الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد العاشر
روسو والثورة
تاريخ الحضارة في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا
من 1756 وفي بقية أوربا من 1715 إلى 1789
أيها القارئ العزيز
هذا هو المجلد الأخير في قصة الحضارة التي كرسنا لها نفسينا عام 1929، والتي كانت شغلنا اليومي الشاغل وسلوى حياتينا منذ ذلك التاريخ.
لقد كان هدفنا أن نؤلف "تاريخاً متكاملاً" أي أن نكتشف ونسجل ألوان النشاط الاقتصادي، والسياسي، والروحي، والخلقي الثقافي، لكل حضارة، في كل عصر، بوصف هذه الألوان عناصر وثيقة الترابط في واحد يسمي الحياة، ثم نضفي على القصة صبغة إنسانية بدراسات للأبطال في كل فصل من فصول هذه المسرحية المتصلة الحلقات ومع أننا نسلم بأهمية الحكم والسياسة، فقد سقنا التاريخ السياسي لكل حقبة ودولة كما تساق خلفية رويت من قبل غير مرة، دون أن يكون لب القصة أو روحها، وتركز جل اهتمامنا على تاريخ العقل. ومن ثم كان أكثر اعتمادنا في شؤون الاقتصاد والسياسة على المصادر الثانوية، بعكس ما انتهجناه في تناولنا للدين، والفلسفة، والعلم، والأدب، والموسيقى، والفن، فقد حاولنا الرجوع فيها إلى الأصول والمنابع: حاولنا أن نرى كل دين وهو يعمل في منبته، وأن ندرس أخطر الفلسفات في مؤلفاتها الكبرى، وأن نزور الفن في موقعه الأصلي أو الجديد، وأن نتذوق روائع الأدب العالمي، في لغاتها الأصلية في كثير من الأحيان، وأن تستمع إلى الألحان الموسيقية العظمى مراراً وتكراراً، ولو باقتطاعها من جوها المعجز. وتحقيقاً لهذه الأهداف طفنا بالعالم مرتين، وبأوربا مرات لا تحصى من 1911 إلى 1966. وسيدرك القارئ العطوف أنه يستحيل علينا في الأجل الواحد الذي كتب لنا أن نرجع بالمثل إلى المصادر الأصلية في الاقتصاد والسياسة، خلال قرون التاريخ الستين، وحضاراته العشرين
ولم نجد مندوحة عن الرضى بالحدود والقيود، والتسليم بما فينا من عجز وقصور.
ويؤسفنا أننا سمحنا لافتتاننا بكل جزء في ملحمة الإنسان بأن يوقفنا في رضى كثير، حتى ألفينا نفسينا في خاتمة المطاف منهوكي القوى حين بلغنا الثورة الفرنسية. ونحن نعلم أن هذا الحدث لم ينه التاريخ، ولكنه نهينا. وما من شك في أن طريقتنا المتكاملة الشاملة أفضت بنا إلى إثقال معظم هذه المجلدات بالطول المفرط. ولو أننا كتبنا تاريخاً ممزقاً-كقصة أمة؛ أو فترة أو موضوع واحد-فلربما وفرنا على القارئ وقته وعتاده، غير أن تصوير جميع الجوانب في قصة واحدة، عن عدة أمم، في فترة معينة، تطلب حيزاً للتفاصيل التي لم يكن منها بد لنفح الحياة في الأحداث والشخصيات. وسيشعر كل قارئ من جانبه بأن الكتاب مسرف في الطول، وأن تناوله لأمته أو لتخصصه مسرف في القصر.
فقد يرغب قراء الإنجليزية أو الفرنسية في أن يقصروا قراءتهم الأولى لهذا المجلد على الفصول 1 - 8، 13 - 15 - و20 - 38، ويرجئوا الباقي إلى حين، وقد يختار قراء لغات أخرى فصولهم على هذه الشاكلة. غير أننا نأمل أن يسير بعض الأبطال الشوط كله معنا، فيحاولوا أن يروا أوربا بوصفها كلاً في تلك السنين الثلاث والثلاثين المفعمة بالأحداث، والممتدة من حرب السنين السبع إلى الثورة الفرنسية، على أننا لن نقترف هذه الأسباب مرة أخرى، ولكن لو استطعنا أن نفلت من حاصد الأرواح سنة أخرى أو سنتين، فإننا نرجو أن نقدم للقارئ مقالاً ملخصاً في "عظات التاريخ".
ول وإيريل ديورانت
لوس أنجبليس
أول مايو 1967
الكتاب الأول
مقدّمة
الفصل الأول
روسو جواب الآفاق
1712 - 1756
1 -
الاعترافات
كيف حدث أن رجلاً ولد فقيراً، وفقد أمه عند مولده، ثم هجره أبوه بعد قليل وابتلي بمرض أليم مذل، وترك يضرب في الآفاق اثنتي عشر عاماً بين مدن غريبة ومذاهب دينية متناحرة، مرفوضاً من المجتمع والحضارة، رافضاً فولتير، وديدرو، والمسوعة، وعمر العقل، رجلاً طورد من مكان إلى آخر باعتباره ثائراً خطراً، واتهم بالإجرام والجنون، وشهد في شهور حياته الأخيرة تأليه خصمه الألد-نقول كيف حدث أن رجلاً كهذا، بعد موته؛ انتصر على فولتير، وأحيا الدين، وقلب التعليم رأساً على عقب، ورفع أخلاقيات فرنسا، وألهم الحركة الرومانية، والثورة الفرنسية، وأثر في فلسفة كانت وشوينهاور، وتمثيليات شيلر، وروايات جوته، وشعر وردزورث وبيرون وشيلي، واشتراكية ماركس، وأخلاق تولستوي وأتيح له-على الجملة- من التأثير على الأجيال التالية ما فاق تأثير أي كاتب أو مفكر آخر في ذلك القرن الثامن عشر؛ القرن الذي فاق في تأثير الكتاب تأثيرهم في أي عهد سبقه؟ هنا تواجهنا هذه
المشكلة إن كان لها أن تواجهنا في أي موضع: ما الدور الذي لعبته العبقرية في التاريخ، ما دور الإنسان إزاء المجتمع والدولة؟
كانت أوربا آنئذ مهيأة لإنجيل يبوئ الوجدان مكاناً فوق الفكر فلقد سئمت قيود التقاليد والأعراف، والآداب، والقوانين. وسمعت ما يكفي عن العقل، والجدل العقلي، والفلسفة، وبدا أن كل هذه الفوضى، فوضى العقول التي أطلق حبلها على غاربها، قد جردت الدنيا من المعنى، وعطلت النفوس من الخيال والرجاء، وكان الرجال والنساء بينهم وبين أنفسهن تواقين للعودة إلى حظيرة الإيمان. لقد ملت باريس، ملت الضجيج والعزلة، وسجن حياة المدينة وتزاحمها المجنون، وهفت الآن إلى حلم حياة الريف الأكثر هوناً، الحياة التي قد يجلب نظامها الرتيب البسيط للبدن صحة وللعقل سلاماً، والتي يرى فيها الإنسان من جديد نساء تزينهن الحشمة والحفر، والتي تلتقي فيها القرية كلها في كنيسة الأبرشية في هدنة أسبوعية. قم ما بال هذا "التقدم" الذي يزهون به، و"تحرير العقل" هذا الذي يفاخرون به-هل أحلا شيئاً محل ما دمراه؟ هل أعطيا الإنسان صورة للعالم ومصير الإنسان أكثر وضوحاً للإفهام أو إلهاماً للنفوس؟ هل حسنا حظوظ الفقراء، أو أتيا بالعزاء والسلوى للمحزونين على فقد الأعزاء أو للمتألمين المكروبين؟ سأل روسو هذه الأسئلة، وأضفى الشكل والإحساس على هذه الشكوك، فأصغت إليه أوربا بأسرها بعد أن أخمد صوته. وبينما كان فولتير يعيد على المسرح في الأكاديمية (1778)، وبينما كان روسو الموبخ المزدرى يختبئ في ظلام حجرة من حجرات باريس، بدأ عصر روسو.
ولقد ألف أشهر ترجمة ذاتية في أخريات أيامه، وهي كتابه "الاعترافات". ذلك أنه-وهو الرجل الحساس لكل نقد الظنون الذي خال جريم، وديدرو، وغيرهما يأتمرون به ليشوهوا سمعته في صالونات باريس وفي "مذكرات" مدام دينيه-هذا الرجل بدأ عام 1768، بإلحاح من أحد الناشرين، كتابة قصته هو ليروي سيرته وخلقه. وكل التراجم الذاتية بالطبع غرور في غرور، غير أن روسو-الذي أدانته الكنيسة، وحمته من حماية
القانون ثلاث دول، وهجره أخلص أصدقائه-كان له الحق في الدفاع عن نفسه، بل في الدفاع المستفيض: وحين قرأ فقرات من هذا الدفاع على بعض المحافل في باريس حصل خصومه على أمر من الحكومة يحظر إي قراءة علنية أخرى لمخطوطته. فلما فت في عضده، تركها عند موته مشفوعة برجاء للأجيال التالية قال فيه:
"إليكم هذه اللوحة الإنسانية الوحيدة-المنقولة بالضبط عن الطبيعة بكل صدق-الموجودة الآن أو التي ستوجد إطلاقاً في أغلب الظن. وأيما كنتم، يا من نصبكم قدري وثقتي حكماً على هذا السجل، فإني أستحلفكم بحق ما أصابني من خطوب ومحن وبحق ما تشعرون به من أخوة البشر، وباسم الإنسانية جمعاء، ألا تدمروا عملاً نافعاً فريداً في بابه، قد يصلح بحثاً مقارناً من الدرجة الأولى لدراسة الإنسان. وألا تنتزعوا من شرف ذكراي هذا الأثر الصادق الوحيد لخلقي، الأثر الذي لم ينل من خصومي مسخاً وتشويهاً (1) ".
والكتاب، بمحاسنه ومآخذه، نتاج ما فطر عليه مؤلفه من شدة الحساسية، وقوة الذاتية، ورهافة العاطفة. يقول روسو "إن قلبي الحساس كان أس بلائي كله". (2) ولكن هذا القلب أضفى ألفة حارة على أسلوبه، وحناناً على ذكرياته، وفي كثير من الأحيان سماحة على أحكامه، وكلها تذيب نفورنا ونحن نمضي في قراءة الكتاب. ففيه يغدو كل تجريد واقعاً شخصياً مجسداً، وكل سطر شعوراً نابضاً بالحياة فهذا الكتاب أشبه بالنبع الذي تتدفق منه نهر الاعترافات المستبطنة، النبع الذي روى أدب القرن التاسع عشر، لا لأنه لم يكن له ضريب سابق من كتب الاعترافات، ولكن حتى القديس أوغسطين لم يستطع أن يضارع هذه التعرية للذات، أو يدعي دعواها في الأمانة والصدق. والكتاب يستهل بدقة من البلاغة التي تتحدى المقلدين:
"إنني مقبل على مغامرة لم يسبق لها نظير، ولن يكون لتنفيذها مقلد، أريد أن أظهر إخواني في الإنسانية على إنسان في كل صدق الطبيعة، وهذا
الإنسان هو أنا نفسي. أنا مجرداً من كل شيء. إنني أعرف قلبي، وأنا عليم بالناس. ولم أخلق كأي حي من الأحياء. وإذا لم أكن خيراً منهم، فإنني على الأقل مختلف عنهم. أما أن الطبيعة أحسنت أو أساءت بتحطيم القالب الذي صببت فيه، فذلك شيء لا يستطيع الحكم عليه إنسان إلا بعد أن يقرأني".
"وأياً كان موعد الساعة التي سيُنفخ فيها في صور يوم الحشر، فسوف آتي وكتابي هذا في يميني لأمثل أمام الديان الأعظم وسوف أقول بصوت عالٍ: كذلك سلكت، وكذلك فكرت، وكذلك كنت، لقد تحدثت إلى الأبرار والأشرار بنفس الصراحة، وما أخفيت شيئاً فيه سوء، ولا أضفت شيئاً فيه خير. وقد أظهرت نفسي كما أنا: حقيراً خسيساً حين كنت كذلك، وخيراً سمحاً نبيلاً حين كنت كذلك، لقد أمطت اللثام عن أعمق أعماق نفسي (3).
وتتردد دعواه في توخي الصدق الكامل في الكتاب مراراً وتكراراً. ولكن روسو يسلم بأن تذكره لأشياء انقضى عليها خمسون عاماً كثيراً ما يكون تذكراً مبتوراً لا يمكن الركون إليه، وللجزء الأول في جملته جو من الصراحة يشيع الطمأنينة في القارئ. أما الجزء الثاني فتشوهه الشكاوى المملة من الاضطهاد والتآمر. وأياً كان الكتاب، فهو من أعظم ما نعرف من الدراسات السيكولوجية كشفاً عن النفس، وهو قصة روح حساسة شاعرة خاضت صراعاً أليماً مع قرن واقعي قاس. وعلى أية حال، فأن كتاب الاعترافات، لو لم يكن ترجمة ذاتية، لكان من إحدى الروايات العظيمة في العالم" (4)
(1)
.
(1)
مازال الجدل حول صدق "الاعترافات" حاراً. وأهم ما يدور عليه هو اتهام روسو لجريم وديدرو بأنهما تآمرا على تزييف رواية علاقاته بمدام ديبينيه، ومدام دوديتو، وبشخصيهما. وكانت كفة الرأي الناقد راجحة ضد روسو قبل 1900. ففي 1850 قرر سانت بيف، بفظاظة غير معهودة فيه، أن روسو لا يتردد في الكذب أقل تردد أينما تعرضت كرامته وغروره المريض للخطر، وقد خلصت إلى أنه كذب فيما يتصل بجريم ووافقه على هذا الرأي قطب مؤرخي الأدب الفرنسيين، جوستاف لانسون (1894)، فقال "إننا نفاجئ روسو في كل صفحة متلبساً بأكاذيب مفضوحة-كذب، لا مجرد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= خطأ، ومع ذلك فالكتاب في جملته يتقد إخلاصاً وصدقاً-لا صدق الوقائع بل صدق المشاعر (6). وقد سبق هذان الحكمان نشر كتاب السيدة فردريكا مكدونالد "جان جاك-روسو" دراسة جديدة في النقد- (لندن 1906). Jean-Jacques Rousseau-A New Sfudy in Critrcism، الذي يثبت صواب اعتبار "المذكرات" التي ألفتها مدام ديينيه متأثرة بموقف جريم وديدرو المنطوي على الحقد، إن لم تكن مملاة فعلاً من هذا الموقف. ودراستها للوثائق تغير ولا ريب كثيراً من المزاعم التي زعمها النقاد من قبل (7). قارن كتاب ماسو Mason ديانة روسو (1، 184) La Religion de Rousseau " سنرى أن علينا أن نكون شديدي الحذر في الاعتماد على هذه الروايات التي أجرى فيها ديدرو قلمه بالكثير من التعديل والتبديل". وقد وصل إلى أحكام مماثلة في صف روسو، ماثيو جوزفسن ( Gean-Gaques Rousseau 434 - 35، 531) وأمير فاجيه (حياة روسو Vie de Rousseau، 189) ، وجول لوميتر ( Jean-Jacque Rosseau، 9 - 10) وفون (كتابات روسو السياسية C. E. Vaughn)(Political Writings of Rousseau 11، 295، 547 - 552f.)
2 - الفتى الشريد
1712 -
1731
"ولدت بجنيف في 1712، ابناً لإسحاق روسو وسوزان برنار، المواطنين". والكلمة الأخيرة كانت تعني الكثير، لأن ألفا وستمائة فقد من بين سكان جنيف العشرين ألفاً كانوا يملكون اسم المواطن، وسيشارك هذا العامل في تاريخ جان-جاك. وكانت أسرته فرنسية الأصل، ولكنها وطنت في جنيف منذ 1529. وكان جده قسيساً كلفنياً، وقد ظل الحفيد في صميمه كلفنياً طوال تطويفه الديني كله. أما أبوه فكان من أقطاب صناعة الساعات، رجلاً خصب الخيال لا يستقر له قرار، أتاه زواجه (1704) بصداق قدره عشرة آلاف فلورين. وبعد أن أنجب غلاماً ترك زوجته (1705) ورحل إلى الآستانة حيث مكث ست سنوات ثم عاد لأسباب مجهولة، "وكنت الثمرة الحزينة لهذه العودة"(8) وماتت الأم بحمى النفاس بعد أسبوع من مولد جان جاك "جئت إلى العالم أحمل إمارات قليلة جداً على الحياة، بحيث لم يكن هناك كبير أمل في الإبقاء عليّ". وكفلته خالة له وأنقذته، وهو عمل "أغتفره لك دون تحفظ" على حد قوله. وكانت الخالة يجيد الغناء والترتيل، ولعلها بثت فيع ذلك الشغف بالموسيقى الذي لازمه طيلة حياته. وكان طفلاً عبقرياً، تعلم القراءة في زمن وجيز، ولما كان أبوه إسحاق مولعاً بالقصص الرومانسية، فقد راح الوالد والولد يقرءان الروايات المختلفة في مكتبه أمه الصغيرة. ونشئ جان-جاك على مزيج من القصص الغرامية الفرنسية، وتراجم بلوتارخ، والفضائل الكلفينية، وجعله هذا المزيج قلقاً مهزوزاً. قد وصف نفسه وصفاً دقيقاً بأنه "أبيٌ هش في وقت معاً، في خلقي أنوثة وهو مع ذلك خلق عاتٍ لا يقهر، دأب على وضعي في موضع التناقض مع نفسي لأنه متذبذب بين الضعف والشجاعة، وبين الترف العفة (9) ".
وفي 1722 تشاجر أبوه مع رجل يدعى الكابتن جوتيه، فأسال الدم
من أنفه، فاستدعاه القاضي المحلي ولكنه هرب من المدينة اتقاء السجن، واتخذ مقره مدينة نيون على ثلاثة عشر ميلاً من جنيف. وبعد سنوات تزوج ثانية. وكفل فرانسوا وجان-جاك خالهما جابريل برنار. وألحق فرانسوا بصانع ساعات، فهرب، واختفى من التاريخ. وأما جان-جاك وابن خاله أبراهام برنار فقد أرسلا إلى مدرسة داخلية يديرها القس لامبرسييه في قرية بوسيه القريبة "هنا كان علينا أن نتعلم اللاتينية، وكل اللغو التافه الذي أطلق عليه اسم التعليم". (10) وكان التعليم المسيحي الكلفني جزءاً من صميم المنهج.
وأحب معلميه، ولا سيما أخت القسيس، الآنسة لامبرسييه، وكانت في الثلاثين، وجان-جاك في الحادية عشرة، فوقع في غرامها على طريقته العجيبة. كان إذا ساطته عقاباً على سوء الأدب، أبهجه أن يتعذب على يديها، "فإن شيئاً من الشهوانية اختلط بالألم والخزي، مما خلف فيّ الرغبة في تكرار العقوبة أكثر من الخوف". (11) فلما عاد إلى الذنب وضح التذاذه بالعقاب وضوحاً صممت معه على ألا تعود إلى ضربه بالسوط. وقد ظل عنصر مازوكي يلازم تكوينه العشقي إلى النهاية.
"وهكذا قضيت سن المراهقة، ببنية متقدة، دون أن أعرف أو حتى أشتهي أي إشباع آخر لرغباتي المشبوبة غير ما أوحت به إليّ الآنسة لامبرسييه في براءة، وحين بلغت مبلغ الرجال لم يخفِ هذا الميل الصبياني بل اتحد مع الميل الآخر. ولقد ظلت هذه الحماقة وما صاحبها من شدة حياء فطري تحول دائماً بيني وبين الاجتراء مع النساء، وهكذا كنت أقضي أيامي أتحرق في صمت شوقاً لم أهيم بهن دون أن أجرؤ على البوح برغباتي ..
"وهانذا قد خطوت أول خطوة وأشقها في تيه اعترافاتي الحالك الأليم. ذلك أننا لا نستشعر في البوح بذنب ينطوي على الإجرام فعلاً ذلك النفور الشديد الذي نستشعره في البوح بذنب لا يثير غير السخرية"(12).
ويجوز أن روسو، في حياته اللاحقة، وجد عنصر لذة في شعوره بالمقاومة والصد من العالم، ومن أعدائه، ومن أصدقائه.
وبعد اللذة التي وجدها في عقوبات الآنسة لامبرسييه وجد متعة في المنظر الطبيعي الرائع الذي أحاط به، "كان في الريف من الفتنة
…
ما حبب إليّ الحياة الريفية حباً لم يستطع الزمن أن يطفئه". (13) ولعل هذين العامين الذين أنفقهما في بوسيه كانا أسعد سني عمره رغم ما تكشفه له من ظلم في هذه الدنيا. فقد عوقب مرة على ذنب لم يجنه، فاستجاب بسخط لم يفارقه قط، وبعدها "تعلم أن يرائي، ويتمرد، ويكذب، وبدأت كل الرذائل المألوفة في حياتنا تفسد براءتنا السعيدة". (14)
ولم يجاوز قط هذه المرحلة من التعليم المدرسي أو الكلاسيكي وربما كان افتقاره إلى التوازن، وصواب الحكم، وضبط النفس، وإخضاعه العقل والوجدان-ربما كان هذا كله راجعاً لإنهاء تعليمه المدرسي في فترة مبكرة. ففي 1724؛ حين بلغ الثانية عشرة، أعيد هو وابن خالته إلى بيت أسرة برنار. وزار أباه في نيون، وهناك هام بفتاة تدعى فورسون، فصدته عنها، ثم بأخرى تدعى جوتون "أبت أن تسمح له بشيء من التجاوز معها، في حين أباحت لنفسها أشد الحريات معي". (15) وبعد عام من التردد والتذبذب ألحق صبيا بحفار في جنيف. وكان يحب الرسم، وقد تعلم الحفر على ظروف الساعات، ولكن معلمه كان يضربه بقسوة على ذنوب صغيرة، "فدفعني إلى رذائل كنت أحتقرها بفطرتي، كالكذب، والكسل، والسرقة". وأنقلب الصبي الذي كان من قبل سعيداً إلى غلام منطوٍ مكتئب كاره لعشرة الناس.
ووجد السلوى في الإدمان على قراءة الكتب التي استعارها من مكتبة قريبة، وفي الرحلات الريفية يقوم بها في الآحاد. وحدث مرتين أنه تباطأ في الحقول حتى وجد أبواب المدينة مغلقة إذ حاول العودة، فأنفق الليل في العراء، ومضى إلى عمله نصف مشدوه، وكان جزاؤه علقة ساخنة.
وفي رحلة ثالثة من هذه الرحلات حملته ذكرى هذا الضرب على أن يقرر ألا يعود إطلاقاً فمضى قدماً إلى كونفنيون في سافوي الكاثوليكية، على ستة أميال من بلدته، وهو لم يبلغ بعد السادسة عشرة (15 مارس 1728) لا نقود معه ولا ثياب سوى ما يحمله على ظهره.
هناك طرق باب قسيس القرية الكاثوليكي الأب بنوا ديونفير، ولعله سمع أن هذا الكاهن الشيخ تواق لهداية الجنيفيين الشريدين، فهو يقدم لهم الطعام الطيب عملاً بالنظرية القائلة أن المعدة الممتلئة تعين على التفكير المستقيم. وقد قدم لجان-جاك غذاءً طيباً، وقال له "اذهب إلى آنسي، حيث تجد سيدة صالحة خيرة يتيح لها كرم الملك أن تحول النفوس عن تلك الخطايا التي أقلعت عنها لحسن الحظ"(16). ويضيف روسو أن هذه السيدة هي "مدام دفاران، التي اهتدت إلى الكثلكة مؤخراً، والتي رتب القساوسة أن يبعثوا إليها بأولئك التعساء المستعدين لبيع عقيدته، وكانت إلى حد ما مضطرة إلى أن تشارك هؤلاء معاشاً قدره ألفا فرنك أنعم بها عليها ملك سردانيا". ورأى الفتى الشريد أن شطراً من ذلك المعاش قد يستأهل تغيير العقيدة. وبعد ثلاثة أيام، في آنسي، مثل أمام مدام فرانسوا-لويز دلاتور، بارونة فاران.
كانت في التاسعة والعشرين، امرأة حلوة، كيسة، دمثة، سمحة جذابة الملبس، "ما رأيت وجهاً أجل ولا جيداً أبدع، ولا ذراعين مليحتين أروع تكويناً"(17). وكانت في مجموعها أبلغ حجة تناصر الكاثوليكية رآها روسو على الإطلاق. ولدت يفيفي بأسرة طيبة، وتزوجت وهي صغيرة جداً من المسيو (البارون فيما بعد) دفاران اللوزاني وبعد سنوات من التنافر الأليم تركته، وعبرت البحيرة إلى سافوي، ونالت حماية الملك فكتور أمادو، وكان يومها في إفيان. وبعد أن نزلت آنسي، قبلت اعتناق الكاثوليكية، معتقدة أنها لو أدت شعائرها الدينية على الوجه الصحيح لغفر الله لها غرامياتها التي تقع فيها بين الحين والحين،
ثم إنها لم تستطع أن تصدق أن يسوع الرقيق القلب سيقذف بالرجال-فما بالك بامرأة جميلة-في النار الأبدية (18).
وكان يطيب لجان-جاك أن يمكث معها لولا أنها كانت مشغولة. فنفحته ببعض المال، وأمرته بأن يمضي إلى تورين ويتلقى التعليم في "نزل الروح المقدس" وقد استقبل هناك في 12 إبريل 1728، وفي 21 إبريل عمد في المذهب الكاثوليكي الروماني. وحين استعاد ذكرى هذه الواقعة بعد أربعة وثلاثين عاماً-وقبل عودته إلى البروتستانتية بثماني سنوات-كتب يصف في رعب تجربته في النزل، بما في ذلك محاولة للاعتداء على عفته من زميل مغربي حديث الاهتداء؛ وقد خيل إليه أن موقفه من اعتناق الكاثوليكية كان موقف النفور، والخزي، والتسويف الطويل. ولكن الظاهر أنه تكيف مع الظروف التي وجدها في النزل لأنه مكث هناك دون إكراه أكثر من شهرين بعد أن قبل في كنيسة روما (19).
ثم ترك النزل في يوليو، مسلحاً بستة وعشرين فرنكاً. وبعد أن أنفق أياماً في مشاهدة معالم المدينة وجد عملاً في متجر جذبه إليه جمال السيدة الواقفة خلف منضدته. ووقع في غرامها للتو والساعة، وما لبث أن جفا أمامها وبذل لها عهداً بالوفاء مدى الحياة. وابتسمت مدام بازيل، ولكنه لم تسمح له بأن يتجاوز يدها، ثم أن زوجها كان وشيك الوصول في أية لحظة. يقول روسو "إن عدم توفيقي مع النساء نشأ دائماً عن إفراطي في حبهن"(20) ولكن كان في فطرته أن يجد في التأمل لذة أعظم مما يجد في الإشباع وقد فرج عن ضيقه بتلك "التكملة الخطرة التي تخدع الطبيعة وتنقذ الفتيان، الذين على شاكلتي مزاجاً، من اضطرابات كثيرة، ولكن على حساب صحتهم، وقوتهم، وأحياناً حياتهم"(21).
ولعل هذه العادة، التي تفاقمت حماها نتيجة النواهي المرهبة، لعبت دوراً خفياً في زيادة نزقه، وأهامه الرومانسية، وشعوره بالقلق في المجتمع، وحبه للوحدة. وهنا نجد "الاعترافات" تتوخى صراحة لم يسبق لها نظير.
"كانت أفكاري في شغل شاغل بالفتيات والنساء ولكن بطريقتي الخاصة. وقد أبقت هذه الأفكار حواسي في نشاط دائم مؤذٍ
…
وبلغ في التهيج مبلغاً جعلني ألهب رغباتي بأشد المناورات إسرافاً بعد أن عجزت عن إشباعها. فكنت ألتمس الأزقة المظلمة والأركان المنزوية، حيث أستطيع أن أتعرف عن بعد أمام أشخاص من الجنس اللطيف في الوضع الذي اشتهيت أن أكون عليه بقربهن. أو لم يكن ما رأيته مني هو عورتي-فذلك مل لم يخطر لي ببال، إنما كان العضو المثير للضحك (الأرداف). ولا يمكنني وصف اللذة الحمقاء التي استشعرها في تعريتها أما أعينهن. ولم تكن بين هذا وبين المعاملة المشتهاة (وهي الجلد) غير خطوة واحدة؛ ولست أشك أن امرأة حازمة كانت في مرورها مانحتي هذه المتعة لو إنني جرؤت على التمادي في فعلتي.
"وذات يوم ذهبت لأقف في مؤخرة حوش به بئر تستقي منه فتيات البيت
…
وعرضت عليهن مشهداً يثير الضحك أكثر مما يثير الغواية. أما أحكمهن فتظاهرن بأنهن لا يرين شيئاً؛ وبدأ بعضهن يضحكن، وأحس غيرهن بالإهانة فصحن مستغيثات".
ولكن واحدة منهن لم تتقدم للأسف لتجلده-وبدلاً من ذلك حضر حارس يحمل سيفاً ثقيلاً وله شارب رهيب، ومن خلفه أربعة عجائز أو خمس مسلحات بالمكانس. أما روسو فنجا بأن قال في تعليل مسلكه أنه "شاب غريب من أسرة كريمة إلتاث عقله" ولكن ماله قد يمكنه ف المستقبل من مكافأتهم على غفرانهم فعلته، "وتأثر الرجل المرعب" وخلى سبيله، الأمر الذي أسخط العجائز غاية السخط (22).
وكان خلال ذلك قد وجد وظيفة تابع يرتدي زي الخدم في بيت مدام دفرسللي، وهي سيدة تورينية لهالا نصيب من الثقافة. هناك اقترف جريمة أثقلت ضميره طوال عمره. ذلك أنه سرق شريطاً من أشرطة المدام الزاهية الألوان، فلما أتهم بهذه السرقة ادعى أن خامة أخرى أعطته
الشريط. ووبخته الخادمة-ماريون-البريئة تماماً من السرقة توبيخاً انطوى على نبوءة، فقالت له "إيه يا روسو، ظننتك ذا طبيعة خيرة. أنك تجعلني غاية في التعاسة، ولكنني لا أرضى أن أكون في موقفك (23) ". وطرد كلاهما، ويضيف روسو في اعترافاته:
لست أدري ما أصاب ضحية افترائي هذا، ولكن كان الاحتمال ضعيفاً جداً في أن تجد لها وظيفة حسنة بعد ذلك، لأنها عانت من تهمة مؤذية لسمعتها من جميع الوجوه
…
ولقد الذكرى الأليمة لهذا العمل .. تثقل ضميري إلى اليوم، وفي وسعي أن أكون صادقاً أن رغبتي في التخفيف من ألم هذه الذكرى شاركت كثيراَ في تصميمي على كتابة اعترافاتي (24).
وقد تركت تلك الشهور الستة التي عمل فيها خادماً بصمتها على خلقه، فهو لم يصل قط إلى احترام نفسه رغم كل وعيه بعبقريته: شجعه قسيس شاب لقيه وهو يخدم مدام دفرسللي على الاعتقاد بأن في استطاعته التغلب على أخطائه إذا حاول مخلصاً القرب من أخلاقيات المسيح. وقال السيد جيم هذا إن أي دين صالح مادام يشيع السلوك المسيحي؛ ومن ثم فقد أومأ إلى أن جان-جاك يكون أهنأ بالاً إن هو عاد إلى مسقط رأسه ومذهبه الأصلي. وقد استقرت هذه الآراء "لرجل من أفضل عرفت من الرجال" طويلاً في ذاكرة روسو، وأوحت إليه بصفحات مشهورة في كتابه "إميل". وبعد عام التقى في مدرسة سان-لازار اللاهوتية، بقس آخر هو إذ الأبيه جاتييه، رجل له "قلب يفيض رقة وحناناً" فاته الترقي بأنه كان سبباً في حمل عذراء في أبرشيته. يقول روسو معقباً "لقد كانت هذه الفعلة فضيحة رهيبة في أسقفية شديدة التزمت، لا يصح فيها أبداً للقساوسة (الخاضعين لتنظيم حسن) أن يكون لهم أبناء-إلا من نساء متزوجات (25) ". ومن "هذين القسيسين الفاضلين ألفت شخصية قسيس سافوا".
وفي مطلع صيف عام 1729، عاود روسو-الذي بلغ الآن السابعة عشرة-الحنين إلى حياة الترحل، ثم أنه علل نفسه بأنه قد يجد بمعونة مدام دفاران وظيفة أقل إذلالاً لكبريائه. فأنطلق بصحبة غلام جنيفي مرح يدعى باكل سيراً من تورين، واخترقا ممر جبل سنيس في الأب إلى شامبري وآنسي. وقد صور قلمه الرومانسي تلك الانفعالات التي جاشت بها نفسه وهو يدنو من مسكن مدام دفاران تصويراً رائعاً "فقد ارتعشت ساقاي من تحتي وغامت عيناي، فلم أبصر ولم أسمع ولم أذكر أحداً، واضطررت مراراً إلى الوقوف لألتقط أنفاسي وأملك أحاسيسي المشدوهة (26) ". ولا شك في أنه كان غير واثق من أنها سترحب بمقدمه. فكيف يستطيع أن يفسر لها كل ما طرأ على حياته من صروف وتقلبات منذ تركها؟ على أن "نظرتها الأولى بددت جميع مخاوفي. ووثب قلبي لسماع صوتها. وألقين نفسي عند قدميها، وفي نشوة من الفرح العارم ضغطت شفتاي على يدها (27) ": ولم يسوءها هيامه بها، فخصصت له حجرة في بيتها، وحين بدأ البعض يتقولون كان جوابها "فليقولوا ما شاءوا، ولكني مادامت العناية قد ردته إليّ، فإني عازمة على ألا أتخلى عنه".
3 - ماما
1729 -
1740
وتعلق بها تعلقاً شديداً، كأي فتى يتعلق بامرأة الثلاثين كان يلثم سراً الفراش الذي تنام عليه، والكرسي الذي تجلس عليه "بل الأرض ذاتها حين يخطر إلى أنها مشت عليها (28) ".
(هنا يخيل ألينا أن المبالغة طغت على التاريخ)
وكان شيد الغيرة من كل من ينافسونه على الاستئثار بوقتها. وتركته يخرخر كالهر السعيد، وكانت تدعوه تارة بالقط الصغير، وتارة بالطفل، وشيئاً فشيئاً أرتضى أن يدعوها "ماما" واستخدمته في كتابة رسائلها وإمساك حساباتها، وجمع الأعشاب لها، ومعاونتها في تجاربها الكيميائية. وأعطته كتباً ليقرأ-الاسبكتاتور، ويوفندرف، وسانت افرمون، وملحمة فولتير الهنرياده. وكانت هي نفسها تحب أن تتصفح "قاموس بويل التاريخي النقدي" وكانت لا تسمح للاهوتها بأن يضايقها، ولعل استمتاعها بصحبة الأب جرو، ناظر مدرسة اللاهوت المحلية، مرجعه أنه كان يساعدها على إحكام عقد مشدها "وبينما كان مشغولاً بهذا كانت تجري في أرجاء الغرفة، هنا أو هنا كما تدعو الدواعي. وكان الأب، ناظر المدرسة، يتبعها متذمراً تجره الأربطة من خلفها، وهو لا يفتأ يردد "أرجوكِ أن تقفي ساكنة يا سيدتي". وكان هذا كله مشهداً مسلياً حقاً (29) ".
وربما كان هذا القسيس المرح هو الذي أشار بأن جان-جاك قد يستوعب من التعليم قدراً يؤهله لأن يكون قسيس قرية، ذلك على الرغم من كل أمارات الغباوة البادية عليه. ووافقت مدام دفاران وهي مغتبطة بالعثور له على مهنة يرتزق منها. وعليه ففي خريف 1729 دخل
روسو مدرسة سان-لازار اللاهوتية ليحضر للقسوسة. وكان قد ألف الكاثوليكية الآن بل شغف بها (30)؛ أحب فيها طقوسها المهيبة، ومواكبها، وموسيقاها، وبخورها، وأجراسها التي خالها تعلن على الملأ كل يوم أن الله في سمائه، وأن العالم بخير أو سوف يكون بخير، أضف إلى ذلك أن مذهباً يستهوي مدام دفاران ويغفر لها خطاياها لا يمكن أن يكون سيئاً. غير أن التعليم المدرسي الذي حصله من قبل كان من الضآلة بحيث اقتضى الأمر أن يفرض عليه منهج مركز في اللاتينية. ولكنه لم يستطع صبراً على تصاريف أسمائها وصفاتها وأفعالها، وبعد خمسة أشهر من الجهد والعرق رده معلموه إلى مدام دفاران بتقرير يقول أنه "غلام لا بأس بتقواه" ولكنه لا يصلح كاهناً.
وحاولت مساعدته من جديد. ودعاها ما لاحظته من ميله للموسيقى إلى تقديمه إلى نيكولوز لوميتر، عازف الأرغن في كتدرائية آنسي وذهب جان-جاك ليعيش معه طوال شتاء 1729 - 30، وعزاؤه أنه لا يبعد عن ماما سوى عشرين خطوة. وراح يرتل في فرقة الترتيل ويعزف على الفلوت، وأحب الترانيم الكاثوليكية، ووجد الغذاء الطيب، وكان سعيداً. ولم يعكر عليه صفو العيش مع المسيو لوميتر غير إسراف هذا العازف في الشراب. وذات يوم تشاجر رئيس فرقة الترتيل الصغير مع رؤسائه، فجمع كراسات موسيقاه في صندوق، ورحل عن آنسي. وامرت مدام دفاران روسو أن يصحبه حتى ليون. هناك سقط لوميتر على الطريق مغشياً عليه بفعل (البطاح) أي هذيان الحمى الذي يصيب مدمني الخمر. واستغاث جان-جاك بالمارة وقد أصابه الرعب، وأعطاهم العنوان الذي كان مدرس الموسيقى يبحث عنه، ثم فر راجعاً إلى آنسي وماما. "أن تعلقي بها بكل ما فيه من حساسية وصدق اقتلع من قلبي كل مخطط يمكن تصوره وكل حماقات الطموح. فلم أر سعادة في غير العيش بقربها، وما كنت لأخطو خطوة دون أن أشعر أن المسافة بيننا قد بعدت (31) ". ولكن علينا أن نذكر أنه لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة.
فلما وصل إلى آنسي وجد أن المدام قد رحلت إلى باريس ولا أحد يعرف متى تعود. وأحس أنه وحيد مهجور، فراح ينفق اليوم تلو اليوم هائماً على وجهه في الريف، يتأسى بالمنظر إلى ألوان الربيع المشرقة وسماع زقزقة الطيور-هذه الطيور العاشقة بلا ريب. وكان أحب الأشياء إليه أن يستيقظ مبكراً ويرقب الشمس تطلع ظافرة فوق الأفق. ورأى في إحدى جولاته تلك آنستين راكبتين، تحثان جواديهما المترددين على خوض غدير أمامهما. وفي نوبة من نوبات البطولة أمسك بعنان أحد الجوادين وعبره الماء والآخر يتبعه. وكان على وشك المضي إلى حال سبيله لولا أن الفتاتين أصرتا على أن يصحبهما إلى كوخ يجفف فيه حذاءه وجواربه، فوثب على ظهر أحد الجوادين خلف الآنسة ج. تلبية لدعوتها "فلما اضطررت إلى الإمساك بها لأستقر في مكاني راح قلبي يدق وكانت دقاته من العنف بحيث أحست بها"(32) في تلك اللحظة بدأ يكبر في هيامه بمدام دفاران. وأنفق الشباب الثلاثة يومهم في رحلة خلوية معاً، وتجرأ روسو فقبل يد إحدى الفتاتين ثم تركتاه، فقفل إلى آنسي لا يكاد يعبأ بغياب ماما عنها. وقد حاول العثور على الآنستين ثانية، ولكن دون جدوى.
وما لبث أن عاد يضرب في الأرض من جديد، واصطحب هذه المرة خادمة مدام دفاران إلى فريبورج. وإذا اخترق جنيف "ألفيتني متأثراً بالغ التأثر حتى لم أكد أقوى على المضي في طريقي
…
فقد رفعت صورة الحرية (الجمهورية) روحي إلى الذرى" (33). ومن فيبورج مشى إلى لوزان. ولم يعرف التاريخ كاتباً شديد الولع بالمشي مثله. فمن جنيف إلى تورين إلى آنسي إلى لوزان إلى نوشاتل إلى برن إلى شامبري إلى ليون عرف الطريق واستمتع شاكراً بالمناظر والروائح والأصوات.
"يطيب لي أن أمشي على سجيتي، وأن أقف حيث أشتهي، فحياة المشي ضرورية لي. والسفر على الأقدام، في ريف جميل، وجو بديع،
وبهدف لطيف أختم به رحلتي-هذا أنسب ما يروقني من ضروب العيش" (34).
ذلك أنه لعدم شعوره بالاطمئنان في حضرة الرجال الذين أصابوا حظاً من التعليم، وبالخجل والعي في خضرة النساء الجميلات، كان يسعد إذا انفرد بالغابات والحقول، والماء، والسماء، فجعل من الطبيعة مستودع سره ونجواه وأفضى إليها بغرامياته وأحلامه في حديث صامت. وخيل إليه أن حالات الطبيعة المتقلبة تمتزج أحياناً في تناغم صوفي مع حالته النفسية. ولم يكن أول من أشعر الناس بجمال الطبيعة، إلا أنه كان أشد رسلها تحمساً لها وتأثيراَ فيهم فنصف شعر الطبيعة منذ روسو هو جزء من تراثه، لقد شعر هاللر من قبل بجلال جبال الألب ووصفه، ولكن روسو جعل من سفوح سويسرا على طوال الساحل الشمالي لبحيرة جنيف ملكه الخاص، وأورث الأجيال عبير كرومها المدرجة. فلما أراد اختيار موقع لبيت يسكنه شخصيتي جولي وفولمار أسكنهما هنا، في كلارنس بين فيفيه ومونترو، في فردوس أرضي امتزجت فيه الجبال والخضرة والماء والشمس والثلوج.
وانتقل إلى نوشاتل حين لم يصب نجاحاً في لوزان "هنا .... بفضل تدريسي للموسيقى اكتسبت بعض الإلمام بها دون وعي مني. "(35)
وفي بلدة قريبة تدعى بودري التقى بحبر يوناني يلتمس بعض المال لترميم كنيسة القبر المقدس في أورشليم، فرافقه روسو مترجماً له، ولكنه تركه في سوليو ومشى خارجاً من سويسرا داخلاً فرنسا. وفي أثناء سيره دخل كوخاً وسأل صاحبه أيستطيع شراء طعام، فقدم له الفلاح خبز الشعير واللبن، وقال إن هذا كل ما يملك، ولكنه حين رأى أن جان-جاك ليس جابي ضرائب فتح باباً مسحوراً نزل منه ثم عاد بخبز قمح، وبيض، ونبيذ. وعرض روسو أن يدفع ثمن طعامه، ولكن الفلاح أبى أن يقبله، وعلل سلوكه بأنه مضطر إلى إخفاء خير الطعام مخافة أن يفرض عليه المزيد من الضرائب. إن ما قاله لي .. خلف في ذهني أثراً لا يمحى،
وبذر بذور تلك الكراهية التي لا تطفأ والتي نمت منذ ذلك الحين في قلبي، الكراهية لما يقاسيه هؤلاء التعساء من عنت، والسخط الشديد على ظالميهم. (36)
وفي ليون أنفق أياماً بغير مأوى، يفترش المقاعد في الحدائق العامة أو ينام على الأرض، واستخدم حيناً في نسخ الموسيقى. فلما سمع أن مدام دفاران.
تسكن شامبري (على أربعة وخمسين ميلاً إلى الشرق)، انطلق لينضم إليها من جديد. ووجدت له وظيفة سكرتير لملاحظ الأقاليم (1732 - 34) وكان خلال ذلك يعيش تحت سقفها، لا ينقص من سعادته بعض الشيء غير ما كشف من أن مدير أعمالها كلود آنية هو أيضاً يعشقها. ويتضح ما طرأ على غرامه من فتور من هذه الفقرة الفريدة في اعترافاته:
"لم أستطع أن أعلم، دون ألم، أنها تعيش في مودة أوثق مع شخص غيري
…
ومع ذلك فبدلاً من أن أشعر بأي كراهية للشخص الذي تفوق عليّ على هذا النحو وجدت الود الذي أكنه لها يمتد فعلاً إليه، فلقد تمنيت لها السعادة فوق كل شيء وإذ كان معنياً بخطتها التي توسلت بها للسعادة، فقد رضيت له السعادة هو أيضاً واعتنق خلال ذلك أفكار خليلته تماماً وشعر بصداقة مخلصة لي
…
وهكذا عشنا في وحدة أسعدتنا جميعاً، وحدة لا يقوى على فصم عراها غير الموت. ومما يدل على سمو خلق هذه المرأة الودود أن كل الذين أحبوها أحبوا بعضهم بعضاً، فحتى الغيرة والتنافس أذعنا للعاطفة التي ألهمتهم إياها وما رأيت قط واحد ممن أحاطوا بها بضمير أقل حقد للآخرين. فليتوقف القارئ هنيهة عند هذا المديح، وإذا استطاع أن يتذكر أي امرأة أخرى تستحقه فليرتبط بها إن أراد لنفسه السعادة (37).
أما الخطوة التالية في هذه الرواية الغرامية المتعددة الأطراف فكانت هي
أيضاً نقيضاً لكل قواعد الزنا. ذلك أن مدام دفاران حين أدركت أن جارة لها تدعى المدام دمانتون تتطلع إلى أن تكون أو ل من يعلم جان-جاك فنون الغرام، عرضت نفسها عليه خليلة دون أن يكون في هذا الوضع إضرار بخدماتها المماثلة لآنية، إما لأنها أبت أن تسلم بالتفوق لجارتها وإما لأنها أرادت أن تحمس الفتى من ذراعين أقل حناناً من ذراعيها وأنفق جان-جاك ثمانية أيام يدير الأمر في رأسه، فقد كان من أثر طول ألفته بها أن أفكاره كانت بنوية أكثر منها شهوانية. يقول "لقد أحببتها حباً منعني من أن اشتهيها (38) " وكان آنئذ يعني من الأمراض التي قدر لها أن تطارده حتى النهاية، وهي التهاب المثانة وضيق مجرى البول. وأخيراً، وبكل الحياء المنتظر منه، ارتضى العمل باقتراحها. بقول:
"وأخيراً جاء اليوم الذي كنت أخشاه أكثر مما أتوق إليه .... فلقد كان قلبي يحبذ غرامياتي دون أن يشتهي الجائزة. ولكني حصلت عليها رغم ذلك. ورأيتني لأول مرة بين ذراعي امرأة، وامرأة أعبدها. أكنت سعيداً؟ لا لقد ذقت اللذة، ولكني لا أدري أي حزنٍ طاغٍ سمم هذه التعويذة فلقد شعرت كأني أقترف سفاح المحارم. وبينما كنت أضمها بين ذارعي في نشوة الفرح أغرقت صدرها مرتين أو ثلاثاً بدموعي. أما هي فلم تكن بالحزينة ولا بالفرحة، بل كانت هادئة وهي تعانقني وتقبلني ولم تستشعر أي انتشاء، ولا أحست بالندم قط، لأنها لم تكن شهوانية على الإطلاق، ولم تكن تبحث عن اللذة بتاتاً (39).
وقد عزا روسو إلى سم الفلسفة مناورات هذه السيدة وهو يستحضر ذكرى هذا الحدث البارز فيما بعد. قال:
"أكرر أن كل مشاعرها كانت نتيجة خطئها لا نتيجة شهواتها. فلقد كانت كريمة المولد، نقية القلب، نبيلة السلوك، وكانت رغباتها سوية فاضلة، وذوقها رقيقاً مرهفاً. وبدا أنها خلقت لذلك الطهر الرائع-طهر الآداب-الذي أحبته على الدوام ولكنها لم تمارسه قط، لأنها بدلاً من أن تصغي إلى أوامر قلبها اتبعت عقلها الذي ضللها
…
ومن
سوء حظها أنها كانت تعتز بالفلسفة، وكان من أثر المبادئ الخلقية التي استخلصتها من هذه الفلسفة إفساد الفضيلة التي أشار بها قلبها (40).
ومات آنيه في 1734. واستقال روسو من وظيفته في خدمة ملاحظ الإقليم، وتولى أعمال المدام وقد وجدها في حال خطيرة من الخلل تشرف على الإفلاس فحصل على بعض المال بتدريس الموسيقى، ـ وفي 1737 آلت إليه ثلاثة آلاف فرنك استحقت له من ميراث أمه، فأنفق بعضها على الكتب، وأعطى الباقي لمدام دفاران. ثم لزم الفراش، فمرضته ماما بحنان. ولما لم يكن لبيتها حديقة فقد استأجرت (1736) كوخاً في ضاحية يسمى الشارميت هناك "سارت حياتي سيراً هادئاً غاية الهدوء" ومع أنه "لم يكن يحب قط أن يصلي في قاعة" فإن الخلاء خارج الكوخ حفزه لشكر الله على جمال الطبيعة وعلى مدام دفاران، وللب البركة الإلهية على رباطهما. وكان يومها شديد التعلق باللاهوت الكاثوليكي مع شائبة حزينة من الجانسنية "فكثيراً ما عذبني خوف الجحيم (41) ".
وكان يقلقه اكتئاب هو ضرب من الوهم كان رائجاً في ذلك العهد. وقد خيل إليه أن هناك ورماً في غشاء قريب من قلبه، فقصد مونبلييه في مركبة البريد: وفي الطريق هدأ من اكتئابه بما زعم أنه تحقيق لوصال بمدام دلارناج (1738) وكانت أماً لفتاة في الخامسة عشرة. فلما عاد إلى شامبري وجد أن مدام دفاران تجرب علاجاً مماثلاً، وأنها اتخذت عشيقاً جديداً لها من صانع باروكات شاب يدعى جان فنتسنريد. واحتج روسو؛ فقالت له إنه يسلك كالأطفال، وأكدت له أن في حبها متسعاً لاثنين باسم جان. ولكنه أبى أن "يحط من كرامتها على هذا النحو"، فاقترح عليها أن يعود إلى وضعه القديم. فزعمت أنها موافقة، ولكن استياءها من تخليه عنها بهذه السرعة أصاب محبتها له بالفتور. وأعتكف في شارميت وأقبل على دراسة الفلسفة.
ولول مرة (حوالي 1738) وعى بنسائم "لتنوير" الهابة من باريس وسيريه. فقرأ بعض أعمال نيوتن، وليبنتز، وبوب، وقلب في متاهات
قاموس بيل. ثم عاد إلى درس اللاتينية، وأحرز في ذلك بجهده وحده تقدماً أكثر مما أحرز من قبل على يد معلميه ووفق إلى أن يقرأ شذرات من فرجل، وهوراس، وتاسيتوس، وترجمة لاتينية لمحاورات أفلاطون. وطلع عليه لابروبير، وبسكال، وفنيلون، وبريفوست، وفولتير، وكأنهم رؤيا أدارت رأسه "لم يفتنا شيء مما كتبه فولتير"؛ والواقع أن كتب فولتير هي التي "أوحت إليّ بالرغبة في أن أتأنق في الكتابة، وحملتني على محاولة تقليد تلوينات ذلك الكتاب الذي فتنت به أية فتنة (42) "وعلى غير وعي منه فقد اللاهوت القديم الذي كان من قبل إطار أفكاره، شكله وصرامته، فوجد نفسه يفكر دون رعب في عشرات الهرطفات التي كانت تبدو له في شبابه فاضحة شائنة. وحل محل إله الكتاب المقدس إيمان حار يوشك أن يكون مشوباً هو الإيمان بوحدة الوجود. هناك إله، نعم، والحياة بدونه لا معنى لها ولا يطيقها الإنسان، ولكنه ليس ذلك الإله الخارجي، المنتقم، الذي تصوره الناس القساة الجبناء؛ إنما هو روح الطبيعة، والطبيعة في صميمها جميلة، والطبيعة البشرية في أساسها خيرة. وعلى هذا الإيمان، وعلى بسكال، سيقيم روسو فلسفته.
وفي 1740 وجدت له مدام دفاران وظيفة معلم خاص لولدي المسيو بونو دمابليه، رئيس بلدية ليون وافترق عنها دون لوم ولا عتاب من أحد الطرفين، وأعدت له ثياب الرحلة، وخاطت لها بعض الملابس بيديها اللتين كانتا فتنة له يوماً ما.
4 - ليون والبندقية وباريس
1740 -
1749
كانت أسرة مابليه حافزاً جديداً لروسو. وكان رئيس البلدية أكبر أخوة ثلاثة نابهين، أحدهم جابرييل بونو دمابليه الذي اقترب من الشيوعية، والآخر هو الأبيه إيتين بونو دكوندياك، الذي أوشك أن يكون مادياً. وقد التقى روسو بثلاثتهم. وبالطبع وقع في غرام مدام دمابليه، ولكنها كانت من السماحة بحيث لم تعر الأمر أهمية. واضطر جان-جاك أن ينصرف إلى مهمته، وهي تعليم ولديها. فأعد للسيد دمابليه بياناً بأفكاره التربوية، وكانت في بعضها تتفق والمبادئ التحررية التي ستعرض عرضاً رومانسياً ممتازاً في كتابه "إميل" بعد اثنين وعشرين عاماً، وفي بعضها تناقض رفضه اللاحق لـ"الحضارة"، لأنها اعترفت بقيمة الفنون والعلوم في تطوير النوع الإنساني. وكان يلتقي مراراً برجال كالأستاذ بورد عضو أكاديمية ليون (وكان صديقاً لفولتير)، فتشرب قدراً أكبر من "التنوير"، وتعلم أن يهزأ بالجهل والخرافة الشائعين بين الجماهير. ولكنه ظل طوال حياته مراهقاً. فذات يوم رأى شابة عارية تماماً إذ اختلس النظر إليها وهي تستحم في الحمامات العامة، وتوقف قلبه عن النبض، فلما خلا إلى نفسه في حجرته وجه إليها خطباً جريئاً غفلاً من التوقيع قال فيه:
"لا أكاد أجرؤ يا آنسة بالظروف التي أدين لها بسعادة رؤيتي إياك وعذاب حبي لك. فقد فتنني فيك ما هو أكثر من ذلك الجسد النحيل اللطيف الذي لا ينتقص العري من جماله، وذلك القوام الأنيق، وتلك الخطوط الرشيقة
…
ما هو أكثر من نضارة الزئبق المنثور على شخصك بهذا السخاء الكثير
…
أنها حمرة الخجل الناعمة التي رأيتها تكسو جبينك حين أسفرت عن وجودي لعينيك بعد أن جردتم بخبث شديد-بغناء بيتين من الشعر (43).
وكان الآن وقد شب إلى السن التي تغريه بعشق الصبايا، فكادت كل
فتاة حسنة الطلعة تثير أشواقه وأحلامه، ولكنه تعلق على الأخص بسوزان سير. "مرة-وا أسفاه، مرة واحدة فقط في حياتي؟ لمس فمي فمها. إيه أيتها الذكرى؟ هل أفقدك في القبر؟ " وبدأ يفكر في الزواج منها، ولكنه اعترف لها قائلاً "ليس لدي ما أقدمه لك سوى قلبي (44) " ولما لم يكن قلبه عملة قانونية، فإن سوزان قبلت يد غيره، وانكفأ روسو إلى أحلامه من جديد.
إنه لم يخلق ليكون عاشقاً ناجحاً ولا معلماً كفئاً.
"كان لدي من المعرفة القدر اللازم تقريباً لمدرس خاص
…
وبدا أن رقة طبعي الفطرية تهيئني لهذا العمل، لولا أن تعجل الأمور اختلط بهذا الطبع فإذا سارت الأمور رخاء ورأيت أن الجهود التي لم أضن بها أثمرت كنت ملاكاً، أما إذا أخفقت فقد كنت أنقلب شيطاناً. فإذا لم يفهمني تلميذاي تعجلت الشرح، وإذا أظهرا أي أمارات على الطبع المشاكس كان ذلك يستفزني استفزازاً يكاد يحملني على قتلهما .... وصممت على تركهما بعد أن اقتنعت بأنني لن أنجح أبداً في تعليمهما التعليم الصحيح. وتبين المسيو دمابليه هذا بالوضوح الذي تبينته به وأن كنت ميالاً إلى الاعتقاد بأنه ما كان ليطردني قط لولا أنني أعفيته من هذا العناء".
وهكذا استقل مركبة البريد قافلاً إلى شامبري بعد أن استقال وهو حزين، أو طرد طرداً كريماً. والتمس العزاء من جديد بين ذراعي ماما. فاستقبلته هي في تلطف وأفسحت له مكاناً على مائدتها مع عشيقها. ولكنه لم يكن سعيداً في هذا الموقف، فأغرق نفسه في الكتب والموسيقى، وابتكر طريقة للتدوين الموسيقي تستخدم الأرقام بدلاً من الرموز. ولما عزم على الذهاب إلى باريس وعرض اختراعه على أكاديمية العلوم أثنى الجميع على قراره. وفي يوليو 1742 عاد إلى ليون ملتمساً خطابات تقديم إلى الأعيان في العاصمة. وأعطاه آل مابليه خطابات إلى فونتنيل
والكونت دكايلوس وقدمه بورد إلى الدوق درشليو. ومن ليون استقل المركبة العامة إلى باريس تداعب رأسه أحلام المجد.
وكانت فرنسا آنذاك مشتبكة في حرب الوراثة النمساوية (1740 - 48) ولكن الحرب كانت تدور رحاها على أرض أجنبية، وعليه فقد سارت باريس سيرتها الأولى وواصلت حياة المرح البهي والاضطراب الفكري، حياة المسارح الناطقة بمسرحيات راسين، والصالونات المتألقة بالهرطقات والسخريات، والأساقفة الذين يقرؤون فولتير، والشحاذين الذين ينافسون البغايا، الباعة الجوالين الذين ينادون على بضائعهم، والصناع الذين يبذلون العرق في سبيل لقمة العيش إلى هذه الدوامة أقبل جان-جاك روسو، وهو في الثلاثين من عمره، في أغسطس 1742، وفي كيسه من المال خمسة عشر جنيهاً. واستأجر حجرة في فندق سان-كنتان بشارع الكوردلييه قرب السوربون-"شارع حقير وفندق تعس، وحجرة بائسة (46) " وفي 22 أغسطس قدم إلى الأكاديمية "مشروعاً عن علامات جديدة للتدوين الموسيقي". ورفض العلماء مشروعه في مجاملة لطيفة. وشرح له رامو رأيهم قائلاً "أن علاماتك حسنة جداً
…
ولكن عليها اعتراضاً، هو أنها تحتاج إلى إعمال الذهن، وهو أمر لا يمكن دائماً أن يرافق سرعة التنفيذ. أما موضوع علامتنا فيصور للعين دون تزامن مع هذه العملة" واعترف روسو بأن الاعتراض لا يمكن التغلب عليه (47).
وأتاحت له خطابات التقديم التي أخذها معه ذلك الاتصال بفونتيل الذي كان هو في عامه الخامس والثمانين أحرص على طاقته من أن يأخذ روسو مأخذ الجد، والاتصال بماريفو الذي قرأ مخطوطة مسرحية روسو الهزلية "نارسيس" واقترح أن يدخل عليها تحسينات، وذلك رغم انشغاله بنجاحه روائياً وكاتباً مسرحياً وقابل الوافد الجديد ديدرو، الذي لم يكن بعد قد نشر أي مؤلف يؤبه به، وكان يومها يصغر جان-جاك بعام واحد.
"كان ولوعاً بالموسيقى، يعرفها نظرياً
…
وقد حدثني ببعض
مشروعاته الأدبية
…
وسرعان ما وثق هذا بيننا صلة دامت خمسة عشر عاماً، وأغلب طني أنها كانت ستدوم إلى اليوم لولا أننا لسوء الحظ
…
أبناء حرفة واحدة" (48).
وكان يصاحب ديدرو إلى المسرح أو يلاعبه الشطرنج، والتقى روسو في تلك اللعبة بفيليدرو وغيره من مهرة لاعبيها، و"لم يكن عندي شك في أنني في النهاية سأتفوق عليهم جميعاً". (49) ووجد سبيله إلى بيت مدام دوبان وصالونها، وكانت ابنة المصرفي صموئيل برنار، وعقد صداقة مع ابن زوجها كلود دوبان دفرانكوي وخلال ذلك أوشكت نقوده على النضوب.
وبدأ يبحث من حوله عن عمل يستكمل به جهود أصدقائه في إطعامه. فعرضت عليه بنفوذ مدام بزنفال وظيفة سكرتير للسفارة الفرنسية في البندقية. وبعد أن قطع رحلة طويلة محفوفة بالخطر بسبب الحرب، وصل إليها في ربيع 1743 وقدم نفسه إلى السفير الكونت دمونتاجو. ويؤكد لنا روسو أن هذا الكونت كان أمياً تقريباً، وكان على السكرتير أن يفك شفرة الوثائق وأن يحررها، وكان يقدم رسائل الحكومة الفرنسية إلى مجلس شيوخ البندقية بشخصه لأنه لم ينسَ الإيطالية التي كان قد تعلمها في تورين وكان فخوراً بمنصبه الجديد، وشكا من أن مركباً تجارياً زاره لم يطلق المدافع تحية له مع أن هذه "التحية نالها من هم أقل شأناً". (50) وتشاجر الرئيس والمرءوس على أيهما يظفر بالرسوم التي تدفع نظير استخراج السكرتير لجوازات السفر إلى فرنسا. وقد صلحت حال روسو بفضل نصيبه من هذه الرسوم، فتناول الطعام الطيب على غير العادة، واختلف إلى المسرح والأوبرا، ووقع في غرام الموسيقى الإيطالية والفتيات الإيطاليات.
وذات يوم زار مومساً تسمى لابدوانا "لكيلا أبدو شديد البلاهة أمام رفاقي" وطلب إليها أن تغني فغنت، فنقدها دوكاتيه وهم بالانصراف، ولكنه رفضت أن تأخذ قطعة النقود دون أن تكون قد بذلت في نيلها
جهداً. فأرضاها، وعاد إلى مسكنه "مقتنعاً كل الاقتناع بأنني سأتجرع عواقب هذه الفعلة، فكان أول شيء فعلته أنني استدعيت جراح الملك ألتمس منه الدواء "ولكن الطبيب" أقنعني بأن في خلقتي ما يجعلني لا أقبل العدوى بسهولة"(51) وبعد فترة أقام له أصدقاؤه حفلة يثاب فيها بجائزة هي الغانية الجميلة زوليتا فدعته إلى حجرتها وخلعت ثيابها. "وفجأة، بدلاً من أن اضطرم بنار الشهوة أحسست ببرودة قاتلة تسري في عروقي، وباشمئزاز ينفذ إلى أعماقي، فجلست وانخرطت بالبكاء كالأطفال". وقد علل عجزه هذا فيما بعد بأن أحد ثديي المرأة كان مشوهاً. أما زوليتا فقد انقلبت عليه هازئة وقالت له "دع النساء وشأنهن، وانصرف إلى درس الرياضة"(52).
وأوقف المسيو دمونتاجو صرف راتب روسو لأن راتبه هو كان متأخراً. فعادا إلى الشجار، ورفت السكرتير (1744) وشكا روسو إلى أصحابه في باريس وأرسل استفسار إلى السفير فأجاب "يجب أن أبلغكم كم كنا مخدوعين في السيد روسو. ذلك أن حدة طبعه ووقاحته الناجمين عن شدة اعتداده بنفسه، وعن جنونه، هما اللذان أفضيا به إلى الحال الذي وجدناه عليه. لذلك طردته كما يطرد خادم سيئ"(53) وقفل جان- جاك إلى باريس (11 أكتوبر) وطرح على الموظفين المختصين في الحكومة وجهة نظره في النزاع فلم ينصفوه. فلجأ إلى مدام دبزنفال، ولكنها رفضت أن تستقبله. فأرسل إليها خطاباً عنيفاً نستطيع أن نحس فيه لفحات الثورة الفرنسية البعيدة:
"كنت مخطئاً يا سيدتي، فقد ظننتك منصفة فإذا بك "نبيلة" فقط، وكان يجب عليّ أن أذكر هذا وأن أدرك أنه لا يليق بي-وأنا رجل غريب أنتمي إلى طبقة العامة-أن أشكر أحد السادة. ولو أن قدري رماني ثانية في قبضة سفير بهذا الخلق لكابدت آلامي دون شكوى. فإذا كان مفتقراً إلى الإحساس بالكرامة، ينقصه سمو النفس، فذلك لأن النبالة في غنى عن هذا كله، وإذا اقترن بكل ما هو حقير دنيء في بلد من أشد بلاد الله
فساداً، فذلك لأن أجداده خلقوا له من الشرف ما يكفيه؛ وإذا عاشر الأوغاد، أو كان هو نفسه وغداً، وإذا أكل على خادم أجره، إذن يا سيدتي فلن أخلص إلا إلى هذا الرأي، وهو أن من حسن حظ المرء ألا يكون وليد أفعاله هو. فهؤلاء الأجداد-من كانوا؟ أشخاص لا شهرة لهم، ولا مال، نظرائي، كان لهم موهبة من نوع ما، وبنوا لأنفسهم سمعة، ولكن الطبيعة تبذر بذرة الخير والشر، أعطتهم نسلاً حقيراً (54) ".
ثم أضاف روسو في "الاعترافات":
"لقد خلفت عدالة شكاواي وعدم جدواها في ذهني بذور السخط على نظمنا الاجتماعية الحمقاء التي تضحي فيها دائماً رفاهية الشعب والعدل الحقيقي في سبيل مظهر للنظام ما أنزل الله به من سلطان، لا ثمرة له إلا أنه يضيف موافقة السلطة العامة إلى ظلم الضعفاء وبغي الأقوياء (55) ".
ولما عاد مونتاجو إلى باريس أرسل روسو "بعض المال تسوية لحسابي
…
وتسلمت من أعطاني وسددت كل ديوني، وعدت يا مولاي كما خلقتني. "واستقر ثانية في فندق سان-كنتان وارتزق بنسخ مدونات الموسيقى. ولما سمع النبيل الذي كان يحمل آنئذ لقب دوق أوليان بفقره أعطاه كراسات موسيقى لينسخها مشفوعة بخمسين جنيهاً ذهبياً، فاحتجز روسو منها خمسة ورد الباقي لأنه يزيد على حقه. (56)
وكان ما يكسبه أقل كثيراً مما يتيح له أن يعول زوجة، ولكنه رأى أن في استطاعته أن يعول خليلة إذا أحكم التدبير وكان من بين من يؤاكلونه في فندق سان-كنتان صاحبة الفندق، وبعض الآباء الدينيين المفلسين، وشابة تخدم الفندق غسالة أو خياطة. وكان في هذه المرأة، واسمها تريز لقاسير، ما في جان-جاك من إحجام وتردد، ووعي بالفقر وأن لم تكن فخورة بفقرها مثله. وكان يدافع عنها إذا عاكسها الآباء. وانتهى بها الأمر إلى أن ترى فيه حاميها، وسرعان ما وجد الواحد منهما سبيله إلى حضن صاحبه (1746) وبدأت أصارحها بأنني لن أتخلى عنها ولن أتزوجها (57) ". واعترفت بأنها ليست عذراء، ولكنها أكدت له أنها لم تأثم غير مرة واحدة،
وكان ذلك منذ أمد بعيد. فصفح عنها صفحاً جميلاً، مؤكداً لها أن عذراء العشرين مخلوق نادر الوجود في باريس على أي حال.
وكانت مخلوقة بسيطة لا سحر فيها ولا دلال، لا تستطيع الكلام في الفلسفة أو السياسة كنسا الصالونات، ولكنها تعرف كيف تطهو، وتدبر شؤون البيت وتحتمل في صبر نزواته وعاداته الغريبة. وكان يتكلم عنها عادة باعتبارها "مدبرة البيت" أما هي فتقول عنه "رجلي" وندر أن اصطحبها في زياراته لأصدقائه، لأنها ظلت على الدوام مراهقة ذهنياً، كما ظل هو على الدوام مراهقاً خلقيا.
"حاولت أول الأمر أن أصلح عقلها، ولكن جهودي أدراج الرياح. ذلك أن عقلها بقي على ما فطرته الطبيعة، فهو لا يقبل التثقيف. ولا يخجلني أن اعترف أنها لم تعرف قط كيف تقرأ جيداً، وإن كانت تكتب كتابة لا بأس بها .. ولم تستطع قط أن تتلو شهور السنة بالترتيب، أو تميز بين عدد وآخر رغم ما بذلت من عناء في محاولة تعليمها. وهي لا تعرف كيف تعد النقود، ولا تحسب ثمن أي شيء فإذا تكلمت كانت الكلمة التي تخطر لها هي في أحيان كثيرة عكس الكلمة التي تقصدها. وقد صنفت فيما مضى قاموساً بعباراتها لأروح به عن المسيو دلكسمبورج، وكثيراُ ما ذاع أمر أغلاطها بين أخص أصحابي (85) ".
فلما حملت "أرتبك أشد ارتباك" فماذا هو صانع بالأطفال؟ وأكد له بعض أصحابه أنه من المألوف إرسال الأطفال غير المرغوب فيهم إلى الملجأ لقطاء. فلما ولد الطفل فعل هذا رغم احتجاجات تريز، ولكن بتعاون أمها (1747) وخلال الأعوام الثانية التالية ولد له أربعة أطفال تصرف فيهم على هذا النحو. وقد ألمع بعض الشكاك إلى أن روسو لم يرزق أطفالاً، وأنه أخترع هذه القصة ليخفي عجزه الجنسي، ولكن كثرة دفاعه عن تنصله هذا من المسئولية تجعل هذه النظرية بعيدة الاحتمال. وقد أعترف سراً بتصرفه في هذا الأمر لديدرو، وجريم، ومدام ديينيه (59)؛ واعترف به ضمناً في كتابهم "إميل"؛ واستشاط غضباً على فولتير لأنه أذاع خبره، ثم أقر به صراحة في كتابه "الاعترافات" وأعرب عن ندمه. إنه لم يخلق للحياة العائلة، لأنه كان حزمة مرهفة من
الأعصاب، وجواباً شريداً في الجسد والروح. وكان يعوزه ذلك الاهتمام بالأطفال الذي يجعل الأب صاحباً رزيناً، ولم تكتمل رجولته قط.
في نحو هذه الفترة أسعده الحظ بأن يجد وظيفة مريحة. فقد اشتغل سكرتيراً لمدام دويان، ثم لابن أخيها. وحين أصبح دويان دفرانكوي أميناً عاماً للصندوق رقى روسو صرافاً براتب ألف فرنك في السنة. واتخذ الآن الضفيرة الذهبية، والجوارب الجوارب البيض، والباروكة، والسيف، كلها شارات حاكا بها الأدباء ثياب الطبقة الأرستقراطية ليجدوا طريقهم إلى بيوت النبلاء (60). وفي وسعنا أن نتصور ضيقه بشخصيته المنقسمة على ذاتها. وقد أستقبل في عدة صالونات وصنع أصدقاء جدد، منهم رينال، ومارمونيتل، ودوكلو، ومدام دينيه، ثم فريدرش ملشيور جريم، الذي ارتبط به ارتباطاً حميماً جداً ومؤذياً جداً. وأختلف إلى حفلات العشاء المثيرة في بيت البارون دولباخ حيث كان ديدرو يقتل الآلهة بسلاح سماه خصومه فك حمار. في وكر الملحدين ذاك ذاب وتلاشى جل كثلكة جان-جاك.
وألف الموسيقى خلال ذلك. وكان قد بدأ في 1743 مزيجاً من الأوبرا والباليه سماه "ربات الفنون الرشيقات" يحي به غراميات أناكربون، وأوفيد، وتاسو، وأخرجت الأوبرا في 1745 محدثة بعض الضجة في بيت جابي الضرائب لابولفيير، وقد سخر منها رامو وزعم إنها محاكاة لإنتحالات من الملحنين الإيطاليين، ولكن الدوق رشليو أعجب بها وعهد إلى روسو بتنقيح أوبرا وباليه تسمى "أعياد رامير" أعدها رامو وفولتير على سبيل التجربة. وفي 11 ديسمبر 1745 كتب روسو أول رسالة لأمير أدباء فرنسا:
"لقد ظللت خمسة عشرة عاماً أكد وأكدح لأجعل نفسي جديراً باحترامك وبالعطف الذي تحبو به شباب الأدباء الذين تكتشف فيهم الموهبة. ولكني بفضل كتابتي موسيقى إحدى الأوبرات أجدني قد انقلبت موسيقياً. وأياً كان النجاح الذي تحققه جهودي الضعيفة فإنها ستكون في نظري جهوداً
رائعة لو كسبت لي شرف معرفتك إياي، والإعراب عن الإعجاب والاحترام العميق اللذين يشرفني أن يكنهما لك خادمك المتواضع المطيع جداً (61) ".
وأجاب فولتير: "سيدي، إنك تجمع في شخصك موهبتين وجدتا على الدوام منفصلتين على الدوام، فهذان مبرران طيبان يحملانني على تقديرك ومحبتك".
وبهذين الخطابين من خطابات الحب بدأت خصومتهما الشهيرة.
5 - هل الحضارة مرض؟
في عام 1749 سجن ديدرو في فانسين عقاباً له على فقرات مهينة في كتابه "رسائل عن المكفوفين" وكتب روسو إلى مدام دبومبادور يلتمس الإفراج عن صديقه أو الإذن له بأن يشاركه سجنه. وخلال ذلك الصيف قام غير مرة برحلة دائرية طولها عشرة أميال بين باريس وفانسين ليزور ديدرو. وفي واحدة منها أخذ نسخة من مجلة الماركيز دفراني ليقرأ أثناء سيره. وهكذا وقع على الإعلان عن جائزة تقدمها أكاديمية ديجون لأفضل مقال يجيب عن هذا السؤال "هل أعان إحياء العلوم والآداب والفنون على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟ " وأغراه الإعلان بدخول المسابقة، فهو الآن في السابعة والثلاثين، وقد آن الأوان ليحقق لنفسه الشهرة. ولكن هل بلغ من الإحاطة بالعلم أو الفن أو التاريخ مبلغاً يكفي لمناقشة مثل هذه الموضوعات دون أن يفضح ما تعليمه من قصور؟ وقد وصف في خطاب كتبه إلى مالزيرب في 12 مايو 1762 بحماسته العاطفية المتميزة تلك الرؤيا التي تراءت له أثناء هذه المسيرة. قال:
"وفجأة أحسست أن مئات الأضواء المتلألئة تخطف بصري. وتزاحمت حشود من الخواطر النابضة بالحياة في ذهني بقوة واختلاط جعلاني أضطرب اضطراباً لا يوصف وأحسست برأسي يدوّم في دوار كأنني مخمور، وضاق
صدري بخفقان عنيف. فلما عجزت عن السير لصعوبة التنفس ارتميت على شجرة على الطريق وقضيت نصف ساعة في حال من الانفعال الشديد حتى أنني حين قمت وجدت مقدمة صدريتي كلها مبللة بالدموع .. أوه، لو أتيح لي أن أكتب ولو ربع ما رأيت وأحسست تحت تلك الشجرة، فبأي وضوح كنت أميط اللثام عن كل تناقضات نظامنا الاجتماعي! بأي بساطة كنت أبين أن الإنسان بفطرته خير، وأن نظمنا هي التي جعلته شريراً (62) ".
وهذه العبارة الأخيرة ستكون نشيد حياته المتردد، وتلك الدموع التي تدفقت على صدريته كانت منبعاً من المنابع العليا التي انبثقت منها الحركة الرومانسية في فرنسا وألمانيا. لقد كان في وسعه الآن أن يكسب قلبه في هجوم على كل تكلف باريس وتصنعها، وفساد أخلاقها، وزيف سلوكها المصقول، وإباحية أدبها، وشهوانية فنها، وتعالي طبقيتها، وسفه أغنيائها الغليظ الذي تموله إبتزازاتهم من الفقراء، وجفاف الروح لحلول العلم محل الدين، والمنطق محل الوجدان. إنه بإعلانه الحرب على هذا الانحلال يستطيع أن يبرر بساطة ثقافته، وعاداته الريفية، وقلقه وضيقه في المجتمع، ونفوره من حيث القيل والقال، ومن الفكاهة التي تجردت من الاحترام، ويبرر احتفاظه المتحدي بإيمانه الديني وسط إلحاد أصحابه. لقد عاد في أعماق نفسه كلفنياً كما كان، وذكر بشيء من الحنين تلك العفة التي لقنها في صباه. إنه بدخوله مسابقة ديجون سيرفع وطنه جنيف فوق باريس، وسيشرح لنفسه ولغيره لم كان سعيداً في ليشارميت، وشقياً غاية الشقاء في صالونات باريس.
فلما وصل إلى فانسين كاشف ديدرو منيته في دخول المسابقة. فهلل ديدرو للفكرة، وأشار عليه بأن يهاجم حضارة جيلهما بكل ما في وسعه من قوة. فلن يجرؤ متسابق آخر على اتخاذ هذا الموقف، وسيكون موقف روسو فريداً في بابه
(1)
عاد جان-جاك إلى مسكنه وهو يتحرق شوقاً
(1)
هناك جدل صغير يبهم القصة في هذه النقطة. فقد روى ديدرو في 1781 زيارة روسو له بطريقة يمكن التوفيق بينها وبين رواية روسو. قال: حين جاءني روسو يستشيرني في الموقف الذي ينبغي أن يتخذه قلت له: أن موقفك هو الذي سيرفضه الآخرون، فقال إنك على حق (63)"وحوالي عام 1793 روى مارمونتيل عن ديدرو إنه ثنى روسو عن اتخاذ موقف الموافقة، فقال له روسو سأعمل بنصيحتك (64) ".
لهدم الآداب والعلوم التي كان ديدرو يستعد للإشادة بها في "الموسوعة" أو القاموس العقلاني للعلوم والآداب والحرف: (1751 وما يليها) وكتبت "المقال" بطريقة فريدة جداً
…
فكرست له ساعات الليل التي جفاني فيها النوم، وكنت أتأمل في فراشي وجفناي مغمضتان، وأدير في ذهني المرة بعد المرة عباراتي بعناية واهتمام لا يصدقان .. وحالما فرغت من المقال دفعته لديدرو فرضي عنه، وأشار ببعض تصويبات يجب في رأييه إجراؤها
…
وأرسلت المقال دون أن أخبر بأمره أحداً غيره، اللهم إلا جريم فيما أذكر (65)". أما أكاديمية ديجون فقد توجت مقاله بالجائزة الأولى (23 أغسطس 1740) -وهي ميدالية ذهبية وثلاثمائة فرنك، واتخذ ديدرو الإجراءات بما عهد به من حماسة، لنشر المقال الذي سمي "مقالاً في الآداب والفنون والعلوم" وسرعان ما كتب إلى المؤلف يبلغه النبأ إن مقالك ساحر إلى حد فاق كل تصور، فلم يكن لهذا النجاح ضريب على الإطلاق (66)، وكأني بباريس وقد أدركت أنه هاهنا، في قلب حركة التنوير تماماً، قام رجل يتحدى عصر العقل، ويتحداه بصوت سيصغي إليه العالم.
أما المقال فقد بدا في استهلاله مشيداً بانتصارات عصره:
"أنه لمشهد جليل جميل أن نرى الإنسان يرفع نفسه-إن جاز هذا التعبير-من العدم بجهوده هو؛ فيبدد بنور العقل كل السحب الكثيفة التي اكتنفته بالطبعة فسما فوق نفسه، وحلق بالفكر إلى أجواء الفضاء،
واشتمل بخطى عملاقة آفاق الكون الشاسعة كأنه الشمس؛ وأجل من ذلك وأعجب أنه انكفأ إلى نفسه ليدرس الإنسان ويصل إلى معرفة فطرته وواجباته وهدفه .. كل هذه المعجزات رأيناها تجدد خلال الأجيال القليلة الأخيرة (67) ".
ولابد أن فولتير جاد بابتسامة الرضى عن فرحة هذا الاستهلال، فهاهنا تلميذ جديد لجماعة "الفلاسفة"؛ والرفاق الطيبين الذين سيقضون على الخرافة "والعار"؛ ثم ألم يكن لوشنقار الفتى هذا مساهماً في الموسوعة فعلاً؟ ولكن ما إن جاءت الصفحة التالية حتى اتخذت المناقشة وجهة مؤسفة. فقال روسو إن تقدم المعرفة هذا كله جعل الحكومات أعظم سطوة، فسحقت حرية الفرد واستبدلت بالفضائل البسيطة والكلام الصريح لعهد أكثر خشونة وبدائية، نفاق اللباقة الاجتماعية.
"لقد أقصيت من بين الناس الصداقة المخلصة، والاحترام الحقيقي، والثقة الكاملة وتسترت الغيرة والريبة، والخوف، وبرودة العاطفة، والتحفظ والكراهية، والغش، دائماً وراء ذلك القناع الواحد الخدَّاع، قناع التأدب، والصراحة والكياسة اللتين يتباهى بها الناس، ذلك القناع الذي ندين به لنور عصرنا وقيادته .. فلتطالب الآداب والفنون والعلوم بنصيبها الذي أسهمت به في هذا العمل المفيد"(68).
ويكاد فساد الفضائل والأخلاق نتيجة لتقدم المعرفة والفن أن يكون قانوناً من قوانين التاريخ "لقد غدت مصر أم الفلسفة والفنون الجميلة، وسرعان ما غزاها الغزاة". (69) أما اليونان التي كان يسكنها الأبطال يوماً ما فقد قهرت آسيا مرتين، وكانت "الآداب" يومها في المهد، ولم تكن فضائل إسبارطة قد حلت محلها-مثلاً إغريقياً أعلى-تلك الثقافة الأثينية المهذبة، وسفسطة السفطائيين، وتماثل براكستيلبس الشهوانية؛ فلما بلغت تلك "الحضارة" أوجها، أطاح بها فليب المقدوني بضربة واحدة، ثم قبلت نير روما في استكانة. أما روما فقد غزت عالم البحر المتوسط كله يوم كانت أمة من الفلاحين
والجند، متمرسة بنظام صارم، فلما أسلمت نفسها للذات الأبيقورية، وأشادت ببداءات أوفيد وكاتللوس، ومارتيال، باتت مرتعاً للرذيلة "وهزؤاً بين الأمم، وهدفاً لاحتقار الشعوب حتى الهمج منها (70). وحين عادت روما إلى الحياة في حركة النهضة الأوربية، عادت الفنون والآداب تنخر في عافية المحكومين والحاكمين، وخلفت إيطاليا أوهى من أن تثبت للهجوم. فأخضع شارل الثامن ملك فرنسا توسكانيا ونابلي دون أن يمتشق حساماً تقريباً، وعزت حاشيته كلها هذا النجاح غير المتوقع إلى انصراف أمراء إيطاليا ونبلائها باهتمام أعظم إلى تثقيف عقولهم دون الاهتمامات النشيطة والأعمال العسكرية (71) ".
والأدب ذاته عنصر من عناصر الفناء:
"يحكى أن الخليفة عمر حين سُئل في أمر مكتبة الإسكندرية وما يفعله بها أجاب: "وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامه" وقد ساق أدباؤنا هذا الأسلوب في التفكير على أنه بلغ غاية السخف، ولكن لو أن البابا جريجوري الأكبر كان في مكان عمر، والإنجيل في مكان القرآن، لأحرقت المكتبة رغم ذلك، ولربما عد هذا أروع عمل قام به في حياته"(72).
أنظر إلى تأثير الفلسفة الممزق فبعض "محبي الحكمة" هؤلاء يخبروننا بأنه ليس هناك شيء اسمه المادة، وغيرهم يؤكدون لنا أنه لا وجود لشيء إلا للمادة وليس إله آخر غير الكون ذاته؛ وطريق ثالث يعلن أن الفضيلة والرذيلة ليستا سوى أسمين، وأنه لا اعتبار لشيء إلا للقوة والمهارة فهؤلاء الفلاسفة "يقوضون أسس إيماننا ويحطمون الفضيلة. إنهم يسخرون من الكلمات القديمة التي نستعملها مثل "الوطنية" و"الدين" ويكرسون مواهبهم لهدم وتشويه كل ما نقدسه غاية التقديس (73) ". ومثل هذا الهراء ما كان ليعمر في العصور القديمة بعد موت صاحبه، أما الآن فبفضل الطباعة "ستبقى إلى الأبد تأملات هوبز وسبينوزا المؤذية. إذن فاختراع الطباعة كان من أفدح
الكوارث في تاريخ الإنسانية، ومن السهل أن نرى أن الملوك في المستقبل سيحرصون على إقصاء هذا الفن الرهيب عن ممالكهم حرصهم من قبل على تشجيعه" (74).
ولنلاحظ ما أوتيت الشعوب التي لم تعرف قط الفلسفة أو العلم أو الأدب من قوة وتفوق؛ الفرس في عصر كورشن أو الألمان كما وصفن تاسيتوس، أو "في زماننا هذا الأم البسيطة (سويسرا) التي لم تقوَ حتى الشدائد والكوارث على قهر بسالتها المشهورة، والتي لم يستطع أي مثال أن يفسد أمانتها" وأضاف الجنيفي الفخور إلى هذه الشعوب "تلك الأمم السعيدة التي لم تعرف حتى أسماء الكثير من الرذائل التي يصعب القضاء عليها، متوحشي أمريكا الذين لم يتردد مونتيني في تفضيل طريقة حكمهم البسيطة الفطرية، لا على قوانين أفلاطون فحسب، بل على أكمل الرؤى التي تستطيع الفلسفة أن تستشرفها"(75).
إذن فأي نتيجة ينبغي أن نخلص إليها؟ هي أن "الترف والإسراف، والرق، كانت في جميع الأجيال سوط عذاب سلط على جهود كبريائنا للخروج من حالة الجهالة السعيدة تلك التي وضعتنا فيها حكمة العناية الإلهية. فليتعلم البشر ولو مرة أن الطبيعة كانت تحميهم من العلم، تماماً كما تخطف الأم سلاحاً خطراً من يدي ولدها"(76).
والجواب عن سؤال الأكاديمية العالمة هو أن العلم إذا تجرد من الفضيلة كان فخاً، وإن التقدم الحقيقي الوحيد هو التقدم الخلقي، وإن رقي العلم قد أفسد أخلاق البشر أكثر مما طهرها، وإن الحضارة ليست ارتقاء الإنسان إلى وضع أسمى، بل سقوطه من بساطة ريفية كانت فردوس البراءة والسعادة.
وقبيل ختام المقال كبح روسو جماح قلمه وألقى ببصره في شيء من الخوف على أشلاء العلم، والفن، والأدب، والفلسفة، التي خلفها في إثره وتذكر أن صديقه ديدرو يعد موسوعة كرسها لتقدم العلم. فاكتشف فجأة أن بعض الفلاسفة-كبيكن وديكارت-كانوا "معلمين عظاماً" ورأى أن النماذج الحية من هذه السلالة ينبغي أن يرحب بهم حكام الدول مشيرين لهم. ألم يعين
شيشيرون قنصلاً لروما، وأعظم الفلاسفة المحدثين قاضياً لقضاة إنجلترا (77)؟ ولعل ديدرو حشر تلك السطور في المقال، ولكن جان-جاك كان صاحب الكلمة الأخيرة:
"أما نحن البشر العاديين الذين لم تشأ السماء أن تحبونا مواهب عظيمة فلنظل في جهالتنا. ولنترك لغيرنا مهمة تعليم الناس واجباتهم، ولننصرف إلى القيام بواجباتنا. أيتها الفضيلة أيتها المعرفة السامية للعقول البسيطة أليست مبادئك منقوشة على كل قلب؟ وهل نحن في حاجة، لكي نتعلم نواميسك إلى أكثر من .. الإصغاء لصوت الضمير؟ هذه هي الفلسفة الصادقة التي يجب أن نتعلم القناعة بها (78) ".
ولم تدرِ باريس أتأخذ هذا المقال مأخذ الجد، أم تفسره على أنه محاولة ماكرة في المبالغة والمفارقة كتبها المؤلف بخبث. وقال بعضهم (فيما روى روسو)(79) أنه لم يصدق كلمة واحدة مما كتب. أما ديدرو الذي آمن بالعلم وضاق بقيود العرف والأخلاق فيبدو أنه أستحسن مبالغات روسو باعتبارها عقاباً افتقر إليه المجتمع الباريسي، وأما حاشية الملك فقد حبذت المقال باعتباره توبيخاً للفلاسفة السفهاء الهدامين كانوا يستحقونه منذ أمد بعيد. (80) ولابد أن نفوساً حساسة كثيرة ضاقت كهذا الكاتب البليغ بما في باريس من ثرثرة حمقاء وبريق كاذب. وقد عبر روسو عن مشكلة تظهر في كل مجتمع متقدم، فهل ثمرات التكنولوجيا تستأهل ما في الحياة المصنعة من عجلة، وتوترات، ومناظر، وضجيج، وروائح؟ وهل التوتر يقوض الأخلاق؟ وهل من الحكمة أن نمضي وراء العلم إلى خراب شامل، ووراء الفلسفة إلى اليأس من كل رجاء مشدد للعزائم؟.
وانبرى العديد من النقاد للدفاع عن الحضارة منهم بورد عضو أكاديمية ليون، ولاكا عضو أكاديمية روان، وفورميه عضو أكاديمية برلين، ولا ننسَ ستانسلاس لسكفنسكي، الطيب القلب ملك بولندا السابق ودوق اللورين اللاحق. وأشار الأدباء إلى أن هذا الهجاء لم يزد على أن توسع
في الشكوك التي أعرب عنها مونتيني في مقاله "عن آكلة لحوم البشر" وسمع غيرهم فيه بصوت بسكال يرتد من العلم إلى الدين، وبالطبع كان مئات من "اللاهوتيين والقديسين" قد أدانوا الحضارة منذ زمن بعيد باعتبارها مرضاً أو خطيئة. وكان في وسع اللاهوتيين أن يزعموا أن "براءة" الحالة الطبيعية وسعادتها التي قال بها روسو، والتي سقط منها الإنسان، ليست إلا قصة جنة عدن معادة، فحلت "الحضارة" محل "الخطيئة الأصلية" علة في سقوط الإنسان، وفي كلتا الحالتين قضت الرغبة في المعرفة على سعادة الإنسان. أما المفكرون المعتزون بعلمهم مثل فولتير عجبوا لرجل في السابعة والثلاثين يكتب هذه المرثية الصبيانية ليهاجم منجزات العلم، ونعمة السلوك المهذب، وإلهامات الفن، وإما الفنانون أمثال بوشيه فلعلهم كانوا يتلوون ألماً تحت سوط روسو، ولكن فنانين آخرين مثل شاردان ولاتور كان في وسعهم أن يرموه بالتعميم العشوائي، وأما الجنود فقد سخروا من إشادة هذا الموسيقار الرقيق بالصفات العسكرية وبالتأهب الدائم للحرب.
واعترض جريم، صديق روسو، على أي رجوع إلى "الطبقية" فقال متعجباً "ياله من هراء شيطاني!: ثم سأل سؤالاً شائكاً، ما الطبقية (81)؟ " فلقد لاحظ بيل أنه لا تكاد توجد كلمة تستعمل استعمالاً أكثر غموضاً من كلمة
…
الطبيعة
…
وليسمن المؤكد "أنه لأن شيئاً ما مصدره الطبيعة فهو إذن خير وصواب: فنحن نرى في النوع البشري أشياء سيئة جداً مع أنه لا يتطرق إلينا شك في أنها من عمل الطبيعة". (82) ولا ريب أن مفهوم روسو عن الطبيعة البدائية كان تصويراً رومانسياً للطبيعة في حالتها المثالية. فالطبيعة (أي الحياة دون تنظيم وحماية اجتماعيين)"حمراء في الناب والمخلب" وناموسها الأساسي هو: أقتل وإلا قتلت. والطبيعة التي أحبها جان-جاك؛ كما يتجلى حبه في قيقيه أو كلارنس كان ضرباً متحضراً من الطبيعة، روضها وهذبها الإنسان. والحق أنه لم يرد أن يرتد إلى الأحوال البدائية بكل ما انطوت عليه من قذارة، وخطر، وعنف بدني، إنما أراد أن يعود إلى الأسرة الأبوية التي تفلح الأرض وتعيش على ثمارها، وهفت
نفسه إلى التحرر من قواعد المجتمع المهذب وقيوده-ومن الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب الاعتدال والعقل. وقد أبغض باريس وحن إلى شارميت وقبيل ختام حياته، في كتابه "أحلام جوال وحيد" صور هذه الفكرة القاصرة تصويراً مثالياً فقال:
ولدت أكثر الناس ثقة بالناس، ولم تخذل هذه الثقة ولو مرة واحدة طوال أربعين سنة. فلما وقعت فجأة بين صنف آخر من الأشخاص والأشياء انزلقت إلى مئات الفخاخ .. واقتنعت أنه ليس في مظهر الابتسامات المتكلفة التي أغدقت على غير الغش والكذب، فانتقلت بسرعة من النقيض إلى النقيض .... وأصبحت أشمئز من الناس
…
وأنا لم أعتد قد اعتياداً حقيقياً على المجتمع الحضري الذي كل ما فيه هم وإكراه والتزام، والذي يجعلني استقلالي الفطري عاجزاً فيه على الدوام عن ألوان الخضوع التي لا مندوحة عنها لكل من يريد العيش بين الناس (83).
وفي "الاعترافات" سلم في شجاعة بأن هذا "المقال" الأول (كان مفتقراً الافتقار كله إلى المنطق والنظام وإن زخر بالقوة والحرارة؛ فهو أضعف ما كتبت إطلاقاً من حيث الحجة، وأخلاه من الإيقاع والانسجام (84)).
ومع ذلك فقد رد على نقاده بقوة، وأكد مفارقاته من جديد. ومجاملة لستانسلاس استثنى شيئاً واحدا: فقال أنه بعد الروية قرر ألا تحرق المكتبات أو تغلق الجامعات والأكاديميات "لأننا لن نجني من وراء هذا إلا إغراق أوربا مرة أخرى في دياجير الهمجية (85) "؛ و"حين يفسد البشر فإن من الخير لهم أن يكونوا متعلمين عن أن يكونوا جهلة"(86). ولكنه لم يعدل عن أي فقرة من اتهامه للمجتمع الباريسي. ودليلاً على انسحابه منه أقلع عن لبس السيف والضفيرة الذهبية والجوارب البيضاء، وارتدى ما يرتديه رجال الطبقة الوسطى من رداء بسيط وباروكة أصغر. قال مارمونتيل "وهكذا منذ تلك اللحظة اختار الدور الذي سيلعبه، والقناع الذي سيلبسه". فإن كان هذا قناعاً فإنه أحسن لبسه، وأصر عليه إصراراً شديداً، حتى لقد أصبح جزءاً من صميم الرجل وغير وجه التاريخ.
6 - باريس وجنيف
1750 -
1754
في ديسمبر 1750 اشتد على روسو مرض المثانة حتى ألزمه الفراش ستة أسابيع وزادته هذه المحنة نزوعاً إلى الاكتئاب والعزلة، وأرسل إليه معارفه الأغنياء أطباءهم ليعودوه، ولكن تطبيب ذلك الزمان لم يؤهلهم لمساعدته "فكلما امتثلت لأوامرهم ازددت شحوباً ونحولاً وهزالاً. ولم يوحِ لي خيالي
…
على هذا الجانب من القبر، بغير الآلام المتصلة كابدتها من الرمل والحصاة وحصر البول، وكان كل ما يخفف من آلام غيري من المرضى كنقيع الشعير، والحمامات والفصد-يضاعف من عذابي" (88).
وفي مطلع عام 1751 أنجبت له تريز طفلاً ثالثاً تبع أخويه إلى ملجأ اللقطاء. وقد علل هذا في فترة لاحقة بأنه كان أفقر من أن يربي أطفالاً، وأنه لو وكلهم إلى آل لقاسير لكان في ذلك بوارهم، وأنهم كانوا سيعبثون عبثاً منكراً في عمله كاتباً وموسيقياً وأكرهه المرض على الاستقالة من وظيفته صرافاً لديوان دفرانكوي التخلي عن دخله منها، وراح منذ الآن يكسب معظم قوته بنسخ كراسات الموسيقى براقع عشرة سنوات للصفحة. ولم يتلقَ روسو أي دخل من بيع "المقال" سواء كان سبب إهمال ديدرو أو شح الناشرين وتبين أن موسيقاه أكسب له من فلسفته.
وفي 18 أكتوبر 1752، وبفضل نفوذ دوكلو، مثلت أوبريت روسو "عراف القرية" أمام الملك والبلاط في فونتنبلو، ولقيت من النجاح ما أتاح لها عرضاً ثانياً بعد أسبوع وظفرت حفلة للجمهور في باريس (أول مارس 1753) باستحسان أشمل، ووجد المؤلف المعتكف نفسه مرة أخرى رجلاً يشار إليه بالبنان. وكان هذا "الفاصل" الصغير، الذي ألف روسو كلماته وموسيقاه، أشبه باللحن المصاحب "المقال": فالراعية كوليت، التي أحزنتها مغازلات كولان لفتيات المدينة، يرشدها عراف القرية إلى استمالته ثانية بمغازلة غيره من الرجال، فيغار عليها كولان ويعود
إليها، ثم ينشدان معاً أغاني راقصة تشيد بحياة الريف وتذم حياة المدينة. وحضر روسو الحفلة الافتتاحية وكاد يرضى عن المجتمع بعد الخصام.
"غير مسموح بالتصفيق أمام الملك، وعليه فقد كان كل شيء مسموعاً، وهذا يخدم المؤلف والتمثيلية. وسمعت من حولي همس النساء اللاتي يدون في حسن الملائكة. وكانت الواحدة تقول للأخرى في صوت خافت: "هذا رائع، هذا خلاب، ليس هناك لحن واحد لا ينفذ إلى الفؤاد" وقد أثار دموعي سروري بأنني أشعر هذا العدد الكبير من الأشخاص اللطفاء بهذه العاطفة، ولم أستطع أن أمسكها في اللحن الثنائي الأول حين لاحظت أنني لم أكن الوحيد الذي يبكي". (89)
في ذلك المساء بعث إليه الدوق دومون كلمة يطلب إليه الحضور إلى القصر في الساعة الحادية عشرة من صباح الغد ليقدم إلى الملك، وأضاف الرسول أن من المتوقع أن ينفح الملك المؤلف معاشاً. ولكن مثانة روسو أفسدت الخطة. يقول:
"أيصدق أحد أن ليله هذا النهار الرائع كانت ليلة عذاب وحيرة؟ فقد كان أول خاطر لي إنني بعد أن أقدم للملك سأضطر إلى الانسحاب غير مرة وكانت هذه الضرورة قد سببت لي معاناة شديدة في المسرح: وقد تعذبني في الغد وأنا في البهو أو في حجرة الملك، بين جميع العظماء، منتظراً خروج جلالته. لقد كانت علتي هي السبب الأهم في الحيلولة بيني وبين الاختلاط بالجماعات الراقية والاستمتاع بحديث الحسان
…
ولا يستطيع غير من خبر هذا الموقف أن يحكم بالفزع الذي يوحي به التعرض لخطره (90).
وعليه فقد أرسل كلمة يعتذر من الحضور. وبعد يومين وبخه ديدرو على تضييعه فرصة كهذه تتيح رزقاً أنسب له ولتريز" وتحدث عن المعاش بحرارة أكثر مما كنت أتوقع في موضوع كهذا من فيلسوف
…
مع أنني شكرت له تمنياته الطيبة، فإنني لم أستطع أن أسيغ مبادئه، الأمر الذي أثار بيننا نقاشاً حامياً هو أول ما وقع بيننا من نزاع (91). على أنه لم يحرم كل
ربح من وراء تمثيليته. فقد أعجبت به مدام ديونبادو إعجاباً حملها على أن تمثل هي نفسها دور كوليت في عرضها الثاني في البلاط، وأرسلت له خمسين جنيهاً ذهبياً، وأرسل له لويس مائة. (91) وراح الملك نفسه، "بأنكر صوت في مملكته يتغنى بلحن كوليت الحزين""لقد فقدت خادمي"-وكان هذا إرهاصاً بظهور جلوك.
وكان روسو خلال ذلك يعد مقالات عن الموسيقى للموسوعة "وقد كتبتها في عجلة شديدة، وكتابة سيئة لهذا السبب، في الشهور الثلاثة التي أتاحها لي ديدرو. وقسا رامو في نقد هذه المقالات في كتيب سماه "أخطاء حول الموسيقى في الموسوعة" (1755) وعدل روسو في المقالات، وجعلها أساساً لـ"قاموس الموسيقى" (1767) واعتبره معاصروه، باستثناء رامو، موسيقياً من أعلى طراز (93) وينبغي أن نعده الآن مؤلفاً مجيداً في فرع صغير من فروع الموسيقى، ولكنه كان ولا شك أكثر من كتب عن الموسيقى طرافة وإمتاعاً في ذلك الجيل.
ولما غزت فرقة من مغنى الأوبرا الإيطالية باريس في 1752 تفجر الجدل حول مزايا كل من الموسيقى الفرنسية والإيطالية. وقفز روسو إلى المعركة بـ"رسالة في الموسيقى الفرنسية"(1753) يقول جريم إنه "يثبت فيها استحالة تلحين الموسيقى في ألفاظ فرنسية، وأن اللغة الفرنسية لا تصلح إطلاقاً للموسيقى، وإنه لم يكن قط للفرنسيين ولن يكون لهم أبداً موسيقى (94) ". وكان روسو بكليته في صف إتساق الألحان (الميلوديا). كتب في روايته "أحلام جوال وحيد" يقول "غنينا أغنية قديمة كانت أفضل كثير من النشاز الحديث (95) " وأي جيل لم يسمع تلك الشكوى؟ وفي مقاله "الأوبرا" الذي تضمنه قاموسه الموسيقي أعطانا إلماعاً لفاجنر، فعرف الأوبرا بأنها "مشهد درامي غنائي يحاول الجمع من جديد بين جميع مفاتن الفنون الجميلة في تمثيل حركة عاطفية مشبوبة
…
ومقومات الأوبرا هي القصيدة الشعرية، والموسيقى، والزخرفة: فالشعر يتحدث إلى الروح،
والموسيقى إلى الأذن، والصورة إلى العين
…
والدرامات اليونانية كان يمكن أن تسمى أوبرات (96) ".
