المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الثاني   ‌ ‌فرنسا 1723 - 1756 - قصة الحضارة - جـ ٣٦

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الثاني

‌فرنسا

1723 -

1756

ص: 4

الفصل السابع

‌الشعب والدولة

كان عدد سكان فرنسا التي عاد إليها فولتير 1727، نحو تسعة عشر مليوناً من الأنفس، مقسمة إلى ثلاث طبقات: رجال الدين والنبلاء، ثم الطبقة الثالثة التي تضم بقية الشعب. وإذا أردنا أن نفهم الثورة الفرنسية فلا بد لنا من أن ندرس كل طبقة منها دراسة دقيقة.

‌1 - النبلاءُ

أطلق السادة الإقطاعيون الإقليميون الذين استمدوا ألقابهم من الأرض التي امتلكوها (وهي ربع أرض فرنسا تقريباً) على أنفسهم اسم "نبلاء السيف". وكانت مهمتهم الرئيسية أن ينظموا ويتولوا قيادة الدفاع عن سيادتهم وعن إقليمهم وعن وطنهم وعن ملكيهم. وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر ترأس هؤلاء النبلاء نحو ثمانين ألف أسرة ضم نحو أربعمائة ألف من الأنفس (1). وكانوا شيعاً أو طبقات متحاسدة، أعلاها طبقة ذرية الملك الذي يتربع في دست الحكم وأولاد أخوته وأخواته. ويلي هؤلاء في منزلة أدنى، طبقة أشراف فرنسا: وتضم الأمراء من أبناء الملوك السابقين، ثم سبعة أساقفة وخمسين دوقاً. ويأتي بعد ذلك الأدواق الأقل شأناً، ثم الحاصلون على لقب مركيز، ثم لقب كونت، ثم لقب فيكونت، ولقب بارون وشيفالييه (نبيل من الدرجة الدنيا). وكانت ثمة امتيازات رسمية تميز هذه السلسلة من المراتب بعضها عن بعض. ومن هنا كان نزاع حاد فاجع حول حق السير تحت المظلة في مواكب عيد القربان أو حق الجلوس في حضرة الملك.

ومن بين نبلاء السيف هؤلاء، تعقبت أقلية منهم أصول ألقابها وممتلكاتها عبر عدة أجيال، واختصت نفسها باسم "النبلاء ذوي المحتد الكريم"،

ص: 6

ونظروا فيها بعين الازدراء إلى النبلاء الذين حصلوا على لقب النبالة عن طريق أسلاف حديثي العهد، أو حصلوا عليه هم أنفسهم في عهد لويس الثالث أو لويس الرابع عشر. كما أن بعض هذه الألقاب كانت تمنح لقاء خدمات للدولة في الحرب أو في الإدارة أو في التمويل، كما أن بعضها كان يبيعه الملك المعظم المعوز الراحل، مقابل ستة آلاف جنيه، وبهذه الطريقة، كما قال فولتير، "حصل عدد كبير من المواطنين-رجال المصارف والجراحون والتجار والكتبة وخدم الأمراء-على براءة النبالة (2) " وثمة مناصب حكومية معينة، مثل منصب المستشار أو كبير القضاة، كانت تضفي على شاغليها لقب النبالة تلقائياً. وفي عهد لويس الخامس عشر كان في مقدور أي رجل عادي أن يحصل على النبالة بشراء حق تعيينه وزيراً مقابل مائة وعشرين ألف جنيه. وفي عهد لويس السادس عشر ربما كان هناك نحو تسعمائة وزير وهمي أو صوري من هذا الطراز. كما أنه كان في الإمكان شراء اللقب بشراء ضيعة أحد النبلاء. ويحتمل أنه في 1789، كان نحو 59%، من مجموع النبلاء ينحدرون في الأصل من الطبقة الوسطى (3).

ووصلت غالبية هؤلاء إلى درجة كبيرة من الأهمية ورفعة الشأن عن طريق دراسة القانون، ومن ثم حصلوا على مناصب القضاء والإدارة. ومن بينهم كان أعضاء البرلمانات الثلاثة عشر التي كانت بمثابة دور قضاء في كبريات المدن في فرنسا، ولما كان يجوز للقاضي أو الحاكم ترك منصبه لابنه، فقد تشكلت أرستقراطية وراثية-هم نبلاء الرداء (الروب). وكان الرداء بالنسبة لرجل القضاء، كما هو بالنسبة لرجل الدين، يمثل نصف السلطة أو السيادة. وكان أعضاء البرلمانات وهم يرفلون في أرديتهم القرمزية، وعباءاتهم الثقيلة والأكوام ذات الأهداب والشعور المستعارة المضمخة والقبعات ذات الريش، يجيئون في مرتبة أدنى من الأساقفة ونبلاء الأرض. ولكن حيث أن بعض الحكام والقضاة أصبحوا، عن طريق الرسوم القانونية التي كانوا يتقاضونها، أكثر ثراء من معظم ملاك الأرض

ص: 7

ذوي الحسب والنسب، فقد تحطمت الحواجز بين نبلاء السلاح ونبلاء الرداء وما وافى عام 1789 حتى كان ثمة اندماج كامل تقريباً بين الطبقتين. وبلغت الطبقة التي تكونت عندئذ من وفرة العدد والقوة مبلغاً لم يستطع الملك معه أن يقف في وجهها أو يقاومها، وزعماء الثورة وحدهم هم الذين استطاعوا أن يقضوا على هذه الامتيازات الباهظة التكاليف.

وانتاب الفقر كثيراً من النبلاء القدامى بسبب الإهمال في إدارة ممتلكاتهم أو تغيبهم عنها، أو بسبب أتباعهم أساليب متخلفة في زراعتها، أو إنهاك التربة، أو خفض قيمة العملة التي كانوا يتقاضون بها إيجار الأرض أو الرسوم الإقطاعية. ولما كان المفروض ألا يشتغل النبلاء بالتجارة أو الصناعة، فإن نمو هذه وتلك خلق اقتصاداً قائماً على المال، قد يمتلك المرء في ظله أرضاً شاسعة ولكنه يظل فقيراً. وكان هناك في بعض أقاليم فرنسا مئات من النبلاء يعانون من الفقر مثلما يعاني الفلاحون (4). ولكن أقلية كبيرة من النبلاء تمتعت بثروات ضخمة وبذروا تبذيراً. فكان الدخل السنوي لمركيز دي فييت 150 ألف جنيه، ولدوق دي شفريز 400 ألف جنيه، ولدوق دي بويون 500 ألف جنيه. وأعفى معظم النبلاء من الضرائب المباشرة، إلا في حالة الطوارئ، حتى تصبح الحياة لديهم أكثر احتمالاً ويسراً. وخشي الملوك أن يفرضوا عليهم الضريبة حتى لا يطالبوا بدعوة مجلس الطبقات، فقد تفرض الطبقات الثلاث في مثل هذا الاجتماع بعض الرقابة على الملك ثمناً للموافقة على الاعتمادات أو الإعانات. قال توكفيل "كان عدم المساواة في الضرائب يعمل على التفرقة بين الطبقات في كل عام حيث أعفى الأغنياء وأثقل كاهل الفقراء (5) ". وفي عام 1749 فرضت على النبلاء ضريبة دخل قدرها 5% ولكنهم كانوا يفاخرون بالتهرب منها.

وقبل القرن السابع عشر كان نبلاء الأرض يقومون بمهام الاقتصاد والإدارة والحرب، وأياً كانت طريقة إحراز الممتلكات، فإن هؤلاء السادة نظموا تقسيم الأرض وفلاحتها، إما عن طريق الرقيق أو عن طريق عقود الإيجار، وسهروا على القانون، وقاموا بإجراءات المحاكمة وأصدروا

ص: 8

الأحكام، ونفذوا العقوبات، وتعهدوا المدارس والمستشفيات المحلية، ووزعوا الصدقات. وفي مئات من مناطق السيادة والنفوذ مارس السيد الإقطاعي هذه الوظائف والمهام، بالقدر الذي سمحت به الأنانية الطبيعية في الإنسان. وقد اعترف الفلاحون بانتفاعهم منه، ومن ثم فإنهم أطاعوه واحترموه وفي بعض الأحيان أحبوه.

وأدى عاملان أساسيان إلى تبديل هذه العلاقة الإقطاعية: تعيين الحكام أو المحافظين على عهد الكاردينال ريشيليو وما بعده، وتحويل لويس الرابع عشر لكبار السادة الإقطاعيين إلى رجال حاشية. وكان هؤلاء المحافظون موظفين بيروقراطيين من الطبقة الوسطى، يبعث بهم الملك ليحكموا الأقسام الاثنين والثلاثين التي انقسمت إليها فرنسا من الناحية الإدارية. وكانوا عادةً ذوي كفاية ومقدرة ونيات حسنة، ولو لم يكونوا جميعاً من أمثال ترجو. وقاموا بتحسين الأحوال الصحية والإضاءة وتزيين المدن، وأعادوا تنظيم الشئون المالية، وبنوا السدود والخزانات على الأنهار من اجل الري، أو أقاموا الحواجز اتقاء لخطر الفيضانات، وزودوا فرنسا في هذا القرن بشبكة هائلة من الطرق لم يكن لها مثيل في سائر أنحاء العالم. وشرعوا في أن يغرسوا على جوانبها الأشجار التي تظللها اليوم وتزينها (6). وسرعان ما زحزح تفوقهم في الدأب على العمل والمقدرة والكفاية السادة الإقطاعيين المحليين عن حكم الأقاليم، ورغبة في التعجيل بهذه الزحزحة التي تركز الحكم في أيدي هؤلاء المحافظين، وعمد لويس الرابع عشر إلى دعوة السادة الإقطاعيين للانتظام في بلاطه الملكي. وهناك عينهم في وظائف بسيطة ذات ألقاب رفيعة وأوشحة مخدرة. وفقدوا الاتصال بالشئون المحلية على حين ظلوا يحصلون من مزارعهم على الموارد اللازمة للإنفاق على قصورهم وبطانتهم في باريس أو فرساي. وتشبثوا بحقوقهم الإقطاعية بعد أن تخلوا عن واجباتهم الإقطاعية. إن ضياع المهام الإدارية التي كانوا يقومون بها في مجال الاقتصاد والحكومة جعلهم عرضة للاتهام بأنهم كانوا طفيليات غير ضرورية عالة على فرنسا.

ص: 9

‌2 - رجال الدين

كانت الكنيسة الكاثوليكية قوة أساسية ذات وجود بارز في كل ركن في الحكومة. وقدر رجال الدين الكاثوليك في فرنسا بنحو 260 ألفاً في 1667 (7)، و420 ألفاً في 1715 (8). و194 ألفاً في 1762 (9). وهذه الأرقام كلها من قبيل التخمين، ولكن قد نفترض انخفاض هذا العدد بنسبة 30% في القرن الثامن عشر، على الرغم من تزايد عدد السكان، وحسب لاكروا أن فرنسا كان فيها عام 1763، 18 رئيس أساقفة، 109 أساقفة، و40 ألف قسيس، و50 ألف مساعد قسيس، و27 ألف كاهن، و20 ألف كاتب (من رجال الدين)، ومائة ألف راهب وراهبة وعضو أخوية دينية (10)، ومن بين 740 ديراً كان هناك 625 ديراً يتولى شئونها مساعدو رؤساء أديار، لمصلحة رؤساء أديار متغيبين عنها وكانوا يتمتعون باللقب وبنصف أو ثلثي دخل الدير، دون أن يكون مطلوباً منهم أن يحيوا حياة كنسية.

وكان رجال الدين الأعلى مرتبة يشكلون من الوجهة العملية فرعاً من النبلاء، وكان الملك يعين كل الأساقفة، عادة، بناء على ترشيح السادة الإقطاعيين المحليين، على شرط موافقة البابا. ورغبة من الأسرات ذوات الألقاب في عدم تفتيت ممتلكاتهم بالتوريث، كفلت لصغار أبنائها المناصب الأسقفية ومناصب رؤساء الأديار، حتى أنه في 1789 لم يكن من بين المائة والثلاثين أسقفاً في فرنسا إلا واحداً فقط من الأفراد العاديين غير ذوي الألقاب (11). وأدخل أبناء الأسرات العريقة هؤلاء معهم إلى الكنيسة عاداتهم الني درجوا عليها في التمتع بترف الدنيا وزخرفها. ومن ذلك أن الأمير الكاردينال إدوارد دي روهان كان في القداس يرتدي ثوباً كهنوتياً له حواش من المخرمات المعقودة، قدرت قيمته بمائة ألف جنيه، وكانت أدوات مطبخه من الفضة الخالصة (12). وفسر رئيس الأساقفة ديللون دي ناربون للويس السادس عشر، السبب في أنه أي رئيس الأساقفة، استمر

ص: 10

في ممارسة الصيد بعد أن حرمه على رجال الدين في أسقفيته، بقوله "مولاي إن رذائل رجالي من عند أنفسهم، ولكني ورثت رذائلي أنا عن أسلافي (13) لقد انقضى العصر الزاهر لرجال الكنيسة-من أمثال بوسويه وفينلون وبوردللو-وأفسح المرح الأبيقوري الصاخب في عهد الوصاية المجال أمام رجال مثل ديبو أوتنسان للترقي في مناصب الكنيسة على الرغم من انغماسهم في ملذات الصيد بنوعيه، اقتناص الحيوان واصطياد النساء. وقضى كثير من الأساقفة معظم حياتهم في فرساي أو باريس، مشاركين البلاط الملكي بهجته ومسراته ومباذله، فاحتفظوا بقدم في الآخرة وقدم في الدنيا، ولم ينسوا نصيبهم من متاعها.

وكان للأساقفة ورؤساء الأديار حقوق السادة الإقطاعيين وواجباتهم، حتى إلى حد تقديم ثور لخدمة أبقار فلاحيهم (14). وكانت ممتلكاتهم الشاسعة، التي كانت تضم أحياناً مدن بأسرها، تدار كما تدار الممتلكات الإقطاعية. وكان جزء كبير من مدينة فرن ومعظم الأرض المحيطة بها ملكاً للأديار (15)، وفي بعض الكوميونات (وحدات التقسيم الإداري)، عين الأسقف كل القضاة والموظفين، وهكذا عين رئيس أساقفة كمبري الذي كان السيد الأعلى على منطقة تضم 75 ألفاً من السكان كل رجال الإدارة في كاتوكمبرسيس، ونصفهم في كمبراي (16). وعمر نظام الرقيق لأطول فترة في ضياع الأديار (17) وكان للكهنة في سان كلود في جبال جورا اثنا عشر ألفاً من الرقيق، وقاوموا بشدة الانتقاص من الخدمات الإقطاعية (18). وارتبطت حصانات الكنيسة وامتيازاتها بالنظام الاجتماعي القائم، كما جعلت لهيئة الكنيسة أقوى تأثير محافظ على القديم يناهض أي تغيير في فرنسا.

وجمعت الكنيسة سنوياً، مع شيء من الاعتدال ومراعاة الظروف، العشور من نتاج كل مالك أرض وماشية، ولكن هذا نادراً ما كان العشر في الواقع، بل كان في الكثير الغالب جزءاً من اثني عشر، وأحياناً جزءاً من عشرين (19). وبهذه العشور، بالإضافة إلى الهبات والوصية والتوريث، وبدخل العقارات الثابتة، احتفظت الكنيسة بكهنة أبرشياتها فقراء معوزين

ص: 11

على حين عاش الأساقفة مترفين منعمين. وأغاثت الكنيسة المحتاجين المعدمين وعلمت الصغار ولقنتهم مبادئها. وفي المقام التالي بعد الملك وجيشه، كانت الكنيسة أقوى وأغنى سلطة في فرنسا. وكانت تمتلك، طبقاً لمختلف التقديرات، ما بين 6% و20% من الأرض (20)، وثلث الثروة (21). وكان دخل أسقف سنس السنوي 70 ألف جنيه، وأسقف بوفيه 90 ألفاً، ورئيس أساقفة روان 100 ألف، ورئيس أساقفة ناريون 190 ألفاً، ورئيس أساقفة

باريس 200 ألف، أما رئيس أساقفة ستراسبورج فقد أربى دخله السنوي على المليون من الجنيهات (22). وكان رأس مال كنيسة بريمونتريه بالقرب من لاؤون 45 مليوناً من الجنيهات. أما الاخوة الدومنيكان البالغ عددهم 236 في تولوز فقد بلغت مقتنياتهم من الأملاك الفرنسية والمزارع في المستعمرات ومن الرقيق الأسود ما قدرت قيمته بعدة ملايين من الجنيهات أما رهبان سانت مور فقد بلغت قيمة ممتلكاتهم 24 ملوناً من الجنيهات تدر ثمانية ملايين في العام.

ولم تدفع الكنيسة أية ضرائب عن شيء من ممتلكاتها أو دخلها، ولكن كبار رجال الدين كانوا يقررون بصفة دورية في المجامع الوطنية إعانة اختيارية للدولة. وفي 1773 بلغت هذه الإعانة ستة عشر مليوناً من الجنيهات لمدة خمس سنوات. وقد اعتبرها فولتير نسبة عادلة من دخل الكنيسة (23). وفي 1749 اقترح ماشول دي ارنوفيل المراقب العام المالي أن يستبدل بهذه المنحة الاختيارية ضريبة مباشرة سنوية قدرها 5% من مجموع الدخل تفرض على الكنيسة وعلى عامة الناس وخشي رجال الدين أن تكون هذه خطوة أولى نحو سلب أموال الكنيسة بغية إنقاذ الدولة، فقاوموا الفكرة في "غضب شديد وإصرار (24) ". كذلك اقترح ماشول تحريم التوريث بالوصية للكنيسة دون موافقة الدولة، وإلغاء المؤسسات الدينية التي قامت منذ 1636 دون ترخيص من الملك، ومطالبة شاغلي الرتب الكنسية ذوات الدخل بتقديم تقرير عن مواردهم إلى الحكومة. وأبت جمعية انعقدت من رجال الدين الامتثال لهذه القرارات، وقالوا:"لن نوافق إطلاقاً على أن يصبح ما كان حتى الآن ثمرة حبنا وإجلالنا ضريبة على طاعتنا"، وأمر لويس الخامس عشر

ص: 12

بفض الاجتماع، كما أصدر المجلس الملكي أوامره إلى المحافظين بجمع ضريبة أولية مقدارها سبعة ملايين ونصف مليون جنيه على أملاك الكنيسة.

وحاول فولتير تشجيع ماشول والملك فأصدر كتيباً عنوانه "صوت الحكمة وصوت الشعب" حرض فيه الحكومة على أن تفرض سيطرتها على الكنيسة، وأن تحول دون أن تكون الكنيسة دولة داخل الدولة، وأن تعهد إلى فلاسفة فرنسا بالدفاع عن الملك والوزارة ضد كل قوى الخرافة (25). ولكن لويس الخامس عشر لم ير سبباً يدعوه إلى الاعتقاد بأن الفلاسفة في مقدورها أن تكسب الجولة في الحرب مع الكنيسة. وأدرك أن نصف سيادته وسلطانه يتركز على مسحة الزيت المقدس وتتويجه بأيدي رجال الكنيسة، ليصبح بعد ذلك-في نظر الجماهير التي ليس في مقدورها أن تدنوا منه إلى حد تستطيع معه إحصاء عدد محظياته-نائب الله الذي يتحدث بمقتضى التفويض الإلهي. أن الإرهاب الروحي الذي يبثه رجال الدين في النفوس وتعززه قوى التقاليد والعادات والاحتفالات الدينية والملابس الكهنوتية

والهيبة، نقول إن هذا الإرهاب قام مقام ألف من القوانين ومائة ألف من رجال الشرطة في المحافظة على النظام الاجتماعي، والإبقاء على طاعة الجماهير وامتثالها للحكومة والملك. وهل في مقدور أية حكومة، دون دعم من الرجاء والخوف الخارقين للطبيعة، أن تسيطر على ما فطر عليه الناس من نزعة التمرد على القانون أو عدم الخضوع له؟ وعقد الملك عزمه على الاستسلام للأساقفة، ونقل ماشول إلى منصب آخر، وصادر كتاب فولتير، ووافق على منحة اختيارية بدلاً من الضريبة على أملاك الكنيسة.

إن قوة الكنيسة كانت تعتمد أساساً على نجاح كاهن الأبرشية، وإذا كان الناس يخشون رجال الدين الذين يضعون التيجان على رؤوسهم (الأساقفة مثلاً)، فانهم أحبوا الراعي المحلي الذي شاركهم فقرهم وعوزهم، وأحياناً كدحهم وكدهم في فلح الأرض. انهم تذمروا من جمع العشور، ولكنهم كانوا على يقين من أن رؤساء الراعي هم الذين أرغموه على جمعها،

ص: 13

وأن ثلثي هذه العشور ذهب إلى الأسقف أو إلى أحد ذوي المناصب الكنسية الغائبين عنها، على أن كنيسة الأبرشية. ضناها ما كانت تعاني من خلل وحاجة إلى ترميم، مما تئن منه التقوى نفسها. إن هذه الكنيسة الحبيبة كانت دار بلديتهم، يعقدون فيها اجتماعاتهم القروية تحت رئاسة الكاهن. وفي سجل الأبرشية، وهو شاهد بقائهم صابرين متجلدين عبر الأجيال، كانت تدون مواليدهم وزيجاتهم ووفياتهم. وكان صوت أجراس هذه الكنيسة أنبل موسيقى ترن في آذانهم، والاحتفالات هي المسرحية التي تشد انتباههم وتبعث فيهم النشاط، وقصص القديسين ذخائر الأدب عندهم، كانت أعياد تقويم الكنيسة هي العطلات المحببة إلى نفوسهم. ولم ينظر الناس إلى عظات راعي الأبرشية ونصائحه وتحذيراته أو إلى تعليمه وتربيته لأبنائهم، على أنها تلقين مبادئ أسطورية لتدعيم لسلطان الكنيسة، بل نظروا إليها على أنها عون لا غنى عنه للنظام الأبوي والانضباط الخلقي، وعلى أنه إيحاء بنظام إلهي يتجلى فيه معنى الخلود الذي خفف من أسلوب حياتهم الممل الجاف في هذه الدنيا. فكانت العقيدة ثمينة أثيرة لديهم إلى حد الاستثارة إلى الفتك بمن يحاول انتزاعها منهم. ورحب الوالدان الفلاحان بالدين جزءاً من الواجبات اليومية في البيت، ونقلا إلى أولادهما الأساطير الدينية، وواظب الجميع على صلوات المساء والوالدان على رأسهم. وكان راعي الأبرشية يحب الناس كما أحبوه، فانضم إليهم في الثورة.

وتناقص عدد الرهبان والراهبات وأخوة الطوائف الدينية، ولكن نمت فيهم روح الفضيلة (26) كما نمت ثروتهم. ونادراً ما كانوا الآن يتسولون أو يعيشون على الصدقات لأنهم وجدوا من الحكمة ومن الخير لهم أن ينتزعوا الوصية بالتوريث من الذين يدنو أجلهم ثمناً بدلاً من أن يستجدوا بعض البنسات من القرية، وفاضت بعض ثرواتهم على أعمال البر والإحسان، فأنفق كثير من الأديار على المستشفيات والملاجئ، ووزعت الطعام على الفقراء يومياً (27). وفي 1789 ألحت جماعات كثيرة على حكومة الثورة ألا تقضي على الأديار المحلية لأنها كانت المنظمات البارة المحسنة الوحيدة في

ص: 14

نطاق أراضيها. (28) وأدت أديار الراهبات مهام كثيرة تؤدي الآن بطرق أخرى، فكانت توفر مأوى للأرامل، وللنساء اللائى افترقن عن أزواجهن، وللسيدات المراهقات مثل مدام دي ديفان التي رغبت في أن تنأى بنفسها عن

صخب الدنيا. ولم تنكر الديار متاع الحياة الدنيا وزينتها إنكاراً تاماً، فقد استخدمها الأثرياء مأوى لما زاد عن الحد من بناتهم، وإلا فإن زواجهن إذا لم يلجأن إلى الأديار يتطلب مهوراً تنقص من ميراث الأبناء، ولم يكن هؤلاء العذارى المنبوذات ميالات دائماً إلى التقشف. وكان للأم أوريني (رئيسة دير للراهبات) عربة تجرها أربعة جياد، فكانت تستقبل في جناحها الفاخر أفراداً من الجنسين. وكانت الراهبات في ألكس يرتدين التنورات ذوات الأطواق الموسعة والأردية الحريرية المبطنة بالفرو، وكن في أديار أخرى يتناولن العشاء ويرقصن مع ضباط من المعسكرات المجاورة (29) وواضح أن هذه كانت ضروباً من التسلية البريئة غير الآثمة، فإن كثيراً من الأقاصيص التي رويت عن الفساد الخلقي في الأديار في القرن الثامن عشر كانت مبالغات شنيعة مثيرة استخدمت في حرب الدعاية بين المذاهب المتنابذة، وكانت الحالات التي لزم فيها البنات الدير على غير إرادتهن نادرة (30).

وكان اليسوعيون قد ضعف سلطانهم ومكانتهم. إنهم ظلوا حتى 1792 يسيطرون على التعليم، وكانوا يزودون الملك والملكة بكهنة اعتراف ذوي تأثير قوي، ولكنهم عانوا من فصاحة بسكال، ومن تشكك أوصياء العرش غير الأتقياء، وكانوا يخسرون معركتهم الطويلة المريرة مع الجانسنيين فإن هؤلاء الكاثوليك المتعصبين لعقيدتهم عمروا بعد الاضطهادات الملكية والمراسيم البابوية، وكان عددهم كبير في مجال الأعمال والمهن والاشتغال بالقانون، وكانوا يقتربون من الهيمنة على برلمان باريس وغيره من البرلمانات. وبعد موت زعيمهم اللاهوتي المتقشف فرانسوا دي باريس (1727) حج الجانسنيون المتحمسون المغشي عليهم إلى جدته في مقبرة سان ميدارد، وهناك جلدوا أنفسهم بالسياط، حتى أصاب بعضهم نوبات من

ص: 15

التشنج، ومن سموا "بالمتشنجين" وتوجعوا وبكوا وابتهلوا إلى الله أن يمن عليهم بالشفاء، وأدعى كثير منهم أنهم برئوا بمعجزة. وبعد ثلاثة أعوام من هذه الأحداث أغلقت السلطات هذه المقابر، وكما قال فولتير: حرم على الله بأمر من الملك أن يأتي بمعجزات هناك، وانقطعت التشنجات، ولكن الباريسيين السريعي التأثر مالوا إلى تصديق المعجزات، وفي 1733 ذكر أحد الصحفيين في مبالغة ظاهرة أن مدينة باريس الطيبة جانسنية قلباً وقالباً (31). وتحدياً للمرسوم الملكي الصادر في 1720 رفض صغار رجال الدين الامتثال للأمر البابوي الصادر في 1713 الذي استنكر فيه البابا إنوسنت الثالث عشر مائة مسألة ومسألة زعموا أن الجانسنيين أثاروها. وقضى رئيس أساقفة باريس بأن السر المقدس الأخير لا يجوز أن يقدم لأي فرد لم يكن قد أعترف لقسيس كان قد ارتضى الأمر البابوي. وأسهم هذا النزاع في إضعاف مركز الكنيسة المنقسمة أمام هجمات الفلاسفة.

وكان الهيجونوت وغيرهم من البروتستانت الفرنسيين لا يزالون يعتبرون خارجين عن القانون، ولكن مجموعات صغيرة منهم كانت تجتمع سراً. واعتبر القانون أن زوجة البروتستانتي عاهرة وأن أبناءها غير شرعيين، ليس لهم أن يرثوا أية أملاك. وفي عهد لويس الخامس عشر شنت عدة حملات للاضطهاد والتعذيب. وفي 1717 قبض على أربعة وسبعين فرنسياً يقيمون الشعائر البروتستانتية، وأرسلوا للتجديف في القواديس أو المراكب الشراعية وزج بزوجاتهم في السجن، وقضى مرسوم صدر في 1724 بعقوبة الإعدام على الوعاظ البروتستانت، وبمصادرة أملاك كل من يشهد اجتماعات البروتستانت، مع إرسال الرجال للتجديف في السفن الشراعية. وحلق شعور النساء واعتقالهن مدى الحياة (32) وفي عهد الكاردينال فليري حدث شيء من التراخي في تنفيذ هذا المرسوم. ولكن بعث من جديد بعد موته، بناء على طلب الأساقفة الكاثوليك في جنوب فرنسا (33). وفي 1749 أمر برلمان بوردو بالتفريق بين 46 زوجاً وزوجة وفق الطقوس البروتستانتية.

ص: 16

وكان من الجائز انتزاع الأطفال الذين يشتبه في أن آباءهم من البروتستانت؛ لتربيتهم وتنشئتهم في بيوت كاثوليكية. وإنا نسمع عن رجل ثري من الهيجونوت أنفق 200 ألف جنيه رشوة للموظفين الرسميين حتى يسمحوا له بالاحتفاظ بأبنائه. (34) وفيما بين عامي 1744 و1753 سجن نحو 600 بروتستانتي، وحكم على 800 آخرين بعقوبات مختلفة (35). وفي 1752 شنق في مونبلييه الواعظ البروتستانتي بينز-البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً. وفي نفس العام، أمر لويس الخامس عشر، تحت تأثير مدام دي بمبادور، بوضع حد لهذه الاضطهادات. (36) وبعد ذلك استطاع البروتستانت في باريس أو قريباً منها، أن يتفادوا العقوبات، على شرط حضور الصلوات الكاثوليكية مرة في العام (37).

وعلى الرغم من تعصب زعماء الكنيسة وانشغالهم بأمور الدنيا ورغبتهم في السلطة والنفوذ، فقد كان بين رجال الدين الفرنسيين مئات ممن امتازوا بالعلم الغزير والحياة التقية النقية. وبالإضافة إلى أولئك الأساقفة الذين بددوا في باريس العشور التي جمعوها من الفلاحين، كان هناك أساقفة آخرون إتسموا بالطهر والتقي قدر ما سمحت به المهام الإدارية. فكان الكاردينال لويس أنطوان دي نواي رئيس أساقفة باريس رجلاً ذكياً نبيلاً. وكان الناس يحبون جان بابتست ماسيون أسقف كلبر مونت على الرغم من عظاته الزاخرة بألوان العلم والمعرفة، والتي كان فولتير يحب أن يستمع إليها وقت تناول الطعام، لجمال أسلوبها على الأقل. أما جبرائيل دي كايلوس أسقف أوكسير فقد وهب كل ثروته للفقراء، وباع طبقه الفضي ليطعم الجياع؛ ثم اعتذر لمن التمسوا بعد ذلك بقوله "يا أبنائي، لم يبق لدي شيء أعطيكم إياه"(38). ولم يبرح الأسقف فونسوا دي بلزونس مكانه وسط الطاعون الرهيب الذي اجتاح مرسيليا 1720، حين هلك ثلث سكان المدينة، وفر منها معظم الأطباء ورجال الحكم والقضاء. وفي هذا كتب ليمونتي: "انظروا إلى بلزونس: وأنه أنفق كل ما يملك. لقد هلك كل الذين كانوا في خدمته بسبب العدوى، فسار على قدميه فقيراً بائساً في الصباح إلى مواطن

ص: 17

التعاسة والشقاء؛ كما كان يرى مساء وسط الأماكن التي اكتظ بها ولوثها أولئك الذين يعانون سكرات الموت، ليطفئ ظمأهم، ويواسيهم وكأنه صديق لهم

وفي ساحة الموت هذه يأخذ بيد الأنفس التي لا معين لها. إن مثل هذا المثل الذي ضربه هذا الأسقف الذي يبدو أنه محصن ضد أي أذى كان كفيلاً بأن يدفع ..... كهنة الأبرشيات والقساوسة والطوائف الدينية إلى محاكاته في شجاعته وبسالته، فلا يتخلى أحد عن موقعه، ولا يبالي أحد بما يلقى من عناء وتعب ولو ضحى بحياته. وهكذا أودى الوباء بستة وعشرين راهباً، وبثمانية عشر من بين ستة وعشرين يسوعياً. واستدعى الكيوشيون أخوتهم من الأقاليم الأخرى، فسارع هؤلاء إلى الاستشهاد في خفة المسيحيين

الأولين وابتهاجهم بمثل هذا العمل. وقضى الطاعون على ثلاثة وأربعين من بين خمسة وخمسين منهم. أما سلوك الرهبان الأوراتوريين (طائفة كاثوليكية) فكان أروع من هذا. فقد بذلوا غاية جهدهم (39).

ولنذكر، ونحن نسجل الصراع المرير بين الدين والفلسفة، ونشارك الفلاسفة مقتهم للرقابة الخانقة والخرافة الشائنة، أنه كان هناك بين رجال الكنيسة على اختلاف مراتبهم الورع والتقي كما كان هناك الغنى والثراء، بقدر سواء. كما كان هناك الإخلاص مع الفقر بين كهنة القرى، أما الناس فقد تغلغل فيهم حب راسخ يتعذر المساس به أو النيل منه، لعقيدة هيأت للزهو الهوى شيئاً من الانضباط المنقذ من الضلال، كما هيأت للأيام العصيبة الشاقة رؤيا وجد الناس فيها شيئاً من السلوى والعزاء.

‌3 - الطبقة الثالثة

أ - الفلاحون

تساءل "الاقتصاد السياسي" الذي وصمه كارليل بأنه "العلم الكئيب" هل الفقراء فقراء، لأنهم جهلة، أم أنهم جهلة لأنهم فقراء. ويمكن أن نجيب على هذا السؤال، بالموازنة بين الاستقلال البهيج الذي يفاخر به الفلاح الفرنسي اليوم، وحالته في النصف الأول من القرن الثامن عشر.

ص: 18

وفي 1723 كانت حال الفلاح آخذة في التحسن بالمقارنة بالمستوى المنحط الذي هبطت به إليه حروب لويس الرابع عشر وابتزازاته. فإنه خضع للرسوم الإقطاعية ولعشور الكنيسة، إلى جانب إنه امتلك نسبة متزايدة من أرض فرنسا، كانت تتراوح بين 20% في نورماندي وبريتاني و50% في لنجدوك وليموزين (40). ولكن متوسط حصة هؤلاء الملاك الصغار كان ضئيلاً-من ثلاثة إلى خمسة أفدنة-إلى حد اضطروا معه إلى الاشتغال بأجر في المزارع الأخرى ليعولوا أسراتهم. فإن معظم الأرض كانت ملكاً للنبلاء أو رجال الدين أو الملك، وكانوا يفلحها مستأجرون أو مزارعون نظير جزء من المحصول، أو عمال مياومة تحت إشراف قهرمان أو وكيل مسئول. وكان المالك يتقاضى من المستأجر مالاً وغلة وخدمات أما المزارعون فكانوا يعطون المالك نصف المحصول في مقابل الأرض والآلات الزارعة والبذور.

وعلى الرغم من تزايد ملكية الفلاح ظلت هناك بقايا إقطاعية كثيرة، فإن أقلية ضئيلة من الملاك قد لا يتجاوز 2% هي التي وضعت يدها على أراض معفاة من الرسوم الإقطاعية. وكل الفلاحين باستثناء مالكي هذه الأرض المعفاة، كان مطلوباً منهم أن يعملوا للسيد الإقطاعي المحلي لعدة أيام في السنة تكفي لحرث أرضه وبذرها، وحصاد محصولها وتخزينه. وكانوا يدفعون له رسوماً مقابل صيد السمك في البحيرات أو الجداول المائية ومقابل رعي ماشياتهم في الحقول، مما يقع في زمام أرضه. (في فرائش كومتيه، وأوفرن، وبريتاني، حتى قيام الثورة كانوا يدفعون له مبلغاً من المال مقابل الأذن لهم بالزواج (41). وكان لزاماً عليهم أن يستخدموا طاحونته ومخبزه ومعصرة النبيذ أو الزيت التابعة له، وليس غيرها. وأن يدفعوا له مالاً في كل مرة يستخدمون فيها شيئاً من هذه. كما نفذوه مالاً عن كل مستوقد أقاموه وكل بئر حفروه وكل جسر عبروه في نطاق أرضه (إن أمثال هذه الضرائب موجود بيننا الآن في أشكال متغيرة، وتدفع للدولة). وكانت القوانين تحرم على السيد ورفاقه الإضرار بمزروعات الفلاح

ص: 19

أو حيواناته عند الصيد، ولكن هذه القوانين أغفلت إغفالاً شديداً، وكان محظور على الفلاح أن يطلق النار على حمائم السيد، وهي تأكل محصوله (42) وبناء على تقدير يتسم بالتحفظ بلغت الرسوم الإقطاعية جملتها نحو 14% من إنتاج الفلاح أو دخله، وهناك تقديرات ترفع من هذه النسبة (43).

وفي بعض الأماكن بقي الرق بمعناه الحقيقي، وقدر مؤرخ اقتصادي مشهور أن عدد الرقيق في فرنسا في القرن الثامن عشر لم يجاوز المليون (44)، ونقص عددهم، ولكن في 1789 كان لا يزال في فرنسا نحو 300 ألف من الأرقاء (45) ومثل هؤلاء الفلاحين كانوا مرابطين بالأرض ولم يكونوا يستطيعون قانوناً أن يهجروا أرضهم أو يبيعوها أو ينقلوها أو يغيروا محال إقامتهم دون موافقة سيدهم. فإذا ماتوا دون أبناء كانوا يعيشون معهم، وعلى استعداد للنهوض بشئون المزرعة، آلت المزرعة بكل معداتها إلى السيد.

وكان على الفلاح، بعد دفع الرسوم الإقطاعية وعشور الكنيسة، أن يجد مالاً أو يبيع شيئاً من نتاجه أو ممتلكاته ليواجه الضرائب التي تفرضها عليه الدولة. ودفع الفلاح وحده ضريبة الأراضي، وبالإضافة إلى ذلك دفع ضريبة الملح، و5% من الدخل ضريبة الرأس عن كل فرد في البيت. وبهذا كان يدفع في الجملة ثلث دخل للمالك والكنيسة والدولة. (46) وكان من سلطة جباة الضرائب أن يدخلوا أو يقتحموا كوخه، ليفتشوا عن المدخرات المخبأة، ويستولوا على الأثاث تسديداً لمبلغ الضريبة المفروضة على الأسرة. وكما كان الفلاح ملزماً بالعمل ودفع الرسوم لسيده، فإنه بعد 1733 كان ملزماً بأن يعمل للدولة بدون أجر من 12 إلى 15 يوماً في السنة، في إقامة الجسور وبناء الطرق أو إصلاحها (أعمال السخرة). وكان يعاقب بالسجن إذا قاوم أو توانى.

ومذ تصاعدت الضرائب بازدياد الدخل والتحسينات، فإنه لم يكن ثمة ما يحفز الفلاحين على الابتكار والعمل والمغامرة. وظلت أساليب الزراعة

ص: 20

بدائية في فرنسا، إذا قورنت بالأساليب في إنجلترا المعاصرة. وكانت فرنسا تتبع نظام إراحة الأرض الذي يقضي بترك كل قطعة دون زراعة سنة في كل ثلاث سنين، على حين أدخلت إنجلترا نظام الدورة الزراعية. وكانت الزراعة المكثفة غير معروفة تقريباً، والمحاريث الحديدية نادرة الوجود. وكانت الحيوانات قليلة العدد في المزرعة، كما كان السماد قليلاً. وكان متوسط الأرض المملوكة ضئيلاً إلى حد لا يسمح باستخدام الآلات بشكل مجز.

وروع السائحون الإنجليز في ذلك العصر لفقر الفلاح الفرنسي. ففي 1718 كتبت السيدة ماري مونتاجو: "في كل محطة كنا نقف فيها لتبديل خيول البريد كان أهل البلدة جميعاً يخرجون إلينا يسألوننا إحساناً، في وجوه أضناها البؤس والجوع وملابس رثة ممزقة، وما كانوا بعد ذلك في حاجة إلى دليل أبلغ من ذلك لإقناعنا بتعاسة أحوالهم (47). ولم يرسم المراقبون الفرنسيون صورة أكثر إشراقاً من هذه إلا في وقت متأخر من هذا القرن. وقال سان سيمون: "في 1825 كان الناس في نورماندي يعيشون على حشائش الحقول. إن أول ملك في أوربا عظيم لمجرد كونه ملك الشحاذين. وتحويله مملكته إلى مستشفى فسيح الأرجاء يقيم فيه أناس يعانون سكرات الموت، انتزع منهم كل شيء دون أن يبدوا شيئاً من التذمر (48)". وفي 1740 حسب المركيز رينيه لويس دي أرجنسون، أن عدد الفرنسيين الذين ماتوا بسبب الفقر والعوز في العامين الأخيرين أكبر من عدد من قتلوا في حروب لويس الرابع عشر كلها (49) ". وقال بسنارد: "كانت ملابس الفقراء من الفلاحين-وكانوا كلهم تقريباً فقراء-تدعو إلى الإشفاق والرثاء، حيث لم يكن لدى الفرد منهم إلا ثوب واحد للصيف والشتاء معاً .... أما الحذاء الوحيد (المرقع الواهي المثبت بالمسامير) الذي اقتناه عند زواجه، فكان لزاماً أن يستخدمه بقية أيام حياته، أو على الأقل طيلة بقاء الحذاء (50) ". وقدر فولتير أن مليوني فلاح فرنسي كانوا يستخدمون نعالاً خشبية في الشتاء، وكانوا يسيرون حفاة الأقدام في الصيف، لأن

ص: 21

الضرائب الباهظة المفروضة على الجلود جعلت الأحذية ضرباً من الترف (51) أما مسكن الفلاح يبنى من الطين مع سقف من القش، وكان عادة يتكون من غرفة واحدة، منخفضة لا سقف لها في بعض الأجزاء في شمال فرنسا، على أن الأكواخ كانت تبنى أقوى حتى تحتمل البرد والرياح في الشتاء". وكان طعام الفلاح يتألف من الحساء والبيض ومنتجات الألبان وخبز الشعير أو الشوفان. أما اللحم وخبز القمح فكان أكلهما إسرافاً طاوئاً (53). ففي فرنسا، كما هو الحال في أي مكان آخر، كان أولئك الذين يطعمون الأمة لا يملكون من الغذاء إلا أقله.

ووجد الفلاح بعض العزاء والسلوى من هذه الحياة الشاقة في الخمر والدين. وكانت الحانات كثيرة وصنع الجعة في الدار مشجعاً. وكانت الأخلاق خشنة جافة، طابعها الوحشية. وكثيراً ما تفجرت أعمال العنف بين الأفراد والأسرات والقرى. ولكن سادت الأسرة عاطفة حب قوية، ولو أنها صامتة، وكان الأبناء كثيرين، ولكن اختطفت يد المنون معظمهم قبل أن يبلغوا رشدهم. وكاد ألا يكون هناك زيادة في سكان فرنسا فيما بين عامي 1715 و1740. فقد أحدثت الحرب والمرض والقحط أثرها بانتظام وفق ما جاء في نظرية مالتس.

ب - البروليتاريا (العمال الكادحون)

وكان خدم المنازل أدنى مكانة من الفلاحين في السلم الاجتماعي، وكانوا فقراء إلى حد لم يهيئ إلا لقليل منهم أن يتزوجوا. وكانت طبقة البروليتاريا في المدن أعلى قليلاً من الفلاحين، وكانت تشكل الحرفيين في الحوانيت والمصانع وحمالي البضائع ومتعهدي الخدمات وعمال البناء أو الترميم. وكان معظم الصناعة لا يزال منزلياً أو محلياً يقوم في أكواخ ريفية أو في الدور في المدن الصغيرة. وكان التجار يقدمون المواد الخام، ويجمعون الإنتاج، ويستولون على كل الربح تقريباً. وكانت الصناعة في المدن إلى حد كبير في الطور النقابي (نظام نقابات العمال وطوائفهم في العصور الوسطى)، فكان هناك المعلمون والغلمان الذين يتدربون، وعمال المياومة المهرة،

ص: 22

يعملون جميعاً وفقاً للقواعد القديمة التي حددت النقابة والحكومة بمقتضاها ساعات العمل وشروطه، وطرز الإنتاج ونوعيته وسعره والمنطقة المحدودة المسموح فيها بالبيع. إن هذه التنظيمات والقواعد جعلت من التحسينات أمراً عسيراً، واستبعدت حافز المنافسة الخارجية، وأسهمت مع رسوم التجارة الداخلية في تعويق التنمية الصناعية. وكانت النقابات قد أصبحت أرستقراطية عمالية، وارتفعت الرسوم على القبول في سلك المعلمين الصناعيين إلى ألفي جنيه، واتجهت هذه المهنة إلى أن تكون وراثية. (53) وكان العمل في الحوانيت يبدأ مبكراً وينتهي متأخراً. وكان عامل المياومة حول فرساي يبدأ عمله في الرابعة صباحاً وينتهي منه في الثامنة مساءاً. (54) ولكن العمل كان أقل إجهاداً منه في المصانع اليوم، كما أن أعياد الكنيسة هيأت أيام عطلة كثيرة.

وكانت الصناعة في معظمها "صغيرة" تستخدم ثلاثاً أو أربعاً من "الأيدي العاملة" من خارج الأسرة. بل أن المدابغ ومصانع الزجاج والمصابغ كانت مؤسسات صغيرة. وكان عدد العمال في بوردو لا يتجاوز أربعة أمثال أصحاب العمل. واحتفظت الحكومة على أية حال ببعض مصانع كبيرة-مصانع الصابون، ومصانع نسيج الجوبلان (المزدان بالرسوم) ومصانع الخزف الصيني في سيفر. وأخذت عملية التعدين في التوسع بعد أن حل الفحم محل الخشب في الوقود. وثارت الاحتجاجات على دخان الفحم الذي يلوث الهواء، ولكن الصناعة آنذاك، كما هو الحال اليوم، مضت تشق طريقها، وتعرضت صحة الناس في باريس، وفي لندن على حد سواء، للخطر نتيجة لتنفس هذا الهواء الملوث. وكانت هناك مصانع للصلب في دوفيني، ومصانع للورق في أنجوموا. وتوسعت مصانع النسيج توسعاً ملحوظاً في الشمال، فاستخدم فان روبيه 1500 عامل في مصنع واحد في آبفيل واستخدم فان دركروسن ثلاثة آلاف رجل في ليل (55). وشجع ازدياد العمال هذا على تقسيم العمل والتخصص فيه، وحفز على اختراع الآلات للعمليات المكررة على نسق واحد (الروتينية) وتضمنت دائرة

ص: 23

معارف ديدرو (1751 وما بعدها) أوصافاً ورسوماً مدهشة لآلات متنوعة معقدة أدخلت بالفعل في الصناعة في فرنسا، يندر أن تكون قد نالت استحساناً أو ترحيباً من البروليتاريا. وحين أقيم نول جاكار (لحياكة الأقمشة المصورة) في ليون، عمد عمال نسيج الحرير إلى تهشيمه، خشية أن يلقى بهم في عرض الطريق بلا عمل (56).

ورغبة في تشجيع الصناعات الجديدة فإن حكومة فرنسا-كما فعلت حكومة إنجلترا في عصر اليزابث-منحت عدة احتكارات، مثال ذلك أنها منحت أسرة فإن روبية احتكار إنتاج الأقمشة الهولندية الرفيعة، كما ساعدت مشروعات أخرى بمعونات وقروض دون فوائد. وفرضت الحكومة على كل الصناعة تنظيماً صارماً موروثاً عن كولبير. وأثار هذا الأسلوب اعتراضاً متزايداً من جانب أصحاب المصانع والتجار الذين دفعوا بأن الاقتصاد ينمو ويزدهر إذا تحرر من تدخل الحكومة، وترديداً لهذا المطلب، قال فنسنت دي جورناي (حوالي 1755) عبارته التاريخية اتركه وحده "اتركه يعمل" التي عبرت في الجيل التالي، على لسان فرانسوا كني وترجو، عن المذهب الفيزيوقراطي الذي نادى بحرية العمل والتجارة.

واستاء الحرفيون أيضاً من هذه القواعد والتعليمات التي وقفت حجر عثرة في سبيل تنظيمهم من اجل ظروف عمل وأجور أفضل. ولكن أهم ما هاج حفيظتهم هو أن عمال الريف والمصانع كانوا ينتزعون السوق من أيدي النقابات. فما وافى عام 1756 حتى كان أصحاب المصانع قد هبطوا بالحرفيين في المدن الكبرى-حتى بالمعلمين النقابيين-إلى مستوى الإجراء الذين يعتمدون في عملهم على المقاولين أو الملتزمين. (57) وفي نطاق النقابات أجرى المعلمون-تخفيضاً في أجور عمال المياومة الذين عمدوا إلى الإضراب على نحو دوري. وكان الفقر في القرى شديداً مثلما هو في المدن تقريباً. ووصل نقص المحاصيل بالطبقة الكادحة، البروليتاريا، في المدن إلى حد المجاعة والشغب كل بضع سنين، كما حدت في تولوز 1747، وفي باريس

ص: 24

1751، وفي تولوز 1752 (58) وكان القسيس الملحد جان مزلييه قد اقترح بالفعل، حوالي 1749 استبدال شيوعية قائمة على الحرية بالنظام القائم (59).

وفي أواسط القرن كانت باريس وروان وليل وليون وبوردو ومرسيليا تعج بالبروليتاريا. وتفوقت ليون بوصفها مركزاً صناعياً لبعض الوقت على باريس. وقد وصفها الشاعر الإنجليزي توماس جراي في 1739 بأنها "ثانية مدن المملكة من حيث الاتساع والمكانة. وشوارعها بالغة الضيق والقذارة، ودورها بالغة الارتفاع والاتساع (تتكون الدار من خمسة طوابق في كل طابق 25 غرفة)، مكتظة بالسكان". (60) وكانت باريس خلية هائجة، يقطنها 800 ألف منهم 100 ألف خادم، و20 ألف متسول، وفيها الأكواخ الكئيبة والقصور الفخمة، والأزقة والحارات المظلمة والشوارع القذرة وراء المتنزهات الأنيقة، وفيها الفن إلى جانب الإملاق والفقر المدقع. وسارت فيها المركبات الكبيرة والمركبات العامة ذات الجواد الواحد والمحفات يصطدم بعضها ببعض مع تبادل السباب والشتائم، واختناق شديد في حركة المرور. وكانت بعض الشوارع قد صفت منذ 1690 وعام 1742 رصف تريساكيه الطرق بأحجار ملساء، ولكن معظم الشوارع كانت قذرة تماماً، مملوءة بالحصى الكبير الذي يصلح لإقامة المتاريس في أثناء الثورات. وبدأت مصابيح الشوارع تحل محل الفوانيس في 1745 ولكنها لم تكن تضاء إلا إذا لم يكن القمر بدراً. وظهرت لافتات أسماء الشوارع في 1728. ولكن لم توضع للبيوت أرقام قبل الثورة. وكان للأغنياء وحدهم صنابير ماء في بيوتهم، أما سائر الناس فكان يزودهم بالماء عشرون ألف سقاء يحمل الواحد منهم دلوين بهما أحياناً سبع مجموعات من درجات السلم. أما المراحيض في المنازل والحمامات المزودة بالماء الجاري الساخن والبارد، فكانت امتياز لكبار الأثرياء. وظلت آلاف الحوانيت، المشهورة بشعاراتها الرائعة المثيرة، على حالتها من الفوضى في الموازين والمقاييس المتضاربة والمشتبه فيها، إلى أن وضعت الثورة النظام المتري (العشري). وكان هناك أصحاب حوانيت أمناء في "متاجر الثقة"، ولكن الغالبية

ص: 25

اشتهرت بالتطفيف في المقاييس والتلاعب في الأسعار ورداءة أنواع السلع. (61) وكان بعض الحوانيت ينتحل عظمة زائفة خداعة لأن أصحابها كانوا يستقلون العربات. وكان الفقراء من الناس يعتمدون في شراء حاجياتهم أساساً على الباعة المتجولين الذين حملوا بضاعتهم جاهدين في دلاء أو سلال على ظهورهم، والذين أسهموا في موسيقى الشوارع بصيحاتهم ونداءاتهم التقليدية غير المفهومة التي يدعون بها الناس إلى الشراء، من "البطاطس المطبوخة" إلى الموت للفئران "فقد نازعت الفئران الناس على تيسيرات السكنى في المدينة، وزاحم الرجال النساء والأطفال الفئران في مسابقة الحصول على الطعام. قال رجل فارسي كان في زيارة مونتسكيو": "البيوت مرتفعة إلى حد يظن معه أنه لا يقطنها إلا منجمون. ولك أن تتخيل مدينة بنيت في الهواء، فيها أقيمت ستة أو سبعة منازل الواحد منها فوق الآخر وهي مزدحمة بالسكان، حتى إذا نزلوا جميعاً إلى الشارع، رأيت هناك حشداً رائعاً. لقد بقيت هنا شهراً، لم يقع نظري فيه على شخص واحد يسير بخطى وئيدة. وليس في العالم كله مثل الرجل الفرنسي وهو يجتاز الطريق، إنه يعدو أو يطير (62). أضف إلى ذلك المتسولين والمتشردين والنشالين والمغنين في الشوارع والنافخين في الأرغن والدجالين بائعي الأدوية المزيفة. وجملة القول أنهم شعب تشيع فيه مائة من أخطار البشر، لا يوثق به إطلاقاً، متلهف على الكسب، مسرف في الدنس والتجديف بكل معنى الكلمة. ولكنه إذا أوتي اليسير من الطعام أو النبيذ فهو ألطف شعوب العالم وأكرمها وأكثرها مرحاً وابتهاجاً.

جـ - البرجوازية

وفيما بين الطبقتين الدنيا والعليا قامت الطبقة الوسطى، تضمر لها أولاهما البغض والكراهية، وتزدريها الثانية، وكانت تضم الأطباء والأساتذة ورجال الإدارة وأصحاب المصانع والتجار ورجال المال، وهي طبقة شقت طريقها إلى الثروة والنفوذ والسلطة في حذق ومهارة وصبر وجلد.

ص: 26

وقام أرباب المصانع بمغامرات اقتصادية وتطلبوا من أجلها عائداً وفاقاً. وشكوا من انهم يتعرضون لمائة من المضايقات التي تسببها لهم تعليمات الحكومة ورقابة النقابات على السوق والعمال المهرة، واغتاظ التجار الذين يوزعون المنتجات من فرض ألف من المكوس والرسوم التي تعوق حركة البضائع، ذلك أنه عند كل نهر أو قناة أو مفترق طرق كان هناك وكيل عن النبيل أو رجل الكنيسة مالك الأرض، ليتقاضى رسماً على الترخيص بمرور البضائع. وأوضح السيد المالك أن هذه المكوس غنما هي تعويض معقول له عما ينفق في صيانة الطرق والجسور والمعابر وإصلاحها لتبقى صالحة للاستعمال. وألغى مرسوم ملكي صادر في عام 1724 ألفاً ومائتين من هذه المكوس، ولكن بقيت بعد ذلك منها مئات لعبت دوراً في كسب البورجوازية إلى جانب الثورة وتأييدها لها.

أما التجارة الفرنسية التي كانت معوقة في الداخل فقد انتشرت واتسعت فيما وراء البحار. وسيطرت مرسيليا، وكانت ميناء حرة، على تجارة أوربا مع تركيا والشرق. ومدت شركة الهند التي أعيد تأسيسها 1743، أسواقها ونفوذها السياسي في البحر الكاريبي ووادي الميسيسيبي وأجزاء من الهند. ورفعت بوردو، وهي، المنفذ السياسي لتجارة الأطلنطي، تجارتها البحرية من أربعين ملوناً من الجنيهات في عام 1724 إلى 250 مليوناً في 1748. وأبحر أكثر من 300 سفينة سنوياً من بوردو ونانت إلى أميركا، يحمل معظمها العبيد ليعملوا في مزارع قصب السكر في جزر الأنتيل ولويزيانا (63). وفاقت نسبة المبيعات من السكر المنتج من أمريكا الفرنسية مثيلتها من السكر الإنجليزي المنتج في جمايكا وباربادوس في الأسواق الأوربية، (64) وربما كان هذا من أسباب حرب السنين السبع، وارتفعت جملة تجارة فرنسا الخارجية من 215 مليوناً من الجنيهات في 1715 إلى 600 مليون في 1750. (65) وقدر فولتير أن عدد السفن التجارية التي استخدمتها فرنسا زاد من 300 سفينة في 1715 إلى 800 في 1738. (66)

وكانت الأرباح المتزايدة من التجارة البحرية الدافع الأساسي لغزو

ص: 27

المستعمرات. وكانت حماسة التجار والمبشرين الفرنسيين قد كسبت لفرنسا معظم كندا وحوضي الميسيسيبي وبعض الجزر في البحر الكاريبي. وتحدت إنجلترا هذه الممتلكات الفرنسية على اعتبار أنها تضيق الخناق على مستعمراتها في أمريكا وتعرضها للخطر. والحرب هي التي يمكن أن تحسم هذه القضية، ودب الخلاف بين إنجلترا وفرنسا في الهند بسبب منافسة مماثلة. وكان الفرنسيون في 1683 قد وطدوا مركزهم على الساحل الشرقي جنوبي مدراس، وفي 1688 حصلوا من إمبراطور المغول على حق السيطرة الكاملة على شاندرناجور شمالي كلكتا. وفي ظل القيادة النشيطة اليقظة لجوزيف دوبليكس، استولى هذان الثغران على كثير من التجارة والثروة إلى حد أحست معه شركة الهند الشرقية الإنجليزية، التي كانت قد أقامت لها مراكز في مدراس (1639) وبمباي (1668) وكلكتا (1686) -أنها مضطرة إلى خوض الحرب مع الفرنسيين من أجل مملكة المغول التي تتمزق أوصالها.

ولما رأت إنجلترا وفرنسا أنهما على طرفي نقيض في حرب الوراثة النمساوية (1744) فان ماهي دي لابور دونيه-الذي كان قد ضرب رقماً قياسياً في الإقدام والمغامرة في إدارة جزر موريشيوس وبوربون الفرنسية في المحيط الهندي-عرض على حكومة فرساي خطة "للقضاء على التجارة وعلى المستعمرات الإنجليزية في الهند". (67) وهاجم مدراس بأسطول فرنسي، بموافقة دوبليكس الحسود، وسرعان ما أرغم المدينة على الاستسلام (1746) وتحت مسئوليته الخاصة وقع مع السلطات الإنجليزية اتفاقية تقضي بإعادة مدراس إليهم لقاء تعويض قدره 420 ألف جنيه. ورفض دوبليه التصديق على الاتفاقية، ولكن لابوردونيه أصر في عناد، وأبحر على سفينة هولندية إلى أوربا: وأسرته سفينة إنجليزية، وأطلق سراحه تحت وعد شرف، ودخل باريس فزج به في الباستيل بتهمة التمرد والخيانة، وطلب المحاكمة، وبعد عامين قضاهما في السجن حوكم وقضى له بالبراءة (1751) وتوفي 1753. وفي تلك الأثناء حاصر أسطول إنجليزي قوى بوندشيري (أغسطس

ص: 28

1748) فدافع عنها دوبليكس دفاعاً مجيداً حتى رفع الحصار عنها (أكتوبر). وبعد ذلك بسبعة أيام وصلت الأنباء إلى الهند بأن معاهدة إكس لاشابل أعادت مدراس إلى إنجلترا. ذلك أن الحكومة الفرنسية أدركت أنه مقضي عليها بالهزيمة في الهند بسبب ضعف قواتها البحرية، فرفضت أن تدعم مشروعات دوبليكس في الغزو والفتح، وأرسلت إليه قوات واعتمادات هزيلة، وأخيراً استدعته إلى فرنسا (1754). وامتد به الأجل حتى رأى الإنجليز يوقعون بالفرنسيين هزيمة منكرة في الطور الهندي من حرب السنين السبع.

وكان "رجال المال" في قمة الطبقة الثالثة وكانوا من مقرضي النقود على نطاق ضيق، من الطراز العتيق المحافظ، أو من أصحاب المصارف بكل معنى الكلمة، الذين يتعاملون في الودائع والقروض والاستثمارات، أو من "ملتزمي الضرائب" الذين يعملون للدولة باعتبارهم "وكلاء الدخل". وكانت القيود التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على تقاضي فوائد الأموال قد ضعف أثرها أو أصبحت غير ذات موضوع تقريباً، في تلك الأيام. ورأى جون لو أن نصف فرنسا متلهف على الاتجار في الأسهم والسندات، وافتتحت باريس سوق الأوراق المالية (البورصة) فيها سنة 1724.

وكان بعض (رجال المال) أغنى من معظم النبلاء. فكان باريس مونتمارتل يمتلك مائة مليون جنيه، ولينورمان دي تورنهيم عشرين مليوناً، وصمويل برنارد 33 مليوناً (68). وزوج برنارد بناته من أزواج أرستقراطيين حيث دفع لكل منهن مهراً قدره 800 ألف جنيه (69). وكان سيداً مهذباً محباً لوطنه. وفي 1715 حدد بنفسه الضرائب المستحقة على ممتلكاته بمبلغ تسعة ملايين من الجنيهات، ومن ثم كشف ثروة كان يمكن أن يخفيها جزئياً (70). وعندما قضى نحبه (1739)، أماط فحص حساباته اللثام عن المدى الواسع لصدقاته الخفية (71). أما الاخوة الأربعة الذين حملوا لقب "باريس" فقد طوروا مؤسستهم المصرفية إلى سلطة سياسية. وتعلم منهم فولتير كثيراً من براعته المالية، فأذهل أوربا لكونه فيلسوفاً و "مليونيراً" في الوقت معاً.

ص: 29

وكان "الملتزمون العامون" أبغض رجال المال في فرنسا في القرن الثامن عشر. وكان النظام "الملتزم العام" قد أدخل في 1697 لجمع الضرائب غير المباشرة-أساساً الضرائب على الإعانات والتسجيلات والطلبات والملح والتبغ-ولكي تنفق الحكومة هذه الإيرادات قبل جمعها ألزمت بها شخصاً يدفع لها المبلغ المتعاقد عليه، مقابل حق جبايتها على مدى ست سنوات. وانعكس ازدياد الضرائب والثروة والتضخم في ارتفاع ثمن هذا العقد الرابح: 80 مليوناً 1726، 92 مليوناً 1744، 152 مليوناً 1774. ولم تقع أية حكومة يوماً في حيرة جرياً وراء الطرق التي تنفق بها أموال شعبها وفوضت للمتعاقد مهمة جمع الضرائب بالتعاقد إلى أربعين "ملتزماً عاماً" أو أكثر، دفع كل منهم كلوناً من الجنيهات أو أكثر ضماناً مقدماً، ولعق أصابعه كلما مرت بها الإيرادات، وهكذا، فيما بين عامي 1726 - 1730 جاوزت أرباح الملتزمين العامين الأربعين 156 مليوناً من الجنيهات (73). وابتاع كثير من أمثال هؤلاء الجباة الضياع والألقاب وشادوا القصور الفخمة وعاشوا حياة غاية في البذخ والترف، مما أثار حنق الأرستقراطية ورجال الكنيسة. وجمع بعضهم روائع الفن وأحاطوا أنفسهم بالفنانين والشعراء والخليلات، وفتحوا أبواب بيوتهم مأوى أو منتدى للصفوة من أهل الفكر وكان "ألطف الفلاسفة، هلفشيوس، واحداً من أكرم "الملتزمين العاميين". وقضى روسو فترة طويلة في ضيافة مدام دي ابيناي زوجة أحد الملتزمين. واستمتع رامو وفانلو بكرم الضيافة لدى الاسكندر دي لابوبلنيير الذي اشتهر من بين رجال المال بأنه يمثل ميسيناس (رجل الدولة الروماني من رعاة الدب صديق هوراس وفرجيل في القرن الأول ق. م) وثار كبار أفراد البورجوازية المتلهفون على الاعتراف بمكانتهم الاجتماعية، لأنفسهم من استهجان الكنيسة واحتقار النبلاء لهم، بمناصرة الفلاسفة ضد الكنيسة، ثم ضد النبلاء فيما بعد، وربما كان رجال المال هم الذين أمدوا الثورة بالمال.

ص: 30

‌4 - الحكومة

كانت الطبقة الوسطى آنذاك أكثر فعالية وقوة في الدولة، لأنها شغلت كل المناصب، فيما عدا مناصب الوزارة التي كانت تتطلب عبير شجرة الأسرة أو عراقة الحسب والنسب، وكان أفرادها يشكلون البيروقراطية وصقلت مواهبهم بالانتقاء الطبيعي في ميدان الاقتصاد، وأثبتوا أنهم أمهر وأقدر من النبلاء سليلي الأسرات الواهنين الخاملين الذين ليس لهم ما يحفزهم على الجد والعمل. وفي الحق أن نبلاء الرداء في البرلمانات والحكام كانوا ينتسبون إلى البرجوازية من حيث الأصل والخلق. وتولت الطبقة الوسطى شئون الكوميونات والأربعين مقاطعة، وإدارات الحرب والتموين والمواصلات والمناجم والطرق والشوارع والجسور والأنهار والقنوات والثغور. وكان قواد الجيش من النبلاء، ولكنهم قاموا بحملات خططها لهم في باريس رجال من الطبقة الوسطى، بارعون في تخطيط الحرب (73). إن نمط البرجوازية الفرنسية في القرن التاسع عشر كان قد سبق تشكيله في القرن الثامن عشر.

وكان المعترف به بصفة عامة أن الإدارة في فرنسا كانت أحسن إدارة في أوربا، ولكن كانت تشوبها عيوب قاتلة: كانت مركزية متغلغلة، مفصلة إلى حد إنها عوقت الابتكار والمبادرة والحيوية المحلية، وضيعت كثيراً من الوقت في نقل الأوامر والتقارير. وبالمقارنة بإنجلترا كانت فرنسا استبدادية مطلقة خانقة. فلم يكن مسموحاً بالاجتماعات العامة، ولم يؤخذ بالاقتراع الشعبي إلا في المسائل المحلية التافهة، ولم يقف أي برلمان في وجه الملك. وحسن لويس الخامس عشر الحكومة بإهمالها، ولكنه فوض إلى وزرائه سلطات ملكية مثل إصدار أوامر القبض أو الرسائل المختومة، وغالباً ما أسيء استخدام هذه السلطة. حقاً إن مثل هذه "الرسائل السرية"، أفلحت أحياناً في تسيير شئون الحكومة بسرعة عن طريق تجنب التفاصيل الفنية في الإجراءات الإدارية "الروتين الحكومي". وبإحدى هذه الرسائل أسس لويس الرابع عشر "الكوميدي فرانسيز" في عام 1680. وأنقذت بعض الرسائل سمعة إحدى الأسرات، بالزج بوغد لئيم في السجن دون

ص: 31

بطاء ودون محاكمة علنية ربما كانت تكشف عن كوارث خاصة. كما أن بعض هذه الرسائل؛ كما حدث عند انتقال فولتير وسجنه للمرة الثانية، حال بين أحد الحمقى الذين يمكن الصفح عنهم، وبين إتمام حماقته. وفي حالات كثيرة صدرت الرسائل بناء على طلب والد يائس (مثل ميرابو الأكبر) من تقويم اعوجاج ابن جامح. وفي مثل هذه الحالات كان السجن خفيفاً قصير الأمد. ولكن كانت هناك حالات كثيرة من القسوة الصارخة، ومن أمثلتها احتجاز الشاعر ديفورج لمدة ست سنوات (1750 - 1756) في حجرة من الحديد لأنه استنكر تصرف الحكومة في نفي شارل إدوارد ستيوارت حفيد جيمس الثاني من فرنسا (وكانوا يسمونه المطالب الصغير بالعرش). (74) وإذا كان لنا أن نصدق رواية الكاتب الألماني ولهلم جريم، وهو دقيق بصفة عامة، فإن الحكومة قدرت أعظم التقدير انتصارات موريس دي ساكس في المعارك إلى حد أنها أرسلت إلى الشاعر شارل فافار أمراً سرياً ليضم زوجته إلى قائمة خليلات دي ساكس. (75) إن أية إساءة إلى أحد النبلاء من رجل عادي، أو أي نقد شديد يوجه إلى الحكومة، كان من شأنه أن يؤدي إلى صدور رسالة سرية مختومة تتضمن أمراً بالقبض والزج في السجن دون محاكمة أو قضية مبينة. ومثل هذه الأوامر التعسفية أثارت استياء متزايداً على مر السنين في هذا القرن الثامن عشر.

وعوق القانون الفرنسي مع تقدم الإدارة الفرنسية، وكان يختلف من مقاطعة إلى مقاطعة مما أعاد إلى الأذهان انفراد المقاطعات بعضها عن بعض باستقلالها الذاتي، في سالف الأيام. وكان في مختلف أقاليم فرنسا. 350 هيئة قانونية متباينة. وكان كولبير قد قام بمحاولة غير موفقة في تنظيم القانون الفرنسي وتحديده في "قانون العقوبات" الذي صدر في 1670 ولكن قانونه خلط بشكل مضطرب بين تشريع العصور الوسطى والحديثة، والتشريع الألماني والروماني، والتشريع الكنسي والمدني. وكان الملك يسن القوانين الجديدة وفقاً لمتطلبات الساعة، وعادة بناء على إلحاح وزرائه مع التسرع في التحقق من انسياقها مع القوانين القائمة. وكان من العسير على المواطن أن يتبين أي القوانين ساري المفعول في محل إقامته أو في قضيته.

