوته بالمعركة- في بسط وجهة نظره واثقاً من صحة ما يقول ثقة استمدها من كونه ابن فشنو، وهي أن الكتب المنزلة، والرأي عند خيرة الراسخين في العلم، هو أنه من الخير والعدل أن يقتل الإنسان ذوي قرباه في الحرب؛ وأن واجب "أرجونا" هو أن يتبع قواعد طبقته الكشاترية، وأن يقاتل ويقتل أعداءه بضمير خالص وإرادة طيبة، لأنه على كل حال لا يقتل إلا الجسد، وأما الروح فباقية؛ وهنا تراه يشرح ما جاء في "سانخيا" عن "بوروشا" التي لا يأتيها العطب، وما جاء في "يوبانشاد " عن "أتمان" التي لا تفنى:
"اعلم أن الحياة لا تفنى، فتظل تبثّ حياةً في الكون كله؛
يستحيل على الحياة في أي مكان، وبأية وسيلة،
أن يصيبها نقص بأي وجه من الوجوه، ولا أن يصيبها خمود أو تغير
أما هذه الهياكل الجسدية العابرة، التي تبث فيها الحياة
روحاً لا تموت ولا تنتهي ولا تحدها الحدود -
ففانية؛ فدعها- أيها الأمير- تَفْنَ، وامض في قتالك!
إن من يقول: "انظر، لقد قتلت إنساناً! "
وإن من يظن لنفسه: "هاأنذا قد قُتِلْت! "
فكلا هذين لا يعلم شيئاً؛ إن الحياة لا تَقْتل
وإن الحياة لا تُقْتل! إن الروح لم تولد قط، ولن تفنى
إن الزمان لم يشهد لحظة خلت من الروح، إن النهاية والبداية أحلام!
إن الروح باقية إلى الأبد بغير مولد وبغير موت وبلا تغير
إن الموت لم يمسسها قط، وإن خيل لنا أن وعائها الجسدي قد مات"
ويمضي "كرشنا" في إرشاد "أرجونا" في الميتافيزيقا، مازجاً في تعليمه كتاب "سانخيا" بكتاب "فيدانتا" بحيث يحصل منهما على مركب فريد يقبله أنصار مذهب "فايشنافيت"؛ فهو يقول عن الأشياء كلها، موحداً بين ذاته والكائن الأسمى، يقول عن الأشياء كلها إنها:
"تتعلق بي
كما تتعلق مجموعة من الخرزات على الخيط؛
أنا من الماء طعمه العذب
وأنا من القمر فضته ومن الشمس ذهبها؛
أنا موضع العبادة في الفيدا، والهزة التي
تشق أجواز الأثير، والقوة
التي تكمن في نطفة الرجل؛ أنا الرائحة الطيبة الحلوة
التي تعبق من الأرض البليلة؟ وأنا من النار وهجها الأحمر
وأنا الهواء باعث الحياة، يتحرك في كل ما هو متحرك
أنا القدسية فيما هو مقدس من الأرواح، أنا الجذر
الذي لا يذوي، والذي انبثق منه كل ما هو كائن،
أنا حكمة الحكيم، وذكاء
العليم، وعظمة العظيم،
وفخامة الفخيم
…
إن من يرى الأشياء رؤية الحكيم،
يرى أن براهما بما له من كتب وقداسة،
والبقرة، والفيل، والكلب النجس،
والمنبوذ وهو يلتهم لحم الكلب، كلها كائن واحد"
هذه قصيدة زاخرة بألوانها المتباينة ومتناقضاتها الميتافيزيقية والخلقية التي تصور أضداد الحياة وتعقيدها؛ وإنه ليأخذنا شئ من الدهشة أن نرى الإنسان متمسكاً بما يبدو لنا موقفاً أسمى من الوجهة الخلقية، بينما الإله يدافع عن الحرب والقتل، معتمدا على أساس متهافت وهو أن الحياة غير قابلة للقتل، والفردية وَهْم لا حقيقة فيه؛ ولعل ما أراد المؤلف أن يحققه بقصيدته هو أن ينقذ الروح الهندية من الهمود المميت الذي فرضته العقيدة البوذية، وأن يوقظها لتحارب من أجل الهند؛ فهي بمثابة ثورة رجل من الكشاترية أحسّ أن الدين يوهن أمته، وارتأى في زهو أن هنالك أشياء كثيرة أنفَس من السلام؛ وقبل كل شئ كانت هذه القصيدة درساً لو حفظته الهند لجاز أن يصون لها حريتها.
وأما ثانية الملاحم الهندية فهي أشهر الأسفار الهندية وأحبها إلى النفوس (35) وهي أقرب إلى أفهام الغربيين من "الماهابهاراتا"؛ وأعني بها "رامايانا"، وهي أقصر من زميلتها الأولى، إذ لا يزيد طولها على ألف صفحة قوام الصفحة منها ثمانية وأربعون سطراً؛ وعلى الرغم من أنها كذلك أخذت تزداد بالإضافات من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد، فإن تلك الإضافات فيها أقل عدداً مما في زميلتها، ولا تهوش الموضوع الأصلي كثيراً؛ ويعزو الرواة هذه القصيدة إلى رجل يسمى "فالميكي"، وهو كنظيره المؤلف المزعوم للملحمة الأخرى الأكبر منها، يظهر في الحكاية شخصية من شخصياتها ولكن الأرجح أن القصيدة من إنشاء عدد كبير من المنشدين العابرين، أمثال أولئك الذين لا يزالون ينشدون هاتين الملحمتين، وقد يظلون يتابعون إنشادهما تسعين ليلة متعاقبة، على مستمعين مأخوذين بما فيها من سحر (36).
وكما أن "الماهابهاراتا" تشبه "الإلياذة" في كونها قصة حرب عظيمة
أنشبتها الآلهة والناس، وكان بعض أسبابها استلاب أمة لامرأة جميلة من أمة أخرى؛ فكذلك تشبه "رامايانا""الأوذيسية" وتقصّ عما لاقاه أحد الأبطال من صعاب وأسفار، وعن انتظار زوجته صابرة حتى يعود إليها فيلتئم شملها من جديد (37)، وترى في فاتحة الملحمة صورة لعصر ذهبي، كان فيه "دازا- راذا" يحكم مملكته "كوسالا" (وهي ما يسمى الآن أوذا) من عاصمته "أيوذيا":
مزداناً بما تزدان به الملوك من كرامة وبسالة، وزاخراً بترانيم الفيدا المقدسة
أخذ (دازا- راذا) يحكم ملكه في أيام الماضي السعيد
…
إذ عاش الشعب التقيُّ مسالماً، كثير المال رفيع المقام
لا يأكل الحسد قلوبهم؛ ولا يعرفون الكذب فيما ينطقون؛
فالآباء بأسْراتهم السعيدة يملكون ما لديهم من ماشية وغلة وذهب
ولم يكن للفقر المدقع والمجاعة في (أيوذيا) مقام.
وكان على مقربة من تلك البلاد مملكة أخرى سعيدة هي "فيديها" التي كان يحكمها الملك "جاناك"، وقد كان هذا الملك "يسوق المحراث ويحرث الأرض" بنفسه، فهو في ذلك شبيه ببطل اسمه "سِنْسِناتَسْ"؛ وحدث ذات يوم أنه لم يكد يلمس المحراث بيده، حتى انبثقت من مجرى المحراث في الأرض ابنة جميلة، هي " سيتا "، وما أسرع ما حان حين زواجها، فعقد "جاناك" مباراة بين خطّابها، فمن استطاع منهم أن يقوم اعوجاج قوس "جاناك" الذي يقاتل به، كانت العروس نصيبه؛ وجاء إلى المباراة أكبر أبناء "دازا- راذا" وهو "راما":"صدره كصدر الليث، وذراعاه قويتان، وعيناه ذهبيتان، مهيب كفيل الغابة، وقد عقد على ناصيته من شَعْره تاجاً"(39) ولم يستطع أن يلوي القوس إلا "راما" فقدم إليه "جاناك" ابنته بالصيغة المعروفة في مراسم الزواج في الهند:
هذه سيتا ابنة جاناك وهي أعز عليه من الحياة
فلتقاسمك منذ الآن فضيلتك، ولتكن أيها الأمير زوجتك الوفية
هي لك في كل بلد، تشاركك عزاً وبؤساً
فأعِزَّها في سرّائك وضرّائك، واقبض على يدها بيدك
والزوجة الوفية لمولاها كالظل يتبع الجسد
وابنتي سيتا- زين النساء- تابعتك في الموت والحياة
وهكذا يعود "راما" إلى بلده "أيوذيا" بعروسه الأميرة-: "جبين من عاج، وشفة من المرجان، وأسنان تسطع بلمعة اللآلئ"- وقد كسب حب أهل كوسالا بتقواه ووداعته وسخائه؛ وما هو إلا أن دخل الشر هذه الفردوس حين دخلتها الزوجة الثانية "لدازا- راذا" وهي "كايكيي"؛ وقد وعدها "دازا- راذا" أن يجيبها إلى طلبها كائناً ما كان؛ فحملتها الغيرة من الزوجة الأولى التي أنجبت "راما" ولياً للعهد، أن تطلب من "دازا- راذا" نفي "راما" من المملكة أربعة عشر عاماً؛ فلم يسع "دازا- راذا" إلا أن يكون عند وعده، مدفوعاً إلى ذلك بشرف لا يفهم معناه إلا شاعر لم يعرف شيئاً من السياسة؛ ونفى ابنه الحبيب، بقلب كسير؛ ويعفو "راما" عن أبيه عفو الكريم، ويأخذ الأهبة للرحيل إلى الغابة حيث يقيم وحيداً؛ لكن "سيتا" تصر على الذهاب معه، وكلامها في هذا الموقف تكاد تحفظه عن ظهر قلب كل عروس هندية، إذ قالت:
"العربة والخيل المطهمة والقصر المذهّب، كلها عبث في حياة المرأة
فالزوجة الحبيبة المحبة تؤثر على كل هذا ظلّ زوجها
…
إن "سيتا" ستهيم في الغابة، فذلك عندها أسعدُ مقاماً من قصور أبيها
إنها لن تفكر لحظة في بيتها أو في أهلها، ما دامت ناعمة في حب زوجها
…
وستجمع الثمار الحوشية من الغابة اليانعة العبقة
فطعام (يذوقه "راما" هو أحب طعام عند "سيتا")
حتى أخوه "لاكشمان" يستأذن في الرحيل ليصحب "راما" فيقول:
"ستسلك طريقك المظلم وحيداً مع "سيتا" الوديعة،
هلاّ أذنت لأخيك الوفيّ "لاكشمان" بحمايتها ليلاً ونهاراً،
هلاّ أذنت "للاكشمان" بقوسه ورمحه أن يجوب الغابات جميعاً
فيسقط بفأسه أشجارها، ويبني لك الدار بيديه؟ ".
وعند هذا الموضع تصبح الملحمة نشيداً من أنشاد الغابات، إذ تقصّ كيف ارتحل "راما" و "سيتا" و "لاكشمان" إلى الغابات، وكيف سافر معهم عامر "أيوذيا" جميعاً طوال اليوم الأول، حزناً عليهم؛ وكيف يتسلل المنفيّون من أصحابهم الودودين خلسة في ظلمة الليل، مخلّفين وراءهم كل نفائسهم وثيابهم الفاخرة، وارتدوا لحاء الشجر ونسيجاً من كلأ، وأخذوا يشقوا لأنفسهم طريقاً في أشجار الغابة بسيوفهم، ويقتاتون بثمار الشجر وبندقها
"وطالما التفتت إلى "راما" حليلته، في غبطة وتساؤل تزدادان على مرّ الأيام
وتسأل ما اسم هذه الشجرة وهذا الزاحف وتلك الزهرة وهاتيك الثمرة مما لم تره من قبل
…
والطواويس ترفّ حولهم مرحة، والقردة تقفز على محنيّ الغصون
…
كان "راما" يثب في النهر تظلله أشعة الصبح القرمزية
وأما "سيتا" فكانت تسعى إلى النهر في رفق كما تسعى السوسنة إلى الجدول)
ويبنون كوخاً إلى جانب النهر، ويروضون أنفسهم على حب حياتهم في
الغابة لكن حدث أن كانت أميرة من الجنوب، وهي "سوربا- ناخا" تجوب الغابة، فتلتقي "براما" وتغرم به، وتضيق صدراً بالفضيلة التي يبديها لها، وتستثير أخاها "رافان" على المجيء ليختطف "سيتا"، وينجح أخوها في خطفها والفرار بها إلى قلعته البعيدة، ويحاول عبثاً أن يغويها بالضلال، ولما لم يكن ثمة مستحيل على الآلهة والمؤلفين، فقد حشد جيشاً جراراً، فتح به مملكة "رافان" وهزمه في القتال، وأنقذ "سيتا" وبعدئذ (وكانت أعوام نفيه قد كملت) فرّ معه قافلاّ بها إلى بلده "أريوذا" حيث وجد أخاً آخر له وفياً، فتنازل له عن عرش كوسالا.
وللملحمة ذيل يرجح أنه أضيف إليها متأخراً، وفيه يروى أن "راما" آمن آخر الأمر بأقوال المتشككين الذين لم يصدقوا أن تكون "سيتا" قد أقامت تلك المدة كلها في قصر رافان بغير أن تقع في أحضانه آنا بعد آن؛ وعلى الرغم من أنها اجتازت "محنة النار" لتدل على براءتها، فقد بعث بها إلى غاية بعيدة حيث تقيم في صومعة هناك، مزوّدة بألعوبة الوراثة المرّة التي تقضي على كل جيل من الناس أن يورّث خلفه تلك الخطايا والأغلاط التي ورثها هو من شيوخه في شبابه؛ وتلتقي "سيتا" في الغابة بفالميكي، وتلد طفلين "لراما"؛ وتمضي السنون، ويصبح الولدان منشدين جوّالين، يغنيان أمام "راما" المنكود الملحمة التي أنشأها عليه "فالميكي" مستمداً إيّاها من ذكريات "سيتا"، فيدرك أن الولدين ابناه، ويبعث برسالة إلى "سيتا" يرجوها الرجوع؛ لكن "سيتا" كانت قد تحطم قلبها بما أثير حولها من ريب، فغاصت في الأرض التي كانت في بادئ الأمر أمها؛ ويظل "راما" يحكم أعوام طوالاً في وحشة وأسى، وتبلغ "أريوذا" في عهده الرحيم عصرها الذهبي من جديد، ذلك الذي ذاقت طعمه في عهد "دازا- راذا":
يروي شيوخ الحكماء إبان عهد راما السعيد
أن رعيته لم تعرف الموت قبل أوانه ولا الأمراض الفاتكة.
ولم تبك الأرامل حزناً على أزواجهن لأن هؤلاء لم يموتوا عن زوجاتهم قبل اكتمال العمر
ولم تبك الأمهات هلعاً على الرضّع ففقدنهم في نعومة الأظفار.
ولم يحاول اللصوص والغشاشون والخادعون المرحون بالكذب سرقة أو غشاً أو خداعاً
وكل جار أحب جاره التقيّ، وأحب الشعب مولاه
وآتت الأشجار أكلها كاملة كلما حانت فصولها
ولم تتوان الأرض عاماً عن إخراج غلّتها في غبطة المعترف بالجميل
وأمطرت السماء في أوان المطر، ولم تعصف قط بالبلاد عاصفة تأتي على زرعها.
فكان كل واد يانع باسمٍ غنياً بمحصوله غنياً بمرعاه
وأخرج المِنْسَجُ السّندان صناعتهما، كما أخرجت الأرض الخصيبة المحروثة نبتها
وعاشت الأمة فرحة بعمل أجدادها الأولين
ألا ما أمتعها من قصة، يستطيع حتى المتشائم في عصرنا الحديث أن يستمتع بها، إذا كان من الحكمة بحيث يترك زمام نفسه آنا بعد آن لروعة الخيال ونغمة الغناء؛ فهذه الأشعار التي ربما كانت أحط قدراً من ملحمتي هومر من الوجهة الأدبية- في بنائها المنطقي وفخامة اللغة وعمق التصوير، والصدق في وصف الأشياء على حقائقها- تمتاز بدقة الشعور، وبإعلائها من شأن المرأة والرجل إعلاء مثالياً، وبتصوير الحياة تصويراً قوياً- وهو تصوير واقعي أحياناً؛ فلئن كان "راما" و "سيتا" أسمى خلقاً من أن يكونا شخصين حقيقيين، فغيرهما من الأشخاص مثل "دروبادي" و "يوذشثيرا" و "ذريتا- راشترا" و "جانذاري" يكادون يكونون في قوة الحياة التي تراها
في "أخيل" و "هيلانة" و "يوليسيز" و "بنلوب"؛ ويستطيع الهندي أن يحتج في حق قائلاً إن الأجنبي لا يمكنه قط أن يحكم على هاتين الملحمتين، بل لا يمكنه قط أن يفهمهما؛ فهما للهندي ليستا مجرد قصتين بل هما في رأيه بهو من أبهاء الصور، يشاهد فيه أشخاصاً مثاليين يمكنه أن ينسج في سلوكه على غرارهم، هما مستودع تستقر فيه التقاليد، كما تستقر فلسفة أمته ولاهوتها، فهما- بوجه من الوجوه- كتب مقدسة يقرأها الهندي على نحو ما يقرأ المسيحي "محاكاة المسيح" أو "تراجم القديسين"؛ إذ يعتقد الهندي الورع أن "كرِشْنا" و "راما" صورتان مجسدتان للألوهية، ولا يزال يتوجه إليهما بالصلاة،؛ وهو حين يقرأ أخبارهما في هاتين الملحمتين، يشعر بأنه يستمد من قراءته سمواً دينياً، كما يستمد متعة أدبية وارتفاعاً خلقياً؛ وهو يؤمن أن قراءته "لرامايانا" يطهره من أوزاره جميعاً ويجعله ينجب ولداً (45)، كما أنه يقبل النتيجة المزهوَّة التي تنتهي إليها "الماهابهاراتا" قبول الإيمان الساذج، وهي:
"إذا قرأ المرء "الماهابهاراتا" وآمن بتعاليمها، تطهر من كل خطاياه، وصعد إلى السماء بعد موته
…
فالبراهمة بالقياس إلى سائر الناس، والزبد بالقياس إلى سائر ألوان الطعام
…
والمحيط بالقياس إلى بركة الماء، والبقرة بالقياس إلى سائر ذوات الأربع- كل ذلك يصور "الماهابهاراتا" بالقياس إلى سائر كتب التاريخ
…
إن من يصغي في انتباه إلى أشعار "الماهابهاراتا" المزدوجة الأبيات ويؤمن بما فيها، يتمتع بحياة طويلة وسمعة طيبة في هذه الحياة الدنيا، كما يتمتع في الآخرة بمقام أبدي في السماء" (46).
الفصل الرابع
المسرحية
الأصول - "عربة الطين" - خصائص المسرحية الهندية -
كاليداسا - قصة "شاكنتالا" - تقدير المسرحية الهندية
المسرحية في الهند قديمة قدم الفيدات، بوجه من الوجوه، ذلك لأن بذورها الأولى على الأقل موجودة في كتب "يوبانشاد" ولا شك في أن للمسرحية بداية أقدم من هذه الكتب المقدسة، بداية أكثر فاعلية من تلك- وأعني بها الاحتفالات والمواكب الدينية التي كانت تقام للقرابين وأعياد الطقوس؛ وكان للمسرحية مصدر ثالث غير هذين، وهو الرقص- فلم يكن الرقص مجرد وسيلة لإخراج الطاقة المدخرة، وأبعد من ذلك عن الحقيقي أن نقول أنه كان بديلاً للعملية الجنسية، لكنه كان شعيرة جدية يقصد بها أن يحاكي ويوحي بالأعمال والحوادث الحيوية بالنسبة للقبيلة؛ وربما التمسنا مصدراً رابعاً للمسرحية، وهو تلاوة شعر الملاحم تلاوة علنية تدبّ فيها الحياة؛ فهذه العوامل كلها تعاونت على تكوين المسرح الهندي، وطبعته بطابع ديني ظل عالقاً به خلال العصر القديم كله
(1)
من حيث بناء المسرحية ذاتها، ومصادر موضوعاتها الفيدية والملحمية، والمقدمة التي كانت تتلى دائماً قبل البدء في التمثيل استنزالاً للبركة.
وربما كان آخر البواعث التي حفزتهم على إنشاء المسرحية، هو اتصال الهند باليونان اتصالاً جاء نتيجة لغزو الإسكندر فليس لدينا شاهد يدل على وجود المسرحية قبل "أشوكا"، كما أنه ليس بين أيدينا إلا دليل مشكوك في قوته، على أنها وجدت في عهده؛ وأقدم ما بقي لنا من المسرحيات الهندية
(1)
ونعني به العصر الذي استخدم فيه الأدب اللغة السنسكريتية أداة للتعبير.
مخطوطات أوراق النخيل التي كشف عنها حديثاً في التركستان الصينية، وبينها ثلاث مسرحيات، تذكر إحداها أن اسم مؤلفها هو "أشفاغوشا" العالم اللاهوتي في بلاط "كانِشْكا"؛ لكن القالب الفني لهذه المسرحية، والشبه الذي بين شخصية "المضحك" فيها وبين النمط الذي عرفناه لمثل هذه الشخصيات في المسرح الهندي على مر العصور، قد يدلان على أن المسرحية كانت قائمة بالفعل في الهند قبل مولد "أشفاغوشا"(47)، وحدث في سنة 1910 م أن وجدت في "ترافانكور" ثلاث عشرة مسرحية سنسكريتية، تُنسَبْ في شئ من الشك إلى "بهازا"(حوالي سنة 350 م) وهو في الأدب المسرحي سلفٌ ظفر بكثير من التكريم من "كاليداسا" ففي مقدمة روايته "مالافيكا" توضيح جيد لنسبية الزمن والصفات، أثبته (أي كاليداسا) في تلك المقدمة عن غير وعي منه، فتراه يسأل: هل يليق بنا أن نهمل مؤلفات رجال مشهورين مثل "بهازا" و "ساوميلا" و "كافيبوترا"؟ هل يمكن للنظارة أن يحسُّوا بأقل احترام لما ينشئه شاعر حديث يسمى كاليداسا؟ " (48).
وإلى عهد قريب كانت أقدم مسرحية هندية معروفة للباحثين العلميين هي "عربة الطين"، وفي النص- الذي ليس تصديقه حتماً علينا- ذكر لاسم مؤلفها، وهو رجل مغمور يعرف باسم "الملك شودراكا" يوصف بأنه خبير بكتب الفيدا وبالرياضة وترويض الفيلة وفن الحب (49) ومهما يكن من أمر فقد كان خبيراً بالمسرح، ومسرحيته هذه أمتع ما جاءنا من الهند، وليس في ذلك سبيل إلى الشك- فهي مزيج- يدل على براعة- من الغناء والفكاهة، وفيها فقرات رائعة لها ما للشعر من حرارة وخصائص.
ولعل خلاصة موجزة لحوادثها أنفع في توضيح مميزات المسرحية الهندية من مجلد بأسره يكتب في شرحها والتعليق عليها؛ ففي الفصل الأول نلتقي بـ "شارو- داتا" الذي كان ذات يوم من الأغنياء، ثم أصابه الفقر لجوده
وسوء حظه؛ ويلعب صديقه "مايتريا"- وهو برهميّ فدْم- دور المضحك في المسرحية؛ ويطلب "شارو" من "مايتريا" أن يهب الآلهة قرباناً، ولكن البرهمي يرفض الطلب قائلاً:"ما غناء القربان للآلهة التي عبدتها ما دامت لم تصنع لك شيئاً؟ " وفجأة دخلت امرأة هندية شابة، من أسرة رفيعة ولها ثراء عريض، دخلت مندفعة في فناء دار "شارو" تلتمس فيه ملاذاً من رجل يتعقبها؛ وإذا بهذا المتعقب أخو الملك، واسمه "سامزثاناكا" وهو شرير إلى درجة بلغت غاية لم تدع فيه أدنى مجال للخير، حتى ليتعذر على الإنسان أن يصدق وجود مثل هذا الشر الخالص، على نحو ما كان" "شارو" خيّراً خالصاً لا سبيل إلى دخول الشر في نفسه؛ فيحمي "شارو" الفتاة اللائذة بداره، ويطرد " سامزثاناكا " الذي يتوعده بالانتقام، فيزدري منه هذا الوعيد وتطلب الفتاة- واسمها "فاسانتا- سينا"- من "شارو" أن يحفظ لها وعاء فيه جواهر كريمة تحت حراسته الآمنة، خشية أن يسرقه منها الأعداء، وخشية ألا تجد عذراً تتذرع به للعودة إلى زيارة منقذها؛ فيجيبها إلى ما طلبت، ويحفظ لها الوعاء، ويحرسها حتى يبلغ بها دارها الفخمة.
ويأتي الفصل الثاني بمثابة فاصل هزلي، فهذا مقامر هارب من مقامرين آخرين، يلوذ بأحد المعابد، فلما دخل هذان، وتخلص منهما بأن وقف وقفة التمثال كأنه وثن الضريح، ويقرصه المتعقبان ليريا إن كان حقيقة وثناً من الحجر، فلا يتحرك؛ فيتخليان عن البحث، ويتسليان بلعبة يلعبانها بالزهر "زهر القمار" بجوار المذبح؛ ويبلغ اللعب من إثارته للنفس مبلغاً تعذر معه على التمثال أن يضبط زمام نفسه، فوثب من على قاعدته، واستأذن ليشترك في اللعب؛ ويهزمه اللاعبان الآخران، فيجد في ساقيه السريعتين وسيلة للفرار مرة أخرى، وتنجيه "فاسانتا- سينا" التي عرفت فيه رجلاً كان فيما مضى خادماً عند "شارو- داتا".
ونرى في الفصل الثالث "شارو" و "مايتريا" عائدين من حفلة موسيقية
ويسطو على الدار لص فيسرق وعاء الجواهر الكريمة، فلما كشف "شارو" عن السرقة، أحسّ بالعار، وبعث إلى "فاسانتا- سينا" آخر ما يملكه من عقود اللؤلؤ، عوضاً لها.
ونرى في الفصل الرابع "شارفيلاكا" يقدم الوعاء المسروق إلى خادمة "فاسنتا- سينا" ابتغاء حبها؛ فلما عرفت أنه وعاء سيدتها، ازدرت "شارفيلاكا" لأنه لص، فيجيبها في مرارة نعرفها في شوبنهور، قائلاً:
إن المرأة- إذا ما بذلتَ لها المال- ابتسمت أو بكتْ
ما أردتَ لها الابتسام أو البكاء؛ إنها تحمل الرجل
على الثقة فيها، لكنها هي لا تثق فيه،
إن النساء متقلبات الأهواء كموج
المحيط؛ إنّ حبهن مفلات هروب
كأنه شعاع من ضوء الشمس الغاربة فوق السحاب،
إنهن يرتمين بميل شديد على الرجل
الذي يعطيهن مالاً، وما زلن يعتصرن ماله
اعتصارهن لعصارة النبات المليء، ثم ينبذونه نبذاً
لكن الخادمة تدحض كلامه هذا بعفوها عنه كما تدحضه "فاسانتا- سينا" بالإذن لهما بالزواج.
وفي فاتحة الفصل الخامس تأتي "فاسانتا- سينا" إلى بيت "شارو" لكي تعيد له جواهره، وتعيد كذلك وعاءها؛ وبينما هي هناك، عصفت عاصفة تصفها بالسنسكريتية وصفا رائعاً
(1)
؛ وتتفضّل عليها العاصفة بالزيادة من ثورة غضبها، إذ اضطرتها بذلك- اضطراراً جاء وفق ما تشاء وتهوى- أن تبيت ليلتها تحت سقف شارو.
(1)
هذه حالة شاذة، لأن العادة في المسرحيات الهندية أن تتكلم النساء باللغة البراكريتية، على أساس أنه لا يليق بسيدة أن تلم بلغة ميتة.
ونرى في الفصل السادس "فاسانتا" وهي تغادر بيت "شارو" في الصباح التالي؛ وبدل أن تدخل العربة التي أعدها لها، أخطأت فدخلت عربة يملكها "سامزثاناكا" الشرير؛ وفي الفصل السابع حبكة فرعية ليست بذات أثر كبير على موضوع المسرحية؛ ونرى "فاسانتا" في الفصل الثامن ملقاة- لا في قصرها كما توقعت- بل في بيت عدوها، بل توشك أن تكون في أحضان ذلك العدو؛ فلما عاودته بازدراء حبّه إياها، خنقها ودفنها؛ ثم ذهب إلى المحكمة واتهم شارو بقتل "فاسانتا" بغية الوصول على أحجارها الكريمة.
وفي الفصل التاسع وصف للمحاكمة، حيث يخون "مايتريا" سيده خيانة غير مقصودة، وذلك بأن أسقط من جيبه جواهر "فاسانتا"؛ فحكم على "شارو" بالموت؛ ونراه في الفصل العاشر في طريقه إلى حيث ينفذ فيه الإعدام؛ ويلتمس ابنه من الجلادين أن يضعوه مكان أبيه، لكنهم يرفضون؛ ثم تظهر "فاسانتا" في اللحظة الأخيرة؛ فقد شاهد "شارفيلاكا""سامزثاناكا" وهو يدفنها، فأسرع إلى إخراج جسدها قبل فوات الأوان، وأعادها إلى الحياة؛ وانقلب الوضع، فقد أنقذت "فاسانتا""شارو" من الموت؛ واتهم "شارفيلاكا" أخا الملك بتهمة القتل؛ لكن "شارو" أبى أن يؤيد الاتهام، فأطلق سراح "سامزثاناكا" وعاش الجميع عيشاً سعيداً (50).
لما كان الوقت في الشرق، حيث يكاد العمل كله يتم أداؤه بأيد بشرية، أوسع منه في الغرب، حيث وسائل توفير الوقت كثيرة جداً، كانت المسرحيات الهندية ضعف المسرحيات الأوروبية في عصرنا هذا؛ فيتراوح عدد الفصول من خمسة إلى عشرة، وكل فصل منها ينقسم في غير إزعاج للنظارة إلى مناظر، بحيث يكون أساس الانقسام خروج شخصية ودخول أخرى؛ وليس في المسرحية الهندية وحدة للمكان ووحدة للزمان، وليس فيها ما يحد سرحات الخيال؛ والمناظر على المسرح قليلة، لكن الثياب زاهية الألوان، وأحياناً
يدخلون على المسرح حيوانات حية فتزيد من حركة المسرحية نشاطاً (51) وتبث روحاً فيما هو صناعي بما هو طبيعي فترة من الزمن؛ ويبدأ التمثيل بمقدمة يناقش فيها أحد الممثلين أو مدير المسرح موضوع الرواية، والظاهر أن "جيته" أخذ عن "كاليداسا" فكرة المقدمة لرواية "فاوست"؛ ثم تخدم المقدمة بتقديم أول شخصية من الممثلين، فيأتي هذا ويخوض في قلب الموضوع؛ والمصادفات لا عدد لها، وكثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة خط السير للحوادث؛ ولا تخلو مسرحية من قصة غرامية، كما لابد لها من "مضحك"؛ وليس في الأدب المسرحي الهندي مأساة، إذ لا مندوحة لهم عن اختتام الحوادث بخاتمة سعيدة؛ وحتم في المسرحية أن ينتصر الحب الوفيّ دائماً، وأن تكافأ الفضيلة دائماً، وأقل ما يدعوهم إلى فعل ذلك أن يجئ بمثابة الموازنة مع الواقع؛ وتخلو المسرحية الهندية من المناقشات الفلسفية التي كثيراً جداً ما تعترض مجرى الشعر الهندي؛ فالمسرحية مثل الحياة، لا بد أن تعلّم بالفعل وحده، وألا تلجأ أبداً في ذلك إلى مجرد الكلام
(1)
، ويتعاقب في سياق المسرحية الشعر الغنائي والنثر، حسب جلال الموضوع والشخصية والفعل؛ والسنسكريتية هي لغة الحديث لأفراد الطبقات العالية في الرواية، والبراكريتية هي لغة النساء والطبقات الدنيا؛ والفقرات الوصفية في تلك المسرحيات بارعة، وأما تصوير الشخصيات فضعيف؛ والممثلون- وفيهم نساء- يجيدون أداء التمثيل، فلا هم يتسرعون كما هي الحال في الغرب، ولا هم يسرفون في البطء كما يفعل أهل الشرق الأقصى؛ وتنتهي الرواية بخاتمة يتوجّه فيها بالدعاء إلى الإله المحبب عند المؤلف أو عند أهل الإقليم المحلي، ليهيئ أسباب السعادة للبلاد.
(1)
يقول الناقد المسرحي الهندي العظيم "ذانا مجايا"(حوالي 1000 م)"تحيتنا إلى الرجل الساذج ذي الذكاء المحدود الذي يقول إن المسرحيات- التي تبعث الغبطة في النفوس- فائدتها الوحيدة هي اكتساب المعرفة؛ لأنه بهذا القول قد أشاح بوجهه عما يبعث البهجة في النفس".
وأشهر المسرحيات الهندية هي "شاكونتالا" لـ "كاليداسا" لم يزاحمها في ذلك مزاحم منذ ترجمها "سير وليم جونز" وامتدحها "جيته"؛ ومع ذلك فكل ما تعرفه لكاليداسا ثلاث مسرحيات، مضافاً إليها الأساطير التي أدارتها حول اسمه ذاكرات المعجبين؛ والظاهر أن قد كان أحد "الجواهر التسع"- من الشعراء والفنانين والفلاسفة- الذين قرّبهم الملك "فكراماديتيا" إليه (380 - 413 م) في عاصمة جوبتا، وهي "يوجين".