وحوالي تلك الفترة (1752) رسم موريس كنتان دلاتور صورة لروسو بالباستيل (97)، التقط فيها ملامح جان-جاك مبتسماً، وسيماً، أنيقاً، وقد أنكر ديدرو الصورة لأنها لا تتفق والحقيقة (98). ووصف مارمونتيل روسو كما رآه في تلك السنوات في حفلات عشاء دولباخ فقال "كان قد ربح لتوه الجائزة .. في ديجون
…
فيه تأدب يشوبه الإحجام، قد
…
يبلغ من للتواضع مبلغاً يقرب من التذلل. ترى عدم الثقة واضحة من خلال تحفظه المشوب بالخوف، وكانت عيناه المطرقتان ترقبان كل شيء بنظرة ملؤها الارتياب الحزين. وقل أن شارك في حديث، وندر أن كشف لنا عن دخيلة نفسه (99) ".
وغدا مركز روسو بعد تنديده بالعلم والفلسفة بهذا العنف حرجاً بين جماعة الفلاسفة الذين سيطروا على الصالونات. وكان مقاله قد ألزمه بالدفاع عن الدين. وتروي مدام دينيه أنه في عشاء دعت إليه مدام كينو، وجدت المضيفة أن الحديث عن الدين أصبح نابياً، فرجت ضيوفها "أن يحترموا على الأقل الدين الطبيعي" وبادر بالرد المركيز دسان-لامبير، الذي كان مؤخراً مزاحماً لفولتير على حب دوشاتليه، وسيكون عما قليل مزاحماً لروسو على حب مدام دوديتو فقال "أنه لا يستحق من الاحترام أكثر من أي دين آخر". وتواصل مدام ديينيه كلامها فتقول:"فلما سمع روسو هذا الرد غضب وتمتم بكلام أضحك الجماعة عليه". قال: "إذا كان من الجبن أن يسمح الإنسان لآخر أن يغتاب صديقاً فإن من الإجرام أن يسمح لأحد بأن يتحدث عن إلهه الذي هو حاضر، وأنا أومن بالله يا سادة
…
واتجهت إلى سان لامبير وقلت له "إنك يا سيدي وأنت شاعر، ستوافقني على أن وجود كائن خالد، كلي السلطان، عظيم الذكاء، هو البذرة لأروع ضروب الحماسة". فأجاب "أعترف بأنه جميل أن نرى هذا الإله يوجه وجهه إلى الأرض،
…
ولكنها بذرة
الحماقات"، وقاطعه روسو قائلاً "سيدي، سأبرح الحجرة إن زدت كلمة واحدة". والواقع أنه كان قد قام عن كرسيه وكان يفكر جدياً في الهروب لولا أن أعلن عن قدوم الأمير (100).
ونسي الجميع موضوع الجدل. وفي رواية وردت في مذكرات مدام ديينيه، أن روسو قال لها أن هؤلاء الكفرة يستحقون النار الأبدية (101).
وجدد روسو الحرب على الحضارة في مقدمة مسرحيته الهزلية "نارسيس"، التي مثلتها فرقة الكوميدي فرانسيز في 18 ديسمبر 1752 "أن الميل إلى الآداب يكون دائماً إيذاناً في الشعب ببداية فساد سرعان ما يعجل به هذا الميل. ولا ينبعث هذا الميل في أمة إلا من منبعين خبيثين
…
التبطل، وشهوة الامتياز (102)". ومع ذلك استمر حتى عام 1754 يختلف إلى "مجمع" دولباخ المؤلف من أحرار الفكر. هناك استمع مارمونتيل، وجريم، وسان-لامبير، وغيرهم إلى الأبيه بتي يقرأ مأساة من تأليفه، فوجدوها عملاً تافهاً يدعو للرثاء، ولكنهم أطروها إطراءً جميلاً، وكان الأديب قد ثمل بالخمر إلى حد أعماه عن إدراك ما في ثنائهم من تهكم، فانتفخت أوداجه رضى وغبطة، أما روسو الذي غاظه نفاق أصحابه فقد انتقض على الأب بقريع لا هوادة فيه، فقال له "أن تمثيليتك لا قيمة لها
…
وكل هؤلاء السادة يسخرون منك، فانصرف وعد لتكون قسيساً في قريتك (103) ". ووبخ دولباخ روسو على فظاظته، فانصرف غاضباً وانقطع عن الجماعة عاماً.
لقد دمر رفاقه كثلكته، ولكنهم لم يدمروا إيمانه بمقومات المسيحية. وعادت بروتستانتية صباه تطفو في الوقت الذي تغوص فيه كثلكته. فتصور جنيف صباه كاملة مبرأة من العيوب، وخيل إليه أنه سيكون فيها أكثر راحة واطمئناناً من في بلد أضنى روحه كباريس. ولو عاد إلى جنيف لاكتسب من جديد لقباً يبعث على الفخر، هو لقب المواطن، ومعه الامتيازات الخاصة التي ينطوي عليها هذا اللقب. وعليه ففي يونيو سنة 1754 استقل مركبة البريد إلى شامبري وهناك وجد مدام دفاران
فقيرة تعسة، ففتح لها كيس نقوده، ثم واصل رحلته إلى جنيف. هناك رحب به القوم ابناً ضالاً قد ثاب إلى رشده: ويبدو أنه وقع إقراراً يؤكد فيه من جديد عقيدته الكلفنية (104)؛ وأغتبط رجال الدين الجنيفيون باستعادتهم "موسوعياً" إلى حظيرة إيمانهم الإنجيلي ورد إليه اعتباره مواطناً، وراح بعدها يوقع في فخر "جان-جاك روسو، المواطن": قال:
"تأثرت تأثراً بالغاً بما لقيت من عطف
…
المجلس (المدني) والمجمع (الكنسي) وعظيم احترام القضاة، والوزراء، والمواطنين، وحفاوتهم بي .... حتى إنني أقلعت عن فكرة العودة إلى باريس إلا لفظ إدارة البيت، والعثور على مل للسيد لفاسير وزوجته، أو تدبير أمر معاشهما، ثم العودة مع تريز إلى جنيف لأستقر فيها ما بقي لي من عمر (105) ".
واستطاع الآن أن يتذوق جمال البحيرة وشواطئها تذوقاً أكمل مما فعل في صباه "لقد احتفظت بذكرى حية
…
لطرف البحيرة الأبعد، وكتبت له وصفاً بعد سنوات في هلويز الجديدة". ودخل الفلاحون السويسريون في حلم الفردوس الريفي الذي سيصفه في تلك الرواية: فهم ملاك لمزارعهم لا يخضعون لضريبة رؤوس أو سخرة، يشغلون أنفسهم بالحرف المنزلية في الشتاء، ويقفون في قناعة بمنأى عن ضجيج العالم وصراعه. وكانت ذكرى دويلات المدن السويسرية عالقة بذهنه وهو يصف مثله السياسي الأعلى في كتاب "العقد الاجتماعي".
وفي أكتوبر 1754 قصد باريس على وعد بالعودة منها سريعاً. ووصل فولتير إلى جنيف بعد رحيل روسو عنها بشهرين، واستقر به المقام في فيلا ديليس. واستأنف جان-جاك في باريس صداقته لديدرو وجريم، دون أن تبلغ من الثقة ما بلغته من قبل. ولما نمى إيه نبأ موت مدام دولباخ كتب إلى البارون خطاب تعزية رقيقاً؛ وتصالح الرجلان، وعاد روسو يؤاكل الزنادقة، وظل ثلاثة أعوام أخر يبدو من جميع
الوجوه واحداً من جماعة الفلاسفة، ولم يبحث كثيراً في عقيدته الكلفنية الجديدة. واستغرقه الآن الإشراف على طبع "مقاله" الثاني الذي قدر له أن يهز الدنيا أكثر مما هزه سابقه.
7 - جرائم الحضارة
في نوفمبر 1753 أعلنت أكاديمية ديجون عن مسابقة أخرى، أما السؤال الجديد فكان "ما الأصل من عدم المساواة بين البشر، وهل يقره قانون الطبيعة"؟ يقول روسو "استرعى انتباهي هذا السؤال الخطير، وأدهشني أن الأكاديمية اجترأت على طرحه للنقاش، ولكن ما دامت قد أظهرت شجاعتها
…
فقد عكفت فوراً على مناقشته (106)". وأختار لبحثه هذا العنوان "مقال في أصل وأسس عدم المساواة بين البشر". وفي شامبري في 12 يونيو 1754 أهدى هذا المقال الثاني "إلى جمهورية جنيف" وأضاف خطاباً موجهاً إلى "سادتها الحاكمين" الرفيعي الشرف والمجد، يعرب عن بعض الآراء الفذة في السياسة:
"في بحوثي عن خير القواعد التي يمكن أن يرسيها الإدراك السليم عن تكوين الحكومة أدهشني أن أجدها كلها تحققت فعلاً في حكومتكم، بحيث أنني لو لم أولد بين أسوار مدينتكم لرأيته لزاماً عليّ أن أقدم هذه الصور عن المجتمع الإنساني إلى ذلك الشعب الذي يبدو أنه انفرد دون سائر الشعوب بحيازته لأعظم مزاياهم، ووفر لنفسه أفضل وقاية من مساوئها (107) ".
ثم هنأ جنيف بعبارات تصدق تماماً على سويسرا اليوم:
"بلد انصرف عن شهوة الغزو الهمجية لافتقاره السعيد للقوة، وأمن بفضل موقعه الأسعد حظاً من خوف الوقوع غنيمة في يد غيره من الدول: مدينة حرة تتوسط عدة أمم، لا مصلحة لواحدة منها في العدوان عليها، ومصلحة كل منها في منع غيرها من هذا العدوان (108) ".
وبارك معبود الثورة الفرنسية المستقبل تلك القيود المفروضة على الديمقراطية في جنيف، حيث لا حق في التصويت إلا لثمانية في المائة من السكان:
"لكي نتقي خدمة المصالح الخاصة والمشروعات الطائشة وجميع البدع الخطرة التي انتهت بالقضاء على الاثنين، ينبغي ألا تطلق الحرية لكل رجل في اقتراح القوانين الجديدة على هواه، بل يقصر هذا الحق على القضاة دون غيرهم
…
فقدم القوانين هو أهم عامل في إضفاء القدسية والاحترام عليها، والناس سرعان ما يتعلمون الاستهانة بالقوانين التي يرونها تبدل وتغير كل يوم، ولو اعتادت الدول أن تهمل تقاليدها القديمة بحجة التحسين والإصلاح، لجلبت من الشرور ما هو أسوأ مما تحاول أن تقضي عليه (109) ".
أكان هذا مجرد ذريعة يلتمس بها العودة إلى المواطنة الجنيفية؟
أما وقد تحقق لروسو هذا الهدف فإنه قدم مقاله لأكاديمية ديجون. ولم يمنح الجائزة، ولكن حين نشر المقال في يونيو 1755، سره أن يصبح من جديد الحديث المثير لصالونات باريس. ذلك أنه لم يترك مفارقة إلا تناولها ليثير الجدل حولها. فهو لم ينكر عدم المساواة "الطبيعي" أو الإلزامي، ويلم بأن هناك أفراداً هم بحكم مولدهم أصح أو أقوى من غيرهم في البدن أو الخلق أو الذهن. ولكنه زعم أن كل ضروب عدم المساواة الأخرى-الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والخلقية، عير طبيعية، نشأت حين ترك البشر "الحالة الطبيعية"، وأقاموا الملكية الخاصة وأسسوا دولاً تحمي الثروة والامتياز.
"فالإنسان بطبيعته طيب (110) "، وأكثر ما يجعله شريراً تلك النظم الاجتماعية التي تقيد أو تفسد ميوله للسلوك الطبيعي. وقد صور روسو حالة فطرية مثالية كان الناس فيها أقوياء الأطراف، خفاف الأقدام،
حديدي البصر
(1)
، يعيشون حياة الحركة والعمل، حياة كان الفكر فيها دائماً أداة للعمل وتابعاً له، لا بديل مضعفاً عنه. ثم قارن بين هذه الصحة الفطرية وبين الأمراض المتكاثرة التي تنجم في الحضارة عن الثروة والأعمال التي تتطلب القعود الكثير:
"أن أغلب عللنا من صنعنا، وكان يسيراً علينا أن نتجنبها، كلها تقريباً، بالتزام أسلوب الحياة البسيط، المماثل، المنعزل، الذي قررته الطبيعة. فإذا كانت الطبيعة. قد قضت بأن يكون الإنسان سليماً صحيحاً، فأنني أجرؤ على الزعم بأن حالة التفكير والتأمل حالة تناقض الطبيعة، وأن ( I'homme Qui M (dite est un aminal d (rar (.) .
وحين نفكر في بنية المتوحشين القوية-على الأقل أولئك الذين لم ندمرهم بمشروباتنا الروحية-وفي أنهم لا يكادون يعانون من أي علل غير الجروح والشيخوخة، يغرينا هذا بالاعتقاد بأننا تتبعنا لتاريخ المجتمع المدني؛ إنما نحن نروي تاريخ أمراض البشر (112) ".
ويسلم روسو بأن هذه الحالة المثالية "الحالة الطبيعية .. .. ربما لم توجد قط؛ وأغلب الظن أنها لن توجد أبداً (113) ". فهو لا يعرضها بوصفها حقيقة واقعة من حقائق التاريخ بل مقياساً للمقارنة. وهذا ما عناه بهذا الاقتراح المفزع "فلنبدأ إذن بتنحية الحقائق جانباً لأنها لا تمس السؤال. والتحقيقات التي يصح أن نخوض فيها .... يجب ألا تعالج على أنها حقائق تاريخية، بل حجج مشروطة وفرضية (114) ": على أننا قد نكون فكرن عن حياة الإنسان قبل قيام النظام الاجتماعي، بملاحظة حال الدول الحديثة السلوك، لأن "الدول اليوم ما زالت في حالة طبيعية (115) ". فكل منها ذات سيادة فردية، لا تعرف فعلاً أي قانون إلا قوانين المكر والقوة، ويجوز أن نفرض أن الإنسان الذي سبق تكوين المجتمعات كان يحيا في حالة مشابهة من السيادة الفردية، وعدم الأمان، والفوضى
(1)
"ما لست أياه، فإنه عندي الله والفضيلة" نيتشه (111) الإنسان الذي يتأمل هو حيوان فاسد.
الجماعية، والعنف بين الحين والحين. ولم يكن مثل روسو الأعلى هو هذه الحياة المتخيلة التي سبقت المجتمعات (لأن المجتمع قد يكون قديماً قدم الإنسان)، بل مرحلة لاحقة من التطور عاش فيها الإنسان في أسر أبوية النظام وجماعات قبلية، ولم ينشئوا بعد نظام الملكية الخاصة "إن أقدم المجتمعات قاطبة، والمجتمع الطبيعي الوحيد، هو الأسرة (116) ".
ذلك كان العصر الذي بلغت فيه سعادة البشر أقصاها. حقاً أنه لم يخل من عيوب، وآلام، وعقوبات، ولكنه خلا من القوانين، اللهم إلا السلطة الأبوية والنظام الأسري؛ "لقد كانت هذه الحالة في جملتها أفضل حالة يستطيع الإنسان ممارستها، فلم يكن ليعدل عنها لولا أن أصابه خطب فادح (117). وهذا الخطب هو إقامة الملكية الفردية، وما نجم عن ذلك من تفرقة اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ومعظم شرور الحياة الحديثة.
"أن أول رجل سور قطعة من الأرض ث خطر له أن يقول "هذه ملكي" ووجد الناس من البساطة بحيث يصدقونه؛ هذا الرجل كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المتمدن. ليت شعري كممن الجرائم، والحروب، والاغتيالات، كم من الفظائع والكوارث، لم يكن في استطاعة أي إنسان أن ينقذ البشرية منها باقتلاع الأوتاد المحددة للأرض أو ردم القناة المحيطة بها والصياح بإخوانه أن احذروا الاستماع إلى هذا النصاب، إنكم إن نسيتم أن ثمرات الأرض ملك لنا جميعاً، وأن الأرض ذاتها ليست ملكاً "لأحد، كان في ذلك هلاككم (118) ".
ومن هذا الاغتصاب الذي سمح به الناس انبعثت لعنات الحضارة: كالانقسامات الطبيعية، والعبودية، ورق الأرض، والحسد، والسرقة، والحرب، والظلم القانوني، والفساد السياسي، والغش التجاري، والاختراعات، والعلم، والأدب، والفن، و"التقدم"-وبكلمة واحدة، الانحطاط. فلحماية الملكية الخاصة نظمت القوة ثم أصبحت هي الدولة، ولتيسير الحكم طور القانون لتعويد الضعفاء الإذعان للأقوياء
بأقل قدر من الإكراه والتكلفة (119). وهكذا نشأ هذا الوضع الذي نرى فيه "القلة المميزة تكتظ بالكماليات، على حين تفتقر الجماهير الجائعة إلى أبسط ضروريات الحياة (120) ". يضاف إلى هذه المظالم الأساسية طائفة أخرى متفرعة عنها" كالوسائل المخزية التي يمارسها الناس أحياناً لمنع ولادة البشر، والإجهاض، وقتل الأطفال، وخصي الذكور، والانحرافات الجنسية، وترك الكثيرين من الأطفال الذين يقعون فريسة لإملاق أبويهم في العراء أو قتلهم (121) ". هذه الكوارث كلها مفسدة مضعفة، والحيوانات لا تعرفها؛ وهي تجعل "الحضارة" سرطاناً ينهش جسد البشرية. وعلى نقيض هذا الفساد والانحراف المتعدد الأشكال، نجد حياة المتوحشين صحيحة، سليمة، رحيمة،. أينبغي أن نعود إذن إلى الهمجية؟ "أيجب أن تلغى المجتمعات إطلاقاً؟ وتبطل عبارة "مُلكي" و"مُلكك"، ونعود إلى الغابة لنحيا بين السباع؟ " لم يعد هذا في وسعنا، فسم الحضارة يسري في دمائنا، ولن ننتزعه بالهروب إلى الغابات، والقضاء على الملكية الخاصة، والحكومة؛ والقانون، معناه الزج بالناس في فوضى هي شر من الحضارة. "لن يستطيع الإنسان العودة أبداً إلى زمان البراءة والمساواة متى تركه (122) ". وقد تبرر الثورة، لأن القوة قد تطيح عدلاً بما أقامته القوة وساندته (123)، ولكن الثورة ليست مستحبة الآن. وخير ما نستطيعه هو أن ندرس الأناجيل من جديد، ونحاول تطهير دوافعنا الشريرة بممارسة أخلاق المسيحية (124). في استطاعتنا أن نجعل من العطف الفطري على إخواننا البشر أساساً للأخلاق والنظام الاجتماعي. ونستطيع العزم على أن نحيا حياة أقل تعقيداً، نقنع فيها بالضروريات، ونحتقر أسباب البذخ والترف، ونجتذب سباق "التقدم" وحماه. نستطيع أن ننبذ ما في الحضارة من ضروب الزيف، والنفاق، والفساد، واحداً بعد الآخر، ونعيد تشكيل أنفسنا على الأمانة الطبيعية، والإخلاص. نستطيع أن نترك ضوضاء مدننا وصخبها، وأحقادها، وفسقها، وجرائمها، ونذهب لنعيش في بساطة الريف ومسئوليات
الأسرة وقناعتها. نستطيع أن نطلق دعاوى الفلسفة ومسالكها المسدودة، ونعود إلى إيمان ديني يشد أزرنا حين نواجه آلام الموت".
ونحن نحس اليوم شيئاً من التكلف في هذا السخط البار بعد أن سمعنا هذا كله مائة مرة. فلسنا على ثقة من أن الشرور التي وصفها روسو تنجم عن الأنظمة الفاسدة أكثر مما تنجم عن طبيعة البشر؛ وعلى أية حال فالطبيعة البشرية هي التي صنعت الأنظمة. ويوم كتب جان-جاك "مقاله" الثاني كانت الإشادة بذلك "الهمجي اللطيف المعشر، المتدفق العاطفة" قد بلغت ذروتها. ففي 1640 كان ولتر هاموند قد نشر كتيباً "يثبت أن أهل مدغشقر أسعد شعوب الأرض (125) ". وبدا أن القصص التي رواها اليسوعيون عن هنود هورون وإيركوا مصداق للصورة التي رسمها الروائي ديفو لخادم روينصن كروزو اللطيف "فرايداي". أما فولتير فكان يسخر عموماً من أسطورة الجمجي الشريف، ولكن استخدمها بمرح في قصته "الساذج" وداعبها يدور في قصته "تذييل الرحلة بوجانفيل" ولكن هلفينيوس هزأ بإشادة روسو بالهمجي مثلاً أعلى (126)، وزعم دوكلو-رغم أنه كان صديقاً وفياً لجان-جاك-أن "الهمج هم الذين تستشري بينهم الجريمة، وطفولة أمة ما ليست عصر براءتها (127) ". ويمكن القول على الجملة أن المناخ الفكري كان مواتياً لنظرية روسو.
أما ضحايا مطاعن روسو فقد هدءوا ضمائرهم بالزعم أن هذا المقال الثاني متكلف كسابقهِ. ووصفته مدام دودفان صراحة بأنه دجال (128). وسخر الشكاك من ادعاءاته بسلامة عقيدته المسيحية، وبتفسيره الحرفي لسفر التكوين (129) وبدأ جماعة الفلاسفة يرتابون فيه لأنه يقلب خططهم الرامية إلى استمالة الحكومة إلى أفكارهم في الإصلاح الاجتماعي، ولم يحبذوا استثارة كراهية الفقراء. وسلموا بحقيقة الاستغلال، ولكنهم لم يروا أي مبدأ في إحلال الغوغاء محل القضاة. أما الحكومة فلم تحتج على اتهامات روسو، والراجح أن القصر لم يرَ في المقال إلا تدريباً على الخطابة. وكان روسو فخور ببلاغته، فأرسل نسخة من المقال إلى فولتير، وترقب
في شوق كلمة ثناء منه. وجواب فولتير درة من درر الأدب والحكمة وآداب السلوك الفرنسية. قال:
"تلقيت يل سيدي كتابك الجديد الذي يهاجم النوع الإنساني. وأني أشكرك عليه. وأنك لتسر الناس الذين تخبرهم بحقائق تهمهم، ولكنك لن تقوم بذلك اعوجاجهم. إنك ترسم بألوان صادقة جداً فضائع المجتمع الإنساني،
…
وأن أحداً لم يبذل قط مثل هذا الذكاء الكثير ليقنع الناس بأن يكونوا وحوشاً. والمرء حين يقرأ كتابك تتملكه الرغبة في أن يمشي على أربع ( Marcher (Quatre Pattes) ولكن بما أنني فقدت تلك العادة منذ أكثر من ستين عاماً. فأني لسوء الحظ أشعر أنه يستحيل عليّ استئنافها
…
"وإني متفق معك على أن الآداب والعلوم كانت أحياناً علة الكثير من الشرور
…
(ولكني) اقرر أنه لا شيشرون، ولا قارو، ولا لوكريتيوس، ولا فرجيل، ولا هوراس، كان لهم أقل نصيب في تحريمات ومصادرات ماريوس، وصلا، وأنطونيوس، وليبدوس، وأكتافيوس
…
وعليك أن تعترف بأن بترارك وبوكاشيو لم يكونا السبب فيما عانته إيطاليا من متاعب داخلية، وأن مزاح مارو لم يكن السبب في مذبحة القديس برتولومي، وأن مسرحية كورنبي "السيد" لم تثر حروب الفروند. إن الجرائم الكبرى قد اقترفها رجال مشهورون ولكنهم جهلة، والذي جعل هذه الدنيا، وسوف يجعلها على الدوام، وادياً للدموع هو جشع الناس الذي لا يشبع وغرورهم الذي لا يفتر
…
أن الأدب يغذي الروح، ويقومها، ويعزيها، أنه يخلق مجدك في ذات الوقت الذي تهاجمه فيه
…
"لقد أنبأني السد شابوي أن صحتك سيئة للغاية. فعليك ان تحضر وتستردها في جو وطنك، وتستمتع بالحرية، وتشرب معي لبن أبقارنا، وتعيش على أعشابنا. وأني يا سيدي بكل، الفلسفة وكل التقدير المشرب بالمحبة، خادمك المتواضع جداً المطيع جداً (130).
ورد روسو التحية بمثلها، ووعد بأن يزور فيللا المباهج عن عودته إلى سويسرا (131). ولكن حز في نفسه كثيراً ذلك الاستقبال الذي استقبل به مقاله في جنيف التي أهداها إياه بمثل هذا المديح السار. والظاهر أن الأوليجاركية الصغيرة المحكمة التي تسلطت على الجمهورية أوجعتها بعض تعليقات ذلك المقال اللاذعة، ولم تسغ تنديد روسو الشامل بالملكية، والحكومة، والقانون "لم أحس أن جنيفياً واحداً سر بما حواه المقال من حماسة قلبية (132). وعليه فقد قررت أن الوقت لم يحن بعد لعودته إلى جنيف.
8 - المحافظ
شهد عام 1755، الذي نشر فيه المقال الثاني، ظهور مقال طويل بقلم روسو في المجلد الخامس من الموسوعة عنوانه، مقال في الاقتصاد السياسي. وهو جدير بالملاحظة لأنه خالف المقالين السابقين عليه في بعض تفاصيله الهامة. ففي هذا المقال نرى الكاتب يبجل المجتمع، والحكومة، والقانون، باعتبارها نتائج طبيعية لفطرة الإنسان وحاجاته، ويصف الملكية الخاصة بأنها عطية اجتماعية وحق أساسي. "من المؤكد أن حق الملكية أقدس حقوق المواطنة، بل أنه من بعض الوجوه أهم من الحرية ذاتها. فالملكية هي الأساس الصحيح للمجتمع المدني، والضمان الحقيقي لتعهدات المواطنين (133) بمعنى أن الناس لن يعملوا فوق ما تتطلب أبسط حاجاتهم ما لم يحتفظوا بالناتج الفائض لأنفسهم، ليستهلكوه أو ينقلوه لغيرهم كما يشاءون. ويوافق روسو الآن على أن يورث الآباء ثروتهم لأبنائهم، ويقبل في اغتباط ما يتمخض عنه هذا من انقسامات طبقية. "ما من شيء أضر بالفضيلة والجمهورية من انتقال المراتب والثروات باستمرار بين المواطنين: ومثل هذه التغيرات هي الدليل على وجود مئات من ضروب الخلل والاضطراب، وهي مصدرها في الوقت نفسه، ومن شأنها أن تقلب كل شيء رأساً على عقب وتفسده (134).
ولكنه يواصل التنديد بالظلم الاجتماعي وبما في القانون من محاباة طبقية. فكما أن من واجب الدولة أن تحمي الملكية الخاصة ووراثتها القانونية، كذلك
ينبغي أن يسهم أعضاء المجتمع ببعض ثروتهم لإعالة الدولة. وينبغي أن تُفرض ضريبة صارمة على جميع الأشخاص بنسبة تصاعدية مع ثروتهم و"فائض ممتلكاتهم"(135)، وألا تُفرض ضريبة على الضروريات، وأن تفرض ضريبة مرتفعة على الكماليات، وينبغي أن تمول الدولة نظاماً قومياً للتعليم. "أن الأطفال إذا نشئوا معاً (في مدارس قومية) في حضن المساواة وإذا أشربوا قوانين الدولة ومبادئ الإدارة العامة .. فلن نشك في أنهم سيحبون بعضهم بعضاً كما يفعل الأخوة. ليصبحوا في الوقت المناسب مدافعين وآباء الوطن الذي كانوا أبناؤه (136). والوطنية خير من العالمية أو التظاهر الهزيل بالعطف العالمي (137) ".
وكما طغت النزعة الفردية على المقالين الأولين، طغت النزعة الاجتماعية على مقال الاقتصاد السياسي. وهنا يصرح روسو لأول مرة بعقيدته الغريبة وهب أن في كل مجتمع "إرادة عامة" فوق المجموع العدد لما يحبه الأفراد الذين يؤلفونه وما يكرهون. فالمجتمع، في فلسفة روسو المقطورة، كائن اجتماعي له روحه الخاصة.
"أن الدولة هي أيضاً كائن معنوي، يملك الإرادة، وهذه الإرادة العامة التي تنحو دائماً إلى صيانة ورفاهية الدولة كلها وكل جزء فيها، هي مصدر القوانين، وهي التي تشكل لجميع أعضاء الدولة، في علاقاتهم بعضهم ببعض القاعدة التي تفرق بين العدل والظلم (138).
وحول هذا المفهوم يقيم روسو الأخلاق والسياسة التي ستغلب منذ الآن على آرائه في الشؤون العامة. فنرى الثائر الذي اعتبر الفضيلة تعبير الإنسان الحر الطبيعي يعرفها الآن بأنها "ليست سوى مطابقة الإيرادات الفردية للإرادة العامة"(139). ونرى الرجل الذي كان ينظر إلى القانون مؤخراً جداً على أنه إثمٌ من آثام الحضارة، وأنه أداة مريحة لفرض النظام الطيع على الجماهير المستغلة، يصرح الآن بأن القانون وحده هو الذي يدين له الناس بالعدل والحرية، وهذا الجهاز النافع من أجهزة الإرادة الجماعية هو الذي يرسي،
في الحق المدني، المساواة الطبيعية بين البشر، أنه الصوت السماوي الذي يملي على كل مواطن مبادئ العقل العام" (140).
ولعل محرري الموسوعة المطاردين كانوا قد نبهوا روسو إلى التخفيف في هذا المقال من هجومه على الحضارة. وسنجده بعد سبع سنوات، في كتابه "العقد الاجتماعي" يدافع عن الجماعة ضد الفرد، ويقيم فلسفته السياسة على فكرة الإرادة العامة المقدسة السامية. على أنه لم يزل خلال ذلك فردياً وثائراً يبغض باريس، ويؤكد ذاته ضد أصدقائه، ويصنع كل يوم أعداء جدداً.
9 - الهروب من باريس
1756
كان أصدقاؤه الحميمون الآن هم جريم، وديدور، ومدام دينييه. أما جريم فقد ولد في راتزبون عام 1723، فكان بذلك يصغر روسو بأحد عشر عاماً. وقد تعلم في ليبزج في العقد الأخير من حياة باخ، وتلقى عن أوهان أوجست إرنشتي أساساً مكيناً في لغتي اليونان والرومان وآدابهما. فلما وفد على باريس في 1749 تعلم الفرنسية بما عرف عن الألمان من إتقان ودقة، وما لبث أن وافى مجلة المركيز بمقالاته. وفي 1750 أصبح السكرتير الخاص للكونت فون فريزن. وأغراه حبه للموسيقى بالتعلق بروسو، كما رماه جوع أكثر عمقاً تحت قدمي الآنسة فل المغنية بالأوبرا، فلما آثرت عليه المسيو كاهوزاك، يقول روسو أن جريم:
"حز في نفسه حتى أصبحت إمارات خطبه مأساوية-فكان ينفق الأيام والليالي في تراخ وتبلد. ويرقد وعيناه مفتوحتان .. لا يتكلم، ولا يأكل، ولا يتحرك .. وكنت والأبيه رينال نرعاه، فالأبيه-وكان أشد مني وأصح-يسهر عليه ليلاً، وأنا أرعاه نهاراً، فلا نغيب عنه معاً في وقت واحد"(141).
واستدعى فون فريزن طبيباً يعوده، فأبى أن يصف له دواء غير الزمن. وأخيراً ذات صباح، قام جريم، وارتدى ثيابه، واستأنف نظام حياته العادي، دون أن يذكر يومها أو بعدها .. هذا التبلد الشاذ (142).
وقدم روسو جريم إلى ديدور، وراح ثلاثتهم يحلمون بالذهاب معاً إلى إيطاليا. واستوعب جريم في نهم سيل الأفكار المتدفق من معين عقل ديدور وتعلم لغة "الفلاسفة" الخالية من التوقير؛ وألف كتاباً لا أدرياً "في التعليم الديني للأطفال" وأشار على فون فريزن بأن يتخذ ثلاث خليلات في وقت واحد "تذكاراً للثالوث الأقدس"(143) وأقلقت روسو تلك الألفة النامية بين جريم، الذي سيصفه سانت بوف بأنه "أكثر الألمان فرنسية"، وبين ديدور "أكثر الفرنسيين ألمانية"(144) وفال روسو شاكياً "إنك تهماني ياجريم، وأنا أغفر لك هذا" وأخذه جريم عند كلمته. فقال لي إنني مصيب
…
ثم حطم كل قيد، فلم أعد أراه إلا في صحبة أصدقائنا المشتركين (145).
وفي سنة 1747 كان الأبيه رينال قد بدأ يرسل للمكتتبين الفرنسيين والأجانب خطاب أنباء نصف شهري سماه "الأنباء الأدبية" يورد فيه الوقائع في جنيا الأدب والعلوم والفلسفة والفنون الفرنسية-وفي 1753 عهد بالمشروع إلى جريم الذي-واصله بمعونة من ديدرو وآخرين حتى 1790. وأثناء اضطلاع جريم بالمجلة كان من بين من وافاها بمقالاتهم أفراد بلرزون. كملكة السويد لويزا أوريلكا وملك بولندة السابق ستانسلاس لسكيزنسكي، وكاترين الثانية قيصرة روسيا، وأميرة ساكس-جوتا، وأمير وأميرة هيس-دارمشات، ودوقة ساكس-كوبورج ودوق تسكانيا الكبير، والدوق كارل أوجست أمير ساكس-فيمار. أما فردريك الأكبر فقد أحجم عن المشاركة فيها لكثرة عدد من يبادلهم الرسائل في فرنسا وأخيراً وافق على أن يتسلم المجلة، ولكنه لم يدفع لها مالاً قط. وقد أذاع جريم العدد الأول من المجلة عقب اضطلاعه بإصدارها (مايو 1753):
في الصفحات المطلوبة منا لن نضيع وقتاً على النشرات التي تغرق باريس كل يوم
…
بل سنحاول أن نعطي تقريراً دقيقاً، وتحليلاً منطقياً ( Critique Raisonn (e) للكتب التي تستحق أن يتهم بها الجمهور.
وستكون الدراما جزءاً هاماً من تقريرنا لأنها فرعٌ رائع من فروع الأدب الفرنسي وعلى العموم لن نغفل شيئاً جديراً بفضول غيرنا من الشعوب (146).
وهذه الرسائل الأدبية المشهورة هي الآن سجل رئيسي نفيس لتاريخ فرنسا الفكري في النصف الثاني من القرن الثامن العشر، وقد استطاع جريم أن يكون صريحاً في مقالاته النقدية، لأنها لم تكن معروفة للجمهور الفرنسي أو للمؤلف الذي تتناوله. وكان يتوخى الإنصاف عادة، إلا مع روسو في فترة لاحقة. وقد أصدر الكثير من الأحكام الصائبة، ولكنه أساء الحكم على "كانديد" فزعم أنها لا تثبت-للنقد الجاد، على أن هذا الرأي لم يدفق إليه تحامل على فولتير، فقد وصفه بأنه:"أعظم الرجال في أوربا جاذبية وأكثرهم لطفاً، وأبعدهم صيتاً (147) ".
ورد فولتير التحية بطريقته الشيطانية فقال: "ما الذي يتراوى لهذا البوهيمي أن يبزنا ذكاء وفطنة؟ " ورسائل جريم هذه هي التي أذاعت في أرجاء أوربا أفكار التنوير الفرنسي أكثر من أي كتابات أخرى باستثناء مؤلفات فولتير. ومع ذلك خامرته الشكوك في جماعة الفلاسفة وفي إيمانهم بالتقدم، فقال:"إنما العالم مركب من: شرور لا يحاول إصلاحها غير إنسان معتوه"(149) وفي 1757 كتب يقول:
"يبدو أن القرن الثامن عشر فاق كل القرون في المدائح التي كالها لنفسه
…
ولو تمادى في هذا قليلاً لأقنع خيرة المفكرين أنفسهم بأن دولة الفلسفة، الهادئة المسالمة، أوشكت أن تسود بعد عواصف الجنون الطويلة، وأن ترسي إلى الأبد سلام البشر وهدوؤهم وسعادتهم
…
ولكن الفيلسوف الصادق، لسوء الحظ، لديه أفكار أقل تعزية ولكنها أصح وأدق .... وهيهات أن أصدق أننا مقتربون من عصر العقل، وأكاد أعتقد أن أوربا تتهددها ثورة مدمرة" (150).
ونلمح هنا أثراً من الكبرياء والغرور اللذين كانا يغيظان أصدقاء جريم أحياناً. فلقد كان هذا المتفرنس، ينفق الساعات في
التزين، وذر المساحيق على وجهه وشعره، والإسراف في التعطر إسرافاً لقب من أجله بدب المسك (151). وهو يبدو في رسائله ينير التحيات بمنة ويسرة بيد تتوقع الرد عليها. وقد اشترط فردريك للاشتراك في الرسائل أن "يعفيني جريم من تحياته"(152). ومثل هذا التملق كان بالطبع من أسلوب الرسائل في ظل "النظام القديم".
واسترعى جريم انتباه باريس، وهو الوجل البارد المتزن عادة، بإشرافه على الموت هياماً بالآنسة فل، وبدخوله في مبارزة من أجل مدام ديينيه. وكانت هذه الأخيرة-لويز-فلورانس تارديو ديسكلافيل-ابنة بارون من فالنسين مات في خدمة الملك عام 1737. وبعد ثمانية أعوام حين بلغت لويز العشرين، تزوجت من دنيس-جوزف لاليف ديينيه وكان ابن جابٍ غني. وذهبا للعيش في قصر ريفي جميل يدعى الشاتو دلاشيفريت، على تسعة أميال من باريس، بقرب غابة مونمورنسي. وفاضت حياتها سعادة، فتساءلت "أيستطيع قلبي أن يتحمل هذه السعادة؟ وكتبت إلى ابنة عم لها تقول" كان يعزف على البيان القيثاري، وأنا جالسة على مسند كرسيه ويسراي على كتفه، ويمناي تقلب الأوراق، فلم يفته قط أن يقبلها في كل مرة تمر أمام شفتيه (153).
ولم تكن جميلة، بل صغيرة الجسم أنيقة على نحو ساحر، بديعة التكوين Yres Bien Faint ( كما تنبئنا)(154)؛ وستفتن عيناها السوداوان النجلاوان فولتير بعد حين. ولكن " الإحساس دائماً بنفس الشيء يصبح بعد قليل تماماً كالإحساس بلا شيء"(155)، فلم يمضِ غير عام حتى كف ديينيه عن ملاحظة هاتين العينين. لقد كان قبل الزواج فاسقاً عربيداً فعاد الآن كما كان، يسرف في الشراب، ويسرف في القمار، وينفق المال الطائل على الأختين فريير، اللتين أسكنهما كوخاً على مقربة من لاشيفريت وولدت له زوجته خلال ذلك طفلين. وفي 1748 عاد من رحلة في الإقليم، وضاجع امرأته، فنقل إليها عدوى الزهري. وحصلت على انفصال شرعي عن زوجها بعد أن اعتلت صحتها وتحطمت
روحها. ووافق على تسوية سخية؛ وورثت هي ثروة عمها، فاحتفظت بلاشيفريت، وحاولت أن تنسى تعاستها في الحدب على طفليها ورعاية صديقاتها. فلما أصيبت إحداهن-وهي مدام دجوللي-بالجدري إصابة مميتة ذهبت لويز لتمرضها، ومكثت معها إلى النهاية، معرضة نفسها لعدوى قد تؤدي بها أو تشوهها مدى الحياة.
وأجمعت صديقاتها على أن يحسن بها أن تتخذ عشيقاً. وجاء عشيق (1746) وهو دوبان دفرانكوي، الرجل الذي وظف روسو عنده. وقد بدأ بالموسيقى، وانتهى بالزهري، ولم يلبث أن شفي من هذا الداء في حين ظلت هي تعاني منه (156). وانضم إلى زوجها في اقتسام الآنستين دفيريير. وقال لها دوكلو في صراحة جافية "أن فرانكوي وزوجك يقتسمان الأختين فيما بينهما (157) ". فأصيبت بحمى وهذيان داما ثلاثين ساعة. وحاول دوكلو الحلول محل دوبان، ولكنها طردته. ثم كانت مأساة أخرى حين أعطتها مدام دجوللي وهي على فراش الموت حزمة أوراق تفضح غرامياتها وألحت عليها في أن تحرقها، ففعلت. واتهمها المسيو دجوللي بأنها أحرقت عن عمد شهادات مديونيتها هي له. وأنكرت التهمة ولكن القرائن كانت ضدها، إذ كان معروفاً أنها كانت تعين زوجها بالمال رغم انفصالها عنه.
في هذه الأزمة دخل جريم الدراما، وكان روسو قد قدمه إلى لويز في 1751، وكثيراً ما اشترك ثلاثتهم في عزف الموسيقى أو الغناء معاً. وذات مساء في حفلة أقامها الكونت فون فريزن أعرب أحد الضيوف عن اعتقاده بأن مدام ديينيه مذنبة .. ودافع عنها جريم، واحتد النقاش إلى حد المساس بالشرف، وتبارز صاحب الاتهام والمدافع، فجرح جريم جرحاً طفيفاً. بعد حين وجدت الوثائق المفقودة، وبرئت ساحة السيدة، فشكرت جريم باعتباره "فارسها الهمام" ونمى تقدير الواحد منهما لصاحبه فاكتمل جباً من أبقى وأثبت ما شهده ذلك العصر القلب. وحين أتلف الحزن صحة البارون دولباخ لموت زوجته، وسافر جريم
للعناية به في الريف، سألته لويز "ولكن من سيكون فارسي يا سيدي إن هاجمني أحد في غيابك"؟ فأجاب جريم "هو ما كان من قبل-حياتك الماضية (158) " ولم يكن الجواب قاطعاً مانعاً، ولكنه فاق حدود الثناء.
وكان روسو قد التقى بمداد ديينيه في 1748 في بيت مدام دويان. ودعته إلى لاشيفريت. وفي "مذكراتها" وصف له:
"أنه يقدم التحيات والمجاملات، ولكنه ليس مؤدباً، أو على الأقل يعوزه مظهر التأدب. والظاهر أنه جاهل بعادات المجتمع، ولكن من الواضح أنه مفرط الذكاء. وله بشرة سمراء، وعينان بيضاوان تتوهجان وتضفيان الحيوية على قسماته ..... ويقال أنه عليل، ويتجلد لعذاب يحرص على كتمانه .... وهذا في ظني هو الذي يضفي عليه أحياناً .... ، مظهر الاكتئاب (159) ".
أما الصورة التي رسمها لها فلم تكن شديدة التأنق:
"لم يكن حديثها الخاص ممتعاً، وأن لم يعوزه اللطف في حضرة الجنسين
…
وأسعدني أن أبدي لها بعض المجاملات، وقبلتها قبلات أخوية صغيرة، ولم تبدو أكثر شهوانية منها هي .... لقد كانت غاية في النحول، والشحوب، ولها صدرٌ كظاهر يدها. وكان هذا العيب وحده كافياً للتخفيف من أحر رغباتي (160) ".
وظل سبع سنوات يلقى الترحيب في بيت مدام ديينيه. فلما رأت مبلغ ضيقه في باريس فكرت في سبل تقديم المعونة له، ولكنها كانت تعلم أنه سيرفض المال. وبينما كانا ذات يوم يسيران في حديقتها خلف لاشيفريت، أرته كوخاً يسمى "الأرميتاج (الصومعة) " كان من قبل ملكاً لزوجها. وكان مهجوراً متهدماً، ولكن موقعه على حافة غابو مونمورنسي حمل روسو على أن يقول في انفعال:"ياله من مسكن مبهج يا سيدي! كأن هذا الملجأ أعد لي خصيصاً"(161). ولم تجب السيدة، ولكن حين عودا السير إلى الكوخ في سبتمبر 1755، أدهش روسو أن يجده قد رمم، وأثثت
حجراته الست، ونظفت الأرض المحيطة به ورتبت. وينقل عنها أنها قالت "يا عزيزي، إليك ملجأك، فأنت الذي اخترته، أن الصداقة تقدمه لك. وأرجو أن يزيل هذا فكرتك القاسي، فكرة الانفصال عني" وكانت تعلم أنه فكر من قبل في أن يقيم في سويسرا، ولعلها لم تعرف ما طرأ من فتور على تحمسه لجنيف. و"فاضت دموعي على اليد الكريمة" يد صديقته، ولكنه تردد في قبول عرضها. فأغرت تريز ومدام لفاسير بقبول خطتها، و"أخيراً تغلبت على جميع قراراتي".
وفي أحد القيامة، 1756، ولكي تجمل الهدية بلياقة، جاءت باريس في مركبتها، وأخذت "دبها" كما كانت تدعوه، هو وخليلته وحماته، إلى الأرميتاج. ولم يلذ تريز فراقها لباريس، أما ورسو، فما أن استنشق هواء الخلاء حتى شعر بأنه أسعد منه في أي وقت منذ أيام فردوسه الريفي مع مدام دفاران. "في 9 إبريل 1756 بدأت أحيا"(162)، ولكن جريم أفسد الفرحة بتحذير لمدام ديينيه:
"إنكِ تضرين روسو ضرراً بليغاً بإعطائه الأرميتاج، ولكنكِ تضرين نفسك ضرراً أبلغ. فستكمل العزلة مهمة تسويد خياله، وسيبدو كل أصدقائه في عينيه ظلمة جاحدين، وأنت أولهم، إن رفضت ولو مرة واحدة أن تمتثلي لأوامره"(163).
وانطلق بعد ذلك جريم، الذي أصبح الآن سكرتيراً للمرشال دستريه، ليلعب دوره في الحرب التي سترسم خريطة العالم من جديد.
الفصل الثاني
حرب السبع سنين
1756 - 1763
1 -
كيف تشعل نار الحرب
حين وافت سنة 1756 كانت أوربا قد عرفت ثمانية أعوام من السلم. غير أن حرب الوراثة النمساوية لم تحسم شيئاً. فقد تركت النمسا قلقة في بوهيميا وإيطاليا، وبروسيا قلقة في سيليزيا، وبريطانيا قلقة في هانوفر، وفرنسا قلقة في الهند، وأمريكا، وعلى الرين. ولم تحقق معاهدة إكس لاشابل (1748) تسوية للأراضي يمكن أن تقارن في ثباتها بالتسوية التي حققتها معاهدة وستفاليا قبل قرن من الزمان. وتزعزع توازن القوى القديم نتيجة لنمو الجيش البروسي والبحرية البريطانية؛ فقد ينطلق ذلك الجيش ليلتهم أقاليم جديدة، ولا تحتاج تلك البحرية إلا إلى الوقت لتقتنص مستعمرات فرنسا: وهولندا، وأسبانيا. وتغذت الروح القومية الصاعدة في إنجلترا على أرباح التجارة وفرصها، وفي بروسيا على الحرب الظافرة، وفي فرنسا على تفوق ثقافي يشعر شعوراً غير مريح بالاضمحلال العسكري. وكان الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية قد انتهى إلى مأزق، فترقب الطرفان تحولاً في الحظ ليجددا حرب الثلاثين، طمعاً في الاستيلاء على الروح الأوربية.
وكانت النمسا بادئة بالاستعداد لرمية جديدة للفرد البشري. ذلك أن ماريا تريزا، التي لم تزل رأس الإمبراطورية الرومانية المقدسة الجميل رغم بلوغها التاسعة والثلاثين، اجتمع لها كل كبرياء أجدادها الهابسبوج، وكل غضب المرأة المهانة؛ فكيف تحيا بعد أن بترت سيليزيا من ملكها الموروث، الملك الذي كفلت كل دول أوربا العظمى وحدة أراضيه؟ كيف وهي المرأة التي سيثني بعد حين، حتى فردريك هذا الذي أذلها من قبل، على
"بسالتها وكفايتها" ويمتدح الطريقة التي "فطنت بها هذه الحاكمة الأصغر سناً إلى سر الحكم وعدت الروح المسيطرة على مجلسها
…
حين بدا أن الأحداث تأتمر بها لتدمرها" (1). وقد جعلت من الصلح هدنة فقط بعد أن هزمت وسلمت سيليزيا ثمناً للسلام. ثم كرست نفسها للنهوض بالحكم: وإصلاح جيوشها المحطمة، واكتساب حلفاء أقوياء. فترددت على المعسكرات التي يتدرب فيها جيشها؛ ولهذا الغرض سافرت إلى براغ في بوهيميا، وإلى أولمتز في مورافيا، وشجعت جنودها بالمكافآت والأوسمة، وأكثر من ذلك بحضرتها، حضرة الملكة والمرأة معاً. ولم يكن هناك داعٍ لأن يقسم قوادها يمين الولاء لها، فالولاء في دمهم وفروسيتهم؛ وآية ذلك أن أمير ليشتنشتين أنفق 2000. 000 ايكو (1. 500. 000 دولار؟) من ماله الخاص لجند ويجهز لها سلاح المدفعية كاملاً. وأنسأت قرب فيينا كلية حربية لصغار النبلاء، وجلبت لها خيرة معلمي الهندسة، والجغرافيا، والتحصين والتاريخ. يقول فردريك "في عهدها بلغت العسكرية النمساوية درجة من الكمال لم يعرفها أسلافها قط، وقامت امرأة بتنفيذ خطط جديرة برجل عظيم". (2)
وكانت الدبلوماسية هي الوجه الآخر لخطتها. فأرسلت مبعوثيها إلى كل بلد لتكتسب أصدقاء للنمسا وتثير العداء لفردريك. ولاحظت قوة روسيا الصاعدة، بعد أن نظمها بطرس الأكبر وأطلعت بشؤونها الآن القيصرة اليزافيتا بتروفنا؛ فعملت على أن تصل تعليقات فردريك الساخرة على غراميات القيصرة إلى أذنيها. وكانت ماريا تريزا تتمنى لو جددت تحالفها مع إنجلترا، ولكن ذلك التحالف كدره الصلح المنفصل الذي أبرمته إنجلترا مع بروسيا (1745) والذي أكره النمسا على التخلي عن سيليزيا. وكانت سياسة إنجلترا الخارجية تتجه الآن إلى حماية تجارتها في البحر البلطي من سطوة روسيا، وإحكام قبضتها على هانوفر لتقيها أي خطر يتهددها من بروسيا أو فرنسا. وقد اعتمدت على روسيا في تزويدها بما يلزم بحريتها من أخشاب، واعتمدت على بحريتها في إحراز النصر في الحرب. ومن ثم وقعت إنجلترا في 30 سبتمبر 1755 معاهدة تعهدت فيها روسيا،
نظير معونات مالية من إنجلترا، بأن تحتفظ بجيش من 55. 000 مقاتل في ليفونيا، وعلل الإنجليز أنفسهم بأن هذا الجيش سيعوق فردريك عن أي مغامرات توسعية صوب الغرب.
ولكن كيف تتصرف إنجلترا مع فرنسا؟ لقد ظلت فرنسا عدواً لها مئات السنين، وما أكثر ما أثارت فرنسا أو مولت الأعمال العدائية التي قامت بها اسكتلندا ضد إنجلترا؛ وكم من مرة تأهبت لغزو الجزر البريطانية أو هددت بهذا الغزو. وقد أصبحت فرنسا الآن الدولة الوحيدة التي تتحدى بريطانيا في البحار أو المستعمرات؛ ولو أن بريطانيا ألحقت بفرنسا هزيمة لظفرت بمستعمراتها في أمريكا والهند، ودمرت بحريتها أو شلت حركتها، وعندها لن تكون الإمبراطورية البريطانية آمنة من الخطر فحسب، بل سيداً غير منازع. كذلك كان وليم بت الأب يجادل البرلمان يوماً بعد يوم، بأبلغ ما سمع ذلك المحفل طوال عمره من خطب الخطباء ولكن أيمكن أن تهزم فرنسا؟ وقال بت، أجل، وذلك بحلف بين بروسيا وإنجلترا. وأليس خطراً كبيراً أن يسمح لبروسيا بأن تزداد قوة على قوة؟ وأجاب بت: لا، فإن لبروسيا جيشاً عظيماً سيساعد إنجلترا، بناء على هذه الخطة، على حماية هانوفر، ولكن ليس لها بحرية، ومن ثم لم تقوى على منافسة بريطانيا في البحر، وبدا أن من الأحكم أن يسمح لبروسيا البروتستانتية بالحلول محل فرنسا الكاثوليكية، أو النمسا الكاثوليكية، قوة "غالبة في القارة"، إن كان في هذا تمكيناً لبريطانيا من "أن تسود البحار" وتستولي على المستعمرات. وأي انتصارات يحرزها فردريك في أوربا من شأنها أن تدعم قوة إنجلترا وراء البحار، ومن هنا تفاخر بت بأنه سيكسب أمريكا والهند على ساحات القتال في القارة. فستقدم إنجلترا المال، ويخوض فردريك معارك اليابسة، وتكسب إنجلترا نصف العالم. ووافق البرلمان، وعرضت بريطانيا على بروسيا ميثاقاً للدفاع المشترك.
واضطر فردريك لقبول هذه الخطة، لأنه تطور الأحداث حجب
بهاء انتصاراته. كان يعلم أن فرنسا تحاول التقرب من فرنسا، فلو أن فرنسا والنمسا ومعهما روسيا أيضاً؛ وهو وضع أسوأ-اتحدت ضده لما استطاع أن يقاومها كلها، وفي مأزق كهذا لن يقوى على نجدته غير إنجلترا. ولو أبرم الميثاق الذي عرضته عليه إنجلترا لاستطاع أن يطالبها بمنع روسيا من مهاجمته ولو كفت روسيا لجاز ثني النمسا عن الحرب. وهكذا وقع فردريك في 16 يناير 1756 معاهدة ويستمنستر، التي تعهدت فيها إنجلترا وبروسيا بمعارضة دخول الجيوش الأجنبية إلى ألمانيا، وكان الحلفان يأملان أن تحمي هذه المادة الوحيدة بروسيا من روسيا، وهانوفر من فرنسا.
وشعرت فرنسا، والنمسا، وروسيا جميعاً أن هذه المعاهدة خيانة من حليفتهم. صحيح إنه لم يحدث إنهاء رسمي للحلفين اللذين ربطا إنجلترا بالنمسا، وفرنسا ببروسيا، في حرب الوراثة النمساوية. وصعقت ماريا يريزا-كما قالت للسفير البريطاني-حين علمت أن أصدقائها الإنجليز أبرموا ميثاقاً مع "الخصم اللدود المقيم لشخصي ولأسرتي (3) ". وشكا لويس الخامس عشر من أن فردريك خدعه. ورد فردريك من أن المعاهدة دفاعية بحتة وينبغي ألا تسيء إلى أي قوة لا تنوي الإساءة. أما مدام دبومبادور، التي كانت تختار الوزراء الفرنسيين وتهيمن عليهم، فقد تذكرت أن فردريك كان قد اتهمها بإيداع المبالغ الطائلة في المصارف البريطانية، وسماها "الآنسة سمكة Cotillon Iv، La Demoiselle Poisson"( الجونلة الرابعة-أي رابعة خليلات لويس الخامس عشر). وأما لويس فقد تذكر أن فردريك سخر من أخلاق ملك فرنسا السوقية. ووقع هذا الخذلان لفرنسا على رأسها في وقت كانت فيه جيوشها مرهقة، وخزائنها خاوية، وبحريتها بادئة فقط بالإفاقة من الإهمال الذي لقيته في وزارة الكاردينال فلوري المسالمة. ففي 1756 كان لفرنسا خمس وأربعون بارجة، وإنجلترا مائة وثلاثون بارجة (4)، وكان تموين البحرية تعوقه الرشوة والسرقة، ونظامها تفسده ترقية غير الأكفاء من ذوي الألقاب ترقية مثيرة للسخط كما يفسده
تعدد الهزائم. فإلى من تتجه فرنسا الآن حليفاً لها؟ إلى روسيا؟ ولكن إنجلترا سبقتها. إلى النمسا؟ -ولكن في الحرب الأخيرة خرقت فرنسا تعهداتها بضمان ميراث ماريا تريزا، وانضمت إلى بروسيا لمهاجمتها، وواصلت الهجوم عليها حتى بعد أن عقد فردريك الصلح معها. لقد كانت النمسا تحت حكم الهابسبورج، وفرنسا تحت حكم البوربون، عدوين قروناً عدة، فكيف يمكن أن تصبحا صديقين هما وشعباهما بعد طول ما ألفا من كراهية متبادلة؟
ومع ذلك كان هذا بالضبط "قلب الأحلاف" الذي اقترحته حكومة النمسا الآن على فرنسا. وقد ولدت هذه الخطة أول ما ولدت-على قدر ما تستطيع الآن تتبع تاريخها-في ذهن الكونت فنتزل أنطون فون كاونتز، أقدر من أنجبته القارة الأوربية في القرن الثامن عشر من الدبلوماسيين وأثقبهم بصيرة وأشدهم إصراراً. وقد قدر لحرب السنين السبع أن تكون صراعاً في السلاح بين فردريك الأكبر والمارشال داون، وصراعاً في الذكاء بين كاونتز وبت. يقول فردريك "إن للأمير كاونتز أحكم رأس في أوربا (5) ".
كانت أسرة كاونتز قد طلبت إليه أن يعد نفسه للقسوسية لأنه الابن الثاني، أما هو فأصبح في دخيلة نفسه تلميذاً لفولتير (6). ولما كان أبوه سفيراً لدى الفاتيكان وحاكماً لمورافيا، فقد ورث ابنه الدبلوماسية في دمه. وهكذا أصبح وهو في الحادية والثلاثين مبعوث النمسا في تورين. وكانت أول رسالة منه إلى حكومته مبنية منطقياً على ملاحظة للحقائق السياسية بلغت من الدقة مبلغاً حمل الكونت فون أولفلد على أن يقول لماريا تريزا وهو يعرفها:"هاكِ وزيركِ الأول (7) ". وفي عامه السابع والثلاثين كان المفوض النمساوي في مؤتمر أكس لاشابل. وهناك دافع عن مصالح ماريا تريزا بإصرار وبراعة جعلا الإمبراطورة حتى في هزيمتها تشكر له خدماته وإخلاصه. ولما فاتحها في تاريخ مبكر (1749) بخطة التحالف مع فرنسا، تقبلت بذهن مفتوح فكرة معانقة العدو التقليدي لبيتها. لقد كانت
مصممة على هزيمة فردريك واستعادة سيليزيا، ولكن كاونتز بين لها أن هذا محال بالتحالف مع إنجلترا التي ركزت قوتها في البحار، إنما هو يتطلب التحالف مع فرنسا وروسيا اللتين تركزان قوتيهما في اليابس. وبين شقي الرحى هذين-فرنسا وروسيا من ناحية، والنمسا من ناحية-يمكن أن يسحق فردريك. وأمرت الإمبراطورة كاونتز بأن يسعى لتحقيق هذا الهدف المنشود.
وفي 1751 بعث سفيراً إلى باريس. وأدهش جماعة النبلاء بدهاء مقدمه الرسمي على المدينة، وأبهج عامة الشعب بإحساناته، ورفه عن الصالونات بثيابه الفاخرة، وتنوع عطوره وأسباب تجمله، وخصل شعره المبدرة بعناية (8). قال عنه كارليل "رجل شديد الخيلاء، غريب الأطوار، وقح بعض الشيء (9) ". ولكنه وقع في نفس الملك، وخليلته، ووزرائهما؛ موقعاً طيباً بفضل إطلاعه على مواطن الأمور وحسن تقديره لشؤون السياسة. وراح يعد أذهانهم بالتدريج للتحالف مع النمسا. فصور لهم إمكان إقناع روسيا، وبولندا، وسكسونيا، بالإسهام في تأديب فردريك. وتسائل ما لذي جنته فرنسا من وراء تحلفها مع بروسيا-اللهم إلا تضخيم قوة دولة برية تتحدى زعامة فرنسا على القارة، ثم ألم يحنث فردريك المرة بعد المرة بعهده حين وجد أن الحنث في صالحه؟
وكان كاويتز يحرز تقدماً طيباً حين استدعته ماريا تريزا إلى فيينا ليكون مستشاراً لها، وحولت له كامل السلطة في الشؤون الداخلية والخارجية (1753) وعارض النبلاء الشيوخ في بلاط فيينا خطته طويلاً، فشرحها ودافع عنها في صير، وأيدته الإمبراطورة؛ وفي 21 أغسطس 1755 نال اقتراح التحالف مع فرنسا الرسمية للوزارة الإمبراطورية. وصدرت التعليمات للكونت جيورج فون شتارهمبرج، الذي خلف كاونتز سفيراً في باريس، بأن يروج للخطة الكبرى في كل فرصة تتاح له لدى لويس الخامس عشر ومدام ديومبادور. وأرسل كاونتز خطاباً كله إطراء إلى "الخليلة الرسمية"(30 أغسطس 1755) أرفق به مذكرة رجاها أن
تسلما للملك سراً. ففعلت. وكانت المذكرة من ماريا تريزا، وهذا نصها.
"إنني بصفتي إمبراطورة وملكة، أعد بألا يذاع شيء على الإطلاق من كل ما سيعرضه الكونت شتارهمبرج باسمي على الملك المسيحي جداً، وبأن يحتفظ دائماً بأعمق السرية في هذا الأمر؛ سواء نجحت المفاوضات أو فشلت. ومن المفهوم بالطبع أن الملك سيعطي إقراراً ووعداً مماثلين".
فيينا، 21 يونيو 1755 (10).
وعين لويس الابيه دبرنيس والمركيزة دبومبادور للاجتماع سراً بشتارهمبرج في جناحها "بابيول". هناك اقترح السفير باسم الإمبراطورة أن تتخلى فرنسا عن تحالفها مع بروسيا، وأن تتعهد بأن تقدم للنمسا على الأقل معونة مالية في حالة نشوب الحرب. وقال إن فردريك حليف عديم الفائدة، لا يركن إليه. ولمح بأن فردريك، حتى في تلك اللحظة مشغول باتصالات سرية مع الوزارة البريطانية. وتعد النمسا من جانبها بأن تمتنع عن أي عمل عدائي ضد فرنسا إذا دخلت فرنسا في حرب مع إنجلترا، وفي حالة نشوب هذه الحرب تسمح النمسا لفرنسا باحتلال أوستند ونيويورت، وقد تسمح نهائياً بأن تكون الأراضي المنخفضة النمساوية من نصيب فرنسا.
ولاحظ لويس أن هذا الميثاق سيورطه في حرب نمساوية ضد بروسيا، ولكنه لا يلزم النمسا بأن تعين فرنسا على إنجلترا. وكان له عذر في أن يخشى جيش فردريك أكثر من الجيش النمساوي-الذي طالما هزم، والذي كانت قيادته في الحرب الأخيرة غاية في السوء. فأمر لويس أن يرد بأن فرنسا لن تغير تحالفها مع بروسيا ما لم تقدم لها البراهين على اتصالات فردريك بإنجلترا. ولم يستطع كاونتز حتى ذلك التاريخ أن يقدم هذه البراهين، فتوقف سير خطته مؤقتاً. ولكن حين تلقى لويس اعتراف فردريك بمعاهدة ويستمنستر الإنجليزية البروسية، رأى أن تحالفه مع بروسيا مات في الحقيقة والواقع. وربما خطر له، وهو غارق في آثامه، أنه قد
يسترضي الله بتوحيد الدول الكاثوليكية-فرنسا، والنمسا، وبولندا، وأسبانيا-في مخطط يهيمن به على مصائر أوربا (11). وعليه ففي أول مايو 1756 أتمت معاهدة فرساي قلب الأحلاف رأساً على عقب. وأعلنت ديباجة المعاهدة أن هدفها الوحيد هو المحافظة على سلام أوربا وتوازن القوى. فإذا تعرض أحد الطرفين المتعاقدين لتهديد في ممتلكاته الأوربية من أي دولة غير إنجلترا، ولا تعين فرنسا النمسا على بروسيا ما لم تكن بروسيا هي المعتدية على نحو واضح. وإذ لم يرَ لويس أي احتمال لأن تعرض بروسيا مكاسبها للخطر بعودتها إلى مهاجمة النمسا، فقد استطاع هو وخليلته أن يوهما نفسيهما بأن الحلف الجديد يعين على السلام في القارة.
ولم يحقق كاونتز إلى الآن كل هدفه في الحصول على المعونة الفرنسية ضد بروسيا. ولكنه تذرع بالصبر، فلعله يستطيع إثارة فردريك ليهاجم النمسا ولم يجد أحد أثناء ذلك صعوبة تذكر في إقناعه القيصرة بالانضمام إلى الحلف الجديد، فقد كانت اليزافينا تتوق إلى إزالة العقبة البروسية من طريق توسع روسيا غرباً. وعرضت أن تهاجم بروسيا قبل نهاية عام 1756 إن وعدت النمسا بأن تهاجمها هي أيضاً، ووعدت بأنها في هذه الحالة لن تعقد صلحاً مع بروسيا إلا إذا ردت سيليزيا كاملة إلى النمسا. وأبهجها أن تعام بأن فرنسا أبرمت معاهدة فرساي. وأضطر كاونتز إلى كبح حماستها، فهو يعلم أن جيوشها لن تكون مهيأة لخوض حملة كبرى قبل 1757. فتريث حتى 31 ديسمبر 1756، ثم وقع الاتفاقية التي انضمت روسيا بمقتضاها إلى الحلف الفرنسي النمساوي.
وخلال ذلك كانت إنجلترا؛ الواثقة من أن تحالفها مع فردريك سيشل حركة النمسا، قد بدأت فعلاً عملياتها البحرية ضد فرنسا دون أي إعلان للحرب. وراحت السفن الحربية الإنجليزية من يونيو 1755 تستولي على السفن الفرنسية كلما استطاعت. وردت فرنسا بالاستعداد لغزو إنجلترا،
وبتجريد أسطول من خمس عشرة سفينة تحت إمرة الدوق دريشليو ليهاجم جزيرة مينورقة التي كان البريطانيون قد استولوا عليها في حرب الوراثة الأسبانية (1709). وتعزيزاً للحامية البريطانية الصغيرة في الجزيرة أرسلت بريطانيا عشر سفن يقودها الأميرال جون بينج، وانضمت إليها ثلاث سفن إضافية في جبل طارق. وفي 20 مايو 1756 أشتبك الأسطولان العدوان قرب مينورقة. فهزم الفرنسيون، ولكن الأسطول الإنجليزي أصيب بأضرار حملت بينج على العودة به إلى جبل طارق دون محاولة لإنزال تعزيزات على بر مينورقة. وسلمت الحامية العاجزة، وأصبح لفرنسا الآن موقع استراتيجي في البحر المتوسط. وأشاد القوم بريشليو بطلاً في باريس وفرساي، وأعدم بينج على سطح سفينته في ميناء بوردسموث (14 مارس 1757) بتهمة عدم بذله قصارى جهده للانتصار. وعبثاً تشفع له فولتير وريشليو، وقال فولتير إن هذا هو الأسلوب الذي تتبعه إنجلترا في "تشجيع الآخرين" الذين يتولون القيادات البريطانية. في 17 مايو 1756 أعلنت إنجلترا الحرب على فرنسا، ولكن البداية الرسمية لحرب السنين السبع تركت لفردريك.
وكان عليماً بأن فتحه لسيليزيا عرضة لمحاولة استردادها في أي وقت تجد فيه ماريا تريزا موارد وحلفاء جدد. وكانت موارده هو محدودة بشكل خطر، ومملكته أخلاطاً من الأوصال المقطعة؛ فبروسيا الشرقية تفصلها بولندا عن بروسيا، والأقاليم البروسية في ويستفاليا وفرزيا الشرقية تفصلها الدويلات الألمانية المستقلة عن براندنبورج. وكان سكان بروسيا بما فيها هذه الأجزاء المتنافرة وسيليزيا يبلغون نحو أربعة ملايين نسمة عام 1756، وسكان إنجلترا ثمانية ملايين، وسكان فرنسا عشرين مليوناً. وكان شطر كبير من سكان بروسيا في سيليزيا، التي ظل نصفها كاثوليكياً متعاطفاً مع النمسا. وعلى سبعة أميال فقط من برلين كانت حدود سكسونيا المعادية، التي كان أميرها: الناخب، أوغسطس الثالث ملك
بولندا الكاثوليكي، ينظر إلى فردريك نظره إلى زنديق وقح جشع. فكيف السبيل إلى البقاء وسط هذا المرجل الذي يغلي بالعداء له؟
ليس إلا بالعقل الراجح، والاقتصاد، والجيش القوي، والقواد الأكفاء، أما عقله فقريع في حدة ذكاءه لأي عقل آخر؛ وهو أفضل حكام عصره تعليماً، وقد أثبت جدارته في رسائله وأحاديثه، وجدله مع فولتير. ولكن لسانه كان أحد من أن يسمح العقل بإطلاقه على الناس، ولعل أموره كانت تجري بأيسر مما جرت لو أنه لم يصف اليزافيتا بتروفنا، وماريا تريزا، ومدام دبومبادو، بأنهن "ثلاثة كبار عاهرات أوربا (12) "؛ ومن بواعث العزاء لنا أن نرى أنه حتى عظماء الرجال قد يسلكون مسلك الحمقى بين الحين والحين. أما عن اقتصاد بروسيا، فإن فردريك أخضعه لسيطرة الدولة ولما رآه ضرورات لا غنى عنها لحرب ممكنة. في هذه الظروف لم يجرؤ على تغيير الهيكل الإقطاعي للحياة البروسية مخافة أن يختل التنظيم الإقطاعي لجيشه. فلقد كان الجيش خلاصه ودينه. أنفق على صيانته تسعين في المائة من موارده (13) وسماه "أطلس" الذي حملت كتفاه القويتان الدولة (14). وزاده من 100. 000 مقاتل خلفه له أبوه حتى بلغ به 150. 000 في 1756. ودربه بالعقوبات الصارمة على الطاعة الفورية الصارمة؛ وعلى السير في ثبات صوب الخط المواجه له دون أن يطلق طلقة حتى يصدر إليه الأمر، وعلى تغيير اتجاهه، والمناورة بكتلته كلها، وهو تحت نيران العدو. وكان على رأس الجيش في بداية الحرب خيرة القواد في أوربا بعد فردريك نفسه-شفيرين، وسيدلتز، وجيمس كيث.
ولم يكن أقل من قواده أهمية أولئك الجواسيس الذين بثهم بين أعدائه ولم يترك له جواسيسه شكاً في أن ماريا تريزا تؤلف حوله نطاقاً من القوى المعادية. وفي 1753 - 1755 حصل جواسيسه في درسدن ووارسو على نسخ من رسائل سرية تبادلتها الوزارتان السكسونية والنمساوية، أقنعته بأن هذين البلاطين يأتمران للهجوم على بروسيا وتقطيع أوصالها إن حالفهما الحظ
وأن فرنسا تتستر على المؤامرة (15). وفي 23 يونيو 1756 أصدر أمره للقائد البروسي في كونجزبرج بأن يستعد لمقابلة هجوم عليه من روسيا. وأبلغ الحكومة البريطانية بأن "لدى بلاط فيينا ثلاث خطط تشير إليها خطاه الحالية: أن يوطد حكمه الاستبدادي في الإمبراطورية، وأن يقضي على البروتستانتية، وأن يعيد فتح سيليزيا (16) ". علم أن سكسونيا تدبر زيادة جيشها من سبعة عشر ألف مقاتل إلى أربعين ألفاً خلال الشتاء (17). وخمن أن الحلفاء يترقبون ربيع 1757 ليزحفوا عليه من ثلاث جهات، فصمم على أن يضرب ضربته قبل أن تكتمل تعبئة قواته.
وقد شعر أن فرصته الوحيدة للنجاة من الخطر الذي يهدده هي شل حركة عدو واحد على الأقل من أعدائه قبل أن يستطيعوا توحيد صفوفهم في مقاتلته. ووافقه شقرين، ولكن أحد وزرائه المسمى الكونت فون بوديفيليس رجاه ألا يعطي أعداءه ذريعة لاتهامه بأنه المعتدي. ولقبه فردريك "السيد صاحب السياسة الجبانة (18) " وكان قبل ذلك بزمن طويل، في "ميثاق سياسي" سري (1752) قد نصح خليفته بأن يفتح سكسونيا فيتيح بفتحها لبروسيا الوحدة الجغرافية، والموارد الاقتصادية، والقوة السياسية التي لا غنى عنها لمن يريد البقاء (19). ولكنه نحى الفكرة جانباً باعتبارها فكرة لا يقوى على تحقيقها. أما الآن فقد رآها ضرورة حربية فلابد له من حماية حدوده الغربية بتجريد سكسونيا من السلاح.
وكان حتى في كتابه القريب من المثالية. "المعارض لمكيافللي"(1740) قد وافق على الحرب الهجومية إذا أريد بها الحيلولة دون هجوم داهم من العدو (20). وأخبره متشل، الوزير الروسي في إنجلترا، أنه رغم رغبة الحكومة البريطانية القوية في الحفاظ على السلام في القارة، فهي تدرك الضرورة القاهرة التي يواجهها فردريك ولن تعتبره "ملوماً" على الإطلاق إذا هو حاول أن يسبق أعداءه بدلاً من الانتظار حتى ينفذوا فيه نياتهم العدائية (21).
وقي يوليو 1756 أوفد مبعوثاً إلى ماريا تريزا يطلب تأكيداً بأن النمسا
لا تنوي القيام بأي هجوم على بروسيا لا في تلك السنة ولا في السنة التالية. ورأى عضو في الوزارة النمساوية أن الواجب إعطاء هذا التأكيد؛ ولكن كاونتز رفض إرساله؛ فكل ما تود ماريا تريزا أن تقول هو أنه "في الأزمة الراهنة أراه ضرورياً أن أتخذ تدابير لتأمين نفسي وحلفائي، وليس من شأن هذه التدابير الإضرار بأحد (22) ". وأرسل فردريك رسالة ثانية للإمبراطورة يسألها جواباً صريحاً على طلب التأكيد؛ فأجابت بأنها "لم تبرم حلفاً هجومياً، ومع أن موقف أوربا الدقيق يضطرها إلى التسلح، فإنها لا تنوي خرق معاهدة درسن (التي تعاهدت فيها بمسالمة فردريك)، ولكنها لن تربط نفسها بأي وعد يمنعها من التصرف وفقاً لمقتضيات الظروف (23) ". وكان فردريك يتوقع هذا الجواب، وقبل أن يصله قاد جيشه إلى سكسونيا (29 أغسطس 1756). وهكذا بدأت حرب السنين السبع.
2 - طريد القانون
1756 -
1757
وبذل فردرك محاولة فاترة ليجند ناخب سكسونيا حليفاً له، فعرض عليه بوهيميا رشوة-وكانت ملكاً لماريا تريزا. ولكن أغسطس احتقر هذا التصدق بمال الغير، وأمر قواده بوقف زحف فردريك، ثم فر إلى وارسو. وكانت القوة السكسونية أصغر من أن تقاوم أعظم جيش في أوربا، فانسحبت إلى القلعة في بيرنا، ودخل فردريك درسن دون مقاومة (9 سبتمبر 1756) وأمر عملاءه للفور بأن يفتحوا المحفوظات السكسونية ويأتوه بأصول تلك الوثائق التي كشف من قبل عن اشتراك سكسونيا في الخطة المرسومة لتأديب بروسيا وربما لتقطيع أوصالها. ووقفت الملكة الناخبة العجوز بشخصها لتحول دون الوصول إلى المحفوظات، وطالبت فردريك بأن يحترم حقها بعدم العدوان عليها. أما هو فأمر بإزالتها من الطريق، ففرت، ووضع يده على الوثائق.
وأرسلت ماريا تيرزا جيشاً من بوهيميا لإزاحة الغازي من مكانه، فالتقى به فردريك وهزمه في لوبوزيتس، على الطريق من براغ إلى درسن (أول أكتوبر) وعاد ليحاصر بيرنا، فسلمت له (15 أكتوبر)، وحشد الأربعة عشر ألف جندي من أسرى السكسونيين في فرقة، وحجته أن هذا أرخص له من إطعامهم وهو أسرى حرب، فلقد كان شره الألمان للطعام أمراً مشهوراً ولا فخر. وأعلن أنه فتح سكسونيا، واستخدم مواردها لتلبية حاجاته. ونشر على الملأ خلال الشتاء الوثائق السكسونية. فزعمت ماريا تريزا أنها مزيفة، واستنجدت بفرنسا وروسيا وكل المسيحيين الذين يخافون الله واستعدتهم على ذلك الرجل الذي زج بعدوانه الصارخ أوربا في خضم الحرب من جديد.
واتفقت أوربا عموماً على إدانة فردريك. وأعلنت الإمارات الألمانية الحرب على بروسيا (17 يناير 1757) مخافة أن يحيق بها ما حاق بسكسونيا إذا انتصر فردريك، وجمعت جيشاً إمبراطورياً لقتال ملك بروسيا. ولم يضيع كاونتز وقتاً في تذكير لويس الخامس عشر أن فرنسا قد وعدت النمسا بالمعونة إذا تعرضت للخطر. وألحت الدوقينة؛ ابنة ناخب سكسونيا، على حميها في أن ينقذ أباها. أما مدام دبومبادور، التي عللت نفسها من قبل بأمل الاستمتاع بملكها في سلام، فقد مالت الآن إلى الحرب. وتقديراً لمعونتها أهدتها ماريا تريزا صورة ملكية رصعت بالجواهر وقدرت بمبلغ 77. 278 جنيهاً؛ (14) وانقلبت دبومبادور امرأة حربية. أما لويس الذي كان عادة بطيء الحسم، فقد اتخذ قراره بعزيمة لا تنثني. والتزمت فرنسا الآن بمقتضى معاهدة فرساي الثانية (أول مايو 1757) بتحالف دفاعي هجومي مع النمسا، وتعهدت لها بمعونة سنوية قدرها عشر مليون فلورين، ووافقت على تجهيز جيشين ألمانيين، وعرضت تخصيص قوة فرنسية قوامها 105. 000 مقاتل لتدمير بروسيا تدميراً تاماً". ووعدت بألا تعقد صلحاً على الإطلاق مع بروسيا حتى ترد سيليزيا إلى النمسا. فإذا ردت حصلت فرنسا على خمس مدن حدود في الأراضي الواطئة
النمساوية، ونقلت ملكية هذه الأراضي الواطئة الجنوبية إلى ولية عهد أسبانيا البوربونية لقاء دوقيات أسبانية في إيطاليا. ولعل فرنسا كانت تتخلى على وعي منها عن مستعمراتها للفتح البريطاني بتكريس مواردها كلها تقريباً لالتهام "بلجيكا". واستطاع كاونتز أن يحس بأنه أحرز نصراً دبلوماسياً عزيزاً.
ولم يجد الآن مشقة في أن يستميل روسيا إلى مديد العون النشيط إلى النمسا. وتعهدت روسيا والنمسا بمقتضى اتفاقية سانت بطرس بورج (2 فبراير 1757) بأن تضع كل منها ثمانين ألف جندي في الميدان، وأن تخوض الحرب إلى أن توحد سليزيا مع النمسا من جديد وتختزل بروسيا إلى دولة صغيرة. ثم اتجه كاولتز إلى السويد فأدخلها الحلف بأن كفل لها في حالة الانتصار كل الشطر البومراني الذي سلم لها في معاهدة وستفاليا. وفرض على السويد أن تقدم 25. 000 مقاتل، وعلى النمسا وفرنسا أن تمولا هذا الجيش. وتعهدت بولندا التي كان يحكمها الملك اللاجئ أوغسطس الثالث بتقديم مواردها المتواضعة إلى الحلف الفرنسي والنمساوي، وهكذا تكتلت ضد فردريك كل أوربا باستثناء إنجلترا، وهانوفر، والدنمرك، وهولندا، وسويسرا، وتركيا، وهسي-كايل.
ووجدت إنجلترا من الأسباب ما يغريها بترك فردريك لمصيره. ذلك أن جورج الثاني رأى في فزع أن موطنه المحبوب هانوفر الإمارة الناخبة التي قدم منها أبوه ليحكم بريطانيا، وقفت عاجزة عن الدفاع عن نفسها في طريق جيش عرمرم، بينما كان فردريك أعجز من أن يقدم لها عوناً ذا بال وبينها وبين هذه الشقة والأعداء يشددون عليه النكير. وأصبح هذا الإغراء أمراً لا يكاد يقاوم حين عرض كاونتز عدم المساس بهانوفر إذا ظلت بمعزل عن الحرب القاربة؛ في تلك اللحظة كان مصير فردريك في خطر. وكان بت، الذي عين وزيراً للخارجية في 19 نوفمبر 1756 ميالاً أول الأمر لترك بروسيا وهانوفر تذودان عن نفسيهما دون عون من الخارج، بينما تركز إنجلترا كل مواردها الحربية على
الصراع على المستعمرات، لا عجب إذن أن يبغض جورج الثاني المتعلق بهانوفر ووزيره بت ولكن بت لم يلبث أن غير رأيه. وصرح أن فرنسا المنتصرة على فردريك ستغدو سيدة على أوربا، وعلى إنجلترا أيضاً بعد قليل، فعلى البرلمان إذن أن يوافق على إرسال المال لفردريك والجنود لهانوفر، ولابد من إكراه فرنسا على استنزاف قوتها في أوربا، بينما تنتزع إنجلترا المستعمرات والأسواق من البحار التي تفتحها.
وعليه ففي يناير 1757، أبرمت بريطانيا حلفاً ثانياً مع بروسيا، تعهدت فيه بالعون المالي لفردريك، وبالجنود لهانوفر. ولكن حدث أن أقيل بت فجأة (5 إبريل) وأربكت أهواء السياسة حكمتها، وتعطل إرسال العون لفردريك، وظل عاماً تقريباً يقف وحيداً، ومعه 145. 000 مقاتل، أمام جيوش تحدق به من كل صوب، ففي القرب 105. 000 مقاتل من فرنسا، 20. 000 مقاتل من الدويلات الألمانية، وفي الجنوب 133. 000 من النمسا، وفي الشرق 60. 000 من روسيا، وفي الشمال 16. 000 من السويد. في ذلك اليوم الذي شهد سقوط بت، وسم الإمبراطور فرنسيس الأول-زوج ماريا تريزا، اللطيف الوديع عادة-فردريك رسمياً بأنه خارج على القانون، ودعا كل الرجال الصالحين إلى تعقبه وتصيده لأنه عدو للنوع الإنساني عاصٍ فاجر.
3 - من براغ إلى روسباخ
1757
في 10 يناير أرسل فردريك إلى وزاراته في برلين تعليمات سرية: "يجب أن تجري الأمور مجراها دون أدنى تغيير إن قتلت، وإن تعثر حظي فأسرت، فأني أمنع أقل اعتبار لشخصي، أو أدنى التفات لأي شيء قد أكتبه وأنا في الأسر"(25).
وكانت لفتة عديمة الجدوى، لأن بروسيا كانت ضائعة لا محالة بدون عبقريته الحربية. وكان أمله الوحيد في ملاقاة أعدائه كلٍ على حدة قبل أن يستطيعوا التجمع عليه. ولم يكن الفرنسيون مستعدين للمعركة، وربما
استطاعت الفرق التي ترسلها إنجلترا لهانوفر أعاقته برهة. أما النمساويون فيحشدون في بوهيميا ومورافيا القريبتين مخازن هائلة من الأسلحة والمؤن لتجهيز جيوشهما لغزو سليزيا. وقرر فردريك أن يبدأ بالاستيلاء على هذه المخازن الثمينة، ومقاتلة النمساويين، ثم العودة لملاقاة الفرنسيين. فقاد قوته من سكسونيا، وأمر دوق برنزويك-بيفرن من ألمانيا الشرقية، والمرشال شيفرين من سيليزيا، بالزحف في بوهيميا وملاقاته في التلال المشرفة على براغ من الغرب. وقد تم هذا، استولى فردريك على المخازن، وفي 6 مايو على مقربة من براغ، التقى 64. 000 بروسي بجيش نمساوي عدته 61. 000 مقاتل تحت إمرة شارل أمير اللورين في فاتحة المعارك الكبرى في هذه الحرب.
ولم يكن الفاصل في المعركة هو الكثرة، ولا الاستراتيجية، بل الشجاعة ذلك أن فرق شيفرين زحفت تحت نيران النمساويين مخترقة المستنقعات والماء يغطي خصور الجند ثم أكتافهم. وأدركهم اليأس حيناً وهموا بالفرار، فجمع شملهم شقرين البالغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً ولف العلم حول بدنه، وركب رأساً في مواجهة العدو، فضُرب بخمس رصاصات في وقت واحد، وخر صريعاً، أما رجاله الذين كاد حبهم له يفوق خوفهم من الموت، فقد حملوا على العدو في غضبة مضرية وحولوا الهزيمة نصراً. وكان التقتيل في الجانبين رهيباً، وشملت خسائر فردريك أربعمائة ضابط وخير قائد عنده، في هذه الحرب لم يكن القواد يموتون حتف أنوفهم، وتقهقر من بقي من النمساويون وعددهم 46. 000 إلى القلعة في براغ، وتهيئوا لمقاومة الحصار.
ولكن فردريك وجد الحصار عسيراً، لأن المرشال ليوبولد فون داون، أكفأ القواد النمساويين، كان قادماً من مورافيا على رأس 64. 000 مقاتل آخرين. فسار فردريك شرقاً يقود 32. 000 مقاتل بعد أن ترك جزءاً من جيشه ليحاصر القلعة، والتقى بالجحافل الزاحفة
عند كولن (16 يونيو)، وكانت ميزة العدو عليه كبيرة جداً وبراعة داون الحربية في هذه الحالة تفوق براعته. وعصى اثنان من قواد فردريك أوامره فأحدثوا خللاً في الجيش، وفقد فردريك أعصابه وصاح بفرسانه "هل أنتم مخلدون؟ "(26). أما المشاة فرفضوا الزحف وقد هالهم التقتيل. وانسحب فردريك من ساحة القتال جزعاً، بعد أن ترك عليها 14. 000 بروسي ما بين قتيل وجريح وأسير وعاد بالأحياء وعددهم 18. 000 إلى براغ؛ وأقلع عن الحصار ورجع بما بقي له من جيشه صوب سكسونيا.
وفي لايتميريتس أراح جيشه ثلاثة أسابيع. وفي 2 يوليو تلقى هناك نبأ موت أمه صوفيا دوروتيا. وأنهار رجل الحرب الفولاذي، وبكى، واعتزل الناس يوماً، ولعله ساءل نفسه الآن ألم يكن هجومه على سيليزيا قبل سبعة عشر عاماً إغراء أحمق زينته له ربة الانتقام. وشاطرته الحزن شقيقته فلهلميني، أميرة بايرويت، التي أحبها أكثر من أي مخلوق آخر، ففي 7 يوليو أرسل إليها نداء يائساً بعد أن أوشكت كبرياؤه على النضوب:
ما دمت يا شقيقتي العزيزة على الاضطلاع بمهمة السلام العظمى فأرجوكِ أن تتفضلي بالكتابة إلى المسيو دميرابو
…
ليعرض على السيدة المقربة (مدام دبومبادور سابقاً كوتيون الرابعة مبلغاً يصل إلى 500. 000 كراون ثمناً للصلح
…
إني أترك الأمر كله لكِ
…
أنتِ التي أعبدها، والتي هي ذاتي الثانية، وأن كنتِ أكثر مني كياسة بما لا يقاس (27).
ولكن المحاولة لم تأتِ بنتيجة. فجربت فلهلميني طرقة أخرى: كتبت إلى فولتير الذي كان يقيم في سويسرا ورجته أن يستعمل نفوذه. ونقل فولتير إلى الكردينال دتانسان، الذي كان قد عارض في الحلف
الفرنسي- النمساوي، وحاول تانسان ولكنه أخفق (28)، فقد كان الحلفاء يشمون ريح النصر وراحت ماريا تريزا تتحدث عن تمزق أوصال ملك فردريك إرباً، فلا يكفي أن ترد لها سيليزيا وجلاتز، بل يجب أن تعطي مجدبورج وهالبر شتات إلى أوغسطس الثالث وتعود بومرانيا إلى السويد ويكافأ ناخب البالاتين بكليفز ورافنسبورج.
وقد بدت آمالها معقولة. ذلك أن "جيش الدوفينة" الفرنسي كان قد دخل ألمانيا، وكان شطر منه بقيادة أمير سوبيز، القائد الأثير لدى بومبادور، في الطريق للانضمام إلى الجيش الإمبراطوري عند إوفورت، وزحف شطر آخر بقيادة المرشال دستربه ليلتقي بقوة هانوفرية يقودها الدوق كمبرلاند، وهو ابن جورج الثاني. وعلى مقربة من قرية هاشتنبيك هزم الفرنسيون هذه القوة هزيمة منكرة (26 يوليو) أكرهت الدوق على أن يبرم في كلوستر-تسيفين (8 سبتمبر)"اتفاقاً" تعهد بمقتضاه أن يمنع جنوده الهانوفريين من أي اشتباك مع فرنسا.
وربما بلغ فردريك نبأ هذا التسليم المذل تقريباً في نفس الوقت الذي بلغته فيه الأنباء بأن جيشاً سويدياً نزل أرض بومرانيا، وجيشاً روسياً 100. 000 مقاتل بقيادة ستيبان أبراكسين غزا بروسيا الشرقية وسحق قوة من 30. 000 بروسي عند جروس-ييجرزدورف (30 يوليو) وكادت الهزائم بالإضافة إلى الكارثة التي أصابته في بوهيميا تقضي على أمل فردريك في قهر أعداء بهذه الكثرة وهذا التعزيز باحتياطيات من العتاد والرجال. أما وقد كفر بفضائل المسيحية كما كفر بلاهوتها، فإنه لجأ إلى أخلاقيات الرواقيين وفكر في الانتحار. وظل إلى نهاية الحرب يحمل قنينة سم إذ عقد النية على ألا يضع أعداؤه أيديهم عليه إلا جثة هامدة. وفي 24 أغسطس أرسل إلى فهلميني خطاباً يسبح فيه بحمد الموت فيما يشبه الهستريا:
"والآن يا مروجي الأكاذيب المقدسة، أمضوا في سحب الجبناء من أنوفهم
…
أما أنا فقد انتهى في نظري سحر الحياة واختفت تعويذتها. ولست أرى في الخلق جميعاً غير ألعوبة في يد القدر، فإن كان هناك حقاً كائن عابس لا يرحم، يسمح لقطيع محتقر من المخلوقات بأن يتكاثر هنا، فهو لا يرى لهم وزناً، وهو ينظر من عليائه إلى مخلوق مثل فالاريس متوجاً، أو مثل سقراط مكبلاً بالأغلال، إلى فضائلنا ورذائلنا، إلى أهوال الحرب والأوبئة الرهيبة التي تدمر الأرض، وكأنها أشياء لا تهمه. لذلك كان ملجأي الوحيد وملاذي الذي لا ملاذ غيره يا شقيقتي العزيزة، إنما هو في حضن الموت". (29)
وردت علة خطابه (15 سبتمبر) بأن أقسمت أن تنتحر مثله:
يا شقيقي العزيز، لقد كان يقتلني خطابكِ، والخطاب الذي بعثت به إلى فولتير. يا ألهي القدير، أي قرارات رهيبة! أواه يا أخي العزيز، تقول إنك تحبني، ومع هذا فأنت تغمد خنجراً في قلبي. إن خطابك جعلني أذرف أنهاراً من الدموع. وأنا الآن خجلة من هذا الضعف
…
ومصيرك سيكون مصيري. فلن أعيش بعد عثرات حظك وحظ البيت الذي أنتمي إليه. ولك أن تعتبر هذا قراري الذي لن أحيد عنه.
"ولكن بعد هذا العهد دعني أتوسل إليك أن تعود بفكرك إلى ما كان عليه العدو من حال سيئة وأنت مرابط أمام براغ. إنها دولة الحظ الفجائية يصيب الفريقين. لقد كان قيصر مرة عبداً للقراصنة، ثم أصبح سيداً على العالم. وإن عبقرية هائلة كعبقريتكَ لتجد لها المنافذ حتى حين يبدو أن كل شيء ضاع. إنني أقاسي أكثر ألف مرة مما أستطيع ذكره لك، ومع ذلك لا يفارقني الأمل
…
على أن أختم الآن، ولكني سأظل دائماً، مع أعمق الاحترام أختك فلهلميني". (30)
ولجأت إلى فولتير ليعزز رجاءها، فأمن على حججها في مطلع أكتوبر في أول خطاب كتبه لفردريك منذ 1753. وقال:
"إن المقاتلين من أمثال كاتو وأوتو، الذين ترى جلالتكم أن موتهم كان شرفاً لهم، ما كان في استطاعتهم أن يفعلوا شيئاً آخر غير القتال أو الموت". يجب أن تذكر كم من بلاط يرى غزوك لسكسونيا انتهاكاً للقانون الدولي
…
وأن أخلاقنا ومركزك في غير حاجة إطلاقاً لهذه الفعلة (الانتحار) وحياتك ضرورية وأن تعلم كم هي غالية في نظر أسرة كثيرة العدد
…
وأحوال أوربا لا تستقر طويلاً على أساس واحد، والواجب على رجل مثلك أن يتماسك استعداداً للأحداث
…
ولو أن بسالتك أفضت بك إلى ذلك التطرف البطولي لما استحسنها الناس فأنصارك سيدينونها، وخصومك سينتصرون (31) ".
وأجاب فردريك نثراً وشعراً وقال:
"أما أنا المهدد بالغرق، فعليّ وأنا أتصدى للعاصفة أن أفكر، وأحيا وأموت ملكاً (32) ".
وبين قصائد الشعر (التي نظمها دائماً بالفرنسية) راح يبحث عن الجيش الفرنسي، وتاقت نفسه الآن إلى معركة تحسم له مشكلة الحياة أو الموت. وحين كان في لييزج، في 15 أكتوبر أرسل في طلب يوهان كرستوف جوتشيد (الذي كنا يقرض الشعر بالألمانية) وحاول إقناعه بأن الشعر الألماني ضرب من المحال. ففيه فرقعات كثيرة جداً-وحتى في اسم الأستاذ هناك خمسة في صف واحد، فكيف تحدث اتساقاً في الأصوات من لغة كهذه؟ واحتج جوتشيد. وكان على فردريك أن يعد لزحف جديد، ولكن بعد عشرة أيام حين عاد إلى لييزج، استقبل الشاعر الشيخ ثانية، ووجد متسعاً من وقته ليستمع إلى قصيدة غنائية بالألمانية من نظم جوتشيد، وأهداه علبة نشوق ذهبية عربون الرضى وهو يودعه.
وخلال ذلك الفاصل الأدبي جاءته أنباء أسوأ: فقوة من الكروات يقودها الكونت هاديك تزحف على برلين، والشائعات تزحف بأن الكتائب السويدية والفرنسية تزحف لتطبق على العاصمة البروسية. وكان
فردريك قد ترك فيها حامية ولكنها أصغر كثيراً من أن تصد هذا السيل العارم: ولو سقطت برلين لوقع في يد العدو أهم مصدر لإمداداته من السلاح، والبارود، والملابس، وهرع بجيشه لينقذ المدينة وأسرته. وخلال زحفه أنبئ بأن ليس هناك قوات فرنسية ولا سويدية تزحف على برلين، وأن هاديك توقف في ضواحي العاصمة وأقضى فدية قدرها 27. 000 جنيه من برلين، ثم رحل بجنده الكروات راضياً (16 أكتوبر). وجاءه نبأ سرى عنه، هو أن الروس بقيادة أبراكسين انسحبوا من بروسيا الشرقية إلى بولندا بعد أن نال منهم المرض والجوع.
وأتته رسائل لم تشرح صدره، تقول إن الجيش الفرنسي بقيادة سوبيز دخل سكسونيا، ونهب المدن الغربية، وأنظم إلى الجيش الإمبراطوري الذي يقوده دوق ساكس-هيلدبور جهاوزن. وعاد الملك المرهق أدراجه، وقاد جنده إلى قرب روسباخ، على نحو ثلاثين ميلاً غربي لييزج.
هناك التقى جيشه المتعب الذي تقلص إلى 21. 000 مقاتل في خاتمة المطاف وجهاً لوجه بجيوش فرنسا والرايش وعدتها 41. 000 مقاتل. ورغم هذا أشار سوبيز بعدم المجازفة بخوض المعركة، وقال أنه خير منها المضي في تجنب الالتحاق بفردريك وإرهاقه بمسيرات عقيمة حتى يكرهه تفوق الحلفاء عدداً وعدة على التسليم. وكان سوبيز عليماً بانهيار النظام في صفوف جيشه، وافتقار جنود الرايش ومعظمهم من البروتستنت إلى الحماسة في مقاتلة فردريك (33). غير أن هيلبور جهاوزن ألح في طلب القتال، فأذعن سوبيز. وقاد القائد الألماني جيشه على منعطف طويل ليهاجم البروسيين على مسيرتهم. فما كان من فردريك وهو يرقب العدو من سطح بيت في روسباخ إلا أن أمر فرسانه بقيادة سيدلتز أن يقوموا بحركة مضادة على ميمنة العدو. وحمل الفرسان البوسيون، وعدتهم 3. 800 مقاتل تحجبهم التلال وهم يسيرون بسرعة متربة، على وجود الحلفاء من تحتهم وهزموهم قبل أن يستطيعوا إعادة تشكيل صفوفهم
وأقبل الفرنسيون بعد الأوان، فمزقتهم المدفعية البروسية أشد تمزق، وما مضت تسعون دقيقة حتى انتهت معركة روسباخ الفاصلة (5 نوفمبر 1757). وتقهقر الحلفاء في فوضى تاركين 7. 700 قتيل في ساحة القتال، أما البروسيون فلم يفقدوا غير 550 رجلاً، وأمر فردريك بالرفق بالأسرى: ودعا الضباط المأسورين إلى مائدته: وفي كياسة وظرف فرنسيين اعتذر عن قلة الطعام قائلاً
Maia، Messieurs، Je ne Vous Attendais Pas Si Tot، en si Grdand Nombre.
" ولكني أيها السادة لم أتوقع مجيئكم بهذه السرعة، وبهذه الكثرة"(34).
وتعجب العسكريون من جميع الأطراف من ذلك البون الشاسع في الخسائر، ومن براعة القيادة التي أتاحت هذه النتيجة: وحتى فرنسا اعترفت بإعجابها، ولم يستطيع الشعب الفرنسي الذي كان حليفاً لبروسيا حتى الأمس القريب أن ينظر بعد إلى فردريك نظرته إلى عدو لهم: ألم يكن يجيد الحديث والكتابة الفرنسية؟ دهشت جماعة الفلاسفة لانتصاراته وأشادوا به مكافحاً عن حرية الفكر أمام الظلامية الدينية التي يحاربونها في وطنهم (35) واستجاب فردريك لعواطف الفرنسيين النبيلة فقال: (لم أعتبر الفرنسيين)(36) ولكنه كتب سراً-بالفرنسية-قصيدة أعرب فيها عن اغتباطه بأن ركل الفرنسيون في (إستهم) وهي كلمة ترفق كارليل فترجمها (معقدة الشرف)(37).
واغتبطت إنجلترا معه. وجددت إيمانها بحليفها. واحتفلت لندن بعيد ميلاده بالصواريخ في شوارعها، وأشاد المثوديون الأتقياء بهذا الزنديق منقذاً للمذهب الحق الوحيد. وكان بت قد أعيد ليرأس الحكومة (29 يوليو 1757)، فغدا منذ الآن النصير الثابت الوفي للملك البروسي. وقال فردريك (لقد أنفقت إنجلترا وقتاً طويلاً لتجنب رجلاً عظيماً كفئاً لهذا الصراع، ولكن هاهو قد جاء في النهاية (38))، وندد بت باتفاقية كلوستر-تسيفين لأنها ليست إلا جبناً وخيانة-وذلك رغم
أن ابن الملك وقعها، ثم أقنع البرلمان بأن يرسل جيشاً أفضل لحماية هانوفر ومعونة فردريك (أكتوبر)، وبينما كان المبلغ الذي أقره البرلمان من قبل لجيش كمبرلاند (جيش المراقبة) لا يزيد عن 164. 000 جنيه، وافق الآن 1. 200. 000 جنيه لتمويل (جيش عمليات)، واتفق بت وفردريك على أن يختار لقيادة هذه القوة الجديدة صهر فردريك وتلميذه الحربي، الدوق فرديناند البرنزويكي، البالغ من العمر ستة وثلاثين عاماً، الرجل الوسيم، المثقف، الشجاع، الذي قال عنه بيرني أنه يجيد العزف على الكمان إجادة كان يمكن أن يجمع من ورائها ثروة طائلة (39). هاهنا أداة صالحة صلاحية رفيعة لمصاحبة ناي فردريك.
4 - الثعلب يكره على الدفاع
1757 -
1760
لم يتح لفردريك متسع من الوقت للابتهاج، فما زال جيش فرنسي بقيادة ريشليو واضعاً يده على جزء كبير من هانوفر. وفي اليوم الذي وقعت فيه معركة روسباخ ضرب 43. 000 نمساوي الحصار على شفايدنتز، أهم معقل ومستودع للبروسيين من سيليزيا وكان فردريك قد ترك بها 41. 000 رجل ولكن عددهم تناقص إلى 28. 000 نتيجة الهروب أو الموت وكان على رأسهم قائد غير كفء هو دوق برنزويك-بيفرن، الذي تجاهل أمر الملك بمهاجمة المحاصرين، وفي 11 نوفمبر سلم الحصن، وسلم للنمساويين 7. 000 أسير، و 330. 000 طالر، ومؤناً تكفي لإعاشة 88. 000 رجل مدى شهرين. وواصل المنتصرون السير إلى برزلاو، بعد أن زاد، عددهم إلى 83. 000 بفضل انضمامهم إلى قوات يقودها الأمير شارل والمارشال داون؛ وفي 22 نوفمبر قهروا قوة صغيرة من البروسين، وسقطت برزلاو ورد معظم سيليزيا الآن إلى ماريا تريزا الظافرة. وحق لفردريك أن يشعر أن انتصاره في روسباخ قد بطل مفعوله.
