الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث
محيط القارة
1648 -
1715
الفصل الثاني عشر
الصراع على البلطيق
1648 - 1721
1 -
السويد المغامرة
1648 -
1700
إن التاريخ شظية من البيولوجيا-إنه اللحظة البشرية في موكب الأنواع. وهو أيضاً وليد الجغرافيا-لأنه فعل الأرض والبحر والهواء، وأشكالها ونتاجها، وتأثيرها في رغبة الإنسان ومصيره. فلنتأمل هنا أيضاً تلك المواجهة بين الدول المحيطة بالبلطيق في القرن السابع عشر. فالسويد في شماله، واستونيا وليفونيا ولتوانيا في شرقه، ومن خلفها روسيا الباردة الجائعة، وفي جنوبه بروسيا الشرقية وبولنده وبروسيا الغربية وألمانيا، وفي غربه الدنمرك بموقعها الاستراتيجي على منافذ البلطيق الضيقة إلى بحر الشمال والأطلنطي. لقد كان هذا سجناً جغرافياً سيصطرع نزلاؤه على السيطرة على تلك المياه والمضايق، والشواطئ والثغور، ومسالك التجارة ودروب الهرب براً أو بحراً. هنا خلقت الجغرافيا التاريخ.
أما الدنمرك فقد لعبت الآن دوراً صغيراً في مسرحية البلطيق. ذلك أن نبلاءها الذين احتكروا الحرية لأنفسهم غلوا أيدي ملوكها وأرجلهم. وكانت قد نزلت عن سيطرتها على مضايق الاسكاجراك والكاتيجات (1645) وبقيت النرويج خاضعة لها، ولكنها في 1660 فقدت أقاليم السويد الجنوبية. وشعر فردريك الثالث (1648 - 70) بحاجته إلى سلطة ممركزة تتصدى للتحديات الخارجية، فأرغم النبلاء على أن ينزلوا له عن السلطة المطلقة والوراثية، مستعيناً على ذلك برجال الدين والطبقات الوسطى. وقد وجد ابنه كرستيان الخامس (1670 - 99) معيناً له في بيدر شوماخر، كونت جريفنفلد، الذي ظفر بثناء لويس الرابع عشر عليه وزيراً من أكفأ الوزراء في عصر الدبلوماسية الذهبي ذاك. أصلح مالية الدولة، ودفع التجارة والصناعة
قدماً، وأعاد تنظيم الجيش والبحرية. واستن الكونت سياسة السلم، ولكن الملك الجديد كان تواقاً لاستعادة القوة والأقاليم التي كانت الدنمرك تملكها فيما مضي. ومن ثم ففي 1675 جدّد الحرب القديمة مع السويد، ولكنه هزم، وثبّتت من جديد سيادة السويد على اسكندناوة.
وقد تعاقب على عرش السويد في تلك الحقبة طائفة ممتازة من الملوك الأشداء، وظلوا نصف قرن أعجوبة زمانهم لا ينافسهم في ذلك منافس غير لويس الرابع عشر. ولو أتيح لهم سند أكبر من الموارد لبلغوا ببلدهم من القوة والمنعة مبلغ فرنسا، ولاستطاع الشعب السويدي-بوحي من منجزات الجوستافين، والكارلين الثلاثة، ووزرائهم العظام-أن يموّل ازدهاراً ثقافياً يتناسب مع انتصاراتهم وتطلعاتهم. غير أن الحروب التي عززت قوتهم استنزفت ثروتهم، فخرجت السويد من ذلك العهد مستنزفة القوى وإن تكللت بأمجاد البطولة. وإنه لما يثير الدهشة أن تحقق أمة من الأمم هذا القدر الكبير من المنجزات في الخارج على ما بها من ضعف شديد. فسكانها لم يجاوزوا مليوناً ونصفاً، ينقسمون طبقات لم تتعلم إلى ذلك الحين أن يعيش بعضها مع البعض في سلام. وكان النبلاء يتسلطون على الملك، ويقررون لأنفسهم شراء أراضي من أملاك التاج بشروط ميسرة، والصناعة مقيدة محددة بحاجات الحرب تحديداً أعجزها عن تغذية التجارة التي أطلقت الحرب عقالها، وكانت الأملاك الخارجية عبئاً لا تبرره غير العزة القومية. إن حنكة الوزراء المخلصين وحدها هي التي دفعت عن البلاد خطر الإفلاس الذي بدا أنه ثمن المجد.
كن شارل العاشر جوستافس ابن عم كرستينا الرهيبة، ورفيق لعبها وعشاقها، وخلفها بعد أن نزلت له عن العرش في 1654. وقد درأ خطر الإفلاس بإكراه النبلاء على رد بعض الضياع الملكية التي سطوا عليها. واستطاعت الدولة بفضل هذا "الاختزال" لأملاك الإقطاعيين أن تسترد ثلاثة آلاف مسكن بأراضيها وتستعيد قدرتها على الوفاء بديونها. ورغبة في استكمال النقص في العملة الفضية والذهبية، عهد شارل إلى يوهان بالمسترو بإنشاء مصرف قومي وإصدار نقود ورقية
(1656)
-وهي أول ما صدر منها في أوربا. وقد حفز ازدياد تداول العملة الورقية الاقتصاد حيناً، ولكن المصرف أصدر منها فوق ما يستطيع الوفاء بع نقداً عند الطلب، فأوقفت التجربة. ونقل الملك المقدام أثناء ذلك صناعة الحديد والصلب التي اختصت بها ريجا إلى السويد، فأرسي بذلك أسس قاعدة صناعية أقوى تستند إليها سياسته العسكرية.
أما هدفه الذي جاهر به فكان توسيع رقعة ملكه. فالإمارات التي كسبها جوستافس أدولفس على أرض القارة تهدد بالثورة، والحكومة البولندية تأبى أن تعترف بشارل العاشر ملكاً على السويد، ولكن بولنده أضعفها تمرد القوزاق، وقد خفت الروسيا لنجدة القوزاق، وكان الأمل ولا ريب يراودها في شق طريق لها إلى البلطيق. ثم أن للسويد جيشاً حسن التدريب خافت أن تسرحه، وخير سبيل إلى إعاشته أن يخوض حرباً ظافرة. ورأى شارل في هذه الظروف كلها ما يزكي الهجوم على بولندة. وعارض الفلاحون ورجال الدين، فاسترضاهم بالزعم بأن مشروعه ليس إلا حرباً مقدسة لحماية حركة الإصلاح البروتستنتي وتوسيع نطاقها (1655)(1).
ولكن تبين أن بولندة بلد يسهل غزوه، ويصعب إخضاعه، كانت مقاومتها في الغرب ضعيفة لما حاق بها في الشرق من خلل وما عانته من غارات العدو. ودخل شارل وارسو، وهدأ النبلاء البولنديين بوعده أن يبقى على امتيازاتهم الموروثة، وتلقى ولاء البروتستنت البولنديين، وعرض اللتوانيون أن يعترفوا بسيادته. ولما حاول فردريك وليم، "ناخب براندنبورج الأكبر" الإفادة من انهيار بولندة بالاستيلاء على بروسيا الغربية (وكانت يومها إقطاعية بولندية)، سيّر شارل جيشه غرباً بسرعة نابليونية وحاصر الناخب في عاصمته، وأرغمه على توقيع معاهدة كوينجزبيرج (يناير 1956). وأعلن الناخب ولاءه لشارل فيما يتصل ببروسيا الشرقية باعتبارها اقطاعة سويدية، ووافق على أن يؤدي للسويد نصف رسوم تلك الولاية وضرائبها، ووعد بأن يمد الجيش السوري بألف وخمسمائة مقاتل.
غير أن الخصومة الدينية التي أثارها شارل هزمته. ذلك أن البابا إسكندر السابع والإمبراطور فرديناند الثالث سخرا كل ما يملكان
من نفوذ ليؤلفا حلفاً ضد السويد، لا بل إن الدنمركيين والهولنديين البروتستنت انضموا إلى الحلفاء في تصميمهم على كبح جماح الفاتح الشاب مخافة أن يعدو بعد ذلك على ممتلكاتهم أو تجارتهم. فهرع قافلاً إلى بولندة، وهزم قوة بولندية جديدة، واحتل وارسو من جديد (يوليو 1656). غير أن بولندة امتشقت الآن الحسام لقتاله بعد أن ثارت حماستها الدينية، وألفى شارل نفسه-وهو بلا صديق رغم انتصاره-وقد أحدق به الأعداء من كل حدب. وهجره ناخب براندنبورج وتعهد بتقديم العون لبولندة. أما شارل-الذي كان خبيراً بكسب المعارك فقط لا بدعم فتوحه بصلح عملي-فقد اكتسح البلاد غرباً في هجوم على الدنمرك، وعبر الكاتيجات فوق ثلاثة عشر ميلاً من الجليد (يناير 1657)، وهزم الدنمركيين، وأكره فردريك الثالث على توقيع صلح روسكيلدي (27 فبراير). وانسحبت الدنمرك كلية من شبه الجزيرة السويدية، ووافقت على أن تغلق مضيق الساوند في وجه أعداء السويد. فلما تباطأ الدنمركيون في تنفيذ هذه الشروط استأنف شارل الحرب، وحاصر كوبنهاجن. وعقد العزم الآن على خلع فردريك الثالث، وتوحيد الدنمرك والسويد والنرويج من جديد تحت تاج واحد.
ولكن القوة البحرية هزمته، ذلك أن إنجلترا والأقاليم المتحدة، وهما أعظم أمم العصر آنذاك، اتفقتا الآن-رغم ما بينهما عادة من عداء-على ألا تقبض أي دولة من الدول على مفتاح البلطيق بالهيمنة على الساوند بين الدنمرك والسويد. ففي أكتوبر اقتحمت قوة هولندية الساوند، ورفعت الحصار عن كوبنهاجن، وساقت أمامها الأسطول السويدي الصغير إلى ثغوره في أرض الوطن. وأقسم شارل أن يقاتل إلى النهاية. ولكن الشدائد التي عاناها في حملاته كانت قد فعلت فيه فعلها، فبينما كان يخطب الديت السويدي في جوتيبورج أخذته الحمى. وما لبثت أن قضي نحبه في ربيع حياته (13 فبراير 1660).
وكان ابنه شارل الحادي عشر (1600 - 97) لا يزال في الخامسة، فاضطلع بالحكم مجلس وصاية أنهى الحرب بصلح أوليفا
ومعاهدة كوبنهاجن (مايو، يونيو 1660). ونزلت الملكية البولندية عن دعواها في تاج السويد، وثبتت تبعية ليفونيا للسويد، ونالت براندنبورج الحق الكامل في بروسيا الشرقية، واحتفظت السويد بمقاطعاتها الجنوبية (سكاني) وأقاليمها على أرض القارة (بريمن، وفيردن، وبومرانيا)، ولكنها انضمت إلى الدنمرك في ضمان حق السفن الأجنبية في دخول البلطيق. وبعد عام وقعت السويد وبولنده في كارديس صلحاً فاتراً مع قيصر الروس. واستمر الصراع على البلطيق خمسة عشر عاماً بوسائل أخرى غير الحرب.
كانت هذه المعاهدات نصراً لا يستهان به للسويد، ولكن البلاد أشرفت مرة أخرى على الإفلاس. وكافح عضوان من مجلس الوصاية هما جوستاف بوندي وبير براهي للحد من النفقات الحكومية، ولكن المستشار ماجنس دي لاجاردي أضاف إلى الديون القديمة ديوناً جديدة، وأتاح للنبلاء ولأصدقائه ولنفسه جني المنافع على حساب الخزانة، وفي سبيل تلقي المعونة المالية ربط السويد بحلف مع فرنسا (1672) قبل أن ينقص لويس الرابع عشر على الأقاليم المتحدة، حليفة السويد، بأيام معدودات فقط. وما لبثت السويد أن وجدت نفسها تخوض حرباً ضد النمرك، وبراندنبورج، وهولندة. وهزمت على يد الناخب الأكبر في فيربيللن (18 يونيو 1675)، واجتاح أعداؤها أقاليمها القارية، وغزا جيش دنمركي "سكاني" من جديد ونكبت البحرية السويدية بكارثة تجاه أولاند "1 يونيو 1676).
وأنقذ السويد ملكها الشاب شارل الحادي عشر، الذي اضطلع الآن بزمام الأمر، وذلك بسلسلة من الحملات ألهمت فيها بسالته الشخصية جنوده، فدحروا الدنمركيين في لوند ولاندسكرونا. وبفضل هذين الانتصارين وتأييد لويس الرابع عشر استردت السويد كل ما فقدته. وتعاون بطل جديد من أبطال الدبلوماسية السويدية، هو الكونت يوهان جيلنشتييرنا، مع الكونت جريفنفلد-لا في الترتيب لصلح بين السويد والدنمرك فحسب، بل في إبرام حلف عسكري وتجاري بينهما. واتفقت الدولتان على عملة مشتركة، وكانت الوحدة الإسكندناوية كلها قاب قوسين أو أدنى حين قطع هذا التطور موت
جيلنشتييرنا وهو في الخامسة والأربعين (1680). وحافظت الأمتان على السلام عشرين عاماً.
وكان جيلنشتييرنا قد علم الملك الشاب أن السويد لا تستطيع الإبقاء على مكانتها بين الدول العظيمة إذا مضي نبلاؤها في التهام أراضي التاج، وهو أمر يهودي بالملكية إلى ذل الفقر وبالدولة إلى درك العجز. وفي 1682 اتخذ شارل الحادي عشر خطوة حاسمة. فاستأنف بتأييد رجال الدين والفلاحين وأهل المدن، في تدقيق وشمول يحفزهما السخط "اختزال" أراضي النبلاء، أي استرداد ما فقدته الملكية من ضياعها. ثم حقق في فساد الموظفين وعاقبه، وبلغت إيرادات الدولة النقطة التي أتاحت للسويد القدرة من جديد على الاحتفاظ بممتلكاتها والاضطلاع بتبعاتها. ولم يكن شارل الحادي عشر بالملك المحبب جداً إلى شعبه، ولكنه كان ملكاً عظيماً. فلقد آثر انتصارات السلام الأقل ضجيجاً على انتصارات الحرب، وذلك رغم ما خلف في الحرب من سجل يحسده عليه الكثيرون. وقد وطد حكم الملكية المطلق، ولكن هذا النظام كان يومها البديل لإقطاعية رجعية فوضوية.
وفي هدوء هذه الهدنة الصافية ازدهرت علوم السويد وآدابها وفنونها. وبلغت العمارة السويدية أوجهاً في القصر الملكي الفخم الضخم باستوكهولم، الذي صممه (1693 - 97) نيقوديموس تيسين. وكان لارس يوهانسون للسويد بمثابة ليوباردي (الإيطالي) ومارلو (الإنجليزي) مجتمعين، فهو يتغنى غناءً شجياً بكراهية الإنسان، ويلقى حتفه بطعنات السلاح في شجار بحان قضي عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين. وقد ألف جونو دالشتيرنا ملحمة شعرية ببحر دانتي سماها Kunga Skald (1697) إشادة بمآثر شارل الحادي عشر. ومات الملك في تلك السنة، بعد أن أنقذ وعمر بلداً كان يدمره من بعده ابنه الأشهر منه.
وكان هذا الابن، شارل الثاني عشر، قد بلغ الخامسة عشرة. ولما كانت خريطة أوربا يعاد رسمها آنئذ بالدم والحديد، فقد دُرّب أولاً وقبل كل شيء على فنون القتال. فهيأته ألعابه كلها للأعمال العسكرية، وتعلم الرياضيات فرعاً من العلوم الحربية، وقرأ من اللاتينية ما يكفيه
لأن يستوحي من سيرة الإسكندر التي كتبها كونتوس كورتيوس طموح التفوق في السلاح إن لم يكن الطموح لغزو العالم. وإذ كان فارع القامة وسيماً، قوياً، لا يثقل بدنه درهم زائد من لحم وشحم، فقد استمتع بحياة الجندي، وتجلد لما فيها من حرمان، وهزأ بالخطر والموت، وتطلب هذه الصلابة عينها في جنده. ولم يأبه كثيراً بالنساء، فلم يتزوج قط وإن خطبت وده الكثيرات. وكان يصيد الدببة وسلاحه شوكة خشبية ثقيلة لا أكثر، ويركب خيله بسرعة طائشة، ويسبح في مياه تغطي الثلوج نصفها، ويلتذ المعارك الزائفة التي كاد هو وأصدقاؤه يلقون حتفهم فيها غير مرة. وقد رافقت بسالته العنيدة وحيويته البدنية بعض فضائل الخلق والعقل: صراحة تزدري ألاعيب الدبلوماسية، وإحساس بالشرف تشوبه لحظات شاذة من القسوة الوحشية، وعقل يلتقط لب الأمور لتوّه، ولا يطيق المداخل الملتوية في التفكير أو التدبير، وكبرياء صموت لم يغب عنها قط محتده الملكي ولم تعترف قط بالهزيمة. وآية ذلك أنه في حفلة تتويجه توج نفسه بيده على طريقة نابليون، ولم يقطع لنفسه يميناً تحدّ من سلطته، فلما تشكك أحد رجال الدين في صواب خلع السلطة المطلقة على فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، حكم عليه شارل أولاً بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.
كانت السويد يوم ارتقى عرشها دولة قارية كبرى، تحكم فنلندة، واينجريا، واستونيا، وليفونيا، وبومرانيا، وبريمن، وكانت تهيمن على البلطيق وتقوم سداً حائلاً بين روسيا وبين ذلك البحر. ورأت روسيا، وبولنده، وبراندنبورج، والدنمرك، في حداثة سن ملك السويد فرصة لمد حدودها دعماً لتجارتها ومواردها. وكان "العامل الهدّام" في هذا الحل الجغرافي فارساً ليفونياً يدعى يوهان فون باتكول، انخرط في سلك الجيش السويدي بوصفه من رعايا السويد، وارتقى إلى رتبة النقيب. وفي 1689 و1629 احتج بشده على "اختزال" شارل الحادي عشر لضياع النبلاء في ليفونيا، فاتهم بالخيانة، وفر غلى بولندة، ثم التمس من شارل الثاني عشر أن يعفو عنه فرفض، وفي 1689 اقترح على أوغسطس الثاني ملك بولندة وسكسونيا تأليف حلف ضد السويد من بولنده، وسكسونيا، وبراندنبورج، والدنمرك، وروسيا. ورأى
أوغسطس أن الخطة جاءت في أوانها، فاتخذ الخطوة الأولى بالدخول في حلف مع ملك الدنمرك فردريك الرابع (25 سبتمبر 1699). وذهب باتكول إلى موسكو. وفي نوفمبر وقع بطرس الأكبر مع مبعوثي سكسونيا والدنمرك اتفاقاً لتقطيع أوصال السويد.
2 - بولندة وسوبيسكي
1648 -
1699
في مستهل هذه الحقبة أثر حدثان تأثيراً عميقاً في تاريخ بولنده ففي 1652 هزم عضو واحد من أعضاء البرلمان البولندي Sejm للمرة الأولى قانوناً بممارسته حق "الفيتو المطلق"، الذي كان يسمح لأي نائب في ذلك البرلمان بإبطال قرار أية أغلبية. ذلك أن النظام في الماضي كان يشترط موافقة جميع الأقاليم قبل إقرار أي قانون، وكانت أقلية ضئيلة أحياناً تجعل التشريع مستحيلاً، ولكن فرداً من الأفراد لم يؤكد إلى ذلك الحين الحق في نقض اقتراح يقبله الباقون كلهم. وقد استطاع "الفيتو المطلق" لنائب واحد أن "ينسف" أو ينهي ثماني وأربعين دورة من الدورات الخمس والخمسين التي عقدها البرلمان بعد 1652. وقد افترضت الخطة أنه ما من أغلبية تستطيع بحق أن تطغى على أقلية مهما صغرت. ولم يكن مبعثها النظرية الشعبية بل الكبرياء الإقطاعية، إذا اعتبر كل مالك نفسه سيداً أعلى في أرضه. وأسفر هذا على أكبر قدر من الاستقلال المحلي والعقم الجماعي. ولما كان الملوك خاضعين للبرلمان، والبرلمان خاضعاً للفيتو المطلق، فقد كانت السياسة القومية المتسقة ضرباً من المحال عادة. وبعد تسع سنوات من الفيتو الأول تنبأ الملك جون كازيمير للبرلمان بنبؤة لافتة للنظر، قال:
"أتمنى على الله أن يتبين نبي كذاب، ولكني أقول لكم أنكم إن لم تجدواً علاجاً لهذا الشر (أي الفيتو المطلق) فستغدو الدولة فريسة للدول الأجنبية. سوف يحاول الموسكوفيون أن يقتطعوا بالاتيناتنا الروسية ربما إلى الفستولا. وسو يحاول البيت المالك البروسي الاستيلاء على بولنده الكبرى. وسوف تلقي النمس بثقلها على كراكو. وسوف تؤثر كل من هذه الدول اقتسام بولندة دون الاستيلاء عليها كلها ولها هذه الحريات التي تتمتع بها اليوم"(2).
وقد تحققت هذه النبؤة بحذافيرها تقريباً.
وكانت ثورة القوزاق في أوكرانيا (1648) حدثاً لا يفوقه في أهميته التاريخية سوى هذا الفيتو. ذلك أن دمج لتوانيا مع بولنده في "اتحاد لوبلين"(1569) أخضع إقليم أوكرانيا، الذي يجري فيه نهر الدنيبر، لحكم غلب عليه العنصر البولندي، وكان أكثر سكان الإقليم من قوازق زابوروج الذين ألفوا الاستقلال وتمرسوا الحرب. وحاول النبلاء البولنديون الذين ابتاعوا الأرض في أوكرانيا أن يرسوا فيها أسس الأحوال الإقطاعية، وثبّط الكاثوليك البولنديون ممارسة تلك الحرية التي كفلها اتحاد لوبلين للعبادة الأرثوذكسية. وانبعثت ثورة من ثورات القوزاق من هذا المركب من أسباب السخط والتذمر، وتزعمها حيناً زعم حربي (هتمان) غني يدعى بوجدان شميلنيكي، وناصرها تتار القرم المسلمون. وفي 26 مايو 1648 دحر التتار والقوزاق الجيش البولندي الرئيسي في كورسون، وسرت الحماسة للثورة بين الأغنياء والفقراء على السواء.
وقد خلفت وفاة لاديسلاس الرابع في 20 مايو عرش بولندة في هذه الأثناء مثاراً لنزاع بين النبلاء استمر حتى 20 نوفمبر، حين اختارت هيئة الديت الانتخابية جون الثاني كازيمير. أما شيملنيكي فقد خشي ألا تستطيع الثورة الصمود للجيوش البولندية المعززة إلا بقبول المعونة والسيادة الأجنيستين، فاختار الاستنجاد بروسيا الأرثوذكسية. وعرض أوكرانيا على القيصر الكسيس، ورحبت الحكومة الروسية بالعرض وهي عليمة بأن معناه الحرب مع بولندة، وبمقتضى "قانون بيريياسلاف" 18 يناير 1654، انضوت أوكرانيا تحت الحكم الروسي. وكفل للإقليم الاستقلال الذاتي تحت حكم زعيم حربي ينتخبه القوزاق ويصدق على انتخابه القيصر.
وفي الحرب التي تلت ذلك بين بولندة وروسيا، حول تتار القرم الذين آثروا أوكرانيا بولندية على أوكرانيا روسية-حولوا معونتهم من القوزاق إلى البولنديين. وفي 8 أغسطس 1655 استولى الروس على فلنو، وذبحوا آلافاً من الأهالي، وأحرقوا المدينة وسووها بالتراب. وبينما كان البولنديون يدافعون عن أنفسهم على جبهتهم الشرقية، قاد شارل العاشر
جيشاً سويدياً إلى غربي بولندة واستولى على وارسو (8 سبتمبر). وانهارت المقاومة البولندية. وأعلن النبلاء البولنديون، بل حتى الجيش البولندي، الخضوع للفاتح وأقسموا يمين الولاء له (3). وأرسل له كرومويل تهانئه لأن قبض على أحد قرون البابا (4)، وأكد شارل لـ "حامي الجمهورية"(كرومويل) أنه عما قليل لن يبقى في بولندة باوبوي واحد (5)، ومع ذلك وعد بالتسامح الديني في بولندة.
على أن خططه أحبطها جيشه الظافر. ذلك أنه الجيش أفلت زمامه، فراح ينهب المدن ويذبح السكان ويسلب الكنائس والأديار. وقاوم الحصار دير ياسنا جورا، القريب من تشستوتشوا، مقاومة باسلة، وأثار الذي نجاحه الذي عد من المعجزات حماسة الجماهير الدينية، وأهاب الكهنة الكاثوليك بالأمة أن تطرد الغزاة الكفار، وبادر الفلاحون إلى امتشاق الحسام، ففرت الحامية التي تركها شارل في وارسو أمام الحشد الزاحف وأعيد كازيمير إلى عاصمته (16 يونيو 1656) وانقلب التتار على روسيا، ووقعت روسيا هدنة مع بولندة مؤثرة جيرتها على جيرة السويد (1656). وأفضي موت شارل العاشر فجأة إلى صلح أوليفا (3 مايو 1660) الذي أنهى الحرب بين بولندة والسويد. وفي 1659 استؤنف الصراع مع روسيا. وبعد ثمانية أعوام من الفوضى والحملات وذبذبات الولاء القوزاقي، نالت روسيا بمقتضى صلح أندروسوفو (20 يناير 1667) سمولينسك، وكيف، وأوكرانيا شرقي الدنيير. وظلت تجزئة أوكرانيا على هذا النحو سارية حتى التقسيم الأول لبولندة (1772).
ثم اعتزل جون كازيمير عرش بولندة (1668) بعد أن أرهقته الحرب وأضناه الفيتو مطلق، واعتكف في نيفير بفرنسا، وعاش حياة هادئة بين الدرس والصلاة إلى أن مات (1672). وخاض خلفه ميخائيل فسنيوفيكي حرباً مدمرة مع العثمانيين، وبمقتضى صلح بوكزاكز (1672) اعترفت بولندة بالسياسة العثمانية على أوكرانيا الغربية، وتعهدت بأداء جزية سنوية للسلاطين تبلغ 220. 000 دوكاتية. وفي تلك الحرب اكتشفت بولندة عبقرية جان سوبيسكي الحربية، فلما مات فسنيوفيكي (673)، انتخب الديت أعظم ملوك بولندة قاطبة (1674) بعد أن ضيّع وقتاً ثميناً على عاداته.
أما جان هذا-الذي يسمى الآن يوحنا الثالث-فكان يبلغ الرابعة والأربعين إذ ذاك. وقد حالفه الحظ في مولده، لأن أباه كان الحاكم العسكري لكراكو، أما أمه فكانت حفيدة القائد البولندي ستانسلاس زولكيسفكي الذي استولى على موسكو في 1610، وكان حب الحرب يسري في دم جان. وبفضل تعليمه في جامعة كراكو وأسفاره في ألمانيا والأراضي المنخفضة وإنجلترة وفرنسا، حيث قضي بباريس قرابة عام، أصبح رجلاً مثقفاً فضلاً عن بسالته ومهارته الحربيتين. وفي 1648 مات أبوه، عقب اختياره ممثلاً لبولندة في معاهدة وستفاليا. وسارع جان بالعودة إلى أرض الوطن، وانضم إلى الجيش البولندي في قتال الثوار القوزاق. ولما غزا السويديون بولنده، وفر جان كازيمير، كان سوبيسكي واحداً من الموظفين البولنديين الذي ارتضوا شارل العاشر ملكاً على بولندة، وظل يخدم عاماً في الجيش السويدي. ولكن حين ثار البولنديون على الغزاة عاد سويسكي إلى ولائه القومي، وأبلى في الدفاع عن وطنه بلاء رفعه إلى منصب القائد العام للجيوش البولندية في 1665. وفي تلك السنة تزوج المرأة الممتازة التي أصبحت نصف حياته والمشكل لسيرته.
هذه المرأة، واسمها ماريا كازيميرا، التي كان يجري في عروقها الدم الفرنسي الملكي، ولدت في نيفير عام 1641، وربيت في فرنسا وبولندة. وفي وارسو يوم كانت في الثالثة عشرة ألهب حسنها ومرحها عاطفة سوبيسكي وهو في الخامسة والعشرين. ولكن سعود الحرب ونحوسها أفصته عنها، فلما عاد وجدها زوجة لنبيل فاسق يدعى جان زامويسكي. وإذ كانت ماريا مهملة من زوجها، فقد قبلت سوبيسكي وصيفاً مرافقاً. ويبدو أنها حافظت على عهودها الزوجية، ولكنها وعدت بالزواج من سوبيسكي حالما يفسخ زواجها من زامويسكي. على أن الزوج كفاها مئونة هذا الشرط بموته. وما لبث العاشقان أن تزوجا، وأصبح غرامهما الطويل أسطورة في التاريخ البولندي. وكان الكثير من النساء البولنديات ينافسن النساء الفرنسيات في الجمع بين الجمال الكلاسيكي، والشجاعة والذكاء القريبين من شجاعة الرجال وذكائهم، والولع بصنع الملوك أو إرشادهم. وقد بدأت ماريا من يوم زواجها تخطط لكي تبوئ سوبيسكي عرش بولندة.
وكان حبها أحياناً حباً لا يقيم وزناً لصوت الضمير كما قد يكون الحب. ففي 1669 يبدو أن سوبيسكي قبل المال الفرنسي ليؤيد كردينالاً فرنسياً ضد فسنيوفيكي. وبعد انتخاب ميخائيل انضم جان إلى غيره من النبلاء في مغامرات تستهدف خلع الملك لأنه جبان لا يصلح للدفاع عن بولندة ضد العثمانيين ولا رغبة له في هذا الدفاع. وقاد بنفسه رجاله إلى انتصارات أربعة خلال عشرة أيام. وفي 11 نوفمبر 1673، وهو اليوم الذي مات فيه الملك، دحر سوبيسكي العثمانيين في خوتين ببسارابيا. وجعله هذا النصر المرشح المنطقي لعرش لا قبل الآن بدفع الأعداء المحدقين به من كل جانب إلا لأصلب القتال وأشده تصميماً. ولكي يدعم المنطق حضر إلى هيئة الديت الناخبة على رأس ستة آلاف مقاتل. ولعب المال الفرنسي دوراً في انتخابه، ولكن هذا كان يتفق وسنّة العصر تمام الاتفاق.
ولقد كان ملكاً بجسمه وروحه كما كان باسمه. وصفه الأجانب بأنه "من أكثر الرجال وسامة وأكملهم بنية" في أوربا، "له طلعة نبيلة شماء، وعينان تشعان نوراً وناراً (6) " قوي البدن، مثابر على الإنجاب، متطلع العقل متيقظه. وقد حفز حبه الطبيعي للتملك إسراف حبيبته ماريزنيكا، ولكنه كثيراً ما عوض عن بخل البرلمان الشحيح بدفع رواتب جنده من جيبه، وبيع أملاكه ليشتري لهم البنادق (7). وقد استحق كل ما أخذ، لأنه أنقذ بولندة وأوربا جميعاً.
ذلك أن سياسته الخارجية كانت بسيطة في هدفها، وهو ردّ العثمانيين إلى آسيا، أو على الأقل صد هجماتهم على معقل العالم المسيحي الغربي بفيينا. وقد عاكس جهده هذا تحالف حليفته فرنسا مع السلطان العثماني، ومحاولات الإمبراطور أن يزج به في الحروب التركية، وكان ليوبولد الأول يأمل إذا وفق في محاولاته هذه أن تطلق يد النمسا في تملك الأراضي الدانيوبية أو المجرية التي كانت كل من النمسا وبولندة تدعي الحق فيها لنفسها. وبينما كان سوبيسكي يتحسس طريقه غاضباً وسط هذه المتاهة، تاقت نفسه لحرية تخطيط السياسة وإصدار الأوامر دون أن يكون خاضعاً في كل خطوة للبرلمان والفيتو المطلق. وحسد لويس الرابع عشر والإمبراطور على سلطتهما في اتخاذ القرارات بصورة قاطعة ثم إصدار الأوامر دون إبطاء.
وعقب انتخابه اضطلع باسترداد أوكرانيا الغربية من العثمانيين الذين تقدموا الآن شمالاً حين بلغوا لفوف. وهناك، وبقوة لا تزيد على خمسة آلاف فارس، هزم عشرين ألف تركي (24 أغسطس 1675). وبمقتضى معاهدة زورافنو (17 أكتوبر 1676) أكره العثمانيين على النزول عن حقهم المزعومة في الجزية، والاعتراف بسيادة بولندة على أوكرانيا الغربية. ثم شعر بأن الفرصة مواتية لطرد القوة العثمانية من أوربا. فدعا الإمبراطور للانضمام إليه في حرب ضروس يخوضانها مع الترك، ولكن ليوبولد اعترض بأنه لا يملك تأكيداً بألا يهاجمه لويس الرابع عشر في الغرب أن أرسل جيوشه إلى الشرق، ورجا سوبيسكي فرنسا أن تعطي النمس هذا التأكيد، ولكن لويس الرابع عشر أبى (8). وتحول سوبيسكي أكثر فأكثر إلى التحالف مع النمسا. فلما حاول العملاء الفرنسيون رشوة البرلمان ضده فضح مؤامراتهم ونشر رسائلهم السرية. وفي رد الفعل التالي ضد فرنسا وقع البرلمان (1 أبريل 1683) حلفاً مع الإمبراطورية، واتفق على أن تحشده بولندة أربعين ألف مقاتل، والإمبراطورية ستين ألفاً. فإذا حاصر العثمانيون فيينا أو كراكو، خف الحليف لنجدة حليفه بقوته كلها.
وفي يوليو زحف العثمانيون على فيينا. وفي أغسطس غادر سوبيسكي والجيش البولندي وارسو بهذا الهدف المعلن، وهو "أن يمضوا إلى الحرب المقدسة، ويردوا بعون الله الحرية القديمة لفيينا المحاصرة، فيعينوا بذلك جميع العالم المسيحي المتخاذل (9) ". وبدا أن أنبل ما عرفت العصور الوسطى من فروسية قد بعث من جديد. ووصل البولنديون إلى العاصمة المحاصرة في الوقت المناسب، لأن المرض والجوع كادا يفتكان بأكثر المدافعين عنها. وقاد سوبيسكي بشخصه جيشي بولندة والإمبراطورية المجتمعين في معركة من أحسم المعارك في التاريخ الأوربي (12 سبتمبر 1683). ولقي نصف البولنديين الذين تبعوه في هذه الحرب الصليبية-وعدهم خمسة وعشرون ألفاً-حتفهم في المعركة أو في طريقه إليها.
ثم قفل بولندة مكللاً بنصر يشوبه شعور الخيبة. واستقبلته واسو فخورة به بطلاً لأوربا، ولكن الإمبراطور كان قد خيّب آماله في
تزويج ابنة من أرشيدوقة النمسا. ولكي يؤمن ملكاً لابنه حاول فتح ملدافيا، وانتصر في جميع المعارك إلا معاركه مع الجو والقدر، وعاد إلىبلده صفر اليدين.
ووسط ضجيج السياسة وصخبها، وفي الفترات التي تخللت الحرب جعل من بلاطه مركز إحياء ثقافي. فلقد كان هو نفسه رجلاً واسع الإطلاع: درس جاليلو وهارفي، وديكارت وجاسندي، وقرأ بسكال، وكورنيي، وموليير. ومع أنه أيد الكنيسة الكاثوليكية باعتبار هذا التأييد سياسة للدولة، فإنه بسط الحرية الدينية والحماية على البروتستنت واليهود (10) وأحبه اليهود كما أحبوا قيصر من قبل. وكان يريد، وإن لم يستطع، أن ينقذ من الموت رجلاً من أحرار الفكر أعرب عن بعض شكوكه في وجود الله (1689)(11)، وكان هذا أول إحراق لمهرطق في تاريخ بولندة. ثم مضت بولندة في إنجاب شعرائها، ولكنها ظلت تستورد أكثر فنانيها الأفذاذ. فنظم فاكلاو بوتوكي ملحمة عن انتصار بولندة في خوتين، وكتب فسبازيان كوشوفسكي ملاحم مماثلة، ومجموعة مزامير بولندية في نثر شعري، أما أندرزي مورزيتن، فبعد أن ترحم "أمينتا" تاسو و "سيد" كورنيي، أظهر في غنائياته تأثير الشعر الفرنسي والإيطالي في بولندة. وقد شجع سوبيسكي التأثير الفرنسي، لأنه كان معجباً بكل شيء في فرنسا إلا سياستها. واستقدم المصورين والمثالين الفرنسيين والإيطاليين ليعملوا في وارسو، واستخدم المعماريين، ولا سيما الأبطاليين منهم، ليشيدوا قصور بطراز الباروك في فيلانوف، وزولكييف، ويافوروف. وبنيت الكنائس الفخمة إبان حكمه: كنيسة القديس بطرس في فلنو وكنيستا الصليب المقدس والراهبات البندكتيات في وارسو. وقبل أندرياس شلوتر من ألمانيا لحفر الزخارف للقصر المبني في فيلانوف، ولقصر كرازنسكي في العاصمة. ووسط هذه التأثيرات الغربية في الفن، غلبه التأثير الشرقي في الملبس والمظهر: العباءة الطويلة والمنطقة العريضة الزاهية الألوان، والشاربان المفتولان إلى أعلى كأنهما سيفان أحدبان.
وقد كدر صفاء شيخوخة الملك تمرد ولده يعقوب، وعناد زوجته، وفشله في جعل الملك وراثياً في أسرته. وكان الفيتو المطلق سيفاً مسلطاً فوق رأسه على الدوام. ولم يستطع أن يصلح من حال الفلاحين، لأن
سادتهم سيطروا على البرلمان، ولم يستطع إكراه الأغنياء على دفع الضرائب، لأن الأغنياء كانوا هم البرلمان، ولم يستطع السيطرة على النبلاء المشاغبين، لأنهم أبوا أن يكون له جيش دائم. ومات من تبولن الدم في 17 يونيو 1696، لا كسير القلب كما زعمت الرواية، بل آسفاً على انحدار بلده الحبيب من قمة البطولة التي فعه إليها.
وتخطى الديت ابنه وباع التاج إلى فردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا، الذي تحول في غير عناء من البروتستنتية إلى الكاثوليكية ليصبح أوغسطس الثاني ملك بولندة. وكان شخصية عجيبة في ذاته. ويسميه التاريخ أوغسطس القوي، لأنه كان الرياضي الشديد البأس في جسمه وفراشه، وقد نسيت إليه أسطورة إنجاب 354 طفلاً غير شرعي (12). وفي يناير 1699 وقع في كارلوفتز معاهدة نزلت بمقتضاها تركيا عن كل دعوى لها في أوكرانيا الغربية. فلما شعر أوغسطس بالأمان في الجنوب والشرق، استمع إلى باتكول، وربط بولندة بحلف مع الدنمرك وروسيا لاقتسام السويد.
3 - روسيا تتجه إلى الغرب
1645 -
1699
استطاع كل من المتآمرين الثلاثة أن يختلق عذراً ويدعي استفزازاً ما. فشارل العاشر ملك السويد كان قد حاصر كوبنهاجن وحاول فتح الدنمرك، وغزا بولندة واستولى على عاصمتها، وكان جوستافس أدولفس قد دعم قوة السويد في ليفونيا واينجريا دعماً أتاح له أن يتحدى روسيا أن تنزل زورقاً في البلطيق دون موافقة السويد. أما الدب الروسي الحبيس فكان يحرق الأرم لمرأى المخارج كلها مغلقة في الغرب، والمنافذ إلى البحر الأسود كلها يسدها التتار والترك. ولم يبق غير الشرق مجال لتحرك روسيا-إلى سيبيريا، وذلك يبدو الطريق إلى الشدائد والهمجية. لقد كانت أسباب الراحة ومفاتن الحياة تؤمي لروسيا أن تتجه غرباً، وكان الغرب مصمماً على أن يبقي روسيا بلداً شرقياً.
وحين اعتلى ألكسيس ميخايلوفتش رومانوف عرش القياصرة كانت روسيا لا تزال يطغى عليها طابع العصر الوسيط. فهي لم تعرف القانون الروماني، ولا إنسانية النهضة الأوربية، ولا إصلاح الحركة
البروتستنتية. وفي عهد ألكسيس صيغ القانون الروسي من جديد (أولوزيني 1649) لكن هذه الصياغة لم تكن أكثر من جمع وتنسيق للقوانين القائمة المبنية على الحكم المطلق واستقامة العقيدة الدينية. فمثلاً ظل القانون يرى من الجريمة أن يتطلع إنسان إلى الهلال الجديد أو أن يلعب الشطرنج أو يغفل الذهاب إلى الكنيسة في الصوم الكبير. وهذه الجرائم وعشرات غيرها تعاقب بالجلد. وكان ألكسيس ذاته متعصباً في تدينه رغم ما في طبعه من لطف وسماحة، وكثيراً ما كان ينفق خمس ساعات كل يوم في الكنيسة، وقد انحنى في إحدى المناسبات ألفاً وخمسمائة انحناءه (13). وكان يبتهج بإطعام الشحاذين الذين يتجمعون حول قصره، ولكن كان يعاقب كل انشقاق سياسي أو ديني عقاباً صارماً، ويفرض الضرائب الباهظة على شعبه، ويسمح لاستغلال الفلاحين وفساد الحكومة أن يستشريا إلى درجة أشعلت الثورة في موسكو، ونوفجورود، وبسكوف، وأهم من ذلك بين قوزاق نهر الدون. وقد ألف قوزاقي من هؤلاء يدعى ستينكا رازين عصابة لصوص، وسلب الأغنياء وقتلهم، ونصب نفسه سيداً على استراخان وزارتسين (التي أصبحت ستالنجراد). ثم أقام جمهورية قوزاقية على الفولجا، وهدد مرة بالاستيلاء على موسكو. وانتهى أمره بأن أسر وعذّب حتى مات (1671)، ولكن الفقراء حفظوا له ذكرى عزيزة تعدهم بالانتقام من الملاك والحكومة.
على أن بعض المؤثرات العصرية سرت حتى إلى هذه البيئة الوسيطة فقد اقتضت الحروب مع بولندة اتصالات أكثر مع الغرب. وأقبل الدبلوماسيون والتجار في أعداد متزايدة من بلاد أطلق عليها الروس اسم "أوربا". وشهد نهر دوينا وثغراً ريجا وأركانجل تجارة نامية مع الدول الغربية. ودعى الفنيون الأجانب لتطوير المناجم، وتنظيم الصناعة، وصنع السلاح. ونمت مستوطنة كاملة للمهاجرين حوالي 1650 في أحد أحياء موسكو، وجلب الألمان والبولنديون مسحة من الأدب والموسيقى الغربيين إلى هذه المستوطنة، وزودوا الأسر الروسية بمدرسين خوصيين للاتينية. وكان لألكسيس نفسه أوركسترا ألماني. وقد سمح لوزيره أرتامون ماتفيف باستيراد الأثاث الغربي والعادات الفرنسية، إلى حد إباحة اختلاط النساء بالرجال في المجتمع. ولما
بعث السفير الروسي لدى دوق توسكانيا الأكبر إلى ألكسيس أوصافاً للدرامات والأوبرات والباليهات الفرنسية، سمح ألكسيس في بناء مسرح في موسكو وبعض المسرحيات، لا سيما المقتبسة من الكتاب المقدس. وقد سبقت إحداها، وهي "استير"، تمثيلية راسين التي تحمل هذا الاسم بسبعة عشر عاماً. ولما شعر ألكسيس أنه أذنب باختلافه إلى هذه الحفلات التمثيلية، ذكرها لكاهن اعترافه، فأباح له هذه المتع الجديدة (14). وتزوج ماتفيف سيدة اسكتلندية تنتمي لأسرة هاملتن الشهيرة، وقد تبنيا وربيا يتيمة روسية تدعى ناتاليا نارويشكينا، وقد اتخذها ألكسيس زوجة ثانية له.
على أن مغامرات التغريب هذه أثارت د فعل وطنياً، فشجب بعض الروس الأرثوذكس دراسة اللاتينية باعتبارها شراً قد يغري الشباب بالأفكار غير الأرثوذكسية. وأحس الجيل المخضرم أن أي تغيير في العادات أو الإيمان أو الطقوس يزيح حجراً في بناء المجتمع، ويقلقل الأحجار كلها، وقد يهوى بعد حين بالبناء المزعزع كله ويحيله خراباً. وكان الدين في روسيا يعتمد على الطقوس اعتماده على العقيدة. ومع أن قدرة الجماهير على تفهم الأفكار كانت إلى ذلك الحين محدودة جداً، فقد أمكن تدريبها على الطقوس الدينية التي أعان تكرارها المنّوم على الاستقرار والسلام الاجتماعيين والنفسيين. ولكن التكرار يجب أن يكون دقيقاً حتى يحدث الأثر المنّوم، وأي تغيير في التتابع المألوف قد يحطم التعويذة المهدئة، ومن هنا كان لا بد من بقاء كل تفاصيل المراسم الدينية، وكل كلمة من كلمات الصلوات، على حالها كما كانت منذ قرون. وقد وقع خلاف من أشد الخلافات والانقسامات مرارة في التاريخ الروسي حين أدخل نيكون، بطريرك موسكو، على الطقوس بعض الإصلاحات المبنية على دراسة للممارسات والنصوص البيزنطية. فقد دله الأكليريكيون الذين درسوا اليونانية على أخطاء كثيرة في النصوص التي تستعملها الكنيسة الروسية، فأمر نيكون بمراجعة النصوص والطقوس وتنقيحها، فمثلاً تقرر أن يكتب اسم يسوع بعد ذلك Jisus بدلاً من Isus، وأن ترسم علامة على الصليب بثلاثة أصابع لا إصبعين، وأن يخفض عدد المطانيات (الركعات) في صلاة معينة من اثنتي عشرة إلى أربع، وأن تحطم الأيقونات التي يظهر فيها التأثير الإيطالي ويستبدل بها أيقونات تتبع
النماذج البيزنطية. وتقرر بصفة عامة أن يطابق مطابقة أوثق بين الشعائر الروسية وأصولها البيزنطية. وقد أنزلت رتب بعض رجال الكنيسة الروس الذين أبوا قبول هذه التغييرات أو أوقع عليهم الحرم أو نفوا إلى سيبيريا. وساءت القيصر أساليب نيكون الدكتاتورية، فنفاه في 1667 إلى دير ناء. وانقسمت الكنيسة الروسية إلى حزبين، فأما الكنيسة الرسمية التي يؤيدها ألكسيس فقد قبلت الإصلاحات، وأما المخالفون (راسكولنيكي) أو قدامى المؤمنين (ستاروفيرتسي) فقد تطوروا إلى هيئة منشقة اضطهدتها الأرثوذكسية الجديدة بالنار والحديد. وقد أحرق زعيمهم أفاكوم على الخازوق (1681) بأمر القيصر فيودور. وقتل كثيرون من قدامى المؤمنين أنفسهم مؤثرين الموت على دفع الضرائب لحكومة كانت في نظرهم عدواً للمسيح. وهذه الفوضى الدينية كانت بعض التركة التي ورثها بطرس الأكبر.
ومهد موت ألكسيس (1676) لصراع عنيف بين أبنائه. فقد خلف من زوجته الأولى ماريا ميلوسلافسكي ولداً عليلاً يدعى فيودور (المولود في 1662)، وآخر أعرج نصف أعمى ونصف معتوه يدعى ايفان (المولود في 1666)، وست بنات كانت أكفأهن وأشدهن طموحاً صوفيا ألكسيفنا (المولودة في 1657). وخلف من زوجته الثانية ناتاليا نارويشكينا ولده الأشهر بطرس (المولود في 1672). وورث فيودور العرش، ولكنه مات في 1682. وأراد البويار (النبلاء الروس) أن يولوا بطرس عرش القيصرية، بوصاية أمه، لما رأوه من عجز إيفان الشديد. ولكن أخوات بطرس لأبيه كان يكرهن ناتاليا ويخشين أن يهملن تحت حكمها، حرضن جنود حامية موسكو (السترلتسي)، تتزعمهن صوفيا، على أن يغزو الكرملين ويصروا على تنصيب ايفان. وناشد ماتفيف، حاضن ناتاليا، الجند أن ينسحبوا، فانتزعوه من قبضة بطرس، وقتلوه على مرأى من الصبي ذي العشرة الأعوام، وقتلوا أخوه ناتاليا ونفراً من أنصارها، وأكرهوا البويار على قبول إيفان قيصراً، يشاركه بطرس تابعاً له، وصوفيا وصية عليه. ولعل هذه الفظائع أسهمت في إصابة بطرس بتلك التشنجات التي نغصت حياته فيما بعد، وهي على أي حال أعطته دروساً لا تنسى في العنف والوحشية.
واعتكفت ناتاليا مع بطرس في إحدى ضواحي موسكو المسماة بريوربرازينسكي. وحكمت صوفيا البلاد بكفاية. وقد استنكرت عزل النساء في مساكنهن (التيريم أي الحريم terem) ، وظهرت أمام الناس سافرة، ورأست في غير خشية اجتماعات الرجال حيث راح الشيوخ يهزون رءوسهم أسفاً وحسرة على هذه الوقاحة، ولكنها كانت قد تلقت من التعليم أكثر من معظم الرجال المحيطين بها، وكانت ميالة إلى الإصلاح وإلى الأفكار الغربية، واختارت رئيساً لوزرائها، وربما عشيقاً لها، رجلاً افتتن بحياة الغرب. وكان هذا الرجل، وهو الأمير فازيلي جوليتسين، يكتب اللاتينية، ويعجب بفرنسا، ويجمل قصره بالصور وقطع نسيج جوبلان المرسومة، ويقتني مكتبة كبيرة تضم كتباً لاتينية وبولندية وألمانية. والظاهر أن قدوته وتشجيعه كان لهما الفضل في بناء ثلاثة آلاف مسكن حجري بموسكو في سنوات وصايته السبع، في حين كانت كل البيوت تشاد قبل ذلك بالخشب. ويبدو أنه كان يخطط لعتق أرقاء الأرض (15). وفي عهده ألغي الاسترقاق بسبب الدين، وكفّت الحكومة عن دفن القتلة أحياء، وألغيت عقوبة الإعدام على التفوه بعبارات التحريض. على أن جهوده في الإصلاح أودى بها فشله في قيادة الجيش، فقد أعاد تنظيمه وقاده مرتين ضد الترك، وفي الحالتين أساء إدارة تموين الجند، فعادوا مهزومين متمردين، وأعطى سخطهم بطرس الإشارة للقبض على زمام السلطة.
4 - بطرس يتعلم
كان يتلقى التعليم من أمه، ومن معلميه الخصوصيين، ومن جولاته في شوارع موسكو. ولم يكن مبكر النضج، ولكنه كان تواقاً إلى العمل، طلعة، ذكياً، بهرته الآلات المجلوبة من الغرب مثل كالساعات، والأسلحة، والأدوات. وهفت نفسه إلى روسيا تنافس الغرب في فنون الصناعة والحرب. وكان يحب لعب الألعاب الحربية مع رفاقه الخشنين-كبناء القلاع، ومهاجمتها، والدفاع عنها. وحلم ببحرية روسية قبل أن يتاح لروسيا الوصول إلى بحر لا يتجمد، فبنى قوارب أكبر فأكبر، حتى اضطر إلى رحلة ثمانين ميلاً من موسكو ليجد في بيرسلافل بحيرة يستطيع أن يعوّم فيها أسطوله الصغير.
فلما اشتد عوده ازداد ضيقه بهيمنة أخت غير شقيقة، اغتصبت مع فازلي جوليتسين سلطة إيفان وسلطته. وفي 18 يوليو 1689، انضم بطرس إلى إيفان في الموكب الذي كان يحتفل كل سنة بتحرير موسكو من قبضة البولنديين. ومشت صوفيا في الموكب على غير ما قضت به التقاليد. فأمرها بطرس، وقد بلغ الآن السابعة عشرة، أن تنسحب، ولكنها أصرت على السير، فغادر المدينة غاضباً، وبحث عن حلفاء ضد الوصية. فوجدهم في "البويار" الذين لم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم على الرضي بحكم امرأة، وفي حامية موسكو (الستريلتسي)، التي كان رجالها على استعداد للخدع الحربية والأسلاب بعد أن صدتهم صوفيا غير مرة. وحرك بوريس جوليتسين، ابن عم الوزير، الانقلاب بإرساله رسالة مزورة إلى بطرس زعمت صوفيا أن تدبّر القبض عليه. وفر بطرس وتبعته أمه، وأخته، وزوجته التي تزوجها مؤخراً، إلى دير ترويتسكو-سرجيفسكايا، على خمسة وأربعين ميلاً من موسكو. ومن هناك أرسل الأوامر لكل كولونيل في الحامية بالذهب إلى الدير المذكور. ونهتهم صوفيا عن الذهاب، ولكن كثيرون ذهبوا. وسرعان ما أقبل زعماء الأشراف، ثم يواقيم بطريرك موسكو. واستدعى فازيلي جوليتسين، فخضع، ونفي إلى قرية قريبة من أركانجل. وقبض على نفر من مؤيدي صوفيا، وعذب بعضهم، وأعدم آخرون. وكتب بطرس لإيفان يستأذنه في تقلد زمام الحكم، فأعطى ايفان الإذن أو افترض أنه أعطاه، وأمر بطرس صوفيا أن ترحل إلى دير للراهبات، فاحتجت، وتمردت، ثم استسلمت. وهناك زودت بكل أسباب الراحة وبالخدم الكثيرين، ولكن حظر عليها أن تبرح الدير. وفي 16 أكتوبر 1689 دخل بطرس موسكو، ورحب به إيفان، فتقلد زمام السلطة العليا. واعتزل إيفان الحياة العامة في لباقة، ومات بعد سبع سنوات.
على أن بطرس لم يكن قد تهيأ بعد للحكم. فترك الحكومة لبوريس جوليتسين المتزمت الرجعي، وليواقيم، وغيرهما، وبينما أنفق هو كثيراً من وقته في المستوطنة الأجنبية. وهناك صنع أصدقاء جدداً كانوا ذوي أثر قوي في تطوره. ومن هؤلاء باتريك جوردون الاسكتلندي، المقاتل المغامر الذي كان الآن ضابطاً في الجيش الروسي وهو في الخامسة والخمسين، ومنه تعلم بطرس المزيد عن فنون الحرب. ثم فرانسوا
ليفور، الذي ولد في جنيف، وكان الآن لواء في الرابعة والثلاثين. وقد ابتهج القيصر الشاب بحسن طلعته وسرعة خاطره وأساليبه اللطيفة، فكان يتناول الطعام معه مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، الأمر الذي أفزع أهل موسكو، فهم ينظرون إلى جميع الأجانب نظرتهم إلى المهرطقين الأشرار. وقد فضل بطرس عشرة هذين الأجنبيين على عشرة الروس، لأنه رآهما أكثر تحظراً وإن لم يقلا عن الروس إسرافاً في الشراب، وقد فاقا الروس كثيراً في معارفهما الصناعية والعلمية والحربية، وكان حديثهما أرقى وملاهيهما أرفع. ولاحظ بطرس تسامحهما المتبادل في أمور الدين-فجوردون كان كاثوليكياً، وليفور بروتستنتياً-ووقف في ابتسام عراباً للأطفال الكاثوليك والبروتستنت على السواء عند جرن المعمودية. ثم تعلم من لغتي الألمان والهولنديين ما يكفي لتحقيق أهدافه.
أما أهدافه هذه فهي أن يجعل روسيا شديدة البأس في الحرب، منافسة للغرب في فنون السلم. لقد تعلم من النزيل الهولندي، البارون فون كيلر، كيف حافظ الهولنديون على ثروتهم وقوتهم في بناء السفن الجيدة. وتاقت نفسه لإيجاد منفذ إلى البحر، ولبناء أسطول بحري. ولم يكن له منفذ بحري إلا في أركانجل، التي كان يكتنفها الجليد نصف العام. ومع ذلك اتخذ طريقة إليها في 1693. واشترى سفينة حربية هولندية راسية في الميناء، فلما تغلب على خوفه من البحر وأبحر على هذه السفينة أسكرته الفرحة، وكتب إلى ليفور يقول: "ستقودها أنت، وسأخدم أنا بحاراً بسيطاً فيها (16) ". وارتدى سترة قبطان هولندي، واختلط مغتبطاً بالبحارة الهولنديين في حانات الثغر. لقد كان الهواء الملح الذي هب عليه من البحر البارد نسمة منعشة من الغرب، من ذلك الإقليم، إقليم الصناعة والمنعة والعلم والفن، الذي كان يناديه في إغراء يزداد قوة يوماً بعد يوم.
وكان هناك طريقان عمليان إلى الغرب: أولهما طريق البلطيق الذي تسدّه السويد وبولندة، وثانيهما طريق البحر الأسود، الذي يسدّه التتار والترك. وكان التتار والترك يسيطرون عند آزوف على مصب الدون، ويغيران المرة بعد المرة على الأراضي الموسكوفية، ويأسران الروس-أحياناً عشرين ألفاً في سنة واحدة-ليبيعوهم عبيداً في
الأستانة. وفي 1659 أمر بطرس جيشه أن ينتقل من التلهي بالألعاب إلى التمرس بالحرب، وأن يزحف مخترقاً السهوب، ويبحر هابطاً الأنهار، ويهاجم آزوف. واضطلع ثلاثة قواد بالقيادة قسمة بينهم-جولوفين، وجوردون، وليفور. وعمل بطرس بتواضع مدفعياً برتية رقيب في فوج بريوبرازينسكي. وأسيأت إدارة العملية، وكان الجند سيئي التدريب، وبعد أربعة عشر أسبوعاً من التضحيات أقلع الروس عن الحصار، وعاد بطرس إلى موسكو وهو يقسم ليدربن جيشاً أفضل ويعيدون الكرة.
وبنى فورونيز أسطول ناقلات وبوارج. وفي مايو 1696 أبحر هابطاً الدون على رأس 75. 000 رجل، واستأنف حصار آزوف. وفي يوليو، وبفضل بسالة قوزاق دون على الأخص، استولى الروس على المدينة. وعلى الفور أمر بطرس ببناء أسطول كبير في فورونيز ليعمل في البحر الأسود. وفي سبيل هذا الهدف فرضت الضرائب على روسيا كلها بما فيها كبار ملاك الأراضي، وجنّد العمال، وجلبت الآلات الأجنبية. وبعث خمسون من أشراف الروس على نفقتهم إلى إيطاليا، وهولندة، وإنجلترا، ليتعلموا فن بناء السفن. وفي 10 مارس 1697 تبعهم بطرس.
ولو خطر ببال روسيا أن القيصر سيمضي إلى بلاد تدنسها الهرطقة لأفزعتها الفكرة وروعتها. لذلك نظم سفارة من خمسة وخمسين نبيلاً ومائتي تابع، يرأسها ليفور، لتزور "أوربا" وتبحث عن حلفاء ضد الترك. وكان من هؤلاء المبعوثين الخمسة والخمسين صف ضابط لا يدعي إلا باسم بطرس ميخايلوف، ويستعمل ختماً عليه صورة نجار سفن وهذه العبارة "رتبتي تلميذ، وأنا في حاجة إلى معلمين (17) " فلما خرج بطرس من روسيا، لم يدقق في الاحتفاظ بهذا التنكر، فقد استضافه ناخب براندنبورج فردريك الثالث، والملك ليم الثالث في إنجلترا، والإمبراطور ليوبولد الأول في فيينا، بوصفه قيصر روسيا. ولقد صدم أهل القصور، حتى وهو يسفر عن مقامه الملكي، بجلافة سلوكه وحديثه، وبقذارته وإهماله، وبعزوفه على استعمال السكين والشوكة (18). ولكنه شق طريقه.
ولقيت السفارة المصاعب-التي لم ينسها بطرس قط-في سفرها إلى ريجا مخترقة ليفونيا السويدية. ومن هناك أسرع إلى كونيجزبيرج، حيثوقّع من الناخب معاهدة تجارة وصداقة. وفي براندنبورج درس المدفعة والتحصين على يد مهندس حربي بروسي أعطاه شهادة بتقدمه. وفي كوبنبروجي أقنعته صوفيا، ناخبة هانوفر الأرملة، وابنتها صوفيا ارلوت، ناخبة براندنبورج، هو وبطانته بالعشاء والرقص معهما. وقد وصفته الناخبة الأرملة فيما بعد بهذه العبارات:
"إن القيصر رجل فارع الطول، دقيق الملامح، رائع السمت، له ذهن شديد الحيوية، وبديهة حاضرة .. .. وليت عاداته أقل جلافة
…
كان كرحاً جداً، كثير الحديث، وقد كونا صداقة حميمة فيما بيننا .... أخبرنا أنه يعمل في بناء السفن، وأرانا يديه، وجعلنا نلمس المواضع القاسية التي خلفها بهما العمل
…
إنه رجل شديد الغرابة
…
طيب القلب جداً، نبيل العاطفة إلى حد عجيب
…
ولم يشرب حتى يثمل في حضرتنا، ولكن ما إن بارحنا المكان حتى عوض أفراد بطانته عن قصده في الشراب
…
وهو حساس لمفاتن الجمال
…
ولكني لم أجد فيه ميلاً للتودد لنساء
…
وفي؟ أثناء الرقص حسب الموسكوفيون عظام الحوت المصنوعة منها مشدّاتنا عظامنا، وأبدى القيصر دهشته بقوله أن للنساء الألمانيات عظاماً قاسية إلى حد رهيب (19) ".
ومن كوبنبروجي، أبحرت السفارة هابطة الرين إلى هولندة. وترك بطرس ونفر من أخصائه أكثر الجماعة في امستردام، ومضوا إلى زاندام، وكانت يومها مركزاً كبيراً لبناء السفن (18 أغسطس 1697). فقد سمع الكثير، حتى في روسيا، عن مهارة بناء السفن في هذه المدينة الجميلة. وتعرف في شوارعها على صانع عرفه في موسكو، اسمه جيريت كيست. وطلب إليه بطرس أن يتستّر على تنكره، واقترح أن يسكن كوخ كيست الخشبي الصغير. وهناك مكث أسبوعاً يرتدي زي عامل هولندي، وينفق نهاره في مراقبة نجاري السفن وهم يشتغلون، ويجد في ليله متسعاً لمغازلة فتاة تخدم في حانة الحي. وفي سنوات لاحقة زار جوزف الثاني ونابليون هذا الكوخ كأنه مكان مقدس، وجمّله القيصر اسكندر الأول بلوحة رخامية، وكتب شاعر
هولندي على الحائط بيتاً مشهوراً: لا شيء يصغر في نظر الرجل العظيم (20) ".
فلما ضاق بطرس بالجموع التي تبعته في كل خطوة بزاندام، عاد إلى أمستردام وسفارته. وهنا أيضاً أصر على التنكر، ولكنه سمى نفسه الآن "النجار بطرس الزاندامي". وأقنع شركة الهند الشرقية الهولندية بأن تسمح له بالانخراط في سلك عملها بأحواض السفن في أوستنبورج وهناك اشتغل بهمة مع عشرة من أتباعه طوال شهور أربعة، وعاونوا في بناء سفينة وإنزالها إلى الماء. ولم يسمح بأي تفرقة بينه وبين العمال الآخرين، وحمل على كتفه الأخشاب كما حملها سائرهم. وكان في الليل يدرس الهندسة ونظرية بناء السفن، وتبين مذكراته مبلغ دقة هذه الدراسات. ووجد متسعاً من الوقت لزيارة المصانع، والوؤش، ومتاحف التشريح، والحدائق النباتية، والمسارح، والمستشفيات. وقابل الطبيب وعالم النبات العظيم بويرهافي، ودرس المكروسكوبيا على ليوفينهويك، واصطحب بطانته إلى مدرج تشريح بويرهافي. ودرس الهندسة الحربية على البارون فان كويهورن، والعمارة على شينفويت، والميكانيكا على فان درهيدن. وتعلم كيف يخلع الأسنان، ولقي بعض مساعديه عنتاً من جراء حماسته في علاج الأسنان. ودخل منازل الهولنديين ليدرس حياتهم الأسرية وتنظيم بيوتهم. واشترى في الأسواق، وخالط الناس، وتعجب من حرفهم المتنوعة، وتعلم أن يصلح ملابسه ويرقع حذاءه. واحتسى الجعة والنبيذ من الهولنديين في مشاربهم. وأغلب الظن أن التاريخ لم يشهد رجلاً أشوق منه إلى تشرب الحياة وتذوقها.
وفي هذا النشاط كله لم تغب روسيا عن نظره. فوجه برسائله أعمال حكومتها النائبة عنه. واستخدم وأرسل إلى روسيا عدة قباطنة بحريين، وخمسة وثلاثين ملازماً، واثنين وسبعين مرشداً، وخمسين طبيباً، وأربعة طباخين، و345 بحاراً. وبعث إلى روسيا على عجل 260 صندوقاً من البنادق، وقماش القلوع، والبوصلات، وعظم الحوت والفلين، والمراسي، والعدد، وحتى ثماني قطع من الرخام ليشتغل عليها النحاتون الروس (21). ولكن اهتمامه كان يفتر إذا اتصل الأمر بتهذيب العادات، أو لطائف المجتمع، أو دقائق الفكر، ولم يكن لديه
متسع من الوقت للميتافيزيقا أو المراقص أو الصالونات، وعلى أية حال لا ضير في أن ترجأ هذه الأشياء غير الملموسة. أما الآن فمهمته أن يدخل صنائع الغرب وعلومه العملية إلى روسيا "حتى إذا تمكنا منها تمكناً كاملاً استطعنا عند عودتنا إلى الوطن أن ننتصر على أعداء يسوع المسيح (22) " وهو يقصد الاستيلاء على الآستانة وإطلاق روسيا من سجنها لتعبر البوسفور إلى العالم.
وبعد أن قضي في هولندة أربعة شهور طلب إلى وليم الثالث الأذن له بزيارة إنجلترا، شبه متنكر أيضاً. وبعث وليم باليخت الملكي ليأتي به، ووصل بطرس إلى لندن في يناير 1698. ومع أن الوقت كان شتاء فإنه زار أرصفة الموانئ والمؤسسات البحرية، والجمعية الملكية، ودار ضرب النقود، ولعله التقى بنيوتن هناك. وقلب ايفلين بيته وهيأ أرضه بعناية في دبتفورد لبطرس وجماعته، وقد منحت الحكومة الإنجليزية السر جون بعد ذلك 350 جنيهاً ليصلح التلف الذي أحدثته الروس. وأدهش القيصر جيرانه بالذهاب إلى فراشه مبكراً، والاستيقاظ في الرابعة، والسير إلى أحواض السفن يحمل على كتفه بلطة وفي فمه "بيبة". واتخذ ممثلة كبيرة خليلة له، وقد شكت من ضآلة المال الذي نقدها إياه. وتسلم درجة الدكتوراه في القانون في أكسفورد، وحضر الخدمات البروتستنتية في لياقة توقع معها القساوسة الإنجليز أنه سيحول روسيا إلى حركة الإصلاح البروتستانتي. وحاول الأسقف بيرنت التأثير عليه، فوجده محباً للاستطلاع ولكنه لا يلتزم بموقف متميز، وخلص إلى أن القيصر "هيأته الطبيعة فيما يبدو لأنه يكون نجار سفن أكثر منه ملكاً عظيماً (23) ".
وأبحر بطرس عائداً إلى أمستردام بعد أن أنفق أربعة أشهر في إنجلترا، وانضم إلى بعثته، وواصل معهم رحلته إلى فيينا مروراً بليبزج ودرسدن (26 يونيو 1698). وعبثاً حاول، طوال شهر نفد خلاله صبره، أن يضم الإمبراطور إليه في حلف ضد تركيا. وقد تلطف مع اليسوعيين الذين بدأوا يحملون بروسيا الكاثوليكية الرومانية. وبينما هو على وشك مغادرة فيينا، وصلته رسالة تنبئه بأن حامية موسكو تمردت، وأنها تهدد بالاستيلاء على موسكو وعلى مقاليد الحكم. فخف
من فوره إلى روسيا، ولكن قرب كراكو وصله تأكيد بأن الثورة أخمدت. ولبث أربعة أيام في رافا مع أوغسطس الثاني ملك بولندة. وأدهشه وأبهجه أن يجد ملكاً يستطيع أن يباريه في قوة البدن، وصيد الوحوش، والإسراف في الشراب. وقد أحب أحدهما الآخر، وتعانقا، وتناقشا في أي البلدين يجب أن يكون أول ضحية لصداقتهما، السويد أم تركيا. وفي 4 سبتمبر وصل بطرس إلى موسكو بعد ثمانية عشر شهراً من رحلة عينت في رأي ماكولي "حقبة في التاريخ-لا تاريخ بلده فحسب
…
بل تاريخ العالم (24) ". لقد اكتشفت روسيا أوربا، واكتشفت أوربا روسيا. وبدأ ليبنتز يدرس الروسية.
على أن بطرس كان لا يزال له طبع مسكوفيي القرن السابع عشر. إنه لم يغتفر قط لحامية موسكو اشتراكهم في قتل أخواله وماتفيف، وفي تمكين صوفيا من اغتصاب السلطة. ولم يكن في خططه لتنظيم جيش جديد مكان لهذا "الحرس الإمبراطوري" المثير للمتاعب. فلما نمى إليه أن صوفيا فاوضتهم من ديرها ليعيدوها إلى الحكم، وأنهم هددوا ليفور وغيرهم من أهل "المستوطنة الألمانية"، وأنهم أذاعوا الشائعات بأنه يخون ديانة روسيا في ولعه بالغرب، استحال غضبه تشنجاً يطلب الانتقام. فأمر بتعذيب نفر كبير من الحامية ليحملهم على الاعتراف بدور صوفيا في تمردهم، ولكنهم تجلدوا لأروع ضروب العذاب دون أن يحملوها أي تبعة، ومر بتعذيب أتباعها بنفس الهدف والنتيجة. وأكرهت صوفيا على أن تقطع على نفسها نذر الرهبنة، وأحكم حبسها في ديرها، حيث ماتت بعد ست سنوات. ثم أعدها ألفاً من رجال الحامية قتل بطرس منهم خمسة بيده، وأكره مساعديه على أن يقتدوا به، ولكن ليفور أبى. وما وافى عام 1705 حتى كانت حامية موسكو (السترلتسي) قد اختفت من التاريخ.
وشرع بطرس من فوره في بناء يش جديد. وكان الجيش القديم قوامه رجال الحامية، والمرتزقة الأجانب، والمجندون من الفلاحين يجمعهم الأشراف. فاستبدل بطرس هذا الخليط جيشاً دائماً عدته 210. 000 مقاتل بتجنيده رجلاً من كل عشرين أسرة من أسر الفلاحين. وألبس هؤلاء الجنود سترات عسكرية "أوربية" ودربوا على تكتيك الغرب. أما مدة الخدمة لجميع الرتب فهي مدى الحياة. وفضلاً عن
هذا دعا بطرس 100. 000 قوزاقي للخدمة. وبنيت السفن على عجل على البحيرات، والأنهار، والبحار، فما وافى عام 1705 حتى كان للبحيرة الروسية ثمان وأربعون بارجة، وثمانمائة سفينة أصغر منها، و28. 000 بحار.
كان هذا كله لا يزال في طريق التنفيذ، ناقصاً لم يكتمل بعد، حين جاء باتكول إلى موسكو واقترح أن ينضم بطرس غلى فردريك الرابع ملك الدنمرك وأوغسطس الثاني ملك بولندة ليطردوا السويد من أرض القارة وينتزعوا منها الهيمنة على البلطيق. ورأى بطرس أن كل هذه السفن التي يجري بناؤها تتوق لأن تمخر عباب البحر، وهي تؤثر البحر المتوسط الدافئ-ولكن الإمبراطورية العثمانية كانت لا تزال قوية إلى حد يفت في العضد. وكانت الآستانة عصية على الهجوم، والنمسا وفرنسا الآن صديقتين للأتراك. فعلى روسيا إذن أن تتطلع إلى الباب الآخر، وأن تلتمس لها منفذاً في الشمال. وكان من سوء التوقيت أن يحضر المبعوثون السويديون إلى موسكو قبيل ذلك ويحصلوا على موافقة بطرس على تجديد معاهدة كاردس التي تعاهدت فيها روسيا والسويد على السلام. ولكن الجغرافيا والتجارة تهزءان بالمعاهدات. ثم ألم يكن ساحل البلطيق بين نهري نيفا ونارفا-ولايتا اينجريا وكاريليا-من قبل ملكاً لروسيا، ولم يسلم للسويد في 1616 إلا لأن روسيا كانت في فترة شدتها تلك عاجزة عن المقاومة؟ فلم لا تسترد القوة ما أخذ بالقوة؟ وعلى ذلك، ففي 22 نوفمبر 1699 انضم بطرس إلى الحلف ضد السويد، واتخذ أهبته لشق طريقه إلى البلطيق. وفي 8 أغسطس 1700 أمن جبهته الجنوبية على قدر ما تستطيع معاهدة تأمينها، وذلك بإبرامه صلحاً مع تركيا. في ذلك اليوم بعينه أمر جيشه بالزحف على ليفونيا السويدية.
5 - شارل الثاني عشر والحرب الكبرى
1700 -
1721
ونمى إلى استوكهولم نبأ غامض عن اتفاق الحلف. فالتام المجلس الملكي ليناقش إجراءات الدفاع. وكان الرأي الغالب وجوب فتح باب المفاوضات مع أحد الحلفاء لعقد صلح منفرد معه. واستمع شارل
ملياً وهو صامت، ثم انتفض قائماً وقال: "أيها السادة، لقد عقدت النية على ألا أخوض حرباً ظالمة ما حييت ولكني
…
لن أنهي حرباً عادلة إلا بالقضاء المبرم على أعدائي (25) ". ثم طلق كل لهو وترف واتصال بالنساء ومعاقرة للخمر. وكان جيشه وبحريته مستعدين، فغادر معهما استوكهولم في 24 أبريل 1700 ليبدأ واحدة من أروع السير الحربية في التاريخ. ولم يشهد عاصمة ملكه بعدها قط.
وبدأ بمهاجمة الدنمرك، فقد كان عليه أن يحمي ولايات السويد الجنوبية من هجمات الدنمرك وهو يواجه بولندة وروسيا. ثم قاد سفنه عبر مضيق الساوند-المفترض أنه لا يصلح للملاحة-بما عهد فيه من جرأة وسرعة، رغم اعتراض أميرال بحريته، ورسا على سييلاند، التي لا تبعد عن كوبنهاجن سوى أميال (4 أغسطس 1700). وسارع فردريك الرابع ملك الدنمرك غلى إبرام صلح ترافندال معه (18 أغسطس) خشية أن تسقط عاصمته، ودفع تعويضاً قدره 200. 000 ريال دنمركي، وأقسم أنه لن يهاجم السويد أبداً.
وفي مايو 1700 حاول أغسطس الثاني الاستيلاء على ريجا. ولكن هزمه الكونت ايريك دالبيرج، القائد السويدي البالغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، والذي اكتسب لقب "فوبان السويد" لمهارته في فن التحصين. وتقهقر أوغسطس وناشد بطرس أن يخفف عنه بغزوه اينجريا. واستجاب بطرس بأن أمر أربعين ألف مقاتل بحصار نارفا. وأراد شارل الثاني عشر أن يساعد دالبيرج، فنقل جيشه بالبحر إلى برناو (بارنو)، على خليج ريجا، ولكنه حين وجد ذلك المقاتل منتصراً، اتجه شمالاً. واخترق المناقع والممرات الخطرة ثم ظهر فجأة في مؤخرة جيش بطرس. وأخذ القيصر على غرة، فبدا منه ما بدا جبناً معيباً، إذ ترك الجيش (الذي كان يخدم فيه ملازماً فقط)، وفرّ غلى نوفجورود وموسكو. وأغلب الظن أنه عرف عن مجنديه الغشم سينهارون في أول امتحان لهم، ولم يكن في وسعه أن يترك العدو يأسره، لأنه رأى نفسه أعظم قيمة لروسيا حياً منه ميتاً. أما الجيش الروسي، الذي بلغ أربعين ألفاً، والذي كان يقوده الأمير المجري كارل يوجين ديكروا قيادة عاجزة، فقد هزمه جنود شارل الثمانية الآلاف في موقعة نارفا (20 نوفمبر 1700)، وكانت أول نكسة في حياة بطرس بعد صباه.
وألح القواد السويديون على شارل في أن يزحف على موسكو ويجهز على بطرس. ولكن جيش شارل كان صغيراً، والشتاء حل، وكل شجاعة، حتى شجاعة هذا النابليون الشاب، لا بد أن تتردد أمام مسافات روسيا المترامية فضلاً عن مشكلة إطعام الجيش في أرض معادية. ثم (ما دامت العهود والمواثيق حبراً على ورق) هل يستطيع أن يركن إلى ملك الدنمرك، أو ملك بولندة، في ألا يغزو أحدهما السويد وجيشها الرئيسي وقائدها نائيان عن أرض الوطن؟ وبعد أن أعاد شارل تنظيم حكومة ليفونيا ودفاعها، سار جنوباً إلى بولندة، واحتل وارسو دون عناء (1720) على نحو ما فعل جده قبل سبعة وأربعين عاماً، وخلع أوغسطس، ونصب ستانيسلاس لزكزنسكي ملكاً على بولندة (1704). لقد هزم الآن كل حليف من الحلفاء، ولكن الدب الروسي لم يكد يبدأ النزال.
ذلك أن بطرس لم يفق من رعبه فحسب، بل نظم جيشاً آخر وجهزه. ولكي يزوده بالمدافع أمر بأن تصهر أجراس الكنائس والأديار، وصنع ثلاثمائة مدفع، وأنشئت مدرسة لتدريب رجال المدفعية. وسرعان ما أخذت القوات المجندة الجديدة في إحراز الانتصارات، وتقدمت كتيبة مدفعية بطرس غيرها في الاستيلاء على نينسكانس، عند مصب نيفا (1703)، وهناك شرع القيصر لتوه في بناء "بطرسبرج" دون أن يدرك إلى ذلك الحين أنها ستكون عاصمة ملكه، ولكنه صمم على أن تكون أحد منافذه إلى البحر. وبينما كان شارل مشغولاً في بولندة، ظهر بطرس ثانية أمام نارفا، وكان شارل قد ترك فيها حامية ضئيلة، واقتحم الروس القلعة الكبيرة (20 أغسطس 1704)، وثأر المنتصرون لأنفسهم من فشلهم السابق بمذبحة رهيبة، وضع لها بطرس حداً في النهاية بأن قتل بيديه اثني عشر من الروس المتعطشين للدماء.
وفي بولندة بدا أن انتصار شارل كامل. فقد وقع أوغسطس المخلوع معاهدة اعترف فيها بلزكزنسكي رلكاً، وتخلى عن أحلافه ضد السويد، وأسلم لشارل الرجل الذي نظم الحلف أولاً، فحطم جسد يوهان فون باتكول على دولاب التعذيب ثم قطع رأسه (1707). ووجد بطرس نفسه وحيداً أمام هذا الإرهاب السويدي الشاب. فحاول
أن يرشو الوزارة الإنجليزية لترتب له صلحاً، ولكنها رفضت أن تتدخل. ومضي عامل بر رأساً إلى ملبره، فوافق على الوساطة لقاء إمبرة في روسيا (26)، وعرض عليه بطرس كييف أو فلاديمير أو سيبيريا، وضماناً من خمسين ألف طالير في العام، و "ياقوتة ماسية لا يملك نظيرها أي ملك أوربي"(27)، ولكن هذه المفاوضات أخفقت. وتعاطف الساسة الغربيون مع شارل، واحتقروا أوغسطس، وخافوا من بطرس، وكانت حجة بعضهم أنه لو سمح لروسيا بالتوسع غرباً، فإن أوربا كلها سترتعد بعد قليل أمام فيضان سلافي (28).
وفي أول يناير 1708 عبر شارل الفستولا فوق جليد غير مأمون على رأس 44. 000 مقاتل نصفهم من الفرسان. فوصل إلى جرودنو في اليوم السادس والعشرين بعد أن رحل عنها بطرس بساعتين فقط. ذلك أن رأي القيصر استقر على الدفاع بالعمق والتخريب. فأمر جيوشه بأن تتقهقر، وتستدرج شارل ليوغل داخل الفرشة الروسية أبعد فأبعد، وتحرق كل المحاصيل أثناء مسيرتها، وأمر الفلاحين بأن يخفوا قمحهم داخل الأرض أو تحت الثلوج، ويشتتوا ماشيتهم في الغابات والمستنقعات. وعهد إلى الزعيم القوزاقي ايفان مازيبا بمهمة الدفاع عن "روسيا الصغيرة" وأوكرانيا. وكان مازيبا قد نشيء وصيفاً في البلاط البولندي. وبأمر من نبيل بولندي أغوى ايفان زوجته رباط عرياناً على حصان أوكراني وحشي، وأرهب الحصان عمداً بضربات سوط وإطلاق مسدس عند أذنه (كما سيري بيرون)، واندفع الحصان خلال الإخراج والغابات إلى مسارحه الأولى، ولكن مازيبا ظل على قيد الحياة وإن تمزق لحمه وسال دمه، وارتقى حين أصبح زعيماً لقوزاق زابوروج. وتظاهر بالولاء لبطرس، ولكنه كره أوتقراطية القيصر، وترقب الفرصة للثورة. فلما سمع بأن بطرس يتقهقر وشارل يتقدم، قرر أن فرصته قد حانت. فأرسل إلى شارل يعرض عليه التعاون معه.
