المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل السَّابع عَشَر   ‌ ‌ثورة الأراضي الوطيئة ‌ ‌1555 - 1648   1 - مسرح الأحداث في - قصة الحضارة - جـ ٣٠

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الفصل السَّابع عَشَر

‌ثورة الأراضي الوطيئة

‌1555 - 1648

1 -

مسرح الأحداث

في يوم 25 أكتوبر 1555 نقل الإمبراطور شارل الخامس مقاليد الحكم في الأراضي الوطيئة إلى ابنه فيليب، وفي السادس والعشرين، وأمام الجمعية التشريعية في بروكسل، تلقى فيليب أيمان الولاء، وأقسم بدوره أن يحافظ على حقوق المقاطعات السبعة عشر وامتيازاتها، وفق ما تقضي به التقاليد والمعاهدة والقانون ولقد هيأت هذه العهود والمواثيق المتبادلة المسرح لإحدى المسرحيات الكبرى في تاريخ الحرية.

وكان المشهد معقداً. كانت الأراضي الواطئة آنذاك تضم بلجيكا الحالية ومملكة هولندا القائمة الآن. ولم تكن الهولندية- وهي أصلاً إحدى اللهجات الألمانية السائدة في وهاد شمال ألمانيا والأراضي الواطئة- وهي اللغة التي تتحدث بها المقاطعات السبع الشمالية (وهي هولندا، زيلندة، أوترخت، فريزلند، جروننجن، أوفريجسل، جلالند، فحسب، بل كانت كذلك لغة أربع مقاطعات أخرى (هي فلاندرز، برابانت، مكلين، لمبرج) في شمالي "بلجيكا"، على حين كانت "الوالون"- وهي إحدى اللهجات الفرنسية- هي اللغة لتي يتحدث بها الأهالي في ست مقاطعات جنوبية (هي أرتوا، وألون، فلاندرز، كمبراي، تورني، اينو، نامور). وكانت هذه المقاطعات كلها، بالإضافة إلى دوقية لكسمبرج المجاورة، تحت حكم آل هبسبرج.

وكانت الكاثوليكية (1) هي ديانة الأغلبية الساحقة من الأهالي في 1555

ص: 1

ولكن- كاثوليكيتهم- كانت من النوع العطوف الموسوم بالروح الإنسانية الذي نادى به أرزم قبل ذلك بنصف قرن من الزمان، والذي كانت تدين به روما في عصر النهضة بصفة عامة، وليست من ذلك النوع الكئيب المتشدد من الكاثوليكية الذي ساد في أسبانيا لعدة قرون كانت تحارب فيها المسلمين "الكفار". وبعد 1520 تسربت اللوثرية ومذهب القائلين بتجديد عماد البالغين ورفض عماد الأطفال من ألمانيا، تسربت بعد ذلك بشكل أكبر الكلفنية من ألمانيا وسويسرا وفرنسا. وحاول شارل الخامس أن يقضي على غارات هذه المذاهب الغربية التي أقحمت عليه كاثوليكيته، بإدخال محاكم التفتيش البابوية أو الأسقفية، وبنشر إعلانات تتوعد بأشد العقوبة أي انحراف خطير عن الكاثوليكية الصحيحة. ولكن قلَّ أن نُفِذت هذه العقوبات بعد أن أضعف صلح باسو 1552 من قوته. وفي روتردام 1558 تمكن حشد من الأهالي من إنقاذ عدد من أنصار تجديد العماد من الإعدام حرقاً. فجزع فيليب لتفاقم الهرطقة وجدد نشر الإعلان عن العقوبات .. وساد الخوف من أنه يعتز إدخال محاكم التفتيش الأسبانية بكل ما فيها من قسوة ونكال.

كان مذهب كلفن يلتئم كل الالتئام مع عنصر الروح التجارية "المركنتلية" في النظام الاقتصادي وكان ثغرا أنتورب وأمستردام هما المركز الرئيسي لتجارة شمال أوربا، وكانا ينبضان بالحياة بفضل التصدير والاستيراد والمضاربة وسائر ألوان المعاملات المالية، حتى أن التأمين وجده عاد بأوفر الثراء على 600 من وكلائه (2). وجرت في انهار الراين وماسي وأيسل- وشلدت ووال وليس إلى جانب مئات من القنوات- جرت في هذه كلها مجموعة متنوعة كبيرة من سفن النقل، وأذكت التجارة روح البراعة من المهن والصناعات في بروكسل وغنت واييرس وتورني وفالنسين ونامور ومكلين وليدن وأوترخت وهارلم. ونظر رجال الأعمال الذين تحكموا في هذه المدن بعين الإجلال والإكبار إلى الكاثوليكية على أنها ركيزة دعمتها التقاليد للاستقرار السياسي والاجتماعي والروحي، ولكنهم لم يسيغوا سلطانها الكهنوتي بأبهته وفخامته. كما أحبوا

ص: 2

الدور الذي تهيئه الكلفنية لجمهور العلمانيين المتعلمين، في إدارة المجامع والسياسة الكلفنية. وكرهوا بصفة أخص الضرائب التي فرضتها الحكومة الأسبانية على اقتصاد الأراضي الواطئة.

ووقع على الفلاحين أفدح الغرم وأصابوا أقل الغنم من الثورة. ذلك أن معظم الأراضي كان ملكاً لذوي النفوذ والمكانة الذين كانوا أقرب شبها بأمراء الإقطاع في ألمانيا وفرنسا، وهؤلاء هم الذين نظموا الكفاح من أجل الاستقلال. فكان فيليب دي مونموارنس، كونت هورن، يمتلك أراضي شاسعة في المقاطعات الجنوبية. كما كان لكونت اجمونت لامورال، ضياع واسعة في فلاندرز ولكسمبرج، فكان مركزه يخول له أن يطلب يد دوقة بافاريه، وحارب في عدة حملات ببسالة فائقة حتى أصبح أُيراً لدى شارل وفيليب، وهو الذي قاد جيش فيليب إلى النصر في سانت كوبتن (1557). وأظهر في قصره الفخم من ضروب الإسراف والكرم الباذخ ما ورطه الدين. ونظر مثل هؤلاء الرجال، ونبلاء كثيرون آخرون أقل منهم شأناً، نظروا في شره ونهم إلى ثروة الكنيسة، وسمعوا والحسد يملأ قلوبهم بالبارونات الألمان الذين أثروا بالاستيلاء على أملاكها (3). واتجه تفكيرهم إلى أن الملك يحسن صنعاً لو أنه اقتطع من- أملاك الكنيسة أجزاءً معقولة يخصصها لقيادات عسكرية "وبذلك يخلق" أسلحة فرسان رائعة

في مكان هذه الجماعة الخاملة من الأبيقوريين المنغمسين في ملذات الطعام والشراب والذين لا شغل لهم إلا "التسبيح"(4).

أما أكثر كبار الملاك قدرة وكفاية وثراء فكان وليم ناسو، أمير أورانج وكان للأسرة أملاك شاسعة في المقاطعة الألمانية "هس ناسو"، وفي الأراضي الواقعة حول ويزبادن، كذلك في الأراضي الواطئة، على حين اشتق لقب الأسرة من إمارة أورانج الصغيرة في جنوب فرنسا. ولما كان وليم قد رأى النور في دللنبرج الألمانية (1533) فإنه نشأ على مذهب لوثر حتى بلغ الحادية عشر من عمره، وحينئذ أنتقل إلى بروكسل وتحول إلى الكاثوليكية حتى يكون له الحق في أملاك ابن عمه رينيه. وقد أعجب به شارل الخامس، وزواجه من آن

ص: 3

دوقة أجمونت (وارثة كونت بورن) وأختاره ليكون بين كبار من شهدوا تنازله التاريخي عن العرش (1555) وأوفده فيليب- وكان وليم آنذاك شاباً غض الأهاب لم يجاوز الثانية والعشرين، ولكنه كان يتقن الفلمنكية والألمانية والأسبانية والفرنسية والإيطالية- بين مبعوثيه للمفاوضة في عقد صلح كاتو- كمبرسيس، وهناك تميز وليم بسداد الرأي وقوة الحجة وشدة الحرص في الكلام حتى لقبه الفرنسيون

"بالصامت". وعينه فيليب عضواً في مجلس الدولة، وفارسان من فرسان الجزة الذهبية، ونائباً للملك في هولندا وزيلند وأوترخت. ولكن وليم اختط لنفسه نهجاً لم يغتفره له فيليب قط.

ولقد نعم الأمير الشاب اليافع بمزايا في شخصه كما نعم بوفرة المال، وكان فارع الطول رياضياً نحيل القوام، سحر بفصاحته وكياسته كل الناس إلا أعداءه. وكان الإخفاق حليفه قائداً عسكرياً، أما في مجال التدبير أو التخطيط السياسي فإن إصراره بالمرونة وشجاعته الموسومة بالثبات خلقت منه برغم نقائصه، شخصاً آخر في وجه أعتى القوى السياسية والدينية في أوربا. وساس الرجال أفضل مما قاد الجيوش، وثبت على الأيام أن هذه موهبة أعظم. واتهمه أعداؤه بتغيير عقيدته الدينية وفق ما تقتضيه مآربه الشخصية أو السياسية (5). وربما كان هذا صحيحاً، ولكن كل الزعماء في هذا القرن استخدموا الدين- أداة للسياسة

(1)

.

وعاب عليه الكثيرون تعدد زوجاته فإنه عند وفاة زوجته الأولى أخرى مفاوضات للزواج من "آن" أخرى ثرية، وهي ابنة موريس أمير سكسونيا البروتستانتي، وعقد قرانه عليها وفق الطقوس اللوثرية في 1561، ولكنه لم يعلن تحوله إلى البروتستانتية إلا عام 1753. وأصابت آن بعض لوثة من الجنون 1567، فاحتجزت في معزل مع بعض الأصدقاء ليرعوها.

(1)

أن الأمراء الذين أقاموا العقيدة الدينية أو حمايتها أو غيروها، قل أن كان لديهم في قرارة أنفسهم شيء منها، فولتير (6).

ص: 4

وكانت ل تزال على قيد الحياة حين حصل وليم من خمسة من القساوسة البروتستانت على إذن بالزواج من شرلوت البروبونية، من الأسرة المالكة الفرنسية (1575)، وكانت قد هربت من دير الراهبات واعتنقت مذهب الإصلاح، وتوفيت شارلوت 1583. ولبس وليم الحداد عليها لمدة عام، تزوج بعده للمرة الرابعة من لويز دي كوليني لبنة أمير البحر الذي كان قد قضى نحبه في مذبحة سانت برثلميو. وعلى الرغم من هذه الزيجات- وربما كان بسببها- كان وليم غنياً بما لديه من أراضي، خاوي الوفاض من المال. وفي عام 1560 بلغت ديونه مليون فلورين (7). وغلبت عليه ذات يوم نزعة إلى الاقتصاد فطرد ثمانية وعشرين من طباخيه (8).

وتخبط فيليب بشكل هدام في التعامل مع النبلاء في الأراضي الواطئة. وأن أباه الذي نشأ وترعرع في بروكسل، عرف هؤلاء الرجال وتكلم لغتهم وساسهم في حزم. على حين أن فيليب تربى في أسبانيا فلم يتكلم الفرنسية ولا الهولندية، وعز عليه أن ينحني لهؤلاء الأقطاب في لباقة وسماحة، ويحترم عاداتهم وديونهم، بل أنه عبس واستاء من إسرافهم وتبذيرهم وإدمانهم على الشراب، وتبذلهم مع النساء، وتهافتهم عليهن، وفق هذا كله لم يتفهم فيليب دعاواهم في الحد من سلطانه. على أنهم بدورهم كرهوا منه كبريائه الكئيب وولعه بمحاكم التفتيش وتعيينه الأسبان المناصب التي تدر ربحاً في الأراضي الوطيئة، وتزويد مدنهم بحاميات أسبانية. وعندا طالب بدفع الأموال هؤلاء النبلاء ورجال الأعمال، وهم الذين يشكلون الجمعية التشريعية، استمعوا- عن طريق المترجمين- في فتور إلى دعواه ودفاعه بأن والده وبأن الحروب الأخيرة قد خلفت في الخزينة عجزاً كبيراً، وتولاهم الجزع لمطالبته بمليون وثلاثمائة ألف فلورين، وبضريبة أخرى قدرها 1% على العقارات، و2% على الأموال المنقولة، ورفضوا التصديق على هذه الضرائب، ولكنهم أقروا فقط مبالغ قدروا أنها تكفي لتغطية النفقات الجارية. وبعد ثلاث

ص: 5

سنوات من ذلك دعاهم إلى الاجتماع ثانية وطلب منهم ثلاثة ملايين جيلدر، فوافقوا، على شرط انسحاب القوات الأسبانية من الأراضي الوطيئة. فأقر هذا الشرط، ولكنه محا ما في هذا التنازل من ترضية بالحصول على إذن من البابا بإنشاء أحد عشرة أسقفية جديدة في الأراضي الوطيئة، على أن يعين في هذه الأسقفيات رجالاً يرتضون تنفيذ القوانين التي سنها والده ضد الهرطقة وعندما أبحر فيليب إلى أسبانيا في 26 أغسطس 1559 - إلى غير رجعة إلى الأراضي الوطيئة- كانت قد تشكلت خطوط الصراع الاقتصادي الديني الكبير.

‌2 - مارجريت بارما

1559 -

1567

كان فيليب قد عين مرجريت دوقة بارما نائبة له. وهي ابنة شرعية لشارل الخامس من أم فلمنكية. وكانت قد نشأت وترعرعت في الأراضي الوطيئة، وعلى الرغم من طول مقامها في إيطاليا، فإنها استطاعت أن تلم بالفلمنكية. إن لم يكن بالهولندية كذلك. ولم تكن ضيقة الأفق ولا متعصبة، ولكنها كانت كاثوليكية ورعة، حرصت على أن تغسل في الأسبوع المقدس من كل عام أقدم اثنتي عشرة من العذارى وتمنحهن مهور الزواج. وكانت مرجريت امرأة قديرة عطوفة، ولكن عصفت بها بشكل مزعج رياح الثورة.

لقد حد المستشارون الذين عينهم فيليب من سلطان مرجريت. وكان أجمونت وأورنج من بين أعضاء مجلس الدولة لديها. ومذ رأى هذان العضوان أنهما ينهزمان دائماً أمام رأى الأعضاء الثلاثة الآخرين في المجلس فإنهما امتنعا عن الحضور. وفي هذا الثالوث الناشئ برزت وسيطرت شخصية أنطوان برينو أسقف آراس. المعروف في التاريخ باسم الكاردينال دي جرانفل. وكان رجلاً كريماً وفقاً لفلسفته وتفكيره، وكان ينزع-

ص: 6

كما تنزع مرجريت-إلى الوسائل السلمية في معالجة الهرطقة، ولكنه كان مخلصاً للكاثوليكية والملكية إلى حد تعذر معه أن يسيغ الانشقاق أو الخلاف الديني. وقد غلت أيدي الكاردينال ومرجريت بإصرار فيليب على عدم اتخاذ أي إجراء هام إلا بموافقة الملك، وكان وصول هذه الموافقة الملكية من مدريد إلى بروكسل يتطلب عدة أسابيع. وضحى الكاردينال بشعبيته في سبيل طاعة الملك. وعارض تعدد الأسقفيات سراً، ولكنه خضع لإلحاح فيليب على أن أربع أسقفيات لا تكفي لسبع عشرة مقاطعة. ولحظت الأقلية البروتستانتية في استياء وغضب أن الأساقفة الجدد ينشرون محاكم التفتيش البابوية ويتشددون في إجراءاتها. وفي مارس 1563 كتب أورلنج وأجمونت وهورن-وهم أنفسهم كاثوليك-كتبوا إلى فيليب يتهمون جرانفل بانتهاك حرمة الحقوق الإقليمية التي تعهد الملك بالإبقاء عليها واحترامها، ورأوا أن الكاردينال مسئول عن الأساقفة الجدد، وحضوا على عزله من منصبه. ولم تستسغ مرجريت نفسها استيلاء الكاردينال على السلطة، وتاقت إلى شيء من التراضي مع النبلاء الساخطين الذين كانوا ذوي أهمية لديها للمحافظة على النظام الاجتماعي، وأخيراً في سبتمبر 1563 أوصت هي كذلك بنقل جرانفل إلى مكان آخر. وبعد مقاومة طويلة خضع الملك، ودعا القسيس العظيم إلى التمتع بإجازة ينقطع فيها عن عمله. وغادر جرانفل بروكسل في مارس 1564، ولكنه ظل واحد من أعظم المستشارين الموثوق بهم لدى الملك. وعاد النبلاء إلى مجلس الدولة الخاص بمرجريت، وباع بعض موظفيهم المناصب وأحكام القضاء وأوامر العفو، ويبدو أن نائبة الملك، مرجريت، شاركت في الغنائم (9).

وانتشرت محاكم التفتيش، وكان فيليب يراقبها وهو في أسبانيا، ويشجع على استمرارها، ويبعث إلى مرجريت بأسماء الهراطقة المشتبه فيهم. وما كاد يمر يوم دون إعدام. وفي ؤ1561 أحرق جلين دي مولر في أودينارد، وأحرق توماس كولبرج في تورني، وقطع أحد أنصار تجديد العماد أرباً حتى

ص: 7

الموت بسبع ضربات من سيف عتيق صدئ، في حضور زوجته التي قضت نحبها فزعاً من هول المنظر (10) وأثارت هذه الأعمال الوحشية حفيظة برتران لبلاس فهاجم كاتدرائية تورفي، أثناء قداس عيد الميلاد واندفع إلى المذبح وانتزع القربان المقدس من يد القسيس ووطئه بقدميه، وصاح في جمهور المصلين "أيها المضللون، هل تظنون أن هذا هو المسيح إلهكم ومخلصكم؟ " وعذب الرجل فأحرقت يده اليمنى وقدميه حتى لم يبق منها إلا العظام، وقطع لسانه، وعلق فوق نار وشوي على محصل حتى لفظ أنفاسه، وفي ليل أحرق روبرت أو جيبه وزوجته وأبناؤه لأنهم قالوا بأن عبادة القربان المقدس ليست إلا تجديفاً وثنياً

(1)

(1).

أما توركيادا

(2)

الأراضي الوطيئة أول قاض للتحقيق وعضو في محكمة التفتيش في أسبانيا "يضرب به المثل في القسوة والتعصب الذميم. فهو بيتر تيتلمان الذي بلغت أعماله من التعسف والوحشية حداً اتهمه معه مجلس مدينة بريجز-وكله من الكاثوليك-لدى مرجريت، بأنه متوحش انتزع الناس من بيوتهم وحاكمهم دون أية ضوابط قانونية، وأجبرهم على أن ينطقوا بما يريده هو، وحكم عليهم بالإعدام، كما أن القضاة في الفلاندز وجهوا إلى الملك فيليب كتاباً مثيراً يرجون فيه وضع حد لهذه الأعمال الشائنة. وطلبت مرجريت في شيء من الجبن إلى هذا المحقق أن يتذرع "بالحزم والاعتدال"، ولكن الإعدام لم يتوقف. وأيد فيليب تيتلمان، وأمر مرجريت أن تنفذ دون رحمة ولا إبطاء القرارات التي أصدرها مجمع ترنت (1564). واحتج مجلس الدولة بأن عدداً من هذه القرارات انتهك حرمة الامتيازات المعترف بها للمقاطعات، وأوقف نشرها.

(1)

ليس لنا من مصدر لمثل هذه الأحداث إلا المراجع البروتستانتية المقتبسة في كتاب موناي (قيام الجمهورية الهولندية).

(2)

Torquemada 1420 - 1498 راهب دومنيكاني.

ص: 8

وكان وليم أورانج تواقاً إلى الإبقاء على الأرض الوطيئة متحدة في سبيل المحافظة على حريتها السياسية التقليدية، فاقترح انتهاج سياسة التسامح سابقة كثيراً لعصره وأوانه. فأعلن في مجلس الدولة "أن الملك يخطئ إذا ظن أن الأراضي الوطيئة سوف تحتمل وتساند هذه المراسيم الدموية بلا حدود. ومهما كنت شديد التمسك بعقيدتي الكاثوليكية، فأني لا أقر محاولة الأمراء أن يتحكموا في ضمائر رعاياهم، ورغبتهم في أن يسلبهم حرية العقيدة (11) "وأنظم الكاثوليك إلى البروتستانت دمغ هذه المراسيم بالظلم والطغيان (12) وأرسل أجمونت إلى مدريد ليلتمس التخفيف من شدة هذه المراسيم، وعززت مرجريت هذا المطلب سراً. ووجه أساقفة ايبرس ونامور وغنت وسانت أومر ملتمساً إلى فيليب (يونية 1565) يرجون فيه أن يخفف الملك المراسيم "وأن يوجه النصح إلى الشعب في شيء من الرفق والحب الأبوي، لا بالقساوة الشرعية (13)، ورد فيليب على كل هذه الاحتجاجات بأنه يؤثر أن يضحي بمائة ألف من الأرواح على أن يغير سياسته (14). وفي أكتوبر 1565 أرسل توجيهاته الصريحة إلى وكلاء محكمة التفتيش:

أريد فيما يتعلق بمحكمة التفتيش أن تطبق إجراءاتها وأحكامها

كما كان الحال من قبل، وكما تقتضيه كل القوانين وضعية كانت أو إلهية. أن هذا يقع من نفس أحسن موقع. أريد منكم أن تنفذوا أوامري. أعدموا كل المسجونين، ولا تتركوا لهم بعد اليوم فرصة للإفلات نتيجة تقصير القضاة وضعفهم وعقيدتهم الفاسدة، وإذا قعد الجبن ببعضهم عن تنفيذ المراسيم فإني استبدل بهم رجالاً أكثر جرأة وحماسة (15).

وأذعنت مرجريت لفيليب وأصدرت أوامرها بتطبيق المراسيم تطبيقاً كاملاً (14 نوفمبر 1565). وانسحب أورانج واجمونت ثانية من مجلسها. ورفض أورانج وغيره من النبلاء وكثير من القضاة تطبيق المراسيم: وانهالت نشرات البروتستانت وإعلاناتهم التي يستنكرون فيها الاضطهاد. واشتم التجار

ص: 9

الأجانب رائحة الثورة في الجو. فبدءوا ينزحون من الأراضي الوطيئة، وأغلقت المخازن وكسدت التجارة، وخيم شبح الموت على أنتبورب وفر كثير من البروتستانت من الأراضي الوطيئة إلى إنجلترا وألمانيا. وفي إنجلترا ساعدوا على النهوض بصناعات النسيج التي نافست "المقاطعات المتحدة" في القرن السابع عشر، وقادت الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر.

واعتنق كثير من صغار النبلاء المذاهب البروتستانتي خفية. وفي ديسمبر 1565 اجتمع بعض هؤلاء-لويس كونت ناسو (وهو الشقيق الأصغر الشهم أوليم)، وفيليب فان مارنكس أمير سانت ألديجوند، وأخوه جان فان مارنكس أمير تولوز، وهندريك كونت بردرود، وغيرهم اجتمعوا في قصر كولمبرج في بروكسل، وحرروا "وثيقة" يستنكرون فيها إدخال محاكم التفتيش إلى الأراضي الوطيئة، وشكلوا عصبة تعهدت بإخراجها من البلاد. وفي إبريل 1566 سار 400 من صغار النبلاء إلى قصر مرجريت وقدموا لها "ملتمساً" بأن تطلب إلى الملك أن يضع حداً لمحاكم التفتيش والمراسيم في الأراضي الوطيئة، وأن توقف تطبيق المراسيم حتى يصل جواب الملك. وأجابت مرجريت بأنها سترسل ظلامتهم إلى الملك، ولكن ليس من سلطتها أن توقف المراسيم، وأنها ستبذل كل ما في مقدورها للتخفيف من مفعولها. ولما رأى أحد أعضاء مجلسها شدة فزعها من عدد مقدمي الظلامة وقوة عزيمتهم طمأنها بقوله "عجباً يا سيدتي" هل تخشين يا صاحبة العظمة المتسولين؟ وتقبل المتحالفون هذا اللقب تحدياً. وارتدى كثير منهم البدلة الرمادية الخشنة، وحملوا الحقيبة والطاس اللذين تميز بهما المتسولين آنذاك. وأصبحت عبارة "فليحي المتسولين" صيحة الحرب في الثورة. ولمدة عام كان هؤلاء النبلاء الصغار هم الذين قادوا الثورة وأذكوا نارها.

وأبلغت مرجريت نبأ "الملتمس، إلى فيليب، كما أبلغته ما يلقاه من تأييد شعبي كبير. وجددت مساعيها لحملة على الاعتدال، فكان جوابه يحمل في

ص: 10

الظاهر معنى الترضية (6 مايو 1566)، وعبر عن أمله في إمكان قمع الهرطقة دون إراقة مزيد من الدماء، ووعد بزيارة الأراضي الوطيئة في موعد قريب وأرسل إليه مجلس الدولة فلورنت مونمورنس، والبارون مونتيني، ومركيز برجون، لتعزيز رجاء مرجريت. فاستقبلهم فيليب استقبالاً حسناً. وفي 31 يولية كتب إليها بموافقته على إلغاء محاكم التفتيش الأسقفية في الأراضي الوطيئة، وبأنه يصدر عفواً عاماً عمن توصي هي بالعفو عنهم.

وانتهز الكلفنيون واللوثريون وأنصار تجديد العماد في الأراضي الوطيئة فرصة هذا الهدوء في العاصفة ليجهروا بعبادتهم، وعاد اللاجئون البروتستانت أفواجاً من إنجلترا وألمانيا وسويسرا، وقام الوعاظ من مختلف الطبقات-الرهبان السابقون، علماء اللاهوت، صانعو القبعات، ممشطو شعر الخيل، دباغو الجلود-يخطبون في الجموع الغفيرة من النساء والرجال، وكثير منهم مسلحون، وكلهم يرتلون المزامير ويهتفون "فليحي المتسولون". وبالقرب من ثورني، ألقى أمبروزويل الذي كان قد درس مع كلفن-ألقى موعظة في ستة آلاف شخص (28 يونيه 1566)، وبعد ذلك بيومين وفي نفس المكان، خطب قسيس آخر في عشرة آلاف، وبعد أسبوع واحد استمع لموعظته عشرون ألفا (16). وبدا أن نصف سكان الفلاندرز أصبحوا بروتستانت. وكادت الكنائس والمدن أن تخلو من الناس في أيام الآحاد لأنهم هرعوا إلى جماعات البروتستانت. وإذا سمع الناس في مقاطعة هولندا بأن بيتر جبرييل الخطيب المفوه سوف يلقي موعظة في أوفرين بالقرب من هارلم، وهرع آلاف البروتستانت إليه، وهزوا أجواء الفضاء في الحقول بمزاميرهم. وبلغت جموع البروتستانت بالقرب من أنتورب خمسة عشر ألفاً، وقال بعضهم ثلاثين ألفاً، وكان كل الرجال مسلحين تقريباً. وأمرت مرجريت حكام أنتورب بمنع هذه التجمعات لأنها خطر على البلاد، فأجابوا بأن قواتهم المسلحة غير كافية ولا يعتمد عليها، ولم يكن تحت تصرف مرجريت نفسها قوات منذ رحيل الحاميات الأسبانية ح. وبلغ الاضطراب في أنتورب حداً

ص: 11

ساءت معه الحياة الاقتصادية بشكل خطير. وطلب مرجريت إلى وليم أورانج أن يشخص إلى المدينة لإجراء تسوية سليمة بين الكاثوليك والبروتستانت هناك. فعمل على تهدئة الأمور بحض الوعاظ على قصر اجتماعاتهم على الضواحي ألا يحمل المجتمعون سلاحاً.

وفي الشهر نفسه (يوليه 1566) اجتمع كونت لويس ناسوا ألفان من "المتسولين" في سانت تروند، في أسقفية لييج، وسط هذا الصخب البهيج، وضعوا الخطط للمضي قدماً في قضيتهم. وقرروا الاتصال بالبروتستانت الألمان ليشكلوا بينهم جيشاً يهب لنجدة البروتستانت في الأراضي الوطيئة إذا هوجموا. وفي 26 يوليه قدم لويس واثني عشر آخرون، وهم في زي المتسولين، إلى مرجريت، طلباً بعقدة الجمعة العمومية، وأن تحكم هي نفسها في نفس الوقت. بتوجيه من أورانج وأجمونت وهورن، ولما كان ردها ملتوياً غير واضح فأنهم لمحوا إلى أنهم قد يضطرون إلى التماس مساعدة أجنبية، ومن ثم شرع لويس، بالتواطؤ مع أخيه الأحرص منه وليم، في تجهيز أربعة آلاف من الخيالة وأربعين سرية من المشاة في ألمانيا (17).

وفي 9 أغسطس وقع فيليب وثيقة رسمية يعلن فيها أن العرض الذي قدمه للعفو العام قد انتزع منه رغم إرادته، وأنه لا يلزمه بشيء، وفي 12 أغسطس أكد للبابا أن إيقاف محاكم التفتيش مرهون بموافقة البابا (18). وفي 14 أغسطس اقتحمت جمهرة من البروتستانت بتحريض من الوعاظ الذين استنكروا الصور الدينية، كنائس سانت أومر الواحدة بعد الأخرى فحطموا الصور والمذابح ودمروا كل الزخارف. وفي نفس الأسبوع قامت جموع شبيهة بمثل هذه الأعمال في ايبز وكورتراي وأودينارد وفالنسيان. وفي يومي السادس عشر والسابع عشر دخلت الجماهير الكاتدرائية الكبرى في أنتورب وحطموا المذبح والزجاج الملون والصلبان وغيرها من الصور، ودمروا الآلات الموسيقية والزخارف وكؤوس القربان والأوعية المقدسة، وفتحوا

ص: 12

الأضرحة وجردوا الجثث من حليها، وشربوا النبيذ المقدس، وأحرقوا كتب القداس الثمينة، ووطئوا بأقدامهم التحف الفنية. وأرسلوا في طلب السلام والجبال، فتسلقوا وجذبوا التماثيل من أماكنها وهشموها بالمطارق الثقيلة، وأخترق الجمع أنتروب وهم يهتفون منتصرين، وحطموا الصور والزخارف في ثلاثين كنيسة وديراً، وأحرقوا مكتبات الرهبان، وأخرجوا الرهبان والراهبات من الأديار (19) ولما ترامت أنباء هذه "الضراوة الكلفنية" إلى تورني انطلقت نشوة تحطيم الصور المقدسة من عقالها هناك، وأعمال السلب والنهب في كل الكنائس. وفي الفلاندرز وحدها جردت 400 كنيسة من الصور. وفي كولمبرج أشرف الكونت المبتهج المرح على أعمال التخريب وأطعم ببغاواته على القرابين المقدسة (20). وفي جهات أخرى قام بعض الكهنة السابقين بتحميص رقائق الخبز على شوكات (21). ومن الفلاندرز أمتد الهياج إلى المقاطعات الشمالية، وإلى امستردام وليدن ودلفت وأوترخت، ثم جروننجن وفريزلند. واستنكر معظم زعماء البروتستانت أعمال التخريب هذه، ولكن بعضهم ممن رأوا أن الأفراد لم يلحق بهم أيسر الأذى والضرر. ذهبوا إلى تحطيم التماثيل والصور أقل إجراماً من إحراق الأحياء "الهراطقة".

وخارت قوى مرجريت بارما أمام العاصفة. فكتبت إلى فيليب تقول "أن أي شيء وكل شيء مختل في هذا البلد عدا العقيدة الكاثوليكية"(22). وبات فيليب يتحين الفرصة للانتقام. ولكن مرجريت التي تواجه الجماهير المسلحة والزعماء المغامرين أحست بأنها مرغمة على بعض التنازلات. فوقعت في 23 أغسطس، مع ممثلي المتسولين، اتفاقاً تباح بمقتضاه العبادة الكلفنية في الأماكن التي كانت تمارس فيها بالفعل، بشرط عدم التعرض للطقوس الكاثوليكية، وألا يحمل البروتستانت سلاحاً خرج بيوتهم. ووافق ممثلو المتحالفين على حل "عصبتهم" إذا أوفت الحكومة بهذا الاتفاق. وتوقف الاضطهاد وساد السلام لبعض الوقت.

ص: 13

ولكن أياً من وليم أورانج وملك أسبانيا لم يقنع بهدوء الحال. فإن وليم كان يرى في البروتستانتية الثائرة أداة لتحقيق استقلال الأراضي الوطيئة، وعلى الرغم من أنه كان لا يزال كاثوليكياً اسما فإنه تخلى عن كل مناصبه الحكومية، ونظم وسائله الخاصة للتجسس، وقصد (22 أبريل 1567) إلى ألمانيا يلتمس المدد من الرجال والمال. وبعد ذلك بخمسة أيام غادر دوق ألفا أسبانيا، مفوضاً من الملك فيليب، في جمع ما يلزم من القوات لاستخدامها في الانتقام من المشاغبين الكلفنيين، والقضاء بلا وهادة على أية حال هرطقة وثورة وحرية في الأراضي الوطيئة.

‌3 - دوق ألفا في الأراضي الوطيئة

1567 -

1573

هو فرناندو ألفا رز دي توليدو، دوق ألبا أو ألفا، وكان آنذاك في التاسعة والخمسين من العمر، وكأنه صورة أبدعتها ريشة الرسام الجريكو: طويل القامة، نحيل القوام، ذو عينين سوداوين، وبشرة صفراء، ولحية بيضاء فضية، وكان قد ورث، وهو في سن العشرين، لقبه اللامع الذائع الصيت، وضياعه الشاسعة، وبدأ العمل العسكري في سن مبكرة، وامتاز بالشجاعة والذكاء والقسوة. وألحقه فيليب بأخص مجالسه واستمع مغتبطاً إلى مشورته وكان حكمه في هذه الساعة العصيبة ما يقضي به جندي درج على النظام الأسباني والورع الأسباني: اسحق الثوار العصاة دون شفقة ولا رحمة، فإن أي تنازل يقوي المعارضة. وأطلق فيليب يده ومنحه كل السلطة ودعا له بالتوفيق.

شق ألفا طريقه إلى إيطاليا، وهناك جمع أساساً من الحاميات الأسبانية في نابلي وميلان صفوة الجند ليشكل جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل، ألبسهم أفخر الثياب وزودهم بأحدث العدة والعتاد، وأثلج صدورهم بألفين من بنات

ص: 14

الهوى أحسن اختيارهن وإعدادهن وقاد الجيش عبر جبال الألب، وعبر برجندي واللورين ولكسمبرج وفي 22 أغسطس 1567 دخل بروكسل وتلقاه اجمونت في كل الخضوع والخشوع. وقدم له جوادين نادرين هدية. ولقيته مرجريت يعروها الآسى والأسف وهي تشعر بأن أخاها حل محلها وفرض سلطانه عليها في نفس الوقت الذي كانت قد أعادت فيه نظاماً إنسانياً. واحتجت مرجريت عندما أقام ألفا حاميات أسبانية في كل المدن. وأجاب في فتور "إني على استعداد لاحتمال كل الخزي والوز".

واستأذنت مرجريت الملك فيليب في الاستقالة من منصبها، فأجابها إلى طلبها مع منحها معاشاً سخياً يضمن لها الهناءة، وفي ديسمبر رحلت عن بروكسل إلى موطنها في بارما، وقد حزن من أجلها الكاثوليك الذين أجلوها واحترموها، والبوتستانت الذين تنبأوا بأنه سيتضح وشيكاً أن أشد قساوتها كانت ليناً واعتدالاً إلى جانب وحشية ألفاً المنتظرة.

وأقام نائب الملك الحاكم العام الجديد في قلعة أنتورب، وأعد نفسه لتطهير الأراضي الوطيئة من الهرطقة، ودعا اجمونت وهورن إلى العشاء وأكرم وفادتها. ثم ألقى القبض عليهما وأرسلهما في حراسة مشددة إلى أحد الحصون في غنت (7 سبتمبر) وعين "مجلس القلائل" الذي أطلق عليه البروتستنت الجزعون من جديد اسم "مجلس الدم" وكان سبعة من أعضائه التسعة من الأراضي الوطيئة واثنان من الأسبان، وكان لهذين العضوين فقط حق التصويت. واحتفظ ألفا لنفسه بالقرار الحاسم في أي موضوع يعنيه بخاصة. وأمر المجلس بالبحث عن المشتبه في معارضتهم للكنيسة الكاثوليكية أو الحكومة الأسبانية، واعتقالهم ومحاكمتهم سراً، ومعاقبة من يحكم عليهم دون ترفق أو إبطاء. وانبث الوكلاء للتجسس، وشجع المخبرين على الغدر بأقاربهم وأعدائهم وأصدقائهم وحظرت الهجرة، وأعدم ربانية السفن الذين يساعدون على ربانية عليها شنقاً (23). وحكم على كل مدينة عجزت عن قمع الثورة أو معاقبة

ص: 15

العصاة بأنها مذنبة، وأودع موظفوها السجن أو فرض عليهم الغرامة. وأعتقل آلاف الأفراد. وذات صباح واحد قبض على نحو 1500 في مضاجعهم ونقلوا إلى السجون. وكانت المحاكمات قصيرة عاجلة، وكان الحكم بالإعدام يصدر أحياناً بالجملة، على ثلاثين أو أربعين أو خمسين دفعة واحدة (24). وفي شهر واحد- (يناير 1568) أعدم 84 شخصاُ من سكان فالنسيان. وسرعان ما كان من العسير أن تجد الفلاندرز أسرة غير حزينة على فرد منها قتل أو أعتقل بأمر من "مجلس القلائل". وندر أن كان في الأراضي الوطيئة من يجسر على الاحتجاج، فإن أيسر النقد كان يعني الاعتقال.

وأحس ألفا بأن نجاحه قد تلطخ بعجزه عن إيقاع وليم أورانج في حبائله. وأصدر مجلس المتاعب قراراُ باتهام الأمير وأخيه لويس، وزوج أخته كونت فان دن برج، والبارون مونتيني وغيرهم من الزعماء، بتشجيع الهرطقة والثورة. وكان مونتيني لا يزال في أسبانيا، فأودعه فيليب السجن. وكان ابن وليم، وهو فيليب وليم كونت بورن طالباً في جامعة لوفان. فاعتقل وأرسل إلى أسبانيا، وهناك نشئ تنشئة كاثوليكية متحمسة، وتبرأ من مبادئ أبيه. وصدر إعلان بأن وليم خارج على القانون، أحل لأي إنسان قتله دون التعرض لعقاب القانون.

وعمل وليم أورنج على تنظيم جيش، ووجه أخاه لويس إلى أن يحذو حذوه. والتمس العون من الأمراء اللوثرين فكم يتحمسون للاستجابة له، ومن الملكة إليزابث التي أمسكت عن مساعدته في حذر. وجاءته الأموال من أنتورب وأمستردام وليدن وهارلم وفلشنج، وأرسل إليه كل من الكونت فان دن برج وكولمبرج وهو جستراتن ثلاثين ألف فلورين، وباع مجوهراته وأوانيه الفضية ومطرزاته وأثاثه الفاخر، وجمع نحو خمسين ألف فلورين، وتوافر الجنود، لأن المرتزقة الذين تفرقوا نتيجة بعض الهدوء في الحرب الدينية في فرنسا، عادوا إلى ألمانيا مفلسين. وكان لزاماً أن ينتهج وليم سياسة التسامح، فكان

ص: 16

عليه أن يكسب اللوثريين والكلفيين تحت لوائه، كما كان عليه أن يؤكد للكاثوليك في الأراضي الوطيئة أن عبادتهم لن تمس بسوء بتحرير البلاد من ربقة إسبانيا.

ووضح أورانج خطة العمل لثلاثة جيوش في وقت واحد، قوة من الهيجونوت من فرنسا تهاجم أرتوا من الجنوب الغربي، ويقود هوجستراتن جيشه ضد ماسترخت في الجنوب، ويقتحم لويس ناسو من ألمانيا في الشمال الشرقي. وصدت هجمات الهيجونوت وهو جستراتن، وكن لويس انتصر على الجنود الأسبان في هيلجرلى (23 مايو 1568). وأمر دوق ألفا بإعدام أجمونت وهورن (5 يونية) ليطلق ثلاثة آلاف من الجنود كانوا يتولون حراستها وحماية مدينة غنت، ليستفيد منهم. وتقدم بهذه الإمدادات إلى فريزلند، ودحر جيش لويس الذي أصابه الوهن في جمنجن (21 يولية) وأودى بحياة 7000 رجل وهرب لويس سبحاً في مصب نهر امز. وفي أكتوبر قاد وليم جيشاً قوامه 25 ألف رجل إلى برابانت، وقد عقد العزم على ملاقاة ألفا في معركة حاسمة. ولكن ألفا بجيشه الأقل عدداً والأحسن نظاماً أحبط خططه، وتجنب اللقاء في معركة، وعمد إلى تعويق عدوه بهجمات في مؤخرته ورفض القتال جنود وليم الذين لم تدفع رواتبهم. فقادهم إلى مكان آمن في فرنسا وسرحهم. ثم تنكر في زي فلاح وشق طريقه من فرنسا إلى ألمانيا حيث تنقل من مدينة إلى مدينة، فراراً من القتل. وبهذه الحملات المشئومة الممتلئة بالكوارث بدأت "حرب الثمانين عاماً" التي خاضتها الأراضي الوطيئة في ثبات ومثابرة لم يسبق لهما مثيل، حتى قدر لها النصر في النهاية في 1648.

كان ألفا آنذاك سيد الموقف المزهو في الميدان، ولكنه كان خاوي الوفاض إلى أحد بعيد. وكان الملك فيليب قد دبر أصحاب المصارف في جنوة أن يمدوه بحراً بأربعمائة وخمسين ألف دوكات. ولكن القرصان الإنجليز أجبروا السفن على الاتجاه إلى ميناء بليموت، وهناك وضعت اليزابيث يدها على المال،

ص: 17

مع أرق الاعتذارات، حيث لم تكن تكره مساعدة وليم مقابل هذا الثمن. عندئذ دعا ألفا الجمعية العمومية المكونة من النبلاء وممثلي المدن للاجتماع في بروكسل، واقترح عليهم (20 مارس 1569) فرض ضريبة فورية قدرها 1% على الممتلكات وضريبة دائمة قدرها 5% على أية عملية نقل للعقارات، وضريبة دائمة قدرها 10% على المبيعات فاحتجت الجمعية بأنه لما كانت مواد كثيرة قد غيرت الملكية عدة مرات في العام الواحد فإن ضريبة المبيعات هذه تقارب أن تكون مصادرة، وأحالت المقترحات إلى جمعيات المقاطعات، وهناك كانت المعارضة شديدة إلى حد اضطر معه ألفا إلى إرجاء ضريبة الـ 10% إلى 1572، والاكتفاء بضريبة الواحد في المائة، وبمنحة قدرها مليوني فلورين سنوياً لمدة عامين. ولكن حتى ضريبة الواحد في المائة كانت جبايتها شاقة باهظة التكاليف ورفضت أوترخت دفعها. فأطبقت فرقة من الجند على المنازل والممتلكات، واستمرت المقاومة، ورمى ألفا كل الأقاليم بالخيانة وألغى كل إعفاءاته وامتيازاته، وصادر كل ممتلكات سكانه لصالح الملك.

وأن هذه الضرائب والإجراءات التي اتخذت لفرضها هي التي هزمت ألفا الذي لم يهزم حتى ذلك اليوم. وبات كل السكان تقريباً كاثوليك وبروتستانت، يقاومونه، في استياء يتفاقم أمره، كلما عوقت وعرقلت ضرائبه نشاط الأعمال التي بنت عليها الأراضي الوطيئة ازدهارها ورخاءها. ولما كان ألفا أبرع في الحرب منه في شئون المال فإنه انتقم لاستياء إليزابث على الأموال التي كانت في طرقها إليه من جنوة، بالاستيلاء على الممتلكات الإنجليزية في الأراضي الوطيئة، وحظر التجارة مع إنجلترا. وردت إليزابث على هذا بمصادرة بضائع الأراضي الوطيئة في إنجلترا، وتحويل التجارة الإنجليزية إلى همبرج. وسرعان ما أحست الأراضي الوطيئة بوطأة الكساد الاقتصادي. فأغلقت المتاجر أبوابها، وازداد التعطل، وفكر رجال الأعمال الأقوياء الذين احتملوا في صبر وتجلد شنق البروتستانت ونهب الكنائس، فكروا ملياً وسراً في الثورة

ص: 18

وأخيرهاً مولوها. وحتى رجال الدين الكاثوليك الذين خشوا انهيار الاقتصاد الوطني، انقلبوا على ألفا، وحذروا الملك فيليب من أن الدوق يعمل على تخريب البلاد (25)، بل أن البابا-بيوس الخامس الذي كان قد اغتبط أيما اغتباطاً بانتصارات ألفا، نراه الآن يشاطر الكاردينال دي جرانفل أسفه لقساوة ألفا (26). ويوصي بالعفو العام عن العصاة والهراطقة النادمين التائبين-ووافق فيليب على هذا الإجراء وأبلغ به ألفا (فبراير 1569)، ولكن الدوق طلب التمهل، ولم يعلن العفو إلا في 16 يوليه 1570 .. وفي تلك السنة خلع البابا على ألفا القبعة والسيف المقدسين، وأنعم "بالوردة الذهبية" على زوجته (27)، كما أعدم فيليب مونتيني الذي كان سجيناً- (16 أكتوبر 1570).

وفي نفس الوقت ظهرت على المسرح قوة جديدة. وذلك أنه في مارس 1568 قامت من اليائسين المستميتين عرفوا باسم "المتسولين المتطرفين"، وجهوا همهم إلى نهب الكنائس والأديار وقطع أنوف القساوسة والرهبان أو آذانهم، وكأنهم عقدوا العزم على مباراة "مجلس الدم، وفي وحشيته وفظاعته (28). وفيما بين عامي 1569 - 1572 ظهرت جماعة أخرى أطلقوا على أنفسهم اسم "متسولي البحر"، وضعوا أيديهم على 18 سفينة، وتلقوا عمولة من وليم أورانج، وأغاروا على شواطئ الأراضي الوطيئة، ونهبوا الكنائس والأديار، وسيطروا على المراكب الأسبانية، وزودوها ثانية بالمؤن من الثغور الإنجليزية الصديقة-بل حتى من لاروشيل النائية-التي كانت في يد الهيجونوت آنذاك. وأغار "متسولو البحر على أية مدينة ساحلية لا توجد بها حامية أسبانية، واستولوا على المواقع الحصينة، وبفضل قدرتهم على فتح السدود بات من أخطر الأمور على القوات الأسبانية أن تقترب منهم أو تصل إليهم. فلم يعد في مقدور ألفا أن يتلقى أية امدادات أو مؤن من البحر وهكذا صارت المدن الرئيسية في هولندا وزيلند وجلدرلند وفريزلند آمنة محمية،

ص: 19

ومن ثم قدمت ولاءها لوليم أورانج، وقررت تزويده بالإمدادات من أجل الحرب (يوليه 1572) ونقل وليم مقر قيادته إلى دلفت وأعلن أنه "الأصلع الكلفني، وهو لقب أصدق على رأسه منه على عقيدته، وفي تلك الآونة كتب فيليب فان مارنكس أغنية "وليم ناسو" التي أصبحت، ولا تزال، الترنيمة الوطنية في الأراضي الوطيئة.

ومنذ لقي وليم أورانج التشجيع على هذا النحو جهز جيشاً آخر وغزا برابانت. وفي نفس الوقت قام لويس ناسو، بمعونة كوليني، بإعداد قوة في فرنسا، ودخل هيبوت، واستولى على فالنسيان ومونز (23 مايو 1572). وتقدم ألفا ليسترد مونز، وهو يأمل بذلك أن يثني فرنسا عن مساعدة لويس. وتقدم وليم جنوباً لنجدة أخيه، وأحرز بعض انتصارات يسيرة، ولكن سرعان ما استنفذ ما لديه من مال، فتقاضى جنوده أجورهم بنهب الكنائس، وتسلوا بقتل القساوسة (29). فثارت ثائرة الكاثوليك، حتى أنه عندما اقترب جيش وليم بروكسل وجد الأبواب موصدة والأهالي يحملون السلاح لمقاومته واستأنف الجيش سيره، ولكن على مسافة فرسخ من مونز فوجئ الجند، وهم نيام، بستمائة جندي أسباني، وقتلوا من جنود وليم ثمانمائة قبل أن يتمكنوا من تهيئة أنفسهم للدفاع. واستطاع وليم الهرب بشق النفس مع بقايا قواته، إلى مكلين في برابانت. وفي نفس الوقت قضى قتل كوليني ومذبحة سانت برتلميو على كل أمل في العون من فرنسا. وفي 17 سبتمبر سقطت مونز في يد ألفا الذي هيأ للويس وفلول جيشه أن يرحلوا دون أن يمسهم أذى. ولكن قائد جيش ألفا، فيليب دي نوفارم، شنق من تلقاء نفسه مئات من الأهالي، وصادر ممتلكاتهم وباعها بثمن عال (30).

أن فشل استراتيجية وليم وإفراط قواته التي يصعب قيادها ووحشية "المتسولين" وفظائعهم، كل أولئك خيب آماله في توحيد الكاثوليك والكلفنيين واللوثرين ليقاوموا جميعاً طغيان ألفا. فإن "المتسولين". وكانوا

ص: 20

كلهم تقريباً كلفنيين متحمسين أبدوا ضد الكاثوليك من ضروب الوحشية والضراوة ما أبدته محاكم التفتيش ومجلس الدم نحو الثوار والهراطقة. وفي كثير من الحالات لم يتركوا للأسرى الكاثوليكية إلا الخيار بين الكلفنية أو الموت، وكانوا يقتلون دون تردد، وفي بعض الأحيان بعد تعذيب لا يصدق، كل من تمسك بأهداب العقيدة القديمة (31). وأعدم كل ن طرفي النزاع كثيراً من أسرى الحرب. وكتب مؤرخ بروتستاني يقول:

في أكثر من مناسبة رئي الرجال يشنقون

اخوتهم هم أنفسهم الذين وقعوا أسرى في صفوف الأعداء

ووجد سكان الجزر لذة وحشية في ضروب القسوة هذه، ولم يعد الأسباني في نظرهم فرداً من بني الإنسان. وذات مرة انتزع أحد الجراحين قلب سجين أسباني، وثبته بالمسامير في مقدم السفينة ودعا الأهالي ليغرسوا أسنانهم فيه، وفعل كثير منهم هذا في ارتياح وحشي (32).

أن هؤلاء "المتسولين" القساة القلوب هم الذين هزموا دون ألفا. وأخلد الدوق إلى شيء من الراحة بعد الحملات التي قام بها، وورث أبنه دوق فدريجو ألفارث دي توليدو مهمة استعادة ومعاقبة المدن التي كانت قد أعلنت تأييدها لوليم أو استسلمت له. فبدأ ألفارث بمدينة مكلين التي أبدت أقل مقاومة، حيث خرج القساوسة والأهالي في موكب نادمين، يرجون الصفح والإبقاء على المدينة، ولكن ألفا كان قد أمر بانتقام تكون فيه موعظة وعبرة. فظل جنود فدريجو لمدة أيام ثلاثة ينهبون البيوت والأديار والكنائس، ويسرقون الحلي والأردية الثمينة من التماثيل المقدسة. ويطأون الفطائر المقدسة تحت الأقدام، ويذبحون الرجال ويستحيون النساء، كاثوليك أو بروتستانت على حد سواء وفي طريق تقدمه إلى جلدرلند، تغلب جيشه على الدفاعات الهزلية في زوتفن، وقتل كل رجال المدينة تقريباً. وعلق بعضهم من الأقدام، وأغرق خمسمائة منهم يربطون زوجاً زوجاً، ظهراً لظهر، والإلقاء بهم في نهر ايسل. واستسلمت بلدة ناردن الصغيرة بعد مقاومة قصيرة، وحيت الأسبان الغزاة بموائد زخرت

ص: 21

بألوان الطعام، فأكل الجنود وشربوا ثم اعملوا القتل في كل الأهالي في المدينة وتقدموا إلى هارلم، وهي مركز كلفني أبدى حماساً خاصاً للثورة. وقد دافعت حامية قوامها أربعة آلاف رجل عن المدينة دفاعاً مجيداً، إلى حد أن دوق فدريجو اقترح الانسحاب منها، ولكن ألفا هدد بأن يتبرأ منه إذا لم يستمر في الحصار، فتصاعدت أعمال العنف، وعلق كل من الطرفين أسراه على أعواد المشانق في مواجهة عدوه. وأثار المدافعون حنق المحاصرين بأن مثلوا على الأسوار الطقوس الكاثوليكية بطريقة تدعو إلى السخرية والضحك. وأرسل وليم ثلاثة آلاف جندي لمهاجمة جيش دوق فدريجو، ولكنهم أبيدوا وأخفقت كل محاولة لتخليص هارلم بعد ذلك. وفي 11 يولية 1573، بعد حصار دام سبعة أشهر اقتات فيها الناس على الأعشاب والجلود، استسلمت المدينة. ولم يبق على قيد الحياة سوى 1600 رجل أعدم معظمهم. كما أعدم 400 من المواطنين المتزعمون، أما بقية الأهالي فقد على حياتهم بعد موافقتهم على دفع غرامة قدرها مائتان وخمسون ألف جلدر.

وكان هذا آخر انتصارات حكومة دوق ألفا وأبهظها تكلفة. وهلك أكثر من اثني عشر ألفا من أفراد الجيش الذي تولى الحصار متأثرين بالجراح أو بالمرض. واستنزفت الحرب كل ما حصل من ضرائب بغيضة، واكتشف فيليب الذي كان يعد النقود أكثر مما يحسب حساب الأنفس والأرواح، أن ألفا لم يكن محبوب لدى الناس فحسب، بل أنه كان كذلك ينفق أموالاً طائلة، وأن أساليب قائده كانت تعمل على توحيد الأراضي الوطيئة ضد أسبانيا وأحس دوق ألفا بأن الرياح غير مواتية له، وأن التيار قد انقلب ضده. فطلب تنحيته وتباهى بأنه قتل 18 ألف ثائر (34). ولكن الهراطقة كانوا في مثل القوة التي كانوا عليها عندما جاء هو إلى الميدان، بل أكثر من ذلك أنهم سيطروا على الثغور وعلى البحر، وأن الملك فقد مقاطعتي هولندا وزيلندة تماماً. وقدر أسقف نامور أن ألفا في سبع سنين، وألحق من الأذى بالكاثوليكية أكثر مما ألحقه بها لوثر والكلفنية في جيل بأسره (35). وقبلت

ص: 22

استقالة ألفا وغادر الأراضي الوطيئة (18 ديسمبر 1573) وأستقبله الملك فيليب استقبالاً حسناً. وقاد، وهو في سن الثانية والسبعين الجيوش الأسبانية لغزو البرتغال (1580). ولدى عودته من هذه الحملة انتابته حمى متقطعة، ولم يحفظ عليه حياته إلا إرضاعه اللبن من ثدي امرأة. وفاضت روحه في 12 ديسمبر 1582، بعد أن عاش عاماً على اللبن. ونصف قرن على الدم.

‌4 - ركويسانس ودون جوان

1573 -

1578

وأرسل فيليب دون لويس دي ركويسانس ليحل محل ألفا، وهو الذي كان منذ عهد قريب نائب الملك في ميلان. ودهش الحاكم الجديد لعدد الثوار والروح التي سادتهم، فكتب إلى الملك: "لم أكن أدرك قبل وصولي كيف استطاعوا الاحتفاظ بمثل هذه الأساطيل الضخمة، على حين أن جلالتكم لم تستطيع الإنفاق على أسطول واحد فقط. ومهما يكن من أمره، فإنه يبدو أن الرجال الذين يقاتلون من أجل حياتهم وديارهم وأملاكهم وعقيدتهم الزائفة، وجملة القول عن قضيتهم-يقنعون بالطعام دون أجور (37). ورجا فيليب في أن يرخص له في إصدار عفو عام عن الجميع باستثناء الهراطقة العنيدين، مع السماح لهم بالهجرة، وإلغاء ضريبة العشرة في المائة على البيوع. ولم ير وليم أورانج في هذه المقترحات إلا لعبة لكسب الوقت، ووسيلة جديدة لاستئصال البروتستانتية من الأراضي الوطيئة، ولم يكن يقبل السلام إلا على أساس الحرية الكاملة للعبادة، واستعادة امتيازات المقاطعات، وانسحاب الأسبان من الوظائف المدنية والعسكرية. واستمرت الحرب. وفي معركة (13 أبريل 1577) قضى نحبه كل من أخوي وليم: لويس في سن السادسة والثلاثين، وهنري في سن الرابعة والعشرين.

وثمة حادثان شدا من أزر الثورة في هذه الآونة: إفلاس فيليب (1575)

ص: 23

وموت ركويسانس في أثناء حصار زيركزي (5 مارس 1576). عين الملك أخاه غير الشقيق، دون جوان النمسوي، في هذا المنصب البغيض. ولكنه لم يصل إلى لكسمبرج إلا في نوفمبر. وفي هذه الأثناء وقع ممثلو هولندا وزيلندة، وفي دلفت (25 إبريل)"قانون التهدئة" الذي خول وليم السلطة العليا في البر والبحر، وحق التعيين في الوظائف السياسية. وعند الضرورة حق العهد بحماية الاتحاد إلى أمير أجنبي. وأهاب وليم، من مركز السلطان الجديد، بسائر المقاطعات أن تشارك في طرد الأسبان من الأراضي الوطيئة. ووعد بحرية الفكر والعقيدة للكاثوليك وللبروتستان على حد سواء.

وربما لقي نداؤه بعض الاستجابة في المقاطعات الجنوبية لولا أن الجنود الأسبان وقد خدعهم السلب والتهب في زيركزي، تمردوا (يولية) وبدءوا، دون تمييز، حملة من السلب والنهب والعنف أرهبت فلاندرز وبرابانت. ووجه إليهم مجلس الدولة في بروكسل تأنيباً قاسياً ولكنهم تحدوه، فأعلن المجلس أنهم خارجون على القانون، ولكن لم يكن لديه قوة يقاومهم بها. فعرض وليم أن يرسل قوات عسكرية لحماية هذه البلاد، وجدد تعهده بالحرية الدينية. وتردد المجلس، فأطاح به أهالي بروكسل، وشكلوا مجلساً آخر تحت رياسة فيليب دي كروي الذي بدأ المفاوضات مع الأمير. وفي 26 سبتمبر رحبت غنت بفرقة عسكرية أرسلها وليم لحماية المدينة من المتمردين الأسبان. واجتمع في غنت في 19 أكتوبر، ممثلون عن برابانت وفلاندرز وهينوت، وكانوا يكرهون تحالف ولاياتهم مع الأمير المحروم من حماية القانون، ولكن في 20 أكتوبر اجتاح المتمردون ما سترخت، وفي 28 منه، وقع المجتمعون للبحث والتشاور رغبة في حماية قوات وليم لهم، "قانون التهدئة" الذي صدر في غنت، والذي اعترف بوليم حاكماً على هولندا وزيلندة، وأوقفوا كل اضطهاد للهرطقة، واتفقوا على التعاون في طرد الجنود الأسبان من مقاطعاتهم. ورفضت الجمعية العمومية للمقاطعات الجنوبية التي انعقدت في بروكسل، التوقيع على "قانون التهدئة"، حيث اعتبرته إعلاناً للحرب ضد الملك.

ص: 24

ودعم المتمردون مرة أخرى من حجج وليم، ذلك أنهم في 4 نوفمبر 1576 استولوا على أنتورب، وأعملوا فيها السلب والنهب، على أسوأ شكل عرفه تاريخ الأراضي الوطيئة. وقاوم المواطنون ولكنهم غلبوا على أمرهم، وقتل منهم سبعة آلاف، وأحرق ألف مبنى كان بعضها من روائع العمارة. وذبح الرجال والنساء والأطفال في طوفان من الدماء بأيدي الجنود وهم يرددون الصيحات:"سان جيمس، أسبانيا، الدم، الموت، النار، السلب، النهب" وطوال تلك الليلة عاث الجنود في المدينة الغنية، وسلبوا كل بيت فيها تقريباً، ورغبة في انتزاع الاعتراف بالذخائر المخبأة، أصيلة أو زائفة، عذبوا الآباء على مرأى من أطفالهم، وذبحوا الصبية وهم في أحضان أمهاتهم، وضربوا الزوجات بالسياط حتى الموت أمام أعين أزواجهن. واستمر هذا العنف "العنف الأسباني" يومين حتى أتخم الجنود بالذهب والحلي والملابس الثمينة، وبدأ الواحد منهم يقامر الآخر بغنائمه في الشوارع المكتظة بجثث الموتى. وفي 28 نوفمبر صدقت الجمعية العمومية على "قانون التهدئة" الذي وضع في غنت.

وكان هذا نصراً مبيناً أحرزه الأمير في الوقت المناسب. وعندما أرسل دون جوان من لكسمبرج يقول أنه على وشك أن يدخل بروكسل، أجابت الجمعية العمومية بأنها لن تستقبله بوصفه حاكماً إلا إذا وافق على "قانون التهدئة" وأعاد امتيازات المقاطعات، وطرد كل القوات الأسبانية من الأراضي الوطيئة. وقضى دون جوان، الباسل في ميدان المعركة، القليل الخبرة بالسياسة والذي أعوزه الرجال والمال، شتاءه متلكئاً في لكسمبرج، ثم وقع في 12 فبراير 1577 "المرسوم الدائم" الذي أدى به إلى التهدئة وحريات المقاطعات. وفي أول مارس دخل دون جوان بروكسل في احتفال رسمي، واغتبطت المدينة إذ رأت مثل هذا الحاكم الوسيم الأعزل الضعيف. ورحلت القوات الأسبانية. وساد السلام لفترة وجيزة ربوع البلاد المخربة.

وكانت أحلام جوان أكبر من إمكاناته المالية. وبعد مآثره وبطولاته في ليبنتو وتونس أوهنت العظمة اليائسة العاجزة فورة الدم الهادر بأوهام

ص: 25

البطولة. وعلى مقربة منه كانت ماري ستيوارت الجميلة سجينة لدى إليزابث العملاقة الرهيبة. فلم لا يحشد جوان جيشاً وأسطولاً، ويعبر البحر، ويطيح بعرش ملكة ويتزوج الأخرى، ويصبح ملكاً على إنجلترا وإسكتلندة، ويعيد هذه الأقاليم الغافلة إلى أحضان الكنيسة الأم، أن فيليب الذي خشي الهوة بين الأموال والأحلام، اعتبر أخاه ساذجاً مخدوعاّ. وقدم جوان البرهان على ذلك، فإنه غادر بوركسل فجأة (11يونية)، على رأس فرقة من الوالون (سكان جنوب بلجيكا) الكاثوليك، وأنكر "قانون التهدئة). وبعد مفاوضات عميقة مع جوان، دعت الجمعية العمومية وليم إلى العاصمة، ولدى وصوله (23 سبتمبر) رحب به جمهور كبير من المواطنين الكاثوليك على أنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يقود الأراضي الوطيئة إلى الحرية. وفي 8 أكتوبر أبلغت الجمعية العمومية دون جوان أنها لم تعد تعترف به حاكماً يمكن أن تقبل في مكانه أمير من الأسرة المالكة. وفي 10 ديسمبر 1577 انضمت المقاطعات كلها-عدا نامور-إلى "اتحاد بروكسل". وطلب الأعضاء الكاثوليك في الجمعية العمومية، الذين كانوا يخشون كلفنية وليم، إلى ماتياس أرشيدوق النمسا أن يكون حاكماً على الأراضي الوطيئة. وقدم الشاب ابن العشرين وتقلد المنصب (18 يناير 1578) ولكن أنصار وليم أعزوا الحاكم الجديد بتعيين وليم نائباً له-ومن الوجهة الفعلية صاحب الأمر والنهي في الإدارة والسياسة.

وكان يمكن للتسامح المتبادل في الخلافات الدينية وحده يبقى على هذا الاتحاد أو الترابط، ولكن التعصب مزقه. فإن الكلفنيين في هولندا والكاثوليك في أسبانيا اعتقدوا جميعاً بأن الكفار وحدهم الذين يستطيعون أن يبدوا تسامحاً. وقال كثير منهم صراحة بأن وليم أورنج ملحد (38)، واتهمه الواعظ الكلفني بيتر داتينوس، بأنه جعل من السلطة معبوده الوحيد، وأنه يغير عقيدته كما يغير الناس ملابسهم (39). وكان المكلفنيون (وظلوا

ص: 26

حتى 1587) يشكلون عشر السكان فقط في مقاطعة هولندا، ولكنهم كانوا نشيطين طموحين ومسلحين. وكانت لهم السيطرة على الجمعيات السياسية، فأحلوا حكاماً وقضاة بروتستانت محل الكاثوليك، وفي 1573 حظر مجلس المقاطعة العبادة الكاثوليكية في هولندا (40)، على أساس أن أي فرد كاثوليكي يحتمل أن يكون خادماً لأسبانيا. ولن تأت 1578. إلا وقد عمت الكلفنية زيلندة تقريباً، وكانت م الوجهة السياسية-لا العددية-متسلطة في فريزلند واكتسحت موجات تحطيم الصور المقدسة هولندا وزيلندة 1572، ومقاطعات أخرى، حتى الفلاندرز وبرابانت، بعد 1576. وأنكروا أي ربط بين الدين والفن باعتباره عملاً وثنياً دنساً. وجردت الكنائس من الصور والتماثيل والصلبان والزخارف، وصهرت الأواني الذهبية والفضية، ولم يبق إلا الجدران العارية، وعذب "المتسولون" القساوسة الكاثوليك، وأعدموا نفراً منهم (41).

واستنكر وليم كل هذه التصرفات، ولكنه تغاضي (42) عن استيلاء الأقليات الكلفنية المسلحة السياسية في بروكسل وايبر وبروجز وكل شمال الفلاندرز (43). وفي غنت سجن الكلفنيون أعضاء المجلس، ونهبوا الكنائس والأديار وأتلفوا أجزاءها الداخلية، وصادروا أملاك الكنيسة، وحرموا إقامة الطقوس الكاثوليكية، وأحرقوا الرهبان في ساحة السوق (44)، وأقاموا جمهورية ثورية (1577). وفي امستردام اقتحم الكلفنيون المسلحون دار البلدية (24 مايو 1578)، وطردوا القضاة والموظفين، وأحلوا محلهم كلفنيين، وخصصوا الكنائس التي جردوها لمذهب الصلاح. وفي اليوم التالي قامت ثورة مماثلة بمثل هذا العمل في هارلم. وفي أنتورب التي كانت آنذاك مقر قيادة وليم أخرج البروتستانت القساوسة والرهبان من المدينة (28 مايو)، وأنب الأمير أتباعه تأنيباً شديداً على هذا العنف. وخصهم على السماح باستثناء الطقوس الكلثوليكية. ولكن في 1581 حرمت كل عبادة كاثوليكية في أنتورب وأوترخت. واتهم الكلفنيون

ص: 27

القساوسة بأنهم كانوا يخدعون الناس بالمخالفات الزائفة والكرامات التي يفتعلونها-وعرض قطع من "الصليب الحقيقي، وعظام قديمة للتعبد على أنها رفات القديسين، وإخفاء الزيت في رؤوس التماثيل حتى ترشح في الوقت المناسب (45).

على أن وليم تولاه الحزن والأسى حين رأى سنوات كفاحه من أجل الوحدة تختتم بالفرقة والفوضى والبغضاء. وإن الديمقراطية الكلفنية التي كانت قد استولت على جملة مدن الآن في وهدة من الفوضى، بدأ معها الملاك البروتستانت والكاثوليك على حد سواء يتساءلون هل كان المذهب الجديد وكل ما يتصل به من دعايات أشد وبالاً عليهم من الديانة القديمة. وسرى شعور الاستياء وواجه وليم هذه الرغبة المتزايدة في إعادة النظام بالتفاوض مع فرنسوا دوق أنجو ليتولى منصب الحاكم العام بدلاً من ماتياس الماجز التافه. ولكن اتضح أن أنجو خائن حقير. وزاد الطين بلة في محنة وليم، أن جيشاً أسبانياً جديداً قوامه عشرون ألفا من الجنود المدربين أحسن تدريب، كان يتجه شمالاً بقيادة أقدر قواد العصر. ذلك أنه في ديسمبر 1577 قدم الساندرو فارنيز دوق بارما بجيشه إلى دون جوان في لكسمبرج. وفي يناير 1578 هزموا القوات التي كان يعزوها النظام، التابعة للجمعية. العمومية، في جمبلو. وفتحت لوفان واثنتي عشرة مدينة صغيرة أخرى، أبوابها أمام الفاتح الجديد، وفرت الجمعية العمومية الأراضي الوطيئة من بروكسل إلى أنتورب. إلا أن دون جوان الذي استشعر مجداً جديداً، انتابته حمى خبيثة، وقضى نحبه في نامور، في أول أكتوبر 1578، وهو في سن الثالثة والثلاثين. وعين فيليب دوق بارما حاكماً عاماً مكانه، وبدأ فصل جديد.

ص: 28

‌5 - بارما وأورانج

1578 -

1584

الساندرو فارنيزي، الذي يبلغ الثالثة والثلاثين، هو ابن نائبة الملك السابقة مرجريت بارما. تربي في أسبانيا وأقسم يمين الولاء لفيليب، وحارب في ليبنتو وقضى الأربعة عشر عاماً الأخيرة من حياته في الإبقاء على الأراضي الوطيئة الجنوبية في حوزة الملك فيليب. وفي 1586 وروث دوقية بارما ولقبها، ولكنه لم يجلس على عرش الدوقية قط. وكان له عينان حادتان، ووجه أسمر، وشعر أسود قصير، وأنف كأنف النسر، ولحية كثة، كل أولئك كشف عن شيء يسير من مقدرته وشجاعته وبراعته، وجمع بين كل الفن العسكري الذي امتاز به دوق ألفا، مع إثارة من قسوته، وقدراً أكبر بكثير من المهارة في المفاوضة والحديث. وبات القتال من أجل الأراضي الوطيئة، آنذاك، صراعاً بين دبلوماسية بارما وأسلحته تسانده أموال الكاثوليك وآمالهم، بين صمود أمير أورانج البطولي، يموله التجار الهولنديون ويشدون أزره. ويعرقل جهوده، في وقت معاً، تعصب أصدقائه.

وفي 5 يناير 1579 شكل جماعة من النبلاء الكاثوليك، من هينوت ودوا وأرتوا وليل، بإيحاء من أسقف آراس، شكلوا عصبة آراس لحماية عقيدتهم وممتلكاتهم وفي 29 يناير شكلت مقاطعات هولندا وزيلندة وجروننجن وأوترخت وجلدرلند، "اتحاد أوترخت، للدفاع عن عقيدتهم وحرياتهم. وسرعان ما انضم إليها فريزلند، وأوفريسل. ومن هذه "المقاطعات المتحدة" السبع تتكون اليوم الأراضي الوطيئة الهولندية، وأصبحت المقاطعات الباقية هي "الأراضي الوطيئة الأسبانية"، وصارت في القرن التاسع عشر بلجيكا وحدد تقسيم المقاطعات السبع عشرة إلى أمتين على هذا النحو. سيطرة الكاثوليكية في الجنوب والبروتستانتية في الشمال، من ناحية. إلى جانب الفصل الجغرافي بينهما، لوجود الخلجان والأنهار الكبيرة التي هيأ اتساعها

ص: 29

وسدودها التي يسهل التحكم فيها، ثغوراً يمكن الدفاع عنها، وتأوي إليها الأساطيل والأسلحة الأسبانية.

وفي 19 مايو وقعت عصبة آراسي مع بارما اتفاقاً، التزمت فيه بألا تقبل غير الكاثوليكية مذهباً، وارتضت بمقتضاه السيادة الأسبانية شريطة استعادة امتيازات المقاطعات والوحدات الإدارية الصغيرة (الكوميونات) وسرعان ما أعاد الدوق، بالإغراء أو الرشوة أو القوة، كل المقاطعات الجنوبية تقريباً إلى حضيرة أسبانيا، وتخلى الزعماء الكلفنيون في بروكسل وغنت وإيبر عن فتوحاتهم وولوا الأدبار إلى الشمال البروتستانتي. وفي 12 مارس 1579 قاد بارما جيشاً كبيراً ضد ماسترخت الواقعة في موقع حصين على النهر المسمى باسمها. وأتى الفريقان كلاهما بالأعاجيب من أعمال البطولة وضروب الوحشية وحفر المهاجمون أميالاً من الممرات تحت الأرض ليبثوا الألغام ويفتحوا المدينة، كما حفر المدافعون-النساء والرجال جنباً إلى جنب-ممرات ليقابلوهم؛ ودارت رحى القتال حتى الموت في باطن الأرض. وصب الماء المغلي في الأنفاق، وأشعلت الحرائق لتملأها بالدخان. واحترق مئات المحاصرين المهاجرين أو اختنقوا حتى الموت. وانفجر أحد الألغام قبل أوانه فأودى بحياة خمسمائة من رجال بارما. وعندما حاول جنوده تسلق السور قابلتهم الجمرات المحترقة، وقذفت حول أعناقهم النار الملتهبة. وبعد أربعة أشهر من الجهد المضني والضراوة والعنف، أحدث المحاصرون ثغرة في السور، نفذوا منها خفية في الليل، وفاجأوا المدافعين المنهوكين وهم نيام وذبحوا منهم ستة آلاف من الرجال والأطفال والنساء ولم يبقَ من سكان المدينة البالغ عددهم ثلاثين ألفاً، على قيد الحياة آنذاك سوى أربعمائة. وعمرها بارما من بعدهم بالموالون الكاثوليك.

تلك كانت كارثة عظمى حلت بالبروتستانت. ووجه اللوم فيها بحق إلى حد ما، إلى وليم الذي حاول عبثاً إنقاذ المدينة، لعجزه وإبطائه. واتهمه

ص: 30

الآن نفس المتطرفين الذين أحبطوا سياسة التوحيد التي انتهجها، بتعصبهم وعنفهم-اتهموه بخيانة قضيتهم مع دوق أنجو الكاثوليكي، وأشاروا إلى أنه لم يؤدِ الشعائر الدينية طوال العام الماضي، وانتهز الملك فيليب هذه الفرصة ليصب اللعنة على أورانج (15مارس 1581). وبعد أن أسهب فيليب في بيان عقوق الأمير وخيانته وزيجاته وجرائمه، استرسل يقول:

ومن ثم

بسببه الأعمال السيئة الشريرة التي رتبها وأنه يعكر صفو السلام العام، وأنه شخص بغيض، فإننا نحرمه من حماية القانون، ونحظر على كل رعايانا أن يتعاملوا معه أو يتصلوا به في السر أو العلن، أو أن يزودوه بالطعام أو الشراب أو الوقود أو غيرها من الحاجيات الضرورية. أننا نعلن على الملأ أنه عدو للجنس البشري. ونبيح ممتلكاته لمن يضع يده عليها. ورغبة في الإسراع في تخليص شعبنا من طغيانه وظلمه، فإننا نعد، وعد ملك خادم للرب، أي فرد من رعايانا، وأتى من النخوة والشهامة ما يستطيع معه أن يجد الوسيلة لتنفيذ هذا المرسوم، وتخليصنا من هذا الإنسان البغيض، سواء بتسليمه لنا حياً أو ميتاً، أو بإزهاق روحه على الفور، نعد بأن نمنحه هو أو ورثته من الأرض أو المال، وفق مشيئته، ما قيمته خمسة وعشرون ألف كراون ذهباً. ولسوف نصدر العفو عن أية جريمة ارتكبها أياً كان نوعها، ونرفعه إلى مرتبة النبلاء إذا لم يكن نبيلاً (46).

وكان جواب مجلس المقاطعات على هذا "الجرم"، تعيين وليم حاكماً عاماً على هولندا وزيلنده (24 يولية 1581) وبعد ذلك بيومين وقع ممثلو هولندا وزيلندرز وجلدرلند وأوترخت وفلاندرز وبرابانت، في لاهاي "قرار الاستنكار الذي طرحوا فيه بشكل مهيب ولاءهم لملك أسبانيا. وفي وثيقة مشهورة في التاريخ الهولندي، شهرة وثيقة "إعلان الحقوق" التي أصدرها برلمان إنجلترا 1689 في التاريخ الإنجليزي، أعلنوا أن الحاكم الذي يعامل رعاياه معاملة العبيد ويقضي على حرياتهم، يجب ألا يعتبر بعد اليوم مليكهم الشرعي ويحق قانوناً

ص: 31

عزله (47). وكان رد وليم على هذا الحرمان في صيغة دفاع حرره له قسيسه، أرسل إلى الجمعية العمومية وإلى كل بلاط في أوربا، ورحب بالحرمان على أنه وسام شرف له. واتهم فيليب بسفاح ذوي القربى والزنى وقتل زوجته وابنه. وأبدى استعداده للتخلي عن كل مناصبه ومغادرة الأرضي الوطيئة بل حتى للتضحية بحياته، إذا كان هذا في مصلحة بلده، ومهر الوثيقة بشعاره "سوف أتشبث".

ولم يلبث فيليب طويلاً حتى جنى ثمار "الحرمان" الذي أصدره (18 مارس 1582)، فإن جين جوريجي أغرته الجائزة الموعودة، فتسلح بمسدس واستعان بالله، ونذر للعذراء بعض الغنيمة. واتخذ سبيله إلى وليم أورانج في أنتورب. وأطلق الرصاص على رأسه، فدخلت الرصاصة تحت الأذن اليمنى ونفذت إلى الفم، ثم إلى الخد الأيسر. ولقي القاتل على الفور حتفه بيد أتباع وليم، ولكن بدا أن المهمة قد نفذت. ولعدة أسابيع بدا أن الأمير على شفا الموت. ودعا فارنيزي المقاطعات الثائرة، وقد مات زعيمها العنيد، إلى المصالحة مع مليكهم الرحيم. ولكن وليم تماثل للشفاء في بطء بفضل سهر زوجته شارلوت على العناية به. وهي التي قضت نحبها في 5 يونية بسبب الإرهاق والحمى. وفي يولية وضع متآمران مغموران خطة لدس السم لأمير أورانج ودوق أنجلو كليهما. واكتشفت المؤامرة واعتقل المجرمان وانتحر أحدهما في السجن، وأرسل الثاني إلى باريس وحوكم وأدين، ومزق إرباً بربطه في أربعة خيول، تتجاذبه في كل اتجاه.

وفي أثناء عام 1582 جمع أنجو حوله بعض قوات فرنسية في أنتورب. ولم يكن الدوق ليقنع بلقبه، وداعبه الحلم بأن ينصب نفسه ملكاً. وهب أتباعه فجأة في 17 يناير 1583، وهم يهتفون "فليحيا القداس" وحاولوا أن يسيطروا على المدينة. فقاومهم الأهالي، وهلك في هذه "الثورة الفرنسية" قرابة ألفي شخص. وأخفقت هذه الثورة وهرب أنجو. وعانى وليم من

ص: 32

فقدان قدر آخر من شعبيته لأنه ظل طويلاً يؤيد أنجو ويسانده. ووقعت في مارس محاولة أخرى للقضاء عليه. فلم يطمئن للإقامة في أنتورب ونقل مركز قيادته إلى دلفت. عندئذ عقدت مقاطعتا جروننجن وجلدرلند الصلح مع بارما، ولم يبقَ مع وليم إلا اثنتين من المقاطعات "المتحدة"، وهما هولندا وزيلندة، ولكنهما أثبتتا ولاءهما بأن جعلتا منصب "الحاكم العام" وراثياً في أسرته (ديسمبر 1583)، وبهذا وضعت أسس بيت أورانج الذي كان يمكن أن يغزو وأن يرث نصف إنجلترا في 1688.

وأصر القتلة ولم تفتر عزيمتهم. وفي أبريل 1584 حاول هانز هانزون من فلشنج أن يودي بحياة الأمير، ولكنه أخفق وأعدم. واستبد الحماس الديني ببلتازار جيرار من برجندي، كما اشتد به التفكير في الخمسة والعشرين ألف كراون

(1)

وقصد إلى دوق بارما يعرض عليه قتل أمير أورانج، ولكن الدوق قدر أن شاباً في العشرين من عمره غير صالح للاضطلاع بهذه المهمة، وأبى عليه المبلغ المتواضع الذي طلبه سلفاً، ولكنه وعده بالجائزة كاملة إذا حالفه التوفيق. وقصد جيرار إلى دلفت، وتنكر في زي كلفني مسكين تقي، وتلقى من وليم اثني عشر كراون صدقة. وصوب إلى جيده ثلاث رصاصات (10 يولية 1584) فصرخ وليم "يا إلهي، رحمتك بي وبالشعب المسكين". وفاضت روحه في بضع دقائق. وقبض على جيرار وحوكم أمام قضاة المدينة، وأبدى فرحه واغتباطه بنجاحه فيما قصد إليه، ثم لقي أشد العذاب وقتل شر قتلة. ووري وليم التراب في دلفت، بأسمى مظاهر التكريم بوصفه "أبا البلاد". ولما كان قد ضحى بكل ما يملك في سبيل الثورة فإنه لم يخلف لأبنائه الاثنى عشر شيئاً تقريباً. وهذا شاهد صامت على ما درج عليه من نبل وشرف.

(1)

أكد رانك في كتابه "تاريخ البابوات"(1 - ص 472) أن أحد الجزويت شجع جيرارد على فعلته. كما أكد موتلي في كتابه "قيام الجمهورية الهولندية" ولكن أنكره باستور في كتابه: "تاريخ البابوات"(الفصل العشرون ص19 - 20).

ص: 33

ودفعت الجائزة كاملة لأبوي جيرار، وابتهج كاثوليك الأراضي الوطيئة، قائلين إن الجريمة انتقام إلهي لانتهاك حرمة الكنائس وقتل القساوسة. وأرسلوا رأس القاتل إلى كولون باعتباره من المخلفات الثمينة، ولمدة نصف قرن بذلوا أقصى الجهد لإعلانه قديساً (49).

‌6 - النصر

1584 -

1648

وهنت بموت وليم روح من بقي من أتباعه في الفلاندرز وبرابانت. واستولى بارما على بروجز وغنت وبروكسل وملكين وأنتورب، ولم ينته 1585 حتى وقعت الأراضي الوطيئة جنوب نهر ماس-فيما عدا أوستند وسليز-في يد الأسبان، على أن "المتسولين" ظلوا يسيطرون على الثغور والبحر.

وكم أهابت المقاطعات الشمالية بالملكة إليزابث لنجدتهم. واستجابت الآن للنداء. فقد أدركت أن ثورة الأراضي الوطيئة منعت أسبانيا من إعلان الحرب على إنجلترا، وما كان في مقدورها أن توقف هذه الفرصة التي هيأتها العناية الإلهية-منع أسبانيا من إعلان الحرب-هذا بالإضافة إلى أن الهولنديين سيطروا على سوق الصدف الإنجليزي. وفي ديسمبر 1585 أرسلت إلى هولندا قوة كبيرة بقيادة ليستروسير فيليب سدني. وأخذ ليستر لنفسه، باعتباره حاكماً عاماً للمقاطعات الثائرة، كل سلطة الملك تقريباً. ومذ رأى أن المقاطعات الجنوبية تستورد كل الحاجيات الضرورية للحياة من المقاطعات الشمالية فأنه حرم كل اتجار مع الممتلكات الأسبانية، ولكن التجار الهولنديين كانوا يعيشون على هذه التجارة، وصدروا بضائعهم إلى أسبانيا أثناء حربهم معها. ومن ثم رفضوا الخضوع لما نهى عنه ليستر، الذي حلت به الهزيمة في زوتفن (22 سبتمبر 1586) فغادر هولندا مشمئزاً، شاعراً بالخزي والعار. وسادت الفوضى في الشمال لمدة عام كامل. وأنقذت

ص: 34

الجمهورية الصغيرة بفضل اشترك فيليب لدوق بارما في خطته لغزو إنجلترا، وبفضل هجمات بارما المظللة ضد هنري نافار في فرنسا، وتحكم الهولنديين في البحار، وثروة التجار الهولنديين وصمودهم، وعبقرية جان فان أولدنبار السياسية، ثم بفضل ما أوتي موريس ناسو-ابن وليم الصامت، من عبقرية عسكرية.

وفور وفاة وليم الصامت اختير ابنه موريس حاكماً عاماً على هولنده وزيلنده وفي1588، وهو في الحادية والعشرين، عين قائداً عاماً وأمير للبحر في المقاطعات المتحدة. وفي 1590 أسلمته أوترخت وأفريحسل وجلدرلند مقاليد الحكم فيها. وأفاد موريس من محاضرات سيمون ستيفن في الرياضيات في ليدن، فطبق العلم الحديث على القذائف والهندسة والحصار. ودرب الجيش الهولندي على أساليب جديدة للالتحام والنظام. وفي سلسلة من الحملات التي اشتهرت بسرعة الحركة والاستراتيجية المفاجئة (1590 - 1594) استرد موريس زوتفن ودفنتر وتيميجن وجروتنجن. أما بارما الذي ضيع مهاراته وأمواله في هجمات فيليب العقيمة على إنجلترا وعلى هنري الرابع، فإنه قضى نحبه في "سبا" بسبب الإعياء والجراح (20 فبراير 1952).

وعين فيليب خلفاً له الأرشيدوق ارنست النمسوي الذي لم يلبث أن أدركته المنية، ثن الكاردينال الأرشيدوق البرت الذي تخلى عن منصبه الديني، وتزوج إيزابل كلارا أوجينيا، ابنه الملك. وقبل وفاة فيليب (1598) بفترة وجيزة، منح البرت وإيزابل حق السيادة على الأراضي الوطنية، شريطة أن يعود هذا الحق إلى أسبانيا إذا ماتا دون عقب. وأثبت الاثنان أنهما حاكمان قديران رحيمان. عجزا عن إخضاع المقاطعات الشمالية، ولكنهما أقاما في الجنوب حكماً متحضراً ازدهرت في ظله الفنون الكنسية في انسجام جميل مع صور روبنز العارية.

وظهر على مسرح الحوادث في 1603 شخصية جديدة. وكان البرت قد استمر يحاصر أوستند عامين كاملين دون أن يصيب أي نجاح، وجاء أحد

ص: 35

رجال المصارف الإيطاليين، هو امبروزيودي سبينولا، ووضع كل ثروته في خدمة أسبانيا، وجمع جيشاً قوامه ثمانية آلاف رجل، وجهزه بالسلاح وبالعتاد، وحاصر أوستند واستولى عليها. ولكن ثراءه العريض لم يعدل ثروة التجار الهولنديين، الذين ثابروا على بناء وتجهيز الأساطيل التي أقضت مضاجع البحرية الأسبانية، وهددت بقطع شريان الذهب الذي يتدفق بين أمريكا وأسبانيا. وإذا أرهق الحصار والقتل البرت وإيزابل فإنهما استحثا المفاوضات مع الهولنديين، وأقرهما عليها الملك فيليب الثالث الذي أرهقه العمر والإملاق. وبرغم اعتراضات موريس حض أولدنبار نفلدت الهولنديين على المصالحة. وفي 1609 عقدت هدنة هيأت الأراضي الوطيئة الراحة من عناء الحرب لمدة اثني عشر عاماً.

بيد أن الوئام في الداخل شيء يختلف كل الاختلاف عن السلام الخارجي. لقد حنق موريس على أولندنبار نفلدت هيمنته على مقاليد الأمور في الجمهورية. ومن الوجهة العلمية كان لأكبر الموظفين راتباً في هولنده السلطان والسيطرة على هذه المقاطعة وحدها، ولكن مذ كانت ثروة هولنده والضرائب التي تدفعها للجمعية العمومية تعدل ما تملكه وما تدفعه سائر المقاطعات المتحدة مجتمعة، فإن أولندنبار نفلدت مارس في الاتحاد سلطة تتكافأ مع تلك الثروة، كما تتكافأ رجاحة عقله وشخصيته وخلقه. أضف إلى ذلك أن الملاك الذين حكموا المقاطعات والتجار والأغنياء الذين حكموا الكوميونات أحسوا بانعطاف نحو أولدنبار نفلدت الذي نبذ الديمقراطية مثلهم، وقال "إنه لمن الأفضل أن يحكمني سيد مطلق من أن يحكمني الرعاع"(50) وولى موريس وجهه شطر الشعب ليحصل على تأييده، ووجد أنه يمكنه أن يكسب الشعب إلى جانبه إذا جعل من القساوسة الكلفنيين أصدقاء له.

وكانت القضية الدينية التي أهاجت الجمهورية الآن قضية مثلثة الجوانب: فهناك المعارضة المتزايدة بين الكنيسة الدولة، وهناك الصراع بين الكاثوليك البروتستانت، وهناك أخيراً النظريات بين البروتستانت

ص: 36

أنفسهم. وسعت المجامع الكنسية الكلفنية إلى أن تحدد النهج السياسي، وتتخذ من الحكومة أداة لتقوية مذهبهم. وارتابت الجمعية العمومية في المجامع الكلفنية على أنها سيئة وبذور خطيرة لمؤامرة الديمقراطية. وقد جلب أولدنبار نفلدت على نفسه عداوات كثيرة حين أمر رجال الدين بأن يتركوا الحكومة للسلطات المدنية. وقد يكون غريباً أن نقول أن الغالبية الساحقة من السكان في 1609 كانوا من الكاثوليك حتى في المقاطعات الشمالية (51). كانت القوانين تحرم العبادة الكاثوليكية، ولكنها لك تكن تنفذ، وكان هناك 232 قسيساً يتلون الشعائر الكاثوليكية (52)، وأمر مجلس المقاطعة في أوترخت القساوسة أن يتزوجوا النساء اللائى يستخدمونهن في إدارة شؤون منازلهم، ولكن الامتثال لهذا الأمر لم يكن تاماً، ولك يلقَ إقبالاً.

وحدث الصراع داخل المجموعات البوتستانتية بين الكلفنيين و "المتحررين"، وهم أقلية. وأطلق هذا الاسم على هؤلاء، لا لأنهم إباحيون في حياتهم. بل لأنهم حبذوا الحرية الدينية حتى للكاثوليك، كما أيدوا تفسيراً إنسانياً متحرراً للاهوت البروتستانتي. هؤلاء هم ورثة تقاليد ارزم (الذين كان ينتسب إليهم وليم أورانج). وكان المتزمتون معتنقوا الكلفنية القديمة، الذين تمسكوا بمذهب الجبرية الصارمة، وأحسوا بأن عقيدتهم يحب أن تكون إجبارية في كل المقاطعات المتحدة (53) -نقول كان هؤلاء المتزمتون يرمون المتحررين بأنهم "بابويون" في الخفاء. ودافع ديرك كورنهرت الذي كان سكرتيراً لدى وليم أورانج. عن حرية العبادة في كتاباته التي أرست أسس اللغة الأدبية في هولنده. وانبرى واعظ من أمستردام، هو جاكوبس أرمنيوس، لتفنيد آراء كورنهرت، ولكنه تحول إليها واعتنقها بينما كان يدرس ليرد عليها، وحينما عين أستاذاً للاهوت في ليدن، صدم المتزمتين بارتيابه في الجبرية، وإثباته أن الإنسان تنقذه أعماله الصالحة بقدر ما ينقذه إيمانه، وهذا يخالف ما قال به لوثر وكلفن. وسلم بأن الوثني المتمسك

ص: 37

بأهداب الفضيلة قد ينجو من الجحيم. وذهب إلى أن كل الناس في النهاية سيخلصون ودمغة أستاذ زميل له في الجامعة، فرانسيسكس جوماروس، بأنه مهرطق ماكر.

ومات أرمنيوس 1609، وكان قد كسب إلى جانبه آنذاك أتباعاً من ذوي النفوذ، من بينهم أولدنبار نفلدت وهوجو جروتيوس أكبر موظفي روترذام وفي 1610 صاغ هؤلاء "المتحررون" احتجاجاً على نظريات الجبرية ولاصطفاء والرفض أو الإخراج من زمرة الأبرار، واقترحوا عقد مجلس وطني يضم رجال الدين وغيرهم من العلمانيين لإعادة تحديد عقيدة الإصلاح وتعريفها. وصاغ المتزمتون "احتجاجاً مضاداً" أكدوا فيه من جديد المذهب الكاثوليكي:

"إن الرب، بعد خطيئة آدم، حفظ نفراً معيناً من البشر من الدمار، وقدر لهم الخلاص في المسيح

وفي هذا الاصطفاء لم يعتبر الرب الإيمان أو الارتداد، ولكنه يعمل كيف يشاء. وأرسل الرب ابنه يسوع لتخليص هؤلاء المصطفين وحدهم (54) ".

وأصر أتباع جوماروس على أن هذه القضايا لا يعالجها إلا رجال الدين وحدهم، وبذلك نجحوا في دمغ المحتجين بأنهم من أنصار البابا أو من أتباع بلاجيوس (الذين ينكرون نظرية الخطيئة الأصلية ويرون أن الإنسان مخير) أم من الموحدين (الذين لا يدينون بالتثليث، إلى حد أغلبية كبيرة من السكان البروتستانت انحازت إلى جانب المتزمتين، وكان موريس ناسو يغفل شأن هذه المنازعات اللاهوتية احتقاراً لها، ولكنه تحرك الآن ليصادق مؤقتاً جماعة المذهب القديم، لأنهم يهيئون لأه ركيزة شعبية لمحاولة استعادة الزعامة الوطنية.

وأعقبت ذلك معركة بالخطب والعظات والنشرات قاربت أن تكون حرباً. وعكرت الاضطرابات العنيفة صفو الهدنة، وهوجمت بيوت المتحررين

ص: 38

في لاهاي، وأخرج الوعاظ الكلفنيون المتشددون من روتردام. وجهزت هولندا جيشاً للدفاع عن ديانتها، وسرعان ما تبعتها مقاطعات أخرى، وبدا أن الحرب الأهلية توشك أن تقضي على الجمهورية في مهدها، وفي 4 أغسطس 1617 اتخذ أولدنبار نفلدت في مجلس هولندا قراراً خطيراً-رآه موريس خطيراً حقاً-يعلن فيه سيادة الدولة على الأمور الدينية، ويوجه مدن المقاطعة إلى تسليح نفسها حماية لها من عنف أنصار الكلفنية، وقصد إلى أوترخت حيث أقنع مجلسها بإعادة القوات لتأييد هولندا. وفي 25 يولية 1618 دخل موريس ناسو بوصفه القائد الشرعي للجيش، أوترخت على رأس قوة مسلحة. وأرغم الفرق المجندة حديثاً على أن يتفرقوا. وفي 29 أغسطس أصدرت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة أمراً بالقبض على أولدنبار نفلدت وجروتيوس وغيرهما من زعماء المحتجين. وفي 13 نوفمبر اجتمع كنيسة الإصلاح في دور درخت (دورت)، واستمع لآراء اللاهوتيين المحتجين وحكم بأنهم مهرطقون، وأمر بطرد قساوسة المحتجين من وظائف الكنيسة والتعليم. وصبت اللعنة على أنصار أرمنيوس-مثلهم في ذلك مثل الكاثوليك-وحرم عليهم عقد الاجتماعات أو إقامة الصلوات العامة. وفر كثيرون منهم إلى إنجلترا حيث أحسنت الكنيسة الرسمية استقبالهم ودعموا أهم مركز الأنجليكانيين المتحررين.

وحوكم أولدنبار نفلدت أمام محكمة خاصة لم تهيئ له أي سند قانوني. واتهم بأنه بطريقة مدموغة بالخيانة أشاع الفرقة في الاتحاد وعرضه للخطر، وبأنه سعى إلى تكوين دولة داخل الدولة. وفي خارج المحكمة انهال سيل من النشرات تذيع على الملأ أخطاء حياته الخاصة. ودافع هو عن نفسه دفاعاً قوياً بليغاً إلى حد أن أبناءه أقاموا أمام سجنه عمود مايو المزدان بالأشرطة والزهور واحتفلوا بالإفراج المرتقب عنه، وكلهم ثقة في ذلك. وفي 12 مايو 1619 أقرت المحكمة إدانته ونُفذ فيه حكم الإعدام في اليوم التالي. وحكم على

ص: 39

جروتيوس بالسجن مدى الحياة، ولكنه بفضل براعة زوجته هرب من السجن وعاش ليؤلف كتاباً يستحق الذكر.

وعلى الرغم من هذا الانتصار الذي أحرزه التعصب، نمت الحرية في المقاطعات. وبلغ الكاثوليك من الكثرة حداً يتعذر معه وقف نموهم. ولم يكن من المستطاع تنفيذ القرارات النظرية التي صدرت عن مجلس دورات. وفي عام 1619 نفسه أسس المنونايتين (يعارضون حلف اليمين وعماد الأطفال والخدمة العسكرية وقبول الوظائف العامة)، في حرية تامة، طائفة الطلبة الجامعيين، وهي تشبه الكويكرز، في ريجنسبرج وقد وجد عندهم سبينوزا ملجأ آمناً. وفي 1629 امتدح ديكارت حرية الفكر التي نعم بها في أمستردام، وفي نهاية القرن السابع عشر أصبحت هولندا ملاذ المهرطقين الذين لجأوا إليها من بلاد كثيرة.

وفي 9 أغسطس 1621 استُأنفت الحرب مع أسبانيا. ذلك أن الأرشيدوق ألبرت مات دون أن يخلف عقباً. فعادت المقاطعات الجنوبية إلى أسبانيا. وأغار سبينولا على المدن الهولندية الواقعة على الحدود. فسار إليه موريس ناسو، ولكن سنوات النضال كانت قد أنهكت قواه، فمات فجأة (1625) وهو في سن السابعة والخمسين. واستولى سبينولا على بريداً، وبذلك فتح الطريق إلى امستردام، وهيأ للمصور فيلاسكويز موضوع لوحة.

ونهض الهولنديون من كبوتهم واستردوا قوتهم في إصرار وعناد. وأدهش فردريك هنري الذي خلف أخاه في منصب الحاكم العام، الأعداء والأصدقاء على السواء، بما كان يخفي حتى الآن من مواهب رجل دولة وقائد وبفضل دبلوماسية فرانسيس آرسنز استطاع أن يحصل من ريشيليو على منحة سنوية قدرها مليون ليرة، وجمع حشداً جديداً، وبعد حصار طويل استولى على هرتوجنبوخ وماسترخت وبريدا. ولحسن الحظ كان سبينولا قد استدعى إلى لومبارديا.

ص: 40

وفي نفس الوقت استخدم التجار الهولنديون أموالهم في بناء السفن، لأن كل انتصار في البحر كان يعني توسيع مجال التجارة. وفي عام 1628 أسر أسطول هولندي صغير تحت إمرة بيبت هين أسطولاً أسبانياً كان يحمل الذهب من المكسيك. وهاجم أسطول هولندي آخر قوة أسبانية مكونة من 13 سفينة في نهر سلاك، فدمرها وأسر 5000 رجل (1631). ولكن أروع هذه الانتصارات البحرية هي المعركة التي خاضها قائممقام أمير البحر مارتن هاربوتزون ترومب في القنال الإنجليزي (بين دوفروديل) وكان الأسبان قد عقدوا العزم على استعادة السيطرة على ثغور الأراضي الوطيئة من الهولنديين. فأعدوا أسطولاً ضخماً جديداً من 77 سفينة عليها 24 ألف رجل فلما أبصر به ترومب في القنال، وأرسل في طلب المدد، وفي 21 أكتوبر 1639 أبحر ومعه 75 سفينة حتى صار على مقربة من مواقع العدو، فأغرق أو أعطب أو أسر كل الأسطول الأسباني فيما عدا سبع سفن. وقتل 15 ألفا من الملاحين الأسبان في المعركة أو أغرقوا. وتحتل معركة القنال الإنجليزي في تاريخ هولندا نفس المكانة التي تحتلها هزيمة الأرمادا (1588) في تاريخ إنجلترا. فقد وضعت حداً لكل دعاوى أسبانيا في السيادة على البحار، وقطعت شريان الحياة بين أسبانيا ومستعمراتها، وأسهمت مع أنصار فرنسا على أسبانيا في معركة روكروا (1643) واختتمت الحقبة التي هيمنت فيها أسبانيا على أوربا.

مذ انهمكت أسبانيا انهماكاً تاماً في حرب الثلاثين عاماً فإنها قررت أن تنزل للهولنديين عن كل شيء، حتى تتفرغ للحرب مع فرنسا. وفي مونستر في 30 يناير 1648 وقع المندوبين الأسبان معاهدة وستفاليا التي أنهت ثمانين عاماً من الحرب في الأراضي الوطيئة. وأعلن أن المقاطعات المتحدة غير متقيدة بأي رباط مع أسبانيا. وتم الاعتراف بفتوحاتها. ولا تصل تجارة الراين إلى بحر الشمال إلا عن طريق الثغور الهولندية وحدها. وخول التجار الهولنديون حرية التجارة في جزر الهند الشرقية والغربية. وهكذا انتهى أطول وأشجع وأقسى صراع من أجل الحرية في التاريخ بأسره.

ص: 41

الفصل الثامن عشر

‌من روبنز إلى رمبرانت

‌1555 - 1660

1 -

الفلمنكيون

أنه لما يثير الدهشة أنه في قطعة صغيرة من أوربا، مثل الأراضي الوطيئة نشأت ثقافتان متضادتان مثل الفلمنكية والهولندية، وعقيدتان متنافرتان مثل الكاثوليكية والكلفنية، وفنانان مختلفان كل الاختلاف في المزاج والأسلوب مثل روبنز ورمبرانت، وفانديك وهالس.

