الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العشرون
الفلسفة الإنجليزية
1648 - 1715
1 -
توماس هوبز
1588 -
1679
أ - المؤثرات التي شكلت شخصيته
ولد هوبز في 5 إبريل 1588، ولما يكتمل المدة المقررة للحمل، وتعزو أمه ولادته المبتسرة قبل الأوان إلى فزعها من مجيء الأسطول الأسباني "الأرمادا"، ومن الخطر الذي يتهدد إنجلترا بغزو ساحق على أيدي الوثنيين السفاحين. أما الفيلسوف فينسب إلى خروجه غير المرتقب قبل الأوان إلى الحياة نزعة الجبن التي تملكته وغلبت عليه، ولكنه كان أجرأ الهراطقة في عصره. وربما ورث الوالد- وكان قسيساً أنجليكانياً في مامز بري في ولتشير- ابنه بعض نزوع إلى المشاكسة، فان هذا الوالد اشتبك يوماً في شجار على باب كنيسته ثم اختفى، تاركاً أبناءه الثلاثة ليتولى تربيتهم أخ له.
وأثرى هذا الخ وأيسر، والتحق توماس بكلية مجدلن في أكسفورد، هياباً جباناً، ولا ريب، مثله في ذلك مثل أي شاب يجرؤ على اقتحام المغارات المخصصة لأصنام العشيرة. ولم يجد في الفلسفة التي تدرس هناك إلا قليلاً مما يروقه، فتسلى بقراءات خارج المنهج المقرر، وتعرف بطريق مباشر على الآداب الإغريقية واللاتينية. ولما تخرج في سن العشرين أسعده الحظ ليكون معلماً خاصاً لوليم كافندش الذي أصبح أرل ديفو نشير الثاني. وقد ثبت أن الحماية التي بسطتها عليه هذه الأسرة كانت ذات قيمة كبيرة له أيام هرطقته. وفي 1610 طاف في صحبة تلميذه بأرجاء القارة. وعند عودته أشتغل لبعض الوقت سكرتير لفرنسيس بيكون، وربما أسهمت هذه الخبرة المثيرة في تكوين فلسفته التجريبية بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ويروي أوبري أنه حوالي هذه الفترة "كان مستر بنجامين جونسون شاعر التاج صديقه الحميم الذي يكثر التردد عليه (1) وكان أغزر علماً من هوبز. ولم
يكن قد أشتد عوده بعد، وسرعان ما عاد هوبز إلى أسرة كافندش، واحتفظ بصلته بها طيلة ثلاثة أجيال، ومن الجائز أن الفيلسوف اقتبس من هؤلاء الحماة الكرام ذوي المنعة والقوة الآراء المتعلقة بالنظام الملكي والكنيسة التقليدية، وتلك الآراء هي التي غفرت له ميتافيزيقيته المادية وخلصته من الموت حرقاً.
وكان اكتشافه لإقليدس نقطة تحول في حياته العقلية. ذلك أنه وهو في سن الأربعين، وقع بصره في مكتبة خاصة، على كتاب "العناصر" مفتوحاً على المسألة رقم 47 من القسم الأول. وما أن قرأها حتى صاح "يا إلهي، هذا مستحيل" وأشار شرحها إلى أنها برهان على مسألة سابقة، وهذه على أخرى، وهكذا، حتى رجع إلى التعاريف الأولية والبديهيات. وابتهج بهذا البناء المنطقي، وأغرم بعلم الهندسة (2) ولكن أوبري بضيف "أنه كان منصرفاً- إنصرافاً كبيراً إلى الموسيقى ومارس العزف على الكمان الكبير". وفي 1629 نشر ترجمة لتيوكيديدس (المؤرخ اليوناني في القرن الرابع ق. م) وكان غرضه السافر المزعوم من ذلك هو أن يحذر إنجلترا من أخطار الديموقراطية. وفي تلك السنة أستأنف رحلاته، معلماً آنذاك لأبن أول تلاميذه، أرل ديفونشير الثالث. وربما قوت زيارته لجاليليو (1636) من نزوعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية.
وعاد إلى إنجلترا في 1637، ولما أشتد الصراع بين البرلمان والملك شارل الأول، كتب رسالة بعنوان "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي"، دافع فيها عن السلطة المطلقة للملك، بوصفها أمراً لا غنى عنه للنظام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وجرى تداول هذه الرسالة مخطوطة، وربما- كانت تؤدي إلى القبض على المؤلف لولا أن شارل حل البرلمان. وعندما احتدم النزاع فقد رأى هوبز أنه من الحكمة أن يعود أدراجه إلى القارة (1640)، وبقى هناك، ومعظم وقته في باريس، طيلة الأحد عشر عاماً التالية. وفي باريس كسب صداقة مرسن وجاسندي، ولكن جلب على نفسه عداوة ديكارت. فإن مرسن دعاه إلى تدوين بعض التعليقات على "تأملات" ديكارت، فاستجاب هوبز في شيء من الكياسة ولكن في كثير من الحدة، ولم يغتفر له ديكارت هذا قط. وعندما نشبت الحرب الأهلية في إنجلترا
(1642)
أسس المهاجرون الملكيون لأنفسهم مستعمرة في فرنسا، وربما أخذ هوبز عنهم مزيداً من التعاطف مع الملكية، فإنه لمدة عامين (1646 slash1748) اشتغل بتدريس الرياضيات لأمير ويلز المنفي، الملك شارل الثاني فيما بعد. وجاءت حركة الفروند ضد لويس الرابع عشر في فرنسا- وكانت مثل الثورة في إنجلترا، تهدف إلى الحد من سلطة الملك- فأكدت اقتناعه بأن الملكية المطلقة وحدها هي التي يمكن أن تحافظ على الاستقرار والأمن الداخلي.
وفي بطء شديد وصل هوبز إلى صياغة محددة واضحة لفلسفته. ويقول أوبري: "أنه سار طويلاً وأعمل الفكر وتأمل، وكان في رأس عصاه قلم ومحبرة، وكان يحمل في جيبه دائماً كراسة، حتى إذا عرضت له فكرة، فسرعان ما كان يدونها على الفور حتى لا تضيع (3) " وأصدر سلسلة من التأليف الأقل قيمة
(1)
، التي ليس لها الآن ذكر، ولكنه- في 1651 جمع كل أفكاره في كتاب يجمع بين طرافة الفكر والأسلوب وعدم المبالاة، هو "لواياثان"(التنين) أو "المادة والشكل"، و "سلطة الدولة دينية ومدنية"(التنين) أو "المادة في تاريخ الفلسفة، وجدير بنا أن نتوقف عنده في شيء من التروي.
ب - المنطق وعلم النفس
يكاد أسلوب هوبز يقارب أسلوب بيكون في الجودة، ولكنه ليس غنياً بالصور الوضاءة مثله، ولكنه قوي متميز فعال صريح مثله تماماً، مع شيء من التهكم اللاذع بين الحين والحين. وليس فيه زخرف ولا تظاهر بالبلاغة والفصاحة، فما هو إلا تعبير واضح عن فكر واضح، مع اقتصاد حكيم في الوسائل اللفظية. يقول هوبز "إن الكلمات بالنسبة للعقلاء ليست سوى أنضاد "فيشات" أي وسائط للعد
(1)
أهمها "المواطن"(1642 slash1647) و "مبادئ القانون" الذي طبع 1650 في جزأين: "الطبيعة الإنسانية" و "الهيئة السياسية"، ومبادئ "الفلسفة"(1651)، "الأصول الفلسفية" 1655 slash1658 وهي ثلاثية استنباطية عن الجسم والإنسان والمجتمع هذا إلى جانب شذرات كثيرة في الرياضيات، وترجمة للالياذة والاوديسية. ثم "بهيموث"(1670) وهو عبارة عن تاريخ الحرب الأهلية مفسراً على ضوء آرائه عن الإنسان والمجتمع، ثم تاريخ حياته شعراً باللاتينية.
والحساب، ولكنها ثروة الأغبياء، التي تضفي قيمة وقدراً، استناداً إلى أرسطو شيشرون أو توما الأكويني (4)". وبهذا السلاح الجديد- قضي هوبز على كثير من الكلام الطنان الرنان الأجوف الذي لا يحمل معنى. وعندما وقع بصره على تعريف توما الأكويني "للأبدية" بأنها "الحاضر الخالد" هم كتفيه استهجاناً لهذا التعريف على أنه "من البسيط جداً أن يقال، ولكن على الرغم من أني قد أسر به، فأني لم أستطع أن أفهمه قط، وأولئك الذين يستطيعون فهمه أسعد مني حظاً". وعلى كذلك كان هوبز "اسمياً صريحاً" (مذهب الاسمين: مذهب فلسفي يقول بأن المفاهيم المجردة أو الكليات ليس لها وجود حقيقي، وأنها مجرد أسماء ليس غير): فالإنماء أو الأسماء المجردة مثل "الرجل، الفضيلة" هي مجرد أسماء لأفكار تعميمية، ولا تمثل شيئاً مدركاً بالحواس، فكل الأشياء لها وجود فردي- أعمال فاضلة فردية، ورجال فرديون ....
إنه يحدد مصطلحاته وألفاظه تحديداً دقيقاً. وعلى الصفحة الأولى من كتابه يعرف "لواياثان" بأنه مصلحة مشتركة أو رابطة أو دولة. إنه وجد اللفظ في التوراة (سفر أيوب- الإصحاح 41) حيث استعملها الرب اسماً لحيوان بحري هائل غير ذي نوع محدد، رمزاً للقوة الإلهية، واقترح هوبز أن يجعل من الدولة نظاماً ضخماً عليه أن يستوعب كل النشاط الإنساني ويوجهه. ولكنه قبل أن يصل إلى قضيته الأساسية ألقى نظرة شاملة على المنطق وعلم النفس بيد لا ترحم.
إن هوبز فهم الفلسفة على أنها ما نسميه الآن علماً: "معرفة الآثار والظواهر المكتسبة من معرفة الأسباب، أو بالعكس معرفة العلل أو الأسباب الممكنة كما تدلنا عليها معرفة آثارها المعروفة لدينا (5) ". وتبع بيكون في توقعه أن يجني من وراء هذه الدراسة أو هذا- المنهج فوائد عملية عظيمة للحياة الإنسانية. ولكنه تجاهل دعوة بيكون إلى التعليل الاستقرائي، وأخذ "بالاستدلال المنطقي" أي الاستنتاج من التجربة. وفي إعجابه بالرياضيات أضاف "أن الاستدلال المنطقي هو بعينه من الجمع والطرح" أي الجمع بين الصور والأفكار، أو الفصل بينهما. وذهب إلى أننا لا نفتقر إلى التجربة، ولكن الذي نفتقر إليه هو التعليل الصحيح لها، أننا إذا استطعنا أن نقضي على خبث
الألفاظ الخالية من المعنى في الميتافيزيقا، وعلى التحيزات التي نقلناها بحكم العادة أو التعليم أو روح التشيع والتحزب، إننا إذا استطعنا هذا فأي عبء نطرحه على كواهلنا، والعقل على أية حال ليس معصوماً من الخطأ! ولا يمكن إلا في الرياضيات، أن يزودنا بالحقيقة اليقينية التي لا ريب فيها. "إن معرفة النتيجة، التي قلت من قبل أنها تسمى العلم، ليست مطلقة، بل هي مشروطة. ولا يستطيع أحد أن يعرف عن طريق التعليل أن هذا الشيء أو ذاك كان أو يكون أو سيكون، مما يعرف بشكل مطلق، بل يعرف أنه حين يكون هذا يكون ذاك، وإذا كان هذا كان ذاك، وحين سيكون هذا سيكون ذاك، أي أن هذا الشيء أو ذاك يعرف مشروطاً"(6).
وكما سبقت هذه العبارة حجة هيوم في أننا نعرف النتائج فقط دون الأسباب، فأن هوبز كذلك سبق لوك في علم النفس الحسي. أن كل المعرفة تبدأ بالحس "ليس ثمة فكرة في عقل الإنسان إلا تولدت بادئ ذي بدء، تامة أو على دفعات، في أعضاء الحس (7) ". وهذا علن نفس مادي صريح: لا يوجد شيء خارجنا أو داخلنا- إلا المادة والحركة، وكل الصفات المحسوسة "أو حسية (الضوء، اللون، الشكل، الصلابة، النعومة، الصوت، الرائحة، الطعم، الحرارة، البرودة، هي في الشيء الذي يسببها أو يحدثها ليست إلا عدة حركات كثيرة للمادة تؤثر بها على أعضائنا بأشكال مختلفة، كما أنها، فينا نحن الذين تأثرنا بها، ليست إلا حركات مختلفة، لأن الحركة لا تنتج إلا حركة (8) "، فالحركة في شكل تغيير أمر ضروري للحس- إن إحساسك- بنفس الشيء دائماً يساوي أنك لا تحس بشيء مطلقاً (9). (وهكذا فأن الرجل الأبيض أو الرجل الملون لا يتنبه أي منهما إلى رائحته لأنها دائماً تحت أنفه).
ومن الحس يتابع هوبز سيره ليستخلص التصور والذاكرة عن طريق تطبيق فريد لما صار قانون الحركة الأول عند نيوتن:
أنه إذا بقي جسم ساكناً ما لم يحركه شيء آخر، فإنه يظل ساكناً إلى الأبد، فتلك حقيقة لا يشك فيها أحد. أما إذا كان الجسم متحركاً، فإنه يظل إلى الأبد إلا إذا أوقفه شيء آخر، فإنه على الرغم من أن
السبب واحد في الحالين (وهو على التحديد أن أي شيء لا يمكنه التغيير بذاته) فهذا أمر لا يمكن التسليم به بسهولة ..
إذا تحرك الجسم مرة، فإنه يظل يتحرك إلى الأبد (إلا إذا عاق حركته شيء آخر (، وهذا الذي يعطل حركته، أياً كان، لا يستطيع أن يعطلها دفعة واحدة إنما يعطل حركته تماماً في الوقت المناسب وشيئاً فشيئاً. وكما نرى في الماء، فقد تسكن الريح ولكن الأمواج لا تهدأ إلا بعد فترة طويلة من سكون الريح. وهذا ما يحدث للحركة التي تتم داخل الأجزاء الداخلية في الإنسان، ثم حين يرى أو يحلم .... الخ، حيث أنه عندما يزول ويختفي الشيء أو تغلق العين، فإننا نظل نستبقي صورة الأشياء التي رأيت، ولو أنها تكون أكثر غموضاً منها حين كنا نراها. وهذا ما يسميه اللاتينيون "خيالاً" .... وهو على هذا الأساس ليس إلا "حساً يضعف"، فإذا عبرنا عن هذا الضعف، فما يدل على أن الحس يتضاءل وأنه قديم، وأنه غابر، فإن هذا يسمى "الذاكرة" ...... والذاكرة العامرة، أو تذكر أشياء كثيرة يسمى "الخبرة أو التجربة (10) ".
والأفكار عبارة عن تصورات ينتجها الحس أو الذاكرة. والفكر هو نتيجة لمثل هذه التصورات. ولا تتحكم الإرادة الحرة في هذه النتيجة، بل إنها تخضع لقوانين ميكانيكية تحكم توارد الخواطر.
إن الأفكار أو الخواطر لا يعقب الواحد منها الآخر اعتباطاً، ولكن يحدث إننا لا يكون لدينا تصور لما لن نكن قد أحسسنا به جملة أو تفصيلاً من قبل، فإننا كذلك لن ننتقل من تصور إلى تصور ليس لدينا عهد به في حواسنا من قبل. وهذا هو السبب: إن كل التصورات (الأخيلة والأفكار) إنما هي حركات في داخلنا، وهي بقايا ما تم في حواسنا. وهذه الحركات التي تعاقبت الواحدة منها بعد الأخرى في الحس تستمر أيضاً مجتمعة بعد الحس .... ولكن بما أنه في الحس بالنسبة لشيء واحد بعينه يدرك، قد يأتي أحياناً شيء. وأحياناً يأتي شيء آخر، فقد يحدث عاجلاً أو آجلاً، في تصور شيء ما، ألا نكون على يقين من أننا سنتصور شيئاً بعده. وهذا مؤكداً فقط إذا كان ثمة شيء قد أعقب مثيلاً له من قبل في وقت من الأوقات (11).
وقد تكون هذه السلسة من الأفكار مشوشة أو غير موجهة، كما
هو الحال في الأحلام، وقد تكون "مضبوطة أو محددة طبقاً لرغبة أو هدف أو خطة ما". وفي حالة الأحلام نجد أن الصور الساكنة الهاجعة في المخ "توقظها أو تهيجها أية إثارة في الأجزاء الداخلية في جسم الإنسان". لأن كل أجزاء الجسم مترابطة، بطريقة ما، بأجزاء معينة في المخ. "أعتقد أن هناك تبادلاً في الحركة من المخ إلى الأجزاء الحيوية، ومنها ثانية إلى المخ، بهذا لا يولد التصور حركة في تلك الأجزاء فحسب، بل أن الحركة في تلك الأجزاء كذلك تولد تصوراً شبيهاً بهذا الذي أنتجها (12) ". وأحلامنا هي شكل معكوس لتصوراتنا في اليقظة: الحركة ونحن متيقظون بادئة بطرف، وبادئة بالطرف الآخر حين نحلم (13) " والتسلسل المنطقي للصور في الأحلام يرجع إلى عدم وجود أي إحساس خارجي يضبطها أو أي غرض يوجهها.
وليس للإرادة الحرة أي مكان في علم النفس عند هوبز. والإرادة نفسها ليست موهبة أو وجوداً مستقلاً، بل هي مجرد الرغبة الأخيرة أو النفور الأخير في عملية التدبر (حركتان جسميتان أساسيتان هما الاشتهاء أو الحركة نحو الأشياء والنفور أو الحركة بعيداً عن الأشياء)، والتدبر تناوب بين حالات الرغبة أو النفور، وهو ينتهي عندما يمكث أحد الدوافع وقتاً كافياً ليتحول إلى عمل أو تصرف ما. "في التدبر نجد أن الأشياء أو النفور الخير الذي يقترن في الحال بالعمل أو بالإغفال الناتج عنه (عن الاشتهاء أو النفور) هو ما نسميه الإرادة (14) ""إن الشهوة والخوف والأمل وغيرهما من الانفعالات لا تسمى اختيارية، لأنها لا تنبع من الإرادة، بل هي الإرادة نفسها، والإرادة ليست اختيارية (15) ""لأن كل فعل من أفعال إرادة الإنسان وكل رغبة وكل ميل، إنما ينتج عن سبب ما، وهذا السبب ينتج عن سبب آخر، وهكذا في سلسلة متصلة (حلقتها الأولى في يد الله أول كل الأسباب) وكلها تنبع من الضرورة. وعلى هذا فإن الذي يستطيع أن يدرك الصلة بين تلك الأسباب، قد تبدو له واضحة جلية "ضرورة" إلى كل أفعال الإنسان الاختيارية (16) ". وهناك في الكون بأسره سلسلة متصلة الحلقات من الأسباب والنتائج أو الآثار. وليس هناك شيء طارئ غير متوقع، أو خارق معجز، أو من قبيل الصدفة.
والعالم كله آلة من المادة، متحركة طبقاً لقانون، والإنسان نفسه آلة شبيهة بهذه. والأحاسيس تدخل إليه كأنها حركات، وتولد صوراً وأفكاراً وكل فكرة هي بداية حركة، وتصبح فعلاً إذا لم تعقها فكرة أخرى (17). وكل فكرة، مهما تكن مجردة، تحرك الجسم بدرجة ما، مهما تكن غير منظورة. والجهاز العصبي عبارة عن تركيب آلي لتحويل الحركات الحسية إلى حركة عضلية. والأرواح موجودة ولكنها مجرد أشكال دقيقة للمادة (18). والنفس والعقل ليسا غير ماديين، ولكنهما اسمان للعمليات الحيوية للجسم ولأعمال المخ. ولا يحاول هوبز أن يفسر السبب في أن الوعي ينمو بمثل هذه العملية الميكانيكية من الحس إلى الفكرة إلى الاستجابة. إنه باختزال كل الصفات المدركة للأشياء إلى صور في "الذهن"، يقترب كثيراً من الموقف الذي اتخذه باركلي فيما بعد في دحض المادية- إن كل الحقيقة المعروفة لنا إدراك حسي، وذهني.
جـ - الأخلاق والسياسة
إن هوبز مثل ديكارت قبله، وسبينوزا بعده، تولى تحليل الانفعالات، لأنه يرى فيها مصدر كل أفعال الإنسان، ويستخدم الفلاسفة الثلاثة جميعهم لفظة "الانفعال" على نطاق واسع لتشمل أية غريزة أو وجدان أو عاطفة- وبصفة أساسية، الاشتهاء (الرغبة) والنفور، الحب والكراهية، الفزع والخوف، ووراء هذه كلها اللذة والألم- العمليات النفسية التي ترفع أو تخفض من حيوية الكائن الحي. والاشتهاء بداية حركة نحو شيء يبشر باللذة. والحب ضرب من الاشتهاء، موجه نحو شخص. وكل الإندفاعات (كما كان يقول لاروشفوكولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً) هي أشكال من حب الذات، وكلها تنبع من غريزة المحافظة على الذات. فالإشفاق هو تصور المصائب تنزل بنا في المستقبل، يثيره علمنا بمصائب الغير، والصدقة إرضاء للشعور بالقوة في مساعدتنا للآخرين. والاعتراف بالفضل ينطوي أحياناً على شيء من العداء "أن حصولنا ممن نرى أنه مساو لنا على فوائد أو منفعة أعظم مما كنا نأمل منه، ينزع بنا إلى التظاهر بالحب، والحق أنه بغض خفي، وهو يضع المرء في موقف المدين اليائس، حتى
أنه في حالة تصنعه عن رؤية دائنه، إنما يرغب ضمناً في أن يذهب هذا الدائن إلى حيث لا يراه المدين أبداً. لأن المنفعة التي حصل عليها منه طوق بها عنقه، وفي هذه المنة أو الفضل عبودية (19)". والنفور الأساسي هو الخوف. والاشتهاء الأساسي هو اشتهاء السلطة. "إني أرى في البشر جميعاً نزعة عامة. هي الرغبة الدائمة التي لا تهدأ في السلطة فوق السلطة، وتلك الرغبة لا يخمد أوارها إلا عند الموت (20) ". إننا نرغب في الثراء والمعرفة بوصفها وسائل للسلطة. وفي الأوسمة ومظاهر الحفاوة والتكريم، لأنها دليل على السلطة، ونحن نريد السلطة لأننا نخشى التعرض للخطر. والضحك تعبير على التفوق والسمو والسلطة.
إن الانفعال بالضحك ليس إلا تألقاً أو اعتزازاً مفاجئاً (رضي ذاتياً) ينشأ عن إدراك مفاجئ لبعض السمو والرفعة فينا، بالمقارنة بوهن الآخرين وعجزهم، أو بوهننا وعجزنا فيما مضى، لأن الناس يضحكون من حماقاتهم السابقة عندما تخطر ببالهم فجأة، إلا إذا استحضروا معها شيئاً من مواطن الخزي والعار في حاضرهم .... ويكون الضحك أكثر ما يكون عارضاً لأولئك الذين يكونون على وعي تام بقدراتهم البالغة الضآلة، الذين يضطرون إلى التماس شيء من الراحة في ملاحظة نقائص الآخرين. ومن ثم فإن كثرة الضحك من عيوب الناس دليل على ضعة النفس. فإن من أروع الأعمال التي ينهض بها ذوو العقول الكبيرة أن يساعدوا الآخرين ويحرروهم من الذل والازدراء، وألا يقارنوا أنفسهم إلا بأقدر الناس (21).
والخير والشر مصطلحان ذاتيان يختلفان في المضمون، لا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان فحسب، بل من شخص إلى شخص أيضاً. "إن الإنسان يسمي موضوع شهوته أو رغبته خيراً، وموضوع كراهيته أو نفوره شراً، لأن هاتين الكلمتين تستعملان دائماً في ما يتعلق بالشخص الذي يستخدمها، لأنه ليس ثمة خير أو شر بسيط أو مطلق، وليس هناك قاعدة عامة للخير أو الشر يمكن استنباطها من طبيعة الأشياء ذاتها (22) ". وقد تكون الانفعالات خيراً، وقد تؤدي إلى العظمة. "وهذا الذي ليس لديه رغبة قوية .... وفي السيطرة أو
الثروة أو المعرفة أو الشرف والمهابة. لا يمكن أن يكون لديه خيال واسع أو عقل راجع". إن ضعف الانفعال غباء، وقوته بشكل غير طبيعي جنون وانعدام الرغبات موت (23).
إن بهجة هذه الحياة لا تكمن في هجوع الذهن في حالة من الرضي والاكتفاء. لأنه ليس هناك ما يسمونه "الغرض الأسمى" و "الخير الأسمى" كما تحدثت عنهما كتب الفلاسفة الأخلاقيين القدامى .... فالبهجة هي تقدم الرغبة المستمر من هدف إلى هدف، وتحقيق الهدف السابق يظل طريقاً لتحقيق ما بعده (24).
إن حكم رجال هكذا تكوينهم وميلهم إلى الكسب، والمنافسة وحدة الأهواء والانفعالات فيهم، ونزعتهم إلى النضال والكفاح، نقول أن مثل هذا الحكم هو أشد مهام البشر تعقيداً ومشقة، ويجدر بنا أن نهيئ لمن يتولونه كل عون أو سلاح من علم النفس ومن القوة والسلطان. وعلى الرغم من أن إرادة الإنسان غير حرة فإن للمجتمع ما يبرر تشجيعه لبعض الأعمال ويطلق عليها "أعمالاً فاضلة" ويثيب عليها، على حين يندد بأعمال أخرى، ويقول بأنها "أعمال مرذولة" ويعاقب عليها. وليس ثمة تناقض هنا مع "الحتمية"، فإن هذه الاستحسانات والتنديدات الاجتماعية تضاف، من أجل خير الجماعة ومصالحها، إلى الدوافع الني تؤثر في السلوك. "إن العالم يحكمه الرأي (25) "، فالحكومة والدين والقانون الأخلاقي، هي إلى حد كبير تلاعب بالرأي، للتخفيف من الضرورة ونطاق القوة.
إن الحكومة ضرورية، لا لأن الإنسان شر بالطبيعة- لأن "الرغبات وسائر الانفعالات ليست آثمة في حد ذاتها (26) "- بل لأن الإنسان بطبيعته أكثر نزوعاً إلى الفردية منه إلى الروح الاجتماعية، إن هوبز هنا لم يتفق مع أرسطو في أن الإنسان "حيوان سياسي"، أي مخلوق مهيأ بالطبيعة للاجتماع. إنه على النقيض من ذلك أدرك "حالة طبيعية" أصلية (وهي على ذلك الطبيعة الأصلية للإنسان)، على أنها حالة تنافس وعدوان متبادلين لا يوقفهما إلا الخوف، لا القانون. ويمكننا (كما يقول هوبز) أن نتصور هذه الحالة الافتراضية إذا لاحظنا العلاقات الدولية في زمننا هذا، فإن الأمم
لا تزال إلى حد كبير في "حالة من الطبيعة"، ولم تخضع بعد لقانون أو سلطة مفروضة عليها.
إن الملوك وأصحاب السلطان في كل الأزمان، بسبب استقلالهم، يعيشون وسط الأحقاد والحذر، يقفون وقفة المصارعين والمجادلين دائماً، أسلحتهم مشروعة، وعيونهم مثبتة كل منهم على الآخر- أي قلاعهم وحامياتهم ومدافعهم على حدود ممالكهم- يبثون العيون والأرصاد على جيرانهم، وتلك هي وقفة الحرب، لا توجد سلطة عامة، لا يوجد قانون ولا يوجد ظلم ولا جور. والقوة والخداع هما في الحرب فضيلتان أساسيتان (27).
وهكذا أعتقد هوبز أن الأفراد والأسرات كانت قبل ظهور التنظيم الاجتماعي، تعيش في حالة حرب دائمة، فعلية أو محتملة، "كل إنسان ضد الآخر (28) ". ولا تقتصر الحرب على الالتحام في المعركة فقط، بل قد يأتي وقت يبدو فيه بشكل واضح، عزم الإنسان على الاشتباك في معركة (29). ونبذ نظرية فقهاء الرومان وفلاسفة المسيحية في أن هناك، أو كان هناك إطلاقاً، "قانون طبيعي" بمعنى قوانين الصواب والخطأ، مؤسسة على طبيعة الإنسان بوصفه "حيواناً عاقلاً". وسلم بأن الإنسان كان عقلانياً في بعض الأحيان، ولكنه أدرك أنه "مخلوق ذو انفعالات وأهواء- ورغبة السلطان والقوة فوق كل شيء- يستخدم العقل أداة للرغبة أو الاشتهاء، ولا يحكمه إلا الخوف من القوة. والحياة البدائية- أي الحياة قبل التنظيم الاجتماعي- كانت بلا قانون، عنيفة مخيفة، "قذرة كريهة وحشية فقيرة (30) ".
وفي تصور هوبز أنه من "حالة طبيعية" المفترضة هذه، خرج الناس باتفاق ضمني بين بعضهم بعضاً، على أن يخضعوا جميعاً لسلطة عامة. وتلك هي نظرية "العقد الاجتماعي التي أصبحت مألوفة شائعة يفضل رسالة روسو التي تحمل هذا الاسم (1762). ولكنها كانت بالفعل قديمة مطروقة في أيام هوبز. فإن ملتون في رسالته "ولاية الملك والحكام" (1649) كان قد فسر العقد بأنه اتفاق بين ملك ورعاياه- على أنهم يطيعونه، وعلى أنه سيقوم بمهام منصبه
على خير وجه، فإذا أخفق هذا، كما قال ملتون (مثل ما قال بوكانان وماريانا وكثيرون غيرهما)، كان للشعب الحق في خلعه. واعترض هوبز على النظرية بهذه الصيغة، على أساس أنها لم تؤسس سلطة مخولة أن تنفذ العقد، أو تحدد كيف ومتى نقض. وآثر القول بأن هذا الاتفاق مبرم، لا بين الحاكم والمحكومين، بل بين المحكومين الذين اتفقوا فيما بينهم:
إنهم منحوا كل سلطانهم وقوتهم (أي حقهم في استخدام القوة بعضهم ضد بعض) لرجل واحد أو لجماعة من الرجال .... فإذا تم هذا، أتحد الجميع في رجل واحد يسمى الدولة. وهذا هو منشأ اللواياثان الكبير .... بل على الأرجح منشأ "الرب الفاني" الذي ندين له، في ظل "الإله الحي الباقي" بسلامنا والدفاع عنا لأنه بمقتضى هذه السلطة التي خولها إياه كل فرد في الدولة، له الحق في أن يستخدم كثيراً من السلطات والقوة اللتين منحتا له، ومن ثم فإنه بالإرهاب يكون قادراً على تشكيل إرادة الناس جميعاً .... غايته من ذلك أن يستخدم كل قوتهم وكل ما يملكون من وسائل. كلما وجد الضرورة تدعو إلى ذلك، من أجل سلامهم والدفاع المشترك عنهم. وهذا الذي يمثل هذا "الشخص" ويحمل هذا العبء يسمى ملكاً، ويقال أن له سلطة ملكية، وكل من عداه من رعاياه (31).
وفي شيء من الطيش افترضت النظرية ف هؤلاء الهمج "القذرين المتوحشين" الذين سبق ذكرهم، درجة من النظام والعقلانية والاتضاع، وهي درجة تسمح بتنازلهم عن سلطاتهم. وأجاز هوبز في شيء من الحكمة، أن تنشأ الدولة على أصول بديلة: -
ويكمن الوصول إلى هذه السلطة الملكية الحاكمة عن طريقين، أولهما القوة الطبيعية، كما هو الحال حين يعمد رجل ما إلى إخضاع بنيه وذرياتهم لحكومته، لأنه قادر على تدميرهم والقضاء عليهم إذا أبو عليه ذلك، أو يخضع أعداءه لإرادته عن طريق الحرب. أما ثانيهما فهو حين يتفق الناس فيما بينهم على الخضوع طواعية واختياراً لرجل أو جماعة من الرجال، ثقة من الناس بأن هذا الرجل أو جماعة الرجال سيتولون حمايتهم ضد الآخرين. ويمكن أن يطلق على هذا "رابطة سياسية"(32)(الدولة).
ومهما كان الأساس الذي قام عليه الحاكم، فإنه لكي يكون حاكماً وملكاً حقاً، لا بد أن يكون ذا سلطة مطلقة، فإنه بدونها لا يستطيع أن يحقق أمن الفرد أو سلام الجماعة. ومقاومته إنما تعني نقض العقد الاجتماعي الذي أقره ضمناً كل فرد في الجماعة بقبوله حماية رأس الدولة له. وقد تسلم هذه "الاستبدادية المطلقة" النظرية ببعض قيود وحدود عملية. فيمكن مثلاً الوقوف في وجه الملك إذا أمر إنساناً بأن يقتل نفسه أو يبتر عضواً من جسمه ليعطله أو يشوهه، أو يعترف بجريمة لم يرتكبها، أو إذا لم يعد الحاكم قادراً على حماية رعاياه. "المفهوم إن التزام الرعايا نحو الملك يبقى ما بقيت سلطته التي يستطيع بها حمايتهم، ولا بقاء لهذا الالتزام إذا فقد السلطان (33) ". والثورة دائماً جريمة إلا إذا حققت نجاحاً. إنها دائماً غير مشروعة وغير عادلة، لأن القانون والعدالة كلتيهما يحددهما ويحكمهما الملك، ولكن إذا أقامت الثورة حكومة مستقرة فعالة، فإن على المواطن أن يلتزم بطاعة السلطة الجديدة.
ولا يحكم هذا الملك بمقتضى الحق الإلهي، حيث أنه يستمد سلطته من الشعب، ولكن يجب أن تقيد سلطته جمعية شعبية أو قانون الكنيسة. ويجدر أن تمتد هذه السلطة إلى الملكية، فيجب على الملك أن يحدد حقوق الملكية (التملك)، وعليه أن يعيد توزيع الممتلكات الخاصة، حيثما يقدر أن هذا يحقق المصلحة العامة (34). "والحكم المطلق" ضروري، لأنه إذا كانت السلطة شركة، بين الملك والبرلمان مثلاً، فسرعان ما ينشب النزاع، ثم الحرب الإلهية، فتعم الفوضى وتتعرض الحياة والممتلكات للخطر. وحيث أن الأمن والسلام هما الضرورتان الأساسيتان للمجتمع، فإنه لا ينبغي أن يكون هناك فصل، بل وحدة كاملة وتركيز تام في السلطات الحكومية. وحيثما توزعت السلطات لا يكون هناك ملك، وحيثما لا يكون ملك، لا تكون هناك دولة (35).
وبناء على هذا يكون الشكل المنطقي للحكومة هو الملكية. ولا بد أن تكون وراثية، لأن حق اختيار الخلف جزء من سيادة الملك، ونكرر القول بأن البديل لهذا هو الفوضى (36). وقد تصلح الحكومة عن طريق الجمعية ولكن شريطة أن تكون سلطتها مطلقة، غير
خاضعة لرغبات متقلبة لدى شعب غير متعلم. "إن الديموقراطية لا تعدو أن تكون أرستقراطية خطباء (37) " فما أسهل أن يهيج زعماء الدهماء مشاعر الشعب، ومن ثم كان لزاماً أن تمارس الحكومة الرقابة على الخطابة والصحافة، وينبغي أن تكون هناك رقابة صادقة على المطبوعات والواردات وقراءة الكتب (38). ولا يجوز أن يكون هناك جدل عقيم حول الحرية الفردية والآراء الخاصة والضمير. وينبغي أن يقتلع من الجذور كل ما يهدد سيادة الملك، ومن ثم السلام العام (39). فكيف يتسنى حكم دولة أو حماية علاقاتها الخارجية إذا بقى كل فرد حراً في طاعة القانون أو مخالفته وفقاً لرأيه الخاص؟
د - الدين والدولة
وكذلك يجب على الملك أن يحكم دين شعبه، لأن الدين يمكن أن يكون قوة مدمرة متفجرة إذا تشدد فيه الناس. ويقدم هوبز تعريفاً موجزاً:"إن الخوف من القوة الخفية التي يلفقها العقل أو تصورها الأقاصيص، إذا سمح بانتشاره فهو "الدين".
وإذا لم يسمح فهو "الخرافة"(40). وهذا يهبط بالدين إلى مجرد الخوف والخيال والادعاء، ولكن في مواضع أخرى نرى هوبز يعزوه إلى التسائل الملهوف عن علل الأشياء والحوادث وبداياتها (41). وتقود ملاحقة الأسباب هذه في النهاية إلى الاعتقاد (كما أعترف الفلاسفة الوثنيون)"بأنه لا بد أن يكون هناك "محرك" واحد، أي سبب واحد لكل الأشياء، وهو ما يعنيه الناس بقولهم الله (42) " وذهب الناس بشكل طبيعي إلى أن هذا "السبب الأول" كان مثلهم: شخصاً ونفساً وإرادة، ولكنه فقط أقوى منهم بكثير. ونسبوا إلى هذا "السبب" كل الأحداث التي لم يستطيعوا تبين محدداتها الطبيعية بعد، ورأوا في الأحداث العجيبة معجزات ونبوءات للإرادة الإلهية.
في هذه الأشياء الأربعة: فكرة الأرواح، والجهل بالأسباب الثانوية، والتفاني فيما يخشاه الناس، وأخذ الأشياء الطارئة على أنها نذر أو بشائر، تنطوي البذور الطبيعية للدين، التي نمت بسبب
مختلف أوهام الكثير من الناس وأحكامهم وأهوائهم، نقول نمت حتى أصبحت طقوساً متباينة إلى حد أن ما يقوم به فرد، يعتبر في معظم الأحوال سخيفاً مرذولاً عند الآخر (43).
كان هوبز "ربوبياً" لا ملحداً. فأعترف "بكائن أسمى (44) " ذكي، ولكنه أضاف "قد يعرف الناس
…
بالطبيعة أن الله موجود، ولو أنهم لا يدركون ما هو (45). "ويجب ألا ندرك أن لله شكلاً، لأن كل شكل محدود، أوله أجزاء، أو له مكان ما هنا أو هناك، "لأن أي شيء له مكان، لا بد أن يكون مقيداً محدوداً"، أو أنه يتحرك أو يظل في مكانه، لأن هذا مكانه، لأن هذا ينسب له مكان، كما يجب ألا نقول إلا عن طريق المجاز بأنه يمارس الحزن والندم والغضب والرحمة والحاجة والشهوة والأمل أو أية رغبة أخرى (46). وخلص هوبز إلى أن "طبيعة الله خافية لا يمكن فهمها (47)" وقد لا يصفه هوبز بأنه روحي غير مادي، لأننا لا نستطيع أن ندرك شيئاً بلا جسم، ويحتمل أن كل "روح" جسدية ولكن بشكل دقيق (48).
وبعد أن حدد هوبز لكل من الدين والرب مكانه، عرض أن يستخدمهما أداتين للحكومة ليكونا في خدمتها، ومن أجل هذا أورد سوابق ذوات شأن خطير.
إن المؤسسين والمشرعين الأولين للدول بين "الأمميين (غير اليهود) الذين كانت غاياتهم الإبقاء على طاعة الناس وعلى السلام، عنوا في كل مكان:
أولاً: بأن يطبعوا في أذهان الناس أن تلك التعاليم التي جاءوا به بها فيما يتعلق بالدين، لا يجوز الظن بأنها جاءت من عندياتهم، بل أنها جاءت بأمر من بعض الآلهة أو الأرواح، وإلا كانوا (المؤسسون والمشرعون من الطبيعة أسمى وأرقى من مجرد بشر معرضين للفناء، حتى يمكن تقبل قوانينهم في كثير من اليسر. وهكذا زعم "توما بومبليوس" (ثاني كلوك روما) أنه تلقى الطقوس التي أقامها بين الرومان من الحورية اجريا، كما زعم مؤسس بيرو وأول ملوكها أنه وزوجته من أبناء الشمس.
ثانياً: أن يشيعوا الاعتقاد بأن الأشياء التي تغضب الآلهة هي نفسها الأشياء التي حرمها القانون (49).
ولكيلا يستنتج أحد أن موسى أستخدم وسائل شبيهة بهذه في نسبة شرائعه لله، يضيف هوبز، في نفور خاص من النار، أن "الرب بنفسه، بوحي خارق، أقام الدين" بين اليهود.
ولكنه يشعر بأنه على حق، بالأمثلة التاريخية، في أن يوصي بأن يصبح الدين أداة للحكومة، وبناء على هذا الغرض يفرض الملك مبادئ الدين وتعاليمه. وإذا كانت الكنيسة مستقلة فإنه يكون هناك ملكان، ومن ثم لا يكون ملك أبداً، وتكون الرعية موزعة بين السيدين.
إذا انتحلت السلطة الروحية حق الحكم بأن هذا أو تلك أثم، فإنها تنتحل، نتيجة لذلك، حق الحكم بأن هذا هو القانون (لأن الإثم ليس إلا مخالفة القانون) .... وإذا كانت هاتان السلطتان (الكنيسة والدولة) تناوئ الواحدة منهما الأخرى فإن الدولة تتعرض لخطر كبير هو خطر الحرب الأهلية والتمزق (50).
وفي مثل هذا الصراع يكون للكنيسة اليد العليا "لأن أي إنسان وهو في كامل وعيه ورشده لا بد أن يدين في كل الأمور. بالطاعة المطلقة، للرجل الذي يعتقد أن حكمه عليه سينجيه أو يقضي عليه". وحين تثير السلطة الروحية نفوس الرعايا "بالخوف من العقاب أو الأمل في الثواب" من هذا النوع الخارق للطبيعة"، وتخنق تفكيرهم وتعطل عقولهم بالكلمات الغريبة القاسية، فلا بد أنها بذلك توقع الشعب في حيرة، وأما أن ترهق البلاد بالظلم والجور، وأما أن تلقي بها في أتون حرب أهلية (51). ويرى هوبز أن المخرج الوحيد من مثل هذا المأزق الحرج أن تكون الكنيسة خاضعة للدولة. ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية ترى في هذا رأياً آخر، فإن هوبز، في الجزء الرابع من "لواياثان" يهاجمها على أنها ألد وأقوى عدو لفلسفته.
ثم يورد هوبز "نقداً أشد" للكتاب المقدس- يرتاب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى من التوراة، ويؤرخ "الأسفار
التاريخية" في زمان متأخر عما هو وارد في النواميس التقليدية. ويرى ألا تتطلب المسيحية من معتنقيها إلا الإيمان "بيسوع المسيح" أما بالنسبة لبقية أركان العقيدة، فيجدر بها أن تجيز اختلاف الرأي بين الناي في نطاق الحدود الآمنة للنظام العام. ولمثل هذه العقيدة البسيطة المطهرة لا يوفر هوبز مجرد تأييد الحكومة فحسب. بل كل قوة الدولة لنشرها ما وسعها الجهد. ويتفق مع البابا في أن يكون للدولة دين واحد (52). ويشير على المواطنين بأن يتقبلوا لاهوت مليكهم دون تردد محرج، لأن هذا واجب أخلاقي، كما هو واجب الدولة. "لأن الحال بالنسبة لأسرار ديانتنا هي الحال بالنسبة للأقراص الصحية هند المرضى، إذا بلعت دفعة واحدة كان لها فضل الشفاء، أما إذا مضغت، فإنها في معظم الأحوال تلفظ ثانية ولا يكون لها أي تأثير (53) ". وانتهى أشد هجوم شنه إنجليزي على المسيحية، بمسيحية قامت وكأنها قانون لا مفر منه لدولة استبدادية مطلقة.
هـ - اصطياد الدب
جاء في الفقرة الأخيرة من "لواياثان": "وهكذا أختم دون تحيز، حديثي عن الحكومة المدنية والدينية التي تضطرب بفوضى العصر الحاضر
…
وليس لي من هدف إلا أن أضع تحت أنظار الناس العلاقة المتبادلة بين الحماية والطاعة".
ولم يتحقق الناس من عدم التحيز على نطاق واسع. فإن المهاجرين الذين تجمعوا حول شارل الثاني في فرنسا رحبوا بدفاع هوبز من النظام الملكي، ولكنهم استنكروا ماديته على أنها حمق وطيش إن لم تكن تجديفاً، وعراهم الأسى والأسف لما استنفد فيلسوفهم العنيد من صفحات في مهاجمة الكنيسة الكاثوليكية، على حين كانوا لفورهم يلتمسون العون من ملك كاثوليكي. أما رجال الدين الأنجليكانيون الذين كانوا بين اللاجئين إلى فرنسا من وجه البيوريتانيين المنتصرين، فقد تعالت صيحاتهم ضد الكتاب إلى حد أن هوبز "أمر ألا يعود إلى بلاط شارل الثاني (54) ". ولما ألفى هوبز أنه بات بلا صديق ولا صاحب، وبلا حماية في فرنسا، قرر أن
يتصالح مع كرومول ويعود إلى إنجلترا. وطبقاً لما رواه الأسقف بيرنت، أدخل هوبز بعض تعديلات على نصوص اللواياثان "إرضاء للجمهوريين (55) " وليس هذا مؤكداً، ولكن المؤكد، على أية حال، أن نظرية الثورة غير ذات الأصل الشرعي، والتي بررها نجاحها، التأمت بشكل مبتور وكأنها ترقيع، مع نظرية الطاعة المطلقة لحاكم مطلق. إن كتاب "العرض والنتيجة" النهائيتان الذي يبدو وكأنه تفسير متأخر جاء بعد أوانه، شرح الظروف التي يمكن فيها لمواطن كان يدين بالولاء لملك من قبل، أن يخضع في الوقت المناسب، وفي لباقة، للنظام الجديد الذي كان قد أطاح بالملك. ونشر الكتاب في لندن في 1651 بينما كان هوبز في باريس. وفي آخر هذا العام، وسط شتاء قاس، عبر البحر إلى إنجلترا، حيث أوى إلى ملاذ طيب عند أرل ديفونشير الذي كان قد استسلم منذ أمد طويل لبرلمان الثورة. وأعلن هوبز ولاءه وخضوعه للحكم القائم، فلقي قبولاً، ومن ثم أنتقل الفيلسوف إلى دار في لندن، مستعيناً بمعاش ضئيل أجراه عليه أرل ديفونشير، "لأن الافتقار إلى حديث العلم والعلماء كان أشد ما يضايق الفيلسوف في الريف (56) ". وكان آنذاك في الثالثة والستين من العمر.
وشيئاً فشيئاً، كلما وجد الكتاب قراء، تكاثر النقاد على المؤلف أسراباً. فإنبرى رجال الدين الواحد تلو الآخر للدفاع عن المسيحية، وتساءلوا: من هو "وحش مامزبري" الذي قام يتحدى أرسطو وأكسفورد والبرلمان والله؟. وكان هوبز جباناً ولكنه مقاتل، وفي 1655 أثبت من جديد في "أصول الفلسفة" آراءه في المادية والحتمية. وفي كتاب "اصطياد اللواياثان (1658) نصب جون برامهول، أسقف دري العلامة، شراكه لهوبز وسدد الضربات إليه جديداً، وقال أسقف آخر "أن هوبز لا يزال في الشرك (57)". واستمرت الهجمات في كل عام تقريباً حتى قضى الفيلسوف نحبه. ولما اعتزل أرل كلارندون منصبه (وكان قاضي القضاة) تسلي في منفاه بنشر "رأى وعرض موجزان للأخطاء الخطيرة المؤذية في الكنيسة والدولة في كتاب مستر هوبز- لواياثان" (1676). وفي 322 صحيفة تابع تقنين المجلدات بشكل منتظم، وهو يقرع الحجة بالحجة في نثر مشرق رفيع. وتحدث
كلاوندون بوصفه رجلاً ذا خبرة طويلة في المناصب السياسية، وسخر من فلسفة هوبز على أنه رجل لم يسبق له أن تقلد مناصب ذات مسئولية، حتى يلطف من نظرياته عن طريق الممارسة والتجربة، وتمنى لو أن "مستر هوبز أتيح له أن يتبوأ مقعداً في البرلمان أو في المجلس، أو في دور القضاء أو أية وحكمة أخرى، حيث كان يحتمل أن يتبين أن تأملاته في عزلته، مهما تكن عميقة، واتزانه المتعجرف الزائد عن الحد ببعض أفكار فلسفية، بل حتى ببعض قواعد الهندسة، نقول يتبين أن هذا كله قد ضلله وحاد به عن جادة الصواب في بحثه في السياسة (58).
ولم تكن كل الحملات على هذا النسق من الهدوء والاعتدال. وفي 1666 أمر مجلس العموم إحدى لجانه "بكتابة تقارير عن الكتب التي تنزع إلى الإلحاد والتجديف وانتهاك حرمة المقدسات أو تتناول بالتعريض لسمة الله وصفاته. وبخاصة الكتاب الذي نشر باسم "هوايت" (قسيس كاثوليكي سابق إرتاب في خلود النفس)، وكتاب هوبز، "لواياثان (59)". يقول أوبري "كان هناك تقريراً (صحيح يقيناً) بأن بعض الأساقفة في البرلمان قدموا اقتراحاً بإحراق الرجل الطيب العجوز بجريمة الهرطقة (60) ". وأعدم هوبز كل ما كان يمكن أن يورطه أو يدينه بعد ذلك من أبحاثه التي لم تنشر، ثم كتب ثلاث محاورات حاول فيها أن يبرهن بأسلوب العالم المتفقة على أن أية محكمة في إنجلترا لا تستطيع أن تحاكمه بتهمة الهرطقة.
وهك الملك الذي أستعاد عرشه لإنقاذ الفيلسوف. ذلك أن شارل الثاني بعد وصوله إلى لندن بزمن قصير، رأى هوبز في الشارع، وعرف فيه معلمه السابق، ورحب به في البلاط. وكان بلاط عودة الملكية ينزع بالفعل إلى شيء من التشكك الديني ويدافع عن الملكية المطلقة، ومن ثم وجد في فلسفة هوبز بعض العناصر التي تتمشى مع الأفكار السائدة في هذا البلاط. ولكن رأسه الأصلع وشعره الأشيب وزيه الشبيه بزي اللبيوريتانيين، كل أولئك مدعاة للسخرية. وأطلق عليه الملك شارل نفسه أسم الدب، وكلما اقترب منه قال:"ها قد جاء الدب لنقدم له الطعم ونغويه (61) ". ومع ذلك استساغ الملك إجاباته البارعة وسرعة بديهيته، وأمر برسم صورة للفيلسوف العجوز، وتعليقها في حجراته الخاصة، وخصص له معاشاً
سنوياً قدره مائة جنيه، ولم يكن الراتب يدفع بانتظام، ولكنه مع ذلك، بالإضافة إلى خمسين جنيهاً أخرى في السنة من أسرى كافندش، كان كافياً لسد حاجيات الفيلسوف البسيطة.
وبصفة أوبري بأنه كان عليلاً في شبابه، موفور الصحة نشيطاً في شيخوخته، ومارس لعب التنس حتى بلغ الخامسة والسبعين. فإذا لم يتيسر ملعب التنس، عمد إلى المشي لفترة طويلة في خفة وسرعة، حتى "يتصبب منه العرق، وعندئذ ينقد الخادم بعض النقود لتدليكه". وكان معتدلاً في أكله وشربه، وامتنع عن أكل اللحم وشرب الخمر بعد السبعين. وكان يفاخر بأنه "كان قد أفرط في حياته مائة مرة" ولكن أوبري حسب أن هذا الإفراط لم يحدث لأكثر من مرة في كل عام، ولذلك لم يكن شيئاً فظيعاً. ولم يتزوج الفيلسوف قط، ولكن يبدو أنه كان له ابنة غير شرعية وفر لها سبل العيش الكريم بسخاء (62). وكان يقرأ قليلاً في سنيه الأخيرة، "وتعود أن يقول أنه إذا كان قد قرأ قدر الآخرون لما عرف أكثر مما عرفوا". وفي الليل عندما كان يأوي إلى الفراش، والأبواب موصدة، وهو واثق أن أحداً لا يسمعه، كان يغني بصوت عال (لا لأن صوته رخيم ولكن من أجل صحته)، حيث أعتقد بأن الغناء يفيد رئتيه ويؤدي إلى إطالة العمر (63). ومهما يكن من أمر، فإنه أصيب منذ 1650 بشلل ارتجافي في يديه، واشتدت به هذه العلة حتى كادت كتابته في 1666 أن تكون غير مقروءة.
وعلى الرغم من هذا استمر هوبز يكتب. وتحول من الفلسفة إلى الرياضيات، وهنا انزلق في غير ما حرص ولا حذر، إلى خلاف من عالم خبير هو جون واليس الذي انتقص من قيمة ادعاء الرجل العجوز بأنه كشف تربيع الدائرة. وفي 1670، وهو في الثانية بعد الثمانين نشر كتابه "بهيموث" وهو عبارة عن تاريخ الحرب الأهلية في إنجلترا، كما كتب عدة ردود على ناقديه، وترجم إلى اللاتينية كتابه "لواياثان" ترجمة رائعة. وفي 1675 كتب سيرة حياته نظماً باللاتينية، كما نظم في نفس العام الألياذة والأوديسية شعراً بالإنجليزية، حيث "لم أجد عملاً أؤديه أفضل من هذا".
وفي تلك السنة، حيث بلغ السابعة والثمانين، عاد من لندن
إلى الريف حيث قضي أيام حياته في ضيعة آل كافندشي في دربيشير. وفي تلك الأثناء اشتد عليه الشلل، كما عانى من عسر البول. ولما انتقل أرل كافندشي آنذاك من تساتسورت إلى هاردويك هول أصر هوبز على مرافقته. وثبت أن الرحلة مرهقة، وبعدها بأسبوع انتشر الشلل في جسمه ولم يعد قادراً على الكلام. وفي 4 ديسمبر 1679 فاضت روحه بعد أن تناول الأسرار المقدسة، أنجليكانياً مخلصاً، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاماً إلا أربعة أشهر.
والنتائج
كان علم النفس الذي جاء به هوبز رائعة الاستنتاج من مقدمات غير وافية، وقد يبدو منطقياً لأول وهلة، ولكنه مفكك الأوصال مهلهل بما فيه من فروض غير دقيقة وبما صوب منها مزيد من التحقيق والتمحيص والحتمية منطقية، ولكن قد يحددها طراز منطقناً ويشكلها معالجتنا للأشياء لا الأفكار. ووجد هوبز مشقة في أن يتصور أن أي شيء غير مادي، ويبدو أنه من الصعب بنفس القدر الذي نتصور أن الفكر والشعور ماديان، ومع ذلك فإن هذه هي الحقائق المعروفة لنا بطريق مباشر- وكل ما عداه فرضيات. وانتقل هوبز من الشيء المدرك بالحواس إلى الإحساس إلى الفكرة دون أن يلقي ضوءاً كافياً أو يوضح تماماً العملية الخفية التي يولد بها الشيء المادي ظاهرياً الفكر غير المادي ظاهرياً. إن علم النفس الميكانيكي يترنح أمام الوعي.
وعلى الرغم من ذلك فإنه في مجال علم النفس أسهم هوبز أكثر ما أسهم في تراثنا. فقضي على "الأرواح" الميتافيزيقية مثل "الملكات" التي جاءت بها المذاهب السكولاسية (مذاهب العصور الوسطى) ولو أن هذه يمكن على الفور تفسيرها، لا على أنها كيانات عقلية. بل مظاهر للنشاط العقلي. وأرسى قواعد المبادئ الأكثر وضوحاً في تداعي المعاني والخواطر، ولكنه انتقص من قيمة الفرض والانتباه في تحديد انتقاء الأفكار وتسلسلها وتشبثها. وأود وصفاً ناجحاً للتروي والاختيار. ولكن تحليله للانفعالات ودفاعه عنها خلاصة رائعة، ردت
إلى سبينوزا الفضل الذي كانت مدينة به لديكارت. ويفضل أبحاث علم النفس هذه، طور لوك كتابه الأكثر دقة وتفصيلاً "رسالة في العقل البشري". وفي الرد على هوبز، (لافلمر)، كان تطوير لوك لرسالته عن الحكومة.
وأعادت فلسفة هوبز السياسية صياغة ميكيافللي بلغة شارل الأول، ونبعث هذه الفلسفة من الاستبدادية المطلقة الموفقة التي انتهجها هنري الثامن وإليزابث في إنجلترا، وهنري الرابع وريشيليو في فرنسا، كما أنه لا ريب في أنها استمدت بعض القوة من مخالطته لأصدقائه الأدواق والملكيين المهاجرين. ومن حيث الأثر المباشر بدا أن لهذه الفلسفة ما يبررها، في العودة السعيدة لملك من آل ستيوارت ما زال يدعى ويطالب بسلطان مطلق غير محدود، وينهي فترة من الفوضى المدمرة. ولكن بعض الإنجليز النابهين أحسوا بأنه إذا كانت موافق الهمجيين "القذرين المتوحشين" كافية لإقامة حكومة، فإنه موافقة الناس، وهم في حالة يفترض أنها أكثر تقدماً ورقياً، قد يكون من شانها أن تكبح جماح هذه الحكومة أو تطيح بها. وهكذا نجد في الثورة الجليلة 1688 أن فلسفة الحكم الاستبدادي المطلق سقطت أمام إعادة البرلمان توكيد سيادته، وسرعان ما حل مكانها تحررية "ليبرالية" لوك التي تدعو إلى تحديد السلطات والفصل بينها. وبعد ديمقراطية القرن التاسع عشر النسبية، التي نمت في إنجلترا التي يحرسها القنال، وفي أمريكا التي تحميها البحار، عادت استبدادية مطلقة معدلة في دول دكتاتورية تمارس رقابة حكومية على الحياة والممتلكات والصناعة والدين والتعليم والمطبوعات والفكر. وتخطت الاختراعات الجبال والخنادق، واختفت الحدود، وتلاشت العزلة القومية والأمن القومي. إن نظام الحكم المطلق ابن الحرب، والديمقراطية ترف السلم.
ولسنا ندري هل كان "لحالة الطبيعة" التي قال بها هوبز، وجود يوماً ما، فربما كان النظام الاجتماعي سابقاً للإنسان، فالقبيلة سبقت الدولة، والعرف أقدم وأوسع وأعمق من القانون. والأسرة هي أساس بيولوجي لا يثار ينمي الذات (الأنا) وولاداتها. وربما أصبح "علم الأخلاق" الذي جاء به هوبز أكثر ملائمة لو أنه عمد إلى تنشئة أسرة، أما أن يترك للدولة تحديد الأخلاقيات (ولو أن هذا انتقل إلى
النظم الدكتاتورية) فمعناه تدخير إحدى القوى التي تعمل على تحسين الدولة والأخذ بيدها. إن الحس الخلقي يوسع في بعض الحيان دائرة التعاون أو الإخلاص والحب الشديد، ثم يستحث القانون على توسيع مجال حمايته تبعاً لذلك. وفي المستقبل البعيد قد يتسنى لدولة أن تكون مسيحية، كما كان الحال يوماً مع أشوكا الذي كان بوذياً.
وبرز أقوى تأثير لفلسفة هوبز في "ماديته". وسرت "أفكار هوبز" من الجماعات المفكرة إلى طبقات المهنيين ورجال الأعمال. وفي هذا قال بنتلي الغضوب 1693 "لقد زخرت بها الحانات والمقاهي بل وستمنسر هول (البرلمان) والكنائس ذاتها كذلك (64) ". وتقبلها كثير من رجال الحكومة فيما بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم في العلن حجبوها باحترام أبدوه للكنيسة الرسمية على أنها شكل مفيد للانضباط الاجتماعي لا يقوم على تدميره إلا الحمقى والأغبياء. وأثرت هذه الفلسفة المادية في فرنسا في تشكك بيل، وأتت عليها تطورات أشد جرأة عند لامتري ودي هولباخ وديدرو.
وكان بيل بعد هوبز من أعظم عباقرة القرن السابع عشر (65). ومهما أصاب من مدح أو قدح فقد اعترفوا بأنه أقوى فيلسوف أنجبنه إنجلترا منذ عهد بيكون، وأول إنجليزي يعرض بحثاً منهجياً أساسياً في النظرية السياسية. وإنا لندين له بفضل واضح، ذلك أنه صاغ فلسفته في ترتيب منطقي وف ينثر مشرق. وإننا إذ نقرأ هوبز وبيكون ولوك، أو فونتفل وبل وفلتير لندرك من جديد ما أنسانا الألمان إياه، من أنه ليس من الضروري أن يكون الغموض هو العلامة المميزة للفيلسوف، وأنه يجدر بكل فن أن يتقبل الالتزام الأدبي والأخلاقي واضحاً أو خامداً.
2 - يوتوبيا هارنجتون
في الوقت الذي دافع فيه هوبز عن ملكية مزعجة موجعة، اقترح جيمس هارنجتون يوتوبيا ديموقراطية، والآن وقد كانت الكشوف الجغرافية والتجارة تفتح آفاقاً سحيقة من الكرة الأرضية، وجاءت الأساطير إلى أوربا مع كل بضاعة من وراء البحار، فقد كان من اليسير
على أرباب الخيال والقلم أن يسبحوا في الخيال إلى ركن سعيد على الخريطة-إلى القمر أو إلى الشمس مثل سيرانو دي برجراك وتوماسو كمانللا-ركن قد تخزي أعرافه السياسية والاجتماعية طغيان الناس الذين تظلهم "المدنية" وبؤسهم. إن إعجاب عصر النهضة بالقديم قد أفسح المجال لقصص خيالية عن دول مثالية بشكل أو بآخر في أرض بعيدة لم يعتريها فساد. وهكذا قدم هارنجتون في 1656 إلى مقاهي لندن "الاقيانوسة".
ولد هارنجتون في بيت كريم، وكان طبيعياً أن ينحاز إلى فلسفة سياسية تناصر صغار مالكي الأرض في إنجلترا. وبعد تخرجه في أكسفورد طاف بإرجاء القارة، وأعجب بجمهورية الأراضي الوطيئة، وخدم في جيشها، وزار البندقية، وتأثر بنظمها الجمهورية، ورأى البابا وأبى أن يقبل إصبع قدمه، ولما عاد إلى إنجلترا اغتفرت له كل خطاياه حين ذكر لشارل الأول إنه لم يستطع أن يفكر تقبيل قدم أي سيد أجنبي بعد أن سبق له تقبيل يد ملك إنجلترا. وعندما شارل عين هارنجتون لملازمته. فأحب السجين البائس، ولكنه أوضح له أن "الجمهورية" أمر مرغوب فيه. ولازمه حتى النهاية، وكان على المنصة ساعة إعدام شارل، ويقولون أنه كاد يموت جزعاً وحزناً (66). وهدأ من روعه مولد "الجمهورية الإنجليزية"، فأنصرف إلى شرح آرائه الجمهورية في شكل روائي. ولكن بينما كان هرنجتون يكتب، غير كرومول الجمهورية الجديد إلى حامية شبه ملكية، وحين كانت "دولة الأوقيانوسة" في طريقها إلى طبع أمر "الحامي" بوقف العمل فيها. وهنا تدخلت ابنة كرومول الأثيرة لديه، السيدة كلايبول، من أجل الكتاب، وأهداه المؤلف إلى أبيها، وخرج إلى النور في 1656.
إن "الأوقيانوسة" هي إنجلترا بالشكل الذي كان المؤلف يأمل من كرومول أن يعيد تشكيلها فيه. إنه يضع مبدأ فصل تفصيلاً بعد قرنين من الزمان ليصبح التفسير الاقتصادي للتاريخ. ويقول هرنجتون بأن السيطرة السياسية تتبع، بشكل طبيعي وبحق، السيطرة الاقتصادية، وبهذا الانسجام وحده يمكن لأية دولة أن تنعم بالاستقرار. "على قدر ما يكون التناسب في ملكية الأرض تكون طبيعة الإمبراطورية-
أي الحكومة (67)". فإذا امتلك فرد واحد الأرض كلها (كما هو أقلية لأصبحت الحكومة "ملكية مختلطة" تؤيدها كما تحد من سلطانها الأرستقراطية. "وإذا كان كل الناس ملاكاً للأرض، أو إذا وزعت الأرض بينهم، بحيث لا يطغى فرد أو مجموعة أفراد، فإن الإمبراطورية أي الحكومة (دون فرض بالقوة) تكون دولة جمهورية (68) " ورد هانجتون على هوبز الذي ذهب إلى أن كل الحكومات تستند إلى القوة، رد عليه بأنه لا بد من إطعام الجيوش وتسليحها، ومن ثم تنتقل السلطة إلى أولئك الذين يوفرون المال اللازم لهذا وذاك (69). أن أي تغيير في توزيع الملكية. وعلى هذا الأساس فسر هارنجتون انتصار البرلمان الطويل، حيث كان يمثل صغار الملاك على الملك الذي كان يمثل كبارهم.
وللحيلولة دون أن تصبح الحكومة أوليجاركية من ذوي الضياع الكبير، اقترح هارنجتون قانوناً "لإعادة توزيع الأراضي توزيعاً عادلاً" يحدد للفرد الواحد أرضاً لا تدر أكثر من ألفي جنيه في العام. إن الديموقراطية الفعلية تتطلب التوسع في توزيع الملكية، وخير ديموقراطية هي التي يكون فيها لكل مالك أرض دورة عمل في الحكومة وفي الجمهورية الإنجليزية الحقة يمكن للمواطنين أن يرسلوا ملاك الأراضي ليعملوا في جمعية شعبية وسناتو (مجلس الشيوخ). والسناتو وحده يقترح القوانين، والجمعية وحدها تقرها أو ترفضها. ويسمى أعضاء السناتو المرشحين للوظائف العامة، وينتخب المواطنون من هذه القائمة الحكام بالاقتراع السري (70). وفي كل عام يحل محل ثلث أعضاء الجمعية والسناتو والحكام أفراد آخرون في انتخاب جديد. وفي هذه الدورة يتسنى لكل ملاك الأرض أن يكون لهم في النهاية دور للعمل في الحكومة. أن هذا الانتخاب الشعبي يحمي المجتمع من المحامين الذين يخدمون المصالح الخاصة، ومن رجال الدين-"وهم الأعداء السافرون الألداء لسلطة الشعب (71) ". ولسوف يكون هناك تعليم عام شامل وفي مدارس وكليات وطنية، وحرية تامة مطلقة في العقيدة الدينية.
"وكانت النظرية أخاذة جذابة جداً. "كما قال أوبري. وسرعان ما وجدت مؤيدون متحمسين لها. وجمع هارنجتون بعضهم (ومن بينهم أوبري) في أحد نوادي "روتا" Rota (1659) حيث أهاجوا الشعور العام للمطالبة بتشريع برلماني يقر هذه الجمهورية الدورية التي أقترحها هارنجتون الذي نسب الانهيار الذي أصاب الدولة آنذاك إلى عجزها عن مصادرة الضياع الكبيرة وإعادة توزيع الأرض على بمساحات أصغر، وكان هذا سبباً في احتفاظ النبلاء بقوتهم وسلطانهم. وبقاء الشعب على حاله من الفقر والضعف، على أساس أن ملكية الأرض هي التي تفرض الحكومة، وأن عودة الملكية الأوليجاركية أمر لا مفر منه إذا لم يقر البرلمان قانون "إعادة توزيع الأراضي". ويقول أوبري:"ولكن القسم الأكبر من رجال البرلمان كانوا يمقتون كل المقت مشروع "دورة العمل بالاقتراع العام، لأنهم كانوا طغاة ملعونين مولعين بسلطتهم وقوتهم (72)"، وآثروا أن يستدعوا شارل الثاني. وحيث استمر هارنجتون بنشر دعوته، حتى بعد عودة الملكية، فإن الملك أمر بإيداعه برج لندن (السجن) بتهمة التآمر (1661). ولما بذلت المساعي لإخلاء سبيله بمقتضى "التحقيق في قانونية حبس المتهم"، نقلوه إلى معتقل أكثر تضييقاً وأحكاماً في جزيرة بعيدة عن بليموث، وهناك أصابته نوبات من الجنون. وأطلق سراحه ولكنه لم يسترد صحته قط.
وكانت "اليوتوبيا" التي نادى بها هارنجتون عملية أكثر من معظم "المدن الفاضلة المثالية"، وتحقق قدر كبير منها. وربما كانت إحدى نقاط الضعف فيها أنها افترضت أن الأرض هي الشكل الوحيد للثروة. إن هارنجتون ذكر سلطان المال في التجارة والصناعة، ولكنه لم يتوقع أو لم ينبأ بتبوئه السلطة السياسية، وربما كان قد أحس بأنه حتى الثروة التجارية والصناعية لا بد خاضعة في خاتمة المطاف لملاك الأرض. وكان التوسع في حق الانتخاب وفي الاقتراع السري يتفق مع آماله المرجوة، وعلى الرغم من أن بريطانيا رفضت فكرته في "دورة العمل والوظائف"، على أنها تبديد سنوي للخبرة والتجربة فإن الولايات المتحدة أخذت في التجديد الدوري لجزء من الكونجرس الأمريكي، ووافق لوك ومنتسكيو وأمريكا على نظريته في الفصل بين السلطات في الحكومة. فلا تيأسوا أيها الحالمون، فلعل
الزمان يفاجئكم بتحقيق أحلامكم ويحول شعركم إلى نثر، أو وهمكم إلى واقع ملموس.
3 - الربوبيون
وكما أضرت الحروب الدينية بالعقيدة الدينية في فرنسا، فإن الحرب الأهلية في إنجلترا أسهمت في إثارة الشكوك اللاهوتية. وأشاعت ذكريات الحكم البيوريتاني الزندقة والمروق عن الدين حتى بات أمراً مألوفاً بين الملكيين المنتصرين، كما جعلت الإلحاد يقترن بالمرح الصاخب والبذاءة في بلاط الملكية العائدة. واشتبه في إلحاد أرل شافتسبري الول ودوق بكنجهام الثاني وأرل روشستر الثاني، كما أشتبه في إلحاد هاليفاكس وبولينيروك بعد ذلك.
وأدى اتساع دائرة المعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية وانتشارها إلى ارتفاع موجة التشكك. وفي كل يوم، كان أحد السائحين أو المؤرخين يطلع على الناس بأنباء أمم عظيمة دياناتها وأخلاقها عن المسيحية بشكل مثير فظيع، ولكنها عادة فاضلة مستقيمة مثلها. ويندر أن كانت نزاعة إلى القتل متعطشة إلى سفك الدماء مثل المسيحية. كما بدا أن النظرة الميكانيكية إلى العالم التي رسمها ديكارت التقي الورع، ونيوتن العالم البصير، نقول بدا أن هذه النظرة تصرف النظر عن دور العناية الإلهية" في تسيير الكون، وكان اكتشاف القانون في الطبيعة يجعل من المعجزات أمراً غير مستساغ غير مقبول. وأسهم الانتصار البطيء الذي أحرزه كوبرنيكس، والمحاكمة المثير التي عانى منها جاليليو، في تزعزع الإيمان وتقويض أركانه. بل أن المحاولة الجريئة التي قام بها كثير من رجال اللاهوت المسيحيين لشرح العقيدة على أساس من العقل، أضعفت العقيدة. ويقول أنطوني كولنز: لم يكن ثمة أحد يشك في وجود الله، حتى جاءت "محاضرات بويل" وأخذت على عاتقها إثبات وجوده (73).
إن تفنيد الإلحاد كان شاهداً على انتشاره. وفي 1672 كتب سيروليم تمبل "عن أولئك الذين يبدون أنهم أذكياء لأنهم يذكرون أشياء قالها الجاهل في نفسه، كما جاء على لسان داود (74) " وفي نفس العام قال سير تشارلز ولزلي "إن المروق عن الدين كان أمراً واقعاً
في كل عصر، ولكن يبدو أن الدفاع عنه صراحة وعلانية من خصائص هذا العصر (75) ".
ويقول رئيس الشمامسة صمويل باركر 1681:
...... إن الجهال وغير المتفقهين منا أصبحوا أكبر المتظاهرين بالتشكك والكفر
…
وأصبح الإلحاد والمرق عن الدين في النهاية شائعين شيوع الرذيلة والفسوق. وفلسف الأجلاف والميكانيكيون لأنفسهم مبادئ بعيدة عن التقوى، وقرأوا دروسهم في الإلحاد على الناس في الشوارع والطرقات العامة، وإنهم لقادرون على أن يستخلصوا من كتاب "لواياثان" أنه ليس هناك إله (76) ".
وبين الطبقات المتعلمة التمس الشك حلاً وسطاً في التوحيد-الدين الطبيعي-والربوبية. وأرتاب التوحيديون في المساواة بين المسيح والأب، ولكنهم عادة ارتضوا الكتاب المقدس نصوصاً إلهية. وآثر المدافعون عن الدين الطبيعي عقيدة مستقلة عن الأسفار المقدسة ومحصورة في المعتقدات التي رأوا أنها شاملة كلية-في الله وفي الخلود. أما الربوبيون، الذين قاموا بحركتهم أساساً في إنجلترا، فإنهم طالبوا فقط بالإيمان بالله الذي اعتبره أحياناً مفهوماً تجريدياً غير مشخص، مرادفاً للطبيعة، أو "الدافع الأصلي" لإله الدنيا التي قال بها ديكارت ونيوتن. وبرزت لفظة "ربوبي" Deist في 1627 في "رسالة إلى ربوبي" لرئيس الشمامسة إدوارد ستللنجفليت، ولكن مطبوعات الربوبيين كانت قد بدأت لورد هربرت شربري "الحقيقة"1624.
وتابع تشارلز بلونت، أحد مريدي لورد هربرت، رسالته في كتاب "النفس البشرية"(1679). وكانت حجته أن كل ديانة أسست إنما كانت من خلق أو ابتداع دجالين أفاكين سعوا إلى السلطة السياسية أو الكسب المادي، وأن الجنة والجحيم كانت من بين المخترعات البارعة التي اصطنعوها للتحكم في الأهالي واستغلالهم. إن الروح تموت مع الجسد. إن الإنسان والحيوان متشابهان إلى حد أنه "من رأى بعض الكتاب أن الإنسان ليس إلا قرداً مصقولاً". وفي "عظمة ديانا آلهة أهل أفسوس" أو "منشأ الوثنية"(1680) جعل بلونت من القساوسة
أدوات في أيدي الطبقات الغنية التي سمنت واكتنزت بفضل كدح الشعب الصابر وسذاجته. وفي دقة ماكرة مؤذية ترجم بلونت كتاب فيلوستراتوسي "حياة أبوللنيوس أوف تيانا"، وحدد أوجه الشبه بين المعجزات المنسوبة إلى صانع الأعاجيب الوثني والمعجزات المنسوبة إلى المسيحيين، وأوحى برفق إلى التشكك فيها وعدم تصديقها جميعاً على حد سواء. وفي "بيان موجز عن ديانة الربوبيين- (1686) اقترح بلونت ديانة خالية من أي عبادة أو طقوس، اللهم إلا عبادة الله بحياة فاضلة قائمة على الأخلاق". وفي "وحي العقل"(1693) أوضح بلونت أن اللاهوت المسيحي قام أول الأمر على توقيع خاطئ لانتهاء العالم في وقت قريب أو مبكر، وسخر من قصص الكتاب المقدس عن الخليقة، ومن مولد حواء من ضلع آدم، ومن الخطيئة الأصلية، ومن إيقاف يشوع الشمس، على أنها جميعاً سخافات صبيانية. وأومأ إلى أن "الاعتقاد بأن أرضنا الحديثة (جسم مظلم تافه في الكون، أصغر شأناً من النجوم الثابتة في الحجم والمنزلة معاً) هي قلب هذا الكون الشاسع الهائل وأعظم أجزائه سمواً وحيوية، إنما هو اعتقاد غير منطقي وغير عقلاني، يتعارض مع طبيعة الأشياء". وحاول كتاب آخر غفل من اسم المؤلف، منسوب إلى بلونت بصفة غير مؤكدة، عنوانه "معجزات لا خرق لقوانين الطبيعة (1683) "، حاول تفسير كثير من قصص المعجزات بأنها أفكار خاطئة راودت العقول البسيطة عن الأسباب والأحداث الطبيعية، وأضاف الكتاب نفسه أن الكتاب المقدس إنما كتب "ليثير مشاعر التقى والورع"، لا ليعلم الفيزياء، وينبغي تفسيره على هذا الأساس:"إن كل ما هو مناف للعقل، وكل ما هو مناف للعقل سخيف يدعو إلى السخرية وينبغي رفضه (77) " على أن بلونت نفسه لم يعبد العقل إلى النهاية، إذا صدقنا ما يروى من أنه قتل نفسه (1693) لأن القانون الإنجليزي لم يكن ليجيز له الزواج من أخت زوجته المتوفاة.
وتابع جون تولاند الحملة. وبحكم مولده في إيرلندة نشأ كاثوليكياً، ولكنه أرتد إلى البروتستانتية في شبابه. ودرس في جلاسجو وليدن وأكسفورد. وفي سن السادسة والعشرين أصدر كتاباً غفلا من اسم المؤلف "المسيحية لا تكتنفها أسرار"(1696) وصفه بأنه "رسالة
توضح أنه ليس في الإنجيل شيء ينافي العقل "أو يسمو فوق العقل". ومذ تقبل بقبول حسن كتاب لوك الحديث "بحث في العقل البشري" حيث أثبت أن الإحساس هو أصل كل المعرفة، فإنه أي جون تولاند، خرج منه بعقلانية متطرفة.
أنا أعتقد أن "العقل" هو الأساس الوحيد لكل حقيقة يقينية، ولا يستثنى من مجال بحث هذا العقل أي وحي أكثر مما يستثنى الظواهر العادية للطبيعة " ..... إن الاعتقاد بألوهية الأسفار المقدسة أو معنى أية قطعة فيها، دون برهان عقلاني أو حجة دامغة قوية، إنما هو سذاجة أو سرعة تصديق جديرة باللوم
…
ومن المألوف أن يميل بعض الناس إلى سرعة التصديق عن جهل وعن عمد، لكن الأكثر من هذا أن ما يتوقعون من نفع هو الذي يدفعهم إلى سرعة التصديق (78).
وكان هذا بمثابة إعلان للحرب. ولكن تولاند في سياق حديثه بعد ذلك رفع غصن الزيتون، حيث أردف أن المبادئ المسيحية الأساسية عقلانية باستثناء تحول خبز القربان والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وعلى الرغم من ذلك لم يسكتوا على هذا التحدي، فقد اجتمع كبار المحلفين في مدلسكس ودبلن عبر بحر أيرلندة ليستنكروا الكتاب، فأحرق بصفة رسمية أمام أبواب البرلمان الأيرلندي، وحكم على تولاند بالسجن، ولكنه هرب إلى إنجلترا، ولما عجز عن إيجاد عمل له فيها، هاجر إلى القارة. ولبعض الوقت لقي ترحيباً لدى صوفيا هانوفر وابنتها صوفيا شارلوت ملكة بروسيا.