تقع "شاكونتالا" في سبعة فصول، بعضها نثر، وبعضها شعر ينبض بالحياة؛ فبعد مقدمة يدعو فيها مدير المسرح النظارة أن يتأملوا روائع الطبيعة، تبدأ الرواية بمنظر طريق في غابة، حيث يقيم راهب مع ابنة تبنّاها، تسمى "شاكونتالا" وما هو إلا أن يضطرب سكون المكان بصوت عربة حربية، يخرج منها راكبها وهو الملك "دشيانتا" فيغرم "بشاكونتالا" في سرعة نعهدها في خيال الأدباء، ويتزوج منها في الفصل الأول، لكنه يستدعى فجأة للعودة إلى عاصمته؛ فيتركها واعداً إياها أن يعود إليها في أقرب فرصة ممكنة، كما هو مألوف في مثل هذا الموقف؛ وينبئ رجل زاهد فتاتنا الحزينة بأن الملك سيظل يذكرها ما دامت محتفظة بالخاتم الذي أعطاه لها، لكنها تفقد الخاتم وهي تستحم؛ ولما كانت على وشك أن تكون أماً، فقد ارتحلت إلى قصر الملك، لتعلم هناك أن الملك قد نسيها على غرار ما هو معهود في الرجال الذين تسخو معهم النساء، وتحاول أن تذكّره بنفسها.
شاكونتالا: ألا تذكر في عريشة الياسمين
ذات يوم حين صَبَبْتُ ماء المطر
الذي تجمع في كأس زهرة اللوتس
في تجويفة راحتك؟
الملك: امضي في قصتك إني أسمع.
شاكونتالا: وعندئذ في تلك اللحظة عينها،
جاء نحونا يعدو طفلي الذي تبنيته، أعني الغزال الصغير،
جاء بعينيه الطويلتين الناعستين؛ فقبل أن تطفئ ظمأك.
مددت يدك بالماء لذلك المخلوق الصغير، قائلاً:
"اشرب أنت أولاً أيها الغزال الوديع"
لكن الغزال لم يشرب من أيد لم يألفها
وأسرعت أنا فمددت إليه ماء في راحتي فشرب
في ثقة لا يشوبها فزع، فقلت أنت مبتسماً:
"إن كل مخلوق يثق في بني جنسه
كلاكما وليد غابة حوشية واحدة
وكلاكما يثق في زميله، ويعرف أين يجد أمانة"
الملك: ما أحلاك وما ألطفك وما أكذبك!
أمثال هؤلاء النساء يخدعن الحمقى
…
إنك لتلحظ دهاء الإناث
في شتّى أنواع المخلوقات، لكنها في النساء أكثر منها في غيرهن
إن أنثى الوقوق تترك بيضها للأقدام تفقسها لها
وتطير هي آمنة ظافرة (53)
هكذا لقيت "شاكونتالا" الهون، وتحطم رجاؤها، فرفعتها معجزة إلى أجواز الفضاء حيث طارت إلى غابة أخرى فولدت هناك طفلها، وهو "بهاراتا" العظيم الذي كتب على أبنائه من بعده أن يخوضوا معارك "الماهابهاراتا"؛ وفي ذلك الحين، وجد سمّاك خاتمها المفقود، ورأى عليه اسم الملك، فأحضره إلى "دشيانتا"(الملك)، وعندئذ عادت إليه ذاكرته "بشاكونتالا"، وأخذ يبحث عنها في كل مكان، وطار بطائرة فوق قمم الهمالايا، وهبط بتوفيق من
السماء عجيب على الصومعة التي كانت "شاكونتالا" تذوي في جوفها، ورأى الصبيّ "بهاراتا" يلعب أمام الكوخ، فحسد والديه قائلاً:
"آه، ما أسعده من أب وما أسعدها من أم
يحملان وليدهما، فيصيبهما القذر
من جسده المعفّر؛ إنه يكنّ آمناً مطمئناً
في حجريهما، وهو الملاذ الذي يرنو إليه-
إن براعم أسنانه البيضاء تتبدّى صغيرة
حين يفتح فمه باسماً لغير ما سبب؛
وهو يلغو بأصوات حلوة لم تتشكل بعد كلاماً
…
لكنها تذيب الفؤاد أكثر مما تذيبه الألفاظ كائنة ما كانت" (54)
وتخرج "شاكونتالا" من كوخها، فيلتمس الملك عفوها، وتعفو عنه، فيتخذها ملكة له، وتنتهي المسرحية بدعاء غريب لكنه يمثل النمط الهندي المألوف:
"ألا فليعش الملوك لسعادة رعاياهم دون سواها،
اللهم أكرم "سارسفاتي" المقدسة- منبع
الكلام وإلهة الفن المسرحي،
أكرمها دوماً بما هو عظيم وحكيم!
اللهم يا إلهنا الأرجواني الموجود بذاتك
يا من يملأ المكان كله بنشاط حيويته،
أنقذ روحي من عودة مقبلة إلى جسد! " (55)
لم تتدهور المسرحية بعد "كاليداسا" لكنها لم تستطع بعدئذ أن تنتج رواية في قوة "شاكونتالا" أو "عربة الطين"؛ فقد كتب الملك "هارشا" ثلاث مسرحيات شغلت المسرح قروناً- ذلك لو أخذنا رواية تقليدية ربما
أوحى بها أول أمرها إيحاء؛ وبعده بمائة عام، كتب "بهافابهوتي"- وهو برهميٌّ من برار- ثلاث مسرحيات غرامية، لا يفوقها جودة إلا مسرحيات "كاليداسا" في تاريخ المسرح الهندي؛ وكان أسلوبه- رغم ذلك- مزخرفاً غامضاً، فكان لزاماً عليه أن يقنع بنظّارة محدودة العدد، وبالطبع قد ادّعى أن تلك النظارة القليلة ترضيه؛ وقد كتب يقول:
"ألا ما أقل ما يدريه أولئك الذين يقرعوننا باللوم؛ إن مسرحياتي لم تكتب لتسليتهم، فليس بعيداً أن يكون بين الناس شخص، أو ربما يوجد شخص في مقبل الأيام، له ذوق شبيه بذوقي، لأن الزمان مديد والعالم فسيح الأرجاء"(56).
يستحيل علينا أن نضع الأدب المسرحي في الهند، في منزلة واحدة مع مثيله في اليونان أو في إنجلترا أيام اليصابات؛ لكنه يقارن مع المسرح في الصين أو اليابان فيكون له التفوق؛ كلا لا يجوز لنا أن نبحث في أدب الهند عما يطبع المسرح الحديث من ألوان الفن الدقيق، فهذه الألوان عرض من أعراض الزمن، أكثر منها حقيقة أبدية، وربما زالت، بل ربما تحولت إلى ضدها؛ إن الكائنات الخوارق للطبيعة، في المسرحية الهندية غريبة على أذواقنا، مثل "القدر" في أدب "يوربيديز" المتنور؛ لكن هذا الجانب أيضاً عرض من أعراض التاريخ؛ أما أوجه الضعف في المسرحية الهندية (إذا جاز لأجنبي أن يذكرها في تردد) فهي التكلف في الصيغة اللفظية التي يشوهها تكرار الحرف الواحد ليمثل الصوت المعبَّر عنه وتفسدها الألاعيب اللفظية، وتصوير الأشخاص بلون واحد للشخص الواحد، فإما أن يكون الشخص خيراً صرفاً، أو أن يكون شراً صرفاً، وحبكة الحوادث حبكة لا يقبلها العقل، مستندة إلى مصادفات لا يمكن تصديقها؛ وإسراف في الوصف وفي النقاش حول الفعل الذي يكاد يكون بحكم التعريف الوسيلة الفريدة التي تتميز بها المسرحية في نقل ما تريد أن تنقله؛ وأما حسنات المسرحية الهندية فما فيها من خيال
بديع، وعاطفة رقيقة، وشعر مرهف، ونداء عاطفي لما في الطبيعة من ألوان الجمال والفزع؛ إنه لا سبيل إلى النزاع حول صور الفن القومية، ذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم عليها إلا من وجهة نظرنا بما لها من لون خاص، ثم لا نستطيع أن نراها غالباً إلا خلال منظار الترجمة؛ ويكفينا أن نقول إن " جيته " وهو أقدر الأوربيين على التسامي فوق حدود الإقليم وحواجز القومية، قد عَدَّ قراءة "شاكونتالا" بين ما صادفه في حياته من عميق التجارب، وكتب عنها معترفاً بفضلها:
"أتريدني أن أجمع لك في اسم واحد زهرات العام وهو في ربيعه ناشئ،
وثماره وهو في خريفه ينحدر إلى فناء
وأن أجمع كل ما عساه أن يسحر الروح ويهزها ويغذوها ويطعمها
بل أن أجمع الأرض والسماء نفسيهما في اسم واحد؟
إذن لذكرت اسمك يا "شاكونتالا" وبذكره أذكر كل شئ دفعة واحدة" (57).
الفصل الخامس
النثر والشعر
اتحادهما في الهند - الحكايات الخرافية - التاريخ - الحكايات - صغار الشعراء - نهضة
الأدب بالغة الدارجة في الحديث - شاندي داس - تولسي داس - شعراء الجنوب - كابر
النثر ظاهرة مستحدثة في الأدب الهندي إلى حد كبير، ويمكن اعتباره ضرباً من الفساد جاءه من الخارج بفعل الاتصال مع الأوربيين؛ فروح الهندي الشاعرة بطبعها ترى أنه لابد لكل شئ جدير بالكتابة عنه أن يكون شعري المضمون، يستثير في الكاتب رغبة في أن يخلع عليه صورة شعرية؛ فمادام الهندي قد احس بأن الأدب تنبغي قراءته بصوت مرتفع، وأدرك أن نتاجه الأدبي سينتشر في الناس ويدوم بقاؤه - ذلك إن انتشر ودام - بالرواية الشفوية لا بالكتابة فقد آثر أن يصب إنشاءه في قالب موزون أو مضغوط في صورة الحكمة، بحيث تسهل تلاوته ويسهل حفظه في الذاكرة؛ ولهذا كان الأدب في الهند كله تقريبا أدبا منظوماً؛ فالبحوث العلمية والطبية والقانونية والفنية أغلبها مكتوب بالوزن والقافية أو بكليهما، حتى قواعد النحو ومعاني القاموس قد صيغت في قالب الشعر، والحكايات الخرافية والتاريخ، وهما في الغرب يكتفيان بالنثر، تراهما في الهند قد اتخذا قالباً شعرياً منغماً.
الأدب الهندي خصيب بالحكايات الخرافية بصفة خاصة؛ والأرجح أن تكون الهند مصدراً لمعظم الحكايات الخرافية التي عبرت الحدود بين أقطار العالم كأنها عملة دولية
(1)
فالبوذية لقيت أوسع انتشار لها حين كانت أساطير
(1)
يقول "سير وليم جونز" إن الهنود ينسبون لأنفسهم ثلاثة ابتكارات: الشطرنج، والنظام العشري، والتعليم بالحكايات الخرافية.
"جاتاكا" عن مولد بوذا ونشأته شائعة في الناس؛ وأشهر كتاب في الهند هو المعروف باسم "بان كاتانترا" أي "العنوانات الخمسة") حوالي 500 ميلادية (وهو مصدر كثير من الحكايات الخرافية التي أمتعت أوروبا كما أمتعت آسيا؛ وكتاب "هيتو باديشا" أو "النصيحة الطيبة" فيه مختارات ومقتبسات من الحكايات الموجودة في "بان كاتانترا"، والعجيب أن كلا الكتابين ينزلان عند الهنود- إذا ما صنّفوا كتبهم- في قسم "نيتي شاسترا" ومعناها إرشادات في السياسة والأخلاق، فكل حكاية تروى لكي تبرز عبرة خلقية، ومبدأ من مبادئ السلوك أو الحكم، وفي معظم الحالات يقال في هذه القصص إنها من إنشاء برهمي ابتكرها ليعلم بها أبناء ملك من الملوك، وكثيراً ما تستخدم هذه الحكايات أحط الحيوانات للتعبير عن ألطف معاني الفلسفة؛ فحكايات القرد الذي حاول أن يدفئ نفسه بيراعة) وهي حشرة تضئ بالليل (وقتل الطائر الذي بصره بخطئه في ذلك، تصوير بديع رقيق لما يصيب العالم الذي يتصدى لإرشادات الناس إلى مواضع الخطأ في عقائدهم
(1)
.
ولم تنجح كتابة التاريخ هناك في أن ترتفع عن مستوى سرد الحقائق عارية، أو مستوى الخيال المزخرف، ويجوز أن يكون الهنود قد أهملوا العناية بكتابة التاريخ بحيث ينافسون بها هيرودوت، أو ثيوسيديد، أو فلوطرخس، أو تاسِتَسْ أو جُبن، أو فولتير، إما لازدرائهم لحوادث المكان والزمان المتغيرة) وهو ما يسمونه مايا (وإما لإيثارهم النقل بالرواية الشفوية على المدوّنات المكتوبة، فالتفصيلات الخاصة بتحديد الزمان أو المكان قليلة
(1)
هناك حرب حامية ناشبة في ميدان البحث العلمي في شئون الشرق، فيما إذا كانت هذه الحكايات الخرافية قد جاءت إلى أوروبا من الهند، أو العكس؛ وإننا نترك هذا النزاع إلى أصحاب الفراغ؛ ولعلها انتقلت إلى الهند وأوروبا كليهما من مصر عن طريق بلاد ما بين النهرين (العراق) وإقريطش (كريت)؛ وعلى كل حال فتأثير كتاب "بان كانانترا" على "ألف ليلة وليلة" لا ينازعه منازع.
جداً في وثائقهم، حتى في حالة كتابهم عن رجالهم المشهورين، لدرجة أن علماء الهنود قد تفاوتوا في تحديد تاريخ أعظم شعرائهم "كاليداسا" تفاوتا تراوح بين طرفي فترة طولها ألف عام؛ إن الهنود يعيشون- ومازالوا كذلك إلى يومنا هذا- في عالم لا يكاد يتغير فيه شئ من عادات وأخلاق وعقائد، حتى ليوشك الهندي ألا يفكر قط في تقدم، ويستحيل عليه أن يعنى بالآثار القديمة؛ فقد كانت تكفيه الملاحم تاريخاً صحيح الرواية، كما تكفيه الأساطير في تراجم الأسلاف؛ فلما كتب "أشفاغوشا" كتابه عن حياة بوذا "بوذا- شارِتا" كان أقرب إلى الأساطير منه إلى التاريخ، وكذلك لما كتب "بانا" بعد ذلك بخمسمائة عام كتابه من حياة "هارشا") هارشا- شارِتا (كان أقرب إلى رسم صورة مثالية للملك العظيم منه إلى تقديم صورة يعتمد على صدقها وتواريخ "راجيوتانا" القومية ليست فيما يظهر إلا تمرينات في الوطنية والظاهر أنه لم يكن بين الهنود إلا كاتب واحد هو الذي أدرك عمل المؤرخ بمعناه الصحيح وهو "كالهانا" مؤلف كتاب "راجات آرانجيني" ومعناه "تيار الملوك" ولقد عبر عن نفسه بقوله:"ليس جديرً بالاحترام إلا الشاعر الشريف العقل الذي يجعل الكلمة منه كحكم القاضي- خالية من الحب والكراهية في تسجيل الماضي" ويسميه "وِنْتَرْنِتْز": "المؤرخ العظيم الوحيد الذي أنتجته الهند".
أما المسلمون فقد كانوا أدق شعوراً بكتابة التاريخ، وخلَّفوا لنا مدوَّنات نثرية تدعو إلى الإعجاب لما صنعوه في الهند، وقد أسلفنا ذكر "البيروني" ودراسته البشرية وذكْر "مذكرات""بابور"، وكان يعاصر "أكبر" مؤرخ ممتاز هو "محمد قاسم فِرِشْتا" وكتابه "تاريخ الهند" هو أصح دليل تستدل به على حوادث الفترة الإسلامية؛ وأقل منه حياداً "أبو الفضل" كبير وزراء "أكبر" أو الرجل الذي كان يؤدي كل شئون السياسة في البلاد؛ وقد خَلَّف
لأجيال المستقبل وصفاً لأساليب مولاه في إدارة البلاد، وذلك في كتابه "عين أكبر" أو "مؤسسات أكبر الاجتماعية". وروى لنا حياة مولاه رواية تدل على حبه له حباً نغفر له، وأطلق على كتابه هذا أسم "أكبر ناما" وقد رد له الإمبراطور حبَّه هذا حبّا مثله، ولما جاءت الأخبار بأن "جهان كير" قد قتل الوزير، أخذ "أكبر" حزنٌ عميق وصاح قائلا:
"إذا أراد سالم (جهان كير) أن يكون حاكماً، فقد كان يجوز له أن يقتلني ويُبقي على أبي الفضل".
وبين الحكايات الخرافية والتاريخ تقع مجموعة كبيرة في منتصف الطريق من حكايات شعرية جمعها ناظمون دءوبون، وأرادوا بها أن تكون متاعاً للروح الهندية المحبة للخيال؛ ففي القرن الأول الميلادي، نظم ناظم يدعى "جناذيا" مائة ألف زوج من الشعر أطلق عليه "برهاتكاذا" أي "مسرح الخيال العظيم" ثم أنشأ "سوماديفا" بعد ذلك بألف عام "كاذا سارتزا جارا" أي "المحيط الجامع لأنهار القصص"، وهي قصيدة تتدفق حتى يبلغ طولها 21. 500 زوج من الشعر؛ وفي هذا القرن الحادي عشر نفسه ظهر قصاص بارع مجهول الإسم، وأبتكر هيكلا يبنى على أعواده قصيدته "فتالا بانكا فنكاتيكا" ومعناها "القصص الخمس والعشرون عن الخفاش الجارح"، وذلك بأن صور الملك "فكرا ماديتيا" يتلقى كل عام ثمرة من أحد الزاهدين في جوفها حجر نفيس، ويسأل الملك كيف يمكنه أن يعبّر عن عرفانه بالجميل فيُطلب إليه أن يحضر "لليوجيّ" "الزاهد" جثة رجل يتدلى من المشنقة، مع إنذاره بألا يتكلم إذا ما توجهت إليه الجثة بالخطاب؛ لكن الجثة كان يسكنها خفاشٌ جارح أخذ يقص على الملك قصة ذهبت بلبِّ الملك فلم يشعر بنفسه وهو يتعثر في طريقه. وفي نهاية القصة توجه الخفاش بسؤال، فأجابه الملك ناسيا ما أُنذر به من التزام الصمت؛ وحاول الملك خمساً وعشرين مرة أن يحضر الجثة للزاهد مع التزامه
الصمت إزاء ما يصدر له منها من حديث، ومن هذه المرات أربع وعشرون مرة كان الملك فيها مأخوذاً بالقصة التي يرويها له الخفاش الجارح حتى ليسهو ويجيب عن السؤال الذي يوجَّه إليه في الختام؛ فيالها من مشنقة بارعة أنزل منها الماتب أكثر من عشرين قصة.
لكنا في الوقت نفسه لا نقول لأن الهند قد عَدِمَتْ الشعراء الذين يقرضون الشعر بمعنى الكلمة التي نفهمها نحن؛ فأبو الفضل يصف لنا "آلاف الشعراء" في بلاط "أكبر"؛ وكان منهم مئات في صغرى العواصم، ولا شك أن كل بيت كان يحتوي منهم على عشرات
(1)
. ومن أقدم الشعراء وأعظمهم "بهارتريهاري" وهو راهب ونحويٌّ وعاشق، غذَّى نفسه بألوان الغزل قبل أن يرتمي في أحضان الدين، ولقد خلَّف لنا مُدوَّناً بها من كتابه المسمى "قرن من الحب"- وهو سلسلة من مائة قصيدة تتابع على نحو ما تتابع القصائد عند "هيني"، ومما كتبه لإحدى معشوقاته:"ظنَنَّا معاً قبل اليوم أنكِ كنتِ إياي، وكنتُ أنا إياكِ؛ فكيف حدث الآن أن أصبحت أنتِ، هو أنتِ وأنا هو أنا"؛ ولم يكن يأبه لرجال النقد قائلاً لهم: "إنه من العسير أن تُقْنع خبيراً، لكن "الخالق نفسه" لا يستطيع أن يرضي رجلاً ليس له من المعرفة إلا نزر يسير"؛ وفي كتاب "جيتا- جوفندا" لصاحبه "جاياديفا"، - وعنوان الكتاب معناه "أنشودة قطيع البقر المقدس"- يتحول غَزَل الهندي إلى دين، ويصبغ ذلك الغزل بصبغته الحب الجسدي
(1)
في ذلك الحين اتجه الشعر إلى أن يكون أقل موضوعية منه في أيام الملاحم، وازداد إقبالاً على المزاوجة في نسيجه بين الدين والحب؛ والوزن الذي كان مطلقاً في الملاحم، يختلف في طول البيت الواحد، ولا يتطلب اطراداً في المقاطع الأربعة أو الخمسة الأخيرة من البيت، قد أصبح الآن أدق التزاماً للقاعدة أو أكثر تنوعاً في آن واحد؛ ودخلت آلاف القواعد المعقدة في العروض، التي تختفي في الترجمة: وكثرت أساليب الصناعة في صياغة العبارة وفي ألفاظها، وظهرت القافية، لا في نهاية البيت فحسب، بل كثيراً ما التزموها في أواسط الأبيات كذلك؛ وسنت قواعد صارمة لفن الشعر وازدادات الصورة دقة كلما هزل المعنى
لـ "راذا" و "كرِشْنا" وهي قصيدة مليئة بالعاطفة الحية الجسدية، لكن الهند تؤوِّلهل تأويلا مدفوعة فيه بالشعور الديني: إذ تفسرها بأنها قصيدة صوفية رمزية تعبر عن عشق الروح لله- وهو تأويل يفهمه أولئك القديسون الذين لا يهتزون للعواطف البشرية، والذين أنشأوا من عندهم مثل هذه العنوانات التقية لـ "نشيد الأنشاد".
وفي القرن الحادي عشر تسللت لهجات الحديث حتى احتلَّتْ مكانها بدل اللغة الميتة، لتكون أداة للتعبير الأدبي، كما فعلت في اوروبا بعد ذلك بقرن؛ وأول شاعر عظيم استخدم اللغة الحية التي يتحدث بها الناس في نظمه هو "شاند بارداي" الذي نظم بالغة الهندية) الجارية في الحديث (قصيدة تاريخية طويلة تتألف من ستين جزءاً" ولم يمنعه من متابعة عمله هذا إلا نداء الموت، ونظم "سور داس" شاعر "أجرا" الضرير، 60. 000 بيت من الشعر في حياة "كرِشنا" ومغامراته، وقد قيل إن هذا الإله نفسه قد عاونه على نظمها. بل أصبح له كاتباً يكتب ما يمليه عليه الشاعر، لكنه كان اسرع في كتابته من الشاعر في إملائه، وفي ذلك الوقت عينه كا "شاندي داس"- وهو كائن فقير- يهز البنغال هزّاً بما ينشد لها من أغان شبيهة بما أنشده دانتي. يخاطب بها معشوقة ريفية على نحو ما خاطب دانتي فتاته "بياترس" يصورها تصويرا مثاليا بعاطفه خياليه، ويعلو بها حتى يجعلها رمزا للالوهيه. ويجعل حبه تمثيلا لرغبته في الاندماج في الله؛ وهو في الوقت نفسه كان الشاعر الذي شق الطريق لاول مره للغه البنغاليه فكانت بعدئذ اداه التعبير الادبي "لقد لذت بمامن عند قدميك يا حبيبتي، واذا لم أرك، ظل عقلي في قلق
…
وليس في وسعي نسيان رشاقتك وفتنتك- ومع ذلك ليس في نفسي شهوة إليك"؛ ولقد حكم عليه زملاؤه البراهمه بالطرد من طائفة الكهنوت على أساس انه كان يجلب العار لعامه الناس. فقبل ان ينكر حبه لـ "رامي"
في احتفال علني؛ لكنه وهو يباشر الطقوس الخاصة بذلك الإنكار، رأى "رامي" بين الحشد المجتمع فعاد إلى نقض إنكاره ذاك وسار نحوهما وركع أمامها مشبك اليدين إعجاباً.
وأنبغ شعراء الأدب المكتوب باللهجة الهندية) المتداولة في الحديث (هو "تولسي" الذي يوشك ان يكون معاصراً لشكسبير وقد ألقاه أبواه في العراء لأنه ولد لهم تحت نجمة منحوسة؛ فتبناه متصوف في الغابة وعلمه أغاني "راما" الأسطورية، وتزوج، ومات ابنه، فأنسحب إلى الغابات حيث عاش عيش التوبة والتأمل، وهناك وكذلك في بنارس كتب ملحمته الدينية "راما شارتا - ماناسا" ومعناه) بحيرة من أعمال "راما" أخذ فيها يقص قصة "راما" مرة أخرى، وقدمه للهند باعتباره الإله الاسمى الذي لا إله إلا هو، يقول "تولسي داس": "ثمت إله واحد وهو راما خالق السماء والأرض ومخلص الإنسانية
…
- ومن أجل عباده المخلصين جسد الله نفسه في إنسان فبعد إن كان "راما" إلهاً صار ملكاً من البشر، ثم من أجل تطهيرنا عاش بيننا عيش رجل من عامة الناس".
ولم يستطع إلا قليل من الأوربيين قراءة ملحمته في أصلها الهندي) المقصود هو الهندية التي كانت جاريه في الحديث (لأنه بات اليوم قديما مهجوراً، ولكن أحد هؤلاء القليلين الذين استطاعوا قراءة الأصل، من رأيه إن تلك الملحمة تجعل "تولسي داس") أهم شخصيه في الأدب الهندي كله؛ (وهذه القصيدة لأهل الهندستان بمثابة إنجيل شعبي فيه ما يرجع اليه الناس من لاهوت وأخلاق؛ ويقول غاندي: "إنني أعد "راما يانا" التي نظمها "تولسي داس" اعظم كتاب في الأدب الديني كله"؛
وكانت بلاد الدكن في ذلك الوقت نفسه تنتج كذلك شعرا فنظم "توكارام"
باللغة الماهراثيه 600 نشيد ديني تراها متداوله على الالسن في الهند اليوم تداول مزامير "داود" في اليهوديه أو المسيحية؛ ولما ماتت زوجته الأولى تزوج ثانيه من امرأة سليطة فاصبح فيلسوفا، وكتب يقول:
"ليس من العسير أن تظفر بالخلاص، لأنك تجد الخلاص قريبا منك في الحزمة التي تحملها على ظهرك"؛ وفي القرن الثاني الميلادي أصبحت "مادورا" عاصمة الأدب "التأملية" وأقيمت بها "سانجام" أي جمعية قوامها الشعراء والنقاد تحت رعاية ملوك "بانديا" فاستطاعت - مثل المجمع العلمي الفرنسي - أن تضبط تطور اللغة، وأن تخلع الألقاب وتمنح الهدايا.
وأنشأ "تيروفا لافار"- وهو نساج من المنبوذين- أثراً أدبيا أفكاره دينية وفلسفية، أنشأه في بحر من اعسر البحور "التأملية" وأطلق عليه اسم "كورال" فضمنه مُثُلا عليا أخلاقية وسياسية، ويؤكد لنا الرواة أنه لما رأى أعضاء مجلس "سانجام"- وكلهم من البراهمة- مدى توفيق هذا المنبوذ في قرض الشعر أغرقوا أنفسهم عن آخرهم، لكنا لا نصدق هذه الرواية إن قيلت من أي مجمع علمي مهما يكن أمره.
وقد أرجأنا الحديث عن "كابر" - أعظم شاعر غنائي في الهند الوسيطة، أرجأناه لنختم به الحديث، ولو أن مكانه الزمني يأتي قبل ذلك، و "كابر" نساج ساذج من بنارس، أعدته الطبيعة للمهمة التي أراد القيام بها، وهي توحيد الإسلام والهندوسية، وذلك لأنه كما يقال من أب مسلم وأم من عذارى البراهمة؛ فلما أخذ عليه لبه "راماناندا" الواعظ؛ أخلص العبادة لـ "راما" ووسع من نطاق "راما") كما كان تولسي داس ليفعل (حتى جعله إلها عالمياً، وطفق يقرض شعراً بلغة الحديث الهندية، بلغ غاية في الجمال، ليشرح به عقيدة دينية لا يكون فيها معابد، ولا مساجد، ولا أوثان،
ولا طبقات، ولا ختان، ثم لا يكون فيها من الآلهة إلا إله واحد
(1)
، يقول عن نفسه إن كابر:
"ابن "رام" و "الله" ويقبل ما يقوله الشيوخ جميعاً
…
يا إلهي، سواء كنت "رام" أو "الله") المقصود إله المسلمين (فأنا أحيا بقوة اسمك
…
إن أوثان الآلهة كلها لا خير فيها، أنها لا تنطق، لست في ذلك على شك، لأني ناديتها بصوت عال
…
ماذا يجدي عليك أن تمضمض فاك، أو أن تسبح بمسبحتك، أو أن تستحم في مجاري المياه المقدسة، وأن تركع في المعابد، إذا كنت تملأ قلبك بنية الخداع وأنت تتمتم بصلاتك، أو تسير في طريقك إلى أماكن الحج".
جاء هذا القول منه صدمة قوية للبراهمة، فلكي يدحضوه) هكذا تقول الرواية (أرسلوا إليه زانية تغويه، لكنها حولها إلى عقيدته، ولم يكن ذلك عسيرا عليه، لأن عقيدته لم تكن مجموعة من قواعد جامدة، بل كانت شعوراً دينياً عميقاً فحسب:
هنالك يا أخي عالم لا تحده الحدود
وهنالك "كائن" لا أسم له ولا يوصف بوصف،
ولا يعلم عنه شيئا إلا من استطاع أن يصل إلى سمائه؛
وإنه لعلم يختلف عن كل ما يسمع وما يقال؛
هنالك لا ترى صورة، ولا جسداً، ولا طولاً، ولا عرضاً
فكيف لي أن أنبئك من هو؟
إن كابر يقول:
) يستحيل أن نعبر عنه بألفاظ الشفاه،
ويستحيل أن يكتب وصفه على الورق
(1)
ترجم رابندرانات طاغور مائة نشيد من أناشيد كابر (طبعة نيويورك 1915) فبلغ فيها ما نعهده فيه من كمال.
إن الأمر هنا كالأخرس الذي يذوق طعماً حلواً- كيف يصف لك حلاوته.
واعتنق "كابر" نظرية التناسخ الذي ملأت الجو من حوله، ولذلك أخذ يدعو إلى الله- كما يفعل الهندوسي- ليخلصه من أغلال العودة إلى الولادة والعودة إلى الموت، وكانت مبادئه الخلقية أبسط ما يمكن أن تصادف في هذه الدنيا من مبادئ:
عش عيشة العدل وابحث عن السعادة عند مرفقك
إني ليضحكني أن أسمع أن السمك في الماء ظمآن
إنكم لا ترون "الحق" في دياركم فتضربون من غابة إلى غابة هائمين على وجوهكم!
هاكم الحقيقة! اذهبوا أين شئتم، إلى بنارس أو إلى مأثورة
فإذا لم تجدوا أرواحكم، فالعالم زائف في أعينكم
…
إلى أي الشطئان أنت سابح يا قلبي؟ ليس قبلك مسافر، كلا بل ليس أمامك طريق
…
ليس هنالك جسم ولا عقل، فاين المكان الذي سيطفئ غله روحك؟
انك لن تجد شيئا في الخلاء
تذرع بالقوة وادخل إلى باطن جسدك أنت،
فقدمك هناك تكون على موطئ ثابت
فكر في الأمر مليا يا قلبي! لا تغادر هذا الجسد إلى مكان آخر
إن "كابر" يقول:
اطرد كل صنوف الخيال من نفسك،
وثبت قدميك فيما هو أنت.
ويقول الرواة انه بعد موته اعترك الهندوس والمسلمون على جسده، وتنازعوا الرأي، أيدفن ذلك الجسد أم يحرق؛ وبينما هم في تنازعهم ذاك، رفع أحد الحاضرين الغطاء عن الجثة، فإذا بهم لا يرون تحته إلا كومه من
الزهر، فاحرق الهندوس بعض ذلك الزهر في بنارس، ودفن المسلمون بقيته، وأخذت أناشيده تتناقلها الأفواه بين عامه الناس بعد موته، ولقد أوحت تلك الأناشيد إلى "ناناك" - وهو من طبقة السيخ - فأنشأ مذهبه القوي، ورفع آخرون "كابر" إلى مصاف الآلهة، وانك لتجد اليوم طائفتين صغيرتين متنافستين تتبعان مذهب هذا الشاعر وتعبد اسمه؛ هذا الشاعر الذي حاول ان يوحد المسلمين والهندوس، والطائفتان إحداهما من الهندوس والأخرى من المسلمين.
الباب الحادي والعشرون
الفن الهندي
الفصل الأول
الفنون الصغرى
الفن الهندي في عصره الزاهر - مميزاته الفذة -
اتصاله بالصناعة - صناعه الخزف - المعادن -
الخشب - العاج - الأحجار الكريمة - النسيج
إنا نقف إزاء الفن الهندي، كما نقف إزاء كل جانب من جوانب المدنية الهندية، وقفة الدهشة المتواضعة لما نرى من رسوخ في القِدَم واستمرار بين المراحل المتعاقبة؛ فليست كل الآثار التي وجدناها في "موهنجو - دارو" مما ينفع في الحياة العملية، فبينها تماثيل من حجر الجير لرجال ذوي لُحىَ (تشبه التماثيل السومرية شبهاً له دلالته) وتماثيل من الطين لنساء وحيوان، وكذلك بينها خرزات وغيرها من أدوات الزينة المصنوعة من عقيق، وحُليّ من ذهب رقيق الصناعة مصقولها (1)؛ وبين تلك الآثار أيضا ختم (2) نقش فيه بالبارز ثور، رسم رسماً قوياً ثابت الحفر؛ على نحو يغري الرائي بالوثوب إلى نتيجة يؤمن بها، وهي أن الفن لا يتقدم، لكنه يُغير صورته وكفى.
ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، جعلت الهند خلال الخمسة آلاف عام التي توسطت العهدين بما فيها من تغيرات، جعلت تبرز مثلها الأعلى في الجَمال كما تتصوره تصوراً يطبعها بميسم خاص، في عشرات الفنون المختلفة؛ لكن ما خلّفته لنا من تلك الفنون، لا يقدم لنا صورة كاملة، إذ ترى فيها جانباً
منقوصاً، لا لأن الهند قد تراخت عن الإبداع الفني في أي عهد من عهودها، بل لأن الحروب ونزوات المسلمين في تحطيم الأوثان، قد عملت على تحطيم ما ليس يقع تحت الحصر من آيات الفن في العمارة والنحت؛ ثم عمل الفقر على إهمال البقية الباقية من تلك الآيات؛ وسنجد الأمر عسيراً علينا بادئ ذي بدء، إذا ما أردنا أن نقدر هذا الفن، فموسيقاهم غريبة على أسماعنا، وسيبدو تصويرهم لأعيننا غامضاً وفنهم في العمارة مضطرباً، ونحتهم للتماثيل خشناً غليظاً؛ فعلينا في كل خطوه نخطوها أن نُذكّر أنفسنا بأن أذواقنا معرضة للخطأ في أحكامها، إذ هي نتيجة لتقاليدنا وبيئتنا المحلية المحدودة؛ وإنا لنظلم أنفسنا ونظلم الأمم الأخرى، إذا ما حكمنا عليهم أو على فنونهم بمعايير وغايات تتفق وطبيعة حياتنا، لكنها غريبة بالقياس إلى الحياة عندهم.
فالفنان في الهند لم يكن بعد قد تميز من الصانع، إذا كان الفن صناعة والعمل اليدوي مهانة؛ فكما كان الحال في عصورنا الوسطى، كذلك كانت في الهند التي انقضى عهدها في موقعة "بلاسي"، وهي أن كل صانع مهر في صناعته كان فناناً في تلك الصناعة، يخلع على نتاج مهارته وذوقه قالباً خاصاً وشخصية متميزة؛ وحتى اليوم، حيث حلّت المصانع محل الصناعات اليدويه، وانحدر الصنّاع اليدويون إلى "أيدٍ عاملة"، لا تزال ترى في المتاجر والدكاكين في كل مدينة هندية، صناعاً متربعين في جلستهم على الأرض، يطرقون المعادن أو يصوغون الحُليّ، أو يرسمون الرسوم الزخرفية، أو ينسجون الشيلان الدقيقة أو يوّشون الوشي الرقيق، أو ينحتون في العاج أو الخشب، ومن الراجح ألا تكون بين الأمم كلها أمة أخرى كان لها ما للهند من تنّوع خصيب في ألوان الفنون (3).
ومن العجب أن صناعة الخزف لم تستطع أن ترتفع من مستوى الصناعة إلى مستوى الفنون في الهند؛ فقد فرضت قواعد الطبقات كثيراً من القيود على
إمكان استخدام الطبق الواحد عدة مرات
(1)
حتى لقد ضعف الحافز إلى تجميل هذه الآنية الفخارية الهزيلة المؤقتة، التي كانت يد الخزّاف تسرع إلى إنتاجها (4)؛ أما إن كان الإناء لُيصنع من معدن نفيس، عندئذ ينصرف إليه الفن بمجهوده بغير ندم على ذلك المجهود مهما بلغ، فانظر إلى الإناء الفضي الذي يُنسب إلى "تانجور" في معهد فكتوريا في مِدْرَاس، أو انظر إلى صفحة "بِتلْ" الذهبية التي تنسب إلى "كاندي"(5)؛ أما النحاس الأصفر فقد صنعوا منه مجموعة منوعة لا تنتهي أصنافها من المصابيح والأوعية والأواني؛ وكانوا يحصلون على مزيج أسود من الزنك (يسمونه بدري) ويستخدمونه عادة في صناعة الصناديق والأحواض و "الصواني"؛ كذلك كانوا يطعّمون معدناً بمعدن آخر، تطعيماً بارزاً أو محفوراً، أو كانوا يطلون معدناً ما بطلاء من الفضة والذهب (6).
وكان الخشب ينقش بحفر صور كثيرة جداً من النبات والحيوان، وأما العاج فيصوغونه ليمثل أي شيء بادئين بالآلهة فهابطين إلى زهرات اللعب، كما كانوا يطعّمون به الأبواب وغيرها من مصنوعات الخشب، ويصنعون منه آنية صغيرة لطيفة لحفظ الدهون والعطور؛ وكثرت عندهم أدوات الزينة، يلبسها الأغنياء والفقراء إما للتزين أو للادخار؛ وامتازت "جايبور" في طلي مسطحات الذهب بألوان الميناء؛ وعرف صائغوها بحسن الذوق في صناعة المشابك والخرزات والعقود والمدى والأمشاط، فكانوا يزخرفونها بصور الأزهار أو الحيوان أو موضوعات الدين؛ فهنالك عقد برهمي نقشت في واسطته الصغيرة خمسون صورة من صور الآلهة (7)؛ ونسجوا الأقمشة ببراعة فنية لم يبزهم فيها أحد من اللاحقين؛ فمنذ عهد قيصر إلى يومنا هذا، امتدح العالم كله دقة الصناعة في المنسوجات الهندية
(2)
فقد كانوا أحياناً يصبغون
(1)
انظر القسم الرابع من الفصل الرابع من هذا الجزء.
(2)
ربما كانت الهند أول بلد طبع على المنسوجات زخارف بواسطة ضربها بقوالب كالأختام، ولو أن الهنود لم يطوّروا هذه الطريقة في بلادهم بحيث يستخدمونها في طباعة الكتب.
كل خيط من خيوط اللُّحمة أو السُّدى قبل وضعها في المنسج، فكان يقتضيهم ذلك مقاييس دقيقة متعبة قبل البدء في العمل؛ وكان الزخرف المرسوم يتبدَّى شيئاً فشيئاً كلما مضى النسَّاج في نسجه، بحيث يكون هذا الزخرف واحداً في جانبي القماشة المنسوجة (9)؛ إن كل ثوب تم نسجه في الهند- من "الخدَّار" المنسوج من الغزل البلدي إلى الوشي المعقد الذي يتلألأ بالذهب، ومن السراويل
(1)
الآخذة بالعين إلى الشيلان
(2)
الكشميرية التي تخاط أجزاؤها على نحو يخفي مواضع الحياكة- أقول إن كل ثوب نسجته الهند له جمال لا يصدر إلا عن فن بالغ في القِدم، وكاد اليوم أن يكون غريزة في فطرتهم.
(1)
كلمة "بيجاما" الإفرنجية مأخوذة من كلمة تطابقها نطقاًً في الهندية معناها غطاء الساقين.
(2)
تصنع هذه الشيلان الصوفية من قصاصات كثيرة، يوصل بعضها ببعض في مهارة حتى لتبدو قطعة واحدة من القماش.
الفصل الثاني
الموسيقى
حفله موسيقية في الهند - الموسيقى والرقص- الموسيقيون -
السلم والصور الموسيقية - الموضوعات - الموسيقى والفلسفة
أتيح لسائح أمريكي أن يحضر حفلة موسيقية في "مدراس" فوجد حشد السامعين يبلغ نحو مائتي هندوسي، يظهر أن قد كانوا جميعاً من البراهمة، يجلس بعضهم على مقاعد خشبية، ويجلس بعضهم الآخر على الأرض المفروشة بالبُسط، وكانوا يسمعون في إصغاء شديد لجوقة صغيرة لو قيست إليها حشود جوقاتنا لخيّل إليك أن جوقاتنا هذه المعربدة إنما أريد بها أن تُسْمع سكان القمر؛ ولم تكن الآلات الموسيقية مألوفة لذلك السائح الأمريكي، بحيث أشبهت في عينه التي تنظر إلى الأشياء من وجهة نظر إقليمية، نباتاً غريباً شاذاً في حديقة مهجورة؛ فقد كان لديهم طبول كثيرة ذات أشكال وأحجام مختلفة؛ ومزامير مزخرفة وأبواق ملتوية كأنها الثعابين، ومجموعة منوعة من ذوات الأوتار؛ وكانت علامات الإتقان في الصناعة بادية في معظم تلك الآلات، كما كان بعضها مرصعاً بالجواهر؛ وكانت إحدى الطبول- وهي ما تسمى مريدانجا- شبيهة ببرميل صغير، في كل من طرفيها غشاء جلدي رقيق يمكن تغيير درجة صوته المبعوث بجذبه أو بإرخائه بواسطة مفاتيح صغيرة من الجلد؛ وبين غشاوات الطبول أضافوا إليه شيئاً من مسحوق المنغنيز ومرق الأرز وعصير التمر الهندي لكي يحدث نغمة فذة غريبة في نوعها؛ ولم يستعمل الطبال إلا يديه- فأحياناً يخبط براحته، وأحياناً بأصابعه، وأحياناً ينقر بأطراف أنامله؛ وكان عازف آخر يحمل "تمبورة" أو قيثارة لها أوتار أربعة طويلة جعلت تبعث نغماتها موصولة بغير انقطاع، فكانت بمثابة البطانة
العميقة الهادئة لموضوع القطعة الموسيقية؛ وبين الآلات آلة- اسمها فينا- كانت مرهفة الحساسية لدرجه تميزها من سواها في ذلك، كما كانت محددة الأصوات تحديداً واضحاً؛ وكانت أوتارها مشدودة فوق عارضة رقيقة من المعدن، في إحدى طرفيها طبلة خشبية يغطيها غشاء من الذبذبة بواسطة مضراب في يمين العازف، بينما جعلت يسراه تغير في النغمات بأصابع تتحرك في براعة من وَتر إلى وَتر؛ ولبث زائرنا ينصت في خشوع، ولم يفهم من كل ذلك شيئاً.
للموسيقى في الهند تاريخ يمتد ثلاثة آلات عام على أقل تقدير؛ فالترانيم الفيدية- مثلها مثل الشعر الهندي كله- إنما نظمت لتنشد؛ ولم يكن في الطقوس القديمة فرق بين الشعر والغناء، والموسيقى والرقص، فكل هذه عندها فن واحد؛ وإن الرقص الهندي ليبدو لعين الغربيّ اللامعة بالشهوة، شهوانياً فاجراً، كما يبدو الرقص الغربي للهنود شهوانياً فاجراً؛ كان هذا الرقص الهندي خلال الشطر الأعظم من التاريخ الهندي، لوناً من ألوان العبادة، وعرضاً لجمال الحركة والتوقيع تكريماً وإجلالاً للآلهة؛ ولم يحدث لراقصات المعبد أن يغادرن معابدهن زرافات ليمتعن أصحاب الدنيا وطلاب الشهوة الجسدية إلا في العصور الحديثة؛ لم تكن هذه الراقصات مجرد عرض للجسد، بل كانت في وجه من وجوهها محاكاة للكون في دوراته التوقيعية ومجرى التغير في ظواهره، وقد كان "شيفا" نفسه إله الرقص، ورقصة "شيفا" كانت ترمز لحركه العالم نفسها
(1)
.
(1)
لم يعرف الأوروبي والأمريكي رقصة الهند الدنيوية، في صورتها الأصلية التي خلت من كل الشوائب الدخيلة، والتي هي فن شانكارا، الذي تدل في كل حركة جسدية وكل حركة باليدين والأصابع والأعين، على معنى لطيف ودقيق يفهمه المتفرج الموهوب، كما تدل على رشاقة في التثنّي وعلى شعر جسدي محكم مما لا يعرفه الرقص الغربي، منذ دعتنا الديمقراطية إلى العودة إلى أفريقيا لنستمد منها الفنون.
وينتمي الموسيقيون والمنشدون والراقصون- كسائر أصحاب الفن في الهند- إلى أحط الطبقات؛ فقد يحلو للبرهمي أن يغني في خلوته، وأن يسّري عن نفسه بنغمات يعزفها على "الفينا" أو غيرها من ذوات الأوتار؛ بل قد يعلّم غيره التمثيل أو الغناء أو الرقص، لكنه يستحيل أن يفكر في التمثيل مأجوراً، أو في النفخ في آلة موسيقية، وكانت الحفلات الموسيقية العلنية - إلى عهد قريب- نادرة في الهند فكانت الموسيقى العلمانية إما غناء تلقائياً أو نشيداً جمعياً يقوم به الناس، وإما عزفاً أمام جماعات صغيرة في بيوت العِلْية، كما هي الحال فيما يعرف في أوروبا بموسيقى الحجرات؛ وكان لـ "أكبر"- الذي كان هو نفسه ماهراً في العزف الموسيقي- عدد كبير من الموسيقيين في بلاطه، وأصاب أحد مُغنيه- واسمه تانسِنْ- شهرة وثروة، ومات بالشراب وسنّه أربعة وثلاثون عاماً (11)؛ ولم يكن ثمة هواة، بل كان كل المشتغلين بالعزف محترفين لفنهم، ولم تكن الموسيقى تُعلّم على أنها لون من ألوان التهذيب الاجتماعي، كلا ولا أرغم الأطفال على عزف بيتهوفن، فمهمة الشعب لم تكن أن يعزف الناس عزفاً رديئاً، بل أن يعرفوا كيف ينصتون إنصاتاً جيداً (12).
ذلك لأن الاستماع للموسيقى في الهند فن في ذاته ويتطلب تدريباً طويلاً للأذن والروح؛ وقد لا تكون الألفاظ نفسها مفهومة المعنى للغربي أكثر من ألفاظ المسرحيات الغنائية التي يشعر أن من واجبه الذي تمليه عليه طبقته الاجتماعية، أن يستمتع بها؛ وهي تدور - كشأنها في سائر أنحاء العالم - حول موضوعيّ الدين والحب؛ لكن الألفاظ قليلة الأهمية في الموسيقى الهندية، وكثيراً ما يستبدل بها المنشد - كما يفعل الأديب عندنا في أرقى ألوان الأدب- مقاطع لا تعني شيئاً؛ والسّلم الموسيقي عندهم ألطف مما هو عندنا وأدق، إذ يضيف إلى سُلّمنا ذي الاثنتي عشرة نغمة، عشر نغمات أخرى غاية في الدقة، وبذلك يصبح سُلّمهم مؤلفاً من اثنتين وعشرين "من أرباع النغمات"؛ وعلى
الرغم من أن الموسيقى الهندية يمكن كتابتها بترقيم مأخوذ من الأحرف السنسكريتية إلا أن الأغلب ألا تُكتب ولا تُقرأ، بل تنتقل من جيل إلى جيل أو من المنشئ الموسيقي إلى من يأخذ عنه "بالأذن" وحدها؛ وليست موسيقاهم مقسمة إلى أجزاء توقيعية تفصل الضربات بينها، بل ترى النغم فيها ينساب انسياباً متصلاً يؤذى أذن السامع الذي تعود سماع ضربات دورية في الموسيقى وليس لموسيقاهم إيقاع ولا تناغم بل كل ما تُعنى به هو النغم الواحد وربما جعلوا وراءه بطانة من نغمات صغيرة ولذا كانت في هذه الناحية أبسط وأقل في رقيها من الموسيقى الأوربية، ولو أنها أكثر منها تركيباً في السلم والدورات التوقيعية؛ وأنغامها محدودة في آن واحد، فهي من جهة مضطرة اضطراراً أن تستمد من هذا اللون أو ذاك في معين تقليدي قوامه ستة وثلاثون لوناً، لكن العازفين- في الوقت نفسه- يستطيعون أن ينسجوا حول هذا الهيكل التقليدي نسيجاً لا نهاية لخيوطه ولا صلات تصل أجزاءه المنوعة تنوعاً شديداً، وفي كل موضوع موسيقي- أو "راجا"
(1)
موسيقية كما يسمونه- خمس نغمات أو ست أو سبع، يرجع الموسيقِي إلى إحداها- يختارها ولا يغيرها- من حين إلى حين؛ ولكل "راجا" اسم مشتق من الحالة النفسية التي تريد الإيحاء بها- "الفجر"، "الربيع"، "جمال المساء"، "السُّكر" الخ- وكل "راجا" مرتبطة بزمن معين من اليوم أو من العام وتذهب الأساطير الهندية إلى أن لهذه الراجات قوة روحانية حتى ليقال إن راقصة بنغالية أزالت قحطاً بغنائها إحدى الراجات وهي المسماة "منع مالار"- أي نغمة استنزال المطر (13).
ولقد خلع الأسلاف على "الراجات" صبغة مقدسة فمن يعزفها وجب عليه أن يراعي حُرُماتِها، لأنها صور من الغناء أداها "شيفا" نفسه، ويحكى أن
(1)
إذا أردنا أن نكون أكثر دقّة، فهناك ست "راجات" أو موضوعات أساسية لكل منها خمس صور تسمى "راجيني" وكلمة راجا معناها لون وعاطفة وحالة نفسية، وكلمة راجيني هي مؤنثها.
عازفاً اسمه "نارادا" أنشد تلك الراجات في إهمال لشأنها، فزجّ به "فشنو" في نار الجحيم حيث شاهد رجالاً ونساء يبكون على ما تكسر من جوارحهم وقال له الإله إن هؤلاء الرجال والنساء هم الراجات والراجينات التي شوهها ومزقها عزفه المستهتر فلما شاهد "نارادا" ذلك- هكذا تروى الأسطورة- حاول أن يكون في فنه أكثر إتقاناً إذ أخذته بعدئذ خشية الخاشع (14).
والعازف الهندي لا يلتزم "الراجا" التي اختارها لبرنامجه الموسيقي التزاماً يضيّق من حريته تضييقاً خطيراً، أكثر مما يلتزم المنشئ الموسيقي في الغرب، إذا ما أنشأ "سوناتا" أو "سيمفونية"، موضوعَه الموسيقيَّ التزاماً يعرقله؛ ففي كلتا الحالتين، ما يفقده العازف من حرية، يعوضه بما يتاح له من تماسك البناء واتزان الصورة؛ فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود "ويرسل روحه إلى اللامحدود"؛ إنه يظل يمعن في وَشْي موضوعه وشياً دقيق الأجزاء، حتى يتمكن في نهاية المر بفعل تيار متموج من دورات التوقيع وتكرار النغمة، بل بفعل اطراد الأنغام اطراداً رتيباً مملاً، أن يخلق نوعاً من "اليوجا" الموسيقية، أعني ضرباً من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية اللتين ننسبهما للمادة والمكان والزمان، وبهذا ترتفع الروح إلى ما يوشك أن يكون اتحاداً صوفياً بشيء "عميق الاتصال في نفوسنا بجذوره" أو قُلْ "بكائن" عميق عظيم ساكن، أو بحقيقة سابقة لهذا العالم ومنبثة في كل أجزائه، تبتسم ساخرة من كافة الإرادات المكافحة ومن التغير والموت بشتى ما لهما من صور.
والأرجح أننا لن نستسيغ الموسيقى الهندية، ولن نفهمها، إلا إذا استبدلنا بالكفاح كينونة ساكنة، وبالترقي ثباتاً، وبالشهوة استسلاماً، وبالحركة استقراراً؛ وربما اصطنعنا لأنفسنا هذه الحالة إذا عادت من جديد خاضعة، وعادت آسيا مرة أخرى للسيادة، لكن آسيا عندئذ ستمل السكينة والثبات والاستسلام والقرار.
الفصل الثالث
التصوير
ما قبل التاريخ - نقوش أجانتا - مصغرات راجبوت
مدرسة المغول - المصورون - أصحاب النظريات
إننا نسمي الرجل إقليمياً، إذا حكم على العالم على أساس الأنظمة السائدة في الإقليم الذي يعيش فيه، واعتبر كل ما لم يألفه من أوضاع ضرباً من الجاهلية، فيقال عن الإمبراطور "جهان كير" وهو رجل ذوّاقة علاّمة في الفنون - إنه حين أطْلِع على صورة أوربية امتعض لها من فوره، و "لم يستسغها لأنها مرسومة بالزيت"(15)، وإنه ليسرنا أن نعلم أنه حتى الإمبراطور يجوز عليه أن يكون إقليمي النظرة، وأنه كان من العسير على "جهان كير" أن يستمتع بالتصوير الزيتي الذي ترسمه أوربا كما أنه من العسير علينا أن نتذوّق دقائق التحف في الهند.
ويتبين من الرسوم الحمراء التي نراها لبعض الحيوان ولمطاردة وحيد القرن، على جدران الكهوف في "سنجانبور" و "مرزابور" أن قد كان للتصوير الهندي تاريخ طال أمده على عدة آلاف من السنين، وتكثر لوحات المصورين (التي يضعون عليها ألوانهم) بين آثار العهد الحجري الجديد في الهند، مستعدة للاستعمال بما لا يزال عليها من بقايا الألوان (16)؛ وإننا نلحظ فجوات واسعة في تسلسل تاريخ الفن في الهند، لأن معظم الآثار الفنية الأولى قد أتت عليها عوامل المناخ، ثم فسد كثير مما تبقى بعد ذلك على أيدي المسلمين "محطمي الأوثان" من محمود إلى أورنجزيب (17)، ويشير الـ "فنايابتاكا"(حوالي 300 ق. م) إلى قصر الملك "بازنادا" فيقول عنه إنه كان يحتوي على أبهاء للصور الفنية؛ وكذلك يصف "فا - هين" و "يوان شوانج" أبنية
كثيرة فيقولان عنها بأنها اشتهرت بروعة ما عرض على جدرانها (18)، لكنه لم يبق لنا أثر واحد من هذه الأبنية وتبين صورة من أقدم الصور في التبت فناناً وهو يصور بوذا (19) فلم يشك المصورون فيما بعد ذلك التاريخ في أن فن التصوير كان ثابت الأساس في عهد بوذا.
وأقدم صورة هندية يمكن تحقيق تاريخها، مجموعة من الزخارف الجدارية البوذية (حوالي 100 ق. م) وجدت على جدران كهف في "سرجيا" في المقاطعات الوسطى، ومنذ ذلك الحين، جعل فن التصوير الجداري- وأعني به تصويراً يرسم على معجون طري قبل أن يجف - يتقدم خطوة فخطوة، حتى بلغ على جدار كهف "أجانتا"
(1)
درجة من الكمال لم يجاوزها أحد بعد، حتى "جيوتو" و "ليوناردو"؛ وكانت تلك المعابد تنحت في واجهة صخرية من سفح الجبل؛ وحدث ذلك في فترات مختلفة تقع بين القرن الأول الميلادي والقرن السابع؛ ولبثت قروناً لا يعرفها التاريخ ولا تعيها ذاكرة الإنسان بعد انهيار البوذية، فاكتنفتها أشجار الغابة حتى كادت تخفيها، وسكنتها الخفافيش والأفاعي وغيرهما من صنوف الحيوان، وأتلفت صنوف الطير والحشرات التي تعد بالمئات، تلك التصاوير بفضلاتها؛ ثم حدث سنة 1819 م أن عثر الأوربيون على الآثار، وأدهشهم أن يروا على الجدران تلك الصور التي تعد الآن بين آيات الفن في العالم كله (20).
وأطلق على المعابد اسم الكهوف؛ لأنها في معظم الحالات منحوتة في الجبال فمثلاً كهف نمرة 16 عبارة عن حفرة طول كل جهة من جهاتها خمس وستون قدماً، يدعمها عشرون عموداً، وترى على طول القاعة الوسطى ستة عشرة مقصورة من مقاصير الدير، ولها شرفة ذات فتحة للباب تزخرف واجهتها، وفي مؤخرتها جلود مقدسة، وكل الحيطان مزدانة بالتصاوير الجدارية؛ ومن
(1)
بالقرب من قرية فاردايور، في الولاية المستقلة حيدر آباد.
المعابد التسعة والعشرين، ستة عشر كانت في سنة 1879 م تحتوي على تصاوير، فلما أن كانت سنة 1910 م أتلف التعرض للجو تصاوير عشرة معابد منها، ثم أصيبت الستة الباقية بخدوش بفعل محاولات غشوم في سبيل تجديدها (21)، وقد
كانت هذه التصاوير يوماً متلألئة بالأحمر والأخضر والأزرق والأرجواني؛ ولم يبق اليوم من هذه الألوان شيء ما عدا الأجزاء ذات الألوان الخافتة أو القاتمة؛ وإن بعض الصور التي أفسدها الزمن والجهل ليبدو غليظاً خشناً في أعيننا، نحن الذين لا يستطيعون قراءة الأساطير البوذية بقلوب بوذية، وبعضها الآخر فيه قوة ورشاقة في آن معاً، تنبئان عن مهارة الصناع الذين ضاعت أسماؤهم قبل أن تفنى آثارهم بزمن طويل.
وعلى الرغم من كل هذه النائبات، لا يزال كهف رقم (1) غنياً بآياته الفنية فهاهنا ترى على أحد الجدران (ما يرجح أن يكون) صورة "بوذيساتاوا"، أي قديس بوذي يستحق النرفانا، لكنه آثر على النرفانا التي هو جدير بها أن يعاد إلى الحياة في ولادات جديدة لكي يصلح الناس؛ ولن تجد صورة تصور حزن التفكير البصير أعمق مما تصوره هذه الصورة (22)، وإن الإنسان لتأخذه الحيرة أي الصورتين ألطف وأعمق - هذه الصورة أو صورة ليوناردو التي رسمها يدرس بها موضوعاً شبيهاً بموضوع هذه الصورة، وهو رأس المسيح
(1)
وعلى جدار آخر من نفس المعبد صوره لـ "شيفا" وزوجته "بارفاتي" وقد ازَّينت بالحليّ (23)، وعلى مقربة منها صورة لأربعة غزلان، أشاع فيها الحساسية الرقيقة ذلك العطف البوذيُّ على الحيوان؛ وعلى السقف زخرف لا يزال ناصع الألوان بما فيه من زهور وطيور دقيقة الرسم (24) وعلى أحد جدران الكهف رقم (17) تصوير رشيق - قد تلف الآن بعض التلف - للإله فشنو مصحوباً بحاشيته، وهو هابط من السماء إلى الأرض ليتعهد شيئاً ما مما وقع في حياة بوذا (25)؛ وعلى جدار آخر صورة تخطيطية، لكنها زاهية الألوان، لأميرة مع وصيفتها (26)؛ وترى مختلطاً بهذه الآيات الفنية حشداً متداخلاً من التصاوير الجدارية يظهر فيها ضعف الصناعة وفيها وصف لنشأة بوذا وفراره وإغرائه (27).
(1)
وهي بين تخطيطاته الابتدائية لصورة (العشاء الأخير).
لكننا لا نستطيع أن نحكم على هذه الآثار الفنية في صورتها الأصلية بما بقى منها اليوم، ولاشك أن هناك مفاتيح طرائق تقدير قيمتها الفنية، لا يمكن الكشف عنها لمن لا يحمل بين جنبيه روحاً بوذية؛ ومع ذلك فحتى الغربي في مستطاعه أن يعجب بفخامة الموضوع، وعظمة المدى الذي صممت الصورة على أساسه، ووحدة التأليف، ووضح الخطوط وبساطتها وثباتها، وبتفصيلات كثيرة بينها هذا الكمال العجيب الذي بلغوه في رسم الأيدي التي هي آفة المصورين جميعاً؛ وإن الخيال ليصور لنا هؤلاء الفنانين الكهنة
(1)
الذين كانوا يؤدون الصلاة في هذه المقصورات وربما زينوا هذه الجدران والسقوف بفن التقيّ والورع، بينما أوربا دفينة في ظلام أوائل عصورها الوسطى؛ فهاهنا في " أجانتا " أدمج الدين مختلف الفنون: فن العمارة والنحت والتصوير، في وحدة منسقة، فأنتج أثراً من أعظم آثار الفن الهندي.
فلما أغلقت معابدهم أو خربت على أيدي الهون والمسلمين، أدار الهنود مهارتهم التصويرية تجاه الفنون الصغرى؛ فنشأت بين "الراجبوت" مدرسة من المصورين سجلوا في تماثيل صغيرة قصص "الماهابهاراتا" و "رامايانا" وأعمال البطولة التي قام بها رؤساء "الراجبوتانا"؛ وكثيراً ما كانت تكتفي تلك الآثار الفنية بمجرد تخطيط أولي للموضوع، لكنها كانت دائماً تنبض بالحياة وتبلغ من جمال الزخرف حد الكمال؛ وإنك لترى في متحف الفنون الجميلة في "بوستن"، مثلاً جميلاً لهذا الأسلوب الفني، إذ تراه يرمز إلى إحدى "راجات" الموسيقى بنساء رشيقات وبرج شامخ وسماء دانية (29)، وكذلك ترى مثلاً آخر في معهد الفنون في "دِترْوا" يمثل برشاقة فريدة في بابها منظراً مأخوذا من "جيتا جوفندا"(30)، وصور النساء في هذه التصاوير الهندية وغيرها لم تكن ترسم من نماذج بشرية إلا نادراً، فكان على الفنان أن يتصورها بخياله ويستمدها من ذاكرته، والأغلب أن يصور المصور بألوان
(1)
هذا مجرد فرض، فلسنا ندري من رسم هذه التصاوير الجدارية.
زاهية على سطح من ورق ويستخدم في الرسم فراجين مصنوعة من أرق
الشعر، يأخذونه من السنجاب أو الحجل أو الماعز أو النمس (31)، واستطاع رسّامهم أن يبلغ من رقة خطوطه وزخارفه حداً يمتع العين، حتى إن كان المشاهد أجنبياً لم يمهر في تقدير الفنون.
وقد أبدعت أجزاء أخرى من الهند آثار فنية شبيهة بهذه الآثار، وبخاصة في دولة "كانجرا"(32)، وتطوّر فرع من فروع هذه الدوحة الفنية عينها في ظل المغول بمدينة دلهي، ولما كان هذا الفن المتفرع ناشئاً عن فن الخط الفارسي وفن زخرفة المخطوطات، فقد آل أمره إلى أن يكون تصويراً أرستقراطياً يقابل من حيث رقته وانحصاره في دائرة ضيقة، موسيقى الحجرات التي ازدهرت في قصور الملوك؛ ولقد جاهدت هذه المدرسة المغولية - كما جاهدت مدرسة راجبوت - لتحقق لنفسها رشاقة التخطيط، كان المصورون أحياناً يستخدمون فرجوناً مؤلفاً من شعرة واحدة، وتنافس مصورو هذه المدرسة أيضاً في إجادة تصوير اليدين، لكنهم بالقياس إلى المدرسة الفنية السالفة أكثروا من الألوان وقللوا من جوّ الألغاز والغموض، وقلما مَسُّوا بفنهم الدين أو الأساطير بل حصروا أنفسهم في حدود هذه الدنيا، فكانوا واقعيين بمقدار ما سمح لهم الحذر به من الواقعية؛ وقد اتخذوا موضوعات لرسومهم رجالاً ونساء من الأحياء ذوي المنزلة الرفيعة والمزاج الشامخ بأنفه، فلم يكن أشخاصهم ممن يُعرفون في الناس بضِعة نفوسهم، وأخذ هؤلاء الأشراف يجلسون واحداً في إثر واحد أمام المصور، حتى امتلأت أبهاء الصور عند "جهان كير" - ذلك الملك الأنيق - بصور أعلام الحكام ورجال البلاط جميعاً منذ اعتلاء "أكبر" عرش البلاد، وكان "أكبر" أول حاكم من أفراد أسرته المالكة شجع التصوير، ولو أخذنا بما يقوله "أبو الفضل" فقد كان في دلهي في أواخر حكمه، مائة أستاذ من محترفي هذا الفن، وألف من هواته (33).
وكان من أثر رعاية "جهان كير" لفن التصوير أن تطور هذا الفن واتسع نطاقه من تصوير الأشخاص فحسب إلى تمثيل مناظر الصيد وغيرها من البطانات التي تؤخذ من الطبيعة لتكون مجالاً لتصوير أشخاص من الناس على أساسها - على أن هذه الأشخاص مازالت لها السيادة في الصورة؛ فهنالك صورة صغيرة تمثل الإمبراطور نفسه وقد أوشك أن تنال منه مخالب أسد واثب على مؤخرة الفيل الذي كان يركبه، محاولاً أن يمسك بجسده، بينما ترى تابعاً من الأتباع يفر هارباً كما تقتضي النظرة الواقعية لحقيقة ما يحدث في الحياة (34)، وبلغ الفن في حكم " جهان " أعلى ذروته؛ ثم أخذ بعدئذ في التدهور؛ وكما حدث في التصوير الياباني حدث في الهند، وهو أن شيوع القالب الفني في دائرة واسعة من الناس، كان له نتيجتان في وقت واحد، فقد زاد من عدد المهتمين بالفن من جهة، وقلل من دقة الذوق من جهة أخرى (35)، وأخيراً تمت مراحل التدهور حين جاء " أورنجزيب " فأعاد حكم الإسلام في مقاومة التصوير بغير هوادة.