ولعل هذا العرض هو الذي حدا بشارل إلى المضي في زحفه المتهور داخل روسيا. وبدأت سياسة "الأرض المحرقة" تؤتي ثمارها، فلم يجد السويديون غير برية متفحمة في طريقهم وأخذوا يتضورون جوعاً. وكان شارل قد اعتمد على تعزيزات انتظر وصولها من ريجا،
وقد حاولت أن تصله ولكن الروس دمروها نصف تدمير في طريقها. وعلل شارل نفسه بأن مازيبا سينضم إليه بالإمداد وقوة قوزاق الدنيبر كاملة، ولكن بطرس، الذي توجس من خيانة مازيبا، جرد جيشاً بقيادة الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ليقبض عليه، وفوجئ الزعيم قبل أن يستطيع إيقاظ فرسانه، ففر غلى شارل عند هوركي جالباً معه ألفاً وثلاثمائة رجل فقط. وزحف شارل جنوباً ليستولي على عاصمة مازيبا، واسمها باتورين، ويأخذ مؤنها، ولكن منشيكوف سبقه إليها، وأحرق المدينة وسواها بالتراب، وعين زعيماً موالياً لروسيا. واستعمل بطرس كل سلاح، فثنى القوزاق عن الانضمام إلى السويديين بمنشورات وصفت الغزاة بأنهم مهرطقون "ينكرون عقائد الدين الصحيح ويبصقون على صورة العذراء المقدسة"(29). ولم يبق شارل من الأمل إلا في أن يخف التتار والترك لنجدته انتقاماً لاستيلاء بطرس على آزوف.
ولكن أحداً لم يأت، وكان شتاء 1708 - 9 عدواً رهيباً للسويديين. كان شتاء قارساً جداً في كل أرجاء أوربا، فتجمد البلطيق غلى عمق سمح لعربات النقل الثقيلة أن تعبر الساوند على الجليد، وفي ألمانيا ماتت أشجار الفاكهة، وغطى الجليد الرون في فرنسا، والقنوات في البندقية. وفي أوكرانيا كست الثلوج الأرض، من أول أكتوبر إلى 5 أبريل، وسقطت الطيور نافقة أثناء طيرانها، وتجمد اللعاب في طريقه من الفم إلى الأرض، وتجمد النبيذ المسكرات فأصبحت كتلاً صلبة، واستحال إشعال الحطب في العراء، وكانت الريح ماضية كالمدى في هبوبها على السهول المنبسطة وعلى وجوه الناس. واحتمل جنود شارل في تجلد صامت بينما لقى ألفان منهم حتفهم جوعاً أو برداً. قال شاهد عيان "كنت تر بعضهم بغير أيد، وبعضهم بغير أرجل، وبعضهم بغير آذان أو أنوف، وكثيرين يزحفون في سيرهم على نحو ما تفعل ذوات الأربع (30) " وأمرهم شارل بالسير قدماً، أملاً في أنهم لن يلبثوا أن يباغتوا جيش بطرس الرئيسي في مكان ما ويظفر بروسيا كلها في نصر ساحق واحد. وكان أينما التقى بالعدو، في هولوفكزين، وسركوفا، وأوبرسيا، ينتصر بفضل التفوق في القيادة والشجاعة، على قوات كثيراً ما بلغت عشرة أضعاف
قواته. ولكنه حين انتهى ذلك الشتاء، كان جيشه قد تقلص من 44. 000 إلى 24. 000 مقاتل.
وفي 11 مايو وصل إلى بلطاوه الواقعة على فرع من فروع الدنيبر على خمسة وثمانين ميلاً جنوب غربي خركوف. هنالك لمح شارل أخيراً جيش بطرس، وكانت عدته ثمانين ألف مقاتل. وبينما كان في إحدى جولاته الاستطلاعية أصابته رصاصة في قدمه. فلم يعبأ بالجرح. وانتزع الرصاصة في هدوء بسكينه، ولكنه حين عاد إلى معسكره أغمي عليه، فلما عجز عن قيادة جيشه بشخصه، وكل بها الجنورال كارل رينسكيول، وأمره بأن يهاجم العدو في الغد (26 يونيو). وفي بداية المعركة اكتسح السويديون كل شيء أمامهم، وهم الذين لم يخسروا قط معركة تحت إمرة شارل. ورغبة في استنفار جنوده أمر شارل أن يحمل إلى ساحة القتال على محفة، ولكن نيران العدو حطمتها من تحته. وركب بطرس إلى المقدمة رغم أنه ما زال رسمياً مجرد ملازم في الجيش، مستنهضاً همم جنده، ولكن رصاصة مرقت خلال قبعته، وثانية صدها صليب ذهبي على صدره. وأسعفته الآن سنواته التي أعد فيها المدفعية ودربها، فكانت مدافعه تطلق خمس مرات مقابل مرة يطلقها السويديون. فلما نضبت ذخيرة السويديين فتكت المدفعية الروسية بالمشاة السويديين على بكرة أبيهم، واستسلم الفرسان السويديون حين رأوا الموقف ميئوساً منه. أما شارل فقد امتطى جواداً وفر مع مازيبا وألف مقاتل عبر الدنيبر إلى أرض تركية. وفقد السويديون أربعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، والروس 4. 435 ولكنهم أسروا 18. 670 فيهم قائدان وضباط كثيرون. وعامل بطرس الضباط معاملة كريمة، ولكنه استخدم الأسرى في التحصينات والأشغال العامة. وأشاد ليبتنر بإنسانيته واستنتج من ضخامة الكتائب الروسية أن الله يقف في صف الروس (31). ووافقه بطرس، وكتب يقول:"الآن بعون الله أرسيت أساسات بطرسبرج وأمنتها إلى الأبد (32) ".
وكان للمعركة نتائج بعيدة المدى لا حصر لها. فقد فر لزكزنسكي إلى الألزاس، واعتلى أوغسطس الثاني عرش بولندة من جديد. واستولت روسيا على إمارات البلطيق وكل أوكرانيا. وعادت الدنمرك
إلى لحلف ضد السويد، وغزت سكاني، ولكنها ردت على أعقابها. واستولى فردريك وليم ملك بروسيا على ستتين وهولشتين وجزء من بومرانيا. وارتفع شأن روسيا وازدادت عزة وكبرياء. وعرض لويس الرابع عشر التحالف مع بطرس، فرفضه هذا، ولكنه رضي أن يستقبل مبعوثا للويس.
أما شارل فإنه لم يعترف بأنه هزم هزيمة ساحقة. وأغدق الأتراك الشاكرون صنيع أي إنسان يثير القلاقل لروسيا على لاجئهم الملكي كل أسباب التكريم، باستثناء الامتيازات الملكية. في بندر (وهي اليوم تيغينا) القريبة من الدنيستر، احتفظ ببلاطه، وتلقى من السلطان أحمد الثالوث المئونة له ولآلاف وثمانمائة سويدي بقوا في خدمته. وحالما التأم جرح قدمه استأنف التمرينات العسكرية ودرب جيشه الصغير. وشاع عنه أنه اعتنق الإسلام لزهده في الخمر واختلافه غلى الصلاة العامة بانتظام. ولم يدخر وسيلة ليقنع السلطان أو الصدر الأعظم بشن الحرب على روسيا، وبهذا الأمل رفض أن تعيده إلى السويد سفن فرنسية وضعت تحت تصرفه. وبذلت محاولة لتسميمه، ولكنها كشفت في أوانها. وطالب بطرس بأن يسلم إليه مازيبا باعتباره مواطناً روسياً خائناً، ولكن شارل أبى أن يسمح بهذا، وقطع مازيبا العقدة بأن مات (1710).
إن كل انتصار يولد أعداء جدداً أو يلهب الأعداء القدامى. وقد استطاع شارل أن يقنع السلطان بأن قوة روسيا المتزايدة، التي لا يكبحها الآن كابح في الشمال، ستتحدى هيمنة الترك على البحر الأسود والبوسفور أن عاجلاً أو آجلاً. فأعلن السلطان الحرب على روسيا، وجرد عليها 200. 000 مقاتل بقيادة الصدر الأعظم، وأخذ بطرس على غرة، فلم يستطع أن يحشد أكثر من 38. 000 مقاتل في الجنوب ليصد هذا السيل الجارف. وخذله حلفاؤه البلغار والصرب. فلما التقى الجيشان على نهر بروت (وهو اليوم حد رومانياً الشرقي) اضطر بطرس لمنازلة الترك، لأن الإقليم المحيط به كان قد دمر. ولم يكن لديه غير مئونة يومين. وتوقع الهزيمة والموت، فأرسل تعليماته إلى موسكو لانتخاب قيصر جديد إذا تحققت مخاوفه، ثم اعتكف في خيمته ومنع أي إنسان من الدخول عليه. ولكن زوجته الثانية كاترين
اتفقت مع قواده على أن الاستسلام خير من الانتحار الجماعي وواجهت غضب بطرس إذ حملت إليه خطاباً طلبت إليه التوقيع عليه، يطلب فيه إلى الصدر الأعظم شروط الصلح. ووقع بطرس يائساً. وجمعت كاترين كل مجوهراتها، واقترضت مالاً من الضباط، وبعثت بطرس شافيروف نائب المستشار، مسلحاً بـ 230. 000 روبل، ليفاوض الوزير في شروط الصلح. وأخذ الوزير الروبلات والمجوهرات، وسمح لبطرس بأن يسحب جيشه وعتاده دون عائق، شريطة أن يسلم آزوف، ويجرد القلاع والسفن الروسية هناك من سلاحها ويسمح لشارل بالعودة إلى السويد في أمان، وألا يتدخل بعدها في شئون بولندة. ولم يتردد بطرس في بذل هذه الوعود (أول أغسطس 1711) وانصرف بجنوده. وأقبل شارل مستعداً لخوض المعركة، ولكنه استشاط غضباً حين وجد الصلح أمامه. فحمل السلطان على طرد الوزير المسالم وواصل جهوده لاستئناف الحرب، ولكن شافيروف، الذي حمل معه 84. 900 دوكاتية، أقنع الوزير الجديد بتثبيت معاهدة بروت.
وأعيت السلطان هذا العقد، فطلب إلى شارل أن يرحل عن تركيا، ولكنه أبى. فأرسل السلطان قوة تركية عدتها اثنا عشر ألف رجل لإجلائه، واستطاع شارل بأربعين رجلاً أن يصمد لهم ثماني ساعات، قتل خلالها عشرة أتراك بشخصه، وأخيراً قهره اثنا عشر أنكشارياً (أول فبراير 1713). فنقل إلى ديموتيكا قرب أدرنه، ولكن سمح له بأن يمكث فيها عشرين شهراً بينما كان وزير جديد يفكر في مقاتلة روسيا. فلما تضاءل هذا الأمل وافق شارل على العودة للسويد. فزود بالحرس العسكريين والهاديا والأموال. وغادر ديموتيكا (20 سبتمبر 1714)، واخترق الأفلاق وترانسلفانيا والنمسا، وفي منتصف ليلة 11 نوفمبر وصل إلى بومرانيا وثغرها وحصنها ستر السوند، على ساحل البلطيق جنوب السويد مباشرة. وكانت هي وفيسمار إلى الغرب آخر القلاع السويدية على أرض القارة.
وكان إصرار شارل قبيل ذلك على حكم السويد من تركيا، ورفضه بذل أي تنازلات لبطرس، قد جرا الخراب على الإمبراطورية
السويدية. ففي أول أغسطس 1714 كان جورج ناخب هانوفر قد أصبح جورج الأول ملك إنجلترا. فلما عقد العزم على استخدام قوته الجديدة في ضم بريمين وفيريدن إلى هانوفر، جمع بين بريطانيا وبين الدنمرك وبروسيا في حلف جديد ضد السويد، وعزز الأسطول الإنجليزي الأسطول الدنمركي في المضايق. ووجد شارل نفسه حبيساً في سترالسوند، في حرب مع إنجلترا، وهانوفر، والدنمرك، وسكسونيا وبروسيا، وروسيا. وظل يقاوم الحصار هناك اثني عشر شهراً بستة وثلاثين ألف مقاتل، يقود حاميته المرة بعد المرة في هجمات بطولية عقيمة. فلما حطمت مدافع المحاصرين المدينة وأسوارها، ولم يكن مفر من التسليم، قفز شارل في سفينة صغيرة، وأبحر بها وسط نيران العدو، وبلغ كارلسكرونا على ساحل السويد (12 ديسمبر 1715).
وانتظرت استوكهولم وصول بطلبها اليائس، ولكنه أبى أن يعود إليها إلا قائداً ظافراً. فأمر بتجنيد قوات جديدة حتى من الغلمان الذين لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة، وصادر جميع السلع الحديدية ليبني بها أسطولاً جديداً، وفرض الضرائب على كل شيء تقريباً يستعمله شعبه حتى شعورهم المستعارة. فأذعنوا صامتين، ظناً منهم بأنه ربما قد جن، ولكنه مع ذلك عظيم. وجاهد البارون جيورج فون جورتز، كبير وزرائه الآن، ليحطم الحلف. ولاحظ أن جورج الأول مختلف مع بطرس على تقسيم الأسلاب، فحاول أن يعقد صلحاً بين السويد وروسيا، ويعين ثورة أسرة ستيوارت في إنجلترا، ولكن خططه باءت بالفشل. وما وافى خريف 1717 حتى كان شارل قد حشد جيشاً من عشرين ألف مقاتل. في تلك السنة، ثم في 1718، غزا النرويج، أملاً في أن يكسب أرضاً تعوضه ما فقد على أرض القارة. وفي ديسمبر حاصر قلعة فريدريكستين. وفي اليوم الثاني عشر رفع رأسه لحظة فوق متراس الخندق الأمامي وإذا رصاصة نرويجية تصيبه في صدغه الأيمن فترديه قتيلاً لفوره. وكان يومها في السادسة والثلاثين.
لقد مات كما عاش، مشدوداً ببسالته. كان قائداً مغواراً، كسب انتصارات لا تصدق في ظروف معاكسة جداً ولكنه عشق الحرب عشق
المخمور بها، ولم يشبع من الانتصارات، وفي سبيل البحث عن انتصارات جديدة راح يدبر الحملات إلى حد أشرف على الجنون. وقد أفسدت الكبرياء كرمه وسماحته، كان يعطي كثيراً، ويطلب أكثر، ولقد عاق السلام غير مرة برفضه تنازلات ربما أنقذت إمبراطوريته وماء وجهه. ولكن التاريخ يغتفر له أخطاءه، لأنه لم يكن البادئ بـ "الحرب الشمالية العظمى"، هذه الحرب التي أبى أن يختمها إلا بالانتصار.
أما الحكومة السويدية، التي ندر أن جنحت إلى التطرف، فقد سارعت بمفاوضات الصلح. وبمقتضى معاهدتي استوكهولم (20 نوفمبر 1719 و 1 فبراير 1720) نزلت عن بريمين وفيردين لهانوفر، وعن ستيتين لبروسيا، ورفضت أول الأمر مطالب بطرس بجميع الأراضي السويدية في البلطيق الشرقي، فغزت الجيوش الروسية ثلاث مرات هذه الدولة التي استنزفت الحروب دماءها، وخربت أراضيها الساحلية ومدنها. وأخيراً. وبمقتضى معاهدة نيستاد (30 أغسطس 1721) حصلت روسيا على ليفونيا، واستونيا، واينجريا، وجزء من فنلنده. وهكذا ترك الصراع على البلطيق روسيا ظافرة، وجعل منها دولة عظمى".
أما القيصر المكدود، المكتهل، الظافر رغم ذلك، والذي وصل إلى بطرسبرج ومعه نبأ السلام، وهتاف السلام، السلام "مير! مير! " فقد حياه شعبه أباً لوطنه، وإمبراطور لأقاليم روسيا كلها، ولقبه ببطرس الأكبر.
الفصل الثالث عشر
بطرس الأكبر
1689 - 1725
1 -
الهمجي
أراد فولتير "ما الخطوات التي انتقل بها الناس من الهمجية إلى المدنية (1) " فلا عجب إذن إن أثار بطرس اهتمامه، لأنه كان يجسد على الأقل ذلك الجهد، إن لم يكن تلك العملية، في بدنه وروحه وشعبه. أو استمع إلى ملك "أكبر" آخر، هو فردريك الثاني ملك بروسيا، يكتب إلى فولتير عن بطرس في شيء من الخلط:
"لقد كان الملك الوحيد المتعلم حقاً. وإن لم يكن مشرع وطنه فحسب، بل كان يفهم جميع العلوم البحرية فهماً تاماً. وكان معمارياً، ومشرحاً، وجراحاً
…
وجندياً خبيراً، واقتصادياً بارعاً .. .. ولم يعوزه إلا تعليم أقل همجية وضراوة (2) ليكون المثل لجميع الملوك".
ولقد لاحظنا ذلك التعليم الهمجي الضاري، وما اكتنف طفولة بطرس من عنف وسفك للدماء، مما هز جهازه العصبي وعوده الشراسة. وكان حتى في شبابه يعاني من تقلص عصبي لا إرادي في عضلاته ربما استفحل بعد ذلك بالإفراط في الخمر وبالمرض السري (3). كتب بيرنيت بعد أن زاره بإنجلترة في 1698 (4) يقول:"إنه عرضة لتشنجات تصيب بدنه كله". وقال روسي من أهل القرن الثامن عشر "من المشهور أن هذا الملك
…
كان عرضة لنوبات مخية قصيرة متكررة من نوع عنيف بعض الشيء. وكان ضرب من التشنج يعتريه، يحدث به في فترة قد تمتد ساعات حالة من الاكتئاب تجعله لا يطيق النظر إلى إنسان ولو كان أقرب إلى أصحابه. وكان يسبق هذه النوبة دائماً التواء شديد في العنق نحو الجانب الأيسر، وتقلص عنيف في عضلات
الوجه (5) ". ومع ذلك كان متين البناء قوي البدن. وروي أنه حين التقى بأوغسطس الثاني تباريا في ثني الأطباق الفضية في أيديهما. وقد صوره نيلر عام 1698 شاباً يتقلد السلاح وشعارات الملك، غاية في اللطف والبراءة، بعد ذلك نجده مصوراً تصويراً أكثر واقعية، فهو عملاق محدودب، طوله ستة أقدام وثماني بوصات ونصف، ذو وجه تام الاستدارة، وعينين واسعتين وأنف كبير، وشعر بني يتساقط في خصل لا تقص إلا نادراً. ولا تكاد نظرته الآمرة الناهية تنسجم وثوبه المهمل المهوش، وجواربه الخشنة المرفوة، وحذاءه المرقع ترقيعاً بدائياً. ومع أنه نظم أمة بأسرها إلا أنه كان يترك محيطة المباشر في فوضى أينما ذهب. ذلك أن الجهود الكبيرة استغرقته استغراقاً ضن معه على التوافه بأي وقت.
وأما عادته فكانت كلباسه لا تعمل فيها ولا تأنق حتى لتحسبه فلاحاً لا ملكاً-لولا أنه كان خلواً من صبر الفلاحين الروس المتلبد. بل لقد كانت عاداته أحياناً أسوأ من عادات الفلاحين لأنه لم يكبحه خوف من سيد أو خشية من قانون. مرة رأى تمثالاً لآلة الذكر في مجموعة عاديات ببرلين، فأمر زوجته أن تقبله، فلما رفضت كاترين هددها بضرب عنقها، ولكنها أصرت على الرفض، ولم يهدئ من ثائرته إلا تقديم التحفة هدية له ليزين بها حجرته الخاصة (6). وكان في أحاديثه ورسائله يبيح لنفسه استعمال أنكر الألفاظ وأفحشها. وكثيراً ما كان يعنف أخص أصدقائه بضربات من قبضته الهائلة، ومرة ضرب منشيكوف على أنفه فأسال دمه، ومرة ركل ليفور. وكان ولعه بـ "المقالب" يتخذ أحياناً صوراً قاسية، من ذلك أنه ألزم أحد مساعديه بأن يأكل السلاحف، وآخر بأن يشرب قارورة كاملة من الخل، وفتيات صغيرات بأن يبتلعن حصة جندي من البراندي. وكان يجد لذة شاذة في تطبيب الإنسان، وكان على المقربين منه أن يحذروا من أن تبدر منهم أقل شكوى من ألم في أسنانهم، فكلابته دائماً في متناوله. ولما شكا إليه تابعه من أن زوجته تحتج بألم مزعوم في ضرسها لتحرمه من متع الزواج، أرسل في طلبها، وخلع لها ضرساً سليماً، وقال لها أن تنتظر المزيد إذا ظلت عزباء (7).
ولقد جاوزت قسوته الفاجرة النقطة التي يمكن أن يعتذر عنها
بأنها طبيعية أو ضرورية في زمانه أو مكانه. حقاً لقد ألف الروس القسوة، ولعلهم كانوا أقل حساسية للألم من ذوي الأعصاب الأكثر رهافة، وربما كانوا في حاجة إلى تأديب صارم، بيد أن قيام بطرس شخصياً تقريباً بذبح حامية موسكو يوحي بلذة سادية بالقسوة، وشبق للدماء، وما كان هناك ضرورة من ضرورات الدولة تقتضي تقطيع اثنين من المتآمرين شرائح حتى يموتا (8). لقد كان في بطرس مناعة ضد الرحمة أو الحنان، وأعوزه ذلك الإحساس بالعدالة الذي كبح نزوات لويس الرابع عشر أو فردريك الأكبر. أما انتهاكاته لوعوده القاطعة فكانت تنسجم تماماً وسنة العصر.
وكان يرى ككل فلاح روسي أن السكر استعفاء معقول من واقع الحياة. فلقد اضطلع بكل أعباء الدولة، وبمهمة أخطر بكثير هي مهمة تحويل شعب شرقي إلى الحضارة الغربية، ومن ثم بدا الشراب والقصف مع أصحابه تخففاً يستحقه. وكان يتقبل من كل قلبه حكمة الفلاحين التي تزعم أن الشراب فرحة الروسي. وكان مما يقيس به قدر الرجل قدرته على احتمال الشراب. وحين كان في باريس راهن على أن كاهن اعترافه يستطيع أن يشرب أكثر، ويظل أثبت جناناً، من الكاهن أمين سر الوزارة الفرنسية، ومضت المباراة ساعة، فلما تدحرج الأب الفرنسي تحت المائدة ضم بطرس كاهنه إليه لأنه "أنقذ شرف روسيا (9) ". وحوالي عام 1690 ألف بطرس وخلصاؤه فرقة سموها "جماعة المخمورين من الحمقى والمهرجين"" (السوبور). وانتخب الأمير فيودور رومودانوفسكي قيصراً للسوبور، وقبل بطرس منصباً أدنى (كما فعل في الجيش والبحرية)، وكثيراً ما كان في الحياة الواقعية يتظاهر بأن رومودانوفسكي هو قيصر روسيا. وكان "سوبور" السكارى هذا مكرساً رسمياً لعبادة باخوس وفينوس، وكانت له شعائر معقدة، تقلد في سوقية وفحش شعائر الكنيستين الأرثوذكسية الروسية والكاثوليكية الرومانية، والكثير من هذه الشعائر الساخرة كان من وضع بطرس نفسه. وشارك السوبور في كثير من احتفالات الدولة الرسمية. فلما تزوج بطريركه الهزلي نيكيتا زاتوف، البالغ من العمر أربعة وثمانين عاماً، عروساً في الستين، صمم بطرس وأدار احتفالاً بذيئاً مزيناً (1715)، يشارك فيه نبلاء البلاط ونبيلاته جنباً إلى جنب مع الدببة والغزلان والتيوس، ويعزف السفراء على الناي أو الأرغن اليدوي، ويدق بطرس على الطبل (10).
كان حبه للفكاهة صخاباً لا يعرف القيود، وكثيراً ما أسف حتى استحال تهريجاً. وكان بلاطه يعج بالمهرجين والأقزام الذين كانوا عنصراً لا غنى عنه لكل احتفال. وذات مرة ركب القيصر، الذي ناهز سبعة أقدام طولاً وراح يلعب دور جليفر أمام الليليبوتيين، في موكب على رأس أربعة وعشرين قزماً راكبين. وكان يقتني في فترة من الفترات اثنين وسبعين قزماً في بلاطه، ويقدم بعضهم على المائدة في فطائر هائلة الحجم. كذلك كان عنده عمالقة، ولكن أكثرهم أرسلوا هدية لفردريك وليم ملك بروسيا لينخرطوا في جيش عمالقته "المسلات". وقد أهدى إلى بطرس عدة زنوج وكان يقدرهم تقديراً كبيراً، وبعث بعضهم إلى باريس ليتعلموا، وأصبح أحدهم قائداً روسياً، وهو الجد الأكبر للشاعر بوشكين.
إلى الآن صورنا بطرس رجلاً ما زالت تغلب عليه الفطرة الهمجية، رجلاً من طراز ايفان الرهيب ولكنه مرح، تواقاً إلى التحضر ولكنه يحسد الغرب-لا على لطائفة وفنونه بل على جيوشه وأساطيله، وعلى تجارته وصناعته وثروته. وكانت فضائله موجهة إلى هذه الغايات باعتبارها مقومات الحضارة. ومن هنا فضوله الذي لا يشيع. فهو يريد أن يعرف عن كل شيء كيف يسير، ثم كيف السبيل إلى تسييره سيراً أفضل. وقد أضنى مساعديه أثناء رحلاته بالجري هنا وهناك ليرى هذا وذاك حتى أثناء الليل. كان في غمرة من أفكاره، فأذهب بذلك ليبنتز، الذي كان في غمرة أخرى من أفكاره، ولكن أفكار بطرس كانت نفعية لا خفاء فيها. فقد كان له عقل مفتوح لأي شيء قد يعين وطنه على اللحاق بالغرب. وفي وسط أمة متدينة تديناً عابساً، معادية بتعصب للعقائد الغربية ولأساليب الحياة الدخيلة، كان مبرأ من التحيز كأنه الطفل أو الحكيم، يجرب الكاثوليكية، والبروتستنتية، وحتى الإلحاد. كان مقلداً أكثر منه مبتكراً، نقل الأفكار المجلوبة أكثر مما تصورها، ولكن في محاولته لرفع أمه إلى مستوى المنافسة مع الغرب، كان من الأحكم أن تستوعب هذه الأمة خير ما يستطيع الغرب تعليمه أولاً، ثم تحاول التفوق عليه. إن المحاكاة لم تكن قط بمثل هذه الأصالة.
وقد رفعه تفانيه الدءوب في سبيل هذا الهدف من الهمجية إلى
العظمة. وإذا كان قد سخر وأفنى ملايين الروس لتحقيق غاياته فإنه أفنى نفسه أيضاً في محاولته إعطاء روسيا جيشاً عصرياً، وحكومة أكفأ، وصناعات أكثر تنوعاً وإنتاجاً، وتجارة أوسع، وثغور تستطيع أن تتصل بالعالم. كان يتوخى القصد في كل شيء إلا الحياة البشرية، التي كانت السلعة الوحيدة التي تزخر بها روسيا. وكان أول إجراء له تقريباً حين تقلد زمام الحكم أنه طرد جيش الخدم وموظفي القصر الذين غص بهم البيت المالك، وباع ثلاثة آلاف جواد من المرابط الملكية، وأطاح بثلاثمائة من الطهاة وصبيانهم، وخفض عدد الجالسين إلى مائدة الملك حتى في الأعياد إلى ستة عشر على الأكثر، واستغنى عن الاستقبالات والمراقص الرسمية، وحول إلى الدولة المبالغ التي كانت إلى ذلك الحين مخصصة لهذه الكماليات. وكان أبوه ألكسيس قد خلف له من الممتلكات الشخصية 10. 734 ديسياتيناً (28. 982 فداناً) من الأرض المزروعة وخمسين ألف بيت، تغل ريعاً قدره 200. 000 روبل في العام. فنزل بطرس عن هذا كله تقريباً لخزانة الدولة، ولم يحتفظ لنفسه إلا بالميراث القديم لأسرة رومانوف-وهو ثمانمائة "نفس" في إقليم نوفجورود. وعلى عكس لويس الرابع عشر، خفض أعظم قيصر تبوأ عرش روسيا حاشيته في الواقع إلى بضعة أصدقاء، مع احتفال بين الحين والحين، غير رسمي وأحياناً صاخب، ليضفي بعض الحيوية على جو موسكو الرتيب. وكثيراً ما استحال اقتصاده شحاً شديداً. فكان يبخس موظفي قصره أجورهم، ويقتر في حساب نفقة القصر اليومية من الطعام، ولا يدعو أصدقاءه لغداء أو عشاء بل لرحلات خلوية يدفع فيها كل منهم نصيبه، ولما اشتكت البغايا اللاتي يرفهن عنه من ضآلة أتعابهن أجاب بأنه ينقدهن قدر ما ينقد رامي القنابل اليدوية، وهو رجل تفوق خدماته خدماتهن قيمة.
أما النساء فكن أحداثاً عارضة قليلة الخطر في حياته باستثناء واحد. ذلك أنه لم يكن مرهف الحس بالجمال. نعم كانت له حاجات جنسية، ولكنه أشبعها دون احتفال. ولم يكن يحب أن ينام وحيداً، ولكن لا شأن لهذا بالجنس، وكان أحد الخدم يقاسمه فراشه عادة، ولعله كان يحتاج إلى شخص قريب منه إذا دهمته تشنجاته في الليل. وحين بلغ السابعة عشرة، ورغبة في تهدئة أمه، تزوج يودوكسيا لوبوخينا، التي وصفت بأنها "جميلة غبية"، فلما وجد إحدى
الصفتين أكثر دواماً من الأخرى أهملها، وعاد غلى أصحابه ومراكبه. واتخذ سلسلة من الخليلات العابرات، كن في الكثير الغالب وضيعات الأصل رقيقات الحال. ومرة كان فردريك الثاني ملك الدنمرك يمزح معه في أمر اتخاذه محظية فأجابه بطرس "يا أخي، إن عاهراتي لا يكلفنني الكثير، أما عاهراتك فيكلفنك آلاف الكراونات التي لا تستطيع أن تنفقها في وجوه أفضل (11) ". وقد عمل ليفور ومينشيكوف قوادين له، ونزل مينشيكوف عن خليلته لتكون زوجة بطرس الثانية. ولا بد أن هذه المرأة أوتيت قدرة فذة رفعتها-كما رفعت تيودورا خليلة جستنيان من قبل-إلى عرش الإمبراطورية بعد أن كانت مومساً.
أمام هذه المرأة، التي ستصبح كاترين الأولى، فقد ولدت حوالي 1685 بليفونياً من أسرة وضيعة. ولما تيتمت رباها الراعي اللوثري جلوك خادمة في مارينبورج، وعلمها مبادئ المسيحية ولكنه لم يعلمها الأبجدية، ولم تتعلم القراءة قط. وفي 1702 حاصر جيش روسي يقوده شيريميتيف مارينبورج. فلما يئس قائد الحامية من الدفاع قرر أن ينسف القلعة وهو فيها. ونمى غلى القس جلوك ما نوى القائد، فأخذ أسرته وخادمته وفر إلى المعسكر الروسي. فأرسل إلى موسكو، ولكن كاترين أبقيت لترفه عن الجنود. وارتقت منهم إلى شيريميتيف، فمينشيكوف، فبطرس. في تلك الحروب والأخطار كان على المرأة الفقيرة أن تتلطف لتأكل. ويبدو أن كاترين ظلت حيناً تخدم كلاً من مينشيكوف والقيصر. وقد أحباها لأنها كانت نظيفة، بشوشة، لطيفة، متفهمة، فهي مثلاً لم تصر على أن تكون الخليلة الوحيدة، ووجد بطرس فيها ترفيهاً مرحاً بعد ضجيج السياسة أو الحرب وغضبات المحظيات الغيورات. ورافقته في حملاته، وعاشت عيشة الجنود، وقصت شعرها، وافترشت الأرض، ولم تجفل حين رأت الرجال يصرعهم الرصاص إلى جوارها. فإذا دهمت بطرس إحدى نوبات تشنجه وخاف الجميع أن يلمسوه، كانت تتحدث إليه ملاطفة، وتربته، وتهدئ روعه، وتدعه ينام ورأسه على صدرها. وإذا افترقا كتب إلى "كاترينوشكا" حبيبته رسائل تفيض حناناً معابثاً ولكنه مخلص. ثم غدت ضرورة لا غنى له عنها. ولم يحل عام 1710 حتى كانت زوجته في كل شيء إلا شرعاً. وولدت له عدة أطفال. وفي 1711 عاونت على إنقاذه في البروث. وفي 1712 اعترف بها زوجة له علانية. وفي 1722 توجها إمبراطورة.
وكان تأثيرها عليه طبيباً من نواح كثيرة. فهذه الصبية الفلاحة هذبت من طباع ذلك الملك الفظ. لقد حدت من ولعه بالمسكر، وفي عدة مناسبات كانت تدخل الحجرة التي يعاقر فيها الخمر ويقصف مع أصحابه وتأمره بهدوء قائلة:"عد إلى البيت أيها الأب الصغير" فيطيعها. وكانت تغض عن مغازلاته بعد الزواج. ولم تبذل محاولة للتأثير عليه في مجرى السياسة، ولكنها حرصت على أن يدبر القيصر أمر مستقبلها، ومستقبل أقربائها، وأصدقائها. وتغلبت على الاستياء العام من جراء رفعها من أصلها الوضيع بسلوكها مسلك ملاك الرحمة، ففي حالات عديدة أنقذت أشخاصاً من العقوبات التي أراد بطرس أن ينزلها بهم، فإذا أصر على الصرامة كان عليه أن يخفي الأمر عنها. وقد استغلت سلطانها عليه ببيع وساطتها، وبهذه الطريقة جمعت ثروة في الخفاء، استثمرت بعضها بحكم تحت أسماء مستعارة في همبورج أو أمستردام. فهل نلومها لأنها نشدت شيئاً من الضمان في زمن كل شيء في رهن بنزوة رجل واحد، وكل روسيا فيه في تقلب وتغير؟.
2 - الثورة البطرسية
ورث بطرس السلطة المطلقة، وتقبلها قضية مسلمة، ولم يتطرق إليه شك في ضرورتها. فالحكم بمجلس تشريعي (دوماً) من النبلاء (البويار) سيعيد الانفصالية الإقطاعية والفوضى القومية أو الركود، والحكم بمجلس ديمقراطي مستحيل في بلد ما زال بدائياً من الناحيتين الفكرية والخلقية، ووافق بطرس كرومويل ولويس الرابع عشر على أن تركيز السلطة والمسئولية هو وحدة القادر على تنظيم الخليط البشري المتنافر ليؤلف منه دولة لها من القوة ما يمكنها من السيطرة على أهواء الشعب وصد هجمات الأعداء المتعطشين للأرض. ولم ينظر إلى نفسه نظرته إلى حكم مستبد بل إلى خادم للأمة ومستقبلها، وكان هذا إلى حد كبير غيماناً مخلصاً، نصف صادق على الأقل.
ولقد عمل بهمة لا تقل عن همة أبسط الفلاحين في مملكته، فكان عادة يستيقظ في الخامسة صباحاً ويكد أربع عشرة ساعة في اليوم. لا ينام أكثر من ست ساعات في الليل، ولكنه يتقيل. ومثل هذا البرنامج لم يكن بالأمر غير العملي في صيف سانت بطرسبورج، حيث النهار يبزغ في الثالثة صباحاً ويستمر إلى العاشرة مساء، أما في الشتاء
فكان لا بد من مواصلة الكثير من هذا البرنامج أثناء الليل الذي يبدأ حوالي الثالثة عصراً ويستمر إلى التاسعة من صباح الغد.
وكانت سانت بطرسبورج الرمز ونقطة الارتكاز الأرخميدية لثورة لم تكن موقعاً مثالياً لعاصمة دولة نظراً لشدة قربها من الساحل، ولكنها من هذا كانت تبعد خمسة وعشرين ميلاً من البحر، في نقطة يتفرع فيها نهر نيفا إلى فرعين، وكان بطرس يأمل أن يحميها بقلعة كرونستاد التي شادها (710) على جزيرة في مدخل الخليج. أما المدينة نفسها فقد أسست في 1703 على غرار أمستردام. وإذ كان الكثير من هذا الموقع تغمره المستنقعات (وكلمة نيفا باللغة السويدية معناها الوحل) فقد بنيت سانت بطرسبورج على دعامات-أو في عبارة روسية حزينة، على عظام آلاف العمال الذين جندوا قسر لإرساء هذه الأسس وتشييد المدينة. ففي 1708 أرسل نحو 40. 000 رجلاً للقيام بهذا العمل، وفي 1709 أرسل 40. 000 آخرون، وفي 1711 أرسل 46. 000، وفي 1713 أرسل 40. 000 فوق ما سبق. وكانوا ينقدون نصف روبل في الشهر، لم يكن بد من أن يستكملوه بالتسول أو السرقة. وكان أسرى الحرب السويديون الذين استخدموا في البناء يموتون بالآلاف. وإذ لم يكن هناك عجلات يدوية، فقد كان الرجال ينقلون المواد في قفاطينهم المرفوعة. كذلك صودر الحجر، فحرم مرسوم صدر في 1714 تشييد بيوت بالحجر في أي مكان بروسيا إلا في سانت بطرسبورج، أما في المدينة نفسها فقد أمر كل شريف في البلاد بأن يبني له مسكناً من الحجر. وفعل الأشراف محتجين، إذ كرهوا مناخ المدينة ولم يشاركوا بطرس عشقة للبحر. أما بطرس فكلف بعض مهرة الصناع الهولنديين بأن يقيموا له كوخاً كالأكواخ التي رآها في زاندم، يحيطان من جذوع الشجر، وسقف من الحصباء، وحجرات صغيرة. وكان يكره القصور، ولكنه سمح ببناء ثلاثة منها للمناسبات الرسمية في بيترهوف (وهي الآن بترودفوريتس) على المشارف الجنوبية لمدينة. وقد دمر هذا "القصر الصيفي" في الحرب العالمية الثانية. وفي ضاحية قريبة تدعى تسارسكو سيلو (وهي الآن بوشكين)، شاد كوخاً صيفياً لحبيبته كاتيرينوشكا.
ولم يكن قصده أول الأمر أن يجعل سانت بطرسبورج عاصمة بالإضافة إلى كونها ميناء، فقد كانت شديدة القرب إلى عدوته السويد.
ولكنه قرر إجراء هذا التغيير بعد انتصاره على شارك الثاني عشر في بلطاوه. وكان تواقاً إلى الهرب من جو موسكو الكنسي القاتم وروحها القومية الضيقة، وأراد أن يشعر النبلاء المحافظون برياح التقدم تهب عليهم من الغرب. وعليه فقد جعلها عاصمة له في 1712. وحزن أهل موسكو، وتنبئو بأن الله مدمر عما قريب تلك المدينة نصف الوثنية. كتب بوشكين يقول: "أن موسكو أحنت رأسها أمام العاصمة الجديدة، كما تنحني أرملة الإمبراطور أمام إمبراطورة شابة (12) ". لقد كان في بطرس من شدة الشوق إلى تغريب روسيا ما دفعه إلى تحويلها صوب البلطيق وكأنه يجرها إليه جراً، ثم أمرها أن تتطلع من خلال نافذته على الغرب
(1)
". وفي سبيل هذا الهدف، وفي سبيل توفير قاعدة لأسطوله وميناء للتجارة الخارجية، ضحى بكل الاعتبارات الأخرى. صحيح أن الميناء سيحيط بها الجليد خمسة أشهر في السنة، ولكنها ستواجه الغرب وتلمس البحر. وكما أن الدنيبر جعل روسيا بيزنطية، والفولجا جعلها آسيوية، فكذلك سيغريها النيفا بأن تكون أوربية (14).
وكانت الخطوة التالية بناء بحرية تحرس مسالك التجارة الروسية خلال البلطيق إلى الغرب. وحقق بطرس هذه الغاية فترة ببناء ألف سفينة كبيرة خلال حكمه، ولكنها كانت مبنية على عجل بناء سيئاً، فتلفت أخشابها، وتحطمت صواريها في الريح، وبعد موته استسلمت روسيا لقضائها الذي حكمت عليه به الجغرافيا، وهي أن تكون بلداً حبيساً في اليابس مغلقاً دون الأطلنطي، منتظراً غزو الفضاء ليقفز متجاوزاً حواجزه إلى العالم. وبهذا المعنى كانت موسكو على حق: فقوة روسيا ودفاعها كان يجب أن يكونا على اليابس، بجيوشه ورقعته الواسعة. وعليه فقد ثأرت موسكو لنفسها في 1917 وأصبحت العاصمة من جديد.
أما أعظم إصلاحات بطرس دواماً فهو إعادته تنظيم الجيش.
(1)
الظاهر أن هذه العبارة استعملها أول مرة الكونت فرانشسكو الجاروتي في 1739 (13).
وكان قبله يعتمد على قوات مجندة من الفلاحين يقودهم سادتهم الإقطاعيون الذين لهم عليهم حق الولاء أولاً، وكانوا يفتقرون إلى النظام، ويعوزهم السلاح الجديد. وقد قوض بطرس سلطان النبلاء حين أنشأ جيشاً دائماً مدده من التجنيد الإجباري، وعتاده من أحدث أسلحة الغرب، وضباطه رجال ارتقوا من تحت السلاح ودربوا على الهدف الجديد، هدف خدمة روسيا في فخر لا خدمة إقليم ضيق وإقطاعي بغيض. والضرورة الحربية هي التي أملت على بطرس ثورته، فما كان من استطاعته تطوير روسيا دون أن يفتح لها طريقاً إلى البلطيق أو البحر المتوسط، وما كان في استطاعته أن يفعل هذا بغير جيش عصري، ولا أن يحتفظ بجيش كهذا دون أن يغير اقتصاد روسيا وحكومتها، ولا أن يغير هذين دون أن يعيد صنع الشعب الروسي من حيث عاداته وأهدافه وروحه. لقد كان عملاً ينوء بحمله رجل واحد أو جيل واحد. وقد استهله على طريقاه المندفعة الهوائية بلحي الرجال المحيطين به وزيهم. ففي 1698، عقب عودته من الغرب، حلق لحيته الخفيفة، وأمر كل الذين يريدون الاحتفاظ برضائه أن يحذوا حذوه، باستثناء بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، وبعد قليل أرسل مرسوم إلى جميع أرجاء روسيا يقضي بأن يحلق جميع العلمانيين لحاهم، ولهم أن يبقوا على شواربهم. وكانت اللحية أشبه برمز ديني في روسيا، أطلقها الأنبياء والرسل من قبل، وقبل ثمانية أعوام فقط شجب البطريرك أوريان الجالس على كرسي البطريركية آنذاك حلق اللحي بوصفه عملاً مهرطقاً خارجاً على الدين. وقبل بطرس التحدي: فحلق اللحية سيكون رمزاً على الحداثة، وعلى الرغبة في دخول الحضارة الغربية. وأباح للعلمانيين الذين يشعرون بالحاجة الماسة إلى الاحتفاظ بعوارضهم أن يحتفظوا بها لقاء ضريبة سنوية تبدأ من كوبك واحد للفلاح حتى تبلغ مائة روبل للتاجر الغني. يقول كتاب تاريخ قديم "كان الكثير من شيوخ الروس يحرصون على شعر لحاهم أشد الحرص بعد حلقه ليوضع في نعوشهم مخافة ألا يسمح لهم بدخول الجنة بدونه (15) ".
وبعد اللحي جاء دور الزي الروسي. هنا أيضاً شعر بطرس أن
المقاومة الداخلية للتغريب ستخف بارتداء الزي الغربي. فقطع بنفسه الأكمام الطويلة التي يلبسها من يمثل أمامه من ضباط الجيش. وقال لأحدهم "انظر، هذه الأشياء تعوق حركتك. فلا أمان لك في أي مكان ما دمت تلبسها. تارة تقلب كوباً، وتارة أخرى تغمسها سهواً في الصلصة. أو بصنع غطاء لحذاءك منها (16). وعليه صدر أمر (يناير 1700) يقضي على جميع رجال الحاشية والموظفين في روسيا باتخاذ الزي الغربي. وكان الوافدين على موسكو أو الراحلين عنها أن يختاروا بين قص قفاطينهم عند الركبة-وكانوا يرسلونها إلى الكاحل-وبين دفع غرامة. كذلك حثت النساء على ارتداء الزي الغربي، وكانت مقاومتهن أقل من مقاومة الرجال، فالنساء في عالم الأزياء دعاة للثورة في كل عام.
وقضى بطرس على حجاب المرأة السورية بقدوة أسرته أكثر مما قضي عليه بالقوانين. وكان أبوه ألكسيس وأمه ناتاليا سباقين في هذا الطريق، ثم وسعته أخته لأبيه صوفيا. أما بطرس فقد دعا النساء للقاءات اجتماعية وشجعهن على أن ينزعن براقعهن، ويرقصن، ويعزفن، ويطلبن العلم ولو على يد المعلمين الخصوصيين. ثم أصدر المراسيم التي تحظر على الآباء تزويج بنيهم وبناتهم على غير إرادتهم، وتشترط مضي ستة أسابيع بين الخطبة والزواج، وفي هذه الفترة ينبغي السماح للخطيبين باللقاء المتكرر، وبفسخ الخطبة إن أرادا. وابتهجت النساء بالخروج من الحريم "التيريم" وبدأن سباقاً في اتخاذ الأزياء الجديدة، وكان بعض الزيادة في ولادة الأطفال غير الشرعيين حجة تذرع بها رجال الدين ليقاوموا ثورة بطرس.
ولقد كانت مقاومة الدين له العقبة الكؤود في سبيله. ذلك أن رجال الأكليروس أدركوا أن إصلاحاته ستنتقص من مكانتهم وسلطتهم. فناحوا وولولوا على تسامحه مع المذاهب الغربية في روسيا، وخامرتهم الظنون في إيمانه بأي عقيدة دينية. وسمعوا في اشمئزاز شديد بالتقليدات الساخرة التي كان هو وخلصاؤه يهزأون فيها بالطقوس الأرثوذكسية. وكان بطرس من ناحيته يغيظه تحويل القوى البشرية إلى الأديار الشاسعة التي لا حصر لها، ويشتهي الموارد الهائلة التي
تتمتع بها هذه المؤسسات. فلما مات البطريرك أوريان (أكتوبر 1700)، امتنع بطرس عمداً عن تعيين خلف له، وأصبح هو نفسه رئيساً للكنيسة على نحو ما فعل هنري الثامن في إنجلترا، وتزعم حركة إصلاح ديني في روسيا. وظل منصب البطريرك شاغراً إحدى وعشرين سنة، فحرمت الكنيسة الأرثوذكسية زعيماً يتصدى لإصلاحات بطرس. وفي 1721 ألغى المنصب كله، وأحل مكانه "مجمعاً مقدساً" من رجال الكنيسة يعينه القيصر ويخضع لوكيل علماني. وفي 1701 نقل إدارة الممتلكات الكنسية إلى إحدى مصالح الحكومة، واختزل اختصاص المحاكم الكنسية، وأخضع تعيين الأساقفة لتصديق الحكومة. ومنعت مراسيم أخرى رسامة المتصوفين أو المتعصبين، وحدت من عدد مراكز صنع المعجزات. وقضي على الرجال ألا يقطعوا على أنفسهم نذور الرهبنة قبل الثلاثين، وعلى النساء ألا ينذرن أنفسهن نهائياً للرهبنة قبل الخمسين (17). وتقرر إلزام الراهبان بالقيام بعمل نافع. وأجرت الحكومة تعداداً للممتلكات والإيرادات الديرية، وترك بعض الإيراد للأديار، وخصص الباقي لإنشاء المدارس والمستشفيات (18).
واستسلم معظم الأكليروس لحركة الإصلاح الديني الروسي هذه، وهو إصلاح لم يمس العقيدة كما لم يمسها هنري الثامن. وندد بعض المخالفين ببطرس عدواً للمسيح، وأهابوا بالشعب أن يرفضوا طاعته ودفع الضرائب له. فأمر بالقبض على زعماء هذا التمرد، وتصرف معهم بطريقته العادية. فجلد البعض ونفوا إلى سيبيريا، وسجن البعض مدى الحياة، ومات أحدهم من التعذيب، وأحرق اثنان منهم حرقاً بطيئاً حتى الموت (19).
وفي غير هذا كان بطرس متمشياً مع الغرب في التسامح الديني. فحمى المخالفين من الاضطهاد ما داموا بعيدين عن السياسة. وفي سانت بطرسبورج، وبهدف تشجيع التجارة، سمح ببناء الكنائس الكلفنية واللوثرية والكاثوليكية على "النيفسكي بروسبكت"، أصبح يلقب "مكان التسامح (20) " وحمى الرهبان الكبوشيين الذين دخلوا روسيا، ولكنه نفى اليسوعيين (1710) لمثابرتهم الشديدة على
الدعوة لكنيسة روما. وكانت إصلاحات بطرس الدينية بوجه عام أبقى إصلاحاته كلها، فقد أنهت العصور الوسطى في روسيا.
ثم غيرت عملية ضخمة من العلمنة حياة روسيا وروحها، من تحكم الكهنة وملاك الأراضي إلى حكم الدولة الذي كاد يصل إلى حد التنظيم العسكري الصارم. فقد أخضع بطرس النبلاء لإرادته، وأكرههم على خدمة الشعب، وأعاد تنظيم مراتب المجتمع حسب أهمية الخدمة الاجتماعية التي تؤدى. فنبتت أرستقراطية جديدة، تتألف من موظفي الجيش والبحرية ودواوين الدولة. ورأس الحكومة مجلس شيوخ من تسعة رجال (زيدوا بعد ذلك إلى عشرين) يعينهم القيصر، وكان يديرها تسع هيئات أو "كليات" تختص بالضرائب والدخل، والمصروفات، والحسابات، والرقابة، والتجارة، والصناعة، والعلاقات الخارجية، والحرب، والبحرية، والقضاء، وكان حكم الأقاليم الأثنا عشر، أو "الجوبيرنييا" والمجالس التي تحكم المدن، مسئولين أمام مجلس الشيوخ. وقسم سكان كل مدينة إلى طبقات ثلاث: التجار الأغنياء والمهنيين، والمدرسين والحرفيين، والأجراء والعمال، والطبقة الأولى وحدها هي التي يجوز انتخابها للمجلس البلدي (الماجسترا)، والطبقتان الأوليتان وحدهما لهما حق التصويت، ولكن لكل دافعي الضرائب الذكور الحق في الاشتراك في اجتماعات المدينة. وظهر "المير" أو مجتمع القرية، لا بوصفه مؤسسة ديمقراطية، بل هيئة مسئولة بجملتها عن ضريبة الرءوس التي أدخلت في 1719. وحد الإشراف المركزي من الاستقلال المحلي، ولم يكن هناك أي تفكير في النظم الديمقراطية، لأن التغيير السريع الذي اختطه بطرس لا سبيل إلى تحقيقه-إن كان هناك سبيل على الإطلاق-إلا بالسلطة الدكتاتورية.
ووجب أن يشمل ذلك التغيير الاقتصاد كما شمل السياسة، لأن مجتمعاً زراعياً خالصاً لا يمكن أن يحتفظ باستقلاله طويلاً أمام دول أغنتها الصناعة وزودتها بالسلاح. وقد أورد اقتصاد ألماني عاصر ذلك العهد رأياً سيثبت صوابه القرنان التاليان له-وهو أن الأمة التي لا تصدر في الأكثر غير الخامات والحاصلات الزراعية لن تلبث أن
تخضع للدول المنتجة والمصدرة للسلع المصنوعة أولاً (21). وعلى ذلك لم يوجه بطرس للزراعة إلا القليل من اهتمامه. وبدلاً من أن يخفف من رق الأرض طبقة على الصناعة. وقد علم الفلاحين بقدوته الشخصية كيف يحصدون غلتهم وأمر بأن يستبدل بالمناجل ذات المقبض القصير sickles مناجل ذات مقبضين seuthes. وقد ألف الروس حرق أراضي الغابات للحصول على رماد مخصب للتربة، فحظر بطرس هذا العمل، لأنه احتاج ألواح الخشب لسفنه، وللأشجار لصواريه. وأدخل زراعة التبغ، والتوت، والكروم، وافتتح تربية الخيل والغنم في روسيا.
على أن هدفه الأهم كان التصنيع السريع. وكانت أولى مشاكله توفير الخامات. فشجع نشر التعدين، ومنح المكافآت الحافزة لرجال مثل نيكيتا ديميدوف والكسندر ستروجانوف أبدوا الجرأة والمهارة في التعدين وتشغيل المعادن، وحث ملاك الأراضي على أن يشجعوا أو يسمحوا باستخراج المعادن من أراضيهم، فإن قصروا في هذا فلغيرهم أن يستخرجوها لقاء رسم اسمي فقد يؤدونه لهم. فما وافى عام 1710 حتى كفت روسيا عن استيراد الحديد، وقبل موت بطرس كانت تصدره (22).
ثم استقدم مهرة الصناع ومديري الصناعة الأجانب، وحض الروس من جميع الطبقات على تعلم الفنون الصناعية. وافتتح إنجليزي بموسكو مصنعاً لدبغ الجلود وصنع الأحذية، وأمر بطرس كل مدينة في روسيا بأن تبعث وفداً من الحذاءين إلى موسكو لتعلم أحدث طرق صناعة الأحذية بنوعيها الواطئ والعالي، وهدد المتمسكين بالأساليب العتيقة في هذه الصناعة بتشغيلهم في سفن العبيد. ورغبة في تشجيع صناعة النسيج الروسية لم يلبس غير المنسوجات الوطنية بعد أن نشطت صناعتها، وحظر على المسكوفيين شراء الجوارب المستوردة. وما لبث الروس أن صنعوا المنسوجات الجيدة. وروع أميرال بحري أصحاب التقاليد، وأبهج القيصر، بصنعه المقصبات الحريرية. وصنع فلاح طلاء (لاكيه) يفوق أي نظير له في "أوربا" باستثناء الطلاء البندقي وقبل أن ينتهي حكم بطرس كان في روسيا 223 مصنعاً، بعضها
لا يستهان بحجمه، واستخدمت صناعة الحرير بموسكو 1. 162 عاملاً، واستخدم أحد مصانع النسيج 742 رجلاً، وآخر 730، ووظفت مؤسسة للتعدين 683 شخصاً (23). نعم كان في روسيا مصانع قبل بطرس، ولكن ليس على هذا النطاق. وكثير من المصانع الجديدة بدأته الحكومة ثم سلم للأهالي ليديروه، ولكنهم مع هذا كانوا يتلقون إعانات من الدولة، ويخضعون لإشراف دقيق من الحكومة. وكانت الرسوم الجمركية المرتفعة الحامية درعاً يقي الصناعة الوليدة من المنافسة الأجنبية.
ولجأ بطرس إلى تجنيد الرجال قسراً ليزود بهم المصانع ولم يتوفر من العمال إلا القليل، فحول الفلاحين صناعاً طوعاً أو كرهاً. وخول لرجال الصناعة أن يشتروا الأقنان من ملاك الأراضي ويشغلوهم في المصانع. وزودت المشاريع الكبرى بفلاحين منقولين من أراضي الدولة ومزارعها (24). وحدث ما يحدث في معظم المحاولات الحكومية للتصنيع السريع، إذ لم يستطع القادة الانتظار ريثما تغلب غريزة التملك على العادات والتقاليد، وتقود العمال من ميادين وأساليب عتيقة إلى أعمال وأنظمة جديدة. فطورت قنية صناعية، على كره من بطرس بوجه عام، ومن عمد من خلفائه. واعتذر بطرس عنها في مرسوم 1723، فقال:
"ألا يصنع كل شيء (أول الأمر) بالإكراه؟ أما أن الراغبين في الاشتغال بالصناعة قلة فصحيح، لأن شعبنا أشبه بالأطفال، يأبون البدء بتعلم الأبجدية ما لم يكرهها عليهم معلموهم. ويبدو لهم هذا التعلم غاية في الصعوبة أول الأمر، ولكنهم ما إن يتعلموها حتى يحمدوا لمعلميهم صنيعهم، ونحن نسمع الكثير من آيات الحمد والشكر على الإصلاحات التي أتت أكلها فعلاً
…
فعلينا في مسائل الصناعة أن نعمل ونلزم، ونعين بالتعليم (25) ".
ولكن الصناعة لا تتطور إلا بتجارة تبيع منتجاتها. ولكي يشجع بطرس التجارة رفع المكانة الاجتماعية لطبقة التجار. وفرض نمو صناعة كبيرة لبناء السفن في أركانجل وسانت بطرسبورج. وحاول إنشاء بحرية تجارية تحمل السلع الروسية في سفن روسية ولكنه أخفق
لأن الفلاح الروسي الذي ضربت جذوره في الأرض وانغلق فيها لم يقبل على البحر برغبة أو كفاية. وفي داخل روسيا نفسها كانت المسافات الشاسعة والطرق الوعرة تعوق التجارة. ولكن الأنهار كانت وفيرة، تغذيها ثلوج الشمال وأمطار الجنوب، فإذا تجمدت الأنهار ففي صلابة تتحمل بفضلها الأثقال شأنها شأن الطرق المتجمدة. وكانت الحاجة ماسة لربط هذه الأنهار بقنوات-تصل النيفا والدوينا بالفولجا، والفولجا بالدون، فيرتبط البلطيق بالبحر الأبيض بالبحر الأسود وبحر قزوين. وأرسس بطرس الأساس لهذه المجموعة الكبيرة، وافتتح في 1708 القناة الموصلة بين النيفا والفولجا، ولكن كان لا بد أن تنقضي عهود ملكية عديدة قبل أن تكتمل هذه الشبكة، وقد لقي الألوف من العمال حتفهم في هذه المحاولة.
وأكرهت الحرب والمشروعات المتنوعة بطرس على جمع رأس المال بمقادير لم يسبق لها نظير في روسيا. وقد حصل على بعضه بإعطاء الحكومة احتكار إنتاج وبيع الملح، والتبغ، والقار، والدهون، والبوتاس، والراتنج، والغراء، والراوند، والكافيار، وحتى التوابيت المصنوعة من البلوط. وكانت هذه التوابيت تباع بربح بلغ أربعمائة في المائة، أما الملح فتواضع ربحه إلى مائة في المائة، ولكن القيصر أدرك أن الاحتكارات تعوق الصناعة والتجارة، فبعد أن أبرم الصلح مع السويد ألغاها بجرة قلم وأطلق التجارة الداخلية من عقالها. وبقيت التجارة الخارجية خاضعة لرسوم التوريد والتصدير، ولكنها كادت تبلغ عشرة أضعافها بين 1700 ومرت بطرس في 1725. وكان أكثرها تنقله سفن أجنبية، وما بقي منها ما أيد روسية كانت تعرقله الرشوة التي استشرت بحيث لم تجد فيها حتى عقوبات بطرس الوحشية.
أما نظام الضرائب فكان شاملاً. فقد كلفت هيئة خاصة عينتها الحكومة بوضع نظام لضرائب جديدة وإدارته. ففرضت الضرائب على القبعات والأحذية، وخلايا النحل، والحجرات، وأقبار الخمور والمؤن، والمداخن، والمواليد، والزيجات، واللحي. أما الضريبة على الأسر فقد عطلتها الهجرات الجماعية غير المنظمة، فاستبدل بها
بطرس ضريبة على "الأنفس" أينما وجدت، ولم تطبق هذه الضريبة على النبلاء أو الأكليروس. وارتفعت إيرادات الدولة من 1. 400. 000 روبل في 1680 إلى 8. 500. 000 في 1724 - خصص خمسة وسبعون في المائة منها للجيش والبحرية. ونصف هذه الزيادة كانت غير واقعية بسبب انخفاض قيمة العملة بمقدار النصف في عهد بطرس، لأنه لم يستطع مقاومة إغراء الربح المؤقت بغش العملة.
وكان افتقار الجميع-من الملك إلى الفلاح-للنزاهة معطلاً لسير الاقتصاد، وجمع الضرائب، وأحكام القضاء، وتنفيذ القوانين. وقد قرر بطرس الحكم بالإعدام على جميع الموظفين الذين يقبلون "الهدايا" ولكن أحد مساعديه نبهه إلى أنه إن نفذ هذا القانون فلن يجد بعد حين غير موظفين أمواتاً. ومع ذلك قتل بعضهم. من ذلك أن الأمير ماتفي جاجارين، حاكم سيبيريا، أثري ثراءً خاصاً، فزين تمثاله المصنوع للعذراء بمجوهرات بلغت قيمتها 130. 000 روبل، وأراد بطرس أن يعرف كيف حصلت عليها العذراء، فلما عرف شنق جاجارين. وفي 1714 قبض على عدد من كبار الموظفين بتهمة سرقة الحكومة والشعب، وكان من بينهم نائب حاكم سانت بطرسبورج، ورئيس تموين الدولة، ورئيس الأميرالية، وحاكما نارفا وريفيل، وعدد من أعضاء السناتو. وشنق بعضهم، وحكم على بعضهم بالسجن مدى الحياة، وجدعت أنوف البعض، وجلد البعض بالعصي. ولما أمر بطرس بوقف الجلد توسل إليه الجنود الذين كانوا يقومون به قائلين "اسمح لنا يا أبتاه أن نجلدهم أكثر قليلاً لأن هؤلاء اللصوص سرقوا كل شيء حتى خبزنا (26) ". واستشرى الفساد، وزعم مثل روسي أن المسيح نفسه كان من الجائز أن يسرق لولا أن يديه شدتا إلى الصليب.
وفي وسط هذا النضال، نضال إرادة واحدة تريد تغيير الحياة الاقتصادية والسياسية لنصف قارة، وجد بطرس وقتاً حاول فيه إحداث ثورة ثقافية أيضاً. لقد كان يكره الخرافة، ويتوق إلى أن يحل محلها التعليم والعلم. وكان الروس إلى عهده يؤرخون من خلق العالم كما افترضوه، ويبدأون السنين بشهر سبتمبر. ففي 1699 جعل بطرس
التقويم الروسي يتفق مع التقويم اليولياني، كما تستعمله الدول البروتستنتية، فتقرر أن تبدأ السنة بعد ذلك بيناير، وتؤرخ من مولد المسيح. وتذمر الشعب، فكيف يختار الله منتصف الشتاء زماناً للخليقة؟ وأنفذ بطرس ما أراد، ولكنه لم يجرؤ على تطبيق التقويم الجريجوري، الذي قبلته أوربا الكاثوليكية في 1582، فحذف عشرة أيام كما اقتضته تلك "الحيلة البابوية" كان يسلب عدة قديسين أرثوذكس أعيادهم المقدسة.
ووفق القيصر الذي لم يهدأ له بال في مشروع آخر لا يقل عنتاً، هو إصلاح الأبجدية. ذلك أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت تستعمل الأبجدية السلافونية القديمة، ولكن الطبقات الصناعية والتجارية اقتبست أبجدية أساسها الحروف اليونانية. فأمر بطرس بأن تطبع بها كل الكتب غير الدينية. واستورد المطابع واستقدم الطباعين من الأراضي المنخفضة، وبدأ (1703) أول جريدة روسية، وهي "جازيتة سانت بطرسبورج"، وأمر بنشر كتب في التكنولوجيا والعلوم، ومول النشر، وأسس مكتبة سانت بطرسبورج، وأنشأ المحفوظات الروسية بأن جمع في المكتبة مخطوطات الأديار وسجلاتها وأخبارها. وفتح عدة معاهد تقنية وأمر بأن يلتحق بها أبناء الطبقة الأرستقراطية. وحاول أن ينشئ في كل إقليم "مدرسة للرياضيات"، وفي موسكو أنشأ مدرسة ثانوية "جمنازيوم" على غرار المدارس الألمانية لتعليم اللغات والأدب، والفلسفة، ولكن هذه المدارس لم يكتب لها طول البقاء. وفي 1724 نظم أكاديمية سانت بطرسبورج، وجلب إليها علماء أفذاذاً كجوزيف دليل ليعلم الفلك، ودانيال برنوللي ليعلم الرياضيات. وبالحال من ليبنتز كلف (1724) فيتوس بيرنج، الملاح الدنمركي، بأن يرأس بعثة إلى كمتشكا ليتبين هل آسيا وأمريكا متصلتان طبيعياً. وقد أقلع بيرنج بعد وفاة بطرس.
أما المسرح الروسي فكان على عهد ألكسيس لا يقدم غير الحفلات الخاصة. فرخص بطرس مسرحاً على الميدان الأحمر وفتحه للجمهور، واستقدم الممثلين الألمان، فمثلوا خمس عشرة مأساة وملهاة، منها بعض ملاهي موليير. وجلب الموسيقيين الأجانب لتأليف الأوركسترات. وأدخلت فيه روسيا السوناتا والكونشرتو، واتخذت الموسيقى العلمانية
الروسية أشكالاً أوربية من تآلف الألحان وامتزاجها. وأوصي بطرس بشراء اللوحات والتماثيل، ولا سيما الإيطالية منها، وجمعها هي وغيرها من الآثار الفنية في متحف للفن في سانت بطرسبورج فتحه لجميع الزوارمجاناً، وأمر بتقديم المشروبات الخفيفة لهم (27). ووفد المصورون الأجانب ليرسموا لوحات الأشخاص بأسلوب الغرب. وبنيت بعض الكنائس أيام ألكسيس، ولكن قل منها ما بني أيام بطرس. ووجد المعماريون الآن أنه أربح لهم أن يبنوا القصور.
ولم يزدهر أدب عظيم خلال هذه الثورة التي اقتلعت القديم من جذوره، فلا بد من انقضاء وقت حتى يمكن الإحساس بدفعة بطرس في الشعر. وقد صدر كتاب جريء قبل وفاته بعد عام، وهو "كتاب الفقر والغنى" بقلم إيفان بوسوشكوف الذي وبخ الروس على همجيتهم وأميتهم، وظاهر بقوة إصلاحات القيصر. وقد جاء في الكتاب "من سوء الحظ أن مليكنا العظيم يكاد يقف وحده، ومعه عشرة أشخاص، في محاولة رفع الأمة في حين يحاول الملايين خفضها (28) ". وندد ايفان بظلم الفلاحين، وطالب بقضاء نزيه تجريه محاكم متحررة من السيطرة الطبقية، وصدم القيصر بأن طلب جمع ممثلين لجميع الطبقات ليكتبوا دستوراً جديداً ومدونة قوانين لروسيا. وقبض على بوسوشكوف بعد موت بطرس ببضعة شهور، ومات في السجن في 1726.
3 - العقابيل
ازدادت المقاومة لإصلاحات بطرس من سنة إلى سنة. ذلك أن الروس ألفوا الفقر، والعذاب، والاستبداد، ولكنهم لم يسبق لهم قط- حتى تحت حكم ايفان الرهيب- أن أثقلوا بمثل هذه الأعباء، أو دفعوا مثل هذه الضرائب، أو ماتوا بمثل هذه الكثرة لا في ساحة القتال فحسب بل في أشغال السخرة جوعاً وبرداً وأعياءً مرضاً. كتب ليفور صديق بطرس المحبوب في 1723 يقول "إن الشقاء يشتد من يوم إلى يوم، والشوارع تمتلئ بناس يحاولون بيع أطفالهم
…
والحكومة لا تدفع مالاً للجنود، ولا لرجال البحرية، ولا لموظفي الإدارات
الحكومية، ولا لأحد (29) ". وحير القيصر ازدياد الفقر وسط إصلاحاته، فجعل التسول أو التصدق على المتسولين جريمة، وأقام ستين منظمة لتوزيع الصدقات.
ولكن التسول استمر، والجريمة انتشرت. وكاد يسيطر على الطرق الأقنان الآبقون من الرق، والجنود والعمال المسخرون الذين هجروا معسكراتهم معرضين أنفسهم للموت. ونظموا أنفسهم أحياناً أفواجاً عدتها مئات حاصرن المدن واستولت عليها. ذكر قائد في 1718 "إن موسكو مباءة للسطو، وكل شيء فيها خرب، وعدد الخارجين على القانون يتضاعف، وإعدام المذنبين لا يتوقف أبداً". وأقام المواطنون المتاريس في بعض شوارع موسكو، وأحاطوا بعض البيوت بأسوار عالية اتقاء اللصوص. وحاول بطرس منع السرقة بالعقاب الصارم، فأمر بأن يشنق قطاع الطرق الذين يقبض عليهم، وأن تجدع أنوف الساطين على المنازل، الخ. ولكن هذه العقوبات لم تردع المجرمين. فقد شقت الحياة على الفقراء حتى لم يصبح هناك فرق يذكر في نظرهم بين عقوبة الإعدام وبين السجن المؤبد الذي يقضونه راسفين في أغلال القنية أو السخرة، واحتملوا أبشع ضروب العذاب بتجلد من ماتت أعصابهم.
واشتد كره الناس لبطرس حتى لقد أعجب الكثيرون أن أحداً لم يقتله. كرهه النبلاء لأنه أرغمهم على خدمة الدولة، ولأنه رفع الطبقات الصناعية والتجارية مقاماً وثراءً، وكرهه الفلاحون لأنه سخره في عمل اقتلعهم من أوطانهم، ومن أسرهم في كثير من الحالات، وكرهه رجال الكنيسة لأنه الوحش الوارد ذكره في سفر الرؤيا، والذي جعل المسيح ذاته خادماً للحكومة، وارتاب فيه كل الروس تقريباً لاختلاطه بالأجانب واستيراده الأفكار "الوثنية"، وخافت روسيا كلها بأسه لعنفه ولعقوباتها الوحشية. إن روسيا لم ترد هذا التغريب، إنها تمقت الغرب مقتاً شديداً، والاحتفاظ بروحها القومية كان يقتضيها أن تكون "سلافية الميول" ونشبت حركات تمرد يائسة بموسكو 1698، وبأستراخان في 1705، وعلى طول الفولجا في 1707، وفي أوقات متفرقة في أرجاء الإمبراطورية وخلال العهد كله.
أما بطرس فقد رمز إلى الصراع وزاده حدة بالعودة إلى الغرب مرتين. ففي خريف 1711 ذهب إلى ألمانيا ليرأس في تورجو مراسيم زواج ابنه. وهناك استقبل ليبنتز، الذي اقترح عليه إنشاء أكاديمية روسية كان يرجو الفيلسوف المتعدد المواهب أن يرأسها. وعاد القيصر إلى سانت بطرسبورج في يناير 1712، ولكنه في أكتوبر، وسط حملة شنها إلى السويد، استشفى بمياه كرلسبارد، وزار فتنبرج. وأخذه بعض القساوسة اللوثريين إلى البيت الذي قذف فيه لوثر محبرة على الشيطان، وأروه الحبر على الحائط، وطلبوا إليه أن يكتب تعليقاً عليه، فكتب "إن الحبر جديد تماماً، فواضح إذن أن القصة غير صحيحة (30) ". وعاد بطرس إلى عاصمته الجديدة في أبريل 1713. وفي فبراير 1716 انطلق إلى الغرب مرة أخرى، فزار ألمانيا وهولندة، وفي مايو 1717 بلغ باريس آملاً أن يزوج ابنته اليزابيث للويس الخامس عشر. ولما التقى بطرس بالملك الصبي ذي السبعة الأعوام، رفعه ليقبله، وبعد أيام، حين كان لويس يستقبله أمام القصر الملكي، رفعه بطرس كأنه طفل وحمله صاعداً السلم مما جعل أفراد الحاشية يرتعدون. وأنفق في باريس ستة أسابيع متفرجاً، مستوعباً كل جوانب الحياة في المدينة- السياسية، والاقتصادية، والثقافية. وصوره الرسامان ريجو وناتييه. وزار مدام دمانتنون العجوز في سان- سير. ومن باريس ذهب إلى سبا، وظل خمسة أسابيع يشرب المياه هناك، لأنه كان إذ ذاك يشكو عللاً كثيرة- ولحقت به زوجته كاترين في برلين. واكتشفت أن له خليلة، ولكنها اغتفرت ذلك جرياً على أرقى تقاليد البيوت المالكة الأوربية. فلما وصل إلى سانت بطرسبورج (20 أكتوبر 1716) واجه أزمة من أسوأ الأزمات في حياته.
ذلك أن ابنه ألكسيس، الذي كان يرجو أن يورثه ملكه ويترك له المضي قدماً في إصلاحاته، انتهى إلى كره الكثير من تلك البدع، وكره الأساليب التي كانت تفرض بها فرضاً. وكان في بدنه وعقله ابن يودوكسيا أكثر منه ابن بطرس. وكان ضئيل الجسم، هياباً، ضعيفاً، ولوعاً بالكتب، مخلصاً للكنيسة الأرثوذكسية، لأنه ربي على التقوى بينما كان بطرس منطلقاً إلى الحرب والغرب. وحين بلغ ألكسيس
التاسعة رأى أمه تقصي إلى الدير (1699)، فلما بلغ الحادية عشرة سمع الكهنة يتحسرون على صهر أجراس الكنيسة لصنع المدافع، وسأل أباه لم يذهب الروس خارج روسيا للقتال في سبيل مدينة نائية كنازفا، واشمئز بطرس حين وجد أن وريثه لا يستطيب سفك الدماء.
وبينما كان بطرس مشغولاً ببناء سانت بطرسبورج، مكث ألكسيس بموسكو، وأحب كنائسها وأساليب حياتها القديمة. وقد كره تمزيق البطريركية ومصادرة الدولة للممتلكات الديرية. وعلمه كاهن اعترافه أن يدافع عن الكنيسة دائماً أياً كان الثمن. وغدا ألكسيس المعبود ومعقد الآمال للجماعات الكنسية والأرستقراطية التي أبغضت علمنة بطرس لروسيا وتغريبها، وانتظرت بفارغ الصبر الوقت الذي يجلس فيه على العرش ذلك الفتى المتدين المطواع. وكان بطرس لا يراه إلا لماماً، فإذا رآه وبخه عادة، وضربه أحياناً، كما فعل حين اكتشف القيصر أن الصبي زار أمه خفية في ديرها. وأوشك استياء الفتى أن يكون كرهاً. واعتراف لكاهنه اجناتيف أنه يتمنى لو مات أبوه. ولم ير اجناتيف في هذا إثماً، فقال لألكسيس "إن الله سيغفر لك فكلنا نتمنى موته، لأنه حمل الشعب أحمالاً ثقيلة (31) ".
وفي 1708 بعث بطرس ابنه إلى درسدن ليدرس الهندسة وفن التحصين. وفي 1711 تزوج ألكسيس بمدينة تورجو شارلوت كرستينا صوفيا، أميرة برونزيك- فولنفبوتل. ولم يستطع أن يغتفر لها رفضها التخلي عن مذهبها اللوثري واعتناق المذهب الأرثوذكسي الروسي. واتخذ الخليلات حتى من المواخير، وأفرط في الشراب. وعقب أن ولدت له شارلوت طفلاً زارها بصحبة مومس (32). وبعد عام ماتت زوجته وهي تلد (1715). واستدعاه بطرس إلى سانت بطرسبورج بخطاب غاضب حوى عبارات تنذر بالويل والثبور "إنني لا أضن بحياتي، ولا بحياة أحد من رعاياي، ولن أستثنيك من هذه القاعدة. فعليك أن تصلح من حالك، وأن تجعل نفسك نافعاً للدولة، فإن لم تفعل حرمتك من الميراث (33) ". وحاول ألكسيس تهدئة ثائرة أبيه بالتخلي عن حقوقه في العرش، وقال إنه سيقنع بالعيش عيشة هادئة في الريف. وشعر بطرس بأن هذا ليس حلاً. ففي 30 يناير 1716 كتب إلى ألكسيس يقول:
"لا أستطيع تصديق يمينك
…
لقد قال داود إن كل البشر كذابون، فحتى لو شئت الوفاء بها لثناك عن ذلك ذو اللحي الطويلة .. .. فكل الناس يعرفون أنك تكره أعمالي التي أعملها في سبيل هذه الأمة، غير ضنين بصحتي، وأنك بعد موتي ستقضي عليها، ولهذا السبب فإن بقاءك كما تريد أن تبقى، بغير وجهة محددة، ضرب من المحال. وعليه فأما أن تغير من خلقك، وتصبح دون نفاق خلفي الكفء، أو تصبح راهباً. فأجبني فوراً .. .. فإن لم تفعل عاملتك كما أعامل المجرمين (34) ".
وأشار عليه أصدقاؤه بالرهبانية، وقال أحدهم، "إن قلنسوة الراهب لا تسمر فوق إنسان، ففي الإمكان خلعها" وكتب ألكسيس لأبيه بأنه راغب في الرهبانية. ولانت قناة بطرس، وأمهله نصف سنة ليستقر على رأي. ووصل القيصر إلى الغرب (فبراير 1716). وفي 29 يونيو نصحت ناتاليا، أخت بطرس، ألكسيس بأن يرحل عن روسيا ويضع نفسه في حمى الإمبراطور. وفي سبتمبر كتب بطرس لابنه من كوبنهاجن يقول أن نصف العام قد انتهى، وإن على ألكسيس أن يدخل الدير فوراً، أو يلحق بأبيه في الدنمرك مستعداً للخدمة العسكرية. وتظاهر ألكسيس بأنه ذاهب إلى أبيه، وحصل على المال من منشيكوف ومجلس الشيوخ، ثم انطلق لا إلى كوبنهاجن بل إلى فيينا (10 نوفمبر). وهناك التمس من نائب المستشار الإمبراطوري أن يحصل له على حماية الإمبراطور شارل السادس قائلاً "إن أبي غضوب محب للثأر إلى حد لا يصدق، وهو لا يرحم أحداً، ولو ردني الإمبراطور إلى أبي لكان هذا في حتفي (35) ". وأرسله نائب المستشار إلى قلعة ايرنبيرج بالتيرول. وهناك ظل مختبئاً متنكراً، تحت الرقابة ولكنه مزود بكل أسباب الراحة، وسمح له بالاحتفاظ بخليلته أفروسينيا مرتدية ثياب الوصيف. وتعقبه جواسيس بطرس إلى مخبئه، وأنذر ألكسيس ففي إلى نابلي حيث كان تحت الحراسة في "كاستيل سانتيلمو". وعثر عليه عملاء بطرس وألحوا عليه في العودة إلى روسيا واثقاً من رأفة أبيه به. فقبل شريطة أن يأذن له بطرس بالعيش مع أفروسينا معتزلاً في الريف. ووعد بطرس بهذا في خطاب بتاريخ 28 نوفمبر 1717. ورتب ألكسيس أن تظل أفروسينا بإيطاليا حتى تضع مولودها. وكان أثناء رحلته الطويلة إلى روسيا يبعث لها بأرق الرسائل.
ووصل موسكو في آخر يناير. وفي 3 فبراير استقبله بطرس في اجتماع مهيب ضم كبار رجال الدولة والكنيسة. والتمس ألكسيس العفو من أبيه وهو جاث ودموعه تسيل. ومنحه بطرس العفو، ولكنه حرمه من وراثة العرش، وأعلن ابن كاترين، بطرس بتروفتش، البالغ من العمر ثلاث سنين، وريثاً للعرش. وأقسم ألكسيس يمين الولاء لولي العهد الجديد. وعلق بطرس عفوه الآن على شرط، هو اعتراف ألكسيس بشركائه في مقاومة إصلاحات أبيه. وورط ألكسيس الكثيرين، فقبض عليهم وعذبوا لانتزاع المزيد من التفاصيل منهم، ونفى عديدون إلى سيبيريا، وأعدم البعض بعد أن عذبوا أبشع تعذيب. أما ألكسيس، الذي ترك حراً في الظاهر، فقد أسكن بيتاً قريباً من قصر القيصر في سانت بطرسبورج، ومنح معاشاً سنوياً قدره أربعون ألف روبل. وكتب إلى افروسينيا يقول أن أباه يحسن معاملته وأنه دعاه إلى مائدته، وكان يتطلع إلى مجيئها، وإلى الحياة السعيدة معها في هدوء الريف.
ووصلت في أبريل، فقبض عليها فوراً، ولم تعذب ولكنها امتحنت امتحاناً صارماً، فانهارت، واعترفت بأن ألكسيس اغتبط لنبأ حركات التمرد على أبيه، وأنه أعرب عن نيته يعتلي العرش في هجران سانت بطرسبورج والبحرية، وخفض عدد الجيش إلى ضرورات الدفاع. ولم يكن هذا شراً مما كان بطرس يعلمه من قبل، فترك ألكسيس طليقاً شهرين آخرين. ثم أثارته مفاجآن جديدة لا علم لنا بها، فأعلن أنه سحب عفوه عن ألكسيس، لأن هذا العفو افترض اعترافه الكامل، وقد توافر لديه الدليل الآن على أن الاعتراف كان غير مخلص وغير كامل. وفي 14 يونيو قبض على ألكسيس وسجن في قلعة القديسين بطرس وبولس.
وفي 19 يونيو 1718، وبعد أن فحصته محكمة القضاء العليا، عذب لأول مرة، فجلد خمساً وعشرين جلدة. واعترف بأنه تمنى موت أبيه، وبأن كاهنه قال له "إننا جميعاً نتمنى موته". ثم ووجه بأفروسينيا، التي أعادت ما قالته للقيصر من قبل، ومع ذلك أقسم أنه سيحبها حتى الموت. وقال معترفاً "شيئاً فشيئاً أصبح شخص أبى ذاته، لا كل شيء عنه فحسب، بغيضاً في عيني" واعترف بأنه لو اقتضاه الأمر لاستعان بالإمبراطور "في قهر التاج بالقوة (36) ". وفي 24 يونيو عذب مرة أخرى بجلده خمس عشرة جلدة لم تنتزع منه مزيداً من
الاعترافات. وقضت المحكمة العليا بأنه مذنب بالخيانة وحكمت عليه بالإعدام. والتمس ألكسيس السماح له بمعانقة خليلته قبل إعدامه، ولا علم لنا هل أجيب إلى طلبه. ولم يوقع بطرس على الحكم. ثم أعيد استجواب ألكسيس مرتين (25 و26 يونيو) وهو يعذب، وفي المرة الثانية بحضور القيصر والحاشية، وقال ليفور فيما بعد "أكدوا لي أن أباه جلده الجلدات الأولى بنفسه، وإن كنت غير واثق من صدق هذا القول (37) ". في ذلك المساء مات ألكسيس في سجنه، والظاهر أن موته كان من آثار تعذيبه. وزعمت رواية أن كاترين أمرت الأطباء بأن يقطعوا أوردته، ولا نستطيع الحكم على هذا العمل، أهو من أعمال الرأفة به أم الطمع في سبيل مصلحة ولدها. أما أفروسينيا فنالت نصيباً من ثروة ألكسيس، وتزوجت ضابطاً في الحرس، وعاشت حياة مريحة ثلاثين سنة أخرى في سانت بطرسبورج.
