المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الثاني   ‌ ‌إنجلترا 1649 - 1714 الفصل السابع   ‌ ‌كرومول ‌ ‌1649 - 1660   1 - الثورة الاشتراكية بعد - قصة الحضارة - جـ ٣٢

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الثاني

‌إنجلترا

1649 -

1714

الفصل السابع

‌كرومول

‌1649 - 1660

1 -

الثورة الاشتراكية

بعد أن أطاح البيوريتانيون (المتطهرون) برأس الملك شارك الأول، في 30 يناير 1649، واجهوا مشاكل إقامة حكومة جديدة واستعادة أمن الناس على حياتهم وممتلكاتهم، في إنجلترا التي أشاعت فيها الفوضى والاضطرابات الحرب الأهلية التي دامت سبع منين. ونادى " البرلمان المبتور " Rump. P- وهم الأعضاء الستة والخمسون النشطون الذين بقوا من البرلمان الطويل بعد " حركة تطهير برايد "(1648) - بأن لمجلس العموم السيادة والمقام الأول، وان فيه الكفاية، وألغى مجلس اللوردات (6 فبراير 1649)، كما ألغى الملكية، وعين بمثابة جهاز تنفيذ له " مجلسا للدولة " يتألف من ثلاثة لواءات وثلاثة نبلاء وثلاثة قضاة وثلاثين من أعضاء مجلس العموم، كلهم مستقلون- أي بيوريتانيون جمهوريون. وفي 19 مايو أقام مجلس العموم، بصفة رسمية، الجمهورية الإنجليزية:" ولسوف يتولى الحكم في إنجلترا منذ الآن، بوصفها جمهورية أو دولة حرة، السلطة العليا للأمة، وهم ممثلو الشعب في البرلمان، ومن يعينونهم إلى جانبهم من وزراء، لخير الشعب (1) ". ولم تكن الجمهورية ديموقراطية. لقد طالب البرلمان بإقامة أساس ديموقراطي، ولكن طرد الأعضاء الملكين أثناء الحرب، والمشيخيين (البرسبتريان) في حركة التطهير، كان كما قال كرومول، " قد شتت البرلمان وغربله واختزله إلى مجرد حفنة من الرجال (2).

ص: 5

أن الملاك وحدهم هم الذين كانوا ينتخبون البرلمان في الأصل، أما الآن فان مقاطعات برمتها باتت وليس لها ممثلون في " البرلمان المبتور " ولم تستند سلطة هذا البرلمان المبتور إلى الشعب بل إلى الجيش. فان الجيش وحده هو الذي استطاع أن يحميه من الثوار الملكيين في إنجلترا، والثوار الكاثوليك في إيرلندة، والثوار المشيخين في إسكتلندة، والثوار المتطرفين في الجيش نفسه.

ولمواجهة نفقات الحكومة ومتأخرات رواتب الجند اشتط هذا البرلمان في فرض الضرائب قدر ما فعل الملك الراحل. واقترح مصادرة أملاك كل من حمل السلاح دفاعا عن شارل، ولكنه في معظم الحالات ارتضى تسوية الأمر بحل وسط، هو تقاضى غرامة تعادل جزءا يتراوح بين العشر والنصف من القيمة الأساسية للضيعة. من اجل هذا عمد كثير من صغار النبلاء الذين عانوا الفقر والعوز في إنجلترا إلى الهجرة إلى أمريكا حيث كونوا أسرات أرستقراطية، مثل آل: وشنطن، وآل راندولف، وآل ماديسون وآل لي

(1)

. واعدم بعض زعماء الملكين، وأودع بعضهم السجن. ومع ذلك بقيت حركة الملكيين تقض مضاجع الحكومة، لان روح التعاطف مع الملكية سيطرت على الشعب، فان إعدام الملك حوله من جابي ضرائب إلي شهيد. وبعد عشرة أيام من موت شارل ظهر كتاب عنوانه " صورة ملكية " لمؤلفه القسيس المشيخي جون جودن، ولكنه يوهم بأنه أفكار ومشاعر شارل كما دونها هو بيده قبل موته بزمن وجيز. وربما صيغ بعض هذا الكتاب من مذكرات تركها الملك (3). ومهما يكن من أمره، فان الصورة التي عرضها الكتاب هي صورة حاكم طيب القلب كان في واقع الأمر يدافع عن إنجلترا ضد طغيان أقلية حاكمة (أوليجاركية) غليظة القلب

(1)

جددت الحرب الأهلية الأمريكية الحرب الأهلية الإنجليزية حيث حرضت أبناء الأرستقراطيين الإنجليز في الجنوب على أبناء البيوريتانيين الإنحليز في الشمال.

ص: 6

لا ترحم. وطبع الكتاب ستا وثلاثين مرة وترجم إلى خمس لغات في سنة واحدة، ولم تفلح الضجة التي أثارها كتاب ملتون " تحطيم الصور المقدسة "(1649) في محو اثر كتاب جون جودن هذا، واسهم الكتاب في إثارة الرأي العام ضد الحكومة الجديدة. وشجع وكلاء الملكيين الذين شرعوا لفورهم في كل مقاطعة في إنجلترا يهيجون الشعور العام لإعادة أسرة ستيوارت. وقابل مجلس الدولة هذه الحركة ببث العيون والأرصاد على أوسع نطاق، والإسراع في القبض على الزعماء الذين يحتمل انهم كانوا يقومون بتنظيم ثورة.

وفي الناحية الأخرى كانت هناك أقلية من الأهالي وقس كبير من الجيش، يطالبون بديموقراطية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى. كما طالب بعضهم بديموقراطية اشتراكية. وأمطرت السماء نشرات متطرفة. واصدر الكولونيل جون للبيرن وحده مائة منها. ولم يكن ملتون في تلك الحقبة شاعرا بل مؤلف نشرات وكتيبات. وهاجم للبيرن كرومول على انه طاغية مرتد منافق. وشكا أحد الكتاب من" انك قلما تحدثت إلى كرومول في أي موضوع ألا وضع يده على صدره ورفع عينيه وقال اللهم فاشهد. انه سوف يبكي ويصرخ ويبدي الندم، حتى وهو يسدد إليك ضربة تصيب من مقتلا (4). " وفي إحدى النشرات تساءل كاتب أخر: " كان يحكمنا من قبل الملك واللوردات والنواب، أما الآن فيتولى الحكم فينا قائد الجيش والمحكمة العسكرية والنواب، فقل لنا بربك، ما هو الفرق؟ "(5) وأحست الحكومة الجديدة بأنها مضطرة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمنابر. وفي أبريل 1649 قبض على للبيرن وثلاثة آخرين لإصدارهم نشرتين تصفان إنجلترا وهي " مكبلة في أغلال جديدة ". وهاج الجيش مطالبا بالإفراج عنهم. وتوعد نساؤهم كرومول بالويل والثبور إذا مس المعتقلون بأذى. وأرسل للبيرن من سجنه إلى طابع نشراته، متحديا، أنها ما بالخيانة العظمى " موجها ضد كرومول وابرتون ". وفي أكتوبر قدم الكتاب الأربعة إلى المحاكمة في قضية أثارت اهتمام الرأي

ص: 7

العام وشدت الآلاف من الناس إلى المحكمة. وتحدى للبيرن القضاة، وطالب بعرض القضية على هيئة المحلفين. فلما صدر الحكم ببراءة الكتاب الأربعة جميعهم انطلقت من الجمع الحاشد صيحة مدوية جماعية، يعتقد انه لم يسمع مثلها قط في دار البلدية، استمرت نحو نصف ساعة بلا انقطاع، حتى على الشحوب وجوه القضاة من شدة الفزع (6) وظل للبيرن لمدة عامين بطل الجيش. ونفى في 1652 ثم عاد في 1653 فقبض عليه ثانية، ثم برئ (أغسطس 1653)، ولكنه ظل مع ذلك سجينا. وفي 1655 افرج عنه وقضى نحبه 1657، وهو في الثالثة والأربعين من العمر.

وذهب بعض "أنصار المساواة"(حزب نشأ في البرلمان الطويل 1647 يدعو إلى إزالة الفوارق بين الناس) إلى ابعد مما ذهب إليه للبيرن والديمقراطية، فدعوا إلى توزيع السلع توزيعا اقرب إلى المساواة. انهم تساءلوا: لم يكون هناك أغنياء وفقراء؟ لماذا يتضور بعض الناس جوعا على حين يحتكر الأغنياء الأرض؟. وفي أبريل 1649 ظهر " نبي " يدعى وليم افرارد Everard، وقاد أربعة من الرجال إلى تل سان جورج في سرى، ووضعوا أيديهم على بعض الأرض غير المشغولة، وفلحوها، ونثروا فيها البذور، ودعوا الناس إليها. فانضم إليهم ثلاثون آخرون من جماعة "الحفارين"(وهو اسم أطلق عليهم). وانهم- كما جاء في تقرير إلى مجلس الدولة، ليهددون الجيران بأنهم سيحملون الجماعة كلها على القدوم وشيكا إلى التلال للعمل فيها (7). "ولما سبق افرارد للمثول أمام نقيب الجيش سير توماس هيرفاكس، أوضح له أن اتباعه قد اعتزموا احترام الأملاك الخاصة، "وأنهم لن يقربوا ألا الأراضي العامة غير المفلوحة ليعملوا فيها حتى تؤتى ثمارها، "وأنهم يأملون" في أن يحين فجأة الوقت الذي يأتي فيه كل الناس طائعين مختارين وينزلون عن أراضيهم وضياعهم ويذعنون لجماعة الأخيار هذه (8) ". فما كان من هير فاكس ألا أن أخلى سبيل الرجال على انهم أفراد متعصبون لا يخشى منهم أي أذى. وتابع أحدهم- وهو

ص: 8

جيرارد ونستانلى- الحركة ببيان أصدره في 26 أبريل 1649، تحت عنوان "لواء نصير المساواة الصادق يتقدم إلى الأمام":"في البدء جعل العقل (الخالق العظيم) الأرض ملكاً عاماً مشتركاً للحيوان والإنسان "، ولكن الإنسان فيما بعد عميت بصيرته فأصبح عبدا اكثر خضوعا لبنى جنسه من خضوع حيوانات الحقل لشخصه هو، وجرى التصرف في الأرض بالبيع والشراء، وأحاطها الحكام بالحواجز والأسياج، وبقيت في حوزة فئة قليلة من الناس. وكل ملاك الأرض لصوص ولن تنقطع الجريمة والكراهية والبغضاء ما لم تسترد الملكية العامة المشتركة (9). وفي " قانون الحرية "(1652) توسل ونستانلى إلى الجمهورية أن تقيم مجتمعا لا يوجد فيه بيع ولا شراء، ولا محامون، ولا أغنياء ولا فقراء، يجبر فيه الجميع على العمل حتى سن الأربعين، وبعد ذلك يعفون من الكدح. ويباح حق الانتخاب لكل البالغين من الذكور، ويكون الزواج أجراء مدنيا، والطلاق حراً مباحاً (10). وتخلى " الحفارون " عن مشروعهم، ولكن دعايتهم نفذت إلى عقول الفقراء الإنجليز، وربما عبرت القنال إلى فرنسا، وعبرت المحيط إلى أمريكا.

أن كرومول نفسه، وهو من ملاك الأرض، وهو الشديد الخبرة بطبيعة الانسان، لم يثق في هذه المثل العليا في الملكية العامة، بل لم يثق حتى في حق الاقتراع للبالغين. وفي فترة الفوضى التي لا معدي عنها، عقب قلب أية حكومة، تدعو الحاجة إلى شيء من سلطة مركزة في بعض الأيدي، وقد تمثلت في كرومول، وأن كثير ممن أوغر صدورهم منه إعدام الملك، رحبوا لبعض الوقت بدكتاتورية بدت البديل الوحيد للانحلال الاقتصادي والسياسي بل أن الجيش نفسه، حين ترامت إليه أنباء الثورة المضادة التي تدبر في إيرلندة واسكتلندة، غمره الفرح إذ أيقن أن يد كرومول الحديدية على أتم استعداد لقيادته ضد العصاة والثوار الذين

ص: 9

لم يسعوا وراء " يوتوبيا " أو دنيا مثالية ديمقراطية، بل وراء عودة ملكية تثأر وتنتقم.

‌2 - ثورة إيرلندة

في إيرلندة وحد رد الفعل ضد الثورة الكبرى، بشكل عابر، بين البروتستانت في إقليم ( The Pale) في شرق إيرلندة حول دبلن والكاثوليك فيه وفيما وراءه. فقد حدث حتى قبل إعدام شارل الأول، أن وقع إرل اورموند جيمس بتلر، بوصفه نائب الحاكم في إيرلندة، معاهدة مع اتحاد الكاثوليك في كلكنى Kilkenny (17 يناير 1649) وافقوا بمقتضاها، وفي مقابل الحركة الدينية وبرلمان إيرلندي مستقل، على تزويده بخمسة عشر ألفاً من المشاة وخمسمائة من الجياد. وبعث أورموند برسالة إلى أمير ويلز، الذي اعترف أورموند لفوره بأنه شارل الثاني، بدعوة فيها للقدوم إلى إيرلندة ليقود جيشاً مشتركاً من البروتستانت والكاثوليك. وآثر شارل الذهاب إلى إسكتلندة، ولكن كرومول اعتزم أن يواجه تهديدات إيرلندة أولا.

وحين حط كرومول رحاله في إيرلندة في اغسطس، كانت القوات الموالية للجمهورية قد هزمت بالفعل أورموند في رانميز، وتراجع هو مع ما تبقى من قواته (2300 جندي) إلى مدينة دروجيدا المحصنة، الواقعة على نهر بوين. فحاصرها كرومول بعشرة آلاف جندي واقتحمها واستولى عليها عنوة (10 سبتمبر 1649) وأمر بقتل من بقى حاميتها على قيد الحياة (11). ولم يفلت من المذبحة بعض المدنيين، وقتل كل قسيس في المدينة (12)، حتى بلغ عدد ضحايا المذبحة المنتصرة نحو 2300. واشترك كرومول في شرف النصر مع الله:"أرجو أن تنسب القلوب الطاهرة هذا المجد إلى الله الذي يرجع أليه الفضل في هذه الرحمة حقاً (13) "وتمنى"

ص: 10

أن تساعد هذه المحنة كثيرا على حقن الدماء بفضل كرم الله (14) ". وأنا لنشاركه رجاءه المخلص في أن تضع مثل هذه الضربة الواحدة من الإرهاب حدا للثورة، وتنقذ حياة الكثيرين من الجانبين.

ولكن الحرب استمرت ثلاثة أعوام آخر، فان كرومول تقدم من دروجيدا لحصار وكسفورد، واستولى عليها، ولقي 1500 من المدافعين عنها ومن سكانها مصرعهم. وقال كرومول " ان الله، بشيء من عناية إلهية غير متوقعة، في عدله القويم، قد انزل بهم حكما عادلا .... حيث كفروا بدمائهم عن أعمال القسوة الوحشية التي اقترفوها ضد حياة الكثيرين من البروتستانت المساكين (15) ". ولكن سياسة المذابح أخفقت فان مدينتي دنكانون وووترفورد تحدتا حصار كرمول. واستسلمت كلكنى لمجرد أنها تلقت شروطا كانت مرفوضة في أي مكان آخر، وتم الاستيلاء على كلونمل ولكن بعد فقد آلفي رجل. وما أن ترامى إلى كرومول نبأ وصول شار الثاني إلى إسكتلندة حتى ترك مواصلة الحرب في إيرلندة لصهره هنري ايرتون، وابحر هو إلى إنجلترا (24 مايو 1650).

وكان ايرتون قائداً قديراً، ولكنه مات بالطاعون في 26 نوفمبر 1651. ونبذت سياسة المذابح، وصدر العفو عن الثوار، وبمقتضى معاهدة كلنكنى (12 مايو 1652) استسلموا جميعاً تقريبا، شريطة السماح لهم بالهجرة دون عائق. وفي 12 أغسطس صدر " قانون التسوية في إيرلندة"، الذي ينص على مصادرة كل ممتلكات الايرلنديين أو بعضها - أيا كان مذهبهم - ممن يعجزون عن أثباب أنهم كانوا موالين للجمهورية، وبهذه الطريقة انتقلت ملكية نحو مليونين وخمسمائة ألف فدان (أيكر) من أراضى أيرلندة إلى جنود أو مدنيين إنجليز أو ايرلنديين كانوا يناصرون كرومول في إيرلندة. وبهذا انتقل ثلثا ارض إيرلندة إلى أيدي الإنجليز (16). وانضمت مقاطعات كلدار ودبلن وكارلو وكلو ووكفورد

ص: 11

لتشكل" pale" أو إقليماً إنجليزياً جديداً في إيرلندة، وبذلت محاولات لإقصاء كل ملاك الأرض الايرلنديين أياً كانوا، ثم المواطنين الإيرلنديين عن هذه المقاطعات. وجردت آلاف الأسر الايرلندية من أملاكها، وأعطوا مهلة نهايتها أول مارس 1655 ليجدوا لأنفسهم وطنا آخر. وشحن المئات منهم على ظهور السفن إلى بربادوس، (جزر الهند الغربية) أو أماكن أخرى بتهمة التشرد.

وقد يسير وليم ربتى انه من بين سكان إيرلندة البالغ عددهم 000ر466ر1 في1641، كان فد هلك حتى 1652 نحو000ر616 بسبب الحرب أو الموت جوعا أو الطاعون، وقال أحد الضباط الإنجليز: في بعض المقاطعات "قد يسير المرء عشرين أو ثلاثين ميل دون أن يجد مخلوقا على قيد الحياة، إنسانا أو حيواناً أو طائراً" وقال آخر: " أن الشمس لم تشرق قط على أمة أشد تعاسة من هذه (17) ". وحرم المذهب الكاثوليكي بحكم القانون وصدرت الأوامر إلى رجال الدين الكاثوليك بمغادرة إيرلندة في بحر عشرين يوما، وكان الموت عقوبة من يخفى أياً منهم، وفرضت عقوبات صارمة على التخلف عن حضور الطقوس البروتستانتية يوم الأحد. ومنح القضاة والحكام سلطة جمع أطفال الكاثوليك وإرسالهم إلى إنجلترا لتلقي أصول المذهب البروتستانتي (18). أن كل الوحشية التي لقيها البروتستانت على يد الكاثوليك في فرنسا بين 1680 - 1890، صبها البروتستانت على رؤوس الكاثوليك في إيرلندة بين 1650 - 1660. وأصبحت الكثلكة جزءا لا يتجزأ من الروح الوطنية الايرلندية، لان الكنيسة والشعب قذف بهما في بحران من المعاناة والشقاء. وعلقت هذه السنين المريرة بذا كرة إيرلندة وكأنها تراث من البغضاء لا يفنى.

ص: 12

‌3 - ثورة اسكتلندة

صعق الاسكتلنديون بإعدام شارل الأول الذي كانوا هم أنفسهم قد أسلموه إلى البرلمان الانجليزي، وعاد إلى ذاكرتهم فجأة أن والده كان اسكتلنديا. ورأوا في "تطهير برايد" الذي اخرج المشيخيين (البرسبتريانز: كنيسة بروتستانتية يدير شؤونها شيوخ منتخبون يتمتعون جميعا بمنزلة متساوية) من البرلمان الطويل، نقضا "للعصبة المقدسة والميثاق المقدس" الذي اقسم فيه ذلك البرلمان يمين الإخلاص لإسكتلندة والمذهب المشيخي، وأوجسوا خيفة من أن يحاول البيوريتانيون المنتصرون فرض مذهبهم البروتستانتي على إسكتلندة كما فرضوه على إنجلترا. وفي 5 فبراير 1649، أي بعد مضي اقل من أسبوع على إعدام شارل الأول، نادى البرلمان الاسكتلندي (مجلس الطبقات) بابنه شارل الثاني، الذي كان آنذاك في الأراضي الوطيئة، ليكون الملك الشرعي على بريطانيا العظمى وفرنسا وأيرلندة.

وقبل أن يجيز الاسكتلنديون لشارل الثاني الدخول إلى إسكتلندة طلبوا أليه أن يوقع الميثاق الوطني وعهد العصبة المقدسة والميثاق المقدس، ويقسم يمين الحفاظ على المذهب المشيخي او أقامته كل أرجاء ملكه وفي بيته. على إن شارل الذي كان يدين بالفعل بمزيج من الكاثوليكية والتشكك، لم يكن يروقه مذهب المشيخية، في الوقت الذي كان يتوق فيه أيما توق إلى العرش، فوقع على كره منه، كل هذه المطالب في "بريدا " في أول مايو 1650. وقاد مونتروز، أنبل الاسكتلنديين في ذاك العصر - قوة صغيرة من جزر أوركى إلى إسكتلندة، أملا في أن يجمع لشارل جيشا مستقلا عن الميثاقين المشيخيين، ولكنه هزم وأسر وأعدم شنقا (11 مايو 1650). وفي 23 يونية حط شارل رحاله في اسكتلندة، وهو يتلهف على أن يكون على رأس جيش يغزو به الجمهورية البيوريتانية التي أطاحت برأس

ص: 13

ابيه، وقبل أن يهب الاسكتلنديون لنجدته، استحثوه على إصدار بيان يرغب فيه " أن يركع في ذل وخشوع أمام الله تكفيرا عن معارضة أبيه للعصبة المقدسة والميثاق المقدس، ومن اجل خطيئة أمه بسبب عقيدتها الوثنية (أي اعتناقها الكثلكة) (19). "وللتكفير عن خطيئات شارل الأول والثاني فرض رجال الكنيسة الاسكتلندية على الجيش والشعب صوما جاداً رهيباً، وأكدوا للجيش انه لن يقهر (20)، لان الملك الشاب قد أرضى السماء. وتحت إلحاح القساوسة طهر الجيش من الضباط الذين وضعوا ولاءهم للملك فوق ولائهم للميثاق والكنيسة الاسكتلندية، وبهذه الطريقة طرد ثمانون من اقدر القواد.

واقترح كرومول على البرلمان الإنجليزي غزو إسكتلندة في الحال، دون انتظار هجوم من جانبها. واعتزل فيرفاكس آنذاك القيادة العليا لجيوش الجمهورية، وكان قد رفض الاشتراك في محاكمة شارل الاول، وعين كرومول خلفا له، فنظم قواته بعزيمته وعجلته المعهودتين، وعبر إلى إسكتلندة (22 يولية 1650)، على رأس 16 آلف رجل. وفي 3 اغطس أرسل إلى لجنة الجمعية العامة للكنيسة الاسكتلندية رسالة زاخرة بالشجاعة والثبات والقدرة على الاحتمال:"هل كل ما تقولون يلتئم التئاما لا شبهة فيه مع كلمة الله؟ أتوسل إليكم، بحق أحشاء المسيح، أن تفكروا في أنكم قد تكونون مخطئين (21) ". وفي دنبار (3 سبتمبر) أوقع بالجيوش الاسكتلندية الرئيسية هزيمة منكرة واسر عشرة آلاف رجل، وسرعان ما استولى على إدنبرة وليث. وانهارت مكانة الوعاظ الاسكتلنديين، وتبدد زعمهم بأنهم معصومون من الخطأ. واستدعى الضباط المطرودون على عجل، وتوج شارل الثاني رسميا في "سكون Scone". أما كرومول فقد انتابه المرض في ادنبره، وتوقف القتال بضعة شهور.

ثم تقدم الجيش الاسكتلندي بعد إعادة تنظيمه، وعلى رأسه شارل،

ص: 14

إلى إنجلترا، أملا في أن ينضم إلى لواء الشرعية والحق، كل الملكيين والمشيخيين المخلصين. فتعقبهم كرومول، حيث كان يحشد أثناء مروره بالمدن الإنجليزية كل قوات الطوارئ، والمواطنين الصالحين للجندية، وفي ووستر، في 3 سبتمبر 1651، دارت رحى المعركة التي أبقت على الجمهورية، وحكمت على شارل بأن يلوذ بالمنفى مرة أخرى. وفيها، بفضل الاستراتيجية الفائقة البسالة، استطاعت قوات كرومول الأقل عددا، أن تهزم ثلاثين ألفا من الاسكتلنديين. وكان شارل شجاعا ولكنه لم يكن قائدا. انه بذل أقصى الجهد في أن يستحث ويلم شعث جنوده الذين اختل نظامهم، ولكن يبدو انهم ذعروا وارتعدوا فزعا من سمعة كرومول محاربا لم يخسر قط معركة، فألقى كثير منهم السلاح ولاذ بالفرار. وتوسل شارل إلى ضباطه أن يطلقوا عليه الرصاص فأبوا. واقتاده نفر من اشد اتباعه إخلاصا إلى مكان آمن مؤقت في مقر أحد الملكيين. وهناك تجرد من شعر رأسه إلى حد كبير، وغير لون يديه ووجهه واستبدل بملابسه ثياب أحد العمال، وبدأ مسيرة طويلة، على ظهر جواد، وعلى قدميه، متسللا من مخبأ إلى مخبأ. ينام تحت سطوح المنازل أو في الحظائر والغابات. ونام مرة في إحدى أشجار " رويال اوك " في بوسكوبل، على حين كان جنود الجمهورية يفتشون عنه تحتها. وكثيرا ما عرفه الناس، ولكنهم لم يغدروا به أو يكشفوا أمره. وبعد أربعين يوما من الفرار، وجد هو ومرافقوه، في شورهام في سسكس، قارباً ارتضى ربانه، مخاطراً بحياته، أن ينقلهم إلى فرنسا (15 أكتوبر).

وعهد كرومول إلى القائد جورج مونك بالضرب على أيدي الثوار الاسكتلنديين بصفة نهائية، وتم هذا في فبراير 1652. وأخضعت إسكتلندة لإنجلترا، وحل برلمانها المستقل، ولكن أجيز لها إرسال ثلاثين نائبا عنها إلى برلمان لندن. وعوقبت الكنيسة الاسكتلندية بحظر

ص: 15

انعقاد جمعياتها العامة، وإقرار التسامح الديني مع كل الشيع البروتستانتية المسالمة. ومن الناحية الاقتصادية أفادت إسكتلندة من الحرية الجديدة في الاتجار مع إنجلترا. أما من الناحية السياحية فقد ظلت ترقب عودة أسرة ستيوارت وتدعو الله أن يحقق هذا الرجاء.

‌4 - أوليفر حاكما مطلقاً

عاد كرومول إلى إنجلترا منتصرا انتصارا يكلله التواضع. وأذ رأى الجموع التي احتشدت لتشهد مقدمه، فقد جال بخاطرة أن جمهورا اكبر من هذا كان يمكن أن يحتشد ليشهد مصرعه على حبل المشنقة (22). ومنحه البرلمان الألمبتور راتباً سنوياً قدره أربعة آلاف جنية، وخصص له قصرا كان يوما ملكيا في هامبتون كورت. واعتقد البرلمان انه سيقنع بالبقاء في منصب القيادة العامة. كما اقترح أجراء انتخابات جديدة، لزيادة عدد أعضائه إلى 400، على أن يحتفظ الأعضاء الحاليون بمقاعدهم دون الدخول في الانتخابات الجديدة، وكان عليهم أن يحددوا شروط حق الانتخاب وصحة الأصوات. وحمى البرلمان نفسه ضد حملات النقد بالحد من حرية الصحافة والخطابة بشكل صارم:"لن يسمح باسم حرية الخطابة أو حرية الوعظ، بأي شئ يعكر صفو الحكومة أو يسئ إلى كرامتها (23) ". وحرم رجال الكنيسة الأنجليكانية الرسمية من أرزاقهم وحكم بمصادرة ثلثي ممتلكات من يعتنقون المذهب الكاثوليكي، بصفة غرامة. وقدمت الجوائز لمن يقبضون على القساوسة الكاثوليك (24).

أن كرومول، على الرغم من بطئه في اتخاذ قرار، كان حازماً متأهباً لسرعة التصرف إذا اعتزم أمرا. وقد احتمل في صبر نافد المناقشات التي أفسدت السياسة في البرلمان وعوقت الإدارة. انه اتفق مع شارل الأول على أن تكون السلطة التنفيذية متميزة ومستقلة عن السلطة التشريعية.

ص: 16

ثم بدأ يتساءل: ألم يكن خيرا وبركة أن يكون كرومول ملكا. ولمح بهذه الفكرة (ديسمبر 1652) إلى صديقه هوايتاوك الذي فقد صداقته باعتراضه عليها (25). وفي صبيحة يوم 20 أبريل 1653، عندما علم أن البرلمان المبتور كان على وشك أن ينصب نفسه سيداً غير منتخب على البرلمان الجديد، جمع حفنة من الجنود اتخذوا مواقعهم على باب مجلس العموم، ودخل هو أليه، وإلى جانبه اللواء توماس هاريسون، وأصغى لبعض الوقت إلى المناقشة في صمت رهيب. وعندما بدا اخذ الأصوات على موضوع البحث، نهض كرومول، وتحدث أول الأمر في اعتدال، وما لبث حتى تحدث في عنف، فنعى على البرلمان المبتور أن يكون أوليجاركية (أقلية حاكمة) تخلد نفسها بنفسها، لا تصلح لحكم إنجلترا. ثم صاح:" أيها السكارى" متجهاً إلى عضو بعينه، ثم صرخ في عضو آخر "أيها الداعر الفاجر""أنتم لستم برلماناً. أقول أنكم لستم برلماناً، ولسوف أضع حداً لاجتماعاتكم". ثم التفت إلى هاريسون وأمره: "استدع الجنود، استدعهم إلى هنا". ودخل الجنود إلى القاعة. وأمرهم كرومول بإخلائها، وغادرها الأعضاء محتجين قائلين:

"ليس هذا من الأمانة في شيء". ووضعت الأقفال على القاعة الخالية، وفي اليوم التالي وجد معلقا عليها لافتة" بيت للإيجار، غير مؤثث الآن (26). ثم ذهب كرومول بصحبة اثنين من القواد إلى حيث يجتمع مجلس الدولة، وقال لأعضائه "إذا كنتم تجتمعون الآن بصفتكم الشخصية فلا بأس، ولا يزعجنكم أحد - أما إذا كنتم مجتمعين كمجلس للدولة، فلا مكان لكم هنا

وأرجو أن تعلموا أن البرلمان قد حل (27) ". وهكذا كانت النهاية المخزية المزرية للبرلمان الطويل الذي كان قد اجتمع في وستمنستر، بكامل هيئته أو بشكله المبتور، منذ 1640، والذي كان قد حول دستور إنجلترا وحكومتها. ولم يعد هناك الآن دستور، بل جيش وملك غير ذي لقب أو ملك غير متوج.

ص: 17

وكان الشعب بصفة عامة فرحاً بالتخلص من برلمان قد جر إنجلترا إلى حافة الهاوية. وعلى حد قول كرومول، لم يكن هناك "مجرد نباح كلب، ولا تذمر ظاهر لحله (28) ". وتقبل البيوريتانيون الغيورون المتحمسون حل البرلمان على انه إفساح الطريق "للملكية الخامسة " أي مجيء المسيح المنتظر وحكمه وتشجع الملكيون وتهامسوا بأن كرومول سوف يستدعى الآن شارل الثاني، ويقنع هو بدوقية أو بمنصب نائب الملك في إيرلندة. ولكن أوليفر لم يكن بالرجل الذي يرتضى أن يكون رهن مشيئته رجل آخر. فأصدر توجيهاته إلى معاونيه العسكريين أن يختاروا - بصفة أساسية من المجامع البيوريتانية في إنجلترا - 140 رجلا، من بينهم خمسة من إسكتلندة وستة من ايرلندة، ليجتمعوا على هيئة "برلمان معين ". ولما انعقد هذا البرلمان في هويتهول في 4 يوليه 1653 اعترف كرومول بأن الجيش هو الذي اختارهم، ولكنه رحب بهم باعتبار انهم يبدأون فترة يحكم فيها القديسون حكماً صحيحاً تحت رياسة يسوع المسيح (29)، واقترح أن يخولهم السلطة العليا، ويكل إليهم مهمة وضع دستور جديد - وظل هذا البرلمان طيلة خمسة اشهر يبذل أقصى الجهد في إنجاز هذه المهمة، ولكنه ضل الطريق في متاهات المناقشة، الطويلة. وانشق الأعضاء على أنفسهم، يأسا وعجزا، في موضوعات الدين والتسامح الديني. وأطلق ظرفاء لندن عليه اسم "برلمان باربيون"، نسبة إلى أحد أعضائه Barebone، وهو احد القديسين في "الملكية الخامسة" سالفة الذكر. وضاق الجيش ذرعا بهؤلاء الأعضاء، كما ضاق من قبل ذرعا بمن طردهم في أبريل. وعرض الضباط - وهم يمثلون دور أنطونيو - على كرومول أن ينصب نفسه ملكاً، وتردد قيصر واعترض في رفق، ولكن ثمانين من أعضاء البرلمان، بإيحاء محدد من الجيش، أعلنوا إلى كرومول في 12 ديسمبر أن الجمعية الجديدة لم تصل إلى اتفاق، وأنها تقترع على حلها. وعرضت " وثيقة حكومية " أعدها زعماء الجيش، على كرومول أن يكون "حامي

ص: 18

جمهورية إنجلترا وإسكتلندة وإيرلندة"، وأن ينتخب برلمان جديد على أساس نصاب من الثروة يخول حق الاقتراع، مع استبعاد الملكيين والكاثوليك، وان تكون السلطة التنفيذية في يد مجلس من ثمانية من المدنيين وسبعة من ضباط الجيش، يختارون لمدى الحياة، على ان يعمل هذا المجلس بمثابة هيئة استشارية " لحامي حمى الجمهورية " وللبرلمان كليهما. ووافق كرومول ووقع هذه الوثيقة، وهي "أول وآخر دستور إنجليزي مسطور (30)"، وفي 16 ديسمبر 1653 أقسم اليمين بوصفه "حامي الحمى". وبذلك انتهت الجمهورية، وبدأت الحماية - اسمان لأوليفر كرومول.

هل كان كرومول طاغية مستبداً؟ من الواضح انه استساغ السيطرة والسلطان. ولكن تلك نزعة عامة، وهي أمر طبيعي إلى ابعد حد في الموهبة الواعية. لقد فكر من قبل في تنصيب نفسه ملكا، وتأسيس أسرة ملكية جديدة (31). ويبدو انه كان مخلصاً حين عرض أن ينزل عن سلطته "للبرلمان المعين". ولكن عجز هذا البرلمان أقنعه بأن سلطته التنفيذية هو نفسه هي آنذاك البديل الوحيد عن الفوضى فإذا تخلى هو، فقد كان يبدو انه ليس ثمة رجل آخر يحظى بتأييد كاف للمحافظة على النظام. واستنكر المتطرفون في الجيش هذه " الحماية " باعتبارها مجرد "ملكية أخرى". واتهموا كرومول بأنه "وغد منافق كذاب" وتوعدوه "بمصير أسوا من المصير الذي لقيه الطاغية السابق (32) ". وأرسل كرومول بعض هؤلاء المتمردين إلى السجن "برج لندن" ومن بينهم اللواء هاريسون الذي تولى قيادة الجنود عند طرد أعضاء البرلمان المبتور. أن خوف كرومول على سلامته هو نفسه أدى به شيئا فشيئا إلى المزيد من الاستبداد، لأنه أدرك أن نصف الأمة كان يمكن أن يهلل لقتله. انه أحس، مثل سائر الحكام، بالحاجة إلى إحاطة نفسه بمظاهر الفخامة والوقار التي تثير الرهبة في النفوس، فانتقل إلى قصر هويتهول (1654) وأعاد تأثيثه بأفخر

ص: 19

الرياش، واتخذ لشخصه كل الجلال وكل العظمة الملكية (32). ولكن مما لا ريب فيه ان كثيرا من هذه المظاهر كان لابد أن يخلق انطباعاً قوياً في نفس السفراء، ويثير الفزع في نفوس الأهالي.

وفيما يتعلق كرومول الخاصة، فانه كان رجلا غير ميال إلى المظاهر والأبهة، يعيش عيشة طابعها البساطة والإخلاص مع أمه وزوجته وأولاده. وأحبته أمه حباً ممزوجاً بالخوف عليه، ترتعد فرقاً على حياته لكل طلقة نسمعها، وعند وفاتها في الثالثة والتسعين (1654) قالت:" ولدي العزيز أني أترك قلبي معك (34) ". انه هو نفسه، في أواسط الخمسينات من عمره، كان يدب أليه الهرم بسرعة، أن ما واجهه من أزمة تلو أزمة كان يهد من أعصابه التي قيل أنها حديدية. أن حملات إيرلندة وإسكتلندة زادت الحمى على داء النقرس، ولم يمر عليه يوم دون نصب او قلق ورسم له المصور إلى في 1650 لوحة مشهورة. وان كل إنسان ليعرف تحذير كرومول للمصور حيث قال له:" مستر للى، بودي أن تستغل كل ما أوتيت من مهارة في رسم صورة حقيقية مثل شخص تماما، ولا تتملقني على الإطلاق، بل يجب أن تبرز هذه الخشونة والبثور والنتوءات وكل شىء، والا، فلن أنقدك فلسا واحدا (35) ". وقبض للي أجره، ورسم "حامى الحمى" في صورة مصقولة إلى حد بعيد، ومع ذلك ابرز الوجه الصارم القوي، والإرادة الحديدية كما أبرز روحاً عصبية متوترة إلى حد الانفجار. ووجه النقد إلى كرومول من أجل البساطة الكئيبة في لباسه العادي - سترة وبذلة بسيطتان سوداوان -، ولكنه كان في المناسبات الرسمية يرتدي سترة موشاة بالذهب. انه بين الناس كان يحتفظ بوقار لا اثر فيه للتكلف أو التظاهر، ولكن في حياته الخاصة كان ينصرف إلى ألوان التسلية والدعاية والمزاح، بل إلى مزحات عملية وهزل ماجن طارئ (36).

ص: 20

واحب الموسيقى وعزف على الأرغن عزفا جيداً (37). وأوضح أنه كان، حسب ما يبديه، مخلصا في ورعه وتقواه (38)، ولكنه كثيرا ما استخدم اسم الله

(لا عبثاً) لتدعيم أهدافه، إلى حد اتهمه معه الكثيرون بالنفاق. ويحتمل انه كان ثمة بعض الرياء في تقواه العلنية، وقليل منه في تقواه الخاصة، مما شهد به كل من عرفوه. وكانت رسائله وخطه نصف مواعظ، ولا نزاع في انه اعتبر، بكل طيب خاطر أن الله هو ساعده الأيمن

ولم تكن أخلاقياته الخاصة تشوبها شائبة، على حين أن أخلاقياته العامة لم تكن تفضل أخلاقيات الحكام الاخرين، فاستخدم الخداع أو القوة حيثما رآهما ضروريين لأهدافه الكبرى. إن أحداً لم يوفق بعد بين المسيحية والحكم.

أن كرومول الناحية الفنية، لم يكن حاكما مطلقا. فانه تنفيذا لوثيقة الحكومة " التي أسلفنا ذكرها شكل " مجلس الدولة " وأنتخب برلماناً. "وعلى الرغم من كل مساعي حامي الحمى والجيش لضمان عودة النواب الذين تميزوا بالكياسة ولين العريكة، ضم مجلس العموم الذي اجتمع في 3 سبتمبر 1654 بعض الجمهوريين المزعجين، بل كذلك بعض الملكيين وثار النزاع حول من يسيطر على الجيش: حامي الحمى أو البرلمان. واقترح البرلمان إنقاص عدد الجنود وعطياتهم، فتمردوا وحرضوا كرومول على حله (22 يناير 1655). والواقع إن حكومة إنجلترا أصبحت دكتاتورية عسكرية منذ طهر برايد البرلمان في 1648.

وسيق كرومول آنذاك إلى الحكم طبق للأحكام العرفية وحدها دون سواها، وفي صيف 1655 قسم إنجلترا إلى خمسة أقسام عسكرية. ووضع على رأس كل منها هيئة من الجند يرأسها ضابط برتبة لواء وللوفاء بنفقات هذه التجهيزات فرض ضريبة قدرها 10% على ضياع الملكيين. واحتج الناس، وانتشر النقد والتمرد، وسمعت أصوات تنادي بعودة شارل الثاني. وأجاب كرومول على هذا كله بتشديد الرقابة والتوسع في أعمال التجسس

ص: 21

والاعتقالات التعسفية وإجراءات قاعة النجم التي أغفلت المحلفين وقانونية الاعتقال. وكان "سير هاري فين Vane" من الثوريين السابقين الذين اقتيدوا إلى السجن. إن الثورات تأكل آباءها.

ولما كان كرومول في حاجة إلى مزيد من المال اكثر مما استطاع تحصيله عن طريق ما فرض من ضرائب أخرى مباشرة، فانه دعا برلماناً آخر. ولما التأم عقده في 17 سبتمبر 1656، وضع مجلس الدولة على باب مجلس العموم بعضاً من ضباط الجيش، ومنع دخول 103 من الأعضاء الذين انتخبوا انتخاباً صحيحاً، ولكن يشتبه في إن لهم ميولا جمهورية أو ملكية أو مشيخية أو كاثوليكية. فقدم الأعضاء المبعدون احتجاجا استنكروا فيه إبعادهم بأنه انتهاك صارخ لإرادة ناخبيهم التي عبروا عنها، ودمغوا بأشد النفاق "تصرف الطاغية واستخدامه اسم الله والدين والصوم والصلوات الشكلية ليستر قتام الحقيقة الواقعة ومرارتها (40) ". ومن بين الأعضاء البالغ عددهم 352 الذين اجتازوا تمحيص المجلس ودقته كان هناك 175 عضو أمن رجال الجيش أو من المعينين أو من أقرباء كرومول. وفي 31 مارس 1657 قدم البرلمان المختزل المنقوص الخاضع المذعن إلى "حامى الحمى" توسلا ونصيحة متواضعين يطلب إليه فيها أن يتخذ لنفسه لقب "ملك". ولكنه كان يشم رائحة المعارضة من جانب الجيش لهذا العمل، فأبى. ولكن ثمة حل وسط أعطاه الحق في تعيين خلفه "حامي الحمى" وفي يناير 1658 وافق إعادة الأعضاء المبعدين إلى مقاعدهم في مجلس العموم. وفي نفس الوقت اختار تسعة من النبلاء و61 من العامة ليشكلوا المجلس الثاني (مجلس اللوردات). ورفض كثير من ضباط الجيش تأييد هذه الحركة. وعندما عقدوا اتفاقا مع الجمهوريين في مجلس العموم للحد من سلطات المجلس الثاني، غضب كرومول غضباً شديداً واقتحم قصر وستمنستر وطرد البرلمان (في فبراير 1657). وآنذاك من الوجهة القانونية، ومن حيث الأمر الواقع، انتهت الجمهورية الإنجليزية وأعيدت الملكية. وكأن التاريخ

ص: 22

بهذا قد ضرب مثلا جديدا للتعاقب التهكمي الساخر الذي ذكره افلاطون، وهو تعاقب الملكية، فالأرستقراطية، فالديموقراطية، فالدكتاتورية، فالملكية (41).

‌5 - ذروة البيوريتانية

لقد انطوى انتصار البيوريتانية على ثورة دينية. وتحطمت الكنيسة الإنجليزية في 1634 بالغاء الحكومة الأسقفية في الكنيسة، وصادر مذهب البروتستانتية المشيخية (البرسبتريان) حيث كان يحكم مجامع الكنيسة قساوسة يوجههم مجلس (سنودس) في كل قسم، وتخضع مجالس السنودس هذه للجمعية العمومية - نقول أن مذهب الكنيسة المشيخية هذا جعل المذهب الرسمي للدولة في 1646، ولكن سيطرة مذهب المشيخية انتهت بعد عامين اثنين، حين طهر " برايد " البرلمان من اتباع هذا المذهب. وبدا لبعض الوقت إن الديانة يجدر تركها حرة طليقة من أية رقابة أو إعانة مالية من جانب الدولة. ولكن كرومول (الذي حدث انه اتفق في كل شيء تقريبا مع الملك الذي كان قد أودى بحياته) آمن بأن كنيسة معانة من قبل الدولة أمر لا غنى عنه من اجل التربية والتعليم والأخلاق. وفي 1654 شكل "لجنة من الفاحصين" لتختبر صلاحية رجال الدين للتعيين في رتب كنيسية والحصول على رواتب. ولم يكن أهلاً لذلك سوى المستقلين (البيوريتانيين) وأنصار التعميد والبرسبتريانز. وأجيز لكل أبرشية أن تختار بين التنظيم المشيخي او نظام الكنيسة المستقلة - وفيه يحكم كل مجمع نفسه. واختار البيوريتانوين نظام الكنيسة المستقلة. أما التنظيم المشيخي الذي ساد في اسكتلندة، فقد اقتصر في إنجلترا إلى حد بعيد، على لندن ولنكشير. أما رجال الدين الأنجليكانيون. الذين بلغوا يوماً حداً كبيراً من القوة، فقد حرموا من رواتبهم، وباتوا يخدمون اتباعهم أي يقومون لهم بالمراسم في أماكن خفية، مثل الكهنة الكاثوليك. وفي 1657 اعتقل جون أفلين بسبب

ص: 23

حضوره الصلوات الأنجليكانية (42). وكانت الكاثوليكية لا تزال خروجا على القانون. وأعدم قسيسان شنقاً (1650 - 1654) بتهمة "تضليل الشعب"، وفي 1657 أصدر برلمان البيوريتانيين، بموافقة كرومول، قانونا يقضي بمصادرة ثلثي ممتلكات أي فرد جاوز السادسة عشرة، لم يتنصل من الكاثوليكية ويبرأ منها (43). وفي 1650 كانت العقيدة الدينية قد أصبحت أساساً لوضع اجتماعي طبقي: فكان الفقراء يتحيزون للمذاهب المعارضة - أنصار العماد، الكويكرز، أصحاب فكرة الملكية الخامسة، وغيرها، أو الكاثوليك. أما الطبقات الوسطى فكانت البيوريتانية غالبة فيها. على حين أن الأرستقراطية ومعظم ذوي الحسب والنسب (ملاك الأرض الذين لا ألقاب لهم) كانوا يشايعون الكنيسة الأنجليكانية التي لم تعد الدولة تعترف بها.

وانعكس التعصب الديني رأساً على عقب، اكثر مما تناقص أو خفت حدته. ذلك انه بدلا من اضطهاد الأنجليكانيين للكاثوليك المنشقين والبيورينانيين الذين تعالت صيحاتهم من قبل طلبا للتسامح، باتوا الآن يضطهدون الكاثوليك والمنشقين والأنجليكانيين. وحرموا استعمال "كتاب الصلوات العامة" ولو سراً في المنازل. وقصر برلمان البيوريتانيين التسامح على أولئك البريطانيين الذين ارتضوا التثليث وإصلاح الديني والكتاب المقدس باعتباره كلمة الله، كما ارتضوا نبذ الأساقفة. أما اتباع سوسينوس أو التوحيديون فلم يشملهم التسامح بناء على ذلك. وفرضت عقوبات صارمة على أي نقد يوجه إلى العقيدة أو الطقوس الكلفنية (44). وكان كرومول اكثر تسامحا من برلماناته، فتغاضى عن بعض الصلوات الانجليكانية، ورخص لجماعة صغيرة من اليهود بالإقامة في لندن، بل وبناء معبد لهم، واتهمه اثنان من الوعاظ من أنصار عدم تجديد العماد بأنه "وحش سفر الرؤيا"(النبي الكذاب)، ولكنه احتمل هجومهما صابراً (45).

ص: 24

واستخدم نفوذه في وقف اضطهاد الهيجونوت في فرنسا وأتباع والدونى بيد مونت. ولكنه عندما طالبه مازاران، في مقابل ذلك، بمزيد في التسامح مع الكاثوليك في إنجلترا، تذرع بعجزة عن الحد من حماسة البيوريتانيين (46).

ومن الجائز القول بأن الدين لعب دورا هاما وتغلغل في الحياة اليومية عند اليهود وحدهم، كما فعل عند البيوريتانيين. والحق أن البيوريتانية اتفقت مع اليهود في كل شيء تقريبا، فيما عدا ألوهية المسيح. وشجعت معرفة القراءة والكتابة حتى يقبل الجميع على قراءة الكتاب المقدس. وكان ثمة ولع شديد بالتوراة (العهد القديم) لأنه يقدم نموذجا لمجتمع تسيطر عليه الديانة. وكان الشغل الشاغل في الحياة هو الخلاص من نار جهنم. والشيطان موجود حقا وفي كل مكان. وبنعمة الله وحدها يمكن لفئة قليلة مختارة أن تفوز بالخلاص وتضمن كلام البيوريتانيين وأقوالهم عبارات من الكتاب المقدس ومجازاته. واشرق في عقولهم التفكير في الله وفي المسيح أو تجلياتهما لهم، وملأتهم خشية ورهبة ولكن لم يفكروا قط في السيدة مريم. واتسمت ملابسهم بالبساطة والكآبة، وخلت من أية زينة أو زخرف، كما اتسم كلامهم بالوقار والرزانة مع البطئ. وكان منتظر منهم أن ينأوا بأنفسهم عن اللهو والدنس واللذة الحسية. وكانت المسارح قد أغلقت في 1642 بسبب الحرب، فظلت مغلقة حتى 1656 بسبب شجب البيوريتانز واستنكارهم لها. وحرم سباق الخيل ومصارعة الديكة ومباريات المصارعة، ومطاردة الدببة أو الثيران، إلى حد ان الضباط (الكولونيل) البيوريتاني نيوسن قتل كل الدببة في لندن ليتأكد أنها لن تطارد بعد الآن (47). واقتلعت كل أعمدة مايو (كانت تزدان بالأشرطة والزهور وتقام في أول مايو). وكان الجمال شبهة، واحترموا النساء بوصفهن زوجات مخلصات وأمهات صالحات، وفيما عدا ذلك لم يتمتعن يحسن السمعة لدى البيويتانيين لأنهن مصدر غواية واغراء، وانهن سبب طرد الإنسان من الجنة. ونقروا من الموسيقى، ماعدا في التراتيل الدينية.

ص: 25

وقضوا على الفن في الكنائس ولم يسمحوا بإخراج جديد منه، اللهم إلا بعض اللوحات الممتازة من عمل صمويل كوبر، وبيتر للى، وكان هولنديا.

وربما كانت محاولة البيوريتانز تقنين الأخلاق أجل عمل منذ شريعة موسى. واعترفوا بصلاحية الزواج المدني، وأبيح الطلاق، لكن الزنى كان جريمة عقوبتها الإعدام. على إنه بعد تنفيذ حكم الإعدام مرتين عقاباً على هذه الجريمة، لم يكن المحلفون يحكمون بالإدانة. وكانت عقوبة الأيمان تتدرج وفقا للسلم الاجتماعي، فكان اليمين يكلف الدوق ضعف ما يكلف البارون، وثلاثة امثال ما يكلف الذي لا يحمل لقبا، وعشرة امثال ما يدفع الرجل العادي، بصفة غرامة، ودفع رجل واحد الغرامة لأنه قال:"الله شهيد علي (48) ". وكان الأربعاء يوم صوم إجباري عن اللحم حتى ولو وقع فيه عيد الميلاد المجيد. وكان من حق الجنود اقتحام البيوت للتأكد من صوم الأهالي. ولم يكن مسموحا بفتح الحوانيت يوم الاحد، كذلك كانت الألعاب والرياضة والأعمال الدنيوية محظورة فيه. ولم يسمح فيه بأية رحلة أو سفر يمكن اجتنابه، كما كان محظورا "التسكع أو المشي الدنس لا هدف (49) ". وعلى الرغم من عودة الملكية وما صحبها من انتكاس في الأخلاق، ظل يوم الأحد قاسيا متزمتا حتى أيامنا هذه.

ان كثيرا من هذه المحرمات القانونية أو الاجتماعية أثبت أنه أقسى مما تحتمل الطبيعة البشرية، وقيل أن نسبة كبيرة من السكان لجأت إلى النفاق، فكانوا يفترقون الآثام كما هي العادة، ويجرون وراء المال والنساء والسلطة، ولكن دائما تعروهم الكآبة ويخرجون أصواتا من أنوفهم وتنساب من أفواههم العبارات الدينية. ومع ذلك يبدو أن عددا كبيرا من البيوريتانيين التزموا بإنجليهم في إخلاص وشجاعة. ولسوف نرى ألفين من الوعاظ البيوريتانيين بعد عودة الملكية يؤثرون العوز والفاقة على التخلي على مبادئهم. إن نظام البيوريتانية ضيق العقل ولكنه قوى الإرادة

ص: 26

والخلق. أنه ساعد الأنجليز على حكم أنفسهم. وإذا كان الفزع من نار جهنم والطقوس البيوريتانية قد أشاعت في البيت الكآبة والظلمة. فان حياة الأسرة عند عامة الناس قد أسبغ عليها نظام ونقاوة بقيتا بعد الانحلال الذي تميزت به صفوة المجتمع في عهد شارل الثاني.

وجملة القول أن النظام البيوريتاني ربما أحدث إصلاحا خلقيا جددته ودعمته حركة المنهجية في القرن الثامن عشر (الميثودية حركة إصلاح ديني قادها تشارلز وجون ويزلي في أكسفورد 1792 لإحياء كنيسة إنجلترا) - وإليه يرجع أكبر الفضل في الأخلاقيات العالية نسبيا التي تتميز بها الأمة البريطانية اليوم.

‌6 - الكويكرز

تألقت في الكريكرز كل فضائل البيوريتانيين، وهم فرع منهم، ولو أخفاها لبعض الوقت الخيال الجامح والتعصب الأعمى. وكانت خشية الله والخوف من الشيطان قويين جدا فبهم إلى حد يصيب أجسامهم برعدة. وقال واحد منهم هو روبرت باركلي 1679.

أن قوة الله سوف تقتحم الاجتماع الشامل، ومن ثم سوف يكون هناك جهد باطني، حين يحاول كل فرد أن يقهر قوى الشر في النفوس، إلى حد أنه بأعمال هاتين القوتين المتعارضتين، وكأنهما تياران متضادان، بجهد الإنسان وكأنه في يوم المعركة، ومن هذا يكون اهتزاز الجسم وحركته في معظم الناس إن لم يكن كلهم وهي هزات وحركات، تنتهي بعد أن تسود قوة الحق، من الوخزات والأنات، بصوت رخيم من الشكر والحمد. ومن هنا أطلق اسم الكويكرز، أي المهتزين علينا، وكان هذا من باب اللوم والتأنيب والسخرية في بداية الأمر (50).

وتفسير مؤسس الطائفة جورج فوكس يختلف اختلافاً يسيراً عن هذا

ص: 27

إن القاضي بنت دن دربي هو أول من أطلق علينا هذا الاسم، لأننا كنا نأمرهم بالاهتزاز عند ذكر كلمة الله. وهذا كان في 1650 (51) أما الاسم الذي أطلقوه هم أنفسهم على طائفتهم فكان "أنصار الحق". وبعد ذلك أكثر تواضعا، فقالوا "مجتمع الأصحاب".

وواضح أنهم كانوا في بداية الأمر بيوريتانيين، مع اقتناع شديد بصفة خاصة بأن ترددهم بين الفضيلة والخطيئة لم يكن إلا صراعا، في عقولهم وأجسامهم، بين قوتين روحيتين، قوة الخير وقوة الشر، تحاول كل منهما أن تسيطر عليهم هنا، وإلى مالا نهاية. إنهم تقبلوا المبادئ الأساسية عند البيوريتانيين: نزول الأسفار المقدسة عن طريق الوحي الالهي، خطيئة آدم وحواء، كون الإنسان خطاء بطبيعته، موت المسيح بن الله لتخليص البشر، إمكان نزول الروح القدس من السماء لتنوير نفس الإنسان وتشريفها. أن إدراك هذا "النور الباطن"، والإحساس به والترحيب بإرشاده وتوجهيه، كان جوهر الدين عند الكويكرز. وإذا نهج الإنسان سنن ذاك "النور" لم تعد به حاجة إلى واعظ أو كنيسة. فان إذا "النور" أسمى من العقل البشري، بل من الكتاب المقدس نفسه، لأنه صوت مباشر من عند الله إلى النفس.

لم يتلق جورج فوكس من التعليم إلا أيسره ولكن "مذكراته" التي دبجها من الآثار الأدبية في الانجليزية، التي تكشف عن القوة الأدبية في الكلام غير الأدبي، إذا كان بسيطا جادا مخلصا وكان جورج ابن أحد النساجين، والتحق للعمل بمصنع أحذية، ثم ترك سيده وأقرباؤه، "بأمر من الله" وبدأ في سن الثالثة والعشرين (1647)، الوعظ المتجول الذي لم يتوقف إلا بوفاته (1691). وفي سنيه الأولى حيرته وأقضت مضجعه المغربات فراح يلتمس النصح والمشورة لدى رجال الدين، فأشار عليه أحدهم بالدواء وفصد الدم، وأوصاه آخر بالتدخين وتلاوة الترانيم

ص: 28

الدينية (52). وفقد جورج ثقته بالقساوسة، ولكنه وجد السلوى والعزاء حيثما فتح الكتاب المقدس.

غالبا ما حملت الكتاب المقدس وقصدت لآخذ مكاني في إحدى الأشجار المجوفة في مكان منعزل حتى يرخى الليل سدوله، وكثيراً ما سرت في الليل محزونا وحدي، لأني كنت رجلا مثقلاً بالأحزان في أيام أعمال الله الأولى في نفسي .. ثم وجهني الله إلى الطريق، ويسر لي إدراك حبه، وهو حب خالد لا نهاية له، يفوق كل معرفة تتيسر للناس في حالتهم الطبيعية أو يمكنهم الحصول عليها من صفحات من التاريخ أو من بطون الكتب (53).

وسرعان ما أحس بأن الحب الإلهي قد اختاره ليبشر الجميع بالنور الباطن ويعظهم. وفي اجتماع الأنصار العماد في لبسترشير "حل الله عقدة لساني فأعلنت لهم جميعا الحقيقة الخالدة، وظللتهم جميعا قوة الله (54) "وذاع عنه أنه يتمتع "بروح بصيرة"، ومن ثم جاء الناس أفواجا ليستمعوا إليه. "حلت قوة الله وكان لها إيحاءات وإلهامات وتنبؤات عظيمة (55) ". بينما كنت أسير في الحقول قال لي الله: اسمك مكتوب في سجل الحياة لدى المسيح، الذي وجد قبل خلق العالم (56). أي أن جورج قر الآن عينا بما وقر في نفسه من أنه بين القلة التي اختارها الله قبل الخليقة، لتتلقى نعمته ورحمته وبركته الأبدية. وأحس آنذاك أنه مساو لأي إنسان. ومنعه زهوه بهذا الاصطفاء الإلهي من "أن أخلع قبعتي لأي من كان: حقيراً أو أميراً، وأنتم في حاجة إلى، أيها الرجال والنساء، دون اعتبار لغني أو فقير، وعظيم أو حقير (57) ".

وإذا اقتنع بأن الدين الحق لا يوجد في الكنائس بل في القلب المستنيرة، فإنه دلف إلى كنيسة في نوتنجهام وقاطع الموعظة صائحا بأن الاختبار الحق ليس في الأشعار المقدسة بل في "النور الباطن". وقبض عليه في

ص: 29

1649، ولكن عمدة البلدة أطلق سراحه، وصارت زوجة هذه العمدة من أول المعتنقين. وأستأنف فوكس جولاته التبشيرية ودخل كنيسة أخرى وهناك كما قال "دفعت لأعلن الحق للكاهن والناس، ولكنهم انهالوا علي "في غضب شديد وطرحوني على الأرض. وضربوني ضربا مبرحاً وآذوني إيذاء شديدا بأيدهم وكتبهم المقدسة وعصيهم" فاعتقل مرة ثانية، وأخلى الحاكم سبيله، ولكن الأهالي قذفوه بالحجارة إلى الخارج البلدة (58). وفي دربي تحدث مهاجما الكنائس والأسرار المقدسة على أنها تقرب لإغناء فيه إلى الله. فحكم عليه بالإقامة في الإصلاحية لمدة ستة شهور (1650)، وعرضوا عليه إخلاء سبيله شريطة الالتحاق بخدمة الجيش، فكان جوابه مهاجمة فكرة الحرب. عند ذلك أودعه سجانوه معتقلا قذرا كريه الرائحة غائرا في الأرض، ليس فيه فراش، مع ثلاثين من المجرمين، "حيت قضيت قرابة نصف عام (59). ومن سجنه كتب إلى القضاة وبالحكام معترضا على عقوبة الإعدام. وربما ساعدت شفاعته على إنقاذ امرأة شابة محكوم عليها بالإعدام بتهمة السرقة من حبل المشنقة.

وبعد عام قضاه في السجن استأنف التجوال لنشر تعاليمه. وفي ويكفيلد حول جيمس نايلر، وفي بفرلي دخل كنيسة، وجلس منصتا حتى انتهت الموعظة ثم سأل الواعظ: هل لم يشعر بالخجل "حين يتقاضى ثلاثمائة جنيه سنويا ليبشر بالأسفار المقدسة (60)؟ "وفي بلدة أخرى دعاء القسيس لإلقاء عظة في الكنيسة فأبى، ولكنه تحدث في فنائها إلى جمع من الناس.

أعلنت إلى الناس أني لم أحضر لأعترض سبيل معابدهم الوثنية ولا قساوستهم، ولا عشورهم

ولا احتفالاتهم وتقاليدهم اليهودية الوثنية لأني أنكرت هذا كله. وقلت لهم أن هذا المكان ليس أكثر قدسية من أي مكان آخر .. لذلك نصحت الناس أن ينبذوا كل هذه

ص: 30

الأشياء، وأرشدهم إلى روح الله ونعمته فيهم أنفسهم، وإلى نور المسيح في قلوبهم (61).

وفي سوورثمور في يوركشير حول إلى مذهبه مرجريت فل، ثم زوجها القاضي توماس فل، وأصبحت دارهما، قاعة سوورثمور، أول مركز أساسي لاجتماع الكويكرز، وهو إلى يومنا هذا مزار يحج إليه الأصحاب.

وليس علينا أن نتبع قصة فوكس إلى أبعد من هذا. وكانت أساليبه فجة غير ناضجة ولكنه عوض بما تذرع به من صبر وجلد في ملاقاة سلسلة الإعتقالات والصدمات العنيفة، وهاجمه البيوريتانيون والمشيخيون والأنجليكانيون، لأنه نبذ الأسرار المقدسة والكنائس والقساوسة. وأرسل الحكام الكويكرز إلى السجون، لا لأنهم انتهكوا حرمة العبادات العامة وأغروا الجنود بالكف عن الاشتراك في الحرب، فحسب، بل كذلك لأنهم رفضوا تأدية يمين الولاء للحكومة. واحتج الكويكرز بأن اليمين أيا كانت عمل غير أخلاقي، ويكفي القول (بنعم) أو (لا). وتعاطف كرومول مع الكويكرز، واجتمع مع فوكس في لقاء ودي (1654) وقال له عند انصرافه:"تعال إلي ثانية أننا، أنت وأنا، لو اجتمعنا ساعة من نهار، لاقترب الواحد منا من الآخر"(62). في 1657 أصدر (حامي الحمى) توجيهاته بالإفراج عن المسجونين من الكويكرز، كما أصدر تعليماته إلى القضاة بأن يعاملوا هؤلاء الوعاظ الذين لا كنائس لهم على انهم (أشخاص واقعون تحت تأثير وهم شديد)(63). إن أسوأ اضطهاد وأشده هو ما أصاب شيعه جيمس تايلر الذي بلغ به الأيمان بنظرية النور الباطن، حد الاعتقاد أو الادعاء بأنه هو المسيح مجسدا من جديد، وأنبه فوكس على هذا ولكن بعض أتباعه المخلصين الغيورين عبدوهن وأكدت إحدى النسوة أنه أعادها إلى الحياة بعد أن ظلت يومين في عداد الموتى: وعندما ركب تايلر إلى بريستول، ألقت

ص: 31

النسوة بأوشحتهن أمام جواده وأنشدن: "مقدس، مقدس، مقدس رب القربان المقدس" وقبض عليه بتهمة التجديف. ولما سألوه عن دعاواه أو الدعاوى التي نسبوها إليه، لم يكن جوابه سوى جواب المسيح "أنت قلت" وعرض البرلمان إذ ذاك، وكان البيوريتانيون يسيطرون عليه لقضية تايلر (1656) وظل أحد عشر ويما يناقش موضوع إعدامه. وسقط القرار بأغلبية 96 ضد 82 صوتا. ولكن سادت روح تنادي بحل وسط إنساني فحكم عليه يقف ساعتين كاملتين وعنقه في آلة التعذيب (المشهرة)، ويجلد 130 جلدة، وتدمغ جبهته بالحرف الأول من لفظة مجدف ( B في الإنجليزية)، وأن يثقب لسانه بقضيب من الحديد المحمي، واحتمل هذه الفظائع بشجاعة. وحياه أتباعه على أنه شهيد، وقبلوا جراحه وامتصوها واحتجزوه وحيدا في معتقل لا قلم ولا ورق ولا تدفئة ولا ضوء فيه وانهارت روحه المعنوي يوما بعد يوم، فاعترف بأنه غرر به، فأفرج عنه في 1659، وقضى نحبه فقيرا معدما في 1660 (64).

ولقد تميز الكويكرز بما بدا لبعض معاصريهم بأنه أشياء غريبة تثير المتاعب. إنهم لم يجيزوا أي أثر للزخرف والتبرج في ملابسهم. وأبوا أن يخلعوا قبعاتهم لأي إنسان مهما كانت مكانته، حتى في الكنيسة أو القصر أو المحكمة. ولم يخاطبوا أي فرد بغير ضمير المفرد (أنت) بدلا من ضمير الجمع (أنتم) الذي يوحي أصلا بالتشريف والتكريم. ونبذوا الأسماء الوثنية لأيام الأسبوع وشهور السنة، فكانوا يقولون على سبيل المثال:"اليوم الأول من الشهر السادس" وأقاموا الصلوات في العراء أو بين الجدران بنفس السهولة واليسر وطيب النفس، وكان كل فرد من المصلين يدعى ليخبر بما أوحي به إليه الروح القدس أن يقول، ثم يروج الجميع بعد ذلك في صمت رهيب يكلله الجلال والوقار، وكأنما هذا الصمت عقار مهدئ مسكن بعد نوبة الحماس والغيرة - وهو صمت يعني في أساسه عندهم "إحساس بروح خيرة في أعماقهم". ورخص للنساء في الصلاة

ص: 32

الزوجية فوق أي لوم أو أية شائبة. وحد تكاثرهم ما تواضعوا عليه من الزواج بعضهم من بعض، وعلى الرغم من ذلك بلغ عدد الكويكرز في 1660 في إنجلترا ستين ألف "صاحب" إن ما اشتهروا من أمانة وكياسة وجد وبعد عن الإسراف، ارتفع بهم من المراتب الوضيعة التي ظهروا فيها أول ما ظهروا إلى القبعات الوسطى التي ينتسب معظمهم الآن إليها.

‌7 - الموت والضرائب

أن الطبقات الوسطى هي التي تمتعت بأعظم الازدهار، في عهد كرومول وفوق كل شيء انصرف التجار إلى التجارة الخارجية، وضم البرلمان آنذاك أفراد يمثلون المصالح الاقتصادية أو يمتلكونها. ومن أجلهم قضى قانون الملاحة الصادر في 1651 بنقل الواردات من المستعمرات إلى بريطانيا على مراكب إنجليزية - ومن الواضح أن هذا إجراء إلى الهولنديين وراودت كرومول في بعض الأحيان فكرة التحالف مع المقاطعات المتحدة ابتغاء حماية البروتستانتية وتعزيزها، ولكن تجار لندن آثروا الربح على التقوى والورع. وسرعان ما وجد كرومول نفسه (1652) متورطا في الحرب الهولندية الأولى. وكانت النتائج مشجعة كما رأينا.

واستعرت حمى الإمبريالية بنمو البحرية. وأوحت ذكرى هو كنز ودريك إلى التجار وإلى كرومول نفسه بإمكان كسر شوكة الأسبان وسيطرتهم في الأمريكتين، واستيلاء إنجلترا على تجارة الرقيق الرابحة وتوجيه المعادن النفيسة من الدنيا الجديدة إلى لندن، وفوق ذلك كله، كما أوضح كرومول، فان غزو جزر الهند الغربية يمكن المبشرين والوعاظ الإنجليز من تحويل هذه الجزر من الكاثوليكية إلى البروتستانتية (65).

ص: 33

وفي 5 أغسطس 1654 بعث كرومول إلى فيليب الرابع ملك أسبانيا بتوكيدات الصداقة بينهما. وفي 6 أكتوبر أرسل إلى البحر المتوسط أسطولا بقيادة بليك. وفي ديسمبر أتبعه بأسطول آخر تحت إمرة وليم بن (والد أحد أعضاء الكويكرز) وروبرت فينابل، للاستيلاء على جزيرة خسبانيولا (إحدى جزر الهند الغربية) من أسبانيا وأخفقت هذه المحاولة الأخيرة، ولكن بن استولى على جمايكا لإنجلترا (1655).

وفي 30 نوفمبر 1655 وقع كرومول ومازاران "وكلاهما يخضع الدين للسياسة" تحالفاً إنجليزياً فرنسياً ضد أسبانيا. إن الحرب التي كانت أسبانيا قد استمرت تشنها على فرنسا بعد معاهدة وستغاليا 1648 كانت قد شغلت هاتين الدولتين أيما شغل عن التدخل في شأن كرومول واستيلائه على مقاليد الحكم في إنجلترا، أما الآن فإنها هيأت لسياسته الخارجية نجاحا رائعا، وإن كان عابرا. وتربص بليك لوقت غير قصير، لأسطول الفضة القادم من أمريكا، حتى عثر عليه في ميناء سانتا كروز في جزر كاناري، ودمره عن آخره (20 أبريل 1657). وأخذ الجنود الإنجليز زمام المبادرة في هزيمة الجيش الأسباني في معركته تلال الدونز (بالقرب من دنكرك) في 4 يونيه 1658. ولما انتهت الحرب بصلح البرانس (1659) تخلت فرنسا عن دنكرك لإنجلترا، وبدا كرومول وكأنه عوض عن فقدان ماري تيودور لثغر كالية قبل ذلك بقرن من الزمان. أنه فكر في أن يقضي على اسم الإنجليز من العظمة ما كان للرومان من قبل، وكان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفه، فقد أصبح لإنجلترا السيادة على البحار، ومن ثم كانت المسألة مسألة وقت حتى تسيطر على أمريكا الشمالية، وتمد حكمها وسلطانها في آسيا. ونظرت أوربا كلها بعين الفزع الى البيوريتاني الذي كان يسبح الله ولكنه ابتنى بحرية، وألقى المواعظ ولكنه كسب معركة، والذي أسس الإمبراطورية البريطانية بالقوة العسكرية وهو يردد اسم المسيح. أن الرؤوس التي تعلوها

ص: 34

التيجان، والتي حسبته محدث نعمة دعيا مغرورا، بدأت الآن تخطب وده وتلتمس التحالف معه دون أن تعير اللاهوت اهتماما.

ولكن جون ثورلو سكرتير مجلس الدولة أنذر كرومول بأنه كان من الخطأ أن يساعد فرنسا ضد أسبانيا، لأن فرنسا آخذة في الصعود على حين أن أسبانيا كانت آيلة للاضمحلال، وأن سياسة إنجلترا في تدعيم توازن القوى في القارة، إن لم تتطلب مساعدة أسبانيا، تقتضي يقينا عدم مساعدة فرنسا. والآن 1659 كان لفرنسا السيادة في البر، وكان الطريق أمامها مفتوحا للتوسع في الأراضي الوطيئة وفرانش كونتية واللورين. وكم من رجل إنجليزي كان يجود بحياته لوقف أطماع لويس الرابع عشر العدوانية.

وفي نفس الوقت ازدهرت أحوال أمراء التجارة بسبب الحروب، وأعيد في 1657 تنظيم شركة الهند الشرقية بوصفها مشروعا برأس مال مشترك، "وأقرضت" كرومول ستين ألف جنيه، حتى تتجنب تدقيق الحكومة في فحص شئونها (66). وكانت هذه الشركة الآن من أقوى العوامل في اقتصاد إنجلترا وفي سياستها. وواجهت الحكومات نفقات الحرب برفع الضرائب إلى حد لم تبلغه في عهد شارل الأول وشارل الثاني. وباعت معظم أراضي التاج وأراضي الكنيسة الإنجليكانية، وضياع كثير من الملكيين، ونصف أراضي إيرلندة، وبرغم ذلك كله بلغ متوسط العجز السنوي 450 ألف جنيه بعد 1654. ولم ينتفع المواطن العادي إلا قليلا. وطرحت جانبا كل الأهداف التي ناضلت من أجلها الثورة الكبرى فيما بين 1642 - 1649. ولم يقل فظاعة عن ذي قبل فرض الضرائب دون موافقة البرلمان، والاعتقال غير القانوني، والمحاكمة دون محلفين، وبات حكم الجيش وحكم القوة دون تستر أشد إزعاجا وظلما عن ذي قبل، مذ أضفوا عليه مسحة من الدين. وأضحى حكم كرومول بغيضا ليس له مثيل، لا من قبل، ولا من بعد (67).

ص: 35

وكانت إنجلترا ترقب موت حامي الحمى بصبر نافذ. وكم من مؤامرة دبرت لاغتياله، وكان عليه دوما أن يأخذ حذره، وزاد الآن عدد حرسه إلى 160 رجلاً، واستخدم ضابط متطرف سابق (برتبة مقدم) يدعى سكسبي Sexby، أحد السفاحين لقتله. وكشفت المؤامرة (يناير 1657) واعتقل السفاح ومات في السجن. وفي شهر مايو نشر سكسبي كتيبا بعنوان "قتل ليس بقتل"، كان دعوة صريحة للإطاحة برأس كرومول، وعثر على سكسبي ومات هو أيضا في السجن، ودبرت المؤامرات في الجيش وفي دوائر الملكيين، حيث ازداد أملهم بشكل جنوني في عودة أسرة ستيوارت إلى الحكم. واعتنقت ابنة كرومول الكبرى، زوجة اللواء المتطرف شارل فليتوود المبادئ الجمهورية، ونعت على والدها دكتاتوريته (68).

وحطمت الهموم والمخاوف وفقدان الأهل والولد روح الرجل الحديدي. إنه مثل كثير ممن بلغوا ذروة السيطرة والسلطان، استشعر الأسف أحيانا لأنه تخلى عن حياة الدعة والهدوء في أيامه الأولى يوم كان من مالكي الأرض في الريف. "إني أقول، وأشهد الله على ما أقول" لو أني عشت في ظل تعريشة ورعيت قطيعا من الغنم، لكان خيرا من أن أتولى حكومة مثل هذه (69)" وفي أغسطس 1658 ماتت إليزابث أحب بناته إليه، بعد مرض طويل أليم، وبعد تشييع جنازتها بفترة وجيزة لزم كرومول فراشه وقد انتابه حمى متقطعة، وربما أفاد الكينين في شفائه، ولكن طبيبه أبى أن يستخدمه لأنه علاج حديث أتى به الجزويت الوثنيون إلى أوربا (70). وبدا أن كرومول أبل من مرضه، وتحدث في جرأة وشجاعة إلى زوجته قائلا: "لا تظني أني سأفارق الحياة، أني واثق من عكس هذا (71)". وطلب إليه أن يعين من يخلفه فأجاب "ريتشارد" أي ابنه الأكبر. وفي الثاني من سبتمبر أصيب بنكسة، وأحس باقتراب

ص: 36

منيته. ودعا الله أن يغفر له خطاياه ويحفظ البيوريتانيين. وبعد ظهر اليوم التالي فارق الحياة. وكتب السكرتير ثورلو: "لقد صعد إلى السماء مضمخاً بدموع شعبه، على أجنحة صلوات القديسين ودعواتهم (72) " ولما وصلت أنباء موت كرومول إلى أمستردام "أضيئت المدينة أيما إضاءة، وكأنما طلقت من عقالها، ومضى الأطفال في القنوات هاتفين متهللين فرحا لموت الشيطان (73).

‌8 - طريق العودة

1658 -

1660

لم يمتلك الشيطان نفس ريتشارد بن كرومول. كما أنه لم يكن لديه من الصلابة والإرادة الحديدية ما يمكن أن يقيد به إنجلترا في الأغلال التي صنعتها القوة والتقوى. وكان ريتشارد يشارك أخته، رقة العقل مما جعلها ينظر أن في فزع خفي إلى سياسة الخدم والحديد التي انتهجها والدهما. لقد جثا ريتشارد من قبل على ركبتيه أمام أبيه، ضارعاً إليه أن يبقى على حياة شارل الأول. وطيلة عهد الجمهورية والحماية، عاش في هدوء وسلام في الريف على الضيعة التي حصل عليها بالزواج ولم يسكن به من طموح في أن يصبح في 4 سبتمبر 1658، بناء على وصية والده، "حامي الحمى" إنجلترا ووصفته لوسي هتشنسون بأنه "وديع مهذب فاضل، ولكنه فلاح بطبيعته، ولم تكن تليق له العظمة (74) ".

وأفلتت الآن، في جرأة أكثر، كل العناصر التي كان أوليفر قد كبح جماحها، عندما أدركت وهن نسيج ريتشارد. من ذلك أن الجيش الذي كره فيه خلفيته المدنية، والذي رغب في أن يحتفظ بالسلطة التي كانت على عهد والده عسكرية بشكل صريح، نقول إن هذا الجيش ألتمس منه أن يتخلى عن إدارة الجيش إلى فليتوود، فأبى، ولكنه هدأ من روع زوج أخته

ص: 37

بتعيينه قائدا. ولما كانت الخزانة خاوية مثقلة بالديون، فإنه دعا برلمانا اجتمع في 27 يناير 1959، وراجت الشائعات بأنه يدبر عودة أسرة ستيورات إلى العرش. فجاء ضباط الجيش تتبعهم زمر من الجنود إلى ريتشارد وطلبوا إليه فض البرلمان، فأرسل إلى حرسه ليتولوا حمايته فتجاهلوا أوامره. واستسلم ريتشارد للقوة ووقع أمرا بحل البرلمان (22 أبريل)، وأصبح الآن تحت رحمة الجيش. ودعا الجمهوريون المتحمسون في الجيش يتزعمهم اللواء جون لمبرت، أعضاء البرلمان الطويل الباقين على قيد الحياة للاجتماع من جديد، وممارسة السلطة التي كانت لهم، كما كانت للبرلمان المبتور، حتى مجيء كرومول، وطرده إياهم بمعونة الجمهوريين المتحمسين في الجيش 1653. والتأم عقد هذا البرلمان المبتور الجديد في وستمنستر في مايو 1659. ولكن ريتشارد الذي لقي من السياسة نصيباً، أرسل استقالته إلى هذا البرلمان في 25 مايو. واعتزل الحياة العامة، وفي 1660 آوى إلى فرنسا حيث عاش في عزلة تحت اسم مستعار هو جون كلارك. وعاد إلى إنجلترا في 1680، حيث وافته منيته في 1712 وهو في السادسة والثمانين من العمر.

وكتب أحد الملكيين في 3 يونية 1659 يقول: "أن الفوضى كانت تعتبر كمالا، إذا قيست إلى نظامنا الراهن وحكومتنا الحاضرة (75) واستمر الصراع على السلطة بين الجيش والبرلمان، ولكن قطاعاته المقيمة في إسكتلندة وإيرلندة أيدت البرلمان. وكان ثمة حزب ملكي قوى في البرلمان الذي كانت غالبيته من الجمهوريين. وفي 13 أكتوبر حشد لمبرت جنوده عند مدخل قصر وستمنستر وطرد البرلمان، وأعلن أن الجيش سيتولى مقاليد الحكومة. وبدأ أن تعاقب الأحداث التي بدأت بحركة برايد في التطهير، سوف تتكرر مع كرومول آخر هو لمبرت.

وفال ملتون عن "انقلاب" لمبرت "أنه عمل أبعد ما يكون عن

ص: 38

الشرعية، ومن أشد الأعمال خزيا وعارا .. إني لأخشى أن أكون واحدا في مجتمع همجي متبربر

وإلا فكيف يجرؤ جيش مأجور أن يخضع لسلطانه هو السلطة العليا التي أقامته، على هذا النحو (76)"ولكن الشاعر كان عاجزا لا حول له ولا قوة. أن القوة الوحيدة في بريطانيا، التي كان في مقدورها أن تقف في وجه الدكتاتورية العسكرية هي جيش آخر، أو العشرة آلاف جندي الذي خصصهم البرلمان من قبل للجنرال جورج مونك لإقرار سيادته في إسكتلندة. ولسنا ندري إذا كانت ثمة أطماع شخصية خفية وراء اعتزام مونك تحدى الجيش في لندن ومقاومة اغتصابه السلطة. فأعلن مونك: "أن الضمير والشرف يقضيان على بأن أحرر إنجلترا من حكومة السيف التي كبلتها في أغلال العبودية التي لا تحتمل". وأثار بيانه الحماسة والحمية في عناصر مختلفة معارضة للحكم العسكري. ورفض الأهالي دفع الضرائب وأعلن الجيش في أيرلندة والأسطول وصبيان الحرفيين، انضمامهم إلى البرلمان. ورفض صرافو لندن أن يدفعوا للقادة المغتصبين القروض التي اعتمدوا عليها في دفع الرواتب للجند. وأحست الآن طبقات التجار والصناع الذين كانوا قد أقروا من قبل خلع شارل الأول، أن الفوضى التي تنتشر ويتفاقم خطرها، تهدد الحياة الاقتصادية في إنجلترا، وبدءوا يعجبون ويتساءلون: هل من المستطاع استعادة الاستقرار السياسي أو الاقتصادي دون ملك، تهدئ شرعية مركزة من روع الناس، وتوفر الضرائب وتسكن العاصفة؟ وفي 5 ديسمبر قاد مونك قواته إلى إنجلترا. وأرسل قادة الجيش قوات لاعتراض طريقه، ولكنها رفضت القتال ضد مونك، وسلم الضباط المغتصبون بالهزيمة وأعادوا البرلمان، واستسلموا له، وصاروا تحت رحمته (14 ديسمبر).

وكان عدد أعضاء البرلمان المنتصر 36 عضوا، ولا يزال يميل إلى النظام الجمهوري. وكان من أول القرارات التي اتخذها، قرار يتطلب من الأعضاء

ص: 39

الحاضرين وممن ينضمون إليهم في المستقبل، أن يتعهدوا بالتخلي عن أسرة ستيورات. كما رفض هذا البرلمان عودة المشيخيين الذين بقوا على قيد الحياة من أعضاء البرلمان المبتور السابق، على أساس أنهم يحبذون عودة شارل الثاني. وازدرى الناس هذا البرلمان على أنه مجرد أحياء لبركان مبتور لا يمثل إنجلترا، وعبروا من مشاعر الاحتقار "بشواء ردف البقرة" على هيئة تمثال يلقى به في النيران الكثيرة المشتعلة في الهواء الطلق، حتى بلغ عدد هذه الحرائق 31 في شارع واحد في لندن. وأما الجنرال مونك الذي كان جيشه قد وصل إلى لندن في 3 فبراير 1660 فقد أنذر البرلمان القائم بأنه إذا لم يدع إلى انتخابات جديدة موسعة، ويحل نفسه في موعد غايته 6 مايو، فإنه - أي مونك - لن يتولى حمايته بعد ذلك. كما أشار على البرلمان بإعادة الأعضاء المشيخين الذين سبق إبعادهم، ففعل. وأعاد مجلس العموم الموسع (ازداد عدد أعضائه) إقرار مذهب المشيخية (البرسبتريانز) في إنجلترا، وأصدر الدعوة إلى انتخابات جديدة، وأعلن حل نفسه. وعند ذلك كانت النهاية الرسمية الشرعية للبرلمان الطويل (16 مارس 1660).

وفي اليوم نفسه محا أحد العمال؛ أو لطخ بالطلاء، عبارات "أخرج أيها الطاغية، هذا آخر ملك، التي كانت الجمهورية قد علقتها في "بورصة لندن". ثم ألقى العامل بقبعته وهتف "فليبارك الله الملك شارل الثاني" وعندئذ، كما يروى، "انضم كل من كان في المكان يهتفون بأصوات مدوية (78). وفي اليوم التالي التقى مونك سراً برسول شارل، سيرجون جرينفل، الذي أسرع في الذهاب إلى بروكسل يحمل رسالة مونك إلى الملك غير ذي العرش.

ص: 40

‌9 - ويعود الملك

1660

منذ غادر شارل الثاني إنجلترا في 1650 هاربا لاقى في هربه عنتا ومشقة، عاش متشردا قلقاً في القارة. واستقبلته أمه هنريتا ماريا في باريس، ولكن الفرنسيون كانوا قد أفقروها. وقضى شارل وحاشيته بعض الوقت في أشد العوز، عالة على الإعانات، حتى أن مستشاره المخلص، فيما بعد، إدوراد هايد كان يعيش على وجبة واحدة في اليوم. أما شارل نفسه الذي لم يكن لديه ما يسد الرمق في البيت، فكان يتناول الطعام في الحانات معظم الأحوال نسيئة، على حساب تطلعاته. ولما عاد لويس الرابع عشر إلى أيام الوفرة والرخاء أجرى شارل معاشاً سنوياً قدره ستة آلاف فرنك، ومن ثم بدأ شارل يستمتع بحياة رغدة طليقة إلى أبعد حد، حتى يدخل السرور على قلب أمه.

وتعلم في أيام باريس هذه كيف يحب أخته هنريتا آن أعمق حب وأخلصه وجهدت الأم والأخت كلتاهما في ضمه إلى الكاثوليكية، كما أن الكاثوليك الإنجليز المهاجرين إلى فرنسا لم يألوا جهداً في تذكيره، حتى لا ينسى ما فعلوه من قبل لنصرة أبيه. ووعده مبعوثو المهاجرين المشيخين بالمساعدة على عودته إذا ارتضى حماية مذهبهم. واستمع لكلا الجانبين في لطف وكياسة، ولكنه عبر عن تصميمه على التزام مذهب الكنيسة الأنجليكانية الذي قاسى أبوه من أجله ما قاسى (79)، وربما نزع به الجدل الذي حاصروه به، إلى الشك في الدين كله. ولكن يبدو أن العبادة الكاثوليكية التي رآها حوله في فرنسا، كان لها أثر قوى عليه، وبات سراً مكتوما في حاشيته الصغيرة أنه لو أطلقت يداه لانحاز إلى الكنيسة الكاثوليكية (80) وفي 1651 كتب إلى البابا إنوسنت العاشر يعده بأنه لو عاد إلى عرش إنجلترا فلسوف يبطل كل القوانين التي صدرت ضد الكاثوليك. ولم يجب البابا بشيء. ولكن جماعة الجزويت أبلغوا شارل أن الفاتيكيان لا يمكن أن يؤيد أميرا هرطيقاً (81).

ص: 41

وعندما شرع مازاران في التفاوض لعقد تحالف مع كرومول أقنع شارل مستشاروه بمغادرة فرنسا. ووافق الكاردينال مازاران على الاستمرار في صرف المعاش لشارل، فانتقل إلى كولون ومنها إلى بروكسل. وهناك في 26 مارس 1660 حمل إليه جرينفيل رسالة مونك: إذا وعد شارل بعفو عام، باستثناء مالا يزيد عن أربعة أشخاص، ومنح، حرية الفكر، وثبت الملاك الحاليين للممتلكات المصادرة، فإن مونك يلتزم بمساعدته. وفي نفس الوقت، حيث أن إنجلترا مازالت في حرب مع أسبانيا، فيحسن بشارل أن يترك الأراضي الوطيئة الأسبانية. "فانتقل شارل إلى بريدا في إقليم برامانت الهولندي، وهناك في 14 أبريل وقع اتفاقا قبل فيه شروط مونك من حيث المبدأ، تاركا التفاصيل الدقيقة للبرلمان الجديد.

وجاءت الانتخابات بمجلس عموم ذي أغلبية ساحقة من الملكيين، واتخذ اثنان وأربعون من صغار النبلاء مقاعدهم في مجلس اللوردات الجديد وفي أول مايو تليت في المجلسين كليهما الرسائل التي حملها جرينفيل من شارل وفي "إعلان بريدا" قدم الملك الشاب عفوا عاما فيما عدا الأفراد الذين يستثنيهم البرلمان فيما بعد"، وترك للبرلمان تسوية موضوع الأملاك المصادرة ووعد "بألا يزعج شخصاً أو يستدعيه لمساءلته لخلاف في الرأي في أمور العقيدة، وألا يعكر صفو الأمن في المملكة". ثم أضاف بياناً حكيما أعده له المستشار هايد:

أنا نؤكد لكم، تحت كلمتنا الملكية أن بعض أسلافنا

كانوا يقدرون البرلمان أكثر مما نقدره نحن. وإنا لنؤمن

بأن هذه كله جزء حيوي من دستور المملكة، ضروري

لحكومتها، إلى حد أننا ندرك تمام الإدراك أنه ليس ثمة

شعب أو أمير يمكن أن يحيا حياة سعيدة إلى درجة مقبولة

بدونه، ولسوف ننظر دوما إلى نصائحهم على أنها أفضل

تراث منهم، ولسوف نكون معتزين بمآثرهم مهتمين بالمحافظة

ص: 42

عليها وحمايتها، قدر اعتزازنا واهتمامنا بأقرب شيء إلى

أنفسهم، وألزم شيء لصيانتنا والحفاظ علينا.

وسر البرلمان لهذا، وفي 8 مايو نادى بشارل الثاني ملكا على إنجلترا، مؤرخا لقبه من يوم وفاة والده، غير مستند في ذلك إلى أي قرار برلماني، بل إلى حق المولد الوراثي. كما أقر إرسال مبلغ خمسين ألفا من الجنيهات إلى شارل مع دعوته إلى القدوم فوراً لاعتلاء عرشه.

وابتهجت إنجلترا كلها تقريبا بانتهاء عقدين من السنين سادهما العنف، بعودة النظام دون إراقة قطرة من الدماء. ودقت النواقيس في طول البلاد وعرضها. وفي لندن جثا الناس في الشوارع وشربوا نخب الملك (82). وهللت كل الرؤوس المتوجة في أوربا لانتصار الشرعية، حتى المقاطعات المتحدة، وهي جمهورية بشكل قوي، كرمت شارل طوال رحلته من بريدا إلى لاهاي، وقدمت له الجمعية التشريعية التي كانت قد تجاهلته حتى الآن، مبلغ ثلاثين ألف جنيه لنفقاته، عربونا للنيات الطيبة في المستقبل. وجاء إلى لاهاي أسطول إنجليزي ترفرف عليه الأعلام مزدانة بالحروف الأولى من "الملك شارل" وحمله إلى إنجلترا في 23 مايو.

وفي 25 مايو وصل الأسطول إلى دوفر، وإحتشد على الشاطئ عشرون ألفا لاستقبال الملك. ولما اقتربت السفينة من الشاطئ سجد الجميع، كما سجد الملك عندما وطئت قدماه الأرض، شكرا لله. وكتب فولتير:"أنبأني العجائز الذين كانوا هناك أن معظم العيون أغرورقت بالدموع". وربما لم يحدث من قبل مشهد مؤثر إلى هذا الحد (83). وعلى طول الطريق الذي احتشدت فيه الجموع السعيدة على مسافات قريبة، ركب شارل ومرافقوه، تتبعهم مئات الناس، إلى كنتربرى، ثم روشستر ومنها إلى لندن. وهناك خرج (120 ألفاً للترحيب به، حتى الجيش الذي حارب ضده، انضم الآن إلى قوات مونك، في هذا العرض. وانتظره أعضاء مجلسي

ص: 43

البرلمان في قصر هويتهول. وقال رئيس مجلس اللوردات: "أيها الملك المهيب، أنت مناط رغبة ثلاث ممالك، وقوة لمختلف طبقات الشعب وسند لها، في تخفيف الانفعالات والآلام، وتسوية الخلافات .... واستعادة شرف هذه الأمم المنهار (84) ". وتقبل شارل كل هذه التحية والإطراء في لطف وتملكه شعور خاص، وعندما آوى إلى شيء من الراحة بعد أن أرهقه الانتصار، قال لأحد أصدقائه:"لا بد أنه كان من الخطأ أني لم أحضر من قبل، فإني لم ألتق بفرد واحد لم يحتج بأنه كان دوما راغبا في عودتي (85) ".

ص: 44

الفصل الثامن

‌ملتون

‌1608 - 1674

1 -

جون بنيان

1628 -

1688

في غمرة التحمس للدين والأخلاق لم يحس البيوريتانيون بالحاجة إلى أدب دنيوي. وكان في إنجيل الملك جيمس الأول (أي الذي ترجم إلى الإنجليزية في عهده) زاد كاف لهم من الأدب. وبدأ كل شيء فيما عداه، تقريباً، وتافهاً أو خبثاً آثماً. وفي 1653 اقترح أعضاء البرلمان ألا يدرس في الجامعات سوى الأسفار المقدسة و "كتاب يوم وما يماثله (1) ". وقد يبدو هذا الأمر مزعجاً محزناً، ولكن يجدر أن نلاحظ أنه في ذروة هيمنة البيورتانيين (1653) نشر توماس اركهارت ترجمته الرائعة لرابليه

(1)

، مؤثراً الأدب الداعر المكشوف على الإيمان بالبعث والحساب. وفي العام نفسه أخرج إيزاك والتون كتابه صياد السمك المثالي Compleat Angler كشف فيه عما في الماء من أسماك، وحتى في أيامنا هذه التي نقفز فيها قفزات حكيمة من نوع من السمك إلى آخر، نجد هذا الكتاب ممتعاً في بساطته وعذوبة أسلوبه، كما أنه يذكرنا بأنه على حين كانت إنجلترا تمر بثورة لا تقل عنفاً عن ثورة 1789، فإن الناس كانوا يستطيعون أن يقصدوا في هدوء إلى القنوات في الريف ليصيدوا ويوقعوا في شراكهم مخلوقاً حذراً يقظاً.

(1)

الكتابان الأول والثاني 1653؛ والثالث 1963. وأكمل بيير موتيه الترجمة في 1708.

ص: 45

انحرف قليلاً عن الطريق أيها العالم الجليل، أعرج بنا عن الطريق قليلاً حيث يمكن أن نجلس ونغني عند هذا السياج من الشجيرات الغنية برحيق الأزهار، حتى تفرغ هذه السحابة ماءها على الأرض التي تنبت الزرع (2) ".

وحافظ أندرو مارفل على حياته بحكمة وتعقل، طيلة التعديل المستمر في الحكومات من يوم مولده في 1621 إلى يوم وفاته في 1678، ورحب بعودة كرومول من أيرلندا في قصيدة غنائية قوية عذبة، ولكنه تجرأ فيها على التعاطف مع الملك الفتيل شارل الأول:

أنه لم يأت يأمر مبتذل أو دنيء، في هذا المنظر المشهود، بل تفحص ببصره الحاد نصل البلطة، كما أنه ما أهاب بالآلهة في حنق بذئ لتدافع عن حقه اليائس، ولكنه حتى رأسه الوسيم، وكأنه بحنيه على الفراش (3).

وأصبح مارفل مساعداً لملتون في وظيفة سكريتير لكرومول للغة اللاتينية. وانتخب عضواً في برلمان 1659، وساعد على إنقاذ ملتون من انتقام الملكيين المنتصرين، وعاش 18 عاماً في ظل الملكية العائدة، واستنكر مباذلها وفسادها وعجزها، في قصائد هجاء أحجم في حرص شديد عن نشرها.

وكتبت روائع جون بنيان، مثلها في ذلك مثل ملاحم ملتون، بعد عودة الملكية. ولكن الرجلين كليهما تشكلا في ظل النظام البيوريتاني. وهو يقول:"كان منبتي وضيعاً حقيراً، وكان بيت أبي من أحط البيوت أبي من أحط البيوت مكانة، وكان موضع أشد الازدراء من الأسرات ممن حولنا (4) ". وكان أبوه (سمكرياً) يصلح القدور والغلايات في قرية الستو بالقرب من بدفورد. وحصل الوالد، توماس بنيان، من مهنته على ما يكفي لإرسال ابنه جوب إلى مدرسة بدفورد حيث تعلم من القراءة والكتابة قدراً كافياً على الأقل "ليتفحص الأسفار المقدسة"، ويكتب أشهر الكتب الإنجليزية.

ص: 46

وفي القرية اشتغل صبياً لوالده الذي لقنه تعليماً شفوياً بطريقة السؤال والجواب في أمسيات أيام الأحد. وعن أولاد المدينة تعلم الكذب والتجديف في الدين. وهو يؤكد لنا "أنه لم يضارعه إلا القليل في هذه الأفانين"(5). وأكثر من هذا أنه أدين بالرقص وممارسة الألعاب وتناول قدح من الجعة في إحدى الحانات. وكلها أمور يحاسب عليها البيوريتانيون الذين لم يكونوا قد استولوا بعد على مقاليد الأمور، في سني شبابه (1628 - 1648). وهو يقول عن نفسه "كنت أتزعم أعمال الرذيلة والشر والفسوق (6) " ومثل هذه الاعترافات بالخطايا الجسيمة كانت أمراً شائعاً مألوفاً بين البيوريتانيين، حيث عملوا على جذب أشد الانتباه إلى إصلاحهم الديني، وأظهروا قدرة الله على أن يهبهم نعمة الخلاص. ولما انتشرت التعاليم البيوريتانية من حوله، أغض مضجعه وحد من نزعة الشر عنده، تفكيره في الموت وفي يوم الحساب وفي الجحيم. ورأى مرة فيما يرى النائم أن السماء كلها فوقه تضطرم بالنيران وأن الأرض نحته تزلزلت، فنهض من نومه مذعوراً، وأزعج الأسرة بصرخاته:"يا إلهي، أسألك الرحمة بي، وقعت الواقعة، ولم أعد نفسي ليوم الحساب (7) ".

وفي سن السادسة عشرة سيق إلى جيش البرلمان حيث خدم لمدة ثلاثين شهراً في الحرب الأهلية. وهو يقول عن فترة الجندية "لم أكف عن الخطيئة والإثم، وأزداد تمردي على الله، وعدم اكتراثي بالخلاص (8) ". وبعد تسريحه من الجيش تزوج من فتاة يتيمة (1648) كان كل صداقها اثنين من الكتب الدينية، وذكرياتها التي لا تفتأ ترددها عن تقى أبيها وورعه. ومذ خلف جون أباه في الحانوت، فأنه استطاع أن يعولها "بالسمكرة". وازدهرت أحواله، وتردد على الكنيسة بانتظام، وتخلى عن نزوات شبابه شيئاً فشيئاً. وكان يقرأ الكتاب كل يوم تقريباً، حتى صارت لغته الإنجليزية البسيطة هي لغة بنيان نفسه. وتحدثت قرية الستو عنه على أنه مواطن نموذجي.

ص: 47

ولكن الشوك اللاهوتية أرهقه، كما يقول. ولم يكن على ثقة من أن رحمة الله قد وسعته، وبدون هذه وبدن هذه الرحمة سيلاقي أشد العذاب. وارتاب في أن معظم أهل الستو وبدفورد سيكون مصيرهم بالفعل إلى نار الجحيم. وأزعجه تفكيره في أن معتقداته المسيحية كانت مجرد حدث جغرافي. وتساءل فيما بينه وبين نفسه:"ماذا نقول إلا أن الأتراك لديهم كتاب مقدس عظيم، مثل كتابنا، ويثبت أن رسولهم (محمداً) سوف يكون شفيعاً لهم، كما يجب أن نثبت نحن أن المسيح مخلصاً (9)؟ " "لقد غرقت روحي في بحرين من التجديف على الله والمسيح والأسفار المقدسة

وثارت في نفسي التساؤلات عن حقيقة وجود الله وابنه الوحيد الحبيب. وهل يوجد حقاً إله أو مسيح؟؟. وهل كانت الأسفار المقدسة إلا خرافة أو قصة بارعة أكثر منها كلمة الله المقدسة الخالصة؟ (10) وانتهى إلى أن هذه الشكوك أثارتها شيطان يسكن بين جنبيه. "إني لحظت الكلب والضفدعة وحسبت ما أعد الله لهما مما جعلهما في حالة أفضل من حالي بكثير

لأنهما ليس لهما نفس ترزخ تحت وطأة عذاب النار أو الخطيئة، كما هو محتمل أن تفعل نفسي (11) ".

وبينما كان يوماً في طريقه إلى الريف مستغرقاً في التأمل في شرور قلبه تذكر كلمات القديس بولس: "صنع السلام بما سفك من الدم على صليبه (12).

"وقويت في ذهنه فكرة أن المسيح مات من أجله ومن أجل الآخرين"، حتى كنت مستعداً أن أغرق في نشوة

من الحبور والهدوء الحقيقيين (13) ". وانظم إلى كنيسة معمدانية (1653) في بدفورد، وعمد، وقضى عامين في حياة تسودها السعادة والهدوء الروحيين، وفي 1655 انتقل إلى بدفورد وعين شماساً في هذه الكنيسة، وفي 1657 كلف بالوعظ، وكان موضوعه هو رسالة لوثر: ما لم يؤمن المرء إيماناً راسخاً بأنه قد تخلص من جنونه إلى الإثم بالطبيعة، بسبب موت المسيح بن الله،

ص: 48

فإنه لابد بصرف النظر عن فضائله-لا حق بالأكثرية العظمى من البشر الذي يحشرون في نار جهنم. إن تضحية المسيح المقدسة بنفسه، وهي وحدها التي يمكن أن تعدل جسامة خطيئات الإنسان. وكان من رأيه أن يلقن الأطفال هذا الأمر في وضوح تام:

في اعتقادي أن الناس يسلكون طريقاً في تعليم أبنائها العبادة ويبدوا لي أنه من الأفضل أن ينبئ الناس أطفالهم، في وقت مبكر، وقبل فوات الأوان، أية مخلوقات بغيضة لعينه هم، وكيف أنهم يبوؤون بغضب من الله، بسبب الخطيئة الأولى الأصلية الفعلية، كما يظهرونهم على طبيعة غضب الله، وخلود البؤس والشقاء (14).

ووسط هذه النصائح والتحذيرات، ضمت مواعظ بنيان كثيراً من الآراء الحكيمة في تنشئة الأطفال ومعاملة المستخدمين، وكان مثل غيره من الوعاظ، عرضة لتحديات الكويكرز، الذين قالوا إنه ليست الأسفار المقدسة، بال النور الداخلي هو الذي يهيئ المعرفة والخلاص. وفي 1656 وضع كتابين هاجم فيها الطائفة الجديدة المزعجة. فكان جوابهم أنهم اتهموه بأنه يسوعي، قاطع طريق، زان ساحر (15). أما أسوأ الشدائد فقد حلت عليه بعود الملكية، فقد جدد القانون القديم الذي صدر في عهد اليزابيث والذي قضى بحضور كل الإنجليز الصلوات الأنجليكانية دون غيرها، وأذعن بنيان إلى حد إغلاق مكان اجتماعاته الخاص في بدفورد، والتقى بجمهور المصلين في أماكن خفية وألقى عليهم مواعظه، فاعتقل، وعرض عليه إطلاق سراحه إذا وعد بألا يعظ علانية. فرفض وأودع سجن بدفوود (نوفمبر 1660)، وهناك قضى اثني عشر عاماً، مع بعض فترات تمتع فيها بحرية محدودة. وتجدد في أوقات متفرعة عرض الإفراج عنه، بنفس الشروط، مثيراً نفس الرد:"إذا أطلقتم سراحي اليوم فسأشرع في الوعظ غداً (16) ".

ص: 49

وربما أصبحت حياة الأسرة عبئاً ثقيلاً، لقد توفيت زوجته الأولى في 1658 تاركاً له أربعة أطفال أحدهم أعمى، وكنت الثانية حاملاً. وعاون الجيران في إقامة أود الأسرة، وأسهم بنيان في نفقتها بصنع بعض المحرمات في السجن وتدبير أمر بيعها، وأجيز لزوجته وأولاده أن يزوروه كل يوم كما أجيز لجيرانه أن يعظ رفاق السجن، وأن يغادر السجن متى شاء، حتى للسفر إلأى لندن (17). ولكنه استأنف الوعظ سراً فضيقوا عليه الخناق في السجن. وفي المعتقل قرأ الكتاب المقدس المرة تلو المرة، كما قرأ كتاب فوكس "سجل الشهداء"، وأذكى حرارة الإيمان عنده بمحارق الأبطال البروتستانت، ووجد متعة عظيمة في رؤى سفر الرؤيا، ولا بد أنه كان مزوداً بالقلم والقرطاس، لأنه في السنوات الست الأولى من احتجازه كتب ست قطع دينية، كما وضع مؤلفه العظيم "الرحمة تتسع لكبير الخطائين". وهو سيرة حياته الروحية، وهو رؤيا تكاد تكون مفرغة من رؤى العقل البيوريتاني.

وفي 1666، وفي ظل "الإعلان الأول للتسامح" الذي أصدره شارل الثاني، أطلق سراح بنيان فعاود الوعظ فأعيد إلى السجن. وفي 1672 أجاز "الإعلان الثاني للتسامح" الذي أصدره شارل الثاني، للقساوسة المنشقين أن يلقوا المواعظ، فأفرج عن بنيان، وانتخب على الفور راعياً للكنيسة القديمة. وفي 1673 أبطل العمل بإعلان التسامح، وتجدد تحريم الوعظ على المنشقين، فلم يتمثل بنيان له، وأعيد إلى السجن (1675)، ولكن سرعان ما أخلى سبيله.

وفي هذه المرحلة الثالثة والأخيرة كتب بنيان الجزء الأول من "انطلاق الحجيج من هذه الدنيا إلى العالم الثاني"، وقد نشر هذا الجزء في 1678 وأعقبه الجزء الثاني في 1684. (في مقدمة شعرية مضحكة رديئة غير معقولة زعم بنيان أنه كان قد وضع هذا الكتاب ملهاة وتسلية لنفسه دون أن يفكر في نشره) وعرض القصة، في لطف، في صيغة وهم أو

ص: 50

خيال جامح.

"بينما كنت أضرب في فيافي هذا العالم، جئت إلى مكان معين حيث كانت ثمة "خلوة" فتمددت في هذا المكان لأنام، وإذ غلبني النعاس رأيت فيما يرى النائم حلماً (18) ".

إن كريستيان استبد به في هذه الرؤويا. التفكير في أنه يجب عليه أن يتخلى عن كلي شيء وينسني كل شيء، وألا يلتمس سوى المسيح والجنة. فيهجرون زوجته وأولاده، ويبدأ رحلته إلى "المدينة السماوية". ويلحق به "الموحى بالأمل Hopaful" الذي يعبر عن العقيدة البيوريتانية في إحكام بارع:

كنت يوماً في حزن شديد، أحسب أنه أشد ما لقيت في حياتي. ونتج هذا الحزن عن رؤية صادفة لجسامة آثامي وفظاعتها، ولما كنت آنذاك لا أفكر في شيء إلا الجحيم والعذاب المقيم. فإني فجأة، وأنا غارق في التفكير، رأيت يسوع المسيح ينظر إلي من علياء السماء، قائلاً:"آمن بيسوع المسيح وسيكتب لك الخلاص (19) ". ولكني أجبته: إني خطأ كبير خطأ كبير جداً، فأجاب "رحمتي تتسع لك"

وهنا غمرني الفرح (20).

وبعد شيء كبير من المحنة والنزاع يصل الحجيج إلى "المدينة السماوية" فندرك هذا الذي كانوا يأملون فيه في حماسة بالغة:

ومن عجب أنهم حين دخلوا، تغيرت هيئتهم وأحاطت بهم هالة من الجلال، وأرتدوا ملابس بدت وكأنها من ذهب. كما كان هناك من قابلهم بالقيثارات والتيجان وأعطاهم إياها-القيثارات-لترتيل آيات المدح والثناء والتيجان رمز للتكريم والتشريف، وأنظر، أن "المدينة السماوية" يتألق نورها وكأنه ضياء الشمس، والشوارع مكسوة أرضيها بالذهب، وفيها سار خلق كثير تعلو رؤوسهم التيجان ويمسكون بأغصان الغار في أيديهم، ومعهم قيثارات من الذهب ينشدون عليها ترانيم الثناء والشكر (21).

ص: 51

أما "الجهل المسكين" الذي تبعهم، متعثراً في عرجه، دون أن يتزود بالإيمان الصادق، فأنه يأتي إلى أبواب "المدينة السماوية"، ويطرقها، فيسأل عن جواز مروره فلا يجده، فيلقي به الجحيم (22) -إن القصة تروي بشكل جذاب، ولكنا نعطف أحياناً على "العنيد" الذي يقول عن المسيحي ورفاقه، "هناك فئة من هؤلاء المخبولين المغرورين الذين، حين يمسكون بطرف من الخيال، يظنون أنهم أعقل حتى ممن يستطيعون تحكيم عقولهم (23) ".

أن فكر حج النفس من نطاق المغريات الدنيوية إلى نعيم الآخرة، فكرة قديمة، وتلك كانت صفتها المجازية في العصور الوسطى، ويحتمل أن بنيان كان قد قرأ من هذه الكتب (24). وجر النسيان ذيوله الآن عليها في غمرة النجاح الخارق الذي لاقته القصة الجديدة، حيث صدر منها تسع وخمسون طبعة في المائة العام الأول من ظهورها، وبيع منها مائة ألف نسخة قبل وفاة بنيان. وبيع منها ملايين من النسخ منذ هذا الوقت، وترجمت إلى 108 من لغات أمريكا البيوريتانية. وكانت تقتني في كل بيت تقريباً. ودخلت منها إلى الحديث الدارج عبارات كثيرة- (سلخ) التخلص من الجزع، غرور الدنيا رجل الدنيا الحكيم. وفي القرن العشرين فقد الكتاب شعبيته بسرعة، حيث لم يعد للخلق البيوريتاني وجود، ولم يعد هناك إيمان بما جاء في الكتب ولم يعد يقتنى، ولكنه لا زال فيضاً من اللغة الإنجليزية البسيطة العذبة الواضحة.

وضع بنيان نحو ستين كتاباً، وليس ثمة ما يدعو اليوم إلى قراءتها. وبعد إطلاق سراحه للمرة الأخيرة 1675 أصبح واحداً من ألمع الوعاظ في عصره، والزعيم المعترف به لطائفة المعمدانيين في إنجلترا. وأبدى إعجابه بشارل الثاني. وأمر أتباعه بالولاء والإخلاص لملك أسرة ستيورات بوصفه درع إنجلترا وحاميها ضد البابا (25). وبعد انقضاء ثلاث سنوات على إعلان شارل الثاني اعتناقه الكثلكة وهو على فراش الموت، أنهى

ص: 52

جنيان رسالته، ومن الغريب أن نهايته كانت مثل لوثر. ذلك أنه حدث في ريدنج (مدينة في وسط إنجلترا) نزاع باعد بين والد وولد كان ينيان مولعاً بهما، فسافر إليها على ظهر جواد من بدفورد. فأصلح بين الفريقين المتخاصمين، ولكنه عندما قفل راجعاً على ظهر جواده، فاجأته العاصفة وبللته قبل أن يعثر على مأوى يعصمه منها، وانتابته حمى لم يبل منا قط. وروى التراب في مقبرة للمنشقين في بنهل فيلدز ( Bunhill Fields) حيث يرقد حتى اليوم مع شاهد حجري على قبره.

‌2 - الشاعر الشاب

1608 -

1640

كان جد ملتون كاثوليكياً حكم عليه في 1601 بدفع غرامة قدرها ستون جنيهاً لتغيبه عن الصلوات الأنجليكانية، وحرم ابنه من الميراث لأنه تخلى عن الكنيسة الرومانية. أما جون ملتون، الذي تبرءوا منه وأنكروه فقد حصل على قدر لا بأس به من المال بوصفه كاتباً عمومياً في لندن، صاحب قلم برع في كتابة أو نسخ المخطوطات والوثائق والمستندات القانونية. وأولع بالموسيقى، ونظم القصائد الغزلية القصيرة، واحتفظ في داره بكثير من الآلات الموسيقية ومن بينها أرغن، وانتقل هذا الانعطاف نحو الموسيقى إلى الشاعر الذي ربما أقر بأن المرء لكي يجيد الكتابة، لابد أن تتغلغل الموسيقى في نفسه، وأن تكون له أذن موسيقية واعية. أما الأم، سارة جفري، فكانت ابنة خياط تاجر، أنجبت لزوجها ستة أبناء كان صاحبنا جون ثالثهم. أما أخوه الأصغر فأصبح ملكياً يدين بالولاء لأسرة ستيوارت، وواحد من رجال الكنيسة التقليدية. على حين أن جون أصبح جمهورياً بيوريتانياً من أنصار كرومول. وكان البيت في "برد سترت" مؤسسة بيوريتانية تقية مخلصة، ولكن غير متزمتة، فإن حب الجمال الذي ساد عصر النهضة، امتزج هنا بالنزوع إلى الخير والفضيلة، الذي أتى به الإصلاح الديني.

ص: 53

واشترى جون الأكبر عقاراً، وأثرى، واستخدم معلمين (بيوريتانيين) من أجل جون الأصغر، وأرسله في سن الحادية عشر إلى المدرسة إلى مدرسة سانت بول. وهناك تعلم الصبي اللاتينية واليونانية والفرنسية والإيطالية وبعض العبرية، وقرأ شكسبير ولكنه آثر عليه سبنسر. وأنا لنلحظ، عابرين، أنه تأثر كثيراً بالترجمة الإنجليزية لكتاب "الأسبوع" لمؤلفه دي بارتاس (1578)، وهو عبارة عن ملحمة تصف خلق الدنيا في سبعة أيام:

كان بي نهم شديد إلى العلم والمعرفة، إلى حد أني، منذ بلغت الثانية عشر كدت لا أترك الكتاب أبداً، ولا آوي إلى النوم قبل منتصف الليل. وهذا أدى في الأساس إلى فقد بصري. وكانت عيناي (مثل عيني أمه) ضعيفتين بطبيعتهما، وكنت عرضة للإصابة بالصداع كثيراً، ولكن هذا على أية حال لم ينقص من حبي للإطلاع، ولم يعوق تقدمي في التحصيل (26).

وفي سن السادسة عشرة انتقل إلى كريست كولدج في كمبردج. وهناك أدى نزاعه مع أحد المدرسين إلى التضارب والتلاكم بالأيدي. وأحس صمويل جونسون "بالخجل حين أروي ما أخشى أن يكون حقيقة، وهي أن ملتون كان من أواخر من وقعت عليهم العقوبة البدنية من طلبة الجامعتين كلتيهما"(27). وطرد لمدة فصل دراسي واحد ثم سمح له بالعودة، وكان بالفعل ينظم شعراً جيداً. وفي 1629، وهو في الحادية والعشرين، نظم قصيدة غنائية في الاحتفال "بصبيحة عيد الميلاد". وبعد ذلك بعام واحد، نظم قصيدة من ستة عشر بيتاً، أحياء لذكرى شكسبير ولتنقش على قبره، وقد ووفق بعد ذلك على نشرها في الطبعة الثانية لإعمال شكسبير:

ما حاجة شكسبير العزيز إلى جهد جيل في إقامة أحجار مكومة لعظامها لمكرمة، أو لإخفاء رفاته المقدسة تحت هرم يشير إلى النجوم؟

أيها العزيز الذي لا يغيب عن الذاكرة، أيها العظيم سليل الشهرة، ماذا

ص: 54

يريد من شاهد هزيل على اسمك الرنان

(1)

.

وقضى ملتون في كمبردج ثمان سنوات، وحصل على درجة البكالوريوس في 1628، والماجستير 1632. ثم تركها دون أن يحس بالولع المعهود في المتخرجين بحضور يوم الكلية التي تخرجوا منها. وكان أبوه يتوقع أن ينخرط في سلك الكهنوتية. ولكن الشاب المغرور أبى أن يقسم يمين الولاء للمذهب الأنجليكاني وطقوسه الدينية:

ومذ رأيت كيف غزا الطغيان الكنيسة-بمعنى أن الذي يرسم قسيساً يجب أن يتعهد بأن يكون عبداً رقيقاً، وفوق ذلك يقسم اليمين الذي لو لم يلتزم إلتزاماً يبعث على الضجر فإنه أما أن يحنث في يمينه أو يرائي في إيمانه-فأني وجدت من الأفضل إيثار الصمت البريء أمام الوظيفة المقدسة، وظيفة الكلام والوعظ، التي تشتري بالعبودية والقسم الكاذب (29).

وآوى ملتون إلى البيت والده الريفي في هورتون بالقرب من وندسور، ومن الواضح أن والده تولى الإنفاق عليه هناك، وتابع هو دراساته، القديمة بصفة أساسية، إلى أن ألم حتى بأصغر المؤلفين اللاتينيين شأناً. وكتب قصائد باللغة اللاتينية، اثنى عليها كاردينال كاثوليكي. وسرعان ما جعل دفاعه باللاتينية عن سياسة كرومول يرن صداه في أنحاء أوربا. وحتى حين كتب نثراً بالإنجليزية، فأنه كتب باللاتينية حيث كان يخضع الإنجليزية لتقديم وتأخير وتعقيدات والتواءات كلاسيكية، ولكنه كان يكتب في لغة غريبة ساحرة رنانة.

ويحتمل أنه في هورتون وسط الحقول المورقة والخضرة في الريف الإنجليزي، كتب القطع المزدوجة، التي خلدت ذكرى الابتهاج الخالي من

(1)

يؤسفنا أن نضيف أنه لما وكل إلى ملتون مهمة الدفاع عن إعدام شارل الأول، ذكر من بين المساوئ التي تلطخ ذكرى هذا الملك اعتزازه وولعه بشكسبير (28).

ص: 55

الهم، ونوبات الكآبة في شبابه العابر، سواء بسواء. إن كل سطر من " Allegro" يطالب بأن يتغنى به الناس. و"اللجرو" هي "الابنة الجميلة، الممتلئة الجسم، المرحة اللطيفة، والمولودة من "زفير" الريح الغربية العليلة وهي تداعب أورورا الفجر" أن كل شيء في مشهد الريف يدخل الآن البهجة على قلب الشاعر: القنبرة تشق سكون الليل، الديك يختال في مشيته أمام دجاجاته، الكلاب تقفز عند سماعها بوق الصياد، شروق الشمس "في أشعة وضاءة في لون الكهرمان"(أصفر ضارب للحمرة). بائعة اللبن التي تغني والقطعان التي تلوك غذاؤها، ورقص الشبان والشابات على الحشائش، والأمسيات بجوار المدفأة أو في المسرح:

إذا مثل بن جونسون إحدى تمثيلياته الراقية أو صدح شكسبير الشاعر العذب القوي الخيال بألحان الغابة الشعبية الفطرية الموسيقى.

وتفك الأغلال التي تقيد روح التأليف والانسجام الخفية، إنك إذا استطعت أيها المرح أن توفر لي هذه المباهج كلها، فإني أود أن أحيا معك.

وحتى الآن لم يكن ثمة بيوريتاني متهجم عبوس مكتئب، بل شاب إنجليزي مفعم بالصحة يجري في عروقه بعض دم شعراء عصر اليزابث.

ولكن طرأ بين الحين والحين مزاح آخر، حتى بدت هذه المسرات تافهة للعقل المفكر، حين يتذكر المأساة (التراجيديا)، ويفتش عن مغزى، ولا يجد في الفلسفة إجابات، بل تساؤلات للم يحس بها من قبل. عندئذ يأتي " Penseroso" المفكر: يسير دون أن يراه أحد:

حيث يرى القمر المتجول، راكباً قرب الظهيرة، وكأنه رجل ضل الطريق، عبر السموات المترامية الأرجاء الخالية من المسالك.

أو يجلس وحيداً إلى جانب المدفأة:

حيث الجمرات المتوهجة في الغرفة تعلم الضوء كيف يكتسي بالظلمة بعيداً عن أي مصدر للابتهاج والفرح، اللهم إلا صرار الليل على الموقد.

ص: 56

أو أنه قابع "في برج عال منعزل"، تغلبت عليه النجوم، يقلب صفحات أفلاطون، ويساءل أين المساء.

أية عوالم وأية أقطار شاسعة تتسع لهذا العقل الخالد الذي تخلى عن قصره في زواية من جسده.

أو هو يتذكر مآسي العشاق والميتات الحزينة للملوك. وخير من هذه الفلسفة الصارمة هناك "صحن الدير الذي يعج بالجهد والجد في العمل والدرس" في الكاتدرائية الكبرى، ونوافذها التي تروي مشاهد التاريخ وضوئها المظلل:

فليعرف الأرغن المجلجل، للمرتلين ذوي الأصوات الممتلئة أدناه، في أصوات عالية وترنيمات صافية، فلربما غمرتني عذوبة الأنغام في أذني بنشوة، وأبرزت كل السموات أمام ناظري".

تلك هي المتعة والمسرات التي يجدها "الرجل المفكر"، وإذا بدت مرتبطة بالمكآبة، فإن الشاعر سيقضي حياته مع الكآبة. ففي هاتين القصيديتين البهيجتين، يكشف ملتون عن ذاته وهو في الرابعة والعشرين، شاباً تتحرك مشاعره لكل ما في الحياة من جمال، ولا يجد حرجاً في المسرات والملذات، كما وجد التفكير المحير في الحياة والموت طريقه إلى نفسه فتأثر به، كما أحس بالصراع بين الدين والفلسفة يحتدم بين جوانبه.

وحانت أول فرصة ليبرز فيها الشاعر ويذيع صيته في 1634 حين كلف بكتابه مسرحية ريفية يمثلها ممثلون مقنعون في الاحتفالات بتولية أرل يرد جووتر رئيساً "لمجلس الغرب". ولحن هنري لاوس الموسيقي التصويرية. أما شعر ملتون فكان مجهولاً أسم مؤلفه تواضعاً. وكان موضع ثناء وإطراء، إلى حد أنه حمل على الاعتراف بأنه مؤلفه. وأطراه سير هنري وتون قائلاً: في أغانيك وقصائدك رفة دورية (نسبة إلى الدورين الذين غزواً بلاد الإغريق في القرن 12 ق. م.) لم أر لها مثيلاً في لغتنا حتى اليوم (30)

ص: 57

"وكان عنوان القطعة في الأصل" مسرحية في قصر لدلو (في شروبشير) أما اليوم فهي تسمى "كومس Comus"( المسرحية) وقد مثلها اثنان من صغار النبلاء مع شقيقتهما، وكانت فتاة في ربيعها السابع عشر، من وصيفات الملكة هنريتا ماريا. وعلى الرغم من أن معظم المسرحيات كان شعراً مرسلاً غير مقفى، محشواً بالأساطير، فقد كانت زاخرة بالغناء العاطفي المرح والأناقة الرائعة الشجية: وتميزت ببراعة لم تتكرر في شعر ملتون فيما بعد وكانت الفكرة الرئيسية فكرة تقليدية: عذراء فاتنة، تتجول في الغابات على غير هدى، وهي تشدو:"بأغنيات ربما خلقت نفساً من تحت براثن الموت".

ويدنو منها الساحر "كومس" ويقرأ عليها تعويذة حتى تتخلى عن عفتها، ويتوسل إليها أن تلهو معه، وقد تألقت نضارة وشباباً، فتدافع الفتاة، في فصاحة بالغة عن الفضيلة وضبط النفس و "الفلسفة السماوية"، وجرت كل الأبيات على خير وجه. فيما عدا قطعة ربما كانت مشئومة، إشارات إلى "الجمهورية"، كان من المحتمل أن يؤدي بهذا الجمع الحاشد المسرف النفور والاستياء:

إذا كان لكل رجل منصف، يصيبه الآن الهزل والنحول تحت وطأة العوز قدر متواضع يليق به، من هذا الترف الفاخر الذي تنعم به الآن فئه قليلة في إسراف بالغ، لتوزعت كل خيرات الطبيعية توزيعاً عادلاً في أنصبة متساوية غير زائدة عن الحاجة، ولما اختزنت الطبيعة مثقال ذرة هذه الخيرات (31).

وفي 1637 اعتل مزاج الشاعر وتكدر صفو حياته بغرق صديقه الشاب ورفيقه الشاعر إدوارد كنج. وأسهم ملتون في كتاب تذكاري عن كنج، بقصيدة رثاء "ليسيداس Lycidas" منظومة في شكل رعوي مصطنع محشوة بالآلهة الموتى، ولكنها غنية بالأبيات التي لا تزال تحلق فيها الذكرى الحبيبة.

ص: 58

وا أسفاه ماذا يحملنا على أن نرهق أنفسنا بهذا الهم المقيم، في النهوض بصنعة الراعي (نظم الشعر) البسيطة المحتقرة، وللتأمل بكل ما أوتينا من قوة في ربة الشعر الجحود؟. أما كان من الخير، كما يفعل الآخرون، أن يلهو ويلعب مع الراعية أما ريللس في الظل، أو يعبث بخصلات شعر "نيرا". أن الشهرة هي الحافز الذي يثير الروح الصافية وهي آخر الوهن في (العقل الرفيع)، ليزدري بالمباهج، ويكد ويشقى طوال أيامه. ولكن حين نأمل في الحصول على الجزاء الوفاق. وتفكر في الانطلاق إلى الوهج الخاطف تأتي "الروح العمياء"(ملك الموت) بآلهتها البغيضة، لنقضي على الحياة الواهنة الخيوط.

ويبدو أن جون ملتون الأكبر (الوالد) أحس بأن ست سنوات من الانصراف إلى العمل في رواية وأناة في هورتون كانت جزاء وفاقاً للموهبة التي ابتدعت مثل هذه القطع الغنائية. وليكمل حسن صنيعه أرسل ابنه ليتجول في أنحاء القارة مع دفع كل النفقات. وغادر ملتون إنجلترا في إبريل 1632 يرافقه خادم. وقضى بضعة أيام في باريس (وكانت آنذاك تحت قبضة ريشليو العسكرية)، وأسرع إلى إيطاليا، حيث أقام شهرين في فلورنسة، زار خلالها جاليليو الكفيف نصف السجين، والتقى برجال الأدب، وجلس إلى الجامعيين، وتبادل معهم التحية في شعر باللاتينية، ونظم بالإيطالية قصائد السونيت، وكأنه نشأ وترعرع على ضفاف نهر أرنو أو نهر بو. وفي نابلي استقبله ورحب به وكرمه نفس المركيز مانسو الذي صادق وناصر تاسو وماريني من قبل وقضى في روما أربعة أشهر التقى فيها ببعض الكاردينالات المثقفين وأحبهم، ولكنه أعلن بصراحة مذهبه البروتستانتي. ثم عاد إلى فلورنسة، ثم تصد إلى البندقية عبر بولونيا وفيرار، ثم ذهب إلى فينبس عبوراً بمدينة فيرونا وميلان ثم قفل راجعاً إلى لندن مروراً بجنيف وليون وباريس (أغسطس 1639).

وفي كتاباته الأخيرة دون قطعتين مشهورتين عن رحلته في إيطاليا.

ص: 59

وكتب رداً على تعريض أحد الخصوم به: "أشهد الله أنه في كل تلك الأماكن التي لا تليق فيها الرذيلة إلا أيسر الاستنكار والتثبيط، وترتكب في أقل خجل وأيسره، لم أحد أنا قط عن جادة الفضيلة والنزاهة (32) ". وبتذكر كيف امتدح النقاد الإيطاليون شعره:

وهكذا بدأت أوافق كل الموافقة على ما ذكره هؤلاء النقاد الإيطاليون أو يقول نفر من أصدقائي هنا في بلدي، كما استمع بنفس القوة إلى اسحثاث داخلي ينمو بين جوانجي كل يوم، من أنه بالعمل الجاد والانكباب على الدرس (وهذا ما اعتبره قدري في هذه الحياة) بالإضافة إلى الميل الطبيعي، بهذا كله يمكن أن أخلف شيئاً مكتوباً للأجيال القادمة، وقد لا يرتضون أن يفنى (بل يبقى ويخلد على الزمن)(33).

وبدأ ملتون الآن يخطط لملحمة تخلد ذكر وطنه وعقيدته، وتخلد اسمه على مر القرون. وكان لزاماً أن تمضي عشرون سنة قبل أن يتمكن من البدء فيها، وتسع وعشرون سنة قبل أن يتمكن من نشرها. وفيما بين فترتي نظمه الشعر: الفترة الأولى (1630 - 1640) والثانية (1658 - 1668)، لعب دوراً في الثورة الكبرى، وسخر قلمه للحرب والنشر.

‌3 - المصلح

1640 -

1642

في 1639 استأجر ملتون مسكناً لرجل أعزب في "سانت بريد تشير شيارد" في لندن، حيث تولى التدريس لأبناء أخته. وبعد سنة واحدة انتقل معهم إلى أولد رزجيت ستريت"، وهناك (1643) أستقبل عددا آخر من التلاميذ بين سن العشرة إلى سن السادسة عشرة آواهم وعلمهم، وحصل من ذلك على دخل متواضع يكمل به المبلغ الذي خصصه له والده. وفي كتاب إلى "مستر هارتلب (1644) صاغ ملتون آراءه في التعليم. فأتى لهذه اللفظة بتعريف قوي رائع: "أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة

ص: 60

والعامة، في السلم والحرب، سواء بسواء (34)" وأول واجب على المعلم هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، "ويصلح ما أفسده آباؤنا الأولون"-أي أن يقهر نزعة الشر الطبيعية في الإنسان (الخطيئة الأولى) -أو (كما يجدر بنا أن نذكر الآن) أن يعيد تكييف الخلق القومي الذي سبق تشكيله وفقاً لحاجات مرحلة الصيد، نقول تكييفه تبعاً لمتطلبات حياة المدينة الحالية". وأحس ملتون أن هذا يمكن تحقيقه على خير وجه بأن نغرس في الذهن الناشئ إيماناً قوياً باله واحد بصير، وأن نعوده على ضبط النفس وفقاً لنظام واقي (التحرر من الانفعال، عدم التأثير بالفرح أو الترح، الخضوع دون تذمر لحكم الضرورة) وضرب لتلاميذه مثلاً يحتذونه: "الدراسة الشاقة والطعام اليسير". فقلما أجاز لنفسه يوماً "اللهو والمتعة (35) وبعد الدين والأخلاق، يجب أن تأتي الدراسات اللاتينية والإغريقية القديمة، والتي لم يستخدمها ملتون مجرد نماذج للأدب، بل وسائل لدراسة العلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ والقانون والأخلاق والفسيولوجيا والطب والزراعة وهندسة العمارة، والخطابة والشعر والفلسفة واللاهوت. وإذا كان هذا التوفيق الفريد بين العلم والإنسانيات قد أفترض أن النزر اليسير قد أضيف إلى العلم منذ سقوط روما، فيجب أن نلاحظ أن هذا حقيقي فعلاً، اللهم إلا بالنسبة لجاليليو، بل أن كوبرنيكس نفسه كان له سلفه الإغريقي في شخص أرستارخوس. وفوق ذلك، اقترح ملتون تعريف تلاميذه كذلك ببعض النصوص الحديثة في العلوم والتاريخ، بل حتى ببعض النماذج الحية في الفنون العملية، وكان يأمل في أن يستقدم إلى حجرات الدراسة صيادين وبحارين وبساتين ومشتغلين بالتشريح وصيدليين ومهندسين ومعماريين، لينتقلوا إلى التلاميذ أحدث ألوان المعرفة في هذه المجالات (36) وخصص وقتاً كافياً للموسيقى والتمثيل، وساعة ونصف الساعة يومياً للرياضة البدنية والتدريب العسكري. ويمكن أن يطوف طلابه أرجاء البلاد في جماعات على صهوات الجياد، يرافقهم أدلاء معروفون

ص: 61

بالرزانة والحصافة، لتعلموا ويلاحظوا، "أو" يلتحقون بالبحرية بعض الوقت ليتعلموا الملاحة ومصارعة البحر، وأخيراً وبعد بلوغهم سن الثالثة والعشرين، يمكنهم أن يسيحوا خارج إنجلترا. وهذا برنامج شاق، ليس لدينا دليل على تطبيقه تطبيقاً كاملاً في مدرسة ملتون، وربما كان في حيز الإمكان تطبيقه أو أن التلاميذ اقتبسوا من معلمهم شيئاً من غيرته وجده.

وراوده أحياناً حلم إنشاء أكاديمية تنافس أكاديمية أفلاطون وأرسطو. ولكنه افتتن بأحداث العصر البارزة والشغل بها. من ذلك أن التئام البرلمان الطويل (1640) كان نقطة تحول في حياته، بل يكاد يكون تحولاً عنيفاً غير طبيعي عن الشعر والتعليم إلى السياسة والإصلاح. وفي 11 ديسمبر قدم حزب "الجذر والفرع" البيوريتاني الذي انتسب إليه بعض أصدقائه قدم إلى البرلمان عريضة صارخة ممهورة بخمسة عشر ألف توقيع (يحتمل أن يكون من بينهم ملتون) يلتمسون فيها إقصاء الأساقفة عن الكنيسة الإنجليزية. ورد جوزيف هول أسقف أكستر على العريضة "باحتجاج متواضع إلى المحكمة العليا في البرلمان"(يناير 1641)، دافع فيه عن النظام الأسقفي بأنه مأخوذ عن "عصر الرسل الأبرار بلا انقطاع

حتى العصر الحاضر (38)" فاستل خمسة من الكهنة المشيخيين أقلامهم في "الرد على الاحتجاج المتواضع" (مارس 1641) وقعوه باسم مستعار مكون من الأحرف الأولى من أسمائهم

(1)

. ورد الأسقف هول وبعض الأسقفيين الآخرين، وأقر مجلس العموم الاقتراح، ورفضه اللوردات. واشتد الجدل على المنبر وفي الصحب وفي البرلمان، وانضم ملتون إلى المعمعة بكتيب من تسعين صحيفة "إصلاح يمس نظام الكنيسة في إنجلترا (بونيه 1641).

وفي عبارات قوية لاهثة، استوعب بعضها نصف صفحة، عزا ملتون تدهور الكنيسة الرسمية إلى سببين: الإبقاء على الطقوس الكاثوليكية،

(1)

هم ستيفن مارشال، ادموند كالامي، توماس ينج، ماتيو نيوكومن، وليم سيرستو.

ص: 62

واحتكار الأساقفة لسلطة تعيين القساوسة. وهزأ ملتون "بهذه الطقوس الفارغة التي لا معنى لها، والتي تحتفظ بها الكنيسة لمجرد أنها علامة خطيرة للانزلاق نحو روما، والتي لا تستخدم إلا كمجرد مسرحية تعرض أبهة الأساقفة (39) ". إن الأساقفة-كانوا يتسللون خلسة إلى الكاثوليكية في طقوسهم-وتلك طعنة صريحة لرئيس الأساقفة لود الذي كان قد قدمت له قبعة الكاردينالية. وأنكر ملتون ما زعمه جيمس الأول وشارل الأول من أن الأساقفة ضرورة لا زعامة لحكومة الكنيسة وللنظم الملكية. وأهاب بالاسكتلنديين المشيخيين أن يواصلوا حربهم ضد النظام الأسقفي، وتضرع إلى الثالوث الأقدس أن يرعى المصلحة العامة:

يا إلهي: أولِ عنايتك لكنيستك البائسة التي كادت تنهار وتلفظ أنفاسها الأخيرة، لا تتركها هكذا فريسة لتلك الذئاب المزعجة التي تتربص وتفكر طويلاً لتلتهم قطيعك الوديع، تلك الخنازير البرية التي سطت على كرمنك، وتركت بصمات حوافرها المدنسة على نفوس عبادك. لا تدعهم ينفذون خططهم اللعينة التي تقف الآن على مدخل الهاوية غير ذات القرار، مترقبة أن يفتح الحارس ويطلق الجراد والعقارب الفتاكة، لتحتوينا في ظلام جهنم الدامس، حيث لن تشرق علينا شمس حقيقتك، ولن نعود نأمل في بزوغ الفجر البهيج، أو نسمع زقزقة العصافير في الصباح (40).

واختتم هذه العبارة بإلقاء جماعة الطقوس التقليدية في الجحيم: ولكن أولئك الذين يتوقون إلى مناصب الحكم الرفيعة والارتقاء هنا في هذه الدنيا، على حساب إفساد عقيديتهم الحقة والانتقاص منها، وعلى حساب كروب بلدهم واستعباده، لابد أنهم، بعد خاتمة مزرية في هذه الحياة (التي وهبهم الله إياها)، سيلقي بهم في الدرك الأسفل من النار، وهناك يتلقاهم من سبقهم من المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي، فيتحكمون فيهم في حقد وحسد، ويطأونهم بأقدامهم ويزدرونهم، وفي حمأة تعذيبهم، لن يجدوا الراحة إلا في ممارسة أشد ألوان الطغيان عسفاً ووحشية، معهم

ص: 63

بوصفهم أرقاءاً وعبيداً لهم، وسيبقون على هذه الحال إلى الأبد، مخلدين في أحط وأسفل مهاوي الهلاك الأبدي وأشدها كآبة واحتقاراً واضطهاداً (41).

وعندما رد الأسقف هول على القساوسة الخمسة المشيخيين وهاجمهم بعنف، انبرى ملتون لنصرتهم في بيان عاصف لابد أنه أخرج الأسقف وهو في الخامسة والستين من ردائه الكهنوتي:"نقد لاذع لدفاع المحتج على بيان المشيخيين"، ظهر، مجهولاً كاتبه، في يوليه 1641. واعتذر ملتون في المقدمة عن عنفه فقال:

في الكشف عن إنسان سيئ السمعة عدو للحق، ولسلام بلاده وإدانته وبخاصة إذا اغتر بأن له لساناً ذرياً منطلقاً مؤثراً، فإنه لا يتنافى مع اعتدال المسيحية وتواضعها أن ترد على مثل هذا الرجل بأسلوب أعنف وأشد من أسلوبه، وأن تشيع غطرسته إلى مثواها مضمخة بمائه المقدس (42).

وأعاد الأسقف وابنه الكرة ببيان عنوانه "حجة داحضة متواضعة جديدة"(يناير 1642) هاجما فيه كاتب "النقد اللاذع" بحدة تميز بها هذا العصر المغيظ المحنق (43). فرد ملتون كيد الأسقف في نحره ببيان عنوانه "دفاع ضد الحجة الداحضة المتواضعة"(إبريل) اعتذر فيه مرة أخرى عن سوء معاملته للأسقف هول، وشجب الفريد العريضة "التي أوردها هول" وهي اتهام ملتون بأنه طرد من كمبردج، وأكد ملتون للعالم بأسره بأن زملاءه في "كريست كولدج" دعوه، بعد تخرجه، للإقامة معهم، وأكد من جديد طهارته التي لا مطعن فيها:

على الرغم من أني لم ألقن إلا قدراً يسيراً من المسيحية، فإن شيئاً من التحفظ والنزعة الطبيعية والقواعد الخلقية، واستقيته من أنبل فلسفة، كان كافياً ليجعلني أحتقر من ألوان الفجور ما هو أقل كثيراً مما يجري في المواخير. ولكني قد عرفت مبدأ الأسفار المقدسة التي تكشف عن الأسرار السامية الطاهرة

التي تقول بأن "الجسد للرب، والرب للجسد

ص: 64

"فإني كذلك سألت نفسي: إذا كان التجرد عن العفة في المرأة التي ينعتها القديس بولص بأنها فخر الرجل، فضيحة وخزياً وعاراً، فالأمر يقيناً كذلك في الرجل الذي هو صورة الله وفخره معاً، فإنه لا بد أن يكون أشد فساداً وعاراً، لأنه يقترف الإثم ضد جسده، وهو الجنس الأكمل، وضد فخره الذي يكمن في المرأة، والأنكى من ذلك ضد صورة الرب وفخره ماثلين في شخصه هو (44).

ومن ثم نجد ملتون يرثي لأخلاق كثير من الشعراء القدامى، ويؤثر عليهم دانتي وبترارك، اللذين لم يكتبا قط إلا تكريماً وتشريفاً منهما لأولئك الذين نذرا لهم أشعارهما التي عرضا فيها أفكاراً سامية نقية، دون تأثيم وانتهاك للحرمات. ولم ألبث إلا قليلاً حتى تأكد عندي هذا الرأي: إن هذا الذي لا يمكن أن يخيب أمله في أن يكتب كتابة جيدة، ويجدر أن يكون هو نفسه قصيدة صادقة، أي مركباً مكوناً من أفضل الأشياء وأشرفها، لا يقدم على أن يكون قصيدة عقود مدح وثناء للرجال البطوليين أو المدائن المشهورة، إلا إذا أوتي من التجربة والخبرة والمران على كل ما هو أهل للثناء والإطراء (45).

وبعد هذا المثال الذي اقتبسناه، انتقل ملتون إلى الحديث عن قدمي الأسقف وحوربه الذي يبعث "برائحة منتنة إلى السماء". وإذا بدت هذه اللغة غير لائقة باللاهوت فإنه دافع عنها "بقواعد أعظم البلغاء" وبأنه يحذو حذو لوثر، وذكر قراءه بأن "المسيح نفسه وهو يتحدث عن التقاليد البغيضة لا يتردد في استعمال ألفاظ مثل الغائط والمرحاض"(46).

والآن نكتفي بهذا القدر من النزاع الكريه الكئيب، الذي سقناه لأنه يلقي ضوءاً على شخصية ملتون وعلى آداب السلوك في ذاك العصر، ولأنه وسط هذا الهراء القاسي وفوضى الأجرومية والجمل الطويلة، كانت هناك قطع نثرية ذات جرس موسيقي، مشرقة تهز المشاعر مثل شعر ملتون

ص: 65

وفي نفس الوقت (مارس 1642)، وكان قد نشر باسمه كتيباً أكثر موضوعية:"إثارة تفكير حكومة الكنيسة في حظر السلطة الأسقفية": "هذا النير البغيض الذي لا يمكن أن يزدهر أي عقل حر أو موهبة ممتازة تحت وطأة ما يفرضه من غباء وعداء تعسفي وطغيان"(47). وسلم بالحاجة إلى نظام أخلاقي واجتماعي. والحق أن ملتون أدرك أن في نهوض النظام وسقوطه مفتاح ارتقاء الدول وانهيارها:

ليس في هذا العالم شيء أعظم أهمية وأشد إلحاحاً وخطراً في كل حياة الإنسان بأسرها من النظام. وهل أنا في حاجة إلى ضرب مثل على ما أقول؟ إن كل من قرأ في تبصر وتدبر عن الأمم والدول

لابد أن يقر على الفور بأن ازدهار المجتمعات المتحضرة واضمحلالها، وكل تحركات الأحداث البشرية وتحولاتها، إنما تروح وتجيء وكأنها على محور عجلة النظام. وأنه ليس ثمة كمال اجتماعي في هذه الدنيا، مدني أو ديني، يمكن أن يسمو فوق النظام وقواعد الانضباط. لأن النظام هو الذي، بفضل أوتاره الموسيقية يحافظ على كل أجزاء الحياة ويمسك بها متضامة بعضها إلى بعض (48).

ومثل هذا النظام، على أية حال يجب ألا يستقي من أية هيئة كهنوتية متسلسلة في رتب الكنيسة، بل من إدراك أن كل إنسان بذاته يمكن أن يكون كاهناً.

وفي كل المراحل كان ملتون يعي ويدرك كل قدراته ومواهبه. أنه قدم للجزء الثاني من رسالته بقطعة عن سيرة حياته، وأبدى فيها حزنه لأن النزاع قد باعد بينه وبين إخراج عمل عظيم شغل باله طويلاً: إن هذا الذي أداه أعظم العباقرة وصفوتهم في أثينا وروما أو إيطاليا الحديثة، والعبرانيون القدامى، لبلادهم، يمكن أن أقوم به أنا لبلدي، بدوري، ويقدر حظي من الحياة والعمل، هذا بالإضافة إلى أني فوق كل شيء مسيحي (49). "وروى ملتون كيف أنه كان بالفعل يعد الموضوعات التي يضمنها مثل هذا

ص: 66

الكتاب. ولكنه أراده عملاً يستطيع من خلاله "أن يصور نابضاً بالحياة وبصف

سجل الطهر والفضيلة بأسره"، و "كل ما هو سام ومقدس في العقيدة الدينية" (50)، "وكأنما كان يتنبأ بأن الأعوام الستة عشر قد تنقض قبل أن تدع له الثورة الكبرى فرصة للشروع في الكتابة: فقال يعتذر عن تأخره:

لست أخجل من الاتفاق مع قارئ فطن ذي دراية، على أنه في بضع سنين يتعهد بدفع ديوني الحالية، لأنه عمل ليس نتاجاً لنزوة الشباب أو لعب الخمر بالعقل، مثل هذا الذي يسيل به "قلم عاشق شرس" بذئ في أوقات الضياع، أو شاعر متطفل في فوره حقده. كما أنه عمل لا يمكن إنجازه بالتضرع وقراءة التعاويذ للذاكرة وبناتها المغويات (بنات الأفكار)، بل بالدعوات والصلوات المخلصة الخاشعة "للروح الأبدي الخالد الذي يستطيع إثراءنا بالتعبير والمعرفة، ويبعث إلينا بأحد ملائكته (وحارس عرشه) ساروفيم، مع نار مذبحة المقدسة، ليمس ويطهر شفتي من يشاء. ويجدر أن يضاف إلى هذا، دأب على القراءة الجادة المنتقاة، ومثابرة على الملاحظة الدقيقةـ وتبصير بالفنون والمسائل العامة الجذابة والواسعة، حتى إذا تم العمل، إلى حد ما تحت مسئوليتي وبجهدي الخاص، فإني عندئذ لا أرفض أن أزكى هذا الأمل المنشود عند كثير ممن لا ينفرون من المغامرة بالوثوق إلى هذا الحد بما أقطع على نفسي لهم من تعهدات أو وعود (51).

‌4 - زواج وطلاق

1634 -

1648

في "الحجة الداحضة المتواضعة" كان الأسقف هول قد اتهم ملتون بأنه يسمى لشهرة أدبية، ويعلن عن مواهبه وقدراته وتجاربه وثقافته وبيئته السابقة، أملاً في الفوز "بأرملة ذات ثراء" أو أية جائزة أخرى. وفي "الرد" عليه عمد ملتون إلى تسفيه هذه الفكرة والتنديد بها، وقال أنه على النقيض من ذلك، "نشأ في بحبوبة من العيش" واتفق في الرأي مع "أولئك الذي يؤثرون في حكمه وتبصر وبروح طيبة، عذراء غير ذات

ص: 67

ثراء عريض، وذات أصل كريم، على أغنى الأرامل" (52). وبينما انساقت إنجلترا إلى الحرب الأهلية (1642)، انطلق ملتون إلى الزواج (1643).

لم ينضم ملتون إلى جيش البرلمان، وعندما اقتربت القوات الملكية من لندن (12 نوفمبر 1642) نظم قصيدة (سونيت) يشير فيها على قادتها أن يحموا بيت الشاعر وشخصه؛ كما فعل الإسكندر الأكبر مع الشاعر بندرا من قبل، واعدا إياهم بأن ينشر على الملأ شعراً "حسن صنيعهم (53) ". على أن القوات الملكية ردت على أعقابها. ولم يمس بيت ملتون بأذى، وبقي ليستقبل زوجته.

وكان ملتون قد التقى بماري باول Powall في فورست هل في أكسفورد شير، حيث كان والدها قاضي الصلح. وهذا الوالد، ريتشارد باول كان قد اعترف من قبل، في 1627، بأنه مدين لملتون، وكان آنذاك في كمبردج، بمبلغ 500 جنيه، خفف فيما بعد إلى 312، ولكن لم يسدد بعد. والظاهر أن الشاعر قضى عند أسرة باول شهراً (مايو-يونية 1643) ولسنا ندري ليسترد الدين أو يحظى بزوجة. وربما أحس جون وهو في الرابعة والثلاثين، بأنه قد آن الأوان للزواج والنسل، وواضح أن ماري كانت تتحلى بالعذرية التي ينشدها. وفاجأ أبناء أخته بعودته إلى لندن متأبط ذراع زوجته.

ولم تدم السعادة طويلاً لأحد. فقد كره أبناء الأخت ماري كدخيلة عليهم، وكرهت هي كتب ملتون، وافتقدت أمها و "القدر الكبير من الصحبة والأنس والبهجة والرقص

" الذي كانت تنعم به في فورست هل. ويقول أوبري "كثيراً ما كانت تسمع أبناء الأخت هؤلاء يضربون فيتعالى صراخهم (54) مذ رأى ملتون أن ماري محدودة التفكير ضيقة الأفق ليس لديها سوى النزر اليسير من الأفكار، التي هي في جملتها ملكية، فإنه انصرف ثانية إلى كتبه. وتحدث فيما بعد عن "شريكة حياة بكماء

ص: 68

جامدة كئيبة لا روح فيها"، ورثى "للإنسان الذي يجد نفسه مرتبطاً بأوثق رباط بهيكل من طين وبلغم، كان يأمل منه أن يكون شريك مجتمع تملؤه السعادة والبهجة والسرور (50)" ويعتقد بعض الباحثين في الزواج غير المتكافئ أن ماري أبت عليه البناء بها (56). وبعد شهر طلبت السماح لها بزيارة والديها، فوافق ملتون، مع التفاهم بينهما على عودتهما. ولكنها ذهبت ولم ترجع. وبعث إليها برسائل تجاهلها، ولما لم يجد أي متنفس آخر لمشاعره، كتب ونشر دون توقيع "مبدأ الطلاق ونظامه" (أغسطس 1643)، وأهداه إلى "برلمان إنجلترا والجمعية" أي جمعية وستمنستر التي كانت تصوغ آنذاك اعترافاً بالمذهب المشيخي. وتقدم إلى البرلمان برجاء أن يتحلل من أغلال التقاليد، ويسير بالإصلاح قدماً، بإقرار أسس أو شروط أخرى للطلاق، غير الزنى، وعرض أن يوضح:

أن التصور، وعدم الأهلية أو تنافر العقول الناشئ عن سبب طبيعي لا يتسنى تغييره، مما عوق، والأرجح أنه كثيراً ما يعوق إلى الأبد، مزايا الحياة الزوجية، وهب السلوى والبهجة والهدوء والطمأنينة، نقول أن هذا سبب للطلاق أقوى من البرودة الزوجية الطبيعية، لا سيما إذا لم يكن هناك أطفال، وكانت هناك موافقة من الطرفين (57).

واقتبس ملتون القانون اليهودي القديم الذي ورد في التوراة (سفر التثنية 24 - 1)"إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها، فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء. وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته". وأوضح أن السيد المسيح رفض هذا الجزء من شريعة موسى. فقد جاء في إنجيل متي (5 - 31، 32)"وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاق. وأما أنا فأقول لكم أن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني"، واحتج ماتون بأنه "المسيح لم يقصد أن يؤخذ كلامه بمعناه الحرفي، كلمة بكلمة"(58)، وكثيراً ما أعلن أنه لم يأت ليغير مقدار ذرة من شريعة موسى. وكافح ملتون حتى يجعل تفسيره الواسع يشمل

ص: 69

قضيته الشخصية، حتى أنه ذهب إلى حد تبرير الطلاق لعدم القدرة على الإسهام في حديث مناسب معقول. "لأن عدم الصلاحية والتخلف في العقلية التي تنفر من الزواج، يمكن أن تهبط بالزواج إلى "حالة أسوأ من حياة الوحدة الموحشة" حيث تكون النفس النابضة بالحياة مربوطة إلى مجرد جثة (59).

ونفد الكتاب الصغير بسرعة، لأنه قوبل باستنكار عام. وفي فبراير 1644 نشر ملتون طبعة مزبدة منقحة ظهر اسمه في جرأة وشجاعة. ورد على ناقديه في أسلوب العالم المتفقه، في " Ttwtrochordon" ثم في أسلوب أخف في Colasterion ( صدر كلاهما في 4 مارس 1645)، تناولهم فيهما بأقسى القدح والألفاظ المقذعة-كتلة من الطين، خنزير، خنزير بري، ذو أنف بشع، محام له مخ الديك، حمار صفيق، بغيض، كريه الرائحة (60) لقد استطاع ملتون في الصحيفة الواحدة أن يقفز من مرتفعات بارناسوس إلى أحط مهاوي السفاهة والبذاءة.

وحيث أخفق في أن يحصل من البرلمان على تعديل في قانون الطلاق، اعتزم أن يتحدى القانون، ويتخذ زوجة ثانية، وكان يفضل مسن دافيز التي لا يعرف عنها شيئاً إلا أنها رفضته. ولما ترامت شائعات هذه الخطبة إلى مسامع ماري باول قررت أن تستعيد زوجها، على أي الأحوال، حلوها أو مرها، قبل فوات الأوان. وذات يوم بينما كان ملتون في زيارة لصديق فاجأته ماري وجثت بين يديه وتوسلت إليه أن يعيدها إلى مخدعه وبيته. وتردد هو، ولكن أصدقاءه ناصروا قضيتها، فقبل عودتها إليه. وانتقل الآن إلى بيت أوسع في باربيكا ستريت، ضمها كما ضم أباه وتلاميذه. وسرعان ما جاء أبواها أيضاً مع الشاعر، بعد أن تدهورت حالهما بهزيمة الملكية، مما جعل هذا البيت أقرب ما يكون إلى دار للمجانين، أو الفلسفة. وزاد الأمر ضغثاً على أبالة في 1646، مولد طفلة ملتون الأولى آن. وخفف من هذه الفوضى موت ريتشارد باول في يولية، كما أن جون

ص: 70

ملتون الأكبر (الوالد) اختتم حياته المديدة الكريمة في مارس التالي. ومن ثم أصبح الشاعر وريثاً لمنزلين أو ثلاثة في لندن، ولبعض المال، وربما لبعض العقارات في الريف. وفي 1647 فض ملتون مدرسته وانتقل مع زوجته وابنته واثنين من أبناء أخته إلى "هاي هلبورن ستريت" وفي 1648 ولدت له ابنته الثانية ماري.

‌5 - حرية الصحافة

1643 -

1649

في 13 أغسطس 1644، تحدث الكاهن المشيخي هربرت بالمر أمام مجلس البرلمان، واقترح علناً رسالة ملتون عن الطلاق. ولم تحرق الرسالة؛ ولكن شكوى بالمر ربما أدت "بشركة المكتبات" التي تضم كل باعة الكتب الإنجليز، إلى لفت نظر مجلس العموم (24 أغسطس) إلى أن الكتب والنشرات تخالف القانون الذي يتطلب تسجيلها وإجازتها بمعرفة الشركة. وكان هذا القانون قد صدر في عهد اليزابث، كما أن البرلمان كان قد جدد العمل به في 14 يونيه 1643، بإصداره أمراً ينص على:

أنه لا يطبع كتاب أو نشرة أو ورقة، أو أي جزء من شيء من هذا القبيل، أو يعرض للبيع، قبل التصديق على نسخة منه وإجازته، من أشخاص يعينهم لهذا الغرض أحد المجلسين أو كلاهما معاً، وقبل أن يسجل في السجل المعد لذلك في شركة المكتبات، طبقاً لما جرى عليه العرف من زمن بعيد (61).

ويعاقب أي خرق لهذا القانون بالقبض على من تولوا التأليف والطبع.

وكان ملتون يهمل دوماً تسجيل ما ينشره نثراً. وعلى الرغم من أن كتابه "مبدأ الطلاق ونظامه" ظهر بعد صدور الأمر سالف الذكر بشهرين، فإنه تجاهل ما يقضي به. وربما كان شاعرنا ذا حظوة لدى البرلمان لأنه ناصره في صراعه مع الملك، على أن البرلمان على أية حال، تغاضى عنه وحده ولكن الأمر ظل سيفاً مسلطاً على رأسه وعلى رؤوس سائر المؤلفين في بريطانيا. وبد لملتون ضرباً من المحال أن يزدهر الأدب في ظل

ص: 71

مثل هذه الرقابة. فماذا يجدي خلع ملك وتحطيم نظام أسقفي استبدادي قاسٍ، إذا استمر البرلمان والكنيسة على التدقيق والتحقيق في كل كلمة يتفوه بها الإنجليز؟. وفي 24 نوفمبر 1643 أخرج درن تسجيل أو إجازة أروع أعماله النثرية "أريوباجيتيكا: حديث من جون ملتون عن حرية المطبوعات دون إجازة، إلى برلمان إنجلترا"

(1)

وليس في هذا الحديث قذف ولا طعن ولا نقد لاذع، بل كان على مستوى عالٍ من اللغة والفكر وفيه يطلب إلى البرلمان بكل إجلال واحترام، أن يعيد النظر في قانون الرقابة، من حيث أنه ينزع إلى "تثبيط الهمم في سبيل العلم والمعرفة، ويعوق بل يقضي على أي إبداع واكتشاف يمكن أن يخرج في المستقبل إلى حيز الوجود في مجال الحكمة الدينية والمدنية كليهما. " ثم يستطرد في قطعة مشهورة قيمة:

لست أنكر أنه من أعظم صلاحيات الكنيسة والدولة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدار الناس، ومن ثم يحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر لأن الكتب ليست أشباه ميتة إطلاقاً، بل أن فيها من الفعالية والحيوية مل يجعلها نشيطة في مثل نشاط النفس التي أنتجتها. ليس هذا فحسب، بل أنها كذلك، تحفظ، وكأنما تحفظ في قنينة، أبقى عصارة ودقة مؤثرة للفكر الحي الذي نماها وأبدعها. وإني لأدرك أنها نشيطة قوية الإنتاج مثل أسنان التنين الخرافية إذا نثرت على الأرض هنا وهناك انبعث منها رجال مسلحون (هكذا تقول الخرافة). ومن جهة أخرى، فإنه إذا لم يكن ثمة حيطة وحذر، فأن قتل الإنسان يعدل تقريباً قتل الكتاب الجيد. إن من يقتل رجلاً يقتل مخلوقاً عاقلاً على صورة الله، على حين أن من يدمر الكتاب الجيد، يقتل العقل نفسه، بل يقتل صورة الله، في صميمها. وكم من إنسان

(1)

Areopagitica- يقصد بها المسائل المتعلقة بالمحكمة العليا في أثينا، واسمها أريوباجوس، نسبة إلى الجبل الذي كانت تجتمع عليه. واقتبس ملتون هذا العنوان من رسالة وجهها آيزوقراط 355 ق. م. إلى هذه المحكمة.

ص: 72

يعيش حملاً ثقيلاً على الأرض، ولكن الكتاب الجيد هو دم الحياة الغالي للروح السامية يصان ويختزن، قصداً لحياة وراء الحياة. حقاً أن أي عصر لن يستطيع استعادة الحياة، وقد لا يكون في هذا خسارة، ولا تعوض ثورات العصور في الغالب عن فقدان حقيقة منبوذة، ساءت حال أمم بأكملها من أجل افتقارها إليها.

وينبغي لذلك أن نكون حذرين يقظين لأي اضطهاد نصبه على الأعمال الحية لمشاهير الرجال البارزين، وكيف نبدد حياة الرجل الناضج المحفوظة المختزنة في كتاب. فإذا رأينا عملاً من أعمال القتل يرتكب على هذه الصورة، وهو في بعض الأحيان استشهاد، إذا امتد هذا إلى كل الإنتاج حتى ينتهي الأمر إلى مذبحة، فمن ثم لا ينتهي الإعدام عند خنق الحياة الفطرية، بل ينفذ إلى الجوهر السماوي الخامس البالغ الرقة، أي روح العقل ذاته، فيقضي على الخلود أكثر ما يقضي على مجرد حياة (62).

ويستشهد ملتون بالنشاط الفكري في أثينا القديمة، حيث لم تفرض الرقابة إلا على الكتابات التي تتضمن إلحاداً أو قذفاً، وهكذا حكم قضاة محكمة أريوباجوس العليا بإحراق كتب بروتاجوراس، وبنفيه خارج البلاد، لمقالة بدأها بالاعتراف بأنه لا يدري "إذا كان هناك آلهة أم لا". ويمتدح ملتون حكومة روما القديمة لإتاحتها قدراً كبيراً من الحرية للكتاب، ثم يصف نمو الرقابة في روما الإمبراطورية والكنيسة الكاثوليكية. ويحس ملتون بأن قانون الرقابة هذا تشتم من رائحة "البابوية" "وما فائدة أن تكون رجلاً: لا مجرد تلميذ في مدرسة، إذا كنا فقط هربنا عن الدرة أو العصا لنقع تحت نير الرخصة (للطباعة)(63) "؟ إن الحكومات ومراقبيها ليسوا معصومين من الخطأ، فليس لهم أن يفرضوا ما يروق لهم أو ما يفضلونه من آراء ومبادئ على الناس، والأولى أن يتركوا الناس ليختاروا ويتعلموا، حتى ولو كلفتهم التجربة والخطأ أبهظ الثمن:

ص: 73

إني لا أستطيع أن امتدح فضيلة مفروضة عليها الحماية والرقابة، لا يمارسها أحد ولا ينشق عبيرها أحد، لا تنطلق قط لترى خصومها، بل تتسلل بمعزل عن الناس (64). أعطني الحرية لأعرف وأتحدث وأناقش، بلا قيد، وفقاً لما يمليه الضمير، فوق كل الحريات (65) .. ومع أن كل رياج المذاهب والمبادئ أطلقت لتهب على الأرض، حتى إذا دخلت الحقيقة إلى الميدان، أسأنا إليها بالرقابة والحظر، لنشكك في قوتها، فلنتركها مع البهتان يتصارعان، فمن ذا الذي رأى يوماً أن الحقيقة تنهزم في معركة حرة مفتوحة (66)؟.

ومهما يكن من أمر فإن ملتون لا يطالب بالحرية المطلقة للمطبوعات، فهو يؤمن بأن الإلحاد والتشهير والفحش يجب أن يحرمها القانون، ويرفض التسامح مع الكاثوليكية لأنها عدو للدولة، ولأنها هي نفسها موصومة بالتعصب (67). وفيما عدا ذلك، فإن الدولة التي تسود فيها حرية الفكر والكلام لابد أن ترقى وتنمو فيها سائر الأشياء سواء بسواء.

يخيل إلي أني أرى بعين البصيرة أمة كريمة قوية تستيقظ وتنفض النوم عن جفونها، مثل رجل قوي يفيق من سباته، وتهز خصلات شعرها. ويبدو لي أني أراها مثل نسر، يجدد شبابه ويفتح عينيه الحادتين (68) في وقت الظهيرة.

ولم يلتفت البرلمان لدفع ملتون أو حجته، بل على النقيض من ذلك، سن قوانين تصاعدت صرامتها (1647، 1649، 1653) ضد إصدار مطبوعات غير مرخصة. وشكا أعضاء شركة المكتبات من أن ملتون لم يكن قد سجل "الأريوباجيتيكا". وعين مجلس اللوردات اثنين من رجال القضاء لمساءلته، ولسنا نعرف النتيجة. ولكن من الواضح أنهم لم يزعجوه، لأنه كان صوتاً ذا نفع وقيمة للبيوريتانيين المنتصرين.

وفي فبراير 1649، أي بعد إعدام شارل الأول بأسبوعين اثنين، نشر ملتون رسالة عن "ولاية الملك والحكام"، ارتضى فيها نظرية العقد

ص: 74

الاجتماعي التي تقول بأن سلطة الحكومة مستمدة من سيادة الشعب، وأنه من حق من يملكون السيادة أن يحاسبوا أي طاغية أو ملك شرير، وعزله وإعدامه، بعد إدانته إدانة عادلة (69)". وبعد شهر واحد دعاه مجلس الدولة في الحكومة الثورية ليكون "سكرتير المجلس للغات الأجنبية". فنحي ملحمته جانباً، ليتفرغ لمدة أحد عشر عاماً، لخدمة جمهورية البيوريتانيين وحكومة "الحماية" على عهد كرومول.

‌6 - سكرتير اللغة اللاتينية

1649 -

1659

كان النظام الجديد في حاجة إلى من يتقن اللغة اللاتينية، ليحرر المراسلات الأجنبية، وكان ملتون المرشح البارز لهذا العمل. حيث كان يستطيع الكتابة باللغات اللاتينية والإيطالية والفرنسية كأحد أبناء روما القديمة أو فلورنسة أو باريس، كما أنه كان قد أثبت في أشد أوقات الحرج أنه مخلص لقضية البرلمان في نزاعه ضد الأساقفة والملك. وكان مجلس الدولة لا "كرومول" هو الذي استخدمه لهذا العمل. ولم يكن له صلة وثيقة بالحاكم الجديد، ولكنه لا بد أن يكون قد رآه كثيراً، وأنه قد أحس في تفكيره وفي كتاباته، بالتقارب مع هذه الشخصية المرعبة. ولم يستخدم المجلس ملتون لمجرد ترجمة رسائله الأجنبية إلى اللاتينية، بل كذلك، ليبرز للحكومات الأجنبية، في نشرات لاتينية، وجه العدالة والحق في السياسة الداخلية التي ينتهجها المجلس، كما يبرز، فوق ذلك كيف كان من الحكمة وسداد الرأي الإطاحة برأس الملك.

وفي إبريل 1649، فور تقليده منصبه، انضم ملتون إلى موظفين آخرين في المجلس في وقف نشرات الملكيين وأنصاره المساواة ضد نظام الحكم الجديد (70). وكانت الرقابة على المطبوعات آنذاك أشد صرامة منها في أي وقت مضى في تاريخ إنجلترا، متعبة في ذلك القاعدة العامة التي تقول بأن الرقابة تشتد بتزعزع مركز الحكومة. إن الرجل الذي كان قد دبج بأفصح بيان النداء الذي لم يكن له نظير من قبل، من أجل حرية الصحافة

ص: 75

بات الآن ينظر إلى الرقابة من وجهة نظر السلطة الحاكمة. على أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن ملتون قال من قبل الأريوباجيتيكا: إنه من أهم صلاحيات الكنيسة والدلوة أن ترقب بعين يقظة كيف تحط الكتب من قدرها ومن أقدر الناس ومن ثم تحتجز أو تسجن أو تطبق أقصى ما تقضي به العدالة على عوامل الشر" (71).

ومذ كان جون للبيرن بصفة خاصة كاتباً مزعجاً من أنصار المساواة، فإن المجلس أصدر تعليماته إلى ملتون ليتولى الرد على كتابه المتطرف "اكتشاف أغلال جديدة". ولسنا ندري هل قام ملتون بهذه المهمة أو لم يقم. ولكنه يروي هو نفسه (72) أنه "أمر" أن يرد على "صورة الملك" وامتثل لهذا الأمر فنشر في 6 أكتوبر 1649 كتاباً من 242 صفحة تحت عنوان "محطم الصورة". وارتياباً، ولكن اعتراضاً من بأن "صورة الملك" هو ما أوهم بأنه من تأليف شارل الأول نفسه، فإنه-أي ملتون تناول حجة الملكية فقرة فقرة، وانبرى لتنفيذها بكل مل أوتي من قوة ومن خلال ذلك دافع عن سياسة كرومول، وبرر إعدام الملك، وأبدى احتقاره "لتلك الشرذمة من الغوغاء المتقلبين الذين يعوزهم التفكير السليم المولعين بالصور، .. قطيع ساذج عاجز تربى على الذل والخنوع .... يفتتن بالطغيان (73) ".

واستبد الغيظ والحنق بشارل الثاني، وهو يتجول في القارة، فاستأجر أعظم علماء أوربا كلود سوميز ليتولى الدفاع عن الملك الميت، وسرعان ما أصدر "سالماسيوس""دفاعه عن الملك السابق شارل الأول"، في ليدن (نوفمبر 1649)، نعت فيه كرومول وأتباعه بأنهم "أوغاد متعصبون

وأنهم العدو المشترك للبشرية" وأهاب بكل الملوك، من أجلهم هم أنفسهم؛ أن يجهزوا الجيوش للقضاء على هذا الوباء

يقيناً أن دم الملك العظيم يستصرخ كل الملوك والأمراء في العالم المسيحي للثأر له. ولا يمكن أن يقوموا بعمل فيه هدوء روحه وسكونها خيراً من أن يعيدوا لوريثه

ص: 76

الشرعي كل حقوقه كاملة، ويستردوا له عرش أبيه .... وأن يذبحوا، كضحايا على جدث الميت المقدس، هذه الوحوش البالغة الضراوة، الذين تآمروا على قتل هذا الملك العظيم (24).

وخشي كرومول أن-تزيد حملات مثل هذا العالم الذائع الصيت في أوربا من الاستياء السائد في القارة ضد حكومته، فطلب إلى ملتون الرد على سالماسيوس. وجهد السكرتير اللاتيني في إنجاز هذه المهمة قرابة عام كامل، في ضوء الشموع، على الرغم من تحذير طبيبه له بأنه يفقد بصره تدريجياً، وأنه مهدد بالعمى. وكانت إحدى العينين عاطلة بالفعل، وفي 31 ديسمبر ظهر "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه ضد دفاع سالماسيوس عن الملكية-لجون ملتون"، بدأ بالسخرية من سالماسيوس لبيعه خدماته لشارل الثاني، واستطرد ليظهر أن سالماسيوس قبل أربع سنوات فقط كتب يهاجم النظام الأسقفي الذي يدافع عنه الآن:

أيها العميل الفاسد المرتشي المأجور

أيها الجبان المحتقر المرتد الخارج على مبادئك

يا أشد الحمقى سذاجة وبلاهة .... أنت جدير بعكازة المهرج، حين تظن أنك تغزي الملوك والأمراء بالحرب، بمثل هذه الحجج الصبيانية الواهية

هل تتخيل إذن، أيها المتلعثم المحامي الصغير الحقير، الذي لم يولد إلا لينسخ ويقلد كبار الكتاب، الذي لم يؤت أية موهبة أو ذكاء أو عبقرية، أنك ستنتج شيئاً تكتب له الحياة من عندياتك؟ صدقني أنك وكتاباتك العقيمة معاً، ستلقي في زوايا النسيان في الجيل القادم. لولا أن "دفاعك عن الملك" سيدين ببعض الفضل للرد عليه، بمحض الصدفة، وعلى الرغم من أنه قد أغفل وطرح جانباً لبعض الوقت، فإنه لذلك سيبعث من جديد (75).

وهذا هو ما حدث على وجه الدقة. أن سالماسيوس كان قد أضفى على شارل الأول صورة مثالية. ولكن ملتون يحط من قدره. ويشتبه في أن شارل حرض دوق بكنجهام على دس السم لوالده جيمس الأول، ويتهم

ص: 77

الملك الميت بكل "ضروب الفساد الخلقي والإثم مع الدوق المذكور، ويتهم شارل بتقبيل النسوة في المسرح، وبمداعبته أثداء العذارى والعقيلات علناً (76) ". وكان سالماسيوس قد أطلق على ملتون أسماء كثيرة، فثأر ملتون بأن نعت سالماسيوس بأنه، غبي، خنفساء، حمار، كذاب، قذاف مغتر، مرتد، معتوه، جهول، متشرد، عبد ذليل، ويسخر من سالماسيوس لسيطرة زوجته عليه، ويعنف على أخطائه اللاتينية. ويدعوه إلى أن يشنق نفسه، ويضمن له الدخول إلى الجحيم (77). ونظر توماس هويز إلى هذه الكتب المتنافسة من علياء فلسفته، فأعلن أنه عاجز عن أن يقرر أي الفريقين أقوى لغة وأيهما أضعف حجة (78). على أن مجلس الدولة قدم الشكر لملتون.

تلقى سالماسيوس نسخة من "دفاع" ملتون أثناء وجوده في بلاط الملكة كريستينا في ستكهلم، ووعد بالرد عليه، ولكنه أبطأ. وفي والوقت نفسه أنصرف ملتون عن الشؤون الخارجية إلى شؤون بيته. ففي 1649 انتقل إلى دار في "شيرنج كروس" ليكون قريباً من عمله. وهناك وضعت زوجته ولداً، لم يلبث أن مات، وفي 1652 وضعت بنتاً "ديبورا" كلفته ولادتها حياة أمها. وفي تلك السنة فقد ملتون بصره تماماً. وعندئذ نظم قصيدة من أروع قصائده (السونيت)"عندما أتدبر كيف فقدت نور عيني". وأبقى عليه المجلس سكرتيراً لاتينياً، وخصص له كاتباً ليدون له مل يمليه عليه.

ومني، وهو رهين العمى، بخسارة أخرى، ففي عام 1653 انهارت الجمهورية التي طالما هلل لها ورحب بها، إلى "ملكية عسكرية" وأصبح فيها "حامي الحمى" كرومول، في واقع الأمر ملكاً. وراض ملتون نفسه على هذه التطورات بقوله:"أن أساليب العناية الإلهية يحوطها الغموض والإبهام (79) ". وظل على إعجابه بكرومول وامتدحه بأنه "أعظم بني الوطن وأكثرهم تألقاً وامتيازاً

أنه أبو البلاد"، وأكد له "أن في ائتلاف

ص: 78

المجتمع الإنساني ليس ثمة شيء أحب إلى الله، أو أكثر التئاماً مع القليل من أن يتولى أسمى العقول السلطة العليا (28) ".

وسرعان ما طلب إليه أن يتولى الدفاع عن "حامي الحمى" في اتهام خطير. ذلك أنه في 1652 ظهر كتاب يشكل عنوانه نفسه صيحة الحرب "صرخة الدم الملكي" إلى السموات ضد الإنجليز الذين قتلوا أباهم" وبدأ الكتاب بأن نعت ملتون بأنه "حيوان شرير بشع، قبيح المنظر، ضخم الجسم، مكفوف البصر .... جلاد

يستحق الشنق". وقرن الكتاب إعدام شارل الأول بصلب المسيح، واعتبر قتل الملك كبرى الجرائم (81) وسخر من جهر "الغاصبين" بإيمانهم بالدين:

أن لغة وثائقهم العامة محشوة بالتقى والورع وكان لزاماً أن يجاريها أسلوب كرومول ومن يدافعون عنه، وأنه لمما يثير الاشمئزاز، كما يثير السخرية المريرة، إلى أي حد من الوقاحة والصفاقة يخفي هؤلاء الأوغاد الخفيون واللصوص الظاهرون حقيقة شرورهم بذريعة أوستار من الدين (82).

وكما فعل سالماسيوس، أهاب المؤلف المجهول بدول القارة أن تغزو إنجلترا وتعيد آل ستيوارت إلى العرش. وختم الكتاب بتوجيهه إلى الحارس القذر المتوحش، جون ملتون، المدافع عن قتل الآباء وقتلتهم، مع الأمل في أن يلقى وشيكاً شر الجزاء فيضرب بالسياط:

حول هذا الرأس الحانث سدد الضربات جيداً، وشوه كل بوصة فيه بآثار العصا، إلى أن تصبح الجثة كتلة هلامية واحدة. هل توقفت؟ اضرب حتى تتفجر الصفراء من كبده من خلال عينيه الداميتين (83).

واستحث مجلس الدولة ملتون للرد على هذا العنف، ولكنه تمهل توقعاً لحملة من سالماسيوس، أملاً في أن يرد على الخصمين في رسالة واحدة. ولكن سالماسيوس قضى نحبه (1653) دون أن يتم رده. وخدع ملتون في اعتقاده بأن كاتب "صرخة الدم الملكي" هو الكساندر مورس-

ص: 79

Morus، وهو قسيس عالم في مدلبرج فطلب إلى مراسليه في المقاطعات المتحدة موافاته ببيانات عن حياة موريس العامة والخاصة (84). وكتب أوريان أولاك، طابع الكتاب، إلى هارتاب، صديق ملتون، مؤكداً أن موريس ليس هو المؤلف (85). ولكن ملتون أبى أن يصدق هذا، وأيده في هذا، ما يتناقله الناس في امستردام. وفي إبريل 1654 كتب جون دروري إلى ملتون، محذراً إياه بأنه مخطئ في نسبه "صرخة الدم الملكي" إلى موريس، ولكن ملتون تجاهل هذا التحذير، وفي 30 مايو كتب الدفاع الثاني للشعب الإنجليزي"-جون ملتون.

وكان سحر البيان في هذا الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته 173، أمراً مشهوداً، حيث أملاه باللاتينية رجل كف بصره تماماً. وعزا أعداؤه ما أصابه من عمى إلى العقاب الإلهي جزاء خطاياه الفادحة. وأجاب ملتون على هذا بأنه لا يمكن أن يكون، لأن حياته كانت مثالية، وهو يشعر بالفرح والابتهاج لأن الدفاع الأول:

هكذا أصاب غريمي بهزيمة ساحقة .... إلى حد أنه أستسلم من فوره وقد تحطمت روحه وانهارت سمعته، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية من حياته، ولو أنه كان يهدد ويرغى ويزيد كثيراً. فإنه لم يعد يزعجنا، فيما عدا أنه استعان بالجهد التافه لشخص جدير بكل الازدراء، حرضه بما لست أدري من الملق القبيح المسرف، على أن يرقعا قدر الإمكان بمديحهما، ما حل بشخصه مؤخراً من دمار غير متوقع (86).

ثم يعرج ملتون على عدوه الجديد، فيذكر أن "موريس" تعني بالإغريقية "مغفل" ويتهمه بالهرطقة والتهتك والزنى، وبأن خادمة سالماً سالماسيوس حملت منه سفاحاً، ثم هجرها. بل أن طابع "صرخة الدم الملكي" نفسه يجلد بالسوط، وكل إنسان يعرف أنه غشاش مفلس سيئ السمعة (87).

وفي ظرف ومرح أكثر، ويستعرض ملتون أعمال كرومول، ويدافع عن حملاته غب أيرلندة، وعن حل البرلمان، وعن استيلاء على السلطة،

ص: 80

ويوجه الحديث إلى "حامي الحمى":

إننا جميعاً نقدرك حق قدرك ونقر بفضلك الذي لا يدانيه فضل، فأمض في طريقك القويم، ياكرومول،

يامحرر بلادك، ويا من أرسى دعائم الحرية فيها، ويا من تفوقت بأعمالك المجيدة، لا على إنجازات الملوك فحسب، بل على مغامرات أبطالنا الأسطورية أيضاً (88).

ولكن بعد عبارات الإجلال والإكبار هذه، لم يتردد ملتون في أن يمحض كرومول النصح في أمر السياسة. فأشار عليه بأن يحيط نفسه برجال من أمثال فليتوود ولمبرت (وهما من المتطرفين)، وأن يدعم حرية الصحافة وأن يترك الدين منفصلاً تمام الانفصال عن الدولة. كما ينبغي ألا تجمع أية عشور لرجال الدين، فإنهم بالفعل متخمون، (وكل ما فيهم سمين، حتى عقولهم دون استثناء (89)". ويسترسل ملتون فيحذر كرومول من أنه "ونحن نعده، دوننا جميعاً، أعدل وأقدس وأفضل رجل" إذا أقدم على قمع الحرية التي دافع عنها، فلن تكون النتيجة إلا وبالاً ودماراً، لا لشخصه فحسب، بل كذلك لكل متطلبات الفضيلة والتقوى (90). ويوضح ملتون بأجلى بيان أنه لا يقصد "بالحرية" الديمقراطية، وهو يسأل الناس:

لماذا يؤكد لكم أي إنسان حقكم في الاقتراع العام، أو قدرتكم على انتخاب من تريدون للبرلمان؟ هل من أجل أن تتمكنوا من انتخاب رجال من حزبكم في المدن، وفي الأقاليم، تنتخبون الرجل الذي مد لكم الموائد في بذخ بالغ، أو أسرف في تقديم الشراب برجال الريف والفلاحين السذج، سواء كان جديراً أو غير جدير بالانتخاب؟ ومن ثم لا يجتمع لنا في البرلمان أعضاء اتسموا بالحصافة والحكمة والخبرة والثقة، بل أعضاء صنعتهم الحزبية وموائد الطعام!!. وبعبارة أخرى تحصل على أعضاء من تجار الخمور والباعة المتجولين، من الحانات في المدن، ومن الرعاة ومربي الماشية في الريف، فهل يجدر بأي إنسان أن يكل أمور الجمهور لأمثال هؤلاء الذين لا يثق أحد أن يعهد إليهم بشأن من شئونه الخاصة (91)؟.

ص: 81

كلا، إن مثل هذا الاقتراع العام لا يعتبر حرية:

فلأن أن تكون حراً، هو بالضبط أن تكون تقياً عاقلاً عادلاً معتدلاً مكتفياً بذاتك، لا تمد يديك إلى ما بأيدي الناس، وقصارى القول، أن تكون شهماً رحب الصدر شجاعاً. أما إذا تجردت من هذا كله أو كنت على نقيضه، فإنك لن تعدو أن تكون عبداً رقيقاً. وقد حكم الله على الأمة التي لا تستطيع أن تحكم نفسها وتدبر أمورها بنفسها، والتي استعبدتها شهواتها، بأنها لابد أن تستسلم لسلطان غيرها، فتقع في ذل العبودية بإرادتها وضد إرادتها معاً (92).

وفي أكتوبر 1654 أعاد أولاك طبع "الدفاع الثاني" لملتون، في لاهاي، مع رد عليه بقلم موريس بعنوان "دليل دامغ". وفي المقدمة أكد الطابع أن موريس ليس مؤلف "صرخة الدم الملكي"، وأنه، أي أولاك، تسلم مخطوطته من سلماسيوس الذي أبى أن يميط اللثام عن أسم المؤلف. وأنكر مورس إنكاراً تاماً أنه المؤلف، وأكد أن ملتون قد أبلغ بهذا الأمر مراراً وتكراراً، واتهمه بأنه قد رفض من قبل تغيير "دفاعه"، لأنه لن يتبقى من شيء يذكر إذا حذف من السباب الذي وجهه إلى موريس. وفي أغسطس 1655 أصدر ملتون كتاباً من مائتين وأربع صفحات "دفاع عن النفس" ورفض أن يصدق إنكار مورس، وأورد من جديد فعلته الشائنة مع خادمه سالماسيوس، وأضاف أنها، في شجار مشروع أوسعت مورس ضرباً وطرحته أرضاً، وكادت أن تفقأ عينيه (93). ولكن تبين في خاتمة المطاف أن أحد رجال اللاهوت البروتستانت، واسمه بيير دي مولان، هو الذي كتب "صرخة الدم الملكي"، وأن مورس هو الذي نشره وكتب إهداءه (94). ولما دعي مورس ليكون راعياً لإحدى كنائس الإصلاح قرب باريس، أرسل شاعرنا عدة نسخ من "الدفاع الثاني" إلى الأبرشية لمنع تعيينه (95). ولكن مجلس الأبرشية عينه على الرغم من ذلك كله، وختم مورس سيرته التي اكتنفتها المضايقات (1670) وهو أنصح

ص: 82

الوعاظ البروتستانت بياناً في باريس أو فيما حولها.

ويبدو ملتون في مظهر أرق في قصيدة السونيت "مذبحة بيد مونت"(1655)

(1)

. ويحتمل أنه هو الذي دون الرسائل التي أهاب فيها كرومول بدوق سافوي ليضع حداً لاضطهاد "الفدوا Vaudois"( أتباع بيتر فالدو-بيوريتانيون منشقون في جنوب فرنسا)، وإلى مزران وحكام السويد والدنمرك والمقاطعات المتحدة ومقاطعات سويسرا، ليتوسطوا لدى الدوق.

وفي 1656، بعد أربع سنوات من حياة العزوبة، تزوج ملتون من كاترين وودكرك التي لم تكتحل عيناه بمرآها، بطبيعة الحال ولكنها أثبتت أنها بركة ونعمة عليه، فكانت ممرضة صابرة متجلدة لزوج مكفوف عنيف، وأما لبناته الثلاث، ولكنها قضت نحبها (1658)، أثناء وضع طفل لم يعمر. وكانت تلك سنة عصيبة على ملتون، حيث رحل عن الوجود وكرومول أيضاً، فكان لزاماً على السكرتير اللاتيني أن يحافظ على منصبه، قدر طاقته، في غمرة فوضى الأحزاب التي انحدرت بريتشارد كرومول إلى مجرد رجل عاجز تافه محب للخير. وعلى الرغم من أن ملتون لابد كان يدرك أن إنجلترا سائرة في طريق استعادة ملكية آل ستيوراث، فإنه أصدر في أكتوبر 1658 طبعة جديدة من "دفاع الشعب الإنجليزي عن نفسه" في أسلوب يغري بالاستشهاد. وفي مقدمة رائعة وصف ملتون "الدفاع الأول" بأنه "أثر

تتعذر إزالته بسهولة"، وزعم أنه من وحي السماء ووضعه في المرتبة التالية لمآثر كرومول، الذي أنقذ حرية إنجلترا (96).

وقاوم في شجاعة عمياء حركة إعادة شارل الثاني، وعندما وصل جيش مونك إلى لندن، وتردد البرلمان بين الجمهورية والملكية، نشر ملتون في فبراير 1660 رسالة موجهة إلى البرلمان، تقع في 18 صحيفة، "الطريق الممهد السهل لإقامة جمهورية حرة، ومزاياه المرتقبة بالمقارنة إلى مساوئ ومخاطر

(1)

أنظر الفصل السادس عشر-الفقرة الأولى.

ص: 83

إعادة الملكية في هذه الأمة". ومهرها في جرأة وبسالة باسمه (بقلم جون ملتون) وفيها ناشد البرلمان:

ألا يلوث ويهزأ بدم آلاف الإنجليز المخلصين البواسل الذين خلفوا لنا هذه الحرية، التي اشترت بحياتنا نحن. وماذا عسى أن يقول جيراننا عنا وعن اسم إنجلترا عامة، إلا أنهم على أحسن الفروض، سيسخرون منا، قدر السخرية بهذا الرجل الغبي، الذي أورد (مخلصنا) ذكره، والذي بدأ يبني صرحاً وعجز عن إتمام البناء؟ أين صرح الجمهورية الشامخ الذي تباهي الإنجليز بأنهم سيقيمونه ليتقلص ظل الملوك، وتصبح إنجلترا روما أخرى في الغرب؟ .... ما هذا الجنون الذي اعترى هؤلاء الذي يستطيعون في شرف وكرامة أن يدبروا شئونها بأنفسهم، حتى يحولوا كل هذه السلطات إلى شخص رجل واحد! يا للجبن والنذالة أن نحسب أن مثل هذا الفرد هو مناط حياتنا، ونعلق عليه كل سعادتنا وأمتنا وسلامتنا وخيرنا، وبدونه لا يكون لنا وجود، أو نكون مجرد أفراد كسالى بلداء أو أطفال! إنه ليجدر بنا أن نعتمد على الله وحده، وعلى أنفسنا نحن، وعلى فضائلنا العملية وعملنا الجاد (97).

وتنبأ ملتون بأن كل (الاعتداءات القديمة) التي ارتكبتها الملكية ضد حرية الشعب سوف تعود وشيكاً بعودة الملكية. واقترح أن يحل محل البرلمان (مجلس عام) يضم أقدر الرجال الذين ينتخبهم الشعب للعمل حتى الموت، ولا يخضعون للعزل إلا عند الإدانة بإحدى الجرائم، ويجدد المجلس بانتخابات دورية. وعلى هذا المجلس، على أية حال أن يوفر أكبر قدر ممكن من حرية الكلام والعبادة والحكم المحلي. واختتم ملتون رسالته بقوله:"أرجو أن أكون تحدثت إلى حد الإقناع إلى مجموعة كبيرة من الرجال الواعين المخلصين، أو إلى بعض من قد يقيمهم الله من هذه المقاعد الحجرية ليصبحوا "أبناء الحرية"، ويوقفهم ويجمعهم على قرارات حكيمة تقيم ما أعوج من أمورنا، وتصلح ما أفسد من أحوالنا، وتعالج هذه الخلل العام

ص: 84

المتفشي في الجمهور الذي أسيء استغلاله وأعوزه من يوجهه ويرشده (98) ".

وتجاهل البرلمان هذا الالتماس الذي ينطوي على القضاء عليه. وظهرت النشرات المطبوعة التي تهاجم ملتون، وحبذت إحداها شنقه وأصدر مجلس الدولة، وهو آنئذ ملكي النزعة، أمراً بالقبض على طابع رسالة ملتون، وفصله من منصبه (السكرتير اللاتيني للمجلس) فكان جوابه على ذلك إنه أصدر طبعة ثانية مزيدة من الرسالة "الطريق الممهد السهل"(إبريل 1660) وحذر البرلمان من أن الوعود التي يقطعها الآن شارل من اليسير أن تنقض بمجرد تثبيت دعائم السلطة الملكية الجديدة. وسلم بأن غالبية الشعب ترغب في عودة شارل الثاني، ولكنه دفع بأن الأغلبية ليس لها الحق في استعباد الأقلية أو التحكم فيها. إنه لمن الأعدل .... إذا وصل الأمر إلى حد الفرض بالقوة، أن ترغم الأقلية مجموعة أكبر مجموعة أكبر منها على أن تعيد إليها حريتها. من أن تفرض الأغلبية على أقلية من الناس من بني وطنهم أن يكونوا عبيداً أرقاء لهم، بشكل يسيء إليهم أبلغ إساءة (99). وتكاثرت الهجمات والحملات على ملتون وناشدت إحداها الملك شارل الثاني، وكان آنذاك في بريداً أن يتذكر جيداً الإهانات التي وجهها ملتون من قبل في رسالة "محطم الصور" وغيرها، إلى والده شارل الأول. واقترحت أن يضم ملتون إلى قائمة قتلة الملك الفعليين، لأنه يستحق الإعدام (100).

وقبل أن تصل هذه النشرة إلى شارل الثاني، كان قد أبحر هو بالفعل إلى إنجلترا، وفي 7 مايو، ودع ملتون أولاده وآوى إلى مخبأ مع أحد الأصدقاء. ولكن كشف أمره وأودع السجن، وبات مصيره لمدة ثلاثة أشهر مرهوناً بما يقرره البرلمان الملكي ورأى كثير من الأعضاء أنه إذا كان ثمة من يستحق الإعدام، فهو ملتون. وكان هذا متوقعاً. ولكن مارفل دافينانت وبعض الأعضاء الآخرين توصلوا إلى البرلمان أن يرحم شيخوخته وبصره المكفوف فاكتفى البرلمان بالأمر بإحراق بعض كتب بعينها من مؤلفاته، حيثما وجدت. وأطلق سراحه في 15 ديسمبر، فاتخذ داراً

ص: 85

في هلبورن، انتقل إليها هو وأولاده، حيث انصرف-بعد أحد عشر عاماً صاخباً عصبياً مضطرباً، عن النشر، إلى الفترة الثانية من نظم الشعر، وهي فترة بالغة الروعة والعظمة.

‌7 - الشاعر العجوز

1660 -

1667

وجد ملتون بعض السلوى والعزاء في العزف على الأرغن وفي الغناء، ويقول أوبري "كان صوته رخيماً رقيقاً (101) " وفي 1661 انتقل إلى دار أخرى، وفي 1664 استقربه المقام نهائياً في بيت في Artillery Wolk، فيه حديقة صغيرة استطاع أن يتمشى فيها دون أن يقوده أحد سوى يديه وقدميه. وكثيراً ما أقدم إليه أبناء أخته لزيارته ومعاونته، وقد نسوا ما كال لهم من ضرب في سابق الأيام، كما جاء إليه الأصدقاء ليقرئوا له، أو يكتبوا ما يمليه عليهم. وتولى بناته الثلاث خدمته بصبر نافد وجهد جهيد. وكانت كبراهن-آن-عرجاء شوهاء لكناء. وكانت ديبورا تتولى له الكتابة، وتعلمت هي وأختها ماري قراءة اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإيطالية والأسبانية، ولو أنهما لم تكونا تفهمان ما تقرآن (102). والحق أن أياً منهما لم تذهب قط إلى مدرسة، ولكنهن تلقين بعض الدروس الخاصة. ولكن لم يحظين من التعاليم إلا بأقل نصيب، على أحسن الفروض وباع ملتون معظم مكتبته قبل وفاته، لأن بناته لم تعنين بالكتب إلا قليلاً. وشكا من أنهن بعين الكتب خفية، وأنهن أهملن شأنه في وقت الحاجة والشدة، وأنهن تأمرن مع الخدم على مغالطته وسلبه عند شراء حاجيات المنزل (102)، ولم تشعر البنات بالسعادة في هذا البيت الكئيب، مع والد قاسٍ كثير المطالب سريع الغضب. ولما سمعت ابنته ماري بأنه يرتب لزواج جديد قالت:"ليس ثمة أنباء تستحق أن تسمع عن زفافه، ولكن النبأ الجدير بالاستماع هو نبأ وفاته"(104). واتخذ ملتون في 1663، وهو آنذاك في الخامسة والخمسين، زوجة ثالثة، هي اليزابث منشول Munshull، وكانت في الرابعة والعشرين من العمر. وتولت خدمته

ص: 86

بإخلاص وأمانة حتى آخر أيام حياته. وبعد سبع سنوات مع زوجة الأب التي وصفها أوبري بأنها "وديعة مسالمة مرحة مقبولة"(105) هجر البنات الثلاث منزل والدهن، ليتعلمن، على نفقة ملتون بعض الحرف.

وكانت عودة الملك قد كلفته كثيراً، وكادت أن تكلفه حياته، ولكنها مهدت الطريق لنظم "الفردوس المفقود". فلولاها ربما أفنى ملتون نفسه في التراشق بالنشر في المعركة، لأن "المقاتل" كان في مثل قوة "الشاعر" في شخصه. وبرغم هذا كله، لم يودع ملتون قط الأمل في أن يكتب لإنجلترا شيئاً تتغنى به لقرون قادمة. وفي 1640 أعد بياناً بموضوعات يمكن أن تكون ملحمة أو دراما، كان من بينها موضوع خطيئة آدم (خروجه من الجنة)، وأساطير الملك آرثر (ملك بريطانيا الذي يفترض أنه عاش في القرن السادس ق. م.، وبطل المائدة المستديرة) وتأرجح بين اللاتينية والإنجليزية، بأيتهما يكتب، وحتى حين قر قراره على "الفردوس المفقود"، موضوعاً له، فكر في أن يكتبه على شكل مأساة إغريقية، أو رواية دينية، على غرار روايات العصور الوسطى، وفي أوقات مختلفة نظم بعض أبيات أو مقطوعات أدخلت فيما بعد في القصيدة. ولم يتسن له إلا بعد وفاة كرومول، أن يجد فسحة من الوقت يومياً، ليكتب الملحمة، وفي 1658 فقد بصره تماماً.

في الأيام السود، وألسن السوء، ولو أنها ولت، فقد لفنا الظلام واكتنفتنا الأخطار من كل جانب (106).

وتواردت على ذهنه الأبيات، حين كان يرقد عاجزاً أرقاً، ويكاد ينفجر بها. فينادي على من يكتب له قائلاً:"إنه يحتاج إلى من يحلبه (107) ". وكانت تنتابه حمى الشعر، فيملي أربعين بيتاً "في نفس واحد"، ثم يجد في تصحيحها عندما تعاد تلاوتها عليه. ويحتمل ألا تكون ثمة قصيدة نظمت بمثل هذا الجد والكد والشجاعة والجراءة. وداخل ملتون شعور قوي بأنه يمثل لإنجلترا هوميروس واشعيا معاً، حيث اعتقد بأن الشاعر

ص: 87

صوت الله، وأنه نبي أوحي إليه أن يعلم الناس.

وفي 1665، حين انتشر الطاعون بلندن، اتخذ التدابير صديق سجين من الكويكرز، هو توماس الوود، لنقل ملتون ليقيم في "كوخه المكون من عشة حجرات في "كالفونت سانت شيل في بنكجهام مشير". وهناك في هذه "المقصورة الجميلة" أكمل الشاعر "الفردوس المفقود" ولكن من ذا الذي يقدم على نشرها؟ لقد كانت لندن في اضطراب بالغ في 1665 - 1666 بسبب الحريق الذي جاء في أعقاب الطاعون، وإذا كان ثمة شيء من الفرح والمرح باق، فهو عودة الملكية في صخبها وعربدتها. وفي حالة نفسية ليس معها مجال لملحمة من 10558 بيتاً الخطيئة الأولى. لقد حصل ملتون من قبل على ألف من الجنيهات عن رسالته "دفاع الشعب الإنجليزي" أما الآن، في 27 إبريل 1667، فقد باع كل حقوقه في "الفردوس المفقود" إلى الناشر صمويل سيمونز لقاء خمسة جنيهات نقداً، مع الاتفاق على دفعات أخرى قيمة كل منها خمسة جنيهات، يتوقف تسديدها على ما يباع من الكتاب، فكان كل ما حصل عليه هو 18 جنيهاً (108). ونشرت القصيدة في أغسطس 1667. وبيع منها العامين الأولين 1300 نسخة، وفي الأحد عشر عاماً الأولى بيع 3000 نسخة. وربما لا يقبل على القراءة القصيدة بأكملها مثل هذا العدد من القراء في أية سنة من أيامنا هذه، فليس لدينا فراغ كبير، حتى لقد اخترعنا كثيراً من الأدوات التي توفر الجهد. وتشترك "الفردوس المفقود" مع "انياذة فرجيل"، فيما أصاب كلتيهما من نكسة وتعويق، لظهورهما بعد الياذة هوميروس، فإن مشاهد المعركة والمحاربين الخارقين للطبيعة يفقدون قوتهم وسحرهم، ولكنهم تقليداً ومحاكاة. ولا ريب في أن هوميروس قلد نماذج قديمة، ولكنا نسيناها ولم نعد نذكرها، وذهب جونسون إلى أن "الفردوس المفقود"، بطبيعة موضوعها، تمتاز على ما عداها، بأنها ممتعة مشوقة للجميع دائماً "ولكنه

ص: 88

اعترف بأن" أحد لم تساوره الرغبة في أن تكون أطل مما هي (109). أن موضوع "الخطيئة الأولى للإنسان. وثمار الشجرة المحرمة التي جلب مذاقها القاتل الموت والفناء على العالم، وجلب علينا كل الكروب والويلات"، كان موضوعاً مناسباً إلى حد كبير، لأيام شباب ملتون، حين كان يتلقى سفر التكوين على أنه تاريخ، وحين كانت الجنة والنار، والملائكة والشياطين، هي نسيج التفكير اليومي. أما اليوم فإن موضوع القصيدة أكبر عائق في سبيلها، إنها قصة خرافية تروي للشبان في أحد عشر قسماً، وأن الاستمرار في مشاهدة مثل هذا العرض الطويل اللاهوت من البداية حتى النهاية جاف قاس عتيق، ليتطلب اليوم جهداً شاقاً متصلاً. وما كان الهراء ليسي عليه يوماً مثل السمو والرفعة قط. إن عظمة المشهد وجلاله، ومعانقة الجنة والنار والأرض، والانسياب الفخم المهيب للشعر المرسل، ومعالجة الموضوع المعقد ببراعة فائقة، والوصف الرقيق الجديد للطبيعة، والمحاولة الموفقة لإسباغ الواقعية والشخصية على آدم وحواء، وكثرة القطع الشعرية البالغة الروعة والقوة، كل أولئك بعض الأسباب التي جعلت من "الفردوس المفقود" أعظم قصيدة في اللغة الإنجليزية.

وتبدأ القصة في جهنم حيث الشيطان على هيئة طائر "ضخم الجسم"، ذي جناحين مبسوطين، ينصح ملائكته الهابطين بألا ييأسوا:

لم يضع كل شيء، فإن الإرادة التي لا تقهر، وتدبر للأخذ بالثأر والكراهية التي لا يخبوا أوارها أبداً، والشجاعة التي لا تخضع ولا تستسلم، أما أن تنثني متوسلة للرحمة، على ركبتين ضارعتين، وتعظم من سلطانه

فهذا أمر دنئ حقاً هذا خزي وعار أنكى من هذا السقوط ويبقى العقل والروح ولا سبيل إلى قهرهما (110)

وكأني بهذه الأبيات تردد صدى كرومول وهو يتحدى شارل الأول، وصدى ملتون وهو يتحدى شارل الثاني؛ وثمة عدة قطع في وصف الشيطان تذكرنا بملتون:

ص: 89

عقل لا يغير منه زمان أو مكان، فالعقل راسخ في مكانه، يستطيع في نفسه أن يجعل من الجنة جحيماً، ومن الجحيم جنة (111).

وفي الأجزاء القديمة من القصيدة نجد أن فصاحة ملتون أغرته بأن يرسم لإبليس صورة تكاد تتسم بالود والعطف، وكأنه زعيم ثورة ضد السلطة الرسمية الاستبدادية. وتخلص الشاعر من أن يجعل الشيطان بطل الملحمة بتصويره، فيما بعد، بأنه "أبو الأكاذيب" الذي "يجثم مثل ضفدع الطين" أو كالأفعى التي تنزلق ملتوية فوق الوحل (112). ولكن في هذا القسم من الملحمة نفسه ينهض الشيطان مدافعاً عن المعرفة:

المعرفة محرمة محظورة؟ لماذا ينفس عليهما ربهما ذلك؟ هل تكون المعرفة إثماً؟ أو تكون فناء؟ هل يعيشان (آدم وحواء) على الجهل وحده؟ أو أن حالتهما السعيدة هي دليل طاعتهما وإيمانهما؟ سأثير في عقليهما مزيداً من الرغبة في المعرفة (113)

ومن ثم يحاور حواء وكأنه كنيسة عقلانية تحمل على كنيسة جامدة تعيش في ظلام الجهل، تقف عقبه كأداة في طريق انتشار المعرفة:

لماذا إذن كان هذا التحريم؟. لماذا كان، إلا ليرهب عباده ويبقيهم على حالة من الانحطاط والجهل، إنه يعلم أنه في اليوم الذي تأكلان من تلكما الشجرة، فإن أعينكما التي تبدو الآن صافية ولكنها كليلة، سوف تنفتح وتصفو تمام الانفتاح والصفاء، ومن ثم تكونان مثل الآلهة (114).

ويأمر روفائيل، وهو أحد الملائكة، آدم، بأن يكبت من حبه لاستطاع الكون، فليس من الحكمة أن يتطلع الإنسان إلى معرفة ما وراء نطاقه الفاني (115) فالإيمان أعقل من المعرفة.

وكان لنا أن نتوقع ألا يفسر ملتون "الخطيئة الأولى" بأنها رغبة في المعرفة، بل أنها علاقة جنسية. أنه على النقيض من ذلك، ينشد تسبيحة غير بيوريتانية إطلاقاً، من أجل مشروعية اللذة الجنسية، في حدود الزواج، ويصور آدم وحواء منغمسين في مثل هذه القيم المادية، مع

ص: 90

بقائهما على "حالة البراءة"(116)، ولكن بعد "الخطيئة" أي أكل الفاكهة المحرمة من شجرة المعرفة-بدأ يستشعران الخزي والعار في الاتصال الجنسي (117). وهنا ينظر آدم إلى حواء على أنها مصدر كل الشر، "ضلع أعوج بالطبيعة" ويرثي لأن الله خلق المرأة:

لماذا خلق الله في النهاية هذه البدعة على الأرض، هذه العلة الجميلة في الطبيعة، ولم يملأ العالم على الفور، برجال مثل الملائكة، دون أثاث، أو يجد طريقة أخرى لتوالد بني البشر (118)؟.

ومن ثم فإن الإنسان الأول، في تاريخ الزواج في الكتاب المقدس، سرعان ما اصطنع ذريعة ليطلق الرجل زوجته في سهولة ويسر، وهنا نجد ملتون ينسي آدم، ويكرر شعراً ما سبق أن ذكره نثراً، عن خضوع المرأة خضوعاً حقيقياً تاماً للرجل (119). وسيعود إلى هذه اللازمة في قصيدة " Samson Agoniates (120) ". فهي حلمه الأثير الحبيب إلى نفسه. وفي رسالته السرية "العقيدة المسيحية" دافع عن إعادة "تعدد الزوجات"، ألم يجره العهد القديم. ألم يترك العهد الجديد هذا القانون الحكيم الشجاع دون إلغاء أو تعطيل؟ (121).

ومهما فسرت "مخالفة الإنسان الأول لأمر ربه"(الخطيئة الأولى)، فقد ثبت أنها موضوع أصغر من أن يملأ اثني عشر قسماً، لأن الملحمة تتطلب سلسلة من الأحداث والأعمال، ولكن حيث أن ثورة الملائكة انتهت حين بدأت القصة. فإن المسرحية لا تدخل إلى القصيدة إلا عن طريق الذكريات أو العودة إلى الماضي، وهو صدى آخذ في الذبول والزوال. ومشاهد المعركة موصوفة وصفاً جيداً، بما في ذلك التصارع المناسب بالسلاح، وشج الرؤوس وتقطيع الأوصال، ولكن من العسير أن تشعر بالألم أو بنشوة الابتهاج لهذه الضربات الخيالية. وعلى غرار الكتاب المسرحيين الفرنسيين يطلق ملتون لنفسه العنان للخطابة، فالجميع ابتداء من "الله" إلى حواء يخطبون، ولم يجد الشيطان في سمير جهنم ما يحول بينه وبين البلاغة وأنه

ص: 91

لمن المزعج حقاً أن نعلم أنه حتى في الجحيم سنكون مضطرين إلى الاستماع إلى محاضرات".

"والرب" في هذه القصيدة ليس هو التألق الذي يجل عن الوصف الذي تحس به في "جنة دانتي" فهو في القصيدة فيلسوف سكولاس (فيلسوف نصراني من العصور الوسطى)، يدلي بأسباب مطولة غير مقنعة، لأنه وهو القادر على كل شيء، يجيز للشيطان أن يوجد، وإن يغوي الإنسان، متنبئاً، طوال الوقت، بأن هذا الإنسان سيبذل ويخضع، ويجلب على البشرية يأسرها قروناً من الخطيئة والشقاء والتعاسة. ويحاج بأنه بدون الإثم لا تكون الفضيلة، وبدون التجربة لا توجد الحكمة والتعقل، ويرى أنه من الأفضل أن يواجه الإنسان الإغراء ويقاومه، من عدم التعرض للإغراء إطلاقاً، دون أن يتوقع أبداً أن الصلوات سوف تتوسل إلى الله ألا يقود الإنسان إلى الغواية والإغراء. ومن ذا الذي يطبق التعاطف مع تمرد الشيطان على هذا السادي الذي لا يصدق؟ (السادية: الابتهاج بالقسوة المفرطة).

وهل كان ملتون يؤمن حقاً بهذا الهول الجبري المقدر؟. من الواضح أنه كان كذلك، لأنه بسط الكلام فيه، لا في "الفردوس المفقود" فحسب، بل في رسالته السرية "العقيدة المسيحية" كذلك (122). أي أن الله، قبل خلق الإنسان بزمن طويل، قدر أي الأرواح يكتب لها الخلاص، وأيها قدر عليها العذاب المقيم. وانطوت هذه الرسالة، على أية حال، على شيء من الهرطقة. ولم ينشرها ملتون قط، ولم يكشف أمرها إلا في 1823، ولم تصل إلى المطبعة إلا في 1825.

إن هذه الرسالة وثيقة جديرة بالذكر، فهي تبدأ في إطار من التقوى، ودون جدل أو لجاجة، بافتراض أن كل كلمة في الكتاب المقدس هي وحي من عند الله. وسلم ملتون بأن نصوص الكتاب المقدس قد طرأ عليها "التزييف والتشويه والتبديل" ولكنها حتى في صيغتها الراهنة، من صنع

ص: 92

الله. وهو لايجيز غير التفسير الحرفي الأمين. فإذا جاءت الأسفار بأن "الرب"، استراح، أو خاف، أو خاف، أو ندم، أو كان غاضباً، أو حزينا، فإنه ينبغي أن تؤخذ هذه الألفاظ بمعناها الظاهري، ألا تخفف على أنها مجازات، بل كذلك أجزاء الجسم والصفات الجسدية التي تنسب إلى "الله" يجب قبولها على أنها حقيقية من الوجهة المادية (123). ولكن "الله" بالإضافة إلى هذا الكشف الظاهري الذي جاءت به الأسفار المقدسة والذي يكشف به عن كنهه فإنه، زودنا بوحي داخلي، هو الروح القدس الذي يتحدث في داخل قلوبنا. وهذا الوحي الداخلي "الملك الخاص لكل مؤمن، أسمى بكثير

ومرشد أصدق، من الأسفار المقدسة (124). ومهما يكن من أمر، فإن ملتون يقتبس من الكتاب المقدس، ما يؤيد ما يسوق من حجج، على أنه البرهان الحاسم الدامغ.

وعلى أساس من الأسفار المقدسة، ينبذ ملتون نظرية الثالوث الأقدس التقليدية، ويؤثر عليها هرطقة آريوس (الذي بقول بأن المسيح ليس من مادة الله، بل هو خير خليقة فقط)، فالمسيح بكل معنى الكلمة، أبن الله، ولكن الأب ولده في زمن ما، ومن ثم فهو غير معاصر للأب وليس متساويا معه أبداً. فالمسيح هو الوسيط الذي خلقه الله على أنه "اللوجوس أي الكلمة" الذي سيخلق منها كل من عداه. ولا يسلم ملتون "بالخلق من العدم"، فعالم المادة، مثل عالم الروح؛ انبثاق أو فيض سرمدي من المادة الإلهية. وحتى الروح نفسها، فهي مادة رقيقة جداً أثيرية، ولا يجوز تمييزها تمييزاً حاداً عن المادة. وفي النهاية، المادة والروح، والجسم والنفس في الإنسان، شيء واحد (125). وثمة شبه كبير يستحق الملاحظة بين هذه الآراء، وآراء هوبز (1588 - 1689) وسبينوزا (1632 - 1677)، وقد نرى أنهما فارقا الحياة في نفس العقد من السنين الذي مات فيه ملتون (1608 - 1674). وربما أطلع ملتون على مؤلفات هوبز التي لها دوي ملحوظ في بلاط شارل الثاني.

ص: 93

وظلت عقيدة ملتون خليطاً غريباً من التوحيد والمادية، ومن مذهب حرية الإرادة عند جاكوب أرمينيوس (لاهوتي بروتستانتي هولندي 1506 - 1609)، ومن مذهب الجبرية أو القضاء والقدر عند كلفن. ويبدو في كتاباته أنه كان رجلاً متعمقاً في أمور الدين. ومع ذلك لم يذهب قط إلى الكنيسة حتى قبل فقد بصره، ولم يقم الشعائر الدينية في بيته (126). وكتب دكتور جونسون:"في توزيع ساعاته لم يخصص وقتاً للصلاة، وحده، أو مع أهل بيته. وحذف الصلوات العامة، لقد حذف الصلوات جميعاً (127) ". وازدرى رجال الدين، ونعني على كرومول احتفاظه بعدد من رجال الدين تدفع الدولة رواتبهم، على أنه لون من "عبادة الأوثان"، يؤذي الدولة والكنيسة معاً (128). وفي أحد بياناته الأخيرة "بحث في العقيدة الحقة، والهرطقة والانشقاق عن الكنيسة والتسامح، وأمثل الطرق للحيلولة دون نمو البابوية"(1633) عارض بطريق مباشر الإعلان الثاني الذي أصدره شارل الثاني عن التسامح (1672)، محذرا إنجلترا من التسامح مع الكاثوليك وأنصار التوحيد، أو أية شيعة أخرى لا تعترف بالكتاب لمقدس أساساً وحيداً لمذهبها.

أن هذا الرجل الذي تفوح منه رائحة الهرطقة، عرف عنه مقاومة رجال الدين وتدخلهم في الشؤون العامة والخروج على الكنيسة، هو نفس الرجل الذي أخرج للعقيدة المسيحية أكرم شرح حديث لها.

‌8 - السنوات الأخيرة

1667 -

1674

احتفظ ملتون مع دخوله في العقد السابع من العمر، فيما خلا فقد البصر، بصحبة جسمه واعتداده بنفسه، وهما اللذان دعماه وسانداه في كل الصراعات الدينية والسياسية التي خاضها. ويصفه أوبري بأنه "نحيل

متوسط القامة"

فهو جسم جميل متناسب الأجزاء، وبشرته فوق المتوسطة

صحيح الجسم، لا يشكو علة، قلما يتناول الدواء، كل ما في الأمر أن النقرس انتابه في أخريات أيامه (129) ". وكان شعره الذي فرقه

ص: 94

في الوسط يتدلى على كتفيه في حليقات أو عقصات. ولم تنبئ عيناه عن فقد بصره. وظلت مشيته ثابتة منتصبة. وكان إذا غادر بيته بدا على زيه شدة الحساسية والكلف بملابسه، وتمنطق بسيف، لأنه كان فخوراً ببراعته في المبارزة واللعب بالسيف (130). وأضفت عليه الثقة الزائدة عن الحد وقاراً، وعزوفاً عن المرح. ولكنه كان مع ذلك حلو الحديث إلا إذا لقي معارضة. ولم يكن بيوريتانياً بكل معنى الكلمة: كان عنده شعور البيوريتانيين بالإثم، والجحيم والإصطفاء والأسفار المقدسة التي لا تخطئ، ولكنه استساغ الجمال واستمتع بالموسيقى، وألف رواية، واحتاج إلى عدة زوجات، وتخلفت أثاره من حيوية عصر اليزابث وسطر زانته الخالية من المرح. وكان أنانياً، أو أنه كشف عن أنانيته الطبيعية إلى حد الإفراط غير المألوف. إنه كما قال أنطوني رود:"لم يكن يجهل مواهبه (131) "، وكما قال جونسن "قل من الرجال من كتب كثيراً وامتدح قليلاً من الناس، مثله (132) "، وربما تطلبت العبقرية أنانية يدعمها اعتداد داخلي بالنفس، حتى تقف في ثبات في وجه الجمهور. إن أثقل ما يمكن قبوله في ملتون هو طاقة الكراهية والبغضاء عنده، وإساءته المفرطة لمن اختلفوا عنه وذهب إلى أنه ينبغي علينا أن نصلي من أجل أعدائنا، ولكن ينبغي أيضاً أن نستنزل اللعنات جهاراً على أعداء الله وأعداء الكنيسة، وكذلك على الأخوان المضللين الزائفين، أو من يقترفون الآثام الفظيعة ضد الله، أو حتى ضد أنفسهم (133)". أما الوجه الآخر لهذه العاطفة المشبوبة، فهو شجاعة النبي في استنكار زمانه، فإنه بدلاً من أن يكمم فاه ما اقترن بعودة الملكية من شغف وصخب، هاجم في عنف، غراميات البلاط "في عهد شارل الثاني"، "والشهوات والاغتصاب" في القصور، و "البسمات المشتراة على شفاه بنات الهوى" و "المسرحيات الخليعة أو حفلات الرقص في منتصف الليل (134) ".

وكأنما كان ملتون يقذف بآخر سهم في جعبته تحدياً للعصر المظلم،

ص: 95

حين نشر في يوم واحد (20 سبتمبر 1670) في غير ما شفقة ولا رحمة، اثنين من أعماله:"الفردوس المستعاد" و "شمشون الجبار". في 1665 بعد أن انتهى توماس الوود من قراءة ملحمة ملتون الأولى تحداه قائلاً: "لقد تحدثت هنا كثيراً عن الفردوس المفقود، فماذا عساك تقول الآن عن الفردوس الذي وجد؟ (135) "، وطرقت الفكرة ذهنه بشدة، ولكنه تسائل: كيف يعرض استعادة الفردوس في أية مرحلة في التاريخ، فإن موت المسيح نفسه لم يطهر الإنسان من الجريمة والشهوة والحرب ولكنه فكر أنه رأى في مقاومة المسيح لإغراء الشيطان، وعداً بأن جانب الله في الإنسان لابد يوماً أن يقهر جانب الشيطان في الإنسان نفسه، ويهيئه للحياة تحت حكم المسيح والعدالة على الأرض.

ومن ثم فإن ملتون في الأقسام الأربعة من "الفردوس المسترد"، لم يركز في حياة المسيح على الصلب، بل على "تجربة الإغراء في البرية"، حيث يقدم الشيطان للمسيح "ولداناً

أجمل من سقاة الآلهة"، ثم "الحور والعذارى الفاتنات، وسيدات من حدائق التفاح الذهبي" ثم يعرض عليه المال والثراء-ولكن أولئك دون جدوى. ثم يريه الشيطان روما الإمبراطورية تحت حكم تيبريوس المنهوك المكروه الذي لم يعقب، فهلا يريد المسيح أن يقود ثورة بعون من الشيطان، وينصب نفسه إمبراطوراً على العالم؟ ولما لم يرق هذا في عيني يسوع، ولم يستهو قلبه فإن الشيطان، أراه أثينا بلد أرسطو وأفلاطون، فهلا رغب في اللحاق بهما ليكون فيلسوفاً؟ ثم يدخل المسيح والشيطان في حوار غريب حول مزايا الأدب اليوناني والعبري. فينحاز المسيح إلى جانب أنبياء وشعراء بني إسرائيل على أنهم أسمى بكثير من اليونانيين:

أخذت اليونان عنا هذه الفنون، ولم تحسن تقليدها (137).

وبعد قسمين من الملحمة استغرقهما الحوار، أقر الشيطان بهزيمته، وبسط جناحيه وطار، على حين تتجمع فرقة من الملائكة حول المسيح

ص: 96

المنتصر، وتنشد:

الآن انتقمت لآدم المغدور به، وبالتغلب على الإغراء استعدت الفردوس المفقود (138).

ولم يروِ ملتون لنا القصة بمثل الروعة الفياضة الرنانة التي تجلت في الملحمة الأولى الكبرى، ولكن بمثل براعته في الشعر، وميله إلى الحاجة، وهما أمران معهودان فيه، كما كشف في القصة حتى حادث صلب المسيح، وربما كان مرد ذلك إلى أنه لم يتفق مع القائلين بأن موت المسيح هو الذي فتح أبواب الجنة من جديد. فالفضيلة وضبط النفس وحدهما اللذان يجلبان السعادة. ولم يدرك ملتون قط لما رفضت إنجلترا أن تأخذ بمأخذ الجد، إعادة كتابة الأناجيل على هذا الشكل المضحك، وذهب إلى القول بأن الملحمة الثانية ليست أقل من الملحمة الأولى، اللهم إلا من حيث مداها (139). وكان لا يطيق أن يسمع أن "الفردوس المفقود" تفضل "الفردوس المسترد"(140).

وتألقت عبقرية ملتون لآخر مرة في "شمشون أجونست-الجبار". إنه بعد أن تحدى هوميروس وفرجيل ودانتي، بملحمته، نراه الآن يتحدى أخيللس وسوفوكليس برواية ارتضت كل القيود المأساة (التراجيديا) اليونانية. وهو في المقدمة يطلب إلى القارئ أن يلحظ أن المسرحية (الدراما) تخضع للوحدات التقليدية القديمة، وتتجنب "خطأ الشاعر في خلط المادة الهزلية (الكوميدية) بأحزان المأساة ووقارها ورهبتها، أو في إدخال شخوص تافهين مبتذلين. وهنا نجد ملتون يولي ظهره لعصر اليزابث، ويشق طريقه إلى اليونان ولا يبعد كثيراً عن النماذج اليونانية. إن شمشون الذي فارقته قوته بعد أن حلقت دليلة سبع خصلات من شعر رأسه، وقلع من أوثقوه من الفلسطينيين عينيه، نقول أن شمشون هذا لا يحكي فقط، أوديب المكفوف في كولونس، بل أنه يحكي ملتون نفسه يعيش في عالم بغيضاً يرى منه أثراً:

ص: 97

"ضريرين أعداء، أواه هذا شيء أسوأ من الأغلال أو الزنزانة أو التسول، أو العجز بفعل الهرم، فالضياء، وهو فاتحة صنع الله، منطفئ أمامي، ولا أملك من مباهجه شيئاً. ربما كان يهدي من آلامي وأحزاني، آه، أنه الظلام والقتام والحكمة وسط وهج النور عند الظهيرة، ينشر كسوفاً كليلاً لا خلاص منه، دون أي أمل في بزوغ النهار (141) ".

والحق أن الرواية كلها يمكن تفسيرها بأنها قصة رمزية متناغمة متماسكة: فملتون هو شمشون يناضل ويتعذب في محنته، وبنو إسرائيل المقهورون هم البيوريتانيون، أي الشعب المختار حطمته عودة الملكية، والفلسطينيون هو الملكيون الوثنيون المنتصرون، وهدم هيكلهم يكاد يكون تنبؤاً "بالثورة الجليلة" التي أطاحت بآل ستيوارت "الوثنيين" في 1788. أما دليلة فهي المرأة الخائنة ماري باول، Powell. وتكرر فرقة الموسيقى (الكورس) حجج ملتون وناقشاته من أجل الطلاق (143). ويكاد ملتون يكون قد تخلص من غضبه وحقده بترديد تلك الحجج والناقشات على لسان شمشون الذي يتقبل نهايته التي لابد آتية:

"سوف تمضي سلالة المجد، أما سلالة الخزي والعار التي ستبقى فسألحق بها وشيكاً (143) ". وفي يوليه 1674 أحس ملتون بأنه يضعف وتنحط قواه، ولأسباب لا نعلمها أهمل تدوين وصيته. وبدلاً من ذلك وجه إلى أخيه كريستوفر وصية "شفوية" تكاد تكون غير مسطورة، نقلها كريستوفر على وجه الآتي:

"أخي، إني أترك نصيبي من تركة مستر باول Powell والد زوجتي السابقة، لأولادي العاقين، ولكني لم أتسلم شيئاً منه ووصيتي ومقصودي ألا يستولوا على أي جزء آخر من ضيعتي أكثر من الجزء المذكور، ومما ضيعت من أجلهم، غيره، لأنهم قصروا أشد التقصير في القيام بواجباتهم نحوي، أما بقية ضيعتي فأني أضعها تحت تصرف زوجتي الحبيبة اليزابث"(144) وأعاد ملتون هذه الوصية الشفوية على أسماع زوجته وأناس غيرها في أوقات مختلفة.

ص: 98

وتشبث ملتون بالحياة في عزيمة قوية. ولكن آلام النقرس اشتدت عليه يوماً بعد يوم حتى شلت يداه وقدماه. وفي 8 نوفمبر 1674 وأنهكت الحمى قواه، وفارق الحياة في تلك الليلة. وعاش ملتون خمساً وستين سنة وسبعة أشهر. ودفن في مقبرة كنيسة الأبرشية، في سانت جيل كربلجيت، بجوار والده.

وكان القانون الإنجليزي يعترف بالوصايا الشفوية حتى 1677، ولكن المحاكم كانت تدقق قيها تدقيقاً شديداً. واعترض البنات على وصية أبيهم، ورفضها القاضي، وأعطى ثلثي المال للزوجة، والثلث الباقي، وقدره 300 جنيه للبنات. أما الحصة في أموال باول فلم يدفع منها شيء قط.

وأنا لنعلم عن ملتون أكثر كثيراً مما نعلم عن شكسبير، ولا بد من تدوين الكثير عنه حتى نخرج له صورة حقيقية أو نصفه وصفاً كاملاً. ولكنا لا نزال نجهل ما يكفي للحكم عليه-إذا كان هذا ممكناً بالنسبة لأي رجل. فنحن لا نعلم، بشكل كاف، لماذا أثار بناته استياءه إلى هذا الحد، ولا كيف عاملن زوجته الثالثة التي واسته وأراحته في سني شيخوخته، ولكنا نستطيع فقط أن نبدي الأسف على أنه عجز عن كسب حبهم. ولسنا ندري بالتفصيل لماذا ارتضى أن يكون رقيباً على الصحافة أيام كرومول، بعد دفاعه المجيد عن "حرية المطبوعات". ويمكن أن نعزو كثيراً من تعسفه وبذائته في الخصومة إلى أحول العصر ومعاييره. وقد نغتفر غروره وأنانيته باعتبارهما الركيزة التي تستند إليها العبقرية إذا لم تجد إلى القليل من ثناء الدنيا وإطرائها. ولسنا بحاجة إلى الاستماع به رجلاً. والإعجاب به شاعراً، وواحداً من أعظم الناشرين الإنجليز.

إن الذين يعتزمون قراءة الفردوس المفقود من البداية إلى النهاية، سيتولاهم الدهش إذ يجدون أنها غالباً ما تحلق في آفاق عالية من الخيال والبيان، حتى ليغتفرون إن عاجلاً أو آجلاً، الصفحات المملة المحشوة بالنقاش أو العلوم أو الجغرافيا، وكأنها بمثابة فترات لالتقاط الأنفاس من فرط الثأر والتحليق. وأنه لمن الحمق أن نتوقع أن تبقى هذه التحليقات

ص: 99

المفرطة في التناغم والعاطفة بصفة مستمرة، فقد يكون هذا في القصائد القصيرة. وهناك في نثر ملتون وبخاصة في "الأريوباجيتيكا"، قطع، لا يسمو عليها، في قوتها وروعتها، وفكرها وموسيقاها، شيء من سلسلة الأدب الدنيوي في العالم.

وأضفى عليه معاصروه شهرة يشوبها الحسد والتذمر، وفي الفترة التي صعد فيها حزبه إلى منصة الحكم، كان مناضلاً ثائراً، ونسيت قصائده الغنائية الأولى. ونشر ملتون قصائده الكبرى في عهد عودة الملكية، ذلك العهد الذي احتقر شيعته، ورضي له البقاء على قيد الحياة، على كره منه. وعندما طلب لويس الرابع عشر من سفيره في لندن أن يعدد له أحسن الكتاب الإنجليز الأحياء، كان جواب السفير: لا يوجد منهم من يستحق الذكر إلا ملتون الذي دافع من قبل، من سوء الحظ، عن قتل الملوك الذين كانوا آنذاك يشنقون أحياء أو أمواتاً. وحتى في هذا العصر المستهتر المشاغب، على أية حال، نجد أن أشهر شعرائه، جون دريدن، الذي قال عنه ملتون من قبل أنه "ناظم قواف جيد، وليس بشاعر (145) ". نقول أن دريدن هذا، اعتبر "الفردوس المفقود" "من أعظم وأروع وأسمى ما أبدع هذا العصر وهذه الأمة من قصائد (146) ". وبعد أن دالت دولة أسرة ستيوارت عاد إلى ملتون مجده ومكانته الرفيعة. وأطنب أديسون في مداحه في مجلة "سبكتاتور". ومنذ ذلك الوقت ازدادت صورة ملتون رفعة وقداسة في ضمير بريطانيا (147) حتى ناجاه وردزوث في 1802:

"أي ملتون، ما كنا أجدرك أن تكون حياً بيننا في هذه الساعة .. ، أن روحك مثل نجم رحل عنا بعيداً، لقد كان لك صوت يهدر كالبحر، صاف مثل السموات المكشوفة، صوت كريم حر".

أن نفسه كانت مثل أثر باق، قام بعيداً عن أقرب الناس إليه، ولكن عقله حلق مثل السموات العلى، فوق كل هموم البشر، وصوته يدوي في الاستماع مثل "البحر المتلاطم الأمواج" عند هوميروس.

ص: 100

الفصل التاسع

‌عودة الملكية

‌1660 - 1685

1 -

الملك السعيد

دخل الملك شارل الثاني لندن في اليوم التاسع والعشرين من مايو 1660، أي بعد ثلاثين سنة كاملة من مولده، وسط مظاهر فرح وابتهاج، تفوق كل ما تعيه ذاكرة إنجلترا من مثلها، يواكبه عشرون ألفاً من حرس المدينة، ترفرف أعلامهم اعتزازاً وزهواً، ويلوحون بأسيافهم وسط شوارع انتشرت فيها الأزهار، تتدلى فيها البسط المزدانة بالرسوم والصور، تدوي فيها الطبول والنواقيس وهتافات الترحيب، وتكتظ بنصف سكان المدينة. وكتب ايفلين:"وقفت على الشاطئ، ورأيت هذا المشهد وحمدت الله (1) ". وهو مشهد كشف عن مزاج إنجلترا، وخيبة البيوريتانيين وإخفاقهم، فقد اقتضى خلع شارل الأول ست سنوات من الحروب والاضطرابات، على حين لم ترق نقطة دم واحدة في سبيل عودة ابنه إلى العرش. وتقاطر الإنجليز على قصر هويتهول لتحية الملك، طوال هذا الصيف الذي غمرته البهجة. وقال أحد شهود العيان: "كان تلهف الرجال والنساء والأطفال على رؤية جلالته وتقبيل يده، شديد إلى حد أنه لم يكد يجد فسحة من الوقت لتناول الطعام لعدة أيام

ولما كان الملك راغباً كل الرغبة في إرضاء نفوسهم، فإنه لم يرد عنه أحداً، ولم يغلق الأبواب من دون أي من الناس (2) " وصرح بأنه يريد أن يكون كل شعبه سعيداً مثله.

ولو أن الملك أخذ أي مشكلة مأخذ الجد في أيام الظفر هذه، لجللت

ص: 101

الشدائد والمصاعب التي ورثها شهر العسل بالسواد والقتام. فقد بلغ رصيد الخزانة 11 جنيهاً و28 شلناً و10 بنسات، وكانت الحكومة مدينة بمليوني جنيه. ولم تسدد رواتب الجيش والبحرية لعدة سنوات، وكانت إنجلترا في حرب مع أسبانيا. وأخذت مينا دنكرك، بشكل غير مستقر، لقاء مائة ألف جنيه سنوياً، وطالب بالتعويض آلاف من الفرسان الذين حاربوا من قبل في صفوف شارل فسلبهم كرومول أموالهم. ثم أن عشرات الآلاف من الرجال الوطنيين قدموا ظلامات يلتمسون فيها إلحاقهم بالوظائف ذوات الرواتب الكبيرة والعمل اليسير، وأجاب شارل على كل هذا بالإيجاب، في غير اكتراث، تراوده الثقة في أن يوفر البرلمان الاعتمادات.

وكان البرلمان، بدوره سعيداً، سيطرت عليه للوهلة الأولى، نزعة الامتثال الموسوم بالابتهاج للملك العائد: إننا وأبناءنا من بعدنا نضع أنفسنا تحت تصرف جلالتكم ونلتزم بطاعتكم إلى الأبد (3)"وقرر مجلس العموم "أن أعضاءه أنفسهم وشعب إنجلترا بأسره لن يبرءوا من الجريمة البشعة، جريمة الثورة الأخيرة غير الطبيعية، ولن ينجوا من العقوبات المترتبة على هذا الجريمة إلا إذا حظوا بصفح صاحب الجلالة وعفوه وبناءاً على ذلك قصد إليه البرلمان بكامل هيئته وجثوا أمام الملك الضاحك المبتهج، لينالوا غفرانه (4). وأحس مجلس العموم بمزيد من الإثم لأنه اجتمع دون دعوة من الملك، أو دون موافقته، ولذلك أطلق المجلس على نفسه تواضعاً أسم "اجتماع أو مؤتمر"، حتى تطيب نفس الملك، فيعلن أنه برلمان شرعي (5). وبعد انتهاء هذه المراسم، ألغي البرلمان كل التشريعات التي أصدرها البرلمان ولم يكن قد وافق عليها شارل الأول، ولكنه أكد على الامتيازات التي كان ذلك المجلس قد منحها للبرلمان، بما في ذلك سيادة البرلمان في كل ما يتعلق بالضرائب، وثبت شارل الثاني هذه الامتيازات. وشارك البرلمان الملك الانتصار الحاسم الذي أحرزته السلطة المدنية على

ص: 102

السلطة العسكرية، فدفعت الرواتب المتأخرة للجيش الذي حكم إنجلترا لمدة عقدين من السنين، وسرح الجنود البالغ عددهم أربعين ألفاً، وانصرفوا إلى بيوتهم.

وكان شارل قد وافق على الصفح عن كل أعدائه، فيما عدا من يستثنيهم البرلمان من العفو العام. وقضى البرلمان عدة أسابيع في جدل حول من يسلمهم إلى يد الجلاد، ومن يبقي على حياتهم. وفي 27 يوليو 1660، شخص الملك إلى مجلس اللوردات، مناشداً إياهم أن يصدروا قراراً سريعاً حكيماً:

"أيها اللوردات، إنكم إذا لم تشاركوني في القضاء على الخوف الذي استولى على قلوب الناس وأرقهم،

فإنكم بذلك تحولون بيني وبين الوفاء بالوعد الذي قطعنه على نفسي، وأنا مقتنع بأنه لما كنا، لا أنا ولا أنتم هنا الآن

ولقد أدركت جيداً أن هناك أناساً لا يمكن أن يغفروا لأنفسهم ما اقترفوه، ولا أن نغفر لهم نحن ذلك .. وإني لأشكر لكم عدالتكم مع هؤلاء -القتلة المباشرون لوالدي-، ولكني- وسأكون صادقاً معكم- لم أفكر قط في استثناء أحد غيرهم في العفو العام. أن هذه الرحمة، وهذا التسامح هما خير وسيلة تجعل الناس يستشعرون خالص الندم. وتجهلهم رعايا صالحين مخلصين، كما تجعلهم أصدقاء وجيراناً صالحين لكم أنتم (6) ".

ورغب البرلمان في التوسع في عملية الانتقام، ولكن شارل أصر على ألا يستثني من العفو إلا من وقعوا الحكم بإعدام والده (7). وكان ثلث هؤلاء قد فارقوا الحياة، كما لاذ الثلث الثاني بالهروب، وقبض على 28 وحوكموا، وحكم على 15 بالسجن مدى الحياة، وشنق 13 ثم مزقوا أرباً (13، 17 أكتوبر 1660). ويقول شاهد العيان بيبز: أن توماس هاريسون، وهو أول من نفذ فيه الحكم، "كان يبدو مرحاً، كما يمكن أن يفعل أي رجل في مثل هذا الموقف" وتحدث بشجاعة من فوق المشنقة

ص: 103

قائلاً أن دوره في الاقتراع على إعدام شارل الأول أملاه الله عليه (8). ويضيف بيبز: وفي الحال مزق أرباً، وعرض رأسه وقلبه على الجمهور، فتعالت صيحات الفرح (9) وفي 8 ديسمبر أصدر البرلمان أمراً بإخراج جثث كرمول وأيرتون وجون برادشو من كنيسة وستمنستر، وتعليقها على أعواد المشانق. وتم ذلك بالفعل غي 30 يناير 1661، وكأنما كان هذا لوناً من الاحتفال بذكرى موت شارل الأول، وعرضت رؤوسهم طيلة يوم كامل في أعلى قاعة وستمنستر (حيث اجتمع البرلمان). ودفنت الأشلاء في حفرة مشنقة تبيرن، كل أولئك جعل جون ايفلين يبتهج ويهلل "لحكم الله، وهو حكم هائل تحار فيه الألباب (10) ". وثمة ضحية أخرى، هاري فين، الذي كان يوماً محافظاً لمستعمرة خليج ماساشوست، فقد شنق في 1662، لأنه كان أداة فعالة في تدبير إعدام سترافورد. وفي هذه القضية أغمضت رحمة الله جفونها، فقد وعد من قبل بالإبقاء على "سير هاري" الرجل الشعبي المحبوب، ولكن جراءة السجين وشجاعته أثناء المحاكمة أوغرت صدر الملك فتحجر قلبه.

وفي 29 ديسمبر 1660 حل "المؤتمر"(البرلمان) نفسه، حتى يمهد الطريق لانتخاب أعضاء أكثر تمثيلاً للشعب، وفي غضون ذلك واجهت الحكومة أول مظاهرة عدائية تنازع في شعبيتها العاصمة. أن هذه الحكومة لم تفعل شيئاً لإسكات الشيع الدينية التي ظلت تأمل في نظام جمهوري: فكان المشيخيون وأنصار تجديد العماد والمستقلون وأصحاب مذهب الملكية الخامسة يخطبون ضد الملكية، وتنبأوا بأن الانتقام الإلهي سيحل بها سريعاً، فيرسل الزلازل والذم والضفادع تنقض على بيوت موظفي الملك. وفي 6 يناير 1661، وبينما كان الملك في تورتسموث يودع أخته الحبيبة هنريتا في طريقها إلى فرنسا، نادي بالتمرد والعصيان أحد المشتغلين بصناعة دنان النبيذ في مجمع "لقديسي الملكية الخامسة"، وعندئذ سلح سامعوه المهتاجون أنفسهم، وأسرعوا إلى الشوارع يرددون أن المسيح

ص: 104

وحده هو الذي ينبغي أن يكون ملكاً، ويعملون القتل في كل من أعترض سبيلهم، وعاشت المدينة في ظل الإرهاب طيلة نهارين وليلتين، وانتشر "القديسون" في كل مكان يقتلون الناس في حماسة بالغة، حتى تمكنت آخر الأمر فرقة صغيرة من الحرس كانت الحكومة الواثقة من نفسها تعتمد عليها في حفظ الأمن، من تطويق المشاغبين واقتيادهم إلى حبل المشنقة. وعاد شارل مسرعاً إلى العاصمة، ونظم فرقاً جديدة من الشرطة للمحافظة على الأمن فيها.

وفي 23 أبريل، في يوم عيد سانت جورج راعي إنجلترا وحاميها، توج الملك السعيد في كنيسة وستمنستر، في كل مظاهر العظمة والجلال، ذات القيمة الكبرى لدى الملوك والتي يعتز بها الشعب، وحرص رجال الكنيسة الأنجليكانية التي استعادت مكانتها، وهم يمسحون الملك الداعر بالزيت المقدس، على التوكيد على تعهد الملك والتزامه بالدفاع عن العقيدة وعن الكنيسة. وفي مايو اجتمع "برلمان الفرسان" الذي سمي كذلك لأن غالبية أعضائه كانوا ملكيين أكثر من الملك، متلهفين على الانتقام من البيوريتانيين. ووجد شارل مشقة في أن يثنيهم عن الاسترسال في إعدام أعداء والده، واسترد البرلمان، من الوجهة النظرية، كثيراً من الامتيازات التي كان قد فقدها شارل الأول: من ذلك أنه لا يصبح أي تشريع نافذ المفعول إلا بعد أن يوافق عليه المجلسان كلاهما، والملك. وكانت للملك السلطة العليا على القوات الإنجليزية المسلحة في البر والبحر، وأعاد البرلمان تنظيم مجلس اللوردات، وأعاد إليه أساقفة الكنيسة الرسمية، ولكنه رفض تجديد قاعة النجم أو محكمة اللجنة العليا وأبقى على حق التحقق في قانونية القبض على المسجونين بغير محاكمة، وأعيدت إلى الفرسان أملاكهم التي صادروها كرومول من قبل، مع تعويض ضئيل لمن اشتروها، واسترجعت الأرستقراطية القديمة ثراءها ونفوذها. وانقلبت الأسرات التي جردت من أملاكها على ملوك آل ستيوارت، وانضمت فيما بعد إلى صغار النبلاء وأبناء

ص: 105

الطبقات الوسطى ليشكلوا "الأحرار" ضد "المحافظين" .. إن شارل في النصف الأول من حكمه بلغ من الضعف والوهن حداً لم يستطع معه أن يفرض أي قدر من السلطة المطلقة، من ذلك أنه أجاز "لبرلمان الفرسان" أن يستمر لمدة سبعة عشر عاماً، على الرغم من حقه الشرعي في حله. أنه كان من الناحية العملية ملكاً دستورياً. فإن النتيجة الجوهرية لثورة 1642 - 1649، وانتقال السلطة العليا من يد الملك إلى البرلمان، ثم من مجلس اللوردات إلى مجلس العموم، كل أولئك عاش بعد عودة الملكية، على الرغم من قيام الملكية المطلقة من الوجهة النظرية.

وكان من حسن حظ البرلمان أن شارل كان عزوفاً عن الحكم، وكأنه بعد أربعة عشر عاماً من التشرد والشقاء، قد منحته العناية الإلهية الحق في السعادة والهناءة، وأدخل جنات عدن التي وعد بها المسلمون. وكان الملك أحياناً ينهمك بجد وكد في شؤون الدولة، وقد بولغ في إهماله لها (11). وقبيل نهاية حكمه دهشت الأمة إذ رأته يأخذ كل شيء على عاتقه، وينصرف بكليته إلى إدارة شئون البلاد في كفاية وعزيمة صادقة. ولكنه في أعوام العسل كان قد فوض إلى إرل كلارندون في 1661، إدارة دفة الحكم، بل تقرير السياسة.

وتسربت شخصية الملك، بشكل مؤثر على عادات العصر وأخلاقه وسياسته وغلب الطابع الفرنسي على أصله وتعليمه. فأمه فرنسية، وأبوه ابن حفيدة ماري جيز أو اللورين، أضف إلى هذا جداً اسكتلندياً ودنمركياً وإيطالياً، ومن ذلك نجد خليطاً ضافياً ولكنه غير راسخ. أنه عاش من سن السادسة إلى سن الثلاثين في القارة، حيث تعلم الأساليب الفرنسية ثم رآها في أبهى صورها في أخته هنريتا آن. وكان عره الأسود وجلده الأسمر يذكران بجدته الإيطالية ماري دي مديتشي، وكان مزاجه لاتينياً مثل والدة جدته لأمه ماري ملكة إسكتلندة، وربما ورث عن جده الغسقوني هنري نافار، شفتيه الشهوانيتين وعينيه البارقتين وأنفه المتطفل،

ص: 106

بل وربما ميله إلى النساء كذلك.

أما فيما يتعلق بالناحية الجنسية، فقد كان شارل الثاني أخزى قادة زمانه، وأسوأهم، فإن تصرفاته كانت أسوأ مثال تحتذيه حاشيته والمجتمع الإنجليزي والمسرح بعد عودة الملكية، فانفلت الزمام للفجور والخلاعة في هذه كلها، وآن لنعرف أسماء ثلاث عشرة من خليلاته، أنه وهو في الثامنة عشرة، حين جاء كمن هولندا إلى إنجلترا ليقاتل من أجل والده، وجد فسحة من الوقت لينجب من "السمراء الجميلة الجريئة" لوسي وولتر، واداً كبر وترعرع تحت أسم جيمس سكوت، أعترف شارل ببنوته فيما بعد، وعينه دوق موغوث. ولحقت لوسي بشارل في القارة، وخدمته بإخلاص، والواضح أنه كان معها مساعدون آخرون لا نعرف الآن أسماؤهم. وفور أن أستقر به المقام في القصر الملكي، دعا بربارا بالمر لتسري عنه همومه وتخفف عنه متاعبه. وكانت بربارا هذه -مثل بربارا فلييرز- قد أقامت لندن وأقعدتها بجمالها. وفي سن الثامنة عشر (1659) تزوجت من روجر بالمر الذي أصبح إرل كاسلمين. وفي سن التاسعة عشر وجدت طريقها إلى مخدع الملك، ومن ثم سيطرت على روحه الوادعة، إلى حد أنه خصص لها جناحاً في قصر هويتهول، وأنفق عليها أموالاً طائلة وأجاز لها بيع المناصب السياسية، والتحكم في مصائر الوزراء. وولدت له ثلاث أبناء وابنتين أعترف ببنوتهم جميعاً، وساورته الشكوك على أية حال، لأنها وسط حبها الشديد للملك، لم تتورع عن الاتصال برجال آخرين (12)، وازدادت تفوهاً بازدياد علاقاتها غي المشروعة. وفي 1663 - أعلنت تحولها إلى الكاثوليكية. وألتمس أقاربها من الملك أن يثنيها عن عزمها، فأجابهم بأنه لم يتدخل قط في "نفوس" السيدات (13).

وفي 1661 فكر شارل في أنه قد حان الوقت للزواج، ومن بين المرشحات أختار كاترين براجنزا ابنة جون الرابع ملك البرتغال التي قدمت إليه مع صداق هيأته الإلهية ليفي بحاجات ملك مبذر ودولة تاجرة:

ص: 107

000ر500 جنيه نقدا"، وميناء طنجة، وجزيرة (والمدينة الصغيرة فيما بعد) بومباي، وحرية الاتجار مع كل ممتلكات البرتغال في آسيا وأمريكا وتعهدت إنجلترا في مقابل ذلك، بمساعدة البرتغال في المحافظة على استقلالها ولما وصلت الأميرة العروس الغالية إلى بورتسموث كان شارل في استقبالها للترحيب بها، وتزوجا في 21 مايو وفقاً للطقوس الكاثوليكية أولاً ثم الأنجليكانية، وكتب شارل إلى والدتها يقول أنه "أسعد إنسان في العالم" وأحسن معاملة حاشيتها من السيدات ذوات "التنورات" الواسعة المطوقة، ومن الرهبان الوقورين، ووقعت الأميرة في غرامه لأول نظرة، وسارت الأمور سيراً حسناً لعدة أسابيع، ولكن في يوليو وضعت كاسلمين ولداً شهد شارل تعميده على أنه "العراب" (أبوه في العماد) -وتلك مناسبة أخرى يستخدم فيها أسم الله عبثاً ولغواً. ومنذ هجرت باربارا زوجها، أصبحت الآن تعتمد كل الاعتماد على الملك، وتوسلت إليه ألا يتخلى عنها، فاستسلم لرجائها، وسرعان ما استأنف علاقته بها، وفي إخلاص موصوم بأشد الخسة والعار. ونسي الملك قواعد السلوك القويمة المألوفة، فقدم باربارا علانية إلى زوجته. فنزفت أنف كاترين دماً وانتابها إغماءه، من فرط الشعور بالمهانة والإذلال، وحُملت إلى خارج القاعة وبناء على إلحاح من الملك، أوضح لها كلارندون أن عملية الزنى امتياز ملكي معترف به للملوك في أعرق أسرات أوربا، وبمرور الوقت كيفت الملكة نفسها مع أساليب زجها الشرقية، ولمنها كانت تزوره ذات يوم، فوقعت عيناها على "شبشب" صغير بجوار سريره، فانسحبت في رفق وتلطف "حتى لا تصاب الحمقاء الجميلة الصغيرة المختفية وراء الستائر بالبرد (14) "، وكانت هذه المرة الممثلة -هول دافيز. هذا في الوقت الذي حاولت فيه كاترين كثيراً أن تنجب لشارل طفلاً، ولكنها -مثل كاترين أراجون مع ملك سابق- أجهضت عدة مرات. وفي 1670 أقر البرلمان قانوناً بالتوسع في أحكام الطلاق. وأشار بعض رجال البلاط المتلهفين على وريث بروتستانتي، على

ص: 108

شارل بأن يطلق كاترين، ولكنه أبى، حيث كان قد عرف آنذاك كيف يحبها حباً عميقاً على طريقته الخاصة.

ويصف بيبز البلاط في 27 يوليو 1667 فيقول:

"يقص على فن Fenn أن الملك وسيدتي كاسلمين قد حدثت بينهما فجوة شديدة، وأنها ستفارقه، ولكن بين جنبيها جنين، إن الملك لابد معترف ببنوته، وغلا فإنها ستحمل الوليد إلى قصر هويتهول، وتهشم رأسه أمام عيني الملك. ثم يضيف أن الملك والحاشية لم يكونوا في أي زمان في العالم بأسره أسوأ منهم الآن، بسبب اللهو والدعارة والفجور والسكر والعربدة، وغيرها من أحط الرذائل البغيضة، مما لم ير العالم مثيلها، وهذا أمر يجر الهلاك والدمار على الجميع، لا محالة (15) ".

وضاق شارل ذرعاً بغضبات كاسلمين، وفي إحدى زياراته الأخيرة لها، فاجأ عندها جون تشرشل -دوق مالبرو فيما بعد-، الذي قفز من النافذة حتى يتجنب لقاء الملك (16)، كما يروي الأسقف بيرت. على أن شارل خلع على كاسلمين لقب دوقة كليلند، ورتب لها مخصصات من الأموال العامة مدى الحياة.

وقد يشوقنا أن نقص كيف أن امرأة واحدة بعينها خيبت علانية أمل الملك المغرور المختال وصدته: تلك هي فرانسيس ستيوارت التي قيل إنها ربما كانت أجمل وجه وقعت عليه العين (17) ويقول أنطواني هاملتون "يندر أن يتيسر العثور على امرأة أقل ذكاء أو أكثر جمالاً (18) ". وظل الملك يلحف في الوصول إليها حتى بعد زواجها من دوق وتشموند ويصف بيبز الملك وهو يجدف وحده في الليل إلى قصر سومرست، "وهناك حيث وجد باب الحديقة موصداً تسلق الجدران ليزور هذه المرأة وتلك فضيحة مخزية فظيعة (19) ".

وفي 1668 رأى شارل "نل جوين" وهي تمثل في "مسرح دروري لين"، وهي التي نشأت في فقر مدقع، وكانت تسلي رواد الحانة بأغنياتها،

ص: 109

وتبيع البرتقال في المسرح، وتقوم بالأدوار الصغرى أو الأدوار الرئيسية في الروايات الهزلية، واحتفظت طوال عملها، تلقائياً بروح طيبة وإرادة طبية، مما سحر لب الملك الذي لا يبالي بشيء، والذي سئم اللذات، ولم تقم الممثلة أية عقبات في سبيل أن تكون عشيقة لجلالته. واستنزفت مبالغ طائلة من كيسه الذي يشكو خلو الوفاض، ولكنها أنفقت القدر الأكبر منها في أعمال البر والإحسان. ولكن سرعان ما كان عليها أن تنافس امرأة مغوية خطر موفدة من فرنسا (1671) لتثبت شارل على العقيدة الكاثوليكية والتقاليد الفرنسية، تلك هي لويز كيرووال التي قلدت نل مظاهرها الأرستقراطية تقليداً ساخراً شيطانياً. وكل العالم يعرف، كيف أنه، حيث حسب سكان لندن خطأ أن نل هي منافستها الكاثوليكية، فسخروا منها، أخرجت رأسها الصغير من نافذة العربة وصاحت بهم "صه أيها الشعب الطيب، أنا البغي البروتستانتية (20) " وظلت تحظى بعطف شارل إلى آخر حياته، ولم تبرح مخيلته حتى ساعة احتضاره. أما كيرووال التي عينت على الفور دوقة بورتسموث، فقد أثارت حفيظة لندن، حيث نظروا إليها هناك على أنها عميلة فرنسية باهظة التكاليف تبتز من الملك كل عام 40 ألف جنيه، لتقتني المجوهرات وتعيش في ترف باذخ اهاج معدة جون ايفلين (21) وتقلص ظل سلطانها في 1676 حين اكتشف شارل هورتنس مانسيني ابنة شقيق الكاردينال مازاران المرحة المفعمة بالحيوية والنشاط.

وكان لشارل سقطات أخرى، أنه في أيام شبابه التعس فقد كل الثقة في البشر، وحكم على الرجال والنساء جميعاً بأنهم كما وصفهم "لاروشفو كول" ومن ثم فإنه قلما استطاع أن يكون مخلصاً لأحد -اللهم إلا أخته- وضيع نفسه في أهوائه وغرامياته، ولم تكن ثمة ود خالص مقيم يلقى ضياء حقيقياً على البريق الأجوف في حياته. وباع بلاده بنفس اليسر الذي اشترى به النساء. وضرب لحاشيته أكبر المثل في المقامرة بمبالغ طائلة. وعلى الرغم

ص: 110

من الجمال الطائش في سلوكه وعاداته، فانه أبدى في بعض الأحيان افتقاره إلى الرقة والكياسة اللتين كان من العسير التماسهما عند والده. من ذلك، على سبيل المثال، أنه لفت نظر جرامونت إلى خدمه يؤدون عملهم وهم راكعون (22). ولم يكن كثير الإدمان على الخمر في أغلب الأحيان، ولكنه أدمن بشكل مخيف لعدة أيام عقب صدور قانون ضد تعاطي المسكرات (23). وكان عادة يتقبل النقد بصدر رحب، ولكن حين جاوز سيرجون كوفنتري حده، وتساءل في البرلمان علانية "هل يجد الملك متعة بين الرجال أو بين النساء؟ ". أمر شارل رجال حرسه أن "يجعلوا منه عبرة" فكمنوا له وهاجموه وهشموا أنفه (24).

على أن فئة قليلة من الناس كانوا لا يملكون إلا أن يحيوه، ومنذ شباب هنري الثامن لم يوجد في إنجلترا ملك في مثل شعبية شارل بين حاشيته، وكانت حيويته الجسمية تبعث على الرضا والسرور، ولم يكن به شح أو بخل، بل كان يرعى الحقوق، عطوفاً كريماً. بعد أن ينقد رجال حاشيته رواتبهم، كان يجد الوسيلة للبر والإحسان والصدقات. وجعل من المتنزه الخاص به مرتعاً لمختلف الحيوانات، ولم يلحقها أي أذى. وكانت كلبته المدللة تنام، ويفترسها رفيقها وتلد وترضع صغارها في حجرة نوم الملك (25). وكان شارل بعيداً عن التكلف، أنيساً، حلو المعاشرة، يسهل الوصول إليه أو التحدث معه، سرعان ما يهدى من روع محدثيه ويطمئن بالهم. وذكر كل الذين تحدثوا عن شارل -فيما عدا كوفنتري، أنه "ملك ودود طلق المحيا (26) "، وعده جرامونت "من ألطف الرجال وأرقهم وأكثرهم وداعة (27) "، وقال عنه أوبري "إنه نموذج فذ في المجاملة (28) " وكان شارل قد صقل عاداته وسلوكه في فرنسا، وكان، مثل لويس الرابع عشر يرفع قبعته لأية سيدة، حتى ولو كانت من أحط الطبقات وكان يفضل شعبه بكثير في التسامح مع أية آراء أو مذاهب دينية معارضة إلى حد أنه شرب نخب خصومة السياسيين، وسر كثيراً بالهجاء حتى

ص: 111

ولو كان موجهاً إلى شخصه. وكان حُسن التقدير فيه، مبعث ابتهاج لدى حاشيته. ووصفه بيبز بأنه كان يقود الحلقة في رقصة ريفية قديمة cuckold All Awry. وما كان يقطع عليه مرحه ولهوه الصاخب -لفترات قصار، إلا أنباء الطاعون أو الحريق أو الإفلاس أو الحرب.

ولم يكن الملك شارل الثاني عميق التفكير، ولكنه لم يتعلق بتوافه الأمور إلى حد كبير، وتخلص يوماً من رجل زعم أنه يتنبأ بالطالع، بأن أخذه إلى سباق الخيل، ولحظ أنه يخسر ثلاثة أشواط متتالية. وأولع ولعاً شديداً بالعلوم، وأجرى التجارب، وأصدر براءة تشكيل "الجمعية الملكية" وأغدق عليها الهبات والمنح، وشهد كثيراً من اجتماعاتها. ولم يهتم كثيراً بالأدب، ولكنه أولى الفنون عناية كبيرة، واعتز برافائيل وتيشيان وهولبين وجمع أعمالهم. وتجلى في حديثه كثير من الحيوية والتنوع اللذين تميزت بهما الجماعات المثقفة في فرنسا. فتحدث جيداً عن الشعر مع دريدن، وعن الموسيقى مع بورسل (الملحن)، وعن هندسة العمارة مع رن. وكان حامياً ونصيراً حسن التمييز في كل هذه المجالات، ولابد أنه كان ثمة قدر كبير من مناقب ومآثر حميدة محببة تحلى بها رجل قالت عنه أخته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة "إني أحببته أكثر من حبي للحياة نفسها. وليس ثمة شيء آسف عليه في موتي، إلا إني أفارقه"(29).

‌2 - مرجل الدين

هل تمسك الملك بأية عقيدة دينية؟ أن حياته من هذه الناحية توحي بنفس النزعة التي سادت كثيراً من الفرنسيين المعاصرين الذين عاشوا ملحدين وماتوا كاثوليكيين. ويبدو أن هذا يسر الفوز بمتاع الدنيا والآخرة معاً، كما أنه كان أفضل كثيراً من "رهبان" بسكال. ويقول بيرنت "أن إحساسه الديني كان ضعيفاً، إلى درجة أنه لم يكثر من التظاهر ولكن بسلوكه الموصوم بالتهاون في الصلوات وفي الأسرار المقدسة، كان لأي

ص: 112

إنسان يراه أن يدرك كيف وقر في ذهن الملك أنه لا علاقة له بهذه الأمور (30). وقال أحد الوعاظ مرة لنبيل غلبه النعاس وهو جالس بين جماعة المصلين "سيدي: إنك تغط في نومك بصوت عال، وقد توقظ الملك (31) ". وقال عنه سانت إيفر موند الذي كان يعرفه حق المعرفة أنه كان "روبوياً (32) "-وهو الذي كان يؤمن بوجود كائن أسمي غير مجسم تقريباً، ويفسر بقية المذاهب الدينية بأنها شعر شعبي. واتفق أرل بكنجهام ومركيز هاليفا كسي مع سانت إيفر موند في هذا الرأي (33) ويروي بيرمنت "قال لي الملك ذات مرة، أنه ليس ملحداً، ولكنه لا يظن أن الله يعذب الإنسان لأخذه بشيء من أسباب المتعة واللذة عرضاً أو خطأ (34) ". ورحب الملك بصداقة هوبز الذي يدين بالمادية، وتولى حمايته من رجال اللاهوت الذين طالبوا بتقديمه للقضاء بتهمة الهرطقة. ويرى فولتير أن "لامبالاة الملك المطلقة" بكل الصراعات الدينية التي تفرق بين الناس عادةً، أسهمت بدرجة غير يسيرة، في حكمه السلمي (35).

ويحتمل أن شارل كان متشككاً، مع شيء من الانعطاف نحو الكثلكة، بمعنى أنه كان يشك في اللاهوتيات، ويؤثر الكاثوليكية، لطقوسها النابضة بالحياة، وتعلقها بالفنون، وتساهلها مع الجسد، وتأييدها للملكية. وربما غاب عن ذاكرته أن العصبة الكاثوليكية وبعض الآباء اليسوعيين قد أقروا من قبل قتل الملك. ولكنه تذكر أن الكاثوليك الإنجليز دافعوا عن أبيه، وأن ثلث النبلاء الذين ماتوا في سبيل النضال عن شارل الأول كانوا من الكاثوليك (36)، وأن الكاثوليك الأيرلنديين بقوا على ولائهم لأسرة ستيوارت، وأن حكومة كاثوليكية كانت تمد له يد العون في منقاة الطويل الأمد -إن روح التعاطف التي تملكته بصفة عامة، جنحة به إلى الرغبة في التخفيف بعض الشيء من القوانين التي صدرت في إنجلترا ضد الكاثوليك، وهي في تقدير "هللام" قوانين "صارمة غاية الصرامة، بل هي في بعض الأحيان، دموية أو متعطشة للدم (37). ولم

ص: 113

يشارك الملك البروتستانت الإنجليز فيما علق بأذهانهم من ذكرى "مؤامرة البارود "160"، أو الخوف من محاكم التفتيش أو البابا في رومه. ولم يغضب لالتزام أخيه العلني بالمذهب الكاثوليكي -والمفروض أنه وريث العرش. وقد يجوز لنا أن نحكم، من تحوله إلى الكثلكة وهو على فراش الموت، أنه كان من الجائز أن يعترف هو أيضاً بها، لو أن الاعتراف بها كان أمراً عملياً من الوجهة السياسية.

وهكذا فإن شارل، وهو السياسي اللطيف الودود، قبل الكنيسة الأنجليكانية ودعمها إنها قد دانت بالولاء لوالده، وفنيت بالدفاع عنه، وعانت ما عانت في أيام كرومول، وكافحت كفاحاً شديداً في سبيل عودة الملكية. واعتبر شارل أنه من القضايا المسلم بها أن تكون هناك عقيدة دينية تحظى بموافقة الدولة ومعونتها، على أنها وسيلة لنشر التعليم وإقرار النظام الاجتماعي. إنه، أساساً، كانت تزعجه البيوريتانية، فوق أنها أتيحت لها من قبل فرصة الحكم، فكانت صارمة بغيضة إلى حد بالغ. ولم ينسى قط أن البرسبتيريانز سجنوا أباه وأن البيوريتانز أطاحوا برأسه، وأنه هو نفسه أرغم على قبول مذهبهم والاعتذار عن أخطاء آبائه. ووقع القانون الذي أصدره "البرلمان المؤتمر"، بإعادة الكهنة الأنجليكانيين إلى أبرشياتهم، التي كانت "الجمهورية" قد جردتهم منها، وكان وجه العدالة والإنصاف واضع في هذا القانون. وعلى الرغم من ذلك، كان قد وعد "بالحرية لذوي الضمائر الواهنة"، وألا يضار أي إنسان بسب الخلافات الدينية مادامت مسالمة. واقترح شارل في أكتوبر 1660 تسامحاً شاملاً مع كل الفرق المسيحية، بل كذلك تخفيف القوانين المعادية للكاثوليكية. ولكن البرسبتيريانز والبيوريتانز الذين خشوا مغبة هذا التراخي، انضموا إلى الأنجليكانيين في رفض هذا المشروع. ورغبة في المصالحة بين البرسبتيريانز والأنجليكانيين عرض الملك طقوساً تكون حلاً وسطاً بين الطائفتين ونظاماً أسقفياً محدوداً يتولى بمقتضاه بعض المشايخ المنتخبين

ص: 114

تقديم العون والمشورة للأساقفة. ولكن البرلمان عارض هذه الفكرة. وأبلغ "مؤتمر سافوي" المكون من أثنى عشر أسقفاً، ومثلهم من المشايخ -أبلغ الملك "أنهم لم يستطيعوا الوصول إلى اتفاق (38) ".

وتلك الفرصة ضُيعت، لأن البرلمان الجديد كان أنجليكانياً بأغلبية ساحقة. فنكأ الجراح القديمة بإعادة النظام الأسقفي في اسكتلندا وأيرلندا، وأعاد المحاكم الكنسية للمعاقبة على "التجديف"، والتخلف عن دفع العشور للكنيسة الأنجليكانية، وجعل "كتاب الصلوات العامة الأنجليكاني" إلزامياً على جميع الإنجليز، وبمقتضى "قانون التوحيد"(20 نوفمبر 1661) حرمت المناصب العامة على كل الأشخاص اللذين لم يتلقوا الأسرار المقدسة وفقاً للطقوس الأنجليكانية قبل الانتخابات، وبمقتضى "مرسوم التنسيق"(19 مايو 1662) طلب إلى كل رجال الدين والمعلمين أن يقسموا اليمين على ألا يقاوموا الملك، وأن يعلنوا موافقتهم التامة على كتاب الصلوات العامة. وكان على رجال الدين الذين رفضوا هذه الشروط أن يتخلوا عن مراكزهم في موعد غايته 24 أغسطس ورفضها نحو 1200 منهم فطردوا. وهؤلاء بالإضافة إلى 1800 آخرين أخرجوا عند عودة الأنجليكانيين، انضموا جميعاً، مع مجموعة كبيرة من المجامع، إلى العدد المتزايد من "الشيع" أو "المنشقين"، الذين أرغموا أولى الأمر في النهاية على إصدار قانون التسامح 1689.

وحاول شارل أن يعدل من "مرسوم التنسيق" فطلب من البرلمان أن يستثني من العزل أولئك القساوسة الذين لم يعترضوا إلا على ارتداء اللباس الكهنوتي الأبيض، أو استخدام الصليب في التعميد، فوافق اللوردات ورفض النواب. وسعى الملك من أثر اللطمة، بتأجيل تنفيذ المرسوم لمدة ثلاثة أشهر، ولكن أحبطت هذه المساعي كذلك. فأصدر في 26 ديسمبر 1662 بياناً أعلن فيه عن عزمه على أن يستثني من العقوبات التي نص عليها القانون الأشخاص المسالمين الذين أبت عليهم ضمائرهم

ص: 115

أداء القسم المطلوب، ولكن البرلمان، ارتاب في هذا الأجراء ورفضه، باعتبار أنه ينطوي ضمناً على سلطة الملك في الإعفاء من إطاعة القوانين. وعبر الملك عن مشاعره بالإفراج عن الكويكرز المعتقلين (22 أغسطس 1662) وبالتوكيد على التسامح الديني في المواثيق التي منحها لجزيرة رود وكارولينا، وفي التعليمات التي وجهها إلى حاكمي جمايكا وفرجينيا.

وأحس البرلمان أنه ليس ثمة متسع لهذا التسامح في إنجلترا. ولكي يمنع اجتماعات الكويكرز السرية للعبادة، قال أنها تضم أكثر من خمسة أشخاص بالإضافة إلى أفراد البيت، وحكم 1662 على كل شخص يحضرها بدفع غرامة قدرها خمسة جنيهات، أو بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، للمخالفة الأولى، ومضاعفة العقوبة (10 جنيهات غرامة أو ستة أشهر في السجن) للثانية، والنفي إلى مستعمرات المجرمين، للثالثة، أما المخالفون الذين يعجزون عن دفع نفقات انتقالهم إلى المستعمرات فكان عليهم أن يخدموا لمدة خمسة سنوات، عمالاً لا بعقود خاصة. أما المدانون أو المخالفون المرحلون الذين يهربون أو يعودون إلى إنجلترا قبل انقضاء، المدة المحكوم بها، فتكون عقوبتهم الإعدام، وفي 1664 امتدت هذه الإجراءات إلى البرسبتيريانز والمستقلين. وحظر "قانون الأميال الخمسة"(1665) على القساوسة الذين امتنعوا على حلف اليمين، أن يقيموا في نطاق خمسة أميال في أي مدينة ذات مجلس بلدي، أو يقوموا بالتدريس، في أية مدرسة خاصة أو عامة. وأطلق على هذه القوانين "تشريع كلارندون" لأن الذي فرضها هو كبير وزراء الملك ضد إرادة الملك أو رغباته الصريحة، وقبل شارل هذه التشريعات الصارمة لأنه كان يناشد البرلمان إقرار الاعتمادات التي طلبها. ولكنه لم يغفر قط لكلارندون، كما فقد ثقته بالأساقفة وقل احترامه لهم، لأنهم ما لبثوا أن أعيدوا حتى بدءوا ينتقمون أشد الانتقام، ويقبضون أيديهم عن البر والإحسان. وانتهى شارل إلى "أن المشيخة ليست مذهباً يليق بالرجل الماجد المهذب، وأن الأنجليكانية ليست

ص: 116

مذهباً يليق بالرجل المسيحي (39) ".

وإذ أدركت الكنيسة الأنجليكانية اعتمادها على الملكية، فإنها أكدت من جديد، وبشكل أكثر إيجابية عن ذي قبل "حق الملم الإلهي" والإثم العظيم الذي يؤدي إلى الهلاك، في مناهضة حكومة ملكية قائمة. وفي 1680 نشر كتاب سير روبرت فلمر "سلطة الملوك الطبيعية المعترف بها" بعد موت المؤلف بسبعة وعشرين عاماً، وأصبح الدفاع القياسي عن النظرية. وفي كتاب أكسفورد "القضاء والقانون"(1683) أعلن زعماء الكنيسة الأنجليكانية أنه "زيف وتحريض على الفتنة، بل هو هرطقة وتجديف "ومن ثم جريمة عقوبتها الإعدام" "أن يتمسك امرؤ" بأن السلطة مستمدة من الشعب، وأن الحكام الشرعيين يفقدوا الحق في الحكم إذا أصبحوا طغاة، وأن الملك ليس له الحق إلا حق مناظر لحق السلطتين الأخرين: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وأضاف الكتاب "أن الطاعة العمياء هي سمة كنيسة إنجلترا وخصيصتها (40) ". وتلك نظرية كانت تثير القلق والمتاعب، عندما حاول جيمس الثاني، بعد عامين منة هذا التاريخ، أن يجول إنجلترا إلى الكاثوليكية.

إن الكنيسة الأنجليكانية، التي استعادت مكانتها، على الرغم من تعصبها، تجلت في صفات تدعوا إلى الإعجاب، فقد أباحت آفاقاً رحبة للتفكير اللاهوتي بين أعضائها، ابتداء من "اللودبين"(الذين عرفوا فيما بعد بأنهم الذين يؤكدون على الطقوس التقليدية High Churchmen) الذين اقتربوا من المذهب والطقوس الكاثوليكية، إلى "المتحررين

ص: 117

المتسامحين" (الذين عرفوا فيما بعد باسم ذوي الأفق الواسع - Brood Churchmen) وهم الذين جنحوا إلى لاهوت متحرر، وأكدوا على الجانب الأخلاقي، لا على الجانب المذهبي أو العقائدي، في المسيحية، ووقفوا في وجه الاضطهاد، وسعوا إلى المصالحة وتسوية الخلاف بين اللبيوريتانيين والمشيخيين والأنجليكانيين. وساعد شارل هؤلاء المتحررين المتسامحين وقدر لهم الإيجاز النسبي في عظاتهم (41). وكان أعظم هؤلاء المتحررين، جون تللوتسون، الذي عينه شارل قسيس القصر، ثم عينه وليم الثالث رئيس أساقفة كنتربري (1691). وكان رجلاً "راجح العقل حلو الشمائل (42)"، ناهض "البابوية" والإلحاد والاضطهاد بنفس القدر من الحماسة والغيرة، وتجاسر فبنى المسيحية على العقل. وكان يقول "لسنا في حاجة إلى دليل على خطأ إنسان أقوى من أن نسمعه يتهم العقل ويحط من قيمته، ومن ثم يرى أن العقل ضده (43) ومال صغار رجال الدين الأنجليكانيين "الكهنة" إلى أن بكون الخدم الروحيين للوردات المحليين، بل حتى لبعض مالكي الأرض، حتى قاربوا أن ينحدروا إلى وضع العامة

(1)

. ولكن في المدن والمناصب الكنسية ذوات الرواتب الأكبر، أشتهر كثير من رجال الدين الأنجليكانيين بسعة الإطلاع والمقدرة الأدبية حتى أنهم أخرجوا فيما بعد بعض من أفضل كتب التاريخ الرسمي في أوربا. وبصفة عامة سادت روح الإعتدال المذهبي في الكنيسة الأنجليكانية، أكثر منها بين المنشقين الذين زاد الاضطهاد من تعصبهم لمذهبهم وتزمتهم.

ولم يعان البيوريتانيون آنذاك من الاضطهاد السياسي وحده، بل أنهم كذلك كانوا موضع سخرية وازدراء من أولئك الذين أحسوا بالضيق والانزعاج أيام الحكم البيوريتاني بسبب أخلاقياتهم الهينة اللينة الخالية من التزمت. ولكن البيوريتانيين احتملوا في جلد وشجاعة دوران عجلة الزمن. وهاجر بعضهم إلى أمريكا، وأدى كثير منهم القسم المطلوب. وكان ريتشارد باكستر ألمع شخصية بينهم في ذاك العصر، وكان رجلاً ذا اتجاه معقول، مستعد لقبول أية تسوية لا تخل بلاهوته المتقدم. فإنه على الرغم من إخلاصه الشديد البيوريتاني حتى النهاية، أستنكر إعدام شارل

(1)

هناك وصف مبالغ فيه لهذا الموضوع في كتاب ماكولي "تاريخ إنجلترا"(1: 253 - 255) أنظر لكي "تاريخ إنجلترا في القرن الثامن عشر"(2: 75 - 79).

ص: 118

الأول، وحكم كرومول حكماً استبدادياً مطلقاً، وحبذ عودة الملكية. ومنع عام 1662 من الوعظ، وأعتقل مراراً وتكراراً لمخالفته أمر الحظر. وكان من أكثر البيورتانيين استنارة، ولكنه مع ذلك أستحسن إحراق السحرة في سالم ومساشوست، وفكر في ربه على أساس جعل "مولوخ" (اله سامي كان يعبد عن طريق تضحية الأطفال على مذبحه) بجانبه ودوداً لطيفاً من هم الذين كتب لهم الخلاص؟ ويجيب باكستر:"إنهم فئة قليلة من البشر الضائع، فدر لهم الله منذ الأزل هذه الراحة (44). وأكد في عظاته على عذاب الجحيم التي "أوجدها الرب بنفسه" .. إن تعذيب الملعونين المحكوم عليهم بالهلاك ينبغي أن يكون شديداً، لأنه مظهر الانتقام الإلهي .. إن العقاب رهيب، ولكن الانتقام أمر لا سبيل إلى التخفيف منه (45) " وحرم باكستر الاتصال الجنسي إلا بقصد الإنجاب مع حليلة شرعية. ومنذ رأى أن هذا التقليد يتطلب ضبط النفس على طريقة الرواقيين، لأنه أوصى بالحمام البارد والتغذي على الخضراوات، لتخفيف من الشهوة الجنسية (46) وقد نغتفر له لاهوته إذا رأيناه، وهو في السبعين من العمر (1685) واقفاً في قفص الاتهام أمام القاضي الوحشي الغليظ القلب "جفري"، لأنه تفوه ببضع كلمات ضد مزاعم الأنجليكانيين ولم تتح له أية فرصة للدفاع عن نفسه أو تفسير آرائه، وحكم عليه بدفع غرامة قدرها 500 جنيه، أو السجن حتى يدفع المبلغ كاملاً (47). وأفرج عنه بعد 18 شهراً، ولكنه لم يسترد عافيته بعد ذلك قط.

وظل الكويكرز يعانون الاعتقال ومصادرة الممتلكات لرفضهم تأدية القسم أو لتخلفهم عن الصلوات الأنجليكانية، أو عقد الاجتماعات الغير مشروعة. وفي 1662 كان في السجون الإنجليزية أكثر من 4200 منهم: "وحشر بعضهم في السجن حشراً لا يدع مجالاً للجلوس وحرموا من فرش القش ليرقدوا عليها، وكثيراً ما منع عنهم الطعام (48). ولكن جلدهم ومثابرتهم وتشبثهم أكسبهم آخر الأمر، وخفت حدة الاضطهاد عملياً،

إن

ص: 119

لم يكن قانونياً، وفي 1672 أطلق شارل سراح 1200 رجل منهم (49)، وفي 1682 منح أخوه جيمس دوق يورك براءة مقاطعة جرسي الشرقية في أمريكا، إلى روبرت باركلي وهو كويكري اسكتلندي، و"الصاخب" الكويكري الغني ليم بن، وبعض زملائهم الآخرين.

وكان بن وهو ابن أمير البحر وليم بن الذي استولى على جاميكا لإنجلترا. قد مر وهو صبي في الثانية عشرة بأطوار مختلفة من الانفعال الديني الذي فوجئ في أثنائه لفوره براحة في أعماق نفسه، وبهالة متألقة في الغرفة، إلى حد أنه قال عدة مرات بأنه منذ تلك اللحظة ختم بخاتم القداسة والخلود. "الإيمان الراسخ" بأن هناك إلهاً وأن نفس الإنسان يمكن أن تنعم بهذا الاتصال الإلهي (50). وفي 1661 طرد من أكسفورد وحكم عليه بدفع غرامة لأنه رفض حضور الصلوات الأنجليكانية. ولما عاد ال أبيه أوسعه ضرباً بالسياط، وطرده من المنزل لإعلانه اعتناق مذهب الكويكرز. ثم رق قلب الوالد فبعث بابنه إلى فرنسا ليتعلم "المرح الباريسي"، وربما أكتسب من هناك بعض الكياسة والأساليب المصقولة التي تحلى بها، وفي 1666 ارتضى لنفسه الخدمة في الجيش الإنجليزي الذي يعمل في ايرلندا، ولكن بعد عام واحد شهد اجتماعاً للكويكرز في كورك، والتهب حماسه من جديد، فطرد جندياً ضايقه بكثرة الأسئلة فاقتيد إلى السجن، ومنه كتب إلى حاكم مونستر يلتمس إباحة حرية العبادة. وبعد عودته إلى إنجلترا أحرق مراكبه من خلفه، وأصبح واعظاً كويكرياً، وقبض عليه مرة بعد المرة، ولعبت محاكمته 1669 دوراً في تاريخ القانون الإنجليزي. ذلك أن هيئة المحلفين برأته، فحكم القاضي على المحلفين بالسجن والغرامة بتهمة إهانة المحكمة وازدرائها. فاستأنف المحلفون أمام المحكمة الدعاوى المشتركة، التي أعلنت عدم شرعية القبض عليهم، وكان في هذا تثبيت لحق هيئة المحلفين وسلطتهم في إنجلترا. ولكن بن أودع السجن، على أية حال، لأنه رفض أن يخلع قبعته في المحكمة. وأخلي سبيله في الوقت

ص: 120

المناسب ليحضر وفاة أبيه (1670)، وقد ترك له دخلاً يقدر بألف وخمسمائة جنيه في العام. وديناً على التاج قدره 16 ألفاً من الجنيهات أقرضه أبوه لشارل الثاني وأعيد إلى السجن لقيامه بإلقاء العظات، وفيه كُتب أبلغ دفاع عن التسامح تحت عنوان "القضية الكبرى لحرية الضمير"، (1671)، وفي إحدى الفترات التي تمتع فيها بالحرية تزوج من امرأة ثرية، واشترى حصة من النصف الغربي لما يعرف الآن بولاية نيوجرسي. وصاغ لهذه المستعمرة دستوراً يؤكد فيه على التسامح الديني وسلطة المحلفين في التحقيق والحكومة الشعبية، ولكن الزمام أفلت من يده، ولم تطبق مواد هذا الدستور.

وفي 1667 عبر بن وجورج فوكس وروبرت باركلي وجورج كيث القنال الإنجليزي ليبشروا بمذهب الكويكرز في القارة، وأسس جماعة من "كرهم" ممن حولهم بن إلى مذهبه، مدينة "جرمان تون"، في بنسلفانيا، وكانوا أول من أعلن أنه من الخطأ أن يكون للمسيحين رقيق. ورجع بن إلى إنجلترا، وأخذ زمام المبادرة في منع الكويكرز من الانضمام إلى حركة اضطهاد الكاثوليك" من أجل ما يسمى "بالمؤامرة البابوية". وكان "خطابه إلى البروتستانت من جميع المذاهب" (1679) نداءاً قوياً للتسامح الديني في أكمل صورة. وفي 1681 قبل التاج اقتراح بن التنازل عن حقه في المطالبة بالدين، لفاء منحه ما يعرف الآن باسم بنسلفانيا. أن بن اقترح اسم "سلفانيا" للجزء المترامي الأطراف الكثيف الأحراش، فألحق شارل الثاني مقطع "بن" بهذه اللفظة، تخليداً لذكرى أمير البحر. وعلى الرغم من الخضوع التام للملك، فإن حكومة المستعمرة الجديدة كانت ديموقراطية، وكانت العلاقة مع الهنود ودية قائمة على العدل والإنصاف، كما أطلق الكويكرز، وهم يشكلون غالبية المستوطنين، الحرية الدينية. وعمل بن في هذه المستعمرة بجد لمدة عامين، ولكنه في 1684 سمع بنبأ اضطهاد جديد عنيف تتعرض له طائفته. فأسرع بالعودة إلى لندن. وهناك بعد عام واحد أصبح صديقه، دوق يورك ملكاً على إنجلترا، وهو جيمس الثاني، كما صار بن من ذوي

ص: 121

النفوذ والمكانة في الحكومة. ولنا معه لقاء آخر.

أن طريقة المقاومة السلبية الذي انتهجه الكويكرز ضد الاضطهاد كان أكبر قوة فعالة ساعدت على التسامح الديني في عصر التعصب، وقدر أحد المنشقين أنه كان هناك ستون ألف حالة اعتقال بسبب الخلاف الديني بين عامي 1660، 1688، وأن خمسة آلاف ممن اعتقلوا قضوا نحبهم في السجن (51). وكان تعصب البرلمان أسوأ من فجور البلاط والمسرح. وذكر مؤرخ كتب التاريخ مثل ما صنعه تقريباً "في هذه الفترة الدقيقة الحرجة" كاد الملك أن يكون الصوت الوحيد الرحيم الذي ينادي بآراء عصرية حديثة ودأب طوال حكمه على النضال من أجل التسامح (52) وفي 1669 عندما صدر الحكم على ثلاثة أشخاص بدفع غرامة كبيرة للتاج، بناء على قانون قديم صدر في عهد الملكة اليزابيث، لتخلفهم عن حضور الصلوات الأنجليكانية، أعفاهم شارل من دفعها، وأعلن أنه لن يسمح بتطبيق هذا القانون بعد اليوم "لأنه من رأيه وقناعته الخاصة أنه لا يجوز أن يضار أحد بسبب تفكيره وما يمليه عليه ضميره (53) ".

وكان من المحتمل أن يقرر وجهة نظر الملك في تسامح عدد متزايد من الإنجليز، لولا أنهم كانوا يرتابون في رغبته في التخفيف من ويلات الكاثوليك في إنجلترا التي كانت لا تزال تخشى سيطرة البابا، ومحاكم التفتيش الأسبانية وحكومة القساوسة، إلى حد أن البرسبتيريانز والبيوريتانيين آثروا تحريم عبادتهم على السماح بالعبادة الكاثوليكية في إنجلترا. وكان الإنجليز الكاثوليك يشكلون آنذاك نحو 5% من السكان (54). وكانوا من الناحية السياسية ضعافاً عاجزين. ولكن الملكة كانت كاثوليكية، كما أن شقيق الملك لم يبذل إلا أيسر الجهد في إخفاء تحوله إلى الكثلكة (1668) وكان في إنجلترا حينذاك 266 من اليوسعيين. كان أحدهم ابناً غير شرعي للملك، وبدءوا يظهرون علناً في جرأة وثقة. على الرغم من القوانين البالغة التشدد. وكانت المدارس الكاثوليكية تقام في الدور الخاصة.

ص: 122

وأرهقت إنجلترا، وأقام البروتستانت في كل عام تظاهروا فيه ضد البابوية، وحملوا إلى "سميفيلد" تماثيل للبابا والكرادلة، أحرقوها هناك. إنهم لن ينسوا "جي فوكس". ولكن الكاثوليك صبروا وصابروا ولم يفقدوا الأمل، فمن الجائز الآن أن يرقى كاثوليكي عرش إنجلترا في أية لحظة.

‌3 - الاقتصاد الإنجليزي

1660 -

1702

قدر عدد سكان إنجلترا وويلز غي 1660 بنحو خمسة ملايين نسمة (55) ربما ازداد إلى خمسة ملايين ونصف المليون في 1700 (56)، أي أنه لا يكاد يبلغ ربع عدد سكان فرنسا وألمانيا، وأقل من ربع سكان إيطاليا أو أسبانيا (57). وكان سبع السكان من طائفة "اليومن"، أي صغار مالكي الأرض الأحرار الذين يملكون الأرض التي يفلحونها، وشكل المزارعون المستأجرون الذين يعملون في الأراضي النبلاء وذوي احسب والنسب، نحو سبع آخر من السكان. أما بقية السكان فكانوا يقيمون في المدن.

وبازدياد السكان قل نصيب الأسرة من الخشب، وتزايد استخدام الفحم في البيوت والحوانيت، وتطور على المعادن واستخراجها من المناجم وأصبحت شفيلد مركزاً لصناعة الحديد. وسرت في إنجلترا حمى الإنتاج وجمع الثروات. وتوسل أصحاب المصانع إلى البرلمان أن يصدر تشريعات ترغم العاطلين الكسالى على مزاولة العمل. وتزايد تشغيل الأولاد في الصناعات المحلية، وبخاصة النسيج. وتهلل وابتهج ديفو لأنه في" كولشستر وتونتون":"لم يكن ولد فوق الخامسة من العمر، في المدينة أو فيما حولها من القرى، أهمله والده أو لم يتلق تعليماً، الا واستطاع أن يكسب قوته" وبالمثل حول "وست رايدنج": "لا يكاد يوجد ولد جاوز الرابعة إلا كفته يداه مؤونة العيش (58) ".

وكان معظم الصناعة يتم في البيت أو في حوانيت الأسرة. وحدث

ص: 123

توسع في نظام المصانع في النسيج والحديد. وتذكر نشرة ظهرت في 1685 كيف أن "أصحاب المصانع يشيدون بتكاليف باهظة، دوراً ضخمة تضم كل القائمين بعمليات صناعة الصوف، من فرز وتمشيط وغزل ونسج وكبس بل وصباغة، في صعيد واحد". وقيل أنه كان هناك مصنع من هذا القبيل يعمل فيه 340 شخصاً. وكان في جلاسجو في 1700 مصنع نسيج يضم 1400 عامل (59). وكان تقسيم العمل والتخصص فيه آخذين في التقدم، وكتب سير وليم بتي في 1683 "في صناعة الساعة"، إذا قام فرد بعمل التروس، وآخر بصنع الزنبرك، فثمة ثالث يحفر القرص المدرج، ورابع يتولى صناعة الأغلفة ومن ثم تخرج الساعة أحسن وأرخص مما لو كلف بالعمل كله فرد واحد (60).

وظلت أجور الأعمال الزراعية يحددها الحكام المحليون وفقاً لقانون الغلمان المهنيين "الذي صدر في 1585 في عهد اليزابيث، فإذا دفع رب العمل، أو أخذ العامل، أكثر من الأجر المحدد، تعرض كلاهما للعقاب. وتراوحت أجور العمال الزراعية في تلك الفترة بين خمسة وسبعة شلنات في الأسبوع مع الإقامة والطعام (61). أما الصناعة فكانت الأجور فيها أعلى قليلاً. فكان الأجر اليومي شلناً في المتوسط، وربما كان هذا، من حيث القيمة الشرائية، يعادل، دولارين ونصف دولار في 1960. أما أجور المساكن فكانت منخفضة نسبياً، حيث كان إيجار البيت المتوسط في لندن يبلغ نحو 30 جنيهاً في السنة (62). وكانت البيرة رخيصة الثمن، أما السكر والملح والفحم والصابون والأحذية والملابس، فكانت أثمانها في 1685 تعادل أثمانها في 1848 (63). وازدادت أسعار الحبوب إلى خمسة أمثالها بين عامي 1500 و1700 (64). وأكلت طبقات العمال خبز الجاودار والشعير والشوفان، أما خبز القمح فكان ترفاً ينعم به ذو اليسار، ونادراً ما ذاق الفقراء اللحم. واعتبر الفقر الذي كان عليه جمهور الشعب أمراً عادياً، وربما كان أشد منه في أخريات العصور الوسطى (65). ويقول ثورولد روجرز:

ص: 124

"سعى مالكو الأرض طوال القرن السابع أن يحصلوا من مستأجري الأرض على أكبر ما يستطيعون من إيجار، وبأقصى ما يمكن من قوة فرضوا على العمال أجور تؤدي بهم إلى الجوع والعوز، وبذلوا قصارى جهدهم في استغلال التشريع ليحصلوا من المستهلك على أسعار عالية تقرب الناس من حافة المجاعة والقحط. والتاريخ زاهر بالشواهد الكثيرة على تفاقم الحال يوماً بعد يوم (66) ".

وفي 1696 قدر جريجوري كنج أن ربع سكان إنجلترا كان يعيش على الصدقات، وأن الأموال التي تجمع لإعانة الفقراء كانت تعادل ربع تجارة الصادرات (67). وقهر الأغنياء الفقراء وغلبوهم على أمرهم إلى حد بات معه الأُجراء والفلاحون أضعف من أن يثوروا ويتمردوا، ولمدة نصف قرن خمد صراع الطبقات في إنجلترا (68).

أما الكنيسة الأنجليكانية التي كانت قد تجاسرت أيام شارل الأول على أن تدفع عن الفقراء من وقت لآخر، فقد خلصت الآن، نتيجة للثورة البيوريتانية، إلى أن مصالحها تحقق على أحسن وجه، إذا ربطتها بمصالح طبقات الملاك ربطاً تاماً (69). وكان البرلمان من ائتلاف بين مالكي الأرض وأصحاب المصانع والتجار والرأسماليين. ومن ثم أصغى، بحكم شعور الزمالة المتبادل، إلى صيحات طبقة أرباب العمل ليخلصهم من القوانين التي تعوق انطلاق القوى الاقتصادية للعمل دون قيود. وقبل نهاية القرن السابع عشر، وقبل ظهور آدم سميث بزمن طويل، سمعت إنجلترا بصيحة رب العمل"أتركه يعمل"(سياسة عدم التدخل) من أجل الحرية الاقتصادية، وتخلص أرباب العمل من العوائق الاقتصادية والإقطاعية والنقابية، في تشغيل العمال والإنتاج والتجارة (70)، وتجاوزوا القيود النقابية وانهارت النظم المهنية، وبطل العمل بتحديد الأجور عن طريق الحكام المحليين، بفعل القوة النسبية للمساومة بين أرباب العمل الأثرياء والعمال الجياع (71). إن الأيديولوجية الحديثة للحرية، بدأت هنا الآن، حين طالب المقاولون

ص: 125

والملتزمون المغامرون، في صخب وغضب، بالتحرر من القيود القانونية والأخلاقية.

وباتت التجارة الآن عنصراً هاماً فعالاً في الاقتصاد الإنجليزي، وعاملاً حيوياً في حصول البرلمان على الاعتمادات التي يقررها، إلى حد أنها، أي التجارة، شقت طريقها لتفعل ما تشاء مع الحكومة يسيطر عليها مالكو الأرض. وأصبح التشريع الإنجليزي في التجارة، يحابي الإنجليز لا على حساب الهولنديين وحدهم، بل على حساب الايرلنديين والاسكتلنديين كذلك، وحرم اتيراد الماشية والأغنام والخنازير من ايرلندا واستبعد الغلال الاسكتلندي، وفرضت ضرائب ثقيلة على واردات اسكتلندا، إن الرغبة في التوسع في التجارة الإنجليزية وتفير الحماية العسكرية لها، هي التي حثت على التحالف مع البرتغال، وزواج شارل الثاني من كاترين براجانزا، وعلى تجدد الحرب مع المقاطعات المتحدة، والتصميم على الاحتفاظ بجبل طارق. وتضاعف حجم تجارة إنجلترا بين عامي 1660 و1688، بسبب الانتصار على الهولنديين، إلى جانب أسباب أخرى (72)، وكتب شارل الثاني إلى أخته يقول:"إن أقرب شيء إلى قلب هذه الأمة هو التجارة وكل ما يتعلق بها (73) ". وبات ثراء التجارة ينافس الآن اقتناء الأراضي الواسعة الطيبة.

ومدت المشروعات المغامرة الإنجليزية أذرعها في كل اتجاه، فاتسعت للمشروعات الجديدة في نيويورك ونيوجرسي ومنسلفانيا وكارولينا وكندا، ومُنحت شركة الهند الشرقية كل الحقوق فيما تستطيع أن تضع يدها عليه في الهند، وكان لهذه الشركة أسطولها وجيشها وحصونها وعملتها وقوانينها، وكانت تعلن الحرب وتفاوض لعقد الصلح، وتم الاستيلاء على بومباي بالمصاهرة في 1661، وعلى منهاتن (في نيويورك) بحق الفتح في 1664. وفي العام نفسه استولى الإنجليز على الممتلكات الهولندية على الساحل الغربي لأفريقية. ومن أجل تزويد هذه المستعمرات بالأيدي العاملة نشأت عادة "الإكراه" وهي إغراء الشبان الإنجليز بالعمل في هذه "المزارع" بتقديم الخمر لهم أو ضربهم حتى يفقدوا وعيهم، وعندئذ يحملونهم إلى ظهر سفينة

ص: 126

على وشك الإقلاع، ثم يوضحون لهم أنهم كانوا قد وقعوا عقداً للعمل (74). إن القانون قد حرم هذا الإجراء، ولكنه لم ينفذ. وكان موقف البرلمان واضحاً، فإنه على حين انتهت ثورتا 1642 - 1649 و1688 - 1689 إلى تغلب البرلمان على الملك، حدثت في نفس الوقت ثورة اقتصادية متزامنة انتهت بسيطرة التجارة والصناعة والمال على البرلمان.

وكان في إنجلترا في تلك الأيام مئات من "الصائغين أصحاب المصارف"(مقرضو النقود) الذين يدفعوا 6% أرباحاً على الودائع، ويتقاضون 8% على القروض (75). وكان شارل الثاني يلتمس أي منفذ لتجنب سلطة البرلمان على الخزانة، فلجأ إلى الإستدانه كثيراً من أصحاب المصارف هؤلاء، حتى بلغت ديونه منهم في 2 يناير 1672، 1328526 جنيهاً (76)، وفي هذا التاريخ كان مجلس الملك على وشك أن يشن الحرب على المقاطعات المتحدة فأحدث في مجتمع المال هزة عنيفة "بإغلاق خزانة الدولة" أي منع تسديد فوائد ديون الدولة لمدة عام. فساد الذعر، ورفض أصحاب المصارف الوفاء بالتزاماتهم تجاه أصحاب الودائع، أو تنفيذ اتفاقاتهم مع التجار، وعمل المجلس بوعود قاطعة باستئناف الدفع في نهاية العام. واستأنف الدفع في 1674، وسدد رأس المال عن طريق تعهدات والتزامات حكومة جديدة. والواقع أنه في 2 يناير 1672 تحددت بداية الدين الوطني في إنجلترا، وتلك حيلة جديدة في تمويل الدولة.

ومذ باتت لندن موطن أصحاب المصارف وأمراء التجارة ومركز الثورة المجموعة عن طريق نظام الأسعار، من منتجي الطعام والسلع، فإنها كانت الآن أكثر مدن أوربا اكتظاظاً بالسكان، فنافست قصور الرجال الأعمال الأرستقراطية في البذخ والترف، إن لم يكن في الذوق. وكانت فيها مجموعة من المخازن بشعاراتها الفاتنة ولافتاتها المزخرفة ونوافذها ذات الأعمدة الحجرية، تعرض منتجات العالم

(1)

أمام أنظار الأقلية، ورصفت

(1)

حوالي هذه الفترة بدأت النوافذ الزجاجية تحل محل النوافذ القديمة ذات الإطارات الخشبية، لأن الزجاج يسمح بنفاذ قدر أكبر من الضوء.

ص: 127

الشوارع الرئيسية وحدها بالحصى عادةً وحوالي 1684 أضيئت بنور ضعيف حتى منتصف الليل في الليالي غير المقمرة بقناديل يعلق الواحد منها كل عشرة أبواب. ولم يكن للشوارع أرصفة للمشاة، وكانت نهاراً تعج بالحركة الصاخبة من الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في سلاسل أو عربات يد، أو عجلات يد، وبالمنادين الذين يعرضزن القيام بخدمات منزلية مثل "قتل الفئران والجرذان (27) ". وكان هناك المتسولون واللصوص في كل شارع، كما وجد أيضاً المغنون الذين يرفعون عقيرتهم بالأغنيات من أجل الحصول على بنس. وكان حي الأعمال يسمى "السيتي". وكان يحكمه العمدة وهيئة البلدية ومجلس أرباب البيوت في الأحياء أعضاءه. والى القرب من هذا الحي، كان يقع "الحي السياسي" وستمنستر، وفيه الكنيسة والقصر اللذان يحملان هذا الاسم (وكان القصر مقر البرلمان)، وفيه القصران الملكيان هويتهول وسان جيمس، وخارج هذين القسمين من المدينة كانت أحياء الأكواخ التي تعج بالفقراء الكثيري التناسل. ولم تكن الشوارع فيها مرصوفة فكانت العربات ترش، مزهوة، ماء المطر أو الوحل على المشاة، وهي تصطدم بالجدران في الأزقة الضيقة. وكانت المنازل ضيقة جداً بعضها من بعض، والأدوار العليا متلاصقة متقابلة، مما لا يدع مجالاً لضوء الشمس المتقطع أن ينفذ إليها. ولم يكن نظام المجاري الحالي معروفاً في لندن آنذاك، بل كانت مراحيض خارجية وبالوعات، وكانت العربات تحمل الفضلات وتقذف بها خارج حدود المدينة، أو في نهر التيمز بطريق خفيفة غير مشروعة.

وكان تلوث الهواء آنذاك بالفعل مشكلة وبناء على طلب الملك أعد جون افلين ونشر 1661 خطة لتبديد الدخان الذي علق بسماء لندن، قال:

"إن الإسراف في استخدام الفحم يعرض لندن لأسوأ الإزعاج والخزي

ص: 128

والعار، وليس هذا ناشئاً من نيران المطابخ التي لا يكاد يرى لها أثر، بل من بعض مداخن معينة في مصانع البيرة ومحال الصباغة وإحراق الجير، ومصانع الملح وغلي الصابون وبعض مصانع أخرى، تكفي فوهة إحدى المداخن فيها، وحدها وبشكل واضح، لتلويث الهواء وإزعاج لندن أكثر مما تفعل مداخل المدينة مجتمعة

إن لندن تكون أقرب شبهاً ببركان اتنه أو بضواحي جهنم، منها بمجتمع تعيش فيه مخلوقات عالقة، حين تفتح هذه المداخن أفواهها وتنفث القتام والسخام

أن السائح المنهوك سرعان ما يشم، من مسافة عدة أميال، رائحة المدينة التي يقصد إليها، قبل أن يراها

أن هذا الدخان الأسود الكريه

يقرح الرئتين، وهذا داء لا شفاء منه، إلى حد أنه يقضي على أعداد كبيرة من الناس، نتيجة السل المنهك الخطير، كما ينبئ بذلك نشرات الوفيات الأسبوعية (78) ".

وأعد ايفلين مشروع قانون للبرلمان الذي كان أقرب منالاً لرجال الصناعة الأثرياء منه للجمهور الذي يعوزه التنظيم، ومن ثم لم يحرك هذا البرلمان ساكناً. وبعد ثلاثة عشر عاماً سوياً رفع سير توماس براون صوت الطب عالياً، يحذر من: -

"الروائح الكريهة التي تنفثها البالوعات العامة، والأماكن المنتنة وفضلات المواد المغلية التي تستخدمها المصانع القذرة غير الصحية كما أن الضباب والسديم يعوقان دخان الفحم من أن يهبط ويتبدد، ومن ثم يمتزج بالسديم ويتنفسه الناس، ولكل هذا آثار سيئة، حيث يلوث الدم ويعرض السكان إلى النزلات الشعبية والسعال (79) ".

إن الهواء الفاسد، وضعف الرعاية الصحية وسوء التغذية كان يهدد بانتشار الأوبئة في كل عام وما أن تجئ فترة تتجمع فيها ظروف غير مواتية، حتى تنزل كارثة الطاعون. وفي 31 أكتوبر 1663 دون بيبز في مذكراته:"أن الطاعون منتشر في أمستردام، ونحن في فزع منه هنا". وكانت السفن القادمة من هولندا تخضع للحجر الصحي، وفي ديسمبر 1664 مات شخص واحد بالطاعون في لندن، واثنان في أبريل 1665،

ص: 129

وفي مايو 43 شخصاً، وهكذا تفاقم الحال حتى حل الصيف الحار مع مطر قليل يساعد على تنظيف الشوارع، فكان ضغثاً على إبالة، وأيقنت لندن التي ملأها الفزع والجزع، أنها تواجه شيئاً شبيهاً بالموت الأسود 1348 الذي لا تزال ذكراه عالقة بالأذهان. وكان ديفو آنذاك صبياً في السادسة، ولكنه استطاع أن يعي قدراً كبيراً مما تردد في هاتيك الأيام عن الطاعون، فكتب قطعة خيالية بعنوان "صحيفة عام الطاعون" تكاد نتكون في منزلة التاريخ (80):

"منذ الأسبوع الأول من يونيو انتشرت العدوى بصورة الرهيبة، وارتفعت أرقام الوفيات، وعمد الناس إلى إخفاء قلقهم قدر الطاقة، حتى يحولون دون ابتعاد جيرانهم عنهم، أو دون إغلاق الحكومة لبيوتهم. وفي يونيو تزاحم الأغنياء على مغادرة المدينة، وفي هويتشا بل ما كان يمكن أن ترى إلا العربات، وعربات اليد تحمل البضائع والنسوة والأطفال وغيرهم، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الرجال على ظهور الخيل .. وهو منظر رهيب وكئيب (81) ".

وزادت النذر والتنبؤات عن المصير المشئوم من الرعب، وأغلقت المسارح وحلبات الرقص والمدارس ودور المحاكم. وانتقل الملك وحاشيته في يونيو إلى أكسفورد "حتى يحوطهم الله برعايته إن شاء" دون أن يمسهم سوء، ولو أن صيحات التأنيب تعالت ضدهم لأنهم هم الذين جلبوا هذا البلاء، عقاباً من عند الله، على فسادهم وفجورهم، وبقي رئيس أساقفة كنتربري في مقره في لامبث، ينفق في كل أسبوع عدة مئات من الجنيهات عوناً للمرضى والأموات. وبقي موظفوا المدينة فيها يقومون بأعمال بطولية. وأرسل الملك ألف جنيه ورجال الأعمال في "السيتي" ستمائة جنيه أسبوعياً، وهرب كثير من الأطباء ورجال الدين، وبقي آخرون وقضى كثيرون نحبهم متأثرين بالعدوى. وجرب الناس الأدوية والعلاجات على أختلاف أنواعها، فلما أخفقت لجأوا إلى التمائم والتعاويذ التي قد تصنع

ص: 130

المعجزات. وفي 31 أغسطس 1665 قال بيبز "في هذا الأسبوع مات 7496 شخصاً منهم 1602 بالطاعون". وكان حفارو القبور يحملون من يموتون في الشوارع على عربات اليد، ويدفنونهم في مقابر عامة. وبلغت جملة من ماتوا بالطاعون من أهالي لندن 1665، نحو سبعين ألفاً، وهذا سبع السكان. وخف الوباء في ديسمبر، وعاد الناس لمزاولة أعمالهم شيئاً فشيئاً. وفي فبراير 1666 عادت الحاشية إلى العاصمة.

وما كاد السكان الباقون على قيد الحياة يروضون أنفسهم على احتمال ما كلفهم الطاعون من خسائر حتى داهمت المدينة كارثة أخرى. وكانت كارثة حقاً، ذلك أنه في يونيو 1666 أبحر الهولنديون في جرأة إلى التيمز ودمروا المراكب الإنجليزية فيه بمدافع سمع صوتها في لندن. ولكن في الساعة الثالثة من صباح الأحد 3 سبتمبر، في حانوت خباز في بودنج لين، شب حريق، أتى في ثلاثة أيام على معظم الجزء من لندن الواقع شمال النهر، ومرة أخرى تآمرت الظروف وتجمعت المصائب: صيف جاف، وبيوت كلها تقريباً مبنية من الخشب، متلاصقة، كثير منها خال من السكان الذين يقضون عطلة نهاية الأسبوع في الريف، مخازن ملآى بالزيت والقار والقنب والكتان والخمور وغيرها من المواد القابلة للاحتراق في الحال، ثم هبت رياح عاصفة حملت النار من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، أضف إلى ذلك سوء التنظيم وعدم الاستعداد لمواجهة مثل هذا الحريق في مثل هذا الوقت من الليل. ومن حسن حظ ايفلين أنه كان في سوثوارك، فأسرع إلى شاطئ النهر.

"حيث شهدنا المدينة بأسرها وقد أندلع فيها اللهب الرهيب بالقرب من الماء، في كل الدور من جسر لندن، وفي شارع التيمز، صعداً نحو تشيسيد

وامتدت النيران في كل مكان، وعرت الدهشة الناس، إلى حد أننا لم ندر منذ البداية، ماذا تولاهم من قنوط وجزع حتى أنهم بشق النفس تحركوا لإخمادها، فلم نكن نسمع أنرى إلا الصرخات والعويل والنواح

ص: 131

وهم يجرون هنا وهناك، ذاهلين مخبولين، كذلك أحرقت النار الكنائس والقطاعات العامة، وسوق الأوراق المالية والمستشفيات والآثار والزخارف والبيوت والأثاث كما أنها أتلفت كل شيء .. . "

وهنا رأينا النهر مغطى بالبضائع الطافية فوق الماء والزوارق والقوارب محملة بالضائع التي وجد بعض الناس فسحة من الوقت وأوتوا شيئاً من الشجاعة لإنقاذها. كما كان هناك على الجانب الآخر العربات وغيرها، تنقل إلى الحقول، التي انتشرت لعدة أميال كل من كل نوع

كما نصبت الخيام ليأوى إليها الناس وما استطاعوا أن يستخلصوه من بضاعة ومتاع. يا لهول المنظر الأليم المفجع الذي لم تصادف الدنيا مثله منذ بدء الخليقة. وغطت ألسنة النيران وجه السماء، فبدت وكأنها أتون ملتهب

إني أرجو الله ألا يقع عيناي ثانية على مثل هذا المنظر، منظر أكثر من عشرة آلاف بيت تحترق كلها في لحظة واحدة وكان صوت اللهب المندلع وفرقعته ورعده، وصراخ النساء والأطفال، وهرولة الناس، وسقوط الأبراج والمنازل والكنائس، أشبه شيء بعاصفة هوجاء، وكان الهواء ساخناً إلى حد أن الناس اضطروا إلى الوقوف جامدين، تاركين النار يشتد أوارها، وتمتد ألسنتها لمسافة تقرب من ميلين طولاً وميل عرضاً (82) ".

وأبلى الملم وأخوه المكروه جيمس، كلاهما، بلاء حسناً في هذه الأزمة، وجدوا في العمل بأيدهم مع مكافحي النيران، وأشرفوا على أعمال الإغاثة ومولها وهيئوا المأوى والطعام لمن يأتوا بلا مأوى، وأصروا، برغم المعارضة الشديدة، على هدم البيوت ليحولوا دون امتداد الحريق، مما كان له الأثر في إنقاذ جزء من المدينة في شمال التيمز (83) وكاد الحي التجاري أن يمحى عن آخره، أما حي السياسة "وستمنستر"، فقد أنقذ، ودمر ثلثا مدينة لندن، بما في ذلك 13200 منزل، 89 كنيسة بما فيها كنيسة سانت بول العتيقة، ولقي ستة أشخاص فقط مصرعهم، ولكن مائتي ألف شخص فقدوا مساكنهم (84). ودمرت معظم المكتبات واحترق من الكتب

ص: 132

ما قيمته 150 ألف جنيه. وقدر مجوع الخسائر والأضرار بنحو 10730000 جنيه (85)، وهو ما ربما يعادل اليوم 500 مليون دولار.

وبعد الكارثة نظم المجلس البلدي في لندن إدارة للمطافئ، وركبت خراطيم الماء في أنابيب الماء الرئيسية. وكان على كل شركة أن تعين بعض أعضائها ليكونوا على أهبة الاستعداد لتشغيلها لدى سماع أي إنذار، وكان على كل العمال أن يذوهم إذا استدعاهم عمدة المدينة. وأعيد بناء لندن في شيء من التمهل، على طراز أمتن وأقوى، وإن لم يكن أجمل من ذي قبل. وبأمر من الملك حول الطوب والحجر محل الخشب، واختفت الطوابق العليا الناتئة، وأصبحت الشوارع أوسع وأكثر استقامة، ورصفت بالحجر السلس الأملس، وخصصت الطوارات للمشاة. وتحسنت الرعاية الصحية. وقضت النيران على كثير من الأقذار والفئران والجراثيم فتخلصت لندن من الطاعون، وجدد المهندس المعماري "رن" بناء كنيسة سانت بول.

‌4 - الفن والموسيقى

1660 -

1702

ولد كرستوفر رن Wren في أحضان الدين، ورضع لبان العلم، وتوجه بالفن. كان أبوه كبير كهنة وندرسون، وعمه أسقف الي Ely، والتحق بمدرسة وستمنستر، ثم كلية وادهام في "أكسفورد" وفي 1653 حصل وهو في الحادية والعشرين على منحة لمتابعة الدراسة في كلية "جميع النفوس". ثم أصبح في سن الخامسة والعشرين أستاذاً للفلك في كلية جريشام في لندن، وفي سن التاسعة والعشرين شغل "كرسي""سافيل" للفلك في أكسفورد. وبدا أنه وهب نفسه للعلم، فقد سحرت لبه الرياضيات والميكانيكا والبصريات والأرصاد الجوية والفلك. فقوم السيكلويد (وجد أن الخط المستقيم مكافئ لانحناء السيكلويد). وشرح قوانين التصادم، ونسب إليه نيوتن كثيراً من التجارب التي أدت إلى وضع قوانين الحركة الثلاثة (86). وعمل بجد على تحسين التلسكوب وصقل

ص: 133

العدسات وبحث في دوائر زحل. وابتكر طريقة إلى تحويل الماء المالح إلى ماء عذب، وأدى من أجل بويل أول عملية حقن سائل في مجرى الدم في الحيوان. وأثبت أن الحيوان يمكن أن يعيش بسهولة بعد إزالة طحاله. واشترك مع توماس ولس Willis في تشريح المخ. وأعد الرسوم اللازمة "لتشريح ولس المشهور" وكان من أوائل أعضاء "الجمعية الملكية" وهو الذي كتب مقدمة ميثاقها. وما كان لأحد أن يعلم أنه سيخلد في التاريخ على أنه أعظم مهندس معماري لإنجليزي.

إن الظروف قد تغير مجرى الحياة. وربما كانت مهارة رن في الرسم هي التي حدت بشارل الثاني إلى تعينه مساعد لسير جون دنهام (1661) رئيس المساحة في الأشغال العامة. وسرعان ما وجد في العمارة ذلك التزاوج بين العلم والفن، أي إضفاء الجمال على الحقيقة، وهذا هو ما كان يشغل كل تفكيره. وكتب يقول: "هناك لونان من الجمال: الجمال الطبيعي والجمال المألوف أو العادي المتعارف عليه. والجمال الطبيعي تأتي لنا به الهندسة، أما الثاني، الجمال المألوف، فإنه يأتي من ترويض حواسنا على الأشياء التي تبعث السرور والبهجة عادة

في نفوسنا ولكن المعيار الحقيقي دائماً هو الجمال الطبيعي أو الجمال الهندسي (87) ". فالشيء الصحيح هندسياً، كما يرى رن، يسرنا هو نفسه، ويكون جميلاً (أحد الجسور الكبرى في العالم مثلاً). ومن هذه الزاوية أثر العمارة الكلاسيكية على العمارة الموطية. وفي تصميماته الأولى ترسم خطى اينجو جونز.

وفب 1663 وضع تصميم مسرح شلدون في أكسفورد للأسقف جلبرت شلدون، وهنا منذ البداية، أتبع مبادئ كلاسيكية. فرفع الصرح الدائري الضخم، على نفس الطراز الذي وضعه فتروفيوس في قديم الزمان وفينولا في عصر النهضة. وساعدت إقامته الطويلة في فرنسا 1664 - 1666 على ترسيخ ميوله الكلاسيكية. ولكن إعجابه بكنيسة فرنسوا مانسارت في فال-دي-جراس، جنح به إلى إضافة شيء من زخارف الباروك إلى

ص: 134

واجهات مبانيه. كما انه قد تذكر قبة فال-دي-جراس، وهو يعيد بناء كنيسة سانت بول.

وعاد رن إلى لندن في مارس 1666. وفي أبريل، بناء على طلب الأسقف شلدون وضع خطة لإصلاح الكاتدرائية المتداعية، التي شاخت من العمر آنذاك نحو 600 عام وفي أغسطس وافقت لجنة إصلاح كنيسة سانت بول على مشروع رن. ولم يمض على ذلك أسبوعان حتى دمر حريق لندن التاريخي الكنيسة، وجرى الرصاص الذي أذابته النيران من سقفها الشوارع.

إن هذا الحريق الذي أتى على ثلثي العاصمة هيأ للعمارة فرصة لم تتح لها منذ حريق رومه. وكانت النيران لا تزال كامنة تنفث الدخان حين عرض رن على شارل الثاني مشروعه الرائع إعادة بناء المدينة. وقبل الملك المشروع، ولكن أعوزه المال اللازم له، كما أن المشروع تعارض مع حقوق الملكية القوية. وشغل رن نفسه بمشروعات أخرى، وأعد في 1673 تصميماً لكنيسة سانت بول جديدة. ولكن رجال الكاتدرائية اعترضوا بأن التصميم عليه سيماء معبد وثني، وحثوا رن على التزام الطراز القوطي في الكنيسة العتيقة، ووافق كارهاً على حل وسط، بحيث يكون الداخل عبارة عن أقواس وجناح من الكنيسة ومكان خاص بالمرتلين، وكلها على الطراز القوطي، على أن تكون الواجهة من طراز عصر النهضة: مدخل ذو رواق معمد وقوصرة كلاسيكية وبرجان من طراز الباروك. وكانت النتيجة خليط كريه المنظر من الطراز، ولو أن رن أصلح منه بعض الشيء بتتويج الجزء الداخلي بقبة تنافس قبة برونلسكي في فلورنسة وميكل أنجلو في رومه وستظل سانت بول أروع كنيسة شادها البروتستانت.

وعل حين مضى هذا المشروع في طريق التنفيذ لمدة خمسة وثلاثين عاماً، فإن رن الذي خلف دنهام في تولي شؤون المساحة العامة، وضع تصميماً،

ص: 135

لثلاث وخمسين كنيسة أخرى. أشتهر كثير منها بأبراجها وقممها المستدقة التي جمعت بين حاسة الجمال وبين نزعته الرياضية. أضف إلى هذا دار الجمارك في لندن، والمستشفى في كل من جرينتش وشلس، والكنائس الصغيرة في كلية بمبورك في كمبردج وترنيتي كولدج في أوكسفورد، ومكتبة ترنيتي كولدج في كمبردج والجناح الشرقي الكلاسيكي في قصر مبتون كورت، وستاً وثلاثين داراً نقابية، وعدداً من الدور الخاصة بل يبدو أنه في الأربعين عاماً الأخيرة من القرن السابع عشر. لم يشيد مبنى له قيمته وأهميته، إلا كان رن هو المهندس الذي تولاه (88). واحتفظ رن بمنصبه في المساحة طوال حكم شارل الثاني، وجيمس الثاني، ووليم وماري، وآن. وتقاعد عن العمل في سن السادسة والثمانين، ولكنه ظل لخمسة سنوات أخرى يشرف على العمل في كنيسة وستمنستر، وينسب بعضهم إليه الفضل إقامة أبراجها، وفارق الحياة في سن الحادية والتسعين، ودفن في كنيسة سانت بول.

وكان فن النحت لا يزال يتيماً في إنجلترا. ولكن الحفر على الخشب كان فناً رفيعاً. وكان جرنلنج جيبونز معاوناً له قيمته للمهندس رن، قام بحفر المقاعد في المكان المخصص للمرتلين وصندوق الأرغن الفخم في كنيسة سانت بول، والزخارف في قصر وندرسون وقصر كنسنجتن وهامبتون كورت.

واستمر فن الرسم في إنجلترا على أن يستقدم الأساتذة ويثبط من همم بنيه. وعلى الرغم من ذلك، كان بعضهم يعد جون ريلي أعظم رسام لصور الأشخاص في فترة عودة الكنيسة الملكية وأدرك جون أن الوجه المدروس الذي يرسم في رؤية، هو في ذاته سيرة حياة، فاستطاع أن يقرأ خطوطه، وفي بصيرة نافذة كشف في ثناياه عن خفاياه وأسراره وأبرزها في شجاعة غير مريحة. وكاد تعليق شارل الثاني على صورة رسمها له ريلي يكون سبباً في انهيار الفنان ودماره، حين قال الملك: "أهذه صورتي؟ يا لخيبة الأمل،

ص: 136

اذن أنا رجل قبيح المنظر" ومضى زمن طويل قبل أن تدرك الحاشية أن هذا كان مجرد تحية عفوية لأمانة الفنان. وبنفس الدقة والأمانة أخرج ريلي صور الملك الأحمق جيمس الثاني، وادموند ولإلر الشاعر المرتد، وارل آروندل الأرستقراطي التافه المختال. ولكنه حين رسم كرستوفر رن وروبرت بويل، وقع على العبقرية ووضع يده على إمارتها في الوجه، وبريقها في العينين. قال هوراس وولبول "ربما كان في مقدور ريلي، بربع غرور سير جودفري نللر، أن يقنع العالم بتفوقه وسموه (89). وفارق الحياة 1691 وهو في سن الخامسة والأربعين.

وكان للي الهولندي ونللي الألماني فارسي الحلبة المرموقين في الرسم الأشخاص في عصر أل ستيوارت الثاني. وكان والد للي جندياً هولندياً اسمه فان درفاس. واشتق لقبه هذا (للي) من زنبقة كانت مرسومة على داره. وانحدر اللقب إلى الابن. ولد بيتر في وستفاليا 1618، ودرس الفن في هارلم، وعبر البحر إلى إنجلترا (1641) حين سمع أن شارل الأول أوتي الذوق والمال، ووفق في أن يختلف فانديك بوصفه مصور الأشخاص الذي يبتغيه الناس، وظل محتفظاً بمكانته هذه على عهد كرومول وشارل الثاني، وأقتبس للي أسلوب فانديك في إضفاء الأناقة والرشاقة على الجالسين أمامه (لرسمهم). ولو في اللباس فقط. وحاصرته ربات الجمال في الحاشية، من ذلك أننا نرى في قاعة المتحف الوطني لوحة نل جون ريانة فاتنة الدعارة. وكونتس شروزبري التي ساءت سمعتها، بمغامراتها الغرامية كما كما نرى على جدران قصر هامبتون كورت ليدي كاسلمين ولويزدي كيرووال، تزدهيان بحلمات أثدائهما. وأجمل من ذلك جون تشرشل وهو طفل مع أخته (89) أزابللا (90) ومن الذي كان يتوقع أن يصبح هذا الطفل الملائكي والطفلة الملائكية دون مالبرو القوى الجبار، والعشيقة التي تصعب زحزحتها لجيمس دوق يورك؟. وعن طريق مثل هذه اللوحات حصل للي على لقب فارس، وجمع ثورة، فقد جلس أمامه شارل الثاني وسة من الأدواق

ص: 137

لرسمهم. ورأى بيبز أنه جبار معتد بنفسه .. يحظى بمنزلة رفيعة (91)، وكان يعيش "عيشة مترفة باذخة (92) " وحدد له موعداً للقائه بعد ثلاثة أسابيع.

وفي 1674، أي قبل وفاة للي بست سنوات، قدم إلى لندن رجل ألماني عقد العزم على لن يخلف سير بيتر (للي) في رسم الأشخاص وفي كسب المال وفي الفروسية، وحقق الرجل برنامجه وكان الرجل، وهو جوتفريد فون نللر، آنذاك في الثامنة والعشرين، وعينه شارل الثاني "مصور البلاط" واحتفظ نللر بهذا المنصب في عهد جيمس الثاني ووليم الثالث الذي منحه لقب فارس، ورسم سير جودفري لوحات لثلاثة وأربعين من أعضاء "نادي كيت كات" ذي المكانة السياسية البارزة (93) ولعشر من النساء الخطيرات المغويات في بلاط وليم (94). وغطى على شهرة ديدرن ولوك. ومثلما يتلهف أي إنسان على الخلود، حول نللر مرسمه الفخم إلى مصنع ينتج بالجملة، بهيئة لم يسبق لها مثيل من المساعدين، يختص كل منهم في شيء معين: الأيدي، الثياب الأشرطة والخطوط الملونة. وفي بعض الأحيان جلس أمامه أربعة عشر شخصاً في يوم واحد. وشيد قصراً في الريف، وتنقل بينه وبين بيته في المدينة في عربة تجرها ستة جياد. واحتفظ بحياته في كل التقلبات السياسية. وفاضت روحه وهو في فراشه معززاً مكرماً في سن السابعة والسبعين (1723) وفي تلك السنة ولد ربنولدز، وكان هو جارت في السادسة والعشرين من العمر، وبدأ الرسم الوطني يترعرع ويشق طريقه.

وقضى البيوريتانيون تقريباً على الفن، ولكنهم لم يخرسوا الموسيقى. ولم يَخلُ من الآلات الموسيقية إلا أحقر البيوت، ولحظ بيبز وجود العذراوية (آلة تشبه البيان الصغير بدون قوائم) في كل قارب من ثلاثة القوارب التي تحمل المنقذة في التيمز أثناء الحريق (95)، وكتب يقول:"لا بد أن أُفسح المجال للموسيقى والنساء مهما كنت مشغولاً".

ص: 138

وكان يورد ذكر صفارته ومزهره وعوده وقيثارته. قدر ما يذكر أسلحته (96) وكل إنسان ورد ذكره في مذكراته، كان يعزف ويغني. وكان من القضايا المسلم بها عنده أن أصدقاءه كان في مقدورهم أن يشاركوا في الغناء (97)، وأنه هو وزوجته وخادمتهما كانوا يغنون في حديقته غناءً متناغماً، بشكل مقبول إلى حد أن جيرانهم كانوا يفتحون النوافذ ليستمعوا إليهم.

وفي الابتهاج بعودة الملكية صدحت الموسيقى من كل شكل ولون. واستقدم شارل الموسيقيين من فرنسا. وسرعان ما جعل الناس يدركون أنه كان يحبذ الألحان الرخيمة المبهجة الواضحة التي لا تحسب الرياضيات تناسقاً أو تناغماً. ووضعت آلات الأرغن من جديد ولعلعت في الكنائس الرسمية. وكان الأرغن الذي صمم لكنيسة سانت جورج في وندسور، وللكتدرائية في أكستر، من بين عجائب الدنيا التي أحدثت دوياً في ذاك العصر. ولكن حتى في جماعة المنشدين في الكنيسة حل محل الوقار والرهبة، عروض مسرحية من فناني والآلات المنشدين المنفردين. وأمر شارل الثاني وجيمس الثاني بإعداد الموسيقى للشعر الغنائي وحلبات الرقص التي تقام احتفالاً بالمناسبات الملكية. واستخدمت الكنائس الموسيقى لقاء أجر، وجازفت المسارح بالأوبرا، وبدأ الملحنون والعازفون الإنجليز يرتزقون من جديد.

وفي 1656 أقنع سير وليم دافنانت حكومة الحماية لترخص له في إعادة افتتاح مسرح، على أساس أنه سيخرج أوبرا، لا رواية وفي "حفلة الأيام الأولى" التي مثلها لم يكن هناك أوبرا بقدر ما كان هناك سلسلة من الحوارات سبقتها وتخللتها وأعقبتها الموسيقى. ولكن في العام نفسهعرض دافنانت في مسرحه الخاص "رتلند هاوس" أول أوبرا لإنجليزية "حصار رودس (98) " ولكن إغلاق المسارح بسبب الطاعون والحريق، عوق هذه التجارب. على أنه في 1667 عرض دافنانت المغامر، في صورة

ص: 139

موسيقية معدلة "العاصفة"التي زعم أنها من عمل أبيه. وحددت أوبرا بورسل "ديدو وإينياس" بداية الأوبرا الكاملة في إنجلترا.

وكما هو الحال غالباً في تاريخ الموسيقى، فإن عبقرية هنري بورسل كانت في معظمها نتاج وراثة اجتماعية -أي بيئة سن المراهقة. فكان أبوه رئيس المرتلين في وستمنستر، وكان عمه يشغل وظيفة "ملحن القيثارات لصاحب الجلالة". وكان أخوه ملحناً وكاتباً مسرحياً. وتابع أبنه وحفيده عمله في العزف على الأرغن في الكنيسة. أما هو فلم يمتد به الأجل لأكثر من سبعة وثلاثين عاماً (1658 - 1695)، وتولى الترتيل في الكنيسة الملكية وهو لا يزال صبياً، حتى ضعف صوته. وألف في شبابه ترانيم دينيه ظلت تسمع في الكاتدرائيات الإنجليزية على مدى قرن من الزمان: وألحنه الإثنى عشر من نوع السوناته (1683) لقيثارتين أو لأرغن وبيان قيثاري، هي التي جلبت شكل السوناته من إيطاليا إلى إنجلترا، ويقول بيرني أن أغانيه وترانيمه والكانتاتا (قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى من غير تمثيل) وموسيقى الفرقة التي ألفها "فاقت إلى حد بعيد كل ما أنتجته أو استوردته بلادنا من قبل، إلى حد يبدو أن سائر الألحان الموسيقية باءت بالاحتقار أو لاذت بزوايا النسيان (99) ".

ولما كان بروسل منهمكاً في عمله، عازفاً على الأرغن وملحناً، فإنه لم يتيسر له أن يخرج "ديدو وإينياس

(1)

قبل 1689، لنخبه مختارة من المتفرجين، في إحدى مدارس البنات في لندن. وتبدو الموسيقى لنا الآن، حتى الاستهلال المشهور، هزيلة نحيلة، ولكن يجب أن نتذكر أن الأوبرا كانت في المهد، وأن جمهور المستمعين آنذاك لم يولع بالضوضاء والصخب مثلنا اليوم أما اللحن الأخير -عويل ديدو ونواحها: "عندما

(1)

في الأساطير الرومانية -ديدو أميرة صور إلى أسست قرطاجه وأصبحت ملكة عليها، وتقول انيادة فرجيل، أنها رحبت باينياس حين قدم إلى قرطاجه بعد سقوط تروادة، ووقعت في شراك غرامه، ثم قتلت نفسها حين غادرها.

ص: 140

أتوسد الثرى" فإنه من أكثر ما يهز المشاعر ويؤثر في النفوس، من ألحان في تاريخ الأوبرا بأسره".

أما "الملك آرثر"(1691) التي كتب كلماتها دريدن ووضع موسيقاها بورسل، فليست أوبرا بالمعنى الكامل، حيث يبدو أن الموسيقى لم تكن مرتبطة إلا ارتباطاً يسيراً بجو الرواية أو أحداثها، مثلما أن الرواية بم يكن صلة وثيقة بعصر آرثر كما نراه في مالوري وتنيسون. وبعد ذلك بعم واحد، أحرز بورسل تقدماً أكثر في موسيقى ثانوية لرواية "فيري كوين: الملكة الجنية"، وتكييف مجهول الاسم "لحلم ليلة منتصف الصيف". ولم يمتد به الأجل ليشهد إخراجه، وضاعت الألحان، ولم تكتشف إلا في 1901 وهي الآن تعد من أحسن ما أنتج بورسل.

وفي 1693 وضع أكثر قصائده الغنائية الكثيرة، أحكاماً واتقاناً، في الاحتفال بيوم سانت سيسيليا. ولكن أرق هذه القصائد هي "تسبيحه الشكر والابتهاج" المرحة 1694. وكانت تعزف سنوياً في الاحتفال "بأبناء رجال الكنيسة" حتى 1713، حتى اشتركت في هذا الشرف مع مقطوعة هاندل "تسبيحه الشكر من أوترخت"، فكانت تعزفان بالتبادل سنوياً حتى 1743. من أجل جنازة الملكة ماري 1695، ألف بورسل ترتيلة مشهورة "يا ربنا: أنت أعلم بخفايا قلوبنا". وفي سنواته الأخيرة اسهم في الموسيقى الثانوية لرواية دريدن "الملكة الهولندية" ومن الواضح أنه مرض قبل أن يتمها لأن موسيقى الخاتمة وضعها أخوه دانيل. وحانت منيته، ربما بسبب السل، في 21 نوفمبر 1695.

وعلى الرغم مما امتلأت به فترة عودة الملكية من حيوية ونشاط، فإن الموسيقى الإنجليزية لم تكن قد أفاقت بعد من نكستها على يد البيوريتانيين بعد عهد اليزابيث. وبدلاً من ترسيخ جذورها ثانية في التربة الإنجليزية، حذت حذو الملك، فانحنت إجلالاً وإكباراً أمام الأساليب

ص: 141

الفرنسية والآلات الإيطالية. وبعد أوبرا "ديدو واينياس" غزت الأوبرا الإيطالية مسرح الأوبرا الإنجليزية، يقدمها مغنون إيطاليون. كتب بورسل في 1690 "أن الموسيقى الإنجليزية لم تبلغ بعد سن الرشد إنها طفل تواق إلى طموح يبشر بما يمكن أن يكون عليه في المستقبل

إذا وجد أساتذته مزيداً من التشجيع (100) ".

‌5 - الأخلاق

فلنبدأ لفورنا هنا بالتفريق بين عامة الشعب وأبناء الطبقات العليا، فالاستهتار الجنسي الذي ساد فترة عودة الملكية، سرى عن طريق الحاشية إلى الطبقة الوسطى العليا وسكان المدن وما حولها الذين ترددوا على المسارح وربما كانت أخلاق العامة المغمورين أفضل منها في عصر اليزابيث، لأن النظام الاقتصادي أبقاهم على اعتدالهم وبعدهم عن السرف، فلم يكونوا يملكون الوسائل التي يتردون بها إلى مهاوي الرذيلة والشر، وطلوا يحسون بوازع من عقيدتهم البيوريتانية. في الحاشية الملكية، فإن التحلل من القيود البيوريتانية ورد الفعل النتاج عن ذلك، أديا إلى اتصال جنسي غير مشروع ومرح صاخب غير بريء. أما الشباب الأرستقراطي الذي خلع من أرض الوطن وأطلق لنفسه العنان في فرنسا، فقد ترك أخلاقه وراءه في المنفى، وأتى معه لدى عودته بضروب من الفوضى الموسومة بالرشاقة والظرف، وانتقاماً منهم للسنوات التي عانوا فيها عنت الظلم والحرمان والسلب والنهب، شنوا بكل ما أتوا من قوة وذكاء، الحرب على زي البيوريتانيين وحديثهم ولاهوتهم ومبادئ الأخلاق عندهم، إلى حد لم يجرؤ معه أحد من أبناء طبقتهم أن ينبس ببنت شفه من أجل الحشمة والوقار. وباتت الفضيلة والتقوى والأمانة الزوجية كلها ألواناً من البراءة أو السذاجة الريفية وأصبح الزاني الذي يوافق كل التوفيق غي هذه الرذيلة، هو بطل عصره وفريد زمانه، (كما هو الحال في رواية وتشر لي: الزوجة الريفية) والواقع أن الديانة فقدت مكانتها

ص: 142

واعتبارها بين الناس، ولم يبق لها شيء من هذا إلا عند الحرفيين والفلاحين، وصار الواعظ موضع احتقار والازدراء على أنهم منافقون كئيبون أغبياء مزعجون مملون ثقال الظل. وأصبحت الديانة الوحيدة الصالحة للسيد الماجد هي الأنجليكانية المهذبة التي يحضر فيها المولى (رب العمل أو مالك الأرض) صلاة الأحد لتدعيم مركز القسيس الذي زرع الخوف من نار الجحيم في نفوس القرويين، ويسبح بالحمد والشكر، وفي إيجاز مناسب، من جانب المنصة التي يجلس إليها المولى أو سيد القرية. وأصبح أقرب إلى طابع العصر أن يكون المرء مادياً على مذهب هوبز، لا مسيحياً مثل ملتون، الأحمق العجوز الأعمى الذي نظر إلى سفر التكوين على أنه تاريخ، وفقدت نار الجحيم التي بولغ فيها في العشرين سنة الماضية، رهبتها وهيبتها لدى طبقات المالكين. أما الجنة في رأيهم، فهي مائلة دوماً في مجتمع متحرر من الثورة الاجتماعية والكبت الخلقي في ظل حاشية وملك ضرب المثل وتقدما الركب في الفسق والفجور والميسر واللهو والعبث.

وكان ثمة عدة رجال أفاضل ونساء فضليات بين أفراد البلاط الملكي، وكان كلاردند مثلاً رجلاً ذا المبادئ وسلوك قديم حتى سارت ابنته في طريق الغاوية فاهتاج وفقد صوابه، وأوصى بقتلها وتحلى أرل سوثمبتون الرابع ودوق أورمند الرابع بالحشمة والوقار، وكان من بين رجال الدين الأنجليكانيين نفر من المخلصين الأتقياء، حتى من الأساقفة أو ذوي المراتب الكنيسة العالية. وصدقت عزيمة الملكة وليدي فانشو والآنسة هملتون، والسيدة جودولفين فيما بعد، في التمسك بأهداب الفضيلة. ويقيناً كان هناك أفراد غير هؤلاء وهؤلاء، ضاعت ذكراهم في ثنايا التاريخ لأن الفضيلة لا تعلن عن نفسها.

وكلما علت المكانة انحطت الأخلاق. فهناك جيمس، دوق يورك، شقيق الملك، الذي يبدوا أنه بز الملك في حصته من الخليلات العشيقات (101). وبينما هو في المنفى تسلل إلى مخدع آن هايد ابنة قاضي القضاة، فلما حملت

ص: 143

منه توسلت أن يتزوجها ولكنه كان يماطل، وأخيراً وقبل أن تضع وليدها بسبعة أيام (22 أكتوبر 1660) أتخذ منها زوجة شرعية سراً. وعندما سمع أبوها (كلارندون) بنبأ هذا الزواج، كما تروي سيرة حياته (102) احتج لدى الملك بأنه لم يعلم شيئاً عن هذا الاتفاق، وأنه "كان يؤثر أن تكون ابنة خليله الدوق لا زوجته، وأنهما إذا حقاً كان قد تزوجا "فينبغي على الملك أن يزج بالمرأة في السجن فوراً"، وأن يصدر في الحال قرار من البرلمان بقطع رأسها، وأنه لن يوافق على هذا القرار فحسب، بل سيكون عن طيب خاطر أول من يقترحه". وهز الملك كتفيه استهجاناً للموضوع على أنه هراء لا غناء فيه، وكان يسمع جعجعة ولا يرى طحناً، وربما أدرك قاض القضاة أن الملك لن يلزمه بكلمته. وتحدث في صراحة وتجهم، على الطريقة الرومانية، ليعوض عما أثار من ريبة من أنه رتب أمر الزواج من قبل، ليجعل من أبنته ملكة على أن أبنته آن ماتت بالسرطان في 1671، في سن الرابعة والثلاثين.

واتخذ جيمس، بينما كانت زوجته (آن) تعاني من مشاكل الأمومة، من أرابللا عشيقة له، وهي التي أرتضى أخوها هذا الوضع حتى يحظى بالترف في مناصب الجيش. ورغبة في معاونة آن وأرابللا والتخفيف عنهما اتخذ الدوق بضع خليلات لمضاجعته واستاء إيفلين بصفة خاصة من سلوكه الشائن مع ليدي دنهام (1666)(103). ولم يغير تحول جيمس إلى الكثلكة من خلقه شيئاً. فكان كلما كتب بيرنت "دائم التنقل من غرام إلى غرام دون أن يحسن الاختيار، حتى قال الملك يوماً أنه يعتقد أن القساوسة هم الذين يقدمون له العشيقات عقوبة يكفر بها عن ذنوبه (104) " ودامت علاقته بأرابللا نغمة عذبة من الأرغن، وسط هذا التنقل بين مطارح الهوى، وبقيت بعد موت آن، وبعد زواج جيمس (1673) من ماري مودينا.

وينبغي علينا أن نضيف إلى ما ذكرنا، أن دوق يورك نفسه كان يتحلى بمناقب تدعو إلى الإعجاب، فإنه- وهو أمير البحر

ص: 144

(1660 - 1673)، بذل أقصى الجهد في التغلب على سوء النظام والفساد في البحرية، نتيجة لضآلة الأجور والمؤن التي تصرف لرجال البحر وتدريبهم الهزيل، وأبدى مهارة وشجاعة في اشتباكاته مع الهولنديين. ونهض بمهام الإدارة في مقدرة وإخلاص. ولم تشب أية شائبة قط إخلاصه العميق لأخيه الملك، بل أنتظر صابراً طيلة ربع قرن من الزمان قبل أن يخلفه على العرش. وكان صريحاً مخلصاً يسهل الوصول إليه، ولكنه كان شديد التكلف بمكانته وسلطانه إلى حد لم يكن معه شعبياً، وكان صديقاً يقيم على الود، وعدواً عنيداً لا يغتفر الإساءة. وكان ذا جلد على العمل الشاق ولكنه لم يكن متوقد الذكاء. وكان يأنبى النصح والمشورة أيما إباء.

وكان يحتل المركز الثاني في البلاط، جورج فليبر دوق بكنجهام الثاني. وكان ابن محظية جيمس الأول التي لقيت حتفها، ومن ثم قاتل إلى جانب شارل الأول في الحرب الأهلية، ومع شارل الثاني في وورسستر، وعينه الملك الذي أسترد العرش عضوا في مجلسه الخاص وكان بارعاً ذكياً أنيساً كريماً، ولذلك سيطر في البلاط بسحره وفتنته لبعض الوقت، وكتب "ملهاة" رائعة. "التجربة"، وتلهى بالكيمياء القديمة والعزف على القيثارة إلى حد ما. ولكن وجهه وثراءه جلب عليه الدمار. أنه تنقل من امرأة إلى أخرى، وانغمس في عبث مخز شائن. وبدد ضيعته الهائلة. وكان يتوق إلى الظفر بكونتيس شروزبري، فتحدى زوجها لمبارزته، وتنكرت هي في زي خادم، وأمسكت بجواد بكنجهام أثناء المبارزة، وصرع بكنجهام الكونت، وعانقت الأرملة السعيدة الدوق المنتصر الذي كان لا يزال مضجراً بدم زوجها، وعادا ظافرين إلى قصر الفريسة (105). وعزل بكنجهام عن منصبه (1674)، وانصرف إلى اللهو والعبث، ومات فقيراً معدماً يجلله الخزي والعار.

وكان ينافس بكنجهام في المكانة والذكاء والقصف والعربدة والانحلال

ص: 145

جون ولموت أرل روشستر الثاني، حصل جون على درجة الأستاذية من أكسفور في سن الرابعة عشر (1661) وهو أمر لا يصدق، والتحق بالبلاط في سن السابعة عشر. وأصبح المشرف على حجرة الملك. وكان في حاجة إلى المال وهو في سن التاسعة عشرة، فتودد إلى وريثة ثرية تباطأت في تحقيق بغيته، فاختطفها، ومن أجل ذلك زج به في السجن، فرق قلبها له، ثم حظي بالزواج منها، ثم بثروتها، وكم من مرة أبعده شارل عن الحاشية وأعاده إليها، مستسيغاً فطنته وذكاءه. وكان روشستر - مثل بكنجهام- خبيراً في التقيد والمحاكاة، وكان يسر بالتنكر في زي حمال أو متسول أو تاجر أو طبيب ألماني، وكان يوفق في هذا التمثيل والمحاكاة إلى حد ضلل أو خدع معه أوثق أصدقاء صلة به. وزعم بوصفه طبيباً أنه يبرئ من الأدواء المستعصية عن طريق علمه بالتنجيم. وجذب إليه مئات من المرضى، وشفى عدداً منهم، وسرعان ما قصدت إليه سيدات البلاط لعلاجهن، وعجز أولئك الذين عرفوه حق المعرفة، عن التعرف عليه (106) وفي كل هذه التكرات تقريباً كان يطارد السيدات، دون أي اعتبار إلى مكانتهم. وكن هن يتعقبنه كذلك. وتسلى جون بكتابة قطع من الهجاء البذيء الداعر. وقضى على حياته بالخمر والفجور. وكان يفخر بأنه كان ثملاً مخموراً لمدة خمسة سنوات بلا انقطاع -ومات فقيراً نادماً في السن الثالثة والثلاثين.

وكان في الحاشية رجال كثيرون من أمثال ولموت، حتى أن بيبز نفسه، وهو غيرها وللزنى تسائل:"ماذا تكون نهاية كل هذا الشراب وهذا السباب وهذه العلاقات الغرامية الفاجرة (107) " وعبر بوب عن هذه الحالة في "بحث في النقد"، ولكنه لم ينصف الملك كل الإنصاف، فهو يقول:

"إذا كانت المهمة الهينة اللينة للملك عي العشق والغرام، فقلما نراه في مجلس الحكم، ولا نراه أبداً في ساحة الوغى، فإن الدولة يحكمها النساء الحانثات بالعهد اللائى ينتقلن من حب إلى حب، أما رجال الدولة والسياسة فيكتبون المسرحيات الهزلية والساخرة ولا ستفاد بذوي المواهب،

ص: 146

واللوردات الشبان اليافعون خلو من الذكاء والفطنة، .... ولم تعد المروحة المتواضعة المتحشمة ترفع، وعلت الابتسامة وجوه العذارى لما كانت وجناتهن تحمر له حياء وخجلاً من قبل (108).

وكان من الأمور المسلم بها أن الزوجات -مثل الأزواج- تعوزهن الأمانة والإخلاص، فإن الرجال لم يطلبوا الأمانة والإخلاص إلا في عشيقاتهم (109). إن مذكرات كونت فيليبرت دي جرامونت التي دونها بالفرنسية أخو زوجته، أنطوني هملتون، كانت، أحياناً، عبارة عن قائمة بالمغرورين المختالين، أو سلسلة من الديوثين الذين لا يغارون على زوجاتهم وهم يعملون أنهن يأتين الفاحشة، كما رآهم الكونت في منفاه السعيد في بلاط شارل الثاني.

وكم كانت الساعات تقضى وتخصص للرقص وسباقات الخيل وصراع الديكة ولعب البليارد والورق والشطرنج، والألعاب الرياضية والحفلات التنكرية المرحة، ثم كما يقول بيرنت "يطوف الملك والملكة وكل أفراد البلاط، وهم جميعاً متنكرون، بالبيوت الغير معروفة، حيث يرقصون ويلعبون ويلهون في صخب فاجر (110) " وكانت المراهنات على مبالغ طائلة. يقول ايفلين "في هذه الليلة، افتتح جلالة الملك الحلبة، كما هي العادة، فألقى "الزهر" بنفسه في القاعة الخاصة،

وخمس مائة جنيه. (وكان قد كسب في العام الماضي 1500 جنيه). وأقبلت السيدات على اللعب إقبالاً شديداً (111)"وحذت الطبقات العليا حذو الحاشية في القمار والدعارة. وتحدث ايفلين عن شباب إنجلترا الفاسق الفاجر الذي فاقت إلى حد كبير دعارته سائر الأمم المتحضرة مهما كانت (112). وانتشر اللواط، وبخاصة في الجيش. وكتب روشستر رواية عنوانها "سودومي" (نسبة إلى سودوم قرية قوم لوط) مثلت أمام الحاشية، والظاهر أنه كان في إنجلترا عدداً من المواخير لهذا الاختلاط الجنسي الشاذ (113).

ص: 147

وكان عدد الزيجات القائمة على الحب يتزايد، وهناك أمثلة رائعة، منها زواج دوروتي أو زيورن من وليم تمبل، الذي ثبت أنه زواج سعيد، ولو أن دوروتي كتبت تقول:"ليس الزواج القائم على الحب تصرفاً معيباً ملوماً، إذ كنا لم نر من بين ألف من الزوجين الحبيبين الذين يقدمون عليه، زواجاً واحد يمكن أن يتخذ مثلاً على أن يكون إتمامه دون ندم عليه في المستقبل (114) ". وكتب سويفت إلى سيدة شابة في موضوع زواجها فتحدث عن الشخص الذي اختاره أبوها ليكون زوجا لها. وأضاف "أن زواجك كان قائماً على الحكمة والحصافة والتدبير والشعور والطيب المتبادل، خالياً من عوائق الانفعال السخيف في حب الرومانتيك (115) ". ويذكر كلارندون: "إن رغبتي الأولى في الزواج لم تتعلق إلا بضيعة ملائمة مريحة (116) ".

ومن الناحية النظرية كان للزوج كل السيطرة على زوجته، كما يتحكم حتى في الصداق الذي أتت به إليه. وفي كل الطبقات كانت مشيئة الزوج قانوناً. وفي الطبقات الدنيا أستعمل الزوج حقوقه المشروعة في ضرب زوجته، ولكن القانون حرم عليه استعمال عصا يجاوز سُمكها سُمك إبهامه (117). وكان انضباط الأسرة أو نظامها انضباطاً قوياً، اللهم إلا في الطبقات العليا في لندن، حيث شكا كلارندون من أن الوالدين ليس لهما لأي سلطان على الأبناء، كما أن هؤلاء لا يذعنون للآباء ولا يطيعونهم. بل "أن كل إنسان يتصرف كما يحلو له"(118). وكان الطلاق نادراً، ولكن يمكن إجازته بقرار من البرلمان. ورأى الأسقف بيرنت -مثل لوثر وملتون- أنه يمكن السماح يتعدد الزوجات في حالات معينة، وعرض هذه الفكرة على شارل الثاني، بسبب عقم الملكة، ولكن الملك رفضها، تحاشياً للتمادي في إذلال زوجته (119).

وهددت الجريمة الأرواح والممتلكات بشكل مستمر. وكان اللصوص والنشالون يجتمعون في عصابات ويسطون في جنح الليل، وكانت المبارزة

ص: 148

محرمة بحكم القانون، ولكنها بقيت امتيازاً للسادة الاماجد، فإذا صرع مبارز غريمة وفقاً للقواعد، نجا المنتصر عادةً بسجن قصير مريح. وسعى القانون جاهداً ليكافح الجريمة عن طريق ما يبدو الآن من عقوبات وحشية. ولكن ربما كانت الإجراءات الصارمة لازمة لغزو العقول المتحجرة أو المتبلدة. وكان التعذيب والموت عقوبة الخيانة العظمى. وكان الشنق عقوبة القتل أو الجناية أو تزييف العملة، وكانت الزوجة التي تقتل زوجها تحرق حية. أما السرقات الخفيفة فكانت عقوبتها الجلد، أو قطع إحدى الأذنين، وضرب أي فرد من حاشية الملك يعاقب بقطع اليد اليمنى. أما التزوير والخداع وغش الموازيين والمقاييس فكانت عقوبتها التعذيب في المشهرة، أحياناً مع دق الأذنين كلتيهما بالمسامير في آلة التعذيب، أو ثقب اللسان بقضيب من الحديد المحمي (120). وكان الناس عادة يستمتعون بمشاهدة مثل هذه العقوبات (121)، ويحتشدون، وكأنهم في يوم عطلة، ليشهدوا سجيناً على حبل المشنقة. وضمت السجون في عهد الملك السعيد عشرة آلاف سجين من أجل الديون، وكانت السجون قذرة، ولكن كان من الممكن أن يقدم الحراس بعض التيسيرات مقابل رشوة. كانت العقوبة أشد صرامة وقسوة منها في فرنسا المعاصرة، ولكن القانون كان أكثر تحرراً. ولم تكن في إنجلترا "أوامر مختومة"(لا لقاء أي شخص في السجن دون محاكمته)، بل كان فيها نظام التحقيق في قانونية الاعتقال. إلى جانب نظام المحلفين.

وشاركت الأخلاقيات الاجتماعية في الانحلال العام. وتزايدت أعمال البر. ولكن ربما كان الواحد والأربعون ملجأ في إنجلترا مجرد وجه آخر لجشع الأقوياء، وكان كل فرد تقريباً يعمد إلى الغش أثناء لعب الورق (122) ودب الفساد في كل الطبقات بمعدل أكبر من المستوى العادي. ومن مذكرات بيز تفوح رائحة الفساد في مختلف الأعمال، في السياسة وفي البحرية وفي بيبز نفسه. من ذلك أن المؤسسات والمصانع زادت في أسهمها دون زيادة مقابلة في رأس المال، وزورت في حساباتها، وتقاضت من

ص: 149

الحكومة أثماناً فادحة (123). وكانت الاعتمادات التي يقرها البرلمان للجيوش أو الأسطول يتحول جزء منها إلى جيوب الموظفين ورجال البلاط. وباع موظفي الدولة -حتى ولو كانت رواتبهم كافية تدفع بانتظام- الألقاب والعقود والبراءات والتعيينات وأوامر العفو، إلى حد بات معه الراتب الأصلي يشكل الجزء الأصغر مما يدخل إلى جيوبهم (124) ". وأثري كبار رجال الحكومة مثل كلارندون ودانبي وسندرلند -أثروا في سنوات قليلة واشتروا أو بنوا ضياعاً لا تتناسب قط مع رواتبهم. وباع أعضاء البرلمان أصواتهم للوزراء، بل حتى للحكومات الأجنبية (125) وفي القرارات انتزع مائتا عضو من صفوف المعارضة، نتيجة لأن الوزراء اشتروا أصواتهم (126). وفي 1675 قدر أن ثلثي أعضاء مجلس العموم كانوا مأجورين من قبل شارل الثاني، والثلث الباقي من قبل لويس الرابع عشر (127) حيث وجد العاهل الفرنسي أنه من الميسور أن يرشوا الأعضاء ليصوتوا ضد شارل إذا حاد بشكل مزعج عن سياسة البوربون. أما شارل نفسه فكم من مرة تسلم أموال طائلة من لويس، حتى يلتزم الدوران في فلك فرنسا في السياسة أو الدين أو الحرب، وهكذا كان المجتمع الإنجليزي أكثر المجتمعات استهتاراً وفساداً في التاريخ.

‌6 - العادات

حاولت العادات أو أساليب الحياة هنا أن تعوض عن النقص في الآداب -كما في فرنسا-، وأن تضفي كياسة متكلفة على الملابس المزركشة الأنيقة والأدب الفاجر، والحديث الدنس. وكان شارل نفسه مثلاً لأسلوب الحياة وتسرب إلى الطبقات العليا ما تجمل به الملك من ظرف ولطف ومجاملة وسحر وفتنة، وترك كل أولئك بصماته على الحياة في إنجلترا. فتبادل الرجال القبلات عند اللقاء. وقبلوا يد المرأة إذا قدموا إليها. وفي لندن -كما كان في باريس- استقبلت السيدات الرجال في الفراش، فكان هناك صراحة

ص: 150

منعشة واحتقار في الأدب وفي المسرح وفي البلاط. ولكن الصراحة أطلقت فيضاً من الخشونة عل المسرح وفي الحديث اليومي. وكانت البذاءة في إنجلترا بغير مثال. وفي هذا كان شارل من بين الشواذ الخارجين على القاعدة، حيث كان لا يتجاوز في السباب "عبارته المفضلة Odds Fish" وكان البيوريتانيون الباقون ينأون بأنفسهم عن فحش القول إلا إذا هاجموا خصومهم وسخروا منهم. أما الكويكرز فامتنعوا عن الحلف.

وبز الرجال النساء في الملابس الغربية، من الشعر المستعار المضمخ بالمساحيق لأجل التبرج، إلى الجوارب الحريرية والأحذية ذات "الإبزيم" وكان الشعر المستعار بدعه أخرى مستوردة من فرنسا. وكان الفرسان والمختالون وغيرهم، ممن كان شعرهم قصيراً، أو ممن يخافون أن يخطئهم الناس على أنهم من البيوريتانيين ذوي الرؤوس المستديرة الذين كانوا يقصون شعورهم قصاً قصيراً جداً، نقول أن هؤلاء وهؤلاء كانوا يغطون قص شعرهم بشعور أجنبية مستعارة. أما الرجال الذين أبيض شعرهم أو مال إلى الشيب فقد وجدوا في الشعر المستعار وسيلة ناجحة لإخفاء أعمارهم. وكان كل الرجال تقريباً يحلقون اللحى آنذاك. وكان هذا الشعر المستعار يصلح من شأن بشرة الملك الأسبانية وأنفه الضخم. وجعل بيبز من أول شعر مستعار وضعه مسألة خطيرة، وربى لشعره المحبب إليه الذي كان لزماً أن يقص ليفسح الطريق "الباروكة -الشعر المستعار" ويزود بالشعر رأس إنسان آخر (128)، وكان لزماً أن يتم تنظيف شعره المستعار من القمل في أوقات منتظمة (129) -واختفى الآن طوق الرقية المكشكش المتيبس الذي كان سائداً في عهد اليزابيث وجيمس الأول. كما اختفت السترة الضيقة والعباءة الطويلة ليحل محلها الصدرية والمعطف. ووصلت الصدرية على أية حال إلى ربلة الساق. وكانت تشد إلى الجسم بحزام. وتوقفت "بنطلونات" الركوب عند الركبتين وتدلت السيوف إلى جوانب الأرستقراطيين أو الأغنياء. وساعد المخملات والمخرمات والأشرطة، والأهداب وكشكشة الثياب

ص: 151

على استكمال الظرف والكياسة، وربما أستخدم الناس لتدفئة اليدين في الشتاء، "الموقه" وهي غطاء أنبوبي طويل مكسو بالفراء، بعلق في العنق.

أما نساء الطبقات العليا الأنيقات (طبقا لآخر طراز) فكن يضمخن شعورهن بالمساحيق والعطور، ويمشطنها في خصلات فوق جباههن، وزدن عليهن خصلات مستعارة مرفوعة على أسلاك خفية، وكسون قبعاتهن بالريش النادر، ووضعن على خدودهن أو جباههن أو أذقانهن "لصوقات تجميلية"(وهي قطع صغيرة جداً من الحرير الأسود يلصقها النساء كوسيلة لإخفاء العيوب أو التبرج)، زيادة في إغراء الرجال بمطاردتهن. وكشف عن أكتافهن وعن أجزاء كبيرة من نهودهن، لويز كيروول أمام الرسام للي ليصورها وأحد نهديها عار تماماً، وبزتها نل جوين في ذلك. وكانت النساء تحجبن سيقانهن بشكل مغر. وتزايد الطلب على أدوات التجميل الأنيقة. فكانت المرأة بالفعل شيئاً معقداً أستخدم الإنسان براعته في تشكيله وتصنعه، حتى صورتها إحدى الروايات في فترة عودة الملكية، في شيء من المغالاة والإغراق في الوصف.

"صنعت أسنانها عند ناظم اللالي (في بارك فرايرز)، وحواجبها من خيوط وأسلاك مجدولة (في استراند)، وشعرها في شارع "الفضة"، فإذا أوت إلى الفراش نزعت عن نفسها كل ما عليها لتضعه في عشرين صندوقاً، حتى إذا نهضت من نومها في اليوم التالي، رَكَبت كل شيء في مكانه على جسمها من جديد. وكأنها ساعة حائط ألمانية ضخمة (130) ".

وكان التبذير واجباً حتمياً، لقد أصبحت الحياة وظهرية متكلفة من جديد، ومن ثم اقتضت تجهيزات معقدة مفصلة. وكان لازماً استئجار عدد كبير من الخدم. فكان منهم لدى والد ايفلين نحو خمسين وكان لدى بيبز طباخ ومديرة ووصيفة وخادمة، وكانت واجبات الطعام مروعة

ص: 152

أنظر إلى غداء بيبز في 26 يناير 1660 قبل أيام الطيش والغرارة بزمن طويل:

"أعدت زوجتي غداءً شهياً جداً: من "عظام النخاع"، وفخذ من الضأن، وقطعة من لحم العجل، وصحناً من الطيور، وثلاث دجاجات، واثني عشر زوجاً من القنبر في طبق واحد، وكعكة ضخمة محشوة بالمربى والفاكهة المطبوخة (تورتة)، ولسان بقرة، وطبقاً من السمك الغير "الأنشوجة"، وطبقاً من القريدس (الجمبري) والجبن".

وكانوا يتناولون الوجبة الرئيسية في الساعة الواحدة. وكان المطبخ إنجليزياً. وعندما أوضح شارل الثاني لجرامونت أن الخدم كانوا يقدمون الطعام للملك، وهم ركوع، رمزاً للاحترام والإجلال، قال جرامونت (أو روي أنه قال):"أشكر لجلالتكم هذا الإيضاح، فقد ذهب تفكيري إنما كانوا يلتمسون المغفرة لتقديمهم طعاماً رديئاً (131) ".

ولم يكن تناول المشروبات الروحية نجرد مظهر اجتماعي. فقلما كان الناس، حتى الأطفال، يشربون الماء (132)، وكانت "البيرة" أيسر منالاً من الماء الصالح للشرب. ومن ثم تناول مختلف الناس من مختلف الأسنان، البيرة، وأضاف الموسرون إليها الويسكي ااستوردوا النبيذ. وتردد معظم الناس على الحانات مرة واحة في اليوم، وتناول كل الأفراد من جميع الطبقات الخمر من حين إلى آخر.

ودخل البن من تركيا حوالي 1650. وحتى 1700 كان معظم البن يستورد من إقليم مخا في اليمن. وفي القرن الثامن عشر نقل الهولنديون زراعته إلى جاوة والبرتغاليون إلى سيلان والبرازيل، والإنجليز إلى جاميكا. وساعد استخدام القهوة في التغلب على الخمول والكسل وفي شحذ الذهن، على انتشارها وإقبال الناس عليها. وافتتحت لند أول مقهى فيها في 1652، وما أوفى عام 1700 حتى كان بها 3000 مقهى (133) واتخذ كل فرد مهما كانت مكانته، أحد المقاهي محلاً مختاراً لمقابلاته بانتظام، حيث يلتقي بأصدقائه

ص: 153

ويستمع إلى آخر الأنباء والمخازي. وحاول شارل الثاني أن يحد من انتشار المقاهي ومن نشاطها باعتبارها مركز لإهاجة المشاعر السياسية والمؤامرات، لكن شهوة الحديث والشراب والاستمتاع برائحة التبغ أحبطت مساعيه. ومن بهعض المقاهي نشأت الأندية التي لعبت دوراً في سياسية القرن الثامن عشر، ثم أصبحت آنذاك ملاذاً ومهرباً من أحادية الزواج، واختلفت المقاهي الأندية التي ظهرت متأخرة عنها، لا لمجرد أن القهوة كانت المشروب المفضل فيها، بل لأن الحديث كان يلقي تشجيعاً فيها. كما أن مشاهير الأدباء مثل دريدرن وأديسون وسيفت وجدوا فيها منابرهم (في المقاهي). كما أن حرية الكلام في إنجلترا انتعشت وازدهرت هناك.

وجاء الشاي إلى إنجلترا من الصين حوالي 1650، ولكنه كان غالي الثمن. إلى حد أنه لم يحل محل البن في الحياة الإنجليزية إلا بعد قرن من الزمان. وحسب بيبز أنه إنما كان يقوم بمغامرة حين تناول أول فنجان من الشاي (134). وفي نفس الوقت استورد حب الكاكاو من المكسيك وأمريكا الوسطى. وحوالي 1658 أستحدث شراب جديد بإضافة "الفانيليا" والسكر إلى الكاكاو. وأصبحت "الشوكولاته" الناتجة عن هذا المزيج شراباً محبباً مألوفاً في فترة عودة الملكية. وكان يقدم في كثير من المقاهي.

وفي تلك الآونة دخنت التبغ كل الطبقات، بما في ذلك كثير من النساء وبعض الأولاد، في أنابيب طويلة دوماً. وظنت النساء أن لهذا التبغ بعض الفائدة في التطهير والوقاية من الطاعون. وربما نشأت عن هذه الفكرة عادة "السعوط" في تلك الأيام، أي نشوق التبغ المسحوق.

والآن وقد تخلص الناس من كابوس البيوريتانية، فقد ازدهرت الألعاب وأسباب التسلية والسيرك وصراع الديكة ومطاردة الدببة والثيران، وألعاب البهلوان على الحبال والمصارعة، والشعوذة والملاكمة والسحر، وانغمس الموسرون

ص: 154

في الصيد بنوعيه: صيد النساء وصيد الحيوان. وظل شارل الثاني يمارس لعبة التنس حتى بلغ الثالثة والخمسين. أما ايفلين فقد أحب لعبة البولنج على الأرض الخضراء، التي لا تزال منظراً محبباً لدى الإنجليز حتى اليوم. وكانت لعبة الكريكت قد بدأت تكون ذو وسيلة لقضاء وقت الفراغ في الأمة بأسرها ولأول مرة في 1661 يرد ذكر قطعة من الأرض مخصصة لهذه اللعبة، ففي تلك السنة خططت حدائق فوكسهول على الضفة الجنوبية للتيمز، وسرعان ما أصبحت منتجعاً أنيقاً على أحدث طراز. وافتتح شارل الثاني للجمهور منتزه سان جيمس، وأقيمت آنذاك حدائق هايد براك حيث يقصد إليها في الأمسيات الظريفة، علية القوم وعلى رأسهم الملك والملكة. إن "المجتمع" بدأ آنذاك يستشفي من مياه باث المعدنية.

وتنقل الناس -فيما خلا أفقر الطبقات- في عربات تجرها الجياد، التي كانت قد بدأت تؤدي خدمة بريدية منتظمة لقاء بنس في 1657، ثم استخدمت لنقل الركاب في مواعيد منتظمة في 1658، وكانت هذه العربات قد استخدمت لنقل السلع والتجارة داخل المدينة منذ 1625. وتنقل كبار الأغنياء في عربات تجرها ستة جياد. وكانوا يصطحبون ثلاث فرق من الجياد، لا لمجرد العرض وحب الظهور، ولكن لتجر العربة في الطريق الموحلة. وكانت الماشية المحلية في بعض الأحيان تربط أمام الجياد لتشد العربة وتسحبها في المستنقعات العميقة. لقد كانت الطرقات مغطاة بالأتربة أو الأوحال. إن الحانات والإنزال على جانبي الطريق، بالخليط العجيب من نزلائها من سائقي العربات والمسافرين والممثلين والبائعين واللصوص والبغايا، كانت تهيء السبيل أمام هؤلاء للإسهام في الأدب في إنجلترا وهكذا كانت تشكل إنجلترا الخشنة المحببة إلى النفس والمفعمة بالحيوية، التي عرفها دكنز في شبابه.

ص: 155

‌7 - الدين والسياسة

استمر النزاع بين المذاهب الدينية، وتجدد النزاع القديم بين الملك والبرلمان، وسط تفتح الناس وتوافر أسباب الحياة لديهم وتكاثرهم. وأحزن الملك المبتهج أن يرى مجلس العموم، بعدما ظهر في إذعان وامتثال في شهر العسل، يغار من سلطة الملك وقوته، ويقبض عنه الاعتمادات. لقد كان الملك رقيق القلب ولكنه حازم صلب العود. فولى وجهه شطر ملك فرنسا ليحصل منه على قروض خاصة، ووعد، وواضح أنه رغب -في التخفيف من ويلات الكاثوليك الإنجليز، كما وعد بتأييد لويس الرابع عشر ضد الأراضي الوطيئة، وبيع ثغر دنغر دنكرك على القنال الإنجليزي لفرنسا، وكان جنود كرومول قد استولى عليه. والحق أن الدفاع عنه كان بكلف أموالاً طائلة، وكان شوكة في جنب فرنسا. فتخلى شارل عن دنكرك (1662) مقابل خمسة ملايين فرانك بالإضافة إلى إعانات سرية من البورون، استطاع بها لبعض الوقت أن يتجاهل أوليجاركية الأرض والمال التي تحكمت في البرلمان آنذاك.

إن هؤلاء الأوليجاركيين، على أية حال، رأوا أن أموال الحكومة ينبغي أن تستخدم في شن حرب مربحة أخرى ضد الهولنديين. إن نفس المنافسة على التجارة ومصايد الأسماك التي أدت إلى الحرب الهولندية الأولى من قبل في 1652 هي التي عززت فكرة الحرب الثانية 1664. وقاوم شارل هذا الاتجاه إلى الحرب، لأطول مدة ممكنة، لأنه آثر المحبة والمودة أيما إيثار. وكتب لأخته يقول: لم أر قط مثل هذه الشهوة الجامحة للحرب في الريف والحضر كليهما، وبخاصة لدى رجال البرلمان. إني أجد أنني الرجل الوحيد الذي لا يريد الحرب في مملكتي (135) ".

لقد ساءت الأحوال. وحارب الأسطول الإنجليزي ببسالة عل الرغم من سوء تغذيته وضآلة ملابسه وذخائره، ولكنه خسر بقدر ما انتصر،

ص: 156

وفي الوقت الذي حمى فيه وطيس الحرب، ترك الطاعون والحريق لندن موحشة مقفرة، كما ترك إنجلترا مفلسة، وفي أخريات عام 1666 فتح الهولنديون باب المنازعات لعقد الصلح وسر الملك بقرب التوصل إلى تفاهم، فأرسل مندوبين إلى بريدا. ووثوقاً منه بأن الاتفاق كان وشيكاً، ومذ رأى أن أمواله على وشك النفاذ، فإنه تحيى جانباً من أسطوله في "مدواي"، وسمح للبحارة بالاشتغال في السفن التجارية. فما كان من "دي روتر" إلا أن قاد أسطولاً هولندياً إلى التيمز ومداوي ودمر معظم السفن الإنجليزية التي خلت من الرجال. ويقول بيبز أنه في تلك الليلة "كان الملك يتناول العشاء مع الليدي كاسلمين عند دوقة مونموث، وقد شغل الجميع إلى حد الجنون باصطياد فراشة مسكينة (163) " وعندما وصلت أنباء الهجوم على لندن، دعا كل رجل مفتول العضلات إلى حمل السلاح. ولكن الهولنديين كذلك رغبوا في الصلح، لأن الفرنسيين كانوا قد أغاروا على إقليم فلاندرز. وأنهت معاهدة بريدا في 21 يوليو 1667، الحرب الهولندية الثانية بشروط لم يرتح لها الجميع.

وأضعف هذا الإخفاق التام الكوارث التي توالت على لندن، مركز الملك إلى حد أن بعض الإنجليز فكروا في خلعه. وطالب البرلمان بفرض رقابة برلمانية على المصروفات الحكومة. وأذعن الملك، لأنه كان خالي الوفاض، ولأن خطوة أخرى فد اتخذت نحو سيادة البرلمان الذي طالب كذلك بعزل كلارندون، لسوء معالجته للشؤون الخارجية. ولم يكن شار يكره عزله، لأن مستشاره كان يعارض تحركه في اتجاه التسامح الديني، وينتقد انغماسه مع الخليلات، ولم يكتف مجلس العموم باستقالة كلارندون، فقدم اقتراحاً بمحاكمته بتهمة خضوعه الذليل لفرنسا. فاستمع كلارندون لنصيحة الملك، ولاذ بالفرار إلى القارة. وكانت خاتمة محزنة قاسية لرجل حفل سجل حياته بالخدمات. وكرم الشيخ الهرم منفاه بتدوين أجمل مؤلف تاريخي أخرجه الأدب الإنجليزي حتى ذاك اليوم. ووافته المنية في روان

ص: 157

(على السين في شمال فرنسا) في 1674، وهو في الخامسة والستين.

وعين الملك شارل (1668) خمسة رجال ليحلوا محل كلارندون: توماس كليفورد، إرل آرلنجتون، ودوق بكنجهام، ولورد آشلي (الذي أصبح على الفور إرل شافتسبري الأول) وإرل لودرديل. وكونت الحروف الأولى من أسمائهم لفظة " كابال Cabal" التي سميت بها الوزراة الجديدة. وكان كليفورد يعلن عن كثلكة، وكان آرلنجتون ميالاً إلى هذا المذهب، وكان بكنجهام خليعاً فاسقاً، وكان شافتسبري متسامحاً شكاكاً، أما لودرديل فكان من "رجال المواثيق" السابقين، وهو الذي فرض النظام الأسقفي بالنار والسيف، على مواطنيه الاسكتلنديين. واستمع شارل إلى آرائهم أو مشوراتهم المتعارضة. ولكن تزايد، على مر الأيام اعتماده على نفسه والتزامه برأيه الخاص.

وكان للملك هدفان أساسيان: تجديد الملكية المطلقة وإقامة الكاثوليكية ورفع شأنها في إنجلترا. ونظر بعين الأمل إلى أن الذي سيخلفه هو أخوه الكاثوليكي جيمس، وتبادل الرسائل مع زعيم اليسوعيين في روما، وأستقبل سراً مندوباً بابوياً قدم إلى لندن من بروكسل (137). وفي يناير 1669 أبلغ أخاه وكليفورد وآرلنجتون ولورد آرندل أنه يرغب في المصالحة مع كنيسة رومه، وفي إعادة كل الإنجليز إلى المذهب القديم (138). أن أخته هنريتا لم تكف يوماً على أن تحضه على أن يعلن في جرأة وشجاعة ارتداده إلى الكثلكة.

وفي مايو 1670 أرسل لويس الرابع عشر هنريتا إلى إنجلترا وفي معييتها عدد من الدبلوماسيين الدُهاة، ليعاونوها على ربط شارل بسياسة فرنسية كاثوليكية. وفي أول يونيو 1670 وقع كليفورد وآروندل وآرانجتون باسم إنجلترا معاهدة دوفر السرية. ووافق ملك فرنسا على أن يدفعوا لشارل 150 ألف فرنك عند الإعلان ارتداده إلى الكثلكة. وتزويده، عند الاقتضاء، بستة آلاف جندي تتولى فرنسا الأنفاق عليهم، وكان على شارل أن يدخل الحرب إلى جانب فرنسا ضد المقاطعات المتحدة عندما يطلب

ص: 158

إليه ذلك. على أن يتسلم من فرنس 225 ألف جنيه طيلة قيام الحرب، وكان لشارل أن يستولي على بعض الجزر الهولندية وأن يحتفظ بها، كما كان عليه أن يؤيد مطالب لويس الرابع عشر في أن يرث أسبانيا (139). وإمعاناً في خداع البرلمان والشعب في إنجلترا، بعث شارل بدوق بكنجهام إلى باريس ليصوغ معاهدة صورية زائفة وقعت في 21 ديسمبر 1670 ونشرت على الملأ، تعهدت فيها إنجلترا بالاشتراك في الحرب ضد الهولنديين، ولكن لم يرد ذكر العقيدة الدينية.

وتلكأ شارل نحو خمسة عشر عاماً في إعلان تحوله إلى الكثلكة. ولو أن أخاه أعلن تحوله إليها صراحة في 1670، ولكن آرل أنجلوت نفسه، وهو الذي يؤيد الكاثوليكية ويميل إليها، حذر الملك من إعلانه التحول إلى هذا المذهب -كما فعل أخوه- قد يعجل بقيام بثورة. ومهما يكن من أمر، فان شارل قد تحرك نحو هدفه بأن أصدره في 15 مارس 1652، إعلان التسامح الثاني، "لذوي الضمائر الرقيقة "يوقف فيه العمل" بكل القوانين العقوبات، أيا كانت في الأمور الكنسية، ضد المنشقين أو المتمردين أو المخالفين وفي الوقت نفسه أخلي سبيل كل من كانوا أودعوا السجن بسبب مخالفتهم لتشريعات البرلمان في المسائل الدينية. وبذلك أطلق سراح مئات من المنشقين، من الكويكرز. وأرسل زعماؤهم وفداً عنهم لتقديم الشكر للملك. وصعق المشيخيون والبيويتانيون حين رأوا أن الحرية الجديدة التي منحت لهم أمتد نطاقها لتشمل الكاثوليك وأنصار تجديد العماد، كما فزع الأنجليكانيون من "أن البابويين والفرق الدينية ذوات المذاهب المختلفة" يجتمعون علناً في لندن. ولمدة عام كامل نعمت إنجلترا بالتسامح الديني أو شقيت به.

وفي 17 مارس 1672 شنت إنجلترا الحرب الهولندية الثالثة. وتلك مسألة كان الملك والبرلمان كلاهما على اتفاق فيها. وأعتمد البرلمان 1250000 جنيه للحرب. على أن يسلم هذا المبلغ للحكومة على أقساط كان من الواضح أنها تعتمد على استرضاء الملك للبرلمان وموافقته على تشريعات الدينية وأعلن مجلس العموم "أن قوانين العقوبات في المسائل الديني لا يمكن إبطال العمل

ص: 159

بها إلا بقانون يسنه البرلمان. وطلب إلى الملك طلباً بسحب إعلان التسامح ومذ كان لويس الرابع عشر يتوق إلى أن يرى إنجلترا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، تأييداً للحرب ضد الهولنديين، فإنه نصح الملك شارل بإلغاء إعلان التسامح حتى تنتهي الحرب على الفور، وأذعن شارل، والغي الإعلان في 8 مارس 1673.

ومن المحتمل أنه في هذا الوقت، ترامت إلى زعماء البروتستانت أنباء معاهدة دوفر السرية أو اشتموا رائحتها والرغبة في الحيلولة دون تحول الملك إلى الكثلكة، سن المجلسان كلاهما "قانون الاختبار" الذي ينص على أنه يجب على كل أصحاب الوظائف المدنية والعسكرية في إنجلترا أن يقسموا علناً على تخليهم عن النظرية الكاثوليكية التي تقوم ينحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه وأن يتناولوا الأسرار المقدسة طبقاً للطقوس الأنجليكانية وكافح كليفورد هذا المشروع بضراوة، وبعد إقراره استقال من الحكومة، وآوى إلى ضيعته، وما لبث حتى مات انتحراً كما يظن ايفلين. أما شافتسبري فقد عضده بكل قوة، وعزل من الوزارة، فجعل من نفسه زعيماً" لحزب الريف" الذي ناهض، بعنف يقارب الثورة، "حزب البلاط" الذي كان يؤيد الملك. وبذلك قضي على الوزارة "الكابال"(1673). وأصبح آرل دنبي كبير الوزراء.

واعتزل جيمس كل مناصبه الحكومية. وخفف من حدة المعارضة ضده بعض الشيء، أنه على الرغم من أن زوجنه الأولى ارتضت الكثلكة مذهباً من قبل، فإن ابنتيها- الملكة ماري والملكة آن فيما بعد -نشأتا على المذهب البروتستانتي. لكن زواجه آنذاك (30 سبتمبر 1663) من أميرة كاثوليكية أثار ضده حملة من أقسى الاتهامات. تلك هي الأميرة ماري مودينا التي دمغت بأنها "كبرى بنات البابا"، والمفروض أنها لا بد أن تنشأ أولادها على الكاثوليكية. وفي الحال قدمت إلى البرلمان مشروعات قوانين تقضي بتنشئة أبناء الأسرة الملكة على المذهب البروتستانتي.

ص: 160

إن تطور الأحداث على هذا النحو أثار سخط إنجلترا على الحزب ضد القطاعات المتحدة وجعلها تحس بالمرارة، فلو أن ملك إنجلترا كان كاثوليكياً لأنحاز إن آجلاً أو عاجلاً إلى جانب فرنسا في تدمير الجمهورية الهولندية تدميراً، تلك الجمهورية التي لم تبد الآن منافساً تجارياً، بل بدت معقل البروتستانتية في القارة، فإذا سقط هذا الحصن الحصين فكيف يتسنى للبروتستنتية الإنجليزية أن تثبت وأن تقاوم؟ وفوض شارل عن طيب خاطر، سير وليم تمبل في توقيع صلح منفرد مع الهولنديين. وفي 6 فبراير 1674 وقعت معاهدة وستمنستر التي أنهت الحرب الهولندية الثالثة.

‌8 - المؤامرة البابوية

وأعقبت هذه الأحداث فترة كادت أن تتسم بالصفاء والتعقل. وحيث تسلم شارل من لويس الرابع عشر مبلغا إضافياً قدره 500 ألف كراون، فإنه عطل البرلمان المتعب من أجل، وعاد إلى عشيقاته. ولكن السياسة لم تتوقف. فان شافتسبري وغير من زعماء المعرضة أسسوا في 1675 "نادي الوشاح الأخضر". ومن هذا المركز نشر "حزب الريف" دعايته دفاعاً عن البرلمان والبروتستانتية ضد ملك يتآمر على فرنسا الكاثوليكية، ووريثه الذي زف علنا زوجة كاثوليكية. وفي 1680 أطلق على رجال حزب الريف اسم Whigs

(1)

، وعلى المدافعين عن سلطة الملك Tories وبدا الملك شارل أن شافتسبري "أضعف الرجال وأخبثهم (141) ". وقال عنه بيرنت "أن علمه سطحي هزيل، وأن غروره سخيف، وأن

(1)

من الواضح أن هويج اختصار لكلمة "هويجامور" ةهذا أسم عصبة من الاسكتلنديين نشطت في مقاومة شار الأول (1648). أما توري فهي لفظة أيرلندية معناه لص. وقد أطلقها تيتسي أوتس على "حزب البلاط" لأول مرة (1680)(140).

ص: 161

عقليته تافهة (142)" ولكن جون لوك الذي عاش مع شافتسبري لمدة خمسة عشر عاماً رأى أنه مناضل باسل جرئ عن الحرية المدنية والدينية والفكرية االفلسفية. وقال عنه بيرنت أنه يدين بالربوبية (مذهب طبيعي يقوم على العقل لا على الوحي) وقد يحق لنا أن نرتاب في ديانته من قوله هو نفسه "ليس للعقلاء من الرجال إلا دين واحد"، فلما سألته إحدى السيدات، وما هو، كان جوابه "أن عقلاء الرجال لا يفصحون عنه قط" (143).

وخفت حدة التوتر الديني بعض الشيء في 1667، حين تزوج وليم أورنج من ماري البروتستانتية كبرى بنات دوق يورك. فإذا ظل جيمس دون عقب ذكر، فان ماري سوف تخلفه، في وراثة العرش، ومن ثم ترتبط إنجلترا بهولندا البروتستانتية بحكم المصاهرة، ولكن في 28 أغسطس 1686 مثل تيتس أوتس أمام الملك وأعلن أنه أكتشف "مؤامرة بابوية: ذلك أن البابا وملك فرنسا ورئيس أساقفة أرماج واليوسوعيون في إنجلترا وأيرلندا وأسبانيا كانوا يدبرون قتل شارل وخلع أخيه، وفرض الكاثوليكية في إنجلترا بحد السيف، وأن ثلاثة آلاف سفاح سيتولون ذبح زعماء البروتستانت في لندن، وأن لندن نفسها -قلعة البروتستانتية- كانوا يدبرون إحراقها عن آخرها.

كان أوتس، وهو آنذاك في التاسعة والعشرين من العمر، ابن أحد أنصار تجديد العماد. وكان قد أصبح قسيساً أنجليكانياً، ولكنه فصل من وظيفته الكنيسة لسوء سلوكه (144). ثم قبل -أو تظاهر بقبول- التحول إلى الكثلكة. وكان قد درس في الكليات اليوسوعية في بلد الوليد (أسبانيا) وسانت أومر حيث فصل أيضاً. آخر الأمر (145)، وفي نفس الوقت، زعم الآن أنه كان قد اطلع على خطط الجوزيت السرية لغزوا إنجلترا. واعترف أنه شهد في 24 أبريل 1678 مؤتمراً يسوعياً في لندن، نوقشت فيه

ص: 162

وسائل قتل الملك. وعدة أسماء خمسة من النبلاء الكاثوليك، على أنهم مشتركون في المؤامرة هم: أروندل، بويس، بتر، ستافورد، بللاسيس. وعندما أضاف أوتس بللاسيس هذا كان سيمين قائداً عاماً لجيش البابا، ضحك شارل ساخراً، حيث كان بلاسيس طريح الفراش بداء النقرس. وخلص الملك إلى أن أوتس لفق القصة كلها أملاً في الحصول على مكافأة، وصرفه من حضرته.

ولكن المجلس المخصوص ارتأى أنه من الحكمة أن يفترض بعض الصدق في الاتهامات، واستدعى أوتس ليمثل أمامه في 28 سبتمبر. وخشي أوتس أن يزج به السجن، فقصد إلى قاضي الصلح سيراد موند بري جودفري وأدعه اعترافاً خطياً مقروناً بقسم، فصل فيه المؤامرة تفصيلاً. وأصدر المجلس، متأنراً بهذه الأدلة، أوامر بالقبض على عدد من أنصار البابوية الذين تضمنهم اعتراف أوتس. وكان من بينهم أدوارد كزلمان الذي كان لعدة سنوات (حتى عزل بأمر من الملك) سكرتير دوقة يورك. وأحرق كولمان بعض أوراقه قبل القبض عليه، ولكن الأوراق التي لم يكن لديه متسع من الوقت لإحراقها أوضحت أن كولمان والأب لاشيز لويس الرابع عشر، تبادلا من الرسائل ما يعبر عن أمل الطرفين (شارل ولويس) في أن تصبح إنجلترا كاثوليكية في أسرع وقت وفي هذه الرسائل أقترح كولمان أن يرسل إليه "لويس الرابع عشر أموالاً ليكسب بها أعضاء البرلمان إلى جانب قضية الكثلكة، ثم أضاف "أن نجاحنا سوف يكون ضربة شديدة للعقيدة البروتستانتية، لم تتلق مثلها منذ نشأتها .... تلك هي تحول ثلاثة ممالك. ون ثم، فربما كان في هذا القضاء التام على هذه الهرطقة الوبيلة (146) إن إعدام كولمان لمعظم أوراقه حدا بالمجلس إلى الاعتقاد بأن كولمان على علم بالمؤامرة التي وصفها أوتس، وربما كان شريكاً فيها. واستنتج شارل نفسه من تلك الرسائل، وجود مؤامرة حقيقية بشكل ما.

ص: 163

وفي 12 أكتوبر اختفى القاضي جودفري، وبعد خمسة أيام وجدت جثته في أحد الحقول في الضواحي. وبات من الواضح أنه قتل. بيد عملاء مجهولين، ولأسباب غير معروفة حتى الآن، ولكن البروتستانت نسبوا القتل إلى الكاثوليك الذين كانوا يأملون في الحيلولة دون نشر اعترافات أوتس. ويبدو أن هذا الحادث أكد الاتهامات. وفي هذا الجو الذي سادته الريبة وعدم الثقة، الذي خلقته معاهدة دوفر السرية، والخوف من اعتلاء جيمس عرش إنجلترا، كان طبيعياً أن تصدق إنجلترا البروتستانتية آنذاك كل ما جاء على لسان أوتس من اتهامات، وأن يعتريها نوبة من الجنون بدمعها أن حماية البروتستانت تتطلب اعتقال كل فرد من أورد أوتس ذكرهم في المؤامرة، إن لم يكن إعدامهم.

وبدأت فترة من حكم من حكم الإرهاب امتدت لنحو أربع سنوات. وفر جيمس إلى الأراضي الوطيئة وتسلح أهالي لندن استعداد لمقاومة أي غزو متوقع. ونصبت المدافع في هويتهول. واتخذ الحراس أماكنهم في الأقبية والسراديب تحت مبنى البرلمان بمجلسية ليحولوا دون "مشروع بارود" آخر لنسف المبني. وأقر البرلمان قانوناً لطرد الكاثوليك من مجلس اللوردات، وكرم أوتس بوصفه "مخلص الأمة" وكافأه بتخصيص معاش سنوي له قدره 1200 جنيه لمدى الحياة ومنحه مسكناً في قصر هويتهول. وسرعان ما ازدحمت السجون باليسوعيين والكهنة غير المنتسبين إلى رهبنات، والكاثوليك العلمانيين الذين أورد ذكرهم أوتس أو وليم بدلو الذي ظهر، مدعياً العلم لأشياء تؤكد صحة اتهامات أوتس.

وفي 24 نوفمبر وضع أوتس أمام اتهاماً جديداً مروعاً، ذلك أنه كان قد سمع الملكة تبدي موافقتها على قتل زوجها بالسم، بيد طبيبها الخاص. وهنا أخذه شارل بهذه الكذبة الصارخة. وفقد ثقته في أقواله كلها، وأمر بالقبض عليه. ولكن مجلس العموم أمر بالإفراج عنه، وبالقبض على ثلاثة من خدم الملكة. واقترع على إصدار بيان يطالب

ص: 164

بعزلها. وقصد الملك إلى مجلس اللوردات ودافع عن إخلاص زوجته وولائها، وأقنع اللوردات بالامتناع عن الموافقة على بيان النواب. وفي 27 نوفمبر حوكم كولمان وكاثوليكي علماني آخر، وثبتت إدانتهما وأعداما. وفي 17 ديسمبر أعدم ستة من اليسوعيين وثلاثة من الكهنة المنتسبين إلى رهينات. وفي 5 فبراير 1679 شنق ثلاثة رجال بتهمة قتل جودفري. وثبت فيما بعد براءة هؤلاء الاثني عشر.

وتزايدت الحملات اقتراباً من الملك، ففي 19 ديسمبر 1678 تلقى البرلمان من باريس أنباء تفيد أن دانبي كان قد تسلم من لويس الرابع عشر مبالغ طائلة من المال. ورفض لوزير إيضاح أنها كانت إعانات فرنسية للملك. ووجه مجلس العموم الاتهام إلى الوزير. وخشي الملك الحكم على مستشاره قد التأم بالإعدام، فحل، وفي 24 يناير 1679 "برلمان الفرسان" الذي كان قد التأم على فترات متقطعة، ولمدة ثمانية عشر عاماً، أي أنه كان أطول من "البرلمان الطويل".

ولكن برلمان "الهويج" الذي اجتمع في 6 مارس، كان في عدائه للكاثوليكية وللملك، أشد اندفاعاً وتحمساً من البرلمان السابق. واتهم مجلس العموم دانبي بالخيانة العظمى، ولكن اللوردات أنقذوه بزجه في سجن لندن، حيث قضى فيه، في هدوء وقلق، السنوات الخمس المضطربة التالية. وبناء على نصيحة سير وليم ثمبل، عين شارل مجلساً جديداً من ثلاثين عضواً، بينهم-رغبة في تخفيف حدة المعارضة-زعيماً حزب الهويج: شافتسبري رئيساً للمجلس. وسعياً وراء المزيد من تهدئة لعاصفة، عرض الملك على البرلمان تسوية بديلة لاستبعاد أخيه عن العرش: ألا يسمح لأي كاثوليكي بمقعد في البرلمان أو بتولي منصب قيادي يتطلب الثقة، وألا يكون للملك حق التعيين في المناصب الدينية، وأن يخضع تعيين القضاء لموافقة البرلمان. وأن يكون للبرلمان حق الرقابة والإشراف

ص: 165

على القوات البرية والبحرية (147). ولكن البرلمان أحس بشيء من الارتياب وعدم الثقة في موافقة جيمس على مثل هذه الاتفاقية. وفي 11 مايو قدم شافتسبري نفسه أول مشروع قانون لاستبعاده (جيمس) في عبارة واضحة جلية لا لبس فيها "إسقاط حق دوق يورك في وراثة التاج الإمبراطوري لهذه المملكة". وكان موضع فخر وشرف للبرلمان أنه في 26 مايو توسع في حق التحقيق في قانونية الاعتقال: بمعنى أنه يمكن الإفراج بكفالة عن أي سجين، فيما عدا المتهمين بالخيانة أو بجناية، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يحاكم المتهم في الدورة التالية للمحكمة، وألا أطلق للمحكمة، وألا أطلق سراحه. وكان ينبغي أن يحاكم أن تنتظر 110 سنوات حتى تنعم بضمانات مماثلة ضد الاعتقالات التعسفية. وفي 27 مايو خشي الملك إقرار "مشروع قانون الاستبعاد" فحل البرلمان.

ولم يكن حق التحقيق في قانونية الاعتقال مجدياً بالنسبة لأنصار البابوية الذين اتهمهم أوتس، لأنهم حوكموا مع شيء من التباطؤ، حتى إذا أدينوا بالخيانة أعدموا في سرعة غاضبة، وحشد الكثير منهم إلى المقصلة أو ساحة الإعدام طيلة عام 1679، وكانت محاكمتهم سريعة جداً لأن القضاة الذين روعتهم صيحات الجموع المتعطشة للدماء خارج المحكمة، أدانوا كثيراً من المدعي عليهم دون تمحيص الأدلة أو مواجهة الشهود بعضهم بعض. وهب الشهود المزيفون الذين أغراهم ما أغدق على اوتس من مكافأة، وكأنما هبوا من مرقدهم، وأقسموا بأغلظ الإيمان على ما يقولون: فروي أحدهم أن جيشاً من ثلاثين ألفاً كان قادماً من أسبانيا، وقال آخر أنهم وعدوه بخمسمائة جنيه وبضمه إلى قائمة القديسين إذا هو أطاح برأس الملك، وذكر شاهد مزيف ثالث بأنه كان قد سمع أحد رجال المصارف الكاثوليك الأثرياء يأخذ على نفسه عهد بأن يقوم بمثل هذا العمل (148). ولم يسمح للمتهم بأي محام أو مستشار قانوني. ولم يبلغ بما نسب إليه إلا في يوم المحاكمة. وكان يفترض أنه مذهب حتى يستطيع أن يثبت براءته (149). وحتى تسهل

ص: 166

الإدانة أحيوا قانوناً قديماً كان معمولاً به في عهد اليزابيث: وهو أن وجود أي كاهن في إنجلترا جريمة عقوبتها الإعدام. وكانت الجموع المحتشدة حول مبنى المحكمة تصرخ وتولول في وجوه شهود الدفاع استهجاناً، وتقذفهم بالحجارة، ويهتفون ويهللون فرحاً عند إعلان الحكم بالإدانة (150).

فتوكل هذا في عضد شارل، وكان امتحاناً قاسياً للملك الذي غمرته يوماً البهجة والفرح، والذي رأى الآن كل آماله تنهار، وسلطاته تنتقص، وزوجته تعاني الإذلال، وأخاه يبوء بالاحتقار والازدراء وينحى. وفي ذروة العاصفة خر شارل مريضاً مرضاً خطيراً حتى توقعوا موته بين ساعة وأخرى، واستدعى هاليفاكس جيمس من بروكسل، ولكن زعماء الهويج أمروا الجيش بالحيلولة دون عودته. واتفق شافتسبري ومونمورث ولورد رسل ولورد جراي على أنهم-في حالة وفاة شارل-، سيتزعمون عصياناً مسلحاً لمنع أخيه من ارتقاء العرش (151). وتظاهر شارل بأنه أبل من مرضه، وابتسم للمخاوف التي ساورت جني أعداءه الذين توقعوا موته. والحق أنه لم يبرأ من علته قط.

وبقي العداء للكاثوليك على أشده حتى تخبط أوتس أثناء محاكمة سير جورج ويكمان طبيب الملكة. ففي شهادته أمام المجلس كان قد برأ الطبيب، ولكنه في المحاكمة اتهمه بتدبير دس السم للملك. واكتشف هذا التناقض في الأقوال قاضي سكرجوز الذي سبق له أن تولى محاكمة الكاثوليك بمنتهى الشدة. وصدر الحكم ببراءة ويكمان، ومن ثم سارت شهادة أوتس تسمع في مزيد من التدقيق، وامتنع الشهود المزيفون الذين كانوا يعززون أقواله، عن مساندته. وكان إعدام أوليفر بلنكت رئيس أساقفة آرماج الكاثوليكي، آخر إجراءاتكم في حركة الإرهاب التي قامت ضد الكاثوليك (1 يوليو 1681).

ولما خفت وطأة الرعب والانفعال تأكد لدى بعض عقلاء الرجال أن

ص: 167

أوتس، عن طريق الريب التي لا تستند إلى أساس من ناحية ومن ناحية أخرى عن الأكاذيب، عجل بإرسال كثير من الأبرياء إلى الموت قبل الأوان. وانتهوا إلى أنه لم يسكن ثمة تدبير لقتل الملك أو ذبح البروتستانت أو إحراق لندن. ولكنهم أحسوا بأنه كانت هناك مؤامرة حقيقية، كاثوليكية، وأن لم تكن "بابوية": تلك هي أن أركان الحكومة دبروا، أو راودهم الأمل، بمساعدة أموال (أو جنود إذا لزم الأمر) من فرنسا، أن يقضوا على عجز الكاثوليك وعدم أهليتهم الشرعية في إنجلترا، ويحولوا الملك إلى الكاثوليكية، ويثبتوا حق أخيه الذي تحول فعلاً في ارتقاء العرش، ويستخدموا أن كل هذا تضمنته معاهدة دوفر السرية التي وقعت من قبل في 1670 وكان شارل قد تراجع عن هذه الاتفاقية. ولكن رغباته لم تتبدل ولم يتخل عنها قط، وظل مصمماً على أن يعتلي أخوه عرش إنجلترا ويكون ملكاً عليها.

‌9 - خاتمة الملهاة

أما شافتسبري فقد وطد العزم على نقيض ما يبتغيه الملك. لقد اعترف كولمان أثناء محاكمته بأن جيمس علم أمر المراسلات المتبادلة بينه وبين الأب لاشيز، وأقرها (152). وأحس شافتسبري بأن ارتقاء جيمس عرش إنجلترا لا بد أن يحقق المرحلة الأولى من "المؤامرة البابوية" وعرض أن يساند شارل ويقف إلى جانبه إذا هو طلق الملكة العقيم وتزوج من بروتستانتية قد ينجب منها ابناً بروتستانتياً. وأبى شارل أن يدع كاترين دي براجانزا تكرر الدور الذي لعبته كاترين أوف أراجون. فولى شافتسبري وجهه شطر دوق مونمورث الابن غير الشرعي للملك، الذي لم يغفر قط أبيه خداعه وإبعاده عن العرش بتقصيره في الزواج من أمه. ونشر شافتسبري فكرة أن شارل كان بالفعل قد تزوج من لوسي والتر، وأن دوق مونمورث

ص: 168

هو الوريث الشرعي للعرش. فما كان من شارل إلا أن كذب هذا بإعلانه أنه لم يتزوج قط إلا من كاترين أوف براجانزا، وإذ وجد أن شافتسبري خصم عنيد، فإنه أقصاه عن مجلس المخصوص (13 أكتوبر 1679).

وأثناء توالي الأزمات ولمحن على هذا النحو كاد شارل أن يبدل من خلقه ومن شخصيته، فودع حياة البهجة والدعة. وباع أسطبلاته، وانصرف بكليته إلى الإدارة والسياسة، وحارب أعداءه بتراجع محكم التدبير، حتى جاوزوا حدودهم فانتهوا إلى الفشل إن الملك في سنواته الخمس الخيرة أبدى من قوة العزيمة والمقدرة ما أدهش حتى الأصدقاء. وإذ عاودته الطمأنينة والثقة فقد دعا برلمانه الرابع.

واجتمع البرلمان في 21 أكتوبر 1680. وأقر مجلس العموم في شهر نوفمبر "مشروع قانون الاستبعاد" الثاني، وقدم إلى مجلس اللوردات. وهنا تحول هاليفاكس الذي كان يصوت حتى تلك اللحظة إلى جانب "حزب الهوبج" نقول تحول الآن إلى جانب الملك، وبدأ يحظى بقلب "القلب الحول" ويزهو ويختال به. إنه كان يبغض جيمس ويرتاب في الكاثوليكية، ولكنه اتفق مع شارل في ضرورة الإبقاء على مبدأ الملكية الوراثية. كما خشي أن يقود شافتسيرى إنجلترا إلى حرب أهلية ثانية (153). ومن ثم فإنه بفصاحته ومنطقه في المناقشة الطويلة التي جرت بشأن "مشروع قانون الاستبعاد" أقنع اللوردات برفض المشروع. ورد مجلس العموم على هذا، برفض الموافقة على أية اعتمادات مالية للملك، وحظر على التجار والمصارف إقراضه أية أموال، وحاكم هالي فاكس وسكروجز وفيكونت ستافورك وهو أحد اللوردات الخمسة المعتقلين في سجن لندن. وحكم على ستافورك بالإعدام بناءً على شهادة أوتس، وضرب عنقه في 7 ديسمبر. وفض الملك البرلمان في 18 يناير 1681.

وبدلاً من أن يضحي شارل بأخيه بسبب حاجته إلى المال، اعتزم شارل أن يمول الحكومة بأن يصبح من جديد أسيراً للملك الفرنسي لويس الرابع

ص: 169

عشر. وارتضى أن ينظر في شيء من التجلد ورباطة الجأش إلى سياسة فرنسا العدوانية، مقابل 700 ألف جنية (154) - وهو مبلغ يغنيه لمدة سنوات عن إعانات البرلمان وإعتماداته. فلما أحس بالقوة دعا برلمانه الخامس. ولكي يحرمه من تأييد جمهور لندن وقوات الطوارئ فيها، فإنه، أي الملك أمر باجتماعه في أكسفورد. وهناك التقى الجمعان مدججين بالسلاح: شارل مع عدد كبير من حرسه، وزعماء الهويج مع أتباعهم حاملين السيوف والمسدسات رافعين أعلاماً كتب عليها "لا بابوية ولا عبودية" وأقر مجلس العموم في الحال "مشروع قانون الاستبعاد" الثالث، ولكن قبل أن يصل المشروع إلى مجلس اللوردات حل شارل البرلمان (28 مارس 1681).

وتوقع كثير من الناس أن يلجأ شافتسبري الآن إلى الحرب الأهلية. أما الرأي العام الذي استرجع في ذاكرته أحداث 1642 - 1660 فقد تحول عنه وانحاز إلى صف الملك. ودافع رجال الكنيسة الأنجليكانية دفاعاً مجيداً عن حق جيمس الكاثوليكي في ارتقاء العرش. وعندما حاول شافتسبري أن يعيد تنظيم صفوف النواب المشتتين في ميثاق ثوري (155)، أمر شارل باعتقاله، ولكن هيئة المحلفين برأته (24 نوفمبر) وعلى الرغم من أنه كان آنذاك مريضاً بدرجة لا يكاد معها يقوى على المشي، فإنه انضم إلى دوق مونموث في ثورة علنية (156). وأمر الملك باعتقالهما كليهما وهرب شافتسبري من سجن لندن، وفر إلى هولندا، وهناك وافته منيته (21 يناير 1683) بعد أن أنهكته الأحداث، ولكنه خلف وراءه صديقة لوك، ليتابع في مجال الفلسفة، المعركة التي لم يكتب لها لبعض الوقت التوفيق في ميدان السياسة.

وصفح شارل عن مونموث، ولكنه لم يغتفر قط للمحلفين في لندن تبرئتهم لشافتسبري. والآن وقد تحول الملك النشوان إلى شخص آخر، وكان متطرفاً في تحوله هذا، فإنه عقد العزم على تحطيم استقلال المدن التي ترعرعت فيها فكرة الهويج (الأحرار) بل الفكرة الثورية، فأمر

ص: 170

بمراجعة المواثيق والعهود القوانين التي هيأت للأجهزة البلدية الخروج على الإرادة الملكية، ووجد بالفعل في هذه بعض النقص والخلل من الوجهة التشريعية، فأعلن إلغاؤها جميعاً، وصدرت عهود وقوانين جديدة تنص على أن يكون للملك حق الاعتراض وحق عزل كل الموظفين الذي ينتخبون لهذه الهيئات البلدية (1683). وخضعت الآن حرية الكلام وحرية الصحافة لقيود جديدة، وبدأت موجة اضطهاد المنشقين - لا الكاثوليك: لأن معظم المنشقين كانوا من الأحرار (الهوبج). وفي إسكتلندة قاد جيمس حملة التعذيب بنفسه، وبدا أن انتصار حقوق الملك على إصلاحيات البرلمان بات انتصاراً ساحقاً كاملاً، وأن إنجازات الثورة الكبرى كان واضحاً أنه ينبغي التضحية بها في نكسة أو رد فعل تؤيده أمة تخشى تجدد الحرب الأهلية. وعكس هاليفاكس شعور البلاد حين تخلى عن شافتسبري، وإنجاز بحكمته المعتدلة البعيدة عن التطرف إلى جانب الملك ليكون في خدمته (1682 - 1685) فكان حامل الأختام الملكية.

وقام أتباع شافتسبري بمحاولة أخيرة. ففي يناير 1687، اجتمع دوق مونموث وإرل اسكس وإرل كارليل، ووليم لورد رسل وألجرنون سدني في دار جون همدن (حفيد بطل الحرب الأهلية) ورسموا الخطط لتطويق جيمس والتغلب عليه، وقتل شارل إذا لزم الأمر وراود سدني أمل التقديم إلى خطوة أبعد، وهي إعادة إقامة الجمهورية الإنجليزية. وكان حفيد أحد أخوة سير فيليب سدني (رئيس الفروسية)، وحارب في صف البرلمان أثناء الحرب الأهلية وجرح في مارستن مور. وعين عضواً في اللجنة التي شكلت المحاكمة شارل الأول، ولكنه رفض العمل بها على اعتبار أن الشعب لم يمنح اللجنة سلطة محاكمة الملك. وألقى نفسه في القارة حين عادت الملكية، فظل بها، مشغولاً بدراساته وأبحاثه، وتدبير المؤامرات ضد شارل الثاني وفي الحرب الهولندية الثانية حرض الهولنديين في غزو إنجلترا، وعرض خدماته على الحكومة الفرنسية ليشعل نار الثورة في إنجلترا إذا أمدته الحكومة الفرنسية بمائة

ص: 171

ألف كراون (157). وفي 1677 سمح له شارل بالعودة ليشهد وفاة والده، وبقي في إنجلترا وانضم إلى "حزب الريف"(الأحرار، الهويج). وفي كتابه "مقالات عن الحكومة"(الذي كتب 1681 ولم ينشر إلا في 1688) دافع سدني عن المبادئ شبه الجمهورية، واستبق لوك في مهاجمته دفاع فلمر عن حقوق الملوك الإلهية، وأكد حق الشعب في محاكمة الملوك وخلعهم. ومن الواضح أن سدني ورسل، كليهما تسلما أموالاً من الحكومة الفرنسية التي كان يهمها أن يظل شارل مشغولاً بمشاكله الداخلية (158).

وصح عزم "مجلس الستة" على أسر الملك. وكان معروفاً أنه سيشهد سباق الخيل في شهر مارس في نيوماركت. وكان لابد له، لدى عودته إلى لندن من أن يمر "براي هاوس" في هودزدون في شمال المدينة، فتقرر أن تسد عربة محملة بالحشائش الجافة الطريق في هذا المكان، ومن ثم يمكن أسر الملك وربما أسر أخيه معه كذلك، حيين أو ميتين. ولكن في 22 مارس شب حريق في ميدان السباق، وانتهت المسابقات قبل موعدها المقرر بأسبوع، وعاد الملك سالماً إلى لندن قبل أن يعد المتآمرون عدتهم. وخشي أحدهم افتضاح الأمر وراوده الأمل في العفو، فأفضى بسر المؤامرة إلى الحكومة (12 يونيه). وقبض على كارليل فأكد الاعتراف وعفوا عنه. واحتج مونموث بأنه برئ، وعلى الرغم من أن شارل على علم اليقين أن ابنه كاذب فيما يقول، فإنه ألغى أمر اعتقاله. أما رسل فحوكم وثبتت إدانته وأعدم (21 يوليه 1683). وانتحر اسكس في السجن. وعندئذ قال الملك "ما كان له أن يقنط من الرحمة، فإني مدين له بحياة (159) " فقد مات أبوه من قبل من أجل شارل الأول. وشنق عدد من صغار المشتركين في "مؤامرة راي هاوس" وأخذ سدني بجرم لم يقم عليه دليل كاف من الناحية القانونية، ودافع عن نفسه دفاعاً مجيداً، وقابل الموت بصدر رحب (7 ديسمبر). وكان شعاره "يدي هذه هي عدوة الطغاة". ولكنه كان قد اختار سيفاً

ص: 172

ذا حدين. ونطق وهو على المشنقة بكلمات تستحق الذكر: "إن الله ترك للشعوب حرية إقامة الحكومات كما تشاء (106) ". ورفض أية طقوس دينية قائلاً أنه سلام مع الله فعلاً.

لقد انتصر شارل ولكنه كان مشرفاً على النهاية، ونعم، مع جهد مضن، بشعبية جديدة، وكانت اقتصاديات إنجلترا قد ازدهرت في عهده، أما الآن، والبلاد تتطلع إلى هدوء سياسي، فقد ركنت إلى ملك كان يمثل بقاء الأمة ونظامها، ولو كان معنى هذا لفترة من الزمن "ملكاً كاثوليكياً". وغفرت إنجلترا لشارل أخطاءه، حين رأته ينهار ويذبل قبل الأوان. واتفقت معه، بعض الشيء، على أن الحكومة الانتخابية - لا الملكية الوراثية - مدعاة للاضطراب والهرج اللذين يصاحبان انتخاب الحاكم عندما يحين موعده. واحترمت فيه إخلاصه لأخيه، حتى في الوقت الذي حزنت فيه لنتيجة هذا الإخلاص، ورأت جيمس منتصراً، ورأته ثانية قائداً أعلى للأسطول، يتعقب أعداءه ليثأر منهم. وفي يناير 1685 رفع جيمس دعوى مدنية ضد تيتس أوتس يطالبه فيها بتعويض قدره مائة ألف جنيه. وكسب جيمس القضية. ولما كان أوتس عاجزاً عن الدفع فقد أودع السجن. وقال شارل في حزن بالغ "لست أدري ماذا سيفعل أخي عندما ينتهي الأجل وأفارق الحياة. أخشى ما أخشاه أنه عندما يأتي ليضع تاج الملك على رأسه، أن يرغم على العودة من حيث أتى. على أني سأعني العناية كلها بأن أترك له مملكة يسودها السلام، وكل أملي أن يحتفظ لها بهذا السلام لأمد طويل. ولكن هذا يثير كل مخاوفي، ولست أؤمل فيه كثيراً، بل لا يكاد أمل يدور بخلدي أنه سيتحقق (161) ". ولما اعترض جيمس على تجول شارل حول لندن راكباً عربته دون حرس، أمره شارل أن يهدئ من روعه:"لن يقتلني أحد ليجلسك أنت على العرش (162) ".

ولا بد أنه اعترض على الأطباء. فإنه في 2 فبراير 1685 أصيب بحالة تشنج واضطراب شديدة، شوهت وجهه، وجعلت فمه، يرغى، وأجرى

ص: 173

له دكتور كنج عملية فصد بشق أحد الأوردة. وكان لهذا نتيجة طيبة. ولكن مرافقي الملك استدعوا ثمانية عشر طبيباً آخرين ليشخصوا الداء ويصفوا الدواء. وطيلة خمسة أيام في عذاب اليم، استسلم الملك للحملة التي جردوها عليه مجتمعين. فبزلوا أوردته، ووضعوا كؤوس الحجام إلى كتفيه. وقصوا شعره ليزيلوا البثور والقروح من جلدة رأسه، ووضعوا على باطن قدميه لصوقاً من القاروروث الحمام. وقال مؤرخ طبيب "ولكي يزيلوا النزوات من مخه نفخوا في أعلى خياشيمه الخريق (وهو عشب جميل الزهر) ثم جعلوه يعطس. ولكي يتقيأ صبوا في حلقه الأنتيمون وسلفات الزنك. ولتنظيف أمعائه أعطوه مطهرات قوية، وعدداً من الحقن الشرجية في تعاقب سريع (163).

ونادى الملك الذي يحتضر زوجته التي عاشت في شقاء عقيم، ولم يدرك أنها جاثية في أسفل الفراش تدلك قدميه. في 4 فبراير قدم له بعض الأساقفة الأسرار الدينية الأخيرة وفقاً للطقوس الأنجليكانية، ولكنه رجاهم أن يكفوا، ولما سأله أخوه، هل يريد كاهناً كاثوليكياً أجاب "نعم، نعم، من كل قلبي (164) " فأرسلوا في طلب الأب جون هدلزتون الذي كان قد أنقذ حياة شارل في معركة وورسيستر، كما أن شارل كان قد أنقذ حياة الأب جون أيام "الإرهاب البابوي" وأعلن شارل اعتناقه للمذهب الكاثوليكي، واعترف بذنوبه وخطاياه، وعفا عن أعدائه وطلب المغفرة من الجميع. ومسحوه مسحاً تاماً بالزيت المقدس، وتلقى الأسرار المقدسة. وطلب الصفح والعفو، بخاصة من زوجته، ولكنه كذلك أوصى أخاه خيراً بالسيدة لويز كيرووال وأبنائه (منها) طلا تترك تلك المسكينة تتضور جوعاً (165) " واعتذر لمن حوله عن أنه قضى مثل هذا الوقت الطويل بشكل غير معقول، وهو يعاني سكرات الموت (166).

وعندما ظهر اليوم السادس من فبراير، كان دوق يورك ملكاً.

ص: 174

الفصل العاشر

‌الثورة الجليلة

‌1685 - 1714

1 -

الملك الكاثوليكي

1685 -

1688

من ذا الذي كان يستطيع أن يتخيل حين يقع بصره على الصورة (1) التي رسمها فانديك في اللونين الأزرق والذهبي لدوق يورك وهو في الثانية من عمره أن هذا الطفل البريء الحي سيقضي قضاء مبرماً على أسرة ستيوارت ويكمل آخر الأمر، وفي "الثورة الجليلة" انتقال السلطة من الملك إلى البرلمان، وهو ما كان أبوه قد بدأه بشكل مخز من قبل؟ ولكن في الصورة التي رسمها ريلي (2) للشخص عينه تحت اسم جيمس الثاني، نجد أن الحياء قد انقلب إلى ذهول وارتباك. وأن الحساسية تغيرت إلى عناد وتصلب، وأن البراءة تحولت بين أعضاء العشيقات المذعنات الطيعات إلى لاهوت جامد لا ينثني. فما كان إلا أن حدد هذا الخلق لصاحبه مصيراً كان كل فريق يناضل من أجل ما يبدو له هو أنه حق، ومن ثم يستحق منا بعض العطف.

لقد أوردنا من قبل ذكر فضائل جيمس الثاني، فكم من مرة عرض نفسه لخطر الموت في عمله في البحرية. ووازن الناس بينه وبين أخيه، موازنة مرضية، في النشاط الحكومي والإداري، والاعتدال في الإنفاق، وفي ارتباطه بكلمته. أنه استمسك بما أوصاه به شارل وهو يحتضر، من العناية بأمر نل جوين، فسدد ديونها، وخصص لها ضيعة تكفل لها رغد العيش. وبعد ارتقائه العرش ظل لبعض الوقت على علاقته مع آخر عشيقاته كاترين سدلي. ولكنه بناء على اعتراضات الأب بنز أجزل لها العطاء على

ص: 175

خدماتها وأقنعها بمغادرة إنجلترا، لأنه اعترف بأنه إذا وقع بصره عليها ثانية فإنه لا يملك فكاكاً من سلطانه عليه (3). إن الأسقف بيرنت الذي ساعد على خلعه، حكم عليه بأنه "صريح مخلص بطبيعته، ولو أنه في بعض الأحيان متلهف محب للانتقام، صديق ثابت على العهد، إلى أن أفسدت عقيدته الدينية مبادئه وميوله الأولى (4) "وكان مقتصداً ينمي ثروته بسرعة، ولم يعمد قط إلى غش العملة، كما كان رحيماً بالشعب في موضوع الضرائب (5). إن ماكولي بعد أن دون ثمانمائة صحيفة عن حكم جيمس الذي لم يدم لأكثر من ثلاثة أعوام، انتهى إلى "أنه تنحى بمناقب كثيرة، إلى حد أنه لو كان بروتستانتياً، لا بل كاثوليكاً معتدلاً، لكان عصره عصراً زاهراً مجيداً (6) ".

وتفاقمت أخطاؤه بنمو سلطانه. وكان مغروراً متعجرفاً حتى قبل اعتلائه العرش، ينظر إلى معظم الناس باحتقار، لا يفتح قلبه إلا لقلة منهم، وتمسك تمسكاً حرفياً بنظرية أبيه، وهي أنه ينبغي أن يكون للملك مطلق السلطة، ولم يكن له المزاج الواقعي الذي كان لأخيه والذي أدرك به الحدود العملية لهذه السلطة المطلقة. ويجدر بنا أن نقدر حق التقدير غيرته الدينية، ورغبته في منح إخوانه الكاثوليك في إنجلترا حرية العبادة والمساواة في الحقوق السياسية. وكان مخلصاً لأمه وأخته الكاثوليكتين، وكان طوال الخمسة عشر عاماً السابقة محاطاً بالكاثوليك في بيته، وكان موضع استغراب عنده أن الديانة التي أنجبت مثل هذا العدد الكبير من أفاضل الرجال وفضليات النساء، يضع الإنجليز أمامها العراقيل ويبغضونها ويحدون من انتشارها. ولم يشاطر البروتستانت ما تناقلوه من ذكريات حية في أذهانهم عن مؤامرة البارود، أو خوفهم من أن يولي عليهم ملك كاثوليكي، يميل عاجلاً أو آجلاً ويقتنع، بانتهاج سياسة ترضي البابا الإيطالي. أن إنجلترا البروتستانتية كانت تشعر بأن أي ملك كاثوليكي لا بد أن يعرض للخطر استقلالها الديني والفكري والسياسي.

ص: 176

إن تصرفات جيمس الأول بعد ارتقائه العرش خفضت من هذه المخاوف شيئاً قليلاً: أنه عين هاليفاكس رئيساً لمجلس الملك، وسندرلند وزيراً، وهنري هايد (أرل كلاروندن الثاني) حاملاً لأختام الملك، وكل هؤلاء من البروتستانت. وفي أول خطاب له في هذا المجلس وعد بالإبقاء على نظم الكنيسة والدولة، وعبر عن تقديره لتأييد كنيسة إنجلترا لاعتلائه العرش، ووعد بأن يوليها عناية خاصة. وعند تتويجه أدى اليمين المألوفة لدى ملوك إنجلترا الحديثين، بالمحافظة على الكنيسة الرسمية وحمايتها. وحظي الملك جيمس الثاني لعدة شهور بشعبية لم تكن متوقعة.

وأول إجراء مؤيد للكاثوليكية اتخذه جيمس، لم يكن يحمل عدواناً مباشراً على البروتستانت. أنه أمر بالإفراج عن كل المسجونين بسبب رفضهم تأدية قسم الولاء والسيادة. وبهذا أفرج عن آلاف من الكاثوليك، بل أخلى معهم سبيل ألف ومائتين من الكويكرز وكثير من المنشقين غيرهم. ومنع إقامة الدعوى بعد ذلك في المسائل الدينية. وأطلق سراح دانبي واللوردات الكاثوليك الذين أودعوا السجن بناء على اتهامات تيتسي أوتس. وحوكم أوتس من جديد وأدين بتهمة الإيمان الكاذبة التي أدت إلى إعدام عدد من الأبرياء، وأعربت المحكمة هن أسفها لأنها لم تستطع الحكم عليه بالإعدام، وحكمت عليه بغرامة قدرها ألفان من الماركات، وأن يربط خلف عربة ويجلد بالسياط مرتين علانية، والأولى من أولدجيت إلى نيوجيت، والمرة الثانية بعد الأولى بيومين، من نيوجيت إلى تايبيرن، وأن يوضع على آلة التعذيب، المشهرة، خمس مرات سنوياً طيلة بقائه على قيد الحياة. وعاش أوتس بعد هذا التعذيب، وأعيد إلى السجن (مايو 1685) وطلبوا إلى الملك إعفاءه من الجلد للمرة الثانية، ولكنه رفض.

وتحطمت الهدنة المزعزعة بين الشيع الدينية بثورة مزدوجة. ذلك أنه في مايو نزل أرشيبالد كامبل، إرل أرجيل التاسع، في اسكتلنده، وفي

ص: 177

يونيه رسا جيمس ودوق مونموث على الشاطئ الجنوبي الغربي لإنجلترا، وفي مسعى مشترك لخلع الملك الكاثوليكي. وأصدر مونموث بلاغاً وصم فيه الملك جيمس بأنه غاصب طاغية سفاح، كما اتهمه بإحراق لندن والمؤامرة البابوية، ودرس السم لشارل الثاني، وتعهد الغزاة ألا يضعوا السلاح أو يكفوا عن القتال حتى يخلصوا البروتستانتية وحريات الشعب والبرلمان. ومني أرجيل بالهزيمة في 17 يونية، وأعدم في 30 يونية، وبذلك أخفق الجناح الشمالي للثورة. ولكن أهالي دورستشير-وهم بيوريتانيون شديدو التمسك بمذهبهم-رحبوا بمونموث وحيوه مخلصاً ومنقذاً لهم. وانضم تحت لوائه عدد كبير جداً من الناس، إلى حد أنه في ثقة وجلال ومهابة، اتخذ لقب جيمس الثاني ملك إنجلترا. ولم يقدم له الأشراف والطبقات الغنية أي عون أو تأييد. وهزم جيشه المختل النظام على يد القوات الملكية في سدجمور (6 يولية 1685) وهذا آخر حرب جرى فيها القتال على تراب إنجلترا قبل الحرب العالمية. ولاذ مونمورث بالهرب، وتوسل إلى الملك أن يعفو عنه فأبى، وضرب عنقه.

وتعقب جيش الملك، بقيادة برس كيرك، فلول الثوار، وشنق الأسرى دون محاكمة. وشكل جيمس لجنة يرأسها قاضي القضاة جفريز، لتذهب إلى المنطقة الغربية لتحاكم الأشخاص المتهمين بالإنضمام إلى الثورة أو التحريض عليها. وسمح للمحلفين بالاشتراك في المحاكمات، باعتبار أن هذا من حق المتهمين، ولكن جفريز قذف المحلفين الرعب، حتى أن قلة قليلة من المتهمين هي التي أصابت شيئاً من الرحمة لدى هذه "المحكمة الدموية"(سبتمبر 1685)

(1)

. وشنق نحو أربعمائة، وحكم على ثمانمائة بالعمل الإجباري في مزارع جزر الهند الغربية (7). وكانت اليزابيث في 1569 وكرومل في 1648، وقد اتهما قبل ذلك هذه الأعمال الوحشية،

(1)

Assiszes الجلسات الدورية للمحاكم العليا في كل مقاطعة.

ص: 178

ولكن جفريز تفوق عليهما في إرهاب المتهمين والمحلفين والتجهم والعبوس، وصب اللعنات على ضحاياه، والتحديق في وجوههم في كثير من الخبث، والإدانة لمجرد الشك، إلا إذا ساعدت رشوة مجزية على إقناعه بالبراءة (8). وبذل جيمس جهوداً متواضعة ليضع حداً للوحشية، ولكن ما أن تمت الإبادة الكاملة وخمدت النار المحرقة حتى رفع جفريز إلى مرتبة النبلاء، وعينه رئيساً لمجلس اللوردات (6 سبتمبر 1686).

وأسهم هذا الإجراء الانتقامي في إبعاد النبلاء عن الملك. وعندما كلب من البرلمان إلغاء "قانون الاختيار"(الذي يقضي بإقصاء الكاثوليك عن الوظائف ومقاعد البرلمان) وتعديل قانون "حق التحقيق في قانونية الاعتقال" وإنشاء جيش تحت إمرة الملك، لم يستجب البرلمان لشيء من هذا. فعطله جيمس (20 نوفمبر) وأخذ يعين الكاثوليك في الوظائف العامة. ولما أعترض هاليفاكس على امتهان البرلمان على هذا النحو، عزله جيمس من المجلس. وأحل محله، رئيساً للمجلس، سندرلند الذي أعلن تحوله إلى الكاثوليكية على الفور (1687). وحين امتدح جيمس إلغاء لويس الرابع لرسوم نانت (9) استنتجت إنجلترا أنه لو تمتع جيمس بمثل هذه السلطة المطلقة التي يتمتع بها البوربون، لما تردد في اتخاذ خطوات مماثلة ضد البروتستانت في إنجلترا. ولم يخف جيمس اعتقاده بأن سلطته الآن باتت مطلقة بالفعل، وأن لويس الرابع عشر في نظره هو لمثل الأعلى للملك. وقبل الإعانات من لويس لفترة من الزمن، ولكنه أبى عليه أن يملي سياسة الحكومة الإنجليزية. فتوقفت الإعانات.

وكان لويس أكثر تعقلاً فيما يتعلق بإنجلترا منه بالنسبة لبلاده. وعلى حين أنه أضعف فرنسا باضطهاده الهيجونوت، نراه يحذر جيمس من مغبة التسرع في تحويل إنجلترا إلى الكاثوليكية. كما أن البابا إنوسنت الحادي عشر زود جيمس بمثل هذه النصيحة. وعندما أرسل إليه الملك الإنجليزي يعده بقرب انضواء إنجلترا تحت راية الكنيسة الكاثوليكية في رومة (10)،

ص: 179

نصحه الباب بأن يقنع بالحصول على التسامح الديني للكاثوليك الإنجليز، كما حذر هؤلاء أن يكفوا عن الأطماع السياسية، ووجه رئيس الجزويت لتعنيف الأب بنزولومه على القيام بمثل هذا الدور الخطير في الحكومة (11). إن البابا أنوسنت لم يخفف من غيرته الكاثوليكية، ولكنه كان يخشى قوة لويس الرابع عشر التي تبتغي التطويق والسيطرة، كما كان يأمل في إمكان تحويل إنجلترا من مجرد تابع أو خادم ذليل للسياسة الفرنسية ومشروعاتها إلى قوة متوازنة ضدها. وأوفد البابا مبعوثاً بابوياً-للمرة الأولى منذ عهد ماري تيودور-ليوضح لجيمس أن أي تصدع في العلاقة بين البرلمان والملك لا بد أن يضر بالكنيسة الكاثوليكية (12).

ولم يستفد جيمس من هذا النصح. إنه أحس، وكان في الثانية والخمسين حين اعتلى العرش، أنه قد لا يتيسر له فسحة من الأجل لتنفيذ التغييرات الدينية التي ينشدها والتي يجيش بها صدره، ولم يؤمل كثيراً في أن ينجب ابناً، وهنا قد تخلفه ابنته البروتستانتية، وتقلب عمله رأساً على عقب، إلا إذا أقيم هذا العمل على أساس وطيد راسخ قبل موته. وطغت آراء الأب بنز والملكة وسلطانهما على كل نصح بالتروي والتريث. ولم يكتف الملك بالذهاب إلى القداس، تحفه الجلالة والمهابة لملكية، بل طلب كذلك إلى مستشاريه أن يلحقوا به لحضور القداس. وتكاثر الأساقفة حول الحاشية، وعين الكاثوليك في المناصب العسكرية، وحرض القضاة (الذين كان له حق تعيينهم وعزلهم) على توكيد حقه في إعفاء هؤلاء المعينين من العقوبات التي فرضها عليهم "قانون الاختبار". وجند، تحت إمرة ضباط أغلبهم من الكاثوليك، جيشاً قوامه ثلاثة عشر ألف رجل لا يخضعون إلا لأوامره هو، وواضح أن مثل هذا الجيش كان يهدد استقلال البرلمان. وعطل العمل بالقانون الذي يفرض العقوبات على حضور العبادة الكاثوليكية علانية. وأصدر في يونية 1686 مرسوماً يحرم على رجال الدين إلقاء عظات في الخلافات المذهبية. ولما خطب الدكتور جون شارب في "دوافع

ص: 180

المرتدين" أمر جيمس بوصفه الرئيس الشرعي للكنيسة الإنجليزية، هنري كمبتون أسقف لندن، بفصل شارب مؤقتاً من سلك رجال الكنيسة الأنجليكانية، فرفض كمبتون. فعين جيمس، متجاهلاً قانوناً صدر في 1673، "محكمة كنسية" جديدة، سيطر عليها سندرلند وجفريز، وحاكمت كمبتون بتهمة شق عصا الطاعة على التاج، وعزلته من وظيفته. وبدأت الآن الكنيسة الأنجليكانية، التي كانت قد التزمت من قبل بالطاعة المطلقة، نقول بدأت للملك ظهر المجن.

أن الملك جيمس كان يأمل في كسب الكنيسة الأنجليكانية إلى جانب المصالحة والتراضي مع روما، ولكن تصرفه المتهور قضى الآن على هذه السياسة. وبدلاً من ذلك انتهج سياسة التوحيد بين الكاثوليك والمنشقين ضد الكنيسة الرسمية. أن وليم بن الذي وجد طريقه إلى قلب الملك وأحرز ثقته، نصحه بأنه يستطيع أن يظفر بالتأييد الحار من جانب كل البروتستانت الإنجليز، فيما عدا الأنجليكانيين إذا هو بجرة قلم ألغى القوانين التي تحرم العبادة العلنية على فرق المنشقين وفي 4 أغسطس 1687 أصدر جيمس أول "إعلان للتسامح" في عهده. ومهما تكن دوافع الملك، فإن هذه الوثيقة تحتل مكاناً في تاريخ التسامح الديني. إنه ألغى كل قوانين العقوبات فيما يتعلق بالديانة، وأبطل كل الاختبارات الدينية، ومنح الحرية الدينية للجميع، وحظر التدخل في شئون الاجتماعات الدينية المسالمة. وأخلى سبيل كل المسجونين بسبب الخلافات الدينية. أن هذا الإعلان ذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه إعلانات التسامح في عهد شارل الثاني، التي كانت قد أبقت على الاختبار الديني لمن يتولون الوظائف، وسمحت بالعبادة الكاثوليكية داخل الدور الخاصة فقط. وأكد للكنيسة الرسمية أن الملك سيواصل حمايته لها في كل حقوقها القانونية. ومما يدعو إلى الأسى والأسف أن هذا الإجراء قدر له أن يكون إعلاناً ضمنياً للحرب على البرلمان، الذي كان قد سن من قبل كل القيود وعدم الأهلية التي ألغيت الآن. ولو سلم

ص: 181

البرلمان بسلطة الملك في إلغاء التشريعات البرلمانية لكان لزاماً أن تنشب الحرب الأهلية من جديد.

ودخل هاليفاكس الذي كان في هاتيك الأيام ألمع عقلية في إنجلترا، المعركة بكتيب لا يحمل اسم المؤلف بعنوان "رسالة إلى منشق"(أغسطس 1687) -"أكثر النشرات توفيقاً في هذا العصر (13) " حث فيه البروتستانت أن يكونوا على يقين من أن هذا التسامح الذي قدم إليهم الآن، صدر عن ملك موال لكنيسة تدعي العصمة من الخطأ، وتنكر التسامح صراحة. وهل يمكن أن يكون ثمة انسجام دائم بين حرية الفكر والضمير وبين كنيسة لا تخطئ؟ وكيف يطمئن المخالفون إلى أصدقائهم الجدد الذين دمغوهم بالأمس القريب بأنهم هراطقة؟ "كنتم بالأمس أبناء الشيطان، وأنتم اليوم ملائكة النور (14) ". ومن سوء الحظ أن الكنيسة الأنجليكانية كانت قد اتفقت مع روما فيما يتعلق بأبناء الشيطان، وأنها في السنوات السبع والعشرين الأخيرة أخضعت مخالفيها لألوان من الاضطهاد والتعذيب تعفيهم من قبول الحرية حتى على أيد كاثوليكية. وأسرع رجال الدين الأنجليكانيون إلى التماس التصالح مع المشيخيين والبيورتانيين والكويكرز، وتوسلوا إلى هؤلاء جميعاً أن يرفضوا التسامح الراهن، ووعدوهم على الفور بتسامح يحظى بموافقة كل عن البرلمان والكنيسة الرسمية. وبعث بعض المخالفين بخطابات شكر إلى الملك، ولكن الأغلبية كانت بجانبها في تحفظ. وعندما حانت ساعة الفصل نبذ الجميع الملك.

وتابع جيمس خطواته. لقد تطلبت جامعات إنجلترا لعدة سنوات مضت من أساتذتها وطلبتها الالتزام بمذهب الكنيسة الأنجليكانية، ولم يستثن من ذلك إلا منح درجة لطالب لوثري، ومنح درجة فخرية لدبلوماسي مسلم، على أن القساوسة الأنجليكانيين رأوا في أكسفورد وكمبردج هيئات وظيفتها الرئيسية إعداد الرجال لقبول المذهب الأنجليكاني، وتقرر ألا يلتحق بهما أي كاثوليكي. ورغبة في كسر هذا القيد أرسل جيمس، إلى نائب رئيس

ص: 182

جامعة كامبردج رسالة يلزمه فيها بأن يستثني من الأنجليكاني راهباً بندكتياً يعي للحصول على درجة الأستاذية. ورفض نائب رئيس الجامعة ففصل بأمر من لجنة المحكمة الكنسية. فأرسلت الجامعة وفداً من بين أعضائه ايزاك نيوتن، ليشرح للملك موقف لجامعة. ولكن الراهب حل المشكلة بالانسحاب (1687). وفي نفس العام رشح الملك لرياسة كلية مجدلن في أكسفورد، رجلاً لا يتمتع بغزارة العلم، ولكنه ذو ميول كاثوليكية، فرفض الزملاء انتخابه، وبعد نزاع طويل اقترح الملك مرشحاً ليس عليه إلا اعتراض أيسر من سابقه، وهو باركر أسقف أكسفورد الأنجليكاني، ولكن الزملاء الذين يشكلون الهيئة الانتخابية رفضوه كذلك، ففصلوا بأمر من الملك، وعين الأسقف باركر قسراً.

واشتدت وطأة الاستياء عندما ارتمى الملك أكثر فأكثر في أحضان مستشاريه الكاثوليك. وكان إعجابه بالأب بتر شديداً إلى حد الإلحاف على البابا برسمه أسقفاً، بل كاردينالاً، ولكن أنوسنت أبى. وفي يوليه 1687 عين جيمس الجزويتي القدير، ولكن المستهتر، عضواً في المجلس المخصوص (الملكي)، فاحتج كثير من الكاثوليك الإنجليز بأن هذا تصرف طائش، ولكن جيمس كان في عجلة من أمره ليصل بالنضال إلى غايته. وكان في هذا المجلس الآن ستة من الكاثوليك، مكنت لهم حظوتهم لدى الملك من السيطرة والغلبة (15). وفي 1688 عين أربعة من الأساقفة الكاثوليك لإدارة شئون الكنيسة الكاثوليكية في إنجلترا، وخصص جيمس لكل منهم راتباً سنوياً قدره ألف جنيه، والواقع أن الكاثوليك شاركوا الآن الأنجليكانيين في أنه أصبح لكل من الفريقين كنيسة تساندها وتعاونها الدولة.

ووفي 25 أبريل 1688 جدد جيمس نشر "إعلان التسامح" الذي مضى على صدوره عام واحد، وأكد فيه من جديد عزمه على توفير حرية الفكر والضمير" لكل الإنجليز إلى الأبد. فمن الآن فصاعداً لا بد أن

ص: 183

يعتمد التعيين في الوظائف والترقي فيها على الجدارة الشخصية لا المذهب الديني. وتنبأ بأن الإقلال من الخلافات الدينية لا بد أن يفتح أسواقاً جديدة للتجارة الإنجليزية، ويزيد من ازدهار الأمة ورخائها. وتوسل إلى رعاياه أن يطرحوا جانباً كل الأحقاد، وينتخبوا البرلمان الجديد دون تمييز بين المذاهب الدينية، والتحقق من انتشار هذا الإعلان الموسع على أوسع نطاق ممكن، أصدر مجلس الملك توجيهاتها إلى كل الأساقفة ليرتبوا مع كل رجال الدين أمر تلاوته في كل كنيسة في الأقاليم في إنجلترا، يوم 20 أو 27 مايو. واستخدم رجال الدين على هذا النحو، وسيلة للاتصال بالجماهير، أمر له سوابقه الكثيرة في إنجلترا. ولكن لم تكن الرسالة قط يوماً بغيضة إلى الكنيسة الرسمية إلى مثل هذا الحد. وفي 18 مايو رفع سبعة أساقفة أنجليكانيين إلى الملك ظلامة أو ضحوا فيها أنهم لم ترتض ضمائرهم أن يوصوا قساوستهم بتلاوة الإعلان، لأنه يخرق قرار البرلمان بأنه لا يجوز إلغاء تشريع برلماني إلا بموافقة البرلمان نفسه، فأجاب جيمس بأن رجال اللاهوت هم الذين كانوا يلحون على عظاتهم وخطبهم دوماً على ضرورة الامتثال للملك وطاعته بوصفه رئيساً للكنيسة، وأنه ليس في الإعلان ما يخدش أو يسيء إلى كرامة أحد. ووعد بأنه سوف ينظر في ظلامتهم، ولكنهم إن يتلقوا منه رداً في الغد فعليهم أن يذعنوا لأمره.

وفي صبيحة اليوم التالي بيعت آلاف النسخ من هذه الظلامة في شوارع لندن، في الوقت التي ما زالت فيه قيد البحث عند الملك. وأحس جيمس بأن هذا يجافي قواعد اللياقة، وعرض الظلامة على القضاة الاثني عشر في المحكمة الملكية، فأشاروا بأنه تصرف في حدود حقوقه المشروعية. ومن ثم أغفل الرد على الظلامة. وفي 20 مايو تليت الظلامة في أربع كنائس في لندن، وتجاهلوها في الكنائس الست والتسعين الباقية. وشعر الملك بأن سلطته قد امتهنت، وأمر الأساقفة السبعة بالمثول أمام المجلس. فلما جاءوا أبلغهم بأن عليهم أن يخضعوا للمحاكمة بتهمة نشر طعن أو قذف فيه تحريض

ص: 184

على الفتنة، وعلى أية حال فإنهم لكي يتفادوا السجن في الحال، يمكن أن يقبل الملك منهم وعداً كتابياً بالحضور عند استدعائهم. فأجابوه بأنهم بوصفهم من أشراف المملكة، ليسوا في حاجة إلى تقديم أي ضمان سوى كلمتهم. وأحالهم المجلس إلى برج لندن (السجن) وحياهم الأهالي وهتفوا لهم على الجانبيين عند نقلهم عبر نهر التيمز.

وفي يومي 29 و30 يونيه حاكم الأساقفة السبعة-أمام محكمة الملك-أربعة قضاة مع هيئة المحلفين. وبعد يومين من مناقشات حادة في قاعه يحيط بها عشرة آلاف من أهالي لندن المهتاجين، أصدر المحلفون حكماً بعدم الإدانة. وابتهجت كل إنجلترا البروتستانتية، وقال أحد النبلاء الكاثوليك "لن تع ذاكرة الإنسان قط مثل هذه الصيحات والهتافات ودموع الفرح التي حدثت اليوم (16) "وتوجهت الشوارع بالمشاعل والنيران التي أضرمت في الهواء الطلق. وسار الناس في موكب خلف شخوص من الشمع تمثل البابا والكاردينالات والجزويت، أحرقت وسط احتفالات صاخبة. إن هذا الحكم كان يعني عند البسطاء من الناس أنه لا ينبغي التسامح مع الكاثوليكية، وعند ذوي الإدراك الأوسع أو العقل الأنضج كان يعني تثبيت حق البرلمان في سن قوانين ليس للملك أن يبطلها، وأن إنجلترا، في الواقع، وحتى ولو لم تكن من الناحية النظرية، ملكية دستورية، لا ملكية مطلقة.

على أن جيمس الذي عراه الاكتئاب والحزن بسبب الهزيمة، أخذ يتعزى بالطفل الذي وضعته له الملكة في 10 يونيه، بل الموعد المتوقع للولادة بشهر، وفي مقدوره أن ينشئ هذا الولد النفيس تنشئة قوامها الولاء والإخلاص للكاثوليكية، وكان يمكن لوالد والولد، في وجه أية معارضة أو معوقات، أن يقتربا يوماً بعد يوم خطوة من الهدف المقدس-ألا وهو الملكية القديمة، تعيش في وئام ووفاق مع الكنيسة، وفي إنجلترا يسودها الهدوء والسلام والتراضي، في أوربا نادمة على

ص: 185

ارتدادها عن عقيدتها، موحدة في ظل هذه العقيدة الحقه وحيدة العالمية.

‌2 - الإطاحة بالعرش والملك في المهد

ربما كانت هذه الولادة لتي جاءت قبل الأوان هي التي جلبت الكارثة على رأس الملك المتهور. واتفقت إنجلترا البروتستانتية مع جيمس في أن هذا الولد قد يواصل السعي لإعادة الكثلكة، ومن ثم يمكن القول بأنها خشيته لنفس السبب الذي أحبه الملك من أجله وأنكرت إنجلترا البروتستانتية في أول الأمر، بنوة الطفل الملك. واتهمت الجزويت بأنهم دسوا إلى مخدع الملكة وليداً اشتروه، كجزء من مؤامرة أرادوا منها إبعاد الابنة البروتستانتية ماري عن وراثة العرش. وانعطفت إنجلترا أكثر فأكثر نحو ماري، على أنها أمل البروتستانتية الإنجليزية، ووطنت النفس على القيام بثورة أخرى لإجلاس ماري على العرش لتكون ملكة إنجلترا.

ولكن ماري كان آنذاك زوجة وليم أورانج الثالث، رئيس الدولة في المقاطعات المتحدة. ماذا يقول وليم المزهو بنفسه في أنه مجرد زوج الملكة؟ لماذا لا يعرض عليه الاشتراك في الحكم مع ماري؟ وفوق كل شيء، انه هو أيضاً يجري في عروقه الدم الملكي الإنجليزي. أن أمه كانت ماري أخرى، وكانت ابنة شارل الأول. ليس في نية وليم على أية حال أن يلعب دور الزوج للزوجة الملكة. ومن الجائز أن الأسقف بيرت-الذي كان قد اتخذ سبياه إلى القارة هرباً، عند ارتقاء جيمس العرش-أقنع ماري، بإيعاز (17) من وليم، أن تتعهد بالطاعة التامة لوليم "في كل الأمور" أياً كانت السلطة التي تخولها التصرف فيها، فوافقت على "أن يكون الحكم والسلطة في يديه هو، لأنها لا ترغب إلا في أن يعمل هو بالوصية التي تقول: أيها الأزواج أحبو زوجاتكم، كما تعمل بالوصية التي تقول: أيها الزوجات أطعن أزواجكن في كل شيء (18) " وتقبل وليم الطاعة، ولكنه تجاهل التلميح الرقيق إلى علاقته بعشيقته السيدة

ص: 186

فليير (19)، فإن الحكام البروتستانت أيضاً، يحوز لهم فوق كل شيء، أن يخدعوا أو يخونوا زوجاتهم.

إن وليم الذي يحارب لويس الرابع عشر حفاظاً على استقلال هولنده والبروتستانتية، راوده الأمل لبعض الوقت في كسب والد زوجته (جيمس) في تحالف ضد ملك فرنسا الذي كان يحطم توازن القوى والحريات في أوربا، ولما خاب فأله، عمد إلى التفاوض مع الإنجليز الذين تزعموا حركة المقاومة ضد جيمس. إنه تغاضى من قبل عن الحملة التي نظمها مونمورث على الأرض الهولندية ضد الملك جيمس، وسمح لها بالإقلاع من أحد الثغور الهولندية دون عائق (20)، وخشي بحق أن يكون جيمس قد دبر خطة لإعلان عدم أهليته لوراثة عرش إنجلترا. ومتى ولد الملك ابن فمن الواضح أن يسقط حق ماري في العرش. وفي أوائل 1687 أوفد وليم افرهارد فان ديكفلت إلى إنجلترا ليقيم علاقات ودية مع زعماء البروتستانت. وعادت البعثة برسائل مبشرة من مركيز هاليافكس، وأرسل شروزبري وأرل كلارندن (ابن رئيس اللوردات السابق) ومن دانبي، والأسقف كمبتون وغيرهم. وكانت الرسائل غامضة مبهمة إلى حد لايئم عن خيانة صريحة، ولكنه انطوت على تأييد حار لوليم في نضاله من أجل العرش.

وفي يونية 1687 أصدر كاسبار فاجل، الحاكم العام، رسالة أوضح فيها بصورة آراء وليم في التسامح. إن وليم يريد حرية العبادة للجميع ولكنه يعارض إلغاء "قانون الاختبار" الذي يقصر حق تولي الوظائف العامة على أتباع المذهب الأنجليكياني (21). أن هذا البيان الرسمي للتحفظ أكسب وليم تأييد الأنجليكانيين البارزين. ولما قضى مولد ابن لجيمس على فرض وليم في أن يخلفه (جيمس) قرر زعماء البروتستانت دعوة وليم للقدوم والاستيلاء على العرش عنوة. ووقع الدعوة (30 يونية 1688) إرل سروزبري الثاني عشر، ودوق ديفونشير الأول، إرل دانبي، إرل سكاربره، وأمير البحر أدوارد رسل (ابن عم وليم رسل الذي أعدم في

ص: 187

1683)، هنري سدني (أخو الجرنون)، والأسقف كمبتون. أما هاليفاكس فإنه لم يوقع متذرعاً بأنه يؤثر المعارضة الدستورية. ولكن كثيرين غير هؤلاء، من بينهم سندرلند وجون تشرشل، وكلاهما آنذاك في خدمة جيمس) بعثوا إلى وليم يؤكدون مساندتهم له (22). وكان الموقعون يعلمون علم اليقين أن دعوتهم للمغامرة، من ذلك أق شروزبري الكاثوليكي السابق الذي تحول إلى البروتستانتية، رهن ضياعه نظير أربعين ألف جنيه، وعبر البحر إلى هولنده ليساعد فيتوجه الغزو (23).

ولم يكن في مقدور وليم أن يتخذ أي إجراء فوري. لأنه لم يكن على ثقة من شعبه. كما كان يخشى أن يجدد لويس الرابع عشر هجومه على هولنده في أية لحظة. وخشيت الولايات الألمانية كذلك مهاجمة فرنسا لها، ومع ذلك لم تبد هذه الولايات اعتراضاً على غزو وليم لإنجلترا، ولعلمها بأن الهدف الأسمى لوليم هو كبح جماح ملك البوربون. أما حكومتا آل هبسبرج في النمسا وأسبانيا فقد نسيتا كثلكيتهما في بغضهما للملك لويس الرابع عشر، وأقرتا خلع ملك كاثوليكي يصادق فرنسا بل أن البابا نفسه منح الحملة بركته ورضاءه السامي. ومن ثم أصبح بإذن من الدول لكاثوليكية أن يأخذ وليم البروتستانتي على عاتقه الإطاحة بجيمس الكاثوليكي. وتعجل لويس وجيمس كلاهما الغزو، وأعلن لويس أن روابط "لصداقة والتحالف" القائمة بين إنجلترا وفرنسا تحتم عليه أن يعلن الحرب على كل من يغزو وإنجلترا. ولكن جيمس الذي خشي أن يؤدي هذا البيان إلى توحيد صفوف رعاياه البروتستانت ضده بشكل أقوى، نفي وجود مثل هذا التحالف، ورفض مساعد فرنسا له. وانتصر غضب لويس الرابع عشر على استراتيجيته، فأمر جيوشه بمهاجمة ألمانيا، لا هولندة (25 سبتمبر 1688)، ووافقت الجمعية العمومية للمقاطعات المتحدة، التي حررت لبعض الوقت من الخوف من فرنسا، على أن يقود وليم حملة قد تؤدي بإنجلترا إلى الدخول في

ص: 188

تحالف ضد فرنسا.

وفي 19 أكتوبر تحرك الأسطول-خمسين سفينة حربية، وخمسمائة سفينة نقل، وخمسمائة فارس، واحد عشر ألفاً من المشاة، بما فيهم عدد كبير من الهيجونوت اللاجئين من الاضطهاد في فرنسا. وصدت الرياح الأسطول، فانتظر حتى يهب "نسيم بروتستانتي"(مؤات)، وأقلع ثانية في أول نوفمبر. وخرج أسطول إنجليزي ليعترض سبيله، ولكن مزقته العاصفة. وفي 5 نوفمبر، وهو عطلة وطنية احتفالاً بذكرى "مؤامرة البارود" ألقى الغزاة مراسيهم في "ثورباي"، وهو منفذ على المانش على شاطئ دورستشير. ولم يلق الغزاة أية مقاومة، ولكنهم كذلك لم يلقوا أي ترحيب. فأن الناس لم يكونوا قد نسوا جفريز وكيرك. وأصدر جيمس أوامره إلى جيشه بالتجمع في سالسبوري تحت إمرة لورد جون تشرشل، ولحق الملك به هناك، ولكنه وجد القوات يعزوها الولاء والإخلاص، يخيم عليها الفتور إلى حد الارتياب في اشتراكهم في معركة، فأمر بالتقهقر، وفي تلك الليلة (23 نوفمبر) انحاز لتشرشل واثنان من كبار الضباط فيجيش الملك إلى وليم مع أربعمائة رجل (24). وبعد ذلك بأيام قلائل انضم جورج الدنمركي، زوج الأميرة آن ابنة جيمس، إلى جماعة الخارجين على الملك، والذين يتزايد عددهم، ووجد الملك التعس، لدى عودته إلى لندن، أن ابنته آنوسارا جنجز زوجة تشرشل قد هربتا إلى نوتنجهام. وتحطمت روح الملك الذي كان يوماً مزهواً مختالاً، حين وجد أن ابنتيه كلتيهما قد انقلبتا ضده. فأوفد هاليفاكس للتفاوض مع وليم وفي 11 ديسمبر غادر الملك نفسه عاصمة ملكه، ولما عاد هاليفاكس من الجبهة، وجد الأمة بلا رئيس ولا زعيم، فعمد جماعة من النبلاء إلى تنصيبه رئيساً لحكومة مؤقتة. وفي يوم 13 تسلموا من جيمس رسالة تقول بأنه وقع في أيدي الأعداء، في فافرشام في كنت. فأنفذوا بعض القوات لإنقاذه، وفي يوم 16 عاد الملك الذليل إلى قصر هويتهول وأرسل

ص: 189

وليم أثناء تقدمه نحو لندن، وبعض حراس هولنديين زودهم بتعليمات بأن يحملوا جيمس إلى روشستر، وهناك يسهلون له طريق الفرار. وقد كان، ووقع جيمس في الفخ الذي نصب له، وغادر إنجلترا إلى فرنسا (23 ديسمبر). وعمر ثلاثة عشر عاماً بعد سقوطه، ولكنه لم ير إنجلترا ثانية قط.

ووصل وليم إلى لندن في التاسع عشر من ديسمبر. واستغل انتصاره في حزم وحذر واعتدال ممتاز، ووضع حداً للشغب الذي آثاره البروتستانت في لندن وسلبوا فيه منازل الكاثوليك وأحرقوها. وبناء على طلب الحكومة المؤقتة، ودعا اللوردات والأساقفة وأعضاء البرلمان السابقين للاجتماع في كفونتري. وأعلن "المؤتمر" الذي أنعقد هناك في أول فبراير 1689 أن جيمس اعتزل العرش بفراره. وعرض المجتمعون أن يتوجوا ماري ملكة، ويرتضوا وليم نائباً لها. فقبلا (13 فبراير). ولكن المؤتمر قرن هذا العرض " بإعلان الحقوق" الذي سنه وأصدره البرلمان من جديد في 16 ديسمبر على أنه "وثيقة الحقوق"، وأصبح (بالرغم من عدم موافقة وليم عليه صراحة) جزءاً حيوياً أساسياً في قوانين المملكة:

حيث أن الملك السابق جيمس الثاني .. سعى جهده أن يدمر ويستأصل العقيدة البروتستانتية وقوانين وحريات هذه المملكة من جذورها:

1 -

بانتحاله لنفسه وممارسته سلطة التحلل من القوانين وإلغائها، أو تنفيذها دون موافقة البرلمان ..

3 -

بإنشاء "محكمة خاصة بالقضايا الدينية".

4 -

بجباية أموال من أجل الملك وليستخدمها هو، بحجة الامتيازات والحقوق الملكية، في غير الوقت ولغير الغرض اللذين أقرهما البرلمان.

5 -

بتجنيد جيش ثابت والاحتفاظ به دون موافقة البرلمان.

7 -

بإقامة الدعوى أمام "محكمة الملك" في مسائل وقضايا هي من اختصاص البرلمان وحده.

وكل هذا يتعارض تماماً، وبطريق مباشر، مع قوانين هذه المملكة

ص: 190

وشرائعها المعروفة. ولما كانوا (أعضاء البرلمان-المجتمعون) على ثقة تامة من أن .. أمير أورانج .. سوف يحميهم من إهدار حقوقهم التي أثبتوها هنا، ومن أية محاولات أخرى للاعتداء على حقوقهم المدنية وحرياتهم، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المجتمعين في وستمنستر، يقررون أن يعينوا وليم وماري، أمير وأميرة أورانج، ملكاً وملكة على إنجلترا وفرنسا وإيرلندة، وأن يقسم اليمين المذكورة بعد، كل الأشخاص الذين يتطلب القانون منهم أن يقسموا يمين الولاء ..

"أقسم أنا (س من الناس) أن أمقت وأبغض وأنبذ من كل قلبي على أنها كفر وهرطقة، تلك النظرية الدنسة اللعينة .. التي تقول بأنه يجب أن يخلع أو يقتل، بيد رعاياه أو عيرهم أياً كانوا، كل أمير يصدر ضده البابا أو أية هيئة في المقر البابوي في روما، قراراً بالحرمان من الكنيسة أو من العرش .. كما أعلن أنه ليس، ولا ينبغي أن يكون. لأي حاكم أو فرد أو مطران أو دولة أو عاهل أجنبي، أية ولاية أو سلطة أو سيادة أو سلطان .. في هذه المملكة. أسألك العون على هذا يا رب".

وحيث ثبت بالتجربة أنه لا يتفق مع سلامة هذه المملكة ولا مع مصلحتها أن يحكمها أمير مناصر للبابا، أو ملك أو ملكة متزوجة من أحد أشياع البابا، فإن اللوردات والآباء الروحيين والنواب المذكورين يرجون فوق ذلك أن يسن تشريع يقضي بأن كل شخص أو أشخاص يذعنون أو سيذعنون للبابا أو الكنيسة في روما، أو تكون أو ستكون لهم علاقة بهما، أو سيدينون بالمذهب البابوي، أو يتزوجون من نصيرات البابا والمشيعات له، يجب استبعادهم وحرمانهم إلى الأبد من وراثة أو أملاك أو التمتع بتاج وحكومة هذه المملكة (25).

أن هذا الإعلان التاريخي عبر من النتائج الجوهرية لما أسمته إنجلترا البروتستانتية "الثورة الجلية": وهي الاعتراف الصريح بالسيادة التشريعية للبرلمان، التي طالما نازع فيها أربعة ملوك من آل ستيوارت، وحماية المواطن

ص: 191

ضد السلطة للتعسفية للحكومة، واستبعاد الكاثوليك من تولي عرش إنجلترا أو المشاركة فيه. ويلي هذه النتائج في الأهمية، وهو إدماج سلطة الحكومة في الأرستقراطية مالكة الأرض، لأن الثورة بدأها كبار النبلاء، وسار بها إلى غايتها صغار الملاك الممثلون في مجلس العموم. وواقع الأمر أن الملكية "المطلقة" المتمسكة "بحق الملك الإلهي" تحولت إلى أولجاركية إقليمية أو ذات علاقة بالملكية الخاصة للأرض. وهي أولجاركية تميزت بالاعتدال والجد والبراعة في إدارة دفة الحكم، متعاونة مع ملوك الصناعة والتجارة والمال، كما أهملت بصفة عامة أمر الحرفيين والفلاحين. إن الطبقات المتوسطة العليا أفادت من الثورة بصورة فعلية. واستردت مدن إنجلترا حريتها، لتحكمها أوليجاركيات التجار المستغلين. أن تجار لندن الذين أحجموا من قبل عن مساعدة جيمس، أقرضوا وليم مائتي ألف جنيه فيما بين وصوله إلى العاصمة، وتسلمه اعتمادات البرلمان لأول مرة (26). إن هذا القرض عزز اتفاقية غير مسطورة: فالتجار يتركون لملاك الأرض حكم إنجلترا، على توجه الأرستقراطية الحاكمة سياسة البلاد الخارجية نحو المصالح التجارية، وتحرر التجار أكثر فأكثر من النظم الرسمية.

وثمة عناصر مخزية غير كريمة كانت في "الثورة الجلية (27) ". فيما يبدو أنه مدعاة للأسف أن تضطر إنجلترا إلى استدعاء جيش من هولنده ليصلح من أخطاء الإنجليز أنفسهم، وأن تساعد الابنة على خلع أبيها عن عرشه، وأن ينحاز قائد جيشه إلى الغزاة، وأن تشارك الكنيسة الوطنية في الإطاحة بملك سبق لهذه الكنيسة أن بررت وقدست سلطته الإلهية المطلقة في وجه أية ثورة أو أي عصيان. كما كان مدعاة للأسف أن يكون تثبيت سيادة البرلمان على حساب مناهضة حرية العبادة. ولكن السيئات التي اقترفها هؤلاء الرجال والنساء طويت في الأحداث مع رفاتهم، أما حسنتاهم التي أدوها فقد بقيت بعدهم وآتت أكلها. أنهم حتى في إقامة الأوليجاركية وضعوا أسس ديموقراطية كان لا بد أن تنشأ مع توسيع القاعدة الانتخابية.

ص: 192

وجعلوا من دار الرجل الإنجليزي قلعته، آمناً نسبياً من "عجرفة الحكم" و "أخطاء الظلم" وأسهموا إلى حد ما في هذا التوفيق الذي يدعوا إلى الإعجاب بين لنظام والحرية، وهذا هو قوام الحكومة الإنجليزية اليوم. إنهم فعلوا هذا كله دون إراقة قطرة من الدم، اللهم إلا ما نزف من أنف الملك المنزعج المنهوك الأخرق الذي تخلى عنه الجميع في ساعة العسرة.

‌3 - إنجلترا تحت حكم وليم الثالث

1689 -

1702

عين الملك لمجلسه الخاص: دانبي رئيساً، وهاليفاكس حاملاً للأختام الملكية، وإرل سروزبري وإرل نوتنجهام وزيرين، وإرل بروتلاند رئيساً للخاصة الملكسة، وجلبرت بيرنت أسقف سالسبوري.

وكان أبرز هذه الشخصيات وأكثرها نفوذاً هو جورج سافيل مركيز هاليفاكس. ولما كان ابن أخ لورد سترافورد الذي أعدمه البرلمان الطويل من قبل، فإنه-أي هاليفاكس-كان قد فقد جزءاً كبيراً من ممتلكاته في الثورة الكبرى، ولكنه كان قد أنقذ ما يكفيه لعيش رغيد في فرنسا أيام حكم كرومول. وهناك عثر على "مقالات" ومنتاني، وأصبح فيلسوفاً. وإذا كان المركيز قد ارتقى فيما بعد من السياسة إلى فن الحكم، فما ذاك إلا لأن الفرق بين السياسة وفن الحكم هو الفلسفة أي القدرة على رؤية اللحظة العابرة والجزء الصغير في ضوء الزمن الخالد، والكل الذي يضم كل الأجزاء، ولم يكن هاليفاكس ليرضى قط بأن يكون كله رجل أعمال وكتب يقول:"إن حكومة العالم (يعني حكم الشعوب) عمل عظيم، ولكنه شاق خشن جداً كذلك، إذا قورن برقة المعرفة التأملية (28) ". فقد كان على السياسة في بعض الأحيان أن تتعامل مع الجماهير وهو ما أزعج هاليفاكس. إن في الجمع الناس قسوة متراكمة، على الرغم من انه ليس بينهم فرد واحد بالذات رديء الطبع .... أن الغمغمة الغاضبة في حشد

ص: 193

من الناس من العن وأسوأ الضوضاء في العالم" (29). ولقد عاش من قبل في ظل "الإرهاب البابوي" حين كانت الجماهير تقذف الرعب في المحاكم. ومذ رأى كثيراً من المذاهب الدينية المولعة بكسب الأنصار، وطرح معظم اللاهوت، إلى حد أنه، كما يقول بيرنت "تحول إلى ملحد جريء ثابت العزم، على الرغم من أنه كان غالباً ما يحتج لي بأنه ليس كذلك، وأنه قال أنه يعتقد أنه ليس في العالم رجل ملحد. واعترف بأنه لم يستسغ كل ما فرضه رجال الدين على العالم. وكان مسيحياً، امتثالاً، وآمن قدر طاقته" (30).

وعندما عاد إلى إنجلترا استرد ممتلكاته، وبلغ من الثراء حداً استطاع معه أن يكون أميناً. وخدم شارل الثاني حتى علم بأمر "معاهدة دوفر" السرية. ودافع عن حق جيمس في عرش إنجلترا، ولكن عارض في إلغاء "قانون الاختيار"، وتطلع إلى حكم بروتستانتي بعد فترة حكم كاثوليكي قصيرة. وحقق آماله حين لعب دوراً قيادياً في انتقال الحكم بطريقة سلمية من جيمس الثاني إلى وليم الثالث. والتزم هاليفاكس بما يعتقد هو نهأنه حق، وما كان لينحاز إلى أي حزب. وكتب في "أفكار وتأملات":"أن الجهل يقود معظم الناس إلى الانضمام إلى حزب ما، والخجل يحول بينهم وبين الخروج منه"(31). ولما هوجم بسبب خروجه على اتجاهات الحزب، دافع عن نفسه في كتيب مشهور "شخصية الحول القلب".

إن اللفظة البرئية (قلب حول) لا تعني أكثر من أنه إذا كانت مجموعة من الرجال في قارب. ومال منهم إلى جانب، فلا بد أن يميل الباقون بنفس القدر إلى الجانب الآخر، ويحدث أن يكون هناك رأي ثالث لأولئك الذين يرون أنه يكفي أن يكون القارب مستوياً أو معتدلاً (32).

وكان في بعض الأحيان عديم الضمير، فصيحاً دائماً، ذكياً بشكل خطير ولما اجتاح صائدو المناسب الذين ادعوا مساعدة الثورة، بلاط وليم الثالث ناصبوه العداء لأنه قال: "إن الإوز أنقذ روما، ولكني لا أذكر أن

ص: 194

هذه الأوزات عينت في مناصب القناصل" (33)(1).

ولا بد أن هاليفاكس ابتسم ساخراً عندما حول "للمؤتمر" نفسه إلى برلمان، ثم عمد إلى ما حسبه أول ما تحتاج إليه الحكومة - ألا هو قسم جديد للولاء والطاعة لوليم الثالث، لا بوصفه رئيساً للدولة فحسب، بل للكنيسة الرسمية كذلك. إنها لإحدى مهازل التاريخ المضحكة، أن الكنيسة الأنجليكانية وهي التي ظلت لمدة قرن من الزمان تضطهد الكلفنيين (البرسبتريان، والبيوريتانز وغير من مخالفيها) تقبل الآن رئيساً لها كلفنياً هولندياً.

إن أربعمائة من رجال الدين الأنجليكانين المتمسكين بنظرية "حقوق الملوك الإلهية" ومن ثم ينازعون حق وليم في الحكم، رفضوا أن يؤدوا القسم الجديد. وعزل هؤلاء الرافضون من وظائفهم الكنسية، وشكلوا شعبة أخرى من المنشقين أو المخالفين. أما الذين أقسموا اليمين فإن كثيراً منهم فعلوا ما فعلوا مع "تحفظ عقلي"(35) ربما أضحك الجزويت الباقين في إنجلترا. ويرى بيرنت "أن مراوغة الكثيرين ومواربتهم في موضوع بمثل هذه القدسية أسهم إسهاماً غير قليل في تدعيم الإلحاد الآخذ في التفاقم (36) "وصعق الإنجليكانيون من ذوي المشارب والأمزجة المختلفة،

حين ألغى وليم - إذعاناً للشعور السائد بشكل طاغ في إسكتلندة - ألغي هناك النظام الأسقفي الذي كان آل ستيوارت قد أقاموه قسراً. وحزن كثير من الأنجليكانيين حين ألفوا وليم يجنح إلى التسامح الديني.

إن وليم الذي نشأ في أحضان الكلفنية الجبرية المؤمنة بالقضاء والقدر لم يطق تعاطفاً مع وجهة النظر الأنجليكانية التي تقضي بإقصاء البرسبتريانز عن الوظائف العامة أو مقاعد البرلمان. أنه شجع بالفعل التسامح في المقاطعات

ص: 195

المتحدة، ولم يكن يسمح بأي تمييز ديني في صداقاته. إن الكلفنية الجبرية كانت قد أصبحت بالنسبة لوليم ثقة في النفس وكأنها عامل من عوامل القدر. وفي ظل هذه الثقة ينظر، دون ما تعصب، إلى الانشقاق الديني على أنه في حد ذاته أداة من أدوات تلك "القوة الخفية" أكثر منها شخصية التي سماها تارة "الحظ" وتارة "العناية الإلهية" وأخرى "الله"(37). ورأى في الخلافات الدينية في إنجلترا قوة تمزق الأمة أرباً إذا لم يحد التفاهم والمحبة من مثل هذه القوة.

وكانت خطوة بارعة من جانب المجلس المخصوص (أو مجلس الملك) أن يعهد بتقديم (قانون التسامح) الذي أعده، إلى البرلمان، إلى نوتنجهام الذي عرف بأنه ابن غيور بار للكنيسة الأنجليكانية. وأبطل دفاع نوتنجهام عن هذا القانون أمام البرلمان حجة المعارضين المتشددين وجردهم من سلاحهم وهكذا أقر المجلسان أول إنجازات العهد الجديد دون معارضة تذكر (24 مايو 1689). وسمح هذا القانون بحرية العبادة العلنية لكل الفرق التي سلمت بمبدأ التثليث وبأن الكتاب المقدس نزل به الوحي، والتي نبذت صراحة تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وسيادة البابا الدينية. وسمح لأنصار تجديد العماد بتأجيله إلى سن البلوغ. وبمقتضى "قانون تثبيت التسامح" الذي صدر في 1696 سمح للكويكرز باستبدال وعد قاطع بالقسم سالف الذكر. واستثنى التوحيديون والكاثوليك من التسامح. وقام وليم ومجلسه في مشروع "قانون التسامح الشامل" الذي قدم في أواخر 1689، بمحاولة للسماح بدخول كل طوائف المنشقين إلى الكنيسة الأنجليكانية، ولكن لم تتم الموافقة على هذه الخطوة. ولكن لم تتم الموافقة على هذه الخطوة. وظل المنشقون محرومين من الجامعات ومن مقاعد البرلمان ومن الوظائف العامة إلا إذا تلقوا الأسرار المقدسة وفقاً للطقوس الأنجليكانية، وجدد في 1697 العمل بقانون يقضي بعقوبة السجن على من يهاجم أية نظرية مسيحية أساسية. ولم يصدر بعد ذلك أي تشريع بالتوسع في الحرية الدينية في إنجلترا حتى 1778

ص: 196

وعلى الرغم من ذلك كان التسامح هنا أكبر منه في أية دولة أوربية أخرى بعد 1685، باستثناء المقاطعات المتحدة. والواقع أن التسامح اتسعت دائرته في إنجلترا بازدياد قوة إنجلترا إلى الحد الذي تحررت معه من مخاوفها من أن تغزوها أية دولة كاثوليكية أو تعمل على تخريبها في الداخل.

إن الكاثوليك أنفسهم نعموا في عهد وليم بأمن متزايد. وأوضح الملك أنه ليس في مقدوره أن يحتفظ بالأحلاف مع الدول الكاثوليكية إذا هو صب العذاب والظلم على رؤوس الكاثوليك في إنجلترا (38). وظل القساوسة الكاثوليك لعشر سنوات يقيمون القداس في دور خاصة. وما كان أحد ليتحرش بهم لو تستروا في شيء من الحزم والحكمة، أمام الجمهور. وفي أخريات عهد وليم (1699)، حين كان للمحافظين (أنصار السلطة الملكية المطلقة) والمتشددين، الغلبة في البرلمان، شددت القوانين ضد الكاثوليك، فتعرض لعقوبة السجن مدى الحياة أي كاهن يدان بإقامة القداس أو أداء أية مهمة كهنوتية أخرى إلا في دار أحد السفراء. وتنفيذاً للقانون كانت ثمة مكافأة قدرها مائة جنية لمن يدبر الإدانة. ونص القانون على نفس العقوبة لأي كاثوليكي يقوم بالتعليم العام للصغار. وما كان يجوز للوالدين أن يرسلوا أولادهم إلى الخارج لتلقي العلم وفق المذهب الكاثوليكي. وما كان يجوز لأي فرد أن يشتري أو يرث أرضاً إلا بعد أداء القسم على أن الملك رئيس الكنيسة، وعلى أنه لا يؤمن بتحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وصودر من أجل الحكومة إرث أي فرد امتنع عن أداء القسم (39). وفي 1689 عفا وليم عن تيتس أوتس وأجرى عليه معاشاً.

وجلب الكاثوليك في إيرلندة على أنفسهم اضطهاداً مجدداً بتنظيمهم ثورة تهدف إلى إعادة جيمس الثاني إلى العرش. ذلك أن ريتشارد تالبوت جمع جيشاً قوامه 36 ألف رجل ودعا جيمس للقدوم من فرنسا ليتولى قيادته. وكان لويس الرابع عشر قد أسكن الملك المخلوع أحد قصوره في سان جرمان، وخصص له ستمائة ألف فرنك سنوياً، وجهز له الآن أسطولاً

ص: 197

والى ميناء برست، وودعه بكلمات مشهورة:"أن أحسن ما أرجوه لك إلا يرى الواحد منا الآخر ثانية أبداً (40) ". وفي 12 مارس 1689 ألقى جيمس مراسيه في إيرلندة مع ألف ومائتي رجل، ورافقه تالبوت إلى دبلن، حيث دعا برلماناً أيرلندياً، وأعلن حرية العبادة لكل الرعايا المخلصين. واجتمع البرلمان في 7 مايو وألغى "قانون التسوية" الذي صدر في 1652، وأمر بإعادة الأراضي التي انتزعت من أصحابها منذ 1641 إلى ملاكها السابقين. وأرسل وليم قائده الهيجونوتي شومبرج إلى إيرلندة على رأس عشرة آلاف جندي. ورد لويس الرابع عشر على ذلك بإرسال سبعة آلاف من الفرنسيين المحنكين لمساعدة جيمس. وعبر وليم بنفسه إلى إيرلندة في يونيه في 1690. فلما التقى الجمعان في معركة بوين (أول يوليه) فر جيمس من الميدان مذعوراً، ولو أنه اشتهر بالبسالة يوماً، حين رأى قواته تنهزم. وسرعان ما عاد أدراجه إلى سان جرمان.

وربما ابتهج وليم بعقد الصلح وإقرار السلام مع الإيرلنديين على أساس الوضع الراهن. ولكن الزعماء والقوات البروتستانتية الذي كانوا تحت أمرته، طالبوا بالقضاء التام على العناصر الثورية، وبالاستيلاء على المزيد من أراضي إيرلندة. وعاد وليم إلى إنجلترا تاركاً جيشه تحت قيادة جودرت دي جنكل، إرل أتلون آنذاك، وكان شومبرج قد قضى نحبه في انتصاره في بوين. وأوصى الملك جنكل بإصدار عفو عام دون قيد أو شرط، وإطلاق حرية العبادة، وبالإعفاء من أداء القسم بعدم الاعتراف بسيادة البابا، وباسترداد الثوار لضياعهم شريطة أن يضعوا السلاح (41). وعلى أساس هذه الشروط ضمن جنكل استسلام جولواي وليمرك وبمقتضى معاهدة ليمر (3 أكتوبر 1691) وافق الثوار الإيرلنديون على التسوية التي عرضها وليم. وفي مارس 1692 صدر بيان ملكي يعلن انتهاء الحرب مع أيرلندة.

واستنكر البروتستانت في إيرلندة هذه المعاهدة على أنها استسلام

ص: 198

ذليل للبابويين، ولجأوا إلى البرلمان الإنجليزي. ووضع هذا البرلمان على الفور (22 أكتوبر 1691) قانوناً يحرم من عضوية برلمان إيرلندة، كل من يمتنع عن أداء يمين السيادة وإعلان رفضه لفكرة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. ورفض البرلمان الإيرلندي الجديد، وكان بروتستانتياً تماماً، الاعتراف بمعاهدة ليمرك. وعلى حين كان وليم منهمكاً في تكتيل أوربا ضد لويس الرابع عشر، سن برلمان دبلن سلسلة جديدة من قوانين العقوبات ضد الكاثوليك في إيرلندة، تنقض صراحة الصلح الذي وقعه وليم وماري من قبل، ونصت هذه القوانين على عدم شرعية الدارس والكليات الكاثوليكية، وعلى أن القساوسة الكاثوليك معرضون للترحيل خارج البلاد، وعلى أنه ليس للكاثوليكي أن يحمل سلاحاً، أو يمتلك حصاناً تزيد قيمته على خمسة جنيهات، وعلى مصادر أملاك أية وريثة بروتستانتية تتزوج كاثوليكي (42). واستمرت مصادرة أراضي إيرلندة حتى "لم يعد هناك في الواقع أرض تصادر (43). وكاد يكون من المستحيل أن يكسب كاثوليكي إيرلندي قضية في محكمة إيرلندية، وقل أن صدرت عقوبة على من يقترف جريمة ضد الكاثوليك. واستكمالاً لخراب إيرلندة قضت قوانين برلمان إنجلترا قضاء تاماً على صناعة الصوف التي كانت قد نمت إلى حد منافسة صناعة الصوف في إنجلترا ذاتها، حيث حظرت هذه القوانين تصدير الصوف في إيرلندة إلى أي بلد آخر سوى إنجلترا، وخنقت حتى هذه التجارة نفسها بما وضع من تعريفات جمركية معوقة عمداً (1696). ومن ثم انتشر الفقر والتسول والمجاعة والتمرد على القانون في الجزيرة، خارج نطاق "البال" الإنجليزي (قسم في شرق إيرلندة حول مدينة دبلن). وفي الستين عاماً التي أعقبت الثورة الجليلة هاجر من إيرلندة نصف الكاثوليك الذي كان عددهم يقرب من المليون في 1688، أي أن أزكى الدماء وأطيب العناصر نزحت إلى البلاد الأجنبية.

وازدهرت آنذاك كل الطبقات الاقتصادية في إنجلترا فيما عدا طبقة

ص: 199

الكادحين (البروليتاريا) وطبقة الفلاحين. وعانى عمال النسيج من المنافسة الأجنبية ومن الاختراع. وفي 1710 أضرب عمال الجوارب بسبب إدخال أنوال الجوارب واستخدام الغلمان لتشغيلها لقاء أجور منخفضة (44) على أن الإنتاج القومي كان آخذاً في الارتفاع. ويمكن أن نحكم على هذا الارتفاع من زيادة متوسط إيرادات الحكومة من 500 ألف جنيه في القرن السادس عشر إلى سبعة ملايين ونصف المليون من الجنيهات في القرن السابع عشر (45). وقد ترجع الزيادة إلى حد ما إلى التضخم، ولكنها نتجت أساساً من التوسع في الصناعة وفي التجارة الخارجية.

ومع هذا لم يكن الدخل كافياً، لأن وليم كان يجند الجيوش لمحاربة لويس الرابع عشر، فارتفعت الضرائب إلى حد لم يسبق له مثيل، بل اشتدت الحاجة إلى مزيد من المال. وفي يناير 1663 أحدث شارل مونتاجو - إرل هاليفاكس الأول - بوصفه وزير الخزانة تغييراً أساسياً في مالية الحكومة، بإقناع البرلمان بطرح قرض عام قدره 900 ألف جنيه، ووعدت الحكومة بدفع 7% فائدة سنوية عنه. وفي أخريات 1963، حين زادت النفقات عن الإيرادات، اتفق جماعة من أصحاب المصارف على إقراض الحكومة مبلغ مليون ومائتي ألف جنيه بفائدة قدرها 8% تحصل من رسم إضافي على السفن. وكان فكرة القروض المتحدة (الجماعية) هذه، قد اقترحها وليم باترسون قبل ذلك بثلاثة أعوام. وجاء الآن مونتاجو فعززها من الناحية الرسمية. وأقر البرلمان هذه الخطة. واتباعاً للسوابق التي جرى عليها العمل في جنوه والبندقية وهولندا، عمد المقرضون إلى تنظيم أنفسهم فيما يسمى "محافظو وشركة بنك إنجلترا" الذي صدرت براءة تأسيسه في 27 يوليه 1694. واقترضوا هم النقود من مصادر مختلفة بسعر 4. 5% وأقرضوها للحكومة بسعر 8%، وجنوا أرباحاً إضافية عن طريق القيام بكل الأعمال المصرفية. وهكذا نشأ بنك إنجلترا، وقدم للحكومة قروضاً أخرى. وفي 1696 حصل من البرلمان على حق احتكار مثل هذه القروض.

ص: 200

وبعد تقلبات كثيرة مر بها هذا البنك، أصبح العامل الرئيسي في استقرار الحكومة الإنجليزية المشهور منذ اعتلاء وليم وماري عرش إنجلترا حتى يومنا هذا. ومنذ 1694 أصدر البنك أوراقاً نقدية تضمنها الودائع، قابلة للدفع بالذهب، عند الطلب. وتداولها المتعاملون على أنها مال قانوني، فكانت أول عملة ورقية حقيقية غير زائفة في إنجلترا (46)

(1)

.

واشتهر عهد مونتاجو في وزارة الخزانة بعمل ممتاز آخر، هو إصلاح العملة المعدنية. ذلك ان العملة الجيدة التي سكت في عهد شارل الثاني وجيمس الثاني اختزنت أو صهرت أو صدرت. أما العملة المشوهة أو التالفة منذ أيام اليزابيث وجيمس الأول، فقد طرحت للتداول والاستعمال، وفقدت في القوة الشرائية جزءاً لا يستهان به من قيمتها الاسمية. ودعا مونتاجو أصدقاءه جون لوك واستحق نيوتن وجون سومرز ليعدوا لإنجلترا عمله اكثر استقراراً فصمموا قطع نقد جديدة ذات حافة مسننة تتحدى التشويه. واستردوا العملة القديمة وسحبوها من التداول بقيمتها الاسمية، وتحملت الحكومة الخسارة الناجمة عن ذلك. وصار لإنجلترا نقد ثابت صحيح، كان مثار حسد أوربا، ومثالاً تحتذيه. وفي 1689 فتحت بورصة الأوراق المالية في لندن، وبدأت فترة مضاربة مالية، سرعان ما أنتجت "شركة البحر الجنوبي"(1711) وانفجار "فقاعتها"(1720). وفي 1688 أقام إدوارد لويد في أحد مقاهي لندن شركة للتأمين تعرف الآن بكل بساطة تبعث على الفخر بأسم (لويدز) وفي 1693 أصدر أدموند هاللي أول نشرة وفيات معروفة. وأكدت هذه التطورات المالية ووسعت دور المصالح القائمة على المال في شئون إنجلترا، وحددت بداية الأهمية المتزايدة

(1)

صدر أول عملة ورقية معروفة في القرن السابع الميلادي في الصين على عهد أسرة تاتج. ورأى ماركو بولو مثل هذه العملة في الصين 1275، وحاول عبثاً إدخال أسلوب التعامل هذا إلى إيطاليا. واستخدمت السويد أوراق العملة في 1656 ومستعمرة ماساشوست 1690.

ص: 201

للرأسماليين - الذين يمدون برأس المال والذين يديرونه - في بريطانيا.

وفوق الاقتصاد الآخذ في التوسع احتدمت المعركة السياسية حول النزاع على السلطة بين المحافظين (التوري) مالكي الأرض وبين الأحرار (الهويج) جامعي الثروات، وبين الإنجليز والإسكتلنديين، وصحب هذا مؤامرات لقتل وليم، ومشروعات لإعادة جيمس إلى العرش. ولم يكن وليم مهتماً بالشئون الداخلية في إنجلترا، أنه غزاها أساساً، ليجمع بينها وبين هولندا (موطنه الأصلي) ودول أخرى، لتقف جميعاً في وجه لويس الرابع عشر، أو كما قال هاليفاكس من قبل:"أنه استولى على إنجلترا وهو الطريق إلى فرنسا (48) " ولما اكتشف الإنجليز أن هذا هو شغله الشاغل أو الشعور المستولي عليه فقد كل شعبيته ولم يعد ملكاً محبوباً. وقد يقسو دون مبالاة، كما حدث حين أمر باستئصال عشيرة مكدونالد في جلنكو لتأخرها في إعلان ولائها له (1692)، وكان "صموتاً فظاً غليظاً في المعاشرة" لأنه كان يتكلم الإنجليزية بصعوبة. ولم يعن كثيراً بالسيدات. وكان سلوكه على المائدة يدعو إلى الاشمئزاز، حتى أطلق عليه سيدات المجتمع في لندن "الدب الهولندي الوضيع (49) " وأحاط نفسه بحراس ورفاق هولنديين، ولم يخف رأيه في تفوق الهولنديين تفوقاً عظيماً على الإنجليز في المقدرة الاقتصادية والتفكير السياسي والأخلاقي وعلم أن كثيراً من النبلاء يفاوضون جيمس الثاني سراً. ووجد الفساد يستشري حوله إلى درجة تلوثه هو نفسه، واتجر في شراء أصوات أعضاء البرلمان. وكان الخير كل الخير فيما يمكن عمله لكبح جماح فرنسا الهائجة المتحفزة.

وحيث ترك وليم الشئون الداخلية لوزرائه، فقد بدأ عهد الوزراء الأقوياء (1695) و "الوزارات" المتضامنة في المسؤولية والعمل، والتي يسيطر عليها رجل واحد، هو في العادة وزير الخزانة. وفي 1697 جاء أعداؤه المحافظون (التوري) أثر انقلاب انتخابي، ومن ثم حدوا من سلطانه ونازعوه سياسته الخارجية، إلى حد أنه فكر في الاعتزال

ص: 202

(1699)

. ولكنه حين رقد رقدته الأخيرة (8 مارس 1702) وقد أنهك الربو والسل جسمه، كان يمكن أن يتعزى عن هزائمه في الداخل حين يدرك كل الإدراك أنه هيأ لإنجلترا مشاركة أكيدة في "الحلف الأعظم"(1701) الذي استطاع بعد اثني عشر عاماً من الصراع، أن يخضع ويذل الملك البوربوني العظيم، وينقذ استقلال أوربا البروتستانتين، ويطلق يد إنجلترا في بسط نفوذها على العالم.

(1)

أن قأقأة الأوز المقدس المنزعج في الكابيتول أيقظت الحامية الرومانية لتصد غارة ليلية قام بها الكلت في 390ق. م (34).

‌4 - إنجلترا في عهد الملكة آن

1702 -

1714

بعد وفاة الملكة ماري 1695 أصبحت أختها آن وريثة العرض. ومنذ نشأت آن وسط الخطر والشغب، أصبحت بنتاً مخلوعة الفؤاد، قويمة الخلق، بسيطة التفكير، قوية الشعور، تلتمس العزاء والسلوى والجرأة في صداقة خاصة متواضعة مع رفيقة صباها سارة جننجز الضاحكة الوفية الشكاكة الواثقة من نفسها المفعمة بالحياة والنشاط. وفي 1678 تزوجت سارة التي كانت تكبر آن بخمس سنين من جون تشرشل، وفي 1683 تزوجت آن من الأمير جورج الدنماركي. وحالف التوفيق الزيجتين كلتيهما. ولكنهما لم تمسا العلاقة الوثيقة بين المرأتين. وتخلت آن عن كل الشكليات والرسميات فأطلقت مازحة على سارة (التي كانت آنذاك وصيفة مخدعها)"مسز فريمان" وأصرت على ألا تناديها سارة "بالأميرة" بل "مسز مورلي" ولما تخلى الزوجان عن الملك جيمس وانحازا إلى وليم، كان أمام آن أن تختار بين أمرين أحلاهما مر: بين الوالد والزوج، ولكن حبها لزوجها ولصديقتها أوجب عليها السفر إلى نوتنجهام (28 نوفمبر 1688). وفي 19 ديسمبر عادت هي وسارة إلى لندن والى ملك أجنبي غريب عنهما.

لم تأخذ آن قط نفسها بحب وليم، ولشد ما أحست بالامتهان والأذى والألم، حين منح أحد أصدقائه ضيعة أبيها التي كان لها نصيب فيها. وكانت في 1691 تتطلع إلى عودة أبيها إلى عرشه. واشتبه وليم، بحق، في أن

ص: 203

تشرشل (إرل مالبرو آنذاك) وزوجته سارة تحيكان له الدسائس مع الملك المخلوع. وأمرت الملكة ماري أختها آن بطرد سارة من بطانتها. ولكن الأميرة رفضت. وفي صباح اليوم التالي (يناير 1692) عزل مالبرو من مناصبه الرسمية، وأبعد هو وسارة عن الحاشية، وبدلاً من أن تفترق الأميرة عن صديقتها، تحدت الملك والملكة (وليم وماري) وغادرت قصر هويتهول لتعيش مع سارة في "سيون هاوس". وفي 4 مايو أودع مالبرو سجن لندن. وكثيراً ما كانت سارة تزوره هناك. وعرضت أن تنهي صداقتها للأميرة آن لتهدئ من غضب الملكة. ولهذا كتبت آن لسارة تقول:

"في آخر مرة كان هنا وورستر، أبلغته أنك عرضت علي عدة مرات أن تبتعدي عني

وإني لأتوسل إليك، من أجل يسوع المسيح، ألا تعودي إلى مثل هذا الحديث ثانية. وأني لأؤكد لك أنك أن أقدمت على مثل هذه الجفوة القاسية، فأني لن أنعم بلحظة من الهدوء والراحة بعد ذلك. فإن فعلت دون موافقتي، (ولو قدر لي أن أوافق لما كان لي أن أرى وجه الله قط) فلسوف أعتزل الحياة، ولا أرى العالم بعد ذلك، وأعيش حيث ينساني البشر جميعاً (50) ".

ولما لم يقم أي دليل حاسم على اشتراك مالبرو في أية مؤامرة لإعادة جيمس إلى العرش، ولما كان وليم في أمّس الحاجة إلى قادة مهرة. فإنه أخلى سبيله وأعاده إلى سابق مكانته ونفوذه.

ولما أصبحت آن ملكة، وكانت آنذاك في سن الثامنة والثلاثين بدل وغير إيثارها الخلق الكريم والأمانة والإخلاص والعزلة، من طبيعة البلاط الإنجليزي، فلم يجد المولعون بالقصف والصخب واللهو والفجور إليه منفذاً. وآووا ساخطين ناقمين إلى المقاهي والمواخير. وحل رجل الأخلاق أديسون محل روشستر المستهتر الخليع. وكتب ستيل "البطل المسيحي". وكان لتجنب الملكة آن التردد على المسرح ولنموذج حياتها، بعض الأثر في تحسين أسلوب المسرح الإنجليزي. وعبرت الملكة عن ورعها

ص: 204

ذ

وتقواها بأن حولت إلى فقراء رجال الدين في الكنيسة الرسمية نصيب العرض في "بشائر الثمار" والعشور الكنسية (1704)، ولا تزال الحكومة البريطانية تدفع "منحة الملكة آن" هذه. وأنجبت الملكة أطفالاً في كل عام بانتظام تقريباً، ولكنهم ماتوا في سن الطفولة عدا واحداً. ولم يبق على قيد الحياة بعدها منهم أحد. ولشد ما أظلمت حياتها وتحطم قلبها لكثرة ما شيعت من جنازات.

ولو كان في مقدور الملكة الآن أن تحدد هي السياسة القومية لعقدت الصلح مع فرنسا، واعترفت بما طالب به أخوها من أبيها المتوفى، أن يتربع على العرش تحت اسم جيمس الثالث. ولكن وليم الثالث بإرادته القوية كان قد أدخل إنجلترا في "الحلف الأعظم" كما أن الرجل الذي غلبت آراؤه ومشورته على كل ما عداها، والذي كانت قد رفعته فور اعتلائها العرش من إرل إلى دوق مالبرو، نقول أن هذا الرجل أغراها بأن تشقى في حكمها لمدة أكثر من عشر سنوات بحرب دامية باهظة التكاليف. وكانت لا تزال واقعة تحت تأثير صديقتها. وهي آنذاك دوقة والمشرفة على ملابس الملكة، وعلى أموالها الخاصة. وكانت سارة تتقاضى 5100 جنيه سنويا. واستغلت تأثيرها التي كاد يكون مغناطيسياً على الملكة، في زيادة ثراء زوجها، فعين مالبرو قائداً عاماً للقوات البرية. كما عين بناء على اقتراحه (صديقه سدني جودولفين وزيراً للخزانة لأنه كان أميناً بشكل شاذ، كما كان قديراً في الشئون المالية كما كان يمكن الاعتماد عليه في تحويل الأموال فوراً إلى قادة الجيش الذي كان جنودهم يبدون من الشجاعة بقدر ما يقبضون من نقود. وقد يشوقنا أن نسجل ان جودولفين مات فقيراً، بعد أن قضى نصف عمره يضطلع بشئون الخزانة، وذهب دوقة مالبرو العنيدة إلى أنه (خير من عاش من الرجال)(51) ومهما يكن من أمر فإنه قضى وقت فراغه في صراع الديكة وسباق الخيل والميسر، وهي رذائل معتدلة تعتبر مقاربة للفضيلة.

أن تجرد آن من الذكاء والفطنة سمح لوزرائها بالاستحواذ على قدر

ص: 205

كبير من السلطة وحقوق المبادرة التي كان البرلمان قد تركها للتاج، ومن ثم نشبت المعارك السياسية (فيما عدا فترة حكم جورج الثالث) بين البرلمان والوزراء، لا بين البرلمان والملك. وفي 1704 دخل الوزارة شخصيات جديدة: روبرت هارلي وزيراً للدولة، وهنري سانت جون وزير للحرب. ومس كلا الرجلين تاريخ الأدب مساً خفيفاً: فأن هارلي كان يستخدم ديفو وسويفت، كما كان سانت - بوصفه فيكونت بولنجبروك فيما بعد - ذا تأثير على بوب وفولتير، كما أنه هو نفسه مؤلف أبحاث كانت يوماً مشهورة. "أبحاث في دراسة التاريخ" و "فكرة عن ملك محب لوطنه". وكان كلا الوزيرين يدمن الشراب، ولكن هذا لم يكن ميزة في إنجلترا في ذاك الزمان. وكلاهما تولى منصبه بعون من مالبرو، ولكنهما انقلبا ضده بتهمة إطالة أمد حرب الوراثة الإسبانية دون مبرر يدعو إلى ذلك.

ولد سانت جون (1678) في عهد شارل الثاني، وتوفى (1751) في أول سني "دائرة المعارف"، ومن هنا مثل تمثيلاً دقيقاً عبور أوربا من عودة الملكية إلى عصر الاستنارة في فرنسا، وتلقى أيام صباه تعليماً دينياً كثيراً، وأهدر قدراً كبيراً منه أيام كان رجلاً. وأنه ليروى لنا:"كنت أرغم حين كنت صبياً على قراءة تعليقات دكتور مانتون الذي كان يفخر بأنه ألقى 119 عظة عن المزمور رقم 119 (52) "وفي إيتون وأكسفورد سعى جون وأحرز قصب السبق في الذكاء والتكامل الخالي من الهموم، والانغماس في الملذات والإدمان على الشراب في لباقة. وكان يفاخر بأنه يتناول أكبر قدر من الخمر دون أن يثمل. وبأنه يخادن أبهظ العاهرات نفقة في المملكة (53). وفي لحظة أراد أن يكتفي فيها بواحدة تزوج من وريثة ثرية. ولكنها سرعان ما هجرته لخيانته. ولكنه استمر ينعم بضياعها، مع بعض فترات انقطاع يسيرة. ووجد في 1701 أن الانتخاب للبرلمان لا يكلف كثيراً، نسبياً. وهناك حظي في مجلس العموم بنفوذ عظيم نتيجة لوسامته وسرعة بديهته وبيانه المتدفق. ودخل الوزارة ولم يجاوز

ص: 206

السادسة والعشرين من العمر.

وكان أبرز إنجازات هذه الوزارة هو توحيد برلمان إنجلترا وإسكتلندة، فإن البلدين على الرغم من خضوعهما لمليك واحد، كان لهما برلمانان منفصلان. واقتصاديات متعارضة ومذاهب دينية متنافرة، وشنت كل منهما الحرب على الأخرى، زد على ذلك أن التعريفة الجمركية التي أملاها الحقد والحسد بين البلدين عوقت تجارتهما. وفي 16 يناير 1707 وافق البرلمان الإسكتلندي، وفي 6 مارس صدقت الملكة، على بنود (الاتحاد) التي بمقتضاها أصبحت المملكتان - على حين احتفظت كل منهما بمذهبها الديني المستقل - "المملكة المتحدة" لبريطانيا العظمى، ولها برلمان بريطاني واحد، مع حرية مطلقة في الاتجار. على أن يختار 16 نبيلاً اسكتلندياً لمجلس اللوردات، وينتخب 45 عضواً في إسكتلندة لمجلس العموم، وينضم صليب سان جورج وصليب سانت أندرو في علم جديد واحد. "اتحاد جاك" ولم يرحب أهالي إسكتلندة بالاندماج، ولمدة نصف قرن من الزمان تفاقمت العداوات القديمة. ولكن ما جاءت 1750 حتى اعترف الجميع بأن الاتحاد كان خيراً وبركة. وتخلصت إسكتلندة من نفقات مزدوجة، وانطلقت طاقتها الفكرية لتبدع في النصف الثاني من القرن الثامن عشر باكورة نتاج مشرق من الأدب والفلسفة.

وعزل هارلي وسانت جون عن الوزارة أثر فوز الأحرار (الهويج) في أكتوبر 1707، ولكن استمر تأثير نفوذ هارلي على الملكة عن طريق ابنة عمه "مسز أبيجيل ماشام" وكانت دوقة مالبرو قدمت هذه السيدة إلى الملكة آن من قبل. فخفف هدوءها ولين عريكتها ورقة مزاجها عن الملكة التي أرهقت مسؤولياتها الجديدة أعصابها كما أزعجتها نظرات سارة وصوتها العنيف. ورحبت سارة لبعض الوقت يتحررها من مداومتها على البقاء في البلاط، ولكن سرعان ما فزعت حين اكتشفت تضاؤل نفوذها لدى الملكة: وكادت آن تكون بالطبيعة "محافظة - توري" تقية محبة للسلام، على حين كانت سارة "متحررة - هويج" ضعيفة الإيمان،

ص: 207

تسخر صراحة من حقوق الملوك الإلهية على أنها تدجيل على الشعب وخداع له. وكم ألحت على الملكة في تأييد مشيئة مالبرو في شن الحرب على فرنسا حتى يتم القضاء عليها. وكشفت آن عن شيء جديد من قوة العقل والتفكير بعد أن تقلص ظل سارة. وعندما ثارت ثائرة سارة عليها بشكل وقح طردتها من الحاشية (1710)، وصرحت الملكة آنذاك بأنها تحررت من أسر طال أمده.

وفي نفس السنة عاد فوز "المحافظين" في الانتخابات، بهارلي وبولنجبروك إلى الحكم، وحل هارلي محل جودولفين في وزارة الخزانة، وتولى بولنجبروك وزارة الحربية، وأصبح جوناثان سويفت كاتب الكراسات والنشرات، البالغ الأثر، لهما. وعين هارلي إرل أكسفور (1711) وحظي سانت جون بلقب فيكونت بولنجبروك (1712). وابتهجت مومسات لندن حين سمعن بنبأ ترقية بولنجبرو، قائلات: "أنه يحصل على ثمانية آلاف جنيه في العام، وكلها لنا

(1)

"وقدمت الأغلبية "المحافظة" إلى المجلسين (1711) مشروعاً ينص على أنه يشترط للترشيح للبرلمان امتلاك أرض ذات دخل سنوي لا يقل عن 300 جنيه لممثلي المدن، وستمائة جنية لمندوبي الريف (54). لقد بلغت الأرستقراطية مالكة الأرض ذروتها آنذاك في إنجلترا.

واعتزمت الوزارة الجديدة - على حين رفض مالبرو - إنهاء الحرب بعقد صلح منفرد مع فرنسا. وفي 1711 قدم هارلي إلى مجلس العموم اتهاماً بالاختلاس ضد مالبرو. فتذرعوا بأن الدوق كان يجمع ثروة خاصة طائلة بوصفه القائد العام للقوات البريطانية، وعن طريق مهام أخرى يتولاها، وأنه بالإضافة إلى رواتبه السنوية التي تصل إلى نحو 60 ألف جنيه. كان يقبض ستة آلاف جنيه سنوياً من سير سولومون مديناً متعهد توريد

(1)

من رسالة مؤرخة 24 أبريل، لفولتير، وهو في الغالب كذوب.

ص: 208

الخبز للجيش. وأنه اقتطع لنفسه خاصة 2. 5% من المبالغ التي كان يتسلمها من الحكومات الأجنبية لدفع رواتب القوات الأجنبية التي كانت تحت إمرته. ولم ترق عمارة قصر بلنهيم الضخم لأحد إلا لعين مهندسه. وكان مالبرو يشيد هذا القصر في وودستوك قرب أكسفورد. وكانت الملكة قد أمرت أن تتولى الحكومة الإنفاق على بنائه. وشرعوا في البناء 1705، ولم يتم في 1711 إلا نصفه الذي تكلف 134 ألف جنيه بالفعل (55)، وكان إتمامه يستلزم مبلغ 300 ألف جنيه دفعت الحكومة أربعة أخماسه (56).

ودفع مالبرو بأن المبلغ المتقطع (2. 5%) كان مسموحاً به بحكم العادة والعرف للقائد للصرف منه - دون تسجيل علني في الحسابات - على الخدمات السرية وأعمال التجسس التي أتت بأحسن النتائج. وأبرز ترخيصاً موقعاً من الملكة تجيز له الاقتطاع، كما أكد الحلفاء الأجانب أنهم أيضاً فوضوه في الاقتطاع، وزاد ناخب هانوفر على ذلك أن هذا المال استخدم بحكمة "وأدى إلى كسب معارك كثيرة (57) " أما عن المنحة التي كان مالبرو يتقاضاها من مديناً فإن دفاعه كان غير مقنع. وأدان المجلس بأغلبية 276 صوتاً ضد 175. وعزلته الملكة من جميع مناصبه (31 ديسمبر 1711)، فغادر إنجلترا إلى المنفى الذي اختاره لنفسه بنفسه، وعاش في هولندا أو ألمانيا حتى نهاية العهد. وعين الوزراء جيمس بتلر دوق أورمند الثاني ليتولى قيادة الجيوش البريطانية، وفوضوه في اقتطاع نفس النسبة من عقود توريد الخبز ومن الأموال الأجنبية، وهو ما أدانوا به مالبرو (58). ولكن الشعب البريطاني تقبل سقوط مالبرو على أنه خطوة على طريق السلام.

وتفجر النزاع من جديد بين حزبي المحافظين والأحرار حول موضوع الوراثة الإسبانية. ذلك أنه في 1701 حين مات آخر من بقي على قيد الحياة

ص: 209

من أولاد الملكة آن، أقر البرلمان - رغبة منه في إحباط عودة أسرة ستيوارت إلى الملك مرة ثاني، قانوناً للتسوية ينتقل عرش إنجلترا بمقتضاه في حالة عدم وجود عقب لوليم الثالث والأميرة آن - إلى الأميرة صوفيا وورثتها من صلبها، وهم بروتستانت. وكانت صوفيا، زوجة ناخب هانوفر، بروتستانتية يقيناً، يجري في عروقها بعض الدم الملكي البريطاني لأنها من حفيدات جيمس الأول. وكانت آن قد قبلت هذا التدبير ضماناً للحفاظ على إنجلترا بروتستانتية. ولكن الآن وقد آذنت شمس حياتها بمغيب فإن عطفها على أخيها المحروم من حقه في العرش، نما واشتد، ولم تدع مجالاً للشك في أنها لابد أن تساند مطالبة جيمس الثالث بالعرش إذا هو ارتضى نبذ الكثلكة. وأعرب الأحرار "عن تأييدهم التام لوراثة آل هانوفر للعرش، على حين مال المحافظون إلى وجهة نظر الملكة. وفاوض بولنجبروك جيمس، ولكن الأمير أبى التخلي عن عقيدته الكاثوليكية. على أن بولنجبروك الذي لم تكن الديانات في نظره إلا أثواباً متباينة تكسو الموت جلالاً وشرفاً. حاول بكل الوسائل إلغاء "قانون التسوية" وإبقاء وراثة العرش لجيمس، وعاب على هارلي تباطأه الشديد في هذه المسألة، وبناء على اقتراح منه عزلت الملكة آن هارلي وهي كارهة. وبدا لمدة يومين اثنين أن بولنجبروك سيد الموقف.

ولكن في 29 يوليه انتاب الملكة مرض خطير نتيجة تأثرها وحزنها الشديد للخلافات بين وزرائها. وهنا تسلح البروتستانت في إنجلترا لمقاومة أية عودة لملكية آل ستيوارت، ونبذ المجلس المخصوص سياسة بولنجبروك، وأقنع الملكة المترددة بتعيين دوق شروزيري وزيراً للخزانة ورئيساً للحكومة. وفي أول أغسطس 1714 فارقت آن الحياة. وكانت صوفيا قد قضت نحبها قبل ذلك بشهرين، ولكن "قانون التسوية" ما زال قائماً. وأرسل المجلس إلى ابن صوفيا، ناخب هانوفر، يبلغه أنه أصبح الآن جورج الأول ملك إنجلترا.

ص: 210

أن سني حكم وليم وماري وآن (1689 - 1714) كانت سنين حيوية بارزة في تاريخ إنجلترا. وعلى الرغم من الانحلال الخلقي والفساد السياسي والنزاع الداخلي، شهدت هذه السنوات انقلاباً أسرياً (تغييراً جذرياً في الأسرة المالكة)، وإقرار البروتستانتية نهائياً في إنجلترا، وانتقال سلطة الحكم من الملك إلى البرلمان بشكل لا رجعة فيه. كما شهدت نشوء الوزراء الأقوياء، وهذا بدوره أدى إلى الانتقاص من سلطان الملك. وشهدت لآخر مرة في 1707 اعتراض الملك على تشريع البرلمان، وخطت خطوة أوسع في إقرار التسامح الديني وحرية الصحافة. ووجدت بطريقة سلمية بين إنجلترا وإسكتلندة، في دولة أقوى، هي بريطانيا. وأحبطت محاولة أقوى ملوك العصر الحديث ليجعل من فرنسا الدكتاتور الآمر الناهي في أوربا، وبدلاً من ذلك جعلت إنجلترا سيدة البحار، ووسعت ممتلكات إنجلترا في أمريكا، مما كان له نتائج تاريخية بعيدة المدى وشهدت هذه السنوات أيضاً انتصارات العلم والفلسفة في إنجلترا في "مبادئ اسحق نيوتن"، وفي كتاب لوك "بحث في التفاهم الإنساني". أما سني حكم آن الوديعة، وهو حكم قصير لم يتجاوز اثني عشر عاماً، فقد كان عهد انبثاق في الآداب - ديفو، أديسون، ستيل، والفترة الأولى من حياة الاسكندر بوب - لم يكن له نظير في أي مكان في العالم في ذاك العصر.

ص: 211

الفصل الحادي عشر

‌من دريدن إلى سويفت

‌1660 - 1714

1 -

صحافة حرة

ترى ماذا حد برجل فرنسي أن يكتب في 1712 بزت "إنجلترا فرنسا في الإنتاج الأدبي كما وكيفما وأن مركز الحياة العقلية والفكرية .. انتقل أكثر فأكثر إلى الشمال حتى قام الإنجليز حوالي عام 1700 "بأكبر دور خلاق (1) " إن رجلاً إنجليزياً نعم بمآثر فرنسا يرد التحية فيقول: إن جزءاً من هذا الحافز جاء عن طريق آداب السلوك والعادات التي جلبها شار الثاني والمهاجرون العائدون، وأن جزءاً آخر نبع من ديكارت وباسكال وكورنيل وراسين وموليير وبوالو ومدموازي دي سكودري ومدام دي لافايت، ومن الفرنسيين المقيمين في إنجلترا مثل سانت أفرموند وجرامونت. وأنا لنرى التأثير الفرنسي في الملهيات الشهوانية الجنسية والمآسي البطولية التي ظهرت على المسرح في عودة الملكية، وفي الانتقال من غزارة النثر في عهد إليزابيث وتلافيف فترات ملتون إلى النثر المهذب المصقول المنطقي الذي دبجه دريدن وهو يكتب المقدسات وإلى الشعر الذي نظمه بوب: ومضى الآن قرن من الزمان (1670 - 1770) كان الأدب الإنجليزي فيه نثراً، حتى ولو كان موزوناً مقفى، ولكنه نثراً فخماً واضحاً ممتازاً من الطراز الأول.

ومهما يكن من أمر فأن الأثر الفرنسي كان مجرد استحثاث، ولكن جذور المسألة كانت في وسع إنجلترا نفسها: في عودة الملكية المقرونة بالبهجة والفرح والتحرر، وفي التوسع الاستعماري، وفي إثراء الفكر بفضل

ص: 212

التجارة، وفي الانتصارات البحرية على الهولنديين، وفي قهرها (1713) لفرنسا التي كانت قد انتصرت على إسبانيا. ومن ثم انفتح الطريق إلى الإمبراطورية شمالاً، وكما أجرى لويس الرابع عشر الرواتب على المؤلفين بوصفها رضيخة أو رشوة تمنح للأنصار، فان الحكومة الإنجليزية، بطريقة شبيهة بهذه، كافأت الشعراء أو الثائرين المحبين لوطنهم أو المشايعين للحكومة - دريدن كونجريف، جاي، بربر، أديسون، سويفت - بالرواتب تخصص لهم، ويتناول الطعام على موائد الأرستقراطية، وبحصة على المبيعات من المطبوعات، أو بالوظائف ذوات الدخل الكبير والجهد اليسير في الإدارة، من ذلك أن أحدهم صار وزيراً، ونظرا فولتير في شيء من السد إلى هذه الوظائف السياسية (2). ورعى شارل الثاني العلم والجمال لا الأدب والفن. ولم يكترث وليم الثالث والملكة آن بالأدب. ولكن وزراءهم - حين وجدوا أن الكتاب نافعون في عصر الصحافة والنشرات والمقاهي والدعاية - أغدقوا المال على الأقلام التي يمكن أن تخدم التاج أو الحزب أو الحرب. وأصبح الكتاب سياسيين ثانويين، وبعضهم مثل برير Prior، صار من رجال السلك الدبلوماسي، وبعضهم مثل سويف وأديسون برع في التعيين في الوظائف وفي المحسوبية وفي التدخل في شئون السلطة. وأهدى المؤلفون أعمالهم إلى اللوردات وسيدات المجتمع، تقديراً كريماً لما ينتظر أن يحظوا به من خيرات وفضل وعطف ووصال، في عبارات إهداء ملؤها المديح والإطراء والتحيات والتمنيات، ممل جعل هؤلاء السيدات وأولئك اللوردات أسمى من أبوللو أو فينوس في جمال الجسم والقوام، ومن شكسبير وسافو في كمال العقل والذهن.

وساعدت الحرية الذهب على إطلاق العنا لفيضان المداد وجريان القلم وكانت قصيدة ملتون "أريوباجيتيكا" قد أخفقت في القضاء على "قانون الرقابة" التي تحكمت به الرقابة في الصحافة في عهد ملوك أسرتي التيودور وستيوارت، واستمر القانون نافذ المفعول في عهد كرومول غير المستقر،

ص: 213

وبعده في عودة الملكية لآل ستيوارت، ولكن حين بدأت حكومة جيمس الثاني في إزعاج الأمة، شرع عدد أكبر فأكبر من كتاب الكراسات والنشرات يتحدون القانون ويدخلون السرور على قلوب الشعب. وعندما اعتلى وليم الثالث العرش، كان هو وأنصاره "الأحرار" مدينين بأكبر الفضل للصحافة إلى حد أنهم عارضوا تجديد قانون الرقابة، فانتهى العمل به 1694، ولم يجدد، وتدعمت حرية الصحافة تلقائياً. وربما ظل الوزراء الملكيون يعتقلون الكتاب بسبب هجماتهم العنيفة المتطرفة على الحكومة وظل "قانون التجديف"(1697) يفرض عقوبات صارمة على التشكك في أساسيات الدين المسيحي، ولكن إنجلترا نعمت منذ ذلك الوقت فصاعداً بحرية الأدب التي أسهمت، على الرغم من سوء استخدامها غالباً، إسهاماً كبيراً في نمو الفكر الإنجليزي.

وتضاعفت عدد الدوريات، وانتظم صدور الصحف الأسبوعية منذ 1622، وعطلها كرومول جميعاً ما عدا اثنتين، ورخص شار الثاني في صدور ثلاث منها تحت إشراف رسمي، أصبحت واحدة منها هي "أكسفورد" وفيما بعد لندن جازيث "الناطقة باسم الحكومة" وكانت تصدر نصف شهرية أو نصف أسبوعية منذ 1665. وفور إلغاء قانون الرقابة صدرت عدة صحف أسبوعية. وفي 1695 أسس المحافظون أول جريدة يومية إنجليزية "ساعي البريد Poat Boy" والتي لم تصدر إلا أربعة أيام فقط، حيث عاكسها "الأحرار" في الحال بصحيفة "البريد الطائر Flying Poat". وأخيراً في 1702 أصبحت The English Gourant هي الصحيفة اليومية المنتظمة في إنجلترا - فرخ صغير من الورق مطبوع على وجه واحد فقط، تقص الأنباء ولا تدون آراء، ومن هذه الهبات المتقطعة نشأت عمالقة الإعلان التي نراها اليوم بين أيدينا.

وأتى ديفو بمستوى جديد في صحيفة "ريفيو"(1704 - 1713) وكانت أسبوعية تقدم التعليقات كما تقدم الأنباء. وهي التي بدأت القصة

ص: 214

المسلسلة وتبعه ستيل في "تاتلر"(1709 - 1711). وسما هو وأديسون بهذا التطور إلى ذروته التاريخية في "سبكتاتور"(1711 - 1712) وروع حكومة المحافظين التوزيع الإجمالي التوزيع الإجمالي وتأثير الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية، ففرضت عليها ضريبة تمغة تتراوح بين نصف بنس وبنس واحد. مما جعل البقاء مستحيلاً بالنسبة لمعظم الدوريات. وكانت "سبكتاتور" إحدى الدوريات التي احتجبت. وقال سويفت لبطلته وصديقته ستللا:"لقد دمروا شارع Grub بأسره (3) (الشارع الذي يقطنه محررو الصحف). وأصدر بولنجبروك في 1710 "أجزامنر Examiner" الأسبوعية ليدافع بها عن سياسة وزارة المحافظين. ووجد في جوناثان سويفت رجلاً واسع الاطلاع لاذع القدح والطعن، متوقد الذكاء. لقد وقع المال على أداة جديدة، وطغى سلطان الصحافة الدورية شيئاً فشيئاً على تأثير المنابر في تشكيل الرأي العام، وإعداده للأهداف الخاصة، ودخلت التاريخ قوة جديدة تنزع عن الناس الصبغة الدينية وتنزع بهم إلى التعلق بالأمور الدنيوية.

‌2 - المسرحية في فترة عودة الملكية

فيما بين عامي 1660 و 1700 كان ثمة أداة أرى شكلت أو شوهت أو عبرت مجرد تعبير عن روح لندن المجردة من الحيوية والنشاط. وحيث استطاب شارل الثاني المسرحية الباريسية فإنه أجاز فتح مسرحين: الأول للملك وجماعته في "دروري لين" والثاني لدوق يورك وجماعته في "لنكولن ان فيلدز" وفي 1705 افتتح مسرح الملكة في هابماركت، ولكنها نادراً ما شهدت التمثيل فيه. وفي أيام شار الثاني كان مسرحان اثنان يفيان بالحاجة عادة. وظل البيوريتانيون يقاطعون المسرحية، أما الجمهور بصفة عامة على أية حال، فلم يكن يرخص له بدخول المسارح بين 1660 و 1700 (4) ولم يقصد إليها في معظم الأحوال إلا كل عربيد ماجن من رجال الحاشية، وحثالة الطبقة الأرستقراطية والمتصلين بها، والأثرياء المتعطلين الذين

ص: 215

يقضون أوقاتهم في المسارح والنوادي وسباق الخيل وغيرها. ويقول دكتور جونسون الوقور: "أن المحامي الوقور ليحط من قدره ويمتهن كرامته، وأن المحامي الناشئ ليسيء إلى سمعته، إذا غشى بيوت الإباحية المنحلة هذه (5) "وشكل النساء قسماً صغيراً من النظارة على أنهن إذا ذهبن إلى المسرح كن يخفين شخصياتهم وراء الأقنعة (6). وكانت العروض تبدأ في الساعة الثالثة بعد الظهر، حتى إذا تحسنت الإضاءة في الشوارع (حوالي 1690) أجلت إلى السادسة. وكان أجر الدخول أربعة شلنات للمقصورات وللمقاعد الخلفية شلنين ونصف وللشرفات شلناً واحداً. وكانت أجهزة التأثير المسرحي وتغيير المناظر أكثر إتقاناً بكثير عما كانت عليه في أيام إليزابيث. ولو أن حجرة نوم واحدة وملحقاتها ربما كانت تكفي لمعظم ملهيات عصر عودة الملكية، وحلت الممثلات محل الغلمان في تأدية أدوار النساء، وكن كذلك عشيقات، من ذلك أن مرجريت هيوز التي مثلت ديدمونا لأول مرة ظهرت فيها امرأة على المسرح الإنجليزي (8 ديسمبر 1660) كانت عشيقة الأمير روبرت (7). وفي عرض لمسرحية دريدن "الحب الإستبدادي" تعلق قلب شار الثاني لأول مرة بخليلته نل جوين التي كانت تمثل دور فاليريا (8). إن طبيعة جمهور المشاهدين، ورد الفعل ضد البيوريتارية، وأخلاق البلاط، وذكريات روايات عصري اليزابيث وجيمس الأول (وبخاصة روايات بن جونسون) وأحياء هذه الروايات واستعادة تلك الذكريات من جديد، وتأثير المسرح الفرنسي والملكيين المهاجرين، كانت كلها عوامل تجمعت لتشكل المسرحية أيام عودة الملكية.

وكان الأسم اللامع في "مسرحية المأساة" في عودة الملكية هو دريدن لنتركه مؤقتاً، لنتحدث عن مسرحية توماس أوتواي "الحفاظ على فينيسيا" التي عمرت بعد كل روايات دريدن وظلت تمثل حتى 1904. إنها قصة حب مطعمة بمؤامرة أصدقاء كونت دي أوزونا لقلب سناتو فينيسا في 1616. ويرجع ما صادفته من نجاح في البداية من ناحية، إلى الصورة الساخرة التي

ص: 216

رسمتها لإرل شافتسبري الأول (عدو شارل الثاني وصديق لوك) في شخصية أنطونيو الذي يحب أن تضربه عشيقته البغي، ومن ناحية أخرى إلى التشابه بين هذه المؤامرة وبين المؤامرة البابوية "الحديثة" ومن ناحية ثالثة إلى تمثيل توماس بترتون ومسز اليزابيث باري، ولكن الرواية تقف اليوم على قدميها إن مناظرها الهزلية سخيفة مؤذية، خاتمتها تنشر الموت في إجماع أقرب شبهاً بالمسرحية الموسيقية (الأوبرا)، ولكن حبكة الرواية متقنة دقيقة، وشخوصها مصورة تصويراً مميزاً، والحركة مسرحية إلى أبعد حد، والشعر المرسل فيها ينافس مثيله في المسرحية في عصر اليزابيث، باستثناء مارلو وشكسبير. ووقع أوتواي في غرام مسز باري، ولكنها آثرت عليه معاشرة إرل روشستير، وبعد كتابه عدة مسرحيات أخرى ناجحة أخرج الشعر سلسلة من الروايات لم يكتب لها النجاح، وانحدر إلى مهاوي الفقر والعوز وفي رواية أنه مات جوعاً (9).

إن ذكرى المسرحية في فترة عودة الملكية حية من أجل ملهياتها فإن ما كان في هذه الملهيات من مرح وسخرية، ومحاورات داعرة، ومغامرات في المخدع، بالإضافة إلى قيمتها في أنها مرآة تعكس حياة طبقة واحدة في جيل واحد. كل أولئك أكسبها شعبية جزئية، إن لم تكن مختلسة لا تكاد تستحقها. فإن مجالها ضيق إذا قيست بملهيات عصر اليزابيث أو موليير، وأنها لا تصور الحياة بل تصف عادات المتعطلين المتسكعين في المدن والحاشية الخليعة المتهتكة، وتتجاهل الريف إلا إذا أخذوه هدفاً للاستهزاء والسخرية، أو "سيبيريا" ينفى إليها الأزواج زوجاتهم المتطفلات. إن بعض المسرحيين الإنجليز شاهدوا موليير يمثل أو تمثل رواياته، واستعار بعضهم شخوصه أو حبكات مسرحياته، ولكن أحداً منهم لم يبلغ نزعته في مناقشة الأفكار الأساسية، فالفكرة الأساسية الوحيدة في هذه الملهيات هي أن الزنى هو الهدف الرئيسي لأعظم عمل بطولي في الحياة. وكان المثل الأعلى للرجل فيها هو ما وصفه دريدن في "المنجم الهزاة" على أنه "سيد ماجد، رجل ثري

ص: 217

عاطل يغشى النوادي والمقاهي والمسارح والمواخير، يرتدي أفخر الثياب، يأكل ويشرب ويفسق ويعاشر البغايا إلى أقصى حد ممكن". وفي رواية فاركو "خداع العاشقين" جاء على لسان أحد الشخصيات، وكأنما يقول سيد مهذب لآخر: "إني أحب جواداً جميلاً ولكني أتركه لرجل آخر ليتولى العناية بأمره، وإني كذلك بالمثل أحب سيدة جميلة" (10) وهذا لا يعني أنه لا يشتهي زوجة جارة ولا يمد عينيه إليها، بل أنه يريد أن يستمتع بكل مفاتنها وأطايبها، على حين ترك لزوجها أن يرعى شئونها وينفق عليها. وفي رواية كونجريف "طريق الحياة الدنيا" يقول ميرابل المعشوق موضع الإعجاب لزوجة صديقه "يجب أن تشعري بالاشمئزاز والنفور والكراهية لزوجك مما يجعلك تستمتعين بحبيبك أو عشيقك (11) ". ويندر أن ترى الحب في هذه الروايات يرتفع فوق الشهوة الجسدية التي تلتهف بين جوانح الطرفين، يريدان إطفاءها. وإنا لنتلهف عند قراءتها أن تقع العين على ظل لمعاني النبل والشرف، ولكنا لا نرى فيها ألا أخلاقيات المواخير وبيوت الدعارة.

إن وليم وتشرلي هو الذي استهل هذا التقليد، وكان أبوه ملكياً من أسرة عريقة تملك ضيعة كبيرة، وأرسل ولده إلى فرنسا لتلقي العلم، عندما تولى البيوريتانيون مقاليد الحكم في إنجلترا، إصراراً منه على ألا ينشأ الولد بيوريتانياً. ولم يعتنق وليم قط هذا المذهب، ولكن الأسرة صعقت حين اصبح كاثوليكياً. وسرعان ما عاد إلى البروتستانتية لدى عودته إلى إنجلترا، وهناك درس في أكسفورد وتركها دون الحصول على درجة جامعية. وانصرف إلى كتابة الروايات. وجمع ثروة من رواية "حب في الغابة"(1671) التي أهداها إلى ليدي كاسلمين. واستقبله في البلاط الملك الودود اللطيف الذي لم يشك ولم يتذمر حين وجد آن وتشرلي وتشرشل كليهما، يشاركانه غرام عشيقته كاسلمين (12).

واشترك وليم في الحرب الهولندية 1762، ببسالة متوقعة من سيد

ص: 218

ماجد، وعاد إلى إنجلترا ولم يمسسه سوء، وأحرز نجاحاً آخر في "الزوجة الريفية"(1672). ودعا النظارة في المقدمة - إذا لم تعجبهم الرواية - إلى دخول غرفة ملابس الممثلين في ختامها، وهناك:

"فإننا عن طيب خاطر .. نتخلى لكم يا شعراءنا، عن العذارى، لا بل عن عشيقاتنا كذلك".

وخلاصة الموضوع أن مستر بنشويف اصطحب زوجته معه لقضاء أسبوع في لندن، وأحكم حراستها إلى حد أنها أوقعت في شرك الغواية تحت سمعه وبصره، ذلك أن من يدعى مستر هورنر - العائد من فرنسا لتوه، والمتلهف على الوصول إلى الزوجات دون عائق - أذاع بين الناس أنه خصي، ومن هنا يستنتج بنشويف أنه لا حرج في أن يفتح بيته لمثل هذا العنين العاجز، ولكنه سرعان ما يكتشف أن زوجته تكتب رسالة غرامية إلى هذا الزير المتودد إليها الذي أدعى العنة، فيرغمها على كتابة رسالة أخرى تكيل له فيها أقذع السباب والشتائم، وما أن أدار الزوج ظهره حتى أسرعت هي فوضعت رسالتها الغرامية الأولى مكان الرسالة الثانية التي تنم عن الغضب والاستياء. وسلم الزوج المزهو المفاخر بالسيطرة على الموقف الرسالة الأصلية إلى هورنر. وبعد فترة اتجه ظن الزوج إلى أن هورنر اقدر مما تردده عنه الشائعات، ففكر في أن يشغله، ووافق على أن يأخذ إليه أخته أليثيا. وتتنكر الزوجة حتى تبدو وكأنها أليثيا، ويحملها زوجها إلى عشيقها. وتختتم الرواية "برقصة الديوث"، وهورنر هو المنتصر في النهاية، ثم تلقى إحدى الممثلات إحدى الممثلات شعراً توجه فيه اللوم والتقريع إلى الرجال الحاضرين، لأنهم لا يتحلون بقدر كاف من الرجولة.

"وقد يظل الناس على اعتقادهم بأنكم ممتلئون قوة ورجولة، ولكنا نحن النساء لا سبيل إلى خداعنا".

واقتبس وتشرلي كثيراً من "الزوجة الريفية" من رواية موليير "مدرسة الأزواج ومدرسة الزوجات" وفي روايته التالية "التاجر

ص: 219

الشريف" حول وتشرلي شخصية "ألست" في رواية موليير "مبغض البشر" إلى شخصية كابتن مانلي الذي لم تتعد فكرته عن التعامل الشريف، مجرد تناول كل الناس والأشياء بلغة بذيئة مقذعة. والغريب المدهش الأمر أن سكان لندن، بل حتى سكان بعض الضواحي، أحبوا وصف الحياة على أنها سعى متصل وراء شهوة الجسد، يلطف منه بعض التجديف في الحديث. وفي إحدى المكتبات في "تنبريدج ولز" سمع وتشرلي إحدى السيدات تسأل عن كتابه المنشور حديثاً "التاجر الشريف" فغمرته نشوة الفرح، ولم تكن هذه إلا كونتس دور جيدا، الأرملة الثرية فطلب يدها وتزوجها. ووجد أنها كانت تضعه تحت مراقبة أشد وأكثر مثابرة مما كان يفعل بنشويف، ولكنها ماتت فجأة فظن أن أموالها لا بد أن تؤول الآن إليه، ولكن القضايا القانونية التي تشابكت فيها التركة حالت دون ذلك، فلم يستفد منها شيئاً. وعجز عن تسديد الديون التي كان قد اقترضها ثقة منه بأيلولة التركة إليه، فأرسل إلى السجن حيث قضى سبع سنين وهنت فيها عزيمته وذبل نشاطه، حتى جاء جيمس الثاني، وسدد - قبل إرتداد وتشرلي إلى الكاثوليكية ثانية أو بعده - ديونه وأجرى عليه راتباً. وبلغ وتشرلي أرذل العمر في شقاء ومعاناة. وظل مع عجزه يلاحق النساء، ويكتب نظماً، حاول صديقه الشاب بوب أن يحوله إلى شعر. وفي سن الخامسة والسبعين تزوج الفاجر العجوز امرأة شابة، ولم يعمر بعد الزواج إلا عشرة أيام، ووافته المنية في أول يناير 1716.

وكان سيرجون فانبر وألطف من كتب عن الزنى والزناة. وكان "جون بول"(الرجل الإنجليزي النموذجي) يتجسد فيه تماماً، فهو خشن مرح طلق المحيا، يحب طعام إنجلترا وشرابها، ولو أن جده لوالده هو جلليس فان برو، وهو فلمنكي من مدينة غنت قدم إلى بريطانيا في عهد جيمس الأول. وكان جون يبشر بحسن المستقبل إلى حد أنه أرسل إلى باريس في سن التاسعة عشرة ليدرس الفن. فلما عاد في الحادية والعشرين التحق

ص: 220

بالجيش، وقبض عليه في كاليه بتهمة أنه جاسوس بريطاني، وقضى مدة في الباستيل، وهناك كتب المسودة الأولى "للزوجة المغيظة" حتى إذا ما خرج من السجن عكف على كتابة الروايات. وفي ستة أسابيع - كما يروى لنا هو - فكر وتصور، ثم كتب ومثل رواية "النكسة"(1696)، بما فيها من هجا مرح للمتأنقين في لندن، مثل لوردفوبنجتون وملاك الأرض في الريف مثل سيرتنبلي كلمزي، ومس هويدن الشهوانية. وكان سيرتنبلي يضعها تحت الرقابة والحراسة منذ بلغت الحلم، وفرح وانتهج لبراءتها وطهرها. "يا للبنت المسكينة: أنها ستفزع وتنزعج في ليلة عرسها، لأنها، والحق أقول، لا تميز الرجل من المرأة إلا بلحيته وبنطلونه القصير" (14). ولكن مس هويدن نفسها على نحو آخر:"من حسن حظي، هناك عريس قادم، وإلا تزوجت الخباز، سأفعل ذلك. فما من أحد يستطيع أن يقرع الباب، ولكن حالياً يجب علي أن أختبئ، وهنا يكن الكلبة السلوقية الصغيرة تحوم حول البيت طوال اليوم، أنها تستطيع ذلك". وعندما يأتي توم فاشون ليطلب يدها، ويمهله أبوها أسبوعاً، تحتج الفتاة وتقول "أسبوع: ولماذا؟ إني أكون عند ذاك امرأة عجوزاً" (15).

ونجحت مسرحية "النكسة" نجاحاً كبيراً إلى حد أن فانبرو تعجل إكمال "الزوجة المغيظة"(1697) وكانت هذه من أنجح أعمال ذاك العصر. وظل دافيد جارك طيلة نصف القرن التالي يتحف لندن ويمتعها بتمثيله المستهتر لشخصية سيرجون بروت، وهي أعظم شخصية مشهورة مذكورة بين كل شخوص المسرحيات في فترة عودة الملكية. وسيرجون هذا وسيم هزلي ساخر يمثل المظاهر الأقرب شبهاً بالخنزير في ملاك الأرض الإنجليز - يشرب الخمر، ويتباهى، ويهدد ويتوعد، ويستأسد، ويعلن ويشكو من "عصر الإلحاد اللعين هذا". ويفتح المسرحية برأيه في الزواج حيث يقول:

ص: 221

"أي لحم متخم هو الحب، إذا كان متبلاً بالزواج، إن عامين قضيتهما متزوجاً قد أفسدا على حواسي الخمس. فكل شيء أراه، وكل شيء أسمعه، وكل شيء أحس به، وكل شيء أشمه، وكل شيء أتذوقه، أظن أن فيه زوجة. فما ضجر ولد بمؤدبه، ولا بنت ولا رجل بعمل الكفارة، ولا عذراء عجوز بطهرها وعفتها، قدر ضجري بزواجي وسأمي إياه.

ومذ عرفت زوجته آراءه، فإنها تفكر في ترويضه بأن تجعل منه ديوثاً.

ليدي بروث: إنه أساء معاملتي أبلغ إساءة مؤخراً. حتى كاد يستقر عزمي على أن ألعب دور الزوجة بكل ما في الكلمة من معنى، وأجعل منه ديوثاً وأخونه ..

بليندا: ولكنك تعلمين أنه ينبغي علينا أن نقابل الإساءة بالإحسان.

ليدي بروث: ربما كان هذا خطأ في الترجمة (16) ".

وهنا تأتي جارتها ليدي فانسيفل التي تميل إلى ما تميل إليه ليدي بروث، وتناقش شكوكها ومخاوفها مع وصيفتها الفرنسية التي تجيب بالفرنسية وهي هنا مترجمة:

ليدي ف: سمعتي ياآنسة: سمعتي.

الوصيفة: سيدتي، إذا فقد المرء سمعته يوماً، فلن تعود بعد ذلك تزعجه.

ليدي ف: تباً لك يا آنسة، تباً لك، أن السمعة جوهرة.

الوصيفة: وقيمتها غالية جداً يا سيدتي.

ليدي ف: لماذا إذن، يقيناً أنك لن تضحي بشرفك من أجل متعتك؟

الوصيفة: إني فيلسوفة.

ليدي ف: إنه لا يتفق مع الشرف (لقاء العاشقين).

الوصيفة: ولكنه المتعة ....

ليدي ف: ولكن إذا كان العقل يصلح من شأن الطبيعة.

ص: 222

الوصيفة: عندئذ يكون العقل وقحاً، لان الطبيعة أخته الكبرى.

ليدي ف: إذن أنت تؤثرين طبيعتك على عقلك؟

الوصيفة: نعم، بكل تأكيد.

ليدي ف: ولماذا؟

الوصيفة: لأن طبيعتي تغمرني بالبهجة والسرور، أما عقلي فيورثني الجنون (17).

وربما كانت هذه الرواية هي التي أثارت غضب جرمي كوليير إلى حد أنه في العام الذي تلا ظهورها، نشر هجوماً عنيفاً على المسرحية في فترة عودة الملكية، وعلى فانبرو بصفة خاصة. وكان كوليير كاهناً إنجليكانياً على درجة من العلم، ومن الشجاعة والتشدد في عقيدته. وحيث كان قد أقسم يمين الولاء لجيمس الثاني 1685، فإنه أبى أن يقسم يمين الولاء لوليم وماري 1689. واستنكر "الثورة الجليلة"، حتى إلى حد التحريض على التمرد والعصيان. وقبض عليه، ووجد أصدقاؤه مشقة كبيرة في إقناعه بأن يسعوا لإطلاق سراحه بكفالتهم. ومنح الغفران المطلق لرجلين كانا على وشك أن يشنقا بتهمة التآمر على ما اعتبر كوليير أنها حكومة اغتصبت الحكم. فأنكر أسقفه عليه تصرفه وأدانه النائب العام، ولكنه رفض المثول أمام أية محكمة. وعاش طريد العدالة محروماً من الكنيسة حتى وافته المنية. ولكن الحكومة قدرت نزاهته، ولم تلاحقه بعد ذلك. وعبر وليم الثالث عن تقديره الكبير للعصفة التاريخية التي قام بها كوليير.

وكان الكتاب الذي نشره كوليير يحمل عنوان "لمحة قصيرة عن الانحلال والدنس في المسرح الإنجليزي". وكان يحوي، كما حوت معظم الكتب، هراءً كثيراً. واستنكر الراعي الغاضب في المسرحية الإنجليزية أخطاء كثيرة قد تبدو لنا الآن تافهة، أو أنها ليست أخطاء إطلاقاً، واعترض على أية إشارة غير كريمة لرجل الدين، ونشر في سخاء شديد، مظلة العصمة

ص: 223

من الخطأ فوق زعماء الوثنية والكهنة الكاثوليك والقساوسة المنشقين. أدان كثيراً من كتاب المسرح، من أشبللس إلى شكسبير إلى كونجريف ودريدن، حتى ليشعر كل المتهمين ببراءتهم لمجرد حشرهم في زمرة هؤلاء العظماء. ولكن كوليير أضعف قضيته في مجادلته في أن للمسرح العام يجب إلا يتناول الجريمة أو الانحلال الخلقي مطلقاً. ولكنه وجه بعض ضربات ناجحة لأن الأهداف البراقة واجهته في كل مكان. فنعي على كثير من كتاب المسرح في فترة عودة الملكية ما أبدوا من إعجاب بالإسفاف في الزنى والفسق، وأثر ذلك على جمهور المشاهدين. وظل الكتاب حديث لندن طيلة عام كامل. ودافع الروائيون عن أنفسهم بأساليب متنوعة، وتحول فانبرو عن المسرحية إلى هندسة العمارة، وانهمك لأكثر من عشر سنوات في بناء قصر بلنهيم، شاد قصر هوارد على طراز عمارة بللاديو الروماني الجميل (1714). واعترف دريدن بخطاياه، وأظهر ندمه على ما فعل وأنكر كونجريف جريمته، ولكنه أصلح من فنه.

وبلغ وليم كونجريف بمسرحية عصر عودة الملكية ذروتها ونهايتها معاً. ولد بالقرب من ليدز في 1670، في أسرة كانت عراقتها موضع فخره واعتزازه وسط كل ما أحرز من فوز ونجاح. وكان والدة قائد حامية إنجليزية في أيرلندة، ولذلك درس وليم في مدرسة كلكني، وجلس على نفس المقعد الذي جلس عليه جوناثان سويفت، ثم في ترنتي كولدج في دبلن، ثم قي مدل تمبل في لندن. وسرى في دمه جرثومة الطموح الأدبي من بيئة كان في فيها الأذواق أنفسهم يؤلفون الكتب. وفي أول سنة كان يدرس فيها القانون كتب "المستخفية"(1692) التي امتدحها إدموند جروس "لمرحها ودعابتها الخفيفة" ولأنها أقدم قصة طويلة (عن العادات وآداب السلوك؟) في الإنجليزية (18)"، ولكن صمويل جونسون قال عنها "خير لي أن أمتدحها من أن أقرأها (19) "، وحظي كونجريف بالشهرة من

ص: 224

قفزة بملهاته الأولى "الأعزب العجوز" 1693، التي أقسم دريدن - وهو عميد الأدب المعترف به في إنجلترا في هاتيك الأيام - بأنه لم ير قط خيرا منها، باكورة للعمل في مجال الرواية ومذ كان كونجريف غير واثق من أن الرجل الماجد ينبغي أن يكتب للمسرح، فأنه اعتذر بأنه إنما كتبها "لمجرد التسلية في فترة إبلال بطئ من علة ألمت به"، ومن هنا قال كوليير "ليس لي أن أتساءل ماذا كانت علته، ولكن لابد أنها كانت خطيرة جداً، وأسوأ من العلاج (20) ". أما هاليفاكس فإنه اتفق بالرأي مع دريدن، حتى أنه عين كونجريف في منصبين يدران عليه دخلاً كافياً يستطيع بفضله أن يحتفظ بمكانته، سيداً كريماً، وأن يعمل في عالم المسرح.

ولم تلق روايته الثانية "التاجر المخادع"(1694) ترحيباً كبيراً، ولكن إطراء دريدن، الذي وضع كونجرف مع شكسبير في مرتبة سواء، شد من أزر المؤلف الناشئ، وفي 1695، في سن الخامسة والعشرين، عاد إلى خشبة المسرح برواية "الحب للحب" التي فاق نجاحها كل ما عرف من نجاح. ولكن كوليير شجب الرواية واتهمها بأنها تؤيد الفسق والفجور وتشجعهما، وبلغ رد كونجريف عليه من التفاهة حداً انقطع معه عن المسرح طيلة ثلاثة أعوام، وعندما عاد إليه برواية "طريق الدنيا"(1700) كان قد أفاد من النقد القاسي، وأوضح أن الموهبة لا تعتمد على قلب الوصايا العشر رأساً على عقب. وكان في هذه الرواية التي قال عنها سوينبرن المغالي أنها "التحفة التي لا نظير لها والتي لا تدانيها رواية أخرى في روائع الملهاة الإنجليزية (21)، نقول كان فيها بعض أخطاء المسرحية في عصر عودة الملكية، ولكن ليس فيها شيء من رذائلها، وقد ترهقنا عند قراءتها بظرفها المازح الساخر، وتذكرنا بالتلاعب السخيف بالألفاظ في أعمال شكسبير الأولى، ولكن إذا مثلت (ونطق بها بترتون ومسز بريسجيردل كما حدث في أول عرض لها)، فلربما كانت أمتعتنا بما فيها من حيوية وتألق

ص: 225

يقول وتوود "أعرف سيدة تحب الكلام بلا انقطاع، ولا تترك أثراً حسناً (22) " وحبكة الرواية بالغة التعقيد، وقد تتذمر من طول الوقت المطلوب لفهم شجارات ومشروعات الشخوص التافهة الطائشة، وحل العقدة لا يعدو أن يكون سخفاً لا حد له. ولكن في الرواية بعض تهذيب في اللغة وفي الدعابة، وتفكير لطيف (ولو أنه غير عميق أبداً)، مما يمكن أن يدخل السرور على الذهن غير المتعجل، وليس فيها سخرية لاذعة، كما هو الحال في مسرحيات فانبرو، بل فيها تهكم مهذب رقيق، تسرب من قصر فرساي إلى قصر هويتهول وإلى البلاط في فترة عودة الملكية. وفي الرواية خلق الشخصيات الروائية وتصوير لخصائصها. فالبطل، ميرابل شخص غير جذاب، ولكنه نابض بالحياة، صياد التركات والثروات. وجدير بالذكر أنه يسعى للزواج من ميللامانت، بدلاً من إغرائها. ولكن لديها ثروة تساوي أثنى عشر زانياً، وهي أجمل ما أبدع كونجريف، ماجنة عابئة تريد ألف عاشق، وتود الهيام بها لمدى الحياة، من أجل مفاتن أو جمال لن يدوم إلا لسنوات عشر، وترضى الزواج ولكن بشرط:

ميللامانت:

لاشك ياميرابل أني سأبقى في الفراش في الصباح كيفما أشاء.

ميرابل: هل من شروط أخرى تفرضينها؟

ميللامانت: توافه: - أكون حرة في تناول طعامي متى أشاء، وأتناوله وحدي في حجرة ملابسي، إذا كنت معكرة المزاج، دون إبداء الأسباب. وألا يقتحم علي أحد خلوتي. وأن أجلس "إمبراطورة" وحدي إلى مائدة الشاي التي لا يجوز لك أن تفكر في الاقتراب منها قبل أن تستأذني أولاً وأخيراً حيثما كنت ينبغي عليك أن تطرق الباب قبل الدخول. تلك هي شروطي، حتى إذا استطعت أن احتملك لمدة أطول، فقد أتضاءل شيئاً فشيئاً حتى أصبح زوجة.

ميرابل: ألست حراً أن أعرض شروطي؟

ص: 226

ميللامانت: هات أقصى ما عندك

ميرابل: أشترط عليك أن تستمري تحبين وجهك وتعجبين به طالما أحببته أنا أو أعجبت به، حتى إذا الفته أنا، فلا تحاولي قط تشكيله من جديد .. اشترط ثانيا، أنك إذا حملت.

ميللامانت: آه: لا تذكر شيئاً من هذا.

ميرابل: وهذا هو المفروض، وليبارك الله في محاولتنا.

ميللامانت: هذه محاولة كريهة قبيحة.

ميرابل: إني أعترض وأمنعك من ارتداء الملابس المحبوكة التي تشد جسمك لتحتفظي بقوامك حتى لا تشوهي ولدي ويخرج وكأن رأسه قمع سكر (23) ..

وهكذا، وتلك سفسطة سارة، وهجاء معقول، يمر بخفة وسرعة، في أمان، على مظاهر الحياة.

وضرب كونجريف نفسه مثلاً لمظاهر كثيرة، مؤثراً التركيب على المادة، والتنوع على الوحدة. ولم يتزوج قط، ولكنه اختلف إلى سلسلة من العشيقات، ولم نسمع عن ذرية أشقته أو أسعدته. وكان رفيقاً لطيفاً في المقاهي والنوادي. وكان أكرم العائلات تستقبله ببالغ الترحيب. وكان أكولا، وكان يدهن قدميه ويعالجهما بانتظام من داء النقرس. وعندما زاره فولتير 1726 استنكر كونجريف إطراء الشاعر الفرنسي لرواياته، وأبدى عدم اكتراثه لها، على أنها توافه لا تستحق الذكر، وطلب إلى فولتير أن يعتبره مجرد رجل مهذب. عندئذ أجاب فولتير (طبقاً لروايته)"لو كان الأمر كذلك، وأنك مجرد رجل مهذب، لما جئت لأراك (24) ".

وفي 1728، في رحلة للاستشفاء بالمياه المعدنية في باث، انقلبت عربة كونجريف، وظل يعاني من بعض إصابات باطنية حتى وافته المنية في 19 يناير 1729. ودفن في كنيسة وستمنستر. وفي وصيته ترك مائتي جنيه لمسز بريسجيردل التي كانت تقاسي الفقر في شيخوختها، أما معظم الضيعة،

ص: 227

أي نحو عشرة آلاف جنيه، فقد أوصى له لدوقة مالبرو الثانية البالغة الثراء، ومضيفته الأثيرة لديه، فحولت المال إلى عقد من اللآلئ. وكانت تضع على الدوام، في المكان الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه إلى مائدتها، تمثالاً من العاج والشمع تدهن قدميه وتعالجهما بانتظام من النقرس (25).

وقبل موت كونجريف بزمن طويل، كان المسرح الإنجليزي قد شرع يطهر نفسه، حيث أمر وليم الثالث مدير الملاهي والمسارح أن يمارس بشكل أشد صرامة، سلطته في رقابة الروايات أو منع عرضها. وعززت موجة من الاستياء في الرأي العام هذه الرقابة. وحرم قانون أصدرته الملكة آن ارتداء السيدات للأقنعة في المسرح، وقاطعت النساء اللائي حرمن هذا التستر، الروايات المجردة من الاحتشام والوقار على وجه اليقين (26).

واتفق سويفت مع الأساقفة على أن مسرح لندن وصمة في جبين الخلق الإنجليزي. وعرض ستيل روايته (العشاق الشاعرون بالإثم)(722) على أنها مسرحية أخلاقية. ونافس أديسون وقار المأساة الفرنسية وجلالها في مسرحيته "كاتو"(1713). وثمة علامة أقدم من هذا، على التغير الذي حدث في المسرح، ظهرت في أسلوب رد دريدن على كوليير، حيث أحس دريدن أن الكاهن غالباً ما حمل على كتاب المسرح دون وجه حق، وأنه "في كثير من المواضع

فسر كلماتي بأنها تجديف وفجور، وهي بريئة من هذا كله"، ولكنه أضاف:

لن أتحدث كثيراً عن مستر كوليير لأنه اتهمني في أشياء كثيرة، وله في هذا كل الحق. واعترفت بذنبي في كل الأفكار والتعبيرات التي أوردتها والتي يمكن أن توصم بحق بالفحش والدنس أو مجافاة الأخلاق الكريمة، ولا بد من سحبها. فإذا كان يناصبني العداء، فقد كتب له الانتصار علي. أما إذا كان صديقاً، حيث أني لم أهيئ له فرصة خاصة ليكون غير ذلك، (لم أسيء إليه إساءة شخصية)، فإنه سيسر بأني ندمت (27).

ص: 228

‌3 - جون دريدن

1631 -

1700

كان أبوه من صغار ملاك الأرض، يمتلك ضيعة متواضعة في نورثمبتونشير وأرسل إلى مدرسة وستمنستر التي علمه فيها، هو ورفيق دراسته جون لوك، الأستاذ الضليع ريتشارد بزبي Buzby كثيراً من اللاتينية والنظام والانضباط. وهناك حصل على منحة دراسية مكنته من الذهاب إلى ترنتي كولدج في كمبردج. وفي العام الذي حصل فيه على الدرجة الجامعية مات أبوه (1654) وورث جون، بصفته أكبر الأبناء البالغ عددهم أربعة عشر، الضيعة التي كانت تدر ستين جنيهاً في العام. وانتقل إلى لندن وحاول عن طريق الشعر أن يضيف شيئاً إلى دخله، احتيالاً على العيش. وفي 1659 نشر "مقطوعات شعرية بطولية" تخليداً لذكر كومول - وهو شعر تافه غير ذي قيمة بشكل ملحوظ من شاعر في التاسعة والعشرين من عمره. والحق أن دريدن نضج في بطئ، وكأنه رجل يتخطى في جهد جهيد مائة عقبة ليرقى مدارج الثراء في نجاح. وبعد ذلك بعام واحد هلل الشاعر لعودة الملكية في قصيدته "عودة النجم" التي قارن فيها نجمة شارل الثاني بنجمة بيت لحم، وما كاد أحد يتجرأ على اتهام دريدن بالتقلب، لأن كل الشعراء تقريباً - عدا ملتون - ولوا ظهورهم إلى البيوريتانية وولوها شطر الملكية مع تغيير بارع لأساليبهم.

ولكن دريدن كان أشد اهتماماً بالمسرح منه بمجرد نظم الشعر، حيث أثرى الكتاب المسرحيون على حين حالف البؤس والشقاء الشعراء الجدد. إن دريدن لم يكن به ميل إلى المسرحية، ولكنه كان يتطلع إلى الحصول على لقمة العيش بانتظام. وحاول كتابة الملهاة فأخرج "زير النساء الطائش"(1663) التي وصمها بيبز بأنها "أحقر شيء رأيته في حياتي تقريباً (28) ". وفي أول ديسمبر 1663 تزوج دريدن من ليدي اليزابيث هوارد ابنة إرل بيركشير، وأشرأبت الأعناق دهشاً من سيدة ذات مكانة وثراء تتزوج من

ص: 229

شاعر، ولكنها كانت في سن الخامسة والعشرين، وفي خطر من فوات الأوان، كما كان أخوها سير روبرت هوارد المتلهف على التأليف والكتابة، قد ضمن تعاون دريدن معه في رواية "الملكية الهندية" التي أخرجاها 1664، في مشاهد بالغة البذخ، مع نجاح عظيم.

وحددت هذه المسرحية "المأساة" طوراً في تاريخ الأدب، حيث تخلت عن الشعر المرسل الذي كان سائداً في عصر اليزابيث، واستخدمت المقاطع المقفاة ذات البيتين اللذين يتكون كل منهما من خمس تفاعيل، أسلوباً منتظماً لها. وكان لورد أوريري قد تأثر بحلاوة واتساق القافية في المأساة، وأدخل هذا الأسلوب في رواياته. وعاد دريدن إلى الشعر المرسل بعد 1675، معترفاً بأن القافية تفضي إلى تعويق سيل الكلام والتفكير. ولو أنه لقى عناء أكثر في نظم الشعر لأصبح شاعراً أعظم مما كان.

وواصل نجاحه التعاوني بعمل مستقل، وهو "الإمبراطور الهندي"(1665)، وكان مونزوما بطل الرواية. وما كاد يجد لمسرحيته مكاناً على المسرح الإنجليزي حتى داهم الطاعون لندن فأغلقت المسارح أبوابها لمدة عام. ولما زال كابوس الطاعون والحريق احتفل دريدن بخروج إنجلترا من هذه المحنة المثلثة - الطاعون والحريق ثم الحرب - بقصيدة "سنة العجائب"(1666) وهي مكونة من 304 مقاطع رباعية الأبيات، تتأرجح بين الوصف الرائع (المقاطع 212 - 282) والتفاهة الصبيانية (مثل المقطع 29) ولما فتحت المسارح أبوابها من جديد في 1666 عجل دريدن بالعودة إلى المسرحية. ولم ينتج حتى 1681 غير الروايات. وتميل مأسياته إلى أن تكون كلاماً منمقاً رناناً طناناً، ولكنه بدت لأعين معاصريه أسمى منزلة من مأسيات شكسبير (29) - ولما انضم دريدن إلى دافنانت في إعادة صياغة "العاصفة" كانت النتيجة بإجماع المشتركين فيها أن الصياغة الجديدة تنطوي على تحسين كبير للأصل. وربما اتفقت معهم "شركة الملكية" في هذا الرأي لأنها كلفت دريدن بتزويدها بثلاث روايات في السنة مقابل

ص: 230

حصة في الأرباح التي بلغت 350 جنيهاً في العام. أما ملهيات دريدن، على الرغم من أنها داعرة فاحشة مثل غيرها، فإنها لاقت نجاحاً أقل من نجاح مأسياته السبع والعشرين، لأنه هذه الأخيرة استطاع أن يثير اهتمام الرأي العام في الدنيا الجديد والهجميين البدائيين المدهشين فيها، وهكذا يقول المنصور في "فتح غرناطة".

"أنا حر طليق مثلما خلقت الطبيعة الإنسان لأول مرة، قبل أن يظهر قانون الاسترقاق الحقير، حين هام النبلاء المتوحشون على وجوههم في الغابات".

وربما كان نجاح هذه الرواية بالإضافة إلى ما تضمنته رواية "سنة العجائب" من مديح منمق لشارل الثاني، هو الذي كسب لدريدن منصبي مؤرخ الملك وشاعر التاج (1670). وبلغ دخله السنوي آنذاك ألف جنيه في المتوسط.

وفي خاتمة القسم الثاني من "فتح غرناطة" زعم دريدن تفوق مسرحية فترة عودة الملكية على المسرحية في عصر اليزابيث. وذهب منافسوه، على حين قدروا له هذه التحية والمجاملة، إلى القول بأن في هذا إطراء مغالياً لمسرحياته. ولم يشارك المفكرون في المدينة جمهور المسرح إعجابه وتذوقه للغة الطنانة الرنانة المسرفة في مأسيات دريدن، وأصدر دوق بكنجهام بالاشتراك مع آخرين في 1671 هجاء صرحاً تحت عنوان "التجربة" سخر كثيراً من المستحيلات والحماقات واللغة الطنانة المنمقة في المأسيات المعاصرة، وبخاصة ما كتبها دريدن. وأحس الشاعر بأنها لطمة له، ولكنه كظم غيظه لمدة عشرة أعوام. وبعدها شهر بالدوق بكنهجام أيما تشهير في شخصية "زمري" في أقوى أبيات رواية "أبشالوم وآخيتوفل".

وفي الوقت نفسه عملت دراسته لشكسبير على تحسين فنه. وفي أروع مأسياته (كله من أجل الحب)(1678) تحول عن راسين والقافية إلى

ص: 231

شكسبير والشعر المرسل. وأفرغ كل جهده وبراعته في أن يبارى ما كان منه في عصر اليزابيث، بصفة عامة، وعرض في ثوب جديد قصة أنطونيو وكليوبترة التي فقدت الدنيا من أجل قصة غرام قصيرة. ولو أن الرواية القديمة لم توجد لحظيت رواية دريدن بثناء وإعجاب أكبر، ففي مواضع كثيرة منها ترتفع من الكلام الشديد البساطة إلى الشعور النبيل المكظوم، كما يتمثل في قدوم أوكتافيا إلى أنطونيو لتعرض عليه صفح أوغسطي عنه (30). ورواية دريدن محكمة في إيجاز، بقصد مراعاة الوحدات، ولكنه بتضييق الحدث في أزمة واحدة في مكان واحد ثلاثة أيام، اختزل الفكرة الرئيسية البطولية إلى قصة غرام، وضيع المشهد الكبير الذي رأى في "أنطونيو وكليوبترة"(لشكسبير) أن هذه القصة الغرامية ليست إلا جزءاً من الأحداث التي هزت عالم البحر المتوسط وشكلته.

واكثر الجوانب إمتاعاً وتشويقاً اليوم في مسرحيات دريدن هي المقدمات التي قدمها بها مطبوعة، والأبحاث التي شرح فيها وجهات نظره في الفن المسرحي. وكان كورني قد ضرب له المثل، ولكن دريدن جعل منه مجالاً لنثر رائع. وإنا إذ نمر مرور الكرام بهذه الأبحاث الموجزة وهذه الحوادث القوية، لنلمح أن عصر الخلق والإبداع في الأدب الإنجليزي كان يعبر إلى عصر النقد الذي قد يبلغ ذروته في بوب. ولكن إجلالنا لتفكير دريدن وعقيلته يزداد إذ نراه يسير في رشاقة ورفق غور أسلوب المسرحية ومعالجة تفاصيلها، وفن الشعر، ويقارن في مقدرة فائقة على التمييز والمقارنة، بين المسرحين الفرنسي والإنجليزي. وأنك لترى في هذه المقالات والبحوث أن الالتواء المثير في النثر في عصر اليزابيث، والجمل الطنانة المتراكمة عند ملتون، كل أولئك يفسح الطريق لأسلوب أبسط وأسلس واكثر تنظيماً ومنهجية، أسلوب خلا من التراكيب، اللاتينية، وزاده صقلاً التعرف على الأدب الفرنسي، لم يجار الأناقة الفرنسية كل المجاراة قط، ولكنه أخرج إلى القرن الثامن عشر - قرن النثر - نماذج

ص: 232

من كلام يتميز بالصفاء والروعة والسلاسة وسحر البيان، وعدم التكلف والقوة. وهناك اتخذت المقالة الإنجليزية شكلها، وبدأ العصر الكلاسيكي (النموذجي الممتاز) للأدب الإنجليزي.

ولكن إذا كانت مقالات دريدن تبدو الآن أعلى مكانة من الروايات التي كانت سبباً في كتابة المقالات، فإنه في الهجاء ساد عصره وأرهبه. وربما وقع حادث أطلق لسانه اللاذع. ذلك أنه في 1769 وزع جون شفيلد إرل ملجريف نشرة مخطوطة بعنوان "مقال في الهجاء" لا تحمل اسم كاتبها، هاجمت إرل روشستر، ودوقة بورتسموث (لويزدي كيرووال) بلاط شارل الثاني بصفة عامة. واتجه الظن خطأ إلى أن كاتب المقال هو دريدن الذي كان آنذاك يحصل على معظم دخله من الملك. وفي ليلة 18 ديسمبر في "زقاق روز - كوفنت جاردن" هجم على دريدن نفر من السوقة وأوسعوه ضرباً بالهراوات، والمفروض أن روشستر استأجرهم لهذا الغرض، ولو أن هذا لم يثبت على سبيل اليقين. وكان دريدن رجلاً ودوداً كريماً مستعداً لمد يد المعونة وكيل المديح. ولكن نجاحه وغروره وإفراطه في التحدث عن نفسه وتوكيداته الخلافية، كل أولئك جلب عليه عداوات كثيرة. واحتمل دريدن لبعض الوقت حملاتهم عليه، دون رد علني منه، بل أن "كمين زقاق روز" لم يلق استجابة سريعة من قلمه. ولكن في 1681 جمع عديداً من أعدائه في مرجل واحد وسلقهم بالسنة حداد، في ألذع هجاء عرف في اللغة الإنجليزية.

وتلك هي السنة التي حاول فيها شافستبري أن يقوم بثورة ليخلف ابن شارل الثاني غير الشرعي أباه على العرش وعندما ظهر القسم الأول من قصيدة "أبشالوم وأخيتوفل" وكان شافتسبري على وشك أن يقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى. وانحاز هجاء دريدن إلى جانب الملك، وربما كان بإيعاز منه (31). وهزأ الشاعر من شافتسبري في شخص أخيتوفل الذي يحرض

ص: 233

أبشالوم (وهو دوق مونموث) على الثورة ضد أبيه داود (شارل الثاني). ولما كان داود وشارل كلاهما قد أحبا عدداً من النساء، فأن القصيدة تبدأ ببحث في قيمة تعدد الزوجات:

"في عهد التقى والورع، قبل ظهور الكهنة وأساليبهم، وقبل أن يصموا تعدد الزوجات بأنه خطيئة، وحين تكاثر الإنسان بتعدد زوجاته وقبل أن يقتصر الواحد على واحدة بشكل بغيض. وحين استحثت الطبيعة - ولم يمنع أي قانون - على معاشرة الخليلات والزوجات دون تمييز، وحين عاش ملك بني إسرائيل، برضا السماء، على الزوجات والإماء من مختلف الأنحاء، في قوة وحيوية، ونشر صورة خالقه على أوسع نطاق على الأرض، بأمره".

ويبتهج داود بجمال ابنه أبشالوم. وكان مونموث، حتى قيام الثورة، قرة عين أبيه الملك السعيد (شارل الثاني)، أما بنو إسرائيل فهم الإنجليز (في القصيدة):

جنس عنيد متقلب متذمر، أرهق النعمة الإلهية إلى آخر مداها، شعب الله المدلل الذي انغمس في الملذات والشهوات، والذي لم يستطع أن يحكمه ملك أو يرضيه إله (32).

وأستروفل هو رئيس شياطين الخيانة، وتتحقق لندن لفورها أنه شافتسبري:

وكان على رأس هؤلاء جميعاً أخيتوفل الكاذب، وهو اسم ملعون كريه على مر العصور، أهل لكل التدابير الخفية والمشورات الملتوية، ذكي جرئ مضطرب الحواس، قلق، لا يثبت على مبدأ ولا يستقر في مكان غير راضٍ إذا تملك وتسلط، ضائق صدره إذا تجرد من سلطانه، يحمل بين جنبيه نفساً محمومة مضطرمة أنهكت وأبلت جسم القزم وهي تشق طريقها. ضاق بها جسده الهزيل. قائد جسور لأخطر الأعمال اليائسة، يطرب للأخطار

ص: 234

حين ترتفع الأمواج. أن يلتمس الأعاصير والزوابع، لأنه لا يحب الهدوء يدني سفينته من الرمال بفطنته وذكائه. يقيناً أن ذوي المواهب العظيمة قريبون من الجنون ولا يفصله عنهم إلا حواجز رقيقة. وإلا لماذا - وهو ذو الثراء العريض والمناصب الرفيعة - يضن على شيخوخته بما تحتاج من راحة ودعة؟ .. لا يقيم على ود ولا يخلص في صداقة، عنيد حقود في عدائه وبغضه، مصمم على أن يدمر الدولة أو يحكمها هو (33).

ثم يجيء دور الانتقام من دوق بكنجهام و "التجربة":

ويقف على رأس هؤلاء (العصاة الثائرين) زمري، وهو رجل متعدد الجوانب، حتى انك لا تحسبه واحدا، بل صورة مصغرة لكل بني البشر، جامد الرأي، يجافي الصواب دائماً. كان يندفع في كل أعماله، ولكنه لا يثبت على حال. وخلال قمر منير واحد، كان الكيميائي والعازف، ورجل الدولة والمهرج. ثم ينصرف بكليته إلى النساء والتصوير، والشعر والشراب، فضلاً عن عشرة آلاف نزوة تموت في المهد .. وكان تبديد المال فناً خاصاً برع فيه. أغدق على كل الناس إلا من يستحقون المكافأة، أفقره الحمقى المهرجون الذين اكتشفهم بعد فوات الأوان. وحظي هو بالمرح، وحصلوا هم على ماله وضيعته (34).

ولم تر إنجلترا قط من قبل مثل هذا الهجاء اللاذع الذي لا يرحم، الذي يركز كل التشويه والتجريح في سطر واحد، ويترك جثة ممزقة مهشمة فوق كل صفحة. وبيعت القصيدة بالمئات خارج نفس المحكمة التي كان يحاكم فيها شافتسبري، مخاطراً بحياته. وقضت المحكمة ببراءته فصك أشياعه الأحرار (الهويج)"ميدالية" تمجيداً له. وانبرى عدد من الشعراء والكتاب يتزعمهم توماس شادويل لإصدار ردود ظافرة على الرجل الذي أيقنوا أنه باع عقله، ولسانه السليط وبيانه الكاوي إلى الملك. وعاود دريدن الكرة بهجاء آخر، "الميدالية"(مارس 1682) سلق فيه شادويل، بصفة خاصة، في قصيدة "ماكفلكنو"(أكتوبر). وهنا كان الذم

ص: 235

والقدح أنكى وأمر، فانحط أحياناً إلى شتائم لفظية صريحة، لم تتميز، مثل الهجاء السابق، بمقاطع فاصلة تنشر السم في دقة دون إسراف أو إسفاف.

إنا لا نستسيع اليوم هذا اللون من "الذبح" الأدبي ولم نعد نتذوقه إلا قليلاً، وإنا لنرتاب بعد قرون من الجدل والمناقشة، في أن هناك بعض الصدق في كل عاطفة أو هوى، وأن في كل خصم أو عدو شيئاً محبباً. وما السياسة حتى في أيامنا هذه إلا حرب بوسائل أخرى، أكثر بكثير مما كانت حين كان عرش أسرة ستيوارت يترنح على حافة الثورة، وكان الظهور إلى جانب الفريق الخاسر المنهزم قد يعني الموت المحقق. وعلى أية حال، فإن دريدن بذلك الهمة، مما أكسبه امتنان الملك ودوق يورك، ولم ينازعه أحد آنذاك التربع على عرش مملكة الشعر. وكانوا يحجزون له - إذا قصد إلى "حانة ول Will" مقعداً إلى جانب المدفأة في الشتاء. وفي الشرفة صيفاً، وهناك رأى بيبر وسمع "أحاديث طريقة ذكية (35) " وصورة سير والتر سكوت، في خيال مبدع، وهو يدخل إلى هذه الحانة، "رجل عجوز بدين قليلاً، ذو شعر أشيب، يرتدي حلة سوداء بالغة الأناقة، محبوكة الأطراف وكأنها قفاز، تشرق في وجهه أرق ابتسامة رأيتها في حياتي (36) " وكان الإنحناء تحية لشاعر التاج والاستماع إلى رأيه في آخر مأساة أخرجها راسين

يعتبر ميزة، كما كانت القبضة من علبة سعوطه شرفاً كفيلاً بأن يريك المتحمس الناشئ. وكان كل العطف بعينه بالنسبة لأصدقائه، ولكن ما كان أسرعه في كيل السباب لمنافسيه وخصومه (37)(وما كان لأحد أن يبزه في إطراء شعره). إن تملقه للملك وليدي كاسلمين ولكل أولئك الذي يجزلون له العطاء مقابل الإهداء إليهم، جاوز الحد المألوف من الاستسلام الذليل في مهنته في عصره (38). ومع ذلك فإن كونجريف بادله التشجيع بمثله حين وصفه بأنه "بالغ الإنسانية والرحمة، مستعد أن يغتفر الإساءة، أهل للتراضي بإخلاص مع من أساء إليه (39) ".

ص: 236

والآن، وقد آذن جسمه بالضعف والانحلال، بدأ الشاعر يفكر في الدين بشكل أكثر انعطافاً وميلاً، مما كان عليه في سني القوة والفتوة والزهو والغرور. لقد اندفعت مسرحياته وقصائد هجائه اندفاعاً طارئاً بين هذا وذاك من مختلف المذاهب الدينية، أما الآن، وقد ربط الشاعر مصيره بالمحافظين (الملكيين - التوري)، فإنه تحول إلى الكنيسة الأنجليكانية بوصفها ركيزة للاستقرار في إنجلترا، مستنكراً عدوان العقل المتغطرس على هذا الحرم المقدس، ألا وهو الإيمان والعقيدة. وفي نوفمبر 1682 أدهش أصدقاؤه الدنيويين بنشره قصيدة "الدين والدنيا" دفاعاً عن الكنيسة الرسمية. وبدا له أن الكتاب المقدس المنزل، بل وكنيسة معصومة من الخطأ تفسره وتكمله، دعامتان لا غنى عنهما للمجتمع ولسلامة العقل. وكان على علم بالخلافات وبالجدل بين الربوبين، وكان رده عليهم أن شكوكهم إنما تعكر صفو النظام الاجتماعي المعقد الذي لا يمكن أن يدعمه إلا قانون أخلاقي تقره عقيدة دينية.

لأنه لا قيمة ولا فائدة في تعلم النقاط الغامضة، أما السلام العام فهو كل ما يهم العالم.

وتلك حجة كان يمكن أن تخدم قضية الكنيسة الكاثوليكية أيضاً، وتابعها دريدن إلى غايتها بتحوله إلى الكاثوليكية 1686. ولسنا ندري إذا كان لاعتلاء ملك كاثوليكي العرض في السنة السابقة، ولتلهف الشاعر على الاستمرار في الحصول على رواتبه - نقول لسنا إذا كان لهذا الأمر أو ذاك دخل في هذا التحول (40). على أن دريدن على أية حالـ، صب كل فنه - الشعري ليشرح وجهة النظر الكاثوليكية في قصيدة "الأيلة والنمرة" The Bind and the Panther (1667) وفيها "أيلة ناصعة البياض" تدافع عن المذهب الكاثوليكي، ضد نمرة "هي أجمل النوع المرقط" التي تمثل المذهب الإنجليكاني. وكانت صورة حيوانين من ذوات الأربع يناقشان موضوع الوجود الحقيقي في القربان المقدس مدعاة للسخرية (42) والتسخيف

ص: 237

سرعان ما أثارهما ماتيو برير Prior ولورد هاليفاكس في محاكاة تهكمية تحت عنوان "الأيلة والنمرة تنقل إلى قصة فأرة القربة وفأرة المدينة"(1687).

وفي 1688 فر جيمس الثاني إلى فرنسا. ووجد دريدن أنه يعيش من جديد في ظل ملك بروتستانتي، فلزم مذهبه الجديد، وكان أولاده الثلاثة يعملون في روما تحت إمرة البابا. كما أن الردة إلى مذهب آخر أمر غير مقبول، فاحتمل في شجاعة وجلد فقدانه لمنصب شاعر التاج ولراتبه ولوظيفته "مؤرخ الملك"، على أن التاريخ، زاد من أحزانه، لأنه أضفى كل هذه المناسب والشرف على شادويل الذي توجه دريدن ملكاً على الهراء، وصوره نموذجاً للغباء. وعاد في شيخوخته يكسب بقلمه قوت يومه. فكتب مزيداً من الروايات، وترجم مختارات من تيو كريتس وهوارس وأوفيد وبرسيوس، وأخرج الأنياذة في شعر بطولي في أداء غير محكم، ولكنه سلس، ونقل بأوزانه الشعرية الخاصة بعض أساطير هوميروس وأوفيد وبوكاشيو، وتشوسر. وفي 1697 وهو في السابعة والستين نظم قصيدته المشهورة "وليمة الاسكندر Alexaders Feast، التي حظيت بأعظم الثناء والإطراء.

ووافته المنية في أول مايو 1700، وشهدت جنازته اضطراباً شديداً، وتنازعت الشيع المتنافسة جثمانه، وأخيراً ووري التراب إلى جانب تشوسر في كنيسة وستمنستر.

ومن الصعب أن تحب هذا الشاعر، فكل الظواهر تقول بأنه كان انتهازياً نفعياً متقلباً، امتدح كرومول في فترة الحماية، وكان المديح لشارل الثاني وخليلاته، وأثنى على البروتستانتية في عهد ملك بروتستانتي، وأطرى الكاثوليكية في ظل ملك كاثوليكي، وألتمس موارد كسب المال بكل الطرق، وجلب على نفسه عداوة كثير من الناس، مما لا بد معه أن يكون ثمة شيء يكرهه الناس فيه. وجارى كل منافسيه في إباحية رواياته وتحررها من كل القيود، وفي تورعه في شعره. وبلغت قوته في الهجاء مبلغاً يستدر العطف على ضحاياه، مثل العطف على الشهداء وهم يحترقون على الخازوق. ولكن

ص: 238

لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره في المناسبات، وقلما حفظ الزمن شعراً نظم للمناسبات. ولكن هجاءه لا يزال حياً، لأن أحداً غيره لم يستطع أن يأتي بمثل هذا الهجاء الذي صور الشخصيات في ازدراء قارص وسخرية لاذعة. وطور المقطع الشعري ذا البيتين إلى درجة من الإيجاز المحكم والمرونة، سيطرت على الشعر الإنجليزي طيلة قرن من الزمان وكان أثره على النثر أقوى، حيث نقاه من التراكيب المزعجة والمصطلحات الغريبة، وضبطه على درجة ممتازة من الصفاء والسهولة. وكان معاصروه على حق حين كانوا يرهبونه أكثر مما يحبونه. ولكنهم أدركوا في فنه في صناعة الأدب والكتابة، وملكاً على عرش القوافي، فكان بن جونسون الروائي، ودكتور صمويل جونسون الكاتب، في وقت معاً، في عصره.

‌4 - في ثبت واحد

والآن نجمع في قائمة غير نابضة بالحياة بعض الشخصيات الأصغر شأناً الذي أمدوا هذه الفترة بالحياة وبالأدب، ولكنا لن نستطيع أن نمكث معهم طويلاً لنتتبع جرى حياتهم.

وأعظم قصيدة في الجانب الوثني من فترة عودة الملكية كانت ملحمة بيوريتانية، ولكن أشهره هي ملحمة هجاء ساخر ضد البيوريتارية:" هو دبراس"(1663 - 1678). ذلك أن الشاب الفاجر، صمويل بتلر، قضى عدة سنوات مضنية في خدمة سير صمويل لوك، وهو مشيخي (برسبتيربان) متحمس غيور، ضابط برتبة زعيم في جيش كرومول، كان مقره في "كوبل هو"، وهي قلعة بيوريتانية للسياسة والعبادة. وعندما عادت الملكية ثأر بتلر لنفسه بنشر هجاء مرح، يصور فيه كيف أن سير هو دبراس الفارس المغوار يقود سيده صاحب الأرض "رالفو" إلى حرب

ص: 239

صليبية ضد الخطيئة والإثم. وتستطيع أن تحكم منذ بداية القصيدة عليها.

"حين اشتدت ثورة الغضب والحقد بين الناس لأول مرة وتشاجروا لأنهم لم يدركوا السبب، وحين أشعلت الكلمات النابية والأحقاد والمخاوف نار الحرب بين الجماعات وجعلتهم يقتتلون كالمجانين أو المخمورين، من أجل "السيدة: الديانة" وكأنما يقتتلون من أجل عاهرة فاجرة

وحين أعلن نافخ البوق الإنجيلي يحيط به الرعاع ذوو الآذان الطويلة، النفير من أجل الحرب، ودقت طبول المنبر والكنيسة بجماع الأيدي بدلاً من العصي. عندئذ غادر السيد الفارس مسكنه وامتطى صهوة جواده متزعماً الركب

وكان كثيرون من الناس يرون، أنه كما اشتكى مونتاني من أن قطته حسبته، وهو يداعبها، حماراً، فلابد أن القطة تحسب هو دبراس حماراً أو أكثر من حمار، وإنا لنسلم بأنه على الرغم مما أوتى من ذكاء شديد، فإنه يخجل من استخدامه، وكأنما يكره أن يستنفذه ويبليه، ولذلك لم يظهره أو لم يلبسه إلا في أيام العطلة أو ما يشابهها، كما يرتدي الناس أحسن ملابسهم

وكان من الملائم، من أجل عقيده، أن يوفق بين علمه وذكائه، وكان مذهبه مشيخياً صادقاً متشدداً، لأنه كان من بين العصبة العنيدة من القديسين الضالين الذي يقر الناس جميعاً بأنهم المناضلون الصادقون عن الكنيسة المجاهدة التي يبنون عقيدتهم على الرمح والمدفع، ويحسمون كل الخلافات بمدفعية لا تخطئ المرمى، ويثبتون صحة نظريتهم بالضربات واللكمات الرسولية

فرقة تتمثل أعظم تقواهم في كراهياتهم الحمقاء الضالة، الشاذة فرقة تحرص على الخطأ في يوم العطلة أكثر من حرص سائر الناس على الصواب، مجمعة على الخطايا التي فطرت عليها، تلعن أولئك الذي لا يفكرون فيها (43).

وهكذا مما آلم البيوريتانيين أيما إيلام وسر الملك كل السرور. ومنح شارل المؤلف جائزة قدرها ثلاثمائة جنيه. وامتدح كل الملكيين القصيدة فيما عدا بيبز الذي لم يستطع "أن يتبين موضع العبقرية فيها"، على الرغم من أنها تعتبر الآن من أحدث طراز من الهزل والسخرية (44)، وبادر بتلر

ص: 240

إلى الاستزادة من الكتابة (1664 - 1678)، ولكن لم يعد في جعبته سهام، ولم تسعفه القوافي. وحل النزاع بين البروتستانت والكاثوليك محل النزاع بين الملكيين والبيوريتانيين. ونسي القوم بتلر، وقضى نحبه مغموراً معدماً (1680). وبعد أربعين عاماً أقيمت له لوحة تذكارية في كنيسة وستمنستر، تحمل هذه العبارة "طلب الخبز فمنح حجراً (45) ".

وخير من هذا الشعر الهزلي المعتل الوزن الذي يتصيد القوافي، نثر كلارندون الفخم في كتابه "تاريخ الثورة" الذي ظهر في 1702 على الرغم من أنه كتب في 1646 - 1764 - وشهد الناس في عهد الملكة آن مقدار العناية التي بذلت في تأليف هذه المجلدات الثمانية، وروعة أسلوبها، وكيف كان تصوير الشخصيات أخاذاً، وكيف كانت روح قاضي القضاة الذي ضرب قديماً، عالية. وبالمثل لعب جلبرت بيرنت دوراً ليس بهزيل في كتابه "تاريخ زمانه" الذي لم ينشر، بأمر منه، إلا بعد وفاته 1724. أما كتابه "تاريخ إصلاح كنيسة إنجلترا" (1679، 1681، 1715) فكان عملاً أضخم، وكان ثمرة بحث طويل، وظهر في وقت كانت فيه إنجلترا البروتستانتية تخشى إحياء الكاثوليكية. وقدم له مجلسا البرلمان كلاهما الشكر عليه. ووجد فيه الأعداء والمحررون ألفاً من الأخطاء. ولكنه لا يزال يحظى بمن يشايعه وينتصر له، وفي بعض الأحيان يكون موضع ذم وطعن. ولكنه يظل أعظم مرجع في موضوعه، وحاول بيرنت أن يوسع دائرة التسامح الديني، فكسب عداء السوق.

وسعى ثلاثة رجال آخرين إلى تكبير الحاضر بأن يضيفوا إليه صوراً من الماضي. وطاف توماس فولر Faller بأرجاء الأرض الحبيبة متنقلاً من بلد إلى بلد، حيث جمع كتابه "تاريخ مشاهير الرجال في إنجلترا (1662)، وأحيا أبطاله الأموات بما روي عنهم من فذلكات وحكايات ودعاية وذكاء، وبما كتب على شواهد قبورهم. وقص أنتوني وود تاريخ أكسفورد، وجمع ثبتاً حوى سير حياة خريجيها، والمؤلفات القيمة

ص: 241

التي اقتبس منها كثير من المؤلفين خلسة. وجمع جون أوبري شذرات ممتعة عن نحو 426 من مشاهير الإنجليز، على أمل أن ينسق هذه المادة المجموعة في تاريخ كامل، ولكن الخمول والمنية حالتا دون طبع "سير الحياة" قبل 1813 (46). وقد شجعتنا ذخائره على المضي في طريقنا. وهناك الكولونيل (الزعيم) جون هشتشون، وهو بيوريتاني أيد إعدام شارل الأول، وزج به شارل الثاني في السجن، وما أن أخلى سبيله حق عاجلته المنية، وخلدت أرملته لوسي ذكراه في كتاب "حياة كولونيل هتشنسون" وهو كتاب لطيف رفع من مكانة صاحب السيرة. ولكن لوسي كان يعيبها الوقفات الطويلة فكانت عباراتها أحياناً تمتد إلى صحيفة كاملة. أما جون آريوتنوت، الطبيب البارع، والصديق المخلص لسويفت وبوب والملكة آن ولكثيرين غيرهم، فإنه انضم إلى حملة المحافظين لوقف الحرب مع فرنسا، بأن أصدر في 1712 سلسلة من النشرات يهجو فيها الأحرار، ويصف شخصية خيالية هي "جون بول" الذي أصبح منذ ذاك رمزاً على إنجلترا. ويقول جون آريوتنوت عن جون بول:

"أنه شخص أمين شريف صريح في التعامل مع الناس، سريع الغضب، جرئ، متقلب المزاج .. إذا تملقته ولاطفته كان سلس القياد، إن مزاج جون يعتمد كثيراً على الهواء، فيرق مزاجه أو يتكدر تبعاً لحالة الجو. وكان جون ذكياً. يدرك مهمته تمام الإدراك، ولكن ليس على قيد الحياة إنسان أشد منه إهمالاً في إمعان النظر في حساباته، ولا أكثر انخداعاً بشركائه أو غلمانه أو خدمه. ذلك لأنه رقيق مرح، مولع بالخمر واللهو والتسلية. والحق أنه لا يوجد إنسان أشد عناية ببيته ولا أكثر سخاء في الإنفاق من جون (47) ".

وماذا عسى أن يقول سير وليم تمبل إذا وجد أنه اختزل في فقرة من فصل بلغ الذروة بسكرتيره؟ ربما قال- إذا سمحت له آدابه الرفيعة - إن المؤرخين أهملوه لأنه لم يحتفظ بامرأتين تطمعان في الزواج، حتى قضت

ص: 242

إحداهما نحبها، وأنهكت الأخرى، أو لأنه لم يبع قلمه لوزراء المحافظين استياء من الأحرار، أو لأنه لم يغمس هذا القلم في ذم البشر، ولكن خدم وطنه في هدوء بدبلوماسية ناجحة، وفي عصر ساده الفساد والفجور، ضرب لإنجلترا مثلاً صادقاً غير مصطنع لحياة أسرية تزينها الحشمة والوقار. وظل لمدة سبع سنين يتودد إلى دوروثي أوزيورن التي أصبحت رسائلها الرقيقة إليه قطعاً من الأدب الإنجليزي (48) وارتضته زوجاً لها رغم معارضة أسرتيهما. وتزوجها بعد أن شوه الجدري جمالها. ودخل تمبل معترك الحياة السياسية، ولكنه آثر الأعمال التي نأت به عن حمى لندن، وتجنب "العبودية المضنية التي تثير البغض والحسد، والتي تحصى فيها الحركات والسكنات، والتي يطلقون عليها من قبيل السخرية والاستهزاء، والسلطة والنفوذ (49). وكان من أوائل، من حذروا من أطماع لويس الرابع عشر التوسعية، وكان المخطط الرئيسي للحلف الثلاثي الذي وقف في طريق الملك الفرنسي 1668، وعرضت عليه الوزارة في 1674 و 1677 ولكنه آثر منصبه الدبلوماسي في لاهي. وأدت مفاوضاته الموسومة بالحصافة والنظر الثاقب إلى زواج ماري ابنة جيمس الثاني من وليم الثالث الذي أصبح ملكاً فيما بعد. وهو الزواج الذي مهد الطريق "للثورة الجليلة". وفي 1681 اعتزل السياسة وانصرف إلى الدراسة والتأليف في "موربارك" ضيعته في "سري" وحسبه سويفت جامداً متحفظاً، على أنه ملاك الرحمة والكياسة واللطف. وأهم أبحاثه "المعرفة قديمها وحديثها" (1690)، الذي رفع فيه من ذكر الأقدمين وانتقص من قدر العلم الحديث والفلسفة الحديثة، في شخص نيوتن وهويز وسبينوزا وليبنتز ولوك. وتصيد بنتلي الكاتب خطأً جسيماً. فآوى سير وليم إلى حديقته، وتسلى بأبيقور ولسوف نلتقي به ثانية.

ص: 243

‌5 - إيفلين وييبز

اتفق جون إيفلين مع تمبل في أنه إذا دخلت الأحزاب في الدولة وتعمقت جذورها فيها، فمن الحمق عندئذ أن يتدخل أفاضل الرجال في الشئون العامة (50)" ولما بدأت الحرب الأهلية رأى أنه قد آن الأوان للرحيل. وغادر إنجلترا في يوليه 1641. ولكن وخز الضمير أعاده إليها في أكتوبر، وانضم إلى جيش الملك في برنتفورد ليشترك في الإنسحاب في نفس الوقت الذي وصل فيه. وبعد شهر من الخدمة في الجيش آوى إلى ضيعة أبويه في ووتون في سري. وفي 11 نوفمبر 1643 عبر البحر ثانية إلى القارة. وطاف على مهل بأرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا وهولندا، ثم قفل راجعاً إلى فرنسا. وفي باريس تزوج من فتاة إنجليزية. وتنقل لبعض الوقت بين فرنسا وإنجلترا، حتى وضعت الحرب الأهلية أوزارها، حيث عاد إلى الوطن (6 فبراير 1652). ورشا حكومة كرومول لتتركه وشأنه. وتبادل الرسائل مع شارل الثاني في منفاه، وفي 1659 بذلك جهداً جباراً للتعجيل بعودة الملكية. وبعد ارتقاء شارل الثاني عرش إنجلترا أصبح إيفلين شخصية مرموقة في البلاطـ، ولو أنه دمغه بالانحلال والفساد، وشغل بعض المناصب الحكومة الصغيرة، ولكنه في معظم الأحوال آثر أن يغرس الأشجار ويؤلف ثلاثين كتاباً في بيته الريفي. ودون كل شيء من لوكريشس إلى سبتاي زيفي. وعجز كتابه "المبخرة" عن تنقية هواء لندن، ولكن في كتابه "أشجار الغابات" دعا دعوة حارة إلى إعادة تشجير إنجلترا، وحث الحكومة على غرس الأشجار في مختلف أنحاء لندن، التي تعد أشجارها اليوم من أعظم مفاخرها ومباهجها. أما كتابه "حياة مسز جودولفين"، فهو مثل أعلى في فضائل النساء وسط عربدة عودة الملكية وصخبها.

ومن 1641 إلى 3 فبراير 1706، قبل وفاته بأربعة وعشرين يوماً دون أيفلين في مذكراته كل ما رأى وسمع في إنجلترا أو في القارة. وبوصفه

ص: 244

رجلاً من ذوي المكانة لم يكن في مقدوره أن يسجل من الخطايا أو الآراء الشخصية جداً، مثل تلك التي تغرينا بقراءة "مذكرات" بيبر المسهبة، ولكن وصفه لمدن أوربا ساعدنا كثيراً على اكتناه ماهية العصر. ففي مذكرات إيفلين صفحات رائعة عن "ممر سمبلون (51) " وكان في بعض الأحيان يفصح عن مكنون صدره في قطع تفيض بالحب والحنان والرقة، مثلما كتب عن وفاه ابنه وهو في سن الخامسة. ولم تنشر مذكرات إيفلين إلا في 1818.

إن إشارات إيفلين إلى بيبز في مذكراته أدت إلى فحص المجلدات الستة المكتوبة بطريقة الاختزال، والتي كان بيبز قد أوصى بها لكلية مجدلن في كمبردج. وحلت رموز المذكرات التي بلغ عدد صفحاتها 3012 بعد ثلاث سنوات من جهد شاق، ونشرت في 1825، بعد اختصارها وتنقيتها. وهي الآن ولو أنها لم تستكمل، تملأ أربعة مجلدات ضخمة. على أنها جعلت من بيبر شخصية من أكبر الشخصيات المعروفة في التاريخ بالصراحة وعدم الصحة. أما من حيث الصراحة، فمن الواضح أنه قصد أن تنشر المذكرات إذا قدر لها أن تنشر - بعد وفاته، لا قبلها - ولهذا حوت تفاصيل كان ينبغي كتمانها في حياته، ولا يزال بعضها "غير قابل للنشر". أما عدم صحتها، فيرجع إلى أنها تتناول حقبة تقل عن عشر سنوات (1 يناير 1660 - 31 مايو 1669) من حياة بيبز، ولم تورد سرداً وافياً لعمله في أركان حرب القوات البحرية الإنجليزية، حيث تدرج في أعمال ازدادت أهمية من 1660 إلى 1689، وبعد وفاته بزمن طويل تذكروه وكرموه على أنه رجل إدارة قدير نشيط مجد.

وكان أبوه خياطاً (ترزياً) في لندن، وكان أبناً صغيراً لأحد الملاك اتجه إلى العمل والتجارة لأن الابن الأكبر ورث الضيعة طبقاً للقانون. ودخل صمويل كمبردج على منحة، وحصل على درجتي الليسانس والأستاذية، ولم تسجل له أية عقوبة، إلا تأنيب علني "لأنه شوهد يوماً يحتسى الخمر

ص: 245

بشكل مخز"، ومرة أخرى لأنه كتب قصة "الحب خداع" التي أعدمها فيما بعد. وفي سن الثانية والعشرين (1655) تزوج من اليزابيث سان ميشيل ابنة أحد الهيجونوت. وفي 1658 أجريت له عملية "الحصاة في الكلى" ونجحت العملية وظل يحتفل بذكرى نجاحها سنوياً بعد ذلك، تعبيراً عن الحمد والشكر، كما يظهر من السنوات المسجلة في مذكراته.

وكانت هناك صلة قرابة بعيدة تربطه بسير أدوارد مونتاجو، فعين بيبز سكرتيراً له، (1660) ورافقه صمويل في الأسطول الذي قاده لإحضار شارل الثاني من المنفى. وقبل أن ينصرم هذا العام عين بيبز كاتباً للعمليات في إدارة البحرية. فثابر على دراسة الشئون البحرية بالقدر الذي سمح له به مطاردته للنساء. ومذ كان رؤساؤه منكبين أيضاً على هذه الرياضة القديمة، فأنه سرعان ما أصبح أكثر دراية بتفاصيل البحرية من أميري البحر كليهما (مونتاجو ودوق يورك) إلى حد أنهما اعتمدا على معلوماته. وفي أثناء الحرب مع هولندا (1665 - 1667) نجح نجاحاً مشهوداً في تموين الأسطول، وعند تفشي الطاعون لزم عمله في الوقت الذي فر فيه معظم موظفي الحكومة. وفي 1668 حين حمل البرلمان على إدارة الأسطول، وكل إلى بيبز أمر الدفاع عنها، وبفضل خطابه الذي استمر ثلاث ساعات في مجلس العموم برأت إدارة الأسطول تبرئة لا تستحقها. وبعد ذلك كتب بيبز لدوق يورك ثلاث مذكرات عرض فيها وجوه النقص والخلل في هيئة البحرية، وقد لعبت هذه المذكرات الثلاث دوراً في إصلاح الأسطول. وبذل بيبز جهداً جباراً، وكان يصحو من نومه عادة في الرابعة صباحاً (52). ولكنه وجد أنه كان يستعين على راتبه الذي يبلغ 350 جنيهاً في العام، بالهدايا والعمولات والمنح التي يمكن أن يسمى بعضها رشوة، ولكنها كانت في هاتيك الأيام اللطيفة تعتبر زيادات إضافية مشروعة. وكان رئيسه لورد مونتاجو نفسه قد أوضح له "أنه ليس مرتب أية وظيفة هو الذي يجعل شاغلها غنياً، ولكن فرصة الحصول على

ص: 246

الأموال وهو يشغلها (53).

وكل ما ارتكب بيبز من أخطاء مدون بصراحة خالصة تامة نسبياً. وليس واضحاً أمام أعيننا السبب الذي من أجله احتفظ بها بمثل هذه الأمانة إنه أخفاها في حذر وعناية طوال حياته، ودونها بطريقة الاختزال الخاصة به، مستخدماً 314 حرفاً مختلفاً، ولم يضع ترتيباً خاصاً لنشرها بعد وفاته. وواضح أنه وجد لذة ومتعة فأستعرض أنشطته اليومية والاضطرابات في أعضاء جسمه وشجاراته الزوجية، ومغازلاته وعبثه، وعلاقاته النسائية الشائنة. إنه - إذا أعاد قراءة هذا السجل - بينه وبين نفسه - لابد أن يشعر بما نشعر به نحن من رضا خفي إذا نظرنا لأنفسنا في المرآة. وهو يروى لنا كيف أنه جعل زوجته تحلق له شعره "فوجدت في رأسي وجسمي نحو عشرين قملة" وهذا في اعتقادي، أكثر مما وجدت في هذه السنوات العشرين (54). وتعلم أن يحب زوجته، ولكن بعد مشاجرات كثيرة، تميز في بعضها غيظاً، وكثيراً، على حد قوله، ما أساء معاملتها، وفي إحدى المرات "جذبها من أنفها (55) ". وفي مرة أخرى "لطمتها على عينها اليسرى لطمة جعلت البائسة المسكينة تصرخ من شدة الألم، ولكنها اهتاجت وحاولت أن تعضني وتخدشني بأظافرها، ولكني تظاهرت بالخجل مما فعلت حتى أمسكت هي عن العويل (56) " ووضع على عينها ضمادة، وانصرف للقاء إحدى خليلاته. وعاد إلى البيت لتناول العشاء، ثم غادره، حيث لقي "زوجة باجول، فصحبتها إلى إحدى حانات الجعة، وهناك لاطفتها كثيراً، ثم افترقت عنها إلى امرأة أخرى حاولت أن أعانقها وأقبلها، ولكنها لم ترغب في شيء من هذا، مما ضايقني كثيراً".

وقد يبعث على العجب والدهشة أن يكون للرجل مثل هذه الطاقة الحيوية، فاستبدل العشيقة كل بضعة شهور، وطارد النساء حتى صددنه عنهن بالدبابيس (57). واعترف بأنه "وقع في أسر الجمال إلى حد غريب (58) ". وقال "كنت استمع في كنيسة وستمنستر إلى عظة، وقضيت الوقت (سامحني

ص: 247

الله) محدقاً النظر في مسز بتلر (59)" وكان يتطلع في شغف خاص ولهف جارف مما يكاد يكون خيانة عظمى - إلى ليدي كاسلمين (عشيقة الملك)، ومذ وقع نظر عليها في قصر هويتهول "استغرق في النظر إليها (60)". ولكنه قنع بثيابها المرصوصة في صف واحد، وفي هذا يقول "وكان من الخير لي أن أتطلع إلى هذه الثياب (61)"، فلما "عدت إلى البيت وتناولت العشاء وآويت إلى الفراش، تخيلت أني أغازل مسز ستيوارت (ليدي كاسلمين وأعبث معها. في نشوة غامرة من السرور (62)". ولكن نفسه لم تهف إلى فاتنات البلاط فحسب. فقد مرت ببابه يوماً مسز ديانا، إحدى جاراته، فجذبها "إلى البيت وصعدت بها الطابق الأعلى، وبقيت ألهو وأعبث معها فترة طويلة (63)". وأخذ مسز لين إلى لامبث (أحد أقسام لندن) "وبعد أن سئمت رفقتها "صممت" على إلا أعود لمثل هذا ما حييت (64) " وضبطته زوجته ذات مرة يعانق فتاة، فهددت بالانفصال عنه، فهدأ من روعها بالوعود والإيمان. وانطلق إلى آخر عشيقاته. ذلك أنه أغوى وصيفة زوجته - ديبورا ويللت - وكان يحب أن تمشط ديبورا له شعره، ولكن زوجته انقضت عليها أثناء مغامراته مع ديبورا. فعاد يقسم ويعد يتعهد من جديد، وطردت الوصيفة، وأخذ بيبز يتردد عليها وكأن زيارتها جزء من عمله اليومي.

وظلت رغبته الجنسية على حدتها حتى حين ضعف بصرة. إن عادة القراءة والكتابة في ضوء الشمعة بدأت تضعف بصره في 1664. ولكن في سنوات العسرة التي تلت ذلك، بذل في العمل جهداً شاقاً بصفة خاصة، على الرغم من تفاقم علته. وفي 31 مايو دون آخر ما سجل في مذكراته:

"وهكذا ينتهي ما أشك في قدرتي على المضي فيه إطلاقاً بنور عيني، ألا وهو تدوير مذكراتي. ومهما تكن النتيجة فليس لي ألا أن أتجلد وأحتمل. ومن ثم اعتزمت أن يدونه من حولي بطريقتهم في الكتابة العادية، ولذلك ينبغي أن أقنع بألا يسجل إلا ما هو صالح لأن يعرفوه

ص: 248

ويعرفه العالم أجمع. وإذا كان هناك شيء - وهو ليس بالكثير، بعد أن ولت كل خليلاتي مع ديبورا، وقعد بي ضعف بصري عن الاستمتاع بأية ملذات أو مسرات - فلا بد أن أحاول أن احتفظ في كتابي بهامش، أضيف فيه، هنا وهناك، بعض الملاحظات بخط يدي، بطريقة الاختزال. وهكذا أروض نفسي على هذه الطريقة التي لا تقل مرارة عن أن أراني محمولاً إلى القبر الذي يتولى الله العلي العظيم إعدادي له، ولكل المتاعب والمشاق التي لا بد أن تنتابني عندما أفقد نور عيني. صمويل بيبز".

وتبقى له من عمره يعد ذلك أربعة وثلاثون عاماً. وظل يتعهد في عناية بالغة ما بقى له من نور عينيه، ولم يعم بصره تماماً قط ومنحه الدوق والملك إجازة طويلة انقطع فيها عن العمل، عاد بعدها إليه. وفي 1673 عين سكرتيراً لإمارة البحر، وفي نفس الوقت تحولت زوجته إلى الكاثوليكية. ولما وقعت مؤامرة البابا على إنجلترا اعتقل بيبز وأودع سجن لندن (22 مايو 1679) للاشتباه في أن له ضلعاً في مقتل جودفري. ثم دحض الاتهام وأخلى سبيله بعد تسعة أشهر قضاها بين جدران المعتقل. وبقي بعيداً عن الوظيفة حتى 1684، حيث أعيد سكرتيراً لإمارة البحر كما كان، واستأنف العمل على إصلاح البحرية. ولما أصبح رئيسه (دوق يورك) ملكاً على إنجلترا - جيمس الثاني - كان بيبز في واقع الأمر على رأس إدارة القوات البحرية، ولكن عندما هرب الملك جيمس إلى فرنسا، أعيد بيبز إلى السجن ثم أفرج عنه وعاش أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره متقاعداً عن العمل وكأنه "مرشد البحرية العجوز". ووافته المنية في 26 مايو 1703، وقد بلغ السبعين، مكللاً بالإجلال والاحترام، مطهراً من الذنوب والآثام.

وكم كان في هذا الرجل من خلال محمودة. لقد عرفنا حبه للموسيقى كما أنه تابع الحركة العلمية، وكان ضليعاً في الفيزياء. وأصبح عضواً في "الجمعية الملكية" وانتخب رئيساً لها في 1684 وكان مزهواً برجولته، وكان يقبل

ص: 249

الرشوة، وضرب خادمه حتى جرح ذراعه (65) وقسا في معاملة زوجته، وكان فاسقاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولكن كم كان له في الملوك والأدواق من أسوة أخزى وأقبح في مجال الدعارة والفجور، ومن منا يمكن أن يتمتع بسمعة طيبة لا تشوبها شائبة إذا ترك مثل هذه المذكرات الأمينة؟.

‌6 - دانيال ديفو

1659 -

1731

هناك امرأة أفلتت من يد بيبز، تستحق منا هنا انحناءة احترام في شيء من الحذر، بوصفها "أم القصة الطويلة" في فترة عودة الملكية، وأول امرأة إنجليزية تعيش على قلمها. إن افرا بن Aphra Behn جديرة بالذكر من عدة نواح: ولدت في إنجلترا، وترعرعت في أمريكا الجنوبية. وعادت إلى إنجلترا في سن الثامنة عشرة (1658، وتزوجت تاجراً لندنياً من أصل هولندي. وتركت انطباعاً قوياً في نفس شارل لدهائها وذكائها. وأوفدت في مهمة سرية إلى الأراضي الوطيئة، فقامت بها خير قيام، ولكنها تلقت أجراً زهيداً إلى حد أنها انصرفت إلى الكتابة، وسيلة لكسب العيش. وكتبت مسرحيات هزلية فاجرة لاقت نجاحاً ملحوظاً. وفي 1678 نشرت "أورونوكو" وهي قصة "رقيق ملكي" زنجي، وحبيبته امواندا. وكان مزيجاً أصيلاً من الواقعية والرومانسية أو الخيال. وكان الطريق ممهداً أمام قصة روبنسن كروزو، وللقصة الرومانسية.

كذلك عاش ديفو على قلمه. وكان من أكثر الأقلام تعدداً للجوانب والبراعات: وكان أبوه جيمس ديفو قصاباً في لندن، شديد التمسك بمذهب البرسبيتريان. وكان من المتوقع أن يكون دانيال واعظاً، ولكنه آثر الزواج والعمل والسياسة. وأنجب سبعة أطفال، وأصبح تاجر جوارب بالجملة. والتحق بجيش دوق مونموت في الثورة (1685)، ثم انضم إلى جيش وليم في الإطاحة بعرش جيمس الثاني وفي 1692 أفلس وبلغت ديونه

ص: 250

17 ألفاً من الجنيهات، ثم دفع لدائنيه استحقاقاتهم كاملة تقريباً فيما بعد، وفيما هو يكسب ويخسر، أصدر كتيبات في طائفة من الموضوعات زاخرة بكنز مدهش من الأفكار الأصيلة. ففي مؤلفه "بحث في المشروعات" عرض مقترحات عملية متقدمة كثيراً عن زمانه، في المصارف، والتأمين، والطرق ومستشفيات الأمراض العقلية، والكليات الحربية، والتعليم العالي للبنات. وانتقل إلى Tilbary حيث أصبح سكرتيراً لمصنع للقرميد ثم مديراً، وفي النهاية مالكاً له. ولما قدموه إلى وليم الثالث عينه في وظيفة حكومية صغيرة، وأيد سياسة الملك تأييداً كبيراً إلى حد اتهامه بأنه هولندي أكثر منه إنجليزي، فدافع عن نفسه في قصيدة رائعة، عنوانها "الإنجليزي الصميم الأصيل"(1701) ذكر فيها الإنجليز بأن الأمة كلها مختلطة الدماء والأعراق، ولما كان هو نفسه من المنشقين فإنه في 1702 نشر كراسة غفلاً من اسم المؤلف، تحت عنوان "أقصر طريق مع المنشقين" استبق فيها أسلوب سويفت في التسفيه والتسخيف عن طريق المبالغة، وهاجم فيها اضطهاد الإنجليكانيين للمنشقين، باستحسانه إعدام كل منشق يقوم بالوعظ، وطرد المنشقين الذي يستمعون إليه من إنجلترا. وقبض عليه في فبراير 1703، وحكم عليه بالغرامة والسجن وعذب في المشهر. وأفرج عنه في نوفمبر، ولكن في نفس الوقت كان مصنع القرميد قد تخرب وتوقف العمل فيه.

وكان الرجل الذي ساعد في الإفراج عنه هو الوزير روبرت هارلي الذي تحقق من مقدرة ديفو الصحفية، ومن الواضح أنه عقد معه اتفاقاً لاستغلال قلمه، ومن ثم التحق ديفو بخدمة الحكومة طيلة بقية حكم الملكة آن. وبدأ فور إطلاق سراحه في إصدار صحيفة ذات أربع صفحات ثلاث مرات في الأسبوع. اسمها "ريفيو" التي ظلت تظهر حتى 1713، وكان معظمها بقلم ديفو.

وفي عام 1704 slash1705 طاف ديفو بأرجاء إنجلترا على ظهر جواد،

ص: 251

يدعو للمستر هارلي في الانتخابات. وفي تلك الأثناء جمع مادة كتابه "جولة في إنجلترا وويلز". وفي 1706 - 1707 عمل لحساب هارلي وجودولفين جاسوساً في إسكتلندة، وحظيت كراساته القوية بكثير من القراء كما جلبت إليه الكثير من الأعداء. واعتقل ثانية في 1713 وفي 1715، ومرة أخرى أطلق سراحه بناء على وعد بتسخير قلمه في خدمة الحكومة.

وكان له قدرة على ابتكار كثير من الموضوعات الأدبية. وفي 1715 نشر بعض مقتطفات يفترض أن كاتبها من الكويكرز. وفي نفس السنة نشر "حروب شارل الثاني عشر" كما يرويها "اسكتلندي في خدمة السويد". وأصدر في 1717 رسائل يظن أن كاتبها تركي، يندد بالتعصب المسيحي. وأسهم في تحرير مجلة اسمها بحق الضباب " Mist"، بتوقيع مراسلين وهميين. وقلما وقع ديفو كتاباته باسمه. وكان إلى جانب هذه البراعة في تمثيل شخصيات مختلفة، جمع ديفو سعة الإطلاع في الجغرافيا، وبخاصة جغرافية أفريقية والأمريكيتين. وظاهر أنه أفتتن بكتاب وليم دامبيير "رحلة جديدة حول العالم" 01697)، وفي إحدى رحلات دامبيير ألقت سفينته المسماة "الثغور الخمسة" مراسيها في جزر جوان فرنانديز على بعد نحو أربعمائة ميل إلى الغرب من شيلي. وكان أحد البحارة الاسكتلنديين يدعى إسكندر سلكيرك قد تشاجر مع القبطان، فطلب إليه أن يتركه في إحدى الجزر الثالث، على أن يزوده ببعض الحاجيات الضرورية. وبقى البحار هناك وحيداً لمدة أربعة أعوام، حيث أعيد إلى إنجلترا، وهناك قص قصته على ريتشارد ستيل الذي كتبها في عدد "الرجل الإنجليزي The Englishman" الصادر في 3 ديسمبر 1713، كما رواها كذلك لديفو، وزعم أنه أعطاه بياناً مكتوباً عن مغامراته في الغربة والوحدة (66). وحول ديفو هذه الخلاصة إلى قطعة من الأدب. وفي 1719 نشر أشهر قصة في القصص الإنجليزي.

ص: 252

وألهبت "حياة روبنسن كروزو ومغامراته العجيبة الدهشة" خيال إنجلترا. وظهرت منها أربع طبعات في أربع شهور. وهنا كان مفهوم جديد للمغامرة والصراع - لا صراع الإنسان ضد الإنسان، ولا صراع الإنسان التحضر ضد الإنسان المتوحش. بل كفاح الإنسان ضد الطبيعة، صراع رجل وحيد، يتملكه خوف حقيقي، لا يجد أي عون أو مساعدة، حتى جاء "التابع المخلص الأمين"، وبنى حياة من المواد الخام في الطبيعة. وتلك كانت تاريخ حضارة رجل واحد في مجلد واحد. واعتبرها كثير من القراء تاريخياً، حيث لم ترو قط في الأدب من قبل قصة جمعت بين مثل هذه الأشياء التي تحتمل الصدق والكذب في مثل هذه التفاصيل التي أخذ بعضها بخناق بعض بشكل عارض. إن تمرس ديفو في الخداع الأدبي رفعه من الصحافة إلى الفن.

وعاش ديفو في شيء من بحبوحة العيش في لندن، ولكنه لم يتخل عن إنتاجه الذي لا يبارى. فبينما ظل يصدر الكراسات، أخرج كتباً في الحجم الطبيعي، تضم قصص صغيرة، فنشر في 1720 "تأملات جادة في حياة روبنسن كروزو ومغامراته المدهشة"، "حياة ومغامرات مسز دنكان كامبل"(وهي ساحرة مشعوذة صماء بكماء). وبعد ذلك بشهر واحد "مذكرات فارس""وبن تروفاتو" وقد حسبه بت الأكبر تاريخاً وبعد شهر آخر أخرج "حياة القبطان المشهور سنجلتون ومغامراته وقرصناته" وهو كتاب حوى توقعات مدهشة عن كشوف في أفريقية. وفي 1722 أصدر "هناء وشقاء مول فلاندرز" و "صحيفة عام الطاعون"، و "تاريخا كولونيل جاك"، و "الغزل الديني"، و "التاريخ النزيه لبيتر الكسوفتش "قيصر المسكوف الحالي" - وهذه هي المرة الثانية التي يستبق فيها فولتير في كتابه سير الحياة. وقصد بهذه المجلدات الضخمة أن توفر سبل العيش لأسرته، ولكنها بفضل قوة خيال الكاتب وأسلوبه الفياض، أصبحت أدباً. وفي "مول فلاندرز" اندس ديفو إلى عقل بغي وقلبها، حتى أفضت إليه بقصتها بشكل يتضح معه صراحتها وإخلاصها ويدعو إلى تصديقها

ص: 253

ولو ظاهرياً، حتى تركها في النهاية راضية "آمنة ومطمئنة في خير عافية" وهي في السبعين (67). أما "صحيفة عام الطاعون" فكانت مدعمة بأدق الوقائع والحقائق والإحصاءات، حتى اعتبرها المؤرخون تاريخاً.

أما عام 1724 فلا يثير دهشة كبيرة: ذلك أن ديفو نشر إحدى أمهات قصصه "السيدة السعيدة الحظ" المعروفة باسم "روكسانا" وهي المجلد الأول من مجلدين يتناولان جولاته في ربوع جزيرة بريطانيا العظمى، و "حياة جون شبرد" وهو يوهم بأنه مخطوطة سلمها شبرد إلى صديق له قبل إعدامه. وكانت هذه إحدى السير القصيرة العديدة التي كتبها ديفو عن حياة المجرمين، ومهدت إحدى سير الحياة واسمها "وغد المرتفعات"(1724) الطريق لكتاب سكوت "روب روى" كما مهدت سيرة أخرى، هي "حياة جوناثان ويلد" الطريق أمام فيلدنج. والحق أن أي موضوع شعبي أسال قلم ديفو، وأفاض عليه الجنيهات من خزائن ناشري كتبه، من ذلك "التاريخ السياسي الشيطان"(1726)، و "خفايا السحر"(1720)، و "الكشف عن أسرار الدنيا الخفية"، أو تاريخ حقيقة الأشباح (1727 - 1728) أضف إلى هذا كله قصيدة في اثني عشر جزءاً "العدل الإلهي" يدافع فيها عن الحقوق الطبيعية لكل إنسان في الحياة وفي الحرية وفي التماس السعادة ووسط هبوط ديفو كثيراً إلى كمستوى ذوق الشعب وأخيلته، ترى أنه أسهم إسهاماً مخلصاً في أفكار جادة: مثل "التاجر الإنجليزي الكامل"(1725 - 1727)، و "خطة التجارة الإنجليزية"(1728)، والكتاب الذي لم ينته منه "الرجل الإنجليزي الكامل" فأنه في هذه الكتب جميعها قدم معلومات مفيدة ونصائح عملية، لم تتلاءم في كل الأحوال مع أخلاقيات الإنجيل.

وقد لا نحبذ أخلاقيات ديفو أو سلوكه الأدبي، ولكنا نملك الإعجاب بمثابرته وجده، وربما لم يشهد التاريخ قط منذ إنجاب رمسيس الثاني 150 ولداً مثل وفرة ديفو في الإنتاج. والشيء الوحيد الذي يكاد لا يصدق

ص: 254

في ديفو هو أنه الذي كتب كل ما كتب، لأننا كذلك يتولانا العجب كل العجب من نوعية عقل ديفو الذي سخرت فيه قوة الخيال وقوة الذاكرة لهذا العمل الشاق أو الجهد الجهيد، والذي أخرج هذه الأشياء الوهمية المقبولة شكلاً إلى أبعد حد في الأدب. وأننا لنعترف بعبقرية وشجاعة رجل استطاع مع ضخامة العمل والعجلة في إنجازه، أن يحتفظ بهذا المستوى الرفيع في المادة والأسلوب. في المائتين والعشرة مجلدات التي أخرجها (إذا صدقنا ما قيل) لا يكاد المرء يقع على صحيفة واحدة مملة باهتة، وإذا اتفق أن كان ديفو أحياناً بليداً غبياً فإنه كان يفعل ذلك عن عمد ليضيف إلى حكايته شيئاً من احتمال الصدق والكذب. ولم يبزه أحد في بساطة السرد ووضوحه، وفي كونه طبيعياً بعيداً عن التكليف إلى حد الإقناع. وهناك كانت عجلته ضرباً من ضروب الحظ السعيد له، حيث لم يكن لديه فسحة من الوقت للتنميق والزخرف. وأرغمه تدريبه الصحفي ونزعته الصحفية على الإيجاز والوضوح. وكان أكبر صحفي في زمانه بكل معاني الكلمة، ولو أن هذا الوصف ينطبق على ستيل وأديسون وسويفت. فإن صحيفته "ريفيو" مهدت الأرض التي أنبتت فيها صحيفة "سبكتاتور" بذوراً منتقاة بشكل أفضل. والحق أن هذا شرف أي شرف. ولكن أضيف إليه الشهرة العالمية الباقية على مر الدهور لقصة روبنسن كروزو، وأثرها على قصص المغامرات، حتى على قصة تختلف اتجاهاتها كل الاختلاف مثل "رحلات جلليفر" وإذا استثنينا مؤلف ذلك الاتهام الذكي للبني الإنسان (سويفت في رحلات جلليفر)، فإن ديفو كان أعظم عبقرية في رجال الأدب الإنجليزي في عصر زخر بهم.

‌7 - ستيل وأديسون

يحدد ريتشارد ستيل أكثر من أي إنسان غيره بداية عصر الانتقال في الأدب، من عودة الملكية الى حكم الملكة آن. واتصف في شبابه

ص: 255

بكل صفات العربدة والصخب والفجور التي سادت فترة عودة الملكية. ولد في دبلن، وكان أبوه موثوقاً عاماً (كاتب عدل)، وتعلم في مدرسة تشارتر هاوس وأكسفورد وكان حساساً سريع الاهتياج كريماً، وبدلاً من الحصول على درجته الجامعية انضم الى جيش الحكومة في إيرلندة، وكان يسف في شرب الخمر اسفافا، ويبارز حتى يقارب أن يصرع خصمه. وأكسبته التجربة رصانة عابرة، فبدأ يحمل على المبارزة، وكتب مقالا عن "البطل المسيحي"(1701) جادل في امكان أن يكون المرء سيدا ماجدا مهذبا "جنتلمان" مع بقائه مسيحيا. ووصف الفساد الذي ساد العصر، وعاد بذاكرة قرائه الى الكتاب المقدس بوصفه منبع الإيمان الصادق والخلق القويم، وناشد الرجال أن يحترموا جمال النساء وعفتهن.

وكان في التاسعة والعشرين، حين وجد أنه حتى الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها، تتبرم به على أنه واعظ ممل، فعقد العزم على النهوض برسالته عن طريق الروايات، وامتدح تنديد جرمى كوليير بالخلاعة والفحش في المسرح، فانبرى في سلسلة من الملهيات يدافع عن الفضيلة يشن حملات صادقة على الأوغاد. ولكن هذا الإنتاج لم يلق نجاحا. فالحق أن المسرحيات حوت مشاهد حية ودلت على ذكاء وموهبة، ولكن جمهور النظارة تشككوا في حل عقدة الروية أو في نتيجتها، وطالبوا باللهو والتسلية على حساب الوصايا العشر مهما كان الثمن غاليا، على حين أن اللندنيين الحصفاء الذين قد يتعاطفون مع مشاعره، قلما كانوا يظهرون في المسرح. كيف الوصول إلى هؤلاء الناس؟

وقرر ستيل أن يجرب وسيلة يواجههم بها في المقاهي. وفي 12 أبريل 1709 أخذ ورقة من صحيفة ديفو "ريفيو" وأصدر العدد الأول من صحيفة تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، أطلق عليها (( The Tatler)) وحررها وكتب معظم مادتها تحت اسم مستعار "ايزاك بيكرستاف". ووجها إلى المقاهي، حيث أعلن:

ص: 256

"كل ضروب البسالة والكياسة، والمسرات والتسلية، تلتقون بها في "مقهى هوايت للكاكاو" والشعر في "مقهى ول Will" والعلم والمعرفة تحت عنوان "جريشيان". والأنباء الخارجية والداخلية من "مقهى سان جيمس". أما سائر الموضوعات التي سأقدمها فمن عندي أنا.

وكام مشروعاً بارعاً، أثار اهتمام رواد المقاهي، واستقى الأنباء والموضوعات من مناقشاتهم هناك، وأتاح لريتشارد ستيل أن يعبر عن آرائه دون مقاطعة أو نزاع، وفي العدد 25 الصادر بتاريخ 7 يونيه 1709 ذكر أنه تلقى رسالة من "سيدة شابة

ترثى فيها لسوء حظ .. حبيبها الذي أصيب مؤخرا بجرح أثناء المبارزة" واستطرد ستيل ليبين سخف عادة تحتم أن يدعو الشخص الذي أوذي الشخص المسىء ليضيف ضغثاً إلى ابالة أو القتل إلى الإساءة فماذا تعني المبارزة أو التحدي إلا هذا!!

سيدي، أن سلوكك الشاذ في الليلة الماضية، وتطاولك علي في جرأة وحرية طابت لهما نفسك، كل هذا يدفعني إلى أن أوجه إليك هذا الإنذار، لأنك مغرور أحمق غير مهذب .. سألتقي بك في هايدبارك في ظرف ساعة، حاملا مسدسا، وحاول أن تصوبه الى رأسي، حتى ألقنك درسا في آداب السلوك".

وهنا كان صوت الطبقة الوسطى يسخر من الأرستقراطية. والحق أن الطبقة الوسطى أساسا هي التي زحمت المقاهي.

وفي مقالات خرى سخر ستيل من بذخ الأرستقراطية ولغوها ومظاهرها الكاذبة وزينتها وملابسها، وتوسل إلى النساء أن يرتدين الثياب البسيطة، ويمتنعن عن الحلي والمجوهرات. فإن عقد اللؤلؤ فوق الصدر لا يضيف شيئاً لى الصدر العاجي الجميل الذي يحمله (68) ".

إن رقته مع النساء كانت تتبارى مع ولعه بالخمر. وألح على القول بأنهن بحق يتمتعن بالذكاء وسلامة البنية. ولكنه امتدح الكثير من تواضعن وطهرهن - وتلك صفات لم تعترف بها ملهاة فترة عودة الملكية. وقال عن

ص: 257

إحدى النسوة "إن حبك لها يعني أنك تتسم بالتحرر في تعليمك" واعتبر كري "أن هذه العبارة ربما كانت أرق تحية قدمت لامرأة) 69) ".

ووصف ستيل، في إحساس عميق، مباهج الحياة الأسرية، والوقع الجميل لأقدام الأطفال، وإقرار الزوج بفضل زوجته المسنة وعرفانه لجميلها:

"إنها في كل يوم تدخل على قلبي سروراً أكثر بكثير مما عرفت فيها أيام كنت أستمتع بجمالها وأنا في نضارة الشباب، إن كل لحظة في حياتها تقدم لي أمثلة جديدة على تجاوبها مع ميولي ورغباتي، وحسن تدبيرها بالنسبة لمواردي في أوقات اليسر والعسر. إن وجهها أجمل بكثير مما رأيته لأول مرة وليس استطعت أن ألحظه منذ اللحظة التي حدث فيها نتيجة اهتمام شديد قلق بمصالحي ربما يعود علي بالخير .. إن حب الزوجة أسمى بكثير من ذلك الهوى التافه الذي يسمونه عادة بهذا الاسم (الحب)، بقدر هبوط مستوى ضحكات المهرجين العالية الماجنة عن مستوى المرح الهادئ الرشيق عند الأماجد المهذبين (70) ".

وكان ستيل قد تزوج مرتين عندما كتب هذا، وإن رسائله الى زوجته لهي نماذج للاخلاص والحب، ولو أنها سرعان ما تشتمل على اعتذارات عن عدم الحضور لتناول الطعام في البيت. إنه أخفق في أن يكون الرجل البرجوازي الفاضل الذي كان في نظره نموذجا للحياة، فإنه سكر كثيراً وأنفق كثيراً واستدان كثيراً، واجتاز الشوارع الجانبية ليتحاشى لقاء أصدقائه الذين أقرضوه المال. واختفى عن الأنظار تملصا من دائنيه ومراوغة لهم، ولكنه في نهاية الأمر أودع السجن بسبب الدين، وقارن قارئو صحيفته (( Tatler)) بين عظاته وتصرفاته. وأصدر جون دنيس نقدا لاذعا لآراء ستيل، وتناقص عدد المشتركين في الصحيفة واحتجبت عن الظهور في 2 يناير 1711، ولكنها تحتفظ بمكانتها في تاريخ الأدب الإنجليزي، لان بين جنباتها بدأت الأخلاقية الجديدة تعبر عن نفسها، وبدأت القصة

ص: 258

القصيرة تأخذ شكلها الحديث، كما طور أديسون المقالة الحديثة حيث بلغ بها حدا الاتقان والكمال في صحيفة "سبكتاتور".

وولد أديسون وستيل كلاهما في 1672، وكانا صديقين منذ كانا يدرسان معا في مدرسة تشارتر هاوس. وكان والد جوزيف أديسون قسيساً أنجليكانياً، أشرب ابنه من التقوى والورع ما قاوم به كل مساوئ ومفاسد فترة عودة الملكية. وكسبت له براعته في اللاتينية منحه دراسيه. وفي سن الثانية والعشرين أعجب إرل هاليفاكس بمواهبه، إلى حد أنه أقنع رئيس كليه ماجدلن بتحويل الشاب من سلك الكهنة الى خدمة الحكومة. وقال هاليفاكس "يقولون عني أني عدو للكنيسة، ولكني لن أعود للإساءة إليها قط، بعد أن أحتفظ بمستر أديسون بعيدا عنها (71) " ولما كانت المقدرة في اللاتينية غير مقرونة بمعرفة اللغة الفرنسية، وكانت الحاجة إلى معرفة اللغة الفرنسية أساسية عند الدبلوماسيين فإن هليفاكس خصص لأديسون ثلاثمائة جنيه سنويا لينعق منها أثناء إقامته في القارة. ولمدة عامين تجول أديسون على مهل في أرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا.

وبينما هو في جنيف ارتقت الملكة آن عرش إنجلترا فأبعد أصدقاؤه عن مناصبهم، وانقطع عنه راتبه. ولما لم يبق له إلا دخله الضئيل، فإنه اشتغل معلما ومرشدا خاصاً لسائح إنجليزي شاب، وطاف معه بأنحاء سويسرا وألمانيا والمقاطعات المتحدة. ولما انتهت هذه المهمة عاد إلى لندن 1703، وعاش لبعض الوقت في فقر يستره التعفف وحسن المظهر. ولكنه كان "مغناطيسياً" يجذب الثراء والحظ السعيد. ذلك أنه عندما انتصر دوق مالبورو في معركة بلنهيم في 13 أغسطس 1704 فتش جودولفين وزير الخزانة عن شخص يخلد ذكر هذا النصر شعرا. وأوصى هاليفاكس بأديسون للقيام بهذا العمل، واستجاب الشاب الموهوب بقصيدة رنانة "الحملة" ونشرت في نفس اليوم الذي دخل فيه مالبورو العاصمة دخول المنتصر الظافر، وساعد نجاح القصيدة على أن توطن انجلترا نفسها على

ص: 259

مواصلة القتال. إن جورج وشنطن آثر الشعر المحلق عاليا الذي كتبه أديسون على سائر القصائد. وإليك أبياتا مشهورة منها:

"إيه يا ربة القريض، أي شعر ترين أن أنشده القوات التي اشتعلت في نفوسها نيران الغضب، المتراصة في ميدان المعركة! إني ليخيل إلي أني أسمع دقات الطبول الصاخبة وصيحات النصر وأنات الموتى يختلط بعضها ببعض وطلقات المدافع المرعبة تشق أجواء الفضاء، وصيحات الحب تدوي مثل الرعد. وهنا أثبت مالبورو العظيم بروحه العالية أنه راسخ كالطود، لا يهتز لإلتحامات الجيوش المهاجمة، وفي غمرة لضجة والفزع واليأس، يشهد كل مناظر الحرب المروعة، ويشرف على ساحة الموت ثابت الجنان، يفكر في هدوء. ويرسل المدد في الوقت المناسب للفرق المتخاذلة، وينفخ في المحاربين المترددين من روحه فيدفعهم إلى الالتحام مع العدو، ويحدد للمعركة المتأرجحة أين تشتد وتحتدم. كما لو أن ملكا من السماء، بأمر من عند الله زلزل أرض الأعداء بريح عاتية (كما حدث مؤخرا لبريطانيا الواهنة). وفي هدوء ورصانة يسوق مالبورو العاصفة العاتية، ويطيب نفسا بتنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى، فيمتطي صهوة جواده وسط الرياح الهوجاء ويقود العاصفة ويوجهها كيف يشاء".

وحقق البيت الأخير والتشبيه الملائكي لأديسون العودة سالما إلى وظيفة حكومية تدر عليه راتبا، بقي قيها طيلة السنوات العشر التالية. وفي 1705 عين عضوا في لجنة الاستئناف، خلفا لجون لوك. وفي 1706 وكيلا للوزارة. وفي 1707 ألحق ببعثة هاليفاكس إلى هانوفر، التي هيأت لأسرة هانوفر السبيل لارتقاء عرش انجلترا. وفي 1708 اتخذ مقعده في البرلمان، وبفضل خدماته الجليلة احتفظ به حتى الممات. وفي 1709 أصبح السكرتير الأول لنائب الملكة في إيرلندة. وفي 1711 أثرى إلى حد استطاع معه أن يشتري ضيعة في رجبي بعشرة آلاف جنيه.

إن أديسون في أيام الرخاء لم ينس ستيل. فأنبه على أخطائه ولكنه

ص: 260

هيأ له منصبا حكوميا، وأقضه مبالغ كبيرة من المال، وطالبه مرة واحدة أن يسددها (72). وعندما صدرت صحيفة (( The Tatler)) غفلا من الاسم، لاحظ إشارة إلى فرجيل كان قد لمح بها إلى ستيل، وفي "إيزاك بيكرستاف" عرف ثانية صديقه المترف المفلس وسرعان ما اشترك في الصحيفة. وفي 1710 سقطت حكومة الأحرار، وفقد ستيل وظيفته الحكومية، وفقد أديسون كل مناصبه باستثناء عضوية لجنة الاستئناف. واحتفلت صحيفة تاتلر بهذا العام بالاحتجاب عن الظهور. وشارك أديسون وستيل الواحد منهما الآخر آلامه وآماله، وفي أول مارس 1711 أخرجا أول عدد من أشهر الدوريات في تاريخ الأدب الإنجليزي.

وظهرت صحيفة "سبكتايور" يومية - ماعدا يوم الأحد، في فرخ مطوي ذي أربع أو ست صفحات. وبدلا من تحديد المقالات من مراكز مختلفة. ابتدع المحرر المجهول الاسم نادياً وهمياً يمثل أعضاؤه قطاعات مختلفة من دنيا الانجليز: سير روجردي كوفرلي سيد من الريف، سير أندرو فريبورت يمثل طبقة التجار، ويتحدث الكابتن سنتري باسم الجيش، أما ول هنيكوم فهو الرجل العصري المتألق، أما المحامي في دار العدل فيمثل العلم والمعرفة" ويجمع مستر "سبكتاتور" نفسه بين وجهات نظرهم في إطار من المرح اللطيف والكياسة والذكاء، مما نفذت معه الصحيفة إلى بيوت الانجليز وقلوبهم جميعاً. وفي العدد الأول وصف مستر سبكتاتور نفسه، حتى جعل النوادي والمقاهي تحاول الكشف عن شخصيته بالحدس والتخمين:

"قضيت سنواتي الأخيرة في هذه المدينة حيث يراني الناس كثيراً في معظم الأماكن العامة، ولو أن عدد الصفوة المختارة من الأصدقاء الذين يعرفونني لا يجاوز الستة، وسأتحدث عنهم في العدد القادم بشكل أدق. ولا يكاد يوجد مكان يأوي إليه الناس بصفة عامة إلا وظهرت فيه، فأحيانا يرونني أدس أنفي في حلقة من رجال السياسة في "مقهى ول"،

ص: 261

مصغيا بأكبر اهتمام إلى ما يدور في هذه الاجتماعات الدورية. وأحيانا أدخن غليوني، وعلى حين غير منصت لشيء إلا ساعي البريد، فإني أسترق السمع إلى النقاش الذي يدور على كل مائدة من الغرفة. وفي أمسيات الأحد أقصد إلى مقهى سان جيمس، وانضم أحيانا إلى جماعة السياسيين الصغيرة في الحجرة الداخلية، بوصفي رجلا يذهب إلى هناك ليسمع ويستفيد. ووجهي كذلك معروف تمام المعرفة في "جريفان" وفي مقهى "شجرة الكاكاو""وفي مسارح "دروري لين" و "هاي ماركت" على حد سواء. وكانوا يحسبونني تاجرا في "البورصة" طيلة هذه السنوات العشر أو أكثر. وأحيانا حسبوا أني يهودي من جماعة السماسرة الذين لا يوثق بهم في "جوناتان" وجملة المقول إني لا أرى حشدا من الناس إلا حشرت نفس في زمرتهم، ولو أني لا أنبس ببنت شفة إلا في النادي الخاص بي.

وهكذا أعيش في هذه الدنيا متفرجاً، لا واحداً من الجنس البشري، وبهذه الطريقة جعلت من نفسي رجل دولة يطيل التأمل والتفكير، وجندياً وتاجراً، وصانعاً ماهراً، دون أن أمارس العمل في أي قطاع من قطاعات الحياة. كما أني على دراية تامة بشؤون الزواج والأبوة، وأستطيع تبين وجوه الخطأ في الاقتصاد وفي الأعمال وفي الانحراف، أفضل بكثير ممن يتولون هذه الأمور بأنفسهم، لأن المتفرجين يكتشفون أخطاء يمكن ألا تقع عليها أعين المشتركين في اللعبة. إني لم أناصر قط حزبا في اندفاع أو عنف. وإني عاقد العزم على أن أقف موقف الحياد الدقيق بين الأحرار والمحافظين، إلا إذا اضطررت إلى إعلان الانحياز إلى أي من الفريقين بسبب تصرفات غير وديعة من الفريق الآخر. وصفوة القول إني كنت طوال حياتي "متفرجاً" وتلك هي الشخصية التي أقصد ألا أحيد عنها في هذه الصحيفة".

وبتقدم المشروع، جمعت "سيكتاتور" بين الموضوعات الاجتماعية

ص: 262

ودراسات العادات والسلوك والأخلاق والنقد الأدبي واستعراض أحوال المسرح. وكتب أديسون سلسلة من المقالات عن ملتون أدهش بها انجلترا حين سما بقصيدة "الفردوس المفقود" فوق مرتبة "إلياذة" هوميروس، و "إنيادة" فرجيل. وتجنبت المناقشات الخوض في السياسة التي تثير العداوات والتقلبات، ولكن ألحت - واشترك في هذا أديسون عن طيب خاطر - على دعوة ستيل إلى الإصلاح الاجتماعي. وظهر من جديد شيء من الروح البيوريتانية هذبته المحنة، كرد فعل للنكسة التي اجتاحت فترة عودة الملكية، ولكنها لم تعد الآن انهماكاً لاهوتياً كئيباً مفزعاً في التخويف من الشيطان ومن الخطيئة المهلكة، بل دعوة إلى الاعتدال والاحتشام موسومة بالتفاؤل مغلفة بالدهاء والظرف. وعلى هذا النسق بدأ عدد 10 نوفمبر:

"إنه لمما يبعث عن الرضا والارتياح أن أرى المدينة العظيمة تلح يوما بعد يوم على طلب صحيفتي هذه. وتستقبل مقالاتي الصباحية في جدية واهتمام مناسبين. ويقول الناشر أن ثلاثة آلاف نسخة منها توزع يومياً بالفعل. فإذا حسبت أن النسخة الواحدة يتداولها عشرون قارئا، وهو تقدير متواضع، لأحصيت من المريدين ستين ألفا في لندن ووستمنستر، آمل أن يلحظوا الفرق بينهم وبين القطيع الطائش من أخوانهم الجهلة الغافلين، ومذ حظيت بمثل هذا العدد الكبير من القراء فإني لن أدخر وسعا في أن يكون ما أزودهم به من علم ومعرفة مقبولا، ومن تسلية نافعاً مفيداً. ولهذا أحاول أن أحيي الأخلاق بالدعابة وألطف الدعابة بالفضيلة، لعل قرائي يشقون إذا أمكن، عن هذا السبيل أو ذاك، طريقهم إلى التأمل فيما يجري حولهم كل يوم، رغبة مني في ألا يكون حظهم من الفضيلة قليلا عابرا، أو مجرد ومضات متقطعة من التفكير، صح عزمي على أن أنعش ذاكرتهم وعقولهم بين الحين الحين، حتى أخرجهم من ظلمات اليأس والرذيلة والحماقة التي تردى في هذا العصر. فإن العقل الذي يخلد إلى الدعة والراحة ولو يوماً

ص: 263

واحداً، يشب على الحماقات والسخافات التي لا يمكن اقتلاعها إلا بالمداومة على تثقيفه تثقيفاً جاداً مثابراً. ولقد قالوا عن سقراط أنه أنزل الفلسفة من السماء لتسكن بين الناس على الأرض، وكم تهفو نفسي أن يقال عني أني أتيت بالفلسفة من المخابئ والمكتبات والمدارس والجامعات، لتستقر في النوادي والجمعيات، وعلى موائد الشاي، وفي المقاهي.

من أجل ذلك أوصي، بالنسبة لتأملاتي هذه، وبصفة خاصة، الأسرات التي ترعى النظام والدقة في حياتها، ن تخصص في كل صباح ساعة محددة لتناول الشاي والخبز والزبد، وأنصحها جديا، ولخيرها هي، أن تثابر على ثراء هذه الصحيفة، وتعتبرها جزءاً من تجهيزات الشاي".

واتجهت صحيفة "سبكتاتور" إلى النساء والرجال سواء بسواء، فعرضت أن تعالج موضوع الحب والجنس، وتصور "الحب الزائف أقبح وأشد قتاماً من

الخيانة في الصداقة أو النذالة والخسة في التجارة وسائر الأعمال (73). وكتب أديسون يقول: "سيكون من أعظم مفاخر هذه المهمة التي أنهض بها أن تهيئ هذه الصحيفة بعض الموضوعات التي يخوض فيها بعض السيدات العاقلات المفكرات على موائد الشاي (74) ". وشجعت الرسائل وطبعت، وكتب ستيل نفسه سلسلة من الرسائل التي تشكو الحرمان من الحب والأحباب، كان بعضها موجها إلى خليلاته، وبعضها دبجه المحررون في أسلوب حديث جداً. وجمعت الصحيفة بين الدين والحب. وزودت باللاهوت المعتدل جيلاً بدأ يتساءل عن أثر تخلخل إيمان الطبقات العليا عن الأخلاق. وأهابت بالعلم أن يتابع طريقه، ويدع الكنيسة وحدها حارساً حكيماً محنكاً على الأخلاق، فأن حقوق الوجدان ومتطلبات النظام تدل على إدراك الفرد وعقله، فهو دوما في دور المراهقة. وخير للأخلاق ولسعادة الإنسان تقبل العقيدة القديمة في خشوع، وحضور صلواتها وخدماتها والالتزام بعطلاتها، والمساعدة على خلق الجو المناسب ليوم العبادة الهادئة في كل أبرشية.

ص: 264

"إني لأجد السرور كل السرور في يوم الأحد في الريف، وكم أتمنى لو أن تقديس اليوم السابع والتعطيل فيه كان مجرد نظام إنساني، إذن لأصبح أفضل وسيلة فكر فيها الإنسان لتهذيب الجنس البشري وصقله وتمدينه، ومن المؤكد أن أهل الريف سيخطون سريعا إلى نوع من المتوحشين والمتبربرين إذا لم يعودوا دوماً إلى زمن محدد تجتمع فيه القرية كلها بوجوه باسمة في أبهى حلة ليتدارس أهلها فيما بينهم مختلف الموضوعات، وليوضح لهم ما ينبغي عليهم أداؤه من واجبات، وليجتمعوا معا لعبادة الله "الكائن الأسمى".

إن يوم الأحد صدأ الأسبوع كله، لا لأنه يحي الأفكار الدينية في العقول. بل لأنه يجمع بين الرجال والنساء. والكل يبدو في أحسن صورة (75) ".

أما الأدب الذي كان مطية الإباحية والخلاعة طوال الأربعين عاماً الماضية، فقد انحاز الآن إلى جانب الأخلاق والإيمان. وأسهمت صحيفة سيكتاتور في انقلاب السلوك والأسلوب الذي استبق في عهد الملكة آن، بقرن من الزمان، روح أواسط العصر الفكتوري، التي قضت بألا يحترم إلا من هم حقا جديرون بالإحترام، وغيرت مفهوم الانجليز عن السيد الماجد "جنتلمان" من الرجل ذي اللقب الذي يحسن مغازلة النساء، إلى المواطن المهذب الكريم النشأة. وفي "سبكتاتور" وجدت فضائل الطبقة الوسطى من يدافع عنها دفاعا مهذبا مصقولا. وكان التعقل وحسن التدبير وعدم التبذير أجدى على المجتمع وثمن لديه من أناقة الثياب وسرعة الخاطر وكان التجار سفراء الحضارة إلى الشعوب المختلفة. وكانت عائدات التجارة والصناعة عصب الحياة للدولة.

وأحرزت صحيفة سبكتاتور نجاحاً ومنزلة رفيعة ليس لهما مثيل في الصحافة الانجليزية وكان توزيعها ضئيلا، لا يكاد يجاوز أربعة آلاف، ولكن تأثيرهاً كان عظيماً إلى حد بعيد. وكان يباع من مجموعاتها المجلدة

ص: 265

نحو تسعة آلاف نسخة سنويا (76)، وكأنما أدركت انجلترا فعلا أنها لون من الأدب. ولكن بمرور الزمن بليت جدثها وخبا بريقها، وبدأت شخصيات النادي تكرر نفسها، وفترت حيوية الكتاب المنهوكين ونشاطهم، وصبحت عظاتهم تبعث السأم في نفوس القراء. وهبط توزيع الصحيفة، وزادت المصروفات على الايرادات نتيجة ضريبة التمغة التي فرضت 1712. وفي 16 ديسمبر 1712 احتجبت الصحيفة عن الظهور. وواصل ستيل الكفاح في صحيفة "جارديان". وأحيا أديسون صحيفة سبكتاتور 1714. ولم يطل عمر الصحيفتين كلتيهما، لأن أديسون كان قد أصبح آنذاك كاتبا مسرحيا ناجحا، وأعيدت إليه وظائفه ورواتبه الحكومية.

وفي 14 أبريل 1713 أخرج مسرح "دروري لين" مسرحية "كاتو" لأديسون كتب لها صديقه بوب مقدمة زاخرة بالحكم والأفكار التي عرفت عنه، مثقلة بالوطنية الثائرة المتفائلة معا، وأخذ ستيل على عاتقه أن يحشد لمشاهدة المسرحية كل "الأحرار" الغيورين المتحمسين، فلم يوفق في ذلك كل التوفيق، ولكن "المحافظين" انضموا إلى الأحرار في استحسان وقفة "كاتو" الأخيرة دفاعا عن "الحرية الرومانية"(46 ق. م.) وتبارت صحيفة المحافظين "اجزامنر" مع صحيفة ستيل "جارديان" في نشوة الابتهاج والاستحسان. واستمر العرض لمدة شهر كامل مع تزايد عدد المترددين على المسرح لمشاهدتها، حتى قال بوب "لم يكن كاتو محل إعجاب ودهشة روما في زمانه قدر ما هو موضع إعجاب ودهشة بريطانيا في أيامنا هذه"(77). واعتبرت كاتو في القارة أجمل مسرحية "تراجيدية" في اللغة الإنجليزية. وأعجب فولتير بالتزامها بالوحدات، وعجب كيف أن إنجلترا تطيق صبراً على شكسبير بعد مشاهدة رواية أديسون (78). ويهزأ النقاد اليوم بها على أنها خطابة تافهة مضجرة ولكن أحد القراء وجد أن انتباهه مشدود حتى النهاية بفضل الحبكة المحكمة البناء وقصة الحب المدمجة بشكل بارع في الصراع الأكبر.

ص: 266

وازدادت الآن شعبية أديسون إلى حد قال معه سويفت "أعتقد أنه لو فكر في أن يختار للجلوس على العرض لكان من العسير أن يأبى عليه أحد هذه الرغبة (79) ". ولكن أديسون الذي كان دوماً نموذجاً للاعتدال قنع بتعيينه وزيراً في الحكومة، لشئون إيرلندة آنذاك، ثم كبير مفوضي التجارة. وكان شخصية محبوبة جداً في النوادي، لأن إدمانه على الشرب منعه من أن يكون "الرجل الشاذ البشع غاية الباعة والشذوذ الذي لا يحبه الناس أبداً". ورغبة منه في تتويج مجده وعظمته، تزوج (1716) من كونتيسة، ولم يكن سعيداً في حياته مع السيدة المتعجرفة في "هولندهاوس" في لدن. وفي 1717 عين ثانية وزيراً، ولكن مقدرته كانت محل نزاع وشك. وسرعان ما استقال بمعاش قدره 1500 جنيه في العام. وعلى الرغم من تجلده وأدبه الجم انزلق في عراك مع أصدقاءه - ومنهم ستيل وبوب - الذي هجاه بأنه متزمت اعتاد "أن يلعن الناس بالإطراء الباهت الحقير، فهو:

مثل كاتو يقدم للسناتو الهزيل القوانين، ثم يتخذ مقعده لينصت إلى ما يكال له من مديح (80).

وكانت خاتمة حياة ستيل أقل عظمة وجلالاً من أديسون. أنه انتخب للبرلمان في 1713، ولكن الغالبية التي تنتمي إلى حزب المحافظين أخرجته بتهمة أن لغته محرضة مثيرة للفتنة. وفاز حزب الأحرار في السنة التالية، فحظي ستيل بعدة مناصب إدارية تدر عليه مالاً، وتعادلت لفترة من الزمن موارده مع نفقاته، ولكن ديونه طغت، وطارده دائنون، وآوى إلى ضيعة زوجته في ويلز، وهناك وافته المنية في أول سبتمبر 1729، بعد شريكه بعشر سنين. أنهما معاً: ستيل بأصالته وحيويته ونشاطه، وأديسون بذوقه الفني المصقول ارتفعا بالقصة القصيرة والمقال إلى آفاق جديدة من الجودة والإتقان، وأسهما في إبتعاث الأخلاق من جديد في ذاك العصر، وحددا طابع الأدب الإنجليزي وشكله لمدة قرن من الزمان باستثناء العبقرية البالغة القوة والعنف في هذا العصر.

ص: 267

‌8 - جوناثان سويفت

1667 -

1745

كان سويفت يكبر ستيل وأديسون بخمس سنين. ولكنه عمر بعد أحدهما ست عشرة سنة، وبعد الآخر ستاً وعشرين. وكان بمثابة شعلة متأججة سرت من قرن إلى قرن، من دريدن إلى بوب. ولم يستطع قط أن يغتفر مولده في دبلن الذي كان عائقاً مثيراً للغضب في إنجلترا. وكم كان قاسياً عليه أن يقضي أبوه نحبه قبل ولادته، وكان الوالد قهرمان قصر الملك في دبلن. وعهد بالطفل إلى مرضعة حملته منها إلى انجلترا، ولم تعد به إلى أمه إلا عندما بلغ الثالثة من العمر، وربما ولدت هذه المغامرات والمخاطر في نفس الصبي شيئاً من قلق اليتيم. ولابد أن هذا الشعور ازداد عمقاً في نفسه، بانتقاله إلى عم له. سرعان ما تخلص منه، وهو في السادسة بإلحاقه بمدرسة داخلية في كلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بترنتي كولدج في دبلن، حيث ظل بها سبع سنين. وشق طريقه في الكلية بصعوبة لأنه كان مهملاً في اللاهوت بصفة خاصة. وكثيراً ما قصر وعوقب، وذاق مرارة الفقر والحرمان عندما تعثر حظ عمه الذي تولى الإنفاق عليه، وأصيب بانهيار عصبي (1688). وعند موت عمه 1689، وفي غمرة ثورة إيرلندة لنصرة جيمس الثاني، هرب جوناثان إلى إنجلترا، وإلى أمه التي كانت تعيش في ليستر على عشرين جنيهاً في العام. وعلى الرغم من طول الفراق بينهما، انسجما معاً إلى حد معقول، وتعلم كيف يحبها، وزارها من حين إلى حين، حتى وفاتها (1710).

وفي أواخر عام 1689 وجد سويفت عملاً براتب قدره عشرون جنيهاً في العام مع الإقامة والطعام، سكرتيراً لسير وليم تمبل في موربارك. وكان تمبل حينذاك في أوج عظمته، صديقاً ومستشاراً للملوك. ويجدر بنا ألا نقسو في لومه لإخفاقه في التعرف على العبقرية في الشاب ذي الاثنين والعشرين ربيعاً الذي جاءه ببعض اللاتينية واليونانية، وببعض اللهجة الإيرلندية مع جهل ماكر باستخدام الشوكة والملعقة وعلاقة الواحدة منهما بالأخرى

ص: 268

على المائدة (81) وكان سويفت يجلس مع كبار العاملين في خدمة تمبل، إلى مائدة سيدهم (82)، الذي لحظ دوماً الفرق بينه وبينهم. ولكن تمبل كان فأرسل سويفت 1692 إلى أكسفورد ليحصل على درجة الأستاذية. وأوصى به عطوفاً، وليم الثالث خيراً، ولكن دون جدوى.

وفي نفس الوقت كان سويفت يكتب مقطوعات شعرية من ذات البيتين. عرض بعضها على دريدن الذي قال له "ياسويفت، يابن العم، إنك لن تكون شاعراً أبداً"- وهي نبوءة كانت دقتها تجل عن إدراك الشاب وتقديره. وفي 1694 ترك سويفت خدمة تمبل، مع توصية منه. فعاد إلى إيرلندة، ورسم قسيساً أنجليكانياً (1665) وعين في وظيفة كنيسة صغيرة صغيرة ذات راتب في كلروت بالقرب من بلفاست. وهناك وقع في غرام جين دارنج التي سماها "فارنيا"، وعرض عليها الزواج، ولكنها أمهلته حتى تتحسن صحتها ويزداد دخله. ولما لم يطق صبراً على هذه العزلة القاتلة في أبرشية ريفية، هرب من كلروت 1669 وعاد أدراجه إلى تمبل وظل في خدمته حتى مات هذا الأخير.

وكان سويفت في عامه الأول في موربارك، قد التقى بأستر جونسون التي قدر لها أن تصبح " Stella". وتناثرت بعض الشائعات بأنها نتاج شيء من طيش سير وليم تمبل، الذي كان نادراً. والأرجح أنها ابنة تاجر من لندن. التحقت أرملته بخدمة ليدي تمبل. وعندما رآها سويفت لأول مرة كانت في سن الثامنة، تبعث على السرور والابتهاج مثل سائر البنات في هذه السن، ولكنها كانت أصغر من أن تثير فيه لواعج الغرام والهيام. أما الآن وهي في الخامسة عشرة، فقد اكتشف سويف، معلمها الذي ناهز التاسعة والعشرين، أن مفاتنها تثير المشاعر البدائية لدى الكاهن المحروم، لها عينان سوداوتان براقتان، وشعر أسحم، وصدر منتفخ، "رشيقة رشاقة غير معهودة في البشر. في كل حركة وفي كل كلمة وفي

ص: 269

كل عمل" (هكذا وصفها سويفت فيما بعد)، "ركبت كل تقاطيع وجهها في أحسن صورة (83) " كيف لا تفتتن هلواز هذه معلمها أبيلاد

(1)

.

وعندما توفي تمبل 1699 ترك لأستر ألف جنيه ولسويفت مثلها. وبعد آمال خائبة في الالتحاق بوظائف الحكومة، قبل سويفت الدعوة ليكون قسيساً وسكرتيراً لدى إرل بركلي الذي كان قد عين لفوره قاضي القضاة في إيرلندة. وعمل سكرتيراً للرحلة إلى دبلن، ولكنه هناك فصل عن عمله. فطلب أن يعين رئيساً لكنيسة "درف" وهو منصب كان على وشك أن يشغر. ولكن السكرتير الجديد، لقاء رشوة قدرها ألف جنيه، خص بالوظيفة مرشحاً آخر. واتهم سويفت إرل بيركلي والسكرتير كليهما، وجهاً لوجه، بأنهما "وغدان حقيران". فعملا على تهيئته بتعيينه قسيساً في "لاكور"، وهي قرية على بعد نحو عشرين ميلاً من دبلن، لا يزيد شعبها على خمسة عشر شخصاً. والآن في 1700 بلغ دخل سويفت 230 جنيهاً، وهو دخل حسبته جين وارنج كافياً لإتمام الزواج. ومهما يكن من أمر، فقد مضت أربع سنوات على مفاتحته لها في أمر الزواج، وفي نفس الوقت كانت قد وقعت عينه على استر. فكتب على جين يقول أنها إذا تزودت بقسط من التعليم يؤهلها لتكون شريكة صالحة لحياته، وتعد بأن ترضى عن كل ما يحب ويكره، وتخفف من متاعبه ودراسته، فإنه يتزوجها دون نظر إلى وسامتها وجمالها أو إلى دخلها (84).

ومذ كان سويفت وحيداً في لاراكور، فإنه كثيراً ما تردد على دبلن. وهناك في 1701 حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت، وبعد ذلك في نفس العام، دعا أستر جونسون وصديقتها مسز روبرت دنجلي ليحضرا ويقيما معه في لاراكور، فقدمتا واتخذتا مسكناً بالقرب منه. وفي أثناء تغيبه في إنجلترا شغلتا مسكنه الذي كان قد استأجره في دبلن وكانت أستر

(1)

فيلسوف ولاهوتي فرنسي في القرن الحادي عشر، تزوج تلميذته وعشيقته هلواز.

ص: 270

"ستيللا" تتوقع منه أن يتزوجها، ولكنه تركها تنتظر طيلة خمسة عشر عاماً، واحتملت هي هذا الموقف الذي وضعها فيه على مضض، وانتابها الاضطراب والكآبة. ولكن قوة شخصيته وحدة تفكيره، أخمدتا جذوتها وكأنما وقعت تحت تأثير تنويمه المغناطيس حتى النهاية.

وتألفت حدة ذهنه بشكل مباغت حين نشر في 1074 في مجلد واحد "معركة الكتب" و "حكاية حوض الاستحمام". والأول إسهام موجز لا يستحق الذكر في الجدل حول المزايا النسبية للأدب قديمة وحديثة. أما الثاني فهو عرض هام لفلسفة سويفت الدينية أو غير الدينية. وقال سويفت عندما أعاد قراءة كتابه هذا في أخريات أيامه: "يا إلهي: أية عبقرية أملت على هذا الكتاب؟ (85). وأحبه كثيراً إلى حد أنه في الطبعات التالية أتحفه بخمسين صحيفة أخرى من الهراء، على شكل مقدمات واعتذارات. وكان يفاخر ويزهو بأن الكتاب ينم عن أصالة بالغة. ومع أن الكنيسة كانت منذ أمد بعيد قد أكدت أن المسيحية هي "رداء المسيح السليم الذي شبه فيه" ولكن الإصلاح البروتستانتي مزقه إرباً فأن أحداً- خصوصاً كارليل Sartor Resortus- لم يطعن في القوة التي لم يسبق لها مثيل التي رد فيها سويفت كل الفلسفات والديانات إلى مجرد أردية تستخدم لستر جهلنا المرتجف أو إخفاء رغباتنا الجامحة المفضوحة:

"هل الإنسان نفسه إلا رداء بالغ الصغر أو على الأصح مجموعة كاملة من الملابس بكل زخارفها وزركشاتها؟ أليست الديانة عباءة، والأمانة حذاء بلى بالوحل، وحب الذات معطفاً ضيقاً غاية الضيق، والغرور قميصاً، أليس الضمير إلا سروالاً (بنطلوناً) يستر الخلاعة والقذارة، ولكن من السهل نزعه لخدمة الخلاعة والقذارة كلتيهما؟ فإذا وضعت بعض قطع الفراء الرخيص أو الثمين في موقع معين من الرداء فإننا بذلك نصنع قاضياً وحكماً ومن ثم فإن بعض الشاش والأطلس الأسود بعضهما إلى بعض بشكل مناسب يصنع لنا أسقفاً (86) ".

ص: 271

وجرت إستعارة الرداء هنا بدقة ورقة. أن بيتر (الكاثولوكية)، ومارتن (اللوثرية والأنجليكانية) وجاك (الكلفنية) تسلموا، ثلاثتهم، من أبيهم وهو يحتضر، ثلاثة أردية جديدة متماثلة (كتباً مقدسة) إلى جانب وصية توجههم كيف يلبسونها، وتحرم عليهم إبدالها، أو إضافة خيط واحد إليها أو إنتقاص خيط واحد منها ووقع الأبناء الثلاثة في غرام سيدات ثلاث:"دوقة المال"، أي الثراء، و"آنسة الألقاب الفخمة" أي الطمع، و"كونتيسة الكبرياء" أي الغرور، ولكن الأخوة الثلاث، رغبة منهم في إرضاء هؤلاء السيدات، يعمدون إلى إحداث بعض التغيير في أرديتهم الموروثة. ولما بدا لهم أن التغييرات تتعارض مع وصية أبيهم، أعادوا تفسير الوصية بتأويلات صادرة عن علماء ومثقفين. أما بيتر فقد أراد أن يضيف حواشي وأهداباً من الفضة (البذخ البابوي). وسرعان ما أتضح للعلماء الثقاة أن لفظة "الهدب أو الحاشية" في الوصية تعني عصا المكنسة الطويلة. وهكذا إختار بيتر الحواشي الفضية، ولكنه حرم على نفسه عصا المكنسة الطويلة "السحر") وفرح البروتستانت (المحتجون) حين وجدوا أقسى الهجاء والنقد يوجه إلى بيتر: إلى شرائه قارة كبيرة (المطهر- مكان تطهر فيه نفوس الأبرار بعد الموت بعذاب محدود الأجل) ثم بيعه (أي المطهر) في أجزاء متفاوتة (صكوك الغفران) المرة بعد الأخرى، والى علاجاته الناجحة الخالية من الآلام عادة (القفازات) للديدان (أي وخزات الضمير) - وعلى سبيل المثال:"اإمتناع عن أكل شيء بعد العشاء لمدة ثلاث ليال، وألا تخرج على الإطلاق ريحاً من الجانبين دون سبب واضح (87) "، وكذلك وجه النقد إلى بيتر لإبتداع "وظيفة الهمس"(أي الإعتراف)"لخير وراحة المصابين بوسواس المرض أو الذين أرهقهم المغص" و"ووظيفة التأمين"(أي مزيد من الغفران)، "المخلل البالي المشهور (الكاثوليكي) ويعني به "الماء المقدس"، على أنه من الضعف والإنحلال. وحيث تزود بيتر بهذه الوسائل والحيل الحكيمة فإنه ينصب نفسه ممثلاً للرب، ويصف

ص: 272

فوق رأسه قبعات ذات تاج عال. ويمسك في يده بعصا يختال بها، وإا رغب الناس في مصافحته، قدم لهم "كأن كلب مدرب تدريباً جيداً" قدمه (88). ويدعو بيتر إخوته إلى الغداء، ولا يقدم لهم غير الخبز، ويؤكد لهم أنه ليس خبزاً بل لحماً، ويدحض إعتراضاتهم ويقول "لإقناعكما بأنكما لستما إلا شخصين أحمقين جاهلين عنيدين أعميين حقاً"، لن أستخدم إلا حجةً واحدةً: والله إنه لحم ضأن طيب طبيعي مثل أي لحم ضأن في "ليندهول ماركت"، صب الله عليكما اللعنة الأبدية إذا صدقتما غير ما أقول (89)". ويثور الإخوان، ويستخرجان "نسخاً حقيقية" من الوصية (ترجمة الكتاب المقدس باللغة الوطنية)، ويشجبان بيتر على أنه محتال دجال. وبناء على هذا طرد بيتر أخويه من داره، ولم يستظلا بسقفه منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا (90) ". وسرعان ما دب النزاع بعد ذلك بين الإخوة: إلى أي حد ينبذون أو يغيرون من أثوابهم الموروثة. ويعتزم مارتن، بعد ثورة غضبه الأولى، أن يلتزم جادة الإعتدال. ويتذكر أن بيتر أخوه. أما بيتر، فإنه على أية حال يمزق ثوبه إرباً (شيع كلفنية). ويصاب بمسات من الجنون والغيرة. ويستطرد سويفت ليصف عمليات الريح (ويقصد بها الوحي والإلهام) عند العولسيين) - نسبة إلى عولس إله الريح "ويعني بهم" الوعاظ الكلفنيين. ويسخر كثيراً- سخرية لا يجوز نقلها هنا- من ألفاظهم الأنفية الحادة ومن نظرياتهم في القضاء والقدر، وتقديسهم الأعمى للنصوص المقدسة (91).

والى هنا، لم يصب مذهب الكاتب- المذهب الأنجليكاني إلا اليسير من الجراح، ولكن سويفت يسترسل في القصة، ويغير الأثواب إلى رياح، ومن الواضح أنه ينتهي إلى أن كل الديانات والفلسفات- لا لاهوتيات المنشقين فحسب- ليست إلا أضاليل وأوهاماً كاذبةً سريعة الزوال.

"إذا إستعرضنا الإنجازات العظيمة التي تمت في العالم

مثل تكوين الإمبراطوريات الجديدة عن طريق الغزو والفتح، وإبتداع ونمو مذاهب

ص: 273

جديدة في الفلسفة، وإستنباط أديان جديدة ونشرها، فلسوف نجد أن الذين قاموا بهذا كله، ليسوا إلا أشخاصاً هيأت لهم عقولهم الطبيعية أن يقوموا بإنقلابات كبيرة، بفضل غذائهم وتعليمهم، ومزاج معين سائد، بالإضافة إلى تأثير خاص للهواء والمناخ

لأن عقل الإنسان المستقر في مخه، لابد أن ترهقه وتغمره أبخرة ورياح صاعدة من القوى والوظائف الجسدية الدنيا لتسقي المخترعات وتجعلها مثمرة (92).

ويسترسل سويفت في تفصيل فسيولوجي لا يمكن ذكره، لما بدا له أنه مثال رائع لإفرازات داخلية تولد أفكاراً قوية، ومن ذلك "المشروع الكبير" لهنري الرابع: ذلك أن ملك فرنسا لم يوح إليه بشن الحرب ضد آل هيسبرج ويستحثه عليها إلا تفكيره في الإستحواذ في طريقه على امرأة (هي شارلوت مونمورنس) التي حرك جمالها في الملك عصارت مختلفة "صعدت إلى مخه (93) " وهذا هو بالمثل ما حدث بكبار الفلاسفة الذين حكم عليهم معاصروهم بحق بأنهم "فقدوا عقولهم":

"ومن هذا الطراز كان أبيقور، ديوجين، أبوللونيوس، لوكريشس، ياراسلسوس، ديكارت، وغيرهم، ممن كانوا على قيد الحياة الآن،

لتعرضوا في هذا العصر المتميز بالفهم، لخطر واضح، خطر فصد الدم، والسياط، والأغلال، والحجرات المظلمة والقش (في السجون) أما الآن فقد يسرني أن أعرف كيف أنه من الميسور أن نعلل لهذه التصورات والأفكار، .. دون إشارة إلى الأبخرة التي تتصاعد من القوى والوظائف الجسدية الدنيا، حيث تلقي ظلالاً معتمةً على المخ، فتقطر أو تتساقط مفاهيم لم تضع لها لغتنا الضيقة بعد أسماء غير الجنون أو الخبل (94).

ولمثل "هذا الخلل أو التحول في المخ بفعل الأبخرة المتصاعدة والقوى والوظائف الجسدية الدنيا" يعزو سويفت كل الانقلابات أو الثورات التي حدثت في الآمبراطورية والفلسفة والدين (95) ويخلص إلى أن كل مذاهب الفكر عبارة عن رياح من الألفاظ، وأن الزجل العاقل لا ينبغي له أن ينفذ

ص: 274

إلى الحقيقة الباطنة للأشياء، بل يقنع نفسه بالسطح أي بظواهر الأشياء، وبناء على هذا يستخدم أحد التشبيهات اللطيفة التي ينعطف إليها دائماً:"رأيت في الإسبوع الماضي امرأة سلخ جلدها، ولن تصدق أنت بسهولة إلى أي حد تغير شكلها إلى أسوأ مما كانت (96) ".

إن هذا الكتاب الصغير المخزي الذي وقع في 130 صفحة، جعل من سويفت في الحال "سيد الهجاء"- أو كما سماه فولتير: رابليه آخر في صورة متقنة. إن القصص الرمزي أو المجازات إتسقت إتساقاً حرفياً مع معتقده الأنجليكاني التقليدي. ولكن كثيراً من القراء أحسوا بأن الكاتب متشكك، إن لم يكن ملحداً. أما رئيس الأساقفة شارب فإنه أبلغ الملكة آن أن سويفت لم يفضل الكافر بشيء كثير (97). وكان من رأي دوقة مالبورو الصديقة الحميمة للملكة، أن سويفت:

"حول، منذ زمن طويل، كل الديانة إلى "قصة حوض الإستحمام" على أنها وباعها دعابة. ولكنه كان قد إستاء من أن "الأحرار" لم يكافئوه بالترقية في الكنيسة على ما أظهره من غيرة شديدة على الدين بهزله الدنس، ولذلك سخر إلحاده ومزاحه ومرحه في خدمة أعدائهم (98) ".

كذلك نعته ستيل بأنه كافر، ووصفه نوتنجهام في مجلس العموم بأنه عالم لاهوتي "من العسير أن يشك في أنه مسيحي (99). وكان سويفت قد قرأ هوبز، وهي تجربة ليس من اليسير نسيانها. ذلك أن هوبز كان قد بدأ بالخوف، انتقل إلى المذهب المادي، وانتهى بأن يكون (محافظاً) يناصر الكنيسة الرسمية.

وكان لرجال الدين قليل من العزاء في أن سويفت أخرج مؤلفاً في الفلسفة:

"إن مختلف الآراء الفلسفية انتشرت في أنحاء العالم، وكأنها أمراض طاعون أصابت العقل، كما انتشر صندوق بندورا

(1)

الأوبئة التي تصيب

(1)

Pandona- في الأساطير اليونانية- أول امرأة فانية مهلكة أرسلها الإله زيوس، عقاباً للبشر على سرقة بروميثيوس للنار. أعطاها زيوس صندوقاً فتحته فانطلقت منه إلى الدنيا كل العلل والأمراض التي تصيب الجسم، (وفي رواية حديثة أطلقت منه كل نعم الحياة فتبددت وضاعت هباء منثورا، ولم يتبق إلا مجرد الأمل.

ص: 275

الجسم، مع فارق واحد، هو أن الطاعون لم يترك شيئاً من الأمل في القاع إن الحقيقة خافية على الناس، قدر خفاء منابع النيل، ولا يمكن وجودها إلا في "بوتوبيا"(المدينة المثالية)(100).

ومن الجائز أن سويفت، لأنه أحس بأن الحقيقة لم تقصد للبشر، نبذ في إصرار شديد كل الفرق الدينية التي ادعت أن مذهبها "هو المذهب الصحيح". وازدرى الرجال الذين زعموا- مثل بانيان وبعض الكويكرز- أنهم رأوا الله أو كلموه. وانتهى، مع هوبز، إلى أنه ضرب من الانتحار الاجتماعي أن نترك لكل إنسان الحرية في أن يصنع عقيدته أو مذهبه بنفسه، حيث لن تكون نتيجة ذلك إلا عاصفة هوجاء من السخافات يصبح معها "بيمارستانا" أو مستشفى للأمراض العقلية. ومن ثم عارض سويفت حرية الفكر، على أساس أن "جمهور البشر مؤهل للطيران قدر ما هو مؤهل للتفكير (101) ". واستنكر التسامح الديني، وظل لآخر حياته يؤيد "قانون الاختبار" الذي قضى بإقصاء غير أتباع الكنيسة الرسمية عن كل الوظائف السياسية والعسكرية (102). واتفق مع الحكام الكاثوليك واللوثريين على أنه يجب أن يكون للأمة عقيدة دينية واحدة. وحيث أنه ولد في إنجلترا، ومذهبها الرسمي هو الأنجليكاني، فإنه رأى أن الإتفاق العام الكامل على اعتناق هذا المذهب أمر لا غنى له عنه لعملية تمدين الإنجليز ونشر سويفت في 1708 بعض القطع:"أحاسيس رجل يتبع كنيسة إنجلترا"، "والدليل على أن إلغاء المسيحية في إنجلترا قد يستتبع بعض المتاعب والمشاكل والمزعجات "وكان آنذاك في طريقه من الأحرار إلى المحافظين".

وكان أول ارتباط سياسي له- بعد ترك ثمبل- مع الأحرار، حيث

ص: 276

بدا له أنهم أكثر تقدمية، ومن الأرجح أن يجدوا عملاً لرجل أكبر عقلاً وأقل ثراءً. وفي 1701 نشر كتيباً يناصر فيه حزب الأحرار وكله أمل في الظفر بشيء. ورحب هاليفاكس وسندر لند وغيرهما من زعماء الأحرار، بانضمامه إلى حزبهم، ووعدوه خيراً إذا تولوا الحكم. ولكنهم لم ينجزوا ما وعدوا، ويحتمل أنهم خشوا من أن سويفت رجل لا يسهل قياده، وأن قلمه سلاح ذو حدين، وفي رحلة موسعة من أيرلنده إلى لندن في 1705 كسب سويفت صداقة كونجريف وأديسون وستيل. وأهداه أديسون نسخة من "رحلات إلى إيطاليا" وكتب في عبارة الإهداء "إلى جوناتان سويفت، أحسن رفيق وخير صديق، أعظم عبقرية في زمانه يقدم خادمه الذليل، المؤلف، هذا الكتاب (103) "، ولكن هذه الصداقة، مثل صداقة جوناثان مع ستيل وبوب، لم تدم، وأتت عليها نيران سويفت المتقدة أو ثورته المتصاعدة.

وفي زيارة أخرى لدينة لندن، تسلى سويفت بتدمير منجم دعي. ذلك أن جون بار تريدج، الإسكافي، أخرج كل عام تقويماً زاخر بالنبوءات المؤسسة على حركات النجوم. وفي 1708 نشر سويفت تحت اسم مستعار "إيزاك بيكرستاف" تقويماً تنافسياً. وكان من بين تنبؤات إيزاك، انه في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 مارس سيقضي بارتريدج نحبه. وفي 30 مارس نشر بيكرستاف في نشوة الانتصار رسالة أعلن فيها أن بارتريدج مات في ظرف بضع ساعات من الموعد المحدد في النبوءة، وذكر في تفصيل مقنع ترتيبات الجنازة. وأكد بارتريدج لمدينة لندن بأسرها أنه لا يزال حياً يرزق. ولكن إيزاك رد بأن هذا محض افتراء. وأدرك ظرفاء المدينة الخدعة. ورفع مكتب التسجيلات اسم بارتريدج من سجلاته أما ستيل فإنه اختار إيزاك اسماً لمحرر وهمي في صحيفة "تاتلر" عند افتتاحها في السنة التالية.

وفي 1710 غادر سويفت لارا كور مرة أخرى، موفداً عن الأساقفة

ص: 277

الأيرلنديين ليطلب إلى الملكة آن أن تمد يد معونتها إلى رجال الدين الانجليكانيين في أيرلنده: ورفض جودلفين وسومرز، وهما عضوان من حزب الاحرار في مجلس المكلة، الموافقة على هذا إلا إذا وافق رجال الدين هؤلاء، على التخفيف من حدة "قانون الاختبار" والإرخاء من قبضته. وعارض سويفت بشدة التخفيف المطلوب. واكتشف الأحرار أنه كان "محافظاً" بالنسبة للعقيدة الدينية. وأعترف سويفت عملياً بأنه "محافظ" بالنسبة للسياسة أيضاً، حين كتب: "إني كنت أمقت دوماً هذا النهج السياسي

ألا وهو وضع مصالح ذوي المال في مواجهة مصالح مالكي الأرض (104)". ولجأ إلى زعيمي المحافظين، هارلي وبولنجبروك ولقى ترحيباً حاراً، وأصبح بين عشية وضحاها "محافظاً" راسخاً. وعين محرراً لصحيفة المحافظين "إجزامنر". وأبرز أسلوبه بوضوح عندما وصف نائب حاكم أيرلنده- وهو من حزب الأحرار، وكان أديسون صديق سويفت سكرتيراً له:

"إن توماس إرل وارتون

بحكم دستور غريب، قضى بضعة أعوام من سني اليأس التي تقدم بها عمره، دون آثار بارزة للشيخوخة في جسمه أو عقله. وعلى الرغم من مقارفته المستمرة لكل الموبقات التي تعتصر الجسم والعقل كليهما

فإنه يذهب دوماً إلى الصلاة. ويتحدث حديث الفسق والفجور والتجديف على باب الكنيسة، فهو مشيخي في السياسة ملحد في العقيدة. ولكنه يؤثر الآن أن يفجر مع البابوية (105) ".

وسر الوزراء "المحافظون" بها الهجاء اللاذع الذي يشبه القتل، فعهدوا إلى سويفت بكتابة فذلكة "سلوك الحلفاء"(نوفمبر 1711)، كجزء من حملتهم لإسقاط مالبورو وإنهاء حرب الوراثة الإسبانية، واحتج سويفت بأن الضرائب الاستثنائية التي فرضت لتمويل الحروب الطويلة ضد لويس الرابع عشر يمكن خفضها بقصر إسهام إنجلترا في الحروب على البحر، وأوضح بأجلى بيان شكوى مالكي الأرض من أن عبء نفقات الحرب

ص: 278

وقع على عاتقهم أكثر مما على عاتق التجار وأصحاب المصانع الذين كانوا يستفيدون من الحرب. أما بالنسبة لدوق مالبورو فقد قال سويفت "هل كان من حسن الرأي شن الحرب، أو لم يكن؟

وأوضح بأن الدافع إلى الحرب، هو الرفع من شأن أسرة بعينها، وبعبارة موجزة أنها حرب لحساب القائد ووزارة الأحرار، وليست حرباً لحساب الملك والشعب (106) وقدر الكاتب رواتب مالبورو وتعويضاته بنحو 540 ألف جنيه "وهذا الرقم دقيق (107) ". وبعد شهر واحد سقط مالبورو وصورت الدوقة زوجته الجريئة الصريحة وهي الوحيدة في إنجلترا التي كان لسانها حاداً لاذعاً، مثل لسان سويفت- صورت في مذكراتها المسألة من وجهة نظر الأحرار، فقالت:

"أن السيدين المحترمين مستر سويفت ومستر بريور أسرعا فعرضا نفسيهما للبيع

وكلاهما من الموهوبين القادرين، وهما مستعدان لتسخير كل ما لديهما لخدمة أية فرية مخزية طالما كانت المكافأة مجزية. لأن كليهما لا يبالي بحمرة الخجل ولا بالسقوط أو الانزلاق من أجل مصلحة سادتهم الجدد (108).

وكافأ المحافظون تابعيهما الجديدين: فعينوا ماتيو بريور في منصب دبلوماسي في فرنسا حيث أبلى بلاءً حسناً. ولم يحصل سويفت على أي منصب ولكنه كان صديقاً حميماً وثيق الصلة بوزراء المحافظين، فاستطاع بذلك أن يحصل لكثير من أصدقائه على وظائف تدر مالاً وفيراً ولا تقتضي عملاً كثيراً. وكان مثال الكرم والعطف على من لم يعارضوه أو يهاجموه. وزعم فيما بعد أنه أهدى لخمسين شخصاً أكثر خمسين مرة مما أهداه أليه سير وليم ثمبل (109). وأقنع بولنجبروك بمساعدة الشاعر جاي Gay وألح على وجوب استمرار الوزارة في دفع الراتب الذي كان الأحرار يدفعونه لكونجريف. ولما طلب بوب جمع بعض التبرعات لمعاونته على ترجمة هوميروس، أمر سويفت كل أصدقائه وكل طلاب الوظائف بالتبرع،

ص: 279

وأقسم "أن المؤلف لن يشرع في الطبع قبل أن يجمع له ألف جنيه (110) " وغطت شخصيته على مكانة أديسون في الأندية، وكان في كل ليلة تقريباً يتناول العشاء مع العظماء. ولم يكن يطيق من أحدهم أية سمة من سمات التعالي عليه. وكتب يوماً إلى ستيللا "إنني مزهو متكبر إلى حد أني أجعل اللوردات يأتون إلي

كان مفروضاً أن أتناول العشاء في قصر أشبيرنهام، ولكن هذه السيدة المنحطة القذرة لم تعرج علينا لنصحبها في عربتها، ولكنها أرسلت في طلبنا فحسب، ولذلك أرسلت إليها إعتذاراً (111) ".

وفي السنوات الثلاث (1710 - 1713) في إنجلترا كتب سويفت الرسائل العجيبة التي نشرت فيما بين 1766 - 1768 تح عنوان "يوميات إلى ستيللا". إنه كان في حاجة إلى صديقة حميمة إلى جانبه في العشاء لدى الأدواق والدوقات، وفي انتصاراته السياسية. أضف إلى ذلك أنه أحب المرأة الصابرة، التي ناهزت الثلاثين آنذاك، ولكنها ظلت تنتظره حتى يحزم أمره. ولابد أنه أغرم بها، لأنه كتب لها أحياناً مرتين في اليوم الواحد، وأظهر اهتمامه وتعلقه بكل ما يعنيها، اللهم إلا الزواج. وما كان ينبغي لنا أن نتوقع من مثل هذا الرجل المستبد المتغطرس، هذا المزاج الرقيق، وهذه الألقاب والكنيات الغريبة، والنكات والتوريات، والحديث الصبياني، مما صبه سويفت في رسائله التي لم يتوقع نشرها. إنها وسائل زاخرة بالملاطفة والتدليل، ولكنها خلو من أي عرض أو اقتراح، اللهم إلا إذا كانت ستيللا قد قرأت وعداً بالزواج في رسالته المؤرخة 23 مايو 1711:"لن أطيل الحديث، ولكني أتوسل إليك أن تهدئي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن تثقي بأن سعادتك هي غاية ما أصبو وأسعى إليه في كل ما أعمل (112) " ومع ذلك فإنه في هذه الرسالة يطلق عليها "الطفلة المزعجة، الساذجة، الفتاة المغناج، البغي، المرأة القذرة، الكلبة المحبوبة، وغير ذلك من ألقاب التدليل والملاطفة. وإنا لنلمس روح الرجل

ص: 280

حين يقول لها:

هل يجب أن تغتصب المرأة لأنها بغي (113) "؟.

وقد تعيننا علل سويفت الجسيمة على فهم السر في رداءة طبعه وسرعة غضبه، أنه منذ 1694، وهو في السابعة والعشرين من العمر، بدأ يعاني من دوار في الأذن الداخلية ومن حين لآخر، وبشكل لا يمكن التنبؤ به، أصابته نوبات من الدوار وتشويش الذهن والصمم. ونصح طبيب مشهور هو دكتور رادكليف بأن يوضع سائل مركب داخل كيس في لمة (الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن) سويفت، واشتدت به العلة على مر السنين، وكان من الجائر أن تسبب له الجنون. ويحتمل انه في 1717 قال للشاعر أدوار بنج، مشيراً إلى شجرة ذابلة "إني سأموت مثل هذه الشجرة سأموت في القمة (114). " وكان هذا وحده كافيا ليتشكك في قيمة الحياة، وليرتاب قطعاً في وجه الحكمة في الزواج. ومن الجائز أنه كان عنيناً، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وأعتاد على كثرة المشي اتقاء لهزال جسمه، فمشى مرة من فارنام الى لندن: 38 ميلاً.

وزاد من شدة مرضه حدة حواسه حدة مؤلمة، وهي عادة تلازم حدة الذهن وفرط الذكاء. وكان بشكل خاص شديد الحساسية للروائح في شوارع المدن وفي الناس. فاستطاع بمجرد الشم، عن صحة من يقابل من

ص: 281

الرجال والنساء، وخلص من هذا إلى أن الجنس البشري أصابه النتن (115). ولذلك كان مفهوم المرأة الجديرة بالحب والإعجاب عنده ينحصر إلى حد ما في:

"أنها لا يخرج من جسمها النقي هبات كريهة الرائحة تثير الاشمئزاز، لا من خلف ولا من قدام، ولا من فوق، ولا من تحت، ولا يتصبب منها العرق البغيض (116) ".

أنه يصف "غادة جميلة في طريقها إلى الفراش"، ونفس المرأة حين تفيق.

"إن من يرى كورينا في الصباح يتقيأ، ومن يشم رائحتها يصاب بالتسمم".

إن مفهومه عن المرأة الشابة الجميلة مرتبط بحاسة الشم:

"إن أعز رفيقاتها لم يرينها يوماً تجلس القرفصاء لتتبول، ولك أن تقسم بأن هذه المخلوقة الملائكية لم تحس يوماً بضرورات الطبيعة، فإذا مشت في شوارع المدينة في الصيف لم يلوث أبطاها ثوبها. وفي حلبة الرقص في القرية أيام القيظ لن يستطيع أنف أن يشم رائحة أصابع قدميها (117) ".

وكان سويفت نفسه نظيفاً إلى حد التزمت. ومع ذلك فإن كتابات هذا الكاهن الأنجليكاني تعد من أفحش ما كتب في الأدب الإنجليزي. أن تبرمه بالحياة جعله يقذف بأخطائه في وجه زمانه. ولم يبذل أي جهد في إرضاء الناس، ولكنه بذل كل الجهد في أن يسيطر ويتحكم، لأن السيطرة خففت من شعوره الخفي بعدم الثقة في نفسه. وقال أنه يكره (أو يرهب) كل من لا يستطيع أن يأمره (118)، على أن هذا لم يصدق على حبه لهارلي، وكان غضوباً عند الشدة، متغطرساً فظاً وقت الرخاء والنجاح. وأحب السلطة أكثر مما أحب المال. وعندما أرسل إليه هارلي بخمسين جنيهاً أجراً لمقالاته، رد الحوالة وطالب بالاعتذار، وكان له ما أراد، فكتب إلى ستيللا "لقد استرضيت مستر هارلي ثانية (119) ". وكان يكره الرسميات ويحتقر النفاق. وبدا له أن الدنيا تميل إلى قهره،

ص: 282

وقابل هو العداء بمثله صراحة، وكتب إلى الشاعر بوب:

"إن غاية ما أصبو في كل أعمالي أن أزعج العالم وأضايقه، لا أن أسليه، فإذا استطعت أن أحقق هذا الغرض دون أن الحق الأذى بشخصي أو بثروتي، لكنت أعظم كاتب لا يكل ولا يمل رأيته أنت في حياتك .. إذا فكرت في الدنيا فأرجوك أن تجلدها بالسوط بناء على طلبي. لقد كنت أبداً أكره الأمم والوظائف والمجتمعات. وكان كل حبي للأفراد، إني أكره طائفة رجال القانون، ولكني أحب مستشاراً بعينه أو قاضياً بعينه، وهكذا الحال مع الأطباء. (ولن أتحدث عن صناعتي)، والجنود، والإنجليز والاسكتلنديين والفرنسيين، ولكني أساساً أكره وأمقت هذا الحيوان الذي يسمى إنساناً، ولو أني من كل قلبي أحب جون وبيتر وتوماس وهكذا (120) ".

عند هذا الحد يبدو أن سويفت أقل الرجال جدارة بالحب، ولو أن امرأتين أحبتاه إلى أن فارقتا الحياة. وأقام في هذه السنوات في لندن قريباً من أرملة غنية تدعى فانهو مراي، وكان لها ابنان وابنتان، فإذا لم تتيسر له الدعوة إلى موائد العظماء، كان يتناول العشاء مع "آل فان". ووقعت الابنة الكبرى "هستر" في حبه وكانت آنذاك في الرابعة والعشرين (1711)، وهو في الثالثة والأربعين، وأفصحت له عن حبها. فحاول أن يصرف النظر عن هذا باعتباره مرحاً أو مزاجاً عابراً، وأوضح لها أنه قد كبرت سنه بحيث لم يعد يصلح لها. فأجابت، يحدوها كل الأمل، بأنها تعلمت منه في كتبه أن تحب عظماء الرجال قرأت "مونتاني في المرحاض"، فلماذا لا تحب رجلاً عظيماً إذا وجدته ماثلاً أمامها؟ فرّق قلبه ولانت قناته بعض الشيء فنظم قصيدة من أجل عينيها فقط "كادينوس وفانيسا" قصيدة بين المرح والمأساة. وكان "فانيسا" اسمه هو عندها، أما "كادينوس" فكان تصحيفاً للفظة "ديكانوس" أي الكاهن الكبير.

ص: 283

ذلك انه أبريل 1713 عينته الملكة كارهة رئيساً لكاتدرائية سان باتريك في دبلن. وسافر إلى هناك في يونيه ليتسلم العمل، ورأى ستيللا وكتب إلى نانيسا بأنه كاد يموت كآبة وكمداً واستياء (121) وفي أكتوبر 1713 عاد إلى لندن وشارك في كارثة حزب المحافظين المفاجئة 1714، ومذ فقد السلطان السياسي بعودة الأحرار الذين كان قد هاجمهم، إلى الحكم في ظل الملك جورج الأول، فإنه قفل راجعاً إلى إيرلندة الكريهة، وإلى كاتدرائيته. ولم يكن محبوباً في دبلن لأن الأحرار الذين تولوا الآن الحكم كرهوه لنقده الساخر العنيف وخطبه اللاذعة، كما كرهه المنشقون لإصراره على استبعادهم من الوظائف العامة. وانطلقت من الناس أصوات الاستهجان والازدراء به في الشوارع، ورجموه بقاذورات البالوعات (122) ووصف أحد رجال الدين الأنجليكانيين منظر ردائه في قصيدة ثبتها بالمسامير على باب الكاتدرائية:

"يستقبل هذا المعبد اليوم رئيساً ذا مذاهب وشهرة غير عادية استخدمها جميعاً في الصلاة وفي الدنس، خدمة للرب والشيطان كليهما .. وهو مكان حصل عليه بالدهاء والقصيد وبوسائل أخرى من أعجب الوسائل. وربما أصبح بمرور الزمن أسقفاً، لو أنه آمن بالله (123) ":

وصمد سويفت للمحنة في شجاعة واستمر يناصر المحافظين، وعرض أن يشارك هارلي سجنه في برج لندن. وقام بواجباته الدينية، وألقى المواعظ بانتظام. ومنح الأسرار المقدسة، وعاش عيشة بسيطة، وتصدق بثلث دخله. وفي أيام الأحد فتح أبواب مسكنه للقاصدين، وجاءت ستيللا لخدمة الضيوف، وسرعان ما خفقت كراهية الناس له، وبدأوا يقبلون عليه. وفي 1724 نشر تحت اسم مستعار "م. ب. درابيية" ست رسائل يندد فيها بمحاولة وليم وود جمع أرباح طائلة من إمداد أيرلندة بعملة نحاسية. وأستنكر الأيرلنديون هذه المحاولة. وعندما اكتشفوا أن درابيية لم يكن إلا سويفت، كاد الكاهن المكتئب أن يصبح شعبياً محبوباً تماماً.

ص: 284

وربما استطاع سويفت أن يحظى بلحظات من السعادة لو انه كان في مقدوره لأن يحتفظ بالبحر الأيرلندي بين السيدتين اللتين أحبتاه. ولكن في 1714 ماتت مسز فانهو مراي، وانتقلت ابنتها فانيسا إلى أيرلندة لتستغل بعض الممتلكات التي تركها لها والدها في سلبردج، على بعد أحد عشر ميلاً إلى الغرب من العاصمة. ولتكون بالقرب من رئيس الكاتدرائية، استأجرت مسكناً في زقاق تيرنستيل في دبلن، على مسافة قصيرة من مسكن ستيللا، وكتبت الى سويفت ترجوه أن يزورها، وإلا ماتت كمداً. ولم يستطع أن يقاوم توسلاتها، وفيما بين 1714 - 1723 تردد عليها خفية مراراً وتكراراً. ولما خفت زياراته لها أصبحت رسائلها إليه أشد حرارة والتهاباً. وقالت له في إحداها أنها ولدت بهذه "العواطف الجارفة" التي تنتهي كلها إلى شيء واحد: هو حبي لك الذي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه". وأبلغته أنه قد يكون من العبث أن يحاول تحويل حبها إلى حب الله، "فلو أني غيورة متحمسة فستظل أنت المعبود الذي يجب لأن أعبده" (124).

وربما فكر سويفت في الزواج للخروج من هذا المأزق الذي تورط فيه بين المرأتين اللتين أحبتاه، وربما طالبت ستيللا، وهي تعلم أن لها منافسة، بالزواج على أنه عدالة مطلقة وأبلغ دليل على ذلك أنه تزوجها فعلاً في 1716 (125) وواضح أنه يطلب إليها كتمان أمر زواجه. واستمرت تقيم بعيداً عنه. ويحتمل أنه لم يباشرها قط. واستأنف سويفت زياراته لفانيسا، لا مغازلاً، ولا وحشاً بهيمياً، بل المفهوم أن قلبه لم يطاوعه على أن يتركها يائسة بلا أمل، أو أنه خشي أن تقدم على الانتحار. وأكدت رسائله لفانيسا أنه احبها وقدرها فوق كل شيء، وأنه سيكن لها هذا الحب والتقدير حتى آخر لحظة من حياته. وسارت الأمور على هذا المنوال حتى 1723، حين كتبت فانيسا إلى ستيللا تسألها في صراحة تامة عن العلاقة بينها وبين رئيس الكاتدرائية. فأخذت ستيللا الخطاب إلى سويفت الذي ركب لفوره

ص: 285

الى فانيسا ورمى على مائدتها. وروعها بنظراته الغاضبة. وتركها إلى غير رجعة دون أن ينبس ببنت شفة.

وعندما أفاقت فانيسا من غشيتها، تحققت آخر الأمر من أنه كان يخدعها، واجتمعت خيبة الرجاء إلى نزعة جامحة في إفناء ما بقى لها من أسباب الصحة والحياة، وقضت نحبها في بحر شهرين من هذا اللقاء الأخير (2 يونية 1923) وهي في الرابعة والثلاثين. وثارت لنفسها في وصيتها. فألغت وثيقة قديمة كانت قد جعلت فيها سويفت وريثاً لها، ثم أوصت بكل متاعها لروبرت مارشال والفيلسوف جورج بيركلي، وأمرتهما أن ينشرا دون تعليق رسائل سويفت إليها، وقصيدة "كادينوس وفانيسا". وهرب سويفت في "رحلة إلى الجنوب"، في إيرلندة، ولم يظهر في الكاتدرائية إلا بعد مضي أربعة شهور على وفاة فانيسا.

وعند عودته انصرف إلى كتابة أشهر وأقسى هجاء وجهه إلى الجنس البشري. وكتب إلى شارلي فورد أنه مشغول بوضع كتاب "يمزق العالم ويهزه هزاً عنيفاً بشكل عجيب (126) ". وانتهى سويفت منه بعد سنة، وحمل المخطوط بنفسه إلى لندن، ورتب أمر نشره تحت اسم مستعار، ورضى بمائتي جنيه ثمناً له، ثم قصد إلى دار الشاعر بوب في توبنكهام ليستمتع بالعاصفة المرتقبة. وهكذا استقبلت إنجلترا في أكتوبر 1726 "رحلات إلى عدة شعوب بعيدة في العالم" بقلم لوميل جلليفر. وكان أول رد فعل عام هو الابتهاج بالواقعية المفصلة في سرد الأحداث. واعتبره كثير من القراء تاريخاً، ولو أن أسقفاً أيرلندياً (كما يقول سويفت) ذهب إلى أنه مملوء بأشياء بعيدة الاحتمال: أما معظم القراء فإنهم لم يذهبوا إلى أبعد من الرحلات إلى أرض الأقزام Lilliput وأرض العمالقة Brobdinqnaq وهذا سرد جميل يوضح بطريقة مفيدة النسبية في الحكم على الأشياء أو التمييز بينها، ولم يزد طول الأقزام عن ست بوصات، ولذلك نفخوا في جلليفر روحاً متزايدة من التسامي. وكان الذي يميز بين الأحزاب السياسية لديهم هو

ص: 286

الكعوب العالية أو المنخفضة لأحذيتهم. أما الفرق الدينية فهي فريق الذين يؤمنون بكسر البيضة من طرفها الصغير. وكان طول العمالقة ستين قدماً، وقد هيأوا لجلليفر مشهداً آخر جديداً من مشاهد البشرية. وحسبه ملكهم حشرة، واعتبر أوربا بيتاً للنمل. ومن وصف جلليفر لأساليب الحياة، خلص الملك إلى أن "كل مواطنيكم أخبث جنس من الحشرات الطفيلية الصغيرة البغيضة التي تركتها الطبيعة تزحف على سطح الأرض (127) ". وكانت صدور غادات العمالقة، وهي صدور ضخمة، تنفر جلليفر (ويشير الكاتب هنا إلى النسبية في الجمال).

وتضعف القصة في رحلة جلليفر الثالثة. أنه يشد بالسلاسل والأغلال في دلو إلى "لابوتا" وهي جزيرة سابحة في الهواء يقطنها ويحكمها رجال العلم والمثقفون والمخترعون والأساتذة والفلاسفة، فان التفاصيل التي جاءت في أماكن أخرى لتزود القصة باحتمالات كثيرة، كانت هنا (في المرحلة الثالثة) سخيفة بعض الشيء، من ذلك أكياس الهواء الصغيرة التي يسد بها الخدم آذان وأفواه المفكرين العميقي التفكير ليفيقوا من شرود الذهن الخطير أثناء تأملاتهم. وأكاديمية لاجادو، بمخترعاتها وقراراتها الوهمية، ليست إلا نقداً هزيلاً لقصة بيكون "قارة الأطلنطس الجديدة"، وللجمعية الملكية في لندن. ولم يكن سويفت يثق في جدوى إصلاح الدولة أو حكمها بواسطة رجال العلم، وكان يزخر من نظرياتهم، وفنائها السريع لها. وتنبأ بسقوط كوزمولوجيا نيوتن (آرائه في الكون)"إن الأنظمة الجديدة ليس في الطبيعة ليست إلا أزياء أو أنماطاً جديدة قد تختلف من عصر إلى عصر، وحتى هؤلاء الذين يدعون أنهم يوضحونها على أسس رياضية (تعريضاً بكتاب المبادئ الرياضية 1687) لن يكتب لهم النجاح إلا لفترة قصيرة من الزمن (128) ".

ثم ينتقل جلليفر إلى أرض "اللجناجيين Luggnaggians" الذين

ص: 287

لا يحكمون على أكابر مجرميهم بالموت بل بالخلو.

"فاذا بلغ هؤلاء المجرمون سن الثمانين وهي السن المعتبرة نهاية الحياة في بلدهم، لا تكون فيهم كل الحماقات والسقام والعلل التي في سائر المسنين فحسب، بل أكثر منها بكثير، مما نشأ من توقعاتهم الرهيبة بأنهم لن يموتوا قط، ولم يكونوا عنيدين شكسين طامعين فيما في أيدي غيرهم، مكتئبين عابثين ثرثاريين فحسب، بل كانوا كذلك غير أهل للصداقة، لا يستجيبون لأية عاطفة أو حب طبيعي، لم يهبط قط عن حضرتهم. وكان الحسد والرغبات عاجزة هي الشعور السائد بينهم

وإذا رأوا جنازة ولولوا وتذمروا من أن الآخرين ذاهبون إلى دار الراحة حتى لا يأمنون هم أنفسهم في الوصول إليها

أبداً وكان هذا أفظع منظر مخز مميت للشهوات رايته في حياتي. وكانت النساء اشد إزعاجاً من الرجال

ومن هذا الذي سمعت ورأيت، خفّت كثيراً شهوتي الحادة في البقاء على قيد الحياة (129) ".

وفي القسم الرابع نبذ سويفت الهزل والمزاح إلى شجب قوي ساخر للإنسانية. فان أرض "الهويمن" يحكمها جياد نظيفة وسيمة بهيجة، تنطق بالحكمة وتتحلى بكل مظاهر المدنية، على حين أن الخدم الحقراء فيها، وهم "الياهو المتوحشون"، هم رجال أقذار كريهو الرائحة، جشعون مخمورون، غير متعقلين مشوهون. ومن بين هؤلاء المنحنين المنحطين (هكذا كتب سويفت في أيام جورج الأول):

"كان هناك رجل حاكم من "الياهو" (ملك) "، أبشع شكلاً وأكثر نزوعاً إلى الشر والأذى من الآخرين

وكان لهذا الزعيم عادة شخص مثله محسوب عليه أثير لديه، عمله الوحيد هو أن يلعق قدمي سيده

ويأتي بنساء الياهو إلى حظيرته، ومن اجل هذا كان يكافأ من حين إلى حين بقطعة من لحم الحمار (علامة على النبالة؟)

وكان يبقى عادة في عمله هذا، حتى يمكن العثور على من هو أسوأ منه (130) ".

ص: 288

وبالمقارنة فإن "الهويمين"، لأنهم متعقلون، كانوا سعداء فضلاء، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أطباء أو محامين أو رجال دين أو قواد جيوش، وصعقت تلك الجياد المهذبة "الماجنة" ببيان جلليفر عن الحروب في أوربا. كما ذهلت أكثر فأكثر لسماعها بالخلافات التي أدت إلى الحروب- "هل يكون الجسد خبزاً أو يكون الخبر جسداً في القربان المقدس، وهل يكون عصير ثمار معينة دماً أم نبيذاً (131)، وكانوا يقاطعون جلليفر حين يفاخر بالعدد الكبير عن البشر الذي يمكن نسفه بالآلات العجيبة التي اخترعها قومه.

وعندما يعود جلليفر أدراجه إلى أوربا، نراه لا يكاد يضيق برائحة الشوارع والناي الذين يبدو في نظره الآن أنه من "الياهو".

"استقبلتني زوجتي وأسرتي من الدهشة لأنهم كانوا قد قدروا مماتي. ولكن ينبغي عليّ أن اعترف بصراحة أن منظرهم ملأني بالبغضاء والاستياء والازدراء

وما أن دخلت البيت حتى احتضنتني زوجتي بين ذراعيها وقبلتني، من أجل ذلك رحت في إغماءة لما يقرب من ساعة، لولا إني معتاد على لمس هذا الحيوان البغيض (الإنسان) لأعوام طويلة. وطيلة السنة الأولى لم أكن أطيق وجود زوجتي وأطفالي معي، حيث كانت رائحتهم لا تحتمل

وأول مال أنفقته في شراء جوادين صغيرين احتفظت بهما في أسطبل مناسب. وكان السائس أعز ما عندي بعدهما، لأن الرائحة التي تنبعث منه في الأسطبل كانت ترد إليّ روحي (132) ".

وفاق نجاح "جلليفر" كل توقعات المؤلف وأحلامه وربما خفف من بغضه للجنس البشري بسبب حاسة الشم. واستمتع القراء باللغة الإنجليزية الواضحة في غير إطناب، وبالتفاصيل العريضة، وبالفحش المرح. وتنبأ آربوثنوب للكتّاب "رواجاً عظيماً مثل كتاب جون بانيان- يقصد كتاب "تقدم الحجيج"". ولا ريب أن سويفت يدين ببعض الفضل لهذا الكتاب، وبفضل أكبر لكتّاب "روبنصن كروزو"، وربما بشيء من

ص: 289

الفضل لكتّاب سيرانودي برجراك "التاريخ الهزلي لدول إمبراطورية القمر". أما الشيء الجديد حقاً فهو "الكلبية" أو السخرية الرهيبة في الأجزاء المتأخرة من الكتاب. وحتى هذه وجدت من يعجب بها، فأن دوقة مالبورو، وقد بلغت آنذاك أرذل العمر، غفرت لسويفت هجماته على زوجها، إلى جانب حملاته على الجنس البشري بأسره. وصرحت بأن سويفت أتى "بأدق وصف يمكن أن يكتب للملوك والوزراء والأساقفة والمحاكم". وروى جاي أنها "في نشوة غامرة من الابتهاج بالكتاب ولا يمكن أن تحلم بشيء آخر"(133).

وتكدر انتصار سويفت بنسر قصيدة كادينوس وفانيسا، فإن منفذي وصية هستر فانهو مراي أذعنوا لأمرها بنشرها، ولم يطلبوا من الكاتب ترخيصاً بذلك، وظهرت في طبعات مستقلة في لندن ودبلن وإدنبرة، وكانت ضربة قاسية للزوجة ستيللا لأنها رأت أن عبارات الحب والهيام التي كانت قد وجهت يوماً إليها، تكررت لفانيسا، ولم يمض كبير زمن على افتضاح هذا الأمر حتى مرضت وقصد سويفت الى إيرلندة لعيادتها والتخفيف عنها، وتحسنت صحتها، وعاد هو إلى إنجلترا (1727)، وسرعان ما ترامت إليه الأنباء بأنها تحتضر، فأرسل تعليمات عاجلة إلى مساعديه في الكاتدرائية بأن ستيللا يجب ألا تلفظ أنفاسها الأخيرة في مقر رئاسة الكاتدرائية (134)، وعاد أدراجه إلى دبلن، ومرة أخرى أبلت ستيللا بعض الشيء، ولكنها فارقت الحياة في 28 يناير 1728، وهي في السابعة بعد الأربعين وانهارت قوى سويفت، واشتد عليه المرض فلم يستطع تشييع الجنازة.

وبعدها أقام في دبلن "مثل فأر مسموم في جحر (135) "(كما كتب إلى بولنجبروك). وكان يقوم بأعمال البر والصدقات، وأجرى راتباً على مسز دنجلي، ومد يد العون إلى ريتشارد شريدان في محنة شبابه، وكان في ظاهره رجلاً قاسياً، ولكنه تأثر تأثراً بالغاً لفقر الشعب الأيرلندي، وصعق لكثرة عدد المتسولين من الأطفال في شوارع دبلن، وفي 1729

ص: 290

أصدر أشد مقالاته التهكمية الساخرة ضراوة ولذعاً تحت عنوان "اقتراح متواضع لمنع أطفال الفقراء من أن يكونوا عالة على آبائهم وعلى بلدهم":

"لقد تأكد لديّ كل التأكيد

أن الطفل الصغير الصحيح الجسم الذي بلغ من العمر سنة، يصلح لأن يكون طعاماً شهياً مغذياً صحياً، إلى أبعد حد، مطهواً بالغلي البطيء أو مشوياً أو محمصاً أو مسلوقاً، كما يصلح بالمثل لأن يكون "مفروماً محمراً، أو يخنة كثيرة التوابل". ومن ثم فأني بكل تواضع، أعرض على الرأي العام، أنه من بين المائة والعشرين ألف طفل الموجودين الآن، يمكن الاحتفاظ بعشرين ألفاً فقط لتربيتهم وتنشئتهم على أن يكون ربعهم من الذكور، أما المائة ألف طفل الباقون فيمكن عرضهم للبيع إلى ذوي المكانة والثراء في طول المملكة وعرضها، مع نصيحتي دوماً إلى الأمهات بالإكثار من إرضاعهم في الشهر الأخير، حتى تمتلئ أجسامهم ويكونوا سماناً تزدان بهم الموائد الفخمة، إن الطفل الواحد يمكن أن يكون طعام يقدم للأصدقاء، أما إذا كانت الأسرة تتناول غذاءها وحدها فإن الربع الأمامي أو الخلفي من الذبيحة يكون طبقاً كافياً، وإذا تبل ببعض الفلفل أو الملح لكان طيب المذاق

أما الذين هم أكثر تدبيراً واقتصاداً فيمكنهم أن يسلخوا الجثة، ويعالجوا جلدها بطريقة خاصة ليصنعوا قفازات لطيفة للسيدات، وأحذية صيفية للرجال الأنيقين

إن بعض الذين جزعوا لهذه الظاهرة اهتموا اهتماماً كبيراً بهذا العدد الضخم من المسنين أو المرضى أو المقعدين والمشوهين، ورغبوا إلى أن أعمل التفكير في الوسائل التي يمكن أن تتخذ لتخليص الأمة من هذا العبء الثقيل المحزن، ولكني لا أتألم كثيراً لهذه المسألة لأنه المعروف جيداً أنهم يموتون وتبلى أجسامهم في كل يوم من البرد والجوع والقذارة والهوان، بالسرعة المتوقعة بداهةً.

وأظن أن مزايا الاقتراح الذي عرفته واضحة متعددة

ص: 291

وأولى المزايا، أن هذا يخلصنا إلى حد كبير من عدد البابويين (اليسوعيين) الذين يجتاحوننا كل عام، لأنهم المربون الأساسيون للأمة، قدر ما هم ألد أعدائنا وأخطرهم

وثالثها أنه من حيث أن تربية مائة ألف طفل من سن الثانية فما فوق، لا يمكن أن يتكلف الواحد أقل من عشر شلنات في العام، فبهذا الاقتراح سيتوفر للأمة خمسون ألف جنيه سنوياً، هذا بالإضافة إلى فائدة اللون الجديد من الطعام الذي يقدم إلى موائد ذوي الثراء والوجاهة

الذين يتحلون بالذوق الرفيع".

إن نتاج يراع سويفت، ذلك النتاج الغريب، والثائر أحياناً، وبخاصة بعد وفاة ستيللا، يوحي بأنه قد أصابه مس من الجنون، "إن شخصاً منذ ذوي المكانة في إيرلندة (كان يسره أن ينحني كثيراً ليدق النظر في عقلي) اعتاد أن يقول لي أن عقلي مثل روح مسحورة، قد يؤذي ويسيء إذا لم أشغله بشيء (136) ".

وتساءل أحد الأصدقاء: إن مبغض البشرية الكئيب هذا، والذي تركته الأخطاء الصارخة في بيت من زجاج، بينما هو يسلق البشرية بألسنة حداد من الهجاء، ألا يغني فساد الناس ومساوئهم جسدك ويستنزف روحك؟ "، "إن غضبه على العالم كان امتداداً لغضبه على نفسه، فقد أدرك أنه على الرغم من عبقريته، معتل الجسم مريض النفس، ولم يكن يغتفر للحياة حرمانه من الصحة والأعضاء السليمة وهدوء البال، والتقدم الذي يتناسب مع قوة عقله.

وكان آخر مظهر لقسوة الحياة على سويفت، هو اختلال قواه العقلية يوماً بعد يوم. وازداد بخله وجشعه، حتى وسط أصدقائه وقيامه بأعمال البر. فكان يضن بالطعام على ضيوفه، وبالنبيذ على أصدقائه (137). وازدادت نوبات الدوار عنده سوءاً، فما كان يدري في أية لحظة منحوسة ينتابه هذا الدوار ليجعله يترنح ويتلوى من الألم في هيكله أو في الشارع.

ص: 292

وكان قد رفض أن يضع النظارات على عينيه فضعف بصره وترمك القراءة. ومات بعض أصدقائه، ونأى بعضهم بنفسه عنه، اجتناباً لحدة طبعه واكتئابه، وكتب إلى بولنجبروك:"كثيراً ما فكرت في الموت، ولكنه الآن لا يغيب عن ذهني أبداً (139) " وبدأ يتلهف عليه. واحتفل بيوم ميلاده يوم حداد وحزن. وقال "ليس هناك رجل عاقل يرغب في استعادة شبابه (140) ". وفي أعوامه الأخيرة كان يودع زائريه دوماً بقوله "سعدتم مساء، أرجو ألا أراكم ثانيةً (141) ".

وظهرت أعراض الجنون التام عليه في 1738. وفي 1741 عين بعض الأوصياء ليتولوا شؤونه، ويراقبوه حتى لا يلحق بنفسه أي أذى في نوبة من نوبات العنف والجنون التي تصيبه. وفي 1742 عانى ألماً شديداً من التهاب في عينيه اليسرى التي تورمت حتى صارت في حجم البيضة. وأحاط به خمسة من الأتباع ليحولوا بينه وبين فقء عينه بيده. وقض عاماً لا ينطق ببنت شفة. وآذنت محنته بالانتهاء في 19 أكتوبر 1745، وقد بلغ الثامنة بعد السبعين. وأوصى بكل ثروته البالغة أثنى عشر ألف جنيه لبناء مستشفى للأمراض العقلية. ووري التراب في كاتدرائيته، ونقش على ضريحه عبارة اختارها بنفسه:

"حيث لا يعود السخط المرير يمزق قلبه".

ص: 293