وقد لقي المصورون في دلهي من الازدهار ما لم يعرفوا له مثيلاًً خلال عدة قرون، وذلك بفضل الرعاية الكريمة التي أسداها إليهم ملوك المغول؛ فجددت طائفة المصورين عندئذ شبابها، وهي تلك الطائفة التي احتفظت بنفسها حية منذ العصر البوذي؛ ونفض بعض أعضائها عن نفسه ذلك التخفي الذي كان يدعوهم إلى نكران أسمائهم، والذي يسود الكثرة الغالبة من آثار الفن الهندي، بفعل الزمان الذي يبتلع الأسماء في جوف النسيان من جهة، وإنكار الهنود لذاتيات الأفراد من جهة أخرى، وكان من السبعة عشر فناناً الذين يعدون أعلاماً في حكم "أكبر" ثلاثة عشر هندوسياً (36)، وكان أقرب المصورين إلى الحظوة في بلاد المغولي العظيم هو "دازفانت" الذي لم يؤثر أصله الوضيع - إذ كان ابن حامل المحفَّات التي تنقل الراكبين - في نظرة الإمبراطور إليه أقل تأثير؛ وكان هذا الشاب شاذ الأطوار، فكنت تراه
مصراً أينما حل على رسم صورة يرسمها على أية مادة أتيحت له؛ واعترف "أكبر" بعبقريته، وطلب إلى الأستاذ الذي يتلقى عنه هو نفسه فن الرسم، أن يتعهد تعليمه، حتى إذا ما شبّ الغلام، أصبح أعظم رجال الفن في عصره، لكنه وهو في أوج شهرته طعن نفسه طعنة قاضية (37).
إنه حيثما وجدت ناساً يصنعون هذا الشيء أو ذاك، وجدت إلى جانبهم ناساً آخرين يأخذون أنفسهم بشرح الطريقة التي يجب أن يتبعها أولئك في صناعة ما يصنعون؛ فالهنود الذين لم تكن فلسفتهم تعلي من شأن المنطق، قد أحبوا المنطق مع ذلك، وأغرموا بصياغة قواعد دقيقة لكل فن من الفنون، كأدق ما تكون القواعد دقة، وأشد ما تكون انطباقاً على حكم العقل؛ ومن ثم وضعوا في أوائل تاريخنا المسيحي "الساندانجا" أي "الأطراف الستة للتصوير الهندي" وهي شبيهة بما وضعه صينيّ
(1)
بعد ذلك، وربما كان الصينيّ في ذلك مقلداً، وهو ستة قوانين لإتقان فن التصوير:((1 معرفة ظواهر الأشياء ((2 صحة الإدراك الحسي والقياس البنّاء ((3 فعل المشاعل في القوالب الفنية ((4 إدخال عنصر الرشاقة، أو التمثيل الفني ((5 مشابهة الطبيعة ((6 استخدام الفرجون والألوان استخداماً فنيا؛ وظهر بعد ذلك تشريع جمالي مفصل، واسمه "شلبا- شاسترا"؛ صيغت فيه قواعد كل فن وتقاليده صياغة تصلح مع مرّ الزمان، وهم يزعمون لنا أن الفنان لا بد له من دراسة الفيدات دراسة متقنة "وأن يغتبط بعبادة الله، ويخلص لزوجته ويجتنب غيرها من النساء ويحصّل معرفة بمختلف العلوم تحصيلاً تحدوه التقوى" (38).
ويسهل علينا بعض الشيء فهم التصوير الشرقي؛ لو وضعنا نصب أعيننا
(1)
هو "هزبيه هو" - راجع ما جاء عنه في الجزء الخاص بالصين من هذه السلسلة؛ وتاريخ "الساندانجا" مجهول لأننا عرفناه من شرح كتبه لشارح في القرن الثالث عشر.
أولاً، أنه لا يحاول تصوير الأشياء بل تصوير العواطف، وأنه لا يحاول مطابقة الأصل بل يكتفي بالإيحاء به، وأنه لا يعتمد على اللون بل على التخطيط، وأن غايته أقرب إلى أن تكون إثارة عاطفة جمالية ودينية منها إلى أن تكون محاكاة للواقع، وأنه مهتم بما في الناس والأشياء من "أنفس" أو "أرواح" أكثر من اهتمامه بصورتها المادية، ومع ذلك فمهما حاولنا، فنوشك ألا نجد في التصوير الهندي ذلك الرقي الفني، أو ذلك البعد في المدى والعمق في المعنى، الذي يميز فن التصوير في الصين أو في اليابان، وترى بعض الهنود يعللون ذلك تعليلاً مغالياً في شطحته مع الخيال، فيزعمون أن التصوير قد تدهور عندهم لأنه أيسر من أن يتقدم به المتقرب إلى الآلهة، إذ ليس في إخراجه من العناء ما يشرف ذلك المتقرب (39)؛ ويجوز ألا تكون الصور بما تتصف به من سرعة التعرض للزوال والفناء مما يشبع في نفس الهندي ذلك التعطش الذي يحسه نحو تجسيد إلهه المختار تجسيداً يبقى على وجه الزمان؛ فلما لاءمت البوذية بين نفسها وبين التصوير الفني للأشياء، ولما كثرت وازدادت الأضرحة البرهمية، أخذ النحت يحل محل التصوير شيئاً فشيئاً ليأخذ الحجر الدائم مكان اللون والتخطيط.
الفصل الرابع
النحت
النحت البدائي - النحت البوذي - جاندهارا -
جوبتا - تأثره بالمستعمرين - تقدير
ليس في مقدورنا أن نتعقب مراحل النحت التاريخية في الهند بادئين بالتماثيل الصغرى التي وجدت في "موهنجو- دارو" ومنتهين بعصر "أشوكا" لكن يجوز لنا أن نشك في أن هذه الفجوة التي تعترض تطور تلك المراحل، ليست فجوة في تقدم الفن نفسه بمقدار ما هي فجوة في علمنا به؛ وربما أفقرت الغزوات الآرية الهند حيناً من الدهر، فانتكست بفعل الفقر من الحجر إلى الخشب في صناعة تماثيلها؛ أو ربما كان الآريون أكثر انصرافاً إلى الحروب من أن يجدوا الفرصة للعناية بالفنون، فأقدم التماثيل الحجرية التي بقيت لنا في الهند لا يرجع إلى عهد أقدم من "أشوكا" لكن هذه التماثيل تدل على مهارة بلغت من الرقي حداً رفيعاً لا يدع لنا مجالاً للشك في أن الفن كان قبل ذلك آخذاً في نموه عدة قرون (40)؛ وجاءت البوذية فوضعت حوائل معروفة تقوم في وجه التصوير والنحت معاً، وذلك بمقتها للأوثان وللتصاوير الدنيوية: إن بوذا يحرم "تصاوير الخيال في رسم أشخاص الرجال والنساء"(41) وبحكم هذا التحريم الذي يوشك أن يكون صادراً من موسى لقى التصوير والنحت من الحوائل في الهند مثل ما لقياه في عهد اليهود، ومثل ما سيلقيانه بعدئذ في ظل الإسلام، لكن هذا "التزمت"- فيما يظهر- أخذ يتراخى شيئاً فشيئاً كلما تهاونت البوذية في تشددها وازدادت مشاطرة للروح الدرافيدية التي تميل إلى الرمز والأساطير، فلما عاد فن النحت إلى الظهور من جديد (حوالي سنة 250 ق. م) في التماثيل الحجرية البارزة القائمة على "السور" الذي يحيط بأكمات
المدافن البوذية في "بوذا- جايا" و "بهارهوت" كانت هذه التماثيل أقرب إلى
أن تكون جزءاً لا يتجزأ من التصميم المعماري للبناء منها إلى أن تكون فناً مستقلاً مقصوداً لذاته؛ ولبث الجزء الأكبر من النحت الهندي حتى ختام مراحله التاريخية تابعاً لفن العمارة، وكان طوال الوقت يؤثر النحت البارز على الحفر
(1)
؛ وقد بلغ هذا النحت البارز ذروة رفيعة من الكمال في المعابد الجانتيه في "مأثورة"، وفي الأضرحة البوذية في "أمارافاتي" و "أجانتا"؛ ويقول أحد الثقات الراسخين في العلم أن السور المنحوت في "أمارافاتي":"أرق زهرة في النحت الهندي وأوغلها في أسباب الترف"(42).
(1)
لهذا التعميم استثناء ضخم يفسده، هو التمثال النحاسيّ الكبير لبوذا، الذي يبلغ ارتفاعه ثمانين قدماًً، والذي شهده "يوان شوانج" في "باتالي بوترا"؛ وقد يكون هذا التمثال- بفضل "يوان" وغيره ممن حجّوا إلى الهند من أهل الصين- أحد الأسلاف الذي نتج عنها تماثيل بوذا العظيمة في "نارا" و "كاماكورا" من بلاد اليابان.
في ذلك الوقت عينه، كان نمط آخر من أنماط النحت في سبيله إلى الرقي في إقليم "جاندهارا" الواقع في شمال غربي الهند؛ وذلك في رعاية الملوك "الكوشيين"، وهم أبناء أسرة يحيط بها الغموض، انبثقت بغتةً من الشمال- ومن الجائز أن يكون في أصولها جذور هلينية- فظهر بظهورها ميل نحو إدخال القوالب الفنية اليونانية، وكانت بوذية "ماهايانا" التي استولت على مجلس "كانِشْكا" هي التي شقت الطريق إلى ذلك الفن اليوناني، بإلغائها تحريم التصوير والنحت، فاستطاع بعض المعلمين اليونان أن يوجهوا النحت الهندي وجهة اصطنع فيها لفترة من الزمن وجهاً "هلينيا" طليقاً، فتحول بوذا إلى ما يشبه أبولو، وأخذ يطمح إلى بلوغ الأولمب؛ وأصبحنا نرى الثياب تنساب أذيالها على آلهة الهندوس وقديسيهم على نحو ما ترى في نحت "فيدياس"
كما نرى تماثيل تصور "بوذيساتوا" التقيّ وهو يصاحب "سيلبني" الطروب
المخمور (43)، ومثلوا مولاهم بوذا وتلاميذه في تماثيل جَمَّلوا أجسادها وكادوا يجعلونها مخنثة الأجزاء، إذ أخرجوها على غرار نماذج يونانية بشعة تمثل اليونان وهم في مرحلة واقعية تميل بهم نحو الانهيار؛ ومن ذلك تمثال بوذا في لاهور، بوذا الذي يتضور جوعاً، ففي هذا التمثال ترى كل ضلع وكل عصب من أضلاع جسده وأعصابه، ثم تراهم ركّبوا على هذا الجسد وجه امرأة، ورُتب شعر الرأس على نحو ما يُرَتب الشعر في رؤوس السيدات، ولو أنهم جعلوا في ذلك الوجه لحية الرجال (44)؛ وقد تأثر "يوان شوانج" لهذا الفن الذي يمزج بين اليونانية والبوذية والذي انتقل إلى الصين وكوريا واليابان (45) بفضل "يوان شوانج" هذا وغيره ممن حجوا إلى الهند فيما بعد؛ لكن هذا الفن لم يكن له إلا قليل الأثر في قوالب النحت وطرائقه في الهند ذاتها؛ فلما انقضى عهد مدرسة جاندهارا بعد بضعة قرون قضتها في نشاط مزدهر، عاد الفن الهندي من جديد إلى الحياة في ظل حكام من الهندوس، واستأنف التقاليد التي خلفها الفنانون الوطنيون في "بهارهوت" و "أمارافاتي" و "مأثورة" ولم ينظر إلا بطرف عينه إلى آثار الفترة اليونانية القصيرة التي ظهرت في جاندهارا.
وازدهر النحت- كما ازدهر كل شيء تقريباً في الهند- تحت حكم أسرة جوبتا؛ وكانت البوذية عندئذ قد نسيت عداوتها لتصوير الأشخاص، ونهضت البرهمية وقد تجدد نشاطها، فشجعت الرمزية وزخرفة الدين بكل أنواع الفنون؛ فنرى في متحف "مأثورة" تمثالاً حجرياً لبوذا أتقنت صناعته، بعينين تنمان عن تأمل عميق، وشفتين حساستين، وجسد بولغ في رشاقته، وقدمين قبيحتين مستقيمتي الخطوط، وترى في متحف "سارنات" تمثالاً حجرياً آخر لبوذا في جلسة قرفصاء التي كتب لها أن تسود النحت البوذي، وفي هذا لتمثال تصوير بارع لآثار التأمل الهادئ والرقة القلبية الصادرة عن ورع؛ وفي "كاراتشي" تمثال برونزي صغير لبراهاما، يشبه صورة "فولتير" شبهاً واضحاً (46).
واذهب حيث شئت في أرجاء الهند، ترى فن النحت في الألف عام التي
سبقت قدوم المسلمين، قد أنتج آيات روائع على الرغم من أن خضوعه لفن العمارة وللدين قد حدد خطاه، وإن يكن مصدر وحي له في الوقت عينه، فالتمثال الجميل الذي يصور "فشنو" والذي جاء من "سلطانبور"(47) وتمثال "بادماباني" الذي أجيدت صناعته بأزميل الفنان (48) وتمثال "شيفا" الضخم ذو الوجوه الثلاثة "الذي يسمى عادة تريمورتي" الذي نحت نحتاً عميقاً في كهوف "إلفانتا"(49) والتمثال الحجري الذي تكاد تحسبه من صنع "براكسيتي" والذي يعبده الناس في "نوكاس" باعتباره الإله "روكميني"(50) وشيفا الراقص الرشيق- أوناتاراجا- المصنوع من البرونز بأيدي الصناع الفنانين في تانجور (51) وتمثال الغزال الجميل المنحوت من الحجر، وفي "مامالابوارم"(52) و "شيفا" الوسيم في "برور"(53) - هذه كلها شواهد على انتشار فن النحت في كل إقليم من أقاليم الهند.
واجتازت هذه البواعث نفسها وهذه الأساليب نفسها، حدود الهند الأصلية حيث كان من أثرها أن أنتجت آيات فنية في تركستان وكمبوديا وجاوه وسيلان وغيرها؛ ويستطيع طالب الفن أن يجد أمثلة لذلك، هذا الرأس الحجري- ويظهر أنه رأس غلام- الذي احتفره من رمال خوتان "سير أورل شتاين" وصحبه (54) ورأس بوذا الذي جاء من سيام (55) وتمثال "هاريهارا" في كمبوديا الذي يتميز بدقة تشبه دقة المصريين في تماثيلهم (56) والتماثيل البرونزية الرائعة في جاوه (57) ورأس شيفا الذي جاء من "برامبانام" والذي يشبه الفن في جاندهارا (58)؛ وتمثال المرأة البالغ حداً بعيداً في جماله واسمه "براجناباراميتا" وهو الآن في متحف ليدن؛ وتمثال "بوذيساتاوا" الذي بلغ ذروة الكمال وهو في متحف "جلبتوثك" في "كوبنهاجن"(59) وتمثال بوذا الهادئ القوي (60) وتمثال "أفالوكتشفارا"(ومعناها السيد الذي يصوب نظره إلى الناس مستصغراً مشفقاً) وهو تمثال أجيدت صناعته بالأزميل (61) وكلا هذين الأخيرين من المعبد العظيم في جاوه الذي يسمى "بوروبودور"
وكذلك تمثال بوذا الضخم الغليظ (62) والعتبة المرمرية البديعة (63) في بناء "آنورا ذابورا" في سيلان؛ هذه القائمة المملة، التي ذكرنا فيها آثاراً فنية لا بد أن تكون قد كلفت دماء كثير من الرجال في عدة قرون من الزمان، تدل بعض الدلالة على أثر العبقرية الهندية في مستعمرات الهند الثقافية.
إنه ليتعذر علينا للوهلة الأولى أن نقدر هذا النحت؛ فليس يستطيع أحد من الناس أن يطرح وراء ظهره بيئته الخاصة حين يرتحل في غير بلاده إلا ذو العقل العميق المتواضع؛ إنه لا مناص لنا من أن ننقلب هنوداً أو أبناء هذا البلد أو ذاك مما أخذ بزعامة الهند الثقافية، لنفهم الرمزية الكامنة في هذه التماثيل، وندرك ما تدل عليه هذه الأذرع والسيقان الكثيرة من وظائف وقوى خارقة، ونسيغ الواقعية البشعة التي تمثلها هذه التماثيل الشاطحة بخيالها، المعبرة عن رأي الهندوس في القوى الخارقة للحدود الطبيعية، التي تبدع في خلقها بما يجاوز حدود العقل، وتخصب إخصاباً يجاوز حدود العقل، وتخرب تخريباً يجاوز حدود العقل، إنه ليروعنا أن نرى كل شخص في قرى الهند نحيل الجسم، بينما نرى كل شخص في تماثيل الهند بديناً، لأننا ننسى أن التماثيل تصور الآلهة قبل كل شيء، والآلهة هم الذين يتلقون زبدة ما تثمره البلاد من خيرات؛ وإن أنفسنا لتطرب حين نعلم أن الهنود صبغوا تماثيلهم بالألوان، ومن ثم ينكشف لنا الغطاء عن حقيقة نسهو عن إدراكها، وهي أن اليونان فعلوا ذلك أيضاً، وأن الجلال الذي في آلهة فيديا يرجع بعضه إلى زوال الصبغة عن تماثيلهم زوالاً جاء عرضاً؛ وإنه كذلك ليسوءنا أن نرى قلة تماثيل النساء قلة نسبية في معارض الفن الهندي، ونرثى لإذلال النساء الذي قد تدل عليه هذه الظاهرة، ولا نذكر أبداً أن مذهب العرى في المرأة ليس أساساً لفن النحت يستحيل الاستغناء عن وجوده، وإن أعمق جمال للمرأة قد يتبدى في الأمومة أكثر مما يتبدى في الشباب، قد تدل عليه "ديميتر" أكثر
مما تدل عليه "أفروديت"؛ أو قد ننسى أن النحات لم ينحت ما تتعلق به أحلامه بقدر ما نحت ما أذن به الكهنة، وأن كل فن في الهند كان يتبع الدين أكثر مما يتبع الفن نفسه، إذ كان خادماً للاهوت أو قد نفسر بالجد ما لم يقصد به النحات إلى الجد، وإنما قصد به تصويراً كاريكاتورياً أو فكاهة أو بشائع يخيف بها الأرواح الشريرة فيطردها، فإذا ما رأينا أنفسنا نزور عنها في امتعاض فقد أقمنا بذلك الدليل على تأديتها لما أريد لها أن تؤديه.
ومع ذلك فلم يبلغ فن النحت في الهند كل ما بلغه أدبها من رشاقة، أو ما بلغه فن العمارة فيها من فخامة، أو ما بلغته فلسفتها من عمق؛ فكان أول ما صوره النحت في الهند هو مكنون عقائدها الدينية على خلطه واضطرابه، ولئن بزَّت الهند بفن النحت فيها نظائره في الصين واليابان، إلا أنها لم تبلغ قط مستوى التماثيل المصرية في برود كمالها، ولا مستوى التماثيل المرمرية اليونانية في جمالها الحي المغري، وإذا أردنا أن نقف من فن النحت الهندي عند مجرد الفهم لما ينطوي عليه من مزاعم، كان لا مندوحة لنا عن استعادة الشعور بالتقوى في قلوبنا، ذلك الشعور الذي ساد في العصور الوسطى بجده وإيمانه، والحق أننا نسرف فيما نطالب به فن النحت أو فن التصوير في الهند، فترانا نحكم عليهما كما لو كان في تلك البلاد- كما هما في بلادنا- فنين مستقلاً أحدهما عن الآخر، مع أن حقيقة الأمر هي إننا فصلناهما لتسهل دراستهما حسب ما جرت به التقاليد في تقسيم الفنون أقساماً مختلفة الأسماء مختلفة المعايير، فلو استطعنا أن ننظر إليهما كما هما في رأي الهندي، أي على اعتبار أنهما جزآن من عدة أجزاء يتألف منها فن العمارة عندهم، الذي لا يفوقهم فيه شعب آخر، كان منا بمثابة البداية المتواضعة التي قد تؤدي بنا إلى فهم الفن الهندي.
الفصل الخامس
فن العمارة
1 - العمارة الهندوسية
العهد السابق لأشوكا - العمارة في عهد أشوكا - العمارة
البوذية - العمارة الجانتية - آيات العمارة في الشمال - هدمها - النمط في
الجنوب - المعابد المقامة من حجر واحد - المعابد المقامة من أحجار عدة
لم يبق لنا شيء من العمارة الهندية قبل "أشوكا" فلدينا آثار من اللبِن في "موهنجو - دارو"، لكن أبنية في العهدين الفيدي والبوذي كانت فيما يظهر من الخشب، والأغلب أن "أشوكا" كان أول من استخدم الحجر لأغراض البناء (64) وإننا لنصادف في أدبهم ما يدل على أن قد كان لهم أبنية ذات سبعة طوابق (65) كما قد كان لهم قصور فخمة، لكن لم يبق من كل هذا أثر واحد، ويصف المجسطي قصور الملوك من أسرة "شاندراجوبتا" فيقول إنها أعظم من أي شيء مما عساك أن تراه في فارس ما عدا "فرسوبولس"(أي مدينة الفرس) التي اتخذت نموذجاً احتذاه هؤلاء الملوك الهنود فيما يظهر (66) ولبث هذا التأثير الفارسي حتى عهر "أشوكا" لأنك تراه ظاهراً في تصميم قصره، إذ تجد هذا القصر مطابقاً "للقاعة ذات الأعمدة المائة" في "فرسوبولس"(67) كما ترى تأثير الفرس أيضاً ظاهراً في عمود "أشوكا" البديع في "لوريا" متوجاً في قمته العليا بتمثال الأسد.
فلما تحول "أشوكا" إلى البوذية، أخذت العمارة الهندية تلقي عن كاهلها هذا التأثير الأجنبي وتستمد روحها ورموزها من الديانة الجديدة، ومرحلة الانتقال ظاهرة في رأس عمود كبير، هو كل ما بقي لنا الآن من عمود آخر
يرجع إلى عهد "أشوكا" في "سارنات"(68) فهاهنا نشهد أية بلغت من الكمال
حداً يستوقف النظر حتى لقد قال عنه "سير جون مارشال" إنه يضارع "أي شيء من نوعه في العالم القديم"(69)، إذا ترى أربعة أسود قوية وقفت ظهراً لظهر حارسة، وهي فارسية خالصة من حيث الصورة والملامح. لكنك ترى أسفل هذه الأسود إفريزاً نحتت فيه بعض الشخوص نحتاً جيداً، من ذلك تمثال لحيوان قريب إلى نفوس الهنود وهو الفيل، ورمز مطبوع بطابعهم وهو
"العجلة البوذية التي ترمز للقانون"، ثم ترى تحت الإفريز صورة حجرية لزهرة كبيرة من زهرات اللوتس، أخطأ الباحثون من قبل فظنوها رأس عمود على صورة جرس مما يدل على تأثير الفرس، أما الآن فقد أجمع الرأي على أنها بين رموز الفن الهندي أقدمها وأوسعها انتشاراً وأخصها انطباعاً بالروح الهندية (70) والزهرة قائمة عمودية، وأوراقها منحنية إلى أسفل بحيث يظهر عضو التأنيث في الزهرة، الذي يحتوي على البذور، وهم يمثلون به رحم العالم، أو يصورون به عرش الله، باعتباره من أجمل ما تبديه من الطبيعة من ظواهر؛ وقد انتقلت زهرة اللوتس- أو سوسنة الماء- بما ترمز إليه، مع البوذية، حيث تغلغلت في ثنايا الفن الصيني والياباني، وقد اصطنعوا في عهد "أشوكا" صورة شبيهة بزهرة اللوتس في بناء النوافذ والأبواب، هي التي أصبحت "قوس حدوة الفرس الذي نشاهده في الأبهاء والقباب التي ترجع إلى "أشوكا"، وهو في بادئ أمره مستمد من تقويس السقوف المصنوعة من القش في منازل البنغال، والتي تشبه "العربة المُغَطَّاة" تلك السقوف التي كانت تسندها دعائم من قضبان الخيزران المثنى (71).
ولم تخلّف لنا العمارة الدينية في العصور البوذية إلا قليلاً من المعابد المخربة وعدداً كبيراً من "أكمات المقابر" وما يحيطها من "أسوار"، وقد كانت "أكمة المقابر" في الأيام الأولى مكاناً للدفن، ثم أصبحت في عهد البوذية ضريحاً كارياً يضم عادة آثار قديس بوذي؛ وتتخذ "أكمة المقابر" في معظم الأحيان صورة قبة من اللبن المجفف، في رأسها برج مدبب الطرف، وحولها سور حجري منحوت بالشخوص البارزة، ومن أقدم هذه "الأكمات" أكمة في "بهارهوت" غير أن الشخوص البارزة هناك غليظة الفن إلى درجة تجعلها بدائية الصناعة، وأرقى ما بقي لنا من هذه الأسوار في زُخرُفه هو السور الموجود
في "أمارافاتي"، ففيه ترى مسطحاً مساحته سبعة عشر ألفاً من الأقدام المربعة، تغطيها شخوص صغيرة بارزة، تدل على دقة في الصناعة بلغت من الروعة حداً جعل "فرجسون" يشهد لهذا السور بأنه "على الأرجح أبدع أثر في الهند كلها"؛ وأجمل ما نعرفه من "أكمات المقابر" أكمة "سانكي"، وهي واحدة من مجموعة في "بِهِلْسَا" من بلدان "بهوبال"؛ والظاهر أن البوابات الحجرية تحاكي نماذج خشبية قديمة، وهي التي رسمت الطريق للبوابات التي تراها عند مداخل المعابد في الشرق الأقصى؛ فكل قدم مربعة من الأعمدة أو تيجانها أو القطع المستعرضة أو الدعائم، محفورة بما لا يقع تحت الحصر من صور النبات والحيوان وأشخاص الإنسان وصور الأرباب؛ ونرى على عمود من أعمدة البوابة الشرقية نحتاً رقيقاً يمثل رمز البوذية الدائم- وهو "شجرة بوذى" أي المكان الذي أشرقت فيه على صاحب العقيدة أنوار الحقيقة؛ وعلى نفس البوابة كذلك تجد تمثالاً لإلهة على هيئة قوس رشيق،
وهي "ياكشي" ولها أطراف وشفاه بدينة وشفاه مليئة وخصر نحيل وثديان ممتلئان.
وبينما كان الموتى من القديسين يرقدون في "الأكمات" كان أحياء الرهبان يحتفرون لأنفسهم في صخور الجبل معابد يعتزلون فيها الدنيا ويعيشون في تراخ وسلام، بمنجاة من عوامل الجو ومن لفحة الشمس ووهجها؛ ونستطيع أن نتبين مدى قوة الحافز الديني في الهند إذا لحظنا أنه قد بقي لنا أكثر من ألف ومائتي معبد من هذه المعابد الكهفية، بقي هذا العدد لنا من عدة ألوف بنيت في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، بعضها للجانتيين والبراهمة، لكن معظمها للجماعات البوذية، وفي معظم الحالات ترى مداخل هذه الأديرة (أو الفهارات كما يسمونها) بوابة ساذجة على هيئة حدوة الفرس أو قوس زهرة اللوتس؛ وأحياناً - كما هي الحال في "ناسيك" - يكون المدخل واجهة مزخرفة، قوامها أعمدة قوية ورؤوس حيوان وعَتَبٌّ منحوت نحتاً يتطلب صبراً لا ينفد،
وكثيراً ما كانوا يزينون المدخل بأعمدة وأستار حجرية وبوابات غاية في جمال التصوير (74)، وأما الداخل ففيه "شايتيا" أي قاعة للاجتماع بأعمدة تفصل الوسط عن الجانبين، وعلى كلا الجانبين حجيرات للرهبان، وفي الطرف
النائي من الداخل مذبح عليه بعض الآثار القديمة
(1)
ومن أقدم هذه المعابد الكهفية، وقد يكون أجملها جميعاً، معبد في "كارل" الواقعة بين "بونا" و"بمباي"، ففي هذا المعبد أنتجت بوذية "هنايانا" أروع آياتها الفنية.
وأما كهوف "أجانتا" ففضلاً عن كونها مخابئ لأعظم الصور البوذية، فهي كذلك تضارع "كارل" في كونها أمثلة لذلك الفن المركب من جانبين: فنصفه عمارة ونصفه نحت، وهو ما يميز معابد الهند؛ ففي الكهفين رقم (1) ورقم (2) قاعات فسيحة للاجتماع، سقوفها - المنحوتة والمرسومة بزخارف رصينة لكنها رشيقة - قائمة على عمد منقوشة بخطوط محفورة، مربعة عند أسفلها مستديرة عند قمتها، مزخرفة برسوم من الزهر ومتوجة برؤوس لها فخامتها (75) ويتميز الكهف رقم (19) بواجهة أتقنت زخرفتها بتماثيل بدينة ورسوم بارزة مشتبكة الأجزاء (76)، وفي الكهف رقم (26) تنهض أعمدة إلى إفريز متوج بتماثيل منحوتة في دقة تفصيلية يستحيل أن تتم إلا إن توفرت لها الحماسة الدينية والفنية في آن معاً (77)؛ فلا تكاد تجد ما يبرر لك أن تسلب "أجانتا" الحق في أن تعدَّ واحدة من أعظم ما خلف تاريخ الفن من آثار.
وأفخم المعابد البوذية الأخرى التي لا تزال قائمة في الهند، البرج العظيم في "بوذ - جايا"، وقيمته في أقواسه المصطبغة بصبغة قوطية خالصة، ومع ذلك فتاريخها يرجع - فيما يظهر - إلى القرن الأول الميلادي (78).
وأهم ما تتميز به العمارة البوذية على وجه الجملة هو أنها مفككة، وجلالها في تمثيلها قبل أن يكون في بنائها؛ ويجوز أن تكون روح التزمت الديني العالقة بها هي التي جعلتها في ظاهرها منفرة للعين عارية عما يجذب النظر؛ وأما الجانتيون فقد توجهوا بعناية أكبر من عناية البوذيين، إلى فن العمارة، وكانت
(1)
تطابق هذا الداخل مع داخل الكنائس المسيحية قد أوحى بإمكان أن يكون الفن الهندي قد أثر في فن العمارة المسيحية (74 م).
معابدهم خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر أجمل معابد الهند على الإطلاق
وهم في بادئ أمرهم لم يخلقوا لأنفسهم نمطاً في العمارة خاصاً بهم، واكتفوا في البداية بمحاكاة الطريقة البوذية (مثال ذلك ما نراه في إكوار) التي تحتقر المعابد في صخور الجبل، ثم بمحاكاة معابد فشنو وشيفا، وهي على نمط يتميز بأنه يقوم على مجموعة من الجدر فوق نشز من الأرض؛ هذه المعابد كانت بسيطة الظاهر، لكنها كانت كثيرة التفصيلات غنية الفن من الباطن - ولعلها في ذلك أن تكون رمزاً موفقاً للحياة المتواضعة، وأخذ الناس يندفعون بروح التقوى فيضيفون إلى هذه المعابد تمثالاً في إثر تمثال مما يخلد أبطال الجانتية، حتى لقد بلغ عددها في "شاترونجايا" - حسب إحصاء فيرجسون - ستة آلاف وأربعمائة وتسعة وأربعين تمثالاً (79).
وأما المعبد الجانتي في "أيهول" فيكاد يكون إغريقي النمط، بصورته الرباعية الأضلاع، وأعمدته الخارجية، ومدخله، والغرفة الداخلية، أو إن شئت فقل الحجيرة التي تتوسطه من الداخل (80)؛ وقد أقام الجانتيون والفشناويون والشيفاريون في "خاجوراهو" ما يقرب من ثمانية وعشرين معبداً قريباً بعضها إلى بعض؛ كأنما أرادوا بها أن يضربوا مثلاً لروح التسامح الديني في الهند؛ وبين تلك المعابد معبد "بارشوانات"(81) الذي يبلغ درجة الكمال، وهو ينهض مخروطاً فوق مخروط حتى يبلغ ارتفاعاً هائلاً، ويؤوي في جدرانه المحفورة مدينة حقيقية من القديسين الجانتيين؛ وقد أقام الجانتيون على جبل "أبو"، وارتفاعه فوق صدر الصحراء أربع آلاف قدم، معابد كثيرة منها اثنان باقيان، هما معبد "فيمالا" ومعبد "تجاه بالا"، يعدان أعظم ما أبدعته هذه الطائفة في مجال الفنون؛ فقبة الضريح "تجاه بالا" من الأشياء التي توقع في نفس الرائي أثراً عميقاً يتضاءل أمامه كل ما يكتب عن الفنون بحيث يصبح تافهاً عاجزاً (82)؛ وأما معبد "فيمالا" المبني كله من المرمر الأبيض فمؤلف من خليط من أعمدة لا يطرد فيها نظام، ترتبط بأقواس أبدعها الخيال
العجيب بمصاطب منحوتة نحتاً أميل إلى البساطة، وفوق الأعمدة قبة من المرمر بولغ في حفرها بالتماثيل الكثيرة لكن حفرها بلغ من الرقة حداً يروعك جلاله وأنت تستعرضه؛ ويقول فيه "فيرجسون": "إن النحت قد أتقنت تفصيلاته وأجيدت زخرفته؛ حتى ليجوز لنا أن نقول إنه ليس في العالم كله ما يفوقه في ذلك؛ إذ النقوش التي زخرف بها المعماريون مُصَلَّى هنري السابع في وستمنستر أو في أكسفورد، تعتبر غليظة بغيضة إذا قورنت بنقوش ذلك المعبد (83).