وكان بطرس يأمل أن يربي ابنه من كاترين ليخلفه، ولكن الصبي مات في 1719. وأنجبت كاترين ولدين آخرين، بطرس وبولس، ولكنهما ماتا قبل القيصر. وعزى نفسه بالألقاب الفخمة التي خلعت عليه بعد صلحه مع السويد. وفي ذلك العام، (1721)، خلع مجلس الشيوخ والمجمع المقدس لقب الإمبراطورة على كاترين. وبعد أن أمهل بطرس روسيا سنة سلامها الوحيدة منذ بداية حكمه النشيط، وجه قواته شطر فارس. وكان يرجو أن يستخلص طريق قوافل إلى وسط آسيا، وأخيراً إلى الهند، ويسيطر عليه، وأخبره مبلغوه أن في الإمكان العثور على الذهب في الطريق، وكان سباقاً إلى توقع الإمكانات الصناعية لزيت القوقاز والشرق الأوسط (38). وفي 1722 جرد أسطولاً على قزوين لمهاجمة فارس، فاستولى على باكو وبعض سواحل قزوين الفارسية، غير أن العواصف دمرت معظم سفنه، وأتى المرض على جزء من جيشه، وعاد بطرس من حملة 1724 مرهقاً، متشائماً، مشرفاً على الموت.
ذلك أنه كان يشكو مرض الزهري سنوات طويلة (39)، ويعاني من العقاقير التي تعاطاها للعلاج منه. وزاد إدمانه السكر الطين بلة، واجتمعت عليه انفعالات الحرب، والثورة، وحركات التمرد، وعنف
الإرهاب، لتنهك جسمه العملاق في النهاية. وفي نوفمبر 1724 قفز إلى النيفا المتجمد ليساعد على إنقاذ ملاحين على سفينة جانحة. وظل يعمل طوال الليل في مياه غمرته حتى خصره. وفي الغد أصيب بحمى، ولكنه شفي منها، واستأنف برنامجاً حافلاً بألوان النشاط. وفي 25 يناير لزم فراشه أثر التهاب مؤلم في المثانة. وأبى أن يسلم بأن منيته دنت حتى 2 فبراير، فاعترف ببعض ذنوبه، وتناول الأسرار المقدسة. وفي السادس من الشهر وقع إعلاناً بتحرير جميع السجناء فيما خلا المحكوم عليهم لجرائم القتل أو لجرائم ضد الدولة. وقد روع أتباعه بصرخات الألم. وطلب لوحاً يكتب عليه وصيته، ولكن ما إن كتب هاتين الكلمتين "أعطوا جميع" حتى وقع القلم من يده. وسرعان ما انتابته غيبوبة دامت ستاً وثلاثين ساعة، ولم يفق منها قط. وأذيع نبأ موته في 8 فبراير 1725، وكان يومها في الثانية والخمسين.
وتنفست روسيا الصعداء كأن كابوساً طويلاً رهيباً قد أنجب عن صدرها آخر الأمر. وابتهج ملكا السويد وبولندة، وتوقعا أن تتردى روسيا في مهاوي الفوضى، وتكف عن أن تكون خطراً يهدد الغرب. ورفعت روسيا القديمة، روسيا العصور الوسطى، عقيرتها وطلبت عوداً إلى الماضي. لقد دفعت الأمة دفعاً مفرطاً في العنف، وأؤذيت في روحها وكبريائها بهذا التقليد الأعمى للغرب. وانتشرت الرجعية انتشاراً واسعاً وانتصرت، وترك الكثير من الإصلاحات ليموت من افتقاره إلى التأييد. واختزلت البيروقراطية الإدارية، ولكن إطارها احتفظ بحياته حتى 1917، واستعاد النبلاء الكثير من سلطانهم القديم، واستردوا حقوقهم فيما تحويه وأراضيه من أخشاب ومعادن. أما الطبقة الصناعية والتجارية التي طفر بها بطرس فقد عادت إلى خضوعها الماضي. وأنهار الكثير من الصناعات الجديدة بسبب النقص في الآلات، أو العجز في العمال أو الإدارة. واضمحلت الرأسمالية الوليدة، وظلت روسيا الاقتصادية مائتي عام أخرى كما كانت أساساً قبل الثورة البطرسية. أما الإصلاحات التجارية فكانت أوفر حظاً، فاستمرت التجارة مع الغرب في ازدياد مطرد، وأثمرت الاتصالات بأوربا شيئاً من التهذيب في السلوك، ولكن الأزياء الوطنية القديمة
عادت في عهد كاترين الثانية (1762 - 96)، وعاد الناس يطلقون لحاهم في عهد الاسكندر الثاني (1855 - 81). واستمر الفساد، ولم يبد على الأخلاق أنها جنت شيئاً من وراء العهد، ولعل ما ضربه بطرس لشعبه من مثال في السكر، والإباحية، والتوحش، خلف الشعب أسوأ خلقاً من ذي قبل. ولم يبق من التغييرات إلا ما ضرب جذوره في الزمن.
لقد كان بطرس أحد شخصيات التاريخ الحديث الأقل ظفراً بحب الناس، ومع ذلك كان إنجازه هائلاً. واخفاقاته تنهض شاهداً على قيود العبقرية وحدودها عاملاً من العوامل المؤثرة في التاريخ، ولكن في البصمة التي تركها على روسيا ما يشيد بقوة الشخصية. فلقد أعطى روسيا جيشاً وبحرية، وفتح الثغور التي أتاحت لها الاتجاه مع الغرب في السلع والأفكار، وأرسي صناعة التعدين وتشغيل المعادن، وأنشأ للمدارس وأسس أكاديمية. وبجذبة وحشية واحدة انتزع روسيا من براثن آسيا وأدخلها أوربا، وجعلها عاملاً مؤثراً في الشئون الأوربية. فمنذ الآن ستضطر أوربا لأن تحسب حساباً أكثر فأكثر لقلب القارة الشاسع ذاك، ولتلك الجماهير الصلبة، الصابرة، المتجلدة، ومصيرها المحتوم.
الفصل الرابع عشر
الإمبراطورية المتغيرة
1648 - 1715
1 -
إعادة تنظيم ألمانيا
هبطت حرب الثلاثين بسكان ألمانيا من 20. 000. 000 إلى 13. 500. 000. وبعد عام أفاقت التربة التي روتها دماء البشر، ولكنها ظلت تنتظر مجيء الرجال. وكان هناك وفرة في النساء وندرة في الرجال. وعالج الأمراء الظافرون هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم. ففي مؤتمر فرانكونيا المنعقد في فبراير 1650 بمدينة نورمبرج اتخذوا القرار الآتي: -
"لا يقبل في الأديار الرجال دون الستين
…
وعلى القساوسة ومساعديهم (إذا لم يكونوا قد رسموا)، وكهنة المؤسسات الدينية، أن يتزوجوا .... ويسمح لكل ذكر بأن يتزوج زوجتين، ويذكر كل رجل تذكيراً جدياً، وينبه مراراً من منبر الكنيسة، إلى التصرف على هذا النحو في هذه المسألة (1) ".
وفرضت الضرائب على النساء غير المتزوجات (2). وسرعان ما أعادت المواليد الجديدة المساواة التقريبية بين الجنسين، وأصرت الزوجات على ألا يقاسمهن أحد في رجالهن. واستعاد السكان كثرتهم سريعاً، فما وافى عام 1700 حتى ارتفع عددهم ثانية إلى عشرين مليون من الأنفس. وبنيت مجدبورج من جديد، وبعثت الأسواق الحياة والنشاط في ليبزج وفرانكفورت-أم-مين، وخرجت همبورج وبريمن أقوى مما كانتا. على أن الصناعة والتجارة استغرقتا أكثر من مائة عام حتى تدركا مستواهما الذي كانتا عليه في القرن السادس عشر. فالسويديون والهولنديون يسيطرون على مصاب الأودر، والألب، والرين، والنقل بالمحيط يحدث ركوداً نسبياً في النقل البري،
والطبقات الوسطى قد اضمحلت، ولم يعد يحكم المدن رجال الأعمال بل أمراء الأقاليم أو من ينوبون عنهم.
وكانت الحرب قد انتهت بكارثة على سلطة هابسبورج الإمبراطورية. ذلك أن فرنسا أذهلتها، وأذلت أسبانيا حليفة الإمبراطورية. وغدا الأمراء الألمان في مجموعهم أقوى من الإمبراطور فلهم جيوشهم، وقصورهم، وعملتهم، وهم يفصلون في سياساتهم الخارجية، ويؤلفون أحلافهم مع الدول غير الألمانية، بل ضد المصالح الإمبراطورية. وكان هناك نحو مائتي إمارة "زمنية" تستمتع الآن بهذا الاستقلال، وثلاثة وستون دويلة يحكمها رؤساء أساقفة أو أساقفة أو رؤساء ديورة يتبعون كنيسة روما الكاثوليكية، وإحدى وخمسون "مدينة حرة"، لا تخضع لغير الإمبراطور، وخضوعها لا يعدو أن يكون صورياً. واغتبطت فرنسا برؤية هذه الدويلات الألمانية الكثيرة بدلاً من ألمانيا الموحدة.
وكانت براندنبورج، إقليم الحدود الألماني، رمزاً على الإمبراطورية المحتضرة، وعلى ألمانيا جديدة تتخذ لها شكلاً جديداً. فهناك، وعلى منأى الإمبراطور، وفي مواجهة السويد وأمام جيش من الصقالبة، تعلمت أسرة هوهنزولرن أنه لا بقاء لدويلتهم إلا بمواردها وقوتها. ففي القرن العاشر كان هنري الصياد قد أقام "الحد الشمالي للسكسون" على طول الألب حصناً ضد الطوفان السلافي. وانتزع من الوند الصقالبة قلعتهم وعاصمتهم برنيبور (التي اشتق منها اسم براندنبورج) وردهم إلى الأودر. وظلت الأقاليم الواقعة بين الألب والأودور قروناً يتبادلها الألمان والصقالبة. ودخلت براندنبورج ساحة التاريخ دخولاً أنشط حين اشتراها فردريك هوهنزولرن، في 1411 - 17، هي وصوتها الانتخابي في الديت الإمبراطوري. ومن ذلك التاريخ حكم بيت هوهنزولرن براندنبورج حتى أصبحت بروسيا، وحكم بروسيا حتى تنازل القيصر فلهلم الثاني عن عرشه في 1918. وندر أن ارتبطت أسرة بدولة هذا الارتباط الطويل الوثيق، أو كرست نفسها لرفاهية أمة وتوسيع رقعتها بهذه الغيرة والفعالية. وعلى عهد الناخب جون سجسموند (1608 - 19) حصلت براندنبورج على دوقية كليف في الغرب ودوقية بروسيا الشرقية في الشرق، بحيث غدا
إقليم الحدود بشيراً بمملكة بروسيا. إقليم الحدود بشيراً بمملكة بروسيا. وكان من أضعف أفراد الأسرة الناخب جورج وليم (1619 - 40)، الذي أدى تقلباته في حرب الثلاثين إلى تدمير براندنبورج على أيدي الجنود السويديين. فهجرت القرى والمدن، وخربت برلين، وكادت الصناعة تتلاشى، وهبط سكان إقليم الحدود من 600. 000 إلى 210. 0000 واستطاع فردريك وليم، الذيورث هذه التركة الخربة (1640)، أن ينجز خلال الثمانية والأربعين عاما التي حكم فيها، معجزة من معجزات التعمير والتنمية، حتى لقد اعترف له حتى معاصروه بلقب "الناخب الأكبر". ولولاه لما كان فردريك الأكبر (كما سلم بهذا فردريك الأكبر نفسه)(3).
كان يبلغ العشرين حتى ولي العرش-فتىً وسيماً، أسود الشعر، أسمر العينين، يشق طريقه إلى السلطة. كان قد نشئ على التقوى والنظام، وأكمل تعليمه في جامعة ليدن. وقد سبق بطرس قيصر الروس في إعجابه بالهولنديين وبشجاعتهم الصامدة وجدهم واجتهادهم، فاستقدم بذلك ألوفاً منهم ليعمروا وطن المتعطش للسكان. ثم حصل بمقتضى صلح وستفاليا على بومرانيا الشرقية (البعيدة)، وأسقفيتي ميندن وهالبرشتات، وألحق في وراثة رآسة أسقفية مجدبورج الهامة، وقد آلت إليه في 1680، واختتم فردريك وليم حكمه بملك مبعثر بدأ جهده ليصبح مملكة. وفي تاريخ مبكر-1654 - اقترح كبير وزرائه، الكونت جيورج فردريك الفالدكي، توحيد ألمانيا كلها تحت زعامة بيت هوهنزولرن (4). وبدا أن فردريك وليم هو الرجل الكفيل بتحقيق هذه الوحدة الحامية. فلما اعتنق أوغسطس القوي أمير سكسونيا الكاثوليكية ليصبح ملك بولندة فتح الطريق لألمانيا لتتولى الزعامة البروتستنتية-ولم تعترضه سوى قوة السويد.
ذلك أن معاهدات 1648 كانت قد تركت نقطاً استراتيجية هامة بألمانيا في قبضة السويد، وطالبت السويد بزعامة ألمانيا البروتستنتية استناداً غلى تضحياتها وانتصاراتها في حرب الثلاثين. فكيف تستطيع براندنبورج-بروسيا، بمكوناتها التي تحدق بها الدول المنافسة من أقصى ألمانيا إلى أقصاها، أن تبلغ من القوة والمنعة حداً يتيح لها الدفاع عن نفسها ضد تسلط السويد، أو تسلط سكسونيا، الدولة الموحدة
المركزية السلطة؟ وبدأ فردريك وليم بخطو واردة هما أول دعامات الحكم الكفء، ثم جمع بالضرائب والإعانات الفرنسية المال الذي هو ثاني دعامات الحكم الكفء، وبالمال نظم جيشاً، هو ثالث دعامات الحكم الكفء، فما حل عام 1656 حتى كان له أول جيش دائم في أوربا-عدته ثمانية عشر ألف مقاتل شاكي للسلاح. وبهذه الوسيلة من وسائل الإقناع أقنع الولايات المكونة لدولته أن تدفع "اشتراكاً" سنوياً في نفقات الحكومة المركزية ببرلين، وبهذه الموارد أصبح مستقلاً عن سلطان المال في المجالس الإقليمية، وحقق ما كان في رأيه الشكل العملي الوحيد للحكومة في المرحلة الراهنة من مراحل التطور السياسي والفكري-وهو الحكم المطلق الممركز. وأعفى النبلاء من الضرائب المباشرة، ولكنه ألزم أبناءهم خدمته نبلاءً صغاراً "يونكر" في وظائف الجيش والإدارة العليا. وكره هؤلاء "الصغار" هذه الخدمة أول الأمر ولكنه خلع عليهم الثياب العسكرية الفاخرة والمركز الاجتماعي المرموق، ودربهم على الكفاية وعزة النفس، وربى فيهم "روح الفريق" التي حلت محل ولاءات النظام القديمة الإقطاعية، والتي جعلت الجيش خادماً لا لملاك الأراضي بل للحكومة. وهكذا بدأ الجهاز العسكري والاجتماعي الذي مكن لفردريك الأكبر أن يثبت لنصف أوربا، والذي أعد ألمانيا لخوض الحرب العالمية الأولى.
على أن فردريك وليم أعوزته صفة واحدة-هي عبقرية ملوك السويد الحربية. فقد ظل عشرين عاماً ينقل قوته من جانب الأجانب في صراعات السويد مع بولندة، والإمبراطورية مع فرنسا، حافظاً بالجهد كيانه بالدبلوماسية. ولكن حين غزا شارل الحادي عشر براندنبورج، برر جيش فردريك وليم وجوده بعزيمة السويديين في فيربللين (1675)، وهذا النصر هو الذي أكسبه لقب الناخب الأكبر. وفي خاتمة المطاف، ورغم سياساته المتقلبة وموارده الضيقة، أضاف لدولته أربعين ألف ميل مربع من الأرض.
بيد أن إصلاحاته الاقتصادية والإدارية كانت أهم-فبفضل حضه حسن الإشراف وسائلهم الزراعية وزادوا من غلة ضياعهم. وقد طور صناعة ناجحة للحرير بزرع أشجار التوت على نطاق واسع. وقلب الاتجاه إلى اقتلاع أشجار الغابات، فاشترط على الفلاحين أن يغرس
كل منهم اثنتي عشرة شجرة قبل أن يتزوج. وصمم ومول شق قناة فردريك وليم لتربط نهري الأودر وسبري. ولما ألغى لويس الرابع عشر مرسوم نانت، أصدر الناخب الأكبر "مرسوم بوتسدام"(نوفمبر 1685) الذي دعا الهيجونوت المنكوبين للمجيء إلى براندنبورج-بروسيا والإقامة فيها، وبعث مندوبين ليوجهوا هجرتهم ويمولوها (5)، وجاء عشرون ألفاً، فكانوا مهمازا حفز الصناعة البروسية، وألفوا خمسة أفواج في الجيش البروسي. وكان فردريك وليم نفسه، كما كان سليله فردريك الأكبر، يكد ويكدح في الإدارة بهمة لا تني، وقد أرسي ذلك المبدأ الذي قبله بعد ذلك القيصر بطرس و "المستبدون المستنيرون" من حكام القرن الثامن عشر، ومؤداه أن على الملك أن يكون خادم الدولة المكرس. وقد أدرك أن التعصب الديني معطل للتطور الاقتصادي والسياسي، فتفرد في ألمانيا بأن سمح لشعبه بالبقاء على المذهب اللوثري في حين ظل هو على مذهبه الكلفني، ومنح الحرية الدينية للكاثوليك، والموحدين، واليهود.
ومات عام 1688 وقد بلغ الثامنة والستين. وكانت وصيته التي قسم فيها ولاياته العديدة بين أبنائه كفيلة بأن تمحو ما أحدثه حكمه من أثر موحد، لولا أن خلفه رفض الوثيقة واحتفظ بالسلطة المركزية. واكتسب هذا الخلف-وهو فردريك الثالث-مودة الإمبراطور ليوبولد الأول بالانضمام إليه ضد فرنسا، ومن أجل هذا، ومن أجل ثمانية آلاف مقاتل، منحه ليوبولد لقب" ملك بروسيا". وقد توج باسم فردريك الأول في كونجزبرج في 18 يناير 1701، وبدأت بروسيا مسيرتها نحو بسمارك والوحدة الألمانية.
ومن المفاخر التي ازدان بها سجل فردريك إنشاؤه جامعة هالي، ومفخرة أخرى تذكر له أنه عضد جهود زوجته الثانية في النهوض بلطائف الثقافة والفكر في برلين. وقد اشتعرت هذه الزوجة، واسمها صوفيا شارلوت، ابنه صوفيا ناخبة هانوفر، بأنها أجمل النساء وأذكاهن في ألمانيا. فجلبت إلى بلاط برلين من مقامها الطويل في باريس مزيجاً جذاباً من الثقافة والظرف. وبإلحاحها وإلحاح ليبنتز، أنشأ فردريك أكاديمية برلين للعلوم، التي قدر لها أن تصنع التاريخ في عهد فردريك الثاني. وبنى الناخب لزوجته (1696) القلعة أو القصر
(شلوس) الشهير في الضاحية التي اتخذت اسمها، شارلوتنبرج. وتوافد على صالونها في قصر شارلوتنبرج العلماء والفلاسفة وأحرار الفكر واليسوعيين والقساوسة اللوثريين، وكانت شارلوت تحب أن تحفزهم لخوض المعارك اللاهوتية التي كانت أحياناً تستغرق الليل كله. هناك استوعبت زوجة أخيها، كارولين ملكة إنجلترا، العلم والفن اللذين ستجف لهما إنجلترا. فلما حضرت الوفاة شارلوت (إذا صدقنا رواية حفيدها فردريك الأكبر) رفضت عروض القساوسة الكاثوليك والبروتستنت على السواء بالصلاة من أجلها، وقالت لهم إنها تموت في سلام، وإنما تشعر بحب الاستطلاع أكثر من الرجاء أو الخوف، لأنها الآن ستشبع فضولها حول أصل الأشياء "الذي لم يستطع حتى ليبنتز أن يفسره لي قط"، وعزت زوجها الشديد الولع بالمراسم بقولها إن موتها "سيتيح له فرصة تشييعها بجنازة فخمة (6) ". لقد كانت صوفيا شارلوت واحدة من نساء كثيرات ذوات خلق وتعليم، جملن ألمانيا والقرن السابع عشر ينزلق إلى الثامن عشر.
أما بلاط برلين، وهو واحد من نيف وثلاثمائة بلاط أفنت آنئذ موارد الإمبراطورية، فلم يكن له من منافس سوى البلاط السكسوني. وقد خلف أوغسطس القوي، الذي حكم سكسونيا (1694 - 2733) باسم الناخب فردريك أوغسطس الأول، لأوربا رهطاً من الأبناء غير الشرعيين، ومنهم المارشال دي ساكس الشهير. وجعل عاصمته "أجمل مدينة في ألمانيا (7) " ومركز الفنون الصغيرة ومفخرتها، ولكن السكسون لم يستطيعوا أن يغفروا له ارتداده عن مذهبه، واستعماله أموالهم ورجالهم في حروب بولندة، وترف بلاطه الباهظ التكاليف.
وقد أسهمت إمارة هانوفر الناخبة في التاريخ هذه الحقبة بإيوائها ليبنتنر وضمها إنجلترا. وفي 1685، تزوجت صوفيا أميرة بالاتين المخلوعة، وابنه اليزابيث ستيوارت (ملكه بوهيميا)، من ارنست أوغسطس، الذي أصبح ناخب هانوفر. وقد أربك علمها الواسع زوجها، فقد كانت تتحدث خمس لغات بطلاقة تكاد تكون تامة، وتعرف من التاريخ الإنجليزي أكثر مما يعرفه السفراء الإنجليز في بلاطها. وظلت حيناً تحتفظ في هانوفر بصالون يؤمه العلماء والفلاسفة. ولكنها كانت تتحرق شوقاً للحصول على عرش إنجلترا لولدها جورج: كان
دمها يختلج بالملوكية، لأنها لم تنس قط أنها حفيدة جيمس الأول. وفي 1701 قرر البرلمان الإنجليزي كما رأينا حق وراثة العرش لصوفيا و "ورثتها من دمها شريطة أن يكونوا من البروتستنت". وتأملت في سرور مشهد ولدها حين يصبح جورج الأول، وفي كدر مشهد زوجته صوفيا دوروتياً ملكة له، وتطلعت في هدوء إلى فسخ زواجهما. وأشبه جورج في أن تكون زوجته خانته مع الكونت فيليب فون كونجزمارك، فقتل بأمره، وطلق صوفيا دوروتياً، وسجنها من 1694 إلى أن ماتت في 1726. وفي غضون هذا ماتت الناخبة الأرملة في يونيو 1714 وقد بلغت الرابعة والثمانين، قبل أن يهبط تاج إنجلترا على رأس ولدها بشهرين فقط. وكذلك يتصرف إله الحظ العظيم، من عرشه الكلي الوجود، في المصائر والدول والرجال.
2 - الروح الألمانية
كان اصطراع الكاثوليكية والبروتستنتية على روح ألمانيا يخفف من غلوائه، لأن حرب الثلاثين جعلت من الأحقاد اللاهوتية "قياس خلف". وتحول إلى كنيسة روما في هذه الفترة بعض الأمراء البروتستنت، ومعظم الفضل في هذا لإقناع اليسوعيين لهم. وتفوقت الكلفنية على اللوثرية التي نزعت إلى الدجماطية السكسولاستية الجامدة. وانتقاضاً على هذه الشكلية قبل كل شيء، انتشرت الحركة "التقوية" التي حاولت أن تستبدل بالطقوس الخارجية روحاً باطنية من الوحدة مع الله. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر حمل جورج فوكس، ووليم بن، وروبرت باركلي، إنجيل طائفة "الكويكر" إلى ألمانيا، ولعل هذه الحركة التبشيرية شاركت في تطوير التقوية هناك، ونلاحظ إن كتاب فيليب يعقوب سبينر pia desideria (1675) صعد بعد زيارة بن الأولى بأربع سنوات. ذلك أن سبينر، بوصفه راعياً لكنيسة لوثرية في فرانكفورت-أم-مين، استكمل خدماتها بعبادات صوفية تؤديها اجتماعات خاصة (هيئات تقوية) في منزله. وقد أطلق اسم التقوى pietist، كلفظ البيورتان والمثودست، على هؤلاء العابدين نقادهم على سبيل السخرية، فقبلوه، وأصبح لهم شارة فخر متواضع. وتشبثوا في حرارة بآمال
عصر السلام المرتقب (بعد مجيء المسيح) التي تعزت بها بعض الجماهير الألمانية خلال الحرب. ولم تكن فكرتهم عن المجيء الثاني للمسيح عقيدة لاهوتية غامضة، بل إلهاماً حاراً نشيطاً في حياتهم اليومية. ففي أي لحظة قد يظهر المسيح ثانية على الأرض، وسيهدئ صراع الأديان وينهي حكم القوة والحرب، وسيقيم "كنيسة روحية" خالصة، بغير تنظيم، ولا طقوس، ولا كهنة، تمارس في فرح مسيحية القلب السمحة الكريمة.
وواصل أوجست فرانكي الحركة تحدوه غير الأنبياء، وتأثرت نساء كثيرات بمسيحيته العملية وتطوعن في قضية التقوى الشخصية والبر العام. وبعد أن تأثرت الحركة بالبيورتانية الإنجليزية والهدوئية الفرنسية، أثرت بدورها في المثودية الإنجليزية والشعر الألماني، وأشعرت الناس بوجودها في أمريكا، حيث رحب بها كوتون ماذر برجاء فقال "إن العالم بدأ يشعر بدفء من النار الإلهية التي تضطرم على هذا النحو في قلب ألمانيا (8) ". ولكن التقوية كالبيورتانية آذت نفسها لأنها جعلت تقواها علنية ومحترفة، وتردت أحياناً في مهاوي الافتعال والرياء. فأغرقها في القرن الثامن عشر الطوفان العقلاني الذي تدفق من فرنسا.
وكان لانتصارات ريشليو، ومازاران، ولويس الرابع عشر، ولثراء البلاط الفرنسي وبهائه المتزايدين، أثر لا يقاوم في المجتمع الألماني خلال القرن التالي لصلح وستفاليا. وطغت النزعة العالمية حيناً على القومية. وسادت الأساليب الفرنسية قصور الملوك والأمراء في اللغة والأدب والغرام والعادات والرقص والفن والفلسفة والخمر والشعور المستعارة. ولم يتكلم الأرستقراطيون الألمان إلا بالألمانية إلا مع الخدم فقط. وكتب المؤلفون الألمان بالفرنسية للطبقات العليا أو باللاتينية للعالم المثقف. واعترف ليبنتنر، الذي كانت معظم كتاباته بالفرنسية، بأن "العادات الألمانية تحولت قليلاً إلى الأناقة والأدب" بالقدوة الفرنسية، ولكنه حزن على حلول اللغة والعبارات الفرنسية محل الحديث الألماني، أو التسرب إليه (9).
ولم يعش من كتب هذا العهد الألمانية سوى كتاب واحد باسمه "سمبلسيوي سمبليسيسيموس"(1669) بقلم هانز فون جريملز هاوزن. وهو من حيث الشكل سيرة متشرد ذاتية، ذات أحداث مترابطة، لميلكيور فون فوشهايم، وهو إنسان ربع أحمق، وربع فيلسوف، ونصف وغد. أما من حيث الروح فهو هجاء فكه متشائم يهجو ألمانيا التي خلفتها ثلاثون عاماً من الحرب بين الحياة والموت. ويبدأ ميلكيور هذا ربيباً لفلاح يصف المؤلف حياته في عبارات مهذبة فيقول: -
"كل سيدي يملك الغنم والماعز والخنازير بدلاً من الأتباع والخدم والسياس، وكانت كلها تتبعني في السباق حتى أسوقها إلى البيت. أما مخزن ذخائره فعامر بالمحاريث، والمعاول، والبلط، والفئوس، والمجاريف، ومذاري الروث والدريس، التي كان يمارس استعمالها كل يوم، لأن العزق والحفر هما تدريبه العسكري
…
واستخراج السباخ هو علم التحصينات عنده، وإمساك المحراث علم الاستراتيجية، وتنظيف الأسطبل تسليته ومباراته الفروسيتان (10) ".
ولكن جماعة من الجند تسطو على هذا الفردوس الريفي، وتعذب الأسرة لتكرهها على البوح بسر مؤن مختزنة لا وجود لها. ويهرب ميلكيور ويلتجئ إلى ناسك عجوز يلقنه أول دروسه اللاهوتية. فإذا سئل عن اسمه أجاب "وغد أو رد مشانق" لأنه لم يسمع أحداً يدعوه إلا بهذا الاسم، أما اسم متبنيه، جرياً على القاعدة ذاتها، فهو "صعلوك، وبلطجي، وكلب مخمور". ويقبض عليه الجند، فيأخذونه إلى قصر حاكم هاناو، وهناك يدرب على أن يكون مهرجاً، ويطلق عليه اسم سمبليسيوس سمبليسيسيموس. ثم يختطف، ويصبح لصاً، ويعثر على كنز مخبوء، ويصبح جنتلماناً، ويغوي فتاة، ويكره على زواجها، ثم يهجرها، ويعتنق الكاثوليكية، ويزور قصبة الدنيا، ويخسر ثروته، ويعوضها بالشعوذة والتدجيل، ثم يضنيه طول التجوال، فيعتكف ليحيا حياة ناسك كشف حقيقة الدنيا وخداعها. هذه "كانديد" أولى سابقة على قصة فولتير بقرن، والفرق أن هجاءها تلطف منه الفكاهة الألمانية، ولا يجمله الذكاء الفرنسي. وندد النقاد بالكتاب، وأصبح من عيون الأدب، وأشهر ثمار الأدب الألماني بين لوثر وليسنج.
على أننا لا يجب أن نتقبله صورة منصفة لألمانيا في الجيل التالي للحرب. فربما كان الألماني شديد الولع بالشراب، ولكنه احتفظ بروح فكاهته الفوار حتى في كئوس شرابه، وربما وصفته زوجته بالكلب المخمور، ولكنها أحبته لأنها لم تجد خيراً منه، وربت أبناءه تربية قوية متينة. وربما كان في ألمانيا ذلك العصر من الخلق السليم أكثر مما كان في فرنسا. وآية ذلك أن شارلوت اليزابيث المسكينة، أميرة بالاتين (1671) التي تزوجت على غير رغبتها بـ "المسيو" فليب أورليان أرمل "مدام" هنرييتا المنحرف جنسياً، لم تسل قط جمال هيدلبرج الهادئ، وبعد أن عاشت ثلاثة وأربعين عاماً عيش غير مريح مع ترف البلاط الفرنسي، لم تفتأ تتوق إلى "صحن طيب من الكرنب والسجن المدخن" مؤثرة إياه كثيراً على ما تقدمه باريس أو فرساي من قهوة أو شاي أو كاكاو (11). ويدلنا وفاؤها الرواقي لزوجها الحقير، وصبرها على الملك أخي زوجها الذي أمر أو أذن بتدمير بلاتينات، على أنه-حتى وسط خرائب ألمانيا-وجدت نساء استطعن أن يعلمن اللياقة والإنسانية للملوك المعطرين، الموشحين، المطرزين، اللابسين البواريك.
3 - الفنون في ألمانيا
ثم إن هذا العصر كان من أكثر العصور إنتاجاً في العمارة الألمانية، على عكس كل التوقعات المعقولة، فقد شهد أول تفتح للباروك الألماني، الذي خلع واجهة جديدة من الفتنة والبهجة على كارلسروهي، ومانهايم، ودرسدن، وبايرويت، وفرتسبورج، وفيينا. وكان زمان البنائين أمثال يوهان فيشر فوخ ايرلاخ، ويعقوب برانتاور، ويوهان وكيليان وكريستوف دينتسنهوفر، وأندرياس شلوتر، الذين كانت أسماؤهم خليقة بأن تشتهر بين الشعوب الناطقة بالإنجليزية اشتهار رين واينيجو جونز، لولا سجن الحدود وبلبلة الألسن. على أن ما خلفوه دمر بعضه في غزوات الجيوش الفرنسية لألمانيا (1689)، وبعضه في الحرب العالمية الثانية (12). إن التاريخ سباق بين الفن والحرب.
وارتفعت كنائس جميلة وسط الفقر والخراب. ويشين سجلنا هذا ألا نشير فيه إشارة ولو عابرة لكتدرائية يوهان دينتسنهوفر في فولدا أو
كنيسة ديره في بانتز، أو لأشغال كريستوف وكيليان دينتسنهوفر في كنيستي القديسين نيقولا ويوحنا في براغ. وفي 1663 بدأ المعماري الإيطالي أجوستينو باريللي قصر نيمفينبورج خارج ميونيخ، وأكمل يوسف افنر داخله في مزيج موفق من العمد الكلاسيكية والزخرف الباروكي. لقد كانت الزينة هي الإغراء المتسلط على الباروك، واستعملت بإسراف في الفستزال أو صالة الاحتفالات في شلوس برلين، وفي جناح قيصر زفينجر الذي بناه في درسدن متاوس دانيال بوبلمان لأوغسطس القوي، هنا تحول الباروك إلى روكوك جميل أنسب لداخل مخدع منه لواجهة قصر. وقد تهدم معظمه في الحرب العالمية الثانية، وكذلك شلوس شارلوتنبورج وشلوس برلين، وهو القصر الملكي الذي بدأه أندرياس شلوتر في 1698.
أما أبرز المثالين الألمان في هذا العصر فهو شلوتر. فقد انتشت ألمانيا كلها بتمثال الفارس الراكب الذي صنعه للناخب الأكبر Der Grosse Kurfurst والذي لم تنل منه كل قنابل الحرب، والذي يرتفع الآن في ميدان شارلوتنبورج خارج برلين. وفي كونجزبرج أقام شلوتر تمثالاً لفردريك الأول عقب تتويجه ملكاً لبروسيا، لا يقل روعة عن التمثال المذكور. ونحت يوليوس جليسكر رأساً للعذراء مريم، حزينة في صمت، لمجموعة تماثيل للمسيح المصلوب في كتدرائية بامبرج. وأظهر نقاشو الخشب مهارتهم في مقاعد المرتلين الرائعة في كلوستركيرشي بسيليسيا، ولكنهم غالوا في الأثاث المنقوش نقشاً مسرفاً والذي أمر بصنعه سادة فيهم من التفاخر أكثر مما فيهم من الذوق السليم.
ولم ينجب التصوير الألماني روائع في هذه الفترة، إلا إذا حسبنا من الروائع صورة ساحرة بريشة كريستوف بارديزو تسمى "شاب ذو قبعة رمادية (13) ". وقطع النسيج المرسوم التي صممها رودلف بيس لقصر فورتسبورج من أبدع القطع. واشتهرت بلدة فارمبرون-ينابيع سيليسيا الحارة-بزجاجها المصقول، وروجت درسدن استعمال "صيني درسدن". وكان أوغسطس القوي كذلك "ملك القاشاني"، وحين عشر على أنواع مناسبة من الطفل قرب مايسين، أقام بها
(1709)
القمائن التي أنتجت أول خزف (برسلان) صلب في أوربا.
على أن الموسيقى هي التي وجدت فيها الروح الألمانية أبرز تعبير لها، وكان هذا العدد بمثابة العشية التي بزغ بعدها صبح يوهان سبستيان باخ. أما الأشكال والآلات فجاءت من إيطاليا، ولكن الألمان سكبوا فيها عاطفتهم الرقيقة وتقواهم الضخمة. فبينما تفوقت إيطاليا في اتساق الأصوات، وفرنسا في الإيقاع الرشيق، تقدمت ألمانيا إلى مكان الصدارة في الليدة (الأغنية الألمانية)، وموسيقى الأرغن، والكورال. وفي ألحان ج. ف. كريجر المسماة "12 سوناتا بكمانين"(1688) نجد متتالية السوناتا قد أرسيت فعلاً في ثلاث حركات-الالليجرو (الأعجل)، واللارجو، (البطيء جداً)، والبريستو (السريع). وكانت موسيقى الآلات، المتطورة من رقصات (كالبافان، والسربنده، والجافوت، والجيج الخ) تعلن استقلالها عن الرقص والصوت جميعاً.
وكان الطلب على الموسيقيين الإيطاليين لا يزال كبيراً في ألمانيا. فملك كافاللي على ميونيخ، كما ملك من بعده فيفالدي على دارمشتات. واستوردت الأوبرا الإيطالية، وعرضت أول عرض لها في ألمانيا بتورجاو (1627)، وتلت ذلك عروض أخرى في ريجنسبورج، وفيينا، وميونيخ. وكانت أول أوبرا ألمانية ( Singspiel) هي "آدم وحواء" من تلحين يوهان تايلي، وقد أخرجت بهامبورج في 1678، ومنذ ذلك التاريخ ظلت هامبورج تتزعم الأوبرا والدراما الألمانيتين طوال نصف قرن. هناك أنتج هندل "الميرا" و "نيرون" في 1705، و "دافني" و "فلورندا" في 1706، قبل أن يذهب لغزو إنجلترا. والاسم الكبير في الأوبرا الألمانية في ذلك العهد هو راينهارد كايزر، الذي أنتج 116 أوبرا لفرقة هامبورج.
وبعد 1644 انتزع المؤلفون الألمان مكان الصدارة من الإيطاليين في التأليف للأرغن والكنيسة. وعبرت ترانيم بأول جرهارت عن عقيدته اللوثرية العنيدة. وسيطر يان راينكن على الأرغن في كنيسة "كاتريننكرشي" بهامبورج من 1633 حتى وفاته عام 1722 في
الحادية والتسعين. وأصبح ديتريش بوكستيهودي، المولود بالدنمرك، عازف الأرغن في كنيسة مارينكريشي بلوبيك في 1668، واشتهرت حفلاته هناك، لا سيما حفلات "موسيقى المساء" التي جمعت بين الأرغن والأوركسترا والخورس، وذاع صيتها حتى أن باخ الكبير كأن يمشي خمسين ميلاً من آرنشتات إلى لوبيك ليسمعه وهو يعزف (14). وقد عاش نحو سبعين من الألحان التي وضعها للأرغن، وكثير منها ما زال يعزف، وقد أسهمت ألحانه الكورالية في تكوين أسلوب يوهان سبستيان. وسبق يوهان كوناو باخ عازفاً على الأرغن في كنيسة توماسكرشي بليبزج، وقد طور السوناتا للكلافير، ولحن ألحاناً ( Partien) من نوع متتاليات باخ.
وأخذت أسرة باخ تدخل الآن عالم الموسيقى في خصوبة مذهلة. وقد وصل إلى علمنا أسماء نحو أربعمائة من آل باخ بين 1550 و1850: كلهم موسيقيون، وستون منهم يشغلون مراكز هامة في دنيا الموسيقى في زمانهم. وقد ألفوا نوعاً من النقابة العائلية التي تجتمع دورياً في مقارهم بأيزيناخ، أو آرنشتات، أو ارفورت. وهم يؤلفون بلا جدال أكبر وأشهر أسرة في التاريخ الثقافي، ويثيرون الإعجاب لا لكثرة عدهم فحسب، بل لإخلاصهم لفنهم، ولثبات في الهدف جرماني صيل، ولغزارة إنتاجهم وقوة تأثيرهم. ولم تبرز أسماؤهم في الحوليات الموسيقية إلا في جيلهم الخامس، بظهور يوهان كرستوف ويوهان ميكائيل باخ، ابني هينريش باخ، عازف الأرغن في آرنشتات. وكان يوهان كرستوف كبير عازفي الأرغن في ايزناخ طوال ثمان وثلاثين سنة، رجلاً بسيطاً، جاداً، مدققاً في عمله، درب فرق الترتيل ولحن للأرغن وللأوركسترا. وأصبح أخوه يوهان ميكائيل عازف الأرغن في جيرين في 1673، وظل هناك حتى مات في 1694، وأعطى خامس بناته زوجة أولى ليوهان سبستيان. وكان لكريستوف باخ أخي هيزيش، وعازف الأرغن في فيمار، ابنان كانا عازفي كمان، وأحدهما وهو أمبروزيوس كان أبا يوهان سبستيان. أما يوهان باخ، أخو هينريش وكرستوف، فكان عازف الأرغن في ايرفورت من 1647 إلى 1673، حين خلفه ابنه يوهان كرستيان باخ، الذي خلفه في 1682 أخوه يوهان اجيديوس باخ. وكأن قوى الطبيعة كلها وجهت لتنجب وتعد يوهان سبستيان باخ.
4 - النمسا والأتراك العثمانيون
إن في فيينا اليوم من الجمال ما يصعب معه علينا أن نتصور حالها عقب حرب الثلاثين، صحيح أن النمسا لم تقاس ما قاسته ألمانيا من ويلاتها، ولكن خزانتها نضبت، وجيوشها تهلهلت، وهبط صلح وستفاليا بسمعة الأباطرة وقوتهم. على أن ظرفاً واحداً كان في صفها. ذلك أن ليوبولد الأول خلف أباه فرديناند الثالث على العرش الإمبراطوري في 1658 وظل متربعاً عليه طوال سبعة وأربعين عاماً، ومع أن هذا الحكم الطويل سمع العثمانيين يقرعون أبواب فيينا مرة أخرى، فإن النمسا أخذت تفيق من كبوتها سريعاً. وكان ليوبولد ملكاً على الإمارات الألمانية اسماً لا فعلاً، ولكنه كان الملك الفعلي لبوهيميا وغربي المجر، وكان يحكم دوقيات استيريا، وكارنثيا، وكارنيولا، وكونتية التيرول. ولم يكون بالحاكم العظيم، كان يكد ويكدح بشعور الواجب في الإدارة وتشكيل السياسة، ولكنه افتقر إلى الرؤية البعيدة التي أوتيها أسلافه من آل هابسبورج، فلم يرث منهم غير لاهوتهم وشكل ذقونهم. وكان قد درب أصلاً للكهانة، ولم يفق قط حبه لليسوعيين، أو ينحرف كثيراً عن إرشادهم. ومع أن أخلاقه الشخصية كانت نقية لا عيب فيها، فإنه قبل المبدأ الذي يحتم جعل جميع رعاياه كاثوليكاً، ونفذ سياسته بأوتقراطية صارمة في بوهيميا والمجر. وكان ميالاً إلى السلم، ولكنه أكره أو سيق إلى سلسلة من الحروب بسبب اعتداءات لويس الرابع عشر والعثمانيين. وقد وجد فيهما بين عمليات إراقة الدماء هذه وقتاً للشعر والفن والموسيقى، ألف الموسيقى بنفسه، وشجع الأوبرا في فيينا، فعرضت بها أربعمائة أوبرا جديدة في السنين الخمسين التالية لاعتلائه العرش. ويدلنا نقش يرجع إلى عام 1667 على أن المدينة كانت تملك دار أوبرا فخمة، ذات ثلاثة صفوف من الألواج، وكل مقعد فيها مشغول. وهكذا نرى أن هذه الدعامة المبهجة للغناء قديمة جداً.
وعلينا أن ننظر إلى النمسا في هذا العصر على أنها المدافع عن الغرب ضد تركيا المنبعثة من جديد، المعذبة بعداء أشد حكام الغرب بأساً، فقد عاق صراع العالم المسيحي مع العالم الإسلامي وشوشه ذلك النزاع القديم بين الهابسبورج وفرنسا. وزادت المجر المشكلة تعقيداً، لأن ثلثها
الغربي فقط هو الذي خضع لحكم الإمبراطور، وكان جزء منه بروتستنتياً يتوق إلى التحرر. وكان للمجريين مشاعرهم القومية الخاصة بهم، والتي يغذوها أدبهم وما توارثوه من تقاليد يعتزون بها عن هونيادي يانوس وماتياس كورفينوس، وكان ميكلوس زريني قد نشر قبيل هذه الفترة (1651) ملحمة تفيض بحب الوطن. وكان المجريون الذين أهانهم وظلمهم الحكم النمساوي والتسلط الكاثوليكي تحدثهم نفوسهم بالترحيب بالعثمانيين حين قرر هؤلاء محاولة فتح المجر كلها.
وقد أوقفت سلسلة من الوزراء العثمانيين الأقوياء اضمحلال تركيا، وعاودوا إرهاب الغرب. ومن علامات الانتعاش إن شاعراً تركياً فحلاً اسمه "نبي" راح يتغنى بمديح الوزراء الذين أعقدوا عليه المال، علامة أخرى أن المال والوذوق والورع التركي-كلها تضافرت لتشيد جامع ييني-وليدي البديع في اسطنبول (1651 - 80). وعين السلطان محمد الرابع محمد كوبريلي صدراً أعظم (1656)، استهل وهو في السبعين من عمره نصف قرن من الحكم تربعت فيه أسرته الألبانية على دست الوزارة، ولم يدم استيزاره أكثر من خمس سنوات، ولكن في هذه الوزارة الخماسية أعدم بأمره 36. 000 شخص لجرائم تتفاوت من السرقة إلى خيانة الدولة، وكان كبير جلاديه يشنق ثلاثة كل يوم في المتوسط. وأكره الخوف من العقاب المفسدين في الإدارة ودساسي الساسة في الحريم على الاعتدال، وأعيد النظام إلى الجيش، وخفف باشوات الولايات من استقلالهم واختلاساتهم. فلما تمرد جورج راكوكزي الثاني، أمير ترانسلقانيا، على السيادة العثمانية، اكتسح كوبريلي حركة التمرد بجيش يقوده بنفسه، وخلع راكوكزي، وفرض على البلاد تعويضاً باهظاً، وزاد الجزية التي تدفعها ترانسلقانيا للسلطان سنوياً من خمسة عشر ألف فلورين إلى خمسين ألفاً.
وخلف هذا السبعيني الرهيب في الوزارة ابنه أحمد كوبريلي. فلما نشبت ثورة أخرى في ترانسلقانيا بقيادة يوحنا كيمينيي، عززها ليوبولد بعشرة آلاف مقاتل يقودهم قائد فذ من قواد ذلك العصر هو الكونت الإيطالي ريموندو دي مونتيكوكولي. ورد أحمد بالزحف بجيش عدته 120. 000 مقاتل تحت قيادته حاول به استكمال فتح المجر. وطلب ليوبولد المعونة، واستجابت الولايات الألمانية، البروتستنتية
والكاثوليكية على السواء، بالمال والرجال، وأسهم لويس الرابع عشر بأربعة آلاف جندي بعد أن تخلى عن تحالفه مع العثمانيين. ولكن المقاومة بدت أمراً ميئوساً منه حتى بعد هذا كله، وتوقعت أوربا سقوط فيينا، واستعد ليوبولد للرحيل عن عاصمته. وكانت قوات مونتيكوكولي أقل كثيراً من قوات العدو ولكنها أفضل تزوداً بالمدافع. ولم يجرؤ على لقاء الترك في أرض مكشوفة تعطي ميزة للكثرة العددية، فناورهم ليحاولوا عبور نهر رابا عند زنتجوتهارد، على نحو ثمانين ميلاً جنوبي فيينا، وهاجم كل كتيبة تركية بمجرد وصولها إلى ضفة النهر اليسرى. وكتب النصر لإستراتيجته، وللبطولة الفذة التي قاتل بها أفراد الفرقة الفرنسية (أول أغسطس 1664)، في معركة أنقذت أوربا مرة أخرى من أن يغرقها طوفان المسلمين.
ولكن، كما ترك انتصار ليبانتو قبل قرن من الزمان (1571) العثمانيين محتفظين بقوتهم مفيقين بسرعة من كبوتهم، فكذلك اضطر الإمبراطور، بسبب قدرتهم على تعويض خسائرهم، وجيشهم الذي ما زال محتفظاً بضخامته، وعدم ثقة ليوبولد بحلفائه التواقين إلى العودة لأوطانهم-اضطر إلى أن يبرم مع السلطان هدنة تمتد عشرين عاماً (10 أغسطس 1664)، ترك بمقتضاها معظم المجر تحت حكم الترك، واعترف فيها ليوبولد بالسيادة التركية على ترانسلقانيا، ودفع للسلطان "هدية" بلغت 200. 000 فلورين. أما أحمد كوبريلي، الذي خسر المعركة وكسب الحرب، فقد عاد إلى القسطنطينية مكللاً بالغار.
وأنهى هجوم لويس الرابع عشر على الأراضي المنخفضة (1667) مؤقتاً اتحاد العالم المسيحي ضد الترك. وفي 1669 تولى أحمد قيادة الحصار الطويل لكريت، وأكره البنادقة على تسليم الجزيرة، وسيطر الأسطول التركي مرة أخرى على البحر المتوسط. ولم يشعر حاكم غير يوحنا سوبيسكي، ملك بولندة، بأن لديه من الرغبة القوية ما يغريه بقهر تركيا. وقد أعلن عن هدفه في شجاعة فقال إن "مقارعة الهمجي غزواً بغزو، ومطاردته من نصر إلى نصر، على ذلك الحد نفسه الذي لفظه من أوربا
…
والقذف به إلى موطنه في الصحاري، وإبادته، وإقامة إمبراطورية بيزنطية على أنقاضه، هذه المغامرة
وحدها هي الجديرة بأن تسمى مسيحية، إنها دون غيرها السامية الحكيمة (15) ". ولكن ليوبولد شجع الترك على مهاجمة بولندة، ولويس حرضهم على مهاجمة ليوبولد (16).
ومات أحمد كوبريلي في 1676 وقد أنهك قواه وهو بعد في الحادية والأربعين الكثير من الهزائم الرائعة، بعد أن خسر "معارك فاصلة" ومد الأملاك التركية إلى أوسع مداها الأوربي. وخلع السلطان محمد الرابع منصب الوزارة على صهره قره مصطفى، الذي أبهج لويس الرابع عشر بوعده بتجديد الحرب على النمسا (17). وشج قره نشوب ثورة (1678) قام بها الوطنيون المجريون بزعامة امري توكولي، الذي ساءه قمع النمسا العنيف للروح القومية وللبروتستنتية في المجر النمساوية، حتى حمله هذا على عرض الاعتراف بالسيادة التركية على جميع أرجاء المجر إذا دعم الأتراك ثورته. أما ليوبولد فقد أقلع بعد فوات الوقت، عن سياسة القمع وأعلن التسامح الديني في المجر. وأرسل لويس الرابع عشر المدد المالي إلى توكولي (18)، ووعد سوبيسكي بالاستيلاء على سيليسيا والمجر إذا ربط بيو بولندة وفرنسا في حلف ضد الإمبراطور. أما ليوبولد فلم يكن في وسعه أن يعد سوبيسكي بأكثر من أرشيدوقة عروساً لابنه، وبتعهد بتأييد جهود سوبيسكي لجعل العرش البولندي في فرعه من الأسرة المالكة. ولسنا نعرف على التحقيق دوافع الملك إلى المبادرة بمساعد النمسا على العثمانيين، وكل ما نستطيعه أن نقول إنها كانت من أعجب وأخطر الأحداث في التاريخ الحديث.
وأحس قره مصطفى أن الخصومات بين الهابسبورج والبوربون، وبين الكاثوليكية والبروتستنتية، تتيح له فرصة الاستيلاء على فيينا، وربما على أوربا بأسرها. وكان الترك يفاخرون بأنهم حولوا القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية قلعة إسلامية في القرن الخامس عشر، وحولوا كنيسة القديسة صوفيا جامعاً، فكذلك أعلنوا الآن أنهم لن يقفوا حتى يفتحوا روما ويربطوا خيلهم في صحن كنيسة القديس بطرس (19). وفي 1682 حشد قره مصطفى في أدرنة قواته ومؤنه التي أتته من الجزيرة العربية والشام والقوقاز وآسيا الصغرى وتركية أوربا، وتظاهر أنه يخطط للهجوم على بولندة. وفي 31 مارس 1683
وبدأ السلطان والصدر الأعظم زحفهما الطويل على فيينا. وكان الجيش كلما تقدم يضم إليه الإمداد من كل ولاية تركية في طريقه، فانضمت إليه فرق من الأفلاق، وملدافيا، وترانسلقانيا، حتى إذا بلغ أوسييك (اسزيك) على الدرافا كان يعد 250. 000 مقاتل، ويحوي بين صفوفه الإبل والفيلة والمؤذنين والأغوات والحريم (20). هناك أذاع توكولي إعلاناً دعا فيه المسيحيين المحيطين بالمنطقة إلى عدم الهجوم على النمسا، وأمنهم على حياتهم وأملاكهم، ووعدهم بحرية العبادة في حمى السلطان. ففتح الكثير من المدن أبوابه للغزاة.
وعاد ليوبولد يستغيث بالإمارات الألمانية ولكنها تباطأت. ووضع جنوده البالغ عددهم 40. 000 تحت إمرة شارل الخامس دوق اللورين، الذي وصفه فولتير بأنه أنبل أمير في العالم المسيحي (21). وترك شارل حامية من 13. 000 رجل في فيينا، ثم تقهقر إلى تولن، حيث انتظر وصول البولنديين. وفر ليوبولد إلى باساو، ولامه شعبه لأنه لم يعد عاصمة ملكه للحصار المرتقب منذ زمن طويل. فلقد كانت حصونها مهدمة، وحاميتها لا تبلغ عشر العدد الزاحف. وفي 14 يوليو ظهر الأتراك أمام المدينة. وبعث ليوبولد إلى سوبيسكي يرجوه أن يأتي فوراً قبل أن تصل مشاته البطيئة الحركة قائلاً "إن اسمك وحده، الذي يرهبه العدو كثيراً، كفيل بالنصر (22) ". وأقبل سوبيسكي بثلاثة آلاف فارس. وفي 5 سبتمبر وصلت مشاته وعدتهم 23. 000 مقاتل. وبعد يومين وصل 18. 000 مقاتل من الولايات الألمانية، فأصبح عدد جيش المسيحيين الآن 60. 000. ولكن فيينا كانت آنذاك تتضور جوعاً، وقلاعها تتهاوى تحت نيران المدفعية التركية، فما هو إلا أسبوع آخر من الحصار حتى تسقط المدينة.
وفي صباح 12 سبتمبر الباكر، هاجم المسيحيون-الذين كانوا الآن تحت قيادة سوبيسكي العليا-الأتراك المحاصرين. ولم يكن قره مصطفى يصدق أن البولنديين آتون، ولا أن القوات المسيحية ستهجم أولاً، فلقد رتب كل شيء للحصار لا للمعركة، وزين ضباطه خنادقهم، بقطع النسيج المرسوم والقرميد، أما هو فزود خيمته بالحمامات، والنافورات، والحدائق، والمحظيات. وأخذ خيرة جنده على غرة في خنادقهم، فمزقوا إرباً إرباً. وشاعت الفوضى في جيشه
المخلط الذي جمعه من ولايات لا يثير حماستها ولاء السلطان البعيد، أمام المسيحيين الذين ألهمهم الشعور بأنهم ينقذون أوربا والمسيحية. وبعد ثماني ساعات قطع الظلام القتال. فلما بزغ الفجر الجديد وجد المسيحيون الذين ما زالوا غير واثقين من النصر-لشدة فرحهم-أن الأتراك قد لاذوا بالفرار مخلفين وراءهم 10. 000 قتيل ومعظم معدات الجيش في المعسكر. أما المسيحيون ففقدوا 3. 000 رجل.
وأراد سوبيسكي أن يطارد الترك، ولكن الجنود البولنديين رجوه أن يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم بعد أن أدوا مهمتهم. ودخل الملك الظافر فيينا وكتدرائيتها ليقدم الشكر لله، وفي طريقه هتف له الشعب العارف بصنيعه منقذاً من السماء، وناضل أفراده ليلمسوا ثوبه ويقبلوا قدميه (23)، وأحسوا أنه ما من شيء في سجل الفروسية يفوق مأثرته تلك. فلما عاد ليوبولد إلى عاصمته (15 سبتمبر) لم يلق غير استقبال فاتر من أهلها. وسأل معاونيه هل حدث أن استقبل إمبراطور مجرد ملك منتخب، وما المراسم التي يجب إتباعها في هذه الحالة. وتباطأ في لقاء سوبيسكي، وأخيراً حياه شاكراً له صنيعه شكراً متواضعاً، وقد توجس ما أن يكون الدافع للبطل في رغبته في مطاردة الترك خطة لاقتطاع مزيد من الملك لنفسه ولأسرته (24). فلم تبدأ المطاردة إلا في 17 سبتمبر، ولم يلتحم الجيش بالترك المتقهقرين إلا بعد ذلك بعشرة أيام. وعند باركاني، قرب الدانوب، أحرز سوبيسكي وشارل انتصاراً حاسماً آخر. ثم قاد الملك جيشه عوداً إلى بولندة بعد أن أنهكه السير والقتال والدوزنتاريا، فدخل كركاو في ليلة ميلاد 1683. وفي اليوم التالي أعدم السلطان قره مصطفى.
وألفت النمسا وبولندة والبندقية، بإلحاح البابا إنوسنت الحادي عشر، عصبة مقدسة لمواصلة الحرب ضد الترك (1684). وفتح فرانشسكو موروزيني المورة (البلوبونيز) للبندقية، وفي 1686 حاصر أثينا واستولى عليها في 28 سبتمبر، وأثناء هذا الحصار دمرت مدفعيته البروبيلايا والبارتينون، اللذين استعملهما الأتراك مخزناً لبارودهم. وقد استعاد الترك أثينا وأتيكا في 1688، والمورة في 1715. وفي غضون هذا هزم شارل اللوريني الترك في جران (ازترجوم) في 1685، وفي السنة نفسها، وبعد عشر أيام من
الحصار، استولى على بودا-عاصمة المجر القديمة-التي كانت في قبضة الأتراك منذ 1541. وفي 1678 قاد شارل القوات النمساوية إلى النصر في هاركاني، قرب موهاكس، حيث استهل انتصار سليمان القانوني عام 1526 عصر التفوق العثماني. وأنهت معركة "موهاكس الثانية" هذه سلطة الأتراك في المجر، التي أصبحت الآن ملكاً للملكية النمساوية. واعترفت ترانسلقانيا بسيادة الإمبراطور الهابسبورجي، وأدمجت (1690) في الإمبراطورية النمساوية-المجرية. وفي 1688 استولى ماكس ايمانويل البافاري على بلغراد. وأعلن ليوبولد أن الطريق أصبح الآن مفتوحاً غلى القسطنطينية، وأنه قد آن الأوان وواتت الفرصة لطرد الأتراك من أوربا.
ولكن لويس الرابع عشر خف لنجدتهم. ذلك أن حرب البوربون مع الهابسبورج كانت في نظر ذلك "الملك المسيحي جداً" أهم من الصراع بين المسيحية والإسلام. وكان يرقب في غيرة متزايدة انتصارات العصبة المقدسة واتساع ملك الهابسبورج وعلو مكانتهم. وفي 1688، استأنف حربه مع الإمبراطور، ضارباً صفحاً عن إبرامه هدنة عشرين عاماً معه قبل ذلك بأربع سنين فقط، وأرسل جيشاً إلى البالاتينات. فأرسل ليوبولد شارل وماكس ايمانويل لملاقاة الهجوم على الراين، وتوقف الزحف على الترك، وتجدد الهجوم التركي.
واستوزر السلطان الجديد، سليمان الثاني، رجلاً آخر من أسرة كوبريلي هو مصطفى أخو أحمد. وهدأ مصطفى خواطر المسيحيين في تركية أوربا بتوسيعه حرية العبادة، ونظم جيشاً جديداً، واستولى على بلغراد من جديد (1690). ولكنه قتل بعد سنة، ودحر الأتراك عند سلانكامين. وتولى السلطان مصطفى الثاني قيادة الجيش بشخصه، ولكن المسيحيين هزموه في سنتا (1697) وكان يقودهم أوجين أمير سافوي. وطلب مصطفى الصلح، وأبرم ليوبولد معاهدة كارلوفتز (1699) مع تركيا وبولند والبندقية، مغتبطاً لأن يده أطلقت في محاربة لويس. ونزلت تركيا عن كل دعاواها في ترانسلقانيا والمجر (فيما عدا "بنات" تيميسفار) ونزلت عن غربي أوكرانيا لبولندة، وسلمت المورة ودلماشيا الشمالية للبندقية. واحتفظت بالبلقان كله-دلماشيا الجنوبية، والبوسنة، والصرب، وبلغاريا،
ورومانيا، ومعظم اليونان، ولكن المعاهدة عينت نهاية الخطر التركي على العالم المسيحي.
ترى ما الذي هوى بقوة العثمانيين من أوجهاً أيام سليمان القانوني؟ ليس كالنجاح شيء يتعرض للسقوط. لقد كانت فرص المتعة التي أتى بها النصر والثورة شديدة الإغراء، فبدد السلاطين في الحريم ما كانوا في حاجة إليه من طاقة وهمة لضبط الجيش والموظفين والوزراء. واتسعت دولتهم اتساعاً حال دون إدارتها إدارة فعالة، ودون سرعة توصيل الأوامر ونقل الجنود، وكان يحكم الولايات باشوات جعلهم بعد الشقة بينهم وبين الآستانة مستقلين تقريباً عن السلاطين. ولم يعد الجوع يحفز الترك، ولا الأعداء يهددونهم، فتردوا في مهاوي الكسل والفساد، وأفسدت الرشوة الحكم وأشاع غش العملة فوضى في الاقتصاد والجيش. وتمرد الانكشارية المرة بعد المرة على رواتبهم المدفوعة بعملة هبطت قيمتها، واكتشفوا سطوتهم، فاستغلوها كلما تعاظمت. وظفروا بحق الزواج، وحصلوا لأبنائهم وغيرهم على الإذن بالانخراط في سلاحهم الذي كان من قبل وقفاً على النخبة المنتقاة، وتنكروا للتدريب والنظام الصارمين اللذين جعلا الانكشارية صفوة المقاتلين في أوربا. أما قوادهم الذين أصبحوا خبراء في لذات الجنس، فقد فشلوا في ملاحقة العلوم والأسلحة الحربية. وبينما كان الغرب المسيحي يصنع مدافع أفضل، ويطور استراتيجية وتكتيكاً أرقى، في صراع الحياة والموت الذي دار على ساحات حرب الثلاثين، وجد الأتراك، الذين كانوا تحت إمرة محمد الفاتح يملكون أفضل مدفعية في العالم-وجدوا أنفسهم-كما حدث في ليبانتو-متخلفين في قوة النيران والاستراتيجية. وأرهقت الحرب، التي قوت من قبل الدولة العثمانية يوم كان السلاطين يقودون جيوشهم بأنفسهم-هذه الحرب أرهقت الدولة حين آثروا انتصارات الحريم السعلة على مشاق المعركة. وكان لسيطرة الإيمان القدري، غير التقدمي، على الحياة والفكر أثرها في خنق العلوم الإسلامية التي كان لها القدح المعلي في العصور الوسطى، وازدادت المعرفة في الغرب وتخلفت في الشرق. وحسن المسيحيون بناء سفنهم وأصلحوا مدفعيتهم وامتدت تجارتهم إلى جميع القارات، تشق لها طرقاً جديدة في العباب، بينما كانت معظم
التجارة العثمانية تزحف في قوافل على اليابس. وترك الحكام الكسالى السقايات والقنوات تبلى، بينما الفلاحون الذين قبلت الحرب حياتهم ينتظرون المطر في ذل ومسكنة. واتخذ مسار الإمبراطورية طريقه غرباً، إلى أن وجد نفسه ثانية في الشرق يوماً وهو لا يزال يتحرك غرباً.
وكان رد الأتراك على عقابهم معناه بالنسبة للغرب الدعوة لحرب داخلية طاحنة. ذلك أن النمسا وألمانيا تحولتا بعد تحررهما من ضغط الإسلام عليهما لمواجهة أطماع لويس الرابع عشر، الذي كان يمد ذراعيه في الأراضي المنخفضة، وأراضي الراين، والبلاتينات، وإيطاليا، وأسبانيا. وأكملت هذه اللطمات الآتية من الغرب تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فلم يبق منها غير الصورة. وانتهى الأمر بالإمبراطور إلى النظر إلى نفسه على أنه نمساوي لا روماني، وحلت الإمبراطورية النمساوية-المجرية محل الرومانية المقدسة. وجعلت العروش الثلاثة-عروش النمسا، والمجر، وبوهيميا-وراثية في أسرة هابسبورج (1713)، فألغيت حقوق الولايات البوهيمية والمجرية التقليدية في انتخاب ملوكهم. وعادت المجر إلى الثورة (1703 - 11) بزعامة فرنسيس راكوكزي الثاني، ولكن الثورة أخمدت، تاركة الحنين إلى الحرية يتردده صداه في الشعر والأغاني.
وسخرت النمسا اقتصاديات المجر وبوهيميا لمنفعتها الخاصة، وتمتعت طبقاتها العليا بثراء جديد. وارتفعت القصور الفاخرة للأرستقراطية، وأسكنت الكنائس الجميلة والأديار الضخمة القساوسة والرهبان المنتصرين. وأعد الأمير بال استرهازي بناء قلعته الكبرى في ايزتشتات، حيث سيقود هايدن يوماً فرقته الموسيقية ويؤلف ألحانه. وفي فيينا صمم دومنيكو مارتينللي قصر ليشتنشتين، وقصر بلفدير لأوجين أمير سافوي. وبنى يوهان فيشر فون ايرلاخ لهذا الأمير ذاته قصوراً شتوياً فاخراً، ووضع الخطط للمكتبة الملكية، والقصر الإمبراطوري في شونبرون. وفي 1715 بدأ أعظم معماري النمسا هذا
عمله في كنيسة كارلسكرشي بفيينا، بطراز كنيسة القديس بطرس بروما. وعلى ضفاف الدانوب على نحو أربعين ميلاً غربي فيينا شاد يعقوب برانتاور دير "كلوسترميلك" أكبر الأديار البندكتية وأروعها في الأراضي الألمانية، وهذا أوج الباروك النمساوي. وفي أعقاب الانتصار صمم يوهان ارنست تون، رئيس الأساقفة الكفء الوجيه، حديقة ميرابيل الشهيرة بسالزبورج، وجملها بمنحوتات من صنع فيشرفون ارلاخ. وهكذا تحركت النمسا في كبرياء وأبهة إلى أعظم قرن في تاريخها.
الفصل الخامس عشر
الجنوب المراح
1648 - 1715
1 -
إيطاليا الكاثوليكية
من حكمة الفلاح الصامتة أن في الإمكان إصلاح التربة التي كاد يرهقها الثمر الوفير بإراحتها فترة، وربما بحرثها دون زرعها. وهكذا استراحت إيطاليا بعد خصوبة النهضة التي أرهقتها. وأبطأ تدفق حيويتها العارمة، وكأنها تستجمع قوتها لمزيد من جلائل الأعمال. فعلينا إذن أن لا نتوقع من إيطاليا هذا العصر والعصر التالي له-بين برنيني وبونابرت-ثماراً كتلك التي تدفقت من معينها الفياض في قرونها الذهبية. إننا نلم بها هنا مرة أخرى، قانعين إذا استطعنا بين الحين والحين أن نسمع في مدنها التي تردد أصداء التاريخ أصواتاً صغيرة تشهد بحياة لم تنطفئ جذوتها.
وكانت لا تزال كاثوليكية بطبيعة الحال، فذلك من صميم روحها، ولا سبيل إلى انتزاعه منها دون انتهاك لروحها. كان فقراؤها يظلمهم الأغنياء، الذين هيمنوا بالطبع على الحكومات وشرعوا القوانين. وعلل الأغنياء هذا الظلم بأن الفقراء سيصبحون مشاغبين وقحين إذا رفعت أجورهم. أما النساء فكان يستغلهن الرجال والشعب، إلا أن يكن في ربيع حسنهن. في هذه الأحوال كانت طبقات الشعب الدنيا، والجنس الأضعف آنذاك، تجد عزاء في خدمة الكنيسة. وكان إيمانها بالعدل الإلهي سنداً يعزيها عن قسوة الإنسان، وكانت خطايا ألسنتهم الحادة وجسدهم الوثني يغتفرها دون تردد القساوسة المتسامحون والرهبان اللطفاء الذين أطعموهم والرجاء يملأ نفوسهم. وكانوا شاكرين لما تخلل أيامهم المثقلة بالأعباء من أعياد ومهرجانات مريحة يحتفلون فيها بذكرى قديسيهم الحامين. وآمنوا بأن قديسيهم، والأم العذراء الرحيمة، سينقذونهم من أحوال الجحيم بتشفعهم أمام عرش
الله، وبأن الغفرانات التي توزعها الكنيسة ستقصر مقامهم في المطهر، وأنهم سيدخلون، إن عاجلاً أو آجلاً، فردوسا-يفوق جماله حتى جمال إيطاليا-لن يكدر صفوه ملاك، ولا ضرائب، ولا عشور، ولا حرب، ولا حزن، ولا ألم.
وهكذا احتملوا بصبر، ومرح، وغناء، ابتزازات كهنتهم الذين لم يخل منهم مكان، والذين التهموا على الأقل ثلث إيرادات الأمة. وأحبوا كنائسهم كأنها من جزر السلام وسط حرب الحياة. وتأملوا بهاء كنيسة القديس بطرس وفخامة الفاتيكان في فخر لا يخالطه استيلاء ولا غيظ، فتك حصيلة دراهمهم ونتاج فنانيهم، وهي ملك للفقراء أكثر من الأغنياء، وهي في نظرهم ليست أفخم من أن تكون مثوى لأول الرسل (بطرس)، أو مسكنا لزعيم العالم المسيحي، خادم خدام المسيح. وإذا كان ذلك الأب الأقدس يعاقب الهجمات إلى توجه للكنيسة، فما ذلك إلا ليمنع الحمقى من تدمير صرح الأخلاق القائم على العقيدة الدينية، ليصون ذلك الإيمان الذي جعل من نثر الكد والشقاء ملحمة شعرية.
أما ديوان التفتيش الإيطالي فكان رحيماً نسبياً في هذا العصر. وأشهر ضحاياه قس أسباني يدعى مجويل دي مولينوس. ولد في سرقسطة، وسكن روما. وفي 1675 نشر كتابه "المرشد الروحي" الذي يزعم فيه أنه وإن كان التعبد للمسيح والكنيسة معيناً على بلوغ أسمى الحالات الدينية، إلا أنه يجوز للعابد الذي انقطع للاتصال المباشر بالله أن يتجاهل وهو مطمئن كل الوساطات الكهنوتية والطقوس الكنسية. وفي نبذة أخرى رأى مولينوس أنه لا حرج على العابد الواثق من تحرره من الخطيئة الأخلاقية في أن يتناول القربان دون أن يعترف للكاهن قبل التناول. واجتذب "مرشد" مولينوس النساء على الأخص فالتمست نصيحته المئات-ومنهن الأميرة بورجيزي والملكة كرستينا، وأرسلن له الهدايا. واعتنقت راهبات كثيرات هذه "الهدوئية" الجديدة، ونبذن أورادهن، واستغرقن في صلة فخور بالله. وشكا العديد من الأساقفة الإيطاليين من هذه الحركة التي قللن من شأن الخدمات والتبرعات الكنسية، وناشدوا البابا إنوسنت الحادي عشر أن يقمعها (1). وهاجم اليسوعيين والفرنسيسكان مولينوس لأنه أكد على
الإيمان دون "الأعمال" تأكيداً يكاد يكون بروتستنتياً. وبسط عليه البابا حمايته حيناً، ولكن ديوان التفتيش الروماني قبض عليه في 1685، ثم على نحو مائة من أتباعه. وكان قد جمع أربعة آلاف كراون ذهبي (50. 000 دولار؟) يفرضه رسما صغيراً على المشورة التي يبذلها لمراسليه، ونستطيع الحكم على عدد هؤلاء المراسلين من تكاليف البريد على الخطابات التي تسلمها في يوم القبض عليه، والتي بلغت ثلاثاً وعشرون دوكاتية (287. 50 دولاراً؟)(2).
وبعد أن فحص ديوان التفتيش السجناء وضع قائمة بالتهم الموجهة إليهم، وأهمها أن مولينوس برر تحطيم صور المسيح المصلوب والتماثيل الدينية لأنها تعوق هدوء الاتحاد بالله، وأنه ثبط همم الأشخاص الذين أرادوا نذر أنفسه للدين أو الالتحاق بالطرق الدينية، وأنه قاد تلاميذه إلى الاعتقاد بأن لا شيء يأتونه بعد بلوغهم الاتحاد بالله يمكن أن يكون خطيئة. ولعله اعترف تحت ضغط السجن، أو التعذيب، أو الخوف، بأنه اغتفر تحطيم الصور، وبأنه ثنى الأشخاص الذين رآهم لا يصلحون للرهبنة عن نذر أنفسهم لها، واعترف بأنه ظل سنين كثيرة يمارس "أكثر الأعمال خروجاً على اللياقة مع امرأتين"، وأنه "لم ير ذلك إثماً بل تطهيراً للنفس"، وأنه بذلك " استمتع باتحاد أوثق مع الله"(3). وأدان ديوان التفتيش ثماني وستين دعوى وجدها في كتاب مولينوس أو رسائله أو اعترافاته، وفي 3 سبتمبر 1678 وجه إليه الاتهام في احتفال عام مما يحرق فيه المهرطقون auto-da-f ( وحضر جمع كبير، وطالبوا بحرقه، ولكن المحكمة قنعت بالأمر بسجنه مدى الحياة. وقد مات في السجن في 1697.
ولعلنا نتعاطف أكثر مع "المهرطقين" الألبيين الذي بكاهم ملتن في سونيتة سماها "حول المذبحة الأخيرة في بييدمونت". وبيان ذلك أنه كان يسكن الأودية الرابضة بين بييدمونت السافواوية ودوفينه الفرنسية قوم يدعون الفودوا، هم حفدة "الفالدنيز" الذين سبقوا حركة الإصلاح البروتستنتي وعاشوا بعدها، والذين احتفظوا بعقيدتهم البروتستنتية خلال عشرات التقلبات التي طرأت على القانون والحكومة.
وفي 1655 انضم الدوق شارل ايمانويل الثاني أمير سافوي إلى لويس الرابع عشر في تنظيم جيش لإكراه هؤلاء الفودوا على اعتناق الكاثوليكية. وأثارت المذبحة التي أعقبت ذلك سخط كرومويل، فحصل من مازاران على أمر بوقف هذا الاضطهاد. ولكن بع موت حامي الجمهورية (كرومويل) والكردينال (مازاران) تجدد الاضطهاد، فلما ألغي مرسوم نانت استأنفت الدولة الفرنسية جهودها في استئصال شأفة البروتستنتية من الإقليم. وألقى الفودوا السلاح على وعد بالعفو العام، وما لبث ثلاثة آلاف منهم، مجردين من السلاح، وفيهم النساء والأطفال والشيوخ، أن ذبحوا ذبح الأنعام (1686). وسمح للباقين منهم على قيد الحياة، الذين أبوا اعتناق الكاثوليكية، بالهجرة إلى أرباض جنيف. ثم جاء دوق آخر لسافوي يدعى فيكتور أمادبوس، وجد نفسه في مشكال السياسة حليفاً لا لفرنسا بل عليها، فدعا الفودوا للعودة إلى أوديتهم (1696). فعادوا، وقاتلوا تحت لوائه وسمح لهم بعدها بعبادة المجهول على طريقتهم المؤمنة.
أما الفقراء فكانوا في الولايات البابوية يعانون فقر إخوانهم في كل مكان بإيطاليا وكانت الإدارة البابوية (الكوريا)، كأي حكومة، تفرض الضرائب على رعاياها إلى الحد الذي يهبط بعائدها، فلم يتح لها قط من المال ما يكفي لأغراضها وموظفيها. وقد أنذر الكردينال ساكيتي البابا اسكندر السابع (1663) بأن جباة الضرائب يفقرون السكان حتى يشرفوا بهم على حافة اليأس، فقال:"إن أفراد الشعب، الذين لم يعودوا يملكون من الفضة أو النحاس أو الثياب أو الأثاث ما يشبع جشع الجباة، سيضطرون غلى بيع أنفسهم ليلبوا المطالب الثقيلة التي فرضتها عليهم الكاميرا (الغرفة التشريعية للكوريا (4) "). وشكا الكردينال من الرشوة في القضاء البابوي، ومن الأحكام التي تباع وتشرى، والدعاوي التي يطول نظرها سنين عديدة، والعنف والطغيان يعانيهما الخاسرون الذين يجرءون على استئناف الحكم من موظف أدنى إلى آخر أعلى. يقول ساكيتي "إن هذه المظالم أفدح من تلك التي نكب بها بنو إسرائيل في مصر .. .. يعاملون معاملة أكثر وحشية من معاملة العبيد في سوريا أو أفريقيا. فمنذا يستطيع أن يشهد
هذه الأشياء دون أن يذرف عليها دموع الحزن والأسى (5)؟ " وفي وسط فقر الجماهير كان العديد من السر النبيلة التي تربطها رابطة القرابة بالبابوات أو الكرادلة يتلقى الهبات السخية من إيرادات الكنيسة.
أما بابوات هذا العهد لميكونوا زهاداً كبيوس الخامس، ولا رجال دولة كسيكستوس الخامس، إنما كانوا في العادة قوماً طيبين، أضعف من أن يتغلبوا على الرذائل البشرية المحيطة بهم، أو يراقبوا مئات الثغرات والأركان التي ينفذ من خلالها أو يختبئ فيها الفساد في إدارة الكنيسة. ولعل أي مؤسسة بلغت هذا المبلغ من الاتساع وكثرة الواجبات لا يمكن وقايتها من الأخطاء الملازمة لطبيعة الإنسان. وقد جاهد إنوسنت العاشر، (1644 - 55)، "النقي الحياة المستقيم المبدأ (6) " ليخفف من ثقل الضرائب، ويكبح استغلال النبلاء الجشعين للإيرادات البابوية، ويصون النظام والعدل في ولاياته. وتبدو عليه-كما صوره فيلاسكويز-كل مظاهر الخلق القوي، ولكنه سمح لغيره بأن يحكموا نيابة عنه، وترك أوليمبيا مايدالكيني، زوجة أخيه الجشعة الطموح، تؤثر في تعييناته وسياساته، فكان الكرادلة والسفراء يتذللون أمامها، وأثرت من هداياهم ثراءً صارخاً، ولكن لما مات إنوسنت زعمت أنها أفقر من أن تنفق على مأتمه (7).
وروي أن كردينالاً قال في مجمع الكرادلة الذي اختار خليفته "يجب أن نبحث عن رجل أمين هذه المرة (8) ". وقد وجدوه في شخص فابيو كيجي، الذي أصبح الاسكندر السابع (1655 - 67). وقد بذل قصاراه ليطهر الإدارة البابوية من الفساد وتعطيل الأعمال، ونفى أبناء أخيه النهمين إلى سيينا، وخفض الدين العام. غير أن الفساد الذي أحاط به كان أوسع وأعم من أن يستطاع قهره. فألقى السلاح، وسمح لأبناء أخيه بالعودة إلى روما، وخلع عليهم المناصب المجزية، فجمع أحدهم بعد قليل ثروة طائلة (9). وانتقلت القوة من يدي الاسكندر المتعبتين إلى الكرادلة، الذين طالبوا بالمزيد من السلطة في حكم الكنيسة. ورحلت أرستقراطية من الأسر تفخر بكرادلتها محل الملكية المطلقة التي ثبتها مجمع ترنت من قبل البابوات.
وجدد كلمنت التاسع (1667 - 69) الكفاح ضد محاباة الأقرباء. وسمح لأقربائه ببعض الامتيازات المتواضعة ولي ظهره لطلاب المناصب. وأقبل المئات من مسقط رأسه بيستويا، واثقين من أنه سيعينهم على الإثراء، ولكنه ردهم، فهجوه هجواً ساخراً، وهنا أيضاً ندرك أن طبيعة البشر واحدة سواء في الظالم أو المظلوم، وأن الناس هم أس البلاء المحيط بهم. وكان البابا الجديد رجل سلام وعدل. فبينما أصدر سلفه-بتحريض من لويس الرابع عشر-مرسوماً مثيراً للمتاعب ضد الجانسنيين، عرض كلمنت هدنة في ذلك النزاع الشائب داخل الكنيسة. ومن أسف أنه مات ولم يقض في دست الحكم غير عامين.