ولا نستطيع أن نفسر التباين باختلاف اللغة لأن نصف الفلاندرز

(1)

، مثل كل المقاطعات المتحدة، تحدثوا اللغة الهولندية. وربما نبع بعض التباين من اقتراب هولندة من ألمانيا البروتستانتية واقتراب الفلاندرز من فرنسا الكاثوليكية. وربما ينجم من الاختلاف من ارتباط أسبانيا الكاثوليكية الملكية الأرستقراطية ارتباطاً وثيقاً ببروكسل وأنتورب. وورث إقليم الفلاندرز ديانة العصور الوسطى وفنها وأساليبها، على حين كانت هولندة أفقر، حتى هذا الوقت، من أن تكون لها ثقافة خاصة بها. ويمكن أن تكون الشمس المشرقة في المقاطعات الجنوبية قد نزعت بأهلها إلى حياة شهوانية غير متمسكة بقواعد الأخلاق، على حين أن الغيوم والمصاعب في الشمال شجعت أهله على اعتناق عقيدة صارمة رواقية رزينة. أو على الأرجح،

(1)

تستخدم هنا، تيسيراً، لفظتا الفلاندرز والفلمنكين Flandrs، Flemish للدلالة على الأراضي الوطيئة الأسبانية، ولفظتا هولندة والهولنديين Hoeenp Outeh للدلالة على المقاطعات الشمالية أو المتحدة.

ص: 42

أن الجيوش الأسبانية انتصرت في الجنوب، واندحرت في الشمال نتيجة الأنهار المعترضة والثورة الهولندية؟

لابد أن أنتورب كانت جميلة عندما أكتمل صرح كاتدرائيتها بأبراجها وواجهاتها وفنها الزخرفي، على حين على حين على مقربة منها ضجت البورصة بكل حيوية التجارة وحيلها، ورقصت المياه بكل سفن العالم. ولكن الحرب اندلعت بعد ذلك، فإن ضراوة دوق ألفا ومحاكم التفتيش أخرجت الصناع الهرة والتجار البروتستانت إلى هولندة ألمانيا وإنجلترا، وصرامة الكلفنية أتلفت الكنائس، وعنف الأسبان نهب البيوت وأحرق القصور، كما أن ضراوة فرنسا أفرغت عجزها في الدماء، والحصار الذي ضربه فانز لمدة أربعة عشر شهراً أمات الكاثوليك والبروتستانت جوعاً على حد سواء. وأخيراً انضم الكاثوليك إلى البروتستانت في الخروج من المدينة، وانتقلت تجارة أنتورب إلى أمستردام وروتردام وهارلم وهمبرج ولندن وروان.

ولكن وحشية الإنسان متقطعة، وسهلة التكيف عنده باقية. وقد يكون لنا بعض السلوى في أن نتبع كيف أن بعض الأمم والمدن استطاعت بسرعة أن تنهض من دمار الحرب ووبالاتها. وتلك كانت حال الفلاندرز بعد 1579. بقيت صناعة النسيج، وظل الطلب كبيراً على المخرمات الفلمنكية، وظلت الأمطار يحي الأرض وأضفى كدح الناس البهاء والفخامة على الحاشية. واستمتعت أنتورب وبروكسل، تحت حكم الأدواق الذين أحبوا حياة الترف ولكن مع روح إنسانية، ببعث ونشور جديرين بالذكر. وعادت الفلاندرز إلى كاتدرائياتها وأعيادها الدينية ومهرجاناتها الوثنية. وربما بالغ روبنز في هذا في "مهرجان اللوفر العاصف" ولكن استمع أيها القارئ إلى تقرير الكاردينال أنفانت فرديناند، من أنتورب إلى فيليب الرابع 1639: "أقاموا بالأمس احتفالهم الكبير

أنتقل موكب طويل إلى الريف مع عربات كثيرة تحف بها مظاهر النصر. وبعد العرض هرع الناس إلى الطعام والشراب، حتى شمل الجميع آخر الأمر، وبدون هذا لا يعتبرون أنه احتفال

ص: 43

أو عيد (1)، بل أن الكاردينال نفسه عندما قدم من أسبانيا إلى بروكسل (1635) استقبلوه بالمهرجانات التي دامت لعدة أيام، وسط زخارف فخمة صممها روبنز نفسه. ووصف زائر إيطالي مدن الفلاندرز قبل الثورة بأنها "سلسلة لا تنقطع من الاجتماعات البهيجة والأعراس وحلبات الرقص، مع أنغام الموسيقى والأغاني المرحة في الشوارع (2) "، ولم تستلم كل هذه الروح للحرب. فإن الألعاب التي صورها بروجل كانت لا تزال تقام في الشوارع، واستمعت الكنائس مرة أخرى للقداسات المتعددة النغمات والأصوات التي كانت قد جعلت المنشدين الفلمنكيين، يوماً، مرغوباً فيهم في كل البلاد. ودخلت الفلاندرز أبهى عصورها.

‌2 - الفن الفلمنكي

تضافرت الحاشية والكنيسة، والنبلاء وأبناء الشعب في البذل من أجل إحياء الفن الفلمنكي، ورعى البرت وإيزابل وشجعا كثيراً من الفنانين، إلى جانب روبنز. وكانت أنتورب لفترة من الزمن مركز الفن في أوربا، واستعاد قماش بروكسل المزركش (النسيج المطرز بالكانفاه) امتيازه وتفوقه، مستعيناً برسوم روبنز البطولية. وكان صانعو الزجاج البنادقة قد جلبوا فنهم إلى الأراضي الوطنية في 1541، وأنتج الصناع المهرة المحليون منه الآن قطعاً هشة آية في الإعجاز، كان بعضها محل إعزاز وإعجاب إلى حد أنها غالبت قروناً من الفتنة والشغب فغلبتها، وأبدع صناع المعادن أعاجيب من نسج أفكارهم وأيديهم، مثل الآنية المعدنية الفاخرة التي تحفظ فيها الذخائر الدينية، التي يمكن أن توجد في الكنائس الكاثوليكية في بلجيكا، وألحت الأرستقراطية التجارية في طلب القطع الفنية: وجلسوا أمام المصورون، وشيدوا قصوراً فخمة، ودوراً للبلدية، لمثل تلك التي شادها كرنيلي دي فرندت تمجيداً لأنتورب (1561 - 1565) قبل العاصفة. ولما جرد المتعصب الذميم الكنائس من

ص: 44

آيات الفن، بات هؤلاء التجار الأرستقراطيون يشدون من أزر المراسم ويرعونها في لهفة وحماس، يلحون في طلب التماثيل واللوحات ليصوروا العقيدة للشعب.

ولم يزدهر فن النحت هنا، لأن فرنسوا دوكيسنوى، ابن بروكسل، أنجز معظم أعماله في رومة حيث نحت تمثالاً ضخماً لسانت أندروز بداخل كنيسة القديس بطرس، وإن نفراً قليلاً من السائحين الذين يحرصون على رؤية "أقدم مواطني بروكسل"، نافورة مانكن بس Manneken Pis (1619) - تمثال برونزي لصبي يزيد في مياه المدينة من موارده الخاصة-يعملون أن هذا هو أبقى روائع دوكيسنوي على الزمن.

أما المصورون الفلمنكيون فإنهم يجلون عن الحصر، وواضح أن كل بيت في الأراضي الوطيئة كان عليه أن يقتني لوحة أصلية، وأنكب ألف فنان في مائة مرسم على تصوير الأشخاص والمناظر الطبيعية والحيوانات والمؤن والأساطير والعائلات المقدسة وصلب المسيح، أما إسهامهم المتميز في تاريخ الفن فهو صور جماعية للهيئات البلدية، وصور تمثل الحياة المنزلية أو القروية وتأثير هؤلاء الفنانون في أول الأمر بالطرز الإيطالية، فقد أبحرت السفن الإيطالية كل يوم إلى أنتورب، وافتتح التجار الإيطاليون متاجر لهم فيها. وجاء الفنانون الإيطاليون ليهزأوا ويسخروا فأقاموا ليرسموا، وقصد كثير من الرسامين الفلمنكيين إلى إيطاليا للدراسة، واستقر المقام ببعضهم هناك، ومن هؤلاء جوستوس سوستر مانزا أحد أبناء أنتورب، الذي أصبح مصوراً للأشخاص، مقر باوذا حظوة لدى أدواق تسكانيا العظام، وأن بعضاً من أجمل اللوحات في قصر بتي هي ريشة هذا الفلمنكي المفعم بالحيوية، وعاد فرانس فلوريس من دراسته مع ميكلأ نجلو في روما، وأطلق على نفسه بصراحة أنه "روماني" واستساغ التشريح وأخضع اللون للخط، وظل مرسمه في أنتورب لمدة جيل (1547 - 1570) كعبة للتصوير الفلمنكي وذروته، وقد يكون

ص: 45

جديراً أن نزور كلين لنري في متحفها لوحته الرائعة الضخمة "زوجة صياد الباز" وعاش فرانس في بحبوحة من العيش. وشاد لنفسه قصراً، وأسرف في العطاء وفي الشراب، وبات فقيراً، وكان كورنلس دي فوز أقدر أفراد أسرة كبيرة من المصورين، وعندما كان يتزاحم ذوي المكانة أمام روبنز ليصورهم كان يرسل بعضهم إلى فوز، مؤكداً لهم أنهم سيظفرون منه بمثل ما يرجون من روبنز نفسه، ولا يزال في مقدورنا أن نشاهد لوحة تمثيل كورنلس وزوجته وابنتين لهما؛ معلقة في متحف بروكسل.

وذبلت الفتنة الإيطالية حوالي نهاية القرن السادس عشر، واستأنف الفنانون الفلمنكيون موضوعاتهم وأساليبهم المحلية. وعاد دافيد تنيبر الأكبر إلى أنتورب. برغم أنه درس في روما ليرسم "المطبخ الهولندي" و"مهرجان القرية (3) "، ثم عاد ابنه حتى تفوق عليه، وشكل سليل العجوز درول بيزانت بيتر بروجل أسرة من المصورين توفرت على تصوير المناظر الطبيعية المحلية والمشاهد الريفية، ومنها ولداه بيتر بروجل "الجحيم" وجان بروجل "المخمل"، وحفيداه جان الثاني وأمبروز، وحفيده أبراهام، وحفيده الأكبر جان بابتس بروجل، وقد امتد بالأسرة العمر قرابة قرنين من الزمان (1525 - 1719)، ولنوضح سجل أعمالهم هنا نقول بأنهم ورثوا عن سلفهم العظيم النزعة إلى المشاهد الريفية والمهرجانات القروية، ورسم بعضهم خلفيات مناظر طبيعية لروبنز المثقل بالممل.

وأخرج فنانو الأراضي الوطيئة الفن من الكنيسة والدير إلى البيوت والحقول والغابات ورسم دانيل سيجرن الأزهار والفاكهة في تفصيل محبب إلى النفس، وخص العذراء بأكاليله المصورة، وأنضم إلى الجزويت، وبعث فرانس ستيدرز الحياة والتعبير في جوانب العديد من المتاحف بمناظر الصيد المثيرة، والمفزعة أحياناً، وبالكثير من أطباق لحم الطرائد والفاكهة،

ص: 46

ولا يزال، كما وصفه روبنز، أعظم مصوري الحيوان. لم ينافسه أحد في روعة تظليل فراء الحيوان أو ريش الطير.

وعاد أدريان بروور Brouwr إلى فلاحي بروجل، فأبدعت فرشاته تصويرهم وهم يأكلون، ويشربون، ويغنون، ويرقصون، ويلعبون الورق، والنرد، ويقاتلون أو يعربدون في احتفال صاخب، أو يغطون في النوم. ومر أدريان نفسه بأطوار كثيرة في حياته التي لم تتعد اثنين وثلاثين عاماً، فإنه درس مع هالس لفترة وجيزة؛ وفي سن الواحدة والعشرين أصبح أستاذاً مسجلاً في نقابة الرسامين في أنتورب، وكان ينفق أكثر مما يحتمل دخله، وسرعان ما غرق في الديون، وأودعه الأسبان السجن لأسباب غير معروفة الآن، ولكنه كان يحيا فيه مترفه، ثم استرد حريته وسدد ديونه بفضل صور صغيرة، زاخرة بالحياة ممتازة فنياً من ناحية الرسم الحسي وحركة الضوء الرقيقة، إلى حد أن روننز ابتاع منها سبعة عشرة رسماً، ورميرانت ثمانية، ولا يبدو فلاحوه سعداء قط إلا إذا ثملوا بالنبع القوي أو الخمور الرخيصة، على أن بروور آثر فلاحاً يغني مع كأسه على أمير منافق يرفل في الحرير، وفي سن الثانية والثلاثين عثر عليه وقد فارق الحياة خارج باب إحدى الحانات.

وكان جاكوب جوردانز أكثر وقاراً واتزاناً، نقش في إحدى لوحاته "تحذيراً للظمأ":"إن أشبه شيء بالجنون هو الخمور". واختار أن يرسم رجالاً يستطيعون احتساء الخمر دون هذيان أو خبل، ونساء يرفلن في حفيف الحرير في إجلال وعظمة. ولد جاكوب في 1593 وعمر حتى الخامسة والثمانين مع كمال الوعي والإدراك. ورسم لنا شخصه في لوحة "الفنان وأسرته"(4)، رجل منتصب القامة. واثقاً بنفسه، رشيقاً، ثرياً، يمسك بمزهر، وزوجته مطمئنة في الطوق المكشكش الخانق حول رقبتها، وابنة لطيفة بدأت لتوها ريعان شبابها كما تبدأ تتفتح أزهار الغلاندرز، وبنتاً صغيرة سعيدة بالبيت الهادئ والمذهب المريح أنظر إلى الصليب المتدلي على صدرها. وتحول جوردانز إلى البروتستانتية، ولكن في سن الثانية والستين. ورسم عدة لوحات دينية،

ص: 47

ولكنه آثر مشاهدة الحياة اليومية والأساطير "وفيها يستطيع أن يبرز الرؤوس الضخمة والصور المتألقة التي كان قد رآها في أروقة البيوت في أنتورب مثل لوحة "الملك يحتسي الخمر (5)"، أو أفضل منها لوحة "قصة الخصب (6) "، وهنا، وسط الفاكهة (التي رسمها سنيدرز صديق جاكوب) والفراشات تروعنا فتاة فتاة عارية فاتنة، تشاهد من مسقط خلفي فقط، ولكنها في كل نضارة الشباب ورشاقته، ترى أين عثر جوردانز على نموذج لهيفاء مثل هذه في الفلاندرز على عهد روينز؟

‌3 - روبنز

1577 -

1640

ولد أعظم المصورين الفلمنكيين في 1577، من سلسلة طويلة من رجال أعمال موفقين، وتابع هو السلسلة. ودرس أبوه، جان روبنز، القانون في بادوا، وتزوج من ماريا بيبلنكس. وانتخب عضواً في المجلس التشريعي في أنتورب وهو في سن الحادية والثلاثين وأتهم البروتستانتية فاستبعد بالذات من العفو العام الذي صدر 1574، وهرب مع زوجته وأطفاله الأربعة إلى كولين، وهناك اختارته مستشاراً قانونياً، آن السكسونية (زوجة وليم أورانج التي افترقت عنه)، وارتكب معها الفحشاء، فأودعه الأمير السجن في ولنبرج ولكن ماريا غفرت لزوجها زلته وبعثت إليه برسائل رقيقة مؤثرة

(1)

،

(1)

مثال ذلك: زوجي العزيز الحبيب، إن خطاباً منك

أثلج صدري، لأني علمت منه أنك راض عن صفحي عنك، ولم يدر بخلدي قط أنك اعتقدت أن هناك أية عقبة تحول دون ذلك من جانبي، والحق أني لم أعتد شيء من هذا. وكيف يطاوعني قلبي أن أغضب عليك في هذه المحنة، في الوقت الذي أضحى فيه بحياتي لأنقذك؟

وكيف تنجح أية كراهية مريرة، بمثل هذه السرعة في القضاء على حبنا العميق، حتى تجعل من المستحيل أن أغفر لك هذه الخطيئة اليسيرة التي ارتكبتها ضدي، على حين أنه يجدر بي أن أدعوا الله أن يغفر لي الخطايا الجسام الكثيرة التي اقترفتها ضده في كل حين (7).

ص: 48

وقدمت الالتماسات وكافحت من أجل الإفراج عنه، حتى تم لها ذلك بعد عامين من المحاولة، شريطة أن يبقى جان تحت المراقبة في سجن في وستاليا ولحقت به هناك في 1573، ومن المحتمل أن بيتربول رأى النور هناك، وعمد الطفل وفق الطقوس اللوثرية، ولكن، وهو لا يزال في المهد، تحولت الأسرة إلى الكاثوليكية. وفي 1578 انتقل جان مع أسرته إلى كولون حيث اشتغل بالقانون وأثرى وازدهر، وعند موته (1578) قصدت ماريا مع أطفالها إلى أنتورب للإقامة فيها.

وتلقى روبنز تعليمه الرسمي حتى سن الخامسة عشر فحسب، ولكنه زاد عليه بالدأب على القراءة وبالخبرة والتجربة. وظل لمدة عامين وصيفاً في خدمة كونتس لالنج في أودينار، والمفروض أنه تعلم هناك الفرنسية والسلوك الرفيع الذي تميز به عن معظم فناني عصره. ولما لحظت أمه ميله إلى الرسم، ألحقته للتدريب على يد طوبيا فرهاخت، ثم آدم فإن نورت، وأخيراً أوتوفاينوس، وكان رجلاً واسع الثقافة لطيف الحديث، وبعد قضاء ثمان سنوات في كنف هذا المعلم الممتاز، قصد روينز، وهو الآن في سن الثالثة والعشرين، إلى إيطاليا ليدرس الروائع التي هزت شهرتها النفوس المتعلقة بالتصوير. وفي فينيسيا عرض أعماله الخاصة على رجل في حاشية فنسنزو جونزاجا دوق مانتوا. وسرعان ما التحق روبنز بقصر الدوق في مانتوا، رساماً للبلاط وهناك أبدع لوحتين قاربتا الكمال الفني:"جوستوس لبسيوس وتلاميذه"(8) وكان بين التلاميذ فيها بطرس وأخوه فيليب، ثم لوحة تمثله هو نفسه (9)، أي روبنز، وهو نصف أصلع في الخامسة والعشرين. ولكنه ملتح جريء يقظ. وقام برحلات قصيرة إلى روب لينسخ للدوق بعض الصور، وإلى فلورنسه حيث شهد (ورسم فيما بعد بشكل مثالي) زواج ماريا مديتشي من هنري الرابع الغائب. وفي 1603 أوفده الدوق في مهمة دبلوماسية إلى أسبانيا يحمل هدايا إلى دوق ليرما، وتقبل الوزير الرسوم التي كان روبنز قد قام بنسخها على أنها لوحات أصلية، وعاد الفنان إلى مانتو دبلوماسياً ناجحاً.

ص: 49

وفي رحلة ثانية إلى روما استقر به المقام فيها مع أخيه الذي كان أمين مكتبة كاردينال. وأبدع بيتر آنذاك عدة لوحات للقديسين، منها لوحة "القديس جريجوري يصلي للعذراء (10) ". وقد اعتبرها أولى روائعه. وفي 1608 سمع بمرض أمه، فاستحث السير شمالاً إلى انتورب، وتأثر أشد التأثر حين وجد أنها قد فارقت الحياة. وكان حبها الموسوم بالحكمة والصبر قد ساعد على خلق مزاجه المرح الذي سعدت به حياته. وفي نفس الوقت كان قد تعلم الكثير في إيطاليا. فإن لون البنادقة المغري البديع، والشهوانية الحسية في لوحات جيوليو رومانو الجصية في مانتوا. والجمال الأخاذ الهادئ في رسوم النساء التي أبدعتها يد كوريجيو في بارما، والفن الوثني في روما الوثنية المسيحية معاً وارتضاء المسيحية للاستمتاع بالخمر والنساء والغناء-كل أولئك امتزج بدمه وفنه. حتى أنه عندما عينه الأرشيدوق ألبرت مصور البلاط، في أنتورب 1609، اختفت كل بقايا الفن القوطي في التصوير الفلمنكي، واكتمل انصهار الفن الفلمنكي والفن الإيطالي معاً.

وكان ضرباً من الحكمة على غير قصد من أنه كان متغيباً عن الأراضي الوطيئة طوال ثمانية أعوام الحرب، وأنه تلقى قرار تعيينه في أول أعوام الهدنة، ففي السنوات الأثنتي عشر التالية على وجه التحديد استعادت أنتورب وبروكسل حياتهما الثقافية. ولم يكن روبنز بالعنصر اليسير في هذا البعث. ويحصي مؤرخ سيرته 1204 من اللوحات الزيتية و380 من الرسوم له (11)، ولا يستبعد أن كثيراً غير هذه وتلك لم يسجله التاريخ. وليس لهذا الخصب مثيل في تاريخ الفن. ويكاد الأمريكيون كذلك بالنسبة لتنوع الموضوعات وسرعة التنفيذ. وكتب روبنز يقول:"إن موهبتي من طراز معين، ولم تروعني معه أية مهمة مهما عظم حجمها أو تشعبت موضوعاتها (12) "-لقد أنجز في خمسة وعشرين يوماً الثلاث التي تمثل "النزول عن الصلب" لكاتدرائية أنتورب، وفي ثلاثة عشر يوماً لوحة "عبادة الملوك" الضخمة الموجودة الآن في متحف اللوفر. وبالإضافة إلى راتبه السنوي في البلاط

ص: 50

وقدره 500 فلورين كان يتقاضى أجراً عن كل إنتاج فردي. أنه قبض مبلغاً ضخماً، 3800 فلورين (47. 500 دولار؟) عن التحفتين السابق ذكرهما، أي بمعدل اجر يومي قدره 100 فلورين (1250 دولاراً؟). وذهب جزء من هذا المبلغ بطبيعة الحال إلى المساعدين العديدين الذين كان كثير منهم مسجلاً في نقابة الفنيين بوصفهم أساتذة. ورسم جان بروجل "المخمل" الأزهار في لوحات روبنز ورسم جان ولدنز المناظر الطبيعية والحواشي الثانوية، ورسم بول دي فوز المعادن والفاكهة، أما فرانس سنيدرز فقد صور بطريقة نابضة بالحياة الرأس المستدق بشكل دقيق للكلب في لوحة "ديانا عائدة من الصيد (14) " ولسنا ندري نصيب سنيدرز ونصيب روبنز في مناظر الصيد الهائلة في قاعات درسن وميونيخ ومتحف المتربوليتان في نيويورك. وفي بعض الحالات رسم روبنز الأشخاص، وترك لمساعديه الدهان. وكان روبنز يقدم لزبائنه بياناً صادقاً عن درجة إسهامه بنفسه في اللوحات التي باعهم إياها (15). وبهذه الطريقة وحدها استطاع أن يواجه الطلبات التي انهالت عليه. وأصبح مرسمه مصنعاً يعكس أساليب العمل في اقتصاد الأراضي الوطيئة، وأدى الخصب في اٌلإنتاج والسرعة في الإنجاز إلى الحط من نوعيته، ولكنه قارب الكمال إلى حد يصبح معه إله الفن الفلمنكي.

وأحس روبنز بالطمأنينة فتزوج في 1609. وكانت إزابلا برانت ابنة محام وعضو المجلس التشريعي في أنتورب، ومن ثم كانت شريكة صالحة لابن محام وعضو في المجلس التشريعي في المدينة نفسها. وأقام روبنز في بيت أبيها حتى يتم إعداد داره الفخمة المطلة على قناة وابنز. وفي واحدة من أجمل لوحاته (16) نرى بيتر وايزبللا تغمرهما سعادة الأيام الأولى من الزواج، أما هي فتراها مكسوة بأردية فضفاضة مشدودة الخصر بصدار مزدان برسوم الأزهار، وقد وضعت يدها على يده في ثقة واستشار، وبرز وجهها المفعم بالحيوية من طوق رقية مكشكش أزرق هائل، وتوج رأسها بقبعة فارس، أما هو فتراه مكتمل الرجولة والنجاح، ذا ساقين قويتين ولحية بيضاء وملامح

ص: 51

وسيمة، يرتدي قبعة مزدانة بالأشرطة. ولم تعمر إيزابلا بعد الزواج أكثر سبعة عشر عاماً، ولكنها أنجبت له أبناء سهر على تربيتهم ورسمهم في حب وإعزاز، فهناك لوحة الولد المجعد الشعر في متحف قصر فريدريك، برلين، وهو ممتلئ الجسم جميل سعيد، يلعب بيمامة، ويمكن أن نراه مرة أخرى في لوحة "أبناء الفنان"(17)، وقد كسته السنوات السبع التي سلخها من عمره بالرصانة، ومل يتسنى إلا لرجل فاضل بارع أن يرسم مثل هذه اللوحات.

وكان روبنز في نفس الوقت وثنياً أساساً، ولو عاد دون تورغ أو خجل بجسم الإنسان ذكراً أو أنثى، في كل نشوة الفتوة عند الرياضي القوي، أو في هدوء المتقوس المنحني، وكان معروفاً عن الفلاندرز أو رمزاً عليها أنها استمتعت بأساطير الوثنية الدنسة-طقوس وعادات الجسم الطليق-على حين رحبت الكنائس بتأويله للموضوعات الدينية أو تفسيره لها. ولم يستطع أن يفرق بين مريم العذراء وفينوس: ولعله لم يحس بأي تعارض بينهما، فكلتاهما جلبت له المال. وفي لوحة "عبادة فينوس"(18) كان العنصر الوثني غير مقيد-مجموعة من كاهنات إله الخمر باخوس، يخفين في تواضع وخفر معصماً أو ركبة، يعانقهن آلهة معربدون شهوانيون، على حين يرقص اثني عشر غلاماً حول تمثال آلهة الحب. ولو أن هذه الموضوعات الوثنية تعكس أثر مقامه في إيطاليا، إلا أن صور فينوس يعزوها الخط الكلاسيكي، فهي لا تستطيع الحياة في الشمال، على الشمس والهواء والخمر كما كان حالها في الجنوب، بل أنها يجب أن تأكل وتشرب لتتقي المطر والضباب والبرد. والطبيعة البشرية التيوتونية، مثل الويسكي البريطاني-إنجليزي أو اسكتلندي-دفاع مناخي وكان عنوان إحدى لوحات روبنز-وفيها ثلاث نساء عاريات متورمات-"فينوس بلا خبز ولا نبيذ تشعر بالبرد والضعف (19)، وتلطف الفنان فلم يقل "بلا لحم ولا جعة" وكذلك لم ير مفاجأة للياقة في لوحته "راع يغازل" (20) وهي تمثل راعياً يحاول أن يغوي فتاة بدينة تزن ثلاثمائة رطل، فليس ثمة حسن أو رديء، جميل أو قبيح، ولكن البيئة هي التي تحدد هذا أو ذاك: وليس

ص: 52

في لوحة "اغتصاب السابين"(21) إلا كل ما يستطيع أن يفعله جباران قويان رومانيان ليرفعا على ظهر جواد امرأة تسحر اللب من أسرارهم. وحتى في لوحة "عواقب الحرب"(22) ليس ثمة ضعف. و"ديانا عائدة من الصيد (23) " لم تكن إلهة إغريقية أنيقة طاهرة، بل ربة بيت فلمنكية عريض الكتفين قوية العضلات ذات مكانة اجتماعية، وفي كل هذه الصورة الضخمة الممتلئة لا ترى تحيلاً إلا الكلب. وغابات روبنز ملأى بآلهة يعتصرون أثقالاً، كما في "أكسيون وهيرا (24) " و "أربعة أركان الدنيا (25) "، وكما يمكن أن نكون قد توقعنا لم يكن "أصل المجرة (26) "-فرضية مستديمة، بل ربة بيت بدينة تفيض سيلاً من اللبن من ثدي ممتلئ. أما "الربات الأخوات الثلاث (27) " فهن نحيلات رشيقات، نسبياً، على أية حال. وفي "محاكمة باريس (28) "(ابن ملك تروادة الذي خطف هيلانه-في الأساطير اليونانية) نرى سيدتين فقط-يشاكل زيهما الأزياء المتأخرة، أخرى تعد من أجمل صور النساء في الفن. وفي هذه الرسوم الوثنية عادة يوجد شيء أبعد كثيراً من الجسد، فإن روبنز أسبغ عليها من فيض خياله الخصيب الممتلئ بالحيوية والمرح، فهناك مائة من الملحقات الكمالية تملأ المنظر، مخططة في حرص ولكن دون دراسة، تبهر عين الناظر إليها باللون والدفء والحياة. وكما أنه ليس ثمة شيء يثير الشهوة في العرض المنتفخ، وأنه مجرد حيوية حيوانية، فليس هناك رسم واحد يثير الشهوة الجنسية. أن روبنز نفسه كان يتحلى بسلوك قويم إلى حد غير قياسي، بالنسبة لفنان شديد التأثر والحساسية بالضرورة للون والشكل، وعرف عنه أنه زوج فاضل و "رب أسرة موثوق"، لم تمسسه شائبة من التودد للنساء أو المخادعة (29).

واعترف رجال الكنيسة في الفلاندرز ببراءة الناحية الحسية في رسوم روبنز، فلم يحسو بالحرج أو بوخز الضمير في أن يطلبوا منه أن يصور ثانية قصص العذراء والمسيح والقديسين، وقد أجابهم إلى سؤالهم، ولكن بطريقته

ص: 53

غير المبتذلة، ومن خلفائه الذين لا يحصى عددهم استطاع أن يصور في خيال أوسع، أو يرسم في مهارة أدق، الفكرة القديمة "عبادة الملوك

(1)

" ومن كان يجرؤ على تركيز العمل في تشكيل البطن السمين للأثيوبي المعمم ذي اللون البرونزي، وهو ينظر في ازدراء واضح إلى الوجوه الشاحبة حوله، ومن كان يحلم أن الوثني الذي يحدق النظر بعينه وبفرشاته إلى كل ركن وكل زاوية في جسم المرأة، يمكن أن يحب الجزويت وينظم إلى طائفتهم المريمية، ويؤدي التمارين التي وضعها أجنات ليولا لتطهير النفس برؤى الجحيم (31).

وفي مارس 1620 تعاقد مع الجزويت على أن يضع قبل أن ينصر العام، تصميمات لتسعة وثلاثين رسماً تغطي سقوف كنيسة الباروك الفخمة التي كانوا قد بدأوا بتشييدها في أنتورب في 1614. وأنجز روبنز الرسوم التي حولها فان ديك آخرون معه إلى لوحات، دمرت كلها تقريباً في 1718، وقام روبنز نفسه بعمل صورتين عظيمتين للمذبح الرئيسي: إحداهما "أجنات يبرئ الذين مسهم الشيطان:، والثانية "معجزات سانت فرانسيس"، وكلتاهما الآن في متحف تاريخ الفن في فيينا.

ومع ذلك فإن روبنز كان كاثوليكياً على النحو الذي كانت تعنيه الكاثوليكية في عصر النهضة. ومسيحياً بحكم الموطن. وعاشت وثنية في ظل تقواه. ولم تكن مريمانة (صور السيدة العذراء في لوحاته) سوى نسوة داعرات غليظات يبدو واضحاّ أنهن أصلح لإيقاع الرجال في حبائلهن. منهن لإنجاب إله. وفي لوحة "العذراء في إكليل من الزهو (33) " تمثل السيد المسيح صبياً أجعد الرأس، ومريم في زي ربة بيت فلمنكية ترتدي قبعة جديدة في يوم الأحد في أحد المتنزهات. وحتى في لوحة "رفع الصليب"(الموجودة في كاتدرائية أنتورب) نجد أن اهتمام وبنز بالتشريح يتغلب على الفكرة الدينية فالمسيح رجل رياضي مكتمل القوة والنشاط، لا إلهاً يعاني سكرات الموت.

(1)

بلغ ثمن هذه اللوحة ألف دولار في مزاد علني أقيم في لندن 1959.

ص: 54

وفي "طعنة الرمح (34) " مرة أخرى نجد التشريح هو كل شيء: فالمسيح واللصان شخوص ضخمة، والنساء تحت الصليب يتخذن وضعاً خاصاً أمام فنان، أكثر منهن مغمى عليهن من الحزن، فإن روبنز لم يستشعر هول الموقف.

وفي خمس مرات على الأقل تحدى روبنز الرسام الفينيسي تيشيان في "صعود العذراء"، وفي أشهر هذه المحاولات (35)، تبدو العذراء ميتة لا حياة فيها، والأفراد الأحياء هم المجدلية والحواريون الجزعون عند المقبرة الخالية، وأجمل منها اللوحة الثلاثية (36) التي أهدتها الأرشيدوقية إيزابل إلى جمعية الدفونسو الدينية في بروكسل: ففي الصورة الوسطى نزلت العذراء من السماء لتقدم لرئيس أساقفة توليدو. رداءاً من الجنة مباشرة، والقديس في خشوع تام "يلهث من العبادة"، على حين أنه في الصورتين الجانبيتين نرى إيزابل وألبرت قد وضعا تاجيهما جانباً "وركعا للصلاة، وهنا في هذه اللوحة الثلاثية. أضفى روبنز لوهلة قصيرة، بعض الحياة على التقوى أو صورها أحسن تصوير. وفي لوحة سانت أمبروزو الإمبراطور تيودوسيوسي (37) "-أدرك روبنز ونقل إلى الصورة سطوة الكنيسة وسلطانها الخفيين: ففيها ترى رئيس أساقفة ميلان الذي لم يتسلح إلا بعدد من الكهنة وقندلفت (مساعد كاهن)، ولكنه متسم بالجلال والعظمة، يطرد من الكاتدرائية الإمبراطور الذي يحف به حرس رهيب، ولكنه مثقل بالقساوة التي لا تغتفر وقلما أخفق روبنز مع كبار السن من الرجال، ففيهم، وبخاصة في الوجه، تبرز قصة حياتهم، كما أن الوجه يعرض الشخصية والخلق واضحتين أمام الفن المدرك الواعي. أنظر إلى رأس الأب لوحة "لوط وأسرته يغادرون سودوم (38) ". وهي واحدة من أروع لوحات روبنز في أمريكا.

وعاد في حيوية بالغة إلى الموضوعات الدنيوية، مختلطة بالأساطير عندما عرضت عليه ماري دي مديتشي أكثر العقود إغراءً في حياته. ووقع

ص: 55

في 16 فبراير 1622 اتفاقية، يرسم بمقتضاها، في مدى أربعة أعوام، إحدى وعشرين صورة كبيرة وثلاث صور شخصية، تخلد ذكرى الأحداث في حياة ماري وزوجها هنري الرابع، ودعته الملكة للحضور ليعيش في البلاط الفرنسي ولكن هداه تفكيره السليم إلى البقاء في وطنه. وفي مايو 1623 صحب معه إلى باريس اللوحات التسع الأولى، وأحبت ماري هذه اللوحات. كما أعجب بها ريشليو. وأكملت المجموعة في 1624، وقصد روبنز بالبقية إلى باريس حيث رآها موضوعة في قصر لسمبرج. وفي 2802 نقلت اللوحات إلى اللوفر، حيث انفردت تسع عشرة لوحة منها بقاعة خاصة بها. ولن ينكر كل من رآها أو درسها على برونز العشرين ألف كراون (250. 000 دولار) التي تقاضاها في مقابل عمله، أو يحسده عليها، ولا ريب أن مساعديه قاسموه فيها. وهذه اللوحات في جملتها هي أسمى منجزاته. وإذا تجاوزنا عن بعض هنات السرعة، وارتضينا القصة التي لاتصدق-كما نفعل في أوفد، وشكسبير وفردي-فإننا سنجد هنا روبنز بكل سماته، اللهم إلا تقواه العارضة. ولقد أحب فخامة طقوس البلاط، وجلال السلطة الملكية، ولم يسأم قط النساء الممتلئات الأجسام، والثياب الفاخرة، والستائر وأغطية الأثاث البهية، وكان قد عاش نصف أيامه مع الأرباب والربات في الأساطير القديمة، ونراه الآن يضم هؤلاء جميعاً في قصص فياض، مع قدرة فائقة على ابتداع الأحداث العارضة، وغزارة في اللون وبراعة فائقة في التأليف والتصميم، ومما جعل هذه ملحمة وأوبرا في تاريخ الرسم.

ولم يكن يعوز روبنز إلا مرتبتين اثنتين من مراتب الشرف ليبلغ ذروة التمجيد-التعيين في الوظائف الدبلوماسية، والحصول على براءة النبالة. وفي 1623 أوفدته الأرشيدوقية إيزابل ليفاوض، على أمل تجديد الهدنة مع هولندة، وكان لدى روبنز ما يحمله على توطيد السلام، فإن زوجته كانت طموحة في أن ترث عن عمها الهولندي مالاً (39). وأخفت هذه الجهود، ومع ذلك أقنعت إيزابل الملك فيليب الرابع بأن يخلع على روبنز النبالة (1624)

ص: 56

وعينه "رئيس الديوان الخاص لصاحبة العظمة" أي إيزابل نفسها. ولكن الملك اعترض بعد فترة من الوقت على استخدامها لمثل هذا الشخص الوضيع المحتد غير الكريم، في استقبال البعثات الأجنبية، وبحث مسائل على قدر كبير من الأهمية (40)، ومع ذلك أوفد إيزابيل روبنز بعد ذلك بعام (1628) إلى مدريد ليساعد على عقد الصلح بين فيليب الرابع وشارل الأول. وأخذ الفنان معه رسومه، وعدل الملك من رأيه في موضوع الحسب والنسب وجلس إلى روبنز ليرسم له خمس صور شخصية، وكأن الفنان الأسباني فيلا كويز لم يقم بما يكفي الملك في هذا الصدد. وتوثقت أواصر الصداقة بين الفنانين، وأسلم الفنان الأسباني، وهو آنذاك في التاسعة والعشرين، القيادة للفلمنكي العبقري الأنيس، وهو إذ ذاك في سن الواحدة والخمسين. وأخيراً عين فيليب روبنز "الوضيع النسب" مبعوثاً له في إنجلترا، وفي لندن نجح روبنز في عقد معاهدة صلح، على الرغم مما دفع ريشليو من رشوة وبث من جواسيس لعرقلة الصلح. وفي لندن رسم روبنز بعض صور شخصية إنجليزية دوق ودوقة بكنجهام (41)، والوجه المهيب لتوماس هوارد أرل أروندل ولحيته ودرعه (42) -وبعد أن مهد الطريق أمام فانديك عاد إلى أنتورب (مارس 1630) وقد منحته جامعة كمبردج درجة علمية، ومنحه شارل لقب فارس.

وفي الوقت نفسه كانت زوجة روبنز الأولى قد توفيت (1626) وطبقاً للتقاليد الفلمنكية أقيمت للاحتفال بجنازتها مأدبة باذخة كلفت الدبلوماسي الفنان 204 فلورينات (2500 دولار) أنفقها على "الطعام الشراب وأدوات المائدة (43) "، فالموت في المجتمع الفلمنكي كان ترفاً يورث الحرمان والفقر. وأغرق روبنز شعوره بالوحشية والوحدة في الدبلوماسية. وفي 1630، وكان قد بلغ الثالثة والخمسين، تزوج من هيلينا فورمنت ذات الستة عشر ربيعاً. أنه كان في مسيس الحاجة إلى جو من الجمال يحيط به، وكان له بالفعل من دفئها ودعتها ما فاض على فنه وأحلامه. ورسمها المرة بعد المرة، في أي زي، دون ثياب: في ثوب الزفاف (44)، وهي ممسكة بقفاز (45)، تعلوها ابتسامة السعادة

ص: 57

في قبعة أنيقة (46)، وهي تخفي وركيها فقط تحت معطف من الفراء (47). أما أروع الصور فهي تلك التي تمثلها تتنزه مع روبنز في حديقتها (38) -وهذه الأخيرة هي إحدى القمم في التصوير الفلمنكي، ثم صورها وليدهما الأول (49)، وبعد ذلك مع طفليهما (50) -مبشراً بالفنان دنوار (مصور فرنسي 1149 - 1919). وحدث ولا حرج عن اللوحات التي تمثلها في وضع مثير للشهوة مثل فينوس، أو متسم بالحشمة مثل "أم الإله-العذراء".

ورسم بيرنز عاهليه المحبوبين البرت وإيزابل، بغير ما نفاق ولا رياء. وإنا لنراها في متحف فيينا وبتي، في أغلب الظن كما كانا-يحكمان بلداً قلقاً مضطرباً، بكل النيات الطيبة التي تلتئم مع المثل العليا الأسبانية، لقد عثر الفنان في الفلاندرز على أنماط ممتازة للرجال والنساء، فرسمها في تصويره لجان تشارلزدي كورد وزوجته الجميلة المتجهمة (51)، وفي صورة ميكائيل أو فينوس (52) أسقف هرتو جنيبوخ، وترك لنا صورة ضخمة لاسبينولا الجبار (53). ولكن رسم الصورة الشخصية لم يكن موطن التفوق والامتياز في روبنز، فهو لم يقدم لنا نظرات نافذة دقيقة أو إيحاءات صادرة من الأعماق، كما فعل رمبرانت. وأعظم صوره الشخصية هي تلك التي رسمها لنفسه في 1624 من اجل من صار فيما بعد شارل الأول (54): قبعة ضخمة ذات أشرطة ذهبية لا تكشف إلا عن جبهة عريضة لرأس أصلع، مع عينين محدقتين في نظرة فضولية. والأنف الطويل الحاد يبدو أنه يتفق مع العبقرية، والشارب المتصلب الخشن واللحية الحمراء الجميلة، وهذا يمثل رجلاً يدرك أنه في ذروة البراعة في حرفته ومع ذلك فإن شيئاً من حيويته الطبيعية ومتعته الحسية وقناعته الهادئة، مما أشرق وتألق في صورته مع إيزابللا برانت (زوجته الأولى) قد ذهب على مر السنين. إن الإخفاق وحده الذي يرهق الإنسان ويفنيه بأسرع مما يفعل النجاح.

كان روبنز ثرياً، وعاش عيشة باذخة، وكان بيته الفخم في أنتورب أحد

ص: 58

مشاهد المدينة. وفي 1635 اشترى بمبلغ 93 ألف فلورين ضيعة واسعة وقصراً إقطاعياً في مقاطعة ستين، تمتد 18 ميلاً، واتخذ لقب لورد ستين، وقضى الصيف هناك، ورسم المناظر الطبيعية وجرب يداه المتعددة المهارات في رسم أحداث الحياة اليومية. ووسط ضروب الترف والرفاهية، مع خادمات ثلاث وسائسين وثلاثة جياد، استمر يبذل أقصى الجهد في العمل، وهو يجد سعادته في أسرته وفي عمله، وأحبه زوجاته وأولاده ونصراؤه ومساعدوه لصفاء روحه وسخائه ومشاركته الوجدانية العطوفة (55).

ويجدر بمن هم أقدر منا أن يحللوا المزايا الفنية في فنه، ولكنا نستطيع مطمئنين أن نصفه بأنه نموذج رئيسي لتصوير الباروك: أي اللون الحسي، والحركة التي لا تحصى، والخيال الخصيب، والزخرفة المنمقة المترفة، على عكس ما عرف في التصوير القديم من الهدوء وتقييد الفكر والحظ. ولكن في فوضى الجمال هذه، يقول النقاد بأن هناك براعة فائقة في التخطيط والتصميم وغذت صور روبنز مدرسة من الحفارين والنقاشين الذين صنعوا الطراز الأول من اللوحات المعروفة في أوربا المسيحية، كما فعل ريموندي مع رسوم رافائيل، ومن يد روبنز أو من مرسمه خرجت الرسوم المشهورة إلى نساجي الأقمشة المزركشة في باريس وبروكسل، وصنعوا هدايا ملكية أو زخارف للويس الثالث عشر وشارل الأول والأرشيدوقية إيزابل.

وشهد العقد الأخير من سني حياته نصراً مبيناً عكره انحطاط قواه الجسمية ولم يضارعه في شهرته الغنية سوى برنيني، ولم يحلم أحد بأن ينازعه تفوقه في الرسم وهرع إليه التلاميذ من كل الأنحاء، ووفدت إليه بعثات لبلاط من ست مماليك، حتى من الحاكم فردريك هنري عبر خطوط القتال. وفي 1636 طلب إليه فيليب الرابع أن يرسم بعض مشاهد "متامور فوزس" للشاعر الروماني أوفيد لقصر الصيد في باردو. وأنجز مرسم روبنز خمسين صورة لهذه المجموعة، منها واحد وثلاثون مشهداً في متحف برادو، وبدا للكاردينال

ص: 59

انفانت فرديناند أن مشهد منها هو "محاكمة باريس" أروع ما أبدعته يدا روبنز على الإطلاق (56). وقد نوثر عليه "المهرجان (57) " الصاخب الذي كان قد صوره في 1636 - وهو مطاردة مسعورة، ليس فيها امرأة عجوز أو بدينة إلا اختطفها رجل ما.

أما صورته الشخصية في سن الستين (58) فهي الوجه الآخر لخواتيم حياته رجل لا يزال مزهواً. يقبض بيده على سيف النبالة، ولكن التحول يعرو وجهه النحيل، ويتدلى جلده، وتحيط التجاعيد بعينه-وهو رسم أنيق أمين وفي 1635 ألزمه داء النقرس الفراش شهراً. وفي 1637 شل يده لفترة من الزمن، وفي 1639 عاقه هذا الداء عن التوقيع باسمه. وفي 1640 شلت كلتا يديه. وفي 30 مايو 1640، وقد بلغ الثالثة والستين، قضى نحبه متأثراً بالتهاب المفاصل وتصلب الشرايين.

لقد كانت حياة روبنز تدعو إلى الدهشة. أنه لم يكن النموذج الشامل للمثل الأعلى للنهضة الأوربية، ولكنه حقق طموحه في أن يلعب دور في الدولة وفي الرسم على حد سواء. ولم يكن فناناً شاملاً مثل ليونارد ميكل أنجيلو، فلم يخلف لنا نحتاً، ولم يصمم أي مبنى سوى داره. ولكنه في الرسم بلغ ذروة الامتياز في كل مجال. فإن الصور الدينية، والصخب الوثني والآلهة والإلهات، والعاريات والمكتسيات، والملوك والملكات، والأطفال والعجائز، والمناظر الطبيعية والمعارك-كانت كلها تنساب من فرشاته، وكأنها معين متعدد الموارد لا ينضب من اللون والشكل. ولقد وضع روبنز حداً لخضوع الرسم الفلمنكي للرسم الإيطالي، ولكن بدون الثورة أو التمرد، بل عن طريق الاستيعاب والاتحاد.

ولم يكن روبنز في مثل عمق رمبرانت، ولكن أوسع أفقاً لقد نفر من الأعماق الخفية التي كشف عنها رمبرانت، وآثر عليها الشمس والهواء الطلق، وتراقص الضوء، واللون، ومتعة الحياة وسحرها، وكافأ حظه السعيد

ص: 60

بالابتسام للدنيا، إن فنه تعبير عن الصحة، مثلما أن فننا اليوم يوحي باعتلال الفرد أو اعتلال الروح العامة. ويمكن، إذا وهنت نفوسنا أو افترت حيويتنا أن نفتح كتاب روبنز في أي مكان لننتعش ونجدد قوانا.

‌4 - فانديك

1599 -

1641

لقد كان من عادة روبنز أن يرحب ويشجع الموهبة المبكرة النضج لدى الشباب اليافع الوسيم، الذي التحق بمرسمه حوالي 1617. وكان أنطوني فانديك قد بدأ تدريبه وهو في سن الثامنة عند هندريك فإن بالمن، معلم سنيدرز. وفي سن السادسة عشر كان له تلاميذه هو نفسه، وفي سن التاسعة عشر سجل أستاذاً في نقابة الفنانين، ولم يكن تلميذاً لروبنز بقدر ما كان مساعداً ذا قيمة كبيرة له. وقدر روبنز أحد أعمال فانديك الأولى بأنه يساوي في قيمته لوحة "دانيال" التي أنجزها روبنز في نفس العام. واحتفظ في مجموعته الخاصة بلوحة فانديك "المسيح يتوج بالأشواك"، ثم تنازل عنها في وقت متأخر، وهو كاره، لفيليب الرابع. ليضعها في الأسكوريال (59). وتأثر فانديك في شغف بالغ بروبنز، ولكنه كانت تعوزه حيوية الفنان العجوز في الحركة واللون، ومن ثم قصر عن اللحاق به في كل شيء، فيما عدا رسم الأشخاص. وفي صورته الشخصية الأولى (1615)(60) كشف عن الخصائص التي كان يجب أن تميز وتحدد عبقريته-رقة ورشاقة وجمال ناعم، مما لا يكاد يليق بالرجل. وكان زملاؤه الفنانون سعداء بالجلوس إليه لتكون الصورة التي يرسمها لهم، سياجاً إضافياً يحميهم من نسيان الناس لهم. وقد رسم صوراً شخصية محببة لسنيدرز (61) ودوكونسوي (64) تورجان دي وال (64) -وجسباردي كريبر (65) ومارتن ببين (66)، وكان من صفات فانديك المحمودة الكثيرة أنه أحب منافسيه. وتوحي تلك الصور الشخصية في مرسم روبنز بروح طيبة من الزمالة لا توجد دائماً في مملكة الفن.

ص: 61

وفي 1620 تلقى أرل أروندل من أنتورب رسالة جاء فيها: "أن فانديك يقيم مع برونز، وتقدر أعماله بأنها تكاد تضارع أعمال أستاذه (67) " فدعا الفنان الشاب إلى إنجلترا، فذهب فانديك وهناك تقاضى من جيمس الأول معاشاً زهيداً قدره مائة جنيه، ورسم قليلاً من الصور الشخصية، وتمرد على ما طلبه منه الملك من نسخ حقير لصور أصلية، وطلب منحة إجازة لمدة ثلاثة أشهر يتغيب فيها عن البلاد، فأجيب إلى طلبه، ولكنه مد الغياب إلى اثني عشر عاماً. وفي أنتورب دبر لزوجته وطفلها سبل العيش، ثم أسرع إلى إيطاليا (1621).

وهناك لول مرة أسرع الخطى وشمر عن ساعد الجد، وترك صوراً شخصية رائعة في كل مكان نزل به تقريباً، وعكف على تأمل أعمال البنادقة العظام، لا ليدرس اللون والضخامة لديهم، كما فعل روبنز من قبل، ولكن ليكتشف الأسرار الشاعرية في الرسوم الشخصية عند جيور جيوني وتيشيان وفيرونيز. وقصد كذلك إلى بولونيا وفلورنسة وروما، بل حتى إلى صقلية. وفي روما أقام مع الكاردينال جيد وبنتيفوجليو، وكافأه بصورة شخصية (68) وكره الفنانون الفلمنكيون الذين كانوا يتضورون جوعاً في إيطاليا، من فانديك كياسته، وإن شئت تملقه وتودده، فنعتوه بأنه "مصور الفرسان"، وأتوا بأعمال قبيحة، إلى حد أنه رحل مسروراً بصحبة ليدي أروندل إلى تورين. وكان الترحيب به كبيراً بصفة خاصة في جنوة التي تذكرت روبنز، وكانت قد سمعت بميل فانديك إلى تمجيد النبلاء، حتى ليجعل من كل جالس أمامه أميراً. وفي متحف متروبوليتان للفن في نيويورك نموذج لهؤلاء الأرستقراطيين الجنوبيين:"المركيزة دورازو": وجه حساس ويدان رشيقتان ناعمتان (كما هو الحال دائماً في رسوم فانديك)، كما يحتفظ المتحف الوطني واشنطن بلو حتى "المركيزة بالبي" و"المركيزة جريما لدي"- وهي مزهوة حبلى. وفي برلين ولندن نماذج أخرى. واستطاعت جنوة أن

ص: 62

تحتفظ في قصر روسو فيها بلوحة "المركيز والمركيزة" برينولي سالي وعاد فانديك إلى أنتورب (1628)، وقد امتلأت جيوبه وانتفخت أوداجه وتأنق في مظهره.

وصرفه مسقط رأسه عن النبلاء إلى القديسين، وحتى يهيئ نفسه لهؤلاء ندم على ما أقترف من فحشاء، وأوصى بثروته الصغيرة لأختين من الراهبات، وأنظم إلى "الرابطة الجزويتية لغير المتزوجين"، وتحول إلى الموضوعات الدينية. ولم يستطع أن ينافس روبنز في هذا المضمار، ولكنه تجنب مبالغات الأستاذ العزيز الإنتاج وتألقه الشهواني، وأضفى على رسومه هو لمسات من الأناقة التي تعلمها في إيطاليا. وذهب رينولدز إلى أن لوحة فانديك "صلب المسيح" في كاتدرائية مكلين واحدة من أعظم الصور في العالم، وعلى أية حال ربما كانت هذه هي طريقة سير جوشوا في الوفاء بالدين.

وجرب فاندريك يده في صور الأساطير. وعلى الرغم من أنه لاحق نساء كثيرات فإنه لم يقبل على رسم الصور العارية ولم يبرع فيه. وكان موطن قدرته وامتيازه في الصور الشخصية. وفي هذه السنوات الأربع في أنتورب أنقذ من زوايا النسيان، بما رسم من لوحات "البارون فيليب لوري والكلب الأمين (69) "، و"الجنرال فرانسيسكو دي مونكادا وجواده (70) " و"الكونت رودوكاناكس (71) " الذي بدا كأنه سوينبرن، و"جان منتفورت" الذي بدا مثل فولستاف (إحدى شخصيات شكسبير)، وأروع رسوم فانديك في فيينا هي صورة "روبرت الشاب الأمير البلانين الفاتن" الذي سرعان ما خاض غمار الحرب دفاعاً عن شارل الأول في إنجلترا. ومن الرسوم الفاتنة كذلك صورة "ماريا لوبزا أوف تاسيس (73) " غارقة في ثيابها الفضفاضة المصنوعة من الأطلس الأسود والحرير الأبيض. ولا يقل روعة عن هذه الرسوم كلها لوحة فانديك لبيتر "الجحيم" بروجل (الأصغر)، وهو رجل عجوز لا يزال يضطرم قلبه بحيوية لم ينضب معينها في أسرة تثير الدهشة.

ص: 63

وأخذ فانديك بعض هذه الصور إلى إنجلترا حين دعاه شارل الأول إليها ليجرب حظه فيها ثانية. وكان شارل-على عكس أبيه-ذواق للفن. وظن أن هذا الفلمنكي الوسيم هو الرجل الذي يستطيع أن يصنع له ما كان يصنع فلاسكويز الأسباني للملك فيليب الرابع. وذهب فانديك وسجل للأجيال القادمة صور الملك والملكة هنزيتا ماريا وأطفالهما، وهي صور برزت فيها روعة فن فانديك بشكل لا يمحى أثره. وأشهر هذه اللوحات الملكية الخمس، هي اللوحة الموجودة في متحف اللوفر-وهي تمثل الملك المزهو العاجز مرتدياً زي الفروسية، واضعاً يده على خصره، شاهراً سيفه، وعلى رأسه قبعة أنيقة، بالإضافة إلى لحية فانديك، ولكن الجواد المنهوك الذي يقضم شكيمته أثناء فترات الصيد، قد يشغف به الناظر إلى الصورة قبل أن يشغف براكبه. وتوجد في درسن وتورين لوحات تباري هذه، وهي تمثل أبناء شارل، وهم بعد أبرياء ولا يخشى منهم أذى. وكان شارل أكثر إنسانية في مخبره منه في مظهره. وبرزت حرارة العاطفة عنده في تعلقه بفانديك وإعزازه له، فقد ضمه إلى طبقة الفرسان، ووهبه دوراً فخمة في لندن وفي الريف ومنحه معاشاً سنوياً قدره مائتا جنيه، ومبلغاً إضافياً عن كل رسم، وعن كل زيارة للبلاط.

وعاش الفنان السعيد حياة تتفق مع دخله، فأولع بالثياب الأنيقة، وكانت له عربته التي تجرها أربعة من الخيل، وجياده الأصيلة وخليلاته، وملأ بيوته بالموسيقى والفن. وبز توجيهات روبنز في تفويض غيره في العمل-فترك رسم الملابس لمساعديه، وأنجز صورة شخصية في ساعة واحدة من رسم تخطيطي تم في جلسة واحدة وكان يسارع إلى اغتنام الفرص قبل فوات الأوان ويروى أن شارل الأول، حين كان يعاني من تقتير البرلمان عليه، سأل الفنان المبذر مرة: هل تعرف ماذا يقصد بقولهم أن الإنسان يعوزه المال "فأجاب فانديك" نعم يا مولاي، إذا مد المرء مائدة مفتوحة لأصدقائه، وأغدق من كيس مفتوح عل خليلاته، فسرعان ما يصل المرء إلى قاع الكيس ليجده فارغاً (74).

ص: 64

وإذا كان فانديك قد غرق في الديون أحياناً، فإن ذلك لم يكن لافتقاره إلى النصراء والمحبين ورعاة فنه. فقد انتظر الأرستقراطيون الإنجليز دورهم في الحصول على موافقته: مثل جيمس ستيوارت، ودوق لينوكس (75)، الوسيم مثل كلبه، وروبرت زتشي أرل ودورك (76)، ولورد دربتي وأسرته (77) وتوماس ونتورت أرل سترافورد (78) الذي تحدى القدر. كذلك جاء دور الشعراء من كارو، وكلجرو، وسكلنج. وأخيراً جاء دور أولدبار (79) الذي زعم أنه بلغ من العمر مائة وخمسين عاماً، وكان يبدو عليه ذلك. لقد رسم فانديك 300 صورة شخصية في إنجلترا، تميزت كلها تقريباً بالكياسة والوقار اللذين رآهما في أحد اللوردات، حتى ولو لم يوجد شيء منهما.

وتبارت خليلته مرجريت ليمون مع الأرستقراطية في توفير الخدمات له مما كلفه غالياً. واقترح الملك أن الزواج أيسر تكلفة، وعاونه (1639) في طلب يد ليدي ماري روثفن وهي سلسلة أسرة مشهورة في تاريخ إسكتلندة ورسم الفنان لعروسه صورة جميلة (80) ولكنها لا تقارن بالوجه الجميل الذي رسمه لنفسه في "الصورة الشخصية للفنان"(81) التي يعرفها العالم كله-شعر غزير متموج، وعينان حادتان، وتقاطيع دقيقة، ولحية مقصوصة، وسلسلة ذهبية تنبئ بأنه فارس. هل كان فانديك يتملق سير أنطوني (نفسه) إذا كان الأمر كذلك، فليس ثمة جدوى، لأن صحته التي أسرف في استنزافها، بدأت الآن تتدهور، وكره فانديك أن يذكر بمجرد رسم الصور الشخصية فحسب، فطلب إلى شارل أن يسمح له برسم مناظر تاريخية على جدران قاعة الولائم في قصر هويتهول، ولكن الملك كان يعاني العوز. فعبر فانديك البحر إلى باريس (1640) أملاً في تكليفه بتصوير القاعة الكبرى في اللوفر، وكان لويس الثالث عشر قد اختار بالفعل بوسان لهذه المهمة، ولكنه تخلى عنها بعد فوات الأوان، فقد مرض فانديك فأسرع إلى لندن حيث كانت تقيم زوجته وفاضت روحه (1641)، بعد أحد عشر يوماً من مولد ابنته، ولم يكن قد بلغ بعد الثانية والأربعين.

ص: 65

لم يؤسس فانديك مدرسة، ولم يترك بصمات على الفن في القارة، ولكن أثره في إنجلترا كان بالغاً. فإن الرسامين المحليين مثل وليم دويسون، وروبرت ووكر، وصمويل كوبر، أسرعوا في تقليد أسلوبه المتملق الذي يدر ربحاً. وعندما سادت موجة عارمة من الصور الشخصية بظهرو رينولدز وجينزبرو فإن تراث فانديك كان مصدر كل تعليم وتثقيف وإثارة. ولم تكن الصور الشخصية التي رسمها فانديك عميقة. لقد كان متعجلاً إلى درجة لم تتح له البحث عن الروح. وتوقف في بعض الأحيان عند الوجه أو اللحية. إن الفرسان الذين أحاطوا بالملك شارل الأول اشتهروا بسلوكهم الحميد، وما كان متوقعاً أن يبدوا كثير منهم وكأنهم شعراء، وكان من المنتظر أن تصل إلينا، من خلال عيني فانديك وفرشاته بعض أخيلة البطولة التي نجدها في وقفتهم إلى جانب مليكهم. وليس من العدل أن نتوقع من هذا الشاب الهزيل المحظوظ حيوية روبنز العارمة، أو عمق رمبرانت المؤثر. ولكنا سنبقى على اعتزازنا بهذه الصور الشخصية الجنوسية والفلمنكية والإنجليزية، على أنها "معالم دقيقة ثمينة" متألقة في تراثنا.

‌5 - الاقتصاد الهولندي

أية قفزة تلك التي تنقلنا من اللوردات الإنجليز الذين يفوح منهم شذا العطر إلى مواطني هارلم ولاهاي وأمستردام الأجلاف الأقوياء: هناك عالم فريد خلف السدود، عالم ماء اكثر منه عالم أرض، عالم سفن ومغامرات تجارية أكثر منه عالم قصور وبلاط وفروسية. ولا يكاد يوجد في تاريخ الاقتصاد شيء أشد إزعاجاً من ظهور الهولنديين باعتبارهم قوة دولية، أو في تاريخ الثقافة شيء يبعث على الرضا والارتياح أكثر من تحول هذه الثروة إلى فن.

وفي 1600 بلغ عدد سكان المقاطعات المتحدة نحو ثلاثة ملايين نسمة، كان نصفهم فقط يفلح الأرض، وفي 1523 أقام نصفهم في المدن، وصار كثير

ص: 66

من الأرض ملكاً لملاك من سكان المدن الذين آمنوا بأن أرباحهم التجارية يمكن أن تزال رائحتها الكريهة باستثمارها في الأرض. وحتى في مجال الزراعة أحرز النشاط والبراعة الهولنديتان قصب السبق على أوربا، وكانت السدود والخزانات الجديدة تستصلح دوماً الأرض من البحر، وأخصبت القنوات المزارع وأنعشت التجارة، وقامت فلاحة البساتين جنباً إلى جنب، مع تربية الماشية، وكلتاهما على نطاق واسع، لتكمل كل منهما الأخرى. وفي أخريات القرن السادس عشر بلغ المهندسون الهولنديون بطاحونة الهواء ذروة الإتقان مثلما فعل الرسامون الهولنديون بالفن. وكان نصف الصناعة لا يزال يدوياً اللهم إلا في التعدين ومعالجة المعادن ونسج الأقمشة وتكرير السكر وصنع الجعة، فإن هذه الصناعات تتقدم على نطاق أكبر وأكثر ربحاً وأقل إسعاداً للناس، وأبحر في كل عام من الثغور الهولندية 1500 سفينة ذات صاريين لصيد السردين. وكان بناء السفن من الصناعات الكبيرة. وفي أثناء الهدنة مع أسبانيا (1609 - 1621) أرسلت الأراضي الوطيئة 16 ألف سفينة حمولة كل منها 57 طناً في المتوسط، عليها من الملاحين نحو 160 ألفاً-أكثر من إنجلترا وأسبانيا وفرنسا مجتمعة (82).

وتلهب الربابنة الهولنديون على المنافذ التجارية والمواد الخام فارتادوا البحار المجهولة. وفي 1584 وطد التجار الهولنديون أنفسهم في أركنجل، وتقدموا برغم الثلوج المتجمدة في محاولة عقيمة للعثور على "طريق شمالي شرقي" إلى الصين، ومن ثم يفوزون بجائزة قدرها 25 ألف فلورين قدمتها الحكومة الهولندية. وإن الأسماء الهولندية في الخرائط الحديثة لأرخبيل سبتسبرجن (في النرويج) لتعيد إلى الذاكرة رحلات وليم بارنت الذي فقد حياته في الشتاء على ثلوج جزر نوفايا زمليا (1697). وفي 1593 أبحر الهولنديون المغامرون عبر أنهار غانة (ساحل الذهب) في إفريقية، وعقدوا أواصر الصداقة مع المواطنين هناك، وبدأوا معهم تجارة واسعة نشطة.

ص: 67

وحتى 1591 كان التجار الهولنديون يشترون المنتجات الشرقية من أرصفة لشبونة ليعيدوا بيعها في أوربا الشمالية. ولكن فيليب الثاني غزا البرتغال في ذلك العام فحرم الاتجار مع الهولنديين، ومن ثم عقدوا العزم على أن يقوموا هم بأنفسهم برحلاتهم إلى الهند والشرق الأقصى. وكان اليهود اللاجئون من أسبانيا والبرتغال أو ذراريهم على علم تام بمراكز تجارة البرتغال في الشرق، فانتفع الهولنديون بعلمهم (83). وعبر التجار الهولنديون، حتى أثناء الحرب مع أسبانيا مضايق جبل طارق، وسرعان ما اتجروا مع إيطاليا، ثم مع العرب، متجاهلين الفوارق الدينية في إصرار وثبات. وشقوا طريقهم إلى القسطنطينية، وعقدوا معاهدة مع السلطان، وباعوا بضاعتهم إلى الأتراك وإلى أعدائهم الفرس، على حد سواء، ثم ساروا إلى الهند. وفي 1595 قاد كورنيلس دي هوتمان حملة حول رأس الرجاء الصالح ومدغشقر إلى جزر الهند الشرقية. وفي 1602 قامت خمس وستون سفينة هولندية برحلة العودة إلى الهند. وفي 1601 أسست شركة الهند الشرقية الهولندية برأس مال قدره ستة ملايين وستمائة ألف فلورين-خمسة أمثال رأس مال الشركة الإنجليزية التي أسست قبلها بثلاثة شهور (84). وفي 1610 بدأ التجار الهولنديون التجارة مع اليابان، وفي 1613 مع سيام، وفي 1615 سيطروا على جزر ملقا، وفي 1623 على فرموزا. أنهم في جيل واحد فتحوا إمبراطورية من الجزر حكموها من عاصمة جاوة: جاكرتا التي سموها باتافيا. وفي هذه الحقبة أدت الشركة لحملة الأسهم ربحاً سنوياً قدره 22% وكان الفلفل يستورد من جزر البهار، ويباع في أوربا بعشرة أمثال الثمن الذي يدفع للمنتجين المحليين (85).

وحسب الهولنديون أن الأرض ملكاً خاص لهم. فأرسلوا سفناً للبحث عن طريق شمالي غربي إلى الصين. وفي 1609 استأجروا إنجليزياً هو هنري هدسن، ليرتاد نهر هدسن. وبعد ذلك باثني عشر عاماً كونوا شركة الهند الغربية الهولندية. وفي 1623 أسسوا مستعمرة الأراضي الوطيئة الجديدة

ص: 68

وكانت تضم الولايات الحالية: كنكتيكت ونيويورك ونيوجرسي وبنسلفانيا ودلاوير. وفي 1626 اشتروا من الهنود "أمستردام الجديدة"(منهاتان) مقابل بعض الحلي الصغيرة التي قدرت قيمتها بأربعة وعشرون دولاراً. وكانوا جادين في تطهير وتطوير هذه الأراضي، ولكن كان ممتلكاتهم في أمريكا الشمالية وقعت غنيمة في أيدي الإنجليز (1664) نتيجة للحرب، وكذلك وقعت ممتلكاتهم في أمريكا الجنوبية في أيدي الأسبان والبرتغال، ولم يبقَ لهم إلا سورينا، تحت اسم غيانا الهولندية.

وعلى الرغم من هذه الخسائر أسهمت الإمبراطورية الهولندية مع تجارة هولندة في أوربا في تهيئة دعامة مالية للسلطان السياسي للتجار الهولنديين، ودورهم الفخمة ورعايتهم للفنون. وطول النصف الأول من القرن السابع عشر عقد للمقاطعات المتحدة لواء الزعامة التجارية على كل أوربا، وكانت ثروة الفرد فيها أكبر من مثيلتها في سائر بلاد العالم. وقد انزعج رالي من تفوق الهولنديين على الإنجليز من حيث مستوى المعيشة والأعمال والمشروعات (86) وقال أحد سفراء فينيسيا (1618) أن كل هولندي عاش في رخاء، ولكن يحتمل أنه لم يكن يعرف إلا القليل عن الطبقات الدنيا، التي أدرك رمبرانت فقرها إدراكاً تاماً. أن أصحاب الملايين كثيرون في هولندة، وقد جمع بعضهم ثروته من بيع النفايات والبضائع الرديئة إلى الجيش والأسطول الهولنديين اللذين يدافعان عن هولندة (87)، ومثل هؤلاء كافحوا جاهدين للحيلولة دون إقرار السلام (88).

وتركزت معظم الثروة الهولندية في مقاطعة هولندة التي كانت تجارتها في المياه المجاورة أضعاف تجارة سائر المقاطعات الشمالية. وكان ثمة برجوازية مزدهرة في عدة مدن في مقاطعة هولندة-روتردام، لاهاي، هارلم، أوترخت-ولكن أياً منها لم يجرؤ على مباراة أمستردام. وأن نمو عدد سكانها ليحي قصتها، فقد كان 75 ألفاً في 1500، وقفز إلى 300 ألف في 1620، وهرع

ص: 69

إليها التجار والصناع المهرة وأصحاب المصارف أفواجاً من أنتورب التي دمرتها الحرب. وبعد 1576 نقل يهود أنتورب إلى أمستردام أنشطتهم المالية وتجارتهم وصناعة الحلي-ولا يزال صياغ الماس في هذه المدينة يتزعمون هذه الصناعة في العالم. وأباح حكام المدينة للتجار قدراً كبيراً من الحرية الدينية لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لتشجيع التجارة مع الشعوب ذوات المذاهب المتباينة وكان بنك أمستردام الذي أسس 1609، أقوى مؤسسة مالية في أوربا في ذاك العصر. وكانت العملة الهولندية مطلوبة وموضع ثقة في كل الأنحاء.

‌6 - الحياة والأدب في هولندة

اتهم الهولنديين منافسوهم بروح تجارية مسرفة وبحمى جمع المال، وبطباع جافة خشنة، ترتبط أحياناً بالانهماك في الحياة الاقتصادية، ويسلم المؤرخون البولنديون بهذه المزاعم عن طيب خاطر (89). ومع ذلك فهل نستطيع أن نقول عن ثقافتهم بأنها تجارية، مع أنها أولعت ولعاً كبيراً بالنظافة والزنبق (التوليب) والموسيقى والفن. وشيدت مدرسة في كل قرية ومحت الأمية، وخلقت جواً فكرياً مكهرباً بالجدل والأفكار، وأباحت حرية الفكر والكلام والصحافة، حتى أن هولندة سرعان ما أصبحت ملجأ عالمياً للعقول الثائرة؟ المتمردة وقال ديكادرت:

"ليس ثمة بلد غير هذا البلد، فيه الحرية أكمل. وألمن أعظم، والجريمة أندر، وبساطة العادات القديمة أروع (90) ". وفي 1660 كتب فرنسي آخر:

ليس في العالم مقاطعة تنعم بهذا القدر من الحرية مثل مل تنعم هولندة وفي اللحظة التي يأتي فيها أي سيد إلى هذا البلد بأي أرقاء أو عبيد، فإنهم يصبحون أحراراً، ويستطيع أي فرد أن يغادر البلد متى شاء ويأخذ معه من الأموال ما يشاء. والطرق آمنة ليل نهار، حتى لو سار الإنسان بمفرده. ولا يباح للسيد أن يحتفظ بخادم دون إرادته. ولا يضار إنسان بسبب دينه. وكل إنسان حر في أن يتفوه بما يشاء "حتى عن الحكام (91) ".

ص: 70

وكان أساس هذه الحرية هو النظام. ويعكس صفاء الذهن في أناقة المنزل وحسن ترتيبه. وتميز الرجال بالشجاعة والجد والعناد، كما تميزت النساء بالاجتهاد والبراعة الفائقة في الأعمال المنزلية. ويتسم الجنسان كلاهما بهدوء الطبع وروح المرح. وأعتزل كثير من رجال الأعمال الهولنديين العمل بعد جمع ثروة معقولة، وانصرفوا إلى السياسة والأدب والجولف

(1)

والموسيقى والهناءة المنزلية. وكتب لودوفيكو جوتيشيارديني "إن الهولنديين يفزعون من الزنى" وأن نساءهم على أكبر قدر من الحرص والحذر، ومن ثم منحن قسطاً كبيراً من الحرية، فيخرجن وحدهن للقيام بالزيارات بل والرحلات، دون أن يأتين بما يخدش سمعتهن

إنهن مديرات المنازل، وإنهن يحببن بيوتهن (93). وكان ثمة نساء كثيرات ذوات ثقافة رفيعة، مثل ماريا شورمان "منيرفا هولندة"(ربة الحكمة والمهارة الفنية والاختراق عند الرومان) التي قرأ أحد عشرة لغة، وتحدثت وكتبت بسبع لغات، ومارست الرسم والنحت جيداً، وبرعت في الرياضيات والفلسفة. ونظمت ماريا تسلشيد شعراً جميلاً في مثل جمال شخصها. وترجمت قصيدة تاسو "تحوير أورشليم" ترجمة نالت ثناء العالم، ورسمت ونحتت وحفرت، وعزفت على القيثارة.، وغنت فأطربت إلى حد أن ستة من الأعيان من بينهم قسطنطين هوجنز، وجوست فان دن فوندل، وجرير أند بريديرو، كانوا يركعون تحت قدميها متوسلين إليها أن تغني لهم. وتزوجت قبطاناً بحرياً، وأصبحت ربة بيت وأماً مخلصة وفية. وتركت وراءها ذكريات لازالت غزيرة لدى الهولنديين، عن الذكاء والمآثر والنبل (94).

وكان حب الموسيقى أوسع انتشاراً من تقدير الفن. إن جاك بيترزون سويلنك أحد أبناء أمستردام، وأعظم عازف هولندي على الأرغن هو الذي علم هنريج تسيديمان، الذي علم بدوره جوهان آدم رينكن. وهذا الأخير هو الذي درس على يديه جوهان سبستيان باخ. ومع كل هذا التفوق والامتياز

(1)

ربما كانت هذه اللعبة من أصل هولندي، وانتقلت إلى اسكتلندة في القرن الخامس عشر (91).

ص: 71

دب في التجارة الهولندية بعض الفساد، والإدمان على الخمر، والبغاء، والإقبال على الميسر بجميع أشكاله (95) إلى حد المضاربة بأسعار الزنبق المستقبلة (96).

وكانت هارلم مركز زراعة الزنبق. وكانت الأبصال تستورد من إيطاليا وجنوب ألمانيا، حوالي نهاية القرن الخامس عشر؛ كذلك انتشرت الزهرة في باريس وصارت بدعة محببة ورمزاً للامتياز والسمو. حتى أنه في 1623 رفض أحد الهواة اثني عشر ألف فرنك (30 ألف دولار) ثمناً لاثني عشرة بصلة من الزنبق (97). وفي 1636 صار كل السكان تقريباً يضاربون في أزهار الزنبق وقامت أسواق خاصة يمكن لأي إنسان أن يشتري أو يبيع فيها محصولات الزنبق الحاضرة أو المستقبلة وكان للتوليب "انهياره" المالي 1637، ففي تلك السنة بيعت نحو 120 زهرة توليب ثمينة في مزاد علني لمصلحة أحد ملاجئ الأيتام بمبلغ 90 ألف فلورين.

وإلى هذا الجو البهيج جاء اللاجئون من فلاندرز وفرنسا والبرتغال وأسبانيا والتجارب الأجانب من نصف أمريكا المعمودة بتشكيلة مثيرة من الأساليب الغريبة الدخيلة، وضمت جامعات ليدن وفرانكر وهاردرفيك وأوترخت وجروننجن مشاهير علماء العالم، وأنجبت بدورها آخرين. فكان جوستوس لبسيوسي وجوزيف سكاليجر ودانبل هنسيوسي وجيرار فوسيوسي يعملون جميعاً في ليدن في النصف الأول من القرن من بداية افتتاحها (1575 - 1625) وما جاءت سنة 1640 حتى كانت ليدن أشهر مركز للعلم والدرس في أوربا. وكانت نسبة معرفة القراءة والكتابة بين جمهور سكان المقاطعات المتحدة أعلى منها في أي مكان آخر في العالم. وكانت الصحافة الهولندية أول صحافة حرة. وكانت صحيفة "الأخبار " الأسبوعية في ليدن، وصحيفة "الجازيت" في أمستردام تقرآن في سائر أنحاء أوربا الغربية، لأنهما كانتا تتحدثان في حرية تامة، على حين كانت الصحافة في تلك الأيام في أية بقعة أخرى خاضعة لسيطرة الحكومة ورقابتها. وكانت الهشة تتولى أي ملك فرنسي يطلب كبح جماح أي صحفي هولندي أو وقفه عند حده، إذا علم أن هذا مطلب مستحيل تنفيذه (98).

وكان رجال الأدب في هولندة كثيرين، ولكن كان من سوء حظهم

ص: 72

أنهم كتبوا باللاتينية التي كانت في طريقها إلى الفناء، أو بالهولندية التي ضيقت نطاق قرائهم. فإن الهولنديين لم يتسن لهم أن يجعلوا من لغتهم، على غرار بحريتهم واسطة مشتركة لنقل الأدب والفكر. واعتقد ديرك كورنهرت وهيدريك سبيجل أن اللغة الوطنية المفعمة بالحيوية أداة لنقل الفكر والأدب، وكافحا لتنقيتها من الإضافات الغريبة الدخيلة غير المتجانسة وغير الملائمة-وكان كونهرت-وهو فنان، وكاتب، ورجل دولة وسياسة، وفيلسوف-أول وأقوى شخصية في التفتح الثقافي الذي توج الثورة السياسية. وبوصفه أميناً عاماً للمدينة صاغ بيان 1566 لوليم أورانج، فأودع السجن في لاهاي، ثم هرب إلى كليفز وكسب قوته من مهارته في الحفر على الخشب والمعادن، وترجم الأوديسة وأعمال بوكاشيو وشيشرون والعهد الجديد (الإنجيل). ولما عاد إلى هولندة كافح في سبيل التسامح الديني، ورمز إلى التاريخ الفكري في القرن التالي-السابع عسر-حين تخلى عن عقيدته التي رأى أنها قد تشوهت وتلوثت بالصراعات الدامية إلى حد كبير. وأصبح "لا أدرياً" معترفاً بأن الإنسان لم يستطيع أن يعرف الحقيقة (99)، وعرض في كتابه الأساسي "فن الحياة الطيبة" مسيحية بغير لاهوت، أي منهاجاً أخلاقياً مستقلاً عن المذاهب الدينية. ونتيجة لشيء من الأعضاء أتيح له أن يموت ميتة طبيعية (1590).

وتميزت هولندة بأن رجال الأعمال فيها كثيراً ما خلطوا بين الأدب وبين شئونهم المادية، ومن ذلك أن رومرفسكر. وهو تاجر ثري في أمستردام، ساعد صغار الكتاب وأكرم وفادتهم، وجعل من بيته منتدى (صالوناً) يباري منتديات فرنسا، ونظم هو نفسه شعراً أكسبه لقب "الهولندي الشجاع" أما بيتر هوفت فقد جعل من قصره في ببدون على الزيدرزي ملاذاً لعصر النهضة في هولندة، فاستقبل بالترحاب في "حلقة ميودين" الشعراء ورجال العلم والدبلوماسيين والقواد والأطباء. وفي العشرين سنة الأخيرة من حياته، كتب هو نفسه "تاريخ الأراضي الوطيئة" روى فيه قصة ثورة الأراضي في نثر قوي رائع، جعل هولندة تكرمه وتحتفل به وكأنه يمثل المؤرخ الروماني "تاسيتس" في هولندة.

ص: 73

ومن بين مائة شاعر في هولندة سما باللغة العامية إلى ذروتها الأدبية. منهم جاكوب كاتس المتقاعد الكبير لمدة اثنتين وعشرين عاماً، الذي بسط حكمه الأمثال السائرة في شعر متبل بالحكايات الطريفة المفعمة بالحيوية، حتى ظلت كتابات "الأب كاتي" لعدة قرون، من مقتنيات كل بيت يعرف أهله القراءة والكتابة في هولندة، أما جوست فان دن فوندل فقد تغلب على كل المحن وكل الأعداء، حتى تبوأ مكانة عالية في الأدب الهولندي. وكان أبوه صانع قبعات نفي من أنتورب بسبب آرائه المؤيدة لمذهب تجديد العماد. وولد جوست في كولون. وفي 1597 استقر بالأسرة المقام في أمستردام، وافتتح الوالد، الذي تقلب من مذهب إلى مذهب، محلاً لصناعة الجوارب، وورث جوست عمل أبيه ولكنه ترك إدارته لزوجته وابنه، على حين عمل هو على تعويض ما فاته من التعليم الرسمي بدراسة اللاتينية والإيطالية والفرنسية والألمانية، وكتب رواياته الثمان والعشرين وفق نماذج إغريقية وفرنسية، وحرص فيها على أتباع نظام الوحدات بدقة. وسخر من فكرة الجبرية أو القضاء والقدر ومن الجدل بين الشيع البروتستانتية، وافتتن بجمال الشعائر الكاثوليكية، وبماريا تسلكاد التي كانت كاثوليكية وجميلة معاً. وبعد موت زوجها (1634) وموت زوجته هو (1635) توثقت أواصر الصداقة بينهما: وفي 1640 اعتنق المذهب الكاثوليكي. واستمر ينتقد بشدة الأحقاد الدينية والمخادعات والحيل الاقتصادية والفساد السياسي، وكسب قلوب الهولنديين بالتغني بشجاعة الأرض الوطيئة ومجدها. وفي 1657 أفلست صناعة الجوارب التي أساء ابنه إدارتها، وهرب الابن إلى جزر الهند الشرقية، وباع كل ممتلكاته المتواضعة ليرضى دائنيه، وظل لعشر سنين يكسب قوت يومه من العمل بوظيفة كاتب لدى مقرض نقود، وأخيراً أجرت عليه حكومته معاشاً، وقضى في هدوء الثلاثة عشر عاماً الأخيرة من عمره الذي بلغ اثنين وتسعين عاماً.

أما أعظم الشخصيات جاذبية في أدب الأراضي الوطيئة في هذا العصر،

ص: 74

فهو قسطنطين هميوجنس، وهو هولندي جمع بين كل مظاهر وجوانب النهضة في إيطاليا. وكان أبوه كريستيان جنس سكرتير مجلس الدولة في لاهاي أما ابنه كريستيان فكان أعظم رجال العالم في القارة على عهد نيوتن، وبين الوالد والولد حافظ قسطنطين على ما اشتهرت به الأسرة من قدرات ومواهب ولد قسطنطين في لاهاي في 1596. ونلقي فيها وفي ليدن وأكسفورد وكمبردج قسطاً وافراً من التعليم، وكتب الشعر باللاتينية والهولندية، وبرع في الألعاب الرياضية، وأصبح موسيقياً وفناناً عظيماً. وفي سن الثانية والعشرين التحق ببعثة دبلوماسية إلى إنجلترا، وعزف على العمود أمام جيمس الأول، وأحب جون دون الذي ترجم فيها بعد قصائده إلى الهولندية. وفي سن الثالثة والعشرين أرسل في بعثة دبلوماسية إلى البندقية، ولدى عودته كاد يفقد حياته عندما كان يرقى قمة برج الكاتدرائية في ستراسبورج. وأصبح في 1625 سكرتيراً لطائفة من الحكام على التعاقب. وفي 1630 عين في المجلس المخصوص. وفي نفس الوقت أصدر عدة دواوين من الشعر تميزت بجزالة الأسلوب ورقة الشعور. وآذن موته في سن التسعين (1687) بانتهاء أزهى عصور الأراضي الوطيئة.

‌7 - الفنون الهولندية

أحس الهولنديون البروتستانت بأن عمارة كنيسة العصور الوسطى وزخارفها كانت أشكالاً تغذي النفوس بما يؤيد الأساطير ويدعمها، وتثبط الفكر وتعويقه، ومن ثم عقدوا العزم على أن يعبدوا الله بالصلوات والعظات. لا بالفن، ولم يحتفظوا في طقوسهم إلا بفن الإنشاد. ولذلك كانت هندسة بناء الكنائس عندهم تكاد لا تهدف إلا إلى البساطة الصارمة المطلقة. بل إن الكاثوليك أنفسهم لم يشيدوا في المقاطعات، المتحدة كنائس جديرة بالذكر وفي القرن السادس عشر جلب تجار ما وراء البحار، ربما من سوريا أو من

ص: 75

مصر، فكرة القباب البصلية الشكل. وانتشر هذا الطراز من هولندة وروسيا إلى ألمانيا، وأصبح أحد معالم عصر الباروك في أوربا الوسطى.

إن رجال الأعمال، لا رجال الدين، هم الذين سيطروا على هندسة البناء. وعمدوا أول ما عمدوا إلى تشييد مساكن راسخة البناء لأنفسهم-تكاد تكون كلها متشابهة، لا تبعث على الخوف مثل قصور فلورنسة، ولا تثير الحقد والحسد، لأن كل مظاهر البذخ والترف والفن كانت داخل جدران البيت، وفي حدائق الزهور التي عنوا بها أكبر عناية. أما المنشئات المدنية فقد أباحوا فيها بعض الزخرف والأبهة. ففي دار البلدية التي شادها ليفن دي كي لمدينة أنتورب، جمع في انسجام تام بين عناصر من فرنسا ومن ألمانيا ومن عصر النهضة، ودار نقابة القصابين في هارلم، التي شادها ليفن نفسه، تضارع في فخامتها وأبهتها أية كاتدرائية قوطية. وتظهر دار البلدية في هارلم كيف أن هولندة طوعت الطراز الكلاسيكي (القديم) تماماً حتى بات يتمشى مع أهدافها ونزعاتها.

وكان ميكل أنجيلو هولندة في العمارة والنحت في ذاك العصر هو هندريك دي كيزر الذي أصبح وهو في سن التاسعة والعشرين المهندس المعماري لمدينة أمستردام (1494)، وهناك صمم الكنيسة الغربية وسوق المال ومبنى شركة الهندسة الشرقية في طراز يجمع بين طراز إيطاليا وهولندة وعصر النهضة. وفي دلفت بنى دار البلدية والنصب التذكاري لوليم الأول، وفي 1627 في روتردام، صب من البرونز تحفته الرائعة. ألا وهي تمثال أرزم الرائع الذي قبع ساكناً لم يمس بأذى لعدة سنوات بين أنقاض الحرب العالمية الثانية. ودمر بعض من أجمل المنشآت الهولندية التي يرجع تاريخها إلى تلك الحقبة نتيجة الإخفاق في إدارة شؤون الدولة.

وتألقت صناعة الخزف بين الفنون الصغيرة. وفي روتردام ودلفت سما الذوق الرفيع بصناعة القرميد حتى جعل منها فناً. وأقبل الناس على

ص: 76

استخدام خزف دلفت المزخرف في كل بيت في الأراضي الوطيئة تقريباً. وحوالي 1610، فور افتتاح التجارة الهولندية مع الشرق، بدأ خزافو دلفت في تقليد الخزف الصيني، وانتخبوا نوعاً من السيوليق (خزف مزخرف مطلي بالمينا) الرقيق الأزرق أسموه "البورسلين الهولندي (100) " وسرعان ما عرض نصف أوربا الغربية خزف دلفت على الجدران أو على الأرفف.

أما أعظم الفنون جميعاً في الأرض الوطيئة فكان الرسم. وليس في التاريخ المعروف لدينا بلد غير هذه البلد-ولا نستثني من ذلك إيطاليا النهضة-حظي فيه أي فن يمثل هذه الشعبية العارمة. وتضم فهارس الفن فيما بين عامي 1580 - 1700 خمسة عشر ألف رسم هولندي (101)، وتأثر الفن الفلمنكي تأثراً شديداً بالفن الإيطالي، ولكن في المقاطعات الشمالية أثارت المقاومة الموفقة لسلطان أسبانيا روحاً قومية وكبرياء قومية، لم تكونا تحتاجان إلا إلى الثروة المستمدة من التجارة فيما وراء البحار، لتحدثا انفجاراً ثقافياً. فتحولوا بالفن إلى معارج جديدة من التطويع لحياتهم ومن الواقعية بعد أن كانت تتقلص عنه تماماً الرعاية الكنسية والأرستقراطية، وأصبح رعاة الفن وحماته الجدد هم التجار وعمد المدن والمحامون والمؤسسات والنقابات والكوميونات والمستشفيات، بل حتى المنشآت الخيرية، ومن ثم كانت الرسوم الشخصية والرسوم الجماعية ومشاهد الحياة اليومية. وكان لكل مدينة هولندية تقريباً مدرسة الفنانين الخاصة بها، تحت رعاية محلية: هارلم، ليدن، أوترخت، أمستردام، دوردرخت، دلفت، لاهاي. أما المواطنون البسطاء الذين ربما كانوا في بلاد أخرى أميين من حيث الفن، عالة على الكنيسة، فإنهم هنا زينوا بيوتهم بلوحات اشتروها أحياناً بثمن عال، ومن ذلك أن خبازاً أثبت سلامة ذوقه، بدفع 600 فلورين (57. 000 دولار؟) ثمناً لصورة واحدة للفنان فريمير (102)، وكادت النزعة الدنيوية أن تكون عامة شاملة، فلم يعد للقديسين وجود في الرسوم، وجاء التجار، وانتصرت رسوم البيت والحقل على الكنيسة وازدهرت الواقعية، فنظر البرجوازي بشيء قليل من التقدير

ص: 77

إلى لوحة تمثله هو وزوجته، ولكن السدود والكثبان الرملية وطواحين الهواء والأكواخ والسفن الشرعية والأرصفة الزاخرة بالبضائع، كل هذه أحيت صورها على الجدران في سرور بالغ، ذكريات أشياء فعلية عامة. ولقيت مناظر السكارى المرحين ورواد الحانات بل حتى المواخير، ترحيباً في بيوت ربما كانت تعلق منذ قرن مضى صور الشهداء القديسين وأبطال التاريخ أو آلهة الوثنيين. ولم تكن الصور العارية من سمات هذا العصر، حيث لم يبتهج لها الناس في مثل هذا المناخ الرطب مع الأجسام الضخمة. وبدا في هذه البيئة الجديدة أنه ليس ثمة محل تميز به الفن الإيطالي من عبادة الجمال والرقة والتهذيب والوقار، حيث لم تتطلب هذه البيئة من الفن شيئاً أكثر من إخراج الحياة اليومية والمشاهد المألوفة.

وثمة جانب كئيب حزين في صورة الأمة التي أغرمت بالرسوم إلى حد الجنون. وذلك أن الفنانين الذين رسموا لها عانوا في أغلب الأحياء من الفقر ولم يحظوا إلا بأقل التقدير. على حين أن الأرشيدوق واللوردات والأساقفة في الفلاندرز أجزلوا العطاء لمن اصطفوا من الفنانين. أما في هولندة فكانت المنافسة بين الفنانين فردية، فأنتجوا للسوق العامة، ووصلوا في معظم الأحوال إلى العملاء عن طريق وسطاء نشأوا بين المنتخبين والمستهلكين المشترين، وعرفوا كيف يشترون بثمن بخس ويبيعون بسعر عال. وقلما حصل الفنانون الهولنديون أثماناً عالية، فإن رمبرانت في ذروة شهرته لم يقبض إلا 1600 جيلدر ثمناً للوحته "حراسة الليل" ولم يحصل فإن جوبين إلا على 600 جيلدر ثمناً للوحة "منظر لاهاي"، وحصل الباقون على أقل من هذا بكثير، فإن جان ستين رسم ثلاث صور شخصية مقابل 27 جيلدر، وباع ايزاك فان أوستاد ثلاث عشرة صورة مقابل مبلغ مماثل. وكان على الفنانين الهولنديين أن يلجأوا إلى مختلف الأعمال ليكسبوا قوت يومهم، فباع فان جويين الزنبق، واشتغل هوبيما بجباية الضرائب، وأدار ستين نزلاً،

ص: 78

وكان الفنانون أنفسهم من الكثرة إلى حد أنهم أغرقوا سوقهم وأتخموها. أن قائمة بأسماء مشاهيرهم لتملأ صفحات، وأن ثبتاً بأعمالهم المكنوزة ليزحم كتباً، فهلا أزجينا لهم الشكر في الهامش

(1)

.

(1)

ألبرت كيب: رعاة يعزفون على المزمار (نيويورك). كارل فبريتوس: صورة شاب (روتردام) جان فان جويين، وهو أعظم هذه المجموعة: مناظر طبيعية غاية في الروعة، محفوظة في كثير من المتاحف، ومن بينها قاعة كوركوران في واشنطن. ديرك هالس-الأخ الأصغر لفرانس: الصحبة المرحة (لندن). جيرار فان هنثورست: حفلة موسيقية (لننجراد). توماس دي كيزر-ابن هندريك: صورة شخصية جميلة في درسن، نابلي، اللوفر، نيويورك. وسيقت لوحته "درس التشريح للدكتور فريج" 1619 بزمن طويل، روميرانت "درس التشريح للأستاذ تولب" 1632. كارل فان ماندر: كتب في 1604 "كتاب رسامي الأراضي الوطيئة" الذي كاد ينافس النوذج الذي احتذاه فارساري. ميشيل فان ميرفلت: صور شخصية في كثير من المتاحف. أدريان فان أوستاد: عازفو الكمان العجائز والمدخنون (كلاهما في نيويورك). ايزاك فان أوستاد: السوق (مجموعة ولاس). فرانس بوريس الأكبر: صورة سيد مهذب (مجموعة ولاس). فرانس بوريس الأصغر: صورة شاب (قاعة بتي). بيتر بوريس: وليمة مجازية (مجموعة ولاس). هركيوليز بيجرز: منظر رينين (برلين).

ص: 79

‌8 - فرانس هالس

(1580 - 1666)

عاش أسلافه لمدة قرنين من الزمان في هارلم. وكان أبوه قاضياً هناك، ولكن لأسباب غير معروفة ولد فرانس في أنتورب، ولم يعد إلى هارلم ليقوم فيها إلا بعد بلوغه التاسعة عشرة من العمر. ولم نسمع عنه شيئاً قط إلا في 1611، حيث سجلت إحدى كنائس هارلم تعميد هرمان بن فرانس هالس وزوجته آنك. أما ما عرف عنه بعد ذلك، فكان من سجلات محكمة شرطة (1616) حيث تروي أن فرانس هالس قبض عليه بتهمة ضرب زوجته ضرباً مبرحاً، فأنب تأنيباً قاسياً، ثم أفرج عنه بعد تعهده بأن يكون مهذباً وأن يتجنب صحبة السكارى. وماتت آنك بعد ذلك بسبعة شهور. وبعد خمسة أشهر أخرى (1617) تزوج فرانس من ليزبث رينيرز. وبعد تسعة أيام أنجبت له أول أولاده العشرة (104). وقد خلف لنا لوحة رائعة تمثله مع زوجته الثانية (105) التي عاشت معه طوال السنوات الأربع والسبعين التي بقيت في حياته، واحتملت إملاقه وعوزه وسكره وعربدته. وليس ثمة ما يجذب الانتباه فيه إلا أنه كان رساماً عظيماً ذا روح مرحة.

وكان قد بلغ السادسة والثلاثين حين حقق نجاحاً هائلاً في لوحته "مأدبة نقابة رماة سانت جوريس (106) "، وهي إحدى لوحات "دولين" الخمس التي هيأت لفرانس مكانته العالية، ويقصد بلفظ "دولين" مقر المتطوعين الذين مارسوا الرماية وأقاموا المباريات وعقدوا الندوات الاجتماعية، وكانوا بمثابة قوات نظامية في الكوميونات. وكان ضباط مثل هذه النقابات أحياناً يأجرون فناناً ليرسم لهم صور جماعية، ولكن يصر كل واحد منهم على أن يتناسب بروزه في الصورة مع رتبته في الجماعة ومع إسهامه تكلعتها. فهنا هؤلاء الضباط في أبهى حلة، يتجمعون حول مأدبة، ويرفع أحدهم علم فرقته الغني بالألوان. وحصل هالس على أجره لأن كلا من هذه الرؤوس فرد يمثل شخصية قوية، تختلف عن الأخرى، كما يمثل سيرة حياته وتحفة رائعة.

ص: 80

ولم نسمع عن مهمة مماثلة أخرى إلا بعد إحدى عشرة سنة من ذاك التاريخ، ولكن هالس أنتج في هذه الحقبة رسوماً تعد من روائع الفن الهولندي. من ذلك "بائع السردين (107) " وهي مرة أخرى تاريخ يتمثل في وجه، و"الثلوث المرح""يونكر رامب وصديقته" وكلاهما في نيويورك، واللوحة المشهورة "الفارس الضاحك (108) "-تتجسد فيها الثقة بالنفس، في ثياب ذات أهداب مع طوق مكشكش حول العنق. وعباءة مزدانة بالأزهار، وابتسامة تكاد تشبه ابتسامة الجيوكندا في رقتها. وفي هذه الفترة (1654؟) رسم فزانس "صورته الشخصية (109) " وجه قوي مليح، وعينان حزينتان تنكران زهو الملابس الجميلة والذراعين المطويين. لقد كان الرجل منهوكاً تتقاذفه اللهفة على الإتقان والكمال، والظمأ إلى الخمر.

وفي 1627 جاءت مجموعة دولين الثانية: لوحة أخرى "لنقابة ضباط سان جوريس (110) " ولم تكن في صفاء وإشراق اللوحة الأولى، فإن هالس تحول عمداً، ولبعض الوقت، عن البريق الهادئ للألوان القوية إلى التلاعب الأشق بالأساليب الثانوية-الألوان النصفية (لا داكن ولا فاتح) والضلال الرمادية ومخطوط الكفافية الرقيقة. وثمة لوحة دولين أخرى في هذا العام "نقابة رماة سانت أوريان (111) "، وهي كذلك في أساليب مخففة. ولا بد أن الرماة اغتبطوا لأنهم كلفوا هالس أن يرسم لهم لوحة أخرى (112). وهما أسترد الفنان ألوانه وأبرز عبقريته ليجعل من كل وجه شيئاً ممتعاً فريداً. وفي 1639 رسم لوحة أخرى "لضباط نقابة سانت جوريس"(113) ولكن في هذه اللوحة ضاع الفرد في زحمة المجموع. ولكن لوحات الدولن هذه في جملتها أروع صور المجموعات في كل العصور، هي توضح انطلاق الطبقة الوسطى على مدلونج الظهور الموسوم بالفخار والزهور.

وفي الفترة الثانية (1626 - 1650) رسم هالس صوراً تنادي بتخليد ذكراها، منها "السكير المرح (114) " يضع وق رأسه قبعة كبيرة تكفي لتغطية

ص: 81

رؤوس حشد من السكارى: و"الذي يعدو فوق الرمال"(115)، وهو أشعث أغبر، في أسمال بالية، ولكنه فاتن، و"المتشردة أو الغجرية" تبتسم وتنتفخ في اللوفر، و"المهرج" في أمستردام "وبلتزارا كريمان الوهمي، في واشنطن أما تحفة فترة ذروة النضج هذه، فهي لوحة هالس البالغة الامتياز "القائمون على مستشفى سانت إليزابث (116) "، وهي تماثل، أولاً تماثل لوحة رمبرانت مندوبو نقابة تجار الأقمشة التي رسمت بعدها بإحدى وعشرين سنة.

أن إسراف هالس في الشراب بغير حدود. ولو أنه يبدو أنه لم يسئ إلى فنه، أضر بموقفه حتى في بلد وفي عصر لجأ فيه الناس إلى الشراب بين الحين والحين إبتعاثاً للمرح والفرح. وظل يرسم صوراً ربما كانت كفيلة بأن ترفع أي فنان إلى قمة الشهرة:"ساحرة هارلم (117) "، و"ديكارت (118) " والذي يحرر من الوهم، في حاجبين كبيرين وأنف ضخم وعينين تنمان عن الشك، ثم رسم في سن الثمانين صورة "شاب في قبعة مترهلة (119) ". ولكن في الوقت نفسه تكاثرت الأرزاء على الفنان، ففي 1639 أرسل ابنه بيتر إلى مصحة الأمراض العقلية على نفقة البلدية، وفي 1641وضعت ابنته الكبرى المتمردة في إصلاحية الأحداث بناء على طلب أمها. وما جاء عام 1650 حتى كان فرانس معمداً. وفي 1654 أقام الخباز المحلي ضده الدعوى يطالبه بسداد مائتي جلدر وحجز على أدوات الرسام. وفي 1662 توسل الشيخ الهرم المتهدم للحصول على معونة وأجيب إلى طلبه. وبعد ذلك بعامين قرر له مجلس مدينة هارلم معاشاً سنوياً، ووهبه فوراً ثلاثة أحمال من الخث ليوقد مدفأته.