ونستطيع أن نلحظ في هذه المعابد الجانتية ومعاصراتها، مرحلة الانتقال من صورة الضريح البوذي المستديرة إلى نمط البرج الذي ساد في عصور الهند الوسطى فقاعة الاجتماع المحاطة بأعمدة من الداخل جاءوا بها إلى الخارج حيث تحولت إلى ممشى عند المدخل، ثم تقع الحجيرة خلف هذا الممشى، ويرتفع فوقها البرج المعقد المنحوت في مستويات تقل مساحة كلما ازدادت ارتفاعاً، وعلى هذا التصميم بنيت معابد الهندوس في الشمال، وأوقع مجموعة من هذه المعابد في نفس الرائي، هي المجموعة المسماة (بهوفانشوارا) في إقليم "أوريسا"، وأجمل معبد في هذه المجموعة هو معبد "راجاراتي" الذي أقيم للإله "فشنو" في القرن الحادي عشر الميلادي، وهو عبارة عن برج شامخ يتألف من أعمدة نصف دائرية ملاصق بعضها لبعض، تغطيها التماثيل وتعلوها طبقات من الحجر تتناقص حجماً كلما ازددنا معها صعوداً، وبهذا يكون البرج منحنياً إلى الداخل ومنتهياً بتاج دائري كبير ومسلة؛ وبالقرب منه يقع معبد "لنجاراجا" وهو أكبر من معبد "راجاراني" لكنه لا يبلغ في الجمال مبلغه، ومع ذلك فكل نقطة من مسطح البناء قد مَرَّت عليها يد النحات بإزميلها، حتى لقد قدرت تكاليف النحت ثلاثة أمثال تكاليف البناء ذاته (84) فالهندوسي لم يعبّر عن تقواه بضخامة معابده الجبارة وحدها، بل أضاف إلى الضخامة تفصيلات فنية احتاجت في إخراجها إلى صبر طويل، فلم يكن عنده شيء يَضِنُّ به على الإله مهما بلغت نفاسته.
وإنه لمن البغيض إلى النفس أن نذكر قائمة آيات البناء الهندوسي في الشمال غير التي ذكرناها، دون أن نذكر أوصافها التي تتميز بها، وأن نمثلها بصورها الفوتوغرافية؛ ومع ذلك فيستحيل على من يسجِّل المدنيَّة الهندية أن يغض الطرف عن معابد "سوريا" في "كاناراك" و "موزيرا"، وعن برج "جاجانات بوري"، وعن البوابة الجميلة في "فادناجار"(85) والمعبدين الضخمين "ساس- باهو" و "تلى- كار- ماندير" في "جواليور"(86) وقصر "راجا مان سنج" وهي أيضاً في "جواليور"(87)"وبرج النصر" في شيتور (88)، ولا تستطيع العين أن تخطئ معابد الشيفاويين في "خاجوراهو"؛ وفي المدينة نفسها ترى القبة الكائنة عند دهليز المدخل في معبد "خانوارماث"؛ وهي تدل دلالة جديدة على قوة الفتوة السارية في العمارة الهندية، وعلى ما في النحت الهندي من غزارة تفصيلات وصبر في الصناعة (89) وعلى الرغم من أن معبد شيفا في "إلفانتا" لم يبق منه إلا أنقاض، فهو دليل بأعمدته الضخمة المحفورة، ورؤوس الأعمدة التي على شكل نبات الفُطْر، ونقوشه البارزة التي لا يفوقها شيء في بابها، وتماثيله القوية (90)، هو بهذا كله دليل على عصر قويت فيه الروح القومية، وازدادت المهارة الفنية على نحو لا يكاد يعلق منه بالذاكرة شيء.
إنه ليستحيل علينا إلى الأبد أن نقدر الفن الهندي حق قدره، لأن الجهل والتعصب قد قضيا على أعظم آثاره، ثم كادت تدمر البقية الباقية منه؛ ففي "إلفانتا" أثبت البرتغاليون تقواهم بتحطيم التماثيل والنقوش البارزة على نحو من الهمجية لم يعرف حدوداً يقف عندها؛ وتكاد لا تجد مكاناً في الشمال لم يقوض فيه المسلمون تلك الروائع الباهرة التي يجمع رأي الرواة على أنها كانت أرفع قدراً من آيات العهد الذي تلا عهدها، مع أن هذه الأخيرة تثير فينا اليوم شعور العجب والإعجاب؛ لقد أطاح المسلمون برؤوس التماثيل، ثم حطموها عضواً عضواً، وعدلوا من الأعمدة الرشيقة التي كانت في معابد الجانتيين (91)
بحيث تصلح لمساجدهم، ثم قلدوها إلى حد كبير فيما صنعوه لأنفسهم؛ لقد تعاون الزمن والتعصب على عملية الهدم، ذلك لأن الهندوس المتمسكين بأصول عقيدتهم هجروا وأهملوا المعابد التي دنستها أيدي الأجانب حين مسَّتها (92).
لكنه في مقدورنا أن نحدس كم بلغت العمارة الهندية في الشمال من عظمة مفقودة، وذلك استدلالاً من الأبنية القوية التي لا تزال قائمة في الجنوب، حيث الحكم الإسلامي لم يتوغل إلا إلى حد ضئيل، وحيث أدى إلف المسلمين للأوضاع في الهند إلى الحدِّ من كراهيتهم لأساليب الحياة عند الهندوس؛ زد على ذلك أن العصر الزاهر لعمارة المعابد في الجنوب، جاء في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بعد أن راض "أكبر" المسلمين وعلمهم بعض الشيء كيف يقدرون الفن الهندي؛ فنتج عن ذلك أن أصبح الجنوب غنياً بمعابده، التي تسمو عادة على قريناتها التي ما زالت قائمة في الشمال، وتزيد عليها ضخامة وروعة؛ ولقد أحصى "فيرجسون" نحو ثلاثين معبداً "درافيديا" أي كائناً في الجنوب - كل معبد منها في رأيه لا بد أن يكون قد كلف ما تكلفه كاتدرائية إنجليزية من النفقات (93)؛ واصطنع الجنوب أنماط الشمال بأن جعلوا أمام الدهليز (ويسمونه ماندا بام)(بوابة واسمها جوبورام) ودعموا الدهليز بأعمدة أسرفوا في كثرتها، وراح هذا الجنوب يستخدم في غير تحفظ عشرات من الرموز، من الصليب المعقوف "السواستكتا"
(1)
ورمز الشمس وعجلة الحياة، إلى شتى ضروب الحيوان المقدس؛ فالثعبان رمز لعودة الروح بالتناسخ لما له من قدرة على تبديل جلده؛ والثور هو المثل الأعلى المرموق باعتباره رمزاً للقوة التناسلية، وعضو الذكورة يمثل تفوق "شيفا" في التناسل، وكثيراً ما كانوا يخلعون صورته على المعبد كله.
(1)
"سواستكا" كلمة سنسكريتية، مركبة من "سو" ومعناها طيب "وآستي" ومعناها حياة؛ وهذا الرمز لم يزل يظهر في عصور التاريخ في صنوف من الشعوب مختلفة، منها البدائي ومنها الحديث، إذ يتخذه الناس عادة رمزاً للحياة الطيبة أو الحظ السعيد.
ويتألف تصميم البناء في هذه المعابد الجنوبية من ثلاثة عناصر هي: البوابة، والدهليز ذو الأعمدة والبرج (فيمانا) الذي يحتوي على قاعة الاجتماع السياسية أو الحجرة؛ ولو استثنينا حالات قليلة مثل قصر "تيرومالاناياك" في "مادورا" وجدنا كل العمارة في جنوب الهند كهنوتية، ذلك لأن الناس لم يُعنِهم كثيراً أن يبنوا دوراً فخمة لأنفسهم فتوجهوا بفنهم إلى الكهنة والآلهة؛ ولن نجد مثلاً أوضح من هذا نبين به إلا معابد من الأبنية الكثيرة التي أقامها الملوك الشالوكيون وشعبهم؛ ولا يستطيع أن يصف التناسق الجميل الذي تراه في ضريح "إتاجي" في حيدر أباد
(1)
أو المعبد القائم في "سمناثبور" في إقليم "ميسور"(96) الذي نقشت في صخوره الضخمة الجبارة نقوش رقيقة كأنها الوشى، أو معبد "هويشا ليشوارا" في "هاليبيدا"(97) وهي أيضاً في إقليم وميسور" - أقول لا يستطيع أن يصف التناسق البديع في هذا كله، سوى هندوسي ورع طلق اللسان؛ ويقول "فيرجسون" عن هذا المعبد الأخير "إنه أحد الأبنية التي يتخذها المدافع عن العمارة الهندية حجة تؤيد دفاعه، ثم يضيف إلى ذلك قوله: إن في هذا المعبد "ترى الفن في مزج الخطوط الأفقية بالخطوط الرأسية، وترى تصرف الفنان في التخطيط وفي النور والظل، مما يفوق بكثير أي أثر من آثار الفن القوطي؛ فوقع هذا المعبد في نفس الرائي هو بالضبط ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا ما كان يصبو إليه مهندسو العمارة في القرون الوسطى، لكنهم لم يبلغوا منه قط هذه الدرجة من الكمال التي تراها في هاليبيدا"(98).
ولقد عجبنا لهذا الورع الدؤوب الذي في مستطاعه أن يحفر ألفاً وثمانمائة
(1)
فهاهنا - كما يقول "مِدُ وزتبلر" - "ترى النحت على بعض العُمُد والنقوش في عتبات الأبواب وسقوفها، يعز عن الوصف، فيستحيل أن تجد زخرفة في فضة أو ذهب أجمل من هذه النقوش: ولسنا ندري اليوم أبداً بأي الآلات أمكن لهذا الصخر الشديد الصلابة والقوة أن يصاغ ويصقل بحيث يكون كما هو الأن".
قدم من إفريز في معبد "هاليبيدا" وأن يصور فيها ألفي فيل، كل فيل منها يختلف عن كل ما عداه (99) فماذا نقول في الصبر والشجاعة اللذين استطاعا أن يضطلعا بحفر معبد بأسره من الحجر الأصم؟ ومع ذلك فقد كان هذا عملاً شائعاً لدى صنّاع الهنود، فقد نحتوا في "ممالابورام" على الساحل الشرقي بالقرب من "مدراس" عدة معابد (مما يسمى بادوجا) أجملها معبد" ذارما- راجا- راذا" معناها دير لأسمى الطوائف الدينية، وفي "إلورا"- وهو مكان يحج إليه المتعبدون في حيدر أباد- تنافس البوذيون والجانتيون والهندوس المتمسكون بعقيدتهم الأصلية، في احتقار معابد كبيرة ذات حجر واحد،
من صخور الجبال؛ وأفخم هذه المعابد هو الضريح الهندوسي في "كايلاشا"(100) وقد أطلق عليه هذا الاسم نقلاً عن اسم الجنة الأسطورية التي تتبع "شيفا" في جبال الهمالايا؛ فها هنا ترى البناءين قد حفروا في غير كلل مائة قدم في جوف الصخر، ليفرغوا المكان حول الجلمود المطلوب - وكتلته مائتان وخمسون قدماً في الطول ومائة وستون قدماً في العرض - لتحويله إلي معبد، وبعدئذ حفروا الجدران فصيروها أعمدة قوية وتماثيل ونقشاً بارزاً، ثم نقروا جوف الحجر نقراً بالأزاميل حتى أفرغوه، وأسرفوا في زخرفة ذلك الداخل بأعجب ألوان الفنون، وليكن النقش الجداري الثابت الخطوط، والذي يطلق عليه اسم "المحبين"(101) مثلاً لها، وأخيراً عمدوا إلى حفر سلسلة من المُصلَّبات والأديرة عميقة في الصخر على ثلاثة من جوانب المعبد المحفور (102)، كأن ما صنعوه لم يكْف لاستنفاد كل ما يختلج في صدورهم من رغبة في البناء؛ وفي رأي بعض الهندوس (103) أن معبد "كايلاشا" يضارع أية آية من آيات الفن في تاريخه كله.
ومع ذلك فقد كان هذا البناء سخرة كما كانت الأهرامات من قبل، ولا بد أن يكون قد كلف طائفة كبيرة من الناس عرقهم ودماءهم، وأما الذي دأب بإرادته على هذه الأبنية دأباً لم يعرف الفتور، فالنقابات العمالية، أو أصحاب السلطان، لأنهم نثروا في كل إقليم من أقاليم الهند الجنوبية أضرحة جبارة بلغت من كثرة العدد حداً يوقع الحيرة في نفس الدارس أو السائح، حتى لينسى الخصائص القروية التي تميز كل معبد على حدة، إزاء كثرتها وقوتها؛ ففي "باتاداكال" أهدت "الملكة لوكاما هايفي" إحدى زوجات "الملك الشلوكيّ فكراماديتيا الثاني" - أهدت إلى "شيفا" "معبد ثيروباكشا" الذي يعد من أسمى المعابد العظيمة في الهند (104): وفي "تانجور" جنوبي "مدراس" اقتسم "الملك الكوليّ "راجا العظيم" - بعد أن فتح جنوبي الهند كله وجزيرة سيلان - اقتسم ما ظفر به من غنائم مع الإله "شيفا" بأن
أقام له معبداً جليلاً صُمِّمَ بناؤه على أساس أن يمثل الرمز التناسلي لذلك الإله
(1)
؛ وبالقرب من "تريكبنوبولي" إلى الغرب من تانجور - أقام عُبّاد "فشنو" معبد "شِرِى رانجام" على تل عال، أخص خصائصه المميزة "ماندابام"(قاعة ذات أعمدة كثيرة) على هيئة "قاعة من ذوات الألف عمود" وكل عمود منها كتلة واحدة من الجرانيت، حفر بالنقوش المعقدة؛ وكان الصناع الهندوس لا يزالون ماضين في عملهم ليتمموا بناء هذا المعبد، حين جاءت رصاصات الفرنسيين والإنجليز الذين كانوا يقاتلون في سبيل امتلاك الهند ففرقتهم، وانتهى بذلك عملهم (106)؛ وعلى مقربة من ذلك المكان - في مادورا - أقام الشقيقان "موتو" و "تيرومالا ناياك" ضريحاً فسيحاً لشيفا، فيه قاعة أخرى بألف عمود وحوض مقدس، وعشر بوابات، منها أربع ترتفع ارتفاعاً هائلاً، وقد نحتت بعدد كبير متشابك من التماثيل؛ وهذه الأجزاء مجتمعة تؤلف منظراً من أشد المناظر وقعاً في النفس مما عساك أن تصادفه في الهند؛ ويحق لنا أن نحكم استدلالاً من هذه النتف الباقية ما كانت عليه العمارة أيام ملوك "فيجاياناجار" من خصوبة فنية واتساع؛ وأخيراً ترى في "رامش فارام" وسط مجموعة الجزائر التي يتكون منها "جسر آدم" الواقع بين الهند وسيلان، أقام براهمة الجنوب خلال خمسة قرون (1200 - 1769 ميلادية) معبداً زُخْرِف محيطه بأروع ما قد تصادفه من أبهاء أو مماش - وطول هذا البهو أربعة آلاف قدم من العُمُد المزدوجة، نحتت نحتاً غاية في الجلال وأريد بها في تصميمها أن تفئ بظل بارد، وأن تمكن من مشاهدة مناظر رائعة للشمس والبحر، لملايين الحجاج الذين يلتمسون سبلهم إليها من مدن بعيدة حتى يومنا هذا لكي يتقدموا بآمالهم وآلامهم خُشَّعاً أمام آلهة لا تعبأ مما لهم من آمال وآلام.
(1)
قمة المعبد جلمود صخري واحد مساحته خمس وعشرون قدماً ويزن حوالي ثمانين طناً؛ ويقول الرواة الهندوس إنهم رفعوا الحجر إلى مكانه بسحبه على سفح مائل مسافة طولها أربعة أميال إلى أعلى: والأرجح أن تكون الصخرة قد فرضت على من قام بهذا وأمثاله بدل الآلات "التي تستعبد الإنسان".
2 - العمارة في "المستعمرات"
سيلان - جاوه - كمبوديا - الخمارسة - ديانتهم -
أنكور - سقوط الخمارسة - سيام - بورما
على أن الفن الهندي قد صحب الديانة الهندية في عبورها للمضايق والحدود، حتى بلغا معاً سيلان وجاوه وكمبوديا وسيام وبورما والتبت وحوتان وتركستان ومنغوليا والصين وكوريا واليابان؛ ففي آسيا تخرج الطرق كلها من الهند" (107) فقد استقرت جماعات هندوسية جاءت من وادي الكنج، في جزيرة سيلان في القرن الخامس قبل المسيح؛ وبعد ذلك التاريخ بمائتي عام أرسل أشوكا بابنه وابنته ليحولا أهل تلك الجزيرة إلى البوذية، وعلى الرغم من أن هذه الجزيرة الغاصَّة بسكانها اضطرت إلى مقاومة الغزوات "التامِليّة" خمسة عشر قرناً، فقد استطاعت أن تحتفظ بثقافة خصبة حتى جاء البريطانيون واستولوا عليها سنة 1815.
بدأ الفن السنغالي بما يسمى "داجوبات" - والداجوبا ضريح قديم ذو قبة يشبه "أكمة المدافن" عند بوذيي الشمال، ثم تطورت "الداجوبات" حتى أصبحت معابد عظيمة تميز بآثارها العاصمة القديمة "أنوراذابورا" وقد كان مما أنتجه ذلك الفن عدد من تماثيل بوذا تعدّ بين أجمل التماثيل البوذية (108) كما أنتج "تشكيلة" كبيرة من التحف الفنية، ثم بلغ ختامه مؤقتاً حين أقام آخر ملك عظيم حكم سيلان - وهو الملك "شِرِى راجا سِنْغا" - "معبد السِّنْ" في "كاندي"؛ وكان من أثر فقدان البلاد استقلالها أن دب الانحلال في الطبقات العليا، فاختفت من سيلان تلك الرعاية وذلك الذوق اللذان لا بد منهما ليكونا حافزين وضابطين للفنان في عمله (109).
والعجيب أن أعظم المعابد البوذية - وقد يزعم بعض الباحثين أنه أعظم
المعابد إطلاقاً في العالم كله (110) - ليس في الهند بل تراه في جاوه؛ ففي القرن الثامن فتحت أسرة "شايلندرا" السومطرية جزيرة جاوه، وأقامت فيها البوذية ديانة رسمية، وأعدت المال اللازم لبناء المعبد الضخم في "بوروبودور"(ومعناها بوذون كثيرون)(111)، والمعبد في ذاته معتدل الحجم غريب التصميم فهو عبارة عن " أكمة للمدافن" صغيرة يعلوها ما يشبه القبة، وتحيط بها اثنتان وسبعون أكيمة رصت حولها في دوائر متحدة المراكز؛ ولو كان هذا كل شيء لما كانت "بوروبودور" شيئاً مذكوراً؛ أما ما يخلع الجلال على البناء فقاعدته التي تبلغ مساحتها أربعمائة قدم مربعة، فهي مصطبة عظيمة تتألف من سبع درجات تتدرج صغراً كلما علوت معها، وفي كل درجة منها أركان للتماثيل، حتى لقط عَنّ لمن قاموا بنحت التماثيل في "بوروبودور" أن يقيموا تمثال بوذا في هذا الركن أو ذاك أربعمائة وستاً وثلاثين مرة، ولم يكْفِهم كل هذا، فنحتوا في جوانب الدّرَج ثلاثة أميال من النقوش البارزة يصورون بها ما ترويه الأساطير عن مولد صاحب القصيدة ونشأته وإشراق الحقيقة عليه، وأظهروا في كل ذلك مهارة جعلت هذه النقوش البارزة من أبدع مثيلاتها في آسيا (112)؛ وبلغت العمارة الجاوية أوجها في هذا الضريح البوذي الجبار، والمعابد البرهمية المجاورة في "برامبانام"، ثم انحدرت بعدئذ انحداراً سريعاً، فقد كانت جزيرة جاوه حيناً من الدهر قوة بحرية فارتفعت إلى الثروة والترف، ورعت في ظلها كثيراً من الشعراء؛ لكن ما جاءت سنة 1479 حتى أخذ المسلمون يعمرون هذا الفردوس الاستوائي، ومنذ ذلك الحين لم تنتج فناً ذا خطر، ثم وثب فيها الهولنديون سنة 1595، وجعلوا يستولون عليها إقليماً بعد إقليم مدى القرن التالي لذلك التاريخ، حتى بسطوا عليها سلطانهم كاملاً.
ولا يفوق معبد "بوروبودور" إلا معبد هندوسي واحد، وهو أيضاً ليس في الهند، ولو أن هذا المعبد قد طمسته الغابة البعيدة التي اكتنفته بأشجارها
مدى قرون عدة، حتى جاء مستكشف فرنسي سنة 1858، وهو يشق لنفسه الطريق خلال الجزء الأعلى من وادي نهر ميكونج، وعندئذ وقع بصره خلال الأشجار والغصون، على منظر بدا له معجزة من المعجزات، إذ رأى معبداً ضخماً يبلغ في تصميم بنائه حداً من الجلال لا يكاد يصدقه العقل؛ رآه قائماً وسط الغابة، تلتف حوله: وتكاد تخفيه أغصان الشجر وأوراقه، وشهد في ذلك اليوم معابد كثيرة كان بعضها قد غطته الأشجار فعلا أو شَقَّته نصفين؛ فالظاهر أن هذا المستكشف قد وصل في أخر لحظة يمكن فيها أن يحول دون انتصار الأشجار الملتفة على هذه الآيات التي أبدعتها يد الإنسان، ولم يؤمن أحد بصدق ما رواه هذا الرحالة "هنري موهو" حتى ذهب إلى المكان غيره من الأوربيين وأيدوا روايته؛ وبعدئذ هبطت بعثة علمية على ذلك المكان الذي قد كان يوماً صومعة مسكونة، وقامت مدرسة بأسرها في باريس، هي "مدرسة الشرق الأقصى" كرست نفسها لرسم هذا البناء المستكشف ودراسته؛ هذا هو "أنجوروات" الذي يعد اليوم أعجوبة من أعاجيب العالم
(1)
.
كان يسكن الهند الصينية، أو كمبوديا، في نهاية التاريخ المسيحي، قوم أغلبهم من الصينيين، ومنهم فريق من أهل التبت، وكان هؤلاء السكان في جملتهم يسمون بالخمارسة (أو الخمبوجيين)؛ فلما زار "تشيو - نا - خوان" - وكان يسفر لقبلاي خان - عاصمة "خامر" واسمها "انكورثوم"، وجد حكومة قوية تحكم أمة جمعت ثراءها من أرزها وعرقها، ويقول "تشيو " إن ملكهم كانت له خمس زوجات "إحداهن خاصة، والأربع الأخريات يقابلن الجهات الرئيسية الأربع" كما كان له نحو أربعة آلاف محظية يحددن أوضاع إبرة البوصلة على تفصيل أدق (114)؛ وكانت البلاد تزخر بذهبها
(1)
في سنة 1604 روى مبشر برتغالي عن صيادين أنهم رووا له عن خرائب في الغابة؛ وكذلك قال قسيس آخر قولاً شبيهاً بهذا سنة 1672، لكن هذه الروايات لم يلتفت إليها أحد.
وحليها، والبحيرة مليئة بزوارق النزهة، وشوارع العاصمة غاصة بالعربات والهوادج ذات الستائر، والفيلة المطهمة، وكان سكانها يقربون من المليون، ومستشفياتهم كانت ملحقة بمعابدهم، ولكل منها جماعتها الخاصة من ممرضات وأطباء (115).
ولئن كان السكان صينيين، فقد كانت ثقافتهم هندية، تقوم دياناتهم على أساس بدائي هو عبادة الثعبان "ناجا" الذي ترى رأسه المروحية أينما وجهت النظر في الفن الكمبودي، وبعدئذ دخل آلهة الهندوسيين الكبار، الذين يكوّنون الثالوث الهندي وهم براهما: وفشنو، وشيفا، دخلوا تلك البلاد عن طريق بورما؛ وفي الوقت نفسه تقريباً جاء بوذا وارتبط عندهم بفشنو وشيفا، وأصبح إلهاً مقرباً عند الخمارسة، وتنبئنا النقوش عن الكميات الهائلة من الأرز والزبد والزيوت النادرة التي كان يقدمها الشعب كل يوم إلى القائمين بخدمة الآلهة (116).
وفي أواخر القرن التاسع، أهدى الخمارسة إلى الإله شيفا أقدم ما بقي لنا من معابدهم - معبد بايون - وهو الآن خراب منفر تكسوه إلى نصفه أنواع من النبات الذي يمسك بجذوره في الجدران فلا يزول عنها، وأما أحجاره التي وضعت بغير ملاط، فقد تباعدت في غضون الألف عام التي انقضت، حتى نتج عن تباعدها مَطٌّ في وجوه براهما وشيفا، على نحو جعلها تبدو مكشِّرة عن أنيابها في ابتسامة صفراء لا تليق بالآلهة، ومن تمثيل هذين الإلهين تكاد تتكوّن الأبراج كلها، وبعد ذلك بثلاثة قرون استخدم العبيد ومن جاء بهم الملوك من أسرى الحرب في بناء "أبحوروات"(117) وهي آية فنية تضارع أجمل الآثار المعمارية عند المصريين أو اليونان أو بناء الكاتدرائيات في أوربا، ويحيط بهذا المعبد فندق كبير طوله اثنا عشر ميلاً، ويَعْبُرُ الخندق جسرٌ مرصوف تحرسه ثعابين الناجا المخيفة نحتت من الحجر، وبعدئذ يجيء جدار مزخرف يحيط بالمعبد، تتلوه أبهاء فسيحة على جدرانها نقوش
بارزة تقص من جديد حكايات "الماهابهاراتا" و"رامايانا" ثم بعدئذ يجيء البناء نفسه بما له من جلال، ينهض على رقعة فسيحة، درجة فوق درجة كأنه هرم مدرج، حتى يصل إلى حرم الإله الذي يرتفع مائتي قدم؛ وضخامة الحجم في هذا المعبد لا تقلل من روعة الجمال، بل تتعاون الضخامة مع الجمال فيتكون منهما جلال يروع النفس، ويهز عقل المشاهِد الغربّي هزّاً حتى يتبين في غموض ذلك المجد القديم الذي ظفرت به المدنية الشرقية يوماً؛ فقد يستطيع المشاهد أن يرى بعين الخيال تلك العاصمة وقد زخرت بساكنيها، وحشد العبيد وهم ينحتون ثقال الأحجار ويجرونها ويرفعونها، وطوائف الصناع وهم ينقشون النقوش البارزة وينحتون التماثيل في أناة كأنما يستحيل أن يفلت الزمن من أيديهم قبل أن يفرغوا من عملهم؛ وجماعة الكهنة وهم يخدعون الناس ويُسرّون عن نفوسهم و "زانيات المعبد"(وما زلن مرسومات على الجرانيت) وهن يغوين الناس ويسرِّين عن نفوس الكهنة؛ وهل الطبقة العالية وهم يبنون القصور شبيهة ببناء "فنيان آكا" بما له من "شرفة شرفية" فسيحة؛ ثم يرتفع فوق هؤلاء جميعاً، بمجهود الناس جميعاً، الملوك القساة الأقوياء.
كان الملوك بحاجة إلى كثرة من العبيد، فلم يجدوا بداً من إثارة الحروب الكثيرة، وكان النصر حليفهم غالباً، حتى اقترب القرن الثالث عشر من ختامه - وكان ذلك "في منتصف الطريق" من حياة دانتي - هزمت جيوش سيام هؤلاء الخمارسة، ونهبوا مدنهم، وتركوا معابدهم المتألقة وقصورهم الأنيقة خراباً بلقعاً؛ وترى اليوم قلة من الزائرين يتخللون الأحجار التي تخلخل بنيانها، ويشاهدون كيف دأبت الأشجار في صبر لا ينفد على الضرب بجذورها، أو النفاذ بغصونها في ثنايا الصخور، تنزعها بعضها عن بعض شيئاً فشيئاً، لأن الأحجار ليس فيها ما في الشجر من رغبة تعمل على تحقيقها فتنمو، ويحدثنا "تشيو - تا - خوان" عن الكتب الكثيرة التي كتبها الناس في "أنكور" لكنه لم يبق لنا من هذه المؤلفات صفحة واحدة؛ لأنهم صنعوا
ما نصنعه نحن الآن، وهو أنهم كتبوا أفكاراً سريعة الزوال على نسيج سريع الفناء، ومات كل ما قد ظنوا به الخلود؛ إن النقوش البارزة الرائعة تصور الرجال والنساء وقد لبسوا غلالات وشباكاً ليتقوا البعوض والزواحف الثعبانية الملمس، أما الرجال والنساء فقد انحدروا إلى فناء، لا يخلدون إلا على الصخور وأما البعوض والضَّباب فما تزال باقية.
وعلى مقربة من تلك البلاد تقع سيام التي أخذ شعبها - ونصفه من التبت ونصفه الأخر من الصين - بطرد الخمارسة الفاتحين شيئاً فشيئاً وارتقى بمدينة قائمة على أساس من الديانة الهندية والفن الهندي، وبعد أن تغلبت سيام على "كمبوديا" بنى أهلها لأنفسهم عاصمة جديدة، هي "أيوذيا" على نفس الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة الخمارسة القديمة؛ ومن هذا المركز وسعوا من نطاق نفوذهم حتى إذا ما دنا التاريخ من عام 1600، كانت إمبراطوريتهم تشمل جنوبي بورما وكمبوديا وشبه جزيرة الملايو؛ ووصلت تجارتهم إلى الصين شرقاً وإلى أوربا غرباً، وقام فنانوهم بزخرفة المخطوطات، والرسم على الخشب بدهان "اللُّكْ" وإحراق الخزف على نحو ما يفعل الصينيون، والوشي على القماش الحريري الجميل، وكانوا أحياناً ينحتون تماثيل من الطراز الأول
(1)
؛ ودار التاريخ دورته التي لا يصدر فيها عن هوى، وإذا بأهل بورما يستولون على "أيوذيا" ويخربونها بكل ما فيها من فنون؛ فابتنى السياميون في عاصمتهم الجديدة "بنكوك" معبداً عظيماً، فيه إسراف في الزخرفة، لكنه على كل حال إسراف لا يخفي جمال تصميمه إخفاء تاماً.
كان أهل بورما من أعظم من شهدت آسيا من بناة للعمارة؛ فقد جاءوا
(1)
مثال ذلك تمثال بوذا الحجري المدهون باللك وهو في متحف الفنون الجميلة في "بوسطن".
هابطين على هذه الحقول الخصبة من منغوليا والتبت، فوقعوا تحت تأثير الهنود، وأخذوا منذ القرن الخامس ينتجون الفنون في كثرة غزيرة على الطرز البوذية والفشناوية والشيفاوية، فينحتون التماثيل على غرار هذه الأنماط، ويقيمون "أكمات المدافن" التي بلغوا بها ذروتهم في معبد "أناندا" العظيم - وهو أحد المعابد في عاصمتهم القديمة "باجان" التي بلغ عدد معابدها خمسة آلاف؛ لكن "باجان" هذه وقعت فريسة لقبلاي خان فسلبها سلباً، ولبثت الحكومة البورمية مدى خمسمائة عام تنتقل من عاصمة إلى عاصمة؛ فكانت "مندلاي" حيناً من الدهر هي المركز الزاهر للحياة في بورما، ومستقر رجال الفن الذين أنتجوا الآيات الروائع في نواح كثيرة؛ من الوشي وصياغة الحلي إلى بناء القصر الملكي الذي نهض دليلاً على مدى استطاعتهم الفنية في المادة الهزيلة التي كانت تحت أيديهم، وهي الخشب (119)؛ وجاء الإنجليز إذ ساءهم ما عومل به مبشّروهم وتجارهم، فضموا بورما إلى أملاكهم سنة 1886، ونقلوا العاصمة إلى "رانجون"، وهي مدينة تقع في متناول البحرية الإمبراطورية، لتؤدبها إذا وقع فيها شيء من العصيان؛ فشيد البورميون في "رانجون" ضريحاً يعدّ من أبدع ما لديهم من أضرحة، وهو "شوي داجون" المشهور، ذلك المعبد الذهبي الذي يحج إلى قمته الملايين في إثر الملايين من بوذيي بورما كل عام، ولم لا؟ أليس يشتمل هذا المعبد على الشعرات نفسها التي كانت تغطي "شاكيا موني"؟
3 - العمارة الإسلامية في الهند
الطراز الأفغاني - الطراز المغولي - دلهي - أجرا - تاج محل
شهد الحكم المغولي آخر مراحل النصر التي بلغتها العمارة الهندية؛ إذ برهن أتباع محمد على أنهم أساتذة في فن البناء حيثما حلوا بقوة سلاحهم - غرناطة، والقاهرة، وأورشليم، وبغداد؛ فقد كان المنتظر من هؤلاء الرجال
الأشداء، بعد أن يوطدوا ملكهم في الهند على أركان ثابتة، أن يقيموا على هذه الأرض التي فتحوها مساجد في تأنق مسجد عمر في بيت المقدس، وفي ضخامة مسجد السلطان حسن في القاهرة، وفي رشاقة قصر الحمراء؛ نعم إن الأسرة المالكة "الأفغانية" استخدمت رجال الفن الهنود، واقتبست أسس الفن الهندوسي بل نقلت العمد من معابد الهنود وعدلت فيها بما يجعلها ملائمة لأغراضهم في العمارة، بحيث لم يكن كثير من المساجد سوى معابد هندية أعيد بناؤها لصلاة المسلمين (119)؛ لكن هذه المحاكاة الطبيعية سرعان
ما تحولت إلى طراز يمثل النزعة الإسلامية تمثيلاً يبلغ من الدقة حداً يثير فيك العجب أن ترى "تاج محل" في الهند، ولا تراه في فارس أو شمالي إفريقيا أو إسبانيا.