وخلفه كلمنت العاشر (1670 - 76) وهو في الثمانين، فترك الأمور للكرادلة (كما رتبوا الأمر من قبل)، ولكنه أنهى عهده دون عيب يعيبه. وجاء إنوسنت الحادي عشر (1767 - 89) وكان-كما قال رانكي البروتستنتي-رجلاً "تفرد بتواضعه
…
غاية في دماثة الخلق وهدوء الطبع"، مدققاً في مسائل الأخلاق حازماً في شئون الإصلاح (10). وقد أبطل "كلية" الموثقين الرسوليين التي قال مؤرخ كاثوليكي "إن التعيينات فيها كانت تباع وتشترى بانتظام (11)" وألغى الكثير من المناصب والامتيازات، والإعفاءات، (التي لا فائدة منها) ووازن الميزانية البابوية لأول مرة في سنوات كثيرة، وأرسي للنزاهة المالية سمعة مكنت الإدارة البابوية من اقتراض المال بفائدة لا تزيد على 3%. كتب فولتير يقول عنه "كان رجلاً فاضلاً، وحبراً حكيماً، ولاهوتياً ضعيفاً، وأميراً شجاعاً، قوي العزيمة، جليل القدر (12)". وقد حاول عبثاً أن يخفف من تعجل جيمس الثاني في كثلكة إنجلترا، وأدان العنف الذي استعمله لويس الرابع عشر ضد الهيجونوت، وقال، "إن الناس يجب أن يهدوا إلى دور العبادة لا أن يجروا إليها جراً (13) " ولم يجد ما يدعوه لمحبة ذلك الملك المتكبر الذي ادعى لنفسه من السلطة المطلقة على الكنيسة في فرنسا ما يقرب من السلطة التي أكدها هنري الثامن لنفسه في إنجلترا. ولكي يقلل إنوسنت الحادي عشر من الجرائم في روما ألغى حق اللجوء الذي سبق منحه لمساكن السفراء، وأصر لويس على الاحتفاظ بذلك الحق لمبعوثيه،
بل للشوارع المجاورة للسفارة الفرنسية، وفي 1678 دخل سفيره روما بفوج من الفرسان ليفرض بالقوة مطلب الملك. ووبخ البابا السفير، وأوقع حرماً على كنيسة القديس لويس التي كان يصلي فيها السفير في روما. واحتكم لويس إلى مجمع عام، وسجن ممثل البابا في فرنسا، واستولى على إقليم أفنيون الذي كان ملكاً للبابا منذ 1348. ومن هنا نظرة إنوسنت الحادي عشر الهادئة المطمئنة إلى الحملة التي جردها وليم أورنج الثالث، البروتستنتي، لخلع جيمس الثاني الكاثوليكي وإدخال إنجلترا في حلف ضد فرنسا. وقد تعاون البابا مع جهود ليبنتز لإعادة الوحدة بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ووافق على تنازلات أعلنت جامعات ألمانيا البروتستنتية رضاءها عنها، وقد وصفه أحد الإنجليز بأنه "بابا بروتستنتي (14) ".
وتوفي إنوسنت الحادي عشر قبل أن يشهد انتصار أهدافه، ولكن خلال بابوية الاسكندر الثامن (1689 - 91) وإنوسنت الثاني عشر (1691 - 1700) تخلى السفير الفرنسي عن حق اللجوء، وردت أفنيون للبابوية، ونقل الأكليروس الفرنسي ولاءه من الملك غلى البابا وإعادة الحلف الأعظم توازن القوى ضد فرنسا العدوانية. وفي حرب الوراثة الأسبانية وجد كلمنت الحادي عشر (1700 - 21) نفسه وقد تورط في انقسامات أوربا العنيفة، فكان يلقي بنفوذه متردداً تارة في جانب وتارة في جانب آخر، وفي النهاية اقتسم الملوك الأسلاب دون أن يستشيروه-حتى صقلية وسردانيا، وهما-فنياً-إقطاعتان بابويتان. كذلك كانت معاهدة وستفاليا قد تجاهلت احتجاجات إنوسنت العاشر. لقد استلزم اشتداد النزعة القومية إضعاف البابوية، وأسهمت هذه النزعة مع نمو العلم في تشجيع العلمانية والتهوين من دور الدين في الحياة الأوربية.
2 - الفن الإيطالي
أحس الفن كما أحست السياسة بهذه المنافسة المشتدة بين شئون الدنيا وشئون الدين. كان رجال الكنيسة لا يزالون أغنى رعاة الفن، يوصون بالمباني، والصور والتماثيل، والزخارف، ولكن الأرستقراطية
استكثرت الآن من القصور بأسرع من الكنائس، وتوددت إلى الأجيال القادمة بالصور، وأهدتها مجموعات من التحف الفنية. وفي إيطالية القرن السابع عشر جرى تيارا الرعاية هذان جنباً إلى جنب في انحدار بهي من النهضة الأوربية.
وكانت تورين تتخذ طريقها إلى الثراء تحت حكم أدواق سافوي. وقد صمم جوارينو جواريني لكتدرائية سان جوفاني باتيستا "كابيل ديل سانتيسيمو سوداريو" أي كنيسة الكفن الأقدس (الذي اعتقد المؤمنون أن يوسف الرامي كفن فيه جسد المسيح). وقد انهارت قبة كنيسة سان فيلييو الكبرى، التي بدأها جواريني، قبيل أن تكتمل، فرممها فيلييو ايوفارا، الذي ولد سنة 1676 قبل موت جواريني بسبع سنوات. ولعلنا نلتقي بايوفارا مرة أخرى.
وفي جنوة كان أروع بناء شيد في هذا العهد هو قصر دوراتزو الذي بناه فالكوني وكانتوني في 1650، واشتراه بيت سافوي في 1817، واستخدم بعد ذلك قصراً ملكياً للأسرة. وقد تحطمت قاعة مراياه الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، وكانت رائدة لقاعة مرايا فرساي (1678)، فليس صحيحاً إذن أن مارس (إله الحرب) عشق فينوس يوماً ما. أما أبرز المصورين الجنوبيين الآن فكان اليساندرو مانياسكو، وقد نجد أنموذجا من فنه في لوحة "مجمع اليهود" المحفوظة بمعهد الفن بشيكاغو، أو لوحة "الغداء البوهيمي" المحفوظة باللوفر.
وواصلت البندقية إنجابها للأطفال والفنانين. وأي عمل أعظم بطولة من الدفاع عن كانديا ضد ترك؟ فطوال ربع قرن ظل جنود الباب العالي وبحارته يهاجمون كريت، وكانت يومها مستعمرة للبندقية، وهلك في تلك الحملات العنيفة 100. 000 تركي (15)، ومع أن جيشاً عدته 50. 000 مقاتل استولى على بعض المدن الصغيرة في الجزيرة، فإن العاصمة صمدت للحصار عشرين عاماً، وصدت اثنين وثلاثين هجوماً. وفي 1667 أرسل فرانشسكو موروزيني ليقود الحامية المشرفة على الموت جوعاً. وأخيراً سلمت (1668)، ولكن أحداً لم يعد يتكلم على تدهور البندقية. وفي 1693، عندما تقلد موروزيني إمرة الأسطول البندقي، تقهقر الأتراك حين اقترب منهم وقد روعهم
اسمه فقط. وكان لا يزال من ذلك الطراز من الرجال الذي صره تنتوريتو وفيرونيزي-الشجاعة المجسمة التي لا تعرف الرحمة.
وكان بالداساري لونجينا رجلاً آخر من هذا الطراز السبعيني. فقبل سنوات كثيرة (1632) صمم كنيسة "سانتا ماريا ديللا سالوتي"-أميرة البحيرات الجليلة، أما الآن، وبعد سبعة وأربعين عاماً، فقد شاد قصر بيزارو على القناة الكبرى-قصراً متيناً بديعاً بأعمدته المزدوجة وكرانيشه المتعددة، ثم بنى (وهو في السادسة والسبعين) قصر ريتزونيكو، الذي سيموت فيه الشاعر براوننج. وهناك نبت آخر، صلب العود، حمل البذرة البندقية إلى نصف القارة، وهو سبستيانو ريتشي، الذي ولد (1659) بمدينة بللونو في إقليم فنيتسيا، وذهب إلى فلورنسة ليزخرف قصر ماروتشيللي، ثم سار على أقل الدروب ضنكاً-إلى ميلان، وبولونيا، وبياتشينزا، وروما، وفيينا، ولندن. وأنفق عشر سنوات في إنجلترا، ورسم صوراً في مستشفى تشلسي، وبيرلنجتن هاوس، وقصر هامبتن كورت، وكاد يظفر بمهمة زخرفة كنيسة القديس بولس الجديدة. ثم مضي إلى باريس، حيث انتخب عضواً في أكاديمية الفنون الجميلة. ولوحته "ديانا والحوريات (16) " غلمة كلوحات بوشيه، لطيفة كلوحات كوريدجو. وعمر ريتشي حتى 1734، وأسلم مهاراته للقرن الثامن عشر، ومهد الطريق للعصر الذهبي للتصوير البندقي أيام تيبولو.
أما المدرسة البولونية فلم تكن قد استنفدت قوتها تماماً. فاشتهر كارلو تشينياني برسومه الجصية في كتدرائية فرولي. وكشف جوزيبي ماريا كرسبي (لو سبانيولو) في "صورته الذاتية (17) " عن رجل مستغرق في الفن، متناس كل متاعبه إذا أتيح له أن يرسم. وقد صور جوفاني باتيستا سالفي ("الساسوفيراتو") في لوحته "العذراء تصلي (18) " ما في المحبة من إنكار للذات، وأرانا في لوحته "العذراء والطفل (19) " مجرد امرأة بسيطة، سعيدة بوليدها (البامبينو)، كأي امرأة تراها في أي يوم بين فقراء إيطاليا.
وقد حكم فلورنسة وبيزا وسيينا خلال هذه الفترة اثنان من كبار أدواق توسكانيا، فرديناند الثاني وكوزيمو الثالث. وفي 1659 بدأت
سيينا مهرجان الباليو (المعطف) المشهور: فكانت أحياؤها العشرة تنظم موكباً بملابس بهية يسير في شوارع زينت بالعمائر، والرايات، والزهور، ونساء مرحات لابسات ثياباً جذابة، ثم يتبارى فرسان الأحياء بجنون في سباق على معطف السيدة العذراء التي كرست المدينة التقية نفسها وحياتها له منذ أمد بعيد. ولم تملك فلورنسة الآن من المصورين إلا الصغار. وواصل كارلو دولتشي، بفن أضعف، صور رينو جيدي العاطفية، المتأملة في السماء، التي رسمها للعذراء والقديسين، والعالم كله يعرف لوحته "القديسة سيسيليا (20) ". ورسم يوستوس سوسترمانس، الذي هاجر من فلاندر غلى فلورنسة، لوحات تعد من العجائب التي تشد الانتباه في قاعة بيتي-وليس أقلها رأس جاليليو الرائع الجليل. كذلك كان يبدو موسى وهو يشرع الناموس، لا كما نراه في وحش ميكل أنجيلو ذي القرون.
وكان الفن في روما يفيق من قيود الحركة المعارضة للإصلاح البروتستنتي. فعاد البابوات بقدر أخف إلى روح النهضة، وشجعوا الأدب، والدراما، والعمارة، والنحت، والصوير. ورمم إنوسنت العاشر الكابيتول وكنيسة سان جوفاني في لاتيرانو. وكلف الاسكندر السابع برنيني بأن ينحت نطاقاً رباعياً من حراس مصنوعين من الجرانيت حول ميدان القديس بطرس (1655 - 67) -فنحت 284 عموداً و88 ركيزة، ووفق في صنعها إلى تحويل الذهب إلى حجر. وفي عهد هذا البابا أعاد بييترو داكورتونا بناء كنيسة سانتا ماريا ديللا باتشي، حيث كانت عرافات رفائيل لا تزال تتأمل القدر. واشترك جيرولامو دينالدي مع ابنه كارلو في تشييد كنيسة سانتاجنيزي الجميلة في ميدان نافونا. واشترك الوالد والولد ثانية في تصميم كنيسة "يسوع ومريم"، وبنى كارلو هيكل سانتا ماريا في كامبيتللي ليضم تمثالاً للعذراء اعتقد الناس أنه أوقف طاعون 1656. وكان الكرادلة والنبلاء يبنون مساكنهم ومدافنهم في فخامة القصور. وارتفع الآن قصر دورياً وبهو قصر كولونا ذو الزخارف الباروكية المسرفة، وفي كنيسة "يسوع ومريم" حفر فرانشسكو كافالليني لأسرة بولونيتي مقبرة لا بد أنها أثارت حسد الأحياء للأموات.
وأقام مصورون كثيرون الدليل على أن فنهم ما زال حياً في روما.
وقد خطب أهلها ود كارلو ماراتي، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، باعتباره زعيم المصورين في الباروك الحديث. وصورته لكلمنت التاسع (21) كانت مذكرة بصورة فيلاسكويز لإنوسنت العاشر، ولكنها انتهت نهاية طيبة، وصورته "العذراء مع القديسين في الفردوس"(22) تكرار لعشرات مثلها، ولكنها صورة جميلة. وحين أراد كلمنت الحادي عشر ترميم لوحات رفائيل الجصية في الفاتيكان عهد إلى ماراتي بهذه العملية الدقيقة الخطرة على المرمم خطرها على الرسوم، فأداها بكفاية. واختار اليسوعيون جوفاني باتيستا جاوللي (الباتشتشو) ليرسم قبو كنيستهم الأم "الجيزو"، ولكن كان من بين أبناء طريقتهم راهب من أقدر فناني عصره، هو أندريا بوتسو، الذي التحق بالطريقة وهو في الثالثة والعشرين، وصمم في تلك الكنيسة مذبح القديس اجناتيوس-وهو من روائع الباروك. وفي 1692 نشر بوتسو مقالاً عن المنظور في التصوير والعمارة أثار ضجة في عدة لغات. واستهواه موضوعه كما استهوى أوتشيللو موضوعه قبل قرنين، فطور دراساته بلطائف "الخداعية"، كما يرى في صوره الجصية في فراسكاتي. ودعاه الأمير فون ليشتنتشتين إلى فيينا، فأفنى نفسه بكثرة المهام التي اضطلع بها، ومات هناك في 1709 بالغاً من العمر سبعة وستين عاماً.
كان أعظم المصورين الإيطاليين الآن في نابلي. فكل شيء أينع وازدهر هناك-الموسيقى والفن، والأدب، والسياسة، والدراما، والجوع، والقتل، وشيء آخر لا يكف عنه الرجال الهائجون أبداً، وهو مطاردتهم لجسد المرأة ومفاتنه، المطاردة المرحة، العنيفة، الشجية. وتأثر سلفاتور روزا بكل عناصر الحياة هذه. وكان أبوه معمارياً، وعلمه عم له التصوير، وكان زوج أخته تلميذاً لريبيرا، وقد أذن لسلفاتور نفسه في الوقت المناسب بالالتحاق بذلك المرسم الجليل. وعلمه أستاذ آخر تقنية مناظر المعارك الحربية. واشتهر سلفاتور على الأخص بهذه الصور التي ترى في متحف نابلي القومي أو في اللوفر. ومن المعارك انتقل إلى مشاهد الطبيعة، ولكن هنا أيضاً آثرت روحه الوحشية رسم الطبيعة في سوارت غضبها، كما يرى في لوحة باللوفر صور فيها الغيوم الكثيفة والأرض المظلمة يضيئها فجأة برق يحطم الصخور ويطوح الأشجار في طرفة عين. وأقنعه لانفرانكو بالذهاب إلى
روما والتودد للكرادلة، فذهب وأثرى هناك، ولكنه هرع قافلاً إلى نابلي 1646 ليشترك في ثورة مازانيللو. فلما فشلت عاد إلى روما، وصور كبار رجال الكنيسة، وكتب هجاءً ساخراً تهكم فيه بالترف الكنسي. ثم قبل دعوة الكردينال جانكارلو دي مديتشي ليذهب ويعيش معه في فلورنسة، وهناك مكث تسع سنوات، يرسم، ويعزف الموسيقى، ويقرض الشعر، ويشارك في التمثيليات. وحين عاد إلى روما ثانية، سكن بيتاً في التل البنسي، حيث عاش بوسان ولوران من قبل. وتقاطر عليه أقطاب الكنيسة، ليصورهم مغضين عن هجائياته، مؤثرين فرشاته على قلمه، وكان أحب الفنانين إلى الناس في إيطاليا طول عشر سنوات. وقد رسم صور القديسين والأساطير المألوفة، ولكنه في محفوراته استسلم لعطفه على الجنود المساكين والفلاحين المعذبين، وهذه المحفورات من أبدع آثاره.
ولم ينافسه في شهرته غير رجل من أهل نابلي، هو لوكا جوردانو. وكان فناناً وهو بعد في الثامنة، ثم رسم في كنيسة سانتا ماريا لانوفا ملاكين بلغ من الجمال والرشاقة مبلغاً جعل الحاكم يأخذه العجب حين رآهما، ويرسل للصبي بعض القطع الذهبية مع توصية لريبيرا. وظل يدرس على يد ذلك الأستاذ الغارق في تأملاته، ويدهش كل إنسان بسرعة نسخه للروائع وتقليده للأساليب. وتاق للذهاب إلى روما وفحص رسوم رفائيل الجصية المشهورة، ولكن أباه عارض في ذهابه، لأنه يرتزق من بيع صور لوكا ورسومه. ففر لوكا سراً، وسرعان ما أخذ ينسخ بحماسة في الفاتيكان، وفي كنيسة القديس بطرس، وفي قصر فارنيزي. وتبعه أبوه، وحصل على قوته هنا أيضاً ببيع صور ابنه العارضة، ويروي أن السر في تقليبه "فا-برستو" هو حث أبيه على السرعة.
فلما استوعب فن روما مضي إلى البندقية ورسم على طريقة تيشان وكوريدجو صوراً لا تكاد تختلف عن روائعهما. ولكنه رسم إلى ذلك صوراً أصيلة ظفرت بالاستحسان، وفي وسعنا الحكم عليها من لوحته "إنزال المسيح عن الصليب" المحفوظة بأكاديمية البندقية. ولما عاد إلى نابلي زخرف اثنتي عشرة كنيسة بكفاية وسرعة لم يجد معها منافسوه حيلة إلا أن يتسقطوا له الهنات. ثم دعاه كوزيمو الثالث إلى فلورنسة
(1679)
حيث ظفر بالاستحسان لصورة الجصية في كنيسة كورسيني.
وأصاب صديقه كارلو دولتشي غم شديد حين رأى ما أحرزه لوكا من نجاح، فمات بعد قليل (23)، وتروي لنا إيطاليا المحبة لفنانيها من الأساطير الكثيرة عنهم قدر ما ترويه عن قديسيها. وفي رواية أخرى أن نائب الملك الأسباني في نابلي أوصي برسم حشوة كبيرة لكنيسة القديس فرانسس زافير، وثار غضبه حين وجد أن شيئاً لم ينجز في هذا التكليف رغم التأجيلات الطويلة، وما راعه بعد يومين إلا أن يجد العمل كاملاً وجميلاً. وقال نائب الملك "إن راسم هذه الصورة أما ملاك وأما شيطان (24) ".
وطبقت شهرة الملاك الشيطاني الآفاق حتى بلغت مدريد، وسرعان ما تكاثرت الدعوات على لوكا من شارل الثاني لينضم للبلاط الأسباني. ومع أن الملك كان مشرفاً على الإفلاس فإنه وصل الفنان بألف وخمسمائة دوكاتيه، ووضع سفينة ملكية تحت تصرفه للرحلة. فلما بلغ جوردانو مدريد (1692) استقبلته ست مركبات ملكية على الطريق. وما لبث أن بدأ العمل في الأسكوريال وهو في السابعة والستين. فزين بالصور الجصية سلم الدير الكبير، وعلى قبو الكنيسة رسم "صورة طبق الأصل" من السماوات، ترينا شارل الخامس وفيليب الثاني في الفردوس-وقد غفرت ذنوبهما كلها تحية من الثالوث الأقدس لآل هابسبورج. وفي السنتين التاليتين رسم عدداً كبيراً من الصور الجصية يعدها مؤرخو الفن الأسباني خير ما رسم في الأسكوريال (25). وفي "القصر" بمدريد، وفي بوين ريتيرو، وفي كنائس طليطلة والعاصمة، رسم صوراً بلغت من الكثرة، وأنفق فيها من الجهد، ما جعل منافسيه يعيرونه بأنه يعمل ثماني ساعات في اليوم وفي أيام الأعياد. كذلك ساءهم أنه جمع ثروة بطرق غير لائقة، وأنه يضيق على نفسه ولكنه يشتري الجواهر الغالية استثماراً آمناً لماله لأن كل شيء في هذه الدنيا سيتغير ويتبدل إلا غرور الإنسان. وقد كرمه كل البلاط، ووصفه شارل الثاني في لحظة صفاء بأنه أعظم من ملك.
ومات شارل في 1700، ومكث جوردانو في أسبانيا رغم ما تلا
ذلك من حرب الوراثة الأسبانية، ولما ارتقى العرش فيليب الخامس ظل يتلقى تكليفات سخية عسيرة. ثم عاد إلى إيطاليا في 1702، وتخلف في روما ليلثم قدم البابا، ووصل إلى نابلي والغار يكلله. وعلى أسقف التشرتوزا (دير الكرتوزيين) بسان مارينو، المطل على المدينة، رسم في ثمان وأربعين ساعة سلسلة من الصور الجصية أظهرت نشاطاً وحذقاً لا يكادان يصدقان في رجل بلغ الثانية والسبعين (1704). وفاضت روحه بعد ذلك بعام وهو يقول متأوهاً "إيه يا نابلي، يا نسمة حياتي (26) ".
ولم يعدله شهرة عند وفاته فنان آخر في جيله. ونافس الأعيان الهولنديون الأباطرة والملوك في شراء صوره، وفي إنجلترا النائية تغني مافيو برايور بمديح "جوردان الإلهي" وأعجب عامة الناس بغنى ألوانه، وبأس أشخاصه، وجلال أفكاره، وقوة عرضه. ولكن الفنانين-بعد أن أفاقوا من هذا الخدر العام-بينوا علامات التعجل في إنتاج لوكا فا-برستو، والخلط المتناقض بين الأفكار أو المواضيع الوثنية والمسيحية في المشهد الواحد، والمواقف المفتعلة، والإفراط في الإضاءة الساطعة، والافتقار إلى التناسق والهدوء. ولقد رد لوكا على ناقديه قبل ذلك بزمن طويل، إذ عرف المصور القدير بأنه ذلك الذي يحبه جمهور الشعب (27). ومن العسير تفنيد هذا التعريف ما دمنا نفتقر إلى معيار موضوعي للامتياز أو سلامة الذوق، ولكنا قد نجد أدنى محك ذاتي للعظمة في مبلغ تأثير إنسان ما في الزمان والمكان، وأدنى مقياس ذاتي للشهرة في قدرتها على البقاء. ولقد سعد جوردانو بحياة ناجحة، وهو لا يشعر بأي أذى من جراء شهرته الآفلة.
وكان الفنان فرانشسكو سولمينا يناهز الثامنة والأربعين حين مات فا-برستو، ولكن سني عمره التسعين بلغت بمدرسة الفن النابولية قرابة منتصف القرن الثامن عشر. وكان لوكا قد رسم صحن دير مونتي كاسينو، ورسم فرانشسكو الخورس، وتهدم هذا وذاك في الحرب العالمية الثانية. ولكن المتاحف تحتفظ بفن سولمينا، ففي فيينا "اغتصاب أوريثيا" وهي نشوة بضة من عضلات الذكر ومنعطفات الأنثى، وفي اللوفر نرى صدى وتحدياً لرفائيل في لوحته "هليودوروس" يطرد من الهيكل"، وفي كريمونا صورة "مادونا
أدولوراتا" ويصحب العذراء فيها ملاك فيه من العذوبة ما يجعلنا نتقبل فكرة الخلود إذا كان في الجنة الكثير من أمثاله.
3 - أوديسة كرستينا
كانت الفنون الآن مجرد جزء صغير من حياة روما الثقافية. فيها أيضاً مئات من الموسيقيين، والشعراء، والمسرحيين، والعلماء، والمؤرخين. وقد يسرت المتاحف والمكتبات والكليات كنوز الماضي للطلاب، وشجعت الأكاديميات الأدب والعلم. وكانت أوهام ماريني الموشاة ما زالت عدواها تسري في الشعر الإيطالي، ولكنه لذع هجائيات تاسوني، وحرارة نزعة ماريني الحسية، وتدفق مقاطع تاسو الفوار، كل أولئك كان قد أعطى الشعر الإيطالي حافزاً وإلهاماً ما زالت تحس بهما النفوس المترنمة بالشعر.
أما أعظم الشعراء الغنائيين في العصور الحديثة (28)، إذا صدقنا ماكولي، فهو فنتشنزو دا فيليكايا، وقد شدا هذا الشاعر بتلخيص سوبيسكي لفيينا في قصائد كثيرة شاكرة، ورحب بمجيء كرستينا إلى روما في تملق نشوان، ووصف في خزي ساخط إخضاع وطنه للجيوش الدخيلة، يقول:
"إيطاليا، إيه يا إيطاليا، يا من كتب عليك أن تلبسي تاج الجمال المهلك، فأصبح سجل الويل والثبور موسوماً على جبينك إلى الأبد! ليت ميراثك كان جمالاً أقل وبأساً أشد! حتى يجدك أولئك الذين يستخفهم الطرب لأن حقدهم أذلك، أكثر إرهاباً أو أقل جمالاً (29) ".
على أن هنري هالام، الذي طوف لغوياً خبيراً بكل الآداب الأوربية، ذهب إلى أن كارلو اليساندرو جيدي، لا فيليكايا، هو الذي "ارتفع إلى أسمى ذروة بلغها أي شاعر غنائي إيطالي" و .. أن "قصيدته الغنائية في الحظ على الأقل تعدل أي قصيدة غنائية أخرى في الإيطالية (30).، ولا يستطيع أحد لم يتمكن من الإيطالية أن يحسم هذا الخلاف بين ماكولي وهالام ولا بين جيدي وبترارك، ولا بين فيليكايا وبيرون أوشلي أوكيتس.
كان جيدي واحداً من شعراء عدة صدحوا بقوافيهم في صالون كرستينا بروما. وكانت ملكة السويد هذه قد طبقت شهرتها الآفاق لا ملكة على دولة عظمى فحسب، بل راعية ونموذجاً للعلم، والمضيفة الحفية بسالماسيوس وديكارت. وكانت تخليها عن التاج في سبيل المذهب، وتحولها عن البروتستنتية التي مات أبوها من قبل لينقذها، ورحلتها الطويلة مارة بقصور ملوك أوربا وأمرائها لتلثم قدمي البابا-كانت هذه كلها أحداثاً لا تقل عن الحروب والثورات استهواء للذهن الأوربي.
كانت في ربيعها الثامن والعشرين يوم غادرت السويد (1654). وأعطاها ابن عمها شارل العاشر، الذي اختارته ليتبوأ عرشها، خمسين ألف كراون تجمل بها رحلتها، وقرر لها الديت السويدي دخلاً كبيراً، وحقوق ملكة على حاشيتها. فوصلت هامبورج بعد رحلة سريعة في الدنمرك، وهناك صدمت مشاعر الأهالي بنزولها ببيت مالي يهودي كان قد أخلص لها الخدمة وهو يعمل وكيلاً مالياً لها. واجتازت هولندة البروتستنتية متنكرة، ولكنها اتخذت زيها السافر في أنتورب الكاثوليكية. وهناك استقبلها استقبالاً ملكياً الأرشيدوق ليوبولد، وإليزابث ملكو بوهيميا السابقة (وهي ملكة مخلوعة أخرى)، وابنتها الأميرة إليزابث (وهي تلميذة أخرى لديكارت). ثم واصلت رحلتها إلى بروكسل، حيث استقبلت بالألعاب النارية، والصواريخ، وطلقات المدافع، والجموع الهاتفة المصفقة. وأسلمت نفسها حيناً في اغتباط للمراقص ومباريات الفروسية ورحلات الصيد والتمثيليات، وأوفد مازاران فرقة تمثيلية من باريس للترفية عنها، وفي عشية عيد الميلاد ارتدت سراً عن المذهب اللوثري، وأعلنت عزمها على ألا تستمتع إلى مزيد من المواعظ (31) "، ثم أطالت مكثها في فلاندر ريثما تعد الكوريا البابوية بروما العدة لاستقبالها رسمياً في الكنيسة وإيطاليا. وبعد أن غادرت بروكسل اخترقت النمسا في رحلة وئيدة. وفي انزبروك جهرت رسمياً باعتناقها المذهب الكاثوليكي. وكانت رحلتها في إيطاليا قاصدة روما أشبه برحلات القياصرة الظافرين عظمة وجلالاً. فتزينت المدينة تلو المدينة لتحييها، ونظمت المهرجانات والعروض تكريماً لها في مانتوا، وبولونيا، وفاينزا، وريميني، وبيزارو،
وأنكونا، وأخيراً (19 ديسمبر 1655) دخلت روما وسط مهرجان من الأضواء هزأ بتنكرها. وفي الغد مضت إلى الفاتيكان حيث رحب بها البابا اسكندر السابع. وبعد أن مكثت بروما ثلاثة أيام غادرتها مصحوبة بحرس الشرف لتدخلها ثانية ذلك الدخول الرسمي الذي رتبه لها كبار رجال الكنيسة، فمرت بقوس نصر، وبالبورتا ديلبوبولو (بابا الشعب)، إلى المدينة ممتطية صهوة جواد أبيض يخطر على مهل، بين صفوف الجند وحشوة الأهالي وكأنما شعرت الكنيسة القديمة أن حركة الإصلاح البروتستنتي بأسرها قد أطاح بها ارتداد امرأة واحدة عن البروتستنتية.
فلما اكتمل هذا مله، سمح لكرستينا بأن تتصرف في وقتها كما تشاء، تستقبل الأساقفة، والحكام، والعلماء، وتزور المتاحف، والمكتبات، والأكاديميات، والأطلال، وتدهش مرشديها بمعلوماتها في تاريخ إيطاليا وآدابها وفنونها. وأغرقتها كبار الأسر بالولائم والهدايا والتحيات، ووقع الكردينال كولونا في غرامها وهو في الخمسين، وعزف لها ألحان حبه، ولم يكن بد من نفيه إنقاذاً لكرامة الكنيسة. وما لبثت أن وجدت نفسها وقد تورطت في منافسات الحزبيين الفرنسي والأسباني في البلاط البابوي. وقطعت السويد دخلها المقرر لها حين وجدت مشقة في تمويل حربها مع بولندة، فرهنت مجوهراتها، وتلقت قرضاً من البابا.
وفي يوليو 1656 خرجت في زيارة لفرنسا. وهناك أيضاً لقيت ما تلقى الملكات من تكريم. ودخلت باريس على جواد أبيض مطهم، وخرج ألف فارس لاستقبالها، وهتفت لها الجموع، وكاد كبار الموظفين يخنقونها بأزهارهم الخطابية، ووصفها دوق جيز ذلك العهد، الذي أوفده مازاران لمرافقتها، بهذه العبارات:
"ليست طويلة، ولكن لها خصراً ممتلئاً وشفتين كبيرتين، وذراعين حلوتين، ويداً بضة حسنة التكوين، ولكنها أقرب إلى يد الرجل منها إلى يد المرأة
…
ووجهها كبير دون أن ينتقص ذلك من مظهره
…
وأنفها معقوف، وفمها كبير نوعاً ولكنه ليس منفراً
…
وعيناها بديعتان تشعان ناراً
…
وعلى رأسها غطاء عجيب جداً
…
باروكة رجل، كثة عالية
…
ترتدي حذاء رجل، ولها نبرات صوت الرجل وكل تصرفات الرجل تقريباً، -تتظاهر بلعب دور المرأة المسترجلة (الأمازونة) .. وهي غاية في التأدب والمجاملة، وتتكلم ثماني لغات، لا سيما الفرنسية-وكأنها ولدت في باريس، إنها تعرف أكثر مما تعرف أكاديميتنا، مضافاً إليها السوربون، وتفهم التصوير فهماً جديراً بالإعجاب، وكذلك تفهم كل ما عداه. إنها لشخصية غاية في الغرابة (32) ".
وأنزلت جناح الملك في اللوفر. ثم صحبها دوق جيز بعد ذلك إلى كومبيين، حيث استقبلها لويس الرابع عشر، وكان يومها فتى وسيماً في الثامنة عشرة. والتفت سيدات القصر حولها كالفراشات، ولكن أربكهن استرجالها في اللباس والحديث. وذهبت مدام دموتفيل إلى أنها "تبدو لأول وهلة كأنها إحدى الغجريات سيئات السيرة" ولكن "بعد ذلك
…
بدأت آلف لباسها .. ولاحظت أن عيناها جميلتان متألقتان، وأن في وجهها رقة، ولطفاً يمتزج بالكبرياء. وأخيراً أدركت في دهشة أنها أرضتني (33)". على أنه يمكن القول عموماً أن النساء اللاتي وشين ما في المجتمع الفرنسي من عادات وأزياء وبهجة وكياسة ورشاقة، هؤلاء ساءهن إهمال كرستينا لملبسها، و "إفراطها في الضحك، وتحررها في حديثها سواء عن الدين أو عن المواضيع التي تتطلب أصول اللياقة عند النساء مزيداً من التحفظ فيها .. وقد جهرت بأنها تحتقر جميع النساء لجهلهن، ووجدت لذة في التحدث إلى الرجال سواء في المواضيع الطيبة أو الخبيثة. وضربت بالقواعد كلها عرض الحائط (34)". ويرى فولتير أن نساء المجتمع الفرنسي قسون في الحكم على هذه الملكة المتمردة لأنها لم تسر على الجادة. قال "لم يكن في البلاط الفرنسي امرأة واحدة وهبت ذكاءها (35)". أما كرستينا فقد حكمت على سيدات البلاط بأنهن شديدات التكلف، وعلى الرجال بأنهم شديدو التخنث، وعلى الفريقين بالافتقار إلى الإخلاص. وفي سنليس، في طريقها عائدة من كومبيين إلى باريس، طلبت أن ترى "آنسة تدعى نينون (دلانكلو)، مشهورة بالرذيلة، والتهتك، والجمال، والذكاء. ولم تبد أي علامة من علامات الاحترام إلا لهذه المرأة وحدها، دون سائر النساء اللائي رأتهن في فرنسا (36) ". وقد
وجدت نينون حبيسة مؤقتاً في دير للراهبات. وتحدثت إليها كرستينا في مرح، وأقرتها على امتناعها عن الزواج (37). ثم عادت إلى إيطاليا بعد أن زارت مؤسسات فرنسا الثقافية وأهم آثارها الفنية (نوفمبر 1656).
وفي سبتمبر 1657 زارت فرنسا ثانية. ولم تستقبل ذلك الاستقبال الرسمي السابق، ولكنها أنزلت فونتنبلو بما يقرب من الحفاوة بالملوك. وهناك روعت فرنسا بما خالته استعمالاً مشروعاً لحقوقها الملكية على حاشيتها. وتفصيل ذلك أن ياورها المركيز مونالديسكي اشترك في مؤامرة ضدها كشفتها باعتراض رسائله. وزاد الموقف سوءاً باتهامه رجلاً آخر من حاشيتها بالتآمر عليها. فواجهته برسائله التي تثبت التهمة عليه، وأمرت قسيساً أن يسمع اعترافه ويمنحه غفران الكنيسة، ثم أصدرت الأمر لحراسها فأعدموا المركيز. وصعقت فرنسا، وحتى أولئك الذين اعترفوا بما منحها الديت السويدي من حقوق على أتباعها صمهم هذا الاستعمال الفجائي التعسفي لسلطتها في مسكن يملكه ملك فرنسا. وسمح لكرستينا بأن تنفق الشتاء في باريس، وتستمتع بالتمثيليات وحفلات الرقص، ولكن البلاط تنفس الصعداء حين رحلت إلى إيطاليا (مايو 1658).
وقد سبب لها قطع الدخل الذي يأتيها من السويد من الحرج الشديد ما جعلها فيما روي تطلب إلى الإمبراطور ليوبولد الأول جيشاً تقوده ضد شارل العاشر، ولكن ثناها عن هذه المغامرة العسكرية معاش سنوي من اثني عشر ألف سكودي قرره لها البابا الإسكندر السابع. وقد زارت السويد مرتين (1660 - 1667) لتستعيد دخلها، وربما تاجها. ورد إليها دخلها، ولكنها لم تلق ترحيباً في استوكهولم، واتهمها رجال الدين اللوثريين بأنها تتآمر لتحول الأمة إلى الكاثوليكية، ومنعت من الاستماع إلى القداس في مسكنها. وكانت بعد كل زيارة من هاتين الزيارتين تعتكف في هامبورج. ومنها أرسلت مندوبين إلى وارسو في 1668 ليعرضوا ترشيحها نفسها لعرش بولندة الذي خلا باعتزال يوحنا كازيمير. وعزز البابا كلمنت السابع مطلبها، ولكن الديت البولندي رفضها لأسباب كثيرة، منها رفضها أن تتزوج. وقد قالت إن إمبراطورية العالم بأسرها لن تحملها على الرضا
بالزواج (38). ثم عادت إلى إيطاليا في 1668، ومكث بها حتى ماتت.
وكانت تلك السنوات العشرون الأخيرة أجمل سني عمرها. وأصبح جناحها في قصر كورسيني أهم الصالونات في روما، وملتقى الأساقفة، والعلماء، والملحنين، والنبلاء، والدبلوماسيين الأجانب. هناك رحبت بأليساندرو سكارلاتي، وتلقت من أركانجلو كوريللي إهداء أول سوناتاته المنشورة. وزينت حجراتها بالصور والتماثيل وغيرها من التحف المنتقاة بذوق كان مثار إعجاب الخبراء، أما المخطوطات التي جمعتها فقد عدت فيما بعد من خيرة ما ضمنته مكتبة الفاتيكان من مخطوطات. وكانت تثبط الأسلوب المتكلف الذي نما في الشعر الإيطالي، وأثرت على جيدي ليتزعم حركة تعود إلى نقاء اللغة، واستقامة التعبير، اللذين سادا في أيام أسرة مديتشي. وكانت مذكراتها مثالاً للكلام البسيط القوي، و "أقوالها المأثورة". آراء جادة سديدة لامرأة خبيرة بالدنيا، لم تسمح لتقواها بأن تفسد استمتاعها بالحياة. ولم تكن متعصبة، فقد أدانت عنف الكاثوليك الفرنسيين في تنفيذ قانون فسخ مرسوم نانت، وكتبت تقول "إني أنظر إلى فرنسا نظرتي إلى مريضة بتر ذراعاها وساقاها علاجاً لمرض كانت تشفى منه تماماً بممارسة اللطف والصبر (39) ". وذهب بيل إلى أن هذه العواطف بقية متخلفة من تربيتها البروتستنتية، فوبخته على هذا التفسير، فكتب إليها معتذراً، فغفرت له شريطة أن يوافيها بكتب جديدة أو غريبة (40).
وماتت عام 1689 بالغة الثالثة والستين، ودفنت في كنيسة القديس بطرس. وبعد موتها بثلاث سنوات أسس جوفاني ماريا كريسكمبيني تخليداً لذكراها "الأكاديمية الأركادية" وأكثر أعضائها الأوائل ممن اجتمعوا تحت جناحها. وواصلوا الصلة القديمة بين الشعر والرعوية، وسموا أنفسهم رعاة، واتخذوا أسماء ريفية، وعقدوا اجتماعاتهم في الحقول. وأنشئوا فروعاً في مدن إيطاليا الرئيسية، ومع احتفاظهم بالحيل البارعة ف بنيان قصائدهم، فإنهم أنهوا تسلط الأوهام على الشعر الإيطالي.
4 - من مونتيفردي إلى سكارلاتي
كانت الموسيقى في ذلك المجتمع المرح، مجتمع إيطاليا القرن السابع عشر، نغمة الحياة ونسيمها. لقد خاض هذا الشعب المشبوب العاطفة الحروب في الأوبرات، وحارب معارك الحب في أغانيه الشعرية، بعد أن ألزمته أسبانيا والبابوية السلام رغم إرادته.
واتخذت الآلات الموسيقية عشرات الأشكال. وأصبح الأرغن الآن منفاخاً مزيناً له لوحتا مفاتيح لليدين ولوحة للقدمين، بالإضافة إلى أنابيب متنوعة، وكان هناك بالطبع أراغن متنقلة للشارع. وفي تاريخ مبكر (1598) نسمع بآلة أخرى لها لوحات مفاتيح سميت "البيانو أي فورتي"(أي الخافت والقوي) ورد ذكرها في قائمة الآلات التي يملكها ويعزف عليها الدوق ألفونسو الثاني في مودينا، ولكنا ما زلنا نجهل الفرق بينها وبين "البيلن القيثاري" بنوعيه elavieembalo ( الهاربيسكورد) و spinetta. وينقضي قرن قبل أن نسمع بالبيانو فورت الثانية. وفي 1709 عرض بارتولوميو كريستوفوري آلة موسيقية سماها gravicemblo col pianoe forte، وكان صانع الآلات الموسيقية لأمير عاشق للموسيقى يدعى فرديناند دي مديتشي بفلورنسة. وكانت هذه الآلة تختلف اختلافاً هاماً وإن كان طفيفاً عن الهاربسيكورد. فالنغمة تصدرها مطرقة صغيرة ترتفع لتقرع وتراً، وفي الإمكان خفض الصوت أو رفعه بتنويع لمس الأصابع للمفتاح-بينما النغمات في الآلات السابقة ذات لوحات المفاتيح تنبعث بوساطة ريشة (من ريش الطير أو الجلد القاسي) ترتفع لتنقر الوتر، ولا يمكن أحداث تنويع في قوة الصوت
(1)
. وحل البيانوفورت بالتدريج محل الهاربسيكورد في القرن الثامن عشر، لا لأنه يستطيع أن يعزف الأصوات "الخافتة والعالية" فحسب، بل لأن مطارقه كانت تبلى بسرعة أقل مما يبلى ريش الطير.
أما الكمان فقد تطور من القيثارة (الليرة lyre) في القرن
(1)
في متحف المتروبولتان للفنون بنيويورك أحد بيانات كريستوفوري الذي يرجع تاريخه إلى 1720.
السادس عشر، لا سيما في بريشا
(1)
. فجلب أندريا أماتي فن صنع الكمان إلى كريمونا، وهناك تفوق حفيده نيكولو على جميع منافسيه في هذه الحرفة، إلى أن تفوق عليه هو ذاته تلميذاه أندريا جارنيري وأنطونيو ستراديفاي. وآل جارنيري مثال آخر من الأسر التي جرى فيها النبوغ في نفس الحرفة، فهناك أندريا وولداه بييترو "دي مانتوا" وجوزيبي الأول، وحفيده بييترو الثاني "دي فينيتسيا" وحفيد أخيه جوزيف الثاني "ديل جيزو"-الذي جعل بأجانيني يؤثر الكمان على سائر الآلات الموسيقية. وأقدم كمان يحمل توقيع ستراديفاري يرجع تاريخه إلى 1666، حين كان في الثانية والعشرين، وقد كتب عليه "أنطونيوس ستراديفاريوس ألومنوس نيكول أماتي فاتشيبات آنو 1666" ويلي هذا شعاره الشخصي-وهو صليب مالطي والحرفان الأولان من اسمه، أ. س، داخل دائرة مزدوجة. وكان يوقع فيما بعد ببساطة يشوبها الفخر "سترافيداريوس". وقد ألف العمل دون انقطاع، والقصد في الطعام، وعاش ثلاثة وتسعين عاماً، وجمع من الثروة بفضل ما تميزت به آلاته من روعة الجمال والبناء والنغم والصقل ما أصبحت معه عبارة "غني مثل ستراديفاري" مرادفاً كريمونياً للثراء العريض. والمعروف أنه صنع 1. 116 كماناً، وفيولا، وفيولنسيلو، وبقيت منها على قيد الحياة 540 كماناً، بيع بعضها بعشرة آلاف دولار (41). وقد ضاع سر الطلاء الذي كان يصقل به آلاته.
وشجع هذا التحسن في الآلات تطور الأوركسترا، وتأليف الموسيقى الآلاتية وأداءها. واكتشف المؤلفون والعازفون في الكمان مرونة في الحركة وتنوعاً في النغم يستحيلان على الصوت البشري، إذا كان في استطاعتهم أن يصعدوا ويهبطوا على السلم الموسيقي بيسر يفوق الوصف فعلاً، وأن يبنوا التنويعات ويتلاعبوا بها، وأن يهربوا من روتين اللحن ويقتحموا الجديد من الإيقاعات، والتطويرات، والتجارب. وأمكن بعد الجمع بين الآلات الكثيرة تحرير التأليف من الرقص ومن الأغنية على السواء، واستطاع التأليف أن يحلق على
(1)
زعم فلودزيميرز كامينسكي في 1961 أنه وجد أوصافاً للكمان في مخطوطات بولندية ترجع للقرن الرابع عشر-لوس أنجيليس تايمز، 11 أغسطس 1961.
جناحيه هو في الجديد من المتتاليات، والتجميعات، والأشكال. وكان تومازو فيتالي سباقاً بسوناتات الكمان التي لم يعرف لها مثيل من قبل في غنى الابتكار، والتي أعانت على إرساء تعاقب الحركات السريعة والبطيئة والنشيطة. أما أركانجيلو كوريللي، فقد مهد الطريق بوصفه مؤلفاً وعازفاً ماهراً، للموسيقى الحجرية التي شاعت في القرن الثامن عشر بسوناتاته التي وضعها للكمان، وكان له هو وفيتالي في إيطاليا، وكوناو وهينريش فون بيبر في ألمانيا، الفضل في إعطاء السوناتا بناء وشكلاً باعتبارها قطعة "تعزف" بالآلات فقط، مقابل "الكانتاتات" التي هي مؤلفات تغني بالصوت. وكوريللي هو الذي قرر شكل "الكونشرتو جروسو"-كمانان وفيولنتشيللو واحدة تقود أوركسترا وترياً-بألحان بسيطة مشجية مثل "كونشرتو عيد الميلاد"(1712)، ففتح بذلك طريقاً لكونشرتو فيفالدي وهندل ومتتابعات باخ الأوركسترية وقد احتفظت ألحان كوريللي بشعبيتها في القرن الثامن عشر فترة طالت حتى لقد خيل لبيرني وهو يكتب حوالي عام 1780 أن شهرتها ستبقى "ما بقي النظام الحالي للموسيقى مبعث بهجة لآذان البشر (42) ".
وكما أصبح كوريللي المؤلف المفضل للكمان، فكذلك هيمن أليساندرو شتراديللا على موسيقى هذا العصر الصوتية، بالأصوات الفردية، والثنائية، والثلاثية، والأوراتوريوات. وكانت حياته ذاتها دراما في الموسيقى، وقد حولت إلى تمثيلية وأوبرا. ذلك أنه أحرز في عمله مدرساً للغناء بالبندقية نجاحاً محزناً. فقد فرت معه لروما إحدى تلميذاته الأرستقراطيات، واسمها أورتنسيا، مع أنها كانت مخطوبة لعضو الشيوخ البندقي ألفيزي كونتاريني. وأرسل عضو الشيوخ فتاكاً ليقتلوه. ولكن حين سمعه هؤلاء القتلة المرهفة الحس يرتل الدور الرئيسي في لحنه "أوراتوريو دي سان جوفاني باتيستا" في كنيسة سان جوفاني باللاتيرانو، تأثروا بالموسيقى (كما تقول القصة) تأثرهم جعلهم يقلعون عن القيام بما كفلوا به، ويحذرونه هو ورفيقته ليلتمسا مخبأً آمناً. وفر العشيقان إلى تورينو، ولكن سرعان ما اشتهر أليساندرو هناك بمؤلفاته وصوته شهرة هددته بالخطر. وأرسل كونتاريني فاتكين لا يهويان الموسيقى ليقتلاه، فهاجماه، وتركاه وهما
يحسبانه قد مات. ولكنه أفاق، وتزوج أورتنسيا، ورحل معها إلى جنوه. وهناك عثر عليهما مأجورو عضو الشيوخ، فطعناهما طعنات أودت بحياتهما (1682)(43). وظل الأوراتوريو الذي قيل أنه أنقذ حياته محتفظاً بشعبيته قرناً كاملاً، وقد مهد السبيل أمام هندل.
وغدت الأوبرا الآن هوساً في إيطاليا. فالبندقية وحدها كانت بها ست عشرة داراً للأوبرا في 1699، وقد استمعت إلى قرابة مائة أوبرا مختلفة بين عامي 1662 و 1680 (44). كذلك أقبلت نابلي على هذه الفرجة المشجعة بما يقرب من هذا التهافت. أما في روما فقد أصبحت الأوبرا رمزاً على حركة علمنة الموسيقى السائرة قدماً، وقد ألف كلمنت التاسع نفسه بعض الفكاهيات الموسيقية قبل أن يرتقي عرش البابوية (45). وكان هناك اضمحلال مؤقت في جودة الأوبرا الإيطالية بعد مونتفردي ففقد الحبكات بعض وقارها ودلالتها، وازدادت سخفاً وعنفاً. وطور فرانشسكو كافاللي، أحد تلاميذ مونتفردي، اللحن المنفرد باعتباره أحلى جزء من العرض، وسرعان ما طالبت الجماهير بسلسلة من الألحان الدرامية، وكانت تحتمل فترات الاستراحة بصبر نافد. وقام الخصيان من الغلمان أو الرجال بكثير من أدوار السوبرانو أو الكونترالتو، ولكن البريمادونات بدأن الآن ينافسن الملكات. ووجه ملتن أغنيات لاتينية إلى ليونورا باروني، وخرجت نابلي على بكرة أبيها لترحب بأم ليونورا، أدريانا بازيلي، أعظم المغنيات السوبرانو إثارة للأحاسيس في زمانها-ولعل أجهزة المسرح الآلية بلغت في هذا العصر الغاية التي ما بعدها غاية. يقول مولمنتي أن مسرح سان كاسيانو، في بندقية القرن السابع عشر، كان يستطيع عند الطلب أن يعرض قصراً ملكياً، وغابة، ومحيطاً، وجبل أولمب، والجنة، ومرة علقت قاعة رقص كاملة الإضاءة، بكل أثاثها وراقصيها، فوق المسرح الثابت، وكانت تخفض لتستقر عليه أو ترفع لتواري عن الأنظار حسب مقتضيات القصة (46). وحاول ماركانطونيو تشستي أن ينقذ الأوبرا من الأغنية، فأعطى مزيداً من الاتساع والبروز للاستهلال، ومن المنطق والرصانة للرواية، ثم نوع الغناء بالريستاتيف. وكان تشستي وكوريللي كلاهما مبعوثين موسيقيين، حملا الأوبرا الإيطالية الواحد إلى باريس على عهد لويس الرابع عشر، والآخر إلى فيينا على عهد ليوبولد الأول. وهكذا كانت
أوربا شمال جبال الألب، في فن الأوبرا، مستعمرة إيطالية (47).
وكان أبرز ملحني الأوبرا الآن أليساندرو سكارلاتي. ولقد طغت شهرة ابنه دومنيكو اليوم على شهرته، ولكن اسم "سكارلاتي" كان إلى عهده القريب يعني أليساندرو، وكان دومنيكو أشبه بتوقيع متعاقب سريع على وتر اسم مشهور. وقد وفد أليساندرو على روما وهو في الثالثة عشرة، ودرس حيناً على كاريسيمي، ولحن للكانتاتات، وحفز همته فن ستراديللا وسيرته، وفي العشرين أخرج أولى أوبراته المعروفة L'errore innocente ( الغلطة البريئة) وقد أعجبت الأوبرا كرستينا ملكة السويد، فبسطت جناحها على أليساندرو، وأخرجت أوبراته التالية على مسرحه الخاص. وفي 1684 قبل وظيفة "المايسترو دي كابللا" لنائب الملك الأسباني في نابلي، وظل يشغلها ثمانية عشر عاماً، يخرج الأوبرات في تتابع سريع حتى بلغت عند وفاته على الأقل 114، لا يعيش منها اليوم سوى نصفها، ولعل سوليمينا رسم في هذه الفترة اللوحة الممتازة التي ترى في كونسرفاتوريو نابلي الموسيقى-وجه نحيل، يفيض حساسية، وتركيزاً، وعزيمة.
وجاءت حرب الوراثة الأسبانية فكدرت صفاء نابلي، وتأخر صرف راتب سكارلاتي كثيراً حتى اضطر للرحيل إلى فلورنسة مع زوجته وأسرته، ولحن وأخرج الأوبرات تحت رعاية الأمير فرديناند. وبعد عام انتقل إلى روما رئيساً لفرقة مرتلي الكنيسة للكردينال بييترو أوتوبوني، وكان كنسياً مرحاً مثقفاً، خلف كرستينا قطباً وراعياً للفنون في روما، ووزع طاقاته الدنيوية على الفن والأدب والموسيقى والخليلات (48). وفي 1707 ذهب أليساندرو إلى البندقية حيث أخرج رائعته Mitridate Eupatore وهي أوبرا تتميز بخلوها تماماً من تشويق الحب. في ذلك العام دانت نابلي للحكم النمساوي، فدعا نائب الملك سكارلاتي ليعود إلى سابق وظيفته، فوافق، وأنفق هناك العقد الأخير من حياته، حين بلغ أوج شهرته.
وقد قررت أوبراته أسلوباً دام نصف قرن. جعل الاستهلال مؤلفاً هاماً لا يرتبط بالأوبرا، وقسمه إلى ثلاث حركات ظلت قياسية حتى
مجيء موتسارت: الألليجرو، والأداجيو، والألليجرو. أما اللحن (الآربا) فأعطاه سيطرته النموذجية في القرن الثامن عشر وشكله الأعادي da capo، الذي يعيد فيه القسم الثالث الأول، ونفث فيه الحرارة العاطفة، والحنان، والتلوين الرومانسي، وجعله أداة لإبداعات المغنين في العزف والارتجال، ولكن تكراره قطع الوجدان والحركة قطعاً مفتعلاً. وقد قاوم حيناً طلب الجماهير للألحان العاطفية، وأخيراً أذعن، وظلت دراما الموسيقى خمسين عاماً تحظى بألف انتصار دون أن تنتج آثاراً قادرة على مغالية تقلبات الذوق. واضمحلت الأوبرا حين أيقظها جلوك لحياة وشكل جديدين، في فيينا (1762) وباريس، بجمال أوبرا Orfeo ed Euridice المقيم.
5 - البرتغال
1640 -
1700
حين توج دوق براجانزا ملكاً باسم يوحنا الرابع (1640) بدأت البرتغال حرباً امتدت ثمانية وعشرين عاماً لتدافع عن استقلالها الذي استردته من أسبانيا. وقدمت لها فرنسا يد المعونة حتى 1659، حين وافق مازاران في صلح البرانس على أن يكف عن مساعدة البرتغال. واتجه الفونسو السادس إلى إنجلترا طالباً العون. وأوفدت كاترين أميرة براجانزا إلى لندن عروساً لتشارلز الثاني (1663)، حاملة معها صداقاً هو بومباي، وطنجة، و500. 000 جنيه. وأرسلت إنجلترا الجند والسلاح مقابل ذلك. وبهذه المعونة وغيرها، وبجهود البرتغاليين وقيادتهم وحسن نظامهم قبل كل شيء، راحوا يردون جيوش أسبانيا على أعقابها الواحد تلو الآخر، حتى اعترفت أسبانيا رسمياً بمقتضى معاهدة لشبونة (1668) باستقلال البرتغال.
وعزز بيدرو الثاني العلاقات مع إنجلترا بمعاهدة ميثوين (1703). فوافقت كل من الأمتين على أن تمنح الأخرى تعريفات تفضيلية، وعلى أن تستورد البرتغال السلع المصنوعة من إنجلترا وتستورد النبيذ والفاكهة من البرتغال. وهكذا شربت إنجلترا القرن الثامن عشر نبيذ البورت من أوبورتو، بدلاً من الكلاريت "الصافي clear" من بوردو. وقد وفر هذا التحالف الاقتصادي للبرتغال ومستعمراتها الباقية حماية دائمة من أسبانيا وفرنسا.
وفي 1693 كشفت مناجم ذهب ميناس جيرايس في البرازيل، وسرعان ما غلت لبيدرو الثاني من سبائك الذهب ما أتاح له أن يحكم بعد 1697 دون حاجة لدعوة الكورتيز (المجلس التشريعي) للموافقة على منحه المال، وأن يحتفظ في لشبونة ببلاط من أفخم البلاطات في أوربا. على أن المذهب الأمريكي تمخض في البرتغال عن نفس النتائج التي تمخض عنها في أسبانيا: فقد استعمل لشراء السلع المصنوعة من الخارج بدلاً من تمويل المشاريع الصناعية في الداخل، وظل الاقتصاد الوطني اقتصاداً زراعياً كسولاً، وحتى الكروم المحيطة بأوبورتو وقعت في قبضة الإنجليز الذين اشتروها بالذهب البرتغالي الذي حصلوا عليه من التجارة الإنجليزية.
وواصل المؤلفون البرتغاليون تنشيط الأدب بالأعمال. من ذلك أن فرانشسكو مانويل دي ميلو اللشبوني التحق بالأفواج الأسبانية الذاهبة إلى فلاندر بعد أن درس في كلية أنتاو اليسوعية، وخاض معارك عدة كتبت له فيها الحياة، وقاتل في صف ملك أسبانيا في التمرد القتلوني وألف تاريخاً له (تاريخ حرب قتلونيا) في كتاب من عيون الأدب الكثيرة التي أسهم بها البرتغاليون في الأدب الأسباني. فلما أعلنت البرتغال تحررها من ربقة أسبانيا عرض خدماته على يوحنا الرابع، ولقي عرضه ترحيباً، وجهز أسطولاً برتغالياً وتولى قيادته، ثم وقع في غرام كونتيسة فيللانوفا الساحرة، فقبض عليه بإيعاز من زوجها، وقضى تسع سنين في السجن. فلما أطلق سراحه شريطة أن ينفى إلى البرازيل، ذهب ليعيش في باهيا (بايا)، حيث كتب Apologos dialogaes. وسمح له بالعودة في 1659. فأصدر في السنين السبع الباقية في أجله مؤلفات في الأخلاق والأدب، وبعض الشعر، وتمثيلية سبق بها موضوع وفكاهة تمثيلية موليير "البورجوازي مدعي النبل". ومع أنه كتب بالأسبانية، فإن البرتغال تحسبه بحق ابناً من ألمع أبنائها.
وكاتب آخر هو أنطونيو فييرا، الذي ولد في لشبونة (1608)، وأخذ في طفولته إلى البرازيل، وتلقى العلم على يد اليسوعيين في باهيا، وانضم إلى طريقتهم، وأدهش الناس جميعاً حين اقترح في مواعظ وكتيبات بليغة على الحكومة أن تمارس المسيحية. فلما
بعث في مهمة إلى البرتغال (1641) أثر في يوحنا الرابع بنزاهة خلقه وتنوع مواهبه تأثيراً حدا به إلى تعيينه عضواً في المجلس الملكي، وهناك شارل بنصيب غير صغير في التخطيط للانتصارات التي ردت لوطنه استقلاله. ثم هز الأفكار الراسخة بالمطالبة بإصلاح ديوان التفتيش، وفرض الضرائب على جميع الناس دون اعتبار للطبقة، والسماح لليهود بدخول البرتغال، وإلغاء التمييز بين "المسيحيين القدامى" و "المسيحيين الجدد"(أي اليهود الذين اعتنقوا المسيحية). وكان مثالاً، من أمثلة كبيرة، على حيوية اليسوعيين وتعدد قدراتهم ونزعتهم التحررية المتكررة الظهور.
فلما عاد إلى البرازيل (1652)، أرسل مبعوثاً إلى مارانهاو، ولكن نقده الصارم لهمجية سادة العبيد وأخلاقهم حملهم على السعي حتى نفي إلى البرتغال (1654). ودافع أمام الملك عن قضية الهنود المظلومين، وحصل على شيء من التخفيف عنهم. فلما عاد إلى أمريكا الجنوبية (1655)، أنفق ست سنوات كان فيها "رسول البرازيل"، يقطع مئات الأميال على الأمازون وروافده، ويخاطر بحياته كل يوم بين القبائل المتوحشة وأهوال الطبيعة، ويعلم الوطنيين فنون الحضارة، ويدافع عنهم ضد سادتهم في شجاعة حملت هؤلاء أيضاً على الحصول على أمر بنقله إلى البرتغال (1661). وهناك قبض عليه ديوان التفتيش متهماً إياه بأن كتاباته تحتوي على هرطقات خطرة وتطرفات تستحق الإدانة (1665). وهالته الأحوال في سجون الديوان-إذ رأى خمسة رجال محشورين في زنزانة عرضها تسعة أقدام وطولها أحد عشر، لا يدخلها الضوء الطبيعي إلا من شق في السقف، ولا تغير فيها الأواني إلا مرة في الأسبوع (49). وأطلق سراحه بعد سنتين، ولكنه منع من الكتابة أو الوعظ أو التعليم. فذهب إلى روما (1669)، وهناك رحب به كلمنت العاشر وكرمه، واستهوى الكرادلة والعامة بفصاحته. وعبثاً التمست منه كرستينا ملكة السويد السابقة أن يكون مرشدها الروحي. وقد عرض على البابا اتهاماً مفصلاً لديوان التفتيش باعتباره وصمة على جبين الكنيسة ونكبة على رفاهية البرتغال. وأمر كلمنت بأن تحال إلى روما كل القضايا المعروضة
على ديوان التفتيش البرتغالي، وعطل إنوسنت الحادي عشر تلك الهيئة خمس سنوات.
وأحس فييرا بوحشة للهنود رغم انتصاراته، فأبحر مرة أخرى إلى البرازيل (1681)، وجاهد هناك معلماً ومرسلاً رسولياً حتى أدركته الوفاة وهو في التاسعة والثمانين. وتحتوي مؤلفاته التي يضمها سبعة وعشرون مجلداً، على الكثير من الألغاز الغيبية، ولكن عظاته التي قورنت بعظات بوسوية، وضعته في صف "فحول اللغة البرتغالية (50) "، وخدماته وطنياً ومصلحاً حملت الشاعر البروتستنتي صدى على أن يسلكه في عداد أعظم ساسة وطنه وزمانه (51).
6 - انهيار أسبانيا
1665 -
1700
كانت أسبانيا في 1665 لا تزال أعظم الإمبراطوريات في العالم المسيحي. حكمت الأراضي المنخفضة الجنوبية، وسردانيا، وصقلية، ومملكة نابلي، ودوقية ميلان، ومساحات شاسعة في أمريكا الشمالية والجنوبية. ولكنها كانت قد فقدت القوة البحرية والحربية اللازمة للسيطرة على تجارة هذا الملك المبعثر ومصيره. وكانت أساطيلها الثمينة قد دمرها الإنجليز (1588) والهولنديون (1639)، وهزمت جيوشها هزائم فاصلة في روكروا (1643) ولينز (1648)، واعترف دبلوماسيوها في صلح البرانس (1659) بانتصار فرنسا، وكان اقتصادها يعتمد على تدفق الذهب والفضة من أمريكا، وهذا التدفق كان يقطعه المرة بعد المرة الأسطول الهولندي أو الإنجليزي. وتقلصت تجارتها وصناعاتها لاعتمادها على الذهب الأجنبي واحتقار شعبها للمتاجرة. وكان الكثير من التجارة الأسبانية يحمل في سفن أجنبية. ونقص عدد السفن الأسبانية العاملة بين أسبانيا وأمريكا 75% في عام 1700 عنه في عام 1600. وكانت البضائع المصنوعة تستورد من إنجلترا وهولندا، ويدفع ثمن جزء منها فقط بتصدير النبيذ أو الزيت أو الحديد أو الصوف، والباقي يدفع سبائك ذهبية، ومعنى ذلك أن الذهب الأمريكي إنما كان يمر مروراً بأسبانيا والبرتغال في طريقه إلى إنجلترا وفرنسا والأقاليم المتحدة. وكانت قرطبة وبلنسية
في حالة اضمحلال واع برم بعد شهرتها الماضية بحرفها. وكان طرد المغاربة قد آذى الزراعة، وغش العملة المرة بعد المرة أربك المالية. وبلغت حال الطرق من السوء وحال النقل من التخلف مبلغاً وجدت معه المدن القريبة من البحر، أو الواقعة على أنهار صالحة للملاحة، أنه أرخص لها أن تستورد البضائع، حتى الغلال، من الخارج عن أن تجلبها من مصادرها في أسبانيا. وحاولت الضرائب الباهظة، بما فيها ضريبة بيع ارتفعت إلى 14%، أن تمول حروب أسبانيا ضد أعداء استعصت هزيمتهم إلى حد لا يصدق، رغم الافتراض بأنهم ملعونون من الله. وهبط مستوى المعيشة هبوطاً حمل أعداداً لا تحصى من الأسبان على هجر مزارعهم ومتاجرهم وأخيراً وطنهم. وارتفعت وفيات الأطفال، ويبدو أنه كان هناك بعض التحديد الماكر لعدد أفراد الأسرة. فقد أصبح آلاف الرجال والنساء رهباناً عقيمين أو راهبات وانطلقت آلاف أخرى للمغامرة في أراض نائية. وفقدت إشبيلية، وطليطلة، وبرجوس، وسقوبية بعض سكانها. وهبط سكان مدريد في القرن السابع عشر من 400. 000 إلى 200. 000 (52) لقد كانت أسبانيا تموت من مرض الذهب.
وفي وسط الفقر المنتشر المتكاتف كدست الطبقات العليا ثروتها وعرضتها على الأنظار. وأمسك النبلاء، الذين طال إثراؤهم باستغلال الأهالي أو بالكنوز المستوردة، عن استثمار ثروتهم في الصناعة أو التجارة، وراحوا يبهرون أبصار بعضهم البعض بالجواهر والمعدن النفيس، وبالملاهي الغالية والأثاث الفخم. من ذلك أن دوق ألفا كان يملك 7. 200 من صحاف الفضة و9. 600 من الآنية الفضية الأخرى، وأن أمير ستليانو صنع لزوجته محفة من الذهب والمرجان بلغ ثقلها حداً لم يسمح باستعمالها. كذلك احتفظت الكنيسة بغناها، واستكثرت منه (53)، وسط الفاقة المحيطة بها. ورأى رئيس أساقفة سنتياجو أن يبني كنيسة كاملة من الفضة، فلما ثنوه عن ذلك بناها كلها بالرخام (54). لقد كان دم الشعب تربة الثروة ومجد الله.
أما ديوان التفتيش فكان على عهدنا به من شدة البأس، بل أشد بأساً من الحكومة. وقلت الاحتفالات التي يصدر فيها الحكم بالموت على المهرطقين عن ذي قبل، لا لشيء إلا لأن الهرطقة كانت قد أبيدت
حرقاً. وكانت القيود التي أعجزت الكاثوليك في إنجلترا لا تقاس بما يلقاه البروتستنت من أخطار في أسبانيا. وعجز كرومويل عن حماية التجار الإنجليز هناك. وقبض ديوان التفتيش في 1691 على الخادم البروتستنتي للسفير الإنجليزي، وفي تلك السنة نبش الشعب جثة القسيس الأنجليكاني الخاص بالسفير ومثل بها تمثيلاً. واستمر حرق اليهود المنتصرين الذين اتهموا بأنهم يضمرون يهوديتهم. وبنى ديوان التفتيش لنفسه في ميورقه قصراً جميلاً من الثروة التي صادرها في تحقيق واحد (55). وكانت الجماهير تؤيد بحرارة هذه المحرقات وإن حاول كثير من النبلاء تثبيطها. فلما أعرب شارل الثاني في 1680 عن رغبته في أن يشهد احتفالاً بحرق المهرطقين، تطوع صناع مدريد بأن يبنوا مدرجاً للمشهد المقدس، وفي أثناء قيامهم بالعمل كانوا يشجعون بعضهم بعضاً على الإسراع والاجتهاد بألوان من الحض الديني، لقد كان حقاً جهداً من جهود المحبة. وحضر شارل وعروسه الشابة في كل أبهة الملك، وحوكم 120 سجيناً، وأحرق واحد وعشرون حتى الموت في مرجل في الميدان الكبير، وكان هذا أعظم وأفخم احتفال بحرق المهرطقين في تاريخ أسبانيا، ونشر كتاب من 308 صفحة يصف الحدث ويخلد ذكراه (56). وفي 1696 عين شارل "هيئة كبرى" لفحص مفاسد ديوان التفتيش، فقدمت تقريراً أماط اللثام عن شرور كثيرة وأدانها، ولكن الرئيس العام للديوان أقنع الملك بأن يلقي بهذا "الاتهام الرهيب" في زوايا النسيان. فلما طلبه فليب الخامس في 1701 لم يعثر على نسخة منه (57). على أن الدين خفف من غلوائه بعد ذلك وقلل من حرائقه.
أما الكنيسة فقد حاولت أن تفتدي ثروتها وتدعم الإيمان بتمويلها للفن. ففي 1677 صمم فرانشسكو دي هيريرا ايلموزو كتدرائية سرقسطة الثانية التي سميت "ديل بيلار" لأنها تفاخر بعمود اعتقد الناس أن العذراء نزلت عليه من السماء. وجاءت العمارة الباروكية الآن إلى أسبانيا، وبين عشية وضحاها تحول المزاج الأسباني من الاكتئاب القوطي إلى الإسراف الزخرفي. وأشهر المعماريين هنا خوزي شوريجويرا، وقد أصبح لفظ "شوريجويريسكا" حيناً علماً على الباروك الأسباني. ولد في سلمنقة عام 1665، وأبدى نشاطاً مفرطاً
في العمارة والنحت وصناعة الأثاث والتصوير. فلما وفد على مدريد في الثالثة والعشرين دخل في مسابقة لتصميم نعش لجنازة الملكة ماريا لويزا، ففاز بالجائزة، وتوطدت شهرته بالبراعة الزخرفية العربية بفضل هذا البناء المختلط (58)، المؤلف من أعمدة عجيبة الشكل وكرانيش مكسرة، والمزين بالهياكل العظمية والعظام المتقاطعة والجماجم. ثم عاد غلى سلمنقة حوالي 1690، وظل يكد فيها عشر سنين، يزخرف الكتدرائية، ويبني المذبح العالي في كنيسة القديس أسطفان، والبهو الفخم في مجلس المدينة. وفي مدريد صمم قرب ختام حياته واجهة كنيسة القديس توما، ولما مات (1725) ترك استكمال البناء لولديه جيرونيمو ونيقولا، وفي أثناء اشتغالهما بهذه العمليات سقطت القبة فوق رءوس الكثير من العمال والمصلين فسحقتهم. وهاجر إلى المكسيك لون معتدل نوعاً ما من باروك شوريجويرا، وهناك أثمر بعض المباني التي تعد من أجمل ما شيد في أمريكا الشمالية.
وظل النحت تعبيراً قوياً عن الروح الأسبانية. وكان مصدر هذه القوة أحياناً واقعية شاذة، كما نراها بتفصيل دموي في رأس يوحنا المعمدان أو غيره من القديسين مقطوعي الرءوس. وكان متحف بلد الوليد يحتفظ برأسين من هذا النوع للقديس بولس (59). وظلت حجب المذبح لوناً أثيراً من ألوان الفن، فترى بيدرو رولدان ينحت الحجب الكبرى في كنيسة الأبرشية الملحقة بالكاتدرائية، وفي مستشفى دي لا كاريداد في إشبيلية، وابنته لويزا رولدانا، مثاله أسبانيا الفذة تنحت في كتدرائية قادس مجموعة تماثيل تتركز حول "نوسترا سينورا دي لاس أنجوستياس"(سيدة الأحزان). وهيمن بيدرو دي مينا على العصر بتماثيل عراياه (وما أندرها في الفن الأسباني)، وتماثيل السيدة العذراء، ومقعد المرتلين في كاتدرائية ملقا، ويعد تمثاله" سان فرانسسكو" في كاتدرائية إشبيلية من أروع أمثلة النحت الأسباني. وحوالي نهاية القرن السابع عشر أدرك هذا الفن ما أدرك غيره من تدهور عام. فأثقلت الحشوات بالزخارف، وزودت التماثيل بأجهزة آلية لتحريك الرأس والعينين والفم، وأضيف الشعر والملابس الحقيقية، واللون دائماً، في جهد للوصول إلى أبسط التصور والذوق الجماهيريين.
وولى عصر العمالقة في التصور الأسباني، ولكن
بقى الكثير من صغار الأبطال. فكان خوان كارينو دي ميراندا، الذي خلف فيلا سكويز مصوراً للبلاط، محبوباً كسلفه تقريباً-رجلاً متواضعاً لطيفاً، يبلغ به الاستغراق في عمله مبلغاً ينسيه أحياناً هل أكل أو لم يأكل. وقد سرت صوره لشارل الثاني وحاشيته الملك الشاب حتى عرض عليه لقب الفروسية وصليب سنتياجو، ولكن كارينو رفض هذا التشريف لأنه رآه فوق ما يستحق. وفي تلك الأيام ابتهجت مدريد بقصة "الكنتريللو دي مييل"(برطمان العسل). وتفصيل ذلك أن فناناً مغموراً يدعى جريجوريو أوتاندي رسم لوحة للراهبات الكرمليات طلب عليها أجراً مائة دوكاتية، فاستكثرن عليه الأجر، ولكن وافقن على تحكيم كارينو. وقبل أن يسمع كارينو بالأمر، أهداه أوتاندي برطمان عسل، ورجاه في أن يضع اللمسات الأخيرة للوحة. ففعل، وتحسنت الصورة كثيراً. ودهش كارينو حين طلبت إليه الراهبات تقييمها. فرفض، ولكن فناناً ثالثاً قدرها بمائتي دوكاتية، وكتم السر حتى دفع الثمن.
وفي ختام حياته يسر كارينو سبيل النجاح لأحد خلفائه، وهو كلوديو كويللو، الذي ظل يرسم آناء الليل وأطراف النهار دون أن يحقق نتائج ذات بال. فصادقه كارينو، وحصل له على إذن بأن يدرس وينسخ أعمال تتسيانو وروبنز وفانديك في قاعات الفن الملكية. وأعانت هذه التجربة كلوديو على النضج، وفي 1684، وقبل موت كارينو بعام، عين كويللو مصوراً للملك. وقد أحرز الشهرة في وطنه بلوحته "ساجرادا فورما" أي القربانة المقدسة، التي ظهرت فيها هذه القربانة تقدم إلى شارل الثاني لوضعها على مذبح في الأسكوريال. والأسطورة التي من وراء الصورة تعبر عن مزاج أسبانيا. تقول الرواية أنه في أثناء الحرب مع الهولنديين داس بعض الكلفنيين الفجرة قطعة من خبز القربان المقدس تحت أقدامهم، وسالت من القربانة المصابة قطرات من دم، هدت للتو أحد مدنسيها إلى الكاثوليكية، وحملت القربانة التي استنقذت إلى فيينا في احترام وإجلال، وأرسلت هدية إلى فيليب الثاني، ومنذ ذلك التاريخ وهي تعرض دورياً، ملطخة بدم المسيح على العابدين الخاشعين. وصور كويللو الملك وكبار حاشيته راكعين في تعبد أمام الخبز المعجز. وظهر في الصورة نحو خمسين
شخصاً، كلهم تقريباً صاحب شخصية متميزة، وقد رتبوا في منظور ذي عمق خداع للبصر بشكل ملحوظ (60). بعد هذا العمل الذي اقتضاه الفراغ منه عامين، أصبح كويللو سيد الفنانين قاطبة في العاصمة غير منازع. وبعد ست سنوات (1692) حجبه بغتة وصول لوكا فاريريستو جوردانو من إيطاليا، وكلف لوكا على الفور بالدور الأول في زخرفة الأسكوريال من جديد. وزاد لوكا الطين بلة بامتداحه صور كلوديو. وأنهى كويللو الصور التي كلف بها، ولكنه ألقى فرشاته جانباً. وبعد عام من وصول جوردانو مات كويللو وهو بعد في الحادية والخمسين، وقيل قهراً وغيرة (61).
وخلال ذلك شهدت إشبيلية ميلاد ووفاة (1630 - 90) آخر فنان عظيم في التصوير الأسباني قبل جويا، وهو خوان دي فالديس ليال. وكان مثل كويللو برتغالي الأبوين أسباني المولد. وبعد أن أنفق سنوات في قرطبة، رحل إلى إشبيلية ليتحدى تفوق موريللو. وكان فيه من الكبرياء ما لم يسمح له بأن يقدم لرعاته الجمال الناعم لعذارى (مادونات) محتشمات. وقد صور العذراء في صعودها، ولكنه وضع قلبه وقوته في صور أخرى لا تعرف هوادة في الغض من لذات الحياة والإيماء إلى الموت الذي لا مهرب منه. فرسم القديس أنطونيوس يتولى في هلع عن فتنة النساء (62). وصورت لوحته "آن أكتو أوكولي"(أي في طرفة عين) الموت هيكلاً عظمياً يطفئ شمعة الحياة التي يكشف ضوءها القصير الأجل، في فوضى اختلطت على أرض الحجرة، عدة الأطماع الدنيوية ومجد العالم-الكتب، والسلاح، وتاج أسقف، وتاج ملك، وسلسلة لطائفة "الفروة الذهبية". وفي صورة مغايرة تدور حول هذه الفكرة أرانا ليال حفرة مقبرة تبعثرت فيها الجثث والهياكل والجماجم، ومن فوقها كلها يد جميلة تمسك بميزان تحتوي إحدى كفتيه على شعارات فارس، والأخرى على شارات أسقف، والكفة الأولى كتب عليها "نيماس" أي لا أكثر، والثانية "نيمينوس" أي لا أقل-فرجال الدنيا ورجال الدين على السواء وجدوا ناقصين في موازين الله. ورأى موريللو أول الصورتين، فقال لفالديس "إنها أيها الزميل صورة لا يستطيع المرء أن ينظر إليها دون أن يمسك بأنفه (63) "-وهي عبارة يمكن أن تفسر بأنها ثناء على واقعية المصور، أو رد فعل عقل سليم للفن المنحط.
ذلك أن الانحطاط كان سمة للعهد، فلم يشرفه أديب عظيم، ولم تعرض على مسرحه تمثيلية فذة. أما الجامعات فكانت تنزوي وسط الخراب والظلامية السائدين، ففي جامعة سلمنقة هبط عدد الطلاب في هذه الفترة من 7. 800 إلى 2. 076 (64). وجاهد ديوان التفتيش وقائمة الكتب المحرمة بنجاح ليقصيا عن أسبانيا كل أدب يسيء إلى الكنيسة، وظلت أسبانيا طوال قرن توصد أبوابها كأنها صومعة عابد في وجه حركات الذهن الأوربي. وتربع الانحطاط بشخصه على عرش الملك رمزاً للعهد.
وبيان ذلك أن شارل الثاني أصبح ملكاً وهو بعد في الرابعة (1665) وفي سني حداثته كانت أمه الملكة ماريانا تحكم البلاد اسماً، أما حاكمها الفعلي فكان كاهن اعترافها اليسوعي يوهانز ابرهارد نيذارد، ثم عشيقها فرناندو فالنزويلا. وتفاقمت الفوضى، وكانت الوزارة الكفء التي تولاها دون خوان نمساوي آخر، أقصر أجلاً من أن توقف الانحلال. وفي 1677 تقلد الملك ذو الستة عشر عاماً الحكم وجلس عاجزاً على قمة هذا الصرح المنهار. ولعل التزاوج المتصل بين أفراده أسرة هابسبورج أسهم في ضعف بدنه وعقله. وكانت الذقن الهابسبورجية في شارل بارزة بروزاً أعجزه عن مضغ طعامه، ولسانه من الكبر بحيث لم يكد كلامه يفهم. وظل إلى العاشرة يعامل كأنه طفل يحمل بين الذراعين. وكان لا يكاد يستطيع القراءة، ولم يتلق من التعليم إلا القليل، وكان أعز ميراثه خرافات مذهبه وأساطيره. ويصف مؤرخ أسباني كبير بأنه "عليل، أبله شديد التعلق بالخرافات"، وكان "يعتقد أنه ممسوس، وكان ألعوبة لأطماع كل من أحاطوا به (65) ". وقد تزوج مرتين، ولكن "كان من المعروف للجميع أنه لا يستطيع توقع الخلف (66) ". هذا القصير الأعرج، المصروع، الخرف، المصلع تماماً قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين، كان دائماً على شفا الموت، ولكنه حير العالم المسيحي المرة بعد المرة ببقائه على قيد الحياة.
وأصبح تفكك أوصال أسبانيا الآن مأساة أوربية. فقد ازدادت الحكومة اقتراباً من الإفلاس برغم الضرائب والتضخم واستغلال المناجم
الأمريكية حتى عجزت عن دفع فوائد دينها، وحتى المائدة الملكية اضطرت إلى التقتير في خدمة الملك. أما البيروقراطية الإدارية التي قلت رواتبها فكانت فاسدة متراخية. واستبد الفقر بالناس حتى كانوا يقتتلون للحصول على الخبز، وسطت عصابات من الجياع على البيوت لتسرع وتقتل، وكان عشرون ألف شحاذ يجوبون شوارع مدريد. أما رجال الشرطة العاجزون عن الحصول على رواتبهم فقد تشتتوا وانضموا إلى المجرمين.