ص: 32

وتولت "الشرطة الراكبة" تنفيذ قانون العقوبات في الأقاليم، أما في المدن الكبيرة فكان يتولاه "شرطة البلدية"، التي نظمها ودربها أحسن تدريب وتنظيم في باريس، مارك رينيه دي فواييه دي آرجنسون، الذي لم ينجب أبناء لامعين فحسب، بل أنه كذلك بوصفه قائد الشرطة من 1679 إلى 1718، اكتسب لقب "اللعين"، لأنه كان يبدو وكأنه شيطان، وأنه كان على أية حال مصدر رعب وفزع لمجرمي باريس، لأنه كان يعرف أوكارهم وأساليبهم، ومع ذلك كان (كما يؤكد لنا سان سيمون)"يتسم بالروح الإنسانية"(76) -عطوفاً على البؤساء.

وكان الشخص المقبوض عليه يسجن قبل المحاكمة، ويعامل معاملة لا تكاد تختلف عن معاملته وهو مذنب محكوم عليه بالعقوبة. وقد يقضي-مثل جين كالاس-شهوراً في السلاسل والأغلال والتعذيب العقلي، معرضاً للمرض في كل يوم بين الأقذار. وإذا حاول الهرب تصادر ممتلكاته، وإذا اتهم بجريمة كبرى لا يسمح له بالاتصال بمحام. ولم يكن هناك حق التحقيق في قانونية أمر الاعتقال (هابياس كوربس)، أو حق المحاكمة عن طريق المحلفين. وكان الشهود يسألون سراً، كل على حدة. وإذا أعتقد القاضي بأن المتهم مذنب، ولكن ليس هناك أدلة كافية لإدانته، كان له سلطة تعذيبه لينتزع منه اعترافاً. وقل حدوث مثل هذا التعذيب القضائي وخفت حدته على عهد لويس الخامس عشر، ولكنه ظل جزءاً من الإجراءات القانونية في فرنسا حتى 1780.

وتراوحت العقوبات من الغرامات إلى تمزيق الوصال. وكانت المشهرة مفضلة في عقاب عدم الأمانة في العمل. وكان اللصوص وصغار المجرمين يجلدون بالسياط، وهم يجرون مربوطين في ذيل عربة في الشوارع. وكان يمكن أن يكون الإعدام عقوبة الخدم إذا اقترفوا السرقة، ولكن مخدوميهم نادراً ما تمسكوا بتنفيذ هذا القانون. وفي 1748 أبطل بصفة رسمية الحكم بالتجديف في السفن الشراعية الكبيرة. وكان الإعدام هو العقوبة القانونية لمجموعة كبيرة متباينة من الجرائم منها السحر والشعوذة والتجديف على الله

ص: 33

وسفاح ذوي القربى واللواط والعلاقة الجنسية بين إنسان وحيوان. ولم يعودوا يلجئون إلى قطع العنق أو شد المجرم إلى الخازوق لإحراقه. ولكن كان يمكن أن يزيدوا من روعة تنفيذ الحكم "بسحب المحكوم عليه وتمزيق أوصاله إلى أربعة أجزاء" أو تحطيم أطرافه بقضيب حديدي وهو مربوط إلى "دولاب" التعذيب. وروي "أن الناس، وبخاصة في باريس، كانوا دائماً يتطلعون في ابتهاج وسرور إلى تنفيذ حكم الإعدام (77) ".

وكان النظام القضائي معقداً مثل القانون تقريباً. وكان في الريف آلاف المحاكم الإقطاعية التي تطبق القانون المحلي، ويرأسها قضاة يعينهم السادة الملاك، وكان يمكن لهذه المحاكم أن تنظر في القضايا الصغيرة فقط، وليس لها أن تفرض من العقوبات إلا الغرامة البسيطة، وكانت أحكامها عرضة للاستئناف، ولكن الفلاح وجد أن من العسير عليه، ومما يكلفه نفقة باهظة أن يكسب قضية ضد السيد المالك. وعلاوة على محاكم السادة الملاك هذه كانت هناك محاكم محلية، وكان في كثير من المدن محاكم خاصة بالكوميونات وفوق كل هذه المحاكم الدنيا كانت هناك المحاكم الإقليمية التي تطبق القانون الملكي، وللملك أن يعين محاكم خاصة لأغراض خاصة. وكانت الكنيسة تحاكم رجالها بمقتضى قانونها الكنسي الخاص بها في محاكم كنسية. وكان المحامون يحتشدون في مختلف المحاكم وفيما حولها، مستفيدين من ولع الفرنسيين بالتقاضي. وكان في المدن الكبرى الثلاث عشرة برلمانات تتألف من قضاة يعملون على هيئة محاكم عليا لهذه المدن وما حولها، وعلى الأساس كان برلمان باريس يخدم ثلث فرنسا تقريباً. وطالب كل برلمان بأن أي مرسوم ملكي أو حكومي لا يصبح قانوناً إلا إذا عرض على البرلمان ووافق عليه وسجله. ولم يسلم المجلس الملكي للدولة بهذا الطلب قط، ولكنه في الغالب سمح للبرلمان بحق الاعتراض. ودارت أشد حقب التاريخ الفرنسي كآبة حول هذه المطالب المتعارضة والمتنازع عليها بين الملك والبرلمانات.

وبين برلمان باريس والملك قام الوزراء والبلاط. وشكل كل الوزراء معاً "مجلس الدولة" وكان البلاط يتألف من الوزراء علاوة على النبلاء

ص: 34

أو رجال الدين أو أعيان العامة الذين كانوا قد قدموا إلى الملك، بالإضافة إلى معاوني رجال البلاط وخدمهم. وكانت هناك مراسم صارمة (بروتوكول) تحدد وضع كل رجل في البلاط ومسوغاته وأسبقيته وامتيازاته وواجباته، كما انه كانت هناك قواعد تشريفات معقدة مدروسة مفصلة تيسر الاحتكاك بين عدة مئات من الأفراد المزهوين الذين تملأ الغيرة والحقد قلوبهم، كما تثقل كواهلهم. كما أن المراسم والتشريفات الباذخة المسرفة لطفت من رتابة نظام الحاشية. وهيأت جو الغموض الذي لا غنى عنه للحكومة الملكية. وكانت ضروب التسلية الأثيرة لدى أفراد الحاشية هي الانهماك في القيل والقال والكل، والميسر والصيد والقنص والزنى. وقال سفير نابلي "إن تسعة أعشار الناس في فرنسا يموتون جوعاً، والعشر يموت من عسر الهضم (78) وكانت مبالغ الخسارة والمكسب على موائد القمار جسيمة. ولكي يسدد رجال الحاشية ديونهم كانوا يبيعون نفوذهم لمن يدفع مبلغاً محترماً لأحد أفراد الحاشية، وكان لكل زوج في البلاط، تقريباً، عشيقة، ولكل زوجة تقريباً عشيق. ولم ينكر أحد على الملك خليلاته، وكل ما شكا منه النبلاء أن الملك صحب معه إلى فراشه مدام دي بمبادور وهي سيدة من عامة الشعب على حين انهم ربما أحسوا أنه قد يشرفهم أن يفترع جلالته بناتهم البكارى.

وعلى الرغم من أن لويس الخامس عشر كان قد بلغ سن الرشد رسمياً في 1723، فإنه كان آنذاك في سن الثالثة عشرة، وعهد بالإدارة إلى لويس هنري، الدوق دي بوربون. وكان التفكير قد اتجه لشغل هذا المنصب إلى كونت دي تولوز، وهو أحد أبناء لويس الرابع عشر الذين أضيفت عليهم صفة الشرعية، ولكنه استبعد "لأنه لفرط أمانته لا يصلح أن يكون وزيراً (79) " وكان السيد الدوق دي تولوز "نفسه رجلاً طيب الشعور، بذل كل ما في وسعه للتخفيف من فقر الشعب، وفكر في تحقيق هذا الغرض عن طريق وضع نظام يحدد الأسعار والأجور بصفة رسمية، ولكن قانون العرض والطلب جيب آماله. وتجاسر على فرض ضريبة دخل قدرها 2% على كل الطبقات فاحتج رجال الدين وتآمروا على سقوطه (80)

ص: 35

وأباح لعشيقته المركيزة دي بري من النفوذ والسلطان أكثر مما ينبغي، وكانت ذكية، ولكن ذكاءها كان دون جمالها، فاحتالت على زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا، أملاً في أن تستبقي الملكة الشابة تحت تأثيرها. ومهما يكن من أمر فإن ماري سرعان ما فقدت نفوذها وعطفت مدام دي براي على فولتير، وأقصت رجال الدين ودفعت الدوق إلى مهاجمة الأسقف الذي يتولى تعليم الملك، والذي كان قد أوصى الملك باختيار الدوق ليكون وزيره الأول. ولكن الملك كان يعجب بمعلمه ويثق فيه أكثر من أي رجل آخر في الدولة.

وكان أندريه هركيل دي فليري قد عين أسقفاً في فريجيس 1698 ثم مؤدباً للملك 1715. وسرعان ما أصبح ذا تأثير شديد على عقل الصبي. وكان الأسقف فارع الطول وسيماً مرناً لبقاً، كسولاً بعض الشيء لا يتعجل الحظ والثراء أبداً، ولو أنه وصل إلى ما يصبوا إليه. واعتقد ميشيليه وسانت بيف أن فليري، باعتباره معلماً، كان قد أضعف شخصية الملك الصغير بإطلاق العنان لرغباته وشهواته في ابتهاج خال من الهموم والتفكير، ورباه على مساندة اليسوعيين والعطف عليهم (81). ولكن فولتير، الذي لم يكن صديقاً لرجال الدين، أعجب بفليري، وقدره أعظم تقدير، معلماً ووزيراً، على حد سواء وأخذ فليري على عاتقه أن يشكل ذهن تلميذه ويدربه على العمل والتكتم والاستقامة والأمانة، وعلى أن يصون نفسه وسط تعجل الحاشية وهياجها وصخبها، طيلة الفترة التي لم يبلغ فيها الملك سن الرشد، والتي نعم فيها بحسن تأثير الوصي وتقدير الشعب. ولم يمن فليري قط بقيمة خدماته، ولم يشكك قط من الآخرين، ولم يغمس يده في مكائد الحاشية ودسائسهم قط. وحاول سراً أن يتعرف على شئون المملكة في الداخل ومصالحها في الخارج. وصفوة القول إن سلوكه الواعي الحذر ومزاجه اللطيف جعلا كل فرنسا تود أن تراه على رأس الإدارة فيها (82).

ولما علم فليري بأن تأثيره المستمر في تقرير السياسة استفز الدوق دي بوربون ليوصي بطرده من البلاط، ولم يبذل أي محاولة للاحتفاظ بمركزه

ص: 36

بل انسحب في هدوء إلى دير السلبيشيانر في Issy، إحدى ضواحي باريس (18 ديسمبر 1725). وأمر الملك الدوق أن يطلب إلى فليري أن يعود، وعاد بالفعل، وفي 11 يونية، استجابة لما وضح من رغبة الحاشية ورجال الدين والجمهور، (83) أمر لويس الخامس عشر، بشكل مفاجئ، بوربون "أن يأوي إلى شانتيللي ويبقى هناك لحين صدور أوامر أخرى". وأبعدت مدام دي بري إلى قصرها في نورماندي، حيث تولاها الضجر والسأم إلى أبعد الحدود، فتناولت السم وفارقت الحياة (1727).

وظل فليري يخطو إلى الأمام بفضل تراجعه، ولم يحظ بأي منصب رسمي، بل إنه على العكس، حث الملك على ان يعلن أنه سيتولى الحكم بنفسه منذ الآن. ولكن لويس آثر الصيد أو لعب القمار، وأصبح فليري الوزير الأول في كل الشئون إلا اللقب (11 يونية 1726). وكان آنذاك في الثالثة والسبعين من العمر، وكم من نفس طموحة تطلعت إلى أن يعاجله الموت، ولكنه حكم فرنسا سبعة عشر عاماً.

ولم ينس فليري أنه قسيس، فألغى ضريبة ال2% فيما يتعلق برجال الكنيسة، فكان جوابهم على هذا أنهم قدموا للدولة منحة اختيارية قدرها خمسة ملايين جنيه، وطلب فليري أن يساندوه في تنصيبه كاردينالاً، وكان في حاجة إلى اللقب ليكون له حق الصدارة والأسبقية على الأدواق في مجلس الدولة، فكان له ما أراد (5 نوفمبر)، ولم يحاول منذ تلك اللحظة أن يخفي الحقيقة، تلك هي أنه كان يحكم فرنسا.

ولشد ما كانت دهشة الحاشية حين رأوه متواضعاً وهو في أوج السلطة مثلما كان متواضعاً وهو يمهد لها. وعاش في بساطة تكاد تتسم بالتقتير، قانعاً بالحقيقة الواقعة دون امتيازات السلطة ومقتضياتها. وكتب فولتير "إن ارتفاع مكانته لم يغير من عاداته وسلوكه، ودهش الجميع ليجدوا في شخص رئيس وزارة، أعظم رجال الحاشية جاذبية وفي نفس الوقت أعظمهم نزاهة وتجرداً"(84) وقال هنري مارتن "كان أول وزير عاش بعيداً عن الترف والبذخ ومات فقيراً". (85) وكان أميناً غاية الأمانة،

ص: 37

ولم يسئ استغلال منصب قط. (86) وكان إلى أبعد الحدود أكثر تسامحاً ممن يحيطون به" (87) وعامل فولتير معاملة ودية لطيفة وتغاضى عن ممارسة الطقوس البروتستانتية سراً، ولكنه لم يتسامح قط مع الجانسنيين.

ولم يعكف، بطريقته المتروية المتأنية، على تقرير السياسة فحسب، بل على إدارة الحكومة كذلك. وأختار معاونيه بعد حكم فاصل مدقق، وساسهم في حزم وكياسة. وفي عهده تابع هنري فرانسوا دي أجوسو مهمته الطويلة المدى (1728 - 1751) في إصلاح القوانين وتنسيقها، وأعاد فيلبيرت أورى النظام والاستقرار إلى مالية الدولة. وتجنب فليري الحرب حتى أكره عليها بسبب الأطماع الأسرية في الأسرة الحاكمة، ومن ثم هيأ لفرنسا فترات سلام وهدوء طويلة، سمحت لها باستعادة الانتعاش الاقتصادي. وبدا أن نجاحه برر مقدماً الحجج التي رددها الفيزيوقراطيين "أن نحكم حكماً يسيراً معناه أن نحكم حكماً مطلقاً"(حرية التجارة والصناعة وعدم تدخل الحكومة فيهما). ووعد بوقف التضخم، وأوفى بوعده. واتسعت التجارة الداخلية والخارجية، وزاد الدخل. وحيث أنفق الإيرادات في قصد أكيد بعيد عن التبذير، وحد من نفقات مهرجانات الحاشية الملكية، فإنه استطاع أن يلغي ضريبة ال2% على الدخل بالنسبة لكل الطبقات، وأن يخفف ضريبة الأملاك التي أبهظت كاهل الفلاحين. وأعاد إلى المدن الكبيرة والصغيرة الحق في انتخاب موظفيها الرسميين. وإقتداء بالمثل الذي ضربه فليري في الاستقامة تحسنت أخلاق رجال البلاط على كره منهم.

وفي مقابل هذه المفاخر والمزايا تطل بعض المآخذ الجسيمة برؤوسها. إنه أرخص للملتزمين العامين في الاستمرار في جمع الضرائب دون تدخل من جانب الوزارة. وتعزيزاً من للمشروع الضخم الذي وضعه المحافظون، أقر نظام السخرة الذي فرض على الفلاحين والعمل دون مقابل اللهم إلا الطعام. وأسس مدارس عسكرية لأبناء الأرستقراطية، ولكنه قبض يده بشكل مخل غير حكيم بإهماله إصلاح البحرية والتوسع فيها، وسرعان ما باتت تجارة

ص: 38

فرنسا ومستعمراتها تحت رحمة الأساطيل الإنجليزية. إنه وثق ثقة عمياء في قدرته على المحافظة على السلام بينه وبين إنجلترا.

وطيلة حكم روبرت وولبول في إنجلترا نجحت سياسة السلام التي انتهجها الكاردينال. فإن الرجلين، ولو أنهما كانا على طرفي نقيض في الخلق والطباع، اتفقا على أن السلام أمر مرغوب فيه. على أنه في 1733، حضه مستشاروه في الشئون الخارجية على القيام بمحاولة فاترة لاجلاس ستانسلاس لزكزنسكي، وهو حمو الملك، على عرش بولندة، ولكن ستانسلاس اقترح إصلاح دستور بولندة وتشكيل حكومة قوية، وآثرت كل من روسيا والنمسا أن تكون بولندة عاجزة مهيضة الجناح، فرفضتا هذا الاقتراح. وفي حرب الوراثة البولندية (1733 - 1738) طردتا لزكزنسكي من وارسو ثم من دانزج. ولما كان فليري يعارض أي صراع خطير، فإنه نصح ستلانسلاس بأن يلجأ إلى نانسي ولونفيل حاملاً لقب "ملك اللورين". ولم تقع الكارثة، فإن لزكزنسكي والدول اتفقوا على أنه عند وفاته تعود إلى فرنسا اللورين التي كانت فرنسية إلى أبعد حد، وهذا ما حدث في 1766.

وجاهد فليري الذي كان في الثامنة والثمانين قدر طاقته المتضائلة، أن ينأى بفرنسا عن حرب الوراثة النمساوية (1740)، ولكن امرأة فرضت سلطانها عليه. ذلك أن فليسيتيه دي نسل مركيزة فنتيميل، التي كانت آنذاك تشارك الملك فراشه أصغت في بهجة وفرح إلى شارل أوجست فوكيه، كونت دي بل أيل، حفيد المختلس البارع نيقولا فوكيه الذي كان لويس الرابع عشر قد أحسن صنعاً بعزله. إن بل أيل هذا أبلغ المركيزة أن فليري رجل هرم أحمق، وأنه في مهاجمة فردريك الثاني ملك بروسيا للملكة الشابة ماريا تريزا ملكة النمسا، فرصة ذهبية لتمزيق إمبراطوريتها، وأن فرنسا ينبغي أن تنضم إلى فردريك، وتقتسم الغنائم. وصبت العشيقة الفاتنة هذه الكلمات في آذان الملك الولهان. وأقنعته بأن ينتزع زمام الأمور من بين يدي الكاردينال اللتين ترتعدان خوفاً وجبناً، ويستعيد مجد فرنسا.

ص: 39

وناشد فليري بأن الشرف والمصلحة تحولان دون المضي في مشروع بل آيل. فإن إنجلترا لن تسمح بتدمير النمسا لتصبح فرنسا عظيمة إلى حد ينذر بالخطر. وأن على فرنسا أن تدخل في حرب مع إنجلترا أيضاً، وأن فرنسا في خير حال في السلم! وفي 7 يونية 1741 أعلن لويس الحرب على النمسا. وفي 25 نوفمبر استولى بل آيل على براج، واتفقت معه كل فرنسا تقريباً على أن فليري عجوز أحمق.

وبعد عام في الحرب تخلى فردريك المراوغ عن فرنسا وعقد سراً هدنة مع النمسا، وإذ تحررت الجيوش النمساوية على هذا النحو، تقدمت إلى بوهيميا، وشرعت في تطويق براج. ولم تكن إلا مسألة وقت، ليضطر إلى التسليم بل آيل وجيشه المؤلف من عشرين ألف رجل، أقضى مضاجعهم وأزعجهم الأهالي الذين أضمروا لهم العداء. وفي 11 يونية 1742 أرسل فليري إلى القائد النمساوي كونت فون كونجزج نداء مذلاً يناشده فيه شروطاً معتدلة للحامية الفرنسية، وقال فيه "يعلم كثير من الناس كم كنت أرض القرارات التي اتخذناها، وإني أرغمت بطريقة ما على الموافقة عليهما"(88) فأرسل كونجزج الخطاب إلى ماريا تريزا التي نشرته على العالم. وأرسل جيش فرنسي لإنقاذ بل آيل، ولكنه لم يصل إليه قط. وفي ديسمبر ترك بل آيل وراءه ستة آلاف من المرضى والجرحى، وغادر بقواته الأصلية براج إلى الحدود عند إيجو، ولكن عملية الفرار هذه حدثت في قلب الشتاء عبر مائة ميل جبال ومستنقعات مغطاة بالجليد أو الثلوج، ولم تنقطع غارات العدو عليهم طيلة انسحابهم، وهلك من الأربعة عشر ألف رجل الذين بدءوا هذه المسيرة اثني عشر ألفاً في الطريق، وامتدحت فرنسا هذا الإنقاذ الرائع بالارتداد المذهل. وتخلى فليري عن الوزارة، وآوى إلى الدير في أسى حيث فارق الحياة (29 يناير 1743) وهو في سن التسعين.

وأعلن الملك أنه سيتولى رياسة الوزارة بنفسه منذ الآن.

ص: 40

‌5 - لويس الخامس عشر

عجباً: ماذا يكون شعور الإنسان عندما يكون ملكاً وهو في سن الخامسة؟ أن الصبي الذي قدر له أن يحكم فرنسا تسعة وخمسين عاماً، كان لا يكاد يسترعي الانتباه أو الملاحظة في طفولته المبكرة، كان ضعيفاً هزيلاً، يتوقعون أن يعاجله الموت بين آونة وأخرى. وفجأة في 1712 توفي والداه دوق ودوقة برجندي بالجدري، وأصبح الصبي وريث العرش، وبعد ثلاث سنوات كان هو الملك.

واتخذت كل الاحتياطات لجعله غير صالح للحكم. وقلقت مربيته مدام دي فنتادور أشد القلق على صحته، وعملت على وقايته من قسوة الجو، وغرس فيه كاهن اعتراف يسوعي احتراماً رهيباً للكنيسة. وكان فليري، معلمه ومؤدبه، كيساً متسامحاً، ويبدو أنه فكر في أنه من الخير لفرنسا أن يكون مليكها كسولاً بليداً. أما معلمه الخاص ماريشال دي فيلروا فقد دبر سماً عكسياً، حيث قاده إلى نافذة في قصر التويلري ليرى الجماهير التي احتشدت لتصفق وتهلل وتهتف له، وهو يقول "أنظر يا مولاي، هذا الجمع وهؤلاء الناس كلهم لك تابعون لك. أنت مليكهم وسيدهم. (89) واقترنت القدرة على كل شيء بالعجز وعدم الأهلية لأي شيء.

لقد افسد لويس هالة القداسة التي أضفوها عليه، وكان أنانياً في سلطته بليداً عنيداً، ومن ثم نشأ شاباً ضجراً صموتاً، مع التجاوز عن تجنبه مراقبة حراسه وفيما بعد تجنبه مراسم حاشيته وخنوعها ليجد متنفساً في الحفر على الخشب وشغل الإبرة وحلب البقر واللعب مع الكلاب. (90) إن عناصر القسوة التي تكمن فينا جميعاً تمكنت عنده من أن تظهر إلى السطح من خلال جبنه. ويروى أنه كان في صباه يجد لذة في صيد الحيوانات بل قتلها. (91) وفي سني نضجه هذب من هذه القسوة إلى مجرد الصيد، وربما برزت في سوء معاملته، وسرعة نبذه للبنات اللائى شاركنه فراشه بعد تدريبهن على ذلك في "متنزه الظباء" على أن معاملته

ص: 41

لأصدقائه تميزت بقدر من الحساسية المقرونة بالحذر والخجل ومراعاة شعورهم وحقوقهم.

وكان له ذهن سليم، كان من الممكن أن يتفوق لو أن الأخلاق ساندته ودعمته. وأدهش الجميع بقوة ذاكرته وسرعة بديهيته. وكان بطبيعته يؤثر الألعاب على الدرس. ولكنه استوعب بعض التعليم الصحيح في اللاتينية والرياضيات والتاريخ وعلم النبات والفنون العسكرية. وشب فارع الطول نحيل القوام، ولكن عريض المنكبين، مع بشرة جميلة وشعر ذهبي متجعد. وقال عنه ماريشال دي ريشيليو أنه "أكثر الصبية وسامة وملاحة في مملكته"(92) يحتفظ متحف فرساي بصورة رسمها له فانلر، وهو في الثالثة عشرة بالسيف والدرع، مما يكاد يتلاءم مع الوجه الصبياني. وقارنه رينيه لوس دي آرجنسون بإله الحب عند اليونان "ايروس"(كيوبيد عند الرومان). ووقعت النساء في غرامه لأول نظرة. وحين مرض في 1722 صلت كل فرنسا من أجله، وعندما أبل من مرضه بكت كل فرنسا فرحاً وابتهاجاً. إن هذا الشعب الذي كثيراً ما عانى وقاسى من ملوكه طرب وابتهج لما رواده من أمل في أن الشاب سرعان ما يتزوج وينجب ابناً يحفظ العرش في الأسرة الكريمة العريقة.

والحق إنه كان قد خطب (1721) وهو في سن الحادية عشرة، ماريا آنا فكتوريا، وعمرها عامان، ابنة فيليب الخامس ملك أسبانيا. وكانت قد انتقلت إلى باريس، وكانت الآن تنتظر أن تبلغ سن الزواج. ولكن مدام دي بري رأت أنها قد تستطيع الاحتفاظ بنفوذها المتزايد بفسخ هذا القران المرتقب، وتزويج لويس من ماري لزكزنسكي ابنة ملك بولندة المخلوع. وشرعت في تنفيذ خطتها، وأعيدت الأميرة إلى أسبانيا (1725) وتلك إهانة لم يغتفرها البلاط الأسباني قط. وكان ستانسلاس في مأواه في ويزمبرج في الألزاس حين تلقى طلب ملك فرنسا يد أبنته، فدخل إلى الحجرة الني كانت أبنته وأمها تعملان فيها وقال "فلنسجد شكراً لله". فتعجبت ماري فرحة مبتهجة وقالت "أبي العزيز، هل دعيت ثانية لارتقاء

ص: 42

عرش بولندة؟ "فأجاب ستانسلاس" بل إن الله من علينا بنعمة مذهلة أكثر. لقد أصبحت ملكة فرنسا" (93) إن ماري لم تكن تحلم قط بارتقاء أعظم عرش في أوربا. وكانت قد رأت صور لويس الخامس عشر، شاباً يكلله المجد والرفعة، وسيماً قوياً، إلى أبعد حد. وأرسلت إليها الخزانة الفرنسية الأردية والثياب والملابس الداخلية والأحذية والقفازات والمجوهرات، ووعدتها بمائتين وخمسين ألف جنيه لدى وصولها إلى فرساي، وبراتب سنوي قدره عشرون ألف كراون ذهباً مدى الحياة. وتلقت ماري هذا كله في ذهول وهي لا تكاد تصدق، واتجهت إلى الله بالشكر على حظها السعيد. وفي 15 أغسطس 1725 عقد قرانها على الملك بتوكيل في ستراسبورج، وسارت فرحة إلى باريس عبر طرق تجتاحها العواطف لعدة أيام قاسية. وزفت إلى الملك في فونتنبلو في 5 سبتمبر. وكان هو في الخامسة عشرة، وكانت هي في الثالثة والعشرين من العمر، ولم تكن جميلة، بل طيبة فقط.

أما لويس الذي قد أبدى بعد ولعاً بالنساء، فإنه أفاق عندما مس عروسه المتواضعة، وعانقها في حرارة أدهشت حاشيته، وكانت حياتهما لبعض الوقت مثالاً للحب والسعادة، وحظيت باحترام الناس وولائهم، ولكنها لم تكن يوماً ذات شعبية أو محبوبة. وكانت لطيفة ودودة رقيقة حساسة، لا تعوذها الدعابة المرحة، ومع ذلك افتقدت فرساي فيها الذهن المتوقد والحديث المرح المفعم بالحيوية، مما أصبح لزاماً أن تتحلى به سيدات البلاط. وصعقت ماري لأخلاقيات الأرستقراطية الفرنسية، ولكن نقدها لها لم يجاوز أنها ضربت مثلاً للزوجة الأمينة المخلصة الحريصة على إسعاد زوجها وعلى إنجاب وريث له. وعلى مدى اثني عشر عاماً وضعت عشرة أطفال، وفي سنوات أخرى عانت كثيراً من الإجهاض. وكان إشباع شهوة الملك معضلة واجهت الملكة. أنها توسلت إليه أن يتعفف ويستعصم، على الأقل أيام الاحتفال بأعياد كبار القديسين، وأصيبت في غمرة جهودها وواجباتها "بناسور" خبيث، والتمست "الحرارة" التي تضطرم بين جنبي

ص: 43

الملك منافذ أخرى. وكان عرفانها بحسن صنيع مدام دي بري والدوق دي بوربون محنة ابتليت بها وأصغت في صبر ناقد حين هاجم الدوق بوربون فليري في حضرة الملك. وعندما تولى زمام السلطة أرسل بناتها إلى دير ناء بحجة الاقتصاد في النفقات. ورجح نفوذه المتزايد من كفة أعدائها. ولما زاد فتور الملك نحوها آوت إلى حلقة محدودة من أصدقائها، ولعبت الورق ونسجت البسط، وحاولت الرسم، ووجدت بعض السلوى والعزاء في التقوى وأعمال البر. "وعاشت حياة الدير والرهبنة وسط انفعالات الحاشية وعبثها"(94).

وكان ينبغي للملك أن يلهو ويتسلى، ولكن مدام دي بري كانت قد اختارت له زوجة غير مسلية. على أنه لم يتخذ خليلة إلا بعد سبعة أعوام من زواجه، وعند ذاك اتخذ أربعاً على التعاقب، مع قدر محدود من الإخلاص، لأنهن كن أخوات. ولم يكن رائعات الجمال، ولكن كن جميعاً نشيطات مسليات مفعمات بالحيوية، وكن جميعاً ما عدا واحدة ذوات خبرة بأساليب الغنج والدلال والعبث. وواضح أنه كان للويزا دي نسل كونتيسة دي مللي الشرف في أن تكون سباقة إلى إغراء الملك وإغوائه (1732). إنها، مثل لويزا دي لآفالبير، أخلصت في حبها لعشيقها الملكي، ولم تكن تسعى للثراء أو السلطة، وكل ما سعت إليه هو أن تسعده. فلما زاحمتها أختها فليسيتيه، وكانت لتوها قد غادرت الدير، على مخدع الملك، فإن لويزا شاركتها في لويس (1739) في قران رباعي مهرطق-لأنه ظل يتردد على الملكة. وأزعج هذا التعقيد ضمير الملك، وتجنب تناول القربان المقدس، لفترة من الوقت، بعد أن سمع قصصاً رهيبة مفزعة عن أناس كانوا قد تناولوا القربان في فم آثم خاطئ. (95) إن هذه المرأة المغوية الخطرة (السيرانه: عند الإغريق كائن أسطوري له رأس امرأة وجسم طائر، كانت تسحر الملاحين بغنائها فتوردهم موارد الهلاك) -كما تروي إحدى أخواتها "كان لها شكل الغرناد (سمك بحري) وعنق الغرنوق (طائر ذو عنق طويل) ورائحة القرد"(96). ومع ذلك احتالت

ص: 44

التحمل. وحفاظاً على ماء الوجه وآداب المجتمع أوجد لها لويس زوجاً، وعينها مركيزة فنتميل. وفي 1740 آوت مدام دي ميللي إلى أحد الأديار، ولكنها غادرت بعد عام واحد لترعى منافستها المنتصرة التي كانت تعاني سكرات الموت أثناء الولادة (1741). وبكى الملك وبكت مدام دي ميللي معه. ووجد بعض العزاء بين ذراعيها، وعادت عشيقة له من جديد.

وثمة أخت ثالثة، أدليد نسل، البدينة الدميمة، وكانت بارعة ذكية، عملت على تسلية الملك بحركاتها الجسدية وسرعة بديهتها وأجوبتها السريعة. واستمتع الملك بها، ووجد لها زوجاً، وظل على علاقة بها. أما الأخت الرابعة، مدام دي فلافاكور، فإنها صدت الملك وصادقت الملكة. ولكن الأخت الخامسة، أقدرهن جميعاً، هي ماري آن دمي نسل دي لاتورنل، أقنعت مدام دي ميللي بأن تقدمها للملك. ولم تغز ماري قلب الملك فحسب، بل أنها أصرت كذلك على أن تكون المحظية الوحيدة، وأقصيت ميللي فقيرة معدمة، وهوت بين عشية وضحاها من أبهة الملكية إلى كآبة الدير. وهكذا أزاحت كل من الأخوات من بنات نسل أختاً لها. وبعد ذلك بقليل كانت ماري تشق طريقها لتصل إلى مقعدها في كنيسة نوتردام، فكان في هذا إزعاجاً لجماعة من المصلين، وتذمر أحدهم قائلاً:"كل هذه الضجة من اجل بغي فاجرة" فقالت هي: "سيدي، مادمت عرفتني جيداً فأرجو أن تمن علي بالصلاة لله من اجلي. (97) " ولا بد من أن الله سبحانه وجد من اليسير أن يغفر لها.

وكانت السيدة نسل الجديدة أجمل الأخوات. إن الصورة التي رسمها لها ناثييه-وجه وسيم، صدر بارز منتفخ، قوام رشيق، في ثوب من حرير مهفهف متموج يكشف عن قدمين صغيرتين رقيقتين-لتفسر شدة اندفاع الملك نحوها وميله إليها. وإلى هذا كله كانت تجمع ذكاء متقداً قدر بريق عينيها. وعلى النقيض من دي ميللي كانت ماري تتلهف على الثروة والسلطان. وقدرت أن نفقاتها تستحق أن يكون لها دوقية شاتورو

ص: 45

التي تدر 85 ألف فرنك في العام، فحصلت عليها وعلى لقب دوقة (1743). ودخلت التاريخ لمدة عام.

وتحيز لها وساندها حزب قوي في البلاط، كان يأمل في استخدام نفوذها في كسب الملك إلى جانب سياسة عسكرية فعالة، تعود فيها سلطة الحكومة من البيروقراطية البرجوازية إلى النبالة العسكرية (نبلاء السيف) وكان لويس في بعض الأحيان، شعوراً منه بالواجب، ينهمك في العمل مع وزرائه، ولكنه على الأغلب كان يفوض إليهم سلطاته وواجباته. ونادراً ما اجتمع بهم، أو عارضهم، وأحياناً وقع مراسيم اقترحها أو عرضها عليه أعوان متنافسون. وهرب من قواعد التشريفات في البلاط إلى كلابه وجياده وإلى الصيد والقنص. فإذا لم يخرج يوماً للصيد قال رجال الحاشية "أن الملك لا يفعل شيئاً اليوم". وعلى الرغم من انه لم تعوزه الشجاعة، فإنه لم يكن يميل إلى الحرب، وكان يؤثر الفراش على الخندق.

وفي المخدع وفي حجرة الجلوس حرضت الدولة الشهوانية اللعوب-مستعيدة ذكرى أجنيس سوريل-الملك على القيام بدور فعال في الحرب ضد إنجلترا والنمسا. وصورت له لويس الرابع عشر يقود جيشه إلى المجد والعظمة في مونزونامور، وتساءلت: لماذا لا يتألق لويس الخامس عشر الوسيم الشجاع في درعه وسيفه وعلى رأس جيشه، مثلما كان يفعل جده العظيم. ونجحت الخطة، وماتت الدوقة منتصرة. وأفاق الملك الكسول لحظة من سباته. وربما كان نتيجة لاستحثاثها وتحريضها، إنه عندما حانت منية فليري المسالم، أعلن لويس أنه سيحكم ويملك معاً. وفي 26 أبريل 1744 استأنفت فرنسا الحرب الفعلية ضد النمسا، وفي 22 مايو تجدد التحالف مع فردريك ملك بروسيا الذي بعث بشكره وامتنانه إلى مدام شاتوره. وتقدم لويس إلى الجبهة في أبهته الملكية وتبعه بعد يوم واحد خليلاته وسائر سيدات البلاط، تحيط بهن كل كظاهر البذخ والترف المألوفة، وكسبت القوات الفرنسية الرئيسية التي يقودها الملك، ولكن يخطط عملياتها

ص: 46

أدريان موريس دي نواي وموريس دي ساكس، انتصارات يسيرة في كورتراي ومنان وأبيرس وفورنيس. وبدا وكان لويس الرابع عشر والقرن العظيم ولدا من جديد.

ووسط المهرجانات والإبتهاجات ترامت الأنباء بأن قوة فرنسية تخلي عن مساندتها إلى حد كاف حلفاءها البافاريون، كانت قد هيأت الفرصة لجيش نمساوي مجري أن يحتل أجزاء من الألزاس واللورين، مما اضطر معه ستانسلاس الذي لم يفارقه سوء الطالع، إلى الهرب من لونفيل. وترك لويس فلاندرز وأسرع إلى متز أملاً في استثارة همم الجيش المنهزم بوجوده. ولكنه، هناك، نتيجة المشاغل المتنوعة وسوء الهضم وحرارة أواسط الصيف، انتابه مرض شديد، وازدادت الحالة سوءاً بسرعة إلى حد أنه في 11 أغسطس ظن أن في خطر من أن يهلك، وكانت خليلته قد لحقت به، وهي الآن تسهر على العناية به ورفض أسقف سواسون أن يناوله الأسرار المقدمة الأخيرة إلا إذا طردت الدوقة. واستسلم لويس، وأقصاها إلى نحو 150 ميلاً بعيداً عن الحاشية (14 أغسطس 1744) وشيعها الأهالي بصيحات الاحتقار والاستنكار وهي تغادر المدينة.

وفي الوقت نفسه كانت ماري لزكزنسكي قد عجلت بالسفر عبر فرنسا لتكون إلى جانب زوجها وهو طريح الفراش. وعلى الطريق التقى ركبها بعربة شاتور وبطانتها. وعانق الملك الملكة قائلاً "لقد سببت لك ما لا تستحقين من الحزن والأسى، وأرجو أن تغتفري لي هذا كله". فكان جوابه "ألا تعرف أنك لست في حاجة أبداً إلى الصفح من جانبي. إن الخطأ في حق الله وحده". وعندما بدأ الملك يسترد صحته كتبت الملكة إلى مدام دي موريا بأنها "أسعد مخلوقة على وجه الأرض". واغتبطت فرنسا كلها أيما اغتباط بشفاء الملك وندمه على ما فات، وعانق المواطنون بعضهم بعضاً في الشوارع، وعانق بعضهم جواد الرسول الذي حمل هذه الأنباء السارة. وأطلق بعضهم على الملك "لويس المحبوب جداً" ورددت الأمة هذه العبارة. وعندما سمع بها لويس تعجب قائلاً "ماذا فعلت لأجعلهم يحبونني إلى هذا الحد؟ "(98) إنه كان رمز الوالد لشعبه.

ص: 47

وأنقذ فردريك الألزاس بغزو بوهيميا، فإن الجيش النمساوي المجري ترك الألزاس لإنقاذ براج. وأنضم لويس، وهو لا يزال ضعيفاً إلى جيشه المتقدم نحو ألمانيا، ورآه يستولي على فريبورج-أم بريسجو. وفي نوفمبر عاد الملك إلى فرساي، وأعاد مدام دي شاتورو إلى سابق حظوتها ومكانتها، ونفي أسقف سواسون. ولكن في 8 ديسمبر، وبعد أن عانت من الحمى والهذيان لعد أيام، قضت الخليلة نحبها. ودفنت في ظلام الليل، تفادياً لامتهان الجمهور لرفاتها. واستاء الملك من رجال الدين فامتنع عن تناول الأسرار المقدسة في عيد الميلاد، وظل يترقب غراماً جديداً.

ونسيت الأمة لبعض الوقت خطايا "المحبوب جداً" وسط انتصارات جيشه، وكان قائد ألماني بروتستانتي هو بطل فرنسا. ذلك أن موريس دي ساكس كان ابن أوغسطس القوي ناخب مكسونيا وملك بولندة. وكانت أمه هي الكونتيس ماريا أورورا فون كونجز مارك التي اشتهرت بين محظيات الملك بالجمال والذكاء إلى حد أطلق معه فولتير عليها "أنها أشهر امرأة على مدى قرنين من الزمان"(99). وفي سن الثانية عشرة تزوج موريس من جرهانا فكتوريا، كونتيس فون لوين، وكانت سيئة الخلق مثل أبيه. وبدد ثروتها واستنكر دعارتها وفجورها وطلقها (1721). وبعد أن أظهر شجاعته في حملات كثيرة قصد باريس لدراسة الرياضيات. وفي 1720 حصل على منصب في الجيش الفرنسي. وبعد أن نجا من كل محاولات زوجته لقتله بالسم، عثر على خليلة مخلصة في شخص أدريين لكوفرير التي برزت مكانتها في الكوميدي فرانسيز آنذاك (1721). وفي 1725 غادر فرنسا ليؤسس له مملكة في كورلند (جزء من لتفيا الحالية). أما الممثلة العظيمة، فإنها على الرغم من حزنها الشديد على فقد حبيبها، منحته، عوناً على تنفيذ مشروعه، كل ما لديها من فضة وحلي ومصوغات، قيمتها أربعون ألف جنيه. وبهذا المبلغ، بالإضافة إلى سبعة آلاف طالير (عملة فضية ألمانية قديمة) من والدته، قصد إلى كورلند، وانتخب لعرش الدوقية (1726). ولكن كاترين

ص: 48

الأولى قيصرة روسيا وأياه ساندا مجلس الديت البولندي في مناهضة ارتقائه العرش، وطردت القوات البولندية من كورلند، الجندي الذي لم يكن ليقهر لولا هذه المقاومة، ولما عاد إلى باريس (1728) وجد أن الممثلة الكبيرة كانت تنتظره مخلصة له، ولكنه كان قد ورث عن أبيه خلقه وتقلبه، ورضى بها صاحبة الحظوة الأولى بين عشيقاته.

ومع هذا الانحلال الخلقي الجدير بالازدراء وتقلبه بين أحضان النساء الواحدة بعد الأخرى دون أن يبادلهن إخلاصهن، أصبح موريس في ميدان القتال عبقرياً لا يجارى في استراتيجية الحرب، جريئاً في تفكيره، يقظاً لأي خطر يتهدده، وأية فرصة تسنح له. وقال عنه فردريك الأكبر منافسه الوحيد في ذاك العصر إنه "قادر على تلقين الدروس لأي قائد في أوربا"(100) وفي ربيع 1745 عين قائداً عاماً للجيش الفرنسي، وصدرت إليه الأوامر بالتقدم نحو الجبهة. وكان على شفا الموت آنذاك في باريس، حيث أنهكه إفراطه في الشراب وآلام داء الاستسقاء المبرحة، وسأله فولتير كيف يذهب إلى ميدان القتال في مثل هذه الحالة، فأجابه موريس "ليس المهم أن أعيش ولكن المهم أن أبدأ"(101). وفي 11 مايو التحم بجيشه البالغ 52 ألف رجل مع قوات الإنجليز والهولنديين البالغ عددهم 46 ألفاً من الرجال الأشداء، في فونتنوي. وكان لويس والدوفين يتابعان سير المعركة الشهيرة على ربوة قريبة، أما موريس الذي أقعده الاستسقاء عن ركوب الخيل، فكان يديرها وهو على كرسي من الأغصان المجدولة. ويروي لنا فولتير، فيما كان يمكن أن يتطور إلى أسطورة وطنية، (102) أنه عندما أصبح مشاة العداء وجهاً لوجه على مرمى البنادق، صاح لورد تشارلز هاي قائد الحرس الإنجليزي "أيها الفرنسيون أطلقوا النار" فأجابه كونت دي أنتروخ عن الفرنسيين "أيها الرجال، نحن لن نبدأ بإطلاق النار، فهل تبدءون أنتم"(103) وأياً كان الأمر كياسة أو خدعة حربية، فإن الثمن كان غالياً، حيث قتل بالطلقات الأولى تسعة ضباط و434 من المشاة، وجرح 35 ضابطاً و430 جندياً. (104) واضطرب المشاة الفرنسيون وتفرقوا وولوا الأدبار. وأرسل موريس إلى الملك يعرض عليه الانسحاب، فأبى لويس، حتى حين وصل

ص: 49

إلى مكانه الجنود العائدون، وربما أخجلهم تصميمه. فما كان من موريس إلا أن امتطى صهوة جواد، وأصدر أوامره إلى قوته من جديد وأعاد تنظيمها، وأطلق القوات الملكية الخاصة على العدو. وقد رأى الفرنسيون مليكهم في خطر الأسر أو الهلاك، وحيث شجعهم وجود ماريشال دي ساكس المتهور تحيط به طلقات النار من كل مكان في أية لحظة، فإنهم جددوا القتال، وأبدى النبلاء والعامة بطولة عظيمة مشربة بروح الانتقام في ساحة المجد. وأخيراً هزم الإنجليز واختلت صفوفهم، وأرسل موريس إلى الملك يبشره بالفوز في هذا الالتحام المرير. وفقد الإنجليز والهولنديون 7500 رجل، والفرنسيون 7200. وحنى لويس رأسه خجلاً حين حياه الجنود الباقون على قيد الحياة. والتفت إلى الدوفين ولي العهد قائلاً "انظر يا بني كم يكلف النصر، احرص على أن تكون ضنيناً بدماء رعاياك"(105). وبينما عاد الملك ومرافقوه إلى فرساي، تقدم موريس للاستيلاء على غنت وبروجز وأودينارد وأوستند وبروكسل. ودانت الفلاندرز كلها فترة من الزمن.

وضيع فردريك نتائج فونتنوي بتوقيعه صلحاً منفرداً مع النمسا (ديسمبر 1745) وتركت فرنسا تقاتل وحدها على ست جبهات من الفلاندرز إلى إيطاليا. وبمقتضى معاهدة إكس لاشبال (1748) تخلت عن الفلاندرز، وكان عليها أن تقنع بالحصول على دوقيات بارما وبياشنزا وجوستللا لصهر لويس الجديد (زوج ابنته) الأمير دون فيليب الأسباني. وعاش موريس أوف سكوسونيا حتى عام 1750، غنياً معززاً مكرماً، ومثقلاً بالأمراض. وكان يجد فسحة من الوقت، بين الغواني، ليدون بعض نظرات فلسفية حالمة:"ماذا نرى اليوم في الأمم! نفر من الناس يعيشون في فراغ وسرور وجدة على حساب الجماهير التي لا تعيش إلا على توفير ملذات جديدة دوماً لهذه القلة من الناس. إن هذه المجموعة من الظالمين والمظلومين تشكل ما نسميه مجتمعاً"(106).

ص: 50

وتجاسر رجل آخر من القلة المرموقة المنعمة على أن يحلم بنظام أرحم وأكرم. ذلك أن ريننيه لويس دي فواييه، مركيز أرجنسون الذي تولى منصب وزير الخارجية لمدة ثلاث سنوات (1744 - 1747)، كتب في 1739 "تأملات في حكومة فرنسا"، ولم يجرؤ على نشره إلا في 1765. وجاء فيه أن هؤلاء الذين يفلحون الأرض هم أعظم قطاع من السكان قيمة، وينبغي أن يتحرروا من كل الرسوم والالتزامات الإقطاعية، والحق أنه يجدر بالحكومة، أن تقرض صغار الفلاحين أموالاً لتساعدهم على الإنفاق على زراعاتهم (107). والتجارة حيوية لازدهار الأمة ويجب تحريرها من المكوس والرسوم الداخلية، بل من رسوم التصدير والاستيراد كلما أمكن ذلك. والنبلاء هم أقل العناصر قيمة في الدولة، أثبتوا عجزهم في الإدارة، وهم عالة على المجتمع". وإذا قال أحد بأن هذه المبادئ تتفق مع الديموقراطية، وتميل إلى القضاء على طبقة النبلاء فلن يكون مخطئاً". وإنه ليجدر بالتشريع أن يهدف إلى أكبر قدر ممكن من المساواة. وينبغي أن يحكم الكوميونات موظفون ينتخبون محلياً، على ان تبقى السلطة المطلقة الرئيسية في يد الملك، لأن الملكية المطلقة وحدها هي القادرة على حماية الناس من ظلم (108). واستبق دي آرجنسون الفلاسفة في التطلع إلى الإصلاح على يد ملك مستنير، وقص على النبلاء ما لم يعترفوا به إلا في 4 أغسطس 1789 حين تنازلوا عن امتيازاتهم الإقطاعية، ومن ثم كان مرحلة في طريق فرنسا إلى روسو وإلى الثورة.

وفي 1747 استسلم لويس لتحريض نواي ومورياس وبمبادور وعزل دي آرجنسون. وفقد المركيز ثقته في الملوك. وفي 1753 تنبأ بما حدث في عام 1789: "إن المساوئ والشرور الناجمة عن الحكومة الملكية الاستبدادية لتقنع كل فرنسا وكل أوربا بأنها أسوأ الحكومات .... وإن هذه الفكرة لتبرز وتنتشر وتزداد قوة، وقد تؤدي إلى ثورة وطنية

وكل شيء يمهد الطريق إلى حرب أهلية .. وأذهان الناس مهيأة للتمرد

ص: 51

والعصيان، ويبدو أن كل شيء يتجه إلى ثورة كبرى في الدين والحكومة معاً (109) ".

أو كما قالت خليلة الملك الجديدة "من بعدي الطوفان".

‌6 - مدام دي بمبادور

هي من أشهر النساء في التاريخ، وأوتيت من الرشاقة والجمال ما أعمى أبصار معظم الرجال عن آثامها وخطاياها، ومع ذلك وهبت من قوة الذهن ما مكنها لمدة عقد زاهر من السنين، من أن تحكم فرنسا وتحمي فولتير وتنقذ موسوعة ديدرو، مما أدى بالفلاسفة إلى القول بأنها تنتسب إليهم. ومن العسير أن ننظر إليها في الصورة التي رسمها لها بوشيه دون أن نفقد نزاهة المؤرخ في الافتتان بالإنسان. فهل كانت دي بمبادور إحدى روائع الطبيعة، أو إحدى روائع بوشيه فحسب؟

وكانت قد بلغت الثامنة والثلاثين حين رسمها، وكانت صحتها الهزيلة تتدهور، ولم يحط من قدرها بالحسية أو الشهوانية السطحية في صوره العارية المشرقة. وبدلاً من ذلك أبرز تقاطيع وجهها الرائعة، ورشاقة قوامها، والذوق في ملابسها. والرقة الناعمة في يديها، "وتسريحة" شعرها الخفيف الأسمر عالياً فوق الجبين. وربما زاد من قيمة هذه المفاتن بخياله ومهارته، ولكنه مع ذلك لم ينقل ضحكتها المرحة المستهترة، ولا ريحها الوديعة، بل لم ينقل ذكاءها الحاد الماكر ولا قوة شخصيتها الهادئة، ولا صلابة إرادتها التي لا تلين ولا ترحم أحياناً.

وكانت جميلة منذ ولادتها تقريباً. ولكنها لم تحسن اختيار والديها، فكان عليها أن تناضل طوال حياتها ضد ازدراء الأرستقراطية للطبقة الوسطى التي نبتت فيها. وكان والدها سماناً (بقالاً)، وهو فرانسوا بواسون الذي لم يستطع يوماً أن يتخلى من اسمه (بواسون بالفرنسية معناها سمك). واتهم بالاختلاس فحكم عليه بالإعدام شنقاً، ولكنه هرب إلى همبرج، وتحايل للحصول على العفو عن جريمته، وعاد إلى باريس

ص: 52

(1741)

. أما والدتها فكانت ابنة "متعهد لتموين العجزة". وشغلت بالارتماء في أحضان الرجال، بينما كان زوجها يستدر العطف في همبرج. واستمتعت بعلاقة غرامية طويلة بملتزم ثري، هو شارل فرانسوا لينورمانت دي تورنهيم، الذي تولى الإنفاق على تعليم البنت الجميلة التي وضعتها مدام بواسون في 1721.

وأتيح لهذه الابنة، جين أنطوانيت بواسون. أحسن ما يمكن أن يتاح من المعلمين، جليوت، الجهير العظيم، للغناء، وكربيون الأب لفن الإلقاء، حتى باتت في الوقت المناسب تنافس نجوم المسرح في الغناء والرقص والتمثيل. وكان صوتها في حد ذاته إغواء". (110) وتعلمت الرسم والحفر، وعزفت على البيان القيثاري إلى حد تحمست له مدام دي ميللي في استحسان عزفها. ولما كانت جين في التاسعة من عمرها تنبأت لها سيدة عجوز (كافأتها فيما بعد على نبوءتها) بأنها ستصبح يوماً ما "عشيقة الملك" (111) ولما بلغت الخامسة عشرة دعا جمالها وأعمالها البارعة أمها إلى القول بأنها "طبق شهي للملك"، ولو أنه من المؤسف أنها لن تكون ملكة. (112) ولكن "الطعام الشهي الملكي" كانت قد بدأت تسعل دماً.

وفي سن العشرين أغراها مسيو دي تورنيهم بأن تتزوج ابن أخيه شارل غليوم لينورمانت دي اتوال، ابن أمين صندوق دار سك النقود. وهام الزوج يحب زوجته، وقدمها إلى المنتديات مفاخراً مزهو بها. والتفت في منتدى مدام دي تنسان بمونتسكيو وفونتنيل وديكلو وماريفو، وأضافت فن الحديث إلى مفاتنها الأخرى. وسرعان ما استضافت هي نفسها، مع فونتنيل، مونتسكيو وفولتير في بيتها. وكانت سعيدة. وأنجبت طفلين وأقسمت "أنه لن يحملها أحد في العالم، إلا الملك، على أن تخون زوجها أو تكون غير مخلصة له"(113) أية بصيرة نافذة هذه!

وفكرت الوالدة في أن هذا الاستثناء من المستطاع تدبيره. ورأت أنه يمكن أن تقصد جين مستقلة مركبة فاخرة إلى غابات سينار حيث يذهب لويس للصيد. وكثيراً ما رأى الملك وجهها الذي لا يمكن نسيانه. وقدمت

ص: 53

الرشاوي إلى غلمان الملك ليطروا جمالها لديه. وفي 28 فبراير 1745 شهدت حفلة رقص تنكرية أقيمت في أوتيل دي فيل بمناسبة زواج الدوفين، وتحدثت إلى الملك، وطلب منها أن تخلع القناع لحظة، ففعلت، ثم انصرفت وهي ترقص، وفي إبريل رآها في مسرحية هزلية تمثلها إيطالية في فرساي. وبعد ذلك بعدة أيام أرسل إليها دعوة لتناول العشاء. ونصحتها أمها "بأن تسلي الملك وتدخل السرور على قلبه" وفعلت جين، واستسلمت للملك. وعرض عليها جناحاً في فرساي فقبلت. وحث مسيو تورنهيم الزوج على أن يأخذ المسألة بروح فلسفية:"لا تعرض نفسك للسخرية بالاسترسال في الغضب مثل أي برجوازي، أو بخلق مشكلة (114) وعين الملك مسيو دي أتوال ملتزماً عاماً، وكيف الرجل نفسه ليكون جامع ضرائب، وابتهجت الأم بارتفاع مكانة ابنتها، وقضت تحبها. وفي سبتمبر حصلت جين على ثروة عريضة، وأصبحت المركيزة دي بمبادور، وقدمت بهذه الصفة إلى الحاشية وإلى الملكة التي هدأت من روعها ولاطفتها في ارتباك طفيف. إن الملكة غفرت لها باعتبارها شراً لا بد منه، ودعتها للعشاء. أما الدوفين فإنه، على أية حال، أطلق عليها "مدام هور" (السيدة البغي) واستاءت الحاشية لاقتحام سيدة برجوازية مخدع الملك واستيلائها على أمواله، وما فاتها أن يلاحظوا انزلاقها من حين إلى حين إلى التفوه بألفاظ الطبقة الوسطى أو انتهاج أساليبهم. وتمتعت باريس بالمقطوعات الساخرة والهجاء اللاذع "لخادمة الملك الشابة". وعانت في صمت وجلد بغض الناس لها، حتى باتت قادرة على تثبيت انتصارها وفرض سلطانها.

وإذا رأت لويس وقد بلغ به السأم والضجر ذروته، وهو الذي يملك كل شيء، ولكن كل شيء كان قد فقد عنده كل نكهته وطلاوته، فإنه تفننت وأظهرت عبقريتها في تسليته والترفيه عنه. فألهته بحلبات الرقص والمسرحيات الهزلية والحفلات الموسيقية وروايات الأوبرا، وحفلات العشاء والنزهات والصيد والقنص، وفيما بين هذا وذاك أدخلت على قلبه البهجة والسرور بمرحها وحيويتها وحديثها البارع وذكائها. وأقامت في فرساي

ص: 54

"مسرح البيت الصغير"، وأقنعت الحاشية بالقيام بأدوار على المسرح، كما كان الحال في أيام لويس الرابع عشر، ومثلت هي نفسها في مسرحيات موليير الهزلية، وقامت بدورها على خير وجه، إلى حد أن الملك قال عنها "أشد النساء فتنة في فرنسا"(115). وتنافس النبلاء على تمثيل الأدوار وقام الدوفين الصارم نفسه بدور أمام "السيدة البغي". وتفضل بأن يكون دمثاً معها في دنيا النفاق. وأصابت الملك بعض نوبات دينية، فهدأت من روعه بالموسيقى الدينية التي عزفتها بشكل يأسر لبه، حتى نسي خوفه من الجحيم. وأصبح يعتمد عليها كل الاعتماد لولعه بالحياة وتعلقه بها، فأكل معها، ولعب ورقص وقاد عربته واصطاد معها، وقضى معها كل ليلة تقريباً. وما هي إلا بضع سنين حتى خارت قواها وتدهورت صحتها.

وشكا البلاط من أن مدام دي بمبادور صرفت الملك عن مهامه بوصفه حاكماً، وأنها كانت عبئاً ثقيلاً على خزانة الدولة، فقد ازدانت بأغلى الثياب والجواهر، وتألقت غرفة ملابسها بآنية الزينة المصنوعة من البلور والفضة والذهب. وازدانت حجرتها بالأثاث المطلي باللك أو الخشب الأطلساني أو المطعم بالصدف والعاج والمعادن، وأروع آنية الخزف المصنوعة في درسدن وسيفر والصين واليابان، وكانت تضاء بثريات فخمة من الفضة والزجاج، تنعكس أنوارها على مرايا ضخمة على الجدران، أما سقوفها فكانت مغطاة بالصور التي بوشية وفانلو لإلهات الحب التي تبهج الحواس وتثيرها. ولما أحست بأنها سجينة وسط هذا الترف والبذخ، سحبت مبالغ من المال من الملك أو من الخزانة لتشيد أو تؤثث قصوراً وبررت تجهيزاتها المسرفة وحدائقها الشاسعة بأنها لازمة لاستضافة صاحب الجلالة. وكان لها الضيعة والقصر في كريسي في دري، وشادت قصر "المنظر الجميل" الفخم على ضفاف السين بين سيفر ومودون. وأقامت صوامع أو أدياراً صغيرة في غابات فرساي وفونتنبلو وكومبيين واتخذت من "أوتيل دي بونتشارتران مقراً لإقامتها في باريس، ثم انتقلت إلى قصر كونت دي افري في شارع فوبورج سانت أونوريه، ويبدو أن السيدة

ص: 55

الفاتنة أنفقت ما يبلغ في جملته 36. 327. 268 جنيهاً (116)، كان جزء منه فناً بقي في حوزة فرنسا. وبلغت نفقاتها الخاصة 33 ألف جنيه سنوياً (117). واتهمتها فرنسا بأنها كانت تكلفها أكثر مما تكلفها الحرب.

وجمعت دي بمبادور من السلطة والنفوذ قدر ما جمعت من الثروة وأصبحت المجرى الرئيسي الذي يفيض بالتعيينات والرواتب وأوامر العفو وغيرها من النعم والعطايا من الملك .. وحصلت لذوي قرباها على المنح والهبات والألقاب والوظائف ذات العمل اليسير والدخل الكبير. ولم تهيئ لابنتها الصغيرة ألكسنرين التي كانت تسميها "فانفان" شيئاً يذكر، ولكنها كانت تحلم بتزويجها لأحد أبناء لويس الخامس عشر من مدام دي فنتميل، ولكن فانفان ماتت في سن التاسعة، وحطمت قلب أمها. أما أخوها آبل-الوسيم الدمث-فإنه بنفسه كسب عطف الملك الذي كان يدعوه "بالأخ الصغير"، وكثيراً ما كان يدعوه على العشاء. ونصبته بمبادور مركيز دي ماريني وعينته مديراً عاماً للمباني، فقام بوظيفته في جد وكفاية، إلى حد رضي معه وسر به الجميع تقريباً. وعرضت بمبادور عليه أن ترقي به إلى مرتبة الدوق فرفض.

وانتشر أثرها على الفن الفرنسي بل الأوربي، ويرجع هذا إلى حد ما إلى الملك، ولكن أكبر الفضل فيه يرجع إلى شخصها هي. وأخفقت محاولاتها في أن تكون هي بنفسها فنانة، ولكنها أحبت الفن من كل قلبها، وما لمست شيئاً إلا وصار جميلاً. وازدهرت الفنون الصغيرة بشكل يبهر الألباب بفضل تشجيعها. وأقنعت لويس الخامس عشر بأن فرنسا تستطيع صنع الخزف اللازم لها، بدلاً من استيراده من الصين ودرسدن، مما يكلفها 500 ألف جنيه سنوياً. وثابرت على ذلك حتى تعهدت الحكومة بتمويل مصانع الخزف في سيفر، واكتسب الأثاث وأدوات الأكل وساعات الحائط والمراوح والمركبات وأواني الزهر والزجاجات والصناديق والنقوش على الأحجار الكريمة والمرايا، واكتسب كل أولئك فتنة دقيقة سريعة الزوال حتى يتفق مع ذوقها الرفيع الذي يتطلب مهارة فائقة،

ص: 56

وأصبحت "ملكة الروكوكو"(118). (فن الزخرفة المعقدة). وكان قدر كبير من إسرافها في النفقة يرجع إلى الرعاية التي أسبغتها على الرسامين والمثالين والنقاشين على الخشب والمعادن ونجاري الأثاث الفاخر والمعماريين. وأغدقت على بوشية وأودري ولاتور ومائة غيرهم من الفنانين. وأوحت إلى فانلو وشاردان أن يصورا مشاهد الحياة العامة، فأنهت بذلك التكرار المبتذل لموضوعات من تاريخ العصور القديمة والوسطى وأساطيرها، واحتملت في تسامح باسم تذمر لاتور ووقاحته، حين كان يرسم لها صورة. وأطلق اسمها على المراوح وتسريحات الشعر والثياب والأطباق والأرائك والكراسي والأشرطة، وعلى "وردة بمبادور" المصنوعة من الخزف المفضل لديها، وفي هذه الحقبة، لا في عهد لويس الرابع عشر، على الأرجح، بلغ تأثير فرنسا على المدينة الأوربية ذروته.

وربما كانت بمبادور أكثر نساء زمانها ثقافة. وكان لها مكتبة تضم 3500 مجلد منها 738 في التاريخ، و315 في الفلسفة، ومجلدات كثيرة في الفن، وبعض مجلدات في السياسة أو القانون، إلى جانب عدة قصص في الحب. وواضح أنها إلى جانب تسلية الملك ومكافحة أعدائها والمساعدة على حكم فرنسا، كانت تجد فسحة من الوقت لقراءة الكتب القيمة، لأنها هي نفسها كتبت لغة فرنسية رائعة، في رسائل زاخرة بالمادة ساحرة البيان. وكم توسلت إلى حبيبها أن يباري جده في رعايته للأدب، ولكن ورعه وبخله قعدا به عن ذلك. وعندما حاولت أن تخجله وتحرجه بقولها: بأن فردريك الأكبر أجرى على دالمبرت راتباً قدره ألف ومائتا جنيه، أجاب بقوله "هنا أفذاذ أكثر مما في بروسيا. وقد أكون مضطراً إلى إقامة مأدبة عشاء كبيرة لأجمعهم كلهم". وبدأ يعدهم على أصابعه "موبرتيوس، فونتنيل، لاموت، فولتير، فريرون، بيرون، ديتوش، مونتسكيو، كاردينال دي بوليناك". وأضاف من كانوا حوله، "دالمبرت، كليرو، كريبيون الابن، بريفوسث" .. وعندئذ تنهد الملك قائلاً "حسناء معنى هذا أن كل هؤلاء كان يمكن أن يتناولوا الغداء أو العشاء معي طوال خمسة وعشرين عاماً (119) ".

ص: 57

وعلى ذلك احتلت بمبادور مكان الملك في رعاية الأدب. فأتت بفولتير إلى البلاط، وأغدقت عليه، وحاولت أن تحميه من سوء تصرفاته، وساعدت منتسكيو، ومارمونتل، وديكلوس، وبيفون وروسو، ويسرت انضمام فولتير وديكلوس إلى الأكاديمية الفرنسية. ولما سمعت بما يعاني كريبيون الأب من الفقر أجرت عليه راتباً، وخصصت له جناحاً في اللوفر، وعاونت على إحياء مسرحيته "كاتيلينا"، وأصدرت تعليماتها إلى إدارة المطبعة الملكية بإصدار طبعة أنيقة من روايات الكاتب العجوز. واختارت فرانسوا كيزني طبيباً خاصاً لها وهو من أنصار المذهب الفزيوقراطي وخصصت له جناحاً تحت جناحها مباشرة في فرساي، وكانت تستقبل هناك ديدرو ودالمبرت وديكلوس وهلفيشيوس وترجو، وغيرهم، مما كان يمكن أن تكون أفكارهم مصدر إزعاج الملك، ويروي مارمونتل:"ولما لم تكن تستطيع أن تدعو هذه المجموعة من الفلاسفة إلى "صالونها" فإنها كانت تنزل لهم لتجتمع بهم على المائدة وتتجاذب معهم أطراف الحديث (120) ".

وكان طبيعياً أن ينظر رجال الدين وجماعة الأتقياء في الحاشية وعلى رأسهم الدوفين، بعين الرعب والفزع إلى تدليل هؤلاء الكفار. وفوق ذلك، كان معروفاً أن بمبادور كانت تؤيد فكرة فرض الضرائب على أملاك الكنيسة، بل حتى تجريدها من الصفة الدينية أو انتزاعها من يد الكنيسة، إذا كان هذا هو المهرب الوحيد من إفلاس الدولة (121). وأشار اليسوعيون على كاهن اعتراف الملك أن يمتنع عن مناولته الأسرار ما دام يحتفظ بعلاقته بهذه العشيقة الخطرة (122). ودافع أبناء الملك عن رجال الدين، واستخدمت ابنته الكبرى هنريت التي يؤثرها بحبه، نفوذها في التفريق بينه وبين بمبادور. وكان عيد الفصح كم كل عام مثار أزمة بين العاشقين. ففي 1751 أظهر لويس تلهفاً شديداً على تناول القربان المقدس. وفي محاولة منها لتهدئته واسترضاء كاهن الاعتراف، الأب بيروسو، واظبت على إقامة الشعائر الدينية وحضور القداس يومياً والصلوات بشكل يلفت الأنظار، كما أكدت للكاهن أن علاقتها الآن بالملك علاقة

ص: 58

أفلاطونية بريئة تماماً. ولما لم يقتنع الكاهن بهذا، فإنه طلب إليها، أن تغادر البلاط، شرطاً مسبقاً للسماح للملك بتناول الأسرار المقدسة. ومات بيروسو، ولكن خلفه ديمارتس وكان متشدداً مثله. وثبتت بمبادور في مكانها، ولكنها داومت على ورعها الظاهري. ولم تغتفر قط لليسوعيين أنهم لم يأخذوا "تحولها" مأخذ الجد، وربما كان لاستيائها منهم دور صغير في طردهم من فرنسا في 1762.

وربما كان قولها الحق في أنه لم يعد لها اتصال جنسي بالملك لويس. وقد أكد دارجنسون أحد أعدائها هذه الحقيقة (123). وكانت بالفعل قد أفضت إلى بعض خلصائها بأنها تجد مشقة متزايدة في الاستجابة للنيران المتقدة بين جنبيه (124)، واعترفت بأن عدم تحمسها لمضاجعته ذات مرة أوهن ما اشتد من قوته، وأصابه عجز جنسي وتملكه الغضب (125). وتناولت "عقاقير الحب"(126) دون نتيجة تذكر، اللهم إلا الإضرار بصحتها. وأدرك أعداؤها في البلاط هذا الوضع فجددوا مؤامرتهم لاقتلاعها من مركزها. وفي 1753 دبر دارجنسون خطة تنفذ بها مدام دي شوازيل رومانت إلى أحضان الملك، ولكنها طالبت بثمن باهظ ظن أنه لا يتكافأ مع تضحيتها وسرعان ما تمكنت بمبادور من طردها. وهنا آن الأوان أن تأوي المحظية الأولى المنهوكة إلى "متنزه الظباء" البغيض.