ويحتمل أنه رغبة في منح فرانس مزيداً من الصدقات، كلف في هذا العام (1664) برسم لوحتين:"مديروا ملجأ الفقراء" و"مديرات ملجأ الفقراء". ويظهر في لوحة الرجال أثر اليد المضطربة للفنان في سن الرابعة والثمانين، فإن معظم التقاطيع والملامح فيها ملطخة بشكل غامض، على نقيض اللوحة الأخرى التي تمثيل النساء، فإنه مما يثير الدهشة أ، المهارة القديمة عادت سيرتها الأولى:

ص: 82

فهنا خمس أنفس ارتسمت على خمسة وجوه ممتثلة مذعنة، لخمس نساء عجائز أرهقتهن الأعمال غير العادية، عابسات متجهمات متزمتات، كما يقتضي نظامهن البيوريتاني، وقد نسين مرح الشباب وبهجته. ومع ذلك، يتألق بشكل ما في هذه التقاطيع الكالحة عطف هادئ ومشاركة وجدانية حزينة. وهاتان الصورتان الأخيرتان هما آخر لمسات جرت بها يد الفنان أو ومضات لمعت في فنه، وهما الآن، إلى جانب لوحات مجموعات "الدولين"، موجودتان في متحف فرانس هالس الذي شادته مدينة هارلم في مكان ملجأ الفقراء.

مات هالس فقيراً معدماً (1666) ولكنهم احتفلوا بدفنه احتفالاً مهيباً في هيكل كنيسة سانت بافون في المدينة التي اعتمدت شهرتها على الحصار الذي قاومته طويلاً، وعلى أعمال أعظم أبنائها. ولمدة قرنين من الزمان بعد وفاته كاد النسيان يجر عليه ذيوله، وبيعت لوحاته بأبخس الأثمان، أو في المزادات، أو بلا شيء مطلقاً، وإذا كان مؤرخو الفن قد تذكروه، فما ذاك إلا لأنهم تنبهوا إلى ضيق مجال فنه-فلم يكن ثمة صور دينية ولا أساطير ولا صور تاريخية ولا مشاهد طبيعية ولا صور عارية-أو إلى العجلة المدموغة بالإهمال والتهاون في طريقة عمله، حيث لم يكن ثمة مخططات تمهيدية، بل لطخات من ألوان متناثرة اعتمدت على التخمين وعلى ذاكرة الرائي ليملأها بالتفاصيل. واليوم يتعالى الهتاف للفنان، بشكل قد يكون مبالغة فيه، مما يتوازن مع طول إغفال شأنه كما يعتبر نقد كريم أن هالس ألمع رسام للصور الشخصية رآه العالم (120) ". وما دام الزمن، وهو أجدر القضاة بالثقة، يتذبذب في حكمه، فلنقنع نحن بالإعجاب.

ص: 83

‌9 - رمبرانت هارمنز فان رين

1606 -

1669

ولد في ليدن لأب طحان ثري. وهو جريت هامنز الذي أضاف إلى أسمه "فان رين" ربما لأن بيته كان يطل على نهر الراين. ولابد أن الفنان أحب أباه حباً جماً لأنه رسمه إحدى عشرة مرة أو أكثر، في قبعة وسلسلة فخمتين (121) وكصراف نقود (122) وكسلا في نبيل (123) -وجه قوي حسن التقاطع يحف به الوقار-ورسمه في 1629 رجلاً علته السنون بالكآبة والإرهاق (124). كما رسم أمه اثني عشرة مرة، أجدرها بالذكر لوحة "المرأة العجوز" في متحف فيينا قلقة منهوكة ونراها في متحف أمستردام منكبة على الكتاب المقدس. وإذا كانت الأم-كما يعتقد البعض-"منونية"(تنتسب إلى طائفة بروتستانتية متزمتة) فقد ندرك من هذا ميل رمبرانت إلى التوراة، وصلته الوثيقة باليهود.

وفي سن الرابعة عشرة التحق بجامعة ليدن ولكنه أنعم النظر في أشكال أخرى غير الأفكار أو الألفاظ، وترك الجامعة بعد عام واحد، وأقنع أباه بالسماح له بدراسة الفن. وخيراً ما فعل، فإنه في 1623 أرسل إلى أمستردام ليتتلمذ على بيتر لاستمان الذي كان يعتبر آنذاك آبللر (رسام إغريقي) العصر وكان لاستمان قد عاد من روما إلى هولندة بتوكيد كلاسيكي على الرسم الصحيح ويحتمل أن رمبرانت تعلم منه أن يكون مخططاً ممتازاً. ولكن بعد قضاء عام واحد في أمستردام عاد الشاب القلق مسرعاً إلى ليدن متلهفاً على الرسم بطريقته الخاصة. فرسم أو صور كل ما وقعت عليه عيناه تقريباً، بما في ذلك الحماقات الصاخبة والقذارات المخزية (125)، وتابع النهوض بفنه عن طريق تجارب عزيزة لديه في تصوير شخصه فكانت المرآة هي النموذج أمامه وترك لنا صوراً شخصية (62 على الأقل) أكثر مما ترك كثير من كبار الرسامين من صور. ومن بين هذه الصور الشخصية الأولى رأس جميل في لاهاي: وهي لوحة تمثل رمبرانت في الثالثة والعشرين، وسيماً مليحاً بطبيعة الحال (وهذا هو

ص: 84

شأن كل المرايا-تظهرنا في أجمل صورة) يتطاير شعره هنا وهناك دون مبالاة، في ترفع الشباب عن التقاليد والأعراف، تنبئ عيناه عن اليقظة والزهو بما ثبت من قدرته وكفايته.

والحق أنه كان بالفعل قد وطد مركزه. وفي 1629 نقّده أحد الخبراء 100 فلورين أجراً لصورة-وهذا أجر مناسب لمنافس صغير في بلد كان فيه عدد الرسامين كبيراً مثل عدد الخبازين، ولكنهم لا يشبعون بطونهم مثلهم. وكانت موضوعاته-بعد شخصه ووالديه-مأخوذة من الكتاب المقدس. وفي لوحته "أرميا-يرثي لخراب أورشليم (126) " تجلت الهالة الصوفية التي تميزت بها لوحات رمبرانت الدينية. أما لوحة "سمعان في الهيكل (127) " فإنها تعبر تعبيراً صادقاً عن روح ما جاء على لسان هذا الشيخ في الإنجيل:"الآن نطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام"(إنجيل لوقا 59: 5). وكلف من أمستردام بأعمال كثيرة إلى حد أنه عاد إليها في 1638. وقضى هناك بقية أيام حياته.

وفي خلال سنة مكن وصوله إليها رسم إحدى روائع الدنيا وهي "درس التشريح للأستاذ نيقولا تولب (128) "، وكان ثمة تشريحات كثيرة في التصوير الهولندي، ولم تمتهن السوابق، أو يخدش التواضع حين كلف الجراح الممتاز الذي كان أربع مرات عمدة لمدينة أمستردام، رمبرانت أن يرسمه، وهو يقدم عرضاً في التشريح في قاعة نقابة الجراحين، معتزماً أن يهدي الصورة إلى النقابة تذكاراً لأستاذيته، وربما كان دكتور تولب هو الذي اختار سبعة من "الطلبة" ليكونوا معه في الصورة، وواضح أنهم لم يكونا طلبة، بل رجالاً ناضجين من ذوي المكانة في الطب أو في مجال آخر، وانتهز رمبرانت الفرصة، كل الفرصة، ليبرز الوجوه متألقة بالشخصية والذكاء. وتبدو الجثة منتفخة على نحو غير ملائمة، واتخذ اثنان من المتفرجين وضعا تشهده الأجيال القادمة، ويمضي دكتور توليب في عمله في هدوء رجل متمرس واثق. أما الرجلان اللذان

ص: 85

يحدقان النظر فوق رأس الجثة فكانا يمثلان حب الاستطلاع والانتباه بأجلى معانيهما، وكان التلاعب بالضوء على اللحم والأطواق إعلاناً عن ميزة رامبت.

وانهالت الطلبات على رمبرانت، حتى بلغت أربعين في عامين. أما وقد أمتلأت الآن جيوبه بالمال، واستبد به الظمأ إلى النساء "فقد حان الأوان للزواج (1634). وكانت ساسكيا أو لنبرخ ذات وجه جميل وعينين راقصتين وشعر حريري ناعم اللون وقوام أهيف وثراء كاف، وما أجمل صورة "ساسكيا" في مدينة كاسل الألمانية، وكانت الابنة اليتيمة لمحام وقاض ثري. وربما كان عمها-وهو وسيط في تجارة التحف الفنية-هو الذي أغواها بالجلوس أمام رمبرانت ليرسمها، وكانت جلستان فقط كافيتين للتقدم لطلب يدها. وقدمت العروس صداقاً قدره أربعون ألف جيلدر، أصبح بذلك مفلس المستقبل واحداً من أغنى الفنانين في التاريخ. وأصبحت ساسكيا زوجة صالحة على الرغم من ثروتها. وتحملت في صبر وجلد عبقرية شريك حياتها المستغرقة في العمل. وجلست إليه ليرسم لها صوراً كثيرة، ولو أنها أبرزت جسمها الآخذ في التفتح والامتلاء، وكان يدثرها في أزياء غريبة ليرسم لها "فلورا آلهة الأزهار" المشرقة الباسمة الموجودة الآن في لندن، و"فلورا" الحزينة، الأبسط شكلاً، الموجودة الآن في نيويورك. وفي إحدى اللوحات في درسن نراه وقد غمرته السعادة، وهو يمسك بها وهي جالسة على ركبته، وتفيض منه الابتسامة على اللوحة، رافعاً كأساً عالية ابتهاجاً بموفور الصحة والمال.

وفي سنين اليسر هذه (1634 - 1642) أخرج الفنان التحفة تلو التحفة. واستمر يرسم نفسه. فنراه في "صورة الفنان"(1634) وهي الآن في اللوفر-وسيما مبتهجاً، في قبعة مزدانة بالجواهر. وسلسلة ذهبية على صدره. ورسم في السنة نفسها "الضابط (129) "- وهو فيها جميل مهيب يضع على رأسه قبعة تغزو العالم، ورسم لنفسه في 1635 صورة في قبعة رائعة يكاد ريشها يداعب

ص: 86

السماء. وسعياً وراء الشخصية الأجمل، (1634 "السيدة العجوز" التي لا تبالي بنا وهي معلقة في المتحف الوطني بلندن في وجه ملأته السنون بالتجاعيد. وبعد ذلك بعام واحد رسم "المرأة العجوز على الكرسي ذي الذراعين" وهي موجودة في نيويورك. وعثر في خرائب أمستردام على رجل في الثمانينات، ألبسه عمامة وثياباً ورسم له لوحة "رجل شرقي (130)": وكان له ولع بجمع الثياب والمجوهرات والسيوف والقبعات والأحذية الغريبة، تستطيع أن تراها جميعاً، فيما عدا السيف في لوحة "مارتن داي (131)" بالأربطة والأشرطة على قفازه، والأهداب على ثيابه والتروس فوق حذائه. والآن أيضاً، رسم موضوعات دينية عتيقة في صورة صادقة جديدة متخذاً نماذجه من الرجال العجائز والشابات اللائى قابلهن في الشوارع-كل منها تلفت النظر في أسلوب من معالجة التفاصيل، تأخذ بالألباب في التلاعب بالضوء، وتثير المشاعر بتدفق العاطفة فيها إلى حد أن أية لوحة منها يمكن الدفع بأنها أبدع ما رسم الفنان، ومثال ذلك لوحة "تضحية إبراهيم (132)"، الملاك روفائيل يهجر طوبيا (133) ". وجاءت هذه السنوات المباركة بعدد من أشهر الصور الشخصية مثل "السيدة ذات المروحة (134) "، و"الرجل ذو القفاز (135) " وكلتاهما تجل عن الوصف، وتقصر عنها أية ألفاظ.

وآخر الرسوم في هذه الحقبة، وربما أعظم إنجازات رمبرانت على الإطلاق، هي اللوحة الضخمة (14×12 قدماً) تعرف بالتاريخ باسم "حراسة الليل"، والأكثر احتمالاً أن اسمها "جماعة كابتن كوك الرماة (136) "(1643). ولا ينقص هذه الرقعة الهائلة أية تفاصيل، وليس فيها أي ظل للظلام أو أي مسقط إلا حسب حسابه، أو أي تباين في اللون إلا وهو مدروس. ويقف الكابتن المزهو في الوسط في لون أسمر وأبيض وأحمر، وإلى يساره قائمقام في أحذية عالية وسترة وقبعة صفراء ذهبية اللون، والسيوف تبرق والرماح تلمع والأعلام ترفرف، وإلى يمين الكابتن فرقة

ص: 87

الناي والطبول. وتغادر الجماعة مقرها إلى ما يبدو واضحاً أنه عرض في أحد المهرجانات. وتعاقد رمبرانت مع كل من الأشخاص الستة عشر الذين سيصورهم، على أن يدفع كل منهم مائة فلورين. وأحس كثير منهم بأن المساواة في الأجر لم تقابلها مساواة في التألق والعظمة في اللوحة، وشكا بعضهم من أنه وضعهم في الظل ولم يسلط عليهم الأضواء، أو أنه قصر في تحديد ملامحهم حتى يسهل على أصدقائهم التعرف عليهم. ولم يشتد الطلب بعد ذلك على الصور الجماعية في مرسمه، وبدأ نجمه يأفل.

ولا بد أن المال كان وفيراً لديه في 1639 لأنه اشترى في تلك السنة داراً فسيحة في شارع جودن-يريد الذي كان يقطنه أثرياء اليهود. وكلفته الدار ثلاثة عشر ألف فلورين. وهو مبلغ ضخم لم ينجح قط في دفعه كاملاً. وربما قصد ألا تتسع لأسرته فحسب، بل لتلاميذه ولمرسمه ومجموعته المتزايدة من التحف القديمة والأشياء الغريبة والفن. وبعد دفع نصف ثمن الشراء في السنة الأولى من شغل الدار، وبقاء النصف الثاني ديناً عليه، ارتفعت فائدته التي لم تدفع إلى حد جره إلى هاوية الإفلاس. وفي الوقت عينه كانت صحة حبيبته ساسكيا آخذة في التدهور، وكانت قد أنجبت له ثلاثة أولاد، مات كل منهم في سن الطفولة. وهدت ولاتهم العسرة ونهايتهم الأليمة من كيانها. وفي 1641 أنجبت له أبناً أسماه تيتوس، وقد بقي على قيد الحياة، ولكن أمه فارقت الحياة في 1642. وأوصت بكل ما تملك إلى رمبرانت، شريطة أن تؤول بقية التركة إلى ولدها إذا تزوج والده ثانية. وبعد سنة من وفاتها رسم لها رمبرانت صورة من الذاكرة العامرة بحبها. وكدرت هذه الخسارة صفو حياته. وبدأ من ذلك الوقت أن فكرة الموت تستبد به وتقلقه. وعلى الرغم من أنه كان شديد التعلق بأسرته، فإنه كان دائماً يؤثر الوحدة على الرفقة، أما "الآن فقد" آوى إلى عزلة كئيبة. وكان وهو يرسم يصرف المشاهدين الأغرار عنه قائلاً "أن رائحة الطلاء

ص: 88

تضر بالصحة (137) ". ولم يكن رجل الدنيا المثقف أو المهذب مثل روبنز. وقرأ قليلاً: ولم يكد يقرأ شيئاً سوى الكتاب المقدس، وعاش في مملكة اللون والظل والضوء التي لا تنبس ببنت شفق. وهي متنوعة مثل دنيا الأدب ولكنها غريبة عنها فريدة. وكان من الصعب عليه أن يقوم بالواجبات الاجتماعية إذا قدم عليه من يجلسون أمامه ليرسمهم، أو أن يتبادل معهم أحاديث قصيرة بقصد تسليتهم والاحتفاظ بسكوتهم وهدوئهم. وقل المترددون عليه حين وجدوا أن رمبرانت مثل معظم أسلافه، لم يكن يرضى أن يرسم له مرسماً تخطيطياً في جلسة أو جلستين، ثم يكمل الصورة من هذا الرسم التخطيطي، بل آثر أن يرسم على القماش، الأمر الذي يتطلب جلسات كثيرة، هذا فوق أنه كان له طريقة انطباعية في أن يرسم ما يفكر فيه أو يحس به، لا مجرد ما يرى، ولم تكن النتيجة دائماً مرضية.

ولم يكن عوناً له أن تقع داره في حي اليهود. وكان قد عقد منذ ذاك الوقت صداقات مع كثير منهم. وكان قد نقش صورة لمنسة بن إسرائيل (1636). والآن في 1647 حفر على الخشب الوجه الداكن للطبيب اليهودي أفرايم يونس. ولما كان الفنان محاطاً من كل جانب تقريباً، وواضح أنه أحبهم، فإنه وجد موضوعات تتزايد يوماً بعد يوم، بين اليهود الأسبان والبرتغاليين في أمستردام. وربما تعرف على باروخ سبينوز الذي عاش في هذه المدينة من 1635. وذهب بعضهم إلى أن رمبرانت نفسه كان يهودياً. وهذا غير صحيح لأنه عمد ونشأ على المذهب البروتستانتي. وكانت ملامحه تنطق بأنه هولندي، ولكن لم يعرف عنه أي تحيز ملحوظ بالنسبة للدين أو للجنس. وثمة عمق خاص لتفاهمه الموسوم بالعطف في رسومه لليهود. لقد افتتن بشيوخهم ولحاهم التي تقطر منها الحكمة وعيونهم التي تشف عن الحزن والأسى. وإنك لتجد نصف العذاب النفسي عند العبرانيين مائلاً في وجه "اليهودي العجوز" وهي اللوحة التي رسمها رمبرانت 1654 والموجود الآن

ص: 89

في الأرميتاج (لننجراد)، وفي لوحة "الحبر"(الحاخام)(1657) في لندن وفي هذه اللوحة الأخيرة صورة الحبر الذي واسى رمبرانت بعد وقوعه في الضائقة المالية وأمده بمعونة مادية.

ونراه في 1649 يرسم "هندريكا ستفلز في المخدع"(138)، وندرك أنه اتخذ خليلة. وكانت وصيفة ساسيكا، وبقيت مع الفنان الأرمل وعنيت به عناية فائقة، وسرعان ما سرت بحرارة جسمها. أنه لم يتزوجها لأنه كره أن يتخلى عن تركة ساسكيا لابنه تيتس الذي كان بعد صبياً في الثامنة من العمر. وعندما رسم هندريكا 1955 (139)، وكانت جميلة بدرجة مقبولة ذات عينين تلازمهما لهفة مكتئبة، وربما كانت هي التي جلست أمامه مرتين لتجربة أو دراسة فن رسم العاريات: في 1654 "باشيبا في الحمام"(140) و"امرأة تخوض"(141) وكلتاهما آية في العظمة من حيث الألوان والاتساع. وفي يولية من هذا العام دعيت للمثول أمام شيوخ الكنيسة، حيث أنبت تأنيباً قاسياً على اقترافها الزنى، وحرمت من تناول القربان المقدس. وفي أكتوبر وضعت له طفلاً اعترف رمبرانت ببنوته، ودبر أمر تعميده بسلام، وعرف كيف يحب خليلته حباً عميقاً كما احب زوجته، وإلا كيف كان يتسنى له أن يملأ وجهها بكل هذه الرقة حين صورها 1658 في رداء أحمر يلتئم مع شعرها (142). وكانت زوجة أب فاضلة لتيتس الذي أخذ يترعرع صبياً فاتناً. ويمكن أن تراه في متحف متربوليتان للفن، وهو في الرابعة عشرة، جميلاً كالبنت، ذا عينين تتمثل فيها حيرة الشباب، تربكه الحياة، يجد شيئاً من الطمأنينة والأمان في حب أبيه، وتراه مرة أخرى في مجموعة ولاس، وقد سلخ عاماً آخر من العمر. وقد نتصور كل التصور كيف أنه كان عزاء وسلوى لأبيه رامبرنت الذي أنصب على رأسه الكوارث المالية في هذه السنة.

وبذل الفنان جهداً جباراً ليقتصد في الإنفاق ويصل إلى الموازنة بين موارده ونفقاته. وثمة لوحات دينية عظيمة يرجع تاريخها إلى هذه الحقيقة-حقبة

ص: 90

الزنى والديون (1649 - 1656) منها "يعقوب يبارك حفدته (143) "، و "المسيح عند النبع (144) "، و "المسيح وامرأة سامراً (145) "، و"النزول من الصليب (146) ". ومهما يكن من آمن فإن الصور الكنسية لم تكن مطلوبة في هولندة البروتستانتية. ومن ثم جرب يده في الأساطير، ولكنه لم ينجح إلا حين استطاع أن يكسو الأشخاص. ولم تكن لوحة "داناي (147) " جذابة. أما "أتينا (148) " و"مارس (149) " فكانتا فييدتين في بابهما. وظل يرسم صور شخصية تأخذ بمجامع الألباب. فإن صورة "نيقولا برونتج (150) " قد التقطت في لحظة مشرقة بالحياة والفكر، وصور "جان سكس (151) " تمثيل عمدة المدينة الهولندي في ذروة قوته وأسعد أوقاته، كذلك فإن رمبرانت رسم في هذه الفترة أشخاصاً غير ذوات أسماء، بعد دراسة عميقة:"الرجل ذو الخوذة الذهبية (152) "، و"الراكب البولندي (153) "، و"كوزيليوس قائد المائة (154) "، وتبدو معظم اللوحات الشخصية الأخرى إلى جانب هذه، ذات بريق سطحي.

وكان رمبرانت في سن الخمسين حين وقعت الكارثة. أنه قلما اهتم بأن يحسب ما له وما عليه، واشترى دون مبالاة الدار والفن، بل أسهم شركة الهند الشرقية (155). والآن وقد تخلفت معونات نصرائه ورعاته كثيراً عن الوفاء بمتطلباته، فإنه وجد نفسه وقد أثقلته الديون لدرجة تدعو إلى اليأس. وفي 1656، ورغبة في حماية تيتس، نقلت "محكمة الأيتام" في أمستردام، ملكية البيت الأبيض إلى الابن، ولو أنه سمح للوالد في الإقامة هناك لبعض الوقت. وفي شهر يولية أعلن إفلاس رمبرانت، وبيع أثاثه ولوحاته ورسومه ومجموعاته في عجلة كلفته كثيراً (1567 - 1658). ولكن العائدات كانت أقل كثيراً من أن تفي بالتزاماته. وفي 4 ديسمبر 1657 طرد من الدار، فتنقل من بيت إلى بيت حتى استقر به المقام في روزنبراخت في "حارة اليهود". وأنقذ من هذا الحطام نحو سبعة آلاف فلورين من أجل تيتس، الذي كون مع هندريكا رغبة منها في حماية رمبرانت، شركة بواسطتها بيع أعماله الباقية دون

ص: 91

أن تؤول إلى دائنيه. ويبدو أنهما أوليا الفنان الذي تتقدم به السنون، عناية كبيرة.

واستمر رمبرانت وسط هذه البلايا والمحن ينتج الروائع: "رجل على ظهر جواد" وقد بيعت حديثاً إلى المتحف الوطني في لندن مقابل 400 ألف دولار، واللوحة العجيبة "رأس رجل عجوز (156) "-وكأنه كارل ماركس في الثمانينات متحرراً من الأوهام، واللوحة الطبيعية المفعمة بالحيوية بدرجة مدهشة "امرأة تقص أظافرها (157) "-وربما تطلبت بعض الطقوس الدينية تنظيف الجسم كله ليلة السبت. وربما رسم آنذاك أيضاً بعض صور مروعة للفنان نفسه مثل:"رمبرانت وكراسة التخطيطية"(1657)، وهي موجودة في درسدن، ثم اللوحة الأكثر شهرة التي يبدو فيها وجهه العابس المتجهم وجسمه البدين المدثر (1658) وهي في مجموعة فريك في نيويورك، وصورته بكامل جسمه (1659) وهي فيينا، وصورة الوجه يعروه القلق والهموم (1659) في واشنطن.

وفي العقد الأخير من عمره (1660 - 1669) سهر للإبقاء على حياته ابنه وخليلته. ولكن كان مسكنه ضيقاً ومرسمه سيئ الإضاءة، ولا بد أن يديه فقدتا بعض اتزانهما نتيجة كبر السن والشراب، فلوحة "القديس متي الإنجيلي (158) " غير مصقولة في تركيبها، ولكن الملاك الذي يهمس في أذنه لم يكن سوى تيتس الذي يلغ الآن العشرين من العمر، ولا يزال جميلاً كالعروس. ثم جاءت في تلك السنة (1661) آخر روائع الفنان:"خبراء نقابة تجار الأقمشة (159) " فإن فاحصي القماش والمراقبين كلفوا الفنان بأن يخلد ذكرهم بصورة جماعية تعلق في دار رابطتهم. وربما كنا نغتفر بعض التردد في التركيب، وبعض الفجاجة في التفاصيل وبعض التقصير في إسقاط الضوء ولكن النقد في حيرة من الأمر ليعثر على غلطة في الصورة. فأن أمامية الصورة وخلفيتها اللتين تمكن منهما تمكن منهما الرسام جعلتا الشخوص الخمسة الرئيسية تقفز إلى

ص: 92

عين الرائي "كل منها شخص واحد منفصل"، ولكنهم جميعاً التقطوا في نفس اللحظة الحية التي التقى فيها تفكيرهم. وفي كثير من اللوحات التي رسمت في سنوات التهدم والتدهور هذه، يجد الخبراء علامات على انهيار الطاقة وانحطاط الأسلوب، بساطة الألوان، إهمال التفاصيل، العجلة في جريان الفرشاة وعدم الصقل. ولكنا، حتى في هذه الأيام نجد صوراً أخاذة، مثل "عود السخي (160) "-وهي تشخيص لا ينسى للصفح المحبب إلى النفس، و"العروس اليهودية (161) " وتلك ثمرة عجيبة مدهشة تأتي من شجرة تذوي وتذبل.

ولكنا لم نذكر شيئاً عن مناظر الطبيعة ورسومه وحفره. ولم يبرز أو يتفوق إلا القليل من المناظر الربيعية، ولكن الرسوم بلغت القمة بين مثيلاتها وثمة رسمان مشهوران:"مشهد أمستردام" بالقلم والحبر، الموجود في فيينا، و"المرأة العجوز جالسة" في برلين. ويعد إنتاجه في الحفر مضارعاً لأحسن ما أنتج في ناونج هذا الفن الشاق المجهد. وعرف أحد أعماله في هذا الفن "المسيح يشفي المرضى"، باسم "القطعة ذات المائة جيلدر" لأنها اشتريت بثمن لم يسبق له مثيل (1200 دولار؟). على أن نسخة منها على أية حال قدرت 1867 بمبلغ 35 ألف فرنك (20 ألف دولار؟).

أن 300 من أعمال الحفر، 200 من الرسوم و650 من اللوحات منجزات رمبرانت لا تزال باقية، تكاد تكون مشهورة مثل شهرة روايات شكسبير، وتكاد تكون متنوعة أصلية عميقة مثلها. وكلها تقريباً من صنع يديه. فعلى الرغم من أنه كان مساعدون، فإن أحداً منهم لم يشاركه سره في الكشف عما خفي وما لا يرى (162). وكانت بعض أعماله رديئة وبعضها منفراً، مثل "الثور المسلوخ" في اللوفر. وكان أحياناً يستنفذ كل جهده في الأسلوب الفني وفي أحيان أخرى يتجاوزه من أجل الرؤيا، أي رؤيا الفنان نفسه .. وكان، مثل الطبيعة، يتخذ موقفاً محايداً بين الجمال والقبيح، لأن الصدق عنده كان قمة

ص: 93

الجمال، وإن الصورة التي تمثل القبح حقاً هي صورة جميلة. وأبى أن يضفي أشكالاً مثالية على الشخوص في لوحاته الدينية، وأرتاب في أن يكون العبرانيون الوارد ذكرهم في التوراة على مستوى جمال اليهود في أمستردام، فصورهم على هذا النسق، ومن ثم انبعثوا من عالم الأساطير أو التاريخ إلى الحياة. وازداد شيئاً فشيئاً مع تقدمه في السن، حبه للبسطاء من الناس حوله، لا حب من جردهم السعي وراء الكسب من الروح الإنسانية. وعلى حين أن بعض الفنانين، مثل روبنز، التمسوا موضوعاتهم بين أرباب الجمال أو السعداء أو الأقوياء وأصحاب السلطان، فإن رمبرانت كان يسخو بفنه الحنون على المنبوذين والمرضى والبؤساء، حتى المشوهين ذوي العاهات، وعلى الرغم من أنه لم يسخر من الدين أو لم يهزأ به، فقد بدا أنه على غير وعي منه، يجسد موقف السيد المسيح وويتمان تجاه أولئك الذين أخفقوا، أو أبو أن يشتركوا، في صراع كل إنسان مع سائر بني الإنسان.

ولنلق نظرة أخيرة عليه في صوره الشخصية في شيخوخته. وليس هنا زهواً أو خيلاء، بل على النقيض، أنها قصة حياة الفنان بفرشاته هو، في أيام الخيبة والهزيمة. أنه عندما صور نفسه 1660 (163)، كان لا يزال يواجه الحياة بمزيج من الشجاعة والاستسلام، فإن الوجه القصير السمين غير الحليق كان ساخراً لم يكن حزيناً، وكان لا يزال يتحرك قدماً. ولكن في صورة أخرى (174) في نفس العام، كانت ثمة نظرة قلقة حائرة تعتم الوجه وتكسوه بالتجاعيد حول الأنف الضارب للحمرة وفي 1661 رأى نفسه (175) في نفس الحيرة والارتباك. ولكنه لم يبال بالتجاعيد بطريقة فلسفية. وصور نفسه في عامه الأخير (166)، وكأنما وجد الطمأنينة وهدوء البال في ارتضاء قيود الحياة وحدودها ومرحها الساخر. وماتت هندريكا 1662، ولكن ظل تيس يمتعه بمنظر الشباب، وفي 1668 ابتهج الشيخ العجوز بزواج ابنه. ولما لحق الابن بالخليلة في هذا العام نفسه، فقد الفنان قدرته على التشبث بالحياة. وجاء في سجل

ص: 94

الوفيات في الكنيسة الغربية في 8 أكتوبر 1669 رمبرانت فان رين-الرسام

يترك طفلين.

وكاد معاصروه أن لا يلحظوا وفاته. ولم يحلم أحد منهم قط بوضعه في مرتبة روبنز، أو حتى فانديك، وكتب عنه معاصروه-جويشم (يواقيم) فون ساندرات أن ما كان يعوزه أساساً هو المعرفة بإيطاليا وغيرها من الأماكن التي تهيئ الفرص لدراسة القديم ودراسة نظرية الفن. (ويبدو لنا الآن أن هذا هو سر عظمته). ولو أنه عالج أموره بمزيد من الحزم والتعقل، وأبدى مزيداً من اللباقة في المجتمع، فلربما أصبح أكثر ثراء، ولقد عانى فنه من ميله إلى صحبة السوقة (167). واتفق رسكين مع مؤرخ الفن الألماني حيث قال: "أن الفظاظة والتبلد والتجرد من التقوى تعبر دائماً عن نفسها في الألوان السمراء والرمادية، كما هز الحال مع رمبرانت

أن هدف أحسن الرسامين أن يصوروا ما تقع عليه أعينهم في وضح النهار أو في ضوء الشمس، ولكن رمبرانت كان يسعى إلى رسم أقذر الأشياء التي يراها وأبشعها-في ضوء شمعة (168). ولكن يوجين دي لاكروا الذي عكس التطورات الديمقراطية في فرنسا قال "ربما يأتي يوم نجد فيه رمبرانت رساماً أعظم من رافاييل. وأني لأكتب الآن-دون تحيز-هذا التجديف الذي لابد سوف يسبب انتصاب شعر الأكاديميين غضباً ودهشة (169). وينزع النقاد اليوم إلى رفع رمبرانت فوق مرتبة رافلييل وفلاكويز ومساواته فقط بالفنان الجريكو (170) وإنا لندرك أن "الصدق" هو وظيفة الزمن وتابعه.

أية سلسلة وأية هوة من روبنز إلى رمبرانت-بين الضوء البهيج والظل الكئيب بين الهاوية والحاشية، بين نبيل أنتورب السعيد بانغماسه في اللهو والفجور في وطنه في القصور مع الملوك، ومفلس أمستردام الذي عرف أحط الأعماق، ولازم الحزن والأسى. إنك إذ ترى هذين الرجلين على أنهما عنصري

ص: 95

طباق في تناغم قوي، إنما تحس بطريقة أخرى بعظمة أمة صغيرة صارعت إمبراطورية عملاقة، كما تحس بتعقد المدنية التي استطاعت أن تنتج، في ناحية، ثقافة كاثوليكية تزين ابتهاج مذهبها الذي لا يرقى إليه الشك، بالأساطير وأضرحتها العزيزة عليها بالفن، وفي الناحية الأخرى ثقافة بروتستانتية استطاعت أن تفدي وتربي أعظم فنان وأعظم فيلسوف في ذاك العصر.

ص: 96

الفصل التاسِع عشر

‌ظهور دول الشمال

‌1559 - 1648

1 -

الدنمارك دولة عظمى

فلنلق نظرة على الخريطة. فإن الخرائط مثل الوجوه، هي شارات التاريخ وتوقيعاته.

عندما ارتقى فردريك الثاني العرش 1559 كانت الدنمارك من أقوى الدول وأكثرها امتداداً في أوربا، ولم تكن تعلمت بعد أنه من الحذق والحكمة أن تكون صغيرة. وفي الصراع الطويل الأمد بينها وبين السويد من أجل السيطرة على التجارة بين بحر الشمال والبلطيق، كانت الدنمارك هي المنتصرة في بداية الأمر، حتى امتد حكمها عبر الاسكاجراك إلى النرويج، وعبر الكاتيجات إلى ما هو الآن جنوب السويد. واستولت على المدن الاستراتيجية كوبنهاجن وهلسينور في الجانب الغربي، ودالمو وهلسنبور في الجانب الشرقي من الأوريسوند أو السوند-أي المياه العاصفة التي لا يزيد اتساعها في مكان واحد فقط على ثلاثة أميال ونصف الميل. والتي تفصل الآن الدنمارك عن السويد. واستولت في أقصى الشرق، في معظم هذه الفترة، على جزر بورنهلم وجوتلفد وأوسل، وبذلك تحكمت في بحر البلطيق. وكانت تضم في الجنوب دوقتي شلزويج وهولستين، كما حكمت في أقصى الشمال الغربي أيسلنده وجرينلند وكانت الضرائب والرسوم التي فرضتها الدنمارك على التجارة المارة عبر المضايق بين البحار هي المصدر الأساسي لموارد المملكة ولسبب الرئيسي في حروبها.

وكانت السلطة السياسية في أيدي ثمانمائة من النبلاء ملكوا نصف الأرض

ص: 97

وجعلوا من الفلاحين أرقاء، وانتخبوا الملك، وحكموا البلاد عن طريق الريشستاغ أو الديت الوطني (الجمعية التشريعية) والريجستاد أو مجلس الدولة. وأفادوا من حركة الإصلاح الديني بامتصاص معظم الممتلكات التي كانت تابعة للكنيسة من قبل. وفي مقابل إعفائهم من الضرائب، كان متوقعاً منهم ولكنهم رفضوا في أغلب الأحيان، أن يسلحوا فلاحيهم ويقودوهم إلى الحرب، إذا استفزهم الملك، ولم يحظَ رجال الدين البروتستانت المحرومين من الثورة إلا بمكانة اجتماعية هزيلة ونفوذ سياسي ضئيل، ومهما يكن من أمرهم فإنهم سيطروا على التعليم وأشرفوا على الأدب، ومن ثم لم ينتج إلا لاهوتاً وتراتيل. ونعم جمهور السكان. وقد بلغ عددهم نحو مليون، بالإسراف بالطعام والشراب، حتى لقد نصح حلاق جراح عملاءه قائلاً: "إنه لمن الأفضل للناس أن يشربوا الخمر إلى حد الثمل مرة في كل شهر، وعندي لهذا أسباب قوية، فإنه يقويهم ويساعدهم على النوم العميق، ويسهل التبول والتنفس ويجلب السعادة الرفاهية عامة (1).

وظهر في هذه الحقبة شخصيتان دنيماركيتان من حقهما على التاريخ أن يذكرهما: تيكوبراهي أعظم الفلكيين في هذا الجيل، وكرستيان الرابع الذي لم يكن ملكاً على الدنيمارك لمدة ستين عاماً (1588 - 1648) فحسب، بل كان يمكن كذلك أن يتزعم الناس بصرف النظر عن الأصل الملكي. وإنا لنمر مروراً عابراً بوالده فردريك الثاني لنذكر أن المهندس المعماري الفلمنكي أنطونيوس فإن أوبرجر صمم له (1574 - 1575) حصن قصر كرونبورج في هلسينور-"السينور هملت".

وعندما مات فردريك 1587 كان كريستيان صبياً في الحادية عشرة، فتولى الحكم لمدة ثمان سنوات أربعة أوصياء من النبلاء، ثم قبض كريستيان على زمام الأمور، وطيلة نصف القرن التالي. نعم بحياة مترفة في بذخ وحيوية ونشاط متعدد الجوانب، مما أدهش كل أوربا، وبز الملك توجيهات الحلاق

ص: 98

الجراح سالف الذكر، لأنه كان بانتظام في حاجة إلى من يعاونه في العودة إلى قصره بعد أمسية صاخبة مخمورة. وبلغ دنسه وتهتكه حداً لم يتفوق عليه فيه إلا القليل من رعاياه. وخلق عدد أولاده غير الشرعيين مشكلة في علم المحاسبة. وغض شعبه النظر عن هذه الأخطاء العادية، وأحبوه لأنه كان يرقص في أعراسهم واشترك في أعمالهم وخاطر بحياته كثيراً لخدمتهم، وأضاف إلى هذا كله معرفته باللاتينية والعلوم، وتذوقاً مثقفاً للفن، وعقيدة دينية ميسرة لم تثر أي جدل حول الجدير وغير الجدير بالتصديق والثقة، أو أي وخز للضمير حول المزاح والهزل. وساعد في أوقات فراغه على أن يجعل من كوبنهاجن (مرفأ التجار) إحدى العواصم الأكثر جاذبية وفتنة في أوربا. وضاعف برنامجه للبناء من محيط المدينة (2) وفي عهده شيد قصر روزنبورخ، وسرعان ما قامت بعده سوق الأوراق المالية (البورصة) بواجهتها امتداداً كبيراً، وأرتفع اللوبي عالياً. وأصلح كريستيان حكومة النرويج وطور صناعتها وأعاد بناء عاصمتها التي حملت اسمه لمدة ثلاثة قرون:"كريستيانا"(سميت أوسلو 1925). وفي الدنمرك أصلح الإدارة ونهض بالصناعات ونظم الشركات التجارية وأسس الكليات والمدن، ورفع من مستوى الفلاحين في الضياع الملكية.

وأطاح الطمع بالملك، ذلك أنه كان يراوده حلم إسكنديناوة بأسرها تحت حكم رجل واحد، أي تحت حكمه هو، ولكن النبلاء اعترضوا بأنه من المتعذر غزو السويد، ولم يمنحوه تأييدهم وعونهم وشن بالجنود المرتزقة أساساً حرب الكلمار على السويد (1611 - 1613). وما أن قامت حرب الثلاثين عاماً حتى وجد نفسه على كره منه، متحالفاً مع السويد، دفاعاً عن قضية البروتستانت. وبرغم هذا الخطر المحدق به استأنف الحرب مع السويد (1643) ولو أنه كان في السابعة والستين من العمر. وقاد قواته الهزيلة في حماسة رومانتيكية. وفي معركة كولمبرج البحرية (1644) قاتل طوال يوم كامل على الرغم من إصابته بعشرين جرحاً، وفقد إحدى عينيه،

ص: 99

وأحرز نصراً مؤقتاً. وثبت في آخر الأمر أن السويد أقوى، وحررها صلح برومسبرو 1645 من دفع الرسوم على تجارتها في مياه السويد، وتخلى لها عن جوتلند وأوزل وثلاث مقاطعات في شبه جزيرة إسكنديناوة. وعندما مات كرستيان الرابع، بعد خمسين عاماً من أعمال بناءة وحروب هدامة كانت مملكته أصغر مما كانت عليه حين اعتلى العرش. ودالت دولة الدنمرك وسطوتها.

‌2 - السويد

1560 -

1654

أ- المذاهب المتصارعة

1560 -

1611

فيما بين جوستاف فاسا مؤسس السويد الحديثة وجوستاف أدولف منقذ البروتستانتية ومخلصها، تلبد تاريخ السويد بسحب الصراع بين الشيع الدينية من أجل السلطة السياسية. وكان المليك (الفاسا) الأول قد حرر السويد من نير الدنمرك. ووحد البلاد تحت حكم ملكية وراثية قوية. على حين أن أوليجاركيات النبلاء ساعدت على ضعف الدنمرك وبولندة وعلى الإقطاع فيهما. وكان الفلاحون في السويد أحراراً، وكانوا يمثلون في مجلس الديت (الركسداج) مع النبلاء ورجال الدين وممثلي المدن. وكانت لفظة بوند Bonde التي كانت في الدنمرك الرقيق، تعني السويد لقباً كريماً للرجل الحر الذي يفلح أرضه الخاصة به. ولكن المناخ كان يحد من موارد الأرض بشكل قاس، كما كان يحد منها قلة عدد السكان، وسيطرة الدنمرك على ثلاث مقاطعات في شبه الجزيرة الإسكنديناوية وعلى مياه السويد. وامتلأت قلوب النبلاء غيظاً بسبب خضوعهم من جديد للملك، وكانت الكنيسة قد جردت من أملاكها في السويد، فدأبوا على تدبير المؤامرات للاستحواذ على الشعب واسترداد أملاك الكنيسة والاستيلاء على العرش.

ولم يكن أريك الرابع عشر-ابن جوستاف فاسا- (1560 - 1568)

ص: 100

مؤهلاً لمواجهة هذه المشاكل. لقد كان يتجلى بالشجاعة والمقدرة ولكن طبعه العنيف أفسد عليه دبلوماسيته، وأدى به إلى القتل والجنون. وأثار حفيظة النبلاء بقتل خمسة من زعمائهم، قتل هو أحدهم بيده. وواصل ضد الدنمرك "حرب السنين السبع الشمالية (1563 - 1570). ومهد نغزو ليفونيا لحروب مقبلة. ونفر منه أخاه جون باعتراض سبيله في زيجة كان يمكن أن تجعل منه وريثاً لعرش بولندة، فلما تزوج جون، رغم أنف أخيه، من الأميرة كاترين جاجللون، احتجزه أريك في قلعة جريشولم. وجاءت كاترين لتشاطر جون ويلات السجن، وأغرته باعتناق المذهب الكاثوليكي. وفي 1568 أرغم أريك أخوته على التخلي عن العرش. وبعد ستة أعوام قضاها في السجن أعدم بأمر من الديت والملك الجديد.

وعقد جون الثالث (1568 - 1592) صلحاً مع الدنمرك ومع النبلاء، وأذكى نار الخلاف الديني من جديد. فإن زوجته كانت تغريه في الليل، أكثر منها بالنهار، باعتناق الكاثوليكية. وبإذن منه دخل الجزويت إلى السويد متنكرين، وأخذ أقدرهم، وهو أنطونيو بوسيفون، على عاتقه تحويل الملك إليها، وكان وخز الضمير قاسياً كلما تذكر جون موافقته على قتل أخيه، وأن عذاب النار هو العقاب الذي لا مفر منه لخطيئة مثل هذه. ولكن بوسيفون أغراه بأنه لا منجاة من هذا الجحيم الذي ينتظره إلا بالاعتراف وطلب الغفران في الكنيسة التي يعتقد الناس جميعاً بأن السيد المسيح هو الذي أقامها. وأذعن جون وتناول القربان المقدس وفق الطقوس الكاثوليكية، ووعد بأن يجعل الكاثوليكية دين الدولة شريطة أن يرخص البابا لرجال الدين السويديين في الزواج، وأن يقام القداس باللغة الوطنية، وأن يقدم القربان المقدس بالنبيذ والخبز على السواء. وقصد بوسيفون إلى رومة ولكن البابا رفض الشروط، فعاد الجزويتي صفر اليدين. وأصدر أوامره إلى الجزويت بتناول القربان بكلا نوعيه وبتلاوة القداس باللغة السويدية فرفضوا ورحلوا. وماتت كاترين الكاثوليكية في 1584. وبعد ذلك بعام واحد

ص: 101

تزوج جون من سيدة بروتستانتية ردته ثانية إلى المذهب اللوثري، في الليل أكثر منها في النهار.

وفي أغسطس انتخب ابنه الكاثوليكي لعرش بولندة تحت اسم سجسمند الثالث. ووفقا لقانون كالمر اتفق الوالد والولد على أنه بعد وفاة جون يصبح سجسمند ملكاً على بولندة والسويد معاً. ولكن سجسمند آل على نفسه أن يحترم استقلال السويد السياسي والمذهب البروتستانتي. وعند وفاة جون (1592) انعقد مجلس الديت تحت رياسة أخيه الدوق شارل في مدينة أبسالا (25 فبراير 1593) وكان يضم 300 من رجال الدين و300 من العلمانيين-النبلاء وممثلو المدن وعمال المناجم والفلاحين، واتخذ مذهب أوجزبرج اللوثري 1540 مذهباً رسمياً للكنيسة والدولة في السويد. وأعلن هذا المجتمع التاريخي (مجمع أبسالا) أن الأمة لن تتقبل غير اللوثرية ولن تتسامح مع غيرها، وألا يعين في المناصب الكنسية أو السياسية إلا اللوثريون الأقداح وألا يتوج سجسمند في السويد إلا بعد قبوله لهذه المبادئ. وفي الوقت نفسه اعترفوا بالدوق شارل نائباً للملك عند غيابه عن العرش.

ولكن سجسمند الذي تلقى تعليمه على أيدي الجزويت، كان يحلم بضم السويد وروسيا إلى حضير الكثلكة. ولما وطأت قدماه أرض ستوكهلم (سبتمبر 1593) وجد كل الزعماء السويديين تقريباً مجمعين على طلب أوثق ضمان لامتثاله لإعلان أبسالا. وظل خمسة أشهر يبحث عن حل وسط، ولكن الزعماء بقوا على عنادهم، وجمع الدوق شارل جيشاً. وأخيراً أعطى سجسمند التعهد المطلوب، وتوجه أسقف لوثري في أبسالا (فبراير 1594). ولكن سرعان ما أصدر سجسمند بياناً احتج فيه بأنه أكره على هذا التعهد تحت الضغط والتهديد، وعين ستة من كبار الموظفين لحماية الكاثوليك الباقين في السويد، وفي أغسطس عاد أدراجه إلى بولندة.

وأعد الدوق شارل وأنجر مانوس رئيس أساقفة أبسالا العدة لتنفيذ

ص: 102

قرارات المجمع. ودعا مجلس الديت في سودر كوينج (1595) إلى القضاء على كل عبادة كاثوليكية، ونفى كل الطوائف المعارضة للمذهب البروتستانتي، وأمر بأن يضرب بالعصا كل من يتخلف عن حضور الصلوات اللوثرية، ووقع هو العقوبة بنفسه عند زيارته للكنائس (3). وأغلق كل ما بقي من الأديار، وأزيلت كل الأضرحة الكاثوليكية.

وتوسل إلى سجسمند مستشاره أن يغزو السويد بجيش كبير. ورأى هو أن خمسة آلاف جندي تفي بالغرض. وحط رحاله بهم في السويد (1598) واشتبك معه شارل في ستجبرج فهزم. وفي اشتباك آخر في ستانجبرو انتصر الدوق. ووافق سجسمند من جديد على إعلان أبسالا وعاد إلى بولندة. وفي يولية 1599 خلعه الديت السويدي، وأصبح الدوق شارل الذي ما زال نائباً للملك، الحاكم الفعلي للدولة. وأقر مجلس الديت (1604) قانون الوراثة الذي نص على ألا يتولى العرش إلا كل ذكر أو أنثى من أسرة فاسا يرتضي العقيدة اللوثرية المقررة وأن كل مخالف لها لا يحق له الإقامة أو التملك في السويد. "فكل أمير ينحرف عن مبادئ أوجزبرج لابد بطبيعة الحال أن يفقد تاجه (4) " ومن ثم كان الطريق معبداً لاعتلاء جوستاف أدولف ابن شارل عرش السويد، ولتخلي حفيدته كريستينا. وفي 1607 توج شارل التاسع ملكاً.

وأصلح شارل الحكومة المختلة، ونهض بالتعليم والتجارة والصناعة، وأسس مدن كارلستاد مدن فيلبستاد وماريستاد وجوتبورج، وهيأت هذه الأخيرة للسويد منفذاً طيباً إلى بحر الشمال، متغلبة بذلك على سيطرة الدنمرك على المضايق. وأعلن كريستيان الرابع الحرب (أبريل 1611) وغزا السويد. وتحدى شارل، وهو في الحادية والستين من العمر، كريستيان لمبارزة فردية. فرفض هذا الأخير. ومات شارل في أكتوبر 1611، والقتال على أشده، ولكن قبل موته وضع يده على رأس ابنه وقال "أنت لها". وقد كان لها فعلاً (5).

ص: 103

ب- جوستاف أدولف

1611 -

1630

وكان أعظم شخصية رومانتيكية في تاريخ السويد، وهو في سن السادسة عشر آنذاك. وكانت أمه ألمانية، ابنه الدوق أدولفس هولتين جوتورب. ولقنه أبوه وأمه تعليماً صارماً في اللغتين السويدية والألمانية وفي المذهب البروتستانتي. وما أن بلغ الثانية عشرة حتى كان قد درس اللاتينية والإيطالية والهولندية. والتقط بعد ذلك شيئاً من الإنجليزية والأسبانية، بل حتى البولندية والروسية، وأضيف إلى هذا كله جرعة قوية من الأدب القديم انسجم مع تدريبه في الألعاب الرياضية والشؤون العامة وفنون الحرب وبدأ في سن التاسعة يشهد جلسات الديت، واستقبل السفراء في الثالثة عشرة وفي الخامسة عشرة حكم إحدى المقاطعات، وفي السادسة عشرة اشترك في القتال. وكان طويل القامة وسيماً دمثاً كريماً رحيماً ذكياً، باسلاً. وماذا يتطلب التاريخ أكثر من هذا في الرجل؟ وكانت له في السويد شعبية عارمة إلى حد أن أبناء النبلاء الذين أعدمهم شارل التاسع بتهمة الخيانة، وأسرعوا طائعين مختارين إلى خدمته.

ولم تبرز في جوستاف أدولف نزعة آل فاسا إلى المزاج الفردي والعنف ولكنها برزت في حبه للحرب. ولقد ورث عن أبيه حرب الكلمر ضد الدنمرك، فشن الحرب عليها في حماسة بالغة ولكنه أحس بأن هذه الحرب تسلك سبيلاً بعيداً عن الرشاد والسداد، فدفع للدنمرك في 1613 مليون طالير (عملة ألمانية قديمة-10 مليون دولار) مقابل السلام بينهما ومقابل حرية السفن السويدية عبر المضايق ومياه السوند. وفي هذه المرحلة من نشاطه كان مهتماً بإبعاد روسيا عن البلطيق، فكتب إلى أمه يقول: "إذا أدركت روسيا قوتها في أية لحظة، فإنها لا تستطيع اجتياح فنلندة (وكانت آنذاك جزءاً من السويد) من الجانبين فحسب، بل تستطيع كذلك حشد أسطول في البلطيق، يعرض أرض الأجداد للخطر (6) فأرسل أعظم قواده دهاء-جاكوب

ص: 104

دي لاجاري-ليغزو انجريا، وفي 1615 حاصر بنفسه بسكوف. وكانت المقاومة الروسية مرهقة ولكن بالتهديد بالتحالف مع بولندة، استطاع جوستاف أن يقنع القيصر ميكائيل رومانوف بعقد صلح (1617) يعترف بسيطرة السويد على ليفونيا واستونيا وشمالي غربي انجريا، بما في ذلك لننجراد الحالية. وسدت منافذ البلطيق أمام روسيا. وكان جوستاف يفخر بأن روسيا لا تستطيع تسيير سفينة واحدة في البحر دون إذن من السويد.

ثم ولى وجهه شطر بولندة حيث كان مليكها سجسمند الثالث لا يزال يطالب بعرش السويد. وكانت الكاثوليكية آنذاك منتصرة في بولندة، ومتلهفة على فرصة تسنح للسيطرة على السويد، وفوق ذلك كانت بولندة بما لها من ثغور قوية في دانزج وممل وليبو وريغا، منافساً أقوى من روسيا، في السيطرة على البلطيق والتحكم فيه. وفي 1621 قاد جوستاف 158 سفينة و19 ألف جندي لحصار ريفا التي كان يمر بها ثلث صادرات بولندة، وكانت غالبية سكانها من البروتستانت، وقد لا يستاءون من غزو سيد أجنبي لها. فلما استسلمت دون مقاومة، عاملها جوستاف في رفق ولين ليضمن وقوفها إلى جانبه، وفي أثناء الهدنة التي استمرت ثلاث سنوات مع بولندة، استطاع هو أن يقوي روح جيشه وضبطه ونظامه، وجعل-مثل معاصره كرومويل-من التقى والورع أداة للخلق العسكري. ودرس فن موريس ناسو العسكري، وتعلم كيف يمكن كسب المعارك بسرعة الحركة وبالاستراتيجية البعيدة النظر. واستقدم من هولندا خبراء فنيين ليعلموا رجاله تكتيك الحصار واستخدام المدفعية. وفي 1625 عبر البلطيق مرة ثانية واستولى على دوريات، وثبت سيطرة السويد على ليفونيا، وأوصد البلطيق تماماً في وجه لتوانيا. وبعد سنة أخرى أخضعت جيوشه بروسيا الشرقية والغربية، وكانتا خاضعتين للتاج البولندي. ولم تصمد سوى دانزج. وصارت الأقاليم المفتوحة مقاطعات سويدية، وطرد منها الجزويت، وجعلت اللوثرية المذهب الرسمي. وكانت

ص: 105

أوربا البروتستانتية ترنو إلى جوستاف، على أنه منقذها المنتظر من الحرب الكبرى التي كانت تجتاح ألمانيا آنذاك.

وفي أوقات السلم واجه جوستاف مشكلات الإدارة الداخلية بذكاء وحنكة أقل منهما في الحرب. وكان أيام غيابه في المعارك يعهد بحكومة البلاد إلى النبلاء وكان يبيح لهم، ضماناً لولائهم، احتكار المناصب وشراء أراضي التاج الشاسعة لقاء ثمن زهيد. ولكنه وجد فسحة من الوقت لتثبيت دعائم الموارد المالية وإعادة تنظيم المحاكم والخدمات البريدية والمستشفيات وتحسين أحوال الفقراء. وأسس المدارس المجانية وجامعة دوربات، وأغدق بسخاء على جامعة أبسالا، ونهض بالتعدين وعلم المعادن. ولم يكن نجاحاً يسيراً، من بين ما حققه من نجاح في مجالات مختلفة، أن السويد توافرت فيها الموارد والخبرات والمهارة لصناعة الأسلحة. وشجع التجارة الأجنبية عن طريق منح الاحتكارات، ومنح شركة البحار الجنوبية السويدية امتيازاً. وروع وزيره أوكسنستيرنا، الذي عرف بهدوئه في مواجهة الأزمات، بطاقة مليكه ونشاطه فقال:"إن الملك يشرف على المناجم والتجارة، والصناعات والجمارك ويوجهها كما يدير موجه الدفة سفينته (7) " وتوسل إلى جوستاف أن يخفف من نشاطه، فأجابه الملك بقوله:"لو كنا جميعاً في مثل برودتك لتجمدنا" فرد عليه الوزير بقوله "ولو كنا جميعاً في مثل حرارة جلالتكم لاحترقنا (8) ".

وكان الآن لزاماً أن تندس الحمى المدمرة التي تضطرم بين جنبي الفارس السويدي إلى "حرب الثلاثين"، فقد قال:"إن كل حروب أوربا يعلق بعضها ببعض (9) " وكان قد لحظ بقلق بالغ انتصارات ولنشتين وتقدم جيوشل هيسبرج في شمال ألمانيا وانهيار مقاومة الدنمرك، وتحالف بولندة مع النمسا، وهما كاثوليكيان، ومن ثم فسرعان ما قد تسعى قوات آل هيسبرج إلى السيطرة على البلطيق. وبذلك قد تصبح تجارة السويد وعقيدتها وحياتها تحت رحمة الإمبراطورية والبابوية. وفي مايو 1629 أرسل جوستاف إلى مجلس الديت السويدي تحذير من خطة ولنشتين في أن يجعل من البلطيق

ص: 106

بحيرة يتحكم فيها آل هبسبرج. وأوصى بالهجوم على أنه خير وسيلة للدفاع، وأهاب بالأمة أن تهب لمساندته وتميل دخوله في معركة فاصلة (هرمجدون-سهلمجدو-العهد الجديد رؤيا يوحنا 16: 16 - معركة فاصلة بين الخير والشر) تحدد مصير المذاهب اللاهوتية. وكانت السويد مثقلة فعلاً بأعباء حملاته، ولكن مجلس الديت والشعب استجاباً لندائه وبمعونة ريشليو أقنع بولندة بعقد هدنة مدتها ست سنوات (سبتمبر 1629). وقضى تسعة شهور في جمع السفن والمؤن والجنود والحلفاء. وفي 30 مايو 1630 خطب في الديت خطبة وداع مؤثرة بليغة، وكأنما كان قلبه يحدثه بأنه لن يرى السويد ثاني، وفيما بين 26 - 28 يونية ألقت سفنه مراسيها على جزيرة على مسافة من شواطئ بوميرانيا، وأطلق جوستاف إلى ساحة المجد والموت معاً.

جـ- الملكة كريستينا

1632 -

1654

عين جوستاف، عندما كانت ابنته وريثة عرشه طفلة في الرابعة-واحد من أقدر رجال الدولة والسياسة في هذا العصر الزاخر بالعباقرة. هو الكونت أكسل أو كسنسترنا، وصياً. وقد وصفته كريستينا فيما بعد بقولها:"لقد درس وتعلم كثيراً في شبابه، ودأب على الدرس في زحمة العمل. وكانت قدرته ومعرفته بشؤون العالم وأحواله عظيمتين جداً. وعرف مواطن القوة والضعف في كل دولة في أوربا. وكان طموحاً، ولكنه كان كذلك مخلصاً غير قابل للإفساد أو الرشوة، ومن ناحية أخرى بطئ متوان بارد المزاج لا يبالي، إلى حد كبير"(10). وعرف عن الكونت أنه-صموت، وأما عدم إفصاحه عن شيء، حتى وهو يتحدث، فهذا هو نصف في الدبلوماسية. وعلى مدى عامين حكم الكونت السديد حكماً صالحاً حين كان الملك جوستاف يخرج للحرب في أماكن بعيدة. ثم، بوصفه وصياً على كريستينا، وجه جيوش السويد في ألمانيا، كما أدار دفة الأمور في الداخل، ولم تنعم أية دولة في أوربا طيلة هذه الأعوام الاثني عشر بحكومة أفضل من حكومة السويد. وفي 1643 صاغ ما يعرف "بشكل الحكومة" حدد فيه تشكيل كل فرع في الإدارة وصلاحياته وواجباته. وهذا هو أقدم نموذج معروف لدستور مسطور.

ص: 107

وفي 1644 أحست كريستينا، وهي الآن في ربيعها الثامن عشر، أنها قادرة على حكم هذه الأمة الشديدة الحساسية النابضة بالحياة، والتي بلغ عدد سكانها المليون ونصف المليون من الأنفس. والحق أنها تحلت بكل قدرات ومواهب رجل ذكي مبكر النضج. وقالت هي عن نفسها:"خرجت إلى الحياة وكل سلاحي شعري، وكان صوتي قوياً خشناً، مما جعل النساء يفكرن أني صبي، وعبرن عن فرحتهن بهتافات ظللت الملك في أول الأمر (11) ". وقابل جوستاف نبأ اكتشاف أنها أنثى في رجولة مهذبة، وأحبها حباً عميقاً حتى بدا أنه راض عن أن تكون هي وريثة سلطانه وعرشه. على حين أن أمها ماريا الينورا أوف براندنبرج لم تغفر لها قط كونها أنثى. وربما أسهم استياء الأم في أن كريستينا صارت أكثر شبهاً بالرجل قدر ما كان يسمح لها جسمها وتكوينها بذلك، فأهملت شخصها عن عمد، واحتقرت التزين، وأقسمت كما يقسم الرجال، وأحبت أن تتربى بزيهم، واعتادت على ألعابهم، وركبت منفرجة الساقين بأقصى سرعة، واصطادت في تهور واندفاع، وجندلت فريستها من أول طلقة. ولكنها كانت تقول: لم لأقتل مرة حيواناً إلا وأحسست بالشفقة نحوه (12) ".

وعلى الرغم من هذا كله، تجلت في كرستينا بعض مفاتن النساء. وفي 1653 كتب بيرهيوت الذي أصبح فيما بعد أسقف آفرانش يقول: "وجهها دقيق جميل، وشعرها ذهبي وعيناها براقتان

يرتسم التواضع على وجهها، ويبدو عندما تحمر وجنتاها خجلاً لدى سماعها أية لفظة نابية (13) ". وقال قسيس الاعتراف الجزويتي لدى السفير الأسباني:"ولم تكن تطيق فكرة الزواج، لأنها ولدت حرة طليقة، ولسوف تموت حرة طليقة كذلك (14) ". ويبدو أنها كانت تحس أن الاتصال الجنسي ليس بالنسبة للمرأة إلا ضربا من المذلة والهوان. ولا ريب في أنها أدركت-كما أدركت اليزابث ملكة إنجلترا، أن زوجها لابد أن يطمع في أن يكون ملكاً. وكانت تعي أخطاءها بشمل بالغ الحساسية وتعترف بها في شجاعة وجرأة". كنت قليلة الثقة بالناس،

ص: 108

شكاكة طموحة إلى حد الإفراط، حادة الطبع، فخورة مغرورة، مزدرية للناس، هجاءة، لم ارحم أحد، مفطورة على الشك، قليلة التعصب أو التحمس للدين (15)" ولكنها كانت كريمة إلى حد الإسراف، مخلصة في عملها. ويقول القسيس الجزويتي "كانت لا تنام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات، فإذا استيقظت قضت خمس ساعات في القراءة. ولم تشرب قط إلا الماء القراح، ولم تسمع قط تتحدث عن طعامها أهو جيد أم رديء الطهي

وكانت تحضر إلى مجلسها بانتظام

وانتابتها الحمى مرة لمدة ثمانية وعشرين يوماً لم تهمل فيها قط شؤون الدولة

واتصل السفراء بها وتعاملوا معها مباشرةً، فلم يمروا قط يوماً على سكرتير أو وزير (16) ".

ولم تتطلع إلى تنافس الشبان في ألعابهم ورياضتهم، ورجال البلاط في مجال السياسة فحسب، بل أنها أرادت كذلك أن تنافس العلماء في علمهم، لا في اللغات والآداب وحدها، بل في العلوم والفلسفة أيضاً. وما أن بلغت الرابعة عشرة حتى كانت قد درست الألمانية والفرنسية الإيطالية والأسبانية وفي الثامنة عشرة درست اللاتينية، وبعد ذلك بقليل اليونانية والعبرية والعربية، وقرأت للشعراء الفرنسيين والإيطاليين وأحبتهم، وحسدت فرنسا على مدينتها التي تفيض حيوية ونشاطاً ومرحاً. وراسلت في لهفة وحماسة، الباحثين، ورجال العلم والفلسفة في عدة بلاد، وجمعت مكتبة ضخمة تضم مخطوطات قديمة نادرة، هرع الطلبة للرجوع إليها والتزود منها من كل حدب وصوب. وعند وفاتها تأثر الخبراء بذوقها الرفيع الذي تجلى في اقتناء اللوحات والتماثيل والقطع الفنية المزخرفة بالمينا والمنقوشة على الخشب والمعدن، والتحف الأثرية. لقد جمعت العلماء، كما جمعت روائع الفن. وتاقت إلى رؤية العلماء والنقاد والمفكرين يحيطون بها، وجذبت إلى بلاطها كلوديوسي سالماً سيوسي وايزاز فوسيوسي. وهوجو جروشيوس ونيقولا هنسيوس، وأجزلت لهم العطاء في سخاء، ومن لم يستطع منهم الحضور أرسلوا إليها كتبهم مع شكرهم وتقديرهم-مثل سكارون وجي دي بلزاك ومد موازيل

ص: 109

دي سكود بري. أما ملتون الوقور فإنه-على حين كان يشن هجوماً عنيفاً على سالما سيوس سالف الذكر-صرح لحكم العالم بأسره، لا أوربا وحدها (17)". وأرسل إليها باسكال آلته الحاسبة مع رسالة بالغة الرقة يهنئها ويمتدحها بأنها متربعة على عرش مملكة العقل والحكم معاً (18) ".

وكان غرامها شديداً بالفلسفة، وراسلت جاسندي، الذي هنأها-كما هنأها مائة غيره، بأنها حققت حلم أفلاطون في وجود ملوك فلاسفة. وجاء فيلسوف العصر المشهور، رينيه ديكارت، ورأى، وعجب إذ سمعها تستنتج أفكاره الأثيرة لديه عن أفلاطون (19). فلما حاول أن يقنعها بأن كل الحيوانات آلات، ردت عليه بقولها أنها لم تر قط ساعة يدها تلد ساعات "أطفالاً (20) " أي ساعات صغيرة. ومثل هذا كثير قيما بعد.

ولم تهمل كريستينا المواهب المحلية. فقد كانت السويد متعددة جوانب الثقافة الحقة. فكان جورج ستجر نهلم عالماً لغوياً. متضلعاً في القانون، من رجال العلوم، رياضياً، مؤرخاً، فيلسوفاً، أباً للشعر السويدي ومركزاً للحياة العقلية في هذا العصر. وأعجبت به جوستاف أدولف فرفعه إلى مرتبة النبلاء. وعينته كريستينا شاعر البلاط، حتى لحق بأعدائها (21).

وفتنت بنظريات جون كومنيوس في التربية، فاستقدمته إلى ستوكهلم ليصلح نظم التعليم في السويد. ومثلما فعلت إليزابيث بالنسبة لأكسفورد وكمبردج، زارت كريستينا جامعة أبسالا لتشجع بحضورها الأساتذة والطلبة، واستمعت إلى سترنهلم وغيره يحاضرون في النص العبري للتوراة. وشادت كلية في دوريات وأهدتها مكتبة، وأسست ست كليات أخرى. وطورت إلى جامعة، الكلية التي كان أبوها قد أسسها في آبو (توركو) في فنلندة. وأرسلت الطلبة للدراسة في الخارج، وبعثت بنفر منهم إلى شبه جزيرة العرب ليدرسوا علوم الشرق. واستقدمت بعض الهولنديين المشتغلين بالطباعة ليؤسسوا دار للنشر في ستوكهلم. وشجعت رجال العلم السويديين على الكتابة باللغة

ص: 110

الوطنية، حتى ينتشر العلم بين أفراد الشعب. ولا نزاع في أنها كانت من أعظم الحكام المستنيرين في التاريخ.

وهل وهبت هذه الملكة عقلاً خاصاً بها، أم أنها كانت مجرد وعاء لا يميز تتدفق فيه كل التيارات العقلية والفكرية التي تدور حولها؟ لقد انعقد الإجماع عن أنها فيما يتعلق بالحكومة كانت تتصرف بمحض تفكيرها، وصنعت قراراتها بنفسها، وحكمت سواء بسواء (22). وسنرى في فصل لاحق كيف أنها اعترضت على سياسة أوكسنسترنا العسكرية، وكافحت من أجل السلام، وساعدت على إنهاء حرب الثلاثين عاماً. أن قصاصات مذكراتها فاتنة مفعمة بالحيوية، وليس في الحكم والأمثال التي تركتها بخط يدها شيء مبتذل، ومثال ذلك:

إن قيمة المرء على قدر ما يستطيع أن يحب.

ويجدر أن نخشى الحمقى والبلهاء أكثر مما نخشى الأوغاد.

إنك تسيء إلى الناس إذا لم تخدعهم.

المواهب الخارقة جريمة لا تغتفر.

هناك نجم يوحد بين الناس من الطراز الأول، رغم أن العصور والمسافات تفرق بينهم.

أن الزواج ليحتاج إلى شجاعة أكثر مما تحتاج الحرب.

إن المرء ليرتفع فوق كل شيء إذا لم يخشى شيئاً، ولم يحسب لأي شيء حساباً.

إن الذي يغضب من الدنيا أشبه بمن تعلم كل ما تعلم دون هدف أو غاية.

إن الفلسفة لا تغير الناس ولا تصلحهم (23).

وأخيراً، وبعد اختيار عدد من الفلسفات، وربما بعد أن امتنعت عن أن تكون مسيحية، أصبحت كريستينا كاثوليكية أنها متهمة بأنها رضعت

ص: 111

لبان الإلحاد والكفر من طبيبها بورديلوت (24). وذهب مؤرخ سويدي-وكرر فولتير قوله (25) -إلى أن تحولها إلى الكثلكة كان تمثيلية هزلية مقصودة، وبناء على هذه النظرية، تكون كريستينا قد انتهت إلى النتيجة التي تقول بأنها ما دامت الحقيقة شيئاً لا يمكن معرفته أو الوصول أليه، فللمرء أن يختار الديانة التي تستهوي قلبه وتتفق مع فكرة الجمال أكثر من غيرها (26)، وتوفر أكبر فد من الطمأنينة للناس. ولكن الارتداد إلى الكاثوليكية رد فعل صادق مخلص بعد التشكك المفرط، فقد يحفر التصوف جذوره في أعماق الشك. لقد كان في كريستينا عناصر صوفية خفية، فكل مذكراتها موجهة إلى الله في إخلاص بالغ. إن الإيمان ثوب واق. وإن التجرد الكامل منه ليترك الإنسان في حالة عرى فكري يتطلع إلى الكساء والدفء. وأي ثوب أدفأ من كاثوليكية فرنسا وإيطاليا الحسية النابضة بالحياة؟ وتساءلت الملكة:"كيف يكون المرء مسيحياً دون أن يكون كاثوليكياً (27)؟ "

وفكرت كرستينا ملياً في هذه المسألة وفي المضاعفات التي ينطوي عليها ارتدادها فإنها إن تركت اللوثرية، فلابد لها، بمقتضى قوانين مملكتها ووالدها الحبيب-أن تتخلى عن عرشها، وأن تغادر بلادها كذلك. وأية نكسة مروعة يكون هذا التحول في العقيدة لدفاع والدها البطولي عن أوربا البروتستانتية، ولكنها ضاقت ذرعاً ولاقت نصباً من واجباتها الرسمية ومن خطب الوعاظ والمستشارين الرنانة، ومن الثالوث المتحذلق من العلماء والأثريين والمؤرخين. وربما تعبت منها السويد وضاقت بها ذرعاً كذلك. وقد أفقرها وهبط بمواردها تخليها من أراضي التاج وهداياها وهباتها السخية لذوي الحظوة لديها والقريبين منها. وتكتلت أغلبية النبلاء ضد سياستها. وفي 1651 كان ثمة هبة توشك أن تكون ثورة. ولكن زعماءها أعدموا على عجل (28). ولكنها خلقت وراءها امتعاضاً شديداً، ولكن انتابها المرض آخر الأمر، لقد أضرت هي بصحتها. وربما كان السبب في ذلك كثرة العمل والدرس.

ص: 112

وكم من مرة أصابتها الحميات الخطيرة، مصحوبة بأعراض التهاب الرئتين. وكم من مرة غشيتها إغماءة، وظلت فاقدة الوعي لمدة ساعة. واشتد عليها المرض في 1648 فقالت أنها "أقسمت أن تتخلى عن كل شيء وتصبح كاثوليكية إذا برئت من سقامها وحفظ الله لها حياتها (29) ". إنها كانت ابنة البحر المتوسط فارتعدت فرائضها من برد الشمال القاسي في الشتاء، وتاقت نفسها إلى سماء إيطاليا ومنتديات فرنسا. فكم يكون جميلاً أن تلحق بالنساء المثقفات اللائى بدأن مهمتهن الفذة في رعاية الحياة الفكرية والعقلية في فرنسا، إذا استطاعت أن تحمل معها ثروة كافية!!

وفي 1652 بعثت سراً إلى روما بأحد الملحقين في سفارة البرتغال ليطلب قدوم بعض الجزويت ليناقشوا معها اللاهوت الكاثوليكي، فجاءوا متنكرين. ولكن فت في عضدهم وثبط من همتهم بعض الأسئلة التي وجهتها إليهم-هل يوجد إله حقاً، هل تبقى الروح بعد فناء الجسم، وهل ثمة تمييز بين الصواب والخطأ إلا عن طريق المنفعة. فلما أوشكوا على الرحيل-يأسا-هدأت من روعهم بقولها "ماذا ترون لو أني كنت أقرب إلى أن أصبح كاثوليكية مما تظنون؟ " وقال أحد الجزويت تعقيباً على ذلك "فلما سمعنا هذا أحسسنا بأننا بعثنا من مرقدنا (30) ".

وكان اعتناق الكثلكة قبل التخلي عن العرش أمراً محظوراً قانوناً. ولكنها رغبت قبل التخلي عن العرش، في الحفاظ على الطابع الوراثي للملكية السويدية، عن طريق إقناع الديت بالتصديق على اعتبارها لأبن عمها شارل جوستاف. خلفاً لها. ولكن طول المفاوضات أجل نزولها عن العرش حتى 6 يونية 1654. وكان الاحتفال الأخير مؤثراً قدر ما كان تخلي شارل الخامس عن العرش مؤثراً قبل ذلك بتسعين عاماً. فإنها نزعت التاج عن رأسها، وطرحت كل الشارات الملكية، وخلعت العباءة الملكية، ووقفت أمام الديت في ثوب بسيط من الحرير الأبيض، وودعت بلدها وشعبها بخطاب فجر

ص: 113

بالدموع عيون النبلاء العجائز الرابطي الجأش، وممثلي المدن القليلي الكلام ووفر لها المجلس الموارد للمستقبل. وأباح لها الاحتفاظ بحقوقها الملكية على حاشيتها.

وغادرت ستوكهلم عن الغسق، بعد خمسة أيام من تخليها عن العرش. وتوقفت في نبكوبنج لزيارة أخيرة لأمها. ثم مضت في طريقها، ولما لم تذق طعم النوم لمدة يومين، فإنها مرضت بذات الجنب، فلما برئت تابعت المسير إلى هامستاد. وهناك كتبت إلى جاسندي، بأنها تمنحه معاشاً وتبعث إليه بسلسلة ذهبية. وفي اللحظة الأخيرة تلقت عرضاً بالزواج من الملك شارل العاشر الذي توج حديثاً، فرفضت في عطف وكياسة وتنكرت في زي رجل تحت اسم كونت دونا، وركبت البحر إلى الدنمرك، دون أن تدري أنها لمدة خمس وثلاثين سنة أخرى ستلعب دوراً في التاريخ.

‌3 - بولندة تكفر عن ذنبها

1569 -

1648

في هذا العصر عقدت بولندة أيضاً أواصر السلام مع الكنيسة الكاثوليكية. وقد يكون من المفيد أن نرى كيف استردت الكاثوليكية بسرعة في هذه المملكة تقريباً كل ما كانت قد فقدته من مكانه في حركة الإصلاح الديني، ولكن فلنمر أولاً مروراً عابراً، كالمعتاد، بالخلفية السياسية لهذا التطور الثقافي.

أ- الدولة

تبدأ الفترة بحدث بارز تم إنجازه في فن الحكم. كانت دوقية لتوانيا الكبيرة تقع إلى الجنوب الشرقي من بولندة، يحكمها أدواقها، وتمتد من البلطيق عبر كييف وأواكرانيا إلى أردسا والبحر الأسود. وكان نمو قوة روسيا يعض استقلال لتوانيا للخطر. وعلى الرغم من توافق عقيدتها

ص: 114

الأرثوذكسية اليونانية إلى حد كبير مع ديانة روسيا. فإنها أقرت كارهة أن الاندماج مع بولندة الكاثوليكية قد يكون أفضل للحفاظ على حكمها الذاتي من معانقة الدب الروسي. وميز سجسمند الثاني عهده بتوقيع "اتحاد لوبلين" التاريخي (1 يونية 1569). واعترفت لتوانيا بملك بولندة "دوقاً أعظم" عليها. وبعثت بمندوبين أو ممثلين لها إلى البرلمان في وارسو، وارتضت أن يكون لهذا البرلمان حق السيطرة على علاقاتها الخارجية، ولكنها احتفظت بعقيدتها وقوانينها وحق التصرف في شؤونها الداخلية. واتسعت أطراف بولندة وبلغ عدد سكانها الآن إحدى عشر مليوناً من الأنفس، من دانزج إلى أوديسا، ومن البحر إلى البحر. فكانت إحدى الدول العظمى دون منازع.

وبموت سجسمند الثاني دون عقب ذكر (1572) انتهت أسرة "جاجللون" التي كانت قد بدأت في 1386، وهيأت لبولندة خطاً متصلاً من ملوك إتسموا بالخلق والإبداع، وحضارة قامت على التسامح الديني واستنارة قوامها الروح الإنسانية. وكان النبلاء يكرهون الملكية الوراثية، على أنها إهدار لحقوقهم وحرياتهم الإقطاعية، فاستقر عزمهم الآن على الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم عن طريق ملكية انتخابية، فأسسوا جمهورية من النبلاء وجعلوا ملوك بولندة القادمين خدماً أو أتباعاً للبرلمان. ولما لم يكن البرلمان يضم كبار النبلاء أو الأعيان فحسب، بل كان يضم كذلك صغار النبلاء، فقد بدا أن هذه الخطة تحقق المثل الأعلى لأرسطو في حكومة تمتزج فيها العناصر الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، في قيود وضوابط متبادلة. ومهما يكن من أمر، فإن الدستور الجديد، في نطاق ذلك العصر، لم يكن يعني إلا انتكاسة إقطاعية، تفتيت السلطة والزعامة، على حين كانت منافستا بولندة في البلطيق- السويد روسيا- تنصهران في وحدات عسكرية بفضل الملكيات الوراثية التي كان يحق لها أن تفكر على أساس الأجيال. وبات انتخاب الملك الآن في بولندة مزاداً لأصوات النبلاء تعطى لمن يدفع أكثر من بين المرشحين

ص: 115

الذين تمولهم، عادة الدول الأجنبية. وبذلك استطاع عملاء فرنسا بتوزيع العطايا والأموال باليمين والشمال، شراء تلج بولندة للمنحل المنحرف هنري فالو (1573) ليعيدوه بعد ذلك بعام واحد ليحكم فرنسا حكماً سيئاً فاسداً تحت اسم هنري الثالث.

وأصلح مجلس الديت الذي يتولى الانتخاب خطأه، بعد فترة خلا فيها العرش وعمت الفوضى، باختياره ستيفن باثوري ملكاً (1575). وكان، بوصفه أميراً على ترنسلفانيا، قد اشتهر بالفعل في مجال السياسة وميدان الحرب وكان عملاؤه في وارسو قد وعدوا بأنه سيسدد "إذا انتخب" الدين الوطني، ويمد الخزانة بمائة ألف فلورين، ويسترد الأراضي التي كانت بولندة قد نزلت عنها لروسيا، ويضحي بحياته في ميدان القتال، إذا اقتضى الأمر من أجل شرف بولندة ومجدها، ومن ذا الذي يستطيع أن يقف في سبيل هذا العرض؟. وعلى حين أيدت قلة غنية من النبلاء ترشيح مكسمليان الثاني النمساوي، نادى سبعة آلاف عضو من الديت المنتخب بباثوري، فقدم ومعه 2500 جندي، وكسب قلوب كثير من الناس بزواجه من أنا جاجللون، وقاد جيشاً ضد دانزج (التي رفضت الاعتراف به) وأرغم الثغر المغرور على دفع غرامة قدرها مائتي ألف جولدن للخزانة الوطنية.

وعلى الرغم من كل هذا لم يستوثق النبلاء من أنهم يحبون الملك الجديد، بعينيه الحادتين النافذتين. وتفكيره الواقعي، وشاربه المروع، ولحيته التي توحي بالاستبداد والدكتاتورية. لقد احتقر الأبهة والمواكب والاحتفالات وارتدى ثياب بسيطة، بل لبس الملابس المرقعة، وكان طعامه المفضل من لحم البقر والكرنب. ولما طالب بالمال لتجهيز حملة على روسيا أمده النبلاء بقدر غير كاف، وهم متذمرون. وتقدم معتمداً على معونات ترنسلفانيا، بجيش صغير وحاصر بسكوف ثالثة مدن روسيا آنذاك من حيث الحجم. وأحس إيفان الرابع على الرغم من أنه كان يرهب شعبه، بأنه أكبر سناً من أن يلاقي عدواً في مثل

ص: 116

هذه الحيوية والنشاط، فطلب الصلح ونزل على ليفونيا لبولندة، وسلم بأبعاد روسيا عن البلطيق (1582). وعندما أدركت إيفان المنية (1584) اقترح باثوري على سكستس الخامس أن يغزو كل روسيا ويوحدها مع بولندة، ويطرد الأتراك من أوربا، ويعيد كل أوربا الشرقية إلى حظيرة البابا. ولم يعترض البابا. ولكن في غمرة هذه الاستعدادات الشاقة لحملة صليبية، فارق باثوري الحياة (1586). واعترفت بولندة، بعد مماته وبعد أن كف عن إرهاقها بأنه من أعظم ملوكها.

وبعد سنة من المساومة خلع الديت العرش على سجسمند الثالث، الذي يمكن بوصفه وريثاً لعرش السويد، أن يوحد البلدين ليسيطر على مياه البلطيق ويعوقا توسع روسيا. وقضى سجسمند كما رأينا، نصف مدة حكمه في مجالات عقيمة لتثبيت سلطانه، وتدعيم المذهب الكاثوليكي في السويد. وسنحت فرصة أخرى لسجسمند بموت بوريس جودونوف المفاجئ (1605)، حيث عمت روسيا حالة من الفوضى أصبحت معها عاجزة عن الدفاع عن نفسها ودون استثارة البرلمان البولندي أعلن سجسمند ترشيح نفسه للعرش المسكوفي وسار بجيش إلى روسيا. وعلى حين قضى هو عامين في حصار سمولنسك، هزم قائده ستانسلا زلكوسكي الروس في كلوشينو وتقدم نحو موسكو، واقنع النبلاء بقبول لادسوس بن سجسمند ملكاً عليهم (1610). ولكن هذا الأخير أنكر هذه الترتيبات، فيجب أن يكون القيصر هو لا ابنه. فلما استولى آخر الأمر على سمولنسك (1611)، تقدم نحو موسكو، ولكنه لم يصل إليها قط، فقد أقبل الشتاء بمعوقاته. وتمرد جنوده الذين لم يتقاضوا رواتبهم. وفي 12 ديسمبر 1612، أي قبل نابليون بقرنين من الزمان، تقهقر جيشه وسط سوء النظام والفناء، من روسيا إلى بولندة. ولم يتبق من هذه الحملات الباهظة التكاليف إلا امتلاك سمولنسك وسفرسكي، بالإضافة إلى نفحة قوية من تأثير بولندة على الحياة الروسية.

ص: 117

وكانت بقية حكم سجسمند سلسلة من الحروب الفاجعة، فقد ورطه تحالفه مع آل هسبوج-مما ابتهج له الإمبراطور-في صراع كلفه غالياً مع الأتراك لم تنج منه بولندة إلا بفضل مهارة قوادها وشجاعة جنودها. واستفاد جوستاف أدولف من انشغال بولندة في الجنوب في غزو ليفونبا. وبمقتضى صلح ألتمارك (1629) سيطرت السويد على ليفونيا وعلى البلطيق. وقضى سجسمند نحبه محطماً متهدماً (1632).

وخلع الديت تاج بولندة على ابنه لادسلاس الرابع، الذي كان الآن في السابعة والثلاثين، وكان قد كشف عن نشاطه وهمته وجلده كقائد، وكسب صداقات كثيرة بفضل خلقه الصريح المرح. وأساء إلى البابا بتسامحه مع البروتستانتية في بولندة ومع الأرثودوكسية في لتوانيا. وأباح في ثورن قيام حوار عام سلمي بين رجال الدين الكاثوليك واللوثريين والكلفنيين (1645) وشجع الفن والموسيقى. واشترى لوحات روبنز وأقمشة جوبلان المزركشة وأقام أول مسرح بولندي دائم، ومثل عليه الأوبرا الإيطالية، وتبادل الرسائل مع جاليليو في سجنه، ودعا العالم البروتستانتي جروشيوس إلى بلاطه وفارق الحياة (1648) في الوقت الذي هددت فيه الدولة البولندية ثورة عارمة في القوازق.

2 -

المدنية

كان الاقتصاد البولندي لا يزال يتسم بسمات العصور الوسطى. وكانت التجارة الداخلية في أيدي الباعة المتجولين، والتجارة الخارجية مقصورة إلى حد كبير على دانزج وريغا، ولم تكن طبقة التجار تتمتع بثراء يذكر، وقلما سمح لأفرادها بعضوية البرلمان، فإن النبلاء تحكموا في الديت وفي الملك وفي الاقتصاد، وسيطروا على هؤلاء جميعاً. وكان يفلح الضياع الواسعة مزارعون خاضعون لتنظيمات إقطاعية أقسى من بعض الوجوه مما كان عليه الحال في

ص: 118

مزارع فرنسا في العصور الوسطى. وكان النبيل المالك يضع هذه التنظيمات بنفسه، ويفرضها بقوة جنوده، ويحرم على مستأجريه مغادرة نطاق ولايته دون موافقته، وينقلهم من مكان إلى مكان، ويزيد من الأرض أو ينقص منها وفق مشيئته، ويفرض عليها في كل عام أيام عمل لا يتقاضون عنها أجراً ويرغمهم على أن يبيعوه أو يشتروا منه وحده، وعلى أن يبتاعون منه كل عام قدراً من الجعة الرديئة الصنع. وكان يستطيع تجنيد أبنائهم لخدمته في زمن السلم والحرب. كان هؤلاء المزارعون أحراراً. "قانوناً لهم" حق التملك والتوريث، ولكن "الأب" الجزويتي سكارجا نعتهم بأنهم أرقاء (31).

وكانت الحياة قروية في معظمها. وكان النبلاء يتجمعون في وارسو لإملاء إرادتهم الجماعية، ولكنهم عاشوا في ضياعهم، يصطادون ويتشاجرون، ويستمتعون بأطيب المتع، ويتبادلون المآدب الباذخة، ويتدربون على الحرب وكانت الزيجات تتم عن طريق الوالدين. وقلما سئلت البنت رأيها، وقلما عارضت، فالمفروض أن الحب الذي يولده الزواج والأبوة أقوى على البقاء والدوام من الزواج الذي ينشأ عن الحب. وكانت النساء متواضعات جادات نشيطات. وكانت آداب السلوك الجنسي مرعية كل الرعاية. ولم نسمع بقصص غرام خارج نطاق الزوجية قبل القرن الثامن عشر (32). وكان الرجال، لا النساء، هم الذين يضعون قواعد السلوك، باستثناء سيسيليا ريناتا التي تزوجت من لاديسلاس الرابع 1637، والتي أحيت الآثار الإيطالية التي استوردها الفنانون ورجال الدين في أزمنة سابقة. ولويزماري جونزاج التي تزوجها 1648، والتي جلبت معها موجة من قواعد السلوك الفرنسية والكلام الفرنسي بقيت حتى القرن العشرين، وكان في الراقصات البولندية رقة مهيبة، حدت برجل فرنس في 1647 إلى التحدث في إعجاب عن البولنديات.

ولم يقدر للفنان البولندي أن يلاحق المستوى الذي كان قد وضعه في تستوس في كراكاو 1477. ولقد نسجت أقمشة سجسمند الثاني المزركشة في الفلاندرز

ص: 119

وأقام مهندسون معماريون ونحاتون إيطاليون التماثيل لسجسمند وباثوري وآنا جاجللون في كاتدرائية كراكاو، وكنائس الجزويت الباروكية في كراكاو ونيزويو وعامود سجسمند الثالث الشهير في وارسو، وأصاب الوهن التصوير في بولندة تحت هجمات البروتستانت على الصور الدينية، ولكن مارتن كوبر رسم صورة شخصية ملهمة الملك باثوري.

وعانى التعليم-كما عانت الفنون التخطيطية من الاضطراب الديني. ومرت جامعة كراكاو بفترة انحطاط عابر. ولكن باثوري أسس جامعة ولنو (1578)، وفي كراكاو وولنو ويوزثان وريجان وغيرها أسس الجزويت كليات بلغ من امتيازها وتفوقها أن كثيراً من البروتستانت أثروها لتنشئة أبنائهم عقلياً وخلقياً. وخير من كل هذه مدرسة طائفة "الموحدين" في كراكاو التي جذبت إليها ألف طالب من مختلف الملل. وأعد جان ذا موسكي مستشاري باثوري ذي النزعة الإنسانية، في زاموسك جامعة جديدة خصصت أساساً للدراسات الكرسيكية. وكانت ثمة وفرة في الأدب في بولندة. وكانت الخلافات الدينية فظة في النعوت مهذبة معقولة في الشكل، ومن ثم ستاتسلاس أورزيكوسكي الذي كان يدافع عن الكاثوليكية، ناضل من أجلها بضراوة وتعصب عنيف، "في لغة بولنديو رائعة، تعد من أحسن ما كتب في تاريخنا (33) " ولم يكن يقل عنها شهرة في الأسلوب "رجل البلاط البولندي"(1566) الذي ألفه لوكازجورنيكي وهو تعديل لكتاب كاستليوني "رجل البلاط". وبرز الجزويتي بيتر سكارجو في الشعر والنثر والتعليم والسياسة. وأنتقل من رياسة جامعة ولنو إلى منصب كبير الوعاظ في البلاط الملكي وقضى فيه أربعة وعشرين عاماً ما كان فيها "بوسويه" بولندة، واستنكر فيها غير وهاب ولا وجل الفساد الذي رآه يستشري من حوله. وتنبأ بأنه إذا لم تصل الأمة إلى حكومة أكثر استقراراً ومركزية فإنها لابد أن تقع فريسة للدول الأجنبية، ولكنه نادى بملكية مسئولية مقيدة

ص: 120

ومحددة بالقانون. وظل شعر كوكانوسكي دون منافس في مجاله وفي لغته حتى القرن التاسع عشر، ولا يزال شعبياً مألوفاً حتى اليوم. وقد بلغ الشاعر ذروة الإثارة والإلهام في رثائه وحزنه على ابنته أورسولا التي ماتت في نضارة الطفولة.

وعوق الصراع الديني كل نواحي الثقافة البولندية في ذاك العصر. ففي النصف الأول من القرن السادس عشر بدا أن البروتستانتية قدر لها أن تسيطر على بولندة، وعلى ألمانيا والسويد أيضاً. وكسبت إلى جانبها من النبلاء تمرداً على سلطة الملك وفساد الكنيسة، ووسيلة لانتزاع أملاكها (34). ومنح سجسمند الثاني بلاده تسامحاً دينياً واسع النطاق. وبعد عام من وفاته صاغت لجنة من الديت (28 يناير 1573)"اتحاد وارسو الكونفدر إلي" الذي يضمن الحرية الدينية لكل الشيع والفرق بلا استثناء. فلما عرض المشروع للتصويت عارضه الأعضاء الأسقفيون في المجلس. ولكن أقره بالإجماع الأعضاء العلمانيون الثمانية والتسعون، بما في ذلك واحد وأربعون كاثوليكياً (35)، وهذا يمثل نقطة بارزة في تاريخ التسامح، لأن أي إعلان رسمي سابق من هذا القبيل لم يصل إلى هذا المدى. وانتعشت في ظل هذه الحماية العريضة عدة طوائف متباينة، اللوثريون، والكلفنيون، وأتباع زونجلي، وأنصار تجديد العماد، والأخوة البوهيميون؛ وغير القائلين بالتثليث. وفي عام 1579 قدم إلى بولندة فاوستس سوسينس، وبدأ يؤسس كنيسة قائمة على مذهب التوحيد ولكن أهالي كراكاو أخرجوه من داره ودمروا مكتبته، وكادوا يقتلونه لولا أن المدير الكاثوليكي للجامعة هب لنجدته (1598 (36))، واتحد الكلفنيون مع اللوثريون في المطالبة بطرد الموحدين أتباع سوسينس من بولندة. وأمر الديت في 1638 بإغلاق مدارس الموحدين؛ وفي 1658 نفي أفراد هذه الطائفة من البلاد. ففروا إلى ترانسلفانيا والمجر وألمانيا وهولندا وإنجلترا؛ وأخيراً إلى أمريكا؛ ليجدوا أعظم معبر عنهم في شخص أمرسون.

ص: 121

أن التعصب الشعبي والتربية الجزويتية والنظام الكاثوليكي والسياسة الملكية والتشيع الطائفي البروتستانتي، اجتمعت كلها بعضها إلى بعض لتقضي على البروتستانتية في بولندة، فإن الطوائف الجديدة حاربت الواحدة منها الأخرى بمثل الضراوة التي حاربت بها المذهب القديم. وتعلق المزارعون بالمذهب القديم لمجرد أنه قديم؛ حيث كان يمثل الارتياح إلى العادة والعرف المألوف؛ ولما أنضم الملكان-باثوري وسجسمند الثالث-إليه، وجد كثير من البروتستانت وأبنائهم، أنه من الأفضل لهم أن يعقدوا أواصر السلام مع الكنيسة وكان معظم الألمان في بولندة-من البروتستانت، وتلك حقيقة وجهت الشعور الوطني إلى مناصرة الكاثوليكية ومعاونتها. وتعاونت الكنيسة تعاوناً جاداً مع هؤلاء الأعوان المتفرقين على استرداد بولندة إلى حظيرة البابا، فأرسلت نخبة من أكثر الدبلوماسيين فيها رصانة، وأكبر الجزويت المغامرين، ليسبوا إلى جانبها، الملوك والنساء والأطفال، بل حتى النبلاء البروتستانت أنفسهم. وحذر رجال الدولة الكنسيون، مثل الكاردينال ستانسلاس هوسيوس والأسقف جيوفني كومندون، الملوك من تأسيس نظام اجتماعي أخلاقي سياسي مستقر على المذاهب البروتستانتية المائعة المتضارعة. وأثبت الجزويت قدرتهم على الدفاع عن الأمور التي كان الناس يتشككون فيها ولا يصدقونها، ضد ما استحدث الآن من معتقدات وطقوس. وفي نفس الوقت فإن رجال الدين الكاثوليك الذين التزموا بقرارات مجمع ترنت، خضعوا الآن لإصلاح ديني صارم مثير للإعجاب (37).

ولكن للكاثوليك أيضاً مشكلة. ذلك أن اتحاد لوتوانيا وبولندة عمل على إيجاد تلاحم مثير للغضب بين الكنيسة الأرثوذكسية الكاثوليكية وكان الخلاف بين الكنيستين طفيفاً ولكن الصلوات الأرثوذكسية اتبعت الطقوس السلافية، كما اتخذت القساوسة الأرثوذكس زوجات. وفي 1596، وعن طريق، "اتحاد برست ليتوفسك"، شكل جان زاموسكي مجموعة وسطاً من

ص: 122

رجال الدين والعلمانيين في "كنيسة موحدة"، اعتنقت فكرة زواج رجال الدين، واتبعت الطقوس السلافية، وفي نفس الوقت ارتضت المذهب الكاثوليكي الروماني واعترفت بسيادة البابا. وراود زعماء الكاثوليك الأمل في أن يؤدي مثل هذا الحل الوسط إلى التوفيق بين الكنيستين، تدريجياً، إلى كسب الملتين اليونانية والروسية إلى جانب الامتثال للبابا. ولكن الكنيسة الجديدة لاقت مقاومة مثيرة. وذبح أهل بولوك رئيس أساقفتها.

وظل ملوك بولندة طوال القرن السادس عشر، يطبقون تسامحاً دينياً أكثر تقدماً منه في أي بلد مسيحي آخر. ولكن السكان الكاثوليك كثيراً ما عادوا سيرتهم الأولى إلى سياسة العداء الشديد، فانقضوا على كنيسة بروتستانتية في كراكاو، ونبشوا قبور البروتستانت (1606 - 1617). وحطموا كنيسة بروتستانتية ولنو، وضربوا-وقيل قتلوا-قساوستها (1611) وفي بورنات أحرقوا كنيسة لوثرية. وفضوا اجتماعاً خاصاً "بالأخوة البوهيمين"(38). ولم يشترك رجال الدين الكاثوليك في هذه المظاهرات الدينية الشعبية، ولكنهم أفادوا منها. وتعاونت كل الظروف على تأييد الكنيسة القديمة، حتى تم لها النصر في 1648.

‌4 - روسيا المقدسة

1584 -

1645

أ - الشعب

قال نادزدين في 1831: "ما عليك إلا أن تلقي نظرة على خريطة العالم ليتولاك الرعب إزاء قدر روسيا وما قسم لها". وكانت قد وصلت في 1638 إلى المحيط الهادي عبر سبريا، وإلى بحر قزوين عبر نهر الفولجا، ولم تكن على أية حال، فقد وصلت بعد إلى البحر الأسود، فقد اقتضى هذا حروباً كثيرة. ولم يجاوز عدد السكان عشرة ملايين في 1571 (99). وكان يمكن أن

ص: 123

توفر الأرض الغذاء لهذه الملايين في سهولة ويسر، ولولا أن الفلاحة الطائشة المهملة أنهكت المزرعة تلو الأخرى، فانتقل الفلاحون إلى أرض أقوى وأخصب.

ويبدو أن هذه النزعة إلى الهجرة أسهمت في نشأة الرقيق. ذلك أن معظم المستأجرين كانوا يحصلون من النبلاء ملاك الأرض على سلفيات لتنظيف المزرعة وتجهيزها بالأدوات وإعدادها للزرع. وكانوا يدفعون على هذه القروض نحو 20% (40)، فلما عجز الكثير منهم عن سداد ما اقترضوا صاروا أرقاء لهؤلاء الملاك. لأن قانونا صدر في 1497 نص على أن يكون المدين المقصر في الدفع عبداً لدائنه حتى يوفي الدين. وتفادياً لهذه العبودية هرب بعض الفلاحين إلى معسكرات القوازق في الجنوب. وحصل بعضهم على حريته بالموافقة على استصلاح أراضي جديدة غير ممهدة. وبهذه الطريقة استوطنت سيبيريا، وهاجر بعضهم إلى المدن حيث اشتغلوا ببعض الحرف، أو اشتغلوا في المناجم أو صناعة المعادن أو صناعة الذخيرة، أو خدموا التجار، أو تجولوا في الشوارع يبيعون السلع. وشكا الملاك من أن هجرة المستأجرين عن المزارع- دون دفع ديونهم عادة- قد عوقت الإنتاج الزراعي؛ وجعلت من المتعذر على الملاك دفع الضرائب المتزايدة التي تطلبها الدولة. وفي 1581 وضماناً لاستمرار زرع الأرض؛ حرم إيفان الرهيب على المستأجرين لدى طبقة الأوبرشنيكي- رجال الإدارة- أن يتركوا المزارع دون موافقة الملاك؛ وعلى الرغم من أن هذه الطبقة كانت تفقد الآن مركزها الممتاز شيئاً فشيئاً. فقد بقي الرقيق الذي نشأ بهذه الطريقة يعمل في ضياعها. وسرعان ما طلب النبلاء ورجال الدين الذين تملكوا الجزء الأكبر من أرض روسيا؛ مستأجريهم بهذا. فكان الفلاحون الروس في الحقيقة؛ إن لم يكن بمقتضى القانون؛ أرقاء مرتبطين بالأرض (41).

وكانت روسيا لا تزال لاصقة بالهمجية. فالسلوك فظ غليظ؛ والنظافة ترف نادر؛ والأمية امتياز طبقي؛ والتعليم بدائي، والأدب في معظمه حوليات

ص: 124

رهبانية أو عظات دينية أو نصوص طقسية، والكتب الخمسمائة التي نشرت في روسيا بين عامي 1613 و1682 كانت كلها تقريباً دينية (42). ولعبت الموسيقى دوراً هائلاً في الدين وفي البيت. وكان الفن خادماً للعقيدة الأرثوذكسية، وشادت الهندسة المعمارية كنائس معقدة زاخرة بأماكن الصلوات والمعابد الصغيرة الملحقة بها. وبالمباني الناشئة عنها، وبالقباب البصلية الشكل، مثل كنيسة عذراء الدون في موسكو. وزين فن الرسم جدران الكنائس والأديار بالرسوم الجصية التي حجب الآن معظمها، أو بالصور الدينية والأيقونات الغنية بالإبداع التصويري لا المهارة الفنية (43)، كما هو الحال في كنيسة معجزة سان ميكاييل في كراكاو. وفي 1600 لم يعد رسم الأيقونات فناً بل أصبح صناعة تنتج قطعاً متماثلة على نطاق واسع، للتعبد والتبتل والتقوى داخل البيوت أما الإنتاج الفني البارز في هذا العصر فهو برج الناقوس الذي يبلغ ارتفاعه مائة متر- وهو برج إيفان فلكي (جون الأكبر) الذي أقامه أحد المهندسين الألمان في ميدان الكرملين (حوالي 1600) كجزء من برنامج بوريس جودونوف في الأشغال العامة لتخفيف حدة التعطل.