ووسط الفوضى والقلق والخراب واجه الملك المسكين، الكسيح، نصف المعتوه، الشاعر بدنو أجله، في حيرة وتذبذب، مشكلة الفصل في وراثة عرشه. وإذ كان سلطانه من الناحية النظرية مطلقاً، فإن سطراً واحداً بخطه كان يكفي للتوصية بإمبراطوريته التي تمتد رقعتها في أربع قارات، أما للنمسا وأما لفرنسا. وانتصرت أمه للنمسا، ولكن شارل كان يكره تآمرها كما يكره جشع زوجته الألمانية الخبيث. وذكره السفير الفرنسي بأنه ما دام صداق عروس لويس الرابع عشر الأسبانية لم يدفع بعد، فإن تنازلها عن الوراثة قد بطل، وكان لويس يلح مطالباً بحقوقها، ويملك القوة لفرض مطلبه. فلو أن شارل داس هذه الحقوق لاشتعلت أوربا بنيران الحرب، وربما تمزقت أسبانيا إرباً في هذا الصراع. وانهار شارل تحت وطأة اتخاذ القرار، وبكى واشتكى من أن ساحرة قد ابتلته بخطوب لا قبل له بتحملها. وبينما كان يستمع إلى الحجج التي زادته اختلاطاً حاصر مثيرو الشغب قصره صائحين في طلب الخبز.
وفي سبتمبر 1700 لزم شارل فراش الموت وكسب الحزب الفرنسي، وهو أحد الأحزاب التي أحاطت به، رئيس أساقفة طليطلة-وكان كبير أساقفة أسبانيا-إلى صفه، وقد لازم الملك المحتضر ليل نهار، وذكره بأن لويس الرابع عشر وحده يملك من القوة ما يتيح له الحفاظ على الإمبراطورية الأسبانية سليمة واستخدامها معقلاً للكنيسة
الكاثوليكية. ونصح البابا إنوسنت الثاني عشر شارل بتفضيل فرنسا، وذلك تحت إلحاح لويس. وخيراً أذعن شارل، ووقع الوصية المشئومة التي خلف فيها كل ممتلكاته لفيليب دوق أنجو، حفيد ملك فرنسا (3 أكتوبر 1700). وفي أول نوفمبر مات شارل، غير متجاوز التاسعة والثلاثين، وكأنه شيخ في الثمانين. وهكذا كانت خاتمة فرع الهابسبورج الأسباني في غروب شاعت فيه حمرة الحرب الداهمة.
الفصل السادس عشر
الجيوب اليهودية داخل البلاد الأجنبية
1564 - 1715
1 -
الصفارديم
(1)
إن بقاء اليهود أحياء بعد تسعة عشر قرناً من الشدة والثأر أشبه بلحن كئيب في تاريخ الجهل، والكراهية، والشجاعة، والمرونة. ذلك أنهم بعد أن حرموا الوطن، وأكرهوا على التماس الملجأ في جيوب عنصرية بين أعداء عتاة، وتعرضوا في كل لحظة للإهانة والظلم، وللمصادرة أو الطرد والمذابح الفجائية، دون أن يكون لهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم سوى سلاح الصبر والمكر والتصميم اليائس والإيمان بدينهم-فإنهم عاشوا مغالبين خطوباً وشدائد لم يقو على مغالبتها شعب آخر في التاريخ، ولم تتحطم إرادتهم قط، ومن فقرهم وحزنهم أنجبوا شعراء وفلاسفة بعثوا ذكرى المشترعين والأنبياء العبرانيين الذين وضعوا الأسس الروحية للعالم الغربي.
وكان استئصال شأفة اليهود في أسبانيا الآن كاملاً تقريباً، فلم يكن لهم من بقاء الاكتيار مختبئ في الدم الأسباني، حتى أن أسقفاً أسبانياً استطاع أن يعرب عام 1595 عن ارتياحه لأن اليهود المتنصرين أمكن استيعابهم بنجاح بطريق التزاوج بينهم وبين المسيحيين، وأن أخلافهم الآن مسيحيون أتقياء (2). ولكن ديوان التفتيش لم يوافقه على رأيه هذا، ففي 1654 أحرق عشرة رجال في كوينكا واثنا عشر في غرناطة، وفي 1660 قبض على واحد وثمانين في إشبيلية، وأحرق سبعة، بتهمة التمسك سراً بالشعائر اليهودية (3).
(1)
ترد لفظة "صفارد" في التوراة (1) اسماً لإقليم في غربي آسيا أنزل فيه المتفيون اليهود بعد استيلاء البابليين على أورشليم. وفي تاريخ لاحق أصبحت الكلمة اصطلاحاً عبرياً على أسبانيا، فأصبح اليهود من أصل أسباني أو برتغالي يسمون الصفارديم.
وفي البرتغال، على الأخص، وأصل الكثير من المتنصرين في الظاهر (الكونفرسو conversos أو المارانو) ممارسة اليهودية ونقلها في عزلة بيوتهم، ووقع أكثر من مائة منهم ضحايا لديوان التفتيش لأنهم مرتدون ( relapsos) بين عامي 1565 و1595 (4) -ووجد اليهود المتسترون مكاناً قلقاً في الحياة البرتغالية كتاباً، وأساتذة، وتجاراً، وماليين، بل ورهباناً وقسيسين، على الرغم من كل أخطار الكشف عن حقيقتهم. وكان ألمع الأطباء يهوداً متخفين، وفي لشبونة طورت أسرة منديس شركة مصرفية من أعظم الشركات في أوربا.
وبعد أن اندمجت البرتغال في أسبانيا (1580)، زاد نشاط ديوان التفتيش البرتغالي، ففي السنين العشرين التالية أقيم خمسون احتفالاً لإقامة المهرطقين، وحكم على 162 بالإعدام، وعلى 2. 979 تائباً بالعقوبات التفكيرية، وأحرق في لشبونة (1603) راهب فرنسسكاني يدعى ديوجودا أسومساو، يبلغ الخامسة والعشرين، بعد أن اعترف باعتناقه اليهودية (5). وهاجر إلى أسبانيا الكثير من المارانو بعد أن وجدوا ديوان التفتيش البرتغالي أشد وحشية من نظيره الأسباني. وفي 1604، بفضل رشوة قدرها 1. 860. 000 دوكاتية دفعوها لفيليب الثالث، ورشا أقل لوزرائه، أقنعوا الملك بأن يحصل من البابا كلمنت الثامن على مرسوم يأمر فيه قضاة التفتيش البرتغاليين بأن يفرجوا عن جميع المارانو المسجونين ويفرضوا عليهم عقوبات روحية فقط. فأطلق في يوم واحد (16 يناير 1605) سراح 410 من هؤلاء الضحايا. ولكن مفعول هذا الرشا وأمثالها كان يضعف بمضي الوقت، ولم يلبث الإرهاب البرتغالي أن عاد سيرته الأولى عقب موت فيليب الثالث (1621). ففي 1623 قبض على مائة من "المسيحيين المحدثين" في بلدة مونتمور أو نوفو. وفي كوامبرا، مركز المملكة الثقافي، قبض على 247 في 1626، وعلى 218 في 1629، وعلى 247 في 1631. وخلال عشرين عاماً (1620 - 40) أحرق 230 يهودياً برتغالياً شخصياً، و161 دمية تمثلهم بعد أن هربوا، و"صولح" 4. 995 بعقوبات أخف (6). وفر الآن المارانو من البرتغال كما فروا من قبل من أسبانيا، مخاطرين بحياتهم وتاركين ثروتهم خلفهم إلى أركان المسكونة كلها.
والتمست الكثرة العظمى من منفيي الصفارديم ملاذاً في بلاد المسلمين، وكونوا أو انضموا إلى مستوطنات يهودية في شمال أفريقية وسالونيك، والقاهرة، والآستانة، وأدرنة، وأزمير، وحلب، وإيران. في هذه المراكز تعرض اليهود لقيود سياسية واقتصادية، ولكن ندر أن تعرضوا لاضطهاد بدني. وبلغ اليهود مكانة مرموقة لا بوصفهم أطباء فحسب، بل مشاركين في شئون الدولة. من ذلك أن يوسف ناصي، أحد المارانو كان مقرباً لسليم الثاني، وكان بصفته دوق ناكسوس (1566) يتسلم إيراد عشر جزر في الأرخبيل (7). وكان يهودي ألماني يدعى سليمان بن ناثان أشكنازي سفيراً لتركيا في فيينا في 1571، ودخل في مفاوضات هناك لإبرام صلح أنهى الحرب حيناً مع الباب العالي.
أما في إيطاليا فإن حظوظ اليهود كانت بين صعود وأفول تبعاً لحاجات الأدواق والبابوات وأمزجتهم. ففي ميلان ونابلي، وكلاهما كانت تحكمه أسبانيا، كادت الحيل تستحيل عليهم، وفي عام 1669 طردهم مرسوم صريح من جميع الممتلكات الأسبانية. أما في بيزا وليفورنو (لجهورن) فقد منحهم كبار الأدواق التوسكانيون الحرية الكاملة تقريباً، لحرصهم على تنمية تجارة هذين الثغرين الحرين. وصدر في 1593 مرسوم للتجار في هاتين المدينتين كان في حقيقته دعوة موجهة للمارانو "نود ألا يقوم أي
…
تحقيق ديني، أو افتقاد، أو تنديد، أو اتهام. ضدكم أو ضد أسركم، حتى ولو كانوا فيما مضي يعيشون خارج أملاكنا متخفين كمسيحيين، أو تسموا بأسماء المسيحيين (8) " ونجحت الخطة، وازدهرت ليفورنو، واشتهرت جاليتها اليهودية-التي لم تفقها عدداً سوى جاليتي رما والبندقية-بثقافتها كما اشتهرت بثرائها.
أما مجلس شيوخ البندقية فكان يطرد اليهود المرة بعد المرة خوفاً عن علاقاتهم بتركيا، ويسمح لهم المرة بعد المرة بالعودة باعتبارهم عنصراً ذا قيمة لا في التجارة والمالية فحسب بل في الصناعة أيضاً، فقد استخدمت المشاريع اليهودية في البندقية أربعة آلاف عامل مسيحي (9). واستوطنها اليهود الألمان والشرقيون كما استوطنها اليهود الصفارديم، وبسط مجلس الشيوخ عليهم حمايته من ديوان
التفتيش. وكانوا كلهم تقريباً يعيشون في حي اليهود، "الجوديكا"، ولكنهم لم يلزموا بسكناه، وكان هذا "الغيت ghetto" يضم الكثير من الأسر الغنية، والبيوت الجميلة، ومجمعاً مؤثثاً تأثيثاً فاخراً بني في 1584، ثم أعيد بناؤه في 1655 بإشراف المعماري الشهير بلداساري لونجينا. وكان يهود البندقية الستة الآلاف أرقى ثقافة من أي جالية يهودية في هذا العصر.
واستقرت في فرارا حوالي 1560 مستوطنة من المارانو القادمين صلاً من البرتغال، ولكنها شتتت في 1851 بأمر البابا، الذي فعل هذا تحت ضغط ديوان التفتيش البرتغالي. وفي مانتوا كان أدواق جونزاجو يحمون اليهود، ولكنهم يسلبونهم دورياً بالتبرعات و "القروض"، وفي 1610 أجبر جميع يهود مانتوا على مسكن حي مسور لليهود تقفل بواباته عند الغروب وتفتح في الفجر (10). فلما ستفشي الطاعون في مانتاوا أتم اليهود بأنهم هم الذين جلبوه إليها، وحين استولى جنود الإمبراطور على المدينة إبان حرب الوراثة المانتوية، نهبوا حتى اليهود تماماً، واغتصبوا 800. 000 سكودي جواهر ونقوداً، وأمروا اليهود أن يرحلوا عن مانتوا خلال ثلاثة أيام غير آخذين من مقتنياتهم إلا ما يستطيعون حمله (11).
أما في روما، حيث درج البابوات من قبل على حماية اليهود، فإنهم بعد عام 1565 (باستثناء سيكستوس الخامس) أصدروا سلسلة طويلة من المراسيم المعادية لهم. فأمر بيوس الخامس (1566) جميع السلطات الكاثوليكية بأن تطبق تطبيقاً كاملاً كل ما فرض على اليهود من قيود وحدود دينية. فلا بد منذ الآن أن يقصروا على أحياء معزولة عزلاً مادياً عن السكان المسيحيين، وعليهم أن يلبسوا شعاراً أو ثوباً مميزاً، ولا حق لهم في تملك الأرض، ولا في أن يكون لهم أكثر من مجمع واحد في أية مدينة. وفي 1569، بمقتضى مرسوم بابوي اتهم اليهود بالربا، والقوادة، والشعوذة، وفنون السحر، أمر بيوس الخامس بطرد جميع اليهود من الولايات البابوية فيما عدا مدينتي أنكونا وروما (12). وحرم جريجوري الثالث عشر (1581) على المسيحيين استخدام الأطباء اليهود، وأمر بمصادرة الكتب العبرية، وجدد (1584) إلزام اليهود بالاستماع إلى مواعظ هدفها هدايتهم
إلى المسيحية. وأنهى سيكستوس الخامس هذا الاضطهاد بعض الوقت ففتح حي اليهود (1586)، وسمح لليهود أن يسكنوا أني شاءوا في الولايات البابوية، وأعفاهم من ارتداء أي شارة أو لباس مميز، وأذن لهم بطبع التلمود وغيره من المؤلفات العبرية، ومنحهم حرية العبادة كاملة، وأمر المسيحيين بأن يعاملوا اليهود ومجامعهم بالاحترام والرأفة (13). ولكن هذه البابوية المسيحية كانت قصيرة الأجل، فقد جدد كلمنت الثامن مرسوم الطرد (1593). وما حل عام 1640 حتى كان جميع يهود إيطاليا تقريباً يسكنون الغيت، فإذا بارحوه كان عليهم أن يلبسوا شارة تدل على سبطهم، وحرموا من الاشتغال بالزراعة أو الانتماء إلى الطوائف الحرفية. وقد وصف مونتيني أثناء جولته في روما عام 1581 كيف كان اليهود في السبت يلزمون بإرسال ستين من شبابهم إلى كنيسة سنتانجيلو في بسكيريا ليستمعوا إلى عظات تحضهم على اعتناق المسيحية (14). وقد شهد جون ايفلين احتفالاً كهذا في روما (7 يناير 1645)، ولا حظ أن "الاهتداء أمر نادر جداً" وكان كثير من خصائص اليهود المنفرة، سواء البدنية والخلقية، نتيجة لطول الحبس والذل والفقر.
أما في فرنسا فقد كان اليهود من الناحية النظرية خاضعين لجميع القيود التي طلب بيوس الخامس فرضها عليهم، أما من الناحية الفعلية فقد أكسبتهم أهميتهم في الصناعة والتجارة المالية تسامحاً صامتاً. وقد أكد كولبير في أحد أوامره المزايا التي تحصل عليها مرسيليا من مشروعات اليهود التجارية (15). واستقر لاجئوا المارانو في بوردو وبايون، وبلغ إسهامهم في الحياة الاقتصادية لجنوب غربي فرنسا مبلغاً حمل السلطات على السماح لهم بممارسة شعائرهم اليهودية في تخف يقل شيئاً فشيئاً. ولما غزا جيش من المرتزقة بوردو في 1675، خشي مجلس المدينة أن يعطل نزوح اليهود المرتاعين في أعدا كبيرة عن المدينة ثراءها، فبدونهم-كما قال ناظر ملكي في تقريره-ستخرب لا محالة تجارة بوردو والإقليم بأسره (16) ". وبسط لويس الرابع عشر حمايته على اجالية اليهودية في متز، فلما عذب القضاة المحليون يهودياً حتى الموت (1670) لاتهامه بقتل طفل قتلاً طقسياً أدان الملك إعدام الرجل قائلاً إنه جريمة قتل ارتكبها القضاء، وأمر
بأن تعرض بعد ذلك الاتهامات الجنائية لليهود على المجلس الملكي (17). وقرب ختام حكم لويس، حين أفضت حرب الوراثة الأسبانية بالحكومة الفرنسية إلى شقا الإفلاس، وضع المالي اليهودي صموئيل برنار ثروته تحت تصرف الملك، ودان الملك المتكبر بالشكر لمعونة "أعظم مصرفي في أوربا (18) ".
2 - أورشليم الهولندية
لعبت هجرة اليهود من أسبانيا والبرتغال دوراً (مبالغاً فيه أحياناً)(19) في انتقال الزعامة التجارية من هاتين الدولتين إلى الأراضي المنخفضة. هناك قصد اليهود المنفيون أنتورب أولاً، ولكن في 1549 أمر شارل الخامس بأن يطرد من الأراضي المنخفضة كل المارانو الذين دخلوها من البرتغال في السنوات الخمس الأخيرة. والتمس عمد أنتورب الاستثناء من هذا المرسوم، ولكنه نفذ، واستأنف المهاجرون الجدد بحثهم عن وطن يلجئون إليه. وفقدت أنتورب تفوقها التجاري لا نتيجة لهذه الهجرة الجزئية، بل للخطوب التي ألمت بالمدينة في حرب التحرير ومعاهدة وستفاليا، التي أقفلت الشلت في وجه الملاحة.
واجتذبت حرية العبادة في الأقاليم المتحدة، تلك الحرية المتزايدة رغم ما شابها من نقص، اليهود إلى المدن الهولندية-إلى لاهاي، وروتردام، وهارلم، وأهم من ذلك كله أمستردام. هناك ظهر يهود المارانو في 1593، وبعد أربع سنين افتتحوا مجمعاً لهم. وكانت العبرية لغة عبادتهم، والأسبانية أو البرتغالية لغتهم في حياتهم اليومية. وفي 1615، وبعد تقرير وضعه هوجو جروتيوس، أقرت سلطات المدينة رسمياً وجود الجالية اليهودية، ومنحتها حرية العبادة، ولكنها منعت اليهود من التزاوج مع المسيحيين ومن التهجم على الدين المسيحي (20)، ومن هنا هذا الذعر الذي استولى على رؤساء المجمع حين مست هرطقات أوريل أكوستا وباروخ سبينوزا أسس العقيدة المسيحية.
وكان من بين اليهود نفر من أغنى التجار في الثغر المزدهر وكانوا يديرون قسماً هاماً من التجارة الهولندية مع شبه الجزيرة
الأسبانية، ومع جزر الهند الشرقية والغربية. وفي إحدى المناسبات، في زفاف فتاة يهودية، كان أربعون من الضيوف يمتلكون ثروات جملتها أربعون مليون فلورين (21). وفي 1688، حين كان رئيس الدولة وليم الثالث يخطط لحملته التي قام بها ليظفر بتاج إنجلترا، أقرضه إسحاق سواسو-فيما روي-مليوني فلورين دون فائدة قائلاً "إذا حالفك الحظ ستردها إلى، وإلا فأني راض بأن أخسرها (22) ". وكان بعض هذا الثراء لافتاً للنظر فوق ما ينبغي، مثال ذلك أن داود بنتو أسرف في تزيين بيته إسرافاً حمل السلطات المدنية على توبيخه (23)، على أننا يجب أن نضيف أن آل بنتو تصدقوا بالملايين على مشروعات البر اليهودية والمسيحية (24). وكان من وراء هذه الواجهة الاقتصادية حياة ثقافية نشطة، حفلت بالعلماء والأحبار والأطباء والشعراء والرياضيين والفلاسفة. وكانت المدارس توفر التعليم، وأصدرت مطبعة عبرية أسسها منسي بن إسرائيل في 1627 عدداً كبيراً من الكتب والنشرات، وسوف تكون أمستردام طوال القرنين التاليين مركز التجارة اليهودية في الكتب. وفي 1671 - 75 دلت الجالية البرتغالية-اليهودية على ثرائها بتشييد المجمع البديع الذي ما زال أحد معالم أمستردام، وقيل إن المسيحيين ساهموا في تكريسه. لقد كانت لحظة سعيدة في حياة اليهود المحدثين.
على أن هذه الشمس كان يشوبها الكلف. فحوالي سنة 1630 وفد اليهود الأشكنازيم (أي الشرقيون
(1)
) على أمستردام من بولندة وألمانيا. وكانوا يتكلمون لهجتهم الألمانية، وأنشئوا مجمعاً خاصاً بهم، وتكاثروا سريعاً، وأثاروا الكثير من العداء بين يهود الصفارديم، الذين كانوا فخورين بما بزوهم به من لغة، وثقافة، ولباس، وثروة، ونظروا إلى التزاوج مع اليهود الاشكنازيم كأنه مروق عن الدين. وتكون داخل جماعة الصفارديم انقسام طبقي، فكان صغار الحرفيين والفقراء
(1)
يظهر لفظ "اشكنازي" لأول مرة في الإصحاح العاشر والعدد الثالث من سفر التكوين اسماً لحفيد بعيد من أحفاد نوح، وفي الإصحاح 11 والعدد 27 من سفر أرميا أطلق على مملكة في غرب آسيا، وأطلقه الأحبار في العصور الوسطى على ألمانيا لأسباب نجهلها، وأصبح لفظ "الاشكنازيم" مرادفاً ليهود ألمانيا، وبولندة، وروسيا.
المتكاثرون ينددون بـ "أصحاب الملايين" الذين يسيطرون على سياسة المجمع وموظفيه. وقد ورد في هجاء معاصر "إن الريال يحل ويربط، وهو يرفع الجهال إلى أكبر منصب في المجتمع (25) ". وكان القادة الفكريون-شارل ليفي مورتيرا، وإسحاق أبوآب دا فونسيكا، ومنسي بن إسرائيل-رجالاً ذوي كفاية ونزاهة، ولكنهم كانوا محافظين بحذر في شئون السياسة والدين والأخلاق. وأصبحوا متزمتين تزمت الأسبان الذين اضطهدوا أسلافهم، ومارسوا التفتيش اليقظ عن الهرطقات المحتملة (26).
وترك منسي بن إسرائيل بصمته على التاريخ بفتح إنجلترا لليهود من جديد. ولد في لاروشيل لأبوين من المارانو وصلا حديثاً من لشبونة، وأخذ إلى أمستردام في طفولته، وانقطع لدرس العبرية والأسبانية والبرتغالية واللاتينية والإنجليزية، واختير وهو في الثامنة عشرة واعظاً لمجمع نيفه شالوم. وقد سر المسيحيين واليهود على السواء بتأليفه "الكونسليادور" ليوفق بين التناقضات المزعومة في التوراة. وكان له الكثيرون من المراسلين والأصدقاء المسيحيين-هويت، وجروتيوس، وكرستينا ملكة السويد، وديونيسيوس فوسيوس الذي ترجم كتابه إلى اللاتينية، ورمبرانت الذي حفر صورته في 1636. وأهم من ذلك أنه أثار اهتمام الحالمين من المسيحيين لأنه بشر بقرب مجيء "مسيا" يحكم الأرض.
ذلك أن منسي كان قبلانياً ومثالياً صوفياً يحلم بقرب العثور على أسباط إسرائيل العشرة المفقودة وتوحيدها، وبأنهم ربما كانوا اليهود الأمريكيين، وبأن اليهود سيسمح لهم بالعودة إلى إنجلترا وإسكندناوة، وبأن الأرض المقدسة ستعاد عندئذ لإسرائيل في كل مجد المسيا. وراسله البيورتان من شيعة الملكية الخامسة في إنجلترا، ومع أن مسيحهم المنتظر لم يكن مسيحه، فإنهم رحبوا بآرائه في قرب مجيء ملكوت الله. وإذ وجد هذا التشجيع فإنه نشر (1650) رسالة عن تطلعات إسرائيل، يناشد فيها السلطات أن ترد اليهود إلى إنجلترا. وقدم لترجمة لاتينية للكتاب بمقدمة موجهة إلى البرلمان الإنجليزي، وبين أن عودة اليهود إلى وطنهم سيسبقها طبقاً لنبوات الكتاب المقدس تشبثهم في جميع الأقطار، ورجا الحكومة الإنجليزية أن تعين على
تحقيق هذا الشرط الأولي بقبول اليهود في إنجلترا والسماح لهم بممارسة دينهم وبناء مجامعهم. وأعرب عن أمله في أن يؤذن له بالمجيء إلى إنجلترا ليساعد في تكوين مجتمع عبري.
وكان كرومويل ميالاً لإجابة هذا الطلب، فقال "إن تعاطفي عظيم مع هذا الشعب المسكين الذي اختاره الله وأعطاه ناموسه (27) ". وبعث اللورد مدلسكس، ربما ممثلاً للبرلمان برسالة إقرار بالجميل وشكر "لأخي العزيز، الفيلسوف العبري، منسي بن إسرائيل". وزار السفير الإنجليزي في هولندا منسي، فاستقبل بالموسيقى والصلاة العبريتين (أغسطس 1651). ولكن في أكتوبر أقر البرلمان قانون ملاحة وجه بشكل ظاهر ضد التجارة الهولندية، وأفضت المنافسة التجارية إلى الحرب الهولندية الأولى (1652 - 54)، وكان على منسي أن يتريث حتى تواتيه الفرصة، وتلقى "برلمان بيربون"(1653) بالرضا طلبه المجدد، وأرسل إليه إذناً بدخول إنجلترا في أمان، فلما وضعت الحرب أوزارها أيد كرومويل الدعوة، وفي أكتوبر 1655 عبر منسي وابنه البحر إلى إنجلترا.
3 - إنجلترا واليهود
لم يكن مسموحاً لليهود بالعيش في إنجلترا في الفترة بين طردهم منها في 1290 وتقلد كرومويل السلطة في 1649. وربما ظهر بعض الباعة اليهود المتجولين في القرى، وبعض تجارهم وأطبائهم في المدن، ولكن كل ما كان يعرفه الإليزابيثي تقريباً عن اليهود أو يراه فيهم كان مصدره الأقاويل أو المؤلفات المسيحية. من هذين المصدرين استقى مارلو شخصية بارباس وشكسبير شخصية شيلوك.
وظن بعض النقاد (28) أن شكسبير كتب "تاجر البندقية" استجابة لاقتراح من فرقته بالإفادة من عاصفة العداء للسامية التي أثارتها في إنجلترا حديثاً قضية رودريجو لوبيز، الذي أعدم عام 1594 لما قيل من محاولته تسميم الملكة إليزابث. وقد ولد لوبيز هذا في البرتغال لأبوين يهوديين، وأقام بلندن في 1559، وشق طريقه إلى التفوق في مهنة الطب. واستخدمه ايرل ليستر طبيباً له، فاتهم
بمساعدته على التخلص من أعدائه بالسم، وفي 1586 أصبح كبير أطباء الملكة. وقد عالج فيمن عالج ايرل اسكس الثاني، ولكنه أثار عداءه لأنه أفشي سر علله. وحوالي 1590 انضم إلى فرانسس والسنجهام في دسائس مع بلاط أسبانيا ضد دوم أنطونيو، المطالب بعرش البرتغال، وتلقى خاتماً من الماس قدره يومها بمائة جنيه، من عملاء فيليب الثاني فيما يبدو. وفي 1593 قبض على اسطفان داجاما في بيت لوبيز بتهمة التآمر على أنطونيو، وقبض على آخرين، واتهمت بعض الاعترافات لوبيز بالاشتراك في مؤامرة ضد إليزابث. وتزعم اتهام الطبيب اسكس، الذي كان يؤيد أنطونيو، فلما وضع لوبيز على دولاب التعذيب، اعترف بأنه تلقى وتكتم عرضاً بخمسين ألف دوكاتية ليدس السم للملكة، ولكنه زعم أنه لم يقصد إلا لسلب مال ملك أسبانيا. فشنق هو واثنان آخران وأفرغت أحشاؤهم وقطعوا أرباعاً. وقد أعلن وهو يلفظ أنفاسه أنه يحب الملكة ويحب المسيح، وهو ما أثار احتقار المتفرجين (29). وأخرج شكسبير، الميال إلى اسكس، "تاجر البندقية" بعد هذا الإعدام بشهرين، ولا بد أن كثيراً من المستمعين للمسرحية لاحظوا أن اسم الضحية التي أراد شيلوك البطش بها كان أنطونيو.
وقد خفف انتشار الكتاب المقدس، الذي عجلت به ترجمة الملك جيمس، من حدة العداء لليهود لأنها وثقت معرفة إنجلترا بالعهد القديم. وتغلغلت أفكار العبرانيين القدماء ومشاعرهم في فكر البيورتان وعباراتهم. وبدت لهم حروب اليهود صورة سابقة لحروبهم مع تشارلز الأول، وكان يهوه رب الجنود-على نحو ما-أنسب لحاجاتهم من ملك السلام الذي جاء وصفه في العهد الجديد. ورسم الكثير من الكتائب البيورتانية أسد يهوذا على راياتهم، وسار أعوان كرومويل "ذوو الجوانب الحديدية" إلى المعركة وهو يتغنون بأغاني كتابية. وإذ أقبل البيورتان أدب التوراة الرائع على أنه كلمة الله بحذافيرها، فإنهم أحسوا بأنهم مضطرون إلى الاعتراف باليهود مختارين من الله ليكونوا المتسلمين المباشرين لوحيه، وأخبر واعظ منهم شعب كنيسته أن اليهود ينبغي أن يظلوا مكرمين باعتبارهم مختاري الله، وسمي بعض جماعة "المسوين" أنفسهم يهوداً (30). وشعر كثير من البيورتان أن تأكيد المسيح الصريح لناموس موسى يرجح رفض بولس إياه، وحملوا جميع
المسيحيين المتمسكين بالكتاب المقدس على الالتزام بممارسة ذلك الناموس. واقترح أحد قادة البيورتان، وهو اللواء تومس هاريسون، وكان من ألصق مساعدي كرومويل به، جعل الشريعة الموسوية جزءاً من القانون الإنجليزي (31). وفي 1949 قدم مشروع قانون لمجلس العموم بتغيير يوم الرب من الأحد الوثني إلى السبت اليهودي. فالإنجليز أيضاً هم الآن-في زعم البيورتان-شعب الله المختار.
وكانت جماعة صغيرة من المارانو سكنت لندن على عهد جيمس الأول (1603 - 25). وكانوا أول الأمر يختلفون إلى الصلوات المسيحية، ولكنهم بعد ذلك لم يعبئوا بإخفاء ولائهم لليهودية. وشارك الماليون اليهود أمثال أنطونيو كارفاجال في تلبية حاجات البرلمان الطويل والجمهورية للمال (32). فلما تقلد كرومويل السلطة استخدم التجار المارانو مصادر للمعلومات الاقتصادية والسياسية المتصلة بهولندة وأسبانيا، ولاحظ في شيء من الحسد ما أصابته التجارة الهولندية من توفيق يرجع بعضه إلى تدفق اليهود وعلاقاتهم الدولية.
وبعد أن وصل منسي بن إسرائيل إلى إنجلترا بقليل استقبله كرومويل، ووضع مسكناً في لندن تحت تصرفه. وقدم منسي ملتمساً، ونشر عن طريق الصحف "إعلاناً" بالمبررات الدينية والاقتصادية الداعية للإذن اليهود بدخول إنجلترا. وبين السبب في أن اليهود اضطرتهم القيود القانونية، وعدم أمنهم المادي والمالي، إلى الزهد في الزراعة والإقبال على التجارة. وأشار إلى يهود أمستردام يرتزقون من الاستثمار في التجارة لا من إقراض المال، وأنهم لا يتعاملون الربا بل يضعون أموالهم السائلة في مصارف ويقنعون بفائدة قدرها خمسة في المائة على ودائعهم. ودلل على انعدام أي أساس للأسطورة التي زعمت أن اليهود يقتلون الأطفال المسيحيين ليستعملوا دمهم في الشعائر الدينية. وأكد للمسيحيين أن اليهود لا يبذلون محاولات ليفتنوا الناس عن دينهم. واختتم بطلب السماح لليهود بدخول إنجلترا، شريطة أن يقسموا يمين الولاء للملكة، وبأن يمنحوا الحرية الدينية، والحماية من العنف وأن يقضي أحبارهم وقوانينهم في خلافاتهم دون إضرار بالقانون والمصالح الإنجليزية.
وفي 4 ديسمبر 1655، جمع كرومويل في هوايتهول مؤتمراً من الفقهاء وكبار الموظفين ورجال الدين للبحث في قبول اليهود. ودافع هو شخصياً عن الفكرة بقوة وفصاحة، مؤكداً الجانب الديني والاقتصادي إذ لا بد من تبشير اليهود بالإنجيل الطاهر، ولكن "أنستطيع تبشيرهم إذا لم نحتمل عيشهم بين ظهرانينا (33)؟ " ولم تلق حججه تعاطفاً كثيراً. وأصر رجال الدين على أن لا مكان لليهود في دولة مسيحية واعترض ممثلو التجارة بأن التجار اليهود سينتزعون التجارة والثروة من أيدي الإنجليز. وقرر المؤتمر أن اليهود لا يستطيعون المقام في إنجلترا "إلا بإذن خاص من سموه (34) ".
لقد كان الرأي العام معادياً لقبولهم عداءً طاغياً. وذاعت شائعات زعمت أن اليهود إذا سمح لهم بدخول إنجلترا سيحولون كتدرائية القديس بولس إلى مجمع يهودي. وأصدر وليم برين (1655 - 56) كتاباً سماه "اعتراض موجز" جدد فيه الاتهامات القديمة لليهود بأنهم يزيفون العملة ويقتلون الأطفال، وكان قد أثار زوبعة قبل ذلك بعشرين سنة بهجومه على المسرح الإنجليزي في كتابه Historiomastix ورد بيورتاني متحمس يدعى توماس كوليز على برين، ولكنه أضعف حججه بمطالبته بإكرام اليهود باعتبارهم شعب الله المختار. ونشر منسي نفسه (1656)"دفاعاً" ناشد فيه روح الإنصاف في الشعب الإنجليزي. وقال أيستطيعون حقاً أن يصدقوا "تلك الفرية العجيبة الرهيبة
…
التي تزعم أن اليهود اعتادوا الاحتفال بعيد الفطير، بتخميره بدم بعض المسيحيين الذين قتلوهم لذلك الغرض؟ " وقال كم مرة من التاريخ افترى شهود الزور بمثل هذه التهم أو لم يؤيدها غير اعترافات انتزعت بالتعذيب، وكم من مرة وضحت براءة اليهود المتهمين بها بعد إعدامهم. ثم اختتم بإيمان وحرارة مؤثرين قائلاً:
"وإلى الشعب الإنجليزي الأكرم أرفع رجائي المتواضع بأن يعيدوا قراءة حججي دون تحيز،
…
مسلماً نفسي تماماً إلى فضلهم ورضاهم، متضرعاً إلى الله بحرارة أن يتفضل ويعجل بالوقت الذي وعد به (النبي) صفنياً، يوم نخدمه تعالى جميعاً برأي واحد، وبطريقة واحدة، ويكون لنا كلنا رأي واحد، وأنه بما أن اسمه واحد، فكذلك تكون مخافته واحدة، ونرى جود الرب (تبارك اسمه إلى الأبد) وتعزيا صهيون (35) ".
ولكن الدعاء لم يكسب الشعب الإنجليزي، ولم يظفر منسي بقبول رسمي لليهود. وطرح كرومويل المشكلة جانباً في غمرة جهوده لحماية حكومته وحياته، ولكنه أجاز منسي بمعاش سنوي قدرة مائة جنيه (لم يدفع قط) من الخزانة العامة. وفي سبتمبر 1657 مات ابن منسي. وأعانته منحة من حامي الجمهورية على نقل جثة ولده إلى هولندا لدفنها، ولكن "الرسول المبعوث إلى إنجلترا" مات في مدلبورج في 20 نوفمبر بعد أن أعياه السفر وهده الحزن، غير مخلف من المال ما يكفي لتشييع جنازته.
على أنه في واقع الأمر لم يفشل في مهمته. كتب ايفلين في "يوميته" تحت يوم 14 ديسمبر 1655 "الآن قبل اليهود" لم يبح عودتهم إلى إنجلترا شرعاً أي مرسوم من حامي الجمهورية، أو قانون من البرلمان، ولكن أعداداً متزايدة دخلت بموافقة كرومويل الصامتة. وفي 1657 سمح ليهود لندن ببناء مقبرتهم الخاصة بوصفهم يهوداً لا مسيحيين، وما لبثوا أن افتتحوا مجمعاً ومارسوا شعائرهم في هدوء. فلما عادت الملكية إلى إنجلترا، تذكر تشارلز الثاني الدعم المالي الذي تلقاه في منفاه بهولندا من منديس داكوستا وغيره من العبرانيين، وأدرك المنافع التي حصلت عليها إنجلترا من المشروعات التجارية التي اضطلع بها يهود لندن، فأغضي عن المزيد من الهجرة اليهودية لإنجلترا. وواصل وليم الثالث هذا الموقف المتسامح وهو يذكر كذلك معونة اليهود، وذلك برغم شكاوي التجار ورجال الدين الإنجليز المتكررة. واكتسب سليمان مديناً أول لقب فروسية يهودي بخدماته متعهداً للجيش لوليم الثالث وملبره (36). وما أقبلت سنة 1715 حتى كان السماسرة اليهود يعملون في سوق لندن المالية، والماليون اليهود قوة صغيرة في البلاد. وفي عام 1904 احتفل اليهود الإنجليز بالذكرى الثلاثمائة لمولد منسي.
4 - الأشكنازيم
في سنة 1564 كانت بقية لا يستهان بها من المستوطنات اليهودية باقية في ألمانيا لا سيما في فرانكفورت-أم-مين، وهامبورج، وفورمز، برغم الحملات الصليبية الوسيطة ومئات التقلبات. غير أن
حركة الإصلاح البروتستنتي لم تكن قد خففت من تلك الكراهية التي أحس بها المسيحيون نحو شعب غريب لم يستطع أن يقبل المسيح على أنه ابن الله، بل زادتها حدة. ففي فرانكفورت حرم على اليهود أن يبرحوا حيهم إلا لأمر عاجل، ولم يكن مباحاً لهم استضافة زوار من خارج المدينة دون علم القضاة، وكان عليهم أن يضعوا على ملابسهم شعاراً أو لوناً خاصاً، وأن تحمل بيوتهم علامات مميزة كثيراً ما كانت غريبة قبيحة المنظر. وقد اشترت رشوة موظفي المدينة أحياناً الإعفاءات من هذه القيود المذلة، ولكن عداء أفراد الشعب البسطاء كان خطراً دائماً يتهدد حياة اليهود وممتلكاتهم. مثال ذلك ما حدث في سبتمبر 1614 حين اقتحم جمع مسيحي باب حي اليهود بينما كانت كان معظم يهود فرانكفورت يقيمون الصلاة، وبعد أن استمتعوا بليلة من النهب والتدمير، أجبروا 1. 380 يهودياً على مبارحة المدينة دون أن يحملوا من المتاع إلا ما على أجسادهم من ثياب. وأطعمت عدة أسر مسيحية اللاجئين وآوتهم، وألزم رئيس أساقفة مينز بلدية فرانكفورت بردهم لبيوتهم، وتعويضهم عن خسائرهم، وشنق زعيم الغوغاء (37). وبعد سنة قامت حركة ممثلة في فورمز، فطردت اليهود من المدينة وانتهكت حرمة مجامعهم ومدافنهم، ولكن رئيس أساقفة فورمز وأمير هسي-دار مشتات قدماً الملجأ للمنفيين، وبسط عليهم ناخب بالاتين حمايته في رجوعهم. ويمكن القول عموماً أن كبار الأكليروس وأفراد الطبقات العليا كانوا ميالين للتسامح، ولكن صغار الأكليروس وجماهير الشعب كان من السهل إثارتهم وإشعال نار الحقد في نفوسهم. وكانت القيود القديمة-حتى بعد تخفيفها-مسلطة أبداً فوق رءوس اليهود، واحتمالات الإهانة والأذى ماثلة في أي يوم. وكان بعض المسيحيين الغيورين يخطفون الأطفال من فوق صدور أمهاتهم ويعمدونهم بالإكراه (38). حقاً لولا الجهل لما كان للتاريخ وجود.
وتركت حرب الثلاثين يهود ألمانيا في سلامة نسبية. فقد استغرق البروتستنت والكاثوليك في قتل بعضهم البعض استغراقاً كاد ينسيهم أن يقتلوا اليهود، حتى ولو كانوا أقرضوهم مالاً. وكان الإمبراطور فرديناند الأول قد فرض لوائح ثقيلة على يهود النمسا، وطردهم من بوهيميا (1559)، ولكن فرديناند الثاني حماهم، وسمح لهم بأن
بينوا مجمعاً في فيينا الكاثوليكية وأن يخلعوا شعاراتهم، وأباح رجوع اليهود إلى بوهيميا. وتعهد يهود بوهيميا بدفع أربعين ألف جولدن كل عام إسهاماً منهم في القضية الإمبراطورية في تلك الحرب الكبيرة. ورغبة في تهدئة خواطر المسيحيين الذين تذمروا من سياسة فرديناند الثاني المتسامحة، أمر (1635) بأن يستمع يهود براغ كل أحد للعظات المسيحية، وفرض الغرامات عقاباً للتهرب أو النوم أثناء العظات.
واتسعت المستوطنات العبرية في ألمانيا بسرعة بعد صلح وستفاليا. فقد سوأت فظائع الحرب إلى حد ما سمعة التعصب والاضطهاد. وأقبل مئات اليهود من بولندة بعد المذابح المنظمة التي تلت ثورة القوزاق التي نشبت في 1648. وفيما بين عامي 1675و 1720 كان يختلف إلى أسواق ليبزج من التجار اليهود كل سنة 648 تاجراً في المتوسط. واستعان الأمراء الألمان بالمهارة اليهودية في إدارة مالياتهم وتنظيم تموين جيوشهم وقصورهم. مثال ذلك أن صموئيل أو بنهايمر أشرف على المالية الإمبراطورية خلال الحملات التي اختتم بها القرن السابع عشر، وأشرف سمسون فرتايمر على القوميسارية الإمبراطورية في حرب الوراثة الأسبانية. وكان من أثر نفوذه الإمبراطورة مارجريت تريزا، الأسبانية المولد اليسوعية الروح، على زوجها ليوبولد الأول أنه أمر بنفي اليهود من النمسا، ولكن الناخب الأكبر فردريك وليم رحب بكثير من المنفيين في براندنبورج، ونمت الجالية اليهودية في برلين حتى غدت من أكبر الجاليات في أوربا.
ومنذ القرن الثاني عشر كان يهود وسط أوربا يطورون لهجتهم "الييدية Yiddish" المؤلف معظمها من إضافات ألمانية مع إضافات عبرية وسلافية، والمكتوبة بأحرف عبرية. وواصل اليهود المتعلمون دراسة العبرية، ولكن المطبوعات العلمانية التي نشرها الأشكنازيم أصبح معظمها بالييدية. وظهر أدب بيدي، غني بالفكاهة المرة والعاطفة البيتية، في قصص شعبية منقولة عبر القرون والحدود، وفي تمثيليات قصيرة Purimspiele لمهرجان الربيع المرح، وفي أمثال من الحكمة البسيطة (كقولهم "أب واحد يعول عشرة أبناء، ولكن عشرة أبناء لا يعولون أباً واحداً" (39)). وقبل 115 لم يكن في استطاعة هذا الأدب أن يفاخر إلا بمؤلف مرموق واحد، هو أيليا بوشر، وهو عالم
في العبرية وشاعر بالييدية، كتب رومانسيات غريبة في مقطوعات ثمانية من الشعر ottava rima وترجم المزامير إلى لغة الشعب. وظهرت ترجمة يبدية للأسفار الموسوية الخمسة في 1544، بعد خمسة عشر عاماً فقط من ترجمة لوثر الألمانية للكتاب المقدس، ونشرت ترجمة ييدية للعهد القديم كله بأمستردام في 1676 - 79. لقد كان اليهود الألمان في طريقهم إلى زعامة شعبهم الثقافية.
وفي القرن العاشر دخل اليهود بولندة من ألمانيا وزكوا وتكاثروا تحت حماية الحكومة رغم المذابح العارضة. وفي 1501 كان هنا نحو خمسين ألف يهودي في بولندة، وفي 1648 نصف مليون (40)، وناصر الأعيان szlachta الذين يهيمنون على مجلس الأمة اليهود، لأن الملاك تبينوا فيهم كفاية خاصة في جميع الإيجارات وجباية الضرائب وإدارة الضياع، وكل حكام بولندة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فيما عدا قلة منهم، من أكثر ملوك زمانهم تسامحاً. فأصدر ستيفن باتوري مرسومين يؤكدان الحقوق التجارية لليهود، ويدمغان تهم القتل الطقسي التي يرمي بها اليهود بأنها "افتراءات" قاسية لا يسمح بها في المحاكم البولندية (1567)(41). ولكن عداء الشعب لليهود لم يخف. فلم ينقض عام واحد على هذين المرسومين حتى هاجم جمع من الغوغاء الحي اليهودي في بوزنان، ونهبوا البيوت، وقتلوا كثيراً من اليهود. وفرض باتوري غرامة على موظفي المدينة لفشلهم في وقف الشغب. وواصل سجسمند الثالث سياسة التسامح الملكي.
وتضافر عاملان لإنهاء هذا العهد الذي توافرت فيه حسن نية الحكومة قبل اليهود. أولهما أن التجار الألمان في بولندة كرهوا منافسة اليهود لهم، فأشعلوا ثورات شعبية في بوزنان وفيلنو، حيث هدم مجمع لليهود ونهبت بيوت اليهود (1592)، وقدموا للملك ملتمساً de non tolerandis Judaeis بعدم التسامح مع اليهود (1619). وانضم إلى الحملة لوقف التسامح اليسوعيين الذين استقدم باتوري وما لبثوا أن تولوا القيادة الفكرية للكاثوليك في بولندة. وظفرت اتهامات اليهود بالقتل الطقسي باعتراف الحكومة بها الآن. ففي 1589 عشر في لوبلن على جثة صبي في مستنقع، فأكره ثلاثة يهود بالتعذيب على الاعتراف بأنهم قتلوه، ثم شنقوا وانتزعت أحشاؤهم وقطعوا
أرباعاً، وأصبح جثمان الصبي الذي حفظ في كنيسة كاثوليكية محل الإجلال الديني. وازدادت المؤلفات المعادية للسامية ضراوة عن ذي قبل.
وفي 1618 نشر سبستيان ميشنسكي الكراكاوي كتيباً اسمه "مرآة للتاج البولندي" اتهم فيه اليهود بقتل الأطفال، والسحر، والسرقة، والنصب، والخيانة، ودعا مجلس الأمة لطرد جميع اليهود من بولندة. وأثار الكتيب الشعور العام إثارة حملت سجسموند على مصادرته. واتهم طبيب من بولندي الأطباء اليهود بتسميم الكاثوليك بشكل منظم (1623) وأمر الملك لاديسلاس الرابع السلطات البلدية بأن تحمي اليهود من الثورات الشعبية، وحاول التخفيف من عداء المسيحيين لهم بمنع اليهود من السكنى في الأحياء المسيحية، أو بناء مجامع جديدة، أو فتح مدافن جديدة، دون ترخيص ملكي. وألزم برلمان 1643 جميع التجار بألا تتجاوز أرباحهم 7% إن كانوا مسيحيين، و3% إن كانوا يهوداً، وكانت النتيجة أن المسيحيين أقبلوا على الشراء من اليهود فأثروا وأثاروا مزيداً من الحقد.
وتكاثر اليهود البولنديون برغم الكراهية والقيود والشدائد والفقر وبنوا المعابد والمدارس، وتناقلوا تقاليدهم وأخلاقهم ونواميسهم التي أعانتهم على الاستقرار، وصانوا إيمانهم المعزى. ونظم المدارس الأولية معلمون خصوصيون ينقدهم الأدباء أجورهم بواقع التلميذ والفترة، أما التلاميذ العاجزون عن الدفع فإن معظم الجاليات اليهودية أنفقت على مدرسة خاصة بهم من الأموال العامة. وكان حضور المدرسة الأولية إلزامياً على الصبية من السادسة إلى الثالثة عشرة. ووفر التعليم العالي في كلية (يشيبا) يشرف عليها الأحبار. وفيما يلي وصف للنظام بقلم حبر معاصر (1653):
"كانت كل جالية يهودية تعول طلاب الكلية (الباهور) وتمنحهم قدراً من المال كل أسبوع
…
ويكلف كل طالب من هؤلاء الباهور بتعليم صبيين على الأقل
…
فالجالية ذات الخمسين أسرة يهودية تعول ما لا يقل عن ثلاثين من هؤلاء الشباب والصبيان، فتوفر الأسرة الواحدة الطعام لطالب كلية وتلميذيه، ويجلس الطالب إلى مائدة الأسرة كواحد
من أبنائها
…
وندر أن وجد بيت
…
لم تدرس فيه التوراة، أو لم يكن رب البيت، أو ابنه، أو صهره، أو طالب الكلية الذي يتناول الطعام على مائدته، خبيراً في الثقافة اليهودية (42) ".
ونحن إذا نظرنا ن إذا نظرنا لى تعليم اليهود البولنديون وأدبهم من وجهة نظرنا الحديثة والعلمانية، وجدناهما ربانيين بشكل ضيق، لأنهما يكادان يقتصران على التلمود، والتوراة، والقبلانية، والعبرية، ولكن لما كان التلمود مشتملاً على الشريعة اليهودية اشتماله على الدين والتاريخ اليهوديين، فقد صلح أداة لضبط الذهن ضبطاً صارماً متعمقاً. وما من ريب في أن الجاليات المطاردة شعرت بأنه لا يولد فيهم القوة على احتمال التعيير والاضطهاد والشدائد والمخاطر المتصلة غير الإيمان الديني الحار، والدراسة التي تمد جذورها في تقاليد الشعب اليهودي وعاداته. وقد ظل اليهود البولنديون يعيشون كأنهم في العصور الوسطى حتى أصبحت الحداثة حديثة بقدر يكفي لإعطائهم الحرية-أو الموت.
وجاءهم عام 1648 بتذكير رهيب لهم بوضعهم القلق في العالم المسيحي. ذلك أن الثورة التي تفجرت آنذاك بين القوزاق ضد ملاكهم البولنديين واللتوانيين وقعت وطأتها على كاهل اليهود الذين كانوا يعملون وكلاء للضياع أو جباة للضرائب. فذبح الآلاف منهم في بيريياسلاف، وبيرياتين، ولوبني، وغيرها من المدن، سواء كانوا يخدمون النبلاء أو لا يخدمونهم. واحتفظ بعضهم بحياتهم إما باعتناقهم مذهب الروم الأرثوذكس، وإما بالالتجاء إلى التتار الذين باعوهم عبيداً. وقد اشتط غيظ القوزاق المكبوت فاتسم بشراسة لا تصدق. يقول مؤرخ روسي:
"كان القتل مصحوباً بضروب من التعذيب الهمجي: فكان الضحايا تسلخ جلودهم أحياء، أو يمزقون إرباً، أو يضربون بالهراوات حتى يموتوا، ويشوون على الجمر، أو يحرقون بالماء المغلي
…
على أن أبشع ألوان القسوة أصاب اليهود. فقد حكم عليهم بالإبادة الكاملة، وكانت أقل علامة على الرأفة بهم تعتبر خيانة. وانتزع القوزاق لفافات الشريعة من المجامع وراحوا يرقصون عليها وهم
يشربون الوسكي. ثم طرحوا عليها اليهود وذبحوهم بغير رحمة. وألقى آلاف الأطفال اليهود في الآبار أو أحرقوا أحياء (43) ".
وروي أن 6. 000 يهودي هلكوا في هذه الثورة في مدينة واحدة هي نيميروف. وفي تولشيمن حوصر 1. 500 يهودي في حديقة عامة وخيروا بين اعتناق المسيحية أو الموت، وإذا جاز لنا أن نصدق المؤرخ الأخباري اليهودي فإن 1. 500 اختاروا الموت. وقيل أن 10. 000 (؟) يهودي في مدينة بولونوي قتلهم القوزاق أو أسرهم التتار. ونشبت في مدن أوكرانية أخرى مذابح منظمة أقل شأناً. ولما تحالف القوزاق مع روسيا بعد أن تصدى لهم الجيش البولندي (1654)، انضم الجنود المسكوفيون إلى القوزاق في قتل أو طرد يهود موجيليف، وفيتيبسك، وفيلنو، وغيرها من المدن التي انتزعت من اللتوانيين أو البولنديين.
وفي 1655 خلق غزو شارل العاشر ملك السويد لبولندة مشكلة أخرى لليهود. ذلك أنهم ككثيرين من البولنديين قبلوا الفاتح السويدي دون مقاومة، منقذاً لهم من الروس المرهوبين. فلما قام جيش بولندي جديد وطرد السويديين، ذبح اليهود في جميع أرجاء ولايات بوزنان، وكاليش، وكراكاو، وبيوتركوف، فيما عدا مدينة بوزنان ذاتها. وعلى الجملة كانت هذه الكوارث التي مني بها اليهود من 1684 إلى 1658 في بولندة ولتوانيا وروسيا، حتى عصرنا الحاضر، أدمي الكوارث في تاريخ اليهود الأوربيين، ففاقت في هولها وضحاياها مذابح الحروب الصليبية، والموت الأسود. وقد حسب تقدير متحفظ أن 34. 719 يهودياً ماتوا، و531 جالية يهودية أبيدت (44). هذا العقد الفاجع هو الذي بدأ هجرة اليهود الجماعية من الأراضي السلافية إلى أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، مما أسفر عن توزيع جديد كامل للسكان اليهود على سطح الأرض.
وفي بولندة عاد من بقي من اليهود على قيد الحياة إلى بيوتهم وأعادوا في صبر بناء جالياتهم التي دمرت. وأعلن الملك يوحنا كازيمير عن عزمه على تعويض رعاياه اليهود قدر استطاعته عن النكبات التي تحملوها، فمنحهم مراسيم جديدة بالحقوق والحماية، وإعفاءً مؤقتاً من الضرائب في تلك المراكز التي اشتد كربها. ولكن العداء الشعبي
واللاهوتي ظل قائماً، نخفف منه المواساة المسيحية بين الحين والحين. ففي 1660 أعدم حبران بالتهمة القديمة التي طالما استنكرها البابوات، وهي تهمة القتل الطقسي، وفي 1663 لقي صيدلي يهودي في كراكاو الموت بتهمة لم تثبت عليه، وهي أنه كتب هجاء يندد فيه بعبادة مريم العذراء، وكان موته بالترتيب الهمجي الذي قضت به المحكمة: فبترت شفتاه، وأحرقت يده، وقطع لسانه، وأحرق جسده على الخازوق (45). وأرسل قائد الطريقة الدومنيكية من روما (9 فبراير 1664) رسالة يحض فيها الرهبان الدومنيكان في كركاو "على الدفاع عن اليهود التعساء ضد كل قرية تفتري عليهم (46) ". وفي لفوف غزا تلاميذ أكاديمية يسوعية حي اليهود، وقتلوا مائة منهم، وهدموا البيوت، وانتهكوا حرمة المجامع (1664)، ولكن الطلبة اليسوعيين في فيلنو حموا اليهود من الغوغاء محدثي الشغب (1682)(47). وحاول سوبيسكي السمح الكريم (1674 - 96) جاهداً أن يطيب خاطر يهود بولندة، فأكد من جديد حقوقهم المنتهكة، وحررهم من قضاء السلطات البلدية الخاضعة لعواطف الجماهير، واستمع في تعاطف إلى المندوبين الذين قدموا التماسات اليهود إلى بلاطه. فما اختتم حكمه حتى كان اليهود البولنديون قد أفاقوا، عددياً، من ذلك العقد القاسي، ولكن أهواله ظلت عالقة أجيالاً بذاكرة اليهود.
لم يكن في روسيا، قانوناً، يهود قبل 1772. وقد أبدى إيفان الرهيب رأيه فيهم في جوابه على طلب رجاه فيه سجسموند الثاني أن يسمح لليهود اللتوانيين بدخول روسيا للمتاجرة (1550):
"ليس من المناسب السماح لليهود بالمجيء إلى روسيا بسلعهم لأن شروراً كثيرة تنجم عنهم. ذلك أنهم يدخلون الأعشاب السامة إلى مملكتنا، ويفتنون الروس عن المسيحية إذن ينبغي له (أي الملك) ألا بعيد الكتابة عن هؤلاء اليهود (48) ".
ولما احتل الجيش الروسي مدينة الحدود البولندية بولوتسك (1565)، أرسل إيفان أوامره بتحويل اليهود المحليين إلى المسيحية، أو إغراقهم. وحين نشبت الحرب بين روسيا وبولندة في 1654 أدهش الروس أن يجدوا مدناً كثيرة في لتوانيا وأوكرانيا بها
أقسام كاملة آهلة باليهود. فقتلوا بعض هؤلاء "المهرطقين الخطرين"، وأخذوا بعض أسرى إلى موسكو، حيث أصبحوا نواة لمستوطنة يهودية صغيرة غير شرعية. وفي 1698 تلقى بطرس الأكبر وهو في هولندا عن طريق أعمدة أمستردام، ملتمساً مقدماً من بعض اليهود يرجونه فيه السماح لهم بدخول روسيا، وكان جوابه:
"عزيزي ويتسن، إنك تعرف اليهود، وتعرف أخلاقهم وعاداتهم، وكذلك تعرف الروس. وأنا أعرف الاثنين، وصدقني أن الوقت لم يحن للجمع بين القوميتين. فقل لليهود إني شاكر لهم اقتراحهم، وإني مدرك كم ستفيدني خدماتهم، ولكني مشفق عليهم أن يعيشوا بين ظهراني الروس (49) ".
وظلت هذه السياسة الروسية، سياسة إبعاد اليهود، معمولاً بها حتى الملتمس البولندي الأول (1772).
5 - إلهامات الإيمان
لا بد لكي نفهم عداء المسيحيين لليهود أن ننفذ إلى ذهن كاثوليك العصور الوسطى وبروتستنت حركة الإصلاح الديني. لقد تذكروا صلب المسيح، ولكنهم لم يتذكروا جموع اليهود العريضة التي استمعت في فرح إلى المسيح ورحبت به في دخوله أورشليم. وآمنوا بيسوع ذلك "الممسوح"، ابن الله، ولكن اليهود لم يستطيعوا أن يروا في المسيح ذلك المسيا الذي وعدهم بها أنبياؤهم، والمخلص الذي سيحررهم من رقهم ويجعلهم من جديد شعباً حراً مرفوع الرأس. وكان عسيراً على المسيحيين أن ينظروا نظرة التسامح الأخوي إلى قلة لم تكن وحدانيتهم منافساً بعيداً كوحدانية الإسلام، بل صرخة حارة، تسمع من مجامع تتكاثر في قلب العالم المسيحي-"أصغ يا إسرائيل! الرب إلهنا واحد! " وشعر المسيحيون أن العقيدة السامية المتكبرة هي تحد ماثل أبداً للإيمان المسيحي الأساسي، الإيمان بأن ابن الإنسان الذي مات على الصليب هو في كل الحق ابن الله، الذي كفرت ذبيحته غير المحدودة عن خطايا الإنسان، وفتحت له أبواب الفردوس. أيمكن أن يكون في الحياة شيء أثمن وأعظم تشديداً للنفوس من ذلك الإيمان؟
ولكن يحمي مسيحيو أوربا ذلك الإيمان حاولوا عزل اليهود بالحواجز الجغرافية، والقيود السياسية، والرقابة الفكرية، والأغلال الاقتصادية. فلم يسمح لهم بالمواطنة الكاملة وبحقوقها في أي بلد في أوربا المسيحية قبل الثورة الفرنسية-ولا حتى في أمستردام. وحيل بينهم وبين الوظائف العامة، والجيش والمدارس والجامعات، والاشتغال بالقانون في المحاكم المسيحية. وفرضت عليهم الضرائب الباهظة، وتعرضوا للقروض الإجبارية، ولمصادرة ثروتهم في أي وقت. وأبعدوا عن الزراعة بقيود على ملكية الأرض، وبانعدام الأمن الذي ما برح ملازماً لهم والذي أكرههم على وضع مدخراتهم في النقد أو السلع المنقولة. وحرموا من الانضمام للطوائف الحرفية لأنها كانت من بعض الوجوه دينية شكلاً وهدفاً، واشترطت اليمين والشعائر المسيحية. وإذ قصر نشاطهم على الصناعات الصغيرة، وعلى التجارة والمالية، فإنهم وجدوا أنفسهم مطاردين حتى في هذه الأشغال بتحريمات خاصة تتفاوت بتفاوت المكان وتتغير في أي وقت. ففي إقليم حرم عليهم أن يكونوا باعة متجولين، وفي آخر أن يتجروا في دكاكين، وفي ثالث أن يتعاملوا في الجلد أو الصوف (50). ومن ثم عاش أكثر اليهود تجاراً صغاراً، وباعة متجولين، أو تجاراً في البضائع المستعملة أو الثياب القديمة، أو خياطين، أو خداماً لمواطنيهم الأغنياء، أو صناعاً يصنعون السلع لليهود. ومن هذه الأشغال، ومن ذلك العيش في الغيت، اكتسب فقراء اليهود عاداتهم تلك في الملبس والحديث، وحيل التجارة وخصائص الذهن التي مجتها الشعوب الأخرى والطبقات العليا من الناس.
ومن فوق هذه الكثرة المتواضعة كان الأحبار، والأطباء، والتجار، والماليون. وقد لعب نشاط المصدرين والمستوردين اليهود دوراً هاماً في ثراء هامبورج وأمستردام. وكان جزء على اثني عشر من تجارة إنجلترا الخارجية يمر بأيدي اليهود في النصف الأول من القرن السابع عشر (51). وغلب العنصر اليهودي في استيراد الجواهر والمنسوجات من الشرق. وانتفع اليهود في التجارة الدولية من علاقاتهم الأسرية في مختلف الدول، ومن إجادتهم اللغات، وكان لهم مسالكهم التي تصلهم منها المعلومات، فهدتهم بين الحين والحين إلى توقعات
نافعة في السوق المالية (52). ومكنتهم هذه الاتصالات الأجنبية من تطوير خطابات الاعتماد والكمبيالات. ولم يكن اليهود بالطبع مخترعي الرأسمالية الحديثة، فقد رأينا ذلك النظام ينمو مستقلاً تمام الاستقلال عنهم، وفي الصناعة أكثر منه في المالية، وكان دورهم حتى في المالية صغيراً إذا قورن بدور آل مديتشي الفلورنسيين، أو آل جريماليري الجنوبين، أو آل فوجير الأوجزبورجيين. وكان مقرضو المال اليهود يتقاضون فوائد عالية، ولكنها لم تكن أعلى مما يتقاضاه المصرفيون المسيحيون الذين يواجهون أخطاراً معادلة.
واكتسب الذهن اليهودي، الذي شحذته الشدائد والظلم والدراسة، في التجارة والمالية مقدرة مرهفة على الكسب لم يغتفرها لليهود منافسوهم قط. ولم تر أخلاقيات اليهود في الثروة أي عيب أو وصمة عار، شأنها في ذلك شأن أخلاقيات البيورتان. ورأى فيها الأحبار دعامة البر، وعصب المجمع، والملجأ الأخير إذا أريد الخلاص من أذى الملوك أو الجماهير المضطهدة. ومع ذلك فصحيح أنه وجد في الجاليات اليهودية في هولندة وألمانيا وبولندة وتركيا رجال جعلوا جمع المال مسرة نفوسهم لا مجرد أداة لحماية شعبهم، واستعملوا في جمعية الحيلة أكثر مما استعملوا الضمير، وأظهروا بني جلدتهم بذلك المظهر المزعج مظهر الثراء العريض يلوثه الترف الواضح، ولا تكفر عنه أعمال البر الكبيرة إلا جزئياً. ومن حولهم في الغيت كان ثلث إخوانهم يعيشون في فقر، لا يحول دون تضورهم جوعاً غير الصدقات (54).
ولقد عانى دين اليهود كما عانت أخلاقهم من فقر الحياة في الغيت وانطوائها وهوانها. فالأحبار الذين كانوا في العصور الوسطى رجالاً ذوي شجاعة وحكمة، أصبحوا في العصر أتباع صوفية تهرب من جحيم الاضطهاد والفاقة إلى جنة الأحلام التعويضية. وقد حل التلمود في العصور الوسطى محل التوراة روحاً لليهودية، أما الآن فقد حلت القبلانية محل التلمود. وزعم مؤلف فرانكفورتي من كتاب القرن السابع عشر أنه كان في أيامه أحبار كثيرون لم يروا توراة قط (55). وكان سليمان لوريا (1510 - 72) علامة عينت هذا الانتقال، فقد بدأ بالتلمود، وبنى عليه كتابه "يم شيل شلومو"(بحر سليمان)، ولكن حتى ذهنه المرهف استسلم آخر الأمر للقبلانية، فقد كانت
"التقليد السري" لمتصوفة اليهود في العصر الوسيط، الذين اعتقدوا أنهم وجدوا وحياً إلهياً مستتراً في رمزية الأعداد، والحروف، والألفاظ، ولا سيما في الحروف التي يتألف منها اسم يهوه الذي لا ينطق به. وكان العالم تلو العالم في الغيت يضل في هذه الأوهام، حتى لقد صرح أحدهم بأن من يهمل حكمة القبلانية السرية يستحق الحرم (56). يقول أكبر المؤرخين اليهود المحدثين أنه في القرنين السادس عشر والسابع عشر "خنقت القبلانية الطفيلية حياة اليهود الدينية بجملتها. وكل الأحبار وقادة الجاليات اليهودية تقريباً
…
وقعوا في شراكها" من أمستردام إلى بولندة إلى فلسطين (57).
وكان سند الحياة في نظر اليهود المشتتين على هذا النحو، والذين كثيراً ما كانوا معدمين مفترى عليهم، هو الإيمان بأنه في يوم قريب سيأتي المسيا الحقيقي لينتشلهم من وهدة تعاستهم وعارهم ويرفعهم إلى مكان القوة والمجد. ومن المؤسف أن نرى كيف كان دجال أو متعصب يظهر القرن بعد القرن فيقبله اليهود على أنه هذا المخلص الذي طال ارتقابهم له. ولقد رأينا في موضوع سابق من هذا الكتاب كيف أن داود روبيني العربي هلل له عبرانيو البحر المتوسط في 1524 على أنه المسيا، مع أنه هو نفسه لم يدع هذا. وهاهو ذا يهودي من أزمير يدعى سبتاي زيفي، يظهر عام 1648 ويزعم أنه الفادي الموعود.
لقد بدا هذا المختار، من الناحية الجسمية، اختياراً جديراً بالإعجاب. فهو رجل طويل القامة، حسن التكوين، مليح الوجه، له شعر الشاب الصفاردي ولحيته السوداوان (58)"اجتذبته كتابات سليمان لوريا إلى القبلانية، فأخضع ذاته لنظام صارم من النسك أملاً في أن يصبح بهذا جديراً بالتقليد السري" في أكمل إعلانه. فأذل جسده، وأكثر من الاستحمام في البحر في جميع الفصول، وغالى في الاحتفاظ بنظافته حتى لقد احتفل أتباعه برائحة لحمه الزكية. ولم يشعر بميل للنساء، وقد تزوج في شبابه الباكر امتثالاً للعرف اليهودي، ولكن زوجته ما لبثت أن طلقته لفشله في أداء واجباته الزوجية. ثم تزوج ثانية، بنفس النتيجة. والتف الشبان من حوله، معجبين بصوته الرخيم وهو يرتل التراتيل القبلانية، متسائلين أليس هذا قديساً مبعوثاً من السماء. وكان أبوه أحد جماعة آمنت بقرب مجيء المسيا-
وبأن ذلك لن يتجاوز سنة 1666. وسمعهم سبتاي يتنبأون بأن الفداء العظيم سيأتي على يد رجل طاهر النفس شديد الورع، ملم بأسرار القبلانية، قادر على جمع شمل كل الأبرار ليعيشوا في عصر السلالم الموعود. وخيل إليه، بعد أن طهره الزهد، أنه الفادي الإلهي. وكان "الظهر"، وهو نص في القبلانية يرجع إلى القرن الثالث عشر، قد حدد السنة اليهودية 5408 (1648 الميلادية) فاتحه لعصر الفداء. في تلك السنة أعلن سبتاي أنه المسيا، وكان آنئذ في الثانية والعشرين.
وصدقه رهط من مريديه. فأدانتهم حاخامية أزمير باعتبارهم مجدفين، ولكنهم أصروا، فنفوا من المدينة. وانتقل سبتاي إلى سالونيك، وهناك أقام احتفالاً قبلانياً زوج فيه نفسه للتوراة، فطرده أحبار سالونيك، فمضى إلى أثينا، ثم إلى القاهرة، حيث ضم إليه تابعاً غنياً يدعى رفائيل شلبي، ثم انتقل إلى أورشليم، وهناك وقع زهده موقعاً طيباً حتى في نفوس الأحبار. وأوفدت الجالية اليهودية في أورشليم سبتاي ليلتمس المعونة في القاهرة بعد أن أفقرها انقطاع الصدقات من يهود أوكرانيا المنكوبين. فعاد إلى أورشليم مصحوباً لا بالمال بل بزوجة ثالثة تدعى سارة، أضفى حسنها الإشراق على دعاواه وفي غزة-التي مر بها في طريقه-انضم إليه تابع غني آخر يسمى ناتان غزاتي، أذاع أنه هو ذاته ايليا، ولد من جديد ليقوم الطريق أمام المسيا، وأنه لن ينقضي عام حتى يسقط المسيا السلطان العثماني ويقيم ملكوت السماوات. وصدقه آلاف اليهود، وأذلوا أجسادهم ليكفروا عن ذنوبهم ويصبحوا جديرين بالفردوس الأرضي. فلما عاد سبتاي إلى أزمير، دخل عام 1665 المجمع في رأس السنة اليهودية، وأعلن نفسه المسيا مرة أخرى. وقبله هذه المرة جمع غفير أخذته نشوة الفرح. فلما رماه حبر عجوز بأنه دجال نفاه سبتاي من أزمير.
وانتشر نبأ مجيء المسيا في أرجاء غربي آسيا فكهرب الجاليات اليهودية. وحمل البشرى تجار مصر وإيطاليا، وهولندا، وألمانيا، وبولندة، إلى بلادهم، وخبروا بالمعجزات التي نسبت إلى سبتاي في عدد متزايد. وتشكك بعض اليهود، ولكن الآلاف صدقوا بعد أن أعدتهم لذلك النبوءات القبلانية والآمال الحارة. لا بل إن بعض المسيحيين
شاركوهم الابتهاج، وقالوا أن مسيا أزمير هو حقاً المسيح المولود من جديد. ذكر هنري أولدنبرج في رسالة من لندن إلى سبينوزا (ديسمبر 1655) أن "كل العالم هنا يتحدث عن شائعة عودة الإسرائيليين المشتتين منذ أكثر من ألفي عام إلى وطنهم. وقليلون يصدقون الخبر، وكثيرون يتمنونه
…
فإذا تأكد، فربما أحدث ثورة في كل شيء (59)". وفي أمستردام أعلن أحبار بارزون إيمانهم بسبتاي، واحتفل في المجمع بمجيء الملكوت بالموسيقى والرقص، وطبعت كتب الصلوات لتعلم المؤمنين ضروب التكفير والتراتيل الممهدة لدخول أرض الميعاد. ففي مجمع هامبورج راح العائدون اليهود من جميع الأعمار يثبون ويطفرون ويرقصون وفي أيديهم درج الناموس. وفي بولندة هجر يهود كثيرون بيوتهم وأملاكهم ورفضوا أن يشتغلوا قائلين أن المسيا آت بشخصه سريعاً وسيقودهم في موكب النصر إلى أورشليم (60). واتخذ آلاف اليهود أهبتهم للرحيل إلى فلسطين-كان منهم أحياناً جاليات بأكملها، كجالية أفنيون. واقترح بعض المتحمسين في أزمير، الذين أثار عواطفهم ذلك الولاء العالمي لزعيمهم، أن توجه الصلوات اليهودية منذ الآن، لا إلى يهوده، بل إلى "ابن الله البكر، سبتاي زيفي، المسيا والفادي" (وكذلك كان المسيحيون يصلون للمسيح أو العذراء أكثر مما يصلون لله). وأرسل أمر من أزمير بأن يحتفل منذ الآن بأيام الحداد المقدسة عند اليهود أعياداً للفرح، وبأن كل فروض الناموس المضنية ستبطل سريعاً في أمن الملكوت وسعادته.
ويلوح أن سبتاي ذاته انتهى إلى الإيمان بقوة المعجزة. فأعلن أنه ماض إلى الآستانة، ولعل هدفه كان تحقيق نبوءة غزاني بأن المسيا سيأخذ في هدوء تاج الدولة العثمانية (بما فيها فلسطين) من السلطان. (على أن يعضهم زعم أن القاضي التركي في أزمير أمره بالمثول بين أيدي كبار موظفي الدولة في العاصمة). وقبل أن يبرح سبتاي أزمير قسم العالم وحكومته بين أخلص معاونيه. ثم انطلق إلى الآستانة في أول يناير 1666 وبرفقته نفر من مريديه. وكان قد تنبأ بتاريخ وصوله، ولكن عاصفة عطلت سفينته. وقلب رفاقه خطأه الحسابي هذا إلى برهان جديد على ألوهيته، وقالوا أنه أسكت العاصفة بكلمة إلهية منه.
وما أن رسا على ساحل الدردنيل حتى قبض عليه، وجيء به إلى الآستانة مكبلاً بالأغلال، وزج به في السجن. وبعد شهرين نقل إلى سجن أرحم في أبيدوس. وسمح لزوجته أن تلحق به، ووفد عليه أصدقاؤه من كل فج ليواسوه، ويقدموا له الولاء، ويأتوه بالمال. ولم يفقد أتباعه إيمانهم به، فزعموا أنه أوثق النبوءات تنبأت بأن المسيا سيرفض أولاً من رؤساء هذا العالم، الذين سيوقعون به ألواناً من العذاب والهوان. وتوقع اليهود في كل أرجاء أوربا الإفراج عنه في أي لحظة، وأنه سيحقق نبوءات أسعد. وعلق حرفا اسمه الأولان، س، ز في المجامع. وفي أمستردام، ولجهورن، وهامبورج، كادت أعمال اليهود التجارية تتعطل تماماً، فقد اشتد إيمان اليهود هناك بأنهم عائدون جميعاً عما قريب إلى الأرض المقدسة. وتعرض من أعرب من اليهود عن شكوكهم في أن سبتاي هو المسيا لخطر الموت كل يوم.
وحير السلطات التركية ذلك الهياج الذي اضطربت له الحياة الاقتصادية لكثير من المجتمعات العثمانية، ولكن الترك خشوا أنهم لو أعدموا سبتاي بوصفه ثائراً ودجالاً لعملوا بذلك على تقديسه شهيداً، ولحولوا حركته إلى تمرد يكلفهم ثمناً غالياً، لذلك قرروا أن يجربوا حلاً سلمياً. فأخذ سبتاي إلى أدرنة. وهناك أخبر بأن أمراً قضى بأن يسحل في الشوارع ويعذب بالمشاعل الموقدة، ولكن في استطاعته أن يتفادى هذه النهاية وأن يظفر بأسباب التكريم الكبير في الإسلام لو اعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل،، وفي 14 سبتمبر مثل أمام السلطان، وأكد مروقه عن دينه بخلع ملابسه اليهودية وارتداء الزي التركي. وخلع عليه السلطان اسم محمد أفندي، وعينه حاجباً لبابه براتب كبير. ونالت سارة، التي اعتنقت الإسلام هي أيضاً، الهدايا الثمينة من السلطانة.
وقوبل نبأ هذا الارتداد بالتكذيب من يهود آسيا وأوربا وأفريقيا، ولكن حين تأكد النبأ آخر الأمر كاد ينفطر له قلب العالم اليهودي. فكاد الحاخام الأكبر في أزمير يموت خزياً وهو الذي قبل سبتاي بعد تشكك كثير. وأصبح اليهود في كل مكان أضحوكة المسلمين والمسيحيين. وحاول أعوان سبتاي مواساة أتباعه بأن بينوا لهم أن اعتناقه الإسلام إنما هو جزء من خطة ماكرة ليكسب المسلمين إلى
صفوف اليهود، وأنه عما قريب عائد إلى الظهور يهودياً والعالم الإسلامي كله في ركابه. وحصل سبتاي على إذن بتبشير يهود أدرنه، مؤكداً للسلطات التركية أنه سيهدي سامعيه إلى الإسلام، وأصدر في الوقت نفسه رسائل سرية لليهود قال فيها أنه ما زال المسيا، وأن عليهم ألا يفقدوا إيمانهم به. ولكن لم يبد على اليهود، لا في أدرنه ولا في أي مكان آخر، أي علامة على قبولهم الإسلام. فلما خاب أمل الحكومة العثمانية رحلت سبتاي إلى أولسينج في ألبانيا، حيث لا يوجد يهود. وهناك كان المسيا المحطم في 1676. وظل المؤمنون به نصف قرن يواصلون حركته، ويؤكدون قداسته، ويعدون بقيامته من بين الأموات.
6 - المهرطقون
كان الأحبار عليمين بأن الدين في المجتمعات اليهودية التي يطوقها أعداء عتاة هو دعامة الحياة، وحياة الشريعة، لذلك زهدوا اليهود في الدراسة العلمانية التي قد تفتح ثغرة للتشكك في الدين. من ذلك أن يوئيل سركيس، الحاخام الأكبر في كركاو، أدان الفلسفة لأنها أم الهرطقة، و "العاهرة" المهلكة التي قال فيها سليمان "كل من دخل إليها لا يؤوب (61) " ورأى حرم أي يهودي في قضائه يدمن الفلسفة. وفزع يوسف سليمان ديلميديجو لخلو منهاج الدراسة والقراءة عند اليهود من العلوم، وكان قد وفد على بولندة (1620) من إيطاليا التي ما زالت تجيش بحرارة النهضة، وكتب يقول "هاهي ذي الظلمة تغشي البلاد والجهلة كثيرون
…
وهم يقولون أن الرب لا يبتهج بالسهام المشحوذة في أيدي النحاة والشعراء والمناطقة، ولا بمقاييس الرياضيين ولا بحسابات الفلكيين (62) ".
وكان ديلميديجو هذا حفيداً بعيداً لأيليا ديلميديجو، الذي كان يعلم العبرية في أوساط آل مديتشي. وبدأ انحرافاته بتعلم اليونانية كما تعلم التلمود من أبيه، وكان حاخاماً في كريت، وحصل على بعض التربية العلمية في جامعة بادوا التقدمية، حيث كان جليليو معلمه المشرف على دراسته ثم امتهن الطب الذي يسر له الرزق وخلع عليه اسمه الإيطالي، ولكن العلم-لا سيما الرياضة-ظل يفتنه، وفي
سبيل طلبه نفض عنه بعض إيمانه الديني، وتغيير الإهاب القديم على هذا النحو يخلف جسداً حساساً، وقد يزعزع الخلق حيناً. لذلك راح يوسف يتنقل من بلد إلى بلد مقتلع الجذور لا يستقر على حال. وانضم مؤقتاً وهو في القاهرة والآستانة إلى شيعة القرائين، وهم يهود رفضوا التقاليد والتنقيحات الكهنوتية (كالبروتستنت) وتمسكوا بالتوراة مصدراً أوحد للاهوتهم. وفي هامبورج وأمستردام وجد معلوماته الطبية أشد تخلفاً من معلومات الأطباء اليهود هناك، حتى لقد تحول في سبيل الرزق سنياً، والتحق بالحاخامية، وأخيراً دافع عن القبلانية ومات طبيباً مغموراً في براغ (1655).
أما ليو بن إسحاق مودينا فكان إنساناً أكثر رهافة وعمقاً. اتخذ اسمه الإيطالي من المدينة التي هاجرت إليها أسرته عند طرد اليهود من فرنسا. وكان أعجوبة بين الأطفال، فقرأ الأنبياء في الثالثة، ووعظ في العاشرة، وألف أول كتبه المنشورة في الثالثة عشرة. والكتاب حوار ضد القمار، الذي كان ليو حجة فيه، لأنه ظل وفياً له إلى نهاية حياته. وكانت أعظم مقامراته زواجه في 1590 وهو في التاسعة عشرة. أما أبناؤهم الثلاثة فقد مات أحدهم في السادسة والعشرين، وقتل الثاني في عراك، انصرف الثالث إلى حياة الفجور ثم اختفى في البرازيل. وماتت إحدى بنتيه وهو حي، أما الأخرى فبعد أن فقدت زوجها أصبحت عالة على أبيها الذي أصيبت زوجته بالجنون. ووسط هذه الصدمات حرم ليو لتماديه في لعب الورق. وكتب رسالة تثبت أن الأحبار تجاوزا الناموس في قرارهم، الذي عدلوا عنه سريعاً.
وكان أثناء ذلك قد ملك ناصية أدب التوراة والتلمود الرباني، ودرس الفيزياء والفلسفة، وكتب بالعبرية والإيطالية شعراً لا بأس به. فلما قبلته الحاجامية في البندقية، ألقى خطباً إيطالية كان فيها من العلم والبلاغة ما اجتذب كثيراً من المسيحيين إلى سماعه. وكلفه أحد أصدقائه المسيحيين، وكان نبيلاً إنجليزياً، بأن يكتب عرضاً للشعائر اليهودية. وقد انتهى ليو في كتابه هذا Historia dei riti ebraici " تاريخ الشعائر العبرية"(1637) إلى أن كثيراً من المراسم التقليدية التي بعدت الآن عن هدفها الأصلي قد فقدت الكثير من دلالتها. وفي كتاب غفل من اسم المؤلف "قول صقل" اقترح تنقيح
الصلوات والطقوس العبرية وتبسيطها، وإلغاء قوانين الصوم، وخفض عدد الأيام المقدسة والتخفيف من صرامتها. وفي هذا الكتاب انتقد اليهودية الربانية لأنها مجموعة من التعقيدات التي لا مبرر لها أضيفت إلى الشريعة اليهودية الأصلية، وطالب بالرجوع من التلمود إلى التوراة، ولكنه مد هرطقاته إلى التوراة ذاتها، بل إلى الوحي الموسوي بأكمله. وقد ترك هذا التصريح الثوري دون نشر، فلما عثر عليه بين أوراقه بعد وفاته (1648)، كان مصحوباً برسالة مرافقة تدافع عن اليهودية السنية. ولم ير أحد الكتابين النور حتى عام 1852. ولو أن ليو اجترأ على نشر "قول صقل" في حياته، لبدأت حركة الإصلاح اليهودية نشاطها في القرن السابع عشر، ولكنه كان أشد ذكاء من أن يسبق التاريخ.