وفي "متنزه الظباء" في طرف ناء من فرساي جهز مسكن لإقامة شابة أو شابتين مع خدمهما ومرافقيهما حتى يحين الوقت ليستقبلهما لويس في جناحه الخاص، أو يقصد إليهما في مسكنهما متنكراً في زي كونت بولندي عادة. وتناثرت الشائعات بأن هؤلاء البنات كن كثيرات، وأضافت الأساطير أن سن بعضهن لم تزد على تسع سنوات أو عشر. والظاهر أنه لم يكن يوجد منهن في وقت واحد أكثر من اثنتين (127)، وكان يؤتى بمجموعات منهن على التعاقب، ليتدربن على أن يقدمن للملك "حق السيادة" فإذا حملت إحداهن أعطيت مبلغاً من المال يتراوح بين عشرة آلاف ومائة ألف جنيه، يساعدها على العثور على زوج لها في الأقاليم، وكان الأطفال

ص: 59

الذين يولدون عن هذا الطريق يمنحون راتباً سنوياً قدره أحد عشر ألف جنيه. وعلمت مدام دي بمبادور بأمر هذا "الحريم" الذي لا يصدق، فلزمت الصمت. ورغبة منها في ألا تحتل مكانها عشيقة من النبيلات ستعمل من غير شك على إبعادها عن البلاط، بل ربما عن باريس، آثرت أن تترك للشابات الوضيعات أن يشبعن أذواق الملك الفاسدة، وانهارت حالتها المعنوية إلى الحضيض وقالت لمدام دي هوست "كل ما أضن به هو قلبه، وكل هؤلاء الفتيات غير المتعلمات لن يسلبنني إياه (128) ".

ولم تنزعج الحاشية انزعاجاً ملموساً لهذه الترتيبات الجديدة لأن كثيراً من رجالها احتفظوا هم أنفسهم بأكواخ في "منتدى الظباء" هذا لخليلاتهم (129). ولكن أعداء بمبادور افترضوا أن سلطانهم قد آذن بزوال. ولكن خاب فألهم، فإن الملك ظل صديقها المخلص لفترة طويلة بعد أن انقطعت عن أن تكون "خليلته". وكان في 1752 قد خلع عليها رسمياً لقب دوقة. وفي 1756، وعلى الرغم من احتجاجات الملكة منحها المنصب الرفيع "مديرة قصر الملكة"(كبير وصيفات الملكة). فلازمت الملكة، وحضرت معها العشاء ورافقتها إلى القداس. ولما كانت وظيفتها الجديدة تقتضي الإقامة في البلاط فإن اليسوعيين تنازلوا عن طلبهم إبعادها وألغي "الحرم من الكنيسة" الذي ظل مفروضاً عليها لفترة طويلة"، وأجيز لها تناول الأسرار المقدسة. أما بنات الملك اللاتي ناصبها العداء منذ زمن طويل فكن يقصدن إلى زيارتها في "شوازي".

وقضى لويس معها مدة ساعات في كل يوم تقريباً، حيث ظل يجد لذة في طلاوة حديثها ورقتها الفاتنة التي لا تنضب معينها. واستمر يحترم، وغالباً ما يتبع، مشورتها في التعيينات، وفي المسائل الداخلية، بل حتى في السياسة الخارجية. وأصدرت الأوامر إلى الوزراء، واستقبلت السفراء واختارت القواد، وتحدثت أحياناً باسم الملك وباسمها، وكأنها تشترك في الحكم، فكانت تقول "نحن" سننظر (في الأمر). وكان طلاب الوظائف يزحمون حجرة انتظارها، فكانت تحسن استقبالهم وتلاطفهم. وسلم أعداؤها بسعة إطلاعها المدهشة في الشئون السياسية، ولباقتها في الأحاديث الدبلوماسية،

ص: 60

ونظراتها التي كثيراً ما كانت ثاقبة (130). وكانت قد أشارت منذ زمن بعيد إلى أن عجز قواد فرنسا هو أساس اضمحلالها العسكري. وفي 1750، اقترحت على لويس أن ينشئ مدرسة حربية يتلقى فيها الفنون والعلوم العسكرية أبناء الموظفين والضباط الذين قتلوا أو استنزفت قواهم في خدمة الدولة. ووافق الملك ولكنه أبطأ في توفير الاعتمادات اللازمة للمشروع. فنقلت بمبادور إلى هذا المشروع دخلها الخاص لمدة عام، ووفرت له أموالاً إضافية عن طريق "يانصيب"، وضريبة على لعب الورق، وأخيراً فتحت المدرسة 1758 ملحقة "بقصر الانفاليد".

والآن نصح هذا الوزير الساحر بلا وزارة بمراجعة جريئة لسياسة فرنسا الخارجية وإعادة تقييمها. وربما جاءت المبادرة بهذا "النقض المشئوم للأحلاف" من كونت فون كونتز سفير النمسا في باريس. وقد عززها التنازل الكاره من جانب الإمبراطورة التقية ماريا تريزا التي خاطبت بمبادور "بصديقتي العزيزة"، و "ابنة عمي"، كما عززها فردريك الأكبر بإشارته المهنية إلى المركيزة دي بمبادور "بحكم المرأة" في البلاط الفرنسي. وكانت مدام دي شاتور ودارجنسون قد وجها السياسة الخارجية نحو الصداقة مع بروسيا، وأوضح كونتز وبمبادور أن بروسيا الحديثة-التي قويت بالانتصار في حرب الوراثة النمساوية، والتي لديها جيش قوامه ألف جندي أحسن تدريبهم تحت إمرة قائد قدير طموح لا يبالي بأية مبادئ خلقية، وملك غدر بفرنسا مرتين بتوقيعه صلحاً منفرداً-إن بروسيا هذه لا بد أنها سرعان ما تشكل خطراً أشد من خطر النمسا التي كانت قد فقدت آنذاك سيليزيا، ولم تعد تتوقع أي عون أو تأييد من أسبانيا في ظل حكم آل بوريون، وقد انقضى تطويق النمسا لفرنسا. وقويت هذه الحجة حين عقدت بروسيا في 16 يناير 1754 تحالفاً مع إنجلترا-عدوة فرنسا التقليدية ورد مجلس الدولة الفرنسي على هذا بإبرام تحالف مع النمسا (أول مايو). وهنا نجد أن المركيزة دي بمبادور التي عادت الآن تبصق دماً، وكانت في الخامسة والثلاثين، ولم يبق لها من العمر إلا ثمان سنوات، نجد أنها قد لعبت دورها في التمهيد لإشعال حرب السنين السبع.

ص: 61

الفصل الثامن

‌الأخلاق والعادات

‌1 - التعليم

كان بين الصراعات الكثيرة الأساسية التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر، محاولة الكنيسة الاحتفاظ بسيطرتها على التعليم، إلى جانب محاولة الفلاسفة وغيرهم إنهاء هذه السيطرة والقضاء عليها. وبلغ الصراع ذروته بطرد اليسوعيين من فرنسا في 1762، وتأميم المدارس الفرنسية، وغلبة التعليم العلماني في الثورة الفرنسية. وكان خلاف قد بدأ يبرز في النصف الأول من القرن الثامن عشر فقط.

ولم تكن الغالبية العظمى من الفلاحين تعرف القراءة. وفي كثير من المجتمعات الريفية، كانت الهيئات البلدية، حتى إلى عام 1789، "لا تكاد تعرف الكتابة"(1). وكان في معظم الأبرشيات على أية حال "مدرسة صغيرة" يقوم فيها الكاهن بنفسه، أو من يعينه هو، بتعليم القراءة والكتابة والدين المسيحي على صورة سؤال وجواب، للأولاد الذكور أساساً، في مقابل رسم زهيد يدفعه الآباء عن كل تلميذ (2)، أما الأولاد الذين يعجز آباؤهم عن الدفع فكانوا يتعلمون بالمجان إذا طلبوا ذلك. وكان اللحاق بهذه المدرسة مطلوباً قانوناً بمقتضى مراسيم 1694 و1724، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ (3)، وامتنع كثير من الآباء الفلاحين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لحاجتهم إليهم في المزرعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم رأوا أن التعليم أمر مزعج لا ضرورة له لمن قدر عليهم أن يشتغلوا في الأرض. فالتعليم لم يكن يكفل أي ارتفاع في المركز الاجتماعي لأن الحواجز الطبقية كانت عقبة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في النصف الأول من القرن. وفي القرى والمدن الصغيرة نادراً ما كان الذين تعلموا القراءة يقرئون شيئاً غير ما تعلق بعملهم اليومي. وكان كل إنسان يعرف قواعد الدين، وفي المدن الكبيرة وحدها كان هناك شيء من المعرفة بالأدب والعلوم والتاريخ.

ص: 62

وفي الطبقات المتوسطة والعليا كان معظم التعليم على أيدي المربيات والمؤدبين، أو المعلمين الخاصين، وأخيراً على أيدي معلمي الرقص، وهؤلاء الأخيرين كان مفروضاً فيهم أن يعلموا الجنسين كليهما الفنون الشاقة، وهي فنون الجلوس والوقوف والمشي والحديث والإيماء، في كياسة ورقة. وتلقت بعض الفتيات دروساً خاصة في اللاتينية، وفوق هذا كله تقريباً، تعلم الفقراء الغناء والعزف على البيان القيثاري. وقام التعليم العالي للبنات في الأديار، حيث ارتقين في الدين والتطريز والموسيقى والرقص وقواعد السلوك القويم الذي يجدر بالشابة أو الزوجة أن تتحلى به.

وكان كل التعليم الثانوي للذكور تقريباً في يد اليسوعيين، ولو أن الرهبان الأوراتوريين والبندكتيين أسهموا فيه. وكان المتشككون من أمثال فولتير وهلفيشيوس من بين الخريجين العديدين المرموقين في كلية اليسوعيين "لويس الأكبر" حيث كان الأب شارل بوريه يقوم بتدريس "البلاغة"(أي اللغة والأدب وعلم الكلام) وترك في تلاميذه ذكريات طيبة. وما كاد المنهج في المدارس اليسوعية ليتغير طوال قرنين من الزمان. وعلى الرغم من تركيز هذا المنهج على الدين والأخلاق، فإن مادته كانت كلاسيكية إلى حد بعيد، فكان التلاميذ يدرسون مؤلفات روما القديمة في نصوصها الأصلية، فأكب التلاميذ الصغار على دراسة الفكر الوثني لمدة خمس أو ست سنوات، فلا عجب أن ساورتهم بعض الريبة في عقيدتهم المسيحية. وأكثر من هذا فإن اليسوعيين "لم يدخروا وسعاً في تنمية ذكاء تلاميذهم وغيرتهم"(4). فكانوا يشجعون على المناقشة والتحدث علانية وعلى تمثيل الروايات، وكانوا يتعلمون قواعد لترتيب أفكارهم والتعبير عنها، ومن ثم كان جزء من وضوح الأدب الفرنسي وصفاته من غرس المدارس اليسوعية، وأخيراً تلقى الطالب مناهج قاسية في المنطق والميتافيزيقا وعلم الأخلاق عن أرسطو من ناحية وفلاسفة العصور الوسطى السكولاسيين (المدرسيين) من ناحية أخرى. وهنا مرة أخرى، نجد أن النتائج كانت تقليدية، إلا أن عادة التفكير والاستنتاج والتعليل بقيت-وأصبحت بالفعل-علامة مميزة لهذا العصر

ص: 63

"عصر العقل" بوجه خاص. وكان الجلد بالسياط أيضاً جزءاً من المنهج، حتى لطلاب الفلسفة، ودون تميز في المرتبة أو المكانة الاجتماعية، فقد جلد من أصبح فيما بعد مركيز دارجنسون ودوق بوفلرز، أمام أقرانهما في الفصل، لأنهما قذفا أساتذتهما الأجلاء بحبات البازلاء (5).

وعلت الشكوى بالفعل من أن المنهج لم يول عناية تذكر بما وصلت إليه المعرفة من تقدم وازدهار، وأن التعليم كان نظرياً إلى حد كبير، ولا يعد للحياة العملية، وإن الإلحاح الشديد على التعليم الديني قد أفسد الأذهان أو أغلقها. وفي "رسالة عن التعليم" كانت يوماً مشهورة (1726 - 1728) دافع شارل رولان رئيس جامعة باريس عن المنهج الكلاسيكي (القديم التقليدي) وعن التركيز على الدين. وكان من رأيه أن الهدف الأسمى من التعليم هو خلق أناس أفضل. وأفاضل المعلمين "لا يعنون كثيراً بالعلوم، حيث لا تساعد هذه العلوم على التمسك بأهداب الفضيلة. ولم يكونوا يأبهون كثيراً بالتزود بألوان المعرفة، إذا لم تقترن بالاستقامة وحسن الخلق. وكانوا يؤثرون الرجل الأمين على الرجل العالم الواسع الإطلاع (6). وقال رولان إنه من الصعب أن نشكل الخلق القويم دون تأسيسه على عقيد دينية. ومن ثم "ينبغي أن يكون الهدف من جدودنا، والغرض من تعليمنا هو الدين" (7) وسرعان ما يثير الفلاسفة الجدل حول هذا الموضوع، ويستمر الجدل حول ضرورة الدين للأخلاق طوال القرن الثامن عشر، والقرن الذي يليه. وهو جدل حي في أيامنا هذه.

‌2 - الأخلاق

ويبدو أن حجة رولان كانت تؤيدها الفروق الطبقية في المبادئ الأخلاقية. وإن الفلاحين الذين تمسكوا بدينهم عاشوا حياة أخلاقية نسبياً، وربما كان هذا، على أية حال راجعاً إلى حقيقة أن الأسرة كانت وحدة الإنتاج الزراعي، وأن الأب كان أيضاً المستخدم أي صاحب العمل، وكان نظام الأسرة يرتكز في جذوره على نظام اقتصادي يفرضه تعاقب الفصول ومتطلبات الأرض. واستمسكت الطبقات الوسطى بقدر كبير من العقيدة

ص: 64

الدينية، مما عزز سلطة الأبوين أساساً للنظام الاجتماعي. أما مفهوم الأمة باعتبارها رابطة من الأسرات عبر الأجيال، فقد هيأ لأخلاقيات الطبقة الوسطى قوة التماسك والتقاليد. وكانت الزوجة البرجوازية نموذجاً للجد والتقوى والأمومة. وكانت تتحمل آلام الوضع في صبر وجلد، وسرعان ما كانت تعود إلى عملها. وكانت قانعة ببيتها وعلاقاتها مع جيرانها، وقليلاً ما انزلقت إلى زخرف الدنيا الخداع التي يسخر الناس فيها من الإخلاص على أنه شيء عتيق بال. ونادراً ما نسمع عن حوادث الزنى عند زوجات الطبقة الوسطى. وضرب كل من الأب والأم معاً مثلاً رائعاً في العادات القويمة والتمسك بالدين والحب المتبادل. وتلك هي الحياة التي خلد شاردان ذكرها معتزاً بها، في لوحته مثل "البركة".

ومارست كل الطبقات أعمال البر والإحسان وكرم الضيافة. وكانت الكنيسة تجمع الصدقات وتوزعها. ودعا الفلاسفة المعادون للدين إلى عمل الخير، وبنوا دعوتهم على أن هذا الحب للإنسانية لا حب لله، ومن ثم كانت "الإنسانية" الحديثة نتاجاً للدين والفلسفة معاً. وأمدت الأديار الجياع بالطعام، وعنيت الراهبات بالمرضى، وقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء والأيتام والعجزة على الموال التي تدفعها الدولة للكنيسة والنقابات. وكان بعض الأساقفة مبذرين منصرفين إلى متاع الدنيا. ولكن نفراً آخر منهم-مثل أساقفة أوكسير وميربوا وبولون ومرسيليا-وهبوا ثرواتهم وحياتهم لأعمال البر والإحسان. ولم يكن موظفو الدولة مجرد طالبي مناصب أو نفعيين طفيليين، فإن موظفي بلدية باريس كانوا يوزعون الطعام وحطب الوقود والنقود على الفقراء" وفي ريمس خصص أحد أعضاء البلدية 500 ألف جنيه للصدقات. وكان بالملك لويس الخامس عشر نزعات إلى الشفقة والعطف والحنان المشوب بالجبن. وعندما خصص مبلغ 600 ألف جنيه للألعاب النارية احتفالاً بمولود دوق برجندي الجديد (1751)، ألغى الملك العرض وأمر بتوزيع المبلغ مهوراً لستمائة من أفقر بنات باريس، وحذت مدن أخرى حذوه. وعاشت الملكة عيشة مقتصدة غير مسرفة وأنفقت معظم

ص: 65

دخلها في الأعمال الخيرية. وكذلك أنفق دوق أورليان ابن الوصي المشاغب الخليع ثروته في أعمال البر والإحسان. ويبدو الجانب غير المشرق في هذا الموضوع في الفساد والإهمال اللذين شوها إدارة المؤسسات الخيرية. فهناك عدة أمثلة لمديري مستشفيات استولوا لأنفسهم على الأموال التي كانت تصلهم من اجل العناية بالمرضى والفقراء.

وعكست الأخلاقيات الاجتماعية طبيعة الإنسان-أناني وكريم، وحشي ولطيف، يخلط بين قواعد اللياقة وسفك الدماء في المعركة. ولعب رجال الطبقات العليا والدنيا ونساؤها الميسر في تهور بالغ، دون إحساس بالمسئولية وبددوا ثروات أسراتهم، وكان الغش في اللعب سائداً إلى حد كبير (8). وفي فرنسا، كما كان الحال في إنجلترا، أفادت الحكومة من حب الناس للمقامرة بإنشاء "يانصيب" وطني. أما أسوأ مظاهر الحياة الفرنسية وأكثرها مجافاة للأخلاق فهو أرستقراطية الحاشية البالغ الخالي من الرحمة، تلك الأرستقراطية التي كانت تعيش على الدخول التي كانت تبتزها من الفلاحين الفقراء. فإن ملاءات سرير الدوقة دي لافري كانت مشغولة بالمخرمات الغالية الثمن، وتكلفت 40 ألف كراون، وكانت لآلئ ومجوهرات مدام اجمونت تساوي 400 ألف كراون (9)، وكانت الخيانة والخداع أمرين عاديين مألوفين من أعمال الموظفين، واستمر بيع الوظائف والمناصب، وكان مشتروها يستغلونها في الإثراء غير المشروع تعويضاً لهم عما دفعوا فيها ولم يكن قدر كبير مما يجبى من الضرائب يصل إلى خزانة الدولة. وفي غمرة هذا الفساد نمت روح الوطنية، ولم يكف الرجل الفرنسي عن حب فرنسا، ولك يطق الرجل الباريسي أن يعيش طويلاً بعيداً عن باريس. وامتاز كل فرنسي تقريباً بالبسالة. وفي حصار ماهون، ورغبة من المارشال دي ريشيليو في منع جنوده من تعاطي المسكرات، أصدر هذا القائد قراراً يقول فيه "أن أي فرد منكم يوجد ثملاً في المستقبل لن يكون له شرف الاشتراك في الهجوم" فتوقف شرب الخمر تقريباً (10)، واستمرت المبارزة على الرغم من كثرة قرارات تحريمها. وقال لورد تشسترفيلد "إن المرء ليلحقه الخزي والعار إذا لم يثر للإهانة، وإنه ليلقى حتفه إذا استاء لها (11) ".

ص: 66

وكان عقاب اللواط الإعدام حرقاً. ولكن هذا القانون كان ينفذ في الفقراء وحدهم، كما حدث مع أحد رعاة البغال 1724. وفي 1725 ألقي القبض على الراهب ديفونتين، الذي كان قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات اليسوعية لمدة خمسة عشر عاماً، واتهم بمثل هذه الفعلة، فأهاب بفولتير لمساعدته، فنهض من فراش مرضه قاصداً إلى فونتبنلو، واستحث فليري ومدام دي بري لاستصدار عفو عنه (12)، وطيلة العشرين عاماً اللاحقة كان ديفونتين من ألد أعداء فولتير. وكان بعض خدم الملك منحرفين جنسياً. ويبدو أن أحدهم، وهو تريمو ويل، اتخذ من الملك ذي الستة عشر ربيعاً غلاماً له (13).

وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء. وفي المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفي بنفقاتهن الضرورية، وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً (14). وقدر كاتب معاصر عدد البغايا في باريس بأربعين ألفاً. وهناك تقدير آخر بأنهن ستون ألفاً (15) وكان الرأي العام-فيما عدا الطبقة الوسطى متسامحاً مترفقاً بأمثال هؤلاء النسوة، حيث أدرك أن كثيراً من النبلاء ورجال الدين ووجوه المجتمع ساعدوا على خلق هذا الطلب الذي أدى إلى هذا العرض، وتذرع الرأي العام بشيء من اللياقة، فأدان الفقيرات اللاتي يبعن أعراضهن أقل مما أدان الذين يشترون المتعة، أي أن مسئولية هؤلاء عن هذا العمل الشائن أكبر. وكانت نظرة رجال الشرطة إلى هذا الأمر تختلف عن ذلك اللهم إلا إذا قدمت شكوى خاصة أو عامة ضد هؤلاء "البنات" وهنا يتم الاعتقال بالجملة، تبرئة لساحة الحكومة، وعندئذ يساق النساء للمثول أمام أحد القضاة، وقد يحكم القاضي بإيداعهن السجن أو المستشفى، حيث تحلق رءوسهن بالموس ويعاقبن ويوضعن تحت المراقبة ثم يطلق سراحهن، وتنمو شعورهن من جديد. وإذا خلقن متاعب جمة لأحد ذوي النفوذ والسلطان أو أسأن إليه، فيمكن إرسالهن إلى لويزيانا. وعرضت محظيات الحاشية أو المومسات اللاتي يتردد عليهن

ص: 67

الأغنياء، مركباتهن وحليهن ومجوهراتهن في طريق "كور-لا-رين" في باريس، أو في متنزه "لونجشامب"(16). وإذا حصلن على عضوية الكوميدي فرانسيز أو الأوبرا، حتى لتمثيل الأدوار القصيرة، اكتسبن الحصانة ضد الاعتقال بتهمة بيع مفاتنهن أو أعراضهن. وارتفع بعضهن ليكن نماذج للفنانين (لرسم الصور العارية)، أو يتخذهن النبلاء ورجال المال أخداناً لهم خاصة. واقتنص بعضهن أزواجاً، وحصلن على ألقاب وثروات، وأصبحت واحدة منهن بارونة سانت شاموند.

وكانت الزيجات القائمة على الحب، دون موافقة الأبوين، تزداد في عددها وفي الإنتاج الأدبي. وكان من الممكن الاعتراف بشرعيتها إذا عقدت أمام كاتب العدل أو الموثق. ولكن في معظم الأحوال، حتى بين الفلاحين ظل الآباء هم الذين يرتبون أمر الزواج باعتباره اتحاداً بين الممتلكات والأسرات، لا مجرد اتحاد الأفراد. فالأسرة، لا الفرد، هي وحدة المجتمع، ومن ثم كانوا يرون أن بقاء الأسرة وممتلكاتها أهم من الملذات العابرة أو العواطف السريعة الوهن عند الشباب المتهور. وفوق هذا قال فلاح لابنته "الحظ أقل عمى من الحب (17) ".

وكانت السن القانونية للزواج هي الرابعة عشرة للذكور والثالثة عشر للإناث. ولكن كان يمكن قانوناً أن تتم الخطبة في سن السابعة، وهي التي حددها فلاسفة العصور الوسطى مبدأ "سن العقل" وكانت الشهوة الجامحة عند الشبان تدفع بهم إلى مطاردة الآنسات مطاردة عنيفة، إلى حد أن الآباء زوجن بناتهن حالما كان ممكناً ميسوراً تفادياً لإنفضاض البكارة قبل الأوان، وهكذا كانت المركيزة دي سوفبيف أرملة في الثالثة عشرة من عمرها. ولزمت بنات الطبقتين الوسطى والعليا الدير حتى يتم اختيار الأزواج لهن، وعندئذ يعجل بهن من حياة الدير إلى حياة الزوجية، وكان لزاماً تشديد الحراسة عليهن في الطريق. وبهذا النظام القاسي المنافي للأخلاق السيئ، كان كل النساء تقريباً عذارى عند الزواج.

وإذ احتقرت الأرستقراطية الفرنسية التجارة والصناعة، ونادراً ما

ص: 68

غطت الدخول الإقطاعية نفقات الإقامة في البلاط وما تقتضيه من مظاهر، فإنها وطنت النفس على تزويج أبنائها للذين توافرت لهم الأرض ولم يتوافر لديهم المال، من بنات الطبقة البرجوازية العليا اللاتي لا يملكون أرضاً، ولكن يملكن كالاً. ولما اعترض ابن دوقة شولن على زواجه من ابنة التاجر بونييه ذات الصداق الكبير، أوضحت له أمه "أن زواج المنفعة ممن هي دونك مرتبة، هو مجرد حصولي على الروث لتسميد الأرض"(18). وفي مثل هذه الزيجات عادة، كان الزوج النبيل أو ذو اللقب، وهو يستغل أموال زوجته، يذكرها من حين لآخر بأصلها الوضيع، وسرعان ما يتخذ خليلة، وفي هذا خير شاهد على احتقاره لزوجته. ولم يغب هذا أيضاً عن ذاكرة الطبقة الوسطى حين ساعدت الثورة.

ولم يوصم الزنى بأية وصمة عار اجتماعي، في البيئة الأرستقراطية، بل كان أمراً مقبولاً باعتباره بديلاً ساراً عن الطلاق الذي حرمته الديانة الوطنية. وقد يتخذ الزوج الذي يخدم في الجيش أو في الأقاليم له خليلة، دون أن يبدي لزوجته سبباً مقبولاً للشكوى. وقد يفترقان الواحد منهما عن الآخر، بالخدمة في الحاشية أو في الضيعة، وهنا أيضاً قد يتخذ خليلة ومذ كان عقد الزواج يتم دون الزعم بأن العاطفة يمكن أن تتجاوز عن الثراء فإن كثيراً من الزوجين من النبلاء عاشا فترة طويلة من حياتهما منفصلين، وأباح كل منهما للآخر زلاته، شريطة أن تكون هذه الزلات مستورة بلباقة، كما تكون في حالة المرأة مقصورة على رجل واحد في نفس الوقت وأجرى مونتسكيو على لسان سائحه الفارسي قوله:"إن الرجل الذي يريد أن يستحوذ على زوجته له هو وحده يعتبر معكراً لصفو السعادة العامة، غبياً يريد أن يستأثر بالاستمتاع بضوء الشمس، ويحجبها عن سائر الناس (19) ". وسئل يوماً دوق دي لوزون الذي لم يكن رأى زوجته طيلة عشر سنين، ماذا يقول لو أن زوجته أرسلت إليه تنبئه بأنها حامل، فأجاب، مثل أي سيد ماجد في القرن الثامن عشر:"أكتب إليها لأقول إني مبتهج فرح لأن الله بارك زواجنا، اعتن بصحتك، سأحضر لأقدم لك إحتراماتي هذا المساء (20) " فالغيرة كانت أمراً مرذولاً.

ص: 69

وكان بطل الزنى وفتى العصر ونموذج الأناقة في ذاك الزمان هو لويس فرانسوا أرمان دي فينيرو دي بلسيس، دوق ريشيليو حفيد أخي الكاردينال الصارم المتقشف. وقد انزلقت إلى مخدعه عدة سيدات نبيلات من ذوات الألقاب، الواحدة تلو الأخرى، تجرهن إليه مكانته وثروته وشهرته. ولمما وبخ ابنه وهو في العاشرة من عمره على بطء تقدمه في دراسته اللاتينية، أجاب في سرعة مفحمة:"أن أبي لا يعرف اللاتينية، ولكنه مع ذلك يحظى بأجمل نساء فرنسا (21) ". وهذا لم يمنع اختياره للأكاديمية الفرنسية قبل فولتير، صديقه ودائنه، بثلاث وعشرين سنة، وكان فولتير يكبره بعامين. ومهما يكن من أمر فإن الرأي العام استهجن سلوك هذا الدوق لأنه كان يجلب إلى الملك النساء لهذا الغرض الدنيء. ومنعته جيوفران من التردد على ندوتها لأنه يجمع بين عديد من أمهات الكبائر (22) ". وعمر حتى بلغ الثامنة بعد التسعين، ومات قبل قيام الثورة بعام واحد.

وإذا كانت العلاقة بين الزوجين على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نتصور مصير أبنائهما. وكان النبلاء يعتبرون صراحة أن أبنائهم عوائق في طريقهم، ويدفعون بهم عند ولادتهم إلى المرضعات، ويتولى تنشئتهم مربيات ومعلمون خاصون، حيث يرون والديهم بين الحين والحين. وروى تاليران أنه لم ينم قط تحت السقف الذي نام تحته أبوه وأمه. وكان من رأي الأبوين أنه من الحكمة أن يباعدوا بينهم وبين أبنائهم، فكانت العلاقة الحميمة أمراً شاذاً، وكانت الألفة أمراً غير معروف. فخاطب الابن أباه بقوله "سيدي" وقبلت البنت يد أمها. وإذ كبر الأبناء أرسلوا إلى الجيش أو الكنيسة أو الدير. وكانت كل الممتلكات تؤول إلى الابن الأكبر، كما كان الحال في إنجلترا.

واستمر أسلوب الحياة هذا سائداً في نبلاء الحاشية، حتى ارتقاء لويس السادس عشر عرش فرنسا في 1774. وكشف هذا الأسلوب، من جهة أخرى، عن فقدان الأيمان بالدين عند الطبقات العليا. وتخلى الناس تماماً عن مفهوم الزواج في المسيحية، مثله في ذلك مثل مفهوم الفروسية في

ص: 70

العصور الوسطى. وأصبح الجري وراء اللذة والمتعة "وثنياً" بشكل أشد سفوراً منه في أي وقت منذ عصر روما الإمبراطورية المضمحلة. ونشرت كتب كثيرة في "الأخلاقيات في فرنسا في القرن الثامن عشر"، ولكن كانت هناك أيضاً كتب كثيرة تعالج البذاءة والفحش بطريقة مدروسة متعمدة، وكانت أوسع انتشاراً ورواجاً ولو كانت سرية. وكتب فردريك الأكبر يقول: إن الفرنسيين ولا سيما سكان باريس، أصبحوا الآن مترفين منغمسين في الملذات، أوهنتهم المتعة والدعة" (23) وحوالي 1749 رأى مركيز دارجنسون في انحطاط الوعي الخلقي نذيراً آخر بكارثة وطنية: "القلب قوة نسلب أنفسنا إياها كل يوم لأننا لا نروضه ولا ندربه أبداً. على حين أننا نشحذ الذهن ونصقله باستمرار، فنصبح عقلانيين -لا عاطفيين- أكثر فأكثر

وإني لأتنبأ بأن هذه المملكة لا بد هالكة، نتيجة لإخماد القوى التي تنبع من القلب، إننا لا نكسب أصدقاء، ولم نعد نحب عشيقاتنا، فكيف نحب بلادنا؟

إن الناس يفقدون يوماً بعد يوم تلك الخلة الحميدة التي نسميها رقة الشعور. ويختفي الحب والحاجة إلى الحب

وحسابات المصلحة تشغلنا وتستنزفنا دائماً. وكل شيء سبيل إلى الدسيسة والمكيدة

وتنطفئ جذوة النار الداخلية (العواطف) لأننا لا نغذيها، ومن ثم يزحف الشلل إلى القلب (24) ".

وهذا هو صوت بسكال يردد مذهب طائفة بورت رويال (مذهب الجانسنيين) وصوت روسو، قبل ظهور جان جاك بجيل واحد، أو صوت الأرواح المرهفة الحس في أي عصر من عصور القلق الفكري والتحرير، ولسوف يطرق أسماعنا ثانية.

‌3 - العادات

لم ير التاريخ قط أخلاقيات طائشة مثل هذه، مزخرفة مموهة بتهذيب ورقة في السلوك وأناقة في الملبس والحديث، وتنوع في المتع والملذات، وفتنة في النساء، وكياسة متأنقة في المراسلات، وإشراق في الفكر والذكاء.

ص: 71

"ولم يوجد قط في فرنسا من قبل، أو في أوربا المعاصرة

بل ولا في العالم منذ وجد العالم، مجتمع مهذب ذكي مبهج، مثل المجتمع الفرنسي في القرن الثامن عشر" (25) قال هيوم في 1741 إن الفرنسيين "أتقنوا بدرجة كبيرة ذلك الفن، وهو انفع الفنون وأليقها ألا وهو فن الحياة، فن المجتمع، فن الحديث" (26). ولم تستخدم كلمة "مدنية" إلا في أخريات هذه الحقبة، فلم تظهر في قاموس جونسون 1755، ولا في "المعجم الكبير" الذي صدر في 30 مجلداً في باريس في 1768.

وأحس الفرنسيون بالمدنية بوجه خاص في ملابسهم، ونافس الرجال النساء منافسة كبيرة في العناية بالثياب. واقتضى الزي العصري السائد أن يلبس أفراد الطبقة العليا قبعات كبرى ذوات ثلاث زوايا، مزدانة بالريش والأشرطة الذهبية، ولما كانت هذه القبعات تفسد ترتيب شعورهم المستعارة، فإنهم وضعوا القبعات عادة تحت أذرعتهم. وكانت الشعور المستعارة آنذاك أصغر مما كانت عليه أيام الملك العظيم (لويس الرابع عشر)، وكانت أكثر شيوعاً حتى بين الحرفيين. وكان في باريس ألف ومائتا حانوت للشعور المستعارة، يعمل فيها ستة آلاف عامل. وكان الشعر الطبيعي والمستعار يدهن بالمساحيق. وكان شعر الذكور طويلاً عادة، ويلم بشريط أو في كيس وراء الرقبة. وكانوا يرتدون سترة طويلة زاهية اللون-من المخمل عادة-فوق البذلة الداخلة التي تكشف عن صدرة مفتوحة عند الحلق، وعن قميص حريري رقيق، ورباط عنق عريض، وأكمام تنتهي إلى "كشكشات" مزخرفة عند المعصم. وكانت "بنطلونات" الركوب القصيرة ملونة، والجوارب من الحرير الأبيض. وكانت الأحذية تشد بمشابك من فضة. ولبس أفراد الحاشية أحذية ذات كعوب حمراء، علامة مميزة لهم، واستخدم بعضهم عظام فك الحوت ليحتفظوا بأذيال ستراتهم ممتدة على نحو صحيح. وتزين بعضهم بالماس في عري ستراتهم. وكان الجميع يحملون سيوفاً. وحمل بعضهم العصى. وكان حمل السيف محرماً على الخدم وغلمان الحرفيين والموسيقيين (27). وكانت ملابس أفراد الطبقة البرجوازية

ص: 72

بسيطة: سترة و "بنطلون" قصير من قماش عادي قاتم، وجوارب صوفية سوداء أو رمادية، وأحذية ذات نعال سميكة وكعوب وطيئة. وارتدى الحرفيون وخدم المنازل الأردية التي كان الأغنياء ينبذونها. وتذمر ميرابو الأكبر من انه لا يستطيع التمييز بين الحداد واللورد!

وظلت السيدات تتمتعن بحرية أرجلهن داخل الرحاب الفسيح لتنوراتهن ذات الأطواق الموسعة. وشجب رجال الدين النساء اللائي ارتدين مثل هذه التنورات "بأنهن إناث قردة أو أعوان الشيطان" ولكن النساء أحببنها لأنها تضفي عليهن جلالاً حتى ولو كن حبالى. وتروي مدام دي كريكي "أنها لم تستطع أن تهمس أذن مدام دي اجمونت لأن التنورة ذات الأطواق الموسعة حالت دون اقتراب الواحدة منهما من الأخرى"(28) أما حذاء السيدة ميلادي "ذو الكعب العالي المصنوع من جلد ملون والمرصع بتطريزات من الذهب والفضة-فقد أضفى على قدميها فتنة تسلب الألباب إذا لم يراهما أحد. وارتقى صانع حذائها إلى مصاف البرجوازية العليا بسبب إبداعه في فنه، وكم من قصة حب كتبت عن قدم جميلة، وهي عادة حذاء جميل وكان مثيراً إلى مثل هذا الحد تقريباً، ذلك "الخف" المزين برسوم الأزهار، الذي لا نعل له، والذي كانت تلبسه ميلادي في البيت. وكانت مقيدة أيضاً الأهداب والحواشي والمراوح والملابس التحتية المزخرفة التي كانت تجذب عين الرجل الزائغة أو تخفي جسم المرأة الحائرة في كل ناحية. وكان مشد الخصر والردفين (الكورسيه) المصنوع من عظام فك الحوت يساعد على تشكيل هذا الجسم في القوام الأنيق الذي يقتضيه العصر ويلائم المكانة الاجتماعية. وبرز جزء معقول من الصدر ليشهد بالامتلاء المناسب المريح. وكان الحلاقون وضيعين بسطاء. ولم تظهر تسريحة الشعر العالية إلا في 1763. وعالجت مستحضرات التجميل والتطرية لليدين والذراعين والوجه والشعر. وتخلف الرجال قليلاً عن النساء في استخدام العطور. وكان وجه السيدة ينقش ويطلى بالمساحيق، وتوضع عليه بطريقة بارعة لصوق تجميلية أو شامات من الحرير الأسود مقطعة على شكل قلوب

ص: 73

أو قطرات من الدموع أو أقمار أو نيازك أو نجوم، ويمكن أن يكون للسيدة العظيمة سبع أو ثمان من هذه اللصوق على جبهتها، وصدغيها وقرب عينيها وعلى جوانب الفم. وكانت تحمل صندوقاً للصوق فيه شامات إضافية تعوض بها ما قد يتساقط منها. وكانت المائدة في حجرة ملابس السيدة الغنية تتألق بالأدوات والمواد اللازمة لها-صناديق من الذهب والفضة أو الحجر اللازوردي، مخصصة لحفظ أدوات الزينة. وتلألأت الجواهر الثمينة على الذراعين والرقبة والأذنين والشعر. وكان يسمح للرجال ذوي الحظوة بالدخول إلى حجرة ملابس السيدة ميلادي ليجاذبوها أطراف الحديث، بنما كانت وصيفاتها تقمن بإعدادها لبرنامج اليوم. وكان الرجال في الطبقة الأرستقراطية عبيداً للنساء كما استعبدوا للزي السائد للنساء، أما الزي فيحدده مصممو ملابس النساء. وبعد 1704 أعرضت فرنسا عن محاولات تحديد الزي او الملابس، عن طريق قوانين ضبط الإنفاق. واتبعت أوربا الغربية بصفة عامة أزياء فرنسا، ولكن كانت هناك أيضاً موجة معاكسة فإن زواج لويس الخامس عشر من ماري لزكزنسكا أتى بطرز بولندية وأدخلت الحرب ضد النمسا والمجر أزياء مجرية، وعمل زواج الدوفين من الأميرة الإسبانية ماريا تريزا رافاييلا على انتشار "الطرحة" في فرنسا من جديد.

ولم تكن وجبات الطعام منمقة مزخرفة مثل الثياب، ولكنها تطلبت علماً دقيقاً متنوعاً، كما تطلبت فناً رقيقاً. وكان المطبخ بالفعل النموذج الذي يحتذى في العالم المسيحي ومكمن الخطر فيه. وفي 1749 حذر فولتير قومه من أن وجبات الطعام الثقيلة التي يتناولونها "قد تصيب آخر الأمر أذهانهم بالتبلد"(29). وضرب مثلاً طيباً للغذاء البسيط وسلامة العقل والفطنة. وكلما ارتقت الطبقة، ازداد ما تتناول من طعام. وعلى هذا كانت وجبة العشاء على مائدة لويس الخامس عشر تتكون من حساء، وشواء من لحم تتكون من حساء، وشاء من لحم البقر، وطبق من لحم العجل، وبعض الدجاج، والحجل والحمام، ثم الفاكهة الطازجة والفاكهة المحفوظة (30) ويقول فولتير "كان نفر قليل من الفلاحين يذوقون طعم اللحم لأكثر من مرة واحدة في الشهر"(31).

ص: 74

وكانت الخضراوات ضرباً من الترف في المدينة حيث كان يصعب الاحتفاظ بها طازجة. وانتشر أكل السمك "الأنقليس". وكان بعض السادة الكبار ينفقون 500 ألف جنيه سنوياً على المطبخ، وأنفق أحدهم 72 ألف جنيه على مأدبة عشاء أعدها للملك والحاشية. وكان رئيس الخدم في البيوتات الكبيرة شخصية مهيبة تثير الإعجاب، يلبس ثياباً فاخرة ثمينة، ويحمل سيفاً، ويتألق في إصبعه خاتم من الناس. وكانت النساء الطباخات موضع ازدراء واحتقار، وكم طمع الطباخون وجهدوا في ابتداع أطباق جديدة ليخلدوا أسماء سادتهم، فأكلت فرنسا طبق شرائح لحم العجل المنظر الجميل (بل في) -قصر مدام دي بمبادور المفضل لديها-"ودجاج فيلروا" وصلصة الميونيز، تخليداً لذكرى انتصار ريشيليو في "ماهون"(32). وكانوا يتناولون الأكلة الرئيسية في الساعة الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، والعشاء في التاسعة أو العاشرة ليلاً.

وكانت القهوة آنذاك تنافس النبيذ شراباً. ولا بد أن ميشيليه (المؤرخ الفرنسي 1798 - 1874) أحب القهوة كثيراً، حيث رأى أن تزايد تدفق البن من شبه الجزيرة العربية والهند وجزيرة البوريون والبحر الكاريبي أسهم في انتعاش الروح الذي ميز عصر الاستنارة (33). وكانت كل صيدلية تبيع البن حبوباً أو القهوة المعدة للشراب على المنضدة الطويلة بداخلها. وفي 1715 كان في باريس 300 مقهى، وفي 1750 زادت إلى 600، كما وجد منها عدد مناسب في كل مدينة في الأقاليم وفي مقهى "بروكوب" وكان يسمى أيضاً "كاف الكهف لأنه كان دائماً مظلماً" كان ديدرو ينشر أفكاره، كما كان فولتير يقصد إليه متنكراً ليسمع التعليقات على أحدث رواياته. وكان مثل هذا المقهى منتدى العامة حيث يلعبون الشطرنج أو "الضامة" أو "الدومينو"، وفوق هذا وذاك يتجاذبون أطراف الحديث لأن الناس ازداد شعورهم بالوحدة والوحشة بازدياد السكان في المدن.

وكانت الأندية عبارة عن مقاه خاصة، عضويتها مقيدة، وتغلب عليها رعاية مصالح من نوع محدد. وحوالي 1721 أسس الراهب آلاري نادي

ص: 75

"دي لا نترسول"(عبارة عن طابق مسروق بين الطابق الأرضي والطابق الذي فوقه، في دار الراهب، حيث كان يجتمع نحو عشرين من رجال السياسة والقضاء والحكم والأدب ليتدارسوا شئون الساعة، دينية أو سياسية وكان بولنجبروك هو الذي جاء بهذا الاسم فأدخل لفظة CLUB إلى اللغة الفرنسية، وهناك شرح الراهب دي سانت بيير برامجه للإصلاح الاجتماعي والسلام الدائم، مما أزعج الكاردينال فليري فأمر بفض النادي في 1731. وبعد ذلك بثلاث سنوات أسس أيضاً أنصار جيمس الثاني اللاجئون من إنجلترا في باريس أول دار فرنسية للبنائين الأحرار (الماسونيين)، كانت ملجأ للربوبيين، ووكراً للدسائس السياسية، وأصبحت منفذاً للنفوذ الإنجليزي ومهدت الطريق للفلاسفة.

إن الرجال والنساء، وقد أصابهم الضجر والسأم من الكدح والنصب في أعمالهم اليومية كانوا يقصدون زرافات ووحداناً إلى المتنزهات وقاعات الرقص والمسارح وفرق الموسيقى والأوبرا، وأولع الأثرياء بالصيد والقنص والبرجوازيون بالنزهات الخلوية. وكانت غابة بولونيا والشانزلزيه وحدائق التويرلري وحدائق لكسمبرج وحديقة النباتات أو حديقة الملك، كما كانوا يسمونها آنذاك-أماكن مفضلة للتنزه في المركبات أو مشياً على الأقدام، ولقاء العشاق وعروض عيد الفصح. أما إذا لزم الناس بيوتهم فإنهم كانوا يتسلون بالألعاب المنزلية والرقص والموسيقى والتمثيليات الخاصة. وكان كل إنسان يرقص. وكان "البالية" قد أصبح فناً ملكياً معقداً. ظفر الملك فيه بنصيب من حين إلى حين. وكان راقص الباليه مثل كامارحو أو لاجوسان معبود الجماهير في المدينة ومشتهى أصحاب الملايين.

‌4 - الموسيقى

كانت الموسيقى في فرنسا قد انحطت منذ تفوق للي على موليير في تسلية الملك الأعظم فلم يكن هنا في فرنسا هذا الجنون أو الولع الشديد بالموسيقى الذي أدى بإيطاليا إلى نسيان إذلالها أو خضوعها السياسي، ولا التفاني الشديد في أساليب التلحين، الذي أوجد القداسات الضخمة والألحان الموسيقية

ص: 76

المطولة المبنية على رواية الإنجيل لآلام المسيح في ألمانيا على عهد باخ.

وكانت الموسيقى الفرنسية في عصر انتقال من الشكل التقليدي إلى زخرفة الباروك، إلى رقة الروكوكو، ومن الطباق المعقد ذي الألفاظ المشوهة للحن، إلى ألحان سلسة متدفقة وأفكار رئيسية رقيقة تتلاءم مع الطبيعة الفرنسية. واستمر مؤلفو الموسيقى يخرجون أغاني الغزل أو الهجاء أو أغاني حزينة تتحدى الفتيات، وتتحدى الملوك، وتستنكر العزوبة والتواني. وامتدت رعاية الموسيقى من الملوك الذين يتطلبون العظمة والجلال إلى رجال المال الذين يدافعون عن حظوظهم مع الفرق الموسيقية والمسرحيات والشعر مما يستأثر به القلة من ذوي الجاه والنفوذ. وأخرجت أوبرا روسو "الموزيات الأنيقات"(إلهات تسع تحمين الشعر والغناء في الأساطير اليونانية) Les Muses Galantes في بيت الملتزم العام بوبلنيير. وكان لبعض الأغنياء فرق موسيقية خاصة بهم. وكانت العروض أو الحفلات المفتوحة للجمهور مقابل رسم دخول، تقدمها بانتظام في باريس "فرق الموسيقى الروحية" التي أنشئت 1725 وتبعتها في ذلك سائر المدن. وقدمت الأوبرا في باليه رويال" في وقت متأخر بعد الظهر عادة، حتى إذا انتهت في الثامنة والنصف مساء، قصد المتفرجون للتنزه في حدائق التويلري، وأطربهم المغنون والعازفون في الهواء الطلق. وكان هذا واحداً من المظاهر الفاتنة في الحياة في باريس.

وإنا لندرك من مطالعة كتاب ديدرو "ابن أخي رامو" كم من الملحنين والموسيقيين البارعين أقبل الناس عليهم إقبالاً شديداً في هاتيك الأيام، على حين جر عليهم النسيان اليوم ذيوله. وثمة ملحن فرنسي واحد من تلك الحقبة خلف لنا أعمالاً لا تزال تتشبث بالحياة. إن جين فيليب رامو أولع أيما ولع بالموسيقى. وكان أبوه عازف الأرغن في كنيسة سانت اتيين في ديجون. ويؤكد لنا كتاب السير المتحمسون أن جين استطاع في سن السابعة أن يقرأ أية موسيقى توضع أمامه بمجرد زقزق نظره عليها. وفي الكلية استغرق كل جهده في الموسيقى إلى حد أن الآباء اليسوعيين فصلوه، وبعد ذلك

ص: 77

كاد جين لا يفتح كتاباً إلا في الموسيقى أو عن الموسيقى. وسرعان ما أصبح بارعاً في العزف على الأرغن والبيان القيثاري والكمان مما لم يكن بعده زيادة لمستزيد في ديجون. ولما وقع الشاب في شراك الغرام، ورأى الوالد أن في هذا مضيعة لمواهبه أرسله إلى إيطاليا ليدرس أسرار الألحان فيها (1701).

ولما عاد جان إلى فرنسا، عمل عازفاً على الأرغن في كليرمونت فراند وخلف أباه في ديجون (1709 - 1714)، ثم رجع أدراجه إلى كليرمونت عازفاً على الأرغن، في الكاتدرائية (1716)، ثم استقر به المقام في باريس 1721. وهناك في 1722 وهو في التاسعة والثلاثين كتب مؤلفه الرائع عن النظرية الموسيقية في فرنسا في القرن الثامن عشر "رسالة عن علم الإيقاع موجزاً في أسسه الطبيعة". وحاول رامو أن يبرهن أنه يوجد دائماً في التأليف الموسيقي السليم، سواء كان موزعاً أو غير موزع-"قاعدة أساسية" يمكن أن تستمد منها كل الأنغام التي فوقها، وأن كل النغمات المتآلفة يمكن أن تستخرج من سلسلة إيقاعات النغمات الجزئية، وأن كل هذه الأنغام يمكن أن تقلب دون أن تفقد هويتها. إن رامو كتب بأسلوب لا يفهمه إلا أكثر الموسيقيين تبحراً ومعرفة بالموسيقى، ولكن أفكاره سرت دالمبرت الرياضي، الذي شرحها بشكل أوفى 1752 وإنك لتجد أن قوانين الترابط الوتري التي صاغها رامو، مقبولة في عصرنا هذا أساساً نظرياً للتأليف الموسيقي (34).

وشن النقاد هجومهم على رامو، فرد عليهم هو بتآليف وتفاسير، حتى حظي بالتقدير والإجلال بما أخضع له الموسيقى من قوانين، كما فعل نيوتن بالنسبة للنجوم (35). وفي 1726 - وهو في سن الثالثة والأربعين تزوج من ماري ماجنو، إذ ذاك في الثامنة عشرة. وفي 1727 وضع موسيقى مسرحية فولتير الغنائية "سمسون" ولكنهم حظروا إخراجها على أساس أن قصص الكتاب القدس لا يجوز تحويلها إلى أوبرا. وكان على رامو أن يكسب قوته بالعمل عازفاً للأرغن في كنيسة "سانت كروادي لا بروتنيري. وبلغ الخمسين من العمر قبل أن يغزو مسرح الأوبرا.

ص: 78

وفي 1733 قدم له الراهب بللجرين أوبرا "هبوليريت وأريسيمي" المبنية على رواية راسين "فدر" ولكن الراهب حصل من رامو على صك بمبلغ خمسمائة جنيه ضماناً في حالة سقوط الأوبرا. ولما مثلت على سبيل التجربة ابتهج الراهب بموسيقاها أيما ابتهاج، إلى حد أنه مزق الصك في نهاية الفصل الأول. ولما مثلت أمام الجمهور في أكاديمية الموسيقى أدهشت المتفرجين بخروجها الجريء عن الأنماط التي كانت قد أصبحت تقاليد مقدسة منذ عهد للي. واعترض النقاد على ما أتى به رامو من إيقاعات جديدة غريبة، وتغييرات مبتدعة في طبقة الصوت وتعقيدات في التوزيع الموسيقي بل أن الفرقة الموسيقية نفسها كرهت الموسيقى. وفكر رامو لبعض الوقت في التخلي عن محاولاته في مجال الأوبرا ولكن محاولاته الثانية Les Indes Galantes (1735) حظيت بإعجاب المتفرجين بتدفق ألحانها المنسقة، أما أوبرا Castor Et Polluy 1737 فكانت من أروع الانتصارات في تاريخ الأوبرا الفرنسية.

وأفسده النجاح، وتفاخر بأنه في مقدوره أن يحول أي نص إلى أوبرا جيدة وأن ينقل صحيفة أي جريدة إلى موسيقى. وأنتج (36) سلسلة طويلة من الأوبرات غير الهامة. ولما ضاق مديرو أكاديمية الموسيقى ذرعاً به انصرف إلى تأليف قطع للبيان القيثاري والكمان والفلوت. وأخذ لويس الخامس عشر-أو بالأحرى مدام بمبادور-بيده، باستخدامه في كتابة موسيقى رواية فولتير "أميرة نافار"، التي لقيت في فرساي نجاحاً أعاد له مكانته (1745) ونال رضا الأكاديمية من جديد، وكتب مزيداً من روايات الأوبرا. ومذ ألفت باريس أسلوبه فإنها نسيت للي، ونادت برامو ملكاً على دنيا الموسيقى بلا منازع.

وفي 1752 وجد نفسه يواجه تحدياً جديداً. ذلك أن بعض الفنانين العازفين والملحنين كانوا قد قدموا من إيطاليا. ومن ثم بدأت حرب صاخبة بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية التي بلغت ذروتها في السبعينات بالموسيقار بتشيني ينافس جلك Gluck. وفي دار الأوبرا في باريس قدمت

ص: 79

فرقة إيطالية مع أوبرا برجوليزي " La Serva Randona" فاصلاً موسيقياً وهي من روائع الأوبرا الهزلية ورد أنصار الموسيقى الفرنسية على ذلك بالنشرات ويقطع رامو. وانقسمت الحاشية إلى معسكرين وناصرت مدام بمبادور الموسيقى الفرنسية على حين دافعت الملكة عن الموسيقى الإيطالية، وهاجم جريم الأوبرا الفرنسية بأسرها (1752) وأعلن روسو أن الموسيقى الفرنسية بغيضة لا تطاق. والعبارة الأخيرة في مؤلفه "رسالة في الموسيقى الفرنسية" (1753) تدل أبلغ دلالة على خلله العاطفي قال:"وفي اعتقادي أني قد أوضحت أن الموسيقى الفرنسية مجردة من الوزن والتناغم معاً، لأن اللغة لا توفرها لها هذا أو ذاك. والغناء الفرنسي مجرد نباح وشكوى متصلتين ولا تطيقه الأذن غير المتحيزة، وأن إيقاعها غير مستساغ وأنها لا تعبر عن شيء ولا تشعر إلا بما تلقت عن معلمها، وأن النغم الفرنسي ليس نغماً، وأن المقاطع الصوتية الفرنسية ليست مقاطع صوتية. ومن ثم انتهيت إلى أن الفرنسيين ليس لديهم موسيقى، ولن يكون لهم شيء منها قدر لهم أن يكون لديهم شيء من الموسيقى فستكون وبالاً عليهم".

وانتقم أنصار الموسيقى الفرنسية بخمس وعشرين نشرة أصدروها ضد روسو، وأحرقوا تمثالاً على باب دار الأوبرا (37) واستخدم رامو، على كره منه، عنصراً رئيسياً في حرب المهرجين، فلما هدأت المعركة وأعلن انتصاره فيها اعترف هو نفسه بأن الموسيقى الفرنسية لا تزال في حاجة إلى أن تتعلم الشيء الكثير عن الموسيقى الإيطالية، وقال إنه لو لم تكن سنه قد كبرت إلى هذا الحد، لعاد إلى إيطاليا ليدرس طرق برجوليزي وغيره من الأساتذة الإيطاليين.

وكان رامو آنذاك في قمة شعبيته، ولكن كان له أعداء كثيرون قدامى وجدد. وأضاف إليهم بنشرة أصدرها يعرض فيها أخطاءه التي وردت في المقالات التي ظهرت عن الموسيقى في دائرة المعارف. فما كان من روسو، وهو كاتب معظم هذه المقالات إلا أن انقلب عليه وازداد مقتاً له. أما ديدرو أبو دائرة المعارف فإنه كان السباب للملحن العجوز في لباقة تبعث

ص: 80

على الاحترام في "ابن أخي رامو" التي لم ينشرها تفضلاً منه وكرماً، قال: إنه الموسيقار الشهير الذي خلصنا من موسيقى للي المتعددة الأصوات التي ترنمنا بها لأكثر من قرن من الزمان، والذي كتب كلاماً كثيراً خيالياً غير مفهوم وحقائق غامضة عن نظرية الموسيقى-وهي كتابات لم يفهمها هو، ولا أحد غيره قط. إنه أخرج لنا عدداً من الأوبرات التي يجد فيها المرء أنغاماً متآلفة وشيئاً من الغناء، والأفكار غير المترابطة والثرثرة في سرعة وجلبة، والحركات السريعة ومواكب النصر والحراب والمثل العليا وألحان الرقص

مما سيبقى إلى الأبد (38).

وحين ظهر رامو في إحدى المقصورات 1760 - وهو في سن السابعة والسبعين لمناسبة إعادة أوبرا "داردانوس" وهي من إخراجه، لقي احتفاء وترحيباً حماسياً كاد يفوق ما قوبل به فولتير بعد ذلك بثمانية عشر عاماً. ومنح الملك براءة النبالة. وأعفته هو وأسرته ديجون الفخورة بابنها من الضرائب البلدية مدى الحياة. وانتابته وهو في قمة مجده حمى التيفوييد، وذبل بسرعة وقضى نحبه في 12 ديسمبر 1764 وشيعته باريس باحتفال مهيب حيث ووري التراب في كنيسة سانت أوستاش. وأقامت مدن كثيرة في فرنسا الصلوات تكريماً له.

‌5 - الصالونات

كانت باريس العاصمة الثقافية للعالم، أكثر منها فرنسا. قال ديكلوس "إن هؤلاء الذين يعيشون على مسافة مائة فرسخ من العاصمة إنما يبعدون عنها بمائة عام من حيث أساليب السلوك والتفكير (39) وربما لم توجد عبر التاريخ قط مدينة تعج بحياة متنوعة الألوان. فالمجتمع المهذب المصقول وفنون الأدب الرفيع ائتلفا في رباط وثيق مذهل. وكان الخوف من الجحيم قد زال عن الباريسيين المتعلمين وتركهم في حالة المرح والابتهاج لم يسبق لها مثيل، لا يلقون بالاً في وثوقهم الجديد بأنه ليس هناك عملاق رهيب قدير في السموات، يسترق السمع إلى خطاياهم ويحصيها عليهم. ومن تحرير الذهن على هذا النحو لم تنجم بعد آثار كئيبة من عالم مجرد من القداسة

ص: 81

والهدف الخلقي، عالم برتجف في زمهرير التفاهة والحقارة، وكان الحديث شائقاً تتخلله الدعابة والمرح. وغالباً ما انتقل إلى هزل ظاهري، وهنا كان التفكير ينحصر في ظواهر الأمور خشية عدم العثور على شيء في أعماقها. وكان القيل والقال والفضائح تنتشر بسرعة من ناد إلى ناد ومن بيت إلى بيت، وكثيراً ما تطرق الحديث إلى آفاق خطيرة في السياسة والدين والفلسفة، مما قد يتيسر الخوض فيه اليوم إلا نادراً.

وكان المجتمع متألقاً، لأن السيدات كن مبعث الحياة فيه، وكن المعبودات التي قدسها هذا المجتمع، وهن اللائي تولين توجيهه، وبطريقة ما وبرغم العرف والعوائق أتيح لبعضهن قدر من التعليم يكفي لتبادل الحديث في فطنة وذكاء مع أئمة الفكر الذين أحببن أن يستضيفوهم. ونافسن الرجال في الاستماع إلى محاضرات رجال العلم (40). إذ عاش الرجال قليلاً في المعسكرات وطالت إقامتهم في العاصمة وفي الحاشية فقد تزايد إحساسهم بالمفاتن غير الملموسة في النساء-رشاقة الحركة، عذوبة الصوت حيوية الروح ومرحها، بريق العينين، رهافة الذوق، الجزع المشوب بالحنان والحب، النفس المشربة بالرحمة والشفقة. إن تلك الصفات جعلت المرأة محبوبة في كل مدينة ولكنا ربما لا نجد في أية ثقافة أخرى أن الطبيعة والتعليم والملابس والحلي وأدوات التجميل والزينة قد جعلت من المرأة مخلوقاً يسحر الألباب بقدر مل كانت عليه في فرنسا القرن الثامن عشر. وكل هذا المفاتن والمغريات لا تستطيع على أية حال أن تفسر سلطان المرأة وقوتها. إن الذكاء في معالجة الرجال وسياستهم أمر ضروري. وبارى ذكاء النساء عقل الرجال وفي بعض الأحيان تفوق عليه. وعرف النساء الرجال أفضل مما عرف الرجال النساء. والرجال يندفعون في تهور بالغ إلى أفكار لتنضج حتى تفهم، على حين إن التراجع المحتشم المطلوب حتى من السيدة المتفتحة، هيأ لهل فسحة من الوقت للملاحظة والتجريب وتخطيط حملتها أو هجومها.

وكلما ازدادت حساسية الرجل اتساعاً وعمقاً، نما تأثير المرأة ونفوذها. وفتشت البسالة في ميدان الحب عن جزاء وفاق لها في الصالون وفي مخدع

ص: 82

المرأة وفي الحاشية على حد سواء. وكم اهتز الشعراء طرباً حين وجدوا آذاناً صاغية من الجنس الرقيق. وكم رفع من شأن الفلاسفة تفضل السيدات ذوات التهذيب الرفيع والمكانة العالية بالاستماع إليهم، بل إن أغزر العلماء علماً وأوسعهم إطلاعاً وجدوا في الصدور الناعمة وفي حفيف الرقص مثاراً للفكر والعقل. وهكذا مارست المرأة قبل "تحريرها" سيادة طبعت العصر بطابعها المتميز. وتذكرت مدام فيجي لبرون فيما بعد "كانت المرأة تحكم آنذاك، ثم ثلت الثورة عرشها"(41). إن النساء لم يعلمن الرجال آداب السلوك والعادات فحسب، بل إنهن كذلك رفعن أو خفضن من درجاتهم في الحياة السياسية، بل حتى في الحياة العلمية. من ذلك أن مدام دي تنسان هيأت اختيار ماريفو بدلاً من فولتير، لعضوية مجمع الخالدين "الأكاديمي فرانسيز) في 1742. وكان شعار "فتش عن المرأة" وسيلة النجاح، فإنك إذا عثرت على المرأة التي يحبها الرجل، كشفت عن المنفذ الذي تصل منه إلى الرجل الذي تريد.

كانت كلودين الكسندرين دي تنسان-بعد بمبادور-هي السيدة الأكثر إمتاعاً وتشويقاً بين النساء اللاتي سيطرن على فرنسا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. وقد عرفنا كيف هربت من أحد الأديار، وأنجبت دالمبرت، واتخذت لها مسكناً في باريس في شارع سانت أونوريه حيث استقبلت مجموعة متعاقبة من العشاق، بينهم بولنجبروك، ريشيليو، فونتنيل (صموت ولكنه نشيط قوي في سن السبعين) وعدداً من الرهبان ومدير الشرطة في باريس. وأضافت الشائعات أخاها بيير إلى قائمة المترددين عليها، ولكن ربما أحبته لمجرد أنها أخت حنون مصممة على تنصيبه كاردينالاً، إن لم يكن رئيساً للوزراء. وعن طريقه وعن طريق غيره دبرت أن تكون ركناً قوياً في حياة فرنسا.

إنها جمعت المال أولاً:. واستثمرته على طريقة دكتور لو، ولكنها باعت الأسهم في الوقت المناسب. وقبلت الحراسة على ثروة شارل جوزيف دي لا فرزني، ثم أبت إعادتها إليه، فانتحر في دارها، تاركاً وصية

ص: 83

يتهمها فيها بالسرقة (1726)، وأرسلت إلى الباستيل ولكن أصدقائها دبروا أمر الإفراج عنها، واحتفظت بمعظم الثروة. وتحدت ثرثرة المدينة والحاشية، وخرجت منها سالمة.

وحوالي 1728 أفاضت مدام دي تنسان إلى مخدعها صالوناً اتخذته سلماً ترقى به إلى السلطة والقوة، واستقبلت فيه مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، على مائدة العشاء عدداً من الرجال البارزين، أطلقت عليهم "معرض الوحوش" منهم مونتنيل، مونتسكيو، ماريفو، بريفوست، هلفشيوس، استروك، مارمونتل، هينولت، ديكلوس، مابلي، كوندرسيه، وأحياناً تشسترفيلد. وكانت المجموعة كلها من الرجال عادة لأن تنسان لم تكن تطيق على مائدتها أية منافسات. ولكنها أطلقت "لوحوشها" العنان، ولم تغضب قط لرافضهم السافر للمسيحية. وتساوي كل الناس من كل الطبقات هناك، فكان الكونت النبيل في مستوى الرجل من العامة، وقد تروى التقاليد فيما بعد أنه هنا كانت تجري أكثر المناقشات تألقاً ودقة طوال هذا القرن، قرن الحديث الذي لا حدود له (42).

وعن طريق ضيوفها وعشاقها وكهنة اعترافها استخدمت نفوذها لتحقيق أهدافها بطريقة سرية فيما بين فرنسا وروما. ولم يكن أخوها طموحاً، بل كان يتوق إلى الباسطة في الحياة والهدوء في الأقاليم، ولكنها وسعت حتى عين رئيس أساقفة ثم كاردينالاً، وأخيراً وزيراً في مجلس الدولة. وعاونت على أن تجعل من مدام شاتورو خليلة للملك، واستحثتها على حث الملك ليقود جيشه في الحرب. إنها رأت في بلادة لويس وتكاسله مصدراً للاضمحلال السياسي ونذيراً بهذا الاضمحلال. وربما كانت على صواب فيما فكرت فيه من أنها لو تولت رياسة الوزارة للقيت الحكومة نجاحاً أكبر، وأظهرت نشاطاً وحيوية أكثر. وناقش رواد صالونها في جرأة انحلال الملك واحتمال قيام الثورة.

وفي شيخوختها نسيت خطاياها، وانضمت إلى اليسوعيين وشنت الحملات على الجانسينين، وتبادلت رسائل المودة مع البابا بندكت الرابع عشر الذي

ص: 84

أرسل إليها صورته اعترافاً منه بخدمتها للكنيسة. إن رقة الفؤاد التي ازدانت بها أخطاؤها، وجدت لها منافذ كثيرة. ولما قابل الجمهور في بداية الأمر كتاب مونتسكيو "روح القانون"(1748) بعدم الاكتراث اشترت تنسان كل نسخ الطبعة الأولى تقريباً، ووزعتها مجاناً على أصدقائها الكثيرين. وتولت رعاية مارمونتل الشاب وأسدت إليه النصح أن يعقد فوق كل شيء، أواصر الصداقة مع النساء، لا الرجال، وسيلة للارتقاء والصعود في هذا العالم (43). وأصبحت هي نفسها، في سني شيخوختها وضعفها الأخيرة، كاتبة ومؤلفة، وسترت الطيش والحماقة بإغفال ذكر اسمها على ما ألفت. وقارن أصدقاؤها النقاد قصتها بقصة مدام دي لافاييت (برنسيس دي كليف Prnicesse De Cleves) .

وفارقت مدام تنسان الحياة في 1749 وهي في الثامنة والستين. وعندئذ تساءل فونتينل العجوز "أين أتناول العشاء مساء يوم الثلاثاء الآن؟ " ولكنه أجاب لنفسه في ابتهاج على الفور "حسناً"، عند مدام جيوفرين (44). وربما التقينا به هناك.

كان صالون مدام دي دفاند قديماً قدم صالون تنسان، كما عمر مثل ما عمر صالون جيوفرين تقريباً. إن ماري دي فيشي شامروند باتت يتيمة وهي في سن السابعة فوضعت في دير اشتهر بالتعليم، فبدأت تدرس وتتأمل في سن مبكرة الأوان، وكانت تلقي أسئلة تتسم بالتشكك إلى حد مزعج، وإذ وقعت الراهبة في حيرة من أمر الصبية وأسئلتها فإنها أحالتها إلى الواعظ المتفقه ماسيون، الذي عجز عن تفسير المسائل الغامضة، فتخلى عنها يأساً من إنقاذها من الضلال. وفي سن الحادية والعشرين أصبحت مركيزة دي ديفان بزواج تم عن تراض بين الطرفين، ولكنها سرعان ما تبينت أن زوجها شخص مبتذل ممل إلى حد لا يحتمل، فافترقا بعد اتفاق وفر لها ثروة لا بأس بها. وفي باريس وفرساي انصرفت إلى لعب الميسر في اندفاع شديد "لم أفكر في شيء إلا القمار" ولكن بعد ثلاثة أشهر منيت فيها بخسائر فادحة، "تولاني جزع شديد، وحزنت على ما أنا فيه، ونأيت بنفسي

ص: 85

عن هذه الحماقة". وقضيت فترة قصيرة خليلة للوصي (45). ثم تنحت عنه إلى عدوته الدوقة دي مين. وفي مسكو التقت بشارل هنولت رئيس مجلس التحقيق العسكري، الذي أصبح عشيقاً لها، ثم صديقاً مدى الحياة.