وفي الكنائس الفخمة المتألقة بالزخارف الثمينة، المعتمة بالكآبة المتعمدة والتي تجلب النعاس بالطقوس المهيبة والتراتيل والصلوات الجهورية الرنانة، طبع رجال الدين الأرثوذكس الناس على التقوى والطاعة والأمل المتواضع. وقل أن تعاونت عقيدة ما مع الحومة مثل هذا التعاون الوثيق. وضرب القيصر المثل في التمسك المخلص الصادق بالدين وفي البر بالكنيسة، ولقاء هذا أحاطته الكنيسة، بدورها، بهالة من القداسة الرهيبة، وجعلت من عرشه حرماً منيعاً لا تنتهك حرمته، وغرست في الأذهان أن الخضوع له وخدمته واجب يلتزم به الناس أمام الله. وأسس بوريس جودونوف البطريركية الروسية مستقلة عن القسطنطينية (1598) ولمدة قرن من الزمان نافس مطران موسكو المقام السامي للقيصر ومكانته العالية، وفي بعض الأحيان تحدى سلطانه. وفي 1594 عندما أوقد البابا كليمنت الثامن إلى موسكو، بعثة تقترح اتحاد الكنيسة

ص: 125

الأرثوذكسية واللاتينية تحت زعامة البابا، رفض بوريس الاقتراح قائلاً:"إن موسكو هي الآن رومة ذات المذهب القديم الحق (الأرثودكسي) ". وجعل الجميع يوجهون الدعوات ويقيمون الصلوات من أجله وهو وحده بوصفه "الحاكم المسيحي على الأرض"(44).

ب- بوريس جودونوف

1584 -

1605

لم يكن بوريس في الواقع بعد إلا حاكماً فقط. أما القيصر فكان فيودور الأول إيفانوفتش (1584 - 1598)، الابن الهزيل لإيفان الرابع الرهيب وآخر أفراد "آل روريك"(مؤسس روسيا). وكان فيودور قد شهد موت أخيه الأكبر بضربة شيطانية من أبيه، فلم يشأ أن يتشبث بإرادته أو يعارض في شيء، وانزوى هرباً من مخاطر القصر، منصرفاً إلى العبادة والتبتل، وعلى الرغم من أن شعبه لقبه "بالقديس" فإنه أيقن أنه كانت تعوزه القوة والصلابة ليحكم الرجال. وكان إيفان الرابع قد عين مجلساً لتوجيه الشاب وتقديم النصح والمشورة له. ولكن أحد أعضائه، وهو أخو زوجة فيودور- بوريس جودونوف- سيطر وقبض على زمام الأمور، وأصبح حاكم البلاد.

وكان إيفان الرابع قد خلف من زوجته السابعة والأخيرة، ابناً آخر، هو ديمتري إيفانوفتش الذي كان آنذاك (1584) في الثالثة من عمره، ورغبة من المجلس في أن يجنب الطفل أخطار الدسائس- بخلاف دسائسه هو، أي المجلس- أرسل الطفل وأمه للإقامة في أوجليبش، على بعد نحو 120 ميلاً إلى الشمال من موسكو. وهناك في 1591 قضى ابن القيصر نحبه بطريقة لم يتم التحقق منها بعد. وتصدت إلى هذه البلدة لجنة للتحقيق في الحادث، يرأسها الأمير فاسيلي شويسكي أحد أعضاء المجلس، وجاء تقريرها يقول بأن الصبي قطع حلقومه في نوبة صرع ألمت به. ولكن أم ديمتري وجهت الاتهام بأنه قتل بأمر من جودونوف (45). ولكن جريمة بوريس لم تثبت قط، ولا تزال مثار جدل بين بعض المؤرخين (46). وأجبرت الأم على الترهب، ونُفي أقرباؤها

ص: 126

من موسكو، وأضيف ديمتري إلى قائمة القديسين الأرثودكس، وطواه النسيان إلى حين.

وكان بوريس - مثل ريتشارد الثالث في إنجلترا- أكثر توفيقاً في الحكم أثناء وصايته على العرش، منه بعد تربعه عليه فيما بعد. وعلى الرغم من أنه كان ينقصه التعليم الرسمي النظامي، بل ربما كان أمياً، فقد أوتي مقدرة جبارة، ويبدو أنه بذل جهود مضنية لمواجهة مشاكل الحياة في روسيا. فأصلح الإدارة الداخلية، وحد من فساد القضاء، وأولى الطبقات الدنيا والوسطى عطفاً ورعاية، وكلف الأشغال العامة بتهيئة فرص العمل للفقراء من سكان المدن، وخفف من أعباء الأرقاء والتزاماتهم، وكان- كما يقول أحد كتاب الحوليات المعاصر- "محبوباً لدى كل الناس"(47). وحظي باحترام الدول الأجنبية وثقتها (48). ولما مات القيصر فيودور الأول (1598) طلبت الجمعية الوطنية من جودونوف بالإجماع أن يتولى العرش. فقبله مع تظاهره بالمعارضة خجلاً من أنه غير جدير به، ولكن ثمة شبهة بأن عملاءه كانوا قد مهدوا السبيل في الجمعية الوطنية. ونازع جماعة من النبلاء من الذين كرهوا منه دفاعه عن طبقة العامة (49). نازعوا في حقه في اعتلاء العرش. تآمروا على خلعه، فأودع بوريس بعضهم السجن ونفى آخرين، وأرغم فيودور رومانوف (والد أول قيصر من أسرة رومانوف). على أن يدخل في سلك الرهبنة. ومات نفر من هذه المجموعة المغلوبة على أمرها. في ظروف مواتية لبوريس إلى حد اتهامه بتدبير قتلهم. ولما كان يعيش آنذاك في جو من الشك والفزع. فإنه بث العيون والأرصاد هنا وهناك. وأبعد المشتبه فيهم وصادر أملاكهم. وأعدم الرجال والنساء. وانهارت شعبيته الأولى. وتركته السنوات العجاف من (1600 - 1604) بغير تأييد ومساندة من الأهالي الذين يتضورون جوعاً في مواجهة المكائد التي كان يديرها النبلاء في تصميم وعناد.

وثمة مكيدة أصبحت ذات شهرة في التاريخ، والأدب والموسيقى. ففي 1603 ظهر في بولندة شاب ادعى أنه ديمتري المفروض أنه مات. والوريث الشرعي

ص: 127

لعرش فيودور إيفانوفتش. واعتبر بوريس الواثق من نفسه (50)، أن هذا الشاب ليس إلا جريشكا أوتربيف الراهب الذي جرد من ردائه الكهنوتي، والذي كان من قبل في خدمة آل رومانوف. أما البولنديون الذين كانوا يخشون توسع روسيا، فقد سرهم أن يجدوا بينهم وفي متناول يدهم، من يطالب بالتاج المسكوفي، وابتهجوا أكثر من ذلك بزواج "ديمتري" هذا من بنت بولندية، واعتناقه الكاثوليكية. وتغاضى سجسمند الثالث الذي كان قد وقع لتوه (1602) هدنة مدتها عشرون عاماً مع روسيا، عن حشد ديمتري لمتطوعين بولنديين. وناصر الجزويت بشدة قضية هذا المدعي. وفي أكتوبر 1604 عبر ديمتري نهر الدنيير مع أربعة آلاف رجل. فيهم المنفيون الروس، وجنود مرتزقة ألمان، وفرسان بولنديون. وأيده النبلاء الروس سراً، ولو أنهم تظاهروا بالحياد. وانضم الفلاحون الآبقين إلى القوات المتقدمة، ورجب الشعب الجائع الذي طال انتظاره للتعلل بأمل كاذب، بديمتري الجديد، ورفع لواءه رمزاً للملكية الشرعية والأماني اليائسة. ووسط الهتاف تحرك الجمهور المتضرع نحو موسكو من الغرب، وانقض من الجنوب القوازق المستعدون دوماً للنزال. وانقلبت الحركة إلى ثورة.

ولما رأى بوريس أن هذا بمثابة غزو بولندي، بعث بجيشه إلى الغرب، وهزم فصيلة من قوات ديمتري، ولكنه لم يدرك البقية. ولم يتلقى جودونوف وهو قابع في قصر الكرملن إلا أنباء جمهور الرعاع الزاحف المتزايد عدده. والسخط الذي ينتشر، والأنخاب التي يشربها البويار (النبلاء) حتى في موسكو، في صحة ديمتري الذي أعلنوا على الشعب أنه ابن القيصر المقدس الذي اختاره الله ليكون قيصراً. وفجأة، وبعد شكوك وآلام مبرحة معروفة لدى بوشكين وموسور حسكي، ولا يعلم التاريخ عنها شيئاً- مات بوريس (13 إبريل 1605) وأوصى البطريك بسمانوف والنبلاء خيراً. ولكن البطريك والنبلاء تحولوا إلى المدعي، وقتل ابن جودونوف وأرملته، وفي غمرة النشوة الوطنية رحب، بديمتري الزائف، وتوج قيصراً على روسيا بأسرها.

ص: 128

جـ - زمن الشدائد

1605 -

1613

لم يكن القيصر الجديد حاكماً غير صالح، كما هي شيمة الملوك، ولم يكن ذا قوام يبعث على الرهبة ولا بهي الطلعة، ولكنه كان برغم هذا وذاك قادراً على امتشاق الحسام وامتطاء الخيل، مثل أي نبيل كريم المحتد. وتحلى القيصر الجديد برجاحة العقل وسعة الإدراك وفصاحة اللسان وحلاوة الشمائل، وبساطة غير متكلفة صدمت فواعد السلوك والتشريفات في حياة القصور. وأدهش موظفيه باهتمامه الجاد بالإدارة، كما أدهش جيشه بتولي تدريبه بنفسه. ولكن تعاليه على بيئته كان متعمداً واضحاً أكثر مما ينبغي. فأبدى احتقاره صراحة لخشونة النبلاء وأميتهم وجهلهم، واقترح إرسال أبنائهم لتلقي العلم في الغرب، وسعى إلى استقدام معلمين أجانب لتأسيس مدارس ثانوية في موسكو. وسخر من العادات الروسية، وأغفل الطقوس الأرثوذكسية، وأهمل تحية صور القديسين، وتناول طعامه دون أن ترش مائدته بالماء المقدس، وأكل لحم العجل الذي اعتبرته الطقوس نجساً. وأخفى- وربما لم يأخذ يوماً بمأخذ الجد- تحوله إلى الكاثوليكية، ولكنه أحضر إلى موسكو زوجته البولندية الكاثوليكية، يحف بها أخوة فرنسيسكان وممثل البابا. وكان في بطانته هو نفسه نفر من البولنديين والجزويت، وأنفق في سخاء من أموال الخزانة، فضاعف رواتب ضباط الجيش، وخصص لأصدقائه الضياع المصادرة من أسرة جودونوف. ولما كان لا يهوى السكون، كما كان رجلاً عسكرياً فإنه دبر حملة ضد خان القرم وأعلن الحرب عملياً بإرساله سترة من جلد الخنزير إلى الحاكم المسلم. وربما كاد أن يخلي موسكو من الجنود تماماً، بإصداره أوامره إليهم بالتحرك نحو الجنوب، وخشي النبلاء أنه كان يفتح العاصمة لغزوٍ بولندي.

وبعد اعتلاء ديمتري عرش روسيا ببضعة أسابيع تآمرت زمرة من النبلاء بزعامة شويسكي على خلعه. واعترف شويسكي بأنه لم يقر أو يعترف "بالمدعي" إلا لمجرد التخلص من جودونوف، أما الآن فيجب إبعاد الإدارة

ص: 129

التي اصطنعت لهذا الغرض، وإجلاس نبيل أصيل على العرش (51). وكشف ديمتري المؤامرة، وأعتقل زعماءها، وبدلاً من الإسراع بإعدامهم، كما تقضي بذلك التقاليد، منحهم الحق في أن يحاكموا أمام الجمعية الوطنية التي اختير أعضاؤها لأول مرة من بين جميع الصفوف والطبقات. فلما أصدرت حكمها على شويسكي وآخرين بالإعدام خفف ديمتري الحكم إلى النفي، وبعد خمسة أشهر أباح للمنفيين العودة. وكان كثير من الناس يعتقدون أنه ابن إيفان الرهيب، ولكنهم شعروا الآن- بعد تصرفه على هذا النحو- أن مثل هذا الاعتدال أو الرفق غير التقليدي يلقي ظلالاً من الشك على أبوته الملكية. وعاد المتآمرون المعفو عنهم إلى تدبير المؤامرات من جديد. واشتركت فيها أسرة رومانوف التي احتمى ديمتري بظل الانتساب إليها. وفي 17 مايو 1606 اقتحم شويسكي الكرملن بأتباعه المسلحين. ودافع ديمتري عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقتل بيده كثيراً من مهاجميه، ولكنه في النهاية غلب على أمره وذبح. وعرضت جثته في ساحة الإعدام، وألقى على وجهه قناع حقير، ووضع في فمه مزمار، ثم بعد ذلك أحرقت الجثة، وأطلق عليها مدفع حتى تذرو الرياح رمادها فلا تبعث من جديد بعد الآن.

ونادى النبلاء المنتصرون بشويسكي قيصراً تحت اسم فاسيلي الرابع: وآلى على نفسه ألا يعدم أحداً ولا يصادر أملاكاً، دون موافقة "الدوما"(مجلس النبلاء). وأقسم في كاتدرائية أوسبنسكي أغلظ الإيمان بأنه "لن يلحق بأي إنسان أذى دون موافقة المجلس "أي الجمعية العمومية التي تضم كل الطبقات". وغالباً ما انتهكت هذه الضمانات، ولكنها كانت على أية حال خطوة تاريخية على طريق تطوير الحكومة في روسيا.

وأخفقوا في تهدئة تلك العناصر الكبيرة من السكان التي تولاها الحزن والأسى لخلع ديمتري. فاندلعت ثورة في الشمال، ونصب زعيماً لها "ديمتري" زائف آخر، أمده سجسمند الثالث ملك بولندة بعون غير رسمي. فالتمس

ص: 130

شويسكي العون من شارل التاسع ملك السويد، عدو سجسمند، وأرسل شارل قوة سويدية إلى روسيا، فأعلن سجسمند الحرب عليها، واستولى قائده زلكوسكي على موسكو، وخلع شويسكي (1610) وحمل إلى وارسو حيث أرغم على الترهب في أحد الأديار. واتفقت زمرة من النبلاء على الاعتراف بلادلاس- ابن سجسمند، البالغ من العمر أربعة عشر عاماً قيصراً على روسيا، شريطة المحافظة على استقلال الكنيسة الأرثوذكسية، ومساعدة الجيش البولندي للنبلاء في إخماد الثورة الاجتماعية التي كانت تهدد الحكومة الأرستقراطية في روسيا.

وكانت الثورة في بداية أمرها استنكاراً دينياً ووطنياً لتنصيب قيصر بولندي، ومنع هرموجنس بطريك الأرثوذكسية الشعب من حلف يمين الولاء لملك كاثوليكي. وقبض البولنديين عليه، وسرعان ما قضى نحبه في سجنه، ولكن نداءه جعل من المتعذر على لادسلاس أن يحكم البلاد. ودعا الزعماء الدينيون الشعب إلى طرد البولنديين بوصفهم كاثوليك مهرطقين. وبدا أن الحكومة نهار، وعمت الفوضى روسيا. واستولى الجيش السويدي على نوفجورود واقترح أن يتولى عرش روسيا أمير سويدي. ورفض الاعتراف بلادسلاس الفلاحين في الشمال والجنوب، والقوازق في الجنوب، وأقاموا حكماً خاصاً بهم في المقاطعات. وأعملت عصابات قطاع الطرق السلب والنهب في القرى والمدن، ونكلت بكل من يقاوم، وتعطلت الزراعة ونقص إنتاج الأغذية، واختلت وسائل النقل، وعمت المجاعة، واضطر السكان في بعض الأقسام إلى أكل لحوم البشر (52). ودخل جمهور ثائر موسكو، وفي غمرة الفوضى والشغب أشعل الحريق فأتت النار على معظم المدينة (9 مارس 1611) وتقهقرت الحامية البولندية إلى الكرملن، ترقب عبثاً قدوم سجسمند لنجدتها.

وفي نزني نوفجورد نظم قصاب يدعى كوزمانين، جيشاً ثورياً آخر؛ يحدوه الإخلاص للأرثوذكسية، ودعا كل أسرة إلى التنازل عن ثلث ما تملك

ص: 131

لتمويل الهجوم على العاصمة. وتم هذا بالفعل، ولكن الناس لن ينقادوا إلى زعيم غير ذي لقب. فدعا منين الأمير ديمتري بوجاركسي ليتولى القيادة، فقبل المهمة، وانطلق رجال الجيش الجديد إلى موسكو صائمين ضارعين، وما أن وصلوا حتى حاصروا الحامية البولندية في الكرملن، وصمدت الحامية إلى حد أنهم أكلوا الفئران ولحم البشر، وكانوا يغلون المخطوطات اليونانية ليحظوا على المرق، ثم استسلموا وفروا (22 أكتوبر 1613) وظلت ذكرى هذا العام حية عزيزة في أذهان الروس، على أنه عام التحرير، وعندما أجلي الفرنسيون بعد ذلك بقرنين من الزمان، عن موسكو التي جللها رماد الحريق مرة ثانية، أقام الروس المنتصرون نصباً تذكارياً لمنين وبوجارسكي، الجزار والأمير اللذين ضربا لهما أروع مثل للبطولة في 1612.

ودعا بوجارسكي والأمير ديمتري تروبتسكوي ممثلين علمانيين ودينيين عن كل أجزاء الإمبراطورية إلى مجلس لانتخاب ملك جديد. واستخدمت مختلف الأسرات نفوذها بطريقة خفيفة لتحقيق أغراض خاصة، ولكن كانت الغلبة آخر الأمر لأسرة رومانوف، واختار المجلس ميكاييل الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر آنذاك، وفي 21 فبراير 1613 نادى به قيصراً سكان موسكو الذين يمكن تجميعهم وتوجيههم بسرعة. وبعد أن أنقذ الشعب الدولة، نسب الفضل في ذلك، تواضعاً إلى النبلاء.

وقضت الحكومة الجديدة على الخلل الاجتماعي والثورة، وثبتت دعائم الرق وتوسعت فيه وهدأت من روع السويد بالتخلي عن انجريا، ووقعت مع بولندة هدنة مدتها أربعة عشر عاماً، وفكت الهدنة أسر فيودور رومانوف، والد ميخائيل، الذي طال أمد أسره. وكان بوريس قد أرغمه على الترهب، وأطلق عليه اسم الراهب فيلات. وعينه ابنه ميخائيل بطريريك موسكو، ورحب به مستشار له وبلغ من القوة والنفوذ حداً أطلق معه الشعب عليه اسم "القيصر الثاني". وتحت الحكم المزدوج الذي شارك فيه الوالد والولد

ص: 132

وبرغم المزيد من الثورات والحروب؛ حققت روسيا يعد جيل من الفوضى، سلاماً مزعزعاً مقروناً بالسخط والاستياء. أن زمن الشدائد والمتاعب الذي بدأ بموت بوريس، اختتم باعتلاء ديمتري العرش، وهذا بدوره كان ابتداء عهد أسرة رومانوف التي قدر لها أن تحكم روسيا حتى عام 1917.

ص: 133

الفصل العشرون

‌الإسلام يتحدى

‌1566 - 1648

1 -

الأتراك

في غمرة الصراعات الداخلية-سياسية ولاهوتية-في العالم المسيحي أحس بعض المفكرين بالإزعاج والقلق من أن العناية الإلهية أطلت، في حياد ظاهر، على الصراع الأكبر بين المسيحية والإسلام. ولقد تم طرد الإسلام من أسبانيا، ولكن "دار السلام"(العالم الإسلامي) كانت لا تزال شاسعة مترامية الأطراف، ضمت أندونسيا وشمال الهند. والحق أن هذا كان عصر أسرة المغول الزاهر في دلهي (1526 - 1707). وضم الإسلام أفغانستان وآسيا الوسطى وإيران كلها "حيث آذنت عظمة الفن الفارسي بالغروب في هذه الحقبة. وإلى الغرب من إيران كانت دولة الإسلام هي الإمبراطورية العثمانية أو التركية-التي لم يكن ينافسها آنذاك في أتساع أطرافها الإمبراطورية الأسبانية، واحتفظت بالسيطرة على شواطئ البحر الأسود، وتحكمت في مصاب الدانوب، والدنيبر والدينستر، وساعدت حلفاءها خانات التتار، على السيطرة على القرم ومصب نهر الدون. واستولى الأتراك على أرمينيا وآسيا الصغرى وسوريا وبلاد العرب-الشرق الأدنى بأسره-وهناك كان في حوزتها أشهر مدن العالم القديم والوسيط، بابل، نينوى، بغداد، دمشق، أنطاكية طرطوس، أزمير، نيقية، مكة وبيت المقدس-حيث كان المسيحيون، بترخيص من المسلمين، يحجون إلى قبر المسيح. واستولوا في شرق البحر الأبيض على الجزر العظيمة قبرص ورودس وكريت، وكانت الأغلبية الساحقة في شمال أفريقية

ص: 134

من المسلمين، من البحر الأحمر إلى الأطلسي، فكان يحكم مصر باشوات يعينهم السلاطين، وكان يحكم طرابلس وتونس والجزائر ومراكش أسرات مسلمة محلية يختلف خضوعها للسلاطين باختلاف البعد بينها وبين الآستانة، وكان هذا هو عهد أسرة السعديين (1500 - 1668) في المغرب، وكانت عاصمتها مراكش تعج بالتجارة وتتألق بالفن. وامتدت الدولة العثمانية في أوربا من البسفور عبر اليونان (بما فيها أثينا وإسبارطة) والبلقان والمجر، على بعد مائة ميل من فيينا، وعبر دالمشيا إلى أبواب البندقية، وعبر البوسنة وألبانيا، وما كان ثمة إلا قفزة واحدة عبر الأدرياتيك حتى تصبح في إيطاليا البابوية. وهناك وفي فيينا الواقعة تحت الحصار، لم يكن الحوار الكبير بين البروتستانت والكاثوليك بل بين المسيحية والإسلام. وداخل هذا النطاق الإسلامي عاشت المسيحية حياتها الممزقة.

ومهما كان من أمر امتداد الإسلام غرباً فإنه ظل شرقياً. وكانت القسطنطينية نافذة على أوربا ولكن جذور العثمانيين امتدت كثيراً إلى الوراء، إلى آسيا وبذلك استطاعت تركيا المزهوة المبتهجة أن تقلد أوربا. وفي بعض بقاع العالم الإسلامي قتلت حرارة الصحراء أو الحرارة المدارية روح الحيوية. وعوقت المسافات الشاسعة غير المسكونة التجارة، ولم يجد الناس في أنفسهم تحمساً إلى كسب المعرفة وتحصيلها مثل الأوربيين الغربيين، فشجعوا الجمود وعدم التحرك، وكانوا أكثر استعداداً للقناعة ولم يتصفوا بالطموح. وكانت الحرف والصناعات غير المتغيرة في الإسلام متقنة، ولكنها كانت تتطلب وقتا، وكان يعوزها الذوق، ولم تتجه إلى الصناعة على نطاق واسع وكانت القوافل مثابرة صابرة، ولكنها لم تقو على منافسة الأساطيل التجارية التابعة للبرتغال وأسبانيا وإنجلترا والأراضي الوطيئة التي كانت تجوب كل المسالك المائية إلى الهند. على أن بعض الثغور الواقعة على البحر المتوسط مثل أزمير، ازدهرت بفضل نقل البضائع بين السفن والقوافل. وينفخ الإسلام في الناس روح

ص: 135

الشجاعة المفعمة بالأمل زمن الحرب، ولكنه كان يغرس في نفوسهم وقت السلم روح التسليم بالقضاء والقدر التي تثبط من عزائمهم

(1)

وأغراهم بحلقات الذكر والأحلام الصوفية. وعلى الرغم من أن الإسلام في عصر الفتوة والشباب أجاز قدراً كبيراً من العلوم. فأنه هبط آنذاك بالفلسفة إلى حذلقة جوفاء قوامها التعاليم والأساليب التقليدية. وعمل العلماء من رجال الدين الذين سنوا القوانين على أساس القرآن الكريم-على تنشئة الأطفال على الدين القويم، وحرصوا على كل الحرص حتى لا يطل عصر العقل برأسه على العالم الإسلامي وهناك هيأ الصراع بين الدين والفلسفة نصراً حاسماً للدين.

أضف إلى ذلك أن هذا الدين تيسر له غزو البلاد التي اقتطعت من العالم المسيحي. فقد كان للكنيسة الشرقية بطاركتها في القسطنطينية وإنطاكية، وأورشليم والإسكندرية، ولكن عدد المسيحيين فيها كان يتناقص بسرعة، وظل الأرمن في آسية الصغرى والأقباط في مصر على عقيدتهم المسيحية، ولكن الجماهير عامة في آسيا وإفريقية والبلقان اعتنقت الإسلام. وربما كان لهذا أسباب عملية، فلو بقوا على عقيدتهم المسيحية لحرموا من الوظائف العامة، ودفعوا ضرائب باهظة مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية وسلموا واحد من كل عشرة من أبنائهم ليربى تربية إسلامية يؤهله للانضمام إلى الإنكشارية ليعمل في الجيش، أو ليتولى الوظائف الحكومية.

وفيما عدا هذا، تمتع المسيحيون في العالم الإسلامي بتسامح ديني ما كان حاكم مسيحي ليحلم بمنحه للمسلمين في أي بلد مسيحي. من ذلك، على سبيل المثال، أن المسلمين كان لهم في أزمير 15 مسجداً، وللمسيحيين 7 كنائس ولليهود 7 معابد (1). وكانت السلطات في تركيا والبلقان تتولى حماية الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ضد أي تحرش أو إزعاج أثناء العبادة

(1)

هذا كلام يدل على عدم التعمق في فهم حقيقة الإسلام؛ ولكنا نورده بنصه توخياً للأمانة في الترجمة- (المترجم)

ص: 136

والصلوات (2). وذهب صموئيل بيبس في يومياته إلى أن معظم المجر استسلم للأتراك لأن البلاد نعمت في ظل الحكم العثماني بحرية دينية أكبر مما نعمت به في ظل الأباطرة الكاثوليك. وهذا حق كل الحق من جانب المسيحيين المهرطقين. فقد ذكر سير توماس أرنولد: "أن الكلفنيين في المجر وترنسلفانيا والموحدين في هذا البلد الأخير آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع تحت نيران آل هبسبرج المتعصبين وأن البروتستانت في سيليزيا تطلعوا إلى الأتراك، وربما ارتضوا عن طيب خاطر أن يشتروا حريتهم الدينية مقابل الخضوع للحكم الإسلامي (4) "ومما يلفت-النظر أو يثير الدهشة أكثر من ذلك، حكم السلطات المسيحية القيادية على تاريخ اليونان الحديث: -

إن كثيراً من اليونان ذوي المواهب العظيمة والخلق الرفيع كانوا أكثر إدراكاً لتفوق المسلمين، حتى أنهم، حين نجوا من سوقهم إلى خدمة السلطان في نطاق "صريبة الأطفال"، اعتنقوا الإسلام طواعية واختياراً. ولابد من التسليم بأن السمو الخلقي في المجتمع العثماني كان له دخل كبير في هذا التحول إلى الإسلام، قدر ما كان الطموح الشخصي لدى الأفراد (5).

ولكن من الصعب تحديد هذا "السمو الخلقي" لدى أتراك القرن السابع عشر. فإن تافرنيه الذي تجول واشتغل بالتجارة في البلاد الإسلامية في 1631 - 1633، 1638 - 1643 وما بعدها، قال:"في تركيا لصوص كثيرون يتجمعون في عصابات تقطع طريق التجار (6) " وكان الأتراك معروفين بنزعتهم الهادئة إلى الخير ولكن نفس الديانة التي روضت دوافعهم غير الاجتماعية وقت السلم، أطلقت لهم العنان في ضراوة وعنف في حربهم مع "الكفار" وكان استرقاق الأسرى المسيحيين مباحاً. ووقعت غارات في الأراضي المسيحية القريبة من الحدود العثمانية لاصطياد المسيحيين واسترقاقهم، ومهما يكن من أمر، فإن اتجار العثمانيين في الرقيق كان أقل بكثير، عدداً وقساوة، من الحملات التي قام بها المسيحيون لجمع الرقيق في القارة السوداء. وكان الانغماس في الشهوة الجنسية في العالم الإسلامي أشد

ص: 137

وأكثر إرهاقاً منه في العالم المسيحي، ولو أنه كان عادة في نطاق الحدود المنظمة لتعدد الزوجات. وكان المجتمع التركي، على وجه التحديد، مجتمع رجال، ولما كان اتصال الرجال بالنساء محظوراً خارج البيت، فقد أنس المسلمون بمعاشرة الغلمان، عشرة عذرية (أفلاطونية) أو جسدية. وانتشر السحاق داخل الحريم (8).

وسادت حياة عقلية نشيطة، ولو أنها مقيدة، بين أقلية كبيرة من المسلمين. وربما كانت نسبة معرفة القراءة والكتابة تركية أوربا في القرن السابع عشر أعلى منها في العالم المسيحي وربما حكمنا على وفرة الكتب من ثبت جمعه حاجي خليفة (1648)، يضم أكثر من 25 ألف كتاب في اللغات العربية والتركية والفارسية. وكانت هناك مئات المجلدات في الدين والفقه والعلوم والطب والبلاغة والسير والتاريخ (9). وكان من أشهر المؤرخين أحمد بن مجمد، غالباً ما استندنا في كتابنا هذا إلى مؤلفه "تاريخ الأسرات الإسلامية في أسبانيا"(نفح الطيب). وقد عرفناه أساساً باسم "المقري" وقد أشتق أسمه من اسم مسقط رأسه في قرية في الجزائر. ومعظم كتابه عبارة عن قطع منقولة أو مختصرة من كتب قديمة، ومع ذلك فهو إنتاج جديد بالذكر في عصره، لم يزودنا بأخبار السياسة والحرف فقط، بل أمدنا كذلك بشيء عن الأخلاق والقانون والنساء والموسيقى والأدب والطب. وأحيى مدونته بالتفاصيل الممتعة والحكايات والنوادر التهذيبية.

ونظم الشعر كل من عرف القراءة والكتابة في تركيا تقريباً. واشترك الحكام بحماسة في هذه المباراة (كما هو الحال في اليابان). وألف محمد سليمان أوغلوا المعروف "بالفضولي"(وهو اسم أخف على السمع)، أرق أغاني الحب في ذاك العصر، وربما بدت سخيفة ساذجة في الترجمة. الإنجليزية الرديئة التي توفرت لنا، ولكنا ندرك مراميه-تميزت غادات بغداد بالدفء والحرارة والطراوة ونعومة الملمس، والخفة والرقة حتى

ص: 138

يتزوجن. أما محمود عبد الباقي (المتوفى 1600) وهو أعظم الشعراء الغنائيين العثمانيين، فإنه بعد أن كان المغني الأثير لدى سليمان القانوني، ظل يشدو لمدة أربعة وثلاثين عاماً بعد وفاة راعيه. وكتب نافع الذي عاش في أرضوم. هجاء لاذعاً، لابد أن شيئاً منه صعد إلى السماء، فإنه بينما كان السلطان مراد الرابع يقرأ قصيدة منه نزلت صاعقة على قدميه، فمزق السلطان الكتاب ونفى الشاعر من القسطنطينية، وسرعان ما أعيد إليها، ولكن قصيدة هجائية أخرى لذعت الوزير بيرم باشا، فأمر بقطع رأسه (10).

وظل الفن العثماني ينتج التحف والروائع، فقد بنى مسجد أحمد الأول في 1610 ليشرف على العاصمة بمآذنه الست المحلقة في الجو، وسلسلة قبابه المنتفخة (البصلية الشكل)، وأعمدته المحززة الضخمة في الداخل، وأقواس الفسيفساء، والكتابات الفخمة والزخارف المتألقة. وبعد ذلك بخمسة أعوام أهدى السلطان لزوجته ذات الحظوة لديه مسجد بيتي فالدي جاميسي الرائع. وبنى في هذه الحقبة في دمشق مسجدان فخمان. أما في أدرنه فإن المهندس المعماري الذي لا نظير له، سنان الذي كان قد وضع تصميم مسجد سليمان شاد للسلطان سليم الثاني مسجداً يعده بعض الناس أعظم من أي مسجد آخر في القسطنطينية.

ولم تتفوق أية حضارة على الإسلام في صنع تربيعات القرميد الجميلة التي نشاهدها، على سبيل المثال في مسجد أحمد الأول، وأجمل منها تلك التي تزين مدخل ضريح سليم الثاني بالقرب من أيا صوفيا بباقات من الأزهار البيضاء والزرقاء وسط أغصان وأوراق خضراء وزرقاء وحمراء، ولا يمكن أن تكون الزهور الحية أجمل من ذلك، بل قد تحسد نظيراتها المصنوعة على طول بقائها. وكانت أزنيق-حيث رأس قسطنطين منذ ثلاثة عشر قرناً المجمع التاريخي الذي ثبت العقيدة المسيحية-نقول كانت مشهورة بتربيعاتها البراقة وثمة نماذج مقنعة منها في متحف المتروبوليتان للفن.

وكان رسم المنمنمات في تركيا يحاكي نظيره في فارس التي سنتحدث عنها وشيكاً أما الخط فقد ذاع صيته (يقال أن سطر واحد بخط مير عماد بيع بقطعة

ص: 139

من الذهب أثناء حياته) (11) إلى حد أنه لم يطبع أي كتاب في تركيا قبل عام 1728. وفي النسيج كذلك كان الأتراك تلاميذ الفرس، ولكن لم يتفوق عليهم فيه إلا هؤلاء. ولم يبلغ السجاد التركي درجة الإيراني في رقة النسيج ودقة التصميم والرسم أو الثراء في الألوان. ولكنهم يحتلون مكانة عالية في تاريخ هذا الفن. وكان السجاد التركي في القرن الخامس عشر قد كسب شهرته بالفعل في الغرب لأننا نراه في لوحات الرسام الإيطالي أندريا مانتنيا، وبعده في بنتوريكيو، وفي باريس ورودن وهولبين. وكسى كثير من قصور التيودور بالسجاد التركي، بل إن كرومول المتشدد نفسه كان لديه اثنتان وعشرون قطعة منه (12). وإننا لنجد هذا السجاد ممثلاً في قطع النسيج المزركش (الكانفاه، الجويلان)، يوضح للناس حياة لويس الرابع عشر. لقد كان الغرب يدرك أن الشرق لديه الفنون والمدافع سواء بسواء.

‌2 - معركة ليبنتو

ومهما يكن من شيء، فقد كان على حكام الغرب أن يرقبوا المدافع، لأن سلاطين آل عثمان كانوا قد أعلنوا عن عزمهم على تحويل أوربا بأسرها إلى الإسلام. أن رصيدهم البشري وثروات مملكتهم الزاحفة في كل مكان هيأت لهم أكبر جيش وأحسنه عتاداً وعدة في أوربا. وكان عدد الانكشارية وحدهم خمسين ألفاً. وربما كان خلاص الغرب وخلاص المسيحية في ترامي أطراف الإمبراطورية العثمانية على هذا النحو، فما كانت المسافات البعيدة لتساعد على تجميع الموارد المبعثرة في الوقت المناسب، كما أن السلاطين، ولو أنهم شكلوا أسرة حاكمة أبقى على الزمن من أية أسرة حاكمة مسيحية، دب فيهم الفساد وانتابهم التدهور حيثما تهيأت "للحريم" فرصة لتحقيق مآربهن، وكانوا يكلون أمور الحكم إلى وزراء مؤقتين سريعي الزوال، نزع بهم تزعزع مراكزهم إلى التخفيف من وطأة سقوطهم واعتزال مناصبهم، بجمع الثروات أيام سطوتهم.

ص: 140

وهكذا كان سليم الثاني الذي خلف سليمان القانوني 1566، حاكماً منحلاً خاملاً، لم تتجل عبقريته إلا في أنه عهد بالإدارة والسياسة إلى وزيره القدير محمد سوكللي. وانقطعت غارات الأتراك على الإمبراطورية الرومانية المقدسة لأن الإمبراطور مكسيمليان الثاني اشترى السلام مقابل جزية سنوية قدرها 30 ألف دوكات. وحول سوكللي وجهة نظر فريسة أقرب. فقد احتفظت بلاد العرب من قبل "باستقلالها الديني" ولكن تم الآن للباب العالي فتحها (1570) وكانت ممتلكات البندقية لا تزال متناثرة في بحر إيجة، تعوق أساطيل تركيا وتجارتها. وقصد لالا مصطفى على رأس 60 ألف مقاتل لمهاجمة قبرص وأهابت البندقية بالدول المسيحية لنجدتها، فلم يستجب لندائها إلا البابا وأسبانيا. فإن بيوس الخامس لم يكن قد نسي أن الأسطول التركي في 1566 هدد أنكونا ثغر البابا وقلعته على الأدرياتيك. كما علم فيليب الثاني أن عرب الأندلس استرخصوا السلطان لإنقاذهم من ويلات الحكم الأسباني (1561) وأن السلطان رجب بمبعوثيهم إليه. وكان الموقف الدبلوماسي مواتياً. ذلك أن الإمبراطور لم يكن يشترك في الحرب ضد تركيا، لأنه كان قد وقع من فوره معاهدة سلام معها ولم يكن من الشرف ولا في مصلحة أمنه أن ينقضها وعارضت فرنسا أية خطة تزيد من قوة أسبانيا وترفع من شأنها. ووثقت عرى الصداقة مع الأتراك عوناً لها على مواجهة الإمبراطور. وخشية إنجلترا مغبة الدخول في مغامرة مشتركة مع فيليب يجعلها تحت رحمة أسبانيا الكاثوليكية في حالة انتصارها. وساور البندقية بعض القلق من أن الانتصار قد يأتي بالقوات الأسبانية إلى الأدرياتيك. فتقضي على احتكار البندقية لهذا البحر وسيطرتها عليه. وقضى بيوس عاماً كاملاً في التغلب على هذه الحيرة والتردد. وكان عليه أن يرضى باستخدام البندقية وأسبانيا لأموال الكنيسة. وأخيراً في 20 مايو 1571 انضمت الثلاث في "عصبة مقدسة" واستعدت للحرب.

وفي أثناء هذه المفاوضات تقدم الهجوم التركي على قبرص. مع خسائر

ص: 141

جسيمة تكبدها الطرفان. وسقطت نيقوسيا بعد حصار دام خمسة وأربعين يوماً. وأعدم بحد السيف عشرون ألفاً من سكانها، وقاومت فاما جوستا زهاء عام. وعندما سقطت (6 أغسطس 1571) سلخ البطل المدافع عنها، مارك أنطونيو براجادينو، حياً، وحشي جلده بالقش وأرسل إلى القسطنطينية تذكاراً للنصر.

وكانت الظروف تستحث العصبة المقدسة على العمل، فجمعت قواتها. وأسهمت بالسفن والرجال، كل من فلورنسة وبارما ولوكا وفرانا وأربينو وجنوه، عدو البندقية القديم. وفي نابلي تسلم دون جوان النمساوي لواء القيادة في احتفال مهيب من الكاردينال جرنفل. وفي 16 سبتمبر، بعد أن تناول البحارة والجنود القربان المقدس من يد الجزويت والكيوشيين الذين التحقوا بالحملة، أبحر الأسطول الضخم (الأرمادا) من مسينا إلى جزيرة كورفو في محاذاة جنوبي إيطاليا، عبر مضيق أوترانتو. وهناك ترامت أنباء المذابح والفظائع التي اقترنت بسقوط قبرص. وتعالت صيحات "النصر النصر" فليحي المسيح، عندما أصدر دون جوان أوامره بالانطلاق إلى القتال.

وفي 7 أكتوبر 1571 تحرك الأرمادا عبر خليج بتراس إلى خليج كورنت. وكان الأسطول التركي ينتظر بعيداً عن ثغر ليبنتو، وهو يضم 222 سفينة شراعية كبيرة، و60 سفينة صغيرة، و570 مدفعاً، و24 ألف جندي، و13 ألف ملاح، و41 ألف مجدف. وكان المسيحيين 207 سفن شراعية، وست سفن شراعية فينيسية ضخمة تحمل المدافع، و30 سفينة صغيرة و 1. 800 مدفع و30 ألف جندي و13 ألف وتسعمائة ملاح، و43 ألف جندي (13). ورفع الأسطول المسيحي علم المسيح مصلوباً. ورفع الأسطول التركي علم السلطان يحمل لفظ الجلالة "الله" موشى بالذهب. وتراجع جناح المسيحيين الأيمن أمام الأتراك، ولكن الجناح الأيسر الذي كان يقوده البنادقة حول المقاومة الضارية إلى هجوم منظم، وأودت مدفعيتهم

ص: 142

بحياة آلاف من الأتراك، وأصدر دون جوان أمره بأن تتحرك سفينة قيادية قد مانحو سفينة أمير البحر التركي موسيناد علي. فلما التقت السفينتان، قفز ثلاثمائة من جنود جوان الأسبان المحنكين إلى السفينة التركية بقيادة راهب كبوشي، يلوح بالصليب عالياً. وتقرر مصير المعركة، عندما أسرت السفينة، ورفع رأس علي المفصول عن جسده فوق سارية علمه (14). وانهارت الروح المعنوية لدى الأتراك. وهربت 40 من سفنهم، وأسرت 117 أخرى، كما أغرق أو حرق خمسون سفينة. ولقي حتفه في المعركة أكثر من ثمانية آلاف رجل من الأتراك، وأسر عشر آلاف، وزع معظمهم رقيقاً على المنتصرين. وحرر نحو 12 ألفاً من الأرقاء المسيحيين الذين كانوا يقومون بالتجديف على المراكب التركية. وفقد المسيحيون، وقتل منهم 7500 رجل من بينهم أفراد من أعرق وأشهر الأسرات في إيطاليا. ولا نزاع في أن معركة ليبنتو كانت أعظم معركة بحرية في التاريخ الحديث. ووصفها سرفنتيز الذي كان من بين الجرحى المسيحيين البالغ عددهم 7500 بأنها "أعظم حدث بارز جدير بالذكر شهدته العصور الخوالي أو العهود الحاضرة. وقد لا يكون له نظير في المستقبل

(1)

" (15).

وكان يجدر أن تكون هذه أكبر معركة فاصلة في التاريخ الحديث، لولا أن استنزاف المجدفين والأضرار التي لحقت بالأسطول المنتصر، وهبوب عاصفة عنيفة، حال دون تعقب الأتراك. فقد ثار النزاع بين المسيحيين حول اقتسام المجد والغنائم. ولما كانت أسبانيا قد أسهمت في القتال بنصف السفن والنفقات، والبندقية بثلثها والبابا بالسدس، فقد وزعت الغنائم بقدر هذا الإسهام. ووزع الأسرى الأتراك بهذه النسبة، فخص أسبانيا 3600

(1)

على بعد نحو مائة ميل إلى الشمال الغربي، قرب أكتيوم. على خليج آرثا الحالي، انتزع أكتافيوس بأربعمائة سفينة حربية السيادة على عالم البحر المتوسط القديم من أنطونيوس وكليوبطرة، وسفنها الحربية الخمسمائة (2 سبتمبر، 31 ق. م).

ص: 143

عبد مكبلين في الأصفاد، ومن نصيب البابا منح دون جوان 17 عبداً مكافأة شريفة لقاء خدماته (16). ورغب بعض الزعماء المسيحيين في الاحتفاظ بالأرقاء المسيحيين الذين حرروا من السفن التركية، ولكن البابا بيوس الخامس حرم هذا التصرف (17).

وابتهجت أوربا الكاثوليكية بأسرها حين وصلت أنباء النصر. وازدانت البندقية بأكاليل الزهر والتحف الفنية، وتبادل الرجال القبلات في الشوارع، ورسم تيشيان وتنتورنو وفيرونيز لوحات ضخمة عن المعركة، واحتفل بالقائد الفينيسي سباستيان فنييرو أياماً وليالي كثيرة، وأخيراً اختبر لتولي منصب "الدوج"(القاضي الأول في جمهورية البندقية). أما في روما، حيث قضى رجال الدين وعامة الناس ساعات كل يوم في الصلوات وأحر الدعوات منذ غادر الأرمادا مسينا، فقد تعالت صيحات "الشكر للرب" في مرح وابتهاج وارتياح، وكاد البابا بيوس الخامس، منظم النصر، أن يرفع دون جوان إلى مرتبة القديسين وأطلق عليه عبارة الإنجيل "هناك رجل أرسل من عند الله اسمه يوحنا"(إنجيل يوحنا، 1: 6) وتليت القداسات وأطلقت الألعاب النارية، ودوت طلقات المدافع. ورجا البابا من المنتصرين أن يحشدوا أسطولاً آخر، وتوسل إلى حكام أوربا أن ينتهزوا الفرصة ليتحدوا في حرب صليبية لطرد الأتراك من أوربا ومن الأرض المقدسة. وأهاب بشاه إيران، وبأمير اليمين السعيد أن ينضما إلى المسيحيين للانقضاض على الأتراك (18). ولكن فرنسا الحاقدة على أسبانيا اقترحت على السلطان، عقب ليبنتو مباشرة، تحالفاً مباشراً ضد فيليب الثاني (19)

(1)

.

(1)

في عام 1536 حصلت فرنسا من تركيا على أولى "الامتيازات". وجددت في 1569 ولمتكن تنازلات بل معاهدة اتفق بمقتضاها، أساساً، على أن يعامل الرعايا الفرنسيون في الأراضي التركية، ويحاكموا وفق القانون الفرنسي "القضاء خارج أراضي الدولة" ووقعت تركيا مثل هذه الامتيازات مع إنجلترا في 1580، ومع المقاطعات المتحدة (في الأراضي الوطيئة) في 1613.

ص: 144

واشتركت أبناء هذا العرض مع عوامل أخرى في ثني فيليب عن عزمه على القيام بعمل جديد ضد القوة العثمانية الرئيسية. وتورط في النزاع مع إنجلترا، وفي المأزق الذي أوقعه فيه دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، كما استاء من إصرار البندقية على احتكار التجارة في الأدرياتك، وخشي من أن انتصار ثانيا على الأتراك قد يبعث القوة والحياة في الإمبراطورية البندقية المتداعية، فتصبح منافساً قوياً لأسبانيا. أما بيوس الخامس الذي أرهقته الانتصارات والهزائم معاً، فإنه لقي ربه في أول مايو 1572، وماتت معه العصبة المقدسة.

‌3 - اضمحلال السلاطين

وفي نفس الوقت، وبنشاط أفزع الغرب، بنى العثمانيون أسطولاً آخر، في مثل ضخامة الأسطول الذي كاد أن يدمر عن آخره. وفي بحر ثمانية أشهر بعد معركة ليبنتو، كان ثمة أسطول تركي مكون من 150 سفينة يجوب البحار بحثاً عن الأسطول المسيحي الذي بلغ من سوء النظام حداً لم يجرؤ معه على الخروج من مكمنه. وشجع الجميع البندقية على استئناف الحرب، ولكن أحداً لم يمد لها يد المساعدة، ومن ثم فإنها عقدت مع السلطان (7 مارس 1573) صلحاً لم تتنازل بمقتضاه عن قبرص فحسب، بل دفعت كذلك للسلطان تعويضاً يغطي ما تكبده من نفقات في فتح الجزيرة. لقد خسر الأتراك المعركة ولكنهم كسبوا الحرب، ويبدو كيف أنهم لم يصبهم أي وهن، من العرض الجريء الذي تقدم به سوكوللي إلى البندقية (1573)، وهو أنها إذا انضمت إلى الأتراك في حربهم ضد أسبانيا، فلسوف يساعدونها في غزو مملكة؛ بلي لتكون تعويضاً سخياً لها عن ضياع قبرص. ورفضت البندقية هذا العرض لأنه يشجع السيطرة التركية على إيطاليا والعالم المسيحي. وفي أكتوبر أحيا دون جوان مجده بالاستيلاء على تونس لحساب أسبانيا، ولكن في بحر عام واحد استطاع الأتراك بأسطول ضخم آنذاك (250 سفينة) استعادة المدينة

ص: 145

وذبح الأسبان الذين كانوا قد استوطنوها حديثاً. وعلى سبيل الاحتياط أغاروا على سواحل صقلية. ومات سليم الثاني في 1574، ولكن ظل سوكوللي يتولى شؤون الدولة ويدير دفة الحرب.

وقد يدعو إلى حيرة الفلاسفة أن يرى المؤرخون اضمحلال الدولة العثمانية في عهد مراد الثالث (1574 - 1595) على حين أنه كان يحب الفلاسفة، ولكنه كان مولعاً بالنساء كذلك. وأنجب مائة وثلاثة أطفال من عدد غير كبير من الزوجات. وكانت "بافو" الزوجة ذات الحظوة لديه، وهي أمة من أسرى البندقية، أسرته بمفاتنها، وتدخلت في شؤون الدولة، واشترى نفوذها بالمال، وتقلص نفوذ سوكللي، ولما أقترح بناء مرصد ثارت ثائرة الشعب ضده في نعرة تعصب ذميم، فقتلوه (1579)، وربما كان هذا بأمر السلطان مراد. وعمت الفوضى، وانخفضت قيمة العملة، وتمرد الانكشارية لهبوط أجورهم لأنهم يتسلمون نقداً رديئاً، وأفسدت الرشوة الموظفين، بل أن أحد الباشوات كان يفاخر بأنه رشا السلطان. وانغمس مراد في ملذاته الجنسية ومات متأثراً بالإفراط فيها.

وسيطرت "بافو" على أبنها محمد الثالث (1595 - 1603) قدر سيطرتها على الدولة. وبدأ حكمه بالعملية التقليدية، فقتل تسعة عشر من أخوته، إغراء وحثاً لآل بيته على أن يركنوا إلى الهدوء والمسالمة، ولكن أخصاب مراد، أو ذريته الكبيرة، جعلت من هذا السلام المنشود مشكلة عسيرة، فإن كثيراً من أبناء السلطان بقوا على قيد الحياة تحدق بهم الأخطار. وأنتشر الفساد وسادت الفوضى. وضيعت الهزيمة في الحرب مع النمسا وفارس قيمة الانتصارات التركية. وواجه أحمد الأول خطر ظهور الشاه عباس الأول حاكماً قوياً على فارس، فقرر حشد قواته على الحدود الشرقية، ورغبة في التخفيف منها في الغرب، وأمر السلطان وكلاءه بتوقيع صلح "زتفانوروك"(1906)، وهي أول معاهدة تنازل الأتراك المزهوون بتوقيعها خارج القسطنطينية. ودفعت النمسا للسلطان مائتي ألف دوكات، ولكنها أعفيت من أية جزية

ص: 146

بعد ذلك. وقبلت ترنسلفانيا السيادة التركية طواعية واختياراً، كذلك عقدت فارس الصلح (1611)، وأعطت تركيا مليون رطل من الحرير، تعويضاً عن الحرب. وتميز هذا العهد في جملته بالتوفيق والسلامة لولا ما شابه من استمرار الانكشارية في تمردهم. وكان السلطان أحمد رجلاً تقياً حسن النية، وبذل للجهد، ولكنه أخفق في القضاء على قتل الأخوة اخوتهم في الأسرة المالكة.

وأقترح عثمان الثاني (1617 - 1622) تنظيم الانكشارية والإصلاح من شأنهم، ولكنهم اعترضوا وقتلوه، وأجبروا أخاه الأبله المعتوه مصطفى الأول على اعتلاء العرش، ولكن مصطفى أوتي من رجاحة العقل ما جعله يتخلى عنه (1623) لبن أخيه مراد الرابع البالغ من العمر اثني عشر عاماً (1623 - 1640). واختار الانكشارية كبار الوزراء، وكانوا يذبحونهم كلما لاح لهم أنه قد آن الأوان لإحداث تغيير. واقتحموا القصر الملكي وأجبروا السلطانة قسيم على أن تفتح لهم أقبية الكنوز استرضاءً لهم. وفي 1631 عادوا إلى القصر ثانية، وتعقبوا السلطان الشاب إلى جناحه الخاص وطالبوا برؤوس سبعة عشر موظفاً. وقدم أحدهم-حافظ-نفسه للجماعة، فداء للباقين، فمزقوه إرباً، وقابلهم مراد، وهو لا يزال بعد غض الإهاب، بما بدا أنه تهديد هين لين:"إني لأرجو أن يمدني الله بعون من عنده: يا رجال الدم، يا من لا تخشون الله، ولا تستشعرون الخجل أمام رسوله، سيحل عليكم أشد الانتقام (20) "وانتهز الفرصة الملائمة ليشكل قوة موالية له، ودبر قتل الواحد تلو الأخر من زعماء التمرد. وسحقت محاولات أخرى للثورة والعصيان، بقسوة شديدة. وفي بعض الأحيان، شارك السلطان بنفسه، مثل- بطرس الأكبر- في تنفيذ أحكام الإعدام. وقتل كل أخوته فيما خلا واحداً ظنه أبله لا يخشى منه شيء. وفي نشوة سلطته الملكية فرض عقوبة إعدام على تناول التبغ أو القهوة، والأفيون أو الخمر. وقيل أن جملة من أعدموا في عهده مائة ألف شخص، باستثناء من لقوا حتفهم في

ص: 147

الحرب (21). واستتب لبعض الوقت النظام الاجتماعي ونزاهة الإدارة. ولما أحس الآن بأنه في مأمن إلى حد معقول، استأنف الحرب مع فارس؛ وقبل أن يتحداه محارب فارسي في نزال فردي، فأرداه قتيلاً، واستولى على بغداد (1638)، وجاد بصلح على نصر، ولدى عودته إلى القسطنطينية استقبله أهلوها استقبال المنتصر الظافر. ومات بعد ذلك بعام واحد متأثراً بداء النقرس الذي سبب له الإدمان على الخمر. وكان في الثامنة والعشرين من العمر.

وبعد وفاة مراد الرابع، عاد اضمحلال تركيا سيرته الأولى. فإن إبراهيم الأول نجا من موت محقق بيد أخيه، لكونه مخبولاً، أو لتظاهره بالخبل، وتجددت الفوضى والفساد في ظل حكمه الضعيف الطائش. وشن الحرب على البندقية وأرسل حملة إلى كريت. وسد البنادقة منافذ الدردنيل. وتضور أهالي القسطنطينية جوعاً. وثار الجيش وشنق السلطان. وعادت إلى ذاكرة الغرب المسيحي قصة الحرس البريتوري في روما، وانتهوا إلى أنه لم يعد ثمة مبرر لأن يرهبوا قوة الأتراك وفي بحر خمس وثلاثين سنة أخرى كان الأتراك على أبواب فيينا من جديد.

‌4 - الشاه عباس الأكبر

1587 -

1629

أنه لمن حسن حظ الغرب المسيحي أنه فيما بين عامي 1577 و1638، حين كانت فرنسا أولاً، ثم ألمانيا من بعدها، قد شلت حركتها الحروب الدينية، أن الأتراك الذين كان يمكن أن يمدوا حدودهم الغربية إلى فيينا، وجهوا كل همهم وطاقتهم إلى فارس. وهنا أيضاً كان الدين مبرراً يستر وراءه شهوة السلطان والسيطرة. فإن الأتراك الذين كانوا يتبعون المذهب السني، رموا الفرس بالمروق لأنهم اتبعوا مذهب الشيعة، ودمغوا من ولي الخلافة بعد عليّ، وهو زوج بنت الرسول، بأنه مغتصب لها. وكانت ذريعة

ص: 148

الحرب بطبيعة الحال دنيوية أكثر منها دينية-وهي الرغبة في حكم الأقليات طعماً في مزيد من الأراضي والموارد والسكان الذين يمكن أن تفرض عليهم الضرائب. ونتيجة لسلسلة من الحروب المتواصلة تقدم الأتراك نحو الفرات والقوقاز وبحر قزوين، مستحوذين على العاصمة الفارسية الجديدة تبرز، والعاصمة العربية القديمة وصفها بيدور تكسيرا (1615) بأنها مدينة غنية عامرة بالأتراك والفرس والعرب واليهود، الذين يعيشون في 20 ألف بيت من الآجر، تزحمها حركة الثيران والجمال والخيل والحمير والبغال المحملة، والرجال نظيفي الثياب، وكثير من النساء المليحات الوسيمات، وعيونهن، كلهن تقريباً، جميلة تحدق فوق خمرهن أو من خلالها (22). وقد كلف أحد الموظفين بالسهر على حماية الغرباء هناك.

وإلى الشرق من بغداد والفرات كانت تقع الولايات الفارسية الممزقة، وتمتد إلى القوقاز وبحر قزوين في الشمال الغربي، وإلى تركستان في الشمال الشرقي، وإلى أفغانستان شرقاً، وإلى المحيط الهندي جنوباً، وإلى خليج العرب (الخليج الفارسي) في الجنوب الشرقي، وكأنها أجزاء مبعثرة لجسم واحد، تنتظر أن تحل فيها رح تضم شتاتها.

وكان عباس الأكبر خامس شاه، أو ملك، من الأسرة الصفوية التي كان قد أسسها إسماعيل الأول في تبريز 1502. وفي عهد الشاه الثاني طهما سب الأول الذي امتد حكمه طويلاً (1524 ت1576) تعرضت الدولة الجديدة لغارات كبيرة من الأتراك. وبعد موته فتح الأتراك الولايات الفارسية: العراق ولورستان وخوزستان وضموها إلى أملاكهم. وفي نفس الوقت جاء الأزبكية من بلاد فيما وراء النهر، واستولوا على هرأة ومشهد ونيسابور، واجتاحوا الولايات الفارسية الشرقية. ولما ارتقى عباس العرش (1578) وهو في الثلاثين من العمر، دون أن يكون له عاصمة، عقد الصلح مع الأتراك، وتقدم شرقاً ليقابل العدو الأصغر شأناً وأقل نفراً. وبعد حروب دامت أعواماً استرد هرأة وطرد الأزبكية من فارس، ومات بعد ذلك متلهفاً

ص: 149

على ملاقاة الأتراك، ولكن الخسائر والأحقاد القبلية كانت قد استنزفت جيشه الذي كان كذلك تعوزه أحدث وسائل الفتك والتدمير.

وحوالي هذه الفترة (1598) وصل من إنجلترا إلى فارس في بعثة تجارية إنجليزيان مغامران هما سير أنطوني شيرلي وأخوه الأصغر روبرت، يحملان هدايا ثمينة وخبرة عسكرية. وكان برفقتهما خبير في صنع المدافع. وتمكن الشاه عباس بمساعدتهما من إعادة تنظيم جيشه، وزوده بالبنادق والسيوف معاً، وسرعان ما توفر لديه 50 مدفعاً. وقاد قواته الجديدة ضد الأتراك وطردهم من تبريز (1603)، واسترد أريفان وشروان وكادن. فأرسل إليه الأتراك جيشاً عروماً قوامه مائة ألف رجل، هزمه عباس بستين ألفاً فقط (1605)، واسترد بذلك أذربيجان وكردستان والموصل وبغداد وامتد حكم عباس من الفرات إلى السند.

وحتى قبل هذه الحملات الشاقة، كان الشاه عباس قد شرع (1598) في تشييد عاصمة جديدة، أبعد منالاً على الغزاة من تبريز، وأقل تدنساً بذكريات الأجانب وأقدام السنين، كانت أصفهان موغلة في القدم لمدة ألفين من السنين (ولم لم تكن تحمل هذا الاسم)، وكان عدد سكانها ثمانين ألفاً. وعلى مسافة نحو ميل من المدينة القديمة أقام مهندسوه رقعة مستطيلة اسمها ميدان الشاه أو الميدان الملكي، طولها 1674 قدماً وعرضها 540 قدماً، تحوطها الأشجار وعلى جانبين منها متنزهات مغطاة اتقاء المطر والشمس. وفي الناحية الجنوبية شيد مسجد الشاه أو المسجد الملكي؛ وإلى الشرق بني مسجد لطف الله والقصر الملكي؛ وشغلت بقية المساحة بالحوانيت والخانات والمدارس. وإلى الغرب من الميدان شق طريق باتساع مائتي قدم "شاهار باع"(البساتين الأربعة) تحف به الأشجار والحدائق تزينه البرك ولنافورات وعلى جانبي هذا الطريق المزدان بالأشجار قامت قصورا الوزراء. وجرى عبر المدينة نهر زاياند الذي بنيت عليه ثلاثة جسور، كان أحدها "الله فردي خان" تحفة

ص: 150

جميلة في فن البناء، يمتد 1164 مع طريق عريض ممهد؛ وممر مقنطر على الجانبين للمشاة؛ وكانت المدينة الجديدة تروى ويبرد بواسطة القنوات والخزانات والنافورات والشلالات. وكان التصميم في مجموعه قطعة رائعة في تخطيط المدن، تضارع أروع ما عرفه ذاك العصر في أي مكان آخر (23).

وعندما زار الرسام الفرنسي سيمون أصفهان (1673) دهش عند رؤية حاضرة على مثل هذا النسق في الإدارة والتجارة والصناعات والفنون تحوطها 1500 قرية، ويسكنها 300 ألف نسمة. وكان بالمدينة وضواحيها 162 مسجداً و48 كلية و273 حماماً عاماً و1800 خان (فندق صغير). ووصف تافرنييه أصفهان عندما رآها في 1664 بأنها تضارع باريس في الاتساع ولكن سكانها يبلغون عشر سكان العاصمة الفرنسية، لأن أسرة في أصفهان كان لها بيتها وحديقتها، وأن الأشجار كانت كثيرة إلى حد أنها بدت "غابة لا مدينة" (24) أنها صورة جميلة لولا أن تافرنييه يستطرد فيقول:"وأمام كل بيت حوض تلقي فيه كل أسرة فضلات بطونها. ثم يأتي الفلاحون يومياً ليحملوها ليستخدموها في تسميد أراضيهم، ولا بد أن تقابل في كل البيوت فتحات في الجدران تطل على الشارع. يقبع فيها الناس، ولا يخجلون من المخاط والتبول على مرأى من الدنيا بأسرها"(25).

وكان الشاه عباس يدرك تمام الإدراك أن أوربا الغربية تحمد له شغله الأتراك في الشرق، فأرسل سير أنتوني شيرلي في بعثة لإقامة العلاقات بينه وبين الحكومات المسيحية، وفتح الطريق أمام صادرات فارس من الحرير دون تدخل الوسطاء الأتراك. وعندما قدم المندوبون الأوربيون إلى أصفهان أكرم وفادتهم وأباح الحرية الدينية. وكان قد أسر خمسة آلاف من الأرمن أثناء حروبه مع تركيا، فلم يستعبدهم، ولكن أباح لهم النهوض بمقرهم في جولفا بالقرب من أصفهان، وأفاد من نشاطهم التجاري ومن مهاراتهم. وهناك شادوا كنيستهم الخاصة بهم وزينوها بخليط من الصور المقدسة

ص: 151

المسيحية والزخارف الإسلامية ولعبت برأس الشاه عباس فكرة صهر الأديان كلها في دين واحد "وفرض السلام على السموات والأرض"(26). وبطريقة أكثر واقعية استغل الشاه الحماس الشيعي لدى الفرس كأداة لرفع معنوياتهم وروحهم القومية، وشجع شعبه على الحج إلى مشهد على أنها مكة مسلمي فارس، وسعى هو بنفسه ثمانمائة ميل من أصفهان إلى مشهد ليؤدي المناسك ويوزع الهبات والصدقات.

ومن ثم فإن العمارة التي جعل أصفهان تتألق بها، كانت دينية أساساً، مثل كنيسة العصور الوسطى في الغرب. فكان يحول أموال الفقراء إلى أماكن للعبادة تكون عظمتها وجمالها وهدوءها مفخرة وملكاً للجميع. وكان أعظم ما يثير الإعجاب في مباني العاصمة الجديدة الشاه الذي بناه عباس (1611 - 1629). وكان "الميدان" مدخلها الرائع وطريقها الفاخر، وبدا الميدان كله وكأنه يؤدي إلى البوابة التي ترحب بالداخلين إليها. وأول ما يبهر العين المآذن التي تطوق المدينة بأبراجها الناتئة المخرمة التي يوحد المؤذنون فيها الله، والخزف اللامع الذي يكسو إطار الأبواب، ثم الأفريز وما عليه من عبارة منقوشة. يتقرب بها عباس إلى الله بهذا الضريح. حتى حروف الهجاء في فارس كانت فناً. وكانت الحوائط داخل العقود مزدانة بعناقيد موشاة بزهور بيضاء. ثم الساحة الداخلية المكشوفة للشمس، ومنها عبر أقواس أخرى إلى الحرم المقدس تحت القبة الكبرى. ويجدر بالمرء أن يقصد إلى الخارج مرة أخرى ليتفحص القبة، والخط الكوفي الرائع عليها. وشكلها المنتفخ، وهي مع ذلك رشيقة جميلة، مغطاة بالتربيعات المطلية بالميناء، في لون أزرق وأخضر في زخرفة عربية بديعة فوق أرضية لازوردية. وعلى الرغم من جور الزمان فإن هذه "حتى في يومنا هذا من أجمل المباني في العالم"(17). وثمة مسجد قد لا يثير الإعجاب بمثل هذا القدر، ولكنه أدق وأرق،

ص: 152

وهو الذي شاده الشاه عباس تخليداً لذكر والد زوجته، وهو من أولياء الله الصالحين، وهو مسجد الشيخ لطف الله، وله باب رشيق، وحرم ومحراب من الفسيفساء الفاتنة، وفوق كل هذا، فإن جماله من الداخل يجل عن الوصف، وأبعد عن التصديق-الزخارف العربية، والأشكال الهندسية والزهور والحليات الدرجية في رسم متقن موحد. وهذا هو فن تجريدي، ولكن في منطق وتكوين واتساق لا يربك العقل أو يشوش الذهن، بل في نظام يسهل إدراكه، يبعث في النفس الارتياح والهدوء.

وفي الجانب الشرقي من الميدان بنا الشاه عرشاً مكشوفاً تحت قوس كبير "الباب العالي". وفيه استقبل الناس أو شهد سباق الخيل أو مباريات البولو في الميدان

(1)

. وخلف هذه البوابة كانت تقع الحدائق الشاهانية، وهي تضم عدة قصور استخدمها الشاه لأغراض خاصة. ولا يزال أحد هذه القصور موجوداً، ولكن نال من الزمن كثيراً. أربعون عموداً، قاعة الاستقبال، حجرة العرش قائمة على عشرين عموداً من شجر الدلب، مكسوة بالمرايا، وقاعة طويلة تزينها رسوم تحكي أحداث عصر الشاه. وكانت أبواب القصر مصنوعة من الخشب المصقول المزدان بمناظر الحدائق ومجموعات الزهر. وفي متحف المتروبوليتان للفن اثنان من هذه الأبواب. ولا تزال قائمة في مكانها الزخارف الجصية اللامعة، مذهبة، وفي ألوان أخرى، من سقف قاعة الاستقبال. وهنا أيضاً نجد الفن التجريدي، وقد بلغ حد الكمال. في المنطق وفي التصميم.

ووجه الشاه عباس من قصوره المتعددة ومن معسكره حياة مملكته الآخذة في الاتساع. لقد أهتم، مثل معظم الحكام العظام، بكل الجوانب في حياة شعبه. فبنى الطرق والجسور، ومهد الأميال الكثيرة من الطرق ورصفها

(1)

لا تزال أعمدة المرمر الرخامية قائمة في الميدان. وجاءت لعبة البولو إلى أوربا من فارس.

ص: 153

بالحجارة. وشجع الصناعات والتجارة الخارجية واستخراج المعادن من بطن الأرض. وبنى السدود، وتوسع في ري الأراضي، وأمد المدن بالماء النقي. وجدد المدن التي لحقت بها أضرار-مشهد، قزوين، تبريز، همذان قال تافرنييه: "كثيراً ما تنكر الشاه وجاب أنحاء أصفهان، كأي مواطن عادي، مدعياً أنه يبيع ويشتري. وكل همه أن يكشف عن التجار المطففين الذين يستخدمون موازين ومقاييس زائفة

فرأى اثنين مجرمين منهم، فأمر بدفنهما أحياء، (28) تلك هي الطرقة الشرقية لغرض احترام القانون وتدعيمه وعند قصور الأشراف الراقية والشرطة، يكون الهدف من صرامة العقوبة كبح جماح النزعة الطبيعية في الإنسان إلى التحلل من القانون أو خرقه. وربما كانت الحياة الحافلة بالحروب هي التي جنحت بالشاه عباس إلى اللجوء إلى هذه القسوة أداة لكبح جماح الناس أو للانتقام. فقتل أبنائه وسمل عيني آخر (29). ومع ذلك فإن هذا الرجل نفسه نظم الشعر، وقام بكثير من أعمال البر والإحسان، ورعى كثيراً من الفنون.

وبموت الشاه عباس (1629) انقضى العصر الذي بلغ فيه الحكم والفن وفي ظل الأسرة الصفوية ذروة المجد. ولكن النظام الذي أرسى دعائمه نشاطه المتصل في كل الميادين، ظل سائداً قرابة قرن من الزمان بعده. وعلى الرغم من تعاقب عدد من الملوك الضعاف احتفظت الأسرة الصفوية بالعرش حتى دهمها غزو الأفغان المفاجئ العنيف لبلاد الفرس (1722 - 1730) وعلى الرغم من فترة الانحلال السياسي هذه، ظل فن الصفويين محتفظاً بمكانته بين أعظم نتاج لذوق الإنسان ومهارته.

‌5 - فارس تحت حكم الأسرة الصفوية

1576 -

1722

والآن نلقي بنظرة على عهد الصفويين، من وفاة طهماسب الأول (1576)، حتى نهايته (1722)، لأن هذا تطور ثقافي لا يمكن اقتطاعه، تمشياً مع تسلسل الأحداث في أوربا. لقد ترك لنا كثير من السائحين الغربيين بيانات مشرقة عن

ص: 154

هذا العصر في فارس. منهم بدور تكسييرا الذي كان هناك 1600 والأب الجزويتي كيوتسنسكي الذي أقام في أصفهان من 1702 - 1722 وكتب "تاريخ الثورة في فارس" وهو يتناول الأسرة الصفوية بأسرها؛ وجان تافرنييه الذي وصف بالتفصيل رحلاته (1631 - 1668) في تركيا وفارس والهند وجزر الهند الشرقية، وجان شردان الذي دون في عشرة مجلدات أنباء إقامته في فارس (1664 - 1677) فإنه على الرغم مما لاقاه من ريح السموم بالقرب من الخليج، وقع في غرام فارس؛ وآثر أصفهان على باريس وقت الصيف، ووجد في جو أصفهان من "الروعة والجمال" ما جعله يقول "أنا نفسي لا أستطيع أن أنساها أو أمسك عن ذكراها لكل إنسان". وقال أن سماء فارس الصافية كان لها أثرها على الفن الفارسي، فأضفت عليه بهاء ورواء ولوناً براقاً. كما كان لها أثرها الطيب على أجسام الفرس وعقولهم (30)

(1)

واعتقد أن الفرس أفادوا من اختلاطهم بأهل جورجيا والقوقاز الذين أعتبرهم أجمل وأشجع أهل الأرض-ولكنهم لا يضارعون الجياد الفارسية في رشاقتها وجمالها (31).

ولكن هذه البلاد كانت يوما جنة عدن، ومقر الخلفاء الذين ازدانوا بالجواهر الثمينة، والشعراء الذين نظموا أعذب الشعر، دمرتها غارات المغول وتمزق الحكومة، وإهمال الترع وهي شرايين الحياة، وامتلاؤها بالطمي، وتحول طرق التجارة، فإن اكتشاف طريق مائي في كل أجزاء من غرب أوربا إلى الهند والصين قد أصاب تجارة فارس بالكساد. على أن بعض التجار انتقل عبر الأنهار إلى الخليج. وفي 1515 استولى البرتغاليون على هومز وهي أهم الثغور على الخليج، وظلوا فيها لمدة قرن. وفي 1622 طردهم منها جيش الشاه عباس بمعونة سفن شركة الهند الشرقية الإنجليزية،

(1)

أنظر شيشرون حيث يقول: "أن هواء أثينا الطيب يقال أنه ساعد على توقد الذكاء عند أهل أتيكا".

ص: 155

وبنى الشاه بالقرب منها مرفأً تجارياً هو بندر عباس (ثغر عباس)، فساعدت التجارة التي نمت فيه على تمويل الفن والبذخ في عهده. وظلت القوافل تسير من الغرب إلى الشرق عبر فارس، وخلقت شيئاً من الثراء في المدن الواقعة على طريقها، ووصف تكسسيرا حلب بأنها مدينة تظم 26 ألف بيت، كثير منها مبني من الحجر المصقول، وبعضها يليق لسكنى الأمراء، كما تظم المسلمين والمسيحيين واليهود جنباً إلى جنب، كما كان بها حمامات عامة نظيفة جميلة، وعدة شوارع مرصوفة بالبلاط المصنوع من الرخام (32).

ولم تكن الصناعة قد تجاوزت بعد طور الصناعات اليدوية-صناعة العصور الوسطى التي تتسم بالمثابرة على بذل الجهد والتذوق الرفيع مع الأناة والبطء-ولكن كان في حلب مصنع للحرير، وكان التبغ يزرع في كل مكان ويقول شاردان أنه كان للفرس طريقة في ترشيح التبغ، فكان الدخان يمر بالماء، ومن ثم "ينقى التبغ من كل العناصر الزيتية والضارة (33) " وأصبح التدخين ضرورة ملحة لدى الفرس، "فكانوا يغفلون الطعام ولا يغفلون النرجيلة (34) " وكان الشاه على النقيض من ذلك، فكره عادة التدخين، وحاول أن يشفي منها رجال حاميته بحيلة، فأتى بروث الخيل وجففه، ووضعه بدلاً من التبغ في الأواني التي يملأون منها الأراجيل، وأوضح لهم أن هذا تبغ غالي الثمن أهداه همذان، فدخنوه، وبالغوا في امتداحه. وأقسم أحد الضيوف أن له رائحة تعدل عبير ألف من الزهور، فصاح الشاه "بئس هذا العقار، أنه لا يمكن التمييز بينه وبين روث الخيل (35) ".

وكان أي رجل وهبه الله المقدرة والكياسة يستطيع أن يحتل مكاناً في حاشية الشاه، فلم يكن هناك اعتبار لأرستقراطية المولد، أو الحسب والنسب (36). فثياب الجنسين من كل الطبقات كانت في أساسها واحدة. رداء يصل إلى الركبتين، ذو أكمام ضيقة، وحزام عريض (مصنوع أحياناً من الحرير الموشى بالزهور) حول الخصر، وقميص من القطن أو الحرير تحت الرداء، وسروال مضموم عند رسغ القدمين، وعمامة تتوج هذا كله. وكتب تافرنييه:

ص: 156

"كانت الملابس النسائية ثمينة، وفيما عدا هذا لا يفترقن عن الرجال في شيء كثير، فارتدين السراويل مثلهم"(37). وأقمن في عزلة في الحريم، وقلما غادرن البيت، فإذا فعلن فنادراً ما سرن على الأقدام. وكان ثمة ثلاثة أجناس، فكان الرجال يوجهون كثيراً من شعر الغزل إلى الغلمان. ورأى توماس هربرت، وهو إنجليزي في بلاط الشاه عباس-"سقاة من الغلمان في صدرات من الذهب، وعمامات مزدانة باللمع (الترتر)، وأخفاف فاخرة، تتدلى خصلات الشعر على أكتافهم، عيونهم يقظة تحوم في كل زاوية، ووجناتهم متوردة"(38).

ولحظ شاردان نقصاً في السكان في زمانه، ونسبه إلى:

أولاً: النزعة النكراء لدى الفرس إلى إتيان الفعلة البغيضة، ضد الطبيعة مع الجنسين كليهما.

ثانياً: الترف المفرط (الحرية الجنسية) السائد في البلاد، فالنساء هناك يبدأن الحمل في سن مبكرة، ويستمر الإنجاب لفترة قصيرة، وما أن يجاوز سن الثلاثين حتى ينظر إليهن على أنهن عجائز تقدمت بهن السن. ومن ثم يسرع الرجال إلى التردد على النساء في معية الصبا والشباب، في إفراط شديد، وعلى الرغم من أنهم يستمتعون بعدد كبير من النساء، فإنهم لا ينجبون منهم مزيداً من الأطفال قط. وهناك كذلك نساء كثيرات جداً يعمدن إلى الإجهاض، ويلجأن إلى مختلف أنواع العلاج ضد الحمل، لأنهن إذا بلغن الشهر الثالث أو الرابع من الحمل، ينصرف عنهن أزواجهن إلى نساء أخريات حيث يرون أنه ينافي اللياقة أن يقربوا امرأة تقدمت بها أيام الحمل إلى هذا الحد.

وكان هناك، على الرغم من تعدد الزوجات، عاهرات أو بغايا كثيرة وانتشر شرب الخمر انتشاراً واسعاً، رغم تحريم الإسلام للخمر. وكثرت المقاهي واشتق اللفظ الأوربي من نظيره العربي "قهوة". وكانت النظافة

ص: 157

أكثر شيوعاً في المظهر منها في الحديث. وكانت الحمامات-منتشرة، وكانت أحياناً مزخرفة بشكل جميل. ولكن كثر هناك الابتذال والفحش. وقال عنهم تافرنييه "أنهم مخادعون مراءون كبار". ويقول شاردن أنهم اعتادوا كثيراً على الغش، ولكنه يضيف أنهم ألطف الناس في الدنيا، متسامحون كرام، أساليبهم جذابة غاية الجاذبية، وطباعهم لينة غاية اللين، وحديثهم ناعم غاية النعومة

وهم في مجموعهم أكثر الشعوب تمدناً في الشرق وكانوا مولعين بالموسيقى وكان شعراؤهم، في العادة يغنون-القصائد التي ينظمونها.

ويمكن أن نحكم على تفوق الشعراء الفارسيين من مبلغ شعبيتهم وحظوتهم في بلاط المغول في دلهي، ولكن لم يتهيأ لأحد منهم في تلك الحقبة مترجم مثل فنز جرالد لينقل إلى أسماع الغرب قصيدهم. وإنا لنعلم أن (عرفي الشيرازي) كان على رأس الشعراء في القرن السادس عشر. وكان يرى أنه أعلى مكانة من (سعدي) على الأقل، ولكن من منا، نحن المحليين في تفكيرنا واهتماماتنا سمع عنه؟. وكان شعره أحب إلى الناس من شخصه، كما نستلخص من (الأصدقاء) الذين جاءوا ليستمتعوا بعلته القتالة.

لقد انحطت قواي إلى هذا الحد، ووقف أصدقائي الفصحاء كالمنابر حول فراشي ووسادتي. واحد منهم يداعب لحيته بيده، وينصب رقبته ويقول. (وا أبتاه)، لمن دامت الدنيا؟ (سبحان من له الدوام).

جدير بالإنسان ألا يتعلق قلبه بالمراتب الزائفة والثروة الزائلة. أين إمبراطور جامشيد وأين الإسكندر؟.

ثم يأتي آخر، ويمسح بأكمامه عينيه المبللتين بالدموع، ويقول في صوت رقيق ولفظ حزين:"أيتها الحياة كلنا يسير على هذا الطريق لنرحل عن هذه الدنيا. كلنا مسافرون نعبر عليه، ويمضي بنا الزمن".

ص: 158

وآخر ينمق كلامه بألفاظ أرق فيقول: استجمع قواك، وهون عليك فإني، لهدف واحد، سوف أجمع أشعارك ونثرك وبعد نسخها وتصحيحها، أقدمها عقوداً من الدر تعزز من شأنك وترفع من قدرك .. فلعل الله يمن عليَّ بالشفاء فأسترد عافيتي. ولسوف ترى كيف أصب جام غضبي على رؤوس هؤلاء المنافقين التعساء.

وكان منافس "عرفي" في الشعر هو "صائب الأصفهاني" الذي أخذ بسنة الهجرة إلى دلهي، كما هاجر الفنانون الفرنسيون والفلمنكيون في ذاك العصر إلى روما. ولكنه عاد بعد عامين إلى أصفهان، وأصبح شاعر البلاط لدى الشاه عباس الثاني (1632 - 1666)، وكان ينحو قليلاً نحو الفلسفة، فنظم أبياتاً تفيض بالحكمة:

أن الحديث عن الكفر والإيمان كليهما يؤدي في النهاية إلى نفس المكان والحلم هو الحلم، ولكن المفسرين هم الذين يختلفون

وإن العلاج الوحيد لهذه الدنيا التي لا تقتسم أمورها، هو إغفالها وتجاهلها، فإن اليقظ فيها هو الذي يستغرق في سبات عميق.

وأن الموج ليجهل الطبيعة الحقة للبحر. وكيف يدرك الفاني العابر حقيقة الخالد الباقي، أن أشد ما يقض مضجعي حول يوم البعث هو إنه لزام علينا أن نرى ثانية وجوه البشر.

وإذا فاتنا أن ننعم بموسيقى الشعر الفارسي، ففي مقدورنا أن نستمتع بفن فارس ففي الفن. حديث يمكن استيعابه وفهمه، فإن البراعة والأناقة والذوق، أي كل ما تشكل في فارس على مدى ألفي سنة. وأينع وأتى أكله الآن في العمارة والخزف والتذهيب والخط وحفر الخشب وأشغال المعادن والنسيج والأقمشة المزركشة والسجاد، وكل أولئك روائع تزدان بها متاحف العالم اليوم. وقد علمنا من قبل أن أحسن عمارة هذا العصر شيدت في عهد الشاه عباس الأول في أصفهان. وهناك بنى عباس الثاني (مسجد الأشرف

ص: 159

(1642)

، وهناك في غروب شمس الصفويين شاد الشاه حسين (مدرسة أم الشاه) التي قال عنها لورد كيرزون أنها من أفخم أطلال فارس، وثمة مدن أخرى كانت تفاخر بمنشآت جديدة: مثل مدرسة الخان في شيراز، والضريح الضخم لخوجة ربيع في مشهد، والمقبرة المخربة الآن، ولو أنها لا تزال جميلة، وهي مقبرة (قدم جاه) في نيسابور، والجامع الأزرق في أريفان.

وأسس الشاه عباس في أصفهان أكاديمية للرسم، كان مطلوباً من الطلبة فيها-كجزء من برنامجهم، وأن ينسخوا أشهر المنمنمات حيث يغلب جمال التصميم ودقة الرسم على الموضوعات والأشخاص. والآن، وواضح أنه نتيجة لأثر أوربا، استباح الرسامون العلمانيون التحول عن التقليد الإسلامي، برسم منمنمات يبرز فيها إنسان على أنه الفكرة الرئيسية والتسلسل هنا قلب الطراز الإيطالي رأساً على عقب. ففي الرسم في عهد النهضة أهملت المناظر الطبيعية أول الأمر، ثم أصبحت خلفية ثانوية، (وربما باضمحلال النزعة الفردية في ظل الإصلاح المضاد) طغت على الأشخاص. ولكن في التصوير الإسلامي كانت رسوم الأشخاص مستبعدة أول الأمر، ثم أبيحت على أنها شيء ثانوي عارض، وفي المراحل المتأخرة فقط (ربما بنمو النزعة الفردية نتيجة للثروة) طغت رسوم الأشخاص وبرزت في الرسم. ومثل هذا في "مدرب الياز" (46): رجل عظيم يرتدي ثوباً أخضر يعبث بطائر على معصمه مع خليفة أقل بروزا من زهور ذهبية اللون. وفي "شاعر يجلس في الحديقة (47) تكشف كل التفاصيل عن الرشاقة الفارسية المتميزة، وثمة ابتداع آخر في الرسوم الحائطية، التي رأينا مثالاً لها في "شهيل سوتون". ولكن الأساتذة العظام تخصصوا في زخرفة القرآن الكريم، أو تذهيب الآثار الأدبية القديمة مثل الشاهنامة للفردوسي، أو جولستان لسعدي، التي ذهبها "مولانا حسن" البغدادي بماء الذهب.

وتفوق في الرسم في هذه الفترة الصفوية الثانية، رضا العباسي، الذي أضاف

ص: 160

اسم الشاه إلى اسمه تقديراً واعترافاً بالرعاية الملكية. وفاقت شهرته شهرة بهزاد لمدة جيل. وتدهور بعده الفن، فإن حساسية الفن وصفاء الرسم أو دقته، انتهينا إلى إفراط مخنث. وفي نفس الوقت فإن الطراز الفارسي الذي تأثر بالفن الصيني، أثر بدوره في رسم المنمنمات في بلاط المغول، بل حتى في عمارتهم. وذهب حروسيه إلى أن "تاج محل" لم يكن إلا فصلاً جديداً في فن أصفهان (48).

وظل الخط فنا رئيسياً في فارس. وكاد مير عماد لنسخه الدقيق للمخطوطات القديمة، أن يظفر بمثل الحب الذي حظي به لدى الشاه عباس رضا العباسي من أجل منمنماته. وكانت الكتب موضع إعزازا وحب لشكلها قدر ما هي لمحتوياتها. فالتجليد الرائع يبهج العينين واليدين كما تفعل الزهرية الرقيقة ووقع الفنانون تجليدات الكتب بمثل الفخر الذي وقعوا به الصور، فنقش على جلدة كتاب مذهبة من أوائل القرن السابع عشر، "من صنع محمد صالح التبريزي"(49). وثمة غلاف آخر مصنوع من الورق المعجن، وعليه رسوم "بورنيش الملك"، موقع عليه باسم على الرضا. ومؤرخة في 1713 (50) وكلاهما جميل إلى حد مغر.

إن التربيعات المحلاة

ص: 161

بالرسوم في المدن الفارسية لتبهر الأنظار، بعد القباب أو عليها، إن طول عمرها ليثير الدهشة من فن صناعة الخزف، الذي يهيئ طول البقاء لمثل هذا البريق. وإطالة عمر اللون بتزجيجه بالنار كانت من المهارات القديمة في فارس. لقد كانت التربيعات المزججة في سوسة عاصمة دارا الأول ملك الفرس (400 ق. م.) فريدة من نوعها بالفعل. وكانت سبائك الذهب والفضة والنحاس وسائر المعادن تصهر لتخرج ألواناً أكثر لمعاناً، وخاصة الأحمر الياقوتي والأزرق الفيروزي، وكانت مضاعفة الإحراق تزيد من صلابة الصلصال والتزجيج ليقاوم فعل الزمن. ويحتمل أن يكون الأرمن قد استخدموا الخزافين الفرس لصنع التربيعات في كنيستهم المسيحية في جولفا وهي تبلغ في دقتها دقة المنمنمات. وربما كان أجمل منها، التربيعات المحلاة بالرسوم في مجموعة كوركيان، المنسوبة إلى أصفهان في النصف الثاني من القرن السابع عشر (51).

واستمر الخزافون في أصفهان وكاشان وغيرهما، يبدعون أشكالاً من الخزف-القاني والزيديات والأباريق والأطباق والفناجين، مطلية تحت التزجيج بألوان مختلفة على أرضيات متنوعة. وأصبح الخزف المزخرف الفسيفساء مادة أثيرة لتغطية الجدران في المساجد والقصور. واستورد الشاه عباس الخزف الصيني، وحاول خزافوه أن ينسخوه طبق الأصل، ولكن أعوزتهم الطينة والمهارة. ومرة أخرى بفضل استحثاث الحاكم وتشجيعه بذلت المحاولات في أصفهان وشيراز لمنافسة زجاج البندقية. وتفوق صناع الأشغال المعدنية في نقش النحاس وتطعيمه، وثمة نموذج جميل منها يرجع إلى 1579 شمعدان موجود في متحف متروبوليتان للفن، وفي الارمتياج في لننجراد غمد سيف من الذهب مرصع بقطع كبيرة من الزمرد دقيقة الصنع.

وكانت صناعة النسيج صناعة رئيسية وفناً. وشغل الرسامون والنساجون والصباغون حيزا كبيراً في أصفهان. وكانوا يعدون بالآلاف. وكان إنتاجهم هو السلعة الرئيسية في تجارة الصادرات. كما أنه أكسب فارس شهرة عالمية في أقمشة الأطلس والمخمل والتفتة والمطرزات والحرائر. وكان الشاه عباس كلما أراد أن يقدم هدية خاصة ثمينة، اختار بعض التحف من إنتاج الأنوال الفارسية. ويقول شاردان "أن الثياب التي أهداها بهذه الطريقة لا حصر لها"(52) والثياب التي يرتديها الشاه ورجال حاشيته من الحرير والأقمشة المقصبة والمطرزة كانت رائعة الجمال إلى حد ذهب معه شاردان إلى أنها لا مثيل لها في ملابس أي بلاط في أوربا. وكتب يقول "إن فن الصباغة أدخل عليه في فارس تحسين أكثر منه في أوربا، فكانت الألوان أكثر ثباتاً ولمعاناً، ولا تحول بسرعة"(53). ولم يكن لمخمل كاشان نظير في أي مكان آخر. ولا تزال بعض قطع منه من أروع المعروضات في متاحف بوسطن ونيويورك

ص: 162

وسان فرانسيسكو وواشنطن. ومن بين التحف التي استولت عليها القوات المسيحية بعد ارتداد الأتراك عن فيينا بساط من المخمل الحريري المقصب، من الواضح أنه صنع في أصفهان في عهد الشاه عباس (45).

وبلغ النسيج الفارسي ذروته في التصميم وصنع الجلد، وشهد عصر الشاه عباس غاية مجد هذا الفن في فارس. وكاد السجاد أن يكون ضرورياً للفارسي قدر حاجته إلى الملابس، وقال توماس هربرت في القرن السابع عشر: "كان في بيوت الفرس قليل من الأثاث والأدوات المنزلية، اللهم إلا السجاجيد وبعض أشغال النحاس

وكانوا يتناولون الطعام وهم متربعون على السجاد على الأرض، مثل حائكي الملابس. وليس ثمة إنسان مهما قل شأنه إلا جلس على سجادة ثمينة أو غير ثمينة. وكل الدار أو الحجرة

مغطاة بالسجاد (55) وساد آنذاك اللون القرمزي القاتم أو الأحمر الخمري الداكن، ولكن التصميم أو الرسم كان هادئاً مريحاً للنظر، بغية إحداث التوازن بين هذه الوفرة التي تزخر بها السجادة، ولو أنها صممت لإبراز موضوع رئيسي بمنطق مقبول. وقد يكون هذا التصميم هندسياً، وهنا تكون متنوعات لا حصر لها، تضفي على إقليدس جمالاً وبهاء. وكثيراً ما قام التصميم على الأزهار، وهنا تستمتع العين بتشكيلة غنية من الأزهار، ولكنها منسقة تنسيقاً جميلاً، تمثل النتاج المحبب إلى الناس في حدائقهم: أزهار مصفوفة في أصص، أو منثورة هنا وهناك، أو أزهار يصورها الخيال ولا تراها العين، مع زخارف عربية تنساب هنا وهناك في رشاقة وروية. وفي بعض الأحيان كانت الحديقة نفسها تزود بالتصميم: الأشجار والشجيرات والمزاهر، والمياه الجارية، رتبت كلها في شكل هندسي، وقد يتركز التصميم حول رسم كبير نافر تتدلى منه نتوءات في كل الأطراف، وقد يعرض الزخارف الحيوانية أو مناظر الصيد.

ويأتي بعد ذلك الجهد المضني والصبر الطويل: مد الخيوط طولاً في اللحمة على النوال ونسجها مع خيوط السداة العرضية، وحياكة عقد صغيرة من

ص: 163

الصوف أو الحرير الملون في اللحمة، لتلوين "الوبر" والرسم، وقد يكون في البوصة المربعة 1200 عقدة، أو 90 مليوناً من العقد في سجادة مساحتها 23 قدماً مربعاً (56). ويبدو أن العبودية قد نسجت هذا الفن أو ارتبطت به، ولكن العامل كان يتيه عجباً بدقة وجمال ما أخرجت يداه، محولاً هذه التشكيلة العجيبة من المواد إلى كل منتظم متناسق متسلسل الأجزاء. وكان هذا السجاد يصنع في اثني عشر مركزاً في فارس وأفغانستان والقوقاز ليضفي رواء وبهاء على القصور والمساجد والبيوت، أو ليقدم هدايا ثمينة إلى الملوك والأصدقاء.

ومر السجاد الفارسي والتذهيب الفارسي بتطورات مشابهة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتأثراً "بأشرطة السحاب" وغيرها من الرسوم من الصين. وكان لهما بدورهما أثر على الفنون في تركيا والهند. وبلغا ذروة التفوق والامتياز على عهد الصفويين وما أن جاء عام 1790 حتى أنتج السجاد الفارسي على أساس الكم، فتسرعوا في تصميمه ونسجه لسوق أوسع وأقل إلحاحاً على البراعة والإتقان، وبخاصة السوق الأوربية. ومهما يكن من أمر، فإنه حتى في هذه الحقبة، كانت هناك قطع نادرة فريدة، لا نظير لها من حيث النسيج واللون والرسم في أي مكان آخر في العالم.

وهكذا كانت فارس، وهكذا كان الإسلام في آخر ازدهار لسلطانهما وفنهما-حضارة تختلف اختلافاً عميقاً عن حضارتنا في الغرب، وفي بعض الأحيان معادية عداء مقروناً بالازدراء، تدمغنا بأننا مشركون ماديون، وتسخر من أخذنا بنظام الزوجة الواحدة وهو أشبه ما يكون بنظام الأمومة، وأحياناً انقضت علينا تقتحم أبوابنا كالسيل الجارف، وما كان ينتظر منا أن نتفهمها أو نعجب بفنها حين كان الجدل شديداً بين المسلم والمسيحي، ولم يكن قد ثار بعد بين دارون والمسيح، ولم تنته المنافسة بين الثقافتين بعد، ولكنها في الكثير الغالب توقفت عن سفك الدماء، ولكل منهما مطلق

ص: 164

الحرية في الامتزاج بالأخرى عن طريق التأثير المتبادل، فالشرق يأخذ عنا صناعاتنا وأسلحتنا، ويصبح غربياً. ولقي الغرب نصباً من الثراء والحرب، وبات يلتمس شيئاً من هدوء البال وطمأنينة النفس. وربما ساعدنا نحن الشرق على التخفيف من الفقر والخرافة، وأعننا الشرق على التواضع في الفلسفة والتهذيب في الفنون. فالشرق غرب، والغرب شرق، ولا بد عاجلاً أن يلتقي الاثنان.

ص: 165

الفصل الحادي والعشرون

"هرمجدون"

أو

الحرب الإمبراطورية الفاصلة

‌1564 - 1648

1 -

الأباطرة

في عام 1564 كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة-برغم أنها، كما قال فولتير، لم تكن، لا إمبراطورية، ولا رومانية، ولا مقدسة-خليطاً رائعاً من دول مستقلة: ألمانيا، ولكسمبورج، وفرانس-كونتيه، واللورين، وسويسراً، والنمسا، وبوهيميا، ومورافيا، وجزء من المجر. وكانت هذه كلها تدين بالولاء والسلطان للإمبراطور مكسمليان الثاني سليل بيت هبسبرج العريق، الذي حكم الإمبراطورية منذ 1438 وسيواصل حكمها حتى 1808. وبعد أن اعتزل شارل الخامس الملك (1555 - 1556) اقتسمت الأسرة نصف أوربا بين فرعيها، فحكم الهبسبرج الأسبان فحكموا أسبانيا وولاياتها. وندر في التاريخ أن تسلطت أسرة واحدة حقبة هذا طولها على أناس هذا عددهم.

وكان حكم آل هبسبرج أكثر تحرراً في الإمبراطورية في أسبانيا، لأن الدول التي تألفت منها الإمبراطورية كانت تختلف أشد الاختلاف سواء في الحكومة، أو اللغة، أو الدين، أو الصفات العرقية، عجزت حتى

ص: 166

سلطة آل هبسبرج وهيبتها عن منع هذه القوى المندفعة بعيداً عن المركز من أن تحيل الإمبراطورية إلى رابطة واهية عن وحدات تحكم ذاتها في عزة وكبرياء أما الديت الإمبراطوري، الذي لم يكن يلتئم شمله إلا بين الحين والحين، فقد وجدوا أن الحد من سلطان الإمبراطور أيسر من تشريع قوانين تقبلها كل الدول، وأما الناخبون الإمبراطوريون السبعة الذين كانوا يختارون الإمبراطور، فقد سيطروا عليه بالعهود والمواثيق التي انتزعوها منه ثمناً لانتخابه. وهؤلاء الناخبون هم ملك بوهيميا، وحكام سكسونيا، وبراندنبورج، والبالاتينات، و "الناخبون الروحيون"-أي رؤساء أساقفة كولونيا، وتريير، وماينز. ولم يحكم الإمبراطور حكماً مباشراً سوى النمسا، واستريا، وكارنثيا، وكاربولا، والتيرول، وأحياناً بوهيميا، ومورافيا، وسيليزيا، وغرب المجر. وكانت موارده المستقلة ثابتة من هذه الأقطار، فإذا أراد مزيداً من الموارد فعليه أن يتخذ سمته وقبعته في يده، إلى الديت الإمبراطوري الذي بيده مفاتيح المال.

حين مات فرديناند الأول (أخو شارل الخامس) في 1564، نقل الناخبون التاج الإمبراطوري لولده مكسمليان الثاني، الذي ظفر من قبل بتاجي بوهيميا والمجر. وكان محبباً للناس إلى حد لا يناسب إمبراطوراً. فقد اصطفى الجميع في دفء طبعة الطيب وروحه المرحة، ولطفه وأدبه مع كل الطبقات، وعقله وفؤاده المفتوحين، فإذا أضفت إلى ذلك كله ذكاءه وتسامحه وتشجيعه للعلم والموسيقى، والفن، اجتمعت لك صورة سيد مهذب "جنتلمان" لم يصدق الناس أنه توج. وكان قد رعض تبوأه العرش للخطر حين آثر الوعاظ اللوثريين على نظرائهم الكاثوليك، وأصر على تناول الأسرار المقدسة بالخمر والخبز، ولم يمتثل للطقس الكاثوليك، امتثالاً ظاهراً إلا حين أكره على الخيار بين الرجوع إلى حظيرة الكنيسة الرومانية أو أعتزال الحياة العامة على أنه حمى البروتستنت خلال ذلك من الاضطهاد. وقد ندد بمذبحة القديس برثلميو وقال أنها قتل بالجملة (1)، وسمح لوليم أورنج بتجنيد جيش في ألمانيا

ص: 167

لقتال دوق ألفا في الأراضي المنخفضة. وفي هذا العصر الذي ساده التعصب والحرب، ضرب لدول الإمبراطورية وعقائدها مثالاً رائعاً في تسامح بريء من اللامبالاة، وسلام لم يشبه الجبن. وحين حضرته المنية (1576) أبى أن يتقبل آخر الشعائر من كنيسة روما، ولكن الإمبراطورية بأسرها اجتمعت على الترحم عليه.

وكانة قد أقنع الناخبين بقبول ولده رودلف خلفاً له، برغم ما رآه فيه-بلا ريب-من طباع أو آثار تعليم خطرة على الوفاق الديني. فلقد كان رودلف الثاني بطبعه شكاكاً مكتئباً. وكان من الجائز أن يصبح الوريث لفيليب الثاني لذلك بعث به إلى أسبانيا ليتلقى جزءاً من تعليمه المدرسي، فقضى اليسوعيون هناك على كل ميل فيه للتسامح. وما لبث عقب ارتقاء العرش أن فرض القيود الصارمة على حرية العبادة البروتستانتية وعمل على الحد من انتشارها زاعماً-وله بعض الحق (2) -أن عنف الجدل الديني، وتعصب الشيع البروتستانتية فيما بينها، يقوضان سلام الإمبراطورية واستقرارها. على أنه لم يكن خلواً من الفضائل التي حببت الناس في أبيه فقد عاش في بساطة وتواضع دون تكلف لأبهة الإمبراطورية. وحين انتقد أحد أخوته رفعه الكلفة مع الفقراء والوضعاء أجاب:"ينبغي ألا ينسينا سمونا فوق الناس بمكانتنا وعراقة محتدنا أننا مرتبطون مع سائر البشر بنقائصنا وعيوبنا (3) ".

والحق أنه آثر أن يكون عالماً على أن يكون إمبراطوراً. تعلم ست لغات، ومارس كل علم وفن تقريباً، واقتنى مجموعات ثمينة من الصور والتماثيل وأنواع النبات وعينات الحيوان. وأعان الشعراء والمؤرخين، وأنشأ الكثير من المدارس. وحذق الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطب وكذلك الكيمياء القديمة والتنجيم، وأمد بالمال البحوث الفلكية التي اضطلع بها تيكوبراهي وكبلر اللذان اهدياه جداولهما الرودلفية للنجوم. وإذ استغرقه العلم وهو في قصره ببراغ-التي اختارها عاصمة له-فإنه لم يجد

ص: 168

وقتاً للزواج، ولم يتسع له الوقت الكثير للحكم. فلم يحضر أي اجتماع الديت بعد 1594، ورفض أن يوقع أوراقاً رسمية بعد 1598 وفوض بالسلطة نواباً ذوي حظوة لديه، ولكن تعوزهم الكفاية. ولما تقدم به العمر انحدر عقله لا إلى درك الجنون، بل إلى حال من العزلة يشوبها الاكتئاب وطول التفكير ويلازمها خوف الاغتيال. فإنه رأي فيما يرى النائم-أو لعل تيكوبراهي قد طالع في النجوم (4) -أن قاتله سيكون راهباً فانتهى به الأمر إلى الارتياب في رجال الدين الكاثوليك ولا سيما اليسوعيين (5)، ثم أكرهته الضغوط الداخلية والخارجية على التخلي لأخيه الأصغر ماتياس في 1608 عن حكم النمسا والمجر ومورافيا، وفي 1611 عن عرش بوهيميا وكل ما بقي له من سلطات. ومات في 1612.