ولكن ذلك الانتصار كان قد جدد شجاعته، فلم يعد يتحدث عن الانتحار. كذلك كان جيشه قد أفاق من مسيراته ومعاركة، وبدا ساخطاً على الغارات التي دنس بها الجنود الفرنسيون الكنائس الكاثوليكية في سكسونيا وناشد فردريك رجاله أن يعينوه على استرداد سيليزيا. فساروا 170 ميلاً في اثني عشر يماً قارسة البرد، مخترقين أرضاً وعرة. وانظم إليهم في الطريق فلول القوات البروسية التي هزمت في شفايدنتز وبرزلاو. وفي 3 ديسمبر لمح فردريك ومعه 43 ألف مقاتلاً نمساوياً من 72. 000 مقاتل يعسكر قرب لويتن على الطريق إلى برزلاو. في ذلك المساء خطب فردريك في كبار ضباطه سبق به خطب نابليون الحربية الرنانة، قال:
"أيها السادة أنكم لا تجهلون أي نكبات حلت بنا هنا بينما كنا مشتبكين مع الجيوش الفرنسية والإمبراطورية. فلقد ضاعت شفايدرنتز
…
وضاعت برزلاو ومعهما كل مستودعاتنا الحربية، وضاع أكثر سيليزيا. ولولا ثقتي التي لا حد لها بشجاعتكم وولائكم وحبكم لوطنكم، لما أفقت من عوامل ضيقي وارتباكي
…
فليس بينكم رجل لم يبرز بعمل ممتاز من أعمال البطولة لذلك أعلل نفسي بأنكم في الفرصة القادمة لن تضنوا بأي تضحية يطالبكم بها الوطن.
والفرصة سانحة الآن. وإنني لأشعر أنني لم أحقق شيئاً لو تركت سليزيا في قبضة النمسا. فدعوني إذن أخبركم إنني أنوي مهاجمة جيش الأمير شارل-وهو ثلاثة أضعاف جيشنا-أينما لقيته، متحدياً في ذلك جميع فواعد فن الحرب. فليست العبرة بكثرة جنده أو قوة موقعه، فأنا آمل-بفضل بسالة جنودنا، وتنفيذ حططنا بعناية-أن نذلل هذا كله. ولا مندوحة لي عن اتخاذ هذه الخطوة، وإلا دفنا تحت مدافعه. كذلك أرى الموقف، وكذلك سأتصرف.
فأبلغوا تصميمي إلى جميع ضباط الجيش، وأعدوا الجنود للعمل الذي لابد آت، وأخبروهم أنني أشعر بأن لدي من الأسباب ما يبرر مطالبتي إياهم بتنفيذ الأوامر بكل دقة. أما أنتم، فهل يخطر ببالي- وأنا أذكر
أنكم بروسيون-أنكم ستتصرفون تصرفاً غير نبيل، ولكن إذا كان بينكم رجل يخاف أن يشاطرني جميع المخاطر (وهنا تفرس فردريك في كل وجه بدوره) ففي استطاعته أن يسرح هذا المساء، دون أدنى لوم مني ....
كنت عليماً بأن أحدا منكم لن يتركني. وعليه فأنا معتمد كل الاعتماد على معونتكم الصادقة، وعلى النصر الأكيد. فإن مت قبل أن أجزيكم على إخلاصكم فلا بد أن الوطن فاعل. عودوا الآن إلى معسكركم وانقلوا إلى جنودكم ما سمعتموه مني.
وسأجرد فرقة الفرسان التي لا تلقي بنفسها فور سماع الأوامر على العدو بمجرد انتهاء المعركة، وأحيلها إلى فرقة حامية. أما كتيبة المشاة، حتى أن بدأت تتردد، أياً كان الخطر الذي تواجهه، فإنها ستفقد رايتها، وسيوفها، والنوط الذهبي من ستراتها.
"الآن طابت ليلتكم أيها السادة. عما قليل سنكون قد هزمنا العدو، وإلا فلن يرى بعضنا البعض بعد اليوم"(40).
وكان النمساويون إلى الآن يتحاشون الالتحام في معركة مع فردريك متبعين بذلك سياسة فابيوس الروماني، وترددوا في وضع جنودهم وقوادهم أمام انضباط الجيش البروسي وعبقرية فردريك التكتيكية، أما الآن بعد أن شجعهم كثرة جيوشهم وانتصاراتهم الأخيرة، فقد قرروا مواجهة الملك في المعركة مخالفين في ذلك نصيحة المرشال داون. وعليه ففي 5 ديسمبر 1757 زحفت هذه البيادق في لعبة المنافسة بين الأسر المالكة-43. 000 مقابل 73. 000 - على سيوف بعضهم بعض ومدافعهم في أعظم معارك هذه الحرب. يقول نابليون:"كانت تلك المعركة آية من الآيات وهي وحدها تبوئ فردريك مكاناً في الطليعة بين القواد"(41) وقد استهلها بمحاولة الوصول إلى التلال تمكيناً لمدفعيته من إطلاق نيرانها فوق رؤوس مشاته لتصيب صفوف العدو. ووزع جنوده بنظام منحرف استعمله قديماً أبامينونداس الطيبي، بحيث تتحرك طوابير منفصلة بزاوية 45 درجة تقريباً
لتضرب العدو من الجنب فتشيع الخلل في خط دفاعه. وتظاهر فردريك بأنه يوجه أقوى ضغوطه إلى الميمنة النمساوية، فأضعف الأمير شارل مسيرته تعزيزاً للميمنة، وهنا صب فردريك خيرة رجاله فوق الميسرة التي تناقصت، فدمرها، ثم انقلب ليهاجم الجناح الأيمن في جيشه، بينما هبط الفرسان البروسيون على الجناح ذاته من مخبئهم في التلال. وانتصر النظام على الفوضى، فسلم النمساويون أو لاذوا بالفرار، وأسر منهم 20. 000 - وهو صيد لم يسبق له نظير في (تاريخ الحرب (42))، وترك 3. 000 آخرون قتلى، ووقعت 116 قطعة من قطع المدفعية في أيدي البروسيين. كذلك كانت خسائر البروسيين كبيرة-1. 141 قتلى، و 5. 118 جرحى، و85 أسرى. فلما انتهت المذبحة شكر فردريك قواده قائلاً:(هذا اليوم سيذيع اسمكم واسم أمتكم إلى آخر الدهر (43)).
وواصل المنتصر انتصاره في عزيمة صادقة ليسترد سيليزيا. فلم يمضِ يوم على المعركة حتى حاصر جيشه الحامية النمساوية في برزلاو. وأقام قائدها شبريشر اللافتات في أرجاء المدينة ينذر فيها بالموت الناجز كل من يهمس بكلمة تسليم، ولكن لم ينق اثنا عشر يوماً حتى سلم (18 ديسمبر) واستولى فردريك هناك على 17. 000 أسير وعلى مخازن حربية ثمينة. وما لبثت سيليزيا أن عادت كلها إلى قبضة البروسيين باستثناء شفايدنتز ذات الحامية الكبيرة الحصون المنيعة. وأعتكف الأمير شارل في ضيعته بالنمسا بعد أن وجد نفسه ذليلاً أمام لوم داون الصامت، ونصح رنيس وغيره من الزعماء الفرنسيين لويس الخامس عشر بعقد الصلح ولكن دبومباور تغلبت عليهم، وأحلت الدوق دشوازيل وزيراً للشؤون الخارجية محل برنيس (1758)، بيد أن فرنسا فقدت حماستها للحرب إذ خامرها الشعور بأنها تحارب دفاعاً عن النمسا بينما تضحي بمستعمراتها. أما ريشليو فلم يبد حماسة تذكر، ولا رغبة صادقة في مواصلة الإفادة من ميزته في هانوفر، بحيث استدعي من قيادة الجيش (فبراير 1758) وعين بدلاً منه الكونت دكليرمون، وهو رئيس دير صرح له البابا بأن
يحتفظ بدخل منصبه الديني وهو يلعب دور القائد (44). وأخلى الفرنسيون هانوفر أمام خطى الزحف المصممة التي تقدم بها الدوق فريناند البرنزويكي، فسلموا له ميدن في مارس، وما لبثت وستفاليا كلها أن حررت من قبضة الفرنسيين الذين بغضوا الشعب فيهم هنا أيضاً بأعمال النهب والتدمير (45). وزحف فريناند غرباً وهزم قوة كليرمون الرئيسية بقوة لا تزيد على نصف رجال العدو في كريفيلد على الرين (23 يونيو)، وسلم كليرمون موقعه للدوق دكونتا، وانظم سوبيز إلى الجيش المهزوم بإمداد فرنسية جديدة وفلول من مقاتلي معركة روسباخ، وأمام هذه القوة المتحدة تقهقر فرديناند إلى مونستر وبادربورن.
وتشجعت إنجلترا بموسم الانتصارات هذا، فأمرت (11 إبريل) معاهدة ثالثة مع فردريك، ووعدته فيها بمعونة قدرها 670. 000 جنيه قبيل أكتوبر، وتعهدت بعدم إبرام صلح منفرد (46). وفرض فردريك أثناء ذلك ضرائب على سكسونيا وغيرها من الأقاليم التي فتحها، مسوياً في ذلك بينهما وبين بروسيا التي أرهقت بالضرائب: وأصدر عملات مغشوشة، واستأجر (كفولتير) الماليين اليهود ليعقدوا له صفقات رابحة بالعملة الأجنبية (47). فما حل ربيع 1758 حتى كان قد أعاد بناء جيشه فأبلغه 145. 000 مقاتل. وفي إبريل هاجم شفايدنتز واستردها، وتحرك صوب الجنوب على رأس 70. 000 مقاتل إلى أولموتز في موافيا متحاشياً الالتقاء بالجيش النمساوي الرئيسي (الذي نظم من جديد تحت قيادة داون) وعلل نفسه بالزحف على فيينا ذاتها إذا استطاع الاستيلاء على هذا الحصن النمساوي.
ولكن في نحو هذا الوقت ذاته اكتسح 50. 000 روسي يقودهم كونت فيرمور بروسيا الشرقية وهاجموا كوسترين، التي لا تبعد عن برلين شرقاً سوى خمسين ميلاً، وترك فردريك حصار أولموتز وهرع إلى الشمال على رأس 15. 000 مقاتل. وفي الطريق نمى إليه نبأ مرض
فلهلميني الذي بلغ مرحلة التأزم، فتوقف في جروسباو ليرسل لها رسالة قلقة قال فيها "يا أعز أهلي، يا اقرب إلى قلبي في هذه الدنيا-لأجل كل ما هو غالٍ عزيز لديك، احتفظي بحياتك، ودعيني أتعزى بذرف الدموع على صدرك"(48).
وبعد أن واصل السير أياماً وليالي انظم إلى قوة بروسية يقودها الكونت تسودونا قرب كوسترين. وفي 25 أغسطس 1758، وبقوة قوامها 36. 000 رجل التقى بجيش فيرمور وعدته 42. 000 روسي عند تسورندورف. واستحال عليه هنا استعمال تكتيكه المفضل، وهو الهجوم على الجناح، بسبب الأرض المليئة بالمنافع، وتبين أن فيرمور لا يقل عن فردريك براعة في القيادة وقاتل الروس ببسالة وإصرار ندر أن عرفها البروسيون في النمساويين أو الفرنسيين وكسب سيدلتز وفرسانه ما أمكن أن يقع لهم من أمجاد يوم تنافس فيه العدوان في التقتيل. وتقهقر الروس في نظام حسن تاركين 21. 000 بين قتيل وجريح وأسير؛ وخسر البروسيون 12. 500 بين قتيل وجريح و1. 000 أسير.
ولكن منذا الذي يستطيع مواصلة القتال على كل هذه الجبهات في وقت واحد؟ بينما كان فردريك في الشمال قاد داون جيشه إلى نقطة اتصل فيها بالفرق الإمبراطورية، وشرع الآن في حصار درسدن التي كان فردريك قد ترك فيها حامية بقيادة الأمير هنري. وزحفت قوة من 16. 000 سويدي مخترقة بومرانيا، وانضمت إلى الروس في تدمير شطر كبير من إمارة برندنبورج، وربما استطاعت معهم تهديد برلين ثانية. ودخل جيش جديد من 30. 000 نمساوي ومجري، يقودهم الجنرال هارش، سيليزيا واتجه إلى برزلاو. بسرعة اثنين وعشرين ميلاً في اليوم مخترقاً بروسيا إلى سكسونيا، وبعد أن أعاد تنظيم جنوده الذين ثبطت همتهم وأخذوا الآن يتمردون، فوصل إلى صهره المحاصر في القوت المناسب لثني داون عن الهجوم وبعد أن أراح رجاله أسبوعين، انطلق ليطرد هارش من سيليزيا وعند هوكيرش بسيليزيا سد عليه داون الطريق. فضرب فردريك خيامه قرب العدو، وانتظر
أربعة أيام وصول المون من درسن. وفجأة، في الخامسة من صباح 14 أكتوبر 1758، هاجم جناح البوسيين الأيمن، وكان فردريك قد اطمأن على أنه سيتجنب المبادأة. وتخفت حركة النمساويين وراء ضباب كثيف، وأخذ البروسيون على غرة وهم نيام فعلاً، فلم يتسع الوقت لتكوين الخطوط التكتيكية التي رسمها فردريك. وعرض فردريك نفسه للخطر في تهور وهو يحاول استعادة النظام، فوفق في ذلك، ولكن بعد أن فات أوان إصلاح الموقف. وبعد خمس ساعات من فتال اشتبك فيه 37. 000 بيدق مع 90. 000، أعطى الإشارة للتقهقر، تاركاً 9. 450 رجلَا على ساحة المعركة مقابل 7. 590 خسرهم النمساويون.
وعاد يفكر في الانتحار. فأمام قائد كفء كداون يقود النمساويين، وأمام قائد كفء كسالتيوكوف يحشد جيشاً روسياً جديداً، وأمام قواته المضمحلة عدداً، ونوعاً ونظاماً، في الوقت الذي يستطيع فيه أعداؤه تعويض أي خسارة، أمام هذا كله وضح أن لا أمل في انتصار البروسيين إلا بمعجزة، وفردريك لا يؤمن بالمعجزات، ففي غداة هوخكيرش اطلع قارئه ديات على "دفاع عن الانتحار" كان قد كتبه، وقال له "في استطاعتي أن أختم المأساة حين أشاء"(49). في ذلك اليوم (15 أكتوبر 1758) ماتت فلهلميني تاركة تعليمات بأن توضع خطابات أخيها على صدرها في قبرها (50). وناشد فردريك فولتير أن يكتب شيئاً في ذكراها، فاستجاب فولتير، ولكن قصيدته "للنفس الباسلة النقية" (51) لم تستطع أن ترقى إلى مستوى الحرارة والبساطة اللتين نجدهما في رثاء الملك الذي ضمنه "تاريخ حرب السنين السبع" قال:
"إن طيبة قلبها، وأريحيتها وسماحتها، ونبل روحها وسموها، وحلاوة طبعها، جمعت فيها مواهب العقل اللامعة مع أساس من الفضيلة المكينة. وكان يربط الملك (وقد استعمل فردريك لفظ الغائب) بهذه الشقيقة الفاضلة أرق صداقة وأثبتها وقد تكونت هذه الروابط في بواكير صباهما، ثم وثق بينهما اشتراكهما في تربية واحدة وعواطف واحدة، وأصبحت هذه العواطف لا تقبل الانفصام بفضل وفائهما المتبادل في كل امتحان يبتليان به"(52).
وأتى الربيع بمزيد من الجيوش الفرنسية في ساحة القتال. ففي 13 إبريل 1759 في بيرجن (قرب فرانكفورت على المين) أذاقت قوة يقودها دبرولي بكفاية فرديناند البرنزويكي طعم الهزيمة. ولكن فرديناند كفر عن هزيمته في مندن، فهناك (أول أغسطس) بجيش قوامه 43. 000 ألماني، وإنجليزي، واسكتلندي هزم 60. 000 فرنسي يقودهم برولي وكنتار هزيمة منكرة؛ وبخسارة قليلة جداً نسبيا، بحيث استطاع أن يرسل 12. 000 جندي إلى فردريك ليعوض عما حل بجيش الملك من ضعف إثر حملة مشؤومة في الشرق.
ذلك أنه في 23 يوليو قهر جيش ستاليكوف المؤلف من 50. 000 روسي وكرواتي وقوقازي، عند تسوليشاو جيشاً بروسياً قوامه 26. 000 مقاتل كان فردريك قد تركهم لحراسة مداخل البلاد من بولندا إلى برلين، ولم يقف الآن شيء في طريق سيل روسي عرم قد يتدفق على العاصمة البروسية. ولم يكن أمام الملك من سبيل إلا الاعتماد على صهره ليدافع عن درسدن أما داون، بينما سار هو بنفسه للقاء الروس، ووصلته التعزيزات في الطريق، فاستطاع أن يحشد 48. 000 مقاتل، ولكن 18. 000 نمساوي يقودهم الجنرال لاودون كانوا أثناء ذلك قد انضموا إلى الروس، فبلغ مجموع جيش ستاليكوف 68. 000. وفي 12 أغسطس 1759 التحم هذان الجيشان- اللذان كانا أضخم كتلتين من اللحم البشري القابل للاستهلاك منذ المذابح التي تبارى فيها الأعداء في حرب الوراثة الأسبانية-وخاضا عند كونرزدوف (على ستين ميلاً شرقي برلين) أقسى معارك هذه الحرب-وأفجعها على فردريك. فبعد قتال دام اثنتي عشرة ساعة لاح أن الحظ في جانبه، وهنا هجم رجال لاودون الاحتياطيون-وعددهم 18. 000 - على البروسيين المنهوكي القوى وطاردوهم في هزيمة نكراء. واقتحم فردريك كل خطر ليلم شعث جنوده، وقادهم بشخصه ثلاث مرات في الهجوم، وضربت بالنار ثلاثة جياد من تحته، وأوقفت علبه ذهبية صغيرة في جيبه رصاصة كان يمكن أن تودي بحياته. ولم يكن سعيداً بفكرة الهروب، فصاح "هلا أصابتني طلقة لعينة؟ "(53) وتوسل إليه جنوده أن ينجو بنفسه،
ولم يلبثوا أن ضربوا له المثل بأنفسهم فناشدهم قائلاً: "يا أبنائي لا تتركوني الآن، أنا ملككم، وأبوكم! " ولكن ما من حض قان قادراً على إقناعهم بالتقدم مرة أخرى. فلقد حارب الكثيرون منهم ست ساعات تحت شمس محرقة، دون وقت أو فرصة يتناولون فيها قدحاً من الماء. فلاذوا بالفرار وأخيراً لحق هو بهم، مخلفاً وراءه 20. 000 ما بين أسير، وجريح، وقتيل مقابل خسارة للأعداء قدرها 15. 700. وبين الذين جرحوا جروحاً مميتة إيفالد فون كلايست، أعظم شعراء العصر الألماني.
وحالما وجد فردريك مكاناً يستريح فيه أرسل إلى الأمير هنري رسالة يقول فيها "لم يبقَ لي في هذه اللحظة سوى 3. 000 من جيش بلغ 48. 000 مقاتل، ولم أعد السيد المسيطر على قواتي .. أنها لكارثة فادحة، ولن أعيش بعدها". وأبلغ قواده أنه يوصي بالقيادة للأمير هنري. ثم ارتمى على بعض القش واستغرق في النون.
وفي الغد وجد أن 23. 000 من الهاربين من المعركة عادوا إلى فرقهم خجلين من هروبهم، مستعدين للعودة إلى خدمته إن لم يكن لشيء فلأنهم يتوقون إلى الطعام. ونسي فردريك أن يقتل نفسه، وبدلاً من هذا أعاد تنظيم هؤلاء وغيرهم من الجنود المساكين في جيش جديد بلغ رجاله 32. 000، وأتخذ له موقعاً على الطريق من كونرزدورف إلى برلين، متوقعاً أن يبذل آخر محاولة لحماية عاصمته. ولكن سالتيكوف لم يأتِ. فرجاله أيضاً يجب أن يطعموا، لأنهم كانوا في أرض العدو ووجدوا الحصول على الطعام محفوفاً بالخطر، وخط المواصلات مع بولندا طويل وغير مأمون. ورأى سالتيكوف أن قد آن الأوان ليأخذ النمساويون دورهم في قتال فردريك. ومن ثم أصدر أمره بالتقهقر.
ووافق داون على أن الخطوة التالية يجب أن تكون خطوته وأحس بأن هذا هو وقت الاستيلاء على درسدن. وكان الأمير هنري قد سحب قوة من المدينة لتنجد فردريك، ولم يترك سوى 30. 000 مقاتل لحراسة القلعة، ولكن التحصينات القوية كانت قد أقيمت لصد الهجوم. وكان القائد الجديد
في درسدن، وهو كورت فون شمتاو، خادماً وفياً للملك، ولكنه حين تلقى كلمة من فردريك ذاته، بعد كونرزدورف، بأن كل شيء قد ضاع، يئس من المقاومة المجدية. وكان جيش إمبراطوري عدته 15. 000 مقاتل قادماً على درسدن من الغرب، وداون ماضٍ بهمة في قذف المدينة بالمدافع من الشرق. وعليه ففي 4 سبتمبر سلم شمتاو، وفي 5 سبتمبر جاءته رسالة من فردريك تأمره بالمقاومة لأن المدد في الطريق إليه .. وأحال داون، ومعه 72. 000 مقاتل، درسدن مقراً شتوياً لجيشه الآن. ووصل فردريك إلى فرايبورج القرية منها وعسكر في الشتاء بنصف هذا العدد.
وكان شتاء 1759 - 1760 قارس البرد جداً. فظل الثلج يكسو الأرض إلى الركب أسابيع عديدة. ولم يجد غير الضباط مأوى في البيوت؛ أما عامة جنود فردريك فسكنوا أكشاكاً مؤقتة، وراحوا يحتضنون النيران ليتدفئوا، ويكدون قي قطع الخشب وجلبه وقوداً لها، ولا يكادون يصيبون من الطعام غير الخبز وكانوا ينامون متلاصقين طلباً للدفء، واقتضى المرض المعسكرين من الأرواح ما كان يعدل ما اقتضته المعركة من قبل، ففي ستة عشر يوماً فقد جيش داون على هذا النحو أربعة آلاف رجل (54). وفي 19 نوفمبر كتب فردريك إلى فولتير يقول:"لو طالت هذه الحرب لارتدت أوربا إلى دياجير الجهل، ولأصبح معاصرونا أشبه بالوحوش الضارية"(55).
وأشرفت فرنسا على الإفلاس على عظم ثرائها عن بروسيا في المال والرجال ومع ذلك جهز شوازيل أسطولاً ليغزو إنجلترا، ولكن الإنجليز دمروه في خليج كويبيرون (20 نوفمبر 1759) وضوعفت الضرائب بكل ما أوتيت الحكومات ورجال المال من براعة. وفي 4 مارس 1759 كانت المركيزة دمبادور قد وفقت في تعيين إثيين دسلوويت مراقباً عاماً للمالية. فاقترح اختزال المعاشات، وفرض الضرائب على ضياع النبلاء، وتحويل فضيلته نقوداً، وحتى فرض ضريبة على الملتزمين العامين بجمع الضرائب. وشكا الأغنياء من أنهم يحالون إلى مجرد "ظل" لما كانوا عليه من قبل، ومنذ ذلك الحين أصبحت كلمة Silhouette دليلاً على شكل اختزل إلى أبسط صورة.
وفي 6 أكتوبر أوقفت الحكومة الفرنسية دفع التزاماتها. وفي 5 نوفمبر صهر لويس الخامس عشر أطباقه الفضية ليكون الأسوة الحسنة لشعبه، ولكن حين اقترح سلوويت أن يستغني الملك عن المبالغ التي تخصص عادة لقماره وألعابه، وافق لويس ولكن في ألم واضح جداً، مما حمل شوازيل على الاعتراض على الفكرة. وفي 21 نوفمبر أقيل سيلوويت.
وأحس الملك كما أحس الفرنسيون جميعاً أنه شبع حرباً، وكان على استعداد للاستماع إلى مقترحات الصلح. وكان فولتير قد جس نبض فردريك في أمر الصلح في يونيو، فأجاب فردريك (2 يوليو):"أني أحب الصلح بقدر ما تتمنى، ولكن أريده حسناً، متيناً شريفاً" وفي 22 سبتمبر أضاف في رسالة أخرى لفولتير هناك شرطان للصلح لن أحيد عنهما أبداً: أولاً: أن يبرم مشاركة مع حلفائي الأوفياء
…
ثانياً: أن يكون صلحاً شريفاً مجيداً (56). ونقل فولتير هذه الردود الأبية (التي كتب أحدها بعد هزيمة كونزردورف الساحقة) إلى شوازيل الذي لم يجد فيها ما يعين على المفاوضة. ثم هناك الحليف الوفي بت، المشهور بالتهام المستعمرات الفرنسية فكيف يبرم الصلح قبل أن يبني الإمبراطورية البريطانية؟
5 - بناء الإمبراطورية البريطانية
إن أهم طور من أطوار حرب السنين السبع لم يقاتل فيه الخصوم في أوربا، ففي أوربا لم يحدث غير تغييرات صغيرة في خريطة القوة. ولكنهم اقتتلوا على الأطلنطي، وفي أمريكا الشمالية، وفي الهند. في تلك المناطق كانت نتائج الحرب هائلة طويلة البقاء.
كانت أول خطوة تكوين الإمبراطورية البريطانية قد اتخذت في القرن السابع عشر، وذلك بانتقال التفوق البحري من أيدي الهولنديين إلى أيدي الإنجليز. أما الثانية فحددتها معاهدة أوترخت (1713) التي منحت إنجلترا احتكار توريد العبيد الأفارقة للمستعمرات الأسبانية والإنجليزية
في أمريكا. وكان العبيد ينتجون الأرز والتبغ والسكر، وكان جزء من السكر يحول إلى شراب الروم، وشاركت تجارة الروم في إثراء تجارة إنجلترا (القديمة والجديدة) ومولت أرباح التجارة التوسع في الأسطول البريطاني. فما حلت سنة 58 (57) حتى كان للإنجليز 156 سفينة حربية، ولم يكن لفرنسا غير 5. 777 ومن ثم كانت الخطوة الثالثة في بناء الإمبراطورية هي إضعاف القوة الفرنسية في البحار. وقطع هذه العملة انتصار ريشيليو في منيورقة، ولكنها استؤنفت بتدمير أسطول فرنسي أما لاجورس، بالبرتغال (13 إبريل 1759)، وأسطول آخر في خليج كويبيرون. ونتيجة لذلك هبطت تجارة فرنسا مع مستعمراتها من ثلاثين مليوناً من الجنيهات في 1755 إلى أربعة ملايين في 1760.
أما وقد تمت السيادة على الأطلنطي، فقد انفتح الطريق أمام البريطانيين ليفتحوا أمريكا الفرنسية، ولم تقتصر هذه على حوض نهر سانت لورنس وإقليم البحيرات العظمى، بل شملت حوض المسيسبي من البحيرات إلى خليج المكسيك، لا بل أن وادي نهر أوهايو كان في قبضة الفرنسيين. وسيطرت القلاع الفرنسية على شيكاغو، وديترويت، وبتسبرج-التي كان تغيير اسمها من فوردوكين رمزاً لنتائج الحرب. وكانت الممتلكات الفرنسية تقف عقبة أما توسع المستعمرات الإنجليزية في أمريكا نحو الغرب. ولو لم تنتصر إنجلترا في حرب السنين السبع لانقسمت أمريكا الشمالية إلى إنجلترا جديدة في الشرق، وفرنسا جديدة في الوسط، وأسبانيا جديدة في الغرب، ولتكررت نسخة من انقسامات أوربا وصراعاتها في أمريكا. وقد حذر بنيامين فرانكلين المسالم المستعمرين الإنجليز من أنهم لن يكونوا آمنين في ممتلكاتهم، ولا أحراراً في نموهم، مل لم يوقف الفرنسيين في توسعهم الأمريكي، وقد دخل جورج واشنطن التاريخ بمحاولته الاستيلاء على فور دوكين.
كانت كندا ولويزيانا مدخلي أمريكا الفرنسية، وأقربهما إلى إنجلترة
وفرنسا هي كندا فعن طريق السنت لورنس كانت تصل المؤن والجنود إلى "المستوطنين"؛ وكانت تحرس ذلك الباب قلعة لوبيورج الفرنسية على رأس جزيرة بريتون عند مصب النهر العظيم. وفي 2 يونيو 1758 حاصر لوبيورج أسطول إنجليزي صغير من اثنين وأربعين سفينة تحمل 18. 000 جندي يقودهم الأميرال إدوارد بوسكاون. ودافع عن الحصن عشر سفن و 6. 200 مقاتل، وأعترض الأسطول البريطاني التعزيزات المرسلة من فرنسا. وقاتلت الحامية ببسالة، ولكن سرعان ما حطمت المواقع البريطانية وسائل دفاعها. وكان تسليم الحصن (26 يوليو 1758) بداية الفتح البريطاني لكندا.
ولم تفلح استراتيجية المركيز دمونكالم وبطولته في تعطيل سير العملية إلا قليلاً. فبعد أن أوفدته فرنسا (1756) ليقود الجنود النظاميين في كندا، ظفر بالنجاح تلو النجاح إلى أن أحبطه ما تفشى في الإدارة الفرنسية-الكندية من فساد وخلل، وما تبين من عجز فرنسا عن موافاته بالمدد. وفي 1757 حاصر قلعة وليم هنري واستولى عليها؛ وهي تقع على رأس بحيرة جورج. وفي 1758 هزم 15. 000 من جنود بريطانيا والمستعمرات عند تيكوند ورجا بقوة قوامها 3. 800 مقاتل. ولكنه التقى بقريعه حين دافع عن كوبيك بقوة قوامها 15. 000 رجل ضد القائد الإنجليزي جيمس وولف الذي لم يكن تحت قيادته أكثر من 9. 000 جندي. وتقدم وولف بنفسه جنوده في تسلق المرتفعات إلى سهول ابراهام. وجرح مونكالم جرحاً مميتاً وهو يدير الدفاع، وجرح وولف جرحاً مميتاً على ساحة النصر (12 - 13 سبتمبر 1759). وفي 18 سبتمبر 1760 سلم فودربي-كافانيال، حاكم كندا الفرنسي، وبسطت بريطانيا سلطانها على هذا الإقليم الكبير.
وبعد أن وجه الإنجليز مراكبهم صوب الجنود هاجموا الجزر الفرنسية في البحر الكاريبي. فاستولوا على جودلوب في 1759، وعلى المارتنيك في 1762، ووقعت كل الممتلكات الفرنسية في جزر الهند الغربية-
باستثناء سان- دومنج- في قبضة بريطانيا. وطلباً للمزيد من مكاسب النصر أرسل بت الأساطيل إلى أفريقيا للاستيلاء على محطات النخاسة الفرنسية على الساحل الغربي، فاستولت عليها، وانهارت تجارة الرقيق الفرنسية، واضمحل ثغرها الرئيسي في فرنسا وهو نانت. وارتفع ثمن العبيد في جزر الهند الغربية، وحقق تجار الرقيق البريطانيون ثروات جديدة لتلبية الطلب على العبيد (58). وينبغي أن نضيف هنا إن الإنجليز لم يكونوا أكثر قسوة في هذه العملية الإمبريالية من الأسبان أو الفرنسيين، إنما كانوا أكفأ منهم وفي إنجلترا بدأت حركة مقاومة الرق تتخذ شكلاً فعالاً.
وفي غضون ذلك كانت روح المغامرة البريطانية-الحربية والبحرية، والتجارية-مشغولة بالتهام الهند-فقد أقامت شركة الهند الشرقية الإنجليزية معاقل لها في مدراس (1639)، وبمباي (1668) وبوندتشيري، جنوبي مدراس (1683)، وفي شندرناجور شمال كلكتا. كل مراكز القوة هذه اتسعت في الوقت الذي اضمحل فيه حكم المغول في الهند، واستعمل كل فريق الرشوة والقوة العسكرية لمد منطقة نفوذه وكانت فرنسا وإنجلترا قد اشتبكتا معاً في الهند إبان حرب الوراثة النمساوية (1740 - 48) ولم يفعل صلح إكس لاشابل أكثر من قطع الصراع فترة، والآن جددته حرب السنين السبع. ففي مارس 1757 استطاع أسطول إنجليزي يقوده الأميرال تشارلز وطسن، ويعاونه جنود شركة الهند الشرقية بقيادة غلام من شرويشير يدعى روبرت كلايف أن ينتزع شندرناجور من الفرنسيين، وفي 23 يونيو، وبقوة لا تزيد على 3. 200 جندي، هزم كلايف 50. 000 هندوكي وفرنسي عند بلاسي (على ثمانين ميلاً شمال كلكتا) في معركة أكدت السيادة البريطانية على شمال شرقي الهند. وفي أغسطس 1758 طرد أسطول إنجليزي بقيادة الأميرال جورج بوكوك من المياه الهندية الأسطول الفرنسي الذي كان يحمي الممتلكات الفرنسية على طول الساحل. وبعد ذلك بفضل ما امتاز به البريطانيون على الفرنسيين من القدرة
على جلب الرجال والمؤن، لم يكن انتصار إنجلترا إلا مسألة شهور. ففي 1759 أحبط وصول المؤن والإمداد البريطانية بحراً الحصار الفرنسي الذي فرضه على مدراس الكونت دلاللي. وهزم الفرنسيون هزيمة فاصلة في وانديووش في 22 يناير 1760، وسلمت بوندتشيري للبريطانيين في 16 يناير 1761 وقد ردت هذه المحطة الأمامية، وهي آخر المحطات الفرنسية إلى فرنسا 1763 ولكن كان مفهوماً للجميع أن بقاء السيادة للفرنسية رهن برضاء بريطانيا.
وظلت الهند وكندا حتى عصرنا هذا معقلين، في الشرق والغرب، لإمبراطورية بنيت بالمال والشجاعة، والقسوة والذكاء، في توافق تام مع أخلاقيات القرن الثامن عشر الدولية. ونحن ندرك الآن في استعراضنا للماضي بعد هذه الفترة الطويلة أن تلك الإمبراطورية كانت نتاجاً طبيعياً للطبيعة البشرية والأحوال المادية. وأن البديل لها لم يكن استقلال الشعوب العاجزة بل إمبراطورية نظيرها تؤسسها فرنسا. ويمكن القول إنه في المدى الطويل، برغم رجال من أمثال كلايف وهيستنجز وكبلنج، فإن حكم نصف العالم بواسطة البحرية البريطانية-إي الحفاظ على النظام حفاظاً إنسانياً وحسماً نسبياً وسط الفوضى المهددة أبداً-كان نعم لا نقمة على البشر.
6 - الإعياء
1760 -
1762
ترى ماذا كان الثعلب البروسي المطارد يفعل في شتاء 1759 - 60 القارس؟ كان يجمع المال ويزيف العملة، يجند الرجال ويدربهم، ويقرض الشعر ويبيعه على الناس. ففي يناير أصدر ناشر باريسي لص "أعمال فيلسوف صان-سوسي" وطبع في اغتباط تلك القصائد المستهترة التي كان فولتير قد حملها معه من بوتسدام عام 1753 والتي بسببها أوقفت رحلته بأمر فردريك وحبس في فرانكفورد-على المين. وقدر الناشر أن تلك القصائد ستضحك الرءوس غير المتوجة، ولكنها ستجعل الباروكات الملكية ترتعد غضباً، بما فيها باروكات جورج الثاني حليف فردريك. وأكد فردريك أن المطبوع المسروق
شوهته إضافات مدسوسة خبيثة، وأمر صديقه المركيز دارجانس (مدير الفنون الجميلة في أكاديمية برلين) بأن يصدر للفور "طبعة صحيحة" منقاة بعناية. فما لبثت الطبعة أن صدرت في مارس، واستطاع فردريك أن يفرغ للحرب من جديد. وفي 24 فبراير كتب إلى فولتير يقول:
لقد نشر الحديد والموت بيننا الخراب الرهيب والمحزن أننا لم نبلغ بعد نهاية المأساة. ومن السهل أن تتصور أثر هذه الصدمات القاسية في نفسي. وأنا ألوز بالرواقية ما استطعت. لقد غدوت عجوزاً، وحطماً، أشيب الشعر مجعد البشرة؛ وأنا أفقد أسناني ومرحي (59).
وكانت الحشود الهائلة من الجند تساق للفصل في أي الحكام سيضني أكثر الرجال. كان سالتيكوف عائداً من بروسيا في إبريل على رأس 100. 000 مقاتل، وكان للاودون 50. 000 نمساوي في سيليزيا مقابل 34. 000 يقودهم الأمير هنري؛ وكان داون في درسدن بمقاتليه المائة ألف يأمل أن يشق له طريقاً وسط رجال فردريك البالغ عددهم 40. 000 والمعسكرين الآن قرب مايسن؛ وكان الفرنسيون وعدتهم 125. 000 ينتظرون للزحف على 70. 000 يقودهم فرديناند، وبلغت جملة المقاتلين الموجهين إلى برلين 375. 000 رجل. وفي 21 مارس 1760 جددت النمسا وروسيا تحالفهما وأضافتا مادة سرية تعطي بروسيا لروسيا بمجرد رد سيليزيا إلى النمسا (60).
وكان لاودون البادئ بإراقة دماء عام 1760، إذ سحق 13. 000 بروسي عند لانديشوت (23 يوليو). وفي 10 يوليو شرع فردريك في حصار درسدن بمدفعية ثقيلة، فدمر الجزء الأكبر من أجمل مدينة في ألمانيا، ولكن القصف لم يجده شيئاً، فلما نمى إليه أن لاودون يقترب من برزلاو أقلع عن الحصار، وسير رجاله مائة ميل في خمسة أيام والتقى بجيش لاودون في ليبرج (15 أغسطس 1760) وكبده خسارة 10. 000 رجل، ثم دخل برزلاو. ولكن في 9 أكتوبر استولى جيش قوازقي يقوده فرمور على برلين، ونهب مستودعاتها الحربية، وفرض عليها فدية مقدارها مليوناً طالر-وهذا يساوي نصف المعونة المالية التي كان فردريك يتلقاها سنوياً من بريطانيا. وخف لنجدة عاصمته، ففر
الروس حال سماعهم بقدومه، وقفل فردريك إلى سكسونيا، وفي طريقه كتب إلى فولتير (30 أكتوبر) يقول "إنك محظوظ بإتباعك نصيحة كانديد والاكتفاء بزرع حديقتك وما كل إنسان يتاح له أن يفعل ما تفعل. فعلى الثور أن يحرث الأرض، وعلى البلبل أن يغني، وعلى الدرفيل أن يسبح، وعليّ أن أقاتل"(61).
وعند تورجاو على نهر الألب (3 نوفمبر) التقى رجاله وعددهم 44. 000 بجيش نمساوي قوامه 50. 000؛ وأرسل فردريك نصف جيشه بقيادة يوهان تسيتن ليطوق العدو ويهاجمه في المؤخرة؛ ولكن المناورة أخفقت لأن فصيلة للعدو عطلت تسيتن في الطريق. وقاد فردريك كتائبه بشخصه إلى وطيس المعركة؛ هنا أيضاً أطلقت النار على ثلاثة جياد من تحته وأصابته قذيفة في صدره، ولكنها كانت قد فقدت مفعولها، وصرع على الأرض فاقد الوعي ولكن سرعان ما أفاق فقال:"حادث تافه" ثم عاد إلى المعركة. وكان انتصاره غالي الثمن، فقد ارتد النمساويون بعد أن فقدوا 11. 260 رجلاً ولكن فردريك ترك 13. 120 بروسياً على أرض المعركة، وانسحب إلى برزلاو التي أصبحت الآن أهم مركز لإمداداته. وكان داون لا يزال محتفظاً بدرسدن منتظراً في صبر موت فردريك. ثم منح الشتاء الأحياء مهلة ثانية.
وكانت سنة 1761 سنة دبلوماسية أكثر منها سنة حرب. ففي إنجلترا كان موت جورج الثاني (5 أكتوبر 1760) الذي كان عميق الاهتمام بهانوفر، وارتقاء جورج الثالث العرش، وكان اهتمامه بها الأقل بكثير، بمثابة تصديق ملكي على كراهية الشعب لحرب تكلف المالية الإنجليزية عبئاً باهظاً. وجرب شوازيل أن تجس فرنسا نبض إنجلترا لعقد صلح منفرد، ولكن بت رفض، وظل على وفائه المطلق لفردريك، ولكن القوة البريطانية في هانوفر خُفض عددها، واضطر فرديناند إلى التخلي برنزويك وفولفنبوتل للفرنسيين. واتجه شوازيل إلى أسبانيا، وعقد معها "ميثاقاً عائلياً" بيت الملكين البوربونيين؛ أغراها فيه بالانضمام إلى الحلف المعادي لبروسيا، وتضافرت التطورات الحربية مع هذه النكسات الدبلوماسية لدفع فردريك مرة
أخرى إلى شفا الهزيمة النكراء. فقد استطاع لاودون بجيش من 72. 000 مقاتل أن ينضم إلى 50. 000 مقاتل روسي، فعزلوا فردريك عن بروسيا عزلاً تاماً، ووضعوا الخطط للاستيلاء على برلين والاحتفاظ بها. وفي أول سبتمبر 1761 عاد النمساويون للاستيلاء على شفايدنتز مستودعاتها. وفي 5 أكتوبر استقال بت، مؤثراً الاستقالة على خيانة فردريك بعد أن غلبته على أمره مطالبة الشعب بالصلح. ورأى خلفه إيرل بيوت أن قضية فردريك ميئوس منها، وأن المفاوضة للصلح وسيلة لدعم مركز جورج الثالث ضد البرلمان. فألح على فردريك في أن يسلم بالهزيمة ولو إلى حد التنازل عن جزء من سيليزيا للنمسا. وتردد فردريك، وقبض عنه بيوت المزيد من العون المالي ودعت أوربا كلها تقريباً، بما فيها الكثير من البروسيين، فردريك إلى بذل التنازلات. وكان جنوده قد فقدوا كل أمل في النصر، وأنذروا ضباطهم بأنهم لن يهاجموا العدو مرة أخرى، وأنهم يستسلمون إذا هوجموا (62). وما أختتم عام 1761 حتى وجد فردريك نفسه يقف وحيداً أمام أكثر من عشرة أعداء. واعترف بأن لا خلاص إلا بمعجزة.
وقد أنقذته معجزة. ففي 5 يناير 1762، (63) ماتت القيصرة اليزافيتا التي تمقت فردريك، وخلفها بطرس الثالث الذي كان يعجب به مثلاً أعلى للفاتح والملك. فلما سمع فردريك النبأ أمر أن يكسى جميع الأسرى الروس ويعطوا نعالاً ويطعموا ويطلق سراحهم. وفي 23 فبراير أعلن بطرس نهاية الحرب مع بروسيا. وفي 5 مايو وقع معاهدة صلح وضعها فردريك بنفسه بناء على طلبه. وفي 22 مايو حذت السويد حذو روسيا. وفي يونيو دخل بطرس الحرب من جديد، ولكن حليفاً لبروسيا، وارتدى حلة عسكرية بروسية وتطوع للخدمة "تحت قيادة مولاي الملك". فكان هذا من أعجب الانقلابات في التاريخ.
ولقد أدفأ صدر فردريك، ورفع روح جيشه، ولكنه وافق أعداءه بعض الشيء على أن بطرس رجل مختل العقل، وأفزعه أن يسمع برغبة بطرس في مهاجمة الدنمرك ليستعيد هولشتين. فبذل فردريك قصارى
جهده ليثنيه، ولكن بطرس أصر، وأخيراً-في رواية فردريك-"أضررت لالتزام الصمت، وترك هذا الملك المسكين إلى هذا الاعتداد بالنفس الذي دمره"(64).
أما بيوت، الذي انقلب الآن عدواً نشيطاً لفردريك، فقد طلب إلى بطرس أن يترك العشرين ألف روسي الموجودين في الجيش النمساوي حيث هم. وأرسل بطرس نسخة من الخطاب إلى فردريك، وأصدر أمره للجنود الروسية بالانضمام إلى فردريك والخدمة في صفوفه، وعرض بيوت على النمسا صلحاً منفرداً، واعداً إياها بتأييد التخلي لها عن أقاليم بروسية، ولكن اونتر رفض، وندد فردريك ببيوت لأنه وغد (65). وسره أن يسمع بأن فرنسا أنهت معونتها المالي للنمسا، وأن الترك يهاجمون النمساويين في المجر (مايو 1762).
وفي 28 يونيو عزل بطرس بانقلاب أجلس على العرش كاترين الثانية "إمبراطورة الأقاليم الروسية كلها"، وفي 6 يوليو اعتقل بطرس، وأصدرت كاترين الأمر لكزرنيكيف، الذي تولى قيادة الروس تحت فردريك، بأن يعود بهم إلى أرض الوطن فوراً. وكان فردريك يتجهز لهجوم على داون. فطلب إلى كزرنيكيف أن يخفي نبأ تعليمات القيصرة ثلاثة أيام. وهزم فردريك داون في بوركرزدورف (21 يوليو) دون أن يستخدم هؤلاء الروس الاحتياطيين. وسحب كزرنيكيف الآن جنوده، ولم تعد روسيا تشارك بأي دور في الحرب. أما وقد خف الخطر عن الملك في الشمال، فأنه ساق النمساويين أمامهم، واستولى من جديد على شفايدنتز وفي 29 أكتوبر هزم الأمير هنري، بجيش من 24. 000 مقاتل، 39. 000 نمساوي وجندي إمبراطوري عند فرايورج بسكسونيا. وكانت هذه هي العملية الحربية الكبرى الوحيدة التي انتصر فيها البروسيون دون أن يكون تحت قيادة فردريك. وكانت أيضاً آخر المعارك الهامة في حرب السنين السبع.
7 - الصلح
لقد أدرك الإعياء غرب أوربا كلها، وأولها بروسيا، التي جند فيها الصبية ذوو الأربعة عشر ربيعاً، ودمرت المزارع، وأفلس التجار من جراء خنق التجارة، أما النمسا فكانت تملك من الرجال أكثر مما تملك من المال، وقد فقدت المعونة الروسية القيمة. وأما أسبانيا ففقدت هافانا، ومانيلا لاستيلاء الإنجليز عليهما، فضلاً عن تدمير بحريتها كلها تقريباً. وأما فرنسا فقد أفلست، وضاعت مستعمراتها، وأوشكت تجارتها أن تختفي من البحار. وأما إنجلترا فقد احتاجت إلى السلام لتدعم مغانمها.
وفي 5 سبتمبر 1762 أوفد بيوت دوق بدفورد إلى باريس ليفاوض شوازيل في تسوية للصراع. فإذا نزلت فرنسا عن كندا والهند فإن إنجلترا سترد جواديلوب المارتنيك، ولفرنسا أن تحتفظ، بموافقة بريطانيا، بإقليمي فردريك الغربيين، وهما فيزل وجلدرلاند (66). وندد بت بهذه المقترحات ببلاغة ملتهبة، ولكن الرأي العام أيد بيوت، وفي 5 نوفمبر وقعت إنجلترا والبرتغال مع فرنسا وأسبانيا صلح فونتنبلو. ونزلت فرنسا عن كندا، والهند، ومينورقة، وردت إنجلترا لفرنسا وأسبانيا فتوحها في البحر الكاريبي. ووعدت فرنسا بأن تلتزم الحياد مع بروسيا والنمسا، وأن تسحب جيوشها من الأراضي البروسية في غرب ألمانيا. وأكد هذه الترتيبات صلح آخر يسمى صلح باريس (10 فبراير 1763)، ولكنه ترك لفرنسا حقوق صيدها قرب نيوفوندلند، وبعض المحطات التجارية في الهند، ونزلت أسبانيا عن فلوريدا لإنجلترا، ولكنها أخذت لويزيانا من فرنسا. وكانت هذه الترتيبات، من الناحية القانونية انتهاكاً لتعهد بريطانيا بألا تبرم صلحاً منفرداً، ولكنها من الناحية العملية كانت نعمة لفردريك. لأنها أعفته من جميع خصومه إلا اثنين، النمسا والرايش، وكان على ثقة الآن بأن في استطاعته أن يثبت لهذين العدوين الذين ثبطت همتهما.
وراضت ماريا تريزا نفسها على الصلح مع أبغض أعدائها إلى قلبها. فقد تخلى عنها جميع حلفائها الكبار، وكان 100. 000 تركي يزحفون على المجر، فأوفدت مبعوثاً لفردريك يعرض عليه الهدنة، فقبلها، وفي هوبرتوزبرج (قرب ليبزج)، في 5 - 15 فبراير 1763، وقعت بروسيا، والنمسا، وسكسونيا، والأمراء الألمان، المعاهدة التي أنهت حرب السنين السبع. وبعد كل ما أريق من دماء ودوقاتيات، وروبلات، وطالرات وكرونات، وفرنكات، وجنيهات، أعيد "الوضع السابق للحرب" في القارة. واحتفظ فردريك بسيليزيا، وجلاتز، وفيزل، وجلدرلاند، وأخلا سكسونيا، ووعد بأن يؤيد ترشيح جوزيف ابن ماريا تريزا ملكاً على الرومان، وإذن إمبراطوراً مستقبلاً. وعند التوقيع النهائي هنأ فردريك مساعدوه على "أسعد أيام حياتك"، فأجاب بأن أسعد أيام حياته سيكون آخرها (67).
ماذا كانت نتائج الحرب؟ على النمسا فقد سيليزيا نهائياً مع دين حرب قدره 100. 000. 000 ايكو. وقضي على هيبة الحكام النمساويين باعتبارهم الأصحاب التقليديين للقب الإمبراطوري، وقد عامل فردريك ماريا تريزا معاملته لحاكمة لإمبراطورية نمساوية-مجرية، لا رومانية مقدسة، وترك أمراء الإمبراطورية الألمان الآن وشأنهم، وسرعان ما سيخضعون لزعامة بروسيا في الرايش، قد اضمحل سلطان آل هابسبورج وصعد سلطان آل هوهنتسولرن، وأصبح الطريق ممهداً لبسمارك. وبدأت النزعتان الوطنية والقومية تفكران تفكير ألمانيا الموحدة بدلاً من تفكير الدولة المعتزة باستقلالها عن غيرها من الدويلات. وحفز الأدب الألماني فأنجب شتورم ودرانج، ثم صعد إلى جوته وشيلر.
أما السويد ففقدت 25. 000 رجل، ولم تغنم غير الديون. وأما روسيا ففقدت 120. 000 رجل بين المعارك، والشدائد، والأمراض، ولكنها ستعوضهم عما قليل، ولقد فتحت عهداً جديداً في تاريخها الحديث بزحف جيوشها في الغرب، وأصبح تقسم بولندا الآن أمراً لا مناص منه، وأما فرنسا فلم تجنِ غير الخسائر الفادحة في مستعمراتها وتجارتها، وحالة
قريبة من الإفلاس دفعتها خطوة أخرى إلى الانهيار. وأما إنجلترا فكانت النتائج بالنسبة لها أعظم حتى مما قدر زعماؤها، السيطرة على البحار، والسيطرة على عالم المستعمرات، وتأسيس إمبراطورية عظيمة، وبداية 182 سنة من السيادة في العالم. وأما بروسيا فخسرت خراب أراضيها وتدمير ثلاثة عشر ألف منزل فيها، وإحراق مائة مدينة وقرية سويت بالتراب، واقتلاع آلاف الأسر من مواطنها، ومات 18. 000 بروسي (حسب تقدير فردريك) (68) في المعارك أو المعسكرات أو الأسر، ومات حتى أكثر من هؤلاء لنقص الدواء أو الطعام، وفي بعض المناطق لم يبقَ غير النساء والشيوخ ليزرعوا الحقول، وهبط السكان من 4. 500. 000 في 1756، إلى 4. 000. 000 في 1763.
وغدا فردريك الآن بطل ألمانيا بأسرها (عدا سكسونيا!) فدخل برلين دخول الظافر بعد غياب ستة أعوام. وتوهجت المدينة بالأضواء ترحيباً به، وأشادت به منقذاً لها، وذلك رغم عوزها وفجيعة كل أسرة فيها. ولانت روح هذا المحارب القديم التي قدت من فولاذ فهتف "عاش شعبي العزيز طويلاً! عاش أبنائي طويلاً"(69). لقد كان في قدرته أن يتواضع؛ وفي الساعة التي تملقه فيها الجميع لم ينسَ الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها قائداً-مع أنه أعظم القواد الذين أنجبهم العصر الحديث باستثناء نابليون. ولم يغب عن بصره آلاف الشبان البروسيين الذين بذلوا دماءهم ثمناً لسيليزيا. ولقد بذل هو أيضاً الثمن، فشاخ قبل أوانه وهو بعد في الحادية والخمسين، واحدودب ظهره، وهزل وجهه وجسمه، وسقطت أسنانه، وشاب أحد مفرقيه، واضطربت أحشاؤه بالمغص، والإسهال، والبواسير (70) وقال معقباً "إن أصلح مكان له الآن هو ملجأ للعجائز ذوي العلل المزمنة" وقد عمر ثلاثة وعشرين عاماً أخر، وحاول أن يكفر عن آثامه بحكم يتسم بالسلام والنظام.
أما أهم نتائج حرب السنين السبع من الناحية السياسية فهي ظهور الإمبراطورية البريطانية، وانبعاث بروسيا دولة من الطراز الأول، أما من الناحية الاقتصادية فهي التقدم صوب الرأسمالية الصناعية: فقد كانت
تلك الجيوش العملاقة أسواقاً رائعة للاستهلاك الجماعي للسلع المنتجة بمقادير كبيرة، فأي زبون أفضل من ذاك الذي يعد بتدمير السلع المشتراة من أقرب فرصة وطلب غيرها؟ وأما من الناحية الخلقية فأن الحرب أعانت على التشاؤم، والكلبية؛ والفوضى الخلقية، فالحياة رخصت، والموت قريب، والعذاب هو القاعدة، والنهب مباح، واللذة تقتنص حيثما وجدت ولو لحظة. قال جريم في وسفاليا عام 1757 "لولا هذه الحملة لما أدركت قط إلى أي مدى بعيد يمكن أن تبلغ أهوال الفقر وظلم الإنسان"، (72) ولم تكن الحرب إلا في بدايتها. وقد أعان العذاب الدين كما عوقه. فإذا كانت قلة من الناس تحولت إلى الكفر لواقعية الشر الصارخة، فأن الكثرة دفعت إلى التقوى لحاجتها إلى الإيمان بانتصار الخير في النهاية. وعما قليل ستكون عودة إلى الدين في فرنسا، وإنجلترا، وألمانيا وقد أنقذت البروتستانتية في إنجلترا من الدمار، ولو أن فردريك خسر الحرب لحل ببروسيا في أغلب الظن ما حل ببوهيميا بعد عام 1620، فأكرهت على العودة إلى الذهب والقوة الكاثوليكيين؛ أن انتصار الخيال على الواقع ثروة من نزوات التاريخ.
الكتاب الثاني
فرنسا قبل الطوفان
1757 -
1774
الفصل الثالِث
حياة الدولة
1 - رحيل الخليلة
كانت مدام دبومبادور إحدى ضحايا الحرب. فقد ظل سحر شخصيتها حيناً يسترق لب الملك بينما الأمة تنوح، ولكن بعد أن حاول داميان اغتياله (5 يناير 1757) أرسل إليها لويس الخامس عشر كلمة يأمرها فيها بالرحيل فوراً وكأنه شعر فجأة بوجود الله. ولكنه ارتكب غلطة إنسانية حين أتى ليودعها، ووجدها تحزم حقائبها هادئة حزينة، فغلبه بعض ما بقي له من رقة وحنان، وطلب إليها أن تبقى (1). وسرعان ما ردت إليه كل امتيازاتها وسلطاتها السابقة، فكانت تفاوض الدبلوماسيين والسفراء، وترفع الوزراء والقواد وتخفضهم. وكان مارك بيير دفواييه، كونت دارجنسون، قد قاومها في كل خطوة، وحاولت أن تسترضيه قصدها فأفلحت الآن في أن تحل الابيه دبرنيس محله وزيراً للشؤون الخارجية، ثم شوازيل (1758). واحتفظت بحنانها لأقربائها وللملك فقط، وواجهت غير هؤلاء بقلب من حديد في هيكل مريض، وزجت ببعض خصومها في الباستيل وتركتهم فيه سنوات (2). وفي غضون ذلك راحت تدخر لغدها، وزينت قصورها وأمرت بتشييد ضريح ضخم لها تحت ميدان فاندوم.
وقد حملت في نظر الشعب، وفي البرلمان، وفي القصر، أكثر التبعة على هزائم فرنسا في الحرب، ولكنها لم تنل أي ثناء على انتصاراتها. فاعتبرت مسئولة عن الحلف البغيض مع النمسا، وأن لم تكن سوى عامل صغير من عوامل ذلك التزاوج، وأدينت بسبب الكارثة التي حاقت بالجيش في روسباخ حيث قاد الفرنسيين رجلها سوبيز، ولم يعرف نقادها-أو رأوه غير ذي صلة بالموضوع-أن سوبيز أشار بعدم خوض المعركة. وأنه أكره عليها بتهور القائد الألماني. ولو أن الأمر كان بيد سوبيز، ولو اتبعت خطته التي أشار بها-وهي تدويخ فردريك بالمسيرات وبهروب الجند من جيشه-ولو أن القيصرة اليزافيتا لم تمت في هذا الظرف غير المواتي ولم تترك بروسيا لفتى من عباد فردريك-لو أن هذا حدث فربما انهارت مقاومة بروسيا، ونالت فرنسا الأراضي الواطئة النمساوية، وحملت بومبادور فوق بحر من الدماء لتهتف لها الأمة. ولكنها أخفقت في استرضاء إله الصدفة العظيم.
وأبغضها البرلمان لأنها شجعت الملك على أن يتجاهلهم، وأبغضها الأكليروس لأنها صديقة لفولتير ولكتاب الموسوعة، وقال كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، أنه "يتمنى أن يراها تحرق بالنار (3) ". وحين عانت الجماهير الباريسية من غلاء الخبز صاحت "أن تلك البغى التي تحكم المملكة تجر عليها الخراب". وارتفع صوت من الغوغاء في اليون دلاتورنل يقول "لو وقعت في أيدينا هنا لما تخلف منها ما يكفي لإحالتها إلى رفاة (4) ". ولم تجرؤ على الظهور في شوارع باريس، وكان الأعداء يحيطون بها في فيرساي. وكتبت للمركيزة دفونتناي تقول "أنني وحيدة تماماً في وسط هذا الحشد من صغار النبلاء، الذين يبغضونني والذين أحتقرهم. أما النساء فحديثهن يصيبني بصداع أليم. فغرورهن، وخيلاؤهن، وسفالتهن، وخياناتهن، تجعلني لا أطيقهن (5) ".
فلما استطالت الحرب، ورأت فرنسا كندا والهند تختطفان منها، وضيق فرديناند البرنزويكي الخناق على الجيش الفرنسي، وظهر الجنود العائدون،
جرحى أو مشوهين، في شوارع باريس، وضح للملك أنه ارتكب خطأ محزناً بالإصغاء لكاونتز وبومبادور، وفي 1761 التمس العزاء في أحضان خليلة جديدة هي الآنسة رومان، التي ولدت له الولد الذي سيصبح الابيه دبوربون. وأرجفت الشائعات أن بومبادور ثأرت لنفسها بقبول شوازيل عشيقاً لها (6)، ولكنها كانت أضعف، وشوازيل كان أذكى، من أن يسمحا بهذا الغرام؛ لقد أسلمت لشوازيل قوتها لا حبها، ولعلها فاهت الآن بهذه النبوءة اليائسة "بعدي الطوفان (7) ".
كانت على الدوام واهنة الجسد، بصقت الدم حتى في شبابها، ومع أننا لسنا واثقين من أنها كانت تشكو السل، فأننا نعلم أن سعالها ازداد ازدياداً مؤلماً وهي تقترب من الأربعين، واستحال الصوت المرنم الذي كان يوماً ما يأسر قلب الملك وحاشيته صوتاً مبحوحاً متوتراً، وأفزع هزالها أصدقائها. وفي فبراير 1764 لزمت فراشها بحمى مرتفعة والتهاب دموي في الرئتين. وفي إبريل ساءت حالتها حتى إنها استدعت موثقاً لتكتب وصيتها الأخيرة. فتركت فيها هبات لأقربائها، وأصدقائها، وخدمها، وأضافت "إن كنت قد نسيت أياً من أقربائي في هذه الوصية فأني أرجو أخي أن يدبر معاشهم". وأوصت للويس الخامس عشر بقصرها الباريسي، الذي يشغله الآن رئيس جمهورية فرنسا باسم قصر الإليزيه. وكان الملك ينفق الساعات الكثيرة بجوار فراشها، وندر أن ترك حجرتها في أيامها الأخيرة، وكتب الدوفين (ولي العهد) الذي كان عدوها دائماً إلى أسقف فردان يقول "إنها تموت بشجاعة يندر أن توجد بين الرجال أو النساء ورئتاها مملوءتان ماء أو صديداً، وقلبها محتقن أو متضخم. إنه موت قاسٍ مؤلم إلى حد لا يطاق (8) ". وكانت-حتى لهذه المعركة الأخيرة، ترتدي الثياب الفاخرة وتحمر خديها الجافين. وظلت تملك حتى النهاية تقريباً. وأحاط أفراد الحاشية بأريكتها، وراحت توزع الأنعامات، وتعين الأشخاص في المناصب الكبرى، وكان الملك ينفذ الكثير من توصياتها.
وأخيراً سلمت بالهزيمة. ففي 14 إبريل تلقت شاكرة القربان الأخير
الذي حاول التخفيف من الموت بالرجاء. وحاولت الآن، وهي التي ظلت طويلاً صديقة للفلاسفة، أن تستعيد أيمان طفولتها. فصلت كما يصلي الطفل:
"أستودع الله روحي، متوسلة إليه أن يرحمها، وأن يغفر لي آثامي، وأن يمنحني نعمة الند عليها والموت جديرة بمراحمه، راجية أن أرضي عدله ببهاء الدم الثمين، دم يسوع المسيح مخلصي، وبشفاعة العذراء مريم وجميع القديسين في الفردوس (9) ".
وهمست في أذن القسيس الذي كان يبرح الحجرة وهي تعالج سكرات الموت: "انتظر لحظة" سنبرح البيت معاً (10). وماتت في 15 إبريل 1764 مختنقة باحتقان في رئتيها، وكانت في عامها الثاني والأربعين.
وليس صحيحاً أن لويس تقبل موتها في غير مبالاة، فهو إنما أخفى حزنه فقط (11) قال الدوفين:"أن الملك في كرب شديد وإن تمالك نفسه أمامنا وأمام جميع الناس"(12). ففي 17 إبريل، حين حمل جثمان المرأة التي ظلت نصف حياته طوال عشرين عاماً، من قصر فرساي في يوم قارس البرد شديد المطر خرج إلى الشرفة ليطل عليه وهي تبرح القصر وقال لتابعه شامبلوست "ستلقى المركيزة جواً رديئاً جداً" ولم تكن هذه ملاحظة عابثة فقد روى شامبلوست أن في عيني الملك دموعاً تترقرق، وأن لويس أضاف قائلاً في حزن "هذه هي التعزية الوحيدة التي أستطيع تقديمها لها (13) ". ودفنت بناء على رغبته جنباً إلى جنب مع طفلتها الكسندرين، وفي كنيسة الكبوشيين التي اختفت الآن-في ميدان فاندوم.
واغتبط البلاط لتحرره من سلطانها، أما الشعب الذي لم يحس بسحرها فقد لعن إسرافها الشديد، ولم يلبث أن نسيها؛ وأما الفنانون والكتاب الذين ساعدتهم فقد حزنوا لفقد صديقة منعمة متفهمة. على أن ديدرو كان قاسياً في حديثه عنها إذ قال:"إذن ماذا بقي من هذه المرأة التي كلفتنا هذا الثمن الغالي من المال والرجال، وتركتنا دون شرف ولا همة، وقلبت نظام أوربا السياسي بأسره؟ حفنة من التراب" وأما فولتير فقد كتب من فرنيه يقول:
"يحزنني جداً موت مدام دبومبادور. كنت مديناً لها بالفضل، وأنا أبكيها عرفاناً بصنيعها، ويبدو من السخف أنه في الوقت الذي يظل فيه على قيد الحياة كاتب عجوز لا يكاد يقوى على المشي، تموت امرأة حسناء في عنفوان مجدها وهي بعد في الأربعين. ولو أنها استطاعت أن تعيش كما أعيش في هدوء، فربما كانت اليوم حية
…
لقد أوتيت إنصافاً في عقلها وقلبها
…
إنها نهاية حلم
…
(14) ".
2 - انتعاش فرنسا
لم تفق فرنسا عن حرب السنين السبع إفاقة كاملة حتى جاء نابليون. ذلك أن الضرائب الثقيلة كانت قد ثبطت الزراعة أيام لويس الرابع عشر، وظلت تثبطها أيام لويس الخامس عشر، فتركت آلاف الأفدنة التي كانت تزرع في القرن السابع عشر بوراً في 1760 وأخذت تتحول إلى براري قاحلة (15). واستنزفت الماشية والأغنام، وشحت المخصبات، وجفت التربة. وتشبث الفلاحون بطرق الفلاحة القديمة الرديئة، لأن الضرائب كانت تزاد مع كل تحسين يزيد من ثروتهم. وافتقر كثير من الفلاحون إلى الدفء في بيوتهم في الشتاء إلا أن يلتمسوه من الماشية التي تسكن معهم. وأتلفت نوبات شاذة من الصقيع في 1760 و1767 المحاصيل والكروم خلال نموها. وكان محصول سيئ واحد كفيلاً بأن يقرب قرية من المجاعة، ومن الخوف من الذئاب الجائعة الرابضة حولها.
ومع ذلك بدأ الانتعاش الاقتصادي بمجرد توقيع الصلح. كانت الحكومة عاجزة فاسدة، لكن إجراءات كثيرة اتخذت لإعانة الفلاحين. فوزع نظار الزراعة الملكيون البذار وشقوا الطرق، ونشرت الجمعيات الزراعية المعلومات الزراعية، وأقامت المسابقات، ومنحت الجوائز (16). واستجاب الكثير من السادة الإقطاعيين لحفز جماعة الفيزوقراطيين فاهتموا بتحسين وسائل الزراعة ومنتجاتها. وازداد عدد الملاك من الفلاحين. ففي عام 1774 كان هناك 6% فقط من السكان الفرنسيين يرزحون تحت نير القنية (17). ولكن كل زيادة في الإنتاج كانت تجلب معها زيادة في
السكان، فالأرض غنية، ولكن متوسط ملكية الفلاح صغيرة، وهكذا ظل الفقر جاثماً على الصدور.
ومن أصلاب الفلاحين جاء الفائض البشري الذي زود الصناعات في المدن النامية بالرجال. وكانت الصناعة باستثناءات قليلة لا تزال في المرحلة البيتية واليدوية. وسيطرت منظمات رأسمالية واسعة النطاق على صناعة المعادن، والتعدين، وصناعة الصابون، والمنسوجات. وكان بمرسيليا عام 1760 خمسة وثلاثون مصنعاً للصابون تستخدم ألف عامل (18). وكانت ليون معتمدة في رخائها على السوق المتنقلة لنتاج أنوالها. وقد أدخلت آلات التمشيط الإنجليزية حوالي عام 1750، وحوالي عام 1770 بدأ دولاب الغزل الذي يدير ثمانية وأربعون مغزلاً في وقت واحد يحل محل عجلة الغزل في فرنسا. وكان الفرنسيون أسرع في الاختراع منهم في التطبيق؛ فقد أعوزهم رأس المال الذي استطاعت إنجلترا بفضل ثرائها من التجارة أن تستخدمه في تميل التحسينات الميكانيكية في الصناعة. وكانت الآلة البخارية قد عرفت في فرنسا منذ 1681 (19). واستعملها جوزف كونيو عام 1769 لتشغيل أول سيارة معروفة؛ وبعد عام استعملت هذه السيارة لنقل الأحمال الثقيلة بسرعة أربعة أميال في الساعة، ولكن الآلة آفات زمامها فهدمت جداراً، وكان يجب يقفها كل خمس عشرة دقيقة لتزويدها بالماء (20).
وكانت وسيلة النقل، غير هذه الاستثناءات الغريبة، هي الحصان، أو عربة الجدر، أو عربة الركوب، أو المركب، وكانت الطرق أو الترع تفضل نظائرها في إنجلترا كثيراً، ولكن الفنادق كانت أسوأ. وقد أسست خدمة بريدية منظمة عام 1760؛ ولم تكن سرية تماماً، فقد أمر لويس الخامس عشر مديري البريد بأن يفتحوا الخطابات ويبلغوا الحكومة بأي محتوى مريب فيها (21). وتعطلت التجارة الداخلية من جراء المكوس، والتجارة الخارجية نتيجة للحرب وضياع المستعمرات. وأفلست شركة الهند وحلت (1770). ولكن التجارة مع الدول الأوربية زادت زيادة كبيرة
خلال القرن. فارتفعت من 176. 600. 000 جنيه في 1716 إلى 804. 300. 000 جنيه في 1787، غير أن بعض هذه الزيادة لم تكن إلا انعكاساً للتضخم، وازدهرت التجارة مع جزر الهند الغربية والفرنسية في السكر والعبيد.
وكان للتضخم التدريجي، الراجع بعضه إلى تزييف العملة، وبعضه إلى إنتاج العالم المتزايد من الذهب والفضة، أثر مشجع للمغامرة الصناعية والتجارية فمان رجل الأعمال يستطيع عادة أن يتوقع بيع ناتجه بسعر أعلى مما اشترى به عرق العمال ومواد الصناعة. وهكذا تضخمت ثروات الطبقة الوسطى، في حين بذلت الطبقات الدنيا ما وسعها من جهد لتقرب بين دخولها وبين الأسعار. على أن هذا التضخم الذي مكن الحكومة من غش دائنيها هبط بقيمة دخلها، فارتفعت الضرائب بنزول قيمة الجنيه، وأصبح الملك معتمداً على كبار الصيارفة أمثال إخوان باري، لا سيم باري-دوفرنيه، الذي أبهج بومبادور كثيراً بشعوذته المالية حتى استطاع خلال الحرب أن يرفع الوزراء والقواد ويخفضهم.
وكان أهم تطور اقتصادي في فرنسا القرن الثامن عشر معظم الثروة من ملاك الأرض إلى المسيطرين على الصناعة، أو التجارة، أو المال، ولاحظ فولتير في 1755 "نضراً إلى مغانم التجارة المتزايدة .. نقصت ثروة كبار القوم عن ذي قبل، وزادت الثروة في الطبقة الوسطى. وأسفر هذا عن تقريب الفجوة بين الطبقتين"(22) واستطاع رجال أعمال مثل لابوبلنيير أن يشيدوا قصوراً يحسدهم عليها الأشراف، وأن يزينوا موائدهم بأعظم الشعراء والفلاسفة في المملكة، وغدت البرجوازية راعية الآداب والفنون. وعزت الأرستقراطية نفسها بالتشبث بامتيازاتها والظهور بمظهرها الرفيع. وأصرت على نبل المولد شرطاً للانخراط في وظائف ضباط الجيش أو الأساقفة، وتباهت بشعارات نبالتها وأنسابها المتكاثرة؛ وكافحت-عبثاً في كثير من الحيان-لتقصي أفراد الطبقة العامة الأكفاء أو النابهين عن الوظائف الإدارية العليا وعن البلاط. وطالب البرجوازي الغني بأن يفتح مجال الترقي للموهبة أياً كان نسب صاحبها، فلما أغفل مطلبه راودته فكرة الثورة.
وإذا استثنينا من حرب الطبقات جانب الفلاحين، فإن جميع الجوانب المشاركة فيها اتخذت لها شكلاً مرئياً في ضجيج باريس وفخامتها. فنصف ثروة فرنسا انسابت إلى عاصمتها، ونصف فقر فرنسا تقيح فيها، وقال روسو إن باريس "ربما كانت المدينة الوحيدة في العالم التي تعظم فيها فوارق الثروات، والتي يسكن فيها الثراء الصارخ والفقر المدقع جنباً إلى جنب"(23). وكان ستون من الفقراء المعانين جزءاً من الحرس الرسمي المرافق لجثمان ابن الدوفين البكر في 1761 (24). وحوالي عام 1770 كانت باريس تحوي 600. 000نفس من بين سكان فرنسا البالغين 22. 000. 000 (25). وتؤوي أكثر أهل أوربا نشاطاً، وأوسعهم إطلاعاً، وأشدهم فجوراً. وفيها أفضل الشوارع رصفاً، وأفخم الطرق المشجرة والمتنزهات، وأزحم حركات المرور، أجمل الحوانيت، وأفخر القصور، وأظلم الأكواخ، وطائفة من أبدع الكنائس في العالم. وقد تعجب منها جولدوني الذي وفد عليها من البندقية في 1762 فقال في وصفها:
"يالها من حشود! وأي تجمع للناس من جميع الأوصاف! .. وأي منظر مدهش استرعى حواسي وذهني وأن أدنو من التوبلري! رأيت اتساع رقعة تلك الحديقة الهائلة، التي لا نظير لها في الدنيا، والتي لم تستطع عيناي أن تقيسا طولها .. ثم نهراً جليلاً، وكباري عديدة مريحة، وأرصفة شاسعة، وحشوداً من العربات، وزحاماً من الناس لا آخر له"(26).
وكانت مئات المتاجر تغري الأغنياء والمفلسين، ومئات الباعة يسرحون ببضائعهم في الشوارع، ومئات المطاعم (وقد ظهرت الكلمة Restaurants أول ما ظهرت في 1765) تعد بتعويض الجياع Restore عن جوعهم، ومئات التجار يجمعون التحف القديمة أو يزيفونها أو يبيعونها، ومئات الحلاقين يقصون ويبدرون الشعور أو الباروكات حتى لطبقة الحرفيين. وفي الأزقة الضيقة كان الفنانون والحرفيون ينتجون الصور، والأثاث، والثياب، والحلي البهرجة لأثرياء القوم. وهنا كانت عشرات المطابع تطبع الكتب، متعرضة أحياناً لخطر شديد، وفي 1774 قدرت تجارة الكتب في باريس بمبلغ
45.
000. 000 جنيه-وهو أربعة أمثال تجارة لندن فيها. (27) قال جاريك: "إن لندن تصلح للإنجليز، أما باريس فتصلح لكل إنسان"(28) وقال فولتير: في 1768 "لدينا أكثر من ثلاثين ألف شخص في باريس يهيمون بالفن". (29) هناك كانت عاصمة العالم الثقافية دون منازع.
3 - الفيزوقراطيون
في شقة بفرساي تحت مسكن لمدام دبومبادور وعينها الراعية، تكونت تلك النظرية الاقتصادية التي قدر لها أن تحرك الثورة وتصوغها، وتشكل رأسمالية القرن التاسع عشر.
وكان الاقتصاد الفرنسي يكافح منذ زمن طويل ليشب عن الطرق برغم ما قيد به من أقطمة اللوائح والنظم-التي وضعتها طوائف الحرفيين وكولبير، ومن خرافة كخرافة الملك ميداس، خرافة "المركنتلية" التي خالت الذهب هو الثورة. فسعياً إلى زيادة الصادرات، والتقليل من الواردات وأخذ "الفرق الذي في صالح الدولة فضة وذهباً لدعم القوة السياسية والحربية، كانت فرنسا وإنجلترا قد أخضعتا اقتصاديهما القوميين لشرك من القواعد والقيود أعانت على التنظيم الاقتصادي ولكنها عطلت الإنتاج بتعطيلها الابتكار والمغامرة والمنافسة. كل هذا-كما قال رجال مثل جورنيه وكزنيه، وميرابو الأب، ودوبون دنمور، وطورجو-مناقض كل المناقضة للطبيعة، فالإنسان بطبيعته محب للاقتناء، والتنافس، فإذا حررت طبيعته من الأغلال التي لا داعي لها أدهش العالم بمقدار ما ينتج، وتنوعه، وجودته، يقول الفيزوقراطيين "إذن فلنترك الطبيعة (وهي بالإغريقية Physis) تحكم ( Kratein) ولنترك الناس يخترعون، ويصنعون، ويتجرون وفق غرائزهم الطبيعية"، أو كما قال جورنيه فيما روى "اتركهم يفعلون Laissez Faire ما يرونه هم أصوب ما يكون". وكانت هذه العبارة قديمة فعلاً، فحوالي عام 1664، حين سأل كولبير رجل الأعمال لجاندر "ما الذي يجب أن نفعله نحن (أي الحكومة) لمساعدتك؟ أجابه " Nous Laisserfaire" اتركونا نفعله
…
اتركونا وشأننا. " (30)
وكان صوت جان-كلود فانسان دجورنيه أول صوت واضح للفيزيوقيراطيين في فرنسا. ولا شك في أنه كان يعلم بالاحتجاجات التي قدمها بواجلبير وفوبان للويس الرابع عشر على القيود الخانقة التي فرضت على الزراعة في ظل النظام الإقطاعي. وقد أعجب بكتاب السرجوسيا تشايلد "ملاحظات موجزة عن التجارة والفائدة"(1668) إعجاباً حمله على ترجمته إلى الفرنسية (1754)، وأغلب الظن أنه قرأ كتاب رتشارد كانتلون "مقال عن طبيعة التجارة"(حوالي 1734) في طبعته الفرنسية (1755). ويؤرخ البعض من هذا الكتاب مولد الاقتصاد بوصفه "علماً"-أي تحليلاً منطقياً لمصادر الثروة، وإنتاجها، وتوزيعها. قال كانتون "أن الأرض هي المصدر أو المادة التي تؤخذ منها الثروة، ولكن الجهد البشري هو الشكل الذي ينتج الثروة"، ولم يعرف الثروة بأنها الذهب أو النقود، بل "صيانة الحياة، ووسائل الراحة وأسبابها"(31) وكان هذا التعريف في حد ذاته ثورة في النظرية الاقتصادية.
وكان جورنيه تاجراً ميسوراً يعمل أول الأمر (1729 - 1744) في قادس. وبعد أن اشتغل في معاملات تجارية واسعة النطاق في إنجلترا، وألمانيا، والأقاليم المتحدة، استقر في باريس، وعين "ناظر للتجارة"(1751). وفي رحلاته التفتيشية في أرجاء فرنسا لاحظ بشخصه القيود التي فرضتها اللوائح النقابية والحكومية على المشروعات الحرة والتبادل الاقتصادي، ولم يخلف لنا صيغة وكتوبة لآرائه، ولكن لخصها بعد موته (1756) تلميذه طورجو. وقد حث على التخفيف من النظم واللوائح الاقتصادية القائمة، إن لم يكن إلغائها. فكل إنسان يعرف خيراً مما تعرف الحكومة الإجراء الذي يلائم عمله خير ملائمة، فإذا كان حراً في السعي إلى مصلحته ازداد إنتاج السلع ونمت الثروة (32).
"هناك قوانين فريدة أزلية، مؤسسة على الطبيعة وحدها، بمقتضاها توازن جميع القيم الموجودة في التجارة بعضها بعضاً وتثبت نفسها عند سعر مقرر، تماماً كما تنظم الأجسام المتروكة لثقلها نفسها فوق وزنها النوعي (33) ".
أي أن القيم والأسعار تحددها العلاقات بين العرض والطلب، وهي علاقات تحددها بدورها طبيعة الإنسان. وخلص جورنيه إلى أن الدولة يجب أن ألا تتدخل في الاقتصاد إلا لتحمي الحياة، والحرية، والملكية، ولتشجع الإنتاج كماً وكيفاً بأسباب التشريف والمكافآت. وقد قبل مسيو ترودين رئيس مجلس التجارة هذه المبادئ، وخلع عليها طورجو قوة بلاغته واستقامته المعترف بها.
أما فرانسوا كزنيه فقد أتبع خطاً فزيوقراطياً اختلافاً طفيفاً. فهو لم ينسَ قط اهتمامه بالأرض لأنه مالك للأرض، ولو أنه أعد ليكون طبيباً، وقد جمع لنفسه ثروة بحذقه في الطب والجراحة، وارتقى حتى أصبح طبيباً لمدام دبومبادو وللملك (1749). وقد جمع في مسكنه بفرساي لفيفاً من الزنادقة-دوكلو، وديدرو، وبوفون، وهلفتيوس، وطورجو
…
هناك كانوا يناقشون كل شيء في غير تحرج إلا شخص الملك، الذي كانوا يحلمون بأن يجعلوا منه "حاكماً مطلقاً مستنيراً" يكون أداة للإصلاح السلمي، وشعر كزنيه الغارق إلى أذنيه في عصر العقل، أن قد آن أوان استخدام العقل في الاقتصاد. ومع أنه كان دجماً طبقياً شديد الإعداد بنفسه في كتبه، فأنه كان في شخصه إنساناً رقيقاً يتميز بالنزاهة في محيط لا يقيم للأخلاق وزناً.
وفي 1750 التقى بجورنيه، وسرعان ما فاق اهتمامه بالاقتصاد اهتمامه بالطب. وقد شارك بمقالات في موسوعة ديدرو تحت أسماء مستوردة بعناية. وقد عزا في مقاله "المزارع" هجر الزراع لها إلى الضرائب المرتفعة والتجنيد الإجباري. ولاحظ مقاله "الغلال"(1757) أن المزارع الصغيرة تعجز عن الإفادة من أكثر الوسائل إنتاجاً، حبذ المزارع الكبيرة التي يديرها "المقاومون"-وهذا سبق للشركات الزراعية العملاقة في عصرنا. وقال إن على الحكومة أن تحسن الطرق، والأنهار، والقنوات، وأن تلغي كل المكوس على النقل، وتحرر حاصلات الزراعة من جميع قيود التجارة.
وفي عام 1758 نشر كزنيه "جدولاً اقتصادياً" أصبح البيان الرسمي الأساسي للفزيوقراطيين. ومع أنه طبع في المطبعة الحكومية بقصر فرساي بإشراف الملك، فأنه أدان الترف باعتباره استعمالاً مبدداً للثروة كان يمكن استخدامه في إنتاج مزيد من الثروة. وقد قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات: "طبقة منتجة من الزراع، والمعدنيين، وصيادي الأسماك؛ وطبقة قابلة للتوجيه ( Disponiles) من الأشخاص الذين يُستخدمون في الوظائف العسكرية أو الإدارية، وطبقة غير مثمرة Classe St (rile من مهرة الصناع الذين يحولون حاصلات الأرض إلى أشياء نافعة، والتجار الذين يوصلون الحاصلات إلى المستهلك. وإذ كانت الضرائب المفروضة على الطبقة الثانية أو الثالثة تقع في النهاية (في رأي كزنيه) على ملاك الأرض، كانت أكثر الضرائب تمشياً مع العلم وأنسبها هي ضريبة واحدة ( Impot Unique) تُفرض على صافي الربح السنوي لكل قطعة من الأرض. ويجب أن تُجمع الضرائب مباشرة بواسطة الدولة، ولا تُجمع أبداً بواسطة الماليين من الأهالي (الملتزمون العموميون)، ويجب أن تكون الحكومة ملكية مطلقة وراثية.
وتبدو مقترحات كزنيه اليوم وقد أفسدها الغض من قدر العمل، والصناعة، والتجارة، والفن، ولكن بعض معاصريه رأوا فيها إلهاماً منيراً. وفي رأي أكثر أتباعه حيوية وهو فكتور ريكيتي، مركيز دميرابو، أن "الجدول الاقتصادي" نافس الكتابة والوقود في كونه من أجل ابتكارات التاريخ. وقد أجاز هذا المركيز عصر فولتير من أوله لآخره بالضبط، لأنه ولد في 1715 ومات في 1789. ورث ثروة طيبة، وعاش عيشة الأمراء، وكتب كما يكتب الديمقراطيون، وعنون أول كتاب له "صديق الناس"، أو مقال في السكان (1756) واستحق بذلك الاسم الذي اتخذه "صديق الإنسانية". وبعد أن نشر رائعته تأثر بكزنيه، فراجع بناء على ذلك كتابه وزاده، إلى بحث من ستة مجلدات طبع أربعين طبعة وشارك في إعداد فكر فرنسا لثورة 1789.
ولم يقلق تكاثر البشر المركيز كما سيقلق مالنوس في 1798. فقد آمن بأن الأمة تعظم بكثرة سكانها، وأن هذا يسيره "توالد الناس كما تتوالد الفئران في جرن إذا توفرت لها أسباب الحياة (34) " وهو ما زلنا نراه إلى الآن. وخلص إلى وجوب تشجيع منتجي الطعام بكل الوسائل. وذهب إلى ان التفرقة في توزيع الثروة تثبط إنتاج الطعام، لأن ضياع الأغنياء تشغل الأرض التي كان في الإمكان أن تصبح مزارع خصبة. وقالت مقدمة ميرايو للملك أن الفلاحين:
"هم أكثر الطبقات إنتاجاً، الذين لا يرون من تحتهم غير مرضعتهم ومرضعتك-الأرض الأم، والذين يرزحون أبداً تحت ثقل أشق الأعمال والذين يباركونك كل يوم، ولا يسألونك شيئاً غير السلام والحماية. وبفضل عرقهم، بل ودمهم ذاته (وهو ما لا تعرفه!) تشبع مطامع ذلك الحشد من البشر غير النافعين الذين لا يفتئون يقولون لك أن عظمة الملك في قيمة وعدد
…
النعم التي يقسمها على أفراد حاشيته. لقد رأيت مساعد جابٍ للضرائب يقطع يد امرأة فقيرة تشبثت بقدرها لتمنع استيلاءه عليها وفاء للدين. وكانت آخر ما في بيتها من آنية. فماذا كنت تقول في هذا أيها الملك العظيم (35)؟ ".
وقد هاجم المركيز الثائر في كتابه "نظرية الضرائب"(1761) الملتزمين العموميين بجباية الضرائب لأنهم طفيليون يغتالون أقوات الأمة. وحرض الماليون الغاضبون لويس الخامس عشر على أن يحبسه في الشاتو دفانسين (16 ديسمبر 1760) ولكن كزنيه أقنع مدام دبومبادور بأن تتشفع له، وأطلق لويس سراح المركيز (25 ديسمبر) ولكنه أمره بأن يلزم ضيعته في لوبنيون. وأحال ميرابو الضرورة إلى فضيلة، فدرس الزراعة دراسة عملية مباشرة. وفي 1763 أصدر كتاب "الفلسفة الريفية" الذي قيل فيه إنه "أشمل بحث في الاقتصاد قبل آدم سميث (36) "، ووصفه جريم بأنه "الأسفار الموسوية للمذهب الفيزوقراطي (37) ". وبلغت جملة مؤلفات
هذا المركيز، الذي كان نسيج وحده، أربعين كتاباً حتى عام وفاته- وذلك رغم المتاعب التي سببها له ابنه الذي زجه في السجن حين أعيته الحيل عسى أن يكون في ذلك سلامة لكليهما. وكان كابنه ذاك عنيفاً فاسقاً، تزوج للمال، واتهم امرأته بالزنا، وتركها تعود إلى أبوها، واتخذ له خليلة. وقد ندد بأوامر الاعتقال الملكية باعتبارها ضرباً من الظلم لا يطاق، وبعد ذلك حمل الوزارة على أن تصدر خمسين أمراً منها لتعينه على تأديب أسرته (38).
وليس من اليسير علينا أن ندرك اليوم ذلك الهيجان الذي أثارته مطبوعات الفيزوقراطيين، والحماسة التي اصطبغت بها حملاتهم. وتطلع تلاميذ كزنيه إليه كأنه سقراط الاقتصاد: وعرضوا عليه كتاباتهم قبل طبعها، وفي كثير من الحالات كان يشارك في كتبهم. وفي 1767 أصدر لومرسييه دلا ريفيير، الذي حكم المارتنيك فترة، كتاباً عده آدم سميث أوضح شرح للمذهب وأفضله ترابطاً (39) واسمه "النظام الطبيعي الأساسي للمجتمعات السياسية" يقول فيه أن في العلاقات الاقتصادية قوانين تقابل تلك التي وجدها نيوتن في الكون، والعلل الاقتصادية منشؤها إغفال تلك القوانين أو انتهاكها:
"أتريدون لمجتمع ما أن يبلغ الغاية من الثراء، والسكان، والقوة؟ اتركوا مصالحه إذن للحرية، وليكن هذا قانوناً عاماّ، فبفضل هذه الحرية (التي هي العنصر الأساسي للصناعة) وبفض الرغبة في التمتع-التي تحفزها المنافسة وتتبرها الخبرة والقدرة-تضنون أن يسعى كل إنسان على الدوام لأقصى مصلحة مستطاعة له، ومن ثم يسهم بكل ما في مصلحته للخاصة من قدرة في الخير العام، سواء للحاكم ولك فرد في المجتمع (40).
وقد لخص بيير-صموئيل ديون هذه الدعوة في كتابه "الفيزوقراطية"(1768) الذي خلع على المذهب اسمه التاريخي. كذلك نشر ديون النظرية في دوريتين كان نفوذهما محسوساً من السويد إلى توسكانيا. وقد عمل مفتشاً
عاماً للصناعات تحت رئاسة طورجو. وسقط بسقوطه (1776). وعاون على المفاوضة مع إنجلترا على عقد المعاهدة التي اعترفت باستقلال أمريكا (1783) وانتخب عضواً بمجلس الأعيان (1787) والجمعية التأسيسية (1789). وتمييزاً له في هذه الجمعية عن عضو آخر يدعى ديون، سمي ديون دنمور، نسبة للمدينة التي مثلها. وقد عرض اليعاقبة فتعرض للخطر حين تقلدوا زمام الأمور، وفي 1799 نفى نفسه إلى أمريكا، ثم عاد إلى فرنسا عام 1802، ولكن في 1815 أختار الولايات المتحدة وطناً نهائياً له، وهناك أسس أسرة من أشهر الأسر الأمريكية.
وبدا في ظاهر الأمر أن مذهب الفيزوقراطيين يناصر الإقطاع لأن السادة الإقطاعيين كانوا إلى ذلك الحين يملكون أو يتقاضون الرسوم الإقطاعية من ثلث أرض فرنسا على الأقل. ولكنهم-وهم الذين لم يكونوا يدفعون أي ضرائب تقريباً قبل 1756 - هالهم فكرة تحميل ملاك الأرض جميع الضرائب، كذلك لم يستطيعوا أن يقبلوا إلغاء المكوس الإقطاعية على نقل البضائع داخل أملاكهم. أما الطبقات الوسطى، التي كانت إلى تشريعات جديدة، فقد ساءها زعم الفيزوقراطيين أنها شطر عقيم غير منتج من الأمة ومع أن جماعة الفلاسفة كانوا في الغالب يوافقون الفيزوقراطيين على الاعتماد على الملك أداة للإصلاح إلا أنهم لم يستطيعوا موافقتهم على مصالحة الكنيسة (41). وقد ذهب ديفد هيوم؛ الذي زار كزنيه في 1763، إلى أن الفيزوفراطيين أكر ما يوجد اليوم من الجماعات تعلقاً بالأوهام وخيلاء منذ تدمير الصوريون. وسخر منهم فولتير (1768) في قصيدته اللاذعة المسماة "الرجل ذو الأربعين أيكوه"(41). وفي 1770 أصدر فرديناند وجالياني، وهو إيطالي من المترددين على "مجمع" الملحدين الذين كان يجمعهم دولباخ في بيته كتاباً اسمه "حوار حول تجارة الغلال" ترجمه ديدرو إلى الفرنسية في السنة نفسها. وقال فولتير أن أفلاطون موليير لابد قد شاركا في كتابة هذا المؤلف في الاقتصاد الذي كان "علماً يقبض الصدر". وقد هزأ جالياني بخفة روح باريسية بزعم الفيزوقراطيين أن الأرض وحدها مصدر الثروة. وقال أن تحرير تجارة الغلال عن جميع
اللوائح والنظم معناه خراب بيوت مزارعي فرنسا، وقد يجر إلى المجاعة في أرض الوطن في الوقت الذي يصدر فيه التجار الأذكياء الغلال إلى الدول الأخرى. وهذا ما حدث بالضبط في 1768، و1775.
ويروى أن لويس الخامس عشر سأل كزنيه ماذا يصنع إن كان ملكاً فأجاب "لا شيء". "فمن يحكم إذن"؟ "القوانين"-وكان الفيزوقراطي يقصد بذلك "القوانين" الملازمة لطبيعة الإنسان والتي تتحكم في العرض والطلب ووافق الملك على أن يجربها. ففي 17 سبتمبر 1754 ألغت وزارته جميع المكوس والقيود المفروضة على بيع الغلال-القمح، والجاودار، والذرة-ونقلها داخل المملكة. وفي 1764 شملت هذه الحرية تصدير الغلال إلا إذا بلغت ثمناً مقرراً. وهبط سعر الخبز حيناً نتيجة تركه لعملية العرض والطلب، ولكن محصولاً رديئاً في 1765 رفع سعره فوق السعر العادي بكثير جداً. وبلغ نقص الغلال مرحلة المجاعة في 1768 - 69، فكان الفلاحون ينبشون عن الطعام في زرائب الخنازير، ويأكلون العشب والحشيش. وفي أبشرية تعد 2. 800 نسمة راح 2. 200 يستجدون الخبز. وشكا أفراد الشعب من أن المضاربين يصدرون الغلال بينما هم يواجهون المجاعة. واتهم الناقدون الحكومة بأنها تتكسب من عمليات هؤلاء المحتكرين في "ميثاق المجاعة" وامتد رنين هذه النقمة المرة التي تعزف على ميثاق المجاعة. هذا الذي وقع عام 1761، خلال السنوات التالية ليتهم-حتى لويس السادس عشر الرحيم بالكسب من خلال الخبز. وكان بعض الموظفين مذنبين فيما يبدو، أما لويس الخامس عشر فلم يذنب. فلقد كلف بعض التجار بشراء الغلال في السنين الطيبة، وخزنها، ثم عرضها في السوق في السنين العجاف، ولكن حين بيعت هذه الغلال ارتفعت أسعارها ارتفاعاً أعجز فقراء الشعب عن الشراء. واتخذت الحكومة تدابير متأخرة لعلاج الحالة، فاستوردت القمح ووزعته على أفقر الأقاليم. وطالب الشعب برد هيمنة الدولة على تجارة الغلال، وشارك البرلمان في هذه المطالبة. في هذه الأزمة نشر فولتير قصيدته المسماة الإنسان ذو الأربعين
ايكو. وأذعنت الحكومة، وفي 23 ديسمبر 1770 ألغيت المراسيم التي أباحت حرية الاتجار في الغلال.
على أن أفكار الفيزوقراطيين شقت طريقها رغم هذه النكسة، سواء في فرنسا أو خارجها. وكان مرسوماً قد صدر في 1758 وقرر حرية التجارة في الصوف ومنتجاته. وزار آدم سميث كزتية في 1765، وراعه منه "تواضعه وبساطته" ورسخ ميله إلى الحرية الاقتصادية. وكان رأيه "أن أكبر غلطة لهذا النظام
…
في اعتباره طبقة الصناع؛ ورجال الصناعة والتجارة طبقة عميقة غير منتجة على الإطلاق"، ولكنه خلص إلى "أن النظام، بكل ما فيه من عيوب، ربما كان أقرب ما نشر إلى الآن من الحقيقة حول موضوع الاقتصاد السياسي" (57). وقد انسجمت أفكار الفيزوقراطيين مع رغبة إنجلترا-التي أصبحت الآن أعظم الأمم المصدرة في خفض رسوم التصدير والاستيراد. ووجد هذا المذهب القائل بأن الثروة تنمو نمواً أسرع في ظل التحرر من القيود الحكومية على الإنتاج والتوزيع، آذاناً صاغية في السويد تحت حكم شارل الثالث. وكان حب جفرسون للحكومة التي تمارس أقل قدر من الحكم، من بعض النواحي، صدى للمبادئ الفيزوقراطية. وقد أقر هنري جورج بتأثير الفيزوقراطيين على دعوته لضريبة واحدة تفرض على العقار. واستهوت فلسفة حرية المشاريع والتجارة طبقة رجال الأعمال الأمريكيين، وأعطت دفعة جديدة للتطور السريع الذي حظيت به الصناعة والثروة في الولايات المتحدة. وفي فرنسا أتاح الفيزوقراطيون أساساً نظرياً لتحرير الطبقات الوسطى من العقبات الإقطاعية والقانونية التي عرقلت التجارة الداخلية والتقدم السياسي، وقبل أن يموت كزنيه (16 ديسمبر 1774) كان عزاء له أن يرى أحد أصدقائه يعين مراقباً للمالية ولو أفسح له في الأجل خمسة عشر عاماً أخر لشهد انتصار الكثير من الأفكار الفيزوقراطية في الثورة الفرنسية.
4 - ظهور طورجو
1727 -
1774
أكان طورجو فيزوقراطياً؟ إن خلفيته الفنية المنوعة تمنع كل تخصيص يلصق به، فلقد ولد في أسرة عريقة "من أصل طيب" Une Bonne Race كما قال لويس الخامس عشر-شغل أفرادها المناصب الهامة أجيالاً عديدة بكل كفاية. وكان أبوه مستشاراً للدولة وسر تجار باريس، وهو أرفع منصب إداري في باريس، وأخوه الكبر أميناً للالتماسات والمطالب في برلمان باريس وعضواً بارزاً فيه. وكانت النية توجيه طورجو (آن روبير-جاك)، وهو الابن الأصغر إلى وظيفة القسوسية.
واجتاز بتفوق جميع الامتحانات في كلية لوي-لجران، وفي مدرسة سان-سولبيس اللاهوتية؛ وفي الصوربون، وأصبح "الأبيه دبروكور" وهو بعد في التاسعة عشرة. وتعلم قراءة اللاتينية، واليونانية، والعربية، والأسبانية، والإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والكلام بثلاثة من هذه اللغات على الأقل بطلاقة. وفي 1749 انتخب رئيساً للصوريون، وبوصفه هذا ألقى محاضرات أثارت اثنتان منها ضجة خارج نطاق اللاهوت.
ففي يوليو 1750 ألقى محاضرة على الصوريون باللاتينية في "الفوائد التي أفاد بها توطيد المسيحية الجنس البشري"، وقال إنه أنقذت العالم القديم من سلطان الخرافة، وصانت الكثير من الآداب والفنون والعلوم، وقدمت للبشر المفهوم المحرر لقانون العدالة يسمو فوق كل ألوان التعصب والأنانية البشرية. "أفيستطيع الإنسان أن يطمع في هذا من أي مصدر آخر غير الدين؟
…
إن الدين المسيحي دون غيره ..... هو الذي أخرج إلى النور حقوق الإنسان" (47). وفي هذه التقوى تسمع صدى الفلسفة؛ وواضح أن الرئيس الشاب كان قد قرأ مونتسيكو وفولتير، وتأثر لاهوته بعض الشيء بما قرأ.
وفي ديسمبر 1750 ألقى محاضرة في الصوربون عنوانها "جدول فلسفي بالتقدم المطرد للعقل البشري". وكان هذا التعبير عن ديانة التقدم الجديدة
إنجازاً رائعاً من فتى في الثالثة والعشرين. وقد سبق كونت-وربما حذا حذو فيكو-فقسم تاريخ العقل البشري إلى ثلاث مراحل: مرحلة لاهوتية، وأخرى ميتافيزيقية، وثالثة علمية. قال: -
"قبل أن يفهم الناس العلاقة العلية بين الظواهر الطبيعية، كان طبيعياً جداً أن يفترضوا أنها صادرة عن كائنات عاقلة، غير مرئية، شبيهة بهم
…
فلما أدرك الفلاسفة سخف هذه الخرافات عن الأرباب دون أن يكتسبوا بعد بصراً بالتاريخ الطبيعي، حاولوا تفسير أسباب الظواهر بعبارات تجريدية مثل الظواهر والقوى. ولم توضع الفروض-التي أمكن تطويرها بالرياضيات وإثباتها بالتجربة؛ بملاحظة التفاعل الميكانيكي المتبادل للأجسام-إلا في فترة متأخرة" (48).
وقال الشاب الألمعي إن الحيوانات لا تعرف التقدم، فهي تظل كما هي جيلاً بعد جيل، أما الإنسان فبفضل تعلمه تجميع المعرفة وتوصيلها يستطيع تحسين الأدوات التي يستخدمها في التعامل مع بيئته وفي إثراء حياته. مادام هذا التجميع والتوصيل للمعرفة والتكنولوجيا مستمراً فلا مندوحة عن التقدم وإن عطلته أحياناً الكوارث الطبيعية أو تقلبات الدول. وليس التقدم متماثلاً، ولا هو عام، فبعض الأمم يتقدم وبعضها يتقهقر، وقد يركد الفن في حين يتحرك العلم قدماً، ولكن الحركة في جملتها حركة إلى الأمام. وفضلاً عن هذه الآراء، تنبأ طورجو بالثورة الأمريكية فقال "إن المستعمرات أشبه بالفاكهة التي تتشبث بالشجرة إلى أن تنضج، وحين تغدو مستكفية بذاتها تفعل ما فعلته قرطاجة، وما ستفعله أمريكا يوماً ما (49) ".
وقد خطط طورجو لكتابة تاريخ الحضارة وهو بعد الصوربون مستوحياً في ذلك فكرة التقدم. ولم يبقَ من مشروعه هذا سوى مذكرات خطها لبعض فصول الكتاب، ومنها يتبين أنه قص أن يضمنه تاريخ اللغة، والدين، والعلم، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، كما يضمنه قيام الدول وسقوطها (50). فلما ورث عن أبيه دخلاً كافياً قرر أواخر عام 1750 أن يترك الوظيفة الكنسية وألح عليه زميل من الآباء الدينيين في
البقاء واعداً إياه بالترقي السريع، ولكن طورجو أجاب على ما روى دبون دنمو "لا أستطيع أن أفرض على نفسي لبس قناع طوال حياتي (51) ".