وبعد أن أقامت لبعض الوقت مع أخيها انتقلت إلى نفس الدار في شارع دي بون، التي قضى فيها فولتير نحبه. وإذ اشتهرت بجمالها وعينيها البراقتين وذكائها الحاد، فإنها جذبت إلى مائدتها (حوالي 1739) نفراً من مشاهير الرجال الذين جاءوا ليؤلفوا صالوناً يذيع صيته كما ذاع صيت صالون تنسان تقريباً: هنولت، مونتسكيو، فولتير، مدام دي شانيليه، ديدرو، دالمبرث، مارمونتل، مدام دي ستال دي لونيه ...... وفي 1747، وقد بلغت آنذاك الخمسين، وخفضت من غلوائها بعض الشيء، استأجرت شقة جميلة في دير سان جوزيف في شارع سان دومنيك. وكان من عادة الأديار تأجير غرف للعرائس والأرامل والنساء اللائي افترقن عن أزواجهن، وكانت هذه المساكن عادة في أبنية خارج المبنى الأساسي الخاص بالراهبات. ولكن في حالة هذه المتشككة الثرية، كان المسكن داخل جدران الدير، والحق إنه المسكن الذي كان قد آوى تحت سقفه مؤسسة هذا الدير الآثمة، مدام دي مونتسبان. وتبع صالون المركيزة شخصها إلى مقرها الجديد. ولكن ربما أزعجت البيئة المحيطة به الفلاسفة، فلم يعد ديدرو يحضر ونادراً ما كان يجيء مارمونتل، وكان جريم يتردد بين الحين والحين، وسرعان ما أنقطع دالمبرث. ومعظم المجموعة الجديدة في سان جوزيف كانوا من سلالة الأرستقراطية القديمة: مارشال لكسمبورج ومارشال ميربوا وعقيلتاهما، دوقا ودوقتا دي بوفلوز ودي شوازيل ودوقات اجوبون وجرامونت وفليروا وصديق مدام دي ديفاند من أيام طفولتها ولمدى الحياة، وهو بونت دي فيل. وكانوا يلتقون في السادسة، ويتناولون العشاء في التاسعة ثم يلعبون الورق والميسر؛ ويتناولون بالتحليل والتفصيل الأحداث الجارية في عالم السياسة والأدب والفن، ثم يفترقون. في نحو الساعة الثامنة صباحاً. وكان الأجانب البارزون، والوافدون على باريس يحتالون للحصول على

ص: 86

دعوة إلى "مأوى النبلاء" هذا. وروى لورد باث في 1751 "إني لأذكر أمسية دار الحديث فيها عن تاريخ إنجلترا، وكم دهشت وارتبكت حين وجدت أن هؤلاء القوم عرفوا من تاريخ بلادنا خيراً مما عرفنا نحن عنه! (46).

وتفردت دي ديفاند بأصفى ذهن وأسوأ خلق بين صاحبات الصالونات فكانت مغرورة متغطرسة عيابة شكاكة، أنانية أكثر مما يليق بالمرء أن يكون. ولما عالج كتاب هلفشيوس "الروح" ما ذهب إليه لاروشفوكول من أن كل الدوافع الإنسانية أنانية، علقت هي بقولها في ازدراء "إنه إنما كشف عن سر كل إنسان"(47) وكانت تجيد الهجاء المشوب بالحقد والضغينة كما فعلت في وصفها مدام دي شاتيليه. ولم تر في الحياة الفرنسية إلا الجوانب التافهة الضعيفة. وذهبت إلى ان الفقراء اشتركوا، بقدر ما سمحت به ظروفهم في رذائل الأغنياء ومساوئهم. ولم تضف شيئاً إلى التطلعات المثالية للفلاسفة سوى ما جاءت به العقيدة العتيقة من أساطير مغرية مريحة للنفس. وتجنيب الاستنتاجات وآثرت العادات القويمة. واحتقرت ديدرو ونعته بأنه جلف ساذج. وأحبت دالمبرث ثم عادت فكرهته. وأعجبت بفولتير لأنه سيئ السلوك حاد الذهن. والتقت به في 1721 وعندما هرب من باريس، ثم شرعت في 1736 تبادله الرسائل التي تعد من الروائع في الأدب الفرنسي ولم تقل رسائلها عن رسائله. رقة وعمقاً وصفاء وروعة ولكنها لم تبلغ ما بلغه في رسائله من لطف وسهولة وبعد عن التكلف والكياسة.

وفي سن الخامسة والخمسين بدأت تفقد بصرها، واستشارت كل متخصص في طب العيون، ثم بجأت إلى كل دجال ومشعوذ. وبعد ثلاث سنوات من الكفاح والعناء ذهب بصرها تماماً (1754)، ويومذاك أنذرت أصدقاءها بأنهم إذا استمروا في شهود أمسياتها فإنه يجدر بهم أن يحتملوا السيدة العجوز الضريرة. وعلى الرغم من هذا قصدوا إليها. وأكد لها فولتير من جنيف أن ذكاءها وفطنتها باتا أكثر تألقاً مما كانت حتى وهي بصيرة، وشجعاها على المضي في الحياة لمجرد أن تثير غضب من يدفعون لها

ص: 87

رواتبها السنوية. ووجدت في جولي دي لسبيناس شابة لطيفة نشيطة فاتنة تعاونها على أن تستقبل وتستضيف الأصدقاء. وكانت هي آنذاك تتصدر المائدة وكأنها هومر الأعمى يتصدر مائدة مستديرة وحوله الحكماء وشعراء الملاحم البطولية، وكانت تتنقل هنا وهناك وقورة شامخة متحدية لمدة ستة وعشرين عاماً آخر. وإنا لنأمل أن نلتقي بها هي أيضاً مرة أخرى.

ولقد كان عصراً مشرقاً زاهياً، لأن النساء تألقن فيه، وجمعن فيه بين الذكاء والجمال، مما لم يسبق له مثيل. وبفضلهن ألهب الكتاب الفرنسيون الفكر بالعاطفة، وزينوا الفلسفة بالظرف وخفة الروح. وكيف كان يتسنى لفولتير أن يكون فولتير بغير وجودهن؟ حتى ديدرو الفظ الغامض اعترف بقوله "إن النساء عودتنا أن نناقش أشد الموضوعات جفافاً وتعقيداً، بشكل ساحر واضح، إننا نحدثهم حديثاً متواصلاً، ونريد منهن الإصغاء إلينا، ونخشى أن يتولاهن التعب أو الضجر. ومن ثم كنا نستخدم طريقة معينة في إيضاح آرائنا لهن في يسر وسهولة. وكانت هذه الطريقة تنتقل من مجرد الكلام إلى أسلوب"(48) وبفضل النساء أصبح النثر الفرنسي أكثر إشراقاً ووضاءة من الشعر واكتسب اللغة الفرنسية سحراً رقيقاً، ورشاقة في العبارة ولباقة في الحديث مما جعلها بهيجة ذات مكانة رفيعة. وبفضل النساء انتقل الفن الفرنسي من طراز الباروك الغريب الشاذ إلى الشكل المهذب المصقول والذوق الرفيع، مما ازدانت به كل مظاهر الحياة في فرنسا.

ص: 88

الفصل التاسع

‌عبادة الجمال

‌1 - انتصار الروكوكو

في هذا العصر، فيما بين الوصايا وحرب السنين السبع-عصر طراز لويس الخامس عشر-كانت النساء تتحدى الآلهة: أي الفريقين أحق بالعبادة، وكان السعي وراء الجمال ينافس الانصراف إلى التبتل والورع، والاندفاع إلى الحرب. وفي الفن والموسيقى، كما في العلوم والفلسفة، تراجع كل ما هو فوق الطبيعة أمام كل ما هو طبيعي. إن هيمنة المرأة على ملك حساس شهواني، هيأت اعتباراً جديداً أو مكانة جديدة للرهافة ورقة الوجدان. كما أن الاتجاه إلى مذهب اللذة والمتعة في الحياة الذي كان قد بدأ على عهد فيليب دي أورليان، بلغ ذروته في أيام بمبادور. وأصبح الجمال أكثر من أي وقت مضى، أمراً ذا "قيم ملموسة" فكان شيئاً يسر المرء أن يلمسه بيده أو تقع عليه عيناه، ابتداء من خزف سيفر إلى لوحات بوشيه العارية. وتخلى المهيب الفخم عن مكانه للبهيج السار والجليل الوقور للرشيق الرقيق، وكبر الحجم لفتنة الرشاقة، وكان الروكوكو فن أقلية أبيقورية غنية متلهفة على الاستمتاع بكل لذة قبل انقضاء دنياها السريعة الزوال، وفي غمرة طوفان من التغيير تتعجل حدوثه. وفي هذا الطراز الدنيوي الصريح طفرت الخطوط فرحاً، ورقت الألوان، وخلت الأزهار من الأشواك، وتجنبت الموضوعات الفاجعة لتؤكد الإمكانات الباسمة المشرقة في الحياة، وكان الروكوكو آخر مرحلة في الباروك من تمرد الخيال على الحقيقة والواقع، ومن ثورة الحرية والانطلاق على النظام والقواعد. ومع ذلك لم تكن حرية مخلة، بل ظل إنتاجها يحتفظ بالمنطق والتركيب، ويعطي المغزى شكلاً. ولكنها كرهت الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة، ونفرت من التماثيل، وآلمها أن تترك أية قطعة أثاث دون نقوش. وعلى

ص: 89

الرغم من أناقة الروكوكو الجذابة، فإنه أنتج آلافاً من الأشياء التي لا يفوقها شيء في رشاقتها وزخرفتها. ولمدة نصف قرن من الزمان جعل الروكوكو من الفنون الصغيرة أسمى فن في فرنسا.

وعلى قدر علمنا لم يوجد قط مثل هذا النشاط من قبل، وقليلاً ما كان مثل هذا التفوق والامتياز، في مجالات الأعمال الجمالية، تلك المجالات التي كانت يوماً أقل شأناً. وفي تلك الحقبة صار الفنان والحرفي مرة أخرى شخصاً واحداً كما كان الحال في أوربا في العصور الوسطى، وكان هؤلاء القادرون على تجميل الجوانب الخصوصية في الحياة موضع تكريم مع الرسامين والمثالين والمعماريين في هذا العصر.

ولم يبلغ الأثاث قط من قبل هذه الدرجة من الروعة والإتقان. ولم يعد أثاث طراز "لويس الخامس عشر ضخماً مثل ما كان في عهد الملك العظيم، وقد كان تصميمه مقصوداً للراحة، ولا للعظمة والوقار، وكان أكثر ملاءمة لجسم المرأة وملابسها، منه للجلال والتباهي، واتخذت الأرائك أشكالاً شتى، لتتناسب مع الأوضاع الجسمية والأمزجة. وكتب فولتير "إن السلوك الاجتماعي أيسر اليوم منه في الماضي، ويمكن أن ترى السيدات يقرأن على الأرائك أو أسرة النهار (سرير ضيق يحول في النهار إلى أريكة) دون أن يسببن أي إزعاج أو مضايقة لأصدقائهن ومعارفهن (1). وكان السرير يتوج بظلة رقيقة جميلة وتزين ألواحه بالصور والرسوم أو تنجد، وتنفش قوائمه نقشاً جميلاً. وطورت أنماط جديدة من الأثاث لتواجه حاجات جيل آثر فينوس على مارس (آثر آلهة الجمال على إله الحرب) وأخذ الكرسي المنجد ذو الذراعين والوسادة الوثيرة (البرجير) والأريكة المكسوة بنسيج مزدان بالصور والرسوم، والكرسي الطويل (شيزلنج) ومائدة الكتابة والقراءة (ما يوضع عليه الكتاب عند القراءة) ومنضدة الحوض في حجرة النوم والمائدة المثبتة إلى الحائط تحت مرآة (الكونسول)، ومسند القدمين، والخزنة العالية ذات الأدراج، وصان السفرة-كل هذه الأشياء أخذت آنذاك أشكالها، وفي الغالب أسماءها التي احتفظت في الواقع

ص: 90

بها إلى يومنا هذا. وأسرفوا في النقش وغيره من ألوان الزخرفة والتزيين إلى حد أثار رد فعل في النصف الثاني من القرن، وتطعيم خشب الأثاث بالصدف أو المعادن الذي أدخله أندريه شارل بولليه في عهد لويس الرابع عشر، وأهمله أبناؤه من بعده، حيث كانوا نجاري الأثاث لدى لويس الخامس عشر وغطت تشكيلة كبيرة من التطعيم سطح الخشب الملون أو المكسو بقشرة رقيقة أو المدهون بورنيش الك "ووضع فولتير" أشغال الك "في فرنسا القرن الثامن عشر، في مرتبة سواء مع ما كان يرد منها من الصين أو اليابان. أما الحرفيون من أمثال كرسنت، أو بورد اوبن، كافييري، وميسونيه فقد بلغوا من التفوق والتبريز في تصميم الأثاث وزخرفته درجة حدت بنجاري الأثاث الأجانب إلى القدوم إلى فرنسا لدراسة أساليبهم، ثم نشروا الطراز الفرنسية من لندن إلى بطرسبرج. وجمع جوست أوريل ميسونييه بين عشرة فنون أو تزيد، فبنى البيوت، وزخرف أجزاءها الداخلية، وصنع الأثاث على أحدث طراز، وصنع "الشمعدانات" والآنية الفضية للمائدة وصمم علب السعوط وأغطية الساعات، ونظم المشاهد الفاخرة، وألف عدة كتب دون فيها مهاراته وفنونه. وكاد أن يكون الرجل العالمي في زمانه.

وقد حلت الألفة والعلاقات الحميمة في الحياة على عهد لويس الخامس عشر محل التمسك بالرسميات الذي ساد القرن السابع عشر، فإن الزخرفة الداخلية انتقلت من الفخامة والأبهة إلى الرقة. وفي هذا أيضاً بلغ العصر الذروة، فالأثاث والبسط والسجاد والتنجيد والقطع الفنية، وساعات الحائط والمرايا، والإطارات والأنسجة المزدانة بالصور والرسوم والستائر واللوحات والسقوف والشمعدانات، حتى خزائن الكتب-صنعت كلها في تناسق في الألوان والطراز يسر الناظرين. وقد يساورنا الظن بأن الكتب كانت تشترى للون جلدتها والمادة المصنوعة منها قدر ما تشترى من أجل محتوياتها، ولكنا يمكن أن ندرك هذه اللذة أيضاً. وإنا لننظر بعين الحسد إلى المكتبات الشخصية الخاصة المرصوصة وراء الزجاج في خزائن جميلة

ص: 91

مرتكزة على الحائط: وكانت حجرات الطعام نادرة في فرنسا قبل 1750، أما موائد الطعام فكانت تصنع بحيث يمكن بسهولة تمديدها لمضاعفة عدد الجالسين إليها وإزالتها، لأن ضيوف العشاء قد يبلغون عدد كبيراً لا يمكن التنبؤ به. ولم تعد المدافئ من ذاك الطراز الضخم الذي كان قد انحدر من العصور الوسطى إلى لويس الرابع عشر، ولكنها ازدانت بزخرفة مترفة، وفي بعض الأحيان (وهذا مثال نادر للذوق السقيم في هذه الحقبة) كانت تماثيل للمرآة تستخدم بمثابة أعمدة تحمل رفوف المدفأة، وكانت كل التدفئة تقريباً عن طريق مدافئ مفتوحة تسترها حواجز مزخرفة، ولكنا كنا نجد هنا وهناك في فرنسا، كما كان في ألمانيا، موقداً مكسواً بالخزف المزخرف. وكانت الإضاءة بالشموع التي تثبت بمائة طريقة مختلفة، تبلغ أقصى روعتها في الشمعدان الضخم المتألق، المصنوع من البلور أو الزجاج أو البرونز. وإنا لنعجب من كثرة القراءة على ضوء الشموع، ولكن ربما قللت المشاق من إنتاج الهراء واستهلاكه.

ومع تقدم القرن، حلت اللوحات الحائطية الزاهية الألوان والمزخرفة زخرفة رقيقة محل النسيج المزدان بالصور والرسوم، وفي هذه الفترة كانت قمة ازدهار فن هذا النسيج. وفي كل أنواع النسيج تقريباً-من الدمقسي والمطرزات والمقصبات إلى البسط والسجاجيد والستائر الممتازة تحدت فرنسا في تلك الأيام أفخر منسوجات الشرق. وتخصصت أميان في المخمل المنقوش واشتهرت ليون وتور ونيم بالحرير المزركش. وفي ليون ابتدع جان بيلمنت وجان بابتست هويه وغيرهما سجاجيد تعلق على الجدران ممهورة ومخيطة بموضوعات ومناظر صينية أو تركية أسرت لب بمبادور. وكان هذا النسيج يصنع في مصانع المؤممة في باريس وبوفيه، وفي الحوانيت الخاصة في أوبيسون وليل. وكانت هذه المنسوجات إذ ذاك قد فقدت وظيفتها في الانتفاع بها للحماية من الرطوبة والتيارات الهوائية، وأصبحت للتزين فقط وغالباً ما صغر حجمها لتلتئم مع النزعة إلى تصغير الحجرات. وسار النساجون في مصانع الجوبلان وبوفيه وفق التصميمات والرسوم

ص: 92

التي وضعها، والألوان التي تصح باستخدامها أئمة الرسم في ذاك العصر، وكانت جميلة بصفة خاصة تلك القطع الخمس عشرة التي نسجتها مصانع جوبلان (1717) وفق الرسوم التي أعدها شارل أنطوان كوبيل لتصوير قصة "دون كيشوت". أما نساجو بوفيه فإنهم، كما سنرى أنتجوا قطعاً رائعة من النسيج، صمم رسومها الفنان بوشيه. وفي 1712 أعيد تنظيم مصانع "سافونيري" وكانت في الأصل لصنع الصابون-وأطلق عليها المصنع الملكي لصناعة السجاد على طراز فارس والشرق الأدنى وسرعان ما أنتج سجاجيد ضخمة امتازت برسوم دقيقة وألوان متنوعة ووبر ناعم مخملي، وهذه أجمل سجاجيد ذات وبر في فرنسا القرن الثامن عشر. وكانت مصانع النسيج المزدان بالصور والرسوم هي التي تقوم بالتنجيد الذي يتطلب المثابرة وبذل أقصى الجهد لكراسي الأثرياء، ولا بد أن كثيراً من الأصابع المتواضعة الذليلة قد تعبت وتصلبت لتوفر لهؤلاء الأثرياء مقاعد وثيرة تقيهم عناء الجلوس.

وأقبل الخزافون الفرنسيون على عصر من المغامرة. وهيأت لهم حروب لويس الرابع عشر الفرصة. ذلك أن الملك العجوز صهر ما لديه من فضة لتمويل جيوشه وأحل الخزف مكان الفضة، وأمر رعاياه بأن يحذو حذوه. وسرعان ما لبت مصانع الخزف في روان وليل وسكو وستراسبورج وموستير سانت ماري ومرسيليا هذا المطلب الجديد. وبعد موت لويس الرابع عشر شجع الميل إلى الأطباق وغيرها من الأشياء المصنوعة من الخزف-شجع الخزافين إلى إنتاج أجمل ما عرف منها في تاريخ أوربا. ورسم مشاهير الفنانين من أمثال بوشيه وفلكونيه وباجو المناظر على الخزف الفرنسي وابتدعوا أشكالاً كثيرة منه.

وفي نفس الوقت كانت فرنسا تتجه إلى إنتاج الخزف الصيني. وكانت أنواع متعددة من العجينة الملساء تصنع في أوربا منذ مدة طويلة ترجع إلى 1582 في فلورنسه و1673 في روان، وكانت كلها على أية حال تقليداً للنماذج الصينية. ولم تكن مصنوعة من العجينة الصلبة المأخوذة

ص: 93

من مادة الكاوين أي الصلصال الصيني، أو حجر الطفل الصيني الذي يذاب في درجة حرارة عالية في الشرق الأقصى. وإنما كانت من صلصال أقل صلابة يسخن في درجة حرارة منخفضة ثم يغطى "بالغربتة" وهي مادة متكلسة أو شبه منصهرة ومصقولة. وحتى هذا الخزف الصيني المصنوع من العجينة الطرية-وبخاصة في شانتبللي، وفنسن ومنسي-فيلروا (بالقرب من باريس) كان جميلاً جداً، واستمر استيراد الخزف المصنوع من الصلصال الصلب من الصين أو در سدن. وفي 1740 انتزعت مدام دي بمبادور مائة ألف جنيه من لويس الخامس عشر، و250 ألفاً من مصادر خاصة للتوسع في إنتاج الخزف من العجينة الطرية في فنسن. وفي 1756 نقلت عمال فنسن المائة إلى مبنى أوسع وأوفى بالغرض في سيفر (بين باريس وفرساي) وهناك في 1769 بدأت فرنسا إنتاج الخزف الصيني الحقيقي من الصلصال الصلب.

وأفاد صائغو الذهب والفضة من أن ملك فرنسا استخدم من منتجاتهم رصيداً احتياطياً قومياً، محولاً السبائك إلى أشكال مسرفة في الجمال، ولكن يمكن في الحال صهرها إذا دعت الضرورة. وفي عهد لويس الخامس عشر ازداد طلب الطبقات المتوسطة على المشغولات الفضية بوصفها أدوات نافعة أو وسائل للزينة. وتكاد كل أنماط السكاكين التي نستخدمها اليوم تكون قد اتخذت شكلها الراهن في فرنسا القرن الثامن عشر: شوكات المحار، ملاعق المثلجات، ملاعق السكر، أطقم الصيد، طقم الرحلات، سكاكين وشوكات الأكل، أضف إلى ذلك مملحة المائدة، وفناجين الشاي والأباريق والأواني وأدوات التجميل والشمعدانات، وكلها مزدانة بنقوش بديعة أو مصنوعة ف أشكال جميلة .. "وكان أحسنها في هذا المجال طراز لويس الخامس عشر من بين كل الطرز الفرنسية (2) وصنع صائغوا الذهب والفضة صناديق أو علباً صغيرة حملها الرجال والنساء على السواء، لحفظ السعوط أو الأقراص أو المساحيق أو الحلوى، كما صنعوا مائة صنف من الأواني والأوعية والصناديق لمنضدة الزينة وحجرة النوم والملابس، وكان في حوزة

ص: 94

الأمير دي كونتي مجموعة من ثمانمائة صندوق من مختلف الأشكال، من المعادن النفيسة، وكلها رائعة متقنة الصنع. واستخدمت مواد أخرى كثيرة لمثل هذه الأغراض: العقيق، عرق اللؤلؤ، اللازورد .... وكان قطع الجواهر وتركيبها الامتياز الذي تفرد به 350 من مهرة الحرفيين الذين ضمتهم نقابة الصائغين.

وحملت أشغال المعادن سمعة العصر في رقة القوالب والأشكال والصقل والإتقان. واتخذت مناصب أو مساند الحطب المشتعل أشكالاً خرافية من التصميمات أو الرسوم المعقدة من الحيوانات الخيالية عادة. واستخدم البرونز الذهبي اللون لصنع أو زخرفة هذه المناصب والمشاعل والشمعدانات ذوات الشعب أو تحليتها بالزخارف، أو لتركيب ساعة الحائط أو البارومتر أو حجر الشب أو الخزف الصيني. فبلغ البرونز الحديث ذروه استخدامه في القرن الثامن عشر، فكان من الممكن أن تكون ساعات الحائط في أشكال ضخمة غريبة وساعات الجيب أو اليد صلبة جميلة-من البرونز أو المينا أو الفضة أو الذهب، ومزدانة بنقوش غاية في الجمال والإتقان. وكانت المشاعل في بعض الأحيان تحفاً رائعة في فن النحت، مثل تلك التي أبدعها فالكونيه لقصر فرساي. وكانت المنمنمات والرسوم الفاخرة من روائع هذا العصر. وأنتجت أسرة واحدة هي أسرة رومتيير، خمسة أشكال من الرصائع (الميداليات) المحفورة على مدى قرن من الزمان، تميزت كلها بدقة الصنع إلى أن الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة رحبت بانضمامها إليها، في عداد كبار الرسامين والمثاليين. إن القرن الثامن عشر عرض في الأشياء الصغيرة في الحياة أعظم ثروته خلواً من الهموم، كما عرض أكثر فنونه دقة وإتقاناً. وقال تلليران "إن أولئك الذين لم يعيشوا قبل 1789 لن يدركوا أبداً إلى أي حد يمكن أن الحياة حلوة"(3)، إذا تسنى للمرء أن يختار الطبقة التي ينتمي إليها ويتفادى المقصلة.

ص: 95

‌2 - فن العمارة

وتجاهل فن العمارة الروكوكو تقريباً. وتتغير الطرز ببطء في البناء أكثر منها في الزخرفة لأن مقتضيات الرسوخ والثبات أقل مرونة من تقلبات الذوق. وكانت الأكاديمية الملكية لفن العمارة التي نظمها كولبير في 1681 يتولى توجيهها الآن ورثة تقاليد لويس الرابع عشر. وواصل روبرت دي كوت عمل جول هردوين مانسار الذي كان قد أكمل قصر فرساي. وكان جرمين بوفران تلميذاً لمانسار، وكان جاك جول جبراييل وابنه جاك آنج خلفين غير مباشرين لمناسار، ومن ثم حصر تيار هذه التقاليد مجراه في قوة وصلابة، واحتفظ هؤلاء الرجال بطراز الباروك، بل بالطراز نصف الكلاسيكي، بالمظاهر الخارجية التي سادت في القرن العظيم، مثل الأعمدة وتيجانها والعتبات، ولكنهم سمحوا بمسحة من الروكوكو فيما شادو من مبان.

وخفف ضعف الإيمان من حدة التحمس لبناء كنائس جديدة، ولكن جددت على أية حال واجهتا كنيستين قديمتين. ذلك أنه في 1736 أقام روبرت دي كوت لكنيسة سانت روش أعمدة وقوصرة (مثلث أعلى الواجهة) كلاسيكية. وفيما بين 1743 - 1745 زود جان نيقولا سرفاندوني كنيسة سانت سولبيس برواق ضخم ذي طابقين في مدخلها، قائم على أعمدة دورية وأيويية من طراز بللاديو الروماني الكئيب، ولكن العمارة المدنية هي التي عبرت عن روح العصر وتحولت فيما بعد عدة قصور بنيت في تلك الفترة إلى وزارات وطنية أو دور للسفارات الأجنبية. من ذلك قصر ماتنيون 1721 الذي أصبح سفارة النمسا، ثم داراً لرئيس الوزراء، وقصر البوربون (1722 - 1750) الذي أدمج جزء منه في مجلس النواب، وقصر سوبيز (الذي عدل بناؤه 1742) والذي أصبح داراً للمحفوظات الوطنية.

وفي عهد المركيز دي ماريني، مدير المباني، ازدهرت أحوال عدد

ص: 96

كبير من المهندسين المعماريين والمثالين والرسامين ومهندسي الزخرفة، ووجد مساكن وأعمالاً لهم ورأى أنهم يؤجرون أجراً حسناً. وكان المهندس المعماري الأثير لديه هو جاك آنج جيراييل الذي ارتضى التقليد الكلاسيكي عن طيب خاطر. وبعد صلح اكس لاشابل (1748) انهمك إدم بوشاردون في إقامة تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وعهد إلى جبريل بتصميم المكان الذي يحيط بالتمثال. فوضع حول مساحة مكشوفة بين حدائق التويلري والشانزليزليه، دائرة من "الدرابزينات" والحدائق الغائرة، وشاد في الطرف الشمالي قصر كحريون الحالي ووزارة البحرية الحالية، وكلاهما على طراز كلاسيكي بحت، وعمد إلى تزيين الميدان بإقامة أربعة تماثيل أسطورية سرعان ما أطلق عليها الباريسيون أسماء خليلات الملك-ميللي فنتيميل، شاتورو، بمبادور. وأطلق على الميدان اسم لويس الخامس عشر، ونسميه اليوم ميدان الكونكورد. وقد يسرنا أن نعلم أنه كان هناك ازدحام في حركة المرور منذ مائتي عام. وجيمس انجل جبرائيل هذا هو نفسه الذي شاد في 1752 المدرسة الحربية المتناسقة الأجزاء إلى حد بالغ والتي تضاهي رشاقة أعمدتها مثيلتها في أية ساحة رومانية قديمة.

ولم تكن باريس هي وحدها التي جددت مبانيها وغيرت وجهها في هذا العصر ففي شاتنيللي عهد دوق بوربون إلى جان أوبيرت بإقامة أسطبلات لجياده وكلابه، بلغت من الفخامة حداً يدعو إلى المقابلة بينها وبين أكواخ الفلاحين. وفي اللورين جعل ستانسلاس لزكزنسكي من نانسي واحدة من أجمل مدن فرنسا، وهناك أكمل بوفران بناء الكاتدرائية التي كان قد بدأها أستاذه جول هاردوين "انسار" وفيما بين عامي 1750 - 1757 أقام أمانويل هيري دي كورني "المدينة الجديدة" في نانسي: دار البلدية من طراز الروكوكو، وميدان ستانسلاس الذي يؤدي عبر حديقة عامة وقوس النصر إلى ميدان دي لاكاريير ودار الحكومة، وأحاط جان لامور ميدان ستانسلاس بحواجز من قضبان حديدية متصالبة (1751 - 1755) هي أجمل ما صنع من نوعها في الفن الحديث. وأقامت ليون آنذاك ميدان

ص: 97

كويس الأكبر وافتتحت كل من نانت وروان وريمس وبوردو ميدان الملك. وشادت تولوز مبنى فخماً للبرلمان، وأقامت روان نافورات جميلة وزينت الجسور الفخمة مدينة سنس. وعمت المتنزهات الواسعة نانت وبلوا ومونبلييه. وفيما بين عامي 1730 - 1760 حول جان جاك جبراييل بوردو إلى مدينة حديثة ذات ميادين شاسعة وشوارع واسعة ومتنزهات طلقة الهواء وواجهة جميلة تطل على المياه، وشيدت فيها المباني العامة على طراز عصر النهضة الرائع.

وأخيراً تخطت العمارة الفرنسية الحدود، فعهد إلى رجال العمارة الفرنسيين بإقامة المباني في سويسرا وألمانيا والدنمرك وروسيا وإيطاليا وإسبانيا. وفي أواسط القرن وحين ضعفت قوة فرنسا العسكرية ومكانتها السياسية نجد أنها بلغت ذروة النفوذ والتأثير في مجال العادات والفن.

‌3 - النحت

خاض النحت في تلك الحقبة معركة مريرة في محاولة للاعتراف به فناً هاماً كبيراً. وكانت مهمته قد اقتصرت لعهد طويل على أن تكون زخرفية أو تزيينية. وفي عهد لويس الرابع عشر أقيمت التماثيل لتضفي زينة وبهاء على القصور الفخمة والحدائق الشاسعة. أما الآن فقد قل الاهتمام بالنحت لأن الولع بالبناء قد استنفد أغراضه كما استنزف فرنسا، وقبع الأغنياء في مبان أصغر حجماً، ولم تجد التماثيل الضخمة لها مكاناً في قاعات الاستقبال أو النوم. وشكا المثالون من ان الأكاديمية الملكية للرسم والنحت منحت معظم جوائزها للرسامين. واقترح بيجال أن يكون هناك مثال ملكي على غرار الرسام أو المصور الملكي، وأيد بشخصه حملة طائفة سان ميشيل لكسر التقليد الذي جرى عليه العمل وهو تكريم الرسامين وحدهم بمثل هذه المهمة. وانصرف المثالون على كره منهم إلى زخرفة البيوت بقطع صغيرة وبالزهريات والنقوش البارزة، وسعوا إلى منافسة رسامي الأشخاص بأن يشكلوا الجسم الفاني في صورة خداعة من البرونز أو الحجر الذي لا يبلى، ما داموا يتقاضون الأجر. ولما تهيأ لبعض هؤلاء المثالين مزيد

ص: 98

من الفرص للعمل اختاروا طراز الروكوكو الرشيق الطبيعي اللعوب المرح على حين ظلوا يحبذون وقار الخطوط الكلاسيكية.

وكما هو الحال مع الرسامين والحرفيين مال فن النحت إلى أن ينموا في أسرات بعينها. وساعد نيقولا كوستو أستاذه أنطوان كويسيفوكس في تزيين القصور الملكية في مارلي وفرساي، وصمم الشخصيات العظيمة، رامزاً إلى أنهار فرنسا، وهي الآن في البلدية دار البلدية في ليون. ولا يزال تمثاله "النزول من الصليب" في كنيسة نوتردام دي باريس، و "الراعي الصياد" واحداً من اثنا عشر تمثالاً رائعاً تغالب الزمن والجو في حدائق التويللري. ونحت غليوم كوستو الأول الأخ الأصغر لنقولا، تمثالاً من المرمر لماري لزكز نسكا، مثل تمثال جونو (4)(زوجة جوبيتر في الأساطير الرومانية) كما نحت تمثال "جياد مارلي" القوية (1740 - 1745) لذلك القصر أساساً، ولكنها الآن متمردة على اللجام في المدخلين الغربي والشرقي لقصر الكونكورد. أما ابنه غليوم كوستو الثاني، فقد حفر للدوفين مقبرة في كاتدرائية سنس.

وأنجبت مدينة نانسي أسرة أخرى من الفنانين فورث جاكوب سجسبرت آدم أبناءه الثلاثة النحت والعمارة، وقضى لمبرت سجسبرت آدم عشر سنوات في الدرس والتحصيل في روما، عاد بعدها إلى باريس، حيث تعاون مع أخيه الأصغر نقولا سباستيان في إقامة نافورة "نبتيون وامفتريت"(إله وإلهة البحر) ف يحدائق فرساي ثم قصد إلى بوتسدام حيث حفر لفردريك الأكبر-هدية من لويس الخامس عشر-مجموعتين من الرخام-صيد الحيوان وصيد السمك-لقصر سان سوسي. ثم رجع نقولا سباستيان إلى نانسي وشاد مقبرة كثرين أو بالنسكا في كنيسة نوتردام دي بون سيكور، وثمة أخ ثالث، وهو فرانسوا بلتازار جسبار، أسهم في تزيين عاصمة ستانسلاس.

وهناك أسرة ثالثة من النحاتين بدأت بالمثال فيلبوكافييري الذي غادر لإيطاليا في 1660 ليعمل مع ابنه فرانسوا شارل في خدمة لويس الرابع عشر.

ص: 99

وثمة ابن آخر هو جاك كافييري الذي بلغ بعبقرية الأسرة إلى الذروة متفوقاً على كل معاصريه في أشغال البرونز. وتنافست القصور الملكية كلها تقريباً في الإفادة من فنه في زمانه. وفي قصر فرساي اشترك مع ابنه فيليب في المدفأة في جناح الدوفين وفي صنع قاعدة برونزية من طراز الروكوكو لساعة الملك الفلكية المشهورة الآن. وتعد التركيبات والسنادات البرونزية التي صنعها للأثاث أثمن وأغلى قيمة من الأثاث نفسه (5).

وارتضى آدم بوشاردون-الذي أسماه فولتير "فيداس" فرنسا (6)(نحات أغريقي في القرن الخامس ق. م) -ارتضى تماماً كل القواعد الكلاسيكية التي نادى بها راعيه كونت دي كايلوس. وجد لعدة سنين مناناً لتمثال بيجال خيل لهذا الأخير أنه غلب على أمره. وأورد ديدرو ذكر بوشاردون في قوله "لم أدخل قط إلى مرسم (ستوديو) إلا خرجت منه بشعور من القنوط سيطر علي لعدة أسابيع"(7) ورأى ديدرو أن تمثال "الحب-كيوبيد"(8) الذي صنعه بوشاردون مكتوب له الخلود، ولكنه لا يكاد يتلظى بنار الحب، وخير منه النافورة التي أقامها المثال نفسه في شارع جرينل في باريس، وهي تحفة رائعة في جلالها الكلاسيكي وعظمتها وفي 1749 عهدت إليه المدينة بصنع تمثال فارس للملك لويس الخامس عشر، وأكب على العمل فيه لمدة تسع سنين، وصبه في 1758، ولكن لم يمهله القدر ليراه قائماً وطلب إلى السلطات البلدية، وهو على فراش الموت 1762، أن تكل إلى بيجال إكمال المشروع، وهكذا اختتمت المنافسة التي طال أمدها بين هذين المثالين، فيما ينبئ عن الإعجاب والثقة بينهما، ونصب التمثال في ميدان لويس الخامس عشر، ثم جاءت الثورة الفرنسية فحطمته 1792 باعتباره رمزاً بغيضاً.

ونبذ جان بابتست ليمويين كل القيود والقواعد الكلاسيكية، لأنها تحكم على النحت بالفناء. لماذا لا يعبر الرخام أو البرونز-مثل صور الألوان المائية أو الزيتية عن الحركة والوجدان والضحك والفرح أو الحزن-مما تجرأت التماثيل الهللينية على أن تعبر عنه؟ وبهذه الروح صمم ليمويين

ص: 100

مقبرتي كاردينال فليري والرسام بيير مينارد لكنيسة سان روش، وكذلك في تمثال مونتسكيو الذي نحته لمدينة بوردو، أبرز المثال المؤلف "روح للقوانين" ساخراً مكتئباً شكاكاً، وسطاً بين سناتور روماني وفيلسوف إقليمي يسخر من أساليب الباريسين في حياتهم. وأصبحت تلك البسمة العابرة هي العلامة المميزة للعديد من التماثيل النصفية التي صنعها ليمويين بأمر من الملك لكثير من رجال فرنسا البارزين. وانتصر هذا الأسلوب التعبيري الممتع على كلاسيكية بوشاردون، وانتقل إلى بيجال وباجو وهودون وفالكونيه في عصر من اعظم عصور النحت في فرنسا.

‌4 - الرسم

كان الرسامون هم أصحاب اليد الطولى بين الفنانين آنذاك. وعكست سيطرة بوشيه مرة أخرى نفوذ النساء وتأثيرهن على الفنون، وأحست مركيزة بمبادور أن الرسامين قد أضاعوا كثيراً من الوقت مع أبطال الرومان وقديسي المسيحية وآلهة الإغريق، وقد آن الأوان لينظروا إلى فتنة الأحياء من النساء في أبهى حللهن وتورد خدودهن، ويبرزوا بالخطوط والألوان رشاقة العصر التي لم يسبق لها مثيل في تقاطيع الوجوه، وفي الثياب وفي العادات وفي كل الكماليات في حياة الأقلية الثرية. وكانت المرأة يوماً خطيئة، وهي تعلن أنها لا تزال خطيئة، لكن لا شيء إلا أن تكون أكثر إغراء وفتنة. إنها ثأرت لنفسها من تلك القرون المرعبة التي أذلتها فيها الكنيسة ودمغتها بأنها أس البلاء، ومصدر اللعنة. وسمح لها بدخول جنة لا يغشأها إلا الخصيان بفضل عذرية أم الإله فقط. وليس ثمة شيء ينم في جرأة أكبر على اضمحلال الديانة في فرنسا من زحزحة السيدة العذراء عن الفن الفرنسي.

وحل الملك والأرستقراطية ورجال المال محل الكنيسة في رعاية الفن. وفي باريس أصبحت أكاديمية سان لوك للرسامين منافساً ومستحثاً للأكاديمية الملكية للفنون الجميلة المحافظة المتمسكة بالقديم. وفي الأقاليم نشأت أكاديميات إضافية في ليون ونانسي ومتز ومرسيليا وتولوز وبور وكلبرمنت

ص: 101

فراند وبو وديجون وريمس. وفضلاً عن جائزة روما السنوية وضعت اثنتا عشرة مسابقة وجائزة، بعثت في دنيا الفن حركة دائبة واهتياجاً شديداً، وفي بعض الأحيان كان الملك أو غيره من رعاة الفن، يواسون من لم يفوزوا في هذه المسابقات بشراء بعض لوحاتهم أو منحهم بعض المال الذي يكفل لهم الإقامة لبعض الوقت في إيطاليا.

وعرض الرسامون لوحاتهم في الشوارع، وفي بعض الأعياد الدينية كانوا يثبتونها في الستائر التي تتدلى من نوافذ الأتقياء في الطرق التي يمر بها الموكب الديني. ورغبة في تعويق ما بدا للفنانين المعترف بهم أنه نهج غير ملائم، استأنفت الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1737 وبعد انقطاع ثلاث وثلاثين سنة، إقامة المعرض العام للرسم والنحت المعاصرين في "القاعة المربعة" في متحف اللوفر. وهذا المعرض السنوي أو الذي كان يقام كل عامين بعد 1751 أصبح في أواخر أغسطس وطوال سبتمبر حدثاً مثيراً في الحياة الفنية والاجتماعية في باريس، وفي دنيا الأدب، وجعل الصراع بين المحافظين في الأكاديمية والمتمردين داخلها أو خارجها، من الفن معركة تنافس معارك الحديث عن الجنس بل معارك الحرب الحقيقية في أحاديث الناس في العاصمة. واحتقر أنصار الخطوط البسيطة المحتشمة غير المبالغ في زخرفتها، والتهذيب الذي يعاون على الإصلاح-كما كانوا هم أنفسهم موضع احتقار-أنصار اللون والتجريب والابتكار والحرية. وأصبح النقد الفني عملاً ناجحاً. وكانت "تأملات في فن الرسم" للكونت دي كابوس تقرأ في إسهاب على الملأ في الأكاديمية. وروى جريم أنباء المعارض لقراء رسائله. وتخلى ديدرون عن هجومه على المسيحية ليصبح واحداً من أشد الفنيين معارضة في ذاك العصر. وأثار الحفارون على الخشب والمعادن مثل جاك لي بلون ولورنت كارز الهياج بنشر نسخ مطبوعة من الأعمال المشهورة وتزيين الكتب بالصور، وإنتاج روائع من عملهم هم أنفسهم. وكان لي بلون أول من بدأ الحفر بالألوان في 1720.

ولم يكسب الفنانون قط من قبل، اللهم إلا في مجال الفنون الدينية،

ص: 102

مثل هذا الجمهور المتحمس، أو مثل هذه الرعاية على نطاق واسع. ويأت الرسام الآن يوجه نشاطه إلى العالم بأسره.

أ - في حجرة الانتظار

ارتفع عدد كبير من الرسامين إلى قمة المجد في تلك الحقبة، حتى أنه ليشق علينا هنا مجرد ذكرهم، ولسوف نعرض في تفصيل أكثر لبوشيه وشاردان ولاتور، ولكن هناك من قد يزعجهم إغفالنا ذكرهم.

فهناك الرسام المبرز جان فرنسوا دي تروي، ولكنه كانت تعوزه الحيوية، وكان رسمياً إلى درجة لا يصلح معها أن يكون عظيماً. وأحبه الجميع، ووافق إلى حد مبير على أن يستخدم ملامح وجهه وكأنها ملامح وجه السيد المسيح "آلام المسيح في البستان (9) " ووجد في إغراء السيدات لذة أكثر منها في رسمهن، وترك وراءه كثيراً من القلوب الكسيرة المحطمة والأعمال المشوهة، وزخرف فرنسوا ليمويين (ويجب ألا تخلط بينه وبين المثال جان بابتست) عقد قاعة هركيول في قصر فرساي بنحو 142 شكلاً ضخماً، ونقل إلى تلميذه بوشيه فن إحلال اللون الوردي الذي تؤثره مدام دي بمبادور محل اللون الأسمر المائل للحمرة في لوحات رامبرانت واستبق شارل أنطوان كوبيل، وهو ابن وحفيد لرسامين، شاردان في رسم مشاهد الحياة اليومية وأحداثها، وقد التقينا به رساماً للوصي، وفي 1747 أصبح الرسام الأول للملك لويس الخامس عشر.

وقد سر فردريك الأكبر باقتناء لوحته "سيدة أمام المرآة" لقصر سان سوسي، ولا يزال اللوفر يعرض لوحته "الحب والأميرة فاتنة الجمال التي أحبها كيوبيد" من نسيج الجوبلان المنقوش، وهي تركيب نفيس من طبيعة بشرية وقماش.

وحظي جان مارك ناتيير بشعبية ورواج في رسم الأشخاص لأنه عرف، عن طريق الوضعة (كيف يكون وضع المرء أمام الرسام) واللون وحركة الضوء، كيف يخلص الجالسين أمامه من العيوب أو التشويهات التي أصابتهن بفعل الوراثة أو أحداث الحياة، حتى أن كل السيدات اللاتي

ص: 103

رسمهن، فيما عدا واحدة، سررن حين وجدن أنفسهن في لوحاته، فاتنات مغريات كما اعتقدن دائماً في أنفسهن. ولوحته "مدام دي بمبادور" معلقة في فرساي، بشعرها الجميل الملون بلون خفيف، وعينيها الوديعتين اللتين لا تكادان تكشفان عن لهفتها على السلطان والسيطرة وتنافس الملوك والملكات على الظفر بالفنان ناتيير. فقد رسم ماري لزكزنسكا سيدة برجوازية تشرع في القيام بنزعة في الريف (10) وأنصف كل الإنصاف جمال أدليد (11) ابنة الملكة. وعندما زار بطرس الأكبر باريس رسم ناتيير لوحتين له ولزوجته القيصرة، ودعاه بطرس للانتقال إلى روسيا فأبى، فما كان من القيصر إلا أن حمل اللوحتين دون أن ينقده أجراً. وأحضر جاك أندريه أفيد المولود في الفلاندروز بعض لوحات فلمنكية واقعية تصور الناس كما هم، ولا بد أن ميرابو الأكبر جزع عندما رأى نفسه كما رآه أفيد فصوره (12). ولكنها على أية حال من أعظم لوحات هذا القرن.

وعلى كل هؤلاء السادة الجالسين في حجرة الانتظار-حتى على بوشيه وشاردان-نجد جريم وديدرو يؤثران كارل فانلو، وهو سليل أسرة كبيرة من الرسامين تحمل اسم فانلو، نعرف منهم تسعة بأسمائهم. ولد في نيس 1705. واصطحبه معه رفيقه الرسام جان بابتست إلى روما حيث درس بالأزميل والفرشاة معاً. وفي باريس فاز بجائزة روما 1724، ثم قضى في إيطاليا فصلاً دراسياً آخر، عاد بعده إلى فرنسا وأراضي الأكاديمية وأغضب بوشيه، بأتباعه كل القواعد الأكاديمية. وحيث أنه أفزع كل جهده وقضى كل وقته في الاشتغال بفنه، ولم يدخر منه شيئاً ليتعلم القراءة والكتابة والعادات القويمة والحديث المهذب، فإن مدام بمبادور نفرت منه ف شيء من الاشمئزاز (13) بأنه "وحش مزعج" ومع ذلك عهدت إليه برسم (مناقشة إسبانية). ولفترة وجيزة ارتضى مزاج العصر، ورسم سيدات متشحات بأردية ملتصقة بأجسامهن، ولكنه سرعان ما ركن إلى الرزانة والهدوء في حياة أسرية نموذجية، فخوراً بزوجته البارعة المصقولة ولوعاً بابنته كارولين. وفي 1753 اشترك مع بوشيه في زخرفة قاعة المجلس

ص: 104

الرائعة في قصر فونتنبلو، وبلغ درجة كبيرة من الشهرة إلى حد أنه عندما اتخذ مقعده في الكوميدي فرانسيز، بعد مرض عضال كاد يودي بحياته، نهض الحاضرون وحيوه وصفقوا له مظهرين بهذه العلاقة الوثيقة بين الفن والأدب في هذا العصر الذي تميز بثقافة عالية.

وسجل جان بابتست أودري رحلات الصيد الملكية في أعمال النقش والرسم على القماش. واختارته الملكة معلماً لها. وكانت تتولاها الدهشة والعجب حين تراقبه وهو يعمل. وزودت بعض قطعه المنقوشة نساجي القماش بتوجيهات ونماذج ممتازة يهتدون بها في عملهم، وسرعان ما عين أودري مديراً للمصنع الملكي في يوفيه، فلم يجد هناك إلا الفوضى والتدهور، فأعاد تنظيم العمل في حزم وشدة، وأثار همم العمال بحماسته؛ وصمم لهم سلسلة من قطع النسيج المزدان بالرسوم، موضحاً بصور الحيوانات المبهجة قصص لافونتين الخرافية. وهناك أيضاً وضع الرسم التمهيدي للمجموعة الأخاذة من النساء والوحوش المعلقة في اللوفر، في "ديانا دي بورتيير". وتملكت النساجين في الجوبلان الغيرة من النجاح الذي أصابه مصنع بوفيه، فاقنعوا الملك بنقل أودري إلى المصنع القديم، وهناك أفنى نفسه في صراع مرير لحمل النساجين على قبول الألوان التي وضعها. وفي الوقت نفسه أسهم في كل من بوفيه وباريس في تدريب المواهب والقدرات المتشعبة لدى أكثر فناني منتصف القرن في فرنسا امتيازاً وتألقاً، وأكثر من نال منهم تعنيفاً قاسياً.

ب - بوشيه

1703 -

1770

استمع إلى ديدرو وهو يتأمل في لوحات بوشيه العارية: أية ألوان، وأية تشكيلة، وأية وفرة في المواد والفكار! إن هذا الرجل توفر لديه كل شيء إلا يصدق. إن انحطاط الذوق واللون، وأسلوب التركيب، والشخصية والتعبير، كل هذا تبع خطوة بخطوة انحلال الخلق .... وماذا عسى هذا الرجل أن يرسم إلا ما تصوره في خياله؟ وماذا يمكن أن يتخيل رجل يقضي حياته برفقة نساء المدينة؟ ..... إن هذا الرجل

ص: 105

لا يمس بفرشاته إلا ليبرز الأرداف والصدور. إنه لا يدرك ما هو الجمال .... فإن الكياسة والأمانة والبراءة والبساطة أصبحت كلها غريبة عليه. إنه لم ير الطبيعة لحظة واحدة قط، وعلى الأقل الطبيعة التي تدخل البهجة على نفسي، وعلى نفسك، مثل طفل كريم المولد، أو امرأة ذات وجدان حي. إنه مجرد من الذوق .... والواقع إنه في تلك اللحظة بعينها، عين الرسام الأول للملك (1765)(14) ".

ويحتمل ألا يكون بوشيه قد اطلع على هذا النقد قط لأنه كان موجهاً إلى قراء جريم الأجانب. فلنلق نحن نظرة على الفنان دون نية مبيتة للحقد عليه أو الإساءة إليه.

كان بوشيه ابناً صميماً من أبناء باريس. وكان أبوه يشتغل بوضع التصاميم، يملك محلاً بالقرب من اللوفر، ولقن ابنه فرنسوا مبادئ الرسم والنحت، وإذ أظهر الفتى استعداداً وموهبة فقد تتلمذ على النقاش لورنت كارز ثم على الرسام فرنسوا اليمويين. وحيث اشتغل برسم المشاهد للأوبرا، فإنه اجتمع هناك بنفر من الممثلات وبنات الفرقة الموسيقية. وانغمس في مباذل عهد الوصاية، بقدر ما أتاحت له إمكاناته (15) ويروي لنا إنه وقع مرة في حب رومانتيكي مع بائعة فاكهة جميلة اسمها روزيت، وبدا له أنه قد تجسدت فيها البساطة والطهارة معاً، فاتخذ منها نموذجاً للوحة لمريم العذراء، أفرغ فيها كل ما تبقى له من تقوى طفولته وصباه. ولكنه، وهو لم يكمل بعد هذه اللوحة انزلق إلى اتصال جنسي غير شرعي، وحين حاول أن يكملها أفلت من الوحي والإلهام، كما أفلتت من روزيت. ولم يسترجع قط لحظات هذا الخيال الرقيق اللطيف (16).

وتطورت مهارته ونمت بسرعة تحت إرشاد ليمونيين. وفي هذا المرسم تعلم شيئاً من نزعة كوريجيو إلى الأشكال النسوية ذات التقاطيع الكلاسيكية والرقة الناعمة. وفي قصر لكسمبرج درس اللوحات الزيتية المتألقة على القماش التي كان روينز قد حول فيها الحياة لماري مديتشي إلى ملحمة من اللون "وعظمة الشباب". وفي 1723، وهو في سن العشرين فاز بجائزة رومه

ص: 106

التي أهلته للإقامة الكاملة في باريس لمدة ثلاث سنوات، مع راتب قدره 300 جنيه، ثم أربع سنوات في روما. وإنا لنحصل على صورة حياة الطالب في عهد الوصاية إذا علمنا أن رفاق الفائز بهذه الجائزة حملوه على الأكتاف وطافوا به حول ميدان اللوفر.

وفي 1727 رافق كارل فانلو إلى إيطاليا. ويقول مدير الأكاديمية الملكية الفرنسية في روما وجد "للشاب الصغير المدعو بوشيه .... جحراً صغيراً في غرفة، وأسكنه فيه، وأخشى ألا يزيد حقيقة عن جحر، ولكنه على الأقل سيقيم تحت سقف (17). ولكن لم يكن لزاماً على الشاب المتواضع، كما وصفه المدير، دوماً أن ينام في هذا الجحر، لأنه وجد كثيراً من المضاجع ترحب به في روما. وإنه لمن علاءم تغير الذوق إنه لم يبد ولعاً بأعمال رافاييل أو ميكل أنجيلو، ولكنه عقد أواصر الصداقة مع تيبولو (رسام فينيسي 1696 - 1770).

ولما عاد إلى باريس (1731) استمر يوقد الشمعة من طرفيها (يمسك بالعصا من وسطها)، ونادراً ما كان يقنع بشيء إلا المعرفة المباشرة بنماذجه، ومع ذلك وجد فسحة من الوقت ليرسم بعض لوحات رائعة مثل "اغتصاب يوروبا" في الأساطير اليونانية (أميرة فينيقية أحبها زيوس واختطفها) وهي من بين عروضه التي لا تحصى لشكل المرأة. وخيل إليه في 1733 أنه وقع على فينوس نفسها في نموذجه جين بوزو، وعلى الرغم من انه أحس "بأن الزواج لا يلتئم معه"(18) فإنه اتخذ منها زوجة، ولم يرع عهد الزوجية إلا قليلاً. وكالت له هي بنفس الكيل. ومن المحتمل أنها جلست أمامه ليرسم لوحة "رينوو آرميد (19) " التي كسبت له العضوية الكاملة في أكاديمية الفنون الجميلة (1734). وحينذاك عهد إليه لويس الخامس عشر برسم مناظر سارة في حجرة نوم الملكة التي كانت لا تزال تتمتع بحبه، وعند إعادة افتتاح المعرض 1737 اتسعت شهرة الفنان وكثر رعاة فنه. ولم يذق بعد ذلك طعم الفاقة، ولم يعد له منافس.

وتخصص بوشيه في رسم "العاريات" وحتى زواجه لم يكن قد تريث

ص: 107

طويلاً إلا نادراً مع امرأة واحدة ليكشف شيئاً أكثر من بشرتها. ولكنه كان قد وجد أن ذلك المظهر الخارجي ممتع بلا حدود، وبدا أنه عقد العزم على رسمه من كل الأركان والزوايا، وفي كل الأشكال والأوضاع، من الشعر الأشقر الحريري الناعم إلى الأقدام العارية التي لم تنتعل قط. وكان بوشيه هو الروكوكو قلباً وقالباً.

ولكنه كان أكثر من ذلك. وعلى الرغم من ان النقاد المتأخرين عابوا عمله من الناحية الفنية، فإنه كان بالفعل فناناً حاذقاً في التأليف واللون والخط، على أنه ف بعض الأحيان تعجل في العمل، ولم يعط الفن حقه رغبة في سرعة الحصول على الأجر، وهلل كثير من المعاصرين إعجاباً بروح التأثيرية الثورية في لوحاته وخصوبة خياله والرشاقة البسيطة في خطوطه. وقال ديدرو الذي ناصبه العداء، "لم يعرف أحد قدر ما عرف بوشيه، فن الضوء والظل (20) وكاد أي فرع من الرسم والتصوير ألا يروغ من مهارته. إن هؤلاء الذين لا يعرفون منا إلا بعض لوحاته الزيتية وقطعه المصورة على القماش ليدهشون إذ يعلمون أن "شعبية بوشيه ترجع إلى رسوماته قدر ما ترجع إلى لوحاته الزيتية (21). وكانت رسوماته مادة ثمينة طيلة حياته، وتنافس في الحصول عليها مشاهير جامعي الرسومات. وكانت تشتري لتستخدم مساند أو حوامل، وتعلق في حجرات النوم والجلوس على الجدران، وكانت من عجائب الاقتصاد-نقرة في الخد تعبر عنها نقطة أو بقعة صغيرة وبسمة يطبعها خط، وكل بريق وحفيف التنورات الحريرية ينبثق في إعجاز من قطعة من الطباشير. ومن المحقق أنه ليس من أجل الثروة وحدها، ولكن بفضل العبقرية والخيال المتفجرين فيه، يضيئان عينيه ويقودان يديه، أكب بوشيه على العمل عشر ساعات يومياً في مرسمه، تاركاً بصماته على كل شيء يلمسه تقريباً. وفضلاً عن ألف لوحة، رسم بوشيه المراوح وبيض النعام والخرف والرصائع والستائر والأثاث والمركبات ومناظر المسرح وجدران وسقوف المسارح. وقصدت كل باريس النشيطة لترى الزخرفة التي أعدها خلفية (لباليه نوفير" الأعياد

ص: 108

الصينية" 1754. ولم يكن به ميل شديد إلى المناظر الطبيعية، لأنه كان سفير أفروديت إلهة الحب والجمال إلى اللوفر، ومع ذلك احتفظ بشخصياته البشرية في الغابات والحقول، بجوار المياه الفوارة والأطلال الظليلة وتحت السحب البيضاء في السماء الزرقاء، وشمس دافئة تغري بحرارة الدم وتطريها. وربما ظن المرء أن مشاهد الحياة اليومية لا تلائمه، ومع ذلك رسم لوحة "منظر أسرة" وأبرز-وكأنما أراد أن يحرر نفسه من عبودية الجمال-فناء المزرعة وحظيرة الماشية وبرج الحمام، وعربية اليد، والأنقاض في الفناء الخلفي، والحمير ترزح تحت أحمال من الأوعية والآنية التي تحدث قعقعة. واستكمالاً لذخيرته أصبح أعظم مصمم لرسوم النسيج في هذا القرن.

وفي 1736 دعاه أودري إلى مدينة بوفيه ليضع تصميمات للنساجين هناك حيث بدأ بأربعة عشر رسماً لمناظر قروية إيطالية (22). وقد لاقت هذه الرسوم نجاحاً كبيراً إلى حد أنها نسجت اثنتا عشرة مرة على الأقل قبل وفاته. ثم انتقل إلى موضوع أكثر نموذجية "قصة الأميرة الفاتنة"-خمس استار تعلق على الجدران، شكلتها مدام بوشيه، وهي من التحف الرائعة في فن القرن الثامن عشر. وتوج أعماله بست قطع من النسيج المزدان بالرسوم والنقش أطلق عليها "الحياة الريفية الكريمة"(23) إحداهما وهي "صائد الطير" تمثل حبيبين فاتنين من أروع ما أخرج من حرير والصوف. وشكا النقاد من أنه بسبب أودري وبوشيه أصبح النسيج المزدان بالنقوش أقرب شبهاً باللوجات الزيتية، وأنه فقد خصائصه المميزة. ولم يأبه لويس الخامس عشر بهذا كثيراً، لأنه عندما توفي أودري (1755) رقى بوشيه إلى رئيس مصانع الجوبلان.

وفي الوقت نفسه حظي الفنان المنتصر الظافر برعاية بمبادور المتقدة حماسة وغيرة. فزخرف لها قصر "المنظر الجميل" وصمم أثاثه. وللمسرح الذي سعت به إلى الترفيه والتسرية عن الملك رسم المناظر وابتكر الملابس ورسم لها عدة لوحات آية في الجمال الأخاذ والرقة يحار الناظرون إليها في الحكم عليها. وإن الاتهام بأن بوشيه لم يصل قط إلى ما وراء الجسد قد

ص: 109

سقط الآن وأخرس، فإنه لم يهيئ لنا إن نرى كثيراً من مفاتن جسد العشيقة قدر ما هيأ لنا أن نلمس مناقب الذكاء والرقة التي حببتها إلى الملك، والاهتمام بالثقافة الذي جعل منها معبودة الفلاسفة، والذوق الفني النسوي الرفيع في الثياب الذي أضفى في كل يوم فتنة جديدة على مفاتن الجسد العانية. ويفضل هذه اللوحات ولوحة. الرحلة-لاتور "استطاعت بمبادور تذكير الملك في هدوء بالجمال الذي ولى والفتنة الأرق التي بقيت. وربما استخدمت بمبادور كذلك لوحات بوشيه الحسية الشهوانية في إرضاء رغبة الملك الجنسية القوية. ولا عجب إذن في أنها جعلت من بوشيه صديقاً أثيراً لديها، ووفرت له جناحاً في اللوفر، وتلقت عنه درساً في النقش، وبحثت معه مشروعاته في زخرفة قصورها، والارتقاء بالفنون. ورسم لها (1753) لوحتين من أعظم لوحاته الشروق والغروب"(24) وفي كلتا اللوحتين، بطبيعة الحال، كانت الأشكال البشرية تفوق الشمس بهاء وبريقاً.

وعمر بوشيه بعد بمبادور، وبعد الحرب الفاجعة مع إنجلترا وفردريك الأكبر، وظلت أحواله في ازدهار إلى سن السابعة والستين حيث وافته المنية. وتكاثر عليه التكليف بعمل اللوحات، وأصبح ثرياً، ولكن لم تقل حماسته وغيرته في العمل عن ذي قبل، وطهر ثروته بالبذل والسخاء. وكان عربيداً محسناً خيراً، لا يكل ولا يمل من الفسق والدعارة ولكنه دائماً أبدا مرح ودود، "لطيف كريم غير متحيز، ينأى بنفسه عن الأحقاد الدنيئة ..... به مناعة ضد التلهف الحقير على كسب المال"(25) وكان متعجلاً في عمله إلى حد لم يبلغ معه قمة الامتياز. وأطلق لخياله عنان الحرية إلى درجة لم يلمس معها جوانب الحقيقة والواقع. وأبلغ رينولدز أنه ليس في حاجة إلى نماذج، وأنه يؤثر الرسم من الذاكرة، ولكن ذاكرته جاءت بأشكال مثالية. ولما لم يصوب له الواقع ذاكرته، فإنه بات مهملاً في رسمه مبالغاً في ألوانه. واتهمه جريم وديدرو وآخرون بأنه أخطأ فحسب الظرف واللطف جمالاً، وأنه هبط بجلال الفن إلى مجرد

ص: 110

زخرفة سطحية ذات مظهر خداع، وبأنه افسد أخلاق العصر بإعلاء قيمة مفاتن الجسد. وعاب عليه ديدرو واستنكر ابتسامته المتكلفة وتصنعه

وشامات الجمال، واللون الأحمر على الخدود

ونساءه العابثات، ورجاله الفاسقين الشهوانيين وأولاد باخوس وسلينوس غير الشرعيين (إلها الخمر والعربدة في الأساطير اليونانية)(26) ومات بوشيه وهو يعمل في مرسمه تاركاً على الحامل لوحة لم يكملها "تزين فينوس" وكأنما يتحدى بها ديدرو. وعندما سمع ديدرو بموت الفنان أحس بالندم وقال "لقد أسأت إلى بوشيه كثيراً بكلامي عنه، وإني لأكف الآن عن الحديث عنه. (27) ولنكتف نحن بهذا القدر.

جـ - شاردان

1699 -

1779

كم اختلف عالم بوشيه عن دنيا شاردان-أي تباين بينهما في مفاهيم الجمال وفي الخلق والذكاء! كانت هنا تقريباً حرب طبقية، ثورة الطبقة المتوسطة ضد الأبيقورية المسرفة المبذرة عند رجال المال والأرستقراطية والحاشية. ولد جان مابتست سيمفون شاردان برجوازياً، وظل برجوازياً قانعاً، وصور الحياة البرجوازية في إخلاص بالغ. وكان أبوه معلم نجارة ذا مكانة عالية في نقابته، يمتلك داراً في شارع السين على الضفة اليسرى من النهر، ولما كان يظن أن أبنه جان سيخلفه في مهنته، فإنه لم يعن بتعليمه في المدرسة قدر عنايته بتدريبه على الأعمال اليدوية. وأسف شاردان على ما فاته من تعليم وعلى ضآلة ما حصل منه، ولكن هذا منعه من ارتياد مجالات الفن القديمة، فولى وجهه وفرشاته شطر الأشياء التي حوله في المصنع والبيت. وسرعان ما أحب الرسم وتلهف على التصوير، وسمح له والده بالالتحاق بمرسم بيير جاك كيز، ثم بتسجيل اسمه رساماً في البلاط الملكي.

ولم يكن الشاب سعيداً هناك، فإن النماذج التقليدية التي طلب إليه أن ينسخ عنها بدت بعيدة بشكل مخيف عن الحياة التي عرفها وألفها. وعندما طلب إليه جراح صديق لوالده أن يعد له لافتة تعلن عن مهنة الحلاق الجراح، وتبرز أدواتها، فإن جان-وربما تذكر عند ذاك شعار الرسام

ص: 111

اتو لجرسانت-رسم لافتة ضخمة تمثل رجلاً جرح في مبارزة، يقوم على العناية به جراح ومساعده، ومن حسن التدبير أضاف إلى هذا سقاء وشرطياً وبعضاً من حرس الليل، ومركبة، وامرأة تحدق النظر من نافذتها، وحشداً من المتفرجين يحملقون من فوق الرؤوس-كل أولئك في منظر رائع عن الصخب والإيماءات والإثارة. وغضب الجراح ورأى أن يلقي باللافتة عرض الحائط، ولمنها جذبت انتباه المارة ونالت استحسانهم إلى حد كبير إلى درجة أن الجراح استبقاها على بابه، ولم نسمع بعد ذلك شيئاً عن شاردان، حتى كان عام 1728، حين حظيت بإطراء خاص، لوحته "السمكة" ولوحته "الخوان"(البوفيه) -طبق فضي فيه فاكهة-في معرض في الهواء الطلق في ميدان الدوفين. ودعاه بعض أعضاء الأكاديمية ليطلب الانضمام إلى عضويتها. ودبر أن يعرض بعض من لوحاته هناك غفلاً من اسمه، فأعلن من رأوها أنها تحف رائعة، ونسبوها إلى فلمنج، ثم اعترف شاردان بأنه صاحبها، فاستنكروا هذه الخدعة، ولكنه على أية حال فاز بعضوية الأكاديمية (1728).

وفي 1731 خطب مرجريت سنكتار التي وعده أبواها بصداق كبير، ولكن في فترة الخطوبة مني الوالدان بخسائر جسيمة وفارقا الحياة، تاركين مرجريت لا تملك شروى نقير، وتزوجها شاردان على الرغم من ذلك، وهيأ لهما أبوه مسكناً في الطابق الثالث من منزل كان قد اشتراه حديثاً على ناصية شارع دي فور وشارع البرنسيس. وهناك أقام الفنان مرسمه الذي كان أيضاً مطبخه، فقد اختار الآن بصفة نهائية أن يرسم الحياة الهادئة ومشاهد الحياة اليومية. وأصبحت الخضر والفاكهة والسمك والخبز واللحم كل الأشياء التي تبعثرت في أنحاء الغرفة، نماذج لفرشاته تارة، وصنوف قائمة طعامه تارة أخرى.

وافتتن شاردان بالأشكال والألوان المتغيرة في الأشياء العادية، ورأى فيها خصائص في لبيئة والتركيب والضوء قلما تلحظها العين الغافلة. فإن جانبي التفاحة أو خديها كانا بالنسبة له يحملان طابعاً رومانتيكياً مثل تورد

ص: 112

وجنتي العذراء، وبريق السكين فوق مفرش المائدة الأخضر تحداه أن يمسك به في حركته السريعة، ويحاول تثبيته في فنه. وأبرز هذه الأشياء الصغيرة البسيطة في أمانة وتبصر، وبراعة فنية في اللون والمناسيب والضوء والظل، مما لم يتيسر إلا لقلة من الفنانين أن يبلغوه. وإننا لننظر إلى هذه الأشياء الطبيعية الميتة، ونحس بأنها حية وإننا لم نرها رؤية صادقة قط من قبل، وإننا لم نتحقق قط من تعقيد أشكالها وتفردها، ومن الفروق الدقيقة بين ظلال ألوانها، ولم يجد الشعر فقط في إناء من الأزهار أو عنقود من العنب، بل في مرجل قديم محطم، وفي جوزة، وفي قشرة برتقالة، وفي فتات كسرة من الخبز. ففي هذه كلها شعر دائماً كما كان الفلمنكيون والهولنديون قد عرفوا من قبل، ولكن من في فرنسا بوشيه وبمبادور خامره يوماً شعور بوجود هذا الشعر. وكان جمال هذه الأشياء بطبيعة الحال في عين الرائي أو المشاهد أو بالأحرى في نفسه. إن شعور شاردان القوي وبصيرته النافذة-وفقره-كل أولئك هو الذي جعل من مخزن حفظ الأطعمة قصيدة غنائية، ومن قائمة الطعام ملحمة شعرية.

وكل إنسان يعرف هذه القصة-أو الأسطورة؟ -كيف انساق شاردان إلى رسم الأشكال البشرية. إنه سمع ذات يوم صديقه أفيد يرفض 400 جنيه أجراً لرسم لوحة لأحد الأشخاص، فعجب شاردان أشد العجب، وهو معتاد على الجور الضئيلة، لهذا الرفض. فما كان جواب أفيد إلا أن قال "هل تظن أن رسم إنسان سهل مثل رسم مرق التوابل (الصلصة). (28). وكانت سخرية لاذعة، ولكن مفيدة. إن شاردان كان قد ضيق مجال موضوعاته تضييقاً شديداً، وسرعان ما كان يمكنه أن يشبع رغبات زبائنه وعملائه في الأطباق وألوان الطعام، وعقد العزم على رسم الأشخاص، وكشف في نفسه عن عبقرية في رسم الأشخاص في رقة وتعاطف، وكان هو الذي هيأ لهذه العبقرية أن تخمد. وقبل التحدي من فوره. ورسم لوحة لصديقة أفيد نفسه، "المتفاخر" (29). وأتبعها بلوحة أحسن منها "دار لعب الورق". ولكن هنا أيضاً كان التفوق والامتياز

ص: 113

في الملابس لا في الوجوه. وفي لوحة "الطفل والخذووف (النحلة) " خطا شاردان خطوته الثانية: اليدان بشعتان بعض الشيء، ولكن الوجه ينبئ عن عقل سليم. ووجد هذا الاعتناق الرقيق منفذاً في رسمه للبنات، كما هو الحال في التحفتين الرائعتين اللتين تضمهما مجموعة روتشيلد:"بنت تلعب تنس الريشة"، وأخرى "تتسلى بتناول غذائها".

إن شاردان لم ير في النساء الأغراء الباسم الذي أثار بوشيه، بل رأى فضائل وخصائص الزوجية والأمومة التي هي عماد الدولة، وهي التي تقودها إلى طريق الخلاص. ومع شاردان دخلت سيدات الطبقة المتوسطة مجال الفن الفرنسي، وحصلت على حقها فيه. إن هذا الفنان عرفها وأحبها في كل ما تقوم به من خدمات جليلة آسرة: إحضار الطعام من السوق، سحب الماء، تقشير السلجم، لف الصوف، العناية بالمريض، تحذير التلميذ من إهمال واجبه أو التهرب منه، أو كما أبرز شاردان في أشهر لوحاته "الخير والبركة"(30) الإمساك عن الطعام حتى تكف صغرى البنات، ويداها الصغيرتان مضمومتان، عن الصراخ والبكاء ويشيع في وجهها ابتسام الرضا، ورأى المرأة دائماً في ملابس البيت، غير متبرجة، في حركة دائبة، تخدم زوجها وأولادها من الفجر وصلاة الصباح إلى أن يأووا جميعاً في أمان إلى فراشهم ويتدثروا. وإننا لنرى من خلال لوحات شاردان باريس وهي أكثر حكمة وأكبر عقلاً من الحاشية، لا تزال متعلقة بالأخلاقيات القديمة والعقيدة الدينية التي وفرت لها عوناً روحياً. وهذا هو أعظم فن نفعاً وصحة في كل تاريخ الفن.

إن هذه الصور التي يهلل لها العالم الآن لم تلق إلا رواجاً محدوداً جداً آنذاك، ولم تأت للفنان إلا بفرنكات معدودة تقيم أوده في بساطة قانعة. ولم يساوم مع عملاءه، وباع اللوحات بأي ثمن عرضوه عليه تقريباً، ولما كان يعمل في بطء وكد وجد، فإنه أنهك نفسه في فقر نسبي، على حين أن بوشيه استنفد جهده في يسر ورخاء. ولما توفيت زوجته الأولى بعد أربعة أعوام فقط من الزواج، آل مسكنه إلى حالة شديدة من الفوضى وسوء

ص: 114

النظام. وكأنه مسكن طالب، ألح عليه أصدقائه أن يتزوج ثانية، ولو ليحظى بيد امرأة رشيقة وسيدة تعيد النظام إلى بيته. وتردد تسع سنين ثم تزوج الأرملة مرجريت بوجيه. وهو في بساطة زواج مصلحة. وجاءت له مرجريت بصداق متوسط، يشمل بيتاً تملكه (13 شارع البرنسيس)، فانتقل إليه. حيث وضعت خاتمة لفقره وعوزه، وكانت سيدة فاضلة وزوجة شديدة التدقيق. وتعلم هو أن يحبها شاكراً ممتناً.

وزيادة في معونته من الناحية المالية خصص له الملك (1752) راتباً قدره 500 جنيه، وعينته الأكاديمية (1754) أميناً للصندوق فيها، وسرعان ما عهدت إليه بترتيب اللوحات المقدمة إليها في قاعات العرض فيها، ولكنه لم يصلح لهذه المهمة مطلقاً، ولكن زوجته ساعدته فيها. وفي 1756 أقنع صديق نقاش-هو شارل نيقولا كوشان الثاني-ماريني بأن يخصص لشاردان غرفة مريحة في اللوفر. وهذا هو كوشان نفسه الذي كان تواقاً إلى إبعاد شاردان عن تكرار صور المطبخ، فحصل له على تكليف برسم ثلاث لوحات، لتوضع (فوق الباب) لقصر ماريني. فأخرج شاردان في جد واجتهاد (1765)"خصائص الفن" وخصائص الموسيقى (32) ثم حصل على تكليف آخر برسم لوحتين شبيهتين لقصر مدام دي بمبادور "المنظر الجميل". ولسوء الحظ لم يدفع المبلغ الموعود للوحات الخمس حتى عام 1771.

وفي نفس الوقت كان الفنان تتقدم سنه ويفقد مهارته. ففي 1767 نرى ديدرو الذي كان قد رحب بعمله وأثنى عليه بوصفه "روح الطبيعة والحقيقة" يقول في أسى وأسف "إن شاردان رسام ممتاز لمشاهد الحياة اليومية، ولكنه يذوي ويذبل (33) ". وكانت لوحات لاتور المرسومة "بالبستل" تأخذ بمجامع الألباب في باريس. وفي غمرة المنافسة أخذ شاردان نفسه الطباشير والورق وأدهش لاتور حين أبدع لوحتين بالبستل لشخصه. وهما من أعظم الإنتاج وروعة واتقاناً وكمالاً في اللوفر. إحداهما تمثله في قلنسوة قديمة ضيقة مزدوجة العقد على رأسه، والعوينات

ص: 115

(النظارة) في أعلى أنفه، ورباط عنق مربوط بإحكام حول عنقه. وأبرزت الأخرى نفس الزي ونفس الوجه مملوءاً بالدهشة والشخصية، بالإضافة إلى قناع يظلل عينيه اللتين يشكو فيهما ألماً. وأشهر من هاتين، لوحة البستل التي أبدعها لزوجته الثانية، وهي آنذاك في الثامنة والستين: وجه كريم جميل، أخرجه بمهارة متسمة بالحب. وتلك هي اللوحة التي يقع عليها اختيارنا لتكون تحفة شاردان ورائعته.

وكانت خاتمة مظفرة لحياة فذة شريفة كريمة. ولسنا في حاجة إلى تصوير شاردان رجلاً بريئاً من زلات البشر، فالحق أنه هو نفسه أيضاً، وقد وخزته أشواك الحياة وأساءت إليه الأحقاد، كان في مقدوره أن يقاوم بالانفجار في الغضب وفي قارص الكلام، ولكنه لما فارق الحياة في 1779، فإن أحداً في دنيا الفن الباريسي الحاسدة الحاقدة المفترية، لم يجد كلمة سوء عدائية يقولها فيه. بل إن نظام الحكم المنهار نفسه بدا أنه تحقق من ان شاردان قد كشف بأسلوب فني لم يبزه فيه أحد في زمانه، عن فرنسا، التي هي فرنسا الحقيقية التي لا تزال سليمة بارئة من السقام، تلك الدنيا المستترة، دنيا الكد الخالص والولاء للأسرة، مما يمكن أن يبقى ويعمر-ويساعد فرنسا على البقاء-بعد قرن من الفوضى والثورة. وكما قال ديدرو "كان شاردان أعظم ساحر لدينا"(33).

د - لاتور

1704 -

1788

إن نزعات الذوق المتقلبة لا تقدم اليوم إكليل الغار في فن الرسم الفرنسي في القرن الثامن عشر، إلى بوشيه أو إلى شاردان، بل تقدمه إلى موريس كانتان دي لاتور.

وهو أكثر الشخصيات الثلاث إمتاعاً وتشويقاً، لأنه مزج رذائله وفضائله باستهتار شيطاني، وساق العالم المرتعد بأسره إلى زاوية، وطلب كما فعل ديوجنيس، إلى ملك أن يبتعد عن طريقه. وكان نزاعاً إلى جمع المال في جشع شديد، مغروراً وقحاً متغطرساً، عدواً لدوداً وصديقاً متقلباً عميقاً مزهواً مثل رجل عجوز يخفى سني عمره أو يفاخر بها، وكان أميناً

ص: 116

صريحاً، بخيلاً، ومحسناً مسرفاً وساذجاً أنيساً، وطنياً ملتهباً حماسة وغيرة، يحتقر الألقاب، ومن ثم رفض لقب النبالة الذي عرضه عليه الملك. ولكن هذا كله لا يتصل بالموضوع، فإنه كان أعظم رسام في عصره، وأعظم مصور بالبستل في تاريخ فرنسا.

وجلس لويس الخامس عشر يوماً إلى لاتور ليرسمه، فاستاء الملك وجرحت كبرياؤه لكثرة ما ردد الفنان من عبارات المديح والثناء على الجانب، وقال له "ظننت أنك فرنسي". فأجاب لاتور "لا يا مولاي، أنا من سانت كانتان في بيكاردي (34) "(مقاطعة في شمال فرنسا كانت يوماً جزءاً من الفلاندرز). انه ولد هناك لأب موسيقار موسر، أراد له أن يكون مهندساً، ولكن الوالد آثر أن يكون رساماً، فأنبه الوالد على ذلك، وهرب موريس وهو في الخامسة عشرة إلى باريس ثم ريمس ثم كمبراي، يرسم اللوحات هنا وهناك، وفي كمبراي دعاه أحد الدبلوماسيين الإنجليز إلى لندن ضيفاً عليه فيها. وذهب إليها موريس، وهنا جمع مالاً وقضى وقتاً سعيداً مستمعاً بالحياة، وعاد إلى باريس وتظاهر بأنه رسام إنجليزي. وكانت روزاليا كارييرا في باريس في عام 1721 وكان وجهاء القوم، ابتداء من الموصى إلى أحداث محدثي الثراء، يفتشون عن لوحاتها المرسومة بالبستل. ووجد لاتور أن مثل هذه الرسوم بالأقلام الملونة تلتئم مع مزاجه القلق، أكثر من الزيت الذي يحتاج إلى جهد وجلد. وقضى عدة سنين يحاول ويجرب ويخطئ، حتى تعلم أن يحقق وينجز بالطباشير ظلالاً ودقة في اللون والتعبير مما لم يتسن لأحد من رسامي الأشخاص في زمانه أن يباريه فيها.

وعندما عرض بعض لوحاته في معرض 1737 بدأ رسامو الزيت يوجسون خفية من منافسة أقلام البستل لهم. وكانت لوحته الثلاث المرسومة بالبستل حديث معرض 1740. وكانت لوحته رئيس مدينة ريو في رداء الحاكم الأسود وعباءته الحمراء "هي التي فازت بالجائزة في معرض 1741. أما لوحته التي رسمها للسفير التركي فقد تكاثر عليها الجمهور المعجب في

ص: 117

1742.

وسرعان ما طالبت دنيا الأناقة التي تهفو دوماً إلى كل ما هو مستحدث، بالتحول إلى طباشير، وأصبح صدام لاتور مع الملك حدثاً تاريخياً. ذلك أن الفنان بدأ بالاعتراض على الحجرة إلى اختيرت ليجلس الملك فيها أمامه ليرسمه، لأن الضوء كان ينفذ إليها من كل جانب، قائلاً "ماذا تتوقع من أن أفعل في هذه المشكلة؟ " فأجاب الملك "لقد اخترت هذه الحجرة المنعزلة خصيصاً، حتى لا يعكر صفواناً أحد". فرد عليه لاتور بقوله "لم أكن يا سيدي أعلم أنك لست سيداً في دارك". وفي مناسبة أخرى عبر الفنان عن أسفه لأن فرنسا لا تملك أسطولاً ضخماً، فاعترض الملك في خبث "فما بال فرنيه الذي صور مناظر البحر يعج بالسفن (35) " ولما علم لاتور أن الدوفين أبلغ أنباء مضللة كاذبة عن مسألة معينة، ابتدره في رفق "وهكذا ترى كيف أنه من السهل على أناس أمثالكم أن يقعوا في حبائل المخادعين المختالين"(36).

وعلى الرغم من صراحته اللاذعة المزعجة، منحته الأكاديمية عضويتها الكاملة 1746 - التي هي بمثابة شهادة امتياز وتفوق. ولكن في 1749، نتيجة سعي حثيث من الرسامين بالزيت، قررت الأكاديمية ألا تقبل مزيداً من رسوم البستل. وفي 1753 شكا أحد مصوري اللوحات الزيتية "من أن دي لاتور ارتقى برسم البستل إلى درجة قد تثير النفور من اللوحات الزيتية" ورد لاتور كيد الشاكي في نحره بالحوافز والروائع.

وكان له منافس في البستل، وهو جان بابتست برونو الذي كان يؤثره ليمونيين وأودري وغيرهما من الأكاديميين على دي لاتور، فطلب هذا إلى برونو أن يرسمه (لاتور شخصياً) فقبل برونو وأخرج له تحفة رائعة، وأجزل العطاء له دي لاتور الأجر، ولكنه رسم بعد ذلك نفسه في لوحة من أعظم اللوحات الذاتية المعروفة روعة وإبرازاً للشخصية والذات ودبر مع شاردان أن تعرض اللوحتان كلتاهما جنباً إلى جنب في معرض 1751. وأجمع كل الذين شاهدوهما أن اللوحة الذاتية تفضل لوحة برونو، ولا تزال اللوحة الذاتية التي رسمها لاتور لنفسه تبتسم ابتسامة النصر في متحف اللوفر.

ص: 118

وهناك أيضاً اللوحة التي تحدى بها بوشيه وهي لوحة البستل الوحيدة التي عرضها 1755. وأفلتت الفرصة منه تقريباً. فحين وجهت إليه الدعوة ليرسم أشهر سيدة في المملكة أجاب "أرجو أن تتفضلوا بإبلاغ مدام دي بمبادور أنني لا أخرج لأرسم". وكانت تلك طريقته في جلب الحظ والمال، مثل إيقاع الفريسة في الشرك، بالتراجع، وتوسل إليه أصدقاؤه أن يقبل، فأرسل كتاباً ينبئ بأنه سيحضر، ولكن شريطة ألا يقطع عليه أحد سير العمل. ولما وصل نزع وقاء حذائه، وخلع الحذاء، ونزع شعره المستعار عن رأسه ورقبته (ياقته) وغطى رأسه بقلنسوة حريرية، ثم بدأ يرسم. وفجأة فتح الباب ودخل الملك. فاحتج لاتور قائلاً: لقد وعدتني يا سيدي أن يظل الباب مغلقاً "فضحك الملك ورجاه أن يستأنف عمله، ولكنه رفض" يستحيل علي أن أطيع جلالكم. سأعود عندما تكون السيدة وحدها

لا أحب أن يقاطعني أحد. فانسحب الملك، وأكمل الفنان الجلسة، ومن أشهر صورتين لمدام دي بمبادور، نجد أن اللوحة التي رسمها لاتور أعمق من تلك التي أنتجها بوشيه، وأقل إشراقاً في اللون، واتقاناً في اللمسات الخيرة والتفاصيل، ولكنها أكثر نضجاً من حيث التعبير وإبراز الشخصية. ولا ريب أن لاتور رسم المركيزة، بإيحاء منها، باعتبارها راعية للفن والموسيقى والأدب والفلسفة، وعلى أريكة قريبة منها قيثارة، وفي يدها بعض صفحات موسيقية، وعلى المنضدة كرة أرضية، وحقيبة أوراق من نفش يديها، وقصة فولتير "هنرياد" وكتاب مونتسكيو "روح القوانين" والمجلد الرابع من موسوعة ديدرو.

وعندما فرغ لاتور من اللوحة طلب عليها أجراً قدره 48 ألفاً من الجنيهات. وعلى الرغم من تبذيرها وإسرافها فإنها رأت أن المبلغ المطلوب مبالغ فيه بعض الشيء، وأرسلت إليه 24 ألف جنيه ذهباً. وفكر لاتور في رد المبلغ. فسأله شاردان إذا كان يعرف ثمن اللوحات الموجودة في نوتردام، بما فيها روائع برون ولي سير، فأجاب لاتور سلياً، وقدر شاردان جملة تكاليفها بمبلغ 12 ألف جنيه. وأعاد لاتور النظر في تقديره

ص: 119

وقبل المبلغ الذي أرسلته بمبادور (24 ألفاً). أليه، بصفة عامة كان يطالب بالجر تبعاً لثروة الجالسين أمامه، فإذا اعترضوا ردهم خائبين، وربما كان هناك بعض استثناءات لفولتير وروسو ودالمبرت، حيث أعجب بالفلاسفة من كل قلبه، وأقر صراحة بتجرده من الإيمان الديني.

وربما كانت أجوره المرتفعة سبباً في اشتداد الطلب عليه من جميع الأنحاء. وعن طريقه عرفنا الشخصيات القيادية في عصره، وأصبح قمة ف الرسم بالبستل، فأبدع لوحات جميلة رائعة للملكة ولولي العهد الصغير، والدوفين المتظاهر بالرزانة والاحتشام (38)، ولاكامارجو راقصة الباليه الأولى، وحاول أن يرسم لروسو لوحة يبدو فيها لطيفاً عاقلاً حكيماً (39)، وفي أحد أعماله البالغة الروعة رسم موريس دي ساكس القائد الوسيم المنتصر على الجيوش والسيدات (40)، وأبرز في لوحة رسمها لصديقه الرسام جان رستوت شعلة النشاط ونضارة الحياة في عينيه (41). ولبس الخز والمخرمات والشعر المستعار استعداداً لصورة ذاتية معلقة الآن في أميان. وعلى الرغم من عادته الخشنة ونزواته غير المشروعة، وحالاته النفسية المتقلبة التي لا ضابط لها، فقد كان موضع الترحيب في قصور الأرستقراطية، في ندوة مسيو دي لابوبلنيير في باسي، وفي صالون مدام جيوفرين. وكان يرتبط بأواصر الصداقة بمشاهير كتاب عصره، بل حتى الرسامين والمثالين الذين نظروا إلى نجاحه بعيون حاسدة-فانلو، شاردان، جريز، بيجال، باجو. ومنحه الملك معاشاً إضافياً ومسكناً في اللوفر. ولا بد أن الرجل كان، فوق كل شيء، محبوباً.

ولم يتزوج لاتور قط. ولكنه لم يتنقل كثيراً بين أحضان السيدات كما فعل بوشيه وكان له عشيقة، هي الآنسة فل Mlle Fel التي ساعد غناؤها على نجاح أوبرا روسو "عراف القرية". وتضايق منها جريم لأنها لم تبادله الحب، ولكنها أقبلت على لاتور من كل قلبها. وذكر هو لها بالعرفان والشكر كل ما وفرت له من أسباب الراحة والتسلية حتى إنه ظل يشرب نخبها وهو في الثمانين من عمره. وكان إخلاصها له شيء من العزاء

ص: 120

والسلوى حين تقدمت به السن فتصلبت أصابعه وغشى بصره. ودفع ثمن الرخاء والرغد الذي نعم به وهو في ذروة مجده، بما لقي من إذلال طال أمده في سني شيخوخته واضمحلال صحته، إنه عمر بعد أن تلاشت عبقريته، وسمع النقاد يتحدثون عنها، وكأنما أدركها الفناء.

وعندما قارب الثمانين ترك مسكنه في اللوفر، ليعيش في الهواء الطلق في أوتي Auteuil. وأخيراً عاد إلى مسقط رأسه. واستقبلت سانت كانتان ابنها السخي المبذر بطلقات المدافع ودق النواقيس والهتافات الشعبية. وعمر في هذه البلدة الهادئة أربع سنوات أخرى وذبل عقله النشيط إلى مس خفيف غير مؤذ من الجنون، فأصبح يتمتم بشيء من فلسفة وحدة الوجود (الله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي الإنسان مظاهر للذات الإلهية)، ويعبد الله والشمس معاً، ويحلم بالثورة مؤملاً في قيامها. وفارق الحياة قبل قيامها بعام واحد. وقبل أيدي خدمه وهو في النزاع الأخير.

ص: 121

الفصل العَاشِر

‌نشاط الذهن

‌1 - صناعة الكلام

الآن أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة الثانية لكل متعلم ومثقف في أوربا، وواسطة الاتصال والتفاهم المعترف بها في الدبلوماسية والعالمية، وكان فردريك الأكبر يستخدمها بانتظام، اللهم إلا في التحدث إلى قواته. وألف جيبون أول كتاب له باللغة الفرنسية، واتجه تفكيره لبعض الوقت إلى أن يكتب بها مؤلفه المعروف "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها". وفي 1784 أعلنت الأكاديمية الألمانية عن مسابقة ذات جائزة لمن يكتب أحسن موضوع يوضح أسباب التفوق والتبريز، ونشرت مطبوعاتها بالفرنسية. وكانت الأسباب الرئيسية لهذا التفوق هو المنزلة السياسية السامية لفرنسا في عهد لويس الرابع عشر ونشر القوات الفرنسية للغتهم في الأراضي الوطيئة وألمانيا والنمسا وأسبانيا، وعلو مكانة الأدب الفرنسي في القارة، بشكل لا نزاع فيه (وقد يكون لإنجلترا تحفظات على هذا)، وشعبية المجتمع الباريسي بوصفه مدرسة للدراسات الثقافية والنشاط الاجتماعي، تنهل منها النخبة الممتازة في أوربا، ثم الرغبة في إحلال لغة أحدث وأكثر مرونة محل اللغة اللاتينية في علاقات الأمم بعضها ببعض، وقيام الأكاديمية الفرنسية بتنقية اللغة وتقسيمها عن طريق قاموسها، ولم تصل قط لغة وطنية أخرى ما بلغته الفرنسية من دقة وتنوع، ومن قوة وسحر في العبارة، ورشاقة ووضوح في الأسلوب. وكان ثمة بعض الخسارة في هذا الانتصار: ذلك أن النثر الفرنسي ضحى بالصراحة البريئة عند مونتاني والحيوية الدافقة القاسية الصادرة عن القلب عند رابليه. وأصاب الشعر الفرنسي الوهن والضعف في سجن القواعد التي وضعها بوالو،

ص: 122

وانزلفت الأكاديمية نفسها-حتى أيقضها ديكلوس بعد انتخابه 1746 - إلى شكليات غامضة وضآلة مبعثها الجبن والحذر.

وكانت حرية الفكر والكلام النسبية في عهد الوصاية الخطير قد شجعت على مضاعفة عدد المؤلفين والناشرين والمكتبات. واندس من يطبعون وينشرون ويبيعون الكتب في كل مكان، حتى على الرغم من أنه يتقدم القرن، أصبحت هذه التجارة خاسرة، وكان في باريس وحدها منهم كلهم تقريباً فقراء معدمون. وانتشرت المكتبات في كثير من المدن، وكان في بعضها حجرات للمطالعة مفتوحة للجماهير، نظير رسم دخول ضئيل (40 سو) وقل أن كان التأليف مهنة كافية لكسب القوت، ولذلك كانت تكمل عادة بعمل آخر، فكان كريبيون الأكبر كاتباً لدى موثق عقود، وكان روسو ينسخ الموسيقى. واستطاع نفر قليل من مشاهير الكتاب أن يبيعوا إنتاجهم لقاء ثمن عال. ولما أعسر موريفو بسبب انهيار نظام لو، استطاع أن يصلح ماليته ويسترد ثروته برواياته ومسرحيته "ماريان"، وقبض روسو، وهو عادة فقير، خمسة آلاف جنيه عن كتابه "اميل". وكان حق الطبع القانوني الوحيد هو الترخيص الملكي بالنشر وكان في هذا حماية للمؤلف من السطو على كتابه في فرنسا، ولكن ليس من السطو وطبعه خارجها، وكان هذا الترخيص يمنح لمن يكفل المراقبون الرسميون خلو كتابه مما يسئ إلى الكنيسة أو الدولة. وكان يمكن للأفكار الجديدة أن تتخطى هذه العقبة بإخفاء مادة الكتاب أو الهرطقة في أسلوب مقنع. فإذا لم تنجح هذه الخدعة، فقد يعمد المؤلفين إلى إرسال المخطوط إلى أمستردام أو جنيف، أو أية مدينة أجنبية أخرى، ليطبع هناك بالفرنسية ويوزع في الخارج، ويتداول سراً في فرنسا.

وأدى اتساع الطبقة الوسطى وانتشار التعليم وتجمع المفكرين في باريس إلى خلق جمهور متلهف على الكتب، ونهضت مجموعة كبيرة من المؤلفين لتلبية هذا المطلب وإشباع هذه الرغبة. وأثار ضعف الدولة في عهد لويس

ص: 123

الخامس عشر وانهيار الإيمان الديني، المناقشات الشفوية والخطية في المسائل السياسية والفلسفية. وإذ كرهت الأرستقراطية تلك الملكية التي حدث من سلطتها، كما كرهت الكنيسة التي كانت تساند الملكية، فإنها استمعت بآذان صاغية ذات مصلحة إلى نقد الحكومة والعقيدة كلتيهما، وانضمت الطبقة المتوسطة العليا إلى الأرستقراطية في إصغائها لهذا النقد، أملاً في تغيير يحقق لها المساواة الاجتماعية مع طبقة النبلاء.

وفي هذا الجو الجديد حقق المؤلفون والكتاب مكانة قلما تيسرت لهم قبل القرن الثامن عشر أو بعده. وقوبلوا بالترحيب في الصالونات حيث تحدثوا وأيدوا آراءهم بكل ما أوتوا من فصاحة وبيان. واستقبلوا في قصور ذوي الألقاب ما داموا لم يجرحوا كبرياءهم أو يسيئوا إليهم. وكان أصحاب المال يستضيفونهم ويكرمون وفادتهم، وفي بعض الأحيان يسكنونهم في قصورهم، مثل ما فعل بوبيلنيير، وأصبحوا برغم فقرهم قوة في الدولة. قال ديكلوس في 1751 "إن إمبراطورية رجال الفكر، من بين كل الإمبراطوريات، أوسعها امتداداً، دون أن تكون مرئية. إن أصحاب السلطة يأمرون، ولكن رجال الفكر يحكمون. وعلى المدى البعيد

إن عاجلاً أو آجلاً، سيتغلب الرأي العام أي شكل من أشكال الاستبداد والحكم المطلق أو يغلبه" (1)(وفي 1751 لم يكن قد تم التوصل بعد إلى الأسلوب الذي يتحقق به تشكيل الرأي العام تشكيلاً محكماً بالمال أو عن طريق الحكومة).

وإذا رحب جمهور متزايد بالكتاب الفرنسيين، وحفزهم مئات المتنافسين اليقظين، وحررهم ضعف العقيدة، واستحثهم زهو الطباعة وخيلاؤهم، فإنهم دفعوا إلى المطبعة بسيل من الرسائل والنشرات والأبحاث والنقد اللاذع والمقالات والمذكرات، والتاريخ والقصص والمسرحيات والقصائد والأبحاث الدينية والفلسفية، والكتابات الإباحية الداعرة والأدب المكشوف، مما حطم كل أغلال الرقابة وقيودها، واكتسح كل مقاومة، وغير عقل فرنسا وعقيدتها

ص: 124

وحكومتها بل إلى حد ما عقل العالم وعقيدته وحكوماته. ولم يحدث قط أن وجد في الأدب من قبل مثل هذا الذكاء الحاد أو المزاج الرقيق أو هذا التهريج الماجن أو هذا السخف المهلك، وتصدعت كل القواعد التقليدية في الكنيسة والدولة تحت ضغط الهجمات التي شنتها تلك الأقلام الحادة، المسمومة أحياناً، المغمورة أو المجهولة عادة.

إن الرسائل الخاصة نفسها أصبحت قناعاً شائعاً. فما من سيدة أو رجل إلا نقح رسائله وأعاد كتابتها وصقلها وتأنق فيها أملاً في أن يطالعها أكثر من شخص الذي أرسلت إليه فتتألق أمام العيون وتكون متعة لقارئيها، كذلك نجحوا أحياناً في أن تكون رسائلهم "كتابات ممتازة" أي قطعاً من الأدب. وبسبب حبهم للحديث والمناقشة فإنهم تحدثوا على الورق إلى الأصدقاء أو الأعداء الغائبين عنهم، بشكل طبيعي وكأنما يخاطبونهم وجهاً لوجه، وبكل الحماسة والحيوية اللتين تدور بهما أحاديثهم حول المائدة في الصالونات. ولم تكن تلك الرسائل تتضمن مجرد توافه الأخبار الشخصية، بل كانت في معظم الأحوال نقاشاً في السياسة والأدب والفن، وكانت في بعض الأحيان نثراً-لغة المجتمع-يزخر بالسجع الذي كثيراً ما يأتي عفو في الفرنسية، مع أكبر الأمل في إطراء القارئ لها، وهكذا كان فولتير يدخل السرور على قلوب أصدقائه بسلسلة القصائد التي يبعث بها إليهم، مما كانت تفيض به قريحتهم الوقادة وفنه الرشيق.

وآذن عصر الخطابة بزوال، لأن فرنسا القرن الثامن عشر خشيت أن يتولاها السأم والضجر حتى لو استمعت إلى بوسويه آخر (أسقف وخطيب واعظ في القرن السابع عشر). ولكن الخطابة ستعود مع قيام الثورة. وكانت كتابة "المذكرات" لا تزال سائدة، لأنها باعتبارها رسائل إلى الأعقاب والأجيال القادمة. احتفظت بشيء من سحر المكاتبات وفتنتها. وفي نهاية الحقبة، وفي 1755 وصلت إلى المطبعة مذكرات البارونة مدام دي ستال لوني قد فارقت الحياة 1750، وقد أعادت هذه المذكرات إلى الأذهان ذكريات عهد الوصاية وأمسيات دي سكو. وهنا كما يقول جريم، كانت سيدة نافست فولتير نفسه بامتيازها وبراعتها في النثر (2).

ص: 125

‌2 - المسرح

تفوقت المسارح على الصالونات من حيث المكانة التي احتلتها في باريس، وما حظيت به من حب وإقبال بين الباريسيين. ويقول فولتير لمارمونتيل:"إن المسرح أعظم مهنة سحراً وفتنة، ففيه يكسب المرء بين عشية وضحاها جاهاً ومالاً، وإن رواية واحدة تأتي لصاحبها بالثروة والشهرة"(3). وكانت هناك في الأقاليم مسارح لا بأس بها، وكان ثمة تمثيل مسرحي خاص في بيوت الأغنياء، بعض المسرحيات أمام الملك والحاشية في فرساي. ولكن التحمس للروايات في باريس بلغ حد الجنون والحمى والجدل والشجار أو الابتهاج والسرور. واحتفظت "الكوميدي فرنسيز" في "المسرح الفرنسي" بأعلى الدرجات في الموضوع والأداء، ولكن الجماهير الغفيرة كانت تقصد إلى "مسرح الإيطاليين" ومسرح "الأوبراكوميك".

وتألفت كل هذه المسارح، ودار الأوبرا في "الباليه رويال" من قطاعات فسيحة بها عدة صفوف من المقصورات والمقاعد للقلة التي يفوح منها شذا العطر، أما جمهور المشاهدين الأقل تبرجاً وثراء فكانوا يقفون تحت الشرفات الداخلية، (على الأرض) التي نسميها خطأ. "الأوركسترا" ولم توضع فيها مقاعد حتى جاءت الثورة. وكان نحو 150 من المتحمسين المتأنقين الذين يدفعون أجراً أكبر، ويجلسون على خشبة المسرح، يحيطون بالممثلين من ثلاثة جوانب. وقد استنكر فولتير هذه العادة، لأن هذا كان يعوق الممثلين ويفسد المنظر. "لما كانت معظم رواياتنا لا تعدو أن تكون حواراً طويلاً، فإن التمثيل المسرحي لا يكون له وجود، أو إذ وجد بداً سخيفاً (4) وتساءل كيف يتسنى لممثل مسرحي أن يمثل على مثل هذا المسرح مشهد بروتس ثم أنطوني وهما يخطبان في أهل روما بعد قتل قيصر؟ وكيف يمكن "للروح" المسكين في هملت أن يسترق النظر من خلال هذه الهياكل العظيمة المتمتعة بامتياز الجلوس على خشبة المسرح؟ إنه ليكاد يكون من المتعذر تمثيل أي من روايات شكسبير في مثل هذه الظروف (5) وكان لاعتراضات فولتير القوية، التي أيده فيها ديدرو وغيره، أثرها فما وافى عام 1759 حتى كانت خشبة المسرح في فرنسا قد أخليت من المتفرجين.

ص: 126

ولقي فولتير نجاحاً أقل في حملاته لتحسين الوضع الديني للممثلين. وكانت مكانتهم الاجتماعية قد تحسنت، فكانوا يترددون على دور الأرستقراطية، وفي كثير من الحيان كانوا يمثلون بناء على طلب الملك. ولكن الكنيسة استمرت في اتهامها للمسرح بأنه مدرسة للفساد والفضائح والعمال المخزية، وذهبت إلى أن كل الممثلين بطبيعة الحال محرومون من الكنيسة، وحرمت دفنهم في الأرض المخصصة للمؤمنين-وهي تشمل كل المقابر في باريس وأشار فولتير إلى هذا التناقض:

إن الممثلين يتقاضون أجوراً من الملك، في الوقت الذي تحرمهم فيه الكنيسة. ويصدر إليهم أمر الملك بالتمثيل كل مساء، بينما تحظر عليهم الديانة أن يمثلوا إطلاقاً، وإذا امتنعوا عن التمثيل زج بهم في السجن (كما حدث عندما أضرب ممثلو جلالته عن العمل) فإذا مثلوا ألقي بهم (عند موتهم) في البالوعات. إننا نبتهج ونسر بهم، ونعترض على دفنهم معنا، ونرحب بهم على موائدنا بينما نغلق أبواب مقابرنا دونهم (6).

وكانت أدريين ليكوفرير أعظم الممثلات الفرنسيات في زمانها مثلاً واضحاً لهذه المتناقضات في حياتها ومماتها. إنها ولدت في 1692 قرب ريمس وجاءت إلى باريس في العاشرة من عمرها، وأقامت قرب "المسرح الفرنسي" وكثيراً ما شقت طريقها إليه، ثم قلدت في البيت الممثلات اللاتي أعجبت بهن وهي واقفة على أرض المسرح تحت الشرفات. وفي سن الرابعة عشرة نظمت فرقة من الهواة قاموا بالتمثيل على مسارح خاصة. وأعطاها الممثل "لي جراند" دروساً، وهيأ لها مكاناً في فرقة تمثل في ستراسبورج. وقامت بالتمثيل في الأقاليم لعدة سنوات، كما فعل موليير، وانتقلت من دور إلى دور، ومن قصة غرام إلى أخرى دون ريب. وهفت نفسها إلى الحب، فلم تصادف إلا الداعرين الفجرة، وتركها اثنان منهما على التعاقب حاملاً، ورفضا الزواج منها. وفي سن

ص: 127

الثامنة عشرة وضعت بنتاً. وفي الرابعة والعشرين وضعت بنتاً أخرى. وفي 1715 عادت إلى باريس، والتقى بها هناك فولتير الشاب، وكان لها لبعض الوقت أكثر من صديق (7). وفي 1717 أصبحت السيدة الأولى في "المسرح الفرنسي" الذي كان مأواها ومبعث إلهامها في شبابها.

ولم تكن مثل معظم الممثلات الشهيرات بارعة الجمال، بل كانت بدينة، وكانت قسمات وجهها غير متناسقة، ولكنها تميزت برقة تفوق الوصف في جلستها ووقفتها وحركتها وعاداتها، وموسيقى مغرية في صوتها، وبريق من الشرر والاحساس في عينيها السمراوين، وتعبير متحرك كريم في وجهها. وكان كل تصرف منها يعبر عن شخصيتها. ورفضت أن تتبع الأسلوب الخطابي الذي كان قد أصبح تقليداً سائداً في التمثيل في فرنسا في المسرح الطويل المستطيل الشكل في المسارح القديمة. وعقدت العزم على أن تمثل دورها وتنطلق بعباراتها على خشبة المسرح كما تتحدث في الحياة الواقعية، اللهم إلا في إخراج الحروف من مخارجها والإبانة في اللفظ، ورفع درجة الصوت، مما هو لنقل كلماتها إلى أبعد مكان يوجد فيه الجمهور. إنها في فترة عملها القصيرة حققت ثورة أو انقلاباً في فن التمثيل المسرحي. وتحقق هذا أيضاً في عمق شعورها، وقدرتها على نقل انفعالات الحب أو رقته، وكل العطف أو الرعب في أي مشهد مأساوي. وتفوقت في الفن الشاق، فن الإصغاء المعبر اليقظ حين يتكلم الآخرون.

وامتدحها الشيب، أما الشبان فقد وقعوا في غرامها. وهام بحبها الشاب شارل أوجسطين دي قريول كونت أرجنتال الذي كان مقدراً أن يصبح "ممولاً ومدعماً بنقوده" لفولتير ووكيلاً له، وجزعت والدة شارل لهذا خشية أن يعرض على أدريين الزواج فتقبل، فأقسمت الأم أن تبعث بولدها إلى المستعمرات، وعندما سمعت الممثلة بهذا أرسلت إلى مدام دي قريول (22 مارس 1721) وتؤكد لها أنها لن تشجع الشاب على الاتصال بها أو تبادل الرسائل معها: "سأكتب إليه بأي شيء يرضيك. ولن أراه بعد الآن إذا كنت ترغبين في ذلك. ولكن لا تهدديه بإرساله

ص: 128

إلى أقصى الأرض. وسيعمل كل ما يبعث في قلبك الرضا والارتياح، ويضفي عليك الشهرة والمجد، وما عليك إلا أن توجهي مواهبه وقدراته وتنمي فضائله لتؤتى ثمارها (8).

وكانت آدريين على حق، فإن دارجنتال فاز بعضوية برلمان باريس، وفي سن الخامسة والثمانين، حين كان يقلب النظر في الأوراق التي تركتها والدته، عثر على هذه الرسالة التي لم يكن يعرف عنها شيئاً من قبل.

واستمتعت آدريين بدورها بنشوة الحب كما عانت من الهجران والصدود. وكان الأمير الشاب موريس السكسوني كثيراً ما يتردد على المسرح الذي تعمل فيه، ولم يكن بعد قد انفتحت أوداجه زهواً بانتصاراته، ولكنه كان وسيماً عاطفياً خيالياً حتى أنه عندما أقسم على الإخلاص والولاء لها مدى حياته ظنته فارس أحلامها الذي طال انتظارها له، وإذا وصل الأمر بالرجال إلى وعد بالإخلاص مدى الحياة، فإنهم يحيون ويموتون عدة مرات مثل القطط (بسبع أرواح). ورضيت به عشيقاً (1721)، وعاشا لفترة من الزمن يرشقان كؤوس المحبة والإخلاص إلى حد أن باريس قارنتهما بقمريات لافونتين الحبيبات. ولكن الجندي الشاب الذي أصبح لتوه "قائد معسكر" راوده الحلم بأن يكون ملكاً، وقد رأيناه يسارع إلى كورلند (جزء من تلقيا الحالية) طمعاً في الحصول على التاج فيها، وكان نصف الأموال التي حملها معه من مدخرات آدريين.

فتسلت عن فراقه بتأسيس "صالون" في بيتها. ولم يكن غير ذي عائد فكري لها إنها كانت قد تعلمت رشاقة راسين وأفكار موليير، حتى أصبحت من خيرة سيدات فرنسا ثقافة وعلماً، ولم يكن أصدقاؤها من المعجبين العابرين، ولكنهم رجال ونساء أحبوا عقلها. فقصد فونتيل وفولتير ودارجنتال والكونت دي كايلوس بانتظام إلى دارها لتناول العشاء، ووجد بعض السيدات الأنيقات من ذوات الألقاب والأحساب متعة في الانضمام إلى هذه الجماعة المتألقة.

وفي 1728 عاد الجندي الذي لم يواته الحظ ولم يتحقق أمله إلى باريس.

ص: 129

وكان البعاد قد خفف من لوعة حبه. وتبين أن آدريين كانت تكبره آنذاك بأربعة أعوام حيث كانت في السادسة والثلاثين وعرض كثير من السيدات الثريات أن يشاركنه مضجعه، وكان الدم الملكي يجري في عروق إحداهن مثله تقريباً، وهي لويز دي لورين دوقة بويون حفيدة بطل بولندة النبيل جان سوبيسكي، وكانت تختال في جرأة أمام موريس في مقصورتها في المسرح الفرنسي، إلى حد أن آدريين ولت وجهها شطر هذه المقصورة، حين كانت تلقي في شيء من التوكيد بعض أبيات غاضبة من رواية راسين " Phedre"" لست واحدة من هؤلاء السيدات الوقحات اللائي تعلمن، وهن يلقين ظلالاً من الجريمة على مظهر الوئام الهادئ الوادع، إن يكن صفيقات إلى حد لا يستشعرن معه الخجل من سوء تصرفهن"(9).

وفي يولية 1729 أبلغ سيمون بوريه، القسيس رسام المنمنمات الآنسة ليكفرير أن رسولين مقنعين من إحدى سيدات البلاط عرضا عليه أن يعطي الممثلة بعض أقراص السم لقاء 6600 جنيه إذا قام بالمهمة. فأخطرت آدريين الشرطة بذلك. فقبضوا على القسيس وأجروا معه تحقيقاً دقيقاً. ولكنه صمم على أقواله. وكتبت آدريين إلى مدير الشرطة رسالة رائعة تطلب منه إطلاق سراح القسيس: "إني تحدثت إليه، وجعلته يتحدث إليّ كثيراً لوقت طويل، وأجاب دائماً إجابات محكمة ذكية، ليس لأني أرغب في أن يكون ما قال صحيحاً. فإن لدي مزيداً من الأسباب التي تحملني على أن أتمنى أن يكون مخبولاً. آه: أليس إلى الله وحده أتوسل ان يغفر له؟ ولكن إذا كان بريئاً فأرجو أن نفكر يا سيدي إلى أي حد يجدر بي أن أهتم بمصيره. لا تلق بالاً إلى مهنتي أو مولدي وأصلي، ولكن حاول متفضلاً أن تستشف حقيقة نفسي التي بين جنبي، وكم هي صادقة مخلصة، وقد كشفت لك عن سريرتها. بجلاء ووضوح في كتابي هذا (10).

وأصر الدوق دي بويون على أية حال، على احتجاز القسيس، ثم أفرج عنه بعد بضعة شهور، وظل مصراً على أقواله. ولسنا ندري حتى يومنا هذا مبلغ صدق روايته.

ص: 130

وفي فبراير 1730 بدأت الآنسة ليكوفريير تعاني من إسهال يزداد سوء يوماً بعد يوم. وظلت تمثل أدوارها على المسرح، ولكن في أوائل مارس حملوها من المسرح مغمى عليها. وفي 15 مارس مثلت، وهي تلتقط آخر أنفاسها "جوكاست" في رواية فولتير "أوديت" وفي يوم 17 مارس لزمت الفراش، وصارت تنزف نزيفاً مميتاً من أمعائها، ولم يعد الماريشال يزورها، ولكن فولتير ودارجنتال فقط هما اللذان سهرا على العناية بها في هذه الخاتمة الفاجعة المذلة، وفاضت روحها في 20 مارس بين ذراعي فولتير.

وحيث كانت آدريين قد رفضت الشعائر الأخيرة للكنيسة (11). فإن القانون الكنسي حرم دفنها في الأرض المخصصة للمؤمنين، واستأجر أحد الأصدقاء اثنين من حملة المشاعل ليحملا جثمانها في عربة أجرة لدفنه سراً على ضفاف السين، فيما أصبح فيما بعد شارع بورجون. (في نفس العام 1730 دفنت الممثلة الإنجليزية آن أولدفيلد باحتفال عام في كنيسة وستمنستر.) وفي 1730 نظم فولتير قصيدة (موت الآنسة ليكوفرير يستنكر فيها المعاملة المهينة في دفنها بهذه الطريقة:"تأثرت كل القلوب، مثل قلبي، بالأسى والفجيعة. وإني لأسمع كل الفنون الذاهلة تولول من حولي، وهي تذرف الدمع. أن ملبومين (ربة المأساة) قضت نحبها، ماذا عساكم تقولون أيها الأعقاب رجال الغد إذا علمتم بهذا الأذى الأليم المدمر الذي ألحقه أناس قساة بلا قلوب بهذه البائسة التي تخلى عنها أصدقاؤها؟ لقد حرموا من الدفن من إذا كانت في اليونان القديمة لأقاموا لها مذبحاً في الهيكل. لقد رأيتم يقدسونها ويزدحمون حولها. إنها لا تكاد تموت متى تصبح محرمة، لقد سحرت ألباب العالم، ثم ها أنتم تعاقبونها، كلا، لن تكون هذه الضفاف بعد الآن دنسة، إنها تضم رفاتك، وستكون هذه المقبرة الحزينة معبداً جديدا لنا، نمجده في ترانيمنا، وتضفي عليه ظلالك قدسية".

ص: 131

وكان أعظم كاتب مسرحي في ذاك العصر، بطبيعة الحال، فولتير. وكان له منافسون كثيرون، من بينهم بروسبو جولتون دي كربيون، وهو معمر عجوز كان ينبغي له أن يفارق الحياة منذ أمد طويل. وكان كربيون قد أنتج فيما بين عامي 1705 و1711 روايات ناجحة ثم اقتنع بالفشل المحتوم لروايته "اجزرسيس" 1714، وهنا كانت نهايته، وكان قد انقطع عن التأليف، وبات يعاني الفقر، ويجد بعض السلوى في مسكن على السطح مع مجموعة لطيفة من عشر كلاب وخمسة عشر قطاً وبعض الغرابيب السود. وفي 1745 أنقذته مدام دي بمبادور بمعاش ووظيفة عاطلة (يقبض راتباً ولا يؤدي عملاً)، واتخذت التدابير الطبع مجموعة أعماله في مطبعة الحكومة. وقصد إلى فرساي ليقدم لها الشكر. ولما كانت هي مريضة، فقد استقبلته وهي ملازمة الفراش، فلما انحنى ليقبل يدها دخل لويس الخامس عشر، فصاح ابن السبعين "مولاتي، لقد وقعت الكارثة، إن الملك فاجأنا معاً"(12). وسر الملك بومضة الذكاء وسرعة البديهة وانضم إلى بمبادور في حثه على إكمال روايته "كاتيلين وكان قد أهملها وشهدتها مدام بمبادور والحاشية، ونال العرض الأول الاستحسان (1748). واهتز كربيون طرباً من جديد لما أصاب من شهرة ومال. وفي 1745 وهو في الثمانين أخرج آخر رواياته. وعمر بعد ذلك ثمان سنين، سعيداً بحيواناته.

ولم يطب فولتير نفساً بظهور منافس له من بين القبور، ولكن كان عليه أيضاً أن يواجه في الملهاة منافسه ماريفو المتعدد الجوانب الشديد الانفعال إن بيير كارل دي شمبلين دي ماريفو أصبح هجاءً حين رأى بمحض الصدفة، حبيبته ذات السبعة عشر ربيعاً تطبق عملياً مفاتنها المغرية أمام المرآة. ودق قلبه مؤقتاً فقط، لأن والده كان المدير الثري لدار سك النقود في ريوم، وكم من شابه أو غادة تاقت نفسها لتكون زوجة بيير. وتزوج من أجل الحب، وأدهش باريس حين عاش حياة جنسية طابعها الرصانة والاعتدال. وانضم إلى صالون مدام دي تنسان، وربما تعلم فيه الدعابة المرحة، والعبارة الرشيقة الإحساس الرقيق، وانتقل كل أولئك إلى رواياته، وتميزت به مسرحياته.

ص: 132

وأول نجاح أصابه ماريفو هو رواية "آرليكان يصقله الحب" التي عرضت لمدة أثنتا عشرة ليلة متوالية على "مسرح الإيطاليين"1720. وبقدر ما كان يحصل عليه من أجور، فقد معظم أمواله عند انهيار بنك لو. ويروي إنه استرد ثروته بقلمه (13)، حيث كتب سلسلة من رواياته الملهاة (الكوميديا) أمتعت باريس بمرحها اللطيف وحبكتها البارعة، وأشهرها "لعبة الحب والحظ". وقد هاجمت اعتزام زوجين (أربعة أشخاص، رجلان وامرأتان) اعتزاماً متزامناً، ولكن غير متفق عليه، أن يختبرا إخلاص الخطيب الذي لم تقع عليه العين بعد، عن طريق تبادل الزي والشكل بين سيد وخادم وسيدة وخادمة، في سلسلة من المصادفات السخيفة المضحكة، مثل منديل ديزدمونة (في رواية عطيل). وسر نساء باريس أكثر مما سر رجالها بالمآزق التي يتورط فيها الحب في هذه الرواية وبما فيها من عاطفة رقيقة. وهنا أيضاً كما هو الحال في قصر فرساي، وفي الصالونات، وعند واتو وبوشيه، تحكمت المرأة، وكان لها القول الفصل، وحل تحليل المشاعر محل مشاكل السياسة وبطولات الحرب، وتخلت الملهاة الرجولية عند مولبير عن مكانها أمام الملهاة الأنثوية التي سيطرت على المسرح الفرنسي (معترضة الطريق) إلى أيام سكرايب وديماس الابن وساردو.

‌3 - القصة الفرنسية

إن ماريفو هذا هو نفسه الذي أضفى على القصة في فرنسا شكلاً جديداً. وفي 1731 أصدر الجزء الأول من "حياة ماريان". وتقبلها القراء قبولاً حسناً. واستمر يقدم أجزاء أخرى عام 1741، حتى بلغت أحد عشر جزءاً، ولم يكملها (ولو أنه عمر حتى عام 1763)، لأن هدفه لم يكن أن يقص حكاية بقدر ما كان أن يحلل شخصية، وبالذات شخصية المرأة، وبصفة خاصة في الحب. ولم يكن ثمة شيء رائع أخاذ أكثر من المشهد الافتتاحي، عصابة من اللصوص تسطو على مركبة للبريد والمسافرين، وتقتل كل من فيها، باستثناء ماريان التي عاشت لتقص القصة في شيخوختها.

ص: 133

وتحتفظ البطلة والمفروض أنها مؤلفة القصة، بعدم ذكر اسمها، وهذا عمل كيدي، إلى النهاية. وتحمل المخطوطة إلى صديق لها مع تحذيره "لا تنس أنك وعدتني ألا تبوح باسمي أبداً" أنا أود ألا يعرفني أحد إلا أنت" (14).

ولما كان أبوها من بين الضحايا، فقد تولى تربيتها رجل برجوازي محسن كريم، حتى أصبحت بائعة في محل لبيع ملابس النساء. وازدادت فتنة وجمالاً إلى حد أثار مسيو دي كليمال. وصار يقدم لها هدايا صغيرة ثم هدايا ثمينة، وأخيراً طلب يدها جزاء ما قدم. ولكنها رفضته، وأعادت إليه هداياه بعد ترددات يصفها ماريفو في ذكاء لطيف. وكان جديراً بنا أن نقول إنها في نفس الوقت كانت قد التقت بابن أخي كليمال، وهو مسيو دي فالفيل، الذي كان أقل من عمه مالاً وأصغر منه سناً. ومهما يكن من أمر فإن فالفيل يترك ماريان معلقة، لما يقرب من ألف صفحة، وينصرف إلى سيدة أخرى. وهنا ختام قصة ماريفو.

تلك هي القصة النفيسة في فرنسا القرن الثامن عشر، التي لم تنافسها إلا قصة "اتصالات خطيرة" التي كتبها كودرلوس دي لاكلوس (1782). إنها أعادت إلى الأذهان قصة مدام دي لاقاييت "الأميرة دي كليف (1678)، ولو إنها تكاد لا تعادلها في رقة الشعور وجمال الأسلوب، ولكن بزتها في تحليل الدافع والعاطفة، وهنا نجد امرأة، مثل باميلا عند ريتشاردسن، تحتفظ بشرفها لأهميته في سوق الزواج، إنها تدرك أنه ليس لدى المرأة إلا قيمة هزلية فانية، لتقدمها تأييداً لأحادية الزواج للرجل الذي يتجه إلى تعدد الزوجات. وتلك صورة أكثر تهذيباً من الصورة التي أخرجها ريتشاردسن، الذي بدأ قصة باميلا بعد تسع سنين من ماريان وربما تأثر بها. وفي مقابل ذلك نجد أن قصة ريتشاردسن "كلاريسا (1747)" ساعدت روسو في "هلواز الجديدة".

وعكس ماريفو خلق الطبقة المتوسطة القوي الحذر، على حين أولع كربيون الابن بفسق الأرستقراطية وفجورها الطائش. وكانوا يطلقون

ص: 134

عليه "كربيون المرح" تمييزاً له عن أبيه "كربيون المكتئب"(الذي قال عن ابنه إنه أسوأ إنتاجه الكبير). نشأ كلود بروسبر جولبوت دي كربيون في باريس في عصر الوصاية الذي رجحت أخلاقه التعليم الجزويتي الذي تلقاه كلود، ولعدة سنين شارك أباه سكنه فوق السطح وغربانه وكلابه وقططه. وفي 1734 وهو في سن السابعة والعشرين اشتهرت قصته "المنزلق على السطح". ومن الجائز أن يكون هذا لقب كل أبطاله وعنوان كل كتبه، لأن الحب فيها-كما قال شامفورت-هو مجرد "ملامسة سطحين"(15). ووقعت أحداث القصة في اليابان، ولكنها كانت نقداً لاذعاً أو هجاءً صريحاً للكنيسة والدولة في فرنسا، وللدوقة دي مين الصغيرة (الفتاة الجميلة)، إلى حد أن الكاردينال فليري أبعد الكاتب-كلود كربيون-عن باريس لمدة خمس سنوات.

ولما عاد المؤلف أصدر في 1740 أسوأ رواياته سمعة "الأريكة"، وقد أبعد من أجلها ولكن لمدة أقصر. ووقعت الأحداث في "أجرا" ولكن الأخلاقيات كانت باريسية. إن السلطان تولاه الضجر والسأم، ويريد قصصاً يسري عنه. ويتفضل رجل الحاشية الشاب أمانزي، فيرى كيف أنه تجسد فيما مضى من الزمان على هيئة أريكة، ويعود بذاكرته إلى بعض الخطايا التي ابتلى بها زنيرك الأريكة. وتعاقبت أحداث الزنى في تفصيل متزايد. ووجد كربيون متعة بالغة في قصته ( Almohid and Mochles) وهما بعد أن أطنيا في التفاخر بعفتهما وطهارتهما، يعترفان بأن أفكارهما غير عفيفة مثل سلوك سائر البشر، ويخلصان إلى أنه لا يمكن أن يكون في الفعل إثم أكبر منه في التفكير، ومن ثم فانهما يوائمان بين الفعل والقول. وتلك، على أية حال، استثنائية. فان نساء كربيون يتطلبون عادة جزاء (عملاً) مالياً عن أقوالهن، ومن ثم أحصت "أميناً" بعناية ما حصلت عليه من مال، ولم تستجب لرغبة حبيبتها إلا بعد أن تأكدت كل التأكد إنه لم يخطئ في العملية الحسابية. (11)

ولقي الكاتب ما كان مقدراً له من نجاح. ووجد قراء في عدة لغات

ص: 135

أسرفت كلها في تصرفات شاذة. واعترف لورنس ستيرن بأنه تأثر بقصص كربيون. وفضلها هوراس وولبول على قصص فليدنج. وكان مفهوم الرجل الفاضل العفيف توماس جراي عن الجنة والنعيم "أن يقرأ إلى الأبد قصصاً جديدة من تأليف ماتريفو وكربيون"(17). وجاءت من إنجلترا على عجل السيدة هنريتا ستافورد، وأصبحت خليلة كربيون، وأم ولده، ثم زوجته ويروون أنه جعل من نفسه زوجاً مثالياً لها (18). وفي 1752 انضم إلى الكسيس بيرون زشارل كوللي في تأسيس "الكاف-الكهف، وهو ناد للموهوبين المرحين الذين اشتهروا بالبعد في الوقار والمزاح. وفي 1759 عين "بدليل الخلف" رقيباً ملكياً على الأدب. ولما توفي والده في 1762، بعد أن أبطأ به الموت إلى حد مثير، ورث ابنه معاشه. "والأمور بخواتيمها".

وفقدت كتب كربيون شعبيتها قبل وفاته بزمن طويل. ولكن في الوقت نفسه كان أحد رجال الدين العلماء المثقفين قد كتب قصة لا تزال حية مؤثرة إلى يومنا هذا. وكانت حياة أنطوان فرنسوا بريفوست دي أجزيل، المعروف باسم الراهب بريفوست، متعددة الألوان مرهقة مثل سير الحياة التي أبدعها قلمه. إنه ولد في أرتوا في 1697، وتعلم في مدارس اليسوعيين، ثم أصبح راهباً مبتدئاً في طائفة اليسوعيين (1713)، وتركهم ليلتحق بالجيش، وارتقى إلى رتبة ضابط، ووقع في شراك الحب، وخاب فيه أمله وتحطم قلبه، وأصبح راهباً بندكتياً (1719)، ثم قسيساً 1726، وقد بعث على الدهشة والعجب أن نقول إنه منذ ذلك الوقت اعتمد في حياته كل الاعتماد على قلمه.

وكان بريفوست، حتى قبل أن يهجر حياة الدير، قد كتب قصة رومانسية "مذكرات ومغامرات رجل ذي حيثية"، نشرت الأجزاء الأربعة الأولى منها 1728 في باريس، وبعد عام قضاه في إنجلترا قصد إلى هولندة، وفي 1730 بدأ ينشر قصة ثانية "الفيلسوف الإنجليزي، أو تاريخ مستر كليفلند، الابن الطبيعي لكروامول "وهي من أوائل القصص التاريخية،

ص: 136

وكتبها في ثمانية مجلدات في السنوات التسع التالية. وفي 1731 نشر المجلدات الخامس والسادس والسابع من "المذكرات" سالفة الذكر ونشر المجلد السابع على حدة في باريس 1731 تحت اسم "مغامرات الفارس دي جرييه ودي مانون ليسكو"(تأليف مسيود). وحظرت الحكومة الفرنسية تداوله، ومن ثم أقبل عليه الناس إقبالاً شديداً متزايداً. ويقال "إنه في باريس لقي رواجاً كبيراً، وتهافت الناس عليه كما يندفعون إلى النار"(19)

وقصة مأنون موضوعة في قالب قبيح غير مصقول من التظاهر والإدعاء، فثمة اثنتا عشرة بغياً في مركبة في طريقهن إلى ميناء الهافر لترحيلهن إلى أمريكا. والمركيز-الرجل ذو الحيثية المجهول، والمفروض أنه يدون المجلدات السبع من المذكرات، يأسر قلبه جمال إحدى الفتيات التي وصف وجهها فيما بعد "بأنه يمكن أن يعيد العالم إلى الوثنية"(20). ويرى كذلك فارس دي جرييه البائس الوحيد الذوق يحدق النظر باكياً في خليلته السابقة، مانون، ويستبد به الحزن والأسى لأنه مفلس ولا يستطيع أن يتبعها إلى منفاها، وتتحرك مشاعر المركيز ويتأثر تأثراً مزدوجاً فيعطي دي جرييه أربعة جنيهات ذهباً؛ مكنت الفارس من مصاحبة مانون إلى لويزيلنا. ويراه المركيز في كاليه بعد ذلك بعامين، ويأخذه إلى داره. أما بقية المجلد الصغير فهي رواية دي جرييه لقصة حبه.

وكان شاباً نموذجياً كريم المحتد، مبرزاً في كل شيء في الكلية في اميان، وكان في عزم أبويه أن يلحقاه بطائفة الفرسان في مالطة. وفي غمرة آمالهم العريضة "جعلاني أضع الصليب"(21). ولكن مانون مرت أمامي ودخلت حياتي، وتغير كل شيء. وكانت آنذاك في الخامسة عشرة وهو في السابعة عشرة، "ولم تكن قد تنبهت بعد إلى الفرق بين الجنسين". وعجل وهو هذا التطور المكبوت على الفرار. وتبلغه مانون أنها أرسلت إلى اميان ضد رغبتها لتندمج في سلك الراهبات، فيعرض عليها أن يخلصها من هذا، ويهربان إلى باريس، وبدا أن إعجابهما المتبادل كان عقداً وميثاقاً كافياً"، وتحللنا من مراسم الكنيسة، ووجدنا أننا أصبحنا رجلاً

ص: 137

وزوجة، دون أن نفكر في هذا أو نتنبه له، ويكشف أخوه أمره ويقبض عليه ويعيده إلى والده الذي يخبره بأن مانون أصبحت بالفعل خليلة للسيد "ب" أحد رجال المصارف. ويرى دي جرييه أن يذهب ليقتل السيد "ب" فيحبس الوالد ابنه، ويأتي أحد الأصدقاء تيبرج، ويؤكد الزعم بأن مانون خليلة السيد "ب" ويحث دي جورييه على الانتظام في سلك الكهنوت، ويلتحق الشاب بمعهد سان سلبيس اللاهوتي، ويصبح راهباً. "وظننت أني تطهرت تماماً من دنس الحب، ويذهب بعد عامين لحضور امتحان عام ومناظرة في السوربون، فيفاجأ بمانون بين الحاضرين، وتشق عي طريقها إليه، وتعترف بخيانتها، ولكنها تقسم إنها لم تقترف الخطيئة مع السيد "ب" إلا لتوفر المال لدي جرييه. ويهربان من جديد.

ويتخذ الحبيبان مسكناً في ضاحية شبو، ويعيشان حياة باذخة على مبلغ الستين ألف فرنك الذي حصلت عليه مانون من السيد "ب". ويأمل دي جرييه بعد فصله من سلك الرهبنة وعودته إلى الفروسية، أن يحصل من أبيه على الصفح والمال أو أن يرث مال أبيه بعد موته. ويسطو عليهما أحد اللصوص فيسلبهما مالهما. ويجدان أنهما أصبحا معدمين بين عشية وضحاها. وأدركت آنذاك أن الإنسان قد يحب المال دون أن يكون بخيلاً .. لقد عرفت مانون .... ومهما كانت مخلصة وفية مغرمة بي في وقت الرخاء، فلا يمكن الاعتماد عليها في وقت الشدة. إنها اهتمت كثيراً بالمتعة والثروة لتضحي بهما من أجلي" (22). وهو يحبها أكثر من حبه للشرف. ويسمح لاخوتها أن يعلموه الغش في لعب الورق فيكسب بعض المال، ولكنه يتعرض للسرقة مرة أخرى. وتهجره مانون إلى رجل فاجر عجوز ثري، وتركت له رسالة تقول فيها "إني أعمل لأجعل فارس غنياً سعيداً". وينضم إليها في مؤامرة لابتزاز المال من هذا الرجل العجوز، وينجحان ويختفيان ثم يقبض عليها، وتوضع هي في الملجأ العام باعتبارها بغياً، ويرسل هو إلى الدير. ولكنه يهرب منه بإطلاق النار على حارس البوابة: ويقترض نقوداً ويرشو القائمين على الأمر في الملجأ ليسهلوا لمانون سبيل الهرب، وتقطع على نفسها عهداً بحبه إلى الأبد.

ص: 138

ولما نفد رصيدهما من المال، أجازت لوريث غني أن يتخذها خليلة، ويقبض عليها ثانية، ويقنع والد جرييه السلطات الرسمية بترحيلهما ويحاول دي جرييه إنقاذهما في الطريق، فلما عجز عن ذلك أبحر معها إلى نيو أورليانز، وهناك تعلمت أن تحتمل مرارة الفقر، وأن تكون مخلصة كل الإخلاص لدي جرييه، ويعودان إلى ممارسة الشعائر الدينية، ولكن ابن حاكم المستعمرة يهيم بحبها. ولما كان مانون ودي جرييه قد أهملا أن يعقدا عقداً شرعياً بالزواج، فإن الحاكم مارس حقه في أن يزوجها من أي فرد في المستعمرة، ومن ثم أمرها أن تقبل ابنه زوجاً لها. وأردى دي جرييه لابن قتيلاً في مبارزة، ويهرب الحبيبان إلى الفيافي والقفار سيراً على الأقدام. وبعد مسيرة عدة أميال مرهقة، تسقط مغشياً عليها وتفارق الحياة، "وقضيت يومين وليلتين لا تفارق شفتاي وجه عزيزتي مانون ويديها". وحفر بيديه جدثاً لها ويواريها التراب، ويرقد على القبر ليقضي نحبه هو الآخر. ولكن صديقه الطيب تيبرج، الذي قدم في نفس الوقت من فرنسا، يعثر عليه، ويصحبه ثانية إلى كاليه، إلى المركيز ليروي حكايته.

وأصبحت "مانون ليسكو" معيناً لا ينضب لقصص حب مبللة بالدموع. فإن أية امرأة، ولو لم تكن "محطمة القلب" تذرف الدمع على موت مانون وحزن دي جرييه، مغتفرة لها حيلها المالية، وله جرائمه الخسيسة. وضرب بريفوست على نغمة جديدة حين نسب إلى بطله وبطلته أخطاءً كثيرة إلى هذا الحد، وجعلها أخطاء حقيقية، حين كشف عن حب مانون الطاغي للذة والمتعة، وقدرة حبيبها على التطفل والغش والسرقة والقتل. وهي طراز عتيق للبطلة، وهو بالتأكيد مثال جديد للبطل. وربما بلغ الكتاب قدراً أكبر من القوة لو أن دي جرييه ترك ليموت على قبر مانون.

وربما روى بريفوست القصة بمثل هذا الإحساس والعاطفة لأنه هو نفسه كان لديه الحماسة والغيرة اللتان تجلتا في دي جرييه. ومن ثم كانت

ص: 139

القصة سيرة حياته قبل أن تكون حادثاً. ولم يكن تافهاً متطفلاً، ترجم إلى الفرنسية روايات ريتشاردسن الثلاث الضخمة، وزادت تلك الترجمات من تهافت فرنسا على ريتشاردسن، وهو تهافت كان له مظهر مختلف عند روسو وديدرو. وترجم كتاب مدلتون "حياة شيشرون"، وكتاب هيوم "تاريخ إنجلترا"، وكتب عدة قصص أقل شأناً، وعدة مجلدات عن "التاريخ العام للرحلات". وفي أمستردام في 1733، وقع في غرام عشيقة رجل آخر. ولما نمى إليه أن البندكتيين استصدروا أمراً بسجنه، هرب إلى إنجلترا مصطحباً هذه السيدة معه. وفي لندن كسب عيشه بإعطاء دروس خاصة. وفي 15 ديسمبر قبض عليه بتهمة قدمها ضده أحد تلاميذه بأنه زيف ورق نقدية من ذات الخمسين جنيهاً-وهي جريمة عقوبتها القانونية الإعدام. وسرعان ما أطلق سراحه لأسباب مجهولة. وعاد إلى فرنسا (1734) وانضم من جديد إلى طائفة البندكت. وفي 1753 عين في دير سان جورج-دي جين.

وأدى موته بعد عشر سنين من ذلك إلى أسطورة ترويها حفيدته بيف لسانت بيف وكأنهما حقيقة، تلك هي أنه أصيب بالسكتة أثناء سيره في غابات شانتيللي، وأن طبيباً ظن أنه مات فقام بتشريحه ليقف على سبب الوفاة، وأن بريفوست كان لا يزال حياً، ولكن فحص الجثة هو الذي أودى بحياته (23). هذه القصة مرفوضة اليوم بصفة عامة (24).

وكان تأثير بريفوست كبيراً. إنه أسهم في تشكيل رواية روسو "هلواز الجديدة"، وحرك ديدرو الحاد الذهن الرقيق القلب ليكتب مسرحيات باكية عاطفية. كما اتخذ هذا التأثير مثالياً في قصة "بول وفرجيني" للكاتب برناردين دي سانت بيير. وبرز التأثير من جديد في "غادة الكاميليا" لديماس الابن. ولعبت دوراً في الحركة الرومانسية، إلى أن قدم فلوبرت "مدام بوفاري"(1857). ولا تزال مانون تحيا وتموت في الأوبرا.

ص: 140

‌4 - حكماء أقل شأناً

ونعود إلى الكلام عن راهب آخر، وينبغي علينا في هذه المرة أن نوفيه حقه. فقد رأينا كيف أن شارل ايريني كاستل راهب سان بيير، روع الدبلوماسيين في أوترخت بكتابه "مذكرة في حفظ السلام على الدوام". (1712). وهي التي أسرت لب روسو وكان كلاهما كما رأينا، بعرض على نادي "أنترسول" خليطاً من أفكار وإصلاحات تقدمية إلى حد أن الكاردينال فليري أحس بأنه مضطر إلى إغلاق النادي إنقاذاً للدولة (1731). فماذا كانت هذه الأفكار؟

إن شارل هذا، على غرار كثير من الثائرين المتمردين، قد اكتسب ذهنه حدة ومضاء بفضل التعليم اليسوعي. إنه لم يطل به الوقت ليطرح العقيدة السائدة جانباً، وعلى الرغم من إنه ظل يعلن اعتناقه الكثلكة، فإنه ألحق بها أذى ماكراً في "مقالة ضد الإسلام"، حيث أن ما أورد فيها من حجج-مثل فولتير في كتابه "محمد"-يمكن تطبيقه بسهولة على المسيحية التقليدية. وواضح أن "تفسيره المادي" للمعجزات المزعومة التي قال بها البروتستانت والمنشقون والمسلمون" قصد به المثل التشكك في المعجزات الكاثوليكية.

وفي 1717 ثم في 1729 أعاد نشر "مشروع السلام الدائم" بعد التوسع فيه. وناشد ملوك أوربا، ومن بينهم سلطان تركيا، أن يعقدوا ميثاقاً مقدساً يمكن أن يكفل بالتبادل ممتلكاتهم الحالية، وأن تنبذ الحرب وسيلة لتسوية الخلافات الدولية، وأن يخضع هذه الخلافات لاتحاد أوربي تكون له قوة فرض قبول القرارات التي يصدرها. وصاغ نموذجاً لدستور لهذا الاتحاد، مع القواعد التي يمكن اتباعها في إجراءات اجتماعات هذا الاتحاد. وحدد الأنصبة المالية التي تخصصها كل من الدول الأعضاء للاتحاد، ولم يكن أحد ليتوقع تنبؤه بأن مؤتمر فيينا 1715، سيشكل، على هذه الأسس "حلفاً مقدساً" للإبقاء دوماً على النظم الملكية والإقطاعية، وإخماد الحركات الثورية.

ص: 141

ولم يكن ثمة صعوبات يمكن أن تزعزع ثقة الراهب المرن السريع التكيف، فأقر، في عبرة دينية الإيمان بالتقدم، وفي كتابه "ملاحظات على التقدم المستمر في العقل العالمي"(1737) أعلن، قبل كوندورسيه بزمن طويل، إمكان بلوغ الجنس البشري مرتبة الكمال غير المحدود بفضل قوة العقل في رجال العلم والحكومات. إنه فوق كل شيء قال وهو مستغرق في التفكير والتأمل، بأن الجنس البشري وفقاً لمراجع موثوقة، لا يزيد عمره على سبعة أو ثمانية آلاف سنة، ومن ثم فإنه لا يعدوا أن يكون في مرحلة "طفولة العقل"، فما الذي لا نتوقعه منه في شبابه النشيط بعد ستة آلاف سنة، وفي الازدهار الرائع في مرحلة نضج الجنس البشري بعد مائة ألف عام من الآن؟ (25).

إن سان بيير بمشكلتنا الحديثة: تلك هي أنه بينما خطت العلوم والمعرفة خطوات واسعة في طريق التقدم، لم يحدث في مجال الأخلاق أو السياسة تقدم متكافئ مع تلك الخطوات، إن المعرفة تزود الرذيلة بالوسائل والأدوات بقدر ما تهذب الأخلاق وتعمل على تنويرها. وكيف ننحو بنمو المعرفة نحو تقويم أخلاق الأفراد والأمم؟ وفي رسالته "مشروع لتحسين أوضاع حكومات الدول والبلوغ بها إلى درجة الكمال"(1737) اقترح سان بيير تأسيس "أكاديمية سياسية" تتألف من اعظم الرجال عقلاً وحكمة في البلاد، وتكون بمثابة هيئة استشارية للوزراء في الدولة في كل ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي والخلقي. وقدم عدة اقتراحات محددة: تعليم عام تحت إشراف الحكومة (لا الكنيسة)، تسامح ديني، زواج رجال الدين، توحيد القوانين الفرنسية، قيام الدولة برعاية الصالح العام والنظام الاجتماعي، وأخيراً زيادة الإيرادات القومية عن طريق الضرائب التصاعدية على الدخول والتركات (26). وفي 1725 أضاف الراهب إلى اللغة الفرنسية لفظة "الإحسان أو عمل الخير" ليميز الروح الإنسانية التي آثرها على الصدقات التي تقترن بفكرة التنازل والتلطف في النظام القديم. ووضع قبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل مبدأ المنفعة: ذلك "أن قيمة أي كتاب

ص: 142

أو قاعدة أو نظام أو عمل تقاس بعدد وعظمة الملذات والمتع الفعلية التي تحققها، وما ينتظر أن تحققها في المستقبل، لأكبر عدد من الناس (27). وبدا معظم الأفكار الأساسية عند الفلاسفة استهلالاً أو مقدمة لسان بيير، بل للأمل في ملك مستنير، كعامل من عوامل الإصلاح. وكان سان بيير بكل بساطته وسذاجته وأطنابه، أحد الأذهان التي حملت بذور عصر الاستنارة.

ولا بد أن شارل بينو ديكلوس قد ازدرى الراهب سالف الذكر لأنه خيالي واهم لا يتفق مع ذهن واقعي. ولد في دينان بمقاطعة بريتاني، واحتفظ حتى النهاية بالشخصية الجادة الحذرة العنيدة التي تميز بها البريتون. وكان ابناً لوالد برجوازي ميسور ماتت في السنة الأولى بعد المائة، فاستطاع أن يقضي شبابه الطائش في باريس في عهد الوصاية. وتلقى تعليمه العالي عند اليسوعيين وبنات الهوى، وانغمس في حماقات الشباب أيما انغماس. وزاد من حدة ذكائه في المقاهي، ومكنت له شهرته بسرعة البديهية من ارتياد المجتمع والصالونات، وزاد من شهرته بقصة "تاريخ البارونة دي لوز"(1741) التي كادت أن تكون اتهاماً لله. إن البارونة تصد كل هجوم على أمانتها الزوجية، ولكنها تستسلم لحاكم فاسق فاسد، لتنقذ حياة زوجها المتورط في مؤامرة ضد الملك. وتغتصب البارونة مرتين. وفي سورة غضب جنوني تصرخ "أيها الرب القاسي، كيف استحق كراهيتك لي هل لأن الفضيلة كريهة لديك؟ (28) ".

وعلى الرغم من مغزى هذا الكتاب وما تضمنه من إثارة جنسية انتخب ديكلوس للأكاديمية (1746) بفضل نفوذ مدام دي بمبادور. واشترك بحيوية ونشاط في أعمالها، وأعاد تنظيمها، وربط بينها وبين أدب العصر وفلسفته ربطاً بعث فيها الحياة. وفي 1751 خلف فولتير في وظيفة مؤرخ لملك وفي 1754 سعى لانتخاب دالمبرت لعضوية الأكاديمية، وفي 1755 انتخب سكرتيراً دائماً لها، وظل الروح المسيطرة عليها حتى وفاته. وكسب الأكاديمية إلى جانب الأفكار المتحررة. ولكنه رثى وأسف لتهور دي هولباخ

ص: 143

وهلفشيوس وديدرو "إن هذه العصبة من الملحدين الصغار سوف تنتهي باقتيادي إلى كرسي الاعتراف".

وإنا لنذكره بصفة خاصة من اجل كتابه "نظرات في الخير والشر في هذا القرن"(1750) وهو يتضمن تحليلاً هادئاً دقيقاً مفصلاً عن الأخلاقيات والشخصية الفرنسية. وكتبه قبل أن يبلغ الخامسة والأربعين، واستهله بوقار حكيم خَرِفْ "لقد عشت، وأود أن أعيش لأكون ذا نفع لمن سيعيشون". ويأسف "لأن أعظم الشعوب حضارة ومدنية ليست كذلك أكثرها تمسكاً بالفضيلة": إن أسعد الفترات هي تلك التي لا تعتبر فيها الفضيلة حسنة أو ميزة، وإذا بدأ اعتبارها كذلك، فإن العادات بالفعل تتغير. وإذا أصبحت هدفاً للسخرية فتلك هي آخر مراحل الفساد (29).

وفي رأيه أن "أكبر نقيصة في الرجل الفرنسي أن له على الدوام شخصية شبابية، ومن ثم فهو في الغالب أنيس لطيف، وقلما يكون راسخاً متزناً، ويكاد لا يمر بسن النضج، بل ينتقل من الشباب إلى عجز الشيخوخة ..... فالرجل الفرنسي هو طفل أوربا (30) -مثلما أن باريس هي ملعبها. ولا يتعاطف ديكلوس كل التعاطف مع عصر العقل الذي يحس أنه دوامة تعصف حوله""لست متأكداً من إني أحسن الظن كثيراً بهذا القرن، ولكن يبدو لي أن تخمراً معيناً في العقل يتجه نحو التطور والنمو في كل مكان (31) ". إننا في هذه الأيام ننتقد كثيراً في عنف بالغ التحيز والتحامل وربما قضينا عليهما إلى حد كبير. إن التحيز ضرب من القانون العام السائد بين البشر

وفيما يتعلق بهذا الموضوع. لا أملك إلا أن أنحى باللائحة على الكتاب الذين يريدون مهاجمة الخرافة (وقد يكون من البواعث النافعة الجديرة بالثناء إذا تمت المناقشة على أساس

ص: 144

فلسفي). فيقرضون أسس الأخلاق ويضعفون روابط المجتمع

والنتيجة المؤسفة لهذا على قرائهم، هي أن يصبح الشباب مواطنين سيئين ومجرمين مخزين، وأن ينتاب الشقاء الذين يتقدم بهم العمر (32).

وكان جريم المراسل الباريسي للشخصيات الأجنبية وواحداً من كثير ممن استاءوا من هذا التشهير الرقيق بالفلسفة، الصادر من رجل نهل من منابع كثيرة "إذا كان المرء مجرداً من الشعور فاسد الذوق، فليس له أن يتحدث عن الأخلاق ولا عن الفنون (33). ولكن جريم كان يزاحم ديكلوس في الظفر بالحظوة لدى مدام دي ابيناي، وإن مذكرات هذه السيدة الرقيقة لنصور ديكلوس فظاً مستبداً إذا تمكن، شديد التهور إذا غلب على أمره. ولكن جريم هو الذي أعد هذه المذكرات للنشر. وإذا كان لنا أن نصدق هذه الصفحات العتيقة الباكية فإن مدام ابيناي طردت من بيتها هذا العربيد الخائن. وهام رجل الأكاديمية العلامة على وجهه بحثاً عن مضاجع وأراض أخرى، وأخيراً رحل عن هذا العالم وهو في السابعة والستين.

وكان لوك دي كلابيير مركيز دي فوفينارج أجدر بالحب. وفي سن الثامنة عشرة التحق بالجيش ثملاً يحب بلوتارك وبالطموح إلى ارتقاء مدارج المجد في خدمة الملك. واشترك في مغامرة الماريشال دي بل أيل المنكوبة في حملة بوهيما 1741 - 1743. وفي الانسحاب المهلك من براغ تجمدت رجلاه، وحارب في دتنجن 1743. ولكن اعتلت صحته إلى حد إنه ترك الجيش بعدها. وسعى إلى الحصول على منصب دبلوماسي، وكاد أن يظفر ببغيته بفضل مساعدة فولتير لولا أن مرض الجدري شوه وجهه. وبدأ بعده يضعف، وانتابه سعال مزمن قتال أقعده عن ممارسة أي عمل.

وأصبحت الكتب عزاءه، وشغله الشاغل. وكان يقول "فوق كل شيء، إن أحسن الأشياء هي أكثرها شيوعاً، فإنك تستطيع أن تشتري ذهن فولتير مقابل كراون واحد"(34) وحذر من الحكم على الكتب بثقل وزنها، فإن خير المؤلفين قد يتحدثون أكثر مما ينبغي وكثير منهم غامضون

ص: 145

إلى حد يبعث السأم والضجر. والوضوح يزين التفكير العميق" (35). وكان مؤلفه الذي دفع به إلى المطبعة 1746 يقع في خمس وسبعين صفحة مقدمة في التعرف على الروح الإنسانية"، وأعقبه "607 من التأملات والحكم" في 115 صفحة. وبعد ذلك بعام واحد، وفي فندق حقير في باريس، قضى نحبه، وهو في الثانية والثلاثين، وهو يمثل موزار وكيتس في الفلسفة الفرنسية.

وقال فوفينارج "إن للفلسفة أنماطها وأشكالها، مثل الملابس والموسيقى والعمارة (36) " وقبل بضع سنين قليلة من إضفاء روسو المثالية على الطبيعة والمساواة، صور فوفينارج "الطبيعة بأنها صراع وحشي من أجل الغلبة والسيطرة"، و "المساواة" على أنها وهم وخداع: السائد بين الملوك، وبين الشعوب، وبين الأفراد، أن الأقوى يرتب لنفسه حقوقاً على الأضعف، ونفس القاعدة متبعة بين الحيوانات والكائنات غير الحية، وهكذا يجري كل شيء في الكون بالعنف. وهذا النظام الذي نعيبه بشيء من شبهة العدل، هو أعم وأثبت وأهم قانون في الطبيعة (37).

إن كل الناس غير أحرار وغير متساوين:

ليس حقاً أن المساواة قانون من قوانين الطبيعة. إن الطبيعة لم تجعل الأشياء متساوية. وإن قانونها الأساسي هو الإخضاع والتبعية .... ومن ولد ليطيع، فسوف يطيع حتى وهو متربع على العرش (38).

أما بالنسبة للإرادة الحرة، فهي أيضاً أسطورة أو خرافة "فليست الإرادة هي العلة الأولى لأي تصرف أو عمل، بل إنها المنبع الأخير". وإذا أوردنا المثل التقليدي على الإرادة الحرة، وهو أنك تستطيع أن تختار هذا أو ذلك أأو ب "بمحض إرادتك" فإن فوفينارج يرد "إني إذا اخترت ب فإن هذا بسبب أن الحاجة إلى الاختيار تقفز إلى تفكيري في اللحظة التي تجول ب بخاطري فيها (39). والإيمان بالله أمر لا مفر منه ولا غنى عنه، على أية حال. وأحس فوفينارج بأنه عن طريق هذا الإيمان وحده يمكن أن يكون للحياة وللتاريخ معنى غير الصراع الدائم والهزيمة في النهاية (40).

ص: 146

وأبرز معالم فلسفة فوفينارج دفاعه عن العواطف، ولا ينبغي القضاء عليها لأنها أصل الشخصية والعبقرية وكل قوة التفكير ونشاطه. "الذهن عين النفس المبصرة، ولكن ليس قوتها، لأن قوتها تكمن في القلب أي في العواطف. إن أكثر العقول استنارة لا يمدنا بالقوة على العمل والإرادة (41) .... والأفكار العظيمة تنبع من القلب

وربما كنا مدينين للعواطف بأعظم منجزات العقل (42) .. إن العقل والوجدان يستشير كل منهما الأخر ويكمله بالتناوب، وهذا الذي يستشير أحدهما ويغفل الآخر، إنما يحرم نفسه في حمق وغباء من بعض الموارد التي منحنا إياها من أجل سلوكنا (43).

وأقر فوفينارج أن حب الذات عام بين الناس، ولكنه رفض اعتباره رذيلة، حيث أنه الضرورة الأولة من ضرورات قانون الطبيعة الأول: حفظ الذات. كما أن الطموح ليس رذيلة، بل أنه حافز "إن حب المجد والعظمة هو الذي يصنع ما تحرزه الأمم من تقدم ونجاح (44). ويضيف أن المرء غير أهل للمجد والعظمة إذا لم يع قيمة الوقت (45). ومهما يكن من أمر فإن هناك رذائل يجب أن تكبح جماحها القوانين والمبادئ الأخلاقية وإن فن الحكومة ليكمن في توجيه الرذائل إلى الخير العام (46). وهناك أيضاً فضائل حقيقية "إن أولى أيام الربيع أقل روعة وفتنة من نمو الفضيلة في الشباب (47).

وعلى الرغم من تسليم فوفينارج بآراء هوبز ولاروشفوكو، ومن تجربته للشر في حياته، فإنه احتفظ بإيمانه بالجنس البشري. قال صديقه مارمونتل: "إنه عرف الحياة ولم يحتقرها. إنه، وقد كان صديقاً للناس، اعتبر الرذيلة محنة وسوء حظ، يبتلي الناس بهما لا جريمة. وحلت الشفقة في قلبه محل الاحتقار والبغض

إنه لم يذل إنساناً قط

إن هدوءاً لم يتبدل أخفى آلامه عن أعين أصدقائه. وما كنا في حاجة لاحتمال المحنة، إلا أن تكون لنا فيه أسوة حسنة، فإنا ونحن نرى رباطة جأشه، ما كنا لنجرؤ على إظهاره حزنناً وشقائنا أمامه (48).

ص: 147

ووصفه فولتير بأنه "أتعس الناس حظاً وأكثرهم هدوءاً (49).

إن من أكرم مظاهر الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر. ذلك العطف السابغ والعون الودي اللذين حبا بهما فولتير "نبي العقل" فوفينارج نصير بسكال و "القلب". إن الفيلسوف الشاب أعلن عن إعجابه "برجل يشرف قرننا، رجل لا يقل عظمة وشهرة عن أسلافه"(50). وكتب إليه الرجل العجوز الأكبر منه سناً في لحظة من لحظات التواضع: "لو أنك كنت قد رأيت التور قبل مولدك ببضع سنين، فلربما اكتسبت كتاباتي قيمة أكبر (51) إن أفصح قطعة في مجلدات فولتير المائة هي ما قال في تأبين فوفينارج عند تشييع جنازته (52).

‌5 - مونتسكيو

1689 -

1755

أ - الرسائل الفارسية

وجد فولتير أنه من العسير عليه أن يحب مونتسكيو لأن مؤلفه "روح القوانين"(1748) اعتبر بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر. وظهر كتاب حين بلغ صاحبه التاسعة والخمسين، وكان ثمرة خمسين عاماً من التجربة والخبرة، وأربعين عاماً من الدرس والبحث وعشرين عاماً قضاها في تأليفه.

ولد شارل لويس دي سيكوندا بارون دي لابريد ودي مونتسكيو، في لابريد بالقرب من بوردو وفي مقاطعة مونتاني، في 18 يناير 1689. وكان يفاخر مبتهجاً بأنه من سلالة هؤلاء القوط، وهم الذين بعد أن غزوا الإمبراطورية الرومانية، "أسسوا الملكيات وأقاموا صرح الحرية هنا وهناك في كل مكان" (53) إنه انتسب على أية حال إلى "نبلاء السلاح ونبلاء الرداء" كان أبوه كبير القضاة في جوين، وكان الصداق التي قدمته أمه قصر لابريد وأرضها. وفي ساعة مولده تقدم إلى بوابة القصر سائل مسكين، فأدخلوه وأطعموه وجعلوا منه عراباً للطفل (أي أباه في العماد)، زعماً منهم بأن شارل لن ينسى الفقراء أبداً (54). وتربى طوال السنوات الثلاث الأولى من عمره بين فلاحي القرية، وأرسل في سن الحادية عشرة

ص: 148

إلى مدرسة طائفة الأورتوريين في جويللي على بعد عشرين ميلاً من باريس .. ثم عاد إلى بوردو في سن السادسة عشرة ليدرس القانون. وفي سن التاسعة عشرة حصل على درجته العلمية في القانون.

وفي 1713 مات أبوه، وكان شارل آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، تاركاً له ممتلكات واسعة وثروة متوسطة. وكان يتحدث بصراحة عما "يملك من أرض وعن اتباعه" وسوف تراه تمسك بشدة بالنظام الإقطاعي. وبعد ذلك بسنة دخل برلمان بوردو عضواً وقاضياً. وفي 1716 أوصى له عمه-الذي كان قد اشترى رياسة البرلمان-بثروته ومنصبه، وقد دافع مونتسكيو فيما بعد عن "بيع المناصب" باعتباره "عملاً حسناً في الدول الملكية، لأنه يجعل من واجب أبناء الأسرات العريقة أن ينهضوا بالمهام التي قد لا يحصلون عليها عن طريق الدوافع النزيهة غير المغرضة وحدها (56). وبينما كان يتولى رياسة البرلمان قضى معظم وقته في الدرس والبحث، فأجرى تجارب وقدم أبحاثاً في الفيزياء والفسيولوجيا إلى أكاديمية بوردو، وخطط "تاريخاً جيولوجياً للأرض" لم يكتبه قط ولكن المادة التي جمعها له شقت طريقها إلى كتابه "روح القوانين".

وكان في الثانية والثلاثين حين ملأ أبصار وأسماع باريس في عهد الوصاية بأروع كتبه. إنه أغفل ذكر اسمه على كتابه "الرسائل الفارسية"(1721) لأنه ضم بين دفتيه قطعاً لا يليق صدورها عن قاض. وربما أخذ فكرته عن كتاب جيوفاني مارانا "جاسوس السيد الكبير"(1684) الذي نقل فيه جاسوس تركي وهمي للسلطان، في بذاءة تلفت النظر، عقائد المسيحيين الفاسدة وسلوكهم في أوربا، والمفارقات المضحكة أو القاتلة بين ما يعلنون وما يفعلون، وثمة أسلوب شبيه في تصوير الحضارة الغربية كما يراها الشرقيون، استخدمه أديسون في سبكتاتور"، وكان شارل دفرسني "تسليات جادة وهازلة" قد تصور تعليقات أحد أبناء سيام في باريس، كما أن نيقولا جيوددقيل كان قد أبرز العادات الفرنسية كما يراها أحد هنود أمريكا، وكانت ترجمة جالاند لكتاب "ألف ليلة وليلة" (1704 -

ص: 149

1717) قد زادت من شغف الفرنسيين بالحياة الإسلامية، كذلك فعلت المحاضرات المصورة عن رحلات سير جون شاردان وجان تافرنيه. كما أنه من مارس إلى يوليه 1721 لفت السفير التركي أنظار باريس بفتنة زيه وأساليبه الغريبة. من أجل ذلك كله كانت فرنسا مستعدة لتلقى "الرسائل الفارسية". وبيع من هذا الكتاب ثمان طبعات على مدى عام واحد.

وقدم مونتسيكيو "الرسائل" على أنها مكتوبة بقلم ريكا وأوزبك، وهما سائحان فارسيان في فرنسا. ومراسليهما في أصفهان. إن هذه الرسائل لن تعرض فقط نقاط الضعف والأهواء والتحيز عند الفرنسيين، ولكنها كشفت أيضاً عن حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية من خلال الكتاب أنفسهم.

وحين يسخر القارئ من هذه العيوب والأخطاء، فليس أمامه إلا أن يتقبل عن طيب خاطر السخرية من عيوبه وأخطائه هو. وقد مست هذه العيوب والأخطاء مساً رقيقاً. ومن ذا الذي يغضب لهذه الأفكار الساخرة غير المقصودة، أو الطعنات بسيف مغلف بطريقة مهذبة؟ وفوق ذلك تضمنت بعض الرسائل أسراراً أو رسائل شخصية سارة من حريم أوزبك في أصفهان. من ذلك أن زاكي أي محظيته تكتب لتبلغه بما تعاني من آلام مبرحة لغيابه عنها. كما أن ريكا تصف مفهوم سيدة مسلمة عن الجنة بأنها مكان يكون فيه لكل سيدة فاضلة مجموعة من الرجال الوسيمين المكتملي الرجولة، وهنا يطلق مونتسكيو لقلمه العنان في سرد التفاصيل في أسلوب الطيش الذي اشتهر به عهد الوصاية.

وكان من غير المستطاع، اللهم في فترة خلو العرش هذه، أن تتفادى الهرطقات السياسية والدينية في الرسائل عين الرقيب والمؤاخذة الرسمية. لقد قضى الملك القديم نحبه، والملك الجديد ما زال صبياً، والوصي رجل متسامح مرح مبتهج. وعند ذاك استطاع مونتسكيو أن يجعل الفارسيين الذين أوردهم في رسائله يسخرون من حاكم "ساحر" جعل الناس يعتقدون أن الورق نقود (كان نظام لو قد انهار. (57)) كما استطاع أن يفضح فساد

ص: 150

الحاشية، وخمول النبلاء المبذرين وسوء إدارة أموال الدولة، وأن يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة، والجمهوريات الحديثة في هولندا وسويسرا. يقول أوزبك "إن الملكية نظام شاذ غير سوي، ينزلق إلى حكم استبدادي مطلق"(58)(انظر فيما بعد رأياً مخالفاً).

وفي الرسائل من 11 - 14 يوضح أوزبك طبيعة الإنسان ومشكلة الحكم بالتحدث عن سكان الكهوف (التروجلوديون)

(1)

الذين يتخيلهم عرباً انحدروا من التروجلودييين الذين وصفهم هيرودوت (59) وأرسطو (60) بأنهم قبائل همجية عاشت في أفريقية (قبل التاريخ). وكان تروجلوديو أوزبك يكرهون كل تدخل حكومي. ومن ثم قتلوا كل حاكم مفكر، وعاشوا في جنة من الحرية التامة "اتركه ليعمل" واستغل كل بائع حاجة المستهلك ورفع سعر منتجاته. وإذا اغتصب رجل قوي زوجة رجل ضعيف، فليس ثمة قانون أو حاكم يلجأ إليه. وأفلت القتل والاغتصاب والسلب والنهب دون عقاب، اللهم إلا الاقتصاص الخاص بالعنف، وإذا عانى سكان النجاد من الجفاف تركهم سكان الوهاد يموتون جوعاً، وإذا عانى هؤلاء من الفيضان تركهم سكان النجاد يهلكون. ومن ثم فنيت القبيلة، وبقى على قيد الحياة أسرتان بفضل الهجرة، وتبادلتا العون، ونشأتا أطفالهما على التمسك بالدين والفضيلة واعتبرتا أنهما أسرة واحدة، واختلطت قطعانهما دائماً تقريباً. (61) ولما زاد عددهم وجدوا أن أعرافهم غير كافية-لحكمهم فاختاروا ملكاً وخضعوا للقوانين. وانتهى أوزبك إلى أن الحكومة ضرورية ولكنها تعجز عن تأدية مهمتها إذا لم تكن قائمة على الفضيلة في الحاكم والمحكومين ..

وكانت الهرطقات الدينية في الرسائل أكثر ترويعاً وتنفيراً من الهرطقات السياسية. ويرى أوزبك أن الزنوج يتصورون أن الإله أسود وأن الشيطان أبيض. ويوحي (مثل زينوفون) بأنه إذا كانت المثلثات تتحدث عن

(1)

قصد بهذه الكلمة في الأصل سكان الكهوف، أي الذين يحفرون جحوراً ليقيموا فيها. مثل خصومنا السياسين.

ص: 151

اللاهوت، فلا بد أن للإله ثلاث أضلاع وثلاث نقاط حادة. ويعجب أوزبك من ساحر آخر يسمى البابا، يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزاً وأن الخمر ليس خمراً، وألف شيء من هذا الطراز. (62) ويسخر من الصراع بين اليسوعيين والجانسينيين. وأفزعته محاكم التفتيش في أسبانيا والبرتغال، حيث "يتسبب الدومنيكان في إحراق الناس كما يحرق القش". (63) ويسخر من المسابح وثياب الرهبان الفضفاضة. وهو يتساءل كم تعمر البلاد الكاثوليكية في منافسة مع الشعوب البروتستانتية، لأنه يرى أن تحريم الطلاق وعزوبة الراهبات والرهبان سوف يعوقان ازدياد السكان في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا (قارن إيرلندة في القرن العشرين) ويقدر أوزبك، على هذا المعدل، أن الكاثوليكية في أوربا لن تعمر أكثر من 500 سنة أخرى (64)

(1)

. أضف إلى هذا أن هؤلاء الرهبان الخاملين الذين يزعمون انهم مستعصمون زاهدون يستولون على كل ثروة الدولة تقريباً. إنهم عصبة من البخلاء يأخذون دائماً ولا يعطون أبداً. إنهم باستمرار يكنزون دخولهم لتكون مصدر قوة. وتصاب هذه الثروة بالشلل، فلا تتداول ولا تستغل في التجارة أو الصناعة أو المصانع" (66) ويقلق أوزبك التفكير في أن كفار أوربا الجهلة الذين يعبدون المسيح بدلاً من عبادة الله والإيمان بحمده سيكون مصيرهم النار، ولكن يراوده بعض الأمل في أنهم في النهاية سيعتنقون الإسلام ويُنقذون (67).

وفي تخيل رمزي جليل يتأمل أوزبك في الإلغاء (1685) مرسوم هنري الرابع للتسامح المعروف بمرسوم نانت.

أنت تعلم ياميرزا كيف أن بعض وزراء الشاه سليمان (لويس الرابع عشر) دبروا خطة لإرغام الأرمن في فارس (الهيجونوت) على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام (الكثلكة)، اعتقاداً منهم بأن إمبراطوريتنا

(1)

ذهب مونتسكيو في 1721 إلى أن عدد سكان أوربا لا يكاد يبلغ عشر عدد سكانها في عهد الإمبراطورية الرومانية (65) وأنه آخذ في التناقص، وأن زنوج أمريكا سرعان ما يهلكون.

ص: 152

ستظل ملوثة ما دامت تحتضن هؤلاء الكفار

إن اضطهاد مسلمينا الغيورين لهؤلاء الكفار عبدة النار اضطرهم إلى الفرار زرافات إلى الهند الشرقية، وبذلك حرم فارس من هذا الشعب الجاد النشيط. ولم يبق أمام هذا التعصب الأعمى إلا شيء واحد هو تدمير الصناعة، حتى تنهار الإمبراطورية (فرنسا 1713)، حاملة معها تلك الديانة التي أرادوا لها النهوض والتقدم.

وإذا كان الحوار النزيه غير المتحيز ممكناً يا ميرزا، فلست متأكداً من أنه من الخير للدولة أن تكون بها عدة ديانات مختلفة

والتاريخ زاخر بالحروب الدينية، ولكن

ليس تعدد الديانات هو الذي أدى إلى الحروب، بل روح التعصب الذي يشجع الديانة التي تعتقد أنها في صعود (68).

إن الأفكار التي تضمنتها الرسائل الفارسية تبدو لنا الآن مبتذلة عتيقة. ولكنها كانت للمؤلف حين عبر عنها، مسألة حياة أو موت، وعلى الأقل مسألة سجن أو نفي. إنها الآن عتيقة لأننا كسبنا معركة الحرية في التعبير عن الآراء. إن الرسائل الفارسية فتحت الطريق، لهذا استطاع فولتير بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أن يصدر "رسائل عن الإنجليز" ويلقي ضوءاً إنجليزياً على حطام فرنسا. وأعلن هذان الكتابان عن عصر الاستنارة. وعمر مونتسكيو وحريته بعد كتابه، لأنه كان من طبقة النبلاء، ولأن الوصي على العرش كان متسامحاً، كما ارتفعت بعض أصوات الاستنكار وسط التهليل والإعجاب، ومع ذلك لم يجرؤ على الإفصاح عن اسمه وهو المؤلف. وذهب دارجنسون الذي انتقد هو نفسه الحكومة فيما بعد إلى أن "هذه التأملات وأفكار لا يستطيع أن يأتي بها رجل ذكي بسهولة، ولكن ينبغي على الرجل الحصيف الحذر ألا يسمح بطبعها". وأضاف ماريفو الحريص "يجدر أن يضن الإنسان بمجهوده في مثل هذه الموضوعات" وقال مونتسكيو "عندما حظيت إلى حد ما بتقدير الجمهور فقدت تقدير الطبقات الرسمية، وواجهت ألفاً من ألوان الاستخفاف والاستهزاء"(69).

وعلى الرغم من كل شيء قصد مونتسكيو إلى باريس ليرشف كؤوس

ص: 153

الشهرة في المجتمع وفي الصالونات. وفتحت له الأبواب مدام دي تنسان ومركيزة لمبرت ومركيزة ديناند. ولما كان قد ترك زوجته وراءه في لابريد فلم يكن من العسير أن يقع في شراك الغرام مع سيدات باريس. وتطلع إلى آفاق بعيدة، فتاقت نفسه إلى ماري آن دي يوربون أخت الدوق دي بوربون الذي أصبح رئيساً للوزارة في 1723. ويروي من أنه ألف من أجلها شعراً منثوراً "معبد الحب" (1725) عامراً بنشوة الوجد والهيام، وخفف من وطأة خلاعة هذا الشعر بادعائه أن القصيدة مترجمة عن اليونانية، ومن ثم حصل على ترخيص ملكي بطبعها. وبذل المساعي وبخاصة عن طريق مدام دي ري، لينضم إلى الأكاديمية، فاعترض الملك بأنه غير مقيم في باريس. فأسرع إلى بوردو وتخلى عن رياسته لبرلمانه، وانضم إلى مجمع الأربعين الخالدين (1728).

وفي أبريل قام برحلة استغرقت ثلاثة أعوام زار فيها بعض أجزاء إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وأراضي الراين وهولندة، وإنجلترا. التي قضى فيها ثمانية عشر شهراً (نوفمبر 1729 - أغسطس 1731) وهناك عقد أواصر الصداقة مع تشسترفيلد وغيرهم من وجوه القوم، واختير عضواً في الجمعية الملكية في لندن، وانضم إلى البنائين الأحرار (الماسونية)، واستقبله الملك جورج الثاني والملكة كارولين، وحضر جلسات البرلمان، وأولع بما ظنه الدستور البريطاني. وعاد أدراجه إلى فرنسا شديد الإعجاب-مثل فولتير-بالحرية، ولكن ما لمسه من مشاكل الحكومة زاد من رصانته واتزانه. وآوى إلى لابريد، وحول متنزهه إلى حديقة إنجليزية، وتفرغ-فيما عدا زيارات طارئة إلى باريس-لأبحاثه وكتاباته التي شغلت بقية أيام حياته.

ب- لماذا سقطت روما

في 1734 أصدر مونتسكيو، دون توقيع، ولكن معترف به عند الجمهور، "نظرات في أسباب عظمة الرومان وسقوطهم". وكان قد دفع بالمخطوطة إلى عالم يسوعي، ووافق على حذف ما يمكن أن يثير ريب الكنيسة. ولكن الكتاب لم يجد، وما كان له أن يجد النجاح الذي صادفته

ص: 154

"الرسائل الفارسية" لأنه لم يتضمن أية بذاءات أو أية أشياء تجافي الاحتشام، بل كان يعالج موضوعاً قديماً معقداً وكان محافظاً نسبياً في سياسته ولاهوته. ولم يستسغ المتطرفون (الراديكاليون) التوكيد على أن يكون الانحطاط الخلقي سبباً للاضمحلال القومي، ولم يكونوا مستعدين ليقدروا عمق التقدير والحكمة الرائعة في عبارات مثل "أن الذين لم يعودوا يرهبون القوة في مقدورهم أن يظلوا على احترامهم للسلطة". (70) وتعتبر هذه الرسالة الصغيرة الآن محاولة رائدة في فلسفة التاريخ، ورائعة من روائع النثر الفرنسي تعيد إلى الأذهان ذكرى بوسويه ولكنها تضيف الروعة إلى الوقار.

إن الموضوع جذب نظر المؤرخ الفيلسوف لأنه انتظم السلسلة الكاملة لحضارة عظيمة من الميلاد إلى الفناء، وعرض في نظرة شاملة وتفصيل رائع إحدى عمليات التاريخ الأساسية-وهي عملية الفناء أو الانحلال الذي يبدو أنه قدر محتوم أن يعقب كمال التطور في الأفراد والديانات والدول. وكان ثمة اشتباه في أن فرنسا بعد انقضاء القرن العظيم، قد دخلت في فترة طويلة من الاضمحلال في الإمبراطورية والأخلاق والأدب والفن. إن الثالوث المدنس: فولتير وديدرو وروسو-لم يكن قد بدأ بعد إنهم يتحدون التفوق الفكري والعقلي في القرن السابع عشر. ولكن جراءة العصر الجديد المتزايدة برزت في حقيقة أن مونتسكيو، وفي إيضاحه وشرحه لمجرى التاريخ لم يدرس إلا الأسباب الأرضية، وطرح جانباً في هدوء اللهم إلا لمحات من الإجلال الطارئ، العناية الإلهية التي نجدها في كتاب بوسيويه "بحث في تاريخ العالم" قد اتجهت بكل الأحداث إلى نتائج محتومة بقضاء هذه العناية الإلهية. ورأى مونتسكيو أن يفتش عن قوانين التاريخ، مثلما كان نيوتن يبحث عنها في الفضاء: "ليس الحظ هو الذي يحكم العالم، كما نرى من تاريخ الرومان

فثمة أسباب عامة معنوية أو مادية، تعمل عملها في كل مملكة، ترفعها أو تحافظ عليها أو تطيح بها، وكل ما يحدث خاضع لهذه الأسباب. وإذا كان ثمة سبب خاص يعينه، مثل النتيجة الطارئة لمعركة ما هو الذي قضى على دولة ما، فهناك

ص: 155

سبب هام جعل سقوط هذه الدولة ينتج عن معركة واحدة. وصفوه القول إن الحركة العامة نجر معها كل الأحداث الخاصة غير المتوقعة (71).

وبناء على هذا اختزل مونتسكيو وهبط بدور الفرد في التاريخ. فالفرد مهما عظمت عبقريته لا يعدو أن يكون أداة "الحركة العامة". ولا ترجع أهميته إلى قدرته الفائقة بقدر ما ترجع إلى التقائه مصادفة مع ما أسماه هيجل "روح العصر" فلو أن قيصر وبومبي فكرا مثل ما فكر كاتو (سعياً في الإبقاء على سلطة السناتور الروماني) فربما انتهى آخرون غيرهما إلى نفس أفكارهما. وعند ذاك كانت الجمهورية التي كان مقدراً عليها الفناء لأسباب داخلية، تنساق إلى الانهيار على أيد أخرى" (72).

ولكن القدر ليس توجيهاً روحياً أو باطنياً، وليس قوة ميتافيزقية. انه مجموعة معقدة من عوامل تنتج "الحركة الرئيسية". والمهمة الأساسية للمؤرخين الفلسفيين، في رأي مونتسكيو، هي الكشف عن كل عامل من هذه العوامل وتحليله وتبيان فعاليته وعلاقته. ومن ثم كان سقوط روما (في نظره) يرجع أولاً إلى التحول من جمهورية توفر لها توزيع السلطات وتوازنها، إلى إمبراطورية تصلح أكثر ما تصلح لحكم بلاد تابعة لها، ولكنها تركز كل الحكم في مدينة واحدة في يد رجل واحد، مما يدمر حرية ونشاط المواطنين والأقاليم. ويمرر الزمن انضمت أسباب أخرى إلى هذا السبب الرئيسي: انتشار الخنوع والخمول بين الجماهير، رغبة الفقراء في أن تعولهم الدولة، ضعف الأخلاق بسبب الثروة والترف والفسق والفجور، تدفق الغرباء الذين تشكلهم التقاليد الرومانية والذين كانوا مستعدين لبيع أصواتهم لمن يدفع أكبر ثمن، فساد رجال الإدارة المركزيين والمحليين، خفض قيمة العملة، فداحة الضرائب، هجر المزارع، استنزاف الحيوية العسكرية بسبب الديانات الجديدة وطول أمد السلم، وفشل النظام العسكري وسيطرة الجيش على الحكومة المدنية، إيثار الجيش تنصيب الأباطرة أو خلعهم عن حماية الحدود من هجمات المتبربرين .... ومن الجائز أن مونتسكيو-على عكس توكيد بوسويه

ص: 156

على العوامل الخارقة للطبيعة-لم يقم وزن كبير لتغيير الديانات، الذي أكده جيبون سبباً أساسياً لانهيار الإمبراطورية.

ولكن مونتسكيو كان دوماً يعود إلى ما أعتبره العامل الرئيسي في اضمحلال روما-وهو التحول من الجمهورية إلى الملكية، ذلك أن الرومان غزوا بفضل مبادئهم الجمهورية، كثيراً من الشعوب، ولكن في الوقت الذي حققوا فيه هذا، لم تقو الجمهورية على الصمود، وتسببت في الاضمحلال مبادئ الحكم الجديد وهي مخالفة لمبادئ الجمهورية (73). ومهما يكن من شيء فأننا عدنا إلى الفصل السادس لنتفحص المبادئ الأساسية أو الوسائل التي قهرت بها الجمهورية الرومانية "كل الشعوب" نجد مجموعة منوعة غريبة: الخداع، نقض المعاهدات، العنف والقوة، العقوبات الصارمة، بذر بذور الشقاق بين العدو ليسهل قهره تدريجياً، (فرق تسد)، نقل السكان من مكان إلى مكان بالقوة، تعكير جو الحكومات المناهضة ومحاولة القضاء عليها بتقديم المساعدات للثورات الداخلية ورشوة القائمين بها. وغير ذلك من الإجراءات المألوفة لدى رجال الدولة. واستخدم الرومان حلفاءهم في القضاء على أعدائهم، وسرعان ما استداروا ليدمروا هؤلاء الحلفاء (74) وواضح-أن مونتسكيو-ناسباً هذا الوصف للمبادئ الجمهورية أو مزدردا ميكافيللي في جرعة واحدة-اعتبر في الفصل الثامن عشر، الجمهورية مثلاً أعلى للعظمة، ورثى الإمبراطورية منزلقاً بهيجاً للانحلال. ومع ذلك اعترف بفساد السياسة في الجمهورية وبالعظمة السياسية للإمبراطورية في ظل "حكمة نرفاء، ومجد تراجان، وبسالة هادريان وفضائل الاثنين الانطونينيين"(75) وهنا وجه مونتسكيو كلاً من جيبون ورينان إلى تسمية هذه الحقبة "أكرم وأسعد حقبة في تاريخ الحكومة". ولدى هؤلاء الملوك الفلاسفة وجد مونتسكيو أيضاً أخلاق الرواقين التي فضلها بصراحة ووضوح على الأخلاق المسيحية، وانتقل إعجاب مونتسكيو بالرومان في عهد الجمهورية إلى الفرنسيين المتحمسين للثورة، وأسهم في تغيير الحكومة الفرنسية، والنظم العسكرية والفنون في فرنسا.

ص: 157

ووقع في الكتاب بعض أخطاء في عمل علمي عجل به ضغط الوقت والرغبة في إنجاز مهمة أضخم. فلم يكن مونتسكيو في بعض الأحيان مدققاً في استخدام النصوص القديمة. من ذلك، على سبيل المثال أنه أخذ الفصول التي كتبها ليفي عن "نشأة روما" على أنها تاريخ، على حين أن فاللا وجلارونوس وفيكو رفضوا هذه الرواية على أنها أسطورة. ويبخس مونتسكيو من قيمة العوامل الاقتصادية وراء سياسة جراتشي وقيصر، ولكن في نقابل مواطن الضعف هذه، فأن نظرة أوسع لا بد أن تحيط ببلاغة الكتاب وقوته وتركيز أسلوبه، ويعمق التفكير وأصالته، ومحاولة المؤلف الجريئة في أن يرسم في صورة واحدة ارتفاع وسقوط حضارة كاملة، ويرتفع بالتاريخ من مجرد سجل للتفاصيل إلى تحليل النظم ومنطق الأحداث. وهنا كان ثمة تحد للمؤرخين، كان على فولتير وجيبون أن يسعيا لمواجهته، كما كان هنا تلهف على فلسفة للتاريخ قد يحاول مونتسكيو نفسه، بعد جيل من الكد والجد أن يتبعه بكتاب "روح القوانين".

جـ- روح القوانين

مضت أربعة عشر عاماً بين ظهور كتاب "النظرات" وكتاب "روح القوانين" بدأ مونتسكيو أروع أعماله هذا حوالي 1729، وهو في سن الأربعين. وكان موضوع روما حصيلة جانبية أو ثانوية إعتراضية. وفي 1747 حين بلغ السادسة والخمسين لقي من العمل نصباً وكأن به ميلاً إلى تركه، "كثيراً ما شرعت في هذا الكتاب، وكثيراً ما طرحته جانباً. وقذغت بالأوراق التي كتبتها ألف مرة. "(76) وأهاب بالموزيات ربات الفنون والعلوم أن يرعينه ويساعدنه: "إن الدرب طويل، ولقد أضناني الأسى والإرهاق، أدخلن على قلبي البهجة والفتنة اللتين تدفعان بي إلى السير في الطريق، لقد عرفتهما يوماً، ولكنهما الآن تخلتا عني أنتن لستن مقدسات مطلقاً، إلا حين تتولين قيادنا، عن طريق اللذة والسرور، إلى الحكمة والحق"(77). ولا بد أن هؤلاء الربات استجبن لندائه، لأنه واصل العمل. ولما انتهت المهمة في خاتمة المطاف اعترف بتردده واعتداده بنفسه

ص: 158

وزهوه: لقد سلكت طريقي نحو الهدف دون إعداد خطة. ولم أعرف أية قاعدة ولا شواذ وما عثرت على الحقيقة إلا لافتقادها ثانية. ولكن عندما وقعت على الأصول والمبادئ ذات مرة وأتاني كل ما كنت أفتش عنه، وفي غضون عشرين عاماً، وجدت أن العمل قد بدأ وخطا خطوات ثم أشرف على الاكتمال، حتى أنجز

وإذا صادف هذا العمل نجاحاً، فأني سأكون مديناً به لعظمة الموضوع وجلاله. ومهما يكن من أمر، فلست أظن أني كنت مفتقراً إلى العبقرية كل الافتقار، ولما رأيت كم من عظماء الرجال في فرنسا وألمانيا طرقوا هذا الموضوع قبلي، تملكتني الحيرة إعجاباً بهم، ولكن لم أفقد شجاعتي ولم يزايلني الإقدام، وقلت مع كوريجيو "وأنا أيضاً رسام"(78).

وعرض المخطوطة على هلفشيوس وهبنولت وفونتبيل، ورأى هذا الأخير أن البحث يفتقر إلى طلاوة الأسلوب الفرنسي. (79) وتوسل هلفشيوس إلى المؤلف ألا يسيء سمعته الطيبة بوصفه متحرراً بنشر كتاب يتساهل إلى هذا الحد مع كثير من المعتقدات المحافظة المتمسكة بالقديم (80). وقرر مونتسكيو أن هذه التحذيرات غير ذات موضوع، وتقدم للطبع. ولما كان يخشى الرقابة الفرنسية فانه أرسل المخطوطة إلى جنيف، وهناك صدر الكتاب 1748 في مجلدين، دون ذكر اسمه. وحين كشف رجال الدين الفرنسيون عن هرطقاته شجبوه وصدر أمر الحكومة بمنع تداوله في فرنسا. وفي 1750 تولى مالشرب-منقذ دائرة المعارف فيما بعد-شئون الرقابة، رفع الحظر عن الكتاب، وسرعان ما شق طريقه وصدرت منه وعشرون طبعة في عامين، وسرعان ما ترجم إلى لغات أوربا المسيحية.

وكانت العنونات على أيام مونتسكيو توضيحية حقاً، دقيقة غالباً. ولذا سمى كتابه "في روح القانون" أو "في العلاقات التي يجب أن تقوم بين القوانين وبين دستور كل حكومة، والعادات والمناخ والديانة والتجارة، وغيرها". وكان بحثاً في العلاقات بين القوى المادية والأنماط الاجتماعية، وفي

ص: 159

العلاقات المتبادلة بين مكونات الحضارة. وحاول أن يضع الأساس لما يمكن أن نسميه الآن علم الاجتماع العلمي": أي-على غرار البحث في العلوم الطبيعية-التمكن من الوصول إلى نتائج محققة يمكن إثباتها، تلقى الضوء على المجتمع الحاضر، إلى تنبؤات مشروطة للمستقبل، وكان عسيراً بطبيعة الحال، على رجل واحد أن يتمه مع قصر العمر، والأوضاع الحالية للأثنولوجيا (علم الأعراق البشرية) والتشريع والتأريخ.

وبمعنى أدق، كانت فكرة مونتسكيو أن روح القوانين "-أي أصلها وطبيعته ونزعتها-إنما يحددها أولاً مناخ البلاد وتربته، ثم فسيولوجية الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. وبدأ بتعريف عريض: إن القوانين بأوسع معانيها وأكثرها تعميماً هي العلاقات الضرورية التي تنشأ عن طبيعة الأشياء وواضح أنه أراد أن يأتي "بالقوانين الطبيعية" في العالم المادي، والاطرادات القياسية في التاريخ، تحت مفهوم عام واحد. وعلى غرار جروشيوس وبوفندروف وغيرهما ممن سبقوه، ميز مونتسكيو بين عدة أنواع من القوانين: 1 - القانون الطبيعي، الذي عرفه بأنه "عقل إنساني، بقدر ما يحكم شعوب الأرض بأسرها" (81) أي "الحقوق الطبيعية" لكل الناس بوصفهم كائنات وهبت عقلاً. 2 - قانون الأمم في علاقاتها بعضها ببعض. 3 - قوانين سياسية تحكم العلاقات بين الفرد والدولة. 4 - القانون المدني علاقات الأفراد بعضهم ببعض.

وذهب مونتسكيو إلى أنه في الأطوار الأولى للمجتمع البشري كان العامل الحاسم في القوانين هو التضاريس الأرضية: أهي غابة أم صحراء أم أرض منزرعة؟ أهي أرض داخلية أم ساحلية؟ أهي جبال أم سهول؟ وما هو نوع التربة وطبيعة الغذاء الذي تنتجه؟ وصفوة القول أن المناخ أول العوامل وبالدرجة الأولى أقوى العوامل في تحديد اقتصاد الشعب وقوانينه (وشخصيته القومية). (إن بودين في القرن السادس عشر سبق مونتسكيو إلى هذا التوكيد الأولى كما تبعه فيه بكل في القرن التاسع عشر). تأمل على سبيل المثال الفوارق المناخية، ونتيجة لها الفوارق البشرية، بين الشمال والجنوب:

ص: 160

إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة

وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة: وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة، وشعوراً أكبر بالتفوق، أي رغبة أقل في الانتقام، وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة وقدراً أقل من الارتياب ومن الدهاء السياسي والمكر. لقد شهدت الأوبرا في لإنجلترا وفي إيطاليا حيث رأيت نفس الروايات ونفس الممثلين، ومع ذلك فإن نفس الموسيقى حدثت آثاراً متباينة في كل من الأمتين، فإحداهما فاترة رابطة الجأش، والثانية نشيطة منتعشة مبتهجة

وإذا نحن سافرنا إلى الشمال لالتقينا بأناس قلت رذائلهم وكثرت فضائلهم

وإذا نحن اقتربنا من الجنوب لتخيلنا أننا نبتعد كل الابتعاد عن حدود الأخلاق، حيث تؤدي أقوى الانفعالات والأهواء إلى شتى أنواع الجرائم، حيث يبذل كل إنسان أقصى الجهد، إذا واتته الظروف، أن يحقق رغباته الجامحة

".

وفي البلاد الحارة نجد الماء الموجود في الدم يضيع إلى حد كبير بسبب العرق، ومن ثم يجب تعويضه بسائل مماثل، وللماء هناك فوائد جمة، وقد تعمل المشروبات القوية على تخثير كريات الدم الذي يتبقى بعد تبخر الرطوبة المائية. أما في البلاد الباردة فالماء المختلط بالدم قليلاً ما يفقد بالعرق، ومن ثم يجدر أن يستفيدوا من المشروبات الروحية التي بدونها قد يتخثر الدم

ومن ثم نجد أن تحريم الشريعة الإسلامية للخمر يلائم بلاد العرب. والقانون الذي حرم على القرطاجيين شرب الخمر قانون مناخي. ومثل هذا القانون لا يصلح للبلاد الباردة حيث يبدو أن المناخ يفرض عليهم لوناً من الإدمان على المسكرات بشكل عام

وينتشر شرب الخمر على قدر البرودة والرطوبة في الجو (82). أو تأمل العلاقة بين المناخ والزواج: إن الإناث في البلاد الحارة يكن صالحات للزواج في سن الثامنة أو التاسعة أو العاشرة

ويهرمن في سن العشرين، ومن ثم فإن عقلهن لا يقترن بجمالهن. وإذا تطلب الجمال السيطرة والتسلط أفسد العقل هذا المطلب. وإذا تحلين بالعقل تجردن من الجمال .. ومن ثم ينبغي أن تكون

ص: 161

هؤلاء السيدات في حالة من التبعية، لأن العقل في الشيخوخة لا يمكن أن يوفر السيطرة التي لم يستطع حتى الشباب والجمال أن يحققاها. ولهذا كان طبيعياً إلى أبعد الحدود في هذه البلاد، إذا لم يكن ثمة قانون يمنع، أن يترك الرجل زوجة ليتزوج بأخرى وأن يباح تعدد الزوجات.

وفي المناخ المعتدل. حيث تحتفظ النساء بمفاتنهن على أكمل وجه، وحيث يتأخر بلوغهن سن النضج، وينجبن في مرحلة متقدمة من الحياة، نجد أن الشيخوخة أزواجهن تتبع شيخوختهن إلى حد ما، وحيث أنهن كن يتمتعن بقدر أكبر من العقل والمعرفة عند الزواج (أكبر من مثيلاتهن في الأقاليم شبه المدارية)، فإن هذا يستوجب وجود نوع من المساواة بين الجنسين، وقانون الاقتصار على زوجة واحدة تبعاً لذلك. وهذا هو السبب في أن الإسلام (مع نظام تعدد الزوجات) دخل بسهولة واستقر في آسيا بقدر ما امتد بصعوبة إلى أوربا، وأن المسيحية استقرت في أوربا وتحطمت في آسيا. وقصارى القول، هذا هو السبب في أن الإسلام أحرز مثل هذا التقدم في الصين، على حين لم تتقدم المسيحية إلا قليلاً (83).

وعند هذه النقطة يتبين مونتسكيو أنه أحل المناخ محل العناية الإلهية عند بوسويه، ويسارع فيضيف إكراماً للرب، احتراساً منقذاً: إن عقول البشر على أية حال خاضعة للعلة الأسمى، الله، الذي يفعل ما يشاء، ويخضع كل شيء لإرادته. وظن بعض اليسوعيين أن مونتسكيو قد عراه الخجل.

وسرعان ما تابع تعميماته الطائشة. ففي "الشرق"، (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يرغم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يعرض تعدد الزوجات وأحاد به الزواج على حد سواء للخطر إذا أطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في (بلادنا في الشمال حيث عادات النساء فاضلة بطبيعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل قدر من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته)(84). إنها لمتعة أية متعة أن تعيش في مثل هذه

ص: 162

الأجواء التي تبيح الحديث وحيث الجنس اللطيف البالغ للفتنة يبدو أنه يزين المجتمع، وحيث الزوجات اللاتي تقتصر الواحدة منهن نفسها على إسعاد رجل واحد، ويسهمن في إدخال السرور والبهجة على الجميع (85)).

والعادات والأعراف نتائج مباشرة للمناخ أكثر من القوانين، لأن القوانين ينبغي أن تحاول في بعض الأحيان مقاومة آثار المناخ. وذلك أنه بتقدم الحضارة تتحكم الضوابط الأخلاقية أو القانونية-وينبغي لها أن تتحكم-في العوامل المناخية، مثال ذلك عزل المرأة وحجابها في الشرق. ويهدف أحكم المشرعين إلى موازنة (الأسباب الطبيعية). والعادات والأعراف وظيفة الزمان والمكان، وليس ثمة عادة أو عرف خطأ أو صواب أو أنه الأفضل في حد ذاته. والعرف، في الجملة خير قانون، لأنه تكيف طبيعي بين الشخصية والموقف، ويجدر بنا أن نتأنى ونسير بخطى وئيدة في تغيير العادة والعرف. وتأبى العادة أن تتبدل بالقانون عادة (86).

وحيث أن المواطن يحدد العادة التي تحدد بدورها الخلق القومي فإن شكل الحكومة لا بد أن يختلف من كان إلى مكان تبعاً لهذا المركب الثلاثي. وهي تتوقف بصفة عامة على مدى سعة الرقعة الحكومية: فالجمهورية تنسجم مع رقعة صغيرة من الأرض، يستطيع زعماء المواطنين فيها أن يجتمعوا للتشاور وللتداول أو العمل، فإذا اتسعت الرقعة تطلبت مزيداً من الحروب، وخضعت للحكم الملكي. وتتحول الملكية إلى استبدادية إذا حكمت رقعة شاسعة أكثر مما ينبغي لأن السلطة الاستبدادية وحدها هي التي تستطيع المحافظة على خضوع حكام المقاطعات لسلطانها (87). ويجدر أن تركز الملكية على (الشرف)، أعني أنه يجب تصنيف سكانها في مراتب، كما يجب أن يكون مواطنوها متحمسين غاية التحمس لألقاب الشرف والأوسمة وتفضيلهم أو إيثارهم بالحظوة. أما الجمهورية فيجدر أن تقوم على نشر (الفضيلة) على أوسع نطاق، ويعرف مونتسكيو الفضيلة على طريقته الخاصة بأنها (حب الإنسان لبلده-أعني حب المساواة (88).

ص: 163

وقد تكون الجمهورية أرستقراطية أو ديموقراطية تبعاً لطريقة حكمها: هل يتولاه قسم من المواطنين أو كلهم. ويعجب مونتسكيو بفنيسيا (البندقية) كجمهورية أرستقراطية. وبمدن الدول القديمة على أنها ديموقراطية وهو يعلم ولكن يتجاهل أن المواطنين المحررين ليسوا إلا أقلية. ويمتدح الحكم الذي أقامه وليم بن في أمريكا. ويمتدح في حماسة أكبر إنشاء المناطق الشيوعية الدينية التي أسسها اليسوعيون في باراجواي (89). والحق يقال على أية حال إن الديموقراطية الأمينة الحقة لا بد أن تحقق المساواة الاقتصادية والسياسية معاً، وأن تنظم المواريث والمهور، وتعمل على فرض الضريبة التصاعدية على الثروات (90). أن خير تلك الديموقراطيات هي التي يعترف فيها مواطنوها بعجزهم عن تحديد السياسة التي تنتهجها بلدهم، ومن ثم يقرون السياسة التي يحددها ممثلوهم الذين انتخبوهم. وينبغي على الدولة الديموقراطية أن تهدف إلى المساواة ولكن يمكن أن تدمرها روح المساواة المتطرفة، حين يسعد كل مواطن أن يكون في مستوى أولئك الذين اختارهم ليأتمر بأمرهم

وإذا كان هذا هو الوضع فلن تقوم للفضيلة قائمة في الجمهورية. فهنا يكون المواطنون راغبين كل الرغبة في ممارسة مهام الحكام الذين لا يعود أي توفير أو احترام. وهنا يكون الاستخفاف بمداولات السناتو، ومن ثم لا يكون هناك احترام لأعضائه، ولا احترام لكبر السن، وإذا انعدم التقدير والاحترام لكبر السن انعدم تبعاً لذلك الإذعان للوالدين أو الأزواج والامتثال للرؤساء.

وسرعان ما تتفشى هذه الظاهرة. إن الناس إذ يصابون بهذا البلاء محاولين التستر على فسادهم، يسعون إلى إفساد من وضعوا ثقتهم فيهم

وعندئذ يقتسمون الأموال العامة فيما بينهم، فإذا استثاروا بإدارة الأمور بالإضافة إلى تكاسلهم وتراخيهم، انصرفوا إلى مزج فقرهم بشيء من لهو الترف (91).

وهكذا يقول البارون، مردداً قول أفلاطون عبر ألفين من السنين: تنقلب الديموقراطية إلى فوضى. ثم إلى دكتاتورية، ثم تنهار.

ص: 164

وهناك في مونتسكيو أجزاء كثيرة تحبذ الجمهورية الأرستقراطية، ولكنه خشي الاستبدادية التي ذهب إلى إمكان قيامها في الديموقراطية إلى حد أنه كان يريد الصبر عليها أو تحملها إذا كانت هذه الجمهورية تحكم وفقاً لقوانين راسخة. ويعالج أقصر فصول كتابه الحكم المطلق الاستبدادي وهو يتألف من ثلاث مقالات قصيرة:"إذا أراد متوحشوا لويزيانا ثماراً قطعوا الشجرة من جذورها ليجمعوا الثمار، وهذا رمز للحكومة الاستبدادية (92) " أي أن الحاكم المستبد يستأصل أعظم الأسرات كفاية ومقدرة ليحمي قوته وسلطانه. وكانت الأمثلة التي أوردها لهذا شرقية بشكل يطمئن إليه، ولكن كان من الواضح أنه يخشى نزوع ملكية البوربون إلى الاستبداد، حيث كان الكاردينال ريشيليو ولويس الرابع عشر قد دمرا قوة الأرستقراطية السياسية. وتحدث عن ريشيليو وكأنه "مأخوذ بحب السلطة المطلقة (93) ". أنه كره أشد الكراهية بوصف كونه نبيلاً فرنسياً، أن يهبطوا بمكانة طبقته إلى مجرد أفراد في الحاشية الملكية، واعتقد أن بعض القوى المتوسطة الخاضعة التابعة، ضرورة لحكومة صحيحة وكان يعني بهذه القوى النبلاء مالكي الأرض والحكام الوراثيين، وكان ينتسب إلى كليهما. ومن ثم دافع النظام الإقطاعي بتفصيل شديد (1753 صفحة)، مضحياً بوحدة كتابه وتناسقه. إن مونتسكيو هو الوحيد من بين فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر الذي امتدح نظام العصور الوسطى، واتخذ من لفظة "قوطي"، تعبيراً عن الثناء والإطراء. وفي الصراع الذي استمر طوال حكم لويس الخامس عشر بين الملكية والبرلمانات اتخذ الحكام الذين يعدون للمعركة مصنعاً للحجج والأسانيد في "روح القوانين".

إن نفور مونتسكيو من الحكومة المطلقة مطية للحكم المطلق أدى به إلى تحبيذه حكومة مختلطة: فيها ملكية وأرستقراطية وديموقراطية معاً-ملك ونبلاء وجمعية عامة. ومن هنا كان أشهر آرائه، نظرية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة (94). فالسلطة التشريعية تسن

ص: 165

القوانين لكن لا تتولى تنفيذها، وتتولى السلطة التنفيذية القيام على تنفيذها ولكن لا تسنها. وتقتصر السلطة القضائية على تفسيرها. "وتضم السلطة التشريعية مجلسين، مجلس يمثل الطبقات العليا، وآخر بمثل العامة. وهنا يتحدث البارون ثانية.

في مثل هذه الدولة يوجد دائماً أناس يتميزون بحكم مولدهم وثرواتهم وألقابهم، فإذا تساووا وخلطوا بعامة الشعب، فلا يكون لهم إلا صوت واحد مثل الباقين، فإن الحرية العامة تكون بمثابة استرقاق لهم، ومن ثم يفقدون اهتمامهم بمساندة الحكم، وتكون معظم القرارات الشعبية في غير مصلحتهم. ويجدر أن يتناسب نصيبهم مع سائر امتيازاتهم في الدولة، وهذا يحدث فقط حين يشكلون هيئة في الدولة يكون لها الحق في مقاومة إساءة استعمال الشعب للسلطة في الدولة، كما يكون للشعب الحق في مقاومة أي اعتداء على حرية الشعب. ومن هنا تكون السلطة التشريعية في أيدي النبلاء وأيدي الذين ينتخبهم الشعب، على أن يكون لكل هيئة اجتماعية ومداولاتها منفصلة عن الأخرى، ولكل صلاحياتها وآراؤها (95) ".

وتكون كل من الهيئات الثلاث وكل من المجلسين رقيباً بعضهم على بعض، وبهذه الطريقة المعقدة تلتئم حريات المواطن مع حكمة الحكومة وعدالتها ونشاطها.

وكانت هذه الأفكار عن الحكومة المختلطة قد انحدرت إلى مونتسكيو من دراسته لهارنجتون وألجرنو وسيدني ولوك، ومن الخبرة التي اكتسبها في لإنجلترا. إنه ذهب إلى أنه وجد هناك مثله الأعلى مهما كان منقوصاً، في ملكية تكبح جماحها ديموقراطية في مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقراطية في مجلس اللوردات. وظن أن المحاكم في إنجلترا هي بمثابة كابح مستقل لجماح البرلمان والملك وامتدح ما كان قد رأى في إنجلترا رقابة نشتسترفيلد وغيره من النبلاء ولكنه مثل فولتير استخدم هذا الشكل المثالي حافزاً لفرنسا. ولا بد أنه عرف أن المحاكم الإنجليزية ليست مستقلة تمام الاستقلال عن البرلمان، ولكنه ذهب إلى أنه من الخير لفرنسا أن

ص: 166

تفكر في الأخذ بحق المتهمين في إنجلترا تحقيق عاجل، أو إطلاق سراحهم بكفالة، ومحاكمتهم أمام محلفين من طبقتهم، مع تحدي الاتهام، وإعفائهم من التعذيب، ولكنه رأى كذلك "ألا يدعى النبلاء للمثول أمام المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم. "إنهم كذلك لهم الحق في محاكمتهم أمام نظرائهم (96) ".

إن مونتسكيو أصبح محافظاً أكثر فأكثر مع تقدمه في السن. إن روح المحافظة على القديم رسالة والتزم في الشيخوخة، كما أن الراديكالية، (التطرف) رسالة نافعة في الشباب، والاعتدال هبة وخدمة في أواسط العمر، ومن ثم كان لنا دستور في ذهن أمة، بما فيه من سلطات ذات وقيود وضوابط متبادلة وعرف مونتسكيو الحرية مع كل تمجيد لها بوصفها الهدف الصحيح للحكومة، بأنها" حق كل إنسان في عمل ما تجيزه القوانين فإذا أتى مواطن شيئاً تحرمه القوانين، فإنه لا يعود يتمتع بالحرية. لأن سائر المواطنين يمكن أن يكون لهم نفس الصلاحية (97) ". واتفق مع زميليه جاسكون ومنتاني، على استنكار الثورات. "إذا ثبت شكل الحكومة واستقر منذ أمد بعيد، وبلغت الأمور حداً معيناً من الثبات والاستقرار، فإنه من الحكمة تقريباً أن تترك الأمور كما هي، لأن الأسباب-هي غالباً معقدو أو غير معروفة-التي هيأت لها الصمود والثبات، سوف تستمر في الإبقاء عليها (أي على هذه الحكومة (98)).

ورفض فكرة المساواة في الملكية أو السلطة ولكنه فكر، مثل جراتسي في تركيز ملكية الأرض: "من الأرض التي تكفي لتغذية أمة

لا تكاد تحصل عامة الشعب على ما يقوت أسره

فإن رجال الدين والأمير والمدن وعظماء الرجال وبعض البارزين من المواطنين يصبحون دون أن يحسوا ملاكاً لكل الأرض التي تبقى غير منزرعة. وتهجر الأسرات التي دمرت مزارعها، والرجل الكادح معدم فقير. وفي هذا الوضع يجدر بالهيئة الحاكمة أن توزع الأرض بين الأسرات المحتاجة وتوفر لها المواد والأدوات اللازمة لإصلاحها وزراعتها، وينبغي أن يستمر التوزيع ما دام هناك من يتسلمها (99).

ص: 167

واستنكر زراعة الأرض من أجل جباة الضرائب لحساب رجال المال الخصوصيين، واستنكر الرق بشدة في حماسة أخلاقية وتهكم لاذع (100). واعترف بالضرورة الطارئة للحرب، وامتد بمفهوم الدفاع إلى إجازة-المسارعة إلى الاستيلاء على الأراضي: إن حق الدفاع الطبيعي قد ينطوي أحياناً بالنسبة لدولة ما على ضرورة الهجوم، كما يرى بعضهم على سبيل المثال أن حفظ السلام قد يمكن دولة أخرى من تدمير هذا السلام، وعندئذ يكون غزو هذه الأمة الأخيرة هو السبيل الوحيد للحيلولة بينها وبين تدمير السلام (101).

ولكنه استنكر سباق التسلح: ولقد ساد الاضطراب من جديد كل أوربا، فأصاب أمراءها وأغراهم بحشد قوات هائلة، ولهذا مضاعفاته، ويصبح بالضرورة معدياً، فإنه إذا شرع ملك في زيادة قواته، فإن الباقين بطبيعة الحال يحذون حذوه. ومن ثم لا نجني من هذا ألا الدمار الشامل (102).

وعلى الرغم من أنه قدر الروح الوطنية أكبر تقدير إلى حد أنه سوى بنها وبين الفضيلة، إلا أنه راوده في بعض الأحيان حلم مبادئ أخلاقية أرحب أفقاً:"إذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي ولكنه يضر بأسرتي، فينبغي علي ألا أقدم عليه، وإذا علمت أن ثمة شيئاً نافعاً لشخصي، ولكنه يضر بأسرتي، وليس لوطني، فيجدر بي أن أحاول أن أنساه، وإذا رأيت أن شيئاً ذا فائدة لوطني، ولكنه يضر بمصلحة أوربا والجنس البشري فلا بد أن أعتبره جريمة رسمية (103) ".

إن غاية ما يصبو إليه من مبادئ أخلاقية وديانة خفية هو مذهب الرواقيين القدامى: "لم توجد قط مبادئ أكثر منها التئاماً مع الطبيعة البشرية ولا أقوم منها لبناء المواطن الصالح

وإذا استطعت أن أتخلى عن المسيحية لحظة لوصفت القضاء على مذهب زينون مؤسس مذهب الرواقيين محنة من بين المحن التي ابتلى بها الجنس البشري

إن هذا المذهب وحده هو الذي صنع المواطنين، وهو وحده الذي صنع عظماء الرجال وهو وحده الذي صنع الأباطرة. وإذا نحينا جانباً الحقائق التي

ص: 168

كشف عنها لحظة، وفتشنا في الطبيعة كلها فإننا لن نجد شيئاً أسمى من الانطوانيين، حتى ولا جوليان نفسه (وهو إطراء انتزع مني أرجو ألا يجعلني شريكاً في جريمة الردة).

كلا، لم يوجد قط منذ عهده أمير أجدر بحكم الجنس البشري (104). وواضح أن مونتسكيو حرص في "روح القوانين" على مسالمة المسيحية. إنه اعتراف بوجود الله-فأي حمق أفظع من قضاء وقدر أعمى خلق كائنات ذكية (105). ولكنه تصور هذا العقل الأسمى كما عبرت عنه قوانين الطبيعة، وهو لا يتدخل فيها مطلقاً. قال فاجيه "إن الله بالنسبة لمونتسكيو هو روح القوانين (106) "، وقبل المعتقدات الخارقة للطبيعة دعامة ضرورية لقانون أخلاقي لا يلتئم مع طبيعة الإنسان. "ومن الخير أن يكون هناك بعض كتب مقدسة لتكون شريعة مثل القرآن عند المسلمين، وكتب زرادشت عند الفرس، والفيدا عند الهنود، والكتب القديمة عند الصينيين. وإن الشرائع الدينية تكمل القوانين المدنية، وتحدد مدى السيطرة الاستبدادية (107) ". وينبغي أن تكون الدولة والكنيسة رقيبة كل منهما على الأخرى، كما ينبغي أن تظل كل منهما منفصلة عن الأخرى. وهذا التفريق الكبير بينهما هو أساس هدوء الأمم (108)". ودافع مونتسكيو عن الدين ضد بيل (109). ولكنه أخضعه، مثل أي شيء آخر لتأثير المناخ والخلق القومي: "إن حكومة معتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، والحكومة المستبدة أصلح للعالم الإسلامي. وإذا اختيرت ديانة تلائم مناخ بلد ما، تتعارض مع مناخ بلد آخر فإن هذه الديانة لن تقوم في هذا البلد الثاني، وإذا أدخلت كان مآلها النبذ والرفض (110) .... والمذهب الكاثوليكي أكثر ما يكون توافقاً مع الملكية، والبروتستانتية مع الجمهورية .... وإذا انقسمت المسيحية لسوء الحظ إلى كثلكة وبروتستانتية، فإن أهل الشمال يعتنقون البروتستانتية، على حين يظل أهل الجنوب متمسكين بالكاثوليكية. والسبب واضح. فإن أهل الشمال يتمسكون، وسيظلون يتمسكون إلى الأبد بروح الحرية والاستقلال، وهذا ما لا يتمتع به أهل الجنوب. فإن الديانة التي لا يكون لها رئيس بارز هي أكثر ملاءمة لهم (111).

ص: 169

وعلى حين سلم مونتسكيو بمزايا الدين إجمالاً فإننا نراه يسهب في نقده، واستنكر شراء رجال الدين في فرنسا (112). ودون "أفظع احتجاج على محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، لوقف إحراق المهرطقين، وحذرهم من أنه "إذا تجرأ أحد في الأجيال القادمة أن يثبت أن الناس في أوربا في عصرنا كانوا متحضرين، فإنه لا بد أن يمثل أمام القضاء ليثبت أنهم كانوا متبربرين (113)" وسخر بوصفه قوطياً محباً لوطنه، من عصمة البابا من الخطأ وألح في أن تكون الكنيسة خاضعة للسلطة المدنية، واتخذ بالنسبة للتسامح الديني موقفاً وسطاً: "إذا كان للدولة مطلق الحرية في اعتناق أو نبذ أي دين جديد، فينبغي أن ترفضه، فإذا اعتنقته وجب عليها أن تتسامح معه (114). ومع كل احترامه للرقيب ظل مونتسكيو عقلانياً "فالعقل هو أكمل وأكرم وأجمل ملكتنا (115) ". وماذا يقدم عصر العقل شعاراً أفضل من هذا؟.

د - النتيجة

ما أسرع ما اعترف الناس "بروح القوانين" حدثاً ضخماً في الأدب الفرنسي، ولكن النقاد تلقفوه عن اليمين وعن الشمال. فالجانسنيون واليسوعيون، وهم على طرفي نقيض عادة، اتفقوا على مهاجمته على أنه رفض ماكر خبيث للمسيحية. وقالت جريدة "أخبار الكنيسة" وهي لسان حال أتباع جانسن:"إن الجمل المعترضة التي يضعها المؤلف ليقول لنا أنه مسيحي تؤكد لنا توكيداً هزيلاً أنه كاثوليكي، وإن المؤلف ليسخر من سذاجتنا إذا حسبناه على غير ما هو عليه". وختم المحرر حديثه بنداء وجهه إلى السلطات المدنية باتخاذ إجراء ضد الكتاب (116). واتهم اليسوعيون مونتسكيو باتباعه فلسفة سبينوزا وهوبز، بافتراضه وجود قوانين في التاريخ مثلما هي في العلوم الطبيعية، ولم يترك مجالاً لحرية الإرادة. ودافع الأب برتييه في صحيفة "تريفو" اليسوعية عن أن الحق والعدل مطلقان، وليسا نسبيين تبعاً للمكان والزمان، وإن القوانين يجب أن ترتكز على مبادئ عامة من الله، لا على تنوعات المناخ والتربة والعرف والخلق القومي (117)

ص: 170

ورأى منتسكيو أنه من الحكمة أن يصدر في 1750 "دفاعاً عن روح القوانين"، تتصل فيه من الحاد والمادية والجبرية، وأكد من جديد مسيحيته. ولكن رجال الدين ظلوا غير مقتنعين.

وكان الفلاسفة الناشئون في ذات الوقت مستائين، حيث اعتبروا روح القوانين كتيباً في المحافظة على القديم، واستاءوا من روعه العارض واعتدال إصلاحاته المقترحة، ومفهومه الهزيل الفاتر على التسامح الديني (118). وكتب هلفشيوس إلى مونتسكيو يعنفه على تركيزه السديد على أخطار التغيير الاجتماعي والمصاعب التي تعترضه (119). أما فولتير الذي كان يعد كتابه عن الفلسفة التاريخ في البحث "في الأعراف"، فإنه لم يكن متحمساً لعمل مونتسكيو. ولم يكن قد نسي معارضة السيد الرئيس لانضمامه إلى الأكاديمية بقوله: عار على الأكاديمية أن يكون فولتير عضواً فيها، وسيكون العار عليه يوماً ما ألا يكون عضواً فيها (120) ".

وتوقف نقد فولتير تحت ضغط الظروف، وتحول إلى إطراء غير متحمس واعتراض بأن مونتسكيو كان مبالغاً في تأثير المناخ. ولاحظ أن المسيحية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارصة البرد، ورأى أنه من الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية لأن آن بولين كانت جميلة، لا لأن هنري الثامن كان فاتراً (121). وإذا كانت روح الحرية نشأت-كما ذهب إليه مونتسيكو، في الأقاليم الجبلية، فكيف تفسر قيام الجمهورية الهولندية القوية، أو "حق اعتراض"، اللوردات البولنديين (وفي القاموس الفلسفي) دون صفحات كثيرة تتضمن أمثلة تدل على أن للمناخ بعض الأثر، ولكن للحكومة أثراً كبر منه مائة مرة ولكن للديانة والحكومة معاً، أثراً أكبر من هذا بكثير (122)). إننا لنسأل الذين يؤمنون بأن المناخ يفعل كل شيء (لم يزعم مونتسكيو هذا) لماذا يقول الإمبراطور جوليان في رسائله إن الذي سره في الباريسيين هو خلقهم الوقور وعاداتهم الصارمة، ولماذا نرى الباريسيين الآن، دون أدنى تغيير في المناخ، أطفالاً لعوبين هازلين، وهو أمر تعاقبهم عليه الحكومة وتسخر

ص: 171

منهم من أجله، وفي نفس الوقت، كما أنهم هم أنفسهم يسخرون، في لحظة تالية من سادتهم ويهجونهم هجاء لاذعاً (123).

ووجد فولتير الجواب:

إنه الانقباض أو الاكتتاب، وهو عكس ما يرددونه في كثير من الإستشهادات والحكم والمثال، ولكنه دائماً الحقيقة تقريباً

"فالناس في المناطق الحارة جبناء مثل العجائز، أما في المناخ البارد فهم شجعان مثل الشبان". "إننا يجدر بنا أن نكون على حذر من أن بعض القضايا العامة. تفلت منا، وما كان في مقدور أحد أن يجعل من سكان لابلند أو الأسكيمو محاربين على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها (124).

ثم يمتدح فولتير "روح القوانين" فيقول: "بعد أن أقنعنا أنفسنا على هذا النحو بأن الأخطاء كثيرة في، "روح القوانين

" وأن هذا العمل ينقصه النهج، كما تعوزه خطة العمل والنظام، فقد يليق بنا أن نتساءل ما الذي أضاف عليه هذه القيمة الكبيرة، وأدى إلى شهرته العظيمة. إنه في المقام الأول مكتوب بذكاء عظيم، على حين أن من ألفوا في هذا الموضوع كانت كتاباتهم مملة تبعث على السأم والضجر. وعلى هذا الأساس رأت إحدى السيدات (مدام دي ديفان) وهي تتمتع بذكاء مثل ذكاء مونتسكيو أن الكتاب هو "الذكاء في القوانين"، وهو أصح تعريف له. وثمة سبب أقوى وهو أن الكتاب يعرض وجهات نظر أو آراء عظيمة ويهاجم الطغيان والخرافة والضرائب الفادحة

إن مونتسكيو كاد أن يكون على خلاف مع العلماء لأنه ليس عالماً، ولكنه كان دائماً على حق تقريباً ضد المتعصبين ومتعهدي الرقيق. أن أوربا مدينة له بالشكر والامتنان على الدوام (125).

وأضاف في موضع آخر: "إن الإنسانية كانت قد ضيعت أعمالها المجيدة (من أجل الحرية) واستردها مونتسكيو (126).

واتفق النقد المتأخر مع فولتير إلى حد كبير على حين اعترض على

ص: 172

مبالغاته (127). حقاً إن أسلوب الكتاب كان ضعيفاً، مع قليل من المنطق في ترتيب الكتاب وتسلسل موضوعاته ونسيان للفكرة الأساسية التي تحكم الربط بين أجزائه. وفي تحمس مونتسكيو ليكون عالماً، يجمع الحقائق ويفسرها، لم يعد فناناً. أنه ضيع الكل في الأجزاء، بدلاً من تنسيق الأجزاء في كل منسق. وكان قد قضى في جمع مادة الكتاب أكثر من نصف عمره، وكتبه في نحو عشرين عاماً، وأساء التأليف المتقطع إلى وحدة الكتاب، وتسرع في الوصول إلى أحكام عامة من أمثلة قليلة ولم يفتش عن أمثلة تنقضها-مثال ذلك أيرلندة الكاثوليكية في الشمال البارد ومن ثم يجب أن تكون بروتستانتية وتخلى من منهجه حين قال:"لقد وضعت المبادئ الأولى ووجدت أن الحالات الخاصة لا بد أن تكون صحيحة بالضرورة بشكل طبيعي، وأن تاريخ كل الأمم ليس إلا نتائج لهذه المبادئ "فهذا هو خطر تناول التاريخ بفلسفة يثبتها عن طريق هذا التاريخ وعند جمع مادة الكتاب قبل مونتسكيو كل بيانات السائحين دون تحقيق ولا تدقيق، وفي بعض الأحيان أخذ الخرافات والأساطير على إنها تاريخ، بل أن ملاحظاته المباشرة كان يمكن أن تكون خاطئة، ومن ذلك أنه رأى "فصلاً بين السلطات" وفي حكومة إنجلترا على حين أنه كان من الواضح أن السلطة التشريعية هناك كانت تغطي على السلطة التنفيذية.

وإلى جانب هذه الأخطاء لا بد أنه كان للكتاب مزايا أدت إلى الترحيب به وتأثيره. إن فولتير حدد أسلوبه بحق، على أن الأسلوب أيضاً عانى من شظايا المعلومات لا المعلومات الكاملة المستوفاة. وأولع مونتسكيو بالفصول القصيرة وربما كان هذا وسيلة للتركيز، مثال ذلك الفصل الذي كتبه عن الحكم الاستبدادي المطلق، مما أدى إلى التقطع وعدم الترابط مما عوق تدفق الفكرة. وربما كان جزء من عدم استيفاء البحث راجعاً إلى تفاقم ضعف بصره مما اضطره إلى الإملاء بدلاً من الكتابة. وعندما كان يتمتع بكامل قوته وحيويته حقق في عبارات قوية واضحة بعضاً من الإشراق والروعة في الرسائل الفارسية. ويروي فولتير أن في "روح القوانين من العبارات الساخرة أكثر مما يليق بكتاب في القانون. يقول

ص: 173

مونتسكيو "إن الناس فينيسيا مقترون غاية التقتير إلى حد أنه من أجل المومسات وحدهن يستطيع الرجال أن يغادروا البيت ومعهم نقود (128) ". وهذا، على الرغم من كل شيء، أسلوب وقدر معتدل هادئ وهو في بعض الأحيان غامض ولكنه يعوض عن حل الألغاز.

وكان مونتسكيو متواضعاً كما كان مصيباً في أنه أرجع جزءاً من قيمة الكتاب إلى موضوعه وهدفه. أنك لكي تعثر على قوانين في القوانين، وعلى نظام في تنوعها تبعاً للمكان والزمان، ولكي تعمل علة تنوير الحكام والمصلحين عن طريق دراسة مصادر التشريع وحدوده بالنسبة لطبيعة ومكان الدول والناس-فهذا عمل جليل ضخم تقتضي ضخامته وجلاله الصفح عن الزلات. وأخفق هربرت سبنسر في نفس هذا العمل بعد ذلك بمائة وثمانية وأربعين عاماً، وعلى الرغم من عدد كبير من المعاونين في البحث، وبسبب نفس الرغبة في استخلاص أحكام عامة، ولكن كلنا المحاولين كأننا زيادة في الحكمة. ولكن كتاب مونتسكيو كان. أفضل وهناك الناس سبقوه ولم يكن هو البادئ

(1)

بالتأليف في هذا الموضوع، ولكنه عجل بوضع المنهج التاريخي بقوة للدراسة المقارنة للنظم. ولقد سبق فولتير في وضع فلسفة للتاريخ مستقلة عن الأسباب الخارقة للطبيعة وبلغ آفاقاً واسعة ونزاهة في الرأي لم يبلغها فولتير. إن بيرك أطلق على مونتسكيو "أعظم عبقرية نورت هذا العصر (130) واعتبره بين تين أعقل وأحكم وأكثر الرجال اتزاناً في هذا العصر (131) ورأى هوراس ورلبول أن روح القوانين أحسن كتاب ظهر على الإطلاق (132) وقد لا يكون هذا صحيحاً ولكنه أحسن كتاب ظهر في هذا الجيل.

لقد أنهك هذا الكتاب مؤلفه. وكتب إلى أحد الأصدقاء: أعترف لك أن هذا الكتاب قتلني. سأخلد إلى الراحة ولن أعمل شيئاً بعد الآن (133)

(1)

أبقراط: الهواء والماء والأماكن. ارسطو: دساتير أثينا. ميكافيللي: المقالات. بودين: منهج لتيسير بعض المعلومات التاريخية.

ص: 174

وعلى الرغم من ذلك استمر يدرس ويبحث. وكان يقول "الدراسة بالنسبة لي هي خير علاج لكل خيبة أمل في الحياة. ولم أجد ضيقاً إلا فرج من كرته ساعة قضيتها في القراءة (134).

وزار باريس من حين لآخر وسعد بشهرته هناك التي كانت تضارع شهرة فولتير آنذاك (1748). ويقول رينال لقد جذب كتاب روح القوانين انتباه كل الشعب الفرنسي. إننا نجده في مكتبات علماءنا ودارسينا وعلى منضدة زينة سيداتنا وعند كل شبابنا المتأنق (135) ورحبوا بالمؤلف من جديد في الصالونات واستقبلوه في البلاط الملكي، ولكنه قضى معظم الوقت في لابيرد حيث قنع بأن يكون سيداً عظيماً. وسر الإنجليز بالكتاب أيما سرور حتى أنهم طلبوا من أعداداً وفيرة. وفي سنيه الأخيرة كاد أن يصاب بالعمى، وكان يقول "يبدو لي أن الأثير الخفيف من البصر الذي بقي لي ليس إلا فجر اليوم الذي تغلق فيه عيناي إلى الأبد (136) وفي 1754 قصد إلى باريس لإنهاء إيجار بيته هناك، ولكنه أثناء تلك الزيارة أصيب بالتهاب رئوي وقضى نحبه في 10 فبراير 1755 وهو في السادسة والستين وتناول الأسرار المقدسة الكاثوليكية. وكان الأديب الوحيد الذي شيع جنازته هو ديدرو وهو من أتباع مذهب اللاأدرية (137) وذاع صيته وامتد أثره على مر القرون. وكتب جيبون: "على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين لم يقبل الناس على قراءة كتاب أو نقده أكثر منه. وليست روح البحث والتحقيق التي أثارها أقل مآثر الكاتب علينا (138) " وكان جيبون وبلاكستون وبيرك من بين من أفادوا من روح القوانين وعظمة الرومان واضمحلالهم وعده فودريك الأكبر أحسن كتاب بعد كتاب الأمير، ورأت كثرين الكبرى أنه ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية لدى الملوك (139) واقتبست فقرات منه للرجال الذين عينتهم لمراجعة القوانين الروسية. ولم ينقل واضعوا مسودة الدستور الأمريكي عن مونتسكيو نظرية فصل السلطات فحسب بل استبعاد أعضاء الوزارة من الكونجرس كذلك

ص: 175

وتضمنت كتاباتهم كثيراً من الاقتباسات من الكتاب. وأصبح روح القوانين الكتاب المقدس عند الزعماء المعتدلين في الثورة الفرنسية تقريباً ونشأ عن كتاب عظمة الرومان واضمحلالهم بعض إعجابهم بالجمهورية عند الرومان. ويقول فاجيه أن كل الأفكار الحديثة العظيمة بدأت بمونتسكيو (141) وعلى مدى جيل من الزمان كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا.

ص: 176

الفصل الحادي عشر

‌فولتير في فرنسا

‌1 - في باريس

1729 -

1734

لدى عودة فولتير من إنجلترا في أواخر عام 1728 أو أوائل عام 1729 اتخذ مسكناً مغموراً في حي سان جرمان-ان لي-على بعد 11 ميلاً إلى الشمال الغربي من باريس، وحشد أصدقاءه لينشروا أنباء غير رسمية عن إلغاء قرار نفيه من فرنسا ثم من العاصمة، ونجحوا في هذا، بل في استعادة معاشه الملكي كذلك. وما حل شهر أبريل حتى ظهر فجأة، وأخذ يجول خلال العاصمة. وفي أحد الاجتماعات سمع أن العالم الرياضي كوندوا مين حسب أن من يشتري كل أوراق "اليانصيب" التي تصدرها باريس لا بد أن يحقق ثراء، فأسرع فولتير واقتراض نقوداً من رجال المصارف من أصدقائه. واشترى كل الوراق، فكان ما تنبأ به العالم الرياضي، ولكن المراقب العام للحسابات رفض الدفع، فرفع فولتير دعوى أمام القضاة وكسب القضية وتسلم المبلغ (1) وفي أخريات عام 1729 قطع 150 ميلاً في ليلتين ونهار واحد من باريس إلى نانسي ليشتري أسهماً في مشروع دوق اللورين، وعادت عليه هذه المغامرة بأرباح طائلة. وهكذا أعان فولتير مدبر الأعمال المالية فولتير الشاعر الفيلسوف.

نراه في 1730 مرة أخرى في باريس مفتوناً إلى حد الجنون بالمغامرات والمشروعات، وكان لديه عادة عدة أعمال أدبية قيد الإنجاز في وقت واحد، يتنقل من واحد إلى الآخر، ولذة الهوى في التنقل، دون أن يضيع وقتاً. وكان آنذاك يكتب رسائل عن الإنجليز وتاريخ شارل الثاني عشر "موت الآنسة ليكوفرير"، والصفحات الأولى في الغادة العذراء. وذات يوم 1730 اقترح عليه زوار الدوق دي ريشيليو وهم

ص: 177

يتحدثون عن جان دارك أن يكتب لها تاريخاً، ولم يكونوا بعد في فرنسا قد اعترفوا بها قديسة حامية لفرنسا. وبدا للمفكر الحر فولتير أن العناصر الخارقة للطبيعة في أسطورة جان دارك تشد انتباهه إلى معالجة تاريخها معالجة فكاهية. فتحداه ريشيليو أن يحاول ذلك، وكتب فولتير المقدمة في تلك الليلة، ولم تكن مرثيته في ليكوفرير قد نشرت بعد، ولكن صديقه الأخرق نيقولا ثيوريو كان قد قرأها على الملأ على أوسع نطاق. وأستأنفت الأصوات اللاهوتية البغيضة طنينها المزعج حول رأس فولتير.

وفي 11 ديسمبر وكأنما كان فولتير ظمآناً إلى كسب الأعداء، أخرج قصته لوسيوس جينيوس بروتوس الذي أطاح طبقاً لرواية ليفي بعرش الملك تاركينيوس وأسهم في إقامة الجمهورية الرومانية، وأنكرت المسرحية على الملوك قدسيتهم وعدم جواز انتهاك حرماتهم، ونادت بحق الشعب في تغير حكامه. وشكا الممثلون من أن الرواية خالية من فكرة الحب ووافقت باريس على أنها بدعة خرقاء سخيفة. وسميت المسرحية بعد عرضها 16 مرة. وبعد اثنتين وستين عاماً أعيد تمثيلها من جديد، لأن باريس كانت آنذاك تواقة إلى مشاهدة مقصلة لويس السادس عشر.

وفي نفس الوقت كان فولتير قد حصل على ترخيص ملكي بنشر "تاريخ شارل الثاني عشر ملك السويد". وهنا كان الموضوع لا يكاد يسيء إلى لويس الخامس عشر أو الكنيسة، كما يسر الملكة، لأن الرواية تناولت موقف أبيها ستانسلاس بشكل لائق كريم. وظهرت طبعة من 2600 نسخة في الوقت الذي ألغى فيه الترخيص الملكي دون سابق إنذار، وصودرت كل النسخ فيما عدا واحدة احتفظ بها فولتير. واحتج فولتير لدى حامل الأختام فأبلغ أنه قد حدث تغيير في السياسة الخارجية مما كان لزاماً معه إرضاء غريم شارل الثاني عشر وضحيته، وهو أوغسطس "القوي" الذي ما زال ملكاً على بولندة. وقرر فولتير أن يتجاهل أمر الحظر وانتقل متنكراً إلى روان وباشر طبع تاريخه سراً. وفي أكتوبر 1731 تداوله الناس في حرية مطلقة وأقبلوا على قراءته وكأنه قصص.

ص: 178

وذهب بعض النقاد إلى انه محشو بالخيال، واسماه بعض المؤرخين الواسعي الاطلاع رومانسية "في أسلوب مشرق بارع في السرد القصصي، ولكنه غير دقيق في التفاصيل (2) ولكن فولتير كان قد أعد الكتاب على طريقة الباحث المدقق إنه لم يطلع على وثائق الدولة فحسب بل إنه كذلك توقف ليستقي المعلومات من مصادرها الأصلية: الملك السابق ستانسلاس، ماريشال دي ساكس دوقة مالبرو، بولنجيروك، آكسل سبار (الذي اشترك في معركة نارفا) فونسيكا (طبيب برتغالي كان يعمل في تركيا أثناء وجود شالر هناك) والبارون فابريس (سكرتير شارل سابقاً). وأكثر من هذا فإن فولتير كان قد أقام فترة مع البارون فون جورتز وزير شارل ذي الحظوة لديه. وربما حول إعدام البارون 1719 نظر فولتير إلى دراسة أسد الشمال "وفي 1740 أشار جوران برج الذي كان قسيس شارل إلى الأخطاء التي وقع فيها فولتير، وقام فولتير بتصويب هذه الخطاء في الطبعات اللاحقة. وكانت هناك أخطاء أخرى وبخاصة في الوصف التفصيلي للمعارك. وجادل النقاد المتأخرون (3) في أن فولتير بالغ في تقدير شارل على "إنه الرجل الأكثر استثناء وخرقاً للعادة الذي ظهر على الأرض" وجمع في شخصيته بين أعظم مناقب أسلافه. ولا عيب فيه ولا ينغص عليه حياته إلا أنه جمع بين هذه المناقب في إفراط زائد (4) وربما تخفف الكلمة الأخيرة من حدة النقد، فقد أوضح فولتير أن شارل جاوز الحد وافرط في التحلي بهذه المناقب البطولية حتى أصبحت عيوباً وعددها، ومنها التبذير والتهور والقسوة وعدم القدرة على المغفرة والصفح. كما أوضح كيف أن أخطاء الملك قد أضرت بالسويد. وانتهى إلى أن شارل "كان رجلاً شاذاً استثنائياً لا رجل عظيماً (5) "وعلى أية حال لم يكن الكتاب عملاً ثقافياً فحسب، بل عملاً فنياً كذلك-من حيث التركيب والشكل والحيوية والأسلوب-وسرعان ما أقبل كل المتعلمين في أوربا على قراءة شارل الثاني ملك السويد وذاعت شهرة فولتير إلى حد لم يسبق له مثيل.

وأصبح فولتير بعد عودته من روان (5 أغسطس 1731) ضيفاً مقيماً

ص: 179

على الكونتيس دي فونتين مارتل في قصرها بالقرب من "الباليه رويال"، وقد وجدت في رفقته سعادة بالغة حتى ظلت تؤويه وتطعمه حتى مايو 1733 وترأس في حيوية شديدة ولائم العشاء الأدبية التي كانت تقيمها، ومثل المسرحيات وبخاصة مسرحياته هو على مسرحها الخاص. وفي أثناء إقامته هناك كتب نص "أوبرا شمشون" لرامو-وهو ملحن فرنسي في القرن الثامن عشر (1732) -ومن المحتمل أنه شهد من مقصورة الكونتيس في "المسرح الفرنسي" سقوط روايته "اريفيل" (1732) كما شهد النجاح الباهر الذي لقيته مأساة زائير (13 أغسطس 1732) فكتب إلى صديق له: "ما مثلت رواية بمثل الروعة التي مثلت بها زائير في عرضها الرابع. وكم وددت لو أنك كنت معي لتشهد أن الجمهور لم يسخط على صديقك، وظهرت في المقصورة، واتجهت كل الأيدي بالتصفيق لي، فأستحيت وخبأت نفسي. ولكني أكون مرائياً إذا لم اعترف لك بأني قد اهتزت مشاعري وتأثرت كثيراً (6).

وظلت هذه المسرحية أحب مسرحياته إليه حتى النهاية. إنها كلها ليس لها وجود الآن، قضى عليها تغير الأذواق والأمزجة والأسلوب، ولكنا بجدر بنا أن نبعث إحداها على الأقل من قبرها، لأنها لعبت جميعاً دوراً مثيراً كبيراً في حياته. وزائير طفلة مسيحية أسرها المسلمون في صباها في الحروب الصليبية، وأنشئوها على العقيدة الإسلامية، وهي لا تعرف إلا القليل عن فرنسا اللهم إلا أنها مسقط رأسها، وهي الآن غادة فاتنة في حريم السلطان أوروزمان في بيت المقدس. وهام السلطان وهامت هي به حباً. وفي مستهل الرواية كانت على وشك أن تصبح زوجة له. وتؤنبها أسيرة مسيحية أخرى اسمها فاتيما على نسيانها أنها كانت مسيحية. وفي رد زائير توضيح لأثر الجغرافيا في تحديد العقيدة الدينية: "إن أفكارنا وعاداتنا وعقيدتنا الدينية إنما الأعراف والتقاليد والنزعة القومية السائدة في أيامنا الأولى. فإذا رأت النور على ضفاف نهر الكنج لعبدت أوثان الهند، وإذا ولدت في باريس لكن مسيحية. وأنا الآن مسلمة سعيدة. إننا لا نعرف إلا ما تلقناه إن أبدى الأبوين اللذين يتوليان تربيتنا

ص: 180

وتعليمنا هي التي تنقش على قلوبنا الغضة تلك الأحرف التي ينقحها الزمن ويصقلها. وتعمل القدرة على تثبيتها عميقة في عقولنا، ولا يقدر على محوها إلا الله (7).

ويصور فولتير أوروزمان رجلاً يتحلى بكل الفضائل بشكل واضح إلا الصبر. إن المسيحيين ليصعقون ويذهلون إذ يرون مسلماً وقوراً مهذباً مثل المسيحيين. وتتولى السلطان الدهشة إذ يرى مسيحية فاضلة، ويرفض أن يحتفظ بحريم، ويعد بالاقتصار على زوجة واحدة. ولكن فولتير كان منصفاً لشخصياته المسيحية كذلك، فهو ينظم أبياتاً عامرة في جمال الحياة المسيحية الحقة. وهناك أسير مسيحي آخر هو نير ستام، وقع في الأسر في طفولته كذلك، ونشأ مع زائير، وفك أساريره حين تعهد بالرجوع ليفتدي بالمال عشرة من الأسرى، ويذهب ثم يعود ليدفع مبلغ الفدية المطلوب من ماله الخاص. ويكافئه أوروزمان بإطلاق سراح مائة لا عشرة فقط من المسيحيين. ولكن نير ستام بحزن لأن زائير ولوسنيان لم يكونا من بين من أطلق سراحهم، ومكان هذا الملك بيت المقدس (1186 - 1187). وتناشد زائير السلطان أوروزمان أن يطلق سراح لوسنيان، فيجيبها إلى طلبها. إن الملك العجوز يعتبر زائير في منزلة ابنته ونير ستام في منزلة ابنه. إنها الآن موزعة بين حبها للسلطان الكريم وولائها لأبيها وأخيها وعقيدتهما المسيحية. ويهيب بها لوسنيان أن تتخلى عن السلطان والإسلام معاً: "أواه يا أبنتي، فكري في الدم الزكي الذي يجري في عروقك، دم عشرين ملكاً كلهم مسيحيون مثلي، دم الأبطال، دم المدافعين عن العقيدة، دم الشهداء والقديسين. إنك لا تعرفين مصير أمك، إنك لا تعرفين أنه في نفس اللحظة التي ولدت فيها ذبحها أولئك المتبربرون الذي تعتنقين دينهم البغيض على مرأى مني. إن أخوتك والشهداء الأعزاء يمدون إليك أيديهم من السماء، يريدون أن يحتضنوا أختاً لهم. آه يا ابنتي! تذكريهم! إن الرب الذي خنث عهده، لفظ النفس الخير من أجلنا ومن أجل البشر جميعاً. انظري إلى الجبل المقدس الذي قتل عليه مخلصنا، والمقبرة التي نهض منها ظافراً منتصراً. في كل طريق تمشين فيه سترين خطوات الرب، هل

ص: 181

تنكرين خالقك؟ زائير:

يا إلهي العظيم

تكلم يا أبتاه ماذا أفعل؟ لوسنيان:

أذهبي عني العار والحزن بكلمة منك، وقولي أني مسيحية. زائير: إذن يا إلهي، أنا مسيحية .....

لوسينان: أقسمي بأنك ستحفظين هذا السر الخطير.

زائير: اقسم لك على ذلك (8).

ولما علم نير ستام بإصرارها على الزواج من أوروزمان، راوده التفكير في قتلها، ولكن رق قلبه، وألح في قبولها التعميد فوافقت، وبعث إليها برسالة يحدد فيها مكان وزمان الاحتفال بتعميدها، وحسب أوروزمان الذي لم يكن يدري أن نير ستام أخوها، إنها رسالة حب وغرام، ويفاجئ زائير في الموعد المضروب، ويطعنها. ثم يكتشف أن العشيقين المزعومين ليسا إلا أخاً وأختاً، فينتحر.

إن حبكة الرواية موضوعة ببراعة، مبسوطة بطريقة مسرحية متماسكة وهي تمثل في شعر سلس موسيقي. وإننا لندرك من خلال القطع العاطفية التي تبدو الآن ثقيلة مبالغاً فيها، والسبب في أن باريس أغرمت بزائير وأوروزمان، وفي أن الملكة الصالحة الحزينة ذرفت الدمع عند تمثيل المسرحية للحاشية في فونتنبلو. وترجمت المسرحية إلى الإنجليزية ومثلت بسرعة في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا. ونودي آنذاك بفولتير أعظم شاعر على قيد الحياة في فرنسا، وخلفاً صالحاً لطورني وراسين. ولكن هذا لم يرق في عيني جان بابتست روسو، وهو شاعر فرنسي مقيم في المنفى في بروكسل، فحكم على زائير بأنها "مسرحية تافهة فاترة

مزيج كريه من التدين والفجور". فرد عليه فولتير شعراً في معبد الذوق" يشهر فيه بروسو ويمجد موليير.

وبلغ فولتير ذروة المجد وعانق النجوم، ولكنه لم يكف عن العمل. ففي شتاء 1732 - 1733 درس الرياضيات كما درس نيوتن، مع ضحيته مستقبلاً موبرتوي Moupertuis، وأعاد كتابة "ايريفيل Eriphile" ونقح زائير وشارل الثاني عشر، وجمع مادة كتابه "قرن لويس الرابع

ص: 182

عشر" ووضع اللمسات الأخيرة على كتابه "رسائل عن الإنجليز" وأخرج مسرحية أخرى (أليد) كما كتب أشياء صغيرة لا تحصى: رسائل، قصائد مدح، اقتراحات، بعض الحكم الساخرة، بعض أغاني الحب-وكلها تتسم بالظرف في نظم رقيق مصقول. وعندما ماتت مضيفته السخية، مدام دي فونتين مارتل، انتقل إلى داره في شارع (لونج بزان) واشتغل بتصدير القمح. ومذ جمع بين التجارة والقصص، فإنه التقى (1732) بالسيدة جبرييل اميلي لي تونلييه دي برتيل مركيزة دي شاتيليه، وارتبطت حياته بحياة السيدة الفذة المغامرة حتى وافاه الأجل المحتوم.

وكانت آنذاك في السادسة والعشرين (وهو في الثامنة والثلاثين)، وكانت حياته بالفعل حافلة متعددة الجوانب فهي ابنة البارون دي برتييه، ولذلك تلقت تعليماً غير عادي. حتى أنها في سن الثانية عشر تعلمت اللاتينية والإيطالية وغنت غناء رخيماً، وعزفت على البيان الصغير، وبدأت في سن الخامسة عشرة تترجم الإلياذة إلى الفرنسية شعراً، وأضافت إلى هذا اللغة الإنجليزية ودرست الرياضيات على يدي موبرتوي. وفي التاسعة عشرة تزوجت المركيز فلورنت كلود دي شاتيليه لومونت، وكان في الثلاثين من العمر. وأنجبت له ثلاثة أطفال. ولكن فيما بعد هذا لم يكن للواحد مبهماً يرى الآخر إلا لماماً، حيث كان هو عادة مشغولاً مع فرقته، أما هي فبقيت قريبة من الحاشية وقامرت بمبالغ طائلة، وجربت الحب. فلما هجرها عشيقها الأول تناولت سماً، وأنقذوها على كره منها بواسطة عقار مقيء، واحتملت في رباطة جأش جربتها من قبل، هجران عشيق ثان هو الدوق دي ريشيليو، لأن كل فرنسا عرفت قصة تقلبه بين النساء.

والتقى فولتير بالمركيزة على مائدة العشاء فلم ينزعج، بل سرته قدرتها على التحدث في الرياضيات والفلك والشعر اللاتيني. ولم تكن مفاتنها طاغية لا سبيل إلى مقاومة إغرائها، ولكن سيدات أخريات أسرفن، في وصفها. استمع إلى مدام دي فان وهي تقول: (امرأة ضخمة متحفظة لا أوراك لها، صدرها هزيل؛

ذات ذراعين ضخمين ورجلين

ص: 183

كبيرين، وقدمين ضخمتين، ورأس صغير جداً، وقسمات حادة، وأنف محدد وعينية صغيرتين خضراوين تميلان إلى الزرقة. سمراء البشرة أسنانها رديئة (9)" واتفقت معها المركيزة دي كريكي فقالت "إنها عملاقة-ماردة، ذات قوة جبارة، وكانت فضلاً عن ذلك آية في القبح والبشاعة، وكان جلدها في لون مبشرة جوزة الطيب الداكنة، إنها تشبه في جملتها جندياً طويل القامة قبيح الصورة. ومع ذلك تحدث فولتير عن جمالها (10) ". أن سانت لامبرت الوسيم احبها سراً عندما كانت في الثانية والأربعين. وليس لنا أن نثق في رأي السيدات بعضهن في البعض الآخر. وقد تبين من صورها الشخصية أن اميلي كانت طويلة القامة مسترجلة، ذات جبهة مديدة ونظرة متعجرفة، ولم تكن قسمات وجهها غير جذابة، وقد نشعر بشيء من الاطمئنان إذا علمنا أن (لها صدراً شهوانياً ولكنه راسخ (11)).

ويمكن أن تكون أميلي قد كان فيها ما يكفي من الرجل ليكمل المرأة في فولتير. ومهما يكن من أمر فإنها لجأت إلى كل الحيل والوسائل الأنثوية لتصلح ما أفسد الدهر من جمالها-مستحضرات التجميل والعطور والمجوهرات والحلي والمخرمات. وسخر فولتير من ولعها بالتزين. ولكنه أعجب بتحمسها للعلوم والفلسفة. فهنا سيدة استطاعت حتى في غمرة الصخب والضوضاء في باريس وفرساي أن تنسحب من مائدة القمار، لتدرس نيوتن ولوك، إنها لم تقرأ نيوتن فحسب بل أنها استوعبته كذلك زهي التي ترجمت قوانين نيوتن إلى الفرنسية، ووجد فولتير أنه من اللائق أن يتخذ من نفس المرأة رفيقة دراسة وعشيقة في وقت معاً. وفي 1734 اعتبر بنفسه بالفعل الرجل الذي ترتضيه عشيقاً لها:(يا إلهي! أية لذة ومتعة أجدها بين ذراعيك كم أنا سعيد بالإعجاب بالمرأة التي أحبها (12)!

‌2 - رسائل عن الإنجليز

في عامي 1733 و1734 نشر فولتير بعد عناء شديد أول إسهامه في عصر الاستنارة، وكان عبارة عن 24 رسالة موجهة من إنجلترا إلى تييريو

ص: 184

وترجمت إلى الإنجليزية وصدرت في لندن (1733) رسائل متعلقة بالأمة الإنجليزية. ولكن كان في طبع الأصول في فرنسا مغامرة بحرية المؤلف وصاحب المطبعة كليهما. وخفف فولتير من بعض الأجزاء، وحاول أن يحصل على أذن من الحكومة بطبع البقية، فرفضوا منحه الترخيص، وهنا لجأ ثانية إلى نشرها سراً في روان. وحذر الناشر جور من تسرب أية نسخة للتداول لبعض الوقت على الأقل، ولكن في أوائل 1734، وصلت عدة نسخ إلى باريس تحت عنوان "رسائل فلسفية". وحصل أحد القراصنة الناشرين على نسخة، وأصدر منها طبعة كبيرة العدد دون على فولتير. وفي نفس الوقت كان فولتير ومدام دي شاتيليه قد قصدا إلى قصر مونتحي بالقرب من أوتون على مسافة 190 ميلاً من باريس ليحضرا حفل زفاف ريشيليو.

وبدأ الكتاب بأربع رسائل عن جماعة الكويكرز الإنجليزية، وأوضح فولتير أن هؤلاء الكويكرز ليس لهم تنظيم كنسي ولا قساوسة ولا أسرار ولا قرابين مقدسة، مع ذلك مارسوا الشعائر المسيحية في إخلاص وإيمان أكثر من أي مسيحيين عرفهم. ووصف أو تخيل زيارة قام بها لواحد منهم وقال:"سألت واحداً منهم: سيدي العزيز، هل عمدوك؟ فأجاب "لا لم أعمد لا أنا ولا أخوتي". وصحت في وجهه: عجباً كيف يكون هذا إذن أنتم لستم مسيحيين! فأجاب في صوت هادئ خفيض يا بني، لا تقسم، نحن مسيحيون" "ونحن نحاول أن نكون مسيحيين صالحين، ولكننا لا نرى أن المسيحية مجرد ماء بارد مع قليل من الملح على الرأس وعارضته. (يا إلهي! لا تتحدث بهذا الضلال! هل نسيت أن يوحنا عمد المسيح؟) فرد قائلاً: يا صاحبي، لا تقسم بعد ذلك، إن يوحنا عمد المسيح ولكن المسيح لم يعمد أحداً

ونحن أتباع المسيح لا أتباع يوحنا فقلت له: (وا حسرتاه أيها المسكين جزاؤك الحريق في بلاد محاكم التفتيش وسألني (هل أجروا لك عملية ختان؟).

فأجبته (لم يكن لي شرف الختان).

ص: 185

فقال: (حسناً، أنت مسيحي دون ختان، وأنا مسيحي دون تعميد)

وقال الكويكرز إن التعميد مثل الختان من العادات السابقة على المسيحية وقد أبطلها إنجيل السيد المسيح الجديد. ثم استطرد فولتير يتحدث عن الحرب) لن نذهب أبداً إلى الحرب، لا لأننا نخشى الموت، بل لأننا لسنا ذئاباً ولا نموراً، ولا كلاباً نحن رجال مسيحيون. أن إلهنا الذي أمرنا نحب أعداءنا يقينا لا يريد منا أن نعبر البحر لنقتل أخوة لنا، لمجرد أن السفاحين الذين يرتدون ثياباً في لون الدم وقبعات عالية ترتفع إلى قدمين يجندون المواطنين بينما يحدثون جلبة باثنتين من العصي ممدتين على جسم حمار. وبعد النصر تتألق لندن كلها في الأضواء وتلتهب سماؤها بالألعاب النارية وطلقات المدافع، على حين نرثي في صمت للمذبحة التي أدت إلى مثل هذا الابتهاج العام (13).

لقد أوذيت فرنسا أيما إيذاء، وكادت أن تدمر نفسها لمحاولتها فرض عقيدة واحدة على جميع الفرنسيين. وأسهب فولتير في وصف التسامح بالنسبة للخلافات الدينية في إنجلترا. "هذه بلد الطوائف. والرجل الإنجليزي، باعتباره حراً يسلك إلى السماء الطريق الذي يختاره. (14) ووازن فولتير بين أخلاق رجال الدين الإنجليز وأقرانهم الفرنسيين. وهنأ الإنجليز بأنهم ليس لديهم رهبان. إن الإنجليز ليحمدون الله ويشكرونه على أنهم بروتستانت حين يعلمون أن الشبان الفرنسيين المعروفين بفسقهم وفجورهم يرقون إلى مناصب الأساقفة والمطارنة بفعل الدسائس، ويؤلفون الأغاني الرقيقة ويقيمون ولائم العشاء الباذخة كل يوم تقريباً، ويطلقون على أنفسهم أنهم خلفاء الرسل. (15) وفي الرسالة الثامنة أدار فولتير الخنجر إلى صدر الحكومة في فرنسا: "إن الأمة الإنجليزية وحدها هي التي عرفت كيف تحدد سلطة الملوك بوقوفها في وجههم

وأخيراً أقامت هذه الحكومة الرشيدة، وفيها يتمتع الملك بكل القوة والسلطة في أن يفعل الخير، على حين تغل يداه عن الإتيان بأي شر أو سوء. (وهنا يردد فولتير عبارة مشهورة مأثورة عن رواية فنليون "تليماك". إن إقرار الحرية في إنجلترا تطلب ثمناً غالياً

ص: 186

ولا ريب، فقد أغرق صنم الحكم الاستبدادي المطلق في بحر من الدماء، ولكن الإنجليز لا يرون أنهم اشتروا القوانين العادلة الصالحة بثمن باهظ، فهناك أمم أخرى مرت بمحن وأوقات عصيبة لا تقل عما عاناه الإنجليز، ولكن الدماء التي أريقت دفاعاً عن قضية الحرية لم تكن إلا تثبيتاً لعبوديتها (21).

إن حق التحقيق في قانونية حبس التهم في إنجلترا يحرم السجن دون قضية محددة، ويتطلب محاكمة علنية، بواسطة المحلفين، أما في فرنسا فهناك "الأوامر السرية المختومة". وقبل مونتسكيو بأربعة عشر عاماً، رأى فولتير "فصل السلطات في الحكومة الإنجليزية وامتدحه وبالغ فيه، كما رأى تنسيق العمل بين الملك ومجلس اللوردات ومجلس العموم. وأشار فولتير إلى أنه لا يمكن فرض ضرائب إلا بموافقة البرلمان" "وأنه لا يعفي أحد من ضرائب معينة

لأنه نبيل أو كاهن. " (17) وفي إنجلترا يشتغل صغار أبناء النبلاء بالتجارة وبمختلف المهن، أما في فرنسا فإن التاجر غالباً ما يسمعهم يتحدثون عن مهنته في ازدراء واحتقار، حتى يبلغ به الحمق إلى حد الشعور بالخزي والعار من الاشتغال بالتجارة. ولست أدري أيهما أنفع للدولة-نبيل نتأنق يعرف بالضبط متى يصحو الملك من نومه أو يأوى إلى فراشه، ويستشعر العظمة حين يقوم بدور العبد الرقيق

أو رجل أعمال (مثل فوكنر مضيف فولتير في لندن، يثري وطنه ويصدر الأوامر من مكتبه إلى سورات والقاهرة، ويسهم في إسعاد العالم بأسره (18) وأخيراً في قطعة تضمنت برنامجاً لفرنسا ذهب فولتير إلى: أن الدستور الإنجليزي بلغ قمة التفوق وكان من نتيجة ذلك أن كل الناس استعادوا حقوقهم الطبيعية، على حين أنهم محرمون منها في سائر الملكيات تقريباً. وهذه الحقوق هي الحرية الكاملة في أشخاصهم وفي ممتلكاتهم: حرية الصحافة حق المحاكمة بناء على نص صريح في القانون، وحق كل إنسان في اعتناق العقيدة التي يرتضيها دون إزعاج. (19)

ولا بد أن فولتير عرف أن فريقاً من الناس فقط هم الذين تمتعوا بهذه الحقوق الطبيعية "وأن الحرية الشخصية لم تتحر من خطر الرقابة الصحفية،

ص: 187

وأنه كانت هناك حدود وقيود على حرية الكلام في الدين وفي السياسة، وأن المنشقين والكاثوليك كانوا مستبعدين من الوظائف العامة. وأنه كان من الميسورة في إنجلترا رشوة القضاة ليتجاهلوا القانون. إن فولتير لم يدون وصفاً نزيهاً لواقع إنجلترا، أنه كان يستخدم إنجلترا سوطاً يحرك به الثورة في فرنسا ضد ظلم الدولة أو الكنيسة. أن كون كل هذه الحقوق تقريباً أصبحت الآن قضية مسلماً بها في البلدان المتحضرة يضفي على ما أنجزه القرن الثامن عشر روعة وجلالاً.

ولا يقل عن هذا أهمية في أثره على الفكر الحديث امتداح فولتير لبيكون ولوك ونيوتن. إنه قال عن بيكون الذي اتهموه وجرحوه ما حكم به بولنجيزوك على مالبرو "إنه رجل بلغ من العظمة حداً لا أستطيع معه أن أتذكر هل كان له أخطاء أم لا"(20) ثم أردف يقول" إن هذا الرجل العظيم بيكون هو أبو الفلسفة التجريبية لا من أجل التجارب التي قام بها، بل بما وجه من نداءات قوية للنهوض بالبحث العلمي. وتلك هي الفكرة التي حدت بديدرو ودالمبرت إلى القول بأن بيكون هو أول من أوحى إليهم بدائر المعارف التي وضعوها.

وخصص فولتير لجون لوك كل الفصل الثالث عشر تقريباً. إنه لم يجد فيه مجرد علم العقل بدلاً من أسطورة النفس، بل وجد فلسفة كامنة كاملة حتى أنه بإرجاعه كل المعرفة إلى الشعور، حول الفكر الأوربي عن الإلهام الإلهي إلى الخبرة الإنسانية، باعتبارها المصدر الوحيد للحقيقة وأساسها. ورحب برأي لوك في أنه يمكن تصور إن المادة يمكن تمكينها من التفكير وغصت بهذه العبارة بالذات حلوق رجال الرقابة الفرنسية، وكان لها أثراً كبير في الحكم على الكتاب وإدانته. ويبدو أنهم تنبئوا فيها بمادية لامتري وديدرو. ورفض فولتير أن يسلم نفسه إلى المادية، ولكنه عدل عبارة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" إلى "أنا جسم وأنا أفكر ولا شيء غير هذا".

وأشارت الرسالة الرابعة عشرة على الفرنسيين أن يتخلصوا من ديكارت

ص: 188

وينصرفوا إلى دراسة نيوتن. إن حكم الرأي العام في إنجلترا على هذين المفكرين هو إن أولهما كان حالماً والثاني حكيماً. وقدر فولتير أعظم تقدير إضافات ديكارت إلى الهندسة، ولكنه لم يستسغ الدوامات الكونية عند ديكارت. إنه أقر بأن ثمة شيئاً وهمياً غامضاً، أو على الأقل مخدراً في مقالات نيوتن عن الكرونولوجيا القديمة (تقسيم الزمن إلى فترات وتعيين تاريخ الأحداث) وسفر الرؤيا، وأوحى فولتير بشكل لطيف بأن نيوتن كتب هذه المقالات ليعزي البشرية عن تفوقه البالغ عليها (21) إنه وجد أن نيوتن ما زال عويصاً يصعب فهمه، ولكن اجتماع الرجال البارزين في الحكومة وفي ميدان العلوم لتشييع جنازته ترك في نفسه أثراً عقد معه العزم على دراسة قوانين نيوتن، وعلى أن يكون رسول نيوتن إلى فرنسا، وهنا أيضاً غرس فولتير بذور دائرة المعارف وعصر التنوير.

وأخيراً صدم فولتير الفكر الديني في فرنسا بنقد لاذع وجهه إلى آراء بسكال. إنه لم يقصد تضمين هذا في رسائله، فليس لهذا علاقة بإنجلترا، ولكنه كان قد أرسله من إنجلترا إلى تيير 1728، فألحقه الناشر اللص بالرسائل باسم رقم 25، وكانت النتيجة أن الجانسنيين-الذين قدسوا بسكال إلى حد العبادة، وسيطروا على برلمان باريس-، فاقوا الآن اليسوعيين (الذين لم يحبوا بسكال قط) في استنكار فولتير وشجبه وكان فولتير غير قابل أساساً للاتفاق مع بسكال حيث كان في هذه المرحلة (اللهم إلا في رواياته) عقلانياً متشدداً لم يكن قد وجد بعد مجالاً للوجدان في فلسفته. وكان لا يزال شاباً ممتلئاً حيوية ونشاطاً ينعم بالحياة وسط محنه البطولية، ومن ثم عارض التشاؤم الجزع الكئيب عند بسكال "ولسوف أتجاسر فأقوم بدور الجنس البشري ضد هذا المبغض للشر المهيب"(22) ورفض "رهان" بسكال (أي أنه من الأحكم أن نراهن على وجود الله لا العكس) باعتباره عملاً صبيانياً يجافي الحشمة والوقار

إن اهتمامي بالاعتقاد بشيء ليس برهاناً على أن هذا الشيء موجود" (23) ولم يعرض بسكال الرهان (على أنه برهان) وسلم بأنه ليس في مقدورنا أن نفسر الكون أو نعرف قدر

ص: 189

الإنسان، ولكنه أرتاب في أننا نستطيع من هذا الجهل أن نستنتج صدق قانون الإيمان المسيحي الذي جاء به الرسل. كما أنه لم يحس في هذا العصر المرح المفعم بالحيوية بأي تعاطف مع تطلع بسكال إلى الراحة والدعة، حيث نادى بأن الإنسان "خلق ليعمل

فعدم العمل وعدم الوجود سيان بالنسبة للإنسان (24) ".

وليست "ملاحظات على أفكار بسكال" أفضل ما كان يمكن أن تجود به قريحة فولتير. أنه لم يكن قد أعدها للنشر، ولم يكن لديه الفرصة لمراجعتها وتنقيحها. وقضت الأحداث اللاحقة-مثل زلازل لشبونة-على نضارة تفاؤله الفتي. وعلى الرغم من هذا الملحق غير المدروس وغير الجدير بالاعتبار، فإن "الرسائل الفلسفية" كانت أحد المعالم البارزة في الأدب الفرنسي والفكر الفرنسي. فهنا لأول مرة ظهرت الجمل الموجزة الدقيقة والوضوح المبين والذكاء المرح والتهكم اللاذع، وأصبح كل هذا منذ الآن طابعاً أدبياً مميزاً يتجاوز ويتجاهل الحرص على إنكار اسم المؤلف. إن هذا الكتاب، وكتاب الرسائل الفارسية حددا أسلوب النثر الفرنسي من عهد الوصاية إلى عصر الثورة. وفوق هذا فإنها أحكمت حلقة من أقوى الحلقات في الربط بين المفكرين الفرنسيين والإنجليز، وهي كما قدر بكل "أهم حقيقة إلى حد بعيد في تاريخ القرن الثامن عشر"(25) إنها كانت بمثابة إعلان حرب ومخطط شن حملة. وقال روسو عن هذه الرسائل إنها قامت بدور كبير في إيقاظ عقله. ولا بد أن آلافاً من شباب فرنسا دانوا لها بمثل هذا الفضل. وقال عنها لافاييت أنها صيرته جمهورياً وهو في التاسعة من عمره. ورأى هين "إنه لم يكن لزاماً على رقيب المطبوعات أن يصادر هذا الكتاب حيث كان لا بد من قراءته بغير هذا الإجراء"(26).

وأحست الكنيسة والدولة والملك والبرلمان أنهم لم يعودوا يطيقون صبراً على مثل هذه الجراح الكثيرة في صمت، فأرسل صاحب المطبعة إلى سجن الباستيل، وصدر أمر سري مختوم بالقبض على فولتير أينما وجد. وفي 11 مايو ظهر أحد رجال الشرطة يحمل أمراً بالقبض عليه. ولكن من

ص: 190

المحتمل أن موبرتوي ودار جنتال كانا قد حذرا فولتير فغادر فرنسا قبل ذلك بخمس ة أيام. وبناء على أمر البرلمان في 10 يونيه أحرق كل ما وجد من نسخ الكتاب بيد مأمور التنفيذ العام في فناء قصر العدل باعتباره عملاً شائناً ينافي الدين والخلاق القومية ويتعارض مع احترام الواجب للسلطات العامة.

وقبل معرفة المركيزة دي شاتيليه بوصول فولتير سالماً إلى اللورين كتبت إلى صديق لها: "أنا لا أطيق صبراً على مجرد علمي بأنه في السجن وهو في مثل هذه الصحة والعافية وقوة الخيال. وأنا لا أحبذ ذلك مطلقاً". وأجمعت هذه السيدة والدوقة دي بشيليو وغيرهما من السيدات ذوات المكانة الرفيعة أمرهن على العمل معاً للحصول على عفو عنه. ووافق حامل الأختام على إلغاء أمر القبض إذا أنكر فولتير تأليفه للكتاب. لكن تلك كانت خدعة لأنه كان على علم اليقين أن فولتير هو المؤلف. وكان حامل الأختام هذا أحد موظفي الحكومة الذين لطفوا من حدة الرقابة من آخر بالأعضاء عما في الكتاب من مآخذ. ووافق فولتير فوراً على إنكار أنه المؤلف. وهذه كذبة بيضاء من الممكن الصفح عنها بسهولة. فضلاً عن أن الكتاب الذي برئ من تأليفه وزع دون موافقته. وكتب فولتير إلى الدوقة دي ايجوبون:

يقولون إنه يجب أن أتراجع

بكل سرور .. سأعلن أن بسكال على حق دائماً وأن القساوسة مهذبون وديعون منزهون عن الغرض "وإن الرهبان ليسوا متغطرسين ولا منصرفون إلى تدبير الدسائس، ولا حقراء وأن محاكم التفتيش المقدسة هي انتصار الإنسانية والتسامح (27).

والغي أمر القبض على شرط أن يبقى فولتير بعيداً عن باريس. فتنقل من قصر إلى قصر قرب حدود المدينة ورحب النبلاء الذين لم يتمسكوا كثيراً بأهداف الدين، كما لم يميلوا مطلقاً إلى الحكومة الملكية المركزية المستبدة وتلقى الدعوة بالإقامة في بلاط هولشتين مع معاش قدرة عشرة آلاف فرنك سنوياً ولكنه رفض (28) وفي يوليه أوى إلى قصر مدام دي شاتيليه في سيري

ص: 191

في شمبانيا. وهناك وهو الضيف الذي يتحمل نفقات عشيقته وزوجها بدأ أسعد سني حياته.

‌3 - أنشودة الحب في سيري

1734 -

1744

سيري الآن قرية عدد سكانها 250 شخصاً في مقاطعة المارن الأعلى في شمال شرقي فرنسا على بعد بضعة أميال من اللورين، وصفتها مدام دنيس ابنة أخي فولتير 1738 بأنها منعزلة موحشة على بعد أربعة فراسخ من العمران في منطقة لا يرى المرء فيها شيئاً غير الجبال والأراضي غير المنزرعة (29) وربما أحبها فولتير لأنها بقعة هادئة حيث يستطيع أن يتفرغ فيها لدراسة العلوم وكتابة التاريخ والفلسفة، وتنساه الحكومة الفرنسية، أما إذا لاحقته فإنه يستطيع الانطلاق منها هرباً إلى اللورين في ظرف ساعة واحدة.

وكان القصر طللاً متهدماً من مخلفات القرن الثالث عشر. قلما أقام فيه آل شاتيليه ولم يكن يصلح للسكنى منذ أمد بعيد، ولم يهتم المركيز بإصلاحه، أو لم يكن لديه المال لهذا الغرض، فأقرضه فولتير 40 ألف فرنك بفائدة قدرها 5% للقيام بالإصلاحات اللازمة ولم يطالب المركيز قط بسداد هذا القرض. وأعدت بعض غرف شغلها فولتير، وأمر ببناء جناح جديد، وأشرف على ترميم بقية القصر. وفي نوفمبر وصلت المركيزة ومعها مائتا حقيبة من الأمتعة، وعدلت من إصلاحات فولتير بما يتناسب مع ذوقها الخاص، وأقامت هناك-وهي التي كانت قضت معظم سني شبابها بين الحاشية الملكية أو قريباً منها-منصرفة إلى الدراسة مع زوجها وعشيقها في وقف معاً. وأقام المركيز اللطيف نعها ومع فولتير بين الحين والحين حتى 1740، محتفظاً لنفسه في لباقة بشقة خاصة به وبمواعيد خاصة لتناول الطعام وحده. وبعد ذلك قضى معظم وقته مع كتيبته. وكانت دهشة فرنسا وإعجابها بكياسة الزوج أقل منها بإخلاص العشيقين.

وفي ديسمبر عادت مدام شاتليه إلى باريس وزارت الدوقة رويشيليو في معتقلها، وأقنعت الحكومة بإلغاء الأمر بإقصاء فولتير عن العاصمة (2 مارس 1735) فقصد إلى باريس وأقام فيها عدة أسابيع مع خليلته،

ص: 192

ولكن ماضيه لاحقه، فإن أجزاء من شعره الفاجر كان يتناقله الناس. ولم يتمالك هو نفسه قراءة بعض قطعه القوية على أصدقائه. كما نشر أحد الناشرين اللصوص "رسالة إلى أورانيا"، وكان فولتير قد كتبها قبل ذلك بخمس عشر سنة، وقد هاجم فيهس المسيحية، فأنكر أنه مؤلفها بطبيعة الحال ولكنها كانت تحمل بصمات أسلوبه وفكره. ولم يصدق إنكاره أنه المؤلف، فهرب ثانية إلى اللورين، ومنها في حيطة وحذر إلى سيري. وتلقى من الحكومة تأكيدات عن طريق غير مباشرة بأنه إذا ظل هناك دون أن يرتكب أية مخالفة أخرى فلن يعكر صفوه أحد. ولحقت به مدام دي شاتيليه مع ابنتها وابنها ومعلمهما، وكان طفلها الثالث قد مات. وهنا أخيراً بدأ شهر عسل فلسفي.

وكان لكل من الفيلسوفين مجموعة غرف خاصة به على جانبي القصر. وكانت شقة فولتير تتكون من حجرة انتظار ومكتب ومكتبة وحجرة نوم وكسيت وجدران بنسيج من المخمل الأحمر المنقوش، وازدانت باللوحات التي اقتنى منها فولتير مجموعة ثمينة منها لوحة من رسم تيشيان وعدة لوحات من رسم تنيير، كما كان هناك تماثيل فينوس وكيوبييد وهركيوليز، ولوحة كبيرة لصديقها الجديد الأمير فردريك ولي عهد بروسيا. وعلى حد تعبير مدام جرافيني، كانت النظافة التامة في هذه الحجرات إلى حد "يمكن معه تقبيل الأرض" (30) أما جناح المركيزة فكان مختلفاً عن هذا ذوقاً: اللون أصفر الفاتح واللون الأزرق الباهت مع لوحات من رسم فيرونيز وواتو، وصورة السقف وأرضيته من الرخام، ومائة من الصناديق والزجاجات الصغيرة والخواتم والمجوهرات وأدوات الزينة متناثرة هنا وهناك في حجرة ملابسها الصغيرة. وبين مجموعتي الغرف كانت هناك قاعة كبيرة أعدت لتكون معملاً للفيزياء والكيمياء، فيها مضخات هواء ومقاييس حرارة وأفران وبوتقات ومنظار مقرب (تلسكوب) ومجهر (ميكروسكوب) ومنشورات وبوصلات وموازين. وكان هناك عدة غرف للزوار، لم تكن مؤثثة تأثيثاً جيداً. وعلى الرغم من القماش المنقوش على الجدران كانت رياح الغابات

ص: 193

تتسلل إلى القصر من خلال الشقوق والنوافذ والأبواب. وكان لزاماً لتدفئة هذا القصر إلى حد مقبول وجود 36 مدفأة تستهلك في اليوم الواحد ستة (كوردات) من الخشب (الكورد=28 قدماً مكعباً من الخشب). ويمكن أن نتخيل عدد الخدم اللازمين له، أضف إلى ذلك مسرحاً لأن فولتير كان يحب أن يمثل وبخاصة في رواياته هو أنه ليؤكد لنا أن المركيزة كانت ممثلة بارعة، وكان الضيوف والمعلم والخدم يحيطون بشخصيات الرواية، ويغنوا بالأوبرا، أحياناً لأن المركيزة (كما يؤكد فولتير مرة أخرى) كان صوتها ملائكياً. كما كان هناك عروض لمسرح العرائس وعروض بالفانوس السحري، قرنها فولتير بتعليقات أغرقت الحاضرين في الضحك.

ولكن اللهو كان طارئاً أما العمل فكان نظاماً يومياً. وكان العاشقان عادة، يعملان منفصلين كل في نطاقه، ولو أنهما تعاونا أحياناً في العمل، وقلما كان الواحد منهما يرى الآخر في أثناء النهار إلا في وجبة الطعام الرئيسية عند الظهر تقريباً. وكان المركيز يترك المائدة قبل أن يبدأ الحديث. وغالباً ما أنسل فولتير أيضاً إلى مكتبه تاركاً الآخرين يتسامرون. وكان له هناك أدوات مائدته الخاصة به لأنه يتناول طعامه وحده أحياناً. وإنا لنرى قلبه بحق محدثاً ممتعاً ممتلئاً بالحيوية، ويمكن أن يكون محط الأنظار ومبعث الحياة في أي اجتماع يشهده، ولكنه كان يكره الحديث التافه. وكان يقول "هذا الوقت الذي نقضيه في الحديث يزعجني كثيراً ويجدر بنا ألا نضيع دقيقة واحدة، إن أكثر ما نضيع هو الوقت (31) وكان يخرج أحياناً لصيد الغزال حباً في الرياضة.

وجدير بنا أن لا نصور الرفيقين الفيلسوفين على انهما ملاكان، فيمكن أن تكون السيدة الجافة مستبدة بل قاسية بخيلة بعض الشيء عنيفة مقترة مع خدمها وكانت تحتج إذا نقدهم فولتير أجراً أكبر، ولم يكن بها استحياء من شيء في جسمها، فلم تكن تأبه كثيراً لخلع ملابسها جميعاً أمام سكرتيرهما لونجشامب، أو تكليفه بصب الماء الساخن عليها وهي في الحمام. وكانت

ص: 194

تطلع خفية على الرسائل التي يكتبها ضيوفها أو ترد إليهم، وليس لدينا دليل على هذا إلا شهادة سيدة أخرى (33) أما فولتير فكان له مئات الأخطاء التي ستكتشف في الوقت المناسب. كان شاعراً مزهواً وكان سريع الغضب والتجهم كأنه طفل، وكثيراً ما هاجم عشيقته وتشاجر معها، وما كان هذا الشجار على أية حال إلا سحب صيف تؤكد سادة أيامهما، وسرعان ما كان فولتير يعود إلى هدوئه وابتسامته وابتهاجه. وما كان يمل الحديث عن سعادته وعن حبه لرفيقته بطريقته الهادئة. ونظم لها مائة قصيدة حب قصيرة كل منها تصوير بارع في فن محكم. وكانت إحدى هذه الدرر الأدبية مع خاتم من حجر كريم نقشت عليه صورته:"بنقش يبرز هذه القسمات ليقع عليها بصرك. أنظري إليها لتقري عيناً بها. أما صورتك فهي منقوشة في أعماق قلبي بيد صناع أكثر حذقاً وبراعة. (34) ".

أما هي فقالت لا أطيق فراقه لمدة ساعتين دون أن يمزقني الألم (35).

ومن بين العشيقين الفيلسوفين كانت هي أكثر انصرافاً إلى العلم وانكباباً عليه منه. ونفذت قانون سيادة المرأة غير المسطور في إخفاء مخطوطة كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" الذي لم يكمل بعد، ووجهته بشدة إلى دراسة العلوم بوصفها الدراسة الحقة لرجل العصر الحديث. ووصفتها مدام دي جرانيني، وكانت ضيفاً عليها في 1738، بأنها أكثر مثابرة على أبحاثها العلمية من فولتير، حيث كانت تقضي معظم النهار وجزءاً كبيراً من الليل في مكتبها. وفي بعض الحيان حتى الساعة الخامسة أو السابعة صباحاً. (36) وكان موبرتوي يأتي من حين إلى سيري ليتابع دروسه لها في الرياضيات والفيزياء. وربما كانت هذه الزيارات بالإضافة إلى إعجاب المركيزة السافر بسعة علم موبرتوي، هي التي أثارت الغيرة في قلب فولتير الشديد الحساسية، فأدت إلى الملاكمة والشجار بينهما في برلين.

وهل كانت دي شاتيليه عالمة باحثة حقاً، أم أنها اتخذت من العلم سبيلاً للأناقة ومجاراة مقتضيات العصر. ورأت مدام دي ديفان وبعض سيدات أخريات أن دراستها وأبحاثها كانت مجرد مظهر كاذب، وزعمت المركيزة

ص: 195

دي كريكي: أن الجبر والهندسة اقتربا بها من حافة الجنون، على حين أن تحذلقها وكلفها الشديد بموضوع دراستها جعلاها لا تحتمل. والواقع أن ذهنها تشوش بكل ما تعلمته أو عرفته (37) ولكن استمع إلى مدام دي جرافيني وهي تصف لنا جلسة في سيري.

"في هذا الصباح قرأت علينا ربة البيت عملية هندسية لمؤلف إنجليزي حالم

وكان الكتاب باللغة اللاتينية؛ وقرأته علينا بالفرنسية، وترددت لحظة عند كل عبارة، وكأني بها تتفهم العمليات الهندسية، ولكن لا، إنها ترجمت بسهولة المصطلحات الهندسية والأرقام والألفاظ الغريبة، ولم تتوقف في شيء. ألا يثير هذا الدهشة حقاً؟ (38).

وأكد فولتير لتييريو أن مدام دي شاتيليه كانت تعرف الإنجليزية جيداً، وأنها عرفت كل المؤلفات شيشرون الفلسفية، وكانت مولعة جداً بالرياضيات والميتافيزيقا (39). وذات مرة بزت العالم الفيزيائي وعضو الأكاديمية دي ميران في مناقشة عن الطاقة الحركية (40) وقرأت شيشرون وفرجيل في الأصل اللاتيني وأريستو وتاسو بالإيطالية، ونيوتن بالإنجليزية، وعندما زار الجاروتي سيري تحدثت معه بالإيطالية. وكتبت ولكن لم تنشر كتاباً من ستة مجلدات عن دراسة "سفر التكوين"، مبنية على أعمال الربوبيين الإنجليز عرضت فيه للمتناقضات والأشياء البعيدة الاحتمال والأعمال غير الأخلاقية والأفعال الظالمة في الكتاب المقدس. وكانت رسالتها عن السعادة بحثاً أصيلاً عن أسس السعادة، حيث رأت أن هذه الأسس هي الصحة والحب والفضيلة والانغماس الذاتي العقلاني، ثم طلب العلم والمعرفة. وترجمت قوانين نيوتن من اللاتينية إلى الفرنسية، وأشرف على طبعها كليرو، ونشرت بعد وفاتها بست سنوات (1756). وألقت عرضاً موجزاً لنظام العالم نشر في 1759 وأعلن فولتير ربما من قبيل الشهامة والود، أنه يفوق كتابه "مبادئ فلسفة نيوتن"(1738)(41) وعندما أعلنت أكاديمية العلوم (1738) عن جائزة لأحسن بحث عن طبيعة النار وانتشارها، ودخل فولتير المسابقة كتبت هي سراً البحث وقدمته دون ذكر اسمها، وكتبته في الليل لتخفيه عن فولتير (حيث أتى في بحثي عارضت كل آرائه تقريباً (42)) ولم يفز أي منهما بالجائزة التي حصل

ص: 196

أولر. ولكن الأكاديمية طبعت مقاليهما، وامتدح كل منهما مقال الآخر في نشوة الحب العقلي.

ومن أجل موضوعه هو، قام بعدة تجارب بعضها في معمله وبعضها في مسبك في شومون المجاورة (43) ودرس فولتير التلكس وكان قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف الأوكسجين (44). ونراه في مايو 1737 يكتب إلى الراهب موسينو في باريس يطلب إليه كيميائياً للحضور إلى سيري لقاء مائة جنيه سنوياً مع الإقامة الكاملة. ولكن كان على هذا الكيميائي أيضاً أن يتلو القداس في أيام الآحاد والعطلات في كنيسة القصر (45). أته من جانبيه آمن الآن بالعلم وحده. وكتب في 1741 ينبغي أن نعتقد في صحة ما تكشف عنه لنا عيوننا وما تكشف عنه الرياضيات. أما فيما عدا هذا فيجدر أن نكتفي بالقول بأننا لا نعرف (46). فالفلسفة كانت تعني عنده آنذاك خلاصة العلم:

وبهذا المعنى استخدم فولتير الإصلاح في مؤلفه "مبادئ فلسفة نيوتن أملا في الترخيص الملكي بنشره، ولكنه لم يجب إلى طلبه، وظهرت منه طبعة في أمستردام (1738) دون موافقته. وصدرت طبعته هو هناك في عام 1741، وكانت عبارة عن مجلد ضخم يضم 440 صفحة، نموذجاً رائعاً لما يسميه الفرنسيون "دون تعمد الانتقاض من قدره" تبسيطاً، أي محاولة فهم العويص الصعب منه إلى أكبر حد ممكن. وأضاف المشرف على الطبع عنواناً فرعياً وضع ليكون في متناول الجميع. وغير الراهب ديفتنون هذا العنوان الفرعي في نقد غير ودي إلى "عويص على كل الناس" وعلى النقيض من ذلك امتدح الجميع الكتاب بل أن اليسوعيين تقبلوه بقبول حسن في صحيفة تريفو (47). وهنا طردت الجاذبية الكونية التي كشفها نيوتن دوامات ديكارت من أذهان الفرنسيين. وشمل كتاب فولتير عرضاً لبصريات نيوتن، وتحقق من التجارب في معمله الخاص، وحاول إجراء تجارب أخرى من عندياته، وحاد عن طريقه قليلاً، ليؤكد اتساق فلسفة

ص: 197

نيوتن مع الإيمان بالله. وفي نفس الوقت أكد شمولية القانون في العالم المادي.

وعلى الرغم من كل هذه الجهود لم يكن فولتير روح رجل العلم ولا تحديداته وقيل أنه أخفق في أن يكون رجل علم. وينبغي بنا أن نرجح القول بأنه كان شخصاً ثرياً متعدد الجوانب إلى حد لا يستطيع معه أن ينصرف إلى العلم كل الانصراف بصفة نهائية. أنه استخدم العلم وسيلة لتحرير العقل، حتى إذا تم له ما أراد انصرف إلى الشعر والمسرحية والفلسفة بأوسع معانيها، والإنهماكات الإنسانية في الشئون الأساسية في عصره "يجب أن نهيئ الطريق في حياتنا لكل أساليب المعرفة والوجدان ونفتح أمامها الأبواب لتنفذ إلى نفوسنا، فإذا لم تتبدد هذه شذر مذر فإن هناك مكاناً فسحاً لكل شيء (48) " وهكذا كتب في ذاك الوقت (1734) بحث في الإنسان ردد فيه إلى حد كبير آراء بوب في نفس الموضوع، حتى إلى درجة إجازة فكرة غير فولتيرية "كل شيء صواب (49) ". ونظم في هذه السنوات معظم غادة أورليان (جان دارك). وربما كان هذا انتجاعاً لبعض الراحة من عناء نيوتن. وشرح فلسفته في رسالة في الميتافيزيقا، وقد رأى من الحكمة أن يحجم عن نشرها.

وكانت رسالة فذة مثل سائر إنتاجه، وبدأها بأن تخيل نفسه زائراً وافداً من كوكب المشتري إلى كوكب المريخ، ومن ثم رأى أنه لا يتوقع منه أن يوفق بين آرائه وبين ما جاء به الكتاب المقدس. وحط رجاله بين كفار جنوب أفريقية. وينتهي إلى أن الإنسان حيوان أسود الجلد شعره شبيه بالصوف، ثم ينتقل إلى الهند ليجد أناساً صفر اللون ذوي شعر سبط غير مجعد، فيستنتج أن الإنسان جنس يتألف من عدة أنواع متميزة لا تنحدر كلها من أصل أو سلف واحد (50) ويحكم من مظاهر النظام في العالم ومن التركيب الهادف ذي المعنى في أعضاء الحيوان بأن هناك رباً ذكياً يصمم أو يركب صور الجميع. ولا يرى دليلاً على وجود نفس خالدة غير فانية

ص: 198

في الإنسان، ولكنه يشعر بأن إرادته حرة. وقبل هيوم وآدم سميث يزمن طويل نرى فولتير يستمد روح الأخلاق من التعاطف بين الناس بعضهم مع بعض، وقبل هلفشيوس وبنتام بزمن طويل أيضاً نرى فولتير يحدد الفضيلة والرذيلة بما هو مفيد وغير ضار بالمجتمع (51) وسنعود إلى هذه الرسالة فيما بعد.

وكم اختلفت هذه الرسالة عن الشعر المرح الذي نظمه فولتير في تاريخ جان دارك وأنا إذا فتحنا الملحمة الساخرة اليوم فلا بد لنا أن يقفز إلى ذاكرتنا أن الكلام الفرنسي والأدب الفرنسي كانا أكثر تحرراً آنذاك منهما في النصف الأول من القرن العشرين. ولقد رأينا نموذجاً في الرسائل الفارسية للحاكم مونتسكيو، بل أن ديدرو كان أكثر حرية لا في الجواهر المنظومة فحسب، بل في جاك المؤمن بالقضاء والقدر كذلك. فإذا قورنت جان دارك بهذين الكتابين كما نشرها أخيراً فولتير 1756، لوجدناها معتدلة بشكل محمود. ومن المحتمل أن الأصل الذي جرى تداوله سراً كان أقرب إلى أسلوب رابليه، ودافع كوندرسيه الوقور الرزين عن القصيدة وروى أن مالشرب وهو أحد كبار موظفي الحكومة الفرنسية حفظها عن ظهر قلب (52)، ووجد في القسم الحادي والعشرين من القصيدة بعد بحث مجهد، بعض أبيات معتدلة في فسقها وشهوانيتها يمكن التجاوز عنها مثل الصور الشبيهة بها عند آريوستو، وقد عوض عنها بقطع كثيرة تقدم وصفاً رائعاً وسرداً بارعاً، وكان فولتير مثل كثير من الفرنسيين في زمانه يرى في جان دارك بنتاً فلاحة بريئة ساذجة، وربما كانت ابنة غير شرعية استسلمت للخرافات واعتادت سماع (الأصوات)، وارتاب في أن فرنسا كان لا بد أن تنقذ من الغزو الإنجليزي حتى ولو لم تولد هي قط. وفيما عدا هذا ومع التسامح في بعض الأخطاء التاريخية، فإنه روى القصة بأمانة مع تمليحها ببعض الدعابة ومال الملك برأسه نحو جان الباسلة التي لا تهاب شيئاً، وقال في صوت مهيب يرهبه الجميع إلا هي وحدها، أنصتي إلى ياجان، إذا كنت عذراء حقاً فأقسمي اليمين، فأجابت: مولاي العظيم،

ص: 199

أصدر أوامرك الآن إلى الأطباء الحكماء الخبيرين بأسرار النساء ونظاراتهم على أنوفهم، ورجال الدين والصيادلة وكبيرات الممرضات الخبيرات ليجتمعوا على الفور للفصل في الأمر، فليدققوا النظر ويروا ومن هذا الجواب الحكيم عرف شارل أنها ملهمة تلقت وحياً، وأنها تتمتع بنعمة العذرية المقدسة المباركة، ثم قال الملك حسناً يا ابنة السماء، ما دامت تعرفين كل شيء فأخبريني ماذا حدث بيني وبين زوجتي في الفراش في الليلة الماضية؟ أتوسل إليك تحدثي بصراحة، فقالت جان لا لم يحدث شيء، فدهش الملك وركع وصاح بصوت عال: أنها معجزة، ثم رسم علامة الصليب وانحنى احتراماً وإجلالاً (53).

وقرأ فولتير على ضيوفه مقطعاً أو مقطعين من جان دارك رغبة في تسليتهم، وليبعث الدفء في أمسيات الشتاء الباردة. وكانت مدام دي شاتيليه تحتفظ بالمخطوطة الضخمة في حرز أمين، وسمح فولتير في استخفاف وإهمال بتداول بعض الأجزاء بين أصدقائه ونسخ بعضها وتناقلها المجتمع غير المهذب على نطاق أوسع مما كان من الحكمة أن يكون. وكان الخوف من أن تقاضيه الحكومة الفرنسية-لا بسبب فحش القصيدة بل بسبب الهجاء اللاذع في بعض أجزائها للرهبان واليسوعيين والأساقفة والبابوات ومحاكم التفتيش-من بواعث القلق والهموم التي أقضت مضجعه وعكرت عليه صفة حياته.

وكان فولتير أكثر جدية ووقاراً في الزير Alzler " التي بدئ بعرضها بشكل يدعو إلى المساعدة والابتهاج على المسح الفرنسي في 27 يناير 1736. وحققت التاريخ المسرحي بارتداء الثياب التي كانت سائدة في الزمان والمكان المحددين لأحداث الرواية-الغزو الأسباني لدولة بيرو وسلبها ونهبها. ويتوسل الفاريت الحاكم الأسباني للبلد المغلوب على أمره إلى المنتصرين أن يضعوا حداً لقسوتهم فيقول "نحن سوط العذاب الذي نصب على هذه الدنيا الجديدة، نحن عابثون جشعون ظالمون

نحن المتبربرون وحنا هنا أنا المتوحشون السذج البسطاء، ولو أنهم عنيفون

ص: 200

بطبيعتهم، فانهم شجعان بواسل مثلنا، ولكنهم يفوقوننا في الميل إلى الخير وطيبة النفس (54). وصفقت باريس لهذه الرواية لمدة عشرين ليلة متوالية ودفعت 53. 640 جنيهاً، وتنازل فولتير عن نصيبه من دخل الرواية للممثلين.

وفي 8 أغسطس 1736 تلقى فولتير أول رسالة من فردريك ملك بروسيا، ومن هنا بدأت مراسلات مشهورة وصداقة فاجعة. وفي نفس العام نشر قصيدة "الرجل الدنيوي" وكأنما كانت رداً مسبقاً على رسالة روسو "بحث في الفنون والعلوم"(1751) أن فولتير ضاق ذرعاً بالحالمين الواهمين الذين يضفون المثالية على الإنسان البدائي غير المتمدن الودود الصاعد "أو يحبذون الرجوع إلى الطبيعة" هرباً من الانفعال وتوتر الأعصاب والنفاق والخداع في الحياة الحديثة. إنه هو نفسه كان مستريحاً وسط ما يعاني من بلايا ومحن، ورأى أنه كان عليه لزاماً عليه أن يقول كلمة طيبة في المدنية إنصافاً لها. إنه لم يجد أية فضيلة أو ميزة في الفقر، أو أي انسجام بين الجراثيم والحب وربما كان البدائيون شيوعيين، وهذا فقط لأنهم لم يكونوا يملكون شيئاً. وإذا إتسموا بالاعتدال والقصد والرزانة فما ذاك إلا لأنهم لم يكن لديهم خمور "وأنا من جانبي أحمد للطبيعة الحكيمة أنها من أجل سعادتي أنجبتني في هذا العصر الذي يحط من قدره نقادنا الذين تعروهم الكآبة والانقباض. إن هذا الزمن الدنس ملائم كل الملائمة لحياتي فأنا أحب الترف والبدخ بل الحياة الناعمة وكل الملذات والفنون على اختلاف أنواعها، والنظافة والذوق والزينة والزخرفة وبدا له كل هذا مفضلاً لديه بشكل واضح على جنات عدن "أبي العزيز آدم، اعترف أنك ومدام حواء كانت لكما أظفار طويلة سوداء بما فيها من أقذار، وان شعره كما كان أشعث أغبر إلى حد ما .... وعبثاً حاول العلماء أن يعينوا مكان جنة عدن

إن جنة الأرض هي التي أعيش فيها أنا الآن.

ولم ترق في أعين رجال الدين الصورة التي رسمها فولتير لآدم وحواء، وأصروا على أن سفر التكوين تاريخ صحيح، ولم يقروا فولتير على ما جاء

ص: 201

به عن أظافر آدم وشعر حواء، وتعالت الأصوات مطالبة بالقبض على شيطان سيري الكافر. وحذره الأصدقاء مرة ثانية، فاعتزم الرحيل. وفي 21 ديسمبر 1736 غادر سيري واميلي، قاصداً بروكسل متنكراً في زي التاجر ريفول. وسخر المعجبون به هناك من تنكره ومثلوا مسرحية آلزير تكريماً له. وحذر جان بابتست أهل بروكسل من أن فولتير جاء إليهم ليبشر بالإلحاد، فانتقل إلى ليدن حيث احتشدت الجماهير لرؤيته، ثم إلى أمستردام حيث أشرف على طبع كتابه عن نيوتن، وساور المركيزة آنذاك الخوف من أنه لن يعود إليها مطلقاً، فكتبت إلى دار جنتال: "منذ أسبوعين فقط كنت أتعذب لعدم رؤيته لمدة ساعتين اثنتين، وكنت أكتب إليه من غرفتي إلى غرفته، ومضى الآن أسبوعان لا أعرف أين هو ولا أعرف ماذا يفعل

أنا في حالة يرثى لها (55) وأخيراً عاد (مارس 1737) وهو يقسم انه لولا حبه لها لما أقام في فرنسا التي تلاحقه وتطارده على هذا النحو.

وفي مايو 1739 عاد العشيقان إلى بروكسل حيث استخدم فولتير كل مواهبه القانونية وغيرها في قضية تتعلق بممتلكات المركيزة. ثم قصد هو وزوجها إلى باريس حيث قدم فولتير روايتي محمد وميروب إلى مسرح الكوميدي فرانسيز، وحيث رأت السيد شاتيليه في المطبعة مجلداتها الثلاثة عن "قوانين الفيزياء" وفي هذه الدروس "تهربت من فولتير ونيوتن كليهما مؤثرة عناصر الوجود الأولية في فلسفة ليبنتز. وفي سبتمبر عادوا إلى سيري، ثم قصدوا بعدها إلى بروكسل لإقامة طويلة، ومنها في سبتمبر 1740 أسرع فولتير إلى كليف Cleves لأول لقاء له مع فردريك، وكان قد أصبح ملكاً، ورفض أن يدعو أميلي معه. وفي نوفمبر قطع مسافة 150 ميلاً مرهقة قاصداً برلين ليقوم بمهمة دبلوماسية للكاردينال فليري، وسنعود إلى تفصيل هذه المهمة فيما بعد. وذهبت أميلي في نفس الوقت إلى فونتنبلو حيث بذلت جهداً كبيراً في الحصول على إذن لفولتير بالإقامة في باريس، أن سيري أصبحت عبثاً لا يطاق. وفي 23 نوفمبر

ص: 202

كتبت إلى دار جنتال: لقد لقيت جزاء سنمار على كل ما فعلت في فونتنبلو، لقد ذللت كل العقبات، وحصلت لفولتير على حق العودة إلى بلده دون قيد أو شرط، ووفقت بينه وبين الوزارة، ومهدت الطريق لقبوله في الأكاديمية، وصفوة القول أني في ثلاثة أسابيع أستطعت أن أعيد إليه كل ما فقده في ستة أعوام. فهل تعلم كيف كافاني على مثل هذا الإخلاص والغيرة؟ أنه أبلغني في رسالة جافة أنه قصد إلى برلين، وهو يعلم علم اليقين أنه يحطم قلبي ويعذبني عذاباً لا يوصف

لقد انتاباني الحمى

وآمل أن أفارق الحياة وشيكاً

وهل تصدق أن الفكرة التي تستبد بعقلي حين أحس بأن الحزن سيقتلني، هي فكرة الأسى العميق الذي ينتاب فولتير لموتى؟

أني لا أطيق أن أفكر في أن ذكراي سوف تسبب له يوماً الشقاء والألم، ويجدر بكل اللذين أحبوه أن يكفوا عن لومه.

وانتزع فولتير نفسه من جو النفاق الملكي ليلحق بعشيقته، وفي طريق عودته بعث إلى فردريك برسالة يوضح فيها وجهة نظره في الموضوع:

" إني أترك ملكاً عظيماً يكرم ويشجع فناً أعجب به إلى حد التأليه، لألحق بسيدة لا تقرأ إلا ميتافيزيقا وولف المسيحي (شارح ليبنتز). أني أنتزع نفسي من أعظم حاشية إمتاعاً وإيناساً في أوربا من أجل قضية قانونية. أني لم أترك حاشيتك الفاتنة الجديرة بالحب لأتنهد وأتأوه مثل أحمق معتوه بين يدي امرأة، ولكن هذه المرأة يا مولاي هجرت من أجلي كل شيء، مما يتخلى سائر النساء عن أصدقائهن من أجله. أنني أسير فضلها في كل شيء أن الحب غالباً ما يكون سخيفاً مضحكاً، ولكن الصداقة الخالصة والود الصافي لهما حقوق يرتبط المرء أكثر مما يرتبط بأوامر الملك (56).

والتقى ثانية بأميلي في بروكسل التي أصبحت بلدهما الثاني بسبب طول الإجراءات في قضيتها. وفي مايو 1741 شهدا العرض الأول لرواية محمد في ليل، ولقيا ترحيباً حماسياً. وعادا إلى بروكسل مزهوين مبتهجين، ولكن عكر صفوهما شعور بأن جذوة الغرام قد بدأت تنطفئ. وكان حبها

ص: 203

لا يزال قوياً. ولو أن جوهر هذا الحب كان الرغبة في السيطرة والتسلط. ولكن شعلة الحب عند فولتير بدأت تتحول إلى قلمه. وفي يولية 1741 اعتذر لها عن غيرته التي أخذت تذوي وتذبل: "إذا وددت أن أستمر على الحب فعليك أن تعيدي إلى مسافات من زمان الحبيبين، أعيدي إلى إذا كان في مقدورك، فجر الحياة، وهي في غسق المساء، نحن نموت مرتين، وأنا الحظ هذا جيداً. إنه موت لا يطاق أن نتوقف عن الحب ونحن جديران به، أما توقف الحياة نفسها فهو أمر تافه لا قيمة له".

وفي أغسطس 1742 قصدا إلى باريس ليشهدا العرض الأول لرواية "محمد" في المسرح الفرنسي. وكان فولتير قد سعى للحصول على إذن رسمي من الكاردينال فلبري بتمثيلها، فأجابه إلى طلبه. وكان هذا العرض الأول (19 أغسطس) الحدث الأدبي لذاك العام، وشهده كثير من الحكام ورجال الدين والشعراء بالإضافة إلى الجمهور الذي اكتظ به المكان. وبدا أن الجميع راضون على المسرحية باستثناء نفر من رجال الدين الذين زعموا أن الرواية ليست إلا "هجوماً عنيفاً على المسيحية" وانضم فريرون وديفونتين وغيرهم إلى هذه الشكوى. وعلى الرغم من أن الكاردينال أحس بأن هؤلاء النقاد يسيئون إلى قضيتهم، فإنه بعث إلى فولتير برسالة سرية ينصحه فيها بسحب الرواية، وتم هذا بعد العرض الرابع من إقبال شديد على الرواية. وعاد فولتير وأميلي أدراجهما إلى بروكسل، وقد استبد بهما الغضب لخيبة أملهما.

وهل كانت رواية "محمد" هجوماً على المسيحية؟ ليس الأمر إلى هذا الحد. أنها كانت تهاجم التعصب العمى والتزمت ولكنها صورت الرسول في صورة غير ودية ربما أثلجت صدور المسيحيين الأبرياء من التاريخ ومن سوء النية فيه. أنه صور الرسول مخادعاً تعمد أن يدرس دينه الجديد إلى عقول قوم سذج ويستغل أيمانهم في استثارة هممهم في القتال، ويغزو مكة، بإصدار أمره إلى نصيره المتعصب سعيد بقتل الشيخ زبير الذي يقاوم هذا الغزو وعندما يتردد سعيد يؤنبه محمد في عبارات بدت

ص: 204

لبعض المستمعين وكأنها تعريض برجال الدين المسيحيين، فهو يقول: "وأنت أيضاً تتردد؟ أيها الشباب الجريء، إنه لما يتنافى مع الدين أن تتردد. إن الذين يستخدمون عقولهم لا يميلون إلى الإيمان. بمحمد، إن عليك أن تمتثل. إن إرادة الله تقضي بذلك. ألا تعلمون أن إبراهيم الخليل ولد هنا وأن جثمانه الطاهر يرقد هنا، وهو الذي امتثل لصوت الله وأخمد صيحات الطبيعة بين جنبيه، وتخلى عن ولده العزيز!! أن الله العلي القدير نفسه هو الذي يطلب إليكم أن تضحوا، ويهيب بكم أن تنفروا إلى القتال، ومن ذا الذي يتجرأ فيتردد في تنفيذ أمر الله إذا دعاكم إلى القتال؟ فاضربوا إذن فوق الأعناق. أن دم الشيخ زبير يخولكم النعيم المقيم في الدار الآخرة (58)

(1)

.

ويقتل سعيد الشيخ العجوز الذي يتبين وهو يلفظ أنفاسه الخيرة أن القاتل ابنه. وهذا بطبيعة الحال هجوم من فولتير على استخدام الدين ذريعة لسفك الدماء وإشعال نار الحرب. وهذا ما قصد إليه فولتير. وفي رسالة إلى فردريك ضرب أمثلة لجرائم ارتكبت بإسم الدين، منها قتل وليم أورانج وهنري الثالث وهنري الرابع ملكي فرنسا. ولكنه أنكر أن المسرحية هجوم على الدين. بل أنها دعوة إلى استمساك المسيحيين بمبادئ المسيحية الحقة.

وفي سبتمبر 1742 واساه الكردينال فليري بإفاده إلى فردريك ليحاول توجيه سياسته إلى الصداقة مع فرنسا. وقصد فولتير مزهواً بدبلوماسيته لزيارة الملك في آخن. وتبين الملك أهدافه ومراميه، فرد على حديثه السياسي شعراً، وأعاد فولتير إلى باريس مع عشيقته أميلي والمسرحية. وفي 20 فبراير 1743 أخرجت على الكوميدي فرانسيز أعظم رواياته ميروب حيث لاقت نجاحاً أخرس ألسنة أعدائه بعض الوقت.

(1)

أثبتنا هنا ما ورد في الأصل الإنجليزي من رواية فولتير. وواضح أنه أبعد ما يكون عن جوهر الإسلام وتاريخه ومشروعية القتال. ولكنا حرصنا على الأمانة في النقل. (المترجم)

ص: 205

وكانت عدة مسرحيات قد كتبت بالفعل في نفس الموضوع، منها مسرحية يوريبيدس التي لم يبق منها إلا شذرات قليلة وفي خطاب تمهيدي أقر فولتير بالفضل والعرفان لمركيز فرانشسكو سبيون دي مافي (وهو من فيرونا) الذي كان قد أخرج ميروب في 1713. وكانت هذه المسرحيات تتميز بتحول الاهتمام فيها إلى حب الوالدين لا إلى الحب الجنسي ويروون أن معظم الحاضرين سالت دموعهم في المشهد الأخير. ولأول مرة في تاريخ المسرح الفرنسي تعالت الأصوات تنادي بظهور المؤلف على خشبة المسرح، وقيل أنه وافق وبذلك أوجد سابقة أسف لها لسنج أشد الأسف. وطبقاً لبعض المصادر الأخرى يقال أن فولتير رفض الظهور على المسرح على الرغم من حث الدوقتين اللتين جلس في مقصورتهما، وكل ما فعله أنه نهض واقفاً في مكانه لحظة رداً على التحية (59)، وحكم فردريك بأن هذه المأساة من احسن ما كتب من مسرحيات (60). وذهب جيبون إلى ان الفصل الأخير يضارع أي فصل في مسرحيات راسين (61).

وقلل من قيمة نجاح "ميروب" إخفاق فولتير في الفوز بمقعد في الأكاديمية الفرنسية. إنه سعى له سعياً متواصلاً إلى حد أنه أعلن نفسه كاثوليكياً حقاً ومؤلف أبحاث أقرتها الكنيسة (62). وأيده لويس الخامس عشر في بداية المر ولكن وقف في طريقه وزيره الجديد مورياس الذي احتج بأنه لا يليق أن تشغل نفس شريرة دنسة المقعد الذي خلا بوفاة الكاردينال فلبري. وشغل المقعد أسقف ميربوا. واستحث فردريك فولتير أن يترك البلد الذي لا يلقي فيه عباقرته سوى هذا القدر الضئيل من التكريم، ويحضر ليقيم معه في بوتسدام. فاعترضت مدام شاتيليه وأشارت عليه الحكومة الفرنسية بقبول الدعوى لبعض الوقت والقيام بعملية التجسس في برلين. وهفت نفسه إلى الاشتغال بالسياسة، فقبل الدعوى وقام ثانية بالرحلة المرهقة راكباً عبر فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وقضى في هذه المغامرة ستة أسابيع (30 أغسطس-12 أكتوبر 1743) ومرة أخرى سخر فردريك من سياسته وأمتدح شعره، وعاد فولتير إلى أميلي

ص: 206

في بروكسل. وفي أبريل 1744 استأنفا مقامهما في سبري محاولين بعث غرامهما الميت إلى الحياة من جديد.

وفي "رسالة السعادة" كانت المركيزة ترى أن الرغبة في المعرفة هي إحدى الرغبات التي تسهم أكبر إسهام في سعادة الإنسان لأنها تجعلنا أقل اعتماداً بعضنا على بعض ومع ذلك تقول عن الحب: "إنه أعظم الأشياء الطبيعية التي هي في متناول أيدينا، وهي الشيء الوحيد الذي نضحي من أجله بلذة الدرس والتحصيل. والمثل الأعلى في هذا المجال شخصان يفتتن الواحد منهما بالآخر إلى حد لا تفتر معه عواطفهما ولا تصاب بالتخمة أبداً، ولكن لا يمكن لإنسان أن يأمل في مثل هذا التآلف والانسجام بين شخصين، لأن هذا الشيء يفوق حد الكمال. فالقلب الأهل لمثل هذا الحب والنفس الوقية بالمحبة إلى هذا الحد يجوز أن تخلق مرة واحدة كل قرن من الزمان (63).

وفي رسالة مؤثرة لخصت تخيلها عن هذا الأمل:

"قضيت عشرة أعوام سعدت فيها بحب الرجل الذي غزا قلبي. وقضيت هذه الأعوام العشرة في ارتباط وثيق به

وعندما انتقص امتداد العمر والمرض من تعلقه بي لم ألحظ هذا إلا بعد مرور فترة طويلة. إني أحببته لسببين، قضيت حياتي كلها معه واستمتع قلبي الواثق بنشوة الحب، بالإضافة إلى توهمي أنني أيضاً جديرة بالحب، وأفلت من يدي هذا الظرف السعيد (64).

وماذا حول فولتير من الحب والهيام إلى هذا الوفاء المتقطع؟ ويبدو أنه كان صادقاً في التذرع باعتلال صحته. ولكنا سنجده في بحر عام واحد يتأوه ويتنهد كالمعتوه بين يدي امرأة" والحق أنه كان قد استنزف جانباً من حياته واهتمامه-مدام دي شاتيليه والعلم. إن العزلة في سيري ربما أورثت السأم والملل بسرعة ذهناً يافعاً. ولم تكن نعمة وبركة إلا عند ملاحقة الشرطة له، وعندما كان يدعوه العلم إلى التفرغ له، ولكنه كلن آنذاك قد تذوق ثانية ملذات باريس ومباهجها، واستمتع بمشاهدة افتتاح

ص: 207

مسرحياته، بل كان يلعب دوراً في السياسة القومية، وأحس بسحر الحاشية ولو من بعيد، وأصبح صديقه المركيز دار جنسون الوزير الأول، كما أصبح صديقه ومدينه الدوق دي ريشيليو الأمين الأول للملك. وكان لويس قد رق له ولأن جانبه. وفي 1745 كان الدوفين على وشك أن يتزوج من الأميرة الأسبانية ماريا تيريزا رافاييلا، ولا بد أن تقام احتفالات ضخمة لهذا الغرض، فكلف ريشيليو فولتير بكتابة مسرحية لهذه المناسبة. وكان على رامو أن يكتب الموسيقى، فيتعاون الملحن والشاعر في العمل معاً، وكان لزاماً أن بحضر فولتير إلى باريس، وفي سبتمبر 1744 ودع العاشقان سيري وانتقلا إلى العاصمة.

‌4 - رجل البلاط

1745 -

1758

بلغ فولتير آنذاك سن الخمسين. وكان لوقت غير قصير يحتضر في كل عام مرة. وكتب إلى تييريو في 1735 "من المؤكد أنه ليس أمامي إلا سنوات قليلة أعيشها (65). وكان قد بلغ آنذاك الحادية والأربعين، وكان أمامه ثلاث وأربعين سنة أخرى، فكيف تسنى له هذا؟ عندما انتابته علة خطيرة في شالون في أعالي المارن (1748)، ووصف له أحد الأطباء بعض الأدوية، قال فولتير، كما يروي سكرتيره، إنه لن يتبع شيئاً من هذه التعليمات، لأنه يعرف كيف يعالج نفسه في أيام الصحة والمرض على حد سواء، وسيظل طبيب نفسه كما كان دائماً. وفي مثل هذه الأوقات كان فولتير يصوم لبعض الوقت، ثم يأكل قليلاً من الحساء الرقيق والخبز المحمص والشاي الخفيف والشعير والماء. ويستطرد سكرتيره لونجشامب فيقول: "تلك هي الطريقة التي عالج بها فولتير نفسه فبرئ من سقمه الذي ربما أدى به إلى نتائج خطيرة لو أنه أسلم نفسه إلى أطباء شالون. كان مبدؤه أن صحتنا تتوقف علينا نحن، وركائزها الثلاث هي القصد في الطعام والشراب وضبط النفس والاعتدال في كل شيء، والتمرينات الرياضية البسيطة، ففي كل الأمراض التي لا تكون نتيجة لأحداث خطيرة أو تكون خلل أساسي في أعضاء الجسم الداخلية، يكفي أن تساعد الطبيعة التي

ص: 208

تسعى جاهدة في شفائنا، وأن نلتزم في الغذاء بنظام دقيق لفترة طويلة إلى حد ما، فنتغذى على السوائل المناسبة والأغذية الخفيفة الأخرى. ورأيته دائماً يلتزم بهذه القاعدة طيلة وجودي معه (66).

وكان بارعاً مثل رجال المصارف في إدارة أمواله واستثمارها. وكان مستورداً وشاعراً ومقاولاً وكاتباً مسرحياً ورأسمالياً وفيلسوفاً ومقرضاً للنقود وصاحب معاش ووارثاً. وساعده صديقه دار جنسون على جمع ثروة من تموين الجيش (67)، وكان قد ورث جزءاً من ثروة أبيه وترك له موت أخيه أرمان (1745) دخل بقية أملاك أبيه. وأقرض الدوق ريشيليو ودوق دي فلبار والأمير دي جيز وغيرهم مبالغ كبيرة، ووجد عناء كبيراً في استرداد الديون، ولكنه عوض عنها بالأرباح (68). وفي 1735 كان ريشيليو مديناً له بمبلغ 46. 417 من الجنيهات دفع عنه الدوق أرباحاً سنوية قدرها 4000 (69) جنيه "وفي حالة مسيو دي بريزي غير الموثوق به كان فولتير يطلب فائدة قدرها 10%، واستثمر فولتير أكثر أمواله في سندات مدينة باريس التي تدر ربحاً قدره 5% أو 6%، وكثيراً ما أعطى تعليماته إلى وكيله للإلحاح على مدينيه بالسداد: "أنه من الضروري يا صديقي أن تطالب مرة ومرتين وتلح وتراقب وتلح في الطلب-ولكن لا تعذب المدينين من أجل إيرادي السنوي ومتأخراتي (70) وفي 1979 قدر سكرتير فولتير أن دخله السنوي بلغ 80 ألف جنيه (71). ولم يكن فولتير ينبش الأرض بحثاً عن المال، ولم يكن بخيلاً مقتراً، وكثيراً ما منح الأموال وقدم سائر المساعدات لشباب الطلبة ومد يد المعونة قولاً أو فعلاً إلى فوفينارج ومارمونتل ولا هارب. وقد رأيناه يتنازل عن العائدات رواياته للممثلين، وعند ما ضاع عليه أربعون ألف جنيه بسبب إفلاس ملتزم عام كان قد أقرضه المبلغ واجه الأمر في هدوء، ولم يثر أو يغضب. وذكر العبارات التي تعلمها في صغره "أعطانا الله، وأخذ الله فليتقدس اسم الله".

ولو أن فولتير أوتي مالاً أقل ليستغله ويعنى به، وكان أكثر بدانة أو اكتنز لحماً أكثر فوق عظامه، فلربما كان أقل حساسية وعصبية وأقل نزقاً

ص: 209

وانفعالاً. وكان كريماً حذراً حريصاً على مشاعر الناس وحقوقهم. وكان عادة مرحاً ودوداً طلق المحيا مفعماً بالحيوية والنشاط، وكان أهلاً للصداقة الحميمة الوثيقة. وما أسرع ما كان يغتفر أية إساءة لا تجرح كبرياءه، ولكنه لم يكن يحتمل في صبر أي نقد أو عمل عدائي (وكان يقول أني أحسد الحيوانات على شيئين، جهلها مما قد ينتابها من مصائب بما يقال عنها (72)) وأثار ذكاؤه الحاد حفيظة كثير من الأعداء، فحمل عليه فريرون وبيرون وديفونتين وهاجموا أراءه في عنف أشد من عنف رجال الدين في مهاجمته. ولسوف نسمع منهم شيئاً فشيئاً. ورد عليهم فولتير الضربات بمثلها على الرغم من نصح مدام شاتيليه له بالتزام الصمت، ووجه إليهم أقذع السباب والشتائم، وجند أصدقاءه لشن الحملات عليهم. وكم وجدت المركيزة مشقة في منعه من الذهاب إلى باريس ليعنف ديفونتين أو يتحداه، بل أنه فكر في مناشدة الرقابة أن يحظر نشر ما يكتبه ألد أعدائه. لقد كان في فولتير كل شوائب مناقبة ومزيد من الشوائب.

ووجد فولتير في رامو (الموسيقار) شخصاً نزقاً مزهواً سريع الغضب مثله. وكان تعاونهما في العمل امتحاناً قاسياً لكل منهما. ولكن أخيراً اكتمل نص الأوبرا والموسيقى وقام الممثلون والموسيقيين بعمل تجربة للرواية. وفي 23 فبراير 1735 عُرضت "أميرة نافار"-ولقيت ما كان مقدراً لها من نجاح. وبعد ذلك بشهر خصصت لفولتير حجرة في فرساي تقارب ما وصفه في رسائله الخاصة بأنها "أقذر حجرة في فرساي" وتبوأت مركيزة شاتيليه من جديد في الحاشية مكانها الذي كانت قد ضحت به من أجل فولتير. وحصلت آنذاك على الامتياز المذهل وهو الجلوس في حضرة الملكة. وكان في صعود نجم مدام دي بمبادور تدعيم لمركز فولتير فقد تعرف عليها حين كانت مدام دتوال، وزارها في دارها، وكتب في مديحها شعراً تافهاً، وبناء على إلحاح منها عينه الملك (أول أبريل) مؤرخ الملك براتب قدره ألفي جنيه في العام.

وسرعان ما اقتضت الظروف أن يثبت جدارته ووجوده، ذلك أنه في 11 مايو 1745 هزم الفرنسيون الإنجليز في فونتنوي فطلب دار جنسون قصيدة

ص: 210

غنائية تخلد هذا الانتصار. ونظم فولتير 350 بيتاً من الشعر في ثلاثة أيام طبعت خمس طبعات على مدى أسبوعين. وأحب الملك فولتير لفترة وجيزة، وأصبح فولتير شاعر حرب. وزيادة في تخليد ذكرى النصر كلف فولتير ورامو بإعداد أوبرا المهرجان. وأبرزت أوبرا "معبد المجد العظيم" أي تراجان-أي لويس الخامس عشر-عائداً من المعركة ظافراً منتصراً، وخصص لفولتير في تلك الأمسية مكان على مائدة الملك، وأكلا معاً طعاماً شهياً، ولكن فولتير سأل ريشيليو في لهفة: هل تراجان راض؟ ولكن الملك سمعه مصادفة ورأى أنه وقح جرئ بعض الشيء فلم ينبس إليه ببنت شفه.

وثمل فولتير بمزيج من الشهرة والانتساب إلى الحاشية الملكية، فبدأ حملة جديدة للانضمام إلى مجمع الخالدين (الأكاديمية الفرنسية) ولم يأل أي مجهود في تحقيق مأربه. وفي 17 أغسطس 1745 أرسل نسخة من رواية "محمد" إلى البابا بندكت الرابع عشر، يسأله أن يهديها إليه. وفي 19 سبتمبر رد البابا اللطيف: سعدت الليلة الماضية بروايتك "محمد" التي قرأتها بشغف وسرور عظيم. وإني لأقدر مواهبك أكبر تقدير، وهذا أمر يعترف به الجميع

وأني لأكبر كل الإكبار نبلك وإخلاصك

وإني هنا أمنحك بركتي الرسولية (73) ".

واغتبط فولتير بهذا الوسام أيما اغتباط حتى أنه كتب إلى البابا تقديراً حاراً ختمه بقوله: بكل إجلال وتقدير واحترام أقبل قدميك المقدستين (74) وأعلن إلى باريس تمسكه بالمذهب الكاثوليكي وإعجابه باليسوعيين، وأطنب في مدائحه لمدام بمبادور والملك. وتوسلت بمبادور إلى الملك وقبل الملك رجاءها. وأخيراً في 9 مايو 1746 وافقت الأكاديمية على الانضمام أمير الشعراء في هذا العصر والكتاب المسرحيين فيه إليها. وزيادة في تكريمه وتدعيم مركزه عين في 22 ديسمبر موظفاً في الحاشية الملكية مخصصاً للقيام على شئون الملك.

ص: 211

وربما تسنى له في أيام النجاح والعيش الرغيد هذه أن يكتب رواية "بابوك أو الدنيا كما هي" وبابوك رجل من سكيزيا (إقليم قديم في جنوب شرقي أوربا وجنوب غربي آسيا) يجول ليرى الدنيا، وبخاصة كيف تسير المور في فارس (أي فرنسا) وأصابه الذهول والفزع لما رأى من الحروب والفساد السياسي وشراء الوظائف وجباية الضرائب وثراء رجال الدين. ولكن ترحب به سيدة (مدام دي بمبادور) استماله جمالها وثقافتها وكياستها إلى "المدينة" ويرى بابوك هنا وهناك بعض مظاهر الكرم ونماذج للأمانة. ثم يزور رئيس الوزراء (تذكير بالكاردينال فليري) ويجده يعمل جاهداً لإنقاذ فارس من الفوضى والهزائم، ويخلص إلى أن الأمور تسير سيراً حسناً بقدر ما تسمح به الظروف الراهنة للطبيعة البشرية للتعليم، وأن الدنيا بوضعها الحاضر لا تستحق التدمير بعد، وأن الإصلاح خير من الثورة، أما بالنسبة لشخصه هو على أية حال فإنه سيقلد الحكماء الحقيقيين الذين سيعيشون بينهم وبين أنفسهم في عزلة وهدوء (75). فهل شعر بالوحشة والشوق إلى سيري فعلاً؟

إنه على أية حال لم يكن لائقاً ليعمل في البلاط. فإنه بطريقة تعوزها اللباقة إلى حد لا يصدق احتفل بانتصار الفرنسيين في برجن آوب زوم بقصيدة صور فيها الملك لويس الخامس عشر طائراً من ميدان المعركة إلى أحضان بمبادور، وعهد إليهما معاً بمهمة الاحتفاظ بالفتوحات واستبد الغضب بالملكة وبأبنائها، وأستنكر نصف أفراد البلاط وقاحة الشاعر، وفي الوقت عينه كانت دي شاتيليه قد انغمست في لعب الميسر، وفي ليلة واحدة خسرت 84 ألف فرنك، وأنذرها فولتير بالإنجليزية وهو واقف إلى جوارها بأنها تغش في اللعب. وفهم بعض اللاعبين ذلك واحتجوا وترامت أنباء هذه الصراحة المخزية إلى أفراد الحاشية، فلم تترك للشاعر صديقاً في فرساي أو فونتنبلو، وهرب فولتير وأميلي إلى سكو (1747) ليقيما لدى الدوقة دي مين التي ما زالت على قيد الحياة، وهناك بقي لمدة شهرين في جناح منفرد (منعزل) بعيد عن أنظار الناس، وهناك حاول أن ينسى ورطته

ص: 212

ومحنته بالانصراف إلى كتابة بعض القصص الرومانسية المرحة التي ساعدت على ان تجعل منه أعظم المؤلفين شعبية في الأدب الفرنسي. وواضح أنه قرأها ذات يوم على الضيوف المقربين الذين تألفت منهم حاشية الدوقة الخاصة. ومن هنا كان إيجاز هذه القصص وما فيها من هجاء مرح وسخرية لطيفة.

وأطول هذه القصص التي كتبت فيما بين عامي 1746، 1750 هي "زاديج أو سر القدر" وزاديج شاب بابلي لطيف غني تلقى أحسن تعليم، عاقل قدر ما يمكن أن يكون الإنسان عاقلاً واسع الإطلاع على علوم قدامى الكلديين، فهم أصول ومبادئ الفلسفة الطبيعية، وعرف من الميتافيزيقا ما يمكن أن يعرف في أي عصر، أي القليل منها أو لا شيء على الإطلاق (76). وكان على وشك أن يتزوج من سمينا الجميلة حين هاجمه بعض قطاع الطرق، وأصابوه بجرح تحول إلى خراج في عينه اليسرى، واستدعى هرمز الطبيب المشهور من ممفيس وفحص الجرح، ثم أعلن أن زاديج لا بد أن يفقد عينه، ولو أنه في العين اليمنى لأمكن علاجه بسهولة، ولكن الجروح في العين اليسرى غير قابلة للشفاء. وأعلنت سمينا أنها تنفر نفوراً لا سبيل إلى مقاومته من الرجال ذوي العين الواحدة، ومن ثم هجرت زاديج وتزوجت من غريمه. وفي ظرف يومين التأم الجرح من تلقاء نفسه وشفيت العين تماماً، ويؤلف الطبيب هرمز كتاباً يثبت فيه أن هذا مستحيل، ويدخل زاديج السرور على قلب الملك موابدار بنصائحه الغالية، وعلى قلب الملكة آستارت بنظراته الحانية فتقع في شراك غرامه، ويهرب زاديج إلى مدينة نائية. وفي الطريق يرى رجلاً يضرب امرأة، ويستجيب في شجاعة لصرخاتها طلباً للمساعدة، فيتدخل بينهما ويهاجمه الرجل بعنف ولكنه يرد به قتيلاً. وتسبه المرأة بألفاظ جارحة لأنه قتل عشيقها. ويمضي زاديج في طريقه ويؤخذ ويباع بيع الرقيق. عندئذ تصور زاديج "الناس كما هم في حقيقة أمرهم ...... حشرات يفتك بعضها ببعض من أجل قطرة من طين".

ص: 213

وقص "ممنون الفيلسوف" حكاية رجل اعتنق يوماً الفكرة الجنونية بأنه متعقل كل التعقل ولكنه وجد نفسه قاصراً قصوراً بائساً عاجزاً يواجه مئات الكوارث، فيقرر أن الأرض مستشفى كبير للأمراض العقلية تقوم الكواكب الأخرى بترحيل المجانين فيها إليه (77).

أما رحلات سكارمنتادو فهي تطوف بشاب من كريت من بلد إلى بلد حيث يكتشف له في كل يوم مشاهد جديدة من التعصب أو الخداع أو القسوة أو الجهل. ففي فرنسا تجتاح الحروب الدينية المقاطعات، وفي إنجلترا تحرق الملكة ماري خمسمائة من البروتستانت، وفي أسبانيا ينشق الشعب في لذة رائحة المهرطقين الذين ألقي بهم في النار، وفي تركيا ينجو سكارمتادو من الختان بأعجوبة، وفي فارس يتورط في الصراع بين طائفتي السنة والشيعة من المسلمين، وفي الصين يتهمه اليسوعيون بأنه شخصية بارزة من طائفة الدومنيكان، وأخيراً يعود إلى كريت "ومذ رأيت الآن كل ما هو نادر أو خير أو جميل على الأرض، فقد وطدت العزم على ألا أرى في المستقبل شيئاً غير بلدي، وتزوجت وسرعان ما أدخلني الشك في خيانة زوجتي، ولكني على الرغم من هذا الشك وجدت أن هذه هي لأسعد ظروف الحياة (78).

وتوسع ميكروميجاس في أفكار النسبية التي استخدمها سويفت في رحلات جلليفر. والسيد ميكروميجاس رجل يصلح للإقامة في نجم الشعري اليمانية، وطوله 120 ألف قدم وعرض صدره خمسون ألفاً، وطول أنفه 6. 333 قدماً. عندما بلغ 670 عاماً من العمر ذهب ليستزيد من التعليم.

وبينما هو يحوم في الفضاء هبط على كوكب الزحل فسخر من الأقزام هناك، حيث بلغ طول الناس هناك ستة آلاف قد أم نحوها، وتعجب كيف يتسنى لسكان زحل المعدمين هؤلاء الذين ليس لهم إلا 72 حاسة فقط أن يعرفوا الحقيقة وسأل أحد السكان إلى أي حد من العمر تعيشون؟ فصاح ساكن زحل واحسرتاه! قليل جداً منا يعيشون لأكثر من 500 دورة حول الشمس (وهي بحسابنا نحن تصل إلى نحو 15 ألف سنة) وهكذا ترى أننا بشكل ما نموت في اللحظة التي نولد فيها .... وما أقل ما نتعلمه

ص: 214

حين ينزل بنا الموت قبل أن نستفيد من خبرتنا (79). ويدعو ساكن الشعري اليمانية ساكن زحل إلى مصاحبته لزيارة كواكب أخرى، فتتعثر أقدامهما على كوكب الأرض، وتبتل قدما ساكن الشعري، ويكاد ساكن زحل يغرق وهما يسيران فوق البحر المتوسط. فلما وصلا إلى البر رأيا حشوداً من الأهالي صغار الأجسام يتمركزون هنا وهناك في اهتياج شديد، وعندما يتضح لساكن الشعري اليمانية أن مائة ألف من سكان الأرض هؤلاء يلبسون القبعات وعدداً مساوياً يضعون العمائم، يقتلون ويطيح بعضهم برؤوس بعض في صراع (الحروب الصليبية) حول ركام من التراب (فلسطين) لا يكاد يعلو على عقبيه يصيح ساخطاً. مستاءً: أيها الكفار الأوغاد

قلبي يحدثني أن أتقدم خطوتين أو ثلاثاً لأسحق تحت قدمي وكر السفاحين الحمقى بأسره (80).

وكل هذا كان عاماً ساراً بهيجاً، وكان يمكن أن يمر دون أن يحرك أحد ساكناً. ولكن فولتير في 1748 عكر صفو باريس بنشرة صغيرة "صوت الحكماء وصوت الشعب" هاجم فيها كنيسة فرنسا في نقطة حساسة، تلك هي "أملاك الكنيسة في فرنسا"، حيث ينمو العقل ويتطور يوماً بعد يوم، فإن العقل يعلمنا أنه يجدر بالكنيسة أن تسهم في نفقات الأمة بنسبة مواردها، وأن الهيئة التي نصبت نفسها لتلقين مبادئ العدالة يجدر بها أن تبدأ بنفسها لتكون قدوة للعدالة ونموذجاً لها ورغم أن الأديار تضيع أقوات الشعب وموارد الأرض في خمول عقيم، واتهم "الخرافة" بقتل الحكام وإراقة بحور من الدماء في الاضطهادات والحروب، وذكر الملوك بأن أحداً من الفلاسفة لن تمتد يده على مليكه، وإذا اتحد الملوك مع العقل وجردوا أنفسهم من الخرافة فكم يكون الناس أسعد وأهنأ بالاً. وقل أن أثارت رسالة موجزة مثل هذه العاصفة الهوجاء. ونشرت خمس عشرة رسالة مضادة للرد على رسالة "صوت الحكماء وصوت الشعب" التي لم يذكر اسم مؤلفها.

وأثناء إقامة فولتير في فصل الشتاء في سكو سددت مدام دي شاتيليه

ص: 215

ديون القمار، وهدأت من روع الرابحين، وخففت من استيائهم لما نعتهم به فولتير، وأعادته إلى باريس حيث أشرف على نشر قصصه الصغيرة، ووجد من الحكمة على الرغم من المشقة والتعب أن يلبي دعوة ستانسلاس لزكزنسكي لزيارة بلاطه في لونفيل-على بعد نحو 18 ميلاً من نانسي عاصمة اللورين. وبعد رحلة مرهقة وصل الحبيبان إلى لونفيل (1748) ولكن بعد أسبوعين وصل كتاب من دارجنتال ينبئ به فولتير بأن ممثلي الكوميدي فرانسيز على استعداد لتجربة روايته سمير اميس، وإنهم في حاجة إليه لمعاونتهم في تفسير أبياتها. وكانت هذه الرواية تعني الشيء الكثير لديه، وكانت بمبادور من طيبة نفسها الآثمة قد أعادت إلى المسرح كربيون (الأب) الفقير المعدم وهيأت له سبيل النجاح. وكان ماريفو قد نجا سر فاعتبر مسرحيات الشيخ الهرم أعلى مرتبة من مسرحيات فولتير. وكان الشاعر النحيل الجسم قد اعتزم أن يثبت تفوقه بكتابة روايات في نفس الموضوعات التي كان كربيون قد طرقها. ومن ثم أسرع فولتير إلى باريس تاركاً أميلي في حرية مهلكة في لونيفل. وفي 29 أغسطس 1748 عرضت سميراميس لأول مرة عرضاً ناجحاً. وبعد العرض الثاني أسرع متنكراً إلى مقهى بركوب واستمع إلى تعليقات من شهدوا المسرحية. وكانت ثمة تعليقات امتدحت الرواية وأطرتها، تقبلها فولتير على أنها من حقه، وثمة آراء أخرى انتقصت من قدرها وهاجمتها. وقد آلمته هذه أيما إيلام، حيث كان عليه أن يحتملها صامتاً، ولكنه استفاد مما وجه إلى المسرحية من نقد، فنقحتها واستمر عرضها طويلاً، وهي تعد الآن من أحسن مسرحياته.

وأسرع ثانية في جو سبتمبر العاصف عبر فرنسا إلى لونفيل، وكاد يموت في الطريق عند شالون، ولما استحثه فردريك الأكبر على المضي إلى بوتسدام اعتذر بأن المرض أفقده نصف سمعه وعدة أسنان من أسنانه، إلى حد أنه لن يكون إلا مجرد هيكل في برلين. فأجاب "تعال بلا أسنان وبلا أذنين، إذا لم يكن بد من الحضور على هذه الصورة، ما دام أن هذا الشيء الذي بتعذر تعريفه، والذي يمكنك من التفكير، والذي يوحي بكل ما جميل، سيحضر معك"(82) ولكن فولتير آثر المقام مع أميلي.

ص: 216

‌5 - موت الحبيبة

أحب الملك الصالح ستانسلاس الأدب، وكان قد قرأ فولتير وأصابته عدوى عصر الإستنارة، وفي 1749 كان الملك بصدد نشر بيانه "الفيلسوف المسيحي" الذي كانت ابنته ملكة فرنسا قد قرأته في استياء حزين. وحذرته من أن آراءه يشتم منها أنها نابعة من آراء فولتير إلى حد كبير. ولكن الشيخ الهرم استساغ آراء فولتير كما أعجب بذكائه. وكما أنه كان له أيضاً محظية (هي المركيزة دي بوفلرز) فأنه لم يجد تناقضاً في أن يتخذ من الشاعر محظياً له في بلاطه. كما عين، فوق ذلك، زوج أميلي المتحرر الواسع الأفق كبير مديري قصره براتب قدره ألفا كراون سنوياً.

وكان ثمة موظف آخر في بلاط ستانسلاس، هو المركيز جان فرانسوا دي سانت لامبرت، قائد الحرس. وكانت مدام دي شاتيليه قد التقت به لأول مرة في 1747، وكان هو في الحادية والثلاثين وهي "في الحادية والأربعين. وكانت تلك سن خطيرة لامرأة لم يعد عشيقها إلا مجرد صديق حميم. وفي ربيع 1748 بدأت تكتب للضابط الوسيم رسائل غرام تكاد تتسم بحماسة البنات الصغيرات وخلاعتهن:"تعال إلي بمجرد أن ترتدي ملابسك" سأطير إليك بعد أن أتناول العشاء. "واستجاب سانت لامبرت مغازلاً متودداً. وذات مرة في أكتوبر فاجأهما فولتير في خلوة مظلمة يتبادلان أحاديث الحب والهيام. إن أعظم الفلاسفة هو وحده الذي يتقبل هذه الفعلة النكراء، الخيانة، في هدوء وتسامح. ولم يثر فولتير لهذا الوضع على الفور، وأنبهما في شيء من الهذر والمزاج، ولكنه أوى إلى غرفته حين عرض سانت لامبرت تسوية الأمر معه-أي يقتله عند الفجر. وقصدت أميلي إلى فولتير في الثانية صباحاً، وأكدت له حبها الخالد، ولكنها ذكرته في رفق "بأنك لزمن طويل شكوت

من قواك أن تنهار

فهل يسيء إليك أن يحل أحد أصدقائك محلك؟ " وعانقته ولاطفته ودللته بأسماء الدلال التي كانت تناديه بها، فخفت سورة غضبه وقال "آه أنت على حق دائماً يا سيدتي. ولكن طالما كان لزاماً أن تجري الأمور على هذا النحو فلا

ص: 217

أقل من ألا تجري تحت سمعي وبصري" وفي الليلة التالية قصد سانت لامبرت إلى فولتير واعتذر له على تحديه. وعانقه فولتير وقال له "أي بني، لقد نسيت كل شيء. إني أنا المخطئ، أنت في زهرة عمر الشباب والحب والمتعة، فاستمتع بهذه اللحظات، فأنها قصيرة. إن هذا العاجز المريض مثلي لا يصلح لهذه الملذات" وفي الليلة التالية تناول ثلاثتهم العشاء معاً (83).

واستمر هذا الثلاثي "حتى ديسمبر حين اعتزمت السيدة دي شاتيليه الذهاب إلى سيري لتدبير شؤونها المالية. وصحبها فولتير، وجدد فردريك دعوته. وكان فولتير يميل الآن إلى تلبيتها. ولكن المركيزة فور وصولها إلى سيري أسرت إليه بأنها حامل، وأنها في مثل هذا السن وكانت آنذاك في الثالثة والأربعين، لا تتوقع أن تعيش بعد الولادة. وكتب فولتير إلى الملك فردريك ألا ينتظر قدومه. كما طلب إلى سانت لامبرت أن يحضر إلى سيري. وهناك اتفق العشاق الثلاثة على خطة لتأمين شرعية الطفل. واستحثت السيدة زوجها على القدوم إلى سيري للتعجيل بإنجاز بعض المهام. ولم ينزعج الزوج لوجود عاشقين آخرين إلى جانب زوجته يكملان شخصه، بل سعد كل السعادة حين استقبلوه بالترحيب وأكرموا وفادته. وازدانت المركيزة بأبهى زينة وأزهى حلة، ولاطفته أعظم ملاطفة، وشرب وثمل حتى كان ما كان (مما لست أذكره) وبعد بضعة أسابيع أبلغته أنها قد ظهرت عليها أعراض الحمل. واحتضنها في زهو وفرح. وأعلن عن الحادث السعيد المرتقب إلى كل الناس، وتقدم إليه الجميع بالتهنئة. ولكن فولتير وسانت لامبرت اتفقا على "أن يعد الطفل من بين أعمال مدام شاتيليه المتنوعة" (84) وعاد المركيز (الزوج) وسانت لامبرت إلى عملهما.

وفي فبراير 1749 عادت أميلي وفولتير إلى باريس وانصرفت هي إلى ترجمة قوانين نيوتن بمعاونة كليرو. وثمة رسالتان إلى سانت لامبرت (18، 20 مايو) تكشفان عن شخصيتها: "كلا: إنه ليس في مقدوري أن أعبر عن تقديسي وحبي لك حب عبادة. لا تلمني على نيوتن، ويكفيني

ص: 218

عذابي بسببه. وما ضحيت قط بشيء قدر تضحيتي للعقل ببقائي هنا لإنجازه .. أنا أستيقظ في التاسعة، وأحياناً في الثامنة صباحاً. وأتناول القهوة، واستأنف العمل في الرابعة، وأتوقف عنه في العاشرة

وأتجاذب أطراف الحديث مع فولتير حتى منصف الليل وهو يتناول معي العشاء. وفي منتصف الليل أعود إلى العمل في نيوتن واستمر حتى الخامسة صباحاً. إني أنجز هذا الكتاب من اجل العقل والشرف ولكني أحبك أنت وحدك" (85).

وفي 10 يونيه جدد فردريك بسرعة دعوة فولتير إلى الحضور إلى بوتسدام ظناً من الملك أن سانت لامبرت قد أعفى فولتير من أية مسئوليات أخرى يلتزم بها تجاه دي شاتيليه، فأجاب فولتير "حتى فردريك الأكبر نفسه لا يستطيع أن يحول بيني وبين القيام بالواجب لا يمكن أن يحلني منه أي شيء

لن أتخلى عن سيدة قد تعاجلها المنية في سبتمبر. والأرجح أن عملية الوضع ستكون خطيرة جداً عليها، ولكن إذا كتبت لها النجاة، فإني أعدك يا مولاي أن أحضر في أكتوبر وأقدم ولائي لجلالتكم (86) ".

وفي يوليه صحبها إلى لونفيل لتكون تحت رعاية طبية خاصة. إن خوف الموت أزعجها كل الإزعاج-يختطفها الموت في الوقت الذي وجدت فيه الحب من جديد، وفي الوقت الذي كانت فيه سني دراستها وبحثها على وشك أن تتوج بنشر كتابها. وفي 10 سبتمبر أنجبت طفلة. وفي اليوم العاشر من سبتمبر فارقت الحياة بعد أن عانت كثيراً. واستبد الحزن والأسى بفولتير فزلت قدمه وهو يغادر غرفتها وسقط على الأرض، وظل فاقد الوعي فترة من الوقت. وساعده سانت لامبرت على الأفاقة من غشيته. وقال فولتير عندئذ: "آه يا صديقي أنت الذي قتلتها

يا إلهي! ما الذي أغراك بأن تصل بها إلى هذه الحالة؟! " وبعد ذلك بثلاثة أيام طلب فولتير من لونجشامب الخاتم الذي خلعوه من يد السيدة المتوفاة. وكانت صورته منقوشة عليه يوماً ما وجده السكرتير في يد لامبرت، وتعجب فولتير قائلاً: "هكذا النساء. لقد خلعت صورة ريشيليو من هذا الخاتم، ثم جاء سانت لامبرت فطردني

هذا هو نظام الطبيعة .. شخص ينتزع مكان آخر.

ص: 219

وهكذا تسير الأمور في هذه الدنيا (87) ". ووريت مدام دي شاتيليه التراب في لونفيل في أروع مظاهر المهابة والجلال في بلاط ستانسلاس، وسرعان ما تبعتها طفلتها.

وعاد المركيز وفولتير إلى سيري ومن هناك رد على بعض رسائل التعزية التي تلقاها من باريس: "أنتم عزائي، يا ملائكة الرحمة أنتم تجعلونني أحب بقية أيامي التعسة. إنني أعترف لكم أن البيت الذي أظلها على الرغم مما يثير في نفسي من أشجان، ليس كريهاً عندي

أنا لا أهرب من أي شيء يحدثني عنها ويذكرني بها. إني أحب سيري

والأماكن التي زانتها عزيزة على أنا لم أفقد سيدة، بل فقدت نصف نفسي. فقدت نفساً خلقت لها نفسي، فقدت صديقة عشرين عاماً، عرفتها في طفولتها. إن أكثر الآباء عطفاً وحناناً لا يحب ابنته الوحيدة إلا كما أحببت أنا هذه السيدة. وبودي أن أجد في كل مكان ما يذكرني بها. وأحب أن أتحدث مع زوجها ومع ابنها (88).

ومع ذلك أدرك فولتير أنه سيذبل ويذوي إذا بقى مترملاً سيري الموحشة المنعزلة. وأرسل كتبه وأجهزته العلمية ومجموعته الفنية إلى باريس، وسافر في أثرها في 25 سبتمبر 1749. وفي 12 أكتوبر استقر به المقام في العاصمة، في قصر واسع الأرجاء في شارع ترافرسبير.

‌6 - مدام دنيس

كان من اليسير على فولتير أن يقنع ابنة أخته بالحضور لتكون ربة البيت حيث كانت لفترة من الوقت خليلته.

ولدت ماري لويز مجنو Mignot (1712) وهي ابنة كاترين أخت فولتير. وعندما توفيت كاترين (1726) تكفل فولتير برعاية أولادها. وفي 1737، عندما بلغت ماري السادسة والعشرين، دفع لها خالها صداقاً محترماً حيث تزوجت من الكابتن نقولا شارل دنيس، وكان موظفاً صغيراً في الحكومة.

ص: 220

وتوفي الزوج بعد ست سنوات من زواجه، وفي نفس الوقت الذي انتقل فيه فولتير والمركيزة دي شاتيليه إلى باريس. والتمست الأرملة بعض السلوى والعزاء بين ذراعي فولتير، ووجد هو بعض الحرارة والدفء بين ذراعيها. وواضح أن حب الخال سرعان ما تحول إلى شيء غير مشروع. وفي رسالة مؤرخة في 23 مارس 1745 خاطب فولتير ابنة أخته بقوله "محبوبتي، عزيزتي"(89)

(1)

وقد تكون هذه العبارة حب برئ ولكن في ديسمبر، أي قبل عامين من لقاء المركيزة بسانت لامبرت كتب فولتير إلى الأرملة الطروب رسالة يجدر اقتباسها حرفياً حتى يمكن تصديقها:"أقبلك ألف قبلة. روحي تقبل روحك، إن قلبي مفتون بك. أقبل كل شيء فيك"(90).

وحذفت مدام دنيس بعض الألفاظ تواضعاً وخجلاً، ولكن المفروض أنها أجابت برسالة غرامية، لأن فولتير كتب لها من فرساي في 27 ديسمبر 1745:"عزيزتي، تقولين إن كتابي إليك بعث السرور والنشوة حتى في حواسك كلها. وأنا مثلك تماماً. فلم أكد أقرأ العبارات الممتعة التي جاءت في كتابك حتى التهبت مشاعري من الأعماق. وأوليت كتابك كل الإجلال الذي أحب أن أوليه لشخصك كله، سأحبك حتى الممات"(92). وفي ثلاث رسائل بعث بها إليها في 1746 "إني أقبلك ألف قبلة"(93). بودي أن أعيش عند قدميك وأموت بين ذراعيك .. (94)"متى يكون في مقدوري أن أعيش إلى جوارك وينساني العالم بأسره؟ "(95) وفي 27

(1)

هذه العبارة والمقتطفات التالية مأخوذة عن رسائل خطية اكتشفها تيودور بسترمان في 1957، واشترتها مكتبة بيير بونت مورجان في نيويورك من أعقاب السيدة دنيس. ونشر الدكتور بسترمان، مدير معهد ومتحف فولتير في لي دليس في جنيف، النص الأصلي، مع ترجمة فرنسية تحت عنوان "رسائل غرامية من فولتير إلى ابنة اخته (باريس 1957) وترجمة إنجليزية (لندن 1958). وكل الرسائل، فيما عدا أربعاً من بين 142 رسالة بخط فولتير، وبعضها مكتوب بالإيطالية التي كانت مدام دنيس ملمة بها. وكتبت هذه الرسائل فيما بين عامي 1742 - 1745. وثلاث منها مؤرخة على وجه التحديد. ومن ثم لا يمكن أن يكون تسلسلها التاريخي مؤكداً. والتواريخ التي أوردناها هنا هي التي حددها دكتور بسترمان.

ص: 221

يوليه 1748 كتب يقول: "سأحضر إلى باريس من أجلك أنت إذا سمحت ظروفي سيئة. وسألقي بنفسي عند قدميك. وأقبل كل مفاتنك. وفي نفس الوقت أطبع ألف قبلة على كل موضع في جسمك الذي غمرني بفيض من اللذة والبهجة"(97).

في عمر الرجال، مثلما هو في عمر النساء، فترة خطيرة، وهي عندهم أطول، ويرتكبون فيها حماقات لا تصدق. وكان فولتير ألمع شخصية في القرن الذي عاش فيه، ولكن لا يجدر بنا أن نعده من بين الفضلاء الحكماء، فكثيراً ما اقترف هذه السخافات والعمال الطائشة وتردى في هذه التصرفات المتطرفة ونوبات الغضب الصبيانية، مما سر أعداءه وأزعج أصدقاءه. إنه وضع نفسه تحت رحمة ابنة أخته التي كان واضحاً أنها مغرمة به، ولكنها أحبت نقوده حباً متزايداً. إننا نجدها تستغل سيطرتها عليه لتزيد من ثروتها، حتى يوم وفاته. إنها لم تكن امرأة رديئة بمقاييس العصر. ولكنها ربما جاوزت حدود عمرها باتخاذها سلسلة من العشاق-باكولار دارنو، مارمونتيل، مركيز دي اكسيمين-لتستكمل رعاية خالها. (98) ووصفها مارمونتيل مادحاً في 1747 "إن هذه السيدة مقبولة بكل ما فيها من قبح. إن شخصيتها البسيطة غير المتكلفة تشربت مسحة من شخصية خالها. وكان فيها كثير من ذوقه ومن مرحه وأدبه الجم، ومن هنا كان السعي إلى الاجتماع بها والتودد إليها"(99).

وفي يوم وفاة مدام شاتيليه كتب فولتير إلى ابنة أخته:

"ابنتي العزيزة، فقدت اليوم صديقة عشرين عاماً. ولوقت غير قصير-كما تعرفين. لم أكن أنظر إلى مدام دي شاتيليه على أنها امرأة (هكذا). أنا واثق أنك ستشاطرينني الحزن الشديد عليها. إنه من المؤسف حقاً أن أراها تفارق الحياة في مثل هذه الظروف ولمثل هذا السبب، وأنا لا أتخلى عن المركيزة دي شاتيليه في هذه المحنة المتبادلة .... سأحضر من سيري إلى باريس لأحتضنك بين ذراعي، والتمس فيك عزائي وأملي الوحيد في الحياة (100).

ص: 222

وطوال الشهور الثمانية التي قضاها في العاصمة، تلقى فولتير من فردريك الأكبر رسائل كثيرة يستحثه فيها على الحضور، وكان هو يميل إلى قبول الدعوة. وعرض عليه فردريك أن يشغل وظيفة كبيرة في البلاط، مع دار خاصة بالمجان براتب قدره 5000 تالر في العام. (101) ولكن فولتير الذي كان من رجال مثلما كان فيلسوفاً، طلب إلى ملك بروسيا أن يقرضه بعض المال لتسديد نفقات الرحلة. ووافق الملك في تانيب ماكر، حيث شبه الشاعر بهوراس الذي رأى من الحكمة أن يمزج النافع بالمقبول (102). وطلب إلى فولتير الأذن بالرحيل من ملك فرنسا، ووافق لويس على الفور، قائلاً لخلصائه المقربين: "هذا سيزيد من جنون رجل مجنون في بلاط بروسيا وسيخفف من جنون رجل في فرساي (103). وفي 10 يونية 1750 غادر فولتير باريس إلى برلين.

ص: 223