أما ماتياس فكان قد بلغ الخامسة والخمسين، بعد أن أقعدته الحملات الحربية عن الاستمتاع بالحكم النشيط. لذلك عهد بالحكم والسياسة جميعاً إلى ملشيور كليزل أسقف فيينا القدير الحي الضمير. ولكن كليزل أغضب الكاثوليك بما قدم للبروتستانت من تنازلات، وأغضب البروتستانت لأن هذه التنازلات كانت دون ما يبتغون. وأعتقل فرديناند، أرشيدوق استيريا، وابن عم ماتياس، الأسقف كليزل (1618)، وظفر بانتخابه إمبراطوراً عقب موت ماتياس (1619). وهنا كانت هرمجدون قد اندلع لهيبها.

‌2 - الإمبراطورية

لم تكن سويسرا جزءاً من الإمبراطورية إلا صورياً، وتركت الانتصارات المؤزرة التي أحرزتها البلاد على الأباطرة وكبار الأدواق، والولايات السويسرية (الكانتونات) حرة في التناحر فيما بينها. فانضمت سافوي وأسبانيا إلى الولايات الكاثوليكية التي تزعمتها لوسرن، في جهود دبلوماسية أو حربية لإرجاع الولايات البروتستانتية إلى حظيرة الكنيسة الرومانية. وبدأ اليسوعيون

ص: 169

من كليتهم يلوسرن في 1577 حملة من التعليم والوعظ والدس. وأصلح ممثلوا البابا في سويسرا الفساد في رجال الدين الكاثوليك، وقضوا على التسري بين الكهنة، وصدوا التأثرات البروتستانتية المنبعثة من زيوريخ وجنيف وبرن.

وكانت جنيف تفيق ببطء من سلطان كلفن. فقد خلف يتودور دي بيز أستاذه (1664) زعيماً لجماعة "الرعاة" الموقرة والمجمع الكنسي "للرعاة والعلمانيين"، وعن طريقهم واصل عمل الكنيسة المنصلحة في لباقة وكياسة لم يقوَ على إحباطهما سوى "الكراهية اللاهوتية" وسافر في أرجاء فرنسا ليحضر المجامع الكلفنية، وقد شهدناه يدافع عن قضية البروتستانتية في مؤتمر بواسي. وكافح في وطنه، وإن لم يوفق كل التوفيق في كفاحه، ليحافظ على الفضيلة الصارمة التي فرضها كلفن على الناس. فلما انحرف كبار رجال الأعمال أكثر فأكثر عن هذه الجادة، قاد بيز رجال الدين في حملة للتنديد بالربا، والاحتكار، والاستغلال، وحين اقترح مجلس المدينة أن يقتصر الوعاظ في وعظهم على مسائل الدين، أجاب بيز بأنه يجب ألا يقصي أي شأن من شؤون البشر عن دائرة الدين (6). وهو من بين كبار زعماء الإصلاح البروتستانتي الوحيد الذي أدرك القرن السابع عشر، وقد مات في 1608 بالغاً التاسعة والثمانين.

أما دور النمسا في الإمبراطورية فكان مركزياً. ذلك أنها كانت عادة وطن الأباطرة، وكانت حصن الحضارة الغربية الحصين في وجه الأتراك الطامعين، للإصلاح الكاثوليكي في حرب الثلاثين. ومع ذلك فقد أتى عليها عهد كانت تتذبذب فيه بين الكاثوليكية البروتستانتية بل بين المسيحية والكفر. ففي عهد فرديناند الأول (1556 - 1564) قررت معظم الأبرشيات النمساوية كتاب التعليم المسيحي اللوثري. وكانت اللوثرية المذهب السائد في جامعة فيينا، وأباح الديت النمساوي تناول القربان بالخمر والخبز، وزواج رجال الدين. "كان الناس يعدونها علامة من علامات

ص: 170

العقل المستنير أن يحتقر صاحبه عادة الدفن المسيحي. وأن يدفن الميت دون مساعدة من قسيس .... وبغير صليب". وفي تقدير أحد الوعاظ في 1567 "أن الألوف وعشرات الألوف في المدن-أجل، بل في القرى- لم يعودوا يؤمنون بالله (7) ". فلما خشي الإمبراطور فرديناند انهيار الدعم الديني للحكومة النمساوية وسلطة آل هبسبرج. دعا بطرس كانيسيوس وغيره من اليسوعيين إلى جامعة فيينا. وبدأت الكاثوليكية تستعيد مكانتها بفضل زعامتهم، لأن هؤلاء الرجال المتمرسين جمعوا بين العقل المرهف الصابر، وبساطة العيش التي وقعت أفضل موقع في النفوس. فما وافى عام 1598 حتى غدت كنيسة روما سيدة الموقف.

ومثل هذا التغيير طرأ على المجر المسيحية. فقد دان ثلثا المجر للحكم التركي منذ 1526، وكانت الحدود التركية تبعد عن فيينا بأقل من مائة ميل، ولم يقوَ الأباطرة على المحافظة على السلام مع تركيا إلا بدفع جزية سنوية للسلاطين حتى عام 1606 .. وكانت ترانسلفانيا الواقعة إلى الشمال الشرقي من المجر التركية تؤدي مثل هذه الجزية، ولكن حدث في عام 1606 أن أوصى أميرها ستيفن بوكسكاي بالإقليم لآل هبسبرج قبيل موته دون عقب.

أما ديت المجر النمساوية فكان منذ 1526 يؤيد حركة الإصلاح البروتستانتي، فقد هيمن عليه النبلاء على أملاك الكنيسة الكاثوليكية (8). وفي ظل الحرية الدينية التي صانوها ظفرت البروتستانتية بمكان السيادة بين الطبقات المتعلمة. ولكن سرعان ما انقسمت شيعاً لوثرية، وكلفنية، وتوحيدية، وتفرق التوحيديون مللاً أصغر لاختلافهم على صواب توجيه الصلوات إلى المسيح. ولم يرَ النبلاء بعد أن استتب لهم الأمر في ممتلكاتهم مبرراً بعد ذلك للبروتستانتية. لذلك رحبوا ببطرس بازماني وغيره من اليسوعيين، وقبلوا التحول "المثالي" إلى الكاثوليكية، وطردوا "الرعاة" البروتستانت (9). واستبدلوا بهم القساوسة الكاثوليك، وفي عام 1618 أصبح فرديناند أرشيدوق

ص: 171

استريا ملكاً على المجر، فعزز حركة الإصلاح الكاثوليكي تعزيزاً نشيطاً. وفي ديت 1625 استعاد الكاثوليك أغلبيتهم. وأصبح بازماني كردينالاً وكاتباً من أبلغ مؤلفي العصر المجريين، مع أنه ابن رجل كلفني المذهب.

وأما بوهيميا والأقاليم التابعة لها-وهي مورافيا وسيليزيا ولوزاتيا-فكانت تغلب عليها البروتستانتية عام 1560. واعترفت الولايات الأربع بملك بوهيميا يسداً عليها، غير أنه كان لكل ولاية مجلسها القومي وقوانينها وعاصمتها-براغ، وبرون (برنو)، وبرسلاو، وبوتزن، وكانت براغ في ذلك الحين من أجمل مدن أوربا وأكثرها ازدهاراً. ولم يكن مسموحاً بالتصويت بالديت البوهيمي إلا لملاك الأرض البالغ عددهم ألفاً وأربعمائة ولكن كان من بين أعضائه ممثلون لسكان المدن والفلاحين، أتاح لهم سلطان المال نفوذاً جاوز مجرد الكلام. وكان معظم النبلاء لوثريين، ومعظم مواطني المدن لوثريين أو كلفنين، ومعظم الفلاحين كاثوليكاً. ولكن قلة منهم كانت "أوتراكية" تخلوا في عام 1587 عن تقاليدهم الهسية (مذهب المصلح الديني البوهيمي، والشهيد جون هس 1369 - 1415)، ولم يتمسكوا إلا بتناول القربان بالخبز والخمر، وأخيراً تصالحوا مع كنيسة روما (1593). أما أكثر الطوائف الدينية إخلاصاً فكانوا "الأنيتاس فراتروم"-وهم الأخوان البوهيميون أو المورافيون-الذين أخذوا موعظة المسيح على الجبل مأخذ الجد، وعزفوا عن كل الحرف والمهن إلا الزراعة، وعاشوا في بساطة كبساطة تولستوي المسالمة.

وفي عام 1555 جلب فرديناند الأول اليسوعيين إلى بوهيميا. فأنشئوا كلية في براغ وربوا "كادراً" من الكاثوليك الغيورين، واكتسبوا الكثيرين من النبلاء الذين تزوجوا بنساء كاثوليكيات. ثم أصدر رودلف الثاني مراسيم. نفي الأخوان البوهيميين أولاً، قم الكلفنيين، غير أن الوسائل أعوزته لتنفيذ هذه المراسيم. وفي عام 1609 أقنعه البروتستانت بأن يوقع

ص: 172

الميثاق الملكي "الشهير" الذي كفل حرية العبادة للبروتستانت في بوهيميا. وبعد عامين نزل رودلف عن العرش لماتياس، ونقل هذا قضية الإمبراطورية إلى فيينا، وترك براغ مغيظة ثائرة. وفي عام 1617 اعترف الديت البوهيمي بالأرشيدوق فرديناند الاستيري ملكاً على بوهيميا، وكان عدد الكاثوليك يتكاثر في هذا الديت برغم أن البلاد ما زال أغلب أهلها من البروتستانت (11)، وكان فرديناند هذا قد تعلم على يد اليسوعيين وأقسم أن يستأصل شأفة البروتستانتية إن حكم. واتخذ بروتستانت بوهيميا أهبتهم للحرب.

أما ألمانيا فكانت أخلاطاً من الأمم داخل كيان معقد، كانت اسماً لا شعباً ومزيجاً من إمارات تتفق في لغتها واقتصادها، وتتباين أشد التباين في عاداتها، وحكمها، وعملاتها وعقائدها

(1)

. ولم تعترف أي من هذه الوحدات بسيد عليها إلا الإمبراطور فقط ثم هي تتجاهله خمسين أسبوعاً في السنة. وقد وجد بعض الأجانب عزاءً في انقسام ألمانيا على هذا النحو فكتب سير توماس أوفريري في 1609 يقول، لو أنها كانت كلها خاضعة لنظام ملك واحد لكان ذلك

(1)

كانت ألمانيا في القرن السادس عشر مقسمة إلى سبع دوائر إدارية: 1 - فرانكونيا: وتشمل ورزبرج، بمبرج، بايريت. 2 - بافاريا: وتشمل ميونخ، ورجنزبرج (راتسبون) وسالسربرج. 3 - سوابيا: وتشمل بادن، ستتجارت أو جزبرج ودوقية ورتمبرج. 4 - الراين الأعلى: ويشمل فرانكفورت (آم مين) وكاسل ودرمستاد ويزيادن ومقاطعة ناسو وإقليم هس ودوقية اللورين وجزء من لاراس. 5 - الراين الأدنى: ويشمل وستفالياجوليش وكليف والبلاتينات وأسقفيات كولون وتربير وماينز. 6 - سكسونيا السفلى: ويشمل مكلنبرج وبريمن ومجدبرج ودوقيات برنزويك ولونبرج وهولشتين. 7 - سكسونيا العليا: وتشمل ليبزج وبرلين ودوقية بوميرانيا الغربية ومقاطعتي سكسونيا وبراندنبرج.

ص: 173

أمراً رهيباً بالنسبة لباقي أوربا (12) لا بل أن هذا الوضع ارتاحت إليه ألمانيا من وجوه كثيرة. صحيح أنه أضعفها في المنافسة السياسية والحربية مع الدول الموحدة، ولكنه أعطاها حرية محلية، وتنوعاً دينياً وثقافياً قد يفضله الألمان بحق على أرستقراطية متمركزة مضنية كأرستقراطية فيليب الثاني في أسبانيا ولويس الرابع عشر في فرنسا. فلم تكن هنا باريس تطغى وتعج بسكانها وتمتص دم الحياة من قطر بأكمله بل كوكبة من مدن مشهورة لكل منها طابعها وحيويتها.

على أن ألمانيا لم تعد تحظى بذلك التفوق الاقتصادي الذي كان لها في شمال لأوربا قبل لوثر، برغم هذه التشكيلة من المدن العظيمة والبلاطات الصغيرة. ذلك أن كشف طريق بحري خالص من غرب أوربا إلى الهند، وفتح الأطلنطي للتجارة، أفادا البرتغال وأسبانيا أولاً، ثم إنجلترا والأراضي الوطيئة بعدهما، وقد أضر بإيطاليا التي هيمنت من قبل على تجارة الشرق، وشاركت في اضمحلال إيطاليا تلك الأنهار والمدن الألمانية التي كانت تنقل التجارة من إيطاليا إلى الشمال. فأخذت ثغور الأراضي الوطيئة في بحر الشمال، وثغور الدنمرك وبولندة في البلطيق، معظم التجارة والمكوس. أما عصبة الهانسا فكانت قد فقدت تفوقها الماضي منذ زمن طويل، ودمرت لوبك في حربها الطويلة مع السويد (1563 - 1570). ولم تحتفظ بثرائها غير فرانكفورت على الراين، وطلت سوقها السنوية أحفل أسواق أوربا بالقصاد، وقد أحالت المدينة إلى مركز لتجارة ألمانيا الداخلية والمالية الدولية.

أما إقبال الناس على المال فظل على حالهِ. وتهرب الناس في كل مكان من المراسيم التي حرمت تقاضي فائدة تربو على 5%. قال قسيس في 1585 "إن رذيلة الربا الكافرة يمارسها الآن المسيحيون في حرص أشد من حرص اليهود في الماضي" وشكا واعظ في 1581 من أن "ولعاً غير مسيحي بالذهب

ص: 174

قد تسلط على كل الناس من جميع الطبقات. فكل من ملك شيئاً يغامر به، يفكر في الإثراء

بشتى أساليب المضاربة، والتعامل في النقود، وعقود الربا، بدلاً من القيام بعمل أمين شاق" (13). واستثمر المئات من العاملين مدخراتهم مع أحد بيوت فوجر، أو فيلزر، أو هو خشتيتر المالية، ثم خرجت بيوتهم في إفلاسات متكررة. وفي عام 1572 أفلس بنك إخوان لوتيز بعد أن جمع أموالاً طائلة من صغار المستثمرين، فأفقدهم بذلك مدخراتهم بل بيوتهم (14). أما بيت فوجرز فقد جلب عليه الخراب إفلاس فيليب الثاني ودوق ألفا اللذين شارك هذا البيت في تمويلهما (15). كذلك أفلس بيت فليزر في 1614 وبلغت ديونه 586. 000 جولدن. ولعل الخوف من التضخم دفع الناس إلى مثل هذه الاستثمارات، لأن كل أمير ألماني تقريباً كان يسرق من شعبه بتخفيض العملة، ولأن اللذين زيفوا العملة أو اقتطعوا حوافها تكاثر عددهم. فما وافى عام 1600 حتى كانت العملات الألمانية تتردى في فوضى شائنة.

وزاد عدد السكان بينما تخلف الإنتاج، ودفع برد الشتاء الناس إلى شفا الثورة. وأكره الفلاحون في جميع الأقاليم-باستثناء سكسونيا وبافاريا على أن يصبحوا أقناناً. وفي بوهرانيا وبراندنبورج وشلزويج وهولشتين وميكلنبورج شرعت القنية (رق الأرض) في سنة 1616 أو بعد (16) وقد تساءل كاتب في سنة 1958 "ترى في أي أرض ألمانية ما زال الفلاح الألماني يتمتع بحقوقه القديمة؟ وأين يتاح له أي انتفاع أو ربح من الحقول أو المراعي أو الغابات المشاعة؟ وأين يتوقف عدد الخدمات أو الالتزامات الإقطاعية؟ وأين يجد الفلاح محكمته الخاصة؟ ألا فليسبغ الله عليه رحمته (17) وذهب الكثير من الفلاحين للعمل في باطن الأرض، ولكن أباح التعدين وأجوره الحقيقية تضاءلت حين دخلت الفضة الأمريكية ألمانيا لتنافس المعدن المستخرج بشق الأنفس من عروق معدنية مستهلكة. أما في المدن فإن زمالة النقابات القديمة أفسحت الطريق لاستغلال أرباب الصناعات لعمال اليومية. وكان يوم العمل في بعض الصناعات يبدأ في الرابعة صباحاً وينتهي في السابعة مساءً، يتخلل ذلك

ص: 175

"فترات لتعاطي الجعة"، وقد انتزعت نقابة النحاسين من العمال في عام 1573 أسبوع عمل بلغت جملة ساعاته اثنتين وتسعين (18). ومنذ عام 1579 نسمع بإضرابات ضد استخدام الآلات في صناعة النسيج بألمانيا (19). وهكذا لم يبقَ إلا نشوب الحرب حتى يصبح الفقر المدقع كارثة لا نظير لها.

‌3 - الأخلاق وآداب السلوك

إذا صدقنا مزاعم الأخلاقيين في نصف القرن الذي نحن بصدده، كانت صورة الأخلاق لا تقل قياماً عن صورة الاقتصاد. فقد شكا المدرسون من أن الصغار الذين يعهد إليهم بتعليمهم ليسوا مسيحيين بل همج. وكتب ماتياس بريدينباخ عام 1557 يقول: "أن الناس يربون أبناءهم تربية بلغت غاية السوء بحيث أصبح واضحاً للمعلمين المساكين

أن عليهم أن يتعاملوا

مع وحوش ضارية" (20) وقال آخر عام 1561 "يبدو أن كل نظام أصبح في خبر كان، إن التلاميذ جاوزوا الحدود في العصيان والوقاحة" (21). وفي معظم مدن الجامعات كان المواطنون يترددون في الخروج ليلاً خوفاً من الطلاب الذين يهاجمونهم أحياناً بمداهم المفتوحة (22). كتب ناتان كترانسين في 1578 يقول: "لا شك أن من أهم أسباب انحلال أخلاق الطلاب الذي عم الآن هو تدهور التربية المنزلية. فلا عجب، بعد أن خلعنا عن أعناقنا نير القوانين والشرائع القديمة

أن نشهد بين الشطر الأعظم من شبابنا مثل هذه الإباحة المطلقة، والجهل المطلق، والوقاحة المستعصية، والإلحاد الرهيب (23). ورأى غير هؤلاء "أن التمثيليات الهزلية والعروض والمسرحيات ليست من الأسباب الهينة التي ألقت بالشباب في مهاوي الرذيلة والفجور"(24).

أما الكبار فقد قال الوعاظ في وصفهم أنهم منافقون، مشاكسون، نهمون سكيرون، زناة (25). وشكا الراعي يوهان كونو في 1579 من أن "الرذيلة بأنواعها استشرت حتى ليرتكبها الناس دون حياء، لا بل أنهم يفاخرون بها مفاخرة اللوطيين، وأصبحت أقبح الكبائر وأغلظها تعد فضائل

فمن

ص: 176

الذي ما زال يرى ارتكاب الفحشاء خطيئة؟ (26) كتب الراعي برتلياس ريخفالت في 1585 يقول: "هذا الزمان آخر الأزمنة التي نكب بها العالم، وأشدها فساداً (27) وأصبح التجديف وتدنيس المقدسات شائعاً بين كل الرجال تقريباً من جميع المذاهب (28) واستشرى الافتراء على الناس. وكتب كونت أولدنبرج في 1594 يقول: "شكا لي ملاحظ أعمالي من الطريقة التي أساء بها الدكتور بيزل في بريمن إلى سمعته وافترى عليه في أحد كتبه، إذ زعم أنه ينفق نهاره في الشره والسكر والفجور، وأنه

ذئب مفترس للحملان، وأفعى، وتيس، وسقط جهيض .. وأنه يجب التخلص منه أما بشنقه أو إغراقه أو سجنه، وإما بدولاب التعذيب أو بحد السيف". ووجد واعظ بلاط أمير سكسونيا الناخب أنه "في طول ألمانيا وعرضها تقريباً أشيع كذباً "أنني أكسب أقداحاً مذهبة في مباريات الشراب

وأنني أفرط في شرب النبيذ .. حتى ليضطر القوم إلى مساعدتي ودفعي على عربة جر كأنني عجل أو خنزيرة مخمورة (19) ".

وكان تناول الطعام والشراب شغلاً شاغلاً للناس، فنصف نهار الألماني الميسور ينفقه في دفع الطعام من إحدى طرفي القناة الهضمية إلى طرفها الآخر وكان أهل المدن يفخرون بشهيتهم الطيبة التي تفصح عن ثرائهم كما تفصح عنه ثياب زوجاتهم. وقد ذاع صيته أحد لاعبي السيرك في أرجاء ألمانيا كلها لأنه أكل في وجبة واحدة رطلاً من الجبن، وثلاثين بيضة، ورغيفاً كبيراً من الخبز-وهي مهمة خر بعدها صريعاً. ولم يكن من الأمور الشاذة أن يتصل الغداء أو العشاء سبع ساعات يتخللها شرب أربعة عشر نخباً. أما حفلات الزفاف فكانت في أكثر الأحيان قصفاً صاخباً يحفل بالنهم والسكر وقد ألف أمير مرح أن يوقع رسائله بهذه العبارة (كن معافى وأسكر). وقد أسرف كرستيان الثاني أمير سكسونيا الناخب في تعاطي الخمر حتى أودت بحياته، ولما يجاوز السابعة والعشرين. وكافحت جمعية للامتناع عن السكرات لمقاومة الرذيلة، ولكن أول رئيس لها مات من السكر (30). وقد أكد

ص: 177

بعضهم أن البطنة قصرت أعمار الناس، وكتب إرزمس فنتر في 1599 يقول "إن الإسراف في الطعام والشراب قلل من عدد المعمرين، وندر أن نرى رجلاً في الثلاثين أو الأربعين لا يشكو مرضاً، سواء كان الحصى، أو النقرس، أو السعال، أو السل، أو غيره"(31).

ولكن علينا ألا نأخذ هذه الشكاوى المعاصرة مأخذ الجد الشديد. فأغلب الظن أن كثرة الشعب كانوا قوماً مجدين، صابرين، يخافون الله بالمعنى الحرفي للعبارة. إلا أن الفضيلة لا ينوه بها التاريخ كما لا تنوه بها الصحف-وهذا دليل عن أنها أمر عادي مألوف. فقد كانت زوجات أهل المدن يلزمن بيوتهن في عزلة متواضعة مستغرقات في عشرات الواجبات التي لا تترك لهن فراغاً لارتكاب ذنوب أفدح من الثرثرة بالشائعات، وكانت الكثيرات من نساء الطبقة العليا-مثل أنا زوجة أغسطس الأول أمير سكسونيا الناخب-مثلاً يحتذى في الولاء الصادق للأسرة. ولم تخلُ ألمانيا الصاخبة تلك من الجوانب السارة. محبة الأطفال والبيت، وكرم الضيافة، والرقص والطروب والموسيقى الجميلة، والألعاب والمهرجانات المرحة، وأول شجرة ميلاد في التاريخ المدون كانت جزءاً من احتفال أقيم بألمانيا في 1605، والألمان هم اللذين أحاطوا "عيد ميلاد المسيح" بالمظاهر البهية التي تخلفت من ماضيهم الوثني:

وكانت الرقصات والأغاني الشعبية تلد أشكالاً من الموسيقى المعزوفة؛ وكانت التراتيل بسبيلها إلى أن تصير كورالات ضخمة. وغدا الأرغن أثراً فنياً يدخل في فن المعمار، أما البيان القيثاري، والعود وغيرهما من الآلات الموسيقية، فكانت وليدة في التغني بالحب. وحليت كتب الترانيم أحياناً، لا سيما في بوهيميا، بزخارف رائعة. أما الترانيم البروتستانتية فكثيراً ما كانت تعليمية أو جدلية، وضحت في هذا السبيل برقة ترانيم العصر الوسيط المقدسة، ولكن الكورالات البروتستانتية كانت بشيراً بمقدم يوهان سبستيان باخ. وفرض التعليم الموسيقي على المدارس من جميع المذاهب، وكان مقام الـ"كانتور"-أي معلم الموسيقى-لا يعلو عيه إلا مقام المدير

ص: 178

أو الناظر في سلم المراتب المدرسية، واشتهر عازفو الأرغن يومئذ شهرة عازفي البيان الآن، وذاع صيت يعقوب هاندل في براغ، أما الأخوة هاسلر-وهم هانز، وكاسبار، ويعقوب-فقد انتشت جماهير المصلين بموسيقاهم التي كانت من وضعهم في كثير من الأحيان، في درسدن، ونورمبرج، وبراغ وقد نحا النبوغ الموسيقي إلى الظهور مراراً وتكراراً في الأسرة الواحدة، لا بفضل أي وراثة خفية، بل نتيجة لعدوى البيت، وهكذا اتخذ حشد حقيقي من آل شولتز اسم "بريتوريوس"، ولم يكتفِ ميخائيل بروتوريوس بوضع مجلدات في الموسيقى، بل وضع في كتابه "أصول الموسيقى"(1615 - 1620) موسوعة شاملة رفيعة لتاريخ الموسيقى وآلاتهم وأشكالها.

أما أعظ الأسماء في هذا العصر وهذا الميدان فهو هنريخ شوتز، الذي أجمع الكل على الإشادة به "أباً للموسيقى الألمانية الحديثة". وقد ولد لأسرة سكسونية في 1575، قبل قرن تماماً من مولد باخ وهاندو، وأرسى دعائم الأشكال والروح الموسيقية التي أوصلها هذان الفنانان إلى ذروة الكمال. وحين بلغت الرابعة والعشرين اتخذ سمته إلى البندقية، حيث درس على جوفاني جابرييلي. فلما عاد إلى ألمانيا تردد بين الموسيقى والقانون، ولكنه استقر آخر الأمر على العمل مديراً للموسيقى في بلاط يوحنا جورج، أمير سكسونيا الناخب، بمدينة درسدن. وراح منذ 1618 يتدفق ألحاناً كورالية مهدت السبيل كل التمهيد للعدد الكبير من الموسيقيين من آل باخ بفضل ما فيها من تناول بارع للكرواس (مجموعات المنشدين) وللأصوات المنفردة وللآلات الموسيقية، ومن مقابلة بين هذه كلها، ولأول مرة أذيب وخفف مزج الألحان الكورالي الألماني الثقيل بأسلوب "التوزيع" الأكثر اتساقاً، والذي جمع بين الأصوات والآلات. واحتفالاً بزفاف ابنة الأمير الناخب (1627) لحن شوتز أولى الأوبرات الألمانية، وأسماها دافني على أساس أوبرا بيري التي تحمل هذا الاسم، والتي أديت بفلورنسة قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. وتأثر شوتز

ص: 179

برحلة ثانية إلى إيطاليا، فأعطى مزيداً من الوضوح للأصوات المنفردة والآلات الموسيقية في "سيمفونياته المقدسة"(1629) إذ وضع موسيقى لنصوص لاتينية من المزامير ونشيد الإنشاد. وفي 1631 غدت سكسونيا مسرحاً نشيطاً للحرب. فضرب شوتز في الأرض متنقلاً من بلاط إلى بلاط؛ حتى أنه رحل إلى الدنمارك، بحثاً عن فرق المرتلين والتماساً للرزق، ولم يرد إلى وظيفته في درسدن إلا في 1645، وفي ذلك العام ابتكر أسلوب موسيقي "آلام المسيح" الألمانية بوضعه موشحة دينية "أوراتوريو" سماها "كلمات المسيح السبع على الصليب"، هنا بدأت فكرة إعطاء كلمات شخص منفرد لنفس الصوت المنفرد، ثم يسبق الصوت أو يقفوه بنفس الأنغام في الآلات، وقد اقتبس باخ من بعده هذه الطريقة في موسيقى "آلام القديس متي". ثم شق شوتز طرقاً جديدة مرة أخرى، إذ نشر في 1657 "الأنغام الألمانية" وهي "كانتاتات"(قصص موسيقية تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى من غير تمثيل) تضعه مع كاريسيمس في مقام المنشئ المشارك للأناشيد الدينية الدرامية وقد هيأ لحنه "نشيد عيد الميلاد"(1664) لباخ هدفاً آخر يستهدف فيما بعد، ثم بلغ قصاراه بعد عام في "آلام ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وموته". وهو نشيد وضعه بصرامة للأصوات وحدها دون أن يخفف بالألحان. وما لبث عقب هذا أن فقد سمعته، فاعتكف في بيته، ومات في السابعة والثمانين بعد أن لحن فقرة من المزمور 119 تقول:"ترنيمات صارت لي فرائضك في بيت غربتي".

‌4 - الآداب والفنون

كان أبرز إنتاج أدبي للإمبراطورية في هذا العهد ترجمة للكتاب المقدس قام بها الإخوان البوهيميين (1588)، وملحمة Zrinyiasz، (1644) التي نظمها ميكلوس زرينيي. وخلفت ألمانيا الآن (حوالي 1600) إيطاليا بوصفها أروج سوق لنشر الكتب، لا سيما فرانكفورت وماين .. ففي 1598

ص: 180

بدأت سوق فرانكفورت للكتاب تنشر كل نصف عان قائمة بالمطبوعات. "وشجعت الجماعات الأدبية الشعر والدراما"، ولكن الأدب كانت تخنقه الرقابة المدنية والكنيسة. فقد أجمع القادة اللوثريون والكلفنيون والكاثوليك على أن المؤلفات التي تعد ضارة بالحكومة. أو المذهب الرسمي، أو الآداب العامة يجب حضرها. ومن عجب أن مجموعة الكتب التي حرمتها السلطات البروتستانتية فاق تلك التي أدانتها كنيسة روما (32). واضمحل العلم لأن الحقيقة شوهتها حدة الجدل. وآية ذلك أن ماتياس فلاكيوس الليريكوس ومساعديه صنفوا تاريخاً للكنيسة المسيحية في ثلاثة عشر مجلداً من القطع الكبير. ولكن "قرون مجد بورخ"، وهو الاسم الذي انتهى الناس إلى إطلاقه على كتاب "تاريخ الكنيسة المسيحية"(1559 - 1574) نسبة إلى مكان تأليفه وإلى تقسيمه حسب القرون-هذا الكتاب كان متحيزاً لكتب التاريخ الكاثوليكية الصادرة في ذلك العهد، يوم كان كل كتاب سلاحاً في القتال. مثال ذلك أن البابا جريجوري السابع صوره هؤلاء المقاتلون أشد وحشية من كل ما ولد من الوحوش. وزعموا أنه قتل عدة باباوات قبل أن يرتقي "كرسي الوباء" (33). أما أروع التواريخ الرسمية الألمانية-في جيله فكتاب يوهان سلايدانوس الذي روى قصة الإصلاح الديني:"الأحوال الدينية والمدنية في عهد الإمبراطور شارل الخامس"(555)، وقد بلغ من الإنصاف مبلغاً لم يترك مجالاً-حتى لملانكوف-أن يغتفر له أي تحامل فيه.

وبعد الكتب المحشوة بالمطاعن كانت الدراما أكثر أشكال الأدب شعبية وقد استخدم البروتستنت والكاثوليك المسرح لبث الدعوة؛ فسخرت التمثيليات البروتستانتية بالبابا سخرية مريرة، واختتمت عادة بزجه في الجحيم وأخرج معلمو الموسيقى بسويسرا تمثيليات عن آلام المسيح والقيامة. والدينونة الأخيرة ابتداءً من 1549، وشارك في التمثيل أحياناً 290 ممثلاً.

ص: 181

ومثلت مسرحية آلام "أوبرامير جاو" أول مرة في 1634 وفاء بنذر نذر خلال طاعون 1633. وكانت تعاد كل عشر سنوات، ويستمر عرضها من الساعة الثامنة والنصف صباحاً إلى السادسة مساءً، يتخلل ذلك استراحة ساعتين في الظهيرة. وقد دخل الممثلون الإيطاليون ألمانيا عام 1568، ثم تلاهم الهولنديون والفرنسيون والإنجليز. وسرعان ما أحلت هذه الفرق التمثيلية عروض المحترفين محل العروض الخاصة، وقد أثارت الكثير من الشكاوى بسبب فحشها الذي در عليها الربح الوفير.

وحظي بشعبية فاقت حتى شعبية الممثلين ناقد ألزاسي هجاء، فيه فحولة وله كفايات متعددة، يدعى يوهان فيشارت فبعد أن تقمص في مرح روح عصره، أصدر سلسلة من التقليدات الساخرة ضد الكاثوليكية، بلغت في تدميرها الذكي مبلغاً جعله بعد قليل أروج كاتب في ألمانيا، ففي كتابه "خلية النحل الرومانية المقدسة الهائلة" هاجم (1579) تاريخ الكنيسة، وعقيدتها، واحتفالاتها، وكهنتها، في كاريكاتور عنيف، فكل الأديار الكاثوليكية عنده مراتع للفجور والإجهاض، والكنيسة في زعمه قضت بأن "للكهنة" أن يستعملوا زوجات غيرهم في غير حرج، وقد وجدت ستة آلاف من رؤوس الأطفال في بركة قرب دير الراهبات، وهكذا دواليك (34). وفي هجاء آخر سماه "القبعة اليسوعية الصغيرة" سخر من قبعة اليسوعيين ذات الزوايا الأربع وندد بكل أساليبهم وأفكارهم. وفي عام 1575، نشر فيشارت، بعنوان مرح في ثمانية سطور، ترجمة مزعومة، هي في حقيقة الأمر تقليد وتوسيع لكتاب رابليه "جارجانتوا"، وقد هزأ الكتاب بجميع نواحي الحياة الألمانية-كظلم الفقراء، وسوء معاملة التلاميذ، ونهم الألمان وسكرهم، وزناهم وفسقهم، كل ذلك في خليط من الأساليب ومن اللهجة الألزاسية، متبل بالبذاءة والظرف. ومات فيشارت في الثالثة والأربعين بعد أن أفرغ ما في جعبته من ألفاظ.

ص: 182

ولا يقل عن فيشارت حيوية رجل آخر مات في نفس السنة، 1590، بالغاً نفس العمر، هو نيقوديموس فرشلين، الذي عاش أكثر من عشرة أعمار في عمر واحد. ففي العشرين كان أستاذاً للتاريخ والشعر في توينجن، ونظم الشعر اللاتيني في رقة تذكرك برقة هوراس، وكتب شروحاً علمية لفرجيل. وفي الخامسة والثلاثين طرد لهجائه النبلاء. وبعدها عاش عيشة الاستهتار والمرح، فأسرف في الشراب، زاعماً أن الخمر لا غنى عنها للعبقرية، وأن أشعار الزاهدين في الخمر هزيلة هزالاً حقيراً، وقد اتهم بإفساد فتاة وتسميم أخرى، وإذ كان مهدداً بالمحاكمة الجنائية لعدوانه على الفضيلة، فقد ظل يفر من بلد إلى بلد، وأهدى محاضرة منشورة إلى أحد عشر رجلاً من الأعيان المختلفين، الذين وزّعهم توزيعاً جغرافياً، ليوفروا له ملجأً يلوذ به في أي مكان، ولكنه مات أثر كبوة قبل أن ينتهي من إبداء رأيه في أعدائه. وجرياً على عادة ذلك الزمان نعتوه بأنه:"شاعر قذر حقير، وسقط للشيطان كذاب لئيم (35) ". ولكنه كان ألمع شاعر استطاعت ألمانيا أن تنجيه في ذلك الجيل الشقي.

أما الفن فقد أضر به عزوف البروتستنت عن الصور والتماثيل، واضمحلال الكنيسة بوصفها راعية للفن، وإفساد التأثير الإيطالي الغريب على ألمانيا للطرز الوطنية، وتدهور الذوق نتيجة لخشونة الأخلاق وعنف الجدل، ثم نار الحرب الآكلة بعد ذلك. وأعجب العجب أن تنتج الحرفية الألمانية، برغم هذه المثبطات، في العقود الستة السابقة للحرب، عدة قصور فخمة، ودور للبلدية بهية، وتنجب مصوراً قديراً، وتبدع بعض التحف الثمينة في الفنون الصغيرة. وكانت مجموعات الإمبراطور رودلف الثاني والدوق ألبرت الخامس أمير بافاريا نواة لمتحف ميونخ الشهير "قاعة الفن القديمة" وكان ألبرت نفسه "مديتشيا ألمانيا"، فأحال بلاطه جنة "للفنانين" وجمّل

ص: 183

عاصمته بالعمارة، وجمع التماثيل في "الانتكواريوم"

(1)

، وهو أول متحف للتماثيل القديمة شمال الألب.

وفي 1611 - 1619 بنى معماري هولندي للدوق مكسمليان الأول في ميونخ "المقر" الذي ظل قروناً بيتاً لأدواق بافاريا وناخبيها وملوكها. وقد أسف جوستاف أدولف لأنه لم يستطع أن ينقل إلى استكهولم ذلك المثال المحبب من عمائر فترة الإصلاح البروتستانتي المتأخرة في ألمانيا. أما اليسوعيون فقد شيدوا بطراز الباروك، على طريقتهم التي تعنى بالزخرفة والتنميق، كنائس بديعة في كوبلنز، وديلنجن، وكنيسة هوف (كنيسة القديس ميخائيل) بميونيخ وصمم سانتينو سولاري كاتدرائية سالزبورج، على طراز أكثر بساطة وفخامة، قبيل اندلاع حرب الثلاثين ببضع سنين.

وإذ كان الأمراء قد استولوا على معظم الثروة الكنسية في ألمانيا البروتستانتية، فإن العمارة فيها لم تعد كنيسة بل مدينة، وأحياناً عمارة قصور. وبنيت القلاع الضخمة، كقلعة هايلينجبرج في بادن، المشهورة بسقفها المصنوع من الخشب الزيزفون المنقوش، في قاعتها المعروفة بالريتزرال (أي صالة الفرسان)، وقلعة أشافينبورج على الماين، وقلعة هايد ليبرج، التي ما زالت مشهداً من مشاهد ألمانيا الكبرى. وأقيمت دار بلدية "راتهاوس" الفاخرة لتضم إدارة البلدية في لوبك وقلاع بادريون، وبريمن، وروتنبورخ واجزبورج ونورمبرج وجراتز. وعهد تجار المنسوجات في أجزبورج إلى الياس هول، كبير معماري المدينة، ببناء قاعتهم "تزويج هاوس" أي قاعة الأقمشة. كذلك بنت بريمن قاعة للغلال "كورنهاوس"، وفرانكفورت قاعة للملح "زالتسهاوس" لتجار الغلال والملح على التوالي، ولكن من كان يتوقع أن يبتنى الخل لنفسه بيتاً رفيع الذوق كقاعة الخل "ايسيجهاوس"؟.

(1)

هذا المتحف وغيره من المنشآت الموسومة بعلامة نجمية في هذا القسم دمرت أو لحق بها ضرر بليغ في الحرب العالمية الثانية.

ص: 184

وارتفعت الآن، وفي الأعوام المائة والخمسين التالية، القصور في كل مكان بألمانيا لتأوي الأمراء الظافرين، وقد بنيت بطراز الباروك اللولبي البهيج. ومن ذلك أن حاكم "أنسباخ بايرويت" أنفق 237000 فلورين (30. 000. 000 دولار؟) على قصر بلاسنبورج الذي يملكه، في إمارة من أفقر إمارات الإمبراطورية. وأرفع من هذا القصر ذوقاً "القصر الأميري الذي أعد لرؤساء أساقفة ماينز. وتبدو عمارة بيوت هذه الفترة بهية إلى حد خلاب سواء في تقاليدها أو رسومها، غير أن طبيباً ساخطاً وصف البيوت الألمانية في 1610 بأنها تتألف من حجرات قذرة مظلمة خبيثة الرائحة قل أن يدخلها الهواء النقي (36)، ومع ذلك فإن داخل البيت في المدينة كان الموطن الحقيقي لفنون ألمانيا الصغيرة، فقد حفل بالزخارف التي أبدعتها أيد ماهرة كالحشرات الخشبية والسقوف المنقوشة، والأثاث المتين المنقوش والمطعم، والدرابزينات الحديدية المشغولة، والأقفال والقضبان المنصوبة في أشكال فخمة، وتماثيل العاج الصغيرة، وأقداح الشراب الفضية أو الذهبية. لقد كان ساكن المدينة الألماني لا يشبع من الزخارف في بيته.

وازدهر الحفر، لا سيما على النحاس، في ألمانيا حتى خلال الحروب. واستهل لوكاس كيليان وأخوه فولفجانج، حوالي 1600، عهد أسرة موهومة من الحفارين اتصل نشاطها طوال القرن السابع عشر بفضل ولدي فولفجانج، وهما فيليب وبرتلماوس، وامتد حتى 1781 بفضل أبناء حفدة فيليب. على أن النحت الألماني أضرت به المحاولات التي بذلها النحاتون لتقليد الأشكال الكلاسيكية الدخيلة على الطبيعة والمزاج الألمانيين. وكان الحفارون الوطنيون، إذا أرسلوا أنفسهم على سجيتها، يبدعون تحفاً من أرفع طراز، مثال ذلك مذبح الكنيسة الأوسط، والمذبحان الجانبيان، التي حفرها في الخشب هانزديجلر لكنيسة أولتريش في أوجزبورج، أو التماثيل السبعون التي نقشها ميخائيل هونيل لكاتدرائية جورك بالنمسا. ومن المعالم البارزة في هذا العصر

ص: 185

نافورات الماء العجيبة التي استلهمت المثل الإيطالية، كنافورة "فيتلسباخر" المقامة أمام الرزيدنتز "بميونخ" و"نافورة الفضيلة"(توجندبرونن)، أمام كنيسة لورنز في نورمبرج.

حين نمى إلى روبنز أن آدم الزهايمر قد مات لتوه (1610) وهو بعد في الثانية والثلاثين قال "خليق بهذا الخطب أن يغرق مهنتنا في حزن عميق، فلن يكون من السهل تعويضه، إذ محال في رأيي أن يكون له نظير في (رسم) الصور الصغيرة والمناظر الطبيعية، وأشياء أخرى كثيرة"(37). وقد ولد آدم هذا في فرانكفورت ثم قصد إيطاليا وهو في العشرين، وبعد أن أقام في البندقية ردحاً من الزمن انفق ما بقي من عمره في روما. وقد تضرع روبنز إلى الله "أن يغر لآدم خطيئة الكسل"، ولكنا لا ندري أهو الكسل، الذي جعل الزهايمر يقصر فنه على الرسوم الصغيرة على الأطباق النحاسية، إذ لا يمكن أن يكون الكسل هو الذي جعله يضفي على مناظر الطبيعة ذلك الصقل الدقيق الذي نراه في "الهروب إلى مصر (38) " أو ذلك التجسيد للضوء والهواء الذي جعل منه على حدوده المتواضعة، "رميرانتا" قبل رميرانت. ويلوح أنه كان يجزى جزاءً طيباً على فنه، ولكنه جزاء لا يكفي لإشباع حاجاته وميوله. وقد أفلس، وسجن بسبب دينه، ثم مات عقب الإفراج عنه.

كان الرسم على الزجاج فناً أثيراً في هذا العصر، في زيوريخ وما زال أولاً، ثم في ميونخ، وأوجزبورج، وأصبحت النوافذ في الأديار والمنازل غنية بالألوان كأنها نوافذ كنيسة من العصر الوسيط وظهر نقش الزجاج في بواكير القرن السابع عشر في نورمبرج وبراغ. واشتهرت أسرة هيرشفوجل بنورمبرج بالزجاج والخزف الفنيين. وأدفأت كولونيا وزيجبورج قلوب الألمان بالأباريق والكيزان الأنيقة النقوش، وكثيراً ما كانت المواقد تحاط بفخار مزجج بالألوان. ولم يكن للألمان قريع في أشغال الخشب والعاج والحديد والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة. وكان

ص: 186

لنجاري الأثاث مكان مرموق، حتى أن واحداً منهم حكم عليه بالشنق عقاباً على السرقة صدر العفو عنه لأنه كان "نجاراً فنياً" ماهراً جداً. والرابزين الحديدي المحيط بمقبرة الإمبراطور مكسمليان الأول في انزبروك رائع جداً. وقد صنع أنطون آيزيهوت في 1578 آنية للطقوس الكنسية من فضة بلغت من دقة الرسم وغنى الحلية ما يضعها إلى اليوم في قمة الآنية التي من نوعها. وكان الصاغة الألمان مطلوبين في كل مكان، ووجدت أشغالهم سوقاً أوربية لها في غير عناء. وصنعت كئوس الشراب، والأقداح، والأباريق الفضية في عشرات الأشكال المضحكة، وكان في وسع الألمان أن يترنحوا بالخمر يشربونه من طواحين الهواء، والفوانيس، والتفاح، والقردة، والخيل، والخنازير، والرهبان، والراهبات. لقد كانوا يخوضون الحرب اللاهوتية حتى في كئوسهم المتصارعة.

‌5 - المذاهب المتصارعة

كان ديت أوجزبورج (1555) قد وصل بالصراع الديني إلى الديني إلى هدنة جغرافية حول مبدأ "الناس على دين ملوكهم""إقليمه دينه"-أعني أن دين الحاكم في كل دور يفرض ديناً على رعاياه، وعلى المخالفين أن يرحلوا. وكان الاتفاق يمثل قدراً ضئيلاً من التقدم، لأنه أحل الهجرة محل الإعدام، ولكنه اقتصر على اللوثرية والكاثوليكية، وكان من آثار اقتلاع عائلات كثيرة من جذورها اقتلاعاً أليماً زادت الفوضى والمرارة في ألمانيا. وكان ينتظر من السكان أن يغيروا مذهبهم إذ خلف حاكم يدين بأحد المذهبين حاكماً يدين بالمذهب الآخر. وبات الدين مطية وضحية للسياسة والحرب.

أما وقد انقسمت ألمانيا في اللاهوتية على هذا النحو، فإنها لا تقدم قبل حرب الثلاثين خريطة دينية بسيطة: ويمكن القول عموماً بأن الشمال كان بروتستنتياً، والجنوب وأرض الراين كاثوليكيين، ولكن بما أن مبدأ

ص: 187

أوجزبورج لم يمكن فرضه فرضاً دقيقاً ولا سريعاً، فقد بقي الكثير من البروتستنت في مناطق كاثوليكية، والكثير من الكاثوليك في بلاد بروتستنتية. وقد أتيح للكاثوليك ميزتان هما التقاليد والوحدة، أما البروتستنت فقد تمتعوا بقسط أوفر من حرية العقيدة، وانقسموا إلى لوثريين وكلفنيين وقائلين بتجديد العماد وموحدين، وحتى في صفوف اللوثريين نشبت حرب عقائدية بين أتباع ملانكتون المتحرر وخصومه. وفي 1577 صاغ اللوثريين عقيدتهم في "كتاب الوفاق" وبعد هذا التاريخ طرد الكلفنيون من الدويلات الألمانية اللوثرية. ولكن البالاتينات الناخب، فردريك الثالث، رعى الكلفنية وجعل جامعة هايدلبرج معهداً لاهوتياً للشباب الكلفني. وهناك، في 1563 وضع اللاهوتيون الكلفنيون كتب "التعليم المسيحي" في مفهوم هايدلبرج، وقد صدم الكاثوليك واللوثريين جميعاً برفضه عقدة الحلول الحقيقي للمسيح في خمر العشاء الرباني وخبزه. وسمح للكاثوليك بالعيش في البالاتينات شريطة أن يقصروا عبادتهم على بيوتهم، أما الموحدون فقد طمعوا بشدة. وفي 1570 نازع رجلان في ربوبية المسيح، أو ضيق حدودها، فأعدما أثر إصرار الأستاذة الكلفنيين في جامعة هايدلبرج على إعدامهما. على أن الأمير الناخب لويس ابن فردريك، آثر المذهب اللوثري وفرضه، ولكن إخاء يوحنا كازيمير، أثناء وصايته (1583 - 1592)، فضل الكلفنية وفرضها، ثم وطد الأمير الناخب فردريك الرابع (1592 - 1610) تلك السياسة. وتزوج ابنه فردريك الخامس (1610 - 1623) اليزابيت ستيوارت (ابنة جيمس الأول ملك إنجلترا). وطالب بعرش بوهيميا، وعجل بنشوب حرب الثلاثين.

وكان الصراع بين اللوثريين والكلفنيين لا يقل مرارة عنه بين البروتستنت والكاثوليك، وفد أضر بتعاون البروتستنت خلال الحرب لأن تعاقب النصر والهزيمة على الغريقين كليهما، تارة هذا وتارة ذاك، ومن ثم اضطهاد المنتصر

ص: 188

المنهزم كان يخلف ميراثاً من الكراهية، مثال ذلك أنه في 1585 طرد الكونت فولفجانج حاكم أيزنبورج رونيبورج جميع الموظفين اللوثريين في إقليمه وأحل الكلفنيين محلهم، ولكن أخاه وخليفته الكونت هنري أنذر الوعاظ الكلفنيين في 1598 بأن عليهم أن يرحلوا خلال أسابيع برغم البرد القارس، وفي 1601 ولي الكونت فولفجانج أرنست، فطرد الوعاظ اللوثريين وأعاد المذهب الكلفيني. وحدث مثل هذا الإحلال للكلفنيين محل اللوثريين في انهالت (1595)، وهاناو (1956، وليي 1600). وفي بزوسيا الشرقية أعدم يوهان فونك المتهم بميوله الكلفنية في سوق كونيجزيزج وسط تهليل الجماهير (1566)(39). كذلك أعدم المستشار نيقولا كربل في درسدن (1601) لتوجهه الطقوس اللوثرية وجهه كلفنية، ولتأييده للهيحونوت للفرنسيين (40).

وفي 604 أعتنق الشريف موريس حاكم هيس-كاسل المذهب الكلفني، ثم فرضه في 1605 في هذا الإقليم وفي هيس العليا، وهزم جنوده حشداً من اللوثريين المقاومين وحطموا الصور في الكنائس، أما الوعاظ الذين أبوا التحول من المذهب اللوثري إلى الكلفني فقد نفوا (41). وفي أمارة براند نبورج الناخبة قام نزاع عنيف اللوثريين والكلفنيين حول خبز القربان المقدس، وهل يتحول حقيقة بعد تقديسه إلى جسد المسيح وأخيراً قضت الحكومة بأن الكلفنية هي المذهب الحق (1613 وما بعدها)(42).

ووسط تذبذبات الحقيقة هذه احتدم ذلك "السعار اللاهوتي" كما سبق أن سماه ملانكتون-احتداماً لم يعرفه التاريخ من قبل ولا من بعد، إلا فيما ندر. من ذلك أن راعياً لوثرياً يدعى نيفاندر (1583) عدد أربعين خصيصة من خصائص الذئاب، وزعم أنها بالضبط السمات المميزة للكلفنيين ثم وصف الميتات الرهيبة التي لقيها أعداء اللوثريين، وقال بأن

ص: 189

زونجلي حين خر صريعاً في المعركة، "قطع جسده سيورا، واستعمل الجنود شحمه ليشحموا به أحذيتهم، لأنه كان رجلاً بدينا (43) ". وجاء في نشرة لوثرية في 1590 "إن أراد أحد أن يقال له في بضع كلمات أية مادة من مواد الإيمان نقاتل عليها جنس الأفاعي الكلفنية الشيطاني، كان الجواب، كلها بلا استثناء

ذلك لأنهم ليسوا مسيحيين، بل يهود ومسلمون معمدون (44)". وفي سوق فرانكفورت كتب ستانسلاوس رسكيوس (1592) "لقد لاحظنا من سنين أن الكتب التي يؤلفها البروتستنت ضد البروتستنت ثلاثة أمثال تلك التي يؤلفها البروتستنت ضد الكاثوليك (45). وقال كاتب بروتستنتي في 1610 في معرض الرثاء لهذه الحال". أن هؤلاء اللاهوتيين المسعورين قد جعلوا الحرب المدمرة الناشئة بين المسيحيين المنشقين على البابوية من الهول والاتساع بحيث لا تبدو بارقة أمل في أن يكف كل هذا الصراخ والقذف والشتم واللعن والحرم قبل مجيء اليوم الآخر (46).

ولكي نفهم هذا "السعار اللاهوتي" علينا أن نتذكر أن جميع أطراف النزاع أجمعوا على أن الكتاب المقدس كلمة الله المعصومة، وإن الحياة بعد الموت ينبغي أن تكون أهم شغل للناس في هذه الدنيا. كذلك لا بد أن تفسح الصورة مكاناً للتقوى الصادقة التي أورثت الكثيرين من اللوثريين والكلفنيين والكاثوليك الأتضاع والتسامي فوق حمى المذاهب وهذيانها. فقد هرب "أهل التقوى" هؤلاء من المنابر اللاهوتية والتمسوا في خلوتهم شيئاً من الحضرة الإلهية المطمئنة. وما زال مؤلف يوهان آرنت "حديقة الفردوس الصغيرة" يقرأ في ألمانيا البروتستنتية باعتباره كتيباً للتأمل الورع. وانتهى يعقوب بومي بهذه النزعة إلى فكرة الوحدة الصوفية لروح الفرد مع إله تصوره ينبوعاً كونياً، وأساساً لكل الأشياء، ينتظم كل "شر" وكل "خير" وزعم بومي أنه رأى "كائن الكائنات كلها، ورأى جهنم، كما رأى مولد الثالوث الأقدس (47) " ولا يجد العقل غير العواطف مع الصوفية في كتاب "بومي" في شارة كل الأشياء، 1621 إلا دوامة من السخافات، ومن بواعث

ص: 190

العزاء أن نعرف أن صوفيا آخر، وهو يوحنا وميسلي، وصفه بأنه "هراء رفيع (48) ". وأفضل من التراتيل البسيطة الحسية التي ألقها التقي اليسوعي فردريك فون سبي.

واليسوعيون هم الذين قادوا الحملة الصليبية الكاثوليكية لاسترداد الأرض المفقودة في ألمانيا كما فعلوا في كل مكان في أوربا، وقد بدأوا بمحاولة إصلاح الأكليروس الكاثوليكي. كتب اليسوعي بطرس فابر من فورمز في 1540 يقول: "اسمح اللهم بأن يون في هذه المدينة ولو كاهنان أو ثلاثة ليس لهم علاقات غرامية حرام، أولاً يعيشون في خطايا معروفة أخرى (49)، على أن أهم خططهم كانت اصطياد الشباب ومن ثم فتح اليسوعيون الكليات في كولونيا، وتريير، وكوبلنز، وماينز، وشبيير، ومونستر، وفورتسبورج، واينجولستات، وبادربون، وفرايبورج، وقد طاف بطرس كانيسيوس، الرأس المفكر والروح والحركة لهذه الحملة اليسوعية، بكل أرجاء ألمانيا تقريباً على قدميه، منشآت الكليات، موجهاً المجادلات اليسوعية العنيفة، وشارحاً للحكام الألمان مزايا المذهب القديم. وقد حث الدوق ألبرت الخامس على أن يستأصل بالقوة شأفة البروتستنتية بأسرها من بافاريا (50). ويفضل اليسوعيين، والكبوشيين، وإصلاح الأكليروس، وغيرة الأساقفة، ودبلوماسية الباباوات وسفرائهم، استعيد إلى حظيرة الكنيسة في النصف الثاني من القرن السادس عشر نصف الأرض التي كسبتها البروتستنتية الألمانية في النصف الأول منه. وقد استعملت بعض ألوان الإكراه هنا وهناك، غير أن الحركة كانت في جملتها سيكلوجية سياسية، ذلك أن جماهير الشعب ملت طول الشك والجدل والجبرية، والجبرية، ورأى حكامهم في الكاثوليكية التقليدية سنداً للحكومة والنظام الاجتماعي أقوى من سند بروتستنتية غارقة في فوضى الانقسام، محفوفة بالمخاطر التي تكتنف كل مذهب جديد.

ص: 191

فلما أدرك البروتستنت آخر المطاف أن انقساماتهم الداخلية أشبه بعملية انتحارية. وجهوا منابرهم وأقلامهم ضد عدوهم الروماني. ومهدت حرب الكلام والمداد لحرب المدافع والدم، وتفاقم التقاذف بالمطاعن حتى قارب نشوة القتل. ودخلت قاموس اللاهوت ألفاظ كالروث، والنفاية، والحمار، والخنزير، والبغي، والقاتل. ففي عام 1565 اتهم الكاتب الكاثوليك يوهان ناس اللوثريين بممارسة القتل، والسرقة، والكذب، والغش، والشره، والسكر، ومضاجعة المحارم، والجريمة، دون ما خشية، لأن الإيمان في زعمهم يبرر كل الأشياء، ورجح أن تكون كل امرأة لوثرية مومساء (51). وقد اعتبر الكاثوليك هلاك البروتستنت الأبدي إحدى بديهيات اللاهوت، ولكن الوعاظ اللوثري أندرياس لانج كتب (1576) بثقة مماثلة "أن البابويين كغيرهم من الترك واليهود والوثنيين هم خارج نطاق النعمة الإلهية، ومغفرة الخطايا، والخلاص". فلقد كتب عليهم العويل والبكاء وصرير الأسنان إلى الأبد في نار الجحيم المشتعلة وكبريتها (52). وراح الكتاب من الجانبين يتبادلون الافتراءات على نحو ما يفعل الآن حرب العقائد السياسية. وراحت أسطورة "البابة"(امرأة) يوانا في الأدب البروتستنتي. وتب أحد رجال الدين البروتستنت في 1589 يقول: "ما أشد نفاق هؤلاء اليسوعيين الأوغاد السفلة إذ يلجون في إنكار هذه الحقيقة، وهي أن البغي الإنجليزية آجينس كانت "بابة" في روما وأنها ولدت غلاماً خلال أحد المواكب العامة (53) ". وجاء في إحدى المواعظ أن الباباوات كانوا وما زالوا بلا استثناء واحد، لوطيين ومستحضري أرواح وسحرة، وأن يبصقوا النار من أفواههم .. "كثيراً ما ظهر الشيطان بصورته المرئية للباباوات

واشترك معهم في لعن صليب المسيح ووطئه بالأقدام، ثم الرقص رقصات عارية فوقه، وهي التي سموها خدمة مقدسة (54)". وكانت جماهير العابدين ترتشف هذه المسكرات بشغف. قال قسيس بروتستنتي في 1584، "لقد تعلم الأطفال في الشوارع أن يلعنوا عدو المسيح الروماني وأتباعه الملاعين (55) ".

ص: 192

وكان اليسوعيون أهدافاً محببة. فرموا في مئات الرسوم الهزلية، والنشرات، والكتب، والقصائد، باللواط، والزنى، والبهيمية وفي أحد الكلشيهات الخشبية الألمانية، وتاريخه 1569 (وما زال محفوظاً في مجموعة جوته بفايمار) صور البابا على شكل خنزيرة تلد رهباناً يسوعيين في هيئة خنازير صغار. وفي 1593 نشر اللاهوتي اللوثري بوليكارب الايزر تاريخاً للرهبنة اليسوعية باللاتينية. وصف اليسوعيين بأنهم يفارقون أقبح الرذائل مطمئنين إلى رضى البابا وعقوه الكاملين (56). وأخبرت "صحيفة جديدة صادقة" 1614 قراءها بأن الكردينال اليسوعي باللارمين أرتكب الفاحشة 2. 236 مرة مع 1642 امرأة، ثم استطردت لتصف عذاب الكردينال على فراش موته، مع أنه لم يمت إلا بعد سبع سنوات (57).

وقد رد اليسوعيون أول الأمر في ضبط للأعصاب. ونضح كانيسيوس باستعمال لغة بريئة من العنف، وكذلك فعل الراعي البروتستنتي يوهان ماتيسيوس، ولكن الجمهور كان يؤثر الطعن على الاعتدال. واتهم المجادلون البروتستنت المتطرفون خصومهم اليسوعيين بقبولهم عقيدة اليسوعي ماريانا التي تدافع عن قتل الطغاة من الحكام، ورد أحد اليسوعيين الألمان بأن هذه هي بالضبط العقيدة التي يجب تطبيقها على الأمراء الذين فرضوا البروتستنتية على رعاياهم. ولكن يسوعيين آخرين أكدوا للحكام البروتستنت أنهم يعتبرون أمراء شرعيين، وأن شعره واحد من رءوسهم لن تمس. ونشر اليسوعي كونرادفيتر (1594 - 99) عشر كتيبات استعمل فيها أقبح ألفاظ الشتم، معتذراً بأنه أينما يحذو في ذلك حذو اللاهوتيين اللوثريين، وكان الجمهور يتهافت على شراء هذه الكتيبات بمجرد طبعها. وأعلن يسوعيو كولونيا أن "الهراطقة العنيديين" الذين يبثون الانشقاق في كل مكان "في الأقاليم الكاثوليكية".

"يجب أن يعاقبوا كما يعاقب اللصوص والسارقون والقتلة،

ص: 193

لا بل بأشد مما يعاقب به هؤلاء المجرمون، فهؤلاء لا يؤذون سوى الجسد، أما أولئك فيزجون بالنفوس في الهلاك الأبدي .. ولو أن لوثر أعدم أو أحرق قبل أربعين عاماً، أو لو أن نفراً من الناس نخفف العالم من وجودهم، لما نكبنا يمثل هذه الإنشقاقات اللعينة، ولا يمثل هذه الملل والنحل التي تكدر صفاء العالم كله (59).

ويمثل هذه الروح ناشد الكلفن داود بارينز، أستاذ اللاهوت بهايد لبرج (1518)، جميع الأمراء البروتستنت أن يشنوا حرباً صليبية على البابوية، وفي حملة كهذه يجب "ألا يتحرجوا من أي ضرب من ضروب القسوة أو العقاب (60) ". وبلغ هذا السيل الدافق من الكتيبات ذروته بطبع 1. 800 نشرة في سنة واحدة (1618)، وهي أول سني الحرب.

فلما قوى بأس الكاثوليك واشتد غضبهم، ألف عدد من الأمراء البروتستنت "اتحاد الأقاليم الإنجيلية"(1608) أو اتحاداً بروتستنتياً ليتبادلوا الحماية. ووقف ناخب سكسونيا بمعزل عن الاتحاد، ولكن هنري الرابع ملك فرنسا بدأ على استعداد لمديد المعونة لأية مغامرة ضد الإمبراطور الهابسبورجي. وفي 1609 ألف عدد من الحكام الكاثوليك يتزعمهم مكسمليان الأول دوق بافاريا، اتحاداً كاثوليكياً، عرف بالحلف الكاثوليكي، وما وافى أغسطس من عام 1610 حتى كانت كل دويلات الإمبراطورية تقريباً قد انضمت إليه، ثم عرضت أسبانيا أن تقدم له المعونة الحربية. ووافق الاتحاد البروتستنتي (فبراير) على أن يساعد هنري الرابع على الاستيلاء على دوقية بوليس-كليفز، ولكن مصرع الملك الفرنسي (14 ماير) حرم البروتستنت من أقوى حليف لهم. وسرى الخوف في ألمانيا البروتستنتية، ولكن الحلف لم يكن على استعداد للعمل. وفي يناير 1615 أنذر موريس حاكم هيس-كاسل الاتحاد البروتستنتي بأن "الحلف الكاثوليكي، الذي يحميه البابا، وملك

ص: 194

أسبانيا، وبلاط بروكسل، والإمبراطور

أرسل في طلب السلاح والذخيرة

رغبة

في استئصال شافه-المذهب الإنجيلي (61) ". وزاد الطين بلة أن كاسبارسكيوبيوس حذر الكاثوليك اللوثريين من أن الكلفنيين يعتزمون تدمير الديانة والسلام العام والإطاحة بالإمبراطورية الرومانية المقدسة بأسرها، ومحو مبدأ أوجزبرج والمذهب الكاثوليكي من الإمبراطورية (62) سواء بسواء، وربما كان هذا محاولة لإشاعة مزيد من الفرقة بين الشيع البروتستانتية. وأضعف النزعات الإقليمية بين النمسا وبافاريا العصبة الكاثوليكية في 1616

وراود الناس من جديد حلم السلام!

ولكن في براغ ناشد الكونت هنريك فون ثورن زعماء البروتستانت منع الكاثوليكي المتحمس الأرشيدوق فرديناند من اعتلاء عرش بوهيميا. وكان الإمبراطور ماتياس قد عين خمسة نواب ليتولوا حكم البلاد في أثناء غيابه. واستبد هؤلاء الحكام بالبروتستانت في النزاع حول بناء كنيسة في كلوسترا جراب، وأرسلوا المعترضين إلى السجن وفي 23 مايو 1618 قاد ثورن حشداً بروتستانتياً غاضباً إلى قلعة أوسكين، وصعدوا إلى الحجرات التي كان يجلس بها اثنان من هؤلاء الحكام، وألقوا بهما من النافذة مع سكرتير كان يتحمس لهم، وسقط ثلاثتهم نحو خمسين قدماً، ولكنهم وقعوا على كومة من الأقذار، فتلوثوا أكثر مما أوذوا، فكان هذا "الإلقاء من النافذة" تحدياً مثيراً للإمبراطور والأرشيدوق وللعصبة المقدسة. وطرد ثورن رئيس الأساقفة والجزويت. وشكل حكومة مديرين ثورية. وربما شق عليه أن يدرك أنه بذلك أطلق كلاب الحرب من عقالها أو أنه أشعل نارها.

‌6 - حرب الثلاثين سنة

أ - طور بوهيميا

1618 -

1623

أرسل الإمبراطور ماتياس إلى حكومة المديرين سالفة الذكر عرضاً

ص: 195

بإصدار عفو عام، والدخول في مفاوضات، ولكن هذا العرض رفض (63). وأنقذ الأرشيدوق فرديناند، متجاهلاً الإمبراطور، جيشين لغزو بوهيميا. وحرض فردريك الخامس ناخب البالاتينات شارل عمانويل دوق سافوي المعادي لآل هيسبرج، على أرسال قوة لنجدة بوهيميا، بقيادة القائد القدير بيتر ارنست فون مانسفيلد وأستولى مانسفيلد على بلسن، معقل الكاثوليك في بوهيميا، وتقهقرت جيوش فرديناند. واقترح كريستان دون برنزويك مستشار فردريك على المديرين أنهم إنما يقوون دفاعهم ويستبعدون فرديناند عن العرش، إذا عرضوا العرش على فردريك. وفي 20 مارس 1519 مات ماتياس، تاركاً فردريك الملك الشرعي على بوهيميا، ووريثاً افتراضياً للتاج الإمبراطوري. وفي 19 أغسطس أعلن مجلس الديت في بوهيميا خلع فرديناند عن عرش بوهيميا، وفي السابع والعشرين نادي بفردريك أمير البالاتينات ملكاً على بوهيميا. وفي الثامن والعشرين أعلن ناخبو الإمبراطور أرشيدوق استريا إمبراطور تحت فرديناند الثاني.

تردد فردريك في قبول هذا المنصب الجديد، ذلك أنه أدرك أنه بوصفه من زعماء الكلفنة لا يمكنه أن يعتمد على تأييد اللوثريين، على حين أنه قد يواجه معارضة الإمبراطورية والبابوية وأسبانيا. وأهاب بوالد زوجته جيمس الأول ملك إنجلترا أن يمده بجيش، ولكن بدلا من ذلك، زوده الملك الحذر البعيد النظر بالنصيحة-أن يرفض عرش بوهيميا. ولم تغره أو تحثه زوجته المرحة الجريئة على قبول العرش، بل وعدته أن تقاسمه عن طيب خاطر كل ما قدر له أن يلقي، نتيجة لما يقع عليه اختياره، وكانت عند وعدها. ونصح كريستيان أمير برنزويك بقبول العرش. وفي 31 أكتوبر 1611، دخل الملك الجديد الملكة براغ، ورحب بهما الديت والأهالي ترحيباً حاراً.

وكان فردريك بعد شابا في العشرين من العمر، يتحلى بحسن الخلق والشهامة

ص: 196

والكياسة، ولكنه لم يكتمل نضجه إلى درجة يتولى معها شؤون السياسة والحكم. وكان أول عمل له بعد توليه منصبه في براغ، أنه أقر بإزالة المذابح والصور من كنيسة سانت فيتوس، وهي الحرم الوطني المقدس، وسرعان ما عمد أتباعه بالمثل إلى تجريد سائر المزارات المقدسة في بوهيميا. واستنكرت الأقلية الكاثوليكية هذا التصرف، واستاء من اللوثريين البوهيميون ونظرت ألمانيا اللوثرية بفتور إلى هذا الكلفني المتحمس وفي 30 إبريل 1620 أعلن فرديناند أن فردريك مغتصب للعرش، وأصدر إليه الأمر بمغادرة الإمبراطورية في أول يونية، وإلا اعتبر خارجا على القانون وصودرت أملاكه. وعرض الإمبراطور أن يضمن عدم تعرض الولايات البروتستانتية الألمانية للهجوم، إذا هي قطعت مثل هذا العهد للولايات الكاثوليكية. وفي معاهدة أولم (3 يونية 1620) قبل هذا العرض واحتج الأمراء البروتستانت بأن فردريك عرض حريتهم للأخطار بتحديه فرديناند. وانحاز الناخب جون جورج أمير سكسونيا بولايته اللثورية إلى الإمبراطور الكاثوليكي.

وفي أغسطس عبر جيش إمبراطوري قوامه 25 ألف رجل، النمسا إلى بوهيميا بقيادة قائد مكسيمليان البافاري وهو جوهان تسركليس، كونت تللي الذي تعلم التقوى على يد الجزويت، وتلقى إن الحرب من دوق بارما بالقرب من الجبل الأبيض، إلى الغرب من براغ، التقى هذا الجيش بالبوهيمين وهزمهم هزيمة منكرة (8 نوفمبر). وفردريك واليزابث وحاشيتهما إلى سيليزيا. وعجز الملك والملكة عن جمع جيش هناك، فالتمسا مأوى في براند ببرج الكلفنية. وفي اليوم التالي للمعركة أحتل مكسيمليان أمير بافاريا براج. وسرعان ما أعيدت الكاثوليكية، وأعيد وضع الصور في الكنائس، وأستدعى الجزويت، ووضع التعليم تحت إشراف الكاثوليك ولم يبح إلا الديانة الكاثوليكية والديانة اليهودية، وألغى العشاء الرباني بالخبز وبالنبيذ على حد سواء، وكان يوم القديس جون من قبل عيداً وطنياً فجعل يوم حداد تغلق فيه كل الكنائس، وقبض على ثلاثين من زعماء العصاة وأعدم

ص: 197

منهم سبعة وعشرون. ولمدة عشر سنين ظلت اثنتي عشرة جمجمة تطل متجهمة غاضبة من برج جسر شارل على نهر ملدو (64) وحرمت الهجرة على كل العصاة والمتمردين، وصودرت أملاكهم-لجانب الملك فرديناد الذي باعها بيع السلعة للكاثوليك، وقامت طبقة نبلاء كاثوليك جديدة على أكتاف رقيق الأرض. وكادت الطبقات الوسطى والتجارية أن تختفي.

وعلى حين كان مكسيمليان أمير بافاريا يقهر الكلفنية في بوهيميا على هذا النحو، فإن سبينولا أثناء الهدنة في الأرض الوطيئة، قاد قوة كبيرة من الفلاندرز للاستيلاء على البلاتينات، وأعد بعض صغار الأمراء البروتستانت قوة لمقاومته وأنظم فردريك إليهم، تاركاً زوجته في لاهاي. فلما أستدعى سبينولا إلى الأرض الوطيئة عند تجدد الحرب بين هولندة وأسبانيا، حل محله تلي، وهزم البروتستانت (1622) وأستولى على هيد لبرج، وأعمل فيها السلب والنهب وشحنت مكتبة الجامعة العظيمة في خمسين عربة ونقلت إلى روما هدية من مكسيمليان البافاري إلى البابا جريجوري الخامس عشر. ولما عاد مكسيمليان منتصراً منح البلاتينات ميزتها الانتخابية، لقاء ما أدى للإمبراطور من خدمات. وأصبح للولايات الكاثوليكية الآن الأغلبية في مجلس الديت الناخب.

أن مدى النصر الكاثوليكي وكماله وشموله أقلق بال الملوك الكاثوليك والبروتستانت على حد سواء. فإن تزايد هيبة فرديناند الثاني وسلطانه كان يهدد "حريات" الأمراء الألمان، كما أن مكسيمليان قلق حين وجد أنه قد سمح له بالاستيلاء على البلاتينات وبافار مع بقاء تبعيتهما للإمبراطور. وتعاطف البابا أريان الثامن مع وجهة النظر الفرنسية القائلة بأن آل هبسبرج أصبحوا من القوة بحيث باتوا خطراُ على حرية البابوية وأغضى عما عمد إليه ريشليو من فرض ضرائب على الكاثوليك في فرنسا لمساعدة الألمان البروتستانت وعن مساعدته بعد ذلك لملك سويدي ضد إمبراطور كاثوليكي. وفي 1624 حول الكاردينال المدهش المنظر السياسي فجأة،

ص: 198

بسلسلة متعاقبة من الضربات الدبلوماسية. ففي 10 يونية وقع تحالفاً مع هولندا البروتستانتية ضد الفلاندرز وأسبانيا الكاثوليكيتين. وفي 15 يونية ضم إليه السويد والدنمرك، وفي 11 يوليه أقنع سافوي والبندقية بالانضمام إليه في محاولة لقطع خط الإمدادات والقوات الأسبانية النمساوية عبر ممرات الفالتللين في جبال الألب الإيطالية السويسرية. وفي 1625 جاء كرستيان الرابع ملك الدنمرك بعشرين ألف رجل للانضمام إلى قوة ما نسفياد المكونة من أربعة آلاف رجل في سكسونيا السفلى. وتولى الجزع مكسيمليان، فحث الإمبراطور على إرسال نجدة إلى تللي الذي تناقص عدد جيشه من 18 ألفا إلى 10 آلاف بسبب الجو والجوع والمرض. واستجاب فرديناند باستدعاء فالنشتين من بوهيميا.

ب - فالنشتين

1623 -

1630

كان اسمه الحقيقي ألبرخت فون فالنشتين، وهكذا كان يوقع اسمه دائماً (65). وكانت أسرته من أعرق الأسرات النبيلة في بوهيميا. ولد في 1583، وتلقي تعليمه أولاً على يد "الأخوة البوهيمين" ثم على يد الجزويت، وتزوج من أرملة غنية طواها الردى سريعاً، تاركة له ثروتها. وضاعف منها بشراء ثمان وستين ضيعة بثمن بخس، بفضل خفض قيمة العملة البوهيمية، من الأملاك التي صادرها فرديناند. وكان مالكاً ذكياّ تقدمياً، فحسن طرق الزراعة والإنتاج ومول الصناعة ونظم المدارس والخدمات الطبية وإعانات الفقراء، وأدخر بعض الفائض ليقدم الغذاء لشعبه زمن القحط. ولم يؤثر في معاصريه بعبقرية العسكرية فحسب، بل بجسمه الفارع النحيل، ووجهه الشاحب الصارم، وقلقه العصبي، وزهوه وغطرسته وطبعه الحاد المسيطر. وجعلته "عفته التي لم يتحول عنها (66) " يبدو وكأنه فوق مستوى البشر. وكانت ثقته بالتنجيم أقوى من إيمانه بالمسيح.

وملك قلب فرديناند وظفر بحبه، بالوقوف إلى جانبه ومساندته في كل

ص: 199

المراحل التي رقى فيها الأرشيدوق إلى صولجان السلطان. ومن 1619 وما بعدها أقرض الإمبراطور مبالغ ضخمة تكاد تسد نفقات العرش-على سبيل المثال مائتي ألف جلدن في 1621، وخمسمائة ألف في 1623. ولم يحصل على أية ضمانات لهذه القروض، ويكفيه أنه كان يملك ربع بوهيميا، ويستطيع أن يحشد جيشاً متى شاء، ويتولى قيادته بمهارة فائقة. وفي 1624 عندما تحكم الفرنسيون والبنادقة في ممرات فالتللين، ولم يعد في مقدور الجنود والمؤن الأسبانية الوصول من إيطاليا إلى النمسا، عرض فالنشتين تجنيد خمسين ألف رجل ووضعهم في خدمة الإمبراطور. فتردد فرديناند لما يعلم من غرام فلنشتين بالقوة والسلطة ولكن تللي في 1625 تعالت صيحاته يطلب المدد فكلف فرديناند فالنشتين بتجنيد عشرين ألف رجل. وفي سرعة مذهلة سار هذا الجيش إلى سكسونيا السفلى، كامل العتاد، حسن النظام والانضباط، يحب قائده إلى حد العبادة، ويعيش على ما يسلبه من الريف.

وصد فالنشين مانسفيلد في دسو، وهزم تللي كريستيان الرابع في لتر (1626) وقضى منسفيلد نحبه، ووجد كريستيان جيشه الذي يتناقض عدده عاجزاً متمرداً. وأقصمت عرى التحالف الكبير الذي كان ريشليو قد شكله نتيجة لحقد جوستاف أدولف على كريستيان الرابع، وإعلان إنجلترا الحرب على فرنسا، وحملة بكمنجهام لمساعدة الهيجونوت في لاروشيل. فكان على ريشليو أن يسحب قواته من ممرات فالتللين، التي عادت الآن مفتوحة أمام النمسا وأسبيان. وتقدم فالنشين الذي يزداد جيشه عدداً يوماً بعد يوم، إلى براندبرج وأرغم ناخبها جورج وليم على إعلان الولاء للإمبراطور، واندفع نحو دوقية كريستيان نفسه. وهي هولستين، وتيسر له القضاء على كل مقاومة في غير عناء. وفي نهاية 1627 كانت الأجزاء الداخلية من الدنمرك في قبضته.

ووسع هواء البلطيق الملح من خطط فالنشتين، فالآن وقد دان كل الساحل الشمالي الألماني تقريباً، ومعظم أرض الدنمرك، للإمبراطور، فلم يبنى بحرية

ص: 200

إمبراطورية، ويحي "الهانسا"، وبالتحالف مع بولندة الكاثوليكية يمد سلطان الإمبراطور على بحر البلطيق وبحر الشمال، ومن ثم لا يعود الهولنديون والإنجليز قادرين على الإتيان بالخشب من ثغور البلطيق عبر مياه السوند ليشدوا أساطيلهم؛ ويتحكموا في بحر الشمال وتجارته ويسدوا القنال في وجه الأسبان أن امتلاك الإمبراطور للبلاتينات مكنه من السيطرة على نهر الراين. ومن ثم يكون الطريق مسدوداً أمام البولنديين في النهر والبحر، فتنهار قوتهم وثروتهم العتيدة. ولسوف يصبح جوستاف أدولف محصوراً في شبه جزيرة أسكنديناوة وفي 1627 كان فالنشتين بالفعل يعد نفسه ليكون أمير البحر في المحيط وفي البلطيق.

ولم ينظر الأمراء الألمان بعين الرضا إلى انتصارات فالنشتين. ذلك أنهم رأوا أنه بينما نقص جيش العصبة الكاثوليكية بقيادة مكسيمليان البافاري وكونت تللي إلى نحو 20 ألف رجل، فإن فالنشتين تولى أمرة قوات بلغ عددها 140 ألفاً. كما أنه لا يعترف بأية مسئولية إلا أمام الإمبراطور وحده ومادام الإمبراطور مطمئناً إلى وجود جيشه من خلفه، ففي مقدوره أن يحد من "حريات" الأمراء. والحق أن فالنشتين ربما كانت تراوده فكرة القضاء على الملكيات الإقطاعية وتوحيد ألمانيا بأسرها في دولة قوية واحدة. كما كان يفعل ريشليو في فرنسا، وكما كان على بسمارك أن يفعل بعد ذلك بمائتين وأربعين عاماً.

ولدى اجتماع الناخبين الإمبراطوريين في مولها وزن، في شتاء 1627 - 1628، تبادلوا الرأي فيما يراودهم من آمال وما يساورهم من مخاوف. ومال الناخبون الكاثوليك إلى تأييد فالنشتين، ثقة منهم بأنه سوف يقتلع البروتستانتية من جذورها ويقضي عليها في مهدها الأول. ولكن عندما أطاح فرديناند بدوق مكلنبرج البروتستانتي، ونقل الدوقية إلى فالنشتين (11 مارس 1628) فإن الأمراء الكاثوليك أنفسهم تولاهم الجزع من استئثار الإمبراطور بسلطة

ص: 201

خلع الأدواق وتعيينهم وفق مشيئته هو وحده. وما كان أمام الأمراء إلا ورقة واحدة يلعبون بها أمام فرديناند، فإنه كان على وشك أن يطلب إليهم ضمان اعتلاء ابنه العرش الإمبراطوري. وفي 28 مارس أبلغوه أنه مادامت جيوشه تحت إمرة فالنشتين، فإنهم لن يقدموا ضماناً مثل هذا. كما حذره مكسيمليان البافاري، من أنه إذا لم ينتقص من جيش فالنشتين ومن سلطاته وقوته، فلابد يوماً من أن يملي هذا القائد سياسة الإمبراطورية.

وكأنما لحظ فالنشتين هذا التحذير، فإنه شرع، وواضح أنه على مسئوليته الخاصة، في إجراء مفاوضات سرية مع كريستيان الرابع، انتهت بصلح لوبك (22 مايو 1629). ولدهشة أوربا كلها، أعاد إلى ملك الدنمرك جتلند وشلزويج والقطاع الملكي من هولشتين. ولم يفرض تعويضاً، بل أنه طلب فقط تخلي كريستيان عن أسقفياته الألمانية وسلطته العسكرية، ولكن ما الذي دفعه إلى هذا الكرم، أنه من ناحية، الخوف من ائتلاف الغرب ضد السيطرة الإمبراطورية على البلطيق والمضايق، ومن ناحية أخرى الاعتقاد بأن جوستاف أدولف كان يخطط لغزو ألمانيا، وأخيراً، تنبأ فالنشتين بأن القضية ستكون بينه وبين جوستاف لاكريستيان.

وربما أقلق استحواذ فالنشتين على السلطة الدبلوماسية بال الإمبراطور، ولكن كان لزاماً عليه أن يخفي شكوكه وحقده المتزايدين، لأنه كان الآن يخطط أجرأ حركة في تاريخه، وقد يكون في حاجة ماسة إلى مساندة قوات فالتنشتين في كل مرحلة من مراحل هذه اللعبة الخطرة. أن مستشاريه الجزويت طالما ناشدوه الاستعانة بقوته الجديدة وبقرار إمبراطوري، لتسترد الكنيسة الكاثوليكية، بقدر الإمكان، أملاكها ومواردها التي اقتطعت منها منذ بداية الإصلاح الديني، أو على الأقل منذ 1552. ورأى فرديناند الكاثوليكي الشديد التمسك بعقيدته في هذا المطلب شيئاً من العدالة، ولكنه لم يقدر كل التقدير صعوباته العملية، فقد بيعت منذ 1552 ممتلكات كثيرة من تلك التي كانت ملكاً للكنيسة، ودفع ملاكها الحاليون ثمنها. ولتنفيذ هذا، أي استرداد

ص: 202

لكنيسة لأملاكها، لابد من تجريد آلاف من الملاك من ممتلكاتهم، والمفروض أن يتم هذا عنوة، وقد تؤدي الفوضى الناتجة عن هذا بألمانيا إلى ثورة. وكامن مكسميليان أمير بافاريا يوماً يحبذ هذه الفكرة، ولكنه الآن فزع لمداها ومضاعفاتها، وحث الإمبراطور على إرجائها حتى يدرسها مجلس الديت دراسة مستفيضة. وخشي فرديناند أن يرفضها الديت. وفي 6 مارس 1629 نشر "قرار إعادة أملاك الكنيسة"، وجاء فيه "لم يبقَ أمامنا إلا أن نأخذ بيد الجماعة المظلومة، ونبعث بموظفينا ليطلبوا إلى الملاك الحاليين غير المفوضين قانوناً أن يعيدوا كل الأبرشيات والأسقفيات والأديار، وسائر الممتلكات الكنسية التي صودرت منذ معاهدة باسو 1552". وكان هذا "الإصلاح المضاد" المقترن بالانتقام وكان كذلك توكيداً للسلطة الإمبراطورية المطلقة. وهي سلطة مطلقة ربما تردد حتى شارل الخامس نفسه في انتحالها لشخصه.

وقوبل القرار باحتجاجات صارخة على نطاق واسع، ولكنه نفذ. وحيثما وجدت أية محاولة لمقاومته استدعي جنود فالنشتين وأخمدوها في كل مكان باستثناء مجد برج التي نجحت في مقاومة حصار فالنشتين لها. وعادت مدن بأكملها أوجزبرج، ورتنبرج، ودورتمند، وثلاثون بلدة صغيرة إلى أيدي الكاثوليك، وكذلك عاد إليهم خمس أسقفيات ومائة دير، ونظمت من جديد مئات الأبرشيات الكاثوليكية، ولما طبق المالكون قاعدة "الناس على دين ملوكهم" متطلبين من الرعايا أن يتقبلوا مذهب الحاكم، اضطر آلاف البروتستانت أن يرتدوا أو يهاجروا. ومن أوجزبرج وحدها نفي ثمانية آلاف، بما فيهم الياس الذي كان قد فرغ لتوه من بناء دار البلدية الفخمة وهام القساوسة البروتستانت المنفيون على وجوههم في طول البلاد وعرضها يسألون الناس الخبز، حتى أن القساوسة الكاثوليك الذين حلوا محلهم استصرخوا الحكومة أن تغيثهم (67). وما حال دون النجاح النهائي للقرار والإصلاح المضاد في ألمانيا، إلا قدوم جوستاف أدولف.

ص: 203

وإذ استنفذ فرديناند غرضه في استخدام فالنشتين في تنفيذ القرار، ولم يجد أية قوات بروتستانتية في الميدان، فإنه لم يعد حريصاً على الاحتفاظ بقائده. فطلب إليه في مايو 1630 أن يتخلى عن 30 ألفاً من جنوده للخدمة في إيطاليا، فاعترض فالنشتين محتجاً بأن ملك السويد يخطط لغزو ألمانيا، فغلب أمره، وأرسل الثلاثون ألف جني إلى إيطاليا. وعاد الناخبون في يوليه واقترحوا عزل فالنشتين. ووافق الإمبراطور، وفي 13 سبتمبر أبلغ ضباط الجيش بأن مكسيمليان أمير بافاريا قد حل في منصب القيادة العليا محل قائدهم وعاد فالنشتين في سلام إلى ضياعه في بوهيميا، وهو يعلم أن جوستاف قد دخل الأراضي الألمانية، وأن الإمبراطورية لابد أن تكون وشيكاً في حاجة إلى قائد.

جـ - قصة جوستاف البطولية

1630 -

1632

ينبغي ألا نصور العاهل العظيم في صورة "جالاهاد" أي في صورة رجل نبيل طاهر، تقدم لإنقاذ الديانة من الوثنيين .. كانت مهمته أن يدعم ويحافظ على استقلال السويد السياسي ونموها الاقتصادي ومن أجل هذين الهدفين قاتل بولندة الكاثوليكية وروسيا الأرثوذكسية والدنمرك البروتستانتية فإذا تجاسر الآن، بموارده المتواضعة على الدخول في مباراة ضد الإمبراطورية والبابوية وأسبانيا، مجتمعة، فما ذلك بسبب الكثلكة، بل لأنهم هددوا بتحويل بلاده إلى تابع ذليل لملوك غرباء معادين. وأحس بأن خير دفاع ضد مثل هذا الخطر المحدق، هو إقامة معاقل محصنة سويدية في الداخل. وترددت سكونيا البروتستانتية، وانساقت فرنسا الكاثوليكية إلى التحالف مع جوستاف، لأنها أدركت أن القضية لم تعد نظرية في اللاهوت بل كفاحاً من أجل الأمن عن طريق القوة. ومهما يكن من أمر، فإن العقيدة، على الرغم من أنها دافع ضئيل لدى القادة والزعماء، حافز مثير قوي لدى الشعب، ويجب أن تضاف طاقتها إلى الروح الوطنية، لتدفع بالناس إلى ميدان القتال.

ص: 204

وهكذا نزل جوستاف بقواته البالغ عددها 15 ألفاً في بوميرانيان وتقدم إلى الولايات الألمانية الشمالية بوصفها منقذة البروتستانتية ومخلصتها، وإلى فرنسا بوصفها سيفاً مسلطاً ضد أسرة هبسبرج المنتفخة. وانتظر المدد من السويد والدنمرك وبراندنبرج وبولندة حتى تجمع لديه نحو 40 ألف جندي في أحسن نظام، مسلحين ببنادق حديثة الطراز، مدربين على سرعة الحركة بمدفعيتهم الخفيفة. ولم يزل القائد بعد شاباً في السادسة والثلاثين، ولكن على الرغم من حملاته فقد اشتد عوده وقوي جسمه، ودوخ جياده كما دوخ أعداءه، وعلى الرغم من ذلك، كان غالباً ما يتقدم الصفوف، سائراً بلحيته الذهبية نحو النصر. وأحبه جنوده لا لأنه منصف. وعلى حين تبع الجيوش الألمانية أفواج من البغايا بلغ من كثرتهن تخصيص بعض الضباط لحفظ النظام بينهن، فإن جوستاف لم يسمح بمحظيات أو مومسات في معسكره، ولو أن الزوجات سمح لهن بالقيام بخدمة أزواجهن من الجنود (68). وكانت كل كتيبة تؤدي الصلوات في الصباح وفي المساء، وتستمع إلى عظة كل يوم أحد. وهنا كان نظام رجال كرومول الحديديين قبل وقوع حروب كرومول بعشر سنين وحرم جوستاف، كما حرم كرومول، الارتداد عن الدين قسراً، وحيثما دخل فاتحاً ترك الديانة حرة.

وقضى جوستاف بقية عام 1630 في بسط سلطانه على بواميرانيا، وفي البحث عن خفاء. فإذا تيسر له أن يجمع كل أعداء آل هبسبرج في حرب صليبية واحدة، لاجتمع له مائة ألف جندي صالحين لملاقاة جيش فالنشتين. وفي 13 ديسمبر 1631 وقعت فرنسا والسويد ميثاقاً يحصل الملك بمقتضاه على الرجال، ويدفع الكاردينال (ريشيليو) 400 ألف تالر (4 ملايين دولار؟) سنوياً لحملة مدتها خمس سنوات، ولا تعقد أي من الدولتين صلحاً دون موافقة الأخرى. والتزم جوستاف بألا يتدخل في أمر ممارسة العقيدة الكاثوليكية ودعا ريشليو مكسيمليان للانضمام إلى هذا التحالف، ولكن الدوق الناخب، بدلاً من ذلك أرسل القائد تللي ليعوق تقدم الجيش السويدي. واستولى تللي

ص: 205

على نيوبر اندنبرج (19 مارس 1631) وذبح حاميتها المكونة من 3000 رجل. وفي 13 إبريل أخذ جوستاف فرانكفورت وذبح حاميتها المكونة من ألفي رجل، وبينما قضى الملك وقته في بذل الجهد لضم جون جورج ناخب سكسونيا إلى الحلف، حاصر تللي وكونت بابنهايم مجدبرج التي كانت لا تزال تقاوم "قرار إعادة أملاك الكنيسة". وفي 20 مايو وبعد صمود لمدة ستة أشهر" سقطت المدينة، وأعمل الجنود المنتصرون فيها السلب والنهب لمدة أربعة أيام. وقتل في هذه الحرب عشرون ألف رجل، لا الحامية المكونة من ثلاثة آلاف فقط، ولكن قتل كذلك 17 ألف من سكان المدينة البالغ عددهم 36 ألفاً، وأحرقت المدينة عن آخرها فيما عد الكاتدرائية. ووصف هذا المنظر فقال: -

لم يعد هناك شيء إلا الضرب والحرق والسلب والنهب

والتعذيب والقتل وحرص كل فرد من الأعداء، بصفة خاصة،

على الحصول على أكبر قدر من الغنائم. وتحت التهديد

بالضرب أو الرمي بالرصاص أو الذبح أو الشنق، أرهب

الأهالي المساكين وفزعوا، فلو تبقى لديهم شيء لأخرجوه

لو كان مخبأ في ألف حرز مكين. وفي حمأة الغضب المسعور،

اجتاحت ألسنة النيران المدينة العظيمة الفخمة التي قامت وسط

الأرض كعروس جميلة وعذب وأعدم آلاف الأبرياء من

الرجال والنساء والأطفال، وسط ضجة رهيبة من صيحات

وصرخات تمزق الفؤاد، بطريقة وحشية مخزية، تقصر أية

كلمات عن وصفها، وأية دموع عن ندبها والتوجع لها (69).

وبذل تللي، وهو الآن شيخ هرم في الواحدة والسبعين، كل ما في وسعه لوقف المذبحة. وتنبأ بحق بأن الولايات البروتستانتية دون ريب سوف تشتد كراهيتها بسبب تخريب واحدة من أجمل مدنهم.

ص: 206

وفي 22 يوليه 1631 وضع ناخب نراندنبرج كل موارده تحت تصرف جوستاف وفي 30 إبريل ألف جون جورج بين سكسونيا والسويد. وفي 17 سبتمبر سحقت الجيوش السويدية والسكسونية المجتمعة قوات تللي عند بريتنفليد بالقرب من ليبزخ وكان هذا أول نصر بروتستانتي هام في الحرب، وقد أحيا روح السكان البروتستانت. وأصبح شخص ملك السويد الذي كان يقاتل دون درع في قلب المعركة يعلوه الغبار، ويتصبب منه العرق، يوجه ويقود رجاله غير هياب ولا وجل، نقول أصبح رمزاً يشد من عزم شعب كان عهد قريب ممزقاً عاجز يرهب جيش فالنشتين. واستردت مكلنبرج، وأعيد الدوق المخلوع إلى عرشه، ودخلت الولايات، الواحدة تلو الأخرى، الحلف السويدي وسرعان ما سيطر جوستاف على خط يمتد عبر ألمانيا من الأورو إلى الراين وأتخذ مقر قيادته في ماينز في قلب إقليم كاثوليكي عادة. وفي نوفمبر سار جون جورج بجيشه السكسوني إلى براج دون أن يلقي أية مقاومة، وكان حريصاً على عدم مهاجمة ضياع فالنشتين في طريقة.

والآن وقد بقي فرديناند بلا حليف اللهم إلا أسبانيا الفقيرة المعدمة، وبلا قائد سوي تللي العجوز، فإنه في تواضع ذليل ولى وجهه شطر فالنشتين (ديسمبر 1631) وطلب إليه أن يجهز جيشاً لإنقاذ بوهيميا وحماية النمسا. ووافق القائد المزهو المغرور، ولكن بشروط غريبة شاذة أن تكون له القيادة العليا على كل القوات الإمبراطورية، وتكون له سلطة التفاوض وتوقيع المعاهدات إلا مع جوستاف، ويكون له في البلاد التي يفتحها حق مصادرة الأملاك وأصدر العفو وفي إبريل 1632 قبلت هذه الشروط جميعها. فجمع فالنشتين جيشاً، كما جمع الموال اللازمة له، وعرض على جون جورج صلحاً منفرداً واستعاد براج دون طلقة واحدة. وانسحب السكسوني إلى سكسونيا.

وفي الوقت نفسه أستأنف القتال، وهزم تللي عند "رين"(15 إبريل). ومات تللي بعد ذلك بأسبوعين متأثراً بجراحه. واحتل

ص: 207

جوستاف ميونخ. وسار فالنشتين بجيشه من بوهيميا وأنضم إلى جيش مكسيمليان (وهنا تفوقت هذه القوات على جيش جوستاف عدداً، إلى حد بعيد، وأرتاب حلفاؤه في أن له أطماعاً إمبراطورية، فانتابهم القلق وأصبحوا لا يعتمد عليهم، كما أن قواته كانت على شفا الموت جوعاً، فأعملت السلب والنهب في البروتستانت والكاثوليك ونفرتهم منه، على حد سواء. وأعرب جون جورج، وقد لعبت الخمر برأسه يوماً عن تلهفه على التخلص من ملك السويد وكان جوستاف يأمل في الاستيلاء على فيينا، ولكه كان يخشى انحياز جون جورج إلى فالنشتين، فتحول إلى الشمال. وفي نورمبرج، وهو يدرك تمام الإدراك أن الريح غير مواتية له، وأرسل تعليماته الأخيرة إلى أو كسنمتيرنا ليتولى شؤون الحكومة السويدية والحرب. وفي أرفورت ودع زوجته، وفي 16 نوفمبر 1632، في لوتزن بالقرب من ليبزج، التقى القائدان العملاقان في ذاك العصر، وجهاً لوجه، وجيش جوستاف 25 ألفاً، وجيش فالنشتين 40 ألفاً. واقتتل الجيشان طول اليوم ونزفا، واضطربا ثم التأما، وأضطر فالنشتين إلى التراجع، ولكن بابنهيم قلب الهزيمة رأساً على عقب، إلى أن أصابته طلقة في رئته فاختنق بالدم وقضى نحبه. أم جوستاف فإنه رأى قلب جيشه يتقهقر، فقام بنفسه، على رأس كتيبة من الفرسان، وقاد هجمة ضاربة، ولكن رصاصة أصابت يده اليسرى، وأخرى أصابت جواده فسقط عنه ثم نفذت رصاصة إلى ظهره. فتجمع الفرسان الدارعون الإمبراطوريون حوله وسألوه من يكون، فأجابهم: أنا ملك السويد الذي قد ضمن عقيدة الأمة الألمانية وحريتها بدمه (70) فانهالوا عليه بسيوفهم مرة ومرة، ثم أعلنوا بأعلى أصواتهم نبأ موته، وتولى القيادة بعده برنهازد دوق ماكس ويمار. وأحرز السويديون الذين جن جنونهم بفقد مليكهم، انتصاراً باهراً واستخلصوا جثمان جوستاف الذي شوهته الطلقات والطعنات. وفي تلك الليلة ابتهج المنهزمون فرحاً، واغتنم المنتصرون حزناً، لأن أسد الشمال قضى نحبه.

ص: 208

د - انحلال

(1633 - 1948)

ومن ذلك الحين اختفت عظمة الحرب. وتولى ريشليوز زعامة البروتستانت الألمان ونفذ أوكسنستيرنا وصية سيده المتوفى في دبلوماسية حكيمة. وقاد برنارد دوق ساكس ويمار الفرنسيين، وبانير وتورستنون السويديين إلى انتصارات جديدة. ولكن الأمجاد ولت ولم يبق إلا الذعر والفزع. وتنفس الأمراء البروتستانت الصعداء إلى حد ما، بموت جوستاف، وتذمروا من الثمن الباهظ الذي أجبروا على تقاضيه لقاء تخليصهم من فرديناند، وفي هذه العملية أتلفت الأطراف المتنازعة مزارعهم ودمرت مدنهم، وقاد ملك أجنبي الألمان ضد الألمان، وبلغ عدد الضحايا مائة ألف.

ويبدو أن فالنشتين فقد أعصابه مذ ذاق طعم الهزيمة لأول مرة. وبعد لوتزن عاد إلى بوهيميا وجهز في أناة وروية جيشاً آخر، ولكنه أيضاً، وقد بلغ الآن الخمسين، سئم الحرب وتمنى بعض الفراغ ليعالج داء النقرس. فتفاوض، مستقلاً، مع زعماء البروتستانت، حتى مع ريشليو (71) ولا بد أن فرديناند يكون قد علم أن المنفيين البوهيميين، بموافقة أكسنستيرنا، كانوا يتآمرون لاجلاس فالنشتين على عرش بوهيميا (72). وعندما قاد برنارد دوق ساكس ويمار جيشاً إلى بافاريا توسل مكسيمليان وفرديناند إلى فالنشتين أن يسرع لنجدتهما. ولكنه أجاب بأنه ليس في مقدوره أن يعد الرجال لعمل من هذا القبيل. ولقد وزع جيشه العاطل على الضياع الإمبراطورية في بوهيميا، وطلب إليه الإمبراطور أن يخفف الأعباء المفروضة على هذه الأراضي الإمبراطورية فأبى.

وفي 31 ديسمبر 1633 قرر فرديناند ومجلسه أن لابد من عزل قائدهم الأعظم، وتناثرت الشائعات في جيش فالنشتين تقول بأنه يتآمر لينصب نفسه ملكاً على بوهيميا ولويس الثامن ملكاً على الرومان. وفي 18 فبراير وزعت

ص: 209

أوامر إمبراطورية على الجيش تحله من قيادة فالنشتين، وبعد ذلك بأربعة أيام، ولى هارباً من بلزن، ومعه ألف رجل. وفي اليوم الخامس والعشرين انقض على غرفته في إيجر نفر من الجنود الطامعين في المكافأة، فوجدوه وحيداً أعزل. وأشبعوه طعناً بسيوفهم، ويقول أحد المعاصرين "وفي الحال جروه من قدميه، يصطدم رأسه بكل درجة من درجات السلم (73) " وأسرع القتلة إلى فيينا حيث نالوا ترقية ومالاً وأرضاً. أما الإمبراطور الذي قضى ليالي وأياماً، يستبد به الخوف، يتعبد ويتهجد، فقد حمد الله على معاونته سبحانه.