ولم يكن قد رسم إلا لوظيفة كهنوتية صغيرة، لذلك كان حراً في الاشتغال بالسياسة. وفي يناير 1752 أصبح نائباً عاماً مناوباً، وفي ديسمبر أصبح مستشاراً في البرلمان، وفي 1753 اشترى منصب "أمين الالتماسات والمطالب"، الذي اشتهر فيه بالاجتهاد والعدل. وفي 1755 - 56 رافق جورنيه في جولات تفتيشية في الأقاليم، وتعلم الاقتصاد الآن بالاتصال المباشر مع الزراع والتجار، والصناع، وعن طريق جورنيه التقى بكزنيه وعن طريق كزنيه التقى بميرابو الأب، ودبون دنمور، وآدم سميث. ولم ينخرط قط في زمرة المدرسة الفيزوقراطية، ولكن ماله وقلمه كانا أهم سند لمجلة دبون المسماة التقاويم.
وفي غضون هذا (1751) استطاع بفضل ذكائه وسلوكه المهذب أن يلقى الترحيب في صالونات مدام جوفران ومدام دجرافيته، ومدام دوديفان والآنسة دلسبيناس. وهناك التقى بدالامبير، وهلفتيوس؛ ودولباخ، وجريم، ومن بين الثمرات المبكرة لهذا الاتصال كتاب (1753) من رسالتين "في التسامح". وكتب لموسوعة ديدرو مقالات في الوجود، والاشتقاق اللغوي، والمهرجانات، والأسواق، ولكن حين أدانت الحكومة مشروع الموسوعة كف عم موافاتها بمقالاته. وخلال جولاته في سويسرا وفرنسا زار فولتير (1760) وبدأ صداقة معه دامت حتى وفاة فولتير. وكتب حكيم فرنيه إلى دالامبير يقول:(قل أن رأيت طوال حياتي رجلاً ألطف منه أو أوسع إطلاعاً (52)). وادعى جماعة الفلاسفة أنه واحد منهم، وراوده الأمل في أن يؤثروا على الملك عن طريقه.
وفي 1766 كتب لطالبين صينيين على وشك العودة إلى الصين مجملاً للاقتصاد من مائة صفحة عنوانه "تأملات في نشوء الثروة وتوزيعها". فلما نشر في مجلة "التقاويم"(1769 - 70) أشاد به الناس شرحاً من أكثر
شروح النظرية الفيزوقراطية إحكاماً وقوة. قال طورجو أن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وكل الطبقات فيما عدا زراع الأرض يعيشون على الفائض الذي ينتجه الزراع فضلاً عن حاجاتهم؛ وهذا الفائض يؤلف "صندوق أجور" تدفع منه أجور طبقة مهرة الصناع. ثم يسوق صيغة مبكرة لما أصبح فيما بعد يطلق عليه "قانون الجور الحديدي" يقول:
"إن أجر العامل يحدده مستوى معيشته بالمنافسة بين العمال. والعامل المجرد الذي لا يملك غير ذراعيه وجده، لا يملك شيئاً إلا بقدر ما يوفق في بيع كده لغيره، وصاحب العمل ينقده أقل ما يستطيع من أجر، وبما أنه يستطيع الاختيار بين العديد من العمال، فإنه يفضل أقلهم أجراً. ومن ثم يضطر العمال إلى خفض سعرهم في المنافسة فيما بينهم، وفي كل أنواع العمل لابد أن يحدث هذا، وهو يحدث فعلاً، وهو أن أجر العامل يحدده ما هو ضروري لإعاشته"(53).
ويسترسل طورجو مؤكداً أهمية رأس المال. فلابد أن يوفر شخص ما، بمدخراته، أدوات الإنتاج ومواده قبل أن يتسنى له استخدام العامل، ولابد له من إعاشة العامل قبل أن يرد بيع الناتج له رأس ماله. وإذا لم يكن هناك ضمان على الإطلاق لنجاح مشروع ما، فيجب السماح بربح ليوازن خطر فقد رأس المال. "فحركة رأس المال هذه انطلاقاً ورجوعاً هي قوام دورة النقود، تلك الدورة النافعة المثمرة التي تشيع الحياة في جميع جهود المجتمع، والتي شبهت بكل حق بدورة الدم في الجسم الحيواني"(54). ويجب عدم التدخل في هذه الدورة، وأن يسمح للأرباح والفائدة، كما يسمح للأجور، بأن تصل إلى مستواها الطبيعي حسب العرض والطلب، ويجب أن يعفى من الضرائب أصحاب رؤوس الأموال، وأرباب المصانع، والتجار، والعمال؛ فلا تُفرض إلا على ملاك الأرض الذين يستردون ما دفعوه بتقاضي ثمن أغلى لمحاصيلهم. وينبغي أن لا يفرض إي رسم على نقل أو بيع أي سلعة من سلع الاستهلاك.
في هذه "التأملات" أرسى طورجو الأساس النظري لرأسمالية القرن التاسع عشر قبل التنظيم الفعال للعمل. فهذا الرجل الذي كان من أرحم وأنبل
رجال زمانه لم يستطع أن يتطلع إلى مستقبل للعمال أفضل من أجور الكفاف. ومع ذلك أصبح هذا الرجل خادماً للشعب متفانياً في عمله. ففي أغسطس 1761 عُين ناظراً ملكياً لمديرية ليموج، وهي من أفقر أقاليم فرنسا، وقد قدر أن 48% إلى 50% من دخل الأرض فيها يضيع ضرائب للدولة وعشوراً للكنيسة. وكان في فلاحي الإقليم كآبة في نبلائه فظاظة. كتب إلى فولتير يقول:"من سوء حظي أن أكون ناظراً ملكياً. وأقول من سوء حظي لأن السعادة في هذا الزمان الممتلئ بالتناحر واللوم لا تتوافر إلا في حياة الفلسفة بين الكتب والأصدقاء". ورد عليه فولتير قائلاً: "ستكسب أهل ليموج وجيوبهم؛ في اعتقادي أن الناظر الملكي هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إفادة الناس. إلا يستطيع إصلاح الطرق، وزرع الحقول، وتصريف المستنقعات، وتشجيع الصناعات؟ ".
وقد فعل طورجو هذا كله. فكافح بهمة طوال ثلاثة عشر عاماً، أكتسب فيها محبة الشعب وكراهية النبلاء. فالتمس مراراً، ودون جدوى، من مجلس الدولة أن يخفض معدل الضريبة، وحسن توزيع الضرائب، ورفع المظالم، ونظم خدمة موظفي الحكومة، وحرر تجارة الغلال، وشق 450 ميلاً من الطرق؛ وكانت هذه الطرق جزءاً من برنامج إنشاء الطرق الذي ينظم البلاد كلها (والذي بدأته الحكومة الفرنسية في 1732) والذي ندين له بالفضل في هذه الطرق الجميلة ذات الأشجار الوارفة الغلال التي تنتشر اليوم في ربوع فرنسا. وكانت الطرق قبل طورجو تشق بالسخرة، فألغى السخرة في ليموج، ودفع أجر العمال من ضريبة عامة على الكافة. وأقنع الفلاحين بأن يزرعوا البطاطس غذاء للإنسان لا للحيوان فقط. وقد ظفر بإعجاب الناس جميعاً لما اتخذ من تدابير فعالة لإغاثة الشعب في فترات المجاعة التي امتدت بين سنتي 1768 و1772.
وفي عشرين يوليو 1774 دعاه الملك الجديد للانضمام إلى الحكومة المركزية واغتبطت فرنسا كلها وتطلعت إليه منقذاً مرجواً للدولة المتداعية.
5 - الشيوعيون
بينما كان الفيزوقراطيون يرسون الأساس النظري للرأسمالية، كان موريللي ومابلي، ولانجيه، يشرحون الاشتراكية والشيوعية. فقد عزت الطبقات المتعلمة نفسها بمتع هذه الأرض بعد أن تخلت عن آمالها في السماء: فتجاهل الأغنياء منهم المحظورات الدينية، وأطلقوا العنان لرغباتهم في الثروة والقوة والنساء والخمر والفن؛ ووجد العامة عزاء في عالم مثالي تقسم فيه خيرات الأرض بالقسط بين البسطاء والموهوبين، وبين الضعفاء والأقوياء.
ولم تقم في القرن الثامن عشر حركة اشتراكية، ولا جماعة محددة مثل جماعة المسوين في إنجلترا كروميل، أو يسوعي برجوازي الشيوعيين. وأقتصر الأمر على أفراد متفرقين أضافوا أصواتهم إلى صيحة متصاعدة ستصبح في "جراكوس" بابوف عاملاً في الثورة الفرنسية. ونذكر القراء بأن الكاهن الشكوكي جان ميزلييه طالب في كتابه "الميثاق" الذي أصدره عام 1733 بمجتمع شيوعي يقسم فيه الناتج القومي بالتساوي بين الناس ويتزاوج فيه الرجال والنساء وينفصلون كما يشاءون، ثم ألمع إلى أنه مما يعين في هذا اليباب أن يقتل بعض الملوك (55). وبعدة سبعة أعوام من طبع هذه الدعوة ندد روسو في "مقاله" الثاني (1755) بالملكية الخاصة لأنها أس جميع شرور الحضارة، ولكنه حتى في صيحته أنكر أي برنامج اشتراكي. وما وافى عام 1762 حتى كان أبطال كتبه أفراداً ينعمون بالثروة.
وفي نفس العام الذي صدر فيه كتاب روسو "مقال في أصل عدم المساواة" ظهر كتاب عنوانه "ناموس الطبيعة" لراديكالي مغمور لا نكاد نعرف عنه شيئاً غير اسمه الأخير، إذا استثنينا كتبه، وهو موريللي Morelly. ولا نخلط بينه وبين أندريه موريلليه Morellet الذي التقينا به مشاركاً في تحرير الموسوعة. وقد بدأ موريللي بإيقاظ الإفهام بكتابه "رسالة في فضائل ملك عظيم"(1751) الذي صور ملكاً شيوعياً. وفي 1753 أضفى على حلمه الشاعرية بقصيدته "غرق الجز الطافية، أو الملحمة الملكية". وهنا نرى الملك الطيب، ربما بعد أن قرأ الكاتب مقال روسو الأول، يعود بشعبه
إلى حياة بسيطة فطرية. وكان خير عرض للمثال الشيوعي وأكمله كتاب موريللي "ناموس الطبيعة"(1755 - 60) وقد نسبه الكثيرون إلى ديدرو، وصرح المركيز دارجانسون بأنه يفوق كتاب مونتسكو "روح الشرائع"(1748). وقد ذهب موريللي، كما ذهب روسو، إلى أن الإنسان خير بطبعه وإلى أن غرائزه الاجتماعية تحمله على السلوك الطيب، وأن القوانين أفسدته بتقرير الملكية الخاصة وحمايتها. وامتدح المسيحية لميلها إلى الشيوعية، وأسف لأن الكنيسة أقرت الملكية، فإقامة الملكية الخاصة أورثت البشر "الغرور، والحمق، والكبرياء، والجشع، واللؤم، والنفاق، والشر .. وكل شيء شرير ينتهي إلى هذا العنصر الخفي المؤذي، وأعني به شهوة التملك (56) ". ثم ينتهي السفسطائيون إلى أن طبيعة البشر تجعل الشيوعية ضرباً من المحال، في حين إن الذي حدث في التتابع الواقعي للأحداث هو أن انتهاك الشيوعية هو الذي أفسد الفضائل الفطرية للإنسان. ولولا الجشع والأنانية، والمزاحمات، والأحقاد التي ولدتها الملكية الخاصة لعاش الناس معاً في أخوة مسالمة متعاونة.
ولابد للبدء في إعادة البناء من إزالة العوائق من طريق التعايش الحر في الأخلاق والسياسة "فتعطى كامل الحرية للعقلاء من الناس في مهاجمة الأخطاء والأهوال التي تدعم نزعة التملك" وينبغي أن يؤخذ الأطفال من آبائهم وهم في السادسة وينشئوا تنشئة مشتركة بواسطة الدول حتى يبلغوا السادسة عشرة، وعندها يعادون إلى ذويهم بعد أن تكون المدارس قد دربتهم على التفكير بلغة الصالح العام لا التملك الشخصي. وينبغي ألا يسمح بالملكية الخاصة إلا في أخص خصائص الحاجات الشخصية "فتجمع كل النواتج في مخازن عامة لتوزع على كل المواطنين لسد حاجات الحياة"(57). ويجب أن يعمل كل قادر على العمل، فيساعد في المزارع من الحادية والعشرين إلى الخامسة والعشرين. ويجب ألا يكون هناك طبقة عاطلة، ولكن لكل فرد الحرية في أن يعتز في الأربعين على أن تدير الدولة رعايته في شيخوخته. وتنقسم الأمة إلى مدن حدائق لها مركز للبيع والشراء وميدان عام. ويحكم
كل جماعة مجلس من الآباء الذين تزيد أعمارهم على الخمسين، وتنتخب هذه المجال مجلس شيوخ أعلى يحكمها كلها وينسق فيما بينها.
ولعل موريللي بخس قدر النزعة الفردية الفطرية في البشر؛ وقوة غريزة الاقتناء، ومقاومة التعطش للحرية والاستبداد اللازم للإبقاء على حالة من مساواة غير طبيعية ومع ذلك كان تأثيره كبيراً. فصرح بابيف بأنه تشرب شيوعيته من كتاب موريللي "ناموس الطبعة" والراجح أن شارل فورييه استمد من نفس المصدر خطة المستعمرات التعاونية (الكتائبية Phalansteries)(1808) التي أفضت بدورها إلى تجارب شيوعية من أمثال مزرعة بروك (1841). وفي "ناموس" موريللي نلتقي بذلك المبدأ الشهير الذي انحدر ليلهم الثورة الروسية وينكبها، ونعني به "من كل حسب قدرتها، ولكل حسب حاجاته". (58)
أما جماعة الفلاسفة فقد رفضوا بوجه عام نظام موريللي باعتباره غير عملي، وقبلوا الملكية الخاصة نتيجة لا مناص منها للطبيعة البشرية. ولكن في 1763 وجد موريللي حليفاً قوياً في سيمون-هنري لانجيه، وهو محامٍ هاجم القانون والملكية جميعاً. فبعد أن شطب اسم لانجيه من جدول المحامين نشر (1777 - 92) "حوليات سياسية" وهي مجلة أطلق فيها وابلاً من النيران على الشرور الاجتماعية. فالقانون في رأيه قد أصبح أداة لتحليل وصيانة المقتنيات التي كسبت أصلاً بالقهر أو الغش:
"إن القوانين يُقصد بها أولاً تأمين الملكية. وبما أنه يمكن الآن أن يؤخذ من الغني أكثر مما يؤخذ من الفقير، فمن الواضح أنها ضمان يعطى للأغنياء ضد الفقراء. وقد يعسر علينا أن نصدق-وإن كان هذا يمكن بيانه بجلاء-أن القوانين من بعض نواحيها مؤامرة على الكثرة العظمى من البشر (59).
ويترتب على ذلك أن حرباً طبقية لا مندوحة عنها تستعر بين أصحاب الملكية أو رأس المال، وبين العمال الذين لا بد لهم من بيع كدحهم لأرباب العمل
الملاك، منافسين في ذلك بعضهم بعضاً وقد أحتقر لانجيه دعاوى الفيزوقراطيين بأن تحرير الاقتصاد من سيطرة الدولة سيجلب الرخاء تلقائياً، لأنه على النقيض من ذلك يعجل بتركز الثروة، فترتفع الأسعار، وتتخلف الأجور. وسيطرة الأغنياء على الأسعار من شأنها الإبقاء على عبودية الأجير حتى بعد "إلغاء" الرق قانوناً، "فكل ما جنوه (أي العبيد السابقون) هو العذاب الدائم من خوف الموت جوعاً، وهو خطب أعفي منه على الأقل أسلافهم ممن تردوا في هذا الدرك الأسفل للإنسانية"(60). فقد كان العبيد يسكنون ويطعمون على مدار السنة، أما في الاقتصاد غير المقيد فإن رب العمل حر في أن يقذف بالعمال في مهاوي التسول إذا لم يستطع جني الربح من ورائهم، ثم يجعل التسول جريمة. وفي رأي لانجيه أنه لا دواء لهذا كله إلا الثورة الشيوعية. على أنه لم يوصي بها لجيله، لأنها ستفضي على الأرجح إلى الفوضى لا إلى العدالة؛ ولكنه أحس بأن الأحوال المواتية لثورة كهذه آخذة في التشكل السريع؛ يقول:
"لم يحدث قط أن كان الفقر أعم ولا أشد فتكاً بالطبقة التي تبلى به، ولعل أوربا لم تكن في يوم من الأيام أقرب منها اليوم إلى الانقلاب التام وسط هذا الرخاء الظاهر
…
وقد بلغنا بالضبط، بطريق عكسي تماماً، تلك النقطة التي بلغتها إيطاليا حين أغرقتها حرب العبيد (التي قادها سبارتاكوس) في حمام من الدم، وحملت النيران والتقتيل إلى أبواب عاصمة الدنيا ذاتها" (60).
وقد نشبت الثورة وهو حي بعد رغم نصيحته وقذفت به إلى الجولتين (1794).
وأما الأبيه جابييل بونودمايلي نو فقد احتفظ برأسه لأنه مات قبل الثورة بأربع سنوات وكان سليل أسرة كريمة في جرينوبل، وأحد أخوته جان بونو دمايلي الذي عاش روسو معه في 1740، والأخر كوندياك الذي أثار ضجة بأبحاثه السيكولوجية. ثم قريب مشهور آخر هو الكردينال دتنسان، حاول أن يجعل من جابرييل قسيساً، ولكنه لم يجاوز مراتب الكهانة الصغرى،
واختلف إلى صالون مدام تنسان في باريس، ثم استسلم لإغراء الفلسفة. وفي 1748 تشاجر مع الكردينال، وأنصرف إلى الدرس في خلوته، وبعدها كانت أهم أحداث حياته هي كتبه، وكلها ذاع صيته في الماضي.
وقد أفاد من الأعوام السبعة التي قضاها في باريس ولمرساي علماً بالسياسة، والعلاقات الدولية؛ والطبيعة البشرية. وأسفر هذا كله عن مزيج فذ جمع بين التطلعات الاشتراكية والشكوك المتشائمة. وقد أصر مايلي على أن المعايير الخلقية التي تطبق على الأفراد يجب أن تطبق على سياسة الدول (وهو عكس ما قال به مكيافللي)، ولكنه أدرك أن هذا يتطلب نظاماً من القانون الدولي يمكن فرضه. وكان كفولتير وموريللي موحداً بغير المسيحية، ولكنه آمن بأن لا سبيل إلى صيانة الفضيلة إلا بديانة قوامها العقاب والثواب فوق الطبيعيين، لأن أكثر الناس "قضي عليهم بطفولة العقل الدائمة"(62). وقد آثر أخلاقيات الرواقيين على أخلاقيات المسيح، والجمهوريات الإغريقية على الملكيات الحديثة. واتفق مع موريللي على أن رذائل البشر مبعثها الملكية لا الطبيعة؛ فهي "أس جميع البلايا التي نكب بها المجتمع (63) ". "وقد تربعت شهوة الغني على عرش متضخم في قلب الإنسان، فخنقت كل ما فيه من حب العدل والإنصاف (64) "، وكلما ازدادت التفرقة بين حظوظ البشر تأججت هذه الشهوة. فالحسد، والطمع، والفوارق الطبقية، تسمم ما في طبيعة البشر من مودة فطرية. فيستكثر الأغنياء من أسباب الترف والبذخ، ويتردى الفقراء في مهاوي الذل والهوان. فأي خير في الحرية السياسية ما دامت العبودية الاقتصادية قائمة؟ "إن الحرية التي يحسب كل أوربي أنه يستمتع بها ليست سوى حريته في أن يترك عبوديته لسيد ويسلم نفسه إلى سيد آخر (65) ".
وكم يكون البشر أسعد وأهنأ إذا اختفت ألفاظ "هذا ملكي""وذلك ملكك". وزعم مايلي أن الهنود الحمر كانوا أهنأ بالاً في ظل شيوعية اليسوعيين في برجواي من فرنسيي جيله، وأن السويديين والسويسريين في ذلك الجيل، الذين تخلوا عن الجري وراء المجد والثراء قانعين برخاء معتدل، هم أسعد حالاً من الإنجليز الذين يغزون المستعمرات والتجارة. وذهب إلى
أن الأخلاق في السويد تحظى بمقام أعظم من الشهرة، وأن القناعة أثمن في نظر القوم من الثراء الطائل (66). أن الذين يملكون الحرية الحقيقية هم أولئك الذين لا تهفو نفوسهم بالغنى. ولن تتوافر السعادة في مجتمع كذلك الذي يدعو إليه الفيزيوقراطيون، لأن الناس ستثيرهم على الدوام الرغبة في أن يتساووا في مقتنياتهم مع من يفوقونهم ثراء.
وهكذا خلص ما يلي إلى أن الشيوعية هي النظام الاجتماعي والوحيد الذي يدعم الفضيلة والسعادة. "أقيموا اشتراكية السلع، وعندها لن يكون أيسر من إقرار المساواة بين أحوال العيش، وإرساء رفاهية الإنسان على هذا الأساس المزجوج. "(67) ولكن كيف السبيل إلى إقامة شيوعية كهذه والناس على مثل هذا الفساد؟ هنا يرفع الشكوكي في مابلي رأسه، وسيلم في قنوط بأنه ليس في قدرة أي قوة بشرية اليوم أن تعيد إقرار المساواة دون أن تحدث من ضروب الخلل والاضطراب ما يفوق تلك التي تحاول تفاديها (68). فالديمقراطية رائعة نظرياً، أما عملياً فهي تفشل بسبب جهل الجماهير وحبها للاقتناء (69). قصارى ما نستطيعه هو أن نعرض الشيوعية مثلاً أعلى ينبغي أن تسعى إليه الحضارة شيئاً فشيئاً في حذر، وتغير ببطء عادات الإنسان الحديث من التنافس إلى التعاون. ويجب ألا يكون هدفنا الاستكثار من الثروة، ولا حتى الاستكثار من السعادة، بل إنماء الفضيلة، فالفضيلة وحدها هي مجلبة السعادة. وأول خطوة في سبيل الحصول على حكومة أفضل هي دعوة مجلس طبقات الأمة، الذي ينبغي أن يضع دستوراً يخول السلطة العليا لجمعية تشريعية (وهذا ما تم. في 1789 - 91). وينبغي تحديد مساحة الأطيان التي يمتلكها الفرد، وتقسيم الضياع الواسعة للاستكثار من ملكية الفلاحين للأرض، ووضع القيود الصارمة على إرث الثروة، وإلغاء " الفنون عديمة الجدوى" كالتصوير والنحت.
وقد تبنت الثورة الفرنسية كثيراً من هذه المقترحات. ونشرت مجموعة أعمال مابلي في 1789، ثم في 1792، ثم 1793، ورتب كاتب نشر عقب الثورة هلفتيوس، ومابلي، وروسو، وفولتير، وفرانكلن، بهذا الترتيب بوصفهم أكبر ملهمي ذلك الحدث، وقديسي الدين الجديد الحقيقيين (70).
6 - الملك
أما لويس الخامس عشر فقد ابتسم سخرية من هؤلاء الشيوعيين-على قدر علمه بهم-لأنهم قوم حالمون لا وزن لهم، وراح يتنقل في ود من فراش إلى فراش. وأما البلاط فواصل قماره المستهتر وزهوه المسرف، من ذلك أن أمير سوبيز أنفق 200. 000 جنيه على توفير أسباب اللهو للملك في يوم واحد، وكان كل انتقال لجلالته إلى أحد مقاره الريفية يكلف دافعي الضرائب 100. 000 جنيه. وكان خمسون من كبار القوم يملكون "أوتيلات" أي قصوراً في فيرساي أو باريس؛ وكان عشرة آلاف خادم يبذلون العرق في كبرياء وفخر لتلبية حاجات النبلاء؛ والأحبار، والخليلات والأسرة المالكة وإشباع غرورهم. وكان للويس نفسه ثلاثة آلاف جواد و217 مركبة، و150 غلام يرتدون حللاً من المخمل والذهب، وثلاثون طبيباً يقصدونه وينظفون أمعاءه ويسممونه. وقد أنفق البيت المالك في سنة واحدة (سنة 1751)68. 000. 000 جنيه-وهو ما يقرب ربع إيراد الحكومة (71). وشكا الشعب ولكن أكثر شكاواهم كانت غفلاً من التوقيع، وفي كل عام كشفت عشرات النشرات والملصقات، وأغاني الهجو، عن كراهية الملك. وقد جاء في أحد الكتيبات "إذا كنت يا لويس مرة موضع حبنا فما ذلك إلا لأن رذائلك كانت لا تزال مجهولة لنا. وفي هذه المملكة، التي نضبت من أهلها بسببك، وأسلمت نهبها للمشعوذين الذين يحكمون معك، إن بقي فرنسيون، فإنما يبقون ليكرهوك (72) ".
فكيف انقلب لويس المحبوب ملكاً محتقراً مهاناً؟ أننا لو صرفنا النظر عن إسرافه، وإهماله، وفواحشه، لن نجده في ذاته بالسوء الذي صوره به التاريخ الحقود. كان في بنيته رجلاً وسيماً، طويلاً، قوياً، قادراً على الصيد طوال المساء واللهو مع النساء في الليل. أفسده معلموه، فأفهمه فيلرو أن فرنسا كلها ملكه بالوراثة والحق الإلهي. وقد خفف من كبرياء الملكية وشهوتها الظل الذي خلفه لويس الرابع عشر وتقاليده، إذ ألح على الملك الحدث إلحاح الهاجس، وأورثه الجبن، إحساسه بالعجز عن الارتفاع
إلى ذلك المستوى الجليل من الفخامة وقوة الإرادة؛ فأصبح عاجزاً عن البت في الأمور، وترك مهمة اتخاذ القرارات لوزرائه مغتبطاً. وأتاحت له قراءاته وهو غلام، وذاكرته القوية، بعض الإلمام بالتاريخ، واكتسب مع الوقت معرفة لا يستهان بها بالشؤون الأوربية؛ واحتفظ سنوات كثيرة بمراسلاته الدبلوماسية السرية. كان ذكياً في تراخٍ وفتور، يحكم حكماً شديداً ولا رحمة فيه على أخلاق من أحاط به من الرجال والنساء؛ في وسعه أن يجاري خير العقول في بلاطه حديثاً ونكته، ولكن يبدو أنه قبل حتى أسخف العقائد اللاهوتية التي تبثها فيه فلوري وهرصي. وبات الدين عنده أشبه بالحمى المتقطعة إذ راح يتذبذب بين التقوى والفجور. فكان يعاني من خوف الموت والجحيم، ولكنه يقامر على غفران خطاياه وهو في النزع الأخير. وقد أوقف اضطهاد الجانسنيين، وإذ نستحضر تاريخ تلك الحقبة نتبين أن جماعة الفلاسفة استمتعوا في حكمه بين الحين والحين بقدر كبير من التسامح.
كان يقسو أحياناً، ولكنه في الأكثر رحيم. تعلمت بومبادور ودورباري أن تحباه من أجل شخصه كما أحبتاه من أجل السلطة التي منحهما إياها. وكانت برودة عاطفته وتحفظه جزءً من حياته وانعدام ثقته بنفسه، ولكن وراء ذلك التحفظ عناصر من الحنان والرقة أعرب عنها خاصة في محبته لبناته، وقد أحببنه أباً منحهن كل شيء إلا القدوة الحسنة. وكان في سلوكه عموماً تلطف وكياسة ولكنه كان قاسي الفؤاد أحياناً، ويتكلم في هدوء مفرط على أمراض أفراد حاشيته أو موتهم الوشيك. وقد نسي تماماً أن يسلك مسلك الرجل المهذب وهو يقيل فجأة دارجانسون، وموريا، وشوازيل؛ ولكن هذا أيضاً ربما كان نتيجة عدم ثقته بنفسه. فقد شق عليه أن يقول لا لإنسان في وجهه. ومع ذلك كان قادراً على أن يواجه الخطر بشجاعة كما كان يفعل في الصيد أو في فونتنوا.
وكان على ظهوره بمظهر الوقار أمام الناس لطيفاً حلو العشرة بين أخصائه، يعد لهم القهوة بيديه الكريمتين. وقد راعى قواعد السلوك المعقدة التي أرساها لويس الرابع عشر للملكية ولكنه أنكر الشكلية التي فرضتها
على حياته. وكثيراً ما كان يستيقظ قبل تقليد "الاستيقاظ" المقرر رسمياً ويوقد ناره بنفسه لكي لا يوقظ خدمه، ويغلب عليه أن يلبث في فراشه حتى الحادية عشرة. أما في الليل، فإنه بعد أن يحتفل رسمياً بذهابه إلى فراشه، قد يتسلل ليلهو بمحظيته أو حتى ليتفقد مدينة فرساي متنكراً وكان يلوذ بالصيد من مراسم البلاط المتكلفة، وفي الأيام التي لا يهرب فيها للصيد كانت بطانته تقول "أن الملك لا يعمل اليوم شيئاً (73) ". وكان يعرف عن كلاب صيده أكثر مما يعرف عن وزرائه؛ إذ رأى أن في قدرة وزرائه أن يعنوا بشؤون الدولة خيراً منه، فلما نبه إلى أن فرنسا في طريقها إلى الإفلاس الثورة؛ عزى نفسه بهذه الفكرة "ستسير الأمور على هذه الوتيرة حتى ينتهي أجلي".
أما من الناحية الجنسية فقد كان وحشاً فاسقاً. ولقد تغتفر له اتخاذه المحظية التي اتخذها حين ضاقت الملكة ذرعاً بفحولته، وقد نفهم اقتناءه ببومبادور؛ وحساسيته لجمال المرأة وظرفها وحيويتها المشرقة، ولكن قل في تاريخ الملوك ما أشبه حقارة تنقله بين الفتيات اللاتي أعددهن لفراشه في البارك أو سير واحدة تلو أخرى. وكان مجيء دوياري بالقياس إلى هذا رجوعاً إلى الحالة السوية.
7 - دوباري
بدأت حياتها في قرية من قرى شمبانيا تدعى فوكولير حوالي 1743 باسم ماري-جان بيكي، ابنة الآنسة آن بيكي، التي تبدو أنها لم تمط اللثام قط عن شخصية أبي الفتاة. ومثل هذه الخفايا كانت مألوفة بين الطبقات الدنيا. وفي 1748 انتقلت آن إلى باريس وأصبحت طاهية للمسيو دومونسيه الذي رتب إلحاق جان، وهي في السابعة، تلميذة داخلية بدير سانت-آن للراهبات. هناك مكثت الفتاة الجميلة تسع سنوات، يلوح أنها لم تعوزها فيها السعادة؛ وقد احتفظت بذكريات حلوة عن هذا الدير المنظم، وتلقت فيه تعليماً في القراءة والكتابة والتطريز، واحتفظت طوال حياتها يتدين بسيط ولا يتشكك، وبإجلال الراهبات والقساوسة، وكان إيواؤها للقساوسة المطاردين في الثورة من العوامل التي أفضت بها إلى الجيلوتين (75).
فلما خرجت من مدرسة الدير اتخذت اسم صديق أمها الجديد، المسيو رانسون، لقباً لها أرسلت إلى حلاق للتعلم فنه، ولكن هذا الفن اشتمل على الإغواء، وجان-الجميلة جمالاً لا يقاوم-لم تعرف كيف تقاوم. ونقلتها أمها وصيفة لمدام ولاجارد، ولكن ضيوف هذه السيدة غالوا في الاهتمام بجان، فما لبثت أن طردت. واجتذب دكان القبعات الذي التحقت به بائعة عدداً غير عادي من الزبائن الذكور. فأصبحت خليلة اختص بها سلسلة من الفجرة. وفي 1763 تلقاها جان دوباري؛ وهو مقامر كان يجلب النساء للفاسقين من البلاء. وخدمت هذا القواد-متخذة اسم جان دفوبرنيه الأنيق-خمس سنوات مضيفة في حفلاته، وأضافت شيئا من التهذيب الصقل لمفاتنها. ثم رأى دوياري أنه هو أيضاً، كمدام بواسون، قد اكتفش "طبقاً شهياً للملك".
وبيان ذلك أن الملك الطيب ستانسلاس مات عام 1766 في اللورين فأصبح بذلك إقليماً من إقليم فرنسا، وانهارت صحة ابنته ماري (ملكة فرنسا التقية المتواضعة) انهياراً سريعاً بعد موته لأن حبهما المتبادل كان سنداً لها في حياة العبودية الطويلة التي عاشتها مع زوج خائن العهود الزوجية، في بيئة غريبة. وفي 24 يونيو 1768 لفظت أنفاسها الأخيرة فبكاها الجميع حتى الملك. وقد علل بناته بالأمل في أنه لن يتخذ المزيد من الخليلات. ولكن في شهر يوليو رأى جان التي كانت سائرة بالصدفة على غير هدى في قصر فرساي في براءة كبراءة لابومبادور وهي راكبة في أرض الصيد. "سينار" قبل أربع وعشرين سنة.
وراعه فيها جمالها الشهواني ومرحها وطبعها اللعوب. فها هنا امرأة تستطيع أن توفر له اللهو من جديد وتدفئ قلبه البارد الحزين، فأرسل إليها تابعه لبيل. ولم يتردد (الكونت) دوباري في التفريط فيها لقاء مقابل ملكي. ورغبة في تهدئة المظاهر أصر لويس أن تتزوج الفتاة. فزوجها الكونت بسرعة لأخيه جيوم، الكونت دوباري الحقيقي، المفتقر، بعد أم استقدمه لهذا الغرض من لفنياك بغسقونية. وحيته تحية الوداع
عقب حفل الزفاف مباشرة (أول سبتمبر 1768)، ولم تقع عليه عيناها بعد ذلك قط. وكوفئ جيوم بمعاش قدره 5. 000 جنيه، فاتخذ له خليلة واصطحبها إلى لفنياك حيث عاشرها خمسة وعشرين عاماً، ثم تزوجها حين علم أن زوجته أعدمت بالجلوتين.
ولحقت جان، التي اتخذت الآن اسم الكونتس دوباري، بالملك سراً في كومبيين، ثم علانية في فونتنيلو. وسأل الدوق رشيليو لويس ماذا يرى في هذه اللعبة الجديدة، فأجاب جلالته "لا أكثر من أنها تنسني أنني سأبلغ الستين بعد قليل. (76) " وريعت بطانته. فقد كان في استطاعتهم أن يفهموا في غير غباء حاجة الملك إلى خليلة، أما أن يأخذ امرأة عرفها العديدون منهم مومساً، ثم يرفعها إلى مقام يعلو على المركيزات والدوقات!! وكان شوازيل قد منى نفسه بأن يقدم أخته للملك (خليلة تحمل لقباً)، فراحت هذه النبيلة المرفوضة تحرض أخاها-الذي كان الحذر من طبعه-على العداء الصريح لهذه الدعية الجميلة، ولم تغتفر له دوباري فعلته قط.
وسرعان ما تقلبت الخليلة الجديدة في الذهب والجواهر، وخلع عليها الملك معاشاً قدره 130. 000 فرنك بالإضافة إلى راتب سنوي قدره 150. 000 فرنك، تفرض على مدينة باريس وولاية برجندية. وهرع الجواهريون إلى تزويدها بالخواتم والعقود والأساور والتيجان وغيرها من أسباب الزينة المتألقة التي اقتضوا الملك ثمنا لها 2. 000. 000 فرنك في أربع سنوات. وبلغت جملة ما تكلفته الخزانة في تلك السنوات الأربع 6. 000. 375 جنيهاً (77). وسمع أهل باريس بجمالها المتألق، وحزنوا لأن بومبادور جديدة أقبلت لتبتلع ضرائبهم.
وفي 22 إبريل 1769 قدمت رسمياً في البلاط، وطلعت على أفراده في شعلة متوهجة من الحلي والجواهر وهي تتكئ على ذراع ريشليو. وأعجب الرجال بمفاتنها، أما النساء فاستقبلنها بما يجرؤن عليه من فتور. واحتملت هذه الإهانات في هدوء، وأرضت بعض الحاشية بتواضع سلوكها والضحك الرخيم الذي كانت تشرح به صدر الملك. ولم تبد أي ضغينة حتى لأعدائها (باستثناء شوازيل)، واكتسبت الرضى باستمالة
جلالته لإصدار قرارات عفواً أكثر مما كان يصدر من قبل. وشيئاً فشيئاً جمعت حولها رجالاً ونساء من النبلاء الذين تشفعوا بها عند الملك وقد حرصت على رعاية أقاربها كما فعلت بومبادور من قبل، فاشترت أملاكاً ولقباً لأمها، وحصلت على معاشها لخالتها وأبناء خالتها، ثم دفعت ديون جان دوباريس، وخلفت عليه مالا كثيراً، وأشرت له فيلا أنيقة في لبل-جرودان. وظفرت لنفسها من الملك بالشاتو لوفسيين الذي كان أمير لامبال وأميرتها يشغلانه، على حافة الحديقة الملكية في مارلي. واستخدمت أعظم معماري الجيل، جاك-انج جابرييل، ليعيد بناء القصر على هواها، وصانع الأثاث المدقق بيير جوتيير ليزخرفه بأثاث وتحف فنية بلغ ثمنها 756. 000 جنيه.
وكانت تعوزها خلفية التعليم والاختلاط التي جعلت من بومبادور راعية مختارة ذواقة للأدب والفلسفة والفن. بيد أنها جمعت عدداً كبيراً من الكتب الأنيقة التجليد، من هومر إلى كتب الفحش، ومن تأملات بسكال الورعة إلى رسوم فراجونار البذيئة. وفي 1773 أرسلت تحيتها وصورتها إلى فولتير مع قلبه على كل وجنة وأجاب بأبيات فيها ذكاء شعره المعهود:
"ماذا! أقبلتان في ختام حياتي! تتفضلين بأن ترسليه لي! قبلتان! إن واحدة تكفي وزيادة، أي إيجيريا المعبودة، لأنني سأموت فرحاً في القبلة الأولى (78) ".
وطلبت إلى لويس الخامس عشر أن يسمح لفولتير بالعودة إلى باريس فرفض، وكان عليها أن تقنع بشراء تشكيلة من الساعات من فرنيه وفي 1778. حين أتى الإقطاعي العجوز إلى باريس ليموت، كانت من بين الكثيرين الذين صعدوا سلم بينه في شارع بون لتقدم له احترامها. وقد فتن بزيارتها، وختمها بالنهوض من فراشه ليصحبها إلى الباب. وفي نزولها التقت بجاك بيير بريسو، رجل الثورة المستقبل، وكان يرجو أن يقدم إلى فولتير مخطوطة في القانون الجنائي، وحاول الدخول إليه بالأمس ففشل، وكان يعيد الكرة الآن، فقادته عوداً إلى باب فولتير
ورتبت له أن يدخل. وقد استعاد في مذكراته "ابتسامتها المفعمة دفئاً ولطفاً (79) ".
لقد كانت طيبة القلب سمحة النفس ما في ذلك ريب. احتملت دون رد عداء الأسرة المالكة ورفض ماري انطوانيت التحدث إليها. وكان شوازيل دون غيره هو الذي لم تستطع الصفح عنه لأنه لم ين عن محاولة طردها من البلاط. وسرعان ما وضح أن واحداً منهما لابد أن يرحل.
8 - شوازيل
كان سليل أسرة لورينية عريقة، وأصبح في مطلع حياته الكونت دستانفيل، وقد ظفر بالتشريف لبلائه في حرب الوراثة النمساوية. وفي 1750 حين كان في الحادية والثلاثين استعاد لأسراته ثراءها بزواجه من وارثة غنية. وسرعان ما ظفر بمكان مرموق في البلاط بفضل ذهنه الوقاد وذكائه المرح، ولكنه عطل رقيه بمعارضته لبومبادور. وفي 1752 نقل ولاءه فأكتسب عرفانها بصنيعه حين أفشى لها سر مؤامرة دبرت لطردها. فحصلت له على وظيفة سفير في روما ثم فينا. وفي 1758 دعي إلى باريس ليحل محل برنيس وزيراً للخارجية، ورقي دوقاً ونبيلاً من نبلاء فرنسا. وفي 1761 نقل وزارته هذه لأخيه سيزار، ولكنه واصل توجيه السياسة الخارجية، أما هو فاتخذ لنفسه وزارتي الحربية والبحرية. وتعاظم سلطانه حتى كان يتغلب أحياناً على الملك ويخيفه (80). وقد أعاد بناء الجيش، والبحرية، وقلل من المضاربة والفساد في الحربية وفي تموين الجيش، وأعاد النظام إلى صفوف الجيش، وأحل ذوي الكفايات من غير حملة الألقاب محل حملتها ممن شاخوا في سلاح الضباط. وطور المستعمرات الفرنسية في جزر الهند الغربية، وأضاف كورسيكا إلى ممتلكات التاج الفرنسي، وتعاطف مع جماعة الفلاسفة، ودافع عن الموسوعة، وأيد طرد اليسوعيين (1764) وأغضى عن إعادة تنظيم الهيجونوت في فرنسا. وقد حمى أمن فولتير في فرنيه، وأيد حملته دفاعاً عن أسرة كالاس، وظفر من ديدرو بمديح قال فيه "أي شوازيل العظيم، إنك لتسهر على مقدرات الوطن (81) ".
ويمكن القول على الجملة إن سياسته أنقذت فرنسا إلى حد معتدل من الكارثة التي جرها إليها الحلف النمساوي المنكوس. فخفض الإعانات المالية التي كانت تدفعها عادة إلى السويد، وسويسرا، والدنمرك، وبعض الأمراء الألمان. وشجع الجهود التي بذلها شارل الثالث ليدخل أسبانيا إلى حظيرة القرن الثامن عشر، وحاول أن يعزز قوة فرنسا وأسبانيا بميثاق الأسرة (1761) الذي أبرمه الملكان البوربونيان. وقد تعثرت الخطة، ولكن شوازيل فاوض إنجلترا على صلح بشروط تفضل كثيراً ما كان الموقف العسكر يبرره. وقد تنبأ بثورة المستعمرات الإنجليزية في أمريكا، ودعم مركز فرنسا في سان دومنيج والمارتنيك، وجواديلوب، وغيانا الفرنسية، أملاً في إرساء سلطان استعماري جديد يعوض فرنسا عن فقد كندا. وقد تبنى النابليونان هذه السياسة في 1803 و1863.
ويجب أن نضع مقابل هذه المنجزات إخفاقه في وقف التغلغل الروسي في بولندا وإصراره على قيادة فرنسا وأسبانيا في أعمال عدائية مجددة مع إنجلترا. وكان لويس قد سأم الحرب فاستمع بذهن مفتوح لأولئك الذين يعملون على إسقاط شوازيل. وقد فتن الوزير الأريب الكثيرين بمجاملته للبلاط، واستضافته المسرفة للأصدقاء، وسعة حيلته وجهاده في خدمة فرنسا، ولكنه قوى المنافسات فأحالها عداوات بنقده الصريح وحديثه المستهتر. وأتاحت معارضته لدوباري معارضة لا هوادة فيها لأعدائه سبيلاً إلى أذن الملك. وأيد ريشليو-الذي لا يكل-دوباري. وكان ابن أخيه الدوق ديجون يتحرق شوقاً للحلول محل شوازيل رئيساً للحكومة. ونزلت الأسرة المالكة التي أنكرت نشاط شوازيل ضد الشيوعيين إلى استعمال الخليلة المزدراة أداة لعزل الوزير العديم التقوى.
وطلب إليه لويس غير مرة أن يتجنب الحرب مع إنجلترا ومع دوباري. ولكن شوازيل واصل الإئتمار على الحرب خفية، وازدراء الخليلة جهراً. وأخيراً استجمعت كل قواها ضده وفي 24 ديسمبر 1770 أرسل الملك المغيظ رسالة مقتضبة إلى شوازيل جاء فيها "يا لبن عمي، إن عدم رضائي
عن خدماتك يضطرني إلى نفيك إلى شانتلوب حيث يتعين عليك أن ترحل في ظرف أربع وعشرين ساعة". وتحدى أكثر الحاشية غيظ الملك بالإعراب عن عطفهم على الوزير المقال بعد أن صدمه هذا الطرد الفجائي لرجل أدى لفرنسا خدمات جليلة. وركب نبلاء كثيرون إلى شانتلوب ليواسوا شوازيل في منفاه. وكان منفى مريحاً لأن ضيعة الدوق كانت تحوي قصراً من أبدع القصور، وحدائق خاصة من أرحب الحدائق في فرنسا؛ ثم إنه كان يقع في تورين غير بعيد من باريس. هنالك عاش شوازيل حياة الأبهة والأناقة، لأن دوباري أقنعت الملك بأن يرسل إليه 300. 000 جنيه فوراً وتعهداً بستين ألفاً كل عام. وحزن جماعة الفلاسفة لسقوطه، وبكى الطاعمون على مائدة دولباخ قائلين: "لقد ضاع كل شيء" وقال ديدرو في وصفهم إنهم غرقوا في دموعهم.
9 - تمرد البرلمانات
جاءت بعد شوازيل "حكومة ثلاثية" كان ديجون وزير الخارجية فيها ورينيه نيكولا دمويو مستشاراً، والأبيه جوزيف ماري تريه مراقباً مالياً. وأعطى تريه لدوباري كل ما طلبته من مال، ولكنه فيما عدا ذلك خفض المصروفات تخفيضاً بطولياً. فأوقف استهلاك الديون، وخفض نسبة الفائدة على الديون الحكومية، ووضع الجديد من الضرائب، والفروض، والرسوم وضاعف الرسم الحكومي على النقل الداخلي. وبلغت جملة ما وفره 36. 000. 000 جنيه، وأضاف 15. 000. 000 إلى الدخل. والواقع أنه إنما أجل الانهيار المالي بتفليسة مؤقتة ولكن الكثيرين عانوا من تخلف الحكومة في إيفاء ديونها، وضموا أصواتهم لأصوات السخط الذي لم يهدأ. وما لبث العجز أن عاد إلى التفاقم حتى بلغ 40. 000. 000 جنيه في آخر سنوات الحكم (1774). وكان هذا الذي يبدو اليوم ديناً أهلياً متواضعاً لأمة تتمتع بالاستقرار المالي مبرراً إضافياً لقلق أولئك الذين أقرضوا الحكومة مالاً، والذين سمعوا الآن، بعداء أقل الصيحات المتصاعدة بطلب التغيير.
وكانت أزمة الذروة في العقد الأخير من حكم لويس الخامس عشر هي
كفاح وزرائه للحفاظ على سلطة الملك المطلقة ضد تمرد البرلمانات. وهذه البرلمانات (كما رأينا) لم تكن هيئات نيابية أو تشريعية كالبرلمان البريطاني بل غرفاً قضائية تقوم بعمل محاكم الاستئناف في ثلاث عشرة مدينة فرنسية. زد على ذلك أنها ادعت-كما ادعى البرلمان الإنجليزي ضد تشارلز الأول-بأنها تدافع عن "القانون الأساسي" أو التقاليد المقررة لأقاليمهم ضد الاستبدادية الملكية، وإذ كان الوصي فليب دورليان قد أكد حقه في "الاعتراض" أو الاحتجاج على المراسم الملكية أو الوزارية، فإنهم تقدموا خطوة أخرى فطالبوا بألا يصبح أي من هذه المراسيم قانوناً ما لم يوافقوا عليه ويسجلوه.
ولو كانت البرلمانات قد انتخبها الشعب، أو انتخبتها أقلية متعلمة مالكة (كما في بريطانيا) لكان ممكناً أن تكون أداة انتقال إلى الديمقراطية، ولقد كانت إلى حد ما رقيباً صحياً على الحكومة المركزية. ومن ثم فإن الشعب بصفة عامة أيدها في كفاحها ضد الملك. على أنها كانت من أشد القوى محافظة في فرنسا، لأن أعضاءها كلهم تقريباً كانوا من أثرياء المحامين. وأصبح هؤلاء المحامون، بوصفهم "نبلاء الرداء" منغلقين بانغلاق نبلاء السيف، "وقرر البرلمان تلو البرلمان قصر المناصب الجديدة التي تحمل النبالة .... على الأسر النبيلة فعلاً (83) ". وكان برلمان باريس أكثرها غلواً في المحافظة، وبارى الأكليروس في معارضة حرية الفكر أو النشر؛ وحرم كتب جماعة الفلاسفة بل أحرقها أحياناً. وكان قد انحاز إلى الجانسنية التي أدخلت لاهوتاً كلفنياً في الكنيسة الكاثوليكية. وقد لاحظ فولتير أن برلمان تولوز الجانسني عذب وقتل جان كالاس، وإن برلمان باريس صدق على إعدام لابار، في حين نقضت وزارة شوازيل الحكم على كالاس وحمت الموسوعين.
وزاد كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، الصراع حدة بين الجانسنيين والكاثوليك التقليديين إذ أصدر أمره إلى الكهنة الخاضعين له بألا يناولوا القربان إلا للأشخاص الذين اعترفوا على يد كاهن غير جانسني.
ومنع برلمان باريس الكهنة من إطاعة هذا الأمر مؤيداً من أكثرية الشعب، واتهم رئيس الأساقفة بأنه يثير انشقاقاً في الكنيسة، واستولى على بعض أملاكه غير الكنسية. وأعتبر مجلس الدولة الملكي هذه الأجزاء مصادرة غير قانونية، وأمر البرلمان بالانسحاب من الخلافات الدينية. فأبى، لا بل وضع "اعتراضات كبرى" (4 مايو 1753) كانت إلى حد ما إرهاصاً بالثورة: فقد قال الأعضاء أنهم يعلنون ولاءهم للملك ولكن "إذا كانت الرعية دين بالطاعة للملوك، فإن هؤلاء يدينون بالطاعة للقوانين (84) ". والمعنى الذي تضمنه هذا القول هو أن البرلمان بوصفه حارساً للقانون ومفسراً له، سيقوم بوظيفة المحكمة العليا فوق الملك. وفي 9 مايو أصدر مجلس الدولة أوامر ملكية مخنوقة بنفي معظم أعضاء برلمان باريس من العاصمة. وهبت برلمانات الأقاليم وأهل باريس لمناصرة المنفيين. ولحظ المركيز دارجنسون في ديسمبر أن "الباريسيين في حالة انفعال مكظوم (85) ". وأمرت الحكومة جنودها بخفر الشوارع وحماية بيت رئيس الأساقفة لخشيتها من فنتنة شعبية. وفي مارس 1754 كتب دارجنسون يقول "كل الاستعدادات تجري لحرب أهلية (86) ". ووضع الكردينال دلاروشفوكو حلاً وسطاً ينقذ ماء الوجه؛ فطلبت الحكومة إلى المنفيين أن يعودوا (7 سبتمبر)، ولكنها أمرت البرلمان والأكليروس أن يكفا عن النزاع. ولكن أحداً لم يطع الأمر، وواصل رئيس أساقفة باريس حملته الجانسنية، وواصلها بعنف حمل لويس على نفيه إلى كونفلانس (3 ديسمبر): وأعلن البرلمان أن المرسوم البابوي الصادر ضد الجانسنيين ليس قانوناً من قوانين الإيمان، وأمر الكهنة بتجاهله. وتذبذبت الحكومة، وأخيراً أمرت البرلمان بقبول المرسوم البابوي (13 ديسمبر 1756) نظراً لحاجتها إلى سلفة من الأكليروس نعينها على خوض حرب السنين السبع.
وأدار الجدل العنيف رؤوساً كثيرة. ففي 5 يناير 1757 هاجم روبير-فرانسوا داميان الملك في أحد شوارع فرساي؛ وطعنه بمطواة كبيرة،
ثم لزم مكانه ينتظر القبض عليه. وقال لويس لحراسه المهملين "تحفظوا عليه ولكن لا يؤذه أحد (87) ". واتضح أن الجرح غير ذي بال، وقال المهاجم "لم يكن في نيتي قتلك الملك، ولو شئت لقتلته. وإنما فعلت ما فعلت ليمس الله قلب الملك ويؤثر فيه ليعيد الأمور إلى سيرتها الأولى (88) ". وفي رسالة أرسلها من سجنه إلى الملك أعاد القول بأن "رئيس أساقفة باريس هو سبب كل هذه الضجة حول الأسرار المقدسة، لأنه أمسكها عمن يريد تناولها (89) ". وقال أنه قد أثاره ما سمعه في البرلمان من خطب، "ولو أنني لم أدخل قط داراً للعدالة .... لما وصلت إلى هذا المكان قط (90) ". وقد هاجته هذه الخطب هياجاً حمله على أن يرسل في طلب طبيب ليقصده، ولكن لم يأتي طبيب، ولو أنه قصد (كما قال) لما هاجم الملك (91). وحاكمته غرفة البرلمان الكبرى، وأدانته، وحكمت عليه، ثم حكمت على أبيه، وأمه، وأخته، بالنفي المؤبد. وعانى داميان ألوان التعذيب التي نص عليها القانون عقاباً لقتله الملوك: فمزق لحمه بكماشات محمية، ورث عليه الرصاص المغلي، ومزقت أوصاله جياد أربعة (28 مارس 1757). ودفعت نبيلات النساء المال نظير تمكينهن من مشاهدة هذه العملية من مواقع مواتية. أما الملك فأعرب عن اشمئزازه من ضروب التعذيب هذه وأرسل المعاشات للأسرة المنفية.
وأسفر العدوان عن بعض العطف على الملك، وشارك اليهود والبروتستانت في الصلاة من أجل سرعة شفائه، ولكن حين علم الناس أن الجرح لم يكن اكثر من "شكة دبوس" في عبارة فولتير ( Piqure d' (pingle) ارتد تيار التأييد الشعبي إلى ناحية البرلمان. وبدأ الناس يتنافسون في موضوع الحكومة النيابية وما يقابلها من الملكية المطلقة. كتب دارجنسون يقول "إنهم يرون في هذه البرلمانات علاجاً للأصواب التي يعانون منها .... أن الثورة تضطرم تحت الرماد". وفي يونيو 1763 عاد برلمان باريس يؤكد أن "مراجعة البرلمان للقوانين هي أحد القوانين التي لا يمكن انتهاكها دون انتهاك لذلك القانون الذي أوجد الملوك أنفسهم (92) ". ومضى برلمان تولوز شوطاً أبعد، فأعلن أن القانون يقتضي "رضاء الأمة الحر الطليق (93) "
ولكنه عني بلفظ "الأمة" في البرلمانات. وفي 23 يوليو 1763 قدمت هيئة قضائية هامة تدعى محكمة المعوقات يرأسها مالزيرب الشجاع الأمين إلى الملك تقريراً عن فقر الشعب وعن العجز والفساد في إدارة مالية في الدولة؛ ورجته الهيئة "أن يصغي للشعب نفسه عن طريق مندوبيه في اجتماع لمجلس طبقات المملكة (94) ". وهذه أول مطالبة صريحة بمجلس الشعب الذي لم يدع منذ 1614.
وفي الصراع الخطر الذي تمخض عن طرد اليسوعيين من فرنسا (1764)(95). اتخذ برلمان باريس موقف الهجوم وفرض رأيه على الملك. وفي يونيو ونوفمبر أرسل برلمان رين، وهو دار القضاء العالي ببريتني، إلى لويس اعتراضات شديدة اللهجة على الضرائب التي فرضها الدوق ديجون الذي كان آنئذ حاكماً على الإقليم. فلما لم يتلقَ جواباً يرضيه أوقف جلساته، واستقال معظم أعضائه (مايو 1765)، ونشر نائبه العام، لوي رينيه دلاشالوتيه، هجوماً على الحكومة المركزية فقبض عليه وعلى ابنه وثلاثة مستشارين واتهموا بالتحريض على الفتنة. وأمر الملك برلمان رين بمحاكمتهم، فرفض، وأيدت الرفض جميع برلمانات فرنسا يظاهرها في ذلك الرأي العام. وفي 3 مارس 1766 ظهر لويس أمام برلمان باريس وحذره من الإغضاء عن الفتنة. وأعلن تصميمه على الحكم ملكاً مطلق السلطان.
"في شخصي وحدي تستقر سلطة السيادة، ولي وحدي السلطة التشريعية غير مشروطة ولا مجزأة. وكل النظام العام ينبثق مني. وشعبي وأنا واحد، وحقوق الأمة ومصالحها، الأمة التي يجرؤ البعض على جعلها هيئة منفصلة عن الملك، هي بالضرورة متحدة مع حقوقي ومصالحي، مستقرة في يدي دون غيري (96) ".
وأضاف أن الأيمان التي أقسمها لم يقسمها للأمة: كما أكد البرلمان، بل لله وحده. وواصل برلمان باريس دفاعه عن برلمان رين، ولكنه في 20 مارس قبل النظرية التالية رسمياً، باعتبارها "مبادئ أساسية
لا مناص منها" وهي "أن السيادة للملك وحده، ولا يُسأل إلا أمام الله
…
والسلطة التشريعية مستقرة كلها في شخص الملك (97) ". وحث شوازيل وغيره الملك على بذل تنازلات متجاوبة فأفرج عن لاشالويته وزملائه المسجونين، ولكنهم نُفوا إلى سانت قرب لاروشيل. ودعي ديجون من بريتني، وأنظم إلى أعداء شوازيل. واستأنف برلمان رين جلساته (يوليو 1769).
ودخل فولتير الصراع بإصداره "تاريخ برلمان باريس بقلم الأبيه بج" عام 1769. وقد أنكر أنه مؤلف الكتاب، وكتب خطاباً ينقده لأنه "آية في الأغلاط والسخف، وجريمة ضد اللغة (98) ". ومع ذلك فالكتاب بقلمه. ومع أنه كتبه على عجل فقد دل على ما بذل فيه من بحث تاريخي لا يُستهان به. غير أن النزاهة تعوزه، فهو اتهام طويل للبرلمان باعتباره مؤسسة رجعية قاومت في كل مناسبة التدابير التقدمية- كإنشاء الأكاديمية الفرنسية، والتطعيم ضد الجدري، والإدارة الحرة للقضاء. واتهم فولتير البرلمانات بالتشريع الطبقي، والخرافة، والتعصب الديني. فلقد أدانت أقدم الطابعين في فرنسا، وهللت لمذبحة يوم القديس برتلميو، وحكمت بحرق المرشال دانكر كما تحرق الساحرات. وقال فولتير أنها أنشئت لوظائف قضائية بحتة، وليس لها سلطة التشريع، ولو اتخذت هذه السلطة لأحلت محل أوتقراطية الملك وأليجاركية المحامين الأغنياء المتحصنة ضد أي رقابة شعبية. وكان فولتير قد كتب هذه المذكرة المسهبة خلال سطوة شوازيل الذي شجعت ميوله اللبرالية الاعتقاد بأن التقدم ميسور أشد ما يكون يسراً علي يد وزير مستنير في ظل ملك مستنير. أما ديدرو فلم يوافق فولتير، وقال أن البرلمانات مهما كانت رجعية النزعة فإن مطالبتها بحق الإشراف على التشريع ضابط مرغوب فيه على الاستبداد الملكي (99).
وجاءت عودة ديجون إلى باريس بأزمة جديدة. فقد أتهم برلمان رين الدوق بارتكاب عمل محظور، وأذعن لمحاكمة برلمان باريس له على هذه
التهم، فلما وضح أن الحكم سيصدر بأنه مذنب لجأت مدام دوباري إلى الملك ليتدخل. وأيدها في ذلك المستشار موبو، وفي 27 يوليو 1770 أعلن لويس أن الجلسات تفشي أسراراً للدولة. وعلى ذلك يجب إنهاؤها ثم ألغى شكاوى الفريقين المتبادلة، وأعلن براءة كل من ديجون ولاشالوتيه، وأمر جميع أطراف النزاع بالكف عن إثارة الشعور العام. وتحدى البرلمان هذه الأوامر باعتبارها تدخلاً تعسفياً في سير العدالة المشروعة، وأعلن أن الشهادة أضرت ضرراً بليغاً بشرف ديجون، وأوصى بوقفه عن ممارسة جميع وظائفه بصفته نبيلاً حتى تثبت براءته بالطريقة القانونية الواجبة. وفي 6 سبتمبر أصدر البرلمان قراراً Arr (t ( كان فيه اختبار بقوة الملك:
"أن تعدد أعمال سلطة مطلقة تمارس في كل مكان ضد روح ونص القوانين التأسيسية للملكية هو برهان دامغ: على أن هناك نية مبيتة لتغيير شكل الحكومة، ولإحلال الأعمال الشاذة لسلطة تعسفية محل سلطان القوانين المتعادل على الدوام (100) ".
ثم أجل البرلمان جلساته حتى 3 ديسمبر.
وأستغل موبو هذه المهلة ليعد دفاعاً متصلباً عن السلطة الملكية. ففي 27 نوفمبر أصدر بتوقيع الملك مرسوماً سلم بحق الاعتراض ولكنه حرم أي رفض لمرسوم يجدد بعد سماع الاعتراضات. ورد البرلمان بأن التمس من الملك أن يسلم مشيري العرش الأشراف لانتقام القوانين (101). وفي 7 ديسمبر دعا لويس البرلمان إلى فرساي، وفي جلسة رسمية لـ (سرير العدالة) أمر الأعضاء بأن يوافقوا على مرسوم 27 نوفمبر ويسجلوه. فلما عاد القضاة إلى باريس قرروا الكف عن أداء جميع وظائف البرلمان حتى يسحب مرسوم نوفمبر. وأمرهم لويس باستئناف جلساتهم، فتجاهلوا الأمر. وحاول شوازيل إقرار السلام في ربوع الوطن لخوض حرب أنجح خارجه، فأقاله لويس، وهيمن موبو الآن على مجلس الدولة بينما راحت دوباري تحوم حول الملك، وأرته لوحة فانديك التي رسمها لتشارلز
الأول ملك إنجلترا؛ وحذرته من مصير كمصيره قائلة "إن برلمانك أيضاً سيضرب عنقك (102) ".
وفي 3 يناير 1771 أمر لويس ثانية بقبول مرسوم نوفمبر. ورد البرلمان بأن المرسوم ينتهك قوانين فرنسا الأساسية. وفي 20 يناير فيما بين الساعة الواحدة والرابعة صباحاً سلم جنود الملك المسلحون لكل قاضٍ "إدارة ملكية" تخيره بين الطاعة أو النفي من باريس. وأكدت الكثرة الساحقة حبهم للملك، ولكنه ظلوا على عنادهم. وعليه ففي اليومين التاليين نفي 165 عضواً في برلمان باريس إلى أنحاء شتى في فرنسا. وهتف الشعب لهم وهم يبرحون قصر العدالة.
وتحرك الآن موبو ليحل منظمة قضائية جديدة محل البرلمانات. فأنشأ في باريس بمرسوم ملكي محكمة عليا تتألف من مجلس الدولة وبعض الفقهاء اللينيين؛ وأنشأ في آراس، وبلوا، وشالون؛ وكليرمون-فران، وليون وبواتييه، "مجالس عليا" لتكون محاكم استئناف للأقاليم. وأصلحت بعض المفاسد القضائية، وأوقف بيع الوظائف، وتقرر أن يكون التقاضي من الآن بالمجان. وهلل فولتير للإصلاح، وتنبأ في تهور "إنني واثق تمام الثقة أن المستشار سيحقق نصراً كاملاً، وأن الشعب سيحب هذا الانتصار"(103). ولكن الشعب لم يستطع أن يتقبل في رضى هدم مؤسسة عريقة القدم كالبرلمانات فما من شيء يكثر الناس من إدانته ويعمق حبهم له كالماضي. واحتقرت معظم الجماهير المحاكم الجديدة لأنها أدوات إضافية تستعين بها الأوتوقراطية الملكية. وحزن ديدرو على نهاية البرلمانات وإن لم يكن مخدوعاً فيها، فقال إن ذلك "خاتمة الحكم الدستوري .. ففي لحظة واحدة قفزنا من الحالة الملكية إلى أشد حالات الاستبداد"(104). وأعرب أحد عشر نبيلاً من نبلاء المملكة، بل بعض أعضاء الأسرة المالكة، عن عدم موافقتهم عل المحاولة التي يبذلها موبو لاستبداد البرلمانات. ولم ينشب بين الشعب هياج واضح، ولكن كلمات الحرية، والقوانين، والشرعية، التي ترددت كثيراً في البرلمان مؤخراً أخذت تتداولها الألسن. واصطبغت الهجائيات الموجهة للملك الفاسق بعنصر جديد من الجرأة والمرارة، ودعت الملصقات الدوق أورليان لتزعم الثورة.
وتورطت البرلمانات كارهة تقريباً، وبرغم نزعتها المحافظة، في خميرة من الأفكار الثورية. وكان مقالا روسو، وشيوعية موريللي، ومقترحات مابلي والاجتماعات السري لجماعة الماسون الأحرار، وفضح الموسوعة للمفاسد المتفشية في الحكومة والكنيسة، وسيل النشرات المتداولة في أرجاء العاصمة والأقاليم-كلها كانت تعارض معارضة عنيفة دعوى السلطة المطلقة والحق الإلهي التي يدعيها ملك خامل عربيد. وهكذا أخذ الرأي العام ( M. Tout Le Monde) يتحرك بوصفه قوة في التاريخ.
كان أثقل النقد إلى عام 1750 يقع على الكنيسة، ولكنه بعد ذلك راح يقع بازدياد على الدولة بعد أن حفزه حظر الموسوعة. كتب هوراس ولبول من باريس في أكتوبر 1765:
"لم يعد للضحك سوق هنا .. يا للقوم الطيبين، إن وقتهم لا يتسع للضحك، فواجبهم الأول هو هدم الله والملك؛ ويشارك الرجال والنساء، والعظماء والحقراء في هذا الهدم من كل قلوبهم .. أتعلم من هم "الفلاسفة" أو ما مدلول اللفظ هنا؟ أولاً هو يشمل كل إنسان، ثانياً يعني الرجال الذين يهدف الكثيرون منهم، بعد أن أقسموا على خوض الحرب على الملكية، إلى هدم الدين كله وأكثر من هؤلاء إلى القضاء على سلطة الملك"(105).
وفي هذا الحكم مغالاة بالطبع، فمعظم جماعة الفلاسفة (باستثناء ديدرو على الأخص) كانوا أنصار للملكية يتجنبون الثورة. وهاجموا النبلاء وكل الامتيازات الوراثية؛ وانتقدوا عشرات المفاسد وطالبوا بإصلاحها؛ ولكنهم كانوا يرتعدون فرقاً من فكرة إعطاء السلطة كلها للشعب (106). ومع ذلك كتب جريم في "رسائله" في يناير 1768 يقول:
"إن السأم العام من المسيحية، الذي يتضح في جميع الأرجاء، لا سيما في الدول الكاثوليكية؛ والقلق الذي يهيج عقل الناس بشكل غامض ويدفعهم إلى مهاجمة المفاسد الدينية والسياسية-كل هذا ظاهرة يتسم بها قرننا، كما اتسم القرن السادس عشر بروح الإصلاح، وهو ينذر بثورة داهمة لا مفر منها"(107).
10 - رحيل الملك
لم يؤتَ لويس الخامس عشر كما لم يؤتَ من قبله لويس الرابع عشر فن الموت في الوقت المناسب. لقد كان عليماً بأن فرنسا تترقب زواله، ولكنه لم يطق التفكير في الموت. كتب السفير النمساوي "أن الملك يبدي الملاحظات بين الحين والحين عن سنهِ، وصحتهِ والحساب العسير الذي لا بد أن يقدمه يوماً ما للخالق الأعظم"(108). وقد يتأثر لويس تأثراً عابراً باعتكاف ابنته لويز-ماري في دير كرملي تكفيراً عن ذنوب أبيها فيما زعموا؛ وقيل إنها كانت تدعك أرض الحجرات وتغسل الملابس. فلما ذهب لزيارتها وبخته على عيشته وتوسلت إليه أن يطرد دوباري ويتزوج الأميرة دلامبال ويصلح ما فسد بينه وبين الله.
وقد مات عدة أصدقاء له في أخريات عهده، وقع اثنان منهم صريعين تحت قدميه بهبوط في القلب (109). ومع ذلك بدا أنه يجد لذة رهيبة في تذكير الشيوخ من حاشيته بقرب موتهم. قال مرة لأحد قواده. "إنك تشيخ يا سوفريه، فأين تريد أن تدفن؟ " فأجاب سوفريه "عند قدمي جلالتك يا مولاي". وقيل أن هذا الجواب "جعل الملك واجماً كثير التفكير (110) ". وقالت مدام دؤوسيه أنه "لم يُخلق رجل أكثر منه اكتئاباً وغماً (111) ".
وكان موت الملك انتقاماً طال انتظاره، انتقمه على غير عمد جنس النساء الذي هام به وحط من كرامته، فحين لم تكفِ حتى دوباري لإشباع شهوته، جاء إلى فراشه بفتاة يبلغ من حداثتها أنها لم تكد تبلغ سن الزواج. وكانت تحمل جراثيم الجدري، فنقلت عدواه إلى الملك. وفي 29 إبريل 1774 بدأ هذا المرض يهاجمه. وأصرت بناته الثلاث على ملازمته وتمريضه مع أنهن لم يسبق لهن التحصين ضد الجدري (وقد أصبن بالمرض جميعهن ولكنهن شفين) وكن يتركنه في الليل فتحل دوباري محلهن. غير أن الملك صرفها برفق حين رغب في تناول الأسرار المقدسة في 5 مايو قائلاً: "أعلم الآن أنني مريض مرضاً خطيراً. أن فضيحة متز يجب ألا تتكرر.
أني أدين بنفسي لله ولشعبي. وإذن يجب أن نفترق. فاذهبي إلى قصر الدوق ديجون الريفي في روبيل وانتظري أوامر جديدة. وصدقيني إنني سأظل على الدوام أحتفظ لك بشعور المحبة العميقة (112) ".
وفي 7 مايو صرح الملك في حفل رسمي أمام البلاط بأنه نادم على ما فرط منه من فضائح أمام رعاياه، ولكنه أصر على أنه لا يدين بأي مؤاخذة على سلوكه إلا لله وحده (113). وأخيراً رحب بالموت. فقال لابنته لم أشعر في حياتي بمثل هذه السعادة (114). ولفظ أنفاسه في 10 مايو 1774 وهو في الرابعة والستين، بعد أن حكم تسعة وخمسين عاماً. وحمل جثمانه الذي لوث الهواء على عجل إلى المدافن الملكية في سان دنيس دون أبهة وسط تهكم الجميع الذي اصطف على الطريق. واغتبطت فرنسا مرة أخرى بموت ملكها كما اغتبطت من قبل عام 1715.
الفصل الرابع
فن الحياة
1 - الفضيلة والكياسة
يقول تاليران "لا يعرف لذة العيش من لم يعش حوالي سنة 1780". بالطبع شريطة أن يكون من أبناء الطبقات العليا، وأن تكون مجرداً من أي ميول للفضيلة.
وتعريف الفضيلة صعب، فكل عصر يكيف تعريفه وفق طبعه وآثامه. وقد ظل الفرنسيون في القرون الطوال يخففون من وطأة الاقتصار على الزوجة الواحدة بالزنا، كما تخفف منها أمريكا اليوم بالطلاق. والرأي الغالي (الفرنسي) يجد الزنا المعتدل أقل إضراراً بالأسرة-أو بالأبناء على الأقل من الطلاق. على أية حال ازدهر الزنا في فرنسا القرن الثامن عشر، وكان الناس يغضون عنه عموماً. وآية ذلك أن ديدرو حين أراد في موسوعته أن يفرق بين "الارتباط" و"التعلق" ضرب هذا المثال:"أن الرجل يرتبط بزوجته، ولكنه يتعلق بخليلته (2) ". ويقول معاصر لذلك الجيل "أن خمسة عشر نبيلاً من بين العشرين الذين تراهم في البلاط يعاشرون نساء لم يتزوجوهن (3) ". وكانت الظفر بخليلة أمراً لا غنى عنه للمركز الاجتماعي كحيازة المال سواء بسواء. أما الحب فكان شهوانياً في غير مواربة: صوره بوشيه في صورة وردية، وخلع عليه فراجونار الأناقة والرشاقة، أما بوفون فقال في صراحة وحشية "ليس في الحب شيء طيب إلا الجسد (4) ".
على أن الحب الأنبل كان يظهر هنا وهناك، حتى في "كريبيون" الابن (5)، ومن جماعة الفلاسفة جرؤ هلفتيوس على الهيام بزوجته، وظل دالامبير وفياً لجولي دليسبيناس طوال تلميعات لحنها الذي أمتعها. وقد أضطلع جان-جاك روسو في هذا الجيل بإصلاح للأخلاق يدعو إليه رجل واحد. وهل نشيد كذلك بفضل روايات صموئيل رتشاردسن؟ وتحلت بعض النساء بالفضيلة على سبيل الموضة (6) Fashion، ولكن بعضهن تقبلن في عرفان دعوة بعثت من مرقدها، دعوة العفة قبل الزواج، والوفاء بعده، منقذة لهن من هوان استخدامهن معابر لكل زير نساء، على أية حال لم يعد الاقتصار على الزوجة الواحدة شارة تخجل حاملها. فقد اكتشف الفاسقون من جديد بعد أن تزوجوا مباهج قديمة في الحياة الأسرية، وأنه خير للرجل أن يسبر أغوار الوحدة، من أن يظل طوال حياته يعبث بسطح التعدد والتنويع. واستقرت نسوة كثيرات بدأت حياتهن بنزق وطيش كأنهن سطوح لا عمق فيها-حين أنجبن، وأرضع بعضهن أطفالهن حتى قبل أن يحثهن على ذلك روسو، وكثيراً ما كان هؤلاء الأطفال يردون هذا الصنيع بعد أن ترعرعوا في ظل محبة الأم، باهتمام البنين بوالديهم. ومن أمثلة ذلك أن المرشالة دلكسنبورج أصبحت زوجة مثالية بعد شبابها المغامر، وأخلصت لزوجها وهي ترعى روسو في حنان كأنها أمه. وحين مات الكونت دموريا (1781) بعد أن خدم لويس الخامس عشر والسادس عشر وعانى آلام النفي الطويل فيما بين فترتي وزارته، ذكرت زوجته أنهما "أنفقا معاً خمسين عاماً دون أن يفترقا يوماً واحداً"(7). ونحن نسمع الكثير جداً-والمؤلفان قد تكلما كثيراً جداً عن النساء اللاتي أفلحن في دخول التاريخ بفضل حنثهن بعهود الزواج، ولا نسمع إلا القليل جداً عن أولئك النسوة اللاتي امتنعن عن الخيانة حتى ولو خانهن رجالهن. مثال ذلك أن الآنسة كروزا، التي خطبت وهي في الثانية عشرة للرجل الذي أصبح فيما بعد الدوق دشوازيل، احتملت في صبر هيامه بأخته الطموح، ورافقته في منفاه؛ فأشاد بقداستها حتى ولبول "المرقع". ولم تفتر محبة الدوقة درشليو لزوجها طول خياناته الزوجية، وكانت شاكرة لأن القدر سمح لها بأن تموت بين ذراعيه (8).
وظلت الانحرافات، والمطبوعات الفاجرة، والبغاء على ما عهدنا. كان القانون الفرنسي ينص على الإعدام عقاباً للواط، وحدث فعلاً أن لوطيين أحرقا في ميدان جريف عام 1750 (9). ولكن القانون كان عادة يتجاهل اللواط الاختياري بين البالغين (10). وكانت الأخلاق الاقتصادية على حالها اليوم، وليلاحظ القارئ الفقرة الواردة في كتاب روسو "إميل"(11). (1762) عن غش الطعام والخمور. وكانت الأخلاق السياسية على حالها اليوم، كان هناك الكثيرون من خدام الشعب المخلصين (مالزيرب، وطورجو، ونكير)، ولكن كثيرون أيضاً ممن وصلوا إلى مناصبهم بالمال أو الاتصالات، وأثروا في المنصب متجاوزين في ذلك نص القانون. وعاش كثيراً من النبلاء العاطلين عيشة الترف على دماء فلاحيهم، ولكن بر الحكومة الأفراد بالناس كان كثيرا.
وكان فرنسيو القرن الثامن عشر في جملتهم شعباً لطيفاً رغم ناموس من الأخلاق الجنسية انتهك المعايير المسيحية بصراحة. فأنظر كم من الناس خفوا لنجدة روسو وتعزيته رغم صعوبة إدخال البهجة على نفسه؛ وكثيراً ما كان هؤلاء القوم الكرام ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية التي سبها. وكانت الشهامة قد اضمحلت في علاقة الرجل بالنساء، ولكنها ظلت حية في معاملة الضباط الفرنسيين لأسرى الحرب الذين من طبقتهم. كتب سموليت الخصم النزق في رحلة له بفرنسا عام 1764 يقول:"إني أخص الضباط الفرنسيين بالاحترام لشهامتهم وبسالتهم، ولاسيما للروح الإنسانية السمحة التي يعاملون بها أعداءهم، حتى وسط أهوال الحرب (12) ". وقد صور جويا قسوة الجنود الفرنسيين على العامة الأسبان في حروب نابليون، ولكنه كان في أغلب الظن مبالغاً. وما من شك في أن الفرنسيين كانوا يستطيعون أن يكونوا غاية في القسوة، ربما لأنهم تعلموا القسوة من الحرب وقانون العقوبات، كانوا صخابين يميلون للمشاجرات على نحو ما يفعل طلاب الكليات الذين يهاجمون خصومهم بالمدي، وللمشاغبات في الشوارع بديلاً عن الانتخابات، فيهم عنف ونهور، يندفعون إلى الخير أو الشر دون أن يضيعوا وقتاً في التروي. وفيهم شوفينية (غلو في الوطنية) لا يستطيعون أن يفقهوا لم كان سائر
البشر من الهمجية بحيث يتحدثون بلغة غير فرنسية. وقد أبت مدام دنيس أن تتعلم الكلمة الإنجليزية "الخبز"-لم لا يستطيعون كلهم أن يقولوا Pain؟ (13) ولعلهم أحبوا مجد وطنهم أكثر مما أحبه أي شعب آخر. وعما قليل سيموتون بالألوف المؤلفة وهم يهتفون "يحيى الإمبراطور".
وقد بز الفرنسيون بالطبع غيرهم من الشعوب في آداب السلوك. صحيح إن تقاليد الأدب التي أرسيت في عهد لويس الرابع عشر لوثها النفاق، والكلبية، والسطحية، ولكنها ظلت في جوهرها حية، وأضفت على الحياة بين الطبقات المتعلمة كياسة لا قدرة لأي مجتمع أن يضارعها اليوم. قال كازانوفا "إن في الفرنسيين أدباً جماً وتلطفاً كثيراً يجذب إليهم المرء للتو" ولكنه أضاف أنه لم يستطع قط أن يثق بهم (14).
وقد تفوقوا على غيرهم من الشعوب في النظافة، فأصبحت في المرأة الفرنسية إحدى الفضائل الأساسية التي تمارسها حتى الموت. وكان من حسن الأدب نظافة الملبس وأناقته. وكان رجال الحاشية ونساؤها يخرجون أحياناً على أصول الذوق السليم بالإسراف في اللبس الفاخر أو الغلو في تصفيف شعورهم. وأرسل الرجال شعورهم في ضفائر، وهي عادة استهجنها المرشال دساكس لخطرها في الحرب لأنها تمكن العدو من صاحب الشعر؛ ثم يبدرون الشعر بنفس العناية التي يبدر بها نساؤهم شعورهن. وغالت النساء في رفع شعورهن حتى خشين الرقص مخافة أن يلتقطن النار من الثريات. وقد قدر زائر فرنسي أن ذقن إحدى السيدات الفرنسيات يقع تماماً في منتصف المسافة تماماً بين قدميها وقمة شعرها (15). وجنى الحلاقون الأموال الطائلة بكثرة تغيير موضات الشعر. ولم تمتد النظافة إلى شعر المرأة، لأن تصفيفه كان يستغرق الساعات، واحتفظت جميع النساء-إلا أشدهن غلواً في التبرج-بنفس التسريحة أياماً دون أن يمسها مشط. وحملت بعض السيدات مكاشط من العاج، أو الفضة، أو الذهب، يحككن بها رؤوسهن في رشاقة ساحرة.
وكان ماكياج الوجه معقداً تعقيده اليوم. كتب ليويولد موتسارت إلى
زوجته من باريس في 1763 يقول: "تسألين هل النساء الباريسيات جميلات. ولكن كيف السبيل إلى معرفة هذا إذا كن مزوقات كعرائس نورمبرج، ممسوخات بهذه الحيلة المنفرة نسخاً تعجز معه عينا الألماني الساذج عن التعرف على امرأة ذات جمال طبيعي إذا رآها (16) "؟ وكان النساء يحملن مساحيق الزينة معهن، ويجملن بشرتهن من جديد علانية من غير حياء شأنهن اليوم. وقد حمرت مدام دموناكو وجهها قبل أن تركب لتقطع الجيلوتين رأسها. وكانت جثث الموتى تجمل، وتبدر، وتحمر؛ كما في زماننا. أما ثياب النساء فكانت مزيجاً متحداً من الإغراءات والمعوقات: فيه فتحات النحور الواطئة، والصدارات المخرمة، والجواهر التي تخطف الأبصار، والتنانير الكبيرة الفضفاضة، والأحذية العالية الكعوب المصنوعة عادة من التيل أو الحرير. وانتقد بوفون وروسو وغيرهما لبس المشدات، ولكنها ظلت ضربة لازب حتى أطاحت بها الثورة.
وكان تنوع الحياة الاجتماعية ومرحها من مفاتن باريس. فكانت مقاهي بروكوب، ولا ريجانس، وجرادو، تستقبل رجال الفكر والثوار، والأثرياء، من الرجال الباحثين عن اللهو، والنساء الباحثات عن الرجال. أما نجوم الأدب، والموسيقى، والفن، فكانوا يسطعون في الصالونات. وأبهج أقطاب النبالة أو الثروة فرساي وباريس بالمآدب والاستقبالات والمراقص. وكانت الفنون بين علية القوم تشتمل على الأكل والحديث. وكان المطبخ الفرنسي مثار حسد أوربا. وكان الحديث الفرنسي الذكي الظريف قد بلغ الآن من الصقل مبلغاً استنزف فيه كل المواضيع، فقام الضجر على الإشراق، واضمحل فن الحديث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ فرفعت الخطابة من حرارته فوق ما ينبغي، وسبق المتكلمون السامعين، وابتذلت النكتة الذكية نتيجة إسرافها ولدغاتها المستهترة. وقد ذكر فولتير-الذي كان هو ذاته قادراً على اللدغ-باريس بأن النكتة إذا خلت من اللياقة كانت الفجاجة بعينها (17)، وذهب لاشولتيه إلى أن "الولع بالتظرف
…
أقصى العلم والثقافة الصحيحة عن الصالونات (18) ".
وكان الناس يتمشون الهوينا في الحدائق العمة-التي لقيت النظافة والتشذيب وحفلت بالتماثيل-أو يتبعون أطفالهم أو كلابهم، والفتيان الطائشون المرحون يطاردون الصبايا البارعون في التراجع عديم الجدوى. وأغلب الظن أن حدائق التويلري كانت يومها أبدع منها الآن فلنستمع إلى وصف مدام فيجيه-لوبرون:
"كانت دار الأوبرا قريبة في تلك الأيام؛ على حافة الباليه-رويال. وكان التمثيل في الصيف ينتهي في الثامنة والنصف؛ فيخرج علية القوم حتى قبل النهاية للتمشي في أرجاء الحديقة. وراج بين النساء أن يحملن طاقات زهر كبيرة كانت هي والبودرة المعطرة التي في شعرهن تملأ الجو عبيراً بكل معنى الكلمة. وأنا أعلم أن هذه الاجتماعات كانت قبل الثورة تمضي حتى الثانية صباحاً ثم كانت هناك حفلات موسيقية على ضوء القمر في الهواء الطلق .... وكان يحتشد في المكان جمع كبير على الدوام (19) ".
2 - الموسيقى
اتخذت فرنسا من الموسيقى جزءاً من "مرحها الباريسي" فهي لم تعبأ بمنافسة ألمانيا في القداسات والكورالات الجادة، وقد تجاهلت موتسارت تقريباً حين وفد على باريس، ولكنها نسيت التعصب لوطنيتها حين افتتنت آذانها بالألحان الإيطالية. وجعلت من موسيقاها "مهرجانات ترفيه"، وتخصصت في ألوان تناسب الرقص أو تذكر به-كالكورانت، والسربنده، والجيج، والجافوت، والمنويت. وكانت المرأة المحور الذي تدور حوله الموسيقى كما دارت أخلاقها، وعادتها، وفنونها، وكثيراً ما اتخذت أسماء تذكر بصورتها-كالساحرة، والساذجة، وميمي وكاروين دستير.
وأحب القوم الأوبرا التهريجية في فرنسا، كما أحبوها في إيطاليا، أكثر من الأوبرا الجادة قبل أن يأتي جلوك (1773). وكانت فرقة سميث نفسها الأوبرا كوميك قد استقرت في باريس عام 1714؛ وفي 1762
اتحدت مع فرقة الكوميدي الإيطالية. وفي 1780 انتقلت هذه الأوبرا كوميدي الموسعة إلى مقر دائم لها في صالة فافار. أما صاحب الفضل في ازدهارها فهو فرانسوا أندريه فيليدور، الذي جاب أوربا بطلاً من أبطال الشطرنج، وألف خمساً وعشرين أوبرا، كلها تقريباً هزلية، مثل "سانشوبانسا"، "وتوم جونس" ولكن فيها ذوق سليم وفن رفيع. وقد نسيت الآن أوبراته، ولكن "دفاع فيليدور""وتراث فيليدور" ما زالا يذكران بوصفهما نقلتين كلاسيكيتين في لعبة الشطرنج وكان الباليه فاصلاً محبباً يتخلل الأوبرا الفرنسية؛ هنا وجدت الرشاقة الفرنسية مجالاً آخر؛ وغدت الحركة شعراً، وقد كتب جان جورج نوفير، أستاذ الأوبرا في دار أوبرا باريس، رسالة كانت يوماً ما مشهورة عن ألحان الرقص-"رسائل في الرقص والباليه"(1760)، وقد مهدت الطريق لإصلاحات جلوك بدعوتها إلى الرجوع للمثل الإغريقية في الرقص، بما فيها من طبيعة الحركة، وبساطة اللباس، وتأكيد على الدلالة الدرامية لا الأشكال التجريدية أو براعات العازفين.
وأصبحت الحفلات الموسيقية العامة الآن جزءاً من الحياة في جميع مدن فرنسا الكبرى. ففي باريس ضربت "الفرقة الموسيقية الروحية"(التي أنشئت بالتوبلري في 1725) مثلاً رفيعاً في الموسيقى الآلية. وبينما كانت الأوبرا-كونيك تمثل مسرحية برجوليزي "لاسيرفا يادورنا" كانت فرقة الكونسير تعزف ترنيمة "ستابات ماتر"(وهي ترنيمة لاتينية عن حزن مريم على المسيح المصلوب) التي أحسن الجمهور استقبالها فظلت تتكرر سنوياً حتى عام 1800 (20). وكانت لفرقة الكونسير الفضل في تحديد هاندل، وهيدن، وموتسارت، وجومللي، ويتشيني، والباخيين، إلى الجماهير الفرنسية، وإتاحة فرصة الظهور لكبار عازفي ذلك العهد.
وقد أجمع هؤلاء العازفون الزائرون على أمر واحد، هو تخلف فرنسا في الموسيقى عن ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وشاطرهم جماعة الفلاسفة هذا الحكم. فكتب جريم (وهو ألماني) "من الأسف أن القوم في هذا البلد
لا يفهمون من الموسيقى غير القليل جداً (21)". وكان يستثني الآنسة فل، التي تغني بحنجرة بديعة. ووافق جريم روسو وديدرو على طلب "الرجوع إلى الطبيعة" في الأوبرا، وتزعم ثلاثته الحزب الإيطالي في "حرب المهرجين" تلك التي كانت قد بدأت بتقديم أوبرا تهريجية مثلتها فرقة إيطالية في باريس. وقد سبقت الإشارة إلى هذا الجدل الذي نشب بين المذهبين الموسيقيين الفرنسي والإيطالي، ولم يكن قد انتهى بعد، فمازال ديدرو يخوض حرب المهرجين في قصته "ابن أخي رمو"، وفي "حديث ثالث حول الابن الطبيعي" (1757) وطالب بمنقذ يخلص الأوبرا الفرنسية من الخطب الطنانة والأساليب المفتعلة "ألا فليتقدم ذلك الذي عليه أن يعرض المأساة الصحيحة، والملهاة الصحيحة؛ عن المسرح الغائي؛ وضرب مثلاً لنص صالح "إفجينا في أوليس" لبوربيديس (22). ترى هل سمع هذا النداء جلوك، الذي كان يومها في فينا؛ أما فولتير فقد كرره في 1761 متنبئاً:
"أننا نأمل أن يظهر عبقري أوتي من القوة ما يحول بين الأمة عن هذه الآفة (آفة التصنع والتكلف) ويضفي على الإخراج المسرحي
…
الكرامة والروح الخلقية التي يفتقر إليها الآن
…
أن سيل الذوق الفاسد متدفق؛ وهو يغرق على غير وعي منا ذكرى ما كان يوماً ما مجد هذه الأمة. ولكنني أكرر ثانية: يجب إرساء الأوبرا على أساس مختلف؛ حتى لا تعود مستأهلة لذلك الاحتقار الذي تنظر به إليها كل أمم أوربا (23) ".
وفي 1773 وصل جلوك إلى باريس، وفي 19 إبريل 1774 قاد هناك أول أداء فرنسي "لافجينيا في أوليس". ولكن هذه القصة يجب إرجاؤها إلى حينها المناسب.
3 - المسرح
لم تنتج فرنسا في هذه الفترة تمثيليات تتحدى النسيان-ربما باستثناء بعض التمثيليات التي بعث بها فولتير من ليدليس أو فرنيه. ولكن فرنسا منحت
الدراما كل تشجيع سواء في العرض أو الاستحسان. ففي 1773 أقام فكتور لوي في بوردو أجمل مسرح في المملكة، له رواق فخم من الأعمدة الكونية، ودربزين كلاسيكي، وزخارف منحوتة. أما الكوميدي-فرانسيز، التي أقر جاريك بأنها خير الفرق التمثيلية في أوربا، فقد أنزلت "التياتر-فرانسيه" الذي شيد عام 1683 في شارع فوس، بسان-جرمان-دي-بريه: ثلاثة صفوف من الشرفات في مستطيل ضيق فرض الإلقاء الخطابي وقرر الأسلوب الخطاب للتمثيل في فرنسا. وعرضت مئات الأسر مسرحيات خاصة، من فولتير في فرنيه إلى الملكة في تريانون-حيث لعبت ماري أنطوانيت دور كوليت في مسرحية روسو "قسيس القرية" وحيث كان "أكثر من عشر نساء من علية القوم يمثلن ويغنين خيراً من أي ممثلات ومغنيات في الملهى"(24) ونبتت في كل مكان في فرنسا "مسارح صغيرة". من ذلك أن ديراً برناردياً، قابعاً في غابات باريس بنى مسرحاً لرهبانه "دون علم من المتعصبين وأصحاب العقول الضيقة"(كما قال أحدهم).
ولمع نجوم الكوميدي-فرانسيز فوق ربوع فرنسا رغم منافسة الفرق الهاوية. وقد رأينا كيف أقبل أهل جنيف وفرنيه ليروا الممثل لوكان يمثل لفولتير في شاتلين. أما اسمه الحقيقي فهو هنري-لوي كان Cain، ( قابيل) ولكن هذا كان لقباً ملعوناً غيره وله العذر في تغييره. كذلك لم يجلب له وجهه الحظ، وقد استقرت الآنسة كليرون فترة حتى تأنس إليه ولو كان ذلك في تمثيليته، وكان فولتير قد أكتشف مقدرته في حفلة تمثيل للهواة، وعلمه، ووجد له مكاناً في التياتر-فرانسيه. وفي 14 سبتمبر 1750 استهل لوكان حياته المسرحية بدور تيطس في مسرحية فولتير "بروتس"، وظل طوال جيل بعد ذلك يمثل دور البطل في مسرحيات فولتير. وأحبه الشيخ الغضوب إلى النهاية.
على أن أحب من اعتلى مسرح فولتير إلى القلوب كانت الآنسة كليرون (بعد أن توفيت أدريين لكوفرير) وكان اسمها قانوناً كلير-جوزيف إيبوليت ليريس دلاتور. ولدت عام 1723 دون زواج شرعي بين أبويها.
ولم يتوقع أهلها أن تعيش، ولكنها عمرت إلى الثمانين-وما هذا العمر المديد بالشيء الذي تغبط عليه دائماً بطلات المسرح. ولم يرَ أهلها أنها تستحق عناء التعليم، ولكنها تسللت إلى التياتر-فرانسيه، وسحرتها المناظر والخطب المسرحية، ولم تتغلب قط تماماً على الميل للخطابة حتى وهي في نشوة الحب. وأعلنت أنها ستحترف التمثيل، فهددتها أمها بأنها ستكسر ذراعيها ورجليها إن هي مضت في إنفاذ هذه النية الآثمة، (26) ولكنها أصرت، وانضمت إلى فرقة تمثيلية متنقلة. وسرعان ما تخلقت بأخلاق مهنتها. "إنني بفضل موهبتي، وجمال، وسهولة الاتصال بي رأيت عدداً هائلاً من الرجال يركعون تحت قدمي، بحيث استحال عليّ وقد أوتيت قلباً رقيقاً بطبعه
…
أن أمتنع عن الحب" (27).
فلما عادت إلى باريس فتنت المسيو دلا بوبلنيير، وقد استمتع بها ثم استخدم نفوذه ليحصل لها على مكان في دار الأوبرا. وبعد أربعة شهور استطاعت دوقة شاتورو، خليلة الملك آنئذ: أن تدخلها فرقة الكوميدي فرانسيز. وطلبت إليها الفرقة أن تختار الدور الذي ستمثله أول مرة، متوقعة منها أن تجري على السنة المعهودة، فتختار دوراً صغيراً، ولكنها اقترحت أن تمثل دور فيدر، وعارضت الفرقة، ولكنها تركتها تنفذ مشيئتها، وتكللت مغامرتها بالنصر. وبعدها غدت نجم الأدوار المأساوية التي لم ينافسها فيها غير الآنسة دومنيل. وذاعت شهرتها بالفسق المقترن بشهوة الاقتناء. كانت ترفه عن لفيف من النبلاء؛ وتتقاضى منهم أجراً طيباً، وتجمع مكاسبها، ثم تعطي كثيراً منها لعشيقها المفضل الشفاليه دجوكور، الذي كان يحرر مقالات في الاقتصاد للموسوعة. كذلك دفعت ثمناً لملاطفة مارمونتل، الذي سنلتقي به عما قليل مؤلفاً لكتاب "الحكايات الخلقية". تأمل جانب المرأة في هذا الحب في خطابها له:"أممكن أنك لم تعرف أي معاناة سببتها لي (على غير عمد منك، ولكنني كابدتها رغم ذلك)، وأن هذه المعاناة ألزمتني الفراش ستة أسابيع وأنا في خطر كبير؟ لا أستطيع أن أصدق أنك كنت عليماً بهذا، وإلا لما ذهبت في صحبة بينما الناس جميعاً يعرفون ما كنت فيه (28) ". ومع ذلك ظلت هي ومارمونتيل صديقين حميمين ثلاثين عاماً.
وهو الذي حملتها انتقاداته مقترحاته على أن تحدث في التمثيل حدثا، ذلك أنها كانت إلى عام 1748 تجري على أسلوب ممثلي التياتل-فرانسيه في الحديث المفتعل العاطفي، والإيماءات الفخمة، والانفعالات المرتعدة، أما مارمونتيل فقد وجد هذا أمراً غير طبيعي يمجه الذوق. وكانت كليرون قد قرأت كثيراً وسط غرامياتها، وأصبحت من أفضل نسا جيلها تعليماً، وأدخلتها شهرتها ورجاحة عقلها حظيرة المجتمع المثقف، وأدركت أن أفرغ الطبول هو أعلاها صوتاً. وفي عام 1752 أكرهتها إصابة بالزهري على اعتزال المسرح حيناً. فلما أبلت قبلت عقداً بإحياء خمس وثلاثين حفلة في بوردو. روت أنها في أول ليلة مثلت فيها هناك لعبت دور فيدر بالأسلوب التقليدي. "بكل الضجيج والعجيج والحماقة التي كانت يومها تلقى الاستحسان في باريس" وصفق لها الجمهور استحساناً. ولكن في الليلة التالية لعبت دور أجرين في مسرحية راسين بريتا نيكوس بصوت هادئ وبحركات محسوبة، وكظمت الانفعالات حتى المشهد الأخير. وضج النظارة بالهتاف. فلما عادت إلى باريس كسبت جمهورها القديم لأسلوبها الجديد. وحبذ ديدرو هذا الأسلوب بحرارة. وكانت في ذهنه حين كتب "مفارقة الممثل" ومؤادها أن الممثل القدير هادئ متمالك نفسه في داخله حتى في أكثر لحظات أدواره انفعالاً، ثم تساءل أي تمثيل كان أروع من تمثيل كليرون (29). "وكانت تحب أن تصدم المعجبين بها فتروي لهم أنها تراجع ذهنها في فواتيرها الشهرية وهي تلقي على الجمهور من الأشجان ما يستدر دموعهم (30). ولم يرحب فولتير بالأسلوب الجديد، ولكنه أيدها تأييداً فعالاً كما أيدته هي في إصلاح ملابس المسرح وأثاثه. وكانت جميع الممثلات إلى ذلك الحين يلعبن أدوارهن-من أي أمة أو عصر-مرتديات زي باريس القرن الثامن عشر، في تنورات بأطواق موسعة وشعر مبدر، ولكن كليرون فاجأت جمهورها باتخاذ زي زمان المسرحية لجسمها وشعرها، فلما لعبت دور إيدامي في تمثيلية فولتير "يتيمة الصين" كانت الثياب والأثاث صينية.
وفي 1763 ذهبت كليرون إلى جنيف لتستشير الدكتور ترونشان. وطلب إليها فولتير أن تمكث معه في فيلا دليس. "إن مدام دنتس مريضة، وكذلك أنا. وسيحضر مسيو ترونشان إلى مستشفانا ليعودنا نحن الثلاثة (31) " وأتت وأعجب بها الحكيم العجوز إعجاباً حمله على إغرائها بزيارة أطول لفرنيه، وأقنعها بأن تشاركه في حفلات عديدة بمسرحه ويظهره رسم قديم وهو في السبعين من عمره راكعاً أمامها في اعتراف حار بالحب.
واعتزلت المسرح في 1766 وكانت صحتها قد اعتلت وهي بعد في الثالثة والأربعين، بل لم تعد قادرة على التحكم في حديثها، وهامت حباً بفتى نبيل أنيق كما فعلت لوكوفيير وباعت كل ممتلكاتها تقريباً لتنقذه من دائنيه ورد لها صنيعها ببذل حبه، ومالها لغيرها من النساء. ثم تلقت وهي في التاسعة والأربعين دعوة من كرستان فريدرش كارل الكسندر، حاكم آنزياخ وبابرويت البالغ من العمر ستة وثلاثين عاماً للعيش معه في آنزياخ ناصحة وخليلة. فذهبت (1773) وظلت محتفظة بسلطانها عليه ثلاثة عشر عاماً. وكان قد تشرب في فرنسا بعض مثل التنوير، وبتشجيع منها أجرى عدة إصلاحات في إمارته، فألغى التعذيب وأقر الحرية الدينية. وكانت آخر مآثرها أن أقنعته بأن ينام كل ليلة مع زوجته. وبمضي الوقت أصاب الملل كليرون فتاقت إلى باريس فكان الأمير يصحبها إليها بين الحين والحين. وفي إحدى هذه الرحلات أتخذ خليلة جديدة، وترك كليرون في باريس بعد أن أجرى عليها معاشاً طيباً وكانت الآن في الثالثة والستين.
ولقيت الترحيب في الصالونات، حتى من مدام نكير الفاضلة، وأعطت الدروس في الإلقاء للفتاة التي أصبحت فيما بعد مدام دستال. واتخذت عشاقاً جدداً منهم الرجل الذي تزوج بعد ذلك مدام دستال ذاتها التي سرها التخلص منه. وقد رتب للممثلة العجوز معاشاً مريحاً، ولكن الثورة اختزلت معاشها فعاشت في ضنك حتى زاد نابليون معاشها في
1801.
وفي ذلك العام عرض عليها رجل يدعى المواطن دوبواربيه غراماً أخيراً. فثبطت عزيمته بخطاب مؤلم يلخص مأساة الكثير من الممثلات العجائز. قالت "لعل ذاكرتك ما زالت تتخيلني مشرقة، فتية، محاطة بكل مظاهر سمعتي الماضية. ولكن عليك أن تراجع أفكارك. فأنا لا أكاد أبصر، وسمعي ثقيل ولم يعد لي أسنان، ووجهي كله غضون، وجلدي الذي جف بالجهد ليكسو هيكلي الضعيف (32) ". ومع ذلك أتى وعزى أحدهما الآخر باسترجاع ذكرى شبابهما. ثم ماتت عام 1803 إثر سقوطها من فراشها.