أما أشقى المهرطقين اليهود فهو أوريل أكوستا الأمستردامي. كان أبوه ينتمي لأسرة من المارانو أقامت في أوبورتو ولاءمت تماماً بين نفسها وبين المذهب الكاثوليكي. وتلقى جابرييل-وهو اسمه في البرتغال-العلم على يد اليسوعيين الذين روعوه بمواعظهم عن الجحيم، ولكنهم شحذوا ذهنه بالفلسفة الكلامية. فلما درس الكتاب المقدس أثر فيه اعتراف الكنيسة بالعهد القديم كلمة الله، وقبوله المسيح ورسله الاثني عشر لناموس موسى. وانتهى إلى أن اليهودية من الله، وتشكك في حق القديس بولس في سلخ المسيحية عن اليهودية، وصمم أن يعود إلى دين أجداده في أول فرصة. فأقنع أمه وأخوته (وكان أبوه قد مات) بالانضمام إليه في محاولة للزوغان من ديوان التفتيش والهروب من البرتغال. ووصلوا أمستردام بعد أن جازوا مخاطر كثيرة (حوالي 1617) وهناك غير جابرييل اسمه إلى أوريل، وأصبحت الأسرة أعضاء في مجمع اليهود البرتغاليين.
بيد أن هذه الروح ذاتها التي حدت به إلى ترك الكنيسة، روح التقصي والتفكير المستقل، جعلته قلقاً لا يحس بالاطمئنان النفسي داخل عقائد المجمع التي لا تقل صرامة عن عقائد الكنيسة، فقد صدمه إدمان الأحبار، حتى أحبار أمستردام المثقفين، لسخافات القبلانية الفكرية، فوبخ شركاءه الجدد بجرأة على تلك الطقوس والنظم التي ليس لها أساس ظاهر في التوراة، والتي رآها تتعارض أحياناً تمام التعارض
مع طرق التوراة. وإذ لم يؤت من الحاسة التاريخية إلا القليل، فقد خيل إليه أنه كان خطأً كبيراً أن تتغير الشعائر والمعتقدات اليهودية على مدى تسعة عشر قرناً. وكما رجع قبل ذلك من العهد الجديد إلى القديم، فكذلك طالب الآن بالرجوع من التلمود إلى التوراة. وكان قد نشر في 1616 بهامبورج نشرة برتغالية عنوانها "حجج ضد التقاليد" التي بني عليها التلمود. فأرسل نسخة منها إلى مجمع اليهود بالبندقية، فأعلن المجمع حرمه (1618)، وطلب إلى ليو مودينا، وهو ذاته مهرطق، بحكم منصبه في الحاخامية، أن يفند دعوى أكوستا بأن أوامر الأحبار في كثير من الحالات ليس لها سند من الأسفار المقدسة. وأنذر أحبار أمستردام أكوستا بأنهم هم أيضاً سيحرمونه ما لم يعدل عن آرائه، وكان قد رماهم بالفريسية. فأبى، وضرب بنظم المجمع عرض الحائط جهاراً، فأعلن حرمه (1623)، وهو حرم يقطع كل صلة له بأخوانه اليهود، فتجنبه الآن حتى أقرباؤه. ولم يكن قد تعلم الهولندية بعد، فوجد نفسه بغير صديق واحد. وراح الأطفال يرجمونه بالحجارة في الشوارع.
وفي مرارة عزلته تقدم (كما تقدم سبينوزا بعده بقرن) إلى هرطقة هاجمت معتقداً أساسياً لكل شخص تقريباً في أوربا. فجاهر بأنه برفض الإيمان بخلود النفس لأنه غريب جداً على العهد القديم، فالنفس في رأيه إنما هي الروح الحية المتدفقة في الدم، وهي تموت مع الجسد (63). وحاول طبيب يهودي يسمى صموئيل داسيلفا الرد على آراء أكوستا. فنشر بالبرتغالية "رسالة في خلود النفس"(1623) وصف فيها أكوستا بأنه جاهل، عاجز، أعمى. ورد أوريل بكتاب سماه "فحص للتقاليد الفريسية
…
ورد على صموئيل داسيلفا، المفتري الكذاب" (1624). ورغبة في حماية الحرية الدينية للجالية اليهودية، أعلم زعماؤها قضاة أمستردام بأن أكوستا بإنكاره الخلود إنما يقوض المسيحية كما يقوض اليهودية. فقبض عليه القضاة، وغرموه ثلاثمائة جولدن، وأحرقوا كتابه. وما لبث أن أفرج عنه، ويبدو أنه لم يلحق به أذى بدني.
على أن عقابه كان عقاباً اقتصادياً واجتماعيا. ذلك أن أخوته الصغار أصبحوا معتمدين عليه، وإذن فعلى حريته-المحرمة الآن-
في الدخول في علاقات اقتصادية مع إخوانه. ولعل هذا السبب، فضلاً عن رغبته في الزواج ثانية، هو ما دعا أوريل إلى أن يقرر الخضوع للمجمع، وإنكار هرطقاته، وأن يصبح "قرداً بين القردة (64) " على حد تعبيره. وقبل إنكاره (1633) وعاش الشكاك المتحمس حيناً في سلام نسبي. ولكن هرطقاته استمرت في الخفاء واتسعت. كتب في فترة لاحقة يقول "لقد خامرني الشك في ناموس موسى، أهو حقاً ناموس الله، ثم انتهيت إلى أنه من مصدر بشري (65) ". ونبذ الآن الدين كله، اللهم إلا إيماناً غامضاً بإله هو والطبيعة واحد (كما كان إيمان سبينوزا فيما بعد). وأهمل الممارسات الدينية الثقيلة المفروضة على اليهودي السني. فلما جاءه مسيحيان يعلنان عن رغبتهما في اعتناق اليهودية ثناهما وحذرهما من النير الثقيل الذي سيضعانه فوق عنقيهما. فأنهيا ذلك إلى المجمع. فاستدعاه الأحبار واستجوبوه، ووجدوه غير نادم، فأوقعوا عليه الآن حرماً آخر أشد صرامة من سابقه (1639). وعاد أقرباؤه يقصونه عن حياتهم، وشارك أخوه يوسف في اضطهاده (66).
واحتمل هذه العزلة سبع سنين، ثم عرض الخضوع حين وجدها تؤذيه أذىً بليغاً في رزقه وأمام القانون. وإذ أسخط القادة اليهود طول مقاومته وما جرت عليه من متاعب، فقد حكموا عليه بضرب من الإنكار والتكفير نقلوه عن ديوان التفتيش البرتغالي (67). فأكره، على طرقة احتفالات الديوان بإدانة المهرطقين، على أن يرقى منصة في المجمع، ويتلو أمام جمهور كبير من المصلين اعترافاً بأخطائه وذنوبه، ويتعهد بأغلظ الإيمان أنه منذ الآن سيتمثل لكل نظم الجماعة ويعيش عيشة اليهودي الصالح. ثم خلعت ثيابه إلى خصره، وجلد تسعاً وثلاثين جلدة. وأخيراً أجبر على أن يطرح نفسه على عتبة المجمع، وخطا من فوقه الحاضرون وهم يغادرون المكان وفيهم أخوه الذي كان يناصبه العداء.
وقام من هذه العقوبة المذلة لا مذعناً بل ناقماً ساخطاً. فمضى إلى بيته، وأغلق على نفسه باب مكتبه عدة أيام وليال، وكتب آخر وأمر تنديداته باليهودية التي ضحى بالكثير في سبيل اعتناقها، والتي لم يفهم قط في تعاطف تاريخها الانطوائي، وصرامتها الواقية التي
فرضتها عليها قرون من الظلم. وفي كتابه هذا "مثال من حياة البشر" قص سيرته الفكرية مثالاً على ما يصيب الإنسان المفكر. وقد أحس بأن "كل الشرور تنجم عن عدم إتباع العقل الرشيد وقانون الطبيعة (68) " وقابل بين الدين "الطبيعي" والدين الموحي، ورغم أن هذا يعلم الناس البغضاء، أمام ذلك فيعلمهم المحية. فلما فرغ من مخطوطته، حشا طبنجتين، وترصد بجوار نافذته لأخيه يوسف حتى مر، وأطلق عليه النار فأخطأه (69). ثم أطلق على نفسه الرصاص (1647؟).
وحاول المجتمع اليهودي أن يدفن هذه الفاجعة في صمت، ولكن لا بد أن بعض أفراده وجدوا نسيانها عسيراً. وكان سبينوزا غلاماً في الخامسة عشرة حين أوقع على أكوستا طقم الحرم، ولعله كان بين جماعة العابدين الذين رأوه يوقع عليه. ولعله مشي في رهبة وارتياع فوق جسد المهرطق المطروح أرضاً. وعن طريق ذلك الفتى، دخلت رؤيا أكوستا تراث الفلسفة بعد أن تطهرت مما علق بها من سخط (70).
الكتاب الرابع
المغامرة الفكرية
1648 -
1715
الفصل السابع عشر
من الخرافة إلى العلم
1648 - 1715
1 -
المعوقات
كانت الطبيعة كما تصورها كل الأوربيين في القرن السابع عشر-فيما عدا قلة قليلة منهم-نتاجاً، أو ساحة قتال، لكائنات، خارقة، خيرة أو شريرة، تسكن أجسد البشر نفوساً، أو تسكن الأشجار والغابات والأنهار والرياح أرواحاً محيية، أو تدخل الكائنات الحية ملائكة أو شياطين، أو تجوب الهواء عفاريت خبيثة. وليس من هذه الأرواح ما يخضع لقانون لا يمكن خرقه، أو يمكن حسابه، فأي روح منها يستطيع أن يتدخل بطريقة معجزة في حركات الأحجار أو النجوم أو البهائم أو البشر، وكانت الأحداث التي لا تنجم بشكل مرئي عن المسلك الطبيعي أو المنتظم للأجسام أو العقول، تنسب لهذه القوى الخارقة التي تقوم بدور غامض خفي في شئون هذه الدنيا، ينذر بشيء أو ينبئ بخير أو يتنبأ بالمستقبل. وكل الأشياء الطبيعية، وكل الكواكب وسكانها، وكل الأبراج والمجرات، إن هي إلا جزر لا حول لها ولا قوة في بحر خارق للطبيعة.
وقد مرت بنا ألوان من الخرافة في العصور السابقة لهذا القرن. وعمر أكثرها بعد مجيء العلم الحديث على يد كوبرنيق وفيساليوس وجاليليو، وازدهر بعضها حتى في نيوتن نفسه، لقد استمر اضمحلال التنجيم والخيمياء (الكيمياء القديمة)، ولكن المنجمين كانوا عديدين في بلاط لويس الرابع عشر (1)، وفي فيينا "كان هناك عدد هائل من المشتغلين بالخيمياء (2) " كما روت الليدي ماري ورتلي مونتاجيو في 1717. وكان البريطانيون الأشداء لا يزالون يؤمنون بالأرواح، ويتطيرون، ويدفعون ثمناً للطوالع، ويأخذون أحلامهم على أنها نبوءات، ويحسبون أيام السعود والنحوس، أما البريطانيون الأضعف منهم فيلتمسون من الملك إبراء الداء الخنازيري الذي ابتلوا به بلمسة
منه. وقد ورد في العدد السابع من صحيفة "سبكتاتور" وصف للانقلاب الذي يحدثه في أسرة بريطانية قليل من الملح يتناثر، أو سكين وشوكة توضعان متقاطعتين على صحن، أو ثلاثة عشر شخاً يجمعون في حجرة أو جماعة (ويلاحظ عدم وجود طابق ثالث عشر في بعض فنادق القرن العشرين). وفي فرنسا أصبح جاك ايمير بطل زمانه (1692) لأنه كان يستطيع (في اعتقاد الكثيرين) بشد أملود بندق يمسكه بيده أن يكتشف قرب مجرم منه (3).
وفي ألمانيا كانوا يستعملون عصا سحرية لوقف النزف وشفاء الجروح وجبر العظام (4). وفي السويد اتهم شتيرنهيلم بالسحر حين أحرق لحية فلاح بمرآة مكبرة، ولم ينقذ صاحب التجربة من الموت غير تدخل الملكة كرستينا (5).
كان المتشككون في السحر يتزايد عددهم، ولكن الراجح أن المؤمنين به كانوا أكثر منهم بكثير. وكانت حاشية تشارلز الثاني لا تأبه كثيراً بأي عفاريت قد تفسد عليهم لهوهم، ولكن "الكثرة الساحقة" وأبرز المؤلفين بين رجال الدين والإنجليز، كانوا لا يزالون يؤمنون بأن البشر يستطيعون أن يتحالفوا مع الشيطان فينالوا بهذا التحالف قوي خارقة (6). وقد ذهب جوزف جلانفيل، وهو قس أنجليكاني راجح العقل قوي الأسلوب، في كتابه "خواطر فلسفية حول الساحرات والسحر"(1666) إلى أنه من العجب العجاب أن "رجالاً فيهم ذكاء وحذق في غير هذا الأمر، يتوهمون أنه ليس هناك شيء اسمه ساحرة أو شبح" ونبه قراءة إلى أن شكوكاً من هذا النوع تفضي إلى الإلحاد. كذلك رمى قسيس مشهور آخر اسمه رالف كدورث في كتابه "نظام الكون الفكري الصحيح"(1679) بالكفر كل من ينكر وجود الساحرات (7). وقد دافع أفلاطوني كمبردج، هنري مور، في كتابه "ترياق الإلحاد"(1668؟) دفاعاً حاراً عن قصة "ساحرة" تزوجت الشيطان ثلاثين عاماً، ورآه تجديفاً كبيراً أن يتشكك متشكك في قدرة الساحرات على إثارة العواصف بالتعزيم، أو ركوب الهواء على مكنسة (8).
وخف اضطهاد الساحرات شيئاً فشيئاً، ولكن رجال الدين
الاسكتلنديين تفردوا بغيرتهم المحرقة. مثال ذلك أن ست نساء في مدينة ليث عذبن بشتى ضروب التعذيب عام 1652 لحملهن على الاعتراف بالسحر، فعلقن من أباهمهن، وجلدن، ووضعت الشموع الموقدة تحت أقدامهن التي فتحت عنوة، ومات أربعة من الستة من التعذيب (9). وفي عام 1661 كان هناك أربعة عشرة محكمة تحاكم الساحرات في إسكتلندة، وفي 1664 أحرق تسع نساء معاً في ليث. واستمرت أحكام الإعدام هذه في إسكتلندة على نحو متقطع حتى 1722. وفي إنجلترا شنقت ساحرتان سنة 1664 في بوري سانت ادموندر، وأعدمت ثلاث في 1682، وعدد غير مؤكد في 1712. وقوضت الحجج التي أتى بها وير، وسبي، وهوبز، وسبينوزا، وغيرهم، شيئاً فشيئاً وهم السحر في أوساط العلمانيين المثقفين ووقف المحامون والقضاة بدرجة متزايدة في وجه اللاهوتيين، ورفضوا الاتهام أو الإدانة بالسحر. وفي 1712 قضت هيئة محلفين من الإنجليز البسطاء على جين وينهام بأنها مذنبة بالسحر، ولكن القاضي رفض الحكم عليها، فندد به رجال الدين المحليون (10)، ولكن لم يعدم أحد بتهمة السحر في إنجلترا بعد ذلك التاريخ. وفي فرنسا حصل كولبير على مرسوم من لويس الرابع عشر (1672) بمنع أحكام الإدانة بتهمة السحر (11). واحتج برلمان روان بأن هذا المنع انتهاك للأمر الوارد في التوراة، "لا تدع ساحرة تعيش"(خروج 22 - 18)، وأفلح بعض الحكام المحليين في حرق سبع "عرافات" في فرنسا فيما بين عامي 1680 و1700، ولكنا لا نسمع بأحكام إعدام بعد 1718. واستمر الإيمان بالسحر حتى الانتصار المؤقت الذي أحرزته العقلانية في حركة تنوير القرن الثامن عشر، وما زال موجوداً في أماكن متفرقة هنا وهناك.
وتعاونت الرقابة والتعصب مع الخرافة على الحد من نمو المعرفة وانتشارها. وفي فرنسا حالت الصراعات التي احتدمت بين الملوك والبابوات، وبين الكنيسة الفرنسية والبابوية، وبين الجانسنيين واليسوعيين، وبين الكاثوليك والهيجونوت-هذه الصراعات حالت دون وحدة الرقابة. وثباتها ودقتها، وهي الرقابة التي عزلت أسبانيا في هذا العصر عن حركات العقل الأوربي. ووجد المؤلفون المهرطقون
طرقاً للروغان من الرقباء، ولعل الذكاء الفرنسي قد شحذته ضرورة التعبير عن الأفكار بطريقة تدق على فهم موظفي الرقابة. وفي كولونيا الكاثوليكية فرض رئيس الأساقفة الناخب الرقابة على الأحاديث أو المطبوعات الدينية. وفي براندنبورج البروتستنتية أمر الناخب الأكبر برقابة دقيقة ليهدئ الصراع الديني. وفي إنجلترا واصلت الحكومة سجن المؤلفين البغيضين وحرق الكتب المهرطقة رغم صدور قانون التسامح (1689)(12). على أن تنوع الملل والنحل في الدول البروتستنتية جعل الرقابة فيها أقل جدوى منها في الدول الكاثوليكية، ولعل هذا بعض السبب في تفوق إنجلترا وهولندا في العلم والفلسفة في القرن السابع عشر.
لقد اتفقت المذاهب المتنافسة على التعصب. وحاجت الكنيسة الكاثوليكية في إقناع بأنه ما دام كل المسيحيين تقريباً يقبلون الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، وبما أن ابن الله أسس الكنيسة كما نص الكتاب، فواضح إذن أن من حقها وواجبها أن تقمع الهرطقة وانتهت المذاهب البروتستنتية إلى استنتاج مماثل وإن كان أقل تعطشاً للدماء. فما دام الكتاب كلمة الله، فكل من يحيد عن تعاليمه (حسبما تفسر رسمياً) يجب على الأقل أن يقمع، وأن يكون شاكراً لأنه لم يقتل. واعترفت معاهدة وستفاليا (1648) بمذاهب شرعية ثلاثة في ألمانيا: الكاثوليكية، واللوثرية، والكلفنية، وترك كل حاكم حراً في أن يختار أياً منها، وأن يفرضه على رعاياه. أما الدول الاسكندنافية فلم تسمح بغير اللوثرية. وأما سويسرا فأباحت لكل ولاية تقرير عقيدتها. وافتتحت فرنسا الطريق إلى التسامح بإصدارها مرسوم نانت (1598)، ثم طريق العدول عنه بإلغاء المرسوم (1685). أما إنجلترا فقد خففت بعد 1689 من القيود المفروضة على المنشقين من البروتستنت، واستمرت تفرضها على الكاثوليك، وأبادت ثلث الكاثوليك في إيرلندة. ووافق العقلاني هوبز البابوات على ضرورة عدم التسامح.
ولكن التسامح كان في ازدياد. وبدأت الدراسة الناقدة للكتاب المقدس في هذا العصر تجعل الناس أحراراً في الإعجاب به أدباً والتشكك فيه علماً، وجعل تعدد المذاهب النظام الاجتماعي أعسر فأعسر بدون التسامح المتبادل. وفي "إنجلترا الجديدة" أعلن روجر وليمز
(1644)
أنها "إرادة الله وأمره" أن "تباح لجميع الناس، في جميع الأمم، أشد المعتقدات والعبادات وثنية، أو يهودية، أو تركية. أو عداء للمسيح (13) " وطالب جون ملتن بـ "النشر دون رخصة"(1644)، ودافع جريمي تيلور عن "حرية التنبؤ" (1646). وأجاز جيمس هارنجتن (1656) الحرية الديني بغير حدود فقال: "حيث تكون الحرية المدنية كاملة، فإنها تشتمل على حرية الضمير، وحيث تكون حرية الضمير كاملة
…
فإن للإنسان حسبما يملي عليه ضميره الحق في الممارسة الكاملة لدينه دون أن يكون ذلك عائقاً لترقيته أو توظيفه في الدولة (14)". أما في الدول التجارية مثل هولندا، وحتى في البندقية الكاثوليكية، فقد اقتضت ضرورات التجارة التسامح مع شتى أديان التجار القادمين من بلاد أجنبية. وهولندا المتحررة هي التي نشر سبينوزا فيها في "الرسالة اللاهوتية السياسية" ( Tractatus theologico-Politicus) (1670) دعوة للتسامح الكامل مع الأفكار المهرطقة، وفي هولندا دافع بيل عن التسامح في كتابه "تعقيب فلسفي على الآية: ألزمهم بالدخول" (1686)، وبعد سنين من الإقامة في هولندا نشر لوك كتابه "رسائل في التسامح" (1689). وازدادت المطالبة بالحرية الفكرية عقداً بعد عقد، حتى إذا بلغ القرن السابع عشر ختامه لا نجد كنيسة تجرؤ على صنع ما صنعته الكنيسة ببرونو في 1600، أو بجاليليو في 1633 "ومع ذلك فهي تدور " Eppur si muove.
2 - التعليم
كانت المعرفة تنتشر في بطء عن طريق الصحف، والمجلات، والنشرات، والكتب، والمكتبات، والمدارس، والأكاديميات، والجامعات. وأصبحت الأنباء في القرن السابع عشر سلعة تباع وتشترى، أولاً للمصرفيين، ثم للحكام، ثم لأي إنسان. وفي 1711 كان مجموع ما وزع من الصحف البريطانية اليومية أو الأسبوعية 44. 000 (15).
وأدركت "الجورنال دي سافان"(صحيفة العلماء) التي تأسست في 1665 أن الأحداث في عالم الأدب والعلم يمكن أن تكون أيضاً أنباء، فما لبثت أن رسخت أقدامها وسيطاً دولياً بين الدارسين
والعلماء والأدباء. ولم تمض سنوات قليلة حتى ظهر لها منافسون، "الجورنالي دي ليتراتي" في روما، (1668)، و "الجورنالي فينيتو" في البندقية (1671) و "الاكتا ايروديتورم" في ليبزج (1682). وأسس بيل مجلة مشهورة بروتردام في 1684 تسمى "أنباء جمهورية الأدب"، وبعد عامين بدأ جان لكلير مجلة "المكتبة العالمية" الشهيرة، وقد احتوت هذه الدوريات على آراء من أهم ما صدر عن لوك وليبنتز.
وكان تداول الكتب يزداد بسرعة. ففي 1701 كان هناك 178 من كبار تجار الكتب في باريس، منهم ستة وثلاثون طباعاً وناشراً (16). وكانت المكتبات قديمها وحديثها تجعل كنوزها ميسرة لعدد أكبر من القراء. وفي عام 1610 حصل السر توماس بودلي من "شركة الوراقين" على منحة تحصل مكتبة بودلي التي أنشأها في أكسفورد (1598) بمقتضاها على نسخة من كل كتاب ينشر في إنجلترا، وهكذا أصبحت في 1930 تملك 1. 250. 000 مجلد. وفي 1617 قضى مرسوم أصدره لويس الثالث عشر بأن تودع في المكتبة الملكية (القومية الآن) نسختان من كل مطبوع جديد في فرنسا. وفي 1622 أصبح مجموع كتب هذه المكتبة 6. 000 مجلد، وفي 1715 زاد إلى 70. 000، ومعظم الفضل في هذه الزيادة يرجع إلى غيرة كولبير، وفي 1926 بلغ 4. 400. 000. وأسس ناخب براندنبورج الأكبر مكتبة قومية ببرلين في 1661. وفي ذلك العام أوصى مازاران بمكتبته الثمينة التي ضمت 40. 000 مجلد للويس الرابع عشر وفرنسا، وفي 1700 حول حفدة السر روبرت بروس كوتون ملكية المكتبة الكوتونية للمتحف البريطاني. وافتتح توماس تنسن عام 1695 بلندن أول مكتبة إنجليزية مفتوحة لعامة الشعب.
أما التعليم فكان يجاهد لتعويض الخسائر التي تكبدها من جراء الحروب الدينية في فرنسا، والحرب الأهلية في إنجلترا، وحرب الثلاثين في ألمانيا. ولم تعد المدارس والآداب الألمانية إلى مكانتها التي بلغتها أيام لوثر، وأولريش فون هتن، وملانكتون قبل قرنين، إلا حين جاء ليسنج (1729 - 81). في هذه الفترة ظلت اللاتينية غير الممتازة لغة غريبة مقتصرة على القلة المتعلمة، في حين أصبحت الألمانية مجرد
أداة سوقية بعد أن بلغت عنفوانها في لوثر، ولم يرق كاتب ألماني واحد إلى مقام الشهرة الدولية خلال هذا التكفير الطويل عن جيل من حرب التقتيل بين الاخوة. أما النبلاء الألمان، الذين احتقروا الحذلقة اللاتينية للجامعات، فقد أرسلوا أبناءهم إلى "مدارس الفرسان Ritterakademien" أو كلفوا معلمين خصوصيين ليعدوا الشباب العريق النسب لما تتطلبه القصور الأميرية من واجبات ولطائف. وفي الطرف الآخر من السلم الاجتماعي نظم أوجست فرانكي، التقوى، في هاله معاهدة التي سماها Stiftungen، وهي مؤسسات خيرية هزأ منها الساخرون ووصفوها بـ "المدارس المهلهلة"، وظل طوال اثنين وثلاثين عاماً (1695 - 1727) يطعم فيها أبناء الفقراء ويكسوهم ويعلمهم. ولم يلبث أن أضاف إليها مدرسة أعلى توفر التعليم الثانوي لألمع فتيانه ومدرسة نظيرها لألمع فتياته. وهذه المدارس كلها كانت تخصص نصف وقتها للدين.
ووجدت الروح العلمانية في ألمانيا معبراً عنها في شخص كرستيان توماسيوس. وسنشيد بذكره فيلسوفاً في موضع لاحق، أما الآن فنراه أعظم المعلمين الألمان في جيله. فبعد أن طرد من موطنه في ليبزج لهرطقاته، رحل إلى هاله في دولة براندنبورج-بروسيا الناهضة (1690)، وأدت محاضراته هناك إلى إنشاء الجامعة، وقد أصبح أشهر أساتذتها، والمناضل الذي جعل منها أول جامعة "حديثة". وقد هزأ بالسكولاستيه، وأحل الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم، وأصدر مجلة ألمانية، وأدخل البرامج العلمية في المنهج، وكافح في سبيل حرية المعلمين والطلاب في التفكير. ولقبه فردريك الأكبر أبا التنوير الألماني.
وجعل التعليم الأولي عاماً وإلزامياً للجنسين في دوقية فورتمبرج عام 1565، وفي الجمهورية الهولندية عام 1698، وفي دوقية فيمار في 1619، وفي إسكتلندة عام 1696، وفي فرنسا عام 1698، وفي إنجلترا عام 1876. وكان تخلف إنجلترا راجعاً إلى الانتشار الواسع للتعليم الأهلي بفضل الهيئات الدينية الخاصة، وإلى شعور الطبقات الحاكمة بأن تعليم الفقراء في النظام الاقتصادي السائد آنئذ غير ضروري بل ربما كان غير مرغوب فيه. وقد بدأت "جمعية تشجيع
المعرفة المسيحية" في 1699 تنشئ "مدارس خيرية" للأطفال الفقراء، لنشر اللاهوت والتهذيب المسيحيين بصفة خاصة، واشترط أن يكون مدرسوها كلهم أعضاء في الكنيسة الإنجليزية، وأن يحصلوا على ترخيص من الأسقف. وندد بهذا المدارس بزنارد ماندفيل، الذي أحدث ضجة في 1714 بكتابه "خرافة النحل"، وقال أنها مضيعة للمال، وأن الآباء إذا كانوا أفقر من أن يدفعوا نفقات تعليم أبنائهم "فإن من الوقاحة أن يتطلعوا إلى ما فوق قدراتهم (17) ".
أما في فرنسا فقد عرض على كل أبرشية أن تمول مدرسة أولية. وكان المدرس عادة علمانياً، يختاره الأسقف ويشرف عليه، وكان التعليم كاثوليكياً لا تهاون فيه. أما "المدارس الصغيرة petites (coles التي أنشأها البور-رويال فلم تصل إلا لقلة منتقاة من الصبيان. وفي 1684 أسس جان باتيست دلاسال "اخوة المدارس المسيحية"، التي عرفت بعد قليل بالاخوة المسيحيين Fr (res Chr (ti (ns. وقد جعل لاسال، ذلك القس الزاهد، الدين جوهر التعليم الذي وفره هؤلاء "الاخوة المسيحيون" مجالنا لأبناء الفقراء. وخصص للممارسات الدينية أربع ساعات في اليوم، وأضيفت القراءة والكتابة والحساب، ولكن الهدف الذي لم يغب عنهم قط كان تدريب الكاثوليك الأوفياء، وتخليص النفوس من طيش الحياة الدنيا ومن النار الأبدية. ووجد أن الجلد نافع لهذه الأغراض. وكان المعلمون يحضون على التعليم بالقدوة أكثر من المبدأ. وفي 1685 افتتح الاخوة المسيحيون مؤسسة لعلها كانت أول مؤسسة حديثة لتدريب معلمي المدارس الأولية.
وظل التعليم الثانوي بفرنسا في أيدي اليسوعيين، وكان لا يزال خير تعليم في البلاد المسيحية، وغيرت كليتهم اليسوعية الواقعة وراء السوربون مباشرة اسمها إلى "كلية لويس الأكبر " Coll (ge Louis-le-Grand بعد أن حضر الملك مسرحية أخرجها هناك التلاميذ في 1674. وافتتح لويس الرابع عشر في 1686، تحت إلحاح مدام دمانتنون، في سان-سير (على ثلاثة أميال من فرساي) أول مدرسة داخلية فرنسية للبنات. وكانت الأديار توفر التعليم العالي لبنات الصفوة ممن يدفعن نفقاته، مع التركيز دائماً على الدين. وأجمعت السلطات الكاثوليكية
والبروتستنتية على أن الطبيعة البشرية تتنافر أشد التنافر مع ضوابط الحضارة بحيث لم يكن سبيل لترويضها على الفضيلة والنظام إلا سبيل مخافة الله. وما زالت محاولة تهذيب الخلق دون معونة من الدين في مرحلتها التجريبية.
أما الجامعات فكانت الآن في دور الاضمحلال، وذلك باستثناء الجمهورية الهولندية، فالمذاهب الدينية المنتصرة تقوم بتطهيرها من المخالفين، والطلبة المشاغبون ينشرون فيها الفوضى، والخلافات اللاهوتية تسيطر عليها. وكانت الدرجات الجامعية في فرنسا وألمانيا تباع بالمال. ولم يكن بين أساتذتها أحد من أفذاذ فلاسفة العصر، إلا قلة من كبار العلماء، وكان هوبز، وليبنتز، وبيل، يتحدثون عن الأساتذة باحتقار لا يغتفر ضغوط الجماهير على الموظفين العموميين. وفتحت في هذه الفترة بعض الجامعات الجديدة: جامعة دويسبرج (1655)، ودرم (1675)، وكيل (1665)، ولند (1666)، وانسبروك (1673)، وهاله (1694)، وبرسلاو (1702). وكان أكثرها مؤسسات صغيرة قل أن زاد أساتذتها على العشرين وتلاميذها على الأربعمائة. وفي معظمها كان المنهج قد تجمد بمرور الزمن، واشتراطات السنية شلت حركة الطلاب والمعلمين على السواء، وقد شكا ملتن من أن الجامعات الإنجليزية "تسلب الشبان استعمال عقولهم بتعاويذ من الميتافيزيقا، والمعجزات، والتقاليد، والأسفار السخيفة". وقال أنه يشعر أنه ضيع شبابه في كمبردج محاولاً أن يهضم "وليمة حمير كلها أشواك وعليق فاسد" وغير ذلك من "الهراء السفسطائي (18) " وقد استمر قيد التقاليد هذا في أكسفورد وكمبردج إلى أن حفز مثال "الجمعية الملكية"، وأستاذية نيوتن بكلية ترنتي (1669 - 1702)، جامعة كمبردج على أن تفسح للعلم صدارة جريئة.
وكافح الشعراء والقساوسة، والصحافيون، والفلاسفة، ليبعثوا النشاط والحيوية في التعليم. ولقد لخصنا من قبل "رسالة ملتن إلى مستر هارتلب"(1644) عن المدرسة المثالية. ولكن لم يكن لوصفاته أي تأثير في التعليم الفعلي. أما في فرنسا فكان أمتع ما كتب في هذا الباب رسالة فنيلون "في تعليم البنات"(1678). وكانت مدام دبوفلييه قد طلبت إليه أن يجمل بعض المبادئ التي يهتدي بها في
تعليم بناتها. وأكد الكاهن بالطبع تقوية الناموس الأخلاقي بالدين، ولكنه استنكر ما شاب التعليم الديري من تقشف وعزلة. وقال أنه يشعر أن أديار الراهبات "لا تهيئ للحياة في هذه الدنيا، وهي حياة تدخلها خريجة الدير وكأنها خرجت من كهف لتقابل ضوء النهار الساطع (19) " وطالب بالطرق اللينة في التعليم، فيجب أن يوائم التعليم بين نفسه وبين طبيعة الطفل وميوله وحساسيته، لا أن يخضع التلاميذ كلهم لقاعدة جامدة واحدة. فلنعلم بالطريقة التي تعلم بها الطبيعة-لا بالتجريدات، بل بهداية الطفل إلى لب الأشياء، ولتكن ألعابهم وميولهم الطبيعية وسيلة التعليم (هاهنا بيداجوجيه روسو، وتعليم القرن العشرين "التقدمي" يشرحه كاهن من كهنة القرن السابع عشر). ويريد فنيلون أن تقرأ البنات الآداب القديمة، بلغاتها الأصلية إن استطعن، وينبغي أن يتعلمن شيئاً من التاريخ، ومن القانون ما يكفي لإدارة ضيعة، ولكن لا شأن لهن بالعلم-فعلى الفتاة أن تبدي "بعض الحياء في العلم"( une pudeur sur la sciemce) . لقد كان الكاهن الوسيم حساساً لمفاتن الأنثى، ولم يرد بهذه المفاتن أن تكتسي بعلم الجير، وما كان ليفهم قط غرام فولتير بمدام دوشاتليه، أستاذة الميكانيكا النيوتونية.
وبعد مقال فنيلون هذا بعشر سنوات، نشر ديفو دعوته لتعليم النساء تعليماً عالياً. فالبنات الإنجليزيات في القرن السابع عشر لم تتح لهن إلا فرص ضئيلة في التعليم الثانوي، إذا استثنينا البيوت الغنية. فكان عليهن أن يعتمدن على المدرسين الخصوصيين، كما كان شأن استر جونسن مع جوناثان سويفت، أو أن يختلسن المعرفة بجهدهن الخاص كما فعلت ابنة ايفلين الأثيرة لديه. وعند ماكولي أن "نساء ذلك الجيل (1685 - 1715) الإنجليزيات، حتى في أرقى الطبقات، كن قطعاً أسوأ تعليماً منهن في أي فترة أخرى منذ حركة إحياء العلوم"(20). وقد قدر سويفت أنه لا تكاد توجد امرأة راقية واحدة في كل ألف لقنت القراءة أو الهجاء (21)، ولكن ذلك الكاهن المتشائم كان يزكو على المبالغات. على أي حال كان رأي ديفو أن إهمال تعليم المرأة ظلم همجي "لست أعتقد أن الله تعالى جعل النساء مخلوقات غاية في الرقة والنبل، وجملهن بهذه المفاتن
…
ليكن مجرد مدبرات لبيوتنا، وطاهيات، وإماء". لذلك اقترح أن يكون للبنات أكاديمية شبيهة بالمدارس الخاصة في إنجلترا، يتعلمن فيها-بالإضافة إلى الموسيقى والرقص-"اللغات،
خصوصاً الفرنسية والإيطالية، وأنا أجرؤ على تقديم اقتراح مؤذ، هو تعليم المرأة أكثر من لسان واحد". وينبغي أن يتعلمن التاريخ، ويكتسبن كل آداب الحديث ولطائفه. واختم الروائي الغزل بقوله: إن امرأة أحسنت تربيتها وتعليمها، وزودت بفضائل إضافية من المعرفة والسلوك، لهي مخلوق لا نظير له. أبدع وأرق ما في خليقة الله"، وأن "الرجل الذي كانت مثل هذه المرأة من نصيبه ليس عليه إلا أن يغتبط بها ويكون شاكراً"(22).
كان كتاب جون لوك "خواطر في التعليم"(1693)(23)، إلى حد كبير، أعمق الأبحاث التي كتبت في النظرية التربوية في عصر لويس الرابع عشر وأعظمها نفوذاً، وقد كتبه المؤلف بعد أن مارس التعليم مدرساً خصوصياً عدة سنوات في أسرة ايرل شافتسبري الأول. واقترح الفيلسوف-مترسماً بإدارات مونتيني-أن يكون هدف المعلم أولاً صحة الجسد وعافيته، فالجسم السليم شرط لا غنى عند للعقل السليم. لذلك كان على تلاميذه أن يتناولوا الطعام البسيط، ويعودوا أنفسهم على اللباس القليل، والفراش القاسي، والجو البارد، والهواء الطلق، والرياضة الكثيرة، والنوم المنتظم، والامتناع عن النبيذ أو الخمر، وعلى "قليل جداً من الدواء أو لا دواء إطلاقاً". ويأتي بعد ذلك في الزمان ولكنه يتقدم عليه في الأهمية تكوين الأخلاق، فكل التعليم سواء الجسدي أو العقلي أو الخلقي يجب أن يكون تدريباً على الفضيلة. وكما أن الجسم يجب تدريبه على الصحة باحتمال المشاق، فكذلك يجب تشكيل الخلق بغرس نكران الذات في جميع الأشياء التي تتعارض مع العقل الناضج. "ينبغي أن يعود الأطفال على إخضاع رغباتهم، والاستغناء عن مشتهياتهم، حتى وهم في المهد". فضبط الشهوات أشبه بالعمود الفقري للخلق. ويجب أن يجعل هذا الضبط ساراً ما أمكن، ولكن لا بد من الإصرار عليه في مراحل التربية كلها. ولن تكفي في ذلك الأفعال الطيبة المفردة، إذ لا بد من تربية الطالب بتكرار الأفعال الطيبة لتكون "عادات" طيبة، لأن "العادات تعمل بثبات ويسر أكثر من العقل، الذي قل أن يستشار بنزاهة ونحن أحوج ما نكون إليه، وندر أن يطاع". ويتردد لوك بين أرسطو وروسو. فهو يؤثر تعليماً تحررياً على تعليم يتجاهل ميل الطفل وفرديته، وينبغي أن تجعل الدروس مشوقة، والنظام رحيماً، ولكنه يقبل الفكرة القائلة بأنه من المرغوب فيه بين
الحين والحين توقيع العقوبات البدنية على سوء السلوك المعتمد. يضاف إلى هذا "أن تعويد الأطفال في لطف على تحمل درجات الألم دون أحجام سبيل لإكساب أذهانهم الثبات وإرساء أساس للشجاعة والعزيمة في مستقبل حياتهم".
وتربية العقل ينبغي أن تكون تدريباً على طرائق التفكير ومشقة الاستدلال، لا خلاصة للآداب القديمة أو تراشقاً باللغات. ويجب أن تعلم الفرنسية واللاتينية للأطفال في سن مبكرة، وبالحديث لا بالنحو. أما اليونانية والعبرية والعربية فتترك للدارسين المحترفين ويحسن أفراد وقت للجغرافيا والرياضة والفلك والتشريح، وفي مرحلة تالية للأخلاق والقانون، وأخيراً للفلسفة. "ليست مهمة التعليم أن يمكن الصغار من علم بعينه، بل أن يفتح أذهانهم ويشكلها بحيث يتيح لهم القدرة على إتقان أي علم حين يعكفون عليه في مستقبل أيامهم" وكما أن الفضيلة تعلم بالعادة فكذلك يعلم الفكر بالاستدلالات المتكررة:
"ولا سبيل إلى هذا خير من الرياضة، التي أرى بناء عليه وجوب تعليمها لكل من يتاح لهم الوقت والفرصة، لا لجعلهم رياضيين بل لجعلهم مخلوقات مفكرة
…
فقد ولدنا لنكون-إذا شئنا-مخلوقات مفكرة، ولكن سبيلنا إلى هذا هي الممارسة والتمرين، والواقع أننا لن نتجاوز في هذا ما أوصلنا له جهدنا وعكوفنا
…
وقد ذكرت الرياضة وسيلة لتقر في الذهن عادة الاستدلال بدقة وتسلسل،
…
، فإذا اكتسبوا طريقة الاستدلال التي توصل تلك الدراسة الذهن إليها، استطاعوا نقلها إلى ما يتاح لهم من أقسام أخرى من المعرفة (24) ".
وقد قصد لوك برسالته ضرباً من "التعليم المتحرر"-أي الذي يعني أساساً بالفنون والأدب والسلوك، والذي يهدف إلى إنتاج "الجنتلمان" أي الإنسان "الكريم" المولد، الذي لن يضطر أبداً لكسب قوته بعرق جبينه
(1)
. ومع أن منهاجه يسمح ببعض العلوم، فإنه على العموم
(1)
كلمة "جنتلمان" أصلها اللاتيني gens، وهي العشيرة أو الأسرة من الأحرار. والتعليم الحر أو المتحرر liberal كان في الأصل التعليم الموضوع للرجال الأحرار ( liberi) .
يلتزم "الإنسانيات"-وهي الدراسات التي حبذها إنسانيوا النهضة الأوربية. وقد اشتمل كذلك على الرقص وركوب الخيل، والمصارعة والمثاقفة، وحتى "حرفة يدوية، بل حرفتين أو ثلاثاً"، معاوناً على الصحة والخلق، لا سبباً للرزق. أما الفنون فتعلم على سبيل الترويح لا الاحتراف، وعلى الشباب ألا يأخذ هذه الأمور مأخذ الجد الشديد، عليه أن يستمتع بالشعر، ولا ينظمه إلا للتسلية، ويجب أن يعلم الاستمتاع بالموسيقى دون أن يحاول إتقان العزف على أية آلة، فهذا يقتضيه الكثير جداً من الوقت، كما أنه يلقي بالشاب في "صحبة غريبة جداً"، وهكذا كانت رسالة لوك تجمع بين المحافظة والتحرر، فهي في استنكارها الاستغراق السكولاستي في اللغات القديمة، وتقليلها من التركيز على الدين واللاهوت، واهتمامها بالصحة والخلق، وجهدها في إعداد الشباب العريق الأصل للحياة والخدمة العامتين، كانت تومئ إلى المستقبل، وكان لها تأثير هائل في إنجلترا وأمريكا. وقد شاركت في تكوين الجانب البدني والخلقي للتربية في المدارس الخاصة " Public" الإنجليزية. فلما ترجمت الرسالة إلى الفرنسية (1695) طبعت منها خمس طبعات في خمسين سنة، وأوحت إلى روسو بالكثير من الآراء. أما تلميذ لوك، ايرل شافتسبري الثالث، الذي سنلتقي به ثانية، فلقد شرف نظريات أستاذه وخلقه.
3 - الدارسون
واصل كبار الدارسين صياغة المستقبل بإنارة الماضي، وذلك برغم ما بدأ من انشغالهم باللغات المحتضرة والمناظرات الميتة، ووجد بعضهم أنفسهم مشتبكين في صراع المسيحية من الفكر الحر.
ومن صغار الأدباء والعلماء من يستحق منا لفتة إجلال عابرة. مثال ذلك شارل دوفريسن، سيد كانج، الذي أدهش معاصريه-وقد عرفوه محامياً في برلمان باريس-بإصداره (1678) قاموساً للاتينية الحديثة والوسيطة في ثلاث مجلدات، بلغت من دقة الدراسة مبلغاً يجعلها إلى اليوم الحجة في بابها. أما بيير أوويه فقد اكتشف وحقق مخطوطة هامة لأوريجانوس، وتعلم السريانية والعربية، والكيمياء، وأجرى ثمانمائة تشريح، وكتب الشعر والقصة، واشترك
مع مدام داسييه العالمة في نشر الطبعة "الدلفية" الشهيرة ذات الستين مجلداً للآداب اللاتينية، وذلك لتعليم الدوفان (ولي العهد)، وقد عين رئيساً لأساقفة آفرانش، وحين مات خلف مكتبته التي هي الآن جزء ثمين من المكتبة القومية. وواصل أتباع بولاند من اليسوعيين نشر موسوعتهم المئينية Acta Sanctorum ( أعمال القديسين) وفي باريس، وتحت قيادة جان مابيون، صنف مجمع سان-مور البندكتي (1668 - 1702) تاريخاً من عشرين مجلداً للقديسين البندكتيين، وألقوا بهذا الضوء إلهام على حوليات فرنسا الوسيطة وآدابها. وأعطى مابيون نفسه شكلاً جديداً للطريقة القديمة لكتابة اللاتينية بمؤلفه De Re diplomatica (1681) ، الذي لم يكن كتيباً في الدبلوماسية بل رسالة في تاريخ المراسيم والمخطوطات القديمة وطبيعتها وحجيتها. كتب مابيون بعد أن أتم جزءاً من أجزائه الضخمة، "ليت الله لا يؤاخذني على أنني أنفقت هذه السنين الطوال في دراسة أعمال القديسين، دون أن أشابههم إلا قليلاً"(25).
أما عملاق التبحر في الدراسات القديمة في هذا العصر فكان رتشرد بنتلي-الناظر الصارم لكلية ترنتي (بكمبردج) طوال اثنين وأربعين عاماً. فلقد أفنى شبابه في استيعاب المكتبة البولدية، وكان وهو بعد في التاسعة والعشرين من أكبر علماء أوربا تفقها في الآداب اليونانية واللاتينية والعبرية وآثارها. وفي ذلك العام (1691) نشر رسالة في مائة صفحة Epistola ad Millium موجهة إلى "جون مل" سابق، بلغ من دقتها وعمقها العلميين أنها أذاعت صيته في طول أوربا وعرضها. واختبر في الثلاثين ليلقى أول سلسلة من المحاضرات التي دبر لها المال ووضع لها الاسم في وصية الكيميائي الورع روبرت بويل. وقد استجاب بتقديم الحجج القوية على أن النظام الكوني الذي كشف سره في كتاب نيوتن "المبادئ"( Principia) الحديث الصدور يثبت وجود الله. وكان هذا عزاءً عظيماً لنيوتن الذي اتهم من قبل بالإلحاد. وعين بنتلي في وظيفة الأمين الملكي للمكتبة، وأعطى مسكناً في قصر سانت جيمس. وهناك كان يلتقي مراراً بنيوتن، وايفلين، ورن، ومن قلعته تلك خاص معركة من أشهر معارك العلم البريطاني.
أما المعركة فنجمت عن مشاركة الإنجليز في الجدل القائم حول
مزايا الأدب القديم تجاه الجديد. بدأ السر وليم تمبل المعركة بمقالته "في العلم القديم والجديد"(1690) التي دافع فيها عن القديم. ولعل بنتلي كان مثنياً على المقالة لولا إشادتها بفالاريس مثالاً على علو كعب اليونان في الأدب. أما فالاريس هذا فكان دكتاتوراً حكم أجراجاس (أجريجنتو) في صقلية اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد. وقد وصفه التاريخ أو وصفته الأساطير بأنه كان يشوي أعداءه في بطن ثور نحاسي، ولكن التاريخ كرمه راعياً للأدب، وقد انحدر إلينا عبر القرون 148 خطايا قيل أنها بقلمه. ونشر هذه الخطابات عام 1695 طالب في كلية كرايست تشيرس بأكسفورد يدعى تشارلز بويل. وطالب وليمة وتون إلى بنتلي الفصل في حجية الخطابات، إذ كان يعد طبعة ثانية (1697) لكتابه "تأملات في العلم القديم والحديث" الذي عارض فيه تمبل. ورد بنتلي بأن نسبتها إلى فالاريس خطأ وأنها كتبت في القرن الثاني للميلاد، ثم أشار عرضاً إلى بعض الهفوات في طبعة تشارلز بويل، ونشر بويل ومعلموه دفاعاً حاراً عن صحة نسبة الخطابات لفالاريس. ودخل جوناثان سويفت، سكرتير تمبل، المعركة في صف أستاذه بأن هزأ ببنتلي في كتابه "معركة الكتب". وظاهر رأي الأدباء العام بويل، وحزن أصحاب بنتلي على ما بدا من انهيار سمعته. ولكن رده عليهم جدير بأن نتذكره:"إن أحداً من الناس لم تخسف سمعته إلا بيده"(26). وفي 1699 أصدر كتاباً مطولاً عنوانه "رسالة في خطابات فالاريس". ولم يثبت الكتاب صواب رأيه فحسب، بل ألقى من الضوء على تطور اللغة اليونانية ما جعل دنيا العلم والأدب تشيد به علامة جديراً بأن يقف على قدم المساواة مع كازويون وسلاماسيوس سكاليجر. وقال بنتلي أنه حتى أسلوب الخطابات ينم على القرن الذي كتبت فيه، وأضاف:
"كل لغة حية لا تكف عن الحركة والتغيير، شأنها في ذلك شأن أجسام الكائنات الحية التي تفرز العرق، فبعض الألفاظ تذبل وتصبح مهجورة، وغيرها يدخل اللغة ويزداد استعماله شيئاً فشيئاً، أو قد تحول ذات الكلمة إلى معنى ومفهوم جديدين، يحدثان بمضي الزمن من التغيير الملحوظ في جو اللغة وملامحهما ما يحدثه الزمن في خطوط الوجه وسحنته. وكل الناس يحسون هذا في لغاتهم القومية، حيث
الاستعمال الدائم يجعل من كل إنسان ناقداً، فأي إنجليزي لا يأنس في نفسه، من مجرد صياغة الأسلوب وزيه، القدرة على التمييز بين الإنشاء الإنجليزي الجديد وإنشاء قديم انقضى عليه مائة عام؟ ومثل هذه الفروق الواقعية المحسوسة موجودة في عهود اللغة اليونانية العديدة
…
ولكن القلة القليلة هي التي أتيح لها من التفقه والمرانة على تلك اللغة ما يبلغها تلك الرهافة في الذوق" (27).
هاهنا أديب قادر على كتابة الإنجليزية قدرته على قراءة اليونانية.
وفي 1699 رقى بنتلي إلى نظارة كلية ترنتي بكمبردج بإجماع الأساقفة الستة الذين عينهم وليم الثالث لترشيح من يشغل الوظيفة الشاغرة. فأحكم ضبط الطلبة، وأصلح المنهج، وبنى مختبراً للكيمياء ومرصداً للفلك. ولكنه نفر هيئة التدريس والآداب بالكلية بغطرسته وعتوه وولعه بالمال، حتى لقد حكم برفته مرتين، ولكنه ناضل للرجوع إلى وظيفته، واحتفظ بها إلى النهاية. ونشر خلال ذلك عدداً كبيراً من الدراسات اليونانية واللاتينية، وشجع ومول الطبعة الثانية من كتاب نيوتن "المبادئ" وهدم أنطوني كولنز في كتابه "ملاحظات على مقال حديث في الفكر الحر"(1713)، وغامر في تهور بالخروج من ميدانه، بأنه علق على قصيدة ملتن "الفردوس المفقود" بتصحيحات متقعرة لنحو ملتن ونصه. وجلب على نفسه عداء الشاعر ألكسندر بوب إذ قال في ترجمة بوب للألياذة "قصيدة جميلة يا مستر بوب، ولكن يجب ألا تسميها هومر". روى بنتلي أن "الشبل المنذر بالشر" لم يصفح عنه قط. وهزأ بوب في "ملحمة المغفلين" The Dunciad ( ابريل 1742) ببيتين من الشعر قال فيهما:
"المعلق الجبار، الذي سفهت تحقيقاته المضنية هوراس، وحقرت قوافي ملتن"(28).
وفي يوليو مات بنتلي بعد أن اصطلح عليه بوب وذات الجنب. لقد كان أعظم وأثقل أديب أنجبته إنجلترا.
وفي هذه الأثناء مد إنجليزي آخر يدعى توماس ستانلي آفاق
الذهن البريطاني بأول كتاب إنجليزي في "تاريخ الفلسفة"(1655 - 62)، وأدهش قراءه بتخصيص آخر مجلداته الأربعة للفلسفة الكلدية (العربية). لقد أخذ العلم يجرؤ على تجاوز روما القديمة واليونان إلى الشرق الأدنى والأوسط، وكان لهذه الجرأة نتائج مزعجة. فاكتشف إدورد بوكوك وحقق أربع ترجمات سريانية لرسائل العهد الجديد (1630)، وأنشأت أكسفورد لأجله أول كرسي للغة العبرية فيها، وفتحت محاضراته فيها عيون الإنجليز على الحضارة الإسلامية. أما في فرنسا فإن الموسوعة التي أفنى فيها بارتلمي دير بيلو عمره، وهي "المكتبة الشرقية" الضخمة (1697) -التي وضع لها عنواناً فرعياً هو "قاموس عالمي شامل بصفة عامة لكل ما يتصل بمعرفة .... الشرق"-هذه المكتبة كانت كشفاً عن التاريخ والعلم العربيين، ولعبت دوراً في توسيع الأفاق الفكرية توسيعاً حطم كل القيود في حركة تنوير القرن الثامن عشر. وتعجب الطلاب من ذلك الغني في شعر العرب وتاريخهم وفلسفتهم، وعلومهم، ولاحظوا كيف حافظ العرب على علم اليونان وفلسفتهم في الوقت الذي طواهما فيه النسيان إبان عصور غربي أوربا المظلمة، وعرفوا أن محمداً لم يكن مجرد دجال أفاك بل كان حاكماً ذكياً وسياسياً أريباً، وحيرهم ألا يجدوا في العالم المسيحي جرائم أكثر ولا فضائل أقل مما في العالم المسيحي. وأصبحت نسبية الأخلاق واللاهوت خميرة مذيبة في الذهن المسيحية.
وكان من أثر الدراسات للتاريخ الشرقي-بما فيه المصري والصيني-تقويض الحساب اليهودي الذي أرخ خلق العالم بسنة 3761 قبل الميلاد، والحساب الذي وضعه جيمس أشر، رئيس الأساقفة الأنجليكاني لأرما-بإيرلندة- (1650) وقرر فيه أن الخلق حدث "في بداية الليلة السابقة ليوم الاثنين 23 أكتوبر 4004 ق. م (29) وكان سبينوزا-كما سنرى بعد قليل-يستهل (1670) حركة "النقد الأعلى) للكتاب المقدس-أي دراسته بوصفه إنتاجاً بشرياً، غنياً في العظمة والسمو، وفي الأخطاء والسخافات.
وقد جلب أعلم ناقد الكتاب المقدس في القرن السابع عشر على رأسه غضب بوسويه وسخطه في محاولته الرد على سبينوزا، لأنه سلم في النهاية بالكثير مما زعمه الفيلسوف. وهذا الناقد، واسمه ريشار
سيمون، وأبوه كان حداداً، التحق بالمصلى في باريس، ورسم قسيساً (1670) وكتب في ذلك العام نشرة دافع فيها عن يهود متز الذين اتهموا بقتل طفل مسيحي. وفي 1678، بعد سنوات من البحث شملت دراسات مع عدة أحبار اليهود، أعد العدة لنشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد القديم". ورأي، في الطريق، أن يفند حجج سبينوزا ضد الوحي الإلهي للأسفار المقدسة. فسلم بأن أسفار العهد القديم ليست تماماً من عمل المؤلفين الذين نسبت لهم، وأنه لا يمكن أن يكون موسى قد كتب الأسفار الخمسة كلها (التي ورد فيها وصف لموت موسى)، وأن أسفار الكتاب عراها التغيير الكثير عن صورتها الأصلية بأقلام الكتبة والناشرين الذين نقلوها إلى الخلف. وناضل سيمون للاحتفاظ بسلامة عقيدته وبرخصة طبع كتابه، فزعم أن هؤلاء المراجعين كانوا هم أيضاً يعملون بالوحي الإلهي، ولكنه اعترف بأن جميع نسخ العهد القديم الموجودة شوهتها التكرارات والتناقضات والإلتباسات وغيرها من الصعوبات بحيث لا تتيح إلا أساساً واهياً للاهوت عقائدي. ورأى أن يهاجم البروتستنت بهذه النقطة، فقال أن إيمانهم بالوحي الشفوي للأسفار المقدسة يتركهم عاجزين أمام النقد النصي في حين يستطيع الكاثوليكي الموالي لكنيسته أن ينجو من أذى هذه الدراسة الناقدة بقبوله التفسير الذي وضعته كنيسة روما للنص. واختتم سيمون بالقول أن الوحي الإلهي للكتاب المقدس لا يصدق على أي حال إلا على أمور الإيمان.
ووافق رئيس المصلى على نشر كتاب سيمون. وبينما كانت أصوله في المطبعة وقعت بعض صفحات تجارب الطبع في يد أرنو "الكبير" رجل البور-رويال، فروعه ما قرأ. واطلع بوسويه على التجارب، فندد هذا على الفور بالكتاب باعتباره "نسيجاً من الكفريات ومعقلاً للإلحاد
…
سيهدم سلطان الأسفار القانونية (30)" وناشد بوسويه السلطات الزمنية أن تمنع نشر الكتاب. فصادرت الطبعة بأكملها، وقوامها ألف وثلاثمائة نسخة، وعجنتها عجناً واعتكف سيمون خوريا مغموراً في نورمنديه، ولكنه وجد السبل لطبع مخطوطته في روتردام (1685) وبعد أربع سنوات نشر كتابه "تاريخ نقدي للعهد الجديد" وأراد أن يتوج جهوده بترجمة جديدة للكتاب المقدس، وفرغ من ترجمة
العهد الجديد، ولكن بوسويه الذي أفزعته الحرية التي تناول بها سميون النص المقدس أقنع المستشار بمصادرة الكتاب (1703). وتخلى سيمون عن مشروعه، وأحرق أوراقه، ومات (1712).
وأثارت ترجمته للعهد الجديد أربعين اعتراضاً تفند هذه الترجمة وتبين عصمته. على أنها ما زالت هي وكتاب سبينوزا "رسالة لاهوتية سياسية" من المعالم في الدراسة الحديث للكتاب المقدس. وقد حذر ليبنتز-بعد أن قرأ هذه الأبحاث النقدية الأولى-من هذا أن الاتجاه في التحقيق لو استمر سيدمر المسيحية (3). ولم يحن الوقت بعد للقول هل كان مصيباً أم مخطئاً في زعمه هذا.
الفصل الثامن عشر
البحث العلمي
1648 - 1715
1 -
دولية العلم
كان مزاج أوربا يتغير في بطء-سواء كان التغيير خيراً أو شراً-من الإيمان بالخوارق إلى النزعة العلمانية، ومن اللاهوت، ومن آمال الجنة ومخاوف الجحيم التي خطط توسيع المعرفة وتحسين حياة البشر. فأما الطبقات العليا التي واصلت أساليب حياتها الأبيقورية فلم تعترض كثيراً على إيمان ديني كانت تاره مفيداً للجماهير الشقية التي حرمت فردوس الحسب والنسب، ولكن كان هناك نفر، حتى من بين هذه القلة المميزة، ممن تلهوا بالعلم، ووازنوا المعادلات، وأحرقوا أصابعهم أو نشقوا بأنوفهم في المختبرات، أو تفرسوا بدهشة في النجوم المتكاثرة. ففي باريس مثلاً تزاحمت سيدات المجتمع العصريات على محاضرات ليميري في الكيمياء، وعلى شروح دوفرنية في التشريح، ودعا كونديه ليميري إلى صالونه الخاص جداً، وعين لويس الرابع عشر دوفرنيه ليساعد على تعليم الأمير الوارث للعرش. وفي إنجلترا كان لتشارلز الثاني "مختبر كيميائي" خاص به، وحاول البارونات، والأساقفة، والمحامون القيام بالتجارب، وأقبلت الخليلات الأنيقات في مركباتهن ليشهدن عجائب المغناطيسية، وهوى ايفلين الفيزياء، وأراد إنشاء معهد للبحث العلمي، ووجد بيبيس وقتاً-وسط شغله بالمراكب والنساء-لاستعمال المكرسكوب، ومضخة الهواء وسكين التشريح، وأصبح رئيساً للجمعية الملكية.
وتخلفت الجامعات عن الشعب في هذا الاهتمام الجديد، ولكن الأكاديميات الخاصة التقطته. ويلوح أن البادئ كان "أكاديمية أسرار الطبيعة" بنابلي (1560)، ثم أكاديمية "دي لنتشي" بروما (1603) التي كان جاليليو ينتمي إليها، ثم أكاديمية "ديل تشيمنتو"، التي أنشأها تلميذاه تفياني وتوريتشيللي في فلورنسة (1657). وقد
كرس هذا المعهد بحكم اسمه للتجارب، واتخذ الشك الديكارتي منطلقاً له، فلا شيء يجب التسليم به بالإيمان، ولا بد من بحث كل مشكلة دون نظر إلى أي ملة أو فلسفة موجودة (1). ولم يعمر بعض هذه الأكاديميات طويلاً، ولكنها كانت تترك خلفاء لها بعد موتها. وأنشئت الأكاديميات في شفينفورت (1652)، وألتدورف (1672)، وأوبسالا (1710)، وفي 1700، وبعد ثلاثين سنة قضاها ليبنتز في الإلحاح، خرجت أكاديمية برلين إلى النور، كذلك يرجع الفضل إلى ليبنتز في إنشاء أكاديمية سانت بطرسبورج (1724).
وتطورت "أكاديمية العلوم" في فرنسا من اجتماعات (1631 - 38) مرسين، وروبرفال، وديزارج، وغيرهم من العلماء في بيت والد بسكال في باريس، أو في صومعة مرسين. وقد صاغت برنامجاً "للعمل على تحسين علوم الآداب، والبحث عموماً عن كل ما يمكن أن يجلب المنفعة أو الراحة للنوع الإنساني"، كذلك قررت أن "تحرر العالم من كل الأخطاء الشائعة التي انطلى زيفها على الناس منذ زمن طويل" ولكنها نصحت أعضاءها بأن يجتنبوا الخوض في الدين أو السياسة (2). وفي 1666 ظفرت الأكاديمية بمرسوم ملكي، وبحجرة في المكتبة الملكية، وفي فرساي ترى إلى اليوم لوحة كبيرة بريشة تيستيلان يقدم فيها لويس الرابع عشر هذا المرسوم لجماعة يرأسها كرستيان هويجنز وكلود بيرو. وكان كل عضو من أعضائها الواحد والعشرين يتلقى من الحكومة راتباً سنوياً، فضلاً عن مبلغ يغطي النفقات، وقد أصبحت الأكاديمية من الناحية الفعلية مصلحة من مصالح الدولة. وكان لويس يخص الفلكيين بعطفه. فدعا كاسيني من إيطاليا، ورويمير من الدنمرك، وهويجنز من هولندا، وشاد مرصداً فخماً. وحين التهمت النيران المكتبة الثمينة التي يقتنيها هيفيليوس الدانزجي، والذي تفرد بدراساته للقمر، نفحه الملك بعطاء سخي ليعوض خسارته (3). وقد نسب لابلاس الفضل للأكاديمية في معظم ما أحرزت فرنسا من تقدم علمي، ولكن اعتمادها على ملك وثيق التحالف مع الكنيسة كان ضاراً بتقدم العلم الفرنسي (4)، بينما مضي الإنجليز في هذا الطريق قدماً.
ومن سمات إنجلترا أن أكاديمياتها العلمية كانت مؤسسات أهلية لا تدين للحكومة إلا بفضل عارض، يقول جون واليس أنه حوالي عام
1645، تعرف في لندن إلى "نفر من فضلاء القوم، المحبين للاستطلاع في الفلسفة الطبيعية وغيرها من فروع العلم الإنساني، لا سيما
…
الفلسفة التجريبية (5)". واتفقوا على الاجتماع مرة كل أسبوع لمناقشة الرياضة، والفلك، والمغنطيسية، والملاحة، والفيزياء، والميكانيكا، والكيمياء، والدورة الدموية، وغير ذلك من الموضوعات. وقد استوحت هذه "الكلية غير المنظورة"-كما كانت تسمى آنئذ-"بيت سليمان" الواردة في كتاب بيكون "آطلانطيس الجديدة" فلما انتقل واليس إلى أكسفورد أستاذاً للرياضة، انقسمت الجمعية قسمين، يجتمع أحدهما في مسكن روبرت بويل بالجامعة، والآخر في كلية جريشام بلندن، وكان رون وايفلين من أول الأعضاء هناك. وقطع هذه الاجتماعات اللندنية ما وقع من اضطراب سياسي بين موت كرمويل وعودة الملكية، ولكن سرعان ما استؤنفت عقب تولي تشارلز الثاني العرش، وفي 15 يوليو 1662 منح الملك "جمعية لندن الملكية لترقية المعرفة الطبيعية" براءة رسمية. وكان "الزملاء الأصليون" البالغ عددهم ثمانية وتسعين لا يشملون علماء من أمثال بويل وهوك فحسب، بل شعراء كدرايدن ووالر، ورن المعماري، وايفلين، وأربعة عشر نبيلاً، وعدة أساقفة. وفيما بين عامي 1663 و1686 ضم إليها نحو ثلاثمائة زميل إضافي. ولم يكن هناك فوارق طبقية تقسمهم، فكان الأدواق والعامة سواسية في هذا المشروع، وأعفى الأعضاء الفقراء من رسوم العضوية (6). وفي 1673 صرح ليبنتز، الذي سمح له بالعضوية، بأن الجمعية الملكية أعظم الهيئات الفكرية احتراماً في أوربا. وفي تاريخ باكر (1667) نشر توماس سبرات كتابه الممتاز "تاريخ الجمعية الملكية" وقد تأثر هو أيضاً، بالأنسام البيكونية التي كانت تهب على إنجلترا، وذلك برغم ترقيته أسقفاً لروتشستر.
وشكا بعض اللاهوتيين من أن المعهد الجديد سيقوض الاحترام للجامعات والكنيسة الرسمية، ولكن اعتدال الجمعية وحذرها لم يلبثا أن هدءاً من معرضة رجال الكنيسة وروحت تجاربها الغريبة عن الحاشية والملك، الذي ضحك حين سمع أنها تزن الهواء وتفكر في الطيران الميكانيكي. وقد هجاها سويفت في قصة "رحلات جليفرز" وسماها أكاديمية لاجادو العظمى، وجعل أعضاءها يضعون الخطط لاستنباط
ضوء الشمس من الخيار، ولبناء البيوت ابتداء من الأسقف فما فوق، وذكر صموئيل بطلر، مؤلف "هوديبراس" كيف أن نادياً من العلماء هاج وماج لاكتشافه فيلاً في القمر، ثم تبين أنه فأر في تلسكوبهم (8). ولكن رعاية الجمعية الملكية هي صاحبة الفضل في تحسين ايفلين للزراعة الإنجليزية، وإرساء السير وليم بتي علم الإحصاء، وتقدم العلم والطب الإنجليزيين بخطى تجاوزت كل ما عرف في فرنسا أو ألمانيا المعاصرتين، وإنشاء علم الكيمياء تقريباً، وإحداث راي ثورة في علم النبات، وودوارد في الجيولوجيا، ونيوتين في الفلك. وأجرت الجمعية آلاف التجارب في الكيمياء والفيزياء، وكانت تتسلم جثث المجرمين الذين أعدموا وتشرحها وتدرسها، وأصبحت مستودعاً للتقارير الطبية تتلقاها من الأطباء في جميع أرجاء البلاد، وجمعت تقارير التطورات التكنولوجية، وكانت على صلة بالبحث العلمي في خارج إنجلترا. وسفه تأكيدها على العمليات الطبيعية والناموس الطبيعي الخرافة واضطهاد السحر.
وفي عام 1665 بدأ سكرتيرها هنري أولدنبرج إصدار مجلة "الأعمال الفلسفية للجمعية الملكية" التي استمرت إلى يومنا هذا. وقد طلبت وتلقت المقالات من خارج البلاد. وكانت من أوائل طابعي اكتشافات مالبيحي وليوفنهويك. أما أولدنبرج هذا فقد وفد على إنجلترا في 1653 ليفاوض في إبرام معاهدة تجارية لوطنه بريمن، فبقي بها، وأصبح صديقاً لملتن، وهوبز، ونيوتين، وبويل، وراسل بنشاط العلماء والفلاسفة في جميع أنحاء العالم. وقال أن أعضاء الجمعية الملكية "يمتحنون الكون كله (9) "، وكتب لسبينوزا يقول:
"إننا على ثقة من أن أشكال الأشياء وصفاتها يمكن تعليلها أفضل تعليل بأصول الميكانيكا، وأن كل آثار الطبيعة تحدثها الحركة والشكل، والنسيج، والارتباطات المختلفة لهذه كلها، وأنه لا حاجة بنا لأن نلجأ إلى الأشكال التي لا تفسير لها أو الصفحات السحرية ملاذاً من الجهل (10) ".
وبفضل هذه "الأعمال الفلسفية" الإنجليزية و"مجلة العلماء" الفرنسية، و"الجورنالي دي لتيراتي" الإيطالية،
و"الأكتا ايروديتورم" الألمانية استطاع العلماء والدارسون الأوربيون أن يتغلبوا على الحدود القومية، ويكونوا على اتصال بأعمال بعضهم البعض وكشوفهم، ويؤلفوا جيشاً متحداً يزحف في مغامرة خلاقة هائلة. وكانوا وهم عاكفون بمنأى عن الأنظار في مكاتبهم، ومختبراتهم، وبعثاتهم، متجاهلين أو منتصرين على جلبة السياسة، وزحف الجيوش، وطنين العقائد الدينية، وضباب الخرافة، وعملاء الرقابة المدنية أو الكنسية المتطفلين-كانوا وسط هذا كله يكبون على النصوص، وأنابيب الاختبار، والمكرسكوبات، ويخلطون المواد الكيميائية في فضول، ويقيسون القوى والأحجام، ويضعون المعادلات والرسوم البيانية، ويتفحصون أسرار الخلية، وينبشون طبقات الأرض، ويرسمون حركات النجوم، حتى بدت حركات المادة وكأنها تنتظم في قانون، وبدت ضخامة الكون الهائلة وكأنها تتمثل للذهن البشري المذهل. ففي فرنسا كان فيرما، وبسكال، وروبرفال، وماريوت، وبيرو، وفروع بأكملها من آل كاسيني وفي سويسرا كان آل برنويي، وفي ألمانيا كان جويريكي، وليبنتز، وتشرنهاوس، وفارنهايت، وفي هولندا كان هويجنز وليوفنهويك، وفي إيطاليا كان فيفياني وتورب تشيللي، وفي الدنمرك كان ستينو، وفي إسكتلندة كان جيمس وديفد جريجوري، وفي إنجلترا كان واليس، ولستر، وبويل، وهوك، وفلامستيد، وهالي، ونيوتن: هؤلاء كلهم وغيرهم كثيرون، كانوا في هذه الحقبة القصيرة من تاريخ أوربا من 1648 إلى 1715، يكدون فرادي وجماعات منعزلين ومتعاونين، ليبنوا يوماً فيوماً، وليلة فليلة، صرح الرياضة، والفلك، والجيولوجيا، والجغرافيا، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والتشريح، والفسيولوجيا-هذه العلوم التي قدر لها أن تحدث ثورة مصيرية في النفس الحديثة، أما أولدنبرج، الذي أحس دولية العلم هذه، ولم يخطر بباله قط أن القومية قد تجعل العلم نفسه أداة حزبية ومدمرة، فقد رأى في هذا التعاون الملهم بشيراً بحياة أفضل. وكتب لهويجنز يقول "أرجو أن يأتي الوقت الذي تتعانق فيه كل الأمم، حتى المتخلفة في الحضارة، عناق الرفاق الأعزاء، وأن تتضافر قواها الفكرية والمادية لإقصاء الجهل، وتغليب الفلسفة الصحيحة النافعة (11) ". وما زال هذا رجاء العالم إلى اليوم.
2 - الرياضيات
بدأت الدولية الجديدة بشحذ أدواتها. فطور بسكال وهوك وجويريكي البارومتر، واستطلعت مضخة جويريكي الهوائية إمكان إحداث الفراغ، وصنع جريجوري ونيوتن وغيرهما تلسكوبات أفضل من تلسكوبات كبلر وجليليو، واخترع نيوتن آلة السدس، وحسن هوك الميكروسكوب المركب، الذي أحدث انقلاباً في دراسة الخلية، وأصبح الترمومتر أوثق وأدق على يد جويريكي وأمونتونز، وفي عام 1714 أعطاه فارنهايت شكله الإنجليزي-الأمريكي باستخدامه الزئبق بدلاً من الكحول وسيطاً متمدداً، وقسم مقياسه عند الصفر، و32 درجة و96 درجة (التي افترض أنها حرارة جسم الإنسان الطبيعية).
أما أعظم الأدوات قاطبة فكانت الرياضيات، لأنها أضفت على التجربة شكلاً كمياً ومعياراً، ومكنتها بمئات الطرق من التنبؤ بالمستقبل بل السيطرة عليه. قال بويل "إن الطبيعة تلعب دور الرياضي" وضاف ليبنتز "أن العلم الطبيعي ليس إلا الرياضة التطبيقية (12) ". ويشيد مؤرخو الرياضيات بالقرن السابع عشر لأنه كان وافر الثمر في ميدانهم على الأخص، فهو قرن ديكارت، ونابيير، وكافالييري، وفيرما، وبسكال، ونيوتن، وليبنتز، وديزارج. وكانت السيدات المعطرات بالنبالة يختلفن إلى محاضرات الرياضة، وقالت "صحيفة العلماء" مازحة أن بعضهن جعلن تربيع الدائرة الجواز الوحيد لرضائهن (13)، ولعل هذا أن يفسر جهود هوبز الملحة في حل تلك المعضلة المحيرة.
وأنجب بيير دفيرما النظرية الحديثة للأعداد (دراسة أنواعها، وخصائصها، وعلاقاتها) وتخيل الهندسة التحليلية مستقلاً عن ديكارت-وربما قبله، واخترع حساب الاحتمالات مستقلاً عن بسكال، وسبق نيوتن وليبنتز إلى حساب التفاضل. ومع ذلك عاش مغموراً بعض الشيء في عضويته ببرلمان تولوز، ولم يدل بإسهاماته في الرياضة إلا في خطابات لأصدقائه-لم تنشر إلا سنة 1679، بعد موته بأربعة عشر عاماً. وفي أحد هذه الخطابات نستشف انتشاءه
بالرياضة. "لقد عثرت على عدد كبير جداً من النظريات الجميلة جداً (14) " وكان يطرب لكل حيلة جديدة أو انتظام مدهش في الأعداد. وقد تحدى رياضي العالم "أن يقسموا المكعب إلى مكعبين، وربع القوة إلى ربعي القوة"، الخ، وكتب يقول "لقد اكتشفت برهاناً عجيباً حقاً لما يعرف الآن بـ "آخر نظريات فيرما"، ولكن لا برهانه ولا أي برهان قاطع عليها قد وجد إلى الآن. وفي عام 1908 أوصى أستاذ ألماني بمائة ألف مارك لأول شخص يبرهن على فرض فيرما، ولم يطالب أحد إلى الآن بالجائزة، وربما ثبط همته هبوط قيمة المارك.
وكان كرستيان هويجنز أبرز علماء هذا العصر، باستثناء عالم واحد فقط، فكان التالي مباشرة لنيوتن. وكان أبوه قسطنطين هويجنز من ألمع شعراء هولندا وساستها. ولد كرستيان في 1629، وبدأ في الثانية والعشرين نشر الأبحاث الرياضية. وما لبثت كشوفه في الفلك والفيزياء أن أذاعت شهرته في أوربا، فانتخب زميلاً للجمعية الملكية بلندن في 1663، وفي 1665 دعاه كولبير للانضمام إلى أكاديمية العلوم بباريس، فانتقل إلى العاصمة الفرنسية، وتلقى معاشاً سخياً، ومكث بها حتى 1681، ثم عاد إلى هولندة لضيقه بالحياة في ظل ملك تحول مضطهداً للبروتستنت. وكان تراسله بست لغات مع ديكارت، وروبرفال، وميرسين، وبسكال، ونيوتن، وبويل، وكثير غيرهم، دليلاً على الوحدة المتزايدة التي تربط الأخوة العلمية. قال "إن العالم وطني، والنهوض بالعلم الديني (15) ". ومن عجائب زمانه عقله السليم في جسمه السقيم-فقد كان جسمه عليلاً أبداً، وعقله خلاقاً حتى موته في السادسة والستين. وكان إنتاجه في الرياضة أقل جزء في إنجازاته، ومع ذلك فإن الهندسة، واللوغارتيمات، وحساب التفاضل والتكامل-كلها أفادت من جهوده. وفي 1673 أثبت "قانون المربعات العكسية"(أي أن جذب الأجسام بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها) وهو القانون الذي أصبح بالغ الأهمية لفلك نيوتن.
وكان نيوتن الآن بالطبع أسطع نجم تكبد سماء العلم البريطاني، وهو جدير بأن نفرد له فصلاً خاصاً، ولكن كان لنجمه أقمار توابع.
ومنهم صديقه جون واليس، القسيس الأنجليكاني، الذي أصبح أستاذاً "سافيلياً" للهندسة في أكسفورد عام 1649 وهو في الثالثة والثلاثين، وشغل ذلك الكرسي أربعة وخمسين عاماً. وقد صرف النحو والمنطق واللاهوت قلمه عن العلم، ومع ذلك فإنه كتب بحوثاً ذات أثر في الرياضة والميكانيكا، والسمعيات والفلك، والمد والجزر، والنبات والفسيولوجيا، والجيولوجيا، والموسيقى، ولم يعوزه سوى بعض الحب والحرب لتكتمل شخصيته. ورسالته "في تاريخ الجبر وممارسته"(1673) لم تسهم بأفكار أصيلة في ذلك العلم فحسب، بل كانت أول محاولة جدية في إنجلترا لكتابة تاريخ الرياضة. وقد ابتهج معاصروه بالجدل الطويل بينه وبين هوبز حول حساب تربيع الدائرة، وانتصر واليس، ولكن الفيلسوف العجوز واصل الكفاح إلى نهاية سنيه الواحدة والتسعين. ويذكر التاريخ واليس على الأخص بكتابه "حساب اللانهائيات"(1655) الذي طبق طريقة كافالييري في اللامنقسمات على حساب تربيع المنحنيات، وبهذا مهد لحساب التفاضل المتناهي الصغر.
أما كلمة calculus فكانت تعني أصلاً أجراً صغيراً استعمله الرومان القدامى في العد، ولكن لا يستطيع تعريف حساب التفاضل على وجه الصحيح الآن غير الراسخين فيه
(1)
. وقد لمحه أرخميدس من بعيد، واقترب منه كبلر، واكتشفه فيرما ولكنه لم ينشر كشوفه، وحمل كافالييري وتوريتشيللي في إيطاليا، وبسكال وروبرفال في فرنسا، وجون واليس وإسحاق بارو في إنجلترا، وجيمس وديفد جريجوري في
(1)
أما بالنسبة لنا نحن غير الخبيرين به، فيمكن وصفه بأنه حساب المقادير القابلة للتغير، كمقادير الوزن، أو المسافة، الزمن، فمنسوب الماء الذي يسكب بسرعة متماثلة في مخروط مقلوب يرتفع بسرعة أقل فأقل، وحساب التفاصيل يحدد مبلغ ارتفاع المنسوب في أي وحدة زمنية معلومة. فالجسم الساقط في "وسط خال من المقاومة" يزيد من سرعة سقوطه مع كل زيادة في الزمن، وحساب التفاضل بين مدى سقوطه في أي فترة معينة. وأشكال هذا الحساب الأكثر تعقيداً تتناول إنشاء المماسات للمنحنيات، والمساحات المحاطة بمنحني، وتقريب الخطوط المستقيمة المضاعفة لا نهائياً إلى الدائرة. وحساب التفاضل المتناهي الصغر بحسب مقداراً قابلاً للتغير باختزاله دون حد إلى جزء دقيق جداً بحيث يمكن إهمال معدل التغير. وحساب التكامل يحسب مقداراً ما من واقع العلم بسرعة تغييره. وقد تبين أن جميع طرق الحساب هذه بالغة الفائدة للأعمال الهندسية.
إسكتلندة-هؤلاء كلهم حملوا لبنات للبناء في تعاون القارة المدهش هذا. وأوصل نيوتن وليبنتز العمل إلى التمام.