واستمرت الحرب تجر أذيالها أربعة عشر عاماً أخرى. وحل ابن فرديناند وسميه البالغ من العمر ستاً وعشرين سنة، محل فالنشتين في منصب القائد الأعلى للجيوش الإمبراطورية. وكان شاباً جديراً بأن يحب، متعلماً، عطوفاً كريماً، يحب الفلسفة، ويكتب الموسيقى، ويحفر العاج، ومع ذلك لم يكن جاهلاً بفنون الحرب. ودحر بمساعدة القواد القدامى، برناند في نوردلنجن، وهي أعظم المعارك الإمبراطورية حسماً في الحرب. وكادت القوات البروتستانتية أن تنهار تماماً، لولا أن أوكسنستيرنا أنقذ الموقف بعقد معاهدة كوميين (28 إبريل 1635) التي هيأت لريشليو إسهاماً كاملاً في الصراع. ولكن الأمراء البروتستانت في ألمانيا لم يستسيغوا مشهد كردينال فرنسي يتحكم في مصيرهم. وتبعوا، الواحد منهم يتلو الآخر، جون جورج أمير سكسونيا في عقد الصلح مع الإمبراطور الذي رحب بهم، حيث ألفى نفسه تواجهه الجيوش والأموال الفرنسية معاً. وبمقتضى معاهدة براغ (30 مايو 1635) وافق الإمبراطور على وقف العمل بقرار إعادة أملاك الكنيسة لمدة أربعين عاماً. وفي مقابل معظم الأمراء البروتستانت بمساعدته وحلفائه على استرداد الأراضي التي فقدوها منذ مجيء جوستاف أدولف. ولما كانت هذه الأراضي تشمل اللورين. فإن المعاهدة في الواقع كانت موجهة ضد فرنسا. والسويد، وكانت توكيداً جديداً للوحدة الألمانية ضد الغزاة. وتوارت المشكلة الدينية عن ميدان القتال. وفي نهاية عام 1635 كان جيش سكسونيا

ص: 210

البروتستانتية يقاتل السويد البروتستانتية في ألمانيا الشمالية حيث كان بانير وتورستنسون يناضلان، بعبقرية عسكرية جديرة بجوستاف، من أجل الاستيلاء على بعض مواقع قارية من أجل أمن السويد.

وفي الغرب وقف برنارد بشجاعة في وجه القوات الإمبراطورية المتزايدة وفي 1628 أمدته فرنسا بالأموال، وأفضل منها بألفي جندي بقيادة تورن الذي صعد نجمه آنذاك كقائد. وشن برنارد، بعد أن وصلته الإمدادات على هذا النحو، حملة جديرة بأن تسجلها حوليات الحرب، من أجل التشبث بالهدف ودقة الاستراتيجية، وهزم الإمبراطوريين في ويتنوير. وأجبر قلعة بريساخ العظيمة على الاستسلام، وأنهكت قواه وهو في الرابعة والثلاثين فقضى نحبه (1639) وذهب جيشه وفتوحاته، بما فيها اللورين. إلى فرنسا.

وفارق الإمبراطور العجوز الحياة، وخلا من المسرح 1637. وورث فرديناند الثالث إمبراطورية تعاني فقراً وحرماناً لا سبيل للخروج منهما، يكاد أن يكون من المستحيل معهما الإنفاق على جيوش تقف في وجه ريشليو الذي مازال قادراً على ابتزاز الفرنكات من فرنسا المعدمة. وفي 1642 وصل تورستنسون بجيش السويد إلى مسافة 25 ميلاً من فيينا، وأحرز نصراً مبيناً في معركة برتينفيلد الثانية، حيث فقد الإمبراطوريون نحو 10 آلاف رجل، مما حدا بالأرشيدوق المنهزم ليوبولد وليم، أخي الإمبراطور الشاب إلى محاكمة ضباطه أمام مجلس عسكري، بتهمة الجبن والخور، وقطع رؤوس ذوي الرتب الكبيرة، وشنق من هم أقل منهم رتبة، وأطلق الرصاص على عشر الباقين على قيد الحياة من سائر الرتب (74).

وبدا الآن أن كل عام يأتي بضربات جديدة تنصب على رأس الإمبراطور الجديد. ففي 1643 تحطمت أسبانيا بانتصار دوق انجين في ركروا. وفي 1644 غزا أنجين وتورن أراضي الراين حتى شمال ماينز، وفي 1645 تقدم تورستنسون حتى صار على أبواب فيينا تقريباً، وانتصر الفرنسيون في معركة دامية عند الليرهيم، واجتاح جيش سويدي بقيادة كونت هانس كريستوف

ص: 211

فان كونجز مارك سكسونيا واستولى على ليبزج، وأرغم جون جورج على الخروج من الحرب. وكان الجيش البافاري قد طرد من البلاتينات في 1634 أما الآن، في 1646 فقد غزا تورن بافاريا نفسها وخربها، وتوسل مكسيمليان الذي كان قد ركبه الغرور يوماً، إلى عقد الصلح، والتمس من الإمبراطور أن يفاوض فرنسا من أجل الصلح. ولم يكن فرديناند الثالث صلباً لا ينثني، مثل أبيه، وكانت تصل إلى مسامعه صرخات الإمبراطورية المنهوكة، فأرسل أقدر مفاوضيه إلى وستفاليا وسعيا وراء شيء من التوفيق بين العقائد وبين الأسرات.

كان الإمبراطور الشاب أصغر من أن يدرك أن المذبحة والخراب ربما كانا أفظع ما اقترفته أيدي البشر في جيل واحد في أي بلد من قبل. فلم يكن هناك جيشان، بل ستة جيوش-الألماني والدنمركي والسويدي واليوهيمي والأسباني والفرنسي معظمهما من الجيوش المرتزقة أو الأجانب الذين لا تربطهم أية صلة بالشعب أو التراب أو التاريخ الألماني، يقودهم عسكريون مغامرون يقاتلون من أجل أية ملة نظير أجر، وهي جيوش تعيش على استسلاب الحبوب والفاكهة والماشية من الحقول، تقيم أو تأوي في الشتاء إلى مساكن الشعب، جزاؤها هو حقها في السلب والنهب، وابتهاجها بالقتل والغضب. وكان مبدأ مقبولاً مسلماً به لدى كل الأطراف المتحاربة، أن تذبح أية حامية كانت قد رفضت الاستسلام "بعد أن أصبح الاستسلام أمراً لا مناص منه"، وأحس الجنود أن المدنيين فرائس أو ضحايا مشروعة، فأطلقوا الرصاص على أقدامهم في الشوارع، وجندوهم لخدمتهم. وخطفوا أطفالهم من أجل الحصول على الفدية وأشعلوا النار في مخازن التبن وأحرقوا الكنائس لمجرد التسلية واللهو. لقد قطعوا أيدي وأرجل قسيس بروتستانتي لأنه قاوم تحطيم كنيسته، وربطوا القساوسة تحت العربات، وأجبروهم على الزحف على أيديهم وأرجلهم حتى خارت قواهم من الإعياء (75)، وكان حق الجندي في اغتصاب النساء أمراً مسلماً به، فإذا طلب والد أن يحاكم جندي اغتصب ابنته وقتلها، أبلغه الضابط

ص: 212

المختص أنه لو لم تكن ابنته ضنينة بعذريتها إلى هذا الحد لبقيت على قيد الحياة (76).

وعلى الرغم من الاختلاط المتزايد تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وكان التناقص مبالغاً فيه وكان مؤقتاً، ولكنه كان فاجعاً. وتقول التقديرات المعتدلة بأن عدد سكان ألمانيا والنمسا هبط من 21 إلى 15 مليوناً (77). وقدر الكونت فون لوزو أن عدد سكان بوهيميا هبط من ثلاثة ملايين إلى 800 ألف (78). وبين 35 ألف قرية في بوهيميا 1618، هناك نحو 29 ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع (79). وهناك في مختلف أنحاء الإمبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم ستين ميلاً دون أن يرى قرية أو بيتاً (80)، وكان في 19 قرية في ثورنجيا في 1618 نحو 1717 بيتاً، لم يتبق منها في 1649 سوى 627 بيتاً، لم يكن كثير منها آهلاً بالسكان (81).

وتركت آلاف الأفدنة الخصيبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور، أو لأن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج ما يزرعون. واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش، وكان ما تبقى يحرق لئلا يستفيد من الأعداء. وأضطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة، أو الكلاب أو القطط أو الفئران، أو جوز البلوط أو الحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة. وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة، تلهفاً على التهام جثثهم. وفي أراضي الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل. واعترفت امرأة في زويبركن بأنها أكلت طفلها (82). وتعطلت وسائل النقل إلى حد تعذر معه نقل الفائض في جهة إلى جهة أخرى بعيدة محرومة. وتهدمت الطرق بسبب المعارك، أو بات من الخطر ارتادها بسبب قطاع الطرق، أو ازدحمت بالمهاجرين واللاجئين.

ص: 213

وعانت المدن الصغيرة أقل مما عانت القرى. وهبط عدد سكان كثير منها إلى نصف ما كان عليه من قبل. وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة-مجدبرج، هيدلبرج، نورمبرج، نيو ستاد، بايريت. وتدهورت الصناعة لعدم وجود المنتخبين والمشترين والحرفيين، وكسدت التجارة. وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء يتسولون أو يسرقون من أجل لقمة العيش. وامتنعت المكوميونات عن دفع ديونها بعد أن أعلنت إفلاسها. وأحجم الممولون عن الإقراض خشية أن تتحول القروض إلى هبات أو منح. وأفقرت الضرائب كل الناس، اللهم إلا القواد والجباة والقساوسة والملوك، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعففة في الشوارع. وانتشرت أوبئة التيفوس والتيفود والدوزنتاريا والأسقربوط بين السكان المذعورين، ومن بلدة أخرى. ومرت القوات الأسبانية بمدينة ميونخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة شهور (83). وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً.

وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، فإن اليأس المقرون بالإيمان بالقضاء والقدر دعا إلى الوحشية المقترنة بالسخرية. واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف، وكان البسطاء من الناس يكافحون الآن من أجل الطعام أو الشراب، أو يقاتلون بسبب الكراهية. على حين عبأ سادتهم عواطفهم في التنافس على اقتناء الأراضي التي يمكن أن يجمعوا منها الضرائب، وعلى السلطة السياسية. وهنا وهناك ظهرت بعض النواحي الإنسانية، فكان الجزويت يجمعون الصدقات ليطعموا الأطفال الذين لا عائل لهم، كما كان الوعاظ يطلبون إلى الحكومات وضع حد لسفك الدماء والدمار. وكتب أحد الفلاحين في مذكراته اليومية "اللهم إنا نتوسل إليك أن تعيد لنا السلام. يا إله السموات أنزل علينا السلام (84) ".

ص: 214

‌7 - صلح وستفاليا

كان الحكام ورجالهم الدبلوماسيون منذ 1635 يجسون النبض ويتحسسون الرأي من أجل السلام. وفي تلك السنة اقترح البابا أربان الثامن عقد مؤتمر لبحث شروط المصالحة، واجتمع المندوبون واجتمع المندوبون للتفاوض في كولون. ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة. وفي همبرج في 1641 صاغ ممثلو فرنسا والسويد والإمبراطورية اتفاقية مبدئية لينعقد مؤتمر مزدوج في وستفاليا في 1642، ففي مونستر تلتقي فرنسا مع الإمبراطورية لمعالجة مشاكلهما في ظل وساطة البابا والبندقية، وفي أوسنابروك، على بعد ثلاثين ميلاً، تلتقي فرنسا والإمبراطورية مع السويد لإجراء المفاوضات في ظل وساطة كريستيان الرابع ملك الدنمرك. وكان هذا الفصل "المطهر" ضرورياً بسبب عدم رغبة المندوبين السويديين في الاجتماع تحت رياسة ممثل البابا، ورفض ممثل البابا أن يجلس في صعيد واحد مع "الزنادقة".

وجاء التأخير نتيجة إجراءات الأمن وقواعد البروتوكول، واستحث انتصار تورستنسون في بريتنفيلد الإمبراطور إلى الوعد بأن مندوبيه سيصلون في 11 يوليه 1643، وتلكأ المندوبون الفرنسيون بينما كانت فرنسا تدبر التحالف مع المقاطعات المتحدة (في الأراضي الوطيئة) ضد أسبانيا. وافتتح مؤتمر وستفاليا شكلاً في 4 ديسمبر 1644، وضم 135 عضواً بما فيهم رجال اللاهوت والفلاسفة. وانقضت منذ ذاك اليوم ستة شهور في تحديد نظام الأسبقية في دخول المندوبين إلى القاعات وجلوسهم وما كان السفير الفرنسي ليدخل في المفاوضات إلا إذا خوطب بلقب "صاحب الفخامة". وعندما وصل السفير الأسباني تجنب السفير الفرنسي ونأى بنفسه عنه، لأن أياً منهما لا يعترف للآخر بالأسبقية، واتصل كل منهما بالآخر عن طريق شخص ثالث. ورفضت فرنسا الاعتراف لفيليب الرابع بلقب ملك البرتغال وأمير قطالونيا. كما رفضت أسبانيا الاعتراف بلقب ملك نافار للويس الرابع

ص: 215

عشر. وتنازع المندوبون السويديون فيما بينهم وأضاعوا الوقت حتى صدرت إليهم أوامر الملكة الشابة الجزئية كريستينا بأن يصلحوا فيما بينهم. ثم يعقدوا مع العدو. وفي الوقت نفسه كان الرجال يذهبون إلى الحرب ليلقوا حتفهم.

وعلى قدر ما كانت جيوش كل فريق منتصرة أو مقهورة، تلكأ المندوبون في المفاوضات أو عجلوا بها، وشغل المحامون أيما شغل بخلق الصعوبات أو ابتداع الحلول الوسط ووسائل التوفيق، يحلون العقد أو يزيدونها تعقيداً. وكان قواد فرنسا يسيرون بخطى واسعة، ومن ثم فإنها أصرت على تمثيل كل أمراء ألمانيا في المؤتمر، على الرغم من أن معظمهم كان قد عقد الصلح مع الإمبراطور منذ أمد طويل. وطلب إلى الزمن أن يتوقف حتى يرسل كل الناخبين والأمراء والمدن الإمبراطورية ممثليهم، ورغبة في إضعاف مركز فرنسا، عمدت أسبانيا (8 يناير 1648) إلى توقيع صلح منفرد مع المقاطعات المتحدة-التي كانت لتوها قد وعدت فرنسا بعدم توقيع صلح منفرد، ولكن الهولنديين لم يكونوا ليضيعوا الفرصة التي لاحت لهم ليكسبوا بجرة قلم ما قاتلوا من أجله طيلة ثمانين عاماً. فكان جواب فرنسا على هذا أنها رفضت عقد الصلح مع أسبانيا، واستمرت الحرب بينهما حتى صلح البرينز 1659.

وكان يمكن أن ينفض المؤتمر دون نتيجة، لولا اجتياح تورن لبافاريا، وهجوم السويد على براغ (يوليه 1648) وهزيمة الأسبان في لنز (2 أغسطس) فإن هذه الأحداث كلها أقنعت الإمبراطور بالتوقيع، على حين أن ثورة الفروند في فرنسا (يوليه) أكرهت مزران على تقديم بعض التنازلات التي تطلق يده للحرب في الداخل. وعلى هذا، وقعت آخر الأمر معاهدة وستفاليا في مونستر وأورنابروك معاً في 24 أكتوبر 1648 - واستمر سفك الدماء تسعة أيام أخر، حتى وصلت الأنباء إلى جبهات القتال، وتعالت صيحات "الشكر لله" خاشعة مبتهجة، من ألف قرية ومدينة.

ص: 216

ولا بد من التسليم بأن المفاوضات واجهت من مشكلات التوفيق ما هو أكثر تعقيداً من أية مشكلات واجهها مؤتمر صلح قبل القرن العشرين، وأنها عملت على تسوية المطالب المتعارضة بحكمه، قدر ما سمحت الكراهية والغرور والكبرياء والقوة والسلطة بين المجتمعين. ولا بد من تلخيص بنود هذه المعاهدة التي أعادت تشكيل أوربا من جديد، لأنها أوجزت وأخرجت قدراً كبيراً من التاريخ.

1 -

حصلت سويسرا والمقاطعات المتحدة على اعتراف رسمي باستقلالهما.

2 -

حصلت بافاريا على البالاتينات العليا (الجنوبية)، مع صوتها الانتخابي.

3 -

أعيدت البالاتينات الدنيا (الشمالية)، بوصفها موطناً انتخابياً ثامناً، إلى شارل لويس بن فردريك المتوفى.

4 -

حصلت براندنبرج على بوميرانيا الشرقية وأسقفيات مندن وهالبرستاد وكامين، ووراثة أسقفية مجدبرج. وعاونت فرنسا أسرة هوهنزلرن الناشئة في الحصول على هذه الثمار اليانعة، بفكرة إقامة قوة أخرى ضد آل هبسبرج، وما كان منتظراً من فرنسا أن تتنبأ بأن براندنبرج ستصبح بروسيا التي سوف تتحداها على عهد فردريك الأكبر، ثم توقع بها الهزيمة على يد بسمارك.

5 -

ونالت السويد، بفضل انتصارات جيوشها أساساً، وبفضل مساندة فرنسا لها في المؤتمر، بشكل جزئي، أسقفيتي بريمن وفردن، ومدينتي ويزمار واستتن، ومنطقة مصب نهر الأودر، ولما كانت هذه كلها إقطاعيات إمبراطورية، فقد حصلت السويد على مقعد في الديت الإمبراطوري، ولما استولت بالفعل على ليفونيا وأستونيا وأنجريا وكاريليا وفنلندة فقد أصبحت الآن في عداد الدول العظمى، وسيدة البلطيق حتى جاء بطرس الأكبر.

ص: 217

6 -

واحتفظت الإمارات الألمانية بما كان قبل الحرب من "حريات" في مواجهة الأباطرة.

7 -

وكان على الإمبراطور أن يقنع بالاعتراف بحقوقه الملكية في بوهيميا والمجر. ومن ثم اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر شكلها على أنها حقيقة واقعة في هيكل الإمبراطورية المقدسة. لقد انهارت اقتصاديات الإمبراطورية المعمرة، من جهة بسبب نقص السكان وتدهور الصناعة والتجارة أثناء الحرب، ومن جهة أخرى بسبب مرور المنافذ النهرية الكبيرة إلى دول أجنبية من منافذ الأودر والألب إلى السويد، والراين إلى المقاطعات المتحدة.

8 -

وكان أكبر الغنم لفرنسا التي مولت ثروتها السويديين المنتصرين، وفرض قوادها الصلح فرضاً. فسلمت إليها الألزاس فعلاً، مع أسقفيات متزوفردون وتول وحصن بريزاك على الجانب الألماني من الراين. وسمح الآن للويس الرابع عشر بالاستيلاء على فرانشن كونتية واللورين، وفق هواه وتحقيق هدف ريشليو-الذي كان الآن قد فارق الحياة-كسر شوكة آل هبسبرج ومد حدود فرنسا، وتمكين وحدة فرنسا ودفاعها، والإبقاء على فوضى الإمارات في الإمبراطورية، وعلى الصراع بين الأمراء والإمبراطور، وعلى النزاع بين الشمال البروتستانتي والجنوب الكاثوليكي، مما يحمي فرنسا من خطر ألمانيا موحدة. وحلت فرنسا محل أسبانيا- أو احتلت أسرة البورون مكان آل هبسبرج بوصفها قوة عظمى مسيطرة على أوربا، وسرعان ما علا لويس الرابع عشر إلى منزلة الشمس.

أما الضحية الخفية للحرب فهي المسيحية، لقد كان على الكنيسة الكاثوليكية أن تتخلى عن قرار إعادة أملاك الكنيسة، وأن تعود سيرتها الأولى إلى الوضع الذي كانت عليه ممتلكاتها في 1624، وترى الأمراء مرة أخرى يقررون عقيدة رعاياهم. ومهما يكن من أمر، فإن هذا مكن الكنيسة من إخراج

ص: 218

البروتستانتية من بوهيميا موطن إصلاح هس. لقد قضى على الإصلاح المضاد، ومثال ذلك أنه لم يكن محل نزع أن تقيم بولندة المذهب الكاثوليكي في السويد البروتستانتية، بضعف ما كان عليه من قوة من قبل. ورفض ممثل البابا في مونستر أن يوقع المعاهدة. وفي 20 نوفمبر 1948 أعلن البابا إنوسنت العاشر "أنها غير ذات قوة شرعية ملزمة، ملعونة بغيضة، ليس لها أي أثر أو نتيجة على الماضي أو الحاضر أو المستقبل"(85). وتجاهلت أوربا هذا الاحتجاج. ومنذ تلك اللحظة لم تعد البابوية قوة سياسية عظمى، وأنحط شأن الدين في أوربا.

وكذلك احتج بعض البروتستانت، وخاصة أولئك الذين فقدوا مساكنهم في بوهيميا والنمسا. ولكن المعاهدة في جملتها-وهي ثمرة جهود كاردينال توفي وآخر حي-كانت نصراً للبروتستانتية التي أنقذت ألمانيا. لقد ضعفت في الجنوب وفي الراين، ولكنها في الشمال قويت عن ذي قبل، واعترفت المعاهدة رسمياً بكنيسة الإصلاح أو الكنيسة الكلفنية. وبقيت خطوط التقسيم الديني التي أقرت في 1648، دون تغيير جوهري حتى القرن العشرين، حين بدأ التغاير في معدلات المواليد أو نسب تزايد السكان، يوسع من رقعة الكثلكة بطريقة تدريجية سليمة.

ولكن على الرغم من إن الإصلاح الديني قد أنقذ، فإنه عانى، مع الكاثوليكية، من التشكك الذي شجعته بذاءة الجدل الديني. ووحشية الحرب، وقساوة العقيدة. وأعدم أثناء المعمعة آلاف من الساحرات. وبدأ الناس يرتابون في المذاهب التي تبشر بالمسيح وتقترف قتل الأخوة بالجملة. وكشفوا عن الدوافع السياسية والاقتصادية التي تسترت تحت الصيغ الدينية، وارتابوا في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، بل أنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم-ولو أن فرديناند الثاني بسلطانه المرة بعد المرة، من أجل عقيدته. وحتى في أظلم العصور الحديثة هذه، ولى كثير من الناس وجوههم

ص: 219

شطر العلم والفلسفة للظفر بإجابات أقل اصطباغاً بلون الدم من تلك التي سعت العقائد أن تفرضها في عنف بالغ. وكان جاليليو يفرغ في قالب مسرحي ثورة كوبرنيكس. وكنا ديكارت يثير الجدل حول كل التقاليد وكل السلطة. وكان برونويشكو إلى أوربا آلامه المبرحة وهو يساق إلى الموت حرقاً. لقد أنهى صلح وستفاليا سيطرة اللاهوت على العقل في أوربا، وترك الطريق إلى محاولات العقل واجتهاداته، غير معبد، ولكن يمكن المرور فيه.

ص: 220

الكتاب الثالث

‌اجتهادات العقل

1558 -

1648

ص: 221

الفصل الثاني والعشرون

‌العلم في عصر جاليليو

‌1558 - 1648

1 -

الخرافة

(1)

وقد تولد الديانات، وقد تفنى، ولكن الخرافة باقية أبد الدهر. وسعداء الحظ هم الذين يحتملون بدون أساطير، والكثير منها يعاني في جسمه وفي أعماق نفسه. وأفضل عقار مسكن في "الطبيعة" جرعة مما هو فوق الطبيعة. وحتى كبلر ونيوتن مزجا علمها بالأساطير. وآمن كبلر بالسحر. وكتب نيوتن في العلم أقل مما كتب عن "سفر الرؤيا".

وكانت الخرافات الشعبية أكثر مما يحصيه العد. فآذاننا تلتهب عندما يتحدث عنا الآخرون. ولا تكون الزيجات التي تتم في شهر مايو سعيدة. وتشفى الجراح إذا مسح السلاح الذي أحدثها بالزيت المقدس. وتستأنف الجثة نزف الدم في حضور القاتل. وإن الجنيات والجن الصغير المؤذي والغيلان والأرواح الشريرة والشياطين لتحوم في كل وكان. وثمة طلاسم معينة (مثل تلك التي وجدت عند كاترين دي مديتشي بعد وفاتها) تضمن الحظ السعيد، وتمائم وتعويذ تقي من التجاعيد ومن العنة ومن الشر الحاسد ومن الطاعون. ويمكن أن تبرئ لمسة من الملك المصاب بسل الغدد اللمفاوية في العنق. وللأرقام وللمعادن والنباتات والحيوانات خصائص وقوى سحرية.

(1)

يمكن الرجوع إلى الفصل السابع (الجزء 28) الذي يعالج الخرافة والعلم والفلسفة في إنجلترا في تلك الحقبة.

ص: 222

وكل حادث علامة على رضا الله أو غضبه، أو من عمل الشيطان. ويمكن التنبؤ بالأحداث من شكل الرأس أو خطوط الكف. وتختلف الصحة والقوة والقدرة الجنسية باختلاف منازل القمر، أهو بدر أم في المحاق. وقد يسبب ضوء القمر الجنون أو يشفي الثؤلول. وتنذر المذنبات بالكوارث. إن العالم (في الكثير الغالب) يسير إلى النهاية (1).

وكان التنجيم لا يزال سائداً. على الرغم من تزايد استنكاره ونبذه لدى من يعرفون القراءة والكتابة. وفي 1572 انقطع تدريسه في جامعة بولونا. وفي 1582 استنكرته وشجعته محاكم التفتيش الأسبانية. وفي 1586 حذر البابا سكستس الخامس الكاثوليك منه. ولكنه ظل بين الإبقاء والإلغاء في جامعة سالامنكا حتى 1770. وكانت الغالبية العظمى من الناس، وكثير من أفراد الطبقات العليا، يستنبئون البروج عن المستقبل من مواقع النجوم، وكانوا يكشفون عن "طالع" أي طفل مهما كان شأنه بمجرد ولادته، وقد اختبأ أحد المنجمين بالقرب من مخدع آن النمساوية عند ولادة لويس الرابع عشر (2). وعندما ولد جوستاف أدولف طلب أبوه شارل التاسع إلى تيكوبراهي أن يكشف عن طالعه، فتنبأ المنجم في حرص وحذر بأنه سوف يصبح ملكاً. وكان كبلر ينظر إلى التنجيم بعين الريبة والشك، ولكنه مكان يداهن فيقول:"كما أن الطبيعة هيأت لكل حيوان من الوسائل ما يحصل به على العيش، فقد هيأت التنجيم للمنجم لتمكنه من العيش". وفي 1609 أجزل فالنشتين العطاء لمن أتاه بطالع سعيد، وكان دائما يصطحب معه في رحلاته وجولاته منجماً (4)، وربما قصد بذلك تشجيع قواته. وكم من مرة استثارت كاترين دي مديتشي وحاشيتها المنجمين (5). وحظي جون دي بشهرة فائقة في التنجيم، حتى اكتشف أن النجوم تآمره أن يتبادل الزوجات مع أحد تلاميذه (6).

وكان التصديق بأفانين السحر آخذة في التقلص، باستثناء واحد مخز حقير

ص: 223

ذلك أن تلك الفترة كانت ذروة التخلص من السحرة بالقتل المشروع بحكم القضاء. إن المعذبين ومن ينزلون بهم العذاب، على حد سواء، صدقوا بإمكان الحصول على معونة القوى الخارقة للطبيعة بالرقي والتعاويذ أو بوسائل مشابهة، وإذا كان من المستطاع الحصول على شفاعة قديس بالصلوات، فلم لا نلتمس معونة الشيطان بملاطفته والتودد إليه. وثمة كتاب صدر في هيدلبرج 1585 تحت عنوان "بعض الأفكار المسيحية حول السحر"، جاء فيه كحقيقة ثابتة مقررة:"أن كل مكان في العالم بأسره، في الداخل والخارج، وفي البر والبحر، يعج بالعفاريت والأرواح الشريرة غير المرئية (7) " وساد الاعتقاد بأن كل الكائنات البشرية يمكن أن "تلبسها" الشياطين وتحل فيها. وفي 1593 "ساد الذعر الرهيب فريدبرج المدينة الصغيرة حيث قيل أن الشيطان قد حل بأجسام أكثر من ستين شخصاً، وعذبهم عذاباً أليماً

بل أن القسيس نفسه استحوذ عليه الشيطان وهو يلقي عظته (8)". وتصور قصة: "قطيع الخنازير (إنجيل متي 8: 27 - 34) " كيف أن المسيح أخرج الشياطين من أجسام الذين حلوا بهم، ألم يمنح أتباعه القدرة على إخراجهم باسمه (إنجيل مرقس 16: 17). وكان الناس يلجأون إلى القساوسة لمعل تعاويذ مختلفة-لإزالة النباتات والحشرات الضارة من حقولهم، أو لتهدئة الأعاصير في البحر، أو تطهير المباني من الأرواح الشريرة، أو تطهير كنيسة أصابها بعض الدنس .... وفي 1604 أصدر البابا بول الخامس منشوراً بمثل هذه الخدمات الكهنوتية. واستنكر الكتاب البروتستانت مثل هذا الرقي والتعاويذ المقدسة على أنها ضروب من السحر. ولكن كنيسة إنجلترا اعترفت بقيمة التعاويذ على أنها طقوس شافية معافية (9). وهنا، كما هو الحال في كثير من الطقوس، كان الأثر النفسي عليها طيباً.

وكما أخذ الناس بزمام المبادرة في طلب التعاويذ، فإنهم كانوا كذلك أول من طالب بمحاكمة السحرة، فقد ساد الذعر من قوتهم ومقدرتهم. وجاء في

ص: 224

إحدى النشرات 1563 "أن الدخول في علاقات مع الشيطان، فيكون في متناول يدك في الخواتم أو البللورات، فتستحضره أو تحالفه، وتقوم معه بمئات من أفانين السحر، أكثر الآن شيوعاً عن ذي قبل، بين الطبقات العليا والدنيا. وبين المتعلمين وغير المتعلمين". وانتشرت "كتب الشياطين" التي توضح كيفية الاتصال بالنافع منهم ومن معرضين اثنين في 1568 اشترى أحد الأفراد 1220 كتاباً من هذه الكتب (10). وفي بعض الحالات نصح ضباط محاكم التفتيش قساوسة الأبرشيات "أن يظهروا الناس على أضاليل السحرة وخرافاتهم" وأشاروا بعدم التصديق "بسبت السحرة"، وأوصوا بعزل قسيس كان يصغي في سذاجة إلى اتهامات السحرة (11). وطالب البابا جريجوري الخامس عشر في 1623 بعقوبة الإعدام لنفر من الناس تسببت شعوذتهم في الموت، ولكن البابا أريان الثامن في 1637 أدان المحققين الكاثوليك "لأنهم حاكموا المشعوذين محاكمة ظالمة تعسفية

وانتزعوا من المتهمين اعترافات لا قيمة لها

وعاقبوهم دون بينة كافية (12) " وأصدر الإمبراطور مكسيمليان الثاني (1578) قراراً باختبار صحة اعترافاتهم بتحديهم بأن يأتوا بأعمالهم السحرية علناً، وأن يكون النفي أقصى عقوبة يحكم بها عليهم بعد إدانتهم ثلاث مرات. ولكن الأهالي المذعورين طالبوا بالصرامة في الاختبارات وبالتعجيل بتنفيذ الأحكام.

أن السلطات المدنية والدينية التي كانت تشارك الناس خوفهم من السحر، أو ترغب في التخفيف من حدته، عمدت إلى أقسى الإجراءات في محاكمة المتهمين وعذبتهم لتنتزع منهم الاعترافات. وكان لمجلس مدينة نوردانجن مجموعة خاصة من آلات التعذيب، كان يعيرها للبلاد المجاورة مع التوكيد بأنه "بفضل هذه الآلات، وبوجه أخص آلة الضغط على الإبهام، يمن علينا الله بكرمه بإظهار الحق، أن لم يكن لأول وهلة، ففي آخر الأمر على أية حال (13) أما التعذيب بإبقاء المتهم يقظاً لا يذوق طعم النوم، فكان وسيلة معتدلة

ص: 225

خفيفة. وكان التعذيب عادة هو طريق الوصول إلى الإقرار المرغوب فيه. وكانت الاعترافات غير الموثوقة التي لا يعتد بها. هي التي تحير القضاة أحياناً.

وكان الاضطهاد في أسبانيا أقل قساوة. ففي مقاطعة لجرونو وجهت محكمة التفتيش الاتهام إلى 53 شخصاً من المشتغلين بالسحر، وأعدمت منهم 11 شخصاً (1610) ورفضت الاتهامات الأخرى عادة لأنها وهمية أو انتقامية. وكان الحكم بإعدام السحرة نادراً. وفي 1614 أصدرت رياسة محكمة التفتيش إلى ضباطها تعليمات بأن ينظروا إلى اعترافات السحرة على أنها تضليلات جنونية أو عصبية، وأن يستعملوا الرأفة في العقوبة (14).

واجتاحت جنوبي شرقي فرنسا في 1609 موجة عاتية من الذعر من السحرة، وأعتقد مئات من الناس أن الشياطين حلت فيهم. وظن بعضهم أنهم تحولوا إلى كلاب وأخذوا في النباح وعينت لجنة من البرلمان بوردو لمحاكمة المشتبه فيهم وابتدعت طريقة لاكتشاف المواضيع التي دخلت منها الشياطين إلى جسم المتهم، ذلك بعصب عينيه وغرز الإبر في لحمه، وأي مكان لا يحس فيه بوخز الإبر، كان هو المكان الذي دخل منه الشيطان. وطمعا في العفو عنهم اتهم المشتبه فيهم بعضهم بعضاً. فحوكم منهم ثمانية وهرب خمسة، وأحرق ثلاثة. وأقسم جمهور النظارة فيما بعد أنهم شاهدوا العفاريت على هيئة ضفادع تخرج من رؤوس الضحايا (15). وفي اللورين أحرق 800 شخص بتهمة السحر على مدى 16 عاماً. وأحرق في ستراسبورج 134 شخصاً في أربعة أيام (أكتوبر 1582)(16). وفي لوسرن الكاثوليكية، أعدم 62 شخصاً فيما بين 1562 - 1572. وفي برن البروتستانتية أعدم 300 في السنوات العشر الأخيرة من القرن السادس عشر، و240 في العقد الأول من القرن السابع عشر (17).

ص: 226

وفي ألمانيا تسابق الكاثوليك والبروتستانت في إعدام السحرة حرقاً. وثمة رواية يمكن الاعتماد عليها ولو أنها لا تكاد تصدق، بأن رئيس أساقفة تريير أمر بإحراق 120 شخصاً في فالزفي 1596 بتهمة أنهم أطالوا فترة الجو البارد أكثر من المألوف بطريقة شيطانية (18). ونسب طاعون الماشية في إقليم سكونو في 1598 إلى السحرة. وحث مجلس بافاريا المخصوص في ميونخ المحققين "على إظهار مزيد من الجدية والصرامة في الإجراءات"، فكانت النتيجة إحراق 63 ساحراً، كما طلب من أقارب الضحايا دفع نفقات المحاكمة (19)" وفي هاينبرج بالنمسا أعدم ثمانون بتهمة الشعوذة في عامي 17 - 1618 وقيل أنه في 1627 - 1629 أعدم أسقف وورنبرج 900 من السحرة (20). وفي 1582 أصدر الناشرون البروتستانت من جديد، وبموافقة منهم "مطرقة السحرة" التي كان المحقق الدومنكاني جاكوب سبرنجر قد نشرها في 1487، وهي عبارة عن توجيهات وإرشادات تفيد في الكشف عن السحرة وفي محاكمتهم. وأصدر أوغسطس ناخب سكسونيا في 1572 قراراً بإحراق السحرة حتى الموت حتى ولو لم يؤذوا أحداً. وفي اللنجن أحرق 1500 من السحرة في 1590، وفي اللوانجن 167 في 1612، وفي عامين (21). وكادت ثمة موجات مماثلة في أوسنابروك 1588، ونوردانجن 1590، وفي ورتمبرج 1616. على أن هذه الإحصاءات الأخيرة مأخوذة عن نشرات صحفية معاصرة ومعروفة بعد الدقة. ويقدر الباحثين الألمان جملة من أعدموا بتهمة السحر بمائة ألف في ألمانيا في القرن السابع عشر (22).

وارتفعت أصوات قليلة تدعو الناس إلى العقل. وقد رأينا في مكان آخر احتجاجات يوهان ويروريجنالد سكوت، كما رأينا كيف حول مونتيني مرحه المتشكك إلى هذه الحمى (حمى قتل السحرة) وفي مقاله "الأعرج أو الكسيح": "كم هو طبيعي ومقبول أن أجد رجلين يكذبان، أكثر من أن رجلاً يمكن في اثنتي عشرة ساعة أن تحمله الريح من الشرق إلى الغرب

أو أن يحمل

ص: 227

أحدنا على مكنسة .... خلال مدخنة (23)"أن من يؤمنون بهذا أحوج ما يكونون إلى الدواء والعلاج، لا الموت، حتى إذا ما انتهى كل شيء، فما هي إلا مغالاة في قدرة المرء على الحكم عن طريق الحدس والتخمين مما يؤدي إلى إحراق المرء حياً"(24). وهاجم كورنليوس لوس، الأستاذ الكاثوليكي في ماينز، مطاردة السحرة في كتابه "بين السحر الحقيقي والزائف"(1592)، ولكنه قبل أن يتمكن من نشره، أودع السجن واضطر أن يعترف علناً بأخطائه (25). وثمة جزويتي آخر، هو الشاعر الورع فردريك فون سبي، فإنه بعد أن عمل كاهن اعتراف لمائتي شخص متهمين بالسحر. استنكر الاضطهاد في كتاب جريء " Cautio Criminalis". (1631) ، سلم فيه بوجود السحرة، ولكنه رثى للقبض عليهم لمجرد شبهات لا أساس لها، ولبعد المحاكمات عن شرعة الإنصاف، وللتعذيب الغاشم الذي كان يمكن أن يجبر، حتى فقهاء الكنيسة وأساقفتها على الاعتراف بأي شيء (26).

ولكل خصم من هذا القبيل اثني عشر محامياً ينبرون للدفاع عن الظلم، فإن رجال اللاهوت البروتستانت مثل توماس أراستوس في 1572، ورجال اللاهوت الكاثوليك مثل الأسقف بنزفلد (1589) اتفقوا على أن السحر حقيقي وأن السحرة يجب إحراقهم. وأقر الأسقف التعذيب، ولكنه أوصى بشنق السحرة التائبين قبل إحراقهم (27). وأيد المحامي والفيلسوف الكاثوليكي جين بودين الاضطهاد والتعذيب في كتابه "حمى العفاريت" 1580، وبعد عام واحد ترجم الشاعر البروتستانتي يوهان فسكارت هذا الكتاب ووسع فيه مع تقدير بالغ له، وانضم إلى بودين في الحث على أخذ السحرة بشدة لا ترحم ولا تلين.

ومهما يكن من أمر فإن هذه الحمى خفت حدتها، فعندما أصبحت حرب الثلاثين حرباً سياسية بشكل صريح سافر، لم يعد الدين يحتل مكاناً هاماً في كراهيات الناس وحزازاتهم. وانتشرت الطباعة وكثرت الكتب، ونهضت

ص: 228

المدارس، وفتحت الجامعات، وأسهم المكافحون الصابرون سنة بعد أخرى، بوضع لبنة في البناء الناشئ، بناء العلم والمعرفة. وفي مائة من المدن عكف المحبون للإطلاع على اختبار الفروض بالتجارب. وتقلص نطاق ما هو خارق للطبيعة ببطء، ونما نطاق ما هو طبيعي ودنيوي. أنه تاريخ موضوعي مجرد قاتم، مؤلف من شظايا، وهو أعظم مسرحية في الأزمنة الحديثة.

‌2 - انتقال المعرفة

إن الأبطال الأولين هنا هم الطابعون الناشرون الذين غذوا مجرى المداد الذي تدفقت منه المعرفة من عقل إلى عقل، ومن جيل إلى جيل. واستأنفت دار أستين الكبيرة للنشر، نشاطها في جنيف على يد هنري استين الثاني، وفي باريس بفضل روبرت استين الثلث. ونشأت أسرة مثل هذه (نحو 1580) في ليدن كان على رأسها لويس الزفير، ونهض أبناؤه الخمسة وحفداؤه وابن لأحد حفدته، بالعمل، وحملت اسمهم طريقة معينة للطباعة. وفي زيوريخ اكتسب كريستوفر فروشير شهرة في تاريخ الطباعة والثقافة بطبعاته الدقيقة للكتاب المقدس.

وهيأت دور الكتب مأوى جديداً للذخائر القديمة. ولقد عرفنا مكتبة بودليان في أكسفورد ومكتبة الاسكوريال، ومكتبة امبروزيانا في ميلان (1606). وضمت كاترين دي مديتشي كثيراً من المجلدات والمخطوطات إلى ما يعرف الآن بالمكتبة الوطنية. وبدا لافلين أن مكتبة الفاتيكان الجديدة التي أسسها البابا سكستس الخامس (1588)"هي أفخم وأجمل وأحسن مكتبة أثاثاً في العالم"(29).

وبدأ ظهور الصحف: ففي 1505 كانت صحيفة "الأخبار" تطبع في ألمانيا، في ورقة واحدة، بشكل متقطع. وما جاء عام 1599 حتى كانت

ص: 229

هناك 877 نشرة من هذا النوع، وكلها غير منتظمة. وأقدم صحيفة منتظمة معروفة في التاريخ هي صحيفة Avis Relation oder Zeitung الأسبوعية التي أسست في أوجزبرج 1609، وكانت تضم تقارير لوكلاء منتشرين في مختلف أنحاء أوربا، ينقلها التجار والصيارفة، واستمرت في الظهور حتى 1866، صحيفة "بريد فرانكفورت" التي أسست في 1616. وبدأت صحف أسبوعية مماثلة في الظهور في فيينا 1610، وفي بازل 1611. وسرعان ما بدأ فيشارت يسخر من الجمهور "الذي يصدق الصحف" ومن تلهفه الساذج على الأخبار. أن النقل المفرض غير الملائم للأنباء فوت على الجمهور أي إسهام رشيد مخطط في السياسة، ومن ثم جعل الديمقراطية أمراً بعيد المنال.

وكانت الرقابة على المطبوعات عامة شاملة بطريقة عملية، وفي العالم المسيحي بأسره: الكاثوليك والبروتستانت، ورجال الدين والعلمانيون على حد سواء وفي 1571 شكلت الكنيسة "لجنة من الكرادلة لتحديد الكتب المحظورة"، لحماية المؤمنين من الكتب التي تعتبر مسيئة للكثلكة، ولم تكن الرقابة البروتستانتية بمثل قوة الرقابة الكاثوليكية وصرامتها، ولكنها جادة مثابرة مثلها. وقد نشطت في إنجلترا وإسكتلندة وإسكندناوة وهولندا وألمانيا وسويسرا (30). وهيأ تباين التعاليم في مختلف الدول للهراطقة أن يتغلبوا، بشكل أو بآخر، على الرقابة بنشر كتبهم في الخارج، وإدخال بضع النسج منها سراً. والأدب الحديث مدين للرقابة ببعض ما يتسم به من سخرية وظرف وبراعة.

وفي مختلف الترجمات وظل الكتاب المقدس يفسر بأنه "كلمة الله"، وواصل رسالته بوصفه أعظم الكتب شعبية وانتشاراً، وأعظمها أثراً في العقيدة واللغة، بل حتى في السلوك، فإن أسوأ الأعمال الوحشية-الحروب والاضطهادات-عمدت إلى اقتباس النصوص المقدسة لتبرير ارتكابها. ومذ انحسرت الروح الإنسانية التي تميز بها عصر النهضة، قبل قيام الإصلاح

ص: 230

الديني، فإن التعبد بالكتاب المقدس حل محل الإعجاب الأعمى بالآداب الوثنية القديمة. وثارت فتنة واضطراب حين اكتشف العلماء أن الإنجيل (العهد الجديد) لا يكتب باللغة اليونانية الكلاسيكية بل بلغة الناس، ولكن علماء اللاهوت أوضحوا أن "الروح القدس" استخدم الأسلوب العام المشترك حتى يتيسر للناس فهمه وأصاب الناس غم جديد عندما خلص لويس كابل-الأستاذ البروتستانتي للعبرية واللاهوت في "سومور"، إلى أن الحروف اللينة وعلامات النطق في النص العبري الذي اعتمدته الكنيسة للعهد القديم (التوراة)، إن هي إلا إضافات أضافها إلى النصوص الأقدم عهداً، يهود طبرية المازوريون في القرن الخامس ق. م. أو بعده. وأن الحروف المربعة في النص المعتمد كانت آرامية بديلة عن الحروف العبرية. وتوسل جوهانس بوكستورف الأكبر، أعظم علماء عصره، إلى كابل أن يطوي هذه الآراء عن الجمهور ويحتفظ بها لنفسه، حتى لا تسيء إلى إيمان الناس بالإيحاء اللفظي للكتاب المقدس. ومع ذلك نشر كابل آراءه في 1624، وحاول جوهانس بوكستورف الأصغر أن يدحضها ويفندها، محتجاً بأن النقط وعلامات النطق موحى بها من عند الله كذلك. واستمر الخلاف طوال القرن وتخلت الأرثوذكسية آخر الأمر عن النقط، ومن ثم اتخذت خطوة متواضعة نحو اعتبار الكتاب المقدس أعظم أسلوب أو تعبير مهابة وجلالاً لدى الشعب.

وينتمي إلى هذه الحقبة نفر من أشهر العلماء أو الباحثين في التاريخ. منهم جوستوس لبسيوس، الذي تردد على جامعتي لوفان وليدن، وتأرجح بين الكاثوليكية والبروتستانتية وذاع صيته في أوربا بفضل طبعاته المصوبة لكتب تاسيتس وبلوتس وسنكا، وتفوق على الأجروميات السابقة في كتاب "فن الأجرومية"(1635). ورثى لفناء المدنية الأوربية الوشيك، ولكنه هدأ من روعه واستبشر خيراً "بسطوع شمس إمبراطورية جديدة في الغرب"-يعني "الأمريكيتين"(31).

وورث جوزيف جوستوس سكاليجر "وربما كان أعظم أستاذ فذ في

ص: 231

سعة المعرفة والإطلاع ظهر في العالم (32)"، نقول ورث عن أبيه الشهير يوليوس قيصر سكاليجر، عرش البحث العلمي في أوربا. ففي آجن جنوب غربي فرنسا، اشتغل بكتابة ما يمليه عليها هذا الولد. ونهل العلم والمعرفة طوال حياته. فقرأ هوميروس في ثلاثة أسابيع، ووفق في قراءة كبار الشعراء والمؤرخين والخطباء الإغريق. وتعلم العبرية وثمان لغات أخرى. وتجرأ على دراسة الرياضيات والفلك و "الفلسفة" (التي كانت آنذاك تشمل الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا) ودرس القانون لمدة ثلاثة أعوام. وربما ساعدت دراسته للقانون على شحذ ملكة النقد عنده، لأنه في الطبعات التي أصدرها للمؤلفين القدامى مثل كاتوللوس وتيبوللوس وبروبرتيوس وغيرهم أثار نقداً متعلقاً بالنصوص لأحداس عشوائية لقوانين الإجراءات والتأويل والتفسير. وكان ينظر بعين الاحترام الرشيد للتاريخ أو تحديد الأزمنة في دراسة التاريخ. وفي أعظم مؤلفاته "في تصحيح التواريخ" (1583)، وتلك التي وردت أو حددت في التاريخ أو التقاويم أو الأدب في مصر وبابل وفلسطين والمكسيك. وجمع ورتب في كتابه "تسلسل التواريخ". (1606) كل مادة تاريخية في الأدب القديم، وعلى هذا الأساس ألف أول تسلسل زمني على أساس علمي للتاريخ القديم. وهو الذي قال بأن السيد المسيح ولد في العام الرابع ق. م. وعندما ترك جوستوس لبسيوس ايدن في 1590 عرضت الجامعة على سكاليجر كرسي "الأبحاث القديمة" فقبله بعد أن ظل ثلاث سنوات متردداً في قبوله. ومنذ تلك اللحظة حتى وفاته 1609، كانت ليدن مقر العلماء.

وكان سكاليجر، مثل أبيه مزهواً بما يزعم من تحدر أسرته من أمراء دللاسكالا في فيرونا. وكان ناقداً لاذعاً لزملائه العلماء والباحثين، ولكن في ساعة تغاض وصفح قال إن إيزاك كازوبون "أعظم الأحياء علماً"(33). وإن حياة كازوبون لتكشف عن مزايا المحن. لقد رأى النور في جنيف لأن أبويه

ص: 232

كانا من الهيجونوت الذين هربوا من فرنسا، وعادا إليها وهو في سن الثالثة وعاش لمدة ستة عشر عاماً في ظل المخاطر والإرهاب أيام الاضطهاد. وكان أبوه يتغيب لفترات طويلة للخدمة في جيوش الهيجونوت. وغالباً ما اختفت أسرته في الجبال لتكون بمنأى عن بطش الكاثوليك المسلحين. وتلقى إيزاك أول دروس في اليونانية في أحد الكهوف في جبال دوفيني وفي سن التاسعة عشر التحق بأكاديمية جنيف. وفي سن الثانية والعشرين صار أستاذاً في اليونانية، وتولى هذا المنصب لمدة خمسة عشر عاماً وسط العوز والفقر والحصار. وعاش بشق النفس على راتبه. ولكنه كان يقتر في طعامه ليشتري الكتب. وكان يخفف من وحشية العزلة والعكوف على العلم، بما يتلقى من رسائل سكاليجر العظيم. ونشر طبعات لمؤلفات أرسطو وبلليني الأصغر، وتيوفراستوس، سحرت الألباب في دنيا العلم والمعرفة، لا بمجرد تصويب النصوص، بل كذلك بالتعقيبات البارعة على الأفكار والطرق القديمة. وفي 1596 عندما أخمد هنري الرابع الصراع الديني، عين كازوبون أستاذاً في مونبلييه. ودعي بعد ذلك بثلاثة أعوام إلى باريس. ولكن الجامعة أوصدت أبوابها في وجوه غير الكاثوليك، فأحاطه هنري برعايته، كأمين للمكتبة الوطنية، براتب محترم قدره 1200 جنيه في العام. وقال رجل الاقتصاد صلي للعالم كازوبون إنك تكلف الملك كثيراً يا سيدي. إن راتبك يفوق راتب قائدين، ولا نفع يرجى منك لبلدك (34). فلما مات هنري العظيم، رأى كازوبون أنه كان قد حان الوقت لقبول دعوة من إنجلترا. ورحب به جيمس الأول بوصفه رفيق علم وبحث

ومنحه راتباً سنوياً قدره 300 جنيه إنجليزي. ولكن الملكة الفرنسية الوصية على العرش رفضت أن تذهب مؤلفاته في أثره وأزعجه الملك بالأبحاث، ولم يغفر له المفكرون الإنجليز فب لندن عدم تحدثه بالإنجليزية وبعد أربعة أعوام قضاها ترك المعترك (1614) في سن الخامسة والخمسين. ودفن في وستمنستر.

وكان لقب "العالم" في ذاك الزمان أكثر احترماً وتشريفاً من الشاعر

ص: 233

أو المؤرخ. فإن العالم كان ينظر إليه بعين الإجلال والإكبار لأن دراسته الدءوبة حافظت على مواطن الحكمة والجمال الكامنة في الآداب والفلسفة القديمة وعملت على تنقيتها وتوضيحها. ودخل سكاليجر جامعة ليدن دخول "الأمير الفاتح" ولقي هناك ترحيباً كبيراً. وكانت ثمة أمم كثيرة ترغب في أن تحوز كلود دي سمويز الذي عرفته الدنيا "عالماً" من أمثال سالاميوس وبعد موت كازوبون أجمع العالم بأسره على أنه "أعلم الأحياء في ذلك الزمان"، وأنه بصفة عامة معجزة الدنيا (35). فماذا فعل هذا العالم؟ إنه ولد في برجندي، وتلقى تعليمه-وتحول إلى الكلفنية-في هيدلبرج. وفي سن العشرين تألق نجمه في نشر طبعة دقيقة محققة لمؤلفات اثنين من كتاب القرن الرابع عشر عن سلطة الباباوات العليا المتنازع عليها، وبعد ذلك بعام واحد، نشر "خلاصة عن النبات". وتوالت الكتب بعد ذلك، حتى بلغت في جملتها ثلاثين كتاباً تميزت كلها بسعة الإطلاع وتناول كل ألوان المعرفة. وبلغ الذروة في كتاب ضخم مكون من 900 صفحة على نهرين بعنوان "أمثلة في تعدد جوانب الثقافة والمعرفة"(1629). وكان سولينوس، وهو أحد النحاة في القرن الثالث-قد جمع في موسوعة تاريخ البلاد الأوربية الكبرى وجغرافيتها وأعراقها البشرية واقتصادها ونباتها وحيوانها، وجاء بعد ذلك ناشر متأخر فأطلق عليه "ثقافة متعددة الجوانب"، ثم جاء سالماسيوس فدون على هذا النص تعليقات واسعة تشمل كل رومة الإمبراطورية. وكان أمامه أن يختار بين اثنتي عشرة دعوة وجهت إليه، فاختار الأستاذية في ليدن، ثم عين في الحال رئيساً لكلية عظيمة وسارت الأمور سيراً حسناً، حتى كلفه شارل الثاني ملك إنجلترا الذي كان متغيباً آنذاك في هولندا، بأن يكتب عن إدانة كرومويل بقتل شارل الأول وظهر الدفاع عن الملك شارل الأول في نوفمبر 1649 بعد إعدام الملك بنحو عشرة أشهر. ولم يرق الكتاب في عيني كرومويل، واستأجر أعظم شعراء إنجلترا للرد عليه. وسنعود للكلام عليه مرة أخرى. وكتب سالماسيوس رداً على ملتون، ولكنه مات (1653) قبل أن يتمه. ونسب إلى ملتون فضل القضاء عليه.

ص: 234

وحظيت قلة ضئيلة بمثل هذا القدر الكبير من العلم والمعرفة، بينما ظل 80% من سكان أوربا الغربية أميين. وقضى جون كومنيوس أربعين عاماً يكافح في سبيل النهوض بخطط التعليم في أوربا. ولد كومنيوس في مورافيا (1592) وارتقى إلى مرتبة أسقف الأخوة المورافيين ولم يتزعزع قط إيمانه بأن الدين هو أساس التعليم وغايته، فإن رأس الحكمة مخافة الله. وعلى الرغم من أن الأحقاد الدينية في زمانه جعلت من حياته سلسلة متصلة من المحن والبلايا، فإنه بقي على إخلاصه لفلسفة التسامح في الوحدة الأخوية.

نحن أبناء عالم واحد، يجري في عروقنا دم واحد. وأنه لمن أشد الحماقة أن نضمر البغض والكراهية لإنسان لأنه ولد في قطر آخر، أو لأنه يتحدث بلغة مختلفة عن لغتنا. أو لأن له رأياً مخالفاً لنا في هذا الموضوع أو ذاك. إني لأتوسل إليكم أن تكفوا عن هذا، فإننا بشر متساوون في الإنسانية فليكن لنا جميعاً هدف واحد وغاية واحدة، هي خير الإنسانية جمعاء، ولنطرح جانباً كل الأنانيات والأثرة القائمة على أسس من اللغة أو القومية أو الدين (36).

وبعد تدوين كثير من النصوص التربوية، لخص كومنيوس مبادئه في التربية المثلى (1632) وهو من أهم الكتب في تاريخ التربية. أولاً: يجب أن يكون التعليم عاماً، بصرف النظر عن الجنس أو مستوى المعيشة. فيجب أن يكون في كل قرية مدرسة، وفي كل مدينة كلية، وفي كل مقاطعة جامعة، ويجدر أن يكون التعليم العالي متاحاً لكل من يثبت القدرة على متابعته، وينبغي أن تتولى الدولة الإنفاق على الكشف عن مواهب وقدرات المواطنين فيها، وتدريبها والإفادة منها. ثانياً: يجب أن يكون التعليم واقعياً، بحيث تربط الأفكار في كل خطوة بالأشياء الملموسة، كما يجب تعليم الألفاظ باللغة الوطنية أو بأية لغة أجنبية، عن طريق مشاهدة الأشياء التي تمثلها أو لمسها أو استخدامها

ص: 235

ويجب أن يتأخر تعليم النحو (الأجرومية). ثالثاً: يجب أن تكون التربية بدنية وعقلية وأخلاقية. وأن يتلقى التلاميذ تدريبات على الصحة والقوة والنشاط عن طريق ممارسة الحياة والألعاب في الهواء الطلق. ورابعاً: ينبغي أن يكون التعليم عملياً، وألا يكون حبيساً في سجن التفكير النظري، بل مقروناً بالعمل والممارسة، وأن يمهد ويعد للنهوض بمهمة الحياة. خامساً: يجب تدريس العلوم تدريجياً، بتقدم الطالب في العمر، ويجب افتتاح مدارس البحث العلمي في كل مدينة أو مقاطعة. سادساً: ينبغي توجيه كل التربية وكل المعرفة إلى تحسين الخلق وبث التقوى في الفرد، وإلى إشاعة النظام والسعادة في الدولة.

وكان ثمة شيء من التقدم. فإن الأمراء الألمان جدوا في تأسيس مدرسة ابتدائية في كل قرية. ونادى دوق ساكس-ويما في 1619 بمبدأ التعليم العام الإلزامي لكل البنين والبنات من سن السادسة إلى الثانية عشرة (37)، مع عطلة مدتها شهر في موسم الحصاد. وما وافى عام 1719 حتى عم هذا النظام ألمانيا بأسرها. وكانت المدارس الثانوية لا تزال موصدة أمام الإناث، ولكنها تضاعفت وحسن مستواها. وفتحت في هذا اثنتان وعشرون جامعة جديدة

(1)

. وكانت جامعة أكسفورد سائرة على طريقة التقدم والنجاح كما وصفها كازوبون في 1613، وقد تأثر بما رآه من رواتب الأساتذة ومكانتهم الاجتماعية، بالمقارنة بنظرائهم في القارة. ففي 1600 كانت رواتب الأساتذة في ألمانيا ضئيلة إلى حد أنهم لجئوا إلى بيع الجعة والنبيذ احتيالاً على العيش، وكان الطلبة في الجامعة فيينا يشربون ويلهون في حانات يديرها الأساتذة (38). وتدهورت الجامعات الأسبانية بعد فيليب الثاني، وساءت

(1)

فيينا1558، جنيف 1559، ليل 1562. ستراسبورج 1567، ليدن 1575 هلمسند 1575، ولنو 1578 ورزبرج 1582 أدنبرة 1583 فرانكر 1585 جراز 1586، دبلن 1596، لوبيين 1596، هردريك 1600، جبيسن 1607، جروننجن 1614، أمستردام 1632. دوريات 1632، بودابست 1635 أوترخت 1636 تووكو 1640 بمبرج 1648.

ص: 236

أحوالها تحت وطأة محاكم التفتيش، في الوقت الذي أسست فيه عدة جامعات أسبانية في مستعمرات أسبانيا في أمريكا-في ليا 1551، في مدينة المكسيك 1553، أي قبل افتتاح كلية هارفرد (1636) بزمن طويل. وافتتح الهولنديون الموسرون ست جامعات في تلك الحقبة. وعندما نجحت ليدن في مقاومة الحصار الأسباني (1574)، وجهت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة الدعوة لأهالي البلدة، ليدن، ليروا رأيهم فيما يمكن أن يكافئوا به، فطالبوا بإنشاء جامعة، وكان لهم ما أرادوا. وكانت السلطة الدينية تسيطر على أمور التعليم في الأقطار الكاثوليكية والكلفنية. وفي إنجلترا والبلاد اللوثرية كان رجال الدين يديرون معظم التعليم تحت إشراف الدولة. وفي كل الجامعات تقريباً، باستثناء بادوا، كان مطلوباً من المعلمين والطلبة أن يعتنقوا المذهب الرسمي، وكانت الدولة والكنيسة كلتاهما تحد من الحرية الجامعية بدرجة كبيرة. وقضت الخلافات الدينية على الصبغة العلمية للجامعات، فانحصر الطلبة الأسبان في أسبانيا، ولم يعد الطلبة الإنجليز يلتحقون بجامعة باريس. وظلت أكسفورد حتى 1871 تفرض على طالب الدرجة الجامعية، الموافقة على مواد الكنيسة الرسمية التسع والثلاثين. ومال الفكر الأصيل الخلاق إلى الاختفاء من الجامعات، والتمس ملجأ في الأكاديميات الخاصة والدراسات غير النظامية أو غير النمطية.

وهكذا قامت في هذا العصر أكاديميات خاصة، لا رقيب عليها، للدراسة والبحث، وخاصة في مجال العلوم. وفي روما، في 1603 أسس فدريجوسيزي، مركيز مونتبلو "أكاديمية ذوي البصر الحاد" التي التحق بها جاليليو 1611، وحدد دستورها هدفها:

إن جامعة ذوي البصر الحاد تتطلب من أعضائها الفلاسفة أن يكونوا تواقين إلى المعرفة الحقة، وأن ينصرفوا بكليتهم إلى دراسة الطبيعة، وبخاصة الرياضيات، ولن تهمل في الوقت

ص: 237

نفسه أو تزيف مناهجها بالآداب والدراسات اللغوية الجميلة التي يزدان بها، بوصفها حلياً وجواهر كريمة، نطاق العلم بأكمله، وليس في خطة هذه الأكاديمية أن تفسح المجال للخطب والمجادلات ويجدر بها أن تغضي في هدوء وصمت عن كل الخلافات السياسية. وعن أي لون من المهاترات الكلامية (39).

وحلت هذه الجامعة 1630، ولكن في 1657 واصلت السير على نهجها أكاديمية دل شيمنتو (التجربة والبرهان). وسرعان ما تأسست جمعيات مماثلة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا. حتى يتسنى للروح العلمية الملهمة في العلوم أن تضع الأسس الفكرية والتكنولوجية للعالم الحديث.

‌3 - أدوات العلم ومناهجه

كان لزاماً، منذ البداية، أن تكون هناك آلات علمية. فما تستطيع العين المجردة أن تبصر بوضوح كافٍ، على مسافة بعيدة، أو أشياء بالغة الدقة. إلى الحد المطلوب، وما يستطيع الجسم أن يمس بدقة تامة ضغط الأشياء أو حرارتها أو وزنها. وما يستطيع العقل أن يقيس المسافة والزمن والكمية والنوعية والكثافة دون أن يخلط بين توازنه الشخصي وبين الحقائق، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى المجهر (الميكروسكوب)، والمقراب (التلسكوب)، وبميزان الحرارة (الترمومتر) ومقياس الضغط (البارومتر). ومقياس الثقل النوعي للسوائل (الهيدرومتر) وإلى ساعات أدق وإلى موازين أكثر حساسية.

كتب جامباتستا دللابورتا في "سحر الطبيعة"(1589) بالعدسة المقعرة تبدو الأشياء أصغر ولكن أوضح، وبالعدسة المحدبة تراها أكبر ولكن أقل وضوحاً في معالمها، فإذا عرفت على أية حال كيف تجمع بين النوعين على نحو سليم، لأمكنك أن ترى الأشياء على البعد والقرب كبيرة واضحة معاً (40)

ص: 238

تلك كانت القاعدة التي بني عليها المجهر منظار الميدان ومنظار الأوبرا، والمقراب، أي أنها مجموعة من المخترعات، وكلها متنوعة الأنسجة، وكان المجهر البسيط. أي العدسة المحدبة الواحدة، معروفة لأمد طويل. أما الاختراع الذي البيولوجيا فهو الميكروسكوب المركب الذي يجمع بين عدة عدسات لامة. ونمت صناعة شحذ العدسات وصقلها بصفة خاصة في الأراضي الوطيئة وعاش سبينوزا عليها ومات بها. وحوالي 1590 جمع صانع النظارات المدعو زخارياس جانس، في مدلبرج، بين عدسة مزدوجة مقعرة وأخرى مزدوجة محدبة، ليضع أقدم مجهر مركب معروف: وبفضل هذا الاختراع ظهرت البيولوجيا الحديثة والطب الحديث.

وجاء بعد ذلك تطبيق آخر لهذه القواعد فحول علم الفلك. ذلك أنه في 2 أكتوبر 1608 قدم صانع نظارات آخر في مدلبرج، هو هانز لبرشي. إلى الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة (التي ما زالت في حرب مع أسبانيا) وصفاً لآلة يمكن بها رؤية الأشياء من مسافة بعيدة. إن لبرشي وضع عدسة مزدوجة محدبة "العدسة الشيئية" على الطرف البعيد من أنبوبة، وعدسة مزدوجة مقعرة "العينية" على الطرف القريب. وأدرك المشرعون القيمة العسكرية لهذا الاختراع فكافئوا البرشي بتسعمائة فلورين. وفي 17 أكتوبر أثبت رجل هولندي آخر-جاكوس متيوس، أنه كان قد صنع من تلقاء نفسه ومن وحي تفكيره هو، آلة مماثلة. وما أن سمع جاليليو بهذه التطورات حتى صنع آلة التلسكوب (المقراب) الخاصة في بادوا (1609)، التي كبرت الأشياء إلى ثلاثة أمثالها، وتلك هي الآلات التي كبر بها العالم. وفي 1611 اقترح كبلر أنه يمكن الحصول على نتائج أفضل، إذا عكست أوضاع العدسات في اختراع جاليليو، باستخدام العدسة المحدبة في "العينية" والمقعرة في "الشيئية". وفي 1613 - 1617 صنع الجزويتي كرستوف شينر، على هذا الأساس، مقراباً "تلسكوب" أفضل، بيد أنه أدخل شيئاً من التحسين على ما كان معروفاً من قبله (41).

ص: 239

وفي الوقت عينه، وعلى نفس الأسس التي كانت معروفة لدى "هيرو" السكندري في القرن الثالث الميلادي أو قبله، كان جاليليو قد اخترع (حوالي 1603) مقياساً للحرارة (ترمومتر). بأن وضع الطرف المفتوح لأنبوبة زجاجية في وعاء من الماء، وكان طرفها الثاني عبارة عن بصيلة زجاجية (منتفخ الترمومتر) فارغة، عمد إلى تسخينها بملامستها ليديه. فلما سحب يده بردت البصيلة، وارتفع الماء في الأنبوبة. وفي 1613 قسم جيوفني ساجريدو، صديق جاليليو، الأنبوبة إلى مائة درجة.

وجاء أفانجلستا تورشللي، أحد تلاميذ جاليليو، فأحكم سداد أحد طرفي أنبوبة طويلة، وملأها بالزئبق، وأوقفها بطرفها المفتوح مغمورة في وعاء به الزئبق، فلم يفض زئبق الأنبوبة إلى الوعاء. وأرجع علماء الفيزياء هذه الظاهرة إلى "اشمئزاز الطبيعة من الفراغ". وأرجعها تورشللي إلى ضغط الهواء المحيط على الزئبق في الوعاء. وعللها بأن الضغط الخارجي لا بد أن يرفع الزئبق في الوعاء إلى الأنبوبة الخالية المفرغة من الهواء. وأثبتت التجربة صحة ما ذهب إليه. وأوضح أن التغيرات في ارتفاع الزئبق في الأنبوبة يمكن استخدامها مقياساً للتغيرات في الضغط الجوي، ومن ثم في 1643 أول مقياس للضغط الجوي (البارومتر) الذي لا يزال الآلة الأساسية في الأرصاد الجوية.

ومذ تزودت العلوم بهذه الأدوات الجديدة، فإنها اتجهت إلى الرياضيين تسألهم طرقاً أفضل للحساب والقياس وللتدوين بالعلامات والرموز واستجاب نابيير وبيرجي-كما عرفنا-لهذا النداء باللوغاريتمات، وأوترد بالمسطرة الحاسبة، ولكن كانت ثمة نعمة أكبر باختراع الطريقة العشرية وكانت بعض آراء أو مقترحات اجتهادية قد مهدت الطريق، كما هي العادة، فإن الكاشي السمرقندي (المتوفى 1436) كان قد أوضح أن النسبة التقريبية بين محيط الدائرة وقطرها هي:3. 14926535898732، وهذا كسر عشري-مستخدماً مسافة

ص: 240

بياضاً بدلاً من النقطة، أي العلامة العشرية بين الكسر والرقم الصحيح. ثم جاء فرانسسكو بللوس من مدينة نيس 1492 فاستخدم النقطة العشرية وشرح سيمون ستيفينوس الطريقة الجديدة في رسالة تعتبر فاتحة عصر جديد، هي "الطريقة العشرية"(1585) عرض فيها كيف "تعلم بسهولة لم يسمع بها من قبل أن تؤدي كل المسائل الحسابية بالأعداد الصحيحة دون الكسور" ونفذ "النظام المتري" في قارة أوربا أفكاره في قياس الأطوال والأحجام والعملة. ولكن الدائرة والساعة أقرتا بفضل الرياضيات البابلية، فاحتفظتا بالقسمة السينية.

وفي 1639 نشر جيرارد دسارج رسالة ممتازة عن القطع المخروطي. وأحيا فرانسوا فيير الباريسي دراسة علم الجبر التي كانت قد ضعفت، باستخدام الحروف للدلالة على مقادير معروفة أو مجهولة على حد سواء واستبق ديكارت في تطبيق الجبر على الهندسة، وأنشأ ديكارت الهندسة التحليلية في ومضة من ومضات الإلهام، حين اقترح التعبير على الأعداد والمعادلات بأشكال هندسية والعكس بالعكس (ومن ثم يمكن إيضاح التناقض المستمر في قيمة العملة في فترة معينة في رسم بياني إحصائي)؛ وأنه من معادلة جبرية تمثل شكلاً هندسياً، يمكن جبرياً استخلاص نتائج تثبت صحتها هندسياً، ولذلك يمكن استخدام الجبر لحل المسائل الهندسية العويصة. وافتتن ديكارت باكتشافاته إلى حد أنه ذهب إلى أن هندسته أسمى من هندسة أسلافه قد رسموا فصاحة شيشرون على حروف الهجاء عند الأطفال (42). أن هندسته التحليلية ونظرية كافا ليبري عن "غير القابل للانقسام أو التجزئة"(1629) وتربيع كبلر التقريبي للدائرة. وقياس روبرفال للخط المنحني، وتورشللي وديكارت، إن كل أولئك عبدوا الطريق أمام ليبنتز ونيوتن لاكتشاف التفاضل والتكامل.

ص: 241

وباتت الهندسة الآن هدف كل العلوم بقدر ما هي أداتها. ولحظ كبلر أن العقل إذا هجر "مملكة الكمية" فإنه يهيم في متاهات الظلام والشك (43). وقال جاليليو عن الفلسفة وهو يقصد "الفلسفة الطبيعية" أو العلوم:

إن الفلسفة مدونة في هذا السفر الضخم، ألا وهو الكون الذي يقف دوماً مكشوفاً أمام أعيننا نحملق فيه كيف نشاء. ولكن لن يتسنى لنا فهم هذا الكتاب إلا إذا تعلمنا، أول الأمر، كيف نعي اللغة ونقرأ الحروف التي تتألف منها. أن هذا السفر مكتوب بلغة الرياضيات (44)،

وتتطلع ديكارت وسبينوزا إلى تحويل الميتافيزيقا (علم ما وراء الطبيعة) نفسها إلى صيغة رياضية.

وبدأ العلم الآن يحرر نفسه من أغلال أمه وهي الفلسفة. لقد هز كتفيه لأرسطو غير مبالٍ به. وأدرا ظهره للميتافيزيقا متجهاً نحو الطبيعة، وطور وسائل التمييز لديه، وسعى لتحسين حياة الإنسان على الأرض. أن هذه الحركة تنتسب إلى قلب عصر العقل، ولكنها لم تؤمن كل الإيمان ولم تثق كل الثقة "بالعقل الخاص"-أي العقل المستقل عن التجريب والاختبار. وكم من مرة ضل مثل هذا التفكير، ونسج خيوطاً واهية مضللة. أن العقل والتقاليد والسلطة يجب الآن ضبطها وكبح جماحها بدراسة الحقائق المتواضعة وتسجيلها. ومهما قال المنطق، فيجدر بالعلم ألا يتقبل إلا ما يمكن قياسه كمَّاً، والتعبير عنه رياضياً، وإثباته بالتجربة.

‌4 - العلم والمادة

اندفعت العلوم خطوات إلى الأمام في تسلسل منطقي، خلال التاريخ الحديث:

ص: 242

الرياضة والفيزياء في القرن السابع عشر، والكيمياء في الثامن عشر، والبيولوجيا في التاسع عشر، وعلم النفس في القرن العشرين.

والشخصية البارزة في تلك الحقبة هي جاليليو. ولكن ثمة أبطال كثيرون أقل شأناً جديرون بالذكر فقد أسهم ستيفينوس في تحديد قوانين البكرة والرافعة، وأجرى دراسات قيمة في ضغط الماء، ومركز الجاذبية، ومتوازي أضلاع القوى، والمستوي المائل. وحوالي 1690 في دلفت، استبق جاليليو في تجربته المزعومة في بيزا، حيث أوضح-على خلاف الاعتقاد القديم-أنه إذا ترك جسمان من نوع واحد مهما اختلفا في الوزن، ليسقطا معاً من على فإنهما يصلان إلى الأرض في وقت واحد (45). ووضع ديكارت قانون القصور الذاتي، في صيغة بالغة الوضوح-وهو أن أي جسم يظل في حالة الجمود أو في حركة مستقيمة إلا إذا تأثر بقوة خارجية. وسبق هو وجاسندي، إلى نظرية الجزيئات في الحرارة. وأسس رسالته في "الأرصاد"(1637) على الكوزمولوجيا (علم الكونيات يبحث في أصل الكون وبنيته العامة وعناصره ونواميسه) التي لم تعد مقبولة، ولكن هذه الرسالة أسهمت كثيراً في وضع أسس الأرصاد الجوية كعلم من العلوم. وتوسع تورشللي 1642 في دراساته عن الضغط الجوي لتشمل ميكانيكا الرياح، حيث ذهب إلى أن هذه هي التيارات الموازنة التي تنجم عن الاختلافات المحلية في كثافة الهواء. أما جاسندي، ذلك الرجل المشهور بإلمامه بكل العلوم، فإنه تابع التجارب في قياس سرعة الصوت، وتوصل إلى أنها 1. 437 قدماً في الثانية. وأعاد صديقه الكاهن، مارتن مرسن، التجربة، وقرر أنها 1. 380 قدماً، وهذا أقرب إلى الرقم السائد، وهو 1. 087 ووضع مرسن في 1636 السلسلة الكاملة للنغمات التوافقية التي يحدثها سلك رنان.

وتركزت أبحاث البصريات حول مسائل الانعكاس والانكسار العريضة، وبخاصة عند مشاهدتها في قوس قزح. وحوالي 1591 وضع ماركو أنطونيو

ص: 243

دي دومنيس رسالة في "ضوء" أوضح فيها تكوين قوس قزح الرئيسي، (وهو الوحيد الذي يمكن رؤيته بصفة عامة) على أنه راجع إلى إنكسارين وانعكاس واحد لضوء على قطرات بخار الماء في السماء أو الرذاذ. وتكوين قوس قزح الثانوي (وهو قوس من الألوان في ترتيب عكسي، يرى أحياناً بشكل باهت، خارج القوس الرئيسي)، على أنه راجع إلى إنكسارين وإنعكاسين. وفي 1611 عالج كبلر في رسالة "الإنكسارات" موضوع انكسار الضوء "في العدسات. وبعد ذلك بعشر سنين جاء ولبروردسنل من ليدن، وصاغ قوانين الانكسار في دقة جعلت من الميسور إجراء حساب أدق لعمل العدسات في الضوء، وصنع ميكروسكوبات وتلسكوبات أفضل. فطبق ديكارت هذه القوانين على الحساب الميكانيكي لزوايا الإشعاع في قوس قزح. أما تفسير ترتيب اللون فكان لزاماً أن ينتظر مجيء نيوتن.

وأدى بحث جلبرت-الذي يعتبر بداية عصر جديد-في الجاذبية الأرضية إلى سلسلة طويلة من النظريات والتجارب. واقترح فميانوس سترادا عضو جمعية يسوع، الإرسال البرقي (1617)، وذلك بأن يتصل رجلان الواحد منهما بالآخر، من بعيد، عن طريق استخدام الفعل المتجانس لإبرتين مغناطيسيتين وضعتا بحيث تشيران في وقت واحد إلى حرف هجاء واحد بعينه، وفي 1629 أدلى جزويتي آخر، نيقولو كابيو، بأول وصف عرفه العالم للتنافر الكهربي. وجاء عالم آخر هو أثناسيوس كيرشر، فوصف في كتابه "المغناطيس"(1641) قياس المغناطيسية بتعليق مغناطيس في إحدى كفتي ميزان، ومقاومة تأثيره بوضع موازين في الكفة الأخرى. وعزا ديكارت المغناطيسية إلى تأثير الجزيئات التي تنفثها الدوامة الكبرى التي اعتقد هو أن الأرض نشأت عنها.

وكانت الكيمياء القديمة (الخيمياء) لا تزال شائعة، وخاصة كبديل ملكي لخفض قيمة العملة. فكان الإمبراطور رودلف الثاني، وناخبو سكسونيا

ص: 244

وبراندابرج والبالاتينات، ودوق برنزويك وكونت هس، يستخدمون جميعاً أرباب الكيمياء القديمة لصنع الفضة والذهب (46). ومن هذه التجارب ومن الحاجة إلى علم المعادن وصناعة الصباغة، ومن إلحاح الطبيب الألماني باراسلوس على الدواء الكيمياوي، من هذا كله بدأ علم الكيمياء يتشكل. وكان أندريا ليبافيوس يمثل هذا الانتقال من "الخيمياء" إلى الكيمياء. وكان مؤلفه "الدفاع عن خيمياء تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة"(1604) استمراراً للسعي وراء المطلب القديم، ولكن كتابه "الكيمياء"(1597) كان أول رسالة منهجية في الكيمياء العلمية الحديثة. واكتشف باراسلسوس كلوريد القصدير، وكان أول من صنع سلفات الأومنيوم، وكان من أوائل من اقترح نقل الدم كعلاج. وكان معمله في كوبرج إحدى عجائب المدينة. ووضع جان بابتستافان هلمونت-وهو نبيل ثري أكب على العالم وصرف همه في تقديم الخدمات الطبية للفقراء-وضح اسمه بين مؤسسي الكيمياء بتمييز الغازات عن الهواء وتحليل أنواعها وتركيبها. ونحت لفظة "غاز" من اللفظة الإغريقية Chaos وحقق اكتشافات كثيرة في مجاله المختار، ابتداء من الغازات المتفجرة في البارود، إلى إمكانات الاشتعال في "ريح الإنسان"(47) واقترح القلويات في علاج الحموضة المفرطة في الجهاز الهضمي. وأوصى يوهان جلوبر ببللورات سلفات الصوديوم للاستعمال كعلاج ممتاز من الظاهر أو من الباطن. ولا يزال "ملح جلوبر" يستخدم كملين. إن جوير وهلمونت كليهما اشتغل بالخيمياء (أو الكيمياء القديمة) كهواية.

وأسهمت كل هذه "العلوم الطبيعية" في تحسين الإنتاج الصناعي، وأدوات القتل في الحروب. وطبق الفنيون المعرفة الجديدة بالحركات والضغوط في السوائل والغازات، وتكوين القلوي، وقوانين التذبذب، ومسارات الإسقاط والقذف، وتنقية المعادن. واستخدم البارود في تفجير المناجم (1613) وفي 1612 اخترع سيمون ستورتفانث طريقة لإنتاج فحم "الكوك" لتخليصه

ص: 245

من العناصر المتطايرة. فهذا "الكوك" له قيمته وأهميته في صناعة المعادن، لأن شوائب الفحم العادي تضر بالحديد، وقد حل محل الفحم النباتي وأنقذ الغابات. وقلت تكلفة صناعة الزجاج، حيث عم استعمال الزجاج النوافذ في ذلك العصر. وبنمو الصناعة تضاعفت المخترعات الميكانيكية. لأنها كانت تعود إلى أبحاث العلماء أقل منها إلى مهارات الصناع الذين يتوقون إلى توفير الوقت. ومن هنا فأننا نسمع لأول مرة عن المخراط اللولبي في 1578، وإطار الحبك والربط في 1589. والمسرح الدائر في 1597، وآلة درس القمح وقلم الحبر في 1636.

وقام المهندسون آنذاك بأعمال فذة تستحق الإعجاب حتى في أيامنا هذه. فقد رأينا كيف أن دومنيكو فونتانا هز روما بإقامة مسلة في ميدان القديس بطرس. وابتدع ستفينوس مهندس موريس ناسو، نظام البوابات للتحكم في السدود-وهي حارسة جمهورية هولندا. واستخدم منفاخ ضخم في تهوية المناجم، والمضخات المعقدة في رفع المياه إلى أبراج لتضخ المياه إلى البيوت والنافورات في المدن مثل أوجزبرج وباريس ولندن وأنشئت قناطر ترووس على أساس القاعدة الهندسية البسيطة وهي أن المثلث لا يمكن أن يعدل شكله إلا يتغير طول أحد الجوانب. وفي 1624 سارت غواصة تحت الماء لمسافة ميلين في نهر التايمز (48). وتقدم جيروم كاردان وجامباتستا دللابورتا وسالومون دي كوز بنظرية الآلة البخارية خطوة إلى الأمام، وفي 1615 وضع كوز وصفاً لآلة لرفع الماء بفعل قوة تمدد البخار (49).

ولم تكن الجيولوجيا قد ولدت بعد، حتى اللفظ نفسه لم يكن موجوداً؛ وكانت دراسة الأرض تسمى "علم المعادن" وجال النظر بعين الإجلال إلى قصة "الخلق" في التوراة دون المقامرة بالبحث في نشأة الكون. ورمي برنارد بالسي بالزندقة لإحيائه الفكرة القديمة التي تقول بأن الأحافير والمستحاثات ليست إلا بقايا متحجرة لكائنات ميتة. وغامر فيكارت بالقول

ص: 246

بأن الكواكب السيارة بما فيها الأرض كانت يوماً كتلاً متوهجة مثل الشمس، وعندما برد الكوكب، كون قشرة من السوائل والمواد الصلبة فوق نار مركزية داخلية، أنتج دخانها الينابيع الحارة والبراكين والزلازل (50).

وتقدمت الجغرافيا بفضل البعثات التبشيرية والرواد والتجار الذين أرادوا نشر ديانتهم أو التوسع في العلم والمعرفة أو التجارة. وفي 1567 وما بعدها ارتاد الملاحون الأسبان البحار الجنوبية، وكشفوا جزيرة جواد القنال وغيرها من جزر سليمان-وسميت كذلك على أمل العثور هناك على كنوز سليمان. وزار المبشر البرتغالي بيكوياس (الذي أخذ أسيراً في الحبشة (1588))، النيل الأزرق. وحل لغزاً قديماً بأن فيضان النيل المنتظم ليس له من سبب إلا فعل الأمطار في مرتفعات الحبشة. وواضح أن وللم جانسزون كان أول من وطئت قدماه أرض استراليا (1606). وكشف آبل تسمان تسمانيا ونيوزيلند (1642) وجزر فيجي (1643) ودخل التجار الهولنديون سيام وبورما والهند الصينية. ولكن المعلومات عن هذه البلاد وعن الصين، وردت إلينا أساساً عن طريق المبشرين الجزويت. وبأمر من هنري الرابع نلك فرنسا ارتاد صمويل تشابلن ساحل نوفاسكوشيا وصعد في نهر سانت لورنس إلى قرب مونتريال، وأسس أتباعه مدينة كويك، وبينوا على الخريطة البحيرة التي تحمل اسمه.

وكافح صانعوا الخرائط حتى لا يتخلفوا كثيراً عن الرواد والمستكشفين، ومنهم جيراردوس مركيتور (جيرهارد كريمر) الذي درس في لوفان، وأسس محلاً لصنع الخرائط العلمية والكرات الأرضية. وفي 1544 قبض عليه وحوكم بتهمة الهرطقة، ولكنه تفادى العواقب الوخيمة، فوجد على أية حال أنه من الحكمة أن يقبل دعوة وجهت إليه من جامعة دوزبرج، حيث أصبح رساماً للخرائط لدى دوق جوليس كليفر (1559). وطوال حياته التي امتدت اثنين وثمانين عاماً، جهد مركيتور دون كلل أو ملل في رسم خرائط

ص: 247

للفلاندرز واللورين وأوربا والأرض. وفي مؤلفه المشهور "الوصف الجديد الدقيق للأرض وطرق الملاحة"(1568) أدخل نظام "الأسقاط المركاتوري" في الخرائط التي أدى إلى تيسير الملاحة. بإظهار دوائر خطوط الطول موازية بعضها لبعض، ودوائر العرض خطوطاً مستقيمة، وكلتا المجموعتين من الخطوط تشكل زوايا قائمة، الواحد منها مع الآخر. وفي 1585 شرع في إصدار "أطلسه" الكبير (ونحن مدينون له بالفضل في استخدام هذا اللفظ)، محتوياً على إحدى وخمسين خريطة، في إتقان ودقة لم يسبق لهما مثيل، وصف فيها الأرض المعروفة آنذاك. ودخل صديقه أبرهام أورتل في مباراة معه بكتابه الجامع "مدار الأرض"(أنتورب 1570). أن هذين الرجلين كليهما حرر الجغرافيا من ارتباطها الألفي السعيد بطليموس (الفلكي السكندري في القرن الثاني الميلادي)، ووضعاها في شكلها الحديث. وبفضلها احتفظ الهولنديون بما يكاد يكون احتكاراً تاماً لصناعة الخرائط طيلة قرن من الزمان.

‌5 - العلم والحياة

وكان على علم الأحياء (البيولوجيا) أن ينتظر قرنين من الزمان حتى يتسنم الذروة، ونشأ علم النبات على مهل من خلال الدراسات الطبية للأعشاب العلاجية واستيراد النباتات الغريبة إلى أوربا وجلب المبشرون الجزويت لحاء الشجر من بيرو (الكينين) والونيلية (نبات أمريكي استوائي، الفانيليا) والرواند. وأدخل البطاطس حوالي 1560 من بيرو إلى أسبانيا، ومنها انتشر في أنحاء القارة. ووصف برسبيرو ألبيني أستاذ علم النبات في بادوا خمسين نباتاً أجنبيا زرعت مجدداً في أوربا. ومن دراساته لنخيل البلح استدل على التكاثر الجنسي في النبات الذي أوضحه تيوفراستوس في القرن الثالث ق. م. يقول ألبيني: "إن إناث نخيل البلح لا تحمل ثمراً إلا إذا اختلطت أغصان الأشجار الذكور والأشجار الإناث بعضها ببعض، أو كما يحصل عادة، إلا إذا تناثر

ص: 248

الغبار الموجود في غلاف الأشجار الذكور أو أزهار الأشجار الإناث (51)". وقد يقسم لناؤوس فيما بعد النباتات وفقاً لطرق تكاثرها، ولكن الآن في 1573 قدم أندريا سيسالبينو الفلورنسي أول تقسيم منهجي للنباتات، 1500 نوع منها-على أسس بذورها وثمارها المختلفة. وأورد جاسبار بوهين (من مدينة بازل) في مؤلفه الضخم "جدول عالم النبات" (1623) تصنيفاً لنحو 6000 نبات، وبذلك استبق ما أنجزه بعد ذلك ليناؤوس من تصنيف وتسمية ثنائية تبعاً للجنس والصنف، وقضى بوهين أربعين عاماً في إعداد "جدول النبات"، ومات بعد سنة من صدوره، وبقي مرجعاً أساسياً لمدة ثلاثة قرون.

وبدأت "مشعبات الأطباء" الخاصة تتطور الآن إلى حدائق نباتية تديرها الجامعات أو الحكومات للجمهور. كان لأقدمها التي أسست في بيزا 1543، شهرة كبيرة أيام سيسالبينو. وأسس في زيوريخ حديقة نباتية في 1560، ثم في بولونيا وكاسل وليدن ولبيزج وبرسلا وبازل وهيدلبرج وأكسفورد. وفي 1635 نظم جي دي لابروس-طبيب لويس الثالث عشر "حديقة النباتات الطبية" المشهورة في باريس، أما حدائق الحيوان، بوصفها معارض للوحوش لتسلية الجماهير، فقد وجدت في الصين (1100 ق. م) وفي روما القديمة، وفي المكسيك أيام الأزتيك (حوالي 1450)، أما الطراز الحديث فقد افتتح في درسدن في 1514، وفي فرساي في عهد لويس الثالث عشر.

ولقي علم الحيوان عناية أقل مما لقي علم النبات، لأنه قدم علاجات أقل، اللهم إلا في الطب الأسطوري أو الخرافي، وفي 1599 شرع بوليس ألدروفاندي في نشر 13 مجلداً ضخماً في التاريخ الطبيعي، وعاش حتى رأى ستة منها في المطبعة، ونشر سناتو بولونا السبعة الباقية من المخطوطات المؤلف على نفقة الدولة. ولم يحتل مكان هذه المجلدات أو ينسخها إلا كتاب بوفون "التاريخ الطبيعي"(1749 - 1804). وابتدأ الجزويتي المتعدد الثقافات أثناسيوس

ص: 249

كيرشر علم الأنسجة العضوية بكتابه الذي وصف فيه (1646) الديدان المتناهية الصغر التي وجدها مجهره (الميكروسكوب) في المواد المتعفنة. أن الاعتقاد بتوالد الكائنات الدقيقة توالداً تلقائياً من اللحم المتعفن أو الفاسد، أو حتى من الصين، كاد يكون سائداً تماماً، ولو أن هارفي كان على وشك أن يدحضه في كتابهِ "توالد الحيوان"(1651). وكان علم الحيوان متخلفاً، لأن نفراً قليلاً من المفكرين رأوا الأجداد العليا للحيوان كما رأوهم في الإنسان ولكن في 1632 كتب جاليليو إلى دوق تسكانيا الأكبر:"ولو أن التباين بين الإنسان وسائر الحيوان هائل جداً، فإنه يمكن القول بحق بأنه أكثر قليلاً من التباين بين بني البشر أنفسهم (52) ". أن العقل الحديث كان يرتد ببطئ إلى ما عرفه الإغريق قبل ذلك بألفي عام.

وآوى علم التشريح إلى شيء من الركود بعد جهود فيساليوس. وكان تشريح الجثث لا يزال محل معارضة-كما فعل هوجو جروتيوس (53). ولكن "دروس التشريع" الكثيرة في الفن الهولندي تعكس الارتياح العام إلى هذا العمل. والاسم اللامع هنا، مثلما هو في الجراحة هو جيولامو فابرزيو أكوابندانت. تلميذ فللوبيو وأستاذ هارفي. وفي أثناء رياسته لجامعة بادوا شيدت هناك قاعة التشريح الكبرى-وهي المبنى الوحيد المحتفظ به كاملاً من تلك الحقبة، إن اكتشافه للصمامات في الأوردة، ودراساته في تأثيرات الأربطة قادتا هارفي إلى شرح الدورة الدموية وتقدمت المعرفة بدورة السوائل في الجسم خطوة إلى الأمام بكشف جاسبارو أسللي للأوعية اللمفاوية التي تنقل الكيلوس الشبيه باللبن (مستحلب الطعام المهضوم قبل امتصاصه) من الأمعاء الدقيقة. والحق أن أسللي، على الرغم من اسمه "الجحش الصغير" وصف الدورة الدموية قبل أن ينشر هارفي نظريته بست سنين. وكان اندريا سيسالبينو قد شرح النظرية الأساسية (1571) قبل هارفي بنصف قرن. وظل يتعلق بالفكرة القديمة، وهي أن بعض الدم يمر من الحجاب الحاجز للقلب، ولكنه

ص: 250

اقترب، أكثر من هارفي، من شرح كيفية انتقال الدم من الشرايين إلى الأوردة إن أنبل الجيوش كانت تتقدم على مائة جبهة لتخوض أعظم الحروب والمعارك إنها معارك العلم.

‌6 - العلم والصحة

وفي هذا النضال من أجل العلم والمعرفة، كانت المعركة الأساسية هي معركة الحياة ضد الموت، وهي معركة خاسرة على الصعيد الفردي، ظافرة بانتظام على المستوى الجماعي. وكم للأطباء والمستشفيات، وفي نضالهم لعلاج الأمراض والآلام، من أعداء بشريين في القذارة الشخصية، والقذارة العامة، والسجون الكريهة الرائحة والمثيرة للاشمئزاز، والدجالين وجرعاتهم السحرية، والمتصوفين "العلميين"، ومعالجي الفتق، نديبي الحجارة، ومعالجي إعتام عدسة العين، وخالعي الأسنان، هواة تحليل البول. وسارت الأمراض الجديدة في سباق مع العلاجات والأدوية الجديدة.

وكان مرض الجذام قد اختفى، وقللت الوسائل الوقائية من الإصابة بمرض الزهري، وكان فاللوبيو قد اخترع (1564) غلافات من الكتان لاتقاء عدوى هذا المرض. (وسرعان ما استخدم هذا لمنع الحمل، وكان يباع لدى الحلاقين المومسات أو أصحاب المواخير (54)). ولكن أوبئة التيفوس والتيفود والحمى والمالاريا والدفتريا، والإسقربوط والأنفلونزا والجدري والدوزنتاريا، ظهرت في تلك الحقبة في عدة أقطار في أوربا، وبخاصة ألمانيا. وثمة إحصاءات قد يكون مبالغاً فيها، بأن الوفيات بلغت 4000 من الطاعون الدملي في بازل 1563 - 1564، وأن 25% من سكان فريبورج-أم-بريزو ماتوا بالطاعون 1564، و9000 في ردستوك، و5000 في فرانكفورت 1565، 4000 في هانوفر، و6000 في برونزويك 1566 (55) وعزا السكان المذعورون مثل هذا الطاعون إلى دس السموم عمداً. وفي فرانكشتين في سيليزيا أحرق 17 شخصاً

ص: 251

أحياء حتى الموت للاشتباه في أنهم دسوا السم (56). وكانت وطأة الطاعون الدملي شديدة جداً في فرانكفرت في 1604 حتى لم يعد هناك من الرجال من يكفي للقيام بدفن الموتى (57). وتلك مبالغات واضحة، ولكن يروى عن مصادر موثوقة أنه بسبب الطاعون الدملي في إيطاليا 1629 - 1631 مات في ميلان 86 ألفاً، وفي جمهورية البندقية ما لا يقل عن 500 ألف، وفيما بين 1630 - 1631 كان عدد ضحايا الطاعون مليون شخص في جنوب إيطاليا وحده (58)، وقلما سار معدل الإنجاب عند النساء مع شدة الدهاء وسعة الحيلة في إزهاق الأرواح. وضوعفت آلام الوضع بتزايد عدم جدواه. وكانت نسبة الوفيات في الأطفال تبلغ خمس المواليد قبل إتمام السنة الثانية من العمر (59) وكانت الأسرات كبيرة والسكان قليلين.

وكانت الصحة العامة آخذة في التحسن، والمستشفيات يتضاعف عددها وتعليم الطب يصطبغ بالتشدد والصرامة-ولو أنه كان من الميسور الاشتغال بالطب دون الحصول على درجة علمية. وكان في بولونا وبادوا وبازل وليدن ومونبيلييه وباريس مدارس طب ذائعة الصيت تجذب إليها الطلاب من كل أنحاء أوربا الغربية. وأمامنا مثال فذ من البحث الطبي الدءوب طيلة ثلاثين عاماً من التجارب حاول بها سانكتوريوس تحويل العمليات الفسيولوجية إلى نظم كمية. وأنجز قدراً كبيراً من عمله بينما كان جالساً إلى مائدة على ميزان كبير، وسجل ما يطرأ على وزنه من تغيرات عند دخول أو خروج المواد الصلبة والسوائل، بل إنه وزن العرق نفسه. ووجد أن جسم الإنسان يخرج بضعة أرطال يومياً عن طريق التنفس العادي. وانتهى إلى أن هذا شكل جوهري من أشكال الطرد أو التخلص من الزوائد. واخترع مقياساً طبياً للحرارة (1612) وآخر للنبض، ليعاون هذا وذاك في تشخيص الأمراض.

وكان العلاج يتدرج من الضفدعة إلى العلقة. ووصف بعض مشاهير الأطباء، كعلاج، الضفادع المجففة تخاط في كيس يعلق على الصدر، كمصيدة

ص: 252

يتصيد ويمتص الهواء الفاسد المسموم المحيط بالجسم في المناطق المصابة بالطاعون (60). وجمعوا بين امتصاص الدم بالعلقات أو بالحجم، وبين تناول مقادير كبيرة من الماء، على أساس أن بعض السائل الداخل إلى الجسم سوف يتحول إلى دم جديد غير الملوث. وكانت ثمة مدرستان للعلاج تتباريان على الفريسة، وهو المريض: مدرسة العلاج الميكانيكي التي نشأت عن آراء ديكارت التي تقول بأن كل عمليات الجسم ميكانيكية، ومدرسة العلاج الكيميائي التي بدأها باراسلسوس، وطورها هلمونت. والتي تفسر كل وظائف الأعضاء بأنها كيمياوية. وكانت المعالجة المائية العملية الشائعة. وكانت المياه العلاجية موجودة في باث إنجلترا، وفي سبا في الأراضي الوطيئة، وفي بلومبيير في فرنسا، وفي أماكن أخرى كثيرة على الراين وفي إيطاليا، وقد رأينا مونتيني يجرب العلاج بالمياه في هذه الأماكن، ونثر حصى الكلى طوال الطريق. وأدخل إلى أوربا عقاقير جديدة، مثل الناردين (حوالي 1580)، والأنتيمون (الأثمد) حوالي 1603، وعرق الذهب (1625)، والكينين (6132). ودون دستور الصيدلة والأدوية في إنجلترا (1618) نحو 1960 عقاراً. ويذكر مونتيني علاجات خاصة أدخرها نفر من الأطباء لمرضاهم الصبورين:

القدم اليسرى لسلحفاة، بول السحلية، روث الفيل، كبد

حيوان الخلد، الدم المستخرج من الجناح الأيمن لحمامة بيضاء.

وبالنسبة للمصابين بحصى الكلى مثلي .... روث الفأر

المسحوق

وغير ذلك من السخافات التي توحي بالسحر

والتعاويذ أكثر منها بالعلم الجاد (61).

وكانت مثل هذه العلاجات التافهة الغريبة باهظة التكاليف إلى حد مثير وكان الناس في القرن السابع عشر يئنون من أثمان الدواء أكثر مما يضجون من أجور الأطباء (62).

ص: 253

وترك طب الأسنان للحلاقين، وكان يقوم في معظمه على الخلع. وكان بين "الحلاقين الجراحين" آنذاك جماعة من المحترفين المهرة، من أمثال امبرواز باري، فراسوا روست، اللذين أحييا الخلع القيصري، وجسبارو طلياكوتسي المتخصص في إعادة تشكيل الأذن والأنف والشفاه، من لدائن البلاستيك، وقد اتهمه الأخلاقيون بالتدخل في صنع الله، ونبشت رفاته من الأرض المطهرة، ودفنت في أرض غير مقدسة (63). وكان ولهلم فبري "أبو الجراحة في ألمانيا" أول من أوصى ببتر العضو أو الطرف فوق الجزء المصاب. وأورد جيوفني كول أقدم وصف معروف لعملية نقل الدم (1628).

وامتعض المرضى من أجر الطبيب، كما هو الحال في كل العصور. وسخر الممثلون الهزليون من ردائه الطويل وحذائه الأحمر، ومن رزانته ووقاره وهو إلى جانب فراش المريض، وإذا كان لنا أن نصدق هجوا الممثلون الهزليين الفكاهيين، فإن مكانته الاجتماعية لم تكن تعلو كثيراً عن مرتبة العلم، ولكنا لو رجعنا إلى تاريخ "درس التشريح" لرمبرانت، لشهدنا طبقة من الرجال تتمتع بمنزلة رفيعة في المجتمع، قادرة حتى على الإسهام في لوحة عظيمة. أن أعظم فلاسفة ذلك العصر، الذي كان يحلم، كما يحلم كل منا، بمستقبل أفضل للبشرية، فكر في تحقيق حلمه على أساس تحسين الخلق الإنساني والنهوض بالعلوم الطبية، بوصفها أكثر العوامل ملاءمة لمثل هذه الثورة، وفي هذا يقول ديكارت:"إن العقل نفسه يعتمد كثيراً على سلامة أعضاء الجسم وتنظيم أدائها لوظائفها، إلى حد أنه إذا كان من الميسور أن نفتش عن وسيلة تزيد بها عقل الإنسان وقدرته، فاعتقادي أنه ينبغي أن نلتمسها في الطب والدواء"(64).

ص: 254

‌7 - من كوبرنيكس إلى كبلر

لقد تركنا علم الفلك لنعرض له في خاتمة المطاف، لأن أبطاله، وهم يقتربون من نهاية هذه الفترة، يشكلون العناصر الرئيسية فيها.

إن نفس الكنيسة التي كان عليها أن تخرس جاليليو، قادت الطريق إلى أحد المنجزات العظمى في علم الفلك الحديث-ألا وهو إصلاح التقويم. أن مراجعة التقويم التي كان قد قام بها سوسينز ليوليوس قيصر حوالي 46 ق. م. أدت إلى زيادة السنة بإحدى عشرة دقيقة و14 ثانية. ومن ثم فإنه في 1577 تخلف التقويم اليولياني عن تعاقب الفصول بنحو 12 يوماً، وبذلك لم تقع أعياد الكنيسة في المواعيد التي قصد لها أن تقع فيها. وكم من محاولات بذلت لإصلاح التقويم: في عهد كليمنت السادس، سكستس الرابع، ليو العاشر-ولكن نشأت عوائق جمة، منها عدم اتفاق الجميع على حل معين. وعدم توفر المعرفة الدقيقة بالفلك. وفي 1576 قدم إلى البابا جريجوري الثالث عشر تقويم قام بتصويبه لوبجي ججليو. وأحاله البابا إلى لجنة من اللاهوت والمحامين ورجال العلم، ومن بينهم الجزويتي البافاري كرستوفر كلافيوس الذي اشتهر بتضليعه في الرياضيات والفلك، وواضح أن المخطط النهائي كان من صنعه. واستمرت المفاوضات طويلة مع الأمراء والأساقفة لتحقيق تعاونهم في هذا المجال وأثيرت اعتراضات كثيرة وأخفقت المساعي التي بذلت للحصول على موافقة الكنائس الشرقية. وفي 64 فبراير 1582 وقع البابا جريجوري الثالث عشر المرسوم الذي أقر "التقويم الجريجوري" في العالم الكاثوليكي. ومن أجل التعادل بين التقويم القديم والحقائق الفلكية، حذفت عشرة أيام من شهر أكتوبر 1582، أي أن اليوم الخامس اعتبر اليوم الخامس عشر، وعمدوا من أجل ذلك إلى ضروب معقدة من الحسم والخصم في حساب الفوائد وغيرها من المعاملات التجارية. وللتعويض عن الخطأ في التقويم اليولياني، فإنهم زادوا في سنوات القرون التي تقبل القسمة على 400، يوماً في شهر فبراير ليصبح 29 يوماً.

ص: 255

وعارضت البلاد البروتستانتية هذا التغيير. وتمرد الأهالي في فرانكفورت (على نهر السين) وفي بريستول، اعتقاداً منهم بأن البابا أراد أن يسلبهم عشرة أيام بل أن مونتيني نفسه زمجر وشكا، وهو الشديد الطمع في الزمن، فقال "إن ما عمد إليه البابا أخيراً من اختصار عشرة أيام من السنة قد أزعجني إلى حد أني لا أكاد استرد عافيتي (65) " ولكن التقويم الجديد-الذي لن يحتاج إلى تصويب آخر لمدة 3333 سنة-أخذ بالتدريج يلقى قبولاً في الولايات الألمانية في 1700، وفي إنجلترا في 1752، وفي السويد في 1753، وفي روسيا 1918

(1)

.

وثمة تلكؤ شبيه بهذا حدث في ارتضاء وتقبل فلك كوبرنيكس. وكان من الممكن دراسته وتعليمه في إيطاليا، لو أنه عرض على أنه فرضية قابلة للجدل، لا على أنه حقيقة واضحة (66). ودافع عنه جيوردانو برونو، وتساءل بالفعل كمبانللا إذا كان سكان الكواكب الأخرى ظنوا أنفسهم، كما يظن أهل الأرض، أنهم مركز الأشياء، وهدفها (67). وتسابق اللاهوتيين البروتستانت مع الكاثوليك عامة في استنكار الطريقة الجديدة، ودحضها بيكون وبودين على السواء (68). والأغرب من هذا كله أن أعظم الفلكيين في نصف القرن التالي لوفاة كوبرنيكس (1553)، رفضها كذلك.

ولد تيكوبراهي في 1546، في مقاطعة سكانيا التي كانت آنذاك دنمركية.

(1)

من الناحية المثالية كان يمكن تقسيم السنة إلى 13 شهراً في كل منها 23 يوماً، مع يوم إجازة لا تاريخ له (أو يومين في السنة الكبيسة) في نهاية العام. ومن ثم يكون التقويم في الصحيفة الواحد، مع بعض إشارات دوارة للدلالة على الشهر والسنة، نافعاً لكل الشهور إلى ما لا نهاية، حيث يقع كل يوم من أيام الأسبوع في نفس التواريخ على مر الشهور والأعوام. ويمكن أن تنقسم سنة العمل إلى شهور متساوية وأرباع متساوية. ولكن هذا، مع أشد الأسف قد يزعج القديسين ويوقعهم في حرية.

ص: 256

وهي الآن في الطرف الجنوبي للسويد، وكان أبوه عضواً في مجلس الدولة الدنمركي، وأمه مديرة ملابس الملكة. أما عمه الثري جورجن الذي انفطر قلبه غماً لأنه لم ينجب أولاداً، فقد اختطفه، وتملق أبويه واسترضاهما بكل الوسائل، ابتغاء موافقتهما، وهيأ للطفل كل فرص التعليم ووسائله. وفي سن الثالثة عشرة التحق تيكو بجامعة كوبنهاجن. وطبقاً لما ذكره جاسندي، انجذب تيكو إلى الفلك عندما سمع أحد المعلمين يناقش موضوع كسوف شمس قادم. ولحظ حدوث الكسوف كما تنبئوا به، وعجب لهذا العلم الذي بلغ مثل هذه القدرة على التنبؤ، واشترى نسخة من كتاب بطليموس "المجسطي". وأكب عليها إلى حد إهمال سائر الدراسات. ولم يتخلى قط عن النظرة الهندسية التي تجلت في القرن الثاني من عصرنا.

وفي سن السادسة عشرة نقل إلى جامعة ليبزخ، حيث درس القانون بالنهار، ودرس النجوم بالليل. وحذروه من أن مثل هذا العمل قد يؤدي إلى انحطاط الجسم وانهيار في الأعصاب. ولكن تيكو أصر وثابر، وأنفق كل ما يحصل عليه في شراء الآلات الفلكية. وفي 1565 مات عمه، تاركاً له ثروة كبيرة. وأسرع تيكو بعد تسوية أموره، إلى وتنبرج، لمزيد من الرياضيات والفلك، ثم غادرها فراراً من الطاعون، إلى روستوك، وهناك اشترك في مبارزة أطاحت بجزء من أنفه، فاتخذ أنفاً براقاً جداً من الفضة والذهب ظل به بقية حياته. وانهمك في التنجيم وتنبأ بموت سليمان القانوني، ليجد أن السلطان قد فارق الحياة بالفعل (69). وبعد كثير من التجوال في ألمانيا عاد إلى الدنمارك، وشغل نفسه بالكيمياء. وأعاده إلى الفلك كشف نجم جديد في مجموعة ذات الكرسي (1572). أن ملاحظاته السعيدة لهذا النجم المتنقل، وما كتبه عنه في أول مؤلف نشر له "النجم الجديد" أكسباه شهرة في كل أنحاء أوربا. ولكن أزعجا بعض وجهاء الدنمارك الذين اعتقدوا أن التأليف ضرب من حب الظهور الذي لا يليق بالدم الأزرق. وأذهلهم

ص: 257

تيكو بزواجه من بنت فلاحة. يبدو أنه أحس بأن زوجة وربة بيت بسيطة، خير من رفيق لفلكي منصرف بكليته إلى الفلك، وأحسن صنو منفتح سمح لرجل ذي أنف ذهبي.

ولما لم يقنع تيكو بالتسهيلات الفلكية في كوبنهاجن، فإنه اتخذ طريقه إلى كاسل، حيث كان الدوق وليم الرابع قد بنى 1561 أول مرصد ذي سقف دوار، وطور يوست بورجي ساعة ذات رقاص (بندول) جعلت من الميسور تحديد أوقات رصد النجوم وحركاتها في دقة لم يسبق لها مثيل. وامتلأ تيكو حماساً جديداً فعاد إلى كوبنهاجن، وأثار اهتمام فردريك بمشروع لإقامة مرصد. فوضع الملك تحت تصرفه جزيرة هفين (فينوس) في مياه السوند، وأجرى عليه راتباً كبيراً، واستطاع تيكو بهذا المال بالإضافة إلى موارده الخاصة، أن يشيد هناك قصراً وحدائق أطلق عليهما أورانبيرج (مدينة السماء)، وكانت تضم مساكن ومكتبة ومعملاً وعدة مراصد ومصنعاً لما تحتاج إليه من آلات. ولم يكن لديه مقراب (تلسكوب)، حيث كان لا بد من انتظار ثمانية وعشرين عاماً حتى يتم اختراعه-على أن أرصاد تيكو هي التي قادت كبلر إلى اكتشافات قيمة كانت فاتحة لعصر جديد.

وطيلة إحدى وعشرين سنة في جزيرة هفين جمع تيكو وتلاميذه من المادة ما يفوق في حجمه ودقته أية مادة معروفة من قبل. وسجل كل يوم، ولعدة سنوات، حركة الشمس الظاهرية، وكان من أوائل الفلكيين الذين أدخلوا في حسابهم انحراف الضوء وأخطاء الراصدين والآلات، ولذلك عاود إرصاده وملاحظاته مرات ومرات. وكشف عن التغيرات في حركة القمر ووضعها في صيغة قانون. وأدى به تدقيقه الشديد في تفقد أحد المذنبات في 1577 إلى الاعتقاد السائد في العالم الآن، بأن المذنبات أجرام سماوية حقيقية تتحرك في مدارات محددة منتظمة، بدلاً من كونها تنشأ في الغلاف الجوي للأرض. وعندما نشر تيكو الثبت الذي جمعه عن 777 نجماً، حددها بعناية فائقة على القبة السماوية الضخمة في مكتبته، فإنه بذلك برر حياته.

ص: 258

وتوفي فردريك الثاني في 1588. وكان الملك الجديد طفلاً في الحادية عشرة، ولم يطق الأوصياء الذين تولوا الحكم صبراً على غرور تيكو براهي وحدته وإسرافه. كما فعل فردريك من قبل. وسرعان ما انخفضت المنح الحكومية ثم انقطعت في 1597. فغادر تيكو الدنمارك، وأستقر به المقام به قلعة بنانك، بالقرب من براغ، ضيفاً على الإمبراطور رودلف الثاني الذي أمل في الحصول منه على نبوءات تنجيمية. وأحضر تيكو آلاته وسجلاته من هيفن، وأعلن عن مساعد. فجاءه كبلر (1600)، وعمل مع سيده الذي يصعب التعامل معه وإرضاؤه، عملاً متقطعاً، ولكنه كان مخلصاً فيه. وفي الوقت الذي كان فيه تيكو يتوق إلى الخروج من المادة الغزيرة التي جمعها بنظرية معقولة عن السموات، دهمه وهو جالس إلى المنضدة انفجار في المثانة، وبقي يتلوى من الآلام لمدة أحد عشر يوماً ثم فارق الحياة (1601). وهو حزين على عدم إتمامه عمله. وقال خطيب الجنازة أنه "لم يطمع في شيء سوى الوقت (70) ".

‌8 - كبلر

1571 -

1631

كان انتقال تيكو إلى براغ من حسن حظ العلم، لأن كبلر ورث أرصاده وملاحظاته، واستنتج منها قوانين الكواكب التي مهدت لنظرية نيوتن في الجاذبية. وتجمعت، من براهي إلى كبلر إلى نيوتن، ومن كوبرنيكس إلى جاليليو إلى نيوتن، خطوط أساسية لتكون علم الفلك الحديث.

ولد كبلر في فيل Weil بالقرب من شتتجارت، وكان أبوه ضابطاً في الجيش، طالما خرج للحرب مؤثراً ميدانها على حياة المنزل، وأخيراً عاد وافتتح حانة اشتغل يوهان نادلاً فيها. وكان الصبي سقيماً معتل الصحة، شل الجدري يديه وأضعف باستمرار بصره. وآنس منه دوق روتنبرج أنه يمكن أن يصبح واعظاً فاضلاً. فتولى الإنفاق على تعليمه. وفي نوبنجن، حول ميكائيل ماستلن الذي كان يقوم بتدريس فلك بطليموس-حول كبلر سراً إلى

ص: 259

نظرية كوبر نيكس. وتحمس الشاب للنجوم إلى حد أنه تخلى عن التفكير في أي عمل كنسي.

وبعد الحصول على الدرجة الجامعية أصبح كبلر مدرسا في ستيريا، يعلم اللاتينية والبلاغة والرياضيات مقابل 150 جلدن في العام، مع مسكن بالمجان، يضاف إلى هذا 20 جلدن لقاء تحرير تقويم تنجيمي سنوي. وفي سن الخامسة والعشرين تزوج كبلر من سيدة في الثالثة والعشرين، كانت قد شيعت زوجاً لها إلى مثواه الأخير، وانفصلت عن زوجٍ ثانٍ، وقدمت له هذه السيدة مهراً وأتت إليه بابنة، وأضاف هو ستة أطفال بمرور الزمن. وبعد سنة من الزواج أرغم كبلر على مغادرة جراز لأنه كان بروتستانتياً (1597)، وكان فرديناند دوق ستيريا الجديد كاثوليكياً صميماً فأصدر أمره إلى كل رجال الدين والمعلمين البروتستانت بمغادرة بلاده. وكان كبلر قد اقترف إثماً آخر بنشره "الكون الخفي"(1596) الذي دافع فيه بحرارة عن نظرية كوبرنيكس، وأرسل نسخاً منه إلى تيكو وجاليليو أملاً في عونهما. وبعد سنة عانى فيها الفقر المدقع، أنقذته دعوة تيكو إياه إلى براج. ولكن كان من الصعب التعامل مع تيكو وإرضاؤه. ولقي كبلر عنتاً في العقيدة وفي كسب العيش. وانتاب الزوجة مرض عصبي. بعد ذلك توفي تيكو، وعين كبلر خلفاً له براتب سنوي قدره 500 فلورين.

وكان تيكو براهي قد أوصى لكبلر بسجلاته، ولم يورثه آلاته. ولما لم يستطع شراء أحسن الآلات، فإنه وجد نفسه مسوقاً إلى دراسة أرصاد تيكو وملاحظاته دون أن يضيف إليها شيئاً. وما كان له أن يقول مع نيوتن "إني أخترع فروضاً" بل على العكس. امتلأ رأسه بالفروض وبات يهمهم بها، "عندي ذخيرة من المخترعات أو من ثمرات الخيال (71) ". وكانت مهارته الفذة تكمن في اختبار الفروض. كما تمثلت حكمته وعقله في طرحها جانباً، إذا ثبت أن النتائج التي توصل إليها رياضياً، لا تتمشى مع الظواهر التي رصدها أولاً حظها (72). وفي محاولته لتعيين مدار المريخ جرب 70 فرضاً على مدى أربع سنوات.

ص: 260

وفي آخر الأمر في 1604 توصل إلى كشفه الأساسي الممتاز الذي فتح عصراً جديداً-وهو أن مدار المريخ حول الشمس عبارة عن قطع ناقص، وليس دائرة، كما ظن الفلكيون ابتداء من أفلاطون ومن جاء بعده بما فيهم كوبرنيكس. فالمدار المتخذ شكل القطع الناقص هو الوحيد الذي ينسجم مع الأرصاد المتكررة التي قام بها تيكو وغيره. وقفز ذهن كبلر المتوقد الذكاء إلى التساؤل: ماذا لو كانت مدارات كل كواكب على شكل قطع ناقص؟ وبادر إلى تفحص الفكرة على أساس الملاحظات والأرصاد المدونة، فاتفقت معها اتفاقاً يكاد يكون تاماً. وفي رسالة باللاتينية عن حركات المريخ "الفلك الجديد وحركة المريخ". (1609) نشر أول قانونين من "قوانين كبلر" أولهما: إن كل كوكب يدور في مدار على شكل قطع ناقص، الشمس إحدى بؤرتيه، والثاني أن سرعة دوران الكوكب تزيد كلما قرب من الشمس، لا كلما ابتعد عنها، وأن نصف القطر الذي يمتد من الشمس إلى الكوكب يقطع، في دورانه مسافات متساوية في أزمنة متساوية، وعزا كبلر الاختلافات في سرعة الكواكب إلى زيادة انبثاق الطاقة الشمسية التي يحسها الكوكب كلما اقترب من الشمس، ومن هذه الناحية طور كبلر عن جلبرت فكرة الجذب المغناطيسي وهي قريبة جداً من نظرية نيوتن في الجاذبية.

وعند موت الإمبراطور رودلف (1612) انتقل كبلر إلى لنز، وعاد ثانية إلى العيش على التعليم في المدارس، وماتت زوجته فتزوج من بنت فقيرة يتيمة. وفيما كان يزود بيته الجديد بالخمر، افتتن بالصعوبة التي لقيها في تقدير محتويات قنينة ذات جوانب منحنية. وساعد البحث الذي نشره عن هذه المسألة على التمهيد لاكتشاف حساب التفاضل (الكميات المتناهية الصغر).

وبعد أن فكر كبلر لمدة عشر سنوات تفكيراً عميقاً في إيجاد العلاقة بين سرعة الكوكب وحجمه، نشر في كتابه "تناسق الكون"(1619) قانونه الثالث، مربع زمن دورة الكوكب حول الشمس يتناسب مع الجذر التكعيبي

ص: 261

لمتوسط بعده عن الشمس (مثال ذلك. أن زمن دورة المريخ يمكن إثبات أنه 1. 88 من زمن دورة الأرض، ومربع هذا هو 3. 53 والجذر التكعيبي لهذا هو 1. 52، أي أن متوسط المسافة بين المريخ والشمس يصبح 1. 52 من المسافة بين الأرض والشمس. وكان كبلر أن يبتهج أيما ابتهاج لوضعه دوران الكواكب بمثل هذا الترتيب والانتظام إلى درجة أنه شبه كل سرعة في المدار بنغمة على السلم الموسيقي، وانتهى إلى أن الحركات مجتمعة شكلت "تناغم النجوم" الذي لا تسمعه، على أية حال، إلا "روح" الشمس. ومزج كبلر عمله بالتصوف موضحاً مرة أخرى مقالة جوته الكريمة. إن عيوب الإنسان هي أخطاء زمانه، على حين أن فضائله هي من عنده. ويمكن أن نغتفر غروره حين كتب في مقدمة "تناسق الكون".

أن ما وعدت به أصدقائي في عنوان هذا الكتاب

وما أثرته منذ 16 عاماً كموضوع يستحق البحث. وهو الذي من أجله انضممت إلى تيكوبراهي

وهو الذي خصصت له أحسن سني حياتي .... قد أخرجته اليوم إلى النور

لم تمضِ بعد ثمانية عشر شهراً حين سقطت الشمس المشرقة على

لن يعوقني شيء، سوف أطلق العنان لثورتي المقدسة

إذا غفرتم لي فلسوف أبتهج .. ولئن غضبتم فلسوف أحتمل غضبكم

سبق السيف العذل. لقد وضع الكتاب، وليس يهمني كثيراً أن يقرأ الآن، أو أن تقرأه الذراري والأعقاب، ولم لا ينتظر قرناً ليجد قارئاً، كما انتظر "الله" الإله ستة آلاف عام حتى وجد مستكشفاً (73).

وفي "خلاصة فلك كوبرنيكس"(1618 - 1621) أوضح كبلر كيف أن قوانينه أيدت وشرحت وأصلحت من نظرية كوبر نيكس، فقال "لقد شهدت من أعماق نفسي بأنها صحيحة، وإني لأتأمل جمالها في ابتهاج غامر لا يكاد يصدق (74) " ووضعت الرسالة في عداد الكتب المحظورة لأنها نمت

ص: 262

عن أن نظرية كوبرنيكس كانت قد أثبتت. ولم ينزعج كبلر، وهو البروتستانتي الورع. وعاش لفترة قصيرة في بحبوحة من العيش وسط التهليل والتصفيق. وكان بصفة فلكي الإمبراطور، ومن بريطانيا النائية دعاه جيمس الأول (1620) ليذهب إلى هناك ليزدان به البلاط الملكي ولكنه رفض الدعوة خشية أن يعاني من أن يصبح حبيساً في جزيرة (75).

وشارك كبلر أهل زمانه في الإيمان بالسحر، واتهمت أمه بممارسته. وأدعى بعض الشهود أن ماشيتهم، بل أنهم هم أنفسهم، قد انتابتهم العلل لمجرد أن "فرو كبلر" قد مستهم، وأقسمت إحدى المشهدات على أن ابنتها البالغة من العمر 8 سنوات قد أصابها سحر أم كبلر بالمرض، وهددت بقتل الساحرة إذا لم تبادر بإبراء البنت. وأنكرت المرأة المتهمة كل ما نسب إليها، ولكن قبض عليها وأودعت السجن مكبلة في الأغلال، ودافع عنها كبلر في كل مراحل نظر الدعوى. واقترح المدعي العام في الولاية أن ينتزع منها الاعتراف بالتعذيب، واقتيدت إلى غرفة التعذيب لترى الآلات المستخدمة فيه، ولكنها ظلت تؤكد براءتها. وأفرج عنها بعد أن قضت في السجن ثلاثة عشر شهراً. ولكنها ما لبثت أن ماتت (1622).

إن هذه المأساة بالإضافة إلى آثار نشوب الحرب هنا وهناك، ملأت سبي كبلر الأخيرة بالغم والقتام. وفي 1622 احتلت القوات الإمبراطورية مدينة لنز وقارب سكانها أن يهلكوا جوعاً. وفي وسط هذه الفوضى واصل كبلر صياغة أرصاده وملاحظاته، وأرصاد تيكو وغيره من الفلكيين وملاحظاتهم، وتدوينها في "الجداول الرودلفية" التي ضمت وصنفت 1005 نجماً، وبقيت ذات قيمة معترف بها لمدة قرن من الزمان. وفي 1626 انتقل إلى أولم. وأبطأ به راتبه الإمبراطوري ولاقى عنتاً شديداً في الإنفاق على أسرته. وأهاب بدوق والنشتين أن يعينه منجماً، فكان له ما أراد، وظل لعدة سنوات يتبع القائد يحسب له الطالع وينشر التقاويم التنجيمية. وقصد في 1632 إلى رجنز برج يلتمس من الدير أن يدفع له رواتبه المتأخرة.

ص: 263

واستنزفت الجهود ما بقي له من قوى جسمية، فانتابته الحمى، وأودت بحياته في أيام قلائل (15نوفمبر 1630) وهو في التاسعة والخمسين من العمر وقد طمست الحرب كل معالم قبره.

وكانت رسالته في تاريخ الفلك أن يتوسط بين كوبرنيكس ونيوتن. وتقدم على كوبرنيكس بإحلاله المدارات ذات القطع الناقص محل المدارات الدائرية، وبالتخلي عن الانحرافات وأفلاك التدوير، وفي وضعه الشمس في إحدى بؤرتي القطع الناقص، لا في مركز دائرة. وبهذه التغييرات خلص نظرية كوبرنيكس من الصعاب التي كادت تبرر رفض تيكوبراهي لها. وعن طريقة بدأت الآن فكرة القياس من مركز الشمس تلقى قبولاً وتنتشر انتشاراً واسعاً. وحول ما كان مجرد حدس براق، إلى فرضية مصوغة في تفصيل رياضي. وأمد نيوتن بقوانين الكواكب التي قادته إلى نظرية الجاذبية. وعلى حين احتفظ كبلر بعقيدته الدينية راسخة لا تتزعزع، أظهر أن الكون كيان له قانون، ونظام كامل متناغم متناسق، فيه قوانين تحكم الأرض كما تحكم هي نفسها النجوم. وهو يقول "أن كل ما أصبو إليه أن أدرك كنه الذات الإلهية. فأني أجد الله في الكون الخارجي مثلما أجده في داخلي أنا"(76).

‌9 - جاليليو

1564 -

1642

أ - الفيزيائي

ولد جاليلو جاليلي في بيزا يوم وفاة ميكلأ نجلو (18 فبراير 1564)، في نفس العام الذي ولد فيه شكسبير. وكان أبوه فلورنسياً مثقفاً أسهم في تعليمه اليونانية واللاتينية والرياضيات والموسيقى. ولم يكن من قبيل البعث أن يكون جاليليو، على وجه الدقة تقريباً، معاصراً لمنتفردي (1567 - 1643) لأن الموسيقى كانت من ضروب عزائه وسلواه الدائمة، وبخاصة في سني شيخوخته التي فقد فيها بصره، فعزف على الأرغن عزفاً جديراً بالإكبار والتقدير،

ص: 264

وعزف على العود عزفاً جيداً. وأحب الرسم والتصوير، وأبدى في بعض الأحيان أسفه أنه لم يصبح فناناً. وفي إيطاليا العجيبة التي قضى فيها شبابه، ظل تيار النهضة يلفح الوجوه موحياً إلى الناس بالكمال. وحزن جاليليو لأنه لم يتيسر له أن يصمم معبداً أو ينحت تمثالاً أو يصور لوحة أو ينظم شعراً أو يؤلف موسيقى أو يقود سفينة (77)، لقد هفت نفسه إلى أن يقوم بهذا كله، وإنا لنحس حين ندقق النظر فيه أنه لم يكن يعوزه إلا الوقت. وكان يمكن تحت إي ظروف على اختلافها، أن يكون مثل هذا الإنسان رجلاً عظيماً في أية ناحية من النواحي. ونزع جاليليو في صباه، بطبيعته أو بحكم الظروف إلى صنع الآلات والعب بها.

وأرسل وهو في السابعة عشرة إلى جامعة بيزا ليدرس الطب والفلسفة وبعد سنة واحدة أنجز كشفه العلمي الأول-وهو إن تأرجحات البندول، بصرف النظر عن اتساعها، تستغرق نفس الوقت. وبإطالة ذراع البندول أو تقصيره أمكنه أن ينقص أو يزيد من معدل ذبذبته حتى تزامنت مع نبضه، وبهذه "البلسيلوجيا"(علم النبض) استطاع أن يقيس ضربات القلب بدقة.

وحوالي هذا الوقت اكتشف إقليدس، حيث استمع مصادفة إلى معلم يدرس الهندسة لغلمان تسكانيا الأكبر، فبدا له أن منطق الرياضيات أسمى، بما لا يقاس. من الفلسفة الأسكولاستية (الفلسفة النصرانية في القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة) وفلسفة أرسطو، اللتين تلقاهما في قاعة الدرس فانصرف خفية، وفي يمناه "مبادئ" إقليدس، إلى متابعة دروس معلم الغلمان واهتم به المعلم، ولقنه الدروس سراً. وفي 1585 ترك جاليليو جامعة بيزا دون أن يحصل على درجة وانتقل إلى فلورنسة، وبتوجيه من المعلم انصرف في ولع شديد إلى الرياضيات والميكانيكا. وبعد ذلك بعام واحد اخترع ميزاناً هيدروستاتيا ليقدر الأوزان النسبية للمعادن في سبيكة وأثنى عليه وامتدحه كلافيوس الجزويتي لبحث في مركز الجاذبية في الأجسام الصلبة. وفي تلك الأثناء انحطت موارد أبيه، وكان عليه أن يواجه الالتزام بكسب قوته بنفسه

ص: 265

فتقدم بطلبات للتدريس في بيزا وفلورنسة وبادوا، فرفضوا تعيينه لصغر سنه وفي 1589، بينما كان هو وأحد أصدقائه يسعيان للحصول على عمل في القسطنطينية وفي الشرق، نمى إلى علمه خلو كرسي الرياضيات في بيزا. فتقدم لشغله، وهو قليل الرجاء في الحصول عليه. وكان بعد في الخامسة والعشرين. وعين في هذا المنصب لمدة ثلاث سنوات براتب قدره 60 سكودي في العام. وكاد بهذا الراتب أن يتضور جوعاً، ولكنه استطاع أن يكشف عن نشاطه وجلده.

لقد اشتد عوده إلى حد كبير، فبدأ لفوره، من منصة التدريس، في شن الحرب على فيزياء أرسطو. لقد قال الإغريق "بأن الحركة إلى أسفل لأية كتلة من الذهب أو الرصاص أو أي جسم آخر يهبط نتيجة تنقله، أسرع بالنسبة لحجمه (78). وذهب لكريشيس (79) وليناردو دافنشي (80) إلى هذا الرأي. وفي الأزمنة القديمة نفسها ناقش هبارخس (حوالي 130 ق. م) رأى أرسطو عن هبوط الأجسام بفعل الثقل. وذهب يؤانس فيليبونس (533) وهو يعلق على أرسطو "إلى أن الفرق الزمني بين سقوط جسمين وزن أحدهما ضعف وزن الآخر"، هو لا شيء البتة، أو أنه فرق ضئيل جداً لا يمكن (81) إدراكه وهنا نأتي إلى قصة مشهورة، ولو أنها محل نزاع، وردت أولاً في سيرة حياة جاليليو، التي كتبها صديقه فنشنزو فيفياني في 1654 (بعد 12 عاماً من وفاة جاليليو)، ودعياً أنها مستقاة من كلام جاليليو نفسه.

ما كان أشد فزع الفلاسفة كلهم، حين أثبت جاليليو أن كثيراً جداً من النتائج التي استخلصها أرسطو، زائفة، عن طريق التجارب والبراهين الدامغة

من ذلك أن سرعة الأجسام المتحركة من مادة واحدة، ولكن مختلفة الوزن، ومتحركة في نفس الوسط لا تحتفظ بالتبادل بتناسب وزنها. كما قال أرسطو. ولكنها كلها تتحرك بنفس السرعة. مد الأعلى ذلك بتكرار التجارب من فوق برج بيزا، بحضور

ص: 266

سائر المعلمين وكل الفلاسفة والطلبة

أنه عز مكانة كرسي التدريس وحظي بشهرة أهاجت حقد الفلاسفة منافسيه عليه حتى ثاروا ضده (82).

أن جاليليو نفسه لم يذكر شيئاً عن تجربة بيزا في كتاباته الباقية. كما أنه لم يرد ذكرها فيما دونه من معاصريه في 1612 و 1641 عن تجاربهما الخاصة بهما في إسقاط أجسام مختلفة الوزن من فوق البرج المائل (83) ورفضت قصة فيفياني على أنها أسطورة من نسج بعض الباحثين في ألمانيا وأمريكا

(1)

. وليس من المؤكد كذلك أن زملاءه الأساتذة في بيزا استاءوا. وترك هذه الجامعة في صيف 1592، وربما كان السبب في ذلك أنه عرض عليه مركز أعلى ومرتب أكبر، فنراه في سبتمبر أستاذاً في بادوا يدرس الهندسة الميكانيكا والفلك، وقد حول داره إلى معمل دعا إليه طليته وأصدقائه. وتجنب الزواج ولكنه اتخذت عشيقة أنجبت له ثلاثة أطفال.

ووضع جاليلو ما جمعه من أبحاث وتجارب، في كتابه "محاورات حول علمين جديدين" وذلك في أيامه الأخيرة، قبيل وفاته، ويقصد بهذين العلمين الاستاتيكا والديناميكا. وأثبت عدم قابلية المادة للفناء. وصاغ قواعد الرافعة والبكرة. وأوضح أن سرعة سقوط الأجسام سقوطاً مطلقاً تزيد بنسبة

(1)

إن كتابات أرسطو هي في الغالب ملاحظات موجزة، ربما توسع فيها أو عدلها في محاضراته. وربما قصد بقطعة " De Coelo" أنه في وسط مقاوم، بما في ذلك الهواء الطلق، تسقط الأشياء ذات الكتلة المكثفة مثل قطعة النقود، أسرع ما تسقط الأشياء ذات الحجم الكبير والوزن الصغير مثل قطعة الورق. وهذا بطبيعة الحال صحيح. ولكن في الفراغ، تسقط قطعة النقود والورقة أو كرة من الرصاص وريشة، بنفس السرعة. بل أنه حتى في الهواء الطلق، فإن قطعة الورق إذا تغصنت في كتلة متضامنة تسقط بنفس السرعة التي تسقط بها العملة تقريباً. وإذا لحظنا التعديل في بيان فيفياني أن الأشياء يجب أن تكون من نفس المادة .. وأن تسقط في نفس الوسط، فإن الهوة بين فيلسوف اليونان وعالم بيزا تضيق كثيراً.

ص: 267

منتظمة. وقام بتجارب كثيرة على مستويات مائلة، وحاول أن يبرهن على أن أي جسم يتدحرج إلى أسفل على مستوي يمكن أن يصعد على مستوي مماثل إلى ارتفاع مماثل لسقوطه لولا الاحتكاك أو أية مقاومة أخرى. وانتهى إلى قانون القصور الذاتي (وهو أول قوانين نيوتن للحركة) -وهو أن أي جسم متحرك، يستمر بشكل غير محدود في نفس الخط وبنفس معدل الحركة، ما لم تتدخل معه قوة خارجية (84) وأثبت أن أية قذيفة تدفع في اتجاه أفقي تسقط إلى الأرض في منحنٍ قطعي مكافئ يقابل قوة الدفع وقوة الجاذبية. وحول العلامات الموسيقية إلى مسافات موجية في الهواء، وأوضح أن درجة النغم تعتمد على عدد الذبذبات التي يحدثها الوتر المعزوف في وقت محدد. وقال بأن النغمات تبدو متوافقة متآلفة إذا طرقت الذبذبات الآذان في انتظام إيقاعي (85). إن خواص المادة لا تكون إلا للمادة التي يمكن معالجتها رياضياً-التمدد، الوظيفة، الحركة الكثافة. أما الخواص الأخرى-الأصوات والطعم والرائحة والألوان وما إليها، فإنها تستقر في الشعور فقط، فإذا فنيت المخلوقات الحية انمحت هذه الصفات وأبطلت (86). وراوده الأمل في أن هذه "الصفات الثانوية" يمكن بمرور الزمن تحليلها إلى خواص طبيعية أولية للمادة والحركة. ويمكن قياسها رياضياً (87).

وتلك إضافات أساسية مثمرة للعلم، عوقها عدم كفاية الآلات والأجهزة العلمية. ومن ذلك أن جاليليو استخف بعامل مقاومة الهواء في سقوط الأجسام والقذائف. ولكن ما من رجل، منذ أرشميدس، أدى للفيزياء مثلما أدى جاليليو.

ب - الفلكي

كان جاليليو، في أخريات أيام إقامته في بادوا، يخصص جزءاً أكبر فأكبر من وقته للفلك. وفي 1596 كتب إلى كبلر (الذي يصغره بسبع سنين) رسالة يشكره فيها على كتابه "الكون الخفي" جاء فيها: -

ص: 268

إني لأعتبر نفسي سعيداً لأجد في شخصك زميلاً عظيماً مثلك، في بحثي عن الحقيقة

وسأعكف على قراءة كتابك تحدوني كل الرغبة في استيعاب ما فيه، لأني كنت لعدة سنوات من أنصار نظرية كوبرنيكس، ولأنه (أي الكتاب) يكشف لي عن أسباب كثيرة من الظواهر الطبيعية البالغة الإبهام والتي لا يمكن فهم كنهها في ضوء الفرضية المقبولة عامة. ودحضنا لهذه الفرضية جمعت براهين كثيرة. ولكني لا أنشرها، حيث يثنيني عن نشرها حظ أستاذنا كوبرنيكس الذي حظي لدى نفر قليل من الناس بشهرة خالدة، ولكن لقي تجريحاً واستنكاراً من كثرة لا يحصى عديدها (لأن عدد الأغبياء كبير جداً).

وقد أتجاسر على نشر تأملاتي إذا كثر أمثالك (88).

وأعلن جاليليو إيمانه بنظرية كوبرنيكس في محاضرة ألقاها في بيزا 1604 وصنع في 1609 أول مقراب (تلسكوب) له، وفي 21 أغسطس عرضه على السلطات الرسمية في البندقية وإليك روايته في هذه المناسبة: -

إن كثيراً من النبلاء وأعضاء السناتو، برغم كبر سنهم، صعدوا أكثر من مرة إلى قمة أعلى كنيسة في البندقية (سان مارك) لكي يروا الأشرعة والمراكب

وهي بعيدة جداً بحيث لا بد من انقضاء ساعتين قبل رؤيتها بغير منظاري المقرب

لأن تأثير آلتي يصل إلى حد أن أي جسم على مسافة خمسين ميلاً، يظهر كبيراً كما لو كان كان على مسافة خمسة أميال فقط

إن السناتو الذي عرف كيف نهضت بخدمته لمدة سبعة عشر عاماً في بادوا

أصدر أمراً باختياري الأستاذية مدى الحياة (89).

وأدخل جاليليو على تلسكوبه من التحسينات ما جعله يكبر الأشياء ألف مرة. وذهل لما رأى من عالم جديد من النجوم التي تبلغ عشرة أمثال ما دون عنها من قبل. وشوهد أن المجموعات الآن تحتوي على عدد كبير من النجوم لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ورئي أن "بنات أطلس" ستة وثلاثون

ص: 269

بدلاً من سبع، وأن "كوكبة الجبار" ثمانون بدلاً من سبع وثلاثين، وظهرت "المجرة" لا كتلة سديمية، بل غابة من النجوم الكبيرة أو الصغيرة. ولم يعد القمر سطحاً أملس، بل تغضن من الجبال والأودية، ويمكن أن يفسر ضوءه في نصفه غير المواجه للشمس بأنه، بصفة جزئية، راجع إلى ضوء الشمس المنعكس من الأرض. وفي يناير 1610 اكتشف جاليليو أربعة من "الأقمار" التسعة، أو توابع المشتري. وكتب يقول:"هذه الأجسام الجديدة تدور حول نجم آخر كبير جداً، مثلما يدور حول الشمس، عطارد والزهرة، وربما غيرهما من الكواكب الأخرى المعروفة (90) " وفي يولية اكتشف دائرة زحل الذي ظنه خطأ ثلاثة نجوم. وكان نقاد كوبرنيكس قد قالوا بأنه إذا كانت الزهرة تدور حول الشمس، فلا بد أن يكون لها، مثل القمر، أوجه-أي تغييرات في النور وأشكال ظاهرية، وقالوا بأنه لا توجد أية علامة على هذه التغييرات. ولكن في ديسمبر كشف تلسكوب جاليليو عن مثل هذه الأوجه، واعتقد بأنه لا يمكن تفسيرها إلا بدوران الكوكب حول الشمس.

إننا لا نكاد نصدق، ولكن جاليليو أكد في رسالة إلى كبلر، أن أساتذة بادوا أبوا أن يؤمنوا بصحة كشوف جاليليو، بل أبوا أن يشاهدوا السموات من خلال مناظيره (91). لقد سئم الحياة في بادوا وتطلع إلى مناخ علمي أفضل في فلورنسة (التي كانت الآن تتحول من الفن إلى العلم) فأطلق على توابع المشتري اسم "سيديرا مديشيا" وهو اسم كوزيمو الثاني دوق تسكانيا الأكبر وفي مارس 1610 أهدى إلى كوزيمو رسالة باللاتينية ( Sidereus Nuncius) لخص فيها كشوفه الفلكية. وفي شهر مايو كتب إلى سكرتير الدوق رسالة تلتهب بمثل الحماسة والزهو اللذين فاضت بهما رسالة ليوناردو إلى دوق ميلان في 1482. وعدد فيها الموضوعات التي كان يدرسها، والكتب التي يأمل أن يدون فيها ما انتهى إليه من نتائج، وتسائل هل في مقدوره أن يحصل له من سيده على وظيفة تتطلب أقل الوقت للتدريس وأكثر الوقت للبحث. وفي

ص: 270

يونية عينه كوزيمو "كبير الرياضيين في جامعة بيزا، وكبير الرياضيين والفلاسفة لدى الدوق الأكبر"، براتب سنوي قدره ألف فلورين، دون التزام بالقيام بالتدريس. وفي سبتمبر انتقل جاليليو إلى فلورنسة، دون أن يصطحب معه خليلته.

وكان قد أصر على لقب الفيلسوف ولقب الرياضي على السواء، لأنه أراد أن يؤثر في الفلسفة والرياضيات كلتيهما. وأحس، كما أحس راموس وبرونو وتلزيو وغيرهم من قبل، وكما كان يدلل بيكون في نفس هذا العقد من السنين. على أن الفلسفة (التي فهمها على أنها دراسة وتفسير في جميع مظاهرها) قد ارتمت في أحضان أرسطو، وأنه قد حان الوقت للتحرر من الأربعين مجلداً اليونانية، وللنظر إلى العالم بمقولات أكثر انطلاقاً وعيون وعقول مفتوحة. أنه يمكن القول بأنه وثق بالعقل ثقة كبيرة. "إني لكي أثبت لخصومي صحة النتائج التي انتهيت إليها، اضطررت إلى أن أثبتها بتجارب كثيرة مختلفة. ولو أني أنا وحدي لم أحس قط بأنه من الضروري أن أقوم بتجارب كثيرة (92).

وكان فيه من الغرور وروح المشاكسة ما يتسم به المبتكرون المجددون، ولو أنه تحدث أحياناُ في تواضع حكيم، "ما قابلت قط يوماً رجلاً جاهلاً إلا تعلمت منه شيئاً (93) ". وكان مجادلاً عنيداً بارعاً في طعن غريمه بعبارة، أو سلقه بألسنة حداد. وعلى هامش كتاب للجزويتي أنطونيو روتشو يدافع فيه عن فلك بطليموس، كتب جاليليو:"جاهل، فيل، أحمق، غبي، خصي (94) ".

ولكن هذا كان بعد انضمام الجزويت إلى اتهامه. وقبل اصطدامه بحكمة التفتيش كان له أصدقاء كثيرون في "جماعة يسوع" وعمد كريستوفر كلافيوس إلى إثبات ملاحظات جاليليو بملاحظاته هو نفسه. وأطنب جزويتي آخر في مدح جاليليو على أنه أعظم الفلكيين في ذاك العصر. وثمة لجنة من الباحثين الجزويت، عينها الكردينال بللارمين لفحص كشوف جاليليو.

ص: 271

فكتب تقريراً أيدت فيه كل النقاط (95). وعندما قصد إلى روما في 1611 أكرم الجزويت وفادته على أنه "زميل روماني" لهم. وكتب يقول: "أقمت مع الآباء اليسوعيين وكانوا قد تحققوا من الوجود الفصلي للكواكب الجديدة، ظلوا يوالون ارصادها لمدة شهرين، وقارنا ملاحظاتنا وأرصادنا فوجدناها متفقة كل الاتفاق (96) " ورحب به كبار رجال الكنيسة، وأكد له البابا بول الخامس شعوره الطيب الذي لا يتغير نحوه ورضاه نعه (97).

وفي إبريل عرض على المطارنة والأساقفة ورجال العلم في روما نتائج أرصاده التي كشفت عن وجود البقع الشمسية الني فسرها هو بأنها سُحب. ومن الواضح أن جاليليو كان يجهل أن يوهان فابريكيوس كان قد أعلن بالفعل عن كشفها في بحثه "البقع الشمسية"(ويتنبرج 1611)، واستبق جاليليو فيما استخلصه من أن "دورية" البقع تدل على دوران الشمس، وفي 1615 وجه كريستوف شينر أستاذ الرياضيات الجزويتي في أنجلوستاد، إلى ماركوس ولزر كبير القضاة في أوجزبرج، ثلاث رسائل زعم فيها أنه كشف البقع الشمسية في إبريل 1611. فلما عاد جاليليو إلى فلورنسة تلقى من ولزر نسخة من رسائل شينر، وناقشها في بحث له "ثلاث رسائل عن البقع الشمسية" نشرته أكاديمية دي لنسي في روما 1613، وزعم أنه رصد البقع في 1610، وعرضها على الأصدقاء في بادوا. وفي ملحمة ادعاء السبق إلى كشف البقع تخلخلت أواصر الصداقة بين جاليليو والجزويت.

واقتناعاً من جاليليو بأنه يمكن تفسير كشوفه على أساس من نظرية كوبرنيكس، شرع يتحدث عن النظرية على أنها قد تم إثبات صحتها. ولم يكن لدى الفلكيين اليسوعيين أي اعتراض على اعتبارها مجرد فرضية. وأرسل شينر اعتراضاته على آراء كوبرنيكس مع رسالة يستميله ويسترضيه فيها: "إذا أردت أن تتقدم بحجج مضادة فإنها لن تسئ إلينا في شيء، بل على

ص: 272

النقيض من ذلك، إن كل هذا سيعيننا على إظهار الحقيقة (98)". "وأحس كثير من رجال اللاهوت أن فلك كوبر نيكس كان واضحاً كل الوضوح أنه لا يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس. وأن الكتاب المقدس سوف يفقد قيمته وأن المسيحية نفسها سوف تتأثر إذا انتشرت آراء كوبرنيكس. ماذا يمكن أن يصيب العقيدة المسيحية الأساسية إذا كان الله سبحانه وتعلى قد اختار كوكب الأرض مقراً (كرسياً) دنيوياً له-هذه الأرض التي يريدون اليوم أن يجردونها من مكانتها السامية ومنزلتها الرفيعة، وتوضع طليقة بين كواكب أكبر منها مرات كثيرة، وبين نجوم لا حصر لها؟ "

جـ - في المحاكمة

واجه جاليليو هذه المشكلة في عناد وتشدد. وفي 21 ديسمبر 1613 كتب إلى الأب كاستللي: "حيث أن الكتاب المقدس يتطلب تفسيراً يختلف عن المعنى المباشر للألفاظ (مثلما يحدث عند تحدثه عن غضب الله، وبغضه وتأنيبه ويديه وقدميه) فإنه يبدو لي ليس للكتاب المقدس كبير شأن في حال الجدل والمنظرات الرياضية

وأعتقد أن العمليات الطبيعية التي ندركها بالرصد الدقيق أو الملاحظة الدقيقة، أو نستنتجها بالدليل المقنع، لا يمكن دحضها أو تنفيذها بآيات من الكتاب المقدس (99). وانزعج الكاردينال بللارمين، وبعث إلى جاليليو عن طريق أصدقاء الطرفين، بعتاب قاسٍ، وكتب إلى فوسكاريني تلميذ جاليليو يقول:"يبدو لي أنه ينبغي أن أنصحكما، أنت وجاليليو، ألا تتحدثا بمثل هذه اللهجة القاطعة (عن الفلك الجديد وكأنه قد ثبتت صحته)، بل على سبيل الافتراض فحسب، وهو ما أنا مقتنع بأن كوبرنيكس نفسه قد فعل من قبل (100) ".

وفي 21 ديسمبر 1614 بدأ توماسوكاتشيني، وهو واعظ دومنيكاني، اتخذ تورية بارعة من أية الإنجيل "أيها الرجال الجاليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء"(أعمال الرسل 1 - 11) ومضى يوضح أن نظرية

ص: 273

كوبرنيكس تتعارض تعارضاَ تاماً لا يقبل الجدل مع الكتاب المقدس وأرسل معرضون أقل شأناً بشكاوى إلى محكمة التفتيش، وفي 20 مارس 1615 أودع كاسيني اتهاماً رسمياً ضد جليليوني المحكمة، فكتب المونسنيور ديني إلى جاليليو أنه لم يمس بسوء إذا وضع في منشوراته بعض عبارات تشير إلى أن رأي كوبرنيكس هو مجرد فرضية (101). ولكنه أبى، كما قال، لن يعدل أو يخفف من كوبرنيكس. وفي رسالة نشرت في 1615، كتب إلى دوقة تسكانيا الكبرى يقول: "بالنسبة لترتيب أجزاء الكون، أعتقد أن الشمس قائمة دون حركة في مركز دوران الأجرام السماوية

(1)

. على حين أن الأرض تدور على محورها كما تدور حول الشمس (102)، ثم مضى يمعن في الهرطقة:

"إن الطبيعة عنيدة ثابتة لا تتغير، ولا تتجاوز قط القوانين التي فرضت عليها. ولا تكترث في قليل ولا كثير بأن الناس لا يفهمون أسبابها ولا مناهجها العويصة المبهمة. ومن ثم فإنه يبدو أنه ليس ثمة شيء طبيعي تضعه التجربة الحسية أمام أعيننا، أو تثبته لنا البراهين الضرورية، ينبغي أن يكون محل نزاع بمقتضى نصوص الكتاب المقدس، التي قد يكون لها معنى مختلف كامن وراء الألفاظ".

على أنه وعد بالامتثال للكنيسة:

إني أعلن (ولسوف يتضح صدقي وإخلاصي) لا مجرد أني أقصد أن أستسلم حراً مختاراً وأعترف بأخطائي التي يمكن أن أقع فيها في هذا النقاش، ونتيجة الجهل بأمور تتعلق بالدين، بل إني كذلك لا أحب أن أدخل في نزاع حول هذه الأمور مع أي إنسان كان

وهدفي

(1)

من سخرية التاريخ أن هذه القضية لا يؤمن بها اليوم أي فلكي، وربما كان الفلك بأسره، مثل التاريخ برمته، يجب أن يؤخذ على أنه مجرد فرضية. وليس ثوة تيقن في العالم الآخر، كما أنه ليس ثمة تيقن من الأمس.

ص: 274

الوحيد هو أنه إذا وجد من بين الأخطاء التي تكثر في بحث موضوع بعيد عن اختصاصي، أي شيء يفيد الكنيسة المقدسة في اتخاذ قرار يتعلق بمنهج كوبرنيكس، فيمكن أن تأخذه وتنتفع به، كما يحلو لرؤسائها، وإلا فليمزق كتابي ويحرق. لأني لا أقصد ولا أزعم أن أجني ثماراً تجانبها التقوى والكثلكة (103).

ولكنه أضاف: "أني لا أشعر بأني مضطر إلى الإيمان بأن الله الذي أمدنا بالإحساس والعقل والفكر، قصد بنا أن نضيع فرصة استخدامهما والانتفاع بها (104)

وفي 5 ديسمبر 1615 قصد إلى روما من تلقاء نفسه مزوداً برسائل ودية من الدوق الأكبر إلى ذوي النفوذ من المطارنة والأساقفة، وإلى سفير فلورنسة في الفاتيكان. وفي روما أخذ جاليليو على عاتقه أن يحول الرجال الرسميين عن رأيهم فرادى، وعرض نزرية كوبرنيكس كلما سنحت له فرصة وفي كل مناسبة، وسرعان ما بات "كل فرد في روما يبحث في النجوم"(105). وفي 16 فبراير1616 أصدرت محكمة التفتيش توجيهاتها إلى الكاردينال بللارمين بأن يستدعي من يدعى جاليليو وينذره بأن يتخلى عن آرائه المزعومة، وفي حالة امتناعه

يعلنه أمام كاتب العدل وبعض الشهود بالأمر بالإقلاع عن تدريس آراء كوبرنيكس أو الدفاع عنها، بل حتى مناقشتها، فإذا لم يذعن لهذا يودع السجن (106). وفي اليوم ذاته مثل جاليليو أمام الكاردينال بللارمين وأعلن امتثاله للأمر (107). وفي 5 مارس أصدرت المحكمة قرارها التاريخي:

إن الفكرة التي تقول بأن الشمس تقف بلا حركة وسط الكون فكرة سخيفة، وهي من الناحية الفلسفية فكرة زائفة، وهي كذلك هرطقة لا جدال فيها، لأنها تناقض النصوص المقدسة. والفكرة التي تقول بأنه الأرض ليست مركز للكون بل حنى أن لها دورة يومية، زائفة من الناحية الفلسفية، وأنها على الأقل اعتقاد خاطئ (108).

وفي نفس اليوم حرمت "لجنة فهرست الكتب الممنوعة" نشر أو قراءة

ص: 275

أي كتاب يدافع عن النظريات الممنوعة، أما بالنسبة لكتاب كوبرنيكس، (1543) فقد حظرت استخدامه حتى يتم تصويبه. وفي 1620 أباحت للكاثوليك قراءة الطبعات التي حذفت منها تسع عبارات كانت تثبت أن النظرية صحيحة.

وعاد جاليليو أدراجه إلى فلورنسة وخلا إلى الدروس في داره "بللو سجاردو"، وكف عن الجدل حتى عام 1622. وفي 1619 نشر أحد مريديه، ماريو جيدوتشي، مقالاً يجسم فيه نظرية جاليليو (المرفوضة الآن) وهي أن المذنبات عبارة عن انبثاقات في الغلاف الجوي للأرض، منتقداً بشدة آراء الجزويتي أورازيو جراسي فما كان من الحبر أو الأب الغاضب إلا أن نشر تحت اسم مستعار هجوماً على جاليليو وأشياعه. وفي 1622 أرسل جاليليو إلى المونسنيور شيزاريني في روما مخطوطة "للمحلل" يرد به على جراسي وينبذ في مجال العلم أي استشهاد أو مرجع إلا الرصد والعقل والتجربة. وبموافقة المؤلف خفف أعضاء أكاديمية لنسي بعض عبارات قليلة. وبهذه الصيغة قبل البابا أريان الثامن أن يهدى إليه، وأجاز طبعه (أكتوبر 1623) أنه ألمع تآليف جاليليو، وإحدى روائع النثر الإيطالي والقدرة والبراعة في الجدل والمناظرة. وقيل إن البابا سر به، وأن الجزويت تضايقوا منه.

وما أن ظفر جاليليو بهذا التشجيع حتى قصد ثانية إلى روما (أول إبريل 1624) أملاً في تحويل البابا الجديد إلى الإيمان بآراء كوبرينكس. وتلقاه أربان بالود والترحاب-واستقبله ست مرات في لقاءات طويلة، وأغدق عليه الهدايا. واستمع إلى حجج كوبرنيكس، ولكنه أبى أن يرفع حظر المحكمة. وقفل جاليليو راجعاً إلى فلورنسة، يعزيه تصريح أربان للدوق الأكبر: "لقد غمرنا بعطفه الأبوي لوقت طويل هذا الرجل العظيم الذي تتألق شهرته في السماء كما تملأ الأرض (109). وفي 1626 شد من عزم جاليليو تعيين تلميذه بنديتو كاتسللي رياضياً للكرسي البابوي، وتلميذ آخر هو الأب نيقولا ريتشاردي كبير مراقبي المطبوعات، فسارع الآن لاستكمال

ص: 276

مؤلفه الأساسي، وهو عرض لمنهج كوبرنيكس والمنهج المعارض له. وفي مايو حمل المخطوطة إلى روما، وعرضها على البابا، وحصل على ترخيص من الكنيسة بنشرها، شريطة معالجة الموضوع على أنه فريضة وعاد إلى فلورنسة حيث راجع الكتاب وأصدره في فبراير 1632 تحت عنوان طويل "محاورة جاليلي جاليليو

حيث أنه في اجتماعات دامت أربعة أيام، نوقش فيها المنهجان الرئيسيان في العالم: منهج بطليموس ومنهج كوبرنيكس. مع عرض دون تحيز ولا تجديد، للحجج الفلسفية والطبيعية للمنهجين كليهما".

وربما جلب الكتاب على مؤلفه بلايا أقل، وكسب له شهرة، لولا بدايته وخاتمته. تقول المقدمة:"إلى القارئ البصير الفطن":

منذ عدة سنوات نشر في روما مرسوم بابوي مفيد، قضى-تجنباً للنزاعات الخطيرة في عصرنا الحاضر-بفرض نطاق من الصمت المعقول على الرأي الذي نادى فيه فيثاغورس. والذي يقول بأن الأرض تدور. ومن الناس من ذكر في وقح وصفاقة-أن هذا المرسوم لم ينبع من تحريات وتدقيقات تتسم بالحكمة وحسن التمييز، بل عن هوى ينم عن قلة الدراية والمعرفة، وتعالت الشكاوى بأنه يجدر ألا يتاح للمستشارين الذين ليس لديهم أية دراية بالأرصاد الفلكية فرصة التضييق على ذوي العقول المفكرة المتأملة عن طريق قوانين الحظر المتهورة الطائشة (110).

والحق أن في هذا إشارة للقارئ بأن صيغة الحوار تتسم بالمراوغة تملصاً من محكمة التفتيش. وكان في الحوار شخصيتان هما سلفياتي وساجريدو، وهذان اسمان لاثنين من أصدق أصدقاء جاليليو، وهما يدافعان عن منهج كوبرنيكس، وشخصية ثالثة-سمبلشيو، يدحضه، ولكن في مغالطة صريحة واضحة، وقرب نهاية الكتاب أورد جاليليو على لسان سمبلشيو عبارة، كان أزرامان الثامن قد أصر على إضافتها. وهي بالحرف الواحد تقريباً:

"إن الله هو القوي وهو على كل شيء قدير، ومن ثم لا يجوز أن نقدم المد

ص: 277

والجزر دليلاً ضرورياً على حركتي الأرض لأننا بذلك نحد من سعة علم الله وقدرته" وعلى هذه العبارة يلعق سلفياتي تعليقاً ساخراً فيقول: "أنها وأيم الحق حجة إنجيلية ممتازة" (111).

أن الجزويت اللذين تناولت "المحاورات" كثيراً منهم في لهجة قاسية (جاء فيها أن أفكار شينر عقيمة تافهة)، وأوضحوا للبابا أن عبارته سالفة الذكر أوردت على لسان شخصية أبرزها الكتاب ساذجة غافلة، فعين أريان لجنة لفحص الكتاب، وقررت اللجنة أن جاليليو لم يتناول نظرية كوبرنيكس على أنها فريضة، بل على أنها حقيقة، وأنه حصل على الترخيص بنشر الكتاب نتيجة لتحريفات وتشويهات بارعة، وأضاف الجزويت إلى ذلك، عن حكمة وبصيرة، أن نظريات كوبرنيكس وجاليليو أشد خطراً على الكنيسة من هرطقات لوثر وكلفن. وفي أغسطس 1632 حظرت المحكمة الاستمرار في بيع كتاب "المحاورات" وأمرا بمصادرة النسخ الباقية. وفي 23 ديسمبر دعت جاليليو للمثول أمام مندوب الحكومة في روما. وتوسل أصدقاؤه إلى ألي الأمر أن تشفع له لديهم سقامه وشيخوخته (68 عاماً)، ولكن على غير طائل. وبعثت ابنته إليه وكانت وقتئذ راهبة متحمسة بخطابات مؤثرة ترجوه فيها أن يمتثل للكنيسة، كما نصحه الدوق الأكبر أن يذعن، وزوده بمحفة الدوق الأكبر، ودبر مع سفير فلورنسة أمر إقامته في السفارة. ووصل جاليليو إلى رومة في 13 فبراير 1633.

وانقضَ شهران قبل أن تدعوه محكمة التفتيش إلى المثول أمامها (12 أبريل) واتهم بنقض عهده بالالتزام بقرار 26 فبراير 1631، وحثوه على الاعتراف بذنبه، فرفض محتجاً بأنه لم يقدم آراء كوبرنيكس إلا على أنها مجرد فرضية، وظل سجيناً في قصر المحكمة حتى 30 إبريل، وهناك انتابه المرض، ولم يعذبوه، ولكنهم ربما أشاعوا في نفسه الخوف من التعذيب. وفي مثوله الثاني أمام اللجنة اعترف في ذلة وخشوع أنه أورد آراء كوبرنيكس بشكل أكثر

ص: 278

انحيازاً إليه منه ضده، وعرض أن يصحح هذا في "حوار" يلحق بالأول. فرخصوا له بالعودة إلى دار السفير. وفي 10 مايو أعادوا التحقيق معه، وعرض أن يكفر عن خطيئته، وتوسل إليهم أن يرحموا شيخوخته واعتلال صحته. وفي التحقيق معه للمرة الرابعة (21 يونية) أكد أنه بعد قرار 6116 "لم يعد يخامرني أي شك، وآمنت، ولا زلت أؤمن، برأس بطليموس-أن الأرض لا تدور، وأن الشمس هي التي تدور-على أنه حق كل الحث، ولا يقبل الجدل"(112)، فاعترضت المحكمة بأن معارضات جاليليو أوضحت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه يقرأ آراء كوبرنيكس، وأصر هو على أنه كان ضد هذه الآراء منذ 1616. وظل البابا على اتصال بالتحقيق، ولو أنه لم يشهده بشخصه. وكان جاليليو يأمل بأن يمد له أريان الثامن يد العون، ولكن البابا رفض التدخل. وفي 22 يونيه أصدرت المحكمة قرارها بإدانته بالهرطقة والتمرد والعصيان. وعرضت عليه الغفران شريطة تأدية القسم علناً أمام الجمهور بالتخلي عن آرائه، وحكمت عليه "بالسجن في هذه المحكمة لمدة تحددها هي وفق مشيئتها" ورأت للتكفير عن ذنبه أن يتلو مزامير الكفارة السبعة كل يوم طيلة السنوات الثلاث التالية، وجعلوه يجثو ويبرأ من نظرية كوبرنيكس، ويضيف:

بلقب مخلص، وإيمان صادق، ألعن أبغض وأعلن التخلي

عن الأخطاء والهرطقة المنسوبة إليَّ، وبصفة عامة، عن

أي خطأ وهرطقة أخرى أخاف فيها

الكنيسة المقدسة.

وأقسم أني لن أذكر بعد اليوم أي شيء قد يثير مثل هذا الريب

حولي، وأني إذا عرفت أي هرطيق أو أي شخص مشتبه

في أنه هرطيق فلا بد أن أبلغ عنه هذه المحكمة .... وأدعو

الله أن يمنحني العون، وأرجو أن تساعدني هذه الكتب المقدسة

التي أضع يدي عليها (113).

ص: 279

ووقع على الحكم سبعة من الكرادلة، ولكن البابا لم يصدق عليه (114). أما قصة أنه عند مغادرته قاعة المحاكمة غمغم متحدياً "ومع ذلك فهي تدور فعلاً". فإنها أسطورة لم يظهر لها أثر قبل 1761 (115). وبعد قضاء ثلاثة أيام في سجن محكمة التفتيش، سمح له، بأمر من البابا، بالذهاب إلى قصر الدوق الأكبر في ترنيتا مونتي في روما. ثم نقل بعد أسبوع إلى مسكن مريح في قصر تلميذه السابق، رئيس الأساقفة أسكانيو بتشولوميني في سيينا. وفي ديسمبر 1633. سمح له بالانتقال إلى داره الخاصة بالقرب من فلورنسة أنه من الناحية العلمية كان لا يزال سجيناً، محظوراً عليه مغادرة مسكنه، ولكنه كان حراً في مواصلة دراساته، وتعليم تلاميذه، وتأليف كتبه واستقبال زائريه-وهنا زاره ملتون في 1638. وجاءت ابنته الراهبة لتقيم معه. واحتملت هي نفسها عقوبة تلاوة المزامير السبعة.

د - الشيخ الجليل

واضح أن جاليليو كان الآن رجلاً متهدماً مغلوباً على أمره، أذلته كنيسة أحست بأنها وصية على بني البشر وآمالهم وأخلاقهم، أن تخليه عن آرائه بعد قضاء عدة شهور في السجن، وعدة أيام في المسائلة والمحاكمة، مما كان من الجائز أن يحطم عقل مكافح شاب كما يحطم إرادته، نقول أن هذا التخلي كان أمراً يمكن التجاوز عنه لدى شيخ هرم علق بذاكرته إحراق برونو قبل ذلك بثلاثة وثلاثين عاماً ولكنه في الواقع لم يهزم فقد انتشر كتابه في كل أنحاء أوربا في أكثر من عشر لغات ترجم إليها. ولم يمحَ أثره.

وخفف من أحزانه وآلامه في سيينا وفي أرستري اشتغاله بتخليص أبحاثه الفيزيائية في مؤلف ضخم آخر: "محاورات

حول علمين جديدين". ولما كانت أبواب المطبعة الإيطالية موصدة دونه بمقتضى الحكم الذي صدر ضده، فإنه أجرى مفاوضات سرية مع طابعين أجانب، وانتهى الأمر بأن مطبعة الزفير أصدرت الكتاب في ليدن 1628. وهللت له دنيا العلماء على أنه سما

ص: 280

بعلم الميكانيكا إلى مستوى لم يبلغه من قبل. وبعد صدوره، كعف جاليليو على إعداد محاورات إضافية درس فيها ميكانيكا القذف أو الإطلاق، وأشار إلى ما جاء به نيوتن فيما بعد في قانونه الثاني عن الحركة. ويقول أول مؤرخي سيرة جاليليو: "في أخريات أيام حياته، وفيما كان يعاني كثيراً من اعتلال صحته، كان عقله مشغولاً دوماً بالمسائل الميكانيكية والرياضية (116)، وفي 1637 وقبيل أن يفقد بصره، أعلن عن آخر كشوفه الفلكية، نودان أوميسان القمر-تغيرات جانبه المواجه للأرض دائماً. وفي 1641، وقبل وفاته ببضعة شهور قلائل، شرح لابنه طريقة صنع ساعات ذات البندول.

إن اللوحة التي رسمها له سوسترمان في أرستري (والموجودة الآن في قاعة بيتي) هي العبقرية مجسمة: جبهة عريضة، وشفتان مشكستان مولعتان بالجدل والمناظرة، ونف دقيق، وعينان حادتان، ونافذتان، وهذا وجه من أكرم الوجوه في التاريخ. وفقد الشيخ الجليل بصره في 1638. وربما كان التحديق المجهد سبب ذلك، وكان يجد شيئاً من العزاء في اعتقاده بأن أحداً من بني الإنسان من عهد آدم، لم يرَ أكثر مما رأى هو، فهو يقول: "إن هذا الكون الذي وسعت فيه وكبرته ألف مرة، تقلص الآن وانحصر في نطاق جسمي الضيق، هكذا أراد الله، ولا بد أن أريد هذا أنا أيضاً (117). وفي 1639 حين كان يعاني من الأرق ومن مائة من الآلام الأخرى رخصت له محكمة التفتيش في زيارة فلورنسة، تحت مراقبة دقيقة، ليرى أحد الأطباء ويحضر القداس. فلما عاد إلى أستري، أملى على فيفياني وتورشللي، وعزف على العود حتى فقد سمعه كذلك. وفي 8 يناير 1642، وكان قد قارب السابعة بعد الثمانين، فاضت روحه بين أيدي حوارييه.

وأطلق عليه جروتيوس "أعظم عقل في كل العصور"(118). وثمة شيء من القصور في العقل والخلق بطبيعة الحال. فأخطأوه-الغرور والزهو والانفعال والخيلاء-إن هي ببساطة إلا عشرات مناقبه أو ثمنها: الثبات

ص: 281

الشجاعة، والأصالة. ولم يعترف بأهمية حسابات كبلر في مدارات الكواكب وكان يتراخى في الاعتراف بقيمة أعمال معاصريه، وقلما تحقق، كم من كشوفه في الميكانيكا كانت قد أنجزت قبله. لقد أجرى بعضها رجل آخر من فلورنسة إسمه ليوناردو. ولكن الآراء التي عوقب من أجلها ليست هي بالضبط ما يعتنقه الفلكيون اليوم، ومثله مثل معظم الشهداء تحمل أن يكون الصواب خطأ-ولكنه لم يكن على خطأ في إحساسه بأنه خلق في الديناميكا علماً كاملاً، وأنه وسع العقل البشري وزاد من قدرة الناس على رؤية الأشياء وفقاً لعلاقاتها الصحيحة وأهميتها النسبية، بفضل إبرازه، بمقياس أكبر كثيراً عن ذي قبل، أن الكون واسع سعة رهيبة. وشارك كبلر شرف تقبل الناس لآراء كوبرنيكس، كما شارك نيوتن شرف إظهار أن السماء نفسها تفصح عن عظمة القانون. ثم أنه، بوصفه من أفاضل أبناء عصره النهضة، مكتب أحسن نثر إيطالي في زمانه.

وانتشر أثره حتى عم كل أوربا. إن إدانته هي التي رفعت مكانة العلم في البلاد الشمالية، على حين حطت من قيمته لفترة قصيرة في إيطاليا وأسبانيا وليس معنى هذا أن محكمة التفتيش حطمت وقضت على العلم في إيطاليا، فإن توشللي وكاسيني وبورللي وربدي وماليجي ومورجاني حملوا المشعل إلى فولتا وجلفاني وماركوني، ولكن العلماء الإيطاليين الذين علقت بأذهانهم قصة جاليليو اجتنبوا التورطات الفلسفية في العلم. وبعد إعدام برونو حرقاً وبعد تخويف ديكارت وتهديده بمصير جاليليو، باتت الفلسفة في أوربا احتكاراً بروتستانتياً.

وفي 1835 حذفت الكنيسة مؤلفات جاليليو من قائمة الكتب المحظورة وانتصر الرجل المحطم المقهور على أقوى النظم في التاريخ.

ص: 282

الفصل الثالث والعشرون

‌الفلسفة تولد من جديد

‌1564 - 1648

1 -

الشكاكون

في ظل صراعات الدولة القومية، والقوى الاقتصادية، والأحزاب السياسية، وتنوع المذاهب الدينية، وفي غمرة هذا كله، بدأت تتشكل المسرحية الأساسية في التاريخ الأوربي الحديث، وما هي إلا نضال من أجل الحياة جهدت فيه ديانة عظمى، ضيق عليها الخناق واستنزف قوتها، العلم والطائفية والأبيقورية والفلسفة. هل المسيحية في الطريق إلى الفناء؟ أو هل الديانة التي أمدت المدينة الغربية بالأخلاق والشجاعة والفن تعاني انحلالاً بطيئاً، بفعل انتشار المعرفة واتساع الآفاق الفلكية والجغرافية والتاريخية، والتحقق من الشر في التاريخ والنفس، وتخلخل الإيمان بالحياة الآخرة وضعف الثقة في حسن توجيه العالم؟. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا هو الحديث الأساسي في الأزمنة الحديثة، لأن الديانة هي روح المدنية، والمدنية تفنى بفناء عقيدتها. ولم تعد القضية في نظر برونر وديكارت، وهوبز وسبينوزا، وباسكال وبل، وهلباخ وهلفيش، وفولتير وهيوم، لبنتز وكانت، قضية كثلكة ضد برتستانتية، بل قضية المسيحية نفسها، قضية الشك والرفض والإنكار-لأعز الأساسيات في العقيدة القديمة. أن مفكري أوربا-وهم طلائع العقل الأوربي-لم يعودوا يناقشون سلطة البابا، بل كانوا يناقشون وجود الله.

وثمة عوامل كثيرة أدت إلى الكفر. إن مبدأ المحاكمة العقلية أو تكوين

ص: 283

رأي خاص، وهو المبدأ الذي اتهمته الكنيسة الكاثوليكية وأدانته لأنه يدعو إلى الفوضى المذهبية والأخلاقية، نادت به وأقرته كل الهيئات البروتستانتية تقريباً، ثم شجبته وأدانته فيما بعد، وفي الوقت نفسه قوض هذا المبدأ أركان العقيدة. أن الشيع المتزايدة قاتلت بعضها بعضاً، وكأنها ذراري بالغة الكثرة، وفضحت مطالب بعضها بعضاً، وتركت الديانة عارية في مهب رياح العقلانية. وأهابت هذه الفروق والشيع لنصرتها في أثناء صراعها، الأسفار المقدسة والعقل كليهما. ودعت دراسة الكتاب المقدس إلى الشك في معانيه وفي عصمته من الخطأ. وأنهى اللجوء إلى العقل عصر الإيمان. وحقق الإصلاح البروتستانتي أكثر مما كان يصبو إليه. وأضربت بصورة خاصة، حملات النقد الذي أنصب على الكتاب المقدس، بالمذهب البروتستانتي الذي أقيم في طيش وتهور على كتاب مقدس منزل من عند الله. إن التحسينات التي أدخلت على النظام الاجتماعي وأمن الناس، خففت من الإرهاب والقسوة، وأحس الناس أنهم لا بد لهم أن يدركوا أن الله سبحانه وتعالى أرحم وألطف مما صوره لهم بولص وأوغسطين وليولا وكلفن، ولم تعد الجحيم والقضاء والقدر أموراً يمكن تصديقها، وأجرت الأخلاقية الجديدة اللاهوت القديم. وهيأ نمو الثروة لانتشار نزعة حياة أبيقورية التمست لها فلسفة تبررها. إن كارثة الحروب الدينية انصبت على رأس الديانة نفسها فكانت هي ضحيتها. إن ازدياد المعرفة بالأخلاق والفلسفات الوثنية. وبالعبادات والطقوس الآسيوية أثار مقارنات محيرة بالمسيحية. ألم نسمع أرزم يدعو ويتوسل إلى "القديس سقراط" ألم نرَ مونتيني يرجع المذاهب الدينية إلى أحداث الجغرافيا وإلى حكم الحروب؟ وكشف تقدم العلم عن عمل "القانون الطبيعي" في كثير من الحالات، ومثال ذلك مسار المذنبات الذي رأت فيه الديانة يد العناية الإلهية. ووجدت الطبقات المتعلمة أنه من الصعب عليها أن تصدق أو تؤمن بالمعجزات على حين ابتهج وفاخر بها غير المثقفين. ثم هذه

ص: 284

الأرض التي تقول الأساطير الأثيرة لدى العامة بأنها أحست "بأقدم الرب"، أليست كما ألمح كوبرنيكس جاليليو مجرد فقاعة ومرحلة قصيرة في هذا الكون البالغ السعة، وسعة لا يمكن تحديدها، بالنسبة للأرباب الحاسدين الحاقدين الوارد ذكرهم في سفر التكوين؟ وأين ذهبت السماء، والتقلبات على أشدها حتى أنها لتغير المواقع مرتين في اليوم الواحد.

وكان "الموحدون" أكثر الشكاكين اعتدالاً، وهم الذين، في إيطاليا وسويسرا وبولندة وهولندا وإنجلترا، أثاروا الشكوك حول ألوهية المسيح. وكان هناك بالفعل نفر قليل من الربوبيين

(1)

الذين آمنوا بالله متماثلاً مطلقاً مع الطبيعة، وأنكروا ألوهية المسيح، ورغبوا في أن يجعلوا المسيحية مذهباً أخلاقياً لا عقيدة دينية، وكانوا حتى تلك اللحظة مشتتين حذرين، حتى اشتد عودهم وارتفعت مكانتهم فباتوا يزعجون البلاد، كما فعل إدوارد هربرت من شربوري. ولسوف نجدهم بعد 1648، وقد ارتفع صوتهم عن ذي قبل. وأشد جرأة منهم كان الأبيقوريون في ألمانيا، الذين سخروا من "يوم الحساب" الذي طال ترقبه، ومن الجحيم التي يحتمل ألا تكون رهيبة مزعجة، برغم كل شيء، ما دام أكثر الناس ابتهاجاً ومرحاً سوف يحشرون (1) فيها. وفي فرنسا أطلق على مثل هؤلاء الناس "ذوو العقول الصلبة" أو "الإباحيون" وهم الذين بدأت أساليبهم المائعة الطليقة تضفي معناها الحديث على لفظة كانت نعنى في الأصل "المفكرين الأحرار". وفي 1581 ألف فيليب دوبلسير-مورني كتاباً في 900 صفحة "حقيقة الديانة المسيحية، في مواجهة الملحدين". وفي 1623 نشر الجزويتي فرانسوا جاراس كتاباً في

(1)

الربوبية: Deism الإيمان بالله بغير اعتقاد بديانات منزلة-مذهب فكري في القرن الثامن عشر يدعو إلى الإيمان بدين طبيعي مبني على العقل، لا على الوحي، ويؤكد على الناحية الأخلاقية، منكراً تدخل الخالق في نواميس الكون.

ص: 285

أكثر من ألف صفحة من قطع الربع، حمل فيه على "الإباحيين" الذين "يؤمنون بالله شكلاً أو من أجل دين الدولة" .. ولا يرتضون إلا "الطبيعة" والقضاء والقدر (2). وفي العام نفسه قدر مدرين مدسن عدد الملحدين في باريس بنحو 50 ألفاً (3)، ولكن هذه الكلمة كانت تستخدم في هاتيك الأيام بشكل فضفاض، وربما قصد بها مارين "الربويين. وفي 1625 أوضح جبراييل نودي أن الشرائع التي نزل بها الوحي المقدس على "توما بمبليوس" (ملك روما الأسطوري 715 - 672 ق. م) على موسى، ما هي إلا خرافات ابتدعت لإقامة النظام الاجتماعي، وأن رهبان طيبة لفقوا حكايات الصراع مع الشيطان ليزيدوا من شهرتهم ويرفعوا من مكانتهم ويغذوا الجمهور الساذج. وفي 1633 نشر فرانسوا دي لاموث لافايي-سكرتير ريشيليو، ومعلم لويس الرابع عشر، الذي تولى الملك فيما بعد-كتابه المسمى "محاورات أورازيوس تابيرو"، صرح فغيه بشكوكية عامة: "إن معرفتنا هراء في هراء، وأن حقائقنا خيالات وأوهام، وأن دنيانا بأسرها

مهزلة متصلة" (5) وكان فرانسوا هذا من بين الذين ضعف إيمانهم قبل تعدد المذاهب المعصومة: "ليس في هذه العقائد التي لا حصر لها رجل لا يؤمن بأن مذهبه هو الحق، وأن غيره هو الباطل" (6). وعلى الرغم من شكوكيته تزوج في سن الثامنة والسبعين، ووافته المنية في الرابعة والثمانين وهو على فراشه. وكان، وهو متشكك فاضل، قد عكف عن معارضة الكنيسة.

وكان قدر كبير من هذه الشكوكية الفرنسية صدى سلبياً لمونتيني. ثم أضحت قوة إيجابية بناءة في شخص صديقه بيير شارون، وهو قسيس من بوردو، قام له بالطقوس الأخيرة عند موته، وورث مكتبته، وكتب في 1601 "رسالة عن الحكمة" في ثلاثة مجلدات في وصف الحكمة، ولكن قيل عن هذه الرسالة بغير حق، بأنها ت رتيب منهجي لمونتيني، ولكنها، على الأصح، رسالة مستقلة تدين بكثير من الفضل "للمقالات"، ولكنها تحمل

ص: 286

طابع شخصية شارون الدمثة الوقورة. وهو يقول بأن كل المعرفة تنبع من الحواس، وهي لذلك عرضة لتقييدات الحواس وعجزها وأخطائها الكثيرة، فليست الحقيقة من شأننا نحن. ويقول السفهاء من الناس بأن الحقيقة يثبتها قبول كل الناس لها وإن صوت الخلق من صوت الله. ولكن شارون يعتقد أكثر ما يعتقد أن صوت الناس هو صوت الجهالة، وأنه صوت الآراء التي تلفق لهم، وأن الإنسان يجب أن يتشكك خاصة فيما يؤمن أكثر الناس به (7). إن الروح قوة خفية حادة ى تهدأ، متصلة بالمخ، وظاهر أنها تفنى بفناء الجسم (8) إن الديانة تنطوي على أسرار وخفايا لا يمكن إثباتها وعلى سخافات كثيرة، وعليها يقع وزر التضحيات الوحشية والقساوات التعصبية. وإذا كان كل الناس فلاسفة (كما قد يقول فولتير فيما بعد)، يتعشقون الحكمة ويمارسونها، فلن تعود ثمة حاجة إلى الديانة، ويمكن أن تعيش المجتمعات بمقتضى علم أخلاقي طبيعي مستقل عن اللاهوت أو الدين، ويمكن أن يوجد الإنسان الفاضل، دون سماء ولا جحيم" (9). ولكن إذا أخذنا في الاعتبار ما فطر عليه الإنسان بالطبيعة من شر وجهل، فإن الدين يصبح أداة ضرورية لازمة للأخلاق والنظام (10). بناء على هذا يتقبل شارون كل أساسيات المسيحية، حتى الملائكة والمعجزات (11)، وينصح الحكماء بمراعاة كل المراسم الدينية التي تضعها الكنيسة التي ينتسب إليها عن غير قصد، على أية حال (12)، ولن يكون المتشكك الحق هرطيقاً أبداً (13).

وعلى الرغم من هذه النتائج القويمة التي خلص إليها شارون فإن أحد الجزويت المعاصرين يحشره في زمرة أخطر الملحدين وأشرهم وأخبثهم (14). ولما مات شارون فجأة بالسكتة القلبية، في سن الثانية والستين (1603) قال الأتقياء بأن هذا عقاب من عند الله على كفره وإلحاده (15). قبيل وفاته أعد طبعة ثانية من كتابه، خفف فيها من الجزاء الأكثر تهوراً وطيشاً، وأكد لزملائه من رجال الدين أنه إنما يقصد "بالطبيعة" الله سبحانه وتعالى،

ص: 287

وعلى الرغم من ذلك وضع كتابه في عداد الكتب المحظورة. ولمدة نصف قرن من الزمان فاق كتابه مقلات "مونتيني" انتشاراً وشعبية. وطبع كتاب "محاورات " الحكمة خمساً وثلاثين مرة في فرنسا فيما بين عامي 1601 - 1672. وفي القرن الثامن عشر كان أثر شارون أقوى من أثر أستاذه. ولكن نفس العرض المنظم الذي جذب القرن السابع عشر الكلاسيكي، بدأ في أعين القرن التاسع عشر وعظاً كئيباً مدرسياً، وضاع شارون وسط ما اكتشف من جديد، من تألق وبهجة في مونتيني.

‌2 - جيوردانو برونو

1548 -

1600

كان كوبرنيكس قد وسع الكون. فمن ذا الذي مكن أن "يوسع الله" اليوم ويعيد التعبير عن الألوهية في لغة جديدة بهذه المجموعات من النجوم الهادئة التي لا يحصى عددها؟ أ، برونو حاول هذا.

ولد برونو في نولا على بعد 16 ميلاً إلى الشرق من نابلي. وعمد باسم فلبو، وغير اسمه إلى جيوردانو عندما كان في سن السابعة عشر، دخل دير الدومنيكان في نابلي. وفيه وجد مكتبة عظيمة غنية، لا بكتب اللاهوت فحسب، بل كذلك بالكتب اليونانية واللاتينية القديمة، عن أفلاطون وأرسطو، بل حتى عن مؤلفين عرب وعبرانيين كانت قد ترجمت إلى اللاتينية. وتعلقت طبيعته الشاعرية على الفرو بالأساطير الوثنية التي رسخت في فكره لوقت طويل بعد تبخر اللاهوت المسيحي. وافتتن بمذهب ديمقريتس الذي تابعه أبيقور، وبسطه كوبرنيكس في صورة رائعة. وقرأ كتب المفكرين المسلمين ابن سينا وابن رشد، والفيلسوف اليهودي ابن جابيرول. وتسرب إلى نفسه شيء من التصوف العبراني، مختلطاً بأفكار ديونسيوس الزائفة وأفكار برناردينو تلزيو عن اتحاد الأضداد في الطبيعة وفي الله،

ص: 288

كما تسرب إليه كذلك شيء من فكرة نيقولا (من كوزا) عن كون لا نهائي ليس له مركز أو محيط، تنفخ فيه الحياة روح واحدة. وأعجب بالتصوف الطبي الثائر عند باراسلسوس وبالرمزية الروحية، وبوسائل تقوية الذاكرة عند ريموندللي، وبفلسفة كورنيليوسي أجريبا الغامضة. وعمل كل هذا على تشكيل برونو كما أشعل فيه النار البغض لأرسطو وللفلسفة النصرانية في العصور الوسطى (السكولاستية) ولتوماس أكويناس. ولكن بونو كان في دير الدومنيكان وتوماس أكويناس هو رائد الفكر عندهم.

ولم يكن بد من أن يزعج الراهب الشاب رؤساءه بالاعتراضات والأسئلة والنظريات. أضف إلى ذلك أن حماسة الجنس كانت تضطرم بين جنبيه، واعترف فيما بعد بأن كل ثلوج القوقاز ما كانت لتنقع غلته أو تطفئ شهوته، وأن ثمة علاقة دقيقة بين يقظة الجنس ويقظة العقل. وفي 1572 رسم كاهناً، ولكن الشكوك ظلت تثور بين جوانحه وتلهبه خفية. كيف يمكن أن يكون هناك ثلاثة في واحد هو الله سبحانه وتعالى؟ كيف يتسنى لكاهن مهما كانت مرتبته أن يحول الخبز والخمر إلى جسد يسوع المسيح ودمه؟ وبعد رسامته، عنفه رؤساؤه مرتين تعنيفاً رسمياً. وفي 1576، بعد أن قضى أحد عشر عاماً من الرهبنة، فر فجأة من الدير، وتوارى عن الأنظار لبعض الوقت في روما. وخلع رداء الرهبنة، وعاد إلى اسمه الذي عمد به، والتمس الأمان والتستر في الاشتغال بالتعليم في مدرسة للبنين في نولي بالقرب من جنوه.

وهكذا بدأت ست عشرة سنة من التجوال، سرى فيها القلق والأرق في جسمه جنباً إلى جنب مع التردد والتذبذب في عقله. وبعد أربعة أشهر قضاها في نولي، انتقل إلى سافونا، ثم إلى تورين، وإلى البندقية ثم إلى بادوا. وعاد فارتدى ثانية ثوب الراهب الدومنيكاني ليحظى بكرم الوفادة في الأديار. ثم سار إلى برسكيا، وإلى برجامو، وعبر جبال الألب إلى شامبري حيث أستقبله

ص: 289

وأطعمه دير الدومنيكان. ثم إلى ليون، ومنها إلى جنيف. وهناك في معقل الكلفنية جرد نفسه من ثوب الرهبنة مرة أخرى، وهناك قضى شهرين في هدوء لا يلتئم مع مزاجه، يكسب قوته بتصحيح المخطوطات والتجارب للطبع ومن بين هذه، كان نقده الخاص لمحاضرة ألقاها أحد رجال الدين الكلفنيين في جامعة جنيف. وأشار فيه برونو إلى عشرين خطأ في هذه المحاضرة. وألقى القبض على طابع النقد وحكم عليه بغرامة، أما برونو فاستدعي للمحاكمة أمام محكمة الكنيسة، فقدم اعتذاراً وصفحوا عنه. وتولاه اليأس والقنوط حين ألفى نفسه يهرب مكن شراك رقابة ليقع في براثن أخرى، فغادر جنيف وعاد إلى ليون ومنها إلى تولوز، حيث ظهر ظل عابر من التسامح في صراع الكاثوليك مع الهيجونوت، وفي تدفق اليهود المرتدين ارتداداً يسيراً من أسبانيا والبرتغال. وربما حدث أثناء إقامته (1581)، أن نشر فرانسوا سانكي في تولوز، رسالته الشكوكية "المعرفة الكريمة .... ليس ثمة شيء معروف"، وحاضر برونو لمدة ثمانية عشر شهراً في رسالة أرسطو "الروح". ولأسباب غير معروفة، وربما من أجل شهرة أوسع وأعظم، رحل برونو إلى باريس.

وكان برونو قد أحرز شهرة، لا بوصفه فيلسوفاً فحسب، بل كذلك بوصفه خبيراً في فن تقوية الذاكرة. وأرسل هنري الثالث في طلبه واستولى على الأسرار السحرية من ذاكرة طيبة. وسر الملك من دروس برونو وعينه مدرساً في الكوليج دي فرانس. واحتمل برونو في هدوء لمدة عامين، ولكنه في 1582 نشر رواية هزلية (كوميدية) تحت عنوان "حامل المشعل" يهجو فيها هجواً لاذعاً، الرهبان والأساتذة والمتحذلقين

ولندع المقدمة تتحدث:

سترون، في فوضى مشوشة، نتفاً عن النشالين، وألواناً من الزيف والخداع، ومغامرات الأوغاد، كما ترون الاشمئزاز الطريف.

ص: 290

والحلوى. المرة، والقرارات الحمقاء، والإيمان الخاطئ والآمال المشلولة، والصدقات الشحيحة .... والنساء القويات الشكيمة (الرجوليات) والرجال المخنثين .... وحب الذهب (المال) في كل مكان.

ومن ثم الحميات الربعية (الراجعة)، والسرطانات الروحية، والأفكار الهزلية، والحماقات المتسلطة .... والمعرفة المتقدمة، والعمل المثمر، والصناعة الهادفة. وفي إيجاز، سترون في الرواية، أمناً تافهاً، وقدراً ضئيلاً من الجمال، ولن تروا شيئاً طيباً أو حسناً.

ووقع على الرواية: "برونو النولي، المتخرج في أكاديمية تسمى الإزعاج"(16).

وفي مارس 1583 قصد إنجلترا وكان هنري الثالث أكثر استعداداً للتوصية به خيراً لدى الآخرين منه للاحتفاظ بخدماته لديه (17)، فزوده بخطابات يقدمه فيها للسفير الفرنسي في لندن، ميشيل دي كاستلنو، سيردي لاموفيسير، وهنا بدأت أسعد اللحظات في حياة برونو. حيث أقام في قصر السفير عامين يأكل ويشرب، متحرراً من أية نفقة أو ضرورة اقتصاديةأسعد اللحظات في حياة برونو. حيث أقام في قصر، وهنا أيضاً كتب بعضاً من أهم مؤلفاته، كما وجد ملجأ من العواصف التي يثيرها خلقه وشخصيته، وكان يخفف عنه مناظراته ومجادلاته مع رجل متسامح عرك الدنيا، وعرف أنه من الأفضل ألا ينظر إلى الميتافيزيقا بعين الجد. وفي هذا البيت التقى برونو بسير فيليب سدني، وأرلي لبستر، وجون فلوريو، وأدموند سبنسر، وجبراييل هاريف وغيرهم من ألمع العقول في إنجلترا في عصر إليزابث. إن أحاديث برونو مع هؤلاء الرجال زودته بالأسس التي بنى عليها "معرض آرائه"، وحظي بمقابلة الملكة نفسها، وأمتدحها في عبارات أخذتها عليه محكمة التفتيش فيما بعد.

ص: 291

وفي 1583 طلب من جامعة أكسفورد أن أذن له في إلقاء المحاضرات في قاعاتها، ووصف بهذه المناسبة، مؤهلاته في لغة باعدت إلى الأبد بينه وبين وصفه بالتواضع (18)، وحصل على الترخيص، فتحدث عن خلود الروح، وعن "الكرة السماوية المكبرة إلى خمسة أمثالها" أي عن نظرية كوبرنيكس في الكواكب. وتحداه وضايقه بالأسئلة كثير من بينهم رئيس كلية لنكولن، كما يروي برونو بطريقته الخاصة: -

هلا عرفت كيف استطاعوا أن يردوا على حججه (برونو)؟ وكيف أنه لخمسة عشرة مرة، وبخمسة عشرة قياساً منطلقاً، ضيق الخناق على "الدكتور" المسكين الذي صدروه، لهذه المناسبة الرهيبة، بوصفه رئيساً للأكاديمية، حتى وقف حائراً كعصفور في قفص؟ وهلا علمت بأية فظاظة وأية غلظة تصرف هذا الخنزير، وبالصبر والروح الإنسانية اللتين تذرع بهما من أثبت أنه حقاً مولود في نابلي وأنه نشأ في ظل سماء أكرم وأرحب؟ وهلا عرفت كيف أنهوا محاضراته العامة (19)؟

وأطلق برونو على أكسفورد فيما بعد اسم "أرملة التعليم الصحيح"، "مجموعة من الجهل المتحذلق العنيد والوقاحة، امتزجت بفظاظة خرقاء يمكن أن ينفذ معها صبر أيوب (20) ".

ولكن فيلسوفنا لم يكن "أيوب". وكتب كتابة رائعة عن النجوم، ووجد من بين أهل الأرض أغبياء إلى حد لا يطاق. وأحس بأن عرضه الفلسفي لفلك كوبرنيكس كان خطوة طيبة في سبيل فهمه، وأنه كان "ناقداً لاذعاً (21) " لكل من رفضوا آراءه. ولو أن فلوريو ألفاه، بعد أن هدأ روعه "وديعاً لطيفاً (22) " وكان غروره امتحاناً لأصدقائه، مثل الريح في شراعه. وخلع على نفسه ألقاباً فخمة:"دكتور في اللاهوت الأكثر تطوراً، أستاذ في الحكمة الخالصة غير الضارة (23) ". وكان يتمتع بخيال النابوليتاني المتقد

ص: 292

وفصاحته المثيرة، وحيثما ذهب كانت شمس الجنوب تجعل الدم يغلي في عروقه، "إني لأرهق نفسي وأعذبها وأقهرها، حباً في الحكمة الحقة، وغيرة على التأمل الصادق"(24).

وفي أواخر عام 1585 عاد إلى باريس، في أثر السفير الذي استدعي إليها. وحاضر في السوربون مثيراً عداوة أنصار أرسطو، كما هي العادة. وأغرته حروب العصبة ضد هنري الثالث بأن يختبر الجامعات الألمانية، فتسجل في جامعة ماربرج، ولكنه رفض إلقاء المحاضرات، وعرض برئيس الجامعة وقصد إلى وتنبرج، وقضى عامين يحاضر في جامعة لوتر، ولدى مغادرته لها عبر عن شكره في خطاب محلق ودع فيه الجامعة. ولكن لاهوت رجال الإصلاح لم يرقه، فالتمس رعاية رودلف الثاني في براغ. وظنه الإمبراطور رجلا غريب الأطوار، ولكنه منحه 300 ثيلر، وأذن له بالتدريس في جامعة هلمستد في برنزويك. وبقي سعيداً في عمله لعدة أشهر، اتهمه بعدها رئيس الكنيسة اللوثرية وأصدر قراراً بحرمانه من الكنيسة (25). ولسنا نعرف جوهر الحقيقة فيما جرى، ولكن برونو رحل إلى فرانكفورت وزيورخ ثم إلى فرانكفورت ثانية (1590 - 1591) حيث استقر به المقام لينشر مؤلفاته اللاتينية.

وفي تلك الأثناء-قبل إيداعه السجن بأمر محكمة التفتيش بعام واحد-كانت فلسفته قد اكتملت، ولو أنها لم تصل قط إلى مرتبة الوضوح والترابط. أننا عند النظر في أهم مؤلفات برونو لتصدمنا العنوانات التي وضعها في صيغة مقتضبة. ويغلب عليها أن تكون شاعرية مبهمة، تنذرنا بألا نتوقع فلسفة منهجية متماسكة، بل هي على الأرجح أفكار خيالية صالحة وانجذابات صوفية أو نشوات. وقل أن نجد في أي مؤلف آخر، اللهم إلا رابليه، هذا الخليط من النعوت والألقاب والمجازات البلاغية والرموز والخرافات والنزوات والفكاهات، والكلام المنمق والتوافه والتمجيد والسخرية وخفة الدم، مكدسة بعضها فوق بعض، في فوضى من المبادئ والأفكار الثاقبة والفرضيات.

ص: 293

لقد ورث برونو براعة الكتاب المسرحيين الإيطاليين والمرح الصاخب المؤذي لدى الشعراء الإيطاليين الذين يحشون قصائدهم بألفاظ إيطالية إلى جانب ألفاظ من لغة أو لغات أخرى، كما ورث هجاء برني وأرتينو اللاذع. وإذا كان المقصود بالفلسفة: القدرة على رؤية الأشياء رؤية هادئة وفقاً لعلاقتها الصحيحة وأهميتها بالنسبية، والتحفظ أو التقييد المعقول المنطقي، والقدرة على الإحاطة بكل الجوانب، والتسامح مع كل وجهات النظر المخالفة، فإن برونو، على هذا الأساس ليس فيلسوفاً، بل أنه محارب أو مصارع، يصم أذنيه ويغشي عينيه، ليكلا تصرفه الأخطار المحدقة عن هدفه-الذي كان قبل ظهور فولتير بقرنين من الزمان-محو عار الاضطهاد وظلمته فثمة مرارة أشد من فولتير في برونو في تهكمه للمعالجة اللاهوتية المثالية للإيمان الغافل الخالي من التفكير:

إني لأقول وأكرر القول بأنه ليس ثمة مرآة توضع أمام أعين البشر، خير من الحمارية أو الحمار ليكشف بشكل أوضح عن واجب هذا الإنسان الذي .. يفتش عن ثواب يوم الحساب .. ومن ناحية أخرى، ليس ثمة شيء أشد فعالية في تردينا في هاوية الجحيم من التأملات الفلسفية والعقلانية التي تنبع من الحواس

وتنمو وتنضج في العقل البشري المتطور. فحاولوا إذن أن تكونوا حميراً، يأيها الرجال، ويأيها الذين أنتم بالفعل حمير، وادرسوا حتى تسيروا من حسن إلى أحسن، وتحققوا هذه الغاية والمكانة اللتين لا يمكن الوصول إليهما بالمعرفة والجهود مهما عظمت، بل بالإيمان، واللتين لا يحول دونهما الجهل والأخطاء مهما كانت جسيمة ولكن يحول دونهما الكفر. وإذا كنتم بمثل هذا السلوك مقيدين في سجل الحياة فلسوف تحظون ببركة الكنيسة "المحاربة"، وبمجد الكنيسة "المنتصرة"، التي "يعيش فيها "الله" ويحكم في كل العصور .. آمين (26).

أن رؤية برونو للكون رؤية جمالية في أصلها، وهي تقدير عميق يتسم

ص: 294

بالتعجب والدهشة من كون لا نهائي ساطع براق. ولكنها كذلك محاولة فلسفية لتكييف الفكر البشري مع كون يشكل فيه كوكبنا الذي نعيش عليه جزءاً غاية في الصغر من اتساع لا يمكن إدراك مداه. أن الأرض ليست مركز العالم، وكذلك الشمس ليست مركزاً له، وفيما وراء العالم الذي نراه (ولم يكن هناك تلسكوب حين كتب برونو) عوالم أخرى (كما أوضح التلسكوب بعد ذلك بقليل وفيما وراء هذه العوالم الأخرى توجد عوالم أخرى أيضاً كما أثبت التلسكوب بعد تحسينه)، وهكذا إلى ما نهاية، إننا لا نستطيع أن ندرك نهاية أو بداية. وبدلاً من النجوم "الثابتة" كما ظن كوبرنيكس أنها ثابتة، فإنها تغير مواقعها على الدوام، وحتى في السموات كل الأشياء تجري. والفضاء والزمن والحركة كلها أمور نسبية. وليس هناك مركز ولا محيط، ولا ارتفاع وانخفاض. وتختلف نفس الحركة عند رؤيتها من أماكن أو نجوم مختلفة. ولما كان الزمن هو مقياس الحركة، فإن الزمن نسبي كذلك، وربما كان هناك نجوم كثيرة تسكنها كائنات حية ذكية. فهل مات المسيح من أجلهم كذلك؟ على أنه في هذا الاتساع الذي لا نهاية له، هناك بقاء ثابت للمادة، وولاء دائم محيد عنه القانون.

ولما كان الكون لا نهائياً، لا يمكن أن يكون هناك "لا نهائيان"، فإذن يكون "الله" اللانهائي والكون اللانهائي شيئاً واحداً (وهنا قول سبينوزا "الله أو المادة أو الطبيعة")، ليس هناك "مدبر أول" كما قال أرسطو، بل هناك حركة أو طاقة متأصلة في كل جزء من هذا الكل. وليس الله عقلاً خارجياً .... والأجدر به أن يكون القاعدة الداخلية للحركة، وهي طبيعته وروحه (27). والطبيعة هي العقل الخارجي الإلهي، على أن هذا العقل ليس موجوداً في "سماء عليا" بل هو موجود في كل جزء من جزيئات الواقع.

ص: 295

إن العالم يتألف من عناصر دقيقة جداً ومن وحدات لا تقبل الانقسام من القوة، ومن حياة، ومن عقل بدائي (وهنا كان برونو همزة الوصل بين لوكريشيوس وليبنتز) ولكل جزء صغير فرديته القائمة بذاتها وعقله الخاص به، ومع ذلك فإن حريته لا تعني التحرر من القانون، ولكنها تعني (كما قال سبينوزا) سلوكه وفق قانونه وطبيعته المتأصلتين الخاصتين به. وهناك في الطبيعة قاعدة التقدم والتطور،، بمعنى أن كل جزء يكافح من أجل التطور والنمو. ( Entelechia أرسطو).

وهناك في الطبيعة أضداد، وقوى متعارضة، ومتناقضات. ولكن عمل الكون بأسره في "مشيئة الله" تتوافق كل المتضادات وتختفي. كذلك فأن الحركتان المتباينة للكواكب هي التي تحدث الانسجام في السموات، ووراء التنوع المحير الساحر في الطبيعة توجد هناك وحدة أروع وأشد عجباً، تظهر فيها كل الأجزاء وكأنها أعضاء في كائن واحد. "أنها وحدة تسحرني، فأنا بقوة هذه الوحدة حر ولو كنت مستعبداً، سعيد في غمرة الحزن، غني في حمأة الفقر، حي حتى في الموت"(28)(إني، ولو إني خاضع للقانون، أعبر عن طبيعتي الخاصة، وبرغم أني أقاسي فإني أجد عزاء في التحقق من أن "شر" الجزء يصبح غير ذي معنى في المشهد العام للكل). ومن ثم تكون معرفة الوحدة الأسمى هي هدف العلم والفلسفة، وهي الدواء الشافي للعقل. (الحب العقلي "لله" عند سبينوزا).

إن هذه الخلاصة البسيطة لفلسفة برونو تهمل ومضاته وجنونه البطولي، وهي تنطوي على اتصال وتماسك في تفكيره مغايرين له كل المغايرة، لأنها تحتوي على متناقضات وتوكيدات جازمة، وعلى فيض من التقلبات، لا تتفق إلا مع المذهلات الكونية. وثمة مجموعة أخرى من أفكاره يمكن أن تسلكه في عداد المتصوفة المجوس. أنه تحدث عن المزايا الخاصة بكثير من الكواكب، فذهب إلى أن الأشخاص الذين يولدون "تحت تأثير" الزهرة

ص: 296

ينزعون إلى الحب والبلاغة والهدوء والسلام، أما الذين يولدون "تحت تأثير" المريخ فيميلون إلى النزاع والبغض. وآمن بالخصائص الخفية للأشياء والأرقام، وأن الأمراض قد تكون عفاريت، ويمكن علاجها في بعض الحالات بلمسة ملك أو لعاب ابن سابع (29).

وكان همه الأخير أنه كان يؤمل، في حال عودته إلى إيطاليا واستجواب محكمة التفتيش له، في أنه يستطيع أن يقتبس بعض قطع رشيدة من مؤلفاته يخدع بها الكنيسة فتحسبه ابنها البار. وربما راوده الأمل في أن إيطاليا لم تكن قد سمعت بكتابه الذي نشره في إنجلترا "طرد الحيوان المنتصر". والذي كان يمكن أن يفسر الحيوان الذي طرد فيه على أنه الكاثوليكية أو المسيحية أو المبادئ الدينية عامة (30). ولا بد أنه تاقت نفسه إلى إيطاليا وإلا كيف نفسر لهفته على قبول دعوة جيوفني موسنيجو للقدوم إلى البندقية معلماً له وضيفاً عليه؟ وكان موسنيجو سليل أسرة من ألمع أسرات البندقية، وكان كاثوليكياً ورعاً، ولكنه كان مهتماً بالقوى الخفية، وقد أبلغوه أن برونو كان على علم تام بفروع السحر، وأنه يختزن في ذاكرته القوية الكثير من الخفايا والأسرار. وكانت محكمة التفتيش قد أعلنت منذ أمد طويل أن برونو خارج على القانون ويجب القبض عليه في أول فرصة، ولكن البندقية اشتهرت بحماية أمثال هؤلاء الخارجين على القانون، متحدية بذلك محكمة التفتيش. وعلى ذلك سارع برونو إلى مغادرة فرانكفورت في أواخر 1591 وشق طريقه عبر الألب إلى إيطاليا.

وأعد له موسنيجو مسكناً وتلقى عنه دروساً في تقوية الذاكرة. ولكن تقدم التلميذ كان بطيئاً وظن أن معلمه قد حجب عنه بعض تقاليد السحر الخفية كما أنه في نفس الوقت ارتعد فزعاً من الهرطقات التي تمثلت في الفيلسوف الثرثار القليل الحذر، وسأل موسنيجو كاهن الاعتراف إذا كان يجب عليه أن يبلغ محكمة التفتيش عن برونو، فنصحه الكاهن بالتريث حتى يتثبت من حقيقة برونو بشكل أدق. وامتثل موسنيجو لمشورة الكاهن، ولكن عندما

ص: 297

أعلن برونو عن عزمه على العودة إلى فرانكفورت، أبلغ موسنيجو المحكمة وفي 23 مايو 1592 وجد برونو فسه نزيلاً في سجن المحكمة في البندقية. وأوضح موسنيجو أنه "تصرف وفق ما أملاه عليه ضميره، وبأمر من كاهن الاعتراف (31). وأبلغ المتحققين أن برونو كان يعارض كل الأديان، ولو أن الكثلكة كانت أحبها إلى نفسه، ولكنه أنكر التثليث وتجسد المسيح وتحول القربان، وأنه اتهم المسيح والرسل بتضليل الناس وخداعهم بالمعجزات المزعومة، وأنه قال بأن كل الأخوة أو رجال الدين والرهبان حمير دنسوا الأرض بنفاقهم وريائهم وجشعهم وحياتهم المملوءة بالشرور، وأن الفلسفة يجب أن تحل محل الديانة، وأن الانغماس في "الملذات الدنيوية" ليس خطيئة وأنه، أي برونو، أشبع شهواته قدر ما سنحت له الفرص (32)، وأن برونو كان قد قال له "أنه استمتع بالنساء كثيراً، ولو أنه لم يبلغ بعد عدد نساء سليمان (33).

وحققت المحكمة مع السجين على مهل، من مايو إلى سبتمبر 1592 ودفع بأنه كان قد كتب ما كتب بوصفه فيلسوفاً، وأنه كان يستفيد من تمييز بمبوناتزي بن "الحقين" أنه يجوز للإنسان أن يناقش، بوصفه فيلسوفاً، نظريات قبلها بوصفه كاثوليكياً. وصرح بما يساوره من شكوك في موضوع التثليث. واعترف بأنه مذنب في أخطاء كثيرة، وأبدى ندمه عليها، وتضرع إلى المحكمة وهي تعرف سقامه وعيوبه، أن تعيده إلى أحضان الكنيسة الأم وأن تزوده بما يلائمه من علاج، وأن تستعمل معه الرأفة (34). ولم تستجب المحكمة إلى شيء من هذا وأعادته إلى زنزانته لمدة شهرين آخرين وفي 30 يوليه حققوا معه مرة ثانية، واستمعوا إلى اعترافه وطلبه الرأفة وأعادوه مرة ثانية إلى السجن. وفي سبتمبر طلبت محكمة التفتيش في روما من البندقية إرسال السجين إليها. فاعترضت حكومة البندقية، ولكن المحكمة أوضحت أن برونو من مواطني نابلي، لا البندقية. ووافق السناتو على تسليمه. وفي 27 فبراير 1593 تم ترحيله إلى روما.

ص: 298

وكان جزءاً من إجراءات محكمة التفتيش أن تترك السجين يقبع مكتئباً حزيناً في السجن لفترات طويلة قبل التحقيق وفي أثنائه وبعده. وكادت تنقضي سنة كاملة قبل أن يمثل برونو أمام محكمة روما في ديسمبر 1593، وحققوا معه، أو قل عذبوه بالتحقيق، ثانية، في إبريل ومايو وسبتمبر وديسمبر 1594. واجتمعت المحكمة مرتين في يناير 1595 لتدرس الأوراق. وتقول أوراق المحاكمة أنه في مارس 1595 وإبريل 1596 "مثل برونو أمام كبار الكرادلة، وأنهم زاروه في زنزانته. واستمعوا له وسألوه عما يمكن أن يكون في حاجة إليه (35) "، وفي ديسمبر 1596 استمعوا إلى شكواه "من الطعام". وفي مارس 1597 استدعي للمثول بين يدي المحققين الذين "استمعوا مرة أخرى إلى ما يحتاج إليه. ولم تعرف ماذا كان يحتاج إليه، ولكن النداءات المتكررة توحي بمصاعب يتعذر وصفها، ليس من بينها هذا التسويف الطويل، المفروض أن الهدف منه هو تحطيم الروح الجياشة إلى حد الإذلال المهذب للنفس. وانقضى عام آخر، وفي ديسمبر 1598 سمح له بورق وقلم، وفي 14 يناير 1599 استدعي مرة أخرى، وتليت عليه ثمان مسائل هرطيقية مأخوذة من كتبه. وطلبوا إليه أن يشجبها علناً، فدافع عن وجهة نظره ولكنه وافق على قبول حكم البابا في المسائل سالفة الذكر. وفي 4فبراير قرر كليمنت الثامن وهيئة محكمة التفتيش أن هذه المقتبسات هرطيقية صريحة. ولم يرد في أوراق المحاكمة ذكر لآراء برونو في نظريات كوبرنيكس، بل أن الهرطقة انصبت على التجسيد والتثليث. وسمح له بأربعين يوماً أخرى للاعتراف بأخطائه.

واستمعوا له مرة أخرى في 18 فبراير، ثم في إبريل وسبتمبر ونوفمبر. وفي 21 ديسمبر أعلن أنه لن يتراجع. وفي 20 يناير 1600 قدم إلى البابا مذكرة يدعي فيها أن المسائل الواردة في الاتهام اقتبست من مظانها بشكل خاطئ، ويعرض أن يتولى الدفاع عنها أمام رجال الدين، ويقول مرة أخرى أنه يرتضي حكم البابا. وبناء على ذلك، كما تقول سجلات المحاكمة "أصدر قداسة

ص: 299

البابا كليمنت الثامن أمراً باتخاذ الإجراءات النهائية في القضية .... وبالنطق بالحكم، وبإحالة الأخ المدعو جوردانوس إلى المحكمة المدنية". وفي 8 فبراير استدعى المحققون برونو، وكرروا على مسامعه الاتهامات الموجهة إليه، وأبلغوه أنهم أمهلوه ثمانية أعوام ليراجع موقفه ويبدي الندم، وأنه وافق على حكم البابا في أمر مروقه عن الدين، وأن البابا قرر أنه مارق، وأن المتهم لا يزال مصراً على هرطقته، "سائراً في غيه، عنيداً، مكابراً" ومن ثم صدر الحكم بإحالته إلى المحكمة المدنية .... إلى حاكم روما، الحاضر هنا الآن ليقرر العقوبة التي تستحقها "ولو أننا نرجو جادين أن يخفف من صرامة القوانين، بالنسبة لما تعانيه من آلام، وألا يكون جزاؤك الإعدام أو بتر الأعضاء". ووقع على الحكم ثمانية كرادلة، من بينهم بللارمين. ويقول كسبار سكيوبيوس-وهو عالم ألماني تحول حديثاً إلى الكثلكة ثم أقام في روما-أن برونو، عندما تُلي عليه الحكم، قال لقضاته: "ربما كنتم يا من نطقتم الحكم بإعدامي، أشد جزعاً وخشية مني أنا الذي تلقيته" (36).

ونقل برونو على الفور إلى سجن مجني. وفي 19 فبراير، وهو لا يزال مصراً على موقفه، جرد من ثيابه وربط لسانه، وشد إلى خازوق من الحديد فوق ركام ممن الحطب في "بيازاكامبودي فيوري" وأحرق حياً على مشهد من جمع غفير متعظ، وكان في الثانية والخمسين من العمر، وفي 1889، أقيم له في نفس المكان، تمثال؛ جمعت له التبرعات من مختلف أركان الدنيا.

‌3 - فانيني وكمبانلا

بعد تسعة عشر عاماً من هذا الذي أسفنا، ظهرت نزعة مماثلة، ولقيت من فورها نفس المصير.

ولد جيوليو سيزار لوسبليو فانيني في جنوب إيطاليا لأب إيطالي وأم

ص: 300

أسبانية-بارود يتزوج ناراً. وبعد أتجول فانيني في أنحاء أوربا-كما فعل برونو-يختبر الأجواء واللاهوتيات، ويؤلف المكتب، وفيها ومضات عارضة من فكر ثاقب (مثل وقله إن الإنسان كان يوماً من ذوات الأربع) لا تماد تتوازن مع الهراء الغامض؛ استقر به المقام في تولوز (1617)، حيث قضى-مثل برونو-عامين نعم فيها بالهدوء. ولكن أحد المترددين على محاضراته وشى به على أنه يسخر من التجسيد ويعارض فكرة وجود "إله بشري"(38). وثمة مستمع آخر، هو سيردي فرانسون-كسب ثقة فانيني واستدرجه-كما فعل موسبيجو مع برونو من قبل-وأبلغ أمره إلى برلمان البلدة. فقبض عليه في 2 أغسطس 1618، لا بأمر الكنيسة؛ بل بناء على أمر من مفوض الملك العام. واستناداً إلى محاضراته اتهم بالإلحاد والتجديف، وهاتان جريمتان تعاقب عليهما الدولة. وأكد فانيني إيمانه بالله، ولكن فرانسون زعم أن السجين صرح بإلحاده وكفره أكثر من مرة قائلاً بأن "الطبيعة هي الإله الوحيد" وأقر للقضاة شهادة الشاهد، وعلى الرغم من احتياجات فانيني الصارخة، وما أظهره من تقى وورع في سجنه، صدر الحكم عليه-وهو في الرابعة والثلاثين: -

بأن يسلم إلى الجلاد، الذي يجره إلى سياج نقال، وهو في قميصه، وحبل المشنقة حول عنقه، حاملاً فوق كتفيه إعلاناً يقول "ملحد دنس اسم الله" وعلى الحال يقوده أمام المدخل الرئيسي لكنيسة القديس ستيفن، وهناك يجثو على ركبتيه ليطلب الغفران من الله ومن الملك والعدالة، عن تجديفه وإلحاده، ثم يسوقه إلى ميدان سالين، ويشده إلى خازوق مقام هناك، ويقطع لسانه، ويشنقه، ثم يحرق جسمه ثم يترك الرماد لتذروه الرياح (65).

ص: 301

ويروون أن فانيني، حين جيء به من السجن ليلقى عقابه (9 فبراير 1619) صاح معجباً "دعوني أذهب، دعوني أذهب فرحاً مبتهجاً لأموت موتة فيلسوف (39) ".

كذلك ولد توماسو كمبانللا، ودم كالابريا الحار يجري في عروقه، وخفف من حرارته لبعض الوقت في دير للدومنيكان، ودرس تلزيو وامبيد وكليس؛ نبذ أرسطو، وتناول بالتحريض والتسخيف "قرار البابا بالحرمان من الكنيسة" فأودع بالسجن بأمر من محكمة التفتيش في نابلي لبضعة شهور (1591 - 1592) وبعد الإفراج عنه ألقى بعض الدروس والمحاضرات في بادوا، واتهم بالفسق والفجور، وهناك دون أول مؤلف هام له في الفلسفة (1594) نصح فيه المفكرين-كما فعل فرانسيس بيكون بعد ذلك بأحد عشر عاماً-بدراسة الطبيعة، لا دراسة أرسطو-وأعد برنامجاً للعودة إلى العلم والفلسفة. ولما عاد إلى نابلي انضم إلى مؤامرة لتخليصها من نير أسبانيا. ولكن المؤامرة أحبطت، وزج به في سجون الولاية لمدة سبعة وعشرين عاماً (1599 - 1626) وعذب اثنتي عشرة مرة، استمر التعذيب في إحداها أربعين ساعة (40). وخفف من آلام السجن بالفلسفة والشعر وتصوره للدولة المثالية، وفي قصيدته (السونيت) وعنوانها "الشعب" يعبر عن استيائه عن عجز الأهالي عن مساعدته في ثورته فيقول:

الشعب دابة لها مخ مشوش غبي، لا تعرف قوتها، ومن ثم تقف محملة بالخشب والحجارة، وتقودها يدان هزيلتان لمجرد طفل بالشكيمة واللجام، إن رفسة واحدة تكفي لتحطيم القيد، ولكن الدابة تخاف وتجبن، وتفعل ما يطلبه الطفل، ولا تدرك قدرتها على إرهابه، لأن "البعبع" التافه يذهلها ويربكها. وأعجب من هذا أنها تكبل نفسها وتكمم لسانها بيدها-وتجلب على نفسها الموت والحرب مقابل دريهمات (بنسات) يتصدق

ص: 302

بها الملوك عليها من خزانتها هي. إنها تملك كل ما بين الأرض والسماء، ولكنها لا تعرف ذلك. وإذا هب إنسان لينطق بهذه الحقيقة لقتلته دون أن تغفر له ذنبه (41).

وأهم إنتاج لكمبانللا في سنوات الشقاء هذه "مدينة الشمس" التي تخيلها قائمة على جبل سيلان، وكل موظفيها صفوة مختارة-وهم قابلون للعزل-عن طريق جمعية وطنية تضم كل من بلغ العشرين من سكان المدينة، وهؤلاء الموظفون المختارون على هذا الأساس، يختارون بدورهم رئيس الحكومة، وهو كاهن يسمونه "هوه Hoh" يفصل هو ومعاونوه في كل المسائل دنيوية أو دينية. ويشرفون كذلك على زواج الجنسين، ليستوثقوا من أن النساء والرجال يتصلون بعضهم ببعض لينجبوا أحسن الذرية. إنهم حقاً يسخرون منا حين نبدي اهتماماً شديداً بنتاج الخيل والكلاب، ونهمل نسل الإنسان (41) ومن ثم ليس هنا مكان للعاهات والتشوهات. والنساء في مدينة الشمس هذه شركة بين الرجال على الشيوع في انضباط صارم، يقتضيهن القيام بتمرينات شاقة، توفر لهن بشرة صافية ومظهراً عاماً طيباً .. فإذا صبغت امرأة وجهها بالمساحيق، أو استخدمت أحذية عالية الكعبين .. كانت عقوبتها الإعدام (43) ويدرب الجنسان كلاهما على الحرب، ويكون جزاء من يهرب من ميدان القتال عند الإمساك به في عرين للأسود والدببة ليلقى حتفه (44). وكل فرد مكلف بالعمل. ولكن لمدة أربع ساعات فقط، يومياً (وينشأ الأطفال تنشئة مشتركة، ويعدون إعداداً نفسياً لاقتسام السلع وفق أسس شيوعية، أما ديانة هؤلاء الناس فهي عبادة الشمس بوصفها "وجه الإله وصورته الحية" "إنهم يؤكدون أن الأرض بأسرها سوف تعيش في التئام تام مع عاداتهم وأعرافهم (45) ".

وهذا البيان الشيوعي، الذي يردد صدى أفلاطون. كتبه كمبانللا في السجن حوالي 1602، ونشر في فرانكفورت آم مين في 1622. وبما كان

ص: 303

البيان يعبر عن آمال المتآمرين النابوليتانيين، وربما كان سبباً في احتجاز كمبانللا في السجن طويلاً، على أنه تصالح مع الكنيسة في الوقت المناسب فأفرج عنه. وقد أدخل السرور على قلب أرمان الثامن بتوكيده، على حق البابوات في حكم الملوك. وفي 1934 أرسله أرمان إلى باريس لينقذه من التورط في ثورة نابوليتانية أخرى ورعاه ريشليو وحماه. ولكن الثائر المنهوك، بعد أن استرد شبابه فارق الحياة وهو في صومعته في دير الدومنيكان (1639)، وكان يقول:"أنا الناقوس-كمبانللا-الذي يؤذن ببزوغ الفجر الجديد (46) ".

‌4 - الفلسفة والسياسة

أ - جوان دي ماريانا

1536 -

1624

كان محور السياسة في العصور الوسطى تثبيت سيطرة البابا على الملوك لجمعهم وتوحيدهم كلهم تحت رايته. أما أبرز مظاهر التاريخ السياسي الحديث فهو صراع الدول القومية التي تحررت من سلطة البابا. ومن ثم كانت أول قضية شغلت بال الفلسفة السياسية في القرن الذي جاء في أعقاب الإصلاح الديني، هي أن المفكرين الكاثوليك كانوا يطالبون باستعادة سلطان البابا، على حين طالب المفكرون البروتستانت بالقضاء على سيطرة البابا قضاءً تاماً، وكان أنصار البابوية يحاجون بأن الملكية المطلقة التي تطالب بحقوق الملوك الإلهية وتنكر كل الضوابط والقيود التي يفرضها الدين والأخلاق والقانون؛ قد تمزق إرباً إرباً، ولكن دعاة الإصلاح ردوا على هذا بقولهم بأنه ليس ثمة سلطة "فوق قومية"(تتخطى الحدود القومية) يمكن أن توثق في سعيها لتحقيق خير البشرية، بل أنها على الأرجح لا بد أن تسعى لتدعيم قوتها الخاصة ونفعها الخاص هذا بالإضافة إلى أن الكنيسة ذات سلطة عليا تخنق كل حرية الحياة وحرية الفكر.

ص: 304

وكان الفلاسفة "السكولاسيون" في العصور الوسطى، قد استمدوا سلطة الملك- وهم في هذا يرددون رأي المشرعين الرومان- من رضا الشعب أعقاب أعقاب أعقاب، لا من رضا الله، ومن ثم لا تكون ثمة سلطة إلهية للملوك، ويعزل بحق أي حاكم غير صالح، كما أن المفكرين الكلفنيين: مثل بليز وبوكانان ومؤلف "قصاص الطغيان"- أيدوا هذا الرأي أيما تأييد، ولكن اللاهوتيين اللوثريين والأنجليكانيين أيدوا حقوق الملوك الإلهية كعنصر موازنة ضروري ضد عنف الشعب ومزاعم البابا، وقالوا بوجوب الامتثال للملك حتى ولو كان ظالماً (47).

وكان بين المدافعين عن سلطة الشعب كثير من الجزويت الذين رأوا في هذه النظرية وسيلة لإضعاف سلطان الملوك أمام سلطان البابا. ويحاج الكاردينال بللارمين في هذا بقوله: "إذا كانت سلطة الملك مستمدة من الشعب، ومن ثم خاضعة له، فإنه من الواضح أن تكون تابعة لسلطة البابا المستمدة من الكنيسة التي أسسها المسيح، وهي بذلك لا تخضع لغير الله. وانتهى لويس مولينا- وهو جزويتي أسباني- إلى أنه ما دام الشعب هو مصدر السلطة الدنيوية، فإنه يجوز له حقاً وعدلاً- ولكن وفق إجراءات سليمة- أن يخلع الملك الظالم (48). وجاء فرانشسكو سواريه، وهو خير من أنجبه المجتمع المسيحي من رجال اللاهوت (49) "، فقرر هذه النظرة من جديد، مع بعض تعديلات دقيقة قاوم بها مزاعم جيمس الأول الاستبدادية، واعتنق الرأي القائل بحق البابوات في عزل الملوك. وأثار دفاع الجزويتي جوان دي ماريانا عن قتل الطغاة سخطاً عالمياً، حيث زعموا أنه شجع على قتل هنري الرابع.

أن ماريانا (الذي لاحظنا بالفعل أنه أعظم مؤرخي جيله) كان من كل الوجوه شخصاً مرموقاً، اشتهر بعلمه وفصاحته وجرأته الفكرية. وفي 1599 أهدى إلى فيليب الثالث ونشر، بإذن من الرقيب المحلي الجزويتي، رسالته "الملك وتعليمه" واستبق هوبر بنصف قرن، فوصف "حالة الطبيعة" قبل

ص: 305

نشوة المجتمع، حيث عاش الإنسان آنذاك عيشة الحيوان في البرية، وتحرراً من أية قيود أو ضوابط، اللهم إلا عجزه الجثماني، لا يعترف بقانون ولا بملكية خاصة، يشبع غريزته في التماس الطعام والرفيقة. ولكن كانت ثمة منغصات في الحرية التي نادى بها روسو، من ذلك تكاثر الحيوانات الضارية الخطرة. وعمد الناس إلى حماية أنفسهم عن طريق تنظيم اجتماعي، وهو أعظم أداة اخترعت آنذاك، ووسيلة ضرورية لمقابلة أعضاء الدفاع والهجوم الفسيولوجية التي زودت بها الطبيعة الحيوان. وبمقتضى ميثاق صريح أو ضمني اتفق أعضاء الجماعة على تفويض سلطتهم الجماعية إلى رئيس أو ملك. ولكن السيادة بقيت في الشعب، وفي معظم الأحوال تقريباً، قامت جمعية وطنية (مثل الكورتيز في أسبانيا- الجمعية التشريعية، من مجلسين) بالرقابة على السلطة المفوضة للملك أو الرئيس، واحتفظت بالإشراف على الخزينة وسنت مجموعة من القوانين كانت سيدتها أعلى من سلطة الملك.

وفي رأي ماريانا أن الديمقراطية أمر مستحيل، بسبب تفاوت توزيع القدرات والذكاء بين الناس والدمار كل الدمار في تحديد السياسة عن طريق الاستفتاء (50). فالملكية المقيدة أو الدستورية أحسن أنواع الحكومات، فهي تلتئم مع طبيعة الإنسان، وتعون على بقاء الدولة. ويجب أن تكون وراثية، لأن الحكومة الانتخابية إن هي إلا مثار للفوضى في فترات دورية.

ويجب أن يكون الملك مقيداً بالقانون وبالضوابط الدينية والأخلاقية، وبحق الشعب في عزله إذا طغى. ويجب عليه ألا يغير القوانين أو يفرض ضرائب دون موافقة الشعب. "ويجب عليه ألا يقرر شيئاً بشأن الدين (51) " لأن الكنيسة فوق الدولة وينبغي لها أن تحكم نفسها، ومع ذلك فعليه أن يحمي ديانة البلد، لأنه إذا أهملت الديانة فلن تقوم للدولة قائمة (52). ويجب على الدولة أن تساند الدين في محفظته على المبادئ الأخلاقية، وتشجب مصارعة الثيران لأنها تشجع على الوحشية، والمسرح لأنه يهيج الغرائز

ص: 306

الجنسية (53)، وتنفق على العناية بالمرضى والفقراء عن طريق التوسع في إنشاء المستشفيات وتوزيع الصدقات وأعمال البر، وينبغي على الأغنياء أن يعطوا الفقراء ما ينفقونه الآن على مظاهر البذخ وعلى الكلاب. ويجب أن تكون الضرائب عالية على الكماليات، ومنخفضة على الضروريات. فإن السلع الموجود في البلاد يمكن أن تفي بحاجات الجميع إذا أحسن توزيعها توزيعاً عادلاً (54). فالأمير الصالح يمكنه أن يحول دون تركز الثروة، ولم تحل الملكية الخاصة محل الشيوعية البدائية إلا لأن "الجشع الفظيع وضع يده على كل النعم الإلهية واستأثر بكل شيء لنفسه (55) ". أن هذا نظام ضروري الآن، ولسوف تعاد الشيوعي في السماء (56).

ويجوز أن يعزل الطاغية، بل يجوز حقاً وعدلاً قتله، حتى بيد فرد، في بعض الظروف: -

من هو الحاكم الذي يمكن أن يعتبر طاغية؟ .... إننا يجدر بنا ألا نترك الفصل في هذا لأي فرد، أو حتى لأفراد كثيرين، إلا إذا اشترك صوت الشعب في هذا جهراً، وانضم المثقفون والمعروفون بالجدية والرزانة إليه للتداول في الأمر

ولكن إذا جر الأمير البلاد إلى الخراب، وأساء استخدام ممتلكات الدولة أو الأفراد، وخرق القوانين العامة، وانتهك حرمة الدين، وبدأ يثبت أقدامه في صلف ووقاحة وعقوق ..... وإذا لم يتسن للمواطنين أن يجتمعوا لإجراء مشاورات ومداولات عامة، ولكنهم عاقدون العزم جدياً على وضع حد لهذا الطغيان- ومع افتراض أن هذا عمل بغيض لا يحتمل .... فإنه في مثل هذه الحالة، إاذ تقدم الفرد، مستجيباً لهذه الرغبة العامة، وعرض القيام بالقضاء على هذا الحاكم. فإني لا أعتبر هذا الفرد آثماً ولا شريراً .... وإنها لفكرة سليمة أن يقتنع الأمراء بأنهم إذا طغوا

ص: 307

بغوا

فإنه يمكن قتلهم، لا حقاً وعدلاً فحسب، بل أن قتلهم يكون كذلك مدعاة للثناء والفخر (57).

وأعاد ماريانا إلى ذاكرة قرائه حوادث قتل الطغاة في التاريخ- هارموديوس وأرستوجيتون اللذين قتلا الطاغية همبارخوس (أثينا- القرن السادس ق. م)، وبرونوس الذي أخرج الطاغية تاركينوس من روما. وأشار إلى أن أثينا وروما، بل أن في الواقع كل أوربا المثقفةأوربا النثقفة خلدت ذكرهم. ولكنأةورباأوربا خلدت ذكرهم. ولكن ماريانا كشف عن تحيزه، برضائه إلى حد ما عن ذبح هنري الثالث بيد كليمنت منذ عهد قريب (1589):

إن هنري الثالث ملك فرنسا خر صريعاً بطعنة من أحد الرهبان بسكين مسمومة في أحشائه. إن هذا منظر كريه .... إن جاك كليمنت دري اللاهوت في كلية الدومينكان التابعة لطائفته. وأبلغه رجال اللاهوت الذين استشارهم، أن قتل الطاغية عمل مشروع. أن موت كليمنت شرف خالد لفرنسا، كما بدا لكثير من الناس، فقد اعتبر الكثيرون أنه مات وهو جدير بالخلود، على حين أن آخرين من ذوي الحكمة البالغة والثقافة العالية استنكروا عمل ووجهوا إليه اللوم (58).

وقد نذكر أن هنري الثالث كان يناهض العصبة الكاثوليكية، وأنه أمر أعوانه بقتل هنري دوق جيز، زعيم العصبة. وكان فيليب الثاني ملك أسبانيا يؤيد العصبة، وقد أمدها ببعض المال، كما وافق على قتل إليزابث الأولى ملكة إنجلترا، ووليم أورانج. ولم يكن لدى فيليب الثالث إي اعتراض على قتل أي عدو لأسبانيا.

وفي 1599 أمر كلوديو أكوافيفا رئيس "مجمع يسوع"، بتصحيح كتاب ماريانا "الملك". ولما قتل هنري الرابع بيد رافاياك (24 مايو 1610) أعلن

ص: 308

أكوافيفا استنكاره بمبدأ ماريانا في قتل الطغاة (8 يولية) وحظر إدراجه في تعاليم الجزويت. وكان ماريانا في الوقت نفسه قد اعتقل، لا لتحبيذه قتل الطغاة، بل مت أجل احتجاجه على خفض فيليب الثالث لقيمة العملة، وتحذيره من مساوئ التضخم في رسالة قيمة "تزييف العملة"(1625). واحتمل ماريانا عناء السجن بطريقة فلسفية، وبقي على قيد الحياة بعد إطلاق سراحه. وتوفي في 1624. وهو في سن السابعة الثمانين.

ب- جان بودين

1530 -

1596

ما أشد الاختلاف بين بودين وماريانا؟ إنه لم يكن لاهوتياً له قدمان في السماء، ولم يكن مناصراً كئيباً للعصبة، ولكن كان من هواة السياسة (مثل ميشيل دي لوبيتال، وهو من أنصار التسامح الديني، وكان مستشاراً لهنري الرابع ومن المعجبين به). ولد جان آنجرز، وربما كانت أمه أسبانية يهودية وجاء إلى باريس 1560، واشتغل بالقانون، ولكنه لم يدر عليه ربحاً. وانصرف في لهفة شديدة على دراسة الفلسفة والتاريخ. ودرس في نهم. العبرية واليونانية والألمانية والإيطالية، وكتابات ليفي وتاسيتس والعهد القديم، وشيشرون، ودساتير دول غرب أوربا. وآمن بأن دراسة التاريخ هي بداية الحكمة السياسية. وكان أول ما قدم للطبعة "منهج لتيسير فهم التاريخ"(1566). وهو كتاب يجده الطالب تافهاً لا قيمة له ولا متعة فيه محشوا بالتنميقات البلاغية، والأطناب الممل. إن العقل الفلسفي لا يتم نضجه مبكراً. لقد اعتقد بودين وهو في السادسة والثلاثين أن التاريخ يوحي إلينا بالفضيلة عن طريق الكشف عن هزائم الأشرار وانتصارات الأخيار (59)، ومع ذلك فإن الكتاب يعتبر بعد- "مقالات ميكيافللي"- أول كتاب هام في فلسفة التاريخ.

وفي هذا الكتاب، وفي كتاب "الجمهورية" الذي جاء بعده- وقبل قرن ونصف قرن من ظهور فيكو ومونتكيو- نجد تفكيراً منهجياً منتظماً في

ص: 309

المناخ والسلاسة باعتبارهما عاملين من عوامل التاريخ. فالتاريخ من وظائف الجغرافيا- الحرارة، المطر، التربة، سمات السطح

أن الجغرافيا تحدد الخلق، والخلق يحدد التاريخ. وأن الناس لتتباين أخلاقهم وسلوكهم، تبعاً لحياتهم على الجبال أو الأودية، أو على شواطئ البحار. ويتميز أهل الشمال بقوة الجسم والنشاط العضلي. على حين يتميز أهل الجنوب بالحساسية العصبية وحدة الذهن. أما سكان المنطقة المعتدلة، مثل شعوب البحر المتوسط وفرنسا فإنهم يجمعون بين خصائص الشمال والجنوب، وهم عمليون أكثر من أهل الجنوب، ومفكرون أكثر من أهل الشمال، وينبغي أن تتكيف حكومة أي شعب مع خلقه الذي حددته الجغرافيا والسلاسة، والذي لا يكاد يتغير بمرور الزمن. وعلى هذا الأساس يجب أن يحكم شعوب الشمال بالقوة، وشعوب الجنوب بالدين.

وفي كتاب أقل شأناً "الرد علة تناقضات مالستروا"، أسس بودين "الاقتصاد السياسي" تقريباً (60) فحلل أسباب ارتفاع الأسعار في أوربا، وناقش مساوئ خفض قيمة العملة، ودافع عن حرية التجارة، في عصر الحماية الطبيعية والإقليمية، وأكد العلاقة بين الواقع الاقتصادي والسياسة الحكومية.

ولكن أروع أعماله- وهو أهم إضافة للفلسفة السياسية فيما بين ميكيافللي وهوبز- هو كتابه "الجمهورية"(1576). وقد استعمل بودين هذه اللفظة بمعناها الروماني: أي الدولة. وفرق بين الدولة والمجتمع. فالمجتمع قائم على الأسرة، التي لها أساس طبيعي في العلاقة بين الجنسين وبين الأجيال. أما الدولة فتقوم على قوة مصطنعة. وكانت الأسرة في شكلها الطبيعي، أبوية- أي أن للأب سلطة مطلقة على أزواجه وبنيه وممتلكات الأسرة، وربما أنقصت المدينة بشكل خطير من حقوق الأب. ويجب أن تخضع المرأة دوماً للرجل لأنها أضعف منه عقلاً، وفي وضعها معه على قدم المساواة إغفال خطير

ص: 310

"للطبيعة". وينبغي أن يكون للزوج على الدوام حق الطلاق، كما ورد في التوراة. وذهب بودين إلى القول بأن انهيار سلطان الأب وتخلخل انضباط الأسرة كانا بالفعل يقوضان الأسس الطبيعية للنظام الاجتماعي. لأن الأسرة، وليست الدولة، هي وحدة النظام والأخلاق ومصدرها، فإذا انهارت وحدة الأسرة والانضباط، فلن يملأ فراغها أية قوانين مهما بلغ عددها (61). والملكية الخاصة أمر لا غنى عنه لكيان الأسرة وبقائها. والشيوعية مستحيلة لأن كل الناس ولدوا غير متساوين (62).

وكان بودين أكثر واقعية من ماريانا وروسو في مناقشته لأصل الدولة. فليس ثمة لغو وهراء حول ميثاق أو عقد اجتماعي، فقد تنشأ الجماعات القروية على شيء من مثل هذا الاتفاق. أما الدولة. فقد نشأت بتغلب مجموعة من الأصوات على مجموعة أخرى، ثم أصبح زعيم الفريق المنتصر ملكاً (63). ولم ينبع إقرار القوانين من إرادة الشعب أو "سيادته" بل من القوة النظامية للحكومة، - ومن ثم فإن الملكية المطلقة أمر طبيعي، فإنها في الدولة، استمرار لسلطة الأب في الأسرة الأبوية. فلن تكون هناك سيادة لأية دولة إذا خضعت لغير قوانين الطبيعة وقوانين الله (64). وكما انتهى هوبز إلى هذه النتائج فراراً من الفوضى التي سببتها الحرب الأهلية في إنجلترا (1642 - 1649)، فإن بودين رأي في الحكومة الاستبدادية المخرج الوحيد من الحروب الدينية وتمزيق فرنسا، مع ملاحظة أن كتابه نشر بعد أربع سنوات فقط من مذبحة سانت برتلميو، وربما كتب بالدم الذي كان يجري أنهار في شوارع باريس. وبدا لبودين أنه إذا كانت مهمة الدولة هي المحافظة على النظام، فإن هذا لن يتسنى لها إلا عن طريق سيادة مطلقة غير قابلة للتحويل أو التخلي عنها.

ص: 311

وبناء على هذا تكون الملكية غير المقيدة، الوراثية، هي خير أنواع الحكومات: يجب أم تكون غير مقيدة حتى لا تنتهي إلى الفوضى، ووراثية تجنباً لشرور النزاع على العرش. فالملكية مثل السلطة الأبوية- سادت في معظم أنحاء الأرض، لأطول مدة من الزمن، ولقد أقرها التاريخ على حين أن الديمقراطيات لم تحكم الدول إلا لفترات قصيرة فحسب، ولكنها تنهار، بسبب تقلب الشعب، وعجز الموظفين الذين يختارهم، وفسادهم وقبولهم للرشوة (65)، وفي أية جمعية شعبية يحسب عدد الأصوات دون وزنها أو تقدير قيمتها (من أجل نوعية التفكير الذي أدلى بالصوت)، فإن الحمقى والأشرار والجهال أكبر ألف مرة دائماً من عدد الرجال الذين يقام لهم وزن "وليس ثمة خلاص للديمقراطية إلا إذا تولى الحكم، وراء ستار المساواة، نفر قليل من الناس، ورجح وزن العقول عدد الرؤوس (66).

واعترف بودين بأنه لا بد من إيجاد مخرج من الاستبدادية المطلقة إذا أصبح الحاكم طاغية ظالماً. فأباح حق القيام بالثورة أو قتل الطاغية، وربما كان ذلك على أساس غير منطقي. وسلم بأنه حتى ملكياته البالغة حد الكمال، لا بد أن يأتي يوم تنهار فيه، وتعزل نتيجة تغييرات لا معدي عنها، وتتعذر الحيلولة دون وقوعها. واستبق هيجل، فقسم التاريخ إلى فترات ثلاث: الأولى سيطرت فيها دول الشرق، والثانية شعوب البحر المتوسط، والثالثة أقطار شمالي أوربا. ومن خلال تعاقب القيام أو السقوط هذا، ذهب بودين إلى القول بأنه يلحظ شيئاً من التقدم. ولا يقع العصر الذهبي في الماضي الأسطوري، بل في المستقبل الذي سيجني ثمار أعظم الاختراعات على الإطلاق- وهي الطباعة (67). وكتب (قبل بيكون بنصف قرن) أن العلوم تدخر في أعماقها كنوزاً لن تقدر على استنفادها أية عصور مقبلة قط.

وكان بودين مفكراً حراً، مع نظرة كريمة بعين الاعتبار إلى الكتاب المقدس، (أو بالأحرى إلى العهد القديم، لأنه يتجاهل العهد الجديد تقريباً)،

ص: 312

مع إنكار تام لحقيقة السحر والملائكة والعفاريت والتنجيم، وضرورة إقامة دولة ملتئمة مع الخصائص الخفية للأرقام. ونادى بأقصى العقوبة للسحرة، ونصح الأمراء بالمحافظة على وحدة العقيدة الدينية لأطول وقت ممكن، ولكن إذا قويت الهرطقة وانتشرت، فليس من الحكمة قمعها بالقوة، بل إنه من الأفضل الاعتماد على عنصر الزمن لكسب الهراطقة إلى جانب الدين الرسمي.

أما ماذا عساه يكون هذا الدين، فلم يفصح عنه بودين. وكان دينه مشكوكاً فيه. وفي كتابه الغريب "حديث سبعة رجال" الذي تركه عن عمد دون أن ينشره، (طبع لأول مرة 1841)، صور كاثوليكياً ولوثرياً وكلفنياً ويهودياً ومسلماً، وأبيقورياً وروبوبياً، في مناقشة في البندقية. وفازت اليهودية، أما المبادئ المسيحية في الخطيئة الأصلية، والتثليث والتجسد فقد كان الهجوم عليها أقوى بكثير من الدفاع عنها. ولم يثبت في النهاية إلا الإيمان بالله. أن نقاد بودين اتهموه بأنه يهودي وكلفني وملحد، وقالوا بأنه مات على غير دين "كالكلب". ولكن الإيمان بالتوجيه الإلهي للعالم، واضح بأجلى بيان في "الجمهورية"، والإلحاد موضوع خارج نطاق التسامح، لأنه يهزأ بالكون (69).

وكان بودين، مثل هوبز، رجلاً هياباً يحاول أن يتلمس طريقه إلى الهدوء والاستقرار وسط طغيان الثورة والحرب. وأصاب أعظم مؤلفاته عدوى زمانه، فكان فلسفة لعالم مضطرب معتل يتلهف على النظام والسلام. ولا يمكن أن تقارن بالحكمة المصقولة التي جاءت في "مقالات" مونتيني الذي كان أقل منه انزعاجاً في تلك السنوات ذاتها. ومع ذلك فإنه منذ عهد أرسطو ليس ثمة رجل، ربما باستثناء ابن خلدون، نشر الفلسفة السياسية على مثل هذا النطاق الواسع، أو دافع عن آرائه وأهوائه بمثل هذه القوة والعمق، مثل بودين. ولن تجد قبل ظهور "لفياتان هويز" مثل هذه المحاولة الجادة لاكتشاف بعض المنطق في أساليب الدول.

ص: 313

جـ - هوجو جروشيوس

1583 -

1645

إذا بقي ذكر هوبج جروتو عالقاً بالأذهان، على حين طوى النسيان تقريباً ذكر معظم الرواد الأوائل في حقله، وهو القانون الدولي

(1)

فقد يرجع هذا إلى أنه عاش كما كتب، ولأنه ألف كتابه الممتاز في فترة كانت تعج بدبلوماسية نشيطة وسياسة محفوفة بالمخاطر. ولد هويج (أو هوجو) في دلفت، ودرس الرياضيات والفلسفة والقانون في ليدن. وامتدح سكاليجر أسلوبه اللاتيني وأثنى عليه، وفي السادسة والعشرين حظي بتقدير بلاده له بسبب مؤلفه "حرية البحار"(1604) الذي أوجز فيه القانون البحري، ودافع عن حرية البحار من أجل جميع البلاد، وبخاصة هولندا التي كانت تتحدى البرتغال التي ادعت احتكار الطرق البحرية إلى الشرق الأقصى. وعندما عين مؤرخاً رسمياً للمقاطعات المتحدة ألف بلغة لاتينية قاربت حد الامتياز تاريخاً جريئاً، ولكنه دقيق للثورة الكبرى، ولقد رأيناه يناضل إلى جانب مذهب التحرر الذي نادى به أرمنيوس في النزاع بين أولدنيا تفلدت وموريس ناسو. فقبض عليه واعترف بأخطائه (70) فحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وتوسلت زوجته أن تقيم معه في السجن، فسمح لها بذلك. وبعد قرابة ثلاثة سنوات قضاها في السجن، خبأته زوجته في صندوق للكتب، فهرب من المعتقل، وقصد إلى فرنسا حيث أجرى لويس الثالث عشر معاشاً ضئيلاً. وعندما صعدت ألمانيا حرب الثلاثين، ألف جروشيوس الذي كان يعاني الفقر والعوز كتابه "قانون الحرب والسلام"(1625).

(1)

وعلى الأخص فرانسيسكو أستاذ اللاهوت في سلامنكا في "المحاضرات"(1577). البريكو جنتيلي أستاذ القانون المدني في أكسفورد الذي استبق بكتابة "قانون الحرب"(1588) كتاب جردشيوس "الدفاع عن حرية البحار"، ثم فرانسيسكو سورية الذي عرض في كتاب ضخم فكرة إنشاء عصبة أمم يحكمها القانون الدولي.

ص: 314

رأيت أنه يسود العالم المسيحي نزعة إلى شن الحروب التي قد تخجل منها حتى الشعوب المتبربرة، فيفزع الناس إلى السلاح لأتفه الأسباب، أو بلا سبب، حتى إذا ما حملوا السلاح، لم يعد هناك أي احترام لقانون سماوي أو قانون وضعي، وكأنما أبيح للناس ارتكاب أية جرائم دون قيد (71).

وكان مكيافللي قد ذهب إلى أن الدول لا يمكن الإبقاء أو الحفاظ عليها إلا إذا تحللت من الالتزام بالقانون الأخلاقي المفروض على مواطنيها. فينبغي على رجال الدولة- بالتفويض عادة- أن يكونوا مستعدين للكذب والسلب والقتل، قدر ما يرون أن هذا أو ذاك مرغوب فيه، من أحل مصلحة الدولة، لأن الدول، حتى تلك اللحظة تعيش في أدغال تتنازع فيها البقاء، مثلما كانت تعيش الأسرات قبل قيام الدول. وهي لا تعرف قانوناً إلا قانون "صيانة الذات". ويسلم جروشيوس بأنه يجوز إعفاء الحكومات من "القانون الوضعي" الذي سنه الإنسان، ولكنه يرى أنها ملتزمة بطاعة القانون الطبيعي ويعرف هذا القانون "الحق الطبيعي" بأنه هو أن ما "يمليه ويفرضه العقل الرشيد"، ليكشف عن الفساد الخلقي أو الضرورة الخلقية لعمل من الأعمال، باتفاق هذا العمل أو تنافره مع الطبيعة العقلانية، ومن ثم يوضح أن هذا العمل يحله الله أو يحرمه، والله هو منشئ الطبيعة أو خالقها (72). وعلى هذا يكون القانون الطبيعي هو نظام الحقوق والواجبات الذي ينبع من الطبيعة الأساسية للإنسان بوصفه كائناً عقلانياً يعيش في مجتمع. فكل ما هو ضروري لوجوده وإسهامه في المجتمع حق طبيعي له، فهو ناشئ عن طبيعته وملائم لها. ويجب أن تلتزم الدول في تصرفاتها بمراعاة هذه الحقوق.

ويتابع جروشيوس كلامه فيقول بأن هذا يجب أن يكون خاضعاً "لقوانين الشعوب" التي قصد بها القانون الروماني تلك التي لم تشملها "المواطنة الرومانية"، فلما انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية طبقها مشرعو

ص: 315

العصور الوسطى على علاقات الدول بعضها ببعض. وهذا يصبح في نظر جروشيوس التجمع المبهم أو غير الواضح لكل القواعد والقيود التي قبلتها معظم الدول المتطورة أو النامية، بحكم العرف، في اتصالاتها المتبادلة. وعلى هذين الأساسين: القانون الطبيعي، وقوانين الشعوب، يبني جروشيوس الهيكل النظري، وهو أول صياغة حديثة لقانون دولي مرغوب فيه.

وهو بصفة عامة يحرم الحرب على الإطلاق. وهو يدرك أن الجماعة- مثل الحيوان- إذا أحست بأنها مهددة من أعز ما تملك أو في حياتها، فإنها ستدافع عن نفسها بأية وسيلة متاحة- وإذا أمكن بالحجة والبرهان أو بالقانون، حتى إذا أخفقت هاتان الوسيلتان، فأية قوة تأمرها بأمرها (73). وبناء على هذا فإن أية دولة في مثل هذه الظروف يكون لها الحق في شن الحرب دفاعاً عن حياة مواطنيها وممتلكاتهم. ولكن الحرب عمل مجافٍ للعدالة ولا يمكن تبريره، إذا شنت من أجل الغزو والفتح، أو السلب والنهب، أو من أجل الأرض، أو لرغبة صادقة أو مزعومة في فرض حكومة صالحة على شعب غير راغب فيها (74). والحروب الوقائية جائرة كذلك. نشر بعض الكتاب مبدأ لا يمكن التسليم به قط، وهو أن قانون الشعب يجيز لدولة ما أن تبدأ أعمالاً عدائية ضد دولة أخرى تثير عظمتها المتزايدة فزع الدولة الأولى. وإذا كان هذا مجرد ذريعة نفعية، فإنه إجراء يجوز اللجوء إليه، ولكن مبادئ العدالة لا تؤيده (75). ويجب أن يلتزم الأفراد بالامتناع عن الخدمة في حروب يرون بوضوح أنها جائرة (76).

فإذا افترضنا، حينذاك أن ثمة حرباً عادلة مشروعة، فإن لكل أمة تشترك فيها حقوقاً، فلها أن تلجأ إلى الخداع والتضليل، وتثأر وتسترد الأرض، وتستولي على الغنائم، وتأسر وتستخدم الأسرى. ولكن على الأمة واجبات، مثلما أن لها حقوقاً، فيجدر بها أن تعلن الحرب قبل أن تشنها، كما تحترم أية معاهدة عقدت بشأنها، وتلتزم بمسئوليات فيها بصرف النظر عمن عقدت معه. كما يجدر في حملات الغزو المحافظة على حياة النساء والأطفال

ص: 316

والمسنين، بل على الأصح، غير المحاربين عامة. ويجوز استرقاق الأسرى، ولكن لا ينبغي قتلهم. واغتبط جروشيوس لظاهرة طيبة تبشر بالتقدم، تلك أن المسيحيين والمسلمين لم يعودوا يستعبدوا أسراهم الذين على دينهم.

وكانت مناقشة كريمة معتدلة برغم ما شابها من عيوب، فإذا كان "القانون الطبيعي" أمراً من إملاء "العقل الرشيد"، فمن ذا الذي يحدد أي عقل هو الرشيد؟ ففي الدولة إنما تحدده الحكومة التي تملك قوة مسلحة، فأساس الامتثال بقواعد السلوك الموصى به، هو قدرة المشرع على فرضها فرضاً. فالقوة لا تؤسس حقاً بل تسن قانوناً. فالقانون الدولي ينتظر هيئة تشريعية دولية تدعمها قوة دولية، وهو أساساً لن يتضمن إلا قيوداً متواضعة واتفاقات يمكن نقضها، قبلتها الدولة المعنية على أساس أنها ملائمة للظروف التي أبرمت فيها. وإذا عرفنا "قانون الشعوب" بأنه أعراف أكثر الشعوب تطوراً فإن هذا، مرة أخرى، يقتضي ضمناً وجود مرجع ثقة مؤهل وقادر تحديد الشعوب الأكثر تطوراً. وأين هذا المرجع الثقة؟ في أوربا؟ في الصين؟ في دولة الإسلام؟ وهل تسمح حكومة لمواطنيها أن يحكموا ويقرروا لأنفسهم أن الحرب عادلة أو غير عادلة؟ أنها تستطيع ذلك لو أن جهاز صيانة المبادئ والتوجيه فيها كان جهازاً صالحاً للوفاء بهذا الغرض.

لقد كان الكتاب غير منطقي، ولكنه كان ضرورياً. لقد شنت ألف حرب جائرة، وكان من الخير أن يفكر إنسان في اتخاذ خطوات للتخفيف من أعمال القتل التي ترتكبها الأمم المتحاربة، طبقاً لقيود مقبولة بالتبادل، ومن الخير استنكار حروب الغزو والسلب والنهب. ومن الخير أن يرتفع صوت ينادي بالرحمة لغير المحاربين والأسرى. وسخرت حرب الثلاثين سنة من هذه الامتيازات والالتماسات. ولكن عندما خفت حدة هذا الجنون المسعور، بررت حالة ألمانيا بعد الحرب كتاب جروشيوس أبلغ تبرير.

أن ريشليو الذي عقد العزم على الدخول في حرب الثلاثين سنة، حبس عن جروشيوس المعاش الذي كان يتقاضاه، وآوى المؤلف المعرض للمخاطر

ص: 317

إلى همبرج. وفي 1633 أرسله أوكسنستيرنا إلى باريس سفيراً للسويد لدى فرنسا، وكلن جروشيوس- شأن معظم الفلاسفة- كان أكثر ائتلافاً من أفكاره وآرائه منه مع الناس، فكمن بغضه لريشليو، ثم لمزران من بعده، من أن يحدد دبلوماسيته. وفي 1645 عاد إلى التماس الراحة والسلوى بين كتبه. ودعته الملكة كريستينا للإقامة في بلاطها، علماً تجزل له العطاء، ولكنه حظي بموافقتها على اللجوء إلى ألمانيا. فرتبت له الملكة أمر السفر إلى لوبك، ولكن عاصفة جنحت بالقارب على الشاطئ، فعانى جروشيوس كثيراً من هول الصدمة ومن افتضاح أمره، وقضى نحبه في روستوك في 29 أغسطس 1645، وهو في الثانية والستين من العمر.

وبعد انقضاء مائتين وسبعة وستين عاماً غفرت له هولندة "تحرريته"، وفي 1886 أقامت له تمثالاً في مسقط رأسه. وفي 1899 وضع مندوبو الولايات المتحدة إلى المؤتمر الدولي للسلام في لاهاي، على قبره إكليلاً من الفضة، اعترافاً بأن كتابه أسهم لبعض الوقت في الحد من "لعبة الملوك".

‌5 - الكاهن الأبيقوري

هلا وقفنا، ونحن نمضي في طريقنا إلى ديكارت، وقفة أخيرة، لنفكر ملياً في سر الكاهن الكاثوليكي الذي أحيا مادية أبيقور. فكان من مظاهر التطور العقلي في أوربا أن فيلسوف اللذة اليوناني الذي ظل اسمه لعدة قرون مرادفاً، "للكفر والإلحاد"، يلقى الآن، وفي غمرة النفور المتزايدة من أرسطو، تكريماً وتشريفاً على يدي كاهن ورع لا عيب فيه، نباتي مات من فرط تشدده في الإمساك أيام الصوم الكبير.

بدأ بيير جاسندي حياته ابناً لأحد الفلاحين بالقرب من دير في بروفانس، وأظهر من حدة الذهن والشغف بالمعرفة ما هيأ له وهو في السادسة عشرة

ص: 318

الاشتغال بتعليم "الأدب"، وفي الخامسة والعشرين تدريس الفلسفة في جامعة أكس. ورمم كاهناً، وأصبح قسيساً ورئيساً لكاتدرائية دين. وفي تلك الأثناء كان قد فرغ من تأليف كتاب يتسم بالانفعال والثورة على أرسطو "تمرينات التناقض". وقد أحرق معظم الكتاب بناء على نصيحة الأصدقاء، ولكن الأجزاء التي نشرها منه في 1624 نمت عن تأييده "لفلك" كوبرنيكس، و "ذرية" لوكريشس و "فلسفة" أبيقور. وهنا كانت دعوة صارخة للاستشهاد. ولكن بيير كان شاباً لطيف المعشر، متواضع السلوك مواظباً على واجباته الدينية، إلى درجة يبدو معها أن أحداً لم يفكر في إحراقه. أنه أعلن طوال حياته عن إيمانه بنظرية "الحقيقتين"-أن الفلسفة يمكن أن ترتضي النتائج التي يفرضها العقل بوضوح، على حين أنه في الدين قد يظل المرء يتبع العقيدة والطقوس بحجر واحد.

وبناء على طلب من مرسن صديق ديكارت، قدم بيير عدة اعتراضات قوية على فلسفة ديكارت ويحسن أن نؤجلها، وفي 1645 عين أستاذا للرياضيات في "الكلية الملكية" في باريس، ولكنه سرعان ما أصيب بالتهاب رئوي، فعاد إلى جو دين الأكثر دفئاً. وهناك كتب أعظم مؤلفاته، وكلها تدور حول أبيقور:"الحياة السعيدة في نظرية أبيقور"(1647) و "حياة اللذة عند أبيقور"(1649) وكتاب يقع في 1600 صحيفة على نهرين "مبادئ فلسفة أبيقور"(1649).

وبينما واصل بيير تثبيت عقيدته الكاثوليكية، شرح لقراء اللاتينية فلسفة كل من أبيقور ولولكريشس-المادية والشرعية وشرعية اللذةأبيقور". أن "العلة الأولى" لكل شيء هي "الله"، ولكن بعد هذه الدفعة الأولى (التي استهل بها كل شيء وجوده) وأصل كل شيء مسيرته أو تقدمه بفعل قواه وقوانينه الفطرية المتأصلة فيه. وكل معرفة تنبع من الحواس، وهي ذات وجود فردي.

ص: 319

أما "الكليات" أو الأفكار العامة، فهي أدوات نافعة للفكر، ولكن ليس لها ترابط موضوعي. وليس من شك في أن الروح غير مادية، وخالدة، ولكنها تبدو معتمدة على الجسم وواضح أن الذاكرة من وظائف المخ، وليست اللذة الحسية لا أخلاقية إذا اتسمت باعتدال حازم. ولكن أقل الملذات تغريزاً وغدراً هي ملذات الذهن، فإن الرياضيات مثلاً قد يطرب لها الإنسان ويبتهج بها. وكان جاسندي نفسه بطبيعة الحال "أبيقورياً"، أي أنه ارتضى فلسفة أبيقور، ولكنه لم ينغمس في اللذة الحسية، بل على النقيض من ذلك، اتسمت حياته باعتدال بالغ. وانتابته الحمى بعد صوم طول أكثر مما ينبغي. وأجهز عليه أطباؤه بصفده ثلاث عشرة مرة (1955).

وكان مولبيير وسيرانودي برجراك من بين مريديه في باريس. وارتضى فونتنل سانت أفرموند ونينون دي لنكلوس فلسفته دون لاهوته. وأفاد هوبز من أحاديثه معه. وربما أخذ بعض عناصر علم النفس الحسي، عن طريق تلميذ جاسندي وصديق لوك، فرانسوا برنييه الذي نشر "موجز فلسفة جاسندي" في 1678. وآثر نيوتن "ذرات" جاسندي على "جسيمات" ديكارت، ووجد عند كاهن بروفنسال تلميحاً إلى الجاذبية وفكرة غامضة عنها (77). وفي القرن الثامن عشر هيأت المادية الكامنة في جاسندي وتوكيده على العلم والتجريب مقابل منطق أرسطو وميتافيزيقا ديكارت-نقل هيأ له هذا وتلك، بين الفلاسفة الفرنسيين، مكانة أرفع من مكانة أي مفكر فرنسي آخر، باستثناء ديكارت. إذن ما هذا الذي جعل من ديكارت لمدة قرن من الزمان معيناً لا ينضب للفلسفة الحديثة؟

‌6 - رينيه ديكارت

1596 -

1650

أزول ما نذكره نع ديكارت أنه تلقى تعليمه على أيدي الجزويت. وكان هذا التعليم نقطة البداية وجحر الشحذ عند كل الهراطقة الفرنسيين، ابتداء

ص: 320

من ديكارت ثم فولتير، ورينان وأناتول فرانس "بين جدران المعبد صنعت المعاول التي تحطم بها المعبد"(78).

ولد في لاهاي، وهي بلدة صغيرة بمنطقة التورين بفرنسا. وماتت أمه بالسل بعد ولادته بأيام قلائل، وورث عنها المرض. وكان في صباه شاحب اللون، يسعل سعالاً يثير الإشفاق، إلى حد لأن الطبيب لم يبشر بأي أمل في إنقاذه، ولم تتخلَ عنه المرضعة يأساً من بقائه على قيد الحياة، ولكنها أمدته بالدفء والغذاء من جسدها هي، فعاد إلى الحياة ثانية. وربما سمي لهذا السبب، باسم رينيه (وهي لفظة مشتقة من أصل لاتيني بمعنى ولد من جديد). وكان والده محامياً موسراً، وعضواً في برلمان رن Rennes، وترك لابنه عند وفاته دخلاً يقدر بستة آلاف فرنك في العام.

وألحق في سن الثامنة بكلية "لافيش" اليسوعية، التي يقول عنها أحد المفكرين الأحرار المتحمسين ومشاهير الرياضيين "يبدو أنها زودته بقدر من الرياضيات أعظم كثيراً مما كان يمكن أن يحصل عليه في معظم الجامعات في ذلك العصر (79) " وتبين معلموه ضعف جسمه ويقظة ذهنه فأباحوا له البقاء في الفراش بعد الوقت المحدد للاستيقاظ، ولحظوا أنه استغل الوقت في التهام الكتب، الواحد بعد الآخر، وفي كل جولاته في الميتافيريقا، ظل يحتفظ بإعجابه الشديد بأستاذته الجزويت، كما أنهم بدورهم، نظروا إلى شكوكه بشيء من التسامح الأبوي.

وقصد في سن السابعة عشرة إلى باريس ليلهو ويعبث، ولكنه لم يجد شيئاً ينغمس فيه، لأنه لم يكن يحفل بالنساء أو يميل إليهن، ولكنه بوصفه رياضياً ضليعاً، انصرف إلى الميسر، مقدراً أنه يستطيع الاستيلاء على خزانة نادي القمار. والتحق بجامعة بواتييه حيث حصل منها على درجات علمية في القانون المدني والقانون الكنسي. وما أن استرد عافيته وقوته، حتى أذهل أصدقاءه، بانخراطه في جيش الأمير موريس ناسو (1618). ولما نشبت حرب

ص: 321

الثلاثين عاماً انضم إلى قوات مكسيمليان أمير بافاريا، وتذكر رواية غير مؤكدة أنه اشترك في معركة "الجبل الأبيض".

وفي غضون هذه الحملات. وبخاصة في شهور الشتاء الطويلة التي تعوق مواصلة القتل، كان ديكارت يتابع دراسته، وفي الرياضيات بصفة خاصة. وذات يوم (10 نوفمبر 1619) في نيوبرج بالقرب من أولم في بافاريا، اتقى البرد بالقبوع في "موقد"(من المحتمل أن تكون غرفة مدفأة خصيصاً له) وفيها-كما يقول هو-رأى فيما يرى النائم في ثلاث رؤى أو ثلاثة أحلام، ومضات من النور، وسمع رعداً، وبدا له أن روحاً سماوية كانت توحي إليه بفلسفة جديدة. وبعد خروجه من "الموقد"(الغرفة) كان-كما يؤكد لنا-قد صاغ الهندسة التحليلية، وتصور فكرة تطبيق المنهج الرياضي في الفلسفة (80).

ورجع إلى فرنسا في 1622، ورتب أموره المالية. ثم استأنف جولاته، فقضى قرابة سنة في إيطاليا: فقصد من البندقية (ويقولون سيراً على الأقدام) إلى لوريتو حيث قدم إجلاله للعذراء. ورأى رومة في فترة الغفران (1625)، ومر بفلورنسة ولكنه لم يزر جاليليو. ثم قفل عائداً إلى باريس وهناك في الريف تابع دراسته العلمية. وصحب الرياضي المهندس العسكري جيرار ديسارج في حصار لاروشيل (1628). وفي أخريات هذا العام قصد إلى هولندة، حيث قضى في المقاطعات المتحدة بقية أيام حياته تقريباً، اللهم إلا بعض فترات قصيرة قصد فيها إلى فرنسا لتدبير شؤونه المالية.

ولسنا نعرف لماذا ترك فرنسا، ويحتمل أن هذا يرجع إلى أنه "بعد أن أفصح عما لديه من أسباب للشك في أشياء كثيرة (81) "وخشي أن يتهم بالهرطقة، مع أنه كان له أصدقاء كثيرون من رجال الكنيسة هناك، مثل مرسن وبيرول. وربما حاول أن يتجنب الأصدقاء والأعداء على حد سواء، أملاً في أن يجد في بلد غريب عزلة اجتماعية (لا فكرية) يستطيع بها أن يشكل الفلسفة التي

ص: 322

كانت تعتلج بين جنبيه لقد كره ضجيج باريس وثرثرتها، ولكن لم تقلقه الحركة النشيطة التي تلطفها القنوات-في أمستردام، وهو يقول "هناك، وسط الجموع المكتظة من شعب عظيم نشيط، استطعت أن أعيش وحيداً منعزلاً، وكأني في صحراء نائية (82) ". وربما كانت رغبته في أن يتوارى عن الأنظار ويخفي اهتماماته هي دفعته إلى تغيير أماكن إقامته أربعاً وعشرين مرة في السنوات العشرين التالية، من فرانكر إلى أمستردام إلى دنفتر، إلى أمستردام إلى أوترخت، ثم إلى ليدن، ولكن بالقرب من جامعة أو مكتبة عادة. ومكنه دخله من الاستمتاع بطيبات الحياة الاجتماعية في قصر صغير مع عدد من الخدم. وامتنع عن الزواج ولكنه اتخذ خليلة (1634) أنجبت له طفلة. وإنا لنسر إذ نسمع أن الروح الإنسانية تجلت فيه حين بكى الطفلة بعد موتها في الخامسة من عمرها. وقد نحا في الصواب إذا ظنناه فاتراً لا تحركه الأحداث الدنيوية، ولسوف نجد أنه يبرر كثيراً من الأهواء والمشاعر التي يشجبها رجال الأخلاق عادة. وما كان هو نفسه ليتجرد منها، فهو عرضة للزهو والغضب والغرور (83).

لقد بذل ديكارت جهداً جباراً لتحقيق هدفه. أنظر إلى ما ألزم نفسه بدراسته الرياضيات، الفيزياء، الفلك، التشريح، الفسيولوجيا، علم النفس، ميتافيزيقا، نظرية المعرفة، الأخلاق، اللاهوت. فمن ذا الذي يجرؤ اليوم على أن يجول بين هذا كله؟. ومن ثم طمع في العزلة والاحتجاب عن الأنظار، وأجرى التجارب والمعادلات والرسوم البيانية. وقدر فرص تجنبه محكمة التفتيش أو تهدئتها، وحاول أن يهيئ لفلسفته منهجاً رياضياً. ولحياته منهجاً فلسفياً.

ومن أين يبدأ؟ إنه في "مقال في المنهج

(1)

"، وهو الكتاب الفذ الذي يعتبر

(1)

كتبه 1629، ونشر في 1637 في مجلد يتضمن كذلك بحوثاً في الهندسة والانكسار والشهب، ثم أعقبه في 1641 كتاب "تأملات في الفلسفة الأولية"، ثم كتاب "مبادئ الفلسفة" في 1644 وجاء بعده "رسالة في انفعالات النفس" في 1650، "دراسة الإنسان"1662.

ص: 323

فاتحة عصر جديد، أعلن عن أول مبدأ، كان يمكن في حد ذاته، أن يقيم عليه الدنيا ويقعدها ويثير عليه غضب أولي الأمر، وهكذا كان. فقد كان الموضوع مكتوباً في لغة فرنسية متميزة ميسرة، في صيغة المتكلم الحية الساحرة. لقد أحدث ثورة كبيرة في التفكير، وقال ديكارت أنه كان سعيداً ينبذ كل النظريات والمبادئ والتعاليم، ويطرح كل جهد ومرجع، ويوجه خاص الفيلسوف أرسطو. وسيبدأ بصفحة جديدة خالية من أي شيء، ويشك في كل شيء. "إن السبب الأساسي في أخطائنا يمكن في أهواء طفولتنا (84)

فالمبادئ التي اعتنقها في شبابي، استمر على الأخذ بها دون أن أتحرى حقيقتها ومبلغ الصدق فيها" (85).

ولكنه يمضي قدماً، إذا ساوره الشك في كل شيء؟. ولما كان مولعاً بالرياضيات، وفوق كل شيء بالهندسة التي دأبت عبقريته على تحويلها، فقد تاقت نفسه، بعد ابتدائه بالشك الشامل إلى العثور على حقيقة يمكن التسليم بها على الفور بصفة عامة مثل بديهيات إقليدس. "إن أرشميدس، لكي يتيسر له أن يزحزح الكرة الأرضية من مكانها وينقلها إلى مكنا آخر، تطلب أن تكون هناك نقطة واحدة ثابتة لا تتحرك، وأنا بالمثل، سيكون لي الحق في أن استبشر خيراً كثيراً إذا أسعدني الحظ، فأضع يدي على شيء واحد مؤكد لا نزاع فيه (86). (وأكد على هذه النقطة متهللاً: "أنا أفكر. فإذن أنا موجود (87) "). وهي أشهر عبارة في الفلسفة

(1)

ولم يقصد بها أن تكون قياساً

(1)

كان سانت أوغسطين قد استخدم نفس نقطة البداية هذه، عند محاولته دحض آراء المتشككين الوثنيين الذين أعلنوا الشك في كل شيء. ولكنه تساءل: من ذا الذي "يشك في أنه يعيش ويفكر؟ ""لأنه إذا كان يشك فهو يعيش (88) ". واستخدم مونتيني نفس الحجة ضد المتشككين المتطرفين اليونان (أنصار برو 365 - 285 ق. م) في "معذرة إليّ ريموند سيبوند" وكان ديكارت قد قرأ مونتيني

ص: 324

منطقياً، بل خبرة مباشرة لا سبيل لإنكارها، وهي أوضح وأجلى فكرة يمكن أن نحصل عليها، وتكون سائر الأفكار "صحيحة" على قدر اقترابها من هذه البديهية الأساسية-الإدراك الحسي المباشر، من حيث الجلاء والوضوح، وكان "منهج" ديكارت الجديد في الفلسفة هو أن يحلل الأفكار المركبة إلى مكوناتها، حتى تصبح العناصر غير القابلة للاختزال أفكاراً بسيطة واضحة جلية، ويبين أن مثل هذه الأفكار كلها يمكن أن تشتق من. أو تعتمد على، الشعور الأول لكائن يفكر. أننا على العكس، يجدر بنا أن نحاول أن نستنتج من هذا الإدراك الحسي الأول كل المبادئ الأساسية في الفلسفة.

ومرة أخرى كانت ثورة في الفلسفة حين اتخذ ديكارت نقطة البداية، لا الأشياء الخارجية المفروض أنها معروفة بل الذات الواعية. لقد اكتشفت فلسفة النهضة "الفرد"، ولكن ديكارت جعل منه همزة الوصل في فلسفته. "إني لأرى بوضوح أنه ليس ثمة شيء أيسر على أن اعرفه، من عقلي أنا (89) " وإذا بدأنا بالمادة، وسرنا قدماً عبر مستويات الحياة العضوية إلى الإنسان فإن الاتصال أو الترابط المنطقي قد يغرينا بتفسير العقل بأنه مادي. ولكننا لا ندرك المادة إلا عن طريق العقل وحده. والعقل فقط هو الذي يمكن معرفته أو إدراكه مباشرة (دون سلطة) وهنا تبدأ المثالية، لا بمعناها الأخلاقي، بل على أنها فلسفة تبدأ بالحقيقة المباشرة للأفكار، أكثر مما تبدأ بالأشياء التي تعرف عن طريق الأفكار "وليس ثمة تحقيق يمكن اقتراحه أجدى من تحقيق يحاول تحديد طبيعة المعرفة الإنسانية ومداها (90) ". ولمدة ثلاثة قرون كانت الفلسفة تتساءل عما إذا كان "العالم الخارجي" موجوداً إلا كمجرد فكرة.

وكما كان من العسير أن نعبر من الجسم إلى العقل، بنظرية تقدر قدر كل من مصدر الأحاسيس وقوتها وواضح أنهما ماديتان، وطبيعة الأفكار التي يبدو أنها طبيعة غير مادية، فإن ديكارت كذلك، وقد بدأ بالنفس، وجد من العسير الانتقال من العقل إلى الأشياء. فكيف يتسنى للعقل أن يدرك أن الأحاسيس التي يبدو أنها تدلل على عالم خارجي، ليست شيئاً أكثر من حالاته هو (أي العقل)؟

ص: 325

وكيف يصدق الحواس التي غالباً ما تخدعنا وتضللناـ أو الصور العقلية التي تكون مشرقة عندما تكون "زٍائفة" في النوم، قدر إشراقها عندما تكون "حقيقية" في اليقظة؟.

وهرباً من سجن النفس "الأنانة" يلجأ ديكارت إلى الله الذي لا يمكن بالقطع أن يجعل من كل حواسنا مجرد خدعة. ولكن متى يدخل الله في هذا المنهج الذي بدأ في جرأة بالشك في كل المعتقدات والمبادئ التي تلقاها الإنسان؟ إن ديكارت لا يستطيع إثبات وجود الله من شواهد بديع صنعه في العالم الخارجي، ولأنه لم يوضح بعد وجود هذا العالم الخارجي. ولذلك أخرج ديكارت "الله" من "النفس المدركة"، تماماً مثل فعل آنسلم في "البرهان الوجودي" قبل ذلك بستة قرون. وهو يقول: إن لدي تصوراً لكائن كامل مثالي قدير عليم، ضروري، خالد ولكن هذا الذي يوجد أقرب إلى الكمال من هذا الذي لم يوجد، وعلى ذلك فإن الكائن الكامل المثالي يجب أن يكون الوجود من بين صفاته. ومن الذي كان يستطيع أن يبث فيَّ هذه الفكرة إلا الله سبحانه وتعالى؟ "ومن المستحيل أن أحمل في نفسي فكرة الله، إذا لم يكن الله موجوداً حقاً"(91). وإذا كان الله يريد أن يخدعنا فلن يكون كاملاً ومن ثم فإنه لا يضللنا عندما تكون لدينا أفكار واضحة جلية، ولا حين يتيح لحواسنا أن تكشف لنا عن عالم خارجي. "لست أدري كيف يمكن الدفاع "عنه سبحانه" أو تبرئته من تهمة الخداع والتضليل إذا كانت هذه الأفكار ناتجة عن أسباب غير متعلقة بأشياء جسدية مادية. ومن ثم يجب أن نقر بأن الأشياء الجسدية المادية موجودة (92) "، ومن ثم تنسد بشكل رائع الهوة بين العقل والمادة، بين الذرات والموضوع ويصبح ديكارت، بعون من الله، واقعياً. والعلم نفسه-إيماننا الراسخ يكون منطقي خاضع لنظام مطيع للقانون، يمكن التعرف عليه وإحصاء ما فيه-يصبح أمراً ممكناً، لا لشيء إلا لأن الله موجود، وحاشا الله أن يكذب.

وإنا إذ نتتبع ديكارت لنشهد "عصر العقل" في طفولته يتراجع فزعاً من مغامرات الفكر، محاولاً الولوج ثانية إلى حظيرة الإيمان الدافئة. ورغبة

ص: 326

في بث الطمأنينة من جديد أطلق على "التأملات": تأملات رينيه ديكارت في فلسفة أولى، أبرز فيها وجود الله وخلود النفس. وأهدى الكتاب إلى الحكيم الألمعي عميد كلية اللاهوت المقدسة في باريس"، أي السوربون. وتقبل العميد الهدية، ولكن في 1662 أدرج الكتاب في قائمة الكتب المحظورة، "حتى يتم تصحيحه". وبدأ الكتاب على نفس النسق الجريء الذي بدأت به "المقالات" "اليوم

وقد هيأتُ لنفسي انقطاعاً أكيداً لرياضة روحية هادفة، فلسوف أنكب أخيراً، انكباباً منطلقاً جاداً، على استعراض عام لكل آرائي السابقة (93) ". لقد ألقى بها جميعاً من النافذة، ثم أجاز لها الدخول من الباب. ولم يكن من بين هذه الآراء، إيمانه بإله عادل قدير فحسب، بل كذلك إيمانه بإرادة إنسانية حرة وسط آلية (ميكانيكية) كونية، ونفس باقية (غير فانية) على الرغم من اعتمادها الواضح على جسدٍ فانٍ. ومهما سلمنا بمنطق العلاقة الوثيقة التي لا تنفصم عراها بين السبب والنتيجة في عالم المادة والجسد، فإن حرية إرادتنا فكرة من إحدى الفكرات الفطرية المتأصلة، الواضحة الجلية، الحية المباشرة، إلى حد أنه لا يمكن أن يشك فيها أحد قط، مهما حاول كثيراً أن يتلاعب بها (أي الفكرات) في النظريات المجردة (94).

إن فكرة الله، وفكرة النفس، وفكرة المكان والزمان، وفكرة الحركة، والبديهيات الرياضية كلها فطرية متأصلة، بمعنى أن النفس لا تستمدها من الإحساس والخبرة، بل من جوهرها وعقلانيتها.

(وهنا قد يعترض لوك، ويوافق كانت). ومهما يكن من أمر، فإن هذه الأفكار الفطرية قد تظل لا واعية حتى تخرجها الخبرة في صورة واعية، والنفس حينئذ لا تكون نتاجاً للخبرة، بل شريكها النشيط المبدع في إنتاج الفكر. إن هذه النفس العقلانية "القدرة على التعقل" واضح أنها غير مادية، وليس لأفكارها طول ولا عرض، ولا موقع ولا وزن، ولا أية خاصية أخرى من خواص المادة (95). "إني أنا، أي النفس التي أنا بها كما أنا عليه الآن، هي أساساً متميزة عن الجسد بل حتى من الأيسر أن نعرفها مما نعرفه (96) ". وعلى ذلك فإن هذا العقل أو النفس غير المادية يمكن أن تبقى بعد الجسد، ولا بد أنها تبقى.

ص: 327

ترى هل كانت تلك النتائج القويمة التي انتهى إليها ديكارت صادقة مخلصة، أو أنه أضفى عليها لوناً وقائياً؟. هل كان ديكارت تواقاً إلى متابعة دراسته العلمية في هدوء وسلام بعيداً عن الاضطهاد والتعذيب، إلى حد أنه كان ينفث الميتاقيزيقا مثل غشاوة مربكة تحول دون انقضاض الطيور الجارحة عليه؟ لسنا نملك الجزم بشيء في هذا الصدد. وقد يتسنى لامرئ أن يكون عالماً فاضلاً على الأقل في الفيزياء، والكيمياء، والفلك، إن لم يكن في البيولوجيا-وفي نفس الوقت يتقبل التعاليم الأساسية في المسيحية. وفي إحدى مقالاته أكد ديكارت أن العقل لا يحول دون تصديق أشياء نزل بها الوحي الإلهي، على أنها أكثر يقينية من أرسخ معرفتنا وأجدرها بالثقة (97)"وتنم رسائله مع إليزابث أميرة البالاتين، في أسلوب فصيح عن التقى والتمسك بالصراط المستقيم. وزاره سالاميوس في ليدن 1637 فوصفه بأنه "كاثوليكي غيور جداً" (98) ".

على أنه تفرغ في العقد الأخير من حياته للعلم. وحول داره إلى معمل، وأجرى تجارب في الفيزياء ووظائف الأعضاء، وإذا طلب أحد زواره أن يرى المكتبة، أشار ديكارت إلى ربع عجل كان يقوم بتشريحه (99). وكان في بعض الأحيان يتحدث، كما تحدث بيكون، عن الفوائد العملية-الهائلة التي يجنيها الجنس البشري حين يستطيع العلم أن يجعل الناس "سادة الطبيعة والمسيطرين عليها (100) " وكثيراً ما أدى توكيده الذاتي على الاستنباط وثقته فيه، إلى نتائج غامضة. ولكنه-اشتغل شغلاً خلاقاً بعدة علوم. وألح على أن يستبدل العلم بالأفكار التجريدية النوعية الغامضة التي سادت علم الفيزياء، في العصور الوسطى: إيضاحات كمية مصوغة في صيغ رياضية، ولقد شهدنا تطويره للهندسة التحليلية وإشارته إلى حساب التفاضل والتكامل اللانهائي. وحل مشاكل تضعيف المكعب وتثليث الزاوية. وابتدع فكرة استخدام الحروف الأولى من حروف الهجاء لتمثل الكميات المعلومة، والحروف الأخيرة لتمثيل الكميات المجهولة. ويبدو أنه اكتشف قانون انكسار الضوء مستقلاً عن سنل Snen وحالفه التوفيق في دراسة القوى العظمى التي تحدثها وسائل صغيرة، مثل البكرة

ص: 328

والأسفين والرافعة والملزمة والعجلة، وصاغ قوانين القصور الذاتي والتصادم وكمية التحرك، وربما أوحى إلى باسكال بأن الضغط الجوي ينخفض بالارتفاع (101)، ولو أنه أخطأ في إعلان أنه لا يوجد ثمة-فراغ إلا في عقل باسكال (102). وأشار إلى أن كل جسم محوط بدوامات من جسيمات دقيقة تدور حوله-في طبقات كروية-وهي فكرة تشبه نظرية المجال المغناطيسي الحالية. وفي البصريات حسب حساباً صحيحاً زاوية الانكسار، وحلل التغيرات التي يتعرض لها الضوء بفعل العدسة البللورية للعين، وحل مشكلة تصحيح الزيغ الكروي في التلسكوب، وصمم عدسات ذات تقوس بيضي الشكل أو زائدي المقطع، خالية من هذا الزيغ (103).

وشرح جنيناً، ووصفه من الوجه التشريحية، وهو يقول أنه شرح رؤوس حيوانات مختلفة ليتحقق في أيها تكون الذاكرة والتصور وغيرهما (104). وأجرى تجارب على الفعل اللاإرادي أو المنعكس، وشرح الطريقة (الميكانيكية) التي تطرف بها العين عند اقتراب الضربة أو اللطمة (105). ووضع نظرية للانفعال شبيهة بتلك التي وضعها وليم جيمس وكارل لانج: إن السبب الخارجي للانفعال (مثل وقوع نظرنا على حيوان خطير) يولد ذاتياً أو آنياً فعلاً مستجيباً (الهرب) والإحساس المرتبط به (الخوف)، فالانفعال هو إنجاز الفعل لا سببه. والانفعالات متأصلة في الفسيولوجيا، ويجب دراستها وتفسيرها على أنها عمليات ميكانيكية، وليست في حد ذاتها سيئة لأنها الريح في أشرعتنا ولكن إذا لم يلطف منها العقل ويحد منها، فإنها قد تستبعد الإنسان وتدمره.

ويمكن اعتبار الكون كله ميكانيكياً، فيما عدا الله والنفس العقلانية وعرض ديكارت هذه الفكرة وجاليليو ومحكمة التفتيش ماثلتان أمام عينيه-على أنها مجرد فرض: فإذا افترضنا أن الله خلق المادة ووهبها الحركة، فيمكننا أن نتصور أن العالم يتطور بعد ذلك، وفق قوانين الميكانيكا، دون تدخل، إن الحركة الطبيعية للجسيمات المادية في كون ليس فيه فراغ، تأخذ شكلاً دائرياً يؤدي إلى دوامات مختلفة من الحركة. ويمكن أن تكون الشمس والكواكب

ص: 329

والنجوم قد تكونت بفعل تجمع هذه الجسيمات في مركز هذه الدوامات، وكما أن كل جسم محوط بدوامة من ذرات دقيقة-وهذا يفسر التماسك والتجاذب-فإن كل كوكب كذلك محصور في دوامة من الجسيمات تحتفظ بتوابعه في مداره، والشمس مركز دوامة هائلة تندفع الكواكب إليها حول الشمس في دوائر. وكانت نظرية بارعة، ولكنها سقطت عندما أثبت كبلر أن مدارات الكواكب بيضاوية الشكل.

ويقول ديكارت بأنه لو كانت معرفتنا تامة كاملة لكان في مقدورنا أن نحول-لا الفلك والفيزياء والكيمياء، فحسب-بل كل عمليات الحياة، باستثناء العقل ذاته، نحولها إلى قوانين ميكانيكية فإن التنفس والهضم، بل حتى الشعور، كلها ميكانيكية، أنظر كيف كان هذا المبدأ مفيداً في اكتشاف هارفي للدورة الدموية. وطبق ديكارت، في ثقة تامة، فكرة الميكانيكية، على كل عمليات الحيوانات، لأنه أبى أن يخلع عليها القدرة على التفكير العقلي. وربما أخس بأنه مضطر، من الوجه الدينية. إلى ظلم الحيوان على هذه الصورة، لأنه كان قد أسس خلود النفس على عدم مادية الذهن العقلاني، فإذا كان للحيوانات مثل هذا الذهن كذلك، لكانت هي الأخرى باقية أو غير فانية، وربما كان في هذا إزعاج، إن لم يكن لهواة الكلاب، فهو على الأقل لرجال اللاموت.

ولكن إذا كان جسم الإنسان آلة مادية فكيف يتسنى للعقل غير المادي أن يعمل فيه. أو يحكمه بقوة غير ميكانيكية مثل الإرادة الحرة؟ وهنا يفقد ديكارت ثقته، فيجيب يائساً بأن الله يرتب تفاعل الجسم والعقل بطرق خفية لا يصل إليها إدراكنا المحدود. وربما ارتأى أن العقل يعمل في الجسم عن طريق الغدة الصنوبرية الموضوعة بشكل مناسب في قاع المخ.

وكان أثر تصرفات ديكارت تهوراً وطيشاً طيلة حياته، أنه طلب من مرسن أن يبعث مقدماً بنسخ من كتاب "التأملات" إلى بعض المفكرين مع دعوتهم لإرسال ما يعن لهم من اعتراضات عليه، ورداً على ذلك دحض

ص: 330

جاسندي آراء ديكارت في كياسة فرنسية (106). فإن الكاهن لم يقتنع بحجة-ديكارت الوجودية عن وجود الله. أما هوبز فاعترض على أن ديكارت لم يثبت استقلال العقل عن المادة والمخ. ويقول أوبري بأن هوبز بصفة خاصة "كان يميل إلى القول بأنه ديكارت لو قصر نفسه على الهندسة تماماً لأصبح أعظم علماء الهندسة في العالم، وأنه لم ينسجم مع الفلاسفة (107). واتفق هيجينز مع هوبز، وذهبا إلى أن ديكارت نسج قصة خيالية من عناكب الميتافيزيقا.

والآن وبعد ثلاثة قرون من البحث والمناقشة قد يكون من اليسير أن نتبين نقاط الضعف في أول منهج حديث جريء للفلسفة. أن فكرة تحويل الفلسفة إلى صيغ هندسة، ساقت ديكارت إلى طريقة استنباطية، اعتمد فيها في طيش زائد، برغم تجاربه، على نزعته إلى الاستنباط. وأنه لعمل انتحاري أن نجعل من الوضوح أية فكرة وجلائها وبهائها وبداهتها اختباراً لصحتها، فمن ذا الذي يجسر على هذا الأساس، على إنكار دوران الشمس حول الأرض؟ والمحاجة بأن الله موجود لأن لدينا فكرة واضحة متميزة عن كل كائن لا نهائي بالغ حد الكمال (وهل هذا صحيح؟)، ثم المحاجة بأن الأفكار المتميزة جديرة بالثقة لأن الله لا يمكن أن يخدعنا، إن هي إلا ضرب من التفكير دائري مثل مدارات كواكب ديكارت. إن هذه الفلسفة تتضح بمفاهيم سكلاستية العصور الوسطى، التي نصحت بنبذها. إن شك مونتيني كان أثبت وأبقى من شك ديكارت الذي لم يفعل إلا أن زحزح الهراء التقليدي ليفسح مكاناً لهرائه هو.

ومع هذا كله، بقي في علم ديكارت، أن لم يكن في "ميتافيزيقاه" ما يشيع في نفسه الخوف من الاضطهاد والتعذيب. فإن نظريته في "ميكانيكية الكون" تركت المعجزات والإرادة الحرة في موقف خطر ومأزق حرج، برغم اعترافه بالدين القويم والصراط المستقيم. أنه لما سمع باد أنه جاليليو (يونية 1633) طرح جانباً مؤلفه الضخم "العالم" الذي كان قد اعتزم أن يضم فيه شتات أبحاثه العلمية والنتائج التي توصل إليها، وكتب، وقبله يقطر أسى وحزناً، إلى مرسن:

ص: 331

لقد كان لهذا النبأ أعمق الأثر في نفسي، حتى كدت أعقد العزم على أن أحرق كل مخطوطاتي، أو على الأقل أخفيها عن الأنظار

وإذا كانت حركة الأرض غير صحيحة، فإن كل مبادئ فلسفتي عن "ميكانيكية العالم" خاطئة

لأنها كلها مترابطة يؤيد بعضها بعضاً

ولكني على أية حال لن أنشر شيئاً يتضمن كلمة واحدة تغضب الكنيسة. (108)" وعند وفاته لم توجد إلا قصاصات قليلة من مخطوطة "العالم".

ولم يأتِ الهجوم (في حياته) من الكنيسة الكاثوليكية، بل من رجال اللاهوت الكلفنيين في جامعتي أوترخت وليدن. فقد اعتبروا دفاعه عن الإرادة الحرة هرطقة خطيرة تسيء إلى "القضاء والقدر" كما رأوا في "ميكانيكية الكون " فكرة تنزلق به إلى حافة الإلحاد، فإذا كان الكون يستطيع أن يسير لمجرد قوة دافعة يبدأ بها الله "فما هي إلا مسألة وقت حتى ينجز الله دفعته الاستهلالية أو الأولى هذه. وفي 1641، عندما تبنى أحد أساتذة أوترخت فلسفة ديكارت، أغرى رئيس الجامعة، جسبرت فوشيوس، ولاة الأمور في المدينة بإدانته الفلسفة الجديدة وتحريكمها. فما كان من ديكارت إلا أن شن هجوماً على فوشيوس، الذي رد عليه رداً عنيفاً، وعواد ديكارت الكرة، وقارعه الحجة بالحجة. وفي 1643 دعا القضاء الفيلسوف للمثول أمامهم. ولكنه رفض، وصد الحكم عليه، فتدخل أصدقاؤه في لاهاي، فقنع أولو الأمر في المدينة بإصدار قرار بحظر أية مناقشة علنية تأييداً أو تفنيداً لآراء ديكارت.

ووجد بعض السلوى في صداقته مع الأميرة إليزابث التي كانت تقيم في لاهاي مع والدتها إليزابث ناخبة البلاتين ملكة بوهيميا المخلوعة. وكانت الأميرة في التاسعة عشرة حين ظهر كتاب "المقالات" 1637، فقرأته في دهشة ممزوجة بالابتهاج والسرور بما رأت أن الفلسفة واضحة مفهومة يسهل إدراكها، والتقى بها ديكارت وابتهج بما رأى من أن الميتافيزيقا قد تتسم

ص: 332

بالجمال. وأهدى إلى الأميرة الصغيرة كتابه "مبادئ الفلسفة" وكتب كلمة الإهداء في لغة تفيض بملق بالغ البهجة والسرور. وماتت حيث كانت رئيسة دير للراهبات في وستفاليا (1680).

ولم يطب المقام لديكارت في هولندا، كما كان من قبل، فكان كثير التردد على فرنسا:(1644، 1647، 1648). وأثار فيه الروح الوطنية معاش أجرته عليه حكومة لويس الرابع عشر الجديدة (1646). واحتال للحصول على أحد المناصب الإدارية، ولكن اقتراب نشوة الحرب الأهلية (حرب الفروند) عاد به إلى هولندا، فزعاً. وفي فبراير 1649 تلقى دعوة من كريستينا ملكة السويد، ليحضر ليلقنها الفلسفة. وتردد في قبول الدعوة، ولكن سحرته رسائلها التي تمت في لغة فرنسية ممتازة، على ذهن متلهف، انحاز بالفعل إلى "البهجة الغالية"(فلسفة ديكارت). وبعثت إليه بأحد أمراء البحر يستمليه، ثم ببارجة حربية لتقله، فاستسلم وأبحر في سبتمبر من أمستردام إلى ستكهولم.

واستقبل بكل مظاهر الحفاوة والتكريم، ولكن أزعجته رغبة الملكة في أن تتلقى الدروس ثلاث مرات في الأسبوع، في الساعة الخامسة صباحاً. وكان ديكارت قد تعود أن يبقى في فراشه إلى وقت متأخر، والتزم بالمواعيد التي حددتها الملكة طيلة شهرين، فكان يخرج من بيته إلى مكتبة الملكة في فجر الشتاء وثلوجه، وفي أول فبراير 1650 انتابه برد انقلب إلى التهاب رئوي، وفي اليوم الحادي عشر فارق الحياة بعد أن تلقى الأسرار المقدسة الكاثوليكية الأخيرة.

وكان قد اتخذ لنفسه شاعراً، هو "يعيش سعيداً من يتوارى عن الأنظار ويتكتم كثيراً". ولكن شهرته كانت قد طبقت الآفاق قبل موته بعدة سنوات. لقد نبذت الجامعات فلسفته واشتم رجال الدين رائحة الهرطقة في

ص: 333

تقواه، ولكن رجال العلم أطروا رياضياته وفيزياءه، ولكن دنيا الأناقة في باريس، أقبلت في سرور بالغ على مؤلفاته التي كتبها في لغة فرنسية مشرقة جذابة. وسخر موليير من "السيدات العالمات" اللاتي تبادلن أنباء الدوامات في الصالونات، "ولكنهن لم يطقن الفراغ" وكان الجزويت حتى تلك اللحظة متسامحين مع تلميذهم النجيب، وكانوا قد اسكتوا واحداً من طائفتهم شرع يهاجم ديكارت (109)، ولكنهم بعد 1640، لم يعودوا يظلونه بحمايتهم. وكان لهم يف 1663 ضلع في أدراج مؤلفاته في قائمة الكتب المحظورة. ورحب بوسويه وفنلون ببراهين ديكارت على المبادئ الأساسية في المسيحية، ولكنهم رأوا في تأسيسها على العقل خطراً على العقيدة، واستنكر باسكال الاعتماد على العقل، على اعتبار أن هذا العقل ريشة في مهب الريح.

ولكن اعتماد ديكارت على العقل، هو الذي، على وجه الدقة، أيقظ ذهن أوربا، وأوجز فونتيل الأمر بقوله "أن ديكارت

هو الذي أمدنا بطريقة جديدة للتفكير، تدعو إلى الإعجاب أكثر مما تدعوا فلسفته ذاتها، تلك التي يعتريها قدر كبير من الزيف والشك، وفقاً للقواعد التي علمنا إياها هو نفسه (110) "إن شك ديكارت أدى لفرنسا-أو للقارة بصفة عامة-ما أداه بيكون لإنجلترا: - أنه حرر الفلسفة من أغلال الزمن وأطلقها لتبحر في جرأة وشجاعة في بحر مكشوف، حتى ولو أنها ما لبثت أن عادت، عند ديكارت نفسه إلى شاطئ الأمان المألوف. ولسنا نقول بأنه كان ثمة انتصار عاجل أو فوري للعقل، فإن التقاليد والأسفار المقدسة كانت أكثر ثباتاً وقوة في أزهى عصور فرنسا، وهو "القرن العظيم" أي عصر لويس الرابع عشر، أنها كانت حقبة بورت رويال وباسكال وبوسويه، أكثر منها حقبة خلفاء ديكارت. أما تلك الحقبة نفسها في هولندا فهي عصر سبينورا وبيلي، وفي إنجلترا عصر هوبز ولوك. أن الزرع كان يخرج شطأه.

وكان لأعمال ديكارت بعض الأثر على الأدب والفن في فرنسا. إن

ص: 334

أسلوبه كان ابتداعاً منعشاً. وهنا كانت الفلسفة بلغة قومية في متناول الجميع بشكل خطير، وقلما يتحدث فيلسوفاً بمثل هذه الألفة الساحرة وهو يعدد مغامرات العقل وتجاربه المثيرة بمثل السلاسة والحيوية التي يعدد بهما فرواسار وبطولات الفروسية ومآثرها. ولم يكن كتاب "مقال في المنهج" مجرد رائعة من ورائع النثر الفرنسي. بل إنه كذلك ضرب، للعصر الزاهر في فرنسا، مثلاً في لغته وأفكاره، للترتيب وبراعة التفكير والاعتدال في الآداب والفنون والسلوك والحديث. وتلاءم توكيده على الأفكار الواضحة الجلية مع الذهن الفرنسي، وأصبح رفعه من شأن العقل أول قاعدة من قواعد الأسلوب الممتاز عند الناقد الفرنسي بوالو:

"أحب العقل إذن، ولتستمد كتاباتك وقيمتها منه وحده (111) ".

وباتت الدراما الفرنسية لمدة قرنين من الزمان بلاغة العقل التي تنافس تمرد العاطفة والهوى وربما عانى الشعر الفرنسي بعض الشيء من ديكارت، فإن مزاجه وآلياته (ميكانيكي) لم يتركا للخيال أو الأحاسيس سوى مجال ضيق. إن فوضى رابليه المهتاجة واستطرد مونتيني الذي لا ضابط له، بل حتى الاضطرابات العنيفة في الحروب الدينية، أن هذه كلها أفسحت المجال، بعد ديكارت، لمناقشات كورني العقلانية، ولوحدات راسين العارمة، ولتقوى بوسويه المنطقية، ولقانون الملكية والبلاد ونظامهما وشكلهما وسلوكهما في عهد لويس الرابع عشر. وأسهم ديكارت، عن غير قصد منه في ابتداع طراز جديد في الحياة الفرنسية، كما فعل في الفلسفة سواء في سواء.

وربما كان أثره في الفلسفة أعظم من أثر أي مفكر آخر قبل كانت. لقد استقى مالبرانش منه، وتتلمذ سبينوزا على منطق ديكارت، واكتشف نقاط الضعف فيه عند شرحه. وقلد "المناقشات" في نبذة عن سيرة حياته بعنوان "تحسين التفاهم"، وتبنى المثل الأعلى الهندسي في كتابه "الأخلاق"، وبنى بحثه في "استرقاق الإنسان" على بحث ديكارت "رسالة في انفعالات النفس".

ص: 335

وبدأ تقاليد المثالية في الفلسفة الحديثة، من بركلي إلى فخت، بتوكيد ديكارت على الفكر بوصفه الحقيقة الوحيدة المعروفة بطريق مباشر، مثلما انحدرت تقاليد التجريبية من هوبز إلى سبنسر. ولكن ديكارت قدم للمثالية ترياقاً -مفهوم كون موضوعي ميكانيكي تماماً-فإن محاولته لفهم العمليات العضوية وغير العضوية، سواء بسواء، على أساس ميكانيكي، هيأت للبيولوجيا وللفسيولوجيا قوة دافعة متهورة ولكنها مجدية. وتحليله الميكانيكي للإحساس والخيال والذاكرة والإرادة، أصبح معيناً لا ينضب لعلم النفس الحديث. وبعد أن دعم القرن السابع عشر في فرنسا العقيدة القويمة بديكارت، وجدت استثارة القرن الثامن عشر أرضاً خصبة في شكه المنهجي، وفي اعتماده على العقل، وفي تفسيره لكل حياة الحيوان على نفس أسس الفيزياء والكيمياء (112). إن اعتداد الفرنسي-المغترب بنفسه اعتداداً لم يتزعزع قط، كان يبرره أثره المتزايد على الذهن الفرنسي.

إن "المناظر الكبرى" بين العقل والإيمان كانت تتخذ شكلاً واعياً. ولكن تاريخها الحديث كان قد بدأ فقط. إننا إذا ألقينا نظرة على الأعوام التسعين 1558 - 1648، من إليزابث إلى ريشليو، ومن شكسبير إلى ديكارت، لأدركنا أن كل القضايا المستحوذة على الأذهان لا تزال محصورة في المسيحية، بين المذاهب الدينية المتنافسة المؤسسة كلها على إنجيل قبله الجميع على أنه "كلمة الله" وثمة مجرد أصوات شاردة كانت تقول بأن المسيحية نفسها يمكن أن توضع موضع الاختبار، وبأن الفلسفة لن تلبث أن تنبذ كل مذهب خارق للطبيعة.

وبعد هذه المراحل الأولى من الصراع بقيت الكاثوليكية مسيطرة في أسبانيا والبرتغال حيث ظلت محاكم التفتيش تنشر الرعب والكآبة. أما في إيطاليا فقد اتسمت الديانة العتيقة بروح أكثر إنسانية، وأضفت بالفن على الحياة شيئاً من الجمال، وزينت الأخلاقيات بالأمل، وارتضت فرنسا حلاً وسطاً، وعاشت المسيحية نشيطة مزدهرة بين الشعب، كاثوليك أو هيجونوت، على

ص: 336

حين أن الطبقات العليا كانت تسرح وتمرح في الشك، مرجئة التقى والورع إلى دنوا الأجل المحتوم. وقامت في الأراضي الوطيئة تسوية جغرافية، فأبقت المقاطعات الجنوبية على الكثكلة، وانتصرت الكلفنية في الشمال. وأنقذ البروتستانتية في ألمانيا كاردينال فرنسي، وثبتت بافاريا والنمسا على ولائهما القديم، على حين أعيدت المجر وبوهيميا إلى حظيرة البابا، وأصبحت البروتستانتية قانون الأرض أو المبدأ الرسمي في إسكندناوة، ولكن ملكة السويد آثرت طقوس رومة، واقترحت إليزابث في إنجلترا اتحاداً كريماً بين الطقوس الكاثوليكية والحرية الوطنية، ولكن البروتستانتية الإنجليزية التي تفرقت شيعاً أبرزت حيويتها وغامرت بحياتها.

وفي غمرة تناحر الجيوش والمذاهب، كانت "دولية العلوم" تكافح للإقلال من الخرافة والخوف. كانت تخترع أو تعمل على تحسين الميكروسكوب والتلسكوب والترمومتر والبارومتر، وكانت تبتكر اللوغاريتمات والنظام العشري، وتصلح التقويم، وتبتدع الهندسة التحليلية، وكانت تحلم، لفورها، بتحويل كل المواقع إلى معادلة جبرية. وكان تيكوبراهي قد قام بكل الأرصاد المتكررة الصابرة التي مكنت لكبرل من صياغة قوانين حركة الكواكب، التي أنارت الطريق أمام نيوتن ليبصر بقانون كوني عام واحد. وكان جاليليو يكشف عن عوالم جديدة أوسع، بمناظيره المقربة التي كان يعمل على تحسينها وتكبيرها باستمرار، وفي قاعات محكمة التفتيش كان النزاع بين العلم والدين يفرغ في قالب مسرحي. وفي مجال الفلسفة ارتضى جيوردانو برونو الإعدام حرقاً حتى الموت، في محاولته لإعادة فهم الألوهية والكون على أسس تلتئم مع أفكار كوبرنيكس، كما أن فرانسيس بيكون الذي يدعو ذوي العقول المفكرة إلى العلم، كان يخطط مهام

ص: 337

العلوم ومسئوليتها لعدة قرون مقبلة، أما ديكارت، بشكه العام الشامل، فقد ألقى على عصر العقل عبئاً جديداً. وتشكلت الأخلاق والعادات والسلوك تبعاً لتقلبات العقيدة. وتأثر الأدب نفسه بالصراع، وكان لآراء الفلاسفة صداها في شعر مارلو وشكسبير ودون. وسرعان ما تتضاءل أهمية الثورات والحروب بين الدول المتنافسة إذا قورنت بالصراع السائد المتزايد بين الإيمان والعقل الذي أهاج ذهن أوربا وحوله، بل ربما ذهن العالم بأسره.

ص: 338