وكانت قد خلفت ورائها منذ سنين طويلة الدراما المأساوية الكلاسيكية التي أشاد فولتير، أعظم كتابها في القرن الثامن عشر، بكليرون معبرة عنها لا ضريب لها. فقد أتخم جمهور باريس، وكثرتهم من الطبقة الوسطى، بالخطب المسجوعة يلقيها الأمراء، والأميرات، والملوك، وبدت تلك البحور "الإسكندرية" بحور كوريني وراسين التي تمشي مختالة على ست أقدام (أي تفاعيل) -بدت الآن رمزاً للحياة الأرستقراطية، ولكن أليسَ في التاريخ سوى النبلاء؟ بلى بالطبع. ورجل كموليير أبرز هؤلاء من قبل، ولكن في الملهاة، أفليسَ هناك مآسِ من المحن العميقة والمشاعر النبيلة في بيوت وقلوب البشر الذين تجردوا من الألقاب؟ ورأى ديدرو أن قد آن أوان درامات البرجوازيين، وقال أنه إذا كان النبلاء قد تجنبوا العاطفية، واشترطوا إلباس المشاعر قناعاً مهيباً، فإن على الدراما الجديدة أن تطلق الوجدان من عقاله وألا تخجل من إثارة أشجان الجمهور وإدرار دموعه. وهكذا كتب هو وغيره من بعده "مسرحيات باكية".
يضاف إلى هذا أن العديد من كتاب المسرحيات الجدد لم يكتفوا بتصوير حياة الطبقة الوسطى والإشادة بها، بل هاجموا النبلاء، والكهنة، وحتى الحكومة آخر الأمر-هاجموا فسادها، وضرائبها، وبذخها، وإسرافها، ولم يقتصروا على التنديد بالاستبداد والتعصب (فقد أجاد فولتير هذا التنديد من قبل) بل امتدحوا الجمهوريات والديمقراطية، ولقيت تلك الفقرات أشد الاستحسان من النظارة (33) وشارك المسرح الفرنسي عشرات القوى الأخرى في الإعداد للثورة.
4 - مارمونتيل
كتب هوراس ولبول من باريس في 1765 يقول "إن المؤلفين في كل مكان" وأنهم "أسوأ من كتاباتهم، ولست أقصد بهذا ثناء على الكتاب أو ما يكتبون (34) " ولا ريب في أن ذلك العصر لم يكن ليضارع في الأدب عصر فولتير وراسين؛ ولا عصر هوجو وفلويير وبلزاك، ففي هذه الفترة القصيرة بين 1757 و1774 ليس لدينا من الكتاب الجديرين بالذكر سوى روسو ومارمونتيل، والجمرات الحية من نار فولتير، وغليان ديدرو الدفين غير المنشور. ذلك أن الرجال والنساء أسلموا أنفسهم بقوة للحديث حتى كلت قرائحهم قبل أن يعتادوا الكتابة. وانقضى زمان العقل الأرستقراطي، واستأثرت الفلسفة والاقتصاد والسياسة بالجو، وتغلب المضمون الآن على الشكل. لا بل إن الشعر نزع إلى الدعاية. فقد قلدت قصيدة سان-لامبير "الفصول"(1769) جيمس طومسن، ولكنها نددت بالتعصب والترف تنديداً في غير أوانه، وتمثلت الشتاء-كما تمثله الملك لير-عواصف ثلجية تقصف حول أكواخ الفقراء.
ويدين جان-فرنسوا مارمونتيل في صعود نجمه لدهائه، وللنساء، ولفولتير. ولد في 1723ز وقد كتب في شيخوخته "مذكرات أب"(1804) وهي تعطينا صورة رقيقة لطفولته وشبابه. ومع أنه اعتنق الشكوكية وكاد يعبد فولتير، إلا أنه لم يذكر إلا بالخير أهله الأتقياء الذين ربوه، واليسوعيين العطوفين المخلصين الذين علموه. وقد أحبهم حباً جماً حمله على أن ينذر نفسه لله، وتطلع إلى الانضمام إلى رهبنتهم، وعلم في مدارسهم بكليرمون وتولوز. ولكنه كالكثيرين من أفراخ اليسوعيين، طار بعيداُ على أجنحة التنوير، وفقد على الأقل عذريته الفكرية. وفي 1743 قدم أبياتاً من شعره على فولتير فاستمتع بقراءتها أيما استمتاع، وأرسل إلى مارمونتيل مجموعة من أعماله صححها بيده. واحتفظ الشاعر الشاب بها ميراثاً مقدساً. وأقلع عن كل تفكير في احتراف القسوسة، وبعد عامين حصل له فولتير على وظيفة في باريس، وعلى إذن بدخول التياتر-فرانسيه مجانا، لا بل
إن فولتير، بما في قلبه-قلب الأب المحروم من البنين-من طيبة مستنيرة باع قصائد مارمونتيل وبعث إليه بحصيلة البيع. وفي 1747 قبلت تمثيلية مارمونتيل "دنيس الجبار"(دبونيسيوس) -التي أهداها إلى فولتير، وأخرجت على المسرح؛ وحققت نجاحاً لم يحلم به "فقد أصبح مشهور وغنياً في يوم واحد". (35) وسرعان ما أصبح سبعاً صغيراً من سباع الصالونات، فطعم على موائدها، ودفع الثمن ذكاء وظرفاً، ووجد سبيلاً إلى فراش كليرون.
وآتته تمثيليته الثانية "أريستومين" بمزيد من المال، والأصدقاء، والخليلات. وفي ندوات مدام دتنسان التقى بفونتنبل، ومونتسكيو، وهافتيوس، وماريفو، وعلى مائدة البارن دولياخ سمع ديدرو، وروسو، وجريم. وشق طريقه صعداً في المجتمع تحدوه يد النساء المرشدة. وأدخل إلى البلاط بعد أن مدح لويس الخامس عشر بأبيات ذكية. وافتتنت بومبادور بوجهه المليح وشبابه المتفتح، فأقنعت أخاها بأن يستخدمه سكرتيراً، وفي 1758 عينته محرراً للجريدة الرسمية "مركير دفرانس" وكتب نصوصاً لرامو، ومقالات للموسوعة. وأعجبت به مدام جوفران إعجاباً حملها على أن تقدم له مسكناً مريحاً في بيتها، حيث عاش عشر سنوات ضيفاً بالأجر.
وقد كتب لصحيفة المركير (1753 - 60) سلسلة من "الحكايات الأخلاقية" رفعت تلك الدورية إلى مقام الأب. ومن إحدى هذه الحكايات تكون فكرة عنها كلها. فسليمان الثاني، بعد أن مل المباهج التركية، يطلب ثلاث حسان أوربيات. أما الأولى فتقاوم شهراً، ثم تستسلم أسبوعاً ثم تنحى جانباً. وأما الثانية فتغني غناء رخيماً، ولكن حديثها منوم. وأما الثالثة-روكسالانا-فلا تكتفي بالمقاومة، بل تسب السلطان لأنه داعر مجرم ويصيح السلطان "أنسيت من أنا ومن أنتِ؟ وتجيب روكسالانا "أنت أقوى؛ وأنا جميلة؛، فنحن إذن صنوان". وهي ليست بارعة الجمال، ولكن لها أنفاً أخنس (مرتفع الأريبة)، وهو يغلب السلطان على أمره. فيحاول بكل الحيل أن يكسر مقاومتها ولكنه يخفق. ويهدد بقتلها، فتقترح أن تعفيه
من هذا العناء بالانتحار. وسبها فتسبه سباً أقذع. ولكنها تخبره أيضاً أنه جميل، وأنه لا يحتاج إلا لإرشادها لك يصبح في روعة الفرنسيين. فيغتاظ ويبتهج. وأخيراً يتزوجها ويجعل منها ملكة. وفي أثناء حفل الزفاف يسأل نفسه "أممكن أن يطيح أنف أخنس صغير بقوانين إمبراطورية؟ (36) والعبرة عند مارمونتيل: إن صغار الأشياء هي التي تحدث جلائل الأحداث، ولو عرفنا تلك التوافه الخفية لراجعنا التاريخ مراجعة كاملة.
وسارت الأمور كلها تقريباً رخاء مع مارمونتيل إلى أن نشر (1767) قصة سماها "بيليزيز" وكانت قصة ممتازة؛ ولكنها دافعت عن التسامح الديني، وتشككت في "حق السيف في أن يبيد الهرطقة، والإلحاد، وعدم التقوى، وأن يضع العالم كله تحت نير الدين والحق (37) ". وأدانت الصوربون الكتاب لاحتوائه على تعليم يستحق الشجب. ومثل مارمونتيل أما عميد الصوربون واحتج عليه قائلاً "قل لي يا سيدي، ألست تدين الآن روح العصر لا روحي (38)، " وظهرت روح العصر في جرائه، في اعتدال العقوبة. ولو نشر قصته تلك قبل عشر سنوات لزج به في الباستيل ولصودر-كتابه؛ أما الآن فالذي حدث هو أن القصة راجت رواجاً كبيراً؛ وظلت تحمل "إذن الملك وامتيازه" واكتفت الحكومة بالتوصية بأن يلزم الصمت حول الموضوع (39)، على أن مدام جوفران انزعجت كثيراً حين لم يقتصر الأمر في قرار الصوربون بمصادرة الرواية على قراءته في الكنائس، بل تجاوزه إلى تعليقه على باب بيتها. فاقترحت على مارمونتيل في لطف أن يبحث عن مسكن آخر.
ووقع واقفاً كالعادة. ففي 1771 عين مؤرخاً رسمياً ملكياً براتب حسن، وفي 1783 أصبح السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية، وفي 1786 عين أستاذاً للتاريخ في الليسيه. وفي 1792 حين كان في التاسعة والستين وقد قززته انحرافات الثورة، اعتكف في أفرو؛ ثم في لأبلو فيل؛ وهناك كتب "مذكراته" التي أغتفر فيها حتى للصوربون إساءاتها. وقضى سنواته الأخيرة في فقر لا يشكو ولا يتذمر، شاكراً لأنه عاش حياة غنية ممتعة. ومات في آخر يوم في عام 1799.
5 - حياة الفن
أ - النحت
كان الملك ذواقة في الفن، وكذلك كان نبلاء بلاطه ونبيلاته، والمليونيرات الذين كانوا الآن يتحرقون شوقاً للهيمنة على الدولة. وكان حدثاً هاماً في لتاريخ الفرنسي أن تبدأ مصانع سيفر، التي أسستها مدام دبومبادرو من قبل، إنتاج الخزف الصيني القاسي العجينة عام 1769؛ ومع أن الألمان في درسدن ومايسن قد فعلوا هذا قبل ستين عاماً، فأن منتجات سيفر سرعان ما كسبت سوقاً أوربية. ولم يرَ كبار الفنانين أمثال بوشيه، وكافييري، وباجو، وبيجال، وفالكونيه، وكلودين، ما يغض من قدرهم في رسم التصميمات لصيني سيفر. واستمر خزافو سيفر، وسان كلو، وشانتيي، وفانسين، في إنتاج القاشاني والصيني الطري العجينة في رسوم غاية في الإتقان.
وتضافرت مهارات الخزافين، وصناع المشغولات المعدنية والأثاث الخشبي وقطع النسيج المرسومة، لتجميل الحجرات الملكية وغرف النبلاء وأقطاب المال. وكانت الساعات الجدارية، كتلك التي صممها بوازو وصبها جرتيير بالبرونز (40) إحدى حليات العصر المميز. وأبدع بيير جونتير وجاك كافييري في صناعة "الأورمولو" ومعناه الحرفي "الذهب المطحون"، وهو في حقيقته سبيكة أهم مكوناتها النحاس الأحمر والزنك، تنقش وترصع بالجواهر ويكفت بها الأثاث. وألف كبار صناع الأثاث نقابة قوية تعتز بنفسها، اشترط على أعضائها أن يختموا إنتاجهم بأسمائهم علامة على مسئوليتهم عنه. وكان خيرهم في فرنسا وافداً من ألمانيا: جال فرانسوا أوبن وتلميذه جان-هنري ريزنر، وسخر هذان مهارتهما في صنع مكتب فخم للملك لويس الخامس عشر (1769)، وهو تحفة روكوكية معربدة من رسوم ونقوش وتطعيم وتذهيب دفع الملك 63. 000 ليرة ثمناً لها.
وقد استمتع بها نابليون الأول ونابليون الثالث، وسلمت إلى اللفور في 1870 وتقدر الآن بخمسين ألفاً من الجنيهات (41).
في هذا العهد الذي علق مثل هذه الأهمية على القيم اللمسية، كان النحت يقدر بقدره الكلاسيكي تقريباً، فالشكل لبه، وكانت فرنسا تعلم أن الشكل، لا اللون، هو روح الفن. وهنا أيضاً فاقت النساء الآلهة، لا في عيوب الواقع الطبيعية، بل في المثالي من الأشكال والثياب التي استطاع النحاتون المرهفوا الحس أن يؤلفوا بينها ويصوروها. ولم يزين النحت القصور والكنائس فحسب، بل الحدائق والمتنزهات العامة. وكانت التماثيل التي أقيمت مثلاً في حدائق التويلري من أحب التماثيل إلى الناس في باريس، وقلدت بوردو، وناسي، ورين، ورامس، باريس في التراكوتا (الطين النضيج) والرخام والبرونز.
وأخرج حيوم كوستو الثاني الآن أروع إنتاجه (وكان يصغر العهد بسنة واحدة فق) ففي 1764 عهد إليه فردريك الثاني بنحت تماثيل لفينوس ومارس إله الحرب، وفي 1769 أرسلها كوستو إلى بوتسدام لقصر صانسوسي. كذلك بدأ في 1769 تحت المقبرة الفخمة المشيدة للدوفين والدوفينة (والدي لويس السادس عشر) كاتدرائية صانس، وعكف على هذا العمل بهمة إلى أن مات (1777). ورأى في أخريات عمره أربعة نحاتين من ألمع من عرفتهم فرنسا إلى يومنا هذا، وهم بيجال وفلاكونيه، وكافييري، وباجو.
أما بيجال فقد قصد روما على نفقته، يعينه على ذلك كوستو، بعد أن أخفق في نيل "الجائزة الكبرى" التي تُدفع لنائلها مصروفات تعلمه الفن في روما، فلما عاد إلى باريس شق طريقه إلى أكاديمية النون الجميلة برائعته المسماة "عطارد يثبت خفية"، هذه الرائعة التي صاح الفنان للعجوز جان-باتست لموان حين رآها "وددت لو كنت راسمها" كذلك أعجب بها لويس الخامس عشر، وأرسلها إلى حليفه فردريك الثاني 1749. وقد وجدت سبيلها بطريقة ما عوداً إلى اللوفر، حيث نستطيع أن نتأمل المهارة الفائقة
التي ألمع بها الفنان الشاب إلى لهفة الرسول الأولمبي على النهوض والانطلاق. ووافق فن بيجال مزاج مدم دبومبادور، فعهدت إليه بالكثير من المهام. وقد صنع لها تمثالاً نصفياً محفوظاً الآن بمتحف المتروبولتان للفن بنيويورك، وحين هدأ ما بينها وبين الملك من غرام مشبوب واستحال إلى صداقة، نحت لها تمثالاً على هيئه "ربة الصداقة"(1753). (45) وصنع تمثالاً للويس بوصفه مجرد "مواطن" للميدان الملكي برامس، وأتم تمثال بوشاردون "لويس الخامس عشر" للميدان الذي يسمى الآن ميدان الكونكورد. وصور ديدرو في البرونز، رجلاً تمزقه الفلسفات المتصارعة. ولكنه أطلق لنفسه عنان التمثيل في المقبرة التي نحتها لرفات المرشال دي دساكس بكنيسة القديس توما بستراسبوج-فهو المحارب العاشق يركب إلى الموت كأنه راكب إلى معركة ينتصر فيها.
أما أشهر التماثيل الذي كان حديث الناس في هذا العهد فذلك الذي اختارت صفوة مفكري أوربا بيجال لينحته لفولتير. وقد اقترحته مدام نكير في إحدى أمسياتها في 17 إبريل 1770 ورحب بالاقتراح جميع ضيوفها السبعة عشر (ومنهم دلامبير، موريلليه، ورينال، وجريم، ومارمونتيل) ودعي عامة الناس للمساهمة في النفقة. وأثيرت بعض الاعتراضات، إذ لم يكن من المألوف إقامة التماثيل لأي أحياء سوى الملك، ولم يصنع تمثال لكوريني أو راسين قبل موتهما. ورغم ذلك تدفقت التبرعات، حتى من نصف ملوك أوربا، وأرسل فردريك مائتي جنيه ذهبي لتخليد ذكرى صديقه وخصمه القديم. وأستأذن روسو في المساهمة، فأعترض فولتير ولكن دلامبير أقنعه بالموافقة. وعرض فريرون وبالايسو، وغيرهم من خصوم جماعة الفلاسفة أن يشاركوا في التحية، ولكن عرضهم رفض. ووضح أن الفلاسفة كانوا أبطأ من خصومهم مغفرة وصفحاً. أما فولتير نفسه فقد نبه مدام نكير إلى أنه لا يصلح موضوعاً لتمثال:
"لقد بلغت السادسة والسبعين، ولم أكد اتماثل للشفاء من مرض عبث بجسدي وروحي عبثاً منكراً ستة أسابيع. ويقولون إن مسيو بيجال قادم ليصنع تمثالاً يحكي محياي. ولكن هذا يا سيدتي يقتضي أن يكون لي محياً،
ومن العسير التكهن بالموضع الذي كان فيه هذا المحيا. فعيناني غائرتان ثلاث بوصات، وخداي من الرق البالي الملصق لصقاً سيئاً على عظام لا ترتكز على شيء، وقد فقدت الأسنان القليلة التي كانت لي. وليس كلامي هذا من قبيل التمنع، ولكنه الصدق الخالص. ولم ينحت قط تمثال لرجل مسكين في حالتي هذه، ولعل مسيو بيجال سيعتقد أنكم تهزؤون به، أما أنا فينبغي أن يكون عندي من حب الذات ما لا أجرؤ معه أبداً على الظهور في حضرته. ول شاء أن يضع حداً لهذه المهمة الغريبة لنصحته بأن يأخذ نموذجه، بتغيرات طفيفة، ومن تمثالي الصغير المصنوع من صيني سيفر (34) ".
وضاعف بيجال المشكلة باقتراحه أن يصنع تمثالاً عارياً لذلك العفريت الأشهر، ولكنهم ثنوه عن هذا الرأي. وقصد فرنيه في يونيو، وجلس إليه الفيلسوف الخجول ثمانية أيام، في فترات متقطعة، ولكن في تململ شديد-يملي على سكرتير ويومئ للإيماءات وينفخ حبات البسلا على أشياء شتى في الهجرة-حتى قاربت أعصاب المثال على الانهيار (44). فلما عاد إلى باريس بقالب للتمثال عكف على مهمته شهرين، ثم أعلن النتيجة في 4 سبتمبر، وأقبل نصف الصفوة الممتازة يعجبون ويبتسمون. والتمثال يقوم الآن في دهليز مكتبة المعهد.
ولم يكن من مزاحم لبيجال في زعامة النحت في هذه الحقبة غير إيتيين موريس فلاكونيه، ويروي ديدرو قصة لطيفة عن خصومتهما، ذلك أن فلاكونيه الذي كان يصغر غريمه بعامين تجنب أول الأمر منافسته مباشرة، فكان يصنع التمثال من الصيني، وكان من أبهج هذه التماثيل تمثال "بجماليون" الذي صنعه دورو على تصميم فلاكونيل، وفيه تبدو دهشة النحات الإغريقي إذ ينحني تمثاله "غلاطية" المرمري للتحدث أليه. واستطاع ذاك التمثال أن يرمز إلى حقيقة أوشك الناس أن ينسوها، وهي أنه ما لم يتحدث إلينا العمل الفني فهو ليس بفن. فلما أطلع بيجال على هذه القطعة من الطين وقد تحولت إلى رمز خالد فاه بالثناء التقليدي يثني به فنان عظيم على آخر:"وددت لو كنت صانعه! " ولكن فلاكونيه لم يرد التحية بمثلها تماماً حين
رأى تمثال بيجال "لويس الخامس عشر مواطنا" فقد قال "إني لا أحبك يا مسيو بيجال، وأعتقد أنك تبادلني هذا الشعور. وقد رأيت تمثال "المواطن" الذي صنعته، لقد كان ممكناً خلق هذا العمل، لأنك قمت بهذا فعلاً، ولكني لا أعتقد أن الفن يستطيع أن يجاوزه بخط واحد وهذا لا يمنعنا من أن نظل كما كنا"(45).
وقد نغصت عيش فلاكونيه أربعون سنة من المحن قبل أن يظفر بالتقدير التام، فانطوى على نفسه وعاش في بساطة ديوجينية، وأصبح سريع الشجار، وغض من قدر فنه، وأعرب عن احتقاره للشهرة سواء في حياة صاحبها أو بعد موته. وأتته الشهرة آخر الأمر بتمثاله "المستحمة"(1757) -وهي مستحمة جميلة يجس حرارة الماء بأصابع قدمها. (46) وآنس إليه الآن مدام دبومبادور، فنحت لها "الحب الداهم" الذي يمثل كيوبيد يهدد بإطلاق سهم فيه عدوى الحب. وأصبح فلاكونيه حيناً في عالم النحت ما كانه بوشيه وفراجونار في عالم التصوير مبدعاً دغدغات فتانة مثل "فينوس وكيوبد"، "وفينوس تخلع ثيابها أما باريز".
وقد أبدع في تصميم الشمعدانات الزينية، والنوافير الصغيرة، والتماثيل الدقيقة، وحفر الرخام "ساعة ربات الحسن الثلاث" المحفوظة الآن في اللوفر، وأبهج بومبادور بتمثيلها في صورة الموسيقى (47)" وفي 1766 قبل دعوة كاترين الثانية له للذهاب إلى روسيا. وقد صنع في سانت بطرسبوج رائعة "بطرس الأكبر على جواد يخطر"، وشارك ديدرو وجريم حظوتهما عن الإمبراطورة، وعمل لها بهمة طوال اثني عشر عاماً، ثم تشاجر معها ومع وزرائها، ورحل في نوبة غضب عائداً إلى باريس. وفي 1783 أصيب بالفالج، ولزم حجرته في الأعوام الثمانية الباقية له، وقد زادت نظرته إلى الحياة اكتئاباً.
أما جان-جاك كافيري فكان في وسعه أن يكون أكثر بشاشة وانشراحاً لأنه ربي على النجاح في رعاية أبيه جاك، الذي كان من أئمة-صناع البرونز في العهد الأسبق. وقد شق طريقه مبكراً إلى أكاديمية الفنون
الجميلة بتمثال عجوز لا تكسوه غير سبلة سماه "النهر". وكلفه مسرح الكوميدي-فرانسيز بتزيين قاعاته بتماثيل نصفية للمسرحيين الفرنسيين، فأبهج الناس جميعاً بتماثيله التي صورت كورنيي، ومولير وفولتير، في صور مثالية. أما رائعته فتمثال نصفي للكاتب المسرحي جان دروترو نقله عن حفر في حوزة الأسرة. وهو أشبه بدارتنيان في كهولته-شعر مرسل، وعينان متقدتان، وأنف مشاكس، وشوارب كثة، وهو من أبدع التماثيل النصفية في تاريخ النحت. وبدافع الغيرة من مسرح الكوميدي-فرانسيز، كلفت فرقة الأوبرا كافييري بأن ينحت التماثيل لأبطالها هي أيضاً، فصنع التماثيل النصفية للوللي ورامو، ولكن هذه التماثيل اختفت. وبقيت لوحة جميلة "لفتاة صغيرة"(48). ربما كانت من أعضاء فريق باليه الأوبرا، وهي توفيق ساحر جمع بين العينين الخجولتين والصدر الناهد.
أما أحب المثالين لمدام دوباري فهو أوجستن باجو. فبعد أن قضى الفترة المألوفة لتلمذة الفنانين في روما، حقق ثراءً مبكراً بما تلقى من مهام ملكية وتكليفات من خارج فرنسا. وقد صور الخليلة الجديدة في نحو اثنتي عشرة لوحة. ويرتدي التمثال المحفوظ باللوفر رداء كلاسيكياً منقوشاً نقشاً رائعاً. وصور بوفون للجاردان دروا بناءاً على طلب الملك (49)، ثم خلد ديكارت، وتورين، وبسكال، ونوسوبه، وأروع أعماله ما زال حياً في الصور البارزة التي حلى بها المقصورات في دار الأوبرا بفرساي. وعمر حتى قام بأعمال للويس السادس عشر وبكى على إعدام ذلك الملك، وشهد نابليون يبسط سلطانه الشامل على القارة.
ب - العمارة
هل قامت في فرنسا خلال هذه الأعوام الثمانية عشر عمارة خالدة؟ لم يقم إلا القليل فالكنائس كانت أوسع من أن يملئها من بقي من المؤمنين، والقصور أخذت تثير غيرة الجماهير التي طحنها الجوع. وكان تجدد الاهتمام بالمعمار الروماني نتيجة للحفائر التي أجريت في هركولانيوم (1738) وبمبيي (1748 - 63) يدعم إحياء الطرز الكلاسيكية الخطوط ذات البساطة
والوقار، وواجهة الأعمدة القوصرة، والقبة الفسيحة أحياناً. وكان جاك-فرنسوا بلودنل، الأستاذ بالأكاديمية الملكية للعمارة، نصيراً متحمساً لهذه الأشكال الكلاسيكية، وأصدر خلفه جوليان-دافيد لروا في 1750، رسالة سماها "أجمل آثار الإغريق" زادت من سرعة الانتشاء بهذه الآثار. وقد نشر آن-كلودتبيير، كونت دكايلوس، بعد أن ساح كثيراً في إيطاليا اليونان والشرق الأدنى (1752 - 67)، ثمانية مجلدات خطيرة سماها "مختارات من الآثار المصرية، والأتروسيكية، واليونانية، والرومانية، والغالية" موضحة بعناية ببعض رسومه؛ وتأثرت دنيا الفن الفرنسي كلها حتى السلوك الفرنسي، تأثراً قوياً بهذا الكتاب فمالت إلى نبذ شطحات الباروك ونزوات الروكوك رجوعاً إلى خطوط الطرز الكلاسيكية الأكثر نقاء. وهكذا نجد جريم يقول لقرائه 1763:
"ظللنا سنوات نبحث بحثاً جاداً عن الآثار والأشكال القديمة وأصبح الميل لها عاماً حتى عدا من الأمور المقررة الآن أن يؤدى كل شيء على الطريقة اليونانية ( La Gr (cque من العمارة إلى صنع القبعات، فنساؤنا يصففن شعورهن على الطريقة اليونانية، ووجهاؤنا يرونه عاراً إن لم يمسكوا علبة صغيرة على الطريقة اليونانية (50).
أما ديدرو، رسول الرومانسية البرجوازية، فقد استسلم فجأة للموجة الجديدة (1765) حين قرأ ترجمة لكتاب وثكلمان "تاريخ الفن القديم" وكتب يقول "يخيل إليّ أننا يجب أن ندرس القديم لكي نتعلم رؤية الطبيعة"(51). وكانت هذه العبارة في حد ذاتها ثورة.
في 1757 بدأ جاك-جرمان سوفلو بناء كنيسة القديسة جنفييف، التي نذر لويس الخامس عشر خلال مرضه في متز أن يشيدها للقديسة راعية باريس حالما يتماثل للشفاء. وأرسى الملك بنفسه حجر الأساس، وأصبح بناء هذا الصرح "الحدث المعماري العظيم في النصف الثاني من القرن الثمن عشر" في فرنسا (52). وقد صممها سوفلو على شكل معبد روماني، برواق من قوصرة منحوتة وأعمدة كورنثية، وأربعة أجنحة تلتقي في صليب يوناني
في خورس أوسط تحت قبة ثلاثية. واتسمت كل مرحلة تقريباً من مراحل البناء بالجدل. ومات سوفلو في 1780 بعد أن أرهقته وفتت في عضده الهجمات التي شنت على تصميمه، وخلف البناء ناقصاً. وتبين أن الركائز التي صممها لتحمل القبة أضعف من أن تحملها، فأحل شارل-أتيين كوفلييه محلها-من الأعمدة تفوقها جمالاً. وحولت الثورة هذه الرائعة من روائع إحياء الفن القديم من هدفها الديني إلى هدف دنيوي؟ فسمتها من جديد البانتيون تذكاراً لرائعة ماركوس أجريبا في روما، لتكون مثوى لـ "جميع آلهة" النظام الجديد، حتى فولتير، وروسو، ومارا، ولم تعد كنيسة مسيحية، بل غدت مقبرة وثنية؛ وقد رمزت في عمارتها ومصيرها إلى انتصار الوثنية المطرد على المسيحية.
وأحرز الشكل الكلاسيكي نصراً آخر في كنيسة المادلين (المجدلية) الأولى التي بدئ تشييدها عان 1764، فحلت صفوف الأعمدة والأجنحة المستوية السقوف محل العقود والبواكي، وغطت الخورس قبة. وأطاح نابليون بها كلها قبل أن تنجز لتحل محلها كنيسة المادلين التي تتبوأ مكانها اليوم والتي هي أشد إمعاناً في الكلاسيكية.
كان هذا الانقلاب إلى الطرز الكلاسيكية الوقورة، بعد إسراف الباروك المتمرد في عهد لويس الرابع عشر وأناقة الروكوك اللعوب في عهد لويس الخامس عشر، جزءاً من الانتقال إلى "طراز لويس السادس عشر" في عهد لويس الخامس عشر نفسه-وهو طراز البناء، والأثاث، والزخرفة الذي سيتخذ اسم الملك الذي أطاحت الجيلوتين برأسه. وضبط الفن نفسه فتحول عن المنحنيات الكثيرة والزخارف المسرفة إلى البساطة المقتصدة، بساطة الخطوط المستقيمة والشكل البنائي. وكان اضمحلال المسيحية قد انتزع من التسامي القوطي المفرط قلبه، ولم يترك للفن ملاذاً غير تحفظ رواقي تجرد من الآلهة وتشبث بالأرض.
أما أعظم المعماريين الفرنسيين في هذا الجيل فهو جاك-أنج جابرييل، الذي أورثه أسلافه العمارة في عروقه. عهد إليه لويس الخامس عشر
(1752)
بإعادة بناء قلعة قديمة في كونبيين، فجمل مدخلها ببوابة إغريقية ذات أعمدة دورية، وكورنيش بدنطيل (مسنن)، ودرابزين خالٍ من الزخرف. ونهج هذا النهج من التصميم في إعادة يناء الجناح الأيمن في قصر فرساي (1770). وأضاف لهذا القصر (1753 - 70) داراً أنيقة للأوبرا. وبفضل الأعمدة المستوية، والكرانيش الرقيقة النقوش، والدرابزين الجميل، أصبحت هذه الدار من أجمل المباني الداخلية في فرنسا. وحين سئم لويس ما في حياة البلاط من علنية وتكلف، لجأ إلى جاربييل ليبني له "بيتاً صغيراً" تستره الغابات وأختار جابرييل موقعاً يبعد ميلاً عن القصر، وشاد عليه بطراز النهضة الفرنسية "البتي تريانون"(1762 - 68). هنا كانت بومبادور تمني النفس بالاستمتاع بحياة العزلة والدعة وهناك مرحت دوباري وقصفت برهة، ثم جعلته ماري أنطوانيت منتجعها المفضل كأنها الراعية الملكية في تلك الأيام الخلية السعيدة والشمس ما تزال تشرق على ربوع فرساي.
جـ - جروز
كانت الصورة حلية أثيرة في جو البيوت الأرستقراطية الحميم. فالتماثيل باردة عديمة اللون؛ تسر العين والعقل دون القلب والنفس، أما الصور فتستطيع أن تعكس تقلب الأمزجة والأذواق، وأن تنقل الروح إلى الأماكن الخلوية، أو الأشجار الظليلة، أو المشاهد النائية والجسد باقٍ داخل الجدران. وهكذا نرى كلود-جوزف فرنيه يرسم من السفن التي تمخر عباب البحار الفرنسية عدداً بلغ من كثرته إن لويس الخامس عشر في نكتة مشهورة إنه لا حاجة به لبناء المزيد منها. واستأجرت الحكومة الفرنسية فرنيه ليزور الثغور ويرسم السفن الراسية فيها، ففعل، وجعل فرنسا فخورة بأساطيلها. وحصل ديدرو على إحدى صور فرنية للبحر والأرض، وغلى في تقديرها غلواً حتى لقد توسل إلى إله إرتجله ارتجالاً فقال "أنني أتخلى لك عن كل شيء، فخذه كله، إلا فرنيه (53) ". -وهناك أومير روبير، الذي لقب "روبير الأطلال" نعم كله لأنه زود كل صور مناظره الطبيعية تقرباً بالأطلال
الرومانية مثل "كويري جار في نيم" ومع ذلك كان القوم "يتهافتون عليه" في صالونات باريس كما تؤكد لنا مدام فيجيه-لوبيرون، رغم شغفه المدمر بالأكل (54). ثم هناك فرنسوا-أوبير درواي، الذي حفظ لنا في تصوير مرهف جمال المركيزة دسور والطفولة البريئة للغلام الذي سيصبح شارل العاشر ولأخته ماري أدليد (55). ولكن لنلقي نظرة أكثر تدقيقاً على جروز وفراجونار.
أما جان-بانيست جروز فقد صنع بفرشاته ما صنعه روسو وديدرو بقلمهما؛ إذ أضفى على ألوانه إشراق العاطفة، وجعل نفسه "آيليز" البرجوازية. فالعاطفة أسعد من التكلف والصقل، وليست ضحلة مثلهما، وعلينا أن نغفر لجروز رؤيته الجوانب السارة من الحياة وتصويرها، وحبه لوثب الأطفال المرح؛ وبراءة البنات الجميلات الهشة، والقناعة المتواضعة لبيوت الطبقة الوسطى. فلولا جروز وشاروان لتوهمنا أن فرنسا كلها كانت منحطة فاسدة، وأن دوباري كانت نموذجها، وأن فينوس ومارس كان ربيها الوحيدين. أما الحقيقة فيه أن الأشراف هم المنحطون، وأن لويس الخامس عشر هو الفاسد، وأن الأرستقراطية والملكية هما اللذان سقطا في الثورة. أما جماهير الشعب-باستثناء رعاع الريف والمدن-فقد احتفظت بالفضائل التي تنقذ أمة من الأمم، وقد صورها جروز وحيا ديدور شاردان وجروز، لابوشيه وفراجونار باعتبارهما صوت فرنسا وسلامة روحها.
ويروى عن هذا الفنان في شبابه ما يروى عادة من قصص عن شباب الفانين: أراد أن يرسم، فمنعه أبوه ظناً منه بأن هذه الرغبة ليست سوى ستارا للكسل، وكان الغلام يتسلل من فراشه ليلاً ليرسم الصور، فلما وقع بصر أبية على صورة منها لانت قناته فأوفده ليدرس على يد مصور في ليون. ولم يطل رضاء جان-بابتست عما استطاع أن يتعلمه هناك فيم شطر باريس. وعمل فترة في الفقر الذي تمتحن به الموهبة الشابة. وكان محقاً فيما بعد في إبراز الجانب الأفضل في الناس، لأنه وجد كما يجد معظمنا
الكثير من العطف مختلطاً بما في الدنيا من عدم مبالاة وانشغال عن الموهبة. وحوالي عام 1754 أشترى جماع للفنون يدعى لاليف دجوللي صورة رسمها جروز تسمى "رب الأسرة"(وقد استعمل ديدرو هذا العنوان ذاته لتمثيليته الثانية عام 1758) وشجعه على مواصلة التصوير. ورأى الفنان الذي كان يعلم التصوير للأسرة المالكة صورة بريشة جروز، فرشحه للأكاديمية. ولكن كل مرشح كان ينتظر منه أن يقدم خلال ستة أشهر رسماً لمشهد من مشاهد التاريخ. ولم تكن هذه المشاهد التاريخية مما يوافق مزاج جروز فترك حقه في الترشيح يسقط، وقبل ما عرضه الأبيه جوجنو من تمويل رحلته إلى روما (1755).
وكان قد بلغ الثلاثين، ولابد أنه أحس قبل ذلك بزمن بسحر الأنثى، أو ليس نصف الفن نتاجاً جانبياً لتلك القوى القاهرة؟ وقد خبرها في روما خبرة أورثته تباريح الجوى. ذلك أنه عهد أليه بتعليم الرسم لليتتيا، ابنة أحد الأدواق، وكانت في ميعة الصبا، فما الذي يستطيعه إلا أن يقع في غرامها؟ وكان مليح الصورة، له شعر مموج ووجه بشوش متورد وكان زميله في الطلب فراجونار يلقبه "الملاك العاشق" أنظر في اللوفر إلى صورته التي رسمها لنفسه في شيخوخته، ثم تخيله وهو في الثلاثين. ولم يكن مناص من أن تلعب ليتتيا حميا الشباب الذي لا يعبأ بالمال، دور هلويز أما هذا الأبيلار، باستثناء الجراحة. ولم يستغل ضعفها، وعرضت عليه الزواج: وكان يهفو إليه، ولكنه أدرك أن زواج فنان فقير بوارثة دوق سيقلب بعد قليل مأساة للفتاة. وإذ كان غير واثق من قدرته على السيطرة على نفسه فقد عقد النية على ألا يراها ثانية. فمرضت، وزارها وسرى عنها، ولكنه عاد إلى تصميمه. ويؤكدون أنه ظل ثلاثة أشهر يلزم فراشه بحمى وهذيان متكرر (56). وفي 1756 قفل إلى باريس دون أن يتأثر إطلاقاً بالفن الكلاسيكي أو الإحياء الكلاسيكي الجديد.
يقول "بعد وصولي إلى باريس اتفق أن مررت-ولا أدري أي قدر دفعني إلى هذا-بشارع سان-جاك، حين لحظت الآنسة بابوتي خلف
منضدتها (57)". وكانت جاربييل بابوتي تعمل في مكتبة، وكان ديدرو يشتري كتبها و"يحبها كثرا" (على حد قوله) قبل ذلك بسنوات. وكانت الآن (1756 - 57) قد تجاوزت الثلاثين (كما يقول جروز) تخشى أن تظل عانساً: فوجدت جان-بابتست غير ميسور الحال ولكنه حلو. وبعد أن زارها بضع مرات قالت له "يا مسيو جروز، أتتزوجني أن رضيت بك زوجاً؟ " وأجاب كما يجيب أي فرنسي مهذب "يا آنسة، ألا يكون أي رجل غاية في السعادة إذا أنفق حياته مع امرأة ساحرة مثلك؟ " ولم يفكر في الأمر أكثر من هذا. ولكنها تركت الجيران يفهمون أنه خطيبها. ولم يطاوعه قلبه على تكذيبها، فتزوجها وظلا. سبع سنين ينعمان بقسط معقول من السعادة. وكانت ذات جمال مغرٍ، فاستخدمها راضية موديلاً في كثير من الأوضاع التي لم تكشف عن شيء وإن ألمعت لكل شيء. وأنجبت له في تلك السنين ثلاثة أطفال عاش منهم اثنان كانا إلهاماً لفنه.
ويعرفه العامل بصور الأطفال التي رسمها. وعلينا ألا نتوقع هنا روعة لوحة فيلاسكويز "دون بلتازار كارلوس"(68). أو لوحة فانديك "جيمس الثاني صبياً"(59)، لا بل إنا أحياناً قد نصطدم بما في بنات جروز من غلو وتهافت في العاطفة، كما تشهد بذلك "صورة عذراء" المحفوظة ببرلين، ولكن لم نرفض ما في صورة "البراءة"(60) من خصل متموجة، وخدود متوردة، وعيون فيها الحزن والثقة، أو ما في لوحة "الفلاحة الصغيرة"(61) من بساطة لم يفسدها التبرج؟ كذلك لا نجد تكلفاً في لوحة "الغلام وكتاب الدرس"(62)، فهي تصور أي غلام مل واجباً يبدو له مقطوع الصلة بالحياة. ومن بين 133 لوحة بقيت من رسوم جروز، اختص البناي بست وثلاثين. وقد أشترى يوهان جيورج فللي، الحفار الألماني نزيل باريس. ما استطاع شراءه من هذه الصور المثالية للطفولة، ورآها "أثمن من أروع صور هذا العهد (63) " ورد جروز هذه التحية بتصويره السكسوني غير الجذاب مثالاً للفحولة. على أن هؤلاء الفتيات يشوبهن التكلف والصنعة إذ يكبرن في فن جروز. مثال ذلك أن "اللبانة (64) " تبدو في أبهى لباس كأنها تتأهب للذهاب إلى المرقص، وصبية "الجرة المكسورة (65) " لا داعي (إلا داعي
الجمال) يدعوها للكشف عن حلمة ثديها وهي في طريقها من البئر. ولكن في صورة لصوفي أرنو (66)، وتبدو القبعة ذات الريش، والوقفة الأنيقة، والشفاه القرمزية، كلها طبيعية.
لقد كان جروز أشبه بشاردان صغير فيه مسحة من بوشيه، رجلاً معجباً حقيقة بالفضيلة وبحياة الطبقة الوسطى، ولكنه يكسوها بين الحين والحين إغراءً شهوانياً كان شاردان يتجنبه. وكان في استطاعة جروز إذا نسي أجساد نسائه أن ينشد في صورة أنشودة الحياة العائلية البرجوازية، كما نرى في "عروس القرية (67) " التي ظفرت بأكبر جائزة حين عرضت في آخر أسبوع لصالون 1761، وأصبحت حديث باريس. وأطرها ديدرو لما فيها من "عاطفة حلوة" وأشاد بها "مسرح الإيطاليين" إشادة لم يسبق لها نظير، إذ قدمها في "لوحة حية" على المسرح. وقد وجد الخبراء فيها عيوباً-من ضوء لم يحسن المصور التصرف فيه، إلى ألوان متنافرة، إلى قصور في الرسم والتنفيذ، وضحك الأرستقراطيون على ما فيها من غلو في العاطفة، ولكن جمهور باريس، الذي كان قد عب في الزنا حتى الثمالة، وأبكته في هذه السنة بعينها "جولي" روسو، كان في مزاج يدعوه لاحترام النصائح والتحذيرات الخلقية التي كادت تسمع من فم والد العروس إلى زوجها الموعود. وكانت كل عقيلة من عقائل الطبقة الوسطى عليمة بمشاعر تلك الأم وهي تسلم ابنتها لمشاق الزواج ومخاطره، وكل فلاح كان يشعر بأنه ليس غريباً في ذلك الكوخ الذي تنقر فيه دجاجة وأفراخها الغلة على أرضه أو تشرب في اطمئنان من القدر التي تحت قدم الأب. وأشترى مركيز دمارينيه الصورة لفوره، ودفع الملك فيها بعد ذلك 16. 650 جنيهاً ليحول دون بيعها بالخارج. وهي اليوم محفوظة بإحدى حجرات اللوفر التي لا تحظى بزوار كثيرين، وقد أتلفها تغير ألوانها السطحية جداً، وغض الجمهور من قدرها في غمرة تمرد الواقعية والكلبة على العاطفة المتفائلة.
وأحس كل فناني باريس تقريباً بأن جروز حط من شأن الفن لأنه سخره للوعظ من خلال الروايات والقصص بدلاً من كشف الحقيقة والطبائع
بنفاذ بصيرة وعدم تحيز. ودافع عنه ديدرو قائلاً إنه "أول فنانينا الذي أضفى الخلق على الفن، وهيأ صوره لتروي قصة (68) " وبلغ به الأمر حد الدهشة والتعجب من المآسي الرقيقة التي رسمها جروس، فصاح في أسى "لذيذة! لذيذة! " حين رأى لوحة "الفتاة الصغيرة تبكي على عصفورها الميت" وكان هو نفسه يدعوا لمواضيع الطبقة الوسطى ومشاعرها في الدراما، فآنس في جروز حليفاً عظيم القيمة وأطره حتى فوق إطرائه شاردان. وغلا جروس في تصديقه، فكرر نفسه كأنه رسول الفضيلة والعاطفة، وأرسل إلى مجلات باريس شروحاً طويلة للدروس الأخلاقية في الصور التي كان ينتجها. وأخيراً استنزف ترحيب جمهور الفن به حتى إبان تسلط العاطفة على مزاج العصر.
وكان خلال فترة السنوات الأثنتي عشرة كلها منذ قبول ترشيحه للأكاديمية قد أهمل أن يقدم لها الصورة التاريخية التي كانت شرطاً للعضوية الكاملة، وكانت الأكاديمية ترى أن الصورة التي ترسم المشاهد المألوفة التي تصف الحياة البيتية أو اليومية تتطلب من الموهبة الناضجة أقل مما يتطلبه التأليف القادر على التخيل، والتمثيل الكفء لمشهد من المشاهد التاريخية، ومن ثم قبلت مصوري مشاهد الحياة اليومية على أنهم "مقبولون Agr (es" فقط، ولكنهم ليسوا بعد صالحين للدرجات أو الكراسي الأكاديمية. وفي 1767 أعلنت الأكاديمية أن صور جروز سيتوقف عرضها في الصالون البينالي حتى يقدم لها صورة تاريخية.
وعليه ففي "29 يوليو 1769" قدم جروز صورة لسبتميوس سفيروس يوبخ ابنه كراكالا لمحاولته اغتياله (69). وأطلع أعضاء الأكاديمية على الصورة، وبعد ساعة أبلغه المدير أنه قبل، ولكنه قال له:"سيدي، لقد قبلت في الأكاديمية مصوراً للمشاهد اليومية. وقد أخذت الأكاديمية في الاعتبار تفوق صورك السابقة، وأغمضت عينها عن الإنتاج الحالي غير الجدير بها ولا بك (70) ". وصدم جروز، فدافع عن لوحته، ولكن أحد الأعضاء بين الأخطاء في الرسم. وأحتكم جروز إلى الجمهور في خطاب
لصحيفة "الأفان-كورييه"(25 سبتمبر 1769)، وأخفق شرحه في إقناع الراسخين في الفن، وحتى ديدرو سلم بعدالة النقد.
وألمع ديدرو إلى أن قصور اللوحة راجع إلى أن فشل المصور في زواجه شوش ذهنه. وأتهم جابرييل بابوتي بأنها تردت إلى درك المرأة المشاكسة المغرورة، فاستنزفت مال زوجها بإسرافها؛ وأرهقته بمضايقاتها؛ وحطمت عزة نفسه بخياناتها المتكررة (71). وقدم جروز نفسه لرئيس الشرطة (11 ديسمبر 1785) شهادة خطية يتهم فيه زوجته باستقبال عشاقها بإصرار في بيته ورغم احتجاجاته. وفي خطاب لاحق اتهمها بسرقة مبالغ كبيرة منه، وبمحاولة "تحطيم رأسي بمبولة (72) ". وحصل على انفصال شرعي، وأخذ ابنتيها في حضانته، وترك لها نصف ثروته ومعاشاً سنوياً قدره 1. 350 جنيهاً.
وتدهور خلقه إثر هذه اللطمات، فبات يضيق بأي نقد، وفقد كل تواضع في الإشادة بلوحاته. على أن الجمهور وافقه على اعتزازه بنفسه، فأقبل على مرسمه وأثراه بشراء صوره، والنسخ المطبوعة منها. واستثمر هو مكاسبه غي سندات حكومية، ولكن الثورة أطاحت بقيمة هذه السندات، وألقى جروز مملقاً، في حين انهارت سوق صوره الممثلة للسعادة والسلام البيتين نتيجة "لاستغراق فرنسا في العنف الطبقي، والهياج السياسي، ورد فعل الكلاسيكية الجديدة". وأنقذته الحكومة الجديدة إنقاذاً معتدلاً (1792) بمعاش قدره 1. 537 جنيهاً، ولكن سرعان ما نفذ هذا المعاش فالتمس سلفة، وجاءت امرأة من الرعاع تدعى إنتيجون لتعيش معه وتعنى بصحته المتدهورة. فلما قضى نحبه (1805) كان العالم كله تقريباً قد نسيه، ولم يرافق جثمانه إلى القبر سوى فنانين اثنين.
د- فراجونار
تغلب جان-أونوريه فراجونار على محن النجاح خيراً من جروز، لأنه كان يفوقه شهوانية وصنعة. وفنه الأنيق هو التمجيد الأخير للمرأة الفرنسية في القرن الثامن عشر.
ولد في جراس بإقليم بروفانس (1732): فأضفى على فنه أريج وطنه وعبير أزهاره، فضلاً عن عشق التروبادور الرومانسي، وأضاف إلى هذا كله مرح الباريسيين وتشككهم الفلسفي. وجلب إلى باريس في الخامسة عشرة فطلب إلى بوشيه أن يقبله تلميذاً، وقال له بوشيه بكل ما في وسعه من تلطف إنه لا يقبل غير الطلاب المتقدمين. فذهب فراجونار إلى شاردان ليخدمه. وكان في ساعات فراغه ينسخ الروائع الفنية أينما وجدها. وأطلع بوشيه على بعض هذه النسخ فأعجب بها إعجاباً شديداً حمله على قبوله الآن تلميذاً، وجند خياله الفني في عمل تصميمات لقطع النسيج المرسومة، وتقدم الغلام بسرعة حتى حثه بوشيه على دخول المسابقة لنيل جائزة روما. وقدم فراجونار لوحة تاريخية سماها "يربعام يضحي للأصنام (73) ". وكانت إنتاجاً ممتازاً لفتى في العشرين-فيها الأعمدة الرومانية الفخمة، والأرواب المنسابة، ورؤوس الشيوخ الملتحية، أو المعممة، أو الصلعاء، وكان فراجونار قد تعلم في زمن قليل بحث نرى في الوجه العجوز من الملامح أكثر من وجه لم تطبعه بعد الرغبة في الإثارة والاستجابة. ومنحته الأكاديمية الجائزة، فدرس ثلاث سنين في مرسم كارل فانلو، ثم انطلق في نشوة إلى روما (1765).
وثبطت همته كثرة الروائع التي وجدها هناك أول الأمر:
"لقد روعتني همة ميكل أنجيلو-فجاشت في صدري عاطفة عجزت عن التعبير عنها، وحين رأيت روائع روفائيل تأثرت إلى حد البكاء ووقع القلم من يدي. وفي النهاية رانت عليّ حالة من التراخي لم أقوَ على قهرها. ثم ركزت على درس المصورين الذين أتاحوا لي الأمل في أنني قد أنافسهم يوماً ما. وهكذا جذب انتباهي باروتشيو، وبييترو داكورتونا، وسليينا، وتييبولو (74) ".
وبدلاً من أن ينسخ صور قدامى الفنانين راح يرسم التصميمات أو التخطيطات للقصور، والقناطر، والكنائس، والمناظر الطبيعية، والكروم، وأي شيء آخر، ولا غرو فقد ملك الآن في استعمال القلم تلك البراعة التي
ستحوله واحداً من أقدر الرسامين وأكملهم في عصر غني في ذلك الفن الأساسي
(1)
. وقل من الرسوم ما ألتقط من الحياة الطبيعية أكثر من الأشجار الخضراء في فيلا دستي كما رآها فراجونار في تريفولي (75).
فلما عاد إلى باريس عكف على إرضاء الأكاديمية بلوحة تاريخية، باعتبار هذه اللوحة شرطاً لا غنى عنه في قبول الرسام عضواً بها. ووجد المواضع التاريخية كما وجدها جروز، لا تناسبه، فقد اجتذبته باريس جميلة بنسائها الساحرات بأقوى مما اجتذبه الماضي. وكان تأثير بوشيه لا يزال حاراً في مزاجه. وبعد تلكؤ كثير قدم لوحة "كبير الكهنة كوربرسوس يضحي بنفسه لينقذ كالليروبيه"؛ ولا حاجة بنا للوقوف والاستفسار عمن يكون هذا الكاهن وتلك العذراء، والمهم أن الأكاديمية وجدتهما نابضتين بالحياة مرسومين رسماً جيداً، فمنحت فراجونار عضوية مشاركة. وقال ديدرو في حماسة عارمة "لا أعتقد أن أي فنان آخر في أوربا كان مستطيعاً تصوير هذه اللوحة (76) ". واشتراها لويس الخامس عشر لتكون تصميماً لقطعة نسيج مرسومة. ولكن فراجونار نفض يده من المواضيع التاريخية، بل إنه بعد 1767 رفض أن يعرض في الصالون، وقصر إنتاجه كله تقريباً على التكليفات الخاصة حيث يستطيع إطلاق العنان لذوقه من القيود الأكاديمية. ولقد تمرد على تلك "الصلصة البنية" صلصة النهضة الأوربية، قبل أن يتمرد عليها الرومانسيون الفرنسيون بزمن طويل، وأنطلق في مرح إلى بحار أرحب وأقل تخطيطاً.
ولكنها لم تكن خلواً تماماً من التخطيط. فقد فتح فاتو الطريق من قبل بنسائه اللائى كساهن أثواباً مشرقة وهن منطلقات بضمير مطمئن إلى جزيرة فينوس، وكان بوشيه قد نهج هذا النهج بحواس مرحة لعوب، وزاوج جروز بين الشهوانية والبراءة. أما فراجونار فقد جمع بين هذه كلها: ففي لوحاته الثياب الهفافة ترف في النسيم، والغواني الرقيقات يعرضن اللذات الطليقة من كل قيد، والنبيلات الأنيقات يسحرن الرجال
(1)
كان هذا عصر أئمة النقش والحفر أمثال شارل-نيكولا كوشان، وجابرييل دسانت-أوبان، وجان-جاك بواسييه، وشال ايزن-ألمع رسامي الكتب في القرن الثامن عشر.
بخفيف ثوب أو رقة قميص، أو بحركة رشيقة متناغمة أو بسمة تلين الأفئدة، والأطفال السمان المتوردون الشعث، الذين لم يكتشفوا الموت بعد. وقد صور في رسومه ومنماته كل ناحية تقريباً من نواحي الطفولة-وضع يعانقون أمهاتهم، وفتيات يدللن عرائسهن، وصبية يركبون حماراً أو يلعبون مع كلب ....
وقد استجابت ميول فراجونار العشيقة الغالية لطلبات رجال الحاشية المكتهلين، والخليلات المتعبات، من الصور التي تشيد بالجسد وتلهبه. فجال بين أرجاء الأساطير الوثنية بحثاً عن ربا امتنعت أجسادهن الوردية على فعل الزمن. وكانت فينوس، لا العذراء، هي التي رفعت الآن في صعود ظافر إلى السماوات. وسطا على نصف شعائر الدين لمهرجانات الغرام: فكانت لوحته "القبلة"(77) صلاة، و"نذر الحب" عهداً مقدساً، و"قربان الوردة" التقدمة الأخيرة. ومن بين صور أربع رسمها فراجونار لقصر مدام دوباري الريفي في لوفسيين كان لإحداها عنوان يصلح لتغطية نصف إنتاج الفن:"الحب الذي يشعل الكون". ثم نبشنا في ملحمة "تحرير أورشليم" بحثاً عن المشهد الذي تعرض فيه الحوريات مفاتنهن أمام رينالدو العفيف. وأصبح هذا الفنان "بوشيه" الفراش، إذ أدى النساء نصف عاريات أو عاريات تماماً؛ كما يرى في لوحات "الجمال النائم" أو "القميص المخلوع أو الباخوسية النائمة (78) ". فلما أدرك أن العري قد يقشع الأوهام تحول من التصريح إلى التلميح، ورسم أشهر لوحاته "مخاطر الأرجوحة (79) "، ففيها يرى العاشق يتفرس بابتهاج في أسرار ثياب عشيقته الداخلية التي تتكشف وهي تتأرجح لأعلى فأعلى، وتقذف بخفه في الهواء بتحرر لعوب. وأخيراً استطاع فراجونا أن يتقمص جروز، بل وشاردان: فصور النساء المحتشمات، كما في لوحاته "الدراسة""والمطالعة (80) ". و"قبلات الأم"، وفي صورة "مدموازيل كولومب" أكتشف أن النساء نفوساً.
وفي 1769، حين بلغ السابعة والثلاثين، أذعن للزواج، فحين قدمت الآنسة جيرار من جراس لدراسة التصوير في باريس، كان حسبها أن تذكر
مسقط رأسها حتى تظفر بالقبول في مرسم فراجونار. ولم تكن جميلة، ولكنها كانت امرأة مكتملة النضج، وقرر "فراجو"(كما كان يسمي نفسه) كما قررت مدام بوفاري، أنه لا يمكن أن يكون الاكتفاء بامرأة واحدة مملاً أكثر من الزنا. ووجد متعة جديدة في العمل معها في رسم صور مثل "خطوات الطفل الأولى" وفي التوقيع معها على الصور. فلما ولدت طفلهما الأول استأذنته في استدعاء أختها البالغة أربعة عشر عاماً من جراس لتعينها على الطفل والبيت؛ فوافق وظلت هذه الأسرة سنين تعيش في سلام مزعزع.
تنافس الآن جروز في تصوير الحياة البيتية، ونافس بوشيه في توصيل هدوء المشاهد الريفية إلى أنظار المشاهدين. ورسم بعض الصور الدينية، وصور أصدقاءه. وكان في صداقته أثبت منه في حبه، فلم يفتر قط تعلقه بجروز وروبير ودافيد رغم ما أصابوه من نجاح. وحين نشبت الثورة أهدى صورة وطنية سماها "الأم الطيبة" للأمة. وكادت مدخراته تفقد قيمتها نتيجة للتضخم وتخلف الحكومة في الوفاء بديونها، ولكن دافيد الفنان الأثير لدى العهد الجديد، حصل له على وظيفة شرفية صغيرة. وفي نحو هذه الفترة رسم صورته الذاتية الرائعة المعلقة الآن في اللوفر: الرأس قوي ضخم والشعر أشيب قصير القص، والعينان ما زالتا هادئتين ثقة واطمئناناً. وقد روعه عصر الإرهاب وقززه، ففر إلى وطنه الأول جراس، حيث وجد المأوى في بيت صديقه موبير وقد زين الجدران بلوحات تعرف في جملتها باسم "رواية الحب والشباب" وقد رسمها خصيصاً لمدام دوباري، ولكنها كانت قد رفضتها لأنها لم تعد في ثرائها السابق، وهي اليوم من كنوز فريك جالري بنيويورك.
وذات يوم من أيام الصيف كان راجعاً من جولة في باريس وقد حمى جسمه وتصبب عرقاً، فوقف عند مقهى وتناول قطعة من الجيلاتي وأصيب للتو تقريباً باحتقان في المخ. ونعم بميته عاجلة (22 أغسطس 1806). وقد أقامت جراس تمثالاً جميلاً لتخليد ذكراه، وتحت قدميه طفل عارٍ ومن خلفه شابة تدوم ثوبها في رقصة مرحة.
أن الفنان لابد أن يدفع ثمناً لرمزه لعصر ما، فشهرته تضمحل بزوال رغبات العصر المشبوبة، ولا سبيل إلى عودة هذه الشهرة إلا إذا رفع قدره عاطف البعد، أو رد تحول في التيار موضة قديمة إلى الذوق الحاضر. وقد زكا فراجونار لأن فنه العاري أو الكاسي أبهج زمانه، بتلطيفه وتزيينه للانحلال، ولكن الناموس الصارم الذي خضعت له ثورة تقاتل في سبيل الحياة سائر أقطار أوربا، كان في حاجة إلى أرباب غير فينون تلهمه، فوجدها في أبطال روما الجمهورية، الشديدي المراس. لقد انتهى عصر المرأة وعاد حكم المقاتل؛ وأقبل جيل جديد من الفنانين على النماذج اليونانية-الرومانية، التي أعاد تأليبها فنكلمان، واكتسح الطراز الكلاسيكي الجديد الباروك والروكوك في موجة عارمة من الأشكال القديمة.
6 - الصالونات الكبرى
أ- مدام جوفران
لقد دالت دولة المرأة، ولكن بعد أن بلغت الصالونات ذروتها. وبلغت تلك المؤسسة الفذة أوجها بمدام جوفران، وانحسرت في حمى من الرومانسية بمدموازيل دليسييناس. وستنتعش بعد الثورة بالسيدتين دستال وربكامييه، ولكنها لن تدرك أبداً فتنة وخصوبة تلك الفترة التي كان يلتقي فيها مشاهير الساسة في أيام السبت بصالوات مدام دوديفا، والفنانون في أيام الاثنين والفلاسفة والشعراء أيام الأربعاء بصالون مدام جوفران، والفلاسفة والعلماء أيام الثلاثاء بصالون مدام هلفتيوس، وأيام الأحد والخميس بصالون البارون دولباخ، وفحول الأدب وأقطاب السياسة أيام الثلاثاء بصالون مدام نكير، وقد يلتقي أي منهم في أي ليلة بصالون جولي دليسييناس. وإلى هذه الصالونات كان هناك الكثير من الصالونات الصغرى: كصالونات السيدات دلكسمبورج ودلافاليير، ودفور كالكييه ودتالمون، ودبرولي، ودبوسي، ودكروسول ودشوازيل، ودكامبيس ودميربوا ودبوفوا، دانفيل، وديجون، ودودتو ودماشيه، ودوبان، وديبينيه.
ولم يكن الجمال هو الذي زين ربات الصالونات هؤلاء، فقد كان جلهن
نساء نصفاً أو أكبر، إنما هو ذلك المركب من الذكاء، واللباقة، والكياسة، والنفوذ والمال غير المتطفل، الذي مكن للمضيفة أن تجمع نساء ذوات فتنة وسحر، ورجالاً ذوي عقول راجحة يستطيعون أن يجعلون اجتماعاً أو مجلس سمر يتألق ظرفاً أو حكمة دون أن يؤججوه انفعالاً أو تعصباً. ولم يكن الصالون منها مكاناً للمغازلات ولا للمواضيع العشيقة أو التوريات. (81) فقد يكن لكل رجل فيه خليلة ولك امرأة عشيق، ولكن هذا كان يستر بأدب في التبادل المتحضر للمجاملات والأفكار. وكانت الصداقات الأفلاطونية تستطيع أن تجد القبول هناك، كما كان الحال مع دودفان وهوراس ولبول، أو مع ليسبينياس ودالامبير. وباقتراب الثورة نزعت الصالونات إلى فقدان تساميها الهادئ وأصبحت مراكز للتمرد.
وذاعت شهرة صالون مدام جوفران لأنها كانت أبرع مروضي السباع بين ربات الصالونات، ولأنها أتاحت للرواد مزيداً من حرية النقاش، ولأنها عرفت كيف تمنع الحرية من تجاوز حدود السلوك المهذب أو الذوق السليم-دون أن تبدو مستبدة. وكانت إحدى النساء القليلات اللاتي برزن من الطبقة الوسطى ليحتفظن بصالون مرموق. وكان أبوها، وصيف الدوفيته ماري-آن، وقد تزوج بابنة مصرفي، وأول من رزقا من أطفال في 1699 هي ماري-تريز، التي أصبحت فيما بعد مدام جوفران. ووضعت أمها، وكانت امرأة مثقفة موهوبة في التصوير، الخطط الطموحة لتنشئة ابنتها، ولكنها ماتت عام 1700 وهي تلد صبياً. وأرسل الطفلان ليعيشا مع جدتهما في شارع سانت-أونوريه-وبعد نصف قرن عللت مدام جوفران افتقارها إلى التبحر في الثقافة خطاب أجابت به ما طلبته كاترين الثانية في سيرة ذاتية موجزة لها.
"ولم تحظَ جدتي
…
إلا بنصيب ضئيل من التعليم، ولكن كان لها عقل أوتي من قوة الملاحظة، والذكاء، والسرعة،
…
ما جعله دائماً بديلاً عن المعرفة. وكانت تتحدث حديثاً لطيفاً جداً عن أمور لا تعرف عنها شيئاً حتى لم تترك زيادة لمستزيد
…
وبلغ رضاؤها عن
حظها مبلغاً جعلها ترى التعليم نافلة لا تحتاج إليها المرأة". وكانت تقول "لقد وفقتُ توفيقاً لم يجعلني أشعر قط بحاجتي إليه. فإذا كانت حفيدتي حمقاء فستجعلها المعرفة معتدة بذاتها لا يطيقها أحد، وإذا كان له ذكاء وفطنة فسوف تسلك كما سلكت، وسوف تعوض النقص بلياقتها ونفاذ بصيرتها، ومن ثم فإنها في طفولتي لم تعلمني غير القراءة، ولكنها جعلتن أقرأ كثيراً، وعلمتني أن أفكر، وأن أجادل، وعلمتني أن اعرف الرجال وجعلتن أعرب عن رأيي فيه، وأخبرتني كيف تحكم هي عليهم
…
وما كانت تطيق ضروب التظرف التي يعلمها مدرسو الرقص، وكل ما تمنته لي هو أن تكون لي الرشاقة التي تهيئها الطبيعة للمرأة الحسنة الخلقة (82) ".
وأحست الجدة أن الدين أهم من التعليم، ومن ثم كان الطفلان اليتيمان يؤخذان لحضور القداس كل يوم.
كذلك اهتمت الجدة بزواج ماري، ذلك أن رجل أعمال غنياً يدعى فرانسوا جوفران، في الثامنة والأربعون من عمره، تقدم للزاج من الفتاة ذات الثلاث عشر ربيعاً، ورأت الجدة في ذلك العرض صفقة طيبة، وكان في تربية ماري وتهذيبها المفرط ما منعه من الاعتراض. على أنها أصرت على أن تصحب معها أخاها إلى بيت السيد جوفران المريح، والواقع في شارع سان-أوتوريه أيضاً، والذي قدر لها أن تقوم عليه إلى نهاية عمرها. وفي 1715 أنجبت ابنه، وفي 1717 ابناً-مات في العاشرة.
وفي ذلك الشارع العصري ذاته افتتحت مدام دتنسان صالوناً مشهوراً. ودعت إليه مدام جوفران فأعترض زوجها. ذلك أن ماضي مدام دتنسان كان قد أحدث بعض الضجة، وأن ضيوفها الأثيرين كانوا من أحرار الفكر أمثال فونتينيل، ومونتسكيو، وماريفو، وبريفوست، وهلفيتيوس، ومارمونتيل. على أن مدام جوفران ذهبت برغم ذلك، فلقد بهرتها هذه العقول الطليقة من كل قيد. فما كان أثقل أولئك التجار الذين يأتون لزيارة
زوجها الشيخ بالقياس إلى هؤلاء! وكان الآن قد بلغ الخامسة والستين، وهي لم تزل "امرأة الثلاثين" كما يقول بلزاك. وبدأت هي أيضاً تستضيف الزائرين. فاعترض، ولكنها تغلبت عليه، وأخيراً ارتضى أن يترأس على حفلات عشائها؛ صامتاً عادة ومؤدباً دائماً. فلما مات (1749) في الرابعة والثمانين، لم يكد ضيوفها يلحظون غيابه. واستفسر أحد رواد الصالون حين عادوا من رحلة عما أصاب السيد العجوز الذي كان يجلس في استحياء شديد على قمة المائدة. وأجابت مدام جوفران برفق "أنه كان زوجي، وقد توفي (83) ".
كذلك طوت مدام دتنسان رحلة الحياة عام 1749، مما فزع له ضيوفها المعتادون. ويجب أن نذكر ثاني تلك الملاحظات التي أبداها فونتينيل الذي بلغ يومها الثمانية والتسعين:"امرأة طيبة جداً (مع أنه كانت تركيبة من الآثام الحقيقة). ياله من خطب مقلق؟ فأين أتناول غدائي الآن الثلاثاء؟ " ولكن أساريره انفرجت وقال: "حسناً، في أيام الثلاثاء يجب أن أتناول الغداء في بيت مدام جوفران (84) ". وقد أبهجها أن يحضر، لأنه كان "فيلسوفاً" قبل مونتسيكو وفولتير، يحتفظ بذكريات تمتد إلى مازاران، وقد بقي له من الأجل سبع سنوات؛ وكان في وسعه أن يحتمل المعاكسة دون أن يتأذى منها لأن سمعه ثقيل. وحذا حذوه أكثر مشاهير القوم الذين تألقوا على مائدة دتنسان؛ وسرعان ما جمع غداء أربعاء جوفران، في وقت أو آخر، مونتسيكو، وديدرو، ودولباخ، وجريم، وموريلليه؛ ورينال، وسان-لمبير، والأبيه فرديناندو جالياني؛ النابولي القصير الأريب؛ سكرتير السفير النابولي في باريس.
وعقب موت زوجها، ورغم معارضة ابنتها الساخطة، سمحت مدام جوفران لديدرو، ودالامبير، ومارمونتيل، بأن يقرروا خط النقاش ونبرته في حفلات غدائها أيام الأربعاء. لقد كانت وطنية ومسيحية، ولكنها أعجبت بشجاعة الفلاسفة وحيويتهم. فلما نظمت "الموسوعة" تبرعت بأكثر من 500. 000 جنيه في نفقاتها وأصبح بيتها يعرف بـ"صالون
الموسوعة"، وحين هجا باليسو المتمردين في هزلية "الفلاسفة" (1760) سخر منها في شخصية سيداليز، الجنية عرابة "الشلة". وبعدها طلبت إلى سباعها أن يزأروا بأدب أكثر من ذي قبل، وكبحت البلاغة الجامحة بعبارة مجاملة خففت من غلوائهم- "آه، هاهنا شيء طيب (85) "! وأخيراً سحبت دعوتها الدائمة لديدرو، ولكنها أرسلت إليه طقماً من الأثاث الجديد وروباً فخماً فخامة غير مريحة.
واكتشفت أن الفنانين والفلاسفة، ورجال الأعمال، لا ينسجمون إذا اجتمعوا معاً، فالفلاسفة يحبون النقاش والثرثرة، والساسة يتوقعون التحفظ والتأدب، أما الفنانون فقبيلة صخابة لا يستطيع فهمهم غير الفنانين. وعليه فإن المدام التي كانت جماعة للفن والتقطت شيئاً من حرارة الجماليات من الكون دكايلوس، دعت أقطاب الفن وذواقيه الباريسيين إلى حفلات عشاء خاصة في أمسيات الاثنين. ولبى الدعوة بوشيه، ولاتور، وفرنيه، وشاردان، وفانلو، وكوشان، ودرويه، وروبير، وأودريه؛ وناتييه، وسوفلو، وكايلوس، وبوشاردون، وجروز. وكان مارمونتيل الفيلسوف الوحيد الذي سمح له بحضور هذه الحفلات لأنه كان يسكن في بيت مدام جوفران، ولم تكتفِ المضيفة اللطيفة بالاحتفاء بضيوفها، بل اشترت أعمالهم وجلست إليهم ليصوروها، وأجزلت لهم الأجر، وصورها شاردان خيراً من سائر الفنانين، سيدة بدينة لطيفة في قبعة من الدانتيلا (86).
وبعد موت فانلو اشترت صورتين من صوره بأربعة آلاف جنيه ثم باعتهما لأمير روسي بخمسين ألف جنيه، وأرسلت الربح لأرملة المصور (87).
واستكمالاً للضيافة كانت مدام جوفران تقيم "حفلات عشاء صغيرة" لصديقاتها. ولكنها لم تدعُ نساء لحفلات الاثنين، وكانت مدموازيل دليسبيناس (ربما بوصفها نفس دالامبير الثانية) من النساء القليلات اللاتي حضرن أمسيات الأربعاء. ذلك أن المدام كانت على شيء من حب التملك،
ثم أنها وجدت أن حضور الإناث يصرف سباعها عن الفلسفة والفن. وبدا أن سياسة الفصل بين الجنسين التي انتهجتها قد بررها ما كسبته ندواتها من صيت ذائع بالمناقشات الطريفة الهامة. واحتال الأجانب في باريس للظفر بدعوات إلى صالونها، ذلك أن مباهاتهم، بعد عودتهم إلى أرض الوطن، بأنهم اختلفوا إلى صالون مدام جوفران، كانت تشريفاً لا يفوقه إلا شرف المثول بين يدي الملك. وكان هيوم، وولبول، وفرانكلن، من بين ضيوفها الشاكرين. وحرص السفراء لدى بلاط فرساي-حتى الكونت فون كاونتز الرفيع المقام-على تقديم أنفسهم في ذلك المنزل المشهور في شارع سانت-أوتوريه. وفي 1758 اصطحب الأمير كانتيمير، السفير الروسي، أميرة انهالت تسربست التي حدثت القوم بفضائل ابنتها، ولم تنقضي أربعة أعوام حتى أصبحت هذه الابنة كاترين الثانية، وظلت إمبراطورة الأقاليم الروسية كلها سنين طوال بعد هذا، تبادل ربة الصالون البورجوازية الرسائل الساحرة. وعاد سويدي جميل ذكي ممن اختلفوا إلى بعض ولائم المدام إلى وطنه ليصبح جوستاف الثالث.
وثمة شاب أجمل هو ستانسلاس يونياتوفسكي كان كثير التردد بل كاد يكون من عباد مدام جوفران (التي كانت أحياناً تؤدي عنه ديونه (88))، وما لبث أن اعتاد أن يناديها "ماما"، فلما أصبح ملكاً على بولندا (1764) دعاها إلى زيارة وارسو ضيفاً عليه. فلبت الدعوة مع أنها بلغت الآن الرابعة والستين. وأقامت في طريقها بفيينا فترة، وكتبت تقول "أن القوم يعرفونني هنا خيراً مما يعرفني جيراني على ياردتين من بيتي (89) ". وطلت حيناً في القصر الملكي بوارسو (1766) تقوم من الملك مقام الأم والمشيرة. وتبادل الناس الرسائل التي بعثت بها إلى باريس كما تبادلوا الرسائل التي بعث بها فولتير من فرنيه، وقد كتب جريم يقول:"إن الذين لم يقرئوا رسائل مدام جوفران لم يكونوا أهلاً لمخالطة المجتمع الراقي (90) ". فلما قفلت إلى باريس واستأنفت ولائمها، ابتهج عشرات من مشاهير القوم، ونظم بيرون وديليل القصائد احتفاء بعودتها.
وكانت الرحلة شاقة-فقد استقلت مركبة اخترقت نصف أوربا طولاً
ثم عادت بها إلى وطنها، ولم تعد مدام جوفران قط بعدها إلى سابق تيقظها ومرحها. وراحت الآن تجدد حرصها على العبادة الكاثوليكية، وهي التي أعربت من قبل عن أفكارها الحياة بعد الموت (91)، وأحالت الدين محبة وبراً بالناس. وقد وصف مارمونتيل تقواها الغريبة فقال: -
"لكي ترضى السماء دون أن تغضب مجتمعها، ألفت العكوف على لون من العبادة المستورة. فتذهب إلى القداس سراً كما يذهب غيرها إلى مؤامرة، ولها شقة في دير .... ومقعد خاص في كنيسة الكبوشيين تتكتم أمرها كما تتكتم النساء العاشقات في تلك الأيام عش غرامهن (92) ".
وفي سنة 1776 أعلنت الكنيسة الكاثوليكية يوبيلاً يتلقى في كل من يزورون كنائس معينة في أوقات مقررة الحل والغفران. وفي 11 مارس حضرت مدام جوفران صلاة طويلة في كاتدرائية نوتردام. وعقب وصولها إلى بيتها أصابتها نوبة فالج. وغضب جماعة الفلاسفة لأن مرضها جاء عقب قيامها بالعبادة، وعلق الأبيه موريلليه تعليقاً لاذعاً "لقد أكدت بالقدوة صدق القول المأثور الذي كثيراً ما رددته "أن المرء لا يموت إلا بفعل من أفعال العبادة (93) ". وتكلفت ابنتها المركيزة دلافرتيه-يامبو بأمها المريضة، وحذرت الفلاسفة من زيارتها. ولم تقع عينا المدام ثانية على دالامبير ولا موريلليه، ولكنها رتبت زيادة في المعاشات التي كانت تجريها عليها بعد موتها. وامتد بها الأجل عاماً آخر، مشلولة عاجزة، ولكنها ظلت توزع صدقاتها إلى النهاية.
ب - مدام دو دفان
كان هناك صالون واحد في أوربا يستطيع صالون مدام جوفران شهرة ومريدين وقد سبق أن درسنا سيرة وخلق ماري ديفيشي-شامرون: وكيف وأنها وهي صبية أفزعت الراهبات والقساوسة بحرية فكرها، وكيف تزوجت المركيز دو دفان، وهجرته، والتمست السلوى لوحدتها في صالون (1739 وما بعدها)، بشارع بون أولاً، ثم (1747) بدير سان جوزيف
بشارع سان دومنيك. وروع هذا الموقع الجديد الذي اختارته لصالونها جماعة الفلاسفة الذين كانوا يأتون ليستمتعوا بنبيذها وظرفها، إلا واحداً منهم هو دالامبير، الذي ظل يتردد عليه لأنه كان أقل أفراد هذه القبيلة مشاغبة وعدواناً. أما باقي الرواد فكانوا رجالاً ونساءً من الطبقة الأرستقراطية، يميلون إلى التعالي على مدام جوفران لأنها برجوازية. وحين كف بصر المركيزة وهي في السابعة والخمسين (1754) واصل أصدقاؤها الاختلاف إلى حفلات عشائها. ولكنها خلال باقي الأسبوع أحست وقع الوحدة في جزع متزايد، إلى أن أقنعت ابنة أخيها بالإقامة معها، والقيام بدور المضيفة المساعدة في أمسيتها.
وكانت جولي دليسبناس الابنة غير الشرعية للكونتيسة دالبون وجسبار دفيشي، أخي مدام دو دفان، واعترفت الكونتيسة بها، وربتها مع أطفالها الآخرين، وأتاحت لها تعليماً ممتازاً، وحاولت إقرار شرعيتها، ولكن إحدى بناتها اعترضت فأخفقت المحاولة. وفي 1739 تزوجت هذه الأخت غير الشقيقة من جسبار دفيشي وذهبت لتعيش معه في قصر شامبرون الريفي ببرجنديا. وفي 1748 كانت الكونتيسة بعد أن أوصت بمعاش سنوي قدره ثلاثمائة جنيه لجولي البالغة آنذاك السادسة عشرة. وأخذت مدام دفيشي جولي إلى شامبرون، ولكنها عاملتها على أنها فتاة يتيمة غير شرعية تستخدمها مربية للأطفال. فلما زارت مدام دو دفان شامبرون راعها ما آنسته في الآنسة دليسبيناس من عقل نير وسلوك مهذب، وكسبت ثقة الفتاة، وعلمت أنها تشقى في وضعها الراهن شقاء حملها على أن تدخل ديراً. واقترحت المركيزة أن تأتي جولي وتعيش معها باريس. واعترضت الأسرة مخافة أن ترتب دو دفان تقرير شرعية جولي فيخول لها هذا حقاً في نصيب من تركة ألبون. ولكن المركيزة وعدت بأنها لن تسيء إلى أقربائها بعمل كهذا. ودخلت جولي أثناء ذلك ديراً (أكتوبر 1752) لا كراهبة مبتدئة بل كتلميذة في القسم الداخلي. وجددت المركيزة اقتراحها. ووافقت جولي بعد عام من التردد. وفي 13 فبراير 1754 أرسلت لها المركيزة رسالة غريبة يجب أن نتذكرها ونحن نحكم على ما تلاها:
"سأقدمك على أنك شابة من إقليمي تريدين دخول دير، وسأقول إنني
قدمت لك مسكناً حتى تجدي مكاناً مناسباً لك. وستعاملين بأدب، بل بمجاملة، وفي وسعك أن تعتمدي علي في أن أحداً لم ينال من كرامتك".
على أن .... هناك نقطة أخرى علي أن أشرحها لك. فأنا لا أطيق أي خداع، ولو كان مكراً طفيفاً جداً، إن كنت تخلطينه بسلوكك. وأنا بطبعي شكاكة، اشتبه في كل من أكشف فيهم المكر إلى أن أفقد كل ثقة فيهم. إن لي صديقين حميمين-فورمون ودالامبير، أحبهما حباً جماً، لا للطفهما وصداقتهما بقدر ما أحبهما لصدقهما المطلق. عليك إذن يا مليكتي أن تعتزمي العيش معي بغاية الصدق والإخلاص
…
قد تظنين أنني أعظك، ولكني أؤكد لك أنني لا أفعل هذا أبداً إلا فيما يتصل بالإخلاص. ففي هذا لا تأخذني رحمة بأحد (94).
وفي إبيريل 1754 أتت جولى لتسكن مع مدام دوفان، أولاً فوق سقيفة للعربات، ثم في حجرة فوق شقة المركيزة في دير سان جوزيف. وقرر لها دوق أورليان معاشاً قدره 692 جنيهاً (95)، وربما بناء على اقتراح المدام. وكانت تعين المضيفة المكفوفة على استقبال ضيوفها وإجلاسهم في ندواتها، وأضفت الأشراف على أعمال الندوة بلطف سلوكها وسرعة بديهتها ونضارة شبابها وتواضعه. ولم تكن ذات جمال بارع، ولكن عينيها السوداوين المتألقتين وشعرها البني الغزير ألفا مزيجاً فتاناً. فكاد يقع في غرامها نصف الرجال الذين اختلفوا إلى الندوة، حتى فارس المدام الأمين العجوز شارل-جان فرانسوا اينو، رئيس محكمة العرائض، صاحب الأعوام السبعين، المتوجع أبداً، الثمل أبداً بالكثير من النبيذ. وتقبلت جولي مجاملاتهم بما يجب من عمد الاكتراث، ولك نرغم ذلك فإن المركيز الشديدة الحساسية في عماها لابد قد شعرت بأن بعض العبادة قد انتقلت من عرشها. وربما دخل في الأمر عنصر جديد: ذلك أن المرأة المسنة كانت قد بدأت تحب الشابة جباً لا يرضى بشريك له. وكانت كلتاهما تلتهب بالعاطفة المشوبة، رغم أن المركيزة أوتيت عقلاً من أكثر عقول العصر رجاحة ونفاذاً.
ولم يكن مناص لجولي من أن تحب. أولاً إيرلندياً شاباً لا نعرف عنه
غير اسمه تاف. فبعد أن قبل في الصالون كان يختلف إليه كل يوم تقريباً. وسرعان ما تبين للمركيزة أنه لا يأتي لمشاهدتها بل لمشاهدة المدموازيل. وروعها أن ترى أن جولي قبلت تودده بالرضى. فحذرتها من تعريض نفسها للخطر. وأنكرت الفتاة المتكبرة نصيحة الأم. وإذ خافت المركيزة أن تفقدها وحرصت على حمايتها من غرام عات لا يرجى دوامه، أمرت جولي بأن تلزم حجراتها إذا جاء جاف. فأطاعت، ولكن المشاجرة أثارت فيها من الانفعال ما حملها على تعاطي الأفيون لتهدئ أعصابها. وقد شاع استعمال الأفيون في القرن الثامن عشر مهدئاً، ولكن الآنسة ليسبيناس ضاعفت جرعاتها مع كل غرام جديد.
وألفت أن تسلو تاف، ولكن غرامها الجديد دخل التاريخ، لأنه أصاب الرجل الذي اصطفته مدام دو دفان لنفسها في حب أموي ولكنه شديد التملك، وكان هذا الرجل، جان لورون دالامبير، في عام 1754 قد بلغ أوج شهرته رياضياً، وفيزيائياً، وفلكيا، وحرراً في تلك "الموسوعة" التي كانت باريس المثقفة بأسرها. وقد قال فولتير عنه، في لحظة تواضع، إنه "أعظم كتاب في القرن"(96) ومع ذلك لم يؤت شيئاً من فرص فولتير. فقد ولد ولادة غير شرعية، وأنكرته أمه مدام دتنسان، ولم يره أباه منذ طفولته. وعاش برجوازياً بسيطاً في بيت الزجاج روسو. وكان وسيماً، حسن الهندام، جم الأدب، مرحاً أحياناً، في وسعه أن يخوض في أي موضوع مع أي متخصص تقريباً، ولكن في وسعه أيضاً أن يخفي علمه وراء واجهة من القصص، والتقليد الساخر، والنكتة الذكية. وفيما عدا ذلك لم يصالح العالم إلا قليلاً. فقد آثرت استقلاله على الملوك والملكات؛ وحين قامت مدام دودفان بحملة لتدخله الأكاديمية الفرنسية أبى أن يضمن الحصول على صوت إينو بتقريض كتابه "مختصر كرونولوجي لتاريخ فرنسا"(1774) وكان فيه عرق من الهجاء جعل فكاهته لاذعة أحياناً؛ (97) فقد ينفد صبره، ويبيت أحياناً عنيفاً في ثورته على خصومه (98)، ولم يعرف قط ما الذي يجب أن يقوله أو يفعله حين ينفرد بالنساء، ومع ذلك فإن حياءه اجتذبهن، وكأنما بتحديه لقوة تأثير مفاتنهن.
وقد راع مدام دو دفان منه في أول لقائها به (1743) اتساع ذهنه ونصوع تفكيره. وكانت يومها في السادسة والأربعين، وهو في السادسة والعشرين. فتبنته "قطها الوحشي"(99) ولم تكتف بدعوته لصالونها بل دعته أيضاً إلى تناول الطعام معها على انفراد؛ وأقسمت بأنها على استعداد "لتنام اثنتين وعشرين ساعة من الأربعة والعشرين، ما دمنا ننفق الساعتين الباقيتين معاً"(100) وكان قد انقضى على هذه الصداقة الحميمة أحد عشر عاماً حين دخلت جولي حياتهما.
كان هناك رباط عائلي طبيعي بين الابن الطبيعي والابنة الطبيعية. وقد دون دالامبير هذه الحقيقة وهو يسترجع ذكراها فيما بعد:
"كان كلانا يفتقد الوالدين والأسرة، وإذ عانينا الهجر، وسوء الطالع، والشقاء منذ ولادتنا، بذا أن الطبيعة بعثت بنا إلى العالم ليجد الواحد منا صاحبه، وليكون له كل ما افتقده، ولنقف معاً كأننا صفصافتان، وأحنتهما العاصفة دون أن تقتلعهما، لأنها في ضعفهما تشابكت أغصانهما"(101).
وأحس بهذا الانجذاب لأول نظرة تقريباً. كتب لها عام 1771 يقول: - "إن الزمن وطول الألفة يبليان كل الأشياء، ولكنهما عاجزان عن أن يمسا حبي لك، وهو حب ألهمتنيه قبل سبعة عشر عاماً"(102) ومع ذلك تريث تسع سنوات قبل أن يفصح عن غرامه، وحين فعل ذلك بطريقة غير مباشرة. كتب لها من بوتسدام في 1763 يقول: أن له في رفض دعوة فردريك له أن يصبح عميداً لأكاديمية برلين للعلوم "ألف سبب، منه سبب لا يخطر لك أن تحزريه"(103) وتلك زلة في الذكاء تستغرب عن دالامبير، فهل في الوجود امرأة لا تعرف أن رجلاً من الرجال يهواها؟
وأحست مدام دو دفان ذلك الود المتزايد بين ضيفها المقدر وابنة أخيها المحروسة، كذلك لحظت أن جولي تغدو محور النقاش والاهتمام في الصالون. وظلت برهة لا يبدر منها لوم ولا عتاب، ولكنها في رسالة إلى فولتير (1760) أبدت ملاحظات مرة حول دالامبير. وسمحت لصديق أن يقرأ على ضيوفها
قبل وصول دالامبير جواب فولتير الذي أشار إلى ملاحظاتها. وإذا دالامبير يدخل بمجرد البدء في القراءة ويسمع الفقرة النمامة، فضحك مع الضاحكين، ولكنه تأذى، وحاولت المركيزة استرضاءه، ولكن الجرح لم تندمل، فلما زار فردريك عام 1763 كانت رسائله يومية تقريباً إلى الآنسة ديليسبناس، نادرة إلى المدام. وبعد عودته من باريس ألف أن يزور جولي في شقتها قبل أن يهبطا إلى الصالون، وكان طورجو أو شاستللوكس أو مارمونتيل يصحبونه أحياناً في هذه الزيارات الحميمة. وشعرت المضيفة العجوز أن الذين أعانتهم وأحبتهم يخونونها.؟ ونظرت الآن إلى جولي كأنها عدو لها، وكشفت عن شعورها بطرق مثيرة كثيرة-كفتور لهجتها في الحديث معها، ومطالبها التافهة منها، وتذكيرها إياها بين الحين والحين باعتمادها عليها. أما جولي فقد ازداد ضيقها يوماً بعد يوم بهذه "العجوز العمياء الغضوب"، وبالتزامها بأن تكون دائماً في متناولها أو على مقربة منها لتلبي حاجة المركيزة في أية ساعة. وزادها مرور الأيام تعاسة على تعاسة، إذ كان لكل يوم لذعته. وقد كتبت في تاريخ لاحق تقول "كل ألم يتغلغل إلى الأعماق، أم اللذة فطائر سريع الفرار"(104) وفي ثورة أخيرة من ثورات غضب المدام اتهمتها بخداعها قي بيتها وعلى نفقتها. وردت جولي بأنها لم تعد قادرة على العيش مع من تنظر إليها هذه النظرة. وفي يوم من أوائل مايو 1764 غادرت المنزل بحثاً عن مسكن آخر. أما المركيزة فقد جعلتها قطيعة لا رجعة فيها بإصرارها على أن يختار دالامبير بينها أو بين جولي، فغادرت البيت، ولم يعد إليه قط.
وبدا حيناً أن الصالون القديم قد جرح جرحاً مميتاً بهذين البترين. وواصل معظم رواده زيارة المركيزة، ولكن العديد منهم-كالمرشالة دلكسمبورج، والدوقة دشايتون، والكونتسة دبوفليه، وطورجو، وشاستللوكس، بل حتى إينو-ذهبوا إلى جولي ليعربوا عن تعاطفهم واهتمامهم المستمر بها، وتقلص الصالون فلم يحوِ غير قدامى الأصدقاء والأوفياء منهم، والوافدين الجدد الذين يسعون إلى التميز والطعام الطيب. وقد وصف المدام هذا التغيير في 1768 فقالت:
"كان هنا بالأمس اثنا عشر شخصاً، وأعجبت بمختلف أنواع الحديث التافه ودرجاته. كنا جميعاً مقفلين كباراً، كل في بابه
…
كنا مملين غاية الإملال. وانصرف الأثنا عشر جميعاً في الساعة الواحدة، ولكن أحداً منهم لم يخلف وراءه أسفاً
…
أن بون-دفيل صديقي الوحيد، وهو يقتلني ضجراً ثلاثة أرباع الوقت". (105)
إنها لم تكن للحياة أي حب على الإطلاق من انطفاء نور عينيها، أما الآن، وبعد أن انفض عنها أعز أصدقائها، فقد تردت في حالة من القنوط الساخر الذي لا شفاء منه. فلعنت اليوم الذي ولدت فيه كما فعل أيوب "إن عماي وشيخوختي هما أقل ما رزئت به من أحزان
…
فليس هناك غير خطب واحد
…
هو أنني ولدت. " (106) وسخرت من أحلام الرومانسيين والفلاسفة على السواء-لا من "هلويز، وروسو وقسيسه السافواوي" فحسب، بل من حملة فولتير الطويلة في سبيل "الحقيقة" قالت: "وأنت يا مسيو فولتير"، عاشق الحقيقة المعلن، قل لي بأمانة، هل وجدتها؟ إنك تحارب الأخطاء وتهدمها، ولكن ماذا تحل محلها؟ "(107) لقد كانت شكاكة، ولكنها آثرت الشكاكين المعتدلين أمثال مونتيني وسانت-إفرمون على الثوار العدوانيين كفولتير وديدرو.
وخالت أنها نفضت يديها من الحياة، ولكن الحياة لم تنفض يديها منها تماماً. فقد بعث صالونها بعثاً متقطعاً خلال وزارة شوازيل، حين تجمع أقطاب الحكم حول المركيزة العجوز، وجاءت صداقة دوقة شوازيل الرقيقة ببعض النور الذي أشرق وسط تلك الأيام الحالكة. وفي 1765 بدأ هوراس ولبول يختلف إلى ندواتها، وشعرت نحوه شيئاً فشيئاً بمحبة غدت آخر تشبث مستميت لها بالحياة. ونرجو أن نلقي بها ثانية في ذلك التجسيد الأخير المذهل.
جـ - الآنسة دليسبيناس
اختارت جولي لمسكنها الجديد بيتاً ذا طوابق ثلاث عند ملتقى شارع بلشاش بشارع سان-دومينيك، ولم يكن يبعد غير مائة ياردة من بيت المركيزة الديري
ولم تبلغ معاناتها مبلغ الإملاق، فقد تلقيت بالإضافة إلى عدة معاشات صغيرة، معاشين مقدارهما 2. 600 جنيه من "دخل الملك (1758 و1763)، بناء على إلحاح شوازيل فيما يبدو، ثم إن مدام جوفران وهبتها بناء على اقتراح دالامبير راتبين سنويين منفصلين مقدارهما ألفا جنيه وألف كروان. وأعطتها المرشالة دلكسمبورج طقماً كاملاً من الأثاث.
وما إن استقرت جولي في مسكنها الجديد حتى أصيبت بالجدري إصابة شديدة. كتب ديفد هيوم إلى مدام دبوفليه يقول "أن الآنسة دليسبيناس مريضة مرضاً خطراً، ويسرني أن دالامبير نس فلسفته في لحظة كهذه"(108) والواقع أن الفيلسوف كان يمشي مسافة طويلة كل صباح ليقوم على خدمتها إلى جوار فراشها حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم يعود إلى حجرته في بيت مدام روسو. وتماثلت جولي للشفاء، ولكنها باتت ضعيفة عصبية باستمرار وغلظت بشرتها وشابتها الندوب. وفي وسعنا أن نتصور ما يعنيه هذا لامرأة لم تجاوز الثانية والثلاثين ولم تتزوج بعد.
وقد شفيت في الوقت المناسب لتعنى بدالامبير الذي لزم فراشه في ربيع 1765 إثر ألم في معدته أشرف به على الهلاك. وراع مارمونتيل أن يراه ساكناً "حجرة صغيرة سيئة الإضاءة، سيئة التهوية، تحوي سريراً ضيقاً جداً كأنه النعش. (109) وعرض صديق آخر هو المالي قاتلية على دالامبير أن يستعمل بيتاً فسيحاً قرب التامبل. وارتضى الفيلسوف الآن في أسف أن يترك المرأة التي آوته وأطعمته منذ طفولته. وقال دكلو في دهشة "يا لليوم المدهش! لقد فطم دالامبير! " وكانت جولي تقطع الرحلة كل يوم إلى مسكنه الجديد وترد له رعايته الأخيرة لها بإخلاصها الفياض. فلما نقه إلى حد يتيح له التحرك رجته أن يشغل بعض الحجرات في الطابق الأعلى من بيتها، فذهب في خريف 1765، ودفع لها إيجاراً معتدلاً. ولم ينسَ مدام روسو، فكان يزورها كثيراً، ويقتسم معها بعض إيراده، ولا يكف عن الاعتذار عن انفصالهما "أيتها الحاضنة المسكينة، يا من تحبينني أكثر مما تحبين أبناءك! " (110).
وزعمت باريس حيناً أن جولي خليلته. وأيدت المظاهر الزعم. فقد كان دالامبير يتناول طعامه معها، ويكتب لها الرسائل، ويدير لها أعمالها، ويستثمر لها مدخراتها، ويجمع لها إيرادها. وكانا أمام الناس يظهران معاً على الدوام؛ وما دار بخلد مضيف أن يدعو الواحد دون صاحبه. ولكن شيئاً فشيئاً بدأ القوم-حتى المتقولون منهم-يتبينون أن جولى لا هي بالخليلة ولا الزوجة ولا العاشقة لدالامبير، إنما هي مجرد أخت وصديقة. ويلوح أنها لم تدرك قط أن حبه لها كان كاملاً وإن لم يستطع أن يعرب عنه، وتقبلت السيدتان جوفران ونكير-وكلتاهما مضرب المثل في الفضيلة-هذه العلاقة بين دالامبير وجولي على أنها حب أفلاطوني. ودعت صاحبة الصالون العجوز كليهما لندوتيها.
وكان امتحاناً قاسياً لعطف الأم الذي أبدته مدام جوفران نحو الآنسة دليسبيناس ألا يصدر عنها أي احتجاج حين افتتحت هذه صالوناً خاصاً بها ذلك أن جولي ودالامبير كانا قد صنعا من الأصدقاء عدداً بلغ من الكثرة رجالاً ونساءً، وكلهم تقريباً ذائع الصيت أو رفيع المرتبة. وكان دالامبير يقود الحديث، وجولي تضفي على الندوة كل مفاتن الأنوثة ودفء الضيافة. ولم يقدم فيها غداء أو عشاء، ولكنها اشتهرت بأنها أعظم صالونات باريس حفزاً للعقول، اختلف إليها طورجو، ولموميني دبريين، اللذين سيرقيان سريعاً إلى مكان مرموق في الحكومة؛ ونبلاء مثل شاستللوكس وكوندرو رسيه، وأحبار مثل بوامون وبواجيلان، وشكاكون مثل هيوم وموريلليه، ومؤلفون مثل مابليه، وكوندياك، ومارمونيل، وسان-لامبير. حضروا أول الأمر ليروا دالامبير ويستمعوا إليه، ثم ليحظوا بتلك المهارة المتعاطفة التي كانت جولي تستدرج بها كل ضيف في ميدان تفوقه الخاص، ولم يحظر أي موضوع هنا، فكانت تناقش أدق مشكلات الدين أو الفلسفة أو السياسة، ولكن جولي-التي دربتها مدام جوفران على هذا الفن-عرفت كيف تهدئ من ثائرة الثائرين وترد النزاع نقاشاً. وكانت الرغبة في عدم الإساءة إلى المضيفة الرقيقة هي القانون غير المكتوب الذي بعث النظام في هذه الحرية. وفي ختام حكم لويس الخامس عشر كان صالون الآنسة دليسبيناس
في رأي سانت-بيف "أكثر الصالونات رواجاً، وأحفلها بالزوار المتشوقين إليه، في جيل كثر فيه الألمعيون"(111).
ولم يقدم صالون آخر لزواره مثل هذا الإغراء المزدوج، فقد بدأت جولي رغم ندوب وجهها وعدم شرعية نسبها تصبح الحب الثاني لعشرة أو يزيد من الرجال المرموقين. وكان دالامبير في قمة قدراته. يقول جريم:
"كان في حديثه كل ما يعلم العقل ويمتعه. فكان يسلم نفسه بيسر ورغبة لأي موضوع يدخل السرور على نفوس أكثر السامعين، مدخلاً فيه معيناً لا يكاد ينضب من الأفكار، والنوادر، والذكريات العجيبة، وما من موضوع أياً كان جفافه أو تفاهته في ذاته لم يملك سر إضفاء المتعة والطرافة عليه. وكان في كل فكاهاته أصالة رقيقة عميقة. (112)
ثم استمع إلى ديفد هيوم يكتب إلى هوراس ولبول: "إن دالامبير رفيق لطيف المعشر كامل الفضائل. وقد دل على ترفعه عن المنفعة الشخصية والطمع الباطل بفرضه عروضاً من قيصرة روسيا وملك بروسيا .... وله خمسة معاشات، أولها من ملك بروسيا، وثانيها من ملك فرنسا، والثالث يتلقاه بوصفه عضواً في أكاديمية العلوم، والرابع بوصفه عضواً في الأكاديمية الفرنسية، والخامس من أسرته. ولا تزيد جملتها كلها على ستة آلاف جنيه في العام. وهو يعيش على نصف هذا المبلغ عيشة كريمة، ويهب النصف الآخر للفقراء الذين له بهم صلة. والخلاصة أنني لا أكاد أعرف رجلاً، إلا القليلين، يفضله نموذجاً للشخصية الفاضلة الفيلسوفة. (113)
أما جولي فكانت نقض دالامبير في كل شيء خلا يسر الحديث ورقته. ولكن بينما كان هذا الموسوعي واحداً من آخر أبطال حركة التنوير، ينشد العقل والقصد في الفكر والعقل، كانت جولي، بعد روسو، أول صوت واضح للحركة الرومانسية في فرنسا، مخلوقاً (في عبارة مارمونتيل)"أوتي أنشط تصور، وأحر روح، وأشد الخيالات تأججاً منذ سافو"(114). فلم يفقها أحد من الرومانسيين، في عالم الحقيقة أو القصص لا هلويز روسو، ولا روسو ذاته؛ ولا كلاريسيه رتشاردسن، أو مانون بريفوست-في رهافة
الحس أو حرارة حياتها الباطنة. كان دالامبير موضوعياً، أو حاول أن يكون كذلك، أما جولي فكانت ذاتية إلى حد الاستغراق الأناني في النفس أحياناً. ومع ذلك "كانت تشارك المحزونين ألمهم، وقد جاهدت جهاداً محموماً لكي ينتخب شاستللوكس ولاهارب عضوين في الأكاديمية، ولكنها حين أحبت نسيت كل شيء، وكل إنسان آخر. نسيت أولاً مدام دودفان، وثانياً دالامبير نفسه".
ذلك أنه في 1766 دخل الصالون نبيل شاب هو المركيز خوزيه دمورا إي جونزاجو، ابن السفير الأسباني، وكان في الثانية والعشرين، وجولي في الرابعة والثلاثين وكان قد زوج في الثانية عشرة من فتاة في الحادية عشرة، ماتت عام 1764. وأحست جولي بعد قليل بسحر شبابه، وربما بسحر ثرائه. وسرعان ما نضج تعلق الواحد منهما بصاحبه فتعاقدا على الزواج. فلما سمع أبوه بالأمر أمر بأداء واجبه العسكري في أسبانيا. وذهب مورا، ولكنه لم يلبث أن استقال من وظيفة الضابط. وفي يناير 1771 بدأ يبصق الدم، فذهب إلى بلنسية التماساً للراحة، فلما لم يشفَ هرع إلى باريس وجولي. وانفقا معاً أياماً سعيدة كثيرة، مما روح عن بلاطها الصغير وأثار في نفس دالامبير ألماً دفيناً. وفي 1772 استدعي السفير إلى أسبانيا، فأصر على أن يصحبه ابنه. ولم يرضَ الأب ولا الأم بزواجه من جولي، فانفصل فوراً عنهما وبدأ رحلته إلى الشمال ليعود أليها، ولكنه مات بالسل في بوردو في 27 مايو 1774. في ذلك اليوم كتب لها يقول "كنت في طريقي إليك، ولابد أن أموت، ياله من قضاء بشع!
…
ولكنكِ أحببتني، وتفكيري فيكِ ما زال يسعدني، إنني أموت في سبيلكِ! " ونزعوا من أصابعه خاتمين، احتوى أحدهما على خصلة من شعر جولي، ونقش على الآخر هذه الكلمات "كل الأشياء تزول، ولا يبقى غير الحب" وكتب دالامبير الشهم عن مورا يقول "إنني آسف لشخصي على فقد ذلك الرجل الحساس الفاضل الخلق، الرفيع الفكر، أكمل من عرفت من الناس
…
وسأذكر ما حييت تلك اللحظات الغالية التي أحبت فيها نفس بهذا الطهر والنبل والقوة والتهذيب الاختلاط بنفسي". (116)
ومزق نبأ موت مورا قلب جولي، وزاد الخطب فداحة أنها منحت حبها
في الوقت نفسه لرجل آخر. ذلك أنها في سبتمبر 1772 التقت بالكونت جاك-أنطوان دجيبيير، البالغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، والذي كان قد أبلى بلاءً حسناً في حرب السنين السبع. أضف إلى ذلك أن كتابه "دراسة شاملة للتكتيك" أشاد به القواد ورجال الفكر رائعة في هذا الميدان، وقد قدر لهذا الكتاب أن يحمل نابليون نسخة منها عليها تعليقات بخط يده خلال حملاته جميعاً. و"المقال التمهيدي" للكتاب الذي ندد بجميع الأنظمة الملكية صاغ المبادئ الأساسية لسنة 1789 قبل اندلاع الثورة بعشرين عاماً. وفي وسعنا أن نحكم على الإعجاب الذي أغرقه الناس على جيبير من موضوع اختير للنقاش في أحد الصالونات الكبرى:"أيهن تحسد أكثر من غيرها: أم المسيو دجيبير، أم أخته، أم خليلته؟ "(117) وكان له بالطبع خليلة-هي جان دمونسوج، آخر وأطول غرام له. وقد حكمت عليه جولي حكماً قاسياً قس لحظة مرارة إذ قالت: -
"إن الاستخفاف، بل القسوة، التي يعامل بها النساء مصدرها قلة اعتباره لهن
…
فهو يراهن معابثات، مغرورات، ضعيفات، كاذبات، طائشات، واللاتي يحسم فيهن رأيه يراهن متعلقات بالخيل، ومع أنه يضطر إلى الإقرار بوجود خصال حميدة في بعضهن، فهو لا يقدرهن لهذا السبب تقديراً أعلى، بل يرى أن فيهن رذائل أقل، لا فضائل أكثر" (118).
على أنه كان وسيماً، وسلوكه كاملاً، وحديثه يجمع بين الغنى والشعور، وبين العلم والوضوح، قالت مدام دستال "كان حديثه أكثر ما عرفت تنوعاً، وحيوية، وغنى"(119).
ورأت جولي أنها محظوظة بإيتاء جيبير لندواتها، وأفتتن الواحد منهما بشهرة صاحبه، فنشأت بينهما علاقة أصبحت من جانبه غزوة عارضة، ومن جانبها غراماً قتالاً. وهذا الغرام الفتاك هو الذي أحل رسائلها إلى جيبير مكاناً مرموقاً في الأدب الفرنسي وبين أكثر وثائق العصر كشفاً. ففيها أكثر حتى مما في "جولي أو هلويز الجديدة" لروسو (1761)، تلقى إرهاصات لحركة الرومانسية في فرنسا تعبيرها الحي.
وفي أول رسالة باقية إلى جيبير (15 مايو 1773) نراها واقعة في حبائل غرامه، ولكن كان يمزقها تأنيب الضمير لانتهاكها ميثاق الوفاء لمورا. فكتبت لجيبير وهو راحل إلى ستراسبوج تقول:
رباه! بأي سحر، وبأي قدر، استطعت أن تفتني؟ لم لم أمت في سبتمبر؟ كان يمكن أن أموت آنئذ فأعفى .... من اللوم الذي ألوم به نفسي الآن .. إنني أشعر بهذا وآ أسفاه، إنني ما زلت أستطيع الموت في سبيله، فمل من مصلحة لي أضن ببذلها له
…
أواه، أنه سيصفح عني! لقد عانيت كثيراً! ولقد أضنى جسدي وروحي طول ما ألم بي من حزن. وطاش عقلي حين تلقيت خطابه. في ذلك الحين رأيتك أول مرة، في ذلك الحين تسلمت نفسي، في ذلك الحين أدخلت عليها السرور، ولست أدري أيهما كان أحلى-أن أشعر بذلك السرور، أو أن أدين به لك. (120)
وبعد ثمانية أيام سقطت كل أسباب دفاعه: "لو كانت صغيرة جميلة، فاتنة جداً، لما أعياني أن أتبين الكثير من الافتعال في مسلككِ معي، ولكن بما أنني لست من هذا كله في شيء، فإنني أجد في مسلككِ عطفاً وشرفاً أكسباكِ نصراً على روحي إلى الأبد. (121)
وكانت أحياناً تكتب بكل التحرر الذي كتبت بها هلويز لأبيلار:
"أنت وحدك الذي يستطيع في هذا الكون أن يمتلك كياني ويتربع فيه .. وقلبي، وروحي، لا يمكن أن يملأهما سواك .... إن بابي لم يفتح اليوم مرة دون أن يخفق قلبي، ومرت بي لحظات كنت أخشى فيها أن اسمع اسمك، ثم كان يحطم قلبي ألا أسمعه. أن كثيراً من المتناقضات، وكثيراً من الانفعالات المصطرعة، صادقة، وتفسرها كلمة واحدة: أحبك. (122)
وزاد الصراع بين الغرامين من الاضطراب العصبي الذي ربما كان مصدره تعطش آمالها إلى تحقيق المرأة لذاتها، واستهدافها المتزايد للسل، وكتبت إلى جيبير 6 يوليو 1773 تقول:
"إن روحك رغم اضطرابها ليست كروحي التي لا تفتأ مترددة بين
التشنج والاكتئاب. وأنا أتعاطى السم (الأفيون) لأهدئ نفسي. وأنت ترى أنني عاجزة عن أن أهدئ نفسي؛ فأرشدني، وقوني، وسأصدقك، وستكون سندي. (123)
وعاد جيبير إلى باريس في أكتوبر، وقطع علاقاته مع مدام دمونسوج، وباح بحبه لجولي. فقبلته شاكرة، وأسلمت له جسدها-في الحجرة المؤدية لمقصورتها في الأوبرا (10 فبراير 1774)(124) وقد زعمت فيما بعد أن هذه الفعلة التي اقترفتها وهي في الثانية والأربعين، كانت أول زلة لها من "الشرف" و"الفضيلة" (125) ولكنها لم تنح على نفسها باللوم:
"أتذكر الحال التي وضعتني فيها، والتي اعتقدت أنكَ تركتني عليها؟ حسناً أود أن أقول لك أنني بعد أن أفقت سريعاً، قمت ثانية (والكلمتان كتبتهما بحروف مائلة) ورأيت ذاتي غير هابطة عن مقامي قيد أنملة .... وربما تعجب لأن آخر الدوافع التي جذبتني إليك هو الوحيد الذي لا يبكتني عليه ضميري ..... فبذلك الاستسلام، بتلك المرتبة النهائية من نكران نفسي وكل مصلحة شخصية لي، أثبت لك أنه ليس هناك غير خطب واحد في الأرض لا طاقة لي باحتماله-وهو أن أغضبك وأفقدك. فذلك الخوف يجعلني أبذل لك حياتي"(126).
"ونعمت حيناً بنشوات السعادة. وكتبت إليه (لأنهما أخفيا عن الناس علاقتهما وسكن الواحد بعيداً عن صاحبه). لقد ظللت أفكر فيك طوال الوقت. وأنا مستغرقة فيك استغراقاً يجعلني أفهم شعور العابد نحو إلهه. "(127) أما جيبير فلم يكن بد من أن يمل غراماً يسرف هذا الإسراف في سكب نفسه دون أن يترك لقوته أي تحد. وسرعان ما راح يهتم بالكونتيسة دبوفليه، ويستأنف غرامه بمدام دمونسوج (مايو 1774). وعاتبته جولي، فرد في فتور. ثم نمى إليها في 2 يونيو أن مورا مات في طريقه إليها وهو يبارك اسمها. فتردت في حمى من الندم والحسرة وحاولت أن تسمم نفسها، ولكن جيبير منعها. وراحت خطاباتها إليه يدور أكثرها حول مورو، ومبلغ سمو هذا النبيل الأسباني عن أي رجل عرفته في حياتها. وقلت رؤية جيبير لها وزادت لقاءاته بمونسوج. وعللت جولي نفسها بالبقاء على الأقل خليلة من خليلاته، فكانت
ترتب له الزيجات، ولكنه رفض عرائسها، وفي أول يونيو 1775 تزوج الآنسة دكورسيل، وكانت فتاة غنية في السابع عشرة. وكتبت له جولي خطابات مفعمة بالحقد والاحتقار، مختتمة بتوكيدات الحب الذي لا يموت (128).
وقد استطاعت طوال حمى غرامها كلها أن تخفي طبيعتها عن دالامبير، الذي خيل إليه أن سببها هو غياب مورا ثم موته. فرحب بجيبير في صالونها، وكون صداقة مخلصة معه، وكان يرسل بشخصه الرسائل المختومة التي تكتبها لعشيقها. ولكن لحظ أنها فقدت اهتمامها به، وأنها كانت أحياناً تستاء من وجوده. والواقع أنها كتبت لجيبير "لولا أنه يبدو عقوقاً بالغاً مني لقلت أن رحيل دالامبير يعطيني نوعاً من السرور. إن حضوره يثقل روحي. وهو يجعلني قلقة مضطربة النفس، فأنا أشعر أنني غير مستحقة أبداً لصداقته وطيبة قلبه .. "(129) فلما ماتت كتب إلى "روحها" يقول:
"ليت شعري لأي سبب لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أحزره، تغير فجأة ذلك الشعور الذي كان من قبل غاية في الرقة نحوي
…
إلى شعور الغربة والنفور؟ ما لذي صنعت مما يسيء إليكِ؟ لمَ لم تشكِ إليّ إن كان لكِ مبرر للشكوى؟
…
أم أنكِ أيتها العزيزة جولي
…
قد أسأت إليّ إساءة أجهلها، وكان يحلو لي كثيراً أن اغتفرها لو علمت بها
…
لقد كنت عشرين مرة على وشك أن ألقي بنفسي بين ذراعيكِ، وأن أطلب إليكِ أن تخبريني ما جريرتي، ولكني خشيت أن تصدني هاتان الذراعان
…
"
"وظللت تسعة أشهر أترقب اللحظة التي أخبركِ فيها بما عانيت وما أحسست، ولكني وجدتكِ خلال تلك الشهور أضعف من أن تحتملي العتب الرقيق الذي كان عليّ أن أكاشفك به، واللحظة الوحيدة التي كان يمكنني فيها أن أكشف لك في غير خفاء عن قلبي المحزون الواهم هي تلك اللحظة الرهيبة، قبل موتك بساعات، حين سألتني الصفح عنكِ بطريقة مزقت نياط قلبي
…
ولكن عندها لم يعد فيكِ قوة لا للتحدث ولا لاستماع إليّ
…
وهكذا فقدتِ إلى الأبد لحظة العمر التي كانت ستكون لي أغلى اللحظات-اللحظة التي أخبرك فيها، مرة أخرى، كم أنتِ عزيزة عليّ، وكم شاطرتكِ بحبكِ، وما أعمق
رغبتي في أن أنهي آلامي بكِ، وددت لو بذلت كل ما بقي لي من لحظات عمري لقاء تلك اللحظة الواحدة التي لن تتاح لي أبداً، تلك التي ربما كنت أستعيد بها حنانكِ إذ أكاشفكِ بكل ما في قلبي من حنان لك. " (130)
وساعد انهيار حلم جولي السل على الفتك بها، ودعي لعيادتها الطبيب بوردو (الذي التقينا به في قصة ديدرو "حلم دالامبير")، فصرح بأنه لا أمل في شفائها. ولم تبرح فراشها منذ إبريل 1776. وكان جيبير يذهب لزيارتها كل صباح ومساء. ولم يكن دالامبير يترك العناية بها إلا لينام. وكان الصالون قد توقف، لولا حضور كوندورسيه، وسوار، ومدام جوفران الطيبة، التي كانت هي ذاتها مشرفة على الموت. وفي أيامها الأخيرة أبت جولي أن تسمح لجيبير بزيارتها، لأنها لم تشأ أن تدعه يرى كيف شوهت التشنجات وجهها؛ ولكنها كانت ترسل العديد من الخطابات، وأكد لها هو أيضاً حبه:"لقد أحببتكِ من اللحظة الأولى التي التقينا فيها، أنكِ أغلى عندي من كل شيء في هذه الدنيا. "(131) وكان هذا، ووفاء دالامبير الصامت، وقلق أصدقائها عليها، العزاء الوحيد لها في آلامها. وكتبت وصيتها، التي عينت دالامبير منفذاً لها، وعهدت إليه بكل أوراقها وأمتعتها الشخصية
(1)
.
وجاء أخوها المركيز دفيشي من برجندية، وألح عليها في أن تتصالح مع الكنيسة وكتب إلى الكون دالبون "يسعدني أن أقول لك إنني أقنعتها بأن تتناول القربان على الرغم من "الموسوعة" كلها، وفي مواجهتها"(132).
وأرسلت كلمة أخيرة إلى جيبير: "يا صديقي، أنني أحيك
…
وداعاً" وشكرت دالامبير على وفائه الطويل، وتوسلت إليه أن يغفر لها جحودها، وماتت في تلك الليلة، في الساعات الباكرة من يوم 23 مايو 1776. ودفنت في اليوم نفسه، في كنيسة سان-سولييس، "دفن الفقراء" كما رغبت في وصيتها.
(1)
احتفظت زوجة جيبير بخطابات جولي إليه، وقد نشرت في 1811.
الفصل الخامس
فولتير الشيخ
1758 - 1778
1 -
الإقطاعي الطيب
في أكتوبر 1758 اشترى فولتير ضيعة قديمة في فرنيه، في مقاطعة جكس، الواقعة على حدود سويسرا، ولم يلبث أن أضاف إليها أقطاعة تورنيه التي اشتراها لمدى الحياة، وبهذا أصبح الآن من الناحية القانونية سيداً إقطاعياً، وراح يوقع باسم "الكونت دتورنيه" في الشؤون القانونية، وأبرز شعار نبالته على مدخل بيته وغلى آنيته الفضية" (1).
كان قد سكن فيلا دليس بجنيف منذ 1755، ولعب دور المليونير الفيلسوف المضياف في لذة وفي استحسان من الناس، ولكن المقال الوارد في موسوعة دالامبير عن جنيف، الذي أماط اللثام عن الهرطقات السرية التي يدين بها قساوستها، عرض فولتير للاتهام بأنه وشى بهم لصديقه، فلم يعد شخصاً مرغوباً فيه على أرض سويسرا، وراح يلتمس من حوله مسكناً آخر. وكانت فرنيه تقع في فرنسا، ولكنها لا تبعد عن جنيف أكثر من ثلاثة أميال، هنالك يستطيع أن يخرج لسانه للقادة الكلفنيين، ولو جدد القادة الكاثوليك في باريس-على 250ميلاً-حملتهم لاعتقاله، لاستطاع في ظرف ساعة أن يعبر الحدود، وخلال ذلك (1758 - 1770) كان صديقه الدوق دشوازيل يرأس الوزارة الفرنسية واشترى فرنيه باسم ابنة أخته مدام دنيس، ربما اتقاء المصادرة إذا غيرت ريح السياسة اتجاهها، لم يشترط عليها إلا أن تعترف بع سيداً على الضيعة طوال حياته. وظلت فيللا دليس حتى علم 1764
مسكنه الرئيسي، وراح يعدل قس بيته بفرنيه على مهل، وأخيراً انتقل إليه في ذلك العام.
وكان البيت الفخم الجديد من الحجر، ومن تصميم فولتير إلى حد كبير، وبه أربع عشرة حجرة نوم. كتب يقول "إنه ليس قصراً، ولكنه بيت ريفي فسيح، تلحق به أرض تنتج الكثير من الدريس، والقمح، والتبن، والشوفان. ولدي بلوطات في استقامة أشجار الصنوبر تلمس رؤوسها السماء. "(2) وأضافت تورنيه إلى أملاكه هذه قصراً ريفياً قديماً، ومزرعة، ومخزناً للغلال، ومرابط، وحقولاً، وغابات، وضمت مرابطه في جملتها الخيول، والثيران، وخمسين بقرة، ووسعت مخازنه كل حاصلات أرضه وبقي فيها مكان لمعاصر النبيذ، وحيشان الدواجن، وحظيرة للغنم، وامتلأت المزرعة بطنين أربعمائة خلية نحل، وجادت الأشجار بأخشاب تدفئ عظام السيد الإقطاعي من رياح الشتاء. واشترى وغرس الشجيرات، وزرع شجيرات أكثر من نباتات صغيرة رباها في مستنبتاته. ومد الحدائق والأفنية حول بيته حتى بلغ محيطها ثلاثة أميال؛ وكانت تحوي أشجار الفاكهة، والكروم، وأنواعاً كثيرو من الأزهار. هذه الأبنية، والنباتات، والحقول، والنظار الثلاثون القائمون عليها-كل أولئك كان يشرف عليه بشخصه. هنا أيضاً رضي رضى أنساه أن يموت، شأنه حين دخلا فيلا دليس. فكتب إلى مدام دوفان يقول "أني مدين بحياتي وصحتي للطريق الذي سلكته. ولو جرؤت لاعتقدت أنني حكيم، لأنني سعيد جداً. "(3)
وتسلطت مدام دنيس على الخدم والأضياف الثلاثين أو أكثر الذين عاشوا في القصر الريفي متفاوتة الإنصاف. وكانت طيبة القلب، ولكنها حادة الطبع، تحب المال أكثر قليلاً لحبها ما عداه .... رمت خالها بالبخل، ولكنه نفى التهمة؛ على أي حال "نقل إليها شيئاً فشيئاً، الجانب الأكبر من ثروته. "(4) وكان قد أحبها طفلة، ثم امرأة، وطاب له الآن أن يتخذها قهرمانة له. وكانت تمثل في المسرحيات التي يخرجها، وأجادت التمثيل حتى كان يقارنها بكليرون. وأدار هذا المديح رأسها، فعكفت على كتابة المسرحيات ولقي فولتير عنتاً في ثنيها عن عرضها على الناس. ثم أضجرتها حياة الريف
وهفت نفسها إلى باريس، وكانت رغبة فولتير في الترويح عنها بعض ما دفعه إلى دعوة هذه السلسلة الطويلة من الضيوف واحتمالها. ولم تكن تحب سكرتيره فاجنيير، ولكنها أغرمت بالأب آدم، اليسوعي الشيخ الذي رحب فولتير في بيته غريما لطيفاً في لعبة الشطرنج، والذي فاجأه ذات يوم عند قدمي الخادمة بربارة. (5) ومرة، ربما بسبب سماح دنيس للإرهاب بالرحيل مصطحباً إحدى مخطوطات السيد، أغضبت فولتير غضباً حمله على ردها إلى باريس بعد أن رتب لها معاشاً سنوياً قدره عشرون ألف فرنك (6). ولكن بعد ثمانية عشر شهراً، فتوسل إليها أن تعود.
وغدت فرنيه كعبة يحج إليها من يستطيعون الرحلة ويستطيبون التنوير. فأمها صغار الحكام كدوق فورتمبرج وناخب بالاتين، والإقطاعيون كأمير لبن ودوفي ريشليو وفيلار، والأعيان كتشاولز جيمس فوكس، وملتقطو الأخبار كبيرني وبوزويل، والفاسقون مثل كازانوفا، ومئات ممن هم أقل من هؤلاء شأناً. وكان يكذب كذباً مفضوحاً إذا جاءه زوار لم يدعهم، "قولوا له إنني مريض جداً""قولوا لهم أنني مت"، ولكن أحداً لم يصدق. كتب إلى المركيز ديفليت يقول "اللهم نجني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم. "(7)
وما أن استقر به المقام في فرنيه حتى ظهر بوزويل (24 ديسمبر 1764) وهو ما يزال متأثراً بزياراته لروسو. وبعث فولتير إليه بكلمة يقول إنه ما زال في فراشه ولا يمكن إزعاجه. ولكن هذا لم يجد في ثني الاسكتلندي الملهوف، فأصر على البقاء ولم يبرح مكانه حتى طلع عليه فولتير. وتحادثا ملياً، ثم خلا فولتير إلى المكتبة. وفي الغد كتب بوزويل إلى مدام دنيس من فندق في جنيف يقول:
"يجب أن ألتمس منكِ يا سيدتي أن تعيريني اهتمامك بأن تحصلي لي على صنيع كبير من المسيو دفولتير. أريد أن أنال شرف العودة إلى فرنيه يوم الأربعاء أو الخميس. فأبواب هذه المدينة الوقور تغلق في ساعة
…
سخيفة جداً، حتى ليضطر المرء إلى الرحيل بعد العشاء قبل أن يتاح لرب البيت الأشهر أن يطلع بمحياه على ضيوفه
…
فهل يسمح لي يا سيدتي بقضاء ليلة واحدة تحت سقف المسيو دفولتير؟ إنني اسكتلندي صلب العود شديد البأس، ولك أن تصعدني إلى أعلى وأبرد علية في البيت، بل أنني لن أرفض النوم على مقعدين في حجرة نوم خادمتك" (8).
وأمر فولتير ابنة أخيه بأن تخبر الاسكتلندي أن يحضر؛ وسيعد له فراش. فحضر في 27 ديسمبر، وتحث إلى فولتير بينما كان هذا يلعب الشطرنج، وفتنه حديث السيد وشتائمه الإنجليزية، ثم "أنزل مكاناً أنيقاً" في "حجرة جميلة". (9) وفي الغد اضطلع بهداية فولتير إلى المسيحية القويمة، وبعد قليل اضطر فولتير وقد أوشك على الإغماء أن يطلب هدنة. وبعد يوم ناقش بوزويل ديانة رب البيت مع الأب آدم، الذي قال "أنني أصلي من أجل المسيو دفولتير كل يوم .... من المؤسف أنه ليس مسيحياً. فإنه يملك الكثير من الفضائل المسيحية. وله أجمل نفس، وهو إنسان خير، محسن، ولكنه شديد التحامل على الدين المسيحي. "(10)
وكان فولتير يقدم لضيفوه الطعام، والحكمة، والنكتة، والمسرحية، ليرفه عنهم. وبنى قرب بيته مسرحاً صغيراً وصفه جبون حين رآه عام 1763 لنه "أنيق جداً مصمم تصميماً حسناً، يقع إلى جوار كنيسته الصغيرة، التي لا تدانيه إطلاقاً. "(11) وسخر الفيلسوف من روسو والقساوسة الجنيفيين الذين أدانوا المسرح باعتباره منبر الشيطان. ولم يكتف بتدريب مدام دنيس بل درب أيضاً خدمه وضيوفه على لعب الأدوار في تمثيلياته وغيرها، وكان هو نفسه يختال على خشبة المسرح في الأدوار الرئيسية، وأقنع الممثلون المحترفون بسهولة بأن يمثلوا لأشهر كاتب في العالم.
ووجد الزوار في مظهره فتنة تقرب من فتنة حديثه. فقال أمير لين في وصفه إنه مدثر بروب عليه أزهار، على رأسه باروكة هائلة تعلوها قلنسوة من المخمل الأسود، ويرتدي سترة من القطن الرفيع تصل إلى ركبته، وبنطلوناً قصير أحمر، وجوارب رمادية، وحذاء من القماش الأبيض. (12) وكانت عيناه "لامعتين تمتلئان ناراً" كما يقول فاجنير،
وقال هذا السكرتير المخلص إن مولاه "كثيراً ما كان يغسل عينيه بالماء النقي البارد"، و"لا يستعمل النظارات إطلاقاً"(13) وفي أخريات حياته، حين مل حلاقة لحيته، كان ينزع شعرها بملقاط. ويواصل فاجنيير حديثه فيقول "كان شديد الولع بالنظافة والنظام، وكان هو ذاته نظيفاً إلى حد الوسوسة. "(14) وكثيراً ما كان يستعمل مساحيق التجميل، والعطور، والمراهم، وكانت حاسة شمه المرهفة تتأذى من الروائح الكريهة. (15) وكان "نحيلاً إلى حد لا يصدق" لا يحمل من لحم إلا ما يكسو عظامه بالجهد. وكتب الدكتور بيرني بعد أن زاره عام 1770 "ليس من اليسير تصور إمكان بقاء الحياة في جسد يكاد يكون جلداً وعظاماً .... وقد ظنني مشتاق لتكوين فكرة عن
…
إنسان يمشي بعد موته. " (16) وقد قال يصف نفسه إنه "يثير السخرية لأنه لم يمت" (17).
كان عليلاً نصف عمره. وكان يشكو من بشرة شديدة الحساسية؛ وكثيراً ما شكا من حكات متنوعة (18)، ربما من أثر العصبية أو الإفراط في النظافة وكان أحياناً يعاني من تقطر البول-وه التبول البطيء المؤلم؛ في هذه الناحية كان هو وروسو صنوين وإن أشتد تباينهما فيما عداها. وكان يشرب القهوة بإسراف-خمسين مرة في اليوم في رواية فردريك الأكبر؛ (19) وثلاث مرات في رواية فانجنبير (20). وهو يسخر من الأطباء، ويلاحظ أن لويس الخامس عشر عمر بعد أم مات أربعون من أطبائه، ويقول "من سمع بطبيب عمر للمائة؟ "(21).
ولكنه هو نفسه كان يستعمل الكثير من العقاقير. وقد وافق مرشح موليير لنيل درجة الطب على أن خير دواء في أي داء خطير هو "إعطاء عقار مسهل"(23). وكان يطهر أمعاءه ثلاث مرات في الأسبوع بمحلول القرفة الصيفية، أو بحقنة صابون. ومن رأيه أن خير الأدوية هو الدواء الواقي، وخير وقاية هو تنظيف الأعضاء الداخلية والغطاء الخارجي. (24) وكان يمارس عمله، رغم شيخوخته، وأوصابه، وزواره، بنشاط لا يؤته إلا رجل تخفف من عبء اللحم الفائض. وقد قدر فاجنبير أن مولاه لم يكن ينام "أكثر من خمس ساعات أو ست"(25) في اليوم. وكان يواصل العمل إلى
ساعة متأخرة من الليل، وأحياناً يوقظ الأب دم من فراشه ليعنه على تصيد كلمة يونانية. (26)
وكان يؤمن أن العمل دواء ناجح للفلسفة والانتحار. وأنجع من العمل الخلاء، فهو يزرع حديقته بشخصه، وأحياناً يحرث أو يبذر البذر بيديه. (27) وتبينت مدام دو دفان في رسائله اللذة التي استشعرها في رؤية الكرنب الذي غرسه ينمو. وكان يرجو أن يذكره الخلف على الأقل لآلاف الأشجار التي غرسها. وقد أصلح الأراضي البور وجفف المستنقعات. وأنشأ إسطبلاً لتربية الخيل وجلب إليه عشر مهرات، ورحب بعرض المركيز دفواييه أن يعطيه فحلاً. وكتب يقول "إن حريمي جاهز لا ينقصه غير السلطان
…
لقد كتب الكثير جداً في السنوات الأخيرة عن السكان حتى إنني أود على الأقل أن أملأ أرضي جكس بالخيل، ما دامت قاصراً عن شرف إكثار نوعي الإنساني" (28). وكتب إلى الفسيولوجي هاللر يقول "أن خير ما يسعدنا عمله على هذه الأرض هو أن نزرعها، وكل ما عدا ذلك من تجارب في الفيزياء بالقياس إليه عبث أطفال. أنعم وأكرم بزراع الأرض، وتباً للإنسان الشقي الذي يكدرها-سواء حمل على رأسه تاجاً، أو خوذة، أو قلنسوة كاهن! " (29).
وحين أعوزته الأرض التي تكفي لتشغيل جميع السكان من حوله، نظم في فرنيه وتورنيه حوانيت لصنع الساعات ونسيج الجوارب-التي ربت لها أشجار توته دودة القز. وكان يشغل كل طالب شغل، حتى أصبح عدد من يعملون له ثمانمائة شخص. وشيد مائة بيت لعماله، وأقرضهم المال بفائدة قدرها 4%، وساعدهم على إيجاد أسواق لسلعهم. وما لبث أصحاب التيجان أن أقبلوا على شراء ساعات فرنيه، ولبست كرائم السيدات اللائى أغرتهن خطاباته جوارب زعم أنه نسج بعضها بيده. واشترت كاترين الثانية من ساعات فرنيه ما بلغت قيمته 39. 000 جنيه، وعرضت أن تساعده على لإيجاد أسواق لها في آسيا. وما مضت ثلاث سنوات حتى كانت الساعات الصغيرة والكبيرة والحلي والمجوهرات المصنوعة في فرنيه تصر في شحنات منتظمة على السفن إلى هولندا، وإيطاليا، وأسبانيا، والبرتغال، ومراكش، والجزائر،
وتركيا، وروسيا، والصين، وأمريكا. وبفضل الصناعات الجديدة نمت فرنيه من قرية يسكنها أربعون فلاحاً إلى مجتمع قوامه ألف ومائتا نفس خلال مقام فولتير بها. كتب ريشليو يقول "أعطني فرصة مواتية وأنا كفيل ببناء مدينة. "(30) وعاش الكاثوليك والبروتستانت في سلام على أرض هذا الزنديق.
أما علاقاته بـ"مواليه" فكانت علاقات "الإقطاعي الطيب". وكان يعاملهم كلهم بأمانة ومجاملة. يقول الأمير دلين: "كان يكلم فلاحيهم وكأنهم سفراء"(31). وأعفاهم من ضرائب الملح والتبغ (1775). (32) وكافح دون طائل ولكن بغير هوادة ليحرر جميع فلاحي إقليم جكس من رق الأرض. وحين هددت المجاعة الإقليم استورد القمح من صقلية وباعه بأقل كثيراً مما كلفه. (33) وبينما كان يواصل حربه عل "العار"-على الخرافة، والظلامية، والاضطهاد-أنفق الكثير من وقته في ممارسة الإدارة. واعتذر عن عدم مغادرة فرنيه ليزور أصدقائه بقوله "علي أن أرشد وأعول ثمانمائة شخص
…
ولا أستطيع الغياب دون أن أعرض كل شيء للانتكاس إلى حالة الفوضى". (34) وقد أدهش نجاحه 'دارياً كل من شهد نتائجه. قال ناقد من أقسى نقاده " أنه أبدى حكماً واضحاً على الأمور وإدراكاً حسناً جداً. " (35) وتعلم القوم الذين حكمهم أن يحبوه، ومرة ألقوا أوراق الغار على مركبته أثناء مروره. (36) وكان أشدهم تعلقاً به الشباب والصغار لأنه فتح لهم قصره كل أحد للقرص والترفيه. "(37) وكان يشجعهم على المضي في لهوهم ويغتبط لابتهاجهم. كتبت. مدام دجاللاتان تقول "كان في غاية السعادة ولم يحس بأنه بلغ القانية والثمانين"(38). ولقد أحس بهذا، ولكنه كان راضياً. وكتب يقول "إني أصبح شيخاً"(39).
2 - صولجان القلم
وواصل الكتابة خلال ذلك، فدفع بما لا يصدق كما، وكيف، وتنوعاً، من التواريخ والأبحاث، والدراسات، والقصص، والقصائد، والمقالات، والنبذ، والخطابات، والمراجعات النقدية- دفع بهذا كله إلى جمهور دولي يتلهف على كل كلمة تصدر عنه. ففي سنة واحدة- سنة 1768 - كتب
"الرجل صاحب الأربعين أيكو" و"أميرة بابل"(وهي من خيرة قصصه)، و "رسالة إلى بوالو"، و"إعلان لإيمان موحد بالله" و"بيرووية (لا أدرية) التاريخ" ونصين لأوبرا هزلية، وتمثيلية. وكان ينظم كل يوم تقريباً "شعراً قصير الأجل" وهو ضرب من الأبجرام المسجوع، قصير، خفيف، رشيق، وهو في هذا المضمار لا يشق له غبار في الأدب بأسره، حتى في التفوق المركب لـ"المختارات اليونانية".
وقد عالجنا كتاباته في الدين والفلسفة في غير هذا الموضع. فلنلق نظرة عاجلة على التمثيليات التي كتبها في فرنيه، وتانكريد، ونانين، والاسكتلندية، وسقراط، وشاول، وإيرين، وهي أقل ذريته خلوداً وإن كانت حديث باريس في حياته. وقد حظيت تانكريد التي مثلت على النياتر-فرانسيه في 3 سبتمبر 1759 باستحسان الجميع حتى فريرون، خصم فولتير اللدود. وقد بلغت الآنسة كليرون دور دبورة، ولو ان في دور تانكريد في هذه المسرحية قمة فنها. وكانت خشبة المسرح قد أجلي عنها المتفرجون وجملت بديكور فسيح رائع، وكان الموضوع الفروسي الوسط تحولاً محبباً عن المواضيع الكلاسيكية، بل يمكن القول إن تلميذ بوالو كتب هنا تمثيلية رومانسية، وأظهرت "نانين" أن فولتير تأثر برتشاردسن، شأنه شأن ديدور؛ وقد امتدحها روسو ذاته. أما "سقراط" فاحتوت-حكمة غالية "إنه انتصار للعقل أن يعيش في سلام مع أولئك الذين لا عقل لهم. "(40)
وقد درس فولتير كوريني وراسين دراسة مستفيضة، وهو الذي أشاد به جيله ضريباً لهما، وتردد طويلاً في أي الاثنين يفضل؛ وانتهى به التردد إلى إيثار راسين. وقد رفع الاثنين بجرأة فوق مقام سوفوكليس ويوربيديس، ورفع موليير في أفضل مسرحياته، فوق تيرينس ببرودته رغم نقائه، وفوق المهرج أرستوفانيس. (41) وقد تأثر حين نما إليه أن ماري كوريني، حفيدة أخي المسرحي، تعيش في ضنك قرب إفريه، فعرض أن يتبناها ويتكفل بتعليمها، وحين علم أنها فتاة متدينة أكد لها أنه سيتيح لها كل فرصة لممارسة عبادتها. فحضرت إليه في ديسمبر 1760، فتبناها، وعلمها أن تكتب
الفرنسية الجيدة، وأصلح من نطقها، وصاحبها إلى القداس. ورغبة في جمع مهر لها اقترح على الأكاديمية الفرنسية أن تنوط به نشر أعمال كوريني والتعليق عليها فوافقت. وعكف لتوه على قراءة تمثيليات سلفه من جديد وتزويدها بالمقدمات والهوامش، ثم أعلن عن المشروع، وناشد الراغبين أن يكتتبوا له لأنه كان خبيراً بشؤون المال والأعمال، واكتتب كل من لويس الخامس عشر، والقيصرة أليزافيتا، وفردريك ملك بورسيا، بمائتي نسخة، وكل من مدام دبومبادور وشوازيل بخمسين، ووصلته اكتتابات أخرى من تشسترفيلد وغيره من وجوه الأجانب. وكانت النتيجة أن تقدم الخطاب الكثيرون لماري كوريني. وقد تزوجت مرتين، وأصبحت في 1768 أم شارلوت كورداي.
وقد كان فولتير أعظم مؤرخي جيله كما كان أعظم شعرائه ومسرحييه. ففي 1757 طلبت إليه الإمبراطورة أن يكتب ترجمة لأبيها بطرس الأكبر. ودعت فولتير إلى سانت بطرسبورج ووعدته بأن تغدق عليه أسباب التكريم. فأجاب بأن شيخوخته تحول بينه وبين القيام برحلة كهذه، ولكنه سيكتب التاريخ إذا وافاه وزيرها الكونت شوفالوف بالوثائق التي تبين سيرة بطرس والتغيرات التي أحدثتها إصلاحات هذا القيصر. وكان قد رأى في شبابه بطرس في باريس (1716)؛ وكان يعتبره رجلاً عظيماً، همجياً رغم عظمته وتحاشياً للخوض الخطر في أخطائه، قرر ألا يكتب ترجمة بل تاريخاً لروسيا تحت حكمه الجدير بأن يذكر، وهي مهمة أشق بكثير. وقام بأبحاث هامة في الموضوع، وعكف بهمة على هذا العمل من 1757 إلى 1763، ثم نشره في 1759 - 1763 بعنوان "تاريخ الروسيا عهد بطرس الأكبر". وكان مأثرة جليلة بالنسبة لزمانه، وظل خير تناول للموضوع قبل القرن التاسع عشر، ولكن ميشيله الأمين وجده باعثاً على السأم، وقد رأت القيصرة أجزاء منه، فأرسلت إلى فولتير "ماسات كبيرة" على الحساب، ولكنها سرقت في الطريق، وماتت القيصرة قبل أن يكتمل الكتاب.
وبينما كان حرب السبع سنين مستعرة من حوله، قام في فترات متقطعة بتجديد كتابه "التاريخ العام" أو "مقال في الأعراف" مضيفاً إليه (1755 -
1763) "خلاصة لعصر لويس الخامس عشر" وكانت عملية شائكة، لأنه لم يزل من الناحية الرسمية مداناً من الحكومة الفرنسية؛ وعلينا أن نغتفر له مروره الحذر بأخطاء الملك الحاكم؛ ولكنه رغم ذلك كان قصة ممتازة فيها بساطة ووضوح، وكاد وهو يروي قصة الأمير تشارلز إدوارد ستيوات (بوتي يرنس تشارلي) أن ينافس الشخصية التي رسمها للملك "شارل الثاني عشر". ووفاء لمفهومه عن التاريخ، الذي يراه أكمل ما يكون إذا سجل تقدم العقل البشري، أضاف مقالاً ختامياً "في تقدم العقل في عصر لويس الخامس عشر" ولا حظ أشياء بدا له أنها علامات تشير إلى النمو:
"إن إلغاء السلطة الزمنية لرهبنة برمتها (اليسوعيين) وتأديب الرهبنات الأخرى التي أصلحتها هذه السلطة، والفصل بين (اختصاص) القضاة والأساقفة-كل هذا يدل على مبلغ ما بدد من أهواء، وعلى مدى اتساع المعرفة بشؤون الحكم، وعلى درجة استنارة أذهاننا. وقد ألقيت بذار هذه المعرفة في القرن الماضي. وهي تنبت اليوم في كل مكان في القرن الحاضر، حتى في أقصى الأقاليم
…
فقد أنار العلم البحت الفنون النافعة، وبدأت هذه الفنون فعلاً في إبراء جراح الدولة التي ابتلتها بها حربان طاحنتان. "أن معرفة الطبيعة، ونبذ الخرافات البالية التي قدسها الناس في الماضي كأنها تاريخ، والميتافيزيقيا الصحيحة المبرأة من سخافات المذاهب-تلك هي ثمرات هذا العصر، وقد تحسن العقل الإنساني تحسناً كبيراً.
أما وقد أدى فولتير دينه للتاريخ، فأنه عاد إلى الفلسفة وإلى حملته على الكنيسة الكاثوليكية. وأصدر في تعاقب سريع الكتيبات التي فحصناها من قبل، وكأنها ضرب من المدفعية الخفيفة في الحرب على "العار":"الفيلسوف الجاهل"، "امتحان هام للورد بولنبروك" و"الساذج" و"قصة جيني" و"ألف باء العقل" ووسط هذه الأعمال الشاقة واصل أغرب تبادل للرسائل قام به فرد واحد.
فحين زاره كازانوفا عام 1760 أراه فولتير مجموعة من نحو خمسين ألف خطاباً تسلمها حتى ذلك العام، وسيجتمع له منها بعد ذلك نحو هذا العدد، ولما
كان مستلم الخطاب هو الذي يدفع أجرة البريد، فأن فولتير كان ينفق أحياناً مائة جنيه على البريد الذي يتسلمه في يوم واحد. وكان ألف معجب، وألف عدو، ومائة مؤلف شاب، ومائة هو للفلسفة، يبعثون إليه بالهدايا وباقات الزهور، والشتائم، واللعنات، والأسئلة، والمخطوطات، ولم يكن من غير المألوف أن يرجوه سائل متلهف أن ينبئه برجوع البريد هل وجد إله، أو هل للإنسان روح خالدة. وأخيراً نشر تحذيراً في "المركيز دفرانس" جاء فيه:
"نظراً إلى أن عديدين شكوا من عدم تسلمهم ما يفيد وصول طرود أرسلوها إلى فرنيه، أو تورنيه، أو ليدليس، لزم التنبيه إلى أنه بسبب ضخامة عدد تلك الطرود، أصبح من الضروري رفض تسلم كل ما لا يأتي من أشخاص تشرف الملك بمعرفتهم"(43).
وفي طبعة تيودور بسترمان الكاملة تملأ رسائل فولتير ثمانية وتسعين مجلداً. وفي رأي برونتيير أنها "أخلد قسم من إنتاجه كله"(44). والحق أننا لا نجد صفحة مملة في هذا الحشد برمته، لأننا في هذه الرسائل ما زال في إمكاننا أن نسمع ألمع محدث في زمانه يتكلم بكل ألفة الصديق. وما من كاتب من قبل ولا من بعد حشد على قلمه المتدفق كل هذا التأدب، والحيوية، والسحر، والرشاقة الكبيرة. إنها ليست وليمة للذكاء والبلاغة فحسب، بل للصداقة الحارة، والشعور الرقيق، والفكر البتار، ولو قورنت بها رسائل مدام دسفينيه على ما فيها من دواعي البهجة. لبدت ترف رفاً خفيفاً عارضاً على سطح توافه عابرة. لقد كان في زخارف أسلوب رسائله ولا ريب بعض التمسك بالعرف، ولكن يبدو أنه يتعمده حين يكتب إلى دالامبير قائلاً "أعانقك بكل قوتي، ويؤسفني أنه حتم أن يكون العناق على هذا البعد السحيق"، وهو ما رد عليه دالامبير بقوله:"وداعاً يا صديقي العزيز الشهير، إني أعانقك في حنان، وأنا أكثر مني في أي وقت مضى، ملكك بالروح". (45) ثم استمع إلى كلمات فولتير لمدام دو دفان: "وداعاً يا سيدتي .... إن أوثق الحقائق التي التمسها هي أن لك نفساً توافقني، وسأكون شديد التعلق بها طوال الأجل القصير الذي أفسح لي"(46).
وكانت رسائله لمعارفه في باريس موضع تقديرهم، تتداولها الأيدي تداول نفائس الأخبار ودرر الأسلوب. ذلك أن رسائل فولتير هي التي بلغ فيها أسلوبه أروع تألقه. فهذا الأسلوب لم يبلغ قصارى إبداعه في تواريخه، حيث يستحب السرد الناعم المتدفق أكثر من البلاغة أو النكتة، وفي تمثيلياته شط إلى حد الخطابة الرنانة الطنانة؛ أما في رسائله فقد استطاع أن يدع سن قلمه الماسي يسطع بالابجرام أو ينير موضوعاً بدقة وإيجاز لا مثيل لهما. وقد جمع بين علم بيل وأناقة فونتينيل، واستعار مسحة تهكم وسخرية من رسائل بسكال الإقليمية، وقد ناقض نفسه خلال سني كتابته السبعين، ولكنه لم يكن قط غامضاً؛ ونحن لا نكاد نصدق أنه كان فيلسوفاً، فهو في غاية الوضوح، يقصد مباشرة إلى هدفه الأهم، إلى النقطة الحيوية في الفكرة. وهو يتوخى القصد في النعوت والتشبيهات مخافة أن يعقد الفكرة، وفي كل جملتين تقريباً ومضة من نور. وقد تتكاثر الومضات أحياناً، وتتراخم نفحات الذكاء؛ فيتعب القارئ بين الحين والحين من هذا التألق، وتضيع عليه بعض السهام المريشة من ذهن فولتير السريع الحركة. وقد أدرك أن فرط تألقه هذا خطأ، كوضع الجواهر على العباءة. واعترف في تواضع بأن "اللغة الفرنسية بلغت أوج كمالها في عصر لويس الرابع عشر". (47)
وكان بين مراسليه نصف وجوه ذلك العهد-لا كل جماعة الفلاسفة فحسب، ولا جميع مؤلفي فرنسا وإنجلترا فحسب، بل الكرادلة، والباباوات، والملوك، والملكات، واعتذر له كرستيان السابع عن عدم تنفيذ كل الإصلاحات الفولتيرية في وقت واحد في الدنمرك؛ وأسف ستانسلاس يونياتوفسكي ملك بولندا على أنه سيق على عجل لاعتلاء العرش وهو في طريقه إلى فرنيه؛ وشكره جوستاف الثالث ملك السويد لأنه ألقى بين الحين والحين نظرة عجلى على الشمال البارد، وتوسل "أن يطيل الله في أيامك الغالية القيمة للإنسانية"(48). ومع أن فردريك الأكبر وبخه لأنه قسا على موبرتوي، وأساء أدبه مع الملوك (49)، إلا أنه كتب بعد شهر يقول "الصحة والرفاهية لأشد من عش أو سيعيش من العباقرة على هذه الأرض خبثاً وإغراء"؛ (50) وفي 12 مايو 1760 أضاف:
"أما أنا فسأذهب إلى هناك (الجحيم) وأخبر فرجيل بأن فرنسياً بزه في فنه. وسأقول مثل هذا لسوفوكليس ويوربيديس، وسأحدث ثيوسيديديس عن تواريخك، وكوييتوس كورتيويس عن كتابك "شارل الثاني عشر"؛ وربما رجمني هؤلاء الموتى الفيورون لأن رجلاً واحداً جمع في شخصه شتى فضائلهم"(51).
وفي 19 سبتمبر 1774 واصل فردريك مدائحه: "لن يكون هناك بديل لك بعد موتك، وسيكون نهاية الآداب الجيدة في فرنسا"(52). (وهذه غلطة بالطبع لأنه ليس للأدب الجيد نهاية في فرنسا). وأخيراً، في 24 يوليو 1775، أحنى فردريك صولجانه أما قلم فولتير:"وأما أنا فيعزين أنني عشت في عصر فولتير، وحسبي هذا"(53).
وكانت كاترين الكبرى تكتب إلى فولتير كما يكتب رأس متوج إلى آخر-لا بل كما يكتب التلميذ إلى معلمه. فلقد قرأته بشغف ولذة ستة عشر عاماً قبل أن تشق طريقها إلى عرش روسيا، ثم بدأ تراسلهما في أكتوبر 1763 بجوابها بضمير المتكلم على رسالة منظومة بعث بها إلى عضو في هيئتها الدبلوماسية. (54) ولقبها فولتير سميراميس، وأغمض في لباقة عن جرائمها، وأصبح المدافع عنها أمام فرنسا. ورجته أن يعفيها من مدائحه، ولكنه أفض فيها. وكانت تقدر انحيازه لها، لأنها علمت أن بفضله-ثم بفضل جريم وديدرو، نالت "مساندة طيبة من الكتاب" في فرنسا. وأصبحت الفلسفة الفرنسية أداة للدبلوماسية الروسية. وأوصى فولتير كاتيرن باستعمال المركبات الحربية المدججة بالمناجل على الطريقة الآشورية في حربها مع الترك، واضطرت إلى أن تبين له أن الأتراك غير المتعاونين لن يهاجموا عدوهم بتشكيلات مكثفة تكثيفاً يتيح حصدهم بشكل مريح. (55) ونسي كراهيته للحرب وسط تحمسه لإمكان قيام جيوش كاترين بتحرير بلاد اليونان من سلطان العثمانيين، وناشد "الفرنسيين، والبريطانيين، والإيطاليين" أن يناصروا هذه الحرب الصليبية الجديدة، وحزن حين قصرت سميراميس عن تحقيق هدفه. ثم اضطلع بيرون بقضيته تلك.
وقد عنف الكثيرون من الفرنسيي فولتير على تملقه للملكية، وشعروا أنه حط من قدره باللف حول العروش والتشدق بمديح أصحابها. ولا ريب في أن هذا اللف كان أحياناً يدير رأسه. ولكنه هو أيضاً كان يلعب لعبة دبلوماسية. فهو لم يدع قط العواطف الجمهورية، وقد ذهب غير مرة إلى أن قدراً من التقدم يمكن تحقيقه بفضل الملوك "المستنيرين" أكثر مما يتحقق بسيطرة الجماهير المتقلبة، الجاهلة، التي تتسلط عليها الخرافة. ولم يخض الحرب ضد الدولة بل ضد الكنيسة الكاثوليكية، وكان تأييد الحكام في تلك المعركة عوناً قيماً. وقد رأينا قيمة ذلك التأييد في حملاته الظافرة دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفنس. وكان أهم في نظره أن يكون فردريك وكاترين في صفه وهو يناضل في سبيل التسامح الديني. كذلك لم ييأس من كسب لويس الخامس عشر، فقد كسب من قبل مدام دبومبادور وشوازيل؛ ثم خطب ود مدام دوباري. ولم يكن يتورع عن شيء في استراتيجيته، والواقع أنه قبل أن ينتهي العهد استطاع الظفر بنصف حكومة فرنسا، وتكللت معركة التسامح الديني.
3 - فولتير السياسي
ما الذي أمل أن يحققه في ميدان السياسة والاقتصاد؟ لقد ثبت بصره على هدفين، هدف أعلى وآخر أدنى: الأعلى تحرير الناس من الخرافات اللاهوتية وسلطان الكهنة-وهي مهمة عسيرة ولا ريب، وفيما عدا ذلك طلب بعض الإصلاحات، ولكنه لم يطمع في المجتمع المثالي. وكان يبتسم سخرية من "أولئك المشرعين الذين يحكمون الكون .... ومن أبراجهم يصدرون الأوامر للملوك"(56). وكان معارضاً للثورة شأن جماعة الفلاسفة كلهم تقريباً، ولعله لو عمر حتى يشهدها لصدمته-وربما أعدمته بالجلوتين
(1)
. أضف إلى هذا أنه كان غنياً غنى فاحشاً، وما من شك في أن ثراءه لون آراءه.
(1)
أنظر وصف روبسبيير للموسوعيين: "أما فيما يتصل بالسياسة، فإن هذه الجماعة توقفت عند حقوق الشعب ...... وقد عارض زعماؤها الاستبداد أحياناً، وكان يغذيهم الطغاة، كانوا أحياناً يكتبون المقالات عن الملوك، وأحياناً الإهداءات تكريماً لهم، وكانوا يدبجون الخطب للحاشية، والقصائد الغنائية للمحظيات"(57).
ففي 1758 نوى أن يستثمر 500. 000 فرنك (625. 000 دولار؟) في اللورين. (58) وقد كتب إلى فردريك في 17 مارس 1759 يقول "أنني أتلقى ستين ألف جنيه (75. 000 دولار؟) من دخلي (السنوي) من فرنسا
…
وأنني أعترف بأنني غني جداً". وكان قد جمع ثروته بفضل "نصائح" من أصدقائه الماليين أمثال الأخوين باري، وبفضل فوزه بجائزة اليانصيب في فرنسا واللورين، وبفضل نصيبه في تركة أبيه، وبفضل شراء سندات الحكومة، والمساهمة في مشروعات تجارية، وإقراض المال للأفراد. وكان يقنع بعائد قدره 6%، وهو عائد معتدل إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر والخسائر. وقد ضاع عليه ألف ايكو (3. 750 دولار؟) في تفليسة شركة جليار في قادس (1767) (59). وفي 1768 علق جيبون في معرض الإشارة إلى الثمانين ألف فرنك (100. 000 دولار؟) التي اقرضها فولتير للدوق دريشليو: "لقد أفلس الدوق، والضمان عديم القيمة، واختفت النقود". (60) وعند موت فولتير كان قد تسدد ربع السلفة. وكان دخل فولتير من معاشاته أربعة آلاف فرنك في العام. وفي عام 1777 بلغت جملة دخله 206. 000 فرنك (257. 5000 دولار؟) (61) وقد جمل هذه الثورة بما يتناسب معها من سخاء، ولكنه أحس أنه مطالب بالدفاع عنها دفاعاً ليس بالضرورة مما لا يليق بالفيلسوف.
"لقد رأيت الكثير جداً من الأدباء فقراء محتقرين، بحيث قررت ألا أزيد عددهم. ولا مناص للمرء في فرنسا من أن يكون إما سنداناً أو مطرقة؛ وقد ولدت سنداناً. والميراث الهزيل يتناقص كل يوم، لأن كل شيء في المدى الطويل يزداد ثمنه، وكثيراً ما تفرض الحكومة الضرائب على الدخل والنقود كليهما .... فعليك أن تكون مقتصداً إبان شبابك، وستجد نفسك في شيخوختك تملك رأس مال يدهشك، وهذا هو الوقت الذي تشتد فيه حاجتنا للثروة"(62).
وكان قد اعترف في فترة باكرة (عام 1736) في قصيدته "رجل الدنيا""إنني أحب الترف، بل الحياة الناعمة، وجميع اللذات، وجميع الفنون". وذهب إلى أن طلب الأغنياء لأسباب الترف يداول مالهم بين الصناع المهرة
والفنانين، وظن أنه لولا الثروة لما كان هناك فن عظيم. (63) وحين نشر "ميثاق" ميزلييه الملحد-الشيوعي، حذف القسم المعارض للملكية. وقد آمن أنه ما من نظام اقتصادي يستطيع النجاح بغير حافز التملك. "إن روح التملك تضاعف من قوة الإنسان"(64) وكان يأمل أن يرى كل إنسان يملك ملكاً، وبينما كان روسو يبارك القنية في بولندا كتب فولتير يقول "إن بولندا يمكن أن يزداد سكانها وثروتها ثلاث مرات لو لم يكن فلاحوها أقناناً"(65). على أنه لم يحبذ أن يصبح الفلاحون أغنياء، فمن إذن يوفر للدولة جندها الأقوياء؟ (66).
ولم يشاطر روسو تحمسه للمساواة؛ فهو يعلم أن الناس كلهم يُخلقون غير أحرار ولا متساوين. ورفض فكرة هلفتسيوس القائلة بأنه لو أتيح للناس كلهم التعلم والفرص المتكافئة، لأصبح الجميع بعد قليل متساويين في التعليم والقدرات. "يالها من حماقة أن نتصور أن في استطاعة كل إنسان أن يصبح نيوتنا! "(67) فسوف يكون هناك دائماً الأقوياء والضعفاء، والأذكياء والبسطاء، وإذن الأغنياء والفقراء.
"يستحيل في دنيانا الكئيبة منع الناس الذين يعيشون في مجتمع من أن ينقسموا إلى طائفتين-الأغنياء الآمرين، والفقراء الذين يأتمرون .... ولكل إنسان الحق في أن يكون له رأيه الخاص في مساواته مع غيره، ولكن لا يستتبع هذا أن طباخ الكردينال ينبغي أن يأخذ على عاتقه أن يأمر سيده بتجهيز طعامه. على أن للطباخ أن يقول "أنني إنسان كسيدي سواء بسواء، فقد ولدت مثله بالدموع، وسأموت مثله في عذاب
…
فكلانا يؤدي الوظائف الحيوانية نفسها. وإذا استولى العثمانيون على روما فأصبحت كردينالاً وأصبح سيدي طباخاً، فأنني سأدخله في خدمتي" وهذه اللغة معقولة ومنصفة جداً، ولكن، إلى أن يستولي السلطان العثماني على روما لابد للطباخ من أن يؤدي واجبه وإلا انهار المجتمع الإنساني كله. (68)
ولما كان ابن موثق، ولم يصبح سيداً إقطاعياً إلا مؤخراً، فقد كان له
في الأرستقراطية آراء مختلطة، وواضح أنه فضل نوعها الإنجليزي (69). وقد قبل النظام الملكي باعتباره الشكل الطبيعي للحكومة "لم يحكم الملوك الأرض كلها تقريباً؟
…
الجواب الأمين هو: لأن الناس نادراً ما يكونون جديرين بحكم أنفسهم" (70). وقد سخر من حق الملوك الإلهي وأرجعهم هم والدولة إلى الغزو "إن القبيلة تختار زعيماً ليقود حملات السلب والنهب التي تشنها؛ وهي تعود نفسها الطاعة، وهو يعود نفسه إصدار الأوامر لها، وفي اعتقادي أن هذا أصل الملكية" (71). فهل هذا طبيعي؟ أنظر إلى حوش المزرعة:
"إن حوش المزرعة يرينا أكمل تمثيل للملكية. فما من ملك يضارع الديك. ذلك أنه إن مشى شامخاً ضارياً وسط قطيعه فما ذلك لغروره، لأنه إذا زحف العدو فهو لا يكتفي بإصدار الأمر لرعيته أن تخرج وتقتل فداءه .... إنما هو يذهب بشخصه، وينظم جنده من خلفه، ويقاتل إلى آخر نسمة. فإذا انتصر فهو الذي يترنم بمسبحة الشكر
…
وإذا صح أن النحل تحكمها ملكة يخطب ودها جميع رعاياها، فتلك حكومة أعظم كمالاً حتى من حكومة الديك" (72).
واستطاع لعيشه في برلين ثم في جنيف أن يدرس الملكية و"اللاملكية" في ممارستها الحية. وكان كغيره من جماعة الفلاسفة متحيزاً لأن ملوكاً عدة (فردريك الثاني، وبطرس الثالث، وكاترين الثانية) وبعض الوزراء (شوازيل، وأراندا، وتانوتشي، وبومبال) استمعوا إلى نداءات الإصلاح، أو منحوا المعاشات للفلاسفة. وقد بدا في عصر بلغ فيه الفلاح الروسي منتهى البدائية، وغلبت الأمية على جماهير الشعب في كل بلد، وأعجزها الإرهاب عن التفكير، إن من السخف اقتراح حكم الشعوب، والواقع أن "الديمقراطيات في سويسرا وهولندا كانت أولجركيات. والجماهير هي التي أحبت أساطير الدين ومراسمه القديمة، ووقفت كأنها جيش عرمرم في طريق الحرية والتطور الفكريين. وليس هناك سوى قوة واحدة لها من القدرة ما يمكنها من مقاومة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، كما قاومت بنجاح الكنائس البروتستانتية في إنجلترا وهولندا وألمانيا وتلك هي الدولة. وبفضل الحكومات الملكية القائمة في فرنسا وألمانيا وروسيا-بفضل هذه فقط يستطيع الفلاسفة أن يطعموا في
الفوز في كفاحهم للخرافة، والتعصب، والاضطهاد، واللاهوت الطفلي. فهم لا يستطيعون توقع التأييد من "البرلمانات" لأنها تنافس الكنيسة وتبرز الملك في الظلامية، والرقابة، وعدم التسامح. ولكن أنظر ما فعله هنري الملاح للبرتغال، وما فعله هنري الرابع لفرنسا، أو بطرس الأكبر لروسيا أو فردريك الأكبر لبروسيا. "ما من عمل جليل تقريباً عمل في العالم إلا بفضل عبقرية وحزم رجل فرد كافح أهواء الجماهير"(73). ومن ثم كان جماعة الفلاسفة يتمنون تربع الملوك المستنيرين على العروش. كتب فولتير "ميروب" يقول "إن الفضيلة المتربعة على العرش هي أروع أعمال السماء"(74)
(1)
وسياسة فولتير ينبعث بعضها من ظنه بأن من الناس عدداً كبيراً لا قدرة لهم على هضم التعليم حتى إن قدم لهم. وقد أشار إلى "الشطر المفكر من النوع الإنساني-أي الجزء على مائة ألف منهم"(76)، وكان يخشى من عدم النضج العقلي وسرعة الانفعال العاطفي للناس عموماً "حين تشارك الجماهير في التفكير يضيع كل شيء"(77). وهكذا ظل حتى سني شيخوخته لا يتعاطف تعاطفاً يذكر مع الديمقراطية. فلما سأله كازانوفا "أتود أن ترى الشعب سيد نفسه؟ " أجابه "معاذ الله! "(78) وكتب إلى فردريك "حين رجوتك أن تكون الباعث لفنون اليونان الجميلة، لم يبلغ رجائي الحد الذي أطلب إليك فيه إعادة الديمقراطية الأثينية. فأنا لا أحب حكم الرعاع"(79). وقد اتفق وروسو على أن "الديمقراطية لا تناسب غير البلاد الصغيرة"، ولكنه أضاف قيوداً أخرى" وغير تلك التي تنعم بموقع ملائم
…
والتي يكفل لها موقعها الحرية، والتي في مصلحة جيرانها المحافظة عليها". (وكان يعجب بالجمهوريتين الهولندية-والسويسرية)، ولكن خامرت إعجابه بعض الشكوك:
"إن تذكرتم أن الهولنديين أكلوا على السفود قلب الأخوين دي ويت،
(1)
علق ميشيله بفقرة ظريفة على هذا الدفاع عن الملكية فقال "إن في أحلام جماعة الفلاسفة والاقتصاديين-رجال كفولتير وطورجو-أن يحدثوا الثورة-أن يحققوا سعادة النوع الإنساني- على يد الملوك. وليس أغرب من هذا المعبود يتنازعه الفريقان، تجذبه الفلاسفة يمنة، والقساوسة يسرة. فمن سيظفر به؟ النساء"(75).
وإن تذكرتم
…
إن الجمهوري يوحنا كلفني
…
بعد أن كتب أننا ينبغي ألا نضطهد إنساناً ولو أنكر الثالوث، أمر بحرق أسباني خالفه في الرأي حول الثالوث فأحرقه حياً على حطب أخضر (بطيء الاحتراق)، خلصتم حقاً إلى أنه ليس في الجمهوريات فضيلة أعظم مما في الملكيات" (81).
على أنه بعد كل هذه التصريحات المعارضة للديمقراطية، نجده يؤيد الطبقة الوسطى الجنيفية تأييداً نشيطاً ضد الأشراف (1763) ووطنيي جنيف المحرومين من الحقوق المدنية ضد الأرستقراطية والبرجوازية (1766)، ولكن لنرجئ هذه القصة إلى موضعها المناسب.
والواقع أن فولتير أخذ يتحول إلى مزيد من الراديكالية فيما يبدو كلما تقدم به العمر. ففي 1768 أصدر قصته "الرجل ذو الأربعين إيكو" فطبع الكتاب عشر طبعات في سنته الأولى، ولكن برلمان باريس أحرقه وزج بالطابع في سفن تشغيل العبيد، ولم يكن مرجع هذه الصراحة تلك السخرية التي سخت بها القصة على جماعة الفيزوقراطيين، بل تصويرها الحي للفلاحين الذين أفقرتهم الضرائب، والرهبان الذين يحيون حياة التبطل والترف على أملاك يفلحها عبيد الأرض. وفي كتيب آخر نشره عام 1768 وسماه الألف باء (وقد حرص فولتير أشد الحرص على إنكاره) أجرى هذه العبارات على لسان "مسيوب".
وفي وسعي أن أتكيف بسهولة مع الحكومة الديمقراطية .... فكل الملاك على نفس الأرض لهم نفس الحق في حفظ النظام على تلك الأرض. إني أحب أن أرى رجالاً أحراراً يضعون القوانين التي يعيشون في ظلها .... ويطيب للي أن يرفع بنائي، ونجاري، وحدادي، أولئك الذين أعانوني على بناء مسكني، وجاري المزارع، وصديقي الصانع-أن يرفعوا أنفسهم فوق حرفهم، ويعرفوا الصالح العام خيراً مما يعرفه الموظف التركي الشديد الوقاحة. فليس في الديمقراطية ما يدعو عاملاً أو صانعاً إلى الخوف من الإزعاج أو الاحتقار
…
فأن يكون المرء حراً، بين أنداد لا أكثر، هو الحياة الطبيعية الصادقة للإنسان،
وما عدا ذلك من أساليب الحياة فهو خدع حقيرة، وهزليات رديئة يلعب فيها فرد دور السيد، وآخر دور العبد، فرد دور الطفيلي، وآخر دور القواد". (82)
وفي عام 1769 أو بعده بقليل (وكان في الخامسة والسبعين) في طبعة جديدة للقاموس الفلسفي، ساق فولتير وصفاً مراً لألوان الطغيان والفساد الحكومية في فرنسا (83)، وامتدح إنجلترا بالقياس إليها:
"لقد بلغ الدستور الإنجليزي في الواقع. التفوق التي فيها يرد جميع الناس إلى الحقوق الطبيعية التي حرموا منها في جميع النظم الملكية تقريباً، وهي: الحرية الكاملة للأشخاص والأملاك؛ حرية النشر؛ حرية المحاكمة في جميع الجرائم على يد هيئة محلفين من أعضاء مستقلين؛ حق المحاكمة طبقاً لنص القانون فقط؛ وحق كل إنسان في أن يجهر دون مضايقة بأي دين يختاره ويرفض المناصب التي لا يجوز تقليدها إلا لأتباع الكنيسة الرسمية. هذه ..... امتيازات لا تقد بقيمة
…
أن تكون آمناً مطمئناً وأنت ماضٍ إلى فراشك إلى أنك ستستيقظ وأنت تملك نفس الثروة التي كانت لك حين ذهبت لتنام، وإنك لم تنتزع من أحضان زوجتك وأطفالك في جوف الليل ليزج بك في سجن مظلم أو لتدفن في منفى في الصحراء
…
وأن يكون لك القدرة على نشر جميع أفكارك
…
هذه الامتيازات يتمتع بها كل من تطأ قدمه أرض إنجلترا
…
ولا مفر من أن يعتقد أن الدول التي لا تقوم على هذه المبادئ ستجتاحها الثورات (84).
وتنبأ بالثورة في فرنسا كما تنبأ بها الكثيرون. ففي 2 إبريل 1764 كتب إلى المركيز دشرفلان:
"إني لأرى في كل مكان بذور ثورة لا ماص منها، ثورة لن تتاح لي لذة مشاهدتها. فالفرنسيون يصلون متأخرين في كل شيء، ولكنهم يصلون في النهاية ما في ذلك شك. وقد اتسع انتشار التنوير اتساعاً سيعينه على التفجر في أول فرصة، وعندها ستحدث فرقعة عنيفة
…
إن الشباب محظوظون، لأنهم سيرون أشياء عظيمة".
ومع ذلك حين تذكر أنه يعيش في فرنسا بفضل تسامح ملك أساء إليه بإقامته في بوتسدام، وحين رأى بومبادور وشوازيل ومالزيرب وطورجو يوجهون الحكومة الفرنسية صوب التسامح الديني والإصلاح السياسي-وربما لأنه تاق إلى الإذن له بالعودة إلى باريس-اتخذ على العموم نغمة أكثر وطنية، واستنكر الثورة العنيفة:
"إذا اشتد شعور الفقراء بفقرهم أعقبت ذلك حروب كحروب حزب الشعب ضد مجلس الشيوخ في روما، وحروب الفلاحين في ألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا. وقد انتهت هذه الحروب كلها، إن عاجلاً أو آجلاً، بإخضاع الشعب، لأن الكبار يملكون المال، والمال في الدولة هو صاحب الأمر والنهي في كل شيء"(85).
إذن، فبدلاً من انقلاب من أسفل، حيث القدرة على التدمير لا تتبعها القدرة على التعمير، وحيث تعود الكثرة الساذجة بعد قليل للخضوع مرة أخرى لقلة ماكرة، آثر فولتير أن يعمل على قيام ثورة غير عنيفة عن طريق انتقال التنوير من المفكرين إلى الحكام، والوزراء، والقضاة، وإلى التجار ورجال الصناعة، وإلى الصناع والفلاحين. "أن العقل يجب إقراره أولاً في أذهان القادة، ثم ينزل شيئاً فشيئاً وفي النهاية يحكم أفراد الشعب، الذين لا يعون وجوده، ولكنهم حين يرون اعتدال رؤسائهم يتعلمون أن يقلدوهم"(86). ورأى أن التحرير الحقيقي الوحيد، في المدى الطويل، هو التعليم، وأن الحرية الحقيقية الوحيدة هي الذكاء. "كلام استنار الناس تحرروا"(87). وليس هناك ثورات حقيقية غير تلك التي تغير العقل والقلب، ولا ثورا حقيقيون غير الحكيم والقديس.
4 - المصلح
وبدلاً من أن يدعو فولتير لثورة سياسية راديكالية، جاهد في سبيل إصلاح معتدل تدريجي في إطار هيكل المجتمع الفرنسي القائم، وفي نطاق هذه الدائرة المنكرة للذات حقق أكثر مما حققه أي رجل آخر في جيله.
وكان أهم نداء له هو طلب تنقيح القانون الفرنسي تنقيحاً شاملاً، ولم يكن قد روجع منذ 1670. وفي 1765 قرأ بالإيطالية كتاب الجيل المسمى "رسالة في الجنايات والعقوبات"-من تأليف الفقيه الميلاني بيكاريا، الذي كان بدوره قد استلهم جماعة الفلاسفة. وفي 1766 أصدر فولتير كتابه "تعليق على كتاب الجنايات والعقوبات" وفيه اعترف بفضل السبق لبيكاريا، ثم واصل مهاجمة مظالم القانون الفرنسي وفظاعاته إلى عام 1777 حين نشر وهو في الثانية والثمانين كتابه "ثمن العدالة والإنسانية".
وقد طالب، بادئ ذي بدء، بإخضاع القانون الكنسي للقانون المدني، وبكبح سلطان الكهنوت في اشتراط العقوبات التكفيرية المذلة أو فرض التبطل على الناس في عطلات دينية كثيرة؛ وطلب تخفيف العقوبات على انتهاك المقدسات، وإلغاء القانون الذي يهين جسد المنتحر ويصادر ثروته. وأصر على التفرقة بين الخطيئة والجريمة، والقضاء على الفكرة التي تقول إن عقاب الجريمة ينبغي أن يدعي أنه يثأر لإله مهان.
"يجب ألا يكون لأي قانون كنسي قوة إلى أن يحصل على موافقة الحكومة الصريحة عليه
…
وكل ما يتصل بالزواج لا يفصل فيه غير القضاة، وينبغي أن يقصر القساوسة على وظيفة مباركة الزواج الجليلة
…
وإقراض المال بالفائدة من اختصاصات القانون المدني وحده
…
ويجب أن يكون جميع الكهنة، في جميع الحالات أياً كانت، خاضعين لرقابة الحكومة المطلقة لأنهم رعايا للدولة
…
ويجب ألا يكون لأي قسيس سلطة حرمان مواطن ولو من أبسط الحقوق بحجة أنه خاطئ
…
ويجب أن يسهم القضاة، والزراع، والكهنة على السواء في نفقات الدولة" (88).
وقد شبه قانون فرنسا بمدينة باريس-فهو حصيلة بناء تدريجي، ونتاج المصادفات الظروف، وخليط من المتناقضات؛ وقال إن المسافر في فرنسا يغير قوانينه مراراً كما يغير خيول مركبته، (89) فالواجب توحيد قوانين جميع الأقاليم والتنسيق فيما بينها. وينبغي أن يكون كل قانون واضحاً،
دقيقاً، ومحصناً على قدر الإمكان من التلاعب بحرفيته. ويجب أن يكون جميع المواطنين سواء أمام القانون، وإلغاء عقوبة الإعدام لأنها عقوبة همجية مبددة. فلا شك أن من الهمجية عقاب التزوير، أو السرقة، أو التهريب، أو الحرق المتعمد بالموت. وإذ كانت السرقة تعاقب بالإعدام فلن يكون هناك ما يمنع اللص من القتل، ومن ثم فإن كثيراً من جرائم قطع الطريق في إيطاليا مصحوباً بالاغتيال. "إذا علقتم على مشنقة الدولة (كما حدث في برلين عام 1772) الخادمة التي سرقت دستة فوط من سيدتها
…
فإنها لم تستطيع إضافة دستة من الأطفال إلى مواطنيكم
…
وشتان بين دستة فوط وبين حياة إنسان" (90). ومصادرة ثروة إنسان محكوم عليه بالإعدام سرقة صريحة تقترفها الدولة ضد الأبرياء. وإذا كان فولتير يجادل أحياناً من وجهة نظر نفعية فقط فما ذلك إلا لأنه عرف أن حججه هذه ترجح أي نداء إنساني في نظر معظم المشرعين.
على أنه حين تناول موضوع التعليم القضائي أفصحت روحه الإنسانية عن نفسها في قوة وتأكيد. ذلك أن القانون الفرنسي أباح للقضاة أن يستخدموا التعذيب وسيلة لاستلال الاعترافات قبل المحاكمة إذا كانت هناك من المؤشرات المريبة ما يلمع إلى أن المتهم مذنب. وقد حاول فولتير أن يخزي فرنسا بإشارته إلى مرسوم كاترين الثانية الذي ألغى التعذيب في روسيا التي زعم الفرنسيون أنها قطر همجي. "أن الفرنسيين، الذين يعتبرون-ولا أدري لماذا-شعباً عظيم الإنسانية، يدهشهم أن الإنجليز الذين دفعهم تجردهم من الإنسانية إلى انتزاع كندا كلها من أيدينا، قد أقلعوا عن لذة استخدام التعذيب"(91).
واتهم بعض القضاة بأنهم "فتوات" يتصرفون كأنهم مدعون لا قضاة، مفترضين بشكل واضح أن المتهم مذنب حتى تثبت براءته. واحتج على حبس المتهم في سجون قذرة، وأحياناً في أغلال عدة شهور قبل تقديمه للمحاكمة. ولاحظ أن المتهم بجريمة كبرى يمنع من الاتصال بأي إنسان حتى بمحامٍ. وروى مراراً وتكراراً معاملة آل كالاس وسيرفنس مثالاً على التعجل في
إدانة الأبرياء. وقال أن شهادة شخصين فقط، حتى إذا كانا شاهدي عيان، ينبغي ألا تعتبر بعد اليوم كافية لإدانة رجل بالقتل، وساق أمثلة على شهادة الزور، وألح في إلغاء عقوبة الإعدام ولو للحيلولة دون إعدام بريء واحد في كل ألف متهم. وكان في الإمكان إصدار أحكام الإعدام في فرنسا بأغلبية اثنين من القضاة، وقد حكم على كالاس بالموت بأغلبية ثمانية ضد خمسة. وطالب فولتير بأن يشترط لإصدار حكم الإعدام توافر أغلبية ساحقة، ويفضل أن تكون إجماعاً. "يا لها من فظاعة سخيفة أن يعبث بحياة مواطن وموته بلعبة ستة إلى أربعة، وخمسة إلى ثلاثة، أو أربعة إلى اثنين، أو ثلاثة إلى واحد"(92).
وكانت الإصلاحات التي اقترحها فولتير على الجملة توفيقاً بين ميراثه الثقافي الوسيط وكراهيته للكنيسة، وخبرته واستثماراته بوصفه رجل أعمال ومالك أرض، ومشاعره الصادقة شخصاً باراً بالإنسانية، وكانت مطالبه معتدلة، ولكنها كانت في كثير من الحالات ذات أثر فعال. شن حملة لتحقيق حرية النشر، فوسعت هذه الحرية توسيعاً هائلاً-ولو بفضل أعضاء الحكومة فقط-قبل أن يموت. وطلب إنهاء الاضطهاد الديني، فأنهي في فرنسا من الناحية العملية في 1787. واقترح الإذن للبروتستانت ببناء الكنائس ونقل الملكية أو وراثتها، والتمتع بكامل حماية القوانين؛ فتم هذا قبل اندلاع الثورة. وطلب إباحة الزواج قانوناً بين أشخاص من ديانات مختلفة فأبيح. وندد ببيع المناصب، وفرض الضرائب على الضروريات، والقيود على التجارة الداخلية، وبقاء القنية والوقف؛ وأشار على الدولة بأن تسترد من الكنيسة تنفيذ الوصايا وتعليم الصغار؛ وفي هذه الأمور جميعاً كان لصوته تأثير على الأحداث. وقاد الحملة لإجلاء المتفرجين عن خشبة مسرح التياتر-فرانسيه، فتم هذا في 1759. وأوصى بفرض الضرائب على جميع الطبقات، وبنسبة ثروتهم، وكان على هذه التوصية أن تنتظر حتى تنشب الثورة. وطلب تنقيح القانون الفرنسي، فتم هذا في مجموعة قوانين نابليون (1807)؛ وهكذا يسر الفقهاء والفلاسفة لرجل الحرب والسياسة، الذي قرر الهيكل التشريعي لفرنسا حتى يومنا هذا، أن يحقق أعظم مآثره بقاءً على الزمن.
5 - فولتير الصمّيم
كيف نجمل القول في شخصية هذا الرجل المذهل جداً من رجال القرن الثامن عشر؟ لم يعد بنا حاجة للحديث عن عقله-فقد أفصح عن نفسه في مائة صفحة من هذه المجلدات. ولم يباره أحد في سرعة الخاطر ووضوح الفكر، ولا في حدة النكتة ووفرتها، وقد عرف النكتة الذكية بعناية بالغة فقال:
"إن ما يسمى النكتة الذكية هو أحياناً مقارنة مجللة، وأحياناً كناية رقيقة، أو قد يكون لعباً بالألفاظ-فأنت تستعمل لفظاً بمعنى، علماً أن محدثك سيأخذه (لأول وهلة) بمعنى آخر. أو هو طريقة ماكرة للمقرنة بين أفكار لا يقرن الناس بينها عادة
…
إنه فن إيجاد صلة بين نقيضين، أو خلاف بين شبيهين؛ إنه فن قول نصف ما تعني وترك الباقي للخيال. ولو أوتيت المزيد منه شخصياً لزدت القول فيه كثيراً" (93).
ولم يؤت إنسان آخر مزيداً من هذه النكتة الذكية، ولعل حظه هو منها كان كما قلنا مفرطاً. فقد كان زمام حبه للدعابة يفلت منه أحياناً، وكثيراً ما غلظت دعايته وأشرفت على التهريج أحياناً.
ولم تترك له سرعة إدراكاته، وربطاته، ومقارناته، وقفة تتيح له الاتساق والتماسك، ولم يسمح له تعقب أفكاره السريع دائماً وهو يتناول موضوعاً بالتغلغل فيه إلى أعماقه المتاحة للبشر. ولعله تسرع في الحكم على الجماهير بأنهم رعاع؛ وليس في وسعنا أن نتوقع منه التنبؤ بزمن سيكون فيه التعليم للجميع ضرورياً لاقتصاد تقدمي من الناحية التكنولوجية. ومل يطيق صبراً علم نظريات بوفون الجيولوجية، أو فروض ديدرو البيولوجية. وقد اعترف بقصوره، ولم يخلُ من لحظات تواضع. قال لصديق مرة "إنك تظنني أعبر عن نفسي بوضوح كافٍ. ولكنني أشبه بالجداول الصغيرة-فهي صافية شفافة لأنها ليست عميقة" (94) وكتب إلى داكان في 1766:
"منذ كنت في الثانية عشرة اعتدت أن أتكهن بعدد هائل من الأشياء التي لم أوت الموهبة لفهمها. فأنا عليم بأن أعضائي لم تهيأ لتعمق الرياضة. وقد أثبت أنني لا أميل إلى الموسيقى. أعتمد على تقدير فيلسوف عجوز في من الحماقة .... ما يحمله على الاعتقاد بأنه مزارع قدير جداً، ولكن ليس فيه من الحماقة ما يحمله على الاعتقاد بأنه وهب جميع المواهب"(95).
وليس من الإنصاف أن نطلب من رجل كثرت الموضوعات التي عالجها هذه الكثرة لأن يكون قد استوعب كل المعلومات المتاحة عن كل موضوع قبل أن يجري عليه قلمه. فلم يكن كله عالماً؛ لقد كان مقاتلاً، أديباً جعل الأدب ضرباً من العمل، وسلاحاً للتغيير. ومع ذلك تستطيع أن ترى من مكتبته التي حوت 2. 210 مجلداً، وما تركه على الكتب من هوامش، إنه درس في شغف وعناية موضوعات فيها تنوع مذهل، وإنه كان رجلاً واسع العلم جداً بالسياسة، والتاريخ، والفلسفة، واللاهوت، ونقد الكتاب المقدس، وكانت رقعة حبه للاستطلاع واهتماماته شاسعة؛ وكذلك كان غنى أفكاره وقدرة ذاكرته على التذكر. ولم يأخذ أي تقليد موروث على أنه قضية مسلمة، بل فحص كل شيء بنفسه. وكان فيه نزوع إلى التشكك لا يتردد في أن يعارض بالفطرة السليمة سخافات العلم وأساطير إيمان العوام سواءً بسواء. وقد وصفه عالم نزيه بأنه "مفكر جمع من المعلومات الدقيقة عن العالم في جميع نواحيه أكثر مما جمعه أي إنسان منذ أرسطو"(96). ولم يوفق عقل واحد في أي بلد آخر في أن ينقل إلى دنيا الأدب ودنيا العمل هذا الحشد الهائل من المواد من مثل هذه الميادين المنوعة.
ولا بد لنا من أن نصوره أعجب مزيج من عدم الاستقرار العاطفي، والرؤيا والقدرة العقليتين. فقد جعلته أعصابه دائماً متوتراً قلقاً، فما كان في استطاعته الجلوس ساكناً إلا إذا استغرقته الكتابة الأدبية. وحين سألت السيدة ذات الردف الواحد "أيهما أسوأ للمرأة-أن يهتك عرضها قرصان من الزنوج مائة مرة، أو أن يجرح ردفها جرحاً بليغاً
…
أو أن تقطع إرباً، أو أن تجدف في سفن تشغيل العبيد، .... أو أن تقعد ولا تعمل شيئاً؟ " أجابتها كانديد
وهي تنعم الفكر "ذلك سؤال كبير"(97). لقد كان لفولتير أيام حفلت بالسعادة، ولكنه قل أن عرف سلام العقل أو الجسد. كان عليه أن يكون مشغولاً، نشيطاً، يبيع ويشتري، ويزرع، ويكتب، ويمثل، ويتلو، وكان يخشى الملل أكثر مما يخشى الموت، وفي لحظة سأم ذم الحياة لأنها "إما ضجر أو قشدة مخفوقة"(98).
ولعلنا نرسم صورة قبيحة لفولتير أن وصفنا طلعته دون أن نلحظ عينيه، أ، عددنا أخطاءه وحماقاته دون فضائله وظرفه. لقد كان "البرجوازي المنتحل النبالة" الذي شعر بأن له الحق في لقب الشرف ما لمدينيه المماطلين. ولقد بارى أعظم السادة الإقطاعيين كياسة في السلوك والحديث، ولكنه كان قادراً على المساومة في المبالغ التافهة، وانهال على المشرف على الآجام بأقزع الشتائم بسبب أربعة عشر قدماً مكعباً من الخشب-أصر على قبولها هدية دون ثمن. وأحب المال أساساً لأمنه. وقد اتهمته مدام دنيس بالبخل بعبارات فيها غلو شديد: "إن محبة المال تعذبك
…
وأنت في صميمك أحط الرجال. وسأخفي ما استطعت رذائل قلبك" (99). ولكنها حين كتبت هذا (1754) كانت تعيش عيشة التبذير في باريس على مال كان عبئاً باهظاً على جيبه، وفي باقي السنين التي قضتها معه كانت تحيا حياة الأبهة والفخفخة بفرنيه.
وقبل أن يصبح مليونيراً وبعده كان يسعى لمصادقة الأقوياء اجتماعياً أو سياسياً بتعلق يقرب أحياناً من التذلل. وفي "رسالة إلى الكاردينال دموا" وصف معدن الرذائل ذاك بأنه أعظم من الكاردينال ريشليو (100). وحين كان يسعى لقبوله في الأكاديمية الفرنسية واحتاج إلى تأييد رجال الدين أكد للأب دلاتو الكبير النفوذ أنه يود أن يعيش ويموت في كنف الكنيسة الكاثوليكية المقدسة (101). وأكاذيبه المطبوعة تؤلف كتاباً لو جمعت، والكثير منها لم يطبع، وبعضها كان غير قابل للنشر، وقد ذهب إلى أن هذا الإجراء مبرر في الحرب، وأحس أن حرب السنين السبع لم تكن غير لهو الملوك إذا قيست بحرب الثلاثين عاماً التي خاضها ضد الكنيسة؛ والحكومة التي تستطيع أن تزج برجل في السجن لقوله الصدق ليس في وسعها أن تشكو بحق إذا كذب.
وفي 19 سبتمبر 1764 عندما حمى وطيس معركته، كتب دالامبير يقول "حالما يبدو أدنى خطر تفضل بإبلاغي لكي أنكر كتاباتي في الصحف العامة بما عهد فيّ من صراحة وبراءة". وقد أنكر كل أعماله تقريباً باستثناء ملحمة "الهنريادة" وقصيدته في معركة فونتنوا. "على المرء أن يظهر الحق للأجيال القادمة بجرأة، ولمعاصريه بحذر. ومن العسير جداً التوفيق بين الواجبين"(102).
وما من شك في أنه كان مغرورا: فالغرور مهماز التقدم، وسر الكتابة والتأليف. وكان فولتير يتحكم في غروره عادة، فكثير ما نقح كتاباته استجابة لما يوجه إليه من مقترحات ونقد بروح طيبة. وكان سخياً في ثنائه على المؤلفين الذين لا ينافسونه-كمارمونتيل، ولا هارب، وبومارشيه، ولكنه قد يغدو غيوراً غيرة صبيانية من مزاحميه، كما نرى في "مديح كريبيون"(الأب) المفعم بالنقد الخبيث؛ ويرى ديدرو أنه "يحمل ضغينة لكل قاعدة تمثال"(103) وقد دفعته غيرته إلى شتم روسو شتماً مقذعاً، فوصفه بأنه "صبي الساعاتي" و"يهوذا خائن الفلسفة" و"كلب مسعور يعقر كل إنسان" و"مجنون وليد زواج صدفة بين كلبي ديوجين وايراسستراتوس"(104). وذهب إلى أن النصف الأول من "جولي أو هلويز الجديدة" قد ألف في ماخور، والآخر في مستشفى للمجاذيب، وتنبأ بأن "إميل" سينسى بعد شهر (105). وأحس أن روسو ولى ظهره لتلك الحضارة الفرنسية التي كانت رغم كل ذنوبها وجرائمها في نظر خمر التاريخ ذاته.
وإذا كان فولتير مجرد أعصاب وعظام دون لحم يذكر، كان أرهف حساً حتى من روسو. ولما كان حتماً أن نحس بآلامنا حساساً أحد من إحساسنا بلذاتنا، فإنه كان يأخذ المديح والإطراء قضية مسلمة؛ ولكنه "يصاب باليأس" إذا وجه إليه نقد معاد (106). قلما أوتي من الحكمة والتعقل ما يضبط قلمه؛ فكان يرد على كل معارض مهما صغر شأنه. وقد وصف هيوم بأنه إنسان "لا يغفر أبداً (؟)، ولا يرى عدواً لا يستحق اهتمامه"(107). وقد حارب خصومه الألداء كديفونتين وفريرون حرباً لا هوادة فيها؛ ولجأ إلى أسلوب في الهجاء، والسخرية، والشتم، وحتى لوى الحق بمكر (108).
وكان غله يصدم أصدقاءه القدامى ويخلق له أعداء جدداً. قال "إني أعرف كيف أكره لأنني أعرف كيف أحب"(109). "إنني بحكم طالعي أميل قليلاً إلى الأذى"(110)؛ وهكذا حرك كل كتائبه بنجاح ليهزم ترشيح دي روس للأكاديمية (1770). وقد لخص الأمر بمزيج من خلق دارتنيان ورابليه:
"أما عن شخصي الضعيف، فإني أخوض الحرب آخر لحظة-ضد الجانسنيين، والمولنيين، والفريرونيين، والبومبنيانيين، اليمينيين واليساريين، والوعاظ، وجان-جاك روسو. أتلقى مائة طعنة وأردها مائتين، وأضحك .. حمداً لله! إنني أنظر إلى العالم كله كأنه مهزلة (فارص) تستحيل مأساة أحياناً، يستوي كل شيء آخر النهار، وسيظل كل شيء سواء في نهاية الأيام"(111).
وفي عدائه للسامية حول على شعب بأسره ذلك الغيظ الذي ولدته خصوماته مع بعض أفراده. ومن زاوية تلك الذكريات فسر فولتير تاريخ اليهود، فسجل عليهم أخطاؤهم بتدقيق وتفصيل، وندر أن برأهم لعدم كفاية الأدلة على إدانتها. ولم يستطيع أن يغتفر لليهود إنجابهم المسيحية. "حين رأى المسيحيين يلعنون اليهود يخيل إلى أنني أرى أبناء يضربون آبائهم"(112). ولم يكد يتبين في العهد القديم شيئاً سوى سجل للقتل، والفسق، والاغتيال بالجملة، ورأى في سفر الأمثال "مجموعة من الحكم التافهة، القذرة، والمهلهلة، المجردة من الذوق، أو للاختيار، أو الهدف"، أما نشيد الإنشاد فهو في نظره "قصيدة حماسية سخيفة"(113). على أنه أثنى على اليهود لإنكارهم القديم للخلود، ولامتناعهم عن التبشير بعقائدهم، ولتسامحهم النسبي؛ فالصدوقيون أنكروا وجود الملائكة، ولكنهم لم يعانوا من أي اضطهاد بسبب هرطقتهم.
أكانت فضائله ترجح رذائله؛ أجل، حتى ولو لم نضع في الميزان صفاته العقلية مع صفاته الخلقية. فأمام شحه يجب أن نضع سخاءه، وأمام محبته للمال تقبله البشوش للخسائر واستعداده لاقتسام مكاسبه مع غيره. استمع إلى كولليني، الذي لا بد قد عرف عيوبه لأنه عمل سكرتيراً له سنين كثيرة:
"ما من دعوة أكذب من تهمة البخل التي يرمى بها
…
فلم يكن للبخل مكان في بيته. وما عرفت رجلاً يستطيع خدمه أن يسرقوه بسهولة أكثر لقد كان ضنيناً بوقته فقط
…
وكان له من أمر المال المبادئ التي يهتدي بها في أمر الوقت؛ فمن الضروري في رأيه أن تقتصد لكي تسخو فيه" (114).
وتكشف رسائله عن بعض الهبات الكثيرة التي وزعها، دون أن يعلن عن اسمه عادة، لا على أصدقائه ومعارفه فحسب، بل حتى على أشخاص لم يرهم قط (115). وسمح لباعة الكتب أن يحتفظوا بالربح الذي يجنونه من كتبه. وقد رأيناه يسدي العون للآنسة كورنبي؛ وسنراه يساعد الآنسة فاريكور. ورأيناه يعين فوفنارج ومارمونتيل؛ كذلك فعل مع لاهارب، الذي فشل مسرحياً قبل أن يغدو أقوى نقاد فرنسا أثراً، فطلب فولتير أن يعطي نصف معاشه الحكومة البالغ ألفي فرنك للاهارب دون أن ينبئه بحقيقة المعطي (116). كتب مارمونتيل "يعلم الجميع مبلغ العطف الذي كان يحبوا به الشبان الذين يبدون أي موهبة للشعر"(117).
وإذا كان فولتير الواعي بضآلة جسيمة، لم يؤتَ شجاعة بدنية تذكر (إذا ترك الكابتين بورجار يضربه بالعصا عام 1722)(118)، فإنه أوتي من الشجاعة الأدبية قدراً مذهلاً (فقد هاجم أقوى مؤسسة في التاريخ، وهي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية). وإذا كان عنيفاً في الخصومة، فإنه كان سريع العفو عن خصومه الذين يسعون إلى الصلح معه، "فكان غضبه يزول لأول رجاء"(119). وكان يغدق الحب على كل من طلبه، وكان وفياً لأصدقائه. فلما افترق عن فاجنيير بعد عشرة أربعة وعشرين عاماً "بكى كالأطفال"(120). أما عن فضيلته في أمر الجنس فقد كان فوق مستوى جيله مع مدام دوشاتليه، ودون ذلك المستوى مع ابنة أخته. وكان متسامحاً مع الفوضى الجنسية، ولكنه يغضب غضبة مضرية على الظلم. والتعصب، والاضطهاد، والنفاق، وفظاعات قانون العقوبات. وقد عرف الفضيلة بأنها "البر بالبش". أما فيما عدا ذلك فقد كان يسخر من المحظورات، ويستمتع بالخمر، والنساء، والغناء، في قصد فلسفي. وفي أقصوصة سماها "بابابيك"
رفض الزهد بما هو معهود فيه من تهكم موجع. فترى أومني يسأل البرهمي "أهناك أمل في أن يبلغ في النهاية السماء التاسعة عشرة؟ ".
ويجيب البرهمي "هذا يتوقف على نوع الحياة التي تحياها. إني أحاول أن أكون مواطناً صالحاً، وزوجاً صالحاً، وأباً صالحاً، وصديقاً صالحاً، وأحياناً أقرض المال بغير ربا للأغنياء، وأتصدق على الفقراء، وأحفظ السلام بين جيراني"، فيسأل البرهمي "ولكن أتفرز المسامير أحياناً في عجزي؟ ".
"أبداً يا أبي المبجل"
ويجيب البرهمي "إذن فأنا آسف، لأنك لم تبلغ السماء التاسعة عشرة، ما في ذلك ريب"(121).
أما فضيلة فولتير المتوجة لفضائله المكفرة عن سيئاته، فهي إنسانيته. لقد حرك ضمير أوربا بحملاته دفاعاً عن آل كالاس وسيرفنس. وشهر بالحرب باعتبارها "الوهم الكبير". "فالأمة الغالبة لا تفيد إطلاقاً من أسلاب الأمة المغلوبة؛ وهي تدفع ثمن كل شيء، وتعاني حين تنتصر جيوشها قد معاناتها حين تنهزم (122). وأياً كان الفريق المنتصر، فإن الإنسانية خاسرة على الحالتين". وقد ناشد الناس في شتى الظروف والأقطار أن يتذكروا أنهم أخوة؛ واستمع الناس إلى ذلك النداء بشكر وعرفان في مجاهل أفريقيا (123). كذلك لم تصدق عليه التهمة التي وجهها روسو للذين بشروا بحب البشر ووسعوا هذا الحب توسيعاً لم يترك فيه مكاناً لجيرانه؛ فكل الذين عرفوه تذكروا عطفه ومجاملته لأقل الأشخاص المحيطين به شأناً. كان يحترم كل نفس، عارفاً حساسيتها لأنه يعرف حساسيته (124). وقد واصل كرم ضيافته رغم ما فرض عليها من مطالب باهظة. كتبت مدام دجرافيني "كم تأثرت حين وجت فيك من الطيبة ما لا يقل عما فيك من العظمة، ورأيتك تفعل لكل من يحيطون بك الخير الذي كنت تود أن تفعله للبشرية جمعاء"(125). وكان أحياناً
نزقاً يتفجر غضباً، ولكن "لا يمكن أن تتصور أبداً مبلغ ما في قلب هذا الرجل من طيبة كما كتب عنه زائر آخر"(126).
وإذ ذاع صيت العون الذي يسديه للمضطهدين في أوربا، وانتشرت الأنباء في فرنسا عن بره وإحساناته المستورة، تشكلت صورة جديدة لفولتير في ذهن الجماهير. فلم يعد عدو المسيح، ولا المحارب لدين يحبه الفقراء؛ بل أصبح منقذ آل كالاس، وسيد فرنيه الطيب، والمدافع عن عشرات من ضحايا العقائد المتزمتة والقوانين الظالمة. وقال قساوسة جنيف إنهم حائرون في موقفه وإياه في يوم الحساب، فهل إيمانهم بعدل أعمال هذا الزنديق (127). وغفر له المثقفون رجالاً ونساءً زندقته، ومشاجراته، وغروره، لا بل خبثه، ورأوه يتحول من الخصومة إلى السماحة، فنظروا إليه الآن نظرتهم إلى الأب الجليل للآداب الفرنسية، وفخر فرنسا أمام العالم المثقف. ذلك هو الرجل الذي رحبت حتى جماهير العامة بمقدمه حين جاء إلى باريس ليموت.
الفصل السادس
روسو الرومانسي
1756 - 1762
1 -
في "الإيرميتاج"
1756 -
1757
كان روسو قد انتقل إلى كوخ مدام دينيه في 9 إبريل 1756 مصطحباً غير الشرعية تريز لافاسير وأمها. وسعد بالعيش هناك حيناً، إذ أحب غناء الطيور وزقزقتها، وحفيف الأشجار وعبيرها، وهدوء الجولات المنفردة في الغابات. وكان في جولاته يحمل قلماً وكراسة ليقتنص الأفكار وهي تمرق منه.
ولكنه لم يخلق للراحة والسلام. ذلك أن حساسيته ضاعفت كل عناء، وخلقت مزيداً من المتاعب. لقد كانت تريز زوجة وفية ولكنها لا تستطيع أن تكون رفيقاً لذهنه، كتب في إميل يقول "ينبغي ألا يقترن الرجل الذي يفكر بزوجة لا تستطيع مشاطرته أفكاره"(1). ولم يكن بتريز المسكينة حاجة تذكر للأفكار، ولا كبير حاجة للكلمات المكتوبة. لقد بذلت له جسدها وروحها، واحتملت غضباته، وأغلب الظن أنها ردت عليها بمثلها، وسمحت له بأن يقترب من حافة الخيانة مع مدام دودتو، وكانت هي على قدر ما نعلم وفية في تواضع باستثناء حادث لا سند لنا فيه إلا في رواية بوزويل. ولكن أنى لهذه المرأة الساذجة أن تستجيب لذلك الاتساع والتنوع الجامح في عقل قدر له أن يزلزل نصف القارة؟ استمع إلى تفسير روسو:
"ماذا يظن القارئ إذا قلت له
…
إنني منذ اللحظة الأولى التي وقع عليها بصري حتى اللحظة التي أكتب الآن فيها لم أشعر قط بأقل حب لها، ولم أشتهِ قط أن أملكها
…
وأن الحاجات البدنية التي أشبعت بشخصها كانت بالنسبة لي
حاجات الجنس فقط، دون أن تنبعث إطلاقاً من شخصيتها؟
…
لقد كانت أولى حاجاتي، وأعظمها، وأقواها، وأشرهها، كلها في قلبي: الحاجة إلى رباط (روحي) حميم، حميم ما أمكن. وكانت هذه الحاجة الفريدة بحيث لا يشبعها أوثق الاتصال البدني، ولم يكن بد لها من وجود روحين" (2).
ولعل تريز كانت ترد على هذه الشكاوى بردها، لأن روسو كان قد كف الآن عن القيام بوظائفه الزوجية. ففي 1754 قرر لطبيب جنيفي:"لقد تعرضت طويلاً لأقسى الآلام، لعلة حصر البول التي لا شفاء لي منها، والتي نجمت عن احتقان في مجرى البول يسد القناة سداً يستحيل معه فيها حتى قسطرات الدكتور داران المشهور"(3). وزعم أنه أقلع عن كل اتصال جنسي مع تريز بعد 1755 (4) ثم أضاف "حتى ذلك التاريخ كنت صالحاً، ومن تلك اللحظة أصبحت طاهراً، أو على الأقل متيماً بالطهارة.
وجعل وجود حماته معهما هذا المثلث حاداً إلى درجة مؤلمة. وقد عالها هي وزوجته ما استطاع من دخله الذي جاءه من نسخ الموسيقى ومن بيع كتبه. غير أن مدام لافاسير كان لها بنات أخريات تحتجن إلى مهور ويعشن في ضنك مقيم. وجمع جريم وديدرو ودولباخ فيما بينهم للمرأتين معاشاً سنوياً قدره أربعمائة جنيه، وأخذوا عليهما العهد بكتمان الأمر على روسو مخافة جرح كبريائه. واختصت الأم نفسها وبناتها بمعظم المال (على رواية روسو)(5)، واستدانت باسم تريز، ودفعت تريز الديون، وأخفت أمر المعاش طويلاً، وأخيراً كشف روسو سره، فاستشاط غضباً على أصدقائه لإذلاله على هذا النحو. وقد زادوه غضباً بالإلحاح عليه في أن ينتقل من الإيرمتاج قبل حلول الشتاء، فالكوخ (في رأيهم) لم يعد للجو البارد. وحتى لو احتملت زوجته برد الشتاء فيه فهل في طاقة الأم احتماله؟ وكان ديدرو قد كتب في تمثيلية "الابن الطبيعي" (6):"إن الرجل الصالح يحيا في مجتمع؛ ولا يعيش وحيداً غير الطالح". وخيل لروسو أنه المقصود بهذا القول، وبدأ الآن نزاع طويل لم تكن المصالحات التي تخللته إلا مهادنات. وشعر روسو أن جريم وديدرو يحولان إغرائه بالعودة إلى مدينة فاسدة لأنهما يحسدانه على السلام الذي وجده بين
الغابات. وقد كشف في خطاب أرسله إلى صاحبة الفضل عليه، مدام ديينيه، (وكانت في باريس) عن خلقه بصراحة ونفاد صبر. قال:
"أريد أن يكون أصدقائي أصدقاء لا سادة عليّ؛ أريد أن ينصحوني لا أن يحاولوا التسلق علىّ؛ وأن يكون لهم كل المطالب على قلبي دون مطلب واحد يقيد حريتي. إني لأراها غريب تلك الطريقة التي يتدخل بها الناس باسم الصداقة في شؤوني دون أن يطلعوني على شؤونهم
…
وحرصهم الشديد على أن يؤدوا لي ألف خدمة يرهقني، ففيه لمسة من الاستعلاء تضنيني؛ ثم إن كل إنسان في وسعه أن يفعل مثل ما يفعلون
…
"
وإني لتوحدي وانعزالي على الناس أشد حساسية من غيري. فلو فرضنا أنني تشاجرت مع إنسان يعيش وسط الزحام، فإنه يفكر في الأمر لحظة ثم تنسيه إياه عشرات الشواغل بقية النهار. أما أنا فلا يصرف أفكاري عنه شيء ولا أفتأ أقلبه في ذهني طوال الليل وأنا مؤرق، وأفكر فيه وأنا أتمشى وحدي من شروق الشمس إلى غروبها، وقلبي لا يهدأ لحظة واحدة، وإساءة من صديق كفيلة بأن تجعلني أعاني في يوم واحد سنوات من الحزن. وإن لي أنا العليل حقا في التسامح الواجب من أخوتي البشر نحو هفوات رجل مريض وغضباته
…
وأنا فقير، وفقري يخول لي بعض الرعاية (أو كذلك يخيل إلي) ".
"لا يدهشك إذن إن أنا أبغضت باريس أكثر فأكثر. ليس لي شيء أنشده من باريس سوى رسائلك. ولن يراني أحد هناك ثانية أبداً. وإذا شئت أن تنبئني بآرائك حول هذا الموضوع، وبكل ما تبغين من قوة وعنف، فلك الحق في ذلك. فستلقي مني قبولاً حسناً، وستكون-عديمة الجدوى"(7).
وقد أجابته بما يكفي من العنف فقالت "أوه، دع هذه الشكاوى التافهة لمن خلت قلوبهم ورؤوسهم (8). ولكنها استفسرت مراراً عن صحته وراحته، واشترت له حاجياته، وأرسلت له الهدايا الصغيرة.
"ذات يوم والحرارة بلغت من التجمد درجة قصوى، وجدت وأنا أفتح طرداً به عدة أشياء طلبت إليها أن تبتاعها لي جونلة داخلية من الفانيلا الإنجليزية
قالت إنها كانت تلبسها، ورغبت إلي في أن ألبسها صدرية داخلية، ورأيت في هذه الرعاية البالغة الود حناناً شديداً-وكأنها تعرت لتكسوني-حتى رحت في انفعالي أقبل الخطاب والجونلة جميعاً غير مرة وأنا أذرف الدمع. وخالتني تريز قد جننت (9) ".
وخلال عامه الأول في الإيرميتاج صنف "قاموس الموسيقى" ولخص بلغته المجلدات التي ألفها الأبيه دسان-بيير عن الحرب، والسلام، والتعليم، والإصلاح السياسي. وفي صيف 1756 تلقى من المؤلف نسخة من قصيدة فولتير في الزلزال الذي أهلك خمسة عشر ألف شخص، وجرح خمسة عشر ألف آخرين في لشبونة في عيد جميع القديسين أول نوفمبر 1755، وقد تساءل فولتير كما تساءل نصف العالم لم اختارت العناية، المفترض فيها أنها خيرة، لهذه المذبحة العمياء عاصمة قطر كله كاثوليكي، وساعة-9. 40 صباحاً-كل الأتقياء يصلون فيها في الكنيسة. وفي نغمة من التشاؤم المطلق رسم فولتير صورة للحياة والطبيعة محايدتين حياداً قاسياً بين الشر والخير. وفي الفقرة التالية من الاعترافات نقرأ رد فعل روسو لهذه القصيدة القوية:
"حين أدهشني أن أرى هذا المسكين، الغارق (إن جاز القول) في أسباب الثراء والتشريف، يشكو بمرارة أرزاء هذه الحياة، ويجد كل شيء خطأ، فكرت في مشروع جنوني هو أن أجبره على تحويل اهتمامه إلى نفسه، وعلى إثبات أن كل شيء صواب. إن فولتير وهو يبدو مؤمناً بالله لم يؤمن قط في الواقع بشيء غير الشيطان، لأنه إلهه المزعوم كائن خبيث لا يلتذ إلا بالشر، كما يقول. وسخف هذه القصيدة الصارخ يثير أشد التقزز من رجل ينعم بثراء فاحش، رجل يحاول من حضن السعادة أن يشيع اليأس في قلوب أخوته البشر بما يصور من صورة رهيبة قاسية لكل الكوارث التي أعفي منها، أما أنا الذي يحق لي أكثر منه أن أعدد وأزن كل شرور الحياة البشرية، فقد فحصتها في غير تحيز، وأثبت له أنه ما من شر من جميع الشرور الممكنة يجب أن ننسبه للعناية، وألا نرده بالأحرى إلى إساءة استعمال الإنسان لقدراته لا إلى الطبيعة"(10).
وعليه في 18 أغسطس 1756 أرسل روسو إلى فولتير "رسالة في العناية الإلهية من خمس وعشرين صفحة، بدأها بإقرار لطيف بفضل فولتير. قال:
"جاءتني قصائدك الأخيرة يا سيدي في عزلتي، ومع أن جميع أصدقائي يعرفون محبتي لكتاباتك، فلست أدري من كان ممكناً أن يرسل لي هذا الكتاب سواك. فقد وجدت المتعة والفائدة جميعاً، وتبينت فيه يد الأستاذ
…
ولزام علي أن أشكرك على المجلد وعلى صنيعك" (11).
ثم ناشد فولتير ألا يلوم العناية الإلهية على مصائب البشر. فمعظم الشرور راجع لحماقتنا، أو خطيئتنا، أو إجرامنا:
"لاحظ أن الطبيعة لم تحشد عشرين ألف بيت من ستة طوابق أو سبعة، وأنه لو كان سكان تلك المدينة الكبرى موزعين توزيعاً أكثر توازناً في مساكن أقل تكاثفاً، لكانت الخسارة أقل كثيراً، أو ربما انعدمت، ولكان كل أهلها قد هربوا نعد أول هزة، ولرأيناهم في الغد على بعد عشرين فرسخاً، مرحين كأن شيئاً لم يصبهم"(12).
وكان فولتير قد كتب أ، قلة من الناس من يودون أن يولدوا من جديد في نفس الظروف؛ فرد روسو بأن هذا لا يصدق إلا على الأثرياء الذين أتخموا باللذات، وملوا الحياة، وأعوزهم الإيمان؛ أو على الأدباء القاعدين، غير الأصحاء، الغارقين في تأملاتهم، الساخطين؛ ولكنه لا يصدق على بسطاء الناس كالطبقة الوسطى الفرنسية أو القرويين السويسريين. والذي يجعل من الحياة معضلة لنا هو إساءة استعمالها (13). ثم إن شر الجزء قد يكون خير الكل؛ فموت الفرد يتيح الحياة المتجددة للنوع. والعناية الإلهية عامة لا خاصة؛ فهي تسهر على الكل، ولكنها تترك أحداثاً نوعية للأسباب الثانوية والقوانين الطبيعية (14). وقد يكون الموت المبكر نعمة كذلك الذي أصاب أطفال لشبونة، وهو على أية حال غير ذي بال ما دام هناك إله، لأنه تعالى سيكافئ الجميع على ما أصابهم من معاناة لا يستحقونها (15). ومسألة وجود الله تجاوز
الحل بالعقل. ولنا أن نختار بين الإيمان والكفر، فلم نرفض إيماناً ملهماً معزياً؟؛ أما عن نفسي "فقد عانيت في هذه الحياة كثيراً، لهذا يملؤني الرجاء في حياة أخرى. وكل دقائق الميتافيزيقا لن تشككني لحظة في وجود عناية خيرة وفي خلود النفس. أنني أحس هذا، وأؤمن به، وأتمناه
…
وسأدافع عن هذه المعتقدات إلى آخر نسمة من حياتي" (16).
واختتم روسو خطابه ختاماً لطيفاً، فقال إنه متفق مع فولتير على التسامح الديني، وأكد له "إنني أوثر أن أكون مسيحياً على طريقتك لا على طريقة الصوربون"(17). ورجا فولتير أن ينظم بكل ما في شعره من قوة وفتنة "كتاب تعليم مسيحي للمواطن" يتضمن قاموساً أخلاقياً يهدي الناس في فوضى العصر. وكتب فولتير إقراراً مهذباً بوصول رسالة روسو، ودعاه للنزول ضيفاً عليه في الدليس (18)، ولم يبذل محاولة منظمة لتنفيذ حجج روسو، ولكنه رد عليها بطريق غير مباشر بروايته "كانديد"(1759).
2 - العاشق
حفل شتاء 1756 - 1757 بالأحداث لروسو. ففي فترة ما خلال تلك الشهور بدأ يكتب أشهر رواية في القرن الثامن عشر "جولي، أو هلويز الجديدة" وقد تصورها أول الأمر دراسة في الصداقة والحب. فابنتا العم جولي وكلير تحبان سان-برو، ولكنه حين يغوى جولي تظل كلير الصديقة الوفية لكليهما. فلما أخجله أن يكون الكتاب مجرد رواية غرامية، عمد إلى رفع القصة إلى مقام الفلسفة بتحويل جولي إلى التدين، والعيش في ولاء مثالي لزوجها فولمار وهو سيد شكاك استسلم لتعاليم فولتير وديدرو. يقول روسو في اعترافاته:
"كانت العاصفة التي أطلقتها الموسوعة .. في ذلك الحين على أشدها. فلم يلبث الفريقان، اللذان بلغ سخطهما بعضهما على بعض نهايته، أن أصبحا أشبه بذئاب غاضبة
…
لا مسيحيين ولا فلاسفة يرغب كل منهما في إثارة الآخر وإقناعه وهداية إخوانهم إلى طريق الحق. وكنت قد جهزت بالحقائق الصارمة للفريقين لأنني بطبعي عدو لكل أنواع التخريب، ولكنهم لم يستمعوا إلي.
ففكرت في طريقة أخرى، بدت لي في بساطتي جديرة بالإعجاب؛ وهي التخفيف من كراهيتهما المتبادلة بأن أحطم تعصبهما، وأظفر لكل فريق ما للآخر من فضائل وحسنات تستحق تقدير الجميع واحترامهم. وأحرزت الفكرة
…
النجاح المرتقب، فقد قربت ووحدت الحزبين المتنافسين على هدف واحد هو سحق الكتاب
…
ولما رضيت .. عن خطتي، عدت إلى الموقعين تفصيلاً
…
فأسفر هذا عن الجزأين الأول والثاني من "هلويز"(19).
وكان يقرأ على تريز ومدام ليفاسير كل مساء صفحات من القصة عند المدفأة. وشجعته الدموع التي كانت تذرفها تريز، فدفع بالمخطوطة إلى مدام ديينيه حين عادت إلى قصرها الريفي، لاشتزيت، على ميل من الإيرميتاج. وفي مذكراتها استعادة للحدث: "حين وصلنا هنا
…
وجدنا روسو في انتظارنا. وكان هادئاً رائق المزاج للغاية. وأحضر لي رواية (جانباً منها) قد بدأها
…
وقد قفل إلى الإيرميتاج أمس ليستأنف هذا العمل، الذي يزعم أنه قوام سعادة حياته" (20). وبعد قليل كتبت إلى جريم:
"وبعد العشاء قرأنا مخطوطة روسو. ولست أدري هل أنا متحيزة ضدها، ولكني غير راضية عنها، إنها مكتوبة بأسلوب في غاية الروعة، ولكنها مسرفة في التفصيل، وتبدو غير واقعية ومفتقرة إلى الحرارة. ولا تقول شخوصها كلمة واحدة مما ينبغي أن تقوله، فالمؤلف هو الذي يتكلم دائماَ. ولا أدري كيف أخرج من هذا المأزق، فلست أحب أن أخدع روسو، ولا أستطيع أن أستقر على إدخال الحزن على قلبه"(21).
على أن روسو، على نحو ما، بث الحرارة في جولي خلال الشتاء، أكان ذلك لأن قصة حب حية دخلت حياته؟ ذلك في 30 يناير 1757 زارته سيدة كان قد لقبها في باريس باعتبارها أخت زوج مدام ديينيه. وكانت هذه السيدة، واسمها اليزابث-صوفي دبيلجارد، قد تزوجت الكونت دودتو، ثم تركته، وأصبحت الآن خليلة عدة سنوات للمركيز دسان-لامبير، الذي كان يوماً ما مزاحماً لفولتير على مدام دناتليه. وكان زوجها وعشيقها كلاهما
قد انطلق إلى ساحة القتال. وفي صيف 1756 كانت الكونتيسة قد استأجرت قصر أوبون الريفي، على نحو ميلين ونصف من الإيرميتاج. وكتب لها سان-لامبير أن روسو على رحلة جواد قصيرة منها، واقترح عليها أن تسري عن وحدتها بزيارة الكاتب الشهير الذي أوقف الحضارة كلها موقف الدفاع عن نفسها. فذهبت في مركبة، فلما انغرزت في الوحل واصلت الرحلة سيراً، فوصلت وحذاؤها وثوبها ملطخان. "وجعلت المكان يدوي بضحكها الذي شاركتها فيه من كل قلبي"(22). وأعطتها تريز تغيرة ملابس. ومكثت المركيزة لتتناول "وجبة ريفية خفيفة" وكانت في السابعة والعشرين، وروسو في الخامسة والأربعين. ولم تكن باهر الجمال سواء في طلعتها أو قوامها، ولكن رقتها، وروحها المرحة أثارت حياته المظلمة. وفي العصر التالي أرسلت إليه رسالة لطيفة، مخاطبة إياه باللقب الذي اتخذه بعد أن استوطن جنيف ثانية:
"أيها المواطن العزيز، أعيد إليك الثياب التي تفضلت بإعارتي إياها. وقد وجدت عند رجوعي طريقاً أفضل كثيراً، ويجب أن أخبرك بمبلغ سروري بهذا، لأنه ييسر لي العودة إلى زيارتك. ويؤسفني أنني لم أمكث إلا قليلاً
…
وسيكون أسفي أقل إذا كنت أكثر حرية، واثقة دائماً من أنني لا أزعجك. وداعاً يا مواطني العزيز، وأرجوك أن تشكر للآنسة ليفاسير كل ما أبدته نحوي من عطف" (23).
وبعد أيام عاد سان-لامبير من الجبهة. وفي إبريل استدعي من جديد للخدمة العسكرية، وما لبثت الكونتيسة المرحة أن خطرت إلى الإيرميتاج على صهوة جوادها ثياب الرجال. وصدم زيها روسو، ولكنه ما لبث أن أحس أنه يحتوي امرأة فاتنة. فنطلق مع ضيفه سيراً في الغابات تاركاً تريز لواجباتها المنزلية وأخبرته مدام دودتو عن شدة محبتها لسان لامبير، وفي مايو رد زيارتها، فذهب إلى أوبون في الوقت الذي تكون فيه "وحيدة تماماً" كما قالت له. يقول "كنت أحياناً في رحلاتي المتكررة لأوبون أنام هناك
…
وكنت أراها كل يوم تقريباً طوال ثلاثة أشهر. ورأيت شخصية جولي متمثلة في مدام دودتو، ثم لم أعد أرى غير مدام دودتو (في جولي)، ولكن بكل أسباب الكمال التي جملت بها معبودة قلبي" (24).
وأسلم نفسه زمناً لهذا الهذيان المحموم حتى لقد كف عن كتابة قصة، وراح بدلاً من هذا يكتب الخطابات الغرامية التي حرص على أن تعثر عليها في كوي أشجار أوبون. فقال لها أنه يجب، ولم يقل من محبوبته؛ ولكنها بالطبع. فوبخته، وأكدت له أنها ملك سان-لامبير جسداً وروحاً، ولكنها سمحت له بمواصلة زياراته وتودده الحار؛ والمرأة على أي حال تحيا حياة واحدة فقط حين تحب، وحياة مضاعفة حين يحبها اثنان. "لم تنكر على شيئاً يمكن أن تمنحه أرق الصداقات، ولكنها لم تمنحني شيئاً يجعلها خائنة". وهو يروي أنباء ما كانا يخوضان فيه من "أحاديث مستفيضة متكررة
…
خلال الشهور الأربعة التي أنفاها في صلة حميدة لا تكاد تضارعها صلة بين صديقين من الجنسين يحصران نفسهما داخل الحدود التي لم نتجاوزها قط" (25). وفي روايتها لهذه العلاقة نجد الحركة الرومانسية على أشدها: فلا شيء في قصته يمكن أن يضارع هذه النشوات:
"لقد سكرت كلا بخمر الحب-حبها لحبيبها، وحبي لها،؛ وامتزجت تنهداتها ودموعنا
…
ولم تنسَ نفسها قط لحظة واحدة في حميا هذا السكر اللذيذ، وأؤكد تأكيداً قاطعاّ إنني أن كنت مرة، وأنا منساق بحواسي، قد حاولت حملها على الخيانة، فإنه لم يكن بي رغبة حقيقية في النجاح .. ذلك أن واجب نكران الذات تسامى بعقلي
…
لقد كان من الممكن أن أقارف الجريمة، وقد قورفت مائة مرة في قلبي؛ ولكن أن ألوث شرف حبيبتي صوفي! آواه، أممكن هذا؟ كلا! لقد قلت لها مائة مرة إنه محال
…
فإن حبي لها أعظم ما أن يغريني بتملكها
…
تلك كانت اللذة الوحيدة لرجل أوتي مزاجاً من أكثر الأمزجة تأججاً، ولكنه ربما كان في الوقت ذاته من أجبن من أنجبتهم الطبيعة من البشر" (26).
ولاحظت مدام ديينيه أن "دبها لم يعد يزورها الآن إلا لماماً، وسرعان
ما علمت بنبأ رحلاته لأخت زوجها. فآلمها النبأ. وكتبت إلى جريم في يونيو تقول "من القسوة على أي حال أن يهرب منك فيلسوف في أقل اللحظات توقعاً لهروبه"(27). وذات يوم في أوبون وجد روسو "صوفي" تبكي. ذلك أن سان-لامبير نمى إليها خبر عبثها هذا، وقد أبلغ بالخبر (كما قالت لجان-جاك) "بطريقة سيئة. إنه ينصفني، ولكنه مغيظ
…
وأخشى ما أخشاه أن تكلفي حماقاتك الراحة والهدوء بقية أيامي" (28). واتفقا على أن الذي باح بالسر لسان-لامبير لابد هو مدام ديينيه، لأننا "كما نعلم أنه تراسله". أو لعلها باحت به لجريم، الذي كان يلقى سان-لامبير بين الحين والحين في وستفاليا. وقد حاولت مدام ديينيه-في رواية ورسو-أن تحصل من تريز على خطاباته التي تلقاها من مدام دودتو، واتهم مضيفته بخيانته في خطاب عنيف:
"هناك عاشقان (صوفي وسان-لامبير) عزيزان عليّ، وهما وثيقا الارتباط جديران بحب الواحد لصاحبه
…
وأحسب أن محاولات بذلت للتفريق بينهما، وأنني استعملت لبث الغيرة في صدر أحدهما. ولم يكن الاختيار سديداً، ولكنه بدا محققاً لأغراض الحقد؛ وأنت التي أشتبه في أنها مذنبة بهذا الحقد .. وهكذا كان يمكن أن يُلصق بالمرأة التي أمن لها أعظم تقدير
…
عار قسمة قلبها وشخصها بين حبيبين، ويلصق بي أنا عار كوني أحد هذين التعيسين. ولو علمت أنك فكرت في هذا إطلاقاً ولو لحظة واحدة في حياتك، سواء عنها أو عني، لأبغضتك حتى آخر نسمة من حياتي، ولكني لا أتهمك بالتفكير في هذا فحسب، بل بقوله أيضاً.
"أتعلمين كيف أكفر عن أخطائي في الفترة القصيرة التي أنا مضطر للمكث فيها بقربكِ، بفعل ما لا يفعله أحد سواي: بمصارحتك برأي الناس فيكِ وبالصدود التي عليكِ أن ترأبيها"(29).
وأحزن عنف هذه التهم مدام دينيه، سواء أكانت مذنبة أم بريئة (ولا علم لنا بالحقيقة)، فأبلغتها إلى حبيبها البعيد جريم. وأجاب بأنه قد حذرها من "المآذق الشيطانية"، التي ستتورط فيها بإنزال روسو النزق الغريب الأطوار
في الإيرميتاج (30). ودعت جان-جاك إلى شفريد، وحيته بالعناق والجموع، وأجاب على الدموع بمثلها، ولم تدلِ له بأي تفسير وصل إلينا علمه، وتعشى معها، ونام في بيتها، ورحل في الغد مودعاً بعبارات الصداقة.
وزاد ديدور الطين بلة. فقد أشار على روسو بأن يكتب إلى سان-لامبير معترفاً بميله لصوفي، مؤكداً له رغم ذلك وفاءها. ووعد روسو بأن يكتب (في رواية ديدرو) ولكن مدام دودتو رجته ألا يفعل، وأن يدعها تنقذ نفسها بطريقتها الخاصة من المآزق التي ورطها فيها هيامه وعبثها. فلما عاد سان-لامبير من الجبهة حدثه ديدرو بالعلاقة، مفترضاً أن روسو قد اعترف بها. ولام روسو ديدرو ورماه بخيانته، ولام ديرو ورسو ورماه بخديعته. ولم يتصرف تصرف الفلاسفة غير سان-لامبير. فقد جاء وصوفي إلى الإيرميتاج، و "دعا نفسه إلى العشاء معي
…
وعاملني بصرامة ولكن بروح الصداقة". ولم يوقع عليه عقوبة أشد من النوم والشخير بينما كان جان-جاك يقرأ عالياً خطابه المطول إلى فولتير. على أن مدام دودتور لم تشجع المزيد من اللقاءات بروسو. وأعاد لها الخطابات التي كتبتها يناء على طلبها، ولكن حين طلب خطاباته إليها قالت إنها أحرقتها. يقول "جرؤت على الشك في زعمها هذا
…
وما زلت أشك. فلم تلق في النار قط خطابات كخطاباتي. لقد رأى الناس أن خطابات هلويز (لأبيلار) حارة! فيا للسماء!، فماذا كانوا يقولون في خطاباتي هذه؟ " (31) وانكفأ إلى عالمه الخيالي مجروحاً شاعراً بالخزي، واستأنف كتابه "هلويز الجديدة"، وسكب فيه عواطف رسائله المشوبة لمدام دودتو.
على أن صنوفاً جديدة من الذل كانت في انتظاره حين عاد جريو من الحرب (سبتمبر 1757)"لم أكد أتبين فيه جريم القديم" الذي كان فيما مضى "يعده شرفاً له أن ألقي عليه نظرة"(32) ولم يستطع روسو أن يفهم العالة في فتور جريو، ولم يعرف أن جريم عرف بأمر الخطاب المهين الذي أرسله إلى مدام ديينيه. وكان جريم يقرب من جان-جاك أنانية، ولكنه فيما عدا ذلك نقيضه عقلاُ وخلقاً-فهو شكاك، واقعي، فظ، قاس (33). وهكذا فقد روسو صديقين بخطاب واحد.
3 - لغط كبير
وحدثت أزمة جديدة حين قررت مدام ديينيه في أكتوبر 1757 أن تزور جنيف. وإليك قصة روسو:
كتبت إليّ تقول "يا صديقي، سأقوم فوراً بالرحلة إلى جنيف، لأن صدري ساءت حالته، وصحتي اعتلت كثيراً، بحيث يتعين عليّ أن أذهب لاستشارة ترونشان". وزادت دهشتي لهذا القرار الذي اتخذ هكذا فجأة، وفي بداية أسوأ طقس في السنة
…
وسألتها من سيصحبها، فأجابت بأنه ابنها ومعلمه مسيو دليفان، ثم أردفت بغير اكتراث "وأنت يا عزيزي، ألا تذهب أنت أيضاً؟ " ولم يخطر لي أنها جادة فيما تقول، لأنني في هذا الفصل منت لا أكاد أقوى على المضي إلى حجرتي (أي السفر بين لاشفريت والإيرميتاج) فقد رحت امزح حول الفائدة التي يسديها مريض لآخر. ولم تكن هي ذاتها، قيما بدا لي، جادة في اقتراحها، وإلى هنا انتهى الأمر" (34).
وكان له مبررات وجيهة للزهد في مصاحبة المداد، فقد حالت دون ذلك آلامه وأوصابه، ثم كيف يستطيع أن يترك تريز؟ أضف إلى ذلك أن الشائعات أرجفت بأن مضيقته حبلى، من جريم على الأرجح، وصدق روسو القصة حيناً وهنأ نفسه على النجاة من موقف مثير للسخرية. ولكن المرأة المسكينة كانت صادقة، فهي تعاني من السل، ويبدو أنها كانت مخلصة في رغبتها في أن يرافقها روسو، ولم لا يبهجه أن يعود، على نفقتها، لزيارة المدينة التي كان يفخر كثيراً بأنه مواطن فيها؟ وكتب ديدرو، العالم بشعورها، إلى روسو يناشده أن يأخذ طلبها مأخذ الجد ويستجيب له، ولو لما في ذلك من بعض الرد على إحساناتها. وأجاب روسو بأسلوبه المعهود:
"أحس أن الرأي الذي تراه مصدره غيرك. وفضلاً عن عدم ميلي لأن أدع نفسي أساق على غير إرادتي تحت ستار اسمك من شخص ثالث أو رابع، فإنني ألاحظ في هذه النصيحة الثانوية نزعاً من الغدر لا يتفق وصراحتك، ويحسن بك أن تكف عنه مستقبلاً لأجلك ولأجلي"(35).
وفي أكتوبر أخذ خطاب ديدرو وجابه عليه إلى لاشفريت وقرأهما "بصوت عالٍ واضح" على جريم ومدام ديينيه. وفي الخامس والعشرين من الشهر رحلت قاصدة باريس. وذهب روسو ليودعها وداعاً محرجاً، يقول "ولحسن الحظ قامت في الصباح، وبقي لي من الوقت متسع للذهاب والغداء مع أخت زوجها" في أوبون. (36) وفي التاسع والعشرين (كما جاء في مذكرات مدام ديينيه) كتب إلى جريم.
"قل لي يا جريم لم يعلن جميع أصدقائي أن من واجبي أن أصحب مدام ديينيه؟ أمخطئ أنا، أم أنهم كلهم مسحورون؟
…
إن مدام ديينيه مسافرة في مركبة أجرة لطيفة، ويصحبها زوجها، ومعلن ولدها، وخمسة خدم أو ستة
…
فهل أحتمل أنا السفر في مركبة أجرة؟ وهل أطمع في القيام برحلة طويلة كهذه وبهذه السرعة الكبيرة دون أن يقع لي حادث؟ وهل عليّ أن أطلب وقوفها في كل لحظة لأنزل، أم عليّ أن أعجل بعذاباتي وساعاتي الأخيرة باضطراري إلى فرض القيود على نفسي؟ (يلوح) أن أصدقائي المخلصين
…
مصممون على إرهاقي حتى الموت" (37).
وفي 30 أكتوبر غادرت مدام دينيه باريس قاصدة جنيف، وفي 5 نوفمبر (في رواية المذكرات) رد جريم على روسو:
"لقد بذلت ما وسعني من جهد لأتجنب الرد القاطع على الدفاع الرهيب الذي وجهته إلي. وأنت تلح عليّ في أن أرد
…
إنه لم يدر بخلدي قط أنه كان من واجبك أن تصحب مدام ديينيه إلى جنيف. وحتى لو كان دافعك الأول هو أن تعرض عليها صحبتك لها، لكان من واجبها أن ترفض عرضك، وأن تذكرك بما يجب عليك نحو مركزك، وصحتك، والمرأتين اللتين جررتهما إلى معتكفك؛ هذا رأيي
…
وأنت تجسر على أن تحدثني بعبوديتك، أنا الذي كنت طوال أكثر من عامين الشاهد اليومي على كل دلائل الصداقة البالغة الحنان والكرم، التي منحتها إياك هذه المرأة، ولو استطعت أن أصفح عنك لرأيتني غير جدير بصداقة إنسان. أنني لا أريد أن أراك ما حييت، وسأحسب نفسي
سعيداً إن استطعت أن أطرد من عقلي ذكرى سلوكك. سأطلب إليك أن تنساني وأنت تكف عن إزعاجي" (38).
ومن جنيف كتبت مدام ديينيه إلى جريم: "لقد تلقيت شكر الجمهورية على الطريقة التي عاملت بها روسو واستقبلت وفداً من صانعي الساعات للغرض ذاته
…
إن القوم هنا ينظرون إليّ نظرة الإجلال من أجله" (39). ونبهها تونشان إلى ضرورة بقائها عاماً تحت رعايته الطبية. وكانت تختلف مراراً إلى بيتي فولتير في جنيف ولوزان. وبعد حين لحق بها جريم، وقضيا معاً ثمانية أشهر في عيشة سعيدة.
(1)
وفي 23 نوفمبر 1757 كتب إليها روسو (كما يروي) يقول:
إن كان ممكناً لإنسان أن يموت حزناً لما كنت الآن على قيد الحياة ..... إن الصداقة قد انطفأت بيننا يا سيدتي، ولكن ذلك الذي مضى وانقضى ما زالت له حقوقه، وأنا أحترمها. فأنا لم أنسَ كرمكِ معي، ولك أن تنتظري مني ما يمكن من عرفان بالجميل لشخص لا أستطيع أن أحبه بعد
…
"أردت أن أغادر الإيرميتاج. وكان ينبغي لي أن أفعل، ويزعم أصدقائي أنه لابد من بقائي هناك إلى الربيع، وما دام أصدقائي يريدون هذا فسأبقى هناك إن وافقت"(40).
وفي أوائل ديسمبر جاء ديدرو لزيارة ورسو، فوجده ساخطاً باكياً لما حل به من "استبداد" أصدقائه. وقد وردت رواية ديدرو لهذه الزيارة في خطابه المؤرخ 5 ديسمبر إلى جريم:
"إن الرجل مسعور Forcen
…
لقد زرته، ولمته على شناعة سلوكه بكل القوة التي منحتني إياها الصراحة والأمانة. وقد دافع عن نفسه في ثورة
(1)
عاد إلى باريس في أكتوبر 1759، وأصبح بيتها هناك أحد الصالونات الصغيرة وقد فاز كتابها في التربية بجائزة من الأكاديمية.
غضب أحزنتني
…
إن هذا الرجل يقف حائلاً بيني وبين عملي، ويربك عقلي؛ وكأني بجواري أحد المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي
…
أي منظر هذا-منظر رجل شرير ضار! لا تدعني أراه ثاني، فهو يحملني على الإيمان بالشيطان والجحيم" (41).
وتلقى روسو رداً من مدام ديينيه في 10 ديسمبر. والظاهر أن جريم كان قد نقل إليها ملاحظات روسو عن "عبوديته" في الإيرميتاج، لأنها كتب إليه بمرارة غير معهودة فيها:
"كل ما يسعني عمله الآن أن أرثي لك، بعد أن بذلت لك طوال سنوات عديدة كل أمارات الصداقة الممكنة. فأنت شقي جداً
…
"
"وما دمت مصمماً على مغادر الإيرميتاج، ومقتنعاً بأنه ينبغي لك أن تفعل، فإنه يدهشني أن يقنعك أصدقاؤك بعد إلحاح بالبقاء فيه. أما أنا فلا أستشير أصدقائي أبداً في أمر واجي، وليس عندي ما أزيد في أمر واجبك"(42).
وفي 15 ديسمبر، ورغم حلول الشتاء، غادر روسو الإيرميتاج ومعه تريز وكل متعلقاتها. أما أمها فقد أرسلها لتعيش في باريس مع بناتها الأخريات ولكنه وعد بأن يسهم في نفقاتها. وانتقل إلى كوخ في مونمورنس أجره له وكيل للوي-فرانسو دبوريون، أمير كونتي. هناك، وقد ولى ظهره لأصدقائه السابقين، أنتج في خمس سنوات ثلاثة من أعظم كتب القرن تأثيراً.
4 - خصامه مع جماعة الفلاسفة
كان مسكنه الجديد يقع فيما سماه "حديقة مون-لوي" وهو "حجرة واحدة" أمامها مرجة، وفي طرف الحديقة حصن قديم فيه "طاقة خالصة على الهواء". وكان عليه أن يستقبل زواره حين يجيئون "وسط أطباقي القذرة وقدوري المحطمة" ويرتعد مخافة أن ينخسف "أرض الحجرة التي تهدمت" تحت أقدام ضيوفه. ولم يكترث لفقره، فقد كان يكسب ما يكفيه
بنسخ الموسيقى، أغتبط بكونه حرفياً كفئاً (43)، وبأنه لم يعد تابعاً لامرأة غنية. وكان يرد هدايا جيرانه اللطفاء حين يرسلونها إليه، فقد أحس أن من الذل أن يأخذ المرء أكثر مما يعطي. وأرسل له الأمير دكنوتي الدجاج مرتين، فأخبر الكونتيسة دبوفليه أنه سيرد الهدية الثالثة إن جاءت.
ونلاحظ عرضاً كثرة الأرستقراطيين الذين ساعدوا ثورا التنوير. لا لموافقتهم على آرائهم بقد تعاطفهم الكريم مع العبقرية المحتاجة. لقد كان في نبلاء النظام القديم الكثير من عناصر النبل، وقد خصت الأرستقراطية روسو بصداقتها رغم تنديده بها. وكان الحرفي المعتز بنفسه ينسى نفسه أحياناً ويفخر بأصدقائه حملة الألقاب، قال في معرض حديثه عن مرجته:
"كانت تلك الشرفة قاعة الجلوس التي استقبلت فيها مسيو ومدام لكسمبورج، والدوق ديفيلروا، وأمير تنجري، ومركيز أمرنتيير، ودوقة مونمورنسي، ودوقة بوفليه
(1)
، والكونتيسة دفالنتنوا، والكونتيسة دبوفلييه، وغيرهم من نفس الرتبة
…
الذين تنازلوا بأن يحجوا إلى مون-لوي" (44).
وكان منزل المرشال والمرشالة دلكسمبورج غير بعيد من كوخ روسو. وما لبثا عقب وصوله أن دعواه إلى العشاء فرفض الدعوة. ثم كرراها في صيف 1758 فرفضها ثانية. ثم أتيا حوالي عيد القيامة في 1759 ومعهما ستة من أصدقائهم النبلاء يتحدونه في معكفه. وراعه الأمر فقد اكتسبت المرشالة يوم كانت الدوقة دبوفليه سمعة بأنها فتنت عدداً هائلاً من الرجال. ولكنها خلفت خطاياها وراءها وغدت في نضجها امرأة فيها فتنة الأمومة لا مجرد فتنة الجنس؛ وسرعان ما أذابت تحفظه الخجول وهمزته ليشارك في حديث حي. وتسائل الزوار لم يعيش رجل أوتي هذه المواهب في هذا الضنك. ودعا المرشال روسو وتريز ليذهبا ويعيشا معه حتى يمكن إصلاح كوخهما؛ ولكن
(1)
نستطيع في زحمة أفراد آل بوفليه الذين دخلوا التاريخ في القرن الثامن عشر أن نميز (1) دوقة بوفليه، التي أصبحت مرشالة لكسمبورج، (2) مركيزة بوفليه، خليلة ستانسلاس لسكزنسكي. (3) كونتيسة بوفليه، صديقة ديفد هيوم وهوارس ولبول.
جان-جاك ظل على مقاومته؛ وأخيراً اقتنع هو وتريز بأن يسكنا حيناً "القصر الريفي الصغير" الواقع في ضيعة لكسمبورج. فانتقلا إليه في مايو 1756. وكان روسو أحياناً يزور لكسمبورج وزوجته في بيتهما الفخم، هناك كان يغرى بسهولة بأن يقرأ عليهما وعلى ضيوفهما بعض فصول الرواية التي كان يكملها. وبعد بضعة أسابيع عاد هو تريز إلى كوخهما ولكنه واصل زياراته لآل لكسمبورج، وظلا هما على وفائهما له طوال تقلبات مزاجه. وشكا جريم من أن روسو "هجر أصدقائه القدامى واستبدل بنا قوماً من أعلى الطبقات"(45) ولكن جريم هو الذي نبذ روسو، وفي خطاب كتبه جان-جاك إلى مالزيرب في 28 يناير 1762 رد على من اتهموه بالتنديد بالنبلاء، وبالتودد إليهم:
"سيدي، إنني أكره كرهاً شديداً تلك الطبقات الاجتماعية التي تتسلط على غيرها
…
ولا يضايقني أن أعترف لك بهذا وأنت سلسل أسرة مشهورة بعراقتها
…
إنني أبغض العظماء، أبغض وضعهم، وقسوتها، وأهواءهم
…
ورذائلهم
…
بمثل هذا المزاج ذهبت كإنسان يجر جراً إلى قصر (آل لكسمبورج) الريفي في مونمورنس. ثم رأيت سادته؛ وقد أحبوني، وأحببتهم يا سيدي، وسأظل أحبهم ما حييت
…
وإني لأبذل لهم، لا أقول حياتي فتلك عطية هزيلة .. بل الفخر الوحيد الذي مس قلبي-وهو ذلك التشريف الذي أتوقعه من الخلف، والذي سيمنحنيه ما في ذلك شك، لأنه حقي، ولأن الخلف منصفون دائماً".
وكان يود أن يحتفظ بصديقة سابقة-هي مدام دودتو، ولكن سان-لاميير لامها على الشائعات التي ربطت فيها باريس اسمها باسم روسو، فأخبرت روسو بأن يكف عن الكتابة لها. وتذكر أنه أعترف لديدرو بحبه لها، فخلص الآن إلى أن ديدرو هو الذي ثرثر به في الصالونات و "عقدت النية على مقاطعته إلى الأبد"(46).
ولكنه أختار أسوأ اللحظات والوسائل ففي27 يوليو 1758 كان هلفتيوس قد نشر في كتابه "في العقل" هجوماً عنيفاً على الكهنوت الكاثوليكي. وأفضت
الضجة المترتبة على هذا الهجوم إلى المطالبة المتصاعدة بخطر "الموسوعة"(التي كان قد صدر منها سبعة مجلدات) وكل الكتابات التي تنتقد الكنيسة أو الدولة. وكان المجلد السابع يتضمن مقال دالامبير المتهور عن جنيف، الذي امتدح فيه القساوسة الكلفنين على عقيدة التوحيد التي يتكتمونها وناشد السلطات الجنيفية أن تسمح بإقامة مسرح. وفي أكتوبر 1758 نشر روسو "خطاباً إلى مسيو دالامبير عن المسرح" وكان على اعتدال لهجته إشهار حرب على عصر العقل، وعلى زندقة فرنسة منتصف القرن الثامن عشر وفساد خلقها، وقد بذل روسو في مقدمتها قصارى جهده في التبرؤ من ديدرو، دون أن يذكر اسمه صراحة:"كان من بين أصحابي أرستارخوس" رجل صارم، عادل ولكنه لم يعد صاحباً لي ولست أريد مزيداً من صحبته، على أنني لن عن الأسف عليه وأن قلبي ليفتقده أكثر من كتاباتي، وأضاف في هامش معتقداً أن ديدرو قد أفشى سره لسان-لامبير:
"إن كنت قد امتشقت حساماً على صديق فلا تيأس لأن هناك سبيلاً لرد الحسام إليه وإن كنت قد أشقيته بكلامك فلا تخف لأن في الإمكان مصالحته. أما الإهانة واللوم المؤذي وإفشاء السر وجرح قلبه بالخيانة فهذه كلها تسخطه عليك وهو تاركك إلى غير عودة (47) ".
أما الخطاب الذي تبلغ صفحاته في الترجمة 135 فكان بعضه دفاعاً عن الدين كما يبشر به علانية في جنيف. كان روسو نفسه موحداً-أي رافضاً للاهوت المسيح كما سيدل على ذلك كتاب "إميل" بعد قليل، ولكنه حين تقدم طالباً المواطنة الجنيفية كان قد أقر بالعقيدة الكلفنية الكاملة، وفي هذا الخطاب دافع عن الدين القديم، وعن الإيمان بالوحي الإلهي، باعتبارهما أمرين لا غنى عنهما لأخلاق الشعب. "أن ما يمكن إثباته لأغلبية الناس بالعقل ليس إلا الحساب، إن ما يمكن إثباته لأغلبية الناس بالعقل ليس الحساب النفعي للمصلحة الشخصية" ومن ثم كان مجرد الدين الطبيعي" سيهبط بالأخلاق إلى مستوى لا يزيد على تجنب اكتشاف الذنوب.
ولكن اللاهوت كان مثاراً صغيراً للجدل في حجة روسو، أما همجيته الأمامية فكانت على اقتراح دلامبير بأن يصرح بإقامة مسرح في جنيف. هنا لم يكن العدو الخفي هو دالامبير، بل فولتير. فولتير الذي حجب سناء شهريته نزيلاً بجنيف، فخر روسو بمواطنته الجنيفية، حجباً أثار حنقه، فولتير الذي جرؤ على تقديم التمثيليات في جنيف أو قربها، والذي حث لامبير بلا شك على أن يضمن مقالاً في الموسوعة نداء بإنشاء مسرح جنيفي. فماذا؟ أتدخل في مدينة اشتهرت بأخلاقها البيورتانية ضرباً من اللهو. كان في كل مكان تقريباً يمجد الفساد الخلقي؟ أن الدرامات المحزنة تصور جريمة دائماً، وهي لا تظهر العواطف ما ظن أرسطو، بل تلهبها، ولاسيما عواطف الجنس والعنف. وأما التمثيليات الهزلية فنادراً ما تعرض الحب الزوجي النقي، وكثيراً ما تهزأ بالفضيلة، كما فعل حتى موليي في مسرحيته "مبغض البشر". وكل الناس عليمون بأن الممثلين يحيون حياة العربدة والفساد، وأن معظم ممثلات المسرح الفرنسي الفاتنات هن مضرب الأمثال في فوضى الجنس، وبؤر ومصادر الفساد في مجتمع يعبدهن. وربما كانت شرور المسرح هذه في المدن الكبيرة مثل باريس ولندن لا تؤثر إلا في شطر صغير من السكان، أما في مدينة صغيرة كجنيف (لا يسكنها أكثر من 14. 000 نسمة) فإن سمومها تتغلغل في جميع الطبقات، وتثير العروض أفكاراً مولعة بالجديد وحرباً بين الأحزاب (48).
وإلى هنا كان روسو يردد الرأي البيورتاني أو الكلفني في المسرح، ويقول في فرنسا عام 1758 ما قاله من قبل ستيفن جوسون في إنجلترا عام 1579، ووليم يرين عام 1632، وجريمي كوليار عام 1698. ولكن روسو لم يقتصر على التنديد. فهو لم يكن بيورتانياً؛ ومن ثم دعا إلى الرقص والمراقص تحت رعاية الدولة وإشرافها. وقال إنه ينبغي أن توفر أسباب الترفيه العامة ولكن من ونوع اجتماعي وصحي، كالرحلات الخلوية، والألعاب في الهواء الطلق، والمهرجانات، والاستعراضات (هنا أضاف روسو وصفاً نابضاً بالحياة لسباق زوارق على بحيرة جنيف)(49).
ويقول لنا روسو أن الحطاب "أصاب نجاحاً كبيراً" فقد بدأت باريس
تمل حياة الفساد؛ ولم يعد هناك لذة في الانحرافات الخارجة على العرف التي أصبحت هي ذاتها عرفاً. فلقد أتخمت المدينة برجال يسلكون مسلك النساء، ونساء يتحرقن شوقاً إلى أن يكن كالرجال. لقد شبعت من الدراما الكلاسيكية وأشكالها الطنانة المتكلفة ورأت حقارة قواد مدام دبومبادور وجنودها أما جند فردريك الإسبارطيين. وكان الاستماع إلى فيلسوف يمجد الفضيلة تجربة منعشة وسيزداد تأثير "الخطاب" الأخلاقي حتى يشارك هو وكتابات روسو الأخرى في إحداث عودة للياقة تكاد تكون ثورية في عهد لويس السادس عشر.
ولم يكن في وسع الفلاسفة أن يتوقعوا هذا. فالذي أحسوا به في إعلان روسو هو أنه عمل من أعمال الخيانة، لأنه هاجمهم في لحظة خطرهم الأكبر. ففي يناير 1759 حظرت الحكومة نهائياً نشر الموسوعة أو بيعها. وحين ندد روسو بأخلاق باريس رماه أخصائه القدامى بالنفاق. وقد تذكروا مطاردته لمدام دودتو، وحين ندد بالمسرح نوهوا بأنه كتب "كان القرية" و "نارسيس" للمسرح، وأنه كان يختلف إلى المسرح. ورفض سان-لامبير برسالة جافية (10 أكتوبر 1768) نسخة "الخطاب" التي أرسلها إليه روسو:
"لا أستطيع قبول هديتك، ولعل لك عذراً-على غير ما أعلم-في الشكوى من ديدرو، ولكن هذا لا يعطيك حق إهانته علناً. فأنت لا تجهل طبيعة الاضطهاد التي يعانيها .... ولست أملك يا سيدي إلى أن أقول لك إن هذا العمل الشائن الذي اقترفته صدمني كثيراً
…
كلانا يختلف في مبادئنا اختلافاً أشد من أن يتيح لنا أن ننسجم. فانسَ أنني موجود
…
وأني أعدك بأن أنسى شخصك، ولا أذكر عنك شيئاً إلا مواهبك" (50).
على أن مدام ديينيه حين عادت من جنيف شكرت روسو على النسخة التي بعث بها إليها، ودعته للعشاء فذهب، والتقى بسان-لامبير ومدام دودتو آخر لقاء.
ووافاه من جنيف أكثر من عشرة خطابات ثناء. وحظر قضاة جنيف على فولتير عرض أي مسرحيات على أرض جنيف بعد أن شجعهم موقف روسو. ونقل فولتير مواهبه المسرحية إلى تورنيه. وانتقل هو إلى فرنيه. وأحس
بوجع الهزيمة، فاتهم روسو بأنه هارب مارق، وأسف على تردي قطيع "الفلاسفة" الصغير إلى هوة صراع يفنون فيه أنفسهم. وكتب يقول "إن جان-جاك السيئ السمعة هو يهوذا الجماعة" (51) ورد روسو بخطاب (29 يناير 1760) إلى الراعي الجنيفي بول مولتو:
"أتحدثني عن ذلك الرجل فولتير؛ لم يلوث اسم ذلك المهرج رسائلك؟ لقد دمر ذلك التعس وطني (جنيف). ولو كان احتقاري له أقل لكرهته أكثر. وأنا لا أرى في مواهبه العظيمة إلا شيئاً مخزياً يضاف إلى خزيه، ويحط من قدره بسبب الطريقة التي يسخر بها
…
إيه أيها المواطنون الجنيفيون، إنه يكلفكم غالياً جزاء إيوائكم له! " (52).
وأحزن روسو أن يعلم أن فولتير يخرج التمثيليات في تورنيه، وأن كثيراً من المواطنين الجنيفيين يعبرون الحدود إلى فرنسا ليشهدوا هذه الحفلات-لا بل ليشارك بعضهم فيها. ووجد استياؤه مبرراً آخر للحرب حين طبع خطابه الذي أرسله إلى فولتير عن زلزال لشبونة في مجلة برلين (1760)، لأن فولتير فيما يبدو أعار المخطوطة في غير مبالاة لأحد الأصدقاء. فأرسل روسو الآن (17 يونيو) إلى فولتير خطاباً من أعجب الخطابات في رسائل هذا العصر الصاخب. قال بعد أن لام فولتير على نشر الخطاب دون إذنه:
"إنني لا أحبك يا سيدي. فلقد آذيتني أن تلميذك المتحمس لك أبلغ الأذى. لقد دمرت جنيف جزاء على الملجأ الذي قدمت لك. ولقد نفرت مواطني من جراء المديح الذي مدحك به بينهم. وأنت الذي تجعل مقامي في وطني شيئاً لا أطيقه، أنت الذي ستضطرني للموت على أرض غريبة، محروماً من كل تعزيات المحتضرين، ملقي على كوم من أكوام المهملات في ازدراء، بينما يحيط بك كل ما يستطيع إنسان أن يطعم فيه من أسباب التكريم في وطني. فأنا باختصار أكرهك، لأنك هكذا شئت، ولكن أكرهك بمشاعر إنسان ما زال في وسعه أن يحبك لو كنت قد رغبت في حبي. ولم يبق من جميع المشاعر التي امتلأ بها قلبي نحوك سوى الإعجاب بعبقريتك الرائعة، وحب
كتاباتك. وإذا كنت لا أكرم فيك غير مواهبك فليس الذنب ذنبي. ولن يوجد قصور أو نقص أبداً في الاحترام الواجب لها، ولا في المسلك الذي يقتضيه ذلك الاحترام" (53).
ولم يجب فولتير، ولكنه كان يدعو روسو سراً "المشعوذ" و "المجنون" (54) و "النسانس الصغيرة" وقد كشف فر سائله لدالامبير عن نفس لا تقل حساسية وتأججاً عن نفس جان-جاك:
"وتلقيت رسالة طويلة من روسو. لقد جن جنوناً مطبقاً
…
فهو يهاجم المسرح بعد أن كتب هو نفسه تمثيلية هزيلة رديئة؛ هو يهاجم فرنسا التي تطعمه؛ وهو يجد خمسة أضلاع متعفنة أو ستة من برميل ديوجين ويتسلقها لينبحنا؛ وهو يتخلى عن أصدقائه. ويكتب إلى-إلى! -أشد ما سود به متعصب الصحائف إهانة
…
ولولا أنه قزم حقير لا أهمية له، انتفخت أوداجه غروراً، لما كان في الأمر أذى يذكر؛ ولكنه أضاف إلى وقاحة خطابة وعار التآمر مع متنطعي السوسنيين هنا للحيلولة بيني وبين إقامة مسرح لي في تورنيه، أو على الأقل لمنع المواطنين من التمثيل فيه معي. وإذا كان قصده من هذه الحيلة الوضيعة أن يعد لنفسه عودة ظافرة إلى الأزقة الحقيرة التي نشأ فيها، فذلك فعل وغد، ولن أصفح عنه ما حييت. ولو أن أفلاطون لعب على لعبة من هذا النوع لانتقمت منه، فما بالك بتابع خانع لديوجين. إن مؤلف "الويزا الجديدة" ليس إلا وغداً شريراً" (55).
في هذين الخطابين اللذين كتبهما أشهر كاتبين في القرن الثامن عشر نستشف من وراء تيارات العصر التي يحسبها الناس غير شخصية، الأعصاب التي اشتد إحساسها بكل لطمة في الصراع، والغرور البشري المشترك الذي تضطرب به أفئدة الفلاسفة والقديسين.
5 - هلويز الجديدة
إن الكتاب الذي أخطأ فولتير في تسميته كان طوال ثلاث سنين ملاذا لروسو من أعدائه، وأصدقائه، والعالم. بدأه عام 1756 وفرغ منه في
سبتمبر 1758، وأرسله إلى ناشر في هولندا، وظهر في فبراير 1761 باسم "جولي أو هلويز الجديدة، رسائل عاشقين جمعها ونشرها ج. ج روسو". وصياغة الرواية في شكل رسائل كانت عادة قديمة، ولكن لعل الذي دعا روسو إلى التصميم عليها هو محاكاته رواية رتشاردسن "كلاريسا".
والقصة بعيد الاحتمال ولكنها نسيج وحدها. فجولي هي ابنة بارون ديتانج، وهي في السابعة عشرة أو نحوها. وتدعو أمها الشاب الوسيم سام-برو ليكون معلمها الخاص. ويقع أبيلار الجديد هذا في غرام هلويز الجديدة، كما كان يمكن أن تتوقعه أي أم في دنيا الواقع. ولا يلبث أن يرسل إلى تلميذته رسائل حب حددت اللحن لقرن من القصص الرومانسي:
"إني لأرتعد كلما تصافحت أيدينا، ولا أدري كيف يحدث هذا، ولكنها تتصافح دوماً. وإني أجفل حالما أحس لمسة إصبعك، وتأخذني حمى أو قولي حمى مصحوبة بهذيان بهذه المتع؛ وتتخلى عني حواسي شيئاً فشيئاً، فإذا خرجت هكذا عن طوري فماذا أستطيع أن أقول، أو أفعل، وأين أختبئ، وكيف أكون مسئولاً عن سلوكي؟ "(56) ثم يقترح أن يرحل ولكنه يكتفي بالكلام دون الفعل:
"وداعاً إذن يا جولي المفرطة الفتنة
…
غداً سأكون رحلت إلى الأبد. ولكن ثقي أن غرامي العنيف الطاهر بكي لن ينتهي إلا بانتهاء حياتي، وأن قلبي المفعم بهذا المخلوق الملائكي، لن يهبط بنفسه إلى إفساح مكان فيه لحب ثانِ، وأنه سيوزع كل ولائه المستقبل بينك وبين العفة، وأنه لن يدنس لهيب آخر المذبح الذي عبدت عليه جولي (57).
وقد تبتسم جولي لهذا التعبد، ولكن فيها من الأنوثة ما يمنعها من إقصاء مثل هذا الكائن المبهج عن المديح. فتطلب إليه أن يؤجل قراره. فالاتصال الكهربائي بين الذكر والأنثى قد احدث بها على أي حال اضطراباً مماثلاً، وسرعان ما تعترف بأنها هي أيضاً قد أحست باللدغة الغامضة: "منذ أول يوم التقينا فيه تشربت السم الذي يسري الآن في حواسي
وعقلي، شعرت به فوراً وعيناك، وعواطفك، وحديثك، وقلمك المذنب-كلها تزيد كل يوم أذاه (58)". ومع ذلك يتعهد بألا يطلب مطلباً أشد إثماً من قبلة "كوني عفيفة وإلا احتقرت، وسأكون جديراً بالاحترام وإلا عدت كما كنت، ذلك هو الأمل الوحيد الباقي لي، والذي يفضل الأمل في الموت". ويوافق سان-برو على أن يجمع بين الهذيان والعفة، ولكنه يعتقد أن هذا يتطلب معونة خارقة من السماء.
"أيتها القرى السماوية،
…
انفخي فيّ روحاً تطيق السعادة العظمى! أيها الحب الإلهي! يا روح وجودي، آواه، أسندي لأنني أوشكت على السقوط تحت وطأة الوجد!
…
آواه كيف احتمل سيل السعادة المتدفق الذي يفيض به قلبي؟ كيف أطرد هواجس عاشقة خائفة؟ (59). وهكذا طوال 657 صفحة. فإذا بلغنا صفحة 91 قبلته. والكلمات تقصر عن وصف "حالي بعد ذلك بلحظة، حين شعرت-إذ ارتعشت يداي-برعدة رقيقة-وشفتاي المعطرتان-شفتا جولي حبيبتي-تضغطان شفتي، وأنا بين ذراعيها! وبأسرع من البرق انطلقت من كياني نار مباغتة (60). فإذا وصلنا الرسالة التاسعة والعشرين وجدنا أنه أغواها، أو أنها أغوته. ويهيم هو في عوالم من النشوة، ولكنها تحسب كل شيء قد ضاع. "إن لحظة غفلة واحدة قد أسلمتني إلى تعاسة أبدية. لقد سقطت في وهدة العار التي لا مخرج منها" (61).
وتموت أم جولي كمداً حين تعلم بأن بكارتها فضت. ويقسم البارون أن يقتل سان-برو، فيخرج هذا في رحلة بحرية حول الأرض. وتتزوج جولي فولمار، وهو روسي كريم المولد. متقدم السن، تكفيراً عن ذنبها وطاعة لأبيها، ولكنها تظل تراسل سان-برو خفية، وتشعر نحوه بعاطفة أقوى من حبها الواجب عليها لزوجها. ويدهشها أن تجد فولمار إنساناً طيباً، وفياً حريصاً على راحتها، منصفاً كريماً
مع الجميع، وذلك رغم إلحاده. وفي رسالة كتبتها لسان-برو تؤكد له أن الرجل والمرأة قد يجدان الرضى في "زواج المصلحة" ولكنها لن تعرف السعادة الكاملة أبداً. فانحرافها قبل زواجها يثقل ذاكرتها وأخيراً تعترف لزوجها بلحظة الإثم تلك. ويقول أنه علم بها، وصمم على ألا يذكرها أبداً. ويخبرها أنه لم يكن إثماً قط. وتأكيداً لغفرانه لها يدعو سان-بور للحضور والإقامة مع الأسرة معلماً خاصاً لطفلهما، ويحضر سان-بو؛ ويؤكد لنا المؤلف أن الثلاثة يعيشون معاً في وفاق حتى يفرق بينهم الموت. ويغيب الزوج العجيب أياماً. وتخرج جولي وسان-برو للتجديف في بحيرة جنيف، ويعبران إلى سافوي، ويريها الصخور التي كتب عليها اسمها في منفاه، ويبكي؛ وتمسك بيده المرتعشة، ولكنهم يعودان بريئين من الإثم في كلارنس في إقليم فو (62).
ويعجبان كيف يمكن لفولمار أن يكون بهذه الطبيعة دون إيمان ديتي. ويفسر سان-برو هذه الظاهرة الشاذة، وهو كجولي بروتستنتي متمسك بدينه:
"إن فولمار الذي أقام في أقطار كاثوليكية رومانسية لم يغره ما خبره من إيمان أهلها. بأن يرى في المسيحية رأياً أفضل. فقد رأى أن مذهبه لا يتجه إلى لمصلحة كهنتهم، وهو يتألف بجملته من حركات مثيرة للسخرية ورطانة بألفاظ لا معنى لها. ولاحظ أن ذوي الفطرة السليمة والأمانة مجمعون على رأيه، وأنهم لا يتحرجون من الجهر برأيهم، لا بل أن القساوسة أنفسهم في الخفاء كانوا يهزؤون سراً بما يعلمون ويثبتون في الأذهان علانية، ومن ثم فكثيراً ما أكد لنا أنه بعد أن أنفق كثيراً من الوقت والجهد في البحث، لم يلتقِ قط بأكثر من ثلاث قساوسة يؤمنون بالله (63) ". ويضيف روسو في حاشية، معاذ الله أن أوافق على هذه التأكيدات القاسية الطائشة! ومع ذلك يذهب فولمار بانتظام إلى
الخدمات الدينية البروتستنتية مع جولي، بدافع من احترامه لها ولجيرانه. وترى جولي وسان-برو فيه "أغرب اللامعقول-إنساناً يفكر تفكير ملحد ويسلك مسلك مسيحي (64) ".
وهو لا يستحق اللطمة الأخيرة، ذلك أن جولي تعهدت إلى فولمار وهي على وشك الموت بحمى أصابتها وهي تنقذ ابنها من الغرق-بخطاب غير مختوم يعلن لسان-برو أنه كان على الدوام حبها الوحيد. وفي وسعنا أن نفهم دوام ذلك الحب الأول ولكن لن نجزي طول وفاء زوجها وثقته بها بمثل هذا الرفض القاسي وهي على فرش الموت؟ أن هذا لا يكاد يتفق والنبل الذي أضفاه المؤلف على خلق جولي.
ومع ذاك فهي من أعظم اللوحات في القصص الحديث. وقد استلهمها روسو من محي ذكرياته الخاصة رغم أن (كلاريسا) وتشاردسن أوحت بها في أغلب الظن، الفتاتان اللتان قادا جواديهما عبر النهير في آنسي، والذكريات التي احتفظ بها في إعزاز لمدام دفاران حين كانت تبسط عليه حمايتها في سنوات صباه، ثم لمدام دودتو، التي أشعرته بفيض الحب حين وقفت سداً أمام شهوته، وبالطبع ليست جولي واحدة من هاتين المرأتين، ولعلها ليست أي امرأة التقي بها روسو طيلة حياته، بل مثالاً مخلقاً من أحلامه. وقد أفسد الصورة إصرار روسو على جعل شخوصه كلها تقريباً تتكلم كروسو، فجولي تزيدها الأمومة عمقاً تغدو حكيمة من الحكماء، فتطيل الحديث في كل شيء من التدبير المنزلي إلى الاتحاد الصوفي بالله. وهي تقول لابد أن نفحص صحة هذه الحجة، ولكن أي امرأة جديرة بالحب نزلت يوماً ما إلى مثل هذه التفاهة.
أما سان-برو فهو بالطبع أشبه الشخوص بروسو، حساس لكل مفاتن النساء، تواق للركوع عند أقدامهن التي يحلم بها، ويسكب عبارات الولاء والحب البليغة التي رددها في وحدته. ويصفه روسو بأنه لا يفتأ
يأتي عملاً مجنوناً ثم يحاول أن يثوب إلى رشده (65). وسان-برو إنسان متزمت أشد التزمت بالقياس إلى لفليس الوغد السافر كما صوره وتشاردسن. وهو الآخر لابد أن ينطق بلسان روسو، فهو يصف باريس بأنها دوامة من الشرور-غنى فاحش، وفقر مدقع، وحكومة عاجزة، وهواء فاسد، وموسيقى رديئة، وأحاديث تافهة، وفلسفة باطلة، وانهيار كامل تقريباً للدين، والفضيلة، والزواج، وهو يردد مقال روسو الأول عن صلاح الإنسان الفطري وتأثيرات الحضارة المفسدة المحطة، ويهنئ جولي وفولمار على إثارهما حياة الريف الهادئة الصحية في كلارنس.
أما فولمار فأكثر الأشخاص أصالة في معرض روسو. فمن كان النموذج الذي حاكه المؤلف على غراره؟ لعله دولباخ، "الملحد اللطيف"، والبارون الفيلسوف، والمادي الفاضل، والزوج الوفي لزوجة واحد ومن بعدها لأختها. أو لعله سان-لامبير، الذي صدم روسو بتبشيره بالإلحاد، ولكنه صفح عنه لمغازلته خليلته. ويعترف روسو صراحة باستخدامه النماذج الأصلية الحية والذكريات الشخصية:
"إن قلبي المفعم بما وقع لي، والذي لم يزل جياشاً بالكثير من الانفعالات العنيفة، أضاف الشعور بآلامه إلى الأفكار التي أوحى إلي بعها التأمل
…
وعلى غير وعي مني وصفت المواقف التي كنت فيها آنئذ، ورسمت صوراً لجريم، ومدام ديينيه، ومدام دودتو، وسان-لامبير، ولشخصي (66) ".
وخلال لوحات الأشخاص هذه عرض روسو جوانب فلسفته كلها تقريباً. فأعطانا صورة مثالية للزواج السعيد، ولضيعة تدار بكفاية، وعدالة، ورحمة؛ ولأطفال بيربون ليكونوا مزيجاً مثالياً من الحريو والطاعة، ومن ضبط النفس والذكاء. واستبق الحجج التي سيوردها في كتابه "إميل": أن يوجه التعليم أولاً لتربية البدن ليكون صحيحاً، ثم لتربية الخلق ليعود النظام الصارم، وبعد ذلك فقط لتربية الذهن ليعود الجدل العقلي. تقول جولي
"إن السبيل الوحيد لجعل الأطفال طيعين ليس سبيل الجدل العقلي معهم، بل إقناعهم بأن الجدل العقلي فوق سنهم (67). وينبغي ألا نلجأ إطلاقاً للجدل العقلي، أو ألا يكون هناك أي تعليم عقلي، قبل سن البلوغ. وحرصت القصة حرصاً شديداً على مناقشة الدين. فترى إيمان جولي يغدو الأداة لخلاصها، وقد ألهمها الاحتفال الديني الذي قدس زواجها إحساساً بالتطهر والوفاء. ولكنه إيمان بروتستانتي خالص ذلك الذي يشيع في الكتاب. فسان-برو يسخر مما يبدو له من نفاق القساوسة الكاثوليك في باريس؛ ويندد فولمار بعزوبة الكهنة لأنها قناع يخفي وراءه الفجور، ويضيف روسو بشخصه هذه العبارة: "إن فرض العزوبة على جماعة كبيرة مثل قساوسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليس لمنعهم من أن يكون لهم زوجات، بقدر ما هو لأمرهم بأن يقنعوا بزوجات غيرهم من الرجال (68)". ويصرح روسو بهذه المناسبة بتأييده للتسامح الديني، ويبسطه حتى على الملحدين، "أن المؤمن الحقيقي لا يتعصب ولا يضطهد غيره. ولو كنت قاضياً؛ ولو قضى القانون بعقوبة الموت على الملحدين؛ لبدأت بحرق كل مبلغ يشي بإنسان آخر، لأنه هو نفسه ملحد (69) ".
وكان للقصة تأثير بالغ في تنبيه أوربا لمفاتن الطبيعة وروائعها. ففي فولتير؛ وديدرو، ودالامبير، لم تشجع حمى الفلسفة وحياة الحضر الإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال ألوان السماء. أما روسو فقد تميز بولادته في أحضان أروع مناظر أوربا وقعاً في النفوس. وكان قد مشى من جنيف متجولاً في سافوي عبر الألب إلى تورين، ومن تورين إلى فرنسا؛ واستمتع بمشاهد الريف وأصواته وعبيره؛ وأحس بكل شروق شمس كأنه انتصار الإله على الشر والشك. وقد تصور توافقاً صوفياً بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء؛ وعانقت نشوة حبه كل شجرة وزهرة، وكل ورقة عشب. وتسلق الألب إلى نصف ارتفاعها، ووجد نقاء في الهواء، خيل إليه أنه يطهر أفكاره ويجلوها. وقد وصف هذه التجارب بإحساس وحيوية جعلا من تسلق الجبال، ولا سيما في سويسرا، رياضة من أكبر رياضات أوربا.
ولم يحدث من قبل في الأدب الحديث أن ظفر الوجدان، والعاطفة المشبوبة، والحب الرومانسي، بمثل هذا العرض والدفاع المستفيضين البليغين. فلقد أعلن روسو، في تمرده على عبادة العقل من بوالو إلى فولتير، مكانة الوجدان العليا وحقه في أن يسمع في ترجمة الحياة وتقييم القصائد، وبرواية "هلويز الجديدة" أعلنت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكي. وقد سبقتها بالطبع لحظات رومانسية حتى في عز الكلاسيكية، مثال ذلك أن أوتوريه دورفيه داعب الريفي في قصته "لاستريه"(1610 - 1627)، وأن الآنسة سكوديري أسهبت في وصف الغراميات في قصتها "أرطمين، أو قورش العظيم"(1649 - 1653)، كذلك زاوجت مدام دلا فييت في الحب والموت في قصتها "أمير كليف"(1678)، وأدخل راسين هذا الموضوع في مسرحيته "فيدر"(1677)، وهي قمة العصر الكلاسيكي، ونحن نذكر كيف ورث روسو الروايات الغرامية القديمة عن أمه، وقرأها مع أبيه. أما جبال الألب فإن البرشت فون هاللر كان قد تغنى بجلالها (1729)، كذلك تغنى جيمس طومسن بجمال الفصول ورهبتها (1726 - 1730). ولابد أن جان-جاك قرأ قصة بريفوست "مانون لسكو"(1731)، وأحاط علماً برواية رتشاردسن "كلاريسا" في ترجمة بريفوست (1747 - 1748)(لأنه كان يقرأ الإنجليزية بصعوبة). ومن قصة الإغواء تلك إلى ألفي صفحة (ولم تكتمل بعد) اقتبس شكل الرسائل في الرواية لصلاحيته للتحليل النفسي، وكما دبر رتشاردسن لكلاريسا نجية تدعى الآنسة هاو، كذلك دبر روسو لجولي نجية هي ابنة عمها كلير. ولاحظ روسو في غيظ أن ديدرو نشر تقريظاً حماسياً لرتشاردسن (1761) عقب نشر جولي، فحجب بذلك سناء قصته جولي.
ولا تقل رواية جولي عن كلارسيا أصالة ومآخذ، وهي تسمو عنها كثيراً في أسلوبها والروايتان غنيتان في شطحات الخيال مثقلتان بالمواعظ. ولكن فرنسا، التي تبرز العالم أسلوباً، لم ترَ قط اللغة الفرنسية تتخذ مثل هذا اللون، والحرارة، والنعومة، والإيقاع، فروسو لم يكن مجرد مبشر
بالوجدان، وإنما كان يملكه، فكل ما يمسه مشرب بالحساسية والعاطفة. وقد نبتسم لنشواته ولكننا نجد أن ناره تدفئنا. وقد نكرر الخطب المقحمة ونمر بها مرور الكرام، ولكنا نمضي في القراءة، وبين الحين والحين تتجدد حياة القصة بمشهد شعر بع المؤلف شعوراً حاداً. كان فولتير يفكر بالآراء ويكتب بالأبجرامات، أما روسو فكان يبصر بالصور ويؤلف بالأحاسيس. ولم تكن عباراته ووقفاته بريئة من الصنعة، فقد اعترف بأنه كان يقلبها وهو في فراشه حين تقصي النوم عن جفنيه عاطفة الفنان المشبوبة (70). يقول كانت "لابد من أن أقرأ روسو إلى أن يكف جمال عباراته عن فتنتي، وعندها فقط أستطيع أن أفحصه في روية وتعقل (71) ".
ولقيت جولي النجاح في أعين الجميع إلا الفلاسفة. فوصفها جريم بأنها تقليد هزيل لكلاريسا، وتنبأ بأن النسيان سيطويها سريعاً (72). وقال فولتير وهو يهدر غضباً (21 يناير 1761) لا تزدني حديثاً عن رواية جان-جاك من فضلك، فلدق قرأتها لشدة أسفي، ولشدة أسفه لو كان لدي من الوقت ما يتسع لإبداء رأيي في هذا الكتاب السخيف (73). وبعد شهر أفصح عن رأيه في كتابه "رسائل حول هلويز الجديدة" الذي نشر باسم مستعار. فنبه إلى الأخطاء اللغوية، ولم تبد منه أي إشارة تدل على تقديره لوصف روسو للطبيعة-وإن كان سيقلد جان-جاك بعد حين بتسلقه ربوة ليتعبد للشمس المشرقة. وتبينت باريس قلم فولتير، وحكمت بأن "الشيخ" عضته الغيرة بأنيابها.
وإذا ضربنا صفحاً عن هذه الوخزات، فأن روسو ابتهج بالاستقبال الذي ليقه أول عمل مطول له. يقول ميشليه "لم يعهد في تاريخ الأدب كله نجاح عظيم كهذا (74) ". وظهرت الطبعة تلو الطبعة، ولكن المطبوع كان أقل كثيراً من الطلب ووقف الجمهور في طوابير أمام المكتبات لشراء الكتاب، وكان القراء الملهوفون يدفعون اثني عشر سواً في الساعة ليستعيروه، وقراء النهار يؤجرونه لغيرهم يقرؤونه في الليل (75). وروى روسو في اغتباط أن نبيلة طلبت مركبتها وقد تهيأت للذهاب إلى مرقص في الأوبرا، وشرعت تقرأ
جولي خلال ذلك، وشوقتها القصة تشويقاً أغراها بالمضي فيها حتى الرابعة صباحاً بينما الخادمة والجياد في انتظارها (76). وقد عزا انتصاره إلى اللذة التي يجدها النساء في قراءة قصص الغرام، ولكن كان هناك أيضاً نساء مللن حياتهن خليلات، وتقن إلى أن يكن زوجات، وأن يكون لأطفالهن آباء. وتلقى روسو مئات الخطابات في نمورنسي يشكره فيها أصحابها على كتابه، وكثر عدد النساء اللائى عرضن عليه حبهن حتى انتهى به خياله إلى أنه "ما من امرأة في المجتمع الراقي لم أكن ألقى التوفيق في الاتصال بها لو حاولته (77) ".
وكان من الطريف أن يكشف إنسان عن سريرته كشفاً كاملاً كما فعل روسو خلال سان-برو وجولي، وليس هناك أكثر طرافة وإمتاعاً من نفس إنسان تتجرد أمام الناظرين ولو تجريداً جزئياً أو لا شعورياً. تقول مدام دستال "هنا مزقت كل أقنعة القلب (78) ". وبدأ الآن سلطان الأدب الذاتي، تلك السلسلة الطويلة الممتدة إلى زماننا، من إفشاءات الذات، من القلوب المحطمة في صفحات مطبوعة، من " النفوس الجميلة" التي تسبح في المأساة جهاراً نهاراً. وفشا بين الناس الإفصاح عن حرارة العاطفة، والإعراب عن الانفعال والشعور، لا في فرنسا وحدها بل في إنجلترا وألمانيا أيضاً. وبدأ يتلاشى الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب ضبط النفس، والنظام، والعقل، والشكل، وأوشكت دولة "الفلاسفة" أن تدول. لقد أصبح القرن الثامن عشر بعد عام 1760 ملكاً لروسو (79).
الفصل السابع
روسو الفيلسوف
1 - العقد الاجتماعي
قبل نشر "هلويز الجديدة" بشهرين كتب روسو إلى مسيو لينبس (11 ديسمبر 1760) يقول:
"لقد طلقت حرفة الكاتب إلى الأبد. وبقيت خطيئة قديمة يجب التكفير عنها في كتاب مطبوع، وبعدها لن يسمع الجمهور مني أبداً. ولست أعرف حظاً أسعد من أن يكون الإنسان مجهولاً إلا من أصدقائه .... ومنذ الآن سيكون نسخ الموسيقى شاغلي الوحيد (1) ".
ثم كتب ثانية في 25 يوليو 1761:
"ظللت عاقلاً إلى الأربعين. ثم تناولت القلم، وهاأنذا أضعه قبل أن أبلغ الخمسين، وأنا ألعن في كل يوم من أيام حياتي ذلك اليوم الذي دفعني فيه غروري الأحمق إلى تناوله، والذي رأيت فيه سعادتي، وراحتي، وصحتي، كلها تتطاير هباء دون أمل في استعادتها ثانية (2) ".
أكان هذا منه تظاهراً؟ ليس بالضبط. صحيح إنه في 1762 نشر كتابيه "في العقد الاجتماعي" و"إميل"، ولكنهما كانا قد اكتملا قبيل 1761، وكانا "الخطيئة القديمة التي يجب التكفير عنها في كتاب مطبوع"، وصحيح إنه بعد ذلك كتب ردوداً على رئيس أساقفة باريس، وعلى مجمع الكنائس الجنيفي، وعلى طلبات من كورسيكا وبولندا بأن يقترح عليهما دستورين، ولكن هذه المؤلفات كانت مؤلفات مناسبات، دعت إليها أحداث غير
متوقعة. وقد نشرت "الاعترافات" و "الحوارات" و "أحلام جوال منفرد" بعد موته. وهكذا التزم أساساً يتعهد الجديد. ولا عجب أن يشعر في 1761 أنه قد أرهق ونضب، لأنه كان قد ألف في خمس سنوات ثلاثة أعمال كبرى، كان كل منها حدثاً في تاريخ الأفكار.
ومنذ عام 1743 يوم كان سكرتيراً للسفير الفرنسي في البندقية، هدته ملاحظته لحكومة البندقية بالقياس إلى الحكومتين الجنيفية والفرنسية إلى تخطيط رسالة هامة في المؤسسات السياسية. وكان "المقالان" شرارتين بعثتهما تلك النار، ولكنهما كانا محاولتين متعجلتين لإثارة الانتباه بالمبالغة، ولم تنصف واحدة منهما فكره المتطور. وراح خلال ذلك يدرس أفلاطون، وجروتيوس، ولوك، وبوفندورف. ولم تكتمل قط الرائعة الأدبية التي حلم بها. فروسو لم يوهب الذهن المنظم، الإرادة الصابرة، والطبع الهادئ الذي يتطلبه مشروع كهذا يقتضيه الاستدلال العقلي لا الوجدان فقط، وإخفاء العاطفة لا إعلانها، وكان مثل هذا الإنكار للنفس فوق طاقته. لقد كان هجرانه للتأليف اعترافاً منه بالهزيمة. ولكنه أعطى العالم عام 1762 قطعة رائعة من مخططه في 125 صفحة نشرت بأمستردام تحت عنوان "في العقد الاجتماعي، أو مبادئ القانون السياسي".
وكلنا يعرف الصيحة الجريئة التي استهل بها الفصل الأول "ولد الإنسان حراً وهو في كل مكان مكبل بالأغلال" وقد افتتح روسو كتابه بمبالغة مقصودة، لأنه عليم بأن للمنطق سلطاناً منوماً قوياً، وقد أصاب في ضربه على هذه النغمة العالية، لأن هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله. وافترض روسو هنا-شأنه في "المقالين"-وجود "حالة طبيعية" بدائية لم تكن فيها قوانين، واتهم الدولة القائمة بتدمير تلك الحرية، واقترح بديلاً عنها "إيجاد شكل من المجتمع يدافع عن شخص كل عضو فيه وعن متاعه ويحميهما بكل ما أوتي من قوة مجموعة، مجتمع يظل الإنسان فيه رغم اتحاده مع الجميع يطيع نفسه فقط، ويبقى حراً كما كان من قبل
…
تلك هي المعضلة الأساسية التي يقدم لها العقد الاجتماعي الحل (3).
يقول روسو أن هناك عقداً اجتماعياً، لا كتعهد من المحكومين بإطاعة الحاكم، كما جاء في كتاب هويز (اللوياثان)"الوحش"، بل كاتفاق الأفراد على أن يخضعوا رأيهم؛ وحقوقهم، وسلطاتهم لحاجات ورأي مجتمعهم ككل. وكل شخص يدخل ضمناً في مثل هذا العقد بقبوله حماية القوانين العامة. والسلطة العليا في أي دولة لا تستقر في أي حاكم-فرداً كان أو جماعة-بل في "الإرادة العامة" للمجتمع، وتلك السيادة لا يمكن التخلي عنها أبداً وإن جاز تفويضها جزئياً إلى حين.
ولكن ما هذه "الإرادة العامة"؟ أهي إرادة جميع المواطنين؛ أم إرادة الأغلبية فقط؟ ومن الذين يعتبرون مواطنين؟ إنها ليست إرادة الجميع، لأنها قد تناقض كثيراً من الإرادات الفردية. ولا هي دائماً إرادة الأغلبية الذين يعيشون (أو يصوتون) في لحظة بعينها، بل عي إرادة المجتمع باعتباره صاحب حياة وواقع مضافين إلى حيوات وإرادات الأعضاء الأفراد. (وروسو، كمفكر واقعي من العصر الوسيط، ينسب للجماعة مجتمعة، أو للفكرة العامة، واقعاً بالإضافة إلى واقع أعضائها الأفراد. فالإرادة العامة أو "روح الجماعة" يجب أن تكون الصوت المعبر لا عن المواطنين الأحياء فحسب، بل الأموات أو الذين لم يولدوا بعد، ومن ثم فالذي يعطيها طابعها ليس هو الإرادات الراهنة فحسب، بل تاريخ الجماعة الماضي وأهدافها المستقبلة. وما أشبهها بأسرة عريقة تفكر في نفسها على أنها واحدة على مر الأجيال، وتكرم أسلافها، وتحمي أخلاقها- (بمعنى أن أباً من الآباء قد يدفعه التزامه قبل حفدته الذين لم يولدوا بعد إلى مناقضة رغبات أبنائه الأحياء، وأن سياسياً ما قد يشعر بأنه ملتزم بالتفكير لا بلغة انتخاب واحد بل أجيال
(1)
كثيرة). ومع ذلك فإن (صوت الأغلبية ملزم دائماً للباقين جميعاً (4)). ومن له حق التصويت؟ كل مواطن (5). ومن المواطن؟ واضح أنه ليس كل بالغ ذكر. وروسو غامض جداً في هذه النقطة، ولكنه يمتدح دالامبير لتفريقه بين
(1)
العبارة المحتواة بين القوسين تفسير اجتهادي وليست واردة صراحة في روسو.
"طبقات الناس الأربعة
…
الذين يسكنون مدينتنا (جنيف)، وطبقتان من هؤلاء فقط تؤلفان الشعب. ولم يفهم كاتب فرنسي آخر
…
المعنى الحقيقي لكلمة المواطن (6).
يقول روسو أن القانون، في الحالة المثالية، ينبغي أن يكون التعبير عن الإرادة العامة. فالإنسان بفطرته يغلب عليه الخير، ولكن له غرائز يجب التحكم فيها ليصبح المجتمع أمراً ممكناً. وليس العقد الاجتماعي تمجيد "حالة الطبيعة" فروسو يتكلم لحظة كما يتكلم لوك أو مونتسيكو لا بل فولتير:
"إن الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يتمخض عن تغير ملحوظ جداً في الإنسان، لأنه يحل القانون محل الغريزة في سلوكه، ويضفي على أفعاله، الفضيلة التي كانت تعوزها من قبل. ومع أنه في هذه الحالة (المدنية) يحرم نفسه من بعض المنافع التي تلقاها من الطبيعة. إلا أنه يكسب نظير ذلك منافع أخرى عظيمة جداً؛ فقدراته تحفر حفراً شديداً وتطور تطويراً كبيراً، وأفكاره توسع كثيراً وروحه كلها تسمو سمواً عظيماً. ولولا أن مساوئ حالته الجديدة كثيراً ما تهبط به إلى مستوى أدنى من ذلك الذي تركه، لكان عليه أن يبارك على الدوام تلك اللحظة السعيدة التي نقلته من حالته الأولى إلى غير رجعة، والتي جعلته كائناً-ذكياً وإنساناً بدلاً من أن يظل حيواناً غبياً عديم الخيال (7).
وهكذا نجد روسو (الذي تكلم يوماً ما كما يتكلم فوضوي لا يفلسف كلامه تماماً) يناصر بكليته قداسة القانون عن الإرادة العامة. فإذا لم يتفق فرد ما كما يحدث في حالات كثيرة-مع تلك الإرادة كما يعبر عنها في القانون، حق للدولة إكراهه على الخضوع (8). وليس هذا انتهاكاً للحرية لا صيانة لها، حنى للفرد المقاوم، لأنه بفضل القانون وحده يستطيع الفرد في الدولة المدنية أن يتمتع بتحرره من العدوان، والسرقة، والاضطهاد، وتشويه السمعة، وعشرات الشرور الأخرى. ومن ثم فإن المجتمع بإكراهه الفرد على إطاعة القانون إنما "يكرهه على أن يكون حراً" في
الواقع (9). وهذه هي الحالة على الأخص في الجمهوريات، لأن "طاعة القانون الذي نضعه لأنفسنا هي الحرية"(10).
الحكومة جهاز تنفيذي تفوض فيه الإرادة العامة مؤقتاً بعض سلطاتها. وينبغي أن تكون فكرتنا عن الدولة لا على أنها الحكومة فقط، بل الحكومة، والمواطنين، والإرادة العامة أو روح الجماعة. والدولة تكون جمهورية إذا حكمتها القوانين لا المراسيم الأوتقراطية، وبهذا المعنى يمكن حتى اعتبار الملكية جمهورية إذا حكمتها القوانين لا المراسيم الأوتقراطية، وبهذا المعنى يمكن حتى اعتبار الملكية جمهورية. أما إذا كانت الملكية مستبدة-أي إذا كان الملك يضع القوانين وينفذها-فليست هناك جمهورية أو دولة، بل طاغية يحكم عبيداً. ومن ثم رفض روسو الانضمام إلى أولئك الفلاسفة الذين امتدحوا "الاستبداد المستنير"-استبداد فردريك الثاني أو كاترين الثانية سبيلاً لدفع الحضارة والإصلاح قدماً. وكان رأيه إن الشعوب التي تعيش في أجواء قطبية أو مدارية قد تحتاج إلى الحكم المطلق حفاظاً على الحياة والنظام (11)، أما في المناطق المعتدلة فيحسن المزج بين الأرستقراطية والديمقراطية. والأرستقراطية الوراثية "أسوأ الحكومات قاطبة"، والأرستقراطية الانتخابية أفضلها (12)، أي أن أفضل حكومة هي تلك التي تضع القوانين وتنفذها فيها أقلية من الرجال ينتخبون دورياً لتفوقهم الفكري والخلقي.
أما الديمقراطية بوصفها حكماً مباشراً بواسطة الشعب كله فقد بدت لروسو مستحيلة.
"لو أخذنا هذا اللفظ بمعناه الدقيق لم نجد قط ديمقراطية حقيقية، ولن توجد أبداً هذه الديمقراطية. فما يناقض النظام الطبيعي أن تكون الكثرة حاكمة والقلة محكومة. ومما لا يمكن تصوره أن يظل الناس مجتمعين بصفة مستمرة ليتفرغوا للشؤون العامة، وواضح أنهم لا يستطيعون إنشاء لجان لهذا الغرض دون تغيير في شكل الحكومة".
ثم كم من الظروف التي يصعب الجمع بينها تفترض لهذه الحكومة؟
أولاً دولة صغيرة جداً يمكن جمع الشعب فيها عاجلاً، ويمكن لكل مواطن فيها أن يعرف سائر المواطنين بسهولة؛ ثانياً، الباسطة التامة في العادات، منعاً لتكاثر الأعمال وإثارة المشاكل الشائكة، ثم قدر كبير من المساواة في الرتب والثروات بدونه لا تستطيع المساواة في الحقوق والسلطة البقاء طويلاً، وأخيراً قلة الترف أو انعدامه، لأن الترف مفسدة للأغنياء والفقراء جميعاً-للأغنياء بالاقتناء، وللفقراء بالاشتهاء .. وهذا هو ما حدا كاتباً شهيراً (مونتسكيو) إلى اعتبار الفضيلة المبدأ الأساسي للجمهوريات، لأن هذه الظروف كلها لا يمكن توافرها بغير الفضيلة .. ولو كان هناك شعب من الآلهة لكانت حكومة ديمقراطية أما البشر فليست هذه الحكومة البالغة الكمال مما يناسبهم (13).
وقد تغري هذه الفقراء بسوء التفسير. فروسو يستخدم لفظ "الديمقراطية" بمعنى ندر أن ينسب له في السياسة أو التاريخ، وهو أنها حكومة تشرع فيها كل القوانين بواسطة الشعب كله المجتمع في مجالس قومية. والواقع أن "الأرستقراطية الانتخابية" التي فضلها هي ما يجب أن نسميه الديمقراطية النيابية-أي الحكومة التي يتولاها موظفون يختارهم الشعب لما يفترض فيهم من صلاحية عليا. على أن روسو يرفض الديمقراطية النيابية على أساس أن الممثلين أو النواب سرعان ما يشرعون لمصلحتهم لا للخير العام. "أن الشعب الإنجليزي يعتبر نفسه حراً ولكنه يخطئ بذلك خطأ فاحشاً؛ فهو حر فقط خلال انتخاب أعضاء البرلمان؛ وما إن يتم انتخابهم حتى تسيطر العبودية على الشعب فلا يعود له وزن"(14). فالممثلون يجب أن ينتخبوا ليشغلوا المناصب الإدارية والقضائية لا ليشرعوا، ويجب أن تشرع جميع القوانين بواسطة الشعب في جمعية عامة، وأن يكون لتلك الجمعية سلطة إقالة الموظفين المنتخبين (15). ومن ثم وجب أن تكون الدولة المثالية من الصغر بحيث تسمح لجميع المواطنين بالاجتماع مراراً كثيرة. "وكلما اتسعت الدولة تقلصت الحرية"(16).
أكان روسو اشتراكياً؟ إن "المقال" الثاني نسب جميع رذائل الحضارة إلى إقرار الملكية الخاصة، ولكن حتى ذلك المقال رأى أن هذا النظام أعمق
جذوراً من البنيان الاجتماعي من أن يتيح للقضاء عليه دون ثورة فوضوية مدمرة. "والعقد الاجتماعي" يسمح بالملكية الخاصة بشرط رقابة الجماعة، فيجب أن تحتفظ الجماعة بكل الحقوق الأساسية، ولها أن تستولي على الأملاك الخاصة لخير المجتمع، ويجب أن تحدد أقصى ما يسمح للأسرة الواحدة بتملكه (17). ولها أن تؤمن على توريث الملكية، ولكن إذا رأت الثورة تنحو إلى تركز ممزق فلها أن تستخدم ضرائب التركات لإعادة توزيع الثروة والتخفيف من عدم المساواة الاجتماعي والاقتصادي. "يجب أن يتجه التشريع دائماً إلى الحفاظ على المساواة بالضبط لأن قوة الأشياء تتجه دائماً إلى القضاء عليها (18). ومن أهداف "العقد الاجتماعي" أن يصبح الأفراد الذين قد يكونون مختلفين قوة أو ذكاء متساوين في الحقوق الاجتماعية والقانونية (19). ويجب أن تفرض الضرائب العالية على الكماليات. "إن الحالة الاجتماعية لا تقيد الناس إلا إذا ملك كل فرد شيئاً ولم يملك أحد فوق ما ينبغي (20)". ولم يورط روسو نفسه في القول بالجماعية، ولا خطرت بباله قط (دكتاتورية البرولتاريا)، وكان يحتقر البرولتاريا الوليدة في المدن، واتفق مع فولتير على تسميتها (الرعاع أو حثالة المجتمع) (21). وكان مثله الأعلى طبقة فلاحين تعيش مستقلة رخية الحال، وطبقة وسطى فاضلة تتألف من أسر كأسر فولمار في "هلويز الجديدة" وسيتهمه بيير-جوزف برودون بتمجيد "لبرجوازية" (22).
ترى أي مكان للدين في الدولة؟ لقد شعر روسو أن ديناً ما لا عنى عنه للفضيلة، "ما قامت دولة قط دون أساس ديني"(23).
"إن الحكماء أن حاولوا الكلام بلغتهم إلى القطيع العام بدلاً من لغته لن يستطيعوا إيصال ما يريدون إلى إفهامهم
…
ولكي يمكن شعب ناشئ من إيثار الأصول السليمة للنظرية السياسية
…
يجب أن تصبح النتيجة سبباً: فالروح الاجتماعية التي ينبغي أن تخلقها هذه المؤسسات يجب أن تسود أساسها نفسه، ويجب أن يكون الناس أمام القانون ما يجب أن يصبحوه بالقانون. إذن فالمشرع لعجزه عن الالتجاء إلى القوة أو للعقل
يجب أن يلجأ إلى سلطة من نوع مختلف، قادراً على الكبح دون عنف .. هذا ما دعا آباء الأمم في جميع العصور إلى الالتجاء للتدخل الإلهي، ونسبة حكمتهم هم لآلهتهم، حتى، تطيع الشعوب بخضوعها لقوانين الدولة كما تخضع لقوانين الطبيعة
…
دون عائق، وتحتمل نير الخير العام عن طيب خاطر" (24).
ولن يتشبث روسو دائماً بهذا الرأي السياسي القديم في الدين، ولكنه في "العقد الاجتماعي" جعل من الإيمان فوق الطبيعي أداة للدولة، واعتبر القساوسة على أفضل تقدير ضرباً من الشرطة السماوية. على أنه رفض اعتبار الكهنة الكاثوليك الرومان كذلك، لأن الكنيسة زعمت أنها فوق الدولة، فهي إذن قوة مفسحة، تقسم ولاء المواطن (25). وفضلاً عن ذلك فإن المسيحي-كما زعم-إذا أخذ لاهوته مأخذ الجد؛ يركز اهتمامه على الحياة الآخرة، ولا يقيم وزناً يذكر لهذه الحياة الدنيا، فهو إلى هذا الحد مواطن ضعيف. ومثل هذا المسيحي يكون جندياً وسطاً؛ قد يقاتل دفاعاً عن وطنه، ولكنه لا يفعل إلا تحت إكراه وإشراف مستمرين، وهو لا يؤمن بشن الحرب دفاعاً عن الدولة؛ لأن له وطناً واحداً فقط-هو الكنيسة. والمسيحية تبشر بالعبودية والتبعية الطيعة؛ ومن ثم كانت روحها مواتية جداً للاستبداد بحيث أن الطغاة يرحبون بتعاونها. "إن المسيحيين الحقيقيين خلقوا ليكونوا عبيداً (26) ". وهكذا اتفق روسو مع ديدرو، واستبق جيون، وكان في تلك الفترة أشد عنفاً في عدائه للكاثوليكية من فولتير؛ ومع ذلك شعر بأن ديناً ما لا غنى عنه؛ "ديناً مدنياً" تصيغه الدولة وتفرضه فرضاً على جميع سكانها. أما عن العقيدة:
"فأن عقائد الدين المدني يجب أن تكون قليلة؛ بسيطة؛ دقيقة العبارة؛ دون شروح أو تعليقات. فوجود إله قادر؛ ذكي؛ خير؛ ذي بصيرة وتدبر؛ ثم حياة أخرى؛ وسعادة الأبرار؛ وعقاب الأشرار؛ وقداسة العقد الاجتماعي والقوانين؛ تلك عي عقائد الدين الإيجابية (27) ".
وهكذا اعترف روسو بعقائد المسيحية الأساسية؛ على الأقل لأغراض
سياسية؛ على حين رفض أخلاقياتها لغلوها في المسالمة والدولية-على العكس تماماً ومما درج عليه الفلاسفة من الاحتفاظ بأخلاقيات المسيحية مع رفض لاهوتها. وقد سمح بأديان أخرى في دولته الوهمية؛ بشرط عدم تعارضها مع العقيدة الرسمية. وهو يتسامح مع الأديان "التي تتسامح مع غيرها"؛ أما من يجسر على القول "بأنه لا خلاص خارج الكنيسة" فيجب طرده من الدولة، إلا أن تكون الدولة هي الكنيسة، والملك هو حبرها الأعظم (28) ". ولا يسمح بإنكار البنود الواردة في ديانة الدولة.
"وإذا كانت الدولة لا تستطيع إكراه أحد على الإيمان بهذه البنود، فإن في استطاعتها أن تنفيه، لا لزندقته، بل بوصفه كائناً أرستقراطياً، عاجزاً عن محبة القوانين والعدالة محبة صادقة، وعن بذل حياته عند الحاجة في سبيل الواجب. وإذا سلك إنسان-بعد إقراره بهذه العقائد علانية-مسلك من لا يؤمن بها، كان عقابه الموت (29) ".
وهذه الجملة الأخيرة هي أشهر الجمل في "العقد الاجتماعي" بعد "ولد الإنسان حراً وهو في كل مكان مكبل بالأغلال" وإذا أخذت بمنطوقها الحرفي كان معناها إعدام كل مكن يسلك مسلك من لا يؤمن بالله، أو الجنة أو النار، ولو طبقت على باريس ذلك الزمان لأنضبت تلك العاصمة من أهلها. ولعل حب روسو للعبارات المسرفة التي تهز القراء طوح به إلى أن يقول أكثر مما يعني. ولعله تذكر مجمع أوجزنورج (1555) الذي وافق فيه كل الأمراء الموقعين على قراراته على أن يكون لكل منهم الحق في أن ينفي من أملاكه أي شخص لا يقبل مذهب الأمير. وفي قوانين جنيف إذا أخذت حرفياً (كما حدث في حالة سرفيتوس) سابقة لوحشية روسو المفاجئة. وقد اعتبرت أثينا القديمة "رفض الاعتراف بالآلهة الرسميين" جريمة كبرى، كما حدث في نفي أناكساجوراس وقتل سقراط بالسم، وكان هذا بالمثل القذر الذي بررت به روما الإمبراطورية اضطهادها للمسيحيين، وأخذ برأي روسو هذا في معاملة المجرمين يمكن أن يوصف الأمر باعتقاله ب، هـ من أفعال المحبة المسيحية.
أكان "العقد الاجتماعي" كتاباً ثورياُ؟ لا ونعم. فهناك وهناك، وسط مطالبة روسو بحكومة مسئولة أمام الإرادة العامة، تهدئ ثائرته لحظات من الحذر، كما في قوله:"لا شيء يمكن أن يعدل خطر تغيير النظام العام غير الأخطار الكبرى، ويجب أن تعطل السلطة المقدسة للقوانين إطلاقاً ما لم تكن حياة الوطن في خطر"(30). ومع أنه حمل الملكية الخاصة اللوم على كل الشرور تقريباً، إلا أنه دعا إلى صيانتها لأنها ضرورة يدعو إليها ما آل إليه الإنسان من فساد لا صلاح له. وتساءل ألا تعيد طبيعة الإنسان، بعد أن يقوم بثورة، نظماً وعبوديات قديمة تحت أسماء جديدة؟ "إن قوماً تعودوا الخضوع لسادة لن يدعوا السيادة تتوقف
…
فهم إذ يحسبون الإباحية حرية، تسلمهم ثوراتهم إلى أيدي مضللين لا يزيدونهم إلا رسوفاً في أغلالهم (31) ".
ومع ذلك كان صوت روسو أكثر أصوات العهد ثورية. ففي هذا الكتاب كان خطابه موجهاً لكثرة الشعب، وإن غض من شأن الجماهير ولم يثق بها في غيره من كتبه. لقد كان يعلم إنه لا مناص من عدم المساواة، ولكنه أدانه بقوة وبلاغة. وأعلن في غير لبس أو غموض أن من حق الشعب أن يطيح بحكومة تصر على مخالفة الإرادة العامة. وبينما كان فولتير، وديدرو ودالامبير، ينحنون للملوك أو الإمبراطوريات، أطلق روسو على الحكومات القائمة صرخة احتجاج قدر لها أن تسمع من أقصى أوربا إلى أقصاها. وبينما اقتصر جماعة الفلاسفة، الغارقين في "الحالة الراهنة" على الدعوة لإصلاح تدريجي لشرور معينة، هاجم جان-جاك النظام الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي بحملته، وبشمول بدا معه كل علاج مستحيلاً إلا على الثورة. ثم أعلن أنها آتية: "محال أن تعمر ممالك أوربا الكبرى أكثر مما عمرت. لقد كان لكل منها فترة مجدها، ومآلها بعدها إلى الاضمحلال
…
إن الأزمة تقترب، ونحن على شفا ثورة (32) ". وتنبأ بوقوع تغييرات بعيدة المدى بعد أن تنشب هذه الثورة:"ستتطلع إمبراطورية روسيا إلى غزو أوربا، وستغزي هي نفسها. وسيصبح التتار-رعاياها أو جيرانها-سادتها وسادتنا، بثورة أراها آتية لا ريب فيها (33) ".
على أن "العقد الاجتماعي" الذي نرى في نظرة مؤخرة أنه كان أكثر كتب روسو ثورية، أثار ضجة أقل كثيراً مما أثارته "هلويز الجديدة". فلقد كانت فرنسا مهيأة للانفراج العاطفي والحب الرومانسي، ولكنها لم تتهيأ لمناقشة الإطاحة بالملكية. وكان هذا الكتاب أكثر ما أنتج روسو إلى ذلك الحين من حجج مدعمة، ولم يكن تتبعه سهلاً كتتبع دعايات فولتير المتألقة. ونحن الذين راعنا ما لقي من ذيوع متأخر، يدهشنا أن نعلم أن شعبيته وتأثيره بدأ بعد الثورة لا قبلها (34). ومع ذلك نرى دالامبير يكتب لفولتير في 1762 قائلاً:"لا جدوى من مهاجمة جان-جاك أو كتابه بصوتٍ عالٍ جداً، فهو أشبه بملك في السوق"("ليزال" (35) -أي بين العمال الغلاظ في سوق باريس المركزية، وبالتضمين-بين جماهير الشعب). ولعل هذا كان غلواً في القول، ولكن لنا أن نعتبر عام 1762 تاريخاً لتحول الفلسفة من مهاجمة المسيحية إلى نقد الدولة.
وقل من الكتب ما أثار مثل هذا النقد الكثير. وقد أشر فولتير على نسخة من "العقد الاجتماعي" بردود على الهامش، فرداً على ما أشار به روسو من إعدام من يذنب بالكفر الإيجابي كتب "كل إكراه في العقيدة مرذول (36) ". ويذكرنا العلماء بقدم الدعوى بأن السيادة مستقرة في الشعب، فقد قدم مارسيليوس البادوادي، ووليم أوكيم، وحتى اللاهوتيون الكاثوليك أمثال بيللارمين، وماريانا، وسواريز، هذه الدعوى كأنها الضربة خلف ركب الملوك. وقد ظهرت من قبل في كتابات جورج بوكانان وجروتيوس، وملتن، والجرنون سدني، ولوك، وبوفندورف
…
إن "العقد الاجتماعي" شأنه شأن فلسفة روسو السياسية والأخلاقية كلها تقريباً، هو صدى وانعكاس لجنيف بقلم مواطن على بعد كافٍ يتيح له تمجيدها دون أ، يحس بمخالبها. لقد كان الكتاب مزيجاً من جنيف وإسبرطة، من "قواعد" كلفن و "قوانين" أفلاطون.
وبين عشرات النقاد ذلك التناقض بين النزعة الفردية في مقالي "روسو" وحرفية القانونية في "العقد الاجتماعي". لقد رفض فيلمر في كتابه Parriarcha
(1642)
قبل مولد روسو بزمن طويل الفكرة التي تزعم أن الناس ولدوا متساوين، فهم في ميلادهم خاضعون للسلطان الأبوي ولقانون الجماعة وعاداتها. وروسو نفسه، بعد الصرخة الأولى للدفاع عن الحرية، أخذ يبتعد عن الحرية أكثر فأكثر متجهاً إلى النظام-إلى خضوع الفرد للإرادة العامة. والتناقضات التي تلحظها في مؤلفاته هي أساساً بين خلقه وفكره، فلقد كان فردياً متمرداً بحكم مزاجه، وعلته، وافتقاره إلى الانضباط، وكان بيئياً (لا شيوعياً إطلاقاً، ولا حتى جماعياً) بحكم إدراكه المتأخر لاستحالة تكوين المجتمع الفعال من الخوارج. وعلينا أن نحسب حساباً للتطور، فأفكار إنسان ما هي دالة خبرته وعمره، ومن الطبيعي للمفكر أن يكون فردي النزعة في شبابه-فيحب الحرية ويبحث عن المثل العليا-وأن يكون معتدلاً حين ينضج، فيحب النظام ويرتضي الممكن. وقد ظل روسو من الناحية العاطفية طفلاً طوال حياته، ينكر العرف، والمحظورات، والقوانين، ولكنه حين فكر تفكيراً منطقياً أدرك أن في الإمكان بقاء الكثير من الحريات في نطاق القيود الضرورية للنظام الاجتماعي، وانتهى إلى أن يدرك أن الحرية في مجتمع ما ليست ضحية القانون بل ثمرته-وأنها تتسع ولا تضيق بطاعة الجميع لقيود يفرضونها على أنفسهم جماعة. وفي وسع الفوضويين الفلسفيين والشموليين السياسيين جميعاً أن يستشهدوا بروسو تأييداً لدعواهم (37)، وكلا الفريقين لا حق له في الاستشهاد، لأنه اعترف بأن النظام أول قوانين الحرية، والنظام الذي دافع عنه يجب أن يكون التعبير عن الإرادة العامة.
وقد نفى روسو أي تناقضات حقيقية في فلسفته فقال "كل أفكاري متسعة، ولكني لا أستطيع عرضها كلها مرة واحدة (38) ". وسلم بأن كتابه "في حاجة إلى أن يكتب من جديد، ولكني لست أملك من العافية ولا الوقت ما يسمح لي بذلك (39) "، فحين كانت العافية متاحة له سلبه الاضطهاد وقته، وحين كف الاضطهاد وأتيح له الفراغ، كانت العافية قد تضاءلت. وفي تلك السنوات الأخيرة بات يتشكك في حججه، "أن الذين يفاخرون بأنهم فهموا "العقد الاجتماعي" فهماً تاماً أذكى مني". وقد أغفل تماماً، من الناحية العملية، المبادئ التي وضعها فيه، ولم يخطر بباله قط أن
يطبقها حين طلب إليه وضع دستور لبولندا أو كورسيكا. ولو أنه مضى في خط التغير الذي اتبعه بعد عام 1762 لانتهى به المطاف إلى حضن الأرستقراطية، والكنيسة، وبما تحت سكين الجيلوتين.
2 - إميل
أ - تربيته
في وسعنا أن نغتفر الكثير لكاتب استطاع في خمسة عشر شهراً أن يصدر "هلويز الجديدة"(فبراير 1761) و "العقد الاجتماعي"(إبريل 1762)، و "إميل"(مايو 1762). وقد نشر ثلاثتها في أمستردام، ولكن "إميل" نشر في باريس أيضاً بإذن من الحكومة حصل عليه مالزيرب العطوف بمخاطرة كبيرة. ومن حق مارك-ميشيل راي، الناشر الأمستردامي، علينا أن نحييه تحية عابرة، ذلك أنه بعد أن كسب أرباحاً لم يتوقعها من هلويز أوقف على تريز معاشاً سنوياً مدى الحياة قدره 300 جنيه، وإذ تنبأ لإميل برواج أعظم من "العقد الاجتماعي"(الذي كان قد اشتراه بألف جنيه) دفع لجان-جاك ستة آلاف جنيه نظير المخطوطة الجديدة الأطول من سابقتها.
أما الكتاب فكان بعضه ثمرة مناقشاته مع مدام ديينيه عن تربية ولدها، واتخذ أول شكل له في مقال صغير كتب-ليسر أمة قادرة على أن تفكر-وهي مدام دشنونسو، ابنة مدام دويان. وقد قصد به روسو أن يكون تذليلاً لقصته "هلويز الجديدة": فكيف ينبغي أن ينشأ أبناء جولي؟ وخامره الشك لحظة في صلاحية رجل أودع كل أطفاله في ملجأ للقطاء، وفشل معلماً خاصاً في أسرة مابليه، للكلام في موضوع الأبوة والتربية. ولكن كعادته وجد لذة في إطلاق حبل خياله على غاربه دون أن يعوقه معوق من التجربة. ودرس مقالات "مونتيني" و "تليماك فينيلون"، ورسالة في الدراسات لرولان، وكتاب لوك "خواطر في التربية". وكان "مقاله" الأول تحدياً له، لأنه صور الإنسان خيراً بفطرته ولكن أفسدته الحضارة بما فيها التربية. فهل في الإمكان الاحتفاظ بهذا الخير الفطري وتنميته بالتربية
الصحيحة؟ لقد أجاب هلفتيوس قبيل ذلك بأن هذا ممكن، وذلك في كتابه "عن العقل"(1758)، ولكنه قدم حجة لا مخططاً.
أما روسو فقد أستهل كتابه بفرض الطرق القائمة لأنها تلقن، بالصم عادة، أفكاراً بالية فاسدة، وتحاول جعل الطفا آلة طيعة في مجتمع منحل، وتمنع الطفل من التفكير والحكم لنفسه، وتشوهه فتهبط بمستوى قدراته، وتلوح بملاحظات تافهة وأقوال قديمة مبتذلة. وقد أخمد هذا التعليم المدرسي كل الحوافز الفطرية، وجعل، التربية عذاباً يتوق كل طفل إلى تجنبه. ولكن التعليم يحب أن يكون عملية سعيدة فيها تفتح طبيعي، وتعلم من الطبيعة والتجربة، وتنمية حرة لقدرات الطفل نحو حياة فياضة لذيذة. يجب أن تكون "فن تدريب الناس (41) " والإرشاد الواعي للجسم النامي ليبلغ الصحة، وللخلق ليبلغ الفضيلة، وللذهن ليبلغ الذكاء، وللوجدان ليبلغ ضبط النفس وحب العشرة والسعادة.
وكان روسو يؤثر أن يكون هناك نظام تعليم عام تقوم عليه الدولة، ولكن بما أن التعليم كان يومها في يد الكنيسة فقد أوصى بتعليم خاص يضطلع بع معلم أعزب ينقد أجراً نظير تكريس سنين كثيرة من حياته لتلميذه. وعلى هذا المعلم أن يبعد الطفل ما أمكن عن أبويه وأقاربه مخافة أن تصل إليه العدوى من رذائل الحضارة المتراكمة. وأضفى روسو على بحثه صبغة إنسانية بتخيله أنه قد فوض بكامل السلطة تقريباً ليربي غلاماً طيباً جداً يدعى إميل. وهي فكرة لا يمكن تصديقها، ولكن روسو وفق في أن يجعل هذه الصفحات-وعددها 450 - أمتع كتاب ألف في التربية إطلاقاً. وقد تناول كانت "إميل" لقرأه فاستغرق في قراءته استغراقاً أنساه الخروج للتمشي في نزهته اليومية (42).
وما دامت الطبيعة ستكون الهادي والمرشد للمعلن، فسيعطى الطفل كل الحرية التي تسمح بها سلامته. وسيبدأ بإقناع مربيته بأن تحرر الرضيع من أقمطته لأنها تعوق نموه وتطور أطرافه تطوراً سليماً. ثم يقنع أمه بإرضاع طفلها بدلاً من أن تعهد به لمرضعة، لأن المرضعة قد تؤذيه بالقسوة أو الإهمال،
أو قد تظفر منه-بفضل عنايتها الصادقة به-بتلك المحبة التي يجب بالطبيعة أن توجه للأم باعتبارها أول مصدر ورباط لوحة الأسرة والنظام الأخلاقي. وهنا ساق روسو عبارات كان لها تأثير جدير بالإعجاب على الأمهات الشابات في الجيل الجديد:
"أتريدون أن تردوا الناس جميعاً إلى واجباتهم الفطرية؟ ابدؤوا بالأم إذن، وسوف تدهشكم النتائج. فكل الشرور تأتي في أعقاب هذه الخطيئة الأولى
…
والأم التي يغيب أطفالها عن بصرها لا تكتسب الاحترام الكثير، فليس هنا حياة أسرية، وروابط الطبقة لا تتقوى بروابط العادة، وليس هناك وجود بعد للآباء والأمهات والأخوة والأخوات. فهم أغراب تقريباُ، فكيف يحب بعضهم بعضاً؟ إن كلاً منهم يفكر في نفسه.
"أما إذا تنازلت الأمهات بإرضاع أطفالهن، فسيكون هناك إصلاح في الخلق سينتعش الشعور الفطري في كل قلب، ولن تشكو الدولة فقراً في عدد المواطنين. وهذه الخطوة الأولى وحدها ستعيد المحبة المتبادلة ومباهج البيت خير ترياق للرذيلة. عندها يغدو لعب الأطفال الصاخب متعة بعد أن كنا نحسبه شديد الإرهاق لنا، ويزداد إعزاز الأم والأب بعضهما لبعض ويقوى رباط الزواج
…
وهكذا يأتي الشفاء من هذا الشر الواحد بإصلاح شامل، فتستعيد الطبيعة حقوقها. وإذا أصبحت النساء أمهات صالحات أصبح الرجال أزواجاً وآباء صالحين (43).
هذه الفقرات المأثورة جعلت إرضاع الأمهات لأطفالهن شطراً من تغير العادات الذي بدأ في العقد الأخير من حكم لويس الخامس عشر. وكان بوفون قد أذاع مثل هذا النداء في العقد السابع ولكنه لم يصل إلى نساء فرنسا. وبدأ الآن ظهور أجمل الصدور في باريس أعضاء للأمومة فضلاً عن كونها مفاتن جسمية ساحرة.
وقسم روسو حياة تلميذه التعليمية إلى ثلاث فترات، اثنتي عشرة سنة طفولة، وثماني سنوات صبى، وعمر غير محدود للإعداد للزواج والأبوة، وللحياة
الاقتصادية والاجتماعية. ففي الفترة الأولى يكون التعليم كله تقريباً بدنياً وخلقياً، وعلى الكتب والتعلم من الكتب، وحتى الديانة أن تنتظر نمو العقل، فإلى أن يبلغ إميل الثانية عشرة لن يعرف كلمة في التاريخ، ولا يكاد يسمع ذكر الله (44). فتربية الجسم يجب أن يشرع فيها أولاً. ومن ثم يربى إميل في الريف لأنه المكان الوحيد الذي يمكن أن تكون الحياة فيه صحية طبيعية:
ولم يخلق البشر ليتكدسوا في كثبان نمل، بل لينتشروا على الأرض ليفلحوها. وكلما حشدوا معاً فسدوا. والمرض والرذيلة هما النتيجتان المحتومتان للمدن المكتظة .. فأنفاس الإنسان تفتك بإخوانه البشر
…
والإنسان تفترسه مدننا، ولن تنقضي أجيال قليلة حتى ينقرض النوع الإنساني أو ينحط. فهو في حاجة إلى التجديد، وتجديده يكون دائماً من الريف. فأرسلوا أطفالكم إلى الخلاء ليجدوا أنفسهم. أرسلوهم ليستعيدوا في الحقل المكشوف تلك العافية التي فقدوها في الهواء الفاسد الذي يملأ مدننا المزدحمة (45).
وشجعوا الصبي على حب الطبيعة والخلاء، وعلى تربية عادات البساطة وعلى العيش على الأطعمة الطبيعية. وأي طعام ألذ من ذلك الذي زرعه المرء في حديقته؟ أن الغذاء النباتي أصح الأغذية ومن شأنه أن يقلل كثيراً من الأمراض والعلل (46).
إن عدم اكتراث الأطفال باللحم من الأدلة على أن الميل لأكل اللحم غير طبيعي. وهم يؤثرون الأطعمة النباتية واللبن والفاكهة الخ .. فحذار أن تغيروا هذا الميل الفطري وتجعلوا أطفالكم أكلة للحوم. افعلوا هذا من أجل أخلاقهم إن لم تفعلوه من أجل صحته، إذ كيف نعلل أن كبار أكلة اللحوم هم في العادة أشد ضراوة وقسوة من غيرهم من البشر (47).
وبعد الغذاء الصحيح، والعادات الطيبة يعلم إميل البكور في الاستيقاظ. "رأينا الشمس تشرق في منتصف الصيف وسنراها تشرق في عيد الميلاد ..
لستا تؤومي الضحى، فنحن نلتذ بالبرد (48). وإميل يكثر من الاستحمام وكلما اشتد عوده قلل من حرارة الماء إلى أن يستحم أخيراً بالماء البارد، بل المثلج، صيف شتاء. وتفادياً للخطر يكون هذا التغير بطيئاً، تدريجياً، غير محسوس (49). ونادراً ما يلبس على رأسه أي غطاء، وهو يمشي حافياً طوال السنة إلا إذا خرج من بيته وحديقته. "يجب أن يعود الأطفال على البرد لا على الحر، فالبرد الشديد لا يضرهم إطلاقاً إذا تعرضوا له في بواكير حياتهم"(50). وشجعوا محبة الطفل الطبيعية للنشاط والحركة "فلا تتركوه على السكون إن أراد الجري، ولا على الجري إن أراد القعود
…
فليجر، وليقفز، وليزعق ما شاء (51). وابعدوا عنه الأطباء ما استطعتم (52). ودعوه يتعلم بالممارسة لا بالكتب ولا حتى بالتعليم. والمعلم الذكي يرتب المسائل والواجبات، ويدع تلميذه يتعلم من ضربة تصيب إبهامه أو صدمة تصيب قدمه، وهو يحميه من الأذى البالغ لا من الآلام التي تربيه.
إن الطبيعة خير هادٍ، ويجب أن تتبع في أمر الأذى الذي نعرفه في هذه الحياة:
"فلتكن قاعدتنا التي لا نزاع عليها أن الدوافع الأولى للطبيعة صواب دائماً. ليس في القلب البشري خطيئة أصلية .. فلا تعاقب تلميذك أبداً، لأنه لا يعرف معنى الخطأ. ولا تجعله يقول "سامحني"
…
فهو في أفعاله التي لا صبغة أخلاقية لها لا يمكن أن يأتي خطأ من الناحية الأخلاقية، ولا يستحق عقاباً ولا تقريعاً
…
فابدأ بترك بذرة شخصيته حرة في الإفصاح عن نفسها، ولا تقسره على شيء، وبهذا يتكشف لك على حقيقته (53) ".
على أنه سيحتاج إلى التربية الخلقية، فبغيرها يصبح إنساناً خطراً تعساً. ولكن لا تعظه. فأن أردت لتلميذك أن يتعلم العدل والرحمة كن أنت عادلاً رحيماً فليقلدك. "القدوة القدوة! فبدونها لن تنجح في تعليم أي شيء للأطفال (54) ". وهنا أيضاً قد تجد أساساً طبيعياً. فالخير والشر (من وجهة نظر المجتمع) كلاهما فطري في الإنسان، وعلى التربية أن تشجع الخير
وتثبط الشر. ومحبة الذات عامة، ولكن في الإمكان تعديلها حتى لتدفع الإنسان إلى اقتحام الأخطار الداهمة حفاظاً على أسرته، أو وطنه، أو عرضه. فهناك غرائز اجتماعية تحفظ الأسرة والجماعة كما أن هناك غرائز أنانية تحفظ الفرد (55). والرحمة قد تنبع من محبة الذات (كما يحدث حين نحب الأبوين الذين يغذواننا ويحمياننا)، ولكنها قد تؤتي ثماراً شتى في السلوك الاجتماعي والمعونة المتبادلة. ومن ثم فإن نوعاً من الضمير يبدو أنه عام وغريزي.
"ألقِ ببصركَ إلى كل أمة في الأرض، وأقرأ كل سفر من أسفار تاريخها، ففي جميع ألوان العبادة العجيبة القاسية هذه، وفي هذا التنوع المذهل من العادات والتقاليد، ستجد في كل مكان نفس الأفكار (الأساسية) أفكار الخير والشر
…
ففي أعماق قلوبنا مبدأ فطري للعدل والفضيلة نحكم بمقتضاه-رغم قواعدنا-على أفعالنا؛ أو أفعال غيرنا، أخير هي أم شر، وهذا المبدأ هو الذي نسميه الضمير" (56).
ومن ثم ينطلق روسو في مناجاة سنجدها تتردد حرفياً تقريباً في كانت:
"إيه أيها الضمير! أيها الضمير! أيها الفطرة المقدسة، والصوت الخالد الآتي من السماء، الهادي الأمين لإنسان هو جاهل محدود حقاً، ولكنه ذكي حر؛ أيها القاضي المعصوم والفيصل بين الخير والشر، الذي يجعل الإنسان شبيهاً بالله، فيك يكمن سمو طبيعة الإنسان وفضيلة أفعاله، لست أجد في نفسي إذا انفصلت عنك شيئاً يرفعني فوق البهائم-لا شيء إلا امتياز مؤسف-هو قدرته على أن يهيم من خطأ إلى خطأ بمعونة ذكاء طليق من كل قيد وعقل لا يعرف له مبدأ (57) ".
إذن فالتربية العقلية يجب ألا تبدأ إلا بعد تكوين الخلق الفاضل، ويسخر روسو من نصيحة لوك بمناقشة الأطفال منطقياً:
"إن الأطفال الذين كانوا يناقشون عقلياً باستمرار يبدون لي غاية في البلاهة. فالعقل هو آخر ما ينمو من قدرات الإنسان وأسماها-وأنت تريد أن تستخدمه لتدريب الطفل المبكر؟ وجعل الإنسان منطقياً هو الحجر الأعلى
في التربية الحسنة، ومع ذلك تريد أن تربي الطفل عن طريق عقله. إنك إذن تبدأ من الطرف الخطأ (58) ".
كلا، بل يجب أن تؤجل التربية العقلية. "أبقِ ذهن الطفل (فكره) عاطلاً أطول ما تستطيع (59) "، فإذا كانت له آراء قبل أن يبلغ الثانية عشرة فثق أنها ستكون سخيفة. ولا تزعجه في هذه السن بالعلم، بهذا سباق لا نهاية له، كل ما نكتشفه فيه إنما يزيدنا جهلاً وغروراً أحمق (60). فدع تلميذك يتعلم حياة الطبيعة وأساليبها بالتجربة، دعه يستمتع بالنجوم دون الزعم بأنه يتتبع تاريخها.
ويمكن أن تبدأ التربية العقلية في الثانية عشرة، ويجوز لإميل أن يقرأ بعض الكتب. ويستطيع أن ينتقل من الطبيعة إلى الأدب بقراءة روبنسن كروزو، لأنها قصة رجل جاز-على جزيرة-بمختلف المراحل التي جاز بها الناس من الهمجية إلى المدنية. ولكن إميل لا يكون قد قرأ كتباً كثيرة حين يبلغ الثانية عشرة، وسيضرب صفحاً عن الصالونات والفلاسفة، ولن يكترث للفنون، لأن الجمال الحق الوحيد كائن في الطبيعة (61). ولن يصبح أبداً "موسيقياً، أو ممثلاً، أو مؤلفاً (62) "، بل سيكون قد اكتسب مهارة كافية في حرفة ما ليكسب قوته بعمل يديه أن اقتضته الظروف يوماً ما (وبعد ثلاثين عاماً سيندم الكثير من المهاجرين الذين لا حرفة لهم على أنهم سخروا كما سخر فولتير من النجار النبيل)(63). على أية حال يجب أن يخدم إميل المجتمع بيديه أو بعقله (رغم أنه وارث لثروة متواضعة)، "فالرجل الذي يأكل وهو عاطل ما لم يكسبه بجهده ليس إلا لصاً (64) ".
ب - ديانته
وأخيراً نستطيع أن نحدث إميل عن الله إذا بلغ الثامنة عشرة:
"إني عليم أن الكثير من قرائي سيدهشهم أن يجدوني متتبعاً سير تلميذي خلال سنيه الأولى دون أن أحدثه في الدين. إنه وهو في الخامسة عشرة لن يعرف حتى أن له نفساً، وقد لا يكون في الثامنة عشرة مهيئاً بعد للإلمام
بهذه الحقيقة .... ولو كان عليّ أن أصور الغباوة في أفجع أشكالها لصورت معلماً متحذلقاً يلقن التعليم الديني للأطفال، ولو أردت أن أخرج طفل عن طوره لطلبت إليه أن يشرح ما تعلمه في دروسه الدينية
…
لا شك أننا يجب أن لا نضيع لحظة واحدة إن وجب أن نكون مستحقين للخلاص الأدبي، ولكن إذا كان تكرار ألفاظ معينة يكفي للحصول على هذا الخلاص فلست أرى لم لا نملأ السماء بالزرازير العقاعق كما نملؤها بالأطفال (65) ".
ثم جرد روسو أمضى سهامه على جماعة الفلاسفة، رغم إعلانه هذا الذي أثار غضب رئيس أساقفة باريس. وليتصور القارئ فولتير أو ديدرو يقرءان هذا الكلام:
"لقد استشرت جماعة الفلاسفة، فوجدتهم كلهم سواء في الغرور، والجزم، والدجماطية، يتظاهرون-حتى في شكوكيتهم المزعومة-بأنهم عليمون بكل شيء، لا يثبتون شيئاً، ويهزأ بعضهم ببعض. وقد بدت لي .... هذه الخاصة الأخيرة، النقطة الوحيدة التي أصابوا فيها. فهم ضعاف في الدفاع رغم تبجحهم في الهجوم. زن حججهم تجدها كلها مدمرة، وأحصِ أصواتهم تجد كلاً منهم يتحدث عن نفسه وحده .... وما من واحد فيهم-إن تصادف واكتشف الفرق بين الباطل والحق-لا يؤثر باطله على الحق الذي اكتشفه غيره من قبله. فأين الفيلسوف الذي يعفُ عن خداع الدنيا بأسرها في سبيل مجده (66) ".
ومع أ، روسو واصل تنديده بالتعصب، فإنه على نقيض بيل أدان الكفر لأنه أشد خطراً من التعصب. وقدم لقرائه "إعلاناً بالإيمان" رجا به أن يحول التيار من إلحاد دولباخ، وهلفتيوس، وديدرو، عوداً إلى الإيمان-اللذين التقى بهما في صباه، فمزج بينهما وأخرج من المزيج كاهناً وهمياً في سافوي، وأنطق هذا الكاهن الريفي بالمشاعر والحجج التي بررت (في نظر روسو) العودة إلى الدين.
ويصور روسو كاهن سافوي قسيساً على أبرشية صغيرة في الألب الإيطالية. وهو يعترف سراً بشيء من الشكوكية، ويرتاب في الوحي الإلهي للأنبياء، وفي معجزات الرسل والقديسين، وفي صحة الإنجيل (67)؛ ثم يتساءل كما تساءل هيوم "من يجرؤ على أن يخبرني كم شاهد عيان يقتضيهم إقناعنا بتصديق معجزة ما؟ (68) " وهو ي فض صلاة التضرع، فصلواتنا يجب أن تكون ترانيم لمجد الله، وتعبيرات عن امتثالنا لمشيئته (69). وهو يرى الكثير من مواد العقيدة الكاثوليكية حديث خرافة أو أساطير الأولين (70). ومع ذلك يشعر بأنه يحسن خدمة شعبه بكتمان شكوكه، وممارسة العطف على الجميع والبر بهم (مؤمنين مغير مؤمنين على السواء). وأداء طقوس الكنيسة الرومانية كلها بأمانة. فالفضيلة ضرورية للسعادة، والإيمان بالله، وبحرية الإرادة، وبالجنة، وبالنار، ضروري للفضيلة، والأديان رقم ما قارنت من جرائم جعلت الرجال والنساء أكثر فضيلة، أو على الأقل أقل قسوة ولؤماً مما كان يمكن أن يكونوا. فإذا بشرت هذه الأديان بعقائد تبدو لنا غير معقولة، أو إذا أرهقتنا بطقوسها ومراسمها، وجب أن نسكت شكوكنا في سبيل الجماعة.
والدين صواب في جوهره حتى من وجهة نظر الفلسفة. ويستهل الكاهن الكتاب كديكارت بقوله "إنني موجود ولي حواس أتلقى من خلالها الانطباعات، هذه أولى الحقائق التي تسترعي انتباهي، وأنا مضطر إلى قبولها (71) ". وهو يرفض رأي باركلي: "إن سبب أحاسيسي خارج عني، لأنها تؤثر فيّ سواء كان عندي داع لها أو لم يكن، وهي تخلق وتهدم مستقلة عني .. إذن توجد كيانات أخرى فضلاً عني". ونقطة ثالثة ترد على هيوم وتسبق كانت: أنني أجد لدي القدرة على المقارنة بين أحاسيسي، إذن فقد وهبت قوة إيجابية للتعامل مع التجربة (72). وهذا العقل لا يمكن تفسيره على أنه شكل من أشكال المادة، فليس في فعل التفكير أمارة على عملية مادية أو ميكانيكية. أما كيف يستطيع عقل غير مادي يؤثر في جسم مادي فذلك أمر يجاوز فهمنا، ولكنه حقيقة تدرك للتو، ويجب ألا ننكرها لأجل الاستدلال
المجرد. وعلى الفلاسفة أن يتعلموا الاعتراف بأن شيئاً ما قد يكون حقيقياً ولو عجزوا عن فهمه-خصوصاً إذا كان يدرك بأسرع من جميع الحقائق.
والخطوة التالية (كما يسلم الكاهن) هي الاستدلال العقلي الخاص. فأنا لا أدرك الله بحسي، ولكن استدل عقلاً على أنه كما أن في أفعالي الإرادية عقلاً هو السبب المدرك للحركة، كذلك هناك على الأرجح عقل كوني وراء تحركات الكون. وإن الله لا يمكن معرفته، ولكن أشعر أنه تعالى موجود وفي كل مكان. وأبصر قصداً في مئات الحالات، من تكوين عيني إلى حركات النجوم، وينبغي ألا أفكر في أن أنسب إلى الصدفة (مهما ازداد تكاثرها "على طريقة ديدرو") تكييف الوسائل وفق الغايات في الكائنات الحية ونظام العالم، أكثر مما أنسب إلى الصدفة تجميع الحروف تجميعاً لذيذاً في طبع الإنيادة (73).
فإذا كان هناك إله ذكي وراء عجائب الكون، فمحال أنه سيسمح بأن يهزم الحق هزيمة دائمة. ولا بد لي من الإيمان بإله يؤكد انتصار الخير، ولو لأتحاشى ذلك الإيمان الكئيب بانتصار الشر. إذن يجب أن أؤمن بحياة آخرة، بجنة تجزى فيها الفضيلة. ومع أن فكرة الجحيم تقززني، وأوثر عليها الاعتقاد بأن الأشرار يصلون نار جهنم في قلوبهم، فإنني متقبل حتى تلك العقيدة الرهيبة إذا اقتضاها ضبط الدوافع الشريرة في الإنسان. وفي تلك الحالة أتوسل إلى الله ألا يجعل الجحيم خالدة (74). ومن ثم كانت فكرة المطهر باعتباره مكاناً للعقوبة الممكن اختزالها للخطاة جميعاً إلا أشدهم عناداً وعصياناً أكثر إنسانية من تقسيم الموتى كلهم إلى فريق المباركين إلى الأبد، والهالكين إلى الأبد. وهبنا عاجزين عن البرهان على وجود الجنة، فيالها من قسوة أن ننتزع من الناس هذا الرجاء الذي يعزيهم في أحزانهم ويشدد عزائمهم في هزائمهم (75). ولو انعدم الإيمان بالله وبالآخرة؛ لتعرضت الفضيلة للخطر وتجردت الحياة من معناها، لأن الحياة في الفلسفة الملحدة صدفة آلية تمر بمئات الآلام إلى موت أليم أبدي.
وعليه وجب أن نتقبل الدين على أنه في مجموعه عطية كبرى للبشر ول حاجة بنا إلى أن نعلق أهمية كبرى على شتى المذاهب التي مزقت المسيحية، فكلها خير إذا حسنت السلوك وغذت الرجاء. ومن السخف أن نفترض أن أصحاب العقائد والآلهة والأسفار المقدسة الأخرى سوف يحكم عليها بالهلاك، "فلو لم يكن على الأرض سوى دين واحد؛ ولو حكم على كل الخارجين عنه بالعقاب الأبدي .. لكان إله ذلك الدين أظلم الطغاة وأقساهم (76). وعليه فلت يعلم إميل لوناً بعينه من المسيحية، ولكنا سنعطيه الوسيلة لأن يختار لنفسه حسبما يرتئيه عقله صواباً (77). وخير الطرق أن نمضي في الدين الذي ورثناه عن آبائنا أو مجتمعنا. ونصيحة كاهن روسو الوهمي هي "عد إلى وطنك؛ ارجع إلى دين آبائك، واتبعه بكل قلبك ولا تتخل عنه أبداً فهو بسيط جداً ومقدس جداً، وما من دين آخر تجد فيه الفضيلة أشد نقاء، ولا العقيدة أكثر إشباعاً للعقل (78) ".
وكان روسو عام 1754 قد سبق إلى هذه النصيحة، وعاد إلى جنيف وعقيدتها، على أنه لم يق بوعد الذهاب إليها والإقامة فيها بعد أن يسوي أموره في فرنسا. وفي "رسائل من الجيل" التي كتبها بعد عشر سنوات تنكر لمعظم دين آبائه كما سنرى. وفي العقد الأخير من حياته سنجده يوصي غيره بالدين، ولكنه لا يكاد يبدي أمارة على الإيمان الديني أو الممارسة الدينية في حياته اليومية. وأجمع الكاثوليك والكلفنيون واليسوعيون على مهاجمته هو "وإعلان الإيمان" الذي ناب عن عقيدته لأنهما أساساً غير مسيحيين (79). وصدم التعليم الذي اقترحه لإميل قراءه المسيحيين لأنهم رأوه في حقيقته تعليماً لا دينياً، وخامرهم الظن في أن فتى من أواسط الشباب، نشئ على غير دين، لن يعتنق ديناً بعد حين، إلا لداعي المصلحة الاجتماعية. وقد رفض روسو عقيدة الخطيئة الأصلية والدور الفدائي الذي يؤديه موت المسيح وذلك برغم قبوله الرسمي للكلفنية. وأبى قبول العهد القديم بوصفه كلمة الله، وذهب إلى أن العهد الجديد "يحفل بأشياء لا يمكن تصديقها، أشياء ينفر منها العقل (80) ". ولكنه أحب الأناجيل لأنها أعظم الأسفار تأثيراً وإلهاماً للنفس.
أيمكن أن يكون كتاب اجتمع له كل هذا الجلال والبساطة في وقت معاً من عمل إنسان؟ أيمكن أن يكون ذلك الذي احتوى تاريخه فيها مجرد إنسان؟
…
إي رقة وطهر في أفعاله، وأي نعمة تمس القلوب في تعاليمه، وما أسمى أقواله، وما أعمق حكمة مواعظه، وما أعظم إجاباته سداداً وتميزاً وأي إنسان، وأي حكيم يستطيع أن يحيى ويتألم ويموت دون ضعف أو تباه؟
…
إذا كانت حياة سقراط وموته هما حياة فيلسوف وموته، فحياة المسيح وموته هما حياة إله وموته (81).
جـ - حبه وزواجه
حين أختتم روسو صفحات كاهن سافوا الخمسين وعاد إلى إميل تصدى لمشاكل الجنس والزواج.
فهل يحدث تلميذه عن الجنس؟ لا تفعل حتى يسألك. فإذا سألك فأخبره بالحقيقة (82). ولكن افعل كل ما يتفق والصدق والصحة لكي تؤجل وعيه بالجنس. على أي حال لا تنبه هذا الوعي: "إذا اقتربت السن الحرجة فقدم للشباب من المشاهد ما هو كفيل بالحد من رغباتهم الجنسية لا بإثارتها
…
أبعدهم عن المدن الكبيرة حيث يجعل لباس النساء اللاتي يعرضنه في زهو وتباهٍ، وتعجل جرأتهن دوافع الطبيعة وتستبقها، وحيث يعرض كل شيء على أبصارهم، لذات يجب ألا يعرفوا عنها شيئاً حتى يبلغوا من العمر ما يمكنهم أن يختاروا بأنفسهم
…
وإذا أبقاهم ميلهم للفنون في المدينة فأبعدهم عن
…
حياة التبطل. واختر بعناية عشراءهم، وشواغلهم وملاهيهم، ولا ترهم شيئاً غير الصور المحتشمة المثيرة للشفقة
…
وغير حسهم المرهف دون أن تثير حواسهم (83) ".
وأقلقت روسو العواقب الوخيمة لعادة يبدو أنه عرفها معرفة خبير:
"حذار أن تترك الفتى ليلاً ولا نهاراً، وعليك على الأقل أن تقاسمه حجرته. وإياك أن تسمح له بالذهاب إلى فراشه حتى يأخذ الكرى بجفونه، ثم أجعله ينهض بمجرد استيقاظه
…
فلو أنه اعتاد هذه العادة الخطرة
لهلك. فسيتنبه جسمه ونفسه من تلك اللحظة فصاعداً، وسيحمل إلى الغير آثار
…
أضر عادة يكتسبها شاب".
ثم يضع هذا القانون لتلميذه.
"إن عجزت عن التحكم في شهواتك يا عزيزي إميل فأني أرثي لك، ولكني لن أتردد لحظة، فلن أسمح بالروغان من مقاصد الطبيعة. وإذا كان حتماً عليك أن تكون عبداً فإني أؤثر أن أسلمك إلى طاغية قد أنقذك منه، فمهما حدث، فإذ قادر على تحريرك من العبودية للنساء بسهولة أكثر من عبوديتك لنفسك (84) ".
ولكن لا تدع رفاقك يغرونك بالذهاب إلى ماخور! "فلم يريد هؤلاء الفتيان إغرائك؟ لأنهم يرغبون في إفسادك
…
فحافزهم الوحيد هو غل دفين لأنهم يرونك خيراً منهم، فهم يريدون أن يجروك إلى الهوة التي تردوا فيها".
والزواج خير من هذا. ولكن ممن؟ يصف المعلم المثل الأعلى للفتاة، والمرأة، والزوجة، ويحاول أن يطبع ذلك المثل على ذهن إميل هادياً له وهدفاً في البحث عن زوجة. وكان روسو يخاف النساء المسترجلات المسيطرات، الوقحات، ويرى سقوط الحضارة في تسلط النساء المسترجلات استرجالاً متزايداً على الرجال المخنثين تخنثاً متزايداً "في كل بلد تجد أن الرجال من النوع الذي تصنعه النساء .... فردوا النساء إلى الأنوثة، نعد رجالاً مرة أخرى (85) " أن نساء باريس يغتصبن حقوق جنس دون أن يردن التخلي عن حقوق الآخر، وهن لذلك لا يملكن هذه ولا تلك مكتملة (86). والقوم يتصرفون بطريقة أفضل في الأقطار البروتستانتية حيث الحشمة ليست أضحوكة بين المسفسطين بل وعداً يبشر بأمومة أمينة (87). أن مكان المرأة في البيت، كما كانت الحال عند قدماء اليونان، ويجب أن تقبل زوجها سيداً ولكن يجب أن تكون صاحبة الكلمة العليا في البيت (88). وبهذه الطريقة تصان صحة النوع.
ويجب أن تهدف تربية الفتيات إلى إخراج أمثال هؤلاء النساء. يجب أن يربين في البيت على أيدي أمهاتهن، وأن يتعلمن كل فنون البيت، من الطهو إلى التطريز، وأن يحصلن الكثير من الدين، بأسرع ما يمكن، لأن من شأن هذا أن يعينهن على الحشمة، والعفة، والطاعة. وعلى البنت أن تقبل دين أمها دون جدل، ولكن على الزوجة أن ترتضي دين زوجها (89) على أية حال لتتجنب الفلسفة وتحتقر حياة الصالونات (90). على أنه يجب ألا تكره الفتاة على الإحجام الغبي، فينبغي أن تكون خفيفة الروح، مرحة، تواقة، وأن تغني وترقص كما تشتهي، وتستمتع بكل لذات الشباب البريئة، ولتذهب إلى المراقص والألعاب الرياضية، وحتى إلى المسارح-تحت الملاحظة الواجبة وفي صحبة طيبة (91). ويجب العمل على أن يظل ذهنها نشيطاً يقظاّ إن أريد بها أن تكون زوجة صالحة لرجل مفكر "ولا بأس بأن يُسمح لها بقدر من التدلل" باعتبار هذا جزءاً من اللعبة المعقدة التي تختبر بها خطابها وتختار زوجها (92). إن الرجل هو موضوع الدراسة الصحيحة لجنس النساء (93).
فإذا ثبت هذا المثل الأعلى للفتاة والمرأة في آمال إميل جاز له أن يخرج ويبحث عن زوجته. وهو الذي يختار، لا أبواه ولا معلمه. ولكن من واجبه نحوهم ونحو حدبهم عليه سنيناً طوالاً، أن يستشيرهم في احترام. أتريد أن تذهب إلى المدينة وتتطلع إلى الفتيات اللاتي يعرضن هناك؟ حسناً جداً، سنذهب إلى باريس وسترى بنفسك حقيقة هؤلاء الأوانس المثيرات. وهكذا يعيش إميل برهة في باريس ويختاط بـ "المجتمع الراقي". ولكنه لا يجد فيه فتاة من النوع الذي وصفه له معلمه الماكر "إذن وداعاً يا باريس الذائعة الصيت، بكل ما فيكِ من ضجيج ودخان وقذارة، حيث كفت النساء عن الإيمان بالشرف، والرجال عن الإيمان بالفضيلة، إننا نبحث عن الحب والسعادة والبراءة، وكلما بعدنا عن باريس كان خيراً لنا (94).
وعليه يقفل المعلم وتلميذه إلى الريف، وإذا هما يصادفان صوفي في قرية هادئة نائية عن الزحام المجنون. هنا (الكتاب الخامس) تتحول
رسالة روسو إلى قصة حب مثالية التصوير ولكنها مبهجة، تروى ببراعة كاتب قدير. فبعد تلك الأحاديث المسهبة في التعليم والسياسة والدين، يعود إلى الشاعرية والخيال، وبينما تنكب تريز على أشغال بيتها، يعاود أحلامه بتلك المرأة الرقيقة التي لم يجدها إلا في لحظات متفرقة من جولاته، ويطلق عليها اسماً اشتقه من آخر غرام أشتعل في قلبه.
وصوفي الجديدة هذه ابنة سيد كان يوماً ما ثرياً، يعيش الآن في عزلة وبساطة قانعتين. فتاة صحيحة الجسم، جميلة، محتشمة، رقيقة-ونافعة وتعين أمها بكفايتها السريعة الهادئة في كل شيء "ما من شيء لا تستطيع عمله بإبرتها (95) ". ويجد إميل المبرر لمعاودة لقائها، وتجد هي المبرر لمزيد من زياراته. وشيئاً فشيئاً يتضح له أن صوفي حائزة لكل الفضائل التي صورها له معلمه في صورة مثالية. فيا للصدفة الإلهية! وبعد أسابيع يصل إلى القمة التي تدير رأسه، قمة لثم هدب ثوبها. وما هي إلا أسابيع أخر حتى يخطبها. ويصر روسو على أن تكون الخطبة احتفالاً رسمياً مهيباً فيجب أن نتخذ كل التدابير-بالطقوس وسواها-للتسامي بقدسية رباط الزوجية وإقرارها في الذاكرة، وبينما يرتعش إميل وهو على حافة النعيم، يحمله معلمه العجيب الذي يضرب بالحرية والطبيعة عرض الحائط على ترك خطيبته والغياب عنها عامين والسفر امتحاناً لمحبتهما ووفائهما. ويبكي إميل ويصدع للأمر "فإذا عاد وهو محتفظ بعذريته كأنما بمعجزة وجد صوف عفيفة في وفاء، فيتزوجان، ويرشدهما المعلم إلى واجبات الواحد نحو صاحبه. فيطلب إلى صوفي أن تطيع زوجها إلا فيما يتصل بالفراش والمأكل "ستهيمنين عليه طويلاً بالحب إذ جعلت وصلك له نادراً غالياً
…
وليكرم إميل عفة زوجته دون أن يشكو من برود عاطفتها (96). ويختتم الكتاب بنصر ثلاثي:
"ذات صباح" يدخل إميل حجرتي ويعانقني قائلاً: "هنئ ابنك يا أستاذي فهو يأمل أن يحظى بعد قلي بشرف الأبوة. وما أعظم المسئولية التي سنحملها وما أشد حاجتنا إليك؟ ولكن معاذ الله أن أدعك تربي
الولد كما ربيت الوالد، معاذ الله أن يقوم إنسان غيري بهذه المهمة اللذيذة المقدسة
…
ولكن واصل مهمة تعليم المعلمين الشابين. ابذل لنا النصح وأشرف علينا. وسيسلس قيادنا لك وسأحتاج إليك ما حييت
…
لقد أديت واجبك فعلمني كيف أقتدي بك، بينما تستمتع أنت بالفراغ الذي تستحقه جزاء جهودك (97) ".
لقد اتفق العالم عموماً بعد قرنين من الثناء، والسخرية، والتجربة على أن "إميل" كتاب جميل موحٍ ومستحيل. فالتربية موضوع ثقيل، لأننا نتذكرها في ألم، ولا نحب أن نسمع المزيد عنها، ونكره أن تفرض علينا من جديد بعد أن أتممنا مدة الخدمة التي فرضت علينا في المدرسة. ومع ذلك فقد صنع روسو من هذا الموضوع المنفر رواية تسحر قارئها. فالأسلوب البسيط، المباشر الشخصي يأسرنا برغم ما شابه من تمجيد بليغ، ونحن ننساق للرواية ونسلم أنفسنا لذلك المعلم الكلي العلم، وأن ترددنا في إسلام أبنائنا له. ذلك أن روسو، بعد أن امتدح حدب الأم وحياة الأسرة، يأخذ إميل من أبويه وينشئه في عزلة مضادة للفساد عن المجتمع الذي لابد له من العيش فيه بعد حين. وروسو لم يربِ أطفالاً قط، لذلك لا يعلم أن الطفل المتوسط هو بـ "الطبيعة" لص صغير، غيور، جشع، مسيطر، ولو انتظرنا حتى يتعلم الانضباط دون أوامر، والاجتهاد دون تعليم، لشب إنساناً سيئ التكيف، بليداً قليل الحيلة، فوضوياً، قذر الجسم أشعث الشعر، لا يطاق. وأنى لنا هؤلاء المعلمون الخصوصيون الراغبون في تكريس عشرين عاماً من حياتهم لتربية طفل واحد؟ تقول مدام دستال (1810) أن هذا الضرب من العناية والاهتمام
…
ويضطر كل رجا إلى تكريس حياته كلها لتربية مخلوق آخر، ولا تتاح الحرية في النهاية إلا للأجداد ليهتموا بمصالحهم (98).
وأكبر الظن أن روسو أدرك هذه الصعوبات وغيرها بعد أن أفاق من نشوة تأليف كتابه. فقد جاءه في ستراسبورج عام 1765 أحد المتحمسين له وهو يتدفق ثناء وقال له "سيدي إنك ترى رجل ينشئ أبناءه على المبادئ التي أسعده أن يتعلمها من كتابك إميل". وقال روسو
غاضباً "هذا أسوأ لك ولأبنك"(99). وفي الرسالة الخامسة من "رسائل من الجيل" بين أنه لم يؤلف إميل للآباء العاديين بل للحكماء "لقد أوضحت في المقدمة أن اهتمامي كان بتقدم خطة نظام جديدة للتربية لينظر فيه الحكماء، لا طريقة يستخدمها الآباء والأمهات (100) ". فهو كمعلمه أفلاطون انتزع الطفل من أذى أبويه مؤملاً أن يصبح صالحاً لتربية أطفاله بعد أن اكتملت له التربي المنقذة. وكأفلاطون "ذخر في السماء أنموذجاً لحالة أو طريقة مثالية، حتى يشهدها كل راغب، فإذا شهدها استطاع أن يوجه نفسه وفقها (101) ". وقد أذاع على الناس حلمه هذا، عسى أن يحمل الإلهام في بلدٍ ما، لبعض الرجال والنسا، ويعين على صلاح الحال. وقد فعل.
الفصل الثامن
روسو المنبوذ
1762 - 1767
1 -
الهروب
عجيب أن يفلت من الرقيب كتاب يحوي ما حوى إميل من هجوم صريح على كل شيء إلا أسس المسيحية، وأن يطبع في فرنسا. ولكن الرقيب كان مالزيرب المتسامح العطوف. وقبل أن يأذن بالنشر حث روسو على أن يحذف فقرات من المؤكد أنها تدفع الكنيسة إلى العداء النشيط. ولكن روسو رفض. ولقد نجا زنادقة آخرون من الاضطهاد لأشخاصهم بالتخفي وراء أسماء مستعارة، أما روسو فقد ذكر أسمه بشجاعة على صفحات غلاف كتبه.
وبينما ندد جماعة الفلاسفة بإميل باعتباره خيانة أخرى للفلسفة، أدانه أحبار فرنسا وقضاة باريس وجنيف باعتباره مروقاً من المسيحية. وأعد رئيس أساقفة باريس، عدو الجنسنين، للنشر في أغسطس 1762 رسالة قوية تهاجم الكتاب. وكان برلمان باريس المناصر للجنسنين مشغولاً بطرد اليسوعيين، ولكنه أراد رغم ذلك أن يبدي غيرته على الكاثوليكية، وأتاح له ظهور إميل فرصة ليضرب ضربته دفاعاً عن الكنيسة. واقترح مجلس الدولة الذي كان يخوض حرباً مع البرلمان، ويكره أن يكون دونه غيرة على سلامة العقيدة، أن يلقي القبض على روسو. فلما نمى الخبر إلى أصدقاء روسو من النبلاء نصحوه بالرحيل فوراً من فرنسا. وفي 8 يونيو بعثت إليه مدام دكريكي رسالة تشي بانفعالها. قالت: لا ريب في أن أمراً صدر بالقبض عليك. فاستحلفك بالله أن تهرب
…
إن حرق كتابك لن يضيرك أما شخصك فلا يطيق السجن. فاستشر جيرانك (1).
أما الحيران فكانا مرشال ومرشالة لكسمبورج. وقد خشيا أن يتورطا في الأمر لو قبض على روسو (2)، فحثاه هو وأمير كونتي على الهروب إلى سويسرا، وأعطوه مبلغاً من المال وعربة لعبر بها الطريق الطويل من فرنسا إلى سويسرا. وأذعن روسو على مضض. وترك تريز في رعاية المرشالة. وبرح مونمورني في 9 يونيو. في ذلك اليوم حضر مرسوم بالقبض عليه ولكنه نُفذ ببطء رحيم، لأن الكثيرين من رجال الحكومة سرهم أن يتركوه يهرب. وفي ذلك اليوم ذاته قال الأستاذ أومير جولي دفلوري لبرلمان باريس وهو يلوح بنسخة من إميل:
"يبدو أن هذا العمل ألف لهدف واحد هو رد كل شيء إلى الدين الطبيعي، وتطوير ذلك النظام الإجرامي في خطة المؤلف لتربية تلميذه
…
"
وأنه ينظر إلى جميع الأديان على أنها تستوي في الخير، وعلى أنها كلها منبعثة من مناخ الناس، وحكومتهم وطبعهم .. وأنه بناء على هذا يجرؤ على هدم صحة الكتاب المقدس والنبؤات، ويقينية المعجزات الواردة في الأسفار المقدسة. وعصمة الوحي، وسلطان الكنيسة .. وهو يسخر من الدين المسيحي ويجدف عليه. ذلك الدين الذي هو وحده من صنع لله.
ومؤلف هذا الكتاب الذي جرؤ على وضع أسمه عليه يجب القبض عليه بأسرع ما يمكن. ومن الأهمية لمكان، أن تجعل العدالة-من المؤلف وأولئك الذين
…
شاركوا في طبع هذا الكتاب وتوزيعه-مثلاً وعبرة للناس بكل صرامة.
ومن ثم فقد أمر البرلمان:
بأن يمزق الكتاب المذكور ويحرق في فناء القصر (قصر العدالة) أسف السلم الكبير، بيد كبير الجلادين، وعلى كل الذي يملكون نسخاً من الكتاب أن يسلموها إلى المسجل لإبادتها، ومحظور على الناشرين طبع هذا الكتاب أو توزيعه، وسيقبض على جميع بائعيه وموزعيه ويعاقبون طبقاً لنص القانون الصارم، ويجب القبض على ج-ج روسو وزجه في سجن الكونسيرجري في قصر العدالة (3).
وفي 11 يونيو مزق وحرق إميل كما نص الأمر، ولكن روسو كان قد وصل إلى سويسرا. أمرت الحوذي أن يقف لحظة دخولي إقليم برن وخرجت من مركبتي، وخررت على وجهي، وقبلت الأرض وصحت في غمرة فرحي:
"حمداً لك أيتها السماء، حامية الفضيلة، إنني ألمس أرضاً للحرية (4) ".
ولم يكن مطمئناً كل الاطمئنان. فواصل ركوبه إلى إيفردون، قرب الطرف الجنوبي لبحيرة نوشاتل، في مقاطعة برن، وهناك مكث شهراً مع صديقه القديم روجان. أيبحث عن منزل في جنيف؟ ولكن في 19 يونيو أدان مجلس الخمسة والعشرين الذي يحكم جنيف كلاً من "لإميل" والعقد الاجتماعي" لأنهما خارجان على التقوى، فاضحان، وقحان، مفعمان بالتجاديف والافتراءات على الدين. وقد جمع المؤلف تحت ستار الشك كل ما من شأنه أن يضعف المقومات الرئيسية للدين المسيحي المنزل، ويهزها ويهدمها
…
ويتعاظم خطر الكتابين ووجوب شجبهما لأنهما مكتوبان بالفرنسية (لا باللاتينية التي لا تعرفها غير القلة) بأسلوب شديد الإغراء، منشوران باس مواطن جنيفي (5).
وعليه فقد أمر المجلس بحرق الكتابين، وحرم بيعهما، وأصدر مرسوماً بالقبض على روسو إذا دخل يوماً ما أرض الجمهورية. ولم يتعرض قساوسة جنيف على هذا التبرؤ من أشهر أبناء جنيف الأحياء. ولا ريب في أنهم شعروا بأن أي عطف يبدونه لمؤلف "إعلان بإيمان كاهن سافوى"، سيؤكد ما كشفه دالامبير عما يبطنونه من ميول للتوحيد، وانقلب عليه يعقوب فيرن الذي ظل صديقاً له سنين كثيرة، وطالب بأن يسحب روسو أقواله. يقول روسو وهو يذكر ذلك الموقف "لو سرت بين الجماهير أي شائعة عني لأضرت بي، وقد عاملني كل مروجي الإشاعات والمتفيقهين كأنني تلميذ مهدد بالجلد لأنه لم يحسن حفظ درسه الديني (6) ".
وتأثر فلوتير من موقف غريمه، فلقد قرأ إميل، وتعليقاته ما زالت ترى على نسخته المحفوظة بمكتبة جنيف. وفي خطاب مؤرخ 15 يونيو كتب عن الكتاب "إنه خليط تهرف به مرضعة بلهاء في أربعة مجلدات بها أربعون
صفحة ضد المسيحية من أجرأ ما عرفنا
…
وهو يقول في الفلاسفة من الأشياء المؤذية قدر ما يقوله في المسيح، ولكن الفلاسفة سيكونون أكثر تسامحاً من القساوسة (7). على أية حال أعجبه "إعلان الإيمان" فقال عنه خمسون صفحة كاملة، ولكنه أضاف "من المؤسف أن يكون كاتبها
…
وغداً كهذا (8). وكتب إلى مدام دودفان سأحب مؤلف كاهن سافوي، مهما فعل ومهما يفعل (9) .. ولما سمع أن جاك طريد لا مأوى له صاح "فليأتِ إلى هنا (إلى قريته) .. يجب أن يأتي. سأستقبله بذراعين مفتوحتين. سيكون هنا سيداً أكثر مني. سأعامله كأنه أبني (10) ". وبعث بدعوته إلى خمسة عناوين مختلفة، ولابد أنها وصلت إلى أحدها، لأن روسو أعرب فيما بعد عن أسفه لأنه لم يرد عليها (11). وفي 1763 جدد فولتير الدعوة، فرفضها روسو، واتهم فولتير بأنه حرض مجلس الخمسة والعشرين على إدانة "العقد الاجتماعي" و "إميل" .. ولكن فولتير أنكر التهمة، وبحق فيما يبدو.
وفي بواكير يوليو 1762 أخطر مجلس الشيوخ برن روسو بأنه لا يستطيع السماح بوجوده في إقليم برن، وأن عليه أن يرحل عنه في بحر خمسة عشر يوماً وإلا واجه السجن. وتلقى خلال ذلك خطاباً رقيقاً من دالامبير ينصحه بأن يحاول الإقامة في إمارة نوشاتل، وكانت تقع في قضاء فردريك الأكبر، ويحكمها إيرل ماريشال جورج كيث، الذي قال عنه دالامبير إنه سيستقبلك ويعاملك كما كان الآباء في العهد القديم يستقبلون ويعاملون الفضيلة المضطهدة (12). وتردد روسو، لأنه كان قد انتقد فردريك زاعماً أنه طاغية في ثياب فيلسوف (13). ومع ذلك قبل في 10 يوليو 1762 دعوة ابنة أخي روجان مدام دلاتور، بأن ينزل بيتاً تملكه. موتييه-ترافير، على خمسة عشر ميلاً جنوب شرقي مدينة نوشايل في بقعة سيصفها بوزويل بأنها وادٍ بري بديع تحيط به الجبال الشاهقة (14). وحوالي 11 يوليو تقدم جان-جاك بالتماس إلى الحاكم، وبما تميز به من تواضع وإباء. كتب إلى:(ملك بروسيا).
"لقد قلت فيك الكثير من السوء، وأغلب الظن أني قائل فيك المزيد منه؛ ولكنني أنا مطارد من فرنسا ومن جنيف، ومن مقاطعة برن، جئت ألتمس ملجأ وفي ولايتك
…
سيدي، لم أستحق منك فضلاً، ولا أطلب فضلاً، ولكنني أحسست بأن من واجبي أن أصرح لجلالتك بأنني في قبضتك، وأنني شئت أن أكون كذلك، ولجلالتك أن تتصرف معي كما تشاء".
وكتب فردريك إلى كيث في تاريخ غير مؤكد، وهو لم يفرغ بعد من حرب السنين السبع:
"يجب أن ننقذ هذا الشقي المسكين. فذنبه الوحيد أن له آراء غريبة يحسبها سديدة، سأرسل إليك مائة كروان، فتفضل بإعطائه منها ما يحتاج إليه. وأظنه سيقبلها عيناً بأسهل مما يقبلها نقداً، ولولا أننا نخوض حرباً، ولولا أننا أفلسنا، لبنيت له كوخاً بحديقة حيث يستطيع العيش كما عاش في ظني آباؤنا الأولون .... أظن أن روسو المسكين قد أختار المهنة الخطأ، فواضح أنه ولد ليكون ناسكاً مشهوراً، وأباً من آباء البرية يشتهر بنسكه وجلده لجسده. ختاماً أقول أن نقاء أخلاقيات صاحبك المتوحسن يعدل عدم منطقية عقله (15) ".
أما المريشال، الذي يقول روسو إنه قديس بخيل، عجوز، شارد الذهن، فقد أرسل إليه الزاد والفحم والخشب، وأقترح أن يبني له بيتاً صغيراً. وفسر جان-جاك هذا العرض بأنه آتٍ من فردريك، فرفضه، "ولكن منذ تلك اللحظة تعلقت به تعلقاً صادقاً حتى أصبحت أهتم الآن بمجده قدر ما كنت أرى انتصاراته إلى ذلك الحين ظالمة (16). وفي أول نوفمبر، والحرب قاب قوسين من نهايتها، كتب إلى فردريك يصف مهام السلم:
"مولاي:
أنت حامي وولي نعمتي، وأن لي لقلباً خلق ليعرف الجميل، وأريد أن أبرئ نفسي معك إن استطعت. تريد أن تعطيني الخبز، أفليس بين رعاياك من يعوزه الخبز؟ أبعد عن عيني ذلك السيف الذي يومض ويجرحني
…
أن سيرة الملوك الذين أوتوا همتك عظيمة، وأنت لا تزال بعيداً عن ساعة منيتك، ولكن الوقت كالسيف، وليس أمامك لحظة واحدة تضيعها. أو تستطيع أن تعتزم الموت دون أن تكون أعظم الرجال قاطبة.
ولو أتيح لي يوماً أن أرى فردريك العادل المرهوب يملأ بلاده في نهاية المطاف بشعب سعيد سيكون أباً له، إذن لذهب جان-جاك روسو عدو الملوك، ليموت فرحاً في أسفل عرشه (17) ".
ولم يرد فردريك رداً وصل إلينا علمه، ولكن حين ذهب كيث إلى برلين أخبره الملك بأنه تلقى توبيخاً من روسو (18).
وحين خيل لجان-جاك أنه ضمن بيتاً يقيم فيه، أرسل إلى تريز لتلحق به. ولم يكن واثقاً من أنها ستأتي، لأنه أحس قبل ذلك بزمن طويل بفتور محبتها له، وعزا هذا إلى توقفه عن الاتصال الجنسي بها، لأن "الاتصال بالنساء كان يؤذي صحتي (19) ". فلعلها الآن تؤثر باريس على سويسرا. ولكنها حضرت. وكان لقاء ذرفا فيه الدموع وتطلعا أخيراً إلى بضع سنين ينعمان فيها بالسلام.
2 - روسو ورئيس الأساقفة
ولكن السنوات الأربع التالية كانت أشقى ما لقيا. ذلك أن قساوسة نوشاتل الكلفنين أدانوا روسو علانية بالهرطقة، وحظر القضاة بيع "إميل". واستأذن روسو راعي الكنيسة في موتيه في أن ينضم إلى شعب كنيسته، ربما ليهدئ ثائرة القساوسة، أو مدفوعاً برغبة صادقة في أتباع مبادئ كاهن سافوي، (أما تريز فظلت كاثوليكية)، فقبل واختلف إلى الكنيسة للصلاة، وتناول القربان "بعاطفة من القلب، وعيناي تملؤها دمع الحنان (20) ". وأعطى الساخرين منه سلاحاً باتخاذ الزي الأرمني-قلنسوة من فراء،
وقفطان، وحزام. وأتاح له الروب الطويل أن يستر آثار حصر البول الذي ابتلي به. وكان يختلف إلى الكنيسة في هذا الزي، وارتداه وهو يزور اللورد كيث، الذي لم يعلق عليه إلا بتحيته بعبارة (السلام عليكم). وواصل الإضافة إلى دخله بنسخ الموسيقى، ثم أضاف أليها الآن أشغال الإبرة، وتعلم صناعة الدنتلا. كنت أحمل كالنساء مخدتي في زياراتي، أو أجلس لأشتغل بالإبرة عند باب بيتي .. وأتاح لي هذا أن أنفق وقتي مع جاراتي دون أن أحي مللاً .. (21).
وأغلب الظن أن الناشرين أقنعوه في هذه الفترة (أواخر 1762) بأن يبدأ كتابه "اعترافات" وكان قد أقسم أن يعتزل التأليف، ولكن هذا لن يكون تأليفاً بقدر ما هو دفاع عن خلقه وسلوكه ضد عالم من الخصوم، لا سيما ضد تهم جماعة الفلاسفة وشائعات الصالونات. أضف إلى ذلك أنه كان مضطراً إلى الرد على عدد كبير من مختلف الرسائل. وقدم له النساء على الأخص بخوراً معزباً من إعجابهم الشديد، لا لتعاطفهن فحسب مع المؤلف المطارد لرواية مشهورة، بل لأن نفوسهن كانت تهفو للرجوع إلى الدين، ولم يرين في "كاهن سافوي" وصانعه عدواً حقيقياً للدين، بل المدافع الشجاع ضد إلحاد يشيع الكآبة في النفوس. لمثل هؤلاء النساء ولرجال عديدين، غدا أب الاعتراف، ومرشداً للنفوس الضمائر. وقد نصحهم بأن يقيموا على دين شبابه أو يعودوا إليه، ضاربين صفحاً عن كل الصعوبات التي يوحي بها العلم الفلسفة. فتلك العجائب البعيدة التصديق ليست هي الجوهر، ولا ضير في تنحيتها في صمت، إنما العبرة بالإيمان بالله وبالخلود، فبهذا الأيمان والرجاء ستطيع الإنسان أن يتسامى فوق كل كوارث الطبيعة التي لا تفهم، وكل آلام الحياة وأحزانها. وطلب كاثوليكي شاب متمرد على دينه تعاطف روسو، فأجابه روسو ناسياً تمرداته ألا يهتم كثيراً بالتوافه العارضة. "لو أنني ولدت كاثوليكياً لظللت كاثوليكياً، علماً بأن كنيستك تضع قيداً صحيحاً على شطحات العقل الذي لا يجد قراراً ولا شاطئاً حين يريد سبر أعماق الأشياء السحيقة (22) ". وأشار على جل طلاب الحكمة هؤلاء
بالهروب من المدينة إلى الريف، ومن التكلف والتعقد إلى البساطة الطبيعية للحياة، والرضا الهادئ بالزواج والأبوة.
وأحبت النساء اللاتي صدمهن القساوسة المتعلقون بالحياة الدنيا ورؤساء الدين المتشككون، هذا المهرطق الزاهد الذي ندد به جميع الكنائس، وإن اقتصر هذا الحب على الرسائل. فقالت مدام دبلو، النبيلة المحترمة، لجماعة من النبلاء والنبيلات، "ما من شيء يمنع امرأة ذات حس مرهف صادق من تكريس حياتها لروسو إلا أسمى ضروب العفة، لو كانت واثقة من أنه سيحبها حباً حاراً (32). وحسبت مدام دلاتور بعض ما جاء في خطاباته لها من مجاملات اعترافاً بالحب، فاستجابت في رقة وحرارة وتدفق وبعثت إليه بصورتها، مؤكدة أنها لا تنصفها. وابتأست حين أجاب بهدوء رجل لم يرها قط (24). إلا أن معجبات أخريات تمنين لو قبلن الأرض التي يمشي عليها، وأقامت بعضهن مذابح له في قلوبهن، ودعاه بعضهن المسيح المولود من جديد. وكان يصدقهن أحياناً، ورأى في نفسه المؤسس المطلوب لدين جديد (25).
وسط هذا التمجيد كله، أثار الشعب عليه كاهن أعلى من كهنة التمويل (الهيكل) -كأنما لتأكيد القياس-ليدينوه ثائراً خطراً. ففي 20 أغسطس 1762 أصدر كرستوف دبومون، رئيس أساقفة باريس، رسالة لجميع الكهنة في أسقفيته ليقرئوا على شعبهم، ويعلنوا على الملأ، اتهامه لإميل ذات التسع والعشرين صفحة. وكان رجلاً صارم العقيدة طاهر السمعة، حارب الجانسنيين والموسوعية والفلاسفة؛ وبدا له الآن أن روسو، بعدما ظهر من انفصاله عن الملحدين، صد أنظم إليهم في مهاجمة الإيمان الذي يرتكز عليه في رأي رئيس الأساقفة نظام فرنسا الاجتماعي كله وحياتها الأخلاقية بأسرها.
واستهل اتهامه بالاستشهاد لما جاء في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس:
"ستأتي أزمنة صعبة لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم .. متعظمين،
مستكبرين، مجدفين .. غير طائعين لوالديهم متصلفين، محبين للذات، دون محبة الله
…
أناس فاسدة أذهانهم ومن وجهة الإيمان مرفوضون (26) ".
وهاهي قد جاءت تلك الأزمنة ما في ذلك شك:
"إن الكفر الذي تشجعه جميع الشهوات يلبس كل لبوس ليكيف نفسه على نحو ما وفق جميع الأعمار، والأشخاص والطبقات
…
فقد يستعير أسلوباً خفيفاً لطيفاً لعوباً، ومن هنا الحكايات الكثيرة التي تستوي بذاءة وزندقة (روايات فولتير)، وترفه عن الخيال لأنها غواية للعقل ومفسدة للقلب. وقد يدعي الرجوع إلى الأصول الأولى للمعرفة متظاهراً بعمق آرائه وسموها، ويزعم له سنداً إليها، لكي يخلع نيراً يقولون إنه يجلل البشر بالعار. وقد يعلوا صوته كأنه امرأة غضبى فيهاجم الغيرة الدينية، ومع ذلك يبشر بالتسامح الشامل بحماسة. وقد يمزج الجد بالهزل في جمعه بين هذه الأساليب الكلامية المختلفة، ويخلط الحكم بالفحش، والحقائق الكبيرة بالأخطاء الكبيرة، والإيمان بالتجديف، ويأخذ على عاتقه-باختصار-التوفيق بين النور والظلمة، وبين المسيح وبليعال" (27).
وقال رئيس الأساقفة أن هذه الطريقة لجأ إليها إميل بصفة خاصة، فهو كتاب حفل بلغة الفلسفة دون أن يكون فلسفة حقاً، وطفح بنتف من المعرفة لم تثر المؤلف، وكل ما تفعله أنها تربك قراءه لا محالة. أنه رجلٌ مولع بمفارقات الآراء والسلوك، يجمع بين بساطة العادات وخيلاء الفكر، بين الحكم القديمة وجنون التجديد؛ وبين احتجاب عزلته ورغبته في أن تعرفه الدنيا بأسرها. إنه يندد بالعلوم، ثم يصادقها. إنه يمتدح روعة الإنجيل، ثم يدمر تعاليمه. لقد أقام نفسه معلماً للنوع الإنساني ليخدعه، ومرشداً للشعب ليضل العالم، ونبياً للقرن ليهدمه، فيالها من مغامرة (28).
وهال رئيس الأساقفة ما أقترحه روسو من إغفال ذكر الله أو يدين لإميل حتى يبلغ الثانية عشرة أو حتى الثانية عشرة، فمعنى هذا أن "الطبيعة
كلها تكون قد تحدثت عبثاً بعظمة الخالق .. وأن كل تعليم خلقي سيفقد مساندة الإيمان الديني. ولكن الإنسان ليس بطبيعته خيراً كما زعم المؤلف. فهو يولد ملوثاُ بالخطيئة الأصلية، وهو يشارك في إفساد البشرية العام. والمعلم الحكيم-وخير المعلمين كاهن ترشده النعمة الإلهية-يتوسل بكل وسيلة سليمة ليغذي دوافع الخير في الناس، ويقتلع دوافع الشر، ومن ثم فهو يطعم الطفل بلبن الدين الروحي، لكي ينمو نحو الخلاص .. وبهذا التعليم وحده يمكن أن يغدو الطفل عابداً مخلصاً للإله الحق، وواحداً من رعايا الملك الأوفياء (29). وأن الكثير من الخطايا والجرائم ليظل باقياً حتى بعد هذا التعليم المجتهد، فما بالك بها إذا حرم الطفل منه. إن سيلاً عارماً من الشر يغرق في هذه الحالة (30) ".
وقال رئيس الأساقفة في ختام كلامه إنه لهذه الأسباب:
"بعد استشارة عدة أشخاص عرفوا بورعهم وحكمتهم، وبعد التضرع لاسم الله القدوس، ندين هذا الكتاب لأنه يحوي تعليماً بغيضاً من شأنه أن يقلب القانون الطبيعي وأسس الدين المسيحي، وأن يرسي مبادئ تناقض تعليم الأناجيل الخلقي، وينحوا إلى تكدير سلام الدول. وتزعم الثورة على سلطان الملك، ولأنه يتضمن الكثير جداً من الدعاوى الباطلة المفترية المفعمة بالحقد على الكنيسة ورعاتها .. لذلك نحظر صراحة على جميع الأشخاص في أسقفيتنا أن يقرؤوا الكتاب المذكور أو يقتنوه، وإلا وقعوا تحت طائلة العقاب (31) ".
وطبع هذه الرسالة "بامتياز الملك" وسرعان ما وصلت إلى موتيه-ترافير. وقرر روسو أن يرد عليها، وهو الذي كان على الدوام مصمماً على الكف عن الكتابة. وقبل أن يضع قلمه (18 نوفمبر 1762) كان قد أطلق له العنان حتى بلغ الرد 128 صفحة، وطبع بأمستردام في مارس 1763، بهذا العنوان:"من جان-جاك روسو المواطن الجنيفي إلى كرستوف ديمومون رئيس أساقفة باريس". وسرعان ما أدانه برلمان باريس ومجمع جنيف. ورد روسو على الهجوم الذي شنه عليه مذهلا أوربا الكبيران
بالهجوم عليهما جميعاً. وراح الرومانسي الخجول الذي نبذ من قبل جماعة الفلاسفة يكرر الآن حججهم بجرأة مستهترة.
وأستهل رده بسؤال ما زال يسأله جميع الخصوم بعضهم لبعض في هذا الجدل الذي لا ينتهي. "لم يتحتم عليّ أن أقول أي شيء لك يا صاحب النيافة؟ وأي لغة مشتركة يمكننا أن نتحدث بها، وكيف نستطيع أن يفهم الواحد منا الآخر (32)؟ وأبدى أسفه لأنه ألف كتاباً على الإطلاق، وهو لم يفل إلا حين بلغ الثامنة والثلاثين، وقد جره إلى هذه الغلطة أنه لاحظ مصادفة ذلك "السؤال التعس" الذي وجهته أكاديمية ديجون، ودفعه نقاد المقال إلى الرد عليهم، ثم أفضى كل جدل إلى جدل جديد
…
فألفيتني، إن جاز التعبير أغدو مؤلفاً في سن يهجر فيها المؤلفون التأليف عادة .. ومنذ ذلك الحين إلى اليوم اختفت الراحة والأصدقاء (33) ". وزعم أنه في حياته كلها كان:
"أكثر حماسة مني استفادة .. ولكني كنت مخلصاً في كل شيء .. بسيطاً طيعاً، وإن كنت مرهف الحس ضعيفاً أفعل الشر كثيراً وأحب الخير دائماً .. أتبع عواطفي أكثر من مصالحي .. أخشى الله دون أن أخشى الجحيم .. أجادل في الدين ولكن دون إباحة. لا أحب الكفر ولا التعصب، ولكن أمقت المتعصبين أكثر مما أمقت الملحدين .. وأعترف بأخطائي لأصدقائي وأعلن آرائي للعالم كله (34) ".
وأحزنته إدانة الكاثوليك لإميل أقل مما أحزن إدانة الكلفنين. فهو الذي كان يعتز بلقبه "مواطناً جنيفياً" هرب من فرنسا أملاً في أن يتنفس في مسقط رأسه نسيم الحرية، وأن يجد من الترحيب ما يعزيه عما لقي من إذلال كثير. أما الآن "فمادا أقول؟ إن قلبي ينفلق؛ ويدي ترتعد، والقلم يسقط منها، وعليّ أن أصمت .. ويجب أن أجتر في الخفاء أشد أحزاني مرارة (35). فها هو الرجل الذي اجترأ في قرن اشتهر بالفلسفة، والعقل والإنسانية، على أن يدافع عن قضية الله، هاهو قد وسم؛ وحرم وطورد من بلد إلى بلد، ومن ملجأ إلى ملجأ، دون اكتراث لفقره، ولا رحمة
لأمراضه" ثم وجد ملاذاً آخر الأمر عند "ملك مستنير ذائع الصيت" وانزوى في قرية صغيرة رابضة بين جبال سويسرا، ظاناً أنه في النهاية، واجد العزلة والهدوء، ولكن طاردته حتى هناك لعنات الكهنة .. أن رئيس الأساقفة هذا "الرجل الفاضل، النبيل النفس، الكريم المحتد"، كان ينبغي أن يوبخ هؤلاء المضطهدين، ولكنه بدلاً من هذا أصدر الأذن في غير خجل، "وهو الذي كان يجب أن يدافع عن قضية المظلومين (36) .. "
وأحس روسو أن أشد ما ساء رئيس الأساقفة هو تعليم روسو أن الناس يولدون أخيار، أو غير أشرار على الأقل، وقد أدرك بومون أنه لو كان هذا حقاً، ولو لم يكن الإنسان ملوثاً منذ مولده بوراثته خطيئة آدم وحواء، لسقط التعليم بكفارة المسيح، وهذا لتعليم لب العقيدة المسيحية. ورد روسو بأن تعليم الخطيئة الأصلية لم يذكر بوضوح في أي مكان من الكتاب المقدس. وقد أدرك أن رئيس الأساقفة قد صدمه الاقتراح بتحايل تعليم الدين، فرد بأن تربية الأطفال على أيدي الراهبات والقساوسة لم تقلل من الخطيئة أو الجريمة، فهؤلاء الأطفال بعد أن يكبروا يفقدون خوفهم من الجحيم، ويؤثرون لذة صغيرة حاضرة على الجنة التي وعدوا بها. ثم ما بال هؤلاء القساوسة أنفسهم-أتراهم نماذج للفضيلة في فرنسا المعاصرة (37)؟ ومع ذلك "فأنا مسيحي، مسيحي بإخلاص، طبقاً لتعليم الإنجيل، لا مسيحي متلمذ للقساوسة، بل تلميذ للمسيح". ثم أضاف روسو وعينيه على جنيف "إنني في سعادة بالولادة في أقدس وأعقل دين في الأرض، ما زلت متعلقاً تعلقاً لا انفصام فيه بأيمان آبائي. وأنا مثلهم أتخذ من الأسفار المقدسة والعقل القواعد الوحيدة بأيماني (38)
…
" وأحس بلوم من أخبروه بأنه "مع أن كل أصحاب العقول الذكية يفكرون كما تفكر، فأنه ليس من الخير أن يفكر العوام على هذا النحو".
"ذلك ما يتصايحون به عليّ من كل جانب، ولعله ما كنت نفسكَ قائله لي لو كنا وحيدين في مكتبك. هكذا الناس، فهم يغيرون لغتهم مع ملابسهم، ولا يقولون الحق إلا وهم في أروابهم، أما في ثيابهم التي
يبدون فيها أمام الناس فلا يعرفون إلا أن يكذبوا. وهم ليسوا مخادعين غشاشين أمام وجوه البشر فحسب، بل إنهم لا يخجلون من أن يعقبوا كل من يأبون أن يكونوا غشاشين كذابين علانية مثلهم، مخالفين في ذلك ضمائرهم (39) ".
وهذا الخلاف بين ما نؤمن به وما نبشر به هو سر الفساد في الحضارة العصرية. أن هناك تحيزات ينبغي أن نحترمها على ألا تحيل التربية إلى خداع هائل وتقوض الأساس الخلقي للمجتمع (40). فإذا أصبحت هذه التحيزات قتالة فهل نسكت على جرائمها؟.
"لست أقول، ولا أرى، أن الدين الحسن لا وجود له
…
ولكن الذي أقول له .... أنه ما من دين من الأديان التي سادت لم يثخن الإنسانية بالجراح. وكل المذاهب عذب بعضها بعضاً وكلها قدم لله قربان الدم البشري. وأياً كان مبعث هذه التناقضات فهي قائمة، فهل من الإجرام الرغبة غب إزالتها (41)؟ ".
وقبيل ختام رده دافع روسو عن إميل دفاع المحب المتيم بكتابه، وتسائل لم لم يقم لمؤلفه تمثال.
"هبني ارتكبت بعض الأخطاء، لا بل كنت دائماً مخطئاً، أفلا شفاعة لكتاب يشعر المرء في كل جزء فيه-حتى في أغلاطه وحتى في الضرر الذي قد يكون فيه-بالحب الصادق للخير وبالغيرة على الحق؟ .. كتاب لا يشع غير السلام، واللطف، والصبر، وحب النظام، وطاعة القوانين في كل شيء، حتى في أمر الدين. كتاب تؤكد فيه قضية الدين تأكيداً رائعاً، وتحترم فيه مكارم الأخلاق احتراماً كبيراً .... ويصور الشر فيه على أنه حماقة، والفضيلة على أنها شيء محبب للنفوس
…
أجل، إنني لا أخشى أن أقولها .. فلو أن في أوربا حكومة وحدة مستنيرة حقاً .. لخلعت على مؤلف إميل أسباب التشريف العلنية، ولأقامت له تمثالاً
…
ولكن خبرتي الكبير بالبشر تمنعني من أن أتوقع تقديراً كهذا وأنا لم أعرفه معرفة تكفي لأن أتوقع ذلك الذي أتوه".
ولكنهم أقاموا له التماثيل.
3 - روسو والكلفنيون
لم يبتهج بخطاب روسو الذي وجهه إلى كرستوف بومون غير بعض أحرار الفكر في فرنسا وبعض المتمردين السياسيين في سويسرا. وجاءت من البروتستنت معظم الردود "المفندة" لدعاوى روسو والموجه إلى المؤلف. ورأى قساوسة جنيف الكلفنيون في الخطاب هجوماً على المعجزات وتنزيل الكتاب المقدس، والإغضاء عن هذه الهرطقات معناه التمهيد من جديد للخطر الذي عرضهم له دالامبير. وغضب روسو من إحجام الأحرار الجنيفيين عن الجهر بالدفاع عنه، فأرسل (12 مايو 1763) إلى مجلس جنيف الكبير يتخلى عن مواطنته.
وقد حضي عمله هذا ببعض التأييد المسموع في 18 يونيو رفع وفد إلى الرئيس الأول للجمهورية "احتجاجاً غاية في التواضع والاحترام من مواطني جنيف وسكان مدنها" شكا فيما شكا من مظالم، من أن الحكم الصادر على روسو غير قانوني، وأن مصادرة نسخ إميل من مكتبات جنيف كانت عدواناً على حقوق الملكية. ورفض مجلس الخمسة والعشرين الاحتجاج وفي سبتمبر أصدر المدعي العام، جان روبير ترونشان (أبن عم طبيب فولتير)، خطابات مكتوبة من الريف "للدفاع عن إجراءات المجلس المختلف عليها. وناشد "المحتجون" روسو الرد على ترونشاني. وإذ لم يكن بروسو أي نية في البعد عن الشر، فقد نشر (ديسمبر 1764) تسعة "خطابات مكتوبة من الجيل"-وهي رد من بيته الجبلي على أوليجاركية السهل الجنيفي. وكان ساخطاً أشد السخط على القساوسة والمجلس جميعاً، فهاجم الكلفنية كما هاجم الكاثوليكية، وأحرق بذلك معظم جسور من خلفه.
وقد وجه الخطابات من الناحية الشكلية لزعيم المحتجين. واستهلها بتناول الأذى الذي لحق به من جراء الإدانة المتعجلة لكتبه وشخصه، دون أن تتاح له أي فرصة للدفاع. واعترف بعيوب كتبه. "لقد وجدت أنا نفسي الأخطاء الكثيرة فيها. ولست أشك في أن غيري قد يرون فيها أخطاء أكثر
وأنه ما زالت هناك أخطاء أخرى لم أدركها لا أنا ولا غيري
…
فبعد الاستماع إلى الطرفين سيحكم الجمهور .. وسينجح الكتاب أو يسقط وتنتهي القضية عند هذا (43). ولكن أكان الكتاب مؤذياً؟ أيمكن أن يقرأ إنسان "هلويز الجديدة""وإعلان إيمان كاهن سافوي" ثم يعتقد حقاً أن مؤلفها قصد هدم الدين؟ صحيح أن الكتابين حاولا تدمير الخرافة لأنه شر بلاء رزئت به البشرية، ولأنها محنة الحكماء وأداة الطغيان (44). ولكن ألم يؤكد ضرورة الدين؟ إن المؤلف يتهم بعدم إيمانه بالمسيح، وهو مؤمن بالمسيح ولكن بطريقة مختلفة عن طريقة متهميه.
إننا نعترف بسلطان المسيح، لأن فكرنا يوافق على تعليمه ولأننا نجدها تعاليم سامية. ونحن نسلم بالوحي منبثقاً من روح الله، دون أن نعرف كيف .. وإذ نقر بسلطان إلهي في الإنجيل، فإننا نؤمن بأن المسيح بشر بهذا السلطان، ونحن نقر بفضيلة في سلوكه تفوق فضيلة البشر، وبحكمة في تعاليمه تفوق حكمة البشر".
وأنكر الخطاب الثاني حق مجلس مدني في الحكم في قضايا الدين (ناسيا العقد الاجتماعي). وفي إدانة إميل انتهاك لمبدأ أساسي من مبادئ حركة الإصلاح البروتستنتي، وهو حق الفرد في أن يفسر الكتاب المقدس لنفسه (45).
"لو برهنت لي اليوم في مسائل الدين مضطراً للإذعان لقرارات غيري، فسأتحول إلى الكاثوليكية غداً (46) ". وسلم روسو بأن دعاة الإصلاح البروتستنتي أصبحوا بدورهم مضطهدين للتفسير الفردي (47). ولكن هذا لا يبطل المبدأ الذي لولاه لكانت ثورة البروتستنت على السلطة البابوية ظالمة. واتهم القساوسة الكلفنيين (باستثناء راعي) بأنهم اعتنقوا روح الكاثوليكية المتعصب، ولو كانوا أوفياء لروح الإصلاح البروتستنتي لدافعوا عن حقه في نشر تفسيره الخاص للكتاب المقدس. وجاد الآن بكلمة ثناء على رأي دالامبير في قساوسة جنيف:
"أن أحد الفلاسفة يلقي عليهم نظرة عجلى، ثم يتغلغل إلى أعماقهم،
فيريهم أنهم أريوسيون، سوسينيون، فيقول هذا، ويحسب أنه بهذا القول يشرفهم ولكنه لا يدرك أنه يعرض مصالحهم الدنيوية للخطر، وهو الأمر الوحيد الذي يقرر على العموم إيمان البشر في هذه الدنيا (48) ".
وفي الخطاب الثالث تناول اتهامه برفض المعجزات. فنحن إن عرفنا المعجزة بأنها خرق لقوانين الطبيعة، فلن نستطيع أبداً أن نعرف هل الشيء معجزة أم غير معجزة، لأننا لا نعرف كل قوانين الطبيعة (49). فحتى في ذلك العصر كان كل يوم يشهد معجزة جديدة يحققها العلم، لا مخالفاً بذلك قوانين الطبيعة، بل بفضل معرفته بها معرفة أعظم.
كان الأنبياء في قديم الزمان يستنزلون النار من السماء بكلمتهم، أما اليوم فالأطفال يفعلون هذا بقطعة صغيرة من الزجاج (المشتعل). إن يشوع أوقف الشمس، وأي واضع للتقاويم يستطيع الوعد بمثل هذه النتيجة إذا حسب كسوف الشمس (50). وكما أن الأوربيين الذين يجرون عجائب كهذه بين الهمج يعدهم هؤلاء آلهة، فكذلك معجزات الماضي-حتى معجزات المسيح-ربما كانت نتائج طبيعية فسرتها الجماهير خطأ بأنها تعطيلات إلهية للقانون الطبيعي (51). ولعل لعازر الذي أقامه المسيح من بين الأموات لم يكن في حقيقة الأمر ميتاً. ثم، كيف أن تثبت معجزات معلم صدق تعليمه، إذ كان معلمو التعاليم المعتبرة عموماً تعاليم كاذبة قد أجروا معجزات قيل إنها أيضاً حقيقية، كما حدث حين بارى سحرة مصر هارون في تحويل هارون في تحويل العصي إلى حيات؟ (52). أن المسيح حذر من "المسحاء الكذبة" الذين يعطون آيات عظيمة وعجائب (53).
كان روسو قد بدأ خطاباته بغرض مساعدة المحتجين من رجال الطبقة الوسطى، ولم يطلب توسيعاً لحق الانتخاب في اتجاه ديمقراطي، لا بل إنه في الخطاب الرابع يلتزم بالرأي بأن الأرستقراطية المنتخبة هي خير أشكال الحكم، وأكد لحكام جنيف أن المثل الأعلى الذي رسمه في "العد الاجتماعي" كان في صميمه متفقاً مع الدستور الجنيفي (54). ولكن في الخطاب السابع أخبر أصدقاءه من البرجوازية المحتجة أن الدستور لا يقر سيادة المواطنين
ذوي الحقوق الانتخابية إلا خلال الانتخابات للمجلس العام ومؤتمره السنوي، أم في باقي السنة فالمواطنون مجردون من السلطة. وفي تلك الفترة الطويلة كلها يكون مجلس الخمسة والعشرين الصغير هو الحكم الأعلى في القوانين، وفي مصير جميع الأفراد تبعاً لذلك، والواقع أن المواطنين والبرجوازيين الذين يبدون أصحاب سيادة في المجلس العام، يصبحون بعد فضه عبيداً لسلطة استبدادية بغير دفاع لرحمة خمسة وعشرين مستبداً (56).
وكان هذا أقرب إلى الدعوة للثورة. ولكن روسو استنكر هذا الملجأ الأخير. ففي خطابه الأخير أثنى على البرجوازية باعتبارها أعقل طبقة في الدولة، وأكثرها حباً للسلام، محصورة بين طبقة أشراف غنية ظالمة، وجماهير متوحشة غبية (57). ولكنه نصح المحتجين بالصبر والمصابرة، وبأن يركنوا إلى العدالة والزمن لينصفاهم من مظالمهم.
وأغضبت "خطابات الجبل" هذه أعداء روسو وساءت أصدقاءه .. وأفزعت هرطقاته القساوسة الجنيفيين، وزادهم فزعاً ادعاؤه أنهم يشاطرونه إياها. فأنقلب الآن عنف على القساوسة الكلفنيين ورماهم بأنهم "رعاع غشاشون، بطانة غبية، وذئاب مسعورة". "وأعرب عن إيثاره للكهنة الكاثوليك البسطاء في القرى والمدن الفرنسية (58). ولم يستعن "المحتجون" بالخطابات في حملتهم الناجحة لنيل المزيد من السلطة السياسية؛ واعتبروا روسو حليفاً خطراً لا يركن إليهم، فاعتزم ألا يشارك بعدها بأي نصيب في السياسة الجنيفية".
4 - روسو وفولتير
كان قد تساءل في الخطاب الخامس، لم لم يوحِ "المسيو فولتير" الذي "طالما زاره" أعضاء المجلس الجنيفيون، لهم "بروح التسامح تلك التي لا يني عن التبشير بها، والتي يحتاج هو إليها أحياناً؟ وأجرى على لسان فولتير حديثاً خيالياً (59) يحبذ فيه حرية الكلام للفلاسفة بحجة أن قلة لا تُذكر
هي التي تقرأ لهم. وكان تقليده لأسلوب فولتير الخفيف الرشيق بارعاً. ولكنه صور حكيم فرنيه معترفاً بتأليفه لكتاب نشر حديثاً اسمه "عظة الخمسين" وكان فولتير أنكر أبوته غير مرة لأنه زخر بالهرطقات. ولا ندري أكان كشف روسو للسر متعمداً خبثاً؟ على أي حال هذا ما رآه فولتير، وحنق منه أشد الحنق، لأنه عرضه لإمكان طرده من فرنسا من جديد، في الوقت الذي كان مستقراً فيه في فرنية.
وصاح حين قرأ الخطاب الواشي "يا للمجرم! يا للوحش! كان يجب أن أضربه بالنبوت-نهم، سآمر بضربه بالنبوت في جباله عن ركبتي مربيته؛ " وقال متفرج "أرجو أن تهدئ روعك، لأني أعلم أن روسو ينوي أن يزورك، وسيكون في فرنية قريباً جداً" .. وصاح فولتير وقد بدت عليه نية الأذى "آه، فليأتِ فقط".
"ولكن كيف ستستقبله؟ ".
"سأقدم له العشاء، وأعطيه فراشي، وأقول له هاك عشاء طيباً، وهاهو أفضل فراش في البيت؛ فتفضل بقبول الاثنين وانعم بالسعادة هنا (60) ".
ولكن روسو لم يحضر. وثأر فولتير لنفسه بإصداره (31 ديسمبر1764) كتيباً بقلم مجهول، سماه "عواطف المواطنين" هو لطخة من أشد اللطخ التي تلوث خلقه ومهنته سواداً. ولا بد من نقل ما جاء به ليصدق القارئ:
"أننا نرثي للأحمق، ولكن حين تستحيل حماقته جنوناً فأننا نوثق رباطه. ذلك أن التسامح-وهو فضيلة-يصبح عنها رذيلة ..... لقد غفرنا لهذا الرجل رواياته، التي آذى فيها اللياقة والحياء كما آذى المنطق السليم. وحين خلط الدين بقصصه، اضطر قضاتنا إلى محاكاة قضاة باريس .... وبرن
…
واليوم ألا يفرغ الصبر حين ينشر كتاباً جدياً يعتدي فيه اعتداءاً مجنوناً على الدين المسيحي، وعلى الإصلاح البروتستنتي الذي يدعيه، وعلى كل خدام الإنجيل المقدس وكل هيئات الدولة؟ -إنه يقول بجلاء، وبسمه
صراحة، ليس في الإنجيل معجزات نستطيع أخذها حرفياً دون أن نطلق عقولنا .... "
"أهو عالم يجادل العلماء؟ لا
…
بل رجل مازال يحمل آثار فجوره المخزية
…
ويجر معه من بلد إلى بلد، ومن جيل إلى جيل، المرأة التعسة التي كان سبباً في موت أمها، والتي ألقى بأطفالها على باب مستشفى
…
جاحداً كل مشاعر الطبيعة، كإنكاره لمشاعر الشرف والدين
…
"
"أيريد أن يطيح بدستورنا بتشويهه، كما يريد أن يطيح بالمسيحية التي يدعيها؟ يكفي أن ينذر بأن المدينة التي يزعجها تنكره ...... فإذا ظن أنها تمتشق الحسام (أي تقوم بثورة) بسبب (إدانة) إميل، فليضف هذه الفكرة إلى سخافاته وحماقاته .. ولكن يجب أن يخبر بأننا إن ترفقنا في عقاب رواية فاجرة، فإننا سنقسو في عقاب خائن لئيم (61) ".
وكان هذا الكلام فعلة مخزية لا يشفع لها غضب فولتير ولا أمراضه ولا شيخوخته، (وكان الآن في السبعين).
لأعجب إذا كان روسو لم يصدق قط (وحتى في يومنا هذا لا نكاد نصدق) أن فولتير هو كاتبه، بل نسبه إلى القس الجنيفي فيرن، الذي أكد عبثاً أنه ليس كاتبه. وأذاع روسو في لحظة من أجمل لحظاته رداً على "العواطف" (يناير 1765):
"أريد أن أدلي ببساطة بالتصريح الذي يبدو أنه مطلوب مني بهذا المقال. فما من علة صغيرة أو كبيرة، كما يدعي المؤلف، قد لوثت قط جسدي. والعلة التي أصابتني ليس هناك أدنى شبه بينها وبين تلك المشار إليها فقد ولدت معي، ويعرف الذين رعوني في طفولتي، الباقون على قيد الحياة. وهي معروفة للسيدات مالوان، وموران، وتيري، وداران
…
فإذا وجدن في هذه العلة أقل أمارة من أمارات الفجور، فأني أرجوهن أن يلعنني ويفضحنني .. والمرأة العاقلة التي يقدرها العالم، والتي تعنى بي في كوارثي .. لا يشقيها إلا مشاطرتها لشقائي. أما أمها فهي في
الواقع فياضة بالحياة، وفي صحة سابغة، رغم شيخوختها (فقد عمرت إلى الثالثة والتسعين). ولم ألق قط، ولا تسببت في إلقاء على باب مستشفى ولا في أي مكان آخر
…
ولن أزيد .. اللهم إلا القول بأنني حين يحضرني الموت أؤثر أن أكون قد ارتكبت ما يتهمني به المؤلف، عن أن أكون كاتب كتيب كهذا .. (62) "
ومع أن تسليم روسو أطفاله لملجأ للقطاء (لا إلقاءهم في العراء بالضبط) كان موضوعاً يعرفه المقربون في باريس (فقد اعترف به للمرشالة لكسمبورج)، فإن نشر فولتير كانت أول إفشاء علني لهذا السر. وخامر جان-جاك الظن في أن مدام ديينيه أفشته عند زيارتها لجنيف، واقتنع الآن بأنها هي وجريم وديدرو كانوا يأتمرون لتشويه سمعته. وقد هاجم جريم روسو في هذه الفترة غير مرة في "الرسائل الأدبية (63) ". وفي خطابه المؤرخ 15 يناير 1765 في معرض الحديث عن "خطابات من الجبل" انظم إلى فولتير في اتهام روسو بالخيانة:"إن وجد في أي مكان على الأرض جريمة تدعى الخيانة العظمى، فهي ولا ريب في مهاجمة الدستور الأساسي لدولة بالأسلحة التي أستخدمها روسو ليطيح بدستور وطنه".
والشجار الطويل الذي نشب بين فولتير وروسو من أفجع اللطخ التي لوثت وجه حركة التنوير. لقد باعد بينهما مولدهما ومركزهما. ففولتير، ابن الموثق الموسر، تلقى تعليماً حسنناً، لا سيما في الدراسات القديمة؛ أما روسو المولود في أسرة فقيرة وشيكة التفكك، فلم يتلقَ أي تعليم نظامي، ولم يرث أي تقليد كلاسيكي، وقد قبل فولتير القواعد الأدبية التي وضعها بوالوا-"أحب العقل، ولتستقِ كل كتاباتك من العقل بهائها وقيمتها (64) ". أما في رأي روسو (كما في رأي فاوست وهو يغوي مارجريت بروسو) فإن "الوجدان كل شيء (65) ". وكان فولتير لا يقل عن جان-جاك حساسية وسرعة انفعال، ولكنه عادة كان يرى من سوء الأدب أن يترك الانفعال يشوه فنه، وقد اشتم في دعوة روسو للوجدان والغريزة لا عقلية فوضوية فردية تبدأ بالثورة وتنتهي بالدين. وقد شجب فولتير بسكال، أما روسو
فردده كالصدى. وكان فولتير يعيش كما يعيش أصحاب الملايين، أما روسو فكان ينسخ الموسيقى ليكسب قوته. وكان فولتير خلاصة كل لطائف المجتمع، أما روسو فكان يشعر بالقلق في المجتمعات، وكان أقل صبراً وأضيق صدراً من أن تحتفظ بصداقة صديق. وكان فولتير أبن باريس، وربيب مرحها وترفها، أما روسو فكان طفل جنيف، برجوازياً مكتئباً، وبيورتانياً يكره تميز الطبقات الذي يجرحه، وألوان البذخ التي لا قدرة له على الاستمتاع بها، ودافع فولتير عن الترف لأنه يداول مال الأغنياء بتشغيل الفقراء، أما روسو فأدانه لأنه "يطعم مائة فقير في مدننا ويسبب هلاك مائة ألف في قرانا (66) " وذهب فولتير إلى أن آثام الحاضرة ترجحها فنونها وما توفره من أسباب الراحة، أما روسو فكان لا يشعر بالراحة في أي مكان، ويندد بكل شيء تقريباً. وأصغى المصلحون إلى فولتير، وأستمع الثوار إلى روسو.
إن هوراس وليلول حين قال إن "هذه الدنيا ملهاة لمن يفكروا، ومأساة لمن يشعرون (67) ". أجمل في سطر واحد؛ على غير قصد منه؛ حياة أعظم عقلين من عقول القرن الثامن عشر تأثيراً في الناس.
5 - بوزويل يلتقي بروسو
في رواية بوزويل لزيارات خمس قام به لجان-جاك في ديسمبر 1764 تصوير غاية في اللطف لروسو. فلقد أقسم ذلك المعجب الذي لا مهرب منه يميناً مغلظة (21 أكتوبر) أنه "لن يكلم ملحداً؛ ولن يتمتع بامرأة؛ قبل أن يلقى روسو (68) " وفي 3 ديسمبر شد رحاله من نوشاتل إلى موتييه-ترافير. وحين بلغ برو في منتصف الطريق وقف بنزل وسأل ابنة صاحبه ماذا تعرف عن فريسته. وكان جوابها مقلقاً:
"إن المسيو ورسو يحضر هنا كثيراً ويمكث أياماً مع مدبرة بيته؛ الآنسة ليفاسير. وهو رجل لطيف جداً؛ له وجه جميل؛ ولكنه لا يحب أن يأتي الناس ويحملقوا فيه كأنه رجل له رأسان. يا للسماء! أن فضول
الناس لا يصدق؛ أن كثيرين؛ كثيرين يأتون ليروه؛ وكثيراً ما يرفض لقاءهم. إنه مريض، ويكره أن يزعجه أحد (69) ".
ولكن بوزويل واصل رحلته بالطبع. وفي موتييه نزل بفندق القرية.
"وأعددت خطاباً لمسيو روسو أخبرته فيه أن سيداً أسكتلندياً عتيق الطراز في الرابعة والعشرين قدم بأمل لقائه. وأكدت له أنني جدير باحترامه
…
وفي خاتم خطابي بيت له أن لي قلباً وروحاً
…
والخطاب آية في بابه حقاً. وسأحتفظ به ما حييت برهاناً على أن في قدرة روحي أن تتسامى (70) ".
وكان خطابه-الذي كتبه بالفرنسية-مزيجاً بارعاً من السذاجة المتعمدة والإعجاب الذي لا يرد:
"إن كتاباتك يا سيدي أذبلت قلبي. ورفعت روحي. وألهبت خيالي. صدقني سيبهجك أن تلتقي بي. إيه يا سان-برو العزيز! أيها المعلم المستنير! أي روسو البليغ المحبوب! يحدثني قلبي بأن صداقة شريفة حقاً ستولد اليوم .. لدي الكثير الذي أحدثك به. ومع أنني لسن إلا شاباً فقد خبرت من ألوان الحياة ما سيدهشك
…
ولكني أتوسل إليك أن تلقاني وحدك
…
ولا أدري هلا أفضل أن ألقاك إطلاقاً من أن ألقاك أول مرة في صحبة. وأني مترقب ردك بفارغ الصبر (71).
وأرسل له روسو كلمة يقول إن في استطاعته الحضور إذا تعهد بأن تكون زيارته قصيرة. وذهب بوزويل "مرتدياً سترة وصدرية بدانتيللا مذهبة، وبنطلون ركوب من جلد الغزال، ومنتعلاً حذاءاً طويلاً. وفوق ذلك كله لبس معطفاً كبيراً من وبر الجمل الأخضر المبطن بفراء الثعلب". وفتحت تريز الباب "فتاة فرنسية قصيرة رشيقة أنيقة". وقادته صعداً إلى روسو-رجل ظريف أسمر اللون في زي الأرمن
…
وسألته عن صحته فقال: "مريض جداً ولكني طلقت الأطباء". وأعرب روسو عن إعجابه
بفردريك وازدرائه للفرنسيين-"شعب جدير بالاحتقار، ولكنك ستجد نفوساً عظيمة في أسبانيا". بوزويل: " وفي جبال اسكتلندا". وقال روسو عن اللاهوتيين أنهم "سادة يقدمون تفسيراً جديداً لشيء من الأشياء ويتركونه مغلقاً على الإفهام كما كان". وناقشا أحوال كورسيكا، وقال روسو أنه قد طلب إليه أن يشرع لها قوانين، وبدأ بوزويل تحمسه الدائم لاستقلال كورسيكا. ثم صرفه روسو بعد قليل، قائلاً أنه يود التمشي منفرداً.
وفي 4 ديسمبر استأنف بوزويل الحصار. وتحدث معه روسو مليا، ثم صرفه: إنك "تزعجني. هذا طبعي ولا حيلة لي فيه". بوازيل: "أرفع الكلفة معي". روسو "أمضي". وصحبت تيريزا بوازوبل إلى الباب وقالت له "لقد عشت مع المسيو روسو اثنين وعشرين عاماً، ولن أتخلى عن مكاني لأكون ملكة فرنسا. وأنا أحاول الانتفاع النصيحة الطيبة التي يسديها إليّ. وإذا مات سأضطر إلى دخول الدير (71).
وطرق بوازيل الباب مرة أخرى في 5 ديسمبر. وتأوه روسو "يا سيدي العزيز، يؤسفني عجزي عن التحدث إليك كما أشتهي" بوزويل: بحي هذه الأعذار وأثار الحديث بقوله: لقد اعتنقت الكاثوليكية وأنوي الاختفاء في دير روسو يل للحماقة! .. بوزويل: "أخبرني بحق أأنت مسيحي؟ " وقرع روسو صدره وأجاب: "نعم إنني أعتز بأني مسيحي". بوزويل (الذي كان مصاباً بالاكتئاب) قل لي: هل تعاني من الاكتئاب؟ روسو: لقد ولدت هادئا، وليس بي ميل طبيعي للاكتئاب. لقد أصابتني به الكوارث التي حلت بي. بوزويل: ما رأيك في الأديار، والكفارات، والعلاجات التي من هذا النوع؟ روسو: كلها سخافات. بوزويل: هل لك يا سيدي أن تضطلع بإرشادي الروحي؟ روسو: لا أستطيع. بوزويل: سأعود. روسو: لا أعد بلقائك. إنني أعاني ألماً، إنني أحتاج إلى مبولة كل دقيقة (73).
في عصر ذلك اليوم، في بيت القرية كتب بوزويل في أربع عشرة
صفحة مجملاً لحياتي وبعث به إلى روسو. وقد اعترف فيه بحادث زنا أتاه، وسأل روسو ألا يزال في إمكاني أن أجعل نفسي رجلاً؟ وعاد إلى نوشاتل، ولكنه كان بباب روسو مرة أخرى في 14 ديسمبر وأخبرته تريز أن سيدها مريض جداً، وأصر بوزويل، واستقبله روسو "ووجدته جالساً وهو في غاية الألم". روسو: لقد غلبتني العلل، وخيبات الأمل، والحزن. إنني أستعمل مجساً. كل إنسان يعتقد أن من واجبي أن أصغي له .. عد في العصر. بوزويل: وكم تطول زيارتي؟ روسو: "ربع ساعة، لا أكثر. بوزويل: عشرين دقيقة. روسو: هيا انصرف. ولكنه لم يتمالك نفسه من الضحك.
وعاك بوزويل في الرابعة وهو يحلم بلويس الخامس عشر. "إن الأخلاق تبدو أي أمراً غير يقيني. فأنا مثلاً أحب أن يكون لي ثلاثون امرأة. ألا أستطيع أن أشبع تلك الرغبة؟ لا. ولكن انظر، لو كنت غنياً لاستطعت أن تتخذ عدداً من الفتيات، وأحبلهن، وبهذا يزداد النسل. ثم أعطيهن مهوراً، وأزوجهن لفلاحين طيبين سيسعدون جداً بالزواج منهن. وهكذا يصبحن زوجات في نفس السن التي كن يتزوجن فيها لو ظللن أبكاراً، وأكون أنا من ناحيتي قد أفدت بالاستمتاع بعدد كبير من مختلف النساء. فلما لم يقع من نفس روسو هذا الفرض الملكي، سأله "أخبرني من فضلك كيف أكفر عن الشر الذي ارتكبته؟ " وأجاب روسو جواباً ذهبياً "ليس هناك تكفيراً عن الشر إلى الخير (74)". وطلب بوزويل إلى روسو أن يدعوه للغداء، وقال روسو "غداً" وعاد بوزويل إلى الفندق منتعشاً غاية الانتعاش.
وفي 15 ديسمبر تناول الطعام مع جان-جاك وتريز في المطبخ، وقد وجده نظيفاً مشرقاً. وكان روس رائق المزاج، ولم تبدُ عليه علامات الاضطراب العقلية التي ستظهر فيما بعد. وكان كلبه وقطعته على وفاق مع بعضهما البعض ومعه. "ووضع بعض الطعام على صينية خشبية، وجعل كلبه يرقص حوله وغنى روسو .. لحناً مرحاً بصوت
رخيم وذوق رفيع. وتحدث بوزويل في الدين .. "أن الكنيسة الأنجليكانية أفضل المذاهب عندي. روسو: نعم، ولكنها ليست الإنجيل. ألا تحب القديس بولس؟ إنني أحترمه، ولكني أحسبه مسئولاً إلى حد ما عما في رأسك من اختلاط. لو عاش لكان قسيساً أنجليكانياً.
الآنسة ليفاسير: استلقى المسيو دفولتير يا سيدي؟ بوزويل: بكل تأكيد. ثم إلى روسو: أن المسيو دفولتير لا يحبك. روسو: أن المرء لا يحب من أذاهم أذى شديداً. أن حديثه ممتع جداً، لا بل إنه بفضل كتبه. وطال بوزويل المكث فوق ما تحتمله الضيافة، ولكن حين ودع "قبلني روسو مرات، وضمني بين ذراعيه بود رقيق". فلما وصل بوزويل إلى الفندق قالت ربته سيدي: أضنك كنت تبكي. ويضيف إنