المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المجلد الثامن   ‌ ‌عصر لويس الرابع عشر تاريخ الحضارة الأوروبية في عصر بسكال - قصة الحضارة - جـ ٣١

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

المجلد الثامن

‌عصر لويس الرابع عشر

تاريخ الحضارة الأوروبية في عصر بسكال وموليير وكرومول وملتن وبطرس الأكبر ونيوتن وسبينوزا

1648 -

1715

‌إلى القارئ العزيز

هذا المجلد هو الجزء الثامن من تاريخ نسيت بدايته، ولن ندرك نهايته أبداً. موضوعه الحضارة، وتعريفنا لها أنها ذلك النظام الاجتماعي الذي يدعم الإبداع الثقافي، فهو إذن ينظم أبواب الحكم، والاقتصاد (أي الزراعة والصناعة والتجارة والمالية)، والأخلاق، وآداب السلوك، والدين، والفن، والأدب، والموسيقى، والعلم، والفلسفة، وهدفه التاريخ المتكامل-أي تغطية جميع نواحي النشاط لشعب ما في منظور واحد ورواية موحدة. وقد حققنا هذا الهدف ولكن في قصور شديد. ومسرحه أوربا، وزمانه يمتد من معاهدة وستفاليا (1648) إلى وفاة لويس الرابع عشر، الذي غلب حكمه (1643 - 1715) على العصر وسماه باسمه.

أما الموضوع الغالب على هذا الجزء فهو "المناظرة الكبرى" بين الإيمان والعقل. لقد كان الإيمان متربعاً على العرش إبان هذه الحقبة، ولكن العقل كان يجد أصواتاً جديدة تفصح عنه في هوبز، ولوك، ونيوتن، وبيل، وفونتنيل، وسبينورا، و"كان هذا العصر الكلاسيكي من أوله إلى آخره ما أطلقه على ذاته في ختامه، أي عصر العقل"

(1)

وقد خصصنا ثلث الكتاب تقريباً لتلك المغامرة الفكرية التي انطلقت من الخرافة والظلامية والتعصب إلى الدرس والعلم والفلسفة. وقد بذل المؤلفان محاولة لرواية هذا النقاش في إنصاف رغم انحيازهما الواضح إلى أحد الجانبين، ومن ثم كان تناولهما المستفيض، المتعاطف، لنفر من المنافحين الأكفاء عن الإيمان، أمثال بسكال، وبوسويه، وفنيلون، وباركلي، ومالبرانش، وليبنز. وسوف يعيش أبناؤنا فصلاً جديداً في صراع المثل هذا، وهو صراع لا بد لكل انتصار فيه أن يكسب من جديد المرة بعد المرة.

وأملنا أن نقدم للقراء الجزء التاسع الذي يتناول "عصر فولتير"

(1)

البيرجيرار: The Life and Death of an Ideal.

ص: 3

1965، والجزء العاشر "روسو والثورة" في 1968، ولقد اعترضتنا عقبات، يعضها نجم عن ضخامة المادة التي أتاحها لنا القرن الثامن عشر، وكلها يتطلب الدرس والحيز الكافي. وإنا خلال ذلك راكسنان إلى "القوي العظمى" في ألا تدمر موضوعنا هذا قبل أن تدمرنا.

مايو 1963

ول وايريل ديورانت

‌إقرار بالفضل

لقد لقي ربه أحد الناشرين المشاركين اللذين بدأنا معهما "مشروع الكلام" هذا في 1926، ولن ننسى أبداً روحه النيرة المتألقة. وما زال الثاني صديقاً لنا، وهو لايفتأ متحمساً، سمحاً، غفوراً. إنه ناشر لم يطغ عمله على شاعريته.

وعسى ألا يفسر انتهازنا هذه الفرصة- التي قد تكون الأخيرة- للإعراب عن عرفاننا بجميل النقاد الكثيرين الذين أتونا بقراء لهذه المجلدات- نقول عسى ألا يفسر هذا بأنه "إحساس قوي بأفضال قادمة"، فما كنا بغير معونتهم إلا صوتين صارخين في البرية.

ونحن مدينان ديناً كبيراً لابنتنا إيثل لما بذلت من جهد مخلص في نسخ مسودتنا الثانية، التي لم تكن واضحة تمام الوضوح، على الآلة الكاتبة نسخاً قارب الكمال، لما أدخلت عليها من تنقيحات صائبة؛ ولأخواتنا وأخينا- ساره، وفلورا، وماري، وهاري كاوفمان- لما قاموا به من تصنيف صابر لنحو أربعين ألف جزازة تحت اثني عشر ألف عنوان، وللسيدة آن روبرتس بمكتبة لوس أنجلوس العامة، والآنسة داجني وليمز بمكتبة هوليوود الإقليمية، لما قدمتا من معونة قيمة في توفير الكتب النادرة لنا من جميع أرجاء أمريكا، فما كان لهذه المجلدات أن تكتب لولا مكتباتنا السخية العظيمة، وللسيدة فيرا شنيدر، عضو هيئة التحرير بمؤسسة سيمون وشوستر، لما لقي هذا المجلد وسابقة على يدها من تحقيق علمي دقيق لم يظفر بمثله في أغلب الظن إلا القليل من المخطوطات.

ص: 4

الكتاب الأول

‌فرنسا في أوج عظمتها

1643 -

1715

الفصل الأول

‌الشمس تشرق

‌1643 - 1684

1 -

مازاران وألفروند

1643 -

1661

ترى ما الذي أعان فرنسا على أن تفرض على أوربا الغربية منذ 1643، سلطاناً فيه ما يشبه قوة التنويم، اتصل في ميدان السياسة حتى 1763، وفي ميادين اللغة والدب والفن حتى 1815؟

إن العالم لم يشهد قط منذ أيام أغسطس ملكية ازدانت بمثل هذا العدد من أفذاذ الكتاب والمصورين والمثالين والمعماريين، أو حظيت بمثل الإعجاب والمحاكاة الواسعين، سواء في آداب المجتمع أو الأزياء أو الأفكار أو الفنون، اللذين حظيت بهما حكومة لويس الرابع عشر من 1643 إلى 1715 لقد كان الجانب يؤمون باريس وكأنهم يؤمون مدرسة تهذيبية تصقل كل ألوان الجمال في الجسم والعقل. وكان الألوف من الإيطاليين، والألمان، وحتى الإنجليز، يؤثرون باريس على أوطانهم.

أن من أسباب هيمنة فرنسا آنئذ ضخامة قواها البشرية. فقد بلغ سكانها عشرين مليوناً من الأنفس في 1660، في حين لم يزد سكان كل من أسبانيا وإنجلترا على خمسة ملايين، وإيطاليا على ستة، والجمهورية الهولندية على مليونين. أما الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي شملت ألمانيا، والنمسا، وبوهيميا، والمجر، فقد سكنها واحد وعشرون مليوناً تقريباً، ولكنها لم تكن إمبراطورية إلا بالاسم وقد أفقرتها قبيل هذه الحقبة حرب الثلاثين، وانقسمت إلى نيف وأربعمائة دويلة. شديدة الحرص على "سيادتها"،

ص: 7

جلها صغير مستضعف، ولكل منها حاكمها، وجيشها، وعملتها، وقوانينها، ولا يزيد سكان الواحدة منها على المليونين-وعلى نقيض هذا كانت فرنسا بعد 1660 أمة متماسكة جغرافياً، متحدة تحت حكومة مركزية قوية واحدة، وهكذا تمخضت جهود ريشليو الأليمة عن مولد "القرن العظيم".

ولقد فاز البورون حيث أخفق الفالوا في ذلك الصراع الطويل الذي نشب بين الهابسبورج والملوك الفرنسيين. وأخذت أجزاء من الإمبراطورية، عقداً بعد عقد، تقع في قبضة فرنسا، ثم نزلت أسبانيا الهابسبورجية عن كبريائها وزعامتها في روكروا (1643) وصلح البرانس (1659). وبعدها عقد لواء القوة للدولة الفرنسية في العالم المسيحي، دولة مطمئنة إلى مواردها الطبيعية، ومهارات شعبها وولائه، وخطط قادتها العسكريين، ومصير ملكها. كذلك كان من الأهمية بمكان ما كتب لهذا الفتى من حكم سيتصل قرابة ثلاثة أرباع القرن، مضيفاً بذلك وحدة الحكومة والسياسة إلى وحدة العرض والأرض، وهكذا سنرى فرنسا طوال خمسين عاماً ترعى وتستقدم عباقرة العلم والأدب، تشيد القصور الشامخة، وتجيش الجيوش الضخمة، وترهب نصف الدنيا وتلتهمها. لقد قدر لهذه الصورة أن تكون صورة عظيمة لم تكد تضارعها من قبل عظمة، ترسم بكل ضروب الفن وألوانه، وبدم الرجال أيضاً.

ولم تكن فرنسا قد توحدت بعد يوم ارتقى لويس الرابع عشر العرش وهو لا يجاوز الخامسة (1643)، وكان على كردينال ثان أن يتم العمل الذي بدأه سلفه ريشليو. ذلك هو جول مازارن الذي كان يسمى في إيطاليا جوليو مازاريني، وقد ولد في "الأبروتزي" لأبوين صقليين فقيرين، وتولى اليسوعيون تعليمه في روما، وخدم الباباوات موظفاً دبلوماسياً، ثم لفت أنظار أوربا فجأة يوم أنهى الحرب المانتوية (1630) بالمفاوضة في لحظة حرجة. فلما أوفده البابا مبعوثاً له في باريس، ربط مصيره بعبقرية

ص: 8

ريشليو المسيطرة، فكافأه هذا على إخلاصه بقبعة الكردينالية. وحين حضرت المنية ريشليو، "أكد للملك أنه لا يعرف غير مازاران رجلاً كفوا لملء مكانه"(1). واستمع لويس الثالث عشر إلى النصيحة.

قلما مات هذا الملك المطيع (1643) ظل مازاران متوارياً بينما اضطلعت الملكة الأم، آن النمساوية، بالوصاية على ولدها، واحتال لوي دكونديه وجاستون دورليان، الأميران الملكيان، ليصبحا القوة الفعالة وراء العرش ولم يغتفرا للملكة قط أنها تخطتهما واستوزرت ذلك الإيطالي الوسيم، الذي بلغ الآن الحادية والأربعين. وفي غداة تقليده الوزارة هشت باريس لنبأ انتصار روكورا الحاسم، وبدأ حكم مازاران بهذا الاستهلال الميمون، ودعمته الانتصارات الكثيرة سواء في الدبلوماسية والحرب. وقد تبين ذكاؤه في حسن تخيره للسياسات، والقواد العسكريين، والمفاوضين. وبفضل إرشاده وقيادته وطد صلح وستفاليا (1648) تفوق فرنسا الذي أكسبه إياها الحرب.

على أن مازاران لم يوهب وحدة الإرادة وقوتها اللتين أوتيهما ريشليو، ومن ثم فقد اعتمد على صبره ودهائه وسحره. وقام أصله الأجنبي عقبة في طريقه. ومع أنه أكد لفرنسا أن قلبه فرنسي وإن كان لسانه إيطالياً، إلا أن تأكيداته لم تحظ قط بالتصديق التام، فلقد كان رأسه إيطالياً، وقلبه ملكاً له. ولا علم لنا كم من هذا القلب اختص به الملكة، إنه خدمها وخدم أطماعه بغيرة، واكتسب ودها، وربما حبها. وكان على يقين من أن سلامته وسلامتها في مواصلة سياسة بناء قوة الملكية تدريجياً ضد أشراف الإقطاع. وفي سبيل الإثراء تحسباً للمستقبل إن سقط، جميع المال بحرص الرجل الذي يذكر الفقر أو يخشاه، فحكمت عليه فرنسا، التي بدأت تعجب بفضيلة الاعتدال، بأنه محدث نعمة، وساءتها لكنته الإيطالية، وأقرباؤه الذين كلفوا الدولة غالياً. لا سيما بنات أخيه، اللاتي تطلب حسنهن جهازاً مترفاً من الخدم أو الحشم. وقد أحتقره الكردينال رتز، مع أن رتز هذا لم

ص: 9

يكن ركناً ركيناً للفضيلة، فزعم أنه "إنسان قذر

ومحتال أصيل

وشرير لئيم (2)". على أن رتز-بعد أن هزمه مازاران-لم يكن في وضع يعينه على إنصاف غريمه. وإذا كان الوزير الماكر قد جمع المال دون اكتراث للكرامة، فإنه أنفقه بذوق رفيع، فملأ حجراته بالكتب والتحف التي أوصى بها بعد ذلك لفرنسا وكان ذا أسلوب مرح مهذب يلذ السيدات ويحير الرجال. وقد وصفته امرأة منصفة تدعى مدام دموتفيل، بأنه: "يفيض رقة، بعيد كل البعد عن صرامة" ريشليو (3). وكان سريع العفو عن معارضيه، سريع النسيان لفضل ذوي الفضل عليه. وأجمع الكل على أنه لم يدخر جهداً في حكم فرنسا، ولكن حتى هذا التفاني كان يسيء إلى بعض الناس، لأنه كان أحياناً يترك كبار زواره ينتظرون على مضض في حجرات انتظاره. وكان كل إنسان في رأيه قابلاً للرشوة، وكان عديم الإحساس بالنزاهة. أما أخلاقه الشخصية فلم يكن بها بأس إذا ضربنا صفحاً عن الشائعات التي أرجفت بأنه جعل من ملكته خليلة له. وقد صدم الكثيرين في البلاط بدعاباته الشكاكة عن الدين (4)، لأن مثل هذه السخرية لم تكن قد فشت بعد في المجتمع الفرنسي، ومن ثم غزا تسامحه الديني إلى افتقاره للإيمان (5). وكان من أول أعماله توكيد مرسوم نانت، فسمح للهيجونت بأن يعقدوا مجامعهم في سلام. ولم يكابد أي فرنسي الاضطهاد الديني من الحكومة المركزية في عهد وزارته.

ومن عجب أنه احتفظ بسلطته كل هذا الزمن برغم كراهية الناس له لقد كرهه الفلاحون لما أثقل به كواهلهم من ضرائب يستعين بها على خوض غمار الحرب، وكرهه التجار لأن المكوس التي فرضها أضرت بالتجارة، وكرهه الأشراف لأنه اختلف معهم حول مزايا الإقطاع. وكرهته "البرلمانات" لأنه وضع نفسه والملك فوق القانون. وزادت الملكة من كره الناس له بخطرها توجيه النقد لحكمه. وقد أيدته لأنها ألفت نفسها في وضع تتحداها فيه جماعتان رأتا طفولة الملك، وفي ضعف المرأة الموهوم، منفذاً

ص: 10

إلى السلطة: الأشراف الذين عللوا أنفسهم باسترجاع امتيازاتهم الإقطاعية السابقة على حساب الملكية و"البرلمانات" التي تطلعت لإحالة الحكومة إلى أوليجاركية من المحامين. إزاء هاتين القوتين-"أرستقراطية السيف" العريقة، و"أرستقراطية الرداء" الأحدث عهداً-التمست الملكة درعاً لها في عناد مازاران المقترن بالمرونة والدهاء. وقد بذل أعداؤه محاولتين عنيفتين لخلعه والسيطرة عليها، والمحاولتان تؤلفان حرب الفروند.

بدأ برلمان باريس حرب الفروند الأولى (1648 - 49) محاولاً أن يكرر في فرنسا تلك الحركة التي كانت لتوها قد رفعت البرلمان الإنجليزي فوق الملك مصدراً للقانون وحكماً فيه. وكان برلمان باريس، بعد الملك، المحكمة العليا لفرنسا، وقد قضت التقاليد ألا يقبل الشعب قانوناً أو ضريبة إلا إذا سجل هؤلاء الموظفون القضائيون (وكلهم تقريباً محامون) القانون أو الضريبة. وكان ريشليو قد اختزل هذه السلطات أو تجاهلها، فصمم البرلمان الآن على تأكيدها. وأحس أن قد آن الأوان لجعل الملكية الفرنسية ملكية دستورية، خاضعة للإرادة القومية يعبر عنها مجلس نيابي. ولكن برلمانات فرنسا الاثني عشر لم تكن مجالس تشريعية انتخبتها الأمة كما كانت الحل في برلمان إنجلترا، بل هيئات قضائية وإدارية ورث أعضاؤها مقاعدهم أو وظائفهم القضائية عن آبائهم، أو عينهم الملك فيها. ولو أن حرب الفروند الأولى كتب لها الفوز لاستحالت فرنسا إلى أرستقراطية من المحامين. وكان في الإمكان تطوير مجلس طبقات الأمة، المؤلف من مندوبين عن الطبقات الثلاث-النبلاء ورجال الدين باقي الشعب-إلى مجلس نيابي يكبح جماح الملكية، ولكن مجلس الطبقات لم يكن يملك دعوته للانعقاد إلا الملك، ولم يدعه أي ملك من 1614، ولن يدعوه حتى 1789، ومن هنا اندلاع الثورة الفرنسية.

على أن برلمان باريس تحول إلى هيئة نيابية بصورة غير مباشرة، مؤقتاً، يوم اجترأ أعضاؤه على الكلام نيابة عن الأمة، فنرى أومير تالون، في

ص: 11

أوائل 1648، يندد بالضرائب التي أفقرت الشعب على عهد ريشليو ومازاران إذ يقول:

"لقد ألحق الخراب بفرنسا طوال عشرة أعوام. فاضطر الفلاحون أن يناموا على القش بعد أن بيعت أمتعتهم وفاءً للضرائب. وتمكيناً لنفر من الناس من أن ينعموا في باريس بحياة البذخ أكرهت جماهير لا حصر لها أن تعيش على الخبز القفار .. فاقدة كل شيء إلا نفوسها-وهذه لم تترك لها إلا لأن أحداً يجد سبيلاً لعرضها للبيع (6).

وفي 12 يوليو، انعقد البرلمان في قصر العدالة مع غيره من محاكم باريس ووجهوا إلى الملك وأمه مطالب عدة لابد أنها بدت لهما ثورية. فقد طالبوا بخفض ربع الضرائب الشخصية كلها، وبألا تفرض ضرائب جديدة دون موافقة البرلمان بالتصويت الحر، وبطرد النظار الملكيين Intondants الذين حكموا الأقاليم دون اكتراث للحكام والقضاة المحليين، وبألا يحبس شخص أكثر من أربع وعشرين ساعة دون أن يمثل أمام القضاة المختصين. ولو أن هذه المطالب أجيبت لأصبحت حكومة فرنسا ملكية دستورية، ولسارت فرنسا جنباً إلى جنب مع إنجلترا في تطورها السياسي.

بيد أن الملكة الأم ربطتها بالماضي جذور أقوى من النصر بالمستقبل، إذ لم يكن لها عهد قط بأي شكل من أشكال الحكم سوى الملكية المطلقة، وقد أحست أن التخلي عن السلطة الملكية على هذا النحو المقترح الآن مفض لا محالة إلى صدوع لا رأت لها في صرح الحكومة الوطيد، وإلى تقويض تلك الركيزة السيكلوجية التي يستمدها من التقاليد والعرف، والنزول بها إن عاجلاً أو آجلاً إلى فوضى الجماهير المتسيدة. ثم يالها من سبة أن تسلم ولدها سلطة دون تلك التي تمتع بها أبوه (أو ريشليو)! ذلك تقاعس عن واجبها سوف يوقفها موقف الإدانة أمام محكمة التاريخ. ووافقها مازاران لما رأى من قضاء مبرم عليه في هذه المطالب الوقحة من هؤلاء القانونيين المتنطعين. ومن ثم أمر في 26 أغسطس بالقبض على بيير بروسيل وغيره

ص: 12

من زعماء البرلمان. بيد أن بروسيل العجوز كان قد أكتسب محبة الناس بهذا الشعار الذي أذاعه: "لا ضرائب" فاحتشد جمهور من الغوغاء أمام الباليه-رويال وتعالى صياحهم بطلب الإفراج عنه. وقد أطلق عليهم اسم الرماة Frondeurs لما كان يحمل الكثيرون منهم من مقاليع أو مراجيم، كما أطلق اسم "الفروند" على هذا التمرد. على أن جان فرانسوا بول دجوندي-الملقب درتز فيما بعد-مساعد رئيس أساقفة باريس وخليفته المنتظر، نصح الملكة بالإفراج عن بروسيل. فلما أبت انسحب غاضباً، وعاون على استعداء الشعب على الحكومة، وكان خلال ذلك يستخدم نفوذه خفية في محاولة للظفر بقبعة الكردينالية، ويعاشر ثلاث خليلات.

وفي 27 أغسطس اتخذ أعضاء البرلمان وعددهم 160 طريقهم إلى القصر الملكي مخترقين الحشود والمتاريس، تشد أزرهم هتافات تصيح "يحيى الملك! إلى الموت يا مازاران! " ورأى الوزير الحذر أن اللحظة تتطلب الحكمة لا الشجاعة، فنصح الملكة بأن تأمر بالإفراج عن بروسيل، فوافقت، ثم إذ أخفضها هذا النزول على رغبة الجماهير اعتكفت هي والملك الصبي في ضاحية روبل وأجاب مازاران البرلمان إلى مطالبه مؤقتاً، ولكنه طاوله في تنفيذها. وظلت المتاريس في الشوارع. فلما غامرت الملكة بالعودة إلى باريس صاحت الجماهير بها صيحات الازدراء، وسمعت بأذنيها تندرها بعلاقتها بمازاران. ثم عاودت الهروب من المدينة في 6 يناير 1649، مصطحبة في هذه المرة الأسرة المالكة والبلاط إلى سان جرمان، حيث توسد الحرير القش، ورهنت الملكة جواهرها لتشتري الطعام. أما الملك الصغير فلم يغتفر قط لهذا الحشد فعلته، ولم يحب عاصمة ملكه قط.

وفي 8 يناير أصدر البرلمان في أوج تمرده مرسوماً طرد به مازاران من حماية القانون واستعدى عليه كل الفرنسيين الصالحين ليطاردوه ويقبضوا عليه باعتباره مجرماً. وقضى مرسوم آخر بالاستيلاء على كل الأموال

ص: 13

الملكية واستعمالها في أغراض الدفاع العام. ورأى كثيرون من النبلاء في هذا التمرد فرصة لاستمالة البرلمان إلى قضيتهم-قضية استردادهم امتيازات الإقطاع. ولعلهم أيضاً خشوا أن يفلت زمام الحركة إذا لم يتزعمها ذوو الألقاب الرفيعة. وانظم إليها كبار الإقطاعيين أمثال أدواق لونجفيل، وبوفور، وبويون، وحتى أمير كونتي البوربوني الدم، وأمدوها بالجند والمال وحرارة العاطفة. فأقبلت دوقة بويون ودوقة لونجفيل-الرائعة الحسن برغم إصابتها بالجدري-مع أطفالهما للعيش في الأوتيل دفيل رهائن مختارة لضمان ولاء زوجيهما للبرلمان والشعب. وبينما تنقلب إلى معسكر مسلح، كانت حاملات الألقاب يرقصن في قاعة المدينة، وواصلت دوقة لونجفيل غرامها بأمير مارسياك، الذي لم يكن قد أصبح بعد الدوق دلاروشفوكو، ولا اعتنق بعد فلسفته الكلبية. وفي 28 يناير رفعت الدوقة من معونة المتمردين إذ ولدت ابناً لمارسياك (7)، وارتبط كثير من الفرونديين بكرائم النبيلات فرساناً تابعين لهن، فكن يشترين دماءهم بابتسامة متلطفة من ثغورهن.

ثم حالف الحظ الملكة فأنقذ الموقف عداء بين أمير كونتي وأخيه الأكبر لويس الثاني البوربوني، أمير كونديه-وهو "كونديه الأعظم" ذاته الذي قاد الجيوش الفرنسية من قبل إلى النصر في روكروا ولنز. وإذ شمخ بأنفه القوى على تمرد المحامين والغوغاء، فإنه عرض خدماته على الملكة والملك. فوكلت إليه في ابتهاج قيادة جيش ضد باريس المتمردة-أي ضد أخيه، وضد أخته دوقة لونجفيل-والعودة بالأسرة المالكة في أمان إلى الباليه-رويال. وجمع كونديه الجند، وحاصر باريس، واستولى على شارنتون، المخفر الأمامي الحصين. أما النبلاء المتمردون فقد طلبوا المعونة من أسبانيا والإمبراطورية. وكان الطلب غلطة، ذلك أن عاطفة الوطنية كانت عند البرلمان والشعب أقوى من الإحساس الطبقي. وأبى معظم أعضاء البرلمان أن يلغوا ريشليو وانتصاراته بإعادة تفوق الهابسبورج على فرنسا،

ص: 14

وبدءوا يتبينون أنهم إنما يستعملون بيادق في محاولة لاسترجاع نظام إقطاعي من شأنه أن يقسم فرنسا إلى أقاليم مستقلة فرادى، مستضعفة جماعة. وفي نوبة تواضع مفاجئة أرسلوا وفداً إلى الملكة المقتربة، وعرضوا الخضوع لها، مؤكدين أنهم كانوا على الدوام يكنون لها الحب. أما الملكة فقد منحت جميع المتمردين عفواً عاماً، شريطة أن يضعوا السلاح. وسرح البرلمان جنوده، وأبلغ الشعب أن طاعة الملك هي واجب الساعة. وأزيلت المتاريس. وعادت آن، ولوبس، ومازاران إلى قصبة الملك (28 أغسطس 1649)، والتأم شمل البلاط من جديد، وأنظم إليه النبلاء المتمردون كأن شيئاً لم يقع، اللهم إلا سحابة قد انقشعت. وأغتفر كل شيء، ولم ينس شيء. ووضعت حرب الفروند الأولى أوزارها.

ولكن حرباً ثانية ما لبثت أن نشبت. ذلك أن كونديه أحس أن خدماته تخول له الترؤس على مازاران. فتشاجر الاثنان، واتصل كونديه بالنبلاء المتذمرين يجس نبضهم، أما مازاران ففي أجرأ لحظات حياته أمر بحبس كونديه وكونتي ولونجفيل في فانسين (18 يناير 1650). وهرولت مدام لونجفيل إلى نورمنديا، وأثارت حركة تمرد فيها، ثم مضت منها إلى الأراضي المنخفضة الأسبانية، وفتنت تورين حتى ارتضى خيانة العرش. فوافق القائد العظيم على أن يقود جيشاً أسبانياً ضد مازاران. يقول فولتير: "واصطدمت كل الأطراف بعضها ببعض، وأبرموا المعاهدات، ثم خان كل منهم الآخر واحداً إثر واحد

وما من رجل لم يغير ولاءه غير مرة" (8) وقال ريتز ذاكراً تلك الفترة "كنا على استعداد لقطع رقاب بعضنا البعض عشر مرات كل صباح" (9). وكان هو نفسه على وشك أن يقتل بيد لاروشفوكو. على أن الكل أعلنوا ولاءهم للملك، الذي لابد قد ساءل نفسه: أي نوع من الملكية ذاك الذي استحال هشيماً بين يديه؟

وقامت قوة ملكية بمناورة في بوردو انتهت باستسلامها، وقاد مازاران جيشاً إلى فلاندر وهو يلعب دور إله الحرب مارس، وهناك هزم تورين

ص: 15

الذي لا يقهر. أما ريتز، التواق إلى الحلول محل وزير الملكة وعشيقها، فقد أقنع البرلمان بأن يجدد مطالبه بنفي مازاران. وفقد الكردينال جرأته، فأمر بالإفراج عن الأمراء المسجونين (13 فبراير 1651)، ودفعه الخوف على حياته إلى الهروب إلى برول القريبة من كولونيا. أما كونديه المتحرق للثأر من الوزير والملكة جميعاً فقد ربط بين لأخيه كونتي، وأخته لونجفيل، ودوقي نامور ولاروشفوكو، في حلف جديد. وفي سبتمبر أعلنوا الحرب، واستولوا على بوردو، وأحالوها معقلاً للثورة من جديد. ووقع كونديه تحالفاً مع أسبانيا، وتفاوض مع كرومويل، ووعد بأن يقيم جمهورية في فرنسا.

وفي 8 سبتمبر أعلن لويس الرابع عشر أنه منه وصاية أمه عليه وأخذ مقاليد الحكم في يده. وكان يومها قد بلغ الثالثة عشرة. ورغبة في تهدئة البرلمان أيد نفي مازاران، ولكنه استجمع شجاعته في نوفمبر، فاستدعى الوزير ثانية، وعاد هذا إلى فرنسا على رأس جيش. أما جاستون أورليان فقد لعب الآن دور الحياد، ولكن تورين انحاز إلى صف الملك وفي مارس 1652 أوفد لويس حامل أختامه موليه ليطالب بولاء مدينة أورليان. فبعث قضاتها برسالة عاجلة إلى جاستون هددوه فيها بتسليم المدينة إلى الملك مالم يعد هو أو ابنته ليستنفرا أهلها.

هنا ظهرت على مسرح الأحداث امرأة من أشهر نساء فرنسا الشهيرات، وما أكثرهن، وكأني بها "جان دارك" ثانية أقبلت لتنقذ أورليان. هذه المرأة-آن ماري لويز دورليان-كانت قد رفعت راية العصيان في طفولتها حين نفى ريشليو أباها. وكان جاستون يلقب رسمياً-"المسيو" باعتباره شقيق لويس الثالث عشر، أما زوجته ماري بوربون، دوقة مونبانسييه، فهي "مدام" ذلك العهد، وابنتهما إذن هي "المدموازيل"، ولما كانت هذه الفتاة قوية البنية فارعة القوام فقد سميت "الجراند مدموازيل دمونبا نسييه". وإذ كانت ذات ثراء عريض فقد شبت على كبرياء المال

ص: 16

والنسب، وكانت تقول "أنني أنتمي إلى بيت لا يفعل إلا ما هو جليل نبيل"(10). وقد تطلعت إلى الزواج من لويس الرابع عشر رغم أنه ابن عمها، فلما لم تلقَ تشجيعاً احتضنت التمرد. وحين سمعت استغاثة مدينتها ورأت أباها يكره أن يخوض المعمعة، حصلت على رضاه بأن تنوب عنه. ولقد طالما غاظتها القيود التي فرضها العرف على بنات جنسها، ولشد ما أنكرت حرمان النساء من الانخراط في سلك الجندية. ومن ثم فقد لبست الآن درعاً وخوذة، وجمعت من حولها لفيفاً من كرائم النساء المسترجلات وقوة صغيرة من الجند زحفت بها في مرح وابتهاج على أورليان. وأبى القضاة أن يدخلوها المدينة خشية إغضاب الملك، فأمرت بعض رجالها أن ينقبوا ثغرة في الأسوار، ومنها تسللت وبرفقتها كونتيستان بينما الحراس يغفون أو يغضون. وما إن أفلحت في دخول المدينة حتى استطاعت أن تلهب مشاعر أهلها بسحر خطبها النارية. وهكذا رد موليه عن المدينة خاوي الوفاض، وأقسمت أورليان يمين الولاء للـ"عذراء" الجديدة.

وبلغت حرب الفروند الثانية ذروتها على أبواب باريس. فقد زحف كونديه عليها من الجنوب، وهزم جيشاً ملكياً، وأوشك أن يأسر الملك، والملكة، والكردينال، ولو فعل لـ"مات الشاه" حقيقة لا مجازاً، وبينما كان جيشه يدنو من باريس، حملت الجماهير-وهم "الفرونديون" هنا أيضاً، رفات القديسة جنفييف راعية المدينة وطافت الشوارع في موكب ضارعه إلى الله أن ينصر كونديه ويسقط مازاران أما الجراند مدموازيل فقد هرعت من أورليان إلى قصر لكسمبورج حيث كان أبوها لا يزال على تذبذبه، وطلبت إليه أن يؤيد كونديه، ولكنه أبى. واقترب الآن تورين وجيش الملك، والتقيا بقوات كونديه خارج الأسوار قرب بوابة سانت انطوان (ميدان الباستيل الآن). وكاد تورين يكسب المعركة، لولا أن المدموازيل اندفعت إلى الباستيل وحرضت

ص: 17

مأموره على تصويب مدافعه على جنود الملك. ثم أمرت القوم داخل الأسوار، باسم أيها الغائب، أن يفتحوا الأبواب برهة ريثما يدخل جيش كونديه، ثم يغلقوها في وجه جيش الملك (2 يوليو 1652). وهكذا كانت المدموازيل بطلة الساعة.

وغدا كونديه سيد باريس، ولكن الرؤوس المتزنة أخذت تنقلب عليه. ولم يستطع أن يدفع رواتب جنده، فبدئوا يهجرونه، وأفلت زمام الجماهير. وفي 4 يوليو هاجم الغوغاء قاعة المدينة مطالبين بأن يسلم إليهم جميع مؤيدي مازاران، وإظهاراً لسخطهم أشعلوا النار في المبنى، وقتلوا ثلاثين من المواطنين. وتعطلت العمليات الاقتصادية، وعمت الفوضى إمداد المدينة بالطعام، وخشي نصف أسرات باريس الموت جوعاً. وتساءلت الطبقات المالكة: أليست الأرستقراطية الملكية. بل أليس حكم مازاران، أهون من حكم الرعاع. وأعان مازاران الموقف حين ارتضى لنفسه النفي طوعاً، تاركاً الفرونديين بغير قضية توحد بين صفوفهم. أما ريتز فقد رأى أن الوقت قد حان لدعم مكاسبه بعد أن تم له الظفر بقبعة الكردينالية الحمراء التي طالما اشتهاها، فاستخدم الآن نفوذه ليشجع الولاء للملك.

وفي 21 أكتوبر عادت الأسرة المالكة إلى باريس دون أن يمسها سوء. وافتتن الباريسيون بمنظر الملك الصغير، البالغ من العمر آنئذ أربعة عشر ربيعاً، وسحرهم حسنه وشجاعته، ورددت الشوارع هتاف الجماهير "يحيى الملك" وما لبث هياج الشعب ـن هدأ بين عشية وضحاها، وأعيد النظام لا بفضل القوة، بل بهالة الملكية، وهيبة الشرعية، وإيمان الشعب-الإيمان نصف اللاشعوري-بحق الملوك الإلهي. وما وافى 6 فبراير 1653 حتى استشعر لويس في نفسه من القوة ما شجعه على دعوة مازاران للعودة وتثبيته مرة أخرى في جميع سلطاته السابقة. ووضعت حرب الفروند الثانية أوزارها.

وفر كونديه إلى بوردو، وخضع البرلمان في بطء ووقار، واعتكف

ص: 18

النبلاء المتمردون في قصورهم الريفية. والتمست مدام لونجفيل العزاء بين راهبات البور-رويال بعد أن ذهب وراء حسنها. ونفيت الجراند مدموازيل إلى إحدى ضياعها، حيث راحت تأكل قلبها حسرة وهي تذكر ملاحظة نسبت إلى مازاران، قال فيها إن إطلاقها المدافع من الباستيل قتل زوجها-أي قضى على أملها في الزواج من الملك. وفي عامها الأربعين أحبت أنطوان كومون، كونت لوزان، وكان أصغر وأقصر منها كثيراً، ولكن الملك رفض أن يأذن لهما بهذا الزواج، فلما عزما عليه برغم هذا الحظر سجنه عشر سنوات (1670 - 80). وظلت المدموازيل وفية له في شجاعة طوال سجنه، ولما أفرج عنه تزوجته، وعاشت معه عيشة مضطربة صاخبة حتى ماتت (1693). وأما ريتز فقد قبض عليه، ولكنه فر، ثم نال العفو، وخدم الملك مبعوثاً دبلوماسياً في روما، واعتكف في ركن باللورين، وألف مذكرات تمتاز بتحليلها الموضوعي للخلق، بما في ذلك خلقه هو يقول فيها:

"لم ألعب دور الناذر نفسه للدين، لأنني لم استطع أن أعرف على وجه اليقين كم من الزمن سأستطيع لعب دور المزيف، وحين أعجزني العيش دون صلة غرامية محرمة، اتصلت بمدام بومرو، وكانت شابة لعوباً، لها العدد الكبير من العشاق، لا قس بيتها فحسب، بل في مكان عبادتها أيضاً، بحيث كانت صلات غيري المكشوفة معها ستاراً لصلتي بها

واستقر رأيي على التمادي في خطايا

ولكني كانت مصمماً كل التصميم على القيام بواجبات مهنتي (الدينية) بأمانة، وعلى بذل قصاراي في تخليص نفوس غيري وإن لم أكترث لخلاص نفسي" (11).

أما مازاران فقد هبط على قدميه دون أن يضار، وعاد سيداً على المملكة، وخادماً لملك ما زال راغباً في التعلم. وقد روع فرنسا أن يبرم الوزير معاهدة مع إنجلترا البروتستانتية وكرومويل قاتل ملكها (1657)، الذي أعان على محاربة كونديه والأسبان بإرساله ستة آلاف جندي،

ص: 19

وأحرز الفرنسيون والإنجليز معاً النصر في "معركة الكثبان"(13 يونيو 1658). وبعد عشرة أيام سلم الأسبان دنكرك، فدخلها لويس في احتفال رسمي مهيب، ثم نزل عنها لإنجلترا طبقاً للمعاهدة. وأبرمت أسبانيا مع فرنسا صلح البرانس (7 نوفمبر 1659) بعد أن استنزف القتال مالها ورجالها، فأنهت بذلك ثلاثة وعشرين عاماً من حرب واحدة، وأرست أساس حرب أخرى. ونزلت أسبانيا عن روسيون، وأرتوا، وجرافلين، وتيونفيل، لفرنسا، وتخلت عن جميع مطالبها في الألزاس، وزوج فيليب الرابع ابنته ماريا تريزا للويس الرابع عش، بشروط ورطت فيما بعد غرب أوربا كله في حرب الوراثة الأسبانية. ذلك أنه تعهد بأن يبعث إليها، خلال ثمانية عشر شهراً، بصداق قدره 500. 000 كراون، ولكنه انتزع منها ومن لويس تنازلاً عن حقوقها في ولاية العرش الأسباني. وأصر ملك أسبانيا على أن يكون العفو عن كونديه شرطاً من شروط الصلح، فلم يكتف لويس بالصفح عن الأمير العنيف، بل رد إليه كل ألقابه وأملاكه، ورحب به في بلاطه.

كان صلح البرانس الدليل على إنجاز برنامج ريشليو-وخلاصه كسر شوكة الهابسبورج، وحلول فرنسا محل أسبانيا أمة متسلطة في أوربا. واعترف الفرنسيون بفضل مازاران في الوصول بهذه السياسة إلى ختامها الظافر، ومع أنه لم يظفر إلا بحب القليلين منهم، فإنهم رأوا فيه رجلاً من أكفأ الوزراء في تاريخ فرنسا. ولكن فرنسا التي سرعان ما نسيت خيانة كونديه، لم تغتفر قط لمازاران جشعه وحرصه. ففي وسط الفاقة التي كابدها الشعب جمع ثروة طائلة قدرها فولتير بمائتي مليون من الفرنكات (12). وكان يحول المخصصات الحربية إلى خزائنه الشخصية، ويبيع وظائف التاج لمنفعته الخاصة، ويقرض الملك بالربا، وقد أهدى إحدى بنات أخيه قلادة مازالت تعد من أغلى الحلي في العالم (13).

ولما حضرته الوفاة أشار على لويس بأن يكون وزير نفسه الأول، وألا يترك مسائل السياسة العليا لأي من مساعديه إطلاقاً (14) وبعد موته (9 مارس

ص: 20

1661) كشف كولبير للملك عن المخبأ الذي أخفى فيه ثروته. فصادرها لويس، وأثلج بذلك صدر شعبه، وغدا أغنى ملوك زمانه. وهتف ظرفاء باريس لجينو، طبيب مازاران، لأنه رجل أحسن إلى الشعب كله، وقالوا "أفسحوا الطريق لنبالته. إنه الطبيب الطيب الذي قتل الكردينال"(15).

‌2 - الملك

لم يكن أشهر ملوك فرنسا فرنسياً إلا بربع دمه. فقد كان نصف أسباني من ناحية أمه آن النمساوية، وربع إيطالي من ناحية جدته ماري مديتشي. وقد أولع بالفن والحب الإيطاليين دون تردد وبعد ذلك بالتدين والكبرياء الأسبانيين، وفي أخريات عمره أكثر شبهاً بجده لأمه، فيليب الثالث ملك أسبانيا، منه بجده لأبيه، هنري الرابع ملك فرنسا.

سمي عند ولادته (5 سبتمبر 1638 (ديودونيه Dioudonn أي "عطية الله"، ولعل الفرنسيين لم يستطيعوا أن يصدقوا أن لويس الثالث عشر قد حقق أبويته فعلاً دون عون من الله. وقد أضر بنمو الصبي وتطوره ما كان بين أبويه من تنافر، وموت أبيه الباكر، واضطرابات الفروند الطويلة الأمد. وكثيراً ما لقي الإهمال وسط نضال آن ومازاران المرة بعد المرة الاحتفاظ بالسلطة. وفي تلك الأيام التي لم تكن ظروفها مواتية لأي ملك، ذاق مرارة الفقر أحياناً في الملبس والطعام القليل. ويبدو أن أحداً لم يهتم بتعليمه، وحين تولاه المدرسون الخصوصيون كان همهم الأكبر أن يقنعوه بأن فرنسا بأسرها ميراثه الذي سيحكمه بالحق الإلهي، ولا يسأل عنه إلا أمام الله. ووجدت أمه الوقت لتدريبه على العقيدة والعبادة الكاثوليكية، اللتين سترتدان إليه في قوة بعد أن أنهكت فيه الشهوات وتضائل سناء المجد. ويؤكد لنا سان-سيمون أن لويس "لم يكد يعلمه أحد القراءة أو الكتابة، وإنه ظل جاهلاً كل

ص: 21

الجهل حتى أنه لم يلم بأشهر حقائق التاريخ وغيرها من الحقائق". لكن لعل هذه إحدى مبالغات الدوق المفرطة. وما من شك في أن لويس لم يظهر ميلاً يذكر للكتب، وإن كانت رعايته للمؤلفين وصداقته لموليير وبوالووراسين تشير إلى تقدير صادق للأدب. وقد أعرب فيما بعد عن أسفه لأنه لم يصل إلى دراسة التاريخ إلا متأخراً جداً، وكتب يقول "إن الإلمام بالأحداث العظيمة التي وقعت في العالم على مدى القرون الكثيرة، والتي هضمتها العقول القوية النشيطة، هذا الإلمام يفيد في دعم الحجة في جميع المداولات الهامة" (17) وقد جهدت أمه لتربي فيه الإحساس بالشرف والشهامة لا مجرد آداب السلوك، وبقي الكثير من هذا وإن لوثته إرادة طائشة للقوة. كان فتى جاداً ممتثلاً، يبدو أطيب من أن يصلح للحكم، ولكن مازاران صرح بأن في لويس "من الأصالة والكفاءة ما يصنع أربعة ملوك ورجلاً شريفاً" (18).

في 7 سبتمبر 1651 أطل جون إيفيلين من مسكن توماس هوبز في باريس على الموكب الذي رافق الملك الصبي، البالغ الثالثة عشرة، متجهاً إلى الحفل المقام بمناسبة إنهاء سن قصوره. وقال هذا الإنجليزي في وصفه "مضى أبوللو الصغير هذا أكثر الطريق وقبعته في يده يحي السيدات والمعجبات اللائى ازدانت النوافذ ببهائهن وملأ الجو هتافهن "يحيى الملك" (19) وكان في إمكان لويس يومئذ أن يتسلم زمام الأمر كله من مازاران، ولولا أنه كان يحترم ذلك الدهاء المهذب الذي طبع عليه وزيره، نسمح له بأن يحتفظ بالزمام تسع سنوات أخرى. ومع ذلك فقد اعترف بعد موت الكردينال قائلاً "لست أدري ماذا كنت صانعاً لو عمر طويلاً" (20) فلما مات مازاران أقبل رؤساء الإدارات على لويس سائلين إلى من يأتون ليتلقوا تعليماتهم، فأجاب ببساطة قاطعة "إلي" (21) ومنذ ذلك التاريخ (9 مارس 1661) حتى أول سبتمبر 1715 تولى حكم فرنسا بنفسه. وبكى الشعب فرحاً إذ أصبح له ملك فعال لأول مرة في نصف قرن.

ص: 22

ولقد تهللوا فرحاً وتيهاً بحسنه. قال جان دلافونتين حين رآه في 1660، ولم يكن بالرجل الذي يخدع بسهولة، "أتظنون أن في الدنيا ملوكاً كثيرين وهبوا هذا الوجه المليح وهذا السمت الرائع؟ لا أظن، ويخيل إلى حين أراه أنني أرى العظمة مجسمة"(22) لم تكن قامته تزيد على خمسة أقدام وخمس بوصات، ولكن السلطة جعلته يبدو أطول. وإذ كان قوي البدن، متين البنية، فارساً وراقصاً ماهراً، ومثقفاً بارعاً وراوية خلاب العبارة. فقد ملك جماع الصفات التي تفتن المرأة وتفتح مغاليق قلبها. كتب سان- سيمون وكان يكرهه، "لو أنه كان فرداً عادياً لا أكثر لجلب نفس الدمار بغرامياته"(32). على أن هذا الدوق (الذي لم يستطع قط أن يغفر للويس حرمانه الأدواق من سلطة الحكم) اعترف بكياسته وآدابه الملوكية التي أصبحت الآن مدرسة للبلاط، ولفرنس عن طريق البلاط، ولأوربا عن طريق فرنسا. قال:

"لم يعط أحد قط بأرق وألطف مما أعطي لويس الرابع عشر، ولا ضاعف أحد بهذه الطريقة من قيمة عطائه كما ضاعف لويس

لم تكن الألفاظ الجافية لتند عنه قط، فإذا اضطر أن يلوم، أو يوبخ، أو يقوم، وهو أمر نادر، ففي لطف دائماً تقريباً، لا في غضب أو صرامة قط

إلا في مناسبة واحدة، وما عرف الناس رجلاً طبع على مثل هذا الأدب الجم

أما مع النساء فلم يكن لتأدبه نظير. ما مر بامرأة مهما قل شأنها إلا رفع لها قبعته، حتى الخادمات اللاتي يعرف أنهن خادمات. فإذا خاطب سيدات المجتمع لم يغط رأسه إلا بعد أن يفارقهن" (24).

على أن ذهنه لم يرقَ إلى مستوى سلوكه. لقد كاد يضارع نابليون في حكمه الثاقب على الرجال، ولكنه قصر كثيراً دون ذكاء قيصر الفلسفي، أو سياسة أغسطس الإنسانية البعيدة النظر. وفي هذا يقول سانت-بوف "لم يؤت أكثر من الإدراك السليم، ولكن حظه منه كان موفوراً"(25) ولعله خير من الذكاء. ولنستمع إلى سان- سيمون ثانية "كان بطبعه حصيفاً،

ص: 23

معتدلاً، حذراً، سيداً على حركاته ولسانه" (26). ويقول مونتسكيو "كانت نفسه أعظم من ذهنه" (27) وقد وهب قوة انتباه وإرادة عوضت إبان عزه عن قصور أفكاره. أما علمنا بعيوبه فيأتينا من فترة حكمه الثانية على الأخص (1683 - 1715)، حين ضيق التعصب أفقه، وأفسده النجاح والتملق. هنا نجده مغروراً غرور الممثلين متكبراً كبرياء الآثار الضخمة، وإن كان بعض كبريائه ربما أضفاه عليه الرسامون ممن صوروه، وبعضه راجعاً إلى فكرته عن منصبه. فإذا كان قد مثل دور "الملك العظيم" فلعل عذره أنه خال هذا ضرورة لا يستغني عنها أسلوب الحكم ودعم النظام، إذ لابد من وجود مركز للسلطة، ولابد من أن تدعم الأبهة والمراسم هذه السلطة. قال لولده مرة "يبدو لي أن من واجبنا أن نكون متواضعين من أجل ذواتنا، متكبرين من أجل المركز الذي نشغله" (28) ولكنه قبل أن تواضع-ربما مرة واحدة، حين لم يجد غضاضة في أن يصحح بوالو له غلطة في أمر يتصل بالذوق الأدبي. ونقرأ مذكراته فتراه يتأمل فضائله في اتزان كثير. وعنده أن خير سجاياه حبه للمجد. قال إنه "يؤثر الصيت البعيد على كل الأشياء، بل على الحياة نفسها" (29) ولكن ولعه هذا بالمجد خدم أعداءه لأنه غالي فيه. كتب يقول "أن تحمسنا للمجد la gloire ليس شهوة من هذه الشهوات الهزيلة التي تنطفئ بمجرد تملك النفس لما تشتهيه، فإن عطاياه التي لا تنال إلا بالجهد لا تورث السأم أبداً، ومن كف عن اشتهاء المزيد منها لا يستحق كل ما ناله من عطاء (30).

بيد أنه أوتي حظاً من الفضائل الجليلة، إلى أن جر ولعه بالعظمة والمجد الدمار على خلقه وعلى بلده. فلقد أعجب بلاطه بعدالته، وتسامحه، وكرمه، وضبطه لنفسه. قالت مدام موتفيل التي كانت تراه كل يوم تقريباً خلال هذه الفترة "في هذا يجب أن تعترف كل العهود الملكية السابقة

لهذا العهد بتقدمه عليها في استهلاله السعيد" (31) وقد لاحظ القريبون منه ذلك الوفاء الذي كان يحمله على زيارة جناح أمه مراراً كل يوم على كثرة

ص: 24

شواغله، ثم شهدوا بعد ذلك حنانه على أبنائه، وحرصه على صحتهم وتربيتهم-أياً كانت أمهم. كان أكثر عطفاً على الأفراد منه على الأمم، في وسعه أن يشن الحرب على الهولنديين الذين لم يؤذوه، وأن يأمر بتدمير البالاتينات، ولكنه يحزن لموت رويتر أمير البحر الهولندي، الذي أوقع الهزائم بالبحرية الفرنسية؛ وقد كلفته الشفقة على الملكة المخلوعة، زوج جيمس الثاني، وعلى ولده، حرباً كانت أسوأ حروبه.

ويلوح أنه آمن حقيقة بأنه مبعوث العناية لحكم فرنسا، ولحكمها بسلطان مطلق. وكان في استطاعته بالطبع أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس سنداً لهدفه هذا، وأسعد بوسويه أن يريه أن العهدين القديم والجديد يدعمان حق الملوك الإلهي. وقد أخبر ولده في مذكراته

(1)

التي أعدها لإرشاده أن "الله يجعل من الملوك الحفاظ الوحيدين للصالح العام، وأنهم خلفاء الله على هذه الأرض". ولابد لهم، لكي يمارسوا وظائفهم المقدسة على الوجه الصحيح، من سلطة لا حدود لها، ومن ثم وجب أن يكون لهم "الحرية الكاملة المطلقة في التصرف في جميع الممتلكات سواء ممتلكات رجال الدين أو العلمانيين"(32). أنه لم يقل (أنا الدولة) (( tat، c'est moi ولكنه آمن بهذا القول ببساطة مطلقة. أما الشعب فيلوح أنه لم تسؤه هذه الدعاوى، التي حببها هنري الرابع إليه انتفاضا على الفوضى الاجتماعية، لا بل إن أفراده تطلعوا إلى هذا الملك الفتى في ولاء ديني، واستشعروا عزة الجماعة في أبهته وجبروته، فما من بديل عرفوه لهما غير ما رافق الإقطاع من تفتت وغطرسة. وبعد طغيان ريشليو، وفوضى الفروند، واختلاسات

(1)

واصل لويس على فترات كتابة "ملاحظات يستعان بها في المذكرات" التي بدأها في 1661 وحتى 1679 حين أضاف إليها "تأملات في حرفة الملك" وفيها الكثير مما يتسم بسلامة الإدراك على الرغم من إيمانها بنظرية الحكم المطلق، وقد تبدو أمامها بحوث الفلاسفة في هذا الموضوع قاصرة. والظاهر أنه أملاها على سكرتيرين كسوها ثوباً أدبياً قشيباً. وهي لا تقل جدارة بالقراءة عن أي أدب في العصر الذي نحن بصدده.

ص: 25

مازاران، رحبت الطبقتان الوسطى والدنيا بالسلطة والزعامة الممركزتين في حاكم "شرعي" بدا لهم واعداً بالنظام، والأمن، والسلام.

وقد أفصح عن مذهبه في الحكم المطلق حين أراد برلمان باريس عام 1665 أن يناقش بعض مراسيمه. ركب من فالنسين في ثياب الصيد، ودخل قاعة البرلمان في حذائه العالي وسوطه بيده، ثم قال:"إن الكوارث التي جرتها مجالسكم معروفة مشهورة. لذلك آمركم بأن تفضوا هذا المجلس الذي اجتمع ليناقش مراسيمي. سيدي الرئيس الأول، إني أمنعك من السماح بهذه الاجتماعات، وأمنع أي فرد منكم بالمطالبة بها. (33) " ثم نقات وظيفة البرلمان بوصفه محكمة عليا إلى "مجلس خاص" ملكي، خاضع للملك على الدوام.

وأدخل لويس على مركز النبلاء في الحكومة تغييراً جذرياً. لقد زودوا البلاط والجيش بأبهة المظهر وبريقه، ولكن ندر أن شغلوا الوظائف الإدارية ذلك أن كبار النبلاء دعوا إلى مغادرة ضياعهم معظم العام والإقامة في البلاط-أكثرهم في "أوتيلاتهم" أو قصورهم الباريسية، وعظماؤهم في القصور الملكية ضيوفاً على الملك، ومن هنا هذه الأجنحة الشاسعة التي خصصت لهم في فرساي. فإذا رفضوا قبول الدعوة فليس لهم أن يتوقعوا أي فضل يؤثرهم به الملك. وأعفى النبلاء من الضرائب، ولكن فرض عليهم في الأزمات أن يهرعوا إلى قصورهم الريفية، وينظموا ويجهزوا أتباعهم، ويقودوهم للانضمام إلى الجيش. وقد استطابوا الحرب تخفيفاً من سأم الحياة في البلاط. حقاً كانوا عاطلين كثيري النفقة، ولكن بسالتهم في ساحة القتال أصبحت فرضاً ملزماً لطبقتهم. ومعهم العرف والإتيكيت من الاشتغال بالتجارة أو بشؤون المال-وأن جبوا الرسوم على التجارة المارة بأملاكهم، واقترضوا في غير تحرج من أصحاب المصارف. وكانت ضياعهم يزرعها محاصصون ( M (tayars) يدفعون لهم جزءاً من المحصول ويؤدون لهم مختلف الخدمات والمكوس الإقطاعية. ويفترض

ص: 26

في السيد الإقطاعي أن يحافظ في إقليمه على النظام والعدالة ويرعى أعمال البر. وكان في بعض الأقاليم يؤدي هذه المهمة أداء لا بأس به، فيكون محل احترام الفلاحين، وفي بعضها الآخر لا يبذل لقاء امتيازاته إلا عطاء تافهاً، فضلاً عن أن فترات غيابه الطويلة في البلاط كانت تقوض تلك الألفة المهذبة بين السيد وتابعه. وقد حظر لويس الحروب الخاصة التي كانت تنشب بين الأحزاب الإقطاعية، وأنهى-إلى أجل-عادة المبارزة التي انتعشت خلال حرب الفروند، وتفاقم خطرها لأن شهود المبارزين، لا المبارزين الأصليين فحسب، كانوا يقتتلون، ويقتلون، ويحرمون مارس إله الحرب من فرائسه. وقد أحصى جرامون عدد من أودت المبارزات بهم في تسع سنوات (1643 - 52) فكانوا تسعمائة (34). ولعل أحد أسباب الحروب المتكررة تلك الرغبة في إيجاد منفذ لولع الفرنسيين بالقتال، ولكبريائهم داخل وطنهم على حساب الأجانب.

أما الإدارة الفعلية لشؤون الحكومة فقد آثر لويس لها كبار رجال الطبقة الوسطى ممن أثبتوا كفايتهم بالارتقاء إلى مراكزهم وممن كان في وسعه أن يركن إليهم في دعم سلطة الملك المطلقة (35). واختصت ثلاثة مجالس كبرى بتصريف شؤون الحكم، يجتمع كل منها برئاسة الملك، ويعمل في إعداد المعلومات والتوصيات التي يبني عليها الملك قراراته. فكان "مجلس الدولة" المؤلف من أربعة رجال أو خمسة يجتمع ثلاث مرات في الأسبوع ليعالج أهم مسائل العمل أو السياسة، وكان "مجلس الرسائل" يصرف شؤون الأقاليم، و"مجلس المالية" ينظر في الضرائب والإيراد والمنصرف. واضطلعت مجالس إضافية أخرى بشؤون الحرب، والتجارة، والدين، وانتزع الحكم المحلي من أيدي النبلاء المستهترين ونيط بهم النظار الملكيون، وسخرت الانتخابات البلدية لتأتي بعمد يرضي عنهم الملك. ولو أننا سُئلنا اليوم رأينا في حكومة شديدة التمركز كهذه لقلنا إنها ظالمة، وكذلك كانت، ولكن أغلب الظن أنها أقل ظلماً مما سبقها من حكم الأوليجاركيات البلدية أو النبلاء

ص: 27

الإقطاعيين. وآية ذلك أنه حين دخلت لجنة ملكية إقليم أوفرن (1665) للتحقيق في استغلال السادة لسلطتهم الإقطاعية في الإقليم، رحب الناس بهذا الاستجواب العظيم Lasgrands Jours d، Auvergne محرراً لهم من الظلم، وأثلج صدورهم أن يروا "إقطاعياً كبيراً" يُضرب عنقه لأنه قتل فلاحاً، وأشرافاً، أقل منه شأناً يلقون جزاءهم على ما اقترفوا من أفعال محظورة أو قاسية (36). وبمثل هذه الإجراءات حل القانون الملكي محل القانون الإقطاعي.

ثم نقحت القوانين لتبلغ من النظام والمنطق قصارى ما يتفق والأرستقراطية، فحكم "قانون لويس" الذي تكون على هذا النحو (1667 - 1673) فرنسا إلى أن جاء "قانون نابليون"(1804 - 1810) وكان القانون الجديد أرقى من كل قانون سبقه منذ عهد جستنيان، وقد "أسهم بقوة في تقدم الحضارة الفرنسية (37) " وأنشئ جهاز شرطة ليكبح إجرام باريس وقذارتها. فترى مارك رينيه، مركيز فواييه دارجنسون، الذي خدم الدولة إحدى وعشرين سنة قائداً عاماً للشرطة، يترك سجلاً مشرفاً من الداء العادل الدءوب لوظيفة عسيرة، وبإشرافه رصفت شوارع باريس، ونظفت تنظيفاً معتدلاً، وأضيأت بخمسة آلاف مصباح، وأمنت تأميناً لا بأس به للمواطنين، وأصبحت باريس الآن في هذا كله متقدمة جداً على أي مدينة أخرى في أوربا. ولكن القانون أباح الكثير من أعمال الهمجية والطغيان. ونشرت شبكة من المخبرين في أرجاء فرنسا يتجسسون على الكلام كما يتجسسون على الأفعال وأبيح اعتقال الأشخاص اعتقالاً تعسفياً بمقتضى الأوامر السرية Lettres de Cachet التي يصدرها الملك أو وزراؤه، وسجنهم سنين دون محاكمة، ودون أن يحاطوا علماً بجريرتهم. وحظر القانون الاتهامات بالسحر، وأبطل حكم الإعدام عقاباً للتجديف، ولكنه احتفظ باستخدام التعذيب أداة لانتزاع الاعترافات من المتهمين. وأجاز القانون عقاب عدد كبير من الذنوب بالحكم

ص: 28

على مرتكبيها بتشغيلهم في سفن أسرى الحرب-وكانت سفناً كبيرة وطيئة يسيرها بالمجاديف المذنبون موثقون بالسلاسل إلى المقاعد. وخصص ستة رجال لكل مجداف طوله خمسة عشر قدماً. وكانت صفارة المشرف تلزمهم الاحتفاظ بالسرعة التي يحددها، وأجسادهم عارية إلا من وزرة، وشعورهم ولحاهم وحواجبهم محلوقة، وأحكامهم طويلة الأمد، ومن الجائز مدها تعسفاً إذا لم يذعنوا للأوامر إذعاناً تاماً، فيفرض عليهم رقهم أعواماً بعد أن يقضوا مدة عقوبتهم. ولم يخف عنهم عذابهم إلا ما سمح لهم به إذا بلغوا الميناء من بيع التوافه أو استجداء الصدقات وهم يسيرون أزواجاً في أغلالهم.

أما لويس نفسه فوضع فوق القانون، حراً في أن يأمر بأي عقوبة لأي ذنب. ففي 1674 قضى بأن تجدع أنوف جميع البغايا وتصلم آذانهن إذا ضبطن مع الجنود في نطاق خمسة أميال من فرساي. وكثيراً ما كان رحيماً ولكنه كثيراً ما كان صارماً قال لولده: "إن مقداراً محدوداً من الصرامة كان أعظم ما استطعته من ترفق بشعبي؛ ولول أنني اتبعت سياسة عكس هذه السياسة لجرت شروراً متعاقبة لا نهاية لها. ذلك أنه ما إن يضعف الملك في إنفاذ ما أمر به، حتى ينهار السلطان وينهار معه السلام العام

فيقع كل العبء على كواهل الطبقات الدنيا، التي يظلمها عندئذ ألوف من صغار الطغاة بدلاً من الملك الشرعية (39).

وكان دائم العكوف على ما سماه "حرفة الملك" Le M (tier de Roi. يطلب إلى وزرائه أن يوافوه بالتقارير الكثيرة المفصلة، ولا يدانيه رجل في مملكته إطلاعاً على أحوالها. ولم يسؤه أن يشير عليه وزراؤه بما يناقض آراءه، وقد نزل أحياناً على رأي مستشاريه. ثم أنه احتفظ بأوثق العلاقات الودية مع مساعديه، شريطة ألا يغيب عنهم أنه الملك-قال مرة لفوبان: "ثابر على أن تكتب إلي بكل ما يعن لك ولا تفتر لك همة ولو لم أفعل دائماً ما تشير به" (40). وكانت عينه على كل شيء-الجيش والبحرية، والمحاكم، وبيته، والمالية، والكنيسة، والدراما، والأدب، والفنون، ومع أنه في

ص: 29

النصف الأول من حكمه كان يسنده وزراء أكفاء مخلصون، فإن السياسات والقرارات الخطيرة، والجمع بين شتى نواحي الحكم المعقد في وحدة متسقة-كل هذا كان من صنعه هو. لقد كان ملكاً كل ساعة من ساعات يومه.

ولقد كلفه هذا من أمره عنتاً. كان هناك من يقوم على خدمته في كل خطوة يخطوها، ولكنه دفع ثمن هذا برقابة الغير له في كل حركة وسكنة، فكانت مبارحته الفراش وذهابه إليه (إذا كان منفرداً) بعض وظائف الدولة. فإذا تم هذا الاستيقاظ الرسمي ( Lever) استمع إلى القداس ثم أفطر، ثم مضى إلى قاعة المداولة، وخرج منها حوالي الواحدة، فتناول وجبة كبيرة، يأكلها عادة على مائدة صغيرة لشخص واحد، تحيط به بطانته وخدمه. فإذا فرغ من طعامه تمشي عادة في الحديقة، أو خرج للصيد، يرافقه أثراؤه في ذلك اليوم. فإذا عدا أنفق ثلاث ساعات أو أربعاً في اجتماعات مجلسه، ثم لحق بحاشيته في ملاهيهم من السابعة إلى العاشرة-حيث الموسيقى، ولعب الورق، والبليارد، والغزل، والرقص، والاستقبالات، وحفلات الرقص، وفي فترات من هذا الروتين اليومي "يتحدث إليه من شاء"(41) وإن لم يجرؤ على هذا إلا القليلون. "لقد أعطيت رعاياي كلهم، دون تفرقة، حرية مخاطبتي في جميع الساعات، سواء بأشخاصهم أو بملتمساتهم"(42) وحوالي الساعة العشرة مساء، كان الملك يتناول العشاء رسمياً مع أبنائه وحفدته، وأحياناً مع الملكة.

ولقد كان من أسباب التهذيب والتثقيف لفرنسا أن نلاحظ كيف يفرغ مليكهم لمهام الحكم مواظباً عليها ساعات سبعاً أو ثماني طوال ستة أيام في الأسبوع. كتب السفير الهولندي يقول: (لا يصدق المرء أي سرعة، وأي وضوح، أي قدرة على التمييز، وأي ذكاء يصرف به هذا الملك الشاب أعماله ويفرغ منها، وذلك في تلطف كثير مع جميع من يتعامل معهم، وفي طول أناة وهو يستمع إلى ما يريد مخاطبة أن يقول، الأمر الذي حبب فيه كل القلوب)(43) ولقد ثابر على هذا التفاني في تصريف شؤون

ص: 30

الحكم طوال أربعة وخمسين عاماً، لا يكف عنه حتى وهو يلازم فراش المرض. وكان يحضر المجالس والمؤتمرات وقد أعد نفسه لها إعداداً وافياً. "فما كان ليحسم في أمر عفو الساعة، ولا دون مشورة"(45) ثم أنه يختار مساعديه بفطنة عجيبة، ولقد ورث بعضهم-ككولبير-من مازاران، ولكنه كان له من سلامة الذوق ما جعله يحتفظ بهم، حتى موتهم عادة. وكان يبذل لهم كل لطف ومجاملة، وكل ثقة معقولة، ثم لا تغفل عينه عن مراقبتهم". "كنت بعد أن أختار وزرائي لا يفوتني أن ادخل مكاتبهم على غير توقع منهم. وهكذا أحطت بآلاف الأشياء التي أفادتني في تحديد طريقي (46) "

وحكمت فرنسا، في أيام شمسها الصاعدة تلك، خيراً مما حكمت في أي عهد مضى، برغم تركيز السلطة والإدارة، أو بفضل هذا التركيز، وبرغم تحكم يد واحدة في خيوط الحكم كلها، أو بفضل هذا التحكيم.

‌3 - نيقولا فوكيه

1615 -

80

كان هم الملك الأول أن يعيد تنظيم مالية الدولة بعد أن استنزفتها الاختلاسات في عهد مازاران. وكان نيقولا فوكيه، الذي شغل منصب "ناظر المالية" منذ 1653، يدير شؤون الضرائب والمصروفات بأصابع حريصة ويد قديرة. فقد قلل من عوائق التجارة الداخلية، ونشط نمو التجارة الفرنسية فيما وراء البحار، واقتسم في إحساس بالواجب غنائم منصبه مع ملتزمي الضرائب ومع مازاران. وكان هؤلاء الملتزمون العموميون من كبار الرأسماليين الذين أقرضوا الدولة مبالغ كبيرة لقاء تخويلهم حق جباية الضرائب نظير أدائهم مبلغاً محدداً. وقد جبوها بكثير من الجشع الفعال الذي جعلهم أبغض الأشخاص إلى الناس في المملكة، وقد أعدم من أمثالهم أربعة وعشرون ملتزماً خلال الثورة الفرنسية. وجمع فوكيه بالتواطؤ مع الملتزمين العموميين أضخم ثروة اقتناها فرد في جيله.

وفي سنة 1675 كلف المعماري لوي لفو، والمصور شارل لبرون،

ص: 31

ورسام المناظر الطبيعية أندريه لنوتر، بأن يصمموا، ويبنوا، ويزخرفوا له قصر فو- لو- فيكونت الريفي الفخم المترامي الأطراف، وأن يخططوا حدائقه، ويزينوها بالتماثيل. وقد استخدم المشروع مرة ثمانية عشر ألف رجل (40)، وكلف ثمانية عشر مليون من الجنيهات الفرنسية، وغطى مساحة ثلاث قوى. هنالك جمع فوكيه الصور والتماثيل والتحف، ومكتبة قوامها 27. 000 مجلد حوت فيما حوت عدة نسخ من الكتاب المقدس والتلمود والقرآن دون تفريق. وروى أن هذه القاعات الأنيقة "كانت تتسلل إليها نساء من أنبل الأسر ليؤنسه بثمن غال"(49). وبمثل هذا الذوق، ولكن بثمن أقل، جلب فوكيه الشعراء أمثال كورنبي، وموليير، ولافوتين، ليجمل بهم صالونه.

ونظر لويس بعين الحسد إلى هذه الأبهة وخامرته الظنون في مصدرها. فطلب إلى كولبير أن يفحص أساليب ناظر المالية وحساباته، وأنهى كولبير إلى الملك أن الأساليب والحسابات فاسدة إلى حد لا يصدق. وفي 17 أغسطس 1661 دعا فوكيه الملك الشاب إلى مهرجان أقامته في فو. وقدم الطعام لضيوفه الستة الآلاف طبق من الفضة أو الذهب. ومثل موليير في حدائق القصر ملهاته ( Les F (cheux)( الثقلاء) وقد كلفت السهرة فوكيه 120. 000 جنيه وكلفته إلى ذلك حريته. ذلك أن لويس أحس أن الرجل "يسرق فوق ما يسمح له به مركزه" ولم يعجبه شعار ( Quo non Ascendam?)( إلا لا يجوز لي أن أرقى؟) -الذي شفعه بصورة سنجاب يصعد شجرة، وخيل إلى لويس أن إحدى اللوحات التي رسمها لبرون تشمل صورة للآنسة دلافاليير، وكانت إذ ذاك محظية للملك. وكاد يأمر باعتقال فوكيه للتو والساعة، لولا أن أقنعته أمه بأن في ذلك إفساد لسهرة رائعة.

وتربص الملك بالوزير حتى تكاثرت الأدلة على اختلاساته. وفي 5 سبتمبر أمر قائد مشاته حملة البنادق بالقبض عليه (وهذا القائد

ص: 32

" Mousquetaire" هو شارل دباتز، السيد دارتنيان، بطل قصة ديماس الأب). وأصبحت

ص: 33

المحاكمة التي اتصلت ثلاث سنين أشهر القضايا في تاريخ العهد. وكافحت مدام دسفينيه، ولافونتين، وغيرهما من أصدقاء فوكيه، وتوسلوا إلى الملك ليبرئ ساحته، غير أن الأوراق التي عثر عليها في قصره الريفي أدانته. فحكمت عليه المحكمة بالنفي ومصادرة أملاكه، وعدل الملك الحكم إلى السجن مدى الحياة. وظل الوزير الذي كان من قبل رجلاً مرحاً، ستة عشر عاماً، يذوي في سجنه بقلعة بنيرول بييدمونت، ولا يسري عنه إلا صحبة زوجه الوفية. لقد كان حكماً قاسياً، ولكنه قلم أظافر الفساد السياسي، وأنذر الناس بأن الاستيلاء على الأموال العامة للمتعة الخاصة امتياز لا يختص به غير الملك.

‌4 - كولبير يعيد بناء فرنسا

كتب لويس يقول: "لقد أشركت كولبير

مفتشاً مع فوكيه لكي أرقبه

وهو رجل منحته ما استطعت من ثقة، لأنني كنت عليماً بذكائه وجده وأمانته (50)" وظن أصحاب فوكيه أن كولبير تعقبه مدفوعاً بالرغبة في الانتقام منه، ولعل كولبير استشعر شيئاً من الحسد للرجل، ولكن فرنسا ذلك العهد لم تنجب ضريباً لكولبير في تفانيه الدؤوب في خدمة الصالح العام. روى أن مازاران قال للملك وهو على فراش الموت "مولاي، إني مدين لك بكل شيء، ولكني أدفع ديني

بإعطائك كولبير (51) ".

كان جان باتيست كولبير ابن قماش في رامس، وابن أخي تاجر غني، وإذ كان بورجوازياً بدمه، اقتصادياً بمحيطه، فقد درب على كراهية الفوضى والعجز، وأعد بفطرته وبطول المرانة لتغيير اقتصاد فرنسا من جمود الفلاحة والتفتت الإقطاعي إلى نظام موحد قومياً، يشتمل الزراعة والصناعة والتجارة والمال، يواكب ملكية ممركزة، ويهيئ لها الأساس المادي لعظمتها وسطوتها.

ص: 34

دخل كولبير ديوان الحربية سكرتيراً صغيراً في العشرين (1639) وما لبث أن شق طريقه بجهده إلى حيث استرعى نظر رؤسائه، فنقل إلى خدمة مازاران، وأصبح المدير الناجح لثروة الكردينال. فلما سقط فوكيه، وكل إلى كولبير مهمة خطيرة هي إعادة تنظيم مالية الأمة. وفي 1664 أضيفت إليه مهمة الإشراف على المباني، والمصانع الملكية، والتجارة، والفنون الجميلة؛ وفي 1665 عين مراقباً عاماً للمالية، وفي 1669 عين وزيراً للبحرية، ثم وزيراً للخاصة الملكية. ولم يرق رجل آخر في عهد لويس الرابع عشر بمثل هذه السرعة، ولا اشتغل بمثل هذه الهمة، ولا حقق مثل ما حققه من أعمال. بيد أنه لوث أرتقاع بمحاباته أقرباءه، وإذ أغدق الوظائف والأموال على الكثيرين من آل كولبير، وغالى في مكافأة نفسه مكافأة كادت تعدل ثروته. وكان نهباً للغرور، يتشبث بانحداره المزعوم من ملوك اسكتلندا، وقد يعبث عبثاً منكراً بالقوانين القائمة تعجلاً لقضاء المصالح، ويتغلب على المعارضة بالرشا يبذلها في الجهات العليا. فلما استفحل سلطانه غدا مستبداً، وأحفظ عليه النبلاء إذ داس على أقدام تنزف الدم الأزرق. وقد استخدم في إعادة تشكيل الاقتصاد الفرنسي نفس الأساليب الدكتاتورية التي استخدمها ريشليو من قبل في إعادة تشكيل الدولة الفرنسية. وهكذا لم يكن خيراً من هؤلاء الكرادلة.

بدأ بفحص أساليب الماليين الذين يحبون الضرائب، ويزودون الجيش بالسلاح، والملابس، والطعام، ويقدمون القروض للإقطاعيين أو لخزانة الدولة. وكان بعض هؤلاء المصرفيين يعدلون الملك ثراء. فبلغت ثروة صموئيل برنار مثلاً 33. 000. 000 جنيه (52). وقد أثار الكثيرون منهم حنق النبلاء بالزواج من طبقتهم، وبشراء ألقاب الشرف أو اكتسابها، وبالعيش في ترف لا يقوى عليه من لا يملكون غير عراقة النسب. وكانوا يتقاضون فائدة على قروضهم تصل إلى 18% حسب درجة الشك في الوفاء بالقروض. وبناء على طلب كولبير شكل الملك "غرفة عدالة" للتحقيق

ص: 35

في جميع المخالفات المالية التي ارتكبت منذ 1635، والتي اقترفها "أي شخص أيا كانت صفته أو حالته (53) " وطلب إلى جميع موظفي الخزانة، وجباة الضرائب، وأصحاب الدخول أن يقدموا سجلاتهم ويبينوا شرعية مكاسبهم، وفرض على كل منهم أن يثبت نظافة يده وإلا كان جزاؤه المصادرة وغيرها من العقوبات. وبثت الغرفة موظفيها في طول فرنسا وعرضها وشجعت المخبرين. وأودع السجن عدة رجال أغنياء، وأرسل البعض إلى مراكب تشغيل الأسرى، وشنق البعض الآخر. وصعقت الطبقات العليا لهذا "الإرهاب الكولبيري"، أما الطبقات الدنيا فصفقت له استحساناً. ونظم رجال المال في برجنديا حركة تمرد على الوزير، ولكن جماهير الشعب شهروا السلاح في وجوههم، ولقيت الحكومة عنتاً في إنقاذهم من غضب الشعب. ورد للخزانة نحو 150. 000. 000 من الفرنكات، وخفف خوف العقاب فساد المالية جيلاً كاملاً (54).

ومضى كولبير يعمل منجل الوفر في خزانة الدولة. فرفت نصف الموظفين في وزارة المالية وأغلب الظن أنه هو الذي اقترح على لويس ما قام به من إلغاء جميع مناصب الخاصة الملكية التي تدفع عنها الرواتب دون أن يؤدي أصحابها واجبات. فطرد عشرون من "سكرتيري الملك" ليكسبوا أقواتهم بطريق آخر. وخفض تخفيضاً قاسياً عدد المحامين العامين، وضباط النظام، والمستقبلين، وغيرهم من صغار الموظفين في البلاط الملكي، وأمر كل موظفي الخزانة بأن يمسكوا حسابات دقيقة واضحة ويقدموها للفحص. وحول كولبير جميع الديون الحكومية القديمة إلى ديون جديدة بسعر فائدة أقل. ثم بسط جباية الضرائب. ولما تبين صعوبة جمع المتأخرات أقنع الملك بإلغاء كل الضرائب التي لم تسدد عن المدة 1647 - 58. ثم خفض معدل الضريبة في 1661، وحزن حين اضطر إلى رفعه ثانية في 1667 لكي يمول "حرب الأيلولة" وإسراف فرساي.

بيد أن أسوأ ما مني به من إخفاق كان في احتفاظه بنظام الضرائب

ص: 36

القديم. ولعله لو قلبه من أساسه لأحدث من الإخلال بالنظام ما يهدد تدفق إيراد الدولة. ذلك أن الدولة كانت تمولها أساساً ضريبتان-التاي (الرؤوس) والجابيل (الملح). وكانت ضريبة التاي تقدر في أقاليم من واقع الأملاك الحقيقية، وفي غيرها على أساس الدخل. وقد أعفي منها الأشراف والكهنة، فوقعت كلها على كواهل "الطبقة الثالثة"-التي تنتظم باقي السكان وكان يطلب إلى كل إقليم أن يجبي مبلغاً محدداً، ويسأل كبار المواطنين عن جباية المبلغ المقرر. أما الجابيل فضريبة على الملح. فقد احتكرت الدولة بيعه، وألزمت جميع الرعايا أن يشتروا دورياً كمية مقررة بأسعار تحددها الحكومة. وإلى هاتين الضريبتين الأساسيتين أضيفت مختلف الرسوم الصغيرة، وعشر محصول الفلاح الذي يجب أداؤه للكنيسة. على أن هذه الضريبة كانت عادة دون العشر بكثير (55)، وكانت تراعي الرأفة في جبايتها.

وكانت الزراعية أقل المرافق تأثيراً بإصلاحات كولبير. إذ بقيت طرق الفلاحة بدائية جداً بحيث عجزت عن إعاشة عشرين مليوناً من الأنفس يتكاثرون بغير حساب. وكان لكثير من الأزواج عشرون ولداً. ولولا الحرب، والمجاعة، والمرض، وارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال، لتضاعف السكان مرة كل عشرين سنة (56)، ومع ذلك منح كولبير الإعفاءات الضريبية للزواج المبكر، والمكافآت للأسر الكبيرة (ألف جنيه فرنسي للآباء إذا كان لهم أبناء عشرة، وألفين إذا كانوا اثني عشر ولداً (57)) وذلك بدلاً من أن يعمل على زيادة خصوبة التربة. وقد احتج على تكاثر الأديار لأنه يهدد القوى البشرية لفرنسا (58). على أن نسبة المواليد في فرنسا انخفضت رغم ذلك خلال حكم لويس، لأن الحرب زادت الضرائب وعمقت الفقر. ولكن حتى في هذه الحال، لم تقتل الحرب ما يكفي لحفظ التوازن بين المواليد والطعام، وكان على الطاعون أن يتعاون مع الحرب. وكان نقص المحصول سنتين متعاقبتين كفيلاً بإحداث المجاعة، لأن وسائل النقل لم ترق بحيث تستطيع بكفاية سد العجز في إقليم من الفائض في آخر. ولم تخل سنة من مجاعة في

ص: 37

مكان ما فرنسا (59) وكانت السنوات (1648 - 51، 1660 - 62، 1693 - 94، و1706 - 10) فترات انتشر فيها الرعب من الموت جوعاً، حين بلغت نسبة الموتى من السكان في بعض الأقاليم ثلاثين في المائة. وفي 1662 استورد الملك القمح وباعه للفقراء بثمن بخس أو وهبه لهم وأعفاهم من ثلاثة ملايين فرنك من الضرائب المستحقة (60).

وخفف التشريع بعض مآسي الريف، إذ حظر الاستيلاء على بهائم الفلاح أو عرباته أو أدواته وفاء للدين ولو كان دينا للتاج، وأنشئت المزارع للاستيلاد تتعهد أفراس الفلاح مجاناً، ومنع الصيادون من اختراق الحقول المبذورة بالحب، وقدمت الإعفاءات الضريبية لمن يصلحون الأراضي المهجورة ويزرعونها. ولكن هذه الملطفات ما كانت لتنفذ إلى صميم المشكلة-مشكلة اختلال التوازن بين خصوبة الإنسان وخصوبة التربة، والافتقار إلى الاختراعات الآلية. على أن فلاحي أوربا على بكرة أبيهم كانوا يلقون مثل هذا العنت، ولعل الفلاحين الفرنسيين كانوا أيسر حالاً من نظرائهم في إنجلترا أو ألمانيا (61).

لقد ضحى كولبير بالزراعة قرباناً للصناعة ولكي يطعم سكان المدن المتكاثرين، وجيوش الملك المتعاظمة، حظر رفع سعر الغلال بما يتناسب وغيرها من الخدمات. وكان من الأوليات عنده أن على الحكومة التي تبتغي القوة أن تملك موارد كافية وجيشاً من الجند الأشداء المجهزين تجهيزاً حسناً؛ فطبقة الفلاحين المتمرسة بالمشاق تزود البلاد بمشاة أقوياء، والصناعة والتجارة الناميتان لا بد أن توفر الثروة والأدوات. ومن كان هدف كولبير الذي لم ينثنِ دونه هو أن يشجع الصناعة، لا بل إن التجارة يجب إخضاعها لهذا الهدف، فلا بد أن تحمى الصناعات الوطنية بالرسوم الجمركية التي تبعد المنافسة الخطرة من خارج البلاد. وجرياً على السياسات الاقتصادية التي انتهجها صلى وريشليو، أخضع كولبير جميع الصناعات الفرنسية-إلا أقلها شأناً-لسيطرة الدولة النقابية: فكانت كل صناعة، بطوائفها، ومالياتها

ص: 38

ومعلميها، وصبيتها، وعمالها اليوميين، تؤلف نقابة تنظمها الحكومة من حيث المعاملات، والأسعار، والأجور والبيوع. وأرسى المعايير الرفيعة لكل صناعة أملاً في كسب الأسواق بجودة التصميم والصقل في المنتجات الفرنسية. وقد آمن هو ولويس بأن التذوق الأرستقراطي للأناقة يدعم الحرف الكمالية ويحسنها، ومن ثم وجد الصاغة، والنقاشون، ونجارو الأثاث، ونساجو الأقمشة المرسومة، كلهم وجدوا العمل والحافز والصيت البعيد.

وأمم كولبير مصنع جوبلان في باريس تأميماً تاماً، وجعله نموذجاً في الأسلوب والتنظيم. وشجع المشروعات الجديدة بالإعفاءات الضريبية، والقروض التي تمنحها الدولة، وخفض سعر الفائدة إلى 5%، وسمح باحتكار الصناعات الجديدة إلى أن ترسخ أقدامها. وقدم الحوافز لمهرة الصناع الأجانب حتى يجلبوا مهاراتهم إلى فرنسا، فاستوطن صناع الزجاج البنادقة في سان-جوبان؛ وجلب صناع المشغولات الحديدية من السويد، وأنشأ بورتستنتي هولندي في أبفيل صناعة القماش الرفيع بعد أن كفل له حرية العبادة ورأس المال الذي أقرضته إياه الدولة. فما وافى عام 1669 حتى بلغ عدد الأنوال في فرنسا 44. 000 وكان في تور وحدها 20. 000 نساج. وقد زرعت فرنسا أشجار توتها، وكانت آنئذ مشهورة بأقمشتها الحريرية. وتضاعف النسيج لتلبي حاجة جيوش لويس الرابع عشر المتزايدة. وهكذا اتسعت الصناعات الفرنسية سريعاً بفضل هذه الحوافز. وأنتج الكثير منها لسوق قومية أو دولية، وبلغ بعضها مرحلة رأسمالية في الاستثمار، والتجهيز، والإدارة. وصادفت رسالة التصنيع التي آمن بها كولبير هوى في نفس الملك، فتفقد الورش، وسمح بأن تختم المنتجات الفاخرة بخاتم السلاح الملكي، ورفع من قدر رجال الأعمال الاجتماعي، وخلع ألقاب الشرف على كبار المقاولين.

وشجعت الدولة التعليم العلمي والتقني أو وفرته للشعب. وغدت الورش

ص: 39

في اللوفر، والتويلري، ومصانع الجوبلان، وأحواض سفن البحرية، ومدارس يتتلمذ فيها الصبية من الصناع. وسبق كولبير موسوعة ديدرو، إذ احتضن موسوعة للفنون والحرف، ووصفاً مصور الكل الآلات المعروفة (62). ونشرت أكاديمية العلوم بحوثاً عن الآلات والفنون الميكانيكية، وسجلت "صحيفة العلماء" تقنيات صناعية جديدة. وقد أخذ العجب بيرو-وهو يبني الواجهة الشرقية للوفر-حين رأى آلة ترفع كتلة من الحجر تزن 100. 000 كيلو (1. 100 طن) (63). على أن كولبير عارض إدخال الآلات التي ينجم عنها تعطل العمال (64).

وإذ كان شديد الولع بالنظام والكفاية، فقد أمم تنظيم الصناعة بوساطة الكومونات أو الطوائف الصناعية. وتوسع في هذا التنظيم توسعاً أوشك أن يكون خانقاً. وراحت مئات من الأوامر تصف أساليب الصناعة، وحجم المنتجات ولونها ونوعها، وساعات العمل وظروفه؛ وأنشأت اللجان في جميع قاعات المدن لفحص العيوب في إنتاج الحرف والمصانع المحلية. وعرضت علانية عينات من الصنعة المعيبة وإلى جوارها الصانع أو المدير. فإذ عاد المخالف إلى مخالفته وبخ في اجتماع للطائفة فإن عاد ثالثة شد على عمود تشهيراً به وتنكيلاً (65). وشغل كل ذكر قادر على العمل. وجند الأيتام من ملاجئهم ليخدموا في المصانع، وأخذ المتسولون من الشوارع إلى المصانع، وقال كولبير للملك في اغتباط إنه حتى الأطفال يستطيعون الآن كسب بعض المال في المصانع.

وأخضع العمال لنظام يقرب من النظام العسكري، فالكسل وعدم الكفاية، والشتم، والأحاديث النابية، والعصيان، والسكر، والاختلاف إلى الحانات، ومعاشرة الخليلات، وعدم الخشوع في الكنيسة-كل أولئك يجب أن يعاقبه رب العمل، وبالجلد أحياناً. أما ساعات العمل فطويلة-وقد تبلغ اثني عشرة أو أكثر تتخللها فترات من ثلاثين إلى أربعين دقيقة لتناول الطعام. أما الأجور فضئيلة، يدفع جزء منها أحياناً سلعاً يحدد

ص: 40

رب العمل أسعارها. وقد حسب فوبان متوسط الأجر اليومي الذي يتقاضاه مهرة الصناع في المدن الكبيرة فكان اثني عشر سواً (ثلاثين سنتاً) في اليوم، ولكن السو الواحد كان يشتري رطلاً من الخبز (66). واختزلت الحكومة عدد أيام الأعياد الدينية التي تعفي العمال من العمل، وبقي من هذه العطلات ثمانية وثلاثون يوماً، فكان مجموع أيام الراحة في السنة تسعين (67). وحرمت الإضرابات، وحظرت اجتماعات العمال لتحسين أحوالهم، وقد سجن بعض العمال في روشفور لأنهم شكلوا ضآلة أجورهم. ونمت ثروة طبقة رجال الأعمال، وارتفعت موارد الدولة، ولكن لعل حال العمال كانت على عهد لويس الرابع عشر أسوأ منها في العصور الوسطى (58). لقد أخضعت فرنسا للنظام الصارم في الصناعة كما أخضعت في الحرب.

أما في مجال التجارة، فقد آمن كولبير كما آمن معظم رجال الدولة في جيله بأن اقتصاد الأمة ينبغي أن ينتج أقصى ما يمكن من ثروة واكتفاء ذاتي داخل الأمة، وأنه مادام الذهب والفضة عظيمي القيمة بوصفهما وسيطين في المبادلة، فلابد من تنظيم التجارة بحيث تكفل للأمة "توازناً تجارياً في صالحها" أي زيادة في الصادرات على الواردات، ومن ثم تدفقاً للفضة والذهب إلى البلاد. وبهذه الطريقة وحدها استطاعت فرنسا، وإنجلترا، والأقاليم المتحدة-وكلها لم تكن تربتها تحوي ذهباً، أن تحصل على حاجاتها، وأن متون جيوشها زمن الحرب، وهذه هي "المركنتلية" Mercantilism ومع أن بعض الاقتصاديين سخروا منها، فقد كان وسوف يكون هناك الكثير من المبررات لها في عصر كثير الحروب. ولقد طبقت على الأمة نظام التعريفات والترتيبات الحامية التي كانت في العصور الوسطى تطبق على الكومون. ونمت وحدة الحماية حين حلت الدولة محل الكومون وحدة الإنتاج والحكم. إذن فبمقتضى نظرية كولبير يجب أن تكون أجور العمال منخفضة تمكيناً لمنتجاتهم من أن تنافس نظيرها في الأسواق الأجنبية وبذلك تجلب الذهب إلى البلاد، ويجب أن يكون جزاء أرباب العمل وفيراً

ص: 41

حفزاً لهم على الاضطلاع بالمشروبات الصناعية لصنع السلع، لا سيما الكماليات، التي لا نفع لها في الحرب ولكن يمكن تصديرها بتكلفة قليلة لقاء عائد كبير، ثم يجب أن تكون أسعار الفائدة منخفضة إغراء للمقاولين باقتراض رأس المال. وهكذا نرى طبيعة التنافس التي فطر عليها الإنسان، في تلك الغابة التي لا تخضع لقانون والتي تصطرع فيها الدول، قد كيفت اقتصادها الوطني وفق فرص الحرب وحاجاتها. فالسلام ليس إلا حرباً بوسائل أخرى.

إذن فوظيفة التجارة في رأي كولبير (بل في رأي صلي وريشليو وكرومويل أيضاً) تصدير السلع المصنوعة نظير المعدن النفيس أو الخامات. ومن ثم نراه في 1664، ثم في 1667، يرفع الرسوم على الواردات التي هددت بأن تنافس في فرنسا منتجات الصناعات الوطنية المعتبرة ضرورية في الحرب، فلما استمر جلب هذه الواردات حظرها بتاتاً. وفرض رسوم تصدير باهظة على المواد الضرورية، ولكنه خفض الضريبة على تصدير الكماليات.

ثم حاول تحرير التجارة الوطنية من المكوس الداخلية. وقد وجد أن التجارة الفرنسية تعترض سيرها المعوقات من الحواجز والتعريفات الإقليمية والبلدية الغربية. من ذلك أن السلع المنقولة من باريس إلى المانش، أو من سويسرا إلى باريس، كانت تدفع عنها مكوس عند ست عشرة نقطة، ومن أورليان إلى نانت عند ثمان وعشرين، وربما كان هناك مبرر لهذه المكوس يوم كان كل إقليم يطمح إلى الاكتفاء الذاتي ويجاهد في حماية صناعاته، وذلك بسبب صعوبات النقل واحتمالات الصراع الإقطاعي أو تنازع الكومونات. أما وقد توحدت فرنسا سياسياً الآن، فقد غدت هذه المكوس الداخلية عقبة كؤودا في طريق الاقتصاد القومي، وحاول كولبير بمرسوم أصدره في 1664 أن يلغي جميع المكوس الداخلية، ولكن المقاومة كانت عنيدة، ففي نصف فرنسا استمرت المكوس، وظل بعضها إلى عهد الثورة الفرنسية وكان أحد أسبابها الصغيرة. وكاد كولبير أن يقضي على

ص: 42

الجهد الذي بذله للتوسع التجاري بإصداره اللوائح المعقدة التي استهدفت إصلاح ما فسد ولكنها عرقلت التجارة إلى حد تعطيلها أحياناً. قال (هو أو أحد نقاده)"أن الحرية روح التجارة، فعلينا أن نترك الناس ليختاروا أنسب الطرق لهم". ( Il Faut Laisser Faire les Hommes)(69) ، وهنا عبارة قدر لها أن تصنع التاريخ.

وقد جاهد ليفتح مسالك جديدة للنقل الداخلي. فبدأ مجموعة من الطرق الرئيسية الملكية، وكانت حربية في هدفها الأول؛ ولكنها كانت إلى ذلك نعمة على التجارة عامة. كان السفر بالبر لا يزال شاقاً بطيئاً. مثال ذلك أن مدام دسفينيه استغرقت ثمانية أيام في رحلة بالمركبة من باريس إلى ضيعتها في فيتريه ببربتاني وبناء على اقتراح من بيبربول دريكيه، استخدم كولبير اثني عشر ألف رجل في حفر قناة لانجدوك الكبرى، التي بلغ طولها 162 ميلاً، وارتفعت أحياناً إلى 830 قدماً فوق سطح البحر، ولم يحل عام 1681 إلا وقد اتصل البحر المتوسط بخليج باسكاي عن طريق الرون والقناة والجارون، واستطاعت تجارة فرنسا أن تتجنب المرور بالبرتغال وأسبانيا.

وكان كولبير ينظر بعين الحسد إلى الهولنديين الذين ملكوا خمسة عشر ألف سفينة تجارية من بين الآلاف العشرين التي تمخر العباب، على حين لم تملك فرنسا منها سوى ستمائة. ومن ثم بنى شيئاً فشيئاً البحرية الفرنسية حتى بلغت سفنها 270 بعد أن كانت لا تتجاوز العشرين، وأصلح المرافئ وأحواض السفن، وألزم الرجال في غير هوادة بالانخراط في سلك البحرية، ونظم أو أصلح الشركات التجارية بجزر الهند الغربية، والشرقية، وبحر المشرق، والبحار الشمالية. ومنح الشركات امتيازات الحماية، ولكن هنا أيضاً عطلتها اللوائح التي فرضها عليها تعطيلاً مدمراً. ومع ذلك نمت التجارة الخارجية، ونافست البضائع الفرنسية الهولندية أو الإنجليزية في البحر الكاريبي، والشرق الأدنى، والأوسط، والأقصى. وغدت مارسليا

ص: 43

أكبر ثغور البحر المتوسط بعد ما أصابها من اضمحلال لقلة السفن الفرنسية. وبعد عشر سنين من الخبرة والتشاور والعمل الشاق أصدر كولبير (1681) قانوناً بحرياً للسفن والتجارة الفرنسيتين، ما لبثت الأمم الأخرى أن طبقته. ثم نظم التأمين على الرحلات التجارية الخطرة وراء البحار. وبارك اشتراك فرنسا في تجارة الرقيق، ولكنه جاهد ليلطف من قسوتها باللوائح الرحيمة (70).

وقد شجع الارتياد الجغرافي وإنشاء المستعمرات، أملاً في أن يبيعها السلع المصنوعة نظير خاماتها، ويستخدمها روافد لبحرية تجارية قد تكون ذات نفع في الحرب. وكان المستعمرون الفرنسيون منتشرين فعلاً في كندا، وغرب أفريقيا، وجزر الهند الغربية، وفي طريقهم إلى داخل مدغشقر، والهند، وسيلان. وارتاد كورسيل وفونتناك البحيرات العظمى (1671 - 73). وأسس كادياك مستعمرة فرنسية كبيرة فيما هو الآن ديترويت. واستكشف لاسال المسسبي في 1672 (بعد أن منح احتكار تجارة الرقيق في الأقاليم التي يفتحها)، وهبط فيه في مركب هزيل، فوصل إلى خليج المكسيك بعد شهرين من رحلة حافلة بالمغامرات. واستولى على الدلتا وأطلق عليها اسم الملك. فسيطرت فرنسا على واديي السانت لورنس والمسسبي في قلب أمريكا الشمالية.

جملة القول- ونحن لم نسجل غير جزء من نشاط كولبير، وقد أغفلنا الحديث عن جهوده في سبيل العلم والأدب والفن- أن حياة هذا الرجل كانت من أعظم ما سجله التاريخ تفانياً في العمل وسعة في الانتشار. فلم يعرف الناس منذ شارلمان ذهناً واحداً مثل ذهنه من صنع جديد على هذا النحو دولة بهذه العظمة في نواح بهذه الكثرة. صحيح أن هذه اللوائح والنظم كانت مزعجة، وقد نفرت الناس من كولبير، ولكنها شكلت القالب الاقتصادي لفرنسا الحديثة، ولم يفعل نابليون أكثر من مواصلة جهود

ص: 44

كولبير ومراجعتها سواء في الحكم أو القانون. وعرفت فرنسا طوال عشر سنوات من الثراء ما لم تعرفه من قبل. ثم انحسر هذا الثراء لعيوب النظام وأخطاء الملك. وقد احتج كولبير على إسراف الملك والبلاط. وعلى آفة الحرب التي كانت تنحر جسد فرنسا في شيخوخته، ولكن التعاريف العالية التي فرضها، شأنها في هذا شأن لويس بالسطوة والمجد-هي التي أفضت إلى بعض هذه الحروب. وندد غرماء فرنسا البحريون بإقفال موانيها في وجه بضائعهم. ووقع على كواهل الفلاحين ومهرة الصناع عبء إصلاحات كولبير، بل أن رجال الأعمال الذين أثرتهم هذه الإصلاحات اتهموه بأن لوائحه عوقت التطور. قال أحدهم للوزير "لقد وجدت العربة مقلوبة على أحد جنبيها، فقلبتها على الآخر"(71) فلما مات (في سبتمبر 1683) رجلاً محطماً مهزوماً، اضطر ذووه إلى دفن جثمانه ليلاً مخافة أن يسبه الناس في الشوارع (72).

‌5 - الآداب والأخلاق

كان العهد عهد الآداب الصارمة والأخلاق المنحلة. وكان اللباس شعيرة المركز الاجتماعي. فهو في أواسط القوم غاية في البساطة- سترة سوداء تغطي في تواضع القميص والسراويل والسيقان. أما في الصفوة فهو بهي فاخر، وهو في الرجال أبهى وأفخر منه في النساء. فكانت القبعات كبيرة لينة، لها حاشية عريضة مزركشة بجديلة من الذهب، تمال إلى أعلى في جانب أو ثلاثة جوانب، وتختال بحزمة من الريش يضمها مشبك معدني. وحين ارتقى لويس العرش نبذ- ونبذ من بعده البلاط- تلك الباروكات التي أشاع زيها أبوه الأصلع، فقد كانت تلافيف شعر الملك الشاب الكستنائي أروع وأبهى من تخبأ، ولكن حين بدأ شعره ينحل بعد 1670، اتخذ الشعر المستعار، وما لبث أن توج كل رأس- أيا كان طموح حامله- وسواء في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا، بعقوص مستعارة مبدرة تنسدل

ص: 45

إلى الكتفين أو ما تحتهما، وتجعل كل الرجال يبدون سواسية إلا لضجعائهم. أما اللحى فحلقت، وأما الشوارب فاحتفل بها، ومدت القفازات إلى ما فوق الرسغ وزينت، وارتدى الجنسان فراء اليدين في الجو البارد. واستعيض عن طوق الرقبة المكشكش العالي بلفاع حريري يعقد هيناً حول العنق. وأخذ يحل محل الصدرة ثوب طويل مزخرف، وزين الفخذان بسراويل "كيلوت" تمتد إلى الركبتين وتقفل بمشابك أو تعقد بأشرطة عندها، ثم تغطى هذه الثياب- إلا من أمام- بسترة ملتفة تنتهي أكمامها بأساور واسعة تحف بها حاشية من الدنتللا. واختص القانون النبلاء بتحلية ثيابهم بوشي من الذهب أو بالأحجار الكريمة، ولكن ذوي اليسار من أي طبقة تجاهلوا هذا القانون. أما الجوارب الطويلة فكانت عادة من الحرير، وكان الذكور يلبسون الأحذية الطويلة الرقبة حتى لحفلات الرقص.

أما النساء المهذبات فكانت ثيابهن فضفاضة منسدلة تتفق وفضائلهن. وكانت صدراتهن ذات أربطة ولكن من أمام كما ناشدهن بانورج في كتاب رابليه، فكانت النهود البارزة تثب للعيون البصاصة. وأما التنورة المطوقة الأكمام المنفوخة فولت مع ريشليو. وحفلت الأرواب بالتطريز والألوان المشرقة، وكست الأحذية العالية المبهجة الأقدام المتعبة، وربط الشعر بالأشرطة، ورصع، وعطر، وجعد، في تأنق

وظهرت أولى مجلات الأزياء في 1672.

أما آداب السلوك فكان طابعها الجلال والفخامة، وأن بقيت جلافات كثيرة تحت أبهة القبعة المرفوعة للتحية والثوب الجرار. فكان الرجال يبصقون على أرض الحجرة، ويبولون على سلم اللوفر (73). وقد ينقلب المزاح وحشياً أو بذيئاً. ولكن الحديث كان رشيقاً مهذباً، ولو دار حول الفسيولوجيا والجنس. وكان الرجال يأخذون عن النساء آداب السلوك

ص: 46

والحديث، فيتكلمون في عبارة واضحة وسليمة، ويتنكبون الحشو والحذلقة، ويناولون جميع الموضوعات مهما اشتد عمقها بمرح خفيف روحاً وعبارة. وكان الاحتداد في الجدل من سوء الأدب. وأما آداب المائدة فأخذت تتحسن. وكان الملك يأكل بإصبعه طوال حياته، ولكن استعمال الشوك كان قد راج، وشاع استعمال نحو 1660 فوطة للمائدة. ولم يعد من المستساغ أن يمسح الضيوف أصابعهم في غطاء المائدة.

أما الفضائل الاجتماعية فلم تكن ممتازة في هذا العصر- عصر الأتكيت والبروتوكول. وتضاءل الإحسان بازدياد ثراء الطبقات العليا. وكانت الأخلاق أسلم ما تكون في الطبقات حيث يسر الشعور بالأمن حسن السلوك، وحفزته الرغبة في الارتقاء. وكان المثل الأعلى عند جميع الطبقات هو L'honn (te Homme وليس المقصود بالعبارة الرجل الأمين، بل الرجل الشريف، الذي يجمع بين كرم النشأة والعادات وبين حسن السلوك. أما الأمانة فقلما كان يتوقعها القوم من إنسان. فقد انتشرت الرشوة في المناصب على الرغم من لوائح كولبير ونظام الجاسوسية الملكي، وشجع عليها بيع الوظائف الحكومية مصدراً من مصادر إيراد الدولة. وانبعثت الجريمة من جشع الأغنياء، وفقر الفقراء، والتفجرات الغضبة في جميع الطبقات. وآية ذلك أن من السيدات العريقات النسب من أفدن من خدمات كاترين مونفوازان أو المركيزة برانفلييه، وكلتاهما حذقت تحضير السموم الطويل المفعول، وشاع القتل بالسم شيوعاً اقتضى إنشاء محاكم خاصة لتفصل في قضاياه (74). أما كاترين مونفوازان فقد مارست الطب، والتوليد، والسحر، وساعدت كاهناً مرتداً ترتيل "القداس الأسود" التماساً لمعونة الشيطان، وكانت تدبر إجهاض النساء وتبع السموم وأشربة الغرام. ومن زبائنها أوليمب مانتشيني، ابنة أخت مازاران، والكونتيسة جرامون، ومدام دمونتيسبان خليلة الملك. وفي 1679 فحصت لجنة نشاط "لافوازان" ووجدت الأدلة على اشتراك العدد العديد من كبار أفراد الحاشية، الأمر

ص: 47

الذي حدا بلويس إلى حظر إذاعة التحقيق (75). وأحرقت لافوازان حية (1680).

ويدخل في أخلاق الأفراد انحرافاتهم العادية. وقد نص القانون على عقاب للواط بالإعدام، وما كانت أمة تتخذ أهبتها للحرب، وتدفع الإعانات على الأطفال، لتسمح بانحراف الغرائز الجنسية عن جادة الأنسال، ولكن مطاردة أمثال هؤلاء المنحرفين كانت عسيرة في وقت كان فيه شقيق الملك لوطياً يشار إليه بالبنان، ويأنف القوم من ازدرائه ولكنهم يرونه فوق القانون. أما الحب بين الجنسين فقد تقبلوه على أنه تخفف رومانسي من أعباء الزواج، لا مبرر يدعو للزواج. وقد رأوا أن اقتناء الثروة. أو حمايتها، أو نقلها، أهم في الزواج من محاولة الإبقاء على عواطف الساعة العابرة طوال العمر. ولما كانت معظم زيجات الطبقة الأرستقراطية لا تعدو أن تكون ترتيباً لتنظيم الملكية، فإن المجتمع الفرنسي أغضى عن التسري، فكان لكل قادر تقريباً خليلة، وكاد الرجال يفاخرون بغرامياتهم مفاخرتهم بمعاركهم الحربية. أما المرأة فتشعر أنها مهجورة منبوذة إذا لم يلاحقها الرجال سوى زوجها، وكان بعض الخائنين من الزواج يغضون عن خيانات زوجاتهم. يقول شخص في مسرحية لموليير:"أفي الدنيا كلها بلد آخر يبلغ فيه صبر الأزواج مبلغه في هذا البلد (76)؟ " في هذا المناخ الكلبي نشأت أمثال لاروشفوكو. وكان القوم يحتقرون البغاء إذا تجرد من الكياسة، ولكن امرأة كنينون دلانكلو، جملته بالأدب والظرف، استطاعت أن تحظى بشهرة تداني شهرة الملك.

كان أبوها نبيلاً حر الفكر، ومبارزاً بارعاً. وكانت أمها شديدة الحرص على الفضيلة، ولكنها (إذا صدقنا ابنتها) "مجردة من مشاعر الحس

وقد ولدت ثلاثة أطفال وهي لا تكاد تلحظ الأمر (77) ". ومع أن نينون لم يتح لها التعليم المنهجي، فإنها التقطت من المعارف قدراً

ص: 48

لا يستهان به، متعلمة الكلام بالإيطالية والأسبانية، ربما لتستعين بهما في هذه التجارة الدولية، وقرأت مونتيني وشارون، بل قرأت ديكارت، وأخذت عن أبيها تشككه. وقد جعلت مناقشتها حول الدين في فترة لاحقة دسفينييه ترتعد (78). قالت نينون "إذا احتاج إنسان إلى دين ليسلك في هذه الدنيا كما ينبغي، فتلك علامة إما على ضيق عقله، أو على فساد قلبه"(79). وكان من الجائز أن تخلص من ذلك إلى ضرورة الدين لجميع الناس تقريباً، ولكنها بدلاً من هذا انزلقت إلى البغاء وهي لا تتجاوز الخامسة عشرة (1635). وقالت في استهتار "إن الحب عاطفة لا تنطوي على أي التزام خلقي (80) " فلما خلعت العذراء وجهرت بفوضاها الجنسية، أمرت آن النمساوية بحبسها في دير للنساء. وروى أنها فتنت راهبات الدير بظرفها وحيويتها، واستمتعت بحبسها كأنها فرصة للاستجمام. وفي 1657 أفرج عنها بأمر الملك.

لقد كان فيها ما هو أكثر كثيراً من مجرد المحظية، حتى إنها سرعان ما ضمت إلى لفيف المعجبين بها عدداً كبيراً من أبرز الرجال في فرنسا، ومنهم نفر من الحاشية (81)، من الملحن لولى إلى كونديه العظيم ذاته. وكانت تجيد العزف على الهاربسيكورد، وتحسن الغناء، يقصدها لولى ليجرب ألحانه الجديدة. وقد حوت قائمتها ثلاثة أجيال من آل سفينيه- زوج كاتبة الرسائل اللطيفة، وابنها، وحفيدها (82). وأقبل الرجال من خارج فرنسا يلتمسون ودها. قالت "لم يتشاجر علي عشاق قط، فقد كانوا يثقون في قلبي، وكان كل منهم ينتظر دوره (83) ".

وفي 1657 افتتحت صالوناً، ودعت إليه رجال الأدب والموسيقى والفن والسياسة والحرب، وأحياناً زوجاتهم، وأذهلت باريس بما أبدت من ذكاء لا يقل عن ذكاء أي امرأة في جيلها أو ذكاء أكثر الرجال، فلقد طالعهم فيها عقل مينيرفا من خلف وجه فينوس. يقول فيها قاض صارم هو سان- سيمون:

ص: 49

"كان من المفيد لإنسان أن تستقبله في صالونها نظراً إلى الاتصالات التي يكونها عن هذا الطريق. ولم يدر في صالونها أي لعب للقمار، ولا ضحك عالٍ، ولا مجادلات، ولا حديث في الدين أو السياسة، بل دار الكثير من الحديث الذكي الرشيق

وأنباء الغرام، ولكن دون فضح أو تشهير. كان كله حديثاً مهذباً خفيفاً محسوباً، وكانت هي نفسها تغذي الحديث بذكائها وعلمها الغزير (84) ".

وأخيراً أثارت فضول الملك نفسه، فطلب إلى مدام دمانتينون أن تدعوها إلى القصر، واستمع إليها من وراء ستار، فافتتن بها، وكشف لها عن وجوده وقدم نفسه إليها. وكانت في هذه الفترة (1677؟) قد كسبت ما يشبه الاحترام، وخلعت عليها أمنتها البسيطة وأياديها الكثيرة سمعة أشرف، فكان الرجال يودعون لديها المبالغ الكبيرة مطمئنين، واثقين دائماً من إمكان استردادها حين يشاءون، ولاحظت باريس كيف كانت نينون تزور الشاعر سكارون كل يوم تقريباً حين أقعده الشلل، وكيف كانت تأتيه بأطايب الطعام التي يعجز عن دفع ثمنها.

ولقد عمرت بعد أصدقائها كلهم تقريباً، حتى سانت إفريمون التسعيني، الذي كانت رسائله التي يبعث بها من إنجلترا عزاء لشيخوختها. كتبت له تقول: أحياناً أضيق بعمل نفس الأشياء دائماً، ويعجبني السويسريون الذين يلقون بأنفسهم في النهر لهذا السبب (85)". وكانت تضيق بالتجاعيد. "إذا كان لزاماً أن يبتلي الله المرأة بالغضون، فأولى به على الأقل أن يضعها على باطن قدمها (86)". فلما دنت منيتها، تنافس اليسوعيون، والجانسنيون على شرف هدايتها للإيمان، فاستسلمت لهم في لطف، وماتت في أحضان الكنيسة (1705) (87). ولم تترك في وصيتها سوى عشرة إيكوات لجنازتها، حتى تكون أبسط ما يستطاع، ولكن "أطلب في تواضع إلى المسيو آرويه"- وهو وكيلها- "أن يسمح لي بأن أترك لابنه، الذي

ص: 50

يتلقى العلم عند اليسوعيين، ألف فرنك ليشتري بها كتباً (88) ". واشترى الابن الكتب، وقرأها، وأصبح فولتير.

إن أروع السحر الذي توج هامة المجتمع الفرنسي هو أن حافز الجنس امتد إلى الذهن، وأن النساء تنبهن ليضفن الذكاء إلى الجمال. وأن الرجال روضن النساء على السلوك المؤدب، والذوق السليم، والحديث المهذب؛ وفي هذا كان القرن (الممتد من 1660 إلى 1760) في فرنسا أوج الحضارة. في ذلك المجتمع كثرت النساء الذكيات كثرة لم تعهد من قبل، فإذا جمعهن إلى الذكاء فتنة الوجه أو الجسد، أو سحر الاهتمام الناشئ عن الرقة واللطف، أصبحن قوة تهذيب عارمة. وكانت الصالونات تدرب الرجال على الحساسية لرقة الأنثى، والنساء على التجاوب مع عقل الذكر. وفي هذه اللقاءات طور فن الحديث حتى بلغ شأواً لم يبلغه من قبل ولا من بعد-فن تبادل الأفكار دون مغالاة أو خصومة، بل في مجاملة، وتسامح، ووضوح، وخفة، ورشاقة. ولعل هذا الفن كان أقرب إلى الكمال في عهد لويس الرابع عشر منه في أيام فولتير-أقل ألمعية وظرفاً، ولكن أكثر مادة ومودة. كتبت مدام دسفينيه إلى ابنتها تقول "بعد الغداء مضينا إلى السمر في ألطف غابات الدنيا، وظللنا هناك إلى السادسة، مشتغلين بمختلف ألوان الحديث، البالغ العطف، والرقة، واللطف، والكرم، مما مس شغاف قلبي (89) " وقد عزا كثير من الرجال الفضل في تسعة أعشار تعليمهم إلى مثل هذا التبادل والاتصال الاجتماعي بين الجنسين (90).

وفي الغرفة الزرقاء بالأوتيل درامبوييه كان أول الصالونات يسطع ببهائه الأخير. أمه كونديه وإن لم يلمع فيه، وأمه كورنبي، ولاروشفوكو، والسيدتان لافاييت ودسفينيه، ودوقة لونجفيل، والجراند مدموازيل. هناك أرست النساء المتحذلقات Les Femmes Pr (cienses قواعد السلوك الدقيق والحديث المصقول. ولكن حرب الفروند قطعت هذه اللقاءات، ورحلت مدام درامبوييه إلى الريف، مع أن "أوتيلها" (قصرها) فتح بعد

ص: 51

ذلك أبوابه ثانية لعبقري فرنسا (موليير)، فإن باكورة تمثيلياته Les Pr (cieuses Ridicules ( المتحذلقات المضحكات)(1659) كانت ضربة قاضية عليه. وطوى أول الصالونات المشهورة بموت مؤسسته في 1665.

وواصلت هذا التقليد صالونات أخرى، في بيوت السيدات دلا سابليير، ودلامبير، ودسكوديري- وآخرهن أشهر كتاب الرواية في هذا العصر، وأولاهن امرأة جذبت الرجال بحسنها رغم حبها للفيزياء، والفلك، والرياضة، والفلسفة. في صالونات كهذه زكت النساء العالمات Femmes Savantes اللائي أثرن سخرية موليير في 1672. ولكن كل هجاء ليس إلا نصف الحقيقة، ولعل موليير في لحظاته الفلسفية كان يقر بحق النساء في أن يشاركن في حياة جيلهن الفكرية. فنساء فرنسا، أكثر حتى كم كتابها وفنانيها، هن تاج حضارتها، والمفخرة العظمى لتاريخها.

‌6 - بلاط الملك

لقد عاون الملك وبلاطه على تحضير فرنسا. وفي 1664 كان البلاط يضم نحو ستمائة شخص: الأسرة المالكة، وكبار النبلاء، والمبعوثين الأجانب، والخدم والحشم. وقد زاد العدد في أوج اكتمال فرساي إلى عشرة آلاف من الأنفس (91)، ولكن هذا العدد شمل الأعيان الذين اختلفوا إلى القصر بين الحين والحين، وجميع المرفهين والأتباع، والفنانين والمؤلفين الذين وقع عليهم اختيار الملك ليكافئهم. وأصبحت الدعوة إلى البلاط شهوة لا تفوقها غير شهوة الطعام والجنس، لا بل إن قضاء يوم واحد فيه كان نشوة لا تنسى، جديرة بأن يبذل في سبيلها نصف مدخرات العمر.

وبعض السر في بهاء البلاط كان في الأثاث المترف الذي ازدانت به الغرف، وبعضه في لباس الحاشية، وبعضه في حفلات الترفيه البالغة الفخامة، وبعضه في جمال النساء وصيت الرجال الذين اجتذبهم بريق المال، والشهرة، والسلطان. ومن النساء الشهيرات- كالسيدتين دسفينيه ودلافاييت- من لم يختلفن

ص: 52

إلى البلاط إلا نادراً لانحيازهن إلى قضية الفروند، ولكن بقي منهن عدد يكفي لإبهاج ملك بالغ الحساسية لمفاتن المرأة. وتبدو المرأة في اللوحات التي وصلت إلينا من هذا العصر على شيء من البدانة، يبرز لحمها من صدرها، ولكن من الواضح أن الرجال كان يعجبهم دفء الشحم واللحم فيمن يعشقون من النساء.

أما أخلاقيات البلاط فكانت الزنا المحتشم، والإسراف في اللباس والقمار، والدسائس العنيفة جرياً وراء الصيت والمنصب، وهذا كله يخطو على إيقاع من السلوك الخارجي الدمث، والآداب الرشيقة، والمرح الإلزامي. وضرب الملك المثل في بدعة اللباس الغالي، لا سيما في استقبالات السفراء، فنراه وهو يستقبل مبعوثي سيام يرتدي عباءة موشاة بالذهب ومرصعة الأطراف بالماس، بلغت تكاليفها 12. 500. 000 جنيه فرنسي (92)، ومثل هذا المظهر كان جزءاً من سيكلوجية الحكم. وأفنى الأشراف ونساؤهم نصف دخل ضياعهم في الثياب والخدم والأثاث، وكان على أقلهم شأناً أن يستخدم أحد عشر خادماً ومركبتين، أما الأثرياء فكان لهم من الأتباع خمسة وسبعون في بيوتهم، ومن الخيل أربعون في مرابطهم (93). وفقد الزنا سحره بعد أن لم يعد محظوراً، فغدا لعب الورق للمقامرة أهم ضروب الترفيه في البلاط. وهنا أيضاً كان لويس القدوة لحاشيته، فقامر بمبالغ كبيرة، تستحثه إلى ذلك خليلته مونتسبان، التي خسرت وكسبت أربعة ملايين من الفرنكات في لعب ليلة واحدة (94). وسرى هذا الهوس من البلاط إلى الشعب. كتب لابرويير يقول: "إن الألوف يخربون بيوتهم بالقمار، وهو لعبة رهيبة

ينوي لاعبها القضاء المبرم على غريمه، وينتشي بشهوة الكسب (95) ".

وقد أفضى التنافس على الحظوة عند الملك، أو على وظيفة مجزية، أو على مكان في الفراش الملكي، إلى جو من الشبهات، والافتراءات، وتبادل الخصومات الحادة. قال لويس "في كل مرة أعين إنساناً في وظيفة

ص: 53

شاغرة، أسخط مائة شخص، وأجعل شخصاً ناكراً للجميل (96) ". وكان القوم يتشاجرون على أمكنة الصدارة في المائدة، أو على القيام على خدمة الملك، وحتى سان- سيمون أقلقه الخوف من أن يتقدمه دوق لكسمبرو خمس خطوات في أحد المواكب، وقد اضطر لويس إلى نفي ثلاثة أدواق من البلاط لأنهم أبوا أن يقدموا على أنفسهم أمراء أجانب. وكان الملك شديد الاحتفال بالبروتوكول، وقد عبس مرة حين وجد على مائدة الغداء سيدة عاطلاً من اللقب تتقدم دوقة في مجلسها (97). ولا ريب في أن ضرباً من الترتيب المقرر كان ضرورياً لمنع ستمائة من الأنفس المغرورة المزهوة بأسباب التشريف من أن يدوس بعضها على أقدام بعض، وقد أثنى الزوار على ذلك المظهر المتسق الذي بدت فيه الحاشية الضخمة. ومن قصور الملك، واستقبالاته، وحفلات ترفيهه، سرى دستور للإتيكيت، ومعايير للسلوك والذوق، إلى الطبقتين العليا والوسطى، وأصبحت هذه كلها جزءاً من التراث الأوربي.

وأراد الملك أن يمنع الملل من أن يتطرق إلى نفوس هؤلاء النبلاء والنبيلات، ذلك الملل الذي قد يحمل البعض على قتل الملك، فناط الفنانين على مختلف أنواعهم بإعداد ألوان الترفيه- من مباريات بين الفرسان، ورحلات صيد، ومباريات تنس وبليارد، وجماعات سباحة أو نزهة في الزوارق، وحفلات غداء أو عشاء، ورقص وحفلات راقصة، وحفلات تنكرية، ومراقص باليه، وأوبرات، وحفلات موسيقية، وتمثيليات. وبدت فرساي وكأنها جنة الله في أرضه حين كان الملك يتقدم حاشيته إلى الزوارق الراسية في القناة، والأصوات والآلات تشدو بالموسيقى، والمشاعل تعين القمر والنجوم على إضاءة المشهد. وهل في الدنيا أفخم ولا أكتم للأنفاس من حفلات الرقص الرسمية، حين تعكس قاعة المرايا في مراياها الهائلة رشاقة الرجال والنساء وخفتهم وهم يخطرون في رقصات فخمة تحت آلاف الأضواء؟ لقد أراد الملك أن يحتفل بمولد ابنه البكر، الدوفان،

ص: 54

(1662)

فأقام حفلة باليه في الميدان المنبسط أمام التويلري، حضرها خمسة عشر ألف شخص. وقد دمر كومون 1871 القصر، ولكن موقع هذا المهرجان الأشهر ما زال يسمى كاروزل Carrousel ( أي ساحة الرقص الدائري السريع).

لقد أحب لويس الرقص، وأشاد به "واحداً من أفضل وأهم الرياضات لتدريب الجسم (98) "، وأسس في باريس (1661) الأكاديمية الملكية للرقص. وكان يشارك بشخصه في رقصات الباليه ويحذو النبلاء حذوه. وشغل الملحنون في بلاطه بإعداد الموسيقى لحفلات الرقص والباليه، وهناك تطورت المتتالية التي حذق استخدامها بيرسيل في إنجلترا وآل باخ في ألمانيا. ولم يبلغ الرقص صوراً رشيقة متسقة كهذه منذ أيام روما الإمبراطورية.

وفي 1645 استقدم مازاران المغنين الإيطاليين ليرسوا أساس الأوبرا في باريس. وقطع موت الكردينال هذا الاستهلال، ولكن حين شب الملك أنشأ أكاديمية الأوبرا (1669)، وكلف بيير بيران بتقديم أوبرات في عدة مدن فرنسية، ابتداء من باريس في 1671. فلما أفلس بيران من جراء إنفاقه المسرف على المناظر والآلات، نقل لويس "امتياز أكاديميات الموسيقى" إلى جان باتيست لولي Lully، فما لبث هذا الرجل أن رقص البلاط بأسره على أنغامه.

وكان هو أيضاً هبة من هبات إيطاليا. فقد أتى به الشفالييه جيز صبياً فلاحاً في السابعة من فلورنسة إلى فرنسا في 1646، "هدية" لابنة أخيه، الجراند مدموازيل، التي استخدمته في مطبخها مساعداً صغيراً ( Soumarmiton) . وهناك ضايق زملاءه الخدم بالتمرين على الكمان، ولكن المدموازيل تبينت موهبته وأتته بمعلم. وما لبث أن عزف في فرقة الموسيقى الملكية ذات الأربع والعشرين كماناً. واستلطفه لويس، فأعطاه

ص: 55

مجموعة صغيرة من الموسيقيين يقودها. وبفضل هذا الأوركسترا الوتري الصغير تعلم القيادة والتلحين- لموسيقى الرقص، والأغاني، والكمان المنفرد والكنتاتات، والموسيقى المنسية، ولثلاثين لحناً أوركستريا للباليه، وعشرين أوبرا. وقد صادق مولبير، وتعاون معه في عدة باليهات، ولحن فواصل موسيقية قصيرة لبعض تمثيليات مولبير.

وكان نجاحه رجل بلاط يضارع انتصاراته موسيقياً. ففي 1672، وفق بنفوذ مدام دمونتسبان في الحصول على احتكار الأوبرا في باريس. وقد وجد في فيليب كينو Outanuls مؤلفاً لكلمات الأوبرا وشاعراً أيضاً. فأخرجا معاً سلسلة من الأوبرات كانت ثورة الموسيقى الفرنسية. ولم يقتصر نجاح هذه الحفلات على الترفيه على البلاط في فرساي، بل إنها اجتذبت صفوة الباريسيين إلى المسرح الذي بني من قبل المولى في شارع سانت- أونوريه، واجتذبتهم في كثرة جعلت الشوارع تختنق بالمركبات، فاضطر الرواد في كثير من الأحيان إلى الخروج منها والسير على الأقدام، وفي الوحل غالباً، خشية أن يفوتهم الفصل الأول، وقد استهجن بوالو الأوبرا زاعماً أنها ضرب من التخنث المضعف (99)، ولكن الملك منح أكاديمية الموسيقى مرسوماً (1672)، وأذن للـ "سادة والسيدات بالغناء في عروض الأكاديمية المذكورة دون أن يكون في ذلك غض" من أقدارهم (100). ورفع لويس لولي إلى مقام النبالة سكرتيراً للملك، وشكا سكرتيرون آخرون من أن الوظيفة أرفع من أن تخلع على موسيقى، ولكن لويس قال للولي، "لقد شرفتهم هم لا أنت بوضعي عبقرياً بين زمرتهم (101) ". وحالف التوفيق لولي في كل شيء حتى 1687، حين ضرب قدمه صدقة- وهو يقود فرقته- بعصا القيادة، وأساء طبيب دجال علاج جرحه، فتعفن، ومات المؤلف الفوار في الثامنة والأربعين. وما زالت الأوبرا الفرنسية تشعر بتأثيره إلى اليوم.

ص: 56

بقي اسم آخر خلفته موسيقى ذلك العهد الفخم، وهو اسم أسرة كوبران، التي كانت مثلاً آخر على الوراثة في الفن، والتي أنجبت مؤلفين لفرنسا طوال قرنين من الزمان، واحتكرت من 1650 إلى 1826 الأرغن العظيم في كنيسة سان جرفيه، وقد شغل فرانسوا كوبران "الكبير" ذلك المنصب ثمانية وعشرين عاماً، كذلك كان "عازف أرغن الملك" في كنيسة الملك الصغيرة بفرساي، وكان أشهر عازفي الهاربسيكور في ذلك "القرن العظيم". وقد درس يوهان سبستيان باخ ألحانه التي وضعها لهذه الآلة دراسة دقيقة، وأثر البحث الذي وضعه باسم L،art de Toucher Le Clavecin ( وهو الاسم الفرنسي لمقابله الإنجليزي Clavichord) في بحث ذلك الألماني العظيم المسمى "الكلافير المعتدل"

ترى؛ أكانت الموسيقى في دم آل كوبران، أم في بيتهم فقط، لعل الوراثة الاجتماعية، لا البيولوجية، هي التي تصنع الحضارة.

‌7 - نساء الملك

لم يكن لويس بالرجل الخليع الفاجر، وعلينا أن نذكر دائماً ونحن في معرض الحديث عن الملوك حتى إلى قرننا هذا، أن العرف اقتضاهم أن يضحوا بميولهم الشخصية ليعقدوا زيجات منفعة سياسية للدولة، ومن ثم كان المجتمع-والكنيسة أحياناً كثيرة-يغضان إذا التمس الملك متعة الجنس وشاعرية الغرام عن الرباط الزوجي. ولو كان الأمر بيد لويس لبدأ حياته بزواج حب، فقد استهواه جمال ماري مانشيني ابنة أخ مازاران، وظرفها، فرجا أمه والكردينال أن يسمحا له بالزواج منها (1658)، ولكن آن النمساوية وبخته لأنه سمح للعاطفة بأن تتدخل في شؤون السياسة، أما مازاران فقد أبعد ماري آسفاً لتتزوج رجلاً من آل كولونا، ثم راح الوزير الداهية يستخدم نفوذه الخفي ليحصل على

ص: 57

عروس للويس هي ماريا تريزا، ابنة فيليب الرابع. أفليس من الجائز، إذا انقطع نسل الذكور في الملوك الأسبان، أن تأتي هذه الأميرة بأسبانيا كلها مهراً لملك فرنسا؟ وهكذا زف لويس إلى ماريا في 1660، وكلاهما في الثانية والعشرين، في كل البهاء والبذخ الذي سحر دافعي الضرائب.

أما ماري تريز فكانت امرأة متكبرة، ورعة فاضلة، وقد أعانت قدوتها ونفوذها على إصلاح أخلاقيات البلاط، على الأقل بين حاشيتها، ولكن النظام الصارم الذي نشئت عليه جعلها مكتئبة متبلدة، وكانت شهيتها القوية تزيدها حجماً في الوقت الذي ترمق فيه حسناوات باريس زوجها الوسيم بنظرات الغرام وقد أنجبت له ستة أطفال، لم يتجاوز الطفولة منهم غير واحد هو الدوفن، وكان من سوء طالعها أن يكتشف لويس، في نفس سنة زواجهما، في زوجة أخيه هنرييتا آن، جميع المفاتن التي تجمل الأنوثة الغضة.

أما هنرييتا هذه فهي ابنة تشالز الأول ملك إنجلترا؛ وكانت أمها هنريتا ماريا "ابنة هنري الرابع ملك فرنسا" قد قاسمت زوجها مأساة الحرب الأهلية، فلما دنا جيش البرلمان من مقر قيادة تشالز في أكسفورد، فرت ملكة إنجلترا إلى أكسترا، وهناك اشتد بها المرض حتى أشرفت على الموت، ولدت (1644)"أميرة صغيرة جميلة"

(1)

. وراح أعوان البرلمان يتعقبون الأم المريضة، ففرت ثانية، وتسللت إلى ساحل البحر، حيث استقلت سفينة هولندية إلى فرنسا بعد أن أفلتت بالجهد من المدافع الإنجليزية. أما الطفلة التي تركتها أمها في رعاية الليدي آن دولكيت، فقد عاشت عامين في مخبئها بإنجلترا قبل أن تهرب هي أيضاً عبر المانش في

(1)

روت مدام دمونتسبان. التي لم تخل من تحيز في مذكراتها، كيف أهدى أمير أفريقي قزماً زنجياً لماري، وكيف ولدت ماري "بنتاً جميلة صحيحة الجسم، سوداء من قمة رأسها إلى أخمص قدمها" وعزت الملكة هذا اللون إلى خوفها من القزم خلال حملها، وأذاعت "غازيته" باريس أن الفتاة ماتت عقب ولادتها، ولكن يبدو أنها عاشت، وربتها أسرة ملونة، وأصبحت راهبة. (102)

ص: 58

أمان، وما لبثت أن أكرهتها الظروف على معاناة التقلبات التي جاءت بها حرب الفروند. ففي يناير 1640 شاركت أمها وآن النمساوية في هروبهما من باريس المملوءة بالمتاريس إلى سان-جرمان، وفي ذلك الشهر جاء نبأ-أخفي عنها ولا ريب حيناً-بأن أباها ضَرب عنقه أنصار كرومويل "ذوو الرءوس المستديرة" المنتصرون فلما خفت حدة الفروند، قامت أم الأميرة هنرييتا على تربيتها في جو من الدعة والتقوى، وعاشت كلتاهما حتى رأتا تشالز الثاني إلى العرش الإنجليزي (1660)، وبعد عام حين بلغت السادسة عشرة، تزوجت شقيق لويس الرابع عشر، "مسيو" فيليب دوق أورليان، وأصبحت تلقب بالـ "مدام".

أما "المسيو" فكان رجلاً قصيراً مكور البطن، يلبس حذاءاً عالياً، ولوعاً بحلي الإناث؛ وأجساد الذكور، شجاعاً كأي فارس في ساحة الوغى ولكنه مزوق، معطر، موشح، مرصع بالجواهر كأشد النساء غروراً، في هذا البلد الذي كان أكثر بلاد الله غروراً. وقد أحزن هنرييتا وأخجلها أن ترى زوجها يؤثر صحبتها صحبة شفالييه اللورين، وشفالييه شاتيون. ووقع في غرامها كل إنسان تقريباً، لا لجمالها الهش فحسب-مع أنها عدت أجمل مخلوق في البلاط (103) -، بل لما هو أكثر من ذلك، لروحها الرقيقة اللطيفة، وحيويتها ومرحها الشبيهين بحيوية الأطفال ومرحهم. وللنسيم النظر المنعش الذي حملته أينما ذهبت، وقد وصفها راسين بـ"الحكم في كل جميل (104) "- وكان واحداً من كثيرين ممن ألهمتهم ومدت لهم يد المعونة.

ووجدها لويس الرابع عشر لأول وهلة أضعف وأنحف من أن تسيغها فتوته وذوقه، ولكنه حين أحس آخر الأمر بما في خلقها من "حلاوة وضياء"(105) استشعر المتعة المتزايدة في وجودها، وأبهجه أن يراقصها، ويمازحها، ويدبر الألعاب معها، ويصاحبها في التمشي في البستان في فونتنبلو

ص: 59

أو ركوب الزورق في القناة، حتى زعمت باريس كلها أنها بدت خليلته، ورأت في هذا انتقاماً عادلاً من "ملك سدوم"(106) ولكن أغلب الظن أن باريس أخطأت الحكم. فلقد أحبها لويس واشتهاها من جانبه، أما هي، التي بذلت إخلاصها في الحب لأخويها تشالز وجيمس، فقد قبلت الملك أخاً آخر، واتخذت من ربط الثلاثة جميعاً برباط التحالف أو المودة رسالة لها في الحياة.

ففي سنة 1670، وبناء على طلب لويس، عبرت المانش إلى إنجلترا لتقنع تشالز بالانضمام إلى فرنسا ضد هولندا، لا بل لتحضه على الجهر بكثلكته. وقد وعد بهذا في معاهدة دوفر السرية (1 يونيو 1670)، وعادت هنرييتا إلى فرنسا محملة بالهدايا مكللة بالنصر، ولكن ما مضت أيام على وصولها إلى قصرها في سان- كلو حتى أصابها مرض شديد، فظنت أنها سممت، وكذلك اعتقدت باريس كلها، وهرع الملك والملكة إلى فراشها. وكذلك فعل "المسيو" النادم؛ وكونديه، وتورين، ومدام دي لافاييت، ومدموازيل دمونبانسييه، وأتى بوسويه ليصلي معها، وأخيراً في 30 يونيو، انتهى عذابها، وكشف فحص جثتها عن أن موتها لم يكن بالسم بل بالالتهاب البريتوني (107)، وشيعها لويس بمشهد لا يشيع بمثله غير أصحاب الرءوس المتوجة، وألقى بوسيه فوق جثمانها في كنيسة سان-دني عظة جنائزية رجت أصداءها القرون.

وهنرييتا هي التي أعطت الملك أولى خليلاته الأكثر علانية. وقد ولدت هذه المرأة، واسمها لويز دي لا فاليير، في مدينة تور عام 1644، وتلقت في إيمان مستسلم ذلك التعليم الديني الذي قامت عليه أمها وخالها الكاهن، الذي أصبح فيما بعد أسقفاً لنانت، وما أن بلغت سن التناول الأول حتى مات أبوها، فتزوجت أمها من جديد، وكان الزوج رئيساً لخدم جاستون دوق أورليان، فحصل للويز على وظيفة وصيفة لبنات الدوق، فلما

ص: 60

مات جاستون، وتزوج ابن أخيه وخليفته فيليب، أخذ لويز معه وصيفة شرف لهنرييتا (1661). وبهذا الوصف كانت ترى الملك مراراً كثيرة. وبهرها بهاؤه وسلطانه وسحر شخصيته، فوقعت في غرامه كما وقعت عشرات النساء، ولكنها لم تحلم بالتحدث إليه يوماً.

كان جمالها جمال الخلق أكثر منه جمال الجسد، كانت رقيقة الصحة وبها عرج خفيف، "وليس لها صدر يؤبه به" على حد قول أحد ناقديها، وكانت نحيفة إلى حد مخيف، ولكن ضعفها هذا كان في ذاته فتنة، لأنه أورثها تواضعاً ودماثة في الطبع أسر الجميع حتى النساء، ولفتت هنرييتا نظر الملك إلى لويز لتصرف الناس عن الشائعات التي أرجفت بأنها هي ذاتها خليلته، وأفلحت الخطة فوق ما أرادت، فقد جذبت لويس هذه الفتاة الخجولة ذات السبعة عشر ربيعاً، التي كان البون شاسعاً بينها وبين النبيلات المتغطرسات العدوانيات اللائى يحطن به في بلاطه. وذات يوم وجدها وحيدة في حدائق فونتنبلو، فقدم نفسه إليها، مضمراً نيات ليست بالشريفة جداً. وفاجأته بالاعتراف بأنها تحبه، ولكنها قاومت إلحافه طويلاً، وناشدته ألا يحملها على خيانة هنرييتا والملكة، ولكن ما وافى شهر أغسطس 1661 حتى كانت قد غدت خليلته، لقد كان كل شيء يبدو حسناً مادام يرضي مشيئة الملك.

ثم وقع الملك بدوره في غرامها، فما كان يستشعر السعادة كما يستشعرها مع هذا الفرخ الخجول، وخرجاً في نزهات خلوية كالأطفال، ورقصا في المراقص، وطفرا مرحاً في حفلات الباليه، وكانت إذا خرجت إلى جواره في الصيد تنسى ما في طبعها من إحجام وتردد، وتركب في تهور واندفاع "فيعجز حتى الرجال عن اللحاق بها"(108) على حد قول الدوق دانجيان. على أنها لم تستغل انتصارها، فأبت قبول الهدايا أو الاشتراك في الدسائس، وظلت متواضعة رغم زناها، وكانت تخجل من وضعها، وقد تعذبت حين

ص: 61

قدمها الملك إلى الملكة، وولدت له عدة أطفال، مات اثنان منهم في تاريخ مبكر، أما الطفلان الثالث والرابع، اللذان تقررت شرعيتهما بمرسوم ملكي، فقد أصبحا الكونت دفيرماندوا، والمدموازيل دبلوا الرائعة الجمال. وخلال أزمات الولادة هذه كانت ترى وجوهاً أجمل من وجهها تجتذب الملك، ولم تحل سنة 1667 حتى تعلق قلبه بمدام دمونتسبان، وبدأت لويز تفكر في التفكير عن آثامها بقضاء ما بقي من عمرها في دير للراهبات.

وآنس لويس هذا الميل فيها، فبذل لها الكثير من علامات حبه الباقي، وفكر في الحفاظ عليها في دنياه بخلع لقب الدوقية عليها، ولكنه بين اشتغاله بحب مونتسبان، واستغراقه في الحرب، قل شيئاً فشيئاً ما منحها من وقته، أم هي فلم تأبه في البلاط بإنسان غيره. وفي 1671 تخلت عن ثروتها، وارتدت أبسط ما وجدت من ثياب، وتسللت من القصر صباح يوم من أيام الشتاء، وهربت إلى دير القديسة ماري-د-شايو-، وأرسل لويس من يبحث عنها مؤكداً حبه وعذابه، وإذ كانت لا تزال عذراء غريرة بعقلها، فقد ارتضت أن تعود إلى البلاط. وظلت هناك ثلاث سنين أخرى، ممزقة بين حبها للملك وشوقها للتطهير والسلام الدينيين، وكانت تمارس في القصر تقشف الحياة الديرية، وأخيراً أقنعت الملك بأن يفرج عنها، ودخلت ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في شارع دانفير (1674)، وتسمت الأخت لويز دلا ميزيريكورد، وعاشت هناك في توبة الزهاد ما بقي لها من عمر طوال ستة وثلاثين عاماً، قالت:"إن نفسي شديدة القناعة، بالغة السكينة؛ لأني أعبد جود الإله"(109).

أما خليفتها في الحظوة لدى الملك فلا تظفر من الناس بمثل هذا الغفران العام. فقد قدمت فرنسواز أتينايس روسشوار البلاط في 1661، وخدمت الملكة وصيفة شرف، وتزوجت المركيز دمونتسيان (1663). ويزعم

ص: 62

فولتير أنها إحدى ثلاث كن أجمل نساء فرنسا، أما الأخريان فأختاها (110). وكان لها غدائر مجعدة شقراء مرصعة باللآلئ، وعينان أبيتان ناعستان، وشفتان شهوانيتان، وثغر ضاحك، ويدان ملاطفتان، وبشرة في لون الزنبق ونسيجه-كذلك وصفها معاصروها وهم مبهورون، وكذلك صورها هنري جاسكار في لوحة مشهورة. وكانت تقية، تحفظ أيام الصوم دون تهاون، وتختلف إلى الكنيسة في تعبد وتكرار، لها طبع حاد وذكاء بتار، ولكن هذا كان أول الأمر من قبيل التحدي.

روى عنها ميشليه قولها إنها قدمت باريس مصممة على اقتناص الملك (111). ولكن سان-سيمون يذكر أنها حين رأت أنها أخذت تزيد من سرعة نبض الملك رجت زوجها في أن يعود بها فوراً إلى بواتو (112). ولكنه أبى، واثقاً من سلطانه عليها، متعلقاً بعبير البلاط. وذات ليلة في كومبيين، ذهبت لتنام في حجرة مخصصة عادة للملك. وحاول برهة أن ينام في حجرة مجاورة، ولكنه وجد في هذا مشقة، وأخيراً استولى على حجرته وعليها (1667). أما المركيز فحين بلغه الأمر لبس ثوب الترمل، وجلل مركبته بالسواد، وزين أركانها بالقرون. وكتب لويس بيده وثيقة الطلاق بين المركيز والمركيزة، وأرسل إليه 100. 000 ايكو، وأمره بالرحيل عن باريس، وابتسم البلاط الذي تجرد تماماً من الخلق الكريم.

وظلت مدام دمونتسبان محظية للملك سبعة عشر عاماً. وقد أعطت لويس مالم تستطعه لافاليير-أعطته الحديث الذكي والحيوية المثيرة. وكانت تفاخر بأنها هي وتبلد الحسن لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد وزمان واحد، وهو قول صحيح. وقد أنجبت للملكة ستة أطفال-أحبهم وشكر لها صنيعها، ولكنه لم يستطع أن يقاوم إغراء النوم من حين إلى حين مع مدام دسويير أو مع الآنسة الشابة دسكوراي دروسيل، التي خلع عليها لقب دوقة فونتانج. وقد حدت هذه الانحرافات بمدام دمونتسبان إلى

ص: 63

التماس نصيحة المشعوذات في أمر الأشربة السحرية وغيرها من الوسائل للاحتفاظ بحب الملك، ولكن القصة التي زعمت أنها دبرت تسميمه أو تسميم غريماتها هي في أغلب الظن أسطورة روجها أعداؤها (113).

وقد جنى عليها أطفالها. ذلك أنها احتاجت إلى شخص يرعاهم، وزكى لها بعضهم مدام سكارون، فاستخدمتها، ولاحظ لويس حسن المربية وهو يختلف لرؤية أطفاله. أما مدام سكارون هذه، واسمها قبل الزواج فرنسواز دوبينيه، فكانت حفيدة تيودور أجريبا دوبينيه، المساعد الهيجونوتي لهنري الرابع، وقد ولدت بسجن بنيور في بواتو، حيث كان أبوها يقضي فترة من فترات سجنه الكثيرة عقاباً له على جرائم مختلفة، وعمدت كاثوليكية، وربيت بين الفوضى والفقر المخيمين على أسرة منقسمة. وعطف عليها بعض البروتستانت وأطعموها وثبتوها في العقيدة البروتستانتية تثبيتاً جعلها تولى ظهرها للمذبح الكاثوليكي. فلما بلغت التاسعة أخذها أبوها إلى المارتنيك حيث أشرفت على الموت لصرامة التأديب الذي أدبته أمها. ومات الأب بعد عام (1645)، فعادت الأرملة وأطفالها الثلاثة إلى فرنسا. وفي 1649 أودعت فرنسواز ديراً للراهبات بعد أن عادت إلى الكاثوليكية، وكانت تناهزت الرابعة عشرة آنئذ، وتكسب قوتها بأداء الأعمال الحقيرة. ولهلنا ما كنا لنسمع بها قط لولا أنها تزوجت بول سكارون.

وما بول هذا فكان كاتباً مشهوراً، وظريفاً لا معاً، مشلولاً شللاً كاد يكون تاماً، مشوهاً تشويهاً بشعاً. وإذ كان ابناً لمحامٍ نابه، فقد توقع النجاح في حياته العملية، ولكن أباه الأرمل تزوج ثانية، ونبذت الزوجة الجديدة بول، فلم يظفر من أبيه إلا بمعاش ضئيل لا يكفيه إلا للترفيه ليلة عن ماريون ديلورم وغيرها من النبيلات. ثم أصيب بالزهري، وأسلم نفسه لأحد الدجالين، وتعاطى العقاقير القوية التي أتلفت جهازه العصبي. وأخيراً اشتد به الشلل حتى كاد يعجز إلا عن تحريك يديه. وقد وصف نفسه في هذه

ص: 64

العبارات: "سأصف نفسي لك أيها القارئ على قدر استطاعتي. لقد كان جسمي حسن التكوين رغم قصر قامتي. ولكن العلة قصرتني بقدم كامل. ورأسي أكبر قليلاً مما يناسب جسمي. ووجهي ممتلئ، أما جسدي فهيكل عظمي. وبصري لا بأس به، ولكن عيني بارزتان، وإحداهما منخفضة عن الأخرى. وقد كونت ساقاي وفخذاي أول الأمر زاوية منفرجة، ثم قائمة، وأخيراً حادة، وتكون فخذاي وجسمي زاوية حادة أخرى، وانحناء رأسي فوق معدتي يجعلني أقرب إلى حرف Z. وقد انكمش ذراعاي كما انكمش ساقاي، وكذلك فعلت أصابعي. جملة القول أنني خلاصة للتعاسة البشرية (144) ".

وقد تعزى عن تعاسته تلك بتأليفه "رواية مضحكة" عن متشرد (1649) لقيت نجاحاً كبيراً، وبعرضه هزليات ساخرة صاخبة الفكاهة، فاضحة النكتة. وأكرمته باريس لأنه احتفظ بمرحه وسط آلامه، وأجرى عليه مازاران وآن النمساوية معاشين فقد الحق فيهما لتأييده للفروند. وكسب كثيراً، وأنفق أكثر، وتورط غير مرة في الدين. وكان- وهو مسنود داخل صندوق يطل منه رأسه وذراعاه-يرأس في حيوية وعلم غزير صالوناً من أشهر صالونات باريس. فلما تكاثرت ديونه، كان يتقاضى ضيوفه ثمن طعامهم، ومع ذلك كانوا يأتون.

ترى من يتزوج رجلاً كهذا؟ في سنة 1652، كانت فرنسواز دوبينيه التي بلغت السادسة عشرة من عمرها تعيش مع قريبة بخيلة ضنت بالإنفاق عليها حتى لقد اعتزمت أن ترد فرنسواز إلى أحد أديار الراهبات. وقد صديق هذه الفتاة إلى سكارون، فاستقبلها في كرم مؤلم، وعرض أن يدفع نفقات طعامها وسكنها في الدير، لكي يعفيها من نذر الرهبنة، ولكنها أبت. وأخيراً عرض أن يتزوجها، وأوضح لها بجلاء أنه لا يستطيع أن يطالبها بحقوق الزوج. فقبلته، وخدمته ممرضة وسكرتيرة، وقامت بدور المضيفة

ص: 65

في صالونه، وتظاهرت بأنها لا تسمع توريات الضيوف. وكان ذكاؤها يدهشهم حين تشترك في الحديث. وقد خلعت على اجتماعات سكارون درجة من الاحترام كفت لجذب الآنسة دسكودري، ومدام دسفينيه بين آن وآخر، وكان من زوار الصالون قبل ذلك نينون، وجرامون، وسانت- إفرمون. وفي رسائل نينون إلماع إلى أن مدام سكارون لطفت من عذاب هذا الزوج البريء من الجنس بعلاقة غرام، ولكن نينون ذكرت أيضاً أنها "كانت فاضلة لضعف عقلها. لقد أردت شفاءها، ولكنها كانت تخاف الله أكثر مما يجب (115) " وكان وفاؤها لسكارون حديث باريس، المتعطشة دون وعي منها لأمثلة للسلوك الكريم. ولما اشتد عليه شلله تيبست حتى أصابعه وامتنعت حركتها، فعجز عن أن يقلب صفحة أو يمسك قلماً. فكانت تقرأ له، وتكتب ما يمليه عليها، وتقوم على كل حاجاته. وقبل أن يموت (1660) كتب فبريته التي قال فيها:

"إن الراقد الآن هنا قد أثار من الشفقة أكثر مما أثار من الحسد، وعانى ألف مرة عذاب الموت قبل أن يفقد الحياة. فيا أيها العابر لا تحدث ضجيجاً، وإياك إياك أن توقظه، فهذه أول ليلة ينام فيها سكارون المسكين".

ولم يخلف لزوجته غير الدائنين. وألقيت "الأرملة سكارون" في خضم الفقر مرة أخرى وهي يعد شابة في الخامسة والعشرين. والتمست من الملكة الأم أن يجدد معاشها الذي ألغي، فرتبت لها آن ألف جنيه في العام. واتخذت فرانسواز حجرة في دير، وتواضعت في عيشها وملبسها، وارتضت القيام بشتى المهام الصغيرة في البيوت الميسورة (117). وفي 1667 أرسلت إليها مدام دمونتسبان وهي على وشك الوضع رسولاً يطلب إليها أن تتلقى الوليد المنتظر وتربيه. ورفضت فرنسواز، ولكنها قبلت حين أيد لويس الطلب. وظلت سنوات عديدة بعد ذلك تتلقى أطفال الملك وهم يخرجون إلى النور.

ص: 66

وتعلمت أن تحبهم، وكانوا يرون فيها أماً لهم؛ أما الملك الذي ضحك منها أول الأمر لفرط احتشامها، فقد انتهى إلى الإعجاب بها، وأثر فيه ما بدا من حزنها حين مات أحد الأطفال رغم حدبه المتصل عليه. وقال إنها تعرف كيف تحب، وإنها لمتعة أن يكون إنسان موضع حبها (118) "، وفي 1673 قررت شرعية الأطفال، ولم يعد فرضاً على مدام سكارون أن تتستر، فقبلت في البلاط وصيفة لمدام دمونتسبان. ووهبها الملك 200. 000 جنيه دعماً لمركزها الجديد. فاشترت بالمال ضيعة في مانتنون قرب شارتر. ولم تعش فيها قط، ولكن أعطتها لقباً جديداً، وهو المركيزة دمانتنون.

وكانت طفرة عنيفة لمن كانت تشكو الإملاق منذ عهد قريب جداً، ولعلها أدارت رأسها حيناً. وآلت على نفسها أن تنصح مدام دمونتسبان بأن تكف عن حياة الإثم التي تحياها. وساءت النصيحة مونتسبان، وظنت أن مانتنون تكيد لها للحلول محلها، والحق أن لويس كان آنئذ، في 1657، قد اخذ يضيق بغضبات مونتسبان، ويجد لذة في التحدث إلى المركيزة الجديدة ولعل الأسقف بوسويه، بالتواطؤ مع الملك، أنذره بأنه سيحرم من تناول قربان القيامة ما لم يطرد محظيته. فأمرها بأن تبرح القصر، ففعلت، وتناول لويس القربان، وتعفف حيناً واستحسنت مدام دمانتنون مسلكه، دون أن يكون لها قصد أناني فيما يبدو (119)، لأنها رحلت بعد قليل مع صبي عليل (من أبناء مونتسبان) هو الدوق دمين تلتمس له الشفاء في حمامات باريج الكبريتية بإقليم البرانس. وانطلق لويس إلى حروبه، ثم عاد وقد اشتد به الجوع، وضرب بإنذار بوسويه عرض الحائط، ودعا منتسبان لتعود إلى جناحها في فرساي. وهناك ارتمى بين ذراعيها المشتاقتين، فحبلت ثانية.

أما مانتنون فقد رحب بها الملك ومحظيته عند عودتها من البرانس مع الدوق الذي شفي مما ألم به، ولكن راعها أن تراه غارقاً في عدة علاقات

ص: 67

آثمة في وقت واحد. وفي 1679 اختتم آثامه مع مونتسبان بتعيينها مشرفة على بيت الملكة-وكانت تلك إحدى الفظاظات الكثيرة التي جرح بها شعور ماري تريز. وثارت مونتسبان وبكت، ولكنه غزاها بالهبات السخية. وبعد عام تسلمت مانتنون وظيفة مماثلة-هي الوصيفة لمخدع زوجة ابنه البكر (الدوفينه)، وكان الوحيد الباقي على قيد الحياة من أبنائه الشرعيين. وكثر تردد الملك الآن على الدوفينه للتحدث إلى مانتنون. وما من شك في أنه أراد أن يجعل المركيزة خليلة له، وأنها ردته عن نفسها-لا بل أنها ناشدته أن يكف عن جنوحه ويعود تائباً إلى الملكة (120). فأذعن لها ولبوسويه، وفي 1681، وبعد عشرين عاماً من مغازلة النساء، أصبح زوجاً مثالياً. أما الملكة التي وطنت نفسها من أمد بعيد على تقبل خياناته، بل على تقبل خليلاته، فقد حظيت برضاء الملك ولكن لعامين فقط، لأنها ماتت عام 1683.

وظن لويس أن مانتنون سترضى الآن بأن تكون خليلته، ولكنها قابلته بصد لبق، فهو الزواج وإلا فلا (121). وفي تاريخ لا يعرف على التحديد، ولكنه على الأرجح في 1684، تزوجها، وكان في السابعة والأربعين، وهي في الخمسين. وكان ارتباطاً غير متكافئ، لا يصيب الطرف الأدنى فيه إلا رتبة جديدة ولا حقوق وراثية. ولقي مستشارو الملك عنتاً في ثنيه عن إعطاء زوجه الحقوق الكاملة وتتويجها ملكة، وذكروا له ما سيكون من تذمر الأسرة المالكة والحاشية إذا وجدوا انهم ينحنون احتراماً لمربية. وعليه لم يعلن نبأ الزواج، وهناك من يظنون أن الزواج لم يتم قط. أما سان-سيمون، المتشبث أبداً بالنظام الطبقي، فرأى أنه "زواج مخيف (122) " ولكنه كان خير رباط وأسعده للملك، والوحيد الذي رعى عهوده فيما يبدو. ولقد اقتضاه نصف قرن تقريباً أن يكتشف أن في حب المرأة لزوجها عن غيرها من النساء.

ص: 68

‌8 - الملك يمضي إلى الحرب

كانت انتصارات ريشليوه ومازاران قد خلفت فرنسا أقوى دولة في أوربا. فالإمبراطورية أوهنها ما أصاب ألمانيا من إعياء وانقسام فضلاً عن الخطر المتجدد عليها من العثمانيين. وأسبانيا أضعفها نضوب ذهبها ورجالها في ثمانين عاماً من الحرب العقيم التي خاضتها في الأراضي المنخفضة. وإنجلترا، بعد 1660، ربطتها بعجلة فرنسا المعونات السرية لملكها. كذلك كانت فرنسا فيما مضى بلداً أصابه الضعف، ولكن ما أتت سنة 1667 حتى كانت جراح الفروند قد برئت، وغدت فرنسا أمة موحدة. وقام أثناء ذلك رجال أفذاذ اضطلعوا بإعادة بناء الجيوش الفرنسية، كلوفوا، عبقري التنظيم والضبط العسكريين، وفوبان عبقري التحصين وحرب الخنادق والحصار، وكالقائدين المغوارين كونديه وتورين. وبدا للملك الشاب الذي يتملقه رجاله قد آن الأوان لتبلغ فرنسا حدودها الجغرافية الطبيعية-وهي الراين، والألب، والبرانس، والبحر.

فليبدأ بالراين إذن. لقد كان الهولنديين يتسلطون عليه، فلا بد إذن من إخضاعهم، ثم ردهم بعد قليل إلى العقيدة التي كانت حليفاً للملوك طوال ألف عام. فإذا بسطت فرنسا سلطتها على مصاب النهر العظيم الكثيرة دانت لها مل أرض الراين، وبسطت على نصف التجارة الألمانية. ولكن الأراضي المنخفضة الأسبانية (بلجيكا) تقف عقبة في الطريق، فلا بد إذن أن تفتحها. وكان فيليب الرابع عند موته في 1665 قد خلف الأراضي المنخفضة الأسبانية لشارل الثاني، ولده من زواجه الثاني. ورأى لويس ثغرة دبلوماسية ينفذ منها إلى هدفه. فاستند إلى عرف قديم أخذت به أينو وبرابانت، يقضي بتفضيل أبناء الزوجة الأولى في الميراث على أبناء الثانية. وكانت زوجة لويس بنت فيليب الرابع من زوجته الأولى، وبمقتضى حق الأيلولة أو الوراثة هذا- Ius Devolutionis- ترث ماري تريز الأراضي

ص: 69

المنخفضة الأسبانية. صحيح أن ماري نزلت عند زواجها عن حقها في الوراثة، ولكن هذا التخلي كان مشروطاً بأداء أسبانيا صداقها لفرنسا، وهو 500. 000 كراون ذهبي (123). وهذا الصداق لم يؤد، إذن

ورفضت أسبانيا هذا القياس المنطقي، وعلى ذلك أعلن لويس حرب الأيلولة (الوراثة الأسبانية). فلنترك مذكرات الملك لاعب الشطرنج هذا يميط اللثام عن دوافعه:

"لقد أتاح لي موت ملك أسبانيا وحرب الإنجليز مع الهولنديين (1665) في وقت واحد فرصتين لخوض الحرب: محاربة أسبانيا سعياً وراء حقوق آلت إلي، ومحاربة إنجلترا دفاعاً عن الهولنديين

وسرني أن أرى في خطة هاتين الحربين ميداناً فسيحاً قد يتيح لي فرصاً عظيمة للتفوق. وكان الكثيرون من الرجال البواسل، الذين آنست فيهم التفاني في خدمتي، يتوسلون إلي على الدوام أن أهيئ لهم الفرصة لإظهار بسالتهم

يضاف إلى هذا أنني مادمت مضطراً على أية حال للاحتفاظ بجيش كبير، فإنه انفع لي أن القي به في الأراضي المنخفضة من أن أطعمه على حسابي

وتحت ستار الحرب مع إنجلترا أستطيع ترتيب قواتي وهيئة مخابراتي (أي جهاز الجاسوسية) لأبدأ مغامرتي في هولندا بنجاح أعظم (124) ".

تلك هي النظرة الملكية إلى الحرب، فقد تجعل الحرب بلد الملك أعظم مساحة وأكثر أمناً أو أوفر دخلاً، وقد تفتح طرق الشهرة والمنعة، وقد تتيح منصرفات للغرائز المتصارعة، وقد تيسر للجيش الغالي النفقة أن يطعم على غذاء بلد أجنبي، وقد تحسن موقف الدولة في الحرب القادمة. أما عن أرواح البشر التي ستحصدها الحرب، فإن الناس لابد أن يموتوا على أية حال وما أسخف أن يموت الرجل حتف أنفه، ويقضي بعلة بطيئة طويلة، وأي ميتة أفضل للرجل من الموت في خدار المعركة على ساحة المجد، وفي سبيل الوطن؟

وعليه ففي 24 مايو 1667 عبرت الجيوش الفرنسية إلى الأراضي المنخفضة الأسبانية. فلم تصادف مقاومة فعالة، وكان عدد الفرنسيين 55. 000

ص: 70

مقاتل، والأسبان 8. 000. وما لبث الملك أن دخل شارلروا، وتورنيه، وكورتريه، ودويه، وليل، وكأنه يدخلها في موكب نصر؛ وحصن فوبان المدن المفتوحة، أما لوفوا فقد جهز المؤن في كل خطوة؛ حتى الصحاف الفضية للضباط في معسكراتهم أو خنادقهم. وضمت إلى فرنسا أرتوا، وإينو، وفلاندر الولونيه، واستغاثت أسبانيا بالإمبراطور ليوبولد الأول، فعرض لويس على ليوبولد قسمة الإمبراطورية الأسبانية فيما بينهما، ووافق ليوبولد، فأمسك أي معونة عن أسبانيا. وبلغ من سهولة فتح فلاندر أن لويس هرع للاستيلاء على فرانش-كونتيه أيضاً، وهو الإقليم الواقع حول بزانسون، بين برجندية وسويسرا. وكان ولاية تتبع أسبانيا، ولكنه شوكة في جنب فرنسا. وفي فبراير 1668 هبط جيش فرنسي عدته عشرون ألف مقاتل على فرانش-كونتيه بقيادة كونديه، وحالفه النصر في كل مكان، لأن الرشا الفرنسية كانت قد ألانت القواد المحليين. وقاد لويس بنفسه حصار دول، فسقطت بعد أربعة أيام. ولم تنقضِ ثلاثة أسابيع حتى استسلمت فرانش-كونتيه كلها. فقفل إلى باريس مكللاً بالغار.

ولكنه كان قد أفسد على نفسه الأمر بتجاوزه الحدود، ذلك أن "الأقاليم المتحدة" أقنعت السويد وإنجلترا بالانضمام إليها في حلف ثلاثي ضد فرنسا (يوليو 1668) وتبينت الدول الثلاث أن حريتها السياسية أو التجارية ستذوي إذا امتد سلطان فرنسا إلى الراين. ورأى لويس أنه تعجل السير إلى هدفه؛ ذلك أن الاتفاق السري الذي أبرمه مع ليوبولد كان ينص على أن تؤول إلى فرنسا كل الأراضي المنخفضة وفرانش-كونتيه عند موت شارل الثاني ملك أسبانيا، وبدا أنه لن ينقضي عام أو نحوه حتى يموت شارل العليل، فلعله كان خيراً لفرنسا أن تتريث حتى تقع الثمرة في حجرها بهدوء. وعرض لويس شروط الصلح على الحلف وأقنع دبلوماسيوه المحنكون إنجلترا والسويد، فأنهيت حرب الوراثة الأسبانية بمقتضى معاهدة إكس- لا- شابل (2 مايو 1668) وردت فرنسا فرانش- كونتيه إلى أسبانيا، ولكنها احتفظت بشارلروا، ودويه، وتورنيه،

ص: 71

وأودينارد، وليل، وآرمانتيير؛ وكورتريه. وهكذا استبقى لويس لنفسه نصف الغنيمة.

ولكنه في 1672 عاود زحفه على الراين، وتكشف الآن هدفه الحقيقي- وهو هولندا لا فلاندر. وسنلقي بنظرة على هذه المأساة في فصل لاحق من زاوية الهولنديين، وحسبنا القول بأن الهجوم كاد يصل إلى أمستردام ولاهاي قبل أن يقفه فتح سدود البحر. ولكن أوربا ثارت مرة أخرى على هذا التهديد الجديد لتوازن القوى. ففي أكتوبر 1672 انضم الإمبراطور ليوبولد إلى الأقاليم المتحدة وبراندنبورج في "حلف عظيم"، وانضمت إليه أسبانيا واللورين في 1673، ثم الدنمرك والبالاتينات ودوقية برنزويك-لونيبورج في 1674، وفي ذلك العام أكره البرلمان الإنجليزي ملكه الموالي لفرنسا على إبرام الصلح مع الهولنديين.

وواجه لويس ببسالة هذا الانتقام الذي عوقبت به كبرياؤه، فجنى المزيد من الضرائب برغم شكاوى كولبير من أنه يفقر بذلك فرنسا، وبنى أسطولاً، وزاد جيوشه إلى 180. 000 مقاتل. وفي يونيو 1674 وجه قوة منها لمحاصرة بيزانسون ثانية، وما مضت ستة أسابيع حتى فتحت فرانش-كونتيه من جديد. وخلال ذلك قاد تورين في حملة من أروع حملاته وأقساها عشرين ألفاً من جنوده إلى النصر على سبعين ألفاً من جنود الإمبراطورية. ودمر البالاتينات واللورين وجزءاً من الالزاس ليحول بين العدو وبين إطعام جنده، وتكرر على طوال الراين ذلك الخراب الذي أحدثه من قبل حرب الثلاثين. وفي 27 يوليو قتل تورين وهو يستطلع الأرض قرب سولزباخ في بادن، ودفن بأمر لويس في كنيسة سان-دني باحتفال أشبه بالاحتفال بدفن الملوك، وهو عليم بأن تلك الميتة الواحدة تعدل عشر هزائم. وحل "كونديه العظيم" محل تورين بعد ما حقق من انتصارات دامية في الأراضي المنخفضة، فطرد جيوش الإمبراطورية من الألزاس، ثم اعتكف ذلك "الأمير" بعد أن دوخته سنون من الشهوات والحرب، مؤثراً حياة الفلسفة

ص: 72

والحكم في شانتي. واضطلع لويس الآن بالحملة في الأراضي المنخفضة، فحاصر فالنسيبن، وكامبري، وسانتومير، وغنت، وإيبر، واستولى عليها كلها (1677 - 78). وهللت فرنسا لملكها قائداً مظفراً.

ولكن العبء الذي أثقل به كاهل شعبه لم يعد محتملاً. فنشبت الثورات في بوردو وبرتني، وكان الفلاحون في جنوب فرنسا يتضورون جوعاً، والشعب في الدوفينيه يقتات على الخبز المصنوع من ثمر البلوط والجذور (125) فلما عرض الهولنديون على لويس الصلح وقع معهم معاهدة (11 أغسطس 1678) ردت بمقتضاها للأقاليم المتحدة جميع الأراضي التي استولت عليها فرنسا منها، وخفضت الرسوم التي أقصت المنتجات الهولندية عن فرنسا. وفد عوض عن هذه التنازلات بإلزام أسبانيا، التي تفككت الآن أوصالها، بأن تتخلى له عن فرانش-كونتيه، واثنتي عشرة مدينة دفعت بحدود فرنسا الشمالية الشرقية إلى داخل الأراضي المنخفضة الأسبانية. واحتفظت فرنسا بمقتضى معاهدة مع الإمبراطور بمدينتين استراتيجيتين هما برايزاخ وفرايبورج-ايم-برايسجاو، وبقيت الألزاس واللورين في قبضتها. وكانت هاتان المعاهدتان-نيميجن (1678 - 79) وسان-جرمان-آن-ليه (1679) نصراً للأقاليم المتحدة، ولكنهما لم تكونا هزيمة للويس، فلقد فاز على الإمبراطورية وأسبانيا، ووصل في أماكن-هنا وهناك-إلى الراين الذي طالما اشتهى الوصول إليه.

على أنه احتفظ بجيشه الضخم رغم هذا الصلح، موقناً أن الجيش القائم قوة تعزز الدبلوماسية. واستناداً إلى تلك القوة من ورائه، واستغلالاً مخزياً لانصراف الإمبراطور إلى قتال العثمانيين الزاحفين، أنشأ في الألزاس، وفرانش-كونتيه، وبرايسجاو "غرفاً لإعادة الاتحاد"، تطالب ببعض مناطق الحدود التي كانت تمتلكها فيما مضى، واحتل الجنود الفرنسيون هذه المناطق، وأغريت مدينة ستراسبورج العظيمة، التي لين موظفيها إغداق الرشا عليهم، بأن تعترف بلويس ملكاً عليها (1681). وفي نفس

ص: 73

العام، وبوسائل مماثلة، أغرى دوق ميلانو بأن ينزل لفرنسا عن مدينة كازالي وحصنها، وكانت تتحكم في الطريق بين سافوا وميلانو

(1)

. فلما تلكأت أسبانيا في تسليم مدن الأراضي المنخفضة، أرسل لويس جيوشه من جديد إلى فلاندر وبرابانت، وتغلب على المقاومة بقذفه البلاد بالمدافع دون تمييز، وابتلع في طريقه دوقية لكسمبورج (يونيو 1684). واعترفت أسبانيا والإمبراطور مؤقتاً بهذه الفتوح بمقتضى هدنة ريجنسبورج (15 أغسطس)، لأن العثمانيين كانوا يحاصرون فيينا آنئذ. وبفضل تحالفه مع ناخب كولونيا مد لويس في الواقع سلطته إلى الراين. فتحقق بهذا جزء من طموح فرنسا للوصول إلى حدودها الطبيعية.

ذلك كان الأوج الذي بلغه "الملك الشمس". فلم يحدث أن ظفرت فرنسا بمثل هذا الاتساع في الرقعة ولا بمثل هذه السطوة منذ عهد شارلمان. وأقيمت المهرجانات الضخمة الغالية احتفالاً بانتصارات الملك. ولقبه مجلس باريس رسمياً بلويس العظيم. (1680) ورسمه لبرون في صورة إله على أقبية فرساي، وزعم لاهوتي أن انتصارات لويس أثبتت وجود الله (127). أما جماهير الشعب فقد مجدت حاكمها وسط فقرها المدقع، وتاهت فخراً بمنعته الواضحة، وأطراه حتى الأجانب، لأنهم رأوا في حملاته شيئاً من المنطق الجغرافي، وحياة الفيلسوف لايبنتز "ذلك الملك العظيم الذي هو مفخرة زماننا غير منازع، والذي ستتوق الأجيال القادمة إلى نظيره عبثاً (128) "، وإلى الشمال من جبال الألب والبرانس، وإلى الغرب من الفستولا، بدأت أوربا المثقفة تتحدث بلغته وتقلد بلاطه وفنونه وأساليبه. لقد بلغت الشمس الأوج.

(1)

لعل "الرجل ذا القناع الحديدي" هو الكونت ماتولي الذي باع لأسبانيا (1679) سر المفاوضات بين لويس ودوق ميلانو. وقد تكهن البعض بأنه هو ذاته ماركيولي، السجين الغامض الذي أخفى وجهه خلف قناع من المخمل (لا الحديد)، والذي مات في الباستيل في 1703 (126).

ص: 74

الفصل الثاني

‌بوتقة الإيمان

‌1643 - 1715

1 -

الملك والكنيسة

ينزع المؤرخ-كما ينزع الصحفي-إلى فقدان الخلفية العادية للعصر وسط الواجهة المثيرة للصورة التي يرسمها، لأنه يعلم أن قراءه سيستطيبون الشاذ ويحبون تجسيد العمليات والأحداث. ولكن وراء حكام فرنسا، ووزرائها، وحاشيتها، ومحظياتها، ومقاتليها، كان هناك رجال ونساء يتنافسون على الرزق والرفقاء، يزجرون أبناءهم ويحبونهم، يأثمون ويعترفون بإثمهم، يلهون ويتشاجرون، يذهبون إلى أعمالهم متثاقلين وإلى المواخير متسترين، وإلى الصلاة متواضعين متذللين. وكان طلب الخلاص الأبدي يقطع بين الحين والحين كفاح البقاء اليومي، والحلم بالجنة ينتعش كلما ذبلت شهوة الحياة، وصحن الكنيسة الظليل يربح هنيهة من وطيس الصراع. وكانت أساطير المعجزات شعر الجماهير، والقداس مسرحية خلاصهم المعزية، وسميت الرسالة التي يحملها الكاهن بقلوب الفقراء المهزومين ولو كان هو ذاته رجلاً دنيوياً جشعاً. وظلت الكنيسة المنافس للدولة ركيزة للمجتمع والسلطة، لأنه بالرجاء أذعن الناس في صبر للعمل الشاق، والقانون، والحرب.

وعرف كبار الأكليروس الكاثوليك أهميتهم في معجزة النظام، وشاركوا النبلاء والملك موارد الأمة وبهاء البلاط. وخالط الأساقفة ورؤساء الأساقفة في ألفة مهذبة أعلام القوم من طراز كونديه، ومونبنسييه،

ص: 75

وسفينييه، وداعب المئات من الآباء-أنصاف المكرسين، أنصاف المتزوجين-داعبوا النساء والأفكار. على أنه يمكن القول بوجه عام أن عقلية رجال الأكليروس الكاثوليك وأخلاقهم كانت خيراً مما عهدناه خلال قرون قبل ذلك، ربما بحافز من منافسة القساوسة الهيجونوت (1).

لم تكن أديار الراهبات "مراتع الرذيلة" التي صورها جنون خلق الأساطير، المنبعث من الكراهية للدين. فالكثير منها كان صوامع للورع الصادق، الزاهد أحياناً، كدير الكرمليات الذي اعتكفت فيه لويز دلافاليير، وبعضها الآخر ملاذا لشابات الأسر الكريمة اللاتي لم يجد آباؤهن لهن أزواجاً أو مهوراً، أو اللاتي اقترفن إثماً، أو أسأن إلى حاكم أو ملك. في أديار كهذه لم ير نزيلاتها حرجاً في استقبال زائر من العالم الخارجي، أو مراقصة بعضهن البعض، أو في قراءة الأدب الدنيوي، أو في تخفيف سأمهن في لعب البليارد أو الورق. وبإصلاح دير من هذه جعلت جاكلين آرنو دير البور-رويال أشهر دير في تاريخ فرنسا.

على أننا لا نستطيع مثل هذا الحديث المترفق عن الطرق الديرية، فالكثير منها أرخى نظمه، وعاش حياة التبطل، والعبادة الصورية، والإلحاف في التسول. وقد أصلح "أرمان جان درانسيه" دير نوتردام دلا تراب بنورمنديا، وأسس الطريقة الترابية الصارمة التي مازالت حية في صمت. ودخل اليسوعيون دخولاً أنشط في حياة فرنسا وتاريخها. كانوا في بداية القرن السابع عشر موضع توجس وريبة باعتبارهم مدافعين عن قتل الملك، أما في نهاية القرن فقد كانوا كهنة اعتراف ومرشدين للملك-ثم أنهم كانوا خبراء في علم النفس. فحين أسست الراهبة مارجريت ماري ألاكوك بوحي من رؤيا صوفية تراءت لها (1675) جمعية منقطعة للعبادة العلنية لـ"قلب يسوع المقدس"، شجع اليسوعيون الحركة باعتبارها منفذاً وحافزاً لتقوى الجماهير. وفي الوقت نفسه يسروا الدين للخطاة إذ سلموا بأن

ص: 76

الخطيئة في طبيعة البشر، ووضعوا علم "الإفتاء" سبيلاً للتخفيف من عسر الوصايا العشر وللتلطيف من عصاب تأنيب الضمير، وما لبث أن اشتد الطلب عليهم آباء اعتراف للخطاة، واكتسبوا سلطة "مرشدي الضمائر"، لا سيما بين النساء اللاتي سدن المجتمع الفرنسي، واللاتي أثرن أحياناً في السياسة القومية للبلاد.

ولم يكن لكلمة "الإفتاء" في القرن السابع عشر ذلك المدلول المهين الذي ألصقته بها رسائل بسكال الإقليمية. فقد كان يفترض في كل قسيس، بوصفه أب اعتراف أو مرشداً روحياً، أن يعرف بالضبط ما الذي يجب أن يعتبر خطيئة مميتة، أو خطيئة هينة، أو لا خطيئة على الإطلاق، وكان عليه أن يستعد لتطبيق علمه، والملاءمة بين حكمه، ونصحه، والعقوبة الكنسية التي يشير بها، وبين الحالة الماثلة أمامه ( Casus) . وكان معلمو الناموس اليهود قد طوروا هذا الفن، في التمييزات الخلقية، بتفصيل مستفيض في الأجزاء القانونية من التلمود، وحذا حذوهم التشريع والطب النفسي العصريان. وقبل أن تنشأ جماعة اليسوعيون بزمن مديد، وضع اللاهوتيون الكاثوليك الأبحاث الضخمة في الإفتاء لإرشاد الكاهن في أمر المبدأ الخلقي والتطبيق الإعترافي. ففي أي الحالات مثلاً يجوز أن يبدى على حرفية القانون الخلقي روحه أو قصده؟ ومتى يجوز للإنسان أن يكذب أو يسرق أو يقتل، أو يحنث بوعد حنثاً معقولاً، أو ينتهك يميناً، أو حتى ينكر العقيدة؟

وطالب بعض المفتين بتفسير القانون الخلقي تفسيراً صارماً، ورأوا أن الصرامة أجدى في المدى الطويل من التساهل. ولكن غير هؤلاء-ولا سيما اليسوعيين مولينا، وإسكوبار، وتوليدو، وبوزنباوم-حبذوا دستوراً أخلاقياً متسامحاً، وحضوا على ضرورة التماس العذر للطبيعة البشرية، ومؤثرات البيئة، والجهل بالقانون، والمشقة البالغة في الامتثال الحرفي للقانون، وعنف سورات العاطفة عنفاً شبيهاً بالجنون، وسائر الظروف

ص: 77

التي تعطل حربة الإرادة. وتيسيراً لهذه الأخلاقيات اللينة، وضع اليسوعيون مبدأ الترجيح-ومؤداه أنه إذا استحسن حجة معروف في اللاهوت الخلقي رأياً بعينه، جاز لكاهن الاعتراف أن يحكم طبقاً لهذا الرأي إذا استصوب ذلك، ولو عارضته كثرة الخبراء. (وكانت كلمة Probabilis تعني في ذلك الوقت المستحسن، أو الذي يسمح بالاستحسان (2)). يضاف إلى هذا، في رأي بعض المفتين اليسوعيين، أنه من المباح أحياناً أن يكذب الإنسان، أو يمسك عن قول الحق بـ"تحفظ عقلي"؛ مثال ذلك أن للمسيحي الأسير، إذا أكره على الخيار بين الإسلام والموت، أن يتظاهر بقبول الإسلام دون أن يحسب ذلك خطيئة عليه. ثم إن أخلاقية عمل ما، في رأي إسكوبار، ليست في الفعل نفسه، الذي في ذاته أخلاقياً أولاً أخلاقي، بل في نية الفاعل الخلقية، فليس هناك خطيئة ما لم يكن هناك خروج واع، مختار، عن القانون الخلقي.

والكثير من إفتاء اليسوعيين كان توفيقاً معقولاً رحيماً بين القواعد التي يغلب عليها زهد العصر الوسيط، وبين مجتمع اكتشفت مشروعية اللذة. ولكن اليسوعيين في فرنسا بصفة خاصة، وفي إيطاليا بدرجة أقل، طوروا الإفتاء حتى بلغوا به من التسامح مع ضعف الطبيعة البشرية مبلغاً حمل رجالاً جادين كبسكال في باريس، وسار بي في البندقية، وكثيراً من اللاهوتيين الكاثوليك، ومنهم عدة يسوعيين (3) -حمل هؤلاء جميعاً على الاحتجاج على ما رأوا فيه استسلاماً من المسيحية للخطيئة. وصدم هذا التراخي اليسوعي مع العالم والجسد مشاعر هيجونوت فرنسا الذين ورثوا دستور كالفن الخلقي الصارم. وقامت حركة قوية داخل الكاثوليكية ذاتها-وهي الجانسنية-فرفعت في دير البور-رويال لواء أخلاقية شبه كالفنية، في حرب مناهضة لليسوعيين أهاجت فرنسا والأب الفرنسي قرناً كاملاً. وجرت هذه الحرب لويس الرابع عشر إلى معركة، لأن كهنة اعترافه كانوا يسوعيين وتطبيقه للدين لم يكن متزمتاً. وفي 1674 اضطلع الأب لاشيز بالإشراف

ص: 78

على ضمير الملك، وقد وصفه فولتير بأنه "رجل هادئ الطبع يسهل عنده التوفيق دائماً. (4) " وقد شغل المركز اثنين وثلاثين سنة، غفر خلالها كل شيء وحظي بمحبة كل إنسان. وقد قال لويس عنه "بلغ من طيبته أنني كنت أحياناً ألومه عليها (5) ". ولكنه بطريقته الهادئة الصابرة كان له تأثير بالغ على الملك، وأعان على توجيهه إلى الاقتصار على امرأة واحدة آخر المطاف، وإلى طاعة البابا.

ذلك أن لويس لم يكن دائماً "بابوياً" صادقاً. كان متديناً على طريقته الرسمية، وندر أن قصر في حضور القداس اليومي (6). قال لولده في مذكراته:

"

واصلت تدريبات التقوى التي نشأتني عليها أمي، من جهة لأشكر الله على كل الحظ الطيب الذي نلته، ومن جهة لأكسب محبة شعبي

والحق يا بني أننا لا نفتقر إلى عرفان الجميل والإنصاف فحسب، بل إلى الحكمة والفطنة أيضاً، حين نقصر في عبادته تعالى، الذي لسنا إلا نواباً له. وما خضوعنا له إلا القاعدة والمثل للخضوع الذي نستحقه (7) ".

على أن هذا لم يشمل الخضوع للبابوية. ذلك أن لويس ورث التقليد "الغالي" بمقتضى تفويض بورج البرجماتي (1483) وكونكوردا فرنسوا الأول (1516) -ذلك التقليد الذي اقر حق ملوك فرنسا في تعيين أساقفة فرنسا ورؤساء أديارها، وتحديد دخولهم، والتعيين في جميع الوظائف الكنسية ذات الدخول في الفترة بين موت الأسقف وتنصيب خلفه. وقد آمن لويس أنه خليفة لله أو ممثله في فرنسا، وأن خضوعه للبابا (بوصفه هو أيضاً خليفة لله) يجب أن يقصر على شؤون العقيدة والأخلاق، وأن على رجال الأكليروس الفرنسيين أن يطيعوا الملك في كل أمر يتصل بالدولة الفرنسية.

واستنكر فريق من الأكليروس هذه الدعوى-وهم المناصرون للسيادة

ص: 79

البابوية المطلقة-وأيدوا سلطان الباباوات المطلق على الملوك والمجامع وتعيين الأساقفة، ولكن الغالبية-وهو الحزب الغالي-دافعوا عن استقلال الملك الكامل في الأمور الزمنية، وأنكروا عصمة البابا إلا إذا وافق عليها مجمع مسكوني، ورأوا في الروغان من سيطرة روما منفعة للأكليروس الفرنسي. وصرح أمير كونديه أن من رأيه أنه لو طاب للملك أن يتحول إلى المذهب البروتستانتي لكان رجال الأكليروس الفرنسي أول من يتبعه (8). وفي 1663 أصدرت السوربون-وهي كلية اللاهوت في جامعة باريس-ست مواد تؤكد الموقف الغالي. واتخذت "البرلمانات" الفرنسية ذات الموقف، وأيدت لويس في دعواه بحقه في أن يقرر أي المراسيم البابوية ينبغي نشره وقبوله في فرنسا. وفي 1678 احتج البابا أنوسنت السادس على هذه النزعة الغالية، وحرم رئيس أساقفة تولوز لأنه عزل أسقفاً قاوم هذه النزعة. ودعا الملك مجمعاً من الأكليروس، كلهم تقريباً من اختباره. وفي مارس 1682 أعاد المجتمع تأكيد مواد السوربون الست، ووضع لنفسه المواد الأربع الشهيرة، التي كادت تفصل الكنيسة الفرنسية عن روما:

1 -

للبابا سلطان في الأمور الروحية، وليس له سلطان غزل الأمراء أو حل رعاياهم من طاعتهم.

2 -

للمجامع المسكونية سلطان فوق سلطان البابا.

3 -

الحريات التقليدية للكنيسة الفرنسية لا يجوز انتهاكها.

4 -

لا عصمة للبابا إلا بموافقة مجمع الأساقفة.

وأعلن أنوسنت بطلان قرارات المجمع، ورفض التنصيب القانوني لجميع الأساقفة الجدد الذين وافقوا على المواد. وإذ كان لويس لا يعيين إلا أمثال هؤلاء المرشحين، فقد شغرت في 1688 نحو خمس وثلاثين أسقفية من أساقفتها القانونيين. على أن الشيخوخة ومدام دمانتنون كانا قد ألانا جانب الملك، ثم أراحه الموت من ذلك البابا العنيد. وفي 1693 سمح لويس

ص: 80

لمرشحيه أن ينكروا المواد، وأقر البابا أنوسنت الثاني عشر حق الملك في التعيينات الأسقفية، وأصبح لويس من جديد "الملك المسيحي جداً" Rex Christianissimus.

‌2 - ألبور رويال

1204 -

1626

كانت الحرب القديمة بين الكنيسة والدولة أهون الدرامات الدينية الثلاث التي اضطر بها حكم لويس. فقد فاقها عمقاً ذلك الصراع الذي احتدم بين الكاثوليكية السنية التي دانت بها الدولة والأكليروس، وكاثوليكية الجانسفيين والبور-رويال القريبة من البروتستنتية، وكان أعمق هذه المسرحيات وأشدها فجيعة هو القضاء على الهيجونوت في فرنسا. ولكن ما هو البور-رويال هذا، ولم هذا الضجيج الكثير من حوله في التاريخ الفرنسي؟ لقد كان ديراً لراهبات الطريقة السسترسية Cistercian على نحو ستة عشر ميلاً من باريس وستة أميال من فرساي، في مكان وطيء تكتنفه المستنقعات، وصفته مدام دسفينييه بأنه "واد رهيب، هو بالضبط المكان الذي يجد فيه الإنسان خلاصة (9) ". وأسس حوالي 1204، ونجا بشق الأنفس من التقلبات الكثيرة التي تعرض لها في حرب مائة العام والحروب الدينية. وقد اضمحل نظامه وتناقصت راهباته، ولعل الدير كان يختفي عن الأنظار لولا أنه خضع لرآسة جاكلين آرنو، وجرد للدفاع عنه قلم بليز بسكال.

لقد صنع أنطوان آرنو الأول (1560 - 1619) التاريخ ببلاغته ووفرة ذريته. ففي 1593، بعد أن حاول باريير اغتيال هنري الرابع، وجه آرنو إلى برلمان باريس خطاباً غاضباً طالب فيه بطرد اليسوعيين من فرنسا. ولم يصفحوا عنه بعدها، وكانوا ينظرون بعين نقادة منذرة بالشر إلى ما تقوم به أسرته في البور-رويال. وكان لأربعة على الأقل من بين أبنائه-البالغين نيفاً وعشرين-دور في قصة ذلك الدير. فقد عينت جاكلين آرنو

ص: 81

مساعدة لرئيسة دير البور-رويال وهي في السابعة (1598) وبعد عام أصبحت شقيقتها جان، البالغة ستة أعوام، ريسة لدير سان-سير. وكان التعيينات بأمر هنري الرابع، وثبتهما مرسومان بابويان أمكن الحصول عليهما بتزييف عمر الفتاتين (10). ولعل أباهما التمس لابنتيه هاتين الوظيفتين بديلاً عن العثور على زوجين ومهرين لهما.

فلما أصبحت جاكلين، بوصفها الأم آنجليك، رئيسة اسمية للبور-رويال (1602) لم تجد غير أرخى النظم بين راهباته الثلاث عشرة، فقد كانت كل منهن تحتفظ بثروتها، وتكشف شعرها، وتستعمل مستحضرات التجميل، وتتبع أحدث الأزياء. وقل أن تناولن الأسرار المقدسة، ولم يستمعن لأكثر من سبع عظات خلال ثلاثين عاماً (11). فلما ازداد وعي الرئيسة الشابة بالحياة التي ألزمها إياها أبوها، سخطت ونوت الهروب (1607). "فكرت في مغادرة البور-رويال والعودة إلى العالم-دون إحاطة أبي أو أمي بنيتي، لأهرب من هذا النير الذي لا يطاق، ولأتزوج". (12) ومرضت، فحملت إلى بيتها، وهناك مرضتها أمها بكثير من الرعاية الحانية حتى عادت إلى البور-رويال عقب إبلالها وهي مصممة على الوفاء بنذورها الديرية حباً في أمها. على أنها أوصت بمشد من عظم الحوت لتحفظ لقوامها نحافته (13). وظلت تخفي نفورها من الحياة الدينية إلى أن سمعت في عيد القيامة عام 1608 عظة ألقاها راهب كبوشي عن آلام المسيح، وكانت يومها في معية الصبا. قالت تروي الحدث فيما بعد "خلال هذه العظمة لمسني الله لمسة جعلتني منذ تلك اللحظة بأنني أسعد حالاً في حياة الرهبنة

ولا أدري أي شيء كنت أحجم عن فعله لله إذا واصل تعالى هذه الحركة التي منحتني إياها نعمته (14)". ذلك، في لغتها، كان "أول عمل للنعمة" (أي اللطف الإلهي).

وفي أول نوفمبر من ذلك العام ملأنها عظة أخرى-هي "ثاني أعمال

ص: 82

النعمة" شعوراً بالخزي من شدة تراخيها وتراخي راهباتها في الوفاء بما نذرن من فقر وعزلة. وإذ كانت ممزقة بين حبها للراهبات ورغبتها في فرض نظام الطريقة السسترسية، فقد رانت عليها الكآبة، ومارست ألواناً من التقشف لم يقو عليها جسدها، فأصابتها الحمى. ولابد أنها كانت لطيفة محببة إلى النفوس، وآية ذلك أنه حين سألها الراهبات عن السر في حزنها، وصارحتهن برغبتها في أن يرجعن إلى التزام رهبتهن بحذافيره، ارتضين حكمها، وجمعن كل ممتلكاتهن الخاصة، وأخذن العهد على أنفسهن بالفقر الدائم.

أما الخطوة الثانية، وهي اعتزال العالم، فكانت أشد إيلاماً. فقد حظرت الأم أنجليك على الراهبات أن يغادرن الدير، أو يستقبلن الزوار-حتى أقرب الأقرباء-دون إذن صريح، فإذا استقبلنهم ففي قاعة الاستقبال دون غيرهما. وشكون مما سيكلفهن هذا من عنت شديد. ولكي تعطيهن القدوة الحسنة المشددة لعزائمهن صممت ألا ترى أبويها في زيارتهما التالية إلا من نافذة ذات شباك أو "شيش" في الباب الفاصل بين قاعة الاستقبال وحجرات الدير. فلما حضر أبواها راعمهما أنها لا تريد التحدث إليهام إلا من خلال هذا الشباك

وأصبح "يوم الشباك" Journee du Guichet (25 سبتمبر 1609) يوماً مشهوراً الدائر حول البور-رويال.

وهدأ غضب الأسرة المقصاة، وتأثر أفرادها بورع الأم أنجليك (التي بلغت الآن الثامنة عشرة) تأثراً حمل الفتاة تلو الفتاة من بيت آرنو على دخول البور-رويال. ففي 1618، أخذت شقيقتها آن أوجني على نفسها عهد الرهبنة. ولحقتها شقيقات أخريات بعد قليل-كاترين، وماري، ومادليز،. وفي 1629، جثت أمهن الأرملة عند قدمي الأم أنجليك ملتمسة قبولها مبتدئة في الرهبنة ثم أخذت العهد في الوقت المناسب، وعاشت في تواضع وسعادة

ص: 83

تحت رئاسة أبنتها، وراحت تدعوها منذ الآن بالأم. وقد حمدت الله وهي تحتضر (1641) لأنها قدمت من بناتها للحياة الدينية. ودخلت خمس من حفيداتها البور-رويال في فترة لاحقة. وأصبح ابناه روبير وثلاثة من حفدتها "متوحدين" هناك، وأصبح ألمع أبنائها، وهو انطوان آرنو الثاني، عضو السوربون، فيلسوف البور-رويال ولاهوتيه. وإنا ليأخذنا العجب لهذه الخصوبة، ولا نملك غير الاحترام لمثل هذا العمق في التعبد والولاء والإيمان

(1)

.

وقادت الأم أنجليك قطيعها خطوة بخطوة عوداً إلى نظام الرهبنة السترسية الكامل فحفظت الراهبات، اللائى بلغ عددهن الآن ستاً وثلاثين، جميع الأصوام بدقة تامة، ومارسن الصمت فترات طويلة، واستيقظن في الثانية صباحاً لترتيل تسبحة الصباح، ووزعن الصدقات على فقراء الجيران من مالهن المشترك. وسرت الإصلاحات من البور-رويال، وأرسلت الراهبات اللائى دربن فيه للأديار في جميع أرجاء فرنسا لحضها على العودة إلى سابق نظمها. من ذلك أن ديرا في موبويسون كان شديد الانحلال، وقد استعمله هنري الرابع من قبل مكان لقاء مع خليلته جابرييل دستريه، وكانت رئيسته محاطة ببناتها غير الشرعيات، وكان الراهبات يغادرون ديرهن دون قيد ليلقين ويراقصن رهبان دير مجاور (16). وفي 1618 طلب رؤساء الأم انجليك إليها أن تحل محل رئيسة دير موبويسون، ومكثت هناك خمس سنوات، فلما عادت إلى البور-رويال تبعتها اثنتان وثلاثون راهبة إلى الدير الأم الذي انبعث منه نور الإصلاح.

وفي 1626 ظهر وباء الملاريا في البور-رويال. وإذ نبه بعضهم أنجليك

(1)

لاحظ سانت-بيف أن "عدة شابات ممن بينهن راهبات البور-رويال كن قد أصبن بالجدري فتشوهت وجوههن في سن مبكرة"، وأضاف في خبث "لا أريد أن أقول أننا لا نهب الله ما فقد قيمته في هذه الدنيا"(15).

ص: 84

إلى ما في جوالدير الرطب من خطر، فإنها انتقلت مع راهباتها إلى منزل بباريس. وهناك، وتحت تأثير الجانسنيه، دخلن معركتهن التاريخية مع اليسوعيين والملك. ورعان ما احتل "المتوحدون" المباني المهجورة المتهدمة في البور-رويال-دي-شان، وكانوا رجالاً رغبوا في أن يحيوا حياة أقرب إلى الحياة الديرية وإن لم ينذروا أنفسهم للرهينة. ووفد على المكان نفر من آل آرنو-أنطوان الثاني وأخوه روبير آرنودانديي، وأبناء أختيه أنطوان لوميتر وسيمون دسريكور، وحفيده إسحاق للوي ساسي، وأنظم إليهم بعض رجال الكنيسة، وأمثال بيير نيكول وأنطوان ساجلان، لا بل بعض النبلاء أمثال الدوق دلون والبارون دبو نشانو. وراحوا يصرفون معا مياه المستنقعات. ويحفرون الخنادق، ويرممون المباني، ويعنون بالبساتين والحدائق. وكانوا-جماعة أو فرادى-يمارسون ألواناً من الفنون، ويصومون، ويرتلون، ويصلون، ويلبسون لباس الفلاحين، ويمتنعون عن تدفئة غرفهم في البرد القارس. وكانوا يدرسون الكتاب المقدس وكتابات آباء الكنيسة، وقد ألفوا كتباً فيها تعبد وتفقه، وأحد هذه الكتب، واسمه "فن التفكير"، وهو من تأليف نيكول وآرنو الصغير، ظل كتيباً محبباً في المنطق حتى القرن العشرين.

وفي 1638 افتح المتوحدون "مدارس صغيرة" دعوا إليها أطفالاً اختاروهم من سن التاسعة أو العاشرة، وعلموهم الفرنسية، واللاتينية، واليونانية، والنواحي السنية في فلسفة ديكارت. وطلب إليهم أن يجتنبوا الرقص والمسرح (وكلاهما وافق عليه اليسوعيون)، وأن يصلوا كثيراً، ولكن ليس للقديسين، ولم تكن هناك صور في الكنيسة الصغيرة التي يسمعون فيها القداس. وفي البور-رويال-دي-شان، والبور-رويال-د-باري، وأصبح اعتراض تقوى آل آرنو على فساد البلاط،

ص: 85

اعتراضاً آخر من اللاهوت والأخلاق الجانسبية الصارمة على تيسير اليسوعية بين للمسيحية حتى توائم الطبيعة البشرية.

‌3 - الجانسنيون واليسوعيون

كان كورنيليس جانس هولندياً، ولد في ولاية أوترخت لأبوين كاثوليكين، ولكنه تأثر تأثراً عميقاً باللاهوت الأوغسطيني الذي دان به جيرانه الكالفنيون. فلما ألتحق بجامعة لونان الكاثوليكية (1602) وجدها مضطرمة بجدل عنيف بين الحزب اليسوعي أو السكولاستي، وشيعة تتبع الآراء الأوغسطينية التي نادى بها ميخائيل بايوس في الجبرية والنعمة الإلهية. وانحاز جانسن إلى الأوغسطينيين. وفي الفترة بين دراسته السابقة للتخرج وعمله أستاذاً، قبل جانس دعوة وجهها إليه زميل يدعى جان دوفرجييه دهوران ليعيش معه في بايون. وقد درسا القديس بولس والقديس أوغسطين، واتفقا على أن خير سبيل للدفاع عن الكاثوليكية ضد الكالفنيين الهولنديين والهيجونوت الفرنسيين هو الإقتداء بأوغسطين في تشديده على النعمة الإلهية والجبرية، وتأصيل دستور أخلاقي صارم بين الأكليروس والعلمانيين الكاثوليك، يفضح الانحلال المنتشر في البلاط والأديار، كما يفضح أخلاقيات اليسوعيين الهينة اللينة.

وفي 1616، بينما كان جانس رئيساً لبيت للطلاب الهولنديين في لوفان، هاجم لاهوت اليسوعيين في حرية الإرادة، وبشر ببيورتانية صوفية قريبة من التقوية التي كانت بسبيل التشكل في هولندا، وإنجلترا، وألمانيا. ثم واصل الحرب أستاذاً لتفسير الكتاب المقدس بلوفان وأسقفا لأيبر. وترك عند موته (1638) رسالة كبيرة-لم ينجزها تماماً-عنوانها "أوغسطينيوس" ما لبثت بعد نشرها في 1640 أن أصبحت البرنامج العقائدي

ص: 86

للبور-رويال، ومثار الجدل في اللاهوت الكاثوليكي الفرنسي طوال قرن تقريباً.

ومع أن الكتاب أختتم بلفتة خضوع لكنيسة روما، فإن كالفينيي الأراضي المنخفضة رحبوا به بوصفه لب الكالفنية وجوهرها (17). فقد قبل جانس الجبرية قبولاً تاماً كما قبلها أوغسطين ولوثر وكالفن من قبل. فحتى قبل أن يخلق الله العالم، أختار تعالى أولئك الرجال والنساء الذين ينبغي أن يخلصوا، وقرر من ينبغي أن يهلكوا؛ وأعمال البشر الصالحة، وإن تكن ذات قيمة، لا يمكن أن تكسبه الخلاص دون معونة من النعمة الإلهية، وقليلون هم الذين سيخلصون حتى بين القلة الصالحة. أما الكنيسة الكاثوليكية فلم تكن أنكرت صراحة جبرية القديس بولس والقديس أوغسطين، ولكنها تركتها تتوارى في خلفية تعليمها، لصعوبة التوفيق بينها وبين حرية الإرادة، التي بدا أنها شرط لا غنى عنه-منطقياً-للمسئولية الخلقية ولفكرة الخطيئة. ولكن إرادة الإنسان في رأي جانس ليست حرة، فقد فقدت حريتها بخطيئة آدم. وأصبحت طبيعة الإنسان الآن فاسدة فساداً يعجزه عن تخليص نفسه، ولا يمكن أن يخلصه غير نعمة الله التي أكتسبها بموت المسيح. أما دفاع اليسوعيين عن حرية الإرادة فقد بدا لجانس أنه يغالي في دور الأعمال الصالحة في نيل الخلاص، ويجعل موت المسيح، ذلك الموت الذي افتدى الخطاة، أمراً لا ضرورة له تقريباً. ثم نبه إلى أننا يجب ألا نأخذ المنطق مأخذ الجد الشديد، فالعقل ملكة أدنى بكثير من الإيمان الواثق المسلم، كما أن للممارسات الطقسية ضرب من الدين أدنى من اتصال النفس المباشر بالله.

وقد وصلت هذه الأفكار إلى البور-رويال بطريق دوفرجييه، الذي كان أثناء ذلك قد أصبح رئيساً لدير سان-سيران. وقد وفد مسيو دسان-سيران، كما سمي الآن، على باريس وهو يتقد غيرة وتحمساً

ص: 87

لإصلاح اللاهوت والأخلاق، وليستبدل التقوى الباطنة بالتدين الظاهر وسرعان ما قبل مرشداً روحياً للراهبات في البور-رويال-دباري، وللمتوحدين في البور-رويال-دي-شان (1636)، وغدت هذه المؤسسة المزدوجة صوت الجانسنية ونموذجها الأمثل في فرنسا. أما ريشليو فقد رأى في هذا المصلح رجلاً متعصباً مثيراً للقلاقل، فاعتقله في فانسين (1638). وفي 1642 أفرج عن سان-سيران، ولكنه مات بالفالج بعد سنة.

وقد ظل يلهم الكثيرين من آل آرنو حتى وهو في سجنه. فنشر آرنو الثاني "آرنو الكبير" 1643 رسالة في "كثرة تناول الأسرار المقدسة" واصلت حرب أبيه مع اليسوعيين. ولم يذكر اسمهم صراحة، ولكنه ندد بفكرة أحس بإن بعض كهنة الاعتراف يتسامحون فيها، وهي أن في قدرة الخاطئ أن يكفر عن خطيئته المتكررة إذا أكثر من الاعتراف وتناول القربان. وشعر اليسوعيون بأنهم المقصودون بهذا الهجوم، وشددوا النكير على آل آرنو. وتوقع أنطوان المتاعب، فرحل عن باريس إلى البور-رويال-دي-شان. وفي 1648 رحلت الراهبات أيضاً عن العاصمة وقد روعتهن حرب الفروند وعدن إلى مقرهن القديم. وأخلى المتوحدون المكان وانتقلوا إلى مزرعة قريبة تدعى ليجرانج.

وكان البابا أوربان الثامن قد أدان (1642) العقيدة العامة التي انطوى عليها كتاب جانس "أوغسطينوس". وفي 1649 طلب أستاذ في السوربون إلى الكلية أن تدين سبع قضايا في الكتاب زعم أنها تحظى برواجٍ شديد. وأحيل الأمر إلى إينوسنت العاشر، وأنتهز اليسوعيون الفرصة ليقنعوا البابا بما تنطوي عليه الجانسنية من الأخطار بوصفها لاهوتاً كالفنياً يتخفى في ثوب كاثوليكي. وأخيراً حملوه على إصدار مرسوم Cum Occasione (31 مايو 1653)، حكم بالهرطقة على خمس قضايا زعم أنها مأخوذة من كتاب "أوغسطينوس".

ص: 88

1 -

هناك تعاليم إلهية يعجز الصالحون عن طاعتها عجزاً مطلقاً رغم إرادتهم.

2 -

لا يستطيع إنسان أن يقاوم تأثير النعمة الإلهية.

3 -

لكي تكون أعمال البشر أهلاً أو غير أهل للمكافأة والتقدير لا يشترط أن تكون خلوا من الضرورة القاهرة، بل يكفي أن تكون بلا ضغط أو كبت.

4 -

هذه الهرطقة، الشبيهة بهرطقة بيلاجيوس، مؤداها السماح لإرادة الإنسان بأن تمنح قوة مقاومة النعمة، أو الامتثال لتأثيرها.

5 -

كل من زعم أن المسح مات، أو سفك دمه، للبشر جميعاً، هو شبيه ببلاجيوس (18).

هذه القضايا لم تؤخذ حرفياً من كتاب "أوغسطينيوس"، ولكنها صيغت بقلم أحد اليسوعيين تلخيصاً لتعليم هذا الكتاب. وهي كخلاصة فيها قدر لا بأس به من الإنصاف (19)، ولكن الجانسنيين احتجوا بأن القضايا، بهذا الوصف، لا توجد عند جانس-وإن كان آرنو قد ألمع في خبث إلى أنه يمكن العثور عليها كلها عند القديس أوغسطين. وفي غضون ذلك لم يقرأ الكتاب أحد فيما يبدو.

وكان أنطوان آرنو مقاتلاً بالفطرة. فأقر بعصمة البابا في أمور الإيمان والأخلاق، لا في الأمور المتصلة بالحقيقة الواقعة؛ ومن الحقائق الواقعة أنه أنكر أن جانس قرر هذه القضايا المحكوم بإدانتها. وفي 1655 عاد إلى مقاتلة اليسوعيين في عقر دارهم بنشره "رسائل إلى دوق ونبيل"، وقد هاجم فيها الأساليب التي زعم أنها أساليب اليسوعيين في كرسي الاعتراف ورحبت السوربون باقتراح بطرده. فأعد دفاعه، وقرأه على أصحابه في البور-رويال. فلم يقع في نفوسهم موقعاً ذا بال، وكان أحدهم

ص: 89

مريداً جديداً يدعى بليز بسكال. فاتجه إليه آرنو وأهاب به قائلاً: "أنت أبها الشاب، لما لا تكتب شيئاً (20)؟ " واعتكف بسكال في حجرته، وكتب أول "رسائله الإقليمية" وهو من عيون الأدب والفلسفة الفرنسيين. وينبغي أن نستمع إلى بسكال في شيء من الإسهاب، لأنه لم يكن أعظم كتاب النثر الفرنسي فحسب، بل ألمع المدافعين عن الدين في عصر العقل بأكمله.

‌4 - بسكال

1623 -

1662

أ - بسكال الإنسان

كان أبوه إتيبن بسكال رئيساً لمحكمة المعونين بكلير مون- فيران في وسط فرنسا الجنوبي. وماتت أمه بعد مولده بثلاث سنين، مخلفة فضلاً عنه أختاً أكبر منه تدعى جلنبيرت وأخرى أصغر تدعى جاكلين. وانتقلت الأسرة إلى باريس حين بلغ بليز الثامنة. وكان إتيين يدرس الهندسة والفيزياء، وقد أتاح له تفوقه فيهما أن يصادق جاسندي، وميرسين، وديكارت. وكان بليز يسترق السمع لبعض لقاءاتهم، فأصبح في الفترة الأولى من حياته عاشقاً للعلم. فلما بلغ الحادية عشرة ألف رسالة قصيرة عن أصوات الأجسام المتذبذبة. وخيل للأب أن ولع الصبي بالهندسة سيلحق الأذى بدراساته الأخرى، فحظر عليه حيناً أن يمضي في عكوفه على الرياضيات. ولكن حدث يوماً- فيما روي- أن إتيين وجده يكتب على الحائط بقطعة من الفحم البرهان على أن زوايا المثلث الثلاث تساوي زاويتين قائمتين (21)، وبعدها سمح للغلام أن يدرس إقليدس. وقبل أن يبلغ السادسة عشرة كتب بحثاً في القطاعات المخروطية فقد أكثره، ولكن إحدى نظرياته كانت مساهمة خالدة في ذلك العلم، وما زالت تحمل اسمه. وحين عرضت مخطوطة البحث على ديكارت أبى أن يصدق أنه من وضع الابن لا الأب.

ص: 90

في ذلك العام (1639) لعبت أخته الجميلة جاكلين دوراً مثيراً في حياة الأسرة، وكانت آنئذ في الثالثة عشرة. ذلك أن الأب كان قد استثمر بعض المال في السندات البلدية، وخفض نسبة الفائدة التي تؤدي عن هذه السندات، فانتقده إتيين، وهدد الكردينال بالقبض عليه، فاختبأ في أوفرن. ولكن الكردينال كان يحب التمثيليات والبنات، وقامت بعض الفتيات- ومنهن جاكلين- بتمثيل مسرحية سكوديري "الحب الظالم" أمامه، فشرح تمثيلها صدره، واغتنمت هي الفرصة وتوسلت إليه أن يصفح عن أبيها، ففعل، وعينه ناظراً ملكياً في روان عاصمة نورمنديه، وإليها انتقلت الأسرة في 1641.

وهناك أخترع بليز أول آلاته الحاسبة العديدة المحفوظ بعضها إلى الآن في كونسرفتوار الفنون والصنائع بباريس، وكان يومها في التاسعة عشرة. أم المبدأ الذي قامت عليه فهو سلسلة من التروس ينقسم كل منها إلى تسعة أرقام وصفر، ويحرك كل منها عشر دورة نظير كل دورة كاملة للترس الذي إلى يمينه، ويظهر كل منها رقمه الأعلى في ثقب عند القمة. ولم تكن الآلة تستطيع غير الجمع، ولا كانت عملية من الناحية التجارية، ولكنها قربت من بداية اليوم دهشة العالم. وأهدى بسكال إحدى آلاته الحاسبة إلى كرستينا ملكة السويد، مشفوعة بخطاب إطراء بليغ جداً، فدفعه إلى قصرها، ولكنه أحس بأنه أضعف من أن يحتمل ذلك المناخ الرهيب.

وكان العالم الشاب المتحمس الشديد الاهتمام بالتجارب التي نشرها تورتشيللي عن وزن الهواء، وطرأت على خاطر بسكال فكرة كان فيها مستقلاً عن تورشيللي، وكن ربما استوحاها من اقتراح لديكارت (22)، ومؤداها أن الزئبق في أنبوبة تورشيللي يرتفع إلى مستويات مختلفة في أماكن مختلفة، حسب اختلاف الضغط الجوي. فطلب إلى زوج أخته في أوفرن أن يحمل أنبوبة زئبق إلى قمة جبل، ويلاحظ أي فرق- على مختلف

ص: 91

المستويات- في ارتفاع الزئبق في الجزء المقفل من أنبوبة فتح طرفها الآخر لضغط الهواء. وفعل فلوران بيرييه كما طلب إليه، ففي 19 سبتمبر 1648 ارتقى مع بعض أصحابه "بوي ددوم"؛ الذي يرتفع خمسة آلاف قدم فوق مدينة كليرمون- فيران، وهناك ارتفع الزئبق إلى ثلاث وعشرين بوصة في الأنبوبة، بينما ارتفع عند سفح الجبل إلى ست وعشرين، وهللت أوربا كلها للتجربة لأنها أثبتت نهائياً مبدأ البارومتر وقيمته.

وتلقى بسكال بفضل شهرته عالماً (1648) نداء مثير من مقامر طلب إليه أن يضع قانوناً لرياضيات الحظ أو الصدفة، فقبل التحدي، واشترك مع فيرمان في وضع حساب الاحتمالات، الذي ينتفع به الآن كثيراً في جداول التأمين من المرض والموت. ولم تبد عليه هذه المرحلة من نموه أي بادرة بأنه سينقل يوماً ما ولاءه من العلم إلى الدين، أو يفقد إيمانه في المنطق والتجريب، وواصل العمل عشر سنين في المعضلات العلمية لا سيما الرياضية منها، وفي تاريخ متأخر (1658) عرض جائزة من مجهول في تربيع الدويري- وهو الخط المنحني الذي تحدثه نقطة دائرة تدحرج على خط مستقيم فوق سطح مستوٍ. وتقدم بالحلول واليس، وهو بجنز، ورن، وغيرهم، ونشر بسكال بعد ذلك حله، تحت اسم مستعار، وأعقب ذلك جدل سلك فيه المتنافسون، ومنهم بسكال، مسلكاً لم يتسم بالكثير من الفلسفة.

وتسلط على حياته خلال ذلك مؤثران أساسيان، المرض والجانسنية. ذلك أنه مذ كان فتى في الثامنة عشرة عانى من علة عصبية قل أن تركته يوماً بغير ألم. وفي 1647 أقعدته بالشلل لم يستطع بسببها المشي إلا توكأ على عكازين. وكان رأسه يصدع، وأمعاؤه تلتهب، وساقاه وقدماه دائمة البرودة والحاجة إلى الوسائط المرهقة لتنشيط دورته الدموية، وكان يلبس الجوارب الطويلة المنقوعة في البراندي التماساً لدفء قدميه.

ص: 92

وكان مما حمله على الانتقال إلى باريس مع جاكلين أن يجد علاجاً طبياً أفضل، وتحسنت صحته، ولكن جهازه العصبي كان قد لحق به أذى مستديم. فأصبح منذ ذلك الحين عرضة لأوهام ازداد عمقها على الأيام حتى أثرت في خلقه وفلسفته، فبات سريع الانفعال، فريسة لنوبات من الغضب المتكبر العاتي، وقل أن أشرق وجهه بابتسامة (23).

وكان أبوه طيلة حياته كاثوليكياً تقياً بل صارماً وسط شواغله العلمية، وقد علم أبناءه أن الإيمان الديني أثمن ما يملكون، وأنه شيء بعيد كل البعد عن متناول أو عن حكم قوى التفكير الضعيفة التي يملكها البشر. وفي روان أصيب الأب بجرح خطير فعالجه طبيب جانسني بنجاح، ومن هذا الاتصال اتخذ إيمان الأسرة مسحة جانسنية، فلما انتقل بليزوجاكلين إلى العاصمة كثر اختلافهما إلى القداس في البور- رويال- د- باري، ورغبت جاكلين في دخول الدير راهبة، ولكن أباها لم يستطع أن يروض نفسه على السماح لها بالخروج من حياته اليومية، ولكنه مات عام 1651، وما لبثت جاكلين أن ترهبت في البور- رويال- دي- شان، بعد أن حاول أخوها عبثاً أن يثنيها عن عزمها.

وتنازعا حيناً على تقسيم ميراثهما، فلما سوي النزاع وجد بليز نفسه رجلاً غنياً حراً- وتلك حال مجافية لحياة التقوى، فاتخذ لنفسه بيتاً فاخر الأثاث، واستكثر من الخدم، وجاب باريس في مركبة تجرها خيول أربعة أو ستة (24). وأعطاه شفاءه المؤقت شعوراً خداعاً بالنشاط والخفة حرفه من التقوى إلى اللذة. وعلينا ألا ننسه على تلك السنوات القليلة التي قضاها "في العالم"(1648 - 54)، يستمتع بصحبة ظرفاء باريس وألعابها وحسانها، ويطارد في برهة مثيرة بأوفرن سيدة ذات جمال وثقافة، وصفها بـ"سافو الريف (25) ". وحوالي هذه الفترة كتب "أحاديث في آلام الحب" ويلوح أنه فكر في الزواج- الذي سيصفه في تاريخ لاحق بأنه "أحط ظروف الحياة المباحة لمسيحي (26) ". وكان بعض أصحابه

ص: 93

فجرة جمعوا بين الحريتين، حرية الأخلاق وحرية الفكر، ولعلهم هم الذين أثاروا اهتمام بسكال بمونتيني، الذي تغلغلت الآن "مقالاته" في حياته. وأكبر الظن أن تأثيرها الأول عطفه نحو التشكك الديني.

ووبخه جاكلين حين نمى إليها نبأ عبثه الجديد، وصلت لأجل صلاح حاله. وكان من خصائص طبيعته العاطفية أن تستجيب لصلواتها إثر حادث وقع له. ذلك أنه بينما كان ذات يوم يركب عربته فوق البون دنوبي جسر تيللي، جمحت الخيل واندفعت فوق الحاجز إلى نهر السين. وكادت العربة أن تتبع الخيل، ولكن العنان انقطع لحسن الحظ، وتعلقت المركبة بنصفها فوق الحافة. وخرج منها بسكال وأصحابه، ولكن الفيلسوف المرهف الحس أغمي عليه لفرط خوفه من الموت الداهم، وظل برهة غائباً عن رشده. فلما أفاق شعر بأنه رأى الله في رؤيا. وفي نشوة الخوف والندم وعرفان الجميل سجل رؤياه على رق راح يحمله منذ تلك اللحظة مخيطاً في بطانة سترته: "السنة 1654 بعد الميلاد، الاثنين 23 نوفمبر

من نحو السادسة والنصف مساءً إلى النصف بعد منتصف الليل. أن الإله القديم، إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب، لا إله الفلاسفة والعلماء. اليقين، اليقين، الوجدان، الفرج، السلام. إله يسوع المسيح

لن يجده الإنسان إلا بالطرق التي يعلمها الإنجيل. يا سمو النفس الإنسانية، أيها الأب العادل، أن لعالم لم يعرفك قط، ولكني عرفتك. إنه الفرج، الفرح، دموع الفرح

يا إلهي، هل أنت تاركي؟ يسوع المسيح

لقد فصلت عنه، وهربت منه، وتخليت عنه، وصلبته. ليتني لا أفارقه أبداً، إنها المصلحة الحلوة الكاملة (27) ".

وعاود زياراته للبور- رويال ولجاكلين، وشرح صدرها بحالته النفسية الجديدة، حالة التواضع والتوبة. ولتستمع إلى عظات أنطوان سانجلان. وفي ديسمبر 1654 أصبح عضواً في جماعة البور- رويال (28). وفي يناير كان له هناك حديث طويل مع ساسي، الذي آلى على نفسه أن

ص: 94

يقنعه بسطحية العلم وعقم الفلسفة. وآنس أرنو ونيكول من العضو الجديد حماسة في الاهتداء وبراعة في التعبير الأدبي وكأنهما أداة وضعتها العناية في أيدي الجماعة للدفاع عن البور- رويال ضد أعدائه. فطلبا إليه أن يخصص قلمه للرد على اليسوعيين الذين كانوا يحاولون تصوير الجانسنية على أنها خطيئة. واستجاب للطلب في ذكاء وقوة بلغا مبلغاً جعل جماعة اليسوعيين تشكو إلى اليوم من وخز بسكال الأليم.

ب - الرسائل الإقليمية

في 23 و26 يناير 1656 نشر بسكال الرسالتين الأولى والثانية مما سماه "رسائل كتبها لوي دمونتالت"(وهو اسم مستعار)"إلى صديق في الإقليم، وإلى الآباء اليسوعيين المبجلين، عن أخلاقياتهم وسياساتهم". وكان إطارها ذكياً، فقد زعم إنها تقرير من باريس إلى صديق في الأقاليم عن المسائل الخلقية واللاهوتية التي كانت يومئذ تثير الأوساط الفكرية والدينية في العاصمة. وقد زود آرنو ونيكول بسكال بالحقائق والمراجع. أما هو فقد أبدع ذلك الأسلوب الأدبي الذي استشرف مستوى جديداً في النثر الفرنسي، فقد توافرت لبسكال حماسة المؤمن الجديد وذكاء رجل الدنيا وتهذيبه.

أما الرسائل الأولى فقد التمست التأييد العام لآراء الجانسنيين في النعمة الإلهية والخلاص، وهي الآراء التي دافع عنها آرنو من قبل، وقد قصد بها أن تؤثر في السوربون لتعارض الاقتراح بطرد آرنو. وقد فشلت في هذا، إذ جرد آرنو رسمياً من لقبه وطرد (31 يناير). وحفز الفشل بسكال وآرنو إلى الهجوم على اليسوعيين لأنهم يقوضون الفضيلة بما يعيب آباء اعترافهم من تحلل، وما يشوب فتاواهم من ثغرات. وقد نقبا في مؤلفات إيسكوبار وغيره عن اليسوعيين ونددا بمبادئ "الاحتمالية" و "التوجيه بالنية" و "التحفظ العقلي"، وحتى بتوفيق المرسلين اليسوعيين بين

ص: 95

اللاهوت المسيحي وعبادة الصينيين لأسلافهم (29). وإن لم يتهمها اليسوعيين صراحة بتبرير الوسائط لبلوغ الغايات. وكان هذا المهدي يزداد حماسة كلما توالت الرسائل وكشف له آرنو عن المزيد من فتاوى إيسكوبار. وبعد الرسالة العاشرة أقلع عن أكذوبة الباريسي كاتب الرسائل للإقليمي، وأماط اللثام عن شخصه، ووجه الخطاب إلى اليسوعيين رأساً في بلاغة تضطرم سخطاً، وذكاء يفيض تهكماً. وكان ينفق أحياناً عشرين يوماً في تحرير رسالة واحدة، ثم يهرع بها إلى المطبعة قبل أن يفتر اهتمام الجمهور، وقد اعتذر عن طول الرسالة السادسة عشرة بعذر فريد في بابه، إذ قال "لم يتسع لي الوقت لإحضارها (30) ". وفي الرسالة الثامنة عشر والأخيرة (24 مارس 1657) تحدى البابا نفسه. ذلك أن البابا الإسكندر السابع أصدر (16 أكتوبر 1656) تنديداً آخر بالجانسنية، فذكر بسكال قراءه بأن حكم البابا عرضة للخطأ، كما أخطأ في حالة جاليليو (31)(وذلك شعور بسكال). وأدان البابا الرسائل (6 سبتمبر 1657) ولكن فرنسا المثقفة كلها قرأتها.

أكانت الرسائل منصفة لليسوعيين؟ أنقلت المختارات عن الكتاب اليسوعيين نقلاً أميناً؟ قال عقلاني مثقف "صحيح ولا ريب أن بعض العبارات المعدلة حذفت أحياناً دون موجب، وأن عبارات أخرى ترجمت ترجمة خاطئة، وأن ضغط الفقرات الطويلة في جمل قصيرة يشعرك في بعض الحالات بأن هذا إجحافاً بالمؤلف" ثم يقول "ولكن هذه الحالات قليلة وغير هامة نسبياً"(32) وهناك الآن إجماع على أن المختارات دقيقة في جوهرها (33) على أنه لابد من التسليم بأن بسكال انتزع أشد فقرات بعض المفتين إزعاجاً وشبهة من سياقها، وقاد شطراً من الجمهور إلى رأي فيه غلو كثير، مؤداه أن هؤلاء الفقهاء اللاهوتيين يتآمرون على هدم أخلاق العالم المسيحي. وقد أطرى فولتير براعة الرسائل بوصفها أدباً، ولكنه رأى أن "الكتاب كله مبني على أساس زائف. فقد نسب المؤلف في حذق إلى الجماعة اليسوعية

ص: 96

كلها الآراء المتطرفة التي قال بها بعض اليسوعيين الأسبان والفلمنك (34)"، الذين خالفهم كثير من اليسوعيين. وأسقف دالمبير لأن بسكال لم يتهكم بالجانسنيين أيضاً، لأن "تعاليم جانسن وسان سيران المروعة كانت تتيح على الأقل مجالاً للسخرية لا يقل عما أتاحته التعاليم الطيعة التي نادى بها موليا وتامبوران وفاسكويز (35) ".

وكان تأثر "الرسائل" هائلاً. صحيح أنها لم تخضد لتوها شوكة اليسوعيين- ومن المؤكد أنها لم تنتقص من سلطانهم على الملك- ولكنها فضحت شطط المفتين فضحا حمل الإسكندر السابع نفسه على إدانة "التحلل"، رغم مواصلة معارضة الجانسنية، وعلى الأمر بمراجعة نصوص الفتاوى (1665 - 66)(36). و "الرسائل" هي التي أضفت على كلمة الإفتاء الديني " Casuistry" مدلول التشقيقات الخداعة المظهر التي تدافع عن الأفعال أو الأفكار الخاطئة. ثم إنها أضافت آية من آيات الأسلوب إلى ذخيرة الأدب الفرنسي. وكأن فولتير قد عاش قرناً قبل فولتير. فهنا ذكاء فولتير المرح، وتهكمه البتار، وفكاهته الشكاكة، وقدحه العنيف، وفي الرسائل اللاحقة ذلك الاستنكار الحار للظلم، الذي أنقذ فولتير من أن يكون موسوعة سخرية وتهكم. وقد وصف فولتير نفسه الكتاب بأنه "خير ما كتب وظهر في فرنسا إلى الآن"(37)، وكان رأي أنفذ النقاد قاطبة وأكثرهم رهافة وتمييزاً أن بسكال "ابتكر النثر الرائع في فرنسا (38) " وحين سئل بوسويه أي كتاب كان يؤثر أن يؤلف لم يؤلف كتابه قال، إنه رسائل بسكال الإقليمية (39).

جـ - في الدفاع عن الإيمان

عاد بسكال إلى باريس في 1956 ليشرف على نشر "الرسائل"، وعاش هناك طوال السنوات الباقية من عمره. على أنه لم يهجر العالم، ففي سنة

ص: 97

موته ذاتها شارك في تنظيم خدمة منتظمة بالمركبات في العاصمة- وهي البذرة لشبكة الأمنوبيسات الحالية. ولكن حدثين وقعا له مجدداً تقواه، وحملاه على أن يتوج أعماله بكتاب جديد أسهم به الأدب والدين. ذلك أنه في 15 مارس 1657 حصل اليسوعيون من الملكة الأم على أمير بإغلاق مدارس الموحدين وحظر قبول المزيد من الأعضاء في البور- رويال. وأطيع الأمر في هدوء، وأرسل الأطفال- وكان من بينهم راسين- إلى بيوت الأصدقاء، وتفرق المعلمون محزونين. وبعد تسعة أيام (وهو تاريخ صدور آخر الرسائل الإقليمية) وقع ما بدا معجزة في كنيسة دير الراهبات الذي تكدر صفوه. ذلك أن ابنة أخت بسكال البالغة من العمر تسع سنوات، واسمها مارجريت بيرييه، كانت تشكو من ناسور دمعي مؤلم يرشح صديداً كريهاً من العينين والأنف. وأهدى أهدى أحد أقرباء الأم أنجليك للبور- رويال شوكة زعم هو وغيره أنها أخذت من إكليل الشوك الذي عذب به المسيح. وفي 24 مارس وضعت الراهبات الشوكة على مذبحهن في احتفال مهيب وسط ترتيل المزامير. ولثمت كل منهن الأثر المقدس بدورها، ولما رأت إحداهن مارجريت بين العابدات أخذت الشوكة ولمست بها قرحة الفتاة. وروي أن مارجريت أعربت ذلك المساء عن دهشتها لأن عينها لم تعد تؤلمها، وأدهش أمها ألا ترى أثر للناسور، وقرر طبيب دعي لفحص الفتاة أن الصديد والورم قد اختفيا. وأذاع هو، لا الراهبات، نبأ هذا الذي سماه شفاء معجزاً. ووقع سبعة أطباء آخرون كانوا على سابق بناسور مارجريت بياناً قرروا أن معجزة- في رأيهم- قد حدثت. وبحث موظفو الأسقفية الأمر، وانتهوا إلى نفس النتيجة، وأذنوا بإقامة قداس شكر لله في البو- رويال. وتقاطرت جماهير المؤمنين على الدير ليروا الشوكة ويقبلوها، وهللت باريس الكلثوليكية كلها للمعجزة، وأمرت الملكة الأم بالكف عن كل اضطهاد للراهبات. وعاد المتوحدون إلى ليجرانج. (في عام 1728 أشار البابا بندكت الثالث عشر إلى هذا الحدث على أنه دليل

ص: 98

على أن عصر المعجزات لم ينته). أما بسكال فقد صنع لنفسه شعار نبالة كان عبارة عن عين يحيط بها إكليل من الشوك، وقد كتب عليه Scio Cui Credidi- " أعرف من صدقت (40) ".

وعكف الآن على كتابة دفاع مفصل عن الإيمان الديني يكون بمثابة وصيته الأخيرة. ولكن قصارى ما وجد في نفسه القدرة عليه، وهو أن يدون في إنجاز خواطر منفصلة يجمع بينها في ترتيب اجتهادي ولكنه قوي. ثم عاودته أوجاعه القديمة (1658)، في شدة أعجزته إلى النهاية عن أن يضفي على هذه المذكرات تسلسلاً متماسكاً أو شكلاً بنائياً. فلما قام صديقه الدوق دروانيه وعلماء البور- رويال بتحرير ونشر هذه المادة وسموها "خواطر المسيو بسكال عن الدين وغيره من المسائل (1670) ". وقد خشوا أن يقضي هذه "الخواطر" المبتورة التي خلفها بسكال إلى التشكك لا إلى التقوى، ومن ثم أخفوا الأجزاء المتشككة، وادخلوا تعديلاً على بعض ما بقي مخافة أن يسيء إلى الملك أو الكنيسة لأن اضطهاد البور- رويال كان قد توقف في تلك الفترة، وكره المحررون تجدد الجدل. ولم تنشر "خواطر" بسكال Pens (es في نصها الكامل الموثوق إلا في القرن التاسع عشر.

ولو شئنا أن نغامر بفرض ترتيب عليها لجعلنا نقطة بدايتها فلك كوبرنيق. ونحن نشعر ثانية- إذ نصغي إلى بسكال- يا للطمة الهائلة التي كان فلك كوبرنيق وجاليليو يكيلها للمسيحية التقليدية:

"ليتأمل الإنسان الطبيعية كلها في جلالها الكامل السامي، ليقص عن بصره الأشياء الوضيعة التي تحيط به، ولينظر إلى ذل النور المتوهج الذي وضع كأنه مصباح ابدي ينير العالم، ولتبد الأرض له مجرد نقطة داخل الدائرة الشاسعة التي يرسمها ذلك النجم، وليأخذه العجب من أن هذا المحيط الهائل إنما هو نقطة ضئيلة من زاوية النجوم التي تتحرك في قبة السماء.

ص: 99

فإذا توقف بصرنا عند هذا الحد، فليجاوزه الخيال

فكل هذا العالم المرئي ليس إلا عنصراً لا يدرك في صدر الطبيعة العظيم. ولا يستطيع أي تفكير أن يمتد إلى هذا المدى

إنها كرة لانهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها في غير مكان (42). هذا أكثر مظهر قابل للإدراك من مظاهر قدرة الله، حتى أن خيالنا يتوه في هذا الخاطر".

ثم يضيف بسكال في سطر شهير مطبوع بحساسيته الفلسفية، "أن الصمت الأبدي الذي يلف هذا الفضاء اللانهائي يخيفني (43) ".

ولكن هناك لانهائية أخرى- وتلك هي لانهائية صغر الذرة "التي لا تقبل الانشطار، وقبولها النظري للانقسام قبولاً لا حد له، فمهما كانت ضآلة الحد الأدنى الذي نختزل به أي شيء، فإننا لا نملك إلا الاعتقاد بأنه هو أيضاً له أجزاء أصغر منه. وعقلنا يتذبذب في حيرة وارتياع بين الشاسع غير المحدود، والدقيق غير المحدود.

"إن من يتأمل نفسه على هذا النحو تخيفه نفسه، وإذا أدرك أنه معلق

بين هاويتين اللانهائية والعدم، ارتعد فرقاً

وبات أميل إلى تأمل هذه العجائب في صمت منه إلى ارتيادها بغرور. فما الإنسان في الطبيعة، بعد كل شيء

؟ إنه العدم إذا قيس بغير المحدود، وهو كل شيء إذا قيس بالعدم، إنه وسط العدم والكل. وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين، فنهاية الأشياء وبدايتها أو أصلها، يلقهما سر لا سبيل إلى استكناهه، وهو عاجز على السوء عند رؤية العدم الذي أخذ منه، واللانهائي الذي يغمره (44)

(1)

.

(1)

يقول سانت ييف "ليس في اللغة الفرنسية صفحات أروع من الخطوط البسيطة الصارمة التي تحتويها هذه الصورة التي لا نظير لها"(45).

ص: 100

فالعلم إذن ما هو إلا ادعاء غبي. فهو مبني على العقل، المبني على الحواس، التي تخدعنا بعشرات الطرق. وهو محدود بالحدود الضيقة التي تعمل حواسنا داخلها، وبقصر عمر الجسد قصراً قابلاً للفساد. وإذا ترك العقل لذاته لم يستطع أن يفهم- أو يعطي أساساً مكيناً للفضيلة، أو الأسرة، أو الدولة، فكيف بإدراك الطبيعة العالم ونظامه الحقيقيين، فضلاً عن فهمه لله. والعرف، لا بل الخيال والأسطورة، حكمة اكثر مما في العقل و "أحكم العقول يتخذ تلك المبادئ، التي أدخلها خيال الإنسان بتعجل في كل مكان، مبادئ له (46) " وهناك نوعان من الحكمة: حكمة الجماهير البسيطة "الجاهلة"، التي تعيش بحكمة التقاليد الموروثة والخيال (أي الطقوس والأساطير)، وحكمة الحكيم الذي نفذ إلى صميم العلم والفلسفة ليدرك جهله (47). إذن "لاشيء أروح للعقل من أن بنبذ العقل" و "الاستخفاف بالفلسفة ملاك الفيلسوف الأصيل (48) ".

ومن ثم رأى بسكال أنه ليس من الحكمة إقامة الدين على العقل، كما حاول حتى بعض الجانسنيين، أن يفعلوا. بالعقل لا يستطيع أن يثبت وجود الله، ولا الخلود، لأن الأدلة في الحالين شديدة التناقض. كذلك لا يصلح الكتاب المقدس أساساً نهائياً الإيمان، لأنه حافل بالفقرات الملتبسة أو الغامضة، وربما كان للنبوءات التي يفسرها الأتقياء على أنها تشير إلى المسيح دلالة مختلفة (49). أضف إلى ذلك أن الله في الكتاب المقدس يتكلم بالأرقام، التي يضللنا مدلولها الحرفي، والتي لا يدرك معناها الحقيقي إلا من وهبوا النعمة الإلهية. "أننا لن نفهم شيئاً من أعمال الله ما لم نؤمن بهذا المبدأ، وهو أنه تعالى يشاء أن يعمي البعض وينير بصائر البعض (50). (وهنا يبدو أن بسكال يقبل حرفياً قصة يهوه وهو يقسي قلب فرعون).

ولو اعتمدنا على العقل لوجدنا غير المفهوم أينما تلفتنا. فمنذا الذي يستطيع أن يفهم، في الإنسان، ذلك الاتحاد والتفاعل بين جسد واضح

ص: 101

المادية وذهن واضح اللامادية؟ "فليس هناك شيء أشد استحالة على التصور من أن تعي المادة نفسها (51) ". إنهم الفلاسفة الذين ملكوا أهواءهم- "وأي مادة تستطيع أن تفعل هذا (52)؟ ". وطبيعة الإنسان، التي يمتزج فيها الملاك بالوحش امتزاجاً شديداً (53)، تكرر التناقض بين العقل والجسد، وتذكرنا بالكمير الذي زعمت الأساطير اليونانية أنه عنزة لها رأس أسد وذيل ثعبان.

"يا لهذا الإنسان من كمير! ياله من بدعة، ووحش، وفوضى، وتناقض، ومعجزة! هذا الحكم في كل الأشياء، ونموذج الغباء في الأرض؛ مستودع الحق، وبالوعة الظلال والشك؛ مفخرة الكون ونفايته. فمنذا الذي يحل لنا هذا اللغز المعقد (54)؟ ".

إن الإنسان- من الناحية الخلقية- لغز غامض. فكل ضروب اللؤم تبدو مستترة فيه. "ما الإنسان إلا مخلوق خداع المظهر، كذوب، منافق، مع نفسه ومع غيره (55) ". "كل الناس بطبيعتهم يكره بعضهم بعضاً، ولن تجد أربعة أصدقاء في العالم (56) ". "ما أفرغ قلب الإنسان وما أحفله بالقذر"(57) ثم يا لغروره الذي لا قرار له ولا شبع، "ما كنا لنركب البحر أبداً لولا حلمنا بأننا سوف نوري قصتنا

أننا نفقد الحياة مغتبطين شريطة أن يتحدث الناس بما فعلنا

وكل الناس، حتى الفلاسفة، يتمنون أن يكون لهم معجبون (58) ". ومع ذلك فإن من جوانب عظمة الإنسان أنه من شره، وكرهه، وغروره، أنشأ دستوراً من القوانين والأخلاق ليسيطر على شره، واشتق من شهوته مثلاً أعلى في الحب (59).

وشقاء الإنسان لغز آخر. فلم شقي الكون هذا الشقاء الطويل لينجب نوعاً من الخليقة شديد الهشاشة في سعادته، كثير التعرض للألم في كل عصب، وللحزن في كل حب، وللموت في كل حياة؟ ومع ذلك فإن "جلال الإنسان عظيم في معرفته أنه شقي (60) ".

"ما الإنسان إلا قصبة، وهي أوهى ما في الطبيعة، ولكنه قصبة مفكرة.

ص: 102

والكون كله لا حاجة به لأن يتسلح لكي يسحقه، فنفخة بخار، أو قطرة ماء، تكفي لقتله- ولكنه، بعد أن يسحقه الكون، لا يزال أنبل من هذا الذي يقتله، لأنه لا يعرف أنه مفارق الحياة، أما الكون فلا يعرف شيئاً عن انتصاره على الإنسان (61) ".

وليس من هذه الألغاز لغز يجد في العقل جواباً له. ولو ركنا إلى العقل وحده لحكمنا على أنفسنا بـ"ببروية" تتشكك في كل شيء إلا الألم والموت، والفلسفة لا تستطيع على أحسن الفروض إلا أن تكون تبريراً عقلانياً للهزيمة. ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بأن قدر الإنسان هو كما يراه العقل- أن يكافح، ويتعذب، ويموت، بعد أن ينجب آخرين ليكافحوا، ويتعذبوا، ويموتوا، جيلاً بعد جيل، في افتقار للهدف، وغباوة، وحقارة هائلة. فنحن في قرارة نفوسنا نشعر بأن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، وبأنه تجديف ما بعده تجديف أن نظن أن الحياة والكون بلا معنى. فالله ومعنى الحياة يجب أن يشعر بهما القلب لا العقل. "فإن للقلب مبرراته التي لا يعرفها العقل (62). "، وأخيراً نفعل أن أصغينا إلى قلوبنا، وإن "وضعنا إيماننا في الوجدان (63) ". ذلك أن كل إيمان، حتى بالأمور العملية، إنما هو ضرب من الإرادة، وتوجيه للانتباه والرغبة (إرادة الإيمان). والتجربة الصوفية أعمق من شهادة الحواس أو حجج العقل.

أي جواب إذن عند الوجدان يجيب به عن الغاز الحياة والفكر؟ الجواب هو الدين. فالدين وحده يستطيع أن يرد للحياة معناها، وللإنسان نبله، وبدونه نتخبط أعمق حتى من تخبطنا الأول في إحباط عقلي وعقم مميت. فالدين يعطينا كتاباً مقدساً، والكتاب ينبئنا بسقوط الإنسان من النعمة، وهو الخطيئة الأصلية هي دون غيرها التي تستطيع أن تفسر ذلك الجمع الغريب في الطبيعة بين الكره والحب، وبين الشر الوحشي واشتياقنا للخلاص ولله. فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نؤمن (مهما بدت سخافة

ص: 103

هذا الإيمان للفلاسفة) بأن الإنسان بدأ بالنعمة الإلهية، وأنه فقدها بالخطيئة، وأنه لا خلاص له إلا بالنعمة الإلهية عن طريق المسيح المصلوب، وجدنا بعد هذا سلاماً عقلياً لا يوهب الفلاسفة أبداً. والذي لا يستطيع الإيمان ملعون، لأنه يعلن بكفره أن الله لم يشأ أن يمنحه النعمة.

والإيمان رهان حكيم. وهب أن الإيمان لا يمكن إثباته، فأي ضمير إن قامرت على حقيقته ثم اتضح بطلانه؟ "لزام عليك أن تراهن، وليس لك في هذا خيار

فلتوازن بين المكسب والخسارة في الرهان على وجود الله

أنك إن كسبت كل شيء، وإن خسرت لم تخسر شيئاً. فراهن إذن دون تردد على إنه تعالى موجود (64)". فإذا وجدت أول الأمر أن الإيمان صعب عليك فاتبع عادات وطقوس الكنيسة كأنك تؤمن حقاً. "تبرك بالماء المقدس، وأطلب تلاوة القداديس، وهلم جرا، وهذا كفيل بأن يجعلك تؤمن بطريقة بسيطة طبيعية، وبأن يهدئك"- سيهدئ من عقلك المغتر بقدرته النقادة (65). واعترف وتناول القربان، وستجد في هذا راحة قوية (66).

ونحن نظلم هذا الدفاع التاريخي إذا تركناه يختتم على هذه النغمة غير البطولية. فلنا أن نثق بأن بسكال حين آمن لم يؤمن كأنه مقامر بل كنفس حيرتها ودوختها الحياة، وكإنسان أدرك في تواضع أن عقله الذي أذهل ذكاؤه الصديق والعدو، ليس كفواً للكون، ووجد في الإيمان السبيل الوحيد ليضفي على ألمه المعنى والمغفرة. ويقول سانت- بيف "إن بسكال رجل مريض، وعلينا أن نذكر هذا على الدوام ونحن نقرؤه (67) " ولكن بسكال لو ووجه بهذا الرأي لأجاب: ألسنا كلنا مرضى؟ فليرفض الإيمان كل من اكتملت له السعادة. ليرفضه كل من لم يقنع بمعنى الحياة أكثر من أنها مسار عاجز من ميلاد قذر إلى موت أليم.

"تصور نفراً من الناس يرسفون في الأغلال وقد حكم عليهم جميعاً

ص: 104

بالموت، وفي كل يوم يشنق بعضهم على مرأى من الباقين، والباقون يتبينون حالهم في حال زملائهم، ويتبادلون نظرات الحسرة واليأس، وينتظر كل منهم دوره. هذه صورة لحالة الإنسان (68) ".

فكيف السبيل إلى التعويض عن هذه المذبحة البشعة التي نسميها التاريخ إلا بالإيمان بأن الله سيصحح الأخطاء كلها في النهاية، سواء استند هذا الإيمان إلى دليل أو لم يستند؟. وقد تحمس بسكال في محاجته لأنه لم يفق قط إفاقة حقيقية من الشكوك التي أوحى بها إليه موتتيني، وملحدو "السنوات التي قضاها في العالم"، وحياد الطبيعة القاسي بين "الشر" و "الخير".

"ذلك ما أراه وما يقض مضجعي. فأينما تلفت لم أجد غير الغموض والإبهام. ولا تقدم لي الطبيعة إلا ما يحتمل الشك والقلق. فلو أنني لم أر علامات على وجود إله لثبت علي الإنكار. ولو رأيت آثار الخالق في كل مكان لسكنت إلى الإيمان في هدوء وسلام. ولكني في حالة يرثى لها أنني أرى أكثر كثيراً مما يبرر إنكار وجوده تعالى، وأقل كثيراً مما يطمئنني على وجوده. ولقد طالما تمنيت أن تعلن الطبيعة عن وجود دون لبس أو غموض ما دام هذا الإله حافظها (69) ".

وحالة القلق العميق هذه، والقدرة المعطلة على رؤية الجانبين، هي التي تجعل بسكال يستهوي المؤمنين والشكاكين على السواء. فلقد شعر هذا الرجل بغيظ الملحد من الشر، وبثقة المؤمن في انتصار الخير، ولقد عبر من تدويمات موتتيني وشارون الذهنية إلى التواضع المغتبط الذي أحس به القديسان فرانسيس الأسيسي وتوماس أكمبيس. وهذه الصرخة المنبعثة من أعماق الشك، وهذه الصياغة لإيمان ضد الموت، هما اللذان يجعلان "خواطر" بسكال أبلغ الكتب قاطبة في النثر الفرنسي. لقد أصبحت الفلسفة أدباً للمرة الثالثة في القرن السابع عشر، لا في تركيز بيكون الهادئ،

ص: 105

ولا في ألفة ديكارت السارة، بل في القوة العاطفية لشاعر يحس بالفلسفة، ويكتب لقلبه بدمه. في قمة العصر الكلاسيكي علا هذا النداء الرومانسي، وبلغ من القوة ما أتاح له أن يعمر بعد بوالو وفولتير، وأن يسمعه عبر قرن من الزمان روسو وشاتوبريان. فهنا، في صبيحة عصر العقل، وفي عقود هوبز وسبينوزا ذاتها، وجد العقل منازلاً له في رجل محتضر.

روت مدام بيرييه، شقيقة بسكال، أنه كان في سنيه الأخيرة يعاني من "علل مستديمة متفاقمة (70) " وانتهى به الأمر إلى الرأي بأن "المرض هو الحالة الطبيعية للمسيحيين (71) ". وكان أحياناً يرحب بآلامه لأنها تصرفه عن المغريات. قال "إن ساعة من الألم تعلم أفضل من كل الفلاسفة مجتمعين (72) ". وقد هجر كل اللذات، وعكف على ممارسة النسك، وجلد نفسه بحزام ثبتت فيه مسامير من حديد (73). ووبخ مدام بيرييه لأنها تسمح لأبنائها بعناقها. وعارض في زواج ابنتها قائلاً:"إن حالة الزوجية ليست خيراً من الوثنية في نظر الله (74) ". ولم يسمح لإنسان في حضرته أن يتحدث عن جمال المرأة.

وفي عام 1662، آوى أسرة فقيرة في بيته صدقة من صدقاته الكثيرة. فلما أصيب أحد الأطفال بالجدري انتقل بسكال إلى بيت شقيقته بدلاً من أن يطلب إلى الأسرة أن تغادر بيته. ولم يمضِ وقت طويل حتى لزم فراشه وقد حطمته الآلام المعوية. وكتب وصيته، فترك نصف ثروته تقريباً للفقراء، واعترف لكاهن، وتناول القربان الأخير، ثم لفظ أنفاسه إثر تقلصات عنيفة، في 19 أغسطس 1662 وهو لا يجاوز الأربعين. ولما شرحت جثته وجد أن معدته وكبده مريضتان، وأن في أمعائه قرحاً (75). وقال الأطباء أن مخه "ضخم الحجم جداً، وأن مادته جامدة مكثفة" ولكن خطاً واحداً فقط من خطوط الاتصال بين عظام الجمجمة هو الذي كان مقفلاً قفلاً سليماً، ولعل هذا هو السر في نوبات الصداع الرهيبة التي ابتلي بها.

ص: 106

ووجد على لحاء المخ منخفضان "كبيران كأنهما صنعا بأصابع وضعت في الشمع"(76) وقد دفن في كنيسة أبرشيه سانت اتيين- دومون.

‌5 - ألبور رويال

1656 -

1715

شددت "الرسائل الإقليمية" من عزم اليسوعيين والأساقفة على قمع الجانسنية باعتبارها بروتستنتية مقنعة. فأصدر البابا الإسكندر السابع (16 أكتوبر 1656) استجابة لإلحاح الأساقفة الفرنسيين مرسوماً بابوياً يلزم جميع رجال الكنيسة الفرنسيين بالتوقيع على الصيغة التالية:

"إني أخضع بإخلاص لدستور البابا أنوسنت العاشر، المؤرخ 31 مايو 1653، حسب معناه الحقيقي الذي حدده دستور أبينا الأقدس البابا الإسكندر السابع المؤرخ 6 أكتوبر 1656، وأقر بأنني ملتزم في ضميري بطاعة هذين الدستورين، وأدين بقلبي وفمي التعليم الوارد في قضايا كورنيلس جانسن الخمس المحتواة في كتابه المعنون "أوغسطينوس".

وامتنع مازاران عن فرض التوقيع على هذه الصيغة، ولكن في 13 إبريل 1661، عقب موت مازاران، أذاع لويس الرابع عشر الأمر، وقدم وكيل أسقفية من أصدقاء الجماعة لهذه الصيغة ببيان توفيقي، فوقعها آرنو والمتوحدون في هذه الصورة، ونصحوا راهبات البور-رويال بالحذو حذوهم، ولكن الأم أنجليك-التي كانت طريحة الفراش لإصابتها بالاستسقاء-رفضت التوقيع وثبتت على الرفض إلى أن ماتت في السبعين في 6 أغسطس 1661، وكذلك رفص بسكال وشقيقته جاكلين، التي أصبحت وكيلة الدير. وقالت جاكلين: مادام الأساقفة لا يملكون من الشجاعة إلا شجاعة الفتيات، فلابد أن يكون للفتيات شجاعة الأساقفة (77) " وأخيراً وقعت كل الراهبات الباقيات على قيد الحياة، ولكن جاكلين

ص: 107

التي أضنتها مقاومتها الطولية ماتت في 4 أكتوبر وهي لا تجاوز السادسة والثلاثين، وتلاها بسكال بعد عام واحد.

واستنكر الملك خلال ذلك الديباجة الموفقة وأصر على أن يوقع الراهبات الصيغة دون أي إضافة أو تغيير، ونقل القليلات اللاتي وقعن إلى البور-رويال في باريس، ولكن أغلبية الراهبات، تتزعمهن الأم آنييس، صرحن بأنهن ليس في وسعهن التوقيع بضمير خالص على وثيقة تناقض معتقداتهن أشد مناقضة. وفي أغسطس 1665 حرم رئيس الأساقفة الراهبات السبعين وأخواتهن العلمانيات الأربعة عشرة من تناول الأسرار المقدسة، وحظر عليهن أي اتصال بالعالم الخارجي. وخلال السنوات الثلاثة التالية، كان أحد الكهنة المتعاطفين مع الراهبات يتسلق أسوار البور-رويال-دي-شان ليناول الراهبات المحتضرات قربانهن الأخير. وفي 1666 قبض على ساسي، ولوميتر، وثلاثة من المتوحدين بأمر الملك، أما آرنو الذي تنكر وراء شعر مستعار وسيف، فقد آوته لونجفيل، التي كانت تخدمه بنفسها أثناء اختبائه (78). وتبنت هي وغيرها من النبيلات قضية الراهبات، وأقنعن لويس بأن يلين؛ وفي 1668 أصدر البابا كلمنت التاسع مرسوماً جديداً صيغ في لبس حكيم يسمح لجميع الأطراف بقبوله، وأفرج عن السجناء، وردت الراهبات المنشقات إلى البور-رويال-دي شان، وعادت الأجراس تدق في الدير بعد أن صمتت ثلاث سنين. واستقبل الملك آرنو استقبالاً ودياً، وكتعب هذا كتاباً ضد الكلفنين، ولكن نيكولا كتب كتاباً آخر ضد اليسوعيين.

ودام "سلام الكنيسة" أحد عشر عاماً، ثم ماتت مدام لو نجفيل، ومات معها السلام. وإذ بدأ الملك يشيخ، وانقلبت انتصاراته هزائم، واستحال دينه خليطاً من التعصب والخوف، وساءل نفسه، أكان الله يعاقبه على تسامحه مع الهرطقة؟ واتخذ بغضه للجانسنية طابعاً شخصياً، ومن الأمثلة على هذا

ص: 108

التحول أن لويس رفض تعيين رجل يدعى فونببرتوي في إحدى الوظائف لشبهته في أنه جانسني، ولكنه وافق على التعيين حين أكدوا له أن الرجل ملحد فقط (79). ولم يستطع قط أن يغتفر للراهبات تحديهن لأمره بالتوقيع على الصيغة المشددة. وضماناً للقضاء على مركز سخطه هذا في وقت مبكر حظر عليه قبول أعضاء جدد. ووجه نداء للبابا كلمنت الحادي عشر لكي يصدر إدانة صريحة للجانسنية. وبعد عامين من الإلحاح أطلق البابا مرسوم Vineam Domini (1705) ولم يكن باقياً على قيد الحياة في البور-رويال آنئذ سوى خمس وعشرين راهبة، أصغرهن في الستين. وترقب الملك موتهن بفارغ الصبر.

وفي عام 1709 خلف الأب اليسوعي ميشيل تيلييه البالغ من العمر ستة وستين عاماً، الأب لاشيز، كاهن اعتراف للملك. فأقر في ذهن لويس-وكان الملك قد بلغ الحادية والسبعين-أن مصير روحه الأبدي رهن بالإبادة الناجزة الكاملة للبور-رويال. وقد احتج كثيرون من الأكليروس العلمانيين على هذه العجلة وفيهم أنطوان دنواي، رئيس أساقفة باريس، ولكن الملك تغلب على معارضتهم. وفي 29 أغسطس 1709 أحاط الجند بالدير، وأطلع الراهبات على رسالة ملكية مختومة تأمر بتفريقهن فوراً، وسمح لهن بخمس عشر دقيقة يجمعن فيها أمتعتهن. ولم يجد بكاؤهن ولا دموعهن. فدفعن داخل مركبات وشتتن في مختلف الأديار الممتثلة التي تبعد من ستين إلى مائة وخمسين ميلاً. وفي 1710 هدمت مباني الدير الشهير وسويت بالتراب.

ولكن الجانسنية عاشت. لقد مات آرنو ونيكول في منفاهما بفلاندر (1694 - 95)، ولكن كاهناً في مصلى باريس يدعى باسكييه كينيل، دافع عام 1687 عن اللاهوت الجانسني في كتابه "تأملات أخلاقية في العهد الجديد". وقد زج به في السجن (1703). ولكنه هرب إلى أمستردام

ص: 109

حيث أسس كنيسة جانسنية. وإذ أكتسب كتابه التأييد الكثير من الأيكروس العلماني الفرنسي، فقد أقنع لويس البابا كامنت الحادي عشر بأن يصدر مرسوم Unigenitus (8 سبتمبر 1713) الذي أدان 104 قضية نسبت إلى كينيل. وقد استاء كثير من الأحبار الفرنسيين من المرسوم لأنه تدخل بابوي في شئون الكنيسة، واتحدت الجانسنية مع أحياء للحركة الغالية. فلما مات لويس الرابع عشر، كان في فرنسا من الجانسنيين أكثر مما كان فيها في أي عهد مضى (80).

ويصعب علينا اليوم أن نفهم لم انقسمت أمة، وثارت ثائرة ملك، حول مشاكل عويصة تتصل بالنعمة الإلهية، والجبرية، وحرية الإرادة، ولكننا ننسى أن الدين كان له يومها ما للسياسة الآن من أهمية وخطر. وكانت الجانسنية الجهد الأخير الذي بذلته النهضة الأوربية في فرنسا، والانتفاضة الأخيرة للعصور الوسطى. ونحن إذا تأملناها في منظور التاريخ بدت لنا رجعية لا تقدماً. بيد أن تأثيرها في عدة نواحٍ كان تقدمياً. فقد كافحت حيناً في سبيل قسط من الحرية-وإن كنا سنجدها في أيام فولتير أشد تعصباً من البابوية (81). وحدت من شطط الإفتاء الديني. وكانت غيرتها على الأخلاق ثقلاً نافعاً أمام سياسة التراخي في أمور الاعتراف، تلك السياسة التي ربما شاركت في تدهور الأخلاق الفرنسية. كذلك كان تأثيرها التعليمي طيباً، وكانت "المدارس الصغيرة" التي أسستها خير المدارس في زمانها. وظهر تأثيرها الأدبي لا في بسكال وحده بل في كورنبي باعتدال، وفي راسين بحيوية، وهو تلميذ البور-رويال ومؤرخه. أما تأثيرها الفلسفي فكان غير مباشر وغير مقصود، ففكرتها عن الله قاضياً بالعذاب الأبدي على الشطر الأكبر من النوع الإنساني-بما فيهم جميع الأطفال غير المعمدين، وجميع المسلمين وجميع اليهود-لعل هذه الفكرة شاركت في دفع رجال كفولتير وديدرو إلى التمرد على اللاهوت المسيحي بأسره.

ص: 110

‌6 - الملك والهيجونوت

1643 -

1715

لم يكن الملك قد خلص روحه بعد، فقد بقي في فرنسا 1. 500. 000 من البروتستانت. وكان مازاران قد واصل وطور سياسة ريشليو في حماية حرية الهيجونوت الدينية ما داموا مطيعين سياسياً. أما كولبير فقد أدرك قيمتهم في تجارة فرنسا وصناعتها. وفي 1652 أكد لويس مرسوم نانت (1598) الذي أصدره جده الرابع، وفي 1666 أعرب عن تقديره لولاء الهيجونوت خلال حرب الفروند، ولكن كان يحزنه ألا تتحقق وحدة فرنسا الدينية كما تحققت وحدتها السياسية، وحوالي 1670 كتب في مذكراته فقرة تنذر بالسوء:

"أما عن ذلك العدد الكبير من رعاياي الذين يدينون بما يسمونه المذهب الإصلاحي، وهو شر

أنظر إليه بحزن

فيخيل إلي أن أولئك الذي أرادوا استعمال ضروب عنيفة من العلاج لم يفطنوا إلى طبيعة هذا الشر، الذي نجم بعضه عن حرارة في العقول، والذي يجب أن يترك ليذوي ويموت دون أن يحس به أحد، بدلاً من أثارته من جديد بمثل هذه المقاومات العنيفة

وقد آمنت بأن خير سبيل للخفض من عدد الهيجونت في مملكتي تدريجياً هو أولاً عدم الضغط عليهم إطلاقاً بأي قيد صارم جديد، والأمر بمراعاة ما حصلوا عليه من أسلافي دون منحهم أكثر منه، وحتى قصر تنفيذه داخل أضيق الحدود التي تجيزها العدالة واللياقة (28) ".

وفي هذه الفقرة رائحة التعصب المخلص. وهذا رأي ملك مطلق السلطة، أخذ عن بوسويه شعار "ملك واحد، وقانون واحد، وعقيدة واحدة". فلم يعد ذلك التسامح الذي دان به ريشليو الذي كان يعين لمناصب الدولة الرجال الأكفاء أياً كانت عقيدتهم. ويواصل لويس حديثه فيقول إنه لن يعين في هذه المناصب سوى الكاثوليك الصالحين، آملاً بذلك أنه سيشجع المرتدين على الرجوع إلى حظيرة الكاثوليكية.

ص: 111

أما الكنيسة نفسها فلم تكون قد وافقت قط على التسامح الذي نقله مرسوم نانت، ففي 1655 طالب مجمع اكليريكي بتفسير أشد صرامة للمرسوم. وفي 1660 طلب مجمعهم إلى الملك أن يغلق جميع الكليات والمستشفيات الهيجونوتية، وأن يحرم الهيجونت من الوظائف العامة، وفي 1670 أوصى المجمع بأن يعتبر الأطفال الذين بلغوا السابعة من عمرهم قادرين قانونياً على إنكار الهرطقة الهيجونوتية، وأن الذين ينكرونها على هذا النحو ينبغي فصلهم عن آبائهم، وفي 1675 طالب المجمع بأن يعلن بطلان الزيجات المختلطة، وأن يعتبر نسل هذه الزيجات غير شرعي (83). وكان رأي بعض رجال الدين الورعين اللطفاء مثل الكاردينال دبيرول أن استخدام الدولة لوسائل المنع بالإكراه هو السبيل العملي الوحيد في التعامل مع البروتستنتية (84)، وألح الحبر تلو الحبر على الملك بهذه الحجة، وهي أن استقرار حكومته يرتكز على النظام الاجتماعي، الذي يرتكز على الفضيلة، التي تنهار إذا لم يدعمها دين الدولة. وشارك العلمانيون الكاثوليك في هذه الحجة، وأبلغ القضاة الحكومة عن صدمات مكدرة للأمن بين المذهبين المتنافسين في المدن-هجمات كاثوليكية على المدارس والجنازات والبيوت البروتستنتية، وأعمال انتقام بروتستنتية من نفس النوع.

وشيئاً فشيئاً أذعن لويس لهذه الحملة مخالفاً في ذلك فطرته الأميل إلى الخير، وإذ كان على الدوام في حاجة للمال ينفقه على الحرب والأناقة، فقد وجد رجال الدين يقدمون له منحاً كبيرة شريطة أن يقبل آراءهم. ودفعته عوامل أخرى في نفس الاتجاه، فلقد كان يشجع-بل يرشو-تشارلز الثاني لكي يحول إنجلترا إلى الكاثوليكية، فكيف يتأنى في الوقت ذاته أن يسمح بالبروتستنتية في فرنسا؟ ألم يوافق البروتستنت في صلح أوجزبورج (1555) وبعده على المبدأ القائل بأن دين الحاكم يجب أن يفرض على رعاياه؟ وألم ينفِ الحكام البروتستنت في ألمانيا وفي الأقاليم المتحدة الأسر التي رفضت ديانة الأمير؟

ص: 112

وكان لويس، منذ أن بدأ حكمه الفعلي قد أصدر-أو أصدر وزراؤه بموافقته-سلسلة من المراسيم التي اتجهت إلى إلغاء مرسوم التسامح إلغاءً تاماً. ففي 1661 حرم على البروتستنت العبادة في معظم مقاطعة جكس، قرب الحدود السويسرية، بحجة أن جكس ضمت إلى فرنسا بعد صدور المرسوم، وكان يعيش في هذا الإقليم سبعة عشر ألف بروتستنتي، وأربعمائة كاثوليكي فقط (85). وفي 1664 جعلت الترقية إلى طبقة معلمي الحرف في الطوائف الصناعية عسيرة إلا على الكاثوليك (86)، وفي 1665 سمح للصبيان في الرابعة عشر والبنات في الثانية عشر بقبول اعتناق الكاثوليكية وترك آبائهم، الذين يلزمون عندها بأن يدفعوا لهم راتباً سنوياً لإعالتهم (87). وفي 1666 حظر على الهيجونت إنشاء كليات جديدة، أو الاحتفاظ بمعاهد لتعليم أبناء الأشراف، وفي 1669 تقرر اعتبار هجرة الهيجونوت جريمة يعاقب عليها المهاجر بالاعتقال إذا وقع في قبضة السلطات ومصادرة بضائعه (88). وكان كل من ساعد هيجونوتياً على الهجرة عرضة للحكم بتشغيله في سفن الأسرى مدى الحياة (89). وفي 1677 سمح لويس بوقف "صندوق للمهتدين" تصرف منه مبالغ، متوسطها ستة جنيهات للفرد، لكل هيجونوتي يقبل اعتناق الكاثوليكية. وضماناً لثبات المهتدين على الكاثوليكية أصدر مرسوماً (1679) يقضي بنفي جميع المرتدين ومصادرة أملاكهم (90). ثم قطع هذا السبيل من التحريمات احتجاج ناخب براندنبورج وشكاوى كولبير مما تحدثه هذه القوانين بالتجارة من كساد، واشتغال الملك بحملاته الحربية، ولكن تصالحه في 1681 مع الكاثوليكية، الآمرة بالاقتصار على امرأة واحدة، رده من جديد إلى الحرب المقدسة على الهيجونوت؛ فقال أحد مساعديه إنه يشعر "بالتزام لا مناص منه بهداية جميع رعاياه واستئصال شأفة الهرطقة (91) ". وفي 1682 أصدر خطاباً-وأمر جميع الرعاة البروتستنت بأن يقرءوه على شعبهم-يهدد فيه الهيجونوت "بويلات لا تقاس بما سبقها هولاً وفتكاً (92) ". وخلال السنوات الثلاث

ص: 113

التالية أغلقت 570 كنيسة من كنائس الهيجونوت البالغ عددها 815، وهدم الكثير منها، وحين حاول الهيجونوت العبادة على أنقاض كنائسهم المهدمة عوقبوا باعتبارهم عصاة متمردين على الدولة.

وكانت حملات الخيالة Dragonnades قد بدأت خلال هذا، فقد كان من العادات القديمة في فرنسا أن يسكن الجنود في الكومونات أو البيوت وعلى حسابها. واقترح لوفوا وزير الحرب على الملك (11 إبريل 1681) إعفاء معتنقي الكاثوليكية الجدد عامين من هذا الإيواء للجند، فأصدر الملك الأمر، وعلى هذا أمر لوفوا المديرين العسكريين لإقليمي بواتو وليموزان بأن ينزلوا خيالتهم مساكن الهيجونوت، لا سيما الأثرياء منهم. وفي بواتو سمح المرشال مارياك لجنوده بأن يفهموا أنه لم يسوءه أن يعاملوا مضيفيهم البواسل بشيء من الغيرة الرسولية، وراح الجند يسرقون الهيجونوت ويضربونهم ويهتكون أعراضهم، فلما سمع لويس بهذا الشطط وبخ مارياك، ولما استمر طرده من وظيفته (93). وفي 19 مايو أمر بوقف هداية الهيجونوت بطريق إيواء الخيالة، وشجب أعمال العنف التي ارتكبت في بعض الأماكن ضد دعاة الإصلاح البروتستنتي (94). وأبلغ لوفوا المديرين الإقليميين بأن لهم أن يواصلوا حملات الخيالة، ولكنه نبههم إلى ضرورة حجب كل معلومات عن هذا الأمر عن الملك. وانتشرت حملات الخيالة في أرجاء كثيرة من فرنسا، فأدخلت في الكاثوليكية آلافاً من المهتدين. وأنكرت مدن وأقاليم-كمونبيلييه، ونيم، ووبيان-مذهبها الكالفني على بكرة أبيها، وتظاهر أغلب الهيجونوت باعتناق الكاثوليكية بعد أن أرهبهم الأمر، ولكن الألوف هجروا بيوتهم وأملاكهم وهربوا عبر الحدود أو وراء البحر متحدين القوانين. وأبلغ لويس لأنه لم يبق بفرنسا غير قلة قليلة من الهيجونوت، وأن مرسوم نانت أصبح بلا معنى. وفي 1684 التمست الجمعية العامة للاكليروس من الملك إلغاء المرسوم كلية، و"توطيد ملك يسوع المسيح غير منازع من جديد في فرنسا"(95).

ص: 114

وفي 17 أكتوبر 1685 ألغى الملك مرسوم ثابت باعتباره مرسوماً لا لزوم له في فرنسا التي تدين كلها بالكثلكة. فحظر منذ ذلك التاريخ على الهيجونوت إقامة شعائرهم أو فتح مدارسهم، وصدر الأمر بهدم كل أمكنة العبادة الهيجونوتية وتحويلها كنائس كاثوليكية، وأمر رجال الدين الهيجونوت بالرحيل عن فرنسا في ظرف أربعة عشر يوماً، ولكن هجرة غيرهم من الهيجونوت حرمت وإلا كان عقاب المهاجرين تشغيلهم في سفن الأسرى مدى الحياة. ووعد المخبرون بنصف بضائع المهاجرين العلمانيين (96). وقضى بأن يعمد جميع الأطفال المولودين في فرنسا بواسطة القساوسة الكاثوليك وأن يربوا على المذهب الكاثوليكي، ووعدت فقرة أخيرة بالسماح للقلة الباقية من الهيجونوت بأن يسكنوا بعض المد آمنين. ونفذت المادة من باريس وضواحيها، وحمى رئيس الشرطة التجار الهيجونوت هناك وطمأنهم، ولم يكن هناك حملات خيالة في باريس أو قربها، وكان في وسع المراقص أن تمضي في فرساي، وفي وسع الملك أن ينام مطمئناً مرتاح الضمير، ولكن حملات الخيالة استمرت في كثير من الأقاليم بتحريض من لوفوا (97)، وتعرض الهيجونوت المعاندون للنهب والتعذيب. يقول الحجة الفرنسي الأكبر في إلغاء مرسوم نانت:

"لقد أذن للجنود أن يقترفوا كل جريمة إلا القتل. فكانوا يكرهون الهيجونوت على الرقص حتى يدركهم الإعياء، ويقذفون بهم في البطاطين إلى أعلى، ويصبون الماء المغلي في حلوقهم

، ويضربون أقدامهم، وينتفون لحاهم

، ويحرقون أذرع مضيفيهم وسيقانهم بلهيب الشموع

، ويكرهونهم بأن يقبضوا على الجمر الملتهب بأيديهم

، ويحرقون أرجل الكثيرين بإمساكها طويلاً أمام نار كبيرة

ويلزمون النساء بأن يقفن عرايا في الطريق يحتمان هزء المارة وإهاناتهم. وقد أوثقوا مرة أماً مرضعاً إلى عمود سرير وأمسكوا برضيعها بعيداً عنها وهو يصرخ في طلب ثديها، فلما فتحت فاها لتتوسل إليهم بصقوا فيه (98) ".

ص: 115

ويرى ميشليه أن إرهاب 1685 المقدس هذا كان أشنع كثيراً من إرهاب عصر الثورة في 1793 (99). وقد أكره نحو 4000. 000 من "المهتدين" على حضور القداس وتناول القربان، وحكم على الذين بصقوا قطع القربان المكرسة بعد مغادرتهم الكنيسة بالحرق أحياء (100). وزج بالذكور من الهيجونوت المعاندين في سجون تحت الأرض أو زنزانات غير مدفأة. أما نساء الهيجونوت الممعنات في العناد فقد حبسن في الأديار حيث لقين على غير توقع المعاملة الرحيمة من الراهبات (101).

على أن إقليمين قاوما الإرهاب ببسالة ملحوظة. وسنسمع أنباء الفودوا في الدوفينيه الفرنسية وبيدمونت السافووية في مكان لاحق من هذا الكتاب. وفي أودية سلسلة جبال السيفين في اللانجدوك احتفظ الألوف من الهيجونوت "المهتدين" بإيمانهم سراً، مترقبين الوقت والفرصة للتحرر. وقد أكد لهم "أنبياءهم" الذين ادعوا الوحي الإلهي بأن الوقت قد اقترب، فلما بدا أن حرب الوراثة الأسبانية تستوعب الأسلحة الفرنسية، شكل الفلاحون جماعات متمردة من "الكاميزا Camisars" الذين ارتدوا القمصان البيض ليميز بعضهم بعضاً في الليل. وفي إحدى المعارك قتلوا الأب شيلا الذي كان يضطهدهم بغيرة شديدة، ففاجأهم فوج من الجند وذبحهم دون تمييز، وهدم بيوتهم وخرب محاصيلهم (1702). وردت بقية منهم على هذا الهجوم بضراوة، إلى أن أقنعتهم بالصلح وسائل فيلار النوفيقية.

ومن بين الهيجونوت الذين سكنوا فرنسا في 1660 والبالغ عددهم 1. 500. 000، فرنحو 400. 000 في العقد الذي تخلله إلغاء مرسوم نانت عبر الحدود المخفورة مغامرين بحياتهم. وعاشت مئات قصص البطولة قرناً بأكمله بعد تلك السنين اليائسة. ورحبت الدول البروتستنتية بالمهاجرين فأفسحت جنيف مكاناً لأربعة آلاف من الهيجونوت برغم أن سكانها لم يزيدوا على ستة عشر ألفاً. وقدم تشالز الثاني وجيمس الثاني المعونة المادية

ص: 116

للهيجونوت على الرغم من كثلكتهما، وسهلا استيعابهم في الحياة السياسية والاقتصادية الإنجليزية. واستقبلهم ناخب براندنبورج استقبالاً ودياً حتى أن أكثر من خمس سكان برلين في 1697 كانوا فرنسيين وفتحت لهم هولندا أبوابها وبنت مئات البيوت لإيواء الوافدين وأقرضتهم المال ليقيموا مصالحهم وكفلت لهم كل حقوق المواطنة، وانظم الكاثوليك الهولنديون إلى البروتستنت واليهود في جمع المال إعانة الهيجونوت. ولم يكتف اللاجئون الشاكرون بإثراء الصناعة والتجارة في الأقاليم المتحدة، بل إنهم تطوعوا في الجيوش الهولندية والإنجليزية التي خاضت القتال ضد فرنسا، ورافق بعضهم وليم الثالث أو تبعه إلى إنجلترا ليساعدوه على جيمس الثاني. أما المرشال شومبيرج الكلفني الفرنسي الذي أحرز انتصارات للويس الرابع عشر من قبل فقاد جيشاً إنجليزياً ضد الفرنسيين ومات وهو يهزمهم في معركة البوين (1960). وفي كل بلد من هذه البلاد المضيافة جلب الهيجونوت مهاراتهم في الحرف والتجارة والمال، وأفادت أوربا البروتستنتية كلها من انتصار الكاثوليكية في فرنسا. وشغل صناع الحرير الفرنسيون حياً بأكمله من أحياء لندن، وأصبح المنفيون الهيوجونوت في إنجلترا شراح الفكر الإنجليزي ومترجميه لفرنسا، فمهدوا بذلك لغزو بيكون ونيوتن ولوك للعقل الفرنسي.

واستنكرت قلة من الكاثوليك الفرنسيين سراً تلك المذابح التي رافقت إلغاء المرسوم، وأمدوا كثيراً من الضحايا بالمعونة وقدوا لهم الملجأ خفية. ولكن الكثرة العظمى هللت للقضاء على الهيجونت باعتباره قمة إنجازات الملك، وقالوا أن فرنسا أصبحت الآن، في النهاية، بلداً كاثوليكياً موحداً. وأثنى كبار الكتاب أمثال بوسيه وفنيلون ولافونتين ولابروبير، حتى الأب الجانسني آرنو، على شجاعة الملك في تنفيذ ما خالوه إرادة الأمة. وكتبت مدام دسفينييه تقول "ليس هناك أبدع ولا أروع. ولم يصنع

ص: 117

ملك ولن يصنع شيئاً أخلد من هذا (102) ". أما لويس نفسه فأسعده أن يكمل-كما خيل إليه-عملاً ثقيلاً ولكنه مقدس. يقول سان سيمون: -

"لقد آمن أنه جدد عهد تبشير الرسل الأولين. وكتب الأساقفة المدائح التي تشيد به، وجعل اليسوعيون المنابر تتغنى بالثناء عليه

ولم يكن يسمع غير الإطراء بينما كان الكاثوليك والأساقفة الأتقياء الصادقون يئنون بالروح إذ يرون الكاثوليك السنيين ينحرفون إلى الخطأ، والمهرطقين يسلكون مسلك الطغاة الخوارج، والوثنيين يحاربون الحق والمؤمنين المجاهدين بإيمانهم والشهداء. ولم يستطيعوا أن يطيقوا هذا السيل من الحنث وتدنيس المقدسات (103) ".

وكان سان-سيمون وفوبان من الفرنسيين القلائل الذين أدركوا منذ البداية تلك الخسارة الاقتصادية التي ألحقها بفرنسا نزوح هذا العدد الكبير من المواطنين الكادحين. وفقدت كان صناعة نسيجها، وتور ثلاثة أرباع أنوال الحرير فيها. ومن بين الستين مصنعاً للورق في إقليم أنجوموا لم يبقَ سوى ستة عشر، ومن بين 109 متجراً في مدينة ميزيير لم يبق سوى ثمانية، ومن بين أربعمائة مصبغة في تور لم يبق سوى أربع وخمسين (104). واضمحلت ثغور كمرسيليان لفقدها الأسواق في بلاد أصبحت الآن بفضل جهود الهيجونوت وإرشادهم تنتج ما كانت من قبل تستورده من فرنسا. وقضى جزئياً على حركة التعمير الكبرى التي أدخلها كولبير على الاقتصاد الفرنسي، ونزحت الصناعات التي جاهد في سبيل تنميتها في فرنسا لتغذي منافسيها. ولما هبطت إيرادات الدولة من الصناعة هبوطاً حاداً وقعت الحكومة من جديد في أيدي المرابين الذين أنقذها كولبير من براثنهم. وفقدت البحرية الفرنسية تسعة آلاف بحار، والجيش ستمائة ضابط واثني عشر ألف جندي، ولعل نضوب البحرية والجيش على هذا النحو كان من عوامل الهزائم التي أوشكت أن تحطم فرنسا في حرب الوراثة الأسبانية.

ص: 118

كذلك شددت همجية الاضطهاد الرهيبة واستغاثات المهاجرين من عزيمة أوربا البروتستنتية على الاتحاد ضد فرنسا.

على أن إلغاء المرسوم ربما كان معيناً غير مباشر للفنون والعادات ولطائف الحياة في فرنسا. ذلك أن الروح الكلفنية المتشككة في الزينة الصور المنحوتة والمرح الطائش ثبط الفن والأناقة والظرف. ولو أن فرنسا أصبحت بيوريتانية لكانت شذوذاً وخطأ. ولكن إلغاء المرسوم كان كارثة على الدين الفرنسي. لقد لاحظ بيكون من قبل أن مشهد الحروب الدينية كان خليقاً بأن يجعل لوكرتيوس-لو رآه-"سبعة أضعاف ما كان أبيقورية" وإلحاداً (105). "فماذا تراه كان قائلاً الآن؟ لم تبق نقطة توقف للعقل الغالي بين الكاثوليكية والإلحاد. وبينما أفادت البروتستنتية في سويسرا وألمانيا وهولندا وإنجلترا في الإعراب عن التمرد على الكنيسة، لم يبق في فرنسا أداة استنكار كهذه. فوجدت حركة الانتقاض على الرومانية أنه أيسر لها أن تكون شكاكة خالصة من أن تكون بروتستانتية سافرة. وانتقلت النهضة الفرنسية، غير المعوقة من البروتستنتية، رأساً إلى حركة التنوير بعد موت الملك.

‌7 - بوسويه

1627 -

1688

بيد أن الكنيسة الفرنسية كانت ظافرة ولو مؤقتاً، وتربعت على عرش بهائها وسلطانها. وكانت رغم ما شاب روحها الجماعية من تعصب، وما عاب سلطتها من قسوة، تضم أرقى نخبة من الرجال في أوربا تعليماً، وكان قديسوها ينافسون طغاتها. وكان من أساقفتها نفر ذوو نزعة إنسانية، عاكفون في إخلاص على الخير العام كما رأوه. ودخل اثنان منهم الأدب الفرنسي دخولاً شارف في سنائه دخول يسكال، وكان في زمانهما أكثر بروزاً. وقلما تجد بين رجال الكنيسة الفرنسيين من ضارع في سمعته بوسيويه، أو فنيلون في شعبيته.

ص: 119

أما جاك بنين بوسويه (واسمه الأوسط B (nigne- أي اللطيف-كان أنسب لفنيلون) فقد ولد في أسرة ثرية لمحام بارز وعضو في برلمان ديجون (1627). نذره أبوه للقسوسية، وجز شعر رأسه في الثامنة، وحين بلغ الثالثة عشرة عين كاهناً في كاتدرائية متز. وفي الخامسة عشرة أرسل إلى كلية نافار بباريس. وفي السادسة عشرة كان قد بلغ من الفصاحة منزلة حملت نساء الأوتيل درامبوبيه المثقفات على إقناعه بأن يلقي عليهن عظة في منتصف سهرة الصالون رغم ما طبع عليه من كبرياء مقترنة بالخجل. وبعد أن تخرج بمرتبة الشرف عاد إلى متز ورسم قسيساً وتقدم بعد قليل لنيل درجة الدكتوراه في اللاهوت. وقد راعه أن يجد أن عشرة آلاف من بين الثلاثين ألف نفس في متز كانوا من البروتستانت الهالكين. ودخل في جدل مهذب مع بول فيري الزعيم الهيجونوتي، وقد سلم له ببعض المفاسد في الممارسات الكاثوليكية، ولكنه زعم أن الانشقاق رغم ذلك شر أعظم. وظل على علاقات ودية مع فيري اثنتي عشر سنة، تماماً كما سنراه في فترة لاحقة يجاهد جهاداً حبياً مع ليبنتز في سبيل إعادة توحيد العالم المسيحي. ولما سمعته آن النمساوية يعظ في متز خيل إليها إنه أرقى من تلك البيئة التي لا تليق بمواهبه، وأقنعت الملك بأن يدعوه إلى باريس، فانتقل إليها في 1659.

ووعظ أول الأمر جماهير بسيطة في دير سان لازار برعاية فانسان دبول. وفي 1660 وعظ جمهوراً عصرياً في كنيسة "لي مينيم" قرب البلاس رويال. وسمعه الملك، فتبين في الخطيب الشاب مزيجاً متوازناً من البلاغة، واستقامة العقيدة، وقوة الخلق. فدعاه لإلقاء عظات الصوم الكبير في 1662 باللوفر، واختلف إلى هذه الخطب في تقوى واضحة، اللهم إلا في ذلك الأحد الذي انطلق فيه على جواده مسرعاً ليسترد لويز دلا فاليير من الدير. وحفز حضور الملك هذه العظات بوسويه على أن ينفي أسلوبه من الجلافات الريفية، والإستشهادات السكولاستية، والحجج الجدلية.

ص: 120

ذلك أن أناقة البلاط انتقلت إلى كبار الأكليروس، فأثمرت عهداً من البلاغة المنبرية ينافس البلاغة القانونية التي أشتهر بها ديموستين وشيشرون. وفي أثناء السنوات الثمانية التالية وفق بوسويه في أن يكون الخطيب المفضل في كنائس القصر، ثم أصبح المرشد الروحي لعدد من كبريات النبيلات مثل هنربيتا "مدام" دورليان؛ ومدام دلونجفيل، ومدموازيل دمونباسيه (106) وكان في بعض عظاته يوجه الخطاب إلى الملك مباشرة، مغالياً في تملقه عادة، ولكنه دعاه مرة بحرارة إلى أن يهجر زناه وفجوره ويعود إلى زوجته. ففقد برهة رضاء الملك، ولكنه استرده حين هدى تورين إلى الكاثوليكية. وفي 1667 اختاره لويس ليؤبن آن النمساوية في مأتمها، وبعد عامين ألقى عظة فوق جثمان هنربيتا ماريا ملكة إنجلترا الأرملة، وفي 1670 أضطلع بواجب أليم هو تأبين هنربيتا الصغرى، تائبته المحبوبة التي فاضت روحها بين ذراعيه في فتنة صباها التي لم يكتب لها بقاء طويل.

والمظتان اللتان أبن بهما تشارلز الثاني ملك إنجلترا وأخته هما أشهر العظات قاطبة في الأدب الفرنسي-لأن خطاب البابا أوربان الثاني الذي ما زال يفوقهما شهرة، والذي استنفر فيه أوربا إلى الحرب الصليبية الأولى (1095) -هذا الخطاب كان باللاتينية وإن ألقي على أرض فرنسية. وأستهل بوسويه أول هذين التأبينين بموضوعه الجريء المفضل، وهو أن على الملوك أن يتعلموا من دروس التاريخ، وأن الانتقام الإلهي سوف يحل بهم إن لم يستعملوا سلطتهم لخير الشعب، ولكنه بدلاً من أن يرى في تشارلز الأول ملك إنجلترا مثالاً على هذا العقاب، لم يجد فيه عيباً سوى فرط رأفته، ولم يجد عيباً على الإطلاق في زوجته الوفية، فصور الملكة المتوفاة قديسة جاهدت لتهدي زوجها وإنجلترا إلى الكاثوليكية. ثم أستطرد بإسهاب في موضوع آخر محبب إلى نفسه، وهو تكاثر الملل النحل البروتستنتية التي لا حصر لها، وفوضى الأخلاق المنبعثة من اضطراب العقيدة، وقال: إن "التمرد الكبير" كان عقاباُ إلهياً على مروق إنجلترا

ص: 121

من كنيسة روما، ولكن ما كان أروع سلوك الملكة بعد إعدام زوجها علة هذا النحو الإجرامي الرهيب! لقد تقبلت أحزانها كفارة وبركة، وحمدت الله عليها وعاشت أحد عشر عاماً في صلاة متواضعة صابرة، وأخيراً أثيبت على تعبها، فرد إلى عرشه، وكان في وسع الملكة الأم أن تسكن القصور من جديد، ولكنها آثرت عليها دبراً في فرنساً، ولم تستعمل ثروتها الجديدة إلا في الاستكثار من أعمال البر.

وكان أشد من هذه تأثيراً وأوثق قرباً للتاريخ وللذكريات الفرنسية تلك العظة التي ألقاها بوسويه بعد عشرة شهور فوق جثمان هنرييتا آن. وكان قد رسم قبيل ذلك أسقفاً لكوندوم في جنوب غربي فرنسا، ومن أجل هذا الخطاب جاء إلى كنيسة دير سان-دنى في كل بهائه الأسقفي، يتقدمه المنادون، وعلى رأسه تاج الأسقفية، وفي إصبعه تتألق الزمردة الكبيرة التي أهدته إياها الأميرة المتوفاة. وفي مثل هذه العظات كان يحد من انفعال الخطيب تفكيره في الموت في صورة عامة، أما الآن فقد كان الموت موت واحدة كانت حتى الأمس القريب مسرة الملك وبهاء البلاط، وأجهش الحبر الجليل بالبكاء وهو يذكر كيف فوجئ القوم مفاجئة أليمة بهذه اللطمة التي جعلت فرنسا كلها تنوح وتتعجب من طرق الله. ثم وصف هنربيتا لا بموضوعية فاترة، بل بتحيز المحبة-"لقد كانت على الدوام لطيفة مسالمة سمحة خيرة (107) "-واكتفى بالإلماع في إيجاز حكيم إلى أن سعادتها لم تتكافأ مع فضائلها. ثم تجاسر حتى هذا الأسقف الأريب ركن السنية الركين وحارسها الأمين-تجاسر لحظة على أن يسأل الله لم يزدهر كل هذا الشر والظلم على الأرض (108). ثم عزى نفسه وجمهوره بذكرى تقوى هنريتا في احتضارها، وبالأسرار المقدسة التي طهرتها من كل علاقاتها الأرضية، غلا ريب إذن أن روحاً رقيقة مطهرة كروحها تستحق الخلاص، بل إنها لتزين الفردوس نفسه!

وبسبب خطأ نادر في الحكم على الأخلاق عين لويس بوسويه (1670)

ص: 122

معلماً للدوفان، متأثراً في ذلك ببلاغته تلك-وعهد إليه بتدريب ذلك الصبي المتخلف، المتبلد الحس، على المعرفة والخلق اللازمين لحكم فرنسا. وأنصرف بوسويه مخلصاً لهذه المهمة. فاستقال من أسقفيته ليكون قريباً من تلميذه القاصر ومن البلاط، وكتب للويس الصغير كتيبات جادة في تاريخ العالم والمنطق والإيمان المسيحي والحكم وواجبات المل، مما كان خليقاً بأن يجعل من الصبي هولة من الكمال والقوة.

وفي إحدى هذه المقالات المسماة "السياسة مستقاة من كلام الأسفار المقدسة"(1679 - 1709) دافع بوسويه عن الملكية المطلقة وحق الملوك الإلهي بغيرة فاقت غيرة الكردينال بيرلارمين في تأييده لسياسة الباباوات. ألم يكتب في العهد القديم أن "الله أعطى لكل شعب حاكمه"(109) وفي العهد الجديد بكل سلطان القديس بولس "إن السلاطين مرتبة من الله (110) "، أجل، ولقد أضاف الرسول قوله "إذن فكل من يقاوم السلطة يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة". واضح إذن أن كل من يقبل الكتاب المقدس كلمة الله يجب أن يكرم الملك باعتباره خليفة لله، أو كما قال أشعيا النبي عن كورش إنه "مسيح الرب (111) ". إذن فشخص الملك مقدس، وسلطة الملك مقدسة ومطلقة، والملك لا يسأل إلا أمام الله. ولكن هذه المسئولية تضع على عاتقه التزامات قاسية. فعليه في كل لفظ وعمل أن يطيع قوانين الله، ومن حسن حظ لويس أن إله التوراة كان عطوفاً على تعدد الزوجات.

كذلك كتب بوسويه للدوفان (1679) كتابه الشهير "حديث عن تاريخ العالم". ذلك أنه حين روعه إلماع ديكارت إلى أن جميع الأحداث في العالم الموضوعي-إذا افترضنا لها دفعة مبدئية من الله-يمكن أن تفسر آلياً بأنها منبعثة من قوانين الطبيعة ودستورها، رد عليه بأن كل حدث كبير في التاريخ إنما هو-على النقيض من ذلك-جزء

ص: 123

من خطة إلهية، وعمل من أعمال العناية الإلهية أفضى إلى ذبيحة المسيح ونمو المسيحية لتصبح "مدينة متسعة لله". وتناول الكتاب المقدس ثانية باعتباره موحى من الله، فركز التاريخ كله على سيرة يهود العهد القديم والأمم التي أنارتها المسيحية. "لقد أستخدم الله الآشوريين والبابليين ليعاقب شعبه المختار، والفرس ليردهم إلى وطنهم، والإسكندر ليحميهم، وأنطيوخس ليمتحنهم، والرومان ليصونوا حرية اليهود ضد ملوك سوريا". فإذا بدا لنا من هذا الرأي حماقة، فإن علينا أن نذكر أنه كان أيضاً رأى كتاب التوراة الذين وحد بوسويه بينهم وبين الله في ثقة. ومن ثم فقد بدأ بخلاصة لتاريخ العهد القديم، وقام بهذه المهمة بما عرف عنه من ولع بالنظام والإيجاز وقوة البلاغة. واعتمد ترتيبه الزمني على تقويم أوشير رئيس الأساقفة، فأرخَ الخليقة بسنة 4004 ومر بوسويه مرور الكرام بتلك الأمم التي لم يشر إليها الكتاب المقدس، ولكنه وصفها وصفاً مجملاً ينم على بصيرة وقوة ملحوظتين، وأبدا فهماً عطوفاً للفضائل والإنجازات الوثنية. وقد رأى بعض التقدم خلال مشاكل الإمبراطوريات الصاعدة الساقطة؛ واتخذت فكرة التقدم جسداً ولحماً في كتاباته، وكذلك في كتابات شارل بيرو وغيره من المدافعين المعاصرين عن المحدثين ضد القدامى، ومهدت الطريق من بعيد لطورجو وكوندرسيه. وخلق الكتاب رغم كل عيوبه الفلسفة الحديثة للتاريخ وحسب رجل واحد أن يحقق إنجازاً كهذا.

على أن الأمير تلميذ بوسويه لم يقدر شرف تأليف الكتب العظيمة لتعليمه. فقد كان في روح بوسويه من الجد والصرامة ما لا يجعله المعلم اللطيف المرضي. وكان أنسب لطبيعته أن يرشد في رفق لويز دلافاليير لتهرب من حياة الونا إلى الدير، وقد ألقى العظة حين قطعت على نفسها عهد الرهبنة. وفي ذلك العام (1675) جاهر ثانية بلوم الملك الزير، واستمع إليه لويس في صبر نافذ، ولكنه أعاده لمنصب الأسقفية وعينه أسقفاً على مو (1681)

ص: 124

على قرب من فرساي يتيح له أن يتذوق فخامة البلاط وبهائه. وكان طوال ذلك الجيل المتكبر، والشارح والقائد العمدة للأكليروس الفرنسي. وقد وضع لأجلهم "المواد الأربع" التي أكدت من جديد "الحريات الغالية" للكنيسة الفرنسية إزاء السيطرة البابوية. ولقد أفقده عملة هذا قبعة الكردينالية، ولكنه أصبح بابا فرنسا.

ولم يكن بالبابا السيئ. فهو مع إصراره على كرامة الأسقفية ورعاية مراسمها ظل رحيماً لطيفاً، وبسط عباءته فوق ألواناً كثيرة من المعتقد الكاثوليكي. وقد وافق بسكال على إدانة الشطط الذي تورط فيه الإفتاء الديني دون أن يغتفر له السخط والاحتقار اللذين ألهبا رسائله الإقليمية. ففي 1700 أقنع جمعية الأكليروس العامة باستنكار 127 قضية أخذت من فتاوى المفتين اليسوعيين، وقد ظل على علاقات ودية مع آرنو وغيره من الجانسنيين. وذاع عنه أنه كان متسامحاً في كرسي الاعتراف، وأنه أستنكر مظاهر التقشف في العلمانيين، ولكنه أطرى بحرارة نسك رانسيه، وكان يختلف بين الحين والحين إلى خلوة في التراب، ويتمنا أحياناً أن يظفر بسلام صومعة الراهب. ولكن بريق البلاط غلب طموحه للقداسة، ولوث لاهوته بأطماع الارتقاء في مراتب الكنيسة والدولة. وقد توسل مرة إلى رئيسة الدير في مو قائلاً:"صلي لأجلي لكي لا أحب العالم (112) ". وقد أصبح أشد صرامة في أخريات أيامه. وعلينا أن نغتفر له تنديده بالمسرحية وبموليير في كتابه "حقائق عامة عن الملهاة"(1694) لأن موليير لم يعرض الدين إلا في صورته المتزمتة المنافقة، ولم ينصف رجالاً مثل فانسان ديول.

كان بوسويه أشد تعصباً نظرياً منه عملياً. فقد رأى أن من السخف أن يظن أي ذهن فردي مهما عظم ذكاؤه أنه يستطيع أن يكتسب في عمر واحد من المعرفة والحكمة ما يؤهله للجلوس في كرسي القضاء ليحكم على

ص: 125

تقاليد ومعتقدات الأسرة والمجتمع والدولة والكنيسة. فالحس المشترك " Sens Commun" أجدر بالثقة من التفكير الفردي، ولا يعني الحس أو الإدراك المشترك فكر الأشخاص العاديين، بل الذكاء الجماعي لأجيال علمتها قرون من الخبرة، الذكاء الذي يتمثل في أعراف النوع الإنساني ومعتقداته. فمنذا الذي يستطيع أن يزعم أنه يعرف خيراً من هؤلاء جميعاً حاجات النفس البشرية والإجابات عن الأسئلة التي لا تستطيع المعرفة وحدها أن تجيب عنها؟ ويترتب على هذا أن الذهن البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه السلام، والتفكير الحر لا يستطيع إلا أن يدمر ذلك السلام، والمجتمع البشري في حاجة إلى سلطة تعطيه الأخلاق، ولكن التفكير الحر بتشككه في المصدر الإلهي للقانون الخلقي إنما يهدم النظام الأخلاقي برمته. فالهرطقة إذن خيانة للمجتمع والدولة كما أنها خيانة للكنيسة، و"الذين يؤمنون بأن الملك ينبغي ألا يستعمل القوة في أمور الدين

يرتكبون خطأ مجانباً للتقوى (113)" ولقد آثر الأسقف الإقناع على الإكراه في هداية المهرطقين، ولكنه دافع عن الإكراه باعتباره الملاذ الأخير، ورحب بإلغاء مرسوم نانت لأنه "المرسوم الورع الذي سيكيل للهرطقة الضربة القاضية، ونفذ القانون في إقليمه بكثير من التسامح، حتى لقد كتب الناظر الملكي يقول "ليس في الإمكان عمل شيء في أسقفية مو، لأن ضعف الأسقف يقف عقبة في سبيل هداية الهيجونوت (114) ". وقد ثبت معظم الهيجونوت في تلك المنطقة على مذهبهم.

وكان إلى النهاية يعلل نفسه بأن الحجة قادرة أن تكسب حتى هولندا وألمانيا وإنجلترا وتردها للإيمان القديم. وسنراه يفاوض لايبنتز سنوات عديدة على خطة الفيلسوف التي اقترحها لإعادة توحيد القطاعات المنشقة من المسيحية. وفي 1688 كتب رائعته "تاريخ ملل الكنائس البروتستنتية"-وهو الذي قال "بكل" إنه "ربما كان أخطر كتاب وجه ضد البروتستنتية (115). وقد تميزت مجلداته الأربعة بالدراسة الشاقة، وكانت كل صفحة فيها تدعم بالمراجع، وهو لون من الأمانة كان بدأ يتجسد.

ص: 126

وبذل الأسقف في كتابه محاولة ليكون منصفاً. فسلم بمفاسد الكنيسة التي تمرد عليها لوثر، ورأى الكثير مما يستحق الإعجاب في خلق لوثر، ولكنه لم يستطع أن يسيغ الفظاظة المبتهجة التي اختاطت في لوثر بالبسالة الوطنية والتقوى الرجولية. ثم صور ملانكتون بصورة تكاد تكون صورة الحب. غير أنه كان يأمل في تفكيك ولا أتباع هؤلاء المصلحين لهم بإظهار مواطن ضعفهم الشخصي وخلافاتهم اللاهوتية وقد هزأ بالفكرة التي زعمت أن لكل إنسان الحرية في تفسير الكتاب المقدس لنفسه وتأسيس دين جديد على قراءة جديدة له، فكل من خبر الطبيعة البشرية يستطيع أن يتنبأ بأنه لو ترك لهؤلاء الحبل على الغارب لأسفر هذا عن تفتيت المسيحية إلى متاهة من الملل والنحل، وتفتيت الأخلاق إلى فردية لا تستطيع أن يكبح جماح غرائز الغاب فيها سوى الاستكثار من الشرطة استكثاراً لانهاية له. فمن لوثر إلى كلفن إلى سوكينوس-من رفض البابوية، إلى رفض سر القربان إلى رفض المسيح-ثم من التوحيد (رفض التثليث) إلى الإلحاد، تلك هي الدرجات الهابطة شيئاً فشيئاً إلى انحلال الإيمان. ومن الثورة الدينية إلى الثورة الاجتماعية، ومن رسائل لوثر إلى حرب الفلاحين، ومن كلفن إلى كرمويل "المسوين" إلى قتل الملك؛ تلك درجات منزلقة فتحلل النظام الاجتماعي والسلام. ولا يستطيع سوى دين ذي سلطان أن يعطي الوازع للأخلاق، ويمنح الاستقرار للدولة، ويسلح الروح البشرية بالقوة التي تواجه الحيرة وفقد الأحباء والموت.

لقد كان الكتاب حجة قوية، شديدة التأثير بما حوت من ثقافة وبلاغة، محتوية على صفحات لا ضريب لها في نثر ذلك العصر الفرنسي إلا في جدليات بسكال العنيفة و"خواطره" ولولا أن التجاءه للعقل قد أحبطه التجاءه للقوة في فظاعات إلغاء المرسوم نجاحاً أعظم. فقد ظهرت في الدول البروتستنتية عشرات الردود المفندة لحجج الكتاب تشجب بقوة ذلك

ص: 127

التظاهر بالاحتكام إلى العقل في رجل حبذ النهب والسلب والنفي والمصادرة والاسترقاق في سفن تشغيل الأسرى للدفاع عن المسيحية الكاثوليكية. وتساءل أصحاب الردود ألم يكن هناك ملل مختلفة في الكاثوليكية أيضاً؟ وأي قرن خلا من الانقسامات في الكنيسة-من الكاثوليك الرومان، والكاثوليك اليونان، والكاثوليك الأرمن، والكاثوليك الشرقيين؟ وألم يكن جانسنيو البور-رويال في تلك اللحظة يقتتلون مع إخوانهم من الكاثوليك أعضاء جماعة يسوع؟ وألم يكن الأكليروس الغالي بزعامة بوسويه نفسه في نزاع مر مع دعاة سلطان البابوية المطلق كاد يبلغ حد الانشقاق على روما؟ ألم يكن بوسويه يقاتل فنيلون؟

‌8 - فنيلون

1651 -

1715

كان فرانسوا دسالنيك دلا موت-فنيلون، النبيل المولد، الثلاثي الاسم، كبوسويه سنياً طموحاً، أسقفاً ورجل بلاط، ومعلماً لأمير من البيت المالك، وكتاباً من فحول النثر. ولكنه في غير ذلك كان بينه وبين بوسويه ما بين السماء والأرض من تباين. كتب سان-سيمون معرباً عن إعجابه بالرجل يقول:

"رجل فارع القوام نحيل الجسد قوي البنية شاحب الوجه كبير الأنف له عينان تقدحان الشرر والذكاء. في سحنته ما يوحي بأنها تتألف من متناقضات، ومع ذلك فإن هذه المتناقضات على نحو ما لا تؤدي الناظر. فوجهه أنيق وقور، رزين مرح، يطالعك منه اللاهوتي والأسقف والنبيل على السواء، وفي هيئته كما في شخصه يرى الناظر قبل كل شيء رقة وتواضعاً وقدراً فائقاً من رفعة الذهن. لقد كان عسيراً على الناظر إليه أن يحول عينيه عن وجهه (116) ".

وعند مييشليه أن "فيه شيئاً من الشيخوخة منذ ولادته (117) "-

ص: 128

لأنه كان ثمرة الازدهار الأخير لإقطاعي مكتهل في بيريجوز تزوج آنسة نبيلة رغم فقرها. ضارباً صفحاً عن تذمر أبنائه الكبار، وأقصى الابن الجديد عن المال بنذره للكنيسة. وربته أمه، فشب على أناقة في الحديث ورهافة في الحس أشبه بأناقة حديث النساء ورهافة حسنهن. وقد أحسن تثقيفه في الآداب القديمة على يد معلم خاص ويسوعي باريس، فأصبح أديباً لا قسيساً فحسب. وكان في استطاعته أن يباري أي مهرطق في الاستشهاد بأقوال الوثنيين، ويكتب الفرنسية بأسلوب حساس مرهف مهذب هو نقيض أسلوب بوسويه الخطابي، والفحل، الجزل.

رسم كاهناً في الرابعة والعشرين (1675)، وسرعان ما رقي رئيساً لدير "الكاثوليك الجدد". وهنا أضطلع بمهمة شاقة هي رد الشابات اللاتي أبعدن عن البروتستنتية حديثاً إلى حظيرة الإيمان الكاثوليكي. وقد استمعن إليه أول الأمر على مضض، ثم في استسلام، ثم في محبة، لأنه كان يسيراً على المرء أن يقع في غرام فنيلون، ثم أنه الرجل الوحيد المتاح لهن. وفي 1686 أرسل إلى إقليم لاروشل ليعاون على هداية الهيجونوت. وقد حبذ مرسوم الإلغاء، ولكنه استنكر العنف، وأنذر وزراء الملك بأن هداية الناس بالإكراه لن تكون إلا سطحية ومؤقتة. ولما عاد إلى الدير بباريس نشر (1687)"رسالة في تعليم البنات" تكاد تستشف فيها روح روسو في دفاعها عن الوسائل اللينة في التربية. ولما عين الملك الدوق دبوفيلييه مربياً لحفيده دوق برجنديه، البالغ من العمر ثمانية أعوام، طلب إلى فنيلون أن يتولى تعليم الصبي (1689).

أما الدوق الصغير فكان متكبراً عنيداً مشبوب العاطفة، في طبعه أحياناً شراسة وقسوة، ولكنه أوتي ذهناً متألقاً وذكاء متوقداً. وأحس فنيلون أن الدين وحده هو الكفيل بترويضه، فأشربه مخافة الله ومحبته معاً، واكتسب في الوقت نفسه احترام تلميذه بأخذه بنظام حازم خفف

ص: 129

من شدته فهم عطوف لدور المراهقة. وقد راودته الأحلام بإصلاح فرنسا عن طريق تربية ملكها المستقبل. فعلم الغلام سخافة الحرب، وضرورة النهوض بالزراعة بدلاً من تثبيط همم الفلاحين بالضرائب تجبى لبناء المدن الباذخة ولتمويل الحروب العدوانية. وفي كتابه "حوارات الموتى" الذي ألفه لتلميذه، وسم بالهمجية "تلك الحكومة التي لا قوانين فيها غير إرادة رجل واحد

فالحاكم ينبغي أولاً وقبل كل شيء أن يكون مطيعاً للقانون، فإذا ابتعد عن القانون لم يعد لشخصه قيمة". وكل الحروب حروب أهلية، لأن الناس جميعاً أخوة، يدين كل منهم للنوع الإنساني-وهو الدولة الكبرى-بدين أعظم كثيراً من دينه للبلد الذي ول فيه (118) ". أما الملك، الذي لم يكن ضالعاً في هذا التعليم الذي لا تفهمه غير القلة، والذي رأى تحسناً عجيباً في خلق حفيده، فقد كافأ فنيلون برئاسة أسقفية كامبريه (1695). وأخجل فنيلون أحباراً كثيرين بإقامته تسعة أشهر من كل عام في مقر رئاسته الدينية. أما الشهور الباقية فكان ينفقها في البلاط تواقاً للتأثير في السياسة، مواصلاً أحياناً تعليم الدوق.

وخلال ذلك كان قد التقى بالمرأة التي قدر لها أن تكون "المرأة القاضية عليه" بمعنى الكلمة. هذه المرأة، واسمها مدام جان ماري دلاموت-جويون، التي تزوجت في السادسة عشرة، وترملت في الثامنة والعشرين وهي جميلة غنية، تهافت الخطاب على طلب يدها، ولكنها كانت قد تلقت تدريباً دينياً مكثفاً ليحصنها ضد الرجال الطامعين، ولم تجد لتقواها منصرفاً كافياً في المراعاة الصورية لشعائر العبادة الكاثوليكية، فاستمعت في تجاوب لمتصوفة زمانها الذين وعدوا بسلام النفس-لا بالاعتراف والتناول والقداس بقدر ما هو بالاستغراق في تأمل إله كلي الوجود، وفي استسلام النفس لله استسلاماً كاملاً محباً. في مثل المحبة الإلهية لم يعد لأمور الدنيا وزن، وفي مثل هذا التسامي الروحي يجوز للمرء أن يهمل كل الطقوس

ص: 130

الدينية ومع ذلك يرقى إلى السماء، لا بعد الموت فحسب بل في الحياة أيضاً. وكانت محكمة التفتيش قد أدانت القس الأسباني ميجويل دي مولينوس (1687) لأنه بشر بـ"هدوئية" كهذه في إيطاليا، ولكن الحركة كانت تنتشر في جميع أرجاء أوربا-في "تقوية" ألمانيا والأراضي المنخفضة، وبين الكويكرز وأفلاطوني كمبردج بإنجلترا، وبين "المنذورين" في فرنسا.

وقد بسطت مدام جويون آراءها في عدة كتب ببلاغة مؤثرة. فزعمت أن النفوس أشبه بالسيول التي انبثقت من عند الله وأنها لن تجد الراحة حتى تفني نفسها فيه تعالى كأنها الأنهار يبتلعها البحر، فإذا الفردية تتلاشى، وإذا الوعي بالذات أو بالعالم، بل الوعي كله، ينتهي ولا يبقى غير الاندماج في الله. في مثل هذه الحال تكون النفس معصومة، لا ينال منها خير ولا شر، ولا فضيلة ولا خطيئة. فمهما فعلت ففعلها صواب، ولا تستطيع قوة أن تؤذيها. وقالت مدام جويون لبوسويه "أنها لا تستطيع أن تطلب المغفرة على ذنوبها، لأنه لا ذنوب في عالم الوجد الصوفي الذي تعيش فيه (119) ". ورأت بعض نساء الطبقة الأرستقراطية في هذه الصوفية لوناً رفيعاً من التقوى. وكان من بين مريدتها السيدات بوفيلييه، وشوفروز، وبورتمار، بل-إلى حد ما-مدام دمانتنون. واستهوى فنيلون نفسه هذا المزيج الساحر من التقوى والثراء والحسن. وكان خلقه هو ذاته مزيجاً معقداً من الصوفية والطموح والعاطفة الرقيقة. فأقنع مدام دمانتنون بأن تسمح لمدام جويون بالتدريس في المدرسة التي أسستها زوجة الملك السرية في سان سير، وطلبت مانتنون إلى الكاهن اعترافها أن ينصحها في أمر مدام جوريون، فاستشار بوسويه، ودعا بوسويه المتصوفة لتشرح له تعاليمها، ففعلت. وتوجس الأسقف الحذر فيها خطراً يتهدد لاهوت الكنيسة وممارساتها، لأنها لم تستغن عن الأسرار المقدسة والكاهن

ص: 131

فحسب، بل عن الأناجيل والمسيح أيضاً، فوبخها، وناولها القربان، وطلب إليها أن ترحل عن باريس وتكف عن التعاليم. فوافقت أول الأمر، ولكنها عدلت بع ذلك. واستطاع بوسويه أن يحمل السلطات على حبسها في دير ثمانية أعوام (1695 - 1703) أفرج عنها بعدها شريطة أن تعيش في هدوء على ضيعة ابنها قرب بلوا، وهناك ماتت عام 1717.

وأراد بوسويه أن يرسم الحدود للتصوف المباح، فألف كتاباً سماه "تعليم عن حالات الصلاة"(1696) وأطلع فنيلون على نسخة من المخطوطة وطلب إليه أن يوافق عليها. وتردد فنيلون، وكتب كتاباً معارضاً سماه "تفسير أقوال القديسين المأثورة عن الحياة الباطنة"(1697). وأصبح الكتابان اللذان نشرا في وقت واحد تقريباً مثار نقاش واسع، احتدم احتدام النقاش حول البور-رويال. أما الملك الذي كان يضع ثقته في بوسويه فقد عزل فنيلون من وظيفة معلماً لدوق برجنديه، وأمره بأن يلزم أسقفيته في كامبري. وطلب وليس إلى البابا بتحريض من بوسويه أن يشجب كتاب فنيلون. ولكن إنوسنت الثاني عشر تردد، فهو لم ينس نزعة بوسويه الغالية، ودفاع فنيلون عن سلطة البابا المطلقة. وضغط لويس على البابا، فأذعن، ولكنه توخى غاية الاعتدال في إدانته لكتاب " الأقوال المأثورة"(مارس 1699). وأذعن فنيلون للحكم في هدوء.

ثم راح يؤدي واجباته في كامبري بإخلاص وضمير أكسباه احترام فرنسا، ولعلهما كانا خليقين باسترضاء بوسويه والملك لولا أن طابعاً نشر (إبريل 1699) برضى فنيلون رواية كان ألفها لتلميذه الأمير ووضع لها عنواناً بريئاً في ظاهرة "تتمة لأوديسة هوميروس" وهي معروفة لنا باسم (مغامرات تيليماك بن أوليس). هنا، وفي أسلوب يفيض رشاقة ونعومة ورقة أنثوية تقريباً، شرح المعلم مرة أخرى فلسفته السياسية المثالية. فترى لسان حاله (منتور) يحذر الملوك بعد أن أقنعهم بسياسة السلام قائلاً:

ص: 132

"منذ الآن تكونون كلكم شعباً واحداً تحت أسماء شتى ورؤساء مختلفين

فما النوع الإنساني كله غير أسرة واحدة

وكل الشعوب أخوة

وما أتعس القوم الفجار الذين ينشدون المجد القاسي في دماء إخوانهم المسفوكة

إن الحرب ضرورية أحياناً، ولكنها معرة الإنسانية. فلا تزعموا لي أيها الملوك إن على المرء أن يبتغي الحرب إن أراد المجد

فكل من يؤثر مجده على مشاعر الإنسانية ليس إنساناً بل هو وحش تملؤه الكبرياء، ولن يكسب غير المجد الزائف، لأن المجد الحقيقي لا يكون إلا في الاعتدال والصلاح

ويجب ألا يرى الناس فيه رأياً طيباً، لأنه لم يقم لهم وزناً في فكره، وأراق دماءهم في سفه ليرضي غروراً وحشياً (120) ".

وقد سلم فنيلون بحق الملوك الإلهي، ولكن بوصفه قوة منحتهم إياها العناية الإلهية ليسعدوا الناس، وحقاً تحده القوانين:

"إن السلطة المطلقة تهوي بالرعية جميعاً إلى درك العبودية. فهم يتملقون الطاغية إلى حد العبادة. وكلهم يرتعدون فرقاً لنظرة منه، ولكن ما إن تهب أضعف نسمة من نسمات التمرد عليه حتى ينهار هذا السلطان القبيح نتيجة شططه. ذلك أنه لم يستمد أي قوة من محبة الشعب (121) ".

في هذه الأسطر رأى لويس الرابع عش نفسه موصوفاً، وحروبه مدانة. وبادر أصدقاء فنيلون بالاختفاء من البلاط، وقبض على طابع "تيليماك"، وأبلغت الشرطة بمصادرة جميع نسخه. ولكنه طبعه ثانية في هولندا، وسرعان ما تداولته الأيدي في جميع أرجاء العالم القارئ للفرنسية، وظل أوسع الكتب الفرنسية قراءة وأحبها إلى القراء طوال قرن من الزمان (122) وأكد فنيلون أن لويس لم يكن في ذهنه في هذه الفقرات الناقدة، ولكن أحداً لم يصدقه. وانقضت سنتان قبل أن يجرؤ دوق برجنديا على الكتابة لمعلمه الأسبق. ثم لانت قناة الملك، وسمح له بأن يزور فنيلون في كامبري.

ص: 133

وعاش رئيس الأساقفة يعلل نفسه بأن تلميذه سيرث العرش عما قليل، وعنها يدعوه ليكون وزيره كما كان ريشليو وزيراً للويس الثالث عشر. ولكن الحفيد مات قبل أن يموت الجد بثلاث سنين، ثم سبق فنيلون نفسه لويس إلى القبر بتسعة أشهر (7 يناير 1715).

أما بوسويه فكان قد سبقهما بزمان. لقد كان تعساً في أخريات أيامه، حقاً إنه انتصر على فنيلون، وعلى دعاة السلطة البابوية المطلقة، وعلى المتصوفة، ورأى الكنيسة منتصرة على الهيجونوت، ولكن هذه الانتصارات كلها لم تيسر له قذف الحصى من مثانته. وقد برح به الألم تبريحاً جعل من العسير عليه أن يحتمل الجلوس في المكان الذي أولع بالجلوس فيه في احتفالات البلاط، وتساءل الساخرون القساة، لم لا يستطيع أن يذهب إلى مو ويموت في هدوء. وقد رأى من حوله ظهور الإرتيابية، ونقد الكتاب الكمقدس، والجدليات الروتستنتية العنيفة التي صوبت في غير تقوى إلى رأسه. فها هو على سبيل المثال ذلك الهيجونوتي المنفي جوريو يخبر العالم بأنه هو، بوسويه، أسقف الأساقفة، والصورة المجسمة للفضيلة والاستقامة، كذاب أشر يعاشر المحظيات (122). وقد بدأ تأليف كتب جديدة للرد على هؤلاء الخصوم السفهاء، ولكن الحياة كانت تنحسر عنه وهو يكتب، وفي 12 إبريل 1704 وضع الموت حداً لآلامه.

ويبدوا لأول وهلة أن بوسويه يعين أوج الكاثوليكية في فرنسا الحديثة. فقد لاح أن المذهب القديم قد استرد كل الأرض التي استولى عليها لوثر وكالفن. وكان الرجال الأكليروس يصلحون من أخلاقهم، وراسين يخصص مسرحياته الأخيرة للدين. وكان بسكال قد أدار دوائر الإرتيابية على المرتابين، والدولة جعلت نفسها وكيلاً مطيعاً للكنيسة، والملك أوشك أن يكون يسوعياً.

ومع ذلك لم يكن الموقف بالغ الكمال. فاليسوعيون لم ينقشع من

ص: 134

فوق رءوسهم بعد ذلك الغبار الذي أثارته عليهم رسائل بسكال الإقليمية، والجانسنية مازالت بخير، واللاجئون الهيجونوت يؤلبون نصف أوربا على الملك الورع، والناس يقرؤون مونتيني أكثر مما يقرؤون بسكال، وهويز وسبينوزا وبيل يكيلون اللطمات الهائلة لصرح الإيمان. يقول القديس فانسان دبول (1648)، "يشكو عدة رعاة من أن عدد من يتناولون القربان قد تقلص، ففي سان-سولبيس نقص العدد 3000، ووجد راعي سان-نيكولا-دو-شاردونيه أن 1. 500 من رعايا أبرشيته تخلفوا عن قربان القيامة (124) ". وقال بيل في 1686 "إن العصر الذي نعيش فيه يحفل بأحرار الفكر والربوبيين، ويدهش الناس لكثرة عددهم (125) ""ويسود عدم المبالاة الرهيب بالدين في كل مكان (126) " وقد عزا هذا إلى حروب العالم المسيحي وجدلياته. وقال نيكولا: "ليكن معلوماً أن الهرطقة الكبرى في العالم ليست الكالفنية ولا اللوثرية، بل الإلحاد (127) ". وقالت الأميرة بالاتين في 1699 "قل أن يجد المرء الآن شاباً لا يشتهي أن يكون ملحداً (128) " وروى لايبنتز أن في باريس (1703) "تفشت بدعة من يسمونهم العقول القوية، ويسخر الناس هناك من التقوى

وتحت حكم ملك تقي صارم مطلق السلطة، تجاوزت فوضى الدين كل الحدود التي شهدناها من قبل في العالم المسيحي (129)". وبين ذوي العقول القوية-وهي قوية إلى درجة تكفي للتشكك في كل شيء تقريباً-نجد سان إفريمون، ونينون دلانكاو، ورنييه ملخص فلسفة جاسندي، ودوقي نيفير وبوبون. وأصبح "التآميل" الذي كان يوماً مقراً لفرسان المعبد (الداوية) في باريس، مركزاً لجماعة صغيرة من أحرار الفكر-شولييه وسيرفيان، ولافاز، الخ-الذين أسلموا تهكمهم بالدين إلى عهد الوصاية. أما فونتنيل، الذي قارب المائة وتحدى الفناء وأفسح له في الأجل حتى تبادل النكت مع الموسوعيين، فكان في 1687 ينشر كتابه (تاريخ النبؤات) ويقوض في خبث أساس المسيحية المعجز. وهكذا مهد لويس في نشوة تقواه وورعه الطريق لفولتير.

ص: 135

الفصل الثالِث

‌الملك والفنون

‌1643 - 1715

1 -

تنظيم الفنون

لم يشهد التاريخ من قبل ولا من بعد، ربما باستثناء عهد بركليس، حكومة شجعت الفن، أو غذته، أو هيمنت عليه، كما فعلت حكومة لويس الرابع عشر.

كان ذوق ريشليو الرفيع ومشترياته المختارة بحكمة قد أعانت الفن الفرنسي على أن يفيق من الحروب الدينية. وفي عهد وصاية آن النمساوية كان جماعوا التحف الأهليون-من الأشراف ورجال المال-قد بدأوا يتنافسون في جمع أثار الفن. فاقتنى ببير كروزا المصرفي مائة صورة بريشة تيشان. ومائة أخرى بريشة فيرنوزي، ومائتين بريشة روبنز، وأكثر من مائة فانديك. أما فوكيه فقد جمع قصر فو كما رأينا صوراً وتماثيل، وتحفاً فنية أقل شأناً، وكان في جمعه من التمييز أكثر مما كان فيه من الحكمة والحذر. وورث لويس مقتنياته بعد أن أجهز عليه، وما لبث العديد من المجموعات الخاصة الأخرى أن جمع في اللوفر أو فرساي. وكان مازاران قد آثر وضع شطر من ثروته في الفن دون النقود تجنباً لهبوط قيمة العملة. وقد أسهم ذوقه الإيطالي الرفيع في تكوين انحياز الملك إلى الفن الكلاسيكي. وأغلب الظن أنه هو الذي علم لويس الرابع عشر أن مما يعزز مجد الحاكم أن يجمع الفن ويعرضه ويحتضنه. وقد هيأت هذه المجموعات المثل الحافزة والقواعد الموطدة لتعليم الفن وتطويره في فرنسا.

ص: 136

وكانت الخطوة التالية هي تنظيم الفنانين. وهنا أيضاً كان مازاران سباقاً. ففي 1648 أسس أكاديمية التصوير والنحت، وفي 1655 أصدر الملك مرسوماً بهذه الأكاديمية فأصبحت الأولى في سلسلة من الأكاديميات التي قصد بها تدريب الفنانين وتوجيههم إلى خدمة الدولة وتجميلها. والتقط كولبير الخيط حيث تركه مازاران، وبلغ بهذه المركزية للفن الفرنسي القمة. وكان يتطلع إلى "جعل الفنون تزدهر في فرنسا أكثر من ازدهارها في أي بلد آخر (1) " رغم أنه لم يدع لنفسه ملكة الحكم في أمور الفن. وبدأ بأن اشترى للملك مصنع جوبلان للنسيج المرسوم (1662) وفي 1664 حصل على منصف المشرف على العمائر، فأتاح له هذا المنصب هيمنة على المعمار والفنون الملحقة به. وفي ذلك العام أعاد تنظيم أكاديمية التصوير والنحت، وسماها الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة. وكان هنري الرابع قد أسكن اللوفر طائفة من مهرة الصناع بيزينوا القصور الملكية. فجعل كولبير من هؤلاء الرجال نواة للمصنع الملكي لأثاث التاج (1667). وفي 1671 أنشأ الأكاديمية الملكية للعمارة، حيث أغرى الفنانون بالبناء والزخرفة بـ"الذوق الرفيع" الذي يحبذه الملك. وفي هذه الجماعات كلها وضع مهرة الصناع تحت إشراف الفنانين، وهؤلاء تحت إرشاد سياسة وطراز موحدين.

ورغبة في دعم الاتجاه الكلاسيكي الذي تلقاه الفن الفرنسي إبان عهد فرنسوا الأول، وتنقيته من التأثيرات الفلمنكية، أنشأ كولبير وشارل لبرون أكاديمية فرنسا الملكية في روما (1666). وكان الطلاب الحائزون على جائزة روما في أكاديمية باريس يبعثون إلى إيطاليا ويعالون خمس سنين على حساب الحكومة الفرنسية. وفرض عليهم أن يستيقظوا في الخامسة صباحاً ويمضوا إلى الفراش في العاشرة مساءاً. وقد دربوا على نسخ النماذج الكلاسيكية ونماذج النهضة ومحاكاتها، وكان ينتظر من كل من هم أن ينتج "رائعة"(بالمعنى المصطلح عليه في نظام الطوائف) مرة كل ثلاثة أشهر، فإذا عادوا إلى فرنسا كان للدولة الحق المقدم في خدماتهم.

ص: 137

وكانت ثمرة هذه الرعاية والتأمين للفن إنتاجاً رائعاً ضخماً للقصور، والكنائس، والتماثيل، والصور، وقطع النسيج المرسوم، والخزف، والمداليات، والمحفورات، والنقود، وكلها مطبوع بكبرياء "الملك الشمس" وذوقه، وبقسمات وجهه أحياناً كثيرة. ولم يكن هذا إخضاع الفن الفرنسي لروما كما شكا البعض، بل إخضاع فن روما للويس الرابع عشر. وقد استهدف الأسلوب أن يكون كلاسيكياً، لأن ذلك الأسلوب يتفق وعظمة الدول وجلال الملوك. وتدفقت الأموال الفرنسية إلى إيطاليا بأمر كولبير لشراء آثار الفن الكلاسيكي أو فن النهضة، وبذل كل شيء لنقل مجد الأباطرة الرومان إلى ملك فرنسا وعاصمتها، وكانت النتيجة مذهلة للعالم.

وأصبح لويس الرابع عشر أعظم رعاة الفن الذين عرفهم التاريخ. فقد "بذل للفنون من التشجيع قدراً أعظم من جميع نظرائه من الملوك مجتمعين"(في رأي فولتير)(2). وكان بالطبع أسخى جماعي الفنون، فزاد عدد الصور في قاعاته من مائتين إلى ألفين وخمسمائة، وكان كثير منها من إنتاج فنانين فرنسيين كلفهم الملك برسمها. واشترى الكثير جداً من المنحوتات الكلاسيكية وتماثيل عصر النهضة، حتى لقد خشيت إيطاليا أن تنزح آثارها الفنية، وحظر البابا المزيد من تصدير هذه الآثار. واستخدم لويس رجالاً موهوبين مثل جيراردون أو كوازيفوكس لنقل نسخ من التماثيل التي لم يستطع شراءها، وقل أن نافست نسخ أصولها كما نافستها هذه النسخ. وملئت قصور باريس وفرساي ومارلي وحدائقها وبساتينها بالتماثيل، وكان أوثق سبيل إلأى قلب الملك إهداؤه أثراً ذا جمال غير منازع أو شهرة راسخة. مثال ذلك أن مدينة آرل أهدته تمثالها الشهير "فينوس" في 1683. ولم يكن لويس بالرجل الشحيح. وقد قدر فولتير أنه كان يشتري في كل عام من آثار الفنانين الفرنسيين ما قيمته 800. 000 جنيه ويهديها للمدن والمؤسسات والأصدقاء (3) بهدف مساعدة الفنانين وبث ملكة الجمال والإحساس الفني في الوقت نفسه. وكان ذوق الملك سليماً أسدى إلى الفن

ص: 138

الفرنسي أيادي بيضاء، ولكنه كان كلاسيكياً إلى حد ضيق. فحين أروه بعض الصور التي رسمها تنييه الابن قال آمراً "ابعدوا عني هذه الأشياء البشعة"(4) وقد ارتقى الفنانون بفضل رعايته كثيراً، سواء في أرباحهم أو مكانتهم الاجتماعية. وقد ضرب المثل بتكريمه إياهم شخصياً، وحين شكا البعض من ألقاب الشرف التي خلعها على المصور لبرون والمعماري جول-آردوان-مانسار أجاب في شيء من الحدة "في وسعي أن أصنع عشرين دوقاً أو نبيلاً في ربع ساعة، ولكن صنع فنان كمانسار يقتضي قروناً"(5). وبلغ راتب مانسار 80. 000 جنيه في العام، أما لبرون فكان يتقلب في نعيم قصوره بباريس وفرساي ومونمورنسي. وتقاضى لاجلبير وريجو ستمائة جنيه أجراً عن كل لوحة. "ولم يترك فنان كفء في عوز"(6).

وقلدت الأقاليم العاصمة في تكريم الفن وإثابته، واقتدى النبلاء بمليكهم. فطورت المد ن مدارس فنية خاصة بها-في روان، وبوفيه، وبلوا، وأورليان، وتور، وليون، وإكس-أن-بروفانس، وتو لوز، وبوردو وواصل النبلاء دورهم رعاة للفن وإن تقلص لأن الدولة استوعبت المواهب المتاحة، وأسهم الذوق المدرب الذي نشئت عليه أرقى أرستقراطية في أوربا في توطيد الطراز الرفيع الذي اتسمت به منتجات الفن في عهد لويس الرابع عشر. واكتسب الرجال والنساء الذين ولدوا في نعيم الامتيازات والثراء وشبوا على العادات المهذبة وسط محيط جميل وأشياء بديعة-نقول إنهم اكتسبوا معايير وأذواقاً ممن يكبرونهم سناً كما اكتسبوها من بيئتهم، وكان على الفنانين أن يلبوا مطالب تلك المعايير ويشبعوا تلك الأذواق. ولما كان الاعتدال، وضبط النفس، والتعبير الأنيق، والحركة الرشيقة، والشكل المصقول، لما كانت هذه كلها مثل الأرستقراطية الفرنسية في هذا العهد، فقد تطلبت هذه الصفات في الفن، وحبذ النظام الاجتماعي الطراز الكلاسيكي. وأفاد الفن من هذه المؤثرات والهيمنات، ولكنه دفع ثمنها. ذلك أنه فقد اتصاله بأفراد الشعب، ولم يستطع أن يعبر عنهم كما

ص: 139

استطاع الفن الهولندي والفلمنكي أن يعبر عن الأراضي المنخفضة، وأصبح الفن صوت طبقة، وصوت الدولة والملك، لا صوت الأمة. فأنت لا تجد في فن هذه الحقبة الكثير من دفء الوجدان أو عمقه، ولا تجد ألوان روبنز الفنية وأجساده المكتنزة، ولا تجد الظلال العميقة التي تلف حاخامات رمبرانت وقديسيه ومالييه، ولا ترى فلاحين ولا عمالاً، ولا متسولين، بل السعادة الجميلة ترتع فيها صفوة البشر.

وأبهج كولبير ومولاه أن يجدا في شارل لبرون رجلاً يستطيع أن يكون في وقت واحد خادماً غيوراً للحكومة وقاضياً متسلطاً في هذا الطراز الكلاسيكي، ففي 1666 عين لبرون بتوصية كولبير كبيراً لمصوري الملك ومديراً لأكاديمية الفنون الجميلة، وبعد عام عهد إليه بمصنع جوبلان، ووكل بالإشراف على تعليم الفنانين وتشغيلهم لينمي في أعماله تناسقاً في الأسلوب مميزاً للعهد وممثلاً له. وبمعاونة مساعدين على شاكلته في التفكير أنشأ لبرون في الأكاديمية نظام "المحاضرات"(1667) التي غرست بفضلها أصول الأسلوب الكلاسيكي بتعاليم وأمثلة وسلطان. واختير رفائيل من بين الفنانين الإيطاليين، وبوسان من بين الفنانين الفرنسيين، نموذجين مفضلين على غيرهما، وكانت كل لوحة يحكم عليها بمعايير مستقاة من فنها. وقد صاغ لبرون وسباستيان بوردون هذه القواعد، فرفعا الخط فوق اللون، والانضباط فوق الأصالة، والنظام فوق الحرية، ولم تعد مهمة الفنان أن ينقل الطبيعة بل أن يجملها، ولا أن يعكس فوضاها وعيوبها وبشاعتها كما يعكس جمالها العارض، بل أن ينتقي من بين سماتها تلك التي تتيح للنفس الإنسانية الإفصاح عن أعمق مشاعرها وأرفع مثلها. وكان على المعماريين والمصورين والنحاتين والخزافين وصناع المشغولات الخشبية والمعدنية والزجاجية والنقاشين، أن ينطقوا في صوت متناسق واحد بتطلعات فرنسا وبعظمة الملك.

ص: 140

‌2 - العمارة

على أن هؤلاء الفنانين الفرنسيين "المنطليين" كانوا قد عادوا من روما وقد اكتسبوا طلاءً "باروكياً" على غير وعي منهم. وقد وصفنا من قبل ذلك الطراز-طراز الباروك-الذي عم الآن وانتشر. وخلاصته أنه يحل محل البساطة الهادئة التي تميزت بها الأشكال الكرسيكية إسرافاً في الوجدان والزخرف، بينما نرى المثل الكلاسيكي-وعلى الأخص الهلنستي-قد حوكي في نحت هذا "القرن العظيم" وتصويره وأدبه، نجد العمارة والزخرفة قد أخذتا عن الطرز الأنيقة المنمقة التي عقد لها لواء النصر في إيطاليا بعد وفاة ميكل أنجيلو (1564). فلقد استهدف بناءو الملك الطراز الكلاسيكي، ولكنهم حققوا الباروكي-الباروكي الكامل في فرساي، ومزيجاً موفقاً من الباروكي والكلاسيكي في واجهات اللوفر.

أما أول الروائع المعمارية في هذا العهد فهي كنيسة فال-دجراس بباريس. وكانت آن النمساوية قد نذرت نذراً ببناء معبد جميل إذا وهبها الله ولويس الثالث عشر غلاماً. فلما أتاحت لها وصايتها على العرش المال كلفت فرنسوا مانسار بوضع تصميمات الكنيسة. وأرسى لويس الرابع عشر الحجر الأول في 1645 وكان يومها في السابعة. ونفذ تصميم مانسار على يد لومر سييه بالطراز الكلاسيكي، وتوج بقبة مازالت محط إعجاب المعماريين. وشيد لبرال كنيسة سان-لوي-ديزا نفاليد (1670) لقدامى المحاربين الذين يأويهم الأوتيل ديزثفاليد. وفي 1676 كلف لوفوا المعماري جول اردوان مانسار (حفيد أخي فرنسوا مانسار) بأن يكمل الكنيسة بخورس وقبة. والقبة في جمالها الرشيق رائعة العهد المعمارية. وقد حقق أردوان مانسار انتصاراً آخر في تصميم الكنيسة الملحقة بفرساي (1699). وقد أكمل عمله هنا في الأنفاليد صهره روبيردكوت

ص: 141

زخرفة مترفة، وهو الذي أقام كذلك الأوتيل دفيل في ليون، ودير سان دني، وواجهة سان-روش.

وحلتا العمارة الملكية محل العمارة الكنسية حين تفوقت الدولة على الكنيسة ثراءً ومكانةً، فأصبحت المشكلة الآن هي التعبير عن القوة لا عن الورع. وكان للوفر في تلبية هذه الحاجة ميزة تميز بها على غيره من العمائر، هي ما أحاط به من تقاليد موروثة. فقد شهد نموه أجيال كثيرة، وترك ملوك كثيرون بصماتهم على تاريخه. فشيد لومرسييه الواجهة الغربية للجناح الرئيسي بتكليف من مازاران، وبدأ الجناح الشمالي على طول شارع ريفولي الحالي. وأتم هذا الجناح خلفه لوفو، وأعاد بناء واجهة الجناح الجنوبي (المواجه لنهر السين)، وأرسى أساسات الجناح الشرقي. في هذه الفترة الهامة أصبح كولبير المشرف على العمائر. وإذ رفض تصميمات فو للجناح الشرقي، فقد فكر في مشروع مد اللوفر غرباً لتلتقي بالتويلري في قصر واحد. فأذاع على معماريي فرنسا وإيطاليا مسابقة في تصميم واجهة جديدة. ورغبة في منه في الحصول على أفضل التصميمات، وأقنع الملك بأن يرسل دعوة خاصة إلى جوفاني لورنتزو برنيني (1665) وهو يومها أمير الفنانين الأوربيين غير منازع، ليأتي إلى باريس على نفقة الملك ويقدم تصميمه. وأتى برنيني بأبهته الكبرى، وأغضب الفنانين الفرنسيين باحتقاره لعملهم، ووضع تصميماً ضخماً باهظ التكلفة يقتضي هدم مل اللوفر القائم تقريباً. ووجد كولبير قي التصميم عيوباً تتصل بأنابيب المياه وغيرها من مرافق المعيشة، واستشاط برنيني غضباً وقال إن "المسيو كولبير يعاملني كأنني غلام صغير، بكل لغوه عن المراحيض والقنوات السفلية (7) " وأمكن الوصول إلى حل وسط. فقد وضع الملك الحجر الأساسي لتصميم برنيني، وبعد أن أقام الفنان ستة أشهر في باريس رد إلى إيطاليا محملاً بالمال وأسباب التشريف، وقد حاول أن يرد على هذا بتمثال نصفي للويس الرابع عشر يقوم الآن بفرساي، وبتمثال للويس راكباً جواده في "جاليريا

ص: 142

بورجيزي" بروما أما تصميمه للوفر فتخلى عنه، واحتفظ بالمبنى القائم وكوفئ شارل بيرو بتكليفه ببناء الواجهة الشرقية. وارتفع صف أعمدة اللوفر الشهير، الذي أثارت عيوبه الواضحة سيلاً من النقد (8)، ولكننا نتقبله الآن على أنه من أعظم واجهات العمائر في العالم.

وكان كولبير يؤمل أن ينتقل الملك من مسكنه الضيق إلى في سان-جيرمان إلى اللوفر بعد تجديده. ولكن لويس لو ينس كيف أكره هو وأمه على الفرار من الجماهير الباريسية خلال حرب الفروند. وكان رأيه في صوت الشعب أنه صوت العنف، فلم يشأ أن يعرض نفسه لمثل هذه الكوابح لحكمه المطلق. وعليه قرر أن يبني فرساي، وروع القرار كولبير.

وكان لويس الثالث عشر قد شيد استراحة متواضعة للصيد في 1624. ورأى أندريه لنوتر في منحدر هذا الموضع الذي كان يرتفع في رفق، وفي أحراجه الغنية، فرصة مغرية للتفنن في تنسيق الحدائق. ففي 1662 قدم لويس الرابع عشر تصميماً عاماً للمنطقة، وإذا كانت المباني اليوم منخفضة عن المروج والبحيرة؛ وعن الأزهار والشجيرات ومختلف الأشجار، فلعل هذا هو الوضع الذي تصورها عليه لنوتر. فهو لم يقصد بالقصر أن يكون آية من آيات المعمار بقدر ما يكون دعوة إلى الحياة خارجه بين أحضان طبيعة روضها الفن وجملها، دعوة لتنشيق عبير الزهر والشجر، ولإشباع العين واللمسة المتخيلة من الأجساد الكلاسيكية النحت، ولمطاردة الفرائس والنساء في الغابات، للرقص وتناول الطعام على العشب، ولركوب الزوارق على القناة والبحيرة، وللاستماع إلى لولي ومليير تحت القبة الزرقاء. فهاهنا جنة من جنان الآلهة، بنيت بدراهم عشرين مليوناً من الفرنسيين لن يروها إلا لماماً، ولكنهم يعتزون بعز مليكهم. ومما يسر أن نعرف أن بستان فرساي كان مفتوحاً للشعب إلا في المناسبات الملكية.

وكان فن إنشاء الحدائق المنسقة البهية وافداً من إيطاليا ككثرة غيره

ص: 143

من الفنون، وقد جلب معه عشرات الحيل والمفاجآت، كالتعاريش، والشعريات، والمغارات، والكهوف، والأشكال الغريبة (الجروتسك)، والأحجار الملونة، وبيوت الطير، والتماثيل، والزهريات، والغدران، والنوافير، والميازيب، وحتى الأرغن تعزف إلى جوار الماء الجاري. وكان لنوتر قد صمم من قبل حدائق نو لوفوكيه، وبعد قليل سيصمم حدائق التويلري للملكة، وحدائق سان كلو لمدام هنرنيتا، وحدائق شاتسي لكونيه الكبير. وأطلق وليس يده في فرساي من 1662 فصاعداً، وروعت كولبير التكاليف التي أنفقت على تحويل برية شعثاء إلى فراديس غناء. وتعلق قلب الملك بلنوتر الذي لم يأبه للمال بال للجمال فقط، والذي كان فناناً صادقاً لا غش فيه (9). لقد كان في مثابة "بوالو" الحدائق، المصمم على أن يغير "فوضى" الطبيعة إلى نظام وتناسق وشكل معقول مفهوم. ولعله كان مسرفاً في إصراره على الكلاسيكية، ولكن الحدائق التي أبدعها ما زالت بعد ثلاثمائة سنة كعبة يؤمها البشر فيما يؤمون.

كان لويس لا يزال يحسد فوكيه، فأتى بلوفو معماري قصر فو ليوسع استراحة الصيد ويجعل منها قصراً ملكياً. وتسلم جول أردوان مانسار إدارة المشروع في 1670. وبدأ تشييد غرف السكن والقاعات وغرف الاستقبال وصالات الرقص وحجرات الدراسة والمكاتب الإدارية-كل هذه الأبنية الشاسعة التي نشهدها اليوم في فرساي. وما وافى عام 1685 حتى كان يكدح في المشروع 36. 000 رجل و 6. 000 حصان في نوبات بالليل والنهار. وكان كولبير منذ زمن طوبل قد حذر الملك من أن معماراً كهذا، مضافاً إلى الحرب يخوضها بعد الحرب، سينتهي بإفلاس الخزانة، ولكن في 1679 بنى لويس قصراً آخر في مارلي، ملاذاً يلجأ إليه من زحام فرساي، وفي 1687 أضاف الجران تريانون ليكون خلوة لمدام دمانتنون. وأمر جيشاً من الرجال فيهم الكثير من الجنود النظاميين بتحويل نهر أور ونقل مياهه خلال تسعين ميلاً من "قناة مانتنون"

ص: 144

لتزويد بحيرات فرساي ونهيراته ونافورته وحماماته، وفي 1688 هجر هذا المشروع بعد أن أنفقت عليه الأموال الطائلة حين دعا داعي الحرب. وقد كلف فرساي فرنسا حتى عام 1690 مبلغاً جملته 200. 000. 000 فرنك (500. 000. 000 دولار؟ (10)) وفرساي، من الناحية المعمارية، فيه من التعقيد والجزافية ما ينأى به عن الكمال. أما الكنيسة فرائعة، ولكن هذا الزهو بالزخرف لا يكاد يتفق وتذلل العبادة. وبعض أجزاء القصر جميل، والسلم المفضي إلى الحدائق فخم، ولكن إلزام مصمميه بأن يتركوا استراحة الصيد دون أن يمسوها في تصميمهم، ويكتفوا بإضافة أجنحة وزخارف، كل هذا أضر بمظهر البناء في مجموعه. وقد تترك هذه المجموعة المتكاثرة من الأبنية في النفس انطباع الرتابة الباردة والتكرار المتاهي-فالحجرة تقفو الحجرة على امتداد 1320 قدماً من الواجهة. ويبدو أن تنظيم القصر من داخله تجاهل الراحة الفسيولوجية لنزلائه ورواده، وأفترض قوة ضبط هائلة في الأمعاء النبيلة، فكان على من يريد إزالة ضرورة أن يعبر ست حجرات. لا عجب إذن أن سمعنا بأن السلالم والطرقات كانت تستخدم في مثل هذا الغرض. أما الحجرات ذاتها فتبدوا أصغر من أن تسمح بالراحة. وليس هناك حجرة فسيحة سوى القاعة الكبرى التي تمتد 320 قدماً على طول واجهة الحديقة، هناك نشر المزخرفون كل مهاراتهم-فعلقوا قطع نسيج جوبلان وبوفيه المرسومة، وبثوا المنحوتات على الجدران، وبلغوا بكل قطعة أثاث الكمال المحبب، وعكسوا كل البهاء في تلك المرايا الكبيرة التي أعطت الحجرة اسمها الثاني، وهو "قاعة المرايا". وعلى السقف صور لبرون الذي ارتفع إلى ذروة فنه، خلال خمس سنوات (1679 - 84)، وبرموز أسطورية، انتصارات حكم لويس الطويل، وسجل مأساته دون وعي منه، لأن هذه الانتصارات المصورة على أسبانيا وهولندا وألمانيا أزمعت أن تثير أرواح النقمة على الملك الشغوف بالحرب.

ص: 145

وعاش لويس في فرساي على نحو متقطع منذ 1671 وأنفق بعض وقته في مارلي، وسان-جرمان، وفونتنبلو، وبعد 1682 أصبح فرساي مقره الدائم. ولكنا نظلمه إذا ظننا أن فرساي كان مسكنه وملهاه، فهو لم يشغل سوى جزء متواضع من المبنى، أما الباقي فقد سكنته زوجه، وأبناءه، وأحفاده، وخليلاته، والمفوضيات الأجنبية وكبار الإداريين، وأفراد الحاشية، وكل الخدم والحشم الذين تطلبهم البيت المالك. ولا ريب في أن بعض هذا البهاء كان له هدف سياسي-هو إدخال الرهبة في قلوب السفراء الذين توقع منهم لويس أن يحكموا من هذا البذخ على موارد الدولة وسطوتها. وقد وقع هذا من نفوسهم ونفوس غيرهم من الزوار فأذاعوا في أرجاء أوربا من الأنباء عن بهاء فرساي ما جعله البلاط المحسود، والمثل الذي يحتذيه الكثير من البلاطات والقصور في القارة الأوربية بأسرها. أما في عقابيل هذا العهد فقد بدت هذه الكتلة الضخمة من المباني رمزاً وقحاً للاستبداد وتحدياً مستهتراً من كبرياء الإنسان لمصير الإنسان غير المتغير.

‌3 - الزخرفة

لم تعرف فنون الزخرفة قط، حتى على عهد باباوات النهضة، مثل هذا التشجيع والعرض. فقد كانت الأرضيات المكسوة بالبسط السميكة، والأعمدة الزينية، والموائد ورفوف المستوقدات الزخرفية الضخمة، والزهريات من الخزف الصيني، والشمعدانات الفضية والثريات البلورية، والساعات الجدارية الرخامية المطعمة بالأحجار الكريمة، والجدران ذات الحشوات الخشبية أو الرسوم الجصية أو الصور أو قطع النسيج المرسوم، والكراميش المصبوبة صباً أنيقاً، والأسقف ذات الزخارف الغائرة أو الصور، هذه كلها وكثير غيرها من ألوان الفن في فرساي وفونتنبلو ومارلي واللوفر،

ص: 146

وحتى في قصور الأهالي، جعلت من كل حجرة تقريباً متحفاً لأشياء تخلب العيون والألباب بسر الكمال الخفي. وعن رفائيل ومساعديه-جوليو رومانو، وبيرينو ديل فاجا، وجوفاني دا أوربيني-وعن قاعات الفاتيكان، نقل لبرون ومساعديه مجموعة الأرباب والربات والكوبيدات وتذكارات النصر والشعارات والنقوش العربية، وأكاليل الزهر وورق الشجر، والحليات القرنية لثمار الأرض، يزينون بها سجل انتصارات الملك على النساء والدول.

وكان الأثاث بطراز لويس الرابع عشر مترفاً فاخراً؛ هنا أذعنت البساطة الكلاسيكية للزخرفة الباروكية. فالمقاعد مسرفة في النقش والتنجيد والتدبب إسرافاً أبعد عنها الإعجاز خشية إلا أرقها. أما الموائد فكنت تجد بينها الثقيل المتين إلى حد يبدو معه غير قابل للحركة. وكانت مناضد الكتابة والمكاتب المزودة برفوف للكتب غاية في الأناقة بحيث تغري القلم بالكتابة في إيجاز لاروشفوكو المحكم أو في حيوية مدام دسفينييه المتدفقة. وكثيراً ما كانت الصناديق وخزانات النفائس تنقش بعناية فائقة أو تطعم برسوم من معدن أو أحجار كريمة. وقد أعطى أندريه شارل بول اسمه ( Buhlwork) لفنه الخاص، فن تطعيم الأثاث، لا سيما الأبونسي، بالمعدن المحفور، وصدف السلاحف، واللؤلؤ الخ، مضيفاً حليات درجية تمثل النبات أو الحيوان ذات رسوم غاية في الرشاقة، وكان يقيم في اللوفر (1672) بوصفه نجار الأثاث الأثير لدى لويس الرابع عشر. ولقد بيعت إحدى خزاناته المطعمة بمبلغ 3. 000 جنيه إنجليزي في 1882، وربما كان هذا المبلغ يعادل 50. 000 دولار في 1960 (11). ولكن بول مات في فقر مدقع بعد أن بلغ التسعين في 1732. وقد يكون أوفق لأذواقنا تلك الأكشاك المنقوشة التي أقيمت في هذه الفترة في كاتدرائية نوتردام دباري.

وأصبح النسيج المرسوم الآن فناً اختص به الملك. ولم يقنع كولبير

ص: 147

بإخضاع مصنعي جوبلان وأوبوسون لإشراف الملك، فأقنعه بأن يتسلم أيضاً مصنع النسيج المرسوم في بوفيه وكانت هذه القطع المرسومة لا تزال الحلية المفضلة لجدران القصور وسجفها في المدن والريف، والمهرجانات، والمباريات، والاحتفالات الرسمية، والأعياد الدينية. وقد صمم المصور الفلمنكي آدم فاندرمولر في بوفيه سلسلة رائعة من الرسوم سماها "فتح لويس العظيم"، وأعد الفنان لها نفسه بأن تبع لويس إلى حروبه ورسم بالقلم أو صور بالألوان على الطبيعة المواقع والحصون والقرى التي كانت مسرحاً لحملاته الحربية. وكان مصنع جوبلان يستخدم 800 من مهرة الصناع الذين لم يكتفوا بصنع قطع النسيج المرسوم، بل المنسوجات الرفيعة وأشغال الخشب والفضة والمعادن والتطعيم بالرخام. وهناك نسجت تحت إشراف لبرون قطع النسيج المرسوم العظيمة نقلاً عن الرسوم التخطيطية التي حفلت بها صور رفائيل الجصية الضخمة في قاعات الفاتيكان. وليس أقل من هذه شهرة السلاسل العديدة التي صممها لبرون ذاته؛ فصور قوى الطبيعة، والفصول، وتاريخ الإسكندر، ومساكن الملك، وتاريخ الملك. والمجموعة الأخيرة كانت تعد سبع عشر قطعة، واستغرق الفنان في صنعها عشر سنين، وما زال نموذج رائع منها معروضاً في حجرات عرض قطع الجوبلان-فيها ترى الأجسام متميزة إلى حد مذهل، والتفاصيل متخيلة تخيلاً كاملاً، حتى صورة المنظر الطبيعي التي على الجدران، وكل هذا بخيوط ملونة نسجتها في صبر وأناة أيدِ صناع تحت عيون مجهدة. وندر أن كرس مثل هذا الجهد البشري الضخم للزلفى لرجل واحد. وقد أعتذر لويس عن هذا بأن زعم لكولبير أن أسباب التمجيد هذه تتيح العمالة والدخل للصباغين والنساجين، وتوفو هدايا ذات وقع جميل في عملية "تشحيم" الدبلوماسية.

وترعرعت كل الفنون الصغيرة تحت اليد الملكية السخية. فصنعت الأبسطة الفاخرة في لاسافو نيري قرب باريس. وأنتج القاشاني البديع في

ص: 148

روان موستييه، والخزف الإيطالي (الميوليق) الجيد في نيفير، والصيني اللين العجينة في روان وسان كلو. وفي أخريات القرن السابع عشر تعلم الصناع الفرنسيون بتحريض كولبير أسرار البنادقة في صب بللور المرايا الكبيرة وتسويته وصقله، وهكذا صنعت مرايا "قاعة المرايا" الرائعة (12). ونظم كولبير ولبرون الصاغة أمثال جوليان دفونتيين وفانسان بتي وأسكناه في اللوفر، فصنعوا للملك وللأغنياء مئات التحف من الفضة أو الذهب-إلى أن صهر لويس والأغنياء هذه الحلي لتمويل الحرب. وقطعت الأحجار الكريمة والمداليات: وضربت العملة، ونقشت بتصميمات كانت المثل الذي تحتذيه أوربا كلها فيما عدا إيطاليا. ولم يصل فن صنع المداليات منذ عصر النهضة إلى مثل هذا الإبداع الذي حققه الآن على يد أنطوان بنوا وجان موجيه. أما كولبير، الذي لم يترك حجراً دون نقش، فقد أسس في 1662 أكاديمية المداليات والنقوش، ليخلد أعمال الملك

بمداليات تضرب تكريماً له (13) وذلك كان أسلوب الوزير الكبير في تجنيد الغرور الذي يملك المال في خدمة الفن الغالي النفقة. وفي 1667 أنشئت مدرسة للصور المحفورة في اللوفر، ورسمت مناقيش روبير نانتوي وسبستيان لكلير وروبير بونار وجان لبوتر في رهافة بالغة التدقيق شخصيات العهد وأحداثه. وحتى رسم المنمنمات ظل على قيد الحياة-وإن هبط عن سابق مقامه في العصر الوسيط-في كتاب "ساعات الصلاة" الذي أهداه إلى الملك متقاعدوه في الأنفاليد. إن الفنون الصغيرة، دون سائر الفنون، هي التي تظهر ذوق "القرن العظيم" وبراعته الفنية.

‌4 - التصوير

إن نجمين من نجوم التصوير ذوي المرتبة الثاني يقعان في الفلك الخارجي لهذا العصر، وهما فيليب دشامبين، وأوستاش لوسويير. أما فيليب فقد وفد

ص: 149

من بروكسل وهو في التاسعة عشر (1621)، وشارك في زخرفة قصر اللكسمبورج، ولم يكتفِ برسم صورة ريشليو بقامته الكاملة، وهي المحفوظة في اللوفر بل صنع أيضاً تمثالاً نصفياً للكردينال، وصوره صوراً جانبية محفوظة بمتحف الفنون القومي بلندن. وقد أتاه ميله المتعاطف لتصوير الأشخاص بزبائن من نصف زعماء فرنسا في الجيل الذي تلا ريشليو، كمازاران وتورين وكولبير ولمرسييه

وكان قبل قدومه إلى فرنسا قد صور جانس وأعتنق الجانسنية، وأحب البور-رويال ورسم صوراً للأم أنجليك وروبير آرنو وسان-سيران. ورسم للبور-رويال أروع صورة "الراهبات" باللوفر، وترى قيها الأم أنييس مكتئبة ولكنها لطيفة، ومعها سوزان ابنة المصور الراهبة. وكان مجال شامبين محدوداً، ولكن فنه يدفئ قلوبنا بما فيه من وجدان وإخلاص.

أما أوستاش لوسويير فكان متديناً كصاحبه ولكنه أكثر سنية قي إيمانه، مما جعله قلقاً في جيل سيطر على التصوير فيه منافسه لبرون، وتسلطت على هذا الفن فيه أساطير وثنية كرست لتأليه ملك لم يكن قد ثاب إلى تقواه بعد. وقد درس المصوران (لوسيير ولبرون) معاً على فويه، ورسما معاً في قبو واحد، واستخدما نفس النموذج، وأثنى عليهما على السواء بوسان في زيارته لباريس. وتبع لبرون بوسان إلى روما وتشرب الروح الكلاسيكية. أما لوسويير فلزم باريس مربوطاً بزوجة مخصبة ولم يستطع الفكاك من الفقر إلا نادراً. وحوالي 1644 رسم خمس صور تصف حوادث في حياة إله الحب لسقف "حجرة الحب" في قصر ولي نعمته لامبير ديتوريني، وفي حجرة أخرى من حجرات قصر لامبير هذا نفذ رسماً جصياً كبيراً يسمى "فيتون يطلب أن يقود مركبة الشمس" وفي 1645 تورط لوسوبير في مبارزة قتل فيها خصمه ثم اختبأ في دير للكارتوزيين، وهناك رسم اثنتين وعشرين صورة من حياة القديس برونو مؤسس الطريقة

ص: 150

الكارتوزية، وفي هذه الصور بلغ الفنان أوجه. وفي 1776 اشتريت هذه السلسلة من الرهبات الكارتوزيين بمبلغ 132. 000 جنيه فرنسي، وهي اليوم تشغل غرفة خاصة باللوفر. ولما عاد لبرون من إيطاليا (1647) أكتسح أمامه كل شيء. وانتكس لوسويير إلى فقره، ثم مات في 1655 ولما يجاوز الثامنة والثلاثين.

أما شارل لبرون فقد تسلط على الفنون في باريس وفرساي، لأنه أوتي قدرة التنسيق والإدارة كما أوتي قدرة التصور والتنفيذ. وإذ كان ابن نحات له أصدقاء من المصورين، فقد شب في بيئة تعلم فيها الرسم كما يتعلم غيره من الأطفال الكتابة. ورسم في الخامسة عشرة-وعينه لا تغفل عن ترقب فرصته الكبرى-صورة رمزية لحياة ريشليو ونجاحه، والتقط الوزير الطعم، فكلفه برسم موضوعات أسطورية لقصر الكردينال. وحين أخذه بوسان إلى روما أغرق نفسه في أساطير وزخارف رفائيل، وجوليو رومانو، وبييترو دا كورتونا. فلما عاد إلى باريس كان أسلوب الزخرفة المترفة المنمقة الذي انتهجه قد أكتمل نضجه. وهنا أيضاً كان فوكيه أسبق من لويس في استخدامه لبرون ليصور في قصره بفو. وقد استهوت مازاران وكولبير والملك براعة ما أنتج من صور جصية، وذلك الجمال الشهواني الذي اتسمت به أجساد النساء والتفاصيل الغنية من كرانيش ومصبوبات. ولم يأتي عام 1660 حتى كان لبرون يرسم صوراً جصية من حياة الإسكندر للقصر الملكي بفونتنبلو. وقد أبهج لويس أن يتبين ملامحه تحت خوذة الإسكندر، فكان يأتي كل يوم ليراقب الفنان وهو يرسم معركة أربل، وأسرة دارا عند قدمي الإسكندر. وكلتا الصورتين في اللوفر. وكافأه الملك بلوحة ملكية مرصعة بالماس، وجعله مصوره الأول، وأجرى عليه معاشاً بلغ 12. 000 جنيه في العام.

ولم تفتر للبرون همة. ففي 1661 دمرت النيران قاعة اللوفر الوسطى، فصمم ترميماً لها، وصور السقف والكرانيش بمناظر من أساطير أبوللو،

ص: 151

ئ

ومن هنا الاسم الذي أطلق عليها "قاعة أبوللو". وخلال ذلك درس الفنان الطموح العمارة والنحت وأشغال المعادن والخشب ورسم النسيج ومختلف الفنون التي جندت الآن لتزيين قصور العظماء. وانصهرت هذه الفنون جميعها في مهاراته المنوعة حتى لقد بدا أن الحظ أعده ليجمع فناني فرنسا في جهد موحد لينتجوا طراز لويس الرابع عشر.

وقد أطلق لويس يده منحه ما شاء من مال ليزين فرساي، حتى قبل أن يعينه مديراً لأكاديمية الفنون الجميلة. وهناك عمل بجد طوال سبعة عشر عاماً (1664 - 81) فنسق الأعمال الفنية وصمم "سلم السفير"، ورسم بنفسه في قاعات الحرب والسلام، وفي القاعة الكبرى، سبعاً وعشرين صورة جصية تصف أمجاد الملك منذ صلح البرانس (1659) حتى معاهدة نيميجن (1679). وقد أظهر لويس في الحرب والسلم وسط حشد من الأرباب والربات، والسحب والأنهار، والخيل والمركبات، يقذف الصواعق، ويعبر الراين، ويحاصر غنت، ولكنه إلى ذلك يجري العدالة ويصرف شؤون المال، يطعم الفقراء في المجاعة، وينشئ المستشفيات، ويشجع الفن. ولو أننا أخذنا هذه الصور فرادا لما عددناها من الروائع، فأساسها الكلاسيكي طغى عليه سيل من الزخارف الباروكية، ولكننا إذا أخذناها في جملتها وجدناها تؤلف أروع عمل قام به الرسامون الفرنسيون في هذا العصر. ويغيظنا تمجيده للملك لأنه يكشف عن داء الغرور، ولكن تملق الأمراء والملوك على هذا النحو كان سنة العصر. لا عجب إذن أن يقول لويس لمصوريه وهو يرى بعض صوره بجوار أخرى رسمها فيرونيري وبوسان "إن أعمالك تثبت للمقارنة بأعمال كبار الفنانين، ولا ينقصها إلا موت صاحبها لكي يقدرها الناس أكثر مما يقدرونها الآن، ولكنا نرجو ألا تتاح لها هذه الميزة سريعاً (14) " وقد سانده الملك خلال جميع المكائد التي أحدقت به من حساده بعد قليل، كما ساند موليير الذي ضايقه خصومه. ولم يكن غريباً

ص: 152

على طبع لويس-إذ نمى إليه أثناء حضوره اجتماعاً إدارياً أن لبرون جاء ليريه أخر صوره "رفع الصليب"(15) - أن يستأذن الحاضرين ليذهب ويرى الصورة ويعرب عن سروره، ثم يدعو كل المجتمعين ليأتوا ويشاركوه في مشاهدتها (16). وهكذا سارت الحكومة والفن في هذا العهد جنباً إلى جنب، وشارك الفنانون القواد العسكريين مكافآتهم ومدائحهم.

كانت صنعة لبرون شيئاً جديداً وإن انبثقت من الزخرفة الإيطالية. لقد كانت مزيجاً زخرفياً جمع فنوناً عديدة ليؤلف منها كلاً جمالياً واحداً. فلما حاول أن يجرب تصوير لوحات فردية انزلق إلى مرتبة وسط. وإذ استحالت انتصارات الملك إلى هزائم، وأخلت محظياته مكانهن للكهان، تغير مزاج العهد ولم يعد لزخارف لبرون البهيجة محل. ولما خلف لوفوا كولبير مشرفاً على العمائر فقد لبرون دوره زعيماً للفنون، وإن ظل رئيساً للأكاديمية. ومات في 1690 رمزاً لمجد ولى.

وأغتبط فنانون كثيرون بتحررهم من سيطرته، ومن هؤلاء على الأخص بيير منيار الذي ساءته هذه السيطرة. وإذ كان يكبر لبرون بتسع سنوات فقد سبقه في الحج إلى روما بلوحة ألوانه، وتعلق قلبه بالمدينة الخالدة كما تعلق بها بوسان، حتى لقد استقر رأيه على العيش فيها طوال حياته. وقد عاس فيهل فعلاً اثنتين وعشرين سنة (1635 - 57) وأغتبط زبائنه باللوحات التي رسمها لهم اغتباطاً حمل في النهاية البابا إنوسنت العاشر، الذي ربما ساءه الوجه الذي خلعه عليه فيلاسكويز من قبل، على أن يجلس إلى منيار الذي أضفى عليه طلعة ألطف. وفي 1646، حين بلغ منيار الرابعة والثلاثين، تزوج حسناء إيطالية، ولكنه ما إن سكن إلى الأبوة الشرعية حتى تلقى دعوة من فرنسا ليذهب ويخدم الملك، فذهب على مضض. وفي باريس تمرد على قبول التوجيهات من لبرون، ورفض الانضمام إلى الأكاديمية، وحز في نفسه أن يرى زميله الأصغر يحصد الأنواط والأموال. وأوصى

ص: 153

مولبير كولبير به، ولكن لعل الوزير أنصف في إيثاره لبرون، فما كان منيار ليرضى أن يرتفع إلى مستوى الفخامة المتكلفة التي تطلبها القرن العظيم. على أية حال، كان لويس الذي بلغ العشرين آنئذ في حاجة إلى صورة فاتنة له يغوي بها عروساً من أسبانيا. وارتضى منيار أن يرسمها، وأفتتن لويس وماريا تريزا بها، وغدا منيار أنجح رسام للأشخاص في هذا العهد. فرسم لوحات لمعاصريه الواحد تلو الآخر: مازاران، وكولبير، ورتز، وديكارت، ولافونتين، وموليير، وراسين، وبوسويه، وتورين، ونينون دلا نكلو، ولويز دلا فاليير، والسيدات مونتسبان، ومانتينون، ولافاييت، وسفينييه، وقد أنصف يدي آن النمساوية اللتين عدهما الناس أجمل الأيدي في العالم، فكافأته بمهمة تزيين قبو القبة في كنيسة فال-دجراس، وكان هذا الرسم الجصي رائعته الكبرى التي أشاد بها موليير في إحدى قصائده. وقد صور الملك غير مرة، وأشهر صوره لوحته المعروضة في فرساي والتي يرى فيها راكباً جواده، ولكنا نجده هناك على أروعه في اللوحة البديعة المسماة "دوقة مين في طفولتها". وبعد موت كولبير انتصر منيار في النهاية على لبرون، فخلف غريمه مصوراً للقصر في 1690، وعين عضواً في الأكاديمية بمرسوم ملكي، وبعد خمس سنوات مات في الخامسة والثمانين وهو لا يفتأ يرسم ويناضل.

وجاهد رهط من المصورين غير من ذكرنا في خدمة الملك الذي استوعب الفنانين جميعاً. فشارل دوفرينوا، وسبستيان بوردون، ونويل كوابيل وابنه أنطوان، وجان فرانسوا دتروا، وجان جوفنيه، وجان باتيست سانتير، والكساندر فرانسوا ديبورت-هؤلاء كلهم يلتمسون أن يسلكوا في زمرة الحاضرين هذه الوليمة الملكية. وهناك فنانان آخران يبرزان بقوة في نهاية العهد-وأولهما نيكولا دلا رجليير الذي خلف منيار مصوراً أثيراً للأرستقراطية لا في فرنسا وحدها بل في إنجلترا أيضاً بعض الوقت

ص: 154

(1774 - 78). وقد اكتسب حب لبرون باللوحة الرائعة التي رسمها له والمعروضة الآن في اللوفر. وألوانه الرمزية ولمسته الخفيفة تبين الانتقال من اضمحلال لويس الرابع عشر المعتم إلى عصر آخر مرح، وهو عصر الوصاية والفنان فاتو.

أما الثاني وهو ياسينت ريجو، فكان أصلب عوداً. وقد كسب هو أيضاً قوته برسم الأشخاص (أنظر صورته البديعة لبوسويه في اللوفر)، ولكنه لم يكسبه بالتملق. ومع أن صورته التي أظهر فيها لويس الرابع شامخاً مسيطراً، والتي ترتفع في مؤخرة قاعة اللوفر الكبرى، تبدو من بعيد وكأنها إشادة بالملك، فإننا نلاحظ إذا تأملناها عن كثب ملامح الملك جامدة منتفخة، وهو واقف على قمة سلطته وعلى حافة قدره (1701). وكانت أغلى صور العصر ثمناً كما أنها أفضلها عرضاً، فقد نقد لويس ريجو فيها 40. 000 فرنك (100. 000 دولار؟) -وربما كان هذا الأجر معادلاً لما دفعه لويس ثمناً للثياب الرائعة التي زينت هنا انحلاله.

‌5 - النحت

كان المثالون أقل حظوة وثواباً في هذا العهد من المصورين. ومع ذلك فالمنحوتات المرمرية القديمة هي التي اشتهى لبرون أن تصاغ على غرارها جميع الفنون. وقد أنفقت الأموال الطائلة وسخرت المواهب الكثيرة في شراء أو نسخ التماثيل التي بقيت على قيد الحياة بعد انهيار العالم القديم. ولم يقنع لويس بالنسخ طبعاً. وإذ كان يذكر حدائق سالوست وهادريان الرومانية، فقد استخدم لفيفاً من المثالين الأكفاء لينفخوا بتماثيلهم الحياة في بستان فرساي. وأقيمت الزهريات الضخمة كزهرية الحرب التي صنعها كوازيفوكس في حوض نبتيون، وعلى شرفة القصر؛ ونحت الشقيقان جاسبار وبلتازار دمارسي "حوض باخوس" العظيم، وأبرز جان باتست

ص: 155

من البحيرة تمثاله الرائع "مركبة أبوللو" والإله الشمس فيه يرمز للملك، ونحت فرنسوا جيراردون في الحجر من "الحوريات المستحمات" ما لم يكن برا كستليز ذاته ليأنف من نسبته إليه.

وتطلع جيراردون قرناً إلى الخلف ليرى كيف صور بريماتتشو وجوجون جسد الأنثى في صورة كاملة. وعاد إليه ذلك الحسن الانسيابي الذي اتسم به الفن الهيليني، ربما في إسراف، ومهما بحثنا وفتشنا فإننا لم نجد إلى الآن إناثاً كاملات الأجساد كأولئك اللاتي نجدهن في تمثالي "اغتصاب بروزيربين (17) ". ولكنه كان قادراً على التعبير عن حالات نفسية أقوى من هذه. وقد صنع لميدان فاندوم تمثالاً للويس الرابع عشر محفوظاً الآن في اللوفر، ونحت لكنيسة السوربون مقبرة فخمة لريشليو. وقد أحبه لبرون لأنه تجاوب في لطف مع ذوق الأكاديمية وأهدافها. وخلف لبرون كبيراً لمثالي الملك، ورأس الأكاديمية بعد وفاة منيار. ومع أنه ولد قبل لويس بعشرة أعوام إلا أنه عمر بعده شهوراً، ومات في 1715 وهو في السابعة والثمانين.

أما أنطوان كوازيفوكس فكان إنساناً أرق من اسمه، محبباً إلى الناس كتمثاله "دوقة برجندية". ولد بليون، وكان ينحت لنفسه مكاناً بين المثالين حين دعاه لبرون ليساعد في زخرفة فرساي. وقد بدأ بصنع نسخ أو مقتبسات رائعة من التماثيل القديمة. فنحت عن تمثال رخامي قديم في فيللا بورجيزي "حورية المحارة"، وعن تمثال في قصر مديتشي بفلورنسة نقل "فينوس الجاثمة" وكلا التمثالين محفوظ في مستودع الفن المحظوظ الذي نسميه اللوفر. وما زال في مكانه بفرساي تمثاله "كاستور وبولكس" الذي نقله عن مجموعة بحدائق لودوفيزي بروما. وما لبث أن أنتج أعمالاً أصيلة فيها قوة لا يستهان بها. فنحت لبستان فرساي تماثيل كبيرة تمثل نهري الجارون والدوردون، ولساحة قصر مارلي رمزين شبيهين بهذين لنهري السين والمارن.

ص: 156

وفي حدائق التويلزي اليوم أربعة تماثيل رخامية نحتها لمارلي، وهي فلورا (ربة الزهر) -والشهرة، وحوريات الغابات، وعطارد راكباً بيجاسوس. وقد خرج من تحت إزميله الكثير من الزخارف المنحوتة في حجرات فرساي الكبرى.

وظل يكدح في فرساي ثمانية أعوام، وقضى خمسة وخمسين عاماً في خدمة الملك. فنحت له اثني عشر تمثالاً، أشهرها تمثاله النصفي في فرساي، وأصبح في النحت ما كان منيار في التصوير-أحب نحاتي الوجوه إلى الناس في فرنسا. وبدلاً من أن يتشاجر مع منافسيه نحتهم في الرخام أو صبهم في البرونز، فوفر عليهم غرورهم ونقودهم. وحين تلقى 1500 جنيه أجراً لتمثال النصفي الذي صنعه لكولبير، رأى الأجر مغالى فيه فرد منه سبعمائة جنيه (18). وقد ترك لنا تماثيل كاملة الشبه بلبرون، ولنوتر، وآرنو، وفوبان، ومازارن، وبوسويه، وترك لنفسه ترجمة بسيطة لوجه أمين أشعث مضطرب (19)، ولكونديه العظيم تمثالين نصفيين أحدهما في اللوفر، والآخر في شانتبي، يتميزان بصدق وفحولة لا مراء فيهما. ثم نحت بأسلوب مختلف تماماً تمثالاً رشيقاً لدوقة برجندية في صورة ديانا (20)، والتمثال النصفي الجميل لنفس الأميرة في فرساي. وصمم مقابر رائعة لمازاران (21) وكولبير، وفوبان، ولبرون. ولأعماله ملمس الروح الباروكية في عاطفيتها المسرحية ومبالغتها العارضة، ولكنها في أحسن صورها تعبر تعبيراً حسناً عن المثل الكلاسيكي الذي استهدفه الملك والبلاط، فهي رأسين متمثلاً في الرخام والبرونز.

وحوله وحول جيراردون تجمع سباعي من المثالين، فرانسوا أنجييه وأخوه ميشيل، وفليب كوفييه وابنه فرانسوا، ومارتان ديجاردان، وبيير لجرو، وجيوم كوستو، الذي ما زالت "خيل مارلي" التي نحتها تثب في الهواء بميدان الكونكورد.

ص: 157

وفضلاً عن هؤلاء المثالين جميعاً، وعلى مبعدة منهم، وفي تحدٍ لمثالية النحت الرسمي الناعمة، أنطق بيير بوجيه إزميله بغضب فرنسا وبؤسها. وقد ولد في مارسيليا (1622) وبدأ حياته الفنية حفاراً في الخشب، ولكن نفسه تاقت كما تاقت نفس معبوده ميكل أنجيلو من قبل لأن يصبح في وقت واحد مصوراً ومثالاً ومعمارياً. وقد أحس أن الفنان العظيم ينبغي أن يسيطر على هذه الفنون جميعاً. وإذ كان يحلم بأفذاذ الفنانين الإيطاليين فقد سار من مرسيليا إلى جنوة إلى فلورنسة إلى روما. وتتلمذ في حماسة لبييترودا كورتونا في زخرفة قصر بارباريني، وتشرب كل صدى وأثر لبوناروتي، وحسد برنيني على شهرته المتعددة الجوانب. فلما عاد إلى جنوة نحت تمثال القديس سبستيان الذي أذاع اسمه لأول مرة، فلكفه فوكيه، الذي سبق لويس الرابع عشر في تبين مواهب هذا الفنان أيضاَ، بأن ينحت تمثال "هرقول (22) " لقصر فو، ولكن فوكيه سقط، فهرع بيير إلى الجنوب ليعتكف في فقره ويجتر همومه. ولما كلف بنحت مجموعة "أطلانطيس"-وهي تماثيل رخامية لأطلس، ليجمل بها شرفة "الأوتيل دفيل"، صاغ التماثيل على غرار الحمالين الكادحين في أرصفة الشحن، وكان ينطق عضلاتهم المكدودة ووجوههم التي شوهها الألم بصرخة الثورة- ثورة المطحونين الذين يحملون العالم على أكتافهم. ولكن فناً كهذاً ما كان ليعجب فرساي.

ومع ذلك فأن كولبير الذي فتح ذراعيه للمواهب طلب إليه أن ينحت تماثيل يؤثر أن تكون ذات مسحة أسطورية بريئة. فأرسل إليه بوجيه ثلاث قطع محفوظة الآن باللوفر: نحتاً قليل الغور لطيفاً يمثل الإسكندر وديوجين، وتمثالاً فيه جهد وإسراف لبيرسيوس وأندوميدا، وتمثالاً عنيفاً لميلوكورتونا-ذلك النباتي الجبار يحاول الخلاص من فكي أسد عنيد ومخالبه.

ص: 158

وفي 1688 زار بوجيه باريس، ولكنه وجد طبعه المتكبر وإزميله الغضوب يتنافران مع ظرف البلاط وفنه، فقفل راجعاً إلى مرسيليا، وهناك صمم "الميرة" و"سوق السمك"-ولا عجب ففي فرنسا حتى سوق السمك يمكن أن يكون عملاً فنياً. ولعل أعظم تماثيله قصد به أن يكون تعليقاً على مغامرات الملك الحربية، وهو تمثال للإسكندر راكباً يبدو فيه وسيماً مشرقاً، يحمل خنجره في يده، ويدوس ضحايا الحرب (23) في غير اكتراث تحت سنابك جواده. وقد أفلت بوجيه من رسمية لبرون وفرساي، ولكنه أفلت أيضاً من انضباطهما. وأفضى به طموحه لمنافسة برميني، وحتى ميكل أنجيلو، إلى مبالغات في تصوير عضلات الجسد وتعبيرات الوجه، ومن ذلك "رأس ميدوزا" الرهيب المحفوظ باللوفر. ولكنه كان على الجملة أقوى نحات في وطنه وفي جيله.

وإذ قارب العهد العظيم نهايته، وجرت الهزائم فرنسا إلى حال من اليأس الشديد، انصرفت كبرياء الملك إلى التقوى، وأنتقل الفن من غرور فرساي إلى التواضع الذي يطالعنا في تمثال كواز فوكس لويس الرابع عشر راكعاً في النوتردام-هنا نرى الملك وقد بلغ السابعة والسبعين، مزهواً إلى الآن بأثوابه الملكية، ولكنه يضع تاجه في تواضع عند قدمي العذراء. في هذه السنوات الأخيرة تقلص الإنفاق على فرساي ومالي، ولكن خورس النوتردام رمم وجمل. أما عبادة الفن القديم فقد فترت نتيجة لشططها؛ وبدأ الطبيعي يجور على الكلاسيكي، وقضى على دفعة الفن الوثنية إلغاء مرسوم نانت. وتسلط مدام دمانتنون وتلييه على الملك وشددت الموضوعات الزخرفية الجديدة على الدين لا على المجد، فلقد عرف لويس ربه أخيراً.

إن تاريخ الفن إبان حكم الملك العظيم يعذبنا بأسئلة عويصة. فهل كان تأمين الفنون نعمة أو نقمة؟ وهل حول تأثير كولبير ولبرون والملك تطور

ص: 159

فرنسا من الاتجاه الأصيل والطبيعي، إلى محاكاة موهنة لفن هلنستي حل به الضعف، محاكاة شوشها إسراف باروكي في الزخرفة؟ وهل تثبت هذه السنوات الأربعون من "طراز لويس الرابع عشر" أن الفن يزداد ازدهاراً في ظل ملكية ترعاه بالثروة المركزة، وتوجه المواهب في وحدة متسقة؟ -أم في ظل أرستقراطية تصون، وتوصل، وتعدل في حذر، معايير الجودة والذوق، وأصول النظام والانضباط؟ -أم في ظل ديمقراطية تفتح الطريق أمام كل موهبة وتطلق الكفايات من ربقة التقاليد، وتلزم الفن بأن يعرض إنتاجه على الشعب ويكفيه وفق رأيه؟ وهل كان ممكناً أن تغدو إيطاليا وفرنسا الوطنين المحظوظين للفن والجمال اليوم لولا أنهما جملتا بأموال وأذواق الكنيسة والنبلاء والملوك؟ وهل كان ممكناً أن يوجد فن عظيم دون تركيز الثروة؟.

إن الجواب المتواضع المفيد عن هذه الأسئلة يقتضي حكمة عالمية، وأي جواب من هذا القبيل لابد أن تجعله التفريقات والشكوك جواباً غامضاً غير حاسم. ولعل الفن فقد شيئاً في طبيعته ومبادرته ونشاطه نتيجةً لما بسطته عليه القوة المركزية من حماية وتوجيه وهيمنة. صحيح أن فن لويس الرابع عشر كان فناً منظماً، أكاديمياً، جليلاً ببهائه المنسق، لا يفوقه فن في صقله الفني، ولكن السلطة عطلت قدرته على الابتكار، وقد قصر دون ذل الالتحام بالشعب الذي أضفى الدفء والعمق على الفن القوطي. لقد كان اتساق الفنون في عهد لويس رائعاً، ولكنه كثيراً ما كان يعزف على نفس الوتر، حتى لقد أصبح في النهاية تعبيراً لا عن جيل وأمة بل عن ذات وبلاط. صحيح إن الثروة لا غنى عنها للفن، ولكن الثروة تكون عاراً، والفن يكون بغيضاً، إذا ازدهرا على حساب فقر شامل واعتقاد بالخرافات مذل، فالجميل لا يمكن فصله طويلاً عن الخبر. وقد تكن الأرستقراطية حارساً وناقلاً مفيداً للعادات والمعايير والأذواق

ص: 160

إذا تيسرت الأسباب لفتحها أمام المواهب الجديدة، ولمنعها من أن تكون أداة للامتياز الطبقي وللترف الكاذب. كذلك تستطيع الديمقراطيات أن تجمع الثروة وتضفي عليها الكرامة بتغذيتها للمعرفة والأدب والبر والفن، ومشكلات الديمقراطيات في معاداة الحرية غير الناضجة للنظام والانضباط، وفي نمو الذوق نمواً بطيئاً في المجتمعات الناشئة، وفي ميل الكفايات غير المحكومة لأن تبدد نفسها في تجارب شاذة تخطئ الابتكار فتحسبه عبقرية، والطرافة فتحسبها جمالاً.

على أية حال كان رأي أرستقراطيات أوربا في صف الفن الفرنسي دون ما تردد. فأنتشر معمار القصور والنحت الكلاسيكي والأسلوب الأدبي والزخرفة الباروكية للأثاث والثياب-انتشر هذا كله من فرنسا إلى كل طبقة حاكمة تقريباً في غرب أوربا حتى إلى إيطاليا وأسبانيا. وتطلعت قصور لندن وبروكسل وكولون ومينز ودرسدن وبرلين وكاسل وهيدلبرج وتورين ومدريد إلى فرساي مثلاً تحتذيه في السلوك والفن. وكلف المعماريون الفرنسيون بتصميم القصور حتى مورافيا شرقاً، وصمم لنوتر الحدائق في وندزور وكاسل، ووفد رن وغيره من المعماريين الأجانب على باريس لينقلوا عنها الأفكار، وانبث النحاتوت الفرنسيون في جميع أرجاء أوربا، حتى أصبح لكل أمير تقريباً تمثال راكب كتمثال ملك فرنسا. وظهرت قصص لبرون الرمزية الأسطورية في السويد، والدنمرك، وأسبانيا، وهامتن كورت. والتمس الملوك الأجانب أن يجلسوا إلى ريجو ليصورهم فإن لم يتيسر فإلى أحد تلاميذه. وأوصى حاكم سويدي بقطع من نسيج بوفيه المرسوم تخليداً انتصاراته. إن التاريخ لم يشهد منذ انتشار الثقافة اللاتينية القديمة في غرب أوربا غزواً ثقافياً أنجز بمثل هذه السرعة وهذا الكمال.

ص: 161

الفصل الرابع

‌موليير

‌1622 - 1673

1 -

المسرح الفرنسي

بقي الآن أن تخضع المسرحية والشعر الفرنسيان أوربا لسلطانهما.

ولقد شاء هوى التاريخ أن ينصرف الأدب الفرنسي في هذا العصر إلى المسرح، وأن يشجع الكردينال ريشليو المسرحية التي ظلت الكنيسة تحرمها طويلاً، وأن يستورد الكردينال مازاران الملهاة الإيطالية إلى فرنسا، وأن يرث لويس الرابع عشر حب المسرح من هذين الكاهنين اللذين مهدا لسلطته أو حفظاها.

كانت المسرحية الحديثة قد بلغت الشكل الأدبي في إيطاليا برعاية باباوات النهضة الرفيعي الثقافة، وكان ليو العاشر يحضر التمثيليات دون أن يطالب بأن تكون صالحاً للعذارى. ولكن الإصلاح البروتستنتي ومجمع ترنت المترتب عليه وضعاً حداً لهذا التساهل الكنسي. وقال بنديكت الرابع عشر إن المسرحية لم يستمر السماح بها في إيطاليا إلا درءاً لشرور أفدح، وفي أسبانيا إلا لأنها تخدم الكنيسة. وأما في فرنسا فإن رجال الأكليروس، الذين صدمتهم الحرية الجنسية التي تمتع بها المسرح الهزلي، نددوا بالمسرح عدواً للآداب العامة. وقضت سلسلة طويلة من الأساقفة واللاهوتيين بأن الممثلين محرومون بحكم طبيعة الحالة، أي بحكم مهنتهم ذاتها، وأنكر عليهم قساوسة باريس، الذين عبر عنهم صوت بوسويه الآمر، حق تناول الأسرار أو الدفن في أرض مكرسة إلا إذا تابوا وأقلعوا عن مهنتهم. وإذ حرموا من مراسم

ص: 162

سر الزواج يقوم بها الكاهن، فقد كان عليهم أن يقنعوا بزيجات عرفية بالغة القلق وعدم الاستقرار، كذلك رسم القانون الفرنسي الممثلين وأقصاهم عن كل وظيفة شريفة، وحظر على القضاة حضور الحفلات التمثيلية.

ومن ملامح التاريخ الحديث البارزة أن المسرح استطاع التغلب على هذه المقاومة. ذلك أن المطلب الشعبي للتظاهر والادعاء تخففا وثأراً من الواقع أنجب العدد العديد من الهزليات والملاهي، وكان للآلام التي فرضها على الرجال الاقتصار على زوجة واحدة الفضل في إقبال جمهور سخي العطاء على مسرحيات الحب الحلال أو الحرام. ويلوح أن ريشليو وافق ليو العاشر على أن أيسر سبيل للهيمنة على المسرح هو رعاية أفضل المسرحيات لا رفضها كلها، وبهذه الطريقة قد يتيح القدوة للذوق العام، والعيش للفرق المسرحية المهذبة. وليلاحظ القارئ تقرير فولتير الآتي:"منذ أدخل الكردينال ريشليو الأداء المنتظم للتمثيليات في البلاط، الأمر الذي جعل باريس الآن منافسة لأثينا، لم يقتصر الأمر على تخصيص مقعد يجلس عليه رجال الأكاديمية التي تضم نفراً من القساوسة، بل خصص مقعداً آخر للأساقفة (1) ". وفي 1641، ربما بناء على طلب الكردينال، بسط لويس الثالث عشر رعايته على فريق من الممثلين عرفوا بعدها بالفرقة الملكية أو الكوميديين الملكيين، وأجرى عليهم معاشاً قدره ألف جنيه في العام، وأصدر مرسوماً يعترف بالمسرح لوناً مباحاً من ألوان الترفيه، وأعرب عن رغبته الملك في ألا تعتبر مهنة الممثل بعدها ضارة بمركزه في المجتمع (2). وأقامت الفرقة مسرحها في "الأوتيل دبورجون" وحظيت برعاية لويس الرابع عشر الرسمية، واحتفظت طوال حكمه بتفوقها في إخراج المآسي.

ورغبة في رفع مستوى الملهاة الفرنسية، دعا مازاران نفراً من الممثلين الإيطاليين إلى باريس، ومنهم تيبيريو فيوريللي، الذي أصبح أثيراً لدى جاريس والبلاط بأدائه دور المهرج الفشار "سكاراموتشا". ولعله هو

ص: 163

وزملاؤه شاركوا في بعث حمى المسرح في أوصال جان بوكلان الرابع، وفي تعليمه فنون المسرح الهزلي (3). فلما عاد "سكاراموش" إلى إيطاليا (1659) أصبح جان بوكلان، الذي عرفه المسرح والعالم باسم موليير، الممثل الهزلي الأول للملك، وعدها بقليل-في رأي بوالو المولع به-أكبر كتاب العصر.

‌2 - تلمذته

على المبنى رقم 96 بشارع سانت- أونوريه كتابه بحروف من ذهب هذا نصها: -

شيد هذا البيت فوق موضع البيت الذي ولد فيه موليير

في 15 يناير، 1622

وكان البيت بيت جان باتست بوكلان الثالث-منجد الأثاث والمزخرف. وكنت زوجة ماري كريسيه قد أتته بمهر قدره 2. 200 جنيه، وأنجبت له ستة أطفال، ثم ماتت بعد زواجهم بعشر سنوات، ولم يكن طفلها الأول- جان باتست بوكلان الرابع- يتذكرها في وضوح، ولم يذكرها قط في تمثيلياته. وتزوج الأب ثانية (1633) ولكن زوجة الأب ماتت في 1637، فكان على الأب أن يحمل عبء عبقرية ولده، ويوجه تعليمه، ويفكر في تشكيل مجرى حياته. وفي 1631 أصبح جان بوكلان الثالث "المشرف على تنجيد أثاث حجرة الملك" ومنح امتياز إعداد السرير الملكي والسكني في البيت الملكي، لقاء راتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه، وهو مبلغ متواضع، ولكنه لم يلزم الحضور في أي عام أكثر من ثلاثة أشهر. وكان الأب قد اشترى الوظيفة من أخيه، وأراد أن يورثها ابنه. وفي 1637 أقر لويس

ص: 164

الرابع عشر حق جان بوكلان الرابع في وراثة الوظيفة؛ ولو أن تطلعات الأب تحققت لعرف التاريخ موليير-إن عرفه إطلاقاً- بأنه الرجل الذي كان يعد سرير الملك. على أن جداً للصبي أولع بالمسرح، فكان يصطحبه إلى حفلات التمثيل بي الحين والحين.

وأعداداً لجان الرابع لتهيئة سرير الملك، أرسل إلى كلية اليسوعيين في كليرمون، وكانت الأم الحانية على المهرطقين. وهناك تعلم الكثير من اللاتينية، وقرأ تيرنس وأفاد منه، ولا شك أنه اهتم، وربما شارك، في المسرحيات التي عرضها اليسوعيون أداة لتعليم تلاميذهم اللاتينية والأدب والكلام ويقول فولتير إن جان تلقى كذلك تعليماً عن الفيلسوف جاسندي الذي كان قد عين معلماً خاصاً لزميل في فصل جان. على أية حال تعلم جان الكثير عن أبيقور، وترجم شطراً كبيراً من ملحمة لوكريتيوس الأبيقورية De Rerum Natura ( وبعض سطور مسرحيته "مبغض الشر (4) ". تكاد تكون ترجمة لفقرة في لوكريتيوس (5)). والراجح أن جان فقد إيمانه قبل أن يختتم صباه (6).

وبعد أن قضى خمس سنين في الكلية درس القانون، ويبدو أنه مارسه حقبة قصيرة في المحاكم. ثم أتخذ مهنة أبيه بضعة أشهر (1642). وفي ذلك العام التقى بمادلين بيجار، وكانت وقتها سيدة مرحة في الرابعة والعشرين. وقبل ذلك بخمس سنين كانت خليلة للكونت دمودين، الذي اعترف في سماحة بالطفل الذي ولدته له، وأذن لابنه في أن يقف عراباً له عند عماده. وفتنت مادلين جان- وكان قد بلغ العشرين- وسحرته بجمالها وطبعها البشوش اللطيف. وأغلب الظن أنها قبلته عشيقاً وقد حمله عشقها للمسرح، مع عوامل أخرى، على اتخاذ قرار بأن يولي لتنجيد الأثاث ظهره، وأن ينزل عن حقه في أن يخلف أباه مشرفاً على تنجيد حجرة الملك لقاء 630 جنيهاً، وأن يلقي بنفسه في خضم التمثيل (1643). وذهب ليقيم في بيت مادلين

ص: 165

بيجار (7). ثم دخل معها ومع أخويها وآخرين في تعاقد رسمي أنشئوا بمقتضاه "المسرح الشهير"(30 يونية 1643). ويعتبر الكوميدي فرانسيز ذلك العقد بداية لتاريخه الطويل الممتاز. وأتخذ جان الآن اسماً مسرحياً جرياً على عادة الممثلين، فأصبح يسمى موليير.

واستأجرت الفرقة الجديدة ملعباً للتنس مسرحاً لها، وقدمت مختلف التمثيليات، ثم أفلست؛ وفي 1645 قبض على موليير ثلاث مرات بسبب الدين ودفع أبوه عنه ديونه وحصل على أمر بالإفراج عنه معللاً نفسه بأن الفتى قد برئ من حمى المسرح. ولكن موليير أعاد تأليف "المسرح الشهير" وأنطلق في جولة بالأقاليم. ومنح الدوق ديبيرنون حاكم جيين الفرقة تأييده. وتثقلت الفرقة في سلسلة مضنية من النجاح والفشل بين ناربون، وتولوز، وألبي، وكاركاسون، ونانت، وآجن، وجرينوبل، وليون، ومونبلييه، وبوردو، وبيزييه، وديجون، وأفنيون، وروان. وارتقى موليير حتى أصبح مديراً لها (1650)، ووفق بعشرات الحيل في أن يحفظ للفرقة قدرتها على إيفاء ديونها ويكفل لها طعامها. وفي 1653 أعار الأمير ديكونتي، زميله المدرسي القديم، اسمه للفرقة وقدم لها المعونة، ربما لإعجاب سكرتيره بالممثلة الآنسة دوبارك. ولكن الأمير أصابته نوبة شلل ديني في 1655، فأخبر الفرقة بأن ضميره يمنعه من الاتصال بالمسرح، وما لبث بعد ذلك أن ندد علانية بالمسرح، وبوليير بصفة خاصة، مفسداً للشباب وعدواً للفضيلة المسيحية.

ووسط هذه التقلبات نهضت الفرقة شيئاً فشيئاً بكفايتها ودخلها وذخيرتها من المسرحيات. وتعلم موليير فن المسرح وحيله. فما وافى عام 1655 حتى كان يكتب التمثيليات كما يمثلها. وفي 1658 آنس في نفسه من القوة ما يكفي لتحدي فرقتين احتلتا المسرح الباريسي، فرقة ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، وفرقة خاصة تمثل في مسرح ماريه. وحضر هو ومادلين بيجار

ص: 166

من روان إلى باريس ليمهدا الطريق أمام فرقتهما. وزاره أباه، وظفر بعفو عن ذنوبه ومهنته. ثم أقنع فيليب الأول دوق أورليان بأن يبسط حمايته على الفرقة وأن يحصل لها على إذن بإقامة حفلة تمثيلية بالبلاط.

وفي اكتوبر 1658 مثلت "فرقة المسيو" هذه أمام الملك في قاعة الحرس باللوفر مأساة كورني "نيكوميد"، ومثل موليير الدور الرئيسي دون توفيق كبير، لأنه كما يقول فولتير كان يعاني "من ضرب من الفواق لا يلائم البتة الأدوار الجادة، ولكنه يعين على جعل تمثيله في الملهاة أكثر إمتاعاً"(8). وقد أنقذ الحفلة بأن أتبع المأساة بملهاة فقدت الآن معالمها، ومثل بحيوية ومرح، وحاجب مرفوع وفم مثرثر جعل الجمهور يتساءل لم يمثل المأساة إطلاقاً. وكان الملك من الصبا ما جعله يستمتع بهذا الهزل، ومن الرجولة ما جعله يقدر شجاعة موليير. فأصدر تعليماته بأن تشارك فرقة المسيو فرقة سكاراموش الإيطالية في قاعة البتي بوربون، وهناك أيضاً أخفق الممثلون الوافدون حين حاولوا تمثيل المآسي التي قصروا في أدائها دون ممثلي الملك في الأوتيل دبورجون، ووفقوا في التمثيليات الهزلية، لا سيما التي ألفها موليير. ومع ذلك واصلوا إخراج المآسي. ذلك أن كبار الممثلات كن يشعرن بأنهن يتألقن أكثر في الدراما الجادة، ولم يكن موليير نفسه راضياً قط بأن يكون كوميدياً، لأن صراعات الحياة وسخافاتها أورثته مسحة من الحزن، وقد وجده أمراً فاجعاً له أن يكون على الدوام مضحكاً. يضاف إلى هذا أنه سئم هزليات المكائد الغرامية والشخصيات المبتذلة وكباش الفداء المألوفة؛ وأكثرها أصداء لإيطاليا. وتلفت حوله في باريس فرأى فيها أشياء لا تقل إضحاكاً عن بوليشينيل وسكاراموش. وروي عنه قوله "لم يعد بي حاجة إلى اتخاذ بلوتس وتيرنس أساتذة لفني أو إلى السطو على ميناندر. فما علي إلا أن أدرس هذه الدنيا"(9).

ص: 167

‌3 - موليير ونساء المجتمع

مثال ذلك "الأوتيل درامبوييه" حيث كان الرجال والنساء يمجدون الآداب الرقيقة والحديث المعطر. فكتب موليير تمثيلية "المتحذلقات المضحكات". وكان إخراجها (18 نوفمبر 1659) فاتحة ملهاة العادات الفرنسية وبداية لحظ موليير وشهرته. وكانت الملهاة من القصر بحيث لم يستغرق تمثيلها أكثر من ساعة، وقيها من الحدة ما خلف لذعة طويلة الإيلام. استمع إلى ابنتي العم، مادلون وكاتوس، اللتين تلفهما سبعة أقنعة من التظرف، تحتجان على تلهف الكبار، الواقعيين، المفلسين، على تزويجهما.

جرجيبوس: أي عيب تريان فيها؟

مادلون: يالها من كياسة رائعة منهما حقاً! أنبدأ فوراً بالزواج!

لو كلن الناس جميعاً مثلك لقضي للتو على الرومانس

إن الزواج ينبغي ألا يتم أبداً إلا بعد مغامرات أخرى. فعلى العاشق إن أراد قبولاً أن يفهم كيف يعبر عن العواطف المهذبة، وكيف يتأوه بالحديث الناعم، الرقيق، المشبوب، ويجب أن يكون حديثه مطابقاً للقواعد. فعليه بادئ ذي بدء أن يرى في الكنيسة أو في الحديقة أة في حفل عام تلك التي يشغف بها حباً، وإلا زجب تقديمه إليها التقديم المحتوم بواسطة قريب أو صديق، ثم عليه أن ينصرف عنها مكتئباً متأملاً. ثم يخفي عاطفته حيناً عن موضع حبه، ولكنه يزورها مرات، لا يعدم فيها طرح بعض الحديث عن مغازلة النساء على البساط تدريباً لعقول الجماعة كلها

ثم يأتي اليوم الذي يبوح فيه بحبه، وينبغي أن يتم هذا عادة في ممشى حديقة بينما الجماعة على بعد منهما. وهذا التصريح نقابله عادة بالاستياء، الذي يبدو في احمرار وجوهنا، والذي يقصي العاشق عنا زمناً، ثم يجد الوسيلة لمصلحتنا بعد حين، ولتعويدنا أن نسمع حديث غرامه دون أن نتألم، واستلال ذلك الاعتراف الذي يسبب لنا حرجاً شديداً.

ص: 168

ثم تتلوا ذلك المغامرات: المزاحمون الذين يحبطون ميلاً رسخ، واضطهادات الآباء، والغيرة المنبعثة من المظاهر الكاذبة، والشكاوى، واليأس، والهروب مع الحبيب، وما يسفر عنه من عواقب. هكذا ينبغي أن تجري الأمور بأسلوب جميل، وتلك القواعد التي لا غنى عنها للتودد المهذب الأنيق. أما الاندفاع رأساً إلى الرباط الزوجي، وأما عدم مطارحة الغرام إلا بعقد الزواج، والإمساك بالمغامرة الرومانسية من ذيلها-فمرة أخرى أقول لك يا أبي العزيز إنه ما من شيء أكثر آلية من تصرف كهذا، ومجرد التفكير فيه يشعرني بالغثيان.

كاتوس: أما أنا يا عماه فكل ما أستطيع أن أقوله هو إنني أرى الزواج شيئاً مروعاً جداً. فكيف أطيق فكرة الرقاد مع رجل عريان حقاً (10)؟

ويستعير خادما الخطيبين ملابس سيديهما ويتنكران كمركيز وجنرال، ويتوددان إلى السيدتين بكل ما يصاحب التودد من تظرف ومزاح. ويفاجئهما السيدان، ويجردانهما من ملابسهما المزيفة، ويتركان الشابتين أمام الحقيقة العارية تقريباً. وفي هذه الملهاة، كما في جميع ملاهي موليير الجنسية، عبارات نابية وبعض المزاح الرخيص، ولكن فيها هجواً لاذعاً للحماقات الاجتماعية، بلغ من حدته أن تأثيره أصبح حدثاً في تاريخ عادات المجتمع. وقد نسبت رواية غير مؤكدة لامرأة من النظارة أنها وقفت وسط الجمهور وصاحت "تشجع! تشجع! هذه ملهاة حسنة يا موليير"(11) وروى أن أحداً من رواد صالون مدام درامبوييه قال بعد خروجه من التمثيلية "بالأمس أعجبنا بكل السخافات التي نقدت نقداً رقيقاً معقولاً جداً؛ ولكن علينا الآن-كما قال القديس ريمي لكلوفيس-أن نحرق ما عبدنا، ونعبد ما أحرقنا (12). " وقابلت المركيزة درامبوييه الهجوم بعبقرية، إذ اتفقت مع موليير على إحياء حفلة يخصص إيرادها لصالونها، وقد رد على مجاملتها بمقدمة زعم فيها أنه لم يهجُ صالونها بل مقلديه. على أية

ص: 169

حال انتهى ملك "المتحذلقات". وقد أشار بوالو في هجائيته العاشرة إلى تلك "العقول الجميلة التي كانت بالأمس ذائعة الصيت، والتي فرغها موليير بضربة واحدة من فنه".

وقد نجحت المسرحية نجاحاً ضوعف معه أجر مشاهدتها عقب حفلة الافتتاح. وقد مثلت في عامها الأول أربعاً وأربعين مرة، وأمر الملك بإحياء ثلاث حفلات للبلاط، حضرها جميعاً، ونفح الفرقة بثلاثة آلاف جنيه. وما وافى فبراير 1660 حتى كانت الفرقة الشاكرة قد دفعت 999 جنيهاً جعالة للمؤلف. ولكنه كان قد ارتكب غلطة إذ ضمن المسرحية إشارة هجا بها ممثلي المسرح الملكي "فما من إنسان قادر على أن يشهر شيئاً إلا هم، أما غيرهم فقوم جهلاء يمثلون أدوارهم كأنهم يتحدثون. هؤلاء لا يفقهون كيف يجعلون أبيات الشعر تجلجل، أو كيف يقفون عند فقرة جميلة. فكيف تعرف الأبيات الرائعة إذا لم يقف الممثل عندها ويخبرك بهذه الطريقة أن تصفق استحساناً (13)؟ ".

وأعربت فرقة الأوتيل دبوربون عن احتقارها السافر لموليير لعجزه عم إخراج المأساة، ولقدرته على الملهاة الرخيصة دون غيرها. وعزز موليير حجتهم بتأليفه وعرضه مسلاة "فارص" متوسطة الجودة سماها "الديوث بالوهم" ولو أن الملك سر بأن يشهدها تسع مرات.

وكانت التغييرات تجري خلال ذلك في مبنى اللوفر القديم، فهدمت صالة البتي بوربون في استهتار، ولاح حيناً أن "فرقة المسيو" التي يرأسها موليير لن تجد لها مسرحاً. ولكن الملك العطوف دائماً بادر إلى إنقاذه بأن خصص له في الباليه-رويال "الصالة" التي خصصها ريشليو لعرض التمثيليات. وهناك ظلت فرقة موليير حتى مماته وكأنها جزء من جسم البلاط. وكان أول عرض له في هذا المأوى الجديد آخر محاولاته في المأساة، وهي "دون جراسي". وكان رأيه-وله فيه بعض العذر-

ص: 170

أن أسلوب المأساة الخطابي الفخم كما طوره كورنبي، ومثلته فرقة الأوتيل ديورجون، أسلوب غير طبيعي، وكان يتطلع إلى أسلوب أبسط وأكثر طبيعية. ولو سمح له تسلط النزعة الكلاسيكية على المسرح (وفواقه) لجاز أن ينتج مزيجاً موفقاً من المأساة والملهاة كما فعل شكسبير، فإن في أعظم ملاهيه والحق يقال مسحة من المأساة. ولكن "دون جراسي" سقطت، برغم جهود الملك لدعمها بحضوره ثلاث حفلات، لقد كان قدر موليير أن يكابد المأساة لا أن يمثلها.

وعليه فقد عاد إلى الملهاة. ولقيت "مدرسة الأزواج" نجاحاً طيب خاطره إذ عرضت يومياً من 24 يونيو إلى 11 سبتمبر 1661. وقد آذنت بزواج موليير الوشيك، وكان وقتها في التاسعة والثلاثين من أرماند بيجار، ذات الثمانية عشر ربيعاً، ومشكلة المسرحية هي: كيف ينبغي أن يروض الشابة على أن تكون زوجة صالحة أمينة؟ فالشقيقان أريست وسجاناريل محظوظان لكونها الوصيين على الفتاتين اللتين ينويان الزواج منهما أما أريست، البالغ من العمر ستين عاماً، فيعامل فتاته القاصر ليونور، ذات الثمانية عشرة، بغاية اللين:

"لم أنظر إلى تجاوزاتها الصغيرة على أنها جرائم. ولقد لبيت على الدوام رغباتها الشابة، ولست ولله الحمد آسفاً على ذلك. فقد أذنت لها أن تخالط الأصحاب الطيبين، وتشهد الملاهي، والتمثيليات، والمراقص، فهذه أشياء أراها على الدوام صالحة لتربية عقول الشباب، وما الدنيا إلا مدرسة أحسبها تعلم طريقة العيش خيراً من أي كتاب. إنها نحب أن تنفق المال على الثياب، والقمصان، والأزياء الجديدة

وأنا أحاول أن أشبع رغباتها، فهذه لذات ينبغي أن نتيحها للشابات متى استطعنا توفيرها لهن (14) ".

وأما الأخ الأصغر سجاناريل فيحتقر أريست لأنه إنسان أحمق ضللته أحدث الأوهام. وهو يأسف على زوال الفضائل القديمة وعلى انحلال الأخلاق

ص: 171

الجديدة، وعلى وقاحة الشباب المتحرر. وهو ينوي أن يأخذ فتاته القاصر إيزابيل بنظام صارم ليرضيها على أن تكون زوجة مطيعة:

"لا بد أن ترتدي الملابس اللائقة

فإذا لزمت بيتها كما تلزمه المرأة العاقلة انصرفت نجمعها إلى شؤون الزوجية، فترفو الثياب في ساعات فراغها أو تحبك الجوارب لتتسلى بها. ولن تخطو خطوة خارج البيت إلا إذا قام عليها رقيب

إنني لن ألبس قروناً إذا استطعت إلى ذلك سبيلاً".

وبعد دسيسة بعيدة الاحتمال (منقولة عن ملهاة أسبانية) تهرب إيزابيل مع عاشق ذكي، في حين تتزوج ليونور من أريست وتظل وفية له إلى آخر التمثيلية.

وواضح أن موليير كان يحاور نفسه. ففي 20 فبراير 1662، وهو في الأربعين، تزوج بامرأة تصغره بنصف عمره. أضف إلى ذلك أن عروسه هذه-أرماند بيجار-كانت ابنة مادلين بيجار، التي كان موليير يعاشرها قبل عشرين عاماً. وقد اتهمه خصومه بالزواج من ابنته غير الشرعية. وكتب مونفلوري، رئيس فرقة دبورجون المنافسة، إلى لويس ينبئه بهذا في 1663، وكان جواب لويس أن جعل نفسه عراباً لأول طفل ولدته أرماند لموليير. أما مادلين، حين لقيها موليير، فكانت أشد احتفالاً بشخصها من أن تتيح لنا أي معرفة يقينية ينسب أرماند. ويبدو أن موليير لم يعتقد أنه أبو الفتاة، ولتا أن نفترض لأن معلوماته في هذه النقطة كانت أفضل قليلاً مما يمكن أن تكون عليه معلوماتنا نحن.

كانت أرماند قد شبت كأنها حيوان الفرقة المدلل. وكان موليير يراها كل يوم تقريباً، وقد أحبها طفلة قبل أن يعرفها امرأة بزمن طويل. وكانت الآن قد أصبحت ممثلة مكتملة النضج. أما وقد نشأت في هذا الجو فإنها لم تخلق لتكون زوجة لرجل واحد، لا سيما رجل قد أبلى روح الشباب.

ص: 172

لقد أحبت لذات الحياة واستغرقت في معابثات فسرها الكثيرون على أنها خيانات للزوج، وعانى موليير من جراء ذلك، وكان أصدقاءه وأعداؤه يلوكون الشائعات عنه. وبعد زواجه بعشرة أشهر حاول أن يهدئ جراحه ينقد غيرة الرجال والدفاع عن تحرر النساء. لقد حاول أن يكون أريست، ولكن أرماند لم تستطع أن تكون ليونور. ولعله أخفق في أن يكون أريست لأنه كان نافذ الصبر شأنه شأن أي مخرج مسرحي. وفي "تمثيلية فرساي المرتجلة"(أكتوبر 1663) وصفه نفسه إذ يقول لزوجته "اسكتي أيتها الزوجة، فما أنت إلا حمارة" فتجيب "شكراً لك أيها الزوج الطيب. أنظر ما صار إليه أمرنا. أن الزواج يغير الناس تغييراً عجيباً، فما كنت لتقول هذا قبل سنة ونصف (15) ".

وواصل تأملاته في الغيرة والحرية في مسرحيته "مدرسة الزوجات" التي عرضت أول مرة في 16 ديسمبر 1662. ومنذ بدايتها تقريباً تراها تضرب على هذا الوتر-الزوج الديوث. فترى آرنولف الذي لعب موليير دوره هنا أيضاً طاغية من الطراز العتيق، يؤمن بأن المرأة المتحررة امرأة فاسقة، وأن السبيل الأوحد لضمان وفاء الزوجة هو ترويضها على الخدمة المتواضعة، وعلى فرض الرقابة الصارمة عليها وإغفال تعليمها. وتشب أنييس، القاصر التي كان وصياً عليها وعروسه المستقبلة، في براءة حلوة، حتى أنها تسأل آرنولف في عبارة تردد صداها في طول فرنسا وعرضها، "أيولد الأطفال من الأذن (16)؟ ". ولما كان آرنولف لم يتحدث إليها بشيء عن الحب، فأنها ترحب في سرور برئ بتودد هوراس الذي يجد طريقه إليها أثناء غيبة قصيرة للوصي. فإذا عاد آرنولف قصت عليه وصفاً موضوعياً لمسلك هوراس:

آرنولف: حسناً، ولكن ماذا صنع حين انفرد بك؟

آنييس: قال إنه يحبني حباً حاراً لا نظير له. وقال لي بألطف لغة في

ص: 173

الدنيا أشياء لا يمكن أن يعدلها شيء. وقد أبهجني لطف حديثه كلما استمعت إليه، وأثار فيّ شيئاً لا أعرفه، عاطفة سحرتني تماماً.

آرنولف: (جانباً) ياله من تحقيق معذب في سر قتال، يعاني فيه المحقق كل الألم! (بصوت عال) ولكن علاوة على هذا الحديث كله، وهذه الأساليب اللطيفة كلها، ألم يقبلك بعض القبلات أيضاً؟

أنييس: أوه! إلى هذا الحد! لقد تناول يدي وذراعي ولم يتعب قط من تقبيلها.

آرنولف: ألم يأخذ شيئاً آخر منك يا أنييس؟ (ملاحظاً حيرتها) ها؟

أنييس: بلى، لقد.

آرنولف: ماذا؟

أنييس: أخذ.

آرنولف: كيف؟

أنييس: الـ.

آرنولف: ماذا تعنين؟

أنييس: لا أجرؤ على إخبارك، لأنك قد تغضب مني.

آرنولف: لا.

أنييس: نعم، ولكنك ستغضب.

آرنولف: يا للهول، لن أغضب.

أنييس: احلف إذن.

آرنولف: أحلف.

أنييس: أخذ- سيثور غضبك.

ص: 174

آرنولف: لا.

أبييس: نعم.

آرنولف: لا، لا، لا، لا، بحق الشيطان ما هو هذا السر؟ ماذا أخذ منك؟

أنييس: أنه-

أرنولف: (جانباً) إني أقاسي عذاب الجحيم.

أنييس: أخذ الوشاح الذي أعطيتني، أصدقك القول أنني لم أستطع منعه.

آرنولف: (متمالكاً نفسه): لا بأس بالوشاح. ولكني أريد أن أعلم ألم يفعل شيئاً غير تقبيل يديك؟

أنييس: أيفعل الناس أشياء أخرى؟

آرنولف: لا، لا

ولكني باختصار لابد أن أخبرك أن قبول علب الجواهر والاستماع إلى القصص العاطلة يقصها هؤلاء الغنادير المتبرجون، والسماح لهم وأنت مسترخية بتقبيل يديك وفتنة قلبك بهذه الطريقة-هذا كله خطيئة مميتة، بل أفظع خطيئة يمكن أن ترتكبيها.

أنييس: تقول خطيئة! والسبب من فضلك؟

آرنولف: السبب؟ لأنه مكتوب صراحة أن السماء تغضبها أفعال كهذه.

أنييس: تغضبها؟ ولكن لم تغضب السماء؟ وا أسفاه؟ إنه شيء حلو لذيذ، تعجبني البهجة التي أجدها فيه، ولم أعرف من قبل هذه الأشياء.

آرنولف: نعم، هناك الكثير من اللذة في هذه العواطف الرقيقة، وهذه الأحاديث اللطيفة، وهذه القبل الحارة، ولكن ينبغي تذوقها بطريقة شريفة، والزواج كفيل بأن يمحو عنها الخطيئة.

أنييس: أفلا تعد خطيئة إذا كان الإنسان متزوجاً؟

ص: 175

آرنولف: نعم.

أنييس: أرجوك إذن أن تتزوجني حالاً (17).

وتهرب أنييس إلى هوراس بعد قليل طبعاً. ولكن آرنولف يقتنصها من جديد ويوشك أن يضربها حين يوهن من عزيمته حلاوة صوتها وجمال جسدها، وربما كان موليير يفكر في أرماند وهو يكتب عبارات آرنولف التالية:

"أن ذلك الحديث وتلك النظرة يجردان غضبي من سلاحه، ويعيدان إليّ الحنان الذي يمحو ذنبها كله. فما أعجب أن يحب الإنسان! وأن يكون الرجال عرضة لمثل هذا الضعف أمام هؤلاء الخائنات! فكلنا يعرف نقصهن، فما هن إلا التبذير والحماقة، وذهنهن شرير وفهمهن ضعيف، وما من شيء أوهن منهن، ولا أقل ثباتاً، ولا أكذب، ومع ذلك كله فالرجل يصنع كل شيء في الدنيا من أجل هؤلاء الحيوانات (18) ".

وفي النهاية تهرب منه وتتزوج هوراس. أما آرنولف فيعزيه صديقه كريسالد بفكرة أن امتناع الرجل عن الزواج هو الطريقة الأكيدة الوحيدة التي تقيه من أن يطلع له قرناً في رأسه.

وأبهجت التمثيلية جمهورها، فمثلت إحدى وثلاثين مرة في الأسابيع العشرة الأولى، وكان في الملك من الشباب ما سمح له بالاستمتاع بخلاعها، ولكن عناصر البلاط الأشد محافظة انتقدوا الملهاة لما فيها من مجافاة للفضيلة، وكرهت السيدات فكرة الولادة من الأذن، وندد الأمير كونتي بمنظر الفصل الثاني الذي سقنا حواره من قبل بين آرنولف وأنييس زاعماً أنه أفضح ما عرض على خشبة المسرح. ولعن بوسويه التمثيلية برمتها، ودعا بعض القضاة إلى حظرها باعتبارها خطراً على الأخلاق والدين، وسخرت الفرقة المنافسة من ابتذال الحوار وتناقضات رسم الأشخاص وشطحات الحبكة المتعجلة. وظلت التمثيلية حيناً "حديث كل بيت في باريس (19) ".

ص: 176

وكان في موليير من حب النضال ما لا يدعه يترك هذا النقد كله دون تعليق منه. ففي تمثيلية ذات فصل واحد مثلت في الباليه رويال في أول يونيو 1663، واسمها "نقد مدرسة الزوجات" عرض لنا لقاء بين نقاده وتركهم يعربون بعنف عن اعتراضاتهم، ولم يكد يرد عليها إلا بأن يدع النقد يضعف ذاته بمبالغته، وأن يجزيه على ألسنة شخصيات مثيرة للسخرية. وواصل الأوتيل دبورجون "الحرب الكوميدية" بإخراجه هزلية قصيرة سماها "الناقد المعارض"، وهجا موليير الفرقة الملكية في "تمثيلية فرساي المرتجلة"(17 أكتوبر 1663). وساند الملك موليير في وفاء، ودعاه إلى العشاء (20)، ومنحه الآن معاشاً سنوياً قدره ألف جنيه، لا بوصفه "ممثلاً كوميدياً" بل "شاعراً فذاً (21) ". كذلك نصر الزمن موليير، فمدرسة الزوجات تعتبر اليوم أول ملهاة عظيمة في المسرح الفرنسي.

‌4 - غرام طوطوف

ولكن موليير دفع ثمن حظوته لدى الملك. فلقد أحب لويس ظرفه وشجاعته، فجعله من كبار المنظمين للملاهي في فرساي وسان-جرمان. وقد ملأ أحد هذه المهرجانات المسمى "مباهج الجزيرة المسحورة" أسبوعاً (7 - 13 مايو 1664) بألعاب السيف والولائم والموسيقى والباليه والرقص والدراما-وكلها أقيم في حديقة فرساي وقصره تحت أضواء المشاعل والشمعدانات التي تحمل أربعة آلاف شمعة. وكوفئ موليير على جهوده في هذا المهرجان بستة آلاف جنيه. وقد أسف بعض الأدباء لإسراف الملك في استغلال عبقرية موليير لكي يوفر هذا اللهو الخفيف في البلاط، وتصوروا تلك الروائع التي كان من الجائز أن يكتمل نضجها لو أن الشاعر الكامن في الكوميدي أتيح له مزيد من الوقت للتفكير والكتابة. غير أنه كان واقعاً تحت ضغط من فرقته أيضاً، وما كانت شواغله ومسئولياته

ص: 177

مديراً للفرقة وممثلاً بها لتسمح له على أية حال بالاعتكاف في أي برج عاجي. وما أكثر المؤلفين الذين يكتبون تحت ضغط ملح خيراً مما يكتبون في الفراغ، فالفراغ يرخي الذهن، والإلحاد يشحذه. ولقد أخرج موليير أعظم تمثيلياته أول مرة في 12 مايو 1664، في قمة "مباهج الجزيرة المسحورة"، وكانت جزءاً من المهرجان.

في هذا العرض الأول لم تكن "طرطوف" بالتمثيلية المناسبة تماماً للمهرجان، لأنها فضحت في غير رحمة ذلك النفاق الذي يتخفى خلف رداء من التقوى والفضيلة. وكانت جماعة دينية من الأخوة العلمانيين تدعى "جمعية السر المقدس"، وعرفت فيما بعد بـ"عصبة الورعين" قد قطعت العهود على أعضائها بأن يعملوا على حظر التمثيلية. أما الملك الذي كانت علاقته الغرامية بلافاليير قد أثارت كثيراً من نقد هؤلاء الورعين، فقد كان مزاجه يدعوه للاتفاق مع موليير، ولكنه بعد أن شاهد الملهاة في عرضها الخاص بفرساي أوقف الأذن بعرضها على نظارة باريس في الباليه-رويال. وطيب خاطر موليير بدعوته ليقرأ "طرطوف" في فونتنبلو على نخبة مختارة تضم ممثلاً للبابا لم يذكر التاريخ أنه اعترض عليها (21 يوليو 1664). في ذلك الشهر مثلت المسرحية في بيت دوق أورليان ودوقتها (هنرييتا آن)، في حضرة الملكة، والملكة الأم، والملك. وبينما كان يجري التمهيد لعرضها على الجماهير أذاع كاهن سان- برتلمي، بيير روليه، في أغسطس ثناء على الملك لحظره التمثيلية، واغتنم هذه الفرصة ليرمي موليير بأنه "رجل، بل شيطان متجسد في ثوب رجل، وأشتهر مخلوق فاسق منحل عاش إلى الآن". ثم قال الأب روليه إن جزاء موليير على تأليف طرطوف "أن يحرق على الخازوق ليذوق من الآن نار الجحيم (22) ". ووبخ الملك روليه، ولكنه ظل يحبس الإذن بعرض طرطوف علناً. ولكي يظهر حقيقة موقفه رفع معاش موليير السنوي إلى ستة آلاف جنيه، وتلقى

ص: 178

عن "المسيو" حماية فرقة موليير، فأصبحت منذ الآن "فرقة الملك".

وظل الجدل مضطرماً تحت الرماد عامين. ثم قرأ موليير على الملك نسخة منقحة من التمثيلية، أضاف إليها سطوراً تذكر أن الهجاء موجهاً ضد الإيمان الصادق بل ضد الرياء. وأيدت مدام هنربيتا التماس المؤلف الإذن بعرض المسرحية. ووافق لويس موافقة شفوية، وبينما كان منطلقاً إلى الحربفي فلاندر عرضت طرطوف لأول مرة على مسرح الباليه- رويال في 5 أغسطس 1667 بعد مرور ثلاث سنين على أول عرض لها في البلاط. وفي الغد أمر رئيس باريس، وكان ينتمي لجماعة السر المقدس، بغلق المسرح وتمزيق كل لافتاته. وفي 11 أغسطس حظر رئيس أساقفة باريس قراءة الملهاة أو سماعها أو تمثيلها سراً أو علانية، وإلا كان الحرم جزاء المخالف. وأعلن موليير أنه سيعتزل المسرح إذا استمر انتصار "الطراطيف" هذا. أم الملك الذي عاد إلى باريس فقد أمر الكاتب المسرحي الغاضب بأن يتذرع بالصبر، ففعل، وأثيب في النهاية برفع الحظر الملكي. وفي 5 فبراير 1669 بدأت التمثيلية فترة عرض ناجحة اتصلت ثمانية وعشرين مرة. وبلغ من كثرة الراغبين في دخول المسرح وتهافتهم عليه في أول حفلة علنية أن الكثيرين كادوا يختنقون. لقد كانت "أشهر مسرحية" في حياة موليير المسرحية. وقد حظيت دون جميع الدرامات الكلاسيكية الفرنسية بأكبر عدد من العروض-بلغت 2. 657 (حتى سنة 1960) في مسرح الكوميدي-فرانسيز وحده.

ولكن إلى أي حد تعلل محتويات التمثيلية تأجيلها الطويل، وشعبيتها المتصلة؟ أنها تعلل التأجيل بهجومها الصريح على التظاهر بالتقوى؛ وتعلل الشعبية بقوة هجائها وبراعته. وكل ما في ذلك الهجاء مبالغ فيه بالطبع. فقلما يكون الرياء مستهتراً كاملاً في طرطوف، وقلما يكون الغباء مفرطاً كما كان في أرجون، ليس هناك خادمة نجحت في وقاحتها كما نجحت

ص: 179

دورين. وحل عقدة التمثيلية لا يصدق، كما هي الحال عند موليير دائماً تقريباً، ولكن هذا لم يقلقه، فبعد أن يقدم صورته واتهامه للنفاق، تكفي أي حيلة مسرحية-كتدخل الإله أو الملك-لحل العقدة بانتصار الفضيلة وعقاب الرذيلة. وأغلب الظن أن الهجاء قصد به جماعة السر المقدس الذين أخذ أعضاؤه على عاتقهم أن يوجهوا ضمائر الناس، حتى ولو كانوا علمانيين، ويبلغوا الخطايا السرية للسلطات العامة ويتدخلوا في شؤون العائلات لزيادة الولاء والإخلاص للدين. وقد أشارت التمثيلية مرتين إلى "عصبة"(في السطرين 397 و1705)، وواضح أن هذا تلميح إلى عصبة الورعين. وعقب العرض الأول للتمثيلية حلت جماعة السر المقدس.

أما أورجون، البرجوازي الغني، فيرى طرطوف لأول مرة في الكنيسة فينبهر لمرآه.

"آه لو رأيته

إذاً لأحببته كما أحبه

كان يأتي كل يوم إلى الكنيسة هادئ الهيئة ثم يركع بجواري. وقد لفت أنظار المصلين جميعاً بحرارة الابتهالات التي رفعها إلى السماء. كان يتأوه ويئن أنيناً شديداً، وفي كل لحظة يقبل الأرض في تذلل. فإذا شرعت في الخروج تقدمني ليقدم إليّ الماء المقدس عند الباب. وإذا أدركت .. رقة حاله .. كنت أهديه الهدايا، ولكنه كان على الدوام يعرض أن يرد إليّ بعضها .. وأخيراً حفزتني السماء على أن آخذه إلى بيتي، وبدا لي منذ تلك اللحظة أن كل شيء يزكو. وأنا أراه يلوم دون تفرقة بين الناس، وألحظ أنه، حتى فيما يتصل بزوجتي، شديد الحرص على عرضي. فهو ينبئني عمن يرمقها بنظرات الهيام (23) ".

ولكن طرطوف لا يروع زوجة أورجون وأبناءه كما راعه. ذلك أن شهيته الطيبة، وولعه بأطايب الطعام، وكرشه المكور، ووجهه المتورد

ص: 180

كل أولئك يذهب في نظرهم بأثر عظاتهم. ويرجو كليانت زوج أخته أورجون أن يميز بين الرياء والدين:

"كما أنني لا أعرف في الحياة خلقاً أعظم ولا أجل من التقوى الصادقة، ولا شيء أنبل ولا أجمل من حرارة الورع المخلص، فإنني لا أرى شيئاً أشد نكراً من طلاء الغيرة الزائفة، ومن هؤلاء الدجالين، هؤلاء الأتقياء مظهراً

الذين يتجرون بالتقوى، ويريدون أن يشتروا أسباب التكريم وحسن الأحدوثة برفع العيون إلى السماء في رياء، وبانتشاءات القداسة المفتعلة".

ولكن أورجون يمضي في تصديق مزاعم طرطوف، ويخضع لإرشاده، ويطلب له المعونة من الله إذا تشجأ، ويقترح تزويجه من ابنته ماريان التي تؤثر عليه فاليير في عنف، أما بطلة التمثيلية الحقيقية فهي دورين، خادمة ماريان، التي تبدو-كما في كل الملاهي الكلاسيكية-أنها تثبت أن العناية الإلهية وزعت العبقرية توزيعاً يتناسب تناسباً عكسياً مع المال. وما أبهج استقبالها لطرطوف عند دخوله المسرح أول مرة:

طرطوف: (يكلم خدمه بصوت عالٍ حين يرى دورين). يالورنس، أقفل على وشاحي الوبري وصوتي، والتمس من السماء أن تنيرك بالنعمة دائماً. وإذا جاء أحد لزيارتي فقل إني ذهبت إلى السجون لأوزع صدقاتي.

دورين: (جانباً) أي تصنع وأي لؤم!

طرطوف: ماذا تريدين؟

دورين: أن أقول لك-

طرطوف: (وهو يسحب منديلاً من جيبه) أوه. يا للهول. أرجوكِ أن تأخذي هذا المنديل مني قبل أن تتكلمي.

ص: 181

دورين: ولم؟

طرطوف: غطي ذلك الصدر الذي لا أطيق رؤيته. مثل هذه الأشياء تؤذي النفس وتغري بالأفكار الآثمة.

دورين: ادنُ فأنت تذوب ذوباناً أمام التجربة، ومنظر الجسد يؤثر في حواسك تأثيراً شديداً؟ الحق أنني لا أعرف أي حرارة تلهبك، ولكني عن نفسي لست عرضة مثلك لهذا التلهف على الجسد. ففي وسعي الآن أن أراك عارياً تماماً من رأسك إلى قدمك، دون أن يغريني جلدك هذا كله أي إغراء (24).

والمنظر التالي لب الملهاة. ترى فيه طرطوف يطارح زوجة أورجون-ايلمير-الغرام، ويستعمل لغة التقى في توسلاته. وينبأ أورجون بخيانته، ولكن يأبى أن يصدق، وإظهاراً لثقته بطرطوف ينزل له عن أملاكه كلها. ويستسلم طرطوف لقبولها قائلاً "لتكن مشيئة السماء في كل شيء (25) " وتحل ايلمير الموقف إذ تخبئ زوجها تحت مائدة، وترسل في طلب طرطوف، وتلوح له ببارقة تشجيع، ثم توقعه في محاولات للاستطلاع الغرامي. وتتظاهر بالرضى، ولكنها تزعم أنها تحس وخزات الضمير، فيتناول طرطوف هذا الزعم بفتوى الخبير، وواضح أن موليير قرأ من قبل رسائل بسكال الريفية واستطابها:

"طرطوف: إذا لم يكن غير السماء عقبة في طريق رغباتي، فما أيسر أن أزيح هذه العقبة-صحيح أن السماء تنهى عن لذات معينة، ولكن هناك طرق لتسوية تلك الأمور. فشد أوتار الضمير وفق مقتضيات الحال، وتصحيح فساد الفعل بطهارة النية-ذلك علم أي علم (26) ".

ويظهر أورجون من مخبئه، ويأمر طرطوف غاضباً بأن يخرج من بيته، ولكن طرطوف يبين له أن البيت أصبح ملكاً له بحكم العقد الذي وقعه أورجون مؤخراً. ويقطع موليير هذه العقدة، دون كبير براعة، بأن يجعل

ص: 182

عمال الملك يكتشفون في اللحظة المناسبة أن طرطوف مجرم تبحث عنه العدالة منذ زمن طويل. ويستعيد أورجون أملاكه، ويظفر فالير بمريان، وتختتم التمثيلية بنشيد شكر شجي يشيد بعدل الملك وإحسانه.

‌5 - الملحد العاشق

ولكن إحسان الملك لابد قد أرهقته تمثيلية موليير الجريئة التالية. ففي ذروة الحرب المحتدمة حول "طرطروف"، وبينما كانت جماعة الورعين لا يزالون منتصرين في أمر حظر التمثيلية، وعرض موليير في الباليه-رويال (15 فبراير 1665) مسرحية "وليمة التمثال الحجري" التي قص فيها بنثر يطفر مرحاً قصة دون جوان القديمة المكررة، وجعل فيها ذلك الزير المستهتر ملحداً مغروراً. وقد أخذ شكلها الظاهر عن تيرسودي مولينا وغيرهم، ولكنه ملأها بدراسة رائعة لرجل يلتذ الشر لذاته وتحدياً لله. والمسرحية صدى مدهش لذلك الجدل الكبير الذي تورط فيه الدين مع الفلسفة.

ودون جوان تينوريو مركيز يسلم بالتزاماته قبل طبقته، ولكنه فيما عدا ذلك يريد أن يستمتع بما يشتهي من لذات. ويحصي تابعه سجاناريل عدد النساء اللاتي أغواهن مولاه ثم هجرهن فيجدهن 1. 003. يقول جوان "إن الوفاء صفة لا تصلح إلا للحمقى .. فليس في وسعي أن أحرم قلبي من أي مخلوقة جميلة أراها (27) " ومثل هذا الخلق يتوق إلى لاهوت يلائمه، ومن ثم يصبح جوان ملحداً ابتغاء راحته. ويحاول خادمه أن يناقش الأمر معه:

سجاناريل: أممكن أنك لا تؤمن بالجنة؟

جوان: انسَ الموضوع.

سجاناريل: أي أنك لا تؤمن. وما رأيك في جهنم؟

ص: 183

جوان: أه!

سجاناريل: كإيمانك بالجنة. وما رأيك في الشيطان من فضلك؟

جوان: نعم، نعم.

سجاناريل: قليلاً جداً كذلك. أن ألا تؤمن بحياة أخرى على الإطلاق؟

جوان: ها، ها، ها.

سجاناريل: هذا رجل سيشق عليّ هدايته. ولكن قل لي، لا بد أنك تؤمن بـ"الراهب الفظ

(1)

".

جوان: تباً للأحمق.

سجاناريل: أما هذا فلا أطيقه، لأن ليس هناك كائن وجوده مؤكد كهذا الراهب الفظ، وقاتلني الله إن لم يكن وجوده حقيقياً. ولكن المرء يجب أن يؤمن بشيء. فبأي شيء تؤمن؟

جوان: أؤمن بأن اثنين واثنين يساوي أربعة، وأربعة وأربعة يساويان ثمانية.

سجاناريل: يا لها من عقيدة جميلة ومواد إيمان رائعة! إذن فدينك-على قد ما أفهم-هو الحساب؟ أما أنا يا مولاي

فأفهم جيداً أن هذا العالم ليس شيئاً كالفطر نما في ليلة واحدة. أريد أن أسألك منذا الذي صنع هذه الأشجار والصخور والأرض والسماء من فوقنا؟ أهذا كله بنى نفسه بنفسه؟ أنظر إلى نفسك مثلاً، فها أنتذا موجود، أصنعت نفسك، وألم يكن لزاماً أن يغشى أبوك أمك ليصنعك؟ أتستطيع أن ترى كل المخترعات التي تتألف منها الآلة البشري دون أن تعجب كيف يشغل الجزء منها جزءاً أخر؟ ومهما قلت، فإن هناك شيئاً معجزاً في الإنسان لم يستطيع كل المتنطعين في العلم أن يفسروه. أليس عجيباً أن تراني هنا، وأن في رأسي

(1)

شبح مزعوم يخوف به المربيات والأمهات الأطفال.

ص: 184

شيئاً يفكر في مائة شيء مختلف في لحظة ويأمر بدني بأن يصنع ما أريد؟ أريد أن أصفق بيدي، وأرفع ذراعي، وأنظر بعيني إلى السماء، وأخفض رأسي، وأحرك قدمي، وأمشي يميناً، ويساراً، وأماماً، وخلفاً، وأدور (يقع على الأرض وهو يدور).

جوان: هذا حسن! أن لحجتك أنفاً مكسوراً (28).

وفي المشهد التالي تتخذ الخصومة بين جوان والدين صورة أخرى. فهو يلتقي بشحاذ يزعم أنه يصلي كل يوم من أجل المحسنين إليه، فيقول جوان:"أن رجلاً يصلي كل يوم لابد أن يكون غنياً جداً" ويجيب الشحاذ إن الأمر على العكس من ذلك "ففي أكثر الأحيان لا أجد حتى كسرة خبز" ويعرض عليه جوان جنيهاً ذهبياً شريطة أن يجدف، ولكن الشحاذ يرفض "إني أفضل الموت جوعاً" ويذهل جوان قليلاً لهذه الصلابة فيعطيه قطعة النقود وهو يقول "حباً في الإنسانية (29) " ويعرف كل رواد الأوبرات نهاية القصة، إذ يصادف جوان تمثالاً للقائد الذي أغوى ابنته وأودى بحياته. فيدعوه التمثال إلى العشاء، فيحضر، ويناوله يده، فيقوده إلى الجحيم. ويظهر الجهاز الشيطاني المعهود في المسرح الوسيط، "فينقض الرعد والبرق بضوضاء عظيمة على دون جوان، وتفغر الأرض فاها وتبتلعه، وتندلع نار هادئة من المكان الذي سقط فيه".

وقد صدم الجمهور في أول ليلة لما رأي من فضح موليير لكفر جوان. ولعل هذا الجمهور لم يكن يرى بأساً بأن يفضح سفالة جوان وافتقاره إلى اللاهوت، وبأنه أماط اللثام عنه وحشاً لا ضمير له ولا حنو، ينشر الخداع والحزن أينما ذهب، ولعله لاحظ أن المؤلف عرض ضحايا الوغد بكل ما فيه من عطف، ولكنه لاحظ أن الرد على الكفر جاء على لسان أحمق يؤمن بالعفاريت إيماناً أرسخ من إيمانه بالله، ولم يخفف من وقع هذا الكفر إلقاء جوان في الجحيم أخيراً، لأن الجمهور رآه يهبط إلى الجحيم

ص: 185

دون كلمة ندم أو خوف. وبعد العرض الأول خفف موليير من حدة أكثر الفقرات إيذاءً، ولكن هذا لم يهدئ ثائرة الرأي العام. ففي 18 إبريل 1665 نشر سيد روشمون، المحامي في البرلمان، "ملاحظات حول مسرحية لموليير" فيها وليمة التمثال الحجري بأنها "شيطانية حقاً .. لم يظهر قط أفسق منها حتى في العهود الوثنية" ثم أهاب بالملك أن يحضر التمثيلية:

"فبينما يحرص هذا الملك النبيل الحرص كله على صون الدين، نرى موليير يعمل على هدمه .. فليس في وسع إنسان مهما قل علمه بتعاليم الدين أن يؤكد بعد رؤية التمثيلية أن موليير أهل للمشاركة في تناول الأسرار المقدسة مادام سادراً في عرضها، أو يستحق أن تقبل توبته دون عقاب علني (30) ".

ولكن لويس واصل رضاءه عن موليير. ومثلت "وليمة التمثال الحجري" ثلاثة أيام كل أسبوع من 15 فبراير إلى أحد السعف. ثم سحبت، ولم تعد إلى خشبة المسرح إلا بعد موت مؤلفها بأربع سنوات، ولم تعد إلا على صورة اقتباس شعري بقلم توما كورنبي الذي حذف المشهد الفاضح الذي نقلناه. أما النسخة الأصلية فقد اختفت، ثم اكتشفت ثانية في 1813 طبعة مسروقة نشرت بأمستردام في 1680. وظلت نسخة كورنبي تحتكر المسرح حتى 1841، وهي لا تزال تحتل مكان الأصل في بعض طبعات أعمال موليير (31).

‌6 - موليير في أوجهِ

وكأن موليير لم يكفه ما أثار عليه من خصوم، فراح يهاجم مهنة الطب. وكان قد صور دون جوان بأنه "فاجر في الطب" ورأى أن الطب "من اكبر كبائر الإنسانية (32) " وكان قد خبر بنفسه ما في أطباء القرن السابع عشر من قصور وغرور. وخيل إليه أن الأطباء قتلوا ابنه وصفوا له حجر الكحل (الأنتيمون)، ورآهم يقفون موقف العاجز من تدرنه

ص: 186

الذي يسير بخطى حثيثة (33). كذلك كان الملك ساخطاً على ما يعطونه من مسهلات وما يصفدون من دمه كل أسبوع. ويقول موليير إن لويس هو الذي أغراه بوضع الأطباء على السفود. وعليه فقد كتب في خمسة أيام تمثيلية "الحب خير طبيب" مستعيراً من الملاهي القديمة في هذا الموضوع القديم. وقد أخرجت بفرساي في 15 سبتمبر 1665 في حضرة الملك الذي "ضحك لها من قلبه" ولقيت الترحيب الحار حين مثلت بعد أسبوع في الباليه-رويال. وهي تحكي قصة مريضة يدعى لفحصها أربعة أطباء. فيختلون للمداولة، ولكنهم لا يناقشون إلا شئونهم الخاصة. فإذا أصر والد المريضة على قرار وعلاج، وصف أحدهم لها حقنة شرجية، وأقسم الآخر أن الحقنة ستقتلها لا محالة. ثم تتعافى المريضة بغير دواء، الأمر الذي يثير سخط الأطباء، فيصيح الدكتور باييز "خير لها أن تموت طبقاً للقواعد من أن تشفى مخالفة لها (34) ".

وفي 6 أغسطس 1666 عرض موليير مسرحية قصيرة أخرى هي "الطبيب برغم أنفه" مقدمة مسرحية لمسرحيته "مبغض البشر" قصد بها أن يخفف من كآبة هذه التمثيلية التي تتغنى بالتشاؤم. وهي لا تجزي جهد قارئها اليوم بأن موليير لم يقصد أن تؤخذ هجائياته للطب مأخذ الجد. ويلاحظ أنه ظل على علاقات طيبة جداً مع طبيبه الخاص، المسيو دموفلان، وأنه توسط لدى الملك ليجد وظيفة شرفية لابن هذا الطبيب (1669) وقد شرح مرة كيف كان هو وموفلان منسجمين تمام الانسجام فقال "إننا نناقش الأمر، ويصف هو العقاقير، وأنا أغفل تعاطيها، ثم أشفى (35) ".

وبينما كان موليير لا يزال في وطيس المعركة حول طرطوف، قدم في 4 يونيو 1666 هجائية أخرى لم يقصد بها أن يسر الجمهور ولا الحاشية وإذا كانت الحركة روح المسرحية، فإن هذه المسرحية "مبغض البش" أقرب إلى الحوار الفلسفي منها إلى التمثيلية، وتكفي جملة واحدة لتلخيص القصة؛ فألسيست، الذي يطالب نفسه وغيره بالفضيلة الصارمة والصراحة

ص: 187

الكاملة يحب سيليمين التي تؤثره، ولكن يطيب لها أن ترى العدد العديد من الخطاب وتسمع الكثير من المديح. ويجد موليير في هذا مجرد ذريعة لدراسة الفضيلة. فهل من واجبنا أن نقول الصدق دائماً، أم نحل المجاملة محل الصدق لكي نتقدم في هذه الدنيا؟ أما ألسيست فيرفض أنصاف الحلول التي يتراضى بها المجتمع مع الصدق، ويندد برياء البلاط، حيث يتظاهر كل إنسان بأسمى العواطف و"أحر التحيات" في حين يكيد كلٌ لغيره سراً تحقيقاً لمصلحته الشخصية، ويغتابهم جميعاً، ويستعين بالتملق على نيل الحظوة أو السلطة. وألسيست يحتقر هذا كله، ويريد أن يكون صادقاً ولو أفضى به الصدق إلى الانتحار. ويصر شويعر من رجال البلاط يدعى أورونت على قراءة أشعاره على ألسيست، ويطلب إليه أن ينقدها نقداً مخلصاً؛ وينال ما طلب، فيهدد ويتوعد بالانتقام. وتغازل سيليمين الرجال، فيوبخها ألسيست، فتصفه بأنه إنسان متزمت مغرور، ونكاد نسمع موليير يوبخ زوجته المرحة، والواقع أنه هو الذي لعب دور ألسيست، وهي التي مثلت سيليمين:

ألسيست: سيدتي، أتسمحين لي أن أكون صريحاً معك؟ إنني لشديد الاستياء من تصرفاته .. أنا لا أتشاجر معكِ، ولكن مسلككِ يا سيدتي يفتح لأول وافد سبيل إلى قلبك. إن لك عدد هائلاً من العشاق الذين نراهم يحاصرونكِ، ونفسي لا تستطيع الرضى بهذا.

سيليمين: أتلومني لأنني أجذب العشاق؟ أهو ذنبي أن الناس يجدونني جديرة بالحب؟ وإذا بذلوا المحاولات اللطيفة لرؤيتي أفآخذ عصا وأطردهم خارجاً؟.

ألسيست: لا، ليست العصا هي ما يجب أن تستعمليه، بل روحاً أقل استسلاماً وذوباناً أمام عهودهم. أعرف أن جمالك يتبعك في كل مكان ولكن ترحيبك يزيد من تجتذبه عيناك تعلقاً بك، وتلطفك مع جميع من يستسلمون لك يكمل في قلوبهم فعل مفاتنك (36).

ص: 188

والنقيض الفلسفي لألسيست هو صديقه فيلانت، الذي ينصحه بأن يلائم في لطف بين نفسه وبين ما في البشر من نقائض فطرية وأن يعترف باللطف ميسراً للحياة. وسحر المسيحية في قسمة موليير عواطفه بين ألسيست وفيلانت. فألسيست هو موليير الزوج الذي يخشى أن يكون ديوثاً، ومنجد حجرة الملك الذي عليه-لكي يعد سرير الملك-أن يتصدى لمائة نبيل يفاخرون بنسبهم مفاخرته بعبقريته. وفيلانت هو موليير الفيلسوف، الذي يأمر نفسه بأن يكون معقولاً متسامحاً في الحكم على البشر. يقول فيلانت-موليير لموليير-ألسيست في فقرة لنا أن نعتبرها نموذجاً من موليير الشاعر:

"رباه: فلنقلل من ضيقنا بعادات العصر، ولنتسامح قليلاً مع الطبيعة البشرية، ولا نفحصها بصرامة شديدة، بل ننظر إلى عيوبها بشيء من التساهل. فالحياة في هذه الدنيا تتطلب فضيلة مرنة طيعة، وقد يخطئ المرء بغلوه في الحكمة، فالعقل الكامل يتجنب كل تطرف، ويريدنا أن نكون حكماء في اعتدال. إن التزمت الشديد في فضائل القدماء يصدم كثيراً عصرنا والعرف السائد بيننا، فهو ينشد في البشر كمالاً مفرطاً؛ علينا أن نلين للزمن دون تصلب، والحماقة كل الحماقة في أن نورط أنفسنا في تقويم أخطاء العالم. أني ألحظ كما تلحظ كل يوم عشرات الأشياء التي كان يمكن أن تكون خيراً مما هي لو أنها سلكت طريقاً غير طريقها، ولكن مهما تكشف لي في كل خطوة، فإن الناس لا يروني ساخطاً مثلك. أنني لأتقبل الناس على علاتهم في هدوء كثير، وأروض نفسي على التجاوز عما يفعلون، وأعتقد أن في برودة طبعي من الفلسفة ما في مرارة طبعك، سواء كنت في البلاط أو في المدينة"(37).

وفي رأي نابليون أن حجة فيلانت هي الأرجح، أما جان دارك روسو فرأيه أن فيلانت كذاب، وهو يحب فضيلة ألسيست الصارمة (38). وفي النهاية يهجر ألسيست العالم كما هجره جان دارك ويعتكف في عزلة معقمة.

ص: 189

ولم تحقق التمثيلية من النجاح إلا قدراً معتدلاً. فالحاشية لم تسغ هجو تظرفها، وجمهور الصالة لم يتحمسوا لرجل كألسيست يحقر كل شيء صراحة إلا نفسها. ولكن النقاد-الذين لا هم من جمهور الصالة ولا من الحاشية-صفقوا للمسرحية استحساناً، وقالوا إنها محاولة جريئة لتأليف مسرحية الأفكار، أما النقاد المحدثون فيرونها أكمل عمل كتبه موليير. وبمضي الزمن، وبعد أن مات جيلها الذي شهرت به، لقيت قبولاً عاماً، ففيما بين عام 1680 و1954 مثلت 1571 مرة في الكوميدي فرانسيز-ولم يفقها في حفلات تمثيلها سوى طرطوف والبخيل.

ولما عجز موليير عن العيش في سلام مع زوجة شابة بدا لها الاقتصار على زوج واحد، والجمال، أمرين متناقضين، هجرها (أغسطس 1667) وذهب ليعيش مع صديقه شابلان في أونوى بالطرف الغربي لباريس. وقد استخف به شابلان في رفق لأنه يأخذ الحب مأخذ الجد إلى هذا الحد، ولكن موليير كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً. وقد اعترف بهذا (إذا صدقنا شاعراً يروي عن آخر):

"لقد صممت على أن أعيش معها كأنها ليست زوجتي، ولكن لو علمت ما أكابد لأشفقت عليّ. فلقد بلغ بي الغرام بها مبلغاً يجعله يتغلغل بعطف في كل اهتماماتها. وحين أتأمل استحالة تغلبي على ما أحس به نحوها، أقول لنفسي إنها ربما تكابد نفس المشقة في التغلب على ميلها لأن تكون لعوباً، وعندها أجد نفسي أميل للشفقة عليها مني للومها. ستقول لي ولا ريب إن الرجل لابد أن يكون شاعراً لكي يحس بهذا، ولكني شخصياً أحس أنه ليس هناك سوى نوع واحد من الحب، وأن أولئك الذين لم يحسوا بهذه الخلجات لم يحبوا حباً صادقاً قط. فكل الأشياء في الدنيا مرتبطة بها في قلبي

وحين أراها يجردني من كل قدرة على التفكير ضرب من الانفعال، بل نشوات تحس ولا توصف، فلا تعود لي عينان

ص: 190

تبصران سوءاتها، ولا أرى غير كل جميل محبب فيها. أليس هذا منتهى الجنون (39)؟ ".

وقد حاول أن يسلوها بإغراق نفسه بعمله. ففي 1667 شغل نفسه بتنظيم حفلات الترفيه للملك في سان-جرمان. وأحيت ملهاته "أمفيتريون"(13 يناير 1668) من جديد غراميات جوبيتر الذي يغوي الكمين زوجة أمفيتريون. وحين قال لها جوبيتر "إن مقاسمة المرأة جوبيتر فراشها ليس فيها أي غض من شرفها" فسر كثير من السامعين العبارة بأنها تصفح عن غرام الملك بمدام دمونتسبان، فإذا كان هذا التفسير صحيحاً فهو تملق غاية في السخاء، لأن موليير لم يكن مزاجه آنذاك يسمح له بالتعاطف مع من يغوون الزوجات. لقد كان ككل إنسان آخر يداهن الملك بعبارات الزلفى كما فعل في خاتمة طرطوف. وفي ملهاة أخرى مثلت أمام البلاط في 15 يوليو، واسمها "جورج داندان، أو الزوج المبلبل" تطالعنا مرة أخرى قصة الزوج المبلبل، الذي يتهم زوجته بالزنا ولكنه لا يستطيع إثبات التهمة فيأكل قلبه بالشك والغيرة؛ لقد كان موليير يسكب الملح في جراحه.

وكان عاماً حافلاً بالعمل، فبعد بضعة أشهر لا أكثر (9 سبتمبر) أخرج واحد من أشهر تمثيلياته وهي "البخيل". وقد اتخذت موضوعها وجزءاً من حبكتها من مسرحية بلوتوس "أولولاريا" ولكن بلوتوس كان قد نقل مسرحيته عن "الملهاة الجديدة" عند اليونان. وأغلب الظن أن البخيل وهجوه القديمان قدم المال، ولكن أحداً لم يتناول هذا الموضوع بحيوية وقوة أكثر من موليير. فترى آرباجون يتعلق بماله تعلقاً يحمله على ترك خيله تتضور جوعاً وتسير بغير حوافر، وهو يكره العطاء كراهية تجعله لا "يعطيك" نهاراً سعيداً (أن يقرئك التحية) بل "يقرضك نهاراً سعيداً". وحين يرى شمعتين موقدتين استعداداً للعشاء يطفئ إحداهما.

ص: 191

وهو يرفض أن يمنح ابنته مهراً، ويثق أن ابنه وابنته سيموتان قبله (40). والهجو هنا، كما هو في موليير عادة، يقرب من الكاريكاتور. ولم يسغ الجمهور الصورة، وبعد أن مثلت المسرحية ثمان مرات سحبت، ولكن ثناء بولو عليها أعان على فتح الحياة فيها، فعرضت يبعاً وأربعين مرة في سنواتها الأربع الأولى، ولا يفوقها في عدد عروضها غير طرطوف.

أما مسرحية "البرجوازي مدعي النبل" فكانت أقل جودة وأكثر توفيقاً. وقصتها أنه في ديسمبر 1669 قدم إلى فرنسا سفير تركي. وأتخذ البلاط كل أبهته ليقع في نفس السفير، ولكن السفير استجاب في جمود وصلف. وبعد رحيله دعا لويس وموليير ولولي إلى تأليف كوميديا تجمع بين الباليه والملهاة وتحاكي الأتراك محاكاة ساخرة. ووسع موليير الخطة فجعلها هجائية تذم العدد المتعاظم من فرنسيي الطبقة الوسطى الذين يجاهدون للبس والحديث كما يلبس ويتحدث الأرستقراطيين بالمولد. ومثلت الملهاة أول مرة أمام الملك والبلاط بشامبور في 14 أكتوبر 1670. ولما عرضت بالباليه-وريال في نوفمبر، عوضت الخسارة المالية التي ألحقها بالفرقة عروض "البخيل". ومثل موليير دو مسيو جوردان، ومثل دور المفتي. ورغبة في خلع النبالة على مظهره، يستأجر مسيو جوردان معلماً للموسيقى، وآخر للرقص، وثالثاً للمبارزة، ورابعاً للفلسفة. ويتعارك هؤلاء ويتضاربون على أهمية فنونهم-فأيها أهم، تحقيق الغنائم، أم الخطو الموقع، أم القدرة على القتل المحكم، أم الحديث بالفرنسية الرشيقة؟ ونلحظ في مزاعم معلم الموسيقى غمزة خبيثة قصد بها لولي المتفاخر المتسلق. ويعرب نصف العالم ذلك المشهد الذي يتعلم فيه جوردان أن اللغة كلها إما نثر وإما شعر:

مسيو جوردان: ماذا؟ إذا قلت "إتيني نحفي يانيكول"، و"ناولني طاقيتي" أيكون هذا نثراً؟

معلم الفلسفة: نعم يا سيدي.

ص: 192

مسيو جوردان: يميناً، لقد ظللت أربعين سنة أتكلم النثر وأنا لا أدري. إنني والحق مدين لك جداً بإنبائي بهذا (41).

على أن بعض رجال الحاشية الذين كانوا غير بعيدي العهد بالتخرج من التجارة إلى النبالة أحسوا انهم المقصودون بهذا الهجاء، فسخروا بالتمثيلية زاعمون أنها لغو فارغ، ولكن الملك قال لموليير مؤكداً "أنك لم تكتب في حياتك شيئاً أمتعني كهذا". يقول جيزو "إن البلاط تملكته نوبة من الإعجاب بمجرد سماعه هذا الثناء (42) ".

وتعاون موليير ولولي ثانية ومثلا أمام البلاط (يناير 1671)"بسيشيه"، وهي مزيج من الباليه والمأساة، شارك بيير كولمبي وكنو بأكثر أبياتها. وكان لولي يكسب المعركة ضد موليير، فالملهاة تخلي مكانها للأوبرا، والحوار للآلات، وكان لزاماً إنزال الأرباب والربات من السماء أو رفعهم من الجحيم، واقتضى الأمر إعادة بناء المسرح في الباليه-رويال لهذه التمثيلية، وكلف هذا 1. 989 جنيهاً. ولكن الإخراج حقق نجاحاً مالياً.

بيد أن الرومانس لم تكن أقوى جوانب موليير، وكان أكثر انطلاقاً ويسراً حين يهزأ بسخافات جيله. وقد خيل إليه المرأة المتعلمة شذوذ متعب وعقبة في طريق الزواج. ولقد سمع هؤلاء النسوة يشذبن الألفاظ، ويناقش دقائق النحو، ويقتبسن من الآداب القديمة، ويتكلمن الفلسفة، ووقر هذا في إذن موليير وكأنه انحراف جنسي، أضف إلى ذلك أن رجلين-هما الأب كوتان والشاعر ميناج-كانا يهاجمان بعنف مسرحيات موليير، فها هي ذي الفرصة قد لاحت لوخزهما. وعليه ففي 11 مارس 1672 قدم مسرحية "النساء العالمات". ففيلامن تطرد خادمة لاستعمالها لفظاً رفضه المجتمع اللغوي، وابنتها أرماند ترفض الزواج لأنه اتصال مقزز بين الأجساد لا امتزاج بين العقول؛ ويقرأ تريسوتان شعره الكريه على هاتين

ص: 193

المرأتين المتكلفتين المعجبتين. ويملأ فلديوس الشعر بالألغاز والمعميات، ويقرأ المزيد من شعره وشعر تريسوتان. ويدافع موليير عن هنرييت ضد هؤلاء جميعاً، لأنها تستهجن أبيات الشعر (السداسية) وتريد زوجاً يمنحها الأبناء لا الإبجرامات. ترى هل أصبحت أرمند بيجار إحدى المتحذلقات؟ أم أن موليير كان يعرض عصره؟

‌7 - ستار

إنه لم يجاوز الخمسين الآن، ولكن حياته المحمومة، وتدرنه، وزواجه، وأحزانه لفقد أحبائه، استنزفت حيويته. إن مينار رسمه في ريعان شبابه: أنف كبير وشفتان شهوانيتان وحاجبان مرفوعان بشكل مضحك، ولكن له إلى جانب هذا جبهة متجعدة وعينين حزينتين. ذلك أن انهماكه في دوامة المسرح من بلد إلى بلد، يوماً بعد يوم، وتعامله مع الممثلات الأوليات المتوترات الأعصاب، ومع زوجة منعمة بالحياة، ومع ملك حساس، ورؤيته اثنين من أطفاله الثلاثة يموتان-كل هذا لم يكن طريقاً مفروشاً بالرياحين إلى التفاؤل، بل طريقاً عريضاً لسوء الهضم والموت المبكر. لا عجب إذن أن يصبح موليير "بركاناً يلتهم ذاته (43) "، إنساناً مكتئباً، حاد الطبع، نقاداً في غير مجاملة، ولكنه رغم ذلك كريم النفس عطوف. وقد فهمته فرقته وأخلصت له الود، موقنة أنه يفني نفسه ليوفر لها القوت ويكفل لها النجاح. وكان أصدقاؤه على استعداد دائم لخوض المعركة دفاعاً عنه-لا سيما بوالو، ولا فونتين، اللذين كتبا مع موليير، بمشاركة راسين أحياناً، "الأصدقاء الأربعة" المشهورة. ولقد وجدوا فيه التعليم الحسن والإطلاع الواسع، وعرفوه ذكياً ظريفاً وإن قل مرحه؛ لقد كان المهرج الساخر على خشبة المسرح، ولكنه في حياته الخاصة أشد حزناً من جاك (في مسرحية شكسبير "كما تشاء").

ص: 194

وبعد أن انفصل عن زوجته أربع سنوات ونصفاً عاد إليها (1671). ومات الطفل الذي أثمره هذا التصالح بعد شهر من ولادته. وكان يعيش في أوتوي قبل ذلك على اللبن كما أوصاه طبيبه، فعاد الآن إلى شرب النبيذ على عادته، وحضر سهرات العشاء المتأخر إرضاء لأرماند. وقرر أن يمثل الدور الأول برغم تفاقم سعاله، دور أرجان، في آخر تمثيلياته "المريض بالوهم"(10 فبراير 1673).

وأرجان هذا يتوهم بأنه مصاب بالعديد من الأمراض، وينفق نصف ثروته على الأطباء والعقاقير. ويحتقر أخوه بيرالد:

"أرجان: فما الذي يجب أن نصنعه حين نمرض؟

بيرالد: لا شيء يا أخي

علبنا أن نحتفظ بهدوئنا لا أكثر.

والطبعة ذاتها إذا تركناها وشأنها، كفيلة بأن تخلص نفسها بلطف من الخلل الذي وقعت فيه. إن الذي يفسد كل شيء هو نكراننا لصنيعها ونفاد صبرنا، وكل الناس تقريباً يموتون بالدواء لا بالداء (44) ".

ولمزيد من السخرية بمهنة الطب يقال لأرجان إن في استطاعته هو نفسه أن يصبح طبيباً بإجراء مختصر، وأن يجتاز بسهولة الامتحان للحصول على الإجازة الطبية. ويلي ذلك الامتحان المزيف الذي تسأل فيه اللجنة أرجان

(1)

،

وكاد موت موليير أن يكون جزءاً من هذه التمثيلية. ففي 17 فبراير

(1)

يحاول بيرالد في هذا الفصل الأخير من الملهاة أن يسلي الأسرة، فيكلف أصحابه الممثلين بفاصل يمثل قبول أرجان طبيباً في الفيزياء على أنغام الموسيقى والرقص، ويقترح اشتراك الجميع في المهزلة، وأن يمثل أرجان الجور الرئيسي فيها. ويدخل موكب الصيادلة والجراحين والأطباء، ويجلس أرجان عند قدمي الرئيس الذي يخاطب لجنة الامتحان بخليط لغوي هازل طالباً إليهم أن يوجهوا أسئلتهم لأرجان. فيسألونه عن العقاقير والأمراض وعلاجها، وعقب كل جواب يبدي الخورس استحسانه وجدارة أرجان بالمهنة، فيحلفه الرئيس ويجيزه، ويهتف الخورس بحياته داعياً له بطول العمر. (المترجم)

ص: 195

1673 طلب إليه أرماند وغيرها، حين رأوا إعياءه، أن يغلق المسرح أياماً حتى يتمالك صحته. فسألهم، "ولكن كيف أصنع هذا؟ إن هناك خمسين عاملاً فقيراً ينقدون أجرهم يوماً بيوم، فماذا هم فاعلون إذا توقفنا عن التمثيل؟ إنني لألوم نفسي على أنني أهملت توفير القوت لهم يوماً واحداً مادام في طاقتي أن أمثل (45) ". وفي الفصل الأخير من التمثيلية، وبينما كان كوليير، في دور أرجان (الذي تظاهر بالموت مرتين) يلفظ كلمة Juro ( أحلف) وهو بقسم يمين المهنة، أخذته نوبة سعال مقترنة بتقلصات. فداراها بضحكة كاذبة وأنهى التمثيلية. وهرعت به زوجته والممثل الشاب ميشيل بارون إلى بيته. وطلب كاهناً، ولكن أحداً لم يحضر. واشتد سعاله، وانفجر فيه عرق، فاختنق بالدم في حلقه ومات.

وقضى آرلي نفالون رئيس أساقفة باريس بأنه يستحيل دفن موليير في أرض مسيحية مادام لم يتب توبته النهائية ويتلقى غفران الكنيسة. أما أرماند، التي كانت تحبه على الدوام حتى وهي تخدعه، فذهبت إلى فرساي، وارتمت عند قدمي الملك، وقالت في غير حكمة، ولكن في شجاعة وصدق "إذا كان زوجي مجرماً، فإن جلالتكم باركتم جرائمه بشخصكم (46) ". وبعث لويس بكلمة إلى رئيس الأساقفة سراً، ولان آرلي، وأمر بألا يؤخذ جثمانه إلى كنيسة لإجراء الشعائر المسيحية، ولكنه سمح بدفنه في هدوء بعد الغروب في ركن قصي من جبانة سان-جوزيف في شارع مونمارتر.

ومازال موليير بإجماع الناس علماً من أعظم أعلام الأدب الفرنسي، لا بكمال تكنيكه المسرحي ولا بأي روعة تميز بها شعره. فأكثر حبكاته مستعارة، ومعظم نهاياتها مفتعلة وغير معقولة، وجل شخوصه صفات مجسدة، والعديد منها كأرباجون مبالغ فيه إلى حد الكاريكاتور، وكثيراً ما تهبط ملاهيه إبلا درك الفارص (الهزلية الصاخبة المهرجة).

ص: 196

وقد قيل إن الحاشية والجمهور أحبوه أكثر ما أحبوه حين يغرق في هذا الفارص، ولم يستطيبوا أهاجيه اللاذعة للمثالب التي يشارك فيها الناس عموماً. وأغلب الظن أنه مفضلاً هذا اللون من الهزلية لولا شعوره بأنه مضطر إلى الحفاظ على قدرة فرقته على الوفاء بديونها.

وكما أسف سكشبير على اضطراره أن يجعل من نفسه مهرجاً للناظرين كتب موليير يقول: "أرى أن من العوبة الفادحة في الفنون الحرة أن يعلن الفنان عن نفسه للحمقى وأن نعرض ثمرات أقلامنا للحكم الهمجي الذي يحكم به على الأغبياء (47) ". وقد حز في نفسه أن يطالب على الدوام بإضحاك الناس، فهذا كما قال أحد شخوصه "مطلب غريب (48) ". وكان يتطلع لكتابة المآسي، ومع أنه قصر دون هذا الهدف، فإنه وفق في أن يضفي على أعظم ملاهيه مغزى وعمقاً مأساويين.

إذن فالفلسفة التي تنطوي عليها تمثيلياته، وفكاهتها وهجوها اللاذع-هذه هي التي تجعل كل قارئ تقريباً يقرأ موليير (49). وهي في صميمها فلسفة عقلانية، أبهجت قلوب "فلاسفة" القرن الثامن عشر. "فليس في موليير أثر لمسيحية الخوارق" و"الدين الذي عرضه لسان حاله كليانت (في طرطوف) يمكن أن يصدق عليه فولتير (50) ". إنه لم يهاجم قط العقيدة المسيحية، وقد سلم بفضل الدين في حياة الكثيرين جداً، واحترم التقوى الصادقة المخلصة، ولكنه احتقر الورع السطحي الذي يخفي أنانية أيام ستة وراء نفاق اليوم السابع (يوم الأحد).

وكانت فلسفته الأخلاقية وثنية بمعنى أنها أباحت اللذة ولم يكن فيها إحساس بالخطيئة. وكان فيها رائحة أبيقور وسنيكا لا القديس بولس أو أوغسطين، وقد انسجمت مع تحلل الملك أكثر من انسجامها مع زهد البور-رويال. وكان يستنكر الغلو حتى في الفضيلة. كان يعجب بـ"الرجل الفاضل"، رجل الدنيا المعقول الذي يسلك باعتدال عاقل

ص: 197

وسط السخافات المتعارضة، ويوائم في غير ضجة بين نفسه وبين نقائص البشر.

ولم يبلغ موليير ذاته ذلك المستوى من الاعتدال. فقد أكرهته مهنته مسرحياً هازلاً على الهجو، وعلى المبالغة أحياناً كثيرة. وقد عنف على النساء المتعلمات، وغلا في هجومه على الأطباء دون تفريق، ولعله كان يخلق به أن يبدي احتراماً أكثر للحقن الشرجية. ولكن الغلو كائن في دم الهجو، وقل أن تبلغ المسرحيات هدفها بدونه، ولعل موليير يكون أجل وأعظم قدراً لو أنه وجد سبيلاً لهجو الشر الأساسي الذي لوث ذلك العهد-ونعني ذلك الجشع الحربي والاستبداد المدمر الذي ابتلي به لويس الرابع عشر؛ ولكن هذا المستبد المنعم هو الذي حماه من أعدائه ويسر له أن يشن الحرب على التعصب. وما أسعده لأنه مات قبل أن يصبح سيده أشد هؤلاء المتعصبين كلهم تدميراً!

إن فرنسا تحب موليير، وما زالت تمثل مسرحياته، كما تحب إنجلترا شكسبير وتمثل مسرحياته، ولا نستطيع كما يريد بعض الغليين (الفرنسيين) المتحمسين أن نسوي بينه وبين شاعر إنجلترا، فلقد كان جزءاً فقط من شكسبير، الذي كان جزاءه الآخران راسين ومونتيني. كذلك لا نستطيع كما يفعل الكثيرون أن نضعه على قمة الأدب الفرنسي. لا بل إننا لسنا على يقين من أن بوالو كان على حق حين قال للويس الرابع عشر إن موليير كان أعظم شعراء عهده، فحين قال بوالو هذا لم يكن راسين قد كتب "فيدر" ولا "آتالي". ولكن في موليير، ليس الكاتب فقط هو الذي ينتمي لتاريخ فرنسا، بل الإنسان: مدير الفرقة المرهق الوفي، والزوج المخدوع الصفوح، والمسرحي الذي يخفي أحزانه بالضحك، والممثل العليل الذي يواصل حتى الموت حربه على الفقر، والتعصب، والخرافة، والنفاق.

ص: 198

الفصل الخامِس

‌أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي

‌1643 - 1715

1 -

جو الكلاسيكية

لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661 - 67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667) -هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران.

ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662 - 63) -أي قبل هذه الآثار

ص: 199

الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية (1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويجنس، والرياضي الفلورنسي فيفياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286. 000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145. 000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي (2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.

ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي (3) ". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه

ص: 200

متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.

وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.

واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G (4) ".

كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتيني، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على

ص: 201

الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو-كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.

ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.

‌2 - تذييل لكورني

1643 -

1684

بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.

أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) واندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة

ص: 202

عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر (5). " وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653 - 59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.

وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667) -هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر:

"بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف! " وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري"(1672) وسورينا (1674)،

ص: 203

ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.

وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.

‌3 - راسين

1639 -

1699

ولد مثل موليير في أسرة متوسطة. وكان أبوه مراقباً لاحتكار الدولة للملح في لافيرتي-ميلون، على نحو خمسين ميلاً شمال شرقي باريس، وكانت أمه ابنة محام في فيلييه-كوتريه. وقد ماتت عام 1641 وجان لم يبلغ الثانية بعد؛ وبعد سنة مات أبوه، فكفل الصبي جده لأبيه. وكان في الأسرة نزوع قوي إلى الجانسنية، فقد التحقت جدة وعمة لراسين بأخوات البو-رويال، وأرسل جان نفسه حين ناهز السادسة عشرة إلى "المدرسة الصغيرة" التي يديرها "المتوحدون" وقد تلقى عنهم تعليماً مركزاً في الدين واليونانية-وهما مؤثران قدر لهما أن يسيطرا الواحد بعد الآخر على حياته. واستهوته تمثيليات سوفوكليس ويوريبيديس فترجم بعضها بنفسه. ثم تعلم شيئاً من الفلسفة ومزيداً من الثقافة الكلاسيكية في كلية آركور بباريس، وأكتشف المفاتن الخفية للأنوثة الشابة، الجديد منها

ص: 204

والمستعمل. وعاش عامين على شاطئ الجزانز أوجستان مع ابن عمه نيكولا فيتار، الذي كان يتردد بين البور-رويال والمسرح. واستمع راسين إلى عدة تمثيليات، وكتب تمثيلية، وعرضها على موليير. ولم تكن من الجودة بحيث تستحق الإخراج، ولكن موليير نفحه بمائة جنيه ذهبي، وشجعه على أن يعيد الكرة. واستقر رأي راسين على اتخاذ الأدب حرفة له.

وهال هذا الجنون أقرباءه، وراعهم ما نمى إليهم من أنباء غرامياته، فأرسلوه إلى أوزيس بجنوبي فرنسا (1659) مساعداً لعم له كان كاهنا لكتدارئية، فوعده بوظيفة كنسية ذات وقف إن هو درس اللاهوت ورسم قساً. أما الشاعر الشاب، الذي ما زال باطنه يضطرم بنار باريس، فقد طل عاماً يسدل على هذه النار عباءة سوداء، وقرأ القديس توما الأكويني-وقليلاً من أريوستو ويوريبيديس بجانبه. وكتب الآن إلى لفونتين يقول:

"كل النساء رائعات

لحم غض طري، ولكن بما أن أول شيء قيل لي هو أن آخذ حذري، فلست أريد أن أقول المزيد عنهن. أضف إلى ذلك أنه سيكون امتهاناً لبيت كاهن ذي وقف أعيش فيه أن أخوض في حديث طويل عن هذا الموضوع، "بيتي بيت الصلاة يدعى"

لقد قيل لي "كن أعمى" فإذا لم أستطع أن أكون ذلك كلية، فإني أستطيع على الأقل أن أكون أبكم

لأن على المرء أن يكون راهباً مع الرهبان، كما كنت ذئباً معك من ذئاب قطيعك (6) ".

ولقي الكاهن شدائد وأصبحت الوظيفة الكهنوتية الموعودة أملاً بعيداً وتبين راسين أنه لا يملك موهبة القسوسة. فبدل ثوبه، وطوى كتاب "خلاصة اللاهوت" وعاد إلى باريس (1663).

فلما أبلغها نشر نشيداً أتاه بمائة جنيه من جيب الملك. واقترح عليه موليير موضوعاً حوله راسين إلى تمثيليته الثانية "طيبة"(التيباييد). وأخرجها

ص: 205

موليير في 20 يونيو 1664، ولكنه اضطر لسحبها بعد أربعة عروض. على أنها أحدثت من الضجة ما يكفي لسماعها في البور-رويال-دوشان. وأرسلت إليه عمته من هناك رسالة تستحق أن نوردها باعتبارها جزءاً من دراما تعدل في بلاغتها وتأثيرها في النفس أي شيء كتبه راسين:

"حين نمى إلى أنك تنوي الحضور إلينا طلبت إلى أمنا الإذن لي برؤيتك

ولكنني سمعت مؤخراً خبراً أثار فيّ أشجاناً عميقة. وإني أكتب إليك في مرارة قلبي، وأذرف الدمع الذي أرجو أن أكسبه غزيراً أمام الله لأنال منه خلاصه الذي أتوق إليه أشد مما أتوق لأي شيء آخر في العالم. فقد علمت بالأسف أنك تخالط أكثر من أي وقت مضى معشراً اسمهم بحق رجس عن كل من له أي نصيب من تقوى، لأنهم محرومون من دخول الكنيسة، أو تناول الأسرار المقدسة

فانظر الآن يا ابن أخي إلى أي حال صرت، لأنك لابد عليم بما أشعر به نحوك من حنان، وبأنه لم يكن لي من سؤال إلا أن تتبع الله في وظيفة شريفة. لذلك أتوسل إليك يا ابن أخي العزيز أن ترحم نفسك، وتفحص قلبك، وتتأمل بجد أي هوة ترديت فيها. أنني لأرجو ألا يكون صحيحاً ما أنبئت به، ولكن إذا كان سوء طالعك قد بلغ مبلغاً يحملك على مواصلة تجارة تشينك أما الله والناس، فعليك ألا تفكر في المجيء لرؤيتنا، لأنك تفهم جيداً أنني لن أستطيع في هذه الحالة أن أكلمك لعلمي بأنك في حالة مؤسفة جداً، مناقضة كل المناقضة للمسيحية. ولن أكف في الوقت نفسه عن التضرع لله ليرحمك، فيرحمني إياك، لأن خلاصك عزيز جداً (7) ".

فهاهنا عالم شديد الاختلاف عن ذلك الذي تسجله صفحاتنا عادة-عالم من الإيمان العميق بالعقيدة المسيحية، والولاء المحب لدستورها الأخلاقي. ونحن لا نملك غير التعاطف مع امرأة استطاعت أن تكتب بمثل هذا الإخلاص في العاطفة، ولم تخل من العذر لرأيها في المسيحية الفرنسية كما

ص: 206

كانت في شبابها. ولم تبلغ عبارة نيكول العلنية التالية هذا المبلغ من الرقة والحنو، وكان قد علم راسين في البور-رويال:

"كل الناس يعرفون أن هذا السيد قد كتب .. تمثيليات للمسرح

وهذه المهنة في نظر ذوي العقول الراجحة ليست في ذاتها مهنة شريفة جداً، ولكن إذا نظرنا إليها في ضوء الدين المسيحي وتعليم المسيح كانت في الحق مهنة رهيبة. فالروائيون تجار سموم يقتلون نفوس الناس لا أجسادهم (8) ".

وأجاب كل من كورنيي وموليير وراسين على هذا الاتهام على حده، وكان في جواب راسين من العنف الغضب مل جعله يندم عليه أشد الندم في سنوات لاحقة.

وتلا خصامه مع البور-رويال خصام مع موليير بعد قليل. ففي ديسمبر 1665 قدمت فرقة موليير تمثيلية راسين الثالثة "الإسكندر"، وكان موليير كريماً كعادته، فهو عليم بأن راسين لم يعجب به ممثلاً تراجيدياً، وأن المؤلف الشاب يهيم بأجمل ممثلاته وإن لم تكن أكفأهن، لذلك أخرج نفسه والمرأتين بيجار من شخصيات المسرحية، وأعطى الدور النسائي الأول لتريز دبارك، ولم يظن بمال على الإخراج. وقد لقيت استقبالاً حسناً، ولكن راسين لم يرض عن التمثيل. فرتب حفلة خاصة مثلت الفرقة الملكية فيها المسرحية، وحمله سروره بهذا التمثيل على سحبها من موليير وإعطائها لهذه الفرقة المنافسة. وأقنع الآنسة دبارك التي أصبحت عشيقته بأن تترك فرقة موليير وتنضم إلى الفرقة الأقدم، وعرضت المسرحية في مكانها الجديد بالأوتيل دبورجون ثلاثين مرة في أكثر قليلاً من شهرين. ولم تكن من روائع راسين، ولكنها وطدت مكانته خلفاً لكورنيي، وأكسبته صداقة الناقد بوالو المرشدة. فحين قال له راسين مفاخراً "إنني أنظم شعري في يسر مدهش "أجابه بوالو" أريد أن أعلمك كيف تنظمه في عسر (9) ". ومنذ ذلك الحين علم الناقد العظيم الشاعر قواعد الفن الكلاسيكي.

ص: 207

ولا علم لنا بمدى العصر الذي نظم به راسين "أندروماك"؛ على أية حال بلغ فيها أوج قوته المسرحية وأسلوبه الشعري. وهو يذكر في إهدائه المسرحية إلى مدام هنرييتا أنه قرأها عليها، وأنها بكت. ومع ذلك فهي مسرحية رعب لا مسرحية عاطفة، وفيها كل الكارثة المحتومة التي نتوقعها في إسخيلوس أو سوفوكليس. والحبكة شبكة معقدة من العلاقات الغرامية. فأوريست يحب هرميون، التي تحب بيروس، الذي يحب أندروماك، التي تحب هكتور، الذي مات. وقد منح بيروس بن أخيل ثلاث جوائز لما أبلى في انتصار اليونان على طروادة: منح أبيروس مملكة له، وأندروماك (أرملة هكتور) أسيرة له، وهرميون (ابنة منيلاوس وهيلانه) زوجة له. أما أندروماك فلا تزال شابة وجميلة، وإن لم تكف عن البكاء، وهي لا تحيا إلا لتذكر زوجها النبيل، وتخاف على طفلهما أستياناكس، الذي ينقذه راسين-بانحراف مسرحي عن القاعدة-م الموت الذي كان نصيبه في يوريبيديس ليستعمله هنا أداة في يد القدر. ويفد أوريست- بن كلينمنسترا وقاتلها- على إبيروس مبعوثاً من اليونان ليطلب إلى بيروس تسليم استياناكس وموته باعتباره المنتقم المحتمل لطروادة في المستقبل. ويرفض بيروس الاقتراح في فقرة تمتنع موسيقاها على الترجمة. يقول ما معناه:

"إنهم يخشون أن تولد طروادة بهكتور من جديد، وأن ابنه قد ينتزع مني الحياة التي حفظتها عليه. سيدي، إن الإفراط في التدبر يجر إفراطاً في الحذر. إنني لا أستطيع أن أبصر المكاره من هذا البعد الكبير. وأنا أفكر فيما كانت عليه هذه المدينة (طروادة) فيما مضى، جبارة في حضوتها، شديدة الخصوبة في أبطالها، سيدة على آسيا. ثم أتأمل في النهاية ما صارت إليه وما انتهى إليه حظها-فلا أرى غير أبراج غطاها الرماد، ونهر صبغت مياهه الدماء. وحقول هجرت، وطفل مقيد بالأغلال، ولست أظن أن طروادة تقوى على الثأر وهي على هذه الحال. آه، لو كان ابن

ص: 208

هكتور قد قدر عليه الموت، فلم أبقينا عليه عاماً كاملاً؟ ألم نكن قادرين على تقديمه قرباناً على صدر يريام؟ كان يجب أن يسحق تحت مئات القتلى في طروادة؛ يومها كان كل شيء مباحاً، وعبثاً كانت تحتج الشيخوخة والطفولة بضعفهما في الدفاع عن نفسيهما، فالنصر والقدرة، وهما أشد منا قسوة، حرضانا على القتل وأفقدانا التمييز في ضرباتنا. إن غضبي على المغلوبين جاوز حد الصرامة، ولكن أيجب أن تبقى قسوتي بعد غضبي؟ أينبغي أن أغتسل متلبثاً في دم طفل برغم ما يتملكني من شفقة عليه؟ لا يا سيدي، فليبحث اليونان عن فريسة أخرى، وليلاحقوا ما بقي من طروادة في غير هذا المكان. لقد بلغت نهاية الشوط في عدائي. إن أبيروس ستنقذ ما أبقت عليه طروادة" (10).

هنا مأخذ واحد، ذلك أن بيروس، وربما راسين، لا يدركان مبلغ ما تدين به شفقة الفاتح لغرامه بأم الطفل-إلى حد عرضه الزواج منها (مع أنه كان يستطيع أن يتخذها جارية له)، واتخاذه أستياناكس ولداً ووريثاً له. ولكنها ترفضه، فهي لا تستطيع أن تنسى هكتور، الذي قتله أبو بيروس. وهو يهدد بأن يسلم الطفل لليونان، فيروعها تهديده، وترضى بالزواج منه، ولكن هرميون-وهي في تصور راسين لها تضارع الليدي مكبث قوة-، تشتعل غضباً لأنها نبذت، فيه تعتزم قتل بيروس رغم أنها لا تزال تحبه، وتقبل ما يعرضه أوريست من حب وولاء، شريطة أن يقتل بيروس. فيوافق كارهاً. وفي كل خطوة وكل شخص من شخوص هذه المسرحية صراع في الدوافع يرقى إلى أدق العقد النفسية المعروفة في الأدب. ويقتحم الجند اليونان الهيكل ويقتلون بيروس عند المذبح الذي يتبادل فيه عهود الزواج مع أندروماك. وتحتقر هرمون أوريست، وتجري إلى المذبح، وتغمد مدية في جسد بيروس الميت، ثم تطعن نفسها وتموت. هذه أعظم مسرحيات راسين، وهي خليقة بأن تثبت للمقارنة مع شكسبير

ص: 209

أو يوريبيديس: حبكة متينة البناء، وشخوص كشف عنها في عمق، ومشاعر مدروسة في كل تعقيدها وحدتها

(1)

، وشعر فيه من الروعة والتناغم ما لم تسمعه فرنسا منذ رونسار.

واعترف الناس بأندروماك للتو رائعة من روائع الأدب، فوطدت مقام راسين خليفة لكورنيي وربما متفوقاً عليه. ودخل الآن أسعد عقد في عمره، متنقلاً من نصر إلى نصر، بل متحدياً موليير بملهاة من قلمه. والملهاة، واسمها "المتخاصمون"، وهي تقليد ساخر (برلسك) للمحامين الجشعين، وشهود الزور، والقضاة الفاسدين-هذه الملهاة كانت صدى لتجربة راسين مع القانون. ذلك أنه التمس رهنا على دخل دير وحصل عليه؛ ولكن راهباً نازعه دعواه، وتلا ذلك دعوى قضائية امتد بها الأجل حتى ضاق بها راسين ذرعاً فتخلى عنها وثأر لنفسه بكتابة المسرحية. ولم تسر النظارة في أول عرض لها، ولكن حين مثلت في البلاط ضحك لويس الرابع عشر من قلبه على نكتها ضحكاً جعل الجمهور يغر رأيه، وأدت هذه الملهاة المتوسطة الجودة في ملء جيب راسين.

على أن نغمة صغيرة قطعت هناءه. ذلك أن خليلته دبارك ماتت في ظروف غامضة-سنفصلها في موضع لاحق-في 11 ديسمبر سنة 1668. وبعد أن توقف فترة مناسبة اتخذ ممثلة أخرى تدعى ماري شانمسليه. وكان لها زوج يقظ وصوت ساحر، وتحاشى راسين الأول واستسلم للآخر. واتصل هذا الغرام من برينيس حتى فيدر، وبعد ذلك انتزعها الكونت دكليرمون-تونر من جذورها ( D (racin (e أي من راسين) كما قال أحد الظرفاء.

ومسرحية راسين "بريتانيكوس"(1669) في رأيه أكثر أعماله اتقاناً، وكثيراً ما تفضل على اندروماك، شأنها شأن "فيدر" و"اتالي".

(1)

انفجر عرق في مونغلوري وهو يمثلها ومات بعد قليل.

ص: 210

على أن القارئ العصري لن يلتذها في أغلب الظن مهما كان غارقاً في تاسيتوس ففيها أجربين السليطة، وبريتانيكوس الشكاء وبوروس المتخبط، ونارسيس القذر، ونيرون الممتلئ شراً-فما من شخص هنا يظهر لنا تعقيداً أو تطوراً، أو يبدي لنا أثراً من نبل خليق بأن يخفف في موضع ما من أي مأساة جديرة بقلم شاعر.

وكما أن بريتانيكوس فتشت عن قصتها في "قاعة الفظائع" التي ذكرها تاسيتوس، فكذلك أخذت برينيس (1670) قصة غرام إمبراطور عن سطر موجز لسويتون يقول فيه "فأرسل لتوه كارهاً برينيس الكارهة من المدينة (12) " وتفصيل المسرحية أن تيطس الذي كان يحاصر أورشليم (70م) كان قد أغرم بالأميرة اليهودية. ومع أنها تزوجت من قبل ثلاث مرات، إلا أنها تتبعه إلى روما خليلة له، ولكنه حين يرث العرش يدرك أن الإمبراطورية لن تسمح بملكة أجنبية، فيصرفها بعبارات ملكية متدفقة تتميز بالإدراك السليم. وقد حفلت المسرحية بالعاطفة الحارة وحظيت برضاء الجمهور والملك، الذي لابد قد استشف بسرور بلاطه وانتصاراته في وصف برينيس لعظمة الإمبراطور الشاب:

"أرأيت بهاء هذه الليلة؟ ألا تمتلئ عيناك بعظمتها وأبهتها؟ هذه المشاعل، وهذا الحطب، وهذا الليل ذو اللهب المقدس، وهاتيك النسور، وتلك الشعارات، وهذا الجمع من الناس، وهذا الجيش، وذلك الحشد من الملوك، هؤلاء القناصل، وهذا السناتور-أولئك الذين قبسوا نورهم الساطع من حبيبي، وهذا الأرجوان والذهب الذي يزداد تألقاً بمجده، وهذا الغار الذي مازال شاهداً على انتصاره، وهذه العيون التي نراها قادمة من كل فج لتلتقي فيه وحدة نظراتها الملهوفة؛ هذه الطلعة الجليلة، وهذه الحضرة الحلوة. وحق السماء! بأي إجلال وبأي رضى تؤكد له كل القلوب سراً ثقتها به! تكلم: أيستطيع إنسان أن يراه دون أن يخطر له

ص: 211

كما يخطر لي، أنه لو كان القدر قضى بأن يولد مغموراً لتبين فيه العالم سيده بمجرد النظر إليه (13) ".

أمن العجب إذن أن نرى رأسين، وهو على هذا الحذق في الزلفى، ينال الحظوة السريعة عند الملك؟

ونمر في احترام ببعض مسرحياته الأقل شأناً، وكلها ما يزال يحتل خشبة المسرح الفرنسي: بايريد (1672)، وتردات (1673) التي فضلها لويس على كل مسرحياته، وإفجيني (1674)، التي وضعها فولتير في صف واحد مع أتالي باعتبارها من أروع ما كتب من الشعر (14). وقد عرضت أجيني أول مرة في حدائق فرساي على ضوء الشمعدانات البلورية المعلقة في أشجار البرتقال والرمان، وعزف العازفون على الكمان وانعطفت قلوب نصف النخبة المتفرجة، وتقدم راسين ليشكر النظارة على أغلى تصفيق لقيه في حياته. وحين أخرجت في باريس امتد عرضها أربعين مرة في شهور ثلاثة. وكان قد انتخب أثناء ذلك عضواً في الأكاديمية الفرنسية (1673). وبدا أن سعادته قد اكتملت.

على أن السعادة لم تكتب إلى الآن للشعراء، إلا أن يكون الجمال فرحة لا تنتهي، والثناء لا يقطعه صوت ناشز. قال راسين لابنه "لقد طالما أبهجني جداً ذلك الاستحسان الذي قوبلت به، ولكن أقل لوم ناقد

كان يسبب لي دائماً من الضيق قدراً أكبر من كل السرور الذي يدخله على المديح (15) ". فهو لم يكن شديد الحساسية فحسب، كما لم يكن بد من أن يكون، بل ضيق الخلق، يرد على كل كلمة نابية. وفي ذروة نجاحه وجد نصف باريس تنتقده، لا بل تعمل على إسقاطه. كان كورنبي قد عمر فوق ما ينبغي، ولكن مريديه تذكروا ما اتسمت به مآسيه الأولى من نبرة بطولية وموضوعات ملحمية، وما شاع في بلاغته من نبل، وذلك المستوى السامي الذي رفع إليه دواعي الشرف والدولة، فوق أهواء القلب. واتهموا راسين بتلويث المأساة بعواطف نصف مجنونة تنفعل بها مخلوقات خسيسة،

ص: 212

وبإدخال مغازلات حب القصور إلى المسرح، وإغراقه بدموع بطلاته، فصمموا على إسقاطه.

فلما عرف أنه يكتب "فيدر" أقنع فريقاً من خصومه نيكولا برادون بأن يكتب مسرحية منافسة في الموضوع نفسه. وكان للمسرحيتين نفس العنوان في الأصل-فيدر وهيبوليت-وانبثقتا من أسطورة رواها يوربيديس من قبل بما عهد فيه من قصد كلاسيكي في العاطفة. ففيدر، زوجة تسيوس، وتولع ولعاً شديداً بهيبوليت بن ثيسيوس من زوجة سابقة، ولكنها تجده بارد العاطفة نحو النساء فتشنق نفسها بعد أن تترك خطاباً اتهمته فيه بمحاولة الاعتداء على عفافها انتقاماً منه، ونفى ثيسيوس ابنه البريء، الذي لم يلبث أن قتل وهو يسوق الخيل على شواطئ تروزين. ولكن راسين غير ترتيب الأحداث، فجعل فيدر تتجرع السم بعد سماعها بموت هبوليت. ومثلت مسرحية راسين في الأوتيل دبورجون في أول يناير سنة 1677، ومثلت مسرحية برادون بعد يومين على مسرح جينيجو. ولقيت التمثيليتان نجاحاً متكافئاً إلى حين، ولكن تمثيلية برادون طواها النسيان، في حين تمثيلية راسن عادة رائعته الكبرى؛ ودور فيدر تصبوا إلى تمثيله كل الممثلات الفرنسيات، كما يستهوي دور هاملت المثلين التراجيديين في المسرح الإنجليزي)

(1)

. ولقد بارى راسين الرومانسيين مع أنه المثل المحتذى في الأسلوب الكلاسيكي، في عاطفية غرام فيدر، وجعل هبوليت يتحرق شوقاً للأميرة أريسيا (وهذا مناقض الأسطورة). وتعلم فيدر بنبأ هذا الغرام، ويعطينا راسين في تفصيل منفعل دراسة للمرأة إذا ازدريت. وهو يخفف من هذه التحليقات الرومانسية بوصف قوي لخيل هيوليت المذعورة وهي تجره حتى يلقى حتفه.

وفي المقدمة التي يصدر بها راسين تمثيليته فيدر (إذ بدأ يشتد فيه

(1)

عند آدم سميث أن فيدر "ربما كانت أروع مأساة في أي لغة"(16).

ص: 213

الحافز الديني كلما ضعف الحافز الجنسي) يلوح بغصن الزيتون للبور-رويال فيقول:

"لست أجرؤ على أن أؤكد لنفسي أن هذه

خير مآسي

ولكني وأثق أنني لم أكتب مأساة عرضت فيها الفضيلة في ضوء أفضل. فأتفه الذنوب تعاقب هنا عقاباً صارماً، ومجرد التفكير في الجريمة ينظر إليه هنا نظرة الاستهجان التي ينظر بها إلى الجريمة ذاتها، وعثرات الحب ينظر إليها هنا كأنها عثرات حقيقية، والعواطف المشبوبة لا تعرض على الأنظار إلا لترى الخلل التي هي السبب فيه، والرذيلة مصورة في المسرحية كلها بألوان تتيح لنا أن نراها ونكره شكلها الشائه. وتلك هي الغاية الصحيحة التي ينبغي أن يستهدفها كل من يعمل لجمهور الشعب. ولعل هذه أن تكون وسيلة المصلحة بين الدراما المأساوية، وكثيرين من الأشخاص المعروفين بتقواهم وتعاليمهم، والذين أدانوها مؤخراً، ولكنهم سيحكمون عليها حكماً أكثر عطفاً لوعني المؤلفون بتعليم جمهوره النظارة عنايتهم بالترفيه عنهم، ولو ترسموا في هذا التعليم القصد الصحيح من المأساة (17) ".

ورحب آرنو، المعروف بتقواه وتعاليمه، بهذه النغمة الجديدة، وأعلن رضاءه عن فيدر. ولعل راسين وهو يكتب المقدمة، وقد بلغ الثامنة والثلاثين، كان يتطلع إلى حياة من الاستقرار يسكن فيها إلى امرأة واحدة بدل النساء الكثيرات. ففي أول يونيو سنة 1677 تزوج زوجة أقنه بمهر كبير. وقد أكتشف ما في الحياة العائلية من أسباب الراحة، ووجد من البهجة في ابنه البكر أكثر مما وجد في أكثر مسرحياته توفيقاً. وكانت غيرة مزاحميه ودسائسهم قد نفرته من المسرح، فألقى جانباً الخطط والمذكرات التي كان قد أعدها لأربع مسرحيات، واقتصر طوال اثني عشر عاماً على كتابة الشعر والنثر بين الحين والحين؛ لا سيما تأليف تاريخ للبور-رويال طابعه التبجيل والولاء البنوي.

ونغص عليه هذا الهدوء المثالي حادث مؤسف أليم. ذلك أن المحكمة

ص: 214

الخاصة التي كانت تحقيق عام 1679 في تهم التسميم الموجهة ضد كاتيرين مونفوازان استلمت منها اتهاماً لراسين بأنه سمم خليلته تريز دبارك. وأدلت "لفوازان" بتفاصيل الاتهام ولكن لم يكن هناك ما يعززه. وإذ كانت واثقة من أنه سيحكم عليها بالإعدام، فأنها لن تكن تخسر شيئاً باتهام غيرها زوراً، وقد لوحظ أن إحدى زبائنها وصديقاتها هي الكونتيسة سواسون، وكانت عضواً في العصبة التي قاومت راسين في "غرام فيدر (18) ". ومع ذلك كتب لوفوا في أول يناير سنة 1680 إلى المفوض بازان دبيزون يقول "إن الأمر الملكي بالقبض على السيد راسين سيرسل إليك حالما تطلبه" ولكن حين تقدم التحقيق وبدا أنه سيورط مدام دمونتسبان، أمر الملك بحضر نشر سجل المحاكمة، ولم يتخذ أي إجراء ضد راسين (19).

وأظهر لويس ثقته المستمرة في الكاتب المسرحي. ففي سنة 1664 رتب له معاشاً؛ وفي سنة 1674 خلع عليه وظيفة شرفية تغل له 2. 400 جنيه في العام في إدارة المالية؛ وفي سنة 1670 عين راسين وبوالو مؤرخين رسميين للبلاط؛ وفي سنة 1690 أصبح الشاعر موظفاً دائماً في معية الملك، فأتته الوظيفة بمود إضافي قدره ألفان من الجنيهات. وفي سنة 1696 بلغ من الثراء مبلغاً أتاح له شراء وظيفة سكرتير الملك.

وقد أعان أداؤه النشيط لواجباته مؤرخاً ملكياً على سحبه من المسرح. وكان يرافق الملك في حملاته ليسجل الأحداث تسجيلاً أدق. وفيما عدا ذلك كان يلزم داره شاغلاً نفسه بتربية ولديه وبناته الخمس، وكان يود أحياناً، وسط صخبهم وضجيجهم، لو أنه كان راهباً. وما كان ليكتب أي مسرحية أخرى لولا أن مدام دمانتون لجأت إليه في أن يكتب مسرحية دينية بريئة من كل ما يتصل بالغرام، تمثلها الفتيات اللائى جمعتهن في أكاديمية سان-سير. وكانت أندروماك قد مثلت هناك من قبل، ولكن دمانتون الفاضلة لاحظت أن الفتيات استمتعن بالفقرات الغرامية الحارة. ورغبة في ردهن إلى التقوى كتب راسين مسرحيته "إستير".

ص: 215

ولم يكن قد اقتبس موضوعاً من الكتاب المقدس من قبل، ولكنه درس الكتاب أربعين سنة، وأحاط بكل التاريخ المعقد المدون في العهد القديم. وقام هو نفسه بتدريب الفتيات على أدوارهن، وتبرع الملك بمائة ألف فرنك لتوفير الملابس الفارسية المطلوبة. فلما أخرجت (25 يناير سنة 1689) كان لويس أحد الرجال القليلين الذين شهدوها بين النظارة. وأشتد الطلب على مشاهدتها، من الكهنة أولاً، ثم من الحاشية، وعرضتها أكاديمية سان-سير اثنتي عشرة مرة أخرى. ولم تصل إستير إلى جماهير المتفرجين إلا سنة 1721 بعد موت الملك بست سنين؛ وعندها (بعد أن فقد الدين الرعاية الملكية) لم تلقَ إلا نجاحاً متوسطاً.

وفي 5 يناير 1691 أخرجت سان-سير أحدث مسرحيات راسين وهي "أتالي". وأتاليا هي الملكة الشريرة التي ظلت سنوات تقود يهوداً كثيرين إلى عبادة البعل الوثنية، حتى عزلتها ثورة قام بها الكهان (20) وجعل راسين من القصة مسرحية لا يشعر بقوتها غير أولئك الذين يشهدونها وهم على علم بقصة الكتاب المقدس، يدفئ صدورهم الإيمان اليهودي أو المسيحي الأصيل، أما غيرهم فسيجدون أحاديثها الطويلة وروحها القاتمة مثبطة لهم. وقد بدا أن التمثيلية صفقت لطرد الهيجوتوت وانتصار الكهنوت الكاثوليكي، ولكنها من جهة أخرى حوت-في إنذار رئيس الكهنة للملك الشاب جود-تنديداً قوياً بالحكم المطلق:

"وقد نشئت بعيداً عن العرش لم تشعر بفتنته السامة، إنك لا تعرف الانتشاء بالسلطان المطلق، وسحر المتملقين الجبناء. عما قليل سيقولون لك إن أقدس القوانين

ينبغي أن تطيع الملك، وأنه لا ضابط للملك غير مشيئته، وأنه يجب أن يضحي بكل شيء في سبيل مجده الأعلى

وا أسفاه! لقد ظللوا أحكم الملوك (21) ".

وقد ظفرت هذه الأبيات بالاستحسان الكثير إبان القرن الثامن عشر،

ص: 216

ولعلها حدت بفولتير وغيره (23) إلى اعتبار أتالي أعظم الدرامات الفرنسية. على أن الأبيات التالية لهذه توحي بأن رئيس الكهنة إنما كان يحاج دفاعاً عن خضوع الملوك للكهنة.

أما لويس، الذي بز الآن راسين في تقواه وورعه، فلم يرَ بالتمثيلية بأساً. وواصل استقبال راسين في القصر رغم ما عرف عن الشاعر من تعاطف مع البور-رويال. ولكن في سنة 1698 حجب الملك رضاءه. ذلك أن راسين، بناء على طلب مدام دمانتون، وضع بياناً بألوان العذاب الذي ابتلى بها الشعب الفرنسي في أواخر الحكم. وفاجئها الملك وهي تقرأ الوثيقة، وأخذها منها، وانتزع منها اسم كاتبها، وأخذته سورة الغضب وقال "ألكونه شاعراً فحلاً يحسب أنه يعرف كل شيء! ألا أنه شاعر كبير يريد أن يكون وزيراً لأيضاً! " أما مانتنون فقد أكدت لراسين وهي تفيض في الاعتذار له أن الزوبعة ستمر سريعاً. ولقد مرت؛ وما لبث راسين أن عاد إلى البلاط واستقبل استقبالاً كريماً، وإن بدا له أقل حرارة من ذي قبل (23)

(1)

.

أما الذي قتل الشاعر فلم يكن نظرة فاترة من الملك بل خراجاً من الكبد. وقد أجريت له جراحة، وخف ألمه فترة، ولكنه لم يكن واهماً حين قال: لقد أرسل الموت إلى كشف حسابه (26) وجاء بوالو، وهو يشكو المرض، ليلازم صديقه العليل. وقال راسين "إني مغتبط لأنه سمح لي أن

(1)

يقول ابن راسين: "لقد عاد إلى القصر غير مرة، وكان على الدوام يتشرف بالحديث إلى جلالته (24) " أما سان-سيمون فيروي قصة غير هذه: فهو يزعم أن راسين فقد الحظوة لأنه انتقد ملاهي سكارون في حضرة مدام دمانتون والملك "وهنا احمر وجه الأرملة المسكينة، لا للنيل من سمعة الرجل المشلول، بل لسماعها اسمه ينطق به في حضرة خلفه. كذلك ارتبك الملك

وانتهى المر بأن صرف الملك راسين أنه زاعماً ذاهب إلى عمله

ولم يكلم الملك ولا مدام دمانتون بعدها راسين حتى ولا نظرا إليه". وهذا التحليل لسخط الملك على راسين مرفوض الآن عموماً (25).

ص: 217

أموت قبلك (27) " وكتب وصية بسيطة كان أهم فقرة فيها هذا الرجاء إلى البور-رويال:

"أود أن تحمل جثتي إلى البور-رويال-دي-شان، وأن تدفن في مقبرته .. إنني بكل تواضع ألتمس من الأم الرئيسة والراهبات أن يمنحنني هذا الشرف، وإن كنت عليماً بأنني لا أستحقه، سواء لما شاب حياتي الماضية من مخازٍ، أو لتقصيري في الإفادة من ذلك التعليم من ذلك التعليم الممتاز الذي تلقيته من قبل في ذلك الدير، وما رأيت فيه من مثل رائعة في التقوى والتوبة

ولكن كلما ازدادت حاجتي لصلوات هذه الجماعة العظيمة الورع (28) ".

ومات في 21 إبريل سنة 1699 وقد بلغ التاسعة والخمسين. وأجرى الملك معاشاً على أرملته وأبناءه حتى مات أخرهم.

وتضع فرنسا راسين في صف أعظم شعرائها، لأنه هو وكورنيي يمثلان أرقى ما وصلت إليه الدراما الكلاسيكية الحديثة من تطور. ولقد تقبل-بناء على حض والو-تفسيراً دقيقاً للوحدات الثلاث: فبلغ بذلك تركيزاً لا يبارى للوجدان والقوة من خلال عمل واحد يقع في مكان واحد ويكمل في يوم واحد. وقد تجنب تطفل الحبكات الثانوية-وكل مزج بين المأساة والملهاة، وأخرج العامة من مآسيه، ولم يتناول عادة غير الأمراء والأميرات والملوك والملكات. وقد نقى لغته من كل الألفاظ التي قد تعد نابية في الصالونات أو البلاط، أو تكون محل استنكار في الأكاديمية الفرنسية. وشكا من أنه لا يجرؤ على أن يورد في تمثيلياته عملية مبتذلة كعملية تناول الطعام، وإن حفل بها شعر "هوميروس (29) " وكان الهدف هو بلوغ أسلوب يعكس في الأدب حديث الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها. وقد حدت هذه القيود من مجال راسين. وكانت كل درامة من دراناته قبل إستير، على شاكلة سابقاتها-وفي كل منها كانت العواطف واحدة.

ص: 218

على أن راسن شارف الرومانسية في طابع للشاعر التي عبر عنها وفي حدتها، وذلك رغم الفكرة الكلاسيكية، فكرة العقل يطغى على الحياة ويضبط العاطفة والحديث. وبينما نجد العاطفة في كورنبي تؤكد على الشرف، والوطنية، والنبالة، نجدها في راسين تتركز إلى حد كبير حول الحب أو العاطفة المشبوبة؛ ونح نحس فيه تأثير رومانسيات دورفيه، ومدام دسكوديري، ومدام دلافاييت. وكان سوفوكليس أكثر من يعجب بهم من المسرحيين قاطبة، ولكنه يذكرنا أكثر بيوربيديس، الذي تحول فيه قصد سوفوكليس وجلال عبارته بين الحين والحين إلى إفراط في الحماسة والوجدان. وفي هاملت أو مكبث إلى القصد في الحديث أكثر مما في أندرو ماك أو فيدر. وقد أعرب راسين صراحة عن رأيه في أن "أول قاعدة" للدراما "هي أن تسر وأن تمس القلب (30) " وقد فعل هذا بتعامله مع القلب، وباختياره شخوصه الرئيسيين من بين أفراد-كانوا عادة من النساء-مرهفي العاطفة، وتحويله تمثيلياته إلى سيكلوجية العاطفة.

وقد وافق على الحظر الكلاسيكسي للحركة العنيفة على المسرح، ومن ثم أخذ نفسه بالتعبير عن العاطفة بالكلام فقط. وألقى هذا عبئاً ثقيلاً على أسلوبه، فأصبحت المسرحية سلسلة من الخطب، وكان استرساله في الأبيات الإسكندرية المتتابعة-وهي ذات المقاطع الاثني عشر والقوافي المزدوجة-هذا الاسترسال أشرف بشعره على الرتابة المملة؛ فنحن نفتقد في راسين وكورنبي ما يطالعنا في الشعر الإليزابيثي المرسل من مرونة، وطبيعية، وتنوع لا آخر له. وياله من جهد عبقري ذلك الذي اقتضاه رفع هذا الشكل الضيق من تماثله الممل، بقوة الأسلوب وجماله! أن راسين وكورنبي ينبغ ألا يقرأ، بل يجب أن يسمعا، وحبذا أن يكون ذلك ليلاً في فناء الأنفاليد أو اللوفر.

والمفاضلة بين راسين وكورنبي هواية قديمة لدى الفرنسيين. أما مدام دسفينييه، فأنها بعد أن شهدت "بايزيد" وقبل أن تمثل-إفجيني

ص: 219

أو فيدر-انحازت إلى كورنبي بحماستها المألوفة. وقد تنبأت في تهور، ولكن ربما بحق، بأن:

"راسين لن يستطيع أبداً أن يتجاوز .. أندروماك

فتمثيلياته مكتوبة للآنسة شانمسلييه .. وسوف يتضح حين يكبر، ويكف عن الحب، هل أخطأت الحكم أم أصبت. إذن فليعش صديقنا كورنبي طويلاً، ولنغتفر له الأبيات الرديئة التي نصادفها في شعره من أجل تلك الفقرات الإلهية التي كثيراً ما ننتشي بها"

وهذا على العموم رأي كل ذي ذوق سليم (31). ولكن فولتير الذي اضطلع بنشر أعمال كورنبي والتعليق عليها، صدم الأكاديمية الفرنسية بنقده لأخطاء المسرحي الكبير وفجاجاته ولغته الطنانة. كتب يقول "أعترف أنني بنشر كورنبي أصبحت من عباد راسين (32) " وقد أقر الزمن بهذه الأخطاء، وأغتفرها لرجل لم يحظ بما حظى به راسين من ميزة المجيء بعد كورنبي. فالارتفاع بالدراما الفرنسية من مستةاها السابق إلى مكانة "السيد""وبوليوكت" كان إنجازاً شق من بلوغ النشوات المشبوبة والجمال المنغوم الذي نجده في "أندروماك""وفيدر". إن كورنبي وراسين هما الموضوعان الذكر والأنثى في شعر القرن العظيم-التعبير القوي عن الشرف والحب .. وعلينا أن نأخذهما معاً إن أردنا أن نحس باتساع الدراما الكلاسيكية الفرنسية وقوتها، تماماً كما يجب أن نأخذ ميكلانجلو ورفائيل معاُ إن أردنا أن نحكم على النهضة الإيطالية؛ أو بتهوفن وموتسارت إن أردنا أن نفهم الموسيقى الألمانية في ختام القرن الثامن عشر.

قال ديفد هيوم، وكان اسكتلندياً حكيماً، ضليعاً في لغة الفرنسيين وآدابهم، "في المسرح تفوق الفرنسيون حتى على اليونان، الذين تفوقوا كثيراً على الإنجليز (32) " وذلك حكم كان خليقاً بأن يدهش راسين ذاته، الذي عبد سوفوكليس باعتباره الكمال مجسماً، وإن جرؤ على منافسة

ص: 220

يوربديس. وفي هذا نجح، وهو ما يستحق عليه الثناء حقاً. فلقد احتفظ بالدراما الحديثة على مستوى لم يبلغه سوى شكسبير وكورنبي، ولا يدنو منه إنسان بعد ذلك سوى جوته.

‌4 - لافونتين

1621 -

1695

في ذلك العصر، عصر الخصومات الأدبية الصارخة، يطيب للمرء أن يسمع بتلك الصداقة المشهورة، نصف الأسطورية، بين بوالو، وموليير، وراسين، ولافونتين-"شلة" الأصدقاء الأربعة.

أما جان دلافونتين فكان العضو المغمور بين الجماعة. ولد كأضحابه لأسرة متوسطة؛ ولا غرور فالأرستقراطية في شغل بفن الحياة عن الفن. وكان مسقط رأسه شاتو-تييري في شمبانيا، وابوه المدير المحلي للمياه والغابات، لذلك شب جزءاً حساساً من الطبيعة المحيطة به، وعشق الحقول، والغابات، والأشجار، والأنهار، وكل ساكنيها، وتعلم عادات العشرات من أنواع الحيوان، وتكهن في تعاطف بغاياتها، وهمومها، وأفكارها، فكان كل ما عليه أن يفعله وهو يكتب أن يجري الكلام على ألسنه هؤلاء الفلاسفة متعددي الأرجل، وأصبح "إيزوبا" آخر مذاباً بقصصه الخرافية في ذاكرة الملايين.

وكانت نية أبويه أن يعداه للكهانة، ولكن لم يكن به ميل للخوارق. وحاول أن يمارس القانون، ولكنه وجد الشعر أيسر فهماً. وتزوج فتاة غنية (1647) وأنجب منها ولداً. ثم اتفق مع زوجته على الانفصال (1658) وذهب إلى باريس، وأبهج فوكيه، وتلقى من ذلك المختلس اللطيف معاشاً قدره ألف جنيه، شريطة أن يتحفه بأشعاره أربع دفعات في السنة. فلما سقط فوكيه وجه لافونتين إلى الملك التماساً شجاعاً يرجوه فيه الصفح عن رجل المال. وكانت النتيجة أنه لم يصطل قط بعدها في شمس الملك. فلما جرد من

ص: 221

معاشه ولم يكن لديه أي فكرة عن كسب قوته، آوته وأطعمته الدوقة دبوين التي التقينا بها من قبل في صفوف الفرونديات. وأصدر وهو مستظل بجناحها (1664) أول كتاب في "حكاياته" وهو مجموعة من الأقاصيص الشعرية، مكشوفة على الطريقة البوكاشية، ولكنها مروية في بساطة ساحرة ما لبثت أن جعلت نصف فرنسا، حتى العذارى الخجولات، يقرأنها

(1)

.

وبعد قليل أسكنته مارجريت اللورينية، دوقة أورليان الأرملة؛ قصر اللكسمبورج بوصفه وصيفاً لها. وهناك كتب مزيداً من حكاياته، ومن هناك دفع إلى المطبعة بالكتب الستة الأولى من قصصه الخرافية (1668). وقد زعم أنها صياغة جديدة لخرافات إيزورب أو فيدروس، وكذلك كان بعضها، وبعضها أخذ عن قصص الهند الأسطورية Bidpoi وبعضها من خرافات فرنسا، ولكن أكثرها خلق من جديد في ذلك الغدير الذي يتدفق في ذهن لافونتين وشعره. وكانت أول قصة خرافية تلخيصاً غير مقصود لحياته الخالية الطروب:

"بعد أن أنفقت الجرادة الصيف كله غناء، ألفت نفسها حين أقبل الشتاء مملقة لا تملك ذبابة ضئيلة ولا دودة حقيرة، فمضت تشكو جوعها لجارتها النملة وتسألها إن أقرضتها شيئاً من الحب تقتات به حتى يقبل الموسم الجديد. وقالت "سأرد لك ديني قبل الحصاد، وأقسم على ذلك بدين الحيوان ومصلحته ومبدئه". أما النملة فلم تكن ممن يقرضون، وهذا أقل عيوبها. لذلك قالت للسائلة "وماذا كنت تفعلين في الصيف؟ "

(1)

خذ مثلاً قصة "صانع الآذان". فالسير وليم يذهب لقضاء مصلحة في المدينة ويترك زوجته أليكس حبلى. وينذرها قريبها أندريه بأنه يستنتج من لون وجهها أن طفلها سيولد ناقصاً إذناً. ويعرض عليها أن يكون جراحاً لها، ويفهمها أن نوبة غرام كفيلة بتزويد الطفل بالآذان الناقصة. وتقبل الوصفة، وتتناول منها عدة جرعات، حتى ليخطر لها أن الطفل سيكون له من الأذان أكثر من اثنتين. فإذا عاد وليم صحح التوازن الأخلاقي بإغواء زوجة أندريه (34).

ص: 222

"كنت أغني ليل نهار لكل وافد، فلا يسؤك هذا". "كنت تغنين: يسعدني أن أسمع هذا. عليك إذن أن ترقصي الآن".

كان لافونتين أحكم من ديكارت، الذي ظن أن كل الحيوانات كائنات آلية لا تفكر، فقد أحبها الشاعر، وأحس بتفكيرها، ووجد فيها كلها دروس الفلسفة العلمية. وافتتنت فرنسا بتلقي الحكمة في جرعات سهلة الهضم كهذه. وأصبح كاتب هذه الخرافات أكثر المؤلفين قراء في بلاده. واتفق النقاد مرة في حياتهم مع الشعب، وأثنوا عليه فيمن أثنوا، ذلك أنه برغم بساطته الخالصة كان عليماً بالفرنسية في لونها الريفي ورائحتها الترابية، وقد خلع على شعره من الرشاقة الطيعة، وطرق التعبير الحلوة، والصورة الحية المحكمة، ما جعل كل البروجوازيين مدعى النبل في فرنسا يغتبطون لأن حيواناتهم، بل حشراتهم، تنطق بالشعر طوال الوقت. قال فونتين "إني استخدم الحيوانات لتعليم الناس (35) ".

وفي 1673 ماتت مرجريت اللورينية وألفى الشاعر نفسه غارقاً في الديون، وهو الذي كان يغني في غير تدبر للمستقبل، ولم يحسن التصرف في الأجور المتواضعة التي أتت بها كتبه. على أنه كان أكثر حظاً من جرادته، لأن مدام دلاسابليير، المرأة المثقفة العطوف، آوته وأطعمته ورعته بحدب الأم الرءوم في بيتها بشارع سانت-أوثورية، وهناك عاش قناعة هادئة إلى أن ماتت في 1693. يقول إن وقته كان قسمة بين شطرين: أولهما ينام فيه، والآخر لا يعمل فيه شيئاً. ووصفه لابرويبر بأنه رجل يستطيع أن ينطق الحيوان والشجر بكلام رشيق أنيق، ولكنه (36) هو نفسه كان "متبلداً، ثقيلاً"، غبياً في الحديث (37). على أن هناك روايات مناقضة زعمت أن في وسعه أن يكون محدثاً مرحاً إذا وجد آذاناً تلائم مزاجه (38). وقد أذاعت شرود ذهنه عشرات النوادر، الأسطورية إلى حد كبير. من ذلك أنه قال مرة معتذراً عن وصوله إلى العشاء متأخراً "عدت لتوي من جنازة

ص: 223

نملة، وقد سرت وراء الموكب حتى المقبرة، ثم رافقت الأسرة في رجوعها للبيت (39) ".

وقد قاوم لويس الرابع عشر انتخابه عضواً في الأكاديمية بحجة أن حياة الشاعر وحكاياته لم تكن بالمثل الذي يحتذى، ثم لانت قناته في النهاية (1684)، وقال أن لافونتين وعد بأن يصلح من سلوكه. ولكن الشاعر الهرم لم يعرف فرقاً بين الفضيلة والخطيئة، إنما عرف الفرق بين الطبيعي وغير الطبيعي، فقد تعلم أخلاقياته في الغابات. وكان كموليير لا يشعر بأي انجذاب للبور-رويال، هؤلاء "المجادلون البارعون" كما وصفهم، الذين "تبدو لي دروسهم باعثة على الغم بعض الشيء (40) " وانضم حيناً إلى "شلة" أحرار الفكر في "التامبل"، ولكن حين أصيب بنقطة كادت توقعه على الطريق، لاح له أن قد آن الأوان ليصلح ما بينه وبين الكنيسة، ومع ذلك فقد تساءل "أكان القديس أوغسطين حكيماً حكمة رابليه (41)؟ " ومات في 1695 وقد بلغ الرابعة والسبعين. وكانت ممرضته على ثقة من خلاصه الأبدي، لأنه على حد قولها "كان فيه من البساطة ما يجعل الله يتردد في الحكم عليه بالهلاك (42) ".

‌5 - بوالو

1636 -

1711

في اللقاءات التي جمعت الأصدقاء الأربعة في شارع فيو كولومبييه كان نيقولا بوالو المسيطر عادة على الحديث، وهو الذي وضع قواعد الأدب والأخلاق بكل سلطان الدكتور حونسون وثقته في حانة "رأس التركي" بحي سوهو. وكان كجونسون محدثاً أهم منه مؤلفاً؛ وخير أعماله شعر وسط، ولكن أحكامه كان لها في ميدان الأدب أثر أبقى مما كان لأحكام لويس الرابع عشر في السياسة. وقد أعانت صداقته وتقريظه الناقد لموليير وراسين على التغلب على مكائد الجماعات المعادية لهما.

ص: 224

كان الطفل الرابع عشر لكاتب برلمان باريس. وإذ كان منذور للكهانة فقد درس اللاهوت في السوربون. ولكنه تمرد، ودرس القانون وكان على وشك الاشتغال بالمحاماة حين مات أبوه (1657)، مخلفاً له ميراثاً يكفيه وهو يقرض الشعر. وأنفق عشر سنين يشحذ قلمه، ثم راح يصدر أحكامه على زملائه في اثنتي عشرة أهجية (1666 وما بعدها). ذلك أن هذا الحشد الرهيب من النظامين الجياع (43) روعه، فهاجمه كأنه جيش من الجراد، وسمى بعضهم بأسمائهم، فخلق له أعداء بقوافيه. وجر على رأسه أيضاً سخط النساء بسخريته من القصص الرومانسية التي كانت السيدتان سكوديري ولافاييت تضيعان بهما ورق فرنسا ووقتها. وقد امتدح القدامى، وامتدح منبين المحدثين ماليرب وراكان، وموليير وراسين. قال "أحسبه من حقنا أن نسمي الشعر الرديء رديئاً دون أن نؤذي الضمير أو الدولة، وأن يكون لنا مطلق الحق أن نستشعر الضجر من قراءة كتاب غبي (44) ". على أن هذه الأهاجي تضجرنا هي الأخرى لأن هدفها قد تحقق: فالشعراء الذين أدانتهم هدموا هدماً لم يبقِ على أثر لهم في ذاكرتنا أو في اهتمامنا؛ يضاف إلى هذا أن أصحاب العقول الغضة منا، ولا سيما إذا كنا مؤلفين، يؤثرون النقاد الذين يرشدوننا إلى الطيب على أولئك الذين يسخرون من الخبيث.

وبعد أن ذهب بوالو في أهاجيه مذهب جوفينال الصارم، خفف من غلوانه بالتزام مذهب هوراس الأكثر اعتدالاً، ووصل إلى أسلوب ألين في سلسلة من الرسائل (1669 - 95). وهذه الرسائل الشعرية هي التي أغرت لويس بدعوته إلى البلاط. وسأله الملك ما أفضل شعره في ظنه. أما بوالو الذي كان يترقب فرصته الكبرى فلم يقرأ شيئاً من شعره المنشور، ولكنه تلا بعض شعره بمدح الملك العظيم، وكان أبياتاً لم تطبع بعد قال عنها إنها أقل شعره رداءه. وأجازه لويس بمعاش قدره ألفان من الجنيهات (45)، وأصبح شخصاً "مرضياً عنه" في البلاط. قال لويس "أحب بوالو لأنه سوط تأديب ضروري نصلته على ذوق كتاب الدرجة

ص: 225

الثاني السقيم (46)". وكما أن لويس ساند موليير في حملته على المتعصبين. كذلك لم يفه بأي احتجاج حين نشر بوالو ملحمة ساخرة سماها "لوتران" (1674)، هزأ فيها برجال الكنيسة الغافلين النهمين. وفي 1677 عبن الشاعر الهجاء مؤرخاً رسمياً مع راسين، وفي 1684 قبل نهائياً في الأكاديمية بأمر صريح من الملك، ورغم احتجاجات أولئك الذين سلخ جلودهم.

أما القصيدة التي طفت به فوق دوامات الزمن فهي "فن الشعر"(1674) التي ضارعت في تأثيرها النموذج الذي نسجت على منواله، وهو كتاب هوراس Arspoetiea، ويستهل بوالو قصيدته بتنبيه شباب الشعراء إلى أن "بارناس" جبل وعر، فليستوثقوا إذن قبل أن يشرعوا في ارتفاء جبل ربات الشعر والفن أن لديهم شيئاً يستحق أن يقال، شيئاً يعزز الحقيقة ويعين على الإدراك والذوق السليمين. وهو يقول لهم ناصحاً: نوعوا حديثكم، فإن أسلوباً بالغ التكافؤ شديد التماثيل (كأسلوب بوالو) يحملنا على النوم، و "حبذا الشاعر الذي ينتقل، بلمسة رقيقة، من الخطير إلى الخفيف، ومن السار إلى العنيف (47) ". "وأرهفوا آذانكم لإيقاع ألفاظكم. واتبعوا قواعد ماليرب في اللغة والأسلوب. وادرسوا القدامى لا المحدثين: هومر وفرجل في شعر الملاحم، وسفوكليس في المأساة، وتيرانس في الملهاة، وهوراس في الهجاء، وتيوقريطس في شعر الرعاة". "أسرعوا في بطء، وضعوا إنتاجكم على السندان عشرين مرة دون أن يفت ذلك من عضدكم

وأضيفوا إليه قليلاً، واحذفوا منه (48) كثيرً. أحبوا من ينتقدونكم، وصححوا أخطاءكم دون تذمر وأنتم تنحنون لحكم العقل (49). وأعملوا للمجد، ولا تجعلوا الكسل الخسيس هدفاً لجهدكم (50). فإذا كتبتم درامات فراعوا الوحدات، واجعلوا الفعل الواحد، المكتمل في مكان واحد ويوم واحد، يبقى المسرح ممتلئاً بجمهوره إلى النهاية (51). أدرسوا البلاط وتعرفوا على المدينة

ص: 226

فكلاهما غني بالنماذج، ولعل هذا هو السر في الفوز الذي حققه موليير لفنه (52) ".

وانضم بوالو إلى موليير في السخرية من "المتحذلقات" واحتقر شعر الحب المتكلف الذي أضعف الشعر الفرنسي، وقابل بين هذه العاطفة الكاذبة وبين تمجيد ديكارت للعقل وغرس الآداب القديمة لضبط المشاعر. وصاغ مبادئ الأسلوب الكلاسيكي، وأجملها في بيتين شهيرين "أحبوا العقل إذن، ولتقبس كتاباتكم منه بهائها وقيمتها (53) " فلا زيف في العاطفة، ولا انفعال، ولا كلام طنان، لا تحذلق، لا تكلف، ولا غموض التباهي والغرور. فالمثل الأعلى في الأدب، كما في الحياة، هو ضبط رواقي للنفس، و"لا تزيد أو إفراط".

وقد أحب بوالو موليير، ولكنه أسف على هبوطه إلى درك المسلاة "الفارص". وأحب راسي، ولكن يبدو أنه لم يفطن إلى تمجيده الرومانسي للوجدان، ولم يلحظ بطلاته المتفجرات بالانفعالات-هرميون، وبرينيس، وفيدر. والمقاتل لابد مبالغ في نصيبه من الحقيقة. ولقد كان في بوالو من قوة المحارب ما أعجزه عن فهم ما قاله بسكال من إن للقلب دواعيه التي لا يفهمه الدماغ، وأن الأدب بغير وجدان قد يكون له ملاسة الرخام وبرودته. لقد سمح هوراس بالوجدان فقال "إن أردتن أن أبكي" أي أن أحس مما تكتب، "فعليك أن تبكي أنت أولاً" أي عليك أن تحس أنت بالأمر. إن فن العصور الوسطى وأدبها ظلا محجوبين عن عين بوالو.

وكان أثر تعليمه هائلاً. فقد حاول الشعر والنثر الفرنسيان التزام قواعد الكلاسيكية طوال قرون ثلاثة. وشاركت هذه القواعد في تشكيل أسلوب الأدب الإنجليزي في "العصر الأغسطي" الذي قلد شاعره بوب في صراحة "فن الشعر" في كتابه "مقال في النقد". وكان تأثير بوالو ضاراً ونافعاً. فهو باستنكاره الخيال والوجدان، وضع صماماً

ص: 227

على الشعر في فرنسا بعد راسين، وفي إنجلترا بعد درايدن. واتخذ الشعر في أفضل نماذجه شكل النحت بالإزميل، ولكنه فقد دفء التصوير ولونه. ومع ذلك كان من الخير أن يدخل هدف العقل إلى ساحة الأدب المحض، فقد كتب الكثير جداً من اللغو عن الحب والرعاة، واحتاجت أوربا إلى احتقار بوالو الغاضب حتى تطهر ذلك الجو الأدبي، جو السخف والتكلف والعاطفة السطحية. وربما كان الفضل لبوالو في ارتفاع موليير من "الفارص" إلى الفلسفة، وفي محاولة راسين البلوغ بفنه إلى مرتبة الكمال.

وكان مما يتلاءم وطبيعة بوالو تماماً مسلكه بعد أن اشترى بيتاً وحديقة في أتوى بفضل نفحة من نفحات الملك (1687)، فهو لم يذكر شيئاً في كتاباته عن الطبيعة المحيطة به اللهم إلى أنه من تلك الحقول اتخذ الآن اسم "دسبريو". هناك عاش أكثر ما بقي له من أجل في هدوء بسيط، لا يزور البلاط إطلاقاً، ويرحب ترحيباً حاراً بأصدقائه. وقد لاحظ الناس أن "له أصدقاء كثيرين رغم أنه تكلم بسوء عن كل إنسان (54) ". وكان فيه من الشجاعة ما حمله على الإعراب عن عطفة على البور رويال، وعلى أن يخبر يسوعياً بأن رسائل بسكال الإقليمية إحدى ورائع النثر الفرنسي. وقد عمر بعد موت جميع أفراد الجماعة التي كان منظرها المرموق: فموليير لقي ربه منذ أمد بعيد، ثم لحق به لافونتيين في 1693، ثم راسين في 1699، وتحدث الهجاء العجوز العليل بتأثر عن "الأعزاء الذين فقدناهم، والذين اختفوا كأنهم حلم إنسان استيقظ من نومه (55) " وحين دنت منيته غادر أوتوى وذهب ليموت (1711) في مسكن كاهن اعترافه بصومعة النوتردام، مؤملاً أن لا يجرؤ الشيطان على أن يمسه بسوء هناك.

ص: 228

‌6 - الاحتجاج الرومانسي

لم تقبل سيدات المجتمع على القواعد الكلاسيكية-قواعد العقل، والاعتدال، وضبط النفس-إقبال كورنبي العجوز وراسين الشاب. ذلك أن عالمهن كان عالم الوجدان والرومانس، وقد حفزت "زيجات المصلحة" التي كن يعقدن أوهام الغرام أكثر مما صدتها. ومن ثم نرى الرواية الرومانسية تنمو-جنباً إلى جنب مع الدراما الكلاسيكية- حتى تتضخم حجماً وتلقى استحساناً واسعاً وتؤثر تأثيراً دولياً. ولم تكن سيدات المجتمع في فرنسا ليشبعن من هذه الروايات، ولكن يجدنها مفرطة في الطول، وآية ذلك أنه حين توقف "جوتييه دلا كالبرونيد" عن المضي في روايته "كليوبطرة" بعد أن كتب فيها عشرة أجزاء (1656)، رفضت خطيبته أن تتزوجه إلا إذا ختمها بجزأين آخرين (56).

وقد استرقت الآنسة مادلين دسكوديري قلوب نصف فرنسا بوايتها "آرتامين أو كورش الكبير"(1649 - 53)، و"كليلي"(1654 - 60) ولكتاهما في عشرة مجلدات. وأشبع غرور المجتمع الفرنسي أن يجد الشخوص في هذا الإنتاج الرومانسي الغزير، تحت أسماء مستعارة، تصف أعلام العصر وأقطابه المشهورين وتميط اللثام عنهم. وما لبثت سيدات الصالونات وسادته أن أطلقوا على أنفسهم أسماء من هذه الروايات، وتعلموا فنون التنهد والإنكار شأن أبطالهم وبطلاتهم، وأصبحت الآنسة دسكوديري نفسها تسمى "سافو"، وكذلك كانت تنادي في الصالونات إلى نهاية عمرها الذي بلغ أربعة وتسعين عاماً. وقد كتبت لتسر أخاها جورج، ونشرت كتبها تحت اسمه؛ وآثرت أن ترعاه على أن تتزوج. وظل سلطانها على النساء المثقفات والرجال المعطرين إلى أن غيرت مسرحيتا موليير "المتحذلقات المضحكات" و"النساء العالمات" من اتجاه الأذواق العالمية، وهنا حبست مادلين في شجاعة آخر مجلد من مجلداتها التسعين عن النشر. والذين يشكون

ص: 229

الفراغ قد يجدون إلى اليوم في صفحات "كورش الكبير" الخمس عشرة ألف، أو صفحات "كليلي"، العشرة الآلاف، فقرات تتميز برقة العاطفة، أو تنفرد بتحليل الخلق. كذلك تستحق لاسكوديري أن تتذكرها لما قامت به من جهد في سبيل النهوض بتعليم النساء في فرنسا.

وأما "ماري مادلين بيوش لافيرن"، التي أصبح اسمها بعد الزواج الكونتيسة لافاييت، فهي شخصية أكثر فتنة، لأنها لم تكتب قصة رومانسية شهيرة فحسب، بل عاشت أيضاً قصة أشهر. وقد أتيح لها تعليم مكتمل على غير العادة، ثم ذهبت لتعيش في أوفرن بعد زواجها (1655). ولكنها حين وجدت الحياة هناك مملة اتفقت مع زوجها على الانفصال (1659)، وذهبت إلى باريس، وانضمت إلى الجماعة التي تلتقي في قصر رامبوييه. ثم أصبحت وصيفة الشرف لمدام هنربيتا، وخلدتها بعد حين في مذكرات تفيض محبة. وكانت قريبة وصديقة لمدام دسفينييه التي كتبت تقول فيها بعد عشرة أربعين عاماً "لم تحجب سماء صداقتنا أقل سحابة، ولا أبلى طول الألفة من فضائلها في نظري، فقد كان شذاها على الدوام نظراً جديداً (57) ". وتلك تحية للطرفين قل أن تجد لها نظيراً، لأن الصداقات تبلى كالحب الرومانسي. وسنلتقي بمزيج نادر من الحب والصداقة في علاقات مدام دلافاييت بلاروشفوكو.

وقد وقعت على الجديد الثوري حين قررت أن تبارز بقلمها الآنسة دسكوديري. ذلك أنها كتبت رواية في مجلد واجد لا يزيد طولها على مائتي صفحة. واعتنقت مبدأ مؤداه أنه إذا تساوت كل الاعتبارات الأخرى فإن خير الكتب ما حذف أكثر ما في نصه الأصلي، فكل جملة تحذف تضيف جنيهاً ذهبياً لقيمة الكتاب، وكل كلمة تحذف نضيف عشرين فلساً. وبعد أن نشرت أعملاً صغيرة ألفت (1672) ونشرت (1678) رائعتها المسماة "أمير كليف". وحبكة الرواية (إن شئنا أن نخلط بين الاستعارات) هي

ص: 230

مثلث ذو مماس. فالآنسة شارتر فتاة بارعة الجمال ولكن في تواضع يجعل من أمير كليف عبداً لها لأول نظرة. وتتزوجه عملاً بنصيحة أمها، ولكنها لا تشعر نحوه شعوراً أحر من الاحترام. وما يلبث دوق نيمور أن يراها فيهيم بها لتوه، وتصده هي في إحساس بالفضيلة، ولكن إلحاحه المحموم يمس قلبها، وشيئاً فشيئاً تتحول الشفقة فيها حباً. وتعترف بهذا التطور لزوجها، وتتوسل إليه أن يبعدها عن القصر وعن التجربة، ولكنه لا يستطيع أن يصدق أنها وفية له، فيخترمه الهم حتى يقتله، وكأن قرنيه الوهميين خرقا حلقه. أما الأميرة فتصد الدوق وضميرها يبكتها على موت الأمير، وتكرس ما بقي لها من عمر لأعمال البر. وقد علق "بيل" الشكاك على القصة بقوله: لو أن امرأة بهذا الطهر والوفاء وجدت في فرنسا لمشى ألفا ومائتي ميل ليرها (58).

ونشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلفة، ولكن سرعان ما أستقر رأي الأوساط الأدبية على أنه إحدى ثمرات علاقة حميمة مشهورة آنذاك. قالت الآنسة سكوديري: (لقد كتب مسيو دلاروشفوكو ومدام دلافاييت رواية

قيل لي أنها كتبت على نحو يثير الإعجاب (59))، ولكنها أضافت "أنهما لم يعودا في سن تسمح لهما بالاشتراك معاً في أي عمل غير هذا (60) ". ولكن كلا المؤلفين المزعومين أنكرا تأليف الرواية. وكتبت لاسكوديري تقول "إن الأميرة كليف أرملة مسكينة تبرأ منها أبوها وأمها". أياً كان الأمر، فقد أجمع الكل على أنها أروع رواية كتبت في فرنسا إلى ذلك الحين. واعترف فونتنيل بأن قرأها أربع مرات، وكان رأي بوالو، عدو الرومانس، في مدام دلافايين أنها "أبدع عقل وأفضل كاتبة بين نساء فرنسا". ويقر التاريخ لأميرة كليف بأنها من أول الروايات السيكولوجية وما زالت من أفضلها. وهي الرواية الفرنسية الوحيدة من روايات ذلك العصر التي ما زال في الإمكان قراءتها دون ما ألم.

ص: 231

‌7 - مدام دسفينييه

1626 -

1696

ولكن بقي من آثار ذلك العصر عشرة مجلدات-من تأليف امرأة أيضاً-في الإمكان قراءتها في بهجة مستسلمة حتى في نبض زماننا السريع. والمؤلفة، وهي واري درابوتان-شانتال، فقدت أبويها في طفولتها وورثت ثروتهما الكبيرة. وقد شارك في تعليمها نفر من خيرة العقول في فرنسا، ونشأتها خيرة الأسر في فرنسا على فنون الحياة. فلما بلغت الثامنة عشرة تزوجت هنري، مركيز دسفينييه، ولكن هذا الزير كان يحب مالها أكثر من شخصها، وبدد بعضه على خليلاته، وبارز خصماً بسبب إحداهن، وقتل في المبارزة (1651). وحاولت ماري أن تنساه، ولكنها لم تتزوج بعده، بل فرغت لتربية ابنها وابنتها. ولعلها كما ألمح ابن عمها الحقود بوسي-رابوتان كانت "ذات مزاج بارد"(61) أو لعلها تعلمت أن الجنس يستنزف الذات أما الأمومة فتحققها. وخطاباتها تفيض سعادة، كلها تقريباً سعادة الأمومة.

ولقد أحبت المجتمع بقدر ما تشككت في الزواج. وكان لها، وهي الأرملة الشابة التي تملك ثروة بلغت 350. 000 جنيه (62)، خطاب كثيرون من النبلاء-تورين، وروهان، وبوسي

ولم ترَ معنى لطردهم جميعاً إلا واحداً، ومع ذلك لم تلوث سمعتها كلمة فضيحة أو علاقة محرمة واحدة. وكان أصدقاؤها يحبونها بإخلاص أكثر صدقاً-ومنهم دريتز، ولاروشفوكو، ومدام دلافاييت، وفوكيه. أما الأول والثاني فقد أقصيا عن القصر لاشتراكهما في حرب الفروند، وأما الأخير فلثروته التي لم يستطع تعليلها، ولم تلقَ مدام دسفينيه، الوفية وفاءاً حاراً للأربعة على السواء، ترحيباً في الرحاب الملكية المقدسة وإمالة كلمات متفضلة من الملك في حفلة مثلت فيها مسرحية إستير بسان-سير. أما في خارج البلاط فكانت دوائر كثيرة

ص: 232

تبتهج بصحبتها، لأنها كانت تملك كل مفاتن المرأة المثقفة، كانت تتكلم بنفس الحيوية التي تكتب بها، وذلك إطراء يناقض إطراء ألفناه أكثر منه؛ فطالما يسدي إلينا النصح، ربما في غير تبصر، بأن نكتب كما نتكلم.

وقد بق من رسائلها أكثر من ألف وخمسمائة، وجلها موجه لابنتها، فرنسواز مارجريت. التي تزوجت الكونت دجرينيان (1669)، وسرعان ما رحلت إلى بروفانس لتعيش معه، وكان نائباً لحاكمها. فظلت الأم من 1671 إلى 1690 تبعث بخطاب مع كل بريد تقريباً-وأحياناً مرتين في اليوم-إلى هذه الزوجة الشابة التي فصلتها عنه أرض فرنسا كلها طولاً. كتبت تقول لها "إن مراسلتي لك هي عافيتي، ولذة حياتي الوحيدة، وكل اعتبار آخر يتضاءل بالقياس إلى هذا (63) ". ذلك أن الحب الذي لم يجد رجلاً يشبعه أصبح غراماً مشبوباً بابنة أحست أنها غير جديرة به، لأن فرانسواز كانت ذات خلق أكثر تحفظاً، ولم تعرف كيف تعرب عن مشاعرها بحرارة. ثم كان لها زوج وأطفال يتطلبون العناية بهم، وكانت أحياناً تصبح ضيقة الخلق أو مكتئبة المزاج، ومع ذلك ظلت طوال خمسة وعشرين سنة، إلا في فترات مرضها، تكتب لأمها مرتين في الأسبوع، لا يفوتها بريد إلا نادراً، حتى لقد أقلق الأم المتينة بها أن تكون قد جارت على وقت ابنتها.

وأبلغ ما في هذه الرسائل تأثيراً على النفس ما روى حياة طفلة مدام جربنيان البكر ونهاية هذه الحياة في الدبر. ذلك أنها قدمت باريس لتلد في كنف أمها. وما لبثت أن أرسلت إلى زوجها اعتذاراً لأنها ولدت بنتاً-لابد من تربيتها بجهد أليم، ومهرها بمهر غالٍ، ثم فقدها؛ ولما عادت فرنسواز إلى بروفانس تركت ماري بلانش الصغيرة حيناً مع جدتها التي افتتنت بها. وكتبت مدام دسفنييه للأب تقول "إن كنت تريد ولداً فاعكف على صنعه (64) " كتبت للوالدين اللذين لم يقدرا طفلتهما تفاصيل نشوانة عن العجيبة التي أنجباها كارهين:

ص: 233

"إن ابنتكما الصغيرة تغدو محببة للنفس

بيضاء كالثلج، ضاحكة على الدوام

ولون بشرتها، وعنقها، وجسدها الصغير-كلها عجيب. وهي تقوم بعشرات الحركات الصغيرة-تثرثر، وتلاطف، وتضرب، وترسم علامة الصليب، وتطلب العفو، وتنحني، وتقبل يدها، وتهز كتفيها، وترقص، وتتملق، وتشد الأذن

وأنا ألهو معها ساعات بطولها (65) ".

وقد ذرفت الجدة دموعاً كثيرة لتدع هذه العجيبة الريانة البدن تذهب إلى بوفانس، ودموعاً أكثر حين أودعها الأبوان ديراً وهي لم تتجاوز الخامسة، ولم تعد الطفلة بعدها، ففي الخامسة عشرة قطعت على نفسها عهد الرهبنة واختفت من العالم.

وكان نائب الحاكم رجلاً متلافاً، يولم الولائم فوق ما يسمح به مركزه. وكانت زوجته تنبئ أمها بانتظام بما تتوقعه من قرب إفلاسهما، أما الأم فكانت توبخهما في محبة وترسل لهما المبالغ الكبيرة من المال "كيف، بحق محبة الله والناس، يستطيع إنسان أن يحتفظ بهذا القدر الكبير من الذهب والفضة والحلي والأثاث وسط الفقر المدقع الذي ابتلي به من يحيط بنا من الفقراء في هذه الأيام (66) ". ورغبة في الاحتفاظ بقدرتها المالية بعد هذه الاستقطاعات، كانت مدام دسفينييه تعنى بتفقد أملاكها في لي روشيه بإقليم بريتني لتستوثق من أنها تلقى الرعاية الواجبة، ومن أن ريعها يصلها بعد اختلاسات معقولة. ووجدت سعادة جديدة في الحقول، والغابات، وفلاحي بريتني، وكتبت عنهم بنفس الحيوية التي كتبت بها عن المجتمع الباريسي الذي كانت له أشبه برسالة نصف أسبوعية لابنتها.

وكان ابنها مشكلاً من نوع آخر. فهي شديدة التعلق به لأنه فتى طيب، يملك كما قالت "معيناً من الذكاء وروح الفكاهة

وقد ألف أن يقرأ علينا فصولاً من رابليه يكاد يموت السامع من الضحك عليها" (67). وكان شارل ابناً مثالياً، إلا إذا استثنينا ترسمه خطى أبيه في التنقل من إغراء إلى إغراء، إلى أن-ولكن لندع مدام دسفينيه، وهي تكتب

ص: 234

لابنتها، تتحمل تبعة باقي القصة، فلا شيء أكثر إيضاحاً لطابع العصر:

"بقيت كلمة أو كلمتان عن شقيقكِ

فبالأمس أراد أن يقص عليّ نبأ حادث مروع وقع له. ذلك أنه صادف لحظة سعيدة، ولكن حين وصل إلى بيت القصيد-كان شيئاً عجيباً! فإن الفتاة المسكينة لم يرفه عنها أحد في حياتها قط بمثل هذا، أما الفارس فقد تقهقر بعد أن هزم شر هزيمة، وظن أن سحراً ألقي عليه، وألطف ما في القصة أنه لم يشعر بالراحة إلا بعد أن أنبأني بكارثته. وضحكنا عليه حتى استلقينا، وقلت له أنني مغتبطة جداً لأنه عوقب حين أثم ..... لقد كان منظراً يستحق أن يسجله موليير (68) ".

وأصيب الفتى بالزهري، فعنفته؛ ولكنها مرضته في حب. وحاولت أن تبث فيه شيئاً من الدين، ولكن نصيبها من الدين كان من الضآلة بحيث لم تستطع أن تعطيه الكثير منه. وقد تأثرت بمواعظ بوردالو، وخبرت دفقات فجائية من التقوى، ولكنها كانت تبتسم حين ترى المواكب الدينية التي أبهجت أهل المساكن الفقيرة. وقرأت آرنو، ونيكول، وبسكال، وتعاطفت مع ألبور-رويال، ولكن صدها تركيزهم على تجنب الهلاك الأبدي، ذلك أنها لم تستطع أن تقنع نفسها بالإيمان بالجحيم (60). وكانت على العموم تجفل من التفكير الجاد، فمثل هذه الأمور ليست للنساء، ومن شأنها أن تعكر جمال الحياة الوادعة. ومع ذلك كانت ذواقة في قراءاتها-تقرأ فيرجل وناسيتوس والقديس أوغسطين باللاتينية، ومونتيني بالفرنسية، وتعرف مسرحيات كورنبي وراسين معرفة وثيقة. أما فكاهتها فكانت أعمق وأبهج من فكاهة موليير. فلنستمع إليها تتحدث عن صديق مدمن للتأمل الشارد:

"انقلب برانكا قبل أيام في مصرف وجد نفسه فيه مرتاحاً جداً حتى لقد سأل من سارعوا ليخرجوه منه أبهم حاجة إلى خدماته. وقد كسرت نظارته، ولولا أن حظه كان خيراً لكسر رأسه أيضاً، ولكن هذا كله لم يقطع تأملاته قط. وقد أرسلت له كلمة هذا الصباح

أنبئه

ص: 235

فيها أنه انقلب وكاد عنقه يدق، لأنني اعتقد أنه الشخص الوحيد الذي لم يسمع بالحادث في باريس (70) ".

وهذه الرسائل في مجموعها تؤلف صورة من أكثر الصور كشفاً في الدب، لأن المركيزة تسجل فيها أخطاءها وفضائلها دون تحفظ. فهي الأم المحبة، التي تجد نفسها على سجيتها سواء في صالونات العاصمة أو في حقول بريتني، وهي تكتب لابنتها عن أتفه أحاديث الأرستقراطية وقيلها وقالها، ولكنها تقول أيضاً "إن البلبل، والوقواق، والهزاز-كلها بدأت تصدح في ربيع الغابات"، وندر أن تفوه بكلمة سوء عن مئات الأشخاص الذي يرفون خلال صفحاتها الألفين، وهي على الدوام مستعدة لمديد المعونة للمكروبين، مجملة حديثها بالرقيق من التحية والمجاملة، مذنبة بين الحين والحين بالمرح القاسي (كضحكها على شنق بعض المتمردين المساكين في برتني)، ولكنها مرهفة الإحساس بآلام الفقراء، وهي تغضي عن فساد زمانها وطبقتها، ولكنها بلا لوم في سيرتها الشخصية؛ إنها روح تفيض بالنية الطيبة وحب الحياة، فيها من التواضع ما يمنعها من نشر كتاب، ولكنها تكتب أفضل فرنسية في عصر أفضل فرنسية كتبت على الإطلاق.

ترى هل خطر ببالها أن رسائلها قد تنشر في يوم ما؟ كانت أحياناً تسترسل في تحليقات من البلاغة كأنها تشم مداد المطابع، غير أن رسائلها حافلة بتفاصيل العمل، وبالمصارحات العاطفية، والمكاشفات المحرجة التي لا يمكن أن تكون قصدت على القراء. كانت تعلم أن ابنتها تطلع أصدقاءها على رسائلها، ولكن مثل هذه المشاركة كانت كثيرة في تلك الأيام، حين كادت المراسلة أن تكون وسيلة الاتصال الوحيدة بين المسافات الطويلة، وقد ورثت وحفظت الرسائل حفيدتها بولين، التي منعتها من أن تدخل ديراً كما فعلت شقيقتها بلانش ماري، ولكنها لم تنشر إلا عام 1726، بعد موت المركيزة بثلاثين عاماً. وهي اليوم من أغلى عيون الأدب الفرنسي، وكأنها باقة زهر غنية يزداد عبيرها انتشاراً على الأيام.

ص: 236

وازداد تفكيرها في الدين كلما دنت نهايتها، وقد اعترفت بخوفها من الموت والحساب. وبين ضباب بريتني ومطر باريس أصابها الروماتزم، ففقدت فرحتها بالحياة، وأدركت أنها بشر فانٍ.

"لقد ولجت الحياة دون رضاي، ويجب أن أخرج منها؛ هذه الفكرة تطغى علي .. وكيف أخرج؟

ومتى؟ .. إنني أدفن نفسي في هذه الأفكار، وأجد الموت شديد الرهبة حتى لأبغض الحياة لأنها تفضي بي إلى الموت أكثر من بغضي لها لما يملؤها من أشواك. ستقولين أنني أريد أن أحيا إلى الأبد. ليس الأمر كذلك مطلقاً، ولكن لو أخذ رأيي لآثرت أن أموت بين ذراعي مربيتي، فقد كان هذا خليقاً بأن يوفر علي اضطرابات الروح ويكفل لي الجنة في كل يقين ويسر (71) ".

وليس صحيحاً أنها بغضت الحياة لأنها تفضي بالموت، إنما هي أبغضت الموت لأنها استمتعت بالحياة استمتاعاً شديداً قرابة سبعين عاماً. وإذ كانت أمنيتها أن تموت في بيت ابنتها الحبيبة، فإنها عبرت فرنسا خلال أربعمائة ميل في رحلة عذاب إلى شاتو جرينيان. فلما أقبل الموت لقيته بشجاعة أدهشتها، ووجدت العزاء في تناول الأسرار المقدسة، وعللت نفسها بالخلود. ولقد وهب لها الخلود حقاً.

‌8 - لاروشفوكو

1613 -

1680

شتان ما بين هذا الروح، وروح أشهر الكلبيين المحدثين، وأقسى من مزق القناع عن نقائصنا، ذلك العليل المكتئب الذي شوه سمعة النساء وافترى على الحب، والذي أحبته ثلاث نساء حتى الموت.

كان النبيل السادس المسمى فرانسوا دلاروشفوكو، سليل أسلاف كثيرين من الأمراء والكونتات، والابن البكر للرئيس الأكبر لإدارة الملابس والحلي للملكة والوصية ماري دمديتشي.

ص: 237

وكان اسمه الأمير مارسياك إلى أن ورث لقب الدوقية عند وفاة أبيه (1650). وقد تلقى التعليم في اللاتينية والرياضيات والموسيقى والرقص والمبارزة والأنساب والأتكيت. فلما ناهز الرابعة عشرة تزوج بتدبير أبيه من أندريه دفيفون، الابنة الوحيدة والوريثة لبازبار فرنسا الكبير المتوفى. وحين بلغ الخامسة عشرة أمر على فوج من الفرسان، وفي السادسة عشرة اشترى رتبة الكولونيل. وكان يختلف إلى صالون مدام درامبوييه الذي هذب عاداته وصقل أسلوبه. ومع كل مثالية الشباب وإثارة للنساء الناضجات نراه يعشق الملكة، ومدام دشفروز، والآنسة دهوتفور. وحين تآمرت آن النمساوية على ريشليو استخدمت فرانسوا، ثم كشف أمره، وأودع الباستيل أسبوعاً (1636). فلما أفرج عنه سريعاً نفي إلى ضيعة أسرته بفيرتوي. وراضَ نفسه حيناً عل العيش مع زوجته، ولاعب ولديه الصغيرين فرانسوا وشارل، وتعلم أن للريف مباهج لا تستطيع فهمها غير المدينة. وفي تلك الأيام لم يكن ممكناً فصم عرى الزواج الشرعي بين الطبقات العليا الفرنسية، ولكم كان من الممكن تجاهلها. وبعد أن قضى الأمير عشر سنوات في زواج المرأة الواحدة الذي أضجره، انطلق للمغامرة في الحب والحرب. وحين استهدفت عيناه مدام دلونجفيل (1646) لم يعد دافعه إلى ذلك حب مثالي، بل تصميم على الاستيلاء على قلعة منيعة مشهورة، لأنه مما يرفع من قدره أن يغوي زوجة لدوق وأختاً لكونديه العظيم. أما هي فلعلها ارتضته لأسباب سياسة، فقد يكون حليفا، نافعاً في التمرد الأرستقراطي الذي اعتزمت أن تلعب فيه دوراً نشيطاً. ولما أخبرته أنها حبلت منه (72)، منح كل تأييده للفروند. وفي 1652 نبذته واتخذت الدوق نيمور عشيقاً، وحاول لاروشفوكو إقناع نفسه بأن ذلك ما كان يصبوا إليه، وكما قال بعد ذلك "حين نحب إنساناً إلى درجة الملل

فإننا نرحب أشد الترحيب

بفعل من أفعال الخيانة يبرر تحللنا من ذلك الحب (73) " في ذلك العام، وفيما كان يحارب في صفوف الفروند في ضاحية

ص: 238

سانت أنطوان، أصابه رش بندقية في عينيه وخلف به عمى جزئياً. فانكفأ راجعاً إلى فيرتوى.

وكان الآن في الأربعين، يحس بوادر النقرس، ويشعر المرارة من كوارث أكثرها من صنعه. أما مثاليته فماتت في إثر مدام دلونجفيل، وفي مؤامرات الفروند الخداعة والنهاية الحقيرة التي انتهت إليها. وقد أزجى فراغه ودافع عن سيرته في "مذكرات"(1662) دل فيها على عظيم تمكنه من الأسلوب الكلاسيكي. وفي 1661 سمح له بالعودة إلى البلاط، ومنذ ذلك التاريخ قسم وقته بين زوجته في فيرتوى وأصحابه في صالونات باريس.

وكان أحب الصالونات إليه صالون مدام دسابليه. هناك كانت هي وضيوفها يلعبون أحياناً لعبة "العبارات". يعلق أحدهم بعبارة على الطبيعة البشرية أو سلوك الإنسان، فتتقاذف الجماعة العبارة فيما بينها تأييداً واعتراضاً. وكانت مدام دسابليه جارة وصديقة مخلصة للبور-رويال-دباري، فاعتنقت رأيه في شر الإنسان الفطري وخواء الحياة الدنيوية، ولعل تشاؤم لاروشفوكو الناجم عن خيبته في الحب والحرب، وعن الخيانه السياسية والألم البدني، وعن خدعه غيره وانخداعه بالغير-نقول لعل هذا التشاؤم وجد مساندة قليلة من جانسنيه مضيفته. وكان يجد لذة قاتمة في تهذيب عباراته وعبارات غيره وغربلتها على مهل، وسمح لمدام دسابليه وغيرها من الأصدقاء بأن يقرؤوا هذا الحكم، وأن يعدلوا فيها أحياناً. وقد نسخها أحد هؤلاء، وطبع ناشر لص هولندي 179 منها، غفلاً من اسم المؤلف، حوالي سنة 1663، وتبين فيها رواد الصالونات حكم لاروشفوكو، ثم أصدر المؤلف نفسه طبعة أفضل أضاف إليها 317 مثلاً عام 1665 تحت عنوان "عبارات وأمثال أخلاقية". وأصبح هذا الكتيب الذي اختزل الناس اسمه بعد قليل إلى "الأمثال"، من عيون الأدب للتو تقريباً. ولم يعجب القراء بأسلوبه الدقيق المحكم الأنيق فحسب، بل أنهم استمتعوا بما حوى

ص: 239

من فضح لأثرة الغير. ولم يفطنوا إلى أن القصة إنما تروى عنهم، إلا فيما ندر.

ووجهة نظر لاروشفوكو أوردها ثاني أمثاله: "إن حب الذات هو حب الإنسان لنفسه، ولأي شيء آخر لأجله. وحياة الإنسان كلها ليست إلا ممارسة متصلة لهذا الحب وتحريضاً قوياً له" وليس الغرور إلا شكلاً من الأشكال الكثيرة التي يتخذها حب الذات، ولكن حتى هذا الشكل يدخل في كل فعل وفكر تقريباً، وقد تنام شهواتنا أحياناً، ولكن غرورنا لا يهدأ أبداً "إن الذي يرفض الثناء أول مرة يرفضه أنه يريد سماعه ثانية (74) ". والتلهف على استحسان الناس لنا هو الأصل لكل الأدب والبطولات الواعية. "وكل الناس يستوون كبرياء، والفرق الوحيد هو أنهم لا يتبعون كلهم نفس الطرق في إبدائها (75) ". "إن الفضائل تضيع في المصلحة الذاتية كما تضيع الأنهار في البحر (76) ". "ولو تأملنا أفكارنا الخفية لوجدنا في صدورنا بذرة كل الرذائل التي نستنكرها في غيرنا" ولاستطعنا أن نحكم من الواقع فسادنا الشخصي على الفساد المتأصل في الإنسان (77). وما نحن إلا عبيد شهواتنا، وإذا قهرت شهوة منها فقاهرها ليس العقل بل شهوة أخرى (78)، "والعقل يستغفله الوجدان دائماً"، "والناس لا يشتهون شيئاً بلهفة إذا طلبوه انصياعا لأوامر العقل فقط (79) "، "وأبسط الناس إذا أعانته العاطفة المشبوبة سينتصر أكثر من أفصح الناس بدونها (80) ".

وفن الحياة يكمن في إخفائنا حب ذواتنا بقدر يكفي لتجنب إغضاب حب الغير لذواتهم. وعلينا أن نتظاهر بقدر من الإيثار "إن النفاق ضرب من الاحترام الذي تقدمه الرذيلة للفضيلة (81) ". واحتقار الفيلسوف المزعوم للثراء أو عراقة النسب ليس إلا طريقته في الترويج لبضاعته. وما الصداقة "إلا تجارة لا يفتأ حب الذات يطلب الكسب من ورائها (82) " وقد نقيس إخلاصها إذا لاحظنا أننا نجد في نكبات أصدقائنا شيئاً ليس كله

ص: 240

مسيئاً (83). ونحن نبادر إلى الصفح عمن أساءوا إلينا بأسرع من صفحنا عمن أسأنا إليهم، أو عمن تفضلوا علينا-فألزمونا-بخدماتهم (84). والمجتمع حرب بين الفرد والكل. "والحب الصادق أشبه بالأشباح-شيء يتحدث عنه كل إنسان ولكن نادراً ما رآه أحد (85) "، و"ما كنا لنقع في الحب قط لولا سمعنا الناس يتكلمون في الحب (86) ". ومع ذلك فالحب إذا كان صادقاً تجربة فيها من العمق ما يجعل النساء اللاتي عرفن الحب مرة ضعيفات القدرة على الصداقة، لأنهن يجدنها باردة غثة بالقياس إلى الحب (87) ومن هنا لم يكن للنساء وجود تقريباً إلا وهن في الحب "قد تلقى نساء لم يسبق لهن غرام غط، ولكن من العسير جداً أن تجد نساء لم يقعن إلا في غرام واحد لا أكثر (88) ". "وأكثر النساء المحصنات كالكنوز المخفاة، التي لم تكن في مأمن إلا لأن أحداً لم يفتش عنها (89) ".

وكان هذا الكلبي العليل عليماً بأن هذه الحكم البارعة ليست وصفاً منصفاً للبشر. لذلك راح يتجنب الجزم في الكثير منها بألفاظ مثل "تكاد" أو "تقريباً" إلى غير ذلك من التحفظات الفلسفية، وقد اعترف أنه "أسهل أن يعرف المرء النوع الإنساني عموماً من أن يعرف إنساناً واحداً بالذات (90) "، وسلمت المقدمة بأن أمثاله لا تصدق على "المحظوظين القلائل، الذين سرت السماء بأن تحفظهم

بنعمة خاصة (91)". ولابد أنه سلك نفسه في زمرة هؤلاء القلائل، لأنه كتب: "إنني أخلص لأصدقائي إخلاصاً لا أتردد معه لحظة في التضحية بمصالحي في سبيل مصالحهم (92)". -ولو أنه كان بلا شك يفسر هذا بأنه راجع لأنه يجد في بذل مثل هذه التضحية لذة أكثر مما يجده في منعها. وقد تحدث بين الحين والحين عن "عرفان الجميل، فضيلة العقول الحكيمة السمحة (93)"، و"الحب، النقي الذي لا تشوبه شهوة (إذا وجد إطلاقاً)، الذي يكمن في أعماق قلوبنا (94)" و"مع أنه يمكن القول، بقدر كبير من الصدق .. ، أن الناس لا يفعلون شيئاً دون

ص: 241

مراعاة لمصلحتهم، إلا أنه لا يستتبع هذا أن كل ما يفعلوه فاسد، وأنه لم يبق في الدنيا شيء اسمه العدالة أو الأمانة. فالناس قد يحكمون أنفسهم بوسائل شريفة، ويختطون (لأنفسهم) مصالح كلها الخير والنبل (95) ".

وقد ألانت الشيخوخة جانب لاروشفوكو، حتى وهي تزيده شجناً على شجن. ففي 1670 ماتت زوجته ثلاثة وأربعين عاماً من الوفاء الصابر، وبعد أن أنجبت له ثمانية أطفال، وقامت على تمريضه طوال الأعوام الثمانية عشر الأخيرة. وفي 1672 ماتت أمه، وقد اعترف أن حياتها كانت معجزة طويلة من المحبة. وفي تلك السنة جرح اثنان من أبنائه في غزوة هولندا، ومات أحدهما من جروحه. كذلك سقط في نفس الحرب الفاجرة ابنه غير الشرعي الذي ولدته له مدام دلونجفيل، والذي لم يؤذن له بأن يطالب به ابناً برغم أنه أحبه حباً عميقاً. روت مدام دسفينييه "رأيت لاروشفوكو يبكي في حنان جعلني أعبده (96) ". ترى أكان حبه لأمه وأولاده حباً لذاته؟ أجل، إذا نظرنا إليهم على أنهم جزء من ذاته وامتدادها لها. وهذا هو التصالح بين الإيثار والأثرة-فلإيثار توزيع للذات، ولمحبة الذات، للأسرة، أو الأصدقاء، أو الجماعة. وفي وسع المجتمع أن يقنع بمثل هذه الأنانية السمحة الشاملة.

ومن أكثر ملاحظات لاروشفوكو سطحية قوله "أن فضل القليل من النساء يدوم أطول من جمالهن (97) ". لقد كانت أمه وزوجته استثنائين، ولم يكن الكرم تجاهل آلاف النساء اللاتي ضيعن جمالهن الجسدي في خدمة الرجل والأطفال. وفي 1665 بذلت امرأة ثالثة معظم حياتها. ولا شك في أن مدام دلافاييت أرضت قلبها هي وهي تحاول أن تسري عنه. فلقد كان يومها في الثانية والخمسين، يشكو النقرس ونصف العمى، أما هي فكانت في الثالثة والثلاثين، محتفظة بجمالها، ولكنها عليلة تشكو حمى الملاريا. ولقد روعها ما في أمثاله من كلبية، ولعل فكرة سارة بإصلاح هذا الرجل الشقي والتسرية عنه خالطت رأيها فيه، فدعته إلى بيتها في باريس،

ص: 242

فجاء محمولاً على محفة، فعصبت قدمه الموجوعة ووسدتها، وأتت بأصحابها، ومنهم مدام دسفينييه المتدفقة العاطفة ليساعدنها في الترويح عنه. وعاد إليها ثانية، وكثرت زياراته حتى لغطت بها باريس. ولا علم لنا هل دخلت في هذه الزيارات الألفة الجنسية، ولكنها على أية حال كانت جزءاً صغيراً في علاقة أصبحت تبادلاً بين الأرواح. قالت "لقد أعطاني الفهم، ولكنني أصلحت قلبه (98) ". ولعله ساعدها في روايتها "أميرة كليف" وإن بعدت رقتها وحنانها عن قسوة "أمثاله" بعد السماء عن الأرض.