والبناء الذي يمثل مرحلة التطور هو "منار قطب"
(1)
؛ وهو جزء من مسجد بدئ في بنائه في دلهي القديمة بأمر من "قطب الدين أيبك" تخليداً لذكرى انتصارات هذا السلطان السفاك للدماء على الهنود، ولقد انتزعت أجزاء سبعة وعشرين معبداً هندياً لتتخذ مادة لبناء هذا المسجد ومنارته (120)؛ وها قد صمدت المنارة العظيمة لعوامل الجو سبعة قرون - ويبلغ ارتفاعها مائتين وخمسين قدماً، وهي مبنية من الحجر الرملي الأحمر الجميل، والنسب بين أجزائها هي غاية الكمال، ويتوجها المرمر الأبيض في طبقاتها العليا - هاهي ذي بعد سبعة قرون من فعل عوامل الجو، لا تزال آية من آيات الهند في دقة الصناعة وروعة الفن؛ وعلى وجه الجملة كان سلاطين دلهي في شغل بالقتل بحيث لم يبق لهم من وقتهم فراغ طويل ينفقونه في فن العمارة؛ وأكثر الأبنية التي خلفوها لنا مقابر أنشأوها لأنفسهم في حياتهم تذكرهم بأنهم - رغم سلطانهم - ذائقوا الموت كسائر الناس؛ وخير مثال لهذه المقابر، مقبرة "شرشاه" في "ساسيرام" من بلدان "بهِار"(121) فبناؤها شامخ صلب متين، وهو يمثل آخر مراحل الفن الإسلامي القوي قبل أن تدب فيه الطراوة حين أصبحت العمارة حليّاً من الحجر على أيدي ملوك المغول.
وجاء "أكبر" بما له من قدرة على الحياد في مشاعره بحيث يختار من كل ثقافة ما يراه صالحاً، فشج الميل السائد نحو دمج الطرز الإسلامية والهندوسية، وقد تضافرت الأساليب الهندية والفارسية في الآيات الفنية التي شيدها له فنانوه، تضافراً جعل بينها اتساقاً رائعاً، يرمز إلى الامتزاج الضعيف بين عقائد الهندوس وعقائد المسلمين، كما أراد لها "أكبر" أن تمتزج، في
(1)
وهي مئذنة مأخوذة من الكلمة العربية منارة، أي مصباح أو منار السفن.
الديانة التي ركبها تركيباً من عناصر اختار بعضها من هذه وبعضها الآخر من تلك؛ وأول أثر فني بقي لنا من حكمه، هو القبر الذي شيده قريباً من دلهي لأبيه "هميون"، وفيه يتمثل طراز من الفن خاص به - هو بسيط التخطيط، معتدل الزخارف، لكنه مع ذلك ينبئ برشاقة بنائه عما ستنتهي إليه الطريق في أبنية "شاه جهان" التي تفوقه جمالاً؛ وفي "فتح بورسِكْري" أقام له فنانوه مدينة امتزجت فيها قوة المغول الأوائل كلها برقة الأباطرة المتأخرين فهناك سُلّم يؤدي صعوداً إلى بوابة رائعة بنيت من الحجر الرملي الأحمر، وخلال قوسها الفخم يدخل الداخل إلى قاعة ملئت بآيات الفن الروائع، والبناء الأساسي عبارة عن مسجد، لكن أجمل أجزاء البناء ثلاث مقصورات أعدت لزوجات الإمبراطور المقربات إليه، والقبر المرمري الذي دفن فيه صديقه "سليم شِستي" الحكيم؛ فها هنا بدأ رجال الفن في الهند يُظهرون تلك المهارة في وشي الحجر التي بلغت ذروتها في الستار الموجود في "تاج محل".
ولم يسهم "جهان كير" في تاريخ العمارة عند شعبه إلا بقسط ضئيل، أما ابنه "شاه جهان" فقد كاد يجعل من اسمه اسماً يضارع اسم "أكبر" في سطوعه لميله الشديد نحو البناء الجميل؛ فأخذ ينثر ماله نثراً بغير حساب على رجال الفن عنده، على نحو ما نثر "جهان كير" ماله بغير حساب على زوجاته؛ وقد صنع ما صنعه ملوك أوربا الشمالية، في استدعائه لرجال الفن الإيطاليين الذين فاضوا عن حاجة بلادهم، وجعلهم يعلَّمون رجال النحت في بلاده كيف يطعمون المرمر بفسيفساء من الأحجار الكريمة، ذلك الفن الذي أصبح أحد مميزات الزخرفة الهندية في عصره؛ ولم يكن "جهان" مسرفاً في تدينه، ومع ذلك فمسجدان من أجمل مساجد الهند بُنيا في ظل رعايته، وهما مسجد الجمعة في "دلهي" ومسجد اللؤلؤة في "أجرا".
وبنى "جهان" في "دلهي" وفي "أجرا""حصونا" - وهي مجموعات
من القصور الملكية يحيط بها حائط يحميها؛ فقد دفعته الكراهية الشديدة أن يحطم في دلهي القصور القرمزية التي كانت "لأكبر" وأحل محلها أبنية تراها - في أسوأ جوانبها - ضرباً من المرمر المزخرف كأنه قطع من الحلوى، لكنها - من أحسن جوانبها - أصفى جمال بلغته العمارة في أرجاء الأرض جميعاً؛ فها هي ذي "قاعة الاجتماعات العامة" بأسفل حيطانها وقد زخرفت بفسيفساء من الزهر على أرضية من المرمر الأسود، وأسقفها وعمدها وأقواسها المنحوتة في وشي حجري له جمال الشيء النحيل الهزيل، لكنه جمال يعز على التصديق، وهاهنا أيضاً "قاعة الاجتماعات الخاصة" التي صنع سقفها من الفضة والذهب وأعمدتها من مُخَرَّم المرمر، وأقواسها على هيئة نصف الدائرة مدبباً في وسطه، يتألف من أنصاف دوائر صغرى يتخذ كل منها صورة الزهرة، وعرشها المسمى "عرش الطاووس" الذي بات أسطورة يتحدث بها العالم أجمعين، وجداره الذي لا يزال يحمل في تطعيم بالحجر النفيس، بيت الشاعر المسلم المليئة ألفاظه بروح الزهو، ومعناه أن لو كان على الأرض فردوس فهي هاهنا.
ونعود فنستجمع في أذهاننا صورة خافتة "لكنوز الهند" في أيام المغول، حين نسمع أعظم مؤرخي فن العمارة يصف لنا مقر الملك في دلهي، فيقول إنه يشغل مساحة ضعف ما تشغله "الأسكوريال" الفسيحة بالقرب من مدريد، ولقد كان ذلك القصر في زمانه ذاك، وبالقياس إلى أضرابه "أفخم قصر في الشرق، بل ربما كان أجمل قصر في العالم كله"
(1)
.
وحصن "أجرا" اليوم أنقاض
(2)
، وكل ما في وسعنا أن نحزر على سبيل
(1)
كان "حصن دلهي" في بادئ أمره يشتمل على اثنتين وخمسين قصراً، لم يبق منها اليوم إلا اثنان وعشرون قصراً، فقد احتمت بالحصن حامية بريطانية داهمها الخطر في ثورة "سيبوي" وقوضت عدة قصور لتخلي مكاناً لعدتها، كما وقع نهب كثير.
(2)
كان خطأ يؤسف عليه من شاه جهان أن يجعل من هذه القصور الجميلة حصناً، فلما حاصر البريطانيون "أجرا"(سنة 1803) لم يكن لهم بد من توجيه مدافعهم إلى الحسن، ورأى الهنود قنابل المدافع تدك "المحل الخاص"(أي قاعة الاجتماعات الخاصة) فاستسلموا ظناً منهم أن الجمال أنفس من النصر؛ ولم يمض طويل وقت حتى جاء "وارن هيستنجز" فخلع أجزاء الحمام من القصر خدماً ليقدم بها هدية الملك جورج الرابع؛ ويبعت أجزاء أخرى من البناء بأمر من لورد "وليم بنتنك" إعانة لدخْل الهند.
التخمين ما كان عليه بادئ أمره من جلال؛ فهنا وسط الحدائق الكثيرة كان مسجد اللؤلؤة ومسجد الجوهرة وقاعتا الاجتماعات العامة والخاصة وقصر العرش وحمامات الملك وقاعة المرايا وقصور "جهان كير" و "شاه جهان" وقصر الياسمينة لـ "نور جهان" وبرج الياسمينة الذي كان يطل منه "شاه جهان" وهو أسير، يطل منه عَبر "الجمنة" على القبر الذي كان ابتناه لزوجته الحبيبة "ممتاز محل".
ويعرف العالم كله ذلك القبر باسم تلك الزوجة المختصر وهو "تاج محل" وما أكثر مهندسي العمارة الذين يضعون هذا البناء في منزلة تجعله أكمل بناء قائم على وجه الأرض في يومنا هذا؛ وقد وضع تصميمه ثلاثة من رجال الفنون: فارسيّ يدعى "أستاذ عيسى"، وإيطالي يدعى "جيرونيمو فيرونيو" وفرنسي يسمى "أوستن دي بوردو"؛ ولم يُسْهم في فكرته هندي واحد، فهو بناء لا هندوسي من أوله إلى آخره، وهو إسلامي خالص؛ حتى مهرة الصناع جيء ببعضهم من بغداد والآستانة وغيرهما من مراكز المِلَّة الإسلامية (124).
وقد لبث اثنان وعشرون ألفاً من العمال اثنين وعشرين عاماً مسخّرين في بناء "التاج"، وعلى الرغم من أن المرمر جاء إلى "شاه جهان" هدية من "مهراجا جايبور" فقد كلَّف البناء وما حوله ما يساوي اليوم مائتين وثلاثين مليوناً من الريالات الأمريكية - وهو في ذلك العهد مبلغ ضخم من المال
(1)
(1)
فكر "لورد وليم بنتنك" - وهو يعد من أرحم من حكموا الهند من البريطانيين - يوماً في أن يبيع التاج بمائة وخمسين ألف ريال إلى مقاول هندي كان يعتقد أنه يستطيع استغلال مواد البناء على أحسن وجه لكن منذ استولى على الحكم "لورد كيرزن" وحكومة البريطانيين في الهند دائمة العناية الفائقة بآثار المغول.
والمدخل إلى البناء ملائم للغرض منه ملاءمة لا يضارعها إلا مدخل "القديس
بطرس"؛ فإذا ما دخل الداخل خلال سور عالٍ ذي أبراج صغيرة على قمته، التقى بغتة "بالتاج" - وهو قائم على مصطبة من المرمر، يحيط به على الجانبين إطار من المساجد الجميلة والمآذن الشامخة، وفي الجانب الأمامي حدائق فسيحة في وسطها بركة ينعكس القصر على مائها فيكون سحراً يرتعش مع رعشة الموج؛ وكل جزء من البناء مصنوع من المرمر الأبيض والمعادن النفيسة أو الأحجار الكريمة؛ وللبناء اثنا عشر ضلعاً، في أربعة منها بوابات، وعند كل ركن من أركانه مئذنة نحيلة، والسقف قوامه قبة ضخمة ذات برج مُدَبَّب؛ والمدخل الرئيسي الذي كانت تحرسه فيما مضى أبواب من الفضة الخالصة، متاهةٌ للخيال بما فيه من وشي مرمري؛ ونقشت على الجدران آيات من القرآن، كتبت بكريم الجواهر، منها آية تدعو "المتقين" أن يدخلوا "جنة الفردوس" وأما الداخل فبسيط، وربما تعاون اللصوص من أهل البلاد ومن الأوربيين على السواء، على سلب الجواهر التي كانت تزين القبر في كثرة مسرفة، والسور الذهبي المغطى بطبقة من الأحجار الكريمة الذي كان أول الأمر يحيط بالتابوتين الحجريين اللذين كان يرقد فيهما "جهان" وملكته؛ فوضع "أورنجزيب" مكان السور الذهبي ستاراً ثُمانيَّ الأضلاع من مرمر يكاد يشف عما وراءه، والستار منقوش بزخرفة رقيقة من "الرخام ذي العروق" نقشاً هو من المعجزات؛ حتى ليبدو لبعض الزائرين أن جمال هذا الستار لم يفُقْه جمال في كل ما أنتجه الإنسان من آثار فنية صغيرة.
وليس هذا البناء أفخم الأبنية، ولكنه أجملها جميعاً؛ فإذا ما بعدت عنه قليلاً بحيث تخفى عليك تفصيلاته الرقيقة، لم يبهرك بعظمته، لكنك تحس له في نفسك نشوة؛ ولا ينكشف لك كماله الذي لا يتناسب مع حجمه إلا إذا دنوت منه ونظرت إليه عن كثب، إننا إذ نرى في عصرنا هذا الذي يتميز بالسرعة، أبنية ضخمة من ذوات الطوابق المائة يكمل بناؤها في عام أو عامين،
ثم نتذكر أن اثنين وعشرين ألفاً من العمال ظلوا يكدّون اثنين وعشرين عاماً في إقامة هذا القبر الصغير الذي لا يكاد يبلغ ارتفاعه مائة قدم، فإننا نحسّ عندئذ بعض الإحساس، الفرق بين الصناعة والفن؛ فربما كانت قوة العزيمة الكامنة في تصور إقامة بناء مثل "تاج محل" أعظم وأعمق من قوة العزيمة التي نصف بها أمجد الفاتحين؛ ولو كان الزمن بصيراً بما يفعل، لأبى على كل شيء قبل أن ينال من "التاج" ليبقيه شاهداً على سمو النفس الإنسانية سمواً تمازجه الشوائب، لعل هذا السمو فيها يكون عزاء لآخر من تشهد الأرض من بني الإنسان.
4 - العمارة الهندية والمدنية
انهيار الفن الهندي - الموازنة بين العمارة الهندوسية
والعمارة الإسلامية - نظرة عامة إلى المدنية الهندية
على الرغم من الستار الذي تم على يدي "أورنجزيب" فقد كان هذا الرجل عثرة نكداء في حظ المغول والفن الهندي، إذ حفزه التعصب الديني الضيق الأفق إلى أن ينصرف بكل نفسه إلى ديانة بعينها لا يسمح بغيرها إلى جانبها، ولذا فلم تر عيناه إلا وثنية وغروراً؛ وكان "شاه جهان" من قبل قد حرم إقامة المعابد الهندوسية (127)؛ ولم يكتف "أورنجزيب" باستمرار ذلك التحريم بل أضاف إلى ذلك شحاً في إعانة العمارة الإسلامية، حتى تضاءلت هي الأخرى تحت سلطانه؛ فلما مات، تبعه الفن الهندي إلى قبره فثوى معه.
إذا ما تأملنا العمارة الهندية باستعراضنا إياها استعراضاً موجزاً يعيد لنا سابق مراحلها، ألفيناها تنطوي على موضوعين، أحدهما فيه صلابة الرجولة والآخر فيه طراوة الأنوثة، أحدهما هندوسي والآخر إسلامي، وحول هذين المحورين تدور العمارة على اختلاف وجوهها كأنها السمفونية المختلفة النغمات؛ ولما كانت أشهر السمفونيات تبدأ بضربات قوية كضربات المطرقة تثير الانتباه اليقظ في
الأسماع، ثم سرعان ما يتلوها سيل متدفق من نغمات تبلغ من الرقة حدها الأقصى، كذلك ترى في العمارة الهندية بداية مهيبة تجلت فيها العبقرية الهندسية، وهي آثار "بوذ- جايا" و "بهوفانشوارا" و "مادورا" و "تانجور" ثم يتبعها الطراز المغولي بما فيه من رشاقة ونغم، كالآثار التي في "فتح بورسِكْري" و"دلهي" و "أجرا"، ويظل هذان المحوران يمتزجان في اشتباك مخلوط حتى النهاية؛ لقد قيل عن المغول إنهم شيدوا كما تُشَيِّد العمالقة، ثم ختموا بناءهم بصناعة الصائغين الرقيقة، لكن هذا القول أصح انطباقاً على العمارة الهندية بصفة عامة؛ ذلك لأن الهندوس بنوا كما تبني العمالقة، ثم جاء المغول فختموا المطاف برقة الصائغين؛ فالعمارة الهندوسية تستوقف انتباهنا بضخامتها، والعمارة الإسلامية تستوقف أنظارنا بتفصيلاتها؛ فللأولى جلال القوة، وللثانية كمال الجمال؛ كان للهندوس عاطفة وخصوبة، وللمسلمين ذوق وكبح لجماح نفوسهم، ملأ الهندوسيُّ مبانيه بكثرة زاخرة من التماثيل حتى ليتردد الإنسان أيضع تلك المباني في باب العمارة أم في باب النحت، وكره المسلم تشخيص الأجسام، فحصر نفسه في الزخرفة الزهرية والهندسية، الهندوس هم للهند بمثابة رجال الفن في العصور الوسطى، الذين جمعوا في أنفسهم فني النحت والعمارة، والمسلمون بمثابة الدخيلين في عالم الفن الذين جاءوا في عصر النهضة فأفاضوا؛ وعلى وجه الجملة، كان الطراز الهندوسي أرفع سماكاً بمقدار ما يسمو الجلال على الجمال، وإذا ما عاودنا التفكير في الموازنة بين الفنين، بعد أن يزول عن أنفسنا وقع النظرة الأولى، تبين لنا أن "حصن دلهي" و "تاج محل" بالقياس إلى "أنكور" و "بوروبودور" هما كالقصائد الوجدانية الجميلة بالقياس إلى المسرحيات العميقة- مثل بترارك بالقياس إلى دانتى، أو كيتس بالقياس إلى شكسبير، أو سافو بالقياس إلى سوفوكليز، أحد الفنين تعبير
رشيق من وجهة نظر جزئية عن نفوس أفراد جادت حظوظهم، وأما الآخر فتعبير قوي كامل عن روح جنس بأسره.
ومن ثم وجب علينا أن نختم هذا العرض الموجز بما بدأناه به، وهو الاعتراف بأنه لا يستطيع أن يقدر فن الهند كل قدره، أو أن يكتب عنه كتابة تعفو عن نقائصه، إلا هندوسي؛ فهذا الفن المقرب إلى نفوسهم، الذي تملؤه الزخرفة إلى حد الإسراف؛ وتشتبك أجزاؤه إلى حد التعقيد، قد يبدو لعين الأوربي الذي نشأ على قواعد يونانية أرستقراطية من الاعتدال والبساطة، قريباً من الفن البدائي الهمجي؛ لكن هذه الكلمة الأخيرة هي نفسها الصفة التي استعملها "جوته" صاحب النزعة الكلاسيكية، حين ازورت نفسه عن كاتدرائية ستراسبورج، والطراز القوطي؛ فهي تعبر عن رد الفعل العقلي للوجدان، والتدليل المنطقي للدين؛ لا يستطيع أن يشعر بجلال المعابد الهندوسية إلا هندوسي مؤمن، لأن هذه المعابد لم تشيد لتكون صورة معبرة عن الجمال وكفى، بل شيدت لتكون حافزاً على التقوى، وأساساً للإيمان، ولا يستطيع أحد منا أن يفهم الهند إلا أهل عصورنا الوسطى- أمثال "جيوتو" و "دانتي".
على هذا الأساس وحده ينبغي أن ننظر إلى المدنية الهندية- أعني على أساس أنها تعبير عن نفوس شعب "وسيط" اعتبر الديانة أعمق من العلم، ويكفيها لتكون أعمق منه، أن سلم منذ البداية بالجهل البشري الذي لازم الإنسان منذ الأزل، وبغرور الإنسان قدرته؛ في هذه التقوى يكمن ضعف الهندوسي وتكمن قوته على السواء: فيه تكمن خرافته ووداعته، ويكمن ميله إلى الانطواء على نفسه ونفاذ بصيرته؛ ويكمن تأخره وعمقه، ويكمن ضعفه في القتال وبراعته في الفنون؛ ولا شك أن مناخ بلاده قد أثر في عقيدته الدينية وتعاون كلاهما على إضعافه؛ ولهذا استسلم في يأس المؤمن ببطش القضاء، للآريين والهون والمسلمين والأوربيين، ولقد عاقبه التاريخ على إهماله للعلم؛
فلما أخذت مدافع "كلايف" المتفوقة على أسلحتهم، تطيح بالجيش الأهلي في موقعة "بلاسي"(1757) كان في قصفها إعلانٌ بالثورة الصناعية، وسنشهد في عصرنا تلك الثورة، وقد أصابت نجاحاً في الهند كما وُفِّقَتْ في تسجيل إرادتها وفرض طابعها على إنجلترا وأمريكا وألمانيا وروسيا واليابان، فسيكون للهند كذلك رأسماليتها واشتراكيتها، وسيكون فيها أصحاب الملايين وسكان الخرائب الوبيئة؛ لقد أُسدل ستار على المدنية الهندية القديمة، إذ أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة حين جاءها البريطانيون.
الباب الثاني والعشرون
خاتمة مسيحية
الفصل الأول
قراصنة البحر في نشوتهم
وصول الأوربيين - الفتح البريطاني - ثورة
سيبوي - حسنات الحكم البريطاني وسيئاته
كانت تلك المدنية قد ماتت بالفعل من عدة وجوه، حين كشف "كلايف" و"هيستنجر" كنوز الهند؛ فحكم "أورنجزيب" الطويل الذي مزق أوصال البلاد، وما تبعه من فوضى وحروب داخلية، ترك الهند ثمرة دانية القطوف لمن أراد أن يغزوها من جديد؛ قد كان هذا "قضاءها المحتوم" ولم يكن أمام القدر إزاءها سوى أن يختار الدولة الأوربية من بين الدول العصرية الأساليب، لتكون أداة لذلك الغزو؛ فحاول الفرنسيون غزوها وأصيبوا بالفشل، وضاعت الهند من أيديهم كما ضاعت كندا، في موقعتي "رسباخ" و "ووترلو" ثم حاول الإنجليز ذلك وانتهت محاولتهم بالنجاح.
لقد كان "فاسكو دا جاما" أرسى فلكه عام 1498 م في مياه "كلكتا" بعد مرحلة دامت أحد عشر شهراً بدأت من لشبونة؛ فأحسن لقاء حاكم ملبار الهندي وسلّمه رسالة ودية من ملك البرتغال: "لقد زار مملكتي فاسكو دا جاما، وهو شريف من أشراف أسرتكم، فسررت بزيارته سروراً عظيماً؛ وإن في مملكتي لوفرة من القرفة والقرنفل والفلفل والأحجار الكريمة، وما أريده من بلادكم هو الذهب والفضة والمرجان والنسيج القرمزي"،
فكان جواب صاحب الجلالة المسيحية مطالبة الهند مستعمرة برتغالية لأسباب لم يكن في مقدور الراجا أن يفهمها لجهله؛ فلكي يوضح له الأمر، أرسلت البرتغال أسطولا إلى الهند مزودا بتعليمات لنشر المسيحية وإثارة الحروب؛ وبعدئذ جاء الهولنديون في القرن السابع عشر، وطردوا البرتغاليين؛ ثم جاء الفرنسيون والإنجليز في القرن الثامن عشر، وطردوا الهولنديين، ونشبت بين الفريقين معارك حامية الوطيس لتقرر أي الفريقين يتولّى إدخال المدنية إلى الهند وفرض الضرائب على أهلها
وكانت "شركة الهند الشرقية" قد تأسست في لندن عام 1600 م لتشتري منتجات الهند وجزر الهند الشرقية بأثمان بخسة وتبيعها بأثمان مرتفعة في أوروبا
(1)
وقد أعلنت الشركة عام 1686 م عزمها على "إقامة مستعمرة إنجليزية واسعة في الهند، بحيث تكون متينة الدعائم فتدوم إلى الأبد"(3)، وأنشأت مراكز تجارية في مدراس وكلكتا وبومباي، وحصنتها، وجاءت إليها بجنود وخاضت معارك القتال، ورشت وارتشت، ومارست غير ذلك من مهام الحكومة؛ ولم يتردد "كلايف" في قبول " الهدايا" التي بلغت قيمتها أحياناً مائة وسبعين ألفا من الريالات، قدمها له الحكام الهنود المعتمدون على نيران مدافعه، كما ظفر منهم - بالإضافة إلى تلك "الهدايا" - بجزية سنوية تعادل مائة وأربعين ألفا من الريالات؛ وعين الأمير جعفر حاكما على البنغال لقاء مبلغ يعادل ستة ملايين ريال؛ وراح يضرب كل أمير وطني بالآخر، ويضم أملاكهم إلى حظيرة "شركة الهند الشرقية" شيئا فشيئا؛ وأدمن في أكل الأفيون، واتهمه البرلمان وبرأه، وأزهق روحه بيده سنة 1774 م (4)؛ وأما "وارن هيستنجز" - وهو شجاع علامة قدير - فقد جمع من الأمراء الوطنيين مبلغا كبيرا قدره ربع مليون ريال ضريبة عليهم دفعوها في خزانة الشركة؛
(1)
كانت البضائع التي تشترى بما يساوي مليوني ريال في الهند، تباع بما يساوي عشرة ملايين ريال في إنجلترا (1) حتى لقد ارتفع ثمن السهم من أسهم الشركة إلى ما يساوي 000 ر 32 ريال.
وقبل الرشاوي لقاء وعد بألا يفرض ضريبة أكثر مما فرضه، ثم عاد ففرض ضريبة، واستولى للشركة على الأراضي التي لم تستطع دفعها، واحتل "أوز" بجيشه، ثم باعها لأحد الأمراء بمليونين ونصف مليون من الريالات (5)؛ وتسابق الهازم والمهزوم في الرشوة؛ وفرضت على أجزاء الهند التي خضعت لسلطان الشركة ضريبة أراض بلغت خمسين في كل مائة وحدة من وحدات الإنتاج، بالإضافة إلى فروض أخرى كانت من الكثرة والقسوة بحيث فرّ ثلثا السكان، وباع آخرون أبنائهم ليسدوا ما كانوا يطالبون به من ضرائب متصاعدة (6)؛ ويقول ماكولي:"جمعت في كلكتا أموال طائلة في وقت قصير، ودفع بثلاثين مليونا من الأنفس البشرية إلى أقصى حدود الشقاء؛ نعم قد تعودوا من قبل أن يعيشوا في جو من الطغيان لم يبلغ بهم كل هذا المدى"(7).
فما جاءت سنة 1857 م حتى كانت جرائم الشركة قد أفقرت الجزء الشمالي الشرقي من الهند إفقارا أوغر صدور الأهالي فشقوا عصى الطاعة في ثورة يائسة؛ عندئذ تدخلت الحكومة البريطانية، وقمعت "العصيان" وتولّت هي الحكم في الأراضي التي سيطرت عليها، واعتبرتها مستعمرة للتاج، ودفعت عن ذلك تعويضا سخيا للشركة، وأضافت ثمن الشراء هذا إلى الدين العام في الهند (8)؛ لقد كان هذا فتحا للبلاد صريحا غاشما، وقد لا يجوز لنا أن نحكم عليه بمعيار "الوصايا الخلقية" التي يحفظها الناس في غرب السويس، إذ ربما كان الأجدر أن نفهم الموقف على أساس "دارون" و"نيتشه": فشعب عجز عن حكم نفسه أو عجز عن استغلال موارده الطبيعية، لابد من وقوعه فريسة لأمم تعاني مما يستثيرها من دوافع الجشع وبسط النفوذ.
وعاد هذا الفتح ببعض المزايا على الهند؛ فرجال أمثال "بنتنك" و"كاننج" و"منرو" و "إلفنستون" و "ماكولي" أدخلوا في إدارة الأجزاء البريطانية من الهند شيئا من سخاء الحرية التي سادت إنجلترا عام 1832؛
فقد استطاع "لورد وليم بنتنك" بمساعدة المصلحين من أهل البلاد، وبحافز منهم، أمثال "رام موهون روي"، استطاع أن يلغي عادة دفن الزوجة حيّة مع زوجها الميت وأن يحرّم ما كانت تقوم به طائفة من خنق الأغنياء إرضاء للإلهة "كالي"؛ ولئن حارب الإنجليز مائة وإحدى عشرة حرباً في الهند، مستخدمين فيها أموال الهند ورجالها (9) ليتمموا فتح الهند، فقد تمكنوا بعدئذ من نشر السلام على ربوع شبه الجزيرة كلها، ومدوا الطرق الحديدية، وأقاموا المصانع والمدارس، وفتحوا الجامعات في كلكتا ومدراس وبومباي ولاهور والله آباد، ونقلوا من إنجلترا علومها وفنونها الصناعية إلى الهند، وألهبت الشرق بروح الغرب الديمقراطية، ولعبوا دوراً هاماً في إطلاع العالم على ما شهدته الهند في ماضيها من ثروة ثقافية غزيرة؛ وكان ثمن هذه الخيرات كلها طغياناً مالياً مكن لطائفة من الحكام المتتابعين أن يبتزوا ثروة الهند عاما بعد عام قبل عودتهم إلى بلادهم الشمالية التي تثير في الإنسان عوامل الفاعلية والنشاط؛ وكان ثمن هذه الخيرات طغيانا اقتصاديا قضى على الصناعات الهندية، وقذف بملايين صناعها الفنيين إلى الأرض يزرعونها فلا تكفيهم طعاماً؛ وكان ثمن هذه الخيرات كذلك طغيانا سياسيا كان من أثره - وقد جاء بعد طغيان "أورنجزيب" الضيق الأفق بزمن قصير - أن يميت روح الشعب الهندي قرنا كاملا.
الفصل الثاني
قديسو العهد المتأخر
المسيحية في الهند - "براهما - سوماج" -
الإسلام - راما كرشنا - فيفيكاماندا
كان من الطبيعي الذي يلائم روح الهند، أن تلتمس تلك البلاد وهي في هذه الظروف عزاءها في الدين؛ ولقد رحبت بالمسيحية ترحيبا قلبيا خالصا حينا من الزمن، إذ وجدت فيها كثيرا من المثل الخلقية العليا التي لبثت آلاف السنين تضعها من أنفسها مواضع التقديس؛ وفي ذلك يقول "الأب دبوا" في غير ممالأة "لقد كان من الجائز - فيما تبين من الظواهر - أن تضرب المسيحية بجذورها في أهل الهند، لولا أن أدرك هؤلاء الناس صفات الأوربيين وأنواع سلوكهم"(10) فقد ظل المبشرون بالمسيحية في الهند طوال القرن التاسع عشر يحاولون في نفوس قلقة أن يسمعوا الناس صوت المسيح، فكان عليهم أن يرتفعوا به فوق أصوات المدافع التي كانت تزأر أثناء فتحها للبلاد؛ وراحوا يقيمون المدارس والمستشفيات ويعدونها بالأدوات اللازمة، وأخذوا يوزعون على الناس الدواء والصدقات، مع ما ينشرونه بينهم من تعاليم الدين، وكانوا أول من بذر في المنبوذين بذور الإحساس بآدميتهم؛ لكن التضاد الملحوظ بين تعاليم المسيحية ومسلك المسيحيين أثار في نفوس الهنود تشككا وسخرية؛ فقالوا إن بعث "العزير" من عالم الموتى لا يستثير العجب، لأن في ديانتهم من المعجزات ما هو أشد من هذا استثارة للدهشة وجدارة بالاهتمام؛ وكل رجل بينهم ممن يمارسون "اليوجا" يستطيع اليوم أن يفعل المعجزات، على حين معجزات المسيحية قد ذهب عهدها - فيما يظهر - وانقضى (11) وتمسك البراهمة بمبادئهم في اعتزاز بها،
إذ كانوا يقابلون عقائد الغرب بطائفة من أفكارهم، لها ما لتلك العقائد الغربية من دقة وعمق وبعد عن التصديق، ولهذا ترى "سير تشارلز أليوت" يقول:"إن المسيحية قد تقدمت في الهند تقدما لا قيمة له لضآلته"(12).
ومع ذلك فقد كان لشخصية المسيح الفاتنة من عمق الأثر في الهند أكثر جدا مما يمكن قياسه بكون المسيحية لم تشتمل على أكثر من ستة في كل مائة من السكان بعد زمن امتد ثلاثة قرون؛ وأولى علائم هذا التأثير تظهر في "بهاجافاد - جيتا"(13)، وأما آخر ما ظهر لهذا التأثير من علامات فتراه في غاندي وطاغور؛ وأوضح مثل يدل على هذا التأثير هو الجمعية الإصلاحية التي تسمى "براهما -سوماج"
(1)
التي أسسها "رام موهون روي" سنة 1828 م، ولن تجد أحدا تناول الدين بدراسة يحاسبه فيها ضميره أكثر مما فعل هذا الرجل؛ فقد درس "روي" اللغة السنسكريتية ليقرأ كتب الفيدا، وتعلم اللغة البالية ليقرأ كتاب البوذية "تربيتاكا"، وعرف الفارسية والعربية ليدرس الإسلام ويقرأ القرآن، ودرس العبرية ليجيد فهم "العهد القديم" كما درس اليونانية ليفهم "العهد الجديد"(14) وبعد ذلك كله تعلم الإنجليزية وكتب بها كتابة بلغت من السلاسة والرشاقة حدا جعل "جرمي بنتام" يتمنى لو استفاد "جيمز مل" بنسجه على منواله؛ وفي سنة 1820 م نشر "روي" كتابه تعاليم المسيح، وهو مرشد للسلام والسعادة، وقال فيه:"لقد وجدت تعاليم المسيح، أهدى لمبادئ الأخلاق، وأكثر ملائمة لما يتطلبه بنو الإنسان المتصفون بالعقل، من أية ديانة أخرى مما وقع في حدود علمي"(15) واقترح على بني وطنه الذين جللتهم دياناتهم المخجلات، اقترح عليهم ديانة جديدة تتخلص من تعدد الآلهة وتعدد الزوجات والطبقات وزواج الأطفال ودفن الزوجات مع أزواجهن وعبادة الأوثان وألا يعبدوا إلا ألها واحدا، هو براهما؛ ولقد تمنى كما تمنى
(1)
معناها الحرفي "جمعية براهما" واسمها الكامل هو "جمعية المؤمنين في براهما الروح الأعلى".
من قبله "أكبر" - أن تتحد الهند كلها في عقيدة دينية بسيطة، لكنه - مثل "أكبر" لم يحسب حساب الخرافة وتأصلها في قلوب الدهماء؛ ولهذا فقد أصبحت "براهما - سوماج" اليوم - بعد مائة عام قضتها في جهاد مفيد - بحيث لا ترى لها أثرا في الحياة الهندية
(1)
.
والمسلمون هم أقوى الأقليات الدينية في الهند وأكثرها إثارة للاهتمام، وسنرجئ دراسة دينهم إلى جزء آخر من أجزاء هذا الكتاب؛ وليس العجيب أن يفشل الإسلام في اكتساب الهند إلى اعتناقه على الرغم من معاونة "أورنجزيب" له على ذلك معاونة متحمسة، إنما المعجزة هي ألا يخضع الإسلام في الهند للهندوسية؛ فبقاء هذه الديانة الموحدة على بساطتها وصلابتها، وسط ألوان متشابكة من الديانات التي تذهب إلى تعدد الآلهة، دليل يشهد على ما يتصف به العقل الإسلامي من رجولة، وحسبنا لكي نقدر عنف هذه المقاومة وجسامة هذا المجهود أن نذكر كيف تلاشت البوذية في البرهمية، فإله المسلمين له اليوم سبعون مليونا من عباده في الهند.
لم يطمئن الهندي إلا قليلا إلى أية عقيدة دينية مما جاءه من خارج بلاده، وأولئك الذين كان لهم أبلغ الأثر في شعوره الديني إبان القرن التاسع عشر هم
(1)
لها اليوم من الاتباع نحو خمسة آلاف وخمسمائة (16)؛ نشأت جمعية إصلاحية أخرى، اسمها "آريا. سوماج"(أي الجمعية الآرية) أسسها "سوماي دياناندا"، ودفعها في طريق التقدم دفعا يستحق الإعجاب المرحوم "لالا جبات راي"، وقد أنكرت هذه الجمعية نظام الطبقات وتعدد الآلهة والخرافة والأوثان والمسيحية، واستحثت الناس للعودة إلى ديانة الفيدات بما لها من قواعد ابسط من تعاليم المسيحية والوثنية؛ واتباع هذه الجمعية الآن يبلغون نصف المليون (17) وانقلب الوضع، فأثرت الهندوسية في المسيحية تأثيرا يظهر فيه "علم الكلام" - وهو مزيج من التصوف الهندي والأخلاق المسيحية، نشأ في الهند وارتقى على أيدي امرأتين أجنبيتين عن أهل البلاد هما:"مدام هيلينا بافاتسكي"(1878)"ومسز آني بزانت"(1893).
الذين بذروا بذور مذهبهم وعبادتهم في عقائد الشعب القديمة؛ فقد أصبح "راما كرشنا" - وهو برهمي فقير من البنغال - مسيحيا حينا من الزمن، وأحس جمال المسيحية
(1)
واعتنق الإسلام حينا آخر، وأدى صلاة المسلمين بما تقتضيه من خشونة وعنف، لكن قلبه التقي سرعان ما عاد به إلى الهندوسية، بل عاد به إلى عبادة "كالي" الفظيعة، وجعل نفسه كاهنا من كهانها، وصورها في صورة الإلهة الأم التي تفيض نفسها فيضا بالرحمة والحب؛ ونبذ أساليب العقل وبشّر بمذهب "بهاكتي - يوجا" وهو مذهب يدعوا إلى الحب ورباطه؛ ومن أقواله "إن معرفة الله يمكن تشبيهها برجل، وأما حب الله فشبيه بامرأة؛ إن المعرفة لا تستطيع الدخول إلا في الحجرات الخارجية لله، وليس يستطيع الدخول في غوامض الله الباطنية إلا محب"(18).
ولم يرد "راما كرشنا" أن يعلم نفسه، على خلاف "رام موهون روي"، فلم يتعلم شيئا من السنسكريتية أو الإنجليزية، ولم يكتب شيئا، واجتنب النقاش العقلي؛ ولما سأله منطقي منتفخ الأوداج بمنطقه:"ما المعرفة وما المعروف؟ " أجابه قائلا: "إني يا صاح لا علم لي بهذه الدقائق من علم المتفقهين؛ إن كل ما أعرفه هو (إلهتي الوالدة، وإنني ابنها"(19) وكان يعلّم أتباعه أن كل الديانات خير، وكل منها طريق يؤدي إلى الله، أو مرحلة من مراحل الطريق إلى الله، تلائم عقل الباحث عن الله وقلبه؛ ومن الحمق أن تتحول من دين إلى دين، إذ كل ما يتطلبه الإنسان هو أن يمضي في طريقه الذي بدأه، وأن يتعمق عقيدته الخاصة إلى لبابها "إن كل الأنهار تتدفق في المحيط، فاندفق حتى تخلى الطريق لاندفاق الآخرين كذلك! "(20) وأفسح
(1)
ظل إلى آخر حياته يعترف بربوبية المسيح، لكنه أصر على أن "بوذا" و "كرشنا" وغيرهما كانوا كذلك مجسدات للإله الواحد، ولقد أكد لي "فيفي كاناندا" أنه هو نفسه تجسيد لـ "راما" و "كرشنا".
صدره رحباً لعقيدة الناس في آلهة متعددة، واستسلم متواضعا لعقيدة الفلاسفة في إله واحد؛ أما عقيدته هو التي ينبض بها قلبه فهي أن الله روح تجسد في الناس جميعا، وعبادة الله الحقيقية التي لا عبادة سواها، هي خدمة الإنسانية خدمة صادرة عن حب.
ولقد اختاره كثيرون من رقاق النفوس "شيخا" لهم، منهم الأغنياء والفقراء، ومنهم البراهمة والمنبوذون، وألفوا جمعية باسمه وقاموا بحملة تبشيرية بمذهبه؛ وألمع هؤلاء الأتباع شخصية هو شاب معتد من طبقة الكشاترية واسمه "نارندرانات دوت"، الذي تقدم إلى "راما كرشنا" بادئ ذي بدء - وكان عقله عندئذ قد أفعم بآراء "سبنسر" و "دارون" - على أنه ملحد لا يجد غير شقوة النفس في إلحاده، لكنه في الوقت نفسه مزدر للأساطير والخرافات التي لم يكن الدين في رأيه إلا إياها؛ فلما غلبته من " راما كرشنا " طيبته الصابرة، أصبح "نارن" بين أتباع "الشيخ" أشدهم تحمساً، وأعاد لنفسه تعريف الله بأنه "مجموعة الأرواح كلها"(21) وطالب الناس بأن يباشروا الدين، لا عن طريق التقشف والتأمل الفارغين، بل عن طريق خدمة الإنسانية خدمة تستنفد من أنفسهم كل تقواها.
"أرجئوا إلى الحياة الآخرة قراءة "الفيدانتا" واصطناع التأمل، وأصرفوا هذا البدن الذي يحيا هاهنا إلى خدمة الآخرين
…
إن الحقيقة السامية التي لا حقيقة بعدها هي هذه: الله موجود في الكائنات جميعا، فهذه الكائنات صوره الكثيرة، وليس وراءها إله آخر يبحث الإنسان عنه، ليس هناك سبيل إلى خدمة الله سوى خدمة سائر الكائنات! " (22).
وغير اسمه وجعله "فيفي كاناندا" وغادر الهند ليجمع مالا يعين المبشرين بمذهب "راما كرشنا" على أداء رسالتهم، حتى إذا ما كان عام 1893 م، وجد نفسه ضالا معدما في مدينة شيكاغو، فما هو إلا أن ظهر في "برلمان الديانات"
في "المهرجان العالمي" وخاطب الحاضرين على أنه يمثل العقيدة الهندوسية، فاستولى على قلوب السامعين جميعا بطلعته المهيبة، ومذهبه الذي يوحد العقائد الدينية جميعا، وشريعته الخلقية البسيطة التي تجعل خدمة الإنسانية خير عبادة يتوجه بها الإنسان لله؛ فأصبح الإلحاد ديانة شريفة بفعل السحر الذي نفثته بلاغته، ووجد الشيوخ المتزمتون من رجال الدين ألا مناص من احترام هذا "الوثني" الذي يعلن بألا إله غير أرواح الكائنات الحية؛ ولما عاد إلى الهند جعل يبشر بني وطنه بعقيدة دينية لم يشهد الهندوسيون ما يفوقها صلابة بين كل الديانات التي بشروا بها منذ العصر الفيدي:
"إن الديانة التي نريدها ديانة تقيم دعائم الإنسان
…
فانفضوا عن أنفسكم هذه التصوفات التي تنهك قواكم، وكونوا أقوياء
…
لنمح من أذهاننا خلال الخمسين عاما المقبلة
…
كل الآلهة الذين لا طائل وراءهم بحيث لا نبقي أمام أعيننا إلا خدمة الإنسان؛ فجنسنا البشري هو الإله الوحيد اليقظان، فيداه في كل مكان، إنه يشمل كل شيء
…
إن أولى العبادات كلها هي عبادة من يحيطون بنا
…
هؤلاء هم آلهتنا الذين لا آلهة لنا سواهم - أعني أفراد الإنسان والحيوان؛ وأول ما ينبغي لنا أن نعبده من هؤلاء الآلهة هم بنو وطننا" (23).
لم يكن بين هذه التعاليم وبين غاندي إلا خطوة واحدة.
الفصل الثالث
طاغور
العلم والفن - أسرة من النوابغ - نشأة
رابندرانات - شعره - سياسته - مدرسته
ما زالت الهند - رغم ما تعانيه من ظلم ومرارة عيش وفقر - تنتج العلم والأدب والفن؛ فقد طبقت شهرة الأستاذ "جاجادس شاندرا بوز" الخافقين لأبحاثه في الكهرباء وفسلجة النبات؛ وكانت جائزة نوبل تاجاً يكلل جهود الأستاذ "شاندرا سيخارا رامان" في فيزيقا الضوء؛ وقامت في عصرنا هذا مدرسة جديدة للتصوير في البنغال، تجمع بين خصوبة الألوان المتمثلة في نقوش "أجانتا" الجدارية، ورقة التخطيط البادية في تحف "راجبوت"؛ وإنا لنلمح في صور "رابندرانات طاغور" شيئا يسيرا من ذلك التصوف العارم والفن الرقيق اللذين اشهرا شعر عمه في أمم الأرض جميعاً.
إن أسرة طاغور لتعد بين أعظم ما شهد التاريخ من أسر؛ فقد كان "دافندرانات طاغور""وبالبنغالية تاكور" أحد القائمين على تنظيم الجمعية الإصلاحية "براهما ـ سوماج" ثم أصبح فيما بعد رئيسا لها؛ وهو رجل ذو ثراء وثقافة ووقار، ولما بلغ شيخوخته، كان للبنغال بمثابة الراعي الذي يميل برعيته عن جادة الدين؛ ومن نسله "أبانندرانات"، "جوجونندرانات" والفيلسوف "دويجندرانات" والشاعر "رابندرانات" وكل هؤلاء ينتسبون إلى طاغور، والأخيران منهما ابناه.
نشأ "رابندرانات" في جو من البحبوحة والتهذيب، فكانت الموسيقى والشعر والحوار الرفيع الهواء الذي يتنفسه؛ وكان روحا رقيقا منذ ولادته، شبيها بـ "شيلى" الذي أبى أن يموت صغيراً كما أبى أن يشيخ، وكان من الحنان بحيث تشجعت فئران السنجاب على ارتقاء ركبتيه، واطمأنت الأطيار إلي الوقوف على راحتيه (24)؛ وكان دقيق الملاحظة، متفتح النفس، يحس دوى ما تأتيه به تجارب الحياة بإحساس مرهف كإحساس المتصوفين؛ فكان أحيانا يقف في شرفته ساعات، يلاحظ بنظرته الأدبية كل من يمر أمامه في الطريق: قوامه وقسماته وحركاته التي تميزه وطريقه مشيته، أحيانا يجلس على كنبة في غرفة داخلية، ويظل نصف يومه صامتاً، تمر في رأسه الذكريات والأحلام؛ وبدأ ينظم الشعر على لوح إردوازي، مغتبطا بكون الأخطاء يمكن محوها (25) وسرعان ما وجد نفسه ينشد الأغاني المترعة بحبه للهند ـ حبه لجمال منظرها، وفتنة نسائها، وعطفه على أهلها في آلامهم، وكان ينشئ لهذه الأناشيد موسيقاها بنفسه؛ فآخذت الهند كلها تتغنى بها وكان الشاعر الشاب يهتز كيانه كلما سمعها على شفاه أهل الريف السذج، إذ هو في طريقه مسافر خلال القرى النائية (25 أ) وهاك أغنيه منها، ترجمها عن البنغالية مؤلفها نفسه، فمن سواه قد عبر تعبيرا يمازجه تشكك العطوف، عن لغو الغرام الذي لا يخلو من قدسية؟
نبئني إن كان ذلك كله صدقا، يا حبيبي، نبئني إن كان ذلك كله صدقا،
أإذا لمعت هاتان العينان ببرقهما، استجابت لهما السحائب الدكناء في صدرك بالعواصف؟
أصحيح أن شفتي في حلاوة برعم الحب المتفتح، حين يكون الحب في أول وعيه؟
أترى ذكريات ما مضى من أشهر الربيع ما تزال عالقة في جوارح بدني؟
أصحيح أن الأرض ـ كأنها القيثارة ـ تهتز بالغناء كلما مستها قدماي؟
أصحيح ـ إذن ـ أن الليل تدمع عيناه بقطرات الندى كلما بدوت لناظريك، وأن ضوء الصبح ينتشي فرحا إذا ما لف بدني بأشعته؟
أصحيح، أصحيح، أن حبك لم يزل يخبط فريدا خلال العصور ويتنقل من عالم إلى عالم باحثا عنى؟
وأنك حين وجدتني أخر الأمر، وجدت رغبتك الأزلية سكينتها التامة في عذب حديثي
وفي عيني وشفتي وشعري المسدول؟
أصحيح ـ إذن ـ أن لغز اللانهاية مكتوب على جبيني هذا الصغير؟
نبئني ـ يا حبيبي ـ إن كان ذلك كله صدقا
في هذه الأشعار حسنات كثيرة
(1)
- فيها وطنية حادة وهي رغم حدتها
(1)
أهم دواوينه "جيتا نجالي"(1913) و "شترا"(1914) و "مكتب البريد"(1914) و "البستاني"(1914) و "جمع الثمار"(1916) و "زهرات الدفل الحمراء"(1925)؛ وكتاب الشاعر نفسه "ذكرياتي"(1917) أفضل مرشدا لفهمه من كتاب "إ. تومسون" الذي عنوانه: "ر. طاغور، شاعر ومسرحي"(أكسفورد 1926).
هادئة، وفيها فهم دقيق دقة التأنث للحب وللمرأة وللطبيعة وللرجل، وفيها نفاذ بالعاطفة الحادة إلى صميم الفلاسفة الهنود بما لهم من بصيرة نافذة، وفيها رقة عاطفة وعبارة تشبه رقه "تنسن" ولو كان في أشعاره عيب، فذلك جمالها الذي يطرد في كل أجزائها اطرادا جاوز الحد المطلوب، ورقتها ومثاليتها اللتان اطردتا كذلك اطرادا يحدث الملل؛ فكل امرأة في هذه الأشعار جميلة، وكل رجل فيها مفتون بامرأة أو بالموت أو بالله؛ والطبيعة فيها - وإن تكن بشعة أحيانا ـ فهي دائما خليلة، يستحيل عليها الكآبة والقحط والفظاعة
(1)
، ولعل قصة "شترا" هي قصة "طاغور"؛ فحبيبها "أرجونا" قد ملها بعد عام لأنها جميلة جمالا كاملا لا يعتوره نقص؛ ولا يعود الله إلى حبها إلا بعد أن تفقد جمالها وتكتسب قوة تمكنها من مزاولة أعباء الحياة الطبيعية ـ وحب الله لها رمز عميق يشير إلى الزواج السعيد (28) ويعترف طاغور بأوجه النقص في شعره اعترافا يسحرك برقته:
إن شعرك يا حبيبتي قد دارت في رأسه يوما ملحمة عظيمة
وأسفاه، لم أحرص عليها، وصادفت خلخالك فتفرقت أجزاؤها
وتمزقت قصاصات من أغان، لبثت منثورة عند قدميك
وعلى ذلك فقد أخذ يتغنى بالقصائد الوجدانية حتى نهايته، واستمع له العالم كله بآذان طربه إلا النقاد؛ ودهشت الهند بعض الشيء حين أنعم على شاعرها بجائزة نوبل 1913) م) لأن رجال النقد في البنغال لم يكونوا قد رأوا فيه إلا أخطاءه، واتخذ الأساتذة في كلكتا من أشعاره أمثلة تساق للغة البنغالية في أسلوبها الركيك (30) وكرهه الشبان المتأججين بنار الوطنية لأن مهاجمته لما في حياة الهند الخلقية من عيوب، كانت أقوى دويا من صيحته في سبيل الحرية السياسية، ولما أنعم عليه بلقب "سير" عدوا ذلك منه خيانة للهند؛ ومع ذلك
(1)
اقرأ مثلا بيته الرائع: "إذا ما رحلت عن هذه الدنيا، فلتكن أخر كلمة ارحل بعدها هي أن ما شهدته فيها ليس بعد كماله كمال".
فلم ينعم بشرف هذا اللقب طويلا، وذلك لأنه حين أطلق الجنود البريطانيون نيرانهم على اجتماع ديني في "أمرتسار" نتيجة لسوء تفاهم محزن (سنة 1919 م) أعاد طاغور وسامه إلى نائب الملك مصحوبا بخطاب يوجه فيه استنكارا مرا لما حدث؛ واليوم تراه شخصية وحيدة نوعها، وقد يكون أعمق أهل الأرض جميعا - في يومنا هذا - وقعا في النفوس، وهو مصلح كانت له الشجاعة التي مكنته من مهاجمه الآراء الاجتماعية الأساسية في الهند، وأعنى بها نظام الطبقات والعقيدة في تناسخ الأرواح، والتي هي أعز عقائد الهنود على قلوبهم (31)؛ وهو وطني يتحرق شوقا إلى حرية الهند، لكنه وجد في نفيه الجرأة فاحتج على الإسراف في النعرة القومية والسعي وراء المصالح الخاصة التي تلعب دورها في الحركة القومية؛ وهو مرب مل الخطابة والسياسة، وانكمش في صومعته في " شانتينى كيتان " يعلم بعض أبناء الجيل الجديد مذهبه في تحرير الفرد لنفسه تحريرا خلقيا؛ وهو شاعر كسر قلبه موت زوجته في شبابها، وأنقض ظهره ذل بلاده؛ وهو فيلسوف " منقوع " في تعاليم الفيدانتا (32)؛ وهو متصوف يتذبذب ـ مثل شابدى داس ـ بين المرأة والله ومع ذلك تراه قد تجرد من عقيدة آبائه بمدى ما وصل إليه من علم؛ وهو محب للطبيعة يقابل رسل الموت فيها بعزاء وحيد، هو موهبته التي لا تبلى في إنشاد الغناء:
"آه، آيها الشاعر، إنه الغروب يدنو، وشعرك يدب فيه المشيب
فهل تسمع ـ إذ أنت وحيد في تأملك ـ صوت الآخرة يناديك؟ "
قال الشاعر:
"إنه الغروب وهاأنذا أصغي خشية أن يناديني من القرية مناد، رغم أننا في ساعة متأخرة
إني أراقب لعلني واجد قلبين ضالين يلتقيان، أو زوجين من أعين مشتاقة تحن إلى ألحان الموسيقى لتزيل الصمت وتتحدث نيابة عنها
فمن ذا هناك ينسخ لهم أغاني عواطفهم، إذا أنا جلست على شاطئ الحياة وتأملت الموت والآخرة
إن من التوافه أن يدب في شعري المشيب
أنا أبدا في شباب أقوي الشباب، وفي شيخوخة أكبر الشيوخ من أهل هذه القرية
…
كلهم بحاجة إلي وليس لدي الفراغ أنفقه في التأمل فيما بعد الحياة
أنا مع كل إنسان أسايره في عمره، فماذا يضيرني إذا دب الشيب في رأسي؟ " (33).
الفصل الرابع
الشرق والغرب
الهند المتغيرة - التغيرات الاقتصادية
والاجتماعية - تدهور نضام الطبقات
والنقابات - المنبوذون - ظهور المرأة
إذا استطاع رجل "مثل طاغور" لم يعرف الإنجليزية حتى أوشك على الخمسين من عمره أن يكتب الإنجليزية بعدئذ في أسلوب جيد فتلك علامة تدل على السهولة التي يمكن بها مل الفجوات التي تفصل ذلك الشرق وذلك الغرب الذين حرم لقاءهما شاعر آخر؛ وهاهو ذا الغرب منذ مولد طاغور قد انتقل إلي الشرق بشتى الوسائل، وهو آخذ هناك في تغيير كل وجه الحياة الشرقية؛ فثلاثون ألف ميل من السكة الحديدية قد تشابكت فوق قفار الهند وجبالها، وحملت وجوها غربية إلى كل قرية من قراها؛ وأسلاك البرق والمطبعة قد جاءتا بأنباء العالم المتغير إلى كل من يريدها، فأوحت إليه بإمكان تغير بلاده؛ والمدارس الإنجليزية أخذت تعلم التاريخ البريطاني من وجهه نظر أرادت أن تخلق من الطلاب مواطنين بريطانيين، فغرست - غير عامدة - في النفوس الأفكار الإنكليزية عن الديمقراطية والحرية؛ فحتى الشرق ينهض اليوم برهانا على صدق هرقليطس
(1)
.
فلما رأت الهند أنها قد غاصت في الفقر إبان القرن التاسع عشر بفعل تفوق المغازل الآلية البريطانية، وقوه المدافع البريطانية بالنسبة إلى ما عند أهل البلاد، فقد أخذت الآن توجه نظرها كارهة إلى تصنيع نفسها، ولذلك ترى
(1)
هرقليطس فيلسوف يوناني يذهب إلى أن العالم في تغير مستمر لا يعرف الثبات على حال واحدة لحظتين متتابعتين؛ وقصْد الكاتب هنا هو أن الشرق معروف بجموده، لكنه اليوم يتغير. (المعرب)
الصناعات اليدوية في طريق الاندثار، بينما ترى المصانع الآلية في سبيل النمو والتكاثر؛ ففي "جامستبور" تستخدم "شركه تاتا للحديد والصلب" خمسة وأربعين ألفاً من العمال، وهي تهدد زعامة الشركات الأمريكية في إنتاج الصلب؛ ويزداد إنتاج الفحم في الهند ازديادا سريعا؛ وربما لا يمضي جيل واحد حتى تلحق الصين والهند بأوربا وأمريكا في إخراج مواد الوقود والصناعة الرئيسية من جوف الأرض؛ وقد لا تكتفي هذه الموارد الأهلية بسد حاجات الأهالي، بل تجاوز ذلك إلى منافسة الغرب على أسواق العالم، وعندئذ يهبط مستوى المعيشة عند أهل بلادهم هبوطا شديدا، بسبب منافسة العمال ذوي الأجور المنخفضة في البلاد التي كانت فيما مضى طبعة متأخرة "أعني بها البلاد الزراعية"، ففي البنغال مصانع على نمط كان معروفا في أواسط العصر الفكتوري
(1)
تدفع أجورا على الأسلوب العتيق، مما يستدر الدموع في أعين المحافظين في البلاد الغربية
(2)
، وقد حل أصحاب رؤوس الأموال الهنود محل نظائرهم البريطانيين في كثير من الصناعات، وهم يستغلون بني وطنهم بنفس الجشع الذي كان يستغلهم به الأوربيون الذين يحملون عبء الرجل الأبيض
(3)
.
ولم يتغير الأساس الاقتصادي في المجتمع الهندي دون أن يترك ذلك التغير أثره في النظم الاجتماعية وعادات الناس الخلقية، فنظام الطبقات كان وليد
(1)
يشير إلى عهد الملكة فكتوريا في إنجلترا، وهو على وجه التقريب القرن التاسع عشر. (المعرب)
(2)
كان في بومباي سنة 1922 ثلاثة وثمانون مصنعا من مصانع القطن يعمل فيها مائة وثمانون ألفا من العمال، بواقع أجر في المتوسط ثلاثة وثلاثون سنتا للعامل في اليوم؛ وبين الثلاثة والثلاثين مليونا من الهنود المشتغلين بالصناعة، 51% نساء، و 14% أطفال دون الرابعة عشرة.
(3)
"عبء الرجل الأبيض" عبارة قالها الشاعر الاستعماري رديارد كبلنج، يزعم بها أن الرجل الأبيض مكلف بطبيعته بترقية السود. (المعرب)
مجتمع زراعي راكد لا يتغير؛ وهو إن ضمن النظام فلا يتيح طريق الصمود للعبقري إذا ظهر في طبقة دنيا، ولا يفسح من مجال الطموح والأمل، ولا يحفز الناس على الابتكار والمغامرة؛ ولذا فقد قضى عليه بالفناء حين بلغت الثورة الصناعية شواطئ الهند؛ فالآلات لا احترام عندها للأشخاص، ففي معظم المصانع يعمل الناس جنبا إلى جنب بغير تميز الطبقات؛ والقطارات وعربات الترام تهيئ مكانا للجلوس أو للوقوف لكل من يدفع الأجر المطلوب والجمعيات التعاونية والأحزاب السياسية تضم كل المراتب في صعيد واحد؛ وفي زحمة المسرح أو الطريق في المدينة، تتدافع المناكب بين البرهمي والمنبوذ فتنشأ بينهما زمالة لم تكن متوقعة؛ وقد أعلن أحد الراجات أن كل الطبقات والعقائد ستفتح لها أبواب قصره؛ وأصبح رجل من فئة "الشودرا" حاكماً مستنيراً لإقليم "بارودا" واستنكرت جمعية "براهما - سوماج" نظام الطبقات؛ وأيد "مؤتمر بنغال الإقليمي" التابع "للمؤتمر القومي" إلغاء الفوارق الطبقية كلها فوراً (36)، وهكذا تعمل الآلات على رفع طبقة جديدة رويدا رويدا إلى الثراء والقوة وتسدل الستار على طبقة أرستقراطية هي أقدم الطبقات الأرستقراطية القائمة اليوم.
وبالفعل فقدت الألفاظ المستعملة في التمييز بين الطبقات معانيها؛ فكلمة "فاسيا" تراها في الكتب اليوم، لكنك لا ترى لها مدلولاً في الحياة الواقعة؛ حتى كلمة "شودرا" قد اختفت في الشمال، بينما ظلت في الجنوب قائمة لكنها باتت لفظة تدل دلالة غامضة على كلٌ من ليس ببرهمي (37)؛ والواقع أن الطبقات الدنيا في سالف الأيام قد حل محلها ما يزيد على ثلاثة آلاف "طبقة" هي في الحقيقة نقابات: ممولون وتجار وصناع ومزارعون ومعلمون ومهندسون وبائعون جوابون وجزارون وحلاقون وسماكون وممثلون ومستخرجو الفحم، وغسالات وبائعات وحوذية وماسحو أحذية - هؤلاء تنتظمهم طبقات مهنية
تختلف عن نقابات العمال في أنه من المفهوم على نحو غامض أن الأبناء سيحترفون مهن آبائهم.
إن ما ينطوي عليه نظام الطبقات من مأساة عظمى هو أنه قد ضاعف على مر الأجيال من "المنبوذين" الذين ينخرون بعددهم المتزايد وثورة نفوسهم في قوائم النظام الاجتماعي الذي هم صنيعته؛ ويضم هؤلاء المنبوذين في صفوفهم كل من فرض عليهم الرق بسبب الحرب أو عدم الوفاء بالدين، ومن ولدوا عن زواج بين البراهمة وشودرات، ومن تعست حظوظهم بحيث قضى القانون البرهمي على مهنهم بأنها مما يحط بقيمة الإنسان كالكناسين والجزارين، والبهلوانات والحواة والجلادين (38)؛ ثم تضخم عددهم بسبب كثرة التناسل كثرة حمقاء تراها عند من لا يملك شيئاً يخاف على فقده؛ وقد بلغ بهم فقرهم المدقع حداً جعل نظافة الجسد والملبس والطعام بمثابة الترف الذي يستحيل عليهم أن ينعموا به، فيجتنبهم بنو وطنهم اجتنابا يمليه كل عقل سليم
(1)
، ولذلك تقتضي قوانين الطبقات على "المنبوذ" ألا يقترب من عضو في طبقة "الشودرا" بحيث تقل المسافة بينهما عن أربعة وعشرين قدما (40)، وإذا وقع ظلُّ "منبوذٍ""رجل من طبقة الباريا" على رجل ينتمي إلى الطبقات الأخرى، كان على هذا الأخير أن يزيل عن نفسه النجاسة بغسل طهور؛ فكل ما يمسه المنبوذ، يصيبه الدنس بمسه إياه
(2)
، وفي كثير من أجزاء الهند لا يجوز
(1)
الذين يمتنعون امتناعا تاما عن أكل الطعام المستمد من الحيوان، ترهف عندهم حاسة الشم إلى درجة أنهم يدركون على الفور من أنفاس الشخص أو من إفرازات جلده، إذا كان ذلك الشخص قد أكل لحما أو لم يأكل، حتى وإن مضى على ذلك أربعة وعشرون ساعة".
(2)
حدث في سنة 1913 أن سقط ابن هندوسي من كوهات في عين ماء فمات غرقا ولم يكن على مقربة منه إلا أمه وشخص "منبوذ" كان عابرا سبيله، فعرض هذا على أم الطفل أن يغطس في الماء لينقذه، لكن الأم رفضت ذلك لأنها آثرت موت ابنها على تدنيس النبع.
للمنبوذ أن يستقي ماء من الآبار العامة، أو أن يدخل معابد البراهمة، أو أن يرسل أولاده إلى المدارس الهندوسية (42)، ولئن عملت السياسة البريطانية إلى حد ما على إفقار طبقة المنبوذين، فقد جاءتهم على الأقل بالمساواة مع غيرهم أمام القانون، وبحق الدخول - على قدم المساواة مع سائر الطبقات - في المدارس والكليات التي يقوم البريطانيون على إدارتها؛ وكان للحركة القومية، بتأثير غاندي، فضل كبير في الحد من الحوائل التي كانت تسد الطريق أمام المنبوذين؛ ويجوز ألا يأتي الجيل المقبل إلا وهم أحرار في الظاهر حرية تمس القشور.
وكذلك عمل دخول الصناعة والأفكار الغربية على زعزعة الأفكار القديمة التي كان يتمتع بها الرجل في الهند، فالانقلاب الصناعي يعمل على تأجيل سن الزواج، ويتطلب "حرية" المرأة، وأعني بذلك أن المرأة لا يمكن إغراؤها بالعمل في المصنع إلا إذا اقتنعت بأن الدار سجن، وأجاز لها القانون أن تدخر كسبها لنفسها؛ ولقد ترتب على هذا التحرير كثير من الإصلاحات الحقيقية جاءت عرضا، فحرم زواج الأطفال رسميا "سنة 1929 م" برفع سن الزواج قانونا إلى الرابعة عشرة للفتيات والثامنة عشرة للفتيان (43) واختفت ظاهرة "السوتي""أي دفن الزوجة التي مات زوجها حية"، ويزداد زواج الأرامل كل يوم
(1)
وتعدد الزوجات جائز قانونا ولكن لا يمارسه إلا قليلون (45) وإن رجاء السائحين ليخيب حين يجدون أن راقصات المعبد أوشكن على الانقراض، فالتقدم الأخلاقي في الهند يسير بخطوات سريعة لا يضارعها في سرعتها بلد آخر؛ فالحياة الصناعية في المدينة تخرج النساء من "البردة" حتى توشك ألا تجد ستًّا في كل مائة امرأة في الهند يقبلن اليوم أن يعشن وراء حجاب (46)؛ وفي الهند عدد من الصحف الدورية النسوية النابضة بالحياة تناقش فيها
(1)
تزوج سنة 1915 خمس عشرة أرملة، وبلغ العدد سنة 1925 (2263).
أحدث المشكلات، بل تكونت هناك جمعية لضبط النسل (47) واجهت بشجاعة أعقد مشكلة من مشكلات الهند - ألا وهي التناسل المطلق من كل قيد؛ والنساء في كثير من الأقاليم لهن حق التصويت، ويتولين المناصب السياسية، حتى لقد تولت امرأة رئاسة "المؤتمر القومي الهندي" مرتين، وكثيرات منهن قد حصلن على درجات جامعية واشتغلن طبيبات أو محاميات أو معلمات (48)، ولا شك أنه لا يمضي طويل وقت حتى ينقلب الوضع ويصير زمام الحكم بيد النساء؛ ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم الذي تراه في النداء التالي الذي يشتعل بالحماسة، والذي أصدره تابع من أتباع غاندي موجها إياه إلى نساء الهند، أقول ألسنا على حق إذا زعمنا أن الإثم في هذا النداء يرجع إلى أحد المؤثرات الغربية الجامحة؟
"انبذن (البردة) العتيقة! اخرجن مسرعات من المطابخ! اقذفن بالقدور والأواني مجلجلات في الأركان! مزقن الغشاء الذي ينسدل على عيونكن، وانظرن إلى العالم الجديد! قُلنَ لأزواجكن واخوتكن يطهوا طعامهم لأنفسهم، إن واجبات كثيرة في انتظاركن لأدائها حتى تصبح الهند أمة بين الأمم! "(49).