واقترح لفظة calculus على ليبنتز رجل يدعى يوهان برنويي أحد أفراد أسرة تفردت بوراثة النبوغ الاجتماعية تفرد آل باخ، وبروجل وكوبرين. وكان نيقولاوس برنويي (1623 - 1708) كأسلافه تاجراً. وارتقى الحساب التجاري عند ولده يعقوب برنويي الأول (1654 - 1705) إلى أشكال أرقى من الحساب. واتخذ يعقوب هذا شعاراً له القول المأثور "أنني أدرس النجوم مخالفاً إرادة أبي"، فهو الفلك، وأسهم في الهندسة التحليلية، وحسن حساب التغييرات، وأصبح أستاذاً للرياضيين في جامعة بازل. وقد آتت دراساته للمنحنيات الكتينية (وهي المنحنيات التي ترسم بسلسلة منتظمة معلقة بين نقطتين) -هذه الدراسات آتت أكلها في فترة لاحقة في تصميم الكباري المعلقة وخطوط النقل العالية الفولت. واتخذ أخوه يوهان (1667، 1748) الطب مهنته-مخالفاً خطط أبيه هو أيضاً-ثم الرياضة، وخلف يعقوب أستاذاً في بازل، وأسهم في الفيزياء، والبصريات، والكيمياء والفلك، ونظرية المد والجزر، ورياضة القلوع، وابتكر حساب التفاضل الأسي، وأنشأ أول نظام لحساب التكامل، وأدخل استعمال كلمة integral بهذا المعنى. ونال أخ آخر لهما يدعى نيقولاوس الأول (1662 - 1716) درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بعد في السادسة عشرة، وفي القانون وهو في العشرين، ودرس القانون في برن والرياضة في سانت بطرسبورج. وسنلتقي بستة رياضيين آخرين من آل برنويي في القرن الثامن عشر، وكان منهم اثنان آخران في القرن التاسع عشر، وهنا كفت البطاريات البرنويية من عملها.
ومن مآثر هذا العصر إرساء الإحصاء علماً أو ما يشبه العلم. ذلك أن خردجيا يدعى جرونت كان يتسلى بجمع سجلات الدفن المحفوظة بأبرشيات لندن ودراستها. وكانت هذه السجلات تذكر عادة السبب المتناقل لموت الميت، مثل "مات جوعاً في الشارع" و "أعدم وعصر حتى الموت" و "داء الملك"(الخنازيري) و "مات جوعاً عند مرضعته" و "قتلوا أنفسهم (16) " وفي 1662 نشر جرونت كتاباً سماه "ملاحظات طبيعية وسياسية
…
على سجلات الوفيات"،
والكتاب بداية علم الإحصاء الحديث، وقد خلص من جداوله إلى أن ستة وثلاثين في المائة من الأطفال يموتون قبل بلوغهم السادسة، وأربعة وعشرين في المائة في العشر السنوات التالية، وخمسة عشر في المائة في العشر التالية. الخ (17)، وتبدو نسبة الوفيات في الأطفال مغالى فيها كثيراً هنا، ولكنها تومئ إلى جهد الحب في ملاحقة ملاك الموت. قال جرونت "من الوفيات العديدة ما يحمل نسبة ثابتة إلى جملة المدفونين، وأعني الوفاة بالأمراض المزمنة، والأمراض التي يعظم تعرض المدينة لها، كالسل، والاستسقاء، واليرقان، الخ (18) "، ومعنى هذا أن أمراضاً معينة، وظواهر اجتماعية أخرى، وإن تعذر التنبؤ بها في الأفراد، إلا أنها يمكن حسابها مسبقاً بدقة نسبية في الجماعات الكبيرة وهذا المبدأ الذي صاغه جرونت هنا أصح أساساً للتنبؤ الإحصائي. وقد لاحظ أن وقائع الدفن في لندن في سنوات كثيرة فاقت وقائع العماد، وانتهى إلى أن لندن تتميز بوفرة احتمالات الموت، كالموت من هموم العمل، و "الدخان، والروائح العفنة، والهواء الفاسد" و "الإفراط في الطعام" ولكن بما أن سكان لندن كانوا يتزايدون رغم هذا، فإن جرونت عزا الزيادة إلى وفود المهاجرين من الريف والمدن الصغيرة-وقدر سكان العاصمة في عام 1662 بنحو 384. 000 نسمة.
وطبق السر وليم بتي، صديق جرونت، الإحصاء على السياسة. وهنا أيضاً مثال آخر على تعدد في القدرات يستحيل العثور عليه اليوم في فرد واحد، فإن بتي بعد أن تلقى العلم في كان، وأوترخت، وليدن، وأمستردام، وباريس، درس التشريح في أكسفورد، والموسيقى في كلية جريشام بلندن، وجمع ثروة ونال لقب الفروسية باشتغاله طبيباً للجيش الملكي بإيرلندة
(1)
. وفي 1676 ألف كتاباً هو العمدة الثاني في علم الإحصاء الإنجليزي، وهو "الحساب السياسي" فالسياسة في رأي بتي لا يمكن أن تصبح علماً أو كالعلم إلا إذا بنت استنتاجاتها على قياسات كمية. لذلك طالب بتعداد دوري يسجل الميلاد، والجنس، والحالة
(1)
يقول أوبري أنه في أسكفورد "كان يحتفظ بالجثة .. مخللة أو مملحة" وكانت إحدى الجثث التي جيء بها إليه لتشريحها جثة نان جرين، التي قتلت ابنها غير الشرعي، ووجدها بتي لا تزال تتنفس، وردها إلى الحياة ثانية (19).
الزوجية، والألقاب، والمهنة، والدين، الخ. لكل شخص يسكن إنجلترا. واعتماداً على قوائم الوفيات، وعدد البيوت، وزيادة المواليد على الوفيات سنوياً، قدر أن سكان لندن في 1682 يبلغون 696. 000، وسكان باريس 488. 000، وسكان أمستردام 187. 000، وسكان روما 125. 000. ورأى بتي ما رأى جوفاني بوتيرو في 1589 وتوماس مالثوس في 1798، وهو أن عدد السكان ينحو إلى الزيادة بأسرع من موارد الرزق، وأن هذا يفضي إلى أن الحرب، وأنه لن تحل سنة 3682 حتى تكتظ الأرض الصالحة للسكنى بأهلها اكتظاظاً خطراً، إذ يعيش شخص في كل فدانين (20).
وأفادت شركات التأمين من الإحصاء فحولت عملها فناً وعلماً أخذاً في حسابهما كل شيء إلا التضخم. ومن واقع تقارير الوفيات في برسلاو أعد أدموند هالي (1693) جدولاً بالوفيات المتوقعة في جميع الأعمار من عمر سنة إلى أربع وثمانين، وعلى أساس الجدول حسب احتمالات وفاة الأفراد في سن معينة خلال السنة الشمسية، واستخرج السعر المنطقي لبوليصة التأمين. وانتفعت أولى شركات التأمين على الحياة التي أسست بلندن في القرن الثامن عشر بجداول هالي، وأحالت الرياضة ذهباً.
3 - الفلك
أخضعت النجوم للعلم في عشرات الأقطار. ففي إيطاليا اكتشف الفلكي اليسوعي ريتشولي (1650) أول نجم مزدوج-أي نجم يبدو للعين المجردة واحداً ولكنه يرى بالتلسكوب نجمين واضح أنهما يدوران الواحد حول الآخر. وفي دنزج بني يوهان هيفيليوس مرصداً في بيته، وصنع آلاته الخاصة، وصنف 1. 564 نجماً، واكتشف أربعة مذنبات، ورصد مرور المشتري، ولاحظ ترجحات القمر، (وهي التناوبات الدورية في رؤية أجزائه)، ورسم سطحه، وسمى عدداً من تضاريسه بأسماء ما زالت تظهر على خرائط القمر إلى رومنا هذا. فلما أذاع على راصدي النجوم في أوربا أن في استطاعته تمييز مواقع النجوم باستعمال "ديوبتر"(رصد يستعمل عدسة واحدة أو منشوراً واحداً) بنفس الدقة التي يميز بها هذه المواقع باستعمال تلسكوب مركب، تحدى روبرت هوك
دعواه هذه، وسافر هالي من لندن إلى دنزج ليحقق الأمر، ثم قرر أن هيفيليوس صادق (21).
ووفر لويس الرابع عشر المال لبناء وتجهيز مرصد في باريس (1667 - 72) بعد أن تبين أهمية الفلك للملاحة. ومن ذلك المركز قاد جان بيكار البعثات أو أرسلها لدراسة السماء من نقط مختلفة على الأرض. وذهب إلى أورانيبورج ليلاحظ الموقع المضبوط الذي رسم منه تيكو براهي خريطته المشهورة للنجوم، واستطاع بمختلف الرصود التي امتدت من باريس إلى أميان أن يقيس درجة طولية بدقة عظيمة (لا تختلف إلا بضع ياردات على الرقم الحالي وهو 69. 5 ميلاً) حتى أنه من المعتقد أن نيوتن استخدم نتائج بيكار ليقدر كتلة الأرض ويتحقق من نظرية الجاذبية. وبأرصاد مماثلة حسب بيكار القطر الاستوائي للأرض فكان 7. 801 ميلاً-وهو تقدير غير بعيد من تقديرنا الحالي وهو 7. 913 (22). وقد يسرت هذه الكشوف للمراكب في عرض البحر أن تحدد مواقعها بدقة لم يسبق لها نظير. وهكذا حفز توسع أوربا التجاري وتطورها الصناعي الثورة العلمية وانتفعا بها.
وعملاً باقتراح من بيكار دعا لويس الرابع عشر إلى فرنسا الفلكي الإيطالي جوفاني دومنيكو كاسيني، الذي ذاع صيته في أوربا بفضل اكتشافه شكل المشتري الكرواني، ودوران المشتري والمريخ الدوري. فلما وصل إلى باريس (1669) استقبله الملك كأنه أمير من أمراء العلم (23). وفي 1672 أوفد، هو وبيكار، جان ريشيه إلى كايين بأمريكا الجنوبية ليرصد المريخ في أقصى "مواجهة" له مع الشمس وقرب من الأرض، ورصد كاسيني نفس المواجهة من باريس. وقد أعطت المقارنة بين هذين الرصدين الآتيين من نقطتين منفصلتين قيماً جديدة وأكثر دقة لاختلاف منظر المريخ والشمس وبعدهما عن الأرض، وكشفت عن أبعاد في المجموعة الشمسية أعظم مما قدر من قبل. وبما أن الفلكيين تبينوا أن بندولاً في كايين يبطئ عن نظيره في باريس، فقد انتهوا إلى أن الجاذبية قرب الاستواء أخف منها في العروض العليا، وأوحى هذا بأن الأرض ليست دائرة كاملة، ورأى كاسيني أنها تفلطحت عند خط الاستواء، ورأى نيوتن أنها تفلطحت عند القطبين، وأيد المزيد من البحث رأى نيوتن، واكتشف كاسيني أثناء ذلك أربعة أقمار
جديدة لزحل (ساتورن)، وانقسام حلقة زحل إلى قسمين (وهو الانقسام الذي يطلق عليه اسم كاسيني الآن). وبعد موته عام 1712 خلفه في مرصد باريس ابنه جاك، الذي قاس قوس الزوال كمن دنكرك إلى بربنيان، ونشر أول جداول لأقمار زحل.
وقد أسهم كرستيان هويجنز في لهاي إسهامات هامة في الفلك قبل أن ينضم إلى فريق العلماء العالمي في باريس. فوفق هو وأخوه قسطنطين إلى طريقة جديدة لشحذ العدسات وصقلها، واستعان بها في تركيب تلسكوبات أقوى وأصفى من أي تلسكوبات عرفت من قبل، وبفضلها اكتشف (1655) القمر السادس لزحل، وحلقة هذا الكوكب الغامضة. وبعد عام قام بأول تحديد للمنطقة اللامعة (التي تحمل اسمه الآن (في سديم أوريون وكشف عن الطابع المتعدد لنجمه النووي.
أما أعظم منافس لفلكيي باريس فهو الفريق الممتاز تجمع أكثره حول هالي ونيوتن في إنجلترا. وقد قدم جيمس جريجوري الأدنبري المعونة من بعيد بتصميمه أول تلسكوب عاكس (1663) -أي التلسكوب الذي تركز فيه أشعة الضوء المنبعثة من الجسم بوساطة مرآة منحنية بدلاً من العدسة، وقد حسنه نيوتن في 1668. وفي 1675 وجه جول فلامستيد وآخرون إلى تشارلز الثاني مذكرة يلتمسون فيها تمويل بناء مرصد قومي، حتى تهتدي السفن الإنجليزية التي تمخر عباب البحر بطرق أفضل لحساب خطوط الطول. ودبر الملك المال للبناء، الذي شيد في بلدة جرينيتش قرب القسم الجنوبي الشرقي من لندن، واستعمل هذا نقطة لطول الصفر والزمن القياسي. وقدم تشارلز لفلامستيد راتباً صغيراً على عمله مديراً، ولكنه لم يقدم مالاً تدفع منه رواتب مساعديه أو ثمن الآلات، أما فلامستيد، الهزيل العليل، فقد بذل حياته لذلك المرصد. فقبل تلاميذ يعلمهم، واشترى الآلات من جيبه الخاص، وتلقى المال هدية من أصدقائه، وعكف في صبر على رسم الخرائط للسماء كما ترى من جرينيتش. وقبل أن يموت (1719) كان قد أتم أوسع وأدق قائمة نجوم عرفت من قبل، وقد أدخلت تحسينات كثيرة على القائمة التي تركها تيكوبراهي لكبلر في 1601. وكان فلامستيد يشقى بالافتقار إلى المساعدين، ويضطر للقيام
نفسه بأعداد الأوراق التي تترك عادة للمساعدين، فأغضب هالي ونيوتن بتعطيله حساب نتائجه وإذاعتها، وأخيراً نشرها هالي دون إذن من فلامستيد، فثار الفلكي العليل ثورة عارمة هزت النجوم في أفلاكها.
ومع ذلك فإن أدموند هالي كان أعظم أفراد الفريق تهذيباً. كان تلميذاً متحمساً لدراسة السماء، فنشر في العشرين بحثاً عن أفلاك الكواكب، وفي تلك السنة (1676) خرج في رحلة ليتبين كيف تبدو السماء من نصف الكرة الجنوبي. ومن جزيرة القديسة هيلانة رسم خرائط تبين مسلك 341 نجماً. وعشية عيد ميلاده الحادي والعشرين قام بأول رصد كامل لعبور عطارد. فلما عاد إلى إنجلترا انتخب زميلاً بالكلية الملكية وهو لم يجاوز الثانية والعشرين. وقد تبين عبقرية نيوتن، ومول الطبعة الأولى من كتابه "المبادئ" الغالي النفقة، وقد له بتقريظ في شعر لاتيني رائع آخره بيت يقول "غير مسموح بأي بشر فان بأن يقترب من الآلهة"(24). وحقق هالي النص اليوناني لكتاب أبللونيوس البرجاوي "المخاريط"، وتعلم العربية ليترجم الأحداث اليونانية المخطوطة في العربية دون سواها.
وقد سجل اسمه في قبة السماء بنبوءة من أنجح النبوءات في التاريخ. وكان بوريللي قد مهد لها الطريق باكتشافه الشكل القطعي المكافئ لمسالك المذنبات (1665). فلما ظهر مذنب في 1682 وجد هالي في مسلكه نظائر مع مذنبات سجلت في 1456، و1531، و1607، وقد لاحظ أن هذا الظهور حدث في فترات من نحو خمسة وسبعين عاماً، وتنبأ بظهور آخر في 1758. ولم يفسح له في الأجل ليرى تحقيق نبوءته، ولكن حين عاد المذنب إلى الظهور أطلق عليه اسمه، وأضاف إلى مكانة العلم المتزايدة. وكان الرأي في المذنبات حتى أخريات القرن السابع عشر أنها من فعل الله مباشرة، وإنذار للنوع الإنساني بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن مقالات بيل وفونتنيل، ونبوءة هالي، قضت على هذه الخرافة. وطابق هالي بين مذنب آخر شوهد في 1680 ومذنب شوهد في السنة التي مات فيها المسيح، وتتبع تكرار ظهوره كل 575 سنة، ومن هذا الانتظام الدوري حسب
فلكه وسرعته حول الشمس. وتعقيباً على هذه الحسابات، خلص نيوتن إلى أن "أجسام المذنبات صلبة، متماسكة، ثابتة، متينة، كأجسام الكواكب" وأنها ليست "أبخرة، أو دخاناً من الأرض، والشمس، والكواكب، وغيرها (25) "
(1)
.
وفي 1691 حيل بين هالي والكرسي السافيلي للفلك بأكسفورد للظن بأنه مادي النزعة (26). وفي 1698، بتكليف من وليم الثالث، أبحر موغلا في الأطلنطي الجنوبي، ودرس اختلافات البوصلة، ورسم خرائط للنجوم كما ترى في القارة القطبية الجنوبية (قال فولتير: إن رحلة ملاحي سفينة جاسون (الأرجونوت، الباحثين عن الفروة الذهبية) إذا قيست بهذه الرحلة لم تكن أكثر من عبور مركب من ضفة نهر إلى أخرى) (27). وفي 1718 قرر هالي أن عدة نجوم من المفروض أنها "ثابتة" قد غيرت مواقعها منذ أيام اليونان، وأن نجماً منها وهو الشعري اليمانية Sirius، قد تغير منذ أيام براهي، وبعد أن أخذ أخطاء الرصد في حسابه، خلص إلى أن النجوم تغير مواقعها بالنسبة لبعضها البعض في فترات كبرى، وهذه "الحركات الخاصة" تقبل الآن على أنها حقيقية. وفي 1721 عين خلفاً لفلامستيد في منصب فلكي الملك، ولكن فلامستيد كان قد مات في فقر مدقع، فاستولى دائنوه على أن آلات رصده، وودد هالي أن عمله يعطل نقص الأجهزة وتناقص نشاطه، ومع ذلك بدأ وهو في الرابعة والستين يرصد ويسجل ظواهر القمر خلال دورته الكاملة ذات الثمانية عشر عاماً. ومات في 1742 وقد بلغ السادسة والثمانين، بعد أن شرب بحكم قدحاً من النبيذ مخالفاً أوامر طبيبه. فالحياة، كالنبيذ سواء بسواء، يجب ألا يسرف في تعاطيها.
(1)
قبيل ذلك كان داريدن في قصته الشعرية "أبشالوم وأخيتوفل"(1681) قد وصف المذنبات بأنها "تنبعث من الأبخرة الأرضية قبل أن تشع في السماوات".
4 - الأرض
كان هالي في ولعه بالعلم قد غامر بالخوض في مجاهل الأرصاد الجوية بمقال (1697) في الرياح التجارية، وخريطة رسمت لأول مرة حركات الهواء. وقد عزا هذه الحركات لفروق في درجات حرارة الجو وضغطه، فالشمس في حركتها الظاهرية إلى الغرب تحمل الحرارة معها، لا سيما على طول مناطق العالم الاستوائية، والهواء الذي تخلخل بفعل هذه الحرارة يجتذب هواء أقل تخلخلاً من الشرق ويحدث الرياح الاستوائية السائدة التي اعتمد عليها كولمبس في إبحاره من الشرق إلى الغرب. وكان فرانسس بيكون قد أومأ إلى تفسير شبيه بهذا. وسيطوره جورج هالي في 1735 بإضافة هذا الرأي وهو أن السرعة الأكبر لدوران الأرض إلى الشرق عند خط الاستواء تحدث تدفقاً عكسياً للهواء نحو الغرب.
وقد جعل تطور البارومتر والترمومتر من الأرصاد الجوية علماً. فبارومتر جويريكي تنبأ تنبؤاً صحيحاً بعاصفة شديدة في 1660. واخترعت "مراطيب" مختلفة في القرن السادس عشر لقياس الرطوبة. واستعملت "الأكاديميا ديل تشيمنتو" إناءً مدرجاً يتلقى الرطوبة المتساقطة من خارج مخروط معدني مملوء بالثلج. ووصل هوك فرشاة حبوب، أو "لحية"-تنتفخ وتنحني مع زيادة الرطوبة في الهواء-بإبرة مؤشرة تتحرك عند انتفاخ الفرشاة. كذلك اخترع هوك مقياساً للريح، وبارومتراً ذا عجلة، وساعة جوية. وهذه الساعة التي صممها بناء على تكليف من الجمعية الملكية (1678) كانت تقيس وتسجل سرعة الريح واتجاهه، وضغط الجو ورطوبته، ودرجة حرارة الهواء، وكمية المطر، وتبين الوقت فوق ذلك. وشرعت المحطات في مختلف المدن، بعد أن سلحت بالآلات المحسنة، تسجل وتقارن بين أرصادها الآنية، كما حدث بين باريس واستوكهولم في 1649. وأرسل الدوق الأكبر فرديناند الثاني أمير توسكانيا، وراعي أكاديمية التشيمنتو، البارومترات، والترمومترات، والمراطيب، إلى راصدين مختارين في باريس، ووارسو، وانزبروك، وغيرها، ومعها تعليمات بتسجيل البيانات الرصدية يومياً، وإرسال نسخة منها إلى فلورنسة
للمقارنة. وأقنع ليبتز المحطات الجوية في هانوفر وكيل بأن تحتفظ بسجلات يومية من 1679 إلى 1714.
أما هوك، الذكي الذي لم يحسم عملاً، فقد فتح عشرات من مسالك البحث المبشرة بالنجاح، ولكن افتقاره إلى المال والصبر أعجزه عن المضي فيها إلى نهايات مشهورة. فنحن نجده في كل مكان في تاريخ العلم البريطاني في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان ابن وزير "مات بتعليق نفسه (28) "، وأرهص بتنوع مواهبه ذلك التنوع المتذبذب، فرسم الصور، وعزف على الأرغن، وابتكر ثلاثين طريقة مختلفة للطيران، وفي أكسفورد انصرف لدراسة الكيمياء، وعمل مساعداً لروبرت بويل. وفي 1662 عين "أميناً للتجارب" في الجمعية الملكية، وفي 1665 كان أستاذاً للهندسة بكلية جريشام، وفي 1666، بعد حريق لندن الكبير، اشتغل بالعمارة وصمم عدة مبان كبيرة-كبيت مونتاجيو، وكلية الأطباء، ومستشفى بيت لحم ("بدلام"). وبعد أطول إكباب على الميكروسكوبات، نشر رائعته "ميكروجرافيا"(1665) الذي احتوى على عدد من الأفكار الموحية في علم الأحياء. وعرض نظرية في الأمواج الضوئية، وساعد نيوتن في البصريات، وكان سباقاً إلى قانون المربعات العكسية ونظرية الجاذبية. وكشف النجم الخامس في أوريون، وقام بأول محاولات ليحدد بالتلسكوب اختلاف منظر نجم ثابت. ثم عرض نظرية حركية للغازات في 1678، ووصف نظاماً للتلغراف في 1684. وكان من أوائل من استعملوا الزنبرك في ضبط الساعات، وأرسى مبدأ آلة السدس لقياس أبعاد الزاوية، وصنع اثنتي عشرة آلة علمية. وأغلب الظن أنه كان أعظم العقول أصالة في كوكبة العباقرة التي جعلت من الجمعية الملكية حيناً محدد الخطوة للعلم الأوربي، ولكن طبيعته المكتئبة العصبية حالت بينه وبين ما كان جديراً به من ثناء ومديح.
وقد كان له حتى في الجيولوجيا لحظة صدق. فقد زعم أن المتحفرات تدل على قدم الأرض والحياة قدماً يتعارض تماماً مع سفر التكوين، وتنبأ بأن تاريخ الحياة على الأرض سيحسب يوماً ما على أساس المتحفرات المختلفة في الطبقات المتعاقبة. وكان أكثر كتاب القرن السابع عشر لا يزالون يقبلون قصة الخلق الكتابية، وكافح
بعضهم للتوفيق بين سفر التكوين وكشف الجيولوجيا المتفرقة. وفي مقال "نحو تاريخ طبيعي للأرض"(1695)، أعاد جون وودوارد، بعد دراسة طويلة لمجموعته الكبيرة من المتحفرات، تفسير ليوناردو دافتشي لها بأنها بقايا نباتات أو حيوانات عاشت يوماً ما على الأرض، ولكنه هو أيضاً ذهب إلى أن توزيع المتحفرات نتيجة لطوفان نوح. ثم اقترح قسيس أنجليكاني يدعى توماس بيرنيت (1680) التوفيق بين سفر التكوين والجيولوجيا بمدة "أيام" أسطورة الخليقة كما وردت في سفر التكوين إلى حقب، وتقبل الناس هذه الحيلة، ولكن حين استجمع توماس أطراف شجاعته وراح يفسر قصة آدم على أنها رمز، وجد نفسه محروماً من الترقية للمناصب الكنسية.
وكان أثناسيوس كيرشر يسوعياً تقياً وعالماً فذاً، وسنراه يلمع في ميادين عديدة. وقد رسم كتابه، عالم ما تحت الأرض " (1665) خرائط لتيارات المحيط، ورأى أن المجاري الباطنية يغذيها البحر، وعزا ثوران البراكين والعيون الساخنة لنيران باطنية، وبدا هذا تأكيداً للاعتقاد الشائع بأن الجحيم في مركز الأرض. أما بيير بيرو (1674) فقد رفض الفكرة القائلة بأن العيون والأنهار لها منابع باطنية، وقال بالرأي المقبول الآن، وهو أنها نتاج الأمطار والثلوج. وعلل مارتن لستر ثوران البراكين بأنه نتيجة سخونة الكبريت في كبريتور الحديد والانفجار المترتب على السخونة، وأظهرت التجربة أن خليطاً من برادة الحديد، والكبريت، والماء، مدفوناً في الأرض، أصبح ساخناً وشقق الأرض من فوقه، ثم تنفجر لهيباً.
أما ألمع العلماء في جيولوجية ذلك العصر فقد عرفته الدنمرك باسم نيلز ستينسن، وعرفته دولية العلم باسم نيقولاوس ستينو. ولد في كوبنهاجن، ودرس الطب فيها وفي ليدن، حيث سلك سبينوزا في زمرة أصدقائه (29). ثم هاجر إلى إيطاليا، واعتنق الكاثوليكية وأصبح طبيب البلاط لفرديناند الثاني في فلورنسة. وفي 1669 نشر مجلداً صغيراً اسمه Desolido intra solidum naturaliter contento عده أحد الطلبة "أهم وثيقة جيولوجية في ذلك القرن (30) " وكان هدفه تأكيد الرأي الجديد في المتحفرات، ولكن على سبيل التمهيد له
وضع ستينو لأول مرة أسساً تشرح تطور القشرة الأرضية. وقد وجد بدراسة جيولوجية توسكانيا ست طبقات متعاقبة. وحلل تركيبها ومحتوياتها، وتكوين الجبال والأودية، وأسباب البراكين والزلازل، وشواهد المتحفرات على مستويات الأنهار والبحار التي كانت أعلى فيما سبق من الأزمنة. وكان في الشهرة التي حظي بها الكتاب، وفي الدراسات التشريحية التي قام بها ستينو، ما حمل الملك كرستيان الرابع على أن يعرض عليه كرسي التشريح في جامعة كوبنهاجن. فقبله، ولكن كاثوليكيته الغيور أحدثت شيئاً من الاحتكاك، فعاد إلى فلورنسة، وانتقل من العلم إلى الدين، واختتم حياته أسقفاً لتيتوبوليس ونائباً رسولياً لشمالي أوربا.
وكانت الجغرافيا خلال ذلك تنمو، عادة بوصفها نتاجاً جانبياً للمشروعات التبشيرية أو العسكرية أو التجارية، وقد أخلص اليسوعيين للعلم إخلاصهم للدين أو السياسة تقريباً، وكان كثير منهم ينتمون إلى جماعات علمية رحبت بتقاريرهم الجغرافية والأثنوغرافية. وقد تغلغلوا في بعثاتهم الدينية في كندا والمكسيك والبرازيل والتبت ومنغوليا والصين وجمعوا وأرسلوا الكثير من المعارف العلمية، ورسموا أفضل الخرائط للمناطق التي زاروها. وفي 1651 نشر مارتينو مارتيني "الأطلس الصيني" وهو أرقى وصف جغرافي للصين طبع إلى ذلك التاريخ، وفي 1667 أصدر أثناسيوس كيرشر كتابه الرائع "الصين المصورة". وأوفد لويس الرابع عشر علماء يسوعيين مزودين بأحدث الآلات لرسم خريطة الصين ثانية، وفي 1718 أصدروا خريطة هائلة في 120 فرخاً تغطي الصين ومنشوريا ومنغوليا والتبت، وقد ظلت مدن قرنين الأساس لكل ما تلاها من خرائط لتلك المناطق. أما أعجوبة العصر الخرائطية فهي الخريطة التي بلغ قطرها أربعة عشرين قدماً، والتي رسمها جوفاني كاسيني ومساعده بالجير على أرضية مرصد باريس (حوالي 1690)، وبينوا عليها بالضبط مواقع جميع الأماكن الهامة على الكرة الأرضية بخطوط العرض والطول (31).
وينتمي لهذه الفترة بعض مشاهير الرحالة. وقد ألمن من قبل
بكتاب تافرنييه "ست رحلات من أوربا لآسيا"(1670) وكتاب شاردان "رحلات في فارس"(1686). كتب تافرنييه يقول "في رحلاتي الست، وأثناء سفري بطرق مختلفة، أتيح لي من الفراغ والفرص ما مكنني من مشاهدة تركيا كلها، وفارس كلها، والهند كلها
…
وفي المرات الثلاث الأخيرة جاوزت نهر الجنج إلى جزيرة جاوة، وهكذا قطعت في أربعين عاماً أكثر من ستين ألف فرسخ بالبر (32) ". أما شاردان فقد سبق بعبارة واحدة "روح قوانين" مونتسكيو. قال: "إن مناخ كل جنس
…
هو دائماً السبب في ميول شعبه وعاداته (33)". وفي 1670 - 71 نشر فرانسوا برنيبه وصفاً لرحلاته ودراساته في الهند، وقد اتهم بأنه نفض عنه مسيحيته في الطريق (34). وغامر وليم دامبييه بالرحلة في عشرات الأقطار والبحار، وكتب "رحلة جديدة حول العالم" (1697) وأعطى إشارة البدء لديفو حين روى كيف قاد في إحدى رحلاته الأخيرة السفينة التي أنقذت ألكسندر سيلكرك من جزيرة لا يسكنها غيره (1709).
ولعبت الجغرافيا دورها في الغض من اللاهوت المسيحي. فكلما تجمعت الأخبار عن القارات الأخرى لم تملك الطبقات الأوربية المتعلمة إلا العجب من اختلاف الأديان على ظهر الأرض، والتشابه بين الخرافات الدينية، ووثوق كل دين من صدق عقيدته، والمستوى الخلقي للمجتمعات الإسلامية أو البوذية، ذلك المستوى الذي أخزى من بعض الوجوه تلك الحروب الدامية وذلك التعصب القتال الذي يشين شعوباً وهبت الإيمان المسيحي. وروى البارون دلاهونتان أنه في رحلته في كندا عام 1683 لقد عنتا من جراء نقد الوطنيين اليهود للمسيحية (35)، واستشهد بيل المرة بعد المرة بعادات الصينيين أو اليابانيين وأفكارهم في نقده المعتقدات وأساليب العيش الأوربية. وأصبحت نسبية الأخلاق من البديهيات في فلسفة القرن الثامن عشر، ووصف أحد الظرفاء أسفار "جاك سيدان" الخنثي، الذي ابتهج حين وجد بلداً كل أهله لوطيون، ينظرون إلى الأوربيين الذين يشتهون الجنس الآخر نظرتهم إلى هولات فاسقة مقززة.
5 - الفيزياء
كان اصطدام الفيزياء والكيمياء بالعقيدة القديمة أقل ظهوراً من اصطدام الجغرافيا والأحياء بها، لأنهما تتناولان الجوامد والسوائل والغازات التي تبدو أنها لا علاقة لها باللاهوت، ولكن تقدم العلم-حتى في ذلك المضمار المادي-كان ينشر حكم القانون ويضعف الإيمان بالمعجزات. واعتمدت دراسة الفيزياء على الحاجات التجارية والصناعية لا على الاهتمامات الفلسفية.
وبعد أن أقنع الملاحون الفلكيين برسم خرائط للسماء بدقة أكثر، عرضوا الآن المكافآت على من يضع ساعة تعين على إيجاد خط الطول رغم اضطرابات البحر. وكان في الإمكان تحديد خط الطول في البحر بمقارنة لحظة شروق الشمس أو الزوال بالزمن الذي تظهره في تلك اللحظة ساعة ضبطت على وقت جرينتش أو باريس، ولكن ما لم تكن الساعة دقيقة فإن الحساب يخطئ خطأً خطراً. وفي 1675 توصل هويجنز إلى صنع ساعة يعتمد عليها بوصل بندول بترس شاكوش مسنن، ولكن ساعة كهذه عديمة النفع في مركب يعلو ويهبط
(1)
. وبعد محاولات كثيرة، ركب هويجنز ساعة بحرية ناجحة بإحلاله محل البندول ترس توازن يديره زنبركان. وكانت الفكرة من بين الاقتراحات المنيرة التي فصلها في كتاب من عيون العلم الحديث "ساعة البندول"، وقد نشره في باريس عام 1673. وبعد ثلاث سنوات اخترع هوك شاكوش الساعات الكبيرة المثبت، واستعمل الزنبرك اللولبي على ترس توازن الساعات، وشرح حركة الزنبرك على أساس مبدأ "كما يكون الشد تكون القوة" وما زال هذا يسمى قانون هوك. وأمكن الآن أن تصنع ساعات الجيب صناعة أكفأ وأرخص من ذي قبل.
وقد درس هويجنز في كتاب "ساعة البندول Horologium
(1)
رسم ليوناردو دافتشي حوالي عام 1500 رسوماً لبندول وشاكوش ساعة ووضع جاليليو بعض قوانين البندول، وتصور فكرة ساعة البندول في 1641، ولكنه مات قبل أن يطبق الفكرة عملياً. وفي 1656 صنع كاميريني ساعة صغيرة ببندول قبل هويجنز ببضعة شهور قط.
وفي كتيب خاص قانون القوة المركزية الطاردة-ومؤداه أن كل جزيء في جسم دائر لا يقع في محور الدوران معرض لقوة طرد مركزية تزداد مع بعده عن المحور ومع سرعة الدوران. وصنع كرة من طفل تدور بسرعة، ووجد أنها تتخذ شكلاً كروانياً مفرطحاً عند طرفي المحور. وعلى مبدأ الطرد المركزي هذا فسر فرطحة المشتري عند قطبيه، وقياساً على ذلك استنتج أن الأرض أيضاً لا بد أن تكون مفرطحة فرطحة طفيفة عند القطبين.
وواصل كتاب هويجنز Tractatus de Motu Corporum ex Percussione (1703) الذي نشر بعد موته بثماني سنوات، الدراسات التي قام بها جاليليو، وديكارت، وواليس في مشكلات التصادم ( impact) التي تناولت أسراراً مثيرة للفضول، من لعب البليارد إلى تصادم النجوم. فكيف تنتقل القوة من جسم متحرك إلى جسم يضربه، ولم يحل هويجنز اللغز، ولكنه قرر مبادئ أساسية:
1 -
إذا كان هناك جسم ساكن وصدمه جسم مساو له، فإن هذا ينتهي إلى السكون بعد الصدمة، في حين يكتسب الجسم الذي كان في البدء ساكناً سرعة الجسم الذي صدمه.
2 -
إذا اصطدم جسمان متساويان بسرعتين مختلفتين، فإنهما يتحركان بعد الصدمة بسرعتين متبادلتين.
11 -
إذا تصادم جسمان فإن مجموع حاصل ضرب الكتلتين في مربعي سرعتيهما واحد قبل الصدمة وبعدها.
وقد عبرت هذه القضايا التي صاغها هويجنز في 1669 تعبيراً جزئياً عن أشمل أساس من أسس الفيزياء الحديثة، وهو عدم فناء الطاقة. على أنها كانت صادقة من الناحية المثالية أو النظرية فقط، لأنها افترضت المرونة التامة في الأجسام. ولما لم يكن في الطبيعة جسم مرن مرونة كاملة، فإن السرعة النسبية للأجسام الصادمة تتناقض حسب المادة التي تتألف منها. وقد حدد نيوتين معدل التناقض هذا في الخشب، والفلين، والصلب، والزجاج، في التعليق التمهيدي للجزء الأول من كتابه "المبادئ"(1687).
وتدفق نهر آخر من أنهار البحث العلمي من التجارب التي أجراها توريتشللي وبسكال على الضغط الجوي، فقد أعلن بسكال في 1647 أن "أي إناء مهما كان كبره، يمكن إفراغه من كل مادة معروفة في الطبيعة ومدركة بالحواس (37) " وقد ظلت الفلسفة الأوربية مئات السنين تعلن أن "الطبيعة تكره الفراغ"، وحتى الآن أخبر أستاذ باريسي بسكال أن الملائكة ذاتها لا تستطيع أن تحدث فراغاً، وقال ديكارت بازدراء أن الفراغ الوحيد الموجود هو في رأس بسكال. ولكن حدث حوالي عام 1650 أن أوتو فون جويريكي ركب في مجدبورج مضخة هوائية أحدثت فراغاً كاملاً تقريباً، حتى لقد أدهش كبار مواطنيه وأقطاب العلم بتجربة شهيرة اسمها "نصفاً كرة مجدبورج"(1654). ففي حضرة الإمبراطور فرديناند الثالث والديت الإمبراطوري في راتزيون قرب محارتين نصف كرويتين من البرونز الواحدة من الأخرى بحيث أحكم ختمها دون أن يوصلاً آلياً عند حافتيهما وضخ كل الهواء تقريباً من داخليهما الملتصقين، ثم أرى الحاضرين أن القوة المجتمعة لستة عشر حصاناً-ثمانية منها تشد في اتجاه، وثمانية في اتجاه مضاد-لا تستطيع فصل نصفي الكرة، ولكن حين فتح بحبس في أحد النصفين فأدخل الهواء، أمكن فصل المحارتين باليد.
وكان جويريكي شغوفاً بتبسيط الفيزياء للأباطرة. فاستطاع بتفريغ كرة نحاسية من الماء والهواء أن يجعلها تسقط بفرقعة عالية مفزعة، وبهذه الطريقة أوضح ضغط الهواء. ووازن بين كرتين متساويتين، وأسقط إحداهما بتفريغه الهواء من الأخرى، وهكذا أثبت أن للهواء وزناً، واعترف بأن كل الفراغات ناقصة، ولكنه أثبت أن في فراغاته الناقصة تلك تنطفئ الشعلة، وتختنق الحيوانات، وتسكت الساعة الدقاقة، وهكذا مهد للكشف عن الأوكسجين، وبين أن الهواء ناقل الصوت. واستعمل امتصاص الفراغ لضخ الماء ورفع الثقال، وأسهم في التمهيد للآلة البخارية. فلما أصبح عمدة مجدبورج آخر نشر كشوفه حتى عام 1672، ولكنه أبلغها لكاسبار شوت أستاذ الفيزياء اليسوعي بفورتزبورج، الذي طبع وصفاً لها في 1657. وهذا المطبوع هو الذي حفز بويل إلى بحوثه التي أفضت إلى قانون الضغط الجوي.
أما روبرت بويل فكان عاملاً هاماً في ازدهار العلم الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر. كان أبوه رتشرد بويل، ايرل كورك، قد أقتني ضيعة كبيرة في إيرلندة، ورث روبرت معظمها وهو في السابعة عشرة (1644)، وفي زياراته المتكررة للندن تعرف إلى واليس، وهوك، ورن، وغيرهم من أعضاء "الكلية غير المنظورة"، فلما افتتن بجهودهم وتطلعاتهم انتقل إلى أكسفورد وبنى بها مختبراً (1654). وكان رجلاً ذا حماسات حارة وورع لا قبل لعلم من العلوم بتدميره. فقد رفض أن يمضي في الاتصال بسبينوزا (عن طريق أولدنبورج) حين علم أن الفيلسوف يعبد "الجوهر" باعتباره الله، ولكنه وضع قدراً كبيراً من ثروته في خدمة العلم وأعان الكثيرين من أصحابه. كان طويلاً، نحيلاً، هزيلاً معتلاً أكثر الوقت، ولكنه أوقف الموت على مبعدة منه بالحمية والتقشف الصارمين، وقد وجد في مختبره "ماء نهر النسيان، ذلك الماء الذي ينسيني كل شيء إلا بهجة إجراء التجارب (38) ".
وبعد أن سمع بويل بمضخة جويريكي الهوائية، صمم بمساعدة هوك (1657)"آلة هوائية" لدراسة خواص الغلاف الغازي. وبهذه الآلة وما تلاها من مضخات أثبت أن عمود الزئبق في البارومتر يسنده الضغط الجوي، وقاس بالتقريب كثافة الهواء. وزاد على تجربة جاليليو المزعومة في بيزا بإثباته أن حزمة الريش تسقط بنفس سرعة سقوط الحجر، حتى في فراغ غير كامل. وبرهن على أن الضوء لا يتأثر بالفراغ، وإذن فهو لا يستعمل الهواء كما يستعمله الصوت وسيطاً لانتقاله، وأيد برهان جويريكي على أن الهواء لا غنى عنه للحياة "فحين أغمي على فأر في الحجرة المفرغة، أوقف التجربة وأنعشه بإدخال الهواء). ونحن نرى دولية العلم في تحركها حين نعلم أن جويريكي حفزته جهود بويل ليصمم مضخة هوائية أفضل ويستأنف دراساته العلمية، وأن هويجنز، بعد زيارته لبويل عام 1661، أغرى بصنع آلات شبيهة والقيام باختبارات مماثلة.
ومضى بويل في أبحاثه الخلاقة في الانكسار، والبلورات، والأوزان النوعية، والهيدروستاتيكا، والحرارة. وتوج إسهاماته في الفيزياء بصياغة القانون الذي يحمل اسمه: وهو أن ضغط الهواء أو
أي غاز يتناسب تناسباً عكسياً مع حجمه-أو أن ضغط الغاز مضروباً في حجمه يكون ثابتاً عند درجة حرارة ثابتة. وقد أذاع هذا المبدأ أول مرة في 1662، وفي سماحة وكرم نسب الفضل فيه إلى تلميذه وتشرد تاونلي. وكان هوك قد توصل إلى الصيغة ذاتها في 1660 بتجارب مستقلة، ولكنه لم يذعها إلا في 1665. وتوصل قس فرنسي يدعى ادمي ماريوت في نحو الوقت الذي توصل فيه بويل إلى نتيجة مماثلة، وهي "أن الهواء ينضغط حسب الثقل الواقع عليه"، ونشر هذا في 1676، واسمه لا اسم بويل هو المرتبط في القارة بقانون الضغط الجوي. وأياً كان صاحب الفضل في القانون، فإنه كان من أسلاف الآلة البخارية والثورة الصناعية.
وتابع بويل وهوك رأي بيكون في أن "الحرارة حركة تمدد لا في الجسم كله بشكل منتظم، بل في أجزائه الصغرى (39) ". وقد وصف هوك الحرارة بأنها "خاصية تنشأ في جسم ما من حركة أجزائه أو هيجانها"، وميز بينها وبين النار واللهب، اللذين نسبهما إلى فعل الهواء في الأجسام المحماة. قال "كل الأجسام لها درجة ما من الحرارة فيها" وذلك لأن "أجزاء جميع الأجسام وإن لم تكن شديدة الصلابة إلا أنها تتذبذب قطعاً (40) "، أما البرودة فليست إلا مفهوماً سلبياً. وسلي ماريوت أصحابه حين أراهم أن "البرودة" يمكن أن تحترق، فبلوح مقعر من الثلج ركز ضوء الشمس على البارود فانفجر. وقد أذاب الكونت ايرنفريد فالتر فون تشيرنهاوس، صديق سبينوزا، الخزف الصيني والريالات الفضية بتركيزه ضوء الشمس عليها.
وفي فيزياء الصوت برهن إنجليزيان-هما وليم نوبل وتوماس بيجوت-كل على حدة (نحو 1673) على أن أجزاء مختلفة من الوتر، لا الوتر كله فحسب، قد تتذبذب بنغمات توافقية، تجاوباً مع وتر قريب ومتصل، ينقر أو يضرب أو يثني. وقد اقترح ديكارت هذا على ميوسين، وعملاً بهذه الفكرة توصل جوزف سوفير، مستقلاً إلى نتائج شبيهة بما توصل إليه الإنجليزيان (1700)، ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن سوفير، الذي كان أول من استعمل كلمة acoustics " السمعيات"، كان أصم وأبكم منذ ولادته (41). وفي 1711 اخترع
جون شور الشوكة الرنانة. وقام بوريللي، وففياني، وبيكار، وكاسيني، وهويجنز، وفلامستيد، وبويل، وهالي، ونيوتن، بمحاولات في هذه الفترة لإيجاد سرعة الصوت. وكان أقرب تقدير لتقديرنا الحالي هو تقدير بويل، الذي قرر أنها تبلغ 1. 126 قدماً في الثانية. وقرر وليم ديرام (1708) أن هذه المعرفة يمكن الانتفاع بها في حساب بعد العاصفة بملاحظة الفترة بين وميض البرق والصاعقة.
ولعل النصف الثاني من القرن السابع عشر أزهى فترة في تاريخ فيزياء الضوء، فأولاً، ما هذا الضوء؟ لقد غامر هوك، وهو المستعد دائماً للتنقيب عن الصعوبات، برأي يزعم أن الضوء "ليس إلا حركة خاصة لأجزاء الجسم المضيء (42) "-أي أن الضوء لا يختلف عن الحرارة إلا في الحركة الأسرع التي تتحركها الجزيئات
(1)
المكونة للجسم. ثانياً، ما مدى سرعة تحركه؟ لقد افترض العلماء إلى ذلك الحين أن سرعة الضوء غير محدودة، وحتى هوك المغامر قال أنها على أية حال أكبر من أن تقاس. وفي 1675 برهن فلكي دنمركي يدعى أولاوس رويمر، استقدمه بيكار إلى باريس، على سرعة الضوء المحدودة، إذا لاحظ أن فترة خسوف أقرب التوابع إلى قلب المشتري تتفاوت حسب اقتراب الأرض أو ابتعادها من ذلك الكوكب. وقد أثبت بحسابات مبنية على زمن دورة التابع وقطر فلك الأرض، أن التفاوت في زمن الخسوف الملحوظ راجع إلى الزمن الذي يستغرقه الضوء من التابع ليقطع فلك الأرض، وعلى هذا الأساس الهزيل حسب سرعة الضوء بنحو 120. 000 ميل في الثانية (وتقديرنا الحالي يبلغ 186. 000 ميل).
ولكن كيف ينتقل الضوء؟ أيتحرك في خطوط مستقيمة، إذا كان الأمر كذلك فكيف يدور حول الزوايا؟ لقد اكتشف فرنانشسكو جريمالدي، الأستاذ اليسوعي ببولونيا، (1665) ظاهرة الانحراف
(1)
قارن المفهوم الحالي للضوء، وهو أنه طاقة مشعة مرئية. فكل الأجسام يفترض أنها ترسل باستمرار طاقة مشعة. والإشعاع من أجسام أدفأ من جسم الإنسان يحس بها الجلد حرارة، ولكن إذا زيدت درجة حرارة الجسم زيادة كافية أصبح مضيئاً-أي أن بعض إشعاعه المنبعث تحسه العين ضوءاً.
وسماها-وهي أن أشعة الضوء المارة من ثقب صغير إلى حجرة مظلمة تنشر على الحائط المواجه باتساع أكبر مما تنتجه الخطوط المستقيمة من المصدر إلى الحائط، وأن أشعة الضوء تنحرف انحرافاً طفيفاً عن الخط المستقيم حين تمر بأطراف جسم معتم، وقد أفضت هذه الكشوف وغيرها بجريمالدي إلى قبول الرأي الذي ألمع إليه ليوناردو دافنشي، وهو أن الضوء يتحرك في موجات متسعة. ووافق هوك، ولكن هويجنز هو الذي أثبت نظرية الموجات التي ما زالت شائعة بين الفيزيائيين. وفي كتاب آخر من عيون العلم الحديثة يدعى "رسالة في الضوء" (1690) أورد هويجنز النتائج التي توصل إليها من دراسة بدأت قبل اثنتي عشرة سنة: وهي أن الضوء تنقله مادة افتراضية سماها "الأثير"(عن المرادف اليوناني للسماء)، وتصور أنها تتألف من أجسام صغيرة، قاسية، مرنة، تنقل الضوء في موجات دائرية متعاقبة تنشر خارجة من المصدر المضيء. وعلى هذه النظرية أسس قوانين الانعكاس، والانكسار المزدوج، وعزا للحركة المغلفة للأمواج قدرة الضوء على الحركة حول الأركان والأجسام المعتمة، وفسر الشفافية بأن افترض أن جزيئات الأثير من الدقة بحيث تستطيع
أن تسافر حول الجزيئات التي تؤلف السوائل والجوامد الشفافة وبينها. ولكنه اعترف بعجزه عن تعليل الاستقطاب، وهذا من أسباب رفض نيوتن لفرض الموجات وتفضيله نظرية الجريئات الضوئية.
ولم يحرز القرن السابع عشر غير تقدم كتواضع في دراسة الكهرباء بعد العمل الذي قام به جلبرت وكيرشر في ميدان المغناطيسية، وكابيو في التنافر الكهربي. وقد درس هالي تأثير المغنطيسية الأرضية في إبر البوصلة، وكان أول من تبين الصلة بين مغنطيسية الأرض والفجر الكاذب، aurora borealis (1692) . ووصف جويريكي في 1672 بعض تجاربه في كهرباء الاحتكاك. فالكرة من الكبريت، بعد أن أديرت على يده، جذبت الورق، والريش، وغيرهما من الأجسام الخفيفة، وحملتها معها في دورانها، وقد ربط بين هذا وبين حركة الأرض إذ تحمل معها الأجسام التي على سطحها أو بقربه. وتحقق من التنافر الكهربي إذا أثبتت أن الريشة إذا وضعت بين الكرة المكهربة وأرضية الحجرة تقفز إلى أعلى وأسفل من الواحدة إلى الأخرى. وكان رائداً في دراسة التوصيل، إذ برهن على أن الشحنة الكهربية تستطيع أن تسافر على خيط من الكتان، وأن الأجسام يمكن أن تتكهرب بتقريبها من الكرة المكهربة. وقد ابتكر فرانسس هوكسبي، عضو الجمعية الملكية (1705 - 9) طريقة أفضل لتوليد الكهرباء بإدارته كرة زجاجية مفرغة دوراناً سريعاً، ثم وضعها على يده، وقد انبعث من الاحتكاكات شر طوله بوصة أحدث ضوءاً يكفي للقراءة. وشبه إنجليزي آخر يدعى وول، صوت وضوء شرر مماثل أحدثه، بالرعد والبرق (1708). وعقد نيوتن نفس المقارنة في1716، وأكد فرانكلن العلاقة في 1749. وهكذا نرى الكون الهائل المستغلق، سنة بعد سنة، وعقلاً بعد عقل، يفضي بنتفه مغرية من سره المكنون.
6 - الكيمياء
شهد هذا القرن الرائع علم الكيمياء يتطور من تجارب الخيمياء وأوهامها. وكانت الصناعة منذ زمن تجمع المعرفة الكيميائية عن طريق عمليات صهر الحديد، ودبغ الجلود، ومزج الأصباغ، وتخمير الجعة، ولكن فحص المواد في تركيبها، واتحادها، وتحولها، كان في أغلبه متروكاً للمشتغلين بالخيمياء الباحثين عن الذهب، أو للصيادلة المجهزين للعقاقير. أو للفلاسفة-من ديموقريطس إلى ديكارت-الحائرين في تركيب المادة. وقد حاول اندرياس ليبافيوس في 1597، وجان فان هيلمونت في 1640، الدخول إلى علم الكيمياء، ولكن كلا الرجلين شارك الخيميائيين أملهم في تحويل المعادن "الخسيسة" ذهباً. وقام بويل نفسه بتجارب بهذا الهدف. ففي 1689 حصل على إلغاء لقانون إنجليزي قديم ضد "تكثير الذهب والفضة (43) "، وعند وفاته (1691) خلف لمنفذي وصيته كمية من التراب الأحمر وتعليمات بمحاولة تحويلها إلى ذهب (44). والآن وقد أصبح تحويل المعادن "كلشيها" للكيمياء، فإن في وسعنا أن نشيد بالعلم الذي انطوت عليه الخيمياء بما ندين اللهفة على الذهب ونخيفها.
وكانت أعظم لطمة وجهت إلى الخيمياء هي نشر كتاب بويل "الكيميائي الشكاك"(1661) وهو أول كتاب من عيون تاريخ
الكيمياء. وقد اعتذر فيه عن "السماح" لبحثه هذا "بأن يذاع وهو مبتور ناقص على هذا النحو (45) ". ولكنه-وهو يعاني من علل كثيرة-عديم الثقة في أنه سيعمر طويلاً. على أن مما يعزيه "أن يلحظ أن الكيمياء بدأت أخيراً تحظى بما هي جديرة به حقاً من رعاية العلماء الذين كانوا من قبل يحتقرونها (46) ". ووصف كيمياءه بأنها شكاكة لأن من رأيه رفض جميع التفسيرات الغيبية والخصائص السحرية لأنها "محراب الجهل" وهو مصمم على الاعتماد على "التجارب لا الأقيسة المنطقية (47) ". وقد هجر ذلك التقسيم التقليدي للمادة إلى العناصر الأربعة، الهواء، والنار، والماء، والتراب: وقال إن هذه مركبات لا عناصر، أما العناصر الحقيقية فهي على الأصح "أجسام معينة بدائية وبسيطة، أو غير مختلطة إطلاقاً، ولأنها ليست مؤلفة من أي أجسام أخرى أو من بعضها البعض" فهي المكونات لجميع المركبات، ويمكن أن تحلل إليها كل المركبات. ولم يقصد أن العناصر هي المكونات النهائية للمادة، فهذه العناصر الطبيعية المتناهية الصغر هي في رأيه جزيئات دقيقة لا ترى بالعين المجردة، مختلفة شكلاً وحجماً، كذرات لوكيبوس. ومن تنوع هذه الجزيئات وتحركها، ومن اتحادها في "كريات"، تنشأ كل الأجسام، وكل صفاتها وأحوالها، كاللون، والمغنطيسية، والحرارة، والنار، وذلك بطرق وقوانين ميكانيكية خالصة.
وقد استهوت النار العلماء استهواءها للحالمين عند المدافئ. فما الذي يجعل المادة تحترق؟ وما تفسير هذه الألسنة الدائمة التغير من اللهب الجميل، العاتي، الرهيب؟ في سنة 1669 رد كيميائي ألمانييدعى يوهان بيشير كل "العناصر" إلى عنصرين-الماء والتراب، وسمى شكلاً من أشكال التراب، "التراب الزيتي"، الذي اعتقد بوجوده في جميع الأجسام القابلة للاشتعال، وهذا هو الذي يحترق. وفي القرن الثامن عشر سنرى جيورج شتال-الذي اتبع هذا الرأي الخاطئ-ينحرف بالكيمياء عشرات السنين بنظرية مماثلة هي نظرية اللاهوب Phlogiston. على أن بويل سلك مسلكاً آخر. فقد لاحظ أن مواد محترقة مختلفة تكف عن الاحتراق في الفراغ، فاستنتج أن "في الهواء جوهراً حيوياً صغيراً
…
يعين
على إنعاش حيويتنا واسترجاعها (48) ". وتقدم معاصره الأصغر جون مايوو، وكان هو أيضاً ينتمي للجمعية الملكية، (1547) صوب نظريتنا الحالية عن النار بأن افترض أن من بين مكونات الهواء مادة تتحد بالمعادن حين تتكلس (تتأكسد)، واعتقد أن مادة مماثلة تدخل أجسامنا فتغير الدم الوريدي إلى دم شرياني. وكان لا بد أن تنقضي مائة عام قبل أن يكتشف شيل وبريستلي الأوكسجين نهائياً.
وحوالي عام 1670 اكتشف كيميائي ألماني يدعى هينيج براند أن في استطاعته أن يحصل من بول الإنسان على مادة كيميائية تتوهج في الظلام دون تعريض تمهيدي للضوء. وعرض كيميائي من درسدن يدعى كرافت هذا النتاج الجديد أمام تشارلز الثاني بلندن في 1677. ولم يستطع بويل أن يستخلص من كرافت المتكتم إلا الاعتراف بأن المادة المضيئة "شيء ينتمي إلى جسم الإنسان (49) ". وكان في الإشارة ما يكفي، فسرعان ما حصل بويل على كميته من الفوسفور، وأثبت بسلسلة من التجارب كل ما نعرفه إلى الآن عن توهج ذلك العنصر. وكان النتاج الجديد يكلف المشترين ست جنيهات (315 دولاراً؟) للأوقية رغم وفرة مصدره.
7 - التكنولوجيا
كانت الصناعة-إلى القرن التاسع عشر-تحفز العلم أكثر مما يحفز العلم الصناعة، وكانت المخترعات إلى القرن العشرين تخترع في المختبر أقل مما تخترع في المتجر أو الحقل. ولعل العمليتين سارتا جنباً إلى جنب في أهم الحالات جميعاً، وهي تطوير الآلة البخارية
وقد صنع هيرو الاسكندري، في القرن الثالث الميلادي أو قبله، عدة آلات بخارية، ولكنها على قدر علمنا كانت تستعمل لعباً أو عجائب تسلي الجماهير أكثر منها أجهزة تحل محل الطاقة البشرية. وفي أوائل القرن السادس عشر وصف ليوناردو دافنتشي بندقية تستطيع بضغط البخار أن تدفع مسماراً حديدياً مسافة ألف ومائتي ياردة، ولكن مخطوطاته العلمية لم تنشر إلا عام 1880. وقد ترجمت بعض كتابات هيرو اليونانية إلى اللاتينية في 1757، وإلى الإيطالية في 1589.
وذكر جيروم كاردان (1550) وجامباتستا ديللا بورتا (1601) أن في الإمكان إحداث فراغ بتكثيف البخار، ووصف بورتا آلة لاستخدام ضغط البخار لرفع عمود الماء. ومثل هذه الاستخدامات للبخار المتمدد اقترحها سالومون دكاوس بباريس في 1615 وبرانكا بروما في 1630. وحصل ديفد رامسي من تشارلز الأول ملك إنجلترا على براءة بآلات "لرفع الماء من الحفر المنخفضة بالنار
…
وتشغيل أي نوع من المصانع على المياه الساكنة بالحركة المستمرة، دون مساعدة من الرياح أو الأثقال أو الخيل (50)". وفي 1663 حصل إدوارد سومرست، مركيز ورستر، من البرلمان على احتكار مدته تسعة وتسعون عاماً لـ "أعجب عمل في العالم كله"-وهو "آلة تتحكم في الماء" ترفع الماء لارتفاع أربعين قدماً (51)، وبهذه الآلة أراد أن يشغل المصانع المائية لجزء كبير من لندن، ولكنه مات قبل أن ينفذ خطته. وحوالي 1675 اخترع صموئيل مورلاند، كبير ميكانيكية تشارلز الثاني، المضخة الكابسة، وفي 1685 نشر أول وصف دقيق لقوة تمدد البخار. وفي 1680 صنع هوبجنز أول آلة غازية باسطوانة ومكبس تدار بالقوة الممدة للبارود المتفجر.
وذهب دنيبابان، المساعد الفرنسي لهويجنز، إلى إنجلترا واشتغل مع بويل، ونشر عام 1681 وصفاً لـ "مهتضمة digester"- وهي حلة ضغط لتطرية العظم بماء يغلي في إناء مقفل. ولكي يمنع انفجار الإناء وصل بقمته أنبوبة مكن أن تفتح إذا بلغ الضغط نقطة معينة، وقد لعب "صمام الأمن" الأول هذا دوراً منقذاً في تطوير الآلة البخارية. وزاد بابان على ذلك بأن ثبت أن قوة البخار يمكن نقلها غازياً بأنبوبة من مكان لآخر. ولما انتقل إلى ماربورج بألمانيا عرض (1690) أول آلة استعمل فيها تكثيف البخار، الذي يحدث فراغاً، لدفع مكبس. وقد ألمع إلى قدرات هذه الآلة على قذف القنابل، ورفع المياه من المناجم، ودفع المراكب بعجلات تغديف، وفي 1707 (أي قبل قرن بالضبط من إبحار سفينة فولتون "كليرمون" مصعدة على نهر هدسون) استخدم آلته البخارية في تسيير زورق بدولاب تغديف على نهر فولدا بكاسل (52). ولكن الزورق تحطم، وثبط الحكام الألمان تطوير القوة المكنية لاطمئنانهم إلى الأوضاع الراهنة آنئذ، وربما لخوفهم من انتشار البطالة.
وعرض توماس سافوي على مجلس البحرية بإنجلترا جهازاً مماثلاً حوالي عام 1700، ولكن الجهاز رفض بهذا التعليق-فيما روى-"أي شأن للمتطفلين الذين لا صلة لهم بنا بتصميم أو اختراع أشياء لنا؟ (54) " وقدم سافوي عرضاً لاختراعه على نهر التايمز، ولكن البحرية رفضته ثانية. وفي 1698 سجل أول آلة بخارية استعملت فعلاً في ضخ الماء من المناجم. وفي 1699 منح براءة خولت له لمدة أربعة عشر عاماً "احتكار استعمال اختراع جديد
…
لرفع الماء وإحداث الحركة بقوة النار الضاغطة، سيكون ذا فائدة كبرى في نزاح المناجم، وتوفير المياه للمدن، وتشغيل المصانع بجميع أنواعها (55) " على أنه تبين أن آلات سافوي غالية وخطرة. فقد كان لها صنابير للقياس ولكن لم يكن لها صمامات أمن، وكانت عرضة لانفجارات الغلايات، ومع أنها استخدمت في بعض المناجم لنزح الماء منها، إلا أن أصحاب المناجم عادوا سريعاً إلى استخدام الخيل في هذه المهمة.
عند هذه النقطة من القصة نلتقي مرة أخرى بروبرت هوك. ويروي معاصر موثوق بروايته أنه حوالي 1702 كان يتبادل الرسائل مع تاجر حديد وحداد يدعى توماس نيوكومن حول إمكان استخدام مبدأ المضخة الهوائية في إحداث القوة المكنية. كتب يقول "إذا استطعت أن تحدث فراغاً سريعاً تحت اسطوانتك الثانية انتهى عملك (56) " ويلوح أن نيوكومن كما يجري تجارب على آلة بخارية، هنا اتصل العلم والصناعة اتصالاً مرئياً. ولكن هوك كان شكاكاً، فتخلى عن التجربة، وفاتته فرصة مرة أخرى. وانضم نيوكومن إلى سمكري يدعى جون كولي في صنع آلة بخارية (1712) -بذراع متذبذب، ومكبس، وصمام أمن-يمكن الركون إليها في القيام بعمل شاق دون خطر الانفجار، وبقدرة كاملة على التحكم الذاتي. واستمر نيوكومن حتى وفاته (1729) في تحسين آلته، ولكن في وسعنا أن نؤرخ-من براءة سافوي في 1699، وآلة نيوكومن في 1712 - ، بداية الثورة الصناعية التي ستغير في القرنين التاليين وجه الدنيا وهواءها.
8 - الأحياء
مدت جماعة الباحثين الممتازة التي صنعت مجد الجمعية الملكية
أبحاثها إلى علوم الحياة. فأوضح هوك بالتجربة ما قرره من قبل السر كينيلم ديجبي-ذلك "المشعوذ الكبير" كما دعاه ايفلين (52): وهو أن النباتات تحتاج إلى الهواء لتحيا. فعرض بذرة خس في التربة في العراء، وفي نفس الوقت بذرة مماثلة في تربة مماثلة في حجرة مفرغة، ونمت البذرة الأولى بوصة ونصفاً في ثمانية أيام، أما الثانية فلم تنم على الإطلاق. ووجد هوك بين جزء الهواء المستعمل في الاحتراق وبين الجزء المستعمل في تنفس النبات والحيوان، ووصف هذا الجزء المستهلك بأنه نتري الطبيعة (1665). وأوضح أن الحيوانات التي توقف تنفسها مكن الإبقاء على حياتها بنفخ الهواء في رئاتها بمنفاخ. واكتشف البناء الخلوي للنسيج الحي، واخترع لفظ "الخلية cell" لدلالة على مركباته العضوية. ورأى أعضاء الجمعية من خلال مكرسكوبه في ابتهاج خلايا الفلين الذي قدر هوك أن البوصة المكعبة منه تحوي 1. 200. 000. 000 خلية. ودرس هستولوجيا (علم الأنسجة) الحشرات والنباتات، وعر رسوماً طريفة لها في كتابه "ميكروجرافيا"ز لقد وقف هوك دائماً قاب قوسين أو أدنى من جاليليو ونيوتن.
وأسهم عضو آخر في الجمعية هو جون راي في إضفاء الشكل الحديث على علم النبات. وكان ابن حداد، ولكنه شق طريقه إلى كمبردج، وأصبح زميلاً لكلية ترنتي، ورسم قساً أنجليكانياً. وقد أخلص للدين والعلم على السواء، شأنه في ذلك شأن بويل. واستقال من زمالته لأنه أبى التوقيع على "قانون التوافق"(1662) الذي يتعهد موقعه بعدم مقاومة تشارلز الثاني، وانطلق من تلميذه فرانسس ويلاجبي في رحلة يجوبان فيها أوربا لجميع البيانات اللازمة لوصف منظم لمملكتي الحيوان والنبات. واضطلع يلاجبي بعلم الحيوان، ولكنه مات بعد أن أكمل الفصول الخاصة بالطيور والأسماك. وفي 1670 أصدر راي " Catalogus Plantarum Angliae قائمة بنبات إنجلترا" أصبحت إطار علم النبات الإنجليزي. واقترح راي "طريقة جديدة لتقسيم النبات"-مستعيناً في ذلك بما وضعه يواقيم يونجيوس في 1678 من مصطلحات محسنة وتصنيف منقح، فقسم كل الزهريات إلى ثنائية الفلقة dicotyledons وأحادية الفلقة monocotyledons
حسب ورقيتها أو ورقتها الجنبية المرافقة للبذور. وأكمل مهمته الكبرى في رائعة من روائع العلم الحديث، هي كتابة الضخم ذو المجلدات الثلاثة " Historia Generalis Palantarum تاريخ النبات العام"(1682 - 1704)، الذي وصف 18. 625 نوعاً من أنواع النبات. وكان راي أول من استعمل كلمة "نوع species" بمعناها البيولوجي، وهو مجموعة من الكائنات الحية مشتقة من والدين مماثلين وقادرة على توليد نوعها. وهذا التعريف، مضافاً إليه ما أتى به لينايوس بعد ذلك من تصنيف (1751)، هيأ للجدل حول أصل الأنواع وقابليتها للتغير، وفي غضون ذلك نشر وحقق مخطوطات ويلاجبي عن علم الأسماك ichthylogy وعلم الطيور ornithology وأضاف موجزاً منهجياً عن ذوات الأربع (1693) فأتاح لعلم الحيوان الحديث أول تصنيف علمي حقيقي للحيوان (58). لقد كان النظام أول القوانين عند راي.
وقد تبين علماء النبات، حتى في العصور القديمة، أن بعض النباتات يجوز أن توصف بأنها مؤنثة لأنها تحمل ثمراً، وبعضها مذكرة لأنها لا تثمر، ولاحظ تيوفراستوس في القرن الثالث قبل المسيح أن نخلة البلح لا تثمر إلا إذا هز فوقها طلع الذكر، ولكن هذه الأفكار كانت قد نسيت تقريباً. وفي 1682 أضاف نحميا جرو عضو الجمعية الملكية سحراً جديداً للزهور بتأكيد جنسانية النباتات تأكيداً قاطعاً. ذلك أنه في دراسته نسيج النبات تحت المكروسكوب، لاحظ المسام التي في السطح الأعلى للأوراق، وألمح إلى أن الأوراق أعضاء التنفس. ووصف الأزهار بأنها أعضاء التناسل، فالمدفة Pistil مؤنثة، والسداة stamen مذكر، واللقاح Pollen بزرة. وافترض خطأ أن جميع النباتات خنثوية hermaphrodites، تجمع بنيتي الذكر والأنثى في كائن حي واحد. وفي 1691 أثبت ردولف كاميراريوس، أستاذ النبات في توبنجن، بشكل قاطع جنسانية النباتات ( sexuality) إذ أثبت أنها لا تثمر بعد إزالة المئبر anther وهو جزء السداه المحتوي على اللقاح.
وفي نفس اليوم (7 ديسمبر 1671) الذي تلقت فيه الجمعية الملكية اللندنية أول مقالات جرو "بداية تشريح الخضر"، تلقت أيضاً
مخطوطاً من مارتشيللو ملبيجي البولوني، نشرته (1675) باسم لاتيني Anatomes Plantarum Idea، وكان استعمال اللاتينية ما زال ييسر دولية العلم. وقد اقتسم مالبيجي مع جرو شرف إرساء دعائم هستولوجيا النبات، ولكن إسهامه الكبير كان في علم الحيوان. وفي 1676 أثبت ماريوت-بتحليله الكيميائي لمخلفات النباتات والتربة التي نمت فيها-أنها تتشرب العناصر الغذائية في الماء الذي تمتصه من التربة. ولم يتبين ماريوت، ولا جرو، ولا مالبيجي، قدرة النباتات على أن تأخذ غذاءها من الهواء، ولكن عمليتي التغذية والتناسل اللتين اكتشفتا الآن كانتا تقدماً هائلاً على تعليل أرسطو الغامض لنمو النباتات بما لـ "النفس النباتية" من تطلعات إلى التمدد.
وفي عام 1668 أصيبت فكرة قديمة شائعة بأن صدمة من صدمات عديدة، حين نشر فرانشسكو ريدي الاريتسوي كتابه "تجارب في توالد الحشرات"-وهي تجارب تنحو إلى نفي التولد الذاتي abiogenesis وهو التولد التلقائي للكائنات الحية من المادة غير الحية. فإلى النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت الفكرة التي آمن بها الجميع تقريباً (فيما عدا استثناءً بارزاً هو وليم هارفي) هي أن في الإمكان توالد الحيوانات والنباتات الدقيقة في القذر أو الوحل، لا سيما في اللحم المتحلل، وهذه الفكرة تكمن وراء عبارة شكسبير "الشمس التي تولد الدود في الكلاب الميتة (59) ". وقد أثبت ريدي أن الدود لا يتكون على اللحم المحمي من الحشرات، بل على اللحم المكشوف. وقد صاغ النتيجة التي خلص إليها في عبارته " Omne vivum ex ovo" كل حي يخرج من بيضة أو بزرة". ولما اكتشفت الأوليات (البرزويات Protozoa) ، انبعثت حجج القائلين بالتولد التلقائي من جديد، وقد رد عليهم سباللانزاني في 1767، ثم باستير في 1861.
كان الكشف عن تلك الكائنات ذات الخلية الواحدة التي سميت فيما بعد بالبروتوزوا أهم إسهام أسهم به هذا العصر في علم الحيوان. وكان انطون فان ليوفينهويك هولندياً من ديلفت، ولكنه أنهى-عن طريق الجمعية الملكية بلندن-النتائج العلمية التي توصل إليها خلال أربعين سنة من سني عمره الواحدة والتسعين. كان سليل أسرة من صناع الجعة الأثرياء، فاستطاع أن يقنع بوظائف أتاحت له من الفراغ
أكثر مما أعطته من راتب، وانقطع لدراسة عالم الحياة الجديد كما كشف عنه المكروسكوب، بإصرار من افتتن بهذا العلم. وكان يملك 247 مكروسكوباً، صنع معظمها بنفسه، وكان مختبره يتألق بعدسات بلغت 419، ربما شحذ بعضها سبينوزا، الذي ولد في نفس سنة مولده (1632) وفي نفسه وطنه. وقد حرص بطرس الأكبر وهو بديلفت في 1698 على أن يحدق في الكائنات خلال مكروسكوبات ليوفينهويك. فلما وجه هذا العالم (1675) أحدها لدراسة بعض ماء المطر الذي سقط في قدر قبل أيام، راعه أن يرى "حيوانات صغيرة بدت لي أصغر عشرة آلاف مرة من تلك التي وصفها المسيو سوامردام والتي سماها براغيث الماء أو قمل الماء، والتي يمكن أن ترى في الماء بالعين المجردة (60) "، ثم وصف كائناً نعرفه الآن باسم الجيبون الناقوسي ( Vorticella) bell animalecule. ويلوح أن هذا كان أول وصفه للبروتوزون. وفي 1683 اكتشف ليوفينهويك كائنات أصغر حتى من تلك-وهي البكتريا. وجدها أولاً على أسنانه، وقال مستدركاً "مع أنني أحافظ عادة على نظافة أسناني التامة"، وأذهل بعض جيرانه حين فحص بصاقهم وأراهم تحت المكروسكوب "عدداً عظيماً من المخلوقات الحية" فيه (61). وفي 1677 اكتشف البزيرات المنوية في ماء الذكر: وتعجب من إسراف الطبيعة في جهاز الإنسان: فقد قدر هناك ألف بزيرة في كمية صغيرة من منى الرجل، وحسب أن هناك 150 بليوناً من البزيرات في لقاح سمكة واحدة من سمك الكود-وهو ما يزيد عشرة أضعاف على عدد السكان الذين يحتويهم العالم لو كانت كل أقاليمه غاصة بالسكان كالأراضي المنخفضة.
وكان جان سوامردام أصغر من ليوفينهوك بخمس سنوات، ولكنه سبقه إلى القبر بثلاث وأربعين سنة. كان رجلاً ذا جرأة، ورغبات مشبوبة، وعلل، وأهداف متقلبة، كف عن جهوده العلمية في السادسة والثلاثين، وأفنى عمره وهو في الثالثة والأربعين (1680). نذر خادماً للدين، ولكنه هجر اللاهوت إلى الطب. فلما نال درجة الطب انقطع للتشريح. وقد أولع بالنحل، لا سيما بأمعائه، وكان ينفق نهاره في تشريحه، وليله في كتابة التقارير ورسم الرسوم عن كشوفه. فلما فرغ من بحثه القيم في النحل (1673) انهار بدنياً،
وما لبث أن طلق العلم لأنه مطلب مسرف في الدنيوية، وعاد إلى الدين. وبعد موته بسبع وخمسين سنة جمعت مخطوطاته ونشرت باسم Biblia Naturae ( كتاب الطبيعة المقدس). وقد احتوى الكتاب في تفصيل دقيق غاية الدقة على وصف لحياة اثنتي عشرة حشرة نموذجية، منها ذبابة مايو ونحلة العسل، ودراسات مكروسكوبية للحبار squid والحلزون، والبطلينوس clam والضفدعة. كذلك وردت في الكتاب أوصاف للتجارب التي أثبت بها سوامردام أن العضلات في الأنسجة المقطوعة من جسم حيوان يمكن جعلها تتقلص بإثارة العصب الرابط. وقد رفض نظرية التولد التلقائي كما رفضها ريدي، وزاد بأن بين أن اللحم المتحلل لا يحدث الكائنات الدقيقة، بل أن هذه الكائنات هي التي تحدث التحلل في المادة العضوية. وقد أسس سوامردام في حياته القصيرة علم الحشرات الحديث، وأرسى لنفسه مكانة رجل من أدق الملاحظين في تاريخ العلم. ورجوعه من العلم إلى الدين تشخيص لتردد الإنسان الحديث بين بحث عن الحقيقة يسخر من الأمل، وانتكاس إلى الآمال التي تجفل من الحقيقة.
9 - التشريح والفسيولوجيا
أسلم جسم الإنسان بعد إخضاعه للمكروسكوب بعض أسراره الدفينة لجيش العلم الزاحف. ففي عام 1651 تتبع جان باكيه سير الأوعية اللبنية، وفي 1653 كشف أولوف روربيك، وموطنه أوبسالا، الجهاز اللنفاوي، ووصف هذا الجهاز توماس مارتولين، وموطنه كوبنهاجن، وفي 1664 اكتشف سوامردام الصمامات اللنفاوية وفي ذلك العام أوضح صديقه رينيه دجراف وظيفة البنكرياس والصفراء وعملهما. وفي 1661 اكتشف صديق آخر هو نيقولاوس ستينو قناة (لا تزال تحمل اسمه) هي قناة الغدة النكفية، ويعد سنة القنوات الدمعية للعين، وخص جراف بدراسته تشريح الخصيتين والمبايض، وفي 1672 وصف لأول مرة تلك الأكياس حاملة البيض التي أطلق عليها هالر تكريماً له حويصلات جراف. وترك بارتولين بطاقته على جسمين بيضاويين ملاصقين للمهبل، واكتشف وليم كوبر (الطبيب لا الشاعر) في 1702 الغدد التي تفرغ إفرازها في مجرى البول وأطلق عليها اسمه. كذلك ترك فرنشسكوس سيلفيوس توقيعه على شق في المخ (1663) (وكان المعلم
المحبوب لجراف، وسوامردام، وستينو، وويليس في ليدن). ونشر توماس ويليس، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، في عام 1664 كتابه Cerebri Anatome" تشريح المخ" الذي كان أكمل وصف للجهاز العصبي إلى ذلك التاريخ، ولا تزال تحمل اسمه "دائرة ويليس"، وهي شبكة سداسية من الشرايين في قاع المخ.
أما ألمع مشرحي العصر فهو مارتشيللو مالبيجي، الذي ولد قرب بولونيا في 1628 ونال درجته الطبية منها، وبعد أن عمل أستاذاً عدة سنوات في بيزا ومسينا عاد إلى بولونيا، ودرس الطب في جامعتها خمسة وعشرين عاماً. وبعد أن اشتغل بالتشريح المكروسكوبي للنبات، ركز عدساته على دودة القز، وسجل كشوفه في دراسة ممتازة. وفي هذا البحث أوشك أن يفقد بصره، ومع ذلك كتب يقول "خلال قيامي بهذه البحوث تكشف أمام عيني الكثير جداً من معجزات الطبيعة حتى استشعرت لذة باطنية لا قدرة لقلمي على وصفها (62) ". ولا بد أن قد خالجه ما خالج الشاعر الإنجليزي كيتس وهو يطالع لأول وهلة ترجمة تشابن لهوميروس، حين رأى (1661) في رئتي الضفدعة كيف ينتقل الدم من الشرايين إلى الأوردة في أوعية سماها "الشعيرات" لدقتها المتناهية، وقد وجد شبكة من هذه الشعيرات حيثما تحول الدم الشرياني إلى دم وريدي، وكذا وضح الجهاز الدوري لأول مرة أثناء دورته.
على أن هذا لم يكن سوى جزء من إسهامات مالبيجي في التشريح، وإن كان أهم أجزائها. فقد كان أول من أثبت أن حلمات اللسان أعضاء للتذوق، وألو من ميز الكرات الحمراء في الدم (ولكنه ظنها خطأ كريات من الشحم)، وأول من وصف بدقة الدورتين العصبية والدموية في الجنين، وأول من وصف هستولوجيا قشرة المخ والحبل الشوكي، وأول من أتاح الوصول إلى نظرية عملية للتنفس بوصفه الدقيق للبناء الحويصلي للرئتين. واسمه منتشر بحق على أجسادنا في "الحزم المالبيجية" أو حلقات من الشعريات، في الكلى، وفي "الكريات المالبيجية" في الطحال، وفي "الطبقة المالبيجية" في الجلد. وكثير من كشوفه وتفسيراه تحداه معاصروه، ولكنه دافع عن نفسه بقوة، وانتصر في معاركه وإن كلف هذا النصر أعصابه عنتاً. وقد أرسل
إلى الجمعية الملكية بلندن تقريراً عن جهوده، وكشوفه، وجدلياته، وكأنه كان يعرض هذه كلها على محكمة العلم العليا في جيله، ونشرت الجمعية هذا التقرير سيرة ذاتية بقلمه. وفي 1691 عين طبيباً خاصاً للبابا إنوسنت الثاني عشر، ولكنه توفي عام 1694 من إصابة بالفالج، وكشف للشعيرات من المعالم في تاريخ التشريح، وعمله في جملته أرسى دعائم علم الهستولوجيا.
وإذ تقدم البحث في التشريح أماط اللثام عن أوجه شبه كثيرة جداً بين أعضاء الإنسان والحيوان، حتى لقد اقترب بعض الطلاب من نظرية التطور. ففي عام 1699 نشر إدوارد يزون (الذي أطلق اسمه على الغدد الدهنية للبشرة) كتاباً عن "الأورنج-أوتانج، إنسان الغابات". وقد قارن بين تشريح الإنسان وتشريح النسناس، ورأى أن الشمبانزي وسط بينهما. ولم يمنع علم الأحياء من أن يسبق داروين في القرن السابع عشر غير الخوف من إحداث زلزال لاهوتي.
وانتقلت الأبحاث من التشريح والبنية إلى الفسيولوجيا والوظيفة. وكان التنفس إلى عام 1660 يفسر بأنه عملية تبريد، أما الآن فقد شبهه أصحاب التجارب العلمية بالاحتراق. فبرهن هوك على أن سر التنفس هو تعرض الدم الوريدي للهواء النظيف في الرئتين. وأثبت عضو آخر في الجمعية الملكية هو رتشرد لوور (1669) أن الدم الوريدي يمكن تحويله إلى دم شرياني بالتهوية، وأن الدم الشرياني يتحول وريدياً إذا منع باستمرار من الاتصال بالهواء. ورأى أن أهم عامل في التهوية هو "روح نتري" في الهواء. وجرياً على هذه المبادرات وصف جون مايو، صديق لوور هذا العالم النشيط بأنه "جزيئات نترية-هوائية" وفي التنفس تمتص الجزيئات النترية-في رأيه-من الهواء إلى الدم، ومن هنا كان الهواء في الزفير أخف وزناً وأقل حجماً منه في الشهيق. والحرارة الحيوانية سببها اتحاد الجزيئات النترية بالعناصر القابلة للاحتراق في الدم، والحرارة المتزايدة عقب الرياضة تنشأ من فائض الممتص من الجزيئات النترية بسبب التنفس الزائد. يقول مايو أن هذه الجزيئات النترية تلعب دوراً رئيسياً في حياة الحيوان والنبات.
وقد أفضي تفسير العمليات الحيوية إلى جدل من أبقى ما وعاه تاريخ العلم الحديث. ذلك أنه كلما أوغلت الفسيولوجيا بمزيد من
الفضول في تشريح الإنسان، بدا أن الوظيفة تلو الوظيفة من وظائف الجسم تخضع لتفسير آلي بلغة الفيزياء والكيمياء. فلاح أن التنفس اتحاد بين التمدد، والتهوية، والانقباض، وأن وظائف اللعاب، والصفراء، والعصارة البنكرياسية، كيميائية لا خفاء فيها، وأن جان ألفونسو بوريللي قد استكمل (1679) التحليل الآلي للحركة العضلية. واعتنق ستينو، الكاثوليكي الغيور، الرأي الآلي في العمليات الفسيولوجية، ورفض عبارات جالينوس الغامضة من أمثال "الأرواح الحيوانية" لأنه "مجرد ألفاظ لا تعني شيئاً". وبدا الآن مفهوم ديكارت للجسم على أنه آلة مبرراً كل التبرير.
ومع ذلك أحس معظم العلماء أن تلك الأجهزة البدنية ما هي إلا أدوات لمبدأ حيوي يتجاوز التحليل بلغة الكيمياء والفسيولوجيا. فعزا فرانسس جليسون، أحد مؤسسي الجمعية الملكية، للمادة الحية كلها "تهيجية" تتميز بها-وهي استهداف للإثارة-قال أنها لا توجد في المادة غير الحية. وكما أن نيوتن، بعد أن رد الكون إلى الآلية، عزا إلى الله الدفع المبدئي لآلة العالم، فكذلك افترض بوريللي في جسم الإنسان نفساً هي المصدر لكل حركة حيوانية، وذلك بعد أن فسر العمليات العضلية تفسيراً آلياً (63). ورأى كلود بيرو، المعماري والطبيب، (1680) أن الأفعال الفسيولوجية التي تبدو الآن آلية كانت من قبل إرادية، تهتدي بإرشاد نفس، ولكنها أصبحت آلية بفعل التكرار الكثير، وذلك أشبه بتكون العادات، بل ربما كان القلب ذاته خاضعاً لتحكم الإرادة فيما مضى (64). وزعم جيورج شتال (1702) أن التغيرات الكيميائية في النسيج الحي تختلف عن تلك التي ترى في المختبرات، لأن التغيرات الكيميائية-في زعمه-التي تعرو الحيوانات الحية تحكمها "حساسية حيوانية " anima sensitiva تنتشر في جميع أجزاء الجسم. والنفس كما يقول شتال تدير كل وظيفة فسيولوجية، حتى الهضم والتنفس، وهي تبني كل عضو، بل الجسم كله، بوصفه أداة للرغبة (65). وخيل له أن الأمراض طرق تحاول بها النفس التخلص من عائق يعوق عملياتها، وسبق نظرية "سيكوسوماتية" (أي جسدية نفسها من نظريات القرن
العشرين بالقول بأن اضطرابات "النفس الحساسة" قد تحدث عللاً بدنية (66).
وظلت المفاهيم الحيوية، بشكل أو بآخر، تحتل مكان الصدارة في العلم حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم استسلمت فترة أمام المكانة الصاعدة للفيزياء الميكانيكية، ثم بعثت من جديد، في ثوب أدبي فتان، في كتاب برجسون "التطور الخلاق"(1906). وسيمضي الجدل إلى ما شاء الله حتى يقيض للجزء أن يفهم الكل.
10 - الطب
جاء أقوى دافع لعلوم الأحياء من حاجات الطب. لقد كان علم النبات، قبل راي، أداة الصيدلة. وكانت الصحة "الخير الأعظم"، وتوسل الرجال والنساء والأطفال إليها بالصلوات، والنجوم، والملوك، والضفادع، والعلم. يقول أوبري (67) أن أحد الأطباء كان قبل أن يصف الدواء للمريض يمضي إلى مخدعه ليصلي حتى "تقرنت ركبتاه" في النهاية من كثرة الصلوات وكان التنجيم لا يزال يتدخل في الطب. فقد نصح الجراح القائم على علاج لويس الرابع عشر بألا يحجم الملك إلا في ربعي القمر الأول والأخير "حتى تكون الأمزجة قد تراجعت في هذا الوقت إلى مركز الجسم"(68). وفي رأي ديفو أن المال الذي أنفق على المشعوذين كان كفيلاً بالوفاء بالدين القومي (69). وقد سافر فلامستيد، فلكي الملك، أميالاً لكي يربت ظهره المشعوذ المشهور فالنتين جريتراكس، الذي زعم بكل بساطة أنه يشفى من الداء الخنازيري، وربما كان فلامستيد واحداً من 100. 000 لمسهم تشارلز الثاني ليشفيهم من هذا الداء الخنازيري ( scorfula) المسمى "داء الملك King's evil" ( وهو سل الغدد اللنفاوية وبخاصة في العنق). وفي سنة واحدة (1682) لمس هذا الحاكم اللطيف 8. 500 مريض مصاب بهذا المرض، وفي 1684 بلغ التزاحم للوصول إليه حداً ديس معه ستة من المرضى تحت الأقدام حتى ماتوا. ورفض
وليم الثالث أن يواصل التمثيلية. وقال حين حاصر جمع قصره "إنها خرافة غبية، فأعطوا هؤلاء المساكين بعض النقود واصرفوهم". وفي مناسبة أخرى حين كثر الإلحاح عليه ليضع يده على مريض أذعن قائلاً "وهبك الله صحة أفضل وعقلاً أرجح". وقد اتهمه الشعب بالكفر (70).
وتضافرت عيوب هناية الأفراد بصحتهم ونقائص النظافة الصحية العامة مع ذكاء المرض القادر على التكيف. ونشر البغاء الزهري في المدن والمعسكرات. وقد استشرى بصفة خاصة بين الممثلين والممثلات، كما نستنتج منقصة مستورة في مدام دسفنييه عن "مثل اعتزم الزواج برغم أنه يعاني من مرض خطير معين، فقال له أحد أصحابه: ويحك ألا تستطيع الانتظار حتى تشفى؟ إنك ستجر البلاء علينا جميعاً (71) "، وقد مثل القائد الفرنسي فاندوم في البلاط الملكي بغير أنف، لأنه أعطها قرباناً لبكتريا الزهري (72). وكان السرطان يمضي في طريقه قدماً، وتصف لنا مدام دموتفيل سرطان الثدي (73) وقد وصفت الحمى الصفراء أول مرة عام 1694. وانتشر الجدري على الأخص انتشاراً واسعاً في إنجلترا، ولم يكن هناك علاج معروف له، وقد ماتت به الملكة ماري، وابن ملبرة. وابتليت أقطار بأسرها بالأوبئة لا سيما وباء الملاريا. وذكر توماس ويليس أن إنجلترا كلها تقريباً كانت في 1657 أشبه بمستشفى يعالج حمى الملاريا (74). واجتاح الطاعون لندن في 1665 (75). وقتل في فيينا سنة 1679 100. 000 أل و83. 000 في براغ سنة 1681. وازدادت الأمراض المهنية بانتشار الصناعة، وفي 1700 أصدر برناردينو راماتزيني، أستاذ الطب في جامعة بادوا، رسالة ممتازة، De morbis artificum عن الضرر الذي يصيب النقاشين من المواد الكيميائية في طلائهم، والعاملين في الزجاج المعشق من الانتيمون، والبنائين وعمال المناجم من السل، والخزافين من الدوار، والطباعين من أمراض العيون، والأطباء من الزئبق الذي يستعملونه.
وكان تقدم علم الطب بطيئاً في جو الجهل والفقر. وعطل المهنة شره الأطباء للمال، فكان بعض الأطباء الذين قاموا بعلاجات ناجحة يرفضون الكشف لغيرهم من الأطباء عن العلاج الذي استخدموه (76). على أن الأطباء من أعضاء الجمعية الملكية ارتفعوا فوق هذا الشره، وأشركوا زملاءهم بحماسة في كشوفهم. وكان هناك الآن مدارس طبية جيدة وفي مقدمتها مدارس ليدن، وبولونيا، ومونبلييه، وعلى العموم كان الحصول على درجة من معهد معترف به شرطاً لممارسة الطب قانونياً في غربي أوربا. واستمر مدرسو الطب على انقسامهم إلى مدرستين من مدارس العلاج. فدافع بوريللي عن طريقة العلاج الطبي ( iartophysical) ورأى تناول الأمراض على أنها اضطرابات في آلية الجسم. أما سيلفيوس، الذي طور حجج باراسيلسوس وهيلمونت فقد دافع عن الطريقة الكيميائية ( iatrochemical) - وهي طريقة استعمال العقاقير لمقاومة الاضطرابات في "أمزجة" الجسم، ومعظمها في رأيه راجع لزيادة في الحموضة. وكان أنفع من هذه النظريات العامة تلك الكشوف في أسباب أمراض معينة، فوصف سيلفيوس مثلاً لأول مرة الدرينات في الرئتين، وعزا هذه الأورام المرضية إلى السل.
ومن أهم كشوف هذا العصر الجهد الذي قام به ذلك اليسوعي الممتاز، أثناسيوس كيرشر الفولداوي، وكان رياضياً، وفيزيائياً، ومستشرقاً، وموسيقياً، وطبيباً، ويبدو أنه أول من استخدم المكروسكوب في فحص المرض (77). وبهذه الوسيلة وجد أن دم ضحايا الطاعون يحتوي على "ديدان" لا حصر لها لا ترى بالعين المجردة. ورأى حيوانات مماثلة في المادة المتعفنة، وعزا التعفن وكثيراً من الأمراض لنشاطها. وكتب تقريراً عن كشوفه في "البحث في الأمراض الوبائية " Scrutinium Pestis ( روما 1658) بين بعبارات صريحة واضحة لأول مرة ما لم يذكره فراكاستورو إلا تلميحاً في 1546 - وهو النظرية القائلة بأن انتقال الكائنات الحية الضارة من شخص أو حيوان إلى آخر هو سبب المرض المعدي (78).
وتخلف العلاج الطبي عن البحث الطبي، لأن الذين نبغوا في البحث جنحوا إلى تأليف طبقة متميزة عن ممارسي الطب، وكان الاتصال بين الفريقين ناقصاً. وكانت بعض علاجات العصور الوسطى ما زالت توصف للمرضى. وقد سجل أوبري نجاحاً جاء في غير محله. قال "إن امرأة حاولت أن تسمم زوجها (وكان مريضاً بالاستسقاء) بسلق ضفدعة في حسائه، الأمر الذي شفاه من مرضه، وكان هذا هو الظرف الذي عثر فيه على الدواء (79) " ودخلت بعض العقاقير الجديدة الفارماكوبيا في النصف الثاني من القرن السابع عشر: عرق الذهب ipecacuanha والكسكارة، والنعناع
…
ووصف الأطباء الهونديون الشاي دواء لكل الأدواء تقريباً ترويجاً للتجارة الهولندية (80).
وكان اثنان من الهولنديين أعظم معلمي الطب في هذا العصر، وهما سيلفيوس وبويرهافي، وكلاهما في ليدن. وقد علم هيرمان بويرهافي الكيمياء، والفيزياء، والنبات أيضاً، وأقبل عليه الطلاب من شمالي أوربا كلها، وقد رفع مقام الطب الأكلينيكي باصطحابه تلاميذه الأكثر نضجاً في جولاته اليومية على أسرة المستشفى، وتعليمهم بالملاحظة المباشرة والعلاج النوعي لكل حالة بمفردها. وقد ترجمت مؤلفاته إلى كل اللغات الأوربية الكبرى، وحتى إلى التركية، وطبقت شهرته الآفاق حتى بلغت الصين ذاتها.
ووجد الطب الاكلينيكي في إنجلترا أبرع ممثل له في توماس سيدنهام. قضى في أكسفورد فترتين تفصلهما فترات خدمة في الجيش، ثم استقر في لندن ممارساً عاماً. وانتهى بالقليل من النظريات والكثير من الخبرة إلى فلسفته في المرض، الذي عرفته بأنه "جهد من الطبيعة التي تكافح بكل قوتها لترد إلى المريض عافيته بالتخلص من المادة المرضية (81) ". وميز بين الأعراض "الجوهرية" التي تحدها المادة الدخيلة، والأعراض "العرضية" التي تحدثها مقاومة الجسم لها، فالحمى مثلاً ليست مرضاً بل حيلة يتوسل بها الكائن الحي للدفاع عن نفسه. ومشكلة الطبيب أن يعين عملة الدفاع هذه. ومن ثم فقد امتدح سيدنهام أبقراط لأن "أبا الطب":
"لم يتطلب من فن الطب أكثر معاونة الطبيعة إذا وهنت، وكبحها إذا ازداد عنف هودها
…
ذلك أن هذا المراقب الحكيم وجد أن الطبيعة وحدها هي التي تنهي اختلال الصحة، وتعمل على الشفاء مستعينة بعقاقير بسيطة، وأحياناً دون عقاقير على الإطلاق (82) ".
وبراعة سيدنهام في أنه تبين أن لكل مرض كبير صوراً مختلفة، وكان يدرس كل حالة بتاريخها الأكلينيكي ليشخص نوع المرض الذي تنطوي عليه، ويوائم بين العلاج والاختلافات النوعية للمرض. ولهذا نراه يميز الحمى القرمزية عن الحصبة ويعطيها اسمها الحالي. وكان معروفاً بين الأطباء بلقب "أبقراط الإنجليزي" لأنه أخضع النظرية للملاحظة، والأفكار العامة للحالات الخاصة، والعقاقير للعلاجات الطبيعية. وقد ظل كتابه Processus Integri طوال قرن من الزمان المرشد للممارس الإنجليزي في العلاج.
وواصلت الجراحة نضالها لتحظى بالاعتراف بها علماً محترماً. ووجد أكفأ ممثليها أنفسهم بين نارين، عداء الأطباء وحسد الحلاقين-الذين ما زالوا يجرون بعض الجراحات الصغيرة، ومنها جراحة الأسنان. ولم يستطع جي باتان، عميد كلية الطب بجامعة باريس، أن يغتفر للجراحين اتخاذهم زي الأطباء ومسلكهم، ورمى الجراحين جميعاً بأنهم "سلالة من الحمقى، والمغرورين، اللئام، المسرفين، الذين يطلقون شواربهم ويلوحون بأمواسهم (83) ". ولكن في عام 1686 أجرى الجراح فيلكس جراحة ناجحة على ناسور لويس الرابع عشر، وسر الملك سروراً عظيماً فنفح فيلكس بخمسة عشر ألف جنيه ذهبي، وخلع عليه ضيعة في الريف ولقب النبالة. ورفعت هذه الترقية من مكانة الجراحين الاجتماعية في فرنسا. وفي 1699 صدر قانون جعل الجراحة فناً من الفنون الحرة، وبدأ ممثلوها يحتلون مكاناً مرموقاً في المجتمع الفرنسي. وقد وصف فولتير الجراحة بأنها "أنفع الفنون قاطبة" وأنها "الفن الذي بز فيه الفرنسيون سائر أمم الأرض (84) ".
على أن الجراحة الإنجليزية كان لها في هذا العصر مفخرتان على الأقل. ففي 1662 قام ج. د. ميجر بحق الإنسان أول حقنة وريدية ناجحة، وفي 1665 - 67 نجح رتشرد لوور في نقل الدم من
حيوان إلى أوردة حيوان آخر. وقد سجل بيبيس هذا في يوميته (85). ويستفاد من جريدة القيل والقال تلك أن الجراحات كانت تجري عادة بمخدر ضعيف أو دون مخدر، فلما أجريت لبيبيس جراحة لإزالة حصاة في مثانته لم يعط كلوروفورما ولا مطهرات، واكتفى بإعطائه "جرعة مهدئة (86) ".
واستمر الناس يهجون الطبيب كما يهجونه في كل جيل. فقد ساءهم منه أتعابه، وفخامة مظهره في عباءته وشعره المستعار وقبعته المخروطية، وغرور حديثه، وأخطاؤه القتالة أحياناً. وروى بويل أن كثيرين كانوا يخشون الطبيب أكثر مما يخشون المرض (87). وكانت سخريات موليير بالمهنة العظيمة في أكثرها مزاحاً لطيفاً من رجل كان حريصاً رغم ذلك على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع طبيبه. وبقى-بعد أن رشقت السهام كلها-أن القرن السابع عشر شهد تقدماً مشكوراً في علم الطب بفضل عشرات الكشوف في التشريح، والفسيولوجيا، والكيمياء، وأن التبادل الدولي للمعرفة الطبية كان في ازدياد، وأن كبار الأساتذة كانوا يبعثون تلاميذهم الأكفاء إلى جميع أرجاء أوربا الغربية، وأن الجراحة كانت تحسن طرقها وترفع مكانتها، وأن الأخصائيين كانوا يزدادون معرفة ومهارة، وأن مزيداًُ من التدابير كان يتخذ للنهوض بالصحة العامة. وشرعت الحكومات البلدية القوانين التي تكفل النظافة الصحية. وفي 1656، حين ظهر الطاعون في روما، حتم المونسنيور جاستالدي، المأمور البابوي للصحة، تنظيف الشوارع والمجاري، وتفتيش السقايات بانتظام، وتوفير الإمكانات العامة لتطهير الملابس، وتقديم الشهادات الصحية من جميع الأشخاص الذين يدخلون المدينة (88)، وبازدياد الثروة بنى الناس بيوتاً أمتن تستطيع أن تبعد الفئران إلى مسافة محترمة فتقلل من انتشار الطاعون. وقد يسرت إمدادات أفضل من المياه-وهي أول ضرورات الحضارة-النظافة للأجسام الراغبة فيها. وأخذ التحضر يصبح-بدنياً-في متناول مزيد من الناس.
11 - النتائج
كان القرن السابع عشر في جملته إحدى القمم في تاريخ العلم.
أنظر إليه في سلمه الصاعد، ابتداءً من بيكون يدعو الناس للكفاح في سبيل ترقية المعرفة، وديكارت يزاوج بين الجبر والهندسة، مروراً بتحسين التلسكوبات، والمكروسكوبات، والبارومترات، والترمومترات والمضخات الهوائية والعلوم الرياضية، وبقوانين كبلر الكوكبية، وقبة جاليليو السماوية المتعاظمة، ورسم هارفي لخريطة الدم، ونصفي كرة جيوريكي المحكمتين، وكيمياء بويل الشكاكة، وفيزياء هويجنز المتعددة الصور، ومحاولات هوك الكثيرة الأشكال، وتنبؤات هالي الكونية، ثم انتهاء بحساب ليبنتز التفاضلي التنوتي ونسق نيوتن الكوني، انظر إلى كل أولئك واسأل: أي قرن سابق أنجز مآثر هذا القرن؟ يقول ألفريد فورت هوايتهيد أن الذهن الحديث "يعيش إلى اليوم على ذخيرة الأفكار المتجمعة التي وفرتها له عبقرية القرن السابع عشر "في العلم، والأدب، والفلسفة (89) ".
وانتشر تأثير العلم في أقواس متسعة. أثر في الصناعة بتوفيره الفيزياء والكيمياء اللتين كفلتا المغامرات الجديدة في التكنولوجيا. وفي التعليم ألزم بتخفيف التركيز على العلوم الإنسانية-على الأدب، والتاريخ، والفلسفة، لأن تطوير الصناعة والتجارة والملاحة تطلب المعرفة والأذهان العملية. وأحس الأدب ذاته التأثير الجديد: فسعى العالم وراء النظام والدقة والوضوح أوحى بفضائل مماثلة في الشعر والنثر، وانسجم مع الأسلوب الكلاسيكي الذي يمثله موليير وبوالو وراسين، كما يمثله أديسون وسويفت وبوب. واشترطت الجماعية الملكية-كما يقول مؤرخها-على أعضائها، أسلوباً في الحديث طبيعياً عادياً، محكماً. يقرب كل الأشياء قدر الإمكان من الوضوح الرياضي (90) ".
وتأثرت الفلسفة والدين بانتصارات الرياضة والفيزياء، التي حددت للمذنبات ميقاتاً ووضعت للنجوم قوانين. وتقبل ديكارت وسبينوزا الهندسة مثلاً أعلى للفلسفة والعرض. ولم يعد بعد ذلك من حاجة لأن يفترض في الكون شيء غير المادة والحركة. ورأى ديكارت العالم كله آلة، باستثناء العقل البشري والإلهي، وتحدى هوبز هذا الاستثناء، وصاغ مادية يكون حتى الدين فيها أداة للدولة تستعين بها على تسيير الآلات البشرية. ولاح أن علوم الفيزياء والكيمياء والفلك
الجديدة "تكشف عن كون يعمل طبقاً لقوانين لا تتغير، وهو كون لا يسمح بمعجزات، وإذن فلا يستجيب لصلوات، وإذن فلا يحتاج لإله. وربما جاز الإبقاء عليه ليعطي آلة العالم دفعة مبدئية، ولكنه بعد هذا له أن ينسحب ليكون رباً أبيقورياً-لوكريتياً، لا يعبأ بالعالم ولا بالناس. وروي أن هالي أكد لصديق لباركلي أن "عقائد المسيحية" أصبحت الآن "لا يمكن تصورها (91)". على أن بويل رأى في كشوف العلم دليلاً جديداً على وجود الله. وكتب يقول "أن العالم يسلك وكأن الكون يشيع فيه كله كائن ذكي". وأضاف في عبارة تعيد بسكال إلى الذاكرة "إن أنفس الإنسان كائن أنبل وأثمن من العالم المادي بأسره (92)". ولما مات خلف مالاً ينفق منه على محاضرات تظهر صدق المسيحية إزاء "مشهوري الكفار، وهم الملحدون، والقائلون بوجود آلهة، والوثنيون واليهود، والمسلمون" وأضاف شرطاً هو أن المحاضرات يجب ألا تخوض في المجادلات الناشبة بين المسيحيين (93).
ووافق علماء كثيرون على رأي بويل، وشارك كثير من المسيحيين المؤمنين في الإشادة بالعلم. كتب داريدن في ختام القرن يقول "في هذه السنين المائة الأخيرة كشف لنا القناع عن طبيعة جديدة تقريباً-ارتكب من الأخطاء، وأجرى من التجارب المفيدة، وأميط اللثام عن أسراراً رفيعة في البصريات، والطب، والتشريح، والفلك-أكثر مما حدث في جميع تلك العصور الخرفة الساذجة، ابتداءً أرسطو إلى يومنا هذا (94) "، وتلك مبالغة مفرطة ولكنها ذات دلالة، تكشف لنا عن اقتناع "المحدثين" بأنهم كسبوا معركة الكتب ضد "القدامى" على أية حال لم يملك الناس إلا أن يروا أن العلوم تزيد المعرفة الإنسانية، بينما الأديان تصطرع والساسة يقتتلون. وسما العلم الآن إلى مقام جديد من الشرف بين مغامرات الإنسان، لا بل أن هذا العهد لم يؤذن بالنهاية إلا والناس يرحبون بالعلم بشيراً بمجيء المجتمع المثالي ومخلصاً للنوع الإنساني. كتب فونتنيل في 1702 يقول "إن تطبيق العلم على الطبيعة سينمو بإطراد في مداه وقوته، وسنمضي قدماً من عجيبة إلى عجيبة. وسوف يأتي اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يطير بأجنحة تحفظه في الهواء، وسينمو هذا الفن
…
حتى نستطيع يوماً أن نظيراًَ إله القمر (95) ". لقد كان كل شيء يتقدم، إلا الإنسان.
الفصل التاسع عشر
إسحاق نيوتن
1642 - 1727
1 -
الرياضي
ولد في مزرعة صغيرة بوولزثورب، في مقاطعة لنكولن، في 25 ديسمبر 1642 (حسب التقويم القديم، أي اليولياني) وهو العام الذي مات فيه جاليليو، وكانت الزعامة الثقافية، كالزعامة الاقتصادية، في سبيلها من الجنوب إلى الشمال. وكان عند ميلاده صغير الحجم جداً بحيث كان في الإمكان وضعه في كوز سعته ربع جالون (كما أخبرته أمه فيما بعد)، وضعيفاً جداً بحيث لم يخطر ببال أحد أنه سيعيش أكثر من أيام (1) معدودات. وكفلته أمه وخاله لأن أباه كان قد مات قبل ولادته بشهور.
وحين بلغ الثانية عشرة أرسل إلى المدرسة الخاصة في جرانثام، فلم يحالفه التوفيق فيها. وجاء في التقارير عنه أنه "خامل" و "غير ملتفت"، وأنه يهمل الدراسات المقررة ويقبل على الموضوعات التي تستهويه، وينفق الوقت الكثير على المخترعات الميكانيكية كالمزاول، والسواقي، والساعات البيتية الصنع. وبعد أن قضى عامين في جرانثام أخذ من المدرسة ليساعد أمه في المزرعة. ولكنه عاد إلى إهمال واجباته ليقرأ الكتب ويحل المسائل الرياضية. وتبين خال آخر كفايته، فأعاده إلى المدرسة، وعمل الترتيبات لقبول نيوتن بكلية ترنتي في كمبردج (1661) طالباً يكسب مصروفاته بمختلف الخدمات ( subsizar) . وحصل على درجته الجامعية بعد أربع سنوات، وبعدها بقليل انتخب زميلاً بالكلية. وخص باهتمامه الرياضة، والبصريات، والفلك، والتنجيم، وقد احتفظ بميله لدراسة التنجيم إلى فترة متأخرة من حياته.
وفي 1669 استقال أستاذه في الرياضة إسحاق بارو، وعين نيوتن خلفاً له بناءً على توصية منه، وصف فيها نيوتن بأنه "عبقري لا نظير له"، وقد احتفظ بكرسيه في ترنتي أربعة وثلاثين عاماً. ولم
يكن بالمعلم الناجح. كتب سكرتيره عن ذكريات ذلك العهد يقول "كان الذين يذهبون للاستماع إليه قليلين، والذين يفهمونه أقل، حتى أنه في أحياناً كثيرة وكأنه يقرأ للحيطان بسبب قلة السامعين (2) ". وفي بعض المناسبات لم يكن يجد مستمعين إطلاقاً فيعود إلى حجرته كاسف البال. وبنى فيه مختبراً-كان الوحيد في كمبردج آنئذ. وقام بالكثير من التجارب، لا سيما في الخيمياء "وهدفه الأكبر تحويل المعادن (3) "، ولكنه اهتم أيضاً بـ "اكسير الحياة" و "حجر الفلاسفة (4) " وواصل دراساته الخيميائية من 1661 إلى 1692، وحتى وهو يكتب كتابه "المبادئ (5) " ترك مخطوطات عن الخيمياء دون نشر بلغ مجموع كلماتها نيفاً و100. 000 "لا قيمة لها إطلاقاً (6) " وكان بويل وغيره من أعضاء الجمعية الملكية مشغولين شغلاً محموماً بهذا البحث نفسه عن صنع الذهب. ولم يكن هدف نيوتن تجارياً بشكل واضح، فهو لم يبد قط أي حرص على المكاسب المادية، ولعله كان يبحث عن قانون أو عملية يمكن أن تفسر بها العناصر على أنها أشكال مغايرة، قابلة للتحويل، لمادة أساسية واحدة. ولا سبيل لنا إلى التأكد من أنه كان مخطئاً.
وكان له حديقة صغيرة خارج مسكنه بكمبردج، يتمشى فيها فترات قصيرة سرعان ما تقطعها فكرة يهرع إلى مكتبه ليسجلها. كان قليل الجلوس، يؤثر أن يذرع حجرته كثيراً (في رواية سكرتيره) "حتى لتخاله
…
واحداً من جماعة أرسطو" المشائين (7). وكان مقلاً في الطعام، وكثيراً ما فوت وجبة، ونسى أنه فوتها. وكان ضنيناً بالوقت الذي لا بد من إنفاقها في الأكل والنوم. "ونادراً ما ذهب لتناول الطعام في القاعة، فإذا فعل فإنه-ما لم ينبه-يذهب في هيئة زرية، حذاؤه بالي الكعبين، وجواربه بلا رباط
…
ورأسه غير ممشط إلا فيما ندر (8) ". وقد رويت، واخترعت القصص الكثيرة عن شرود ذهنه. ويؤكدون أنه قد يجلس الساعات بعد استيقاظه من النوم على فراشه دون أن يرتدي ثيابه وقد استغرقه الفكر (9). وكان أحياناً إذا جاءه زائرون يختفي في حجرة أخرى، ويخط أفكاراً على عجل، وينسى أصحابه تماماً (10).
لقد كان راهباً من رهبان العلم في هذه السنين الخمس والثلاثين
بكمبردج. وقد وضع "قواعد للتفلسف"-أعني الطريقة والبحث العلميين. ورفض القواعد التي وضعها ديكارت في "مقاله" كمبادئ قابلية تستنتج منها كل الحقائق الكبرى بالاستدلال. وحين قال نيوتن "أنا لا أخترع فروضاً (11) " كان يعني أنه لا يقدم نظريات حول أي شيء يتجاوز ملاحظة الظواهر، فهو إذن لا يغامر بأي تخمين عن طبيعة الجاذبية، بل يكتفي بوصف مسلكها وصياغة قوانينها. ولم يزعم أنه يتجنب الفروض باعتبارها مفاتيح للتجارب، فإن مختبره على العكس خصص لاختبار مئات الأفكار والإمكانات، وسجله يزخر بالفروض التي جربت ثم رفضت. كذلك لم يرفض الاستدلال، إنما أصر على أنه يجب أن ينطلق من الوقائع ويفضي إلى المبادئ. وكانت طريقته أن يتصور الحلول الممكنة للمشكلة، ويستنبط متضمناتها الرياضية، ويختبر هذه بالحساب والتجربة. وكتب يقول "يبدو أن مهمة الفلسفة (الطبيعية) كلها تكمن في هذا-البحث من ظواهر الحركات في قوى الطبيعة، ثم إيضاح الظواهر الأخرى من هذه القوى (12) ". لقد كان مزيجاً من الرياضة والخيال، ولن يستطيع فهمه إلا من يملكهما جميعاً.
ولكن لنمض في طريقنا رغم هذا. إن لشهرته بؤرتين-حساب التفاضل، والجاذبية. بدأ عمله في حساب التفاضل عام 1665 بإيجاد مماس ونصف قطر الانحناء عند أي نقطة على منحني. ولم يسم طريقته حساب التفاضل بل الفروق المستمرة " Fluxions وفسر هذا المصطلح تفسيراً لا يمكننا أن نصل إلى خير منه:
"إن الخطوط ترسم، وبهذا الرسم تولد، لا بضم الأجزاء بعضها إلى بعض، بل بالتحرك المستمر بالنقط، والسطوح بتحرك الخطوط، والمجسمات بتحرك السطوح، والزوايا بدوران الجوانب، وأجزاء الزمن بالفيض المستمر، وهكذا في غير ذلك من الكميات. وعلى ذلك فبما أن الكميات، التي تزداد في أزمان متساوية، وبالزيادة تولد، أصبحت أكبر أو أقل حسب السرعة الأكبر أو الأقل التي تزداد أو تولد بها، فإنني بحثت عن طريقة لتحديد الكميات من سرعات الحركات أو الزيادات التي تولد بها، وإذا أطلقت على سرعات الحركات أو الزيادات لفظ "الفروق " Fluxions، والكميات المولودة "المتغيرات"، فقد اهتديت شيئاً فشيئاً إلى طريقة الفروق في عامي 1665 و1666 (13) "
وقد وصف نيوتن طريقته في خطاب كتبه لبارو عام 1669، وأشار إليها في خطاب لجون كولنز في 1672. ولعله استخدم هذه الطريقة في التوصل إلى بعض النتائج المتضمنة في كتابه "المبادئ" (1687)، ولكن عرضه لها فيه جري على الصيغ الهندسية المقبولة ربما مراعاة لم يناسب قراءه. وقد أسهم ببيان لطريقته في الفروق-ولكن دون أن يخفي اسمه-في كتاب واليس "الجبر" عام 1693. ولم ينشر الوصف الذي اقتبسناه فيما سبق إلا عام 1704، في ملحق لكتابه "البصريات". وكان في طبع نيوتن أن يؤخر نشر نظرياته، وربما أراد أولاً أن يحل الصعوبات التي أوحت بها. وعليه فقد انتظر حتى سنة 1676 لينشر نظرية "ذات الحدين" التي خلص إليها. ولو أنه صاغها على الأرجح في 1665
(1)
.
هذه التأجيلات زجت برياضي أوربا في جدل معيب مزق دولية العلم جيلاً بأسره. ذلك أنه في الفترة بين إبلاغ نيوتن نظريته في "الفروق" لأصحابه في 1669 ونشر الطريقة الجديدة في 1704، وضع ليبنتز نظاماً منافساً لها في ماينز وباريس. ففي 1671 أرسل إلى أكاديمية العلوم بحثاً يحوي جرثومة حساب التفاضل (14)، وقابل ليبنتز أولدبورج في زيارة للندن، من يناير إلى مارس 1673، وكان قد تبادل الرسائل معه ومع بويل. وقد ظن أصحاب نيوتن فيما بعد أن لبنتز في رحلته هذه تلقى إلماعاً لفروق نيوتن-ولكن المؤرخين يتشككون في هذا الآن. وفي يونيو 1676، بناء على طلب أولدنبرج وكولنز، كتب نيوتن خطاباً ليبلغ إلى لبنتز، شارحاً فيه طريقته في التحليل. وفي أغسطس رد لبنتز على أولدنبرج، وضمن الرد بعض الأمثلة من شغله في حساب التفاضل، وفي يونيو 1677، في خطاب آخر لأولدنبرج، وصف نوع حساب التفاضيل الذي توصل إليه، وطريقته في التنويت notation أي التدوين بمجموعة من الرموز)، وهما يختلفان عن حساب نيوتن وطريقته. ثم عاد في مجلة Acta Eruditorun عدد أكتوبر 1684 يشرح حساب التفاضل،
(1)
وطبقاً لهذه النظرية فإن أي قوة ذات حدين (وهو تعبير جبري مؤلف من حدين تربطهما علامة زائد أو ناقص) يمكن إيجادها بصيغة جبرية بدلاً من إيجادها بالضرب. وقد سبق نيوتن جزئياً إلى هذه النظرية فييت وبسكال.
وفي 1686 نشر طريقته في حساب التكامل. وفي الطبعة الأولى من "المبادئ"(1687) قبل نيوتن بشكل واضح اكتشاف ليبنتز لحساب التفاضل مستقلاً. قال:
"في رسائل تبادلتها مع عالم الهندسة الألمعي ج. و. ليبنتز، قبل عشر سنوات، حين أشرت إلى أنني أعرف طريقة لإيجاد الحدود القصوى والدنيا، ورسم المماسات، وما إلى ذلك
…
رد السيد المبجل بأنه اهتدى هو أيضاً إلى طريقة من نفس النوع، وأنهى إلى طريقته، التي لم تكد تختلف عن طريقتي
…
إلا في أشكال ألفاظه ورموزه (16) ".
وكان خليقاً بهذا الاعتراف المهذب أن يمنع الجدل. ولكن في 1699 أشار رياضي سويسري في رسالة للجمعية الملكية إلى أن لبنتز استعار حساب تفاضله من نيوتن. وفي 1705 ذكر ليبنتز تضميناً، في نقد غفل من التوقيع لكتاب نيوتن "البصريات" أن فروق نيوتن تحوير لحساب التفاضل اللبنتزي. وفي 1712عينت الجمعية الملكية لجنة فحص الوثائق المتصلة بالموضوع. وقبل أن ينصرم العام نشرت الجمعية تقريراً Commercium Epistolicum أكد أسبقية نيوتن، دون أن تخوض في موضع أصالة لبنتز. وفي رسالة كتبها لبنتز بتاريخ 9 أبريل 1716 إلى قسيس إيطالي بلندن اعترض بقوله أن تعليق نيوتن قد حسم الأمر. ومات لبنتز في 14 نوفمبر 1716. وبعد موته بقليل نفى نيوتن أن التعليق" أقر له-أي للبنتز باختراع حساب التفاضل مستقلاً عن اختراعي" وفي الطبعة الثالثة من "المبادئ" (1726) حذف التعليق (17). ولم يكن النزاع مما يليق بالفلاسفة، لأن كلا المدعيين كان يصح أن ينحني احتراماً لفيرما لأنه كان رائداً لهما في هذا المضمار.
2 - الفيزيائي
على أن الرياضة، على ما فيها من عجب، لم تكن سوى أداة لحساب الكميات، فهي لم تزعم أنها تفقه الحقيقة أو تصفها. فلما تحول نيوتن من الأداة إلى البحث الجوهري، عكف أولاً على استكناه سر الضوء. وتناولت محاضراته الأولى في كمبردج الضوء، واللون،
والرؤية، وعلى عاداته لم ينشر كتابه "البصريات" إلا بعد خمس وثلاثين سنة، في 1704، فقد كان بريئاً من شهوة النشر.
وفي عام 1666 اشترى منشوراً من سوق ستوربردج وبدأ التجارب وبدأ التجارب في البصريات. وفي عام 1668 فصاعداً صنع سلسلة من التلسكوبات. فصنع بيديه، على أساس النظريات التي شرحها مرسين (1639) وجيمس جريجوري (1662)، تلسكوباً عاكساً ليتفادى بعض العيوب الملازمة للتلسكوب الكاسر، وقدمه للجمعية الملكية بناء على طلبها عام 1671. وفي 11 يناير 1672 انتخب لعضوية الجمعية.
وكان قد توصل (1666) إلى أحد كشوفه الأساسية حتى قبل أن يصنع التلسكوبات-وهو أن الضوء الأبيض، أو ضوء الشمس، ليس بسيطاً أو متجانساً، بل هو مركب من الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي. فلما مرر شعاعاً صغيراً من ضوء الشمس خلال منشور شفاف وجد أن الضوء الذي يبدو أحادي اللون انقسم إلى كل ألوان الطيف هذه، وأن كل لون مكون خرج من المنشور عند زاويته أو درجته أو انكساره الخاص، وأن الألوان نظمت نفسها في صف الحزم، مؤلفه طيفاً مستمراً، في أحد طرفيه اللون الأحمر وفي الآخر البنفسجي. وقد أثبت الباحثون اللاحقون أن المواد المختلفة، إذا جعلت مضيئة بحرقها، تعطي أطيافاً مختلفة. وبمقارنة هذه الأطياف بالطيف الذي يحدثه نجم معين، أصبح في الإمكان تحليل مكونات النجم الكيميائية إلى حد ما. ثم دلت الملاحظات الأدق لطيف النجم على السرعة التقريبية لتحركه نحو الأرض أو بعيداً عنها، ومن هذه الحسابات استنبط نظرياً بعد النجم. وهكذا تمخض كشف نيوتن لتكوين الضوء، وانكساره في الطيف، عن نتائج كونية تقريباً في ميدان الفلك.
ولم تتكشف هذه النتائج لنيوتن في ذلك الحين، ولكنه أحس (كما كتب لأولدنبرج) أنه توصل "إلى أغرب كشف إلى الآن أن لم يكن أهم كشف في عمليات الطبيعة (18) " فأرسل إلى الجمعية الملكية في بواكير عام 1672 بحثاً عنوانه "نظرية جديدة في الضوء واللون". وقرئ البحث على الأعضاء في 8 فبراير، فأثار جدلاً عبر المانش إلى القارة. وكان هوك قد وصف في كتابه "ميكروجرافيا"
(1664)
تجربة شبيهة بتجربة نيوتن بالمنشور، ولم يكن قد استنتج منها نظرية ناجحة في اللون، ولكنه أحس بأن في أفعال نيوتن لفضله السابق غضاً من قدره، فانضم غلى بعض أعضاء الجمعية في نقد النتائج التي خلص إليها نيوتن، واستمر النزاع ثلاثة أعوام. كتب نيوتن المرهف الحس يقول "إنني مضطهد بالجدل الذي أثارته نظريتي في الضوء اضطهاداً جعلني ألوم حماقتي لأنني ضحيت بنعمة عظمي، نعمة هدوء البال، جرياً وراء سراب (19) " وحدثته نفسه حيناً بأن "أطلق الفلسفة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، إلا ما أفعله إرضاء لذاتي (20) ".
وثارت نقطة أخرى من نقط الجدل مع هوك حول ناقل الضوء. وكان هوك قد اعتنق نظرية هويجنز، التي زعم فيها أن الضوء ينتقل على موجات "أثير". ورد نيوتن بأن هذه النظرية لا تفر مسار الضوء في خطوط مستقيمة. واقترح بدلاً منها "نظرية الجسيمات أو الدقائق " corpuscular theory: فالضوء سببه إطلاق الجسم المضيء جزيئات دقيقة لا حصر لا، تسير في خطوط مستقيمة خلال الفضاء بسرعة 190. 000 ميل في الثانية. ورفض نظرية الأثير ناقلاً للضوء، ولكنه قبله بعد ذلك وسيطاً لقوة الجاذبية
(1)
. وجمع نيوتن مناقشاته حول الضوء في كتابه (البصريات Opticks في 1704. ووما له دلالة أنه كتبه بالإنجليزية (في حين كان كتاب المبادئ Psincipia باللاتينية)، ووجهه "إلى القراء الحاضري الذكاء والفهم، الذين لم يتضلعوا بعد في البصريات". وفي نهاية الكتاب وضع قائمة لواحد وثلاثين سؤالاً تتطلب مزيداً من البحث. وكان السؤال الأول إرهاصاً بهذه النبوءة "ألا تؤثر الأجسام في الضوء عن بعد، فتنحني أشعته بهذا التأثير، وألا يكون هذا
(1)
فضل الفيزيائيون اللاحقون نظرية التموجات التي قال بها هويجنز على أساس أن فرض الجسيمات الذي به نيوتن لا يعلل تعليلاً مرضياً ظواهر الانحراف، والتداخل، والاستقطاب. ويميل الفيزيائيون المعاصرون إلى الجمع بين الرأيين تفسيراً لظواهر تبدو أنها تشتمل على الجسيمات والأمواج معاً. والفوتونات أو الكمات التي يقول بها الفيزيائيون اليوم تعيد إلى الذاكرة جسيمات نيوتن، أما الأثير فقد الآن اعتباره.
التأثير على أشده في أدنى الأبعاد
(1)
؟ " والسؤال الثلاثون "لم لا تغير الطبيعة الأجسام إلى ضوء والضوء إلى أجسام؟ ".
3 - أصل نظرية الجاذبية
كانت سنة 1666 سنة جنينية لنيوتن. شهدت بداية جهوده في البصريات، ولكنه كذلك يقول عن ذكرياته أن شهر مايو "كان مدخلي إلى الطريقة العكسية للفروق المستمرة، وفي نفس السنة بدأت أفكر في امتداد الجاذبية إلى مدار القمر .. .. بعد أن قارنت بين القوة اللازمة لحفظ القمر في مداره، وقوة الجاذبية على سطح الأرض، ووجدتهما متفقتين تماماً تقريباً
…
في تلك السنين كانت في ربيع عمري (21) ".
وفي عام 1666 وصل الطاعون إلى كمبردج، فعاد نيوتن إلى موطنه وولزثورب طلباً للسلامة. وهنا نلتقي بقصة لطيفة. كتب فولتير في كتابه "فلسفة نيوتن" (1738):
"ذات يوم من أيام 1666، حين كان نيوتن معتكفاً في الريف رأى ثمرة تسقط من شجرة كما أخبرتني بنت أخته السيدة كوندويت، فاستغرق في تفكير عميق في السبب الذي يجذب جميع الأجسام في خط إذا مد مر قريباً جداً من مركز الأرض (22) ".
وهذا أقدم ما نعرفه من ذكر لقصة التفاحة. وهي لا ترد في كتب مترجمي نيوتن القدامى، ولا في روايته لكيفية اهتدائه لفكرة الجاذبية الكونية، والفكرة السائدة اليوم عن القصة أنها أسطورة. وأرجح منها قصة أخرى رواها فولتير، وهي أن غريباً سأل نيوتن كيف اكتشف قوانين الجاذبية، فأجاب "بإدمان التفكير فيها (23) " ومما لا ريب فيه أنه بحلول عام 1666 كان نيوتن قد حسب قوة الجذب التي تحفظ الكواكب في أفلاكها وانتهى إلى أنها تتناسب تناسباً عكسياً مع مربع بعدها عن الشمس (24). ولكنه لم يستطع إلى ذلك الوقت التوفيق بين النظرية وحساباته الرياضية، فنحاها جانباً، ولم ينشر عنها شيئاً طوال الأعوام الثمانية عشر التالية.
(1)
فضل الفيزيائيون اللاحقون نظرية التموجات التي قال بها هويجنز على أساس أن فرض الجسيمات الذي به نيوتن لا يعلل تعليلاً مرضياً ظواهر الانحراف، والتداخل، والاستقطاب. ويميل الفيزيائيون المعاصرون إلى الجمع بين الرأيين تفسيراً لظواهر تبدو أنها تشتمل على الجسيمات والأمواج معاً. والفوتونات أو الكمات التي يقول بها الفيزيائيون اليوم تعيد إلى الذاكرة جسيمات نيوتن، أما الأثير فقد الآن اعتباره.
ولم تكن فكرة الجاذبية بين النجوم جديدة قط على نيوتن. فقد ذهب بعض فلكيي القرن الخامس عشر إلى أن السماوات تؤثر في الأرض بقوة تشبه قوة تأثير المغنطيس في الحديد، وما دامت الأرض تنجذب بالتساوي من جميع الاتجاهات فإنها تبقى معلقة في مجموع هذه القوة (25). وقد نبه كتاب جلبرت "المغنطيس"(1600) أذهاناً كثيرة إلى التفكير في التأثيرات المغنطيسية المحيطة بكل إنسان، وقد كتب هو نفسه في كتاب لم ينشر إلا بعد موته بثمانية وأربعين عاماً (1651) يقول:
"إن القوة المنبعثة من القمر تصل إلى الأرض، وبالمثل فإن القوة المغنطيسية للأرض تعم منطقة القمر، وكلتاهما تتجاوب وتتآلف بتأثيرهما المشترك، حسب تناسب الحركات وتطابقها، ولكن تأثير الأرض أكبر نتيجة لكبر كتلتها (26) ".
وكان اسماعيلس بوريار قد قر في كتابه " Astronomia Philolacia"(1645) أن جذب الكواكب بعضها لبعض يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما (27)، وذهب ألفونسو بوريللي في كتابه "نظريات الكواكب المديشية"(1666) إلى أن "كل كوكب وتابع يدور حول كرة كبرى في الكون بوصفها مصدراً للقوة، تجذب الكوكب وتابعه وتمسكهما بحيث لا يمكن إطلاقاً أن ينفصلا عنها، بل يضطران لإتباعهما أينما ذهبت، في دورات ثابتة مستمرة"، وقد فسر مدارات هذه الكواكب والتوابع بأنها نتيجة القوة المركزية الطاردة لدورانها ("كما نجد في العجلة أو الحجر يدوم في مقلاع") تقابلها قوة شمسها الجاذبة (28). وذهب كبلر إلى أن الجاذبية ملازمة لجميع الأجرام السماوية، وقدر في فترة من حياته أن قوتها تتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها، وكان هذا خليقاً بأن يكون سبقاً واضحاً لنيوتن، ولكنه عاد فرفض هذه الصيغة، وافترض أن الجذب يتناقص تناقصاً طردياً مع زيادة المسافة (29). على أن هذه المداخل إلى نظرية في الجاذبية حرفتها عن طريقها نظرية ديكارت في الدوامات التي تكونت في كتلة بدائية، ثم عينت عمل كل جزء ومداره.
وقد فكر كثير من المستفسرين اليقظين في الجمعية الملكية تفكيراً
عميقاً في رياضيات الجاذبية. وفي 1674 سبق هوك بكتابه "محاولة لإثبات حركة الأرض السنوية""إعلان" نيوتن لنظرية الجاذبية بأحد عشر عاماً. قال هوك:
"سأشرح نظاماً للكون مختلفاً في تفاصيل كثيرة عن أي نظام عرف إلى الآن، متفقاً في جميع الأشياء مع القواعد الشائعة للحركات الميكانيكية. وهو يعتمد على فروض ثلاثة:(أولها) أن كل الأجرام السماوية أياً كانت ذوات قوة جاذبة إلى مراكزها، لا تجذب بها أجزاءها فحسب وتحفظها من أن تتطاير منها
…
بل تجذب كذلك سائر الأجرام السماوية الواقعة في مجال نشاطها
…
(وثانيها) أن جميع الأجسام أياً كانت، التي تحرك حركة طردية وبسيطة، تستمر في الحركة قدماً في خط مستقيم إلى أن تحرفها عن طريقها قوة فعالة أخرى
…
(وثالثها) أن قوى الجذب هذه يشتد فعلها بقدر قرب الجسم الواقع تحت جاذبيتها من مراكزها" (30).
ولم يحسب هوك في بحثه هذا أن الجذب يتناسب تناسباً عكسياً مع مربع المسافة، ولكنه أنهى هذا المبدأ إلى نيوتن-إذا صدقنا رواية أوبري-بعد أن توصل إليه مستقلاً (31). وفي يناير 1684 شرح هوك صيغة المربعات العكسية لرن وهالي، اللذين كانا قبلاها من قبل. فذكر لهوك أن الحاجة ليست إلى مجرد فرض، بل إلى إيضاح رياضي يثبت أن مبدأ الجاذبية يفسر مسارات الكواكب. وعرض رن على هوك وهالي جائزة قدرها أربعون شلناً (100 دولار) أن أتاه أحدهما ببرهان رياضي على الجاذبية. ولم يأته البرهان على قدر علمنا (32).
وفي أحد أيام أغسطس 1684 ذهب هالي إلى كمبردج وسأل نيوتن ماذا يكون مدار كوكب ما إذا تناسب جذب الشمس له تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينهما. وأجاب نيوتن أنه يكون قطعاً ناقصاً (اهليلجاً) ز ولما كان كبلر قد استخلص من دراسته الرياضية لمشاهدات تيكو براهي أن مدارات الكوكب اهليلجية، فقد بدا أن الفلك الآن تأيد بالرياضة، والعكس بالعكس. وأضاف نيوتن أنه أجرى الحسابات تفصيلاً في 1679، ولكنه نحاها جانباً، من جهة
لأنها لم تتفق تماماً مع التقديرات السائدة يومها لقطر الأرض والبعد بين الأرض والقمر، وأرجح من هذا السبب أنه لم يكن واثقاً من أنه يستطيع تناول الشمس، والكواكب، والقمر على أنها نقط مفردة في قياس قوتها الجاذبة. ولكن في عام 1671 أذاع بيكار قياسه الجديد لنصف قطر الأرض ولدرجة من درجات خطوط الطول، التي حسب أخيراً أنها تبلغ 69. 1 ميلاً قانونياً إنجليزياً، وفي عام 1672 تمكن بيكار بفضل بعثته إلى سايين من حساب بعد الشمس عن الأرض فقرر أنه 87. 000. 000 ميل (والرقم الحالي 92. 000. 000) واتفقت هذه التقديرات الجديدة اتفاقاً طيباً مع رياضة نيوتن في الجاذبية، وأقنعه المزيد من الحسابات في 1685 بأن الكرة تجذب الأجسام وكأن كتلة هذه الكرة كلها تجمعت في مركزها. وشعر الآن بمزيد من الثقة في فرضه.
ثم قارن سرعة حجر على الأرض بسرعة سقوط القمر على الأرض إذا نقصت قوة جذب الأرض له بمربع المسافة بينهما. فوجد أن نتائجه تتفق وآخر البيانات الفلكية. فخلص من هذا إلى أن القوة التي تسقط الحجر، والقوة الجاذبة للقمر نحو الأرض رغم قوة طرد القمر المركزية، هما قوة واحدة. وسر الإنجاز الذي حققه هنا كامن في تطبيقه هذه النتيجة التي انتهى إليها على جميع الأجسام التي في الفضاء، وفي تصوره أن جميع الأجرام السماوية مترابطة في شبكة من التأثيرات الجذبية، وفي بيانه كيف أن حساباته الرياضية والميكانيكية تتفق وملاحظات الفلكيين، لا سيما قوانين كبلر الكوكبية
(1)
.
وبدأ نيوتن إجراء حساباته من جديد، وأنهاها إلى هالي في نوفمبر 1684. وأدرك هالي أهميتها فحثه على تقديمها للجمعية
(1)
قوانين كبلر (1609، 1619): (1) إن الكواكب ترسم مدارات اهليلجية، فيها الشمس بؤرة واحدة (2) إن الخط الذي يربط كوكباً بالشمس ينتشر فوق مساحات متساوية في أوقات متساوية. (3) إن مربع فترة دوران الكوكب يتناسب مع مكعب متوسط بعده عن الشمس. وهذه الصيغة أفضت إلى قانون المربعات العكسية.
الملكية فوافق، وأرسل إلى الجمعية رسالة في "قضايا الحركة"(فبراير 1685)، لخص فيها آراء في الحركة والجاذبية. وفي مارس 1686 قدم للجمعية مخطوط الكتاب الأول من كتب الحركة، عن المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية. وللتو لفت هوك النظر إلى أنه سبق نيوتن في 1674. ورد نيوتن في رسالة إلى هالي أن هوك أخذ فكرة المربعات العكسية عن بوريللي وبويار. وتفاقم الخلاف حتى أصبح سخطاً من الطرفين، وحاول هالي أن يصلح ذات البين، وهدأ نيوتن ثائرة هوك بتضمين مخطوطته حاشية، تحت القضية الرابعة، أقر فيها بفضل "أصدقائنا رن، وهوك، وهالي"، في أنهم "استنتجوا من قبل" قانون المربعات العكسية. ولكنه ضاق بالنزاع أشد الضيق حتى أنه حين أعلن لهالي (20 يونيو 1678) أن الكتاب الثاني جاهز، أضاف قائلاً "في نيتي الآن أن أوقف الكتاب الثالث. فالفلسفة أشبه بامرأة مشاكسة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضايا أمام المحاكم". وأقنعه هالي بأن يواصل الكتاب. وفي سبتمبر 1687 نشر المؤلف كله برعاية الجمعية الملكية ورئيسها آنئذ، صموئيل بيبيس. ولما كانت الجمعية في ضائقة مالية، فقد أنفق هالي على النشر بأكمله من جيبه الخاص، مع أنه لم يكن بالرجل الميسور. وهكذا، وبعد عشرين عاماً من الإعداد، ظهر أهم كتاب في علم القرن السابع عشر، كتاب لا يضارعه في عظم تأثيره في ذهن أوربا المثقفة سوى كتاب كوبرنيق في الدورات (1543)، وكتاب دارون في أصل الأنواع (1859). هذه الكتب الثلاثة هي أهم الأحداث في تاريخ أوربا الحديثة.
4 - كتاب المبادئ "برنكيبا"
Principia
فسرت عنوان الكتاب مقدمته:
"بما أن القدماء (كما يخبرنا بابوس) علقوا أهمية عظمى على علم الميكانيكا في بحثهم في الأشياء الطبيعية، وبما أن المحدثين، بعد أن نحو أشكال المادة (التي قال بها السكولاستيون) والصفات الغيبية، حاولوا إخضاع الظواهر الطبيعية لقوانين الرياضة، فقد
طورت الرياضة في هذا البحث على قدر اتصالها بالفلسفة (الطبيعية)
…
وعليه فإنا نقدم هذا المؤلف على أنه المبادئ الرياضية للفلسفة، ذلك لأن كل معضلة الفلسفة هي في بحث قوى الطبيعة من ظواهر الحركة، ثم توضيح الظواهر الأخرى من هذه القوى".
أما وجهة نظر الكتاب فستكون ميكانيكية خالصة:
"وددت لو استطعنا استخلاص باقي الظواهر الطبيعية بنفس نوع الاستدلال من الأسس الميكانيكية، لأن مبررات كثيرة تحملني على الظن بأنها ربما كانت كلها تتوقف على قوى معينة تدفع بواسطتها جزيئات الأجسام بأسباب مجهولة إلى الآن بعضها نحو البعض، وتتماسك في أشكال منتظمة، أو تصد وتتراجع بعضها عن البعض، وإذ كانت هذه القوى مجهولة، فقد حاول الفلاسفة إلى الآن البحث في الطبيعة عبثاً، ولكني أرجو أن تلقي المبادئ الموضوعية هنا بعض الضوء على تلك الطريقة، أو على طريقة أصح، من طرق الفلسفة".
وبعد أن وضع نيوتن بعض التعاريف والبديهيات، صاغ ثلاثة قوانين للحركة:
1 -
كل جسم يبقى على حالته من حيث السكون أو الحركة المنتظمة في خط مستقيم ما لم يضطر إلى تغيير تلك الحالة بقوى واقعة عليه.
2 -
تغيير الحركة يتناسب مع القوة المحركة الواقعة، ويتم في اتجاه الخط المستقيم الذي تقع فيه تلك القوة.
3 -
كل فعل يقابله دائماً رد فعل مساو له.
أما وقد تسلح نيوتن بهذه القوانين، وبقانون التربيع العكسي فقد تقدم إلى صياغة مبدأ الجاذبية. وصورة المبدأ الحالية، وهي أن كل جزيء من المادة يجذب كل جزيء بقوة تتناسب تناسباً طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما وتناسباً عكسياً مع مربع البعد بينهما، هذه الصورة لا نجدها بهذا النص في أي موضوع في كتاب المبادئ، ولكن نيوتن أعرب عن الفكرة في التعقيب العام الذي ختم به الكتاب الثاني: "إن الجاذبية
…
تعمل
…
حسب كمية المادة الجامدة التي تحتويها (الشمس والكواكب)، وتنتشر قوتها على جميع الجهات
…
متناقضة
أبداً بما يتناسب مع المربع العكسي للمسافات (33) ". وقد طبق هذا المبدأ، وقوانينه في الحركة، على مدارات الكواكب، ووجد أن تقديراته الحسابية تتفق والمدارات الاهليلجية التي استنتجتها كبلر. وزعم أن الكواكب تحول عن حركاتها المستقيمة، وتحفظ في مداراتها، بقوة تميل صوب الشمس وتتناسب تناسباً عكسياً مع مربع أبعادها عن مركز الشمس. وعنى أساس مبادئ مماثلة فسر جذب المشتري لتوابعه، والأرض للقمر. وبين أن نظرية ديكارت في الدوامات باعتبارها الشكل الأول للكون لا يمكن التوفيق بينها وبين قوانين كبلر. وحسب كتلة كل كوكب، وقدر كثافة الأرض من خمسة إلى ستة أمثال كثافة الماء. (والرقم الحالي 5. 5). وعلل رياضياً تفرطح الأرض عند القطبين، وعزا إنبعاجها عند الاستواء إلى قوة الشمس الجاذبة، ووضع رياضيات المد والجزر باعتبارهما راجعين إلى جذب الشمس والقمر الموحد للبحار، ويمثل هذا الفعل القمري-الشمسي فسر مبادرة نقطتي الاعتدالين، ورد مسارات المذنبات إلى مدارات منتظمة، وبهذا أيد نبوءة هالي. وقد صور كوناً أعظم تعقيداً من الناحية الميكانيكية مما ظن من قبل، لأنه نسب لجميع الكواكب والنجوم صفة الجذب، فأصبح الآن كل كوكب أو نجم بنظر إليه على أنه متأثر بكل كوكب أو نجم آخر. ولكن في هذا الحشد المعقد من الأجرام السماوية وضع نيوتن قانوناً يحكمه: فأبعد النجوم يخضع لذات الميكانيكا والرياضة اللتين يخضع لها أصغر الجزيئات على الأرض. إن رؤية الإنسان للقانون لم تغامر قط بالتحليق في الفضاء إلى مثل هذا البعد، ولا بمثل هذه الجرأة.
ونفدت الطبعة الأولى من "المبادئ" سريعاً، ولكن لم تظهر طبعة ثانية إلا في 1713. وعزت نسخه حتى أن عالماً نسخ الكتاب كله بيده (34). واعترف القراء بأنه عمل فكري من أرفع طراز، ولكن بعض ملاحظات النقد كدرت صفو الثناء عليه. فرفضت فرنسا النظام النيوتني لتشبثها بدوامات ديكارت، إلى أن عرضه فولتير في 1738 عرضاً ملؤه الإعجاب والتبجيل. واعترض كاسيني وفونتنيل بأن الجاذبية ليست سوى قوة أو صفة غيبية تضاف إلى القوى الماضية، وقالا أن نيوتن شرح بعض العلاقات بين الأجرام السماوية، ولكنه لم يكشف عن طبيعة الجاذبية، التي ظلت سراً خفياً كسر الله. وقال ليبنتز بأنه
ما لم يستطع نيوتن بيان المكنية التي تستطيع الجاذبية أن تؤثر بها، خلال فضاء يبدو فارغاً، في أجسام تبعد عنها ملايين الأميال، فإنه لا يمكن قبول الجاذبية على أنها شيء أكثر من مجرد كلمة (35).
ولم تحظ النظرية الجديدة بالقبول السريع حتى في إنجلترا. وزعم فولتير أن المرء كان بالجهد يجد عشرين عالماً يرضون عنها بعد أن نشرت لأول مرة بأربعين عاماً. وبينما شكا النقاد في فرنسا من أن النظرية ليست ميكانيكية بالقدر الكافي إذا قيست بدوامات ديكارت البدائية، كانت الاعتراضات عليها في إنجلترة في أغلبها دينية، فأسف جورج باركلي في كتابه "مبادئ المعرفة الإنسانية"(1710) لأن نيوتن يرى الفضاء والزمان والحركة مطلقة، سرمدية فيما يبدو، وموجودة مستقلة عن المساندة الإلهية. فالميكانيكية تطغى على النظام النيوتوني طغياناً لا يترك فيه مكاناً لله.
فلما وافق نيوتن بعد ما عهد فيه من تسويفات على أن يعد طبعه ثانية الكتاب، حاول أن يهدئ من ثائرة نقاده. فأكد لليبنتز والفرنسيين أنه لا يفترض قوة تعمل عن بعد خلال الفضاء الفارغ، وأنه يعتقد بوجود ناقل متخلل، رغم أنه لن يحاول وصفه صم اعترف بصراحة أنه لا يفقه طبيعة الجاذبية. وبهذه المناسبة كتب في الطبعة الثانية كلماته التي كثيراً ما ياء فهمها، وهي أنه "لا يضع فرضاً (36) " وأضاف "يجب أن تتسبب الجاذبية من عامل يعمل بثبات وفق قوانين معينة، ولكني أترك لقرائي النظر في هل هذا العامل مادي أو غير مادي (37) ".
ورغبة في المزيد من الرد على الاعتراضات الدينية ألحق بالطبعة الثانية تعقيباً عاماً عن دور الله في نسقه. فقصر تفسيراته الميكانيكية على العالم المادي، ورأى حتى في ذلك العالم أدلة على وجود خطة إلهية، فالآلة الكبرى تتطلب مصدراً أول لحركتها، لا بد أن يكون هو الله، ثم إن في النظام الشمسي شذوذات في المسلك يصححها تعالى دورياً كلما ظهرت (38). ولكي يفسح نيوتن مجالاً لهذه التدخلات الخارقة نزل عن مبدأ عدم فناء الطاقة. وافترض الآن أن آلة العالم تفقد بعض طاقتها بمضي الوقت، وستفقدها كلها إن لم يتدخل الله ليرد لها
قوتها (39). واختتم بهذه العبارة "إن هذا النظام البديع، نظام الشمس، والكواكب، والمذنبات، لا يمكن أن ينبعث إلا من مشورة كائن ذكي قوي ومن رحابه (40) ". وأخيراً تحرك صوب الفلسفة يمكن أن تفسر بمعنى حيوي، أو تفسر بمعنى ميكانيكي قال:
"وقد نضيف الآن شيئاً يتصل بروح غاية في الدقة، روح تنتشر وتختفي في جميع الأجسام الكبيرة، وبقوتها وفعلها تتجاذب جزيئات الأجسام في المسافات القريبة، وتتماسك إذا تجاوزت، وتعمل الأجسام الكهربية إلى أبعاد أعظم، فتصد وتجذب الجزيئات المجاورة، ويرسل الضوء، ويعكس، ويكسر، ويثني، ويسخن الأجسام، وكل إحساس يثار، وتتحرك أعضاء الأجسام الحيوانية بأمر الإرادة، أعني بتموجات هذه الروح، مبثوثة بالتبادل على خيوط الأعصاب المتينة، من أعصاب الحس الخارجة إلى المخ، ومن المخ إلى العضلات. على أن هذه أشياء لا يمكن تفسيرها في بضع كلمات، ثم أننا لم نزود بما يكفي من التجارب التي يتطلبها التقرير والإيضاح الدقيقان للقوانين التي تعمل وفقاً لها هذه الروح الكهربية المرنة (41) ".
ترى ماذا كان إيمانه الديني الحقيقي؟ لقد تطلبت أستاذيته في كمبردج الولاء للكنيسة الرسمية، وكان يختلف بانتظام إلى الخدمات الكنسية الأنجليكانية. أما صلواته الخاصة فيقول فيها سكرتيره "لا أستطيع أن أقول عنها شيئاً، وأميل إلى الاعتقاد بأن دراساته المفرطة حرمته من النصيب الأفضل (42) ". ومع ذلك فقد درس الكتاب المقدس بنفس الغيرة التي درس بها الكون. وقد أثنى عليه رئيس أساقفة بقوله "إنك تعرف من اللاهوت أكثر مما نعرف كلنا مجتمعين (43) " وقال لوك عن معرفته بالأسفار المقدسة "لست أعرف من أمثاله إلا القليلين (44) " وقد خلف كتابات لاهوتية يفوق حجمها كل مؤلفاته العلمية.
وقادته دراساته إلى نتائج أشبه بالأريوسية، وهي قريبة الشبه بنتائج ملتن، ومجملها أن المسيح وإن كان ابن الله إلا أنه ليس مساوياً لله الآب في الزمن أو القوة (45). وفيما عدا ذلك كان نيوتن، أو أصبح، مستقيم العقيدة تماماً. ويبدو أنه آمن بكل كلمة من كلمات
الكتاب المقدس على أنها كلمة الله، وأنه قبل سفري دانيال ورؤيا يوحنا على أنهما الحقيقة بحذافيرها. لقد كان أعظم علماء عصره صوفيا نسخ في شغف فقرات طويلة من يعقوب بومي، وطلب إلى لوك أن يناقش معه معنى "الحصان الأبيض" الوارد في سفر الرؤيا. وقد شجع صديقه جون كريج على كتابه "الأسس الرياضية للاهوت المسيحي"(1699) الذي حاول أن يثبت بالرياضة تاريخ مجيء المسيح الثاني، والنسبة بين أقصى ما يمكن بلوغه من السعادة الأرضية وسعادة المؤمن التي يجزي بها في الفردوس (48). وقد كتب تعليقاً على سفر الرؤيا، وزعم أن المسيح الكاذب المتنبأ به في السفر هو بابا روما. لقد كان ذهن نيوتن مزيجاً جمع بين ميكانيكا جاليليو وقوانين كبلر وبين لاهوت بومي. ولن يطالعنا الزمان بمثله عن قريب.
5 - الأصيل
لقد كان بمعنى آخر مزيجاً شاذاً، رجلاً مستغرقاً بشكل واضح في النظرية الرياضية والصوفية، وهو مع ذلك ذو مقدرة عملية وفطرة سليمة اختارته جامعة كمبردج عام 1687 ليذهب مع آخرين للاحتجاج لدى جيمس الثاني على محاولة هذا الملك أن يفرض على الجامعة أن تمنح راهباً بندكتياً درجة جامعية دون أن يحلف الإيمان العادية التي يستحيل على الكاثوليكية أن يقبلها. وفشلت البعثة في ثني الملك عن قراره، ولكن لا بد أن الجامعة رضيت عن رئاسة نيوتن لها، لأنه اختير عضواً ممثلاً لكمبردج في برلمان 1689. وظل عضواً حتى حل البرلمان عام 1690، ثم أعيد انتخابه عام 1701، ولكنه لم يشارك في السياسة بدور مذكور.
وتخللت حياته العملية عام 1692 سنتان من المرض الجسمي والعقلي. فقد كتب إلى بيبيس ولوك رسائل يشكو فيها من الأرق والسوداء، ويعرب على مخاوف الاضطهاد، ويتحسر على فقده "تماسك ذهنه القديم (47) ". وفي 16 سبتمبر 1693 كتب إلى لوك يقول:
سيدي: إن ظني أنك حاولت توريطي في علاقات نسائية وبطرق
أخرى أثر في نفسي تأثيراً شديداً، حتى أنني أجبت حين أخبرني أحدهم بأنك مريض ولن تعيش، بأن من الخير أن تموت. وأود أن تغتفر لي هذه القسوة لأنني الآن مقتنع بأن ما فعلته صواب، وأسألك الصفح عن إساءتي الظن بك في هذا الأمر، وعن قولي أنك أصبت الفضيلة في الصميم بمبدأ وضعته في كتاب "الأفكار" الذي ألفته، ونويت أن تواصله في كتابه آخر، وعن أنني حسبتك خطأ من أنصار هوبز. كذلك أسألك الصفح عن قولي أو ظني بأن هناك خطة لبيعي منصباً، أو لتوريطي
…
وأني خادمك الخاضع المنكود الحظ
إسحاق نيوتن (48)
وذكر بيبيس في خطاب تاريخه 26 سبتمبر 1693 "اضطراباً في
…
الرأس أو العقل" تدل عليه رسالة تلقاها من نيوتن. وقد خلف هويجنز عند وفاته (1695) مخطوطة فيها دون فيها تحت يوم 29 مايو 1694 أن "مستر كولين، وهو رجل اسكتلندي، أنبأني أن عالم الهندسة الشهير إسحاق نيوتن أصابه لوثة قبل ثمانية عشر شهراً" ولكنه استعاد صحته فبدأ يفهم كتابه "المبادئ". وأرسل هويجنز التقرير إلى ليبنتز في رسالة مؤرخة 8 يونيو 1694 قال فيها:"إن الرجل الطيب المستر نيوتن أصيب بنوبة من الخبل لازمته ثمانية عشر شهراً، وقيل أن أصحابه شفوه منها بالعقاقير وإبقائه محبوساً (49) " وظن البعض أن هذا الانهيار العصبي صرف نيوتن عن العلم إلى سفر الرؤيا، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وقيل "أنه لم يركز قط كما ألف أن يركز، ولم يقم بأي جهد جديد (50) " ومع ذلك ففي 1696 حل على الفور تقريباً مسألة حسابية اقترحها يوهان برنوللي "على أذكى الرياضيين في العالم"، وكذلك فعل بمسألة وضعها ليبنتز عام 1716 (51). وقد أرسل رده على برنوللي غفلاً من الاسم بطريق الجمعية الملكية، ولكن برنوللي حزر على الفور أن صاحبه نيوتن، إذ تبين "الأسد من مخلبه" على حد قوله. وفي عام 1700 اكتشف نظرية آلة السدس، ولم يكتشف النقاب عنها إلا بخطاب لهالي، ووجب أن يعاد اختراعها عام 1730. ويبدو أنه شرف المناصب العسيرة التي بادرت الدولة بتعيينه فيها.
وكان لوك، وبيبيس، وغيرهما من أصدقاء نيوتن قد فاوضوا حيناً للحصول له على منصب حكومي يخرجه من سجن حجرته ومختبره في كمبردج. وفي عام 1695 أقنعوا اللورد هاليفاكس بأن يعرض عليه وظيفة أمين دار سك النقود. ولم تكن الوظيفة شرفية ولا صدقة، إذ أرادت الحكومة أن تفيد من علم نيوتن بالكيمياء والمعادن في ضرب عملة جديدة. ففي 1695 انتقل إلى لندن، حيث عاش مع ابنة أخته كاترين بارتون، خليلة هاليفاكس (52). وقد خيل إلى فولتير أن افتتان هاليفاكس ببنت الأخت هذه حمل هاليفاكس وهو وزير للخزانة على أن يعين نيوتن مديراً لدار سك النقود في 1699 (53)، ولكن هذه الشائعة لا تكاد تفسر استمرار نيوتن في شغل ذلك المنصب طوال الثمانية والعشرين عاماً الباقية له في أجله، وشغله على نحو حاز الرضاء العام.
وكان خليقاً بشيخوخته أن تكون سعيدة. فقد كرمته الدولة بوصفه أعظم العلماء الأحياء، ولم يحظ رجل من رجال العلم حتى وقتنا هذا بمثل ما حظي به من ثناء عريض. وقد انتخب رئيساً للجمعية الملكية عام 1703، وظل ينتخب سنوياً بعد ذلك حتى وفاته. وفي عام 1705 خلعت عليه الملكة آن لقب الفروسية. وحين ركب عربته مخترقاً شوارع لندن تفرس الناس برهبة في وجهه الوردي، وقد فاض جلالاً وطيبة تحت لمة من الشعر الأبيض. ولم يستطيعوا طوال الوقت أن يلحظوا أنه قد عرض بأكثر مما يتناسب مع طوله المتواضع. وكان يستمتع براتي طيب بلغ 1. 200 جنيه في العام، وقد استثمر مدخراته بحكمة حتى أنه خلف عند وفاته 32. 000 جنيه (54)، رغم سخائه في الهدايا والصدقات. وقد أفاق من خسارته في انهيار شركة "ساوث سي". على أنه كان منقلب المزاج، وأحياناً سريع الغضب سيئ الظن، كتوماً، ودائماً شديد التهيب رغم كبريائه (55). كان يجب اعتزال الناس ولا يصنع الأدقاء بسهولة. وفي عام 1700 عرض الزواج على أرملة غنية، ولكن العرض لم يسفر عن نتيجة، ولم يتزوج قط. وإذ كان عصبي المزاج. حساساً بشكل مرضي، فقد كان لا يطيق النقد إلا متألماً، ويغتاظ منه غيظاً شديداً، ويرد الصاع صاعين في الجدل. وكان يعرف قدر عمله وكفايته، ولكنه عاش عيشاً متواضعاً إلى أن أتاح له راتبه
ومدخراته أن يستخدم ستة خدم ويستمتع بمكان مرموق في المجتمع اللندني.
فلما بلغ التاسعة والسبعين بدأ يرد دينه للطبيعة. فأصابته الأمراض التي لا تقيم للعبقرية وزناً-حصاة المثانة وسلس البول، وحين بلغ الثالثة والثمانين أصيب بالنقرس، وفي الرابعة والثمانين بالبواسير. وفي 19 مارس 1727 اشتدت به آلام الحصاة حتى فقد وعيه. ولم يفق قط، ومات في الغد وقد بلغ الخامسة والثمانين، ودفن في كنيسة وستمنستر بعد أن شيع بجنازة تصدرها رجال الدولة والنبلاء والفلاسفة، وقد سجى في نعش حمله الأدواق والايرلات. وأغرقه الشعراء بمراثيهم، وألف بوب قبرية شهيرة قال فيها:"إن الطبيعة وقوانينها كان يلفها ظلام الليل، وقال الله ليكن نيوتن، فأصبح الكل ضياء" ولم يملك فولتير عواطفه، حتى في شيخوخته، وهو يروي كيف شاهد، أثناء منفاه في إنجلترا، رياضياً يدفن بمظاهر تكريم الملوك (56).
وبلغ صيت نيوتن ذرى أشرفت على السخف. فقد ليبنتز أن إسهامات منافسه في الرياضة تعدل في قيمتها كل المؤلفات السابقة في ذلك العلم (57). وذهب هيوم إلى أن نيوتن "أعظم وأندر عبقري ظهر ليشرف النوع الإنساني ويعلمه (58) " ووافقه فولتير في تواضع (59). ووصف لجرانج كتاب المبادئ بأنه "أعظم إنتاج أنتجه الذهن البشري"، وضمن له لابلاس إلى الأبد "مكان الصدارة على جميع إنتاجات العقل البشري"، وأضاف أن نيوتن أوفر الناس حظاً، لأنه ليس هناك سوى كون واحد، وليس سوى مبدأ مطلق واحد له، وقد اكتشف نيوتن ذلك المبدأ (60). ومثل هذه الأحكام لا ثبات لها، لأن "الحقيقة" حتى في العلم، تذبل كالزهرة.
ولو أننا قسنا عظمة إنسان بأقل المقاييس ذاتية، وهو انتشار تأثيره وطول بقاء هذا التأثير، لما وجدنا لنيوتن نظيراً إلا في مؤسسي الأديان العالمية والفلسفات المحورية. لقد كان تأثيره على الرياضة الإنجليزية-حيناً-تأثيراً ضاراً، لأن "فروقه وتنويتها كانا أقل يسراً من حساب التفاضل والتنويت اللذين هيمن بهما ليبنتز على القارة. ويبدو أن نظريته في جسيمات الضوء عاقت تقدم البصريات قرناً، وإن وجد بعض
الطلاب الآن عوناً كبيراً في نظرية نيوتن (61). أما في الميكانيكا فقد أثبت عمله أنه خلاق إلى غير حدود. كتب ارنسنت ماخ يقول: "إن كل ما أنجز في الميكانيكا منذ أيامه لا يعدو أن يكون تطويراً إستنتاجياً، شكلياً، رياضياً
…
على أساس قوانين نيوتن (62) ".
وقد خشي اللاهوتيين لأول وهلة من تأثير كتاب "المبادئ" على الدين، ولكن محاضرات بويل التي ألقاها بنتلي (1692)، بتشجيع من نيوتن، حولت النظرة الجديدة إلى العالم إلى تأييد الإيمان، لأنها أكدت على وحدة الكون ونظامه وعظمته الواضحة أدلة على حكمة الله وقوته وجلاله. على أن هذا النسق النيوتوني ذاته قبله الربوبيون على أنه يدعم إيمانهم، وهو القبول البسيط لإله واحد، أو حتى اعتبار الله واحداً هو والطبيعة وقوانينها، بدلاً من اللاهوت المسيحي. وأغلب الظن أن تأثير نيوتن النهائي في الدين كان ضاراً، فقد افترض أحرار الفكر أنه برغم تأكيداته، وملايين الكلمات التي احتوتها كتاباته اللاهوتية، أنه تصور عالماً قائماً بنفسه، وأنه أدخل الإله فيه فكرة لاحقة معزية. وفي فرنسا على الأخص شجعت كونيات نيوتن، رغم عرض فولتير لها عرضاً ربوبياً، إلحاد الكثيرين من "الفلاسفة" إلحاداً يقوم على ميكانيكية الكون.
وفي الفترة بين اضمحلال نظرية ديكارت في نشأة الكون في فرنسا (حوالي 1740) وظهور نظريات النسبية وميكانيكا الكم في القرن العشرين، لم يصادف "نسق العالم" النيوتوني أي تحد خطير، وبدا مؤيداً من كل تقدم أو كشف في الفيزياء أو الفلك. والخلافات الرئيسية بين الفيزيائيين المعاصرين وميكانيكا نيوتن، على قدر ما يستطيع غير المتخصص فهم هذه الألغاز، هي:
1 -
ذهب نيوتن إلى أن المكان والبعد، والزمان والحركة، أشياء مطفلة-أي أنها لا تختلف كما باختلاف أي شيء خارجها (63). أما أينشتين فقد اعتبرها نسبية-تختلف باختلاف موقع وحركة المشاهد في المكان والزمان.
2 -
افترض أول قوانين نيوتن للحركة، في وضوح، أن الجسم قد "يستمر في حالة سكون، أو حركة منتظمة في خط مستقيم" ولكن
"السكون" نسبي دائماً، كسكون مسافر في طائرة مسرعة، وكل الأشياء تتحرك، ولا تتحرك أبداً في خط مستقيم، لأن كل خط أو حركة أو فعل تحرفه الأجسام المحيطة (كما أدرك نيوتن).
3 -
كانت فكرة نيوتن عن الكتلة أنها من الثوابت، وفكرة بعض الفيزيائيين المعاصرين عنها أنها تختلف باختلاف السرعة النسبية للمشاهد والشيء.
4 -
النظرة السائدة الآن إلى "القوة" هي أنها فكرة ميسرة. ولكنها ليست ضرورية في العلم، الذي يهدف إلى الاكتفاء بوصف التتابعات، والعلاقات، والنتائج. فلسنا نعلم، ولا حاجة بنا إلى أن نعلم (كما يقول لنا العلماء) ما هو "هذا" الذي يسري من جسم متحرك إلى آخر يصدمه ذلك الجسم، فالحاجة فقط لتسجيل التتابعات، والعلاقات، والنتائج، وللافتراض (دون أي يقينية مطلقة) بأن هذه ستكون في المستقبل ما بدته في الماضي. والجاذبية وفقاً لهذا الرأي ليست قوة، بل نظام علاقات بين الأحداث في الزمان والمكان.
ومما يعزينا أن نعلم أن هذه وغيرها من التنقيحات الطارئة على ميكانيا نيوتن لا أهمية لها إلا في ميادين (كالظواهر الكهربية-المغنطيسية) لا تبدو الجزيئات فيها تتحرك بسرعة تقرب من سرعة الضوء، وفي غير هذا فالفرق بين الفيزياء القديمة والحديثة يمكن أن نتجاهله مطمئنين. وللفلاسفة-الذي شفاهم التاريخ من اليقينية-أن يحتفظوا بارتيابة متواضعة من نحو الأفكار المعاصرة، بما في ذلك أفكارهم هم، وسوف يحسون نسبية متدفقة في صيغ النسبية، وسوف يذكرون كل المنقبين في الذرات والنجوم بتقدير نيوتن النهائي لإنجازه الخطير:
"لست أعلم كيف أبدو للعالم، ولكني أبدو لنفسي وكأنني صبي يلعب على شاطئ البحر، ألهو بين الحين والحين بالعثور على حصاة أملس أو صدفة أجمل من العادة، بينما ينبسط محيط الحقيقة العظيم مغلق الأسرار أمامي (64) ".