وإلى صوفيا شارلوت هذه وجه تولاند "رسائل إلى سيرينا"(1714). وفي إحداها حاول أن يتعقب أصل عقيدة الخلود ونموها، وكانت هذه إحدى المحاولات الأولى في التاريخ الطبيعي للمعتقدات الخارقة للطبيعة. وفي رسالة ثانية عارض تولاند الرأي القائل بأن المادة في حد ذاتها جامدة لا حركة فيها، وقال أن الحركة صفة أساسية للمادة ملازمة لها، وليس ثمة جسم في سكون مطلق. وكل الظواهر المدركة بالحواس إن هي إلا حركات في المادة، بما في
ذلك الأفعال التي يأتيها الحيوان، وقد يصدق هذا على الإنسان كذلك (79). ومهما يكن من أمر فإن تولاند عرض نفسه هنا للخطر، فإن مثل هذه الأفكار ينبغي أن لا تنشر علانية، حيث يجب ترك الجمهور غير المتعلم على معتقداته التقليدية دون إزعاج أو تشويش، باعتبار أن هذا وسيلة للسيطرة عليه أو التحكم فيه من الناحيتين السياسية والاجتماعية. ويجدر أن يكون التفكير الحر واجب الأقلية المتعلمة وامتيازاً مقصوراً عليها، وينبغي ألا يكون ثمة رقابة على هذه الأقلية "فلندع كل الناس يتحدثون بما يفكرون فيه كما يحلو لهم، دون أن يوصموا بالعار أو يعاقبوا إلا على ما يأتون من أعمال سيئة ضارة (80) ". وظاهر أن تولاني هو الذي ابتكر مصطلحي "المفكر الحر" و "المؤمن بوحدة الوجود"(81)(القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا نظاهر للذات الإلهية).
ويوحي بحثه "ابن الناصرة"(1718) بأن المسيح لم يكن يقصد الفصل بين أتباعه وبين اليهودية، وأن المسيحيين اليهود الذين ظلوا يتبعون شريعة موسى وكانوا يمثلون "الخطة الأصلية الحقة للمسيحية" وهناك رسالة صغيرة "الإيمان بوحدة الوجود" شرح فيها مذهب وطقوس جمعية سرية وهمية. وربما كان تولاند عضواً في Mother Grand Dlodge الماسونيين الأحرار التي أسست في لندن 1717. إن هذه الجمعية كما وصفها تولاند نبذت كل الوحي الخارق للطبيعة، وقدمت ديناً جديداً يتفق مع الفلسفة، وقالت بالتماثل بين الله والكون، واستبدلت بالقديسين في التقويم المسيحي أبطال الحرية والفكر. وأجازت الجمعية لأعضائها القيام بالعبادات العامة المألوفة ما داموا، عن طريق نفوذهم السياسي يستطيعون الحيلولة دون أن يكون التعصب أمراً مؤذياً ضارياً (82).
وزاول تولاند أعمال مختلفة لفترات متقطعة، وركن تولاند إلى حياة الفقر والعوز، لم ينقذه منها من الموت جوعاً إلا لورد مولزورث والفيلسوف شافتسبري. واحتمل في صبر وجلد حملات التفنيد التي شنت على كتبه (54 مرة في ستين عاماً). وزعم أن الفلسفة أسبغت
عليه "هدوءاً تاماً"، وحررته من "فزع الموت (83). وفي سن الثانية والخمسين أصيب بداء عضال يستعصي البرء منه (1722) وكتب بنفسه عبارة قصيرة ملؤها الزهو والفخر لتنقش على قبره:
هنا يرقد جون تولاند الذي ولد .. بالقرب من لندندري .... نهل من مختلف الآداب والمعارف، وكان ملماً بأكثر من عشر لغات، وكان نصير الحق والمدافع عن الحرية، لم يربط نفسه بإنسان، ولم يتملق إي إنسان، ولم يحد تحت تأثير التهديد أو تحت ضغط البؤس والفاقة عن نهجه المرسوم الذي سار عليه حتى النهاية، مضحياً بمصلحته في سبيل السعي وراء الخير العام، إن نفسه متحدة مع الأب الذي في السماء الذي جاء منه في البداية، وليس ثمة أدنى شك أنه سيحيا ثانية في الخلود، ومع ذلك فإنه لن يكون هناك تولاند آخر .... لأن سائر الناس سوف يسترشدون بكتاباته (84).
وحمل أنطوني كولنز أمانة مذهب الربوبية بعد تولاند، في براعة وتواضع أكثر. وكان خير عون له في مهمته أنه كان ثرياً، وأن له بيتاً في الريف وآخر في المدينة، فلم يكن لينبذ لأنه معدم يتضور جوعاً. وكان ذا سلوك قويم، وخلق ليس فيه مطعن. كتب إليه لوك الذي عرفه كل المعرفة:"إن حب الحق من أجل الحق وحده هو الجانب الأساسي في الكمال الإنساني في هذه الدنيا، ومنبت كل الفضائل، وإذا لم أكن مخطئاً، فإنك جمعت منها قدر ما وجدته في أي إنسان (85) ". إن كتاب كولنز "بحث في التفكير الحر"(1713) أحسن شرح للربوبية في هذا العصر.
إنه عرف التفكير الحر بأنه "استخدم الفهم في إيجاد معنى لأية قضية أياً كانت، والتأمل في طبيعة الدليل، لها أو ضدها، والحكم عليها وفقاً لنقاط القوة أو الضعف الظاهرة في الدليل""وليس ثمة وسيلة أخرى للكشف عن الحقيقة (86) ". إن تباين المذاهب والتفسيرات المتناقضة لنصوص الكتاب المقدس لتضطرنا إلى قبول حكم العقل، فلمن نتحكم بعده اذن، اللهم إلا أن نحتكم إلى القوة؟. وكيف يتسنى إلا طريق البينة والتأمل والاستنتاج، أن نقرر أي
الأسفار في الكتاب المقدس حجة موثوقة، وأيها يطرح جانباً على أنها مشكوك في صحتها. وينقلا كولنز عن أحد رجال الدين أن أحصي ثلاثين ألف قراءة مختلفة اقترحها العلماء لنصوص العهد الجديد (الإنجيل) وحده. ويشير إلى ريتشارد سيمون ونقده المتعلق بنصوص الأسفار المقدسة (87).
ويحاول كولنز أن يرد على الاعتراضات التي آثارها المحاذرون من الرجال ضد الفكر الحر: حيث ذهبوا إلى أن معظم الناس لم يؤتوا القدرة على أن يفكروا تفكيراً حراً لا يضر ولا يؤذي في أمهات المسائل الأساسية، وأن مثل هذه الحرية قد تؤدي إلى انقسامات لا نهاية لها في الرأي وفي الشيع والمذاهب، ومن ثم تؤدي إلى الخلل والاضطراب في المجتمع، وأن حرية التفكير قد تفضي إلى الإلحاد في الدين والفجور والخلاعة في الخلق. ويضرب كولنز اليونان القديمة وتركيا الحديثة مثلاً للنظام الاجتماعي الذي يحتفظان به على الرغم من حرية الرأي واختلاف الأديان. وينكر أن حرية الفكر تؤدي إلى الإلحاد. ويقتبس عن بيكون قوله المأثور بأن الفكر الضيق ينزع بنا إلى الإلحاد، وبأن التفكير الواسع يصرفنا عنه، ويؤيد كولنز حكمة بيكون، ثم يضيف في إخلاص واضح، أن الجهل "هو أساس الإلحاد، والتفكير الحر هو علاجه (88) ". ويعدد المفكرون الأحرار الذين كانوا "أفضل الناس في كل العصور": سقراط، أفلاطون، أرسطو، ابيقور، بلوتارك، فارو، كاتو الوقيب، كاتو أوتيكا، شيشرون، سنكا، سليمان، الرسل، أوريجن ارازمز، مونتاني، بيكون، هوبز، ملتون، تللوستون، ولوك. وهنا وعند تولاند أيضاً، نجد نموذجاً لقائمة أوجست كونت عن أعلام مذهب الوضعية، ويرى كولنز أنه في الإمكان وضع قائمة أخرى تضم أعداء الأفكار الحرة الذين جلبوا الخزي والعار على الإنسانية بقساوتهم الوحشية بحجة تمجيد الله.
وأنيرت له المنابر والجامعات وأمطرته وابلاً من الردود، وقالت أن كولنز رأى أن التعقل يتطلب الترحال. أنه ربما تأثر أثناء إقامته في هولندا بآراء سبينوزا وبيل، ولدى عودته إلى إنجلترا أثار عاصفة أخرى بكتابه "بحث في الحرية الإنسانية"(1715) الذي بسط فيه ببيان قوي واضح موضوع "الجبرية" أو الإيمان بالقضاء والقدر،
حيث وجد كولنز نفسه مفكراً حراً عباً لإرادة غير حرة. وبعد ذلك بتسع سنين أثار جو اللاهوت برسالته "بحث في أسس الدين المسيحي وتفسيره". واقتبس عن الرسل وعن بسكال ما بنوا به شرحهم للمسيحية على نبوءات العهد القديم التي حققتها الشريعة الجديدة فيما يبدو، وجادل في أن هذه النبوءات لم تتضمن أية إشارة إلى المسيحية والمسيح. ورد عليه خمسة وثلاثون من رجال اللاهوت في خمس وثلاثون رسالة. وكان الخلاف ما زال محتد ما حين وصل فولتير إلى إنجلترا 1726، وطابت به نفسه في عبث مزعج، ونقله إلى فرنسا حيث وجد طريقه إلى "الاستنارة" المتشككة.
وواصل حركة الربوبية في إنجلترا وليم هويستون، ماتيو تندال، توماس تشب وكونيرز مدلتون، وانتقلت عن طريق بولنريك والفيلسوف شافتسبري إلى جيبون وهيوم. ولم تعد مقبولة عند الطبقات الحاكمة مذ ارتابوا في إنها تشجع الأفكار الديموقراطية، ولكن أثرها المباشر كان ملموساً في تزعزع عابر في العقيدة الدينية. وفي 1711 رفع إلى مجلس اللوردات تقرير رسمي عن هذا الموضوع. من المجلس الكنسي والإنجيلي في مقاطعة كنتربري. ويصف التقرير سعة انتشار الكفر والدنس، والشكوك في الخلود، وانتقاص من قدرة القساوسة على أنهم دجالون (89). وفي مطلع القرن الثامن عشر في إنجلترا "هبط الدين إلى الربوبية (90) "، وهنا في هذه الأزمة هب نفر من ذوي العقول الجبارة في بريطانيا في قوة ونشاط للدفاع عن المسيحية.
4 - المدافعون عن العقيدة
كان معظم هؤلاء المدافعين مستعدين لمواجهة مهاجميهم على أساس من العقل والعلم والتاريخ، وقد كشف هذا في حد ذاته عن روح العصر.
وقاد تشارلز لزلي الدفاع برسالته "منهج قصير سهل مع الربوبين"(1697) قصد به في الأصل أن يكون ردأ على بلونت. وحاول أن يدلل على أن شواهد صحة قصص الكتاب المقدس هي من نفس طبيعة الشواهد على أعمال الإسكندر وقيصر، وأنها مقنعة مثلها تماماً. كما أن المعجزات ثبتت ببيانات كثيرة موثوقة يعتد بها، قدر
ما تعتبره المحاكم الإنجليزية أدلة كافية، وما كان الكهنة ليقنعوا الناس بمعجزات مثل "انشقاق ماء البحر الأحمر" لو لم يؤيدهم في ذلك كثير من شهود العيان. وأنهى لزلي بحثه بتصوير اليهودية بأنها ميثاق بدائي نسخه ظهور المسيح، والوثنية بأنها مجموعة من الخرافات الصبيانية إلى حد لا يقبله العقل. والمسيحية وحدها هي التي صمدت أمام البينات والعقل
(1)
.
أما صمويل كلارك الذي ألم بقدر كبير من الرياضيات والفيزياء، يكفي للدفاع عن نيوتن ضد ليبنز، فإنه أخذ على عاتقه إثبات الدين المسيحي ببراهين في دقة الهندسة وقساوتها. وفي محاضرات بويل للدفاع عن المسيحية في 1704، صاغ كلارك سلسلة من اثنتي عشرة قضية تثبت، في تقديره، وجود الله في كل زمان ومكان، وأنه قدير عليم كريم. وأن سلسلة الكائنات والأسباب المحتملة أو المعتمدة على غيرها لتفرض علينا أن نعتبر أمراً مفروغاً منه وجود كائن مستقل لا غنى عنه هو السبب الأول لكل الأسباب. ولا بد أن يكون الله متحلياً بالذكاء لأن الذكاء من صفات المخلوقات، وأن يكون الخالق أعظم كمالاً من المخلوق، ولا بد أن يكون الله حراً، وإلا كان ذكاؤه عبودية لا معنى لها. كل هذا بطبيعة الحال، لم يضف جديداً إلى الفلسفة القديمة أو فلسفة العصور الوسطى. ولكن في السلسلة الثانية من محاضراته، عرض كلارك أن يثبت "صدق الوحي المسيحي وأنه حقيقة لا ريب فيها". فقال بأن المبادئ الأخلاقية مطلقة مثل قوانين الطبيعة، وأن طبيعة الإنسان المنحرفة يمكن على أية حال توجيهها إلى الامتثال لقواعد الأخلاق عن طريق واحد هو غرس المعتقدات الدينية، ومن ثم كان لزاماً أن ينزل الله علينا الكتاب المقدس وفكرة الجنة والنار. ويضيف التاريخ، بسخريته المألوفة أن الملكة آن فصلت كلارك، وكان الكاهن الخاص لها، بتهمة ارتيابه في التثليث. وفي العهد التالي لحكم آن، كما يقول الشيطان الماكر فولتير، حيل بين كلارك وبين الوصول إلى منصب رئيس أساقفة كنتربري لأن أحد الأساقفة وشي به عند الأميرة كارولين، حين قال بأن كلارك أعلم الرجال في إنجلترا، ولكن به عيباً واحداً، ذلك أنه غير مسيحي (91).
(1)
هنا تعرض المؤلف للإسلام بما آثرنا حذفه.
وكان بنتلي الأوسع علماً قد أوضح بالفعل "حماقة الإلحاد وبعده عن التعقل" في "محاضرات بويل" 1692 slash1693. وبعد ذلك بعشرين عاماً أثاره كتاب كولنز فأصدر "بعض ملاحظات على البحث الأخير في حرية التفكير". وتضمن هذا الكتاب بالدرجة الأولى عرضاً لأخطاء في بحث كولنز. وبدت الحجة دامغة والجدل عنيفاً، وقرر مجلس جامعة كمبردج بالإجماع تقديم الشكر إلى بنتلي. ورأى جوناتان سويفت الذي كان آنذاك ملتحقاً بخدمة بولنبروك وهو "ربوبي"، أن كولنز يستحق مزيداً من العقاب لأنه كشف سراً يحتفظ به كل أفاضل الرجال لأنفسهم ووقع عليه هذا العقاب في مقال بعنوان "بحث مستر كولنز في حرية التفكير بسط في لغة إنجليزية سهلة
…
ليستخدمه الفقراء" وسخر من الحجج التي ساقها كولنز في مبالغات فكاهية، وأضاف قوله: حيث أن معظم الناس حمقى أغبياء فأنه لما يجلب الكوارث أن نتركهم أحراراً في التفكير، "إن معظم بني الإنسان مؤهلون للطيران قدر أهليتهم للتفكير (92) "-وتلك عملية متوقعة في أيامنا هذه أكثر مما كان يقصد سويفت. واتفق مع هوبز في أن الدكتاتورية حتى في الروحانيات هي البديل الوحيد عن الفوضى. وقد رأينا أن الأنجليكانيين الأيرلنديين ذهبوا إلى أن الكاهن العابس المكتئب يمكن أن يكون مطراناً ممتازاً إذا آمن بالله.
أما أفلاطنيو كمبردج فقد دافعوا عن المسيحية بأسلوب أقل براعة وأشد إخلاصاً. إنهم ارتدوا إلى أفلاطون وفلوطين يلتمسون جسراً بين العقل وبين الله، ولم يستعينوا على إيضاح إيمانهم والتعبير عنه بالحجج والجدل قدر استعانتهم بالنزاهة والتقوى في حياتهم. وغمرهم إحساس قوي بالفضيلة والقدسية في أسمى مراتبها، حتى بدا هذا لهم أبلغ دليل وأقربه على العقل. ومن ثم زعم أول زعمائهم بنجامين هوتشكوت "أن العقل صوت الله (93) ".
ذهب هنري مور العضو البارز في هذه الجماعة التي ذاع صيتها حيناً، إلى ما رواء فلسفات أوربا، إلى فكرة هندية تقريباً عن الفراغ، أو التفاهة الواقعية للمعرفة الحسية، وعدم قدرتها على إشباع تطلع النفس المنفردة المنعزلة إلى بعض الرفقة أو المغزى في الكون. ولم يرتح هنري مور إلى ميكانيكة الكون التي قال بها ديكارت. ولكن
أشبعت حاجته الأفلاطونية الحديثة والمتصوفون اليهود وجاكوب بوم. وتساءل "هل معرفة الأشياء هي حقاً أسمى مصدر لسعادة الإنسان، أي شيء آخر أعظم وأقدس، أو إذا افترضنا أنه كذلك، فهل تلتمس السعادة في التلهف والإقبال على قراءة الكتب، أو التأمل وإمعان النظر في الأشياء، أو في تطهير العقل من كل ألوان الرذيلة. أياً كانت (94) ". وعقد العزم على تطهير نفسه من كل أنانية أو انشغال بأمور الدنيا، أو فضول عقلي. "فلما خمدت عندي هكذا هذه الرغبة الجامحة في معرفة الأشياء، ولم تتق نفسي إلا إلى هذه الطهارة والبساطة في العقل وحدها، أشرقت كل يوم بين جوانحي ثقة أعظم مما توقعت يوماً ما، حتى في الأشياء التي كنت أرغب أشد الرغبة في معرفتها من قبل (95) ". ويقول هنري مور أنه مذ طهر نفسه جسماً وروحاً بهذا الشكل، فقد فاحت من جسمه في فصل الربيع رائحة زكية، وأن البول عنده كان له عبير البنفسج (96).
ومذ تطهير هنري على هذا النحو، فقدا بدا أنه يحس بحقيقة الروح في نفسه على أنها أعظم اختبار ممكن إقناعاً للإنسان، ومن هذا الاقتناع انتقل على الفور إلى الاعتقاد بأن العالم معمور بأرواح أخرى على درجات تصاعدية، من أدناها إلى الله سبحانه وتعالى. وذهب إلى أن كل حركة في المادة هي من عمل نوع من الأرواح. وبدلاً من الحيز المادي الذي قال به هوبز، جاء هنري مور بكون روحاني ليست المادة فيه إلا وسيلة أو أداة للروح. وانتشرت بين آن وآخر هذه "الروح" المفعمة بالحيوية فيما وراء مستقرها، وإلا كيف يمكن بغير هذا تفسير المغناطيسية والكهرباء والجاذبية؟ وتابع مور بحثه، وارتضى فكرة وجود الشياطين والسحرة والأشباح. وكان رجلاً لطيفاً غير أناني، رفض كل المناصب الرفيعة الدنيوية التي عرضت عليه، وظل على علاقته الودية بهوبز الذي يدين بالمادية، والذي قال أنه إذا وجد يوماً أن آراءه الخاصة يتعذر الدفاع عنها فإنها "لا بد أن يعتنق فلسفة الدكتور مور (97) ".
أما رالف كودورث، أعلم الأفلاطونيين في كمبردج، فإنه أخذ على عاتقه أن يثبت أن آراء هوبز هشة يسهل دحضها. إن رسالة "الجهاز العقلي الحقيقي للكون"(1378) تحدث هوبز أن يفسر لماذا، بالإضافة إلى مختلف الحركات الحسية والعضلية التي اختزل إليها كل عمليات
الذهن، هناك أيضاً، في أحوال كثيرة، إدراك لهذه الحركات، وكيف تجد أي فلسفة مادية مجالاً أو وظيفة للوعي أو الشعور؟ وإذا كان كل شيء مادة متحركة، فلماذا لا يخدم الجهاز العصبي كل شيء عن طريق الإحساس والاستجابة، كما هو الحال في الأفعال المنعكسة اللاإرادية، ولا يزعجه الشعور الزائد أو غير الضروري؟ كيف يمكن أن ننكر حقيقة الشعور وواقعه-بل أولويته وأهميته-وهو الذي لا يتسنى بدونه معرفة أية حقيقية كانت؟ ليست المعرفة وعاء سلبياً غير فعال للأحاسيس، إنها تحول نشيط فعال للأحاسيس إلى أفكار (98). وهنا في كلام كودورث نرى أنه يستبق بزمن طويل، رد باكلي وكانت على هوبز وهيوم.
ولم يكن جوزيف جلانفيل، كاهن شارل الثاني، من الناحية الجغرافية، واحداً من الأفلاطونيين في كمبردج، ولكنه أتفق معهم اتفاقاً قوياً. وفي "غرور الدوجماتية"(التمسك برأي دون دليل كاف) 13661 ألصق جوزيف جريمة الدوجماتية بالعلم والفلسفة، محتجاً بأنهما أقاماً نظماً تتسم بالتكلف والمبالغة الحمقاء لوضع النظريات والمبادئ، على أسس مزعزعة غير آمنة. وعلى هذا فإن فكرة العلة أو السبب (التي ظنها جلانفيل أساسية لا غنى عنها للعلوم) افتراض غير معقول ولا مبرر له. فنحن نعرف التعاقبات والعلاقات والمناسبات، ولكن ليست لنا أي فكرة عما هو الحال في شيء يحدث أثراً في نفسه أو في شيء آخر (هاجس آخر لهيوم). ويقول جلانفيل: تصور مدى جهلنا بالأشياء الأساسية جداً-طبيعة النفس ونشأتها، وعلاقتها بالجسم "كيف يتحد الفكر مع كومة من الطين؟ إن تجمد الكلمات في المناطق الشمالية، وحدوث هذا الاتحاد العجيب، أمران لا يمكن تخيلهما أو تصديقهما، سواء بسواء. إن تعليق بعض الأثقال في أجنحة الريح يبدو أمراً أيسر كثير أن يدركه العقل (99) ". واستبق جلانفيل بيرجسون في أنه يسم العقل بأنه ذو بنية مادية ألف التعامل مع المادة إلى حد فقدان القدرة على التفكير في حقائق أخرى لا "بالرجوع إلى الصور المادية (100) ". إلى أي حد نجد حواسنا عرضة للخطأ: إنها تظهر الأرض وكأنما هي ساكنة في الفضاء، على حين يؤكد لنا العلماء المحدثون أنها مشوشة الذهن بمجموعة مختلفة من الحركات المتزامنة. وحتى من افتراض أن حواسنا قد خدعتنا، فما أكثر
ما نخطئ في الاستنتاج من مقدمات صحيحة. إن مشاعرنا تضللنا المرة بعد المرة. "وما أسهل أن نؤمن بما ترغب فيه". وغالباً ما تسيطر بيئتنا العقلية على تفكيرنا:
إن للأفكار أجواءها وتنوعاتها الوطنية .... إن هؤلاء الذين لم يختلسوا النظر قط إلى ما وراء المعتقدات العامة التي أشرتها أفهامهم البسيطة منذ البداية، موقنون يقيناً راسخاً بصدق ما تلقوه وتفوقه نسبياً على غيره .... أما النفوس الكبيرة التي جاست خلال أجواء الفكر المختلفة (وهنا ولدت عبارة مشهورة) فإنهم أشد حرصاً وأكبر محاذرة فيما يتخذون من قرارات وأكثر اقتصاداً وتريثاً في الفصل في الأمور (101).
وعلى الرغم من هذه التحذيرات للعلوم، كان جلانفيل عضواً غيوراً في الجمعية الملكية ودافع عنها ضد اتهاماتها بالمرق عن الدين، وأثنى على منجزاتها، وتطلع إلى عالم زاخر بالأعاجيب يأتي به البحث العلمي:
لا يخامرني شك في أن أعقابنا سيجدون أشياء كثيرة هي الآن مجرد إشاعات قد تأكد لهم حقائق عملية. وبعد عدة أجيال من الآن، قد لا تبدو رحلة إلى الأقاليم الجنوبية المجهولة، لا بل إلى القمر، أشد غرابة من رحلة إلى أمريكا. وسوف يكون أمراً عادياً لمن يأتون بعدنا أن يشتروا جناحين ليطيروا إلى المناطق النائية مثلما نشتري اليوم حذاء عالي الساق للركوب في رحلة. كما يكون التشاور مع أقاليم الأنديز البعيدة بوسائل مريحة أمراً مألوفاً للأجيال القادمة مثلما هو مألوف لدينا الآن أن نتبادل الرسائل الأدبية. إن إعادة الشعر الأشيب لليافعين وتجديد الحيوية المستنزفة قد يكون من الميسور على مر الزمن تحقيقهما دون معجزة، كما أن ليس من المستبعد في زراعة المستقبل أن تتحول الأرض القفر الآن إلى جنة (102).
ويجدر بنا أن نضيف إلى ما سبق أن جلانفيل، مثل كودورث
وهنري مور آمن بالسحرة. إن هؤلاء احتجوا بأنه إذا كان هناك عالم روحي وعالم مادي سواء بسواء، فلا بد من وجود الأرواح والأجسام في الكون. وبناء على الخطر الكامن في الأشياء فلا بد أن تكون بعض هذه الرواح شيطانية شريرة. وإذا كان الأتقياء الورعون يتصلون بالله أو القديسين أو الملائكة، فلماذا لا يتصل الأشرار بالشيطان وعفاريته؟ وقال جلانفيل إن آخر خدعة للشيطان أن ينشر الاعتقاد بعدم وجوده. "إن هؤلاء الذين لا يتجرأون على القول بصراحة بأنه لا يوجد إله، يقنعون (كخطوة مقبولة أو نقطة بداية) بأن ينكروا أن هناك أرواحاً وسحرة (103) " إن الشيطان يجب إنقاذه من أجل الله.
5 - جون لوك
1632 -
1704
أ - سيرة حياته
ولد أعظم فلاسفة العصر أثراً في رنجتون بالقرب من برستول، في نفس العام الذي ولد في سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً بفضل أبيه في تعويده على الرصانة الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً ليدي ماشام عن والد لوك أنه: -
سلك معه في صغره نهجاً تحدث عنها الابن فيما بعد في استحسان بالغ. ذلك أنه كان قاسياً عليه بإبقائه في رعب شديد منه، وعلى أبعد منه، حين كان صبياً. ولكنه كان يخفف من هذه القسوة شيئاً فشيئاً حتى استوى جون رجلاً، آنس منه رشداً ومقدرة فعاش مع صديقاً حميماً (104).
ولم يقر لوك لمعلميه بمثل هذا الفضل. وفي مدرسة وستمنستر
أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام شارل الأول (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة تركت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وهناك درس أرسطو مصوغاً في قوالب سكولاسية باللاتينية، كما درس مزيداً من اليونانية، وبعض الهندسة والبلاغة، وكثيراً من المنطق وعلم الأخلاق، لفظ معظمها فيما بعد، على انها عتيقة مهجورة موضوعاً. غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً. وبعد حصوله على درجة الماجستير (1658) بقي بكليته باحثاً في الدراسة العليا، يدرس ويحاضر. ووقع لبعض الوقت في غرام "سلبني عقلي (105) "، ثم استرد عقله وخسر عشيقته. ولم يتزوج لوك قط، مثله في ذلك مثل كل فلاسفة هذا العصر تقريباً- ماليرانش، بل، فونتنل، هوبز، سبينوزا، ليبنتز. ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه تردد وقال:"إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد (106) ".
وفي 1661 مات والده بالسل، تاركاً له ثروة ضئيلة ورئتين ضعيفتين. ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وأحس بسحر الفلسفة حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج العلمي. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر أكستر ليكون طبيباً خاصاً لأنطوني آشيلي كوبر الذي سرعان ما أصبح أرل شافتسبري الأول، وعضو الوزارة أيام شارل الثاني، ومنذ هذا التاريخ إلى ما بعده، وعلى الرغم من احتفاظه رسمياً بمنصبه في أكسفورد حتى 1683، وجد لوك نفسه غارقاً في خضم السياسة الإنجليزية حيث شكلت أحداثها ورجالاتها أفكاره.
وأنقذ لوك، الطبيب، حياة شافتسبري حيث أجرى له عملية بارعة لاستئصال ورم خبيث (1668). وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف
على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:
مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل مل يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى أن يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع (107).
ولمدة عامين (1673 - 1675) اشتغل لوك سكرتيراً لمجلس التجارة والزراعة (المستعمرات) الذي كان يرأسه شافتسبري. وساعده على وضع دستور لكارولينا التي أسسها شافتسبري وكان أكبر ملاك الأرض فيها. ولم تطبق هذه "النظم الأساسية" في المستعمرة بصفة عامة، ولكن حرية الضمير التي تضمنتها هذه النظم لقيت قبولاً حسناً إلى حد كبير لدى المستوطنين الجدد (108).
ولما تخلى شافتسبري عن مهامه السياسية 1675 جال ولك ودرس في فرنسا حيث التقى هناك بفرانسوا برنييه الذي أظهره على فلسفة جاسندي التي وجد فيها رفضاً معقولاً "للأفكار الفطرية" وهي مقارنة عقل الطفل الذي لم يولد باللوح النظيف الخالي من أي شيء، والجملة المأثورة التي نقلت فيما بعد عبر القنال الإنجليزي:"ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجوداً أولاً في الحواس".
وفي 1679 عاد لوك إلى إنجلترا وإلى شافتسبري، ولكن الأرل زج بنفسه أكثر فأكثر في غمار الثورة، فآوى لوك إلى أكسفورد حيث أستأنف الدرس والبحث. وأثار القبض على شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا شبهات الملكيين حول أصدقائه. وانبث الجواسيس في أكسفورد للقبض على لوك متلبساً بما يمكن أن يكون أساساً لتقديمه إلى المحاكمة (109). فلما أحس بالخطر وتنبأ باعتلاء
عدوه جيمس الثاني عرش إنجلترا، فإنه كذلك لجأ إلى هولندا (1683). على أن ثورة دوق مونموث القصيرة الأجل التي ماتت في مهدها (1681) استنفرت الملك جيمس الثاني إلى أن يطلب من الحكومة الهولنديه تسليم خمسة وثمانين لاجئاً إنجليزياً بتهمة اشتراكهم في المؤامرة لقلب عرش الملك الجديد. وكان من بينهم لوك، فاختبأ وأتخذ اسماً زائفاً. وبعد سنة أرسل إليه جيمس عرضاً بالعفو عنه ولكنه آثر البقاء في هولندا. وأقام في أوترخت وامستردام وروتردام، حيث لم يستمتع بصداقة الإنجليز اللاجئين فحسب، بل سعد كذلك بصداقة العلماء الهولنديين مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ، وكلاهما من زعماء اللاهوت الأرميني المتحرر. وفي هذا الوسط وجد لوك تشجيعاً كبيراً لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وهناك كتب "بحث في العقل الإنساني"، والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني.
وفي 1687 اشترك في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا (110). فلما نجحت حملة نائب الملك في هذه المغامرة أبحر لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقلت الملكة المقبلة ماري (111). وقبل مغادرة هولندا كتب باللاتينية إلى لمبورخ رسالة تفيض بأحر العواطف. مما يدحض أو يصبح ما ظن من أن اعتداله المألوف نبع من برودة طبعه:
إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن كل شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت
وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا العديد من السنين في رحابك (112).
وفي إنجلترا التي تولى فيها أصدقاء لوك مقاليد الحكم، تقل الفيلسوف عدة مناصب رسمية. ففي 1690 كان مفوض الاستئناف، وفيما بين 1696 - 1700 كان مفوض التجارة والزراعة، وكان صديقاً حميماً لجون سومرز النائب العام، وشارل مونتاجو أرل هاليفاكس الأول، وايزاك نيوتن الذي ساعده لوك في إصلاح العملة. وبعد 1691 قضى معظم وقته في أوتس مور في أسكس مع سير فرانسيس ماشام وقرينته ليدي داماريس ماشام إحدى بنات رالف كودورث. وظل في هذا الركن الهادئ يكتب وينقح ما كتب حتى وافته المنية.
ب - الحكومة والملكية
كان لوك قد بلغ السادسة والخمسين من العمر حيث عاد من منفاه. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمقال" في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك (1688) ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب" حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوربا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "برسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديموقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقاً إلى تزويد "الثورة الجليلة 1688 slash1689 بأساس فلسفي. وقد أثبت هذا الهدف صراحة في مقدمة المقال الأول "لتثبيت عرش منقذنا العظيم مليكنا الحالي وليم الثالث، وتدعيم حقه الشرعي أمام الناس .... وأبرز عمل الشعب الإنجليزي في نظر العالم، ذلك الشعب الذي أنقذ حبه
لحقوقه الطبيعية العادلة وتصميمه على المحافظة عليها، أنقذ الأمة التي كانت شفا العبودية والدمار (113) ".
وكان المقال الأول والأصغر رداً على "دفاع عن السلطة الطبيعية للملك" الذي كان سير روبرت فيلمر قد ألفه حوالي 1642 تدعيماً لحقوق شارل الإلهية، والذي لم يكن قد وصل إلى المطبعة إلا مؤخراً (1680) في ذروة حكم شارل الثاني المطلق المنتصر. ولم يكن هذا الكتاب أحسن ما دبج قلم سير روبرت، فإنه نشر في 1648 دون أن يذكر أسمه، "فوضى الحكم المختلط المحدد" الذي استبق به آراء هوبز. وعلى الرغم من إيداع فيلمر السجن لدفاعه عن قضية خاسرة فإنه دافع عنها ثانية في "ملاحظات على كتاب السياسية لأرسطو" الذي نشر غفلاً من اسم المؤلف في 1652، قبل وفاته بعام واحد.
صور فيلمر الحكومة بأنها امتداد للأسرة. وأودع الله السيادة في الأسرة الإنسانية الأولى، في آدم الذي أنحدر من الآباء. وعلى أولئك الذين (مثل خصوم فيلمر) يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله، أن يسلموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب. أقرهما الله. وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك. وكان الملوك الأوائل آباء، وكان سلطانهم شكلاً من حكم الآباء، مشتقاً منه، فالملكية إذن ترجع إلى آدم، ومن ثم إلى الله. وسيادة الملوك، إلا إذا أمروا بخرق صريح للقانون الإلهي، مقدسة مطلقة. والتمرد عليها خطيئة وجريمة في وقت معاً (114).
وعلى نقيض النظرية التي تقول بأن الإنسان ولد حراً، يقول فيلمر بأن الإنسان ولد خاضعاً لعادات الجماعة وقوانينها، وللحقوق الطبيعية والشرعية للوالدين على أولادهم. "إن الحرية الطبيعية" خرافة رومانسية. وأنها لخرافة أيضاً أن الحكومة قامت برضا أفراد الشعب واتفاقهم. "والحكومة النيابية" خرافة أخرى. فالممثل لا يختاره إلا أقلية ضئيلة نشيطة في كل دائرة انتخابية (115). وكل حكومة هي من أغلبية عن طريق أقلية. ومن طبيعة الحكومة أن تكون فوق القانون. فللهيئة التشريعية، بمقتضى تعريفها، سلطة سن القوانين وتغييرها أو إلغائها. "وأنا لنخدع أنفسنا إذا راودنا الأمل يوماً في
أن تحكمنا سلطة غير استبدادية (116)" وإذا كان للحكومة أن تعتمد على إرادة المحكومين، فسرعان ما ينتهي الأمر إلى عدم وجود حكومة البتة، فإن كل فرد أو مجموعة أفراد ستزعم لنفسها الحق في العصيان والتمرد وفقاً لما يمليه "الضمير". وتلك هي الفوضى أو حكم الرعاع". وليس هناك طغيان يمكن أن يقاس بطغيان الجماهير (117) ".
وأحس لوك أن مهمته الأولى، وهو المدافع عن الثورة الجليلة أن يدحض حجج فيلمر. وقال "أنه لم يكن هناك يوماً مثل هذا الهراء المرتجل دون ترو بمثل هذه الكثرة في لغة إنجليزية رنانة" كما جاء في مقالات سير روبرت (118). ليس لي أن أتحدث بمثل هذه الصراحة على رجل لم يعد يستطيع أن يرد"، لو لم يعتنق المنبر السنين الخوالي علانية نظريته ويجعل منها عقيدة مقدسة رائجة في هذا العصر"- يعني لو لم يعتنق رجال الكنيسة الأنجليكانية نظرية حقوق الملوك الإلهية حتى في عهد الملك الكاثوليكي جيمس الثاني، وانتقل لوك، في تهكم هازل، لاذع أحياناً، ليفترض على أن فيلمر أرجع سلطة الملك إلى ما افترض من سلطة آدم وآباء التوراة، ولسنا في حاجة إلى تتبعه في طول دحضه للكتاب المقدس. ونحن اليوم نبرر خلافاتنا السياسية بوسائل أخرى غير الأسفار المقدسة أن شائناً من تفكير فليمر لا يزال باقياً بعد أن تناوله لوك بهذه الطريقة الخشنة- المحاولة مهما كانت خاطئة في تفصيلها لإلقاء الضوء على طبيعة الحكومة بالتماس أصولها في التاريخ، حتى في البيولوجيا. ومن المحتمل أن فليمر ولوك كليهما انتقصا من قدر الدور الذي لعبه الغزو والقوة في إقامة الدول.
وفي المقال الثاني من "الحكم المدني" تحول لوك إلى مهمة البحث لحكم وليم الثالث في إنجلترا عن سند أقوى من الحق الإلهي الذي يعيد لسوء الحظ السلطة إلى جيمس الثاني. إن لوك حين اسندج ارتقاء وليم العرش من رضا المحكومين افترض أكثر مما استطاع إثباته بالتاريخ: إن الشعب لم يكن قد أعلن قبوله غزو وليم لإنجلترا، كما أن النبلاء أو أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا قد وضعوا الخطة لهذا الغزو لم يكونوا فكروا في الحصول على موافقة الشعب، ولم يفكروا إلا في تجنب مقاومته، ومع ذلك فإن لوك في التماسه سنداً من الفلسفة
لسلطة وليم، أتى بدفاع مؤثر عن سيادة الشعب. وفي سبيل دفاعه عن الملك الحاكم بسط نظرية الحكومة النيابية، وفي سياق عرضه الأساسي المنطقي لحركة الأحرار (الهويجز) والمدافعين عن حق التملك، صاغ إنجيل الحرية السياسية، وأنهى هيمنة هوبز على الفلسفة السياسية الإنجليزية.
وحذا لوك حذو هوبز في افتراض "حالة طبيعية" بدائية. قبل نشوء الدول. وشكل- مثل هوبز وفليمر- التاريخ وفقاً لأغراضه ولكنه على عكس هوبز، تصور أن الأفراد في "الحالة الطبيعية" كانوا أحراراً متساوين، واستخدم هذه اللفظة، كما استخدمها جفرسون حين نسج من منواله، لتعني أنه ليس لأحد بالطبيعة "حقوق" أكثر مما لسواه، وهو يبيح للإنسان في "الحالة الطبيعية" غرائز معينة بمثابة إعداد سايكولوجي للمجتمع، ويأتي لوك أحياناً بافتراضات لطيفة "من حيث أن كل إنسان حر بالطبيعة، فليس في إمكان أي شيء أن يخضعه لأية سلطة دنيوية إلا برضاه وموافقته
…
(119)" ولم يكن "الطور الطبيعي" في هذه النظرية- كما صوره هوبز- حرباً بين الناس بعضهم بعضاً، لأن "سنة أو قانون الطبيعة" أيد حقوقهم بوصفهم حيوانات عاقلة. وذهب لوك إلى أنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق "عقد اجتماعي"، الواحد منهم مع الآخر تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب، لا لملك، بل للجماعة ككل. وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي، وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها (120). ويمكن أن يسمى ملكاً، ولكنه مثل أي مواطن آخر ملتزم بطاعة القوانين التي تسنها الجماعة. فإذا سعى (مثل جيمس الثاني) إلى خرقها أو المراوغة في تطبيقها، كان للجماعة الحق في سحب السلطة التي منحاه إياه.
والحق أن لوك لم يكن يدافع عن وليم ضد جيمس، بل عن البرلمان (المنتصر الآن) ضد أي ملك، إن أعلى سلطة في الدولة ينبغي أن تكون السلطة التشريعية، التي يجب أن تختارها الأصوات الحرة غير المشتراة. ويجدر أن توقع القوانين أشد العقوبة على كل محاولة
لشراء أصوات المواطنين أو المشرعين. ولم يتنبأ لوك بأن وليم الثالث الذي أعجب الفيلسوف به قد يضطر إلى شراء أصوات أعضاء البرلمان، وأن الأسرات القوية قد تستمر لمائة وأربعين عاماً بعده تتحكم في أصوات "المدن الفاسدة القابلة للرشوة" أو تقرر مصيرها. وينبغي أن تكون السلطة التشريعية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية، وأن يكون كل من جهازي الحكومة هذين رقيباً على الآخر.
ويقول لوك "ليس للحكومة من هدف إلا صيانة الملكية (حق التملك) (121) " لقد كانت هناك شيوعية بدائية، حين نما الطعام دون زراعة، واستطاع الإنسان أن يعيش دون كد ولا كدح، ولكن عندما بدأ العمل انتهت الشيوعية، لأن الإنسان أخذ لنفسه، ملكاً خاصاً به، أي شيء ذا قيمة أضفاها عليه جهده هو. فالعمل إذن هو مصدر "99%" من كل القيم المادية (122). (وهنا قدم لوك للاشتراكية الحديثة على غير قصد منه إطلاقاً، أحد مبادئها الأساسية). إن المدنية تنمو عن طريق العمل، ومن ثم عن طريق نظم الملكية بوصفها نتاج العمل. ومن الناحية النظرية ليس لإنسان لأن يمتلك أكثر مما يستطيع استخدامه (123). ولكن اختراع النقود مكنه من بيع فائض نتاج عمله، مما لم يستطع الانتفاع به، وعن هذا الطريق ساد التفاوت الكبير أو عدم المساواة في الملكية بين الناس- وربما كنا نتوقع، عند هذه النقطة، من لوك أن ينتقد تركيز الثروة، ولكنه بدلاً من ذلك نظر إلى الملكية مهما كان سوء توزيعها، على أنها أمر طبيعي مقدس، فاستمرار النظام الاجتماعي والمدنية يستلزم أن تكون حماية الملكية أسمى غرض للدولة. "وليس في مقدور السلطة العليا أن تستولي على أي جزء من أملاك الإنسان إلا بموافقته ورضاه (124) ".
وعلى هذا الأساس لم يقر أية ثورة تنطوي على التجريد من الملكية. ولكنه بوصفه نبي الثورة الجليلة وصوتها لم يستطع أن ينكر "الحق في قلب الحكومة (125) ". إن الشعب في حل من الطاعة إذا كان ثمة محاولات غير مشروعة للاعتداء على حرياته وممتلكاته، "لأن" هدف الحكومة هو الصالح العام للبشر. وأيهما أفضل لبني الإنسان: تعرض الناس دائماً للرغبة الجامحة في الطغيان، أو أن
يتعرض الحكام أحياناً للمقاومة إذا أسرفوا في استخدام سلطتهم واستغلالها في القضاء على ممتلكات الشعب، لا في المحافظة عليها (126)؟ " وعلى حين أجاز بعض الهيجونوت والفلاسفة اليسوعيين الثورة لحماية الدين الحق الواحد، نجد لوك لا يقرها إلا لحماية الممتلكات. إن النزعة الدنيوية كانت تغير من مركز القداسة وتعريفها.
وظل تأثير لوك على الفكر السياسي مسيطراً حتى ظهور كارل ماركس. وكانت فلسفته عن الدولة ملائمة لحكم الأحرار (الهويجز) وللخلق الإنجليزي إلى حد تجاهل أخطائها طيلة قرن من الزمان باعتبارها هنات هينات في عهد أعظم (مجنا كارتا) جليل الشأن للبرجوازية. إنها لم تضف هالة على 1689 فحسب، بل، مع سبق مشهود، كذلك على 1776 و1789 - أعني المراحل الثلاث لثورة العمل ضد المحتد. والمال ضد الأرض. ويسخر النقاد اليوم من لوك اشتقاقه للحكومة من رضا الأفراد الأحرار وموافقتهم في الطور الطبيعي، كما سخر هو من فليمر اشتقاقه الحكومة من الآباء ومن آدم ومن الله. إن "الحقوق الطبيعية" مشبوهة ونظرية، والحق الطبيعي الوحيد في المجتمع ليس فيه قانون هو القوة المتفوقة، كما هو حادث الآن بين الدول. أما في المدنية فالحق هو الحرية التي يرغب فيها الفرد ولا تكون ضارة بالجماعة "وقد يوجد حكم الأغلبية في الجماعات الصغيرة في الأمور غير الحيوية" وتمارس الحكم عادة أقلية منظمة. والحكومات الآن تضطلع بالتزامات أكبر من مجرد حماية الملكية.
ومع ذلك فإن تحقيق هذه الرسالة الثانية يظل إنجازاً عظيماً. إنه وسع من قيمة انتصار البرلمان و "الأحرار Whigs على "المحافظين" Tories، حتى صاغ من هذا الانتصار نظرية الحكومة النيابية المسئولة. تلك النظرية التي ألهبت مشاعر الشعوب الواحد منها بعد الآخر في تسلمها مراقي الحرية. ونبذت إنجلترا فكرة السلطات التي جاء بها لوك، وأخضعت الحكومة بأسرها للسلطة التشريعية، ولكن نظريته كانت تهدف إلى الحد من قوة السلطة التنفيذية. وقد تحقق هذا الهدف تحقيقاً كاملاً. أن كثيراً من ثقته في
حصافة الناس ولباقتهم، واعتداله في تطبيق النظرية على الممارسة أو العلم على العمل، أصبح منهجاً قياسياً ذا قيمة معترف بها في السياسة الإنجليزية، جعل الثورة أمراً تدريجياً دقيقاً لا يكاد يدرك، بينما هي حقيقة واقعة.
وانتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في 1729، واعتنقها مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا 1729 slash1731، وكان لها صدى عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت باحلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية 1789. وعندما ثار مستعمرو أمريكا في وجه جورج الثالث حين استعاد قوة الملك وسلطانه، نراهم اقتبسوا آراء لوك وصيغه بل ألفاظه تقريباً في "إعلان الاستقلال" الذي أصدروه. كما أن الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الأمريكي. أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها منتسكيو لتشمل السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية، كما أخذت عنايته البالغة بالملكية طريقها إلى التشريع الأمريكي، وأثرت مقالاته عن التسامح في الآباء المؤسسين في فصل الكنيسة عن الدولة وإقرار الحرية الدينية ويندر أن نجد في تاريخ الفلسفة السياسية رجلاً بمفرده كان له مثل هذا الأثر الخالد الباقي.
جـ - الذهن والمادة
كان تأثير لوك شاملاً وعميقاً في علم النفس قدر تأثيره في نظرية الحكم المدني. وظل يكتب رسالته عن "العقل الإنساني" منذ 1670 ويتميز هذا البحث بأنه دفع به إلى المطبعة بعد عشرين عاماً قضاها في مراجعته وتنقيحه، ثم تسلم عن هذه التحفة الرائعة في علم نفس التحليلي ثلاثين جنيهاً. ويعزو لوك نفسه مشروعه في هذا البحث إلى مناقشة جرت في لندن 1670:
اجتمع في حجرتي خمسة أو ستة من الأصدقاء، وكنا نناقش موضوعاً بعيداً عن هذا كل البعد، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في مأزق نتيجة الصعوبات التي اعترضتنا من كل النواحي، وبعد أن تملكتنا الحيرة لبعض الوقت دون
الوصول إلى حل قريب لهذه الشكوك
…
خطر ببالي أننا نهجنا نهجاً خاطئاً. وأننا قبل أن نشرع في التحقيق في طبيعة هذا الموضوع، كان لزاماً علينا أن نختبر قدراتنا نحن، ونرى أن "الموضوعات" تصلح، أو لا تصلح أفهامنا لمعالجتها، وعرضت هذا على الرفاق الذين وافقوا جميعاً من فورهم، ومن ثم اتفقنا على أن يكون هذا أول ما نبحث فيه. وكانت بعض الأفكار السريعة المهوشة التي عرضتها في اجتماعنا التالي، هي المدخل الأول لهذا المبحث (127).
ومن الواضح أن الذي حفز لوك إلى كتابة "مقال عن العقل الإنساني" هو الخلاف الذي نشب بين الأفلاطونيين في كمبردج من الذين حذوا هنا حذو الفلاسفة السكولاسيين- في أننا نستمد أفكارنا من الله ومن المثل الأخلاقية العليا، لا من التجربة والخبرة، بل من الاستبطان، وأن هذه الأفكار فطرية أصيلة فينا، وجزء من جهازنا العقلي، مهما كنا غير واعين عند الولادة. وهذه الفكرة، لا بيانات ديكارت الثانوية عن "الأفكار الفطرية"، هي التي أدت بلوك إلى النظر في مسألة هل هناك أية أفكار لم تكن وليدة تأثيرات العالم الخارجي (128). وخلص لوك إلى القول بأن كل المعرفة بما في ذلك أفكارنا عن الله وعن الصواب والخطأ مستمدة من الخبرة، وليست جزءاً من التركيب الفطري للعقل. وعرف أنه في محاولته للبرهنة على هذه النظرية التجريبية قد يسئ إلى كثير من معاصريه الذين أحسوا بأن الأخلاق تتطلب مساندة الدين لها، وأن الأخلاق والدين كليهما ينهار ويضعف إذا نبعت أفكارها الأساسية من منبع أقل شرفاً من الله سبحانه وتعالى. وطلب إلى قرائه أن يتجملوا بشيء من الصبر معه، أما هو من جانبه فقد كان قاب قوسين أو أدنى من منزلق المناقشة الخطيرة، في روح من الشك المتواضع. "أنا لا أزعم أني ألقي درساً، بل أنا أسأل (129) ". وفي إيجاز، اعترف بأنه كان "كسولاً مشغولاً إلى حد بالغ (130) ".
ولكنه على الأقل استطاع أن يحدد مصطلحاته، وهو يعترض على "الغموض المتكلف عند بعض الفلاسفة (131) ". إن معرفتنا الدقيقة بما تدل عليه وتعنيه ألفاظنا قد ينهي .... النزاع
…
في كثير من
الأحوال (132)". وينبغي التسليم بأن مذهب لوك في هذه النقطة يفضل ممارسته له. أنه يعرف "العقل" بأنه "قوة الإدراك الحسي"، ولكنه يستخدم الإدراك الحسي ليشمل: (1) إدراك الأفكار في عقولنا. (2) وإدراك معاني الألفاظ، (3) وإدراك التوافق أو التنافر بين الأفكار (133). ولكن ما هي الفكرة؟ إن لوك يستخدم هذا الاصطلاح ليعني: (1) تأثير الأشياء الخارجية على حواسنا (وهو ما يجب أن نسميه الإحساس)، أو (2) الوعي الداخلي بهذا التأثير (وهو ما يجب أن نسميه الإدراك الحسي)، أو (3) صورة الفكرة أو الذكرى المتصلة بها (وهو ما يجب أن نسميه الفكرة)، أو (4) "الحركة التي تجمع صوراً منفردة كثيرة لتكون مفهوماً عاماً أو مجرداً أو شاملاً لمجموعة من الأشياء المتشابهة. إن لوك لا يوضح دائماً في أي معنى يستخدم اصطلاحه المزعج
(1)
".
لكن لوك يبدأ بنبذ "المبادئ الفطرية". أن هناك رأياً ثابتاً لدى الناس بأن هناك في العقل بعض "مبادئ فطرية معينة، أو بعض مفاهيم غامضة أولية مطبوعة في ذهن الإنسان تتلقاها النفس منذ بداية نشأتها، وتأتي بها معها إلى الدنيا". ويأخذ في إيضاح "بطلان هذه الفرضية (135) ". أنه لا ينكر "النزعات" الفطيرة0التي سميت فيما بعد الانتحاء (النزعة إلى الحركة استجابة لمنبه ما) أو الأفعال المنعكسة اللاإرادية أو الغرائز، ولكن هذه في رأيه عادات سيكولولجية، وليس أفكاراً. وحذا حذو هوبز فوصف مثل هذه العمليات بأنها "سلاسل من الحركات في روح الحيوانات، إذا انطلقت استمرت في الخطوات التي اعتادت عليها، والتي تصبح بعد كثرة ارتيادها طريقاً ممهداً، كما تصبح الحركة فيه سهلة، وكأنها طبيعية" أو فطرية (136).
(1)
إن لوك- في دراسته لذاتية الأفكار العامة أو المندرجة في طائفة واحدة- يوضح أن اصطلاح "النوع" كما هو مطبق على الكائنات. هو تركيب عقلي، وملاءمة عقلية، وأن العالم الموضوعي لا يحتوي على أنواع مستقلة، بل مجرد أفراد مستقلين، تنحدر كلها "في خطوات يسيرة، وفي سلسلة مستمرة من الأشياء التي يختلف الواحد منها عن سائرها قليلاً في كل انتقال. حتى نأتي إلى أحقر جزيئات المادة وأقلها حيوية .... والحدود أو الفوارق بين الأنواع، والتي يصنفها الإنسان بمقتضاها، إنما هي من صنع الإنسان (134) ".
وهو يميل إلى أن يجوز توارد الخواطر في أنها طرق سيكولوجية. وكان ديكارت فقد ذهب إلى أن فكرة الله فطرية أصيلة فينا، ولكن لوك ينكر هذا الرأي. فإن بعض القبائل وجدت دون أن تكون لديها فكرة عدالة، كما إن بعض الذين يعتنقونها تتباين لديهم المفاهيم أو الصور عن الآلهة إلى حد يكون معه من الحكمة أن نرفض فكرة "نشوئها بالفطرة أو بالسليقة"، وأن نبني إيماننا بالله على "لآيات البينات على كمال حكمته وقدرته
…
فيما خلق وأبدع (137)"- أعني الخبرة. وبالمثل ليس هناك "مبادئ عملية فطرية"- ليس هناك مفاهيم فطرية عما هو صواب وما هو خطأ. فالتاريخ يوضح لنا مجموعة متباينة، عظيمة أحياناً متناقضة أحياناً أخرى، من الأحكام الخلقية، مما لا يمكن معه اعتبارها جزءاً من التراث الطبيعي للإنسان، بل هي تراث اجتماعي يختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان (138).
وبعد أن تخلى لوك عن "الأفكار الفطرية" جاء ليتساءل: كيف تولد أو تنشأ الأفكار؟ "فلنفترض أن العقل (عند الولادة)، كما يمكن أن يقال، صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نقش، ومن أية أفكار، فكيف يتأتى تزويده؟ .... وعلى هذا السؤال نجيب بكلمة واحدة، من الخبرة، وعليها تبنى كل المعرفة، ومنها تستمد في النهاية (139) ". فكل الأفكار مستمدة أما من الإحساس والانعكاس على نتاج إحساسنا. والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو "أولى مواهب العقل"(140).
ولم يجد لوك سبباً للارتياب في إمكان حصولنا على معرفة حقيقية صحيحة عن العالم الخارجي، ولكنه قبل الرأي الذي أستقر منذ أمد طويل، ألا وهو التمييز بين الصفات الأولية والصفات الثانوية للأشياء المدركة. أما الصفات الأولية "وهي التي لا يمكن فصلها عن الجسم إطلاقاً، في أية حالة مهما كانت" مثل: الصلابة، الامتداد، الشكل، العدد، والحركة أو السكون. أما الصفات الثانوية "فليست شيئاً في هذه الأشياء نفسها، بل مجرد قوى تحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية". فالألوان والأصوات والطعوم والروائح صفات ثانوية تحدث فينا بكتلة هذه الأشياء وشكلها ونسيجها أو حركتها. أما الأشياء نفسها فليس لها لون ولا وزن ولا طعم ولا رائحة ولا صوت ولا حرارة. وكان هذا
التمييز قد ظهر منذ البرتوس ماجنوس وتوما الأكويني (القرن 13)، وقد قبله ديكارت وجاليليو وهوبز وبويل ونيوتن، ولكن عرض لوك لفكرة التمييز هذه وتوكيده لها هيأ لها انتشاراً واسعاً من جديد. فقد تصور العلم الآن أن العالم الخارجي محايد صامت غير متحيز، فقدت أزهاره وثماره عطرها ونكهتها. وربما هبط هذا المفهوم بالشعر إلى الشعر المنثور في "العصر الأوجستي"- أوائل القرن الثامن عشر في إنجلترا، عهد الملكة آن، ولكنه اكتشف في آخر الأمر أن الصفات المحسة حقيقة مثل الأجسام نفسها، وثارت الرومانسية لنفسها من الكلاسيكية حيث جعلت المشاعر أسمى حقيقة.
وأدى تحليل الشيء أو الجسم إلى صفات، على هذا النحو، إلى هذا السؤال: ما هو الجوهر الذي يبدو أن الصفات الأولية تلازمه باعتبارها جزءاً منه؟ وأعترف لوك بأننا لا نعرف من هذا الجوهر الخفي الغامض شيئاً إلا صفاته، فإذا نزعت هذه الصفات فإن الجوهر- أي الأساس الضمني أو المفهوم ضمنا لهذه الصفات- يفقد كل معنى له، وظاهراً أيضاً أنه يفقد وجوده (141). وهنا يتدخل باركلي: إذا كنا لا نعرف إلا صفات الأشياء أو الأجسام، ونعرف أن هذه الصفات هي مجرد أفكار، فكل الحقيقة اذن إدراك حسي، وعندئذ يصبح لوك، بطل التجريبية العظيم- الخبرة هي مصدر كل المعرفة- يصبح مثالياً يحيل المادة إلى فكرة: أضف إلى ذلك أن "العقل" افتراضي مثل الجوهر أو الجسم أو المادة تماماً. وفي فقرة مشهورة يتجاوز لزك باركلي ويسبق هيوم:
ونفس الشيء يحدث فيما يتعلق بعمليات الذهن، مثل التفكير والاستنتاج والخوف وغيرهما، التي لا نخلص إلى القول بأنها توجد من نفسها ولا نعي كيف تتبع الجسم أو كيف يمكن أن يحدثها الجسم، ولكنا نميل إلى الظن بأنها نشاط جوهر ما نسميه الروح، بواسطتها، ولو أنه من الواضح أنه ليس لدينا فكرة أو مفهوم آخر من المادة إلا أنها شيء توجد هذه الصفات المحسوسة التي تؤثر على حواسنا، فأنه كذلك بافتراض جوهر فيه التفكير والمعرفة والشك والقدرة على الحركة وغيرها، فيكون لدينا فكرة واضحة عن الروح كما هو الحال بالنسبة للجسم: الأولى يفترض (دون أن نعرف
ماهيتها)، إنها جوهر لتلك الأفكار البسيطة التي نستمدها من الخارج، والآخر يفترض (مع نفس القدر من الجهل بماهيته) أنه جوهر لهذه العمليات التي نمارسها في داخل أنفسنا (142).
وحيث أقر حينئذ "بأن فكرتنا عن الجوهر غامضة، أو ليس لدينا فكرة إطلاقا عنه في "العالمين" (الخارجي والداخلي) كليهما، وأن الأمر لا يعدو" أن يكون افتراض الجهل بما يدعم هذه الأفكار التي نسميها أحداثاً، فإن لوك يخلص إلى أنه في كلتا الحالتين يسوغ لنا الاعتقاد بوجود جوهر، على الرغم من أننا لا يمكن أن نعرفه: في مادة وراء الصفات المحسوسة أو أنها تبعثها، وفي عقل وراء الأفكار أو يحتويها- عامل روحي يؤدي مختلف عمليات الإدراك والتفكير والشعور والإرادة (143).
ومهما يكن من أمر العقل، فإن عملياته كلها من نوع واحد- حركة الأفكار أو نشاطها. ويرفض لوك فكرة السكولاسية عن "المواهب" في العقل، مثل التفكير والشعور والإرادة. فالتفكير هو اتحاد الأفكار أو الجمع بينها، والشعور هو ترجيح فكرة سيكولوجية أو صداها، والإرادة فكرة تنطلق إلى العمل أو التصرف، مثلما تنزع كل الأفكار إلى العمل إلا إذا عوقتها فكرة أخرى
(1)
. ولكن كيف يمكن أن تصبح العملية "الروحية" عملية فسيولوجية وحركة مادية؟ إن لوك يقبل كارهاً ثنائية الجسم المادي والعقل غير المادي، ولكنه في فترة من فترات الطيش يوحي بأن العقل يمكن أن يكون شكلاً من "المادة". وهناك في هذا الصدد عبارة مأثورة عن لوك:
من الممكن أنه لن يكون في مقدورنا أبداً أن نعرف أن مجرد كائن مادي يفكر أو لا يفكر، وحيث أنه يستحيل علينا، بالتأمل في أفكارنا نحن، دون وحي أو إلهام، أن
(1)
في الطبعة الأولى من مقال العقل الإنساني لم يسلم لوك بوجود "إرادة حرة" إلا في حالة التحرر من أي قيد أو كبت خارجي. وفي الطبعات الأخيرة عدل عن هذه "الجبرية" ليجيز القول بأن العقل يمكن أن يؤجل أو يوقف مؤقتاً تنفيذ رغباته أو إشباعها (144).
نكتشف هل زودت القدرة الإلهية بعض أنواع المادة المالية بطبعها، بالقدرة على الإدراك والتفكير، أو أنها (أي القدرة الإلهية) ضمت إلى المادة الميالة على هذا النحو، أو ثبتت فيها جوهراً مفكراً غير مادي، فإنه بالنسبة لأفكارنا، ليس يبعد عن الفهم أن ندرك أن الله قادر إذا شاء أن يضيف إلى المادة "موهبة للتفكير"، أكثر من أنه سبحانه وتعالى يمكن أن يضيف إليها جوهراً آخر فيه موهبة للتفكير .. إن من يرى كيف أنه من الصعب، في أفكارنا، توافق الإحساس مع المادة الممتدة، أو توافق الوجود مع شيء ليس له امتداد إطلاقاً، سوف يقر ويعترف بأنه بعيد كل البعد عن معرفة ماهية نفسه على وجه اليقين
…
وهذا الذي يطلق لنفسه العنان ليتأمل في حرية
…
يندر أن يجد في عقله القدرة على تحديد موقفه تحديداً تاماً من "مادية النفس" سلباً أو إيجابياً (145).
وعلى الرغم من أن لوك كان قد تغلب بالفعل على الجانب المادي من المعضلة، فإن الإيحاء باحتمال صدقه أو حقيقته، بالنسبة لتيار الفكر في ذاك العصر، أساء إلى الدين القويم إلى حد أن مائة من المدافعين عن الديانة هاجموه بتهمة أنه أيد "في طيش وتهور" آراء الملحدين. ولم يلقوا بالاً لاحترامه وإجلاله للوحي، ولبيانه القديم "أن الرأي الأرجح والأكثر احتمالاً هو ان الشعور مرتبط بجوهر فرد غير مادي، وهو حب هذا الجوهر والتعلق به (146) "، وربما تنبأ هؤلاء المدافعون بأن لامتري وهولباخ وديدرو وغيرهم من فلاسفة المادية قد يرون في كلام لوك نزوعاً خفياً إلى وجهة نظرهم .. واتهمه الأسقف ستللنجفليت بمثل هذه النزعة المادية على وجه التحديد، وأنذره بأنها تعرض اللاهوت المسيحي كله للخطر. وتناسى لوك حرصه العهود، وأكد من جديد وبقوة، احتمال صدق الفرضية المادية وظل على خلاف بشأنها مع ستللنجفليت وغيره حتى 1697.
على أن مقال "العقل الإنساني "على الرغم من نقاده وما فيه من تناقضات وغموض وإبهام، وغير ذلك من الأخطاء، تزايدت قيمته وأهميته وأثره عاماً بعد عام. وتهافت الناس على طبعاته الأربع في
الأربعة عشر عاماً التي انقضت بين ظهوره ووفاة مؤلفه لوك. وظهرت له الطبعة بالفرنسية في عام 1700، وتقبلوه هناك في إعجاب حماسي. وأصبح حديث الناس في قاعات الاستقبال في إنجلترا. وأكد ترسترام شاندي لسامعيه أن الرجوع إلى "المقال" يمكن أي إنسان من "الابتعاد بنفسه عن التفكير في الميتافيزقيا (147) ". وكان تأثيره على باركلي وهيوم عظيماً إلى حد أننا نستطيع أن نؤرخ بظهوره تحول الفلسفة البريطانية من الميتافيزقيا إلى المعرفة. وربما كان لوك ماثلاً في ذهن بوب حين كتب "أن الدراسة الصحيحة للجنس البشري هي الإنسان".
وفي 1700 ظهرت طبعة بالفرنسية للمقال، ولقيت هناك ترحيباً حماسياً بالغاً. وكتب فولتير يقول:"بعد أن صاغ بعض السادة المفكرين أسطورة رومانسية عن النفس، ظهر رجل واحد حكيم حقاً، وأمدنا بتاريخها الصحيح في أعظم حالة من التواضع يمكن تصورها. إن مستر لوك قد كشف للإنسان تشريح النفس، كما لو أن بعض علماء التشريح يشرحون الجسم (148) ". ونعود فنقول "إن لوك وحده" بسط العقل الإنساني في كتاب لا يضم إلا حقائق وهو كتاب بلغ حد الكمال والإتقان- لأن هذه الحقائق مبسوطة فيه بأحلى بيان (149)" وبات المقال الإنجيل السيكولوجي لعصر الاستنارة في فرنسا. وتبنى كونديللاك "المذهب الحسي الذي جاء به لوك وتوسع فيه وذهب إلى أن شيئاً لم يستجد في علم النفس فيما بين أرسطو ولوك (150) - وهذا إجحاف واضح بالفلاسفة السكولاسيين (العصور الوسطى) وهوبز وينسب دالمبرت، في "بحث تمهيدي في دائرة المعارف" إلى لوك الفضل في خلق الفلسفة العلمية، كما خلق (في رأيه) نيوتن الفيزياء العلمية. وعلى الرغم من مجاهرات المقال بالمعتقد القويم، فإنه مهد لتجريبية عقلانية، سرعان ما نبذت النفس باعتبارها فرضية غير ضرورية، وانطلقت إلى تطبيق نفس التفكير بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
د - الدين والتسامح
لم يتعاطف لوك نفسه مع مثل هذا التطرف، ومهما يكن من أمر شكوكه الخاصة، فإنه أحس، كأي رجل إنجليزي مهذب، بأن السلوك
القويم والخلق الكريم يتطلبان من الكنيسة المسيحية دعماً شاملاً. وإذا كانت الفلسفة تنزع عن الناس إيمانهم بعدل الهي كامن وراء جور الحياة وشقائها، فماذا عساها تقدم لتقوية آمال الناس والإبقاء على شجاعتهم؟ تقدم بطيء نحو يوتوبيا ديموقراطية؟ ولكن في مثل هذه اليوتوبيا هلا يبتدع الجشع الطبيعي في الناس وعدم المساواة بينهم وسائل جديدة ليستخدم الدهاة والأقوياء غيرهم من البسطاء والضعفاء أو يسيئوا استغلالهم؟.
وكان أول همه أن "يضع المقاييس والحدود بين العقيدة والعقل". وعمد إلى تحقيق هذا في الفصل الثامن عشر من الباب الرابع من المقال. "إني أجد كل شيعة تحاول جهدها، بقدر ما يسعفها العقل، أن تفيد منه عن طيب خاطر، وحيثما يخفق العقل تصرخ وتصيح بأعلى صوت: تلك مسألة إيمان وعقيدة فوق العقل (151) ". إن كل ما أوحى به الله حق على وجه اليقين (152)". ولكن التأمل وحده في الدليل المتاح هو الذي ينبئنا إذا كانت الأسفار المقدسة هي كلمة الله، "وليس ثمة قضية يمكن تقبلها على أنها وحي إلهي، إذا كانت تناقض معرفتنا الأكيدة البديهية (153)". وإذا كان في مقدورنا تقرير مسألة ما بمثل هذه الملاحظة المباشرة، فإن معرفتنا تسمو على أي وحي مزعوم، لأنها أوضح وأكثر توكيداً من أي توكيد بأن هذا الوحي الذي نحن بصدده إلهي حقاً. ومهما يكن من أمر "فهناك أشياء كثيرة لدينا عنها أفكار غامضة ناقصة، أو ليس لدينا عنها أفكار البتة، وثمة أشياء أخرى لا نستطيع بالاستخدام الطبيعي لمواهبنا، الوصول إلى معرفة شيء عن وجودها في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، مطلقاً، ولكزنها فوق العقل، فإنها إذا كشفت، تكون "المادة الصحيحة للعقيدة والإيمان (154) ". ويخلص لوك إلى القول:"ليس هناك شيء يناقض أوامر العقل الواضحة البديهية أو لا يلتئم معها، يحق له أن يشجع أو يؤكد على أنه مسألة عقيدة لا دخل للعقل فيها (155) ""وثمة أمارة لا تخطئ" على حب الحق. "ألا نهلل ونرحب بأية قضية في توكيد أكبر مما تجيزه الأدلة التي تقوم عليها القضية (156) ". "وينبغي أن يكون العقل أول حكم ومرشد لنا في كل شيء (157) ".
ومن ثم نشر لوك في 1695 "معقولية المسيحية كما تنقلها الأسفار المقدسة". وأعاد قراءة العهد الجديد، كما يمكن أن يقرأ الإنسان كتاباً جديداً، طارحاً كل التعاليم والتعليقات جانباً (كما قال). وسيطر عليه نبل السيد المسيح المحبب إلى النفس، وجمال كل تعاليمه تقريباً، باعتبارها خير آمال الإنسان وأكثرها إشراقاً. وإذا كان ثمة شيء يمكن أن يكون رسالة إلهية فإن هذه القصص وذاك المذهب تبدو وكأنهما من عند الله. ورأى لوك أن يتقبلها جميعاً على أنها مقدسة، بل أن يقرها أيضاً، في كل أساسياتها، باعتبارها متفقة كل الاتفاق مع العقل.
ولكن بدا له أن هذه الأساسيات أكثر اعتدالاً وبساطة من اللاهوت المعقد في المواد التسع والثلاثين، أو اعتراف وستمنستر أو مذهب أثناسيوس. واقتبس من الإنجيل فقرة بعد فقرة، لا تطلب كلها من المسيحي إلا أن يؤمن بالله وبأن المسيح رسول من عند الله. وهنا- كما يقول لوك ديانة بسيطة صريحة واضحة، صالحة لكل إنسان، لا تعتمد على أي فقه أو لاهوت. وفيما يتعلق بوجود الله، فقد شعر لوك "بأن أعمال الطبيعة بكل دقائقها أوفى دليل على وجود الله (158) " وحاول لوك من وجوده هو نفسه أن يبرهن على "سبب أول"، وانتهى إلى أن مثل هذه الخصائص لا بد أن تنسب أيضاً إلى الله، والله "عقل سرمدي خالد (159) " وحينما شكا نقاد لوك من أنه أغفل بعض التعاليم الحيوية مثل خلود النفس والعذاب المقيم والنعيم المقيم، أجاب بأنه في الاعتراف بالمسيح ارتضى تعاليمه التي شملت تلك الآراء والتعاليم. ومن ثم خرج لوك من الباب الذي دخل منه.
ومهما يكن من أمر، فإن لوك ألح على أن تتمتع بالحرية الكاملة في إنجلترا كل المذاهب المسيحية فيما خلا الكثلكة. وكان قد كتب مقالاً عن التسامح في 1666. وعندما ارتحل إلى هولندا 1683 وجد هناك من حرية العبادة أكثر مما كان في إنجلترا. ولا بد أنه قرأ أثناء أقامته في هولندا دفاع بيل القوي عن التسامح الديني (1686). وحركت مشاعره هجرة الهيجونوت واضطهادهم (1685) فكتب إلى صديقه لمبروخ رسالة استحث نشرها. فطبعت باللاتينية 1689 تحت عنوان
"رسالة في التسامح" وظهرت ترجمتها إلى الإنجليزية قبل نهاية العام. واستنكرها أحد أساتذة أكسفورد، فدافع عنها لوك، وكان آنذاك في إنجلترا، في رسالة ثانية وثالثة" عن التسامح في 1690 slash1692. ولم يحقق قانون التسامح الذي صدر في 1689 من مقترحات لوك إلا قليلاً جداً، ذلك أن القانون استبعد الكاثوليك والتوحيديين واليهود والوثنيين وحظر تولي الشئون العامة على المخالفين. إن لوك أيضاً أتى باستثناءات فلم يكن ليتسامح مع الملحدين حيث رأى أنهم غير أهل للثقة ما داموا لا يخشون إلهاً ولا ديانة توقع عذاباً مادياً، بالتضحية بالإنسان مثلاً، ولم يتسامح مع مذهب يتطلب الولاء لسلطة أجنبية، ومفهوم أنه كان يعني الكثلكة (160). ودعا صراحة إلى التسامح مع المشيخيين والمستقلين، وأنصار تجديد العماد، والأرمينيين والكويكرز. ولم يتجاسر على القول بالتسامح مع التوحيديين ولو أن أرل شافتسبري الأول الذي قضي نحبه في أمستردام 1683 كان قد ذكر أنه قد استقى مذهب الأرمينيين والتوحيديين من سكرتيره لوك (161).
وقال لوك بأن القانون ينبغي أن يهتم فقط بالحافظة على النظام الاجتماعي. فإن القانون الحق في القضاء على كل ما من شأنه العمل على التخريب في الدولة، ولكن ليس له ولاية ولا سلطان على نفوس الناس، وليس لآية الكنيسة سلطة لإرغام الناس على مشايعتها .. فما أسخف أن يعاقب الناس في الدنمرك لأنهم غير لوثريين، أو في جنيف لأنهم لا يتبعون مذهب كلفن، أو في فيينا لأنهم لا يعتنقون المذهب الكاثوليكي. وفوق كل شيء، أي فرد أو أية جماعة أتيح لها إدراك الحقيقة كاملة عن حياة البشر ومصير الإنسان؟ ولحظ لوك أن معظم الديانات تنادي بالتسامح في أيان ضعفها، ولكنها تأباه في أيام قوتها .. ورأى أن الاضطهاد مصدره شهوة السلطان والسيطرة، والحقد المقنع في ثياب الغيرة الدينية. والاضطهاد يصنع المنافقين، أما التسامح فإنه يشجع المعرفة والحق، وكيف يعمد المسيحي إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة، وقد أخذ على نفسه عهداً بالبر والإحسان ومحبة الناس؟
وواصل لوك حملته من أجل التسامح حتى غابت شمس حياته.
وكان منهمكاً في كتابة رسالة رابعة في نفس الموضوع حين وافته المنية. وعاجله الموت 1704 بينما كان جالساً يصغي إلى ليدي ماشام تتلو المزامير.
وحتى قبل موته كان قد وصل في مجال الفلسفة إلى مكانة لم يسم عليها إلى نيوتن في ميدان العلوم. وتحدثت عنه بالفعل بأنه "الفيلسوف" وعلى حين ختم حياته على تقوى قوية تقليدية تقريباً، فإن كتبه التي لم تكن لتتغير مع الزمن، انتقلت عن طريق الطبعات والترجمات العديدة إلى فكر أوربا المتعلمة المثقفة. قال شبنجلر:"إن الاستنارة الغربية من أصل إنجليزي ونبعت كلا عقلانية القارة من لوك (162) ". وليست كلها بطبيعة الحال. ولكن فيمن يمكن للمرء الآن أن يغامر بمثل هذه المبالغة أو الإغراق؟.
6 - شافتسبري
1671 -
1713
كان أنطوني آشلي كوبر، أرل شافتسبري الثالث، تلميذ لوك. مفخرة معلمه. لا لأن لوك كان مسئولاً عن أسلوبه، فإن العالم النفساني البحاثة كتب نثراً مبتذلاً، بسيطاً واضحاً عادة (وهنا يكمن الخطر)، ولكنه قلما كان نثراً جميلاً، فإن شافتسبري ذا الفراغ والجدة، كتب في تهذيب واثق، ودعابة متسامحة، ورشاقة غالية (فرنسية) تقريباً-فقد تنازل السيد الإقطاعي الإنجليزي أن يكون فيلسوفاً. ويجدر بنا أن نقف عنده قليلاً لأنه يكون مؤسس علم الجمال في الفلسفة الحديثة، وبإنقاذه الوجدان والتعاطف من أيدي هوبز ولوك، غذى فيض العاطفة الذي بلاغ ذروته عند روسو.
وتحت إشراف لوك، وعلى نهجه في تعليم اللغة بالمحادثة، مكنت اليزابث بيرش التي كانت تحذق اليونانية واللاتينية، أنطوني من قراءة كلتا اللغتين بسهولة وهو في سن الحادية عشرة، ثم التحق بمدرسة ونشستر، وتجول لمدة ثلاثة أعوام تعلم في أثنائها الفرنسية وأساليب الحياة الفرنسية، ومال إلى الفن ميلاً لا بد أنه بدا غير لائق بلورد إنجليزي. ودخل البرلمان لمدة عام واحد-وهذا كاف جداً ليظهره على "جور وفساد الحزبين كليهما (163) ". ولكن دخان لندن زاد من وطأة
الربو عليه فعاد أدراجه إلى هولندا، حيث وجد الجو الفكري نابضاً بفلسفة سبينوزا وبيل، ومذ حصل على لقب أرل 1690 فإنه قضي بقية أيام حياته في ضيعته الريفية. وتزوج قبل وفاته بأربع سنوات، وكم كانت دهشته حين وجد أنه سعيد كما كان من قبل (164). وفي 1711 نشرة مجموعة مقالاته تحت عنوان شامل "خصائص الإنسان، العادات، الآراء، العصر الحاضر. ولم يمتد به الأجل لأكثر من اثنين وارعين عاماً، حيث فارق الحياة في 1713.
ولم يكن متوقعاً من رجل ورث هذا الثراء العريض على الأرض أن يعنى بأمر السماء أو يقلق باله من أجلها. إنه استنكر "الغيرة"-التي كان زمانه يعني بها التعصب-غيرة الإنجليز الذين ظنوا إنهم إنما ينطلقون بالوحي الإلهي. إن أية عاطفة جامحة أو كلام عنيف في رأي شافتسبري دلالة على سوء التربية، ولكنه رأى أنه من الحكمة أن يسخر منهم أكثر من أن يعذبهم. والحق أنه بدا له أن الظرف والدعابة اللتين جعلهما موضوع رسالته الأصلية الخلاقة، هما خير مدخل لأي شيء، حتى اللاهوت. واتفق مع بيل على أن الملحدين مواطنون مهذبون، وأنهم أساءوا إلى الدين والأخلاق أقل مما فعلت وحشية العقائد التي سيطرت واستغلت نفوذها. واعترض على "عبادة وحب اله قلب حول شديد الغيظ، عرضة للحنق والغضب، مهتاج محب للانتقام
…
يشجع الخداع والخيانة بين الناس، يرضى على قلة من الناس ويقسو على سائر الناس (166)". وعجب مما كان لمثل هذا المفهوم عن المعبود من أثر على خلق الإنسان وسلوكه. وذهب إلى أنه من الخسة والجبن ألا يتحلى الإنسان بالفضيلة إلا أملاً في الثواب أو خوفاً من العقاب. فالفضيلة لا تكون حقيقية صادقة إلا إذا تحلى بها المرء من أجلها هي. ومهما يكن من أمر، وما دام الإنسان هو على ما هو عليه، فمن الضروري أن يغرس في نفسه الإيمان بمثل هذا الثواب والعقاب في المستقبل (167). "إنه من صادق الإنسانية والشفقة إخفاء الحقائق الهامة عن القلوب الواهنة .... وقد يكون لزاماً ألا يتحدث العقلاء إلا رمزاً (168) "، وهكذا دافع شافتسبري عن الكنيسة رسمية، وحاول أن يوفق بين الإيمان بوجود إله واحد في الفلسفة متفائلة أوجزت الرذيلة في أنها هوى إنساني (169). ومع
ذلك فإن الكساندر بوب رأى أن كتاب "خواص الإنسان" أساء إلى الديانة المنزلة في إنجلترا أكثر مما أساءت كل مؤلفات الكفار السافرين غير المتحفظين (170).
واتفق شافتسبري مع أرسطو ولوك على ان السعادة هي الهدف المشروع لأفعال الإنسان، وعرف الفلسفة بأنها "دراسة السعادة (171) ". ولكنه عارض الهبوط بكل الدوافع الإنسانية إلى مجرد أنانية أو مصلحة شخصية، وطبقاً لهذا التحليل (الذي بسطه هوبز ولاروشفوكول حديثاً):
يكون التلطف والكرم الإنساني تجاه الغرباء أو الناس في وقت الشدة، مجرد أنانية أكثر تعمداً. والقلب المخلص الأمين قلب أشد مكراً، والأمانة والود مجرد حب للذات، ولكنه حب أحسن تنظيماً وضبطاً. وحب الأقارب والأبناء والذرية إنما هو حب خالص للنفس وللدم المباشر للإنسان
…
والشهامة والشجاعة، لا ريب، تكيف أو تعديل لحب النفس الشامل هذا (172).
وعلى عكس هذا الرأي، زعم شافتسبري أن الطبيعة الإنسانية مزودة بشكل مضاعف بغرائز للنفع الشخصي، وغرائز للعيش في جماعة. وأتعقد أن المجتمع والدولة ما نشأتا عن العقد الاجتماعي. بل عن "مبدأ القطيع" أو نزعة التزامل
…
وهي نزعة طبيعية قوية في معظم البشر (173) وهناك "عواطف طبيعية قائمة في حب الجنس البشري. وفي محاولة إرضائه، والشعور الودي نحوه والتعاطف معه .... وتوافر هذه العواطف في بالغ قوتها معناه توافر الوسائل الأساسية للمتعة الذاتية، أما الافتقار إليها فهو التعاسة والسقم المحققان (174) ". وكون المرء "طيباً صالحاً" معناه توجيه كل ميوله ونزعاته توجيهاً مستقيماً ثابتاً نحو خير الجماعة، وكلما كبرت الجماعة التي توحي بهذه المشاعر وتبثها، حسنت حال النسا فيها. والشعور بهذا التعاطف الاجتماعي هو الوعي الأخلاقي. وهذا شيء فطري، لا من حيث المتطلبات النوعية (التي تختلف من جماعة إلى جماعة) ولكن من حيث أساسه الغريزي، "الإحساس بالصواب
والخطأ، وهو فنياً أمر طبيعي مثل الميل الطبيعي نفسه، وهو من أول المبادئ في تكويننا (175) ".
وانتقل شافتسبري من علم الأخلاق إلى علم الجمال بالمطابقة بينهما. فالطيب والجميل شيء واحد، فالخلق الحسن "هو تذوق الجمال واستساغة كل ما هو مهذب محتشم"، ومن ثم نتحدث عن أعمال معادية لمصلحة المجتمع بأنها قبيحة، حيث أنها تسيء إلى هذا التناسق بين الجزء والكل، وهو صلاح وجمال معاً. ويستطيع المرء أن يجعل من حياته عملاً من أعمال الفن-من الوحدة والتناسق-بتنمية إحساس جمالي ستكون الأخلاقيات فيه أحد العناصر، والرجل "الذي نشأ خير تنشئة"(هكذا اعتقد الأرستقراطي شافتسبري) يفعل هذا. وهو بحكم تربيته وتدريبه "لا يقبل أن يأتي عملاً نكراً أو وحشياً (176) " إن ما تشكل لديه من ذوق طيب لا بد أن يوجهه في السلوك وفي الفن معاً. والحق أيضاً لون من الجمال فهو تناسق أجزاء المعرفة مع الكل. ومن هنا نحا شافتسبري نحو الكلاسيكية في الفن. وبدأ له الشكل والوحدة والتناسق أساسيات التفوق في الشعر والعمارة والنحت، وهي أقل ضرورة وامتياز في الرسم بالألوان منها في الرسم العادي. وكان في العصر الحديث أول من جعل الجمال مسألة أساسية في الفلسفة، وهو الذي بدأ البحث الذي بلغ ذروته، في أواخر القرن الثامن عشر بلورد كامس وبيرك.
كان هذا جانباً من تأثير شافتسبري، وهناك جوانب أخرى كثيرة. إن توكيده على الوجدان أثر على الحركة الرومانتيكية، وبخاصة في ألمانيا، عن طريق لسنج وشيلر وجوته وهردر-الذين أسموه "أفلاطون أوربا المحبوب (177) " وظهر هذا الأثر في فرنسا في ديدرو كما ظهر في روسو. أما تفسيره للدين بأنه ضعيف من الناحية النظرية، ولكنه أمر لا يستغني عنه من الناحية الأخلاقية، فقد كان له أثر في أفكار كانت العملية. وظهر توكيده على التعاطف مرة ثانية باعتباره أساس الأخلاق، عند هيوم وآدم سميث. وأسهمت أفكاره عن الفن في تشكيل نشوة ونكلمان الأصيلة الممتازة. إنه بدأ حياته تلميذاً لجون لوك المفكر والذي لم يعن كثيراً بالجماليات فأصبح (وربما بحكم المقاومة الطبيعية في كل جيل لمنشئه) فيلسوف الوجدان والعاطفة
والجمال. وحيث كان يحب الأسلوب الكلاسيكي في الفن، فقد أصبح مصدر إحياء الرومانتيكية في قارة أوربا، ولو أن الشعر والعمارة في إنجلترا تبعتا نزعته الكلاسيكة. وكان له الفضل والفخر في أنه جعل الفلسفة تشرق برقة الأسلوب ورشاقته مما أعاد إلى الذاكرة أفلاطون، ولم ينافسه في هذا بعد ذلك إلا باركلي.
7 - جورج باركلي
1685 -
1753
ولد في ديرت كاسل في مقاطعة كيلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بكلية ترنتي في دبلن. وفي سن العشرين أسس نادياً لدراسة "الفلسفة الجديدة"، ويقصد بها لوك. وفي الحادية والعشرين بدأ في "الكتاب العادي" وتلك فكرة كان يأمل من ورائها أن يقضي على "المادية" إلى الأبد: أي أنه ليس ثمة شيء موجود إلا إذا كان مدركاً بالحواس، ومن ثم فإن العقل هو الحقيقة الواقعة، والمادة أسطورة أو خرافة:
كما كان مذهب المادة أو الجوهر المادي، السند والدعامة الأساسيتان للتشكك، فإنه على نفس الركيزة أقيمت المبادئ البعيدة عن التقى والورع في الإلحاد والمروق عن الدين .... وكم كان الجوهر المادي صديقاً حميماً للملحدين في كل العصور، ممن لسنا في حاجة لذكرهم. أن كل نظمهم الرهيبة البشعة تعتمد عليه اعتماداً سافراً أساسياً، حتى إذا ما انهارت يوماً هذه الركيزة، أو حجر الزاوية في مذهبهم، فإن كل الكيان لم يلبث أن أنهار، مما لا يستحق معه أن نلقي نظرة خاصة إلى حماقات كل شيعة من هؤلاء الملحدين (178).
وهكذا في السنين السبع التالية، وقبل أن يتم التاسعة والعشرين أصدر بارلكي أهم أعماله:"بحث عن نظرية جديدة للرؤية"(1709)، رسالة عن أصول العقل البشري (1710)، "ثلاث محاورات بين هيلاسي وفيلونوس في معارضة المتشككين والملحدين"(1713). وكانت الرسالة الأولى إضافة رائعة إلى علم النفس والبصريات، كما هزت الرسالتان الخيرتان الفلسفة من الأعماق.
ونبعث رسالة الرؤية من قطعة لجون لوك يروي فيها كيف أن وليم مولينكس (مدرس في كلية ترنتي، دبلن) أثار أمامه مسألة: هل يستطيع إنسان ولد أعمى، أن يميز بعد استرداد بصره، بالبصر وحده، بين جسم كروي وآخر مكعب إذا كان كلاهما من نفس المادة وفي نفس الحجم. واتفق رأي مولينكس ولوك سلباً. واتفق باركلي معهما وأضاف تحليله الخاص. إن البصر لا يهيئ لنا إدراكاً حسياً للبعد والحجم والمواقع أو الحركات النسبية للأجسام، إلا بعد التصحيحات التي تجريها حاسة اللمس، وعن طريق التجارب المتكررة يصبح هذا التصحيح لحظياً تقريباً، وعندئذ يزودنا البصر بمثل هذا الحكم على شكل الأجسام المرئية وبعدها ومكانها وحركتها، كما لو أننا لمسناها:
إن الإنسان الذي ولد أعمى، ثم أعيد إليه بصره، لن يكون لديه في أول الأمر فكرة عن البعد عن طريق البصر فإن الشمس والنجوم، وأبعد الأجسام وأقربها على حد سواء، تبدو في عينه، بل في عقله، فالأجسام التي تدخل عن طريق البصر، لا تبدو له (كما هي في الحقيقة) إلا مجرد طائفة جديدة من الأفكار والأحاسيس، كل منها قريب الإحساس بالألم واللذة أو أشد الأحاسيس الداخلية في النفس .. أما حكمنا على الأجسام المدركة بالبصر، على أي بعد، أو بدون العقل، فإنه حكم مبني تماماً على التجربة (180).
فالفضاء حينئذ تركيب عقلي، إنه أسلوب للعلاقات التي تبنى عن طريق الخبرة للتوفيق بين مدركاتنا بالبصر وباللمس. وأكدت العمليات التي وردت في تقارير الجمعية الملكية (1709 - 1728) وجهة النظر هذه: فإن فرداً مولوداً أعمى، أعيد إليه بصره عن طريق جراحة أجريت له، كان في أول الأمر "أبعد ما يكون عن الحكم على الأبعاد، إلى حد أنه ظن أن كل الأجسام أياً كانت لمست عينيه
…
ولم يدرك شكل أي شيء، ولم يميز بين الأشياء، مهما اختلفت في الشكل أو الحجم (181) ".
وكان كتاب "أصول المعرفة الإنسانية" نتاجاً رائعاً جديراً بالذكر
لفتى في الخامسة والعشرين. ومرة أخرى تعرض باركلي لمقال لوك. إذا كانت كل المعرفة تأتي عن طريق الحواس، وليس ثمة شيء له حقيقية واقعة لدينا إلا إذا كنا ندركه أو قد أدركناه إدراكاً حسياً، "موجود أي أنه مدرك". وكان لوك كان قد ذهب إلى أن المدركات قد أحدثتها أشياء خارجية تضغط على أعضاء الحس فينا. وهنا تساءل باركلي: كيف تعرف أن مثل هذه الأشياء (الخارجية) موجودة؟ ألسنا نرى في أحلامنا أفكاراً واضحة مشرقة. وضوح وإشراق ما نراه منها في اليقظة. أن لوك حاول أن ينقذ استقلال الحقيقة الواقعة للأشياء بالتمييز بين صفاتها الأولية والثانوية، فهذه الخيرة ذاتية "في العقل"، والصفات الأخرى-الامتداد، الصلابة، الشكل، العدد، الحركة، السكون-موضوعية، توجد في جوهر خفي غامض اعترف لوك بأنه لا يعرف عنه شيئاً، ولكنه، هو والعالم بأسره، جعلوه "والمادة" شيئاً واحداً. والآن أعلن باركلي أن الصفات الأولية ذاتية مثل الثانوية تماماً، وأننا لا نعرف امتداد الأشياء وصلابتها وشكلها وعددها وحركتها وسكونها، إلا عن طريق الإدراك الحسي، وأن الصفات الأولية، بناء على ذلك، ذاتي أيضاً، أي أنها أفكار. والعالم بالنسبة لنا طائفة من المدركات الحسية، "إن العقل هو الذي يشكل هذه المجموعة المتنوعة من الأجسام التي يتألف منها العالم المرئي، ولا يتأتى لأي منها أن يكون موجوداً لفترة أطول مما هو مدرك (182) انزع عن "المادة" صفاتها الأولية والثانوية معاً، تصبح المادة عدماً لا معنى له. وعندئذ يترك "المادي" ليلعق عدماً (183).
وكان باركلي على وعي تام بأن آخرين، فضلاً على الماديين قد يعترضون على تبخر العالم الخارجي بمثل هذه البراعة الخادعة. ولم يعجز عن الرد حين سئل: هل يتوقف وجود أثاث المنزل في حجراتنا إذا لم يوجد من يدركه أو يراه (184). إنه لم ينكر حقيقة عالم خارجي لمدركاتنا (185)، وكل ما أنكره هو "مادية" العالم. ويمكن أن تستمر الأشياء الخارجية موجودة ولو لم ندركها أو نراها، وما ذاك إلا لأنها موجودة باعتبارها مدركات في عقل الله (186)، واستطرد يقول إن احساساتنا في الحقيقة تسببها، لا المادة الخارجية، بل القوة الإلهية التي تؤثر في حواسنا. والروح
فقط هي التي تؤثر في الروح. والله هو المصدر الوحيد لكل أحاسيسنا وأفكارنا (187)
(1)
.
وذهب معاصرو باركلي إلى أن هذا لهو إيرلندي، وكتب لورد تشسترفيلد إلى ابنه: -
أن الدكتور باركلي الرجل الفاضل العبقري العالم، ألف كتاباً ليثبت أنه ليس هناك شيء مما يسمونه المادة، وأنه لا يوجد شيء إلا فكرة
…
وحججه مفحمة، بكل معنى الكلمة، ولكني أبعد ما أكون عن الاقتناع بها، إلى حد أني مصمم على أن آكل وأشرب وأمشي وأركب، حتى أحفظ تلك "المادة" التي أتصور خطأ، في الوقت الحاضر، أن جسمي يتكون منها، على أحسن حالة ممكنة (188).
وكل العالم يعرف ما بذل دكتور جونسون من جهد عظيم في الرد على دكتور باركلي:
يقول بوزول: بعد خروجنا من الكنيسة، وقفنا لبعض الوقت معاً نتحدث عن سفسطة الأسقف باركلي أو مغالطته البارعة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل شيء في الكون مجرد أفكار، ولاحظت أنه على الرغم من أننا قانعون بأنها غير صحيحة، فإنه من المتعذ1ر دحضها. وأن أنسي لن أنسي اندفاع جونسون في الرد، وهو يضرب بقدمه وبقوة شديدة حجراً كبيراً حتى أزاحه فارتد وسمع له صوت، وقال:"إني أدحضها هكذا (189) ".
وربما كان من الجائر بطبيعة الحال أن يوضح باركلي للرجل العظيم (دكتور جونسون) أن كل ما عرف عن الحجر، بما في ذلك الألم الذي أصاب إصبع قدمه، كان ذاتياً: مجموعة من المدركات الحسية تسمى حجراً، مختلطة مع طائفة أخرى من الأحاسيس السمعية تسمى بوزول، ومجموعة من الأفكار التي تعلمتها والتي أشرب بها تسمى
(1)
في أحدث فيزياء، إن أحاسيسنا لا تسببها أية "مادية" معروفة، ولكن تسببها طاقات دقيقة، جوهرها المادي غير معروف. وهو افتراضي.
فلسفة، ولدت كلها استجابة أنتجت طاقة أخرى من الأحاسيس. واتفق هيوم مع بوزول وتشسترفيلد في أن حجج باركلي "لا تدع مجالاً لأي رد، ولا تؤدي إلى اقتناع"(190).
ورأى هيوم أن لغز باركلي ساحر، ولكنه استخلص منه نتيجة مدمرة. وسلم بأن "المادة" تتلاشى عندما نسلبها صفاتها التي تنسبها إليها مدركاتنا الحسية ولكنه أوحى بأن نفس الشيء قد يقال عن "العقل". ولقد رأينا عرض لوك المسبق لهذه النقطة. لكن باركلي تنبأ بها أيضاً. فإنه في المحاورة الثالثة جعل هيلاس يتحدى فيلونوس:
أنت تعرف، حقاً بأنك ليس لديك أية فكرة عن نفسك .... وتسلم مع ذلك بأن هناك جوهراً روحياً، وعلى الرغم من أنه ليس لديك أية فكرة عنه، بينما تنكر إمكان وجود جوهر مادي، لأنه ليس لديك أي مفهوم أو فكرة عنه. فهل هذا من الإنصاف في شيء؟ .... أما أنا فيبدو لي، طبقاً لطريقة تفكيرك، وبناء على مبادئك، أن هذا يستتبع أنك مجرد جهاز من أفكار عائمة، دون جوهر يساندها. أن الكلمات لا يمكن استخدامها دون معنى وحيث أنه ليس في الجوهر الروحي معنى أكثر مما هو في الجوهر المادي، فيجب تسفيه كليهما سواء بسواء (191). ويرد فيلونوس (نصير العقل) على هيلاس (الذي يمثل المادة):
كم من مرة يجب أن أعيد وأكرر أني اعرف أو أني أعي وجودي وجوهري، وإني أنا نفسي، لا أفكاري، بل شيء آخر عنصر مفكر فعال يدرك بالحواس، ويعرف، ويريد، ويعمل حول الأفكار. أنا أعرف أني بالذات، أدرك الألوان والأصوات، وأن اللون لا يدرك الصوت، ولا الصوت يدرك اللون، وأني لذلك عنصر فرد، متميز عن اللون والصوت (192).
ولم يقتنع هيوم بهذا الجواب، وانتهي إلى أن باركلي، طوعاً
أو كرهاً، دمر المادة والروح كلتيهما، وأن كتابات الأسقف اللامع الذي تطلع إلى الدفاع عن الدين، "تشكل أحسن دروس التشكك التي يمكن العثور عليها عند الفلاسفة القدامى والمحدثين على حد سواء، ودون استثناء بيل (193) ".
وعمر باركلي أربعين عاماً بعد نشر رسائله الثلاث. وفي 1724 عين رئيساً لكاتدرائية دري. وفي 1728 أبحر، بناء على وعد من الحكومة بإمداده بمعونة مالية، إلى برمودا لينشئ فيها كلية "لتقويم عادات الإنجليز في مزارعنا في الغرب-المستعمرات-، ونشر الإنجيل بين الأمريكيين الهمجيين- (194). ووصل إلى نيوبورت في رود أيلند ينتظر ورود المنحة الموعودة وقدرها عشرون ألفاً من الجنيهات التي لم يصل منها شيء. وهناك ألف كتاب "الفيلسوف الصغير" ليضع حداً لكل الشكوك الدينية. وترك بصماته على ذهن جوناثان ادواردز، وكتب بيتاً مشهوراً "أن الإمبراطورية تشق طريقهما غرباً". وبعد ثلاث سنوات من توقعات لا طائل تحتها عاد إلى إنجلترا. وفي 1734 عين أسقفاً في كلوين. وقد رأينا كيف أن فانيسا صديقة سوبفت جعلته أحد منفذي وصيتها وتركت له نصف ثروتها. وفي 1744 نشر رسالة غريبة "مزايا ماء القطران" الذي قدمه إليه هؤلاء الهمجيون الذين سبق ذكرهم، والذي أوصى به الآن علاجاً للجدري. وقضي نحيه في أكسفورد في 1753 بعد حياة دامت ثمانية وستين عاماً.
ولم يبزه أحد في إثبات عدم واقعية الواقع. وفي جهوده لاستعادة الإيمان الديني وتطهيره البلاد من مادية هوبز التي كانت تلوث إنجلترا وتفسدها، قلب الفلسفة رأساً على عقب، وجعل "كل طبقات السماء وكل ما على الأرض .... كل تلك الأجسام التي تؤلف هيكل الجبار للعالم بأسره (195) "، موجودة بالنسبة للإنسان، باعتبارها مجرد أفكار في عقله. وكانت مغامرة محفوظة بالمخاطر، وربما ارتاع باركلي نفسه إذا وجد هيوم وكانت يقتبسان من مبادئه التقية الورعة نقداً للعقل لم يترك أية تعاليم أساسية في صرح الدينة المسيحية العريقة الحبيبة إلا زعزع أركانها. أننا لنعجب بدقة نسيج العنكبوت الذي جاء به، ونسلم بأنه منذ أفلاطون لم يكتب أحد مثل هذا الهراء الخلاب. وسنرى أثره في كل مكان من بريطانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وكان الأثر أقل في
فرنسا، ولكنه تعاظم في تعويذة نظرية المعروفة غير المفهومة عند أتباع كانت في القرن التاسع عشر. وحتى في يومنا هذا لم تقرر الفلسفة الأوربية بعد قراراً حاسماً وجود العالم الخارجي. وحتى توطن هذه الفلسفة نفسها على أقصي احتمال في هذا المجال، وتواجه مشاكل الحياة والموت، فإن العالم سوف يغفلها ويتغاضى عنها.
أن هذه الفترة كانت في حقيقتها أزهى فترات الفلسفة الإنجليزية. أن الناقوس الذي كان فرانسيس بيكون قد دقه لدعوة المفكرين للعمل بعضهم مع بعض، كان قد سمع بعد أن خمد أوار الحرب الأهلية. وكان هوبز جسراً فوق هذا الفراغ الغبي، وكان نيوتن الرافعة التي حرك عليها نيوتن اللاهوت. وكان لوك القمة التي تحدرت منها مسائل الفلسفة الحديثة في رؤية صافية واضحة. ومن هذا الرباعي الإنجليزي الذي سرعان ما أغراه هيوم الحكيم الغريب بالإثم، دخل إلى فرنسا وألمانيا تأثير قوي. ولم يكن المفكرون الفرنسيون في تلك الفترة على نفس القدر من العمق والأصالة مثل الإنجليز، ولكنهم أكثر لمعاناً وإشراقاً، من ناحية لأنهم "غاليون"، ومن ناحية أخرى لأن الرقابة الأشد صرامة أرغمتهم على إفراغ همهم في الشكل، ووضع حكمتهم في الرقة والظرف. ثم جاء فولتير إلى إنجلترا 1726، فلما عاد حمل في جعبته أفكار نيوتن ولوك بعد ذلك علم إنجلترا وفلسفتها أسلحة لتمحو ضلالة الخرافة والغموض والجهل. إن قابلة إنجليزية سهرت على ولادة الاستنارة الفرنسية.
الفصل الحادي والعشرون
الدين والعقل في فرنسا
1648 - 1715
1 -
تقلبات الديكارتية
في 1694 عرف قاموس الأكاديمية الفرنسية الفيلسوف:
بأنه رجل توفر على البحث في مختلف العلوم، واستقصاء آثارها ونتائجها سعياً للوصول إلى أسبابها وأصولها ومبادئها، ويطلق الفيلسوف كذلك على رجل يحيا حياة عادية منعزلة، بعيداً عن صخب الدنيا ومتاعبها. ولقد يطلق أحياناً على الرجل الهوش الذهن الذي يعتبر نفسه فوق مسئوليات الحياة المدنية وتبعاتها (1).
ومن الفقرة الأولى من هذا التعريف يتبين أنه لم يكن بعد ثمة تمييز بين الفلسفة والعلم، فالعلم باعتباره "فلسفة طبيعية" يمكن أن يكون فرعاً من الفلسفة، حتى القرن التاسع عشر. ومن العبارة الأخيرة من هذا التعريف نستنتج أن "الأربعين الخالدين" في عهد لويس الرابع عشر قد اشتموا رائحة الثورة في جو الفلسفة، وكأن المبشرين بعصر الاستنارة أو رواده الأوائل كانوا قد افتتحوا بخطاب تمهيدي.
وبين التفريعات الثلاثة لهذا التعريف تذبذب التراث العقلي لرينييه ديكارت بين ذيوع الصيت والإنكار. وكان للتراث نفسه ثلاثة أبواق، ردد أحدها صوت الشك أساساً واستهلالاً لكل فلسفة، وأعلن الثاني عن الآلية الشاملة للعالم الخارجي، وأما الثالث فقد عزف ألحان الترحيب بالعقيدة التقليدية، وأخرج الله والإرادة الحرة والخلود من دوامة العالم. وكان ديكارت قد بدأ بالشك وانتهى بالتقوى، واستطاع خلفاؤه أن يتناولوه على أي من الوجهين. إن نساء الندوة القديمة-
السيدات المثقفات-اللائى هجاهن موليير 1672 - وجدن بعض الراحة المثيرة من المسبحة في دوامة الكوزمولوجيا الجديدة (علم الكونيات) وقالت مدام سيفيني عن فلسفة ديكارت بأنها موضوع حديث ما بعد العشاء في ندوتها، وأنها، ومدام جرينان، ومام دي سابلي، ومدام دب لافاييت كن جميعاً من نصيرات الديكارتية .. وكانت النساء البارزات في المجتمع تشهدن المحاضرات التي يلقيها أتباع ديكارت في باريس (2). وتبنى كبار النبلاء النهج الفلسفي. وكانت الندوات الديكارتية تعقد أسبوعياً في قصر دوق دي لوين، وف يقصر الأمير دي كونديه في باريس، "وفي أفخم فنادق العاصمة (3). وعلمت الطوائف الدينية-الوعاظ-والبندكت والأوغسطيون-الفلسفة الجديدة في مدارسها. وأصبحت أسلوباً جديداً لتمجيد العقل في العلم والشؤون الإنسانية، مع إخضاعه بدقة، في الدين، للوحي الإلهي كما فسرته الكنيسة الكاثوليكية. وتقبل أنصار جانيسن وكنيسة يورت رويال الديكارتية باعتبارها توفيقاً رائعاً بين الدين والفلسفة.
ولكن ألمع المرتدين فيهم، بليزبسكال استنكر الديكارتية مدخلاً للإلحاد، وقال "لن لأغفر لديكارت، ربما كان مغتبطاً، وفي كل فلسفته، بالاستغناء عن الله، ولكنه ما كان في مقدوره أن يتحاشى السماح له بنقرة بطرف الإصبع ليحرك العالم، بعد أن في غير حاجته إلى الله (4) ". وفي هذه النقطة اتفق اليسوعيون مع بسكال، وبعد 1650 نبذوا الديكارتية باعتبارها وسيلة ماكرة خبيثة لتقويض أركان العقيدة الدينية. وأرادت السوربون حرمان ديكارت من حماية القانون، فدافع عنه بوالو، وحرض نينودي لنلكوس وغيره موليير على هجاء السوربون، فأذعنت للنقد وتوقفت (5). أما العلامة هيوت الذي ناصر الديكارتية لأمد طويل. فإنه انقلب عليها لأنها لم تقف من المسيحية موقفاً ثابتاً، تناولها بالمديح تارة وبالتجريح تارة أخرى. وتزايد انزعاج رجال اللاهوت لصعوبة التوفيق بين تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وبين وجهة مظر ديكارت في "المادة" باعتبارها امتداداً خالصاً. وفي 1665 حرم لويس الرابع عشر تدريس الفلسفة في الكلية الملكية، وفي 1671 امتد هذا الحظر إلى جامعة باريس، وفي 1687 اشترك بوسويه في الهجوم على الديكارتية.
وأثارت هذه الاتهامات وتلك الإدانة الاهتمام بالديكارتية من جديد. وجذبت الأنظار إلى مذهب الشك الذي أدخله "بحث في المنهج"، وانتشر الشك الأولى الذي جاء به هذا المقال خفية، أما ملحقاته أو ذيوله القويمة المستقيمة فقد ذبلت وانطفأت جذوتها. وما كان يبقى في القرن الثامن عشر شيء من هذا "المنهج" الذي كان يوماً ظافراً منتصراً اللهم إلا محاولته الهبوط بالعالم إلى مجرد آلة "ماكينة" تذعن لقوانين الفيزياء والكيمياء. وبدا أن كل اكتشاف جديد في العلوم يؤيد "آلية" ديكارت، ويضعف الثقة في لاهوت ديكارت. ولم يوجد مكان لرب إبراهيم واسحق ويعقوب في الصورة التي وضعها ديكارت للكون، كما أن المسيح لم يكن ماثلاً فيها. ولم يبق إلا رب عملاق أعطى العالم دفعة أولية، ثم تقاعس، اللهم إلا بوصفه كفيلاً وضامناً لأحداس ديكارت، وهذا لم يكن الرب المهيب الرهيب الذي ورد ذكره في العهد القديم، ولا الأب الرحيم الذي ورد ذكره في العهد الجديد، أنه كان رب "الربوبيين"، غير مشخص ولا عمل له، جدير بالإهمال، تخضع لمختلف القوانين، فمن ذا الذي يفكر في الصلاة من أجل هذا العبث الأبيقوري؟ وبالفعل في عامي 1669 و1678 شرحت كتب غليوم لامي الأستاذ بكلية الطب في جامعة باريس، علم نفس ميكانيكي تماماً، واستبقت بذلك كتب كوندياك "في الأحاسيس"(1704) كما شرحت فلسفة مادية استبقت كتاب لامتري "الإنسان آلي"(1748). وفي غمرة هذا العراك قام سيرانو دي برجراك برحلاته المخزية إلى القمر والشمس.
2 - سيرانو دي برجراك
1619 -
1655
سيرانو بالنسبة لمعظمنا هو العاشق الولهان الذي قلده الروائي روستان ساخراً، والذي خسر في كل سباق مع ربات الجمال وهو على وشك الفوز بالوصول. ولكن سيرانو الحقيقي لم يخب رجاؤه إلى هذا الحد، بل تنعم بالحياة وبالحب، وقضى وقت مستمتعاً كل المتعة. وإلى التعليم المألوف الذي يتلقاه كل فتى كريم المحتد، أضاف سيرانو (مع موليير) الاستماع في شغف ولهف إلى محاضرات بيير جاسندي القسيس المحبوب الذي أولع بأبيقور المادي ولوكريشس الملحد. وأصبح سيرانو روحاً قوية بشكل خاص، فاسقاً بما تحمل هذه الكلمة
من معنيين، منكراً حراً يحيا حياة خليعة مطلقة من كل قيد. وانضم في باريس إلى جماعة دأبت على الصخب والعربدة وتدنيس المقدسات، وذاع صيته في المبارزة. وخد في الجيش، وأقعدته جراحة لبعض الوقت من العمل. ثم انصرف عن الملذات الجنسية إلى فلسفة. وكتب أول رواية فلسفية فرنسية، وفتح الطريق أمام سويفت بالسخرية من بني الإنسان في رحلات إلى أجزاء من العالم لم تطأها قدم. وسخر من القديسين أوغسطين الوقور "الشخصية العظيمة" الذي يؤكد لنا، على الرغم من أن الروح القدس أنار جوانب عقله، أن الأرض كانت على عهد مسطحة مثل التنور، عائمة على الماء مثل نصف برتقالة (6).
وجرب سيرانو قلمه في كل ألوان الأدب تقريباً، وقلما كان يأخذ أي لون مأخذ الجد، ولكنه كان عادة يضرب على الوتر الحساس-وبدت ملهاته "المتحذلق اللعوب" في نظر موليير صالحة لأن يسرق منها مشهداً أو مشهدين، أما مأساته "موت أوجربين" فقد مثلت مرة في 1640، حتى تصل خشبة المسرح ثانية في 1660، ولكنها نشرت في 1654، وسرعان ما تغنى شباب باريس الطائش المتهور بأبيات الإلحاد التي وردت على لسان سيجان:
"ماذا يكون هؤلاء الأرباب إذن؟ نتاج مخاوفنا وهرائنا التافه، نعيها دون أن ندرك لهذا سبباً .... أرباب لم يصنعهم إنسان، ولم يصنعوا هم إنساناً قط". ثم الأبيات تتحدث عن الخلود: "بعد ساعة واحدة من الموت تعود نفوسنا التي زالت من الوجود، سيرتها قبل الخروج إلى الحياة بساعة".
وبعد طبع هذه الرواية سرعان ما سقطت على أم رأسه عارضة أودت بحياته وهو في سن السادسة والثلاثين، وترك وراءه مخطوطة طبعت في جزأين تحت عنوان "التاريخ الهزلي لدول وإمبراطوريات القمر"(1657)"والتاريخ الهزلي لدول وإمبراطوريات الشمس"(1662)، وكانتا نوعاً من القصص العلمي، المبني على "كونيات" ديكارت، مستمداً الكواكب من دواماتها التي كونتها الإهاجة الثورية
في المادة البدائية. وذهب سيرانو إلى أن الكواكب كانت يوماً متوهجة مثل الشمس ولكن،
بمرور الزمن فقدت كثيراً من ضوئها وحرارتها بفعل الانبعاث المستمر لخلاياها التي تحدث مثل هذه الظاهرة، حتى أصبحت باردة معتمة، ولباباً واهناً تقريباً. إننا نرى حتى البقع الشمسية يكبر حجمها يوماً بعد يوماً. وما يدرينا الآن أن هذه البقع ليست إلا قشرة على سطح الشمس كتلتها التي تبرد تبعاً لفقدان الضوء، أن الشمس لن تصبح كرة معتمة مثل الأرض (7)؟
ودفعته الصواريخ فغادر الأرض حتى وصل بسرعة إلى القمر. ولحظ أنه طيلة ثلاثة أرباع المسافة، كان يحس بأن الأرض تشده إلى الوراء، وفي المربع الأخير أحس بجاذبية القمر. "فقلت في نفسي أن هذا راجع إلى أن كتلة القمر أصغر من كتلة الأرض، ومن ثم يكون محيط تأثيره أصغر من حيث المسافة (8). وعندما هبط وقد أصابه الدوار، وجد نفسه في جنة عدن، ويدخل في مناقشة مع الياهو (الله) حول الخطيئة الأولى، فيطرد من الجنة إلى القفاز البدائية في القمر. وهناك يواجه قبيلة من الحيوان طول الواحد منها تسعة أذرع، في زي الرجال، ولكنها تمشي إلى أربع. ولما كان أحدهم الروح الحارسة لسقراط أو شيطانه في أثينا من قبل، فإنه تحدث بلغة يونانية فلسفية، ويقول لسيرانو أن المشي على أربع هو الطريقة الطبيعية الصحية، وأن هؤلاء السادة القمريين لديهم مائة حاسة لا خمساً أو ستاً فقط، وأنهم يدركون من الحقائق ما لا يحصى ولا يعد، مما يخفى على بني البشر (وقد تلاعب فونتيا وفولتير وديدرو بهذه الأفكار). ويجمح خيال سيرانو: أن هؤلاء القمريين-يتغذون على الأبخرة التي تتصاعد من الأطعمة لا على الأطعمة ذاتها، ومن ثم يتخلصون من متاعب الهضم ومضايقاته، ومن مهانة خروج الفضلات من الجسم ومفارقاته. وقوانين القمر يسنها الشبان الذين يجلهم ويحترمهم الشيوخ، وأهل القمر هؤلاء يستنكرون العزوبة والتبتل والعفة، ويمتدحون الانتحار وإحراق جثث الموتى والأنوف الكبيرة. ويوضح شيطان سقراط سالف الذكر أن الدنيا لم تخلق، بل
أزلية، وأن الخلق من الهدم (تعلم هذا عن الفلاسفة السكولاسيين) أمر لا يمكن تصوره، وأن أزلية الكون فكرة ليست أصعب تقبلاً من أزلية الإله، والحق أن فرضية وجود إله ليست ضرورية على أية حال، حيث أن العالم آلة تندفع وتستمر بذاتها. ويجادل سيرانو في أنه لا دب أن يكون هناك إله لأنه رأى بعيني رأسه علاجات خارقة معجزة، فيسخر الشيطان من هذا كله باعتباره ضرباً من الإيحاء أو التخيل، ويثأر أثيوبي قوي جبار للعقيدة القويمة، حيث يمسك بسيرانو بإحدى يديه، وبالشيطان باليد الأخرى، ويلقي بالشيطان في الجحيم، وفي الطريق يقذف بسيرانو في إيطاليا، حيث تنبح كل الكلاب من حوله حين اشتمت منه رائحة القمر. وكذلك انجذب انتباه جوناتان سويفت.
3 - مالبرانش
1638 -
1715
في مقابل افنتاج الموصوم بالكفر والمروق عند جاسندي وديكارت، وجد الإيمان سنداً قوياً، لا في باسكال وبوسيوييه وفنيلون فحسب، بل في واحد من أدق وأبرع الميتافيزيقيين في العصور الحديثة كذلك.
كاد نيقولا مالبرانش أن يكون معاصراً للويس الرابع تماماً، فقد ولد قبله بشهر، ومات بعده بشهر. ولم يكن ثمة شبه بينهما إلا هذا. وكان نيقولا وديع النفس طاهر الذيل، ومذ كان أبوه سكرتير لويس الثالث عشر، وعمه نائب الملك في كندا، فقد اجتمع له كرم المحتد وحسن التنشئة، اللهم إلا صحته، فقد كان جسمه ضعيفاً مشوهاً. وليس ثمة ما يفسر أنه عمر حتى السابعة والسبعين إلا التزامه بساطة العيش وهدوء الحياة في الدير. وفي الثانية والعشرين من عمره انضم إلى "جماعة المصلى" وهي طائفة دينية تفرغت للتأمل والوعظ، ورسم قسيساً في السادسة والعشرين.
وفي العام نفسه وقع على كتاب ديكارت "رسالة عن الإنسان"، وابتهج رطيقة المناقشة والأسلوب معاً، وأصبح ديكارتياً ذا إيمان راسخ بالعقل. وعقد العزم لفوره على أن يبرهن بالعقل على المذهب الكاثوليكي الذي نبتت فيه جذور حياته ووضع فيه كل آماله، وكانت هذه خطوة جريئة، ارتداداً من بسكال إلى توما الأكويني. وهي خطوة كشفت عن الثقة العميقة في الشباب، ولكنها عرضت حصون
الإيمان لغارات العقل. وبعد عشر سنوات من الدرس والكتابة أصدر مالبرانش في أربعة مجلدات (1674) تحفة من روائع الفلسفة الفرنسية تحت عنوان "البحث عن الحقيقة". وهنا، كما هو الحال في كل فلاسفة فرنسا، كان وضوح الالتزام الخلقي وإدراكه أمراً مقبولاً، وأصبحت الفلسفة أدباً.
ولم يكن ديكارت قد بدأ دراساته المضنية عن النفس فحسب، بل كان قد وضع مثل هذه اللهو بين الجسم مادياً وميكانيكياً وبين العقل روحياً وحراً، بحيث لا يمكن تصور أي تفاعل بينهما. ومع ذلك بدا هذا التفاعل أمراً لا نزاع فيه: إن فكرة قد تحرك ذراعاً أو جيشاً، مخدراً قد يشوش الذهن. وكان نصف حيرة خلفاء ديكارت في عبور الهوة بين الجسم والفكر.
إن فيلسوفاً فلمنكياً هو أرنولد جيلنكس مهد الطريق أما مالبرانش-وسبينوزا وليبنتز-بإنكاره التفاعل. إن الجسم المادي لا يؤثر في العقل غير المادي، والعكس بالعكس، وإذا بدا أن أحدهما يؤثر في الآخر، فما ذلك غلا لأن الله قد خلق الحقيقة في مجريين متميزين للأحداث، أحدهما مادي والآخر عقلي، وتزامنهما أشبه بتزامن ساعتي حائط على نفس الوقت والسرعة، تدقان نفس الساعات في وقت واحد، ولكنهما الواحدة منهما مستقلة عن الأخرى، اللهم إلا أن كلتيهما من مصدر واحد-الذكاء الذي وضعهما وبدأهما. ومن ثم يكون الله هو المصدر الوحيد لكل من سلسلتي الأسباب والنتائج المادية والعقلية. والحالة العقلية هي الفرصة المناسبة، لا السبب، للحركة المادية الناشئة ظاهرياً، والحركة المادية-عملاً أو إحساساً-هي مجرد فرصة للحالة العقلية التي تبدو أنها تسببها، والله، في كل حالة، هو وحده العلة أو السبب
(1)
. وعند هذه النقطة نقض جلينكس، الذي
(1)
أن التنقيح الذي أدخله سبينوزا على "نظرية التوازي في علم النفس البدني" قد يساعدنا على فهم جيلنكس. أن الله أو الطبيعة تعمل في ناحيتين أو مجريين متزامنين: التعاقبات المادية للعالم الموضوعي، بما في ذلك أجسامنا، والتعاقبات العقلية للعالم الذاتي، بما في ذلك مشاعرنا وأفكارنا ورغباتنا. ولا يسبب أحد هذين المجريين المجرى الآخر، لأن كليهما مجرد جانبين-الخارجي والداخلي-لعملية واحدة-وجرى واحد مزدوج للأحداث.
كأنه يخشى الجبرية، منهجه، حيث أجاز القول بأنه في العمال الإرادية يمكن أن تكون الإرادة الإنسانية المتعاونة مع الله، سبباً حقيقياً للنتائج المادية.
وأكمل مالبرانش من مذهب "الاتفاقية" المتردد هذا. فالله دائماً هو سبب كل من العمل المادي والحالة العقلية، وتفاعلها صوري، ولا يتفاعل أي منهما مع الآخر
(1)
. "أن الله وحده يرد الهواء الذي جعلني هو أتنفسه
…
لست أنا الذي أتنفس، أنني أتنفس على الرغم مني. لست أنا أتحدث إليك، وكل ما هنالك أني أرغب في التحدث إليك (9) ". أن الله (الطاقة الكلية للكون) هو القوة الوحيدة. وكل ما يتحرك ويفكر، إنما يفعل هذا لأن القوة الإلهية تعمل من خلال العمليات المادية (البدنية) أو العقلية. والحركة هي الله يعمل في أشكال مادية، والتفكير هو الله يفكر في داخلنا.
إن هذه الفلسفة الجبرية بشكل واضح تكتنفها صعاب لا تحصى حاول مالبرانش أن يتغلب عليها في رسائل لاحقة. وحاول جاهداً التنسيق بين درجة من الإرادة الحرة في الإنسان وبين قوة الله الشاملة للكون، والتوفيق بين الشر والشقاء والنزعات الشيطانية المتعددة، وبين السببية أو العلية الوحيدة الموجودة في كل الوجود لنزعة خيرة عليمة قديرة، ولن نتعقبه في هذه المتاهات، ولكنه في أثناء جولاته وصولاته يترك لنا قبساً معيناً في علم النفس. فهو يرى أن الأحاسيس في الجسم لا في العقل. وفي العقل أفكار، وهو يعرف الأشياء باعتبارها فقط طوائف من الأفكار-من التركيب، والحجم واللون والرائحة والصلابة والصوت والحرارة والطعم. ومكبات الأفكار هذه ليست في الشيء نفسه، وكثير من أحكامنا على شيء-أنه كبير أو صغير، منير أو مظلم ثقيل أو خفيف، حار أو بارد، يتحرك بسرعة أو ببطء-تصف موقع المشاهد وحالته ووضعه، لا صفات الشيء الذي يشاهده. ونحن لا نعرف الأشياء. وكل ما نعرفه هو مدركاتنا وأفكارنا المتحيزة المتحولة. (وكل هذا قبل لوك باركلي بجيل واحد).
(1)
قارن هذا العرض اللاهوتي بنظرية القضاء والقدر التي تقول بأن كل حركة في المادة وكل حالة عقلية، تسببها القبلية (الماضي) الكلية، وأن العوامل المادية والنفس والإرادة الحرة، كلها أدوات القوة الكلية أو الطاقة الكونية التي تعمل عن طريق المادة والعقل.
وعلى الرغم من الخلفية الروحانية عند مالبرانش فإنه، بعد ديكارت وهوبز، يمدنا بتفسير فسيولوجي للعادة والذاكرة وتوارد الخواطر فالمادة هي خفة أو رشاقة تفيض بها الأرواح الحيوانية، نتيجة للخبرات أو الأفعال المتشابهة التي غالباً ما تتكرر، إلى أخاديد أو قنوات معينة في الجسم. والذاكرة هي استعادة نشاط الخواطر التي نشأت في الخبرة، فإن الخواطر تميل إلى الترابط تبعاً لتسلسلها أو امتدادها المتصل السابق، وقوة الشخصية وقوة الإرادة هما قوة الروح الحيوانية التي تتدفق في أنسجة المخ، فتعمل على تعميق مجاري الترابط، وزيادة نشاط الخيال والتصور.
وعلى الرغم من تمسك مالبرانش بأهداب التقوى فقد كان في فلسفته عناصر كثيرة أزعجت بنين بوسويه الحارس اليقظ الأمين على العقيدة التقليدية القويمة. وفي حركة بارعة لتحويل أنطوان أرنولد ذي القلم اللاذع عن المنطق الجانسيني إلى نجدة العقيدة القويمة، نجد بوسيويه يحرض أرنولد هذا على تأنيب مالبرانش لهرطقته المستترة. ودافع الفيلسوف عن نفسه في عدة رسائل فصيحة لا تصدق مثل الرسالة الأولى، واستمر الجدال من 1683 - 1697، وجلب بوسيويه مدفعية فنليون الخفيفة إلى ساحة المعمعة. ولما رأت مدام سفيني Sevigne الفيران تلتهم محصولاتها، ويرقات الفراشات تلتهم أشجارها، شكت من أنها لم تجد إلا قليلاً من العزاء في وجهة نظر مالبرانش من أن البشر عنصر ضروري في أحسن ما يمكن من العوالم (10).
وكان لمالبرانش أصدقاء غيورون كثيرين يمكن أن يتوازنوا مع هؤلاء النقاد، فقد وجد الشباب وعجائز النساء في نظريته عن الله عاملاً وحيداً في كل الأفعال، سروراً باطنياً في الاستسلام لأمر الله والاتحاد مع الله. وشق الفرنسيون والأجانب طريقهم إلى صومعته. وقال أحد الإنجليز أنه ما قدم إلى فرنسا إلا ليرى اثنين طبقت شهرتهما الآفاق: لويس الرابع عشر ومالبرانش (11).
وجاء باركلي، وقدم لفيلسوفنا كل إجلال واحترام ودخل مع الكاهن العجوز في نقاش طويل. وسرعان ما دب الضعف إلى مالبرانش بعد ذلك، وكان في السابعة والسبعين، وأخذ في الذبول والنحول
يوماً بعد يوم، حتى لم يكد عقله يجد في جسمه مجالاً أو حيزاً لتفكيره. وفي 13 أكتوبر 1715 فاضت روحه وهو نائم.
وخبت جذوة شهرته وشيكاً بعد موته، لأن فلسفته الدينية لم تنسجم مع تشكك وصاية العرش وعربدتها، كما أنها كانت أقل انسجاماً مع النزعة الناشئة عند الفلاسفة لإحلال "ماكينة" العالم محل العناية الإلهية. ولكن تأثيره ظهر في محاولة ليبنتز لإظهار أن الواقع هو أفضل عالم ممكن، من وجهة نظر باركلي أن الأشياء موجودة فقط في إدراكنا الحسي أو في أدراك الله، وفي تحليل هيوم المدمر لسبب أو العلة باعتبارها صفة خفية مستترة، وفي توكيد كانت على العناصر الذاتية في تكوين المعرفة، حتى في نظرية الجبرية في عصر الاستنارة. فإن القول بأن الله هو السبب الوحيد في كل الحركات والرغبات والأفكار، لا يختلف كثيراً عن القول بأن كل تغيير في المادة أو في العقل نتيجة لا مناص منها للقوى التي تعمل في الكون تلك اللحظة. وفي ساعة نشوة كان مالبراش قد اقترب-ولو أنه أنكر ذلك-من جبرية جعلت من الإنسان آلة ذاتية الحركة (إنساناً أوتوماتيكياً).
إن مذهب الاتفاقية كان، فوق كل شيء حلاً وسطاً بين ديكارت وسبينوزا. رأى ديكارت الآلية أو الميكانيكية في المادة. ولكن الحرية في العقل. ورأى مالبرانش أن الله هو السبب الوحيد في كل عمل في كل عقل. واتفق سبينوزا، وهو ثمل بنشوة الوجد الإلهي "مثل أي راهب، مع مالبرانش في أن سلسلتي الأعمال العقلية والمادية كلتيهما هما نتاج متواز لقوة خلاقة واحدة. أن العابد المتأمل الورع مذ رأى الله موجوداً في كل الوجود، كان قد لقن، عن غير عمد منه، حتى المؤمنين، "وحدة وجود" (الله والطبيعة شيء واحد، الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية)، لم ينقصها إلا عبارة "الله أو الطبيعة" لتصبح فلسفة سبينوزا أو فلسفة عصر الاستنارة.
4 - بييربيل
1647 -
1706
كان "أبو الاستنارة" ابن قسيس من الهيجونوت يعمل في مدينة كارلا في مقاطعة فوا في سفح البرانس، حيث قضي بيير هناك الاثنين والعشرين عاماً الأولى من عمره، يتعلم اليونانية واللاتينية والكلفنية.
وكان شاباً رقيق الشعور سريع التأثر. وفي 1669 أرسل إلى الكلية صأثر. وفي 1669 اليسوعية في تولوز ليتلقى أحسن تعليم كلاسيكي يمكن أن توفره له أسرته ومواردها، فأحب أساتذته حباً جماً، وسرعان ما تحول إلى الكثلثكة في حماسة بلغت به إلى درجة محاولته تحويل أبيه وأخيه إليها. فاحتملاه في صبر وجلد، وبعد ذلك بسبعة عشر شهراً عاد إلى مذهب أبيه. ولكنه بات الآن هرطيقاً مرتداً. فكان عرضة لملاحقة الكنيسة الكاثوليكية له. فأرسله أبوه حماية له منها، إلى الجامعة الكلفنية في جنيف (1670)، أملاً في أن يلتحق بيير بخدمة الكنيسة البروتستانتية وهناك على أية حال وقع بيل على مؤلفات ديكارت، وبدأ يتسرب إلى نفسه الشك في كل أشكال المسيحية.
وبعد استكمال دراسته أقام في جنيف وروان وباريس مشتغلاً بالتدريس، ثم ارتقى إلى أستاذ للفلسفة في معهد الهيجونوت في سيدان (1675). ولكن المعهد أغلق في 1681 بأمر من لويس الرابع عشر كجزء من حرب الاستنزاف ضد مرسوم نانت، ووجد بيير له ملجأ في روتردام، والتحق بوظيفة أستاذ للتاريخ والفلسفة في "المدرسة الكبيرة"، أكاديمية البلدية. وكان من أوائل المفكرين المهاجرين الكثيرين الذين اتخذوا من الجمهورية الهولندية في ذاك الزمان قلعة للفكر المستقل.
وكان راتبه ضئيلاً، ولكنه قنع بالعيش البسيط ما دام في مقدوره الحصول على الكتب. ولم يتزوج قط، مؤثراً المكتبة على الزوجة. ولم يكن غير مدرك لمفاتن النساء وأفضالهن، وربما شكر لأية سيدة فاضلة كريم عنايتها به، ولكنه عانى طوال حياته من الصداع، ومن "دوار نصفي" أو انقباض في الصدر واكتئاب يلازمه، ولا ريب في أنه تردد في إشراك قرينة له فيما يعانيه من علل وأمراض. ومهما يكن من أمر فقد كانت تمر به لحظات ينزع فيها إلى السخرية، ذلك أنه عندما حاول الأب ميمبورج اليسوعي الفرنسي في كتابه "تاريخ الكلفنية" أن يبرهن على أن القساوسة الكاثوليك كانوا قد قبلوا التحول إلى البروتستانتية رغبة في الزواج، تساءل بيل: كيف يمكن أن يكون هذا، "فأية محنة أكبر من الزواج؟ (12) ".
وعرض بيل كتاب ميمبورج في مجلد من الرسائل ظهر في
1682.
وعجب كيف يتسنى لرجل التزم التزاماً قوياً بمذهب معين، أن يكتب تاريخاً صادقاً نزيهاً غير متحيز. كيف يمكن أن يوثق في مؤرخ مثل ميمبورج نعت معاملة لويس الرابع عشر لهيجونوت (قبل 1682) بأنها معاملة "عادلة رقيقة كريمة؟ " ووجه الخطاب إلى لويس الرابع عشر، فكتب من هولندا التي كانت فرنسا قد اجتاحتها حديثاً بشكل وحشي أثيم، متسائلاً: أي حق لملك في فرض مذهبه الديني على رعاياه؟ وإذا كان له هذا الحق، لكان للأباطرة الرومان ما يبرر اضطهادهم المسيحية. وذهب بيل إلى أن الضمير هو وحده الذي يحكم عقيدة المرء. ورد ميمبورج على ذلك رداً حاسماً بالحصول على أمر من لويس الرابع عشر بإحراق أية نسخة توجد في فرنسا من كتاب بيل بواسطة السلطات المختصة.
وفي العام نفسه، 1682، أصدر بيل أول أعماله الهامة "آراء شتى حول المذنب" وهو النجم المذنب الذي كان قد عبر السماء في ديسمبر 1680. وتولى الفزع أوربا بأسرها لهذا النجم الذي بدا أن النار في ذنبه تنذر بإحراق العالم. أننا إذا رجعنا إلى الوراء لنشارك ذاك العصر خوفه وجزعه-حين فسر الكاثوليك والبروتستانت على السواء هذه الظاهرة بأنها نذر إلهية، واعتقدوا أن الله سيرسل صاعقة من السماء على الأرض الخاطئة الآثمة في أية لحظة، فإننا عندئذ فقط نستطيع أن ندرك مدى الرعب الذي انتاب الناس عند ظهور هذا اللهب على غير انتظار، أو أن نقدر مدى الشجاعة والحكمة في تعليقات بيل عليه. إن العلامة ملتون نفسه كان قد قال حديثاً "أن النجم المذنب ينشر من شعره المروع الطاعون والحرب"(13). أن بيل أسس بحثه على الدراسات الحديثة التي أجراها الفلكيون (ولكن لم يكن نجم هالي 1682 قد ظهر بعد)، ومن ثم أكد لقرائه أن النجوم المذنبة تتحرك في السموات طبقاً لقوانين ثابتة وليس لها أي علاقة بشقاء البشر أو سعادتهم. ورأى لانتشار الخرافات وإلحاحها على عقول الناس. "أن الذي يقفو زلات العباد ملتمساً أسبابها لن ينتهي من ذلك أبداً (14) ". ونبذ الإيمان بكل المعجزات إلا ما ورد منها في العهد الجديد "الإنجيل"، (ولولا هذا الاستثناء، لما سمح بطبع الكتاب في هولندا). "في الفلسفة الصحيحة، ليست الطبيعة إلا الله نفسه،
يعمل وفق قوانين معينة استنها سبحانه وتعالى بمحض إرادته. ومن ثم فإن أعمال الطبيعة هي من آثار قدرة الله وقوته مثل المعجزات سواء بسواء، كما أن هذه العمال تدل على وجود قدرة عظمى مثل تلك التي تدل عليها المعجزات. وأن خلق إنسان وفق قوانين التناسل الطبيعية، لا يقل صعوبة عن قيامة إنسان من بين الأموات (معجزة المسيح)(15).
وانتقل بيل في جرأة إلى واحدة من أكثر مسائل التاريخ تعقيداً: هل يمكن أن يكون هناك علم أخلاق طبيعي-هل يمكن الاحتفاظ بقانون أخلاقي دون عون من معتقد خارق للطبيعة؟ هل أدى الإلحاد إلى إفساد الأخلاق؟ يقول بيل: إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن نستنتج من الجريمة والفساد وسوء الخلق السائد في أوربا أن معظم المسيحيون ملحدون في قرارة أنفسهم. أن اليهود والمسلمين والمسيحيين والكفار يختلفون في عقائدهم الدينية، لا في أفعالهم وتصرفاتهم. وظاهر أن المعتقد الديني-والأفكار بصفة عامة-ليس لها إلا تأثير ضئيل على السلوك، فهذا السلوك ينبع من الرغبات والانفعالات، وهي عادة أقوى من المعتقدات. وأي تأثير كان لتعاليم المسيح على مفهوم الأوربيين للشجاعة والشرف؟ -ذلك المفهوم الذي أختص بأعظم المديح والثناء الإنسان الذي يثأر في عنف وقوة للإساءة والأذى، والذي يبرع في فنون الحرب باختراع ما لا يحصى من الآلات حتى يكون الحصار أشد فتكاً وإرهاباً وإزعاجاً. أن الكفار يتعلمون منا أن مجتمعاً من الملحدين قد لا يكون أسوأ خلقاً من مجتمع من المسيحيين. ليس الذي يحمل معظمنا على التمام جادة الصواب والنظام هو الخشية من الجحيم، وهذا أمر بعيد غير يقيني، قدر خوفنا من رجل الشرطة ومن القانون، ومن إدانة المجتمع لنا. ومن العار الذي يلحق بنا، ومن الجلاد، خل بيننا وبين هذه العوائق تعم الفوضى فإذا تمسكت بها لأمكن أنه يقوم مجتمع من الملحدين والحق أنه قد يضم رجالاً كثيرين على درجة رفيعة من الشرف ونساء كثيرات طاهرات عفيفات (17). وإنا لنسمع عن نماذج من هؤلاء الملحدين في الأزمنة القديمة، مثل أبيقور وبليني الأكبر وبليني الأصغر، وفي العصور الحديثة مثل ميشيل دي لوبيتال وسبينوزا، (أما انحطاط أخلاق الفرد العادي عما هي عليه إذا لم تكمل الديانة القانون، فتلك مسألة لم يتعرض لها بيل).
ونشر موضوع "النجم المذنب" غفلاً من اسم المؤلف. واتخذ بيل نفس الحيطة حين افتتح واحدة من أكبر الدوريات في ذلك العصر: "أنباء جمهورية الأدب". وظهر العدد الأول منها في مائة وأربع صفحات، في أمستردام في مارس 1684 وعرضت المجلة أن تزود قراءها بكل التطورات الهامة في الأدب والعلوم والفلسفة والبحوث والكشوف والتاريخ الرسمي. ومبلغ علمنا أن بيل نفسه كتب محتويات المجلة شهراً بعد شهر لمدة ثلاثة أعوام. وقد ندرك مبلغ الجهد الذي استلزمه هذا العمل. وسرعان ما أصبح استعراضه للكتب ذخيرة قوية في دنيا الأدب. وفي 1685 جمع أطراف شجاعته وأهلن أنه المؤلف. وبعد ذلك بعامين تدهورت صحته فترك تحرير المجلة لآخرين غيره.
وفي تلك الأثناء وقع أربعة من أسرة بيل فريسة اضطهاد الهيجونوت في فرنسا. وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لعنف اضطهاد القوات الفرنسية للبروتستانت، ماتت أمه في 1681، ومات أبوه في 1685، وفي نفس العام سجن أخوه ثم قضى نحبه نتيجة للتعذيب والقسوة. وبعد ذلك بستة أيام ألغى مرسوم نانت. وصعق بيل لهذه التطورات، ولم يكن له، مثل فولتير، من سلاح غير قلمه، وفي 1686 تحدى الطغاة المستبدين بإحدى الروائع في أدب التسامح الديني.
وكان عنوان هذه الرسالة "تعليق فلسفي على كلمات يسوع المسيح": أخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول. (لوقا 14 - 23).
وكان هؤلاء الطغاة الوحشيون قد التمسوا سنداً لإجراءاتهم التعسفية في القصة التي رواها المسيح عن الرجل الذي قال لعهده، حين لم تلب ضيوفه دعوته إلى عشاء عظيم أعده لهم "أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها، وأدخل إلى هنا المساكين والجدع. والعرج والعمي .... وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي (18) "(إنجيل لوقا-14: 16 - 23). ولم يجد بيل مشقة في إيضاح أن هذا الكلام ليس له علاقة بإرغام الناس على أتباع دين أو مذهب واحد، بل العكس، وجدنا فرض نعتقد ديني موحد قد خضب نصف أوربا بالدماء، وأن تباين المذاهب الدينية في الدولة حال دون
وصول أحدهما إلى درجة من القوة تمكنه من الاضطهاد. وفضلاً عن هذا: من منا يثق بأنه على حق إلى حد يستند إليه في إيذاء من يخالفونه؟ واستنكر بيل اضطهاد البروتستانت للكاثوليك، والمسيحيين لغير المسيحيين، والعكس بالعكس سواء بسواء. وعلى النقيض من لوك، اقترح بيل أن تمتد حرية العبادة أو اللاعبادة إلى اليهود والمسلمين والمفكرين الأحرار. ونسي ما ذهب إليه من قبل من أن الملحدين يحتمل أن يكونوا مواطنين صالحين مثل المسيحيين، فنصح بعدم التسامح مع الطوائف التي لا تؤمن بالعناية الإلهية وبوجود إله يحاسب ويعاقب، فإن هؤلاء لا تطهر من نفوسهم خشية الله ومن ثم قد يجعلون من الصعب تطبيق القانون (19). أما بالنسبة للآخرين فلا يجوز التسامح مع المتعصبين منهم. فهل يجوز لدولة بروتستانتية أن تتسامح في أن تقوم فيها كاثوليكية دافعت عن التعصب على اعتبار أن الكثلكة وحدها هي العقيدة الحقة الصحيحة؟. ورأى بيل أن الكاثوليك في مثل هذه الحالات-"يجب أن يسلبوا سلطة إلحاق الأذى والضرر بغيرهم
…
ومع ذلك فأما لا أقر تعرضهم ممارستهم لديانتهم، ولا أقر حرمانهم من اللجوء إلى القانون (20).
ولم يكن البروتستانت أكثر ارتياحاً من الكاثوليك لبرنامج التسامح هذا، من ذلك أن بيير جوريو-الذي كان صديق بيل وزميله في العمل في سيدان، وكان الآن راعياً لأبرشية كلفنية في روتردام-هاجمه في بحث بعنوان:"حقوق السيدين في أمور الدين-الضمير والأمير-. (1687) وذهب جوريو إلى هدم نظرية عدم الاهتمام بالأديان، وفكرة التسامح العام والشامل، معارضاً كتاباً بعنوان "تعليقات فلسفية". واتفق مع البابوات في أن للحكام أو الملوك الحق في القضاء على أية عقيدة زائفة، وقد روعه بخاصة التسامح مع اليهود والمسلمين والسوسنيين والوثنيين. وفي 1691 أهاب جوريو بعمد مدينة روتردام أن يفصلوا بيل من عمله، فرفضوا. ولكن في 1693 جاءت الانتخابات بهيئة حكام جديدة، وجدد جوريو حملته متهماً بيل بالإلحاد، فطرد مكن وظيفته، فقال الفيلسوف "اللهم أنقذنا من محكمة التفتيش البروتستانتية، فلن تنقضي خمس أو ست سنوات حتى تشتد
وطأتها إلى درجة يتطلع الناس معها إلى عودة محاكم التفتيش الكاثوليكية (21).
وسرعان ما أسترد بيل هدوء نفسه وعاد إلى طبيعته، فتكيف مع الظروف، وكان له كل العزاء والسلوى أنه استطاع أن يخصص كل ساعات عمله لإنجاز "قاموس" العصر الذي كان قد شرع في تأليفه فعلاً. وراض نفسه على العيش على مدخراته، وعلى بعض مكافآت شرفية من ناشري كتبه. وتلقى عروضاً بالرعاية من سفير فرنسا في هولندا ومن ثلاثة من النبلاء الإنجليز يحملون لقب أرل، ولكنه رفض في لطف وكياسة، بل أنه رفض مائتي جنيه عرضها عليه أرل شروزبري نظير إهداء القاموس إليه. وكان له أصدقاء، ولكنه لم يكن له من وسائل اللهو والتسلية إلا القليل. "لم أهتم بالملاهي العامة أو الألعاب أو الرحلات الريفية
…
أو غيرهما من سباب الترفيه والمتعة، ولم أضيع وقتي فيها ولا في المهام المنزلية، ولم أطمع قط في منصب
…
إني أجد كل الحلاوة والراحة في الدراسات التي شغلت نفسي بها، وهي كل متعتي وبهجتي إني سأغني لنفسي وللموزيات (ربات الشعر والفنون والعلوم (22) ".
وهكذا قبع هادئاً في حجرته يعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، يضيف صحيفة إلى صحيفة في المجلدات الغريبة التي أصبحت منبع "الاستنارة". وظهر المجلدان الضخمان في 2600 صحيفة في روتردام في 1697 تحت اسم "قاموس تاريخي نقدي"، ولم يكن معجم مفردات، بل دراسة نقدية للأشخاص والأماكن والآراء، وفي التاريخ والجغرافيا وعلم الأساطير واللاهوت والأخلاق والأدب والفلسفة وصاح وهو يدفع بالتجارب النهائية إلى المطبعة "سبق السيف العذل" وكان هذا العمل مقامرة ثقيلة بالحياة وبالحرية. لأنه أحتوى على هرطقات أكثر مما ضم أي كتاب آخر في هذا القرن، وربما أكثر من حفيده، "موسوعة" ديدرو ودالمبرت (1751).
وكان بيل قد بدأ وأمامه هدف محدود هو تصحيح الأخطاء وسد النقص في "القاموس التاريخي الكبير" الذي كان موريري قد أصدره في 1674 من وجهة النظر الكاثوليكية التقليدية، ولكن الهدف اتسع
مع تقدم العمل. ولم يزعم قط أنه كتب دائرة معارف، فلم يتعرض لشيء ليس لديه ما يقول عنه. ومن ثم يتضمن "القاموس" أية مقالات عن شيشرون، بيكون، مونتاني، جاليليو هوراس، نيوتن، توماس مور، وأغفل العلم والفن إلى حد كبير، ومن ناحية أخرى كانت هناك مقالات عن الأفذاذ غير البارزين مثل أكيبا، وأوربيل اكوستا، وايزاك أبرابانل. ولم تخصص المساحات الكبيرة طبقاً للأهمية التاريخية، بل تبعاً لرغبة وهوى بيل نفسه، وعلى هذا فإن ارزم الذي خصص له موربري صحيفة واحدة، أفرد له بيل خمس عشرة صحيفة، كما أفرد لأبيلارد ثمان عشرة. وكان الترتيب أبجدياً، ولكنه أشبه بترتيب التلمود، وكانت الحقائق الأساسية مثبتة في النص، ولكن في كثير من الأحيان أضاف بيل حاشية في حروف صغيرة، أطلق فيها لنفسه العنان للدخول "في متاهة من البراهين والمناقشات .. بل في بعض الأحيان مجموعة كبيرة من تأملات فلسفية". وفي وسط هذه الحروف الصغيرة الدقيقة ستر بيل هرطقاته عن النظرة العامة. وأثبت مراجعه في الهوامش، وهذه في جملتها تنبوء عن سعة إطلاع ودرس يندر أن تتسع لهما حياة فرد. وتضمنت بعض الحواشي التي كتبها بيل بعض النوادر المكشوفة البعيدة عن الاحتشام، أملاً في أن يزيد هذا من مبيعات الكتاب. ولكن لا ريب في أنه وجد فيها هي نفسها متعة لشخصه وهو وحيد عاكف على الدرس والبحث. وأولع القراء مقدرين شاكرين، بأسلوبه اللاذع الأنيق المتجول بين أبواب المعرفة، وعرضه الماكر لنقاط الضعف في المذاهب الدينية السائدة، واعترافاته الصريحة الجريئة بالعقيدة الكلفنية الصحيحة. وبيعت الطبعة الأصلية وعددها ألف نسخة عن آخرها في أربعة أشهر.
وكانت طريقة بيل هي أن يوازن بين المراجع، ويتتبع الحقائق ويشرح الآراء المعارضة والمتناقضة، وكان يتمشى مع العقل إلى آخر الشوط حتى إذا لم تلتئم النتائج التي يتوصل إليها مع العقيدة الصحيحة أو أساءت إليها نبذ النتائج في تقي وورع. انحيازاً إلى جانب الأسفار المقدسة والإيمان. وتساءل جوريو غاضباً "إذا عرضت عبارة أو لفظة تؤيد الإيمان ضد العقل. فهل لها أن تحمل الناس على التخلي عن الاعتراضات التي قال بيل بأنه لا سبيل إلى دحضها (23) ". وفيما
عدا هذا فإن ترتيب القاموس هزيل. وتندرج بعض أبحاثه الكبرى تحت موضوعات تافهة أو عناوين مضللة. "أنا لا أستطيع أن أطيل التأمل في موضوع واحد بانتظام شديد، فأنا مولع أشد الولع بالتغيير، وغالباً ما أتحول عن الموضوع، وأقفز إلى مواضع قد يكون من الصعب تلمس الخروج منها (24). وكانت المناقشة عادة مهذبة متواضعة بعيدة عن التزمت ودية، ومهما يكن من أمر، فإن بيل كان من حين لآخر، لاذعاً حاد اللسان، ومن ذلك أن مقاله عن القديس أوغسطين لم يغفر للكلفني العظيم طول انصرافه عن العفة ولاهوته الكئيب وتعصبه الديني. وأعلن بيل ارتضاءه الكتاب المقدس على أنه كلمة الله، ولكنه أشار في خبث إلى أنه يجدر بنا ألا نؤمن إطلاقاً ببعض قصص المعجزات إلا إذا صدرت عن شخصية ممتازة. ووضع بعض الأساطير الوثنية-إبتلاع الحوت لهركيوليز مثلاً-جنباً إلى جنب مع القصص المماثلة في الكتاب المقدس، ثم ترك القارئ في حيرة: لماذا نرفض قصة ونقبل أخرى. وفي واحدة من أشهر مقالاته أنكر مذابح الملك داود وخياناته واغتصابه للنساء. وترك القارئ يعجب ويتساءل: لماذا يمجد المسيحيون مثل هذا الوغد المتوج بأنه من أجداد المسيح.
ووجد بيل أنه من الأيسر عليه أن يبتلع يونس والحوت معاً (أن يصدق القصة) عن أن يقبل سقوط آدم وحواء. كيف يتسنى لرب قدير أن يخلقهما وهو يعلم سلفاً أنهما سيلطخان الجنس البشري كله بخطيئتهما الأولى ويلحقان به من البؤس والشقاء ما لا يحصى ولا يقدر:
إذا كان الإنسان مخلوقاً من أصل غاية الطيبة، بالغ القداسة، قديراً غاية القدرة، فهل يمكن أن يتعرض للأمراض، للحر والبرد، للجوع والعطش، للألم والحزن؟ وهل يمكن أن يكون لديه مثل هذه النزعات السيئة الكثيرة؟ وهل للقداسة الكاملة أن تنتج مخلوقاً مجرماً؟ وهل لهذا الخير التام أن ينجب مخلوقاً تعساً؟ هلا يتسنى لهذه القدرة؟ مع الخير الذي لا حدود له، أن تزود خلقها بأفضل الأشياء في وفرة وسخاء وتباعد بينه وبين كل عدوان أو إزعاج وإساءة (25)؟.
أن إله سفر التكوين أما أن يكون قاسياً أو ذا قدرة محدودة. وعلى هذا شرح بيل في كثير من التعاطف والقوة مفهوم المانوية من الهين، للخير والشر (النور والظلام) يتصارعان للسيطرة على العالم وعلى الناس. وبما أن "البابويين والبروتستانت متفقون على أن قلة ضئيلة من الناس هي التي تنجو من العقاب السرمدي "فقد يبدو أن الشيطان سيكسب المعركة ضد المسيح، وفوق ذلك، فإن انتصاراته أبدية لأن رجال اللاهوت يؤكدون لنا أنه لا منجاة من النار. وحيث أنه عناك، أو سيكون هناك، في الجحيم عدد من الأنفس أكبر مما هو في الجنة، "فإن الذين في الجحيم سيلعنون دوماً اسم الرب، فإن المخلوقات التي تكره الرب ستكون أكثر ممن يحبونه:. وانتهي بيل، في خبث، إلى القول "ينبغي ألا نركن إلى المانوية حتى نقر أولاً مبدأ الرفع من شأن الإيمان والعقيدة والانتقاص من قدر العقل (26).
وعبرت مقالة بيل عن "بيرهو" عن الشكوك في التثليث، "لأن الشيئين اللذين لا يختلفان عن ثالث، لا يفترق الواحد منهما عن الآخر (27). أما بالنسبة لتحويل الخبز والنبيذ-لا يمكن أن ودمه، فإن أحوال المادة-ومن ثم ظهور الخبز والنبيذ-لا يمكن أن توجد بدون المادة التي تعدل منها (28). وبالنسبة لتراث كل الناس في خطيئة آدم وحواء، يقول بيل: "ما دام المخلوق غير موجود فلا يمكن لأن يكون شريكاً في عمل خاطئ (29). ولكنه وضع كل هذه الشكوك على ألسنة آخرين غيره، ثم استنكرها هو باسم الدين. واقتبس بيل "باعتبار أن هذا من أشد ما قال المارقون زيفاً" أن "الدين ليس إلا مجرد بدعة من عمل الإنسان، ابتدعها الملوك ليلزموا رعاياهم بالطاعة والإذعان لهم (30). وفي المقال الذي كتبه عن سبينوزا تعمد أن يتهم اليهودي الذي يعتنق مذهب وحدة الوجود بالإلحاد، ومع ذلك فإنه لا بد أنه عثر عند هذا الفيلسوف على شيء يسحر لبه ويستوقف نظره، لأن هذا أطول مقال في القاموس. وزعم بيل أنه يؤكد لرجال اللاهوت من جديد أن كل هذه الشكوك التي أوردها في كتابه لا تهدم العقيدة الدينية-لأن هذه مسائل فوق مستوى عقول الناس (31).
وذهب فاجويه إلى أن بيل "ملحد بغير جدال (32) ولكن قد
يكون أكثر إنصافاً أن ندرجه في عداد الشكاكين، وأنه كان كذلك يشك في مذهب الشك. ومن حيث أن الصفات الثانوية للحس ذاتية إلى حد كبي، فإن العالم الموضوعي (الخارجي) يختلف كل الاختلاف عما يبدو لنا. "إن الطبيعة المطلقة للأشياء غير معروفة لنا، وكل ما نعرفه هو بعض علاقات بعضها ببعض (33). وفي 2600 صحيفة من الاستنتاج والحجج والبراهين اعترف بضعف العقل، فإن العقل، مثل الحواس التي يعتمد عليها، قد يخدعنا. لأنه غالباً ما يتغشاه الانفعال. والرغبة والهوى، لا العقل، هما اللذان يحددان سلوكنا. فالعقل يمكن أن يعلمنا أن نشك ولكنه قليلاً ما يحركنا للعمل.
إن أسباب الشك مشكوك فيها هي الأخرى. ومن ثم يجب على الإنسان أن يشك فيما إذا كان ينبغي له أن يشك. أية فوضى. وأي عذاب للذهن
…
إن عقلنا يؤدي بنا إلى أن نتيه ونهيم على وجوهنا على غير هدى. لأنه حين يكشف عن أكبر قدر من حدة الذهن والدقة، يلقي بنا في الهاوية
…
أن العقل البشري أداة هدم، لا أداة بناء، إنه لا يصلح إلا ليبدأ الشك، ويجول وينتقل هنا وهناك ليديم الصراع (34).
وبناء على هذا أشار بيل على الفلاسفة ألا يقيموا للفلسفة وزناً كبيراً، ونصح المصلحين بالا يتوقعوا كثيراً من الإصلاح. وحيث أنه واضح أن الطبيعة الإنسانية هي هي على مر القرون، فإنها بفعل الجشع وحب المشاكسة والشهوة الجنسية، ستظل تثير من المشاكل ما يفسد المجتمعات ويؤدي إلى فناء أية مدينة فاضلة (يوتوبيا) في مهدها. أن الناس لا يتعلمون من التاريخ، وكل جيل يتمخض عن نفس الأهواء والأوهام الخادعة والجرائم. ومن ثم فإن الديموقراطية خطأ في التقدير قدر ما هي حقيقية، فالسماح للدهماء المشغولين المضللين المتهورين باختيار الحكام ورسم السياسة هو انتحار للدولة. وأي نوع من الملكية أمر ضروري، حتى في ظل أشكال ديموقراطية (35). والتقدم أيضاً وهم وخداع، إننا خطأ نحسب الحركة تقدماً، ولكن يحتمل أنها مجرد تذبذب (36). أن خير ما نأمل
فيه، هو حكومة يمكنها، على الرغم من أنها مزودة برجال شيمتهم الفساد ويعوزهم الكمال، أن تسن لنا من القوانين ما يكفل لنا أن نزرع حدائقنا في أمان وننصرف إلى دراستنا وهوياتنا في هدوء وسلام.
ولم يستمتع بيل بمثل هذا الهدوء في السنوات التسع التي بقيت له في حياته، وحين انتقل قراؤه من متن الكتاب إلى حواشيه المطبوعة بحروف صغيرة جداً ثارت موجة من الاستياء بينهم. ودعا مجلس كنيسة والون في روتردام بيل-وهو عضو في مجمعها-للمثول أمامه ليرد على الاتهامات الموجهة إليه بأن قاموسه تضمن "تعبيرات ومسائل غير لائقة، وكثيراً جداً من الاقتباسات الفاجرة، وملاحظات عدائية عن الإلحاد وأبيقور، وبخاصة مقالات كريهة مثيرة للاعتراض على داود وبيرهو والمانويين. ووعد بيل "بمزيد من التأمل في مذهب المانوية حتى إذا عثر على أية ردود، أو أمده قساوسة المجلس بشيء منها، فإنه "يسعده أن يضعها في أحسن صيغة ممكنة (37) ". وفي الطبعة الثانية من القاموس (1702) أعاد كتابة المقال الوارد عن داود وخفف من حدته. ولم يهدأ روع جوريو، وجدد الحملة على بيل، وشن عليه في 1706 هجوماً عنيفاً تحت عنوان "اتهام فيلسوف روتردام ومهاجمته وإدانته".
وانهارت صحة بيل بعد هذه الطبعة الثانية. وعانى مثل سبينوزا من السل. وفي تلك السنوات لازمه السعال بشكل دائم تقريباً، وانتابته الحمى الراجعة، وزاد الصداع من اكتئابه وجزعه. واقتنع بالا أمل في البرء من علته، استسلم للموت، وزاد اعتكافه في حجرته، واشتغل ليل نهار في إعداد رده على ناقديه. وفي 27 ديسمبر 1706 أرسل الصيغة النهائية إلى المطبعة. وفي صباح اليوم التالي وجده أصدقاؤه ميتاً في فراشه.
وانتشر تأثيره طوال القرن الثامن عشر. وأعيد طبع قاموسه عدة مرات، حتى أصبح مصدر ابتهاج خفي لآلاف العقول الثائرة. وما وافى علم 1750 حتى كان القاموس قد طبع تسع مرات باللغة الفرنسية، وثلاث مرات بالإنجليزية ومرة بالألمانية. وحاول المعجبون
به في روتردام أن يقيموا له تمثالاً إلى جوار تمثال ارزم (38)، وأغروا الناشرين بطبع المقال الأصلي عن داود. وعلى مدى عشر سنين من وفاته كان الطلاب يقفون صفوفاً في مكتبة مازاران في باريس حتى يأتي دورهم في قراءة القاموس (39). وجاء في تقرير عن المكتبات الخاصة أن الطلب عليه كان أكثر من كلب أي كتاب آخر (40). وقد أحس بتأثيره كل مفكر ذي شأن تقريباً. وكان معظم كتاب ليبنتز "الفلسفة الإلهية" أو تبرير حكمة العدالة الإلهية في وجود الشر، محاولة صريحة للرد على بيل. كذلك نبع منه كتابات لسنج عن تحرير العقل ودفاعه عن التسامح-ويحتمل أن فردريك الأكبر استمد تشككه أصلاً من بيل، لا فولتير، وأطلق على القاموس "عصارة الإحساس السليم"(41). واقتنى أربع مجموعات منه في مكتبته، وأشرف على إصدار طبعة رخيصة موجزة منه في مجلدين ليجذب عدداً أكبر من القراء (42). وكان تأثير بيل على شافتسبري ولوك أخف، وعرفه كلاهما في هولندا، وسار لوك في "رسالة التسامح"(1689) على خطى بيل في "التعليقات"(1686).
ولكن أعظم تأثير لبيل كان بطبيعة الحال على فلاسفة الاستنارة وكان فطامهم على القاموس. ومن الجائز أن مونتسكيو وفولتير أخذا عنه أسلوب الاستشهاد بالمقارنات والنقد الآسيوي للنظم الأوربية. ولم تكن "دائرة المعارف"(1715)، كما حكم فاجويه "مجرد طبعة منقحة مزيدة قليلاً من قاموس بيل (43). ولكن كثيراً من وجهة نظرها وآرائها التوجيهية نبعت من هذين المجلدين، كما أن المقال الذي كتب في دائرة المعارف عن التسامح كثيراً ما أحال القارئ على قاموس بيل على اعتبار أنه "وفى الموضوع حقه". كما أن ديدرو أعترف في صراحته المعهودة، بفضل بيل عليه، وحياه بأنه "أعظم شارح مهيب لمذهب الشك في العصور القديمة والحديثة معاً (44). أما فولتير فكان بيل ولد من جديد، مع رئتين أصح ومزيد من النشاط والطاقة والسنين والثراء والذكاء. وأطلق بحق على "القاموس الفلسفي" أنه ترديد لقاموس بيل (45). وكثيراً ما اختلف قرد فرني الفاتن عن بيل، مثال ذلك أن فولتير ذهب إلى أن الدين كان قد ساعد على تشجيع الأخلاق ورعايتها، وأنه لو أن بيل كان لديه خمسمائة أو
ستمائة فلاح ليحكمهم. ولما تردد في أن هناك إلهاً يعاقب ويكافئ (46)، ولكنه اعتبر بيل "أعظم منطيق جدلي ألف (47) " وجملة القول. كانت فلسفة فرنسا في القرن الثامن عشر هي بيل في تكاثر متفجر. إن القرن السابع عشر بدأ، بهوبز وسبينوزا، وبيل وفونتيل، الحرب الطويلة المريرة بين المسيحية والفلسفة، تلك الحرب التي بلغت ذروتها في سقوط الباستيل وعيد آلهة العقل.
5 - فونتنيل
1657 -
1757
في السنوات الأربعة الأولى من حياته التي امتدت مائة عام، شن برنارد لي بوفييه دي فونتنيل، حرب الفلسفة، مستقلاً عن بيل، وأحياناً قبله، وواصل الحرب، بلا هوادة، طيلة نصف قرن بعد وفاة بيل. وهو إحدى ظواهر طول العمر، وملأ الفراغ بين بوسويه وديدرو، ونقل إلى معترك الحياة العقلية في القرن الثامن عشر شكوكية القرن السابع عشر الأكثر اعتدالاً وحرصاً.
ولد في روان في 11 فبراير 1657، ضئيلاً هزيلاً إلى حد أنهم عمدوه فور ولادته خشية أن يموت قبل أن ينقضي عليه اليوم. وظل على هذه الحال من الضعف طوال حياته، كانت رئتاه عليلتين وكان يبصق دماً إذا أجهد نفسه حتى في لعب "البليارد"، ولكن بالقصد والاعتدال في استخدام قواه إلا بمقدار والامتناع عن الزواج، وكبح جماح شهواته وأهوائه، والإغراق في النوم، استطاع أن يعمر بعد كل معاصريه، وتذكر موليير حين كان يتحدث مع فولتير.
وكان به بعض الميل إلى الأدب مثل ابن شقيق مورني. وكذلك كان يحلم هو الآخر بالمسرحيات، ولكن الروايات والأوبرات التي ألفها، وأناشيده الرعوية وقصائده الغزلية ومقطوعاته، كانت تعوزها العاطفة فماتت من البرودة. وكان الأدب الفرنسي يفقد الفن ويكسب الأفكار. ولم يجد فونتنيل نفسه إلا حين وجد أن العلم يمكن أن يكون رؤيا أكثر إدهاشاً من سفر الرؤيا، وأن الفلسفة معركة تثير الأسى، وتفوق كل الحروب. ولم يكن ذلك لأنه محارب، فقد كان رقيقاً إلى حد لا يقوى معه على الصراع، شغوفاً بالدنيا لا يحب أن يفقد صبره أو يتملكه الغضب في المناقشة، وواعياً
كل الوعي لنسبية الحقيقة فلا بد يقيد فكره المطلق. ومع ذلك أشعل نيران الحرب (48). وحيثما سار في محادثاته المختلفة مع مركيزته الوهمية، هب جيش الاستنارة بفرسان فولتير الخفيفة السريعة الاندفاع ومشاة دولباخ الثقيلة، ومهندسي دائرة المعارف العسكريين الخبراء في بث الألغام، بالإضافة إلى مدفعية ديدرو.
وكان أول اقتحامه مجال الفلسفة رسالة من خمس عشرة صحيفة "أصل الخرافات" والحق أنها كانت استقصاء سيولوجيا (اجتماعياً) عن نشأة الآلهة. ونحن لا نكاد نصدق كاتب سيرة حياته في أن الموضوع كتب وهو في سن الثالثة والعشرين، ولو أن مخطوطته تركت في حرص وحذر، حتى خفت وطأة الرقابة قي 1724. وتكاد تكون هذه الرسالة "عصرية" في روحها، تعقبت الأساطير، لا إلى مجرد اختراع الكهنة لها، بل إلى تخيلها البدائي، فوق كل شيء، إلى استعادة العقول البسيطة لتجسيد العمليات، فإن نهراً فاض لأن إلهاً صب ماءه، فكل عمليا ت الطبيعة من عمل الأرباب.
اعتقد الناس أن كثيراً من العجائب فوق قدرتهم: حلول الصواعق وقصف الرعود، وهبوب الرياح وإثارة الأمواج .... وتخيل الناس كائنات أقوى منهم، قادرة على أحداث هذه الآثار. وكان لا بد لهذه الكائنات الأسمى أن تتخذ شكلاً آدمياً، فأي شكل آخر يمكن تصوره؟
…
وعلى هذا كان الأرباب آدميين، ولكن أسبغت عليهم قدرة عليا .... وما كان في كقدور الناس البدائيين أن يدركوا صفة أدعى إلى الإعجاب من القوة المادية. ولم يكونوا قد أدركوا بعد الحكمة والعدالة، ولم يكن لديهم أسماء لهما (49).
وقبل ورسو بنصف قرن نبذ فونتنيل ما قاله روسو عن مثالية الهمج غير المتمدنين، ففي رأيه أنهم كانوا أغبياء، متوحشين. ولكنه أضاف "كل الناس متشابهون شبهاً كبيراً، وليس ثمة جنس أو عرق، لا نرتعد نحن فزعاً من حماقاته وسخافاته (50) ". وكان حريصاً على أن يضيف أن تفسيره للأرباب، ذلك التفسير المبني على المذهب الطبيعي، لم يطبق على آلهة المسيحيين أو اليهود.
ووضع هذه الرسالة جانباً انتظاراً لوقت أكثر أمناً واطمئناناً. وأمسك بالقرطاس واستعار عنواناً من لوشيان، ونشر في يناير 1683 كتاباً صغيراً أسماه "محاورات الموتى". واكتسب هذه المناقشات الخيالية بين مشاهير الموتى شعبية إلى حد اشتد معه الطلب على طبعة ثانية في مارس، وثالثة وشيكاً بعدها. وامتدحها بيل في صحيفته "الأخبار"، وقبل أن ينصرم العام، ترجمت الرسالة إلى الإيطالية والإنجليزية، وذاع صيت فونتنيل وهو في سن السادسة والعشرين، في كل أوربا، وكانت الرسالة ميسرة في متناول الجميع في عالم يعج بالرقباء، وكادت كل فكرة يعبر عنها أحد المتكلمين، يدحضها آخر ويبرأ منه المؤلف، وكان فونتنيل على أية حال أميل إلى الدعاية منه إلى الهرطقة. وكانت الأفكار التي ناقشها معتدلة، ولم تمس أي كاهن بسوء. فإن ميلو لاعب كروتونا الرياضي النباتي يتباهى بأنه قد حمل ثوراً على كتفيه في الألعاب الأولمبية، فيعيره سمنديريد من سيباريس المجاورة-بأنه ينمي عضلاته على حساب عقله، ولكن السسياريثي يعترف بأن الحياة الأبيقورية (الانغماس في الملذات) عقيمة كذلك، حيث تصبح اللذة مملة بالتكرار، وتضاعف من مصادر اللم ودرجاته. ويثني هومر على عيسوب لتعليمه مع الخرافات، ولكنه يحذره من أن الحقيقة هي آخر ما يرغب به البشر". إن روح الإنسان تتعاطف مع الباطل إلى أبعد حد .... وينبغي أن تلبس الحقيقة ثوب الباطل حتى يتقبلها البشر بارتياح (51) ". وقال فونتنيل "لو أن الحقيقة كلها بين يدي فلا بد من أن أحرص على ألا أفتحها (52) "، ولكن ربما كان هذا من قبيل العطف والإشفاق على البشر بقدر ما هو من قبيل الحب الطائش للمطاردة.
وفي ألطف المحاورات يلتقي مونتاني بسقراط، في الجحيم لا ريب، ويناقش فكرة التقدم، مونتاني-أهذا أنت، سقراط المقدس؟ ما أسعدني بلقائك لقد جئت لفوري إلى هذا المكان، ومنذ تلك اللحظة كنت أبحث عنك. وأخيراً وبعد أن ملأت كتابي باسمك وبامتداحك وبالثناء عليك، أستطيع أن أتحدث إليك.
سقراط-أني سعيد أن أرى إنساناً ميتاً يبدو أنه كان فيلسوفاً، ولكن حيث أنك جئت من هناك أخيراً
…
دعني أسألك عن الأخبار كيف حال الدنيا؟ ألم تتغير كثيراً؟
مونتاني حقاً-تغيرت كثيراً. قد لا تعرفها.
سقراط-كم ابتهج بسماع هذا. أنا لم أشك قط في أنها ستصبح أحسن أو أعقل مما كانت في زماني.
مونتاني-ماذا تقول؟ إنها أشد خبلاً وفساداً من أي وقت مضى. وهذا هو التغيير الذي أردت أن أناقشه معك. وكنت مترقباً أن أسمع منك أبياتاً عن العصر الذي عشت فيه، والذي ساده كثير من الأمانة والعدل.
سقراط-وأنا، على العكس، كنت أنتظر لأعرف منك عجائب العصر الذي عشت فيه منذ أمد قصير. ماذا؟ ألم يصلح الناس من الأخطاء والحماقات القديمة؟ .... كنت أؤمل أن تتجه الأمور نحو العقل، وأن يستفيد الناس من خبرة السنين الطوال.
مونتاني-ماذا تقول؟ يستفيد الناس من الخبرة؟ إنهم مثل الطيور التي كثيراً ما تركت نفسها نهياً للشراك التي وقع فيها بالفعل مئات الآلاف من نفس النوع. إن كل فرد يدخل جديداً إلى الحياة، وتقع أخطاء الآباء على الأبناء .... وللناس على مر القرون نفس الميول والنعات التي لا سيطرة للعقل عليها. ومن فإنه حيثما وجد الناس وجدت الحماقات والأخطاء، بل هي هي نفسها ....
سقراط-إنك أضفيت مثالية على العصور القديمة لأنك غاضب على عصرك .... إننا في حياتنا كنا نقدر أسلافنا أكثر مما كانوا يستحقون. والآن يمجدنا أعقابنا فوق ما نستحق. ولكن أسلافنا وأنفسنا وذريتنا كلهم سواء.
مونتاني: ولكن أليست هناك أزمان أفضل وأزمان أسوأ؟.
سقراط-ليس هذا بالضرورة. فالملابس تتغير، ولكن هذا لا يعني أن شكل الجسم يتغير كذلك. فالتهذيب والفظاظة والمعرفة والجهل .... ليست إلا خارج الإنسان، وهي التي تتغير، ولكن القلب لا يتغير بأية حال، وكل الإنسان هو في القلب .... وبين الجمهور الغفير من الناس الذين يولدون على مدى مائة من السنين،
تنثر الطبيعة هنا وهناك نفراً قليلاً لا يتجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين. ممن يتمتعون بعقول راجحة (53).
وبعد بضع سنين من هذه الخاتمة المتشائمة، مال فونتينل إلى نظرة أكثر تفاؤلاً إلى حد ما في "استطراد القدامى والحديثين (يناير 1688) "، وهنا أوضح المؤلف فارقاً بيناً صغيراً. وفي الشعر والفن لم يكن ثمة تقدم ملموس، لأن هذين يعتمدان على الشعور والخيال اللذين لا يكادان يتغيران من جيل إلى جيل. أما من حيث العلوم والمعرفة والثقافة التي تعتمد على تراكم المعرفة تراكماً بطيئاً، فقد نتوقع التفوق على القدماء. وذهب فونتنيل إلى أن كل أمة تمر بمراحل، مثل الفرد، ففي عهد الطفولة تعكف على مواجهة حاجياتها المادية، وفي شبابها تضيف الخيال والشعر والفن، أما في مرحلة النضج فإنها قد تدرك العلوم والفلسفة (54). وقال فونتينل بأنه رأى الحقائق تبرز وتنمو من خلال عملية التخلص التدريجي من الأفكار الخاطئة. "نحن مدينون للقدامى لأنهم لم يبقوا على شيء من النظريات الزائفة التي كان يمكن تكوينها، تقريباً"-أي أن ننسى أن بكل حقيقة عدداً لا يحصى من الأخطاء الممكنة. ورأى أن ديكارت قد وفق إلى طريقة جديدة أفضل للتفكير والاستنتاج-الطريقة الرياضية، وتمنى للعلم الآن أن يتقدم بخطوات سريعة.
حين نرى التقدم الذي أحرزته العلوم في المائة عام الأخيرة، على الرغم من الأهواء والعقبات وقلة عدد الأفراد العلميين، فقد يغرينا هذا إلى حد كبير بأن نؤمل كثيراً في المستقبل، ولسوف نرى علوماً جديدة تنبع من لا شيء، على حين أن ما عندنا منها لا يزال في المهد (55).
وهكذا صاغ فونتنيل نظرية التقدم "تقدم الأشياء" وتصور، مثل كوندرسيه، أنه ليس لهذا التقدم حدود معينة يقف عندها في المستقبل، وهنا كان "بلوغ البشر حد الكمال بلا حدود". لقد وضعت النظرية القديمة قدمها على الطريق تماماً، وسارت بخطى ثابتة طيلة القرن الثامن عشر لتصبح أداة من أصلح أدوات الفكر الحديث.
وأنا لنجد، في تلك الأثناء، أن فونتنيل الذي كان خياله الرائع
يسبح محاذراً غاية الحذر، قد بات قاب قوسين أو أدنى من سجن الباستيل. ذلك أنه حوالي 1685 نشر رسالة مختصرة "علاقة جزيرة بورنيو"، وهي رحلة وهمية، صورها الكاتب في صورة واقعية (استبق به شبيهاتها عند ديفو وسويفت) إلى حد أن بيل طبعها في "الأخبار" على أنها تاريخ فعلى. ولكن الصراع الذي وصفته هذه الرسالة بين أنيجو ومريو كان هجاء سافراً للصراع الديني بين جنيف وروما. ولما اطلعت السلطات الفرنسية على الجناس التصحيفي (تغيير ترتيب الحروف في الكلمة) بدا أن اعتقال فونتنيل أمر لا مفر منه، لأن الملاحظة الساخرة بدت وكأنها تنطبق على إلغاء مرسوم نانت تماماً. فأسرع في نشر قصيدة يمتدح فيها "انتصار الدين في عهد لويس العظيم". وقبل اعتذاره. ومن تلك اللحظة حرص فونتنيل على أن تكون فلسفته غامضة يصعب على الحكومات إدراك مراميها.
وعاد إلى العلوم، وجعل من نفسه مبشراً بها في المجتمع الفرنسي. وكان شديد الكلف بالدعة والراحة، فلم يعكف بطريق مباشر على التجارب والأبحاث، ولكنه وعي العلوم وعياً حسناً، فقدمها لجمهور مستمعيه المتزايد، في جرعات صغيرة مغلفة بفن الأدب. ورغبة منه في تقريب فلك كوبرنيكس إلى الأذهان وجعله في متناول الناس، ألف "محادثات في تعدد العوالم"(1686). وعلى الرغم من أن مائة وثلاثة وأربعين عاماً كانت قد انقضت على ظهور كتاب كوبرنيكس فإن قلة من الناس في فرنسا، حتى بين المتخرجين في الجامعات، كانت قد قبلت نظرية أن الشمس هي مركز العالم، وأدانت الكنيسة جاليليو لأنه اعتبر أمراً مفروغاً منه أن هذه الفرضية حقيقية، وما يجرؤ ديكارت على نشر رسالته "العالم" التي اعتبر فيها أن نظرية كوبرنيكس قضية مسلم بها.
وتناول فونتنيل الموضوع في كياسة تبعد عن النقمة، فتصور أنه يناقشه مع مركيزة مليحة يتحرك شكلها-غير مرئي ولكنه محسوس-أثناء الحوار بصورة مغرية فاتنة، لأن الجمال إذا اتخذ لقب البطولة أمكنه أن يكسف النجوم. وكانت "المحادثات" الست أمسيات. وكان المشهد في حديقة قصر المركيزة بالقرب من روان. وكان الهدف من ذلك هو أن يفهم الناس في فرنسا-أو على الأقل سيدات المجتمع-حركة
الأرض وتعاقب دوراتها، ونظرية ديكارت في الدوامات. وزيادة في الإغراء أثار فونتنيل مسألة أخرى: هل القمر وسائر الكواكب مسكونة؟. وكان ميالاً إلى أن يعتقد هذا. ولكنه تذكر أن بعض القراء قد تزعجهم فكرة أن في العالم نساء ورجالاً لم ينحدروا من آدم وحواء، ومن ثم أوضح في حزم ولباقة أن سكان القمر والكواكب لم يكونوا بشراً حقيقيين. ومهما يكن من أمر فإنه أوحى بأنه قد يكون لهم حواس أخرى، ربما كانت أدق من حواسنا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم قد يرون الأشياء مختلفة عما نراها نحن، فهلا تكون الحقيقة عندئذ نسبية؟. وقد يقلب هذا كل شيء رأساً على عقب، حتى أكثر مما فعل كوبرنيكس. وأنقذ فونتنيل الموقف بالإشارة إلى جمال الكون ونظامه، مقارناً إياه بساعة، مستدلاً بميكانيكية الكون على صانع بارع ذي ذكاء خارق.
ولما كانت الرغبة في التعليم من أقوى الرغبات فينا، فإن فونتنيل عاود المخاطرة بالاقتراب من الباستيل بإصداره في ديسمبر 1688 رسالة غفلاً من اسم المؤلف، هي أجرأ رسائله الصغيرة تحت عنوان "تاريخ الوحي". واعترف بأنه اقتبس مادتها من كتاب "الوحي" الذي ألفه أحد الباحثين الهولنديين، فان وايل، ولكنه حورها بأسلوبه الواضح الرشيق. وقال أحد القراء:"أنه يتملقنا لمعرفة الحقيقة" وهكذا قارن الرياضيين بالعاشقين. "ضع أمام الرياضي أقل قاعدة أو مبدأ، ولسوف يستنتج منه نتيجة، ويجدر بك أن تسلم له بها، ومن هذه النتيجة أخرى وهكذا .... (56). إن رجال اللاهوت كانوا قد قبلوا بعض الوحي الوثني باعتباره صحيحاً صادقاً، ولكنهم كانوا قد نسوا دقته المعارضة إلى أحياء شيطاني، واعتبروا برهانهم على قدسية أصل الكنيسة، أن هذا الوحي انقطع منذ مجيء السيد المسيح، ولكن فونتنيل أوضح أن الوحي استمر حتى القرن الخامس الميلادي. وبرأ الشيطان من أنه صانعه، فالإيحاءات كانت حيلاً من الكهنة الوثنيين الذين تحركوا في المعابد ليأتوا بمعجزات ظاهرة، أو ليستولوا على الطعام المقدم من العابدين للآلهة. وادعى أنه ما تحدث إلا عن الوحي الوثني، وأنه استثنى صراحة الوحي والكهنة المسيحيين من هذا التحليل. ولم يكن هذا المقال ومقال "أصل الأساطير" مجرد ضربتين إيذاناً بعصر الاستنارة، بل كانتا كذلك، مثلين لمدخل جديد إلى المسائل اللاهوتية-
تفسير للمنابع البشرية للمعتقدات الدينية، وبهذا يضفي الحالة الطبيعية على كل ما هو خارق للطبيعة.
وكان "تاريخ الوحي" آخر العمليات التي استنزفت حيوية فونتنيل. وفي 1691 انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية برغم معارضة راسين وبوالو. وفي 1697 أصبح، وبقي لمدة اثنين وأربعين عاماً، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم. وكتب تاريخها، وأطنب في امتداح من فارقوا الحياة من الأعضاء. وهذا يشكل سجلاً وعرضاً وضاءين للعلوم في فرنسا لمدة نصف قرن تقريباً. وبمثل هذه الجلسات العلمية استطاع فونتنيل أن ينفذ-بمثل القدر من الغبطة والسرور إلى الصالونات-صالون مدام دالمبرت أولاً، ومدام دي تنسين، ثم مدام دي جيوفرين. وكان موضع الترحيب، لا لمجرد شهرته باعتباره كاتباً، بل لأن روح الكياسة واللطف والمجاملة لم تفتر فيه قط. أنه مزج الحقيقة بالتعقل، واستنكف أن يعكر جو المناقشة بالخلافات، ولم يكن ذكاؤه لاذعاً. "لم يكن في عصره من هو أكثر منه تفتحاً في الذهن أو تجرداً من الحقد والضغينة والتحيز (57) " واتهمته في حمق مدام دي تنسين، التي كانت سريعة الانفعال والغضب، بأن له مخاً آخر لا بد أنه كان يحتفظ فيه بقلبه (58). ولم يستطع الشباب قتلة الآلهة الذين كانوا يتكاثرون حوله أن يفهموا اعتداله أكثر مما استساغ هو تعصبهم وعنفهم. "أني لتزعجني الحقائق التي تسيطر من حولي (59) ". ولم ير شراً محضاً في ضعف سمعه حين تقدمت به السنون.
وظاهر أنه في نحو الخمسين من العمر اعتزم ألا يقدم بعد ذلك إلا خدمات أفلاطونية للسيدات، ولكن كياسته لن تتداع. وعندما قدموه إلى سيدة جميلة، وهو في سن التسعين، قال:"آه: لو أني الآن في الثمانين فقط! (60) " وفي سن التاسعة والثمانين تقريباً افتتح حفل عام جديد بالرقص مع ابنة هلفيشيوسي البالغة من العمر عاماً ونصف العام (61). ولما قالت مدام جريموذ متعجبة، وكانت في مثل سنه تقريباً "حسناً. ها نحن كلانا حي يرزق" وضع إصبعه على شفتيه وهمس "صه يا سيدتي، إن الموت قد نسينا (62) ".
ولكن الموت عثر عليه أخيراً في 9 يناير 1757، واختطفه في سكون، ولم يكن قد مرض إلا يوماً واحداً. وأوضح لأصحابه أنه كان
"يعاني من وجوده" وربما كان قد أحس بأنه قد بلغ من العمر أرذله. وبقي له ثلاثة وثلاثون يوماً ليتم من العمر قرناً كاملاً. لقد كان مولده قبل أن يتسلم لويس الرابع عشر دفة الحكم، وشب وسط انتصارات بوسويه، وإلغاء مرسوم نانت واضطهاد البروتستانت. وعاش ليرى "دائرة المعارف"، وليستمع فولتير وهو يدعو الفلاسفة لشن الحرب على الموبقات.
الفصل الثاني والعشرون
سبينوزا
1632 - 1677
1 -
الهرطيق الصغير
إن هذه الشخصية الغريبة المحببة التي بذلت في التاريخ الحديث أجرأ محاولة للعثور على فلسفة يمكن أن تحل محل عقيدة دينية ذائعة، ولدت في أمستردام في 24 نوفمبر 1632. ويمكن تتبع أسلافه إلى مدينة سبينوزا بالقرب من برجوس في مقاطعة ليون الأسبانية. وكانوا يهوداً، ثم ارتدوا إلى المسيحية فكان منهم العلماء والقساوسة، وكان منهم كاردينال دييجو، كبير المحققين يوماً (1). وهاجر جزء من الأسرة إلى البرتغال، والمفروض أنهم لجئوا إلى الهجرة هرباً من محاكم التفتيش الأسبانية. وبعد فترة من الإقامة هناك في فيديجويرا بالقرب من باجه، انتقل جد الفيلسوف ووالده إلى نانت في فرنسا. ومنها في 1593 إلى أمستردام، كانا من أوائل اليهود الذين استوطنوا هذه المدينة، تلهفاً على التمتع بالحرية الدينية التي كفلها "اتحاد أوترخت" في 1579. وما جاءت سنة 1628 حتى أعتبر الجد زعيم الجالية الصفردية "اليهودية" في أمستردام، وكان الوالد في فترات مختلفة ناظراً للمدرسة اليهودية، ورئيساً لصندوق الصدقات المنتظمة للجالية اليهودية البرتغالية. وقدمت الأم: حنه ديبورا دي سبينوزا من لشبونه إلى أمستردام. وماتت عندما كان ابنها باروخ في السادسة من عمره. وأورثته السل. وتولى تربيته والده زوجة ثالثة. ولما كانت لفظة باروخ تعنى في العبرية "المبارك" فقد سمي الصبي فيما بعد "بندكت" في الوثائق الرسمية اللاتينية.
وفي مدرسة الجالية اليهودية تلقى باروخ التعليم الديني المألوف المبنى على التوراة والتلمود، كما تلقى بعض الدراسات للفلاسفة الحبرانيين وعلى الأخص إبراهام بن عزرا، وموسى بن ميمون وهاسداي
كرسا، وربما كان إلى جانب هذا بعض إطلاع يسير على "القبالة" وكان من بين أساتذته من ذوي المكانة العالية والمقدرة في الجالية: شاءول مورتيرا، ومنشه بن إسرائيل. وتلقى باروخ، بالإسبانية خارج المدرسة، قدراً لا بأس به من العلوم الدنيوية، لأن والده رغب أن يعده ليكون رجل أعمال. وبالإضافة إلى اللغتين الإسبانية والعبرية تعلم البرتغالية والهولندية واللاتينية مع قدر يسير من الإيطالية والفرنسية فيما بعد. ونما في نفسه ولع بالرياضيات. وجعل الهندسة المثل الأعلى لمنهجه الفلسفي والفكري.
وكان طبيعياً أن شاباً بمثل هذا الذهن المتوقد بشكل فذ أن يثير بعض المشاكل حول النظريات والمبادئ التي تلقاها في المدرسة اليهودية، بل أنه ربما سمع في تلك المدرسة عن هرطقات عبرية. وكان ابن عزرا قد أشار منذ أمد طويل إلى الصعاب التي تنطوي عليها نسبة الأجزاء المتأخرة من أسفار موسى الخمسة إليه. وكان أتباع ابن ميمون قد اقترحوا تفسيراً مجازياً لغير هذه الأجزاء من الكتاب المقدس (2). وأثاروا شيئاً من الشكوك حول الخلود الشخصي (3)، وحول الخلق باعتباره مناقضاً لأزلية العالم (4). وكان كريسكاسي قد نسب الامتداد إلى الله، واستنكر كل المحاولات التي قامت لتثبت بالعقل حرية الإرادة وبقاء الروح بعد الموت، بل حتى وجود الله. وبالإضافة إلى هؤلاء اليهود التقليديين إلى حد كبير، لا بد أن سبينوزا قرأ ليفي بن جيرسون الذي كان قد هبط بمعجزات الكتاب المقدس إلى مجرد أسباب طبيعية، وأخضع الإيمان للعقل قائلاً "أن التوراة لا يمكن أن تحول دون أن نعتبر حقاً كل ما يستحثنا عقلنا على أن نؤمن به أو نصدقه (5) " وحديثاً جداً في جالية أمستردام اليهودية هذه، كان أوريل أكوستا قد تحدى الاعتقاد في الخلود، فحز في نفسه إصدار حكم الحرمان عقاباً له وأطلق النار على نفسه (1647). ولا بد أن الذكرى الغامضة لهذه المأساة زادت من حدة الثورة التي تعتمل في ذهن سبينوزا حين أحس بأن لاهوت عشيرته وأسرته العتيد يفلت منه.
ومات أبوه في 1654. وطالبت أخت له بكل الضيعة والثروة، فقاضاها سبينوزا أمام المحكمة وكسب القضية، ثم عاد ونزل لها عن كل التركة إلا سريراً واحداً. واعتمد الآن على نفسه فكسب عيشه بالاشتغال
بشحذ العدسات وصقلها من أجل النظارات والمجهر والمقراب. وبالإضافة إلى القيام بتعليم بعض تلاميذ خصوصيين اشتغل بالتدريس في مدرسة فرانس فان دن اند اللاتينية، وهو يسوعي سابق، حر التفكير كاتب روائي ثائر
(1)
. وهناك أتقن سبينوزا اللاتينية، وربما حفزه فان دن اند إلى كراسة ديكارت وبيكون وهوبز، وربما أطلع الآن على "المجموعة اللاهوتية" لتوما الأكويني. ويبدو أنه وقع في غرام مع ابنة الناظر التي آثرت خطيباً أكثر ثراء، ومبلغ علمنا أن سبينوزا لم يخط خطوة أخرى نحو الزواج.
وكان في تلك الأثناء قد بدأ بفقد إيمانه. ويحتمل أنه قبل سن العشرين، وبكل الألم والذعر اللذين تجلبهما التغيرات في مثل هذه السن إلى الأرواح المرهفة الحس، كان قد قامر ببعض الأفكار المثيرة-أن المادة قد تكون جسم الله، وقد تكون الملائكة أوهام الخيال، وأن الكتاب المقدس لم يذكر شيئاً عن الخلود، وأن النفس متماثلة مع الحياة (7). وربما احتفظ بهذه الهرطقات المغرورة لنفسه لو أن أباه بقي على قيد الحياة، بل ربما التزم الصمت حتى بعد موت أبيه، لولا أن بعض أصدقائه أزعجوه بالأسئلة، وبعد كثير من التردد اعترف لهم باهتزازات عقيدته وإيمانه، فوشوا به إلى الكنيس.
وينبغي ألا يغيب عن الأذهان ما كثرت الإشارة إليه من أن زعماء الجالية اليهودية في أمستردام كانوا يجدون حرجاً في معالجة الهرطقات التي تهاجم أساسيات المسيحية واليهودية على حد سواء. أن اليهود في الجمهورية الهولندية نعموا بتسامح ديني أنكرته عليهم سائر الأقطار المسيحية، ولكن كان من الميسور حرمانهم منه، إذا تسامحوا فيما بينهم في أفكار تزعزع الأساس الديني للأخلاق والنظام الاجتماعي .. وطبقاً لما جاء في سيرة حيان سبينوزا التي كتبها في السنة التي مات فيها أحد اللاجئين الفرنسيين في هولندا، وهو جين مكسميليان لوكاس، وأضاف الطلبة الذي أبلغوا عن شكوك باروخ-أضافوا كذباً وبهتاناً اتهامه بأنه أبدى احتقاره للشعب اليهودي لاعتقاده بأنه شعب الله المختار بصفة خاصة وأن الله هو مؤلف شريعة موسى (8). ولسنا ندري إلى أي حد
(1)
عمل فان دن اند أخيراً جاسوساً خاصاً للهولنديين في باريس، وقبضت عليه الحكومة الفرنسية وأعدم شنقاً (1676)(6).
يمكن تصديق هذا الكلام. وعلى أية حال، فلا بد أن زعماء اليهود كرهوا أي تمزق في العقيدة التي كانت في ذروة القوة كما كانت معيناً لا ينضب من العزاء والسلوى لليهود طوال قرون الشقاء المرير.
واستدعى الأحبار سبينوزا وسلقوه بألسنة حداد لأنه خيب الآمال الكبار التي كان معلموه قد عقدوها على مستقبله في الجالية اليهودية وكان أحد هؤلاء المعلمين، وهو مشنه بن إسرائيل، متغيباً في لندن. أما المعلم الآخر، وهو شاءول مورتيرا، فقد توسل إلى الشاب أن يتخلى عن هرطقاته. وإنصافاً للأحبار، يجدر بنا أن نذكر أن لوكاس، برغم تعاطفه الشديد مع سبينوزا يسجل أنه عندما استرجع مورتيرا ذكرى العناية الفائقة التي أولاها تلميذه الأثير لديه في تعليمه اللغة العبرية، "رد باروخ بأنه يسعده الآن، مقابل ما بذله معلمه مورتيرا من جهد، أن يعلمه كيف يصدر قرار الحرم (الحرمان الديني) (9) " ويبدو هذا منافياً إلى أبعد حد لما نسمع عن طباع سبينوزا، ولكن ينبغي ألا نترك لعواطفنا اختيار الدليل، (وخلافاً لما قال شيشرون) يندر أن يكون ثمة شيء بالغ غاية الحمق إلا أمكنك أن تجده في حياة الفلاسفة.
وقيل أن زعماء الكنيس عرضوا على سبينوزا معاشاً سنوياً قدره ألف جولدن إذا هو وعد ألا يتخذ خطوة عدائية ضد اليهودية، وحضر إلى الكنيس من وقت لآخر (10)، ويبدو أن الأحبار أصدروا ضده في بداية الأمر قرار "الحرم الأصغر" فقط، وهو مجرد حرمانه من الاتصال بالجالية اليهودية لمدة ثلاثين يوماً فقط (11). وقيل أنه قبل هذا الحكم عن طيب خاطر قائلاً "حسناً، إنهم أرغموني على ألا أفعل شيئاً ما كنت لأفعله بمحض إرادتي (12) "، وربما كان بالفعل يعيش آنذاك خارج الحي اليهودي بالمدينة. وحاول أحد المتعصبين أن يقتله، ولكن السلاح لم يصب إلا سترته. وفي 24 يوليه 1656 أعلنت السلطات الدينية والمدنية في الجالية اليهودية من فوق منبر الكنيس البرتغالي، في مهابة وكآبة، "الحرم التام" لباروخ سبينوزا، بما يقترن بذلك من اللعنات والمحظورات المعتادة: ألا يتحدث إليه أحد ولا يكتب إليه، ولا يؤدى له أية خدمة، ولا يقرأ كتاباته، أو يقترب منه على مسافة أربعة أذرع (13). وقصد مورتيرا إلى السلطات الرسمية في أمستردام، وأبلغها بالاتهامات وقرار الحكم، وطلب إليها طرد سبينوزا من المدينة،
فأصدرت حكمها بنفي سبينوزا لبضعة أشهر (14)، فذهب إلى قرية أودركيرك القريبة، ولكنه سرعان ما عاد إلى أمستردام.
وأكسبته معرفته باللاتينية عدة صداقات في دائرة محدودة من الطلبة تزعمهم لودفيك ميير وسيمون دي فريس، وكان ميير حاصلاً على درجات جامعية في الفلسفة والطب، ونشر في 1666 "فلسفة تفسير الأسفار المقدسة". وفيه أخضع الكتاب المقدس للعقل. وربما عكس هذا الكتاب آراء سبينوزا-أو أثر عليها. أما دي فريس فكان تاجراً ثرياً ناجحاَ، شديد الولع بسبينوزا إلى حد أنه رغب في منحه ألفي فلورين ولكن الفيلسوف أبى. فلما أحس التاجر بدنو الأجل (1667) وكان غير متزوج، فإنه عرض أن يكون سبينوزا وريثاً، ولكنه أقنعه بأن يترك كل ثروته لأخ له. وقدم الأخ الشكور المعترف بجميل سبينوزا منحة سنوية قدرها 500 فلورين، ولكن سبينوزا اكتفى بثلاثمائة (15). وكتب صديق آخر من أمستردام، هو جوهان بوفميستر إليه "أحبني لأني أحبك من كل قلبي" (16). وإلى جانب الفلسفة كانت الصداقة هي الأساس الرئيسي في دعم حياة سبينوزا. وكتب في إحدى رسائله: -
من بين كل الأشياء التي فوق طاقتي لا أقدر شيئاً أكثر من تقديري لأن يكون لي شرف عقد أواصر الصداقة مع أناس يحبون الحقيقة في إخلاص، فإنه من بين الأشياء التي فوق طاقتنا، ليس في العالم شيء يمكن أن نحبه في هدوء إلا مثل هؤلاء الرجال (17).
ولم يكن سبينوزا منعزلاً متقشفاً زاهداً كل العزلة والتقشف والزهد، بل أنه استحسن "جيد الطعام والشراب، والتمتع بالجمال وتربية الأزهار والاستماع إلى الموسيقى والتردد على المسرح (18) " وفي إحدى هذه الزيارات كانت محاولة قتله. وكان عليه أن يظل يخشى اغتياله. ونقشت على خاتمه كلمة واحدة "حذار 19" ولكنه أحب، أكثر كثيراً من تلك المتع والتسلية، بل حتى أكثر من الصداقات، أحب العزلة والدراسة وهدوء الحياة البسيطة. ويقول بيل:"إن زيارات أصدقائه له كانت تفسد عليه تأملاته كثيراً (20) ". ومن أجل هجر أمستردام ليقيم في قرية هادئة "وينزبرج"- (مدينة على الراين) -
على مسافة ستة أميال من ليدن. واتخذت شيعة من أتباع ابن ميمون (وهي تشبه الكويكرز) مقراً لها في تلك القرية. ولقي سبينوزا ترحيباً بين إحدى أسرات هذه الجماعة.
وفي هذا المنزل المتواضع، الذي يحتفظون به الآن باعتباره "متحف سبينوزا" كتب الفيلسوف عدة رسائل صغيرة والجزء الأول من "الأخلاق". وفي 1622 كتب "رسالة موجزة عن الله والإنسان وسعادته:، ولكنها كانت إلى حد كبير انعكاساً لديكارت. والأكثر منها إمتاعاً وتشويقاً رسالته عن "إصلاح العقل" التي طرحت جانباً دون إتمامها في تلك السنة نفسها. وأنا لنجد في صفحاتها الأربعين عرضاً مسبقاً لفلسفة سبينوزا. وأنا لنحس من أول عبارة فيها وحشة الرجل المنبوذ من المجتمع.
بعد أن علمتني التجربة أن كل الأشياء التي يكثر وقوعها في الحياة العادية عقيمة غير ذات جدوى، وحين رأيت أن كل الأشياء التي كنت أخشاها، والتي خوفتني، ليس فيها في حد ذاتها شيء حسن أو سيئ إلا بقدر ما يتأثر الذهن بها، فإني اعتزمت آخر الأمر أن أتحرى هل يمكن أن يوجد شيء حسن حقاً، وقادر على أن ينقل حسنه وخيره، ويمكن أن يتأثر به الذهن إلى حد استبعاد سائر الأشياء.
وأحس سبينوزا بأنه لا الثراء ولا الشهرة ولا الملذات الجسمية يمكن أن تفعل هذا، وغالباً ما يختلط الاهتياج والأسى بهذه المباهج"، وليس إلا حب شيء خالد لا متناه هو الذي يغذي الذهن باللذة والمتعة .... مجردة من كل ألم (21)، وربما أمكن أن يكتب هذا بقلم توماس كمبيس أو جاكوب يوم، والحق إنه بقي دائماً في سبينوزا إثارة أو حالة من التصوف ربما جاءته من القبالة، والآن غذتها عزلته وزادتها قوة، أن الخير الخالد اللامتناهي "في ذهنه يمكن أن يسمى "الله" ولكن فقط في تعريف سبينوزا الأخير للإله باعتباره ذا طبيعة لها قدرتها الخلاقة وقوانينها. ويقول كتاب "إصلاح العقل": "الخير الأعظم هو معرفة اتحاد الذهن مع الطبيعة بأسرها
…
وكلما زاد الذهن فهماً لنظام الطبيعة، ازدادت قدرته على التحرر من الأشياء العقيمة غير المجدية (22)". وهنا نجد أول التعبير لسبينوزا عن "الحب العقلي لله"-التوفيق بين الفرد وبين طبيعة الأشياء وقوانين الكون.
وهذه الرسالة البليغة الموجزة تبين كذلك هدف تفكير سبينوزا وفهمه للعلم والفلسفة"، بودي أن أوجه كل العلوم إلى وجهة واحدة أو غاية واحدة بالذات، الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الكمال الإنساني، ومن ثم ينبغي نبذ أي شيء في العلوم بلا يسعى لهذه الغاية، باعتباره عقيماً غير مجد (23) ". وهنا نجد اتجاهاً مختلفاً كل الاختلاف عما سمعنا من فرانسيس بيكون، أن تقدم العلوم يكون وهماً وخداعاً إذا أدت إلى مجرد زيادة سيطرة الإنسان على الأشياء، دون تحسين أخلاقه ورغباته. وهذا هو السبب في تسمية "تحفة" الفلسفة الحديثة "بالأخلاق" على الرغم من مقدمتها الميتافيزقية الطويلة، وأن كثيراً منها سوف يحلل استرقاق رغبات الإنسان له، ونحرره عن طريق العقل.
2 - اللاهوت والسياسة
ترامى إلى أسماع الطلبة الشبان الذين تركهم سبينوزا وراءه في أمستردام، أنه كان قد شرع، من أجل تلميذ في راينزبرج، في ترجمة هندسية لكتاب ديكارت "المبادئ الفلسفية". وألحوا عليه في إكمالها وإرسالها إليهم، ففعل، ودفعوا هم نفقات طبعها (1663) بعنوان "عرض المبادئ الفلسفية لديكارت على أساس هندسي". ويهمنا أن نذكر عنها ثلاث نقاط: أنها عبرت عن آراء ديكارت (في الإرادة الحرة مثلاً) لا عن آراء سبينوزا، وأنها الكتاب الوحيد الذي طبع في حياة سبينوزا حاملاً اسمه. وأنه في جزء ملحق بها "تفكير ميتافيزيقي"، قال سبينوزا بأن الزمن ليس حقيقة موضوعية بل طريقة تفكير (24)، وهذا واحد من عناصر "كانت" في فلسفة سبينوزا.
وكسب سبينوزا في راينزبرج أصدقاء جدد، فقد تعرف عليه هناك عالم التشريح العظيم ستينو. وكان هنري أولدنبرج عضو
الجمعية الملكية قاصداً إلى ليدن 1661، فحاد عن طريقه المرسوم ليزور سبينوزا، وكان لذلك وقع شديد في نفسه، ولدى عودته إلى لندن بدأت مراسلات طويلة بينه وبين الفيلسوف الذي لم تكن مؤلفاته قد طبعت بعد، بيد أنه كان ذا شهرة واسعة. وثمة صديق آخر من رايزنبرج أورليان كورباج، استدعي للمثول أمام إحدى محاكم أمستردام (1668) بتهمة دأبه على معارضة اللاهوت السائد، وسعى أحد القضاة إلى توريط سبينوزا في القضية باعتباره مصدر هرطقة كورباج، ولكن هذا أنكر أية علاقة لسبينوزا بالأمر، فأنقذ الفيلسوف. ولكن حكم على المهرطق الشاب بالسجن عشر سنين، حيث قضى نحبه بعد أن أمضى فيه خمسة عشر شهراً. ومن هنا ندرك لماذا لم يتعجل سبينوزا طبع مؤلفاته.
وفي يونيه 1663 انتقل إلى فوربورج قرب لاهاي. وأقام لمدة ستة أعوام في بيت أحد الفنانين يصقل العدسات، ويؤلف "الأخلاق". وكانت المقاطعات المتحدة في حرب دفاعية مستميتة ضد لويس الرابع عشر، وقد أزعج هذا الحكومة الهولندية ودعاها إلى فرض قيود أشد صرامة على حرية التعبير عن الآراء. ومع ذلك نشر سبينوزا في 1670، دون أن يفصح عن اسمه "رسالة اللاهوت والسياسة" أصبحت حدثاً أو معلماً هاماً من معالم نقد الأسفار المقدسة. وأوضحت صحيفة العنوان في رسالة اللاهوت والسياسة "الغرض منها": وهو إيضاح أنه يمكن منح حرية الفكر والكلام دون تحيز للدين والسلام العام، كما أنه يمكن كذلك عدم كبت هذه الحرية دون تعريض الدين والسلام العام للخطر". وتنصل سبينوزا من الإلحاد وأنكره، وأيد أساسيات العقيدة الدينية. ولكنه أخذ على عاتقه إظهار قابلية الإنسان للخطأ في هذه الأسفار المقدسة، وهي ما بنى عليه رجال الدين الكلفنيون لاهوتهم تعصبهم، وكان رجال الدين في هولندا يستخدمون نفوذهم ونصوص الكتب المقدسة لمناهضة الجماعة التي تزعمها "دي ويت" والتي أيدت الفكر المتحرر ومفاوضات السلام، وكان سبينوزا مخلصاً أشد الإخلاص لهذه الجماعة ولجان دي ويت:
مذ رأيت الخلافات الحادة التي نشبت بين الفلاسفة في الكنيسة والدولة، وهي مصدر الكراهية المريرة والانشقاق
…
فإني اعتزمت أن أتناول بالبحث من جديد، الكتاب المقدس، بدقة وروح غير متحيزة، طليقة غير مقيدة، دون أن أضع افتراضات أو نظريات لا أرى بوضوح أنها موجودة فيه. ومع هذه الاحتياطات وضعت طريقة لتفسير الأسفار المقدسة (26).
إن سبينوزا تنبه إلى صعوبة فهم لغة العهد القديم العبرية وضرب لذلك أمثلة، فإن النص المازوري-الذي زود بالحروف اللينة وحركات النطق التي أهملها ناسخو التوراة الأصليون كان حدساً وتخميناً إلى حد ما، ولا يكاد يوفر نموذجاً أصلياً موثوقاً لا يقبل الجدل، واستفاد في الفصول الأولى من هذه الرسالة كثيراً من رسالة ابن ميمون "دليل الحيران". وحذا حذو إبراهام بن عزرا وآخرين في الارتياب في تأليف موسى للأسفار الخمسة الأولى. وأنكر أن يشوع هو الذي ألف سفر يشوع، ونسب الأجزاء التاريخية في العهد القديم إلى القسيس الكاتب عزرا في القرن الخامس قبل الميلاد. أما سفر أيوب فقد ذهب إلى أنه من عمل الأمميين (الكفار) ثم ترجم إلى العبرية. ولم تلق كل هذه النتائج قبولاً لدى الباحثين المتأخرين، ولكنها كانت خطوة جريئة نحو التعرف على ريتشارد سيمون 1678 تحت عنوان "نقد العهد القديم". وأوضح سبينوزا أنه في حالات كثيرة، تكررت نفس القصة أو القطعة في مواضع مختلفة من الكتاب المقدس، بنفس الألفاظ أو في روايات محرفة، توحي إحداها بالاقتباس العادي من مخطوطة قديمة، وتثير أخرى التساؤل عن بيان "كلمة الله (27) " وكانت هناك استحالات وتناقضات من حيث التوقيت الزمني، وفي رسالة بولس الرسول إلى الرومان (3: 20 - 28) لقنهم أن خلاص الإنسان يمكن أن يكون بالإيمان وحده لا بالعمل، ولكن رسالة بولس جيمس (2: 24) أوردت نقيض هذا على خط مستقيم، فأيهما تتفق مع "كلمة الله وتوجيهه"؟ وأشار الفيلسوف إلى أن مثل هذه النصوص المتباينة قد خلقت بين رجال اللاهوت صراعات مريرة أشد المرارة، بل دامية، بدلاً من السلوك القويم الذي يحث عليه الدين.
وهل أنبياء العهد القديم صوت الله؟. واضح أنهم لم يتفوقوا
من حيث المعرفة على الطبقات المثقفة في زمانهم، فإن يشوع، على سبيل المثال، كان يسلم تسليماً جازماً بأن الشمس، حتى "أوقفها" يشوع، كانت تدور حول الأرض (28). ولم يتفق هؤلاء الأنبياء في العلم، بل برزوا في قوة الخيال والحماسة والغيرة والشعور، كانوا شعراء وخطباء عظاماً. ومن الجائز أن الوحي نزل عليهم من عند الله وإذا كان الأمر كذلكـ فإن عملية الوحي قد تكون تمت بطريقة اعترف سبينوزا بعجزه عن إدراكها (29). وربما حلموا بأنهم رأوا الله، وربما اعتقدوا في صحة أحلامهم. فإنا نقرأ "أبيمالك" أن الله جاء إليه في حلم الليل" سفر التكوين 20: 6). إن العنصر الإلهي في الأنبياء ليس نبوءاتهم، بل حياتهم الفاضلة، والفكرة الرئيسية في عظاتهم هي أن الدين يكمن في السلوك القويم، لا في الطقوس المرهقة.
وهل كانت المعجزات التي دونت في الكتاب المقدس اضطرابات حقيقية في مجرى الطبيعة العادي؟ وهل أدت خطايا البشر إلى الحريق والفيضان؟ وهل أتت صلواتهم ودعواتهم بخصوبة الأرض؟ ذهب سبينوزا إلى أن مثل هذه القصص استخدمها مؤلفو الأسفار المقدسة لينفذوا إلى أفهام البسطاء من النسا ويحثوهم على الفضيلة والتقوى، ويجدر بنا ألا نأخذها بحروفها:
ومن ثم، فإننا، حين يقول الكتاب المقدس بأن الأرض مجدبة بسبب خطايا البشر، أو أن الإيمان يبرئ الأعمى، يجدر بنا ألا نعير هذا التفاتاً أكثر من التفاتنا إلى قوله، أي الكتاب المقدس، بأن الرب غاضب على خطايا البشر. وأنه حزين وأنه نادم على وعد أو فعل من خير، أو أنه عند رؤية علامة يتذكر شيئاً كان قد وعد به، فإن هذه التعبيرات وأضرابها أما أنها ألقيت إلقاءً شاعرياً، أي من قبيل خيال الشعراء، أو رويت وفقاً لآراء الكتاب وأهوائهم. وينبغي أن نكون على يقين، كل اليقين من أن كل شيء وصفته الأسفار المقدسة وصفاً صادقاً حقيقياً، حدث حتماً-مثل سائر الأشياء-وفقاً للقانون الطبيعي، وأن شيئاً دون فيها مما يمكن إثباته على أسس موضوعة تتنافى مع نظام الطبيعة أو يتعذر استنتاجه منها، فإنه يجدر بنا أن نؤمن
بأنه مدسوس إلى الأسفار المقدسة عن طريق أيد مارقة عن الدين. فإن أي شيء مناقض للطبيعة مناقض للعقل، وأي شيء مناف للعقل سخيف مضحك (30).
وربما كان هذا أصرح إعلان لاستقلال العقل وضعه فيلسوف حديث بعد. وبقدر ما حاز هذا الإعلان قبولاً، فإنه انطوى على ثورة ذات معنى ونتائج أعمق من كل حروب ذاك العصر وسياسته.
بأي معنى إذن يكون الكتاب المقدس "كلمة الله؟ ". وبهذا المعنى وحده، وهو أنه يحتوي على قانون أخلاقي يربط الناس بالفضيلة. إنه يحتوي كذلك على أشياء كثيرة أدت إلى نزعة شديدة إلى الشر في الإنسان-أو هيأت لها، وبالنسبة للكثرة الكثيرة من الناس المرهقين إلى حد كبير بمشاغلهم اليومية إلى درجة أنهم لا يجدون فراغاً أو قدرة على تنمية عقولهم، يمكن أن تكون قصص الكتاب المقدس خير عون لهم على التمسك بالأخلاق الفاضلة. ولكن التعليم الديني يجب أن يتركز على السلوك لا على العقيدة. ويكفي أن تقتصر العقيدة على الإيمان "بوجود الله، كائن أسمى يحب العدل والإحسان"، وخير عبادة له هي معاملة الجار بالعدل والانصاف وحبه. ولا ضرورة لمبدأ آخر (31).
وإلى جانب هذا المبدأ ينبغي لأن يكون الفكر حراً، أن الكتاب المقدس لم يقصد به أن يكون كتاباً مدرسياً للعلوم أو الفلسفة، فهذه العلوم والفلسفة مكشوفة أمام أعيننا في الطبيعة، وهذا الوحي الطبيعي هو أصدق وأشمل صوت الله.
ليس بين العقيدة أو اللاهوت وبين الفلسفة .... أية علاقة أو صلة نسب
…
وليس للفلسفة غاية تصبو إليها إلا الحقيقة، أما العقيدة
…
فلا تفتش إلا عن الطاعة والامتثال والتقوى. فالعقيدة إذن تهيئ أعظم مدى للتأمل الفلسفي، وتسمح لنا دون عتب أو ملام أن نفكر كيف نشاء، ولا تتهم بالهرطقة والانشقاق إلا أولئك الذين يميلون إلى إثارة الكراهية والغضب والنزاع (32).
وهكذا نرى سبينوزا في تحوله المتفائل قد جدد تمييز بومبوناتزي
بين حقيقتين: اللاهوتية والفلسفية ويمكن أن تتهيأ كل منهما، برغم تناقضهما، لشخص بعينه في حالة كونه مواطناً، ثم في حالة كونه فيلسوفاً وقد يجيز سبينوزا للموظفين الرسميين المدنيين حق فرض طاعة القوانين، كما أن الدولة، شأنها شأن الفرد، الحق في حماية ذاتها، ولكنه يضيف:
إن الأمر بالنسبة للدين يختلف اختلافاً كبيراً، فمن حيث لأنه لا يتألف من عمل ظاهري بقدر ما يتألف من بساطة الخلق وصدقه، فإنه يقف خارج نطاق القانون والسلطة العامة. أن بساطة الخلق والصدق فيه لا تنتجهما قيود القوانين ولا سلطة الدولة، وليس ثمة فرد العالم بأسره يمكن أن يفرض عليه التنعم بالسعادة الروحية أو تسن له القوانين من أجلها. والوسيلة المطلوبة لتحقيق هذا هي النصح المخلص الأخوي والتعليم الصحيح، وفوق كل شيء الاستخدام الحر للحكم أو الرأي الشخصي .... إن في مقدور كل إنسان أن يستخدم بنجاح حقه العظيم في حرية الرأي والحكم، ويستخدم سلطته في ذلك .... وأن يشرح ويفسر الدين لنفسه (33).
وينبغي أن تخضع الممارسة العلنية للدين لرقابة الدولة. ذلك أنه على الرغم من أن الدين قد يكون عنصراً حيوياً في تشكيل الأخلاق، فإن الدولة يجب أن تكون صاحبة السلطان الأعلى في كل الأمور التي تؤثر في السلوك العام. وكان سبينوزا أرسطوسياً (يقول بأن الدولة السلطة العليا في الشئون الكنسية) عتيداً مثل هوبز، وحذا حذوه في إخضاع الكنيسة للدولة، ولكنه حذر قراءة قائلاً:"إني أتحدث هنا عن الشعائر الظاهرية فحسب .... لا عن .... العبادة الباطنية (34) ". وكان ناقماً أشد النقمة (وربما تمثل في خاطره لويس الرابع عشر) حينما استنمر استخدام الدولة للدين في أغراض تتنافى مع مفهومه عن الديانة الأساسية العدل وعمل الخير.
إذا كان اللغز للغز الرهيب الأساسي في الدولة الاستبدادية هو التغرير بالرعايا وتقنيع الخوف الذي يكبح جماحهم بلباس
خداع من الدين، حتى يقاتل الناس من أجل العبودية بمثل البسالة التي يناضلون بها من أجل أمنهم وسلامتهم، ولا يعتبرونه عاراً بل شرفاً كبيراً أن يبذلوا دماءهم وحياتهم رخيصة من أجل زهو وخيلاء وعظمة جوفاء ينعم بها طاغية جبار، فإنه في الدولة الحرة يتعذر تدبير وسائل نفعية شريرة، أو محاولة اللجوء إليها، وأن ليتعارض مع الحرية العامة كل التعارض، أن ينفذ القانون إلى مجال الفكر المتأمل وتتعرض الآراء للتحقيق والمساءلة، وتوضع موضع الاتهام والعقاب مثل الجرائم سواء بسواء، على حين يضحي بالمدافعين عنها وبأتباعها، لا من أجل الأمن والسلامة العامة، بها على مذبح كراهية خصومها وقساوتهم. ولو أمكن اتخاذ العمال وحدها أساساً لتوجيه الاتهام بالجرائم، وأطلقت حرية القول
…
لتجرد التحريض على الفتنة من أية شبهة لتبريره، لأمكن الفصل بينه وبين مجرد الخلاف فصلاً شديداً (35).
وواجه سبينوزا أثناء دراسته الكتاب المقدس قضية الخلاف الأساسية بين المسيحيين واليهود. هل كانت المسيحية غير مخلصة للمسيح أو خائنة لعهده حين نبذت شريعة موسى؟ ومن رأيه أن تلك الشريعة سنت لليهود في نطاق دولتهم هم، لا لأية أمم أخرى، حتى ولا لليهود أنفسهم إذا كانوا يقيمون في مجتمع غريب عنهم، والقوانين الأخلاقية وحدها في شريعة موسى (مثل الوصايا العشر) هي التي تتمتع بصلاحية أبدية عامة لكل زمان ومكان (36). وتنم بعض الأجزاء في سبينوزا في اليهودية عن استياء شديد من صدور قرار "الحرم" ضده، وعلى حرص شديد منه على تبرير نبذه لتعاليم الكنيس، ولكنه انضم إلى اليهود فيما يراودهم من أمل في عودة عاجلة إلى دولة مستقلة. "قد أذهب بعيداً إلى حد الاعتقاد بأنهم
…
سيقيمون دولتهم من جديد، وأن الله سيختارهم للمرة الثانية (37) ".
وتناول المسيحية عدت مرات، وواضح أنه قرأ العهد الجديد في إعجاب متزايد بالمسيح. ونبذ فكرة قيامة المسيح بجسده من بين الأموات (38). ولكنه ألفى نفسه يتعاطف تعاطفاً شديداً مع موعظة
يسوع إلى حد أنه أقر بأن وحياً خاصاً نزل عليه من عند الله:
إن إنساناً يستطيع بفطرته النقية أن يدرك أفكاراً ليست موجودة، كما لا يمكن استنتاجها من أساس معرفتنا الطبيعية، لا بد أنه بالضرورة يتمتع بعقل أسمى بكثير من عقول رفاقه، بل إني لا أعتقد أن أحداً اختص بهذا غير المسيح، وقد أوحيت إليه مباشرة اوامر الله التي تؤدي إلى الخلاص، بغير كلمات ولا رؤى. ومن ثم فإن الله كشف عن ذاته للرسل عن طريق عقل المسيح، كما فعل من قبل مع موسى عن طريق الصوت الخارق للطبيعة. وبهذا المعنى يمكن أن يسمى صوت المسيح، مثل الصوت الذي سمعه موسى-صوت الله-، وقد يقال بأن حكمة الله (وهي أسمى من حكمة البشر
(1)
) ظهرت في طبيعة المسيح البشرية، وأن المسيح كان طريق الخلاص. وعند هذه النقطة لا بد لي أن أعلن أن هذه النظريات، التي تقدمها بعض الكنائس فيما يتعلق بالمسيح، ليس في وسعي أن أؤكدها أو أنفيها لأني أعترف بكل صراحة أني لا أفهمها
…
أن المسيح اتصل بالله عقلاً لعقل وبناء على هذا يمكن أن نستخلص أنه لا أحد غير المسيح تلقى الوحي من الله، دون عون من الخيال في الكلمات أو الرؤى (39).
أن غصن الزيتون هذا، الذي قدم إلى الزعماء المسيحيين، لم يكن ليخفي عنهم أن "الرسالة اللاهوتية السياسية" مانت من أجرأ ما صدر من بينات وآراء في الصراع بين الدين والفلسفة. وما أن ظهرت الرسالة حتى احتج مجلس كنيسة أمستردام (30 يونيه 1670) لدى رئيس الدولة في هولندا على السماح بتداول مثل هذا الكتاب المملوء بالهرطقة في دولة مسيحية. وتوسل إليه أحد المجامع الكنسية في لاهاس أن يلعن ويصادر "مثل هذه الكتب التي تعمل على تخريب النفوس (40) ". وانضم النقاد العلمانيون إلى الهجوم على سبينوزا. وسماه أحدهم "شيطاناً مجسداً (41) ". ووصفه جان لي كلرك بأنه
(1)
انظر "كتاب الحكمة"، و "الكلمة-لوجوس" في الإنجيل الرابع.
"أشهر ملحد في زماننا (42) ". واتهمه لامبرت فا فلتسون بأنه "يحتال في مكر ودهاء على بث الإلحاد
…
وتقويض أركان العبادة والديانة من أساسها (43) ". ومن حسن حظ سبينوزا أن جان دي ويت رئيس الدولة كان من المعجبين به. وكان لفوره قد أجرى عليه معاشاً ضئيلاً، وما دام دي ويت حياً متربعاً في دست الحكم، فإن سبينوزا كان في مقدوره أن يعتمد على حمايته له. ولم تدم هذه الحماية لأكثر من عامين فقط.
3 - الفيلسوف
في مايو 1670، بعد نشر الرسالة اللاهوتية السياسية بقليل، انتقل سبينوزا إلى لاهاي، ربما ليكون على مقربة من دي ويت وغيره من الأصدقاء ذوي النفوذ. وأقام لمدة عام في بيت "الأرملة فان فيلين"، ثم انتقل إلى دار هندريك فان درسبيك على بافليونجراشت، وفي 1927 اشترت لجنة دولية هذا المبنى، واحتفظ به على أنه "مسكن سبينوزا"، وبقي فيه إلى آخر حياته. وشغل منه حجرة واحدة في الطابق الأعلى، ونام على سرير يمكن أثناء النهار أن يطوى إلى حائط (44). ويقول بيل "وفي بعض الأحيان كان يقبع في عقر الدار لا يخطو خارجها لمدة ثلاثة أشهر بأكملها"، وربما أخافته رئتاه المسلولتان من رطوبة الشتاء. ولكن كان زواره كثيرين، ومرة أخرى يقول بيل أنه بين الحين والحين "كان يقصد إلى زيارة نفر من ذوي المكانة والنفوذ
…
للتحدث معهم في شئون الدولة التي كان يفهمها جيداً (45) ". واستمر يشتغل بصقل العدسات، وأطرى العالم الفيزيائي الرياضي كريستيان هيجينز درجة اتقائها (46). واحتفظ الفيلسوف ببيان عن نفقاته، ومنه نعلم أنه عاش على نحو خمسة وعشرين سنتاً في اليوم، وأصر أصدقاءه على مد يد المعونة له، حيث لا بد أنهم رأوا أن اعتكافه في الدار والغبار الذي ينتج عن صقل العدسات كانا يضاعفان من علته.
وانتهت الحماية التي بسطها دي ويت على سبينوزا حين اغتال بعض الرعاع الآخوين دي ويت في شوارع لاهاي (أغسطس 1672). ولما سمع بنبأ اغتيالهما رغب في مغادرة الدار ليعلن إلى هؤلاء الرعاع
استنكاره لفعلتهم باعتبارهم "أحط المتوحشين"، ولكن صاحب الدار غلق الأبواب ومنعه من مغادرة الدار (47). وترك جان دي ويت لسبينوزا في وصيته راتباً سنوياً قدره مائتا فرنك (48)
(1)
. وبعد موت دي ويت انتقلت السلطة المدنية إلى الأمير وليم هنري الذي كان في حاجة إلى تأييد رجال الدين الكلفنيين. ولما صدرت الطبعة الثانية من "الرسالة اللاهوتية السياسية 1674، أصدر الأمير ومجلس هولندا مرسوماً يحظر بيع الكتاب، وفي 1675 أذاع مجلس الكلفنيين في لاهاي بياناً يأمر فيه كل المواطنين بالإبلاغ فوراً عن أية محاولة لطبع أية مؤلفات لسبينوزا (49). وفيما بين عامي 1650 و1680 - صدر من سلطات الكنيسة نحو 50 مرسوماً بتحريم قراءة مؤلفات الفيلسوف أو تداولها (50).
وربما ساعدت قرارات الحظر هذه على ذيوع شهرته في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. وفي 16 فبراير 1673 كتب جوهان فابريشيوسي الأستاذ بجامعة هيدلبرج "إلى الفيلسوف الألمعي المشهور بندكت سبينوزا، باسم ناخب البالاتينات المتحرر، الأمير شارل لويس:
طلب إلى صاحب العظمة الأمير، أن أكتب إليكم .. لأسألكم إذا كنتم ترغبون في قبول منصب الأستاذية العادية للفلسفة في جامعته الشهيرة. وسيعطيك الراتب السنوي الذي يتقاضاه الأساتذة العاديون الآن. إنك لن تجد في أي مكان آخر أميراً أشد إيثاراً وأكثر عطفاً على العباقرة المرموقين الذين يعدك واحداً منهم. وسيكون لك مطلق الحرية في اتخاذ أي اتجاه فلسفي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامه في الفساد جو الديانة الرسمية علانية ....
وأجاب سبينوزا في 30 مارس:
السيد الجليل،
إذا كانت قد راودتني الرغبة يوماً في شغل منصب
(1)
يرتاب بعض الباحثين في معرفة سبينوزا بجان دي ويت. راجع كلارك-"القرن السابع عشر" ص: 223.
الأستاذية في أية كلية، لما رغبت في منصب غير هذا الذي عرضه على ناخب البلاتينات المعظم عن طريقكم. ولما كنت على أية حال، لم أفكر قط في الاشتغال بالتعليم العام، فإنه يصعب أن أقنع نفسي باغتنام هذه الفرصة العظيمة
…
أولاً لأني أعتقد إذا أردت أن أوفر الوقت اللازم لتعليم الشباب فلا بد أن أتخلى عن تنمية فلسفتي وتطويرها. ثانياً-لست أدري ما هي حدود الفكر الفلسفي التي يجب أن أعمل في نطاقها، حتى أتجنب ظهور أية رغبة في تعكير جو الديانة الرسمية المعلنة. فإن الإنشقاقات والخلافات لا تثور نتيجة للحب الشديد للدين أكثر منها بسبب الميول والنزاعات المتباينة في الناس أو حب المعارضة والمخالفة في الرأي
…
ولقد خبرت هذه الأشياء بالفعل بينما كنت أعيش عيشة خاصة منعزلة، ولا بد أن أكون أشد خشية من حدوثها، إذا رقيت إلى هذه المرتبة العظيمة (الأستاذية). وهكذا ترى يا سيدي الجليل أني لا أحجم، أملاً في مال أكثر، أو حظ أوفر، ولكنه حب الهدوء والرغبة في السلام (51).
وكان سبينوزا سعيد الحظ في رفضه هذا المنصب، فان المارشال الفرنسي تورين اجتاح البلاتينات في العام التالي وأغلقت أبواب الجامعة.
وفي مايو 1673، وفي غمرة الهجوم الذي شنه جيش فرنسي على المقاطعات المتحدة تلقى سبينوزا دعوة من زعيم في هذا الجيش لزيارة كوندية الكبير في أوترخت. واستشار سبينوزا في أمر هذه الزيارة السلطات الهولندية التي ربما رأت فيها فرصة لفتح باب المفاوضات لعقد هدنة تدعو إليها الحاجة الملحة. وأمن له الطرفان كلاهما سبل الانتقال، وشق الفيلسوف طريقه إلى أوترخت. وفي تلك الأثناء كان لويس الرابع عشر قد أرسل كونديه إلى جهة أخرى. فبعث إلى سبينوزا (كما يروي لوكاس)(52) برسالة يطلب إليه فيها أن ينتظره، وبعد بضعة أسابيع وصلت رسالة أخرى تقول أنه سيتأخر إلى أجل غير مسمى. والظاهر
أن مارشال دي لكسمبورج نصحه إذ ذاك أن يهدي إلى الملك لويس كتاباً مؤكداً له سيلقي من الملك استجابة تتسم بالتحرر (53). ولم يؤد الاقتراح إلى نتيجة. وعاد سبينوزا أدراجه إلى لاهاي ليجد كثيراً من المواطنين يشتبهون في أنه خائن. وتجمع حشد معاد حول بيته يكيلون السباب ويقذفون الأحجار. وقال لصاحب البيت "لا تنزعج، فأنا برئ، وهناك كثيرون من ذوي المناصب العالية يعرفون لماذا ذهبت إلى أوترخت. وحالما تسمع أي صخب أو شغب عند الباب، فسأخرج أنا إلى الناس حتى ولو كانوا سيفعلون بي مثل ما فعلوا بجان دي ويت الطيب. أنا جمهوري مخلص أمين، وهدفي خير الجمهورية (54) ولم يدعه صاحب الدار يخرج. وتفرق الجمهور.
وكان سبينوزا آنذاك في الحادية بعد الأربعين. وهناك في مسكن سبينوزا في لاهاي صورة تمثله نمطاً دقيقاً ليهودي سفردي، ذي شعر أسود متدل، وحاجبين كثيفين، وعينين سوداوين براقتين مكتئبتين قليلاً، وأنف مستطيل مستقيم، ووجه تغلب عليه الوسامة في جملته، إذا قورن فقط بالصورة التي رسمها هالس لديكارت. ويقول لوكاس:"كان أنيقاً غاية الأناقة في مظهره، ولم يغادر قط بيته دون أن يرتدي من الثياب ما يميز السيد المهذب الماجد عن المتحذلق (55). واتسم سلوكه بالرزانة والوقار مع الظرف والرقة. وقال أولدنبرج "أن علمه الراسخ اقترن بالروح الإنسانية والدماثة (56)". وكتب بيل "أن كل الذين تعرفوا على سبينوزا يقولون بأنه كان اجتماعياً لطيف المعشر، أميناً، ودوداً حسن الخلق (57)". ولم يتحدث إلى جيرانه بأية هرطقة، بل على العكس شجعهم على الاستمرار في الذهاب إلى الكنيسة، ورافقهم من آن لآخر ليستمع إلى موعظة (58). وكان أكثر من أي فيلسوف حديث آخر يتمتع بالهدوء الناجم عن ضبط النفس. وقلما رد على النقد، وتناول في رده الأفكار والآراء، لا الأمور الشخصية. وعلى الرغم من اعتناقه مذهب الجبرية، واقتلاعه من بين قومه، ومرضه، كان أبعد ما يكون عن التشاؤم، وقال "تصرف تصرفاً حسناً، وابتهج وقر عيناً (59) " وربما كان شعار تفكيره أن يعرف أسوأ الأشياء، ويؤمن بأحسنها.
وتردد الأصدقاء والمعجبون به على داره. وأقنعه والترفون
تشيرنهو بأن يطلعه على مخطوطة "الأخلاق". وكتب إليه هذا العالم الرياضي الفيزيائي: "أرجو أن تساعدني بلطفك المعهود حيثما أعجز عن فهم ما تقصد إليه فهماً صحيحاً (60). وربما تم وصول ليبنتز إلى سبينوزا عن طريق هذا التلميذ المتلهف (1676) ومن الجائز كذلك وصوله إلى الرائعة التي لم تكن قد نشرت بعد. وقدم لرؤيته الأعضاء الباقون على قيد الحياة من ندوة دكتور ميير في أمستردام أو كانوا يتبادلون معه الرسائل وألقت رسائله من والى العلماء والباحثون في أوربا ضوءاً غير متوقع على المناخ العقلي في ذاك العصر. وحثه هوجوموكسلي مراراً وتكراراً على التسليم بحقيقة وجود الأرواح الشريرة والأشباح. وفي 1675 أرسل إليه من فلورنسا عالم التشريح ستينو نداءاً مؤثراً ليتحول إلى الكثلكة:
إني آخذ على عاتقي عن طيب خاطر، إذا أردت أنت، مهمة هدايتك إلى الطريق .... وعلى الرغم من أن علمك يفوق علمنا، فإني أود لو أنك تقدمت إلى الله فبرئت من أخطائك ونبذتها، حتى إذا كانت كتاباتك السابقة قد صرفت ألفاً من الأنفس عن المعرفة الحقيقية لله، فإن رد هذه النفوس إلى الطريق الحق على أن تكون أنت قدوة تشد من أزرها، قد يعيد إلى الله ألف ألف معك، كما لو كنت أوغسطين آخر أرجو من كل قلبي أن تحل بك هذه البركة والنعمة. وداعاً (62).
كذلك سحرت فتنة الكثلكة لب ألبرت بيرج ابن صديق سبينوزا كنراد بيرج وزير مالية المقاطعات المتحدة. وكان ألبرت، مثل ستينو، قد تحول إلى الكاثوليكية أثناء رحلته في إيطاليا. وفي سبتمبر 1675 كتب إلى سبينوزا متحدياً، أكثر منه متوسلاً، إياه أن يعتنق المذهب الكاثوليكي:
من أين لك أن تعرف أن فلسفتك هي أفضل التعاليم التي لقنت في العالم فيما مضى، أو أنها أفضل ما يتلقاه العالم الآن بالفعل، أو ما سيتلقاه في المستقبل؟ هل درست كل الفلسفات قديمها وحديثها، مما يتعلمه الناس هنا وفي الهند وفي سائر أصقاع المعمورة؟ حتى إذا كنت
درستها جميعاً .. كيف يتسنى لك أن تدرك أنك اخترت أحسنها؟ .... وإذا كنت، على أية حال، لا تؤمن بالمسيح فإنك أيأس وأجدر بالازدراء مما يمكن أن أتصور لك. ولكن العلاج الميسور: أرجع عن خطاياك، وتحقق من الغطرسة القاتلة التي ينطوي عليها تفكيرك الحقير المجنون .... هل تجسر أيها الرجل الحقير، يا حشرة الأرض الدنيئة .... في تجديفك الذي لا يصح أن يوصف، أن تضع نفسك فوق "الحكمة المتجسدة اللامتناهية"؟ .... إنك بقواعدك زمبادئك لا تستطيع أن تفسر تفسيراً كاملاً حتى واحداً من هذه الأشياء التي يأتي بها السحرة .... كما أنك لا تستطيع أن تفسر أياً من الظواهر المذهلة بين الذين يتملكهم الشياطين، مما رأيت منه بعيني رأسي أمثلة كثيرة منه أو سمعت صدق الأدلة اليقينية عليه (62).
وفي ديسمبر 1675 رد سبينوزا رداً جزئياً:
أخيراً فهمت من كتابك ما لم أكن أصدقه حين رواه لي آخرون
…
وهو أنك لم تصبح عضواً في الكنيسة الكاثوليكية فحسب .... بل أنك كذلك كم أشد أنصارها وحماتها غيرة وحماسة، وأنك تعلمت الآن كيف تصب لعنتك وجام غضبك في وقاحة على خصومك ومخالفيك. ولم أكن أعتزم الرد على رسالتك
…
ولكن جماعة بعينها من الأصدقاء، ممن علقوا أكبر الآمال على مواهبك الطبيعية ألحوا علي في الرجاء ألا أقصر في حق صديق، وأن أفكر فيما كنت عليه منذ فترة وجيزة لا فيما أنت عليه الآن
…
وأقنعتني تلك الحجج بكتابة هذه السطور إليك، راجياً كل الرجاء أن تتفضل بقراءتها بنفس هادئة.
ولن أعدد لك هنا من جديد مساوئ القساوسة والباباوات، لأصرفك عنهم، كما أعتاد أعداء الكنيسة الكاثوليكية أن يفعلوا. لأنهم عادة ينشرون هذه المساوئ بداعي الحقد والغضب، ورغبة في الإزعاج لا التقويم والتعليم. والحق إني أقر بأنه يوجد في الكنيسة الكاثوليكية
رجال على قدر كبير من العلم والمعرفة واستقامة الحياة أكثر مما يوجد منهم في أية كنيسة مسيحية أخرى، فإنه حيثما توافر عدد أكبر من أتباع الكنيسة، فلا بد أن يوجد عدد اكبر من الرجال من كل صنف. وهناك في كل كنيسة كثيرون من الأمناء المخلصين غاية الأمانة والإخلاص، ممن يعبدون الله في عدل وإحسان،
…
لأن العدل والإحسان أصدق أمارات المذهب الكاثوليكي الحق
…
وحيثما يوجد هؤلاء، يوجد المسيح حقاً وصدقاً، وحيثما يفتقدون، يفتقد المسيح كذلك. لأن روح المسيح وحده هي التي يمكن أن تقودنا إلى حب العدل والإحسان. وإذا كنت قد اعتزمت عزماً أكيداً من قبل، التفكير ملياً بينك وبين نفسك في هذه الحقائق، لما ضللت، ولما سببت لأبويك أشد الحزن والأسى .... إنك سألتني كيف أدرك أن فلسفتي أفضل الفلسفات التي ظهرت في العالم من قبل، والتي تلقن الآن، أو ستلقن في المستقبل. والواقع أن لي حق أكبر في أن أسألك هذا السؤال. لأني لا أزعم إني وقعت على أفضل فلسفة. ولكني أدرك أني أظنها الفلسفة الحقة .... ولكنكم أنتم الذين تزعمون أنكم وجدتم آخر الأمر أحسن ديانة، أو على الأرجح أفضل رجال واسرعتم إلى تصديقها كيف تعرفون أنهم أفضل من علم سائر الديانات، أو يعلمونها الآن، أو سيقومون بتلقينها في المستقبل؟ هل درستم كل تلك الديانات قديمها وحديثها تلك التي تلقن هنا وفي الهند وفي سائر أنحاء العالم؟ وحتى لو كنتم درستموها حق الدرس، كيف تعرفون أنكم اخترتم أحسنها؟ هل تعتبرونه عجرفة وغروراً أن أستخدم عقلي في الإذعان لكلمة الله الموجودة في العقل، ولا يمكن بأية حال افسادها أو تحريفها؟ أنأوا بأنفسكم عن هذه الخرافة المهلكة، واعترفوا بالعقل الذي حباكم الله إياه، وتعهدوه إذا لم تكونا في عداد البهائم .... إنكم إذا أمعنتم النظر في تاريخ الكنيسة (وأني لأدرك أنكم على أكبر درجة من الجهل به) لتدركوا مدى زيف كثير من
التقاليد البابوية، ولكي تعرفوا
…
بأية حيل وأفانين استطاع البابا الروماني، بعد ستمائة سنة من ميلاد المسيح أن يسيطر على الكنيسة، فإني لا أشك لحظة في أنكم آخر الأمر ستفيقون من غفلتكم. وإني لأود من صميم قلبي أن يتم لك هذا، وداعاً (63).
والتحق بيرج بطائفة الفرنسيسكان، وقضى نحبه في أحد الأديار في روما.
ومعظم رسائل سبينوزا الباقية كانت مع أولدنبيرج. وأننا لتتولانا الدهشة أن نجد أن كثيراً منها عالج العلوم، وأن سبينوزا قام بتجارب في الفيزياء والكيمياء، وأن رسائله كانت موضحة بالرسوم البيانية والتخطيطية، وانقطعت هذه الرسائل في 1665، فقد اعتقل أولدنبيرج في 1667 وسجن في برج لندن للاشتباه في اتصاله بدولة أجنبية، وأنصرف إلى الدين عند اخلاء سبيله، وعندما استأنف مكاتبة سبينوزا (1675) انضم إلى المساعي المبذولة لضمه إلى أية فرقة من فرق المسيحية الصحيحة، ورجاه أن يأخذ قصة قيامة المسيح حرفياً لا رمزاً ولا مجازاً. وقال "أن العقيدة المسيحية بأسرها وحقيقتها ترتكزان على موضوع القيامة، فإذا نحن استبعدناه، إنهارت كل رسالة المسيح وتعاليمه السماوية (64) ". وفي خاتمة المطاف تخلى عن سبينوزا باعتباره نفساً ضالة ضائعة، وانقطع عن مراسلته (1677).
وطوال الوقت ابتداء من عام 1663 كان سبينوزا يعمل في كتاب "الأخلاق". وفي إبريل 1662 كتب إلى أولدنبيرج أنه كان يفكر في نشره ولكنه "كان من الطبيعي أن يخشى من رجال اللاهوت أن تأخذهم العزة بالاثم، فيشنون عليه الهجوم بكراهيتهم المعهودة، وأنا أنفر من الشجار والنزاع كل النفور (65) ". ولكن أولدنبيرج استحثه على النشر "مهما يكن من أمر تذمر رجال اللاهوت المشعوذين ونباحهم (66) ". ولكن سبينوزا ظل بين الأحجام والإقدام. ورخص لبعض أصدقائه في قراءة بعض أجزاء من المخطوطة، وربما أفاد من بعض تعليقاتهم لأنه أعاد مراجعة الرسالة عدة مرات. أن الضجة التي أثارتها "الرسالة اللاهوتية السياسية" كانت تبرر ما تذرع به من
حرص وحذر، كما ضايقه أكثر من ذلك قتل الأخوين دي ويت، والشبهات التي حامت حوله بعد زيارته للجيش الفرنسي، ولم يشرع في اتخاذ أية خطوة أخرى لطبع "الأخلاق" إلا في 1675، وأبلغ النتائج إلى أولدنبيرج:
في الوقت الذي تسلمت فيه رسالتك المؤرخة في 23 يوليه كنت على وشك الرحيل إلى أمستردام بغية البدء في طبع الكتاب الذي كتبت إليك عنه. وبينما كنت مشغولاً بهذا الأمر انتشرت في كل مكان شائعة تقول بأن في المطبعة كتاباً لي عن "الله"، وأني حاولت فيه أن أبين أنه ليس هناك إله. واعتقد كثيرون في صحة هذه الشائعة. ومن ثم انتهز بعض رجال الدين الفرصة ليتقدموا بالشكوى ضدي إلى الأمير والقضاة
…
وعندما ترامى هذا إلى سمعي
…
قررت تأجيل النشر الذي كنت أعد له العدة (67).
وطرح المخطوطة جانباً، وانصرف إلى كتابة رسالة عن الدولة "الرسالة السياسية"، ولكن المنية عاجلته قبل الانتهاء منها.
وفي 6 فبراير 1677 كتب الطبيب الشاب جورج هرمان شوللر إلى ليبنتز "أخشى أن يفارقنا مستر بندكت سبينوزا وشيكاً، حيث يبدو أن حالة السل عنده تزداد سوءاً يوماً بعد يوم (68)، وبعد ذلك بأسبوعين، وحين كان سائر أهل البيت متغيبين عنه، دخل الفيلسوف في النزع الأخير. وكان شوللر وحده (لامبير كما كان مظنوناً من قبل) معه في تلك الفترة. وترك سبينوزا تعليمات ببيع أمتعته المتواضعة لتسديد ديونه، وبنشر مؤلفاته التي لم يسبق له إحراقها، غفلاً من اسمه. وقضى نحبه في 20 فبراير 1677 دون أية طقوس كهنوتية (69). ودفن في مقبرة في كنيسة لاهاي الجديدة بالقرب من مقبرة جان دي ويت. أما المخطوطات-وبخاصة "الأخلاق" و "الرسالة السياسية" و "رسالة في إصلاح العقل" فقد أعدها للمطبعة ميير وشوللر وغيرهما، وطبعت في أمستردام في أواخر 1677.
وهكذا نأتي في خاتمة المطاف إلى الكتاب الذي صب فيه سبينوزا عصارة حياته ونفسه التي إنزوى بها عن الناس.
4 - الله
إن سبينوزا سمى هذا الكتاب "الأخلاق العادية وعرض هندسي"، أولاً لأنه ذهب إلى أن الفلسفة هي إعداد السلوك الصحيح والحياة الحكيمة، وثانياً، لأنه مثل ديكارت، حسد الزهد العقلي والتسلسل المنطقي في الهندسة، وراوده الأمل في أن يبني على غرار أقليدس، كياناً للتفكير، تتعقب كل منه بصورة منطقية ما سبقها من براهين، وهذه تشتق آخر الأمر بشكل لا يمكن دحضه من بديهيات أو حقائق مقررة يتقبلها الناس جميعاً. وأدرك سبينوزا أن هذا مثل أعلى، وكان من العسير عليه أن يتصوره حائلاً دون خطأ، لأنه كان بطريقة شبيهة بهذه شرح فلسفة ديكارت التي لم يوافق عليها.
إن المخطط الهندسي قد يؤدي على الأقل إلى الوضوح، وقد يحول دون اضطراب العقل بالانفعال، وإخفاء المغالطة والسفسطة بالفصاحة والبلاغة. ورأى أن يناقش سلوك الإنسان، بل حتى طبيعة الله، في هدوء وموضوعية، كما لو كان يتناول الدوائر والمثلثات والمربعات. ولم يخل نهجه من أخطاء، ولكنه أدى به إلى ابتناء صرح للعقل مهيب في عظمته الهندسية ووحدته. وهذا المنهج استنتاجي، وربما عبس له وجه فرانسيس بيكون، ولكنه زعم أنه كان متناسقاً مع كل الخبرة.
وبدأ سبينوزا بتعريفات مأخوذة في معظمها من فلسفة العصور الوسطى. وغيرت الألفاظ التي استخدمها معانيها منذ ذلك اليوم، وبعضها الآن يكسو فكره بالغموض والإبهام. والتعريف الثالث الأساسي: حيث عرف الجوهر بأنه "ما هو في ذاته ومتصور بذاته، أعني أن تصوره لا يعتمد على تصور شيء آخر لا بد أن يكون مكوناً منه". وهو لا يقصد الجوهر بالمعنى الحديث أي المقومات والمكونات المادية، واستخدامنا لهذه اللفظة بمعنى الماهية والأهمية الأساسية أقرب إلى ما قصد إليه هو. وإذا أخذنا اللفظة اللاتينية Subslansia استخدمها بمعناها الحرفي، فإنها تعني "يقع تحت، يشكل الأساس، يدعم". وفي مراسلاته (70) يتحدث سبينوزا عن "الجوهر أو الكينونة" أي أنه يعادل الجوهر بالوجود أو الحقيقة. ومن ثم يمكن
أن يقول "إن الوجود يتعلق بطبيعة الجوهر" أي أنه في الجوهر تكون ماهية الشيء أو طبيعته الأساسية ووجوده شيئاً واحداً (71). وقد نخلص من هذا أن الجوهر عند سبينوزا يعني الحقيقة الأساسية التي تشكل أساس كل الأشياء.
ونحن ندرك هذا الواقع في شكلين: الامتداد أو المادة ثم الفكر أو الذهن، وهاتان "صفتان مميزتان" للجوهر، لا صفتان به قائمتان فيه. بل هما نفس الحقيقة التي ندركها خارجياً بحواسنا باعتبارهما مادة، والحقيقة التي ندركها بشعورنا باعتبارها فكراً. وسبينوزا "واحدى" تماماً يقول بأن الحقيقة كل واحد، فإن جانبي الحقيقة هذان-المادة والفكر-ليسا وجودين متميزين مستقلين الواحد منهما عن الآخر، بل هما جانبان، الخارجي والداخلي لحقيقة واحدة، وهكذا الجسم والذهن، وهكذا الأحداث الفسيولوجية (الجسدية) والحالة العقلية المناظرة لها. والحقيقة التي لا مراء فيها أن سبينوزا كان يدين بالمثالية قدر ابتعاده عن المذهب المادي، إنه يعرف الصفة بأنها "ما يدركه العقل عن الجوهر كما لو كان يؤلف ماهيته (72) " ويسلم سبينوزا (قبل مولد باركلي بزمن طويل) بأننا نعرف الحقيقة، أما مادة أو فكراً، عن طريق الإدراك الحسي أو الفكرة فقط. ويعتقد بأن الحقيقة تعبر عن نفسها في مظاهر لانهاية لها، عن طريق "عدد لا متناه من الصفات" التي لا ندرك منها، نحن الكائنات الناقصة، إلا اثنتين. وعند هذا الحد، يكون الجوهر أو الحقيقة، هو كل ما يظهر لنا من مادة أو ذهناً، والجوهر وصفاته شيء واحد: والحقيقة إتحاد من المادة والذهن، وهذان متميزان فقط في الشكل الذي ندرك به الجوهر. ونتحلل قليلاً من صيغة سبينوزا، ونقول بأن المادة هي حقيقة مدركة خارجياً والذهن حقيقة مدركة داخلياً. فإذا استطعنا أن ندرك كل الأشياء بطريقة مزدوجة-خارجياً وداخلياً-كما ندرك أنفسنا، فإننا نجد، كما يعتقد سبينوزا، "أن كل الأشياء حية نشيطة بشكل ما (73) ". فهناك شكل أو درجة من الذهن أو الحياة في كل شيء. والجوهر دائماً حي أو نشيط: والمادة في حركة دائمة، والذهن دائماً يدرك أو يحس أو يفكر أو يرغب أو يتخيل ويتذكر، في اليقظة أو النوم. والعالم في كل جزء من أجزائه حي.
ويعادل سبينوزا بين الله وبين الجوهر، فهو الحقيقة التي تشكل أساس المادة والذهن وتوحد بينهما. والله لا يتعادل مع المادة (فلهذا لا يدين سبينوزا بالمذهب المادي) ولكن المادة صفة ملازمة متأصلة أساسية، أو مظهر من الله (وهنا تظهر من جديد إحدى هرطقات سبينوزا في شبابه). ولا يتعادل الله مع الذهن (ومن ثم لا يدين سبينوزا بالروحية) ولكن الذهن صفة أو مظهر ملازم متأصل أساسي لله. والله والجوهر متعادلان مع الطبيعة والمجموع الكلي للكينونة أو الوجود (ولهذا كان سبينوزا يقول بوحدة الوجود: إن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية).
وللطبيعة مظهران. فباعتبارهما القدرة على الحركة في الأجسام، والقدرة على التوالد والنمو والإحساس في الكائنات الحية، فإنها طبيعة "خالقة" أو ولودة. وباعتبارها جماع كل الأشياء والأجسام والنبات والحيوان والإنسان. فهي طبيعة "محدثة أو مخلوقة". وهذه "الموجودات الفردية" في الطبيعة المخلوقة يسميها سبينوزا حالات-أو تعديلات أو تجسيدات طارئة في الجوهر، والحقيقة والمادة والعقل والله. وهي جزء من الجوهر، ولكننا نميزها في إدراكنا الحسي، باعتبارها أشكالاً عابرة سريعة الزوال لكل داخلي. فهذا الحجر وهذه الشجرة، وهذا الإنسان أو الكوكب أو النجم-هذا المشهد المتغير العجيب من الأشكال الفردية التي تظهر وتتلاشى-تؤلف كلها "النظام المؤقت" الذي قابله سبينوزا في "رسالة إصلاح العقل" "بالنظام الأزلي" وهو بمعنى أدق الحقيقة والله المفهومان ضمناً:
لا أفهم من سلسلة العلل والموجودات الحقيقية
…
سلسلة من الأشياء الفردية المتحولة، بل سلسلة من الأشياء الثابتة الأزلية. لأنه قد يكون من المتعذر على الضعف البشري أن يتتبع سلسلة الأشياء الفردية المتحولة (كل حجر، وزهرة وإنسان). إن وجودها ليس له علاقة بماهيتها (قد توجد، ولكن ليس لها ثمة ضرورة لأن توجد)، أو أن وجودها ليس حقيقة أزلية
…
وهذه الماهية يمكن التماسها من الأشياء الثابتة الأزلية، ومن القوانين المنقوشة في هذه الأشياء وكأنها
دستورها الذي بمقتضاه صنعت ورتبت، بل أن هذه الأشياء الفردية المتحولة تعتمد اعتماداً وثيقاً أساسياً (هكذا يقال) على هذه الأشياء الثابتة، وبدونها لا يمكن وجودها ولا إدراكها (74).
وهكذا يكون مثلث واحداً بعينه "حالة"، وقد لا يكون ثمة ضرورة لوجوده، ولكن إذا وجد يكون لزاماً عليه أن يطيع القوانين-وسيكون لديه كل صلاحيات-المثلث بصفة عامة، والرجل بعينه حالة. وقد يوجد أو لا يوجد، ولكن إذا وجد، فإنه سيشارك في ماهية وقدرة المادة-الذهن، ويكون عليه أن يطيع القوانين التي تحكم عمليات الأجسام والأفكار، وهذه القدرات والقوانين تؤلف نظام الطبيعة باعتبارها طبيعة "خالقة"، وهي تشكل في لغة اللاهوت "إرادة الله". وحالات المادة هي في مجموعها جسم الله، وحالات الذهن في مجموعها هي ذهن الله، والجوهر أو الحقيقة. في كل حالاتها وصفاتها هي الله. "كل ما يوجد هو في الله (57) ".
ويتفق سبينوزا مع الفلاسفة السكولاسيين في أن الماهية والوجود في الله شيء واحد، إن وجوده متضمن في تصورنا الماهية لأنه يتصور أن الله هو كل الوجود نفسه يحتوي على الوجود كله. ويتفق مع السكولاسيين في أن "الله علة ذاته" حيث لا يوجد شيء خارج عنه. ويتفق معهم في أننا نستطيع أن نعرف وجود الله، ولكنا لا نعرف طبيعته الحقيقية. ويتفق مع توما الأكويني في أن استخدام ضمائر المذكر للدلالة على الله سخيف مضحك ولكنه مريح
(1)
. ويتفق مع اتباع ابن ميمون في أن معظم الصفات التي ننسبها إلى الله يمكن تصورها عن طريق القياس الضعيف مع صفات الإنسان.
يوصف الله بأنه واضع القوانين أو الأمير أو الملك ويوصف بأنه عادل رحيم
…
الخ، لمجرد الاعتراف أو
(1)
أن اللغة تؤنث "الطبيعة" وتذكر "الله" وبإحداث التعادل بينهما كان سبينوزا أكثر إنصافاً للأنثى أو الأصل المنتج في الحقيقة. وربما كان "تذكير" الله جزءاً من الإخضاع الأبوي للمرأة، وهي فوق كل شيء المجرى الرئيسي للحقيقة البشرية.
التسليم بالفهم العادي ونقص المعرفة العادي (77)
…
والله مجرد من الانفعالات، ولا يتأثر بأية عواطف من الفرح أو الحزن (78) .... أن أولئك الذين يخلطون بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية، إنما ينسبون بساطة الانفعالات الإنسانية إلى الله، وبخاصة إذا كانوا لا يعرفون كيف تحدث الانفعالات في الذهن (79).
وليس الله شخصاً، لأن هذا يعني عقلاً مفرداً خاصاً محدوداً متناهياً، ولكن الله هو مجموع كل عقل (كل الحيوية والنشاط والإحساس والفكر) -بقدر ما هو كل المادة-الموجود (80). العقل البشري جزء من عقل معين غير متناه لا حدود له (81)(مثل التقليد الأرسطي-السكندري). ولكن "إذا كان العقل والإرادة تتعلقان بالماهية الأزلية لله، فإن شيئاً آخر بعيداً يجب أن يفهم من هاتين الصفتين أكثر مما يفهمه الناس عامة (82) ". "فالعقل الفعلي
…
مع الإرادة والرغبة والحب، الخ، يجب إرجاعها إلى الطبيعة المخلوقة لا الطبيعة الخالقة (83) " أي أن العقول الفردية برغباتها وعواطفها واختياراتها، هي حالات أو تعديلات موجودة في الله باعتباره جماع كل الأشياء، ولكنه لا تتعلق به باعتباره قانون وحياة العالم. فهناك في الله إرادة، ولكن بمعنى القوانين التي تعمل في كل مكان. فإن إرادته قانون.
وليس الله أباً ملتحياً يجلس على سحابة، يحكم الكون. إنه "العلة المقيمة الكامنة، غير العابرة، لكل الأشياء (84) ". وليس يوجد "خلق" إلا بمعنى الحقيقة غير المتناهية-المادة الذهن-تتخذ دوماً أشكال أو حالات جديدة فردية. وليس الله في مكان واحد، ولكنه في كل مكان تبعاً لماهيته (85). والحق أن لفظة "الهلة" هنا غير ملائمة. وأن الله هو الهلة الشاملة العامة، لا بمعنى علة سابقة على نتيجتها، ولكن فقط بمعنى أن سلوك أي شيء ينبع بالضرورة من طبيعته. والله هو علة كل الأحداث، بنفس الطريقة التي تكون بها طبيعة المثلث هي علة خواصه وسلوكه. والله حر، فقط بمعنى أنه غير خاضع لأية علة أو قوة خارجية، وأنه غير محكوم إلا بماهيته أو طبيعته
الخاصة، ولكنه "لا يتصرف عن حرية الإرادة (86) "، وكل أفعاله تحددها وتحكمها ماهيته-وهذا يعني أن الطبيعة المتأصلة الملازمة للأشياء وخواصها هي التي تحكم كل الأحداث. وليس في الطبيعة خطة بمعنى أن الله يرغب في غاية أو هدف بعينه، فليس لديه رغبات أو خطط ومشروعات، اللهم إلا أن جماع الأشياء تحتوي رغبات وخطط كل الحالات، ومن ثم خطط ورغبات كل الكائنات الحية. وليس في الطبيعة إلا نتائج، تتبع بالضرورة عللاً سابقة لها وخواصاً متأصلة. وليس هناك معجزات، لأن إرادة الله و "نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير" شيء واحد (87)، وأي خرق أو اضطراب في "سلسلة الأحداث الطبيعية" يكون تناقضاً ذاتياً.
والإنسان مجرد جزء صغير من الكون. والطبيعة تقف على الحياد بين الإنسان وسائر الأشكال. وينبغي ألا نطلق على الطبيعة أو الله ألفاظاً مثل الخير أو الشر، جميل أو قبيح، فتلك مصطلحات ذاتية، مثل ساخن أو بارد وإنما يحددها إسهام العالم الخارجي في منفعتنا أو إستيائنا.
إن الحكم على كمال الأشياء يكون بطبيعتها وقدرتها فحسب، فهي ليست أكثر أو أقل كمالاً بسبب أنها تسر أو تسيء إلى حواس الإنسان، ولا يسبب أنها نافعة أو ضارة للطبيعة البشرية (88)
…
وبناء على ذلك، فإنه إذا كان في الطبيعة شيء يبدو لنا سخيفاً أو مضحكاً أو شراً، فما ذاك إلا لأننا لا ندرك إلا القليل، بل نكاد نجهل كل الجهل، نظام الطبيعة واتكالها بعضها على بعض ككل، كذلك لأننا نريد أن يكون كل شيء وفقاً لم يمليه عقلنا البشري. والواقع أن ما يعتبره العقل شراً، ليس شراً بالنسبة لنظام الطبيعة وقوانينها ككل، بل بالنسبة لقوانين عقلنا فقط (89).
وبالمثل لا يوجد في الطبيعة جمال أو قبح.
ليس الجمال
…
إلى حد كبير صفة في الشيء المرئي، تحدث أثراً في الرائي. وإذا كان أبصارنا أطول أو أقصر، وإذا كانت بنياتنا متفاوتة، فإن ما نراه الآن جميلاً، يجب
أن نظنه قبيحاً. أن أجمل يد بالمجهر ستبدو مخيفة (90)
…
أنا لا أنسب إلى الطبيعة الجمال أو التشويه ولا النظام أو الفوضى والاضطراب. وبالنسبة لخيالنا أو تصورنا فقط، يمكن أن توصف الأشياء بأنها جميلة أو قبيحة، حسنة الترتيب أو مهوشة (91).
والنظام موضوع بمعنى واحد، هو أن كل الأشياء تتحد في نهج واحد من القانون ولكن في هذا النظام تكون العاصفة المدمرة طبيعية، بقدر ما تكون روعة غروب الشمس أو رهبة البحر الطبيعية.
وهل نحن على حق، على أساس هذا "اللاهوت" إذا نعتنا سبينوزا بالإلحاد؟ لقد رأينا أنه لم يكن مادياً، لأنه لم يعادل بين الله والمادة، فإنه يقول في وضوح بأن أولئك الذين يذهبون إلى أن "الرسالة باللاهوتية والسياسية" قائمة على تعادل بين الله مع الطبيعة آخذين الطبيعة على أنها كتلة معينة من مادة عينية-مخطئون غاية الخطأ (92). "إنه تصور الله ذهناً ومادة على حد سواء. ولم يختزل الذهن إلى مادة واعترف بأن الذهن هو الحقيقة الوحيدة المعروفة المباشرة. وذهب إلى أن ثمة شيئاً مجانساً للذهن. يختلط بكل مادة، وكان من هذه الناحية ممن يقولون بوحدة الوجود، كان مؤمناً بوحدة الوجود، حيث يرى الله في كل الأشياء، ويرى كل الأشياء في الله. واعتبره بيل وهيوم، وغيرهما (93) ملحداً. وقد يبدو ما يبرر هذا الوصف في إنكار سبينوزا للشعور والرغبة أو الفرض عند الله (94). إنه هو نفسه على أية حال، اعتراض على "رأي العامة في حيث لا يكفون عن اتهامي خطأ بأني ملحد (95)" والظاهر أنه شعر بأن نسبته ذهناً وذكاء إلى الله غفرت له تهمة الإلحاد. ويجب التسليم بأنه تحدث مراراً وتكراراً عن ربه في عبارة تتسم بالإجلال الديني، مما يتفق تمام الاتفاق مع مفهوم الله عند ابن ميمون أو توما الأكويني، بل قد يسميه نوفاليس "الرجل الثمل بحب الله".
والواقع أنه كان نشواناً بنظام الطبيعة بأسره، ذلك النظام الذي بدا له في تماسكه وحركته الأزليتيت مثيراً للإعجاب مهيباً. وفي الكتاب الأول من "الأخلاق" كتب عن نهج للاهوت وميتافيزيقا العلوم معاً. وفي دنيا القانون أحس بوحي إلهي، أعظم من أي كتاب مهما كان
كريماً وجميلاً. وأن الفرد العلمي الذي يدرس ذلك القانون، حتى في أتفه تفاصيله وأصغرها شأناً، إنما يفك مغاليق هذا الوحي لأننا "كلما ازددنا فهماً للأشياء الفردية ازددنا فهماً لله (96) "(وقد هزت هذه الجملة مشاعر جوته باعتبارها أعمق عبارة في الأدب كله.). وبدا لسبينوزا أنه قبل وواجه في أمانة وإخلاص التحدي الضمني في كوبرنيكس-ليعيد تصور الإله على أساس جدير بالكون الذي يتكشف يوماً بعد يوم. ولم يعد ثمة صراع بين العلم والدين عند سبينوزا، فهما شيء واحد.
5 - الذهن
إن أكبر لغز في الفلسفة والعلم، بعد طبيعة الكون وعمله، هو طبيعة الذهن وعمله. وإذا كان من الصعب التوفيق بين نزعة خيرة بالغة القدرة وبين حياد الطبيعة وحتمية المعاناة والألم، فإنه يبدو من الصعوبة بنفس القدر أن نفهم كيف يستطيع شيء ظاهر أنه خارجي مادي محدود ذو حيز أن يولد فكرة واضح أنها غير مادية وغير محدودة بحيز، وكيف تصبح فكرة في الذهن حركة في الجسم، أو كيف تستطيع فكرة أن تدقق التأمل في فكرة أخرى في غياهب الوعي.
ويتفادى سبينوزا بعض هذه المشاكل بنبذه فرضية ديكارت القائلة بأن الجسم والذهن جوهران مختلفان. ويعتقد أن الجسم والذهن شيء واحد، وأنهما نفس الحقيقة، وأنهما يدركان في مظهرين أو صفتين مختلفتين مثلما أن الامتداد والفكر شيء واحد في الله-ومن ثم لا تكون هناك مشكلة في كيفية تأثير الجسم في الذهن أو العكس بالعكس. وكل حدث هو العملية المتزامنة الموحدة للجسم والذهن كليهما. ويعرف سبينوزا الذهن بأنه "فكرة الجسم (97) " أي العمل السيكولوجي (وليس بالضرورة عملاً واعياً) المتلازم والمرتبط بأية عملية فسيولوجية. فالذهن هو الجسم نحس به من الداخل، والجسم هو الذهن نراه من الخارج والحالة الذهنية هي المظهر الداخلي أو الباطني لأي عمل جسمي. وأي عمل "للإرادة" هو المرافق الذهني لأية رغبة جسدية تتحول إلى تعبير بدني. وليس هناك عمل "للإرادة" في الجسم، ولكن هناك عمل واحد للكائن السيكوفسيولوجي
(الذهني المادي)، وليست "الإرادة" هي العلة، بل هي وعي الحدث أو العمل. "إن قرار الذهن، ورغبة الجسم وتصميمه
…
شيء واحد ليس إلا، إذا أدرجناه تحت صفة الفكر نسميه قراراً، وإذا اعتبرناه من صفا الامتداد، واستنتجناه من قوانين الحركة والسكون نسميه تصميماً "فعلاً منتهياً (98) ". ومن ثم فإن "نظام أفعال وانفعالات أو حركات جسمنا متزامنة مع نظام وانفعالات أو حركات الذهن (99) ". وفي كل أحوال التفاعل المفروض بين الذهن والجسم، ليست العملية الواقعية تفاعلاً بين حقيقتين أو جوهرين أو عاملين متميزين، بل هي عمل جوهر واحد، إذا رئي من الخارج سميناه جسماً، وإذا رئي من الداخل سميناه ذهناً. ولكل عملية في الجسم إلا أدركه الذهن (100)" ولكن هذا المتلازم الذهني قد لا يكون فكراً، بل قد يكون شعوراً، وقد لا يكون بالضرورة واعياً، وهكذا يأتي الذي يمشي وهو نائم بسلسلة من الأفعال وهو "غير واع (101)" وهذه النظرية تسمى "التوازي السيكوفسيولوجي"، وهي تفرض عمليات متوازية، لا في وجودين مختلفين، بل في وحدة سيكوفسيولوجية (عقلية جسدية) ترى رؤية مزدوجة.
وعلى هذا الأساس ينتقل سبينوزا إلى وصف ميكانيكي لعملية المعرفة. ومن المحتمل أنه حذا حذو هوبز في تعريف الإحساس والذاكرة والتصور على أسس بدنية (102). ويستدل على هذا بأن معظم المعرفة ينشأ من تأثيرات تحدثها فينا أشياء خارجية. ولكنه يسلم بما يذهب إليه المثالي من أن "الذهن البشري لا يدرك أن جسماً خارجياً موجود بالفعل إلا عن طريق أفكار عن تعديلات في جسمه (103) ". فالإدراك الحسي والعقلي، وهما شكلان للمعرفة، مشتقان من الإحساس. ولكن هناك شكل ثالث أسمى "المعرفة البديهية"، ولا يستمد (هكذا يعتقد سبينوزا) من الإحساس، بل من وعي واضح متميز مباشر شامل لفكرة أو حادث باعتباره جزءاً من نظام كوني له قانون.
واستبق سبينوزا لوك وهيوم حيث نبذ فكرة أن الذهن قوة أو وجود له أفكار، "فالذهن" تعبير عام أو مجرد عن تسلسل المدركات الحسية والذاكرات والتصورات والمشاعر وغيرها من الحالات العقلية.
"وفكرة الذهن، والذهن نفسه" في أية لحظة "شيء واحد بعينه (104) ". كما أنه ليس هناك "ملكات" متميزة، مثل العقل أو الإرادة، فهذه أيضاً تعبيرات مجردة عن مجموع المدركات والاختبارات. إن للعقل أو الإرادة صله بهذه الفكرة أو تلك، وبهذه الرغبة أو تلك، بنفس أسلوب الصلة بين الحجرية وهذا الحجر أو ذاك، أو الرجل بيتير أو بول (105). كما أن الفكرة والرغبة لا تختلفان. فالرغبة وعمل "الإرادة" هي مجرد فكرة "أكدت نفسها (106) "(أي أنها طال على بقائها من الوقت ما يكفي لاستكمال نفسها أو تحقيقها في فعل-كما تفعل الأفكار تلقائياً إذا لم يقف في طريقها عائق). "وليس قرار الذهن .... إلا مجرد توكيد تنطوي عليه الفكرة بقدر ما هي فكرة (107) .... والإرادة والفكر شيء واحد بعينه (108) ".
وثمة وجهة نظر أخرى، تلك هي أن ما نسميه إرادة هو ببساطة ذروة الرغبات ونشاطها، "أنا أفهم الرغبة
…
على أنها كل محاولات الإنسان وإندفاعاته وشهواته واختياراته التي لا يندر أن يتعارض بعضها مع بعض، إلى حد أنه يتخبط هنا وهناك، وهو لا يدري أية جهة يتجه (109)". والتروي هو تعاقب سيطرة الرغبات المتصارعة على الجسم والفكر. وهذا ينتهي عندما تثبت رغبة ما أنها بلغت من القوة مبلغاً تحتفظ معه بالحالة العقلية بها وقتاً كافياً لتنتقل إلى فعل. ويقول سبينوزا بأنه واضح أنه لا توجد "إرادة حرة"، فالإرادة في أية لحظة ليست إلا أقوى الرغبات. فنحن أحرار بقدر ما يجاز لنا أن نعبر عن طبيعتنا أو عن رغباتنا دون عائق خارجي، ولسنا أحراراً في اختيار طبيعتنا او رغباتنا، إنما نحن رغباتنا. وليس الذهن إرادة مطلقة أو حرة ولكن الذهن محكوم عليه بأن يريد هذه أو ذاك لعلة هي نفسها بدورها محكومة بعلة أخرى، وهذه بعلة ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية (110) ". ويظن الناس أنفسهم أحراراً لأنهم يعون اختياراتهم ورغباتهم، ولكنهم يجهلون العلل التي تؤدي بهم إلى أن يتخيروا ويرغبوا (111)، ومثل هذا مثل حجر يقذف به في الفضاء فيظن أنه يتحرك ويهوي بمحض إرادته (112).
ومن الجائز أن الجبرية الكلفنية في "جو الرأي" الذي عاش
فيه ديكارت وسبينوزا أثناء إقامتهما في هولندا، قد أسهمت مع ميكانيكا جاليليو (ولم تكن قاعدة نيوتن قد ظهرت بعد) في تشكيل النظرية الميكانيكية عند ديكارت، وعلم النفس الجبري عند سبينوزا. والجبرية هي الإيمان بالقضاء والقدر دون لاهوت. وهي تحل محل الدوامة أو السديم البدائي لله، وتتبع سبينوزا منطق الميكانيكا إلى نهايته المريرة، فإنه مثل ديكارت لم يقصره على الأجسام والحيوانات، بل طبقه على الأذهان كذلك، وكان لزاماً أن يفعل ذلك، حيث أن الذهن والجسم عنده شيء واحد. وخلص إلى أن الجسم آلة (113). ولكنه أنكر أن الجبرية تجعل الأخلاق عقيمة منافقة، إن عظات رجال الأخلاق والمثل العليا عند الفلاسفة، ووصمة عار الاستنكار العام وعقوبات المحاكم لا تزال ضرورية ذات قيمة، وإنها لتدخل في تراث وخبرات الفرد الذي يكبر وينمو، ومن ثم في العوامل التي تشكل رغباته وتحدد إرادته وتحكمها.
6 - الإنسان
يدخل سبينوزا في فلسفته التي يظهر أنها جامدة عاملين فعالين، أولهما وبصفة عامة، هو أن المادة والذهن متحدان في كل مكان، وأن كل الأشياء مفعمة بالحيوية والنشاط، وأن فيها شيئاً مماثلاً لما نسمعه في أنفسنا بالذهن أو الإرادة، والثاني، وعلى وجه التخصيص، هو أن هذا العنصر الحيوي يشتمل في كل شيء على "محاولة للإبقاء على الذات". أن كل شيء بقدر ما هو في نفسه يسعى للمحافظة على وجوده هو نفسه. و "قدرة أي شيء أو سعيه
…
للإصرار على وجوده، ليس إلا
…
مجرد ماهية ذاك الشيء (114)". ومثل الفلاسفة السكولاسيين الذين قالوا "أن تكون هو أن تعمل"، وأن الله "نشاط محض"، ومثل شوبنهور الذي رأى في الإرادة ماهية كل الأشياء، ومثل الفيزيائيين الحديثين الذين يختزلون المادة إلى طاقة يعرف سبينوزا ماهية كل كائن عن طريق قدراته على الفعل أو العمل. "وقدرة الله هي من نفس ماهيته (115)"، وفي هذه الناحية "يكون الله طاقة (ويمكن أن تسمى الطاقة، بالإضافة إلى المادة والذهن، صفة ثالثة ندرك أنها تؤلف ماهية الجوهر أو الحقيقة) ". ويحذو سبينوزا حذو هوبز في تصنيف الوجودات حسب قدرتها على الفعل
وتأثيرها. "ويقدر كمال الأشياء حسب طبيعتها وقدرتها فحسب (116) " ولكن "كامل" عند سبينوزا معناه "تام".
ونتيجة لهذا يعرف سبينوزا الفضيلة بأنها القدرة على التصرف والفعل، "أني أفهم من الفضيلة والقدرة نفس الشيء (117) ". ولكنا سنرى أن هذه القدرة تعني القدرة على أنفسنا، حتى أكثر من القدرة على الآخرين (118) كلما ازداد المرء سعياً وراء ما فيه نفعه-سعياً وراء المحافظة على وجوده-ازداد تنعمه بالفضيلة
…
فالسعي للمحافظة على الذات هو الأساس الوحيد للفضيلة (119). فالفضيلة عند سبينوزا حيوية (بيولوجية)، داروينية على الأغلب، إنها أية صفة تعمل على البقاء. وبهذا المعنى، على الأقل، تكون الفضيلة جزاء الفضيلة. "فهي مرغوب فيها من أجلها هي وحدها، وليس ثمة شيء أكثر امتيازاً أو نفعاً لنا .... من أجله ينبغي أن تكون الفضيلة مرغوباً فيها (120) ".
ولما كان السعي للمحافظة على الذات (التنازع من أجل البقاء) هو الماهية الفعالة لكل شيء. فإن كل الدوافع تنبع منه، وهذه الدوافع في أساسها أنانية. ومن حيث أن العقل لا يطالب بشيء ضد الطبيعة، فهو يطالب، لذلك، بأن يحب كل إنسان نفسه، ويلتمس ما هو مفيد له-أعني ما هو حقاً له-ويرغب في كل ما يؤدي بالإنسان حقاً إلى حالة كمال أعظم، وأخيراً أنه يجب على كل إنسان أن يسعى جاهداً للمحافظة على وجوده قدر استطاعته (121). وليس ضرورياً أن تكون هذه الرغبات واعية، فقد تكون شهوات لا واعية قائمة في الجسد. وهي تؤلف في جملتها ماهية الإنسان (122). ونحن نحكم على كل الأشياء على أساس رغباتنا. نحن لا نناضل من أجل أي شيء أو نريده أو نتلمسه ونرغب فيه لأننا نظن أنه خير، بل نحكم على شيء بأنه خير
…
لأننا نرغب فيه (123). "أني أفهم أن الخير هو ما نعلم علم اليقين أنه نافع لنا (124) "(وهنا نجد، في جملة واحدة، مذهب المنفعة عند بنتام).
وكل رغباتنا تهدف إلى اللذة أو تجنب الألم. "اللذة هي انتقال الإنسان من حالة كمال أدنى (125) " واللذة تصاحب أية ممارسة
وشعور يعزز ويزيد من قيمة النشاط أو التقدم الذاتي الجسدية العقلية (126). ويتمثل الفرح في أن قدرة المرء تزداد (127) "
(1)
. وكل شعور يوهن من حيوتنا إنما هو ضعف لا فضيلة. وما أسرع ما يتخلص الرجل السليم من مشاعر الحزن والندم والاتضاع والأسف (129)، وهو على أية حال أكثر من الرجل الضعيف استعداداً لمد يد المساعدة، لأن الكرم فائض القوة الواثقة. وأية لذة تكون مشروعة إذا لم تعوق لذة أعظم أو أبقى، ويمتدح سبينوزا، مثل أبيقور، اللذات العقلية باعتبارها أو فضلها، ولكنه يسوق كلمة طيبة في تشكيلة كبيرة من اللذات:
لا يمكن أن يكون ثمة مرح بالغ .... وليس هناك ما يحرم الضحك إلا الخرافة الكئيبة .... والإفادة من كل الأشياء والابتهاج بها قدر الإمكان (لا إلى حد التخمة حقاً، لأن هذه ليست ابتهاجاً) جزء من الرجل الحكيم العاقل .. فيتناول المعتدل الطيب من الطعام والشراب، ويستمتع بالعطور والحدائق والثياب والموسيقى والألعاب والمسارح (130).
أن المشكلة في مفهوم اللذة باعتبارها تحقيقاً للرغبات، تكمن في أن الرغبات قد تتصارع، فإن الرغبات لا تنتظم في تسلسل متناسق منسجم إلا عند الإنسان العاقل الحكيم. والرغبة عادة هي المتلازم الواعي لشهوة متأصلة في الجسم، وقد يبقى قدر كبير من الشهوة غير واع، إلى حد أننا لا يكون لدينا إلا مجرد "أفكار مشوشة غير وافية" عن عللها ونتائجها. ومثل هذه الرغبات المشوشة يسميها سبينوزا عواطف أو انفعالات. ويعرفها بأنها "تعديلات في الجسم تزيد أو تنقص بها قدرة الجسم على العمل .... وفي نفس الوقت أفكار هذه التعديلات (131) " وهو تعريف يسلم تسليماً غامضاً بدور الإفرازات الباطنية في العواطف، يستبق بشكل ملحوظ نظرية س. ج. لانج ووليم جيمس التي تقول بأن التعبير الجسدي عن العاطفة هو النتيجة المباشرة الغريزية للعلة، وأن الشعور الواعي مصاحب أو نتيجة، لا علة، لتعبير الجسم أو استجابته. ويقترح سبينوزا دراسة العواطف-الحب والبغض والغضب والخوف الخ-وسيطرة العقل
(1)
يردد نيتشه هذه التعاريف: "ما هو الخير؟ " هو كل ما يعزز الإحساس بالقدرة .... ما هي السعادة؟ .... هي الإحساس بأن القدرة تتزايد (128) ".
عليها "بنفس الطريقة
…
كما لو كنت أعالج الخطوط والسطوح والأجسام (132)" لا لأمتدحها ولا لأنتقص منها، لا لأفهمها، لأننا "كلما ازددنا معرفة بالعاطفة ازدادت سيطرتنا عليها، وأصبح الذهن أقل سلبية بالنسبة لها (133)". ودان تحليل العواطف الناتج عن هذه الدراسة ببعض الفضل لديكارت، وربما بفضل أكبر لهوبز، ولكنه بزهما، حتى أن جوهانس موللر، عندما عالج موضوع العواطف في كتابه الممتاز "فسيولوجية العواطف" (1840) كتب يقول "بالنسبة لعلاقات العواطف بعضها ببعض، بعيداً عن ظروفها الفسيولوجية، فإنه يتعذر الإداء ببيان أوفى مما ذكره سبينوزا في براعة لا تفوقها براعة (134)"-وأخذ يقتبس كثيراً من كتاب "الأخلاق".
وتصبح العاطفة هوى أو انفعالاً، إذا كانت علتها الخارجية-بسبب أفكارنا المهوشة الناقصة عن منشئها ومغزاها-تفرض علينا شعورنا واستجابتنا، كما هو الحال في البغض أو الغضب أو الخوف". أن الذهن يخضع بشكل أو بآخر للأهواء والانفعالات، تبعاً لما لديه بنفس القدر من أفكار كافية أو ناقصة (135). والإنسان ذو المقدرة الضعيفة على الإدراك الحسي والفكري خاضع بصفة خاصة للأهواء. ومثل هذه الحياة يصفها سبينوزا في كتابه الفذ، الجزء الرابع، "استرقاق الإنسان"، فإن هذا الإنسان مهما كان تصرفه عنيفاً، سلبي بليد، مسوق بمؤثر خارجي، بدلاً من أن يتماسك ويثبت ويعمل فكره. "إن أسباباً خارجية تقودنا على غير هدى في دروب متشعبة كثيرة، وكما تسوق الرياح الهوج غير المواتية الأمواج سوقاً، فإننا نضطرب ونتردد على غير وعي بالعاقبة ولا بالمصير (136) ".
ترى هل نستطيع فكاكاً من هذا الاسترقاق، ونصبح بدرجة ما سادة أنفسنا وحياتنا؟.
7 - العقل
لن تكون لنا سيادة تامة على أنفسنا أبداً، لأننا سنبقى جزءاً من الطبيعة، خاضعين (كما كان يقول نابليون)"لطبيعة الأشياء". وحيث أن العواطف هي قوتنا الدافعة، والعقل مجرد ضوء، وليس
لهيباً، "فإن أية عاطفة لا يمكن تعويقها أو القضاء عليها إلا بعاطفة أخرى متعارضة وأشد قوة (137) ". ومن هنا كان المجتمع بحق يحاول جاهداً أن يلطف من انفعالاتنا وأهوائنا باللجوء إلى حبنا للثناء وحسن الجزاء وخوفنا من العتاب والعقاب (138). كما يسعى المجتمع جاهداً بحق ليغرس فينا الشعور بالصواب والخطأ وسيلة أخرى لكبح جماح الأهواء والانفعالات. والضمير، بطبيعة الحال، نتاج اجتماعي، وليس هبة أو منحة فطرية إلهية (139).
ولكن في استخدام الثواب والعقاب الوهميين في الحياة بعد الموت، حوافز على الخلق القويم، تشجيعاً على الخرافة، لا يليق أبداً بمجتمع ناضج. وينبغي أن تكون الفضيلة-وهي فعلاً كذلك-جزاء نفسها، إذا عرفناها، مثل الرجال، بأنها المقدرة والذكاء، والقوة، لا مثل الجبناء، بأنها الإذعان والطاعة والتواضع والخوف. واشمأز سبينوزا من النظرة المسيحية إلى الحياة بأنها واد من الدموع، وإلى الموت بوصفه مدخلاً للنعيم أو الجحيم، وقد أحس بأن هذا يلقي حجاباً كثيفاً من الكآبة على نشاط البشر، ويغشي بفكرة الخطيئة آمال الناس وأمنياتهم ومسراتهم المشروعة بالظلام والقتام. إن التفكير في الموت ليل نهار سبة في جبين الحياة وامتهان لها "أن أقل ما يفكر فيه الإنسان الحر هو الموت، وأنه ليفرغ كل حكمته وعقله في التأمل في الحياة، لا في الموت (140) ".
وعلى الرغم من ذلك كان سبينوزا يبدو في بعض الأحايين وكأنه يحوم حول فكرة الخلود أن نظريته في الذهن والجسم باعتبارهما جانبين لنفس الحقيقة أدت به منطقياً إلى أن يرى فناءها متزامناً. وهو يؤكد هذا في وضوح تام: "أن الوجود الراهن للذهن، وقدرته على التصور تزولان بمجرد أن يكف الذهن عن توكيد الوجود الراهن للجسم (141) ". ثم "أن الذهن لا يمكن أن يتصور شيئاً، ولا أن يتذكر شيئاً مضى إلا حين يكون الجسم موجوداً (142) ". وتظهر في الجزء الخامس بعض فروق غامضة: "أننا إذا نظرنا إلى الرأي السائد بين الناس لرأينا أنهم يعون حقاً خلود أذهانهم، ولكنهم يخلطون بين هذا وبين البقاء أو الدوام، وينسبونه إلى التصور والذاكرة اللتين يعتقدون أنهما تبقيان بعد الموت (143) ". وما دام الذهن عبارة
عن سلسلة من الأفكار والذكريات والتصورات المؤقتة المرتبطة بجسم معين، فإنه ينقطع وجوده عندما يفنى الجسم، وهذا هو "البقاء الفاني" الذهن. ولكن ما دام الذهن البشري يدرك الأشياء في علاقاتها الأبدية، باعتبارها جزءاً من المنهج الشامل الذي لا يتغير للقانون الطبيعي، فإنه يرى الأشياء كأنها في الله، ويصبح جزءاً من الذهن الإلهي ويكون خالداً:
أننا نتصور الأشياء واقعية بطريقتين: أما بقدر ما نتصور وجودها بالنسبة لزمان ومكان معينية، أو بقدر ما نراها متضمنة في الله (وفي النظام والقوانين الأزلية) وأنها تنشأ عن ضرورة الطبيعة الإلهية (أي تلك القوانين). ولكن الأشياء التي ترى في الحالة الثانية على أنها صادقة أو حقيقية إنما نتصورها نوعاً معيناً من الأزلية (في جانبها الأزلي). وأفكارها تتضمن ماهية الله الأزلية اللامتناهية (144).
وعندما نرى الأشياء بهذه الحالة السرمدية، فإننا نراها كما يراها الله، وعند هذا الحد تصبح أذهاننا جزءاً من الذهن الإلهي، وتشارك في الأزلية.
أننا لا ننسب إلى ذهن الإنسان بقاء يحدد بزمن. ولكن حيث أن هناك، على الرغم من ذلك، شيئاً آخر يتصور في ظل ضرورة أزلية معينة، عن طريق ماهية الله، فإن هذا الشيء الآخر سيكون بالضرورة الجزء الأزلي الذي يتعلق بالذهن (145) .... ونحن على يقين من أن الذهن أزلي طالما أنه يتصور الأشياء في ظل الأبدية (146).
ولنفترض أنه في التأمل في التسلسل المهيب للعلة والنتيجة الظاهرتين طبقاً لقوانين واضح أنها أبدية، أحس سبينوزا أنه قد هرب، مثل بوذي بلا خطيئة، من أغلال الزمن، وشارك في وجهة نظر الذهن الأزلي وهدوئه.
وعلى الرغم من الوصول الظاهري للقمر، خصص سبينوزا معظم ختام الجزء الخامس "الحرية الإنسانية" لصياغة علم أخلاق طبيعي، ينبوع ومنهج الأخلاق، مستقلين عن الحياة بعد الموت، ولو أن استخدم في ولع شديد تعبيرات دينية، وأن جملة واحدة لتكشف عن نقطة البداية. "أن العاطفة التي تكون انفعالاً أو هوى لا تعود انفعالاً ولا هوى إذا نحن كونا عنها فكرة واضحة متميزة (147) "-أي أن العاطفة التي تثيرها أحداث خارجية يمكن الهبوط بها من الانفعال إلى شعور منضبط إذا هيأنا لمعرفتنا أن نحتال عليها حتى تصبح علتها وطبيعتها واضحتين، كما يصبح التنبؤ بعاقبة التصرف أمراً ممكناً من خلال الخبرة المختزنة في الذاكرة. وثمة طريقة لإيضاح الحالة العاطفية، تلك هي أن نرى الأحداث التي أنشاتها، بوصفها جزءاً من سلسلة من علل طبيعية ونتائج ضرورية لها. "وبقدر ما يفهم الذهن كل الأشياء على أنها ضرورية لازمة، يكون اكثر سيطرة على العواطف، وأقل سلبية نحوها (148) "-أي أقل نهباً للانفعالات والأهواء. ولن يصبح أي إنسان انفعالياً لما يعتبره طبيعياً لازماً. ويمكن التخفيف من حدة الغضب لأية إساءة، إذا نظرنا إلى المسيء باعتباره نتاج الظروف التي لم يستطع التحكم فيها. كما يمكن التخفيف من الحزن على فقد والدين مسنين بتذكر أن الموت أمر طبيعي. "ومحاولة الفهم هي الأساس الأول الوحيد للفضيلة (149) "، بمعنى هذه الكلمة عند سبينوزا، لأنها تنقص من خضوعنا للعوامل الخارجية، وتزيد من قدرتنا على ضبط أنفسنا والمحافظة عليها. والمعرفة قدرة أو قوة، ولكن أفضل وأنفع شكل لهذه القمة هو سيطرتنا على أنفسنا.
وهكذا يطبق سبينوزا طريقته الرياضية (طريقة إقليدس) علي حياة العقل. ويسترجع الأنواع الثلاثة التي وضعها للمعرفة، فيصف المعرفة الحسية، بأنها تتركنا عرضة إلى حد كبير للمؤثرات الخارجية، والمعرفة العقلانية (المكتسبة عن طريق التفكير والتأمل) بأنها تحررنا تدريجياً من استرقاق الانفعالات حيث تمكننا من رؤية العلل المحتومة غير الشخصية للأحداث، وأخيراً المعرفة البديهية أو الحدسية-الوعي المباشر بنظام الكون-ويصفها بأنها تجعلنا نحس أنفسنا جزءاً من ذاك
النظام، "ومتحدين مع الله". وينبغي ان نتوقع ونحتمل وجهي الحظ كليهما بنفس الذهن، لأن كل الأشياء تنشأ من القانون الأبدي لله، بنفس الطريقة التي ينشأ بها من ماهية المثلث أن زواياه الثلاث تشكل زاويتين قائمتين (150). أن هذا الهروب من التفكير الطائش هو الحرية الحقيقية الوحيدة (151). وهذا الذي يستطيع بلوغها، يملان-كما اعتاد الرواقيون أن يقولوا-أن يكون حراً في كل الظروف في كل حالة تقريباً. أن أكبر هبة يمكن أن تمنحنا إياها المعرفة هي أن نرى أنفسنا كما يرانا العقل.
وعلى هذا الأساس من المذهب الطبيعي يصل سبينوزا إلى بعض نتائج أخلاقية، مثل تلك التي وصل إليها المسيح، بشكل يدعو إلى الدهشة:
أن الذي يعرف بحق أن كل الأشياء تنشأ من ضرورة الطبيعة الإلهية، وتسير وفق قوانين أزلية طبيعية منتظمة، لن يجد إطلاقاً شيئاً جديراً بالكراهية، أو السخرية أو الازدراء، كما أنه لن يرثى لأحد، ولكنه، بقدر ما تسمح الفضيلة البشرية، سيسعى جهده ليعمل صالحاً .... ويبتهج (152) .... أن الذين يعترضون على الناس ويؤثرون استنكار الرذائل، لا غرس الفضائل
…
مصدر ازعاج لأنفسهم وللآخرين معاً (153) .... أن الرجل القوي لا يبغض أحداً، ولا يثير غضبه أحد، ولا يحسد أحداً، ولا ينقم على أحد، وليس بأية حال مغروراً (154). أن الذي يعيش على هدى من العقل، يحاول قدر طاقته أن يقابل الكراهية والغضب والاحتقار
…
الخ، بالحب والكرم
…
وهذا الذي يرغب في الانتقام للأدى بالكراهية المتبادلة، إنما يعيش حليف البؤس والشقاء. فالكراهية تتفاقم إذا كانت متبادلة، وعلى العكس يمكن القضاء عليها بالحب (155) .... والناس، بهدى من العقل، .... لا يرجون لأنفسهم شيئاً لا يحبونه لسائر البشر (156). (أحب لأخيك ما تحب لنفسك).
وهل ضبط العاطفة بالعقل على هذا النحو، يتعارض كما يطن بعضهم (157)، مع تسليم سبينوزا بأنه ليس ثمة إلا عاطفة يمكن أن تقهر عاطفة؟. من الجائز أن يكون هذا إلا إذا كان من الميسور أن يرتفع التزام جادة العقل إلى مستوى عاطفي وتحمس. أن المعرفة الحقة بالخير والشر لا يمكن أن تكبح جماح أية عاطفة بقدر ما تكون المعرفة حقة، بل يقدر ما تعتبر هذه المعرفة عاطفة (158). إن تلك الحاجة، وربما الرغبة في الهاب العقل وأثارته بعبارات تكللها التقوى والزمن بالتبجيل والاحترام، هي التي أدت بسبينوزا إلى الفكر الأخير الذي توج به عمله-وهو أن "الحب العقلي لله" يجب أن يلهم حياة العقل ويرفع من شأنها. وحيث أن "الله" في رأي سبينوزا، هو الحقيقة الأساسية، والقانون الثابت الذي لا يتغير للكون نفسه، فإن هذا الحب العقلي لله ليس مجرد استرضاء مذل لسلطان جالس على طبيعة الأشياء ونظام العالم. إن احترام إرادة الله، والامتثال الواعي لقوانين الطبيعة شيء واحد. وبقدر ما يجد العالم الرياضي من رهبة ونشوة في أن يرى العالم خاضعاً لقواعد قياسية رياضية، قد يجد الفيلسوف أعمق سرور في تأمل عظمة الكون يسير رابط الجأش في تواتر القانون الكوني الشامل. وحيث أن "الحب لذة مصحوبة بفكرة علة خارجية (159)، فإن الحب الذي نستمده من رؤية نظام الكون-وتكييف أنفسنا معه-يسمو إلى حب الله الذي هو حياة ونظام الكل. وحينئذ يغمر حب الكائن السرمدي اللامتناهي، يغمر الذهن تماماً بالفرح والبهجة (160) ". أن هذا التأمل في العالم، كنتيجة لازمة لطبيعته-طبيعة الله-هو المصدر الآخر للرضا والاطمئنان في ذهن الإنسان العاقل، وهو يوفر له هدوء التفكير والارتياح إلى قيود أو الحدود المعترف بها للحق المحبوب المقبول. "أن أعظم خير للذهن هو معرفة الله، وأسمى فضيلة في الذهن هي معرفة الله (161) ".
وهكذا زواج سبينوزا في نفسه بين العالم الرياضي والمتصوف. وأبى أن يرى في ربه روحاً قادرة على مقابلة حب الإنسان أو مكافأة الابتهالات والصلوات بالمعجزات، ولكنه خص ربه بالعبارات الرقيقة التي ألهمت لآلاف السنين أبسط المتدينين المتحمسين وأعمق المتصوفين
في البوذية واليهودية والمسيحية والإسلام، ووجدوا فيها السلوى والراحة. ومذ قبع سبينوزا واهناً مقروراً وحيداً في علياء فلسفته، تواقاً إلى أن يعثر في الكون على شيء يتقبل عبادته وثقته، فإن المهرطق الوديع، الذي كان قد أبصر الكون رسماً هندسياً، انتهى برؤية كل الأشياء في الله وفقدانها في الله، حيث أصبح "الملحد" النشوان بحب الله. مما أدى إلى أرتابك الأجيال القادمة وحيرتها. أن الدافع الذي لا يقاوم للعثور على معنى في الكون جعل النأي عن كل عقيدة يختم محاولته برؤية إله قدير، وبإحساس مثير رفيع بأنه كان قد بلغ الأبدية، ولو للحظة واحدة.
8 - الدولة
إن سبينوزا، بعد أن كان قد انتهى من كتاب "الأخلاق" ربما أحس، مثل معظم القديسين المسيحيين، بأنه قد صاغ فلسفة لمنفعة الفرد وخلاصه، لا لتوجيه وهداية جماعة المواطنين في دولة. ومن ثم فإنه حوالي 1675 تفرغ لدراسة الإنسان "حيواناً سياسياً"، وليطبق العقل على مشاكل المجتمع. وشرع في تدوين شذرات "الرسالة السياسية"، موطداً العزم، كما فعل في تحليل الانفعالات، على أن يكون موضوعياً ينتهج أسلوب عالم الهندسة أو الفيزياء:
رغبة في بحث مادة هذا العلم بنفس الروح الحرة التي ننتهجها بصفة عامة في الرياضيات، بذلت غاية الجهد في الحرص على ألا أسخر من أفعال البشر أو أرثى لها، بل على أن أتفهمها، ولهذا الغرض نظرت إلى انفعالات الحب والكراهية والغضب، والحسد والطمع والحسرة وسائر إرهاصات الذهن، لا في ضوء رذائل الطبيعة البشرية، بل باعتبارها من خواص الذهن، وهي وثيقة الصلة به، مثل الصلة الوثيقة بين الحرارة والبرودة، والعاصفة والرعد، وما إليها، وبين طبيعة الجو (162).
ومذ كانت الطبيعة الإنسانية هي مادة علم السياسة، فإن سبينوزا أحس بأن دراسة الدولة ينبغي أن تبدأ ببحث الخلق الأساسي للإنسان. وقد نفهم هذا بشكل أفضل إذا تيسر لنا أن نتصور الإنسان قبل أن يعدل
التنظيم الاجتماعي من سلوكه، بالقوة والأخلاقيات وبالقانون، وأن نتذكر أن تحت خضوعه الهم الكريه لهذه المؤثرات التي تؤهله لبيئة اجتماعية، لا تزال تضطرم بين جنبيه دوافع غير مشروعة لم يكن يجد منها في "حالة الطبيعة" إلا الخوف من القوة العدائية. وحذا هوبز وكثيرين غيره في القول بأن الإنسان عاش يوماً في مثل هذه الحالة، وبأن صورته في هذه الوحشية الافتراضية تكاد تكون قاتمة مثل صورته في "اللواياثان" تقريباً. وفي "جنة الشر" هذه كانت قوة الفرد هي الحق الوحيد، ولم يكن ثمة شيء يعتبر جريمة لأنه لم يكن هناك قانون ولم يكن ثمة شيء عدل أو ظلم، صواب أو خطأ، لأنه لم يكن هناك قانون أخلاقي. وبناء على هذا "كان قانون الطبيعة وأوامرها لا تخطر شيئاً .. ولا تقاوم الصراع أو الكراهية أو الغضب أو الخيانة أو بصفة عامة أي شيء توحي به الشهوة (163) ". وبمقتضى "حق الطبيعي حينذاك، أعنى بعملية الطبيعة، متميزة عن قواعد المجتمع وقوانينه-يكون لأي لإنسان الحق هذا فيما تمكنه قوته من اكتسابه أو الاستيلاء عليه، ولا يزال هذا أمر مسلماً به بين الأجناس استغلال الحيوانات لخدمته أو لغذائه (165).
ويلطف سبينوزا من هذه الصورة الوحشية بالإيحاء بأن الإنسان، حتى في أول ظهوره على الأرض، ربما كان يعيش بالفعل في جماعات اجتماعية. ومن حيث أن الخوف من الوحدة كان في كل الناس-لأن أي إنسان في الوحدة لا يملك من القوة ما يدافع به عن نفسه، ويحصل به على ضرورات حياته-فإن هذا يستتبع ينزع الناس بالطبيعة إلى تنظيم اجتماعي (166). ومن ثم فإن في الناس غرائز اجتماعية وغرائز فردية على حد سواء. وللمجتمع وللدولة جذور في طبيعة الإنسان. وكيفما حدث هذا وحيثما حدث، فإن الناس والأسرات اتحدت في جماعات، وحد آنذاك حق الجماعة أو قوتها من "الحق الطبيعي" للفرد أو من قوته. ولا ريب في أن الناس قبلوا هذه القيود أقوى أداة للإبقاء على الفرد ولتنميته وتطويره. وعلى ذلك فإن تعريف الفضيلة بأنها أية صفة تعمل على البقاء-مثل "النزوع للمحافظة
على الذات (167) "- كان ينبغي التوسع فيه (أي التعريف) ليشمل أية صفة تعمل على بقاء الجماعة. أن التنظيم الاجتماعي، والدولة على الرغم من تقييداتها، والمدنية على الرغم من خداعها، كل هذه هي أعظم المخترعات التي ابتدعها الإنسان للمحافظة على ذات وتنميتها وتطويرها.
ولذلك يستبق سبينوزا رد فولتير على روسو:
دع الهجائين يسخروا ما طابت لهم السخرية من شئون البشر، ورجال اللاهوت يلعنوهم، ودع المكتئبين يمتدحوا قدر طاقتهم الحياة الانعزالية القاسية الوحشية، فليزدروا الإنسان ويعجبوا بالوحوش، فعلى الرغم من هذا كله، سيجد الناس أنهم، بالعون المتبادل، وفي يسر أكثر كثيراً، يستطيعون إعداد ما يحتاجون إليه
…
والإنسان الذي يسير بهدى من العقل أكثر حرية من دولة يعيش فيها وفق القانون العام، منه في وحدة لا يخضع فيها لأي قانون (168).
ويرفض سبينوزا كذلك الطرف الآخر من حلم "لا قانون"-يوتوبيا الفوضوي الفيلسوف:
إن العقل يستطيع حقاً أن يصنع الكثير ليكبح جماح الانفعالات والتخفيف منها، ولكنا رأينا .... أن الطريق الذي يحدده العقل نفسه شديد الوعورة، ومن ثم فإن الذين يقنعون أنفسهم بأن الجمهور قد يغريه يوماً أن يعيش وفق أوامر العقل المجردة، لا بد أنهم يحلمون بالبيضة الذهبية الوارد ذكرها في الأشعار، أو برواية مسرحية (169).
وينبغي أن يكون هدف الدولة مهمتها تمكين أعضائها من أن يحيوا حياة العقل:
ليست الغاية القصوى للدولة أن تهيمن على الناس، ولا أن تكبح جماحهم بالرهبة، بل أن تحرر الإنسان من الخوف، حتى يعيش ويعمل آمناً مطمئناً كل الاطمئنان، دون أن يلحق به أو بجاره أي أذى. وليست غاية الدولة أن تجعل من الكائنات العقلانية حيوانات ضارية وآلات
(كما هو الحال في الحرب) بل تمكين أجسامهم وأذهانهم من أداء وظيفتها في أمان، أن غايتهم أن توجد الناس ليعيشوا على العقل السليم الصادق ويمارسوه .... أن غاية الدولة حقاً هي الحرية (170).
ونتيجة لذلك يجدد سبينوزا دعوته إلى حرية التعبير، أو على الأقل حرية الفكر، ولكنه استسلم مثل هوبز، للخوف من التعصب والصراع الديني، فاقترح، لا مجرد إخضاع الكنيسة للدولة، بل أن تحدد الدولة أي المذهب الدينية يلقن للناس.
وينتقل سبينوزا إلى بحث الأشكال التقليدية للحكومة، وإذ أصبح وطنياً هولندياً منبرماً يغزو لويس الرابع عشر لهولندا، فإن الملكية لم ترق في عينيه، وهاجم بشدة نظرية هوبز في الحكم الاستبدادي المطلق:
المظنون أن التجارب تعلمنا أن وضع السلطة في يد رجل واحد مدعاة للسلام والهدوء والانسجام، لأن أي نظام سياسي لم يكتب له البقاء طويلاً دون تغيير يذكر، مثل النظام التركي، على حين أن أي نظام لم يكن قصير الأجل تعتروه الفتن والمشاغبات سوى الدول ذات النظام الشعبي أو الديموقراطي. ولكن إذا كانت العبودية والوحشية والدمار تسمى سلاماً، لكان السلام أشد محنة تبتلى بها الدولة
…
إن الاسترقاق. لا السلام، هو الذي ينتج عن وضع السلطة في يد رجل واحد. فإن السلام لا يكمن في عدم وجود الحرب، بل في اتحاد نفوس الناس وانسجامها (171).
وقد تكون الأرستقراطية "حكومة الصفوة" ممتازة، لو لم تكن هذه الصفوة خاضعة للروح الطبقية والحزبية العنيفة وجشع الفرد أو الأسرة. إذا تجرد الأرستقراطيون أو الأشراف من كل الأهواء وكانوا لا يصدرون في أعمالهم إلا عن غيرة على المصلحة العامة، لما كان ثمة دولة يمكن أن تقارن بالأرستقراطية. ولكن التجربة تعلمنا علم اليقين أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، أي أن الأمور تجري على عكس ما نريد (172).
وهكذا شرع سبينوزا في أواخر أيام حياته وهو على سرير الموت يخطط آماله في دولة أرستقراطية. أن الرجل الذي أحب جان دي ويت الذي قتله الرعاع، لم تساوره أية أوهام بالنسبة للجمهور. أو أولئك الذين خبروا تقلب مزاج الناس، كاد يتغلب عليهم اليأس، لأن الناس تحكمهم العاطفة، لا العقل، لأنها تغلب على كل شيء، وما أيسر أن يفسدها الجشع والترف (173). ومع ذلك "أعتقد أن الديموقراطية أقرب أشكال الحكم إلى الطبيعة وأكثرها اتساقاً مع حرية الفرد. وفيها لا ينقل أحد حقه الطبيعي أو يفرض به تفويضاً مطلقاً إلى حد لا يعود له معه أي صوت في أمور الحكم، بل هو لا يفعل إلا أن ينقله إلى الأغلبية (174) " واقترح سبينوزا منح حق الاقتراع العام لكل الذكور فيما عدا القاصرين والمجرمين والأرقاء. واستبعد النساء لأنه رأى أنهن بحكم طبيعتهن وأعبائهن أقل صلاحية من الرجال للتداول والتشاور والحكم (175). ورأى أنه يمكن تشجيع الموظفين الرسميين على السلوك القويم وانتهاج سياسة سليمة، إذا "أمكن أن تؤلف الميليشيا (القوات المسلحة) من المواطنين وحدهم، دون إعفاء أحد منهم لأن الرجل المسلح أكثر استقلالاً من غير المسلح (176) ". وأحس بأن رعاية الفقراء والمساكين التزام إجباري على المجتمع بأسره (177). وما ينبغي أن يكون هناك إلا ضريبة واحدة:
الحقول والأرض كلها، والبيوت إذا أمكن تدبيرها أن تكون ملكاً عاماً، أي ملكاً لمن له حق الحكم في الدولة، وهذا بدوره يؤجرها للمواطنين مقابل إيجار سنوي
…
وبهذا الاستثناء وحده، دعهم أحراراً معفين من أي نوع من الضرائب في زمن السلم (178).
وفي اللحظة التي أقبل فيها على أثمن جزء من رسالته اختطف الموت القلم من يده.
9 - سلسلة من التأثيرات
في السلسلة الضخمة من الأفكار التي تربط تاريخ الفلسفة إلى مجرى كريم واحد يتلمس فيه الفكر البشري الحائر طريقه، نجد منهج سبينوزا يتشكل في عشرين قرناً وراءه، ويسهم في تشكيل العالم
الحديث. أنه أولاً، بطبيعة الحال، كان يهودياً، وعلى الرغم من أنه كان محروماً من الكنيس، فإنه لم يستطع أن يخرج عن هذا التراث الضخم، ولا أن ينسى سنين تأمله في العهد القديم والتلمود وكثير من الفلاسفة اليهود. ولنعد بالذاكرة إلى الهرطقات التي روعت انتباهه في ابن عزرا وابن ميمون، وهاسادي كريسكاس، وليفي بين جيرسون وأورييل أكوستا. ولا بد أن دراسته للتلمود ساعدت على شحذ الإحساس المنطقي الذي جعل من رسالة "الأخلاق" معبداً ممتازاً للعقل. قال سبينوزا "أن بعض الناس" يبدءون فلسفتهم من الأشياء المخلوقة، وبعضهم من الذهن البشري، أما أنا فأبدأ من الله (179). وتلك كانت الطريقة اليهودية.
إن سبينوزا أخذ القليل عن الفلاسفة الذي جرت التقاليد على أشد الاعجاب بهم ولو أنه في تمييزه بين عالم الأشياء العابرة وعالم الله ذي القوانين الأزلية. قد نجد صيغة أخرى لتفريق أفلاطون بين الوجودات الفردية ونماذجها الأصلية في ذهن الله. وأمكن تتبع تحليل سبينوزا للفضائل إلى كتاب أرسطو "الأخلاق" عند نيقوماخوس (180). ولكنه قال لأحد أصدقائه "لم يكن أفلاطون وأرسطو وسقراط كبيرون عندي (181) ". أنه مثل بيكون وهوبز، آثر ديمقريتس وأبيقور ولوكريشيوس. وقد يرجع مثل الأعلى في الأخلاق صدى الرواقيين، وقد ترن في آذاننا بعض نبرات ماركوس أوريليوس، ولكنه كان منسجماً كل الإنسجام مع أبيقور.
أن سبينوزا دان للفلاسفة السكولاسيين بفضل أكثر مما وضح له. إنهم تسربوا إليه عن طريق ديكارت. إنهم كذلك-مثل توما الأكويني في "الرسالة الجامعة" الرائعة. كانوا قد حاولوا عرضاً هندسياً للفلسفة، وزودوه بكثير من المصطلحات، مثل الجوهر، والطبيعة الخالقة، والصفة والماهية والخير الأسمى وكثير غيرها. أن قولهم بتعادل الوجود والماهية في الله، أصبح ما قال به هو تعادل الوجود والماهية في الجوهر، ومد إلى الإنسان إدماجهم العقل والإرادة في الله.
وربما قرأ سبينوزا أعمال برونو (كما يظن بيل)، وارتضى تمييز جيوردانو بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة. وربما أخذ التعبير
والفكرة عن كتاب برونو "المحافظة على الذات (182) " وربما عثر عند الإيطالي على وحدة الجسم والذهن، ووحدة المادة والروح، ووحدة العالم والله، ومفهوم المعرفة الأسمى، بمعنى رؤية كل الأشياء في الله-ولو أن المتصوفة الألمان لا بد نشروا هذا الرأي حتى في المدينة التجارية أمستردام.
وعن طريق مباشر أكثر أوحى إليه ديكارت بمثل فلسفته، ونفره وثبط من همته بتفاهات لاهوتية. وألهبت خياله محاولة ديكارت أن يجعل الفلسفة تتمشى مع أقليدس شكلاً ووضوحاً. وربما تبع ديكارت في رسم قواعد لتوجيه حياته وعمله. واقتبس عن طيب خاطر وجهة نظر ديكارت في أن أية فكرة لا بد أن تكون صادقة، إذا كانت "واضحة متميزة". وقبل وعمم رأي ديكارت في أن العالم آلة من علة ونتيجة، نابعة من دوامة بدائية قدماً إلى الغدة الصنوبرية، واعترف بأنه مدين بالفضل لتحليل ديكارت للانفعالات (183).
وواضح أن "لواياثان" هوبز في ترجمته اللاتينية لقي ترحيباً كبيراً من فكر سبينوزا، وهنا صيغ مفهوم الآلية (ميكانيكية العالم) دون رحمة وبلا وجل. أن الذهن الذي فرق ديكارت بينه وبين الجسم ومنحه الحرية والخلود، أصبح عند هوبز وسبينوزا خاضعاً لقانون كوني عام، وهو قابل لمجرد خلود غير ذاتي، أو لا خلود مطلقاً. ووجد سبينوزا في "لواياثان" تحليلاً مقبولاً للإحساس والإدراك والذاكرة والفكرة، وتحليلاً غير عاطفي للطبيعة الإنسانية. ومن نقطة البداية المشتركة "للحالة الطبيعية" و "الميثاق الاجتماعي" انتهى المفكران كلاهما إلى نتائج عكسية حيث أنتهى هوبز من "دوائره الملكية" إلى الملكية المطلقة، وانتهى سبينوزا من الوطنية الهولندية إلى الديموقراطية. وربما كان هوبز هو الذي وجه اليهودي الوديع إلى مكيافللي، فيشير إليه بأنه "الفلورنسي البالغ الذكاء"، ومرة أخرى بأنه "أعظم عبقري
…
بعيد النظر (184)" ولكنه تجنب الخلط بين الحق والقوة، معترفاً بأن هذا أمر يمكن التجاوز عنه بين الأفراد فقط في "حالة طبيعية" وبين الدول قبل سن قانون دولي فعال.
وخفف سبينوزا من كل هذه التأثيرات وصاغها في كيان فكري يبعث الرهبة في منطقه واتساقه ووحدته البارزة. وكان ثمة بعض
تصدع في المعبد، كما أشار الأصدقاء والأعداء على السواء. وفي براعة كبيرة انتقد أولدنبيرج البديهيات والقضايا التي صدر بها كتاب الأخلاق (185). وتناولها أولدنبيرج بتحليل دقيق مفصل يتسم بالدقة الألمانية (186). وكان المنطق مشرقاً، ولكنه استنتاجي إلى حد مرهق، وكان، ولو أنه مبني على خبرة شخصية، عبارة عن براعة الفكر ترتكز على اتساق ذاتي، لا على حقيقة موضوعية. إن وثوق سبينوزا باستنتاجاته وتفكيره (وإلا فيم يسترشد؟) كان التوقع الوحيد في عمله. لقد عبر عن ثقته في قدرة الإنسان على فهم الله، أو الحقيقة الأساسية أو القانون الكوني، وكم من مرة أعلن عن اقتناعه بأنه أثبت نظرياته فوق كل شك أو جدل أو غموض أو لبس، وتحدث أحياناً في لهجة توكيد لا يتأتى صدورها عن رذاذ من الزبد تحليلاً وتفسيراً للبحر. وأية جدوى إذا كان كل المنطلق وسيلة عقلية أو آلة موجهة مساعدة للذهن الباحث، لا كيان العالم؟ وهكذا يختزل منطق الجبرية الذي لا مفر منه، الوعي إلى ظاهرة ثانوية (كما أعترف هكسلي) لاحقة، ظاهر أنها زائدة غير ضرورية لعمليات سيكولوجية، قد تجري بدونها بمقتضى ميكانيكية أو آلية العلة والنتيجة. ومع ذلك ليس ثمة شيء يبدو حقيقياً، أو شيء يبدو مثيراً، أكثر من الوعي. ويبقى اللغز الأكبر بعد أن قال المنطق كلمته.
وربما أسهمت هذه الصعوبات في عدم شعبية فلسفة سبينوزا في أول قرن مضى بعد وفاته. ولكن أشد الاستياء أنصب على نقده للكتاب المقدس والنبوءات والمعجزات، وعلى فهمه لله جديراً بالحب ولكن غير مجسم متصام لا يريد الإصغاء. واعتبر اليهود ابنهم خائناً لقومه، وصب المسيحيين عليه اللعنة شيطاناً بين الفلاسفة، مسيحاً دجالاً سعى لسلب العالم من كل معنى ورحمة وأمل، بل أن المهرطقين أنفسهم أدانوه واستنكروه. ونفر بيل من وجهة نظر سبينوزا في أن كل الأشياء وكل الناس أشكال من نفس الجوهر الواحد أو العلة الواحدة أو الله، وحينئذ-كما قال بيل-فإن الله هو العامل الحقيقي في كل الأفعال، والعلة الحقيقية في كل الشرور، وكل الجرائم. وكل الحروب، حتى إذا ذبح أحد الأتراك رجلاً من المجر، كان الله هو الذي قتل نفسه، ثم احتج بيل (ناسياً ذاتية الشر) على أن هذا "أسخف وأبشع فرضية (187) " وكان لبينتز، لعقد من السنين (1676 - 1686) متأثراً أشد التأثر بسبينوزا. أن نظرية "الجواهر الروحية
المونادولوجيا (عناصر الوجود الإلهية)" قد يرجع بعض الفضل فيها لسبينوزا. وأعلن لبينتز يوماً أن شيئاً واحداً في فلسفة سبينوزا أزعجه-نبذ فكرة العلل النهاية أو تدابير العناية الإلهية في عملية الكون (188). وعندما علت صيحات الاستنكار ضد "الحاد" سبينوزا انضم إليها ليبنتز "حماية لشخصه".
أن لسبينوزا نصيباً متواضعاً، يكاد يكون خفياً، في تنشئة الاستنارة في فرنسا، فإن زعماء الثورة العنيفة استخدموا نقد سبينوزا للكتاب المقدس سلاحاً في حربهم ضد الكنيسة، وأعجبوا بمذهب الجبرية عنده، "وبأخلاقه" القائمة على المذهب الطبيعي، وبرفضه للتدابير في الطبيعة، ولكن حيرتهم مصطلحاته الدينية، والتصوف أو المذهب الباطني البارز في كتاب "الأخلاق"، وقد نتخيل رد الفعل في فولتير أو ديدرو، وفي هلفيشيوس أودى هو لباخ، لعبارات مثل "أن الحب الروحي العقلي لله هو نفس الحب الذي يحب به الله نفسه (189) ".
وكانت الروح الألمانية أكثر استجابة لهذا الجانب من فكر سبينوزا. واستناداً إلى حديث رواه فردريك جاكوبي (1780) لم يعترف لسنج بأنه لم يكن طوال سني نضجه متأثراً بسبينوزا فحسب، بل كذلك أنه "لا فلسفة إلا فلسفة سبينوزا (190) " أن التعادل بين الطبيعة والله، ذلك التعادل القائم على مذهب وحدة الوجود، هو بالتحديد الذي اهتزت طرباً له ألمانيا أثناء الحركة الرومانتيكية بعد أن جرت حركة الاستنارة في عهد فردريك الأكبر مجراها. وكان جاكوبي، بطل "فلسفة الوجدان" الجديدة من بين أوائل المدافعين عن سبينوزا (1785) وثمة ألماني رومانتيكي آخر، هو نوفاليس، أطلق على سبينوزا "الثمل بحب الله". وقال هردر بأنه "وجد في رسالة الأخلاق" التوفيق بين الدين والفلسفة. وكتب شليماخر، رجل الدين المتحرر، عن "سبينوزا المقدس المحروم من الكنيس (191) " و "وارتد" جيته الشاب عندما قرأ "الأخلاق" لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت غلبت السبينوزية على شعره (غير الجنسي) ونثره. ويرجع بعض الفضل إلى تنسمه جو الهدوء في كتاب "الأخلاق"، في انصرافه عن الرومانتيكية المتطرفة الجامحة عند جوتز فون برليخنجين وآلام فرتر الشاب، إلى الاتزان
المهيب في أخريات حياته. وعوق كانت مجرى هذا التأثير لبعض الوقت. ولكن هيجل صرح بأنه "لكي تكون فيلسوفاً ينبغي أول أن تكون سبينوزياً"، وعبر من جديد عن إله سبينوزا بأنه "العقل المطلق" وربما تسرب شيء من "نزعة المحافظة على الذات" عند سبينوزا إلى "إرادة الحياة" عند شوبنهور، و "إرادة القوة" عند نيتشه.
ولمدة قرن من الزمان عرفت إنجلترا سبينوزا عن طريق الهرطقة أساساً، واستنكرته غولاً بشعاً بعيداً عنها. وأشار إليه ستللنجفليت (1677) بصورة غامضة "مؤلفاً متأخراً أسمع منه أن تمتع بشعبية كبيرة بين كثير ممن ينادون بأي شيء يتصل بالإلحاد". وكتب الأستاذ الأسكتلندي جورج سنكلير (1685) عن "حفنة شاذة من الرجال ممن يشايعون هوبز وسبينوزا، يستخفون بالدين وينتقصون من قدر الأسفار المقدسة". وتحدث سيرجون ايفليف عن "الرسالة اللاهوتية السياسية" بأنها "كتاب مخز، عقبة فاجعة في طريق الباحثين عن الحقيقة المقدسة" أما بركلي (1732) فإنه بينما عد سبينوزا من المؤلفين الضعاف الأشرار، قال أنه "زعيم كبير للكفرة الحديثين (192) ". وفي 1739 ارتاع هيوم-وهو من أتباع مذهب اللاأدرية-في حذر من "الفرضية البشعة" التي جاء بها "ذلك الملحد المعروف، سبينوزا الذي ساءت سمعته في كل الأنحاء (193) ". ولم يصل سبينوزا إلى أذهان الإنجليز إلا عند ظهور الحركة الرومانتيكية عند انصرام القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وحينئذ أوحى، أكثر من أي فيلسوف غيره، بالميتافيزيقا العنيفة القوية عند وردزوث وكوليردج وشللي وبيرون. وأقتبس شللي من "الرسالة اللاهوتية السياسية في حواشيه الأصلية في "ملكة الأحلام كوين ساب" وبدأ ترجمة للرسالة، وتعهد بيرون بكتابة مقدمة لها. ووقع جزء من هذه الترجمة في يد ناقد إنجليزي حسبها من تأليف شللي نفسه فقال عنها "تفكير أحد صبية المدارس، فج لا يصلح للنشر إطلاقاً". وترجم جورج اليوت "الأخلاق" بعزيمة صادقة. واعترف جيمس فرود، وماتيو آرنولد بتأثير سبينوزا على تطورهما العقلي، ويبدو أن الدين والفلسفة أثبت كل نتاج الإنسان على مر الزمان. أن بركليز مشهور لأنه عاش زمن سقراط.
أننا نحب سبينوزا بصفة خاصة بين الفلاسفة، لأنه كان كذلك
قديساً، ولأنه عاش الفلسفة كما كتبها. أن الفضائل التي مجدتها الديانات الكبرى كرمت وتجسدت في المنبوذ الذي لفظته كل الديانات، حيث لم تجزله أية ديانة أن يصور الله على أسس يمكن أن يسيغها العلم. أن نظرة إلى الوراء، إلى هذه الحياة الموقوفة على البحث، وإلى هذا الفكر المكثف، لتجعلنا نحس بأن فيهما عنصراً من النبل يشجعنا على أن نحسن الظن بالإنسان. فلنسلم بنصف الصورة المرعبة التي رسمها سويفت للبشرية، ولنتفق على أننا في كل جيل، وفي كل مكان تقريباً، نجد الخرافة والنفاق والفساد والقسوة والجريمة والحرب: فلنضع في مقابل هذا في كفة أخرى، ثبتاً طويلاً بالشعراء والملحنين والفنانين ورجال العلم والفلاسفة والقديسين. أن ذلك الجنس البشري بعينه، الذي ثأر منه سويفت المسكين عجز جسده، هو الذي كتب روايات شكسبير، وموبيقي باخ وهاندل، وقصائد كيتس الغنائية، وجمهورية أفلاطون "وقواعد" نيوتن. و "أخلاق" سبينوزا، وهو الذي شاد البارثينون وسقف كنيسة سستين، وهو الذي حمل المسيح وأعزاه ودلله، ولو أنه صلبه، أن الإنسان فعل كل هذا الذي أسلفنا، فيجدر ألا يدع اليأس يتطرق إلى نفسه.
الفصل الثالث والعشرون
ليبنتز
1646 - 1716
1 -
فيلسوف القانون
كان ثمة هوة في الشخصية والخلق والفكر تفصل بين سبينوزا وليبنتز، فهناك اليهودي المنعزل، الذي لفظته اليهودية، والذي لم يتقبل المسيحية، الذي عاش في أحضان الفقر في حجرة متواضعة، وأنجز كتابين أثنين، وأخرج في أناة فلسفة أصيلة جريئة يمكن أن تنفر منها كل الديانات، والذي قضى نحبه متأثراً بالسل في الرابعة والأربعين، إلى جانب الألماني رجل الدنيا المشغول برجال الدولة والبلاط، الذي جال في كل أنحاء أوربا الغربية تقريباً، الذي دس بأنفه في روسيا والصين، وقبل البروتستانتية والكاثوليكية، ورحب بعديد من مناهج الفكر واستخدمها. وكتب خمسين رسالة، وأحب الله كما أحب الدنيا، في تفاؤل شديد، وعمر سبعين عاماً، وليس بينه وبين سلفه من وجه شبه إلا أن جنازة كل منهما كانت موحشة. وهنا في جيل واحد ظهر النقيضان في الفلسفة الحديثة.
ولكن قبل أن نتناول الصورة المتقلبة والمتعددة الألوان لرجل، فلنتعرف ببعض فضل يسير للفكر الألماني. فقد بدأ صمويل فون بوفندورف مسيرته في 1632، وهو نفس العام الذي بدأ فيه سبينوزا ولوك. وبعد أن درس في ليبزج ويينا قصد إلى كوبنهاجن معلماً في أسرة أحد الدبلوماسيين السويديين، واعتقل معه عندما أعلنت السويد الحرب على الدنمرك، وخفف من ضجر السجن بوضع نهج للقانون الدولي، فلما أطلق سراحه رحل إلى ليدن حيث نشر نتائج بحثه تحت عنوان "عناصر القانون الدولي"(1661)، الذي سر به شارل لويس ناخب البلاتينات (وهو نفس الأمير الذي دعا سبينوزا فيما بعد) إلى حد أن الناخب استدعى المؤلف إلى هيدلبرج، وأنشأ له كرسي الأستاذية
في القانون الطبيعي والقانون الدولي-وهو أول كرسي من نوعه في التاريخ. وهناك وضع دراسة عن "مملكة ألمانيا" أزعجت ليوبولد الأول، لمهاجمتها الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأباطرتها. وهاجر بوفندورف إلى السويد وجامعة لوند (1670) حيث نشر أروع أعماله "القانون الطبيعي والناس"(1672). وفي محاولته اتخاذ موقف وسط بين هوبز وجروتيوس، لم يطابق "القانون الطبيعي" وبين صراع الأفراد بعضهم بعضاَ، بل طابق بينه وبين "العقل الصحيح" وأضفى "الحقوق الطبيعية"(وهي حقوق كل الكائنات العقلانية) على قدم المساواة. وسبق جان جاك روسو بنحو قرن من الزمان، حين أعلن أن إرادة الدولة، هي، وينبغي أن تكون، جماع إرادات الأفراد الذين تتألف منهم الدولة. ولكنه ذهب إلى أن العبودية أمر مرغوب فيه، وسيلة لإنقاص عدد المتسولين والأفاقين واللصوص (1).
وظن بعض القساوسة السويديين أن هذه النظريات لم تقم كبير وزن لله والكتاب المقدس في الفلسفة السياسية، وحرضوا على وجوب إعادة بوفندورف إلى ألمانيا. ولكن شالر الحادي عشر دعاه إلى ستوكهلم وقلده منصب المؤرخ الملكي. وقابل الأستاذ حسن الصنيع بأن كتب سيرة حياة الملك، وتاريخاً للسويد. وفي 1687، وربما تطلعاً إلى التجوال أهدى بوفندورف إلى ناخب براندنبيرج الأكبر، رسالة عن "العلاقة بين العقيدة المسيحية والحياة البدنية" يدافع فيها عن التسامح. وسرعان ما قبل دعوة إلى برلين، وأصبح مؤرخاً لفردريك وليم، وعين باروناً، وقضى نحبه (1694). وظلت كتاباته لمدة نصف قرن أبرز الأعمال وأكثرها أثراً وانتشاراً في الفلسفة السياسية والقانونية في أوربا البروتستانتية، وساعد تحليلها الواقعي للعلاقات الاجتماعية في الأحداث التي عملت على انكماش نظرية حقوق الملوك الإلهية.
وبرز تدهور التفسيرات اللاهوتية لأعمال البشر في أنشطة بلثازار بكر Bkker وكريستيان توماسيوس. وكان بكر كاهناً يتولى المهام الدينية لجماعة من الناس في فريزلند، أفسد عقيدته بقراءة ديكارت، فاقترح تطبيق العقل على الأسفار المقدسة، وفسر الشياطين
التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس بأنها أوهام شعبية أو مجازات، زتتبع فكرة الشيطان في تاريخ ما قبل المسيحية وكان من رأيه أنها فكرة مدسوسة على المسيحية، وانتهى إلى أن الشيطان خرافة، ونفى وجوده في بيان باللغة الهولندية، "العالم المسحور"(1691). ووجهت الكنيسة أعنف اللوم والتقريع إلى بكر، إحساساً منها بأن الخوف من الشيطان بداية العقل والحكمة، وعانى الشيطان بعض الخسارة في مكانته لا في أتباعه.
وواصل توماسيوس المعركة. وعلى حين ظل يتقبل الأسفار المقدسة هادياً إلى العقيدة والخلاص، تاقت نفسه إلى اتباع منهج العقل لمجرد الوصول إلى الدليل، ولتشجيع التسامح الديني. ولما كان أستاذ القانون الطبيعي في ليبزج (1684 - 1690) فإنه أساء إلى الكلية والكنيسة بأصالة آرائه وأساليبه ولغته. وهاجم خرافات عصره في سخرية ألمانية عنيفة. واتفق مع بكر في استبعاد "الشيطان" من الديانة، وشجب الاعتقاد في السحر باعتباره جهالة فاضحة، وتعذيب السحرة باعتباره وحشية إجرامية. وبفضل تأثيره ونفوذه، وضع حد لمحاكمات السحرة والمشعوذين في ألمانيا. وليزيد الطين بلة حاضر تلاميذه بالألمانية بدلاً من اللاتينية، منتقصاً نصف جلال أصول التدريس. وفي 1688 بدأ ينشر عرضاً أوريا للكتب والأفكار، وربما كان لزاماً علينا أن نسميه أول صحيفة جادة في ألمانيا، ولكنها عرضت ألوان المعرفة في شيء من اليسر، وغلفت البحث الجاد بالدعابة، وسميت "أفكار هازلة وجادة، عقلانية وسخيفة حول كل أنواع الكتب والقضايا السارة والنافعة". وأزعج دفاعه عن "التقويين"(التقوية حركة دينية ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر أكدت على دراسة الكتاب المقدس والخبرة الدينية الشخصية) ضد رجال السلطات إلى حد أنهم حظروا عليه كتابة أو إلقاء المحاضرات، وأمروا في النهاية باعتقاله (1690). فهرب إلى برلين، وعينه الناخب فردريك الثالث أستاذ في هالي، وأسهم في تنظيم الجامعة هناك، وسرعان ما جعلها أقوى مراكز للفكر في ألمانيا. وفي 1709 دعته ليبزج للعودة ولكنه أبى، وبقي في هالي أربعة وثلاثين عاماً حتى آخر حياته، وافتتح عصر الاستنارة الذي أنجب لسنج وفردريك الأكبر.
وتابع بعض المتحمسين ثورتهم إلى أقصى درجات الإلحاد، فنبذ ماتياس كنوتزن من هولشتين أي معتقد خارق للطبيعة "أننا فوق كل شيء ننكر الله (2) ". واقترح أن يستبدل بالمسيحية وكنائسها وكهنتها "ديانة وضيعة""ديانة الإنسانية" مستبقاً بذلك أوجست كومت، وأن يؤسس الخلاق على تربية الضمير تربية قائمة على المذهب الطبيعي فقط (1674) وقيل أنه كان له 700 من الأتباع، وربما كان في هذا مبالغة، ولكنا نلاحظ أنه فيما بين عامي 1662، 1713 نشر على الأقل اثنان وعشرون كتاباً في ألمانيا، وهدفها نشر الإلحاد أو تفنيده (3).
ورثى ليبنتز "لانتصار المفكرين الأحرار الواضح"، فكتب حوالي عام 1700 "في أيامنا هذه"، يبدي كثير من الناس قليلاً من الاحترام والإجلال للوحي
…
أو المعجزات (4) ". وأضاف في 1715: أن الديانة الطبيعية ينتابها كثير من الضعف، ويعتقدون كثيرون أن النفوس جسدية، وآخرون أن الله نفسه جسدي. ويرتاب مستر لوك وأتباعه في أن النفوس غير مادية ومآلها الهلاك بشكل طبيعي (5). ولم يكن ليبنتز راسخ العقيدة إلى حد كبير، ولكنه رجل الدنيا ورجل البلاط، فتساءل إلى أين تنتهي العقلانية المتصاعدة، وماذا عساها أن تفعل بالكنائس والأخلاق والعروش. وهل من المستطاع الرد على العقلانيين بلغتهم وإنقاذ عقيدة الآباء والأجداد من أجل سلامة الأبناء؟.
2 - سني العمل الجاد
كان جوتفريد ولهلم ليبنتز في الثانية من العمر حين وضعت حرب الثلاثين عاماً أوزارها. ونشأ في فترة من أكثر فترات التاريخ الألماني عقماً وشقاء. ولكن تهيأت له، كل فرص التعليم المتاحة آنذاك، لأن أباه كان أستاذاً لفلسفة الأخلاق في جامعة ليبزج، وكان جوتفريد فتى ذكياً متلهفاً على المعرفة، ولوعاً بالكتب. وكانت مكتبه أبيه مفتوحة الأبواب أمامه تدعوه ليأخذ ويقرأ. وبدأ دراسة اللاتينية في سن الثامنة، واليونانية في الثانية عشرة. والتهم التاريخ فأصبح متعدد جوانب العلم والمعرفة. وفي سن الخامسة عشرة التحق بالجامعة حيث
كان توماسيوس المثير من بين معلميه. وغي سن العشرين تقدم لنيل درجة الدكتوراه في القانون، ولكن جامعة ليبزج رفضت لصغر سنه. ولكنه سرعان ما حصل عليها من جامعة نورمبرج في ألتدورف. وكان لرسالة الدكتوراه التي قدمها هناك دوي كبير إلى حد أنهم عرضوا عليه في الحال منصب الأستاذية، ولكنه أبى محتجاً بأن "في مخيلته أشياء مختلفة"، أن قليلاً جداً من كبار الفلاسفة شغلوا كراسي الجامعة.
ونراه الآن، وهو آمن ميسور الحال من الناحية المادية، حر منطلق من الناحية الفكرية، يغمس يديه في كل الحركات والفلسفات التي كانت تهيج ألمانيا التي بعثت من جديد، وكان قد درس مناهج فلاسفة السكولاسية في ليبزج، واحتفظ بمصطلحاتهم الفنية وكثير من أفكارهم، مثل برهانهم الأونطولوجي (أونطولوجيا: علم الوجود) على وجود الله، وتشرب تعاليم ديكارت تماماً، ولكنه ليجعلها سائغة أضاف إليها شيئاً من الملح من اعتراضات جاسندي ومذهبه الذري. وانتقل إلى هوبز وامتدحه بأنه مدقق. وغازل المذهب المادي (6). وأقام حيناً من الزمن في نورمبرج (1666 - 1667) حيث اختبر التصوف أو المذهب الباطني عند أخوة الصليب الوردي "التي كان قد أسسها المشتغلون بالكيمياء القديمة والأطباء ورجال الدين حوالي عام 1654، وأصبح سكرتيراً لها، وأخذ ينقب في الكيمياء القديمة، وهو في هذا كثير الشبه بما كان يفعل منافسه اللاحق نيوتن في كمبردج. ولم يترك فكرة إلا جربها واقتبسها. وقبل بلوغه الثانية والعشرين من عمره كان قد كتب عدة رسائل ذات مجال ضيق، ولكنه تفيض بالثقة.
ولفتت إحدى هذه الرسائل "طريقة جديدة لتعليم القانون ودراسته" نظر أحد الدبلوماسيين المقيمين في نورمبرج آنذاك، هو جوهان فون بوينبرج، الذي أشار على المؤلف الشاب بإهدائها إلى الأسقف ناخب مينز، ورتب أن تقدم إليه شخصياً. ونجحت الخطة، وفي 1667 التحق ليبنتز بخدمة الناخب، في أول الأمر، مساعداً في مراجعة القوانين، ثم عضواً في المجلس. وبقي في ميبنز خمس سنين اعتاد فيها على رجال الدين واللاهوت والطقوس الكاثوليكية، وبدأ يراوده حلم إعادة توحيد المذاهب المسيحية الممزقة، ومهما يكن من أمر فإن الناخب كان أكثر اهتماماً بلويس الرابع عشر منه بلوثر، لأن الملك
المنهوم الذي لا يشبع كان يسير جيوشه إلى الأراضي الوطيئة واللورين، وهي جد ملاصقة لألمانيا، وكان واضحاً أن الملك متلهف على ابتلاع أراضي الراين. فكيف يتسنى وقفه؟
وكان لدى ليبنتز خطة لهذا-وفي الحق خطتان، بلغتا حد البراعة من شاب في الرابعة والعشرين. وكانت الخطة الأولى هي توحيد ولايات ألمانيا الغربية في "اتحاد الراين" للدفاع المتبادل (1670). أما الثانية فكانت تعتمد على صرف نظر لويس الرابع عشر عن ألمانيا بإغرائه بالاستيلاء على مصر التي كانت آنذاك تحت حكم الأتراك. وكانت العلاقات آنذاك متوترة بين فرنسا وتركيا. فإذا قدر الملك لويس أن يرسل حملة لفتح مصر (فيسبق بذلك نابليون بمائة وثمانية وعشرين عاماً) فإنه ستكون له السيطرة على التجارة-بما في ذلك تجارة هولندا-التي تمر عبر مصر إلى الشرق، ولأبعد الحرب عن أرض فرنسا، ووضع نهاية لتهديدات تركيا للعالم المسيحي، ولأصبح المنقذ الذي ترنو إليه الأبصار بالتبجيل والإجلال بدلاً من السوط الذي تخشاه أوربا، وكتب بوينبرج بهذا إلى الملك لويس الرابع عشر، وطوى كتابه على مخطط للمشروع بقلم ليبنتز نفسه
(1)
. فدعا سيمون أرنولد دي بومبون وزير الخارجية الفرنسية، ليبنتز (فبراير 1672) ليجيء ليعرض المشروع على الملك. وفي مارس شخص رجل الدولة ذو الستة والعشرين ربيعاً إلى باريس.
ولكن القادة أحبطوا مشروع ليبنتز كما دمروا أنفسهم. ذلك أنه لدى وصوله إلى باريس كان لويس قد سوى نزاعه مع الأتراك، وقرر مهاجمة هولندا، وفي 6 إبريل أعلن الحرب. وأبلغ بومبون ليبنتز أن الحرب الصليبية لم تعد ملائمة لهذا العصر، ورفض السماح له بالمثول بين يدي الملك. فكتب الفيلسوف الذي ظل يراوده الأمل، مذكرة إلى الحكومة الفرنسية، أرسل خلاصة لها "مشروع مصر" إلى بوبنبرج.
(1)
قال شبنجلر "ولو كان هذا سابقاً لأوانه، فإن ليبنتز وضع المبدأ الذي تعلق به نابليون بشكل أكثر وضوحاً، بعد وجرام، أي أن أية مكاسب على الراين أو في بلجيكا لن تعمل بصفة دائمة على تحسين موقف فرنسا، وأن عنق السويس لا بد يوماً أن يكون مفتاح السيطرة على العالم (7).
ولو تم تنفيذ الاقتراح بنجاح، لاستولت فرنسا-لا إنجلترا- على الهند، ولكانت لها السيادة على البحار. وقال الجنرال ماهان: "إن قرار لويس، ذلك القرار الذي أودى بحياة كولبير وقضى على رخاء فرنسا وازدهارها، أحس الناس به جيلاً بعد جيل من خلال نتائجه (8).
ومات بوينبيرج قبل أن يصله "المشروع". وحزن ليبنتز لفقدان صديق يؤثر المصلحة العامة، غير أناني. ولهذا السبب، من ناحية، لم يعد إلى مينز. أضف إلى ذلك أن التيارات الفكرية في باريس أسرت لبه، حيث وجدها أكثر إثارة من جاذبية تلك التي أحاطت حتى بالناخب المتحرر المستنير. وهناك التقى بإنطوان أرنولد أوف بورث رويال، ومالبرانش، وكريستيان هوجنز، وبوسويه. وجذبه هوجنز إلى الرياضة العالية، وبدأ ليبنتز "حساب اللامتناهيات في الصغر" الذي أفضى به إلى "التفاضل والتكامل".
وفي يناير 1673 عبر المانش إلى إنجلترا في بعثة أوفدها ناخب مينز إلى شارل الثاني. وفي لندن تعرف على أولدنبيرج وبويل، وأحس بفتنة العلم المستيقظ. ولما عاد إلى باريس في مارس خصص جزءاً أكبر فأكبر من وقته للرياضيات. واخترع آلة حاسبة أدخلت بعض التحسينات على آلة بسكال، إذ زاد بها على الجمع والطرح، عمليات الضرب والقسمة. وفي إبريل انتخب، غيابياً، عضواً في الجمعية الملكية. وما وافت سنة 1675 حتى كان قد أكتشف التفاضل، وسنة 1676 حساب المتناهيات في الصغر، كما كان قد بلور طريقته الناجحة في استخدام الرموز. ولم يعد أحد يتهم ليبنتز بأنه انتحل لنفسه وضع "حساب اللامتناهيات في الصغر" بدلاً من نيوتن (9). والظاهر أن نيوتن أجرى اكتشافه 1666، ولكن لم ينشره إلا في 1692. ونشر ليبنتز "حساب التفاضل" في 1684، و "التكامل" في 1686 (10) وليس ثمة شك في أن نيوتن كان أول من أكتشف، وأن ليبنتز توصل إلى اكتشافه مستقلاً عنه، وأنه سبق نيوتن إلى نشر الاكتشاف وأن طريقة ليبنتز في "الرموز" ثبت أنها أفضل من طريقة نيوتن (11).
وقضى أسقف مينز في مارس 1673 تاركاً ليبنتز بلا وظيفة رسمية، وسرعان ما وقع اتفاقاً للالتحاق بخدمة دوق روما جون فردريك
أوف برونزويك-لونبرج، أميناً لمكتبته في هانوفر. وظل مفتوناً بباريس، فبقى بها حتى 1676، ثم ارتحل على مهل إلى هانوفر عبر لندن، وأمستردام ولاهاي. وفي أمستردام تحدث مع تلاميذ سبينوزا، وفي لاهاي التقى بالفيلسوف نفسه. وتردد سبينوزا في أن يوليه ثقته، لأن ليبنتز عرض التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية، مما قد يساعد على خنق حرية الفكر (12). وتغلب ليبنتز على هذه الشبهات، وسمح له سبينوزا بقراءة-بل بنسخ بعض أجزاء من مخطوطة "كتاب الأخلاق"(13) -وجرت بين الرجلين أحاديث طويلة. وبعد وفاة سبينوزا لقي ليبنتز مشقة كبيرة في إخفاء تأثيره العميق بالقديس اليهودي.
ووصل إلى هانوفر في أواخر 1676، وبقي في خدمة أمراء برنزويك المتعاقبين طوال الأربعين عاماً الباقية من عمره. وكان يأمل في تعيينه مستشاراً للدولة، ولكن الأدواق خصصوه لتولي شئون مكتباتهم وكتابة تاريخ أسرتهم. ونهض بهذه المهام بشكل متقطع على خير وجه. وزين التاريخ الضخم الذي كتبه في عدة مجلدات، وملأه بوثائق أصيلة بذل جهداً كبيراً في الحصول عليها. وأثبتت أبحاثه المتعلقة بسلسلة الأنساب في إيطاليا، الأصل المشترك لأسرتي أست وبرونزويك. وعلى الرغم من موضوع هذا الكتاب كان مقيداً بشكل مزعج لهذه العبقرية الطموحة، فقد أمتد به الأجل ليرى بيت برونزويك يرث إنجلترا. وحاول جاهداً أن يكون وطنياً محباً لألمانيا. وكم ناشد الألمان أن يستخدموا لغتهم الوطنية في القانون، ولكنه كتب رسائله وأبحاثه باللاتينية أو الفرنسية وكان نموذجاً لامعاً "للأوربي الصالح" و "الذهن العالي". وحذر الأمراء الألمان من أن الأحقاد التي تمزقهم، وتعمدهم إضعاف سلطان الإمبراطورية، كل أولئك حكم على ألمانيا بأن تكون فريسة الدول الأكثر تماسكاً ومركزية. وميداناً للحروب التي يتكرر نشوبها بين فرنسا وإنجلترا وأسبانيا (14).
وكان أمله الذي يطويه بين جوانحه، أن يخدم الإمبراطور والإمبراطورية، لا أمراء الولايات المشتتة. وكان لديه مائة مشروع للإصلاح السياسي والاقتصادي والديني والتعليمي. واتفق مع فولتير في أنه من الأيسر إصلاح الدولة بهداية حاكمها، منه بتعليم الجماهير في
بطئ، وهم مرهقون بالتماس أسباب العيش فلا يجدون فسحة من الوقت للتفكير (15). وعندما مات أمين المكتبة الإمبراطورية في 1680، تقدم ليبنتز لشغل المنصب، ولكنه أضاف بأنه لا يريد أن يشغله إلا إذا عين معه عضواً في المجلس الإمبراطوري الخاص. ورفض طلبه، عاد إلى هانوفر حيث وجد بعض السلوى والعزاء في صداقة الناخبة صوفيا، وبعد ذلك في صداقة ابنتها صوفيا شارلوت التي ألحقته بالبلاط البروسي، وساعدته في تأسيس أكاديمية برلين (1700)، وأوحت إليه بكتابة "التيوديسية"، وكرم في بقية أيام حياته، مركزه المتواضع بتبادل الرسائل مع زعماء الفكر في أوربا، وبإسهاماته الضخمة في الفلسفة، وتقديمه خطة جريئة لإعادة التوحيد الديني للعالم المسيحي.
3 - ليبنتز والمسيحية
هل كان ليبنتز مسيحياً؟ الجواب الإيجاب "ظاهرياً" بطبيعة الحال، فإن رجلاً بمثل حماسته وتلهفه على العبور من الفلسفة إل فن الحكم وسياسة الدولة كان لزاماً عليه أن يلبس لاهوت الزمان والمكان اللذين عاش فيهما. وقال في مقدمة "التيوديسية":"لقد حاولت في كل الأشياء لأدرس الحاجة إلى التنوير والتهذيب (16) ". وكانت كل الكتابات التي نشرها في حياته أمثلة تحتذى في إخلاصها للعقيدة فقد دافعت عن التثليث والمعجزات والنعمة الإلهية، والإرادة الحرة، والخلود، كما هاجمت مفكري العصر الأحرار لانتقاصهم من قيمة الأسس الأخلاقية للنظام الاجتماعي على أنه "ذهب إلى الكنيسة قليلاً،
…
ولم يتناول القربان المقدس لسنوات كثيرة (17)". ولقبه البسطاء من الناس في هانوفر "لوفينكس الذي لا يؤمن بشيء (18)". ونسب إليه بعض الطلبة فلسفتين متعارضتين، واحد ة للاستهلاك العام وتسلية الأميرات، والأخرى "توكيد واضح المعالم لكل مبادئ سبينوزا (19). "أن ليبنتز كان يلجأ إلى سبينوزا كلما سمح لنفسه أن يكون منطقياً. وفي كتبه المنشورة حرص، تبعاً لذلك، على أن يكون غير منطقي (20) ".
إن مساعيه للتوفيق بين الكاثوليكية والبروتستانتية جعلته عرضة للاتهام بعدم التفريق بين الأديان أو الإيمان بأنها جميعاً متساوية في
صحتها (21). إن رغبته الملحة في الوحدة والتوفيق سيطرت على لاهوته. وعلى حين تجنب الوعاظ حاول جاهداً أن يؤلف بينهم. أنه قلل من شأن الفروق السطحية لأن نظرته كانت عميقة. ولو كانت المسيحية شكلاً من أشكال الحكومة، فإن تنوعاتها المذهبية لم تبد له أدوات للتقوى والغيرة والحماسة، بل عقبات في طريق النظام والسلام.
وفي 1677 أرسل الإمبراطور ليوبولد الأول كريستوفر روجا دي سبينولا أسقف تينا في كرواتيا، إلى بلاط هانوفر ليقترح على الدوق جون فردريك، وكان مرتداً إلى الكاثوليكية أن ينضم إلى حملة لإعادة توحيد البروتستانت مع روما. وربما كان لهذه الخطة ذيول سياسية: فإن الناخب رغب إذ ذاك في دعم الإمبراطور له، كما أن ليوبولد راوده الأمل في وحدة وروح ألمانيتين أقوى لمواجهة الأتراك. وتنقل سبينولا لفترة من الوقت بين فينينا وهانوفر، وأحرز المشروع تقدماً. وعندما وضع بوسويه في 1682 "الإعلان الفاليكاني"(الفاليكانية حركة نشأت في فرنسا تنادي بالاستقلال الإداري للكنائس في البلدان الكاثوليكية عن سيطرة البابا). الذي تحدى فيه رجال الدين الفرنسيون البابا، ربما راود ليبنتز بعض الملل في انضماما فرنسا إلى ألمانيا كثلكة مستقلة عن البابوية إلى حد يخفف من عداء الباروتستانتية للمذهب العتيق وفي 1683، عندما كان الأتراك يتقدمون لحصار فيينا، عقد سبينولا في هانوفر مؤتمراً يضم رجال اللاهوت البروتستانت والكاثوليك، وقدم إليهم "قواعد التوحيد الكنسي لكل المسيحيين".
وربما كان من أجل الاجتماع (22) أن ليبنتز كتب، غفلاً من اسمه أغرب الوثائق العديدة التي وجدت بين أوراقه بعد وفاته، وكان عنوانها "منهج لاهوتي"، وفهمت على أنها بيان للمذهب الكاثوليكي يمكن أن تقبله أي بروتستانتي حسن النية. وفي 1819 نشرها ناشر كاثوليكي دليلاً على أن ليبنتز كان قد ارتد سراً، والأرجح أنها كانت محاولة دبلوماسية لتضييق هوة الخلاف الديني بين الفريقين. ولكن كان للناشر عذره في اعتبار الوثيقة كاثوليكية إلى أبعد حد، واتسم مطلعها بالتجرد أو عدم التحيز لأي من المذهبين في إيجاز:
بعد التماس العون من الله، بالابتهالات والصلوات الطويلة الخاشعة، طارحاً جانباً، قدر ما يطيق الإنسان، كل روح حزبية، ناظراً إلى الخلافات الدينية نظرة رجل قدم من كوكب آخر، تلميذ مبتدئاً متواضعاً، لا يدري شيئاً هن أي من الفرق المختلفة، غير مقيد بأية التزامات، انتهيت بعد دراسة وافية إلى النتائج التي أدونها هنا. لقد قدرت أنه لزام على أن أعتنقها جميعاً لأن الكتاب المقدس والتقليد الديني العريق، وما يفرضه العقل، والشواهد الأكيدة للحقائق، يبدو لي أنها جميعاً تتضافر في إقرارها في ذهن أي إنسان غير متحيز (23).
وتلا ذلك اعتراف بالإيمان بالله، وبالخلق والخطيئة الأصلية، والمطهر، وتحول الخبز والنبيذ إلى جسد المسيح ودمه، ونذور الأديار والتشفع بالقديسين واستخدام البخور والصور الدينية والأردية الكهنوتية وإخضاع الدولة للكنيسة (24). وربما ألقى كرم الكاثوليكية ظلالاً من الشك في الوثيقة، ولكن صحة صدورها من ليبنتز أمر مقبول اليوم بصفة عامة (25)، وربما جاش صدره بالأمل في الحصول على وظيفة ملائمة في بلاط الإمبراطور الكاثوليكي في فيينا بتأييده لوجهة النظر الكاثوليكية على هذا النحو. وأعجب ليبنتز، مثل أي متشكك فاضل، بمنظر الطقوس الكاثوليكية وأنغامها وعبيقها.
وهكذا فإن ألحان الموسيقى، وتناغم الأصوات العذب، وشعر الترانيم وجمال الطقوس الدينية وتلألأ الأضواء، وعبق العطور، والملابس الفاخرة، والأواني المقدسة المزدانة بالأحجار الكريمة، والهدايا الثمينة، والتماثيل واللوحات التي توقظ الشعور الديني، والنتاج المبدع للعبقرية الفنية، .... وجلال المواكب العامة وروعتها، والستائر والأغطية الثمينة التي تزين الطرقات، وموسيقى النواقيس، وصفوة القول كل الهدايا والهبات وعلائم التكريم والإجلال التي يغدقها الناس في سخاء بحكم غرائز التقوى فيهم، كل أولئك، فيما أحسب، لا تثير في ذهن الله من الازدراء ما تريدنا البساطة الصارخة عند بعض
المعاصرين أن نعتقد أنها مثيرة له. وهذا في كل الأحوال ما يؤكده العقل والتجربة على السواء (26).
وأخفقت كل هذه الحجج في أن تحرك مشاعر البروتستانت. وأفسد لويس الرابع عشر الخطة ومزق معالم الزينة بإلغاء مرسوم نانت، وشن حرب وحشية على البروتستانت في فرنسا، ووضع ليبنتز مشروعه جانباً انتظاراً لفرصة ملائمة.
وفي 1687 قام ليبنتز بثلاث جولات فيربوع ألمانيا والنمسا وإيطاليا، ليبحث في السجلات والمحفوظات المتناثرة هنا وهناك عن حوليات أسرة برنزويك. وفي روما، وعلى إفتراض أنه قد يقبل الارتداد إلى الكاثوليكية، عرضت عليه السلطات هناك أن يكون أميناً لمكتبة الفاتيكان، ولكنه رفض هذا المنصب. وقام بمسعى جريء بغية إلغاء المراسيم الكنسية التي صدرت عند كوبرنيكس وجاليليو (27). وبعد رجوعه إلى هانوفر، بدأ في 1691 ثلاث سنين من المراسلات مع بوسويه أملاً في إحياء حركة توحيد العالم المسيحي من جديد. هل يمكن أن توجه الكنيسة الكاثوليكية الدعوة لعقد مجلس عالمي بالمعنى الصحيح يشهده البروتستانت والكاثوليك ليعيدوا النظر في القرار الذي اتخذه مجلس ترنت ودمغ فيه البروتستنات بالهرطقة ويلغيه؟. أن الأسقف الذي كان لفوره قذف هؤلاء "المهرطقين" بمقاله "خلافات الكنائس البروتستانتية"(1688)، رد رداً لا يبشر بالوصول إلى تسوية: إذا رغب البروتستانت في العودة إلى حظيرة الكنيسة المقدسة، فإن عليهم أن يرتدوا إلى الكثلكة ويضعوا حداً للحوار. وتوسل إليه ليبنتز أن يعيد النظر في موقعه. وساند بوسويه هذا الأمل وقال: إني أنضم إلى المشروع
…
ستسمع عما قريب ما يجول بخاطري (28). وفي 1691 كتب ليبنتز إلى مدام برينون في تفاؤله المعهود:
إن الإمبراطور يقف موقفاً ودياً. كما أن البابا أنوسنت الحادي عشر ونفراً من الكاردينالات والقواد، وطوائف الرهبان وكثيراً من رجال الدين الوقورين الذين درسوا الموضوع بعناية، قد أدلوا بآرائهم بطريقة مشجعة غاية التشجيع .. وليس من المبالغة في شيء أن أقول بأنه لو أن ملك
فرنسا والقساوسة الذين يستمع إليهم الملك في هذا الشأن، اتخذوا إجراء مناسباً متفقاً عليه، فإن الأمر لن يكون مجرد احتمال، بل يكون في حكم المنتهي (29).
ولما وصل رد بوسويه كان مخيباً لكل رجاء: ليس من سبيل للرجوع عن قرارات مجلس ترنت، أنها كانت على صواب في دفع البروتستانت بالهرطقة، والكنيسة معصومة من الخطأ، ولن يصل أي مؤتمر يضم زعماء الكاثوليك والبروتستانت إلى نتائج بناءة ما لم يوافق البروتستانت سلفاً على قبول قرارات الكنيسة في المسائل التي هي موضوع النزاع (30). وأجاب ليبنتز بأن الكنيسة كثيراً ما غيرت آراءها وتعاليمها، وناقضت نفسها، وأدانت أناساً وحرمتهم دون سبب عادل. وأعلن "أنه نفض يده من أية مسؤولية عن أية مصاعب أو اضطرابات قد يسببها في المستقبل الشقاق القائم في الكنيسة المسيحية (31) ". وولى شطره نحو المهمة التي بدت أكثراً أملاً، وهي التوفيق بين جناحي البروتستانتية، وهما اللوثرية والكلفنية، ولكنه واجه في هذا السبيل عناء وتصلباً أشد وأقسى من عناد بوسويه وتصلبه، وأخيراً، تمنى، بينه وبين نفسه أن يحل الطاعون بكل المذاهب المتنافسة، وصرح بأنه ليس ثمة كتب ذات قيمة إلا نوعان منها: تلك التي تتناول الظواهر والتجارب العلمية، ثم التي تتناول التاريخ والسياسة والجغرافيا (32). وظل، ظاهرياً وبشكل غامض لوثرياً حتى انتهى أجله.
4 - نظرة عامة في فلسفة لوك
كان نصف نتاج ليبنتز "أبحاث وتعليقات" قام بع عرضاً تقريباً لدراسة أفكار بعض الكتاب. وأعظم كتبه الذي بلغ 590 صفحة بدأ في 1696 بعرض في سبع صفحات لمقال لوك عن العقل الإنساني (1690) الذي لم يعرفه ليبنتز آنذاك إلا عن طريق خلاصة له أعدها لكرك في "المكتبة العالمية" وعندما ظهرت ترجمة فرنسية لهذا المقال (1700) كتب ليبنتز من جديد نقداً له لمجلة ألمانية. وبادر فأعرب عن أهمية تحليل لوك وأطنب في امتداح أسلوبه. وفي 1703 عقد العزم على التعليق عليه فصلاً فصلاً. وهذه التعليقات هي التي يتألف منها كتاب
ليبنتز "أبحاث جديدة في العقل الإنساني". وإذ علم بوفاة لوك 1704 لم يتق التغليق، ولم ينشر إلا في 1765، فتأخر ظهوره، فلم يكن له دخل في تأثير لوك العميق على فولتير وغيره من النجوم اللامعة في عصر الاستنارة في فرنسا، ولكنه جاء في الوقت المناسب ليسهم في تشكيل الفتح الجديد في كتاب كانت "نقد العقل الخالص". وهو من أهم مؤلفات في تاريخ علم النفس.
إنه من حيث الشكل حوار بين "فلاليثس Philalethes ( حبيب الحق) الذي يمثل لوك، "وثيوفيلوس Theophilus ( حبيب الله) الذي يمثل ليبنتز. والحوار رصين مفعم بالحيوية، لا يزال تطيب قراءته لكل من أوتي ذهناً حاداً وفراغاً بغير حدود. وتظهر المقدمة ليبنتز في أعظم حالاته النفسية دماثة وكياسة، مصرحاً في تواضع بأنه يكسب قراءّ بالتزامه البحث في "مقال في العق الإنساني" الذي كتبه رجل إنجليزي لامع، وهو من اجمل المؤلفات التي حظيت بأعظم التقدير في هذه الفترة. والمسألة المطروحة للبحث، مبسوطة بوضوح جدير بالثناء: نريد أن نعرف هل النفس في حد ذاتها خالية تماماً، مثل الألواح الت يلم يكتب عليها شيء بعد، طبقاً لما قال به أرسطو وكاتب المقال، وهل كل ما يمكن تبعه بعد ذلك، يأتي فقط من الحواس والخبرة، أو هل تحتوي النفس أساساً على أصول كثير من الأفكار والمبادئ التي توقظها الأشياء الخارجية مجرد إيقاظ في المناسبات، كما اعتقد أنا ويعتقد أفلاطون
(1)
(33). ومن رأي ليبنتز أن الذهن ليس وعاء سلبياً للخبرة، بل هو عضو مركب يحول بمقتضى تركيبه ووظائفه معطيات الإحساس، مثلما أن الجهاز الهضمي ليس مجرد كيس فارغ، بل جهاز أعضاء لهضم الطعام وتحويله إلى متطلبات الجسم وأعضائه. وفي عبارة شهيرة معبرة بارعة لخص ليبنتز كلام لوك ونقحه، ليس في الذهن شيء لم يكن في الحواس إلا الذهن نفسه (36)". أن لوك، كما لحظ ليبنتز، كان قد اعترف بأن الأفكار قد تأتي من "التفكير" الإستبطاني، مثلما قد تأتي من الإحساس الخارجي، ولكنه كان قد نسب إلى أصل حسي كل
(1)
كتب لوك أن الذهن عند الولادة عبارة عن "ورقة بيضاء خالية"(34). ولكنه لم يستخدم عبارة "لوح نظيف". وهي ترجمة توما الأكويني لقطعة من أرسطو في موضوع "النفس"(35).
العناصر الداخلية في التفكير. وعلى النقيض من ذلك، جادل ليبنتز في أن الذهن من نفسه يمد بأصول أو ألوان معينة من الفكر، مثل "الوجو، الجوهر، الوحدة، الهوية، العلة، الإدراك الحسي، العقل، وانطباعات كثيرة أخرى لا يمكن أن تعطيها الحواس (37) "، وأن أدوات العقل هذه، أو أعضاء الهضم العقلي "فطرية"، لا بمعنى أننا على وعي بها عند الولادة، أو أننا دائماً على وعي بها عند استخدامها، بل بمعنى أنها جزء من التركيب أو الكيان الأصلي، أو "الاستعدادات الطبيعية" للذهن. وأحس لوك بأن هذه الأصول المفترض أنها فطرية تجري تنميتها وتطويرها تدريجياً بتفاعل الأفكار الحسية أصلاً، في الفكر، ولكن بدون مثل هذه الأصول، كما قال ليبنتز منازعاً، لن يكون هناك أفكار، بل مجرد تعاقبات مهوشة من الأحاسيس، تماماً مثلما أنه بدون عمل المعدة وعصاراتها الهضمية لا يغذينا الطعام، ولن يكون طعاماً. وعند هذا الحد أضاف في جرأة: أن كل الأفكار فطرية-أي أثر عملية التحويل في الذهن على الأحاسيس. ولكنه سلم بأن الأصول الفطرسية عند الولادة مهوشة وغير متميزة، ولا تصبح واضحة إلا عن طريق الخبرة والاستخدام.
والأصول الفطرية، في رأي ليبنتز، تشمل كل "الحقائق الضرورية، مثل تلك الموجودة في الرياضة البحتة (38)، لأن الذهن، لا الإحساس، هو الذي يزود بأصل الحاجة والضرورة، وكل شيء حسي هو فردي طارئ أو أحتمالي، ويمدنا، على أحسن الفروض، بتعاقب متكرر، لا بتعاقب ضروري أو علة ضرورية (39). (وكان لوك قد سلم بهذا (40)). واعتبر ليبنتز أن كل غرائزنا وإيثارنا اللذة على الألم وكل قوانين العقل، فطرية (41) -ولو أنها جميعاً لا تصبح واضحة إلا بالخبرة: مبدأ التناقض-فالبيانات المتناقضة لا يمكن أن تكون صحيحة في وقت واحد. "إذا كانت أدائرة، فهي ليست مربعاً"، ومبدأ السبب الكافي-"لا يحدث شيء دون سبب لحدوثه على النحو الذي حدث عليه" لا على نحو آخر (42) "وذهب ليبنتز إلى أن الذكاء البشري يختلف عما لدى الحيوان من معرفة، في أنه يستنتج أفكاراً عامة من خبرات معينة، عن طريق استخدام أصول العقل الفطرية، أما الحيوانات فهي تعتمد كل الاعتماد على الخبرة العملية،
توجه نفسها عن طريق الأمثلة فحسب"، فهي، بقدر ما نستطيع الحكم عليها، لا يمكن أن تصل أبداً إلى تشكيل القضايا أو الافتراضات الضرورية (43).
أن مبدأ "السبب الكافي" بكفي "لإقامة الدليل على وجود الله وكل أجزاء الميتافيزيقا الأخرى أو اللاهوت الطبيعي (44) ". وبهذا المعنى تكون فكرتنا عن الله فطرية، ولو أن الفكرة في بعض الأذهان أو عند بعض القبائل لا واعية أو مهوشة، ويمكن أن نقول مثل هذا على فكرة الخلود (45) -والإحساس الخلقي فطري، لا في مضمونه النوعي أو الخاص، أو في أحكامه التي قد تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، بل بوصفه وعياً للفرق بين الصواب والخطأ. وهذا الوعي عام شامل (46).
والذهن، في علم النفس عند ليبنتز، فعال نشيط، لا لمجرد أنه يدخل بمقتضى تركيبه وعمله في تكوين كل فكرة فحسب، بل كذلك في استمرار نشاطه دون انقطاع. وحيث أن ليبنتز استخدم لفظة "يفكر" بمعناها الواسع عند ديكارت، بمعنى أنها تشمل كل العمليات العقلية، فإنه اتفق مع الديكارتيين في أن الذهن يفكر دائماً. سواء أكان مستيقظاً أم غير واع أو نائماً. "أن أية حالة بلا تفكير في النفس ولا راحة مطلقة في الجسم، تبدو لي مناقضة للطبيعة، ولا مثيل لها في الدنيا، بقدر سواء (47) ". وبعض العمليات العقلية تتم فيما وراء نطاق العقل (في العقل الباطن)"من الخطأ البين الاعتقاد بأنه ليس في النفس مدركات إلى جانب تلك المدركات الحسية التي تعيها (48) ". وبمثل هذه القضايا التي أوردها ليبنتز، بدأ علم النفس الحديث جهوده في التنقيب عما أسماه بعض الباحثين الذهن اللاواعي، وما اعتبرته الأرواح القوية متعلقاً بالمخ، أو عمليات أخرى جسدية لم تثر الوعي.
ولدى ليبنتز الشيء الكثير مما يمكن أن يقول عن العلاقة بين الجسم والنفس، ولكنه هناك يترك علم النفس، ويحلق في الميتافيزيقا، ويطلب إلينا أن ننظر إلى العالم بأسره على أنه مونادات نفسية بدنية، ذوات صفات عقلية وبدنية معاً.
5 - المونادات
التقى ليبنتز عندما كان في فيينا في 1714 بالأمير يوجين من سلفوي، الذي كان هو ومالبورو قد أنقذا أوربا من ربقة الخضوع للملك لويس الرابع عشر، وطلب الأمير الفيلسوف أن يعد له بياناً موجزاً عن فلسفته بشكل يتيسر معه على القائد العسكري قراءته. واستجاب ليبنتز لهذا الطلب بإعداد رسالة محكمة موجزة من تسعين فقرة، تركها بين أوراقه عند مماته. ونشرت لها ترجمة ألمانية في 1720. ولم يطبع النص الأصلي الفرنسي إلا في 1839، والمحرر هو الذي أسماه "المونادلوجيا" (علم الجواهر الروحية) وربما أخذ ليبنتز اصطلاح موناد عن جيورانو برونو (49)، أو عن فرانس فان هلمونت (ابن الكيميائي ج، ب) (50)، الذي استخدم اللفظة لوصف "البذور" الدقيقة جداً، التي خلقها الله هي وحدها مباشرة، والتي تورطت إلى كل أشكال المادة والحياة. وكان أحد الأطباء الإنجليز، فرانسيس جليسون قد نسب، لا القوة وحدها، بل كذلك الغريزة والأفكار إلى كل الجواهر (1672). وكانت نظرية شبيهة بهذه قد نبتت في ذهن ليبنتز المتفتح الدؤوب منذ 1686. وربما تأثر بعمل الميكروسكوبيين الحديثين الذين عرضوا الحياة النابضة في أصغر الخلايا. وخلص ليبنتز إلى أن "هناك عالماً من الكائنات المخلوقة-الأشياء الحية، والحيوانات .... والأنفس .... ، في أصغر جزء من المادة- (151) ". وكل جزء من المادة يمكن تصوره على أنه الأسماك الميكروسكوبية، إنما هي بركة أخرى مملوءة بالسمك، وهكذا إلى ما لا نهاية-لقد هزت مشاعره-كما كانت قد روعت بسكال-قابلية القسمة اللامتناهية لأي شيء ممتد.
وأوحى ليبنتز بأن قابلية القسمة التي لا نهاية لها، لغز ناشئ عن مفهومنا للحقيقة بأنها مادة، ومن ثم فهي ممتدة وقابلية للقسمة إلى حد الغثيان. أننا إذا اعتبرنا الحقيقة النهائية طاقة وتصورنا العالم مكوناً من مراكز قوة، لاختفى سر أو لغز قابلية القسمة، لأن القوة مثل الفكر لا تنطوي ضمناً على امتداد. وعلى هذا رفض ذرات ديكارت على أنها المكونات النهائية للكون، وأحل محلها المونادات، وهي وحدات غير
ممتدة من القوة. وعرف الجوهر، لا بأنه مادة، بل طاقة. (إلى هذه النقطة كان مفهوم ليبنتز متفقاً تمام الاتفاق مع فيزياء القرن العشرين)، "المادة" أينما وجدت مشحونة بالحركة والنشاط والحياة. وكل موناد يحس ويدرك، أن له ذهناً أولياً أو بدائياً، بمعنى أنه حساس-ويستجيب-للتغيرات الخارجية.
وقد نفهم المونادات فهماً أفضل إذا فكرنا فيها "بطريقة تشبه الانطباعية التي لدينا عن الأنفس (52) " وكما أن كل نفس "عبارة عن شخص بسيط مستقل (53) "، ذات منعزلة تشق طريقها مناضلة بإرادتها الباطنية ضد كل ما هو خارج عنها، فإن كل موناد كذلك وحيد، مركز قوة منفصل مستقل ضد كل مراكز القوة الأخرى. والحقيقة كون من القوى الفردية، موحد ومنسجم بفضل قوانين الكل أو المجتمع أو الله فقط. وكما أن كل نفس تختلف عن سائر الأنفس، فإن كل موناد كذلك فريد. وليس في الكون بأسره كائنان متشابهان كل الشبه، لأن الفروق بينهما تشكل فرديتهما، أن شيئين لهما نفس الصفات، لا بد أن يكونا واحداً متطابقاً يتعذر تمييزه ("قانون الأشياء التي يتعذر تمييزها")(54) وكما أن كل نفس تحس أو تدرك الحقيقة المحيطة بها، ويقل هذا وذاك وضوحاً كلما كانت الحقيقة بعيدة عنها، ولكنها تشعر بالحقيقة بدرجة ما، فإن كل موناد يشعر بالكون كله، مهما كان الشعور مهوشاً أو غير واع. وهو بهذه الطريقة مرآة تعكس وتمثل العالم بدرجة أو بأخرى من الغموض. وكما أن أي ذهن فردي لا يستطيع بحق أن ينعم النظر في ذهن آخر، فكذلك لا يستطيع موناد واحد أن ينعم النظر في موناد آخر. فليس فيه أية نافذة أو فتحة لمثل هذا الاتصال المباشر، ومن ثم فإنه لا يستطيع مباشرة إحداث أي تغيير في أي موناد آخر.
والمونادات تتغير لأن التغيير أساسي لحياتها-ولكن التغييرات تأتي من كفاحها الداخلي (55). فكما أن كل نفس هي رغبة واردة، فكذلك كل موناد يحتوي على-أو هو-غرض داخلي وإرادة، سعى للنمو والتطور. وتلك هي "الفعلية" التي قال عنها أرسطو بأنها لب كل حياة. وبهذا المعنى (كما كان يقول شوبنهور) فإن القوة والإرادة شكلان أو درجتان من نفس الحقيقة الأساسية (56). وفي الطبيعة غائية
متأصلة: فهناك في كل شيء سعى أو "محاولة" أو "اشتهاء"، أو غرض موجه يحدد قالبه، حتى ولو كان ذاك الغرض أو تلك الإرادة تعمل في حدود القانون الآلي أو عن طريقه. وكما أن الحركة الجسمية فينا هي تعبير مرئي ميكانيكي عن رغبة أو إرادة باطنة، فكذلك في المونادات، فإن العملية الميكانيكية التي نراها من الخارج، هي مجرد الشكل أو الهيكل لقوة داخلية:"وهذا الذي يظهر بشكل آلي أو بالامتداد، في المادة يتركز بشكل دينامي أو فعال، وبشكل عضوي (أو مونادي) في "الفعلية" (أو السعي الداخلي) نفسها (57). ونحن في إدراكنا المشوش المضطرب نعادل الأشياء الخارجة "بالمادة" لأننا نرى آليتها الخارجية فقط، ولا نرى-كما هو الحال في الاستبطان، الحيوية الداخلية ذات الأثر الفعال في التكوين. وفي هذه الفلسفة تفسح الذرات العاجزة غير الفعالة عند الماديين، مكاناً للمونادات أو الوحدات التي هي مراكز حية للفردية والقوة. ولا يعود العالم آلة ميتة ويصبح مسرحاً لحياة نابضة متنوعة.
وأهم المعالم في هذا التنوع هي درجة الوعي في "ذهن" الموناد. فإن لكل المونادات أذهاناً، بمعنى الحساسية والاستجابة، ولكن ليس كل ذهن واعياً. وحتى نحس الكائنات البشرية العجيبة، نمر بعمليات عقلية كثيرة دون وعي، كما هو الحال في الأحلام، أو حين نكون مستغرقين في أشد الانتباه إلى جوانب معينة من موقف ما، فإننا لا نعي أننا ندرك عناصر أخرى كثيرة في هذا المشهد-وهي عناصر قد تكون على أية حال مختزنة في الذاكرة، وقد تدخل إلى أحلامنا، وقد تنبثق من زوايا خفية في الذهن إلى الوعي الذي يحدث فيما بعد، أو حين نكون على وعي بزئير الأمواج المنكسرة على الشاطئ أو هسيسها، فإننا لا نتحقق من أن كل موجة، أو كل جزء صغير من كل موجة، يطرق أذننا ليحدث ألفاً من الآثار الفردية، التي تشكل أو تصبح هي سماعنا للبحر. وعلى ذلك فإن أبسط المونادات تحس وتدرك كل شيء حولها، ولكن بشكل مهوش مضطرب إلى حد اللاوعي. والمشاعر في النبات تصبح أوضح وأكثر تخصصاً وتؤدي إلى استجابات أكثر تحديداً. وفي الموناد، أي نفس الحيوان تصبح المدركات المرددة للصدى ذكريات يولد تفاعلها وعياً. والإنسان عبارة عن مستعمرة من المونادات (الخلايا؟) لكل منها جوعه وحاجياته وأغراضه، ولكن هذه
الجزيئات تصبح جماعة موحدة من كائنات حية بتوجيه من موناد مسيطر، وهو "فعلية" الإنسان ونفسه (58). وإذا ارتفعت النفي إلى مستوى العقل فأنها .... تعتبر ذهناً (59) وتسمو في المرتبة تبعاً لدرجة إدراكها للعلاقات الضرورية والحقائق الباطنية، وعندما تدرك نظام الكون وذهنه تصبح مرآة الله. والله، الموناد الرئيسي، ذهن خالص واع تماماً الوعي، مجرد من كل آلية وجسم (60).
وأشق جانباً في هذه الفلسفة هو نظرية ليبنتز في "التناسق الأزلي". ما هي العلاقة بين حياة الموناد الداخلية، ومظهره الخارجي أو هيكله المادي؟ وكيف نفسر التفاعل في الجسم المادي والذهن الروحي في الإنسان؟ وكان ديكارت قد نسب هذه المسألة عجزاً إلى الغدة الصنوبرية. ورد عليها سبينوزا بإنكار أي انفصال أو تفاعل بين المادة والذهن، حيث كان هذان، في رأيه، مجرد المظهرين الخارجي والداخلي لعملية وحقيقة واحدة. وجدد ليبنتز المشكلة بالقول بأن العمليات الجسمية والعقلية إلى تواطؤ مستمر رتبه الله ترتيباً أزلياً بشكل عجيب:
أن النفس تتبع قوانينها الخاصة بها، وكذلك الجسم يتبع قوانينه الخاصة به، وهي تتلاءم وتتفق بفضل "التناسق الأزلي بين الجواهر، حيث أنها كلها تمثل كوناً واحداً (61) .... وتعمل الأجسام كما لو أنه ليس هناك نفوس، وتعمل النفوس كما لو أنه ليس هناك أجسام، ويعمل كلاهما كما لو أنه يؤثر في الآخر .... (62) ويسألونني كيف يحدث أن الله غير راض عن إنتاج كل أفكار وتكيفاتها بغير هذه الأجسام العديمة الفائدة التي لا تستطيع النفس (كما يقولون) أن تحركها أو تعرفها. والجواب سهل: أن إرادة الله هي التي اقتضت أن يكون هناك عدد أكبر، لا عدد أقل، من الجواهر، كما وجد، سبحانه، أنه من الخير أن تقابل هذه التكيفات شيئاً خارجياً (63).
وارتياباً في أن الاستغلال اللطيف للإله بديلاً عن الفكر قد لا يلقى
استحساناً عاماً، وعمد ليبنتز إلى زخرفته بفرضية جلينكس وساعاته: فالجسم والذهن يعمل كل منهما مستقلاً عن الآخر، ومع ذلك يعملان في تناسق محير، مثل ساعتين صنعتا وملئتا ثم بدأتا، في حذق وبراعة إلى درجة أنهما تسجلان الثواني وتدقان الساعات في توافق تام، دون تفاعل أو تأثير متبادل، وهكذا العمليات الجسدية والنفسانية، على الرغم من استقلالهما، دون أن تؤثر إحداهما في الأخرى، فإنهما تتوافقان عن طريق "تناسق وجد منذ الأزل بوسيلة إلهية بارعة توقعية"(64).
ولنفترض أن الذي جال بخاطر ليبنتز، ولكنه لم يهتم بذكره، هو أن العمليات التي هي في الظاهر منفصلة ولكنها متزامنة، عمليات الآلية والحياة، عمليات الفعل والفكر، هي عملية واحدة بعينها، نراها من الخارج مادة ومن الداخل ذهناً. ولو أنه ذكر هذا لكان تكراراً لسبينوزا، ومشاركة في مصيره.
6 - هل كان الله عادلاً؟
أن هذه الحاجة إلى ستر عرى الفلسفة بأغطية لاهوتية، هي التي أدت بليبنتز إلى تأليف الكتاب الذي أثار حنق فولتير وسخريته، وكاد يضيع مفكراً عميقاً حقاً في صورة الأستاذ بانجلوس الهزلية، دفاعاً عن أحسن العوالم الممكنة. أن العمل الفلسفي الكامل الوحيد الذي نشر في حياة ليبنتز هو "مقال الثيويديسية عن طبيعة الله وحرية الإنسان وأصل الشر"، (1710) -وهو تقريباً سند مشجع مثل كتاب ديكارت "مبادئ الفلسفة الأولى، التي توضح وجود الله وخلود النفس"(1641). والثيودريسية معناها عدالة الله أو تبريره (أو الفلسفة الإلهية).
فلهذا الكتاب، مثل سائر الكتب أصل عرضي. وفي مقال عن القديس جيروم، في "القاموس التاريخي النقدي" نجد بيل، على حين يبدي إعجابه الشديد بليبنتز، يعرض رأي الفيلسوف بأنه يمكن التوفيق بين العقل والدين، أو بين حرية الإنسان وقدرة الله، أو بين الشر الدنيوي والطيبة والقوة الإلهيتين. وخير لنا-كما يقول بيل، أن نتخلى عن فكرة إثبات المذاهب الدينية، فإن هذا لا يعني إلا إبراز
المتاعب والصعوبات. وأجاب ليبنتز (1698) في مقال كتب لصحيفة جاك باسناج "تاريخ أعمال العلماء". وأضاف بيل في الطبعة الثانية لقاموسه إلى المقال الذي كتبه عن القديس جيروم ملاحظة هامة يحي فيها ليبنتز "ذلك الفيلسوف العظيم" ولكنه أشار إلى غوامض أخرى، وبخاصة في نظرية التناسق الأزلي. وأرسل ليبنتز رده إلى بيل مباشرة، ولكنه لم يطبعه. وفي العام نفسه كتب ثانية إلى عالم روتردام يمتدح "تأملاته الأخاذة" و "أبحاثه التي لا حد لها (65) ". ولم يتسم إلا القليل من فترات تاريخ الفلسفة بمثل ما اتسمت به من الرقة واللطف تلك المجاملة المتبادلة بين بيل وليبنتز في تبادل الأفكار. وأبدت صوفيا شارلوت رغبتها في الاطلاع على جواب ليبنتز على شكوك بيل. وكان بالفعل يعد مثل هذا البيان حين ترامت إليه الأنباء بوفاة بيل. وراجع ردوده وتوسع فيها ونشرها تحت عنوان "التيوديسية". وكان آنذاك في الرابعة بعد الستين من العمر، وأحس بدنو الأجل، وربما هفت نفسه إلى الإيمان بعدالة الله مع الإنسان. كيف يتأتى أن يتلوث عالم خلقه العلي القدير الخير بمثل هذه المذابح العسكرية والفساد السياسي والقساوة البشرية والشقاء والزلازل والمجاعات والفقر والمرض؟
أن "الرسالة التمهيدية عن مواجهة الإيمان بالعقل" وصفت العقل والكتاب المقدس بأن كليهما وحي من عند الله، ومن ثم كان التناقض بينهما أمراً بعيد الاحتمال.
ويتساءل بيل كيف أن الإله الطيب الخير المطلع سلفاً "على كل ما هنالك من ثمار" يمكن أن يجيز إغراء حواء، فرد ليبنتز على هذا بأن الله، لكي يؤهل الإنسان للمبادئ الأخلاقية، خلق له إرادة حرة، ومن ثم حرية الخطيئة، وحقاً أن الإرادة الحرة تبدو غير ملتئمة مع العلم واللاهوت كليهما، فالعلم يرى في كل مكان حكم قانون لا يتغير، والحرية الإنسانية مضيعة في سباق علم الله وحتمية كل الأحداث قضاء وقدراً. ولكننا، كما قال ليبنتز، واعون في عناد وإصرار وبشكل مباشر أننا أحرار غير مقيدين. أننا، على الرغم من عدم قدرتنا على البرهنة على هذه الحرية، يجدر بنا أن نقبلها شرطاً أساسياً لأي معنى من معاني المسئولية الأخلاقية، بديلاً وحيداً لاعتبار الإنسان آلة سيولوجية عاجزة بشكل سخيف مضحك.
أما بالنسبة لوجود الله، فإن ليبنتز مقتنع بالحجج التقليدية السكولاسية. نحن نتصور كائناً كاملاً، وحيث أن الوجود عنصر ضروري في الكمال، فالكائن الكامل لا بد أن يكون مزدوجاً. ولا بد أن يكون هناك عنصر ضروري وكائن موجود بذاته (غير مخلق) وراء كل العلل القريبة والأحداث المحتملة الوقوع. وليس من مفهوم أن يكون لعظمة الطبيعة ونظامها أي مصدر إلا "ذكاء أسمى". ولا بد أن يكون للخالق في ذاته، وبدرجة غير متناهية، كل القوة والعلم والمعرفة والإرادة التي كشفت في مخلوقاته. والتدبير الإلهي والآلية الكونية غير متعارضتين. فالعناية الإلهية تستخدم الآلية لإنجاز عجائبها، ويستطيع الله أن يربك أو يوقف آلة العالم من آن إلى آن، ليظهر معجزة أو معجزتين (66).
والنفس بطبيعة الحال، خالدة، والموت، مثل الولادة، هو مجرد تغيير في الشكل في مجموعة من المونادات، وتبقى النفس والطاقة المتأصلتان. وفيما عدا الله تكون النفس دائماً ملازمة للجسم، والجسم ملازم للنفس، ولكن سيكون هناك بعث للجسم، كما سيكون هناك بعث للنفس (67)(وليبنتز هنا كاثوليكي فاضل) وفيما دون الإنسان يكون خلود النفس غير شخصي (مجرد إعادة توزيع للطاقة)، والنفس العقلانية في الإنسان وحدها هي التي تتمتع بخلود واع.
والخير والشر اصطلاحان من صنع الإنسان نحددهما تبعاً للذتنا أو ألمنا، ولا يمكن تطبيقهما على الكون دون افتراض أن للإنسان من العلم ما لا يجوز إلا لله. وقد يكون النقص في الجزء مطلوباً لكمال أعظم في الكل (68). وعلى هذا فالخطيئة شر، ولكنها نتيجة الإرادة الحرة التي هي خير. وحتى خطيئة آدم وحواء كانت من بعض النواحي "خطيئة سعيدة" حيث كان من نتيجتها مجيء المسيح (69) "وليس في الكون .. فوضى ولا اضطراب إلا من حيث المظهر (70) ". إن آلام الناس ونوائبهم "تسهم في الخير الأعظم عند من يعانون منها (71) ". وحتى:
لو تمسكنا .... بالرأي السائد بأن عدد الناس المقدر عليهم الشقاء الأبدي، سيكون أكبر بشكل لا يقارن، من
الذين كتب لهم الخلاص، فيجدر بنا أن نذكر أن الشر لا يمكن أن يبدو ضئيلاً إلى حد العدم بالمقارنة مع الخير، إذا تأمل المرء السعة الحقيقية "لمدينة الله"(للجنة) .... وحيث أن هذا الجزء من الكون الذي نعرفه ليس إلا شيئاً لا يذكر إلى جانب الجزء الذي لا نعرف عنه شيئاً .... فقد يكون كل الشر ضئيلاً إلى حد العدم تقريباً، إذا قورن بالأشياء الطيبة الموجودة في الكون (72) .... ولسنا بحاجة حتى إلى الموافقة على أن في الجنس البشري شراً أكثر مما فيه من خير، فإنه من الممكن، بل أنه لشيء معقول أن تكون سعادة غير المغضوب عليهم وكمالهم أعظم بكثير من شقاء المغضوب عليهم ونقصهم (73).
وهذه الدنيا، مهما بدا من نقصها أمام أعيننا المشبعة بالأنانية هي أحسن ما كان يمكن أن يخلقه الله، حيث ترك البشر أناسي وأحراراً. وإذا كانت ثمة دنيا أحسن في حيز الإمكان فلنكن على يقين من أن الله يمكن أن يخلقها.
أن الكمال الأسمى لله يستتبع أنه في خلق الكون، اختار (سبحانه) أفضل خطة ممكنة، بما فيها أعظم تنوع مع أعظم نظام، وأفضل وضع ومكان وزمان ترتيباً، وأعظم النتائج توفرها أبسط الوسائل وأعظم قوة وأعظم معرفة وأعظم سعادة وأعظم خير في الأشياء المخلوقة التي سلم بها الكون أو أفسح لها مجالاً، وبما أن كل الأشياء الممكن وجودها تطالب بحق الوجود في عقل الله بنسبة درجة كمالها، فإن نتيجة كل هذه المطالبات لا بد أن تكون أكمل دنيا ممكنة فعلاً (74).
ولا يمكن أن نوصي اليوم بقراءة شيء أكثر من ذلك في "ثيودوسية" ليبنتز، اللهم إلا الذين يقدرون لأعظم تقدير سخرية "كانديد" المريرة.
7 - اهتمامات فكرية متنوعة
ومهما يكن من امر فإن "الثيوديسية" أصبحت أوسع كتب ليبنتز انتشاراً وأكثر ما أقبل الناس على قراءته منها، وعرفه الناس بأنه "رجل أفضل العوالم الممكن وجودها". وإذا كان لنا أن نأسف لهذا السخف الذي يهذب ويثقف في هذا العمل العظيم، فإن إجلالنا للمؤلف يحيا ويتجدد إذا أجلنا الطرف في التنوع الغزير لاهتماماته الفكرية. وقد افتتن بالعلم ولو أنه كان جانباً من فكره. وقال ليبنتز لبيل يوماً لو أنه عاش حياة ثانية لأصبح عالماً بيولوجياً (75). وكان من أعمق الرياضيين في عصر زخر بهم. ونبذ ديكارت في صياغة "مقياس القوة
(1)
". أما تصوره للمادة على أنها طاقة فكان في نظر عصره لحناً ميتافيزيقياً، ولكنه الآن في أيامنا هذه أمر مألوف في الفيزياء. ووصف المادة بأنها إدراكنا المهوش أو المضطرب لعمليات القوة. ونبذ، مثل معاصرينا من أصحاب النظريات "الحركة المطلقة" التي افترضها نيوتن، وقال بأن "الحركة هي مجرد تغيير في الأوضاع النسبية للأجسام، ومن ثم ليست شيئاً مطلقاً، بل متضمنة في علاقة (76)". واستبق كانت في تفسير المكان والزمان، لا على أنهما حقائق موضوعية، بل علاقات مدركة حسياً: المكان مدرك حسياً على أنه تصاحب في التواجد، والزمان مدرك حسياً على أنه تعاقب-وهي آراء تتبناها اليوم نظريات النسبية. وفي عامه الأخير (1715) دخل ليبنتز في مراسلات طويلة مع صمويل كلارك عن الجاذبية الأرضية، التي بدت له صفة خاصة تكتنفها الأسرار، تعمل على مسافات هائلة جداً عبر فراغ ظاهر، واعترض ليبنتز بأنها قد تكون معجزة متصلة لا تنقطع، فأجاب كلارك بأنها ليست اعظم من "التناسق الأزلي (77) "، وأبدى ليبنتز خوفه من أن تؤدي نظرية نيوتن في الآلية الكونية إلى كثير من الإلحاد، فأجاب كلارك، على العكس، أن النظام المهيب الذي كشف نيوتن غوامضه قد يقوي الإيمان بالله (78). وبررت الأحداث اللاحقة رأي ليبنتز.
(1)
كانت صيغة ديكارت ك س-مقدار الحركة الكتلة مضروباً في السرعة. فعدلها ليبنتز على كتاب جاليليو إلى ك س2. والقانون السائد الآن: 2 slash1 ك س2.
وفي علم الحياة (البيولوجيا) تصور ليبنتز "التطور" بشكل غامض. ورأى، مثل كثير من المفكرين قبله وبعده "قانون الاستمرار" نافذاً في العالم العضوي، ولكنه امتد بالفكرة كذلك إلى العالم المظنون أنه غير عضوي: فكل شيء نقطة أو طور في سلسلة لا نهاية لها، مرتبط بكل شيء غيره عن طريق عدد غير محدود من أشكال وسيطة (79)، فهناك كما يقال، حساب اللامتناهيات في الصغر يجري في الحقيقة.
ليس ثمة شيء يتم على الفور. ومن حكمي البليغة
…
أن الطبيعة لا تقوم بقفزات .... ويعلن قانون الاستمرار أننا ننتقل من الأصغر إلى الأكبر والعكس بالعكس عبر الوسط، درجة درجة، وجزءاً جزءاً على حد سواء (80). (وينازع في هذا كثير من الفيزيائيين اليوم)
…
والناس مترابطون مع الحيوانات. والحيوانات مترابطة مع النبات، وهذه ثانية مع الأحافير والمستحدثات، وهي بدورها مرتبطة بتلك الأجسام التي يصورها لنا الإحساس والخيال ميتة وغير عضوية تماماً (81).
وفي هذا "الاستمرار" المهيب تذوب كل التناقضات، عن طريق سلسلة ضخمة من فوارق توجد ونادراً ما يتيسر إدراكها إدراكاً حسياً، من أبسط المواد إلى أكثرها تعقيداً، ومن أصغر الحيوانات الدنيا التي ترى بالمجهر إلى أعظم حاكم أو عبقري أو قديس.
ويبدو أن ذهن ليبنتز قاس كل هذا الاستمرار الذي وصفه، وكان حسن الاطلاع على كل علم، وعرف تاريخ الأمم والفلسفة. وكم مس مساً رقيقاً الشئون العالمية للكثير من الدول، كما كان على علم تام بالذات وبالله. وفي 1693 نشر بحثاً عن نشأة الأرض وبدايتها متجاهلاً سفر التكوين تجاهلاً تاماً. وطور أفكاره الجيولوجية وتوسع فيها في رسالة "بروتوجيا" نشرت 1749 بعد وفاته. وذهب إلى أن كوكبنا كان يوماً كرة ملتهبة، ثم بردت شيئاً فشيئاً، كونت قشرة، وعندما بردت تكاثف البخار بها إلى مياه ومحيطات-وأصبح الماء ملحاً بذوبان ما في القشرة من معادن. وكانت التغييرات الجيولوجية، التي تلت ذلك، أما نتيجة لفعل المياه التي فاضت على السطح تاركة تكوينات رسوبية، أو نتيجة
انفجار الغازات التي تحت الأرض، مخلفة صخوراً بركانية. وأوردت نفس الرسالة تفسيراً بارعاً للأحافير أو المستحاثات (82)، وخطت نحو نظرية للتطور. وبدا له "جديراً بالاعتقاد، أنه من خلال هذه التغييرات البعيدة المدى" في القشرة الأرضية"، "تحولت مرات ومرات حتى أجناس الحيوان (83)". وقال بأنه من المحتمل أن أقدم الحيوانات الأولى كانت بحرية، انحدرت منها البرمائيات والحيوانات البرية (84). ورأى ليبنتز-مثل بعض المتفائلين في القرن التاسع عشر-، في هذا التحول التطوري، أساساً للاعتقاد "بتقدم الكون تقدماً متصلاً لا يعوقه شيء .... لن يقف التقدم عند حد أبداً (85) ".
وانتقل ليبنتز من علم الحياة (البيولوجيا) إلى القانون الروماني، ومنه إلى فلسفة الصين. وأفادت رسالته "آخر الأخبار من الصين" 1697 في لهف شديد، من تقارير التي كان يرسلها المبشرون والتجار من "المملكة الوسطى". ورأى أنه من الجائز أن يكون الصينيون قد وصلوا في الفلسفة والرياضة والطب إلى كشوف يكون فيها أكبر العون للحضارة الغريبة. وحث على إقامة روابط ثقافية مع روسيا، لتكون من ناحية، وسيلة لبدء الاتصال الثقافي مع الشرق. وتبادل ليبنتز الرسائل مع الباحثين ورجال العلوم ورجال السياسة والحكم في عشرين بلداً بثلاث لغات. وكتب نحو ثلاثمائة رسالة في العام. و 15 ألفاً منها محفوظة (86). وقد تنافسه رسائل فولتير من حيث الكم، لا من حيث التنوع الفكري. واقترح ليبنتز ندوة عالمية ثقافية يتبادل رجال العلم والمعرفة عن طريقها، أفكارهم وآراءهم ويعرضونها للبحث والمقارنة (87)، وعمل على إيجاد لغة عالمية-"حروف عالمية" يكون فيها لكل فكرة في الفلسفة والعلوم رمزاً وحرف خاص، حتى يتمكن المفكرون من معالجة هذه الأفكار بهذه المجموعة من الرموز، مثلما استخدم الرياضيون العلامات للكميات. وبهذا اقترب من تأسيس المنطق الرياضي والرمزي (88). وبشيء من هذا العبث اللطيف وزع ليبنتز نفسه بين مجالات كثيرة إلى حد أنه لم يكن يترك وراءه إلا قصاصات أو شذرات.
ولم يجد فيلسوفنا الشغوف بالعلم المتعدد جوانب المعروفة فسحة من الوقت للزواج. وأخيراً وهو في سن الخمسين فكر في الزواج،
ولكن، كما يقول فونتنيل "أمهلته السيدة التي طلب يدها، لتدبر الأمر، وحيث تهيأت له فرصة لإعادة النظر في الموضوع، فإنه لم يتزوج قط (89) ". وبعد جولاته وتحليقاته في الدبلوماسية طوى نفسه على دراساته معتزاً بالعكوف عليها في عزلة. أن الرجل الذي كان قد نقب بذهنه في نصف العالم، باعد الآن بينه وبين أصدقائه. وتفرغ للقراءة والكتابة، حتى أثناء الليل. وقلما تنبه لأيام الآحاد أو العطلة. ولم يكن لديه خادم، وكان يبعث في طلب وجبات الطعام من الخارج، وتناولها وحيداً في غرفته (90). فإذا غادرها يوماً، كان ذلك من أجل القيام ببعض الأحداث، أو لمتابعة مشروعاته من أجل النهوض بالمعرفة أو العلوم أو خلق جو من التفاهم.
وراوده حلم إنشاء أكاديميات في العواصم الكبرى، ونجح في واحدة منها، فأسست أكاديمية برلين (1700) بناء على مبادرته، وانتخبته أول رئيس لها. وقابل بطرس الأكبر في تورجو
(1712)
، ثم في كار لسباد وبيرمونت، واقترح أكاديمية مماثلة في سانت بطرسبرج، وحمله القيصر بالهدايا، وتبنى اقتراحه في حكم روسيا عن طريق "وحدات" إدارية، ولكن ليبنتز، لم يعمر حتى يرى أكاديمية سانت بطرسبرج صرحاً قائماً في 1724. ونلتقي به في 1712 في فيينا متلهفاً للحصول على منصب إمبراطوري، حاملاً معه مشروع أكاديمية أخرى. وقدم لشارل السادس خطة لإنشاء معهد لا يقتصر على العلوم، بل يضم التربية والزراعة والصناعة، وعرض خدماته لإدارة المعهد. ورفعه الإمبراطور إلى مرتبة النبلاء، وعينه عضواً في المجلس الإمبراطوري (1712).
وأغضب طول تغيبه عن هانوفر الناخب الجديد جورج. وقطع راتبه فترة من الزمن وأنذر بأنه قد آن الأوان بعد مضي ربع قرن من التعويق والتسويف، للانتهاء من كتابه عن تاريخ أسرة برنزويك. وعند وفاة الملكة آن غادر جورج هانوفر ليتسلم عرش إنجلترا. وبعد ثلاثة أيام من هذا الرحيل، وصل ليبنتز من فيينا 1714. وكان يأمل في أن يذهبوا به إلى لندن حيث ينعم هناك بمنصب أرفع ورواتب أكبر، وبعث إلى الملك الجديد برسائل يسترضيه فيها. ولكن جورج رد بأنه من الخير أن يبقى ليبنتز في هانوفر حتى ينجز الحوليات (91).
ناهيك بأن إنجلترا لم تكن غفرت له نزاعه مع نيوتن حول أيهما وضع حساب التفاضل والتكامل.
واستبد به اليأس والوحدة، وعاش عامين آخرين كافح فيهما من أجل الإيمان بحسن نية الكون ومقاصده، أن الرجل الذي عرفوه في القرن الثامن عشر بأنه رسول التفاؤل قضى نحبه متأثراً بداء النقرس وحصاة الكلى في هانوفر، وفي 14 نوفمبر 1716. ولم تحفل بموته أكاديمية برلين، ولا رجال الحاشية الألمان في لندن، ولا أي من أصدقائه في البلد، ولم يحضر أحد من رجال الدين للقيام بالطقوس الدينية للفيلسوف الذي كان يدافع عن الدين ضد الفلسفة. ولم يشيع جنازته إلا رجل واحد، هو سكرتيره السابق، وكتب اسكتلندي كان آنذاك في هانوفر "ووري ليبنتز التراب أقرب شبهاً بلص، منه بما كان عليه حقاً: درة في جبين بلاده ومفخرة لها (92) ".
وجدير بنا ألا نشغل الصفحات ببيان أوجه الخلل والنقص في هذا الركام المتعدد الأشكال من الأفكار، فقد قام الزمن منذ عهد بعيد بهذه المهمة الثقيلة. واتهم النقاد ليبنتز بسرقات كثيرة واضحة في كل ما كتبه أو قال به. وعثروا على علم النفس الذي جاء به أفلاطون، والعدل الإلهي عند الفلاسفة السكولاسيين، والمونادات عند برونو، والميتافيزيقيا والأخلاق وعلاقة الذهن بالجسم عند سبينوزا، ولكن من الذي يستطيع أن يقول عن هذه المسائل شيئاً غير ما قيل منذ مائة عام. أن لأيسر أن يكون المرء أصيلاً وأحمق من أن يكون أصيلاً وحكيماً. وهناك ألف من الأخطاء المحتملة في كل حقيقة ولم يستنفذ الجنس البشري بعد كل الإمكانات مع ما بذل من جهود ومحاولات. وهناك هراء كثير في ليبنتز، ولكنا لا نستطيع الجزم بأنه كان هراء أميناً، أو أنه كان تغييراً وقائياً في اللون، أنه يقول لنا بأنه الله حين خلق الدنيا رأى سبحانه في ومضة، كل ما كان سيحدث في أدق تفاصيله (93). وقال "أنا دائماً أبداً فيلسوفاً، ولكني دائماً انتهي رجلاً من رجال اللاهوت (94) ". أي أنه أحس أن الفلسفة تخطئ هدفها إذا لم تؤد إلى الفضيلة والتقوى.
وهيأ له حواره الطويل الذكي مع جون لوك واحداً من ادعاءاته
الكثيرة، إلا وهو ادعاء الفكر الثاقب ذي القيمة والأهمية. وربما بالع في الفطرية "الأفكار الفطرية"، ولكنه سلم بأنها قدرات أو مواهب أو استعدادات، وليست أفكاراً وأفلح في إظهار أن المذهب الحسي عند لوك كان قد بالغ في تبسيط عملية المعرفة، وأن "الذهن" بطبيعته-إذا كان خالياً فجاً عند الولادة-إنما هو عضو للاستقبال الفعال للأحاسيس ومعالجتها وتحويلها، وهنا، يقف ليبنتز، كما يقف في آرائه عن المكان والزمان، شامخاً، مبشراً بكانت. واكتنفت الصعوبات نظرية المونادات (إذا لم تكن ممتدة، فكيف يتسنى لأي عدد منها أن يحدث امتداداً؟ وإذا كانت "تدرك" الكون إدراكاً حسياً فكيف يكون لديها مناعة ضد أي تأثير خارجي؟)، ولكنها كانت محاولة بارعة أن يجتاز الهوة بين الذهن والمادة، حين جعل المادة عقلية، ولم يجعل الذهن مادياً، وأخفق ليبنتز بطبيعة الحال في التوفيق بين الآلية والتدبير في الطبيعة، أو بين الآلية في الجسم والحرية في الإرادة. وكان فصله بين الذهن والجسم من جديد، بعد أن كان سبينوزا قد وحد بينهما في عملية ذات جانبين، خطوة إلى الوراء في الفلسفة. وكان زعمه أن هذا أفضل العوالم الممكنة مسعى حميداً مشجعاً مفعماً بالأمل، من جانب رجل البلاط، للتسرية عن ملكة، أن أعلم الفلاسفة (أكاديمية بأسرها في شخصه-كما قال عنه فردريك الأكبر) كتب لاهوتاً، كأن شيئاً لم يحدث في تاريخ الفكر منذ سانت أوغسطين. ولكن مع كل مواطن الضعف فيه كانت إنجازاته في العلوم والفلسفة ضخمة. وكان محباً لوطنه ومع ذلك "أوربياً صالحاً"، فأعاد إلى ألمانيا مكاناً مرموقاً في تنمية الحضارة الأوربية وتطويرها. وكتب فردريك الثاني "من كل الذين رفعوا من شأن ألمانيا، قام توماسيوس وليبنتز بأجل الخدمات للروح الإنسانية (95) ".
وضعف تأثير ليبنتز عندما قلت قيمة لاهوته أمام الوعي الأخلاقي عند الناس، وعلى مدى جيل بعد وفاته أعاد كريستيان فون ولف صياغة فلسفته صياغة مرتبة. وفي هذا الشكل المعدل أصبحت النمط الفكري السائد في الجامعات الألمانية. وكان أثره خارج ألمانيا يسيراً. ولو أن معظم كتاباته كانت باللغة الفرنسية، فإنها كانت عبارة عن قصاصات لا تشكل عملاً قوياً متماسكاً أو مركزاً. ولم تظهر حتى 1868 أية طبعة تجمعها، بل أنه في تلك السنة أيضاً استبعدت بعض الفقرات
الهامة، ولكنها كانت مشوبة بالهرطقة، وكان لزاماً أن تنتظر حتى 1901 لتطبع. وكتب الفوز للرموز التي وضعها لحساب التفاضل والتكامل، ولكن لمدة نصف قرن حمل منافساه نيوتن ولوك كل شيء أمامهما، وأصبحا معبودي عصر الاستنارة في فرنسا. ولكن حتى وسط نشوة العقل هذه، قدر بوفون أن ليبنتز أعظم عبقرية في عصره (96). أما المفكر الألماني اللامع في القرن العشرين أوزوالد شبنجلر فقد اعتبر ليبنتز "أعظم عقل في الفلسفة الغربية بلا منازع (97) ".
ولكي تنظم هذه الذرى جميعاً في عقد واحد، يمكن القول في جملة واحدة بأن القرن السابع عشر كان أخصب حقبة في تاريخ الفكر الحديث. فهنا في بيكون وديكارت وهوبز وسبينوزا ولوك وبيل وليبنتز، كانت سلسلة متعاقبة من رجال حميت صدورهم بخمرة العقل، واثقين ابتهاج بأنهم (أو معظمهم) استطاعوا أن يفهموا الكون، حتى إلى حد تكوين فكرات "واضحة متميزة" عن الله، وإلى حد أنهم جميعاً-فيما عدا الأخير-قادوا تلك الاستنارة الذكية العارمة التي كان لزاماً أن تهز الدين والحكومة كلتيهما معاً هزاً عنيفاً في الثورة الفرنسية. وتنبأ ليبنتز بهذه النهاية، وعلى حين ظل الآخر لحظة يدافع عن حرية الكلام (98). فإنه حث المفكرين الأحرار على التفكير في أثر كلماتهم الملفوظة أو المكتوبة على أخلاق الناس وروحهم وفي "الأبحاث الجديدة" حوالي سنة 1700 كتب تحذيراً رائعاً:
إذا كان الإنصاف يقتضي الإبقاء على المفكرين الأحرار، فإن التقوى تقتضي إبراز الآثار السيئة لمبادئهم وتعاليمهم، كلما أمكن ذلك، إذا كانت تتعارض مع الإيمان بتدبير إله بالغ الكمال في الحكمة والخير والعدل، وتتعارض مع خلود الأنفس، ذلك الإيمان الذي يجعلهم سريعي التأثر والحساسية لآثار عدالته، فلا يتحدثون عن آراء خطرة بالنسبة للأخلاق والشرطة. وإني لأعلم أن رجالاً ممتازين يتسمون بحسن النية يرون أن لمثل هذه الآراء النظرية على السلوك والممارسة أثراً أقل مما يظن. كما أعلم أيضاً أن هناك أشخاصاً ذوي ميول طيبة فلا تحدوهم مثل هذه الآراء إلى الإتيان بأي شيء غير جدير بهم
…
وقد يقال بأن أبيقور
وسبينوزا عاشا حياة مثالية تماماً، ولكن هذه الدواعي غلباً ما تنقطع في تلاميذهم ومقلديهم الذين يطلقون، اعتقاداً منهم بأنهم تخلصوا من الخوف المزعج من عناية إلهية متربصة مراقبة، ومن الخوف من المستقبل ينذر بالويل والثبور-يطلقون العنان لشهواتهم البهيمية وأهوائهم الوحشية، ويصرفون أذهانهم إلى إغواء الآخرين وإفسادهم. وإذا استبد بهم الطموح والطمع، أو كانوا ذوي ميول جافية نوعاً ما، فقد يسوغون لأنفسهم، رغبة في البهجة والسرور أو التقدم والرقي، أن يشعلوا النار في أربعة أركان المعمورة. لقد عرفت هذا من طبيعة وخلق بعض من طواهم الردى، وإني لأجد كذلك آراء شبيهة، تندس، شيئاً فشيئاً إلى أذهان رجال من ذوي المكانة الرفيعة المتلافين الذين يحكمون الناس ويتحكمون في مصائر الأمور، كما تندس في الكتب العصرية، وهي آراء تنزع بكل شيء إلى الثورة العامة التي تهدد أوربا (99).
وإنا لنلمح في ثنايا هذه السطور روح القلق الموسوم بالإخلاص، وينبغي أن ننظر بالتقدير والإجلال إلى نصيحة التحذير التي تعبر عنها. ومع ذلك فإنه بعد أن محقت الاستنارة كل المذاهب الدينية، وأشعلت الثورة الفرنسية النار بشكل عابر، استطاع مؤرخ كبير أن ينظر إلى الوراء، إلى هذا العصر الأول من عصور العلوم والفلسفة الحديثة، ويرى في المغامرين فيه، لا مدمرين للحضارة، بل محررين للجنس البشري، قال لكي Leeky
هكذا درب معلمو القرن السابع عشر العظام
…
أذهان الناس ونظموها من أجل البحث والتحقيق المجردين غير المتحيزين، وفجروا، بعد أن حطموا التعويذة التي شلت حركتهم زمناً طويلاً، ينبوعاً من الحب الخالص للحقيقة التي أحدثت ثورة وتغييراً في كل جوانب المعرفة. وإلى هذا الدافع الذي انتقل آنذاك، يمكننا أن نتعقب حركة حاسمة كبيرة جددت كل التاريخ. وكل العلوم،
وكل اللاهوت-وهي حركة نفذت إلى أخفى الأعماق، مدمرة الحزازات القديمة، مبددة الأوهام، معيدة ترتيب .... معرفتنا، مغيرة كل مدى وطبيعة تعاطفاتنا واهتماماتنا وربما كان ضرباً من المحال أن يتم كل هذا لولا انتشار روح عقلانية (100).
وهكذا من حسن الحظ أو لسوء الحظ، وضع القرن السابع عشر أسس الفكر الحديث. ولقد كانت النهضة مقيدة بالآراء القديمة التقليدية والطقوس الكاثوليكية والفن الكاثوليكي. وكان الإصلاح الديني مرتبطاً بالمسيحية البدائية وعقيدة العصور الوسطى. أما هذه الحقبة الغنية الحاسمة، من جاليليو إلى نيوتن، ومن ديكارت إلى بيل، ومن بيكون إلى لوك، فقد ولت وجهها شطراً مستقبل غير معلوم بشر بكل أخطار الحرية، وهي حقبة استحقت ربما حتى أكثر من القرن الثامن عشر أن تسمى "عصر العقل، لأنها على الرغم من أن المفكرين فيها ظلوا أقلية ضئيلة، فإنهم أظهروا اعتدالاً أحكم، وسبراً أعمق لأغوار العقل والحرية، وما يكتنفهما من مشاق، من أبطال الاستنارة الفرنسية الذين فك وثاقهم. ومهما يكن من أمر فإن المسرحية الكبرى في التاريخ الحديث، كانت قد مثلت فصلها الثاني، وقاربت نهايتها.
الكتاب الخامس
فرنسا تواجه أوربا
1683 -
1715
الفصل الرابع والعشرون
غروب الشمس
1 - مدام دي مينتنون
بعد وفاة "ماري تريز"(30 يوليه 1683) كانت الملكة المتوجة لفرنسا "الأرملة سكارون" المركيزة دي مينتنون، مربية أبناء الملك غير الشرعيين، وسرعان ما أصبحت (يناير 1684؟) زوجته غير المتكافئة والتي لا ترث عرشه، وكانت منذ ذلك التاريخ ذات أكبر نفوذ شخصي طيلة حكمه.
ومن العسير اليوم أن نعرف حقيقة خلقها، ولا يزال المؤرخون يختلفون عليه. وكان لها أعداء كثيرون كرهوا صعودها وقوتها. وكتب بعضهم التاريخ وأسلمها إلينا وغداً أنانياً ماكراً مدبراً للمكائد. ومهما يكن من أمر، فإنها حين كان من الميسور لها أن تحل محل مدام مونتسبان "خليلة الملك"-بكل ما يأتي به هذا من نفوذ وسيطرة-أبت، وبدلاً من ذلك، حرضت الملكة آنذاك في الثانية والأربعين من العمر، أصغر من دي مينتنون بثلاثة أعوام، ولم يكن ثمة ما يبر توقع موتها الباكر. وظاهر أن المركيزة، في هذه الآونة، آثرت الفضيلة على السيطرة والنفوذ، وعندما اختطفت يد المنون الملكة ظلت المربية على رفضها أن تكون خليلة، وسعت وراء أهداف عليا، مغامرة بوظيفتها الحالية. وإذا كانت فضيلتها طموحاً فإنها لم تتلطخ به أكثر ما تلطخ به تواضع عانس متعلقة ليس لها أمناً إلا مفاتنها تساوم بها من أجل حياتها، وتظن أن مضاجعة ليلة واحدة أقل أمناً من خاتم العرس. ولما تزوج لويس من مينتنون كان عمرها ثمانية وأربعين عاماً. ورسمها مينارد عقيلة لطيفة جاوزت مرحلة الإغراء أو الفتنة الجسدية، وكانت في أحسن الأحوال تقية مخلصة في تقواها، وفي أسوأ الأحوال قامرت مقامرة جريئة وكتب لها الفوز.
وخصص لها آنذاك مسكناً قريباً من مسكن الملك، فعاشت في قصر فرساي في بساطة برجوازية تقريباً. "كانت حياة البلاط تضايقها، ولم تجد لذة في التباهي والتفاخر (1) ". ولم تجمع ثروة، وحتى في قمة سعود نجمها لم تكن تملك إلا القليل إلى جانب قصر مينتنون الذي تركته غير مؤثث ولم يستخدم. ويقال أن لويس، في أعوامها الأخيرة، قال لها يوماً "ولكنك يا سيدتي لا تملكين شيئاً، وإذا ما مت فستكونين فقيرة خاوية الوفاض، خبريني ماذا يمكن أن أفعل من أجلك؟ ". فطلبت بعض الامتيازات والرعاية المتواضعة لذوي قرباها، ومبالغ كبيرة من المال لمشروعها الأثير لديها: الكلية التي أسست 1686 في سان سير لبنات الأسرات الكريمة اللاتي أفنى عليها الدهر. ولم يكن خيلاؤها بل خيلاء الملك هو الذي جند الرجال وخصص الأموال لقناة الماء التي لم يتم بناؤها، والتي حملت أسمها.
وكانت دي مينتنون، من نواح كثيرة، زوجة صالحة. وكان شغلها الشاغل في يوم حافل أن تقف حائلاً بين الملك وبين العالم، وأن تحافظ على السلام والهدوء، وسط أطماع أفراد البلاط ودسائسهم، وتلاطف سرباً من الطامعين في المناصب، وتعمل خالة عطوفة لحفدة زوجها، وتفي بمتطلباتهم بوصفه رجلاً، وتواسيه في إخفاقه وهزائمه. وترفه "عن الرجل الذي من أصعب الصعب الترفيه عنه في مملكة بأسرها (3) "، وتخلق جواً من الهدوء المنزلي، في حياة كان لزاماً في كل ساعة تقريباً أن تتخذ فيها قرارات يتأثر بها مليون حياة. وفي أوراقها الخاصة التي وجدت بعد وفاتها، عثر على هذا الدعاء، وظاهر أنه كتب فور زواجها:
يا إلهي، لقد بوأتني هذا المكان الذي أنا فيه الآن، وإني لأترك نفسي رهن تدبيرك وعنايتك دون قيد أو شرط، امنحني النعمة الإلهية، حتى أستطيع، كمسيحية، أن أحتمل الآلام، وأقدس المسرة، والتمس في كل شيء مجدك، و .... أعاون على خلاص الملك، وحل بيني وبين الاستسلام لتهيجات ذهن قلق. ولتكن مشيئتك يا إلهي، مشيئتي، فإن السعادة كل السعادة، في هذه الدنيا وفي الآخرة هي موضوع لمشيئتك أنت دون تحفظ.
اغمر نفسي بهذه الحكمة، وبسائر الهبات الروحية اللازمة لتلك المنزلة العالية التي وضعتني فيها. ولتجعلها مثمرة تلك القدرات التي طاب لك أن تمنحني إياها. يا إلهي، أنت يا من تمسك بين يديك قلوب الملوك، افتح قلب الملك حتى أصب فيه من الخير ما تشاء أنت سبحانك. أوعزني أن أسعده وأسره وأواسيه وأشجعه، بل حتى أن أزعجه وأحلب عليه الحزن إذا اقتضى الأمر تمجيداً لك. هيئ لي ألا أخفي عنه شيئاً يجدر أن يعلمه مني، مما لا يجد الآخرون في أنفسهم الشجاعة ليبلغوه إياه. هيئ لي أن أنقذ نفسي وأنقذه معي، وأن أحبه فيك ومن أجلك يا إلهي. وهيئ له أن يحبني بنفس الطريقة. هب لنا أن نسير معاً في ملكوتك دون لوم أو خزي حتى يوم قدومك (4).
وهذا الدعاء جميل قدر جمال أية رسالة من ألواز إلى أبيلارد، ونأمل أن يكون أصح وأصدق. ومثل هذا الدعاء يمكن أن يمنح القوة، بصرف النظر عن أية استجابة خارجية، وربما كانت ثمة إرادة خفية للسيطرة والسلطة في ثنايا الرغبة في إصلاح الآخرين وهدايتهم، ولكن السنوات الباقية من عمر مينتنون أثبتت أصدق تقواها وضيق أفق هذه التقوى معاً. يقول سان سيمون "لقد وجدت ملكاً يعتقد في نفسه أنه رسول أو حواري لأنه طيلة حياته يضطهد الجانسينة .... وهذا أوحى إليها بنوع الحب الذي تبذر به الحقل لتجني أعظم حصاد (5) ". (عرفت من أين تؤكل الكتف).
هو شجعت مينتنون على اضطهاد الهيجونوت؟ وهكذا يظن سان سيمون (6)، ولكن التحقيقات اللاحقة تميل إلى تبرئتها من هذه الوحشية التي كان بطلها عدوها اللدود لوفوا. ورأى فيها لورد أكتون، وهو مؤرخ كاثوليكي، نادراً ما كان مناصراً للكاثوليكية:
أعظم امرأة ثقافة وتفكيراً وإدراكاً. وكانت بروتستانتية من قبل. واحتفظت لأمد طويل بحماسة المرتدة وغيرتها. وكانت تعارض الجانسنية معارضة شديدة، وكانت تحظى بثقة أفاضل رجال الدين إلى حد كبير، وساد
الاعتقاد بأنها شجعت الاضطهاد وحرضت الملك على إلغاء مرسوم نانت. وأبرزت رسائلها شواهد على ذلك. ولكن رسائلها كانت قد حرفت بواسطة محرر كان مزيفاً مشوهاً (7)
(1)
.
أن مينتنون-مثل فنيلون، ومدام دي سفيني ومعظم الكاثوليك في ذاك العصر. أقرت إلغاء مرسوم نانت، ولكنها استخدمت نفوذها-بنجاح غالباً، كما يروي البروتستانتي ميشيليه-في وقف قساوة الاضطهاد أو الحد منها (8).
وحتى لا تطغي النزعة الرومانتيكية على إضفاء المثالية على المرأة، فتلون الصورة بألوان وردية زاهية، فلننظر إلى المركيزة من خلال آراء أخرى فيها تحامل عليها. أن كبرياء سان سيمون النابعة من لقب الدوق أو الدوقة، لم تكن لتغفر صعود البرجوازية الوضيعة إلى مرتبة سيدة فرنسا:
أن العوز والفقر اللذين عاشت في براثنهما لفترة طويلة قد ضيقا من أفق تفكيرها، وهبطا إلى الحضيض بقلبها وعواطفها. أن مشاعرها وأفكارها كانت محدودة، إلى درجة أنها كانت دائماً في الحقيقة أقل حتى من مدام سكارون
…
وليس ثمة شيء أشد إثارة للنفور والاشمئزاز من منبت وضيع يتبوأ مكاناً متألقاً إلى هذا الحد (9).
ولكن الدوق نفسه وجد بعض المزايا والفضائل وسط أخطائها وعيوبها:
(1)
انظر جاك بولنجيه "القرن السابع عشر" نيويورك 1910 - ص243 من الواضح يكن لها أية علاقة بإلغاء مرسوم نانت"، ودائرة المعارف البريطانية بالمجلد 14 - 693 "لقد نسب إليها ظلماً وعدواناً إلغاء مرسوم نانت وحملات الاضطهاد والتعذيب الوحشية" وخلص فولتير منذ أمد بعيد إلى مثل هذا الرأي "أعمال فولتير"-نيويورك 1927 - الفصل 2 أ-ص 260.
كانت مدام دي مينتنون امرأة على جانب كبير من الذكاء الذي احتملته الرفقة الطيبة التي عاشت بين ظهرانيها أولاً، ولكن تألقت فيها سريعاً، وصقلتها كثيراً وزودتها بزينة المعرفة الدنيوية، التي جعلتها الكياسة البالغة من أكثر ألوان المعرفة استساغة وقبولاً. وجعلتها المناصب المختلفة التي شغلتها مداهنة متملقة راضية تسعى دائماً إلى إرضاء الناس. أن حاجتها إلى الدسائس، وأولئك الذين التقت بهم من كل الأنماط، واختلطت بهم من أجل شخصها ومن أجل الآخرين، أضفوا عليها ذوقهم وعاداتهم. أن كياسة لا تضاهى وسلوكاً هيناً ليناً رضياً، ولكنه كدروس، يدعو إلى الاحترام، وكأنه نتيجة لطول خمول ذكرها قد أصبح أمراً طبيعياً بالنسبة لها، كل أولئك ساعد على تنمية مواهبها بشكل عجيب، إلى جانب لغة مهذبة محكمة حسنة للتعبير، فصيحة موجزة بشكل طبيعي. أما أسعد أيامها، حيث كانت تكبر الملك بثلاث أو أربع سنوات، فكانت فترة التودد ومطارحة الغرام والمغازلة الرقيقة .... وبعدها أحاطت نفسها بهالة من الأهمية وجلال الشأن. وتقلص ظل هذه تدريجياً لتحل محلها هالة من التقوى أحاطت بها نفسها بطريقة تدعو إلى الإعجاب. ولم تكن نزاعة إلى الخداع والغدر، ولكن الحاجة ألجأتها إلى أن تكون كذلك. وجعلها طيشها الطبيعي تبدو مخادعة ضعف ما هي عليه في حقيقة الأمر (10).
وأثار بعد الشقة في نفس ماكولي شيئاً من الشفقة، فنظر إلى مدام دي مينتنون نظرة أكثر اتساماً بالشهامة والاحترام، وربما أحس بأنه يمكن أن يغتفر الكثير لسيدة كانت "تمتاز بالفصاحة والإيجاز معاً:
أنها حين جذبت انتباه مليكها، لم تكن في وضع تستطيع معه أن تتيه عجباً بشبابها أو بجمالها، ولكنها، وبدرجة غير عادية، كانت تتمتع بتلك المفاتن الأبقى على الزمن، والتي يقدرها أعظم التقدير الرجال الذين يتحلون بحسن
الإدراك في شريكة الحياة
…
كانت دي مينتنون تتميز بعقل منصف، ومعين لا ينضب، ولكنه غير ممل إطلاقاً، من حديث عقلاني رقيق مرح، ومزاج لا يتكدر صفوه أبداً، ولباقة فاقت لباقة بنات جنسها، بقدر ما فاقت لباقة جنسها لباقة جنسنا نحن. تلك هي المناقب التي جعلت من أرملة المهرج في أول الأمر صديقة جديرة بالثقة، ثم زوجة لأقوى ملوك أوربا وأكثرهم غطرسة وغروراً (11).
وأخيراً نراها من خلال قلم هنري مارتن، وهو مؤرخ فرنسي غير مشهود له بالبراعة كثيراً:
كان ثمة توافق في الذهن والطباع بين الاثنين (المركيزة والملك)، وهو توافق قدر له أن يزداد على مر الأيام، كما أن جمالها الناعم المتناسق الرزين الذي زاد منه وقار طبيعي نادر، كان هو الجمال الذي يرضي لويس أساساً. وأحبت هي التأمل والبحث، وأحب هو العظمة والمجد. وكانت مثله متحفظة حذرة، ومع ذلك تفيض جاذبية ورقة. ولحديثها نفس السحر والفتنة، اللتين دعمتهما طويلاً بفضل خيال أخصب وتعليم ذي جوانب أكثر تعدداً. وكانت ذات شخصية تتميز بالأنانية واتخاذ التدابير القوية، ومع ذلك كانت أهلاً لعواطف متينة ثابتة وإن لم تكن حارة، وكانت في نفس الوقت أقل انفعالاً وأشد ثباتاً من الملك الذي لم يكن مخلصاً حقاً في الصداقة وفي الحب، إلا لها وحدها. ولكنها لم تعرف قط بم تضحي من أجل عواطفها، بمصالحها أو بهدوئها، وعلى النقيض من لويس الرابع عشر، كانت تهتم بالبسيط من الأمور، ولا تتسامح في عظائمها. أن طبيعتها الهادئة المفطورة على التأمل والتفكير، البعيدة عن الانفعالات والأوهام، ساعدتها على الدفاع عن الفضيلة غالباً كانت محصورة (12).
ومهما يكن من أمر، فلا بد أن هذه السيدة تحلت بمناقب جديرة بالإعجاب، حدث بملك مستبد إلى أن يختارها زوجة له، ويعهد إليها بالنظر في أدق شئون الدولة. وكان عادة يلتقي بوزرائه في حجرتها الخاصة، تحت سمعها وبصرها، وعلى الرغم من أنها كانت تجلس
على مسافة معقولة منهم، تلتزم الصمت، حكمة وحزماً منها، منهمكة في أشغال الإبرة، كان لويس "أحياناً يتجه إليها ويسألها رأيها (13) " وأطلق عليها المتشككون "سيدة اللحظات الراهنة" مقدرين أنها لن تلبث حتى ينضم إليها المنافسات أو يجلينها عن مكانتها ليحللن محلها، ولكن على النقيض من ذلك، ظل الملك الزوج المحب الوفي لها حتى وفاته.
وعظم نفوذها عاماً بعد عام. وكان مقروناً بالخير والإحسان قدر ما سمحت به تقواها. وحاولت أن تحد من إسراف الملك وتبذيره، وأن تصرفه عن الحرب. ومن هنا كان عداء لوفوا لها. ووفرت دي مينتنون إعانات ملكية للصدقات والمستشفيات والأديار، ومساعدة النبلاء المفلسين، ومهور البنات (14) ولم يحظ بالترشيح للوظائف من جانبها إلا الكاثوليك الأخيار، وكست التماثيل العارية والصور الزيتية العادية التي ازدان بها قصر فرساي بالأستار أو النباتات المعترشة (15). وحولت كنيسة سان سير إلى دير (1693) أغلقت أبوابه بعد ذلك أمام العالم. وأصبحت هي نفسها راهبة في قصر، "كانت قعيدة القصر تقضي الساعات وحيدة، ومن ثم بدت وكأن لها قدماً في الدير (16) ".
وبدأ الملك بالسخرية من تقواها، وانتهى بتقليدها في هذا التواضع. وابتهج القساوسة المحيطون به ليروا مداومته على تأدية طقوس العبادة، ولكن زوجته كانت تفهمه فهماً جيداً، فقالت "أن الملك لا يخطأ موضعاً في الصليب، أو موقفاً للكفارة أبداً، ولكنه لا يستطيع أن يدرك الحاجة إلى الخشوع أو إلى إذلال نفسه حتى تتجلى فيه الروح الحقيقية للتوبة والندم (17) ". وكان البابا اسكندر الثامن راضياً على أية حال، وهنا مدام دي مينتنون على هداية الرجل الفرنسي الذي كان يوماً معادياً للبابوية، وربما زاد من تقوى الملك اعتلال صحته وضعف جسمه بعد 1680، ومعاناته من ناسور في الشرج، حيث ذكره هذا كله بأنه فان. وفي 18 نوفمبر 1686 استسلم لعملية أليمة، احتملها في شجاعة أملاها عليه وعيه الطبقي أو إدراكه أنه ملك لا ينبغي أن يخور أو يضعف. ولفترة من الوقت ابتهج الائتلاف المعادي لفرنسا للشائعات التي راجت بأنه على وشك أن يقضي نحبه (18). ولكنه بقي على قيد الحياة. وعندما قصد كنيسة نوتردام (30 يناير
1687) ليقدم الشكر لله على شفائه، حيته كل فرنسا الكاثوليكية وابتهجت لإبلاله من مرضه وكأنه يوم عيد.
قال فولتير "ومنذ ذلك الوقت لم يذهب الملك إلى المسرح قط (19)، أن المرح المقرون بالوقار والعظمة، والذي كان يميز النصف الأول من حكمه، وقد ولى ليحل محله وقار ورزانة قاربتا أحياناً الصرامة القاتمة والتزمت، ولكنه سمح بين الحين والحين بشيء من الإفراط في النوم والطعام (20). وقد أضناه الإرهاق والتعب، وحيث شجعته مينتنون، فإنه أنقص من حفلات البلاط وعروضه، وأوى إلى حياة أكثر انعزالاً، قانعاً بألفة الحياة الأسرية التي عودته إياها زوجته. وظل مسرفاً في الإنفاق على القصور والحدائق، وظل مزهواً أبياً مثل صولجانه، حساساً مثل فكيه. وفي مارس 1686 أجاز لرجل متذلل خنوع من رجال الحاشية، فرنسوا دي أوبيسون دوق دي لافياد فيما بعد، أن يقيم له في "ميدان الانتصارات" تمثالاً يرمز إلى أنه "الرجل الخالد". على أننا يجب أن نضيف أنه عندما أراد أوبيسون أن يضع، وفاء بنذر، أمام التمثال مصباحاً يضاء ليل نهار، حظر عليه الملك افتراض الألوهية والقداسة بهذا الشكل المبتسر غير الجائز.
وضربت جماعة محدودة من الأرستقراطيين المخلصين، على رأسهم دوق ودوقة شفريز، ودوقتي بوفليير ومورتمار، وبنات كولبير الثلاث، ضربت حول الملك وزوجته "نطاقاً كريماً من الأتقياء" وكان كثير منهم متمسكين بأهداب الدين حقاً، كما نقل بعضهم عن مدام جويون طمأنينتها المتصوفة. وحوالي هذا الوقت ألف شاعر فرنسي غير معروف الترنيمة الذائعة الصيت والمعروفة باسم "المؤمنون الأخيار" وشارك بقية أفراد البلاط، الملك مزاجه الجديد، ظاهرياً فقط. وتخلوا عن اللهو والعبث، وكثيراً ما حضروا القداس وتناولوا القربان المقدس، وقل شيئاً فشيئاً ذهابهم إلى الأوبرا والمسرح اللذين هبطا آنذاك بسرعة من عليائهما على عهد للي ومليير، واستمر الصيد والقنص والمآدب الباذخة وحفلات الرقص، ولعب الورق بمبالغ ضخمة، ولكن في جو من الاعتدال تشوبه مسحة من الكآبة. وأخفى المعربدون الصاخبون والمفكرون الأحرار في باريس رؤوسهم، انتظار للثأر في ظل وصي
يرقبون مجيئه بفارغ الصبر. ولكن شعب فرنسا ابتهج لقداسة مليكه، واحتمل الصمت، في الموت وفي الضرائب، أعباء الحرب المتزايدة.
2 - الحلف الأعظم
1689 -
1697
زادت الضرائب حتى بعد هبوط مستوى الرخاء والازدهار. وكان مشروع كولبير لتنظيم التجارة والصناعة بواسطة الحكومة، قد بدأ ينهار قبل موته (1683). لقد مات المشروع، من ناحية نتيجة لسوق الرجال من المزارع والمصانع إلى المعسكرات وميادين القتال، ولكنه انهار أساساً نتيجة الاختناق الذاتي: ذلك أن التنظيمات الحكومية عوقت النمو الذي كان يمكن أن يؤتي ثماره في ظل رقابة وقيود أخف، وفي ظل مزيد من الحرية للتنفس والتجريب والخطأ. ووجد حب العمل والمغامرة أنه مقيد بمتاهة من الأوامر والعقوبات. وضجت وتعثرت الكثرة من الناس والجشع المبدع الخلاق عند فئة قليلة منهم، تحت ضغط عبء ثقيل من القواعد، حتى هددت هذه الآلة بالتوقف. وما وافى عام 1685 حتى ترددت صيحة "أتركه يعمل"، قبل ظهور فرانسواكساني وترجو بخمسة وستين عاماً، وقبل ظهور آدم سميث بواحد وتسعين عاماً. وقال أحد أتباع لويس الرابع عشر "أن السر الأعظم يكمن في الطلاق الحرية الكاملة للتجارة. أن أصحاب المصانع لم يصابوا قط بمثل هذا الخراب والدمار في هذه المملكة إلا منذ فكرنا أن ندعمهم بقوانين من الدولة (21) ". وثمة عوامل أخرى أسهمت في هذا الانهيار. وذلك أن الهيجونوت الذين فروا من الاضطهاد، حملوا معهم مهاراتهم الاقتصادية، وفي بعض الأحيان مدخراتهم أيضاً. وعانت التجارة من رغبة الملك في الغزو والفتح، لا الاتجار. وعوقت الرسوم الأجنبية صادرات فرنسا انتقاماً من رسوم الواردات الفرنسية. وأثبت الإنجليز والهولنديون أنهم رجال بحر واستعمار من الغاليين (الفرنسيين) المتغطرسين النافذي الصبر. وأخفقت شركة الهند، وعوقت الضرائب الزراعة. وأفسدت العملة المزيفة مرفق المال، وشلت حركته وأحدثت فيه الاضطراب.
ولم يكن ثمة وجه للمقارنة بين الوزراء الذين حملوا لويس الرابع عشر بعد وفاة كولبير. وبين أولئك الذين ورثهم عن ريشليو ومازاران. وتولى ابن كولبير، جان بابتست، مركيز سينلي وزارتي التجارة والبحرية، وتولى كلود بلتييه الشئون المالية، ولكن سرعان ما خلفه فيها لويس فيليبو سنيور دي بونتشارتران. أما لوفوا فقد بقي وزيراً للحربية. ولكن أرهب الوزراء الجدد ما جمع لويس الرابع عشر من مجد وسلطان، فقعد بهم الخوف عن اتخاذ أي قرار، واعتمد دولاب الحكومة على ذهن الملك المكدود المرهق. ولم يكن يتصرف بمحض إرادته إلا لوفوا، من أجل الحرب-ضد الهيجونوت، وضد الأراضي الوطيئة، وضد أي أمير أو شعب اعترض طريق فرنسا المتوسعة. وكان لوفوا قد أنشأ أحسن جيش في أوربا، ودربه على النظام والانضباط والبسالة، وزوده بأحدث الأسلحة، وعلمه الفن الرشيق في استخدام الحراب
(1)
. فكيف يتيسر إطعام مثل هذه القوات والمحافظة على روحها المعنوية إلا إذا حاربت وانتصرت؟
ونظرت فرنسا إلى الجيش بعين الإعجاب والفخر، على حين استشاطت أوربا غضباً وارتعدت فزعاً لدى سماعها به. وفي مايو 1685، عندما طالب لويس الرابع عشر بجزء من أملاك ناخب البالاتين، ميراثاً يستحقه عن أخت الناخب المتوفاة شارلوت اليزابيث، دوقة أورليان آنذاك، تساءل أمراء الإمبراطور عجباً: ماذا عسى أن تكون كطالب الملك المغامر المعتدي بعد ذلك. وزادت حدة التوتر عندما ربط لويس بالفعل، كولون وهلدشيم ومنستر بفرنسا، بضمان انتخاب مرشحيه حكاماً أسقفيين لهذه البلاد (1686). وفي 6 يوليه انضم الإمبراطور الكاثوليكي ليوبولد الأول، والناخب الكاثوليكي مكسيمليان الثاني وأمانويل أمير بافاريا، إلى ناخب براندنبرج الأعظم البروتستانتي، وفي تكوين عصبة أوجزبرج للدفاع ضد أي هجوم على أراضيهم أو عدوان على دولهم، وكان الإمبراطور مشغولاً مع الأتراك
(1)
صنعت الحربة في مدينة بايون (جنوب فرنسا) في عام 1500. ولكن يبدو أنها استخدمت على نطاق واسع لأول مرة في ايبر (شمال غرب بلجيكا) 1647 (22).
المتقهقرين، ولكن هزيمتهم في "موهاكز" الثانية (1687) وفي بلغراد (1688) أطلقت يد القوات الإمبراطورية للعمل على الجبهة الغربية للإمبراطورية.
وارتكب ملك فرنسا آنذاك أكبر خطأ في سجل حياته العسكرية. وكان حاكم هولندا يتوقع منه أن يجدد هجومه على هولندا، ولكن لويس، بدلاً من ذلك، قرر غزو ألمانيا قبل أن تتمكن القوات الإمبراطورية من الاحتشاد على جبهته. وفي 22 ديسمبر 1688 تقدمت قواته الرئيسية نحو الراين. ومع توجيه خاص متميز إلى الدوفين ذي السبعة والعشرين ربيعاً:"أي بني، إني إذ أبعث بك لتتولى إمرة جيوشي، إنما أهيئ لك كل الفرص لتثبت جدارتك، فاكشف عنها لكل أوربا، حتى إذا حان أجلي، لا يشعر أحد بأن الملك قد قضى نحبه (23) ". وفي 25 سبتمبر اجتاح الجيش الفرنسي ألمانيا. وفي غضون شهر واحد استولى على كايزرسلوترن، ونيوستاد، وورمز وبنجن ومينز وهيدلبرج. وفي 29 أكتوبر سقطت قلعة فيليبسبرج المنيعة، وفي 4 نوفمبر تقدم الدوفين المنتصر لمهاجمة مانهيم.
وربما كان في هذه الانتصارات بداية سقوط الملك، لأنها ورطت الملك في حرب طويلة الأجل ضد عدد متزايد من العداء، لقد حرروا هولندا من الخوف من غزو مبكر، وأقنعوا برلمان المقاطعات المتحدة بالموافقة على أن يغزو وليم الثالث إنجلترا ويعاونه على أعمال الغزو. وما أن وثق وليم من قوته حتى حول إنجلترا من بلد تابع لفرنسا إلى عدو لها. وعاهد رعاياه الجدد على الوقوف إلى جانبهم في الدفاع عن أوربا السياسية والدينية. وتردد برلمان إنجلترا، مرتاباً في أن وليم معني في الدرجة الأولى بإنقاذ هولندا، وهي أكبر منافس تجاري لإنجلترا، ولكن انتصارات فرنسا قوت من جديد حجة وليم.
وكان لوفوا قد استحث لويس على السماح له باكتساح البالاتينات وتخريبها حتى يحرم العدو المقترب من أية معونة محلية، ووافق لويس على كره منه. وفي مارس 1689 أعمل الجيش الفرنسي السلب والنهب وأحرق هيدلبرج ومانهيم ثم سبير، وورمز وأوينهايم وأجزاء من أسقفية ترييه ومنطقة بادن، حتى دمرت كل أراضي الراين الألمانية
تقريباً. ووصف فولتير هذه الفظائع حيث استيقظ فيه ضمير "الرجل الأوربي الطيب":
كنا في قلب الشتاء. وما كان ينبغي للقواد الفرنسيين إلا أن يمتثلوا وبناء على ذلك أعلنوا لمواطني هذه المدن المزدهرة المنظمة أحس نظام، ولسكان القرى، ولأصحاب أكثر من خمسين قصراً، أن عليهم أن يغادروا مساكنهم التي سيعملون فيها النار والسيف، فأسرع الرجال والنساء والشيوخ والأطفال إلى الرحيل. وهام بعضهم على وجوههم في الريف، والتمس بعضهم مأوى في الأراضي المجاورة، على حين نهب الجنود المنطقة وأحرقوها، وبدءوا بمدينتي هيدلبرج ومانهيم، ومقار الناخبين، ودمرت قصورهم وبيوت المواطنين العاديين على السواء. وللمرة الثانية اجتاحت جيوش لويس الرابع عشر هذه البلاد الجميلة وخربتها، ولكن السنة النيران في المدينتين والعشرين قرية التي أحرقها تورين عندما اجتاح البالاتينات 1674، كانت شيئاً لا يذكر أو شرراً بسيطاً إلى جانب الحرائق في هذه المرة (24).
وتعالت الصيحات تطالب بالانتقام من ملك فرنسا في كل أنحاء ألمانيا والأراضي الوطيئة وإنجلترا ووصم الكتاب الألمان الجنود الفرنسيين بأنهم متوحشون (هون) مجردون من أية مشاعر إنسانية. ونعتوا لويس بأنه مسخ كافر مجدف همجي بالغ الهمجية. وعير المؤرخون الألمان الشعب الفرنسي بأنه تلقى حضارته من الفرنجة (أي الألمان) وأنه نقل جامعاته عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (أي الألمان كذلك)(25). وكان بيير جوريرو، أحد المنفيين في هولندا قد نشر هناك لفوره نقداً ساخراً عنيفاً تحت عنوان "منظر فرنسا المستعبدة"، ودمغ فيه لويس بأنه طاغية شديد التعصب، وأهاب بالشعب الفرنسي أن يطيح به، ويشكل ملكية دستورية. وردت الصحافة الفرنسية بتوجيه النداء إلى المواطنين ليقذفوا بهذه الشتائم فيوجه العدو، ويهبوا إلى إنقاذ مليكهم الشجاع المحبوب المحاصر. وفي 12 مايو 1689 انضمت إنجلترا إلى الإمبراطورية وأسبانيا والمقاطعات
المتحدة والدنمرك وسافوي، في الحلف العظم الأول، الذي تعهد بالدفاع عن أي من أعضائه ضد أي عدوان خارجي. وكانت الحرب آنذاك حرب أوربا ضد فرنسا.
فكان جواب لويس على ذلك أنه زاد عدد جنوده إلى أربعمائة وخمسين ألفاً، وبحريته إلى مائة ألف، ولم تشهد أوربا قط من قبل مثل هذه القوات المسلحة. وصهر الملك كل ما لديه من أدوات فضية ليعاون الضرائب على دفع نفقات هذه الحشود الضخمة، وأصدر أوامره إلى كل الأفراد المرموقين وإلى كثير من الكنائس ليفعلوا مثل ما فعل، وأجاز لبوبنتشارتران أن يعيد سك الفضة وينقص قيمة العملة بمقدار 10%. وخلق الوزير مناصب جديدة، وأعاد وظائف قديمة كانت قد ألغيت، وباعها لطلاب الوظائف المفتونين بالألقاب، وقال للملك:"كلما خلقتم جلالتكم وظيفة خلق الله مغفلاً يشتريها (26) ".
وأشار سينلي على الملك بأن يأمر أسطوله بسلخ ايرلندا عن إنجلترا. وكان من الجائز أن يتم ذلك، ففي 30 يونيه 1690 هزم أمير البحر تورفيل بخمس وسبعين سفينة، أسطولاً إنجليزياً وهولندياً في بيتشي هيد بالقرب من شاطئ سسكس الغربي. ولكن لويس لم يرسل سوى ألفي جندي لمساندة جيمس الثاني في أيرلندا. وكان من المحتمل أن تكسب قوة أكبر معركة بوين (أول يوليه 1690)، وأن تشغل إنجلترا ومليكها الهولندي في أيرلندا، إلى حد يصعب معه الاشتراك في القتال في القارة. ولكن انتصار وليم الثالث مكنه من الذهاب إلى هولندا ليقود قوات إنجليزية وهولندية ضد الفرنسيين (1691)، وحاول لويس في 1692 غزو إنجلترا، وصدرت الأوامر إلى أسطول في تولون بالإبحار شمالاً لينضم إلى أسطول تحت إمرة تورفيل في برست وكان عليهما أن يقضيا على كل مقاومة من جانب الإنجليز، ويحملا ثلاثين ألف جندي عبر القنال الإنجليزي. ولكن عاصفة في جبل طارق عطلت مسيرة أسطول طولون، فأخفق في اللحاق بتورفيل الذي كان عليه أن يواجه وحده الأسطولين الإنجليزي والهولندي مجتمعين، وهزم في التحام حاسم عند لاهوج بالقرب من شربورج (19 مايو 1692). وتوقف غزو إنجلترا. وظلت إنجلترا سيدة البحار بعد هذه المعركة، ومطلقة اليد في الاستيلاء على مستعمرات
فرنسا الواحدة تلو الأخرى. وحمى القنال إنجلترا حتى يومنا هذا.
وتابع الفرنسيون انتصارهم في البر، ولكن بأبهض التكاليف في العتاد والرجال. وفي إبريل 1691 استبد بهم الزهو والغرور إلى حد الجنون أمام مليكهم حين حاصروا واستولوا على هونز الحصينة. وقضى لوفوا نحبه في 7 يوليه، ولكن الملك لم يأسف كثيراً على تخليصه من وزير حربيته الذي كان ينتهج سياسة العدوان، ورأى منذ ذلك الوقت أن يتولى توجيه السياسة العسكرية بنفسه. واتبع تقليداً فرنسياً قديماً حين عهد بمنصب لوفوا إلى ابنه، وكان شاباً لطيفاً سهل الانقياد في الرابعة والعشرين من العمر-مركيز باربيزييه. وفي يونيه 1692 قاد لويس قواته بنفسه للاستيلاء على نامور. ثم ترك القيادة لدوق دي لكسمبرج وعاد ليرشف خمرة المجد والنصر في فرساي. وفاجأ وليم الثلاث الدوق في ستينكرك في يوليه، ودارت الدائرة على الفرنسيين في أول الأمر، ولكنهم أعادوا تنظيم صفوفهم واستعادوا شجاعتهم بفضل توجيه قائدهم الذي كان قدوة حسنة لهم، وكان مريضاً ولكنه كان لا يقهر، فكانت الغلبة للفرنسيين مرة أخرى، ولو لأنهم حققوها بثمن غال، وهناك قاتل في طليعة الجيش فيليب الثاني دي أورليان الوصي على عرش فرنسا في المستقبل، والذي لم يبلغ آنذاك الخامسة عشرة من العمر، فأصيب بجرح ثم عاد فاستأنف القتال. وهناك أظهر لويس الشاب، ودوق دي بوربون كونديه (حفيد كونديه الأكبر) الذي عرك الحرب في ثلاثة حصارات، وفرانسوا لويس دي بوربون وأمير كونتي، ولويس جوزيف دوق فندوم (ابن حفيد هنري الرابع) وكثير غيرهم من نبلاء الفرنسيين-أظهر هؤلاء جميعاً من ضروب البسالة والشجاعة والشهامة ما جعلهم، على الرغم من حياتهم المترفة الخاملة زمن السلم، معبودات في نظر شعبهم زمن الحرب، ونماذج حتى لأعدائهم، حتى لقد تساءل متعجباً أحد أسراهم وهو الكونت سالم:"أية أمة أنتم: أشد الأعداء بأساً ورهبة في الحرب، وأكرم الأصدقاء عند النصر (27) ".
وبعد ذلك بعام واحد هزم نفس الجيش تحت إمرة نفس القائد، وليم في نيروندن بالقرب من بروكسل، وهنا أيضاً كان عدد القتلى ضخماً0عشرون ألفاً من الحلفاء وثمانية آلاف من الفرنسيين. ومهما
يكن من أمر الهزائم التي مني بها وليم، فإنه ظهر على رأس جيش جديد وتوافرت لديه أموال جديدة. فاسترد نامور في أغسطس 1694، واكتشفت فرنسا أنها بعد خمس سنوات أريقت فيها الدماء، عجزت عن غزو حتى الأراضي الوطيئة الأسبانية. وانتصرت جيوش فرنسية أخرى في أسبانيا، ولكنها وجدت من العسير عليها الاحتفاظ بثمرات انتصاراتها أمام أعداء خرجوا عليها من كل جانب، وقد استكملوا ما ظهر لديهم من نقص في العتاد والرجال، وفي يوليه 1694 أبحر أسطول إنجليزي لمهاجمة برست. وكان بعض الأصدقاء في إنجلترا (من بينهم كما يقال مالبرو نفسه (28)) قد أبلغوا جيمس الثاني عن هذه الخطة سراً، ومن ثم فإن الفرنسيين الذين أنذروا بها من قبل، نصبوا المدافع على الشاطئ عند برست، وصدوا الإنجليز عنها بعد أن تكبدوا خسائر فادحة.
وفي يناير 1695 قضى مارشال دي لوكسمبرج نحبه، فلم يعد مع لويس الرابع عشر إلا قواد من الدرجة الثانية، أن الحلفاء نادراً ما وطئت أقدامهم أرض فرنسا، ولكن فرنسا نفسها كانت تحس بوطأة حرب من نوع جديد، لم يكن يحارب فيها مرتزقة مأجورون، بل أمم بأسرها جندت لينافس بعضها بعضاً في القتل والتنكيل. وحتى في الوقت الذي كان الشعب الفرنسي يهتف لقواده وأبطاله ويهلل لهم ويحي انتصاراتهم، فإنه، وقد أثقلت الضرائب كاهله بشكل لم يسبق له مثيل، قارب حد الاستنزاف جسداً وروحاً. وانضم القحط إلى الفقر والعوز في 1694 فكان ضغثاً على إبالة. وفي أبرشية واحدة مات 450 شخصاً جوعاً (29) وكان الاقتصاد القومي على شفا الانهيار. وعمت الفوضى وسائل النقل، حيث توقف تقريباً إصلاح الجسور والطرق أثناء الحرب. واختنقت التجارة الداخلة نتيجة المكوس التي كانت تجبى في مائة موقع عبر الأنهار أو في البر. وكانت التجارة الخارجية قد شلت حركتها نتيجة لرسوم الصادرات والواردات. وكادت الآن تكون متعذرة تماماً لوجود أساطيل الأعداء والقرصان. وساءت أحوال أولئك الذين كانوا يعتمدون على صيد الأسماك والتجارة على الشواطئ. ونضبت موارد مئات من المدن بما كانت تقدم من معونة ومؤونة للفرق العسكرية التي تنزل بها، وهبط الفقر والقحط والمرض والحرب بعدد سكان فرنسا من نحو 23
مليوناً في 1670 إلى نحو 19 مليوناً في 1700 (30). وفقدت محافظة تورين ربع سكانها. ولم يبق من سكان العاصمة تور إلا 33 ألفاً من 80 ألفاً كانوا يقطنونها في عهد كولبير. وهاك نموذجاً من تقارير المحافظين والحكام من مختلف أقاليم فرنسا في أخريات القرن السابع عشر:
أن هذه المدينة التي كانت ف يسابق أيامها غنية مزدهرة، باتت الآن بلا صناعة
…
وكان في هذا الإقليم مصانع كثيرة، ولكنها اليوم هجرت .... وكانت الأرض تدر في سابق الأيام أكثر مما تفعل الآن، ومنذ عشرين عاماً كانت الزراعة أكثر ازدهاراً بشكل غير محدود. وتناقص السكان بمقدار الخمس في السنين الثلاثين الأخيرة (31)
…
وفي 1694 وجه فنيلون، الذي سيصبح عما قريب رئيس أساقفة كمبراي، إلى لويس الرابع عشر خطاباً غفلاً من التوقيع، يعد أبلغ تعبير عن الروح الفرنسية:
مولاي، أن هذا الذي يسمح لنفسه أن يكتب إليك هذه الرسالة، ليس له مصلحة دنيوية، ولا يكتب بدافع اليأس ولا الطمع، ولا بدافع الرغبة في التدخل في أمهات المسائل. أنه يحبك دون أن يكون معروفاً لديك، ويرى الله في شخصك .... أنه لا يبالي بأي أذى يحتمله عن طيب خاطر، في سبيل إدراكك للحقائق الضرورية لخلاصك. ولا تدهش إذا وجه إليك حديثاً شديد اللهجة، فما ذاك إلا لأن الحق حر وفوي، ولو أنك لم تألف سماعه. ويخطئ الذين تعودوا الملق والنفاق، فيظنون الحق الصراح الخالص استياءً أو مرارة أو إفراطاً ومبالغاً. وقد يكون خيانة للحق أن نحجبه عنك. والله خير شاهد على أن الذي يحدثك الآن، إنما يفعل ذلك بقلب عامر بالغيرة والحماسة وبالإجلال والثقة والإخلاص، لكل ما فيه مصلحتك الحقيقية
…
أن كبار وزرائك، طيلة الثلاثين عاماً الماضية، قلبوا المبادئ الأساسية والقواعد العامة في الدولة، حتى يرفعوا
من شأنك ويزيدوا من سلطانك إلى أقصى حد، لأن هذه السلطة كانت في أيديهم. ولم يرتفع صوت بالكلام عن الدولة وقوانينها، بل تحدث الجميع عن الملك ووسائل إرضائه. وزادوا في مواردك وفي نفقاتك بغير حدود، أنهم رفعوك إلى السماءين حتى تمحو، كما يقولوا، آثار عظمة أسلافك مجتمعين. ولكنهم في الواقع أفقروا فرنسا بأسرها، ليمتعوا البلاط بترف رهيب لا شفاء منه. أن هؤلاء الوزراء أرادوا أن يرفعوك على أنقاض كل طبقة في الدولة، وكأنما يمكن أن تكون عظيماً حين تدمر كل رعاياك الذين يعتمد عليهم مجدك وعظمتك. إنك حقاً حريص على الاحتفاظ بسلطانك .. ولكن الواقع أن كل وزير سيد متصرف في نطاق اختصاصه، وكانوا قساة متغطرسين ظالمين غلاظاً ضعيفي الإيمان. ولم يعرفوا في الشئون الداخلية والخارجية إلا مبدأ واحداً، هو التهديد والوعيد، أو القضاء على كل ما يقف في طريقهم وتدميره. لقد عودوك على أن تتلقى دوماً أعظم المدح والثناء، مما يقارب عبادة الأوثان تأليهاً لك، ما كان يجدر بك أن تأباه سخطاً وازدراء، من أجل شرفك وكرامتك أنت. ولقد جعلوا اسمك كريهاً بغيضاً. والأمة الفرنسية بأسرها غير محتملة لدى الشعوب المجاورة. ولم يحتفظوا بأي من حلفائك القدامى، لأنهم لم يريدوا إلا عبيداً أرقاء. وكانوا طيلة عشرين عاماً، سبباً للحروب الدامية-التي لم يكن من دافع لها إلا المجد والانتقام .... أن كل التوسع الذي أتت به الحروب كان غصباً وظلماً. أنك أردت دوماً أن تملي الصلح وتفرض الشروط، بدلاً من تسوية الأمور في شيء من الاعتدال. وهذا هو السبب الذي من أجله لم يدم أي صلح طويلاً. ولم يكن أعداؤك الذين هزمتهم ولطختهم بالعار والخزي، يفكرون إلا في شيء واحد، هو أن ينهضوا من جديد، ويوحدوا أنفسهم ضدك. هل في هذا ما يدهش؟ أنك لم تتمهل قط في نطاق شروط الصلح التي أمليتها في زهو وخيلاء، وفي زمن السلم قمت بحروب وفتوحات هائلة .. ومثل هذا التصرف
أثار كل أوربا ووحدها ضدك.
وفي نفس الوقت، فإن شعبك الذي كان يجدر بك أن تحبه حبك لأبنائك، والذي ظل حتى هذه اللحظة مخلصاً لك، يموت جوعاً. لقد تخلوا تقريباً عن زراعة الأرض. وهبط عدد السكان في المدن والريف، وانحطت الصناعة فلم تعد تفي بحاجيات العمال. وانهارت التجارة بأسرها. إنك استنزفت نصف ثروة الأمة وحيويتها للقيام بفتوحات عقيمة في الخارج والدفاع عنها. أن كل فرنسا عبارة عن مستشفى ضخم مقفر بائس تنقصه المؤن. والحكام مرهقون محتقرون، وتتزايد الثورات الشعبية التي لم نعهدها منذ زمن طويل، ولا يستثنى من ذلك باريس القريبة منك جداً. ولزام على موظفيها أن يحتملوا وقاحة العصاة والثائرين. وينثروا عليهم الأموال ليهدئوا من روعهم. لقد انحط بك الحال إلى النتيجة المؤسفة المخزية، وهي التراخي في عقاب الفتن، وبذلك تتفاقم، أو قتل أناسي بلا شفقة ولا رحمة، زرعت أنت في قلوبهم اليأس، حين اختطفت من أفواههم، بفعل ضريبة الحرب، الخبز الذي كدحوا للحصول عليه بعرق الجبين ....
لقد كان سيف الله مسلطاً فوق رأسك منذ أمد طويل، ولكنه سبحانه تمهل في أن يهوي به عليك، لأنه يرثي لأمير أحيط طيلة حياته بمتملقين أذلاء، وكذلك لأن أعداءك هم أعداؤه .... أنك لا تحب الله، ولكنك تخافه فقط، خوفاً حقيراً من قبيل التقليد والمحاكاة. ولا تقوم ديانتك إلا على الخرافات، وعلى بعض طقوس تافها سطحية
…
إنك لا تحب إلا عظمتك ومكاسبك، وترد كل شيء إلى ذاتك، وكأنما أنت إله هذه الأرض، وكأنما خلقت كل الأشياء للتضحية بها من أجلك. ولكن الأمر على النقيض من ذلك، فإن الله قد أقامك في هذه الدنيا من أجل شعبك ....
لقد راودنا يا مولاي الأمل في أن يردك مجلسك عن الطريق غير المستقيم. ولكن لم يكن لديه القوة والجرأة. وكان من الجائز أن تستغل مدام دي مينتنون، ومسيو بوفيلييه، على الأقل، الثقة التي أوليتها إياها ليمحضاك النصح دون خداع ولا تضليل، ولكن ضعفهما وجبنهما خزي وعار وسبة لنا أمام العالم أجمع. وربما تساءلت يا مولاي:
ماذا عساهما أن يفعلا .. والجواب بأنه كان عليهما أن يرشداك إلى أن تذل وتخشع بين يدي الله القوي القدير، إذا أردت ألا يفرض عليك سبحانه وتعالى الذلة والهوان، وأنه يجدر بك أن تطلب الصلح، وتكفر بهذا الخشوع والتواضع عن العظمة التي جعلت منها معبوداً لك. وأنه من أجل إنقاذ الدولة ينبغي عليك بأسرع ما يمكن أن ترد إلى أعدائك ما لا يحق لك أن تحتفظ به عدلاً وإنصافاً.
مولاي: أن هذا الذي يبسط لك هذه الحقائق، وهو أبعد ما يكون عن الوقوف في وجه مصالحك، مستعد أن يضحي بحياته في سبيل أن يراك كما يريد الله لك أن تكون، ولن يكف عن الدعاء لك والصلاة من أجلك
(1)
.
ولم يجرؤ فنليون على إرسال هذه الرسالة مباشرة إلى الملك، فرتب أمر تسليمها إلى مدام دي مينتنون، وربما كان يأمل في أنها قد تتأثر بها، حتى ولو لم تطلع لويس عليها، باعتبار أن الرسالة تعكس حالة الشعب، فتستخدم السيدة نفوذها من أجل الصلح والسلام، ولكنها حولتها إلى رئيس الأساقفة دي نواي، مع تعليق منها نصه: "لقد أحسن الكاتب، ولكن مثل هذه الحقائق قد تهيج الملك أو تفت في عضده .... وينبغي علينا أن نوجهه برفق في الطريق الذي يجب أن
(1)
عن الأصل الفرنسي في كتاب Fellows and Torrey " عصر الاستنارة" ص 91 - 95. ونشرت الرسالة لأول مرة في دالمبرت 1787. وبقيت مشكوكاً في صحتها حتى 1825. حين وجدت نسخة منها بخط فنليون نفسه (32).
يسلكه (33)". وكانت قد كتبت في 1692. "أن الملك يدرك ما يعانيه شعبه، وهو يتلمس كل الوسائل للتخفيف عنه (34) "، ومما لا شك فيه أنها كانت تعرف ما كان يمكن أن يرد به الملك على فنيلون: أن مبادئ المسيحية لا يمكن أن تستخدم في إدارة شئون الدول، وأنه يمكن عدلاً التضحية بجيل من الفرنسيين، إذا كان في هذه التضحية تأمين لمستقبل فرنسا، بفضل حدود طبيعية يسهل الدفاع عنها، وأن أية محاولة للوصول إلى الصلح والسلام من أعداء متحالفين متعطشين إلى الانتقام، قد تعرض فرنسا للغزو والتمزيق. وإذ وقعت السيدة مينتنون في صراع بين دين الأخوة وبين فلسفة الحرب، فقد كثر ترددها على سان سير، والتمست في رفقة الراهبات الشابات السعادة التي فقدتها في الجاه والسلطان (35).
وقبيل انتهاء الحرب قدم بييرلي بيزان، حاكم بواجلبرت، وقائد المنطقة المحيطة بروان، إلى وزير المالية بونتشارتران مشروعاً لتخفيف الفوضى الاقتصادية والضائقة العامة:"أصغ إلي في شيء من الصبر، إنك ستحسبني أول الأمر مجنوناً، ثم تتبين فيما بعد أني استحق أن تعيرني انتباهك، وسترضيك آخر الأمر أفكاري". ولكن بونتشارتران سخر منه وطرده. ونشر الحاكم الغاضب مخطوطته المرفوضة بعنوان "مشكلة فرنسا"(1697) واستنكرت هذه الرسالة تعدد الضرائب التي يقع العبء الأكبر فيها على عاتق الفقراء، ولا يصيب الأغنياء منها إلا النزر اليسير، واتهمت الكنيسة بابتزاز الكثير من الأرض والثروة، وأنحى بأشد اللائمة على مديري المال الذين تمتد أصابعهم البغيضة إلى الضرائب التي يجمعونها للملك (36). وأضعف من حجة الرسالة ما جاء بها من مبالغات وإحصاءات غير مدروسة، وآراء خاطئة عن تاريخ الاقتصاد الفرنسي قبل كولبير، ولكن زاد من قيمة الرسالة ما تضمنته من آراء ثاقبة ليست على استعداد لفهمها أي حكومة تعودت تقنين كا شيء وتحديده. وكان بواجلبرت من أوائل من رفضوا تضليل "المركنتلية"(نظام اقتصادي قائم على تنظيم حكومي استغلالي صارم)، بأن المعادن النفيسة تشكل في حد ذاتها ثروة، وأن الغرض من التجارة هو تكديس الذهب. وكان من رأيه أن الثروة هي توافر السلع والقدرة على أنتجاها، وأن الثروة الأساسية هي الأرض، وأن الفلاح عماد الاقتصاد، وأن دمار هذا الفلاح يعني دمار الجميع، حيث
أن كل الطبقات في النهاية، مرتبطة بمجتمع ذي مصالح. وكل منتج مستهلك، وأية فائدة يجنيها بوصفه منتجاً لا بد عاجلاً أو آجلاً أن يفقدها نتيجة لما يلحقه من خسارة باعتباره مستهلكاً. وكان نظام كولبير في التقنين والتحديد، نظاماً خاطئاً، لأنه عوق الإنتاج وسد منافذ التجارة. وأحكم أسلوب هو ترك الناس أحراراً ينتجون ويبيعون ويشترون، دون قيود في نطاق الدولة، دعوا الطموح وحب الكسب الطبيعيين في الناس يعملان عملهما بحد أدنى من القيود المشروعة. فإنهم حين يتحررون على هذا النحو، سيبتدعون أساليب ومشروعات واستخدامات وأدوات جديدة، وسيضاعفون من خصوبة الأرض، ومنتجات الصناعة، ومدى التجارة ونشاطها، وهذه الزيادة الناتجة في الثروة ستوفر للدولة دخلاً جديداً. ولا بد أن ينشأ عن هذا بعض المظالم والجور، ولكن العملية الاقتصادية ستعالجها جميعاً. وهنا نجد مرة أخرى "اتركه يعمل" قبل أن تبلغ حرية العمل الرأسمالي ذروتها في عالم الغرب، بقرنين من الزمان.
وقد يغتفر للملك ووزرائه، إذا أحسوا أن الحرب ضد نصف أوربا لم تكن وقتاً ملائماً لمحاولة القيام بانقلاب اقتصادي بعيد المدى، فزادوا من الضرائب بدلاً من إصلاح الاقتصاد. وفي 1695 فرضت ضريبة الرءوس، وكان المفروض أن تكون على كل ذكر في فرنسا، وبررها بأنها مؤقتة، ولكنها استمرت حتى 1789. وكان النبلاء ورجال الدين والحكام خاضعين لها من الوجهة النظرية، ولكن من الوجهة العملية اشترى رجال الدين الإعفاء منها نظير إعانة متواضعة، على حين وجد النبلاء والماليون ثغرات في القانون ينفذون منها إلى الإعفاء. ولجئوا إلى كل وسائل الابتزاز المال من الشعب. ونظم "اليانصيب" وبيعت على عقد قروض للدولة. واحتفى الملك نفس برجل من أصحاب المصارف، هو صمويل برنارد، وتقاضى من الملايين بعد أن بهرته هالة العظمة التي أحاط بها الملك نفسه، وفقد وعيه بسحر الملك وفتنته، وعلى الرغم من كل الضرائب ووسائل الابتزاز، قديمها وجديدها. بلغ مجموع دخل الدولة في 1697، 81 مليوناً من الجنيهات، على حين بلغت المصروفات 219 مليوناً.
واعترف لويس آخر الأمر بأن انتصاراته استنزفت حياة فرنسا، فأصدر أوامره إلى سفرائه ومبعوثيه بمحاولة الوصول إلى تفاهم مع أعدائه. وقد أنقذته براعتهم، إلى حد ما. فأقنعوا دوق سافوي في 1696 بعقد صلح منفرد مع لويس. وسمح بتناثر الأنباء بأنه سيكف عن تأييده لآل ستيوارت، ويعترف بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا. وكان وليم نفسه يرى أن المال أغلى من الدماء، وشكا من أن "فقره أمر لا يصدق". واشتدت معارضة البرلمان لاعتماد الأموال اللازمة لقواته. وطالب، تمهيداً لعقد الصلح، بطرد جيمس الثاني من فرنسا، ولكن لويس رفض. إلا أنه عرض أن يعيد تقريباً كل المدن والأراضي التي كسبتها قواته أثناء الحرب. وفي 20 سبتمبر 1697 أنهى صلح ريزويك (بالقرب من لاهاي)"حرب البالاتينات" مع إنجلترا وهولندا وأسبانيا. واحتفظت فرنسا بستراسبورج وفرانش كرمتيه، واستردت بوندشيري في الهند، ونوفاسكوشيا في أمريكا، ولكن الرسوم الجمركية الفرنسية خفضت على تجارة هولندا، وفي 30 أكتوبر وقع صلح تكميلي مع الإمبراطورية. وتوقع الإمبراطور والملك كلاهما قرب وفاة شارل الثاني ملك أسبانيا. وأدرك كا رجال السياسة في أوربا تمام الإدراك أن ما وقع لم يكن إلا مجرد هدنة، استعداداً لحرب أكبر كانت جائزة المنتصر فيها أغنى إمبراطورية في العالم.
3 - المسألة الإسبانية
1698 -
1700
دنا أجل شارل الثاني دون عقب، فمن ذا الذي يرث ممتلكاته التي تمتد من الفيليبينات عبر إيطاليا وصقلية إلى شمال أمريكا وجنوبها؟. لقد طالب بها لويس، لا باعتبارها ابن كبرى بنات فيليب الثالث ملك أسبانيا فحسب، بل كذلك بمقتضى حق زوجته المتوفاة ماري تريز كبرى بنات فيليب الرابع. والحق كل الحق أن ماري تريز تخلت، عند زواجها، عن أي حق لها في عرش أسبانيا. ولكن هذا التخلي كان مشروطاً بأن تدفع الحكومة الإسبانية لفرنسا صداقاً قدره خمسمائة ألف كراون ذهباً. ولكن أسبانيا لم تدفع شيئاً من هذا الصداق، لأنها كانت مفلسة.
وكان للإمبراطور ليوبولد مزاعم مضادة: فهو ابن ماريا آنا صغرى بنات فيليب الثالث. وكان قد تزوج في 1666 من مرجريت تريزا
صغرى بنات فيليب الرابع، ولم تتخل أي من هاتين السيدتين عن حقوقها في احتمال ارتقاء عرش أسبانيا. ولما كان الأتراك يزعجون ليوبولد دائماً بغاراتهم المتكررة، فإنه رغبة منه في الإبقاء على السلام مع فرنسا، عمد إلى حل وسط بالنسبة لمطالبه، بتوقيع معاهدة سرية مع لويس الرابع عشر، (في 19 يناير 1668)، نص فيها على التقسيم النهائي للإمبراطورية الأسبانية. ويقول مؤرخ إنجليزي أنه بمقتضى هذه المعاهدة "سلم فعلاً بقوة الحجة التي تذرع بها لويس الرابع عشر ببطلان تخلى ملكة فرنسا عن حقوقها في عرش أسبانيا (37) " ولما تزوج ليوبولد للمرة الثانية، وأنجب له هذا الزواج ابناً ثانياً، حدد مطالبه، ولكنه عرض أن يتنازل عنها للأرشيدوق كارل الجديد.
ونظرت إنجلترا والمقاطعات المتحدة والولايات الألمانية بعين الفزع إلى احتمال أن تؤول مملكة أسبانيا المترامية الأطراف إلى فرنسا أو إلى النمسا، وفي كلتا الحالتين إخلال بتوازن القوى، فلو أن لويس ربح في هذه الجولة لسيطر على أوربا وعرض البروتستانتية للخطر، ولو أنها كانت من نصيب ليوبولد، لهدد الإمبراطور، بحكم استيلائه على الأراضي الوطيئة الأسبانية، جمهورية هولندا، وزعزع استقلال الولايات الألمانية. وتدخلت المصالح الاقتصادية إلى جانب مصالح الأسرات الحاكمة: فالمصدرون الإنجليز والهولنديون كانوا يزودون معظم أسواق أسبانيا ومستعمراتها بالمنتجات الصناعية، ويحصلون منها في مقابل ذلك على كميات هائلة من الذهب والفضة، فكانوا يكرهون أن تصبح هذه التجارة احتكار لفرنسا. وذكرت الحكومة البريطانية في 1716 "أن الاحتفاظ بالتجارة بين مملكو بريطانيا العظمى وأسبانيا كان من أهم الدوافع التي حفزت ملكينا السابقين إلى دخول الحرب الأخيرة الطويلة الأجل الباهظة التكاليف (38) ".
ورغبة من وليم الثالث في إرضاء التجار في موطنه الأول وفي البلاد التي آلت إليه، وفي المحافظة على توازن القوى في القارة، اقترح على لويس أن تتخلى فرنسا عن دعواها، وتتفق مع إنجلترا على ترك أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون أمير بافاريا الناخب، حفيد ليوبولد، وعلى أن يحصل الدوفين ولي عهد فرنسا على ثغور تسكانيا وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية. على حين
يمكن تسكين من روع الأرشيدوق كارل وإرضاؤه بدوقية ميلان. وقبل لويس الاقتراح، ووقع في 11 أكتوبر 1698 مع وليم "معاهدة تقسيم أسبانيا الأولى". ورفض ليوبولد هذا المشروع غاضباً. وأملاً في صون الإمبراطورية الأسبانية من هذه التجزئة والتفتيت، أعد شارل الثاني في 14 نوفمبر 1698 وصيته التي جعل أمير بافاريا الناخب بمقتضاها وريثه الوحيد. ولكن موت الأمير في 5 فبراير أحدث ارتباكاً وتعقيداً في الموقف.
وعرض لويس إلى وليم تقسيماً جديداً: يحصل ولي عهد فرنسا بمقتضاه على ثغور تسكانيا، وإيطاليا جنوبي الولايات البابوية، ودوقية اللورين، ويعوض دوق اللورين بميلان، ويؤول باقي الإمبراطورية الأسبانية، بما في ذلك أمريكا والأراضي الوطيئة الأسبانية، إلى الأرشيدوق كارل، ووقع لويس ووليم اتفاقية التقسيم الثانية في 11 يونيه 1699، ووافقت عليها المقاطعات المتحدة. ولكن شارل الثاني احتج على أي تفتيت لممتلكاته، كما أن الإمبراطور، أملاً منه في الحصول على كل شيء لابنه، أيد موقف أسبانيا ورفض الموافقة على التقسيم، على أن شارل، باعتباره من آل هبسبرج، كان ميالاً إلى ترك كل شيء للأرشيدوق، وبوصفه أسبانياً، على أية حال، كان يكره النمساويين، وباعتباره لاتينياً كان يؤثر الفرنسيين، ومذ كان شارل كلثوليكياً غيوراً، فإنه التمس النصح والمشورة من البابا. فأجاب إنوسنت الثاني عشر في 27 سبتمبر 1700 بأن خير طريقة هي التوصية بكل الإمبراطورية الأسبانية لأمير بوربوني شريطة تخليه عن أي حق في عرش فرنسا، وبذلك تحتفظ أسبانيا بوحدتها. وواضح أن الدبلوماسيين الفرنسيين كانوا يفوقون النمساويين حيلة ودهاء، وفي مدريد وفي روما على حد سواء. ونفر الرأي العام في أسبانيا من غطرسة مليكتهم الألمانية، فوافق على مشروع البابا، وذكر السفير الإنجليزي في مدريد "أن الاتجاه العام فرنسي تماماً (39) ". وفي أول أكتوبر وقع شارل الوصية المشئومة، التي أوصى فيها بكل أسبانيا وممتلكاتها لفيليب ذي السبعة عشر ربيعاً، ودوق أنجو، الابن الثاني للدوفين، شريطة ألا يجتمع تاجا فرنسا وأسبانيا لملك واحد، وقضى شارل نحبه في أول نوفمبر.
ولما ترامت أنباء هذه الوصية إلى باريس، سر بها لويس، ولكنه
كان متردداً. فقد أدرك أن انتقال أسبانيا من أيدي آل هبسبرج إلى أسرة البوربون، لا بد أن يلقى معارضة شديدة من الإمبراطور، وأن إنجلترا وهولندا لا بد أن تنضما إلى صف المعارضة. وأثنى أحد المؤرخين الألمان على هذه الإلتفاتة من جانب لويس نحو الأهداف السلمية:
قد لا يكون من الإنصاف القول بأن لويس الرابع عقد العزم منذ البداية على نقض معاهدة التقسيم، بمجرد الحصول على وصية ملائمة لأسرته، وحتى وهو على يقين من مثل هذه الوصية، وكان شارل لا يزال على قيد الحياة، أمر لويس سفيره في هولندا، أن يؤكد لحاكمها أنه يعتزم التمسك بالتزاماته، ولا يقبل أية عروض تقدم له. وبالإضافة إلى هذا، واصل مساعيه للحصول على انضمام بلاط فيينا إلى معاهدة التقسيم (40).
وفي 6 أكتوبر أرسل لويس نداءاً عاجلاً إلى الإمبراطور ليقبل معاهدة التقسيم الثانية (41). ورفض ليوبولد. ومن ثم اعتبر لويس أن المعاهدة لاغية.
وفور وفاة شارل، أوفد مجلس الوصاية الأسباني إلى باريس رسولاً ليبلغ الملك لويس أن حفيده سيكون ملكاً على أسبانيا بمجرد قدومه وتأديته اليمين بمراعاة قوانين المملكة. وصدرت التعليمات إلى السفير الأسباني في باريس بأنه في حالة إي رفض من جانب فرنسا، عليه أن يأمر الرسول بالإسراع إلى فيينا ليقدم نفس العرض إلى الأرشيدوق (42). وينبغي ألا تجزأ الإمبراطورية الأسبانية على أية حال. وفي 9 نوفمبر دعا لويس الأمير ولي العهد، ومستشاره بونتشارتران ودوق دي بوفيلييه ومركيز دي تورسي وزير الخارجية إلى اجتماع في جناح مدام دي مينتنون، وسألهم الرأي والمشورة. ورأى بوفيلييه أن يرفض العرض الأسباني، لأنه يؤدي قطعاً إلى الحرب مع الإمبراطورية وإنجلترا والمقاطعات المتحدة، وذكر الملك بأن فرنسا ليست في ظروف تهيئ لها مواجهة مثل هذا الائتلاف، أما تورسي فقد دافع عن فكرة القبول، حيث اعتقد بأن الحرب لا محالة واقعة على
أية حال، ولا بد أن الإمبراطور ليوبولد سيعارض معاهدة التقسيم والوصية كلتيهما. هذا فضلاً عن أنه رفض الملك لويس العرض الأسباني، فإنه من المؤكد أن يرحب به الإمبراطور، وتطوق فرنسا من جديد بنفس النطاق الذي كان مضروباً حولها-أسبانيا، شمال إيطاليا، النمسا، الأراضي الوطيئة الإسبانية والذي كلف فرنسا طيلة المائتي عام الأخيرة كثيراً من الدماء لتحطيمه. خير لنا أن ندخل في حرب بسبب عادل-الوصية-من أن نحاول فرض تقسيم أسبانيا بالقوة ضد رغبة حكومتها وشعبها (43).
وبعد ثلاثة أيام قضوها في مزيد من المشاورات والمداولات، أعلن لويس إلى المبعوثين قبوله الوصية. وفي 16 نوفمبر 1700 قدم دوق أنجو إلى الحاشية المجتمعة في فرساي قائلاً:"أيها السادة، إنكم ترون هنا ملك أسبانيا. أن النسب الذي تحدر منه دعاه إلى حمل ذاك التاج، بهذا أمر الملك الراحل في وصيته، وهذا ما رغبت فيه الأمة الأسبانية بأسرها، وتوسلت إليّ توسلاً جدياً أن أقبله. وتلك إرادة الله، حققها في غبطة وسرور، ثم أضاف موجهاً الحديث إلى الملك الشاب "كن أسبانياً" صالحاً-فهذا هو الآن واجبك الأول، ولكن تذكر أنك ولدت فرنسياً، وحافظ على الوحدة بين الأمتين، فهذا هو الطريق لإسعادهما، وللمحافظة على السلام في أوربا (44) " ونادى مجلس الوصاية الأسباني بفيليب ملكاً في مدريد، وأسرعت كل قطاعات أسبانيا وممتلكاتها بإعلان موافقتها، واعترفت الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، بالملك الجديد: سافوي، الدنمرك، البرتغال، المقاطعات المتحدة، إنجلترا، وعدة ولايات إيطالية وألمانية، بل أن ناخب بافاريا الذي ظن أن الإمبراطور دس السم لابنه-كان من أول الأمراء الذين قدموا اعترافهم. وبدا أن الأزمة قد تم التغلب عليها، وأن العداوة التي استعر أوارها طيلة قرن من الزمان بين فرنسا وأسبانيا قد خمدت بطريقة سلمية، وجثا السفير الأسباني في فرساي بين يدي مليكه الجديد إجلالاً وولاء، ونطق بعبارته المشهورة "لا برانس بعد اليوم (45) ".
4 - الحلف الأعظم
1701 -
1702
وكتب لورد تشستر فيلد "أن أسبانيا استقبلت في هدوء وابتهاج فيليب الخامس الذي استهل عهد البوربون الأسبان، واعترفت به ملكاً
معظم الدول التي انضمت فيما بعد في تحالف لخلعه (46) " ولكن الإمبراطور ليوبولد أحس بأن هذا الاتحاد الفعلي بين فرنسا وأسبانيا، لا بد أن يكون، إذا تهيأت له أسباب البقاء والاستمرار، كارثة على أسرة هبسبرج التي ألفت منذ أمد طويل أن تحكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة والإمبراطورية الأسبانية كلتيهما. وعكس الكتاب استياءه فأهاجوا الرأي العام في النمسا وعبروا عنه، مرددين أن شارل الثاني لم يكن في كامل قواه العقلية حين أوصى بأسبانيا لعدوتها القديمة، وزعموا أن تشريح جثة الملك أظهر حقاً أن قلبه ومخه كانا مصابين بشكل خطير، ومن ثم تكون وصيته باطلة لاغية، وتكون ممتلكات أسبانيا تابعة للإمبراطور ليوبولد، بمقتضى حقوق أمه وزوجته التي لم يحدث أي تخل أو تنازل عنها. واستحث ليوبولد حليفيه السابقين هولندا وإنجلترا إلى إنكار أو سحب اعترافهما بفيليب الخامس. حتى ولو كان هذا يعني حرباً.
وكان زعيم المقاطعات المتحدة في هذا الوقت أنطونيوس هينسيوس الذي كان قد اختير حاكماً بعد رحيل وليم إلى إنجلترا، وكان في سابق أيامه مبعوثاً هولندياً إلى فرنسا، وهدده لوفوا بإلقاء القبض عليه، خرقاً للحصانة الدبلوماسية، ولم ينس قط هذه الإساءة، وأقام الآن، وقد بلغ التاسعة والخمسين، في دار متواضعة في لاهاي، وأحب المكتب، وسار يومياً على قدميه إلى مكتبه، واشتغل عشر ساعات في اليوم، وكان بمثابة تحد صارخ من جانب البساطة البرجوازية والحكومية الجمهورية للأرستقراطيين المترفين والملوك المستبدين. وفي نوفمبر 1700، وبتوجيه من الجمعية الوطنية الهولندية، أرسل أنطونيوس هذا إلى الملك لويس الرابع عشر مذكرة يرجوه فيها رفض وصية شارل الثاني باعتبارها ضارة أبلغ الضرر بالإمبراطور، والعودة إلى سياسة التقسيم. ضرورياً حتمياً هو تكرار رفض الإمبراطور لأي مشروع للتقسيم، وتأكد فرنسا من أن الإمبراطور سيقبل العرض الأسباني إذا هي رفضته.
وزادت تصرفات لويس من خوف أوربا من قوة فرنسا. ففي أول فبراير 1701 حمل برلمان باريس على تسجيل مرسوم ملكي ينص على المحافظة على الحقوق التي يمكن أن تنشأ لفيليب وأعقابه في تاج فرنسا.
وهذا لا يعني بالضرورة أن لويس تطلع إلى وحدة فرنسا وأسبانيا تحت حكم ملك واحد، وربما قصد به تأمين نظام لارتقاء عرش فرنسا في حالة وفاة الورثة السابقين، ففي مثل الضرورة الطارئة يمكن لفيليب أن يتخلى عن تاج أسبانيا ليرتقي العرش في وطنه الأول، وبذلك يستمر التاج في أسرة البوربون دون انقطاع. ولكن إجراء آخر اتخذه الملك برر أن يفسر عمله تفسيراً غير ودي. ذلك أنه كانت هناك كعاهدة مع أسبانيا تثبت حق الهولنديين في حماية هولندا ضد الغزو، بالاحتفاظ بحاميات مسلحة في بعض "مدن الحدود" في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وفي فبراير، بناء على تفاهم بين لويس وناخب بافاريا الذي تولى حكم الأراضي الوطيئة الإسبانية آنذاك، دخلت القوات الفرنسية مدن الحدود هذه، وأمرت الحاميات الهولندية بمغادرتها. وأبلغ السفير الأسباني في لاهاي الجمعية الوطنية بأن هذا العمل تم بناء على رغبة الحكومة الأسبانية. واحتجت الجمعية الوطنية ثم استسلمت، ولكن هينسيوس اتفق مع وليم الثالث على ضرورة تجديد الحلف الأعظم ضد فرنسا.
أن وليم ارتكز في موقفه على أن معاهدة التقسيم الثانية كانت اتفاقاً بينه وبين لويس، وأنها ظلت سارية المفعول شواء وقعها أو لم يوقعها ليوبولد، وأن قبول فرنسا للوصية الإسبانية كان نقضاً لهذا الميثاق القانوني المقدس. وكان البرلمان على أية حال يكره استئناف النزاع الباهظ التكاليف مع فرنسا. وعندما أبلغت الحكومة الفرنسية إنجلترا بنبأ ارتقاء فيليب الخامس عرش أسبانيا، راض وليم نفسه على تهنئة "أخيه العزيز ملك أسبانيا بهذه المناسبة السعيدة، مناسبة ارتقائه العرش (47) ". وبهذا قدم اعترافاً رسمياً بنظام الحكم الجديد (17 أبريل 1701 (48)). ولكن عندما تجلت النتائج الخطيرة للاتحاد الفرنسي الأسباني للعيان بشكل أوضح، حيث أن احتلال القوات الفرنسية للفلاندرز جعلت لويس قاب قوسين أو أدنى من هولندا، وأن امتلاكه لثغر أنتورب مكنه من التحكم في التجارة
الإنجليزية التي تستخدم هذا الثغر-فإن الإنجليز بدءوا يدركون أن المشكلة لم تكن مجرد مشكلة بين البوربون وآل هبسبرج، ولا هي مشكلة كاثوليكية تستعيد نشاطها وبروتستانيتة يتهددها الخطر، ولكنها قضية الصراع بين إنجلترا وفرنسا حول السيادة على البحار، والسيطرة على المستعمرات الأوربية وعلى تجارة العالم، وفي يونيه 1701، ودون
إعلان الحرب، تعهد البرلمان بتأييد وليم في أية أحلاف قد يدخل فيها بهدف الحد من سيطرة فرنسا المتزايدة. وتحقيقاً لهذا الهدف أقر تجنيد ثلاثين ألفاً من جنود البحر واعتمد مبلغ مليونين وسبعمائة ألف جنيه. واستجابة لنداء من الجمعية الوطنية الهولندية أمر وليم عشرين سفينة وعشرة آلاف جندي بالإبحار إلى هولندا. وفي يوليه عبر هو نفسه البحر إلى لاهاي.
وكان الإمبراطور الذي يطالب بأراضي الإمبراطورية الأسبانية بأسرها، بالفعل في حرب. وفي مايو 1701 أرسل جيشاً مكوناً من ستة آلاف من الفرسان وستة عشر ألفاً من المشاة للاستيلاء على ممتلكات أسبانيا في شمال إيطاليا، وعهد بقيادة هذا الجيش إلى أمير شاب، قدر له أن ينافس مالبرو نفسه باعتباره قائداً-هو ويجين سافوي.
وكان جده شارل أمانويل دوق سافوي، أما والده الأمير يوجين موريس فقد استقر به المقام في فرنسا بلقب كونت دي سواسون. أما والدته فهي أولمب مانسيني إحدى بنات أخي مازاران الفاتنات. وطلب يوجين نفسه في 1683، وهو في سن العشرين، من لويس الرابع عشر أن يويله قيادة فوج من الجنود، فأبى عليه ذلك نظراً لصغر سنه، فهجر فرنسا والتحق بخدمة الإمبراطور، واشترك مع سوبسكي في تخليص فيينا وتعقب الأتراك، وجرح في الاستيلاء على بودا، وجرح ثانية في حصار بلجراد، وقاد القوات الإمبراطورية إلى الانتصار الحاسم على الأتراك في سنتا 1697، وتحلى يوجين بكل المزايا اللهم إلا جمال الوجه والجسم. ووصفه فرنسي عدو له بأنه "هذا الرجل القبيح الضئيل الجسم الذي ينقلب أنفه فوق شفة عالية قصيرة إلى حد أنها لا تغطي أسنانه (49) "، على حين تبين فيه فولتير "صفات البطل في الحرب، ومناقب الرجل العظيم زمن السلم، وذهناً مشرباً بروح العدل والإنصاف والاعتداد بالنفس، وشجاعة لا تلين ولا تهن في قيادة الجيوش (50) ". والآن وهو في الثامنة والثلاثين قاد قواته فوق الألب، وتفوق على الكتائب الفرنسية هناك، ومع توالي انتصاراته على كاتينا وفيلروا، كسب الإمبراطور كل دوقية مانتوا تقريباً (سبتمبر 1701)، قبل إعلان حرب الوراثة الأسبانية بزمن طويل.
وفي الوقت عينه كانت الدبلوماسية قد مهدت لعشر سنين من
المذابح. ففي أغسطس منحت أسبانيا فرنسا "عقداً" يدر ربحاً وفيراً، لتزويد المستعمرات الأسبانية في أمريكا بالعبيد. وواضح أن فرنسا قصدت أن تستخدم نفوذها الطاغي في أسبانيا، للاستيلاء على تجارة ممتلكاتها في قارات ثلاث. وفي 7 سبتمبر وقع مندوبو إنجلترا والمقاطعات المتحدة والإمبراطورية معاهدة لاهاي بتكوين حلف أعظم ثان. ونصت المادة الثانية منها على أنه من الضروري لإقرار السلام في أوربا أن تراعي حقوق الإمبراطوري في الوراثة الأسبانية، وأن تكون إنجلترا والمقاطعات المتحدة آمنتين في ممتلكاتهما وفي تجولهما في البحار وفي تجارتهما، ووعدت المعاهدة الإمبراطور بممتلكات أسبانيا في
شمال إيطاليا والأراضي الوطيئة، ولكنها تركت الباب مفتوحاً أمام احتمال الاعتراف بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا، وتعهدت الأطراف المتعاقدة بعدم القيام بأية مفاوضات منفصلة، أو توقيع أي صلح منفرد، والحيلولة دون توحيد تاجي فرنسا وأسبانيا. واعترض طريق التجارة الفرنسية مع المستعمرات الأسبانية والدفاع عن أية فتوحات تقوم بها إنجلترا والمقاطعات المتحدة في الأنديز الإسبانية والمحافظة عليها (51). ومنحت فرنسا مهلة مدتها شهران للموافقة على هذه الشروط، فإذا لم تتم الموافقة، كان للدول الموقعة أن تعلن الحرب.
وقابل لويس هذا التحدي بكبرياء شديدة متميزة، فأعلن أنه مرتبط رباطاً شريفاً بالدفاع عن وصية شارل الثاني وتصميم الشعب الأسباني على عدم تمزيق إمبراطوريته، ولثقته التامة في قوة قضيته وعدالتها، ظهر إلى جان سرير جيمس الثاني الذي كان يعان يمن سكرا الموت، وواسى الملك المحتضر بوعده أنه سيعترف بجيمس الثالث ملكاً على إنجلترا ويسانده. ولما قضى الوالد نحبه حافظ لويس على عهده، ولسنا ندري إذا كان هذا "عملاً جليلاً يتسم بالشهامة"، (كما قال عنه مؤرخ إنجليزي شهم (52)) أو أنه استسلام لتوسلات الأرملة الباكية (53)، أو أن خطة عسكرية لتقسيم إنجلترا إلى معسكرين: فريق يناصر وليم، وفريق يناصر جيمس، ويدعو إلى عودة آل ستيوارت إلى العرش من جديد. وعلى أية حال كانت حرب الوراثة الأسبانية حرباً للوراثة الإنجليزية أيضاً، بل حرب الكيان الإنجليزي كله، فإن عودة ملك من أسرة ستيوارت قد يعني استئناف المحاولة لتحويل إنجلترا إلى
الكاثوليكية، وعلى الرغم من أن فرنسا أحست بأن تصرف الحلفاء نقض الاعتراف الذي كانت قد أعلنته كل دولة بفيليب الخامس ملكاً على أسبانيا. فإن معظم إنجلترا أحست بأن لويس قد نقض معاهدة روزيك التي كان قد اعترف فيها بوليم الثالث ملكاً على إنجلترا، واستنكرت الاعتراف بجيمس الثالث على أنه تدخل وقح في شئون إنجلترا. وأضيفت إلى شروط الحلف الأعظم فقرة تلزم الموقعين بألا يعقدوا صلحاً مع فرنسا، حتى يتلقى وليم ترضية عن الإساءة التي ألحقها به التصرف لويس. وفي يناير 1702 جرد البرلمان جيمس الثالث من حقوقه المدنية-أي أعلن أنه خائن خارج عن القانون. وفي نفس الوقت أقر بأغلبية صوت واحد، "قانون القسم" الذي يتطلب من كل إنجليزي أن يبرأ من "المطالب بالعرش" ويقسم يمين الولاء لوليم الثالث وورثته. وفي 8 مارس 1702 توفي وليم الثالث في سن الثانية والخمسين. في وقت مبكر جداً لم يستطع أن يتبين فيه أنه قام بتوثيق عرى تحالف قد يحدد خريطة أوربا لمدة نصف قرن. وفي 15 مايو أعلن الإمبراطور والمقاطعات
المتحدة وبرلمان إنجلترا الحرب على فرنسا في وقت واحد.
5 - حرب الوراثة الإسبانية
1702 -
1713
كانت كل أوربا غربي بولندا والإمبراطورية العثمانية، من الناحية العلمية، مشغولة بهذه الحرب. وانضم إلى التحالف الدنمرك وبروسيا وهانوفر وأسقفية مونستر، وناخباً مينز والبلاتينات وبعض الولايات الألمانية الصغيرة. وانضم إلى هؤلاء في 1703 سافوي والبرتغال، وحشدوا جميعاً 250 ألف جندي، وجمعوا قوة بحرية تفوق كثيراً القوة البحرية الفرنسية عدداً وعتاداً وقيادة. وكان لفرنسا آنئذ مائتا ألف جندي، ولكن هذه القوات كانت موزعة على جبهات مختلفة في إقليم الراين وإيطاليا وأسبانيا. وكان الحلفاء الوحيدون لها أسبانيا وبافاريا وكولون، ثم سافوي لمدة عام واحد. وكانت أسبانيا عبئاً عليها، تريد من الجيوش الفرنسية أن تدافع عنها، كما كانت المستعمرات الأسبانية تحت رحمة الأساطيل الهولندية والإنجليزية.
ويجدر بنا ألا نضل في متاهات اللعبة الملكية، الشطرنج البشري،
التي أعقبت ذلك، وكانت لعبة دامية إلى حد لم يسبق له مثيل تقريباً. والآن جاءت حملات مالبرو ويوجين سافوي البارعة المثيرة الملطخة بالدماء. وربما لم تجتمع منذ عهد قيصر عبقرية الحرب وفن الدبلوماسية مثل ما اجتمعا في مالبرو: كان بارعاً في استراتيجية تخطيط العمليات وتحريك الجيوش، وفي أساليب استخدام المشاة والخيالة والمدفعية، مع سرعة في تقدير الموقف واتخاذ القرار، وفق متطلبات المعركة، ومع ذلك فهو أيضاً صبور لبق في التعامل مع الحكومات من ورائه، والشخصيات من حوله، حتى مع العداء اللذين اعتبروه رجل دولة يدرك الحقائق، ذا وزن وقوة ونفوذ. وكان في بعض الأحيان قاسياً لا يرحم، وفي أغلب الأحيان مجرداً من المبادئ الخلقية والإنسانية. وسفك من دماء جنوده أي قدر لازم لتحقيق النجاح، واتصل بجيمس الثاني وجيمس الثالث ليضمن لنفسه نصيراً باسماً مشرقاً إذا عاد آل ستيوارت إلى الحكم. ولكنه كان منظم وصانع النصر.
وحيث أدرك لويس الرابع عشر أن كل عظمة عصره معلقة في كفة الميزان، وأن النزاع حول أسبانيا بات صراعاً من أجل قارات، فإنه هاب بفرنسا أن تبعث إليه بأبنائها وذهبها. وما وافى عام 1704 حتى كان لديه 450 ألف رجل مسلحين-قدر ما لدى أعدائه مجتمعين (54). وأملاً منه في التبكير بحسم هذا الصراع الباهظ التكاليف، أصدر أوامره إلى قواته الرئيسية بالتقدم عبر بافاريا الصديقة، ومهاجمة قلعة العدو الأخيرة، ألا وهي فيينا التي عجزت الحشود التركية نفسها عن الاستيلاء عليها. وانشغلت القوات الإمبراطورية في الشرق بعصيان مسلح وقع في المجر، وتركت عاصمتها مجردة من وسائل الدفاع تقريباً. وعلى حين كان مفروضاً أن يضيق جيش فرنسي بقيادة فيلروا الخناق على مالبرو في الأراضي الوطيئة، فإن القوات الفرنسية بقيادة مارسان وتللارد انضمت إلى قوات ناخب بافاريا، وأسرعت في التقدم إلى النمسا. ومرة أخرى هرب الإمبراطور من فيينا، كما حدث في 1683، إدراكاً منه بأن وقوعه في أيدي الأعداء لا بد أن يكون كارثة على موقف الحلفاء.
وفي هذه الأزمة، وعلى الرغم من توسلات الجمعية الوطنية الهولندية، ولكن بموافقة سرية من جانب هينسيوس، قرر مارلبرو أن يغامر بوقوع هولندا في يد فليروا، ويجد السير ليلاً ونهاراً من بحر
الشمال إلى الدانوب (مايو-يونيه 1704) لينقذ فيينا. وتظاهر بأنه يسعى لعبور الموزل، فسار جنوباً في محاذاة النهر، مغرياً فليروا بحركة موازية على الجانب الآخر. وفجأة عند كوبلنز انعطف شرقاً وعبر الراين على جسر عائم، وسار إلى مينز، وعبر المين إلى هيدلبرج، وعبر نهر نكر إلى راستاد، فأحدث الآن نقاط اتصال هامة مع الإمدادات القادمة من هولندا، ومع جيش إمبراطوري بقيادة يوجين سافوي، ومع جيش آخر بقيادة الحاكم العسكري لمنطقة بادن بادن-لويس وليم الأول-ودهش الفرنسيون والبافاريون ليجدوا مالبرو بعيداً عن المواقع التي كان من المتوقع أن يطبق عليه فليروا فيها. وجمع مارسان وتللارد وناخب بافاريا، 35 ألفاً من المشاة و18 ألفاً من الفرسان بين لوتزنجين وبلنهيم، على الضفة اليسرى للدانوب. وهناك في 13 أغسطس 1704 اشتبك معهم مارلبرو ويوجين بثلاثة وثلاثين ألفاً من المشاة وتسعة وعشرين ألفاً من الخيالة فيما تحاول فرنسا أن تنسى فيه معركة هوستاد وما تحتفل به إنجلترا باعتباره النصر في بلنهيم. واخترقت خيالة مارلبرو المتفوقة قلب القوات الفرنسية وساقت جيش تللارد المنهزم إلى بلنهيم، حيث استسلم الأثني عشر ألفاً الباقون منه على قيد الحياة، وأسر تللارد نفسه. ثم أسرع فرسان مارلبرو لنجدة يوجين، وكان في مأزق، إلى اليمين، وعاونوه حتى أجبر مارسان على التقهقر بانتظام، وكانت الخسارة في الأرواح جسيمة، اثني عشر ألفاً من الحلفاء، و14 ألفاً من الفرنسيين والبافاريين. وحطم استسلام سبع وعشرين كتيبة من المشاة واثنتي عشرة سرية من الخيالة سمعة القوات المسلحة الفرنسية. وفر ناخب بافاريا إلى بروكسل. واحتل الجيش الإمبراطوري بافاريا، وأخلى نحو ثلاثمائة ميل مربع تقريباً من الأرض من القوات الفرنسية، وعاد ليوبولد في أمان إلى عاصمته.
وفي 4 أغسطس سجل أسطول إنجليزي هولندي يوماً مشهوداً آخر في التاريخ باحتلاله صخرة جبل طارق المقفرة. وقد حولها الإنجليز إلى قلعة ضمنت لهم السيادة على البحر المتوسط لمدة قرنين من الزمان واستمرت الحرب تسع سنوات أخرى، دون أن يفطن أحد إلى أن هذين الإنتصارين قد حددا مصيرها. وفي 9 أكتوبر 1705 استولى
أسطول إنجليزي على برشلونة، وساند أحد جيوش الحلفاء ثورة قامت في قطالونيا ضد فيليب الخامس، وأقام الأرشيدوق كارل في مدريد ملكاً تحت اسم شارل الثالث (25 يونيه 1706). ولكن منظر النمساويين والإنجليز يحكمون البلاد أيقظ الأسبان من سباتهم الروحي، بل أن رجال الدين أنفسهم حرضوهم على المقاومة. وسلح الفلاحون أنفسهم بأحسن ما وصلت إليه أيديهم، وقطعوا خط مواصلات الحلفاء بين برشلونة ومدرية. وقاد دوق برويك الإنجليزي، وجيمس فتز جيمس الابن الشرعي لجيمس الثاني قوة فرنسية أسبانية من الغرب. استردت مدريد لفيليب الخامس (22 سبتمبر) وردت الأرشيدوق ومن معه من المهرطقين الإنجليز إلى قاطالونيا.
وفي تلك الأثناء، وبعد أن تغلب مالبرو على بعض العقبات السياسية في لندن ولاهاي، جمع هذا القائد جيشاً قوامه ستون ألفاً من الإنجليز والهولنديين والدنمركيين، وتقدم بالجيش الفرنسي الرئيسي المؤلف من 58 ألف جندي بقيادة فليروا عند رامييه بالقرب من نامور. وفي اشتداد وطيس المعركة، ناسياً أنه يجدر بالقواد أن يموتوا في فراشهم، اندفع إلى مقدمة الصفوف، فأسقط عن جواده. وبينما كان الضابط المرافق له يعاونه على امتطاء ظهر الجواد ثانية، اخترقت رأس الضابط قذيفة، واسترد مالبرو عافيته وأعاد تنظيم قواته، وقادها إلى نصر دام آخر. وبلغت الخسائر في جيشه خمسة آلاف رجل، وفي جيش الفرنسيين خمسة عشر ألفاً. وتقدم وسط مقاومة لا تذكر للاستيلاء على أنتورب وبروجز وأوستند. وهناك توفر له خط مواصلات مباشر مع إنجلترا، وكان على مسافة عشرين ميلاً فقط من فرنسا. وآوى فيلروا، وكان آنذاك في الثانية والستين، إلى ضيعته محزوناً، ولكن دون تأنيب من الملك الذي قال له في أسى وأسف "لن يواتينا الحظ بعد ذلك (55) ".
وفي كل مكان، باستثناء أسبانيا، كان الفرنسيون الآن في خطر، أو كانوا يتقهقرون. وفي فيينا خلف جوزيف الأول، وكان في السابعة والعشرين، أباه على عرش الإمبراطورية (1705)، وشد من أزر قواده بدرجة كبيرة. ورد يوجين سافوي الفرنسيين عن تورين
(1706)
وعن إيطاليا (1707). وبمقتضى اتفاق ميلان أصبحت دوقيتا ميلان ومانتوا جزاءاً من إمبراطورية النمسا، وانتهى حكم "جونزاجات مانتوا" الذي كان قد بدأ 1328. أما مملكة نابلي التي كان يحكمها نائب الملك الأسباني منذ عهد طويل، فقد ارتمت بدورها في أحضان النمسا، ولو أنها استمرت من الوجهة الشكلية ولاية بابوية، واحتفظت الولايات البابوية بأوضاعها بإذن من الإمبراطور الذي اخترقتها قواته الألمانية ضد إرادة البابا الذي لا حول له ولا قوة (56). واحتفظت فينيسيا وتسكانيا باستقلال مزعزع الأركان.
وكان لويس الرابع عشر رجلاً قد تغير. وكان غرور السلطان قد زال عنه تقريباً، ولكنه احتفظ بالوقار الهادئ لدولته. وفي 1706 عرض على الحلفاء شروطاً للصلح كان يمكن أن يتقبلوها فرحين مسرورين قبل خمس سنين، وبمقتضاها تترك أسبانيا للأرشيدوق كارل، ويكتفي فيليب بميلان ونابلي وصقلية، وتعاد مد الحدود والحصون إلى السيطرة الهولندية في الأراضي الوطيئة الأسبانية. وكان الهولنديين ميالين إلى التفاوض، ولكن الإنجليز والإمبراطور أبوا. وتولى لويس السأم والضجر، واتجه إلى تجنيد جيوش جديدة وفرض ضرائب جديدة، حتى التعميد والزيجات لا بد أن يدفع عنها ضريبة حتى تصبح قانونية. فلجأ الفرنسيون الذين أضناهم الفقر إلى تعميد أبنائهم وإلى الزواج دون طقوس دينية، ولو أن نتاج مثل هذا القران دمغ بأنه غير شرعي من الوجهة الرسمية (57).
وقامت الثورة في كاهور، وفي كرسي، وفي بريجور. واستولت جموع الفلاحين على الحكم في المدن، وعلى قصور الإقطاعيين. وصاحت الهياكل العظمية الحية أي أهالي الذين يتضورون من الجوع، عند أبواب قصر فرساي، مطالبين بالخبز، فصدهم الحرس السويسري. وظهرت اللافتات على الجدران في باريس منذرة لويس بأنه لا يزال في فرنسا رجال يريدون قتل الملك (58). ومنعت الضرائب الجديدة.
وفي أوائل 1707 نشر مركيز دي فوبان الذي كانت هندسته العسكرية عنصراً أساسياً في الانتصارات الفرنسية في الجيل الماضي،
نشر وهو في الرابعة والسبعين، "اقتراحاً بضريبة أعدل". وصف المركيز شقاء فرنسا وبؤسها: "أن عشر السكان تقريباً انحطوا إلى درجة التسول، أما غالبية التسعة الأعشار الباقية منهم فهم أقرب إلى تلقي الصدقات منهم إلى بذلها
…
يقيناً أن السوء قد بلغ أقصى مداه. فإذا لم يتخذ أي علاج فلسوف يقع الشعب في براثن فقر لا فكاك له منها أبداً". وذكر الملك بأن "الطبقة الدنيا من الشعب هي التي تثري الملك ومملكته بكدها وجدها، وإسهاماتها في الخزانة الملكية" ومع ذلك فإن "هذه الطبقة، نتيجة لمطالب الحرب وفرض الضرائب على مدخراتها، هي التي تعيش الآن في أسمال بالية وأكواخ متداعية، على حين توقفت الزراعة في أراضيها" لتغيب أبنائها الذين جندوا للحرب (59). ولإنقاذ هؤلاء الناس، وهم أعظم الطبقات إنتاجاً، اقتبس فوبان بعض أفكار بواجلبرت، فاقترح إلغاء كل الضرائب القائمة، والاستعاضة عنها بضريبة دخل تصاعدية لا تعفي منها أية طبقة، فيدفع ملاك الأرض ما بين 5 و10% ويدفع العمال ما لا يزيد عن 2 slash1 3%. وتحتفظ الدولة باحتكار المح، وتفرض الرسوم الجمركية عند الحدود الوطنية فقط (60).
ويصف سان سيمون هذا الكتاب، وكيف استقبله الناس، فيقول:
كان الكتاب زاخراً بالمعلومات والأرقام، مرتبة بأقصى درجة من الوضوح والبساطة والدقة. ولكنه وقع في خطأ جسيم ذلك أن يبسط منهجاً لو اتبع لكان فيه دمار الجيش من الرأسماليين والكتبة والموظفين من كل الأنواع، ولأرغمهم على أن يعيشوا على حسابهم بدلاً من العيش على حساب الشعب، وقوض أساس هذه الثورات الضخمة التي نراها تنمو وتزداد في وقت قصير. وكان هذا شبباً كافياً لسقوط هذا الكتاب .. وتعالت الصيحات من جانب أولئك الذين يهمهم معارضته
…
ولا عجب إذن، في أن الملك الذي يلتف حوله هؤلاء الناس، أصغى إلى حججهم، واستقبل المارشال فوبان أسوأ استقبال حين قدم إليه كتابه (61).
وأنبه لويس بأنه رجل حالم، قد يقلب مشروعه مالية البلاد رأساً
على عقب، وسط أزمة الحرب. وفي 14 فبراير 1707 صدر قرار من المجلس بمصادرة الكتاب وعرضه في مشهرة. وبعد ستة أسابيع مات المارشال العجوز، وقذفت في عضده وأحزانه ما أصاب من خزي وعار. وتفوه الملك ببعض كلمات عن أسف جاء متأخراً "فقدت رجلاً كان يحبني حباً شديداً كما يحب الدولة (62) ".
واستمرت الضرائب والحروب. وفي أغسطس 1707 انضم فكتور أماديس الثاني دوق سافوي-الذي كان قد بدأ حليفاً لفرنسا-إلى يوجين سافوي وأسطول إنجليزي في حصار طولون. براً وبحراً، حتى إذا سقطت في أيديهم عمدوا إلى مهاجمة مسيليا، فإذا سقطت هذه أيضاً لأصبحت فرنسا معزولة عن البحر المتوسط. وأعد جيش فرنسي جديد وأرسل ليصد الغزاة، وألح في صدهم، ولكن في هذه الحملة بات معظم أراضي بروفانس خراباً بلقعاً. وفي 1706 حشد الملك جيشاً قوامه ثلاثون ألفاً تحت قيادة مارشال فندوم. ودوق برجندي المحبوب ابن الدوفين. وسيره ليوقف تقدم الحلفاء في الفلاندرز فقابله سارلبرو ويوجين بجيش مماثل في العدد في أودينارد على نهر شلدت (11 يوليه 1708)، ودارت الدائرة على الفرنسيين وخسروا 20 ألفاً بين قتيل وجريح، كما أسر منهم سبعة آلاف. وأراد مارلبرو التقدم إلى باريس، ولكن يوجين أقنعه بمحاصرة ليل أولاً، حتى لا تقطع حاميتها خط مواصلات الحلفاء وإمداداتهم. وسقطت ليل بعد حصار دام شهرين، بخسارة في الأرواح قدرها خمسة عشر ألفاً.
وأحس لويس بأن فرنسا لم تعد قادرة على مواصلة القتال. وزاد من بؤس الشعب وشقائه أن شتاء 1708 slash1709 كاد أقسى شتاء وعته الذاكرة، وتجمدت النهار طيلة شهرين، بل تجمدت مياه البحر على طول الشواطئ، إلى أن العربات ثقيلة الأحمال كان تسير في أمان فوق جليد المحيطات (63). وهلكت كل المزروعات بما في ذلك أقدر أشجار الفاكهة على احتمال قسوة المناخ، وكل الحبوب في الأرض. كما مات في هذا الفصل القاسي معظم الأطفال الحديثي الولادة (64). باستثناء ابن حفيد الملك، لويس الخامس عشر فيما بعد، الذي ولد لدوق ارجندي في 15 فبراير 1709. وفي أعقاب ذلك جاءت المجاعة في الربيع والصيف، واختزن المحتكرون الخبز واحتفظوا له بسعر
عال. ويذكر سان سيمون، وهو عادة لا يحب الملك، أن لويس نفسه كان متهماً باقتسام مغانم الاحتكارات (65). ولكن هنري مارتن يقول "أن التاريخ يروي كثيراً إلى حد أنه لا يسلم بالوصف البغيض الكئيب الذي أورده سان سيمون دون شيء من الريبة"(66). وأنقذ الموقف باستيراد 12 مليون كيلو جرام من الحبوب من دول المغرب العربي وغيرها، وزراعة الشعير بمجرد ذوبان الثلوج وعودة الدفء إلى الأرض (67).
وأحس لويس الرابع عشر بالذلة والهوان بسبب هزائم جيوشه ونكبات شعبه، فأرسل في 22 مايو 1709 المركيز دي تورس إلى لاهاي، يطلب الصلح. وكان دي تورسي مزوداً بالتعليمات ليعرض النزول عن كل الإمبراطورية الأسبانية إلى الحلفاء، وعن نيوفونلند إلى إنجلترا، وإعادة مدن الحدود إلى الهولنديين، والتخلي عن تأييد حق آل ستيورات في العرش. وحاول المركيز أن يرشو مالبرو، فأخفق (68). وفي 28 مايو قدم الحلفاء إلى دي تورسي إنذاراً نهائياً يطالبون فيه، لا بمجرد التنازل عن كل أسبانيا وممتلكاتها للأرشيدوق، بل كذلك يطالبون بانضمام الجيش الفرنسي إلى قوات الحلفاء في طرد فيليب من أسبانيا إذا لم يكن قد غادرها في بحر شهرين، وإلا، (كما قدروا) تركت فرنسا حرة في إعادة تنظيم قواتها الضاربة أثناء انشغالهم في شبه الجزيرة. وأجاب لويس بأنه يعز عليه أن يطلب منه استخدام القوة لطرد حفيده من أسبانيا التي كانت قد هبت من فورها لمساندة فيليب. وقال "إذا كان لا بد من مواصلة القتال، فل أقاتل أعدائي، لا أبنائي (96) ".
وأثارت مطالب الحلفاء شعور الاستياء في فرسنا. وانضم الرجال عن طيب خاطر إلى القوات المسلحة، وكان كل همهم أن يجدوا الطعام، وأرسل النبلاء ما لديهم من فضة إلى دار سك العملة، وراوغت السفن الفرنسية الإنجليز الهولنديين، وأحضرت من أمريكا سبائك تقدر قيمتها بثلاثين ملويناً من الفرنكات. وحشد جيش جديد قواته تسعون ألفاً، وضع تحت إمرة فللار الذي لم يتمكن الحلفاء من هزيمته من قبل. وفي الوقت نفسه جمع مالبرو مائة وعشرة آلاف جندي. والتقى الجمعان في مالبلاكيه (على الحدود المواجهة لبلجيكا) في أعنف
معركة في القرن الثامن عشر. وفقد مارلبرو 22 ألف رجل في انتصاره الأخير، وخسر الفرنسيون 12 ألفاً، من بينهم فللار الباسل، الذي كان في السادسة والخمسين، واندفع على رأس قواته، ثم حملوه من الميدان وقد بترت إحدى ركبتيه قذيفة مدفع. وتقهقر الفرنسيون بانتظام واتجه الحلفاء للاستيلاء على مونز. وكتب مارلبرو إلى زوجته يقول "الحمد لله والشكر لله، أن في مقدورنا الآن أن نحصل على الصلح الذي نريده (70) ".
ويبدو أن الأمر كان كذلك. فمن الواضح أن فرنسا كانت قد بذلت أقصى ما في جعبتها، فمن أين لها بجيش ثان من بين أسراتها المنهوكة التي استنزفت دماء أبنائها، وكيف تطعمه وحقولها مهجورة مقفرة؟. لقد عمت الفوضى الزراعة والصناعة والنقل والتجارة والمالية-لقد أصاب كل هذا المرافق دمار وانحلال، يهيئان للأعداء المتقدمين احتلال فرنسا وتمزيق أوصالها. أن الملك الذي كان يوماً معبود الشعب "الذي بعثه الله إليهم" بدأ يفقد حبهم بل احترامهم له. أنه كان ينأى بنفسه عن باريس، لأنه لن تغب عن ذاكرته جماعة الفروند المعادية، واستاءت المدينة لطول نفوره منها وتباعده عنها، وما أشد ما استهجنت النكات والشتائم والنشرات واللافتات كبرياءه الاستبدادية استهجاناً لاذعاً (71). وتساءل الناس متعجبين، كيف تكتظ قاعات فرساي، وسط إملاق فرنسا وعوزها، برجال الحاشية المقامرين الخاملين المترفين، على حين أن الملك وزوجته قد ركنا إلى شيء من التقوى وكبح جماح النفس. "ولم تخفض نفقات الحاشية ولم ينقص عدد موظفيها حتى النهاية (72) ". وأنشد بعض الباريسيين الذين لا يجدون الخبز رواية معدلة من "دعاء الرب"، لم يستثنوا فيها لويس ولا زوجته ولا وزير خارجيته وماليته الجديد:
يا إلهنا الذي في فرساي، لم يعد أسمك يقدس، ولم تعد مملكتك عظيمة، ولم تعد مشيئتك تنفذ في البر والبحر، أعطنا الخبز الذي نفتقد في كل مكان، اغفر لأعدائنا الذين قهرونا، لا لقوادك الذين هيئوا لهم لأن يفعلوا ذلك. لا تستسلم لكل إغواءات لامينتنون، ولكن خلصنا من شاميللارد (73).
وقالت مدام مينتنون ترثى لحال الملك: "أنهم يلومونه ويؤنبونه بسبب نفقاته، أنهم يودون الاستغناء عن جياده وكلابه وخدمه .... أنهم يريدون أن يرجموني بالحجارة لأنهم يتصورون أني لا أبلغه شيئاً كريهاً خشية إيلامه (74) ".
وكان النبلاء لا يزالون على ولائهم للملك الذي أكرمهم وحماهم، ولكن وطنيتهم تزعزت، حين طالب الملك، كآخر سهم في جعبته، بعشر دخولهم (1710). أن الضريبة العامة التي اقترحها فوبان قبل ذلك بثلاثة أعوام لتحل محل كل الضرائب الأخرى، أضيفت الآن إلى سائر الضرائب. وكان للفقراء بعض العزاء في أن يروا جباة الضرائب الكريهون يدخلون بيوت الأغنياء لفحص حساباتهم. وكره الملك أن يقحم الخزائن السرية الخاصة، ولكن قسيس اعترافه، الأب تلييه، أكد له أن من رأي أساتذة السوربون "أن كل ثروة رعاياه ثروته، فإذا أخذها فكأنما يستولي على شيء يخصه (75) ". وبالمثل عانت الطبقات الوسطى العليا شيئاً من الخلخلة في الحماسة العسكرية، حيث أنقطع دفع الفوائد عن السندات الحكومية. وقال سان سيمون:"أن إعادة سك العملة وتخفيض قيمتها: أتاحا للملك بعض الأرباح، ولكنهما جلبا الدمار على أناس بعينهم، كما أديا إلى الخلل في التجارة مما كان فيه توقفها التام (76) ". وأعلن كبار رجال المصارف، مثل صمويل برنارد، الإفلاس، فأدى ذلك إلى تعطل كل العمال في ليون. "كان كل شيء ينهار شيئاً فشيئاً، واستنزفت المملكة بأسرها، ولم تدفع للجند رواتبهم، على أن أحداً لم يكن يتصور ماذا فعل بالملايين التي وصل إلى خزائن الملك (77) ".
وفي مارس 1710 عاد لويس فطلب إلى الحلفاء عقد الصلح، وعرض أن يعترف بالأرشيدوق ملكاً على أسبانيا، وألا يقدم أي عون لفيليب، بل أن يدفع بعض الأموال للعمل على خلعه، وأن يتخلى للحلفاء عن ستراسبورج، وبريزاخ، والالزاس وليل وتورني وايبر ومينن، وفورن ومبرج، ولكنهم لم يعرضوا عليه صلحاً، بل هدنة مدتها شهران، وكان على لويس بقواته الفرنسية وحدها دون أية مساعدة من أي جانب آخر، أن يطرد فيليب من أسبانيا، فإذا عجز عن تحقيق ذلك في فترة شهرين، استأنف الحلفاء القتال (78).
ونشر لويس هذه الشروط على شعبه الذي اتفقت كلمته على أنها شروط يستحيل قبولها.
وحشدت فرنسا، بطريقة ما جيوشاً جديدة، وعندما غزا الأرشيدوق أسبانيا مرة ثانية بقوات إنجليزية ونمساوية، وشق طريقه لإخراج فيليب من مدريد مرة أخرى، أرسل لويس لحفيده خمسة وعشرين ألف جندي بقيادة دوق فندوم. واستطاع الدوق بمساعدة المتطوعين الأسبان أن يهزم الغزاة في بريهوجا وفللافيكيوزا (ديسمبر 1710). وبهذا أعاد فيليب بشكل قاطع إلى عرشه، وبقيت أسبانيا تحت حكم البوربون حتى عام 1931.
وفي نفس الوقت كانت ريح السياسة تغير اتجاهها في إنجلترا. وكانت الملكة قد كتبت في 1706 "لست أطمع في شيء .. إلا أن أرى صلحاً مشرفاً، حتى إذا اقتضت مشيئة الله أن أفارق الحياة، وجدت كل الارتياح والطمأنينة في أن اترك بلدي المسكين وكل أصدقائي في سلام وهدوء (79) ". وكانت الملكة آن تلتزم سياسة الحرب تحت تأثير دوقة مارلبرو العنيفة الملتهبة حماسة، ولكن ضعف هذا التأثير الآن، وعزلت الملكة الدوقة (ساره) من خدمتها (1710)، وانحازت صراحة إلى "المحافظين"، وكان التجار والصناع والرأسماليين قد أفادوا من الحرب (80)، وأيدوا "الأحرار" صانعي الحرب. أما ملاك الأراضي فقد خسروا لأن الحرب أدت إلى زيادة في الضرائب وتضخم غي العملة، ومن ثم شجعوا الملكة في تطلعها إلى السلام. وفي 8 أغسطس عزلت جودولفين، مساعد مارلبرو الأيمن، ورأس هارلي وزارة من المحافظين. ومالت إنجلترا نحو السلام.
وفي يناير 1711 أرسلت الحكومة الإنجليزية إلى باريس سراً، قسيساً فرنسياً، هو الأب جولثييه الذي كان قد أقام في لندن زمناً طويلاً، وقصد إلى تورسي في فرساي، وسأله "هل تريد السلام؟ لقد جئتك بوسائل تحقيقه، مستقلاً عن الهولنديين (81) ". وتقدمت المفاوضات ببطء، وفجأة، وفي سن مبكرة بشكل يثير الدهشة، سن الثانية والثلاثين توفي جوزيف الأول (17 إبريل 1711) وأصبح الأرشيدوق إمبراطوراً يحمل أسم شارل السادس، ووجد الإنجليز والهولنديين الذين كانوا قد وعدوه بأسبانيا كلها، أنهم يواجهون، نتيجة لانتصاراتهم الباهظة
التكاليف، إمبراطورية هبسبرجية مترامية الأطراف، تهدد بالخطر الشعوب البروتستنانتية وحريتها، مثلها في هذا وذاك مثل إمبراطورية شارل الخامس. وهنا عرضت الحكومة الإنجليزية على لويس الاعتراف بفيليب ملكاً على أسبانيا ومستعمراتها الأمريكية، مع بعض شروط معتدلة نسبياً: منها الضمانات ضد اتحاد فرنسا وأسبانيا تحت تاج واحد، وحصون على الحدود لحماية المقاطعات المتحدة وألمانية من غزو فرنسا لها في المستقبل، وإعادة الفتوحات الفرنسية إلى وضعها السابق، والاعتراف بحق ارتقاء الملوك البروتستانت إلى العرش في إنجلترا، وطرد جيمس الثالث من فرنسا وتجريد دنكرك من السلاح، وتثبيت ملكية إنجلترا لجبل طارق ونيوفوندلند ومنطقة خليج هدسن، ونقل حق بيع الرقيق للمستعمرات الأسبانية في أمريكا، من فرنسا إلى إنجلترا. ووافق لويس على هذه الشروط مع تعديلات طفيفة. وأبلغت إنجلترا لاهاي أنها تحبذ عقد الصلح على هذه الأسس. ووافق الهولنديين عليها، أساساً صالحاً للمفاوضات، واتخذت الترتيبات لعقد مؤتمر للسلام في أوترخت. وعزل مارلبرو الذي كان يرى الحرب أكثر ربحاً (31 ديسمبر 1711) وعين مكانه جيمس بتلر، دوق أورمن الثاني، الذي زود بتعليمات تقضي بعدم الاشتباك في أي قتال إلا عند تلقي أوامر جديدة.
وعلى حين أنعقد المؤتمر في أوترخت (أول يناير 1712)، واصل القتال يوجين الذي اعتبر الشروط الإنجليزية للصلح خيانة لقضية الإمبراطورية. وتقدم يوماً بعد يوم ليهاجم خط الدفاع الذي أقامه فيللار المجد النشيط. وفي 16 يوليه أبلغت لندن أورمند أن إنجلترا وفرنسا وقعتا هدنة، وأنه يجب بناء على ذلك انسحاب قواته الإنجليزية إلى دنكرك. وامتثلت هذه القوات للأمر، ولكن الكتائب التي كانت تحت إمرة أورمند في القارة، اتهمت الإنجليز بأنهم آبقون هاربون من الجندية، ووضعت نفسها تحت قيادة يوجين. وكان لدى الأمير آنذاك نحو مائة وثلاثين ألفاً، ولدى فللار نحو تسعين ألفاً. ولكن في 24 يوليه انقض المارشال اليقظ على كتيبة قوامها اثني عشر ألفاً من الهولنديين عند دنين (بالقرب من ليل) وأبادها قبل أن يمكن يوجين من القدوم لنجدتها. وتراجع الأمير عبر الشلدت ليعيد
تنظيم جيشه الصعب الانقياد، وتقدم فيللار للاستيلاء على دواي ولي كزنوي، وبوشان، وتشجع لويس وفرنسا، لأن هذه كانت الانتصارات الفرنسية الوحيدة على الجبهة الشمالية، ولكنها، بالإضافة إلى انتصارات فندوم في أسبانيا أضفت قوة جديدة على المفاوضين الفرنسيين في أوترخت.
وبعد خمسة عشر شهراً من المراسم والشكليات والمناقشات، وقع أطراف النزاع، فيما عدا الإمبراطور، صلح أوترخت (11 إبريل 1713) وتنازلت فرنسا لبريطانيا عن كل ما وعدت به من قبل في المفاوضات التمهيدية، بما في ذلك احتكار تجارة الرقيق الرائجة، التي تعتبر وصمة عار ذلك العصر. وقدم العدوان القديمان تنازلات متبادلة عن رسوم الواردات، وأعاد الهولنديون لفرنسا ليل واير وبيتون، ولكنهم احتفظوا بالسيادة على كل الأراضي الوطيئة حتى يتم عقد الصلح مع الإمبراطورية، على حين يستولي ناخب بافاريا على شارلروا ولكسمبرج ونامور، وأعيدت نامور إلى دوق سافوي. واحتفظ فيليب الخامس بأسبانيا وأمريكا الأسبانية. ورفض ثم عاد فوافق (13 يوليه) على التخلي عن جبل طارق ومينو رقة لإنجلترا. وواصل يوجين سافوي القتال ضد البريطانيين لشعوره بالمرارة نحوهم لتوقيعهم صلحاً منفرداً. ولكن خزانة الإمبراطورية أصبحت خاوية، ونقص جيشه إلى 40 ألفاً، على حين كان فيللار يتقدم نحوه بمائة وعشرين ألفاً. وأخيراً قبل دعوة لويس الرابع عشر له للقاء فيللار لوضع شروط للصلح. وبمقتضى معاهدة راستات (6 مارس 1714) احتفظت فرنسا بالألزاس وستراسبورج، ولكنها أعادت إلى الإمبراطورية كل الفتوحات الفرنسية على الضفة اليمنى لنهر الراين، واعترفت بحلول النمسا محل أسبانيا في حكم إيطاليا وبلجيكا.
وبذلك حققت معاهدتا أوترخت وراستات أكثر قليلاً مما كان يمكن أن تحققه الدبلوماسية بالوسائل السلمية في 1701. وبعد ثلاثة عشر عاماً من القتل والإبادة والفقر والتخريب. ثبتت هاتان المعاهدتان خريطة أوربا لمدة ستة وعشرين عاماً، كما ثبتتها معاهدات وستفاليا لمدة جيل واحد بعد حرب الثلاثين عاماً. وكانت المهمة في كلتا الحالتين إقامة توازن القوى بين أسرتي هبسبرج والبوربون. وقد تم هذا بالفعل. وقام شبيه لهذا التوازن بين فرنسا وإنجلترا في أمريكا واستمر حتى نشوب حرب
السنين السبع (1756 - 1763).
وأهم الخاسرين في هذا النزاع الدموي حول الوراثة الأسبانية هما هولندا وفرنسا، لقد كسبت الجمهورية الهولندية أرضاً، ولكنها خسرت سيادة البحر، فلم تعد قادرة على مباراة لإنجلترا في حمولة السفن أو في فن الملاحة أو في الموارد أو في الحرب، أن انتصارها استنزفها وأنهكها، فبدأت تضمحل. كذلك ضعفت فرنسا إلى حد يكاد يكون خطيراً. لقد بقت على مرشحها لعرش أسبانيا، ولكنها أخفقت في الإبقاء على إمبراطوريته سليمة لم تمس، ودفعت ثمناً لهذا النصر القاتم الذي فقد بريقه، حياة مليون من أبنائها بالإضافة إلى ضياع سيادتها على البحار، وانهيار حياتها الاقتصادية بصفة مؤقتة. ولم تكن فرنسا لتفيق وتلتقط أنفاسها من عصر لويس الرابع عشر، قبل ظهور نابليون، ولكن لمجرد أن تعيد مأساة لويس.
أما الفائزان في الحرب فهما النمسا داخل القارة، وإنجلترا في كل مكان خارجها. فقد استولت النمسا آنذاك على ميلان ونابلي وصقلية وبلجيكا، وأصبحت أعظم قوة في أوربا حتى ارتقاء فردريك الأكبر العرش (1740). وفكرت إنجلترا في السيادة على البحار أكثر مما فكرت في التوسع في الأرض. وحصلت على نيوفوندلند ونوفا سكوشيا، ولكن كان تحكمها في طرق التجارة أكبر قيمة لديها. وأرغمت فرنسا على تخفيض رسومها الجمركية، وعلى أن تجرد من السلاح قلعة دنكرك وثغرها اللذين كانا يشكلان خطراً على السفن الإنجليزية. ويفضل جبل طارق في أسبانيا، وبورت ماهون في مينورقة استطاعت إنجلترا أن تسيطر على البحر المتوسط. ولم يكن لهذه المكاسب مشهد مثير في 1713، ولكن كان لا بد أن تدون نتائجها في تاريخ القرن الثامن عشر. وفي نفس الوقت أمنت العقيدة البروتستانتية وارتقاء البروتستانت إلى العرش شر العوادي، اللهم إلا نسبة المواليد.
وثمة نتيجة هامة للحرب، تلك هي اشتداد الروح القومية، وروح الكراهية بين الدول، حيث نسيت كل أمة مكاسبها وتذكرت جراحها. فما كان لألمانيا أن تغفر اجتياح البالاتينات وتخريبها مرتين. ولم تكن فرنسا لتنسى بسرعة المذابح التي لم يسبق لها مثيل في انتصارات
مارلبرو، وكانت أسبانيا تعاني كل يوم عار وقوع جبل طارق في أيد أجنبية. وباتت كل أمة ترقب أن تحين الفرصة للانتقام.
أن بعض ذوي النفوس الكريمة الذين اعتقدوا أن أوربا قارة المسيحيين راودهم حلم الوصول إلى بديل عن الحرب. وكان شارل كاسل، من رهبان كنيسة القديس بطرس قد رافق الوفد الفرنسي إلى وترخت، فلما عاد نشر خطة لتثبيت دعائم السلام الجديد، وتمنى لو أن أمم أوربا أتيح لها أن تتحد في "عصبة أمم" مع مؤتمر دائم من المندوبين عنها، ومجلس للتحكيم في النزاع، ونظام لقانون دولي، وقوة مسلحة مختلطة للوقوف في وجه أية دولة متمردة، وتخفيض أي جيش وطني إلى ستة آلاف رجل، وإيجاد مقاييس وعملة موحدة تستخدم في كل أنحاء أوربا (82). وقدم الراهب مشروعه إلى ليبنتز، الذي لم يعد يثق بأن هذا أفضل العوالم الممكنة، فذكر الراهب "بأن ثمة قدراً مشئوماً يعترض دوماً طريق الإنسان إلى تحقيق سعادته (83) " فالإنسان حيوان نزاع إلى المنافسة، وخلقه هو قدره.
6 - أفول نجم الإله
1713 -
1715
أن لويس الرابع عشر، لو حكمنا عليه بمعايير عصره، لم يكن الغول البشع، الذي صوره المؤرخون المعادون، وكل الذي أقترفه هذا الملك هو أنه طبق على نطاق أوسع، ولفترة من الزمن، مع نجاح بغيض، نفس أساليب الحكم المطلق والتوسع الإقليمي، والغزو العسكري التي تميز بها سلوك أعدائه ومطامعهم، بل أن وحشية جيوشه في البالاتينات كانت لها سابقة في أعمال السلب والنهب في مجدبرج (1631)، وخاتمة في مذابح مارلبرو. على حين أن لويس تميز بأنه قد امتد به الأجل حتى تثأر منه في شخصه، لا في أبنائه، "ربات الانتقام" لكل ما جنى عليه غروره وصلفه وسلطانه من آثام.
ولم يبخسه التاريخ حقه في شيء من الإعجاب بما أبدى من شجاعة ووقار عند هزيمته، كما استشعر شيئاً من الإشفاق عليه في الكوارث التي دمرت تقريباً أبنائه وجيوشه وأساطيله في وقت معاً. وفي 1711 مات ابنه الشرعي الوحيد "الدوفين الأكبر" لويس، تاركاً وراءه الملك وحفيدين صغيرين لويس دوق برجندي، وشارل دوق بري. وتحلى
لويس الأصغر بمناقب عظيمة بفضل رعاية فنليون وسهره على تربيته وتهذيبه، وأصبح عزاء الملك وسلواه في شيخوخته. وفي 1697 تزوج لويس الأصغر من ماري أدليد سافوي، التي ذكر جمالها وذكاؤها ومفاتنها، الملك بمدام هنريتا وشبابه السعيد معها. ولكن في 12 فبراير 1712 أودت الحمى المتقطعة بهذه الروح المرحة في سن السادسة والعشرين. وأبى زوجها المخلص أن يتخلى عن سير مرضها، فانتقلت إليه العدوى، ومات بنفس المرض في 18 فبراير وهو في سن التاسعة والعشرين، بعد وفاة أبيه بعام واحد. وانتقلت العدوى منهما إلى طفليهما، ومات أحدهما في 8 مارس في سن الثامنة، أما الأصغر فقد بقي على قيد الحياة، في حالة من الضعف والهزال لم يكن أحد يحلم معها بأنه سيعيش ليحكم فرنسا حتى 1774 باسم لويس الخامس عشر. ولو أن هذا الصبي الهزيل قضى نحبه لكان وريث العرش شارل دوق بري، ولكن شارل توفي 1714.
وكان ثمة خليفة آخر يمكن أن يوؤل إليه العرش-هو فيليب الخامس ملك أسبانيا الابن الأصغر للدولفين الأكبر، ولكن نصف أوربا تعهد بالحيلولة بينه وبين الجمع بين التاجين. وكان يليه في ترتيب الوراثة، فيليب دوق أورليان حفيد لويس الثالث عشر، وابن أخي الملك وزوج ابنته. ولكن فيليب هذا كان له معمل واصل فيه تجاربه في الكيمياء. ولذلك تناقل الناس اتهامه بدس السم لدوق ودوقة برجندي وابنهما الأكبر. وقد اختلف الأطباء حول استخدام السم، واستشاط فيليب غضباً لهذه الشبهات، وطلب إلى الملك أن يقدمه لمحاكمة علنية، واعتقد لويس أنه بريء، وأبى تعريضه للمحاكمة والتعذيب حتى تثبت براءته أو إدانته، وأن يلحق به هذا العار.
وكان ثمة ملجأ أو حل أخير، إذا أخفقت فروع الوراثة هذه. وذلك أن الملك كان قد أضفى الشرعية على ابنيه غير الشرعيين دوق مين وكونت وف تولوز. وفي ذاك الوقت (يوليه 1714) أصدر الملك مرسوماً سجله برلمان باريس دون معارضة، ينص على أنه في حالة عدم وجود أمراء يجري في عروقهم الدم الملكي، يكون لهذين الابنين غير الشرعيين سابقاً حق وراثة العرش. وبعد سنة من ذلك، أصدر
مرسوماً آخر بمساواتهما في الرتبة من الوجهة القانونية بالأمراء الشرعيين، وكان لهذا القرار وقع الصاعقة على سان سيمون والنبلاء الآخرين (84)، وكانت أمهما مدام دي مونتسبان قد ماتت، ولكن أمهما بالتنشئة، زوجة الملك، أحبتهما مثل أولادها. واستخدمت نفوذها للنهوض بهما في مراقي الشرف والسلطة والجاه.
وفي غمرة هذه المشاكل وفقدان الأولاد، واجه لويس الأزمة الأخيرة في الحرب. وعندما كان يودع فيللار الذي كان في طريقه لملاقاة يوجين الذي كان يتقدم إلى جبهة بلجيكا، انهارت فجأة قوى الملك الذي كان آنذاك في الرابعة والسبعين، وهو يقول "أنت ترى الآن حالي أيها المارشال، ليس ثمة إلا أمثلة قليلة لما أصابني-أفقد في نفس الشهر حفيدي وحفيدتي وابنهما وكانوا جميعاً واعدين مبشرين بحسن المستقبل، وكم كنت أحبهم. أن الله يعاقبني، وأنا استحق العقاب، سيخف عذابي في الدار الآخرة". ولما أفاق استطرد يقول: "فلنطرح جانباً المآسي والنوائب المنزلية، لنرى كيف نتفادى كوارث المملكة. أني أعهد إليك بقوات الدولة وبتخليصها. قد لا يحالفك الحظ، فإذا حلت الكارثة بالجيش الذي تتولى قيادته، فماذا في رأيك هي الخطة التي انتهجها أنا شخصياً؟ " ولم ينبس فيللارد ببنت شفة. فقال الملك "لا يدهشني ألا تجيبيني على الفور. وفيما انتظر أن تفصح لي عن رأيك، أبلغك أنا رأيي. أني أعرف تفكير رجال حاشيتي، إنهم جميعاً تقريباً يريدونني أن آوى إلى بلوا (مدينة في أواسط فرنسا على نهر اللوار) إذا حلت الهزيمة بجيشي. أما بالنسبة لي، فأنا أعلم، أن جيوشاً بمثل هذه الضخامة لا يمكن أبداً أن تنهزم إلى الحد الذي لا يستطيع معه الجزء الأكبر منها أن يرتد إلى السوم. وهو نهر من الصعب عبوره، وينبغي أن أذهب إلى بيرون أو سانت كنتان، وأجمع هناك كل ما أستطيع جمعه من قوات، وأبذل معك محاولة أخيرة، فأما هلكنا معاً أو أنقذنا الدولة (85) ".
وخدع انتصار فيللار في معركة دنين الملك بالأمل في ميتة بطولة. ولكنه بقي على قيد الحياة بعد المعركة بثلاثة أعوام، وبعد الصلح بعامين. وفيما عدا الناصور الشرجي الذي شفي منه منذ فترة طويلة، ظل الملك يتمتع بالصحة إلى حد معقول لمدة سبعين عاماً. ولم
يعتدل في مأكله، ولكنه لم يصبح بديناً قط. ولم يسرف في الشراب، ولم يهمل القيام بتمرينات رياضية قوية في الهواء الطلق، إلا لأيام قلائل، حتى في الشتاء القارس 1708 - 1709. ومن العسير أن نجزم بأنه كان يمكن أن يعمر أطول مما عاش، إذا كان عدد أطبائه أقل مما كان عليه، أو أن الأدوية المسهلة والفصد وامتصاص العرق وغير ذلك مما استخدموا في علاجه، كانت أسوأ أثراً من الأمراض التي قصدوا إلى إنقاذه منها. وفي 1688 أعطاه أحد الأطباء دواء مسهلاً قوياً إلى حد أن مفعوله ظهر إحدى عشرة مرة في ثمان ساعات، أحس بعدها بشيء من التعب، كما قالوا (86). وعندما رسم ريجو في 1701 الصورة المتألقة في اللوفر، فإنه أبرز لويس وكأنه لا يزال متغطرساً مزهواً بالقوة والنصر والغلبة والملابس الرسمية، والشعر الأسود المستعار الذي يخفي المشيب، والوجنات المنتفخة التي تنم على الشهوة، وبعد ذلك بسبع سنين أبرزه كويسفوكس في التمثال الضخم في نوتردام، راكعاً يصلي، ولكن لا يزال أشد شعوراً بالملكية منه بالموت، وربما كساه الفنانون بزهو واعتداد بالنفس أكثر كمما أحس هو به، لأنه كان قد تعلم في سنوات الخيبة والإخفاق والمحن المتفاقمة، أن يتقبل اللوم والعتاب في شيء من التواضع والخضوع، على الأقل من مينتنون (87). وأصبح كالطفل بين يدي يسوعي متعصب هو تلييه الذي كان قد خلف الأب لاشيز "كاهن الاعتراف للملك" في 1709. "أن خليفة شارلمان طلب الصفح عن خطاياه من ابن أحد الفلاحين (88) " وارتفعت إلى السطح المبادئ القوية للكثلكة والتقوى التي كان قد تلقاها من أمه، حين انحسرت الآن الأهواء والعواطف، وفقدت العظمة بريقها. وراجت شائعة بأن الملك في موجة تبتله كان قد انتسب إلى جماعة اليسوعيين في 1705، وأضافت أنه في مرضه الأخير أخذ على نفسه العهد الرابع أن يكون عضواً كامل العضوية في "جماعة يسوع (89) ".
وفي يناير 1715 فقد الملك شهيته المعهودة، واشتد توجعه بشكل واضح إلى حد المراهنة في هولندا وإنجلترا على أنه لن يعيش عامه (90) فلما قرأ قصاصات الأنباء عن هذا الرهان سخر منها وظل على منهجه المعتاد في حضور المؤتمرات واستقبال السفراء وعرض الجند والصيد،
وكان يختم يومه مع زوجته المخلصة المنهوكة مينتنون، وهي آنذاك في التاسعة والسبعين. وفي 2 أغسطس كتب وصية عين بمقتضاها دوق مين وصياً على لويس الخامس عشر، وعين الدوق رئيساً لمجلس وصاية يتولى حكم فرنسا حتى يبلغ الصبي رشده. وفي 12 أغسطس انتشرت القروح في ساقه وتسممت (أصيبت بالغنغرينا) وأصبحت كريهة الرائحة، وانتابته الحمى ولزم الفراش وفي 25 أغسطس كتب ملحقاً للوصية عين فيه فيليب أورليان رئيساً لمجلس الوصاية. على أن يكون له الصوت المرجح عند انقسام الآراء. وقال لاثنين من القضاة تسلما الوثيقة:"لقد كتبت وصية، أنهم- (ربما كان يقصد مينتون ودوق ودوقة مين وأنصارهم) ألحوا عليّ في كتاباتهم، وكان لزاماً أن اشتري راحتي. ولكن لن يكون لها أية قيمة بمجرد أن ألفظ أنفاسي الأخيرة. أنني أعلم جيداً ماذا كان من أمر وصية والدي (91) ". وقدر لهذه الوصية المضطربة أن تكتب فصلاً في التاريخ الفرنسي.
ومات لويس "ملكاً" تكلله كل مظاهر الملكية. وبعد تناول الأسرار المقدسة وجه إلى رجال الدين الذين أحاطوا بسريره، اعترافاً إضافياً لم يقابلوه بالترحيب:
يؤسفني أن أترك شئون الكنيسة في وضعها الراهن. أني أجهل الموضوع جهلاً تاماً كما تعلمون. وأني لأدعوكم لتكونوا شهداء على أني لم أفعل إلا ما أردتم أنتم، وأني فعلت كل ما أردتم، وستقفون أنتم بين يدي الله لتجيبوا عن كل ما تم عمله. أني أحملكم مسئولية هذا أمام الله. أن لي ضميراً نقياً. وما أنا إلا جهول أسلمت نفسي لتوجيهكم (92). ثم وجه الحديث إلى رجال حاشيته:
أيها السادة، أسألكم الصفح عن المثل السيئ الذي ضربته لكم. وينبغي أن أقدم لكم أجزل الشكر على الطريقة التي خدمتموني بها، على الإخلاص الذي ظهرتموه دائماً. وأرجوكم أن تقدموا نفس الغيرة والإخلاص اللذين منحتموني إياها لحفيدي، أنه صبي قد يكون أمامه أن يعاني كثيراً. وكل أملي أن تعملوا جميعاً من أجل الاتحاد. فإذا قصر أحد في هذا فعليكم أن تحاولوا رده إلى جادة الصواب والواجب. أني الحظ أني أترك لمشاعري العنان فتستبد بي، أني أسبب لكم شيئاً من الضيق، فاغفروا لي هذا كله. وداعا
أيها السادة، أنا واثق أنكم ستذكرونني أحياناً (93).
وطلب إلى دوقة فنتادور إحضار حفيده وكان في سن الخامسة، فقال له، طبقاً لرواية الدوقة: -
أي بني، انك ستصبح ملكاً عظيماً، لا تتبع مسلكي في البناء أو في الحرب، حاول، على العكس، أن تكون في سلام مع جيرانك. اترك ما لله لله، ووف بالتزاماتك نحو الله، واحمل رعاياك على تقديسه وطاعته، وحاول أن تخفف عن شعبك، وهذا ما لم أفعله أنا، لسوء الحظ. ولدي العزيز، أني أمنحك بركتي من كل قلبي (94).
والتفت إلى اثنين من الخدم رآهما يذرفان الدمع وقال "لماذا تبكيان، هل ظننتما أني مخلد (95)؟. ثم اتجه إلى مدام مينتنون ليعيد إليها شيئاً من الطمأنينة وقال: "لقد ظننت أن الموت أصعب من ذلك. أؤكد لك أنه ليس عملية فظيعة، أنه لا يبدو لي شاقاً مطلقاً (96) ". وطلب إليها أن تتركه، وكأنما كان يدرك أنها ستصبح بعد موته نفساً ضائعة وسط الوعي الطبقي السائد بين أفراد حاشيته. فآوت إلى جناحها، ووزعت أثاثها بين مرافقيها وخدمها، ورحلت إلى سان سير التي لم تبرحه حتى وفاتها 1719.
وكان الملك يتحدث في ثقة بالغة، ثم قضى ليلة طويلة في كرب شديد يعاني سكرات الموت وهو في النزاع الأخير، حتى وافاه الأجل في أول سبتمبر 1715، ومن سنوات عمره السبع والسبعين، قضى اثنين وسبعين عاماً على العرش، وهذا أطول حكم في تاريخ أوربا. أما رجال الحاشية القلقون على وظائفهم، فإنهم حتى قبل أن تحين اللحظة الأخيرة هجروه ليقدموا ولاءهم وإجلالهم إلى فيليب أورليان ودوق مين. واجتمع بعض اليسوعيين حول جثمانه ليقيموا بالطقوس المعهودة لمن مات من أبناء طائفتهم (97). وتلقى أهالي باريس نبأ موت الملك على أنه خلاص مبارك من حكم طال أكثر مما ينبغي، ورأى عظمته يلطخها البؤس والهزيمة. ولم يوفروا إلا القليل من مظاهر الأبهة والعظمة للجنازة التي سارت بجثمان أشهر ملك في تاريخ فرنسا إلى سان دنيس في 9 سبتمبر. قال فولتير "على طول الطريق رأيت خياماً صغيرة منصوبة يشرب فيها الناس ويغنون ويسمرون (98) " وكان دوكلاس آنذاك في الحادية عشرة، ولكنه تذكر فيما بعد "أن كثيراً من الناس بلغ من حقارتهم أنهم كانوا يصبون اللعنات والشتائم عند مرور النعش بهم (99) ".
وفي تلك اللحظة تذكر الباريسيون أخطاء الملك الراحل، وبدت لهم في وضح غطى على ما عداها. وأحسوا أن حبه للجاه والسلطان والعظمة قاد فرنسا إلى حافلة الخراب. وكرهوا غطرسته واعتداده بنفسه اللذين دمرا الحكم الذاتي المحلي، وركزا كل الحكم في إرادة واحدة لا يستطيع أحد أن يتحداها. ورثوا لملايين الفرنكات التي أنفقت وآلاف الأرواح التي أزهقت في تجميل فرساي، وصبوا اللعنات على إهمال الملك شأن عاصمته المشاغبة المتمردة. وأبهجت فئة قليلة لأن اضطهاد الجانسنيين قد يتوقف بعد موته، على أن أغلبية كبيرة ظلت تمتدح طرد الهيجونوت. وفي استرجاع الأحداث الماضية والتأمل فيها، كان واضحاً أن غزو هولندا في 1672، وغزو ألمانيا 1688، والتسرع في الاستيلاء على مدن الحدود في 1701، كانت كلها أخطاء جسيمة جلبت على فرنسا عداوة الكثيرين من كل جانب. ولكن كم من الفرنسيين كانوا قد استنكروا هذه الفتوحات، ونطقوا بكلمة حق في اجتياح البالاتينات؟ لقد كانت الأمة آثمة مدانة قدر إثم مليكها وإدانته، أنها لم تأخذ عليه جرائمه بل هزائمه. أنها، باستثناء بعض القساوسة، لم تشجب فسقه وفجوره وزناه. ولم تظهر تحمساً لإصلاحه الخلقي، أو تقواه أو إخلاصه لزوجته غير المتكافئة معه، ونسيت الآن أنه كان لعدة سنين قد زين سلطانه من اللطف والكياسة والإنسانية (100). وأنه إلى أن ركبه شيطان الحرب، كان يؤيد كولبير في تنمية الصناعة والتجارة في فرنسا، وأنه كان قد حمى موليير من المتعصبين، وراسين من عصابات المتآمرين، وأن إسرافه في الإنفاق لم يكن لحساب ترفه وبذخه فحسب، بل أنه كذلك هيأ به لفرنسا تراثاً ضخماً من الفن.
أن ما اختلج في أعماق الشعب بشكل أوقع وأعدل، هو ما كانوا قد دفعوه من دمائهم وأموالهم، ثمناً لمجد تقوضت أركانه بموت الملك وإفقار فرنسا وخرابها. فندر أن وجدت في الأمة أسرة لم تفقد أحد أبنائها في الحروب، ونقص عدد السكان إلى حد باتت معه الحكومة تقدم جوائز للوالدين الذين لديهم عشرة أبناء. وكانت الضرائب قد خنقت الحافز الاقتصادي، كما سدت الحرب منافذ التجارة، وأغلقت الأسواق الأجنبية في وجه البضائع الفرنسية، ولك تكن الدولة مفلسة فحسب، بل كانت كذلك مدينة بنحو ثلاثة آلاف مليون من الفرنكات (101). وضاع ما كان للنبلاء من نفع وأثر، حين انصرفوا عن الإدارة المحلية إلى التسكع في أروقة البلاط، ولم يتألقوا إلا في ملابسهم الثمينة وبسالتهم العسكرية. وظهرت طبقة جديدة من النبلاء
عن طريق بيع الألقاب بالجملة لعامة الناس. وفي سنة واحدة منح الملك لقب النبالة لخمسمائة شخص مقابل ستة آلاف جنيه دفعها كل منهم، وبذلك أصبح أبناء البيوتات العريقة أتباعاً لأبناء رقيق الأرض. وما لم تعد الحرب صراعاً بعيداً بين المرتزقة والمجادلين، بل اختباراً مضنياً مزعجاً للموارد والاقتصاديات ورجل الدين، وازدهر الرأسماليين وسط الاضمحلال العام. ذلك أنك تجد في الدول الحديثة أن الرجال الذين يستطيعون أن يسوسوا الناس، لا يسوسون إلا من يستطيعون أن يدبروا الأمور، وأن يستطيعون تدبير المال يسوسون الجميع.
وفي حكمنا على لويس الرابع عشر ينبغي أن نتذكر قولة جوتة المأثورة الإنسانية، بأن رذائل المرء هي من تأثير عصره. على حين أن فضائله نابعة منه، أو كما أوردها الرومان في إيجاز متميز "الرذائل هي رذائل الزمان لا رذائل الإنسان (102) " أن حكمه الاستبدادي المطلق، والتعصب الذي حدا به إلى الاضطهاد والتعذيب، والتلهف على السلطة والميل للحروب، ركبت كلها فيه باعتباره ابناً لعصره ولكنيسته. أما كرمه وسخاؤه وشهامته وكياسته، وتقديره وتشجيعه للأدب والفن، وقدرته على احتمال أعباء حكومة مركزية بعيدة المدى، فهي كلها صفاته الشخصية التي جعلت منه ملكاً بكل معاني الكلمة. وكتب جوتة: أن الطبيعة أبدعت في لويس الرابع عشر نوعاً كاملاً من الطراز الأول للنمط الملكي، وبهذا أنهكت نفسها وحطمت القياس (103). وقال نابليون "كان لويس الرابع عشر ملكاً عظيماً، وهو الذي رفع فرنسا إلى المرتبة الأولى بين الأمم. وأي ملك من ملوك فرنسا منذ عهد شارلمان يمكن أن يقارن به في كل نواحيه؟ (104) ". ومن رأي لورد أكتون أنه "كان إلى أبعد حد، أقدر من ولد في العصور الحديثة على درجات سلم أي عرش (105) ". لقد شن حروباً مدمرة، وسخر كبرياءه في إسراف في البناء والترف، وخنق الفلسفة، وأثقل كاهل شعبه بالضرائب إلى حد الإملاق والعوز، ولكنه هيأ لفرنسا حكومة منظمة، ووحدة وطنية، وعظمة ثقافية، بلغت بها مرتبة الزعامة التي لا نزاع فيها على العالم الغربي. وأصبح علماً على أسمى عهد زاهر لبلاده ورمزاً له. أما فرنسا التي تعيش على المجد والعظمة، فقد تعلمت أن تغفر له تدميره لها في سبيل أن يجعلها عظيمة.