الفصل الخامس
الحركة القومية
الطلبة المستغربون - تحويل الشئون
الدينية إلى أمور دنيوية - المؤتمر الهندي القومي
كان عدد الطلبة الهنود الذين يدرسون في إنجلترا سنة 1923 يزيد على ألف، وربما كان عدد من يدرسون في أمريكا عندئذ مساوياً لذلك العدد، بل ربما كان هذا العدد كذلك يدرس في البلدان الأخرى؛ فدهشوا للحقوق التي يتمتع بها أحط المواطنين في أوربا الغربية وأمريكا؛ ودرسوا الثورتين الفرنسية والأمريكية، وقرأوا أدب الإصلاح والثورة، وأمعنوا أنظارهم في "قانون الحقوق" و"إعلان حقوق الإنسان" و"إعلان الاستقلال" و "الدستور الأمريكي" فعادوا إلى أوطانهم ليكوّنوا مراكز إشعاع للآراء الديمقراطية وإنجيلاً يبشر بالحرية؛ وقد اكتسبت هذه الآراء قوة لا تغْلب بسبب ما ظفر به الغرب من تقدم صناعي وعلمي، ونصر الحلفاء في الحرب؛ فلم يلبث هؤلاء الطلاب أن أخذوا يصيحون بالدعوة إلى الحرية؛ فقد تعلم الهنود حقوقهم في الحرية في مدارس إنجلترا وأمريكا.
ولم يقتصر المشارقة الذين تعلموا في الغرب على التقاط المثل العليا السياسية إبان تعلمهم خارج بلادهم، بل نفضوا عن أنفسهم كذلك الأفكار الدينية؛ فهاتان العمليتان مرتبطتان معاً في تراجم الأشخاص وتاريخ الأمم، جاء هؤلاء الطلاب إلى أوربا يعمر الدين قلوبَهم الشابة، يعتقدون في "كرشْنا" و "شيفا" و"فشنو" و "كالي" و "راما"
…
ثم مسّوا العلم، فإذا بعقائدهم القديمة قد تحطمت أشلاء كأنما نزلت بها نازلة ساحقة، ولما تجرد هؤلاء الهنود المستغربون
عن عقيدتهم الدينية التي هي روح الهند ولبابها، عادوا إلى وطنهم وقد زالت عن أعينهم الغشاوة التي كانت تزين القبيح، وسادهم الحزن، وسقط ألف إله أمام أعينهم من سمائهم صرعى
(1)
، فلم يكن بد من أن يتخيلوا "مدينة فاضلة على الأرض لتملأ مكان الفردوس السماوي الذي تحطم وحلت الديمقراطية محل "النرفانا" وأخذت الحرية مكان الله، فما جرى في أوربا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أخذ يجرى شبيهه الآن في الشرق.
ومع ذلك فالأفكار الجديدة أخذت تسير مجراها في خطوٍ وئيد، ففي سنة 1855 اجتمعت طائفة قليلة من زعماء الهنود في بمباي وأسسوا "المؤتمر الهندي القومي" لكن الظاهر أنهم لم يحلموا عندئذ حتى بمجرد الحكم الذاتي، وبعدئذ حاول "لوردكيرزن" أن يقسم البنغال (ومعنى ذلك أن يصيب أقوى جماعة هندية وأشدها وعياً سياسياً بالتفكك والضعف) فأثارت محاولته تلك جماعة الوطنيين بحيث تقدموا خطوة نحو الثورة، وفي المؤتمر المنعقد سنة 1905 طالب "تيلاك" في صلابة لاتين بـ "سواراج" وهذه كلمة اشتقها هو (50) من أصول سنسكريتية، ومعناها الحكم الذاتي (والكلمة الهندية قريبة لفظاً من العبارة الإنجليزية self - rule) ؛ وحدث في نفس ذلك العام المليء بالحوادث أن هزمت اليابان روسيا، وبدأ الشرق الذي لبث قرناً كاملاً يخشى صولة الغرب، بدأ يضع الخطة لتحرير آسيا، وتزعَّم "سَنْ يات سِنْ" الصين فجمع هؤلاء سيوفهم وارتموا في أحضان اليابان، أما الهند العزلاء من سلاحها، فقد أسلمت قيادها لزعيم هو من أغرب من شهد التاريخ من رجال، فضربوا للعالم مثلاً لم يسبق له مثيل، لثورة يقودها قديس، تثور ثائرتها بغير مدفع.
(1)
هذا الكلام لا ينطبق على الجميع، فبعضهم - على حد تعبير "كوما رازوامي" البليغ "قد عاد من أوربا إلى الهند".
الفصل السادس
مهاتما غاندي
صورة قديس - الزاهد - المسيحي - تعليم
غاندي في إفريقيا - ثورة 1921 - "أنا الرجل" - أعوام
السجن - "الهند الفتاة" - ثورة المغزل - أعمال غاندي
صَوِّر نفسك أقبح وأضأل وأضعف رجل في آسيا، له وجه وجسد كأنما صيغا من البرونز رأسه الأشيب حليق الشعر حتى الجذور، عظمتا صدغيه بارزتان وعيناه البنيِّتان تشعان طيبة قلب، وفمه واسع يوشك أن يخلو من الأسنان، وأكبر من فمه أذناه، وأنفه ضخم، نحيل الذراعين والساقين، ادَّثرَ بثوب على ردفيه، صَوِّر لنفسك هذا الرجل واقفاً أمام قاض إنجليزي في الهند، متهَماً بتحريض قومه على "عدم التعاون"؛ أو صَوِّرْه جالساً على بساط صغير في غرفة عارية في مقره المسمى "سايا جراها شرام" - ومعناها "مدرسة طلاب الحقيقة" - في أحمد أباد، وقد ربَّع ساقيه النحيلتين تحت جسمه على نحو ما يفعل "اليوجي" وبطن القدمين إلى أعلى، ويداه لا تنفكان تعملان في عجلة المغزل ووجهه تغضَّن بتقلصات تنمّ عن عبء التبعة الذي حمله، وعقله نشيط الحركة مستعد بالجواب عن كل من يسأل سؤالاً عن الحرية؛ هذا النسَّاج العريان كان هو الزعيم الروحي والزعيم السياسي في آن معاً لأمة من الهنود بلغ عددها ثلاثمائة وعشرين مليوناً من الأنفس، وامتدت زعامته من 1920 إلى 1935
(1)
، فإذا ما ظهر للناس، التفت حوله جماعات حاشدة لتتبرك بلمس ثيابه أو تقبيل قدميه (51).
(1)
امتدت زعامة غاندي حتى وفاته سنة 1948، وإنما وقف المؤلف عند عام 1935 لأنه تاريخ إصدار هذا الكتاب في أصله الإنجليزي. (المعرب).
كان ينفق كل يوم أربع ساعات في غزل "الخضّار" الخشن راجياً أن يسوق بنفسه للناس مثلاً يحتذونه فيستخدمون هذا القماش الساذج المغزول في داخل البلاد، بدل شرائهم منتجات المغازل البريطانية التي جاءت خراباً على صناعة النسيج في الهند؛ كان كل ما يملك ثلاثة أثواب غلاظ، اثنان يتخذهما لباساً، والثالث يتخذه فراشاً، وقد كان بادئ أمره محامياً غنياً، لكنه تنازل عن كل أملاكه للفقراء، ثم تبعته في ذلك زوجته بعد شيء من التردد نعهده في الأمهات؛ كان ينام على أرضية الغرفة عارية، أو على تربة الأرض، يعيش على البندق والموز والليمون والبرتقال والبلح والأرز ولبن الماعز (52)، وكثيراً ما كان يقضي الشهور متتابعات لا يأكل إلا اللبن والفاكهة، ولم يذق طعم اللحم إلا مرة واحدة في حياته، وكان حيناً بعد حين يمتنع عن الطعام إطلاقاً بضعة أسابيع وهو يقول:"لو استطعت أن استغني عن عينيّ، استطعت كذلك أن أستغني عن صيامي، فما تفعله العينان للدنيا الخارجية يفعله الصوم للدنيا الباطنية"(53) فقد كان يعتقد أنه كلما رق الدم صفا العقل وسقطت عنه النوازع التي تنحرف به عن جادة الطريق، بحيث تبرز أمامه الجوانب الأساسية - بل قد تبرز أمامه روح العالم وصميمه - بعد أن تنفض عنها الأعراض (واسمها مايا) كما يبرر إفرست خلال السحاب.
وفي نفس الوقت الذي كان يصوم فيه عن الطعام ليشهد الروح الإلهية، لم يفُته أن يحتفظ بإصبع من أصابع قدمه على الأرض، وكان ينصح أتباعه أن يحقنوا أنفسهم في الشرج مرة كل يوم إبان الصوم، حتى لا تتسمم أبدانهم بالإفرازات الحمضية التي يفرزها الجسد وهو يستهلك بعضه، وقد يصاب الجسد بهذا السم في نفس اللحظة التي يتاح فيها للإنسان أن يشهد الله (54).
ولما اقتتل المسلمون والهندوس، وأخذوا يصرعون بعضهم بعضاً مدفوعين بحماسة دينية، ولم يصيخوا إلى دعوته إياهم للسلام، صام ثلاثة أسابيع رجاء أن
يحرك العطف في نفوسهم، ولقد أدى به الصيام والحرمان الذي كان يفرضه على نفسه، إلى ضعف وهزال، بحيث لم يكن بد من اعتلائه مقعداً مرفوعاً كلما أراد توجيه الخطاب للحشود العظيمة التي كانت تجتمع لتسمعه؛ ومدَّ زهده حتى شمل به نطاق العلاقة الجنسية، وأراد - كما أراد تولستوي - أن يحصر عملية الجماع فلا يلجأ إليها إلا إذا قصد إلى التناسل، وكان هو كذلك قد أنفق شبابه منغمساً في شهوات بدنه، حتى لقد جاءه نبأ موت أبيه وهو يحتضن إحدى الغانيات، أما في رجولته فقد عاد - والندم الشديد يأكل قلبه - إلى "براهما شاريا" التي لُقِّنَها في صباه - وهي الامتناع التام عن كل شهوة جسدية؛ وأقنع زوجته أن تعيش معه كما تعيش الأخت مع أخيها، وهو يروي لنا أنه "منذ ذلك الوقت بطل بيننا كل نزاع"(55).
ولما تبين له أن حاجة الهند الأساسية هي ضبط النسل، لم يصطنع في سبيل ذلك وسائل الغرب، بل اتبع طرائق "مالتوس" و "تولستوي".
"أنكون على صواب إذا ما نسلنا الأطفال ونحن نعلم حقيقة الموقف؟ إننا لا نفعل سوى أن نضاعف عدد العبيد والمقعدين، إذا مضينا في التكاثر بغير أن نتخذ إزاءه شيئاً من الحيطة
…
لن يكون لنا حق النسل إلا إذا أصبحت الهند أمة حرة
…
ليس إلى الشك عندي من سبيل في أن المتزوجين إذا أرادوا الخير بأمتهم وأرادوا للهند أن تصبح أمة من رجال ونساء أقوياء وسيمين ذوي أبدان جميلة التكوين، كان واجبهم أن يكبحوا جماح أنفسهم ويوقفوا النسل مؤقتاً (56).
وإلى جانب هذه العناصر في تكوين شخصيته، كان يتصف بخلال عجيبة الشبه بتلك الخلال التي يقال إنها كانت تميز "مؤسس المسيحية"؛ إنه لم يَفُه باسم المسيح، ولكنه مع ذلك كان يسلك في حياته كما لو كان يأخذ بكل كلمة مما جاء في "موعظة الجبل"؛ فلم يعرف التاريخ منذ القديس فرنسيس
الأسيسي رجلاً اتصفت حياته بمثل ما اتصفت به حياة غاندي من وداعة وبُعْد عن الهوى وسذاجة وعفو عن الأعداء؛ وإنه لمما يذكر حسنةً لمعارضيه، لكنها حسنة أكبر بالنسبة له هو، أن حسن معاملته لهم- ولم يكن ذلك محل مقاومة منهم- قد استثار فيهم معاملة حسنة له من جانبهم؛ فلما أرسلته الحكومة إلى السجن، فعلت ذلك مصحوباً بفيض من الاعتذارات، ولم يبد هو قط شيئاً من حقد أو كراهية؛ وقد هجم الغوغاء عليه ثلاث مرات، وضربوه ضرباً كاد يودي بحياته لكنه لم يردَّ العدوان بعدوان مثله أبداً، ولما قبض على أحد المعتدين عليه، أبى أن يتوجه إليه بالاتهام.
ولم يلبث بعد ذلك أن نشبت بين المسلمين والهندوس أفظع ما نشب بينهم من فتن، وذلك حين ذبح مسلمو "موبلا" مئات من الهندوس العزَّل، وقدموا "غلفاتهم" لله قرباناً، ثم حدث لهؤلاء المسلمين أنفسهم أن أصابتهم المجاعة، فجمع لهم غاندي أموالاً من أرجاء الهند كلها، وقدم كل المال المجموع، بغير نظر إلى السوابق، وبغير أن يستقطع منه جزءاً لأحد ممن قاموا بجمعه، قَدَّمه للعدو الجائع (57).
ولد "موهانداس كارام شاند غاندي" سند 1869، وتنتمي أسرته إلى طبقة "فاسيا" وإلى المذهب الجانتي ومن مبادئها التي مارستها مبدأ "أهِمْسا" وهو ألا ينزل أحد الأذى بكائن حي، وكان أبوه أدرياً قادراً، لكنه كان من زنادقة الممولين، فقد فقدَ منصباً في إثر منصب بسبب أمانته، وأنفق ماله كله تقريباً في سبيل الإحسان، وترك ما تبقى منه لأسرته (58) ولما كان "موهانداس" في صباه أنكر الآلهة إذ أساء إلى نفسه أن يرى أعمال الدعارة ماثلة في بعض آلهة الهندوس، ولكي يعلن ازدراءه للدين ازدراء أبدياً، أكل اللحم، لكن أكل اللحم أضرَّ بصحته، فعاد إلى حظيرة الدين.
ولما بلغ الثامنة خطب عروسه، وفي الثانية عشرة تزوج منها وهي
"كاستورباي" التي ظلت على وفائها له خلال مغامراته كلها وغناه وفقره وسجنه وما تعرض له من "براهما شاريا"(أي اعتزام العفة الجنسية)؛ وفي سن الثامنة عشرة نجح في امتحانات الدخول في الجامعة، وسافر إلى لندن ليدرس القانون، ولما كان في السنة الأولى هناك، قرأ ثمانين كتاباً عن المسيحية؛ وقال عن "موعظة الجبل""إنها غاصت إلى سويداء قلبي عند قراءتها للمرة الأولى"(59) واعتبر مبدأها بأن يُرَدَّ الشر بالخير وأن يحب الإنسان كل الناس حتى الأعداء، أسمى ما يعبر عن المثل الأعلى الإنساني، وصمم على أن يؤثر الفشل بهذه المبادئ على النجاح بغيرها.
ولما عاد إلى الهند سنة 1891 مارس المحاماة حيناً في بمباي؛ فكان يرفض أن يتهم أحد من أجل دينه، ويحتفظ لنفسه دائماً بحق ترك القضية إذا ما وجد أنها تتنافى مع العدل؛ وقد أدت به إحدى القضايا إلى السفر إلى جنوبي أفريقيا، فوجد بني قومه هناك يلاقون من سوء المعاملة ما أنساه العودة إلى الهند، واتجه بجهده كله - بغير أجر - إلى قضية بني وطنه في أفريقيا ليزيل عنهم ما كان يصفدهم هناك من أغلال؛ ولبث عشرين عاماً يجاهد للوصول إلى هذه الغاية حتى سلمت له الحكومة بمطالبه، وعندئذ فقط عاد إلى أرض الوطن.
وكان طريق سفره بحيث يخترق الهند، فتبين للمرة الأولى فقر الناس فقراً مدقعاً، وأفزعته الهياكل العظمية التي شهدها تكدح في الحقول، والمنبوذون الوضيعون الذين كانوا يعملون أقذر الأعمال في المدن؛ وخيل أن ما يلاقيه بنو وطنه في الخارج من ازدراء، إن هو إلا إحدى نتائج فقرهم وذلهم في أرض وطنهم، ورغم ذلك فقد أخلص الولاء لإنجلترا بتأييدها إبان الحرب، بل دافع عن وجوب انخراط الهنود في سلك الجيش المحارب. إن كانوا ممن لم يقبلوا مبدأ الإقلاع عن العنف؛ ولم يوافق- عندئذ - أولئك الذين ينادون بالاستقلال
وآمن بأن سوء الحكم البريطاني في الهند كان شذوذا?ً في القاعدة، أما القاعدة فهي أن الحكم البريطاني بصفة عامة حكم جيد، وأن سوء الحكومة البريطانية في الهند لا يرجع إلا إلى عدم اتباعها لمبادئ الحكم السائدة في الحكومة البريطانية في بريطانيا نفسها، وأنه لو أفهم الشعب البريطاني قضية الهنود، تردد في قبولهم على أساس الإخاء التام في مجموعة الأجزاء الحرة من الإمبراطورية واعتقد أنه إذا ما وضعت الحرب أوزارها وحسبت بريطانيا ما ضحت به الهند (60) في سبيل الإمبراطورية من رجال ومال، لما ترددت في منحها حريتها.
لكن الحرب وضعت أوزارها، وتحرك الشعب مطالباً "بالحكم الذاتي"، فصدرت "قوانين رولَنْد" وقضت على حرية الكلام والنشر، بإنشائها تشريعاً عاجزاً للإصلاح يسمى "مونتاجو - شلمز فورد" ثم جاءت مذبحة "أمرِتْسار" فأجهزت على البقية الباقية؛ ونزلت الصدمة قوية على غاندي. فقرر من فوره عملاً حاسماً، من ذلك أنه أعاد لنائب الملك الأوسمة التي كان قد ظفر بها من الحكومات البريطانية في أوقات مختلفة، ووجه الدعوة إلى الهند لتقف من الحكومة الهندية موقف العصيان المدني، واستجاب الشعب لدعوته، لا بالمقاومة السلمية كما طلب إليهم، بل بالعنف وإراقة الدماء، ففي بمباي مثلاً قتلوا ثلاثة وخمسين من "الفارْسيين" المناهضين للحركة القومية (61)، ولما كان غاندي يعتنق مذهب "الأهِمْسا" - أي الامتناع عن قتل الكائنات الحية بكافة أنواعها - فقد بعث للناس برسالة أخرى دعاهم فيها إلى إرجاء حملة العصيان المدني، على أساس أنها تتدهور في طريقها إلى أن تكون حكم الغوغاء فقلما تجد في التاريخ رجلاً أبدى من الشجاعة أكثر مما أبداه غاندي في الاستمساك بالمبدأ في سلوكه، مزدرياً ما تمليه الضرورة العملية للوصول إلى الغايات، وغير آبه بحلوله من قلوب الناس منزلة عالية، فدهشت الأمة
لقراره، لأنها ظنت أنها كادت تبلغ غايتها، ولم توافق غاندي على أن الوسائل قد يكون لها من الأهمية ما للغاية المنشودة، ومن ثم هبطت سمعة المهاتما حتى بلغت أدنى درجات جَزْرها.
وفي هذه اللحظة نفسها (في مارس سنة 1922) قررت الحكومة القبض عليه، فلما توجه إليه النائب العام بتهمة إثارة الناس بمنشوراته، حتى اقترفوا ما اقترفوه من ألوان العنف في ثورة 1921، أجابه غاندي بعبارة رفعتْه فوراً إلى ذروة الشرف، إذ قال:
"أحب أن أؤيد ما ألقاه النائب العام العلاّمة على كتفي من لوم فيما يخص الحوادث التي وقعت في بمباي ومدراس وشاوري شاورا؛ لأنني إذا ما فكرت في هذه الحوادث تفكيراً عميقاً، وتدبرت أمرها ليلة بعد ليلة، تبين لي أنه من المستحيل علي أن أتخلى عن هذه الجرائم الشيطانية
…
إن النائب العام العلاَّمة على حق لا شبهة فيه حين يقول إنني باعتباري رجلاً مسئولاً، وباعتباري كذلك رجلاً قد ظفر بقسط من التعليم لا بأس به
…
كان ينبغي علي أن أعرف النتائج التي تترتب على كل فعل من أفعالي؛ لقد كنت أعلم أنني ألعب بالنار، وأقدمت على المغامرة، ولو أطلق سراحي لأعدتُ من جديد ما فعلته؛ إني أحسست هذا الصباح أنني أفشل في أداء واجبي إذا لم أقل ما أقوله هنا الآن.
أردت أن أجتنب العنف، وما زلت أريد اجتناب العنف، فاجتناب العنف هو المادة الأولى في قائمة إيماني، وهو كذلك المادة الأخيرة، من مواد عقيدتي؛ لكن لم يكن لي بد من الاختيار، فإما أن أخضع لنظام الحكم الذي هو في رأيي قد ألحق ببلادي ضرراً يستحيل إصلاحه، وإما أن أتعرض للخطر الناشئ عن ثورة بني وطني ثورة غاضبة هوجاء ينفجر بركانها إذا ما عرفوا حقيقة الأمر من بين شفتي، إني لأعلم أن بني وطني قد جاوزوا حدود المعقول أحياناً، وإني لآسف لهذا أسفاً شديداً، ولذلك فأنا واقف هاهنا لأتقبل، لا أخف ما تفرضونه من عقوبة، بل أقسى ما تنزلونه من عقاب؛ إنني
لا أطلب الرحمة، ولا أتوسل إليكم أن تخففوا عني العقاب، إنني هنا - إذن - لأرحب وأتقبل راضياً أقسى عقوبة يمكن معاقبتي بها على ما يعدّه القانون جريمة مقصودة، وما يبدو لي أنه أسمى ما يجب على المواطن أداؤه (62).
وعبر القاضي عن عميق أسفه لاضطراره أن يزج في السجن برجل يعدُّه الملايين من بني وطنه "وطنياً عظيماً وقائداً عظيماً" واعترف بأنه حتى أولئك الذين لا يأخذون بوجهة نظر غاندي، ينظرون إليه نظرتهم إلى "رجل ذي مثل عليا وحياة شريفة بل إن حياته لتتصف بما تتصف به حياة القديسين"(63) وحكم عليه بالسجن ست سنوات.
سُجنَ غاندي سجناً منفرداً لكنه لم يتألم، وكتب يقول "لست أرى أحداً من المسجونين الأخرين، ولو أنني في الحق لا أدري كيف يمكن أن يأتيهم الضرر من صحبتي لكني أشعر بالسعادة، إني أحب العزلة بطبيعتي، وأحب الهدوء، ولديّ الآن فرصة سانحة لأدرس موضوعات لم يكن لي بد من إهمالها في العالم الخارجي (64) وراح يعلم نفسه بما يزيد من ثورته في كتابات "بيكن" و "كارلايل" و "رسْكُن" و "إمرسن" و"ثورو" و "تولستوي، وسرّى عن نفسه كروبها مدى ساعات طوال بقراءته لـ "بن جونْسن" و "وولترسكُتْ" وقرأ "بها جافاد جيتا" مراراً، ودرس السنسكريتية والتامِليَّة والأردية، حتى لا يقتصر على الكتابة للعلماء، بل ليستطيع كذلك أن يتحدث إلى الجماهير، ولقد أعدَّ لنفسه برنامجاً مفصلاً لدراساته خلال الستة الأعوام التي سيقضيها في سجنه، وكان أميناً في تنفيذ ذلك البرنامج، حتى تدخلت الحوادث في تغيير مجراه، "لقد كنت أجلس إلى كتبي بنشوة الشاب وهو في الرابعة والعشرين، ناسياً أني قد بلغت من العمر أربعة وخمسين وأني عليل "(65).
كان مرضه "بالمصران الأعور" طريق خلاصه من السجن، كما كان الطب الغربي الذي طالما أنكره، طريق نجاته من المرض؛ وتجمع عند بوابات السجن حشد كبير لتحيته عند خروجه وقبَّل كثيرون منهم ثوبه الغليظ وهو ماضٍ في طريقه؛ لكنه اجتنب السياسة وتوارى عن أنظار الشعب، وعني بضعف بنيته ومرضه، وأوى إلى مدرسته في أحمد أباد حيث أنفق أعواماً طوالاً مع طلابه في عزلة هادئة؛ ومع ذلك فقد أخذ يرسل من مَكْمنه ذاك كل أسبوع بمقال افتتاحي تنشره له الجريدة التي كانت لسان حاله، وهي جريدة "الهند الفتاة" وجعل يبسط في تلك المقالات فلسفته عن الثورة والحياة؛ والتمس من أتباعه أن يجتنبوا أعمال العنف، لا لأن العنف بمثابة الانتحار للهند فقط، ما دامت الهند عزلاء من السلاح، بل لأنه كذلك سيضع استبداداً مكان استبداد آخر؛ وقال لهم: "إن التاريخ ليعلمنا أن أولئك الذين دفعتهم الدوافع الشريفة إلى اقتلاع أصحاب الجشع باستخدام القوة الغشوم، أصبحوا بدورهم فريسة لنفس المرض الذي كان يصيب أعداءهم المهزومين
…
إن اهتمامي بحرية الهند سيزول لو رأيتها تصطنع لحريتها وسائل العنف، لأن الثمرة التي تجنيها من تلك الوسائل لن تكون الحرية، بل ستكون هي الاستعباد" (66).
وثاني العناصر في عقيدته هو رفضه القاطع للصناعة الحديثة، ودعوته التي تشبه دعوة روسو في سبيل العودة إلى الحياة الساذجة، حياة الزراعة والصناعة المنزلية في القرى، فقد خيل لغاندي أن حبس الرجال والنساء في مصانع، يعملون - بآلات يملكها سواهم - أجزاء من مصنوعات لن يتاح لهم قط أن يروها وهي كاملة، طريقة ملتوية لشراء دمية الإنسان تحت هرم من سلع بالية، ففي رأيه أن معظم ما تنتجه الآلات لا ضرورة له. والعمل الذي يوفره استخدام الآلات في الصناعة يعود فيستهلك في صنعها وإصلاحها، أو إن كان هناك عمل قد ادخرته الآلات فعلاً، فليس هو من صالح العمل نفسه، بل من صالح رؤوس الأموال، فكأنما الأيدي العاملة تقذف بنفسها بسبب
إنتاجها في حياة يسودها الذعر لما يملؤها من "تعطل ناشئ عن الأساليب العلمية في الصناعة"(67) ولذلك عمل على إحياء حركة "سواديشي" التي حمل لواءها "تيلاك" سنة 1905، وأضيف مبدأ "الإنتاج الذاتي" إلى مبدأ "سواراج" أي "الحكم الذاتي"، وجعل غاندي استخدام "الشاركا" - أي عجلة الغزْل - مقياساً للتشيع المخلص للحركة القومية وطالب كل هندي، حتى أغناهم، بأن يلبس ثياباً من غزْل البلاد، وأن يقاطع المنسوجات البريطانية الآنية، حتى يتسنى للدور في الهند أن تطنَّ من جديد في فصل الشتاء الممل بصوت المغازل وهي تدور بعجلاتها (68).
لكن الناس لم يستجيبوا بأجمعهم لدعوته، لأنه من العسير أن توقف التاريخ عن مجراه، ومع ذلك فقد حاولت الهند على كل حال أن تستجيب لدعوته، فكنت ترى الطلبة الهنود في كل أرجاء الأرض كلها يرتدون "الخضَّار"؛ ولم تعد سيدات الطبقة العالية يلبسن "الساري" من الحرير الياباني، بل استبدلن به ثياباً خشنة من نسيج أيديهن وجعلت العاهرات في مواخيرهن والمجرمون في سجونهم يغزلون، وأقيمت المحافل الكبرى في المدن كثيرة كما كان يحدث في عهد "سافونا رولا" - حيث جاء الهنود الأغنياء والتجار بما كان في دورهم أو في مخازنهم من المنسوجات الواردة من الخارج، فألقوا بها في النار، ففي بمباي وحدها، أكلت ألسنة اللهب مائة وخمسين ألف ثوب من القماش (69).
ولئن فشلت هذه الحركة التي قصدت إلى نبذ الصناعة؛ فقد هيأت للهند مدى عشرة أعوام رمزاً للثورة، وعملت على تركيز ملايينها الصامتة في اتحاد جديد من الوعي السياسي، وارتابت الهند في قيمة الوسيلة لكنها أكبرت الغاية المنشودة؛ فإذا كانت قد تزعزعت ثقتها بغاندي السياسي فقد أحلت في سويداء قلبها غاندي القديس، وأصبحت الهند كلها لحظة من الزمن بمثابة الرجل الواحد وذلك باتحادها في إكباره، فكما يقول عنه طاغور:
"إنه وقف على أعتاب آلاف الأكواخ التي يسكنها الفقراء ولبس ثياباً
كثيابهم، وتحدث إليهم بلغتهم، ففيه تجسدت آخر الأمر حقيقة حية، ولم يعد الأمر اقتباساً يستخرج من بطون الكتب: ولهذا السبب كان اسم "مهاتما" - وهو الاسم الذي أطلقه عليه الشعب - هو اسمه الحق، فمن سواه قد شعر شعوره بأن الهند أجمعين هم لحمه ودمه؟ .. فلما جاء الحب وطرق باب الهند، فتحت له الهند بابها على مصراعيه
…
لقد ازدهرت الهند لدعوة غاندي ازدهاراً يؤدي بها إلى عظمة جديدة، كما ازدهرت مرة سبقت في الأيام السوالف، حين أعلن بوذا صدق الإخاء والرحمة بين الكائنات الحية جميعاً (70).
لقد كانت رسالة غاندي أن يوحّد الهند وقد أدى رسالته؛ وهناك رسالات أخرى تنتظر رجالاً آخرين.
الفصل السابع
كلمة وداع الهند
لسنا نستطيع أن نختم الحديث في تاريخ الهند على نحو ما نختمه في تاريخ مصر أو بابل أو أشور، لأن تاريخ الهند لا يزال في دور تكوينه، ومدنيتها لا تزال في طور إبداعها، لقد دبت الحياة من جديد في الهند من الوجهة الثقافية باتصالها بالغرب اتصالاً عقلياً، حتى لترى أدبها اليوم في خصوبة شتى الآداب في البلاد الأخرى، وأما من الوجهة الروحية، فهي ما تزال تكافح الخرافة والإسراف في بضاعتها اللاهوتية، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالسرعة التي تستطيع بها أحماض العلم الحديث أن تذيب آلهتهم التي تزيد عن حاجتهم، ومن الوجهة السياسية شهدت الهند في المائة سنة الأخيرة وحدة لم تشهد لها مثيلاً فيما مضى إلا نادراً، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى توحيد الحكومة الأجنبية القائمة عليهم، وإلى حد ما إلى توحيد اللغة الأجنبية التي يتكلمونها، ولكنه يرجع فوق هذا وذلك إلى اتحادهم في الطموح إلى الحرية طموحاً صهرهم في وحدة متماسكة، ومن الوجهة الاقتصادية تنتقل الهند الآن من حياة العصور الوسطى إلى حياة الصناعة الحديثة بما في هذا الانتقال من حسنات وسيئات، وستنمو ثروتها وتزداد تجارتها، نمواً وازدياداً يؤهلانها بغير شك إلى أن تكون قبل نهاية هذا القرن بين دول العالم الكبرى.
وليس في وسعنا أن نزعم أن هذه المدنيَّة قد أفادت مدنيتنا إفادة مباشرة، كما استطعنا أن نتعقب بعض جوانب مدنيتنا إلى أصولها في مصر أو الشرق الأدنى، ذلك لأن مصر والشرق الأدنى كانا السَّلَفَيْن المباشرين لثقافتنا، بينما تدفن تاريخ الهند والصين واليابان في مجرى آخر، وهو آخذ لتوه اليوم في مس تيار
الحياة العربية والتأثير فيه؛ إنه على الرغم من حيلولة حاجز الهملايا، قد استطاعت الهند أن تبعث إلينا عَبْرَ تلك الجبال طائفة من ألوان التراث المشكوك فيه، مثل النحو والمنطق والفلسفة والحكايات الخرافية والتنويم المغناطيسي والشطرنج، وفوق هذا كله، بعثت إلينا أرقامنا التي نستعملها في الحساب ونظامنا العشري؛ لكن هذه ليست صفوة روحها، وهي توافه إذا قيست إلى ما قد نتعلمه منها في مقبل الأيام؛ فبينما تعمل الاختراعات والصناعة والتجارة على ربط القارات بعضها ببعض، أو بينما تعمل هذه العوامل على بث روح الشقاق بيننا وبين آسيا، فسيتاح لنا في أي من الحالتين أن ندرس مدنيتها عن كثب أكثر من ذي قبل، وسنمتصُّ - حتى في حالة قيام الخصومة بيننا - بعض أساليبها وأفكارها؛ فربما علمتنا الهند مقابل ما لقيتْه على أيدينا من فتح وعنجهية واستغلال، التسامح والوداعة اللذين يتصف بهما العقل الناضج، والقناعة المطمئنة التي تتميز بها النفس إذا كفت عن الجشع في جمع المال، وهدوء الروح البصيرة بحقائق الوجود، وحب الكائنات الحية جميعاً، الذي من شأنه أن يبث في الناس اتحاداً وسلاماً.