وبعد أن ماتت مدام دلاروشفوكو أصبحت هذه الصداقة التاريخية ضرباً من الزواج الروحي، وفي الأدب الفرنسي صور كثيرة لهذه المرأة القصيرة الضعيفة الجسد، تجلس في هدوء إلى جوار الفيلسوف العجوز الذي أقعده الألم عن الحركة. قالت مدام دسفينييه "لا شيء يمكن أن يقارن بسحر صداقتهما وثقتها (99) ". وقال بعضهم إن المسيحية تبدأ حيث ينتهي لاروشفوكو (100)، وقد تبينت صحة القول في هذه الحالة، ولعل مدام دلافاييت الصادقة الورعة أقنعته بأن الدين هو الكفيل بالإجابة عن مشكلات الفلسفة. ولما شعر بدنو أجله طلب إلى الأسقف بوسويه أن يناوله الأسرار المقدسة الأخيرة (1680). وقد عمرت صديقته بعده ثلاثة عشر عاماً حافلة بالألم.

‌9 - لابرويير

1645 -

1696

بعد موت لاروشفوكو بثمانية أعوام أكد جان دلابرويير تحليله الساخر للآدميين من أهل باريس. وكان جان ابن موظف صغير في الحكومة. درس القانون، واشترى وظيفة حكومية صغيرة، وأصبح معلماً خاصاً لحفيد كونديه العظيم، وخدم أسرة كونديه وصيفاً، وتبعها إلى شانتبي وفرساي. وقد ظل أعزب إلى نهاية حياته.

وقد عذبته حدة الفوارق الطبقية في فرنسا لما فطر عليه من حساسية

ص: 243

وحياء، ولم يستطع الاستعانة بمظاهر الغرور اللطيفة التي ربما كانت تيسر له طريقه بين النبلاء وفي البلاط، وذلك رغم انتمائه إلى الطبقة الوسطى. وقد لاحظ معرض الوحوش الملكي بعين معادية نفاذة، وانتقم منها بوصفها في كتاب صب فيه كل عصارته الفكرية تقريباً، وقد سماه "الأخلاق لتيوفراست مترجمة عن الإغريقية، مع أخلاق أو عادات هذا العصر". وأصبح الكتاب حديث باريس. لأنه صور تحت أقنعة شفافة أشخاصاً مشهورين في المدينة أو البلاط، وجعل كلاً منهم يجد المتعة البالغة في فضح الباقين. ونشرت "مفاتيح" للكتاب تزعم أنها تطابق الصور مع أصولها، وأحتج لابرويير بأن أو أوجه الشبه عارضة، ولكن أحداً لم يصدق، وذاع صيته، ونفدت ثماني طبعات قبل موت المؤلف في 1696، وقد أضاف إلى كل طبعة "أخلاقاً" جديدة تبينت فيها باريس مرآة العصر.

ونحن الذين فقدنا اليوم مفتاح متحف الصور هذا تبدو لنا مادته هزيلة بعض الشيء، وأفكاره قديمة مبتذلة، وروحه يشوبها بعض الحسد، وهجاؤه سطحياً جداً، كهجائه لمينالكاس الرجل الشارد الذهن (101). ولا يطلب لابرويير أي تغيير في دين فرنسا أو حكومتها. وقد رأى أن من الخير أن يكون هناك فقراء، وإلا لكان العثور على الخدم عسيراً، ولما وجد أحد يستخرج المعادن أو يفلح الأرض، والخوف من الفقر لا غنى عنه لإنتاج الثروة (102). وكان يسلك بوسويه في عداد أصدقاءه مفاخراً بذلك، وقد أعاد في القسم الخير من كتابه "في أحرار الفكر" الحجج التي أعرب عنها الواعظ العظيم بحكم أفضل ونثر أرفع، وردد البراهين التي ساقها ديكارت عن الله والخلود، واستشهد بشيء من الحذق، في رده على اللاأدريين في زمانه بنظام السماوات وجلالها، وعلامات الهدف المرسوم في الكائنات الحية، والإحساس بتقرير المصير في الإرادة وباللامادية في الذهن. وهاجم غرور النبلاء، وجشع رجال المال

ص: 244

وخنوع الحاشية الذين صورهم ينظرون إلى لويس لا إلى المذبح في كنيسة فرساي؛ ولكنه حرص على أن يقدم للملك باقات زهر يتقي بها غضبه (103). وفي فقرة واحدة على الأقل أزاح الحذر جانباً وتسامى في جرأة ليصف درك البهيمية الذي تردى فيه فلاحو فرنسا من جراء حروب الحكم وضرائبه. يقول: "انتشرت في أرجاء الريف حيوانات ضارية، ذكور وإناث، سوداء، ممتقعة، أحرقتها الشمس تماماً، والتصقت بالأرض التي تحفرها وتقلبها في إصرار لا يقهر، ولها ما يشبه الصوت المنطوق، فإذا انتصبت على قوائمها بدت في سحنة البش، والواقع أنها فاس من الناس (104) ".

وما زالت هذه الصفحة من أبلغ ما كتب في عصر فرنسا الكلاسيكي.

‌10 - مزيد من الأدباء

هل نحشد الآن بغير نظام، بعد أن أصابنا الإعياء، في ملحق هياب بعض الخالدين الذين بدئوا يموتون؟

هناك جان شابلان، الذي أعان على تنظيم الأكاديمية الفرنسية، واعتبر في زمانه (1595 - 1674) أشعر شعراء فرنسا. وهناك جان باتيست روسو، الذي كتب شعراً ينسى، ولكنه كتب أيضاً إبجرامات مقذعة جرت عليه النفي من فرنسا (1712) عقاباً على تشهيره بالأشخاص. وقد كتب معظم النبلاء الذين اشتغلوا بالسياسة مذكرات، فرأينا مذكرات دريتز ولاروشفوكو، وسنرى في موضع لاحق مذكرات سان-سيمون. ويلي أولئك مرتبة تلك المجلدات الثلاثة التي سجلت فيها مدام دموتفيل بتواضع خلاب وقائع سنيها الاثنتين والعشرين التي قضتها في بلاط آن النمساوية. ونلاحظ أنها وافقت لاروشفوكو على رأيه إذ كتبت "إن تجربتي القاسية في صداقة البشر الزائفة أكرهتني على الإيمان بأنه ليس في الدنيا شيء أندر من الأمانة والاستقامة، أو من

ص: 245

القلب الطيب القادر على عرفان الجميل (105) ". لقد كانت هي هذا الإنسان النادر الوجود.

وقد حقق روجيه درابوتان، كونت بوسي، نجاحاً في دنيا الفضائح بكتابه "تاريخ غراميات الغاليين"(1665) الذي وصف غراميات معاصريه مستخفية وراء قدامى الغاليين. وغضب الملك لكونه سخر فيها من مدام هنربيتا، فزج به في الباستيل، ثم أفرج عنه بعد سنة شريطة أن يعتكف في ضيعته، وهناك ألف "مذكراته" النابضة بالحياة، والغيظ يبريه إلى نهاية حياته. وأقل من هذا الكتاب جدارة بالتصديق كتاب "الأقاصيص" الذي رسم فيه تالمان دي ريو صوراً موجزة خبيثة لشخصيات شهيرة في الأدب أو الغرام. وقد جاهد كلود فلوري، بكتابه الأمين "التاريخ الكنسي"(1691)، وسباستبان تيلمون بكتابه "تاريخ الأباطرة"(1690 وما بعدها)، وكتابه "مذكرات ينتفع بها في التاريخ الكنسي للقرون الستة الأولى"(1693) ذي الستة عشر مجلداً-هذان جاهدا في معاناة، ودون وعي منهما، ليمهدا الطريق وينقياه لكتاب جيبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"(1776 وما بعدها).

ثم هناك أخيراً شارل دماركتيل شريف سانت-افريمون الذي كان ألطف تلك "العقول القوية" التي صدت الكاثوليك والهيجونوت، واليسوعيين والجانسيين على السواء، بالتشكك في التعاليم الأساسية لإيمانهم المشترك. وكانت حياته العسكرية الحافلة بالمغامرات تقوده إلى عصى المارشالية حين غضب عليه الملك لأنه كان صديقاً لفوكيه وناقداً لمازاران. فلما نمى إليه أن قد تقرر القبض عليه فر إلى هولندا، ثم إلى إنجلترا (1662). وقد جعلته عاداته المهذبة وذكاؤه الشكاك أثيراً في صالون هورتنزي مانشيني بلندن، وفي بلاط تشالز الثاني. وكان كالماريشال دوكنكور، في واحد من أكثر حواراته مرحاً (106)، يحب الحرب أولاً، ثم النساء، ثم الفلسفة. وإذ رشف كل المباهج التي في مونتيني، ودرس أبيقور مع جاسندي، فقد

ص: 246

خلص مع الإغريقي المفترى عليه إلى أن لذة الحس طيبة، ولكن لذة الفكر أطيب، وأنه لا داع يدعونا لشغل أنفسنا بالآلهة أكثر مما تشغل أنفسها بنا. وقد بدا له الأكل الطيب والكتابة الجيدة مزيجاً معقولاً. وفي 1666 زار هولندا ثاني، والتقى بسبينوزا وتأثر تأثراً عميقاً بالحياة المسيحية التي كان يحياها اليهودي القائل بوحدة الوجود (107). وقد أتاح له معاش أجرته عليه الحكومة الإنجليزية، بالإضافة إلى ما استنقذه من فضلات ثروته، أن يكتب سلسلة طويلة من الكتب الصغيرة، كلها بأسلوب خفيف رشيق شارك في تكوين فولتير. وقد أعان كتابه "تأملات في مختلف أجناس الشعب الروماني" مونتسكييه، وشاركت رسائله إلى نينون دلانكلو بجزء من ذلك العبير الذي يتضوع خلال الرسائل الفرنسية. ولما بلغ الثامنة والخمسين، ودون وعي منه بأنه سيعمر اثنتين وثلاثين سنة أخرى، وصف نفسه بأنه مقلقل بصورة لا شفاء له منها. "إنني لولا فلسفة ميسود ديكارت التي تقول أنا أفكر فإذن أنا موجود لما صدقت إنني موجود، وهذا كل ما أفدت من دراسة ذلك الرجل الشهير (108) " لقد كاد ينافس فونتنيل في طول عمره، إذ لم يمت إلا عام 1703 بعد أن بلغ التسعين، وقد نال تشريفاً ندر أن حظي به فرنسي، وذلك هو دفنه في دير وستمنستر.

كتب فردريك الأكبر إلى فولتير: "بعد قرون سيترجمون الكتاب المجيدين في عصر لويس الرابع عشر كما نترجم نحن كتاب عصر بركليز وأوغسطس". وقبل أن يموت الملك بسنين طويلة شبه الكثيرون من الفرنسيين فن العصر وأدبه بخير ما أنتج القدماء في الفنون والآداب. وفي 1687 قرأ شارل بيرو (أخو كلود بيرو الذي صمم من قبل واجهة اللوفر الشرقية) على الأكاديمية الفرنسية قصيدة سماها "قرن لويس العظيم" رفع فيها العهد فوق أي حقبة في تاريخ اليونان أو الرومان. ولكن بوالو الناقد العجوز انبرى للدفاع عن القدامى رغم أن بيرو سلكه في زمرة المعاصرين

ص: 247

الذين فضلهم على نظرائهم القدامى، فقال للأكاديمية أن من العار الاستماع إلى هذا اللغو. وحاول راسين أن يخمد النار بزعمه أن بيرو كان (110) يمزح، ولك نبيرو أحس أن لديه موضوعاً مجزياً. فعاد إلى المعركة في 1688 بكتابه "نظائر القدامى والمحدثين" وهو حوار طويل حيث يؤيد تفوق المحدثين في العمارة والتصوير والخطابة والشعر-وذلك باستثناء الإنياذة، التي هي في رأييه أروع من الإلياذة والأوديسة أو أي ملحمة أخرى. وقد ناصره فونتيل بذكاء وبراعة، أما لابرويير ولافونتين وفينيلون فوقفوا في صف بوالو.

لقد كان شجاراً صحياً، عين نهاية نظرية "الانحطاط" المسيحية الوسيطة، ونهاية تواضع النهضة والحركة الإنسانية أمام الشعر والفلسفة والفنون القديمة. وكان هناك اتفاق عام على أن العلم قد تقدم متجاوزاً أي مرحلة أدركها اليونان أو الرومان، وحتى بوالو اعترف بهذا، وسلم بلاط لويس الرابع عشر في غير تردد بأن فن الحياة لم يطور قط من قبل بمثل هذا الجمال الذي طور به في مارلي وفرساي. ولن نزعم أننا فاصلون في هذه المشكلة، فلنتركها الآن حتى نعرف كل جوانب هذا العصر في أوربا بأسرها. ولا حاجة بنا إلى الإيمان بأن كورنبي كان متفوقاً على سوفوكليس، أو راسين على يوربيديس، أو بوسويه على ديموستينيس، أو بوالوا على هوراس؛ وما ينبغي أن نسوي بين اللوفر والبارثينون، أو بين جيراردون وكوازفوكس وبين فيدياس وبراكستيليس. ولكن من اللطيف أن نعرف أن هذه المفاضلات تقبل المناقشة، وأن تلك النماذج القديمة لا تمتنع على المنافسة.

لقد وصف فولتير عصر لويس الرابع عشر بأنه "أكثر العصور التي شهدها العالم استنارة (111) " دون أن يتوقع أن عصره هو سيسمى "عصر التنوير". ولكن ينبغي أن نخفف من غلو هذا الإطراء. فالعصر من الناحية الرسمية كان عصر ظلامية وتعصب بلغا أوجهما في إلغاء مرسوم نانت الرحيم، و"التنوير" كان وقفاً على قلة قليلة لم يرضَ عنها البلاط وعابها سرفها الأبيقوري أحياناً. والتعليم كان يهيمن عليه أكليروس ملتزم بعقيدة العصر

ص: 248

الوسيط، وأما حرية الطباعة والنشر فلم يكد أحد يحلم بها، وحرية الكلام كانت مغامرة سرية وسط رقابة شاملة. لقد كان في عهد ريشليو من المبادرة والجرأة ومن مولد العبقرية قسط أكبر مما كان في عهد الملك العظيم. إن العصر لم يكن له ضريب في الرعاية الملكية للأدب والفن، وفي خضوعهما البليغ للملك. وقد بلغ الفن والأدب كلاهما العظمة والجلال كما يشهد بذلك صف أعمدة اللوفر ومسرحية اندروماك، ولكنهما انحدرا أحياناً إلى المبلغة في الفخامة والأبهة كما نرى في قصر فيرساي أو في بلاغة كورنبي في آخر إنتاجه. وكان يشوب المأساة والفنون الكبرى في هذا العهد بعض التكلف والافتعال، فقد أفرطا في الإتكاء على النماذج اليونانية أو الرومانية أو نماذج النهضة. واتخذا موضوعاتهما من عصر قديم دخيل لا من تاريخ فرنسا ودينها وطابعهما، وعبرا عن التعليم الكلاسيكي الذي حظيت به طبقة خاصة لا عن حياة الشعب وروحه. ومن ثم نجد موليير ولافونتين العاميين يفيضان اليوم حياة وسط هذا الحشد المزوق، لأنهما نسيا اليونان والرومان وتذكرا فرنسا. صحيح أن العصر الكلاسيكي نقى اللغة، وصقل الأدب، وهذب الحديث، وعلم العاطفة المشوبة أن تفكر، ولكنه إلى ذلك فرض على الشعر الفرنسي (والإنجليزي) برودة امتدت قرابة قرن بعد هذا العهد العظيم.

ومع ذلك كان عهداً عظيماً. فلم يشهد التاريخ من قبل حاكماً سخا مثل هذا السخاء على العلوم والآداب والفنون. لقد اضطهد لويس الرابع عشر الجانسنيين والهيجونوت، ولكن في عهده كتب بسكال، ووعظ بوسويه، وعلم فينيلون، ولقد جند الفن ليخدم به مآربه ومجده، ولكن هذا الفن منح فرنسا بفضل تشجيعه روائع في العمارة والنحت والتصوير. ولقد حمى موليير من جيش من الخصوم، وآزر راسين من مأساة إلى مأساة. ولم تكتب فرنسا من قبل مسرحية أفضل، ولا رسائل أفضل، ولا نثراً أفضل، مما كتبت في عهده. وقد أعانت عادات الملك المهذبة، وضبطه

ص: 249

لنفسه، وصبره، واحترامه للنساء-أعانت كلها على انتشار الآداب المحببة والمجاملات اللطيفة في البلاط، وعنه إلى باريس وفرنسا وأوربا ولقد أساء استعمال بعض النساء، ولكن تحت حكمه بلغت النساء في الأدب والحياة مقاماً أضفى على فرنسا ثقافة ثنائية الجنس يفوق جمالها أي ثقافة أخرى في العالم. وبعد كل التحفظات، وبعد الإعراب عن أسفنا لأن هذا الجمال الكثير لوثته هذه القسوة الكثيرة، يحق لنا أن نضم صوتنا إلى أصوات الفرنسيين في الإشادة بعصر لويس الرابع عشر بوصفه عصراً يقف على قدم المساواة مع اليونان في أيام بركليز، والرومان في أيام أوغسطس، وإيطاليا في أيام النهضة، وإنجلترا في أيام أليزابيث وجيمس الأول-يقف مع هؤلاء جميعاً قمة شامخة بين الشوامخ في مسار الإنسانية المتعثر.

ص: 250

الفصل السادِس

‌مأساة في الأراضي المنخفضة

1649 -

1715

(1)

شهد القرن الممتد من 1555 إلى 1648 الدفاع البطولي الذي قامت به الأراضي المنخفضة ضد إمبراطورية أسبانيا العالمية، أما الفترة من 1648 إلى 1715 فقد شهدت دفاع الجمهورية الهولندية الرائع ضد بحرية إنجلترا وجيوش فرنسا التي لم يسبق لها مثيل. وفي كلتا الحالتين صمدت هذه الدولة الصغيرة بشجاعة ونجاح من حقهما أن يتبوأا مكاناً مرموقاً في التاريخ. وقد واصلت وسط هذه الأعباء والهجمات تطويرها للتجارة والعلوم والفنون، وكانت مدنها ملاذاً للفكر المضطهد، وتحدت نظمها الجمهورية الملكيات القوية المحدقة بها تحدياً ملهماً.

‌1 - الأراضي المنخفضة الأسبانية

ظلت الأراضي المنخفضة الجنوبية، أو الأسبانية، حتى 1713 خاضعة للحكم الأسباني وكانت شعوبها المختلفة سلالياً يدين معظمها بالكاثوليكية وقد آثرت أن تخضع لأسبانيا النائية التي حل بها الضعف، عن أن تخضع للبروتستانت الذين في شمالها، أو لجارتها فرنسا التي هددت بابتلاعها في أي لحظة. وقد أعطى صلح البرانس (1659) معظم أرتوا لفرنسا، وأعطاها صلح إكس لاشابل (1668) دويه وتورنيه، وصلح نيميجن (1678) فالنسين وموبوج وكمبري وسانت أومير وابير. ولم تكن الجمهورية

(1)

أرجأنا تاريخ الأراضي المنخفضة السياسي والحربي بعد 1688 إلى فص تالٍ (الفصل 24).

ص: 251

الهولندية أقل قسوة من الملكية الفرنسية. وبمقتضى معاهدة وستفاليا (1648) لم تكتف أسبانيا، في حرصها على إطلاق يد جيوشها لتفرغ للحرب المتصلة مع فرنسا- لم تكتف بأن تنزل للأقاليم المتحدة عن المناطق التي استولت عليها في فلاندر، وليمبورج، وبرابانت، ولكنها وافقت كذلك على قفل نهر الشلت في وجه التجارة الأجنبية. فأصاب هذا الإذلال الخانق أنتورب وكل اقتصاد الأراضي المنخفضة الأسبانية بالشلل. "إن السياسة لا قلب لها" كما يقولون.

وفي داخل هذه الأسوار المعادية اعتزت هذه البلاد التي نعرفها اليوم باسم بلجيكا بثقافتها المتوارثة، ورحبت باليسوعيين، وتبعت قيادة لوفان الفكرية. ولما قصف الفرنسيون بروكسل بمدافعهم (1695) تحول قسم كبير من المدينة أطلالاً، ودمر كل المعمار البديع الذي ازدان به الميدان الكبير، اللهم إلا قاعة للحرفيين والأوتيل دفيل البديع، وقد أعيد بناء "الميزون دورا"(الذي كان يقرأ فيه الخطاب الملكي على مجلس الطبقات) بطراز قوطي كثير الزخرف (1696)، وهو والأوتيل دفيل من أجمل العمائر في أوربا اليوم. وقد أفاض النحاتون من فنهم على تجميل واجهات الكنائس والمباني المدنية، والمنابر، ومقاصير الاعتراف، والمقابر التي بداخل الكنائس. وواصلت بروكسل صنع النسيج المرسوم البديع (1).

واضمحل التصوير الفلمنكي اضمحلالاً حاداً بعد روبنز وفانديك، وكأن حياة هذين الفنانين قد استنفدت العبقرية التصويرية لقرن كامل. واجتذب نهوض الفن في فرنسا وازدياد ثرائها الكثير من الرسامين الفلمنك أمثال فيليب دشامبين. ولكن فناناً أعظم منه، وهو دافيد تنييه الابن، مكث في بلده. وكان أبوه قد تولى تعليمه، فأصبح "معلماً" في طائفة القديس لوقا الحرفية حيث بلغ الثالثة والعشرين، وبعد أربع سنوات (1627) ضمن نجاحه بالزواج من آن بنت جان روجن "المخملي"،

ص: 252

والقاصر الموضوعة تحت وصاية روبنز ذاته. وفي 1651 دعاه الأرشيدوق ليوبولد وليم من أنتوب إلى بروكسل ليكون مصور البلاط وأمين المتحف الملكي، وترينا إحدى لوحات تنييه الأرشيدوق والمصور بين صور هذا المتحف (2). وقد صور في براعة مترددة موضوعات قديمة كالابن الضال (3) وتجربة القديس أنطونيوس (4). ولكنه كمعاصريه الهولنديين آثر أن يلتقط داخل إطارات صغيرة حياة الفلاحين، لا هابطاً بهم إلى درك الأنعام كما فعل بيتر بروجن، بل مشاركاً إياهم في رباضتهم وأعيادهم. وأظهرت لوحته "داخل كاباريه" إلمامه بتفاصيل موضوعه (5)، لكنه كان يستطيع أيضاً أن يرسم المناظر الطبيعية الريفية التي تغير هيئتها سماء لا تكف عن التغير. وقد أحب الضوء كما أحب رمبرانت الظل، والتقطه على فرشاته برقة حساسة لم تفها رقة.

‌2 - الجمهورية الهولندية

كانت الأقاليم الهولندية السبعة قد توحدت الآن في جمهورية عزيزة ظافرة أثار غناها وتوسعها عجب جيرانها وحسدهم. فهنا أمة شذت على العرف، إذ لم يكن لها ملك، وكانت كل مدينة يحكمها في استقلال تقريباً مجلس من أعيانها، وكل مجلس بلدي يوفد مندوبين لمجلس إقليمي، وكل مجلس إقليمي يوفد ممثلين للمجلس التشريعي الذي يهيمن على ما بين الأقاليم من علاقات وعلى شؤونها الخارجية. وكانت إلى ذلك الحد حكومة مثالية لأقطاب التجارة الذين كانت ثرواتهم تتضخم بنمو التجارة الهولندية. ولكن قوة أرستقراطية واحدة وقفت أمام أولجركية التجار هذه: ذرية وليم الأول (والصامت) أمير أورنج وناسو، الذي قاد البلاد في أحلك أيام كفاحها ضد أسبانيا، وكان المجلس التشريعي قد كافأه بلقب رئيس الدولة وبقيادة جيوشها، واستطاع أن يورث ذريته ذلك اللقب وتلك القيادة، وكانت الهيمنة على رجال الجيش قوة لا تفتأ تهدد بتحويل الجمهورية الأولجركية إلى ملكية

ص: 253

أرستقراطية. وفي يوليو 1650 حاول وليم الثالث أمير أورنج، بوصفه رئيساً للدولة وقائداً عاماً أن يبسط سلطانه المطلق على جميع الأقاليم المتحدة بانقلاب. فقاومه عدة زعماء إقليميين، وأودع وليم وجنده ستة منهم في السجون، ومنهم يعقوب دي ويت عمدة دوردريشت. ولكن الجدري هزم وليم في انتصاره، فمات في 6 نوفمر 1650 غير متجاوز الرابعة والعشرين: وبعد أسبوع ولدت أرملته ماري ستيوارت (ابنة حفيدة آخر ملكة للأسكتلنديين) الطفل وليم أورنج الثالث، الذي قدر له أن يحقق فوق ما حلم به أبوه، أي أصبح ملكاً على إنجلترا.

أما الزراع وصيادو الأسماك الأدنى من هذه الطبقات الحاكمة المتنافسة، هؤلاء الذين كانوا يطعمون الشعب، فلن يشاركوا إلا في فضلات ثرائها التي لم يعبأ بالتهامها التجار ورجال الصناعة وملاك الأرض. وإذا صدقنا الرسامين الهولنديين تبين لنا أن الحرب والاستغلال قد طحنا الفلاحين بفقر كاد يقربهم من حياة البهائم، فقر خففت منه الأعياد وخدره الشراب. وكان الحرفيون في حوانيتهم، والعمال في مصانع أمستردام وهارلم وليدن، أعلى أجوراً من نظرائهم في إنجلترا (6)، ولكنهم قاموا بإضراب عنيف في 1672. وأثرى المهاجمون الهيجونوت الوافدون من فرنسا الصناعة الهولندية بمدخراتهم ومهاراتهم. فلم تأتِ سنة 1700 حتى حلت الأقاليم المتحدة محل فرنسا بوصفها الأمة الصناعية القائدة في العالم.

أما أعظم الثروات فجادت بها التجارة مع أقطار ما وراء البحار وتطويرها. ففي 1652 استوطن الهولنديين أول مستعمرة لهم في رأس الرجاء الصالح وأسسوا مدينة الكاب. وكانت شركة الهند الشرقية الهولندية تدفع أرباحاً لمساهميها بلغت نسبتها في الموسط 18% طوال 198 عاماً (7). وكان الوطنيون في المستعمرات الهولندية يباعون أو يشتغلون عبيداً، أما المستثمرون في أرض الوطن فلم يسمعوا بهذا إلا قليلاً، وأخذوا أرباح أسهمهم بهدوء هولندي. وظلت التجارة

ص: 254

الخارجية الهولندية حتى 1740 تفوق تجارة أي أمة أخرى (8)، ومن بين عشرين ألف سفينة كانت تنقل تجارة أوربا في 1665، كانت خمسة عشر ألف هولندية (9). وأجمع الناس على أن تجار هولندا ومالييها أكفأ من أنجبه ذلك العصر. وكان بنك امستردام قد استنبط عملياً كل تقنيات المالية العصرية، وقدرت ودائعه بما يعادل الآن مائة مليون دولار (10)، وكان في الإمكان أن تسوى في حسابات تصل إلى الملايين في ساعة واحدة، وبلغت الثقة بقدرة الهولنديين المالية وإمكان الاعتماد عليهم مبلغاً يسر للجمهورية الهولندية أن تقترض المال بفائدة أقل من أي حكومة أخرى، وقد تهبط الفائدة أحياناً إلى 4% (11). ولعل امستردام كانت أكثر مدن أوربا في هذا العصر جمالاً وتحضراً. وقد رأينا ثناء ديكارت عليها. وكذلك تحدث عنها سبينوزا (12). ويمثل هذه الحماسة تحدثت بيبيس عن لاهاي "مدينة غاية في النظافة من جميع الوجوه، بيوتها أنظف ما يستطاع في كل أماكنها ومحتوياتها (13) ".

ولولا طبيعة البشر لكانت هذه الأقاليم الرخية جنة في الأرض ذلك أن ثراءها أغرى إنجلترا وفرنسا بالهجوم عليها، وقد أفضى الصراع على السلطة في الداخل إلى مأساة جان دي ويت، ومزقت المنافسة بين العقائد الدينية شعباً لطيفاً في غير هذا، وبعثت الخصومات العنيفة. ومنع الكلفنيون الغالبون ممارسة الشعائر الكاثوليكية حيثما استطاعوا منعها. وفي 1682، وضع مجمع دورت (الدوردريشت) اعترافاً بالكلفنية القديمة-ربما انتقاماً من إلغاء مرسوم نانت وألزم كل راع بالتوقيع عليه والاطراد، وعين بيير جورجيو وهو هيجونوتي فرنسي سابق-ليرأس محكمة تفتيش كلفنية، واستدعى المهرطقين، وحاكمهم، وحرمهم، وأهاب بـ"الدراع الدنيوية"(السلطة الزمنية) أن تزج بهم السجون. ولكن هرطقة أرمينيوس نمت رغم ذلك، واجترأ الشجعان من الرجال على الاعتقاد بأن الله لم يقدر على الكثرة من بني البشر الهلاك في النار

ص: 255

الأبدية، ووجدت المذاهب المنشقة-مينونيين، وكليين (ممن آووا سبينوزا) ولو سيائييس، وتقويين، حتى التوحيديين-هؤلاء جميعاً وجدوا أن في إمكانهم العيش في هولندا بين ثغرات القانون وغفواته. وكان السوسينيون قد التمسوا الأقاليم المتحدة ملاذاً من الاضطهاد في هولندا، ولكن عبادة التوحيديين حرمت بقانون هولندا في 1653. ونشر دانيال زفيكر بأمستردام في 1658 رسالة تشككت في ألوهية المسيح، وأخضعت الكتاب المقدس لـ"عقل البشرية العام"، ومع ذلك استطاع أن يموت في هدوء وسلام كما يموت الجنرالات. على أن رجلاً يدعى كيرباد حكم عليه 1668 بالسجن عشر سنوات لأنه أفصح عن أفكار كهذه، ومات في سجنه. وقد سجن أوريان بيفرلاند لإعلامه إلى أن خطيئة آدم وحواء الأصلية كانت الاتصال الجنسي ولم تمت للتفاح بسبب.

وازداد التسامح الدين قرب ختام القرن السابع عشر. ذلك أن الهولنديين الذين كانوا يتعاملون مع دول كثيرة ذات ثقافات مختلفة، ويفتحون موانيهم وسوقهم المالية لتجار يدينون بديانات كثيرة أولاً يدينون بأي دين، هؤلاء الهولنديين وجدوا من الأنفع لهم أن يمارسوا ضرباً من التسامح كان، رغم ما شابه من نقص، أرحب بكثير منه في أي بلد مسيحي. ومع أن الكلفنيين كانوا الغالبين سياسياً، إلا أن الكاثوليك بلغوا من الكثرة مبلغاً جعل فمعهم أمراً غير ممكن عملياً. أضف إلى ذلك أن السيطرة الاجتماعية والسياسية التي كانت تتمتع بها الطبقات التجارية والصناعية جعلت الإكليروس-كما قال السير وليم تمبل-أقل نفوذاً بكثير من الاكليروس في الدول الأخرى. وطالب المهاجرون من أقطار أخرى، الذين أسهموا بقسط في الاقتصاد أو الثقافة، بقدر محدود من الحرية الدينية وظفروا به. وحين استولى كرومويل على السلطة في إنجلترا التمس أنصار الملكية فيها السلامة في هولندا؛ ولما رد تشارلز الثاني إلى العرش، التجأ الجمهوريون الإنجليز إلى الجمهورية الهولندية. ولما اضطهد لويس الرابع عشر الهيجونت فر بعضهم إلى الأقاليم

ص: 256

المتحدة، ولما خشي لوك وكولنز وبيل الاضطهاد في إنجلترا أو فرنسا، وجدوا الملاذ في هولندا؛ ولما حرم مجمع أمستردام البرتغالي (اليهودي) سبينوزا، رحب به العلماء الهولنديون وقدموا له العون، ورتب له جان دي ويت معاشاً. وأصبحت هولندا الصغيرة "مدرسة أوربا (15) "في التجارة والمال والعلم والفلسفة.

ولولا ما أتيح لهذه الحضارة من حرية دينية، ومن علم وأدب وفن، لأصبحت حضارة مادية إلى حد محزن. وسنلتقي في فصل لاحق بهويجنس وغيره من العلماء الهولنديين. وكان هناك شعراء ومسرحيون ومؤرخون هولنديون، ولكن لغتهم حدت من شهرتهم. وقد حلفت المدن الهولندية بالكتب والناشرين. وبينما لم يكن في إنجلترا سوى مركزين اثنين للنشر هما لندن وأكسفورد، وفي فرنسا باريس وليون، وكان في الأقاليم المتحدة مركزاً في أمستردام وروتردام وليدن وأوترخت ولاهاي، تطبع الكتب باللاتينية واليونانية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والعبرية كما تطبعها بالهولندية. وكانت أمستردام وحدها تملك أربعمائة دار تطبع الكتب وتنشرها وتبيعها (16).

ونافس الولع بالفن الغرام بالمال والمساومة على الخلاص الأبدي. وخلع ساكنو المدن الهولنديون، الذين عروا كنائسهم البروتستنتية من الزخرف، خلعوا 'لى نسائهم وبيوتهم الزينة انتزعوها من بيوت الرب. فاسترضوا زوجاتهم بالمخمل والحرير والجواهر، ونشروا على موائدهم صحاف الذهب والفضة، وزينوا بالنسيج المرسوم، ورفوفهم أو صواوينهم بالخزف أو الزجاج المحفور. وفي ديلفت كان الخزافون الهولنديون بعد عام 1650، الذين استوحوا الخزف الصيني والياباني، يصنعون فخاراً مزججاً، أكثره أزرق على قاعدة بيضاء، أضفى الجمال المشرق على بيوت كانت من قبل عارية عرى التزمت الصارم. وقل أن وجدت أسرة هولندية لم تملك على الأقل واحدة من تلك الصور

ص: 257

الصغيرة التي جعلت حلم المسكن الهادئ النظيف، وبهجة الأشجار والأزهار والجداول، فريبي المنال على جدران البيوت.

‌3 - ازدهار صور الحياة اليومية

كان العصر البطولي للتصوير الهولندي قد ولى. فالزبائن الجدد أكثر نفراً ولكنهم أقل مالاً، لذلك طلبوا صوراً صغيرة تتيح لهم أن يشهدوا حياتهم اليومية في خلاصة مقطرة مهذبة، منفولة بواقعية تبعث لذة التعرف، أو ملموسة بعاطفة رقيقة ولكنها مألوفة، أو مغرية للنفس باستشراف مشهد محرر من مشاهد الطبيعة. وقد لبى المصورون الهولنديون هذا الطلب في رهافة خط وضوء ولون حشدت الصنعة الشديدة التدقيق في حيز صغير. وهؤلاء الفنانون معروفون في جميع أرجاء أوربا وأمريكا، لأن التنافس اليائس فيما بينهم حملهم على أن يطلقوا سيلاً متدفقاً سريعاً من الصور الصغيرة بثمن رخيص، وهي صور لا تخلوا اليوم منها جدران متحف. ونحن إذ نترك الشهادة على وفرة هؤلاء الرسامين لهامش سريع

(1)

، نراه لزاماً أن ننظر نظرة أكثر تريثاً إلى جان ستين، المرح رغم حظه العاثر، وإلى أعظم مصوري الحياة اليومية جان فرمير، وإلى أعظم مصوري الطبيعة الهولنديين، يعقوب فان رويسدان.

(1)

نيقولا بيرشيم: القلعة في الغابة (درسدن) فرديناند بول: يعقوب أمام فرعون (درسدن)، جيرارد دو: عجوز في النافذة (فيينا). بارينت فابريتوس: يعقوب وبنيامين (شيكاغو). بارتليموس فان درهليست: عمدة هولندي، (نيويورك). بييتردي هوخ: داخل بيت هولندي (لندن). فيليب دي كونينك: منظر طبيعي (فرانكفورت). نيقولا مابيس: عجوز تغزل (امستردام). جابرييل ميتسو: سوق الخضر (لندن). فرانس فان ميريس الأول: صورة ذاتية مع زوجته (لاهاي). وليم فان ميريس: التعرف على برسوزا (درسدن). ايرت فان درنبر: منظر مقمر (برلين). جيرار تربورش: عشاق الموسيقى (لندن). أدريان فان درفلد: المزرعة (برلين). وليم فان درفلد الثاني. زويدرزي (برلين) جان فينكس الثاني: منظر صيد (لندن). أدريان فان درفيرف: طرد هاجر (درسدن). فيليب فوفرمان: وقفة جماعة صيد (دولسفش).

ص: 258

أما ستين فكان ابن صانع جعة في ليدن؛ واشتغل في لاهاي، وديلفت، وهارلم، وأصبح آخر المطاف صاحب حانة في ليدن، وخلال هذه الفترات استطاع أن يجعل من نفسه أفضل مصور للأشخاص في الفن الهولندي باستثناء رمبرانت. وحين بلغ الثالثة والعشرين (1649) تزوج مارجريت ابنة المصور جان فان جوين؛ ولم تملك من المهر غير وجهها وقوامها، ولكنها أفاده بعض الوقت نموذجين ملهمين. وكان ينقد أجراً حقيراً على صوره حتى أن صيدلياً حجز (1670) على كل الصور التي استطاع أن يجدها في بيت ستين وباعها في المزاد وفاء لدين قدره عشرة جولدينات. وصوره الأولى تسجل لذات السكر أو عقوباته. وصورته "الحياة المنحلة (17) "، وهي مثال ممتاز من صوره، فيها امرأة نعسانة وأخرى نائمة من الشراب، وطفل ينتهز الفرصة فيسرق من صوان، وكلب يأكل من المائدة، وراهبة تنطلق بعد دخولها الحانة في عظة عن خطيئة شرب الروم، وكل شيء في الصورة مكون ومرسوم بنظام الفن وانسجامه رغم أنه يصور الفوضى. وموضوع أجمل من هذا يبعث الحياة في صورة أخرى أسيئت تسميتها بـ"معرض الوحوش (18) "، يرى فيها فتاة صغيرة تطعم حملاً باللبن، ودجاج الحديقة يثب هنا وهناك، وطاووس يدلي ذيله من شجرة ذابلة، والحمام يحط في أعلاها، ويمامة تحلق قادمة من الطريق. هذا كله لحن رعوي يجعل جميع معضلات الفلسفة تبدو تافهة لا معنى لها. أنه الحياة، وكل جزء له مبرره الكافي الذي يتجاهل المطلقات. وبعد أن تجاوز ستين فترة الحانة رسم مشاهد مشرقة للحضارة الهولندية: باطن بيوت مبهجة، ودروس موسيقى، وحفلات موسيقى، ومهرجانات، وأسر سعيدة، وفنان نفسه، يدخن في "الصحبة المرحة (19) "، أو يعزف على العود (20). فلما فتت في عضده الأجور البخسة التي نقدها على عمله، عاد إلى بيع الجعة، وراح يشرب لينسى، ثم مات في الثالثة والخمسين مخلفاً أربعمائة صورة بائرة.

ص: 259

ونظرة إلى صورة واحدة رسمها جان فرميرا وسمها "رأس فتاة"(21) تكشف عن عالم وفن يكادان يناقضان عالم ستين وفنه. وهذه اللؤلؤة التي يفوق ثمنها اللآلئ بيعت في المزاد عام 1882 بجولدنين ونصف، ويقدر ناقد قدير في أيامنا هذه أنها "واحدة من اثنتي عشرة صورة هي أروع صور العالم (22) " وواضح أن الفتاة من بيت طيب وأسرة كريمة، عيناها خاليتان من الخوف، لا يخشاهما حتى دهش الشباب الطبيعي، فهي سعيدة في هدوء، متيقظة لموسيقى الحياة؛ وقد قدمها الفنان لنا بصنعة دقيقة في اللون والخط والضوء تجعل من الفرشاة أداة مدهشة للفهم والتعاطف.

وقد ولد فرمير في ديلفت عام 1632؛ وعاش هناك على قدر علمنا طوال حياته ومات فيها (1675) بالغاً الثالثة والأربعين، وكاد يكون معاصراً لسبينوزا تماماً (1632 - 77). تزوج في العشرين، وأنجب ثمانية أطفال، وكان يتقاضى ثمناً طيباً على صوره، ولكنه عكف عليها في عناية مستنفدة للوقت، وأنفق المال الكثير على شراء الصور، حتى أنه مات مديناً، واضطرت أرملته إلى التماس المعونة من محكمة التفاليس. غير أن الأربع والثلاثين صورة التي بقيت من صوره توحي بجو من رفاهية الطبقة الوسطى. وتظهره إحداها (23) في مرسمه لابساً طاقية رقيقة خفيفة، "وجركينة" متعددة الألوان، وجوارب طويلة متجعدة ولكنها حريرية، وقد انتفخ ردفاه من النعمة. ولا ريب في أنه سكن حياً راقياً في ديلفت، ربما في مشارفها حيث استطاع أن يلقي "نظرة على ديلفت (24) " وفي هذه الصورة الشهيرة نحس بحبه الجم بموطنه. ويبدو أنه راض نفسه على البقاء في بيته بقناعة أكثر مما نلحظه في مصوري زماننا. فحب البيت يتجلى في أكثر التصوير الهولندي، ولكن البيت في فن فرمير يصبح معبداً صغيراً، والزوجة معتزة بالخدمات التي تؤديها. وفي لوحته "المسيح مع مريم ومرثا"(25) تشارك مرثا مريم في الجلوس على المنصة. ولم تعد نساؤه تلك الحزم الثقيلة من اللحم التي نراها أحياناً في الفن الهولندي، ففيهن شيء

ص: 260

من التهذيب والحساسية. بل لقد تجدهن-كما ترى في السيدة الجالسة في صورة "السيدة والخادمة"(26) -غاليات اللباس، رقيقات القسمات، مصففات الشعر في عناية، أو غنيات بالحرير وآلات الموسيقى، كما في صورة "السيدة الجالسة إلى العذراوية"(27)(آلة موسيقية). إن فرمير يصنع من الحياة العائلية ملحمة، أو قصيدة غنائية ذات لحظات عائلية بسيطة طبيعية؛ لا مشاهد جماعية ذات نشاط مختلط متعدد، بل-في أفضل ما رسم من لوحات-امرأة واحدة فقط، تقرأ رسالة في هدوء (28)، أو تكب على خياطتها (29) أو تتحلى بقلادة، أو تنام على خياطتها (30)، أو مجرد صبية وابتسامتها (31). لقد سجل فرمير بفن كامل شكرانه لامرأة طيبة وبيت سعيد. ولكنه أوشك أن يكون نسياً منسياً في القرن الثامن عشر، ونسبت روائعه الصغير إلى دي هوخ، أو تير بورخ، أو رمبرانت، ولم يبعث من مثواه إلا في 1858. واليوم لا يعلو على اسمه غير اسم رمبرانت وهالس في التصوير الهولندي.

بقي شيء واحد تفتقده في هؤلاء المصورين للحياة اليومية-هو حياة الطبيعة التي أحاطت بالمدن المتطفلة عليها. فإيطاليا، وبوسان في إيطاليا، كانا قد التقطا شيئاً من الهواء النقي والحقول الطلقة، وستكتشفها إنجلترا في القرن التالي، أما المصورون الهولنديون فقد تركوا الآن برهة بيوتهم وباطنها النظيف أو المرح، ووضعوا حواملهم ليقتنصوا سحر الغدران المترقرقة، وطواحين الهواء الساكنة الوادعة، والمزارع المزهرة، والأشجار التي تخجل تعجلنا المحموم، والمراكب الغريبة تتهادى في الثغور المزدحمة، والسحب التي تلون السماء بشتى الأشكال. والعالم كله يعرف لوحة "طريق ميدلهارنس" التي رسمها ماينديرت هوبيما-وهي منظور يتلاشى في فضاء لا نهاية له، ولكن أجمل منها بكثير لوحته "طاحونة الماء ذات السقف الأحمر الكبير (32) ". وقد وجد ألبرت كوين الإلهام في الأبقار السمينة تخوض المستنقعات الوافرة الخضرة (33)، والخيل تقف ظامئة عن خان، وفلوع

ص: 261

المراكب تختفي فوق البحر (34). تعجب سليمان فان رويسدال من ارتعاش المياه التي تعكس وتقلب صورة الزوارق والأشجار (القناة والمعدية)(35)، وعلم ابن أخيه أن يتفوق عليه.

أما ابن أخيه هذا، واسمه يعقوب فان روسدال، فقد ترعرع في هارلم، وترك لنا "منظر الهارلم (36) " لا يقل وقعاً في نفس الناظر عن لوحة فرمير "ديلفت"، ويفضلها نقلاً تعقد المدينة الكبيرة بما فيه من اتساع وزحمة. ثم انتقل إلى أمستردام وأصبح عضواً في الإخوان المينونيين، ولعل تصوفهم أعان فقره على إشعاره بالجانب المأساوي للطبيعة التي أحب أن يفنى بها. وعرف أن تلك الحقول والغابات، والسماوات التي تعد بالسلام، تستطيع كذلك أن تدمر، وأن للطبيعة نزوات من الغضب قد تقلع فيها الرياح المجنونة حتى اعتى الأشجار وأصلبها وتمزقها من جذورها، وأن الشقوق المهلكة قد تتكون في الأرض الطيبة، وأن البرق قد ينفث ناره القتالة على كل شكل من أشكال الحياة في لا مبالاة عابثة. فصورته "مسقط الماء على الجرف (37) " ليست أنشودة رعوية إنما هي ثورة البحر الغاضبة على صخور أقسم أن يحطمها ويغرقها أو يبر بها، ولوحة "العاصفة (38) " هي البحر يلطم عدوه اليابس في غضب، ولوحة "الشاطئ (39) " لا تصور شاطئاً للهو بل ساحلاً كدرته أمواج عالية تحت سماء مكفهرة، ولوحة "الشتاء (40) " لا تعرض مرح التزحلق، بل كوخاً حقيراً يرتجف تحت غيوم منذرة، وحفره الرائع "أشجار البلوط" يجردها من وقارها ليرى أغصانها شعثاء أو عارية وسيقانها وقد أتخنها الزمن القاسي بالجروح وشوه شكلها. ولوحة "جبانة اليهود (41) " هي ذاتها صورة للموت-أسوار متهدمة، وشجرة تموت، ومياه فيضان تجري فوق القبور. وليس مرد هذا كله أن رويسدال كان دائماً مكتئباً، ففي لوحة "حقل القمح (42) " نقل بإحساس عميق هدوء طريق ريفي، وبركة المحاصيل الوفيرة، وفرحة الفضاء المترامي. ويبدو أن الهولنديين أحسوا أن أرضهم ومناخهم قد افترت عليهما صور رويسدال، فلم ينقدوه عليها إلا أجراً بخساً،

ص: 262

وتركوا صاحبها يموت في ملجأ للفقراء. واليوم يضعه بعضهم في مكان لا يفضله فيه غير بوسان بين مصوري الطبيعة في جميع العصور (43).

ثروة لا حد لها في حجرة صغيرة-رمبرانت وهالس، فرمير ورويسدال، سبينوزا وهويجنس، ترومب ودرويتر، جالن دي ويت ووليم الثالث، كلهم في زمن واحد داخل حدود ضيقة، يكدحون غير آمنين خلف الكثبان، يصونون فنون السلم وسط نذر الحرب. تلك هي هولندا في القرن السابع عشر. و"ليست العبرة بكبر الحجم".

‌4 - جان دي ويت

1625 -

1672

بعد أن ظفرت الأقاليم المتحدة باستقلالها عكفت عقب معاهدة وستفاليا على طلب المال واللهو والحرب. كان أهلها أقل أمم الأرض اكتفاءً بأنفسهم، فمحاصيل أرضها لا تقيم أكثر من ثمن سكانها، وحياة البلاد تعتمد على التجارة الخارجية واستغلال المستعمرات، وهذان يعتمدان على بحرية قادرة على حماية السفن والمستوطنات الهولندية. وكان تفوق أسبانيا البحري قد ولى بهزيمة الأرمادا الأسبانية، ونشرت البحرية الإنجليزية التي ازدهاها النصر قلوعها فوق أرجاء مترامية من المحيط. وما لبث التوسع التجاري الإنجليزي أن اصطدم بالسفن الهولندية والمستوطنات الهولندية في الهند وجزر الهند الشرقية، وأفريقيا، وحتى في "امستردام الجديدة" التي ستصبح نيويورك. وأحس بعض الإنجليز، الذين لم تهدأ فيهم بعد حمية هوكنز ودريك، أن هؤلاء الهولنديين الجبابرة ينبغي أن يحل محلهم بريطانيون جبابرة، وأن هذا ميسور بنصر أو نصرين بحريين. وقد ذكر إيرل كلارندون في تقرير له "أن التجار ألفوا الحديث عن الفائدة الكبرى التي يجنونها من حرب سافرة مع الهولنديين، وعن سهولة قهرهم، وعن حجم التجارة التي يمكن أن ينقلها الإنجليز بعد ذلك"(44) وراقت كرومويل الفكرة.

ص: 263

ففي 1651 أقر البرلمان الإنجليزي قانوناً للملاحة يحظر على السفن الأجنبية أن تجلب لإنجلترا أي بضاعة إلا ما ينتجه بلدها. وكان الهولنديون يشحنون إلى إنجلترا حاصلات مستعمراتهم، فتوقفت الآن هذه التجارة الرابحة. وأرسلوا بعثة إلى لندن للحصول على بعض التعديل في القانون، فلم يكتفِ الإنجليز برفض الطلب، بل طالبوا بأن تخفض المراكب الهولندية أعلامها إذا التقت بالمراكب الإنجليزية في "المياه الإنجليزية"(أي جميع المياه بين إنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة) اعترافاً بسيادة الإنجليز على تلك البحار. وعاد المبعوثون الهولنديون بخفي حنين إلى لاهاي. وفي فبراير 1652 استولى الإنجليز على سبعين سفينة تجارية هولندية وجدوها في "المياه الإنجليزية". وفي 19 مايو التقى أسطول إنجليزي بقيادة روبرت بليك بأسطول هولندي بقيادة مارتن ترومب، ورفض ترمب خفض علمه، فهاجمه بليك، وانسحب ترومب. وهكذا بدأت "الحرب الهولندية الأولى".

وأوشكت انفصالية الأقاليم، المفروض أنها متحدة، أن تجر عليها الدمار. ذلك أن الزعامة الحربية الموحدة التي أتاحها لها من قبل أمراء أورنج كانت قد انقطعت، وأصبح المجلس التشريعي للولايات جمعية للمناقشة والجدل بدلاً من أن يصبح دولة. أما الإنجليز فكانوا يملكون حكومة قوية ممركزة يرأسها رجل شديد البأس هو كرومويل، وكان لهم بحرية أفضل، وقد أوتوا جميع الميزات التي حبتهم بها الجغرافيا والرياح الغربية السائدة. فدمروا أساطيل الصيد الهولندية، واستولوا على المراكب التجارية الهولندية، وهزموا أمير البحر الهولندي درويتر تجاه ساحل كنت. وانتصر ترومب على بليك تجاه دنجينيس (30 نوفمبر 1652)، ولكنه مات في المعركة في يوليو التالي. وكانت نتيجة سنة واحدة من الحرب إثبات تفوق إنجلترا بالبرهان الدامغ. وكاد حصار الإنجليز للساحل الهولندي يشل الحياة الاقتصادية في الأقاليم المتحدة. وأشرف الألوف من سكانها على الهلاك جوعاً وهددوا بالتمرد.

ص: 264

في هذه المرحلة الحاسمة التعسة اضطلع جان دي ويت بزعامة البلاد، وكان ينتمي إلى أسرة بعيدة العهد بالتفوق في التجارة والسياسة الهولنديتين. وقد انتخب أبوه يعقوب دي ويت عمدة على درودشت ست مرات. أما جان فقد تلقى كل التعليم الميسور، وجاب أرجاء فرنسا مع أخيه الأكبر كورنيليس، والتقى بكرومويل في إنجلترا، ثم استقر في لاهاي محامياً (1647). وبعد ثلاث سنوات كان أبوه واحداً من الزعماء الجمهوريين الذين أودعهم السجن وليم الثاني أمير أورنج، رئيس الدولة، رغبة في توطيد سلطته السياسية والحربية على جميع الأقاليم. فلما مات وليم الثاني (1650) رفض المجلس التشريعي قبول ابنه الذي ولد عقب وفاته خلفاً له، ربما متأثراً في ذلك بإقامة إنجلترا حكومة جمهورية فيها (1649) بصورة بدا أن التوفيق حالفها، وألغى منصب رئيس الدولة. وأصبحت المسرحية الداخلية للأقاليم المتحدة صراعاً بين الروح التجارية الجمهورية المسالمة التي يمثلها دي ويت، والروح الأرستقراطية العسكرية التي أزمع أن يحييها بعد قليل الشاب المتحمس وليم الثالث.

وفي 21 ديسمبر 1650، انتخب جان دي ويت-وهو لا يزال في الخامسة والعشرين-كبيراً لولاة درودرشت، وممثلاً لها في المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة. وفي فبراير 1653 عينه المجلس حاكماً أعلى للجمهورية، وناط به مهمة عسيرة هي مفاوضة إنجلترا المنتصرة على الصلح. وكان كرومويل قاسياً لا يرحم، فطالب بأن يعترف الهولنديون بالسيادة الإنجليزية ويحيوا العلم الإنجليزي في القنال الإنجليزي، وبأن يسلموا بحق القباطنة الإنجليز في تفتيش السفن الهولندية في البحر، وبأن يؤدوا رسوماً نظير امتياز الصيد في المياه الإنجليزية، وبأن يدفعوا تعويضاً عن قتل الهولنديين للإنجليز في أمبوبنا عام 1623، وبأن ينحوا بصفة دائمة عن الوظائف أو السلطة جميع أفراد بيت أورنج-الذي قطع على نفسه عهداً بأن يرد أسرة ستيوارت إلى عرش إنجلترا لما بينه وبينها من مصاهرة. وحذف

ص: 265

دي ويت هذا البند الأخير من المعاهدة كما قدمت للمجلس التشريعي وكما تصدق عليها منه (22 إبريل 1654)، ثم أقنع المجلس التشريعي لإقليم واحد-هو إقليم هولندا-بقبول المعاهدة بما فيها هذا البند. ولم يغتفر له وليم الثالث فعلته هذه قط.

ثم وطد دي ويت مركزه بالزواج من وينديلا بيكر الغنية، وأصبح عن طرقها صهراً لأمراء التجارة في امستردام، وبتأييدهم شغل أهم المناصب في هولندا هو وأبوه، وأخوه، وبنو عمومته، وأصدقاؤه؛ وسرعان ما قبض على زمام الحكم كله في الإقليم. وقبلت أقاليم أخرى زعامته على مضض، لأن هولندا التي أغنتها موانيها كانت تدفع سبعة وخمسين في المائة من نفقات الاتحاد، وتقدم معظم الأسطول الهولندي، ولم يكن محبوباً من جماهير الشعب. ولكن حكمه كان مستنيراً وكفؤاً. فقد حد من النفقات الباهظة، وخفض الفائدة على الدين الفدرالي، وأجرى فحصاً شاملاً للأسطول، وبنى سفناً أفضل، ودرب عاملين جدداً في البحرية. وإذ كان يعكس مشاعر التجار، فإنه كافح في سبيل السلام ولكنه استعد للحرب. وفي 1658، ثم في 1663، أعيد انتخابه حاكماً أعلى للأقاليم المتحدة. وقد وقع من نفوس المراقبين بإخلاصه لمهام الحكم، وببساطة مسلكه وتواضعه، وبنقاء حياته العائلية. ويسرت له ثروة زوجته العيش في منزل فخم يستطيع أن يستقبل فيه المبعوثين الأجانب في جو مهيب، ولكن ذلك المنزل كان مركزاً للثقافة الهولندية أكثر منه مركزاً للمظهر المترف، فقد امتزج فيه الشعر بالسياسة، ونوقش العلم والفلسفة ربما بحرية لا يطيقها ناخبو دي ويت الكلفنيون. وحتى سبينوزا، ذلك المهرطق المرهوب، وجد صديقاً وفياً وحامياً له في الحاكم الأعلى.

لقد كانت مأساته دائماً أنه أحب السلام أكثر من الحرب، بينما كان جيران الجمهورية الغنية يكتلون قواهم للقضاء عليها. وفي 1660 رد تشارلز

ص: 266

الثاني إلى عرش إنجلترا، فأوصى جان دي ويت مشدداً بأن يرضى عن ابن أخته وليم أورنج الثالث، وبعد قليل طالب بإلغاء "قانون الإبعاد" الذي أقصى بمقتضاه وليم عن المناصب، ووافق دي ويت وهكذا مهد الملك الاستيوارتي لسقوط أسرة ستيوارت على غير قصد منه. وفي اكتوبر 1664، استولت حملة إنجليزية على مستعمرة نيو امستردام الهولندية، وأطلقت عليها اسماً آخر هو نيويورك تكريماً لدوق يورك (جيمس الثاني مستقبلاً) وكان يومها قائد البحريو الإنجليزية. واحتج المجلس التشريعي للأقاليم المتحدة، ولم تعبأ إنجلترا بالاحتجاج، وفي مارس 1665 بدأت الحرب الهولندية الثانية.

وقد برر الموقف ما سبق أن اتخذه دي ويت من استعدادات. ذلك أن ضعف القيادة قد أنتقل من المجلس التشريعي إلى حكومة تشارلز الثاني الغافلة العاجزة، وبينما كان الملك المرح يراقص خليلته، ظفر دي ويت بالثناء حتى من أعدائه على الهمة والإخلاص اللذين بذلهما لكل نواحي التنظيم الحربي وتفاصيله. فقد أبحر غير مرة مع الأسطول، وعرض نفسه لكل مخاطر المعركة، وألهم الملاحين بشجاعته وغيرته. ولم تكن البحرية الهولندية إلى ذلك الحين كفؤاً للبحرية الإنجليزية في السفن أو الرجال أو النظام، فأوقعت البحرية الإنجليزية بقيادة دوق يورك هزيمة حاسمة بالبحرية الهولندية في أول لقاء كبير في الحرب (لوفستوفت، 13 يونيو 1665). على أن المواطنين الهولنديين الصابرين أعادوا بناء أسطولهم وولا عليه رجلاً من أقدر وأجرأ أمراء البحر الذين عرفهم التاريخ. وفي ينويو 1667 قاد هذا الرجل، وهو ميشيل أدريانسزون درويتر، ستاً وستين سفينة إلى نهر التيمز، واستولى على قلعة شيرنيس (على نحو أربعين ميلاً شرقي في لندن)، وحطم الحواجز التي تعترض الدخول في نهر ميدواي (الذي يصب في التيمز عند شيرنس) وأخذ، أو حرق، أو أغرق ست عشرة سفينة حربية كانت راسية هناك دون تأهب لمثل هذا الزائر الوقح (12 يونيو 1667). وإذ

ص: 267

لم يكن بتشارلز الثاني ولع بالحرب، فقد أمر دبلوماسييه أن يعرضوا على الهولنديين صالحاً مقبولاً. وفي 21 يوليو 1667 وقعت الدولتان معاهدة بريدا، وبمقتضاها نزل الهولنديون لإنجلترا عن نيويورك التي خالوها غير هامة، ووافقوا على أن يحيوا العلم الإنجليزي في المياه الإنجليزية، ونزلت إنجلترا للهولنديين عن مستعمرة سورينام (جيانا الهولندية في أمريكا الجنوبية) وعدلت قانون الملاحة لصالح التجارة الهولندية. وكانت المعاهدة نصراً معتدلاً لدى وبث وبلغت به قمة نجاحه.

غير أنه ارتكب الآن سلسلة من الأخطاء القاتلة، فقد زاد من تنفير مؤيدي وليم الثالث بأن أجاز في المجلس الإقليمي لهولندا (5 أغسطس 1667)"مرسوماً دائماً" يمنع أي حاكم لأي إقليم من تولى قيادة الجيش أو البحرية العليا للاتحاد. فاستقال على إثر ذلك أتباع الأمير الشاب من الجيش وتركوه خلواً من القواد المحنكين. ولسوء الحظ وقع هذا الحدث، الناجم عن المنافسة بين أسرتين، بينما كانت فرنسا تغزو الأراضي المنخفضة الأسبانية، فهددت بذلك المصالح الحيوية الأقاليم المتحدة. فلو أن فرنسا هيمنت على الأقاليم الجنونية لأسرعت بفتح الشلت للتجارة الأجنبية من جديد، فإذا انتعشت بذلك تحدت السيادة التجارية لأمستردام، وأصبح اقتصاد الأقاليم الشمالية كله في خطر. ثم كم من الزمن سيقف لويس الرابع عشر عند الحدود الهولندية لا يتجاوزها؟ لو أن رأيه استقر على أن يلتهم الأقاليم المتحدة، ويستولي على مصاب الراين، لما بقي للبلد في الواقع وجود، ولقضي على البروتستنتية الهولندية قضاءً مبرماً.

وعرض دي ويت على الملك المتعدي سلسلة من الحلول الوسط، ولكنه رفضها. فاتفق مع إنجلترا (23 يناير 1668)، ثم مع السويد، على حلف ثلاثي للدفاع المشترك ضد التوسع الفرنسي. ووافق لويس في لباقة على إنهاء "حرب الأيلولة"(الوراثة الأسبانية) شريطة أن يستبقي نطاقاً من المدن

ص: 268

والحصون التي استولى عليها في فلاندر وإينو. وارتضت هذه الشروط إنجلترا والسويد، ثم الأقاليم المتحدة، في معاهدة إكس-لا-شلبل (2 مايو 1668). وبدا أن دبلوماسية دي ويت جنبت البلاد الخطر، وفي يوليو انتخب للمرة الرابعة ليشغل منصب الحاكم الأعلى للجمهورية فترة خمس سنوات أخرى.

ولكنه أخطأ استقراء سياسات ملكي فرنسا وإنجلترا. ذلك أن لويس لم يغتفر للهولنديين قط في غزوه الأراضي المنخفضة الأسبانية. فأقسم أنه "إن ضايقته هولندا كما ضايقت الأسبان فسيرسل رجاله بالمجارف والمعاول ليقذفوا بها في البحر (45) "، ربما بفتح الجسور البحرية عليها. كانت تغيظه الجمهورية، وكان يطمع في الراين، فعقد النية على تدمير تلك، والسيطرة على هذا. وزادت الصراع شدة حرب التعريفات الجمركية التي نشبت بين الخصمين؛ فقد فرض مولبير رسوماً مانعة على البضائع الهولندية التي تدخل فرنسا، ورد الهولنديون عليها بمثلها. ولكن الذخيرة الحربية استثنيت استثناءً بارعاً من هذه القيود؛ ذلك أن لوفوا، وزير الحربية الفرنسي، أقنع رجال الصناعة الهولنديين بأن يبيعوه مقادير هائلة من العتاد الحربي (46)، وفي الوقت نفسه امتنع رجال الأعمال الهولنديون عن الموافقة على الضرائب التي أراد دي ويت فرضها لتزويد الجيش بالإمداد والمؤن. وأثبت السلك الدبلوماسي الفرنسي حذقه، أو ثراءه، بعزلة إنجلترا والسويد عن تحالفهما مع الأقاليم المتحدة. فوافق تشارلز الثاني في معاهدة دوفر السرية (1 يونيو 1670) على التخلي عن الحلف الثلاثي والانضمام إلى لويس في حربه مع الهولنديين. أما السويد فقد انسحبت من الحلف في 1672 لحاجتها للمعونة الفرنسية ضد الدنمرك وألمانيا، ووعدت أسبانيا، والإمبراطورية، وبراندنبورج، الجمهورية بالمساعدة، ولكن ما كان تحت تصرفها من قوات كان أضأل أو أبعد من أن يكون له كبير وزن أمام

ص: 269

القوات المجندة الضخمة التي أطلقت الآن على الأقاليم المتحدة براً وبحراً. وعاد دي ويت يعرض التنازلات والحلول الوسط، فرفضها لويس.

وفي 23 مارس 1672 بدأت إنجلترا الهجوم على الجمهورية الهولندية، وفي 6 إبريل أعلنت فرنسا عليها الحرب. وسرعان ما زحف نحو 130. 000 مقاتل على الدولة الصغيرة يقودهم تورين، وكونديه، ولكسمبور، وفوبان، ولويس نفسه. يقول فولتير "لم يشهد الناس من قبل جيشاً فخماً كهذا الجيش (74) "، واخترقت القوة الفرنسية الرئيسية، باستراتيجية بارعة وغير متوقعه، الأراضي الألمانية-مهدئة ثائرة القرى بـ"الهدايا"-لتهاجم النقط الأضعف تحصيناً. وفي 12 يونيو، وتحت نيران الهولنديين وبصر الملك، عبر الفرنسيون الراين، وهم يسبحون عرض الأقدام الستين التي لم يسمح لهم عمقها أن يخوضوها؛ وأصبح هذا حدثاً محبباً تتناوله الصور والأيقونات الملكية. وزحفت الجيوش الملكية شمالاً إلى قلب الأقاليم المتحدة، فاستولت بسهولة على المدينة تلو المدينة. واستسلمت أوترخت دون مقاومة. وأذعن إقليما أوفريسيل وجلدر لاند، ولم يبق بعد قليل غير أمستردام ولاهاي. ولم تجد كثيراً تلك الهزيمة التي أوقعها درويتر في 6 يونيو بالأسطولين الإنجليزي والفرنسي مجتمعين في خليج ساوثوولد. وطلب دي ويت الصلح، فطالب لويس بتعويض ضخم، وبسيطرة الفرنسيين على جميع الطرق الهولندية البرية والبحرية، وبرد الكاثوليك إلى جميع أرجاء الجمهورية. ورفض الهولنديون هذه الشروط لأنها لا تفضل العبودية، فلجئوا إلى دفاعهم الأخير: وفتحوا الجسور، وأدخلوا البحر عدوهم القديم صديقاً منقذاً، وما لبثت المياه أن تدفقت على اليابس، وتقهقر الفرنسيون عاجزين أما هذا الفيضان الذي أخذهم على غرة.

ومع هذا فقد حربت البلاد، فكانت جيوش أسقف مونستر وناخب كولونيا، المتحالفين مع لويس، تزحف دون عائق على إقليم أوفريسيل،

ص: 270

والسفن الفرنسية والإنجليزية تغير على التجارة الهولندية رغم أنف درويتر، وأشرفت الحياة الاقتصادية للدولة المحاصرة على الانهيار. أما دي ويت فقد كافح خلال هذه الشهور القاسية كما لم يكافح أي رجل قبله في تاريخ هولندا-فجمع الأموال، وجهز الأسطول وزوده، ووقف إلى جوار درويتر في معركة خليج ساوثوولد، وحاول بالبعثة تلو البعثة أن يفاوض على صلح ينقذ وطنه. وفي يونيو 1672 عرض لويس أن ينزل له عن ماسترشت وأجزاء من برابانت الهولندية، وأن يدفع كل نفقات الحرب. ولكن لويس أزدرى هذا العرض أيضاً، ولما سمع مواطنوه بأمر العرض نددوا به رجلاً يبيت استسلام الخيانة للويس (48). وألقى عليه الشعب الآن كل تبعة ما أصابهم من نكبات. واتهموه بالنقه الساذجة المستهترة في وعود تشارلز الثاني ولويس الرابع عشر، ورموه بتعيين أقاربه في أكثر من عشر وظائف مجزية، وفوق هذا كله لم يستطيعوا أن يغتفروا له حرمان بيت أورنج من امتيازاته الحربية والسياسية التي حفظت على الأقاليم الهولندية حريتها طوال قرن من الزمان. ثم لاموه على عجز قواده البورجوازيين وجبنهم. ورماء القساوسة الكلفنيون بأنه ملحد مقنع، وتابع لديكارت وصديق لسبينوزا (49). وحتى طبقات التجار التي كانت من قبل سنده الأكبر انقلبت عليه الآن واتهمته بأنه منظم الهزيمة.

وشاركه أخوه كورنيليس في تلقي بعض الجماهير وشتائمها، وهو الذي قاسمه من قبل مكافآت المنصب وأعباء الحرب ومخاطرها. وفي 21 يونيو 1672 بدلت محاولة فاشلة لاغتيال جان، وبعد يومين تلتها محاولة أخرى لقتل كورنيليس. وفي 24 يوليو قبض موظفو لاهاي على كورنيليس بتهمة التآمر على أمير أورنج. وفي 4 أغسطس استقال جان من منصبه حاكماً أعلى. وفي 19 أوغسطس عذب كورنيليس وحكم عليه بالنفي. وشق جان طريقه خلال المدينة المادية إلى سجن الجيفانجينبورن ليرى أخاه رغم أنه حذر بأنه يعرض حياته للخطر. وما لبث جمع من

ص: 271

الغوغاء أن احتشد خارج السجن يحرضه رئيس شرطة وصائغ وحلاق. وكان هناك حارس مدني كلف برد الغوغاء ولكنه شاركهم حقدهم على الأخوين دي ويت، فلم يبد أي مقاومة حين حطموا أبواب السجن واندفعوا إلى داخله. وقبضوا على جان وكورنيليس، وجروهما إلى الميدان، وضربوهما حتى الموت، وعلقوا جثتميهما على عمود نور ورأساهما منكسان (20 أغسطس 1672). وماتت الجمهورية الهولندية بموتها، وعاد بيت أورنج إلى السلطة من جديد.

‌5 - وليم أورنج الثالث

نشأت ماري ستيوارت ولدها على لون مكتئب من ضبط النفس يترقب في صمت فرصته حتى يأتي التجلد بالنصر، وذلك بعد أن حطم روحها إعدام أبيها تشارلز الأول (1649)، وموت زوجها الشاب وليم أورنج الثاني (1650)، وإلغاء منصب رئاسة الدولة، وإقصاء بيت أورنج عن الوظائف. هذا الصبي الهزيل الجسد، الذي أحدق به في نموه الأعداء المكلفون بحراسته، والذي ورث رغم ذلك عن وليم أورنج الأول شعاره "سأقاوم"-نقول إنه شب فتى عليلاً يخفي وراء وجهه الجامد ناراً مستعرة من العزيمة والثأر. وإذ كان صارماً، مؤدباً، مجاملاً في برود، فقد زهد في اللهو والمرح، ومارس الرياضات الخلوية علاجاً لصداعه المتكرر ولتعرضه لنوبات الإغماء. لقد كان إناء ضعيفاً لتلك الروح التي ستستولي على عرش إنجلترا وتؤدب ملك فرنسا.

وذهبت أمه إلى إنجلترا في 1660 لبتهاجاً يتتويج أخيها، وماتت هناك بالجدري في ليلة عيد الميلاد. وفي 1666 أعلنت حكومة إقليم هولندا الأمير ذا الستة عشر عاماً قاصراً تحت وصاية الدولة، واستبدل جان دي ويت بأوصيائه ومعلميه المحبوبين أشخاصاً أكثر استجابة لسياسة المجلس

ص: 272

الإقليمي (50). وكان كره وليم لدي ويت يزداد على الأيام. وفي قمة سلطان جان، أفلت الأمير من رقابة أوصيائه الجدد وركب جواده من لاهاي إلى بيرجن أوب-زوم (1668)، ثم استقل زورقاً إلى زيلنده، وكانت أكثر الأقاليم ولاء لأجداده. وحياه سكان عاصمته مدلبورج بمظاهرات كبيرة تفيض حباً وإخلاصاً. فتولى دون تردد أو مقاومة رئاسة المجلس الإقليمي لزيلندة. فلما عاد إلى لاهاي أعلن أنه بلغ الآن رشده في عيد ميلاده الثامن عشر (4 نوفمبر 1668)، وأنه من الآن سيستغني عن الأوصياء الذين عينهم له مجلس هولندا، ولكن المجلس رفض سحبهم، فطردهم، ولكنهم بقوا. وترقب وليم فرصته.

وقد واتته حين اكتسحت الجيوش الفرنسية والألمانية الأقاليم الهولندية، واستسلمت الجيوش الهولندية بلداً بعد بلد، وبدا أن لاهاي ذاتها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وعين المجلس التشريعي وليم قائداً عاماً للاتحاد (25 فبراير 1672)، مذعناً لمطالب العسكريين، مؤملاً أن تعود إلى الأمة وحدتها ومعنوياتها برد بيت أورنج إلى مكان القيادة. وفي 2 يوليو انتخب مجلس زيلندة وليم حاكماً لأقاليمهم، ضارباً بالمرسوم الدائم عرض الحائط، وفي 4 يوليو حذا مجلس هولندا حذوه، وفي 8 يوليو عين قائداً أعلى لقوات الاتحاد المسلحة في البر والبحر. وقد ظهر معدنه حين عرض ملك فرنسا الصلح نظير تعويض بلغ ستة عشر مليون فلورين، والنزول عن مساحات كبيرة لفرنسا، ومنستر، وكولونيا، وقدم عرض سري بالاعتراف بوليم ملكاً على الباقي. واتجه إليه مجلس هولندا يطلب النصيحة فأجاب، "خير لنا أن نقطع إرباً من أن نقبل هذه الشروط (51) ". وحين حضر دوق بكنجهام الثاني من إنجلترا ليحث وليم على الصلح وقال له "ألا ترى أن وطنك قد ضاع؟ " أجاب "إن وطني في خطر عظيم، ولكن هناك سبيل مؤكد لمنعه من الضياع، وهو الموت في آخر خندق (52) ". ومع ذلك ففي حكمة تستغرب من فتى في الثانية والعشرين، أشار بالمفاوضات الصابرة المجاملة مع الإنجليز، ولعله رأى آنئذ أن في التعاون

ص: 273

بيت الإنجليز والهولنديين الأمل الوحيد لكبح اعتداءات فرنسا. واتخذ من التدابير ما يكفل الروابط بين الأقاليم المتحدة، والإمبراطورية، وبراند نبورج. وكانت الخطوط العريضة للحلف الأعظم تتشكل في ذهنه.

ومضى إلى المقر الرئيسي للجيش، لذلك كان غائباً عن لاهاي حين قتل الأخوان دي ويت. والظاهر أنه لم يكن ضالعاً في تدبير هذه الفعلة، التي ربما لم يدبرها أحد، ولكنه لم يخف ارتياحه حين سمع بنبئها؛ وحمى الرجال الذين قادوا الغوغاء ورتب له معاشاً (53). ثم حاول الآن أن يكون قائداً كفؤاً، فلم يوفق قط في محاولته، غير أن المقاتلين المحنكين الذي انضووا تحت لوائه في حماسة أعادوا تنظيم الجيش والبحرية، وبدأت الانتصارات ترجح الهزائم، وتفوق درويتر وكورنيليس ترومب (بن مارتن) على الأسطولين الإنجليزي والفرنسي في شونفيلت وكيكدون (1673)، وصد الغزاة الألمان عند جروننجن، واستولى وليم على فاردن، وطهرت أقاليم جلدرلاند وأوترخت، واوفريسل، من العدو. وراح الفرنسيون يتقهقرون في كل مكان تقريباً، وأنقذت الأقاليم المتحدة، مؤقتاً على الأقل، فهللت لوليم منقذاً لها.

ثم أضاف إلى هذه الانتصارات انتصارات دبلوماسية. ففي 19 فبراير 1674 أقنع إنجلترا بأن تبرم معه صلحاً منفرداً إذ وافق على أن يدفع لها تعويضات حربية قدرها مليونا فلورين؛ وفي 22 إبريل و11 مايو وقع معاهدتين مع مونستر وكولين، ثم أكد التحالف القائم بين الأقاليم المتحدة، وأسبانيا، وبران نبورج، الدنمرك، والإمبراطورية، ضد فرنسا التي أصبحت الآن معزولة. وكانت الضربة الأخيرة ظفره بيد ماري، كبرى بنات جيمس دوق يورك وشقيق ملك إنجلترا. وتقاربت الآن الدولتان البروتستانتيتان الكبريان، وراحت الشبكة تحكم خيوطها حول فرنسا، ولم يكن أمراً هيناً أن يكون لماري حق في وراثة العرش الإنجليزي لا يتقدم عليه غير حق أبيها فيه. وندر في التاريخ أن دبر حاكم صغير السن كوليم مثل هذه الخطط البعيدة النظر، ولا حقق لها نجاحاً كهذا النجاح.

ص: 274

على أن الفرنسيين جددوا هجومهم خلال ذلك، فاستولوا على إيبر وغنت، وزحفوا نحو الحدود الهولندية. وهزم أسطول فرنسي درويتر تجاه شاطئ صقلية (22 إبريل 1676)، وبعد أسبوع مات درويتر متأثراً بجراحه. وعرض لويس الصلح على الأقاليم المتحدة بشروط مغرية: أن يرد كل الأراضي الهولندية التي استولى عليها الفرنسيون، شريطة أن توافق الأقاليم المتحدة على احتفاظه بفرانش-كونتيه واللورين. واحتج الإمبراطور، وبراندنبورج، والدنمرك على هذا الصلح، وأيدهم وليم، ولكن المجلس التشريعي الذي غلبت عليه المصالح التجارية تغلب على رأيه، وتخلى عن حلفائه، ووقع مع فرنسا صلح نيميجن المنفصل (10 أغسطس 1667).

أما وليم فقد نظر إلى الصلح على أنه مجرد هدنة، وكافح طوال السنوات العشر التالية ليعيد بناء الحلف وكبح التجار الهولنديون طبعه العسكري، محتجين بأن الأقاليم المنهكة في حاجة لأن تستريح من النضال، وأن الرخاء في طريقه إليها. على أن حدثين وقعا عام 1685 فاستغلهما وليم ذلك أن لويس ألغى مرسوم نانت، فاحتشد الهيجونوت المضطهدون في الأقاليم المتحدة، وتزعموا دعوة نشيطة لتوحيد الدول البروتستانتية ضد فرنسا. وفي إنجلترا كشف جيمس الثاني، بعد أن تولى عرشها، عن أمله غي رد الأمة إلى الكثلكة، فدبر البروتستانت الإنجليز عزلهم، وبذلك يحل حق ماري زوجة وليم في العرش. وكان وليم قد عشق اليزابيث فيلييه، صديقة ماري (54) الحميمة، ولكن ماري غفرت له، ووافقت على طاعة زوجها بوصفه ملكاً أن هي أصبحت ملكة على إنجلترا وفي 1686 أفلح وليم في تنظيم حلف مع الإمبراطورية، وبراندنبورج، وأسبانيا، والسويد، للدفاع المشترك. وفي 30 يونيو 1688 دعا الزعماء البروتستانت الإنجليز وليم وماري إلى دخول إنجلترا بقوات مسلحة ومساعدتهم على خلع ملكهم الكاثوليكي. وتردد وليم، لأن لويس الرابع عشر كان تحت يده جيش عرمرم ينتظر قرار الملك ليهاجم الأراضي المنخفضة أو الإمبراطورية. وأرسل لويس الأمر للجيش بأن يزحف على ألمانيا، فأطلق بذلك يد وليم. وفي 1 نوفمبر 1688 أبحر بأربعة عشر ألف رجل ليكسب عرش إنجلترا.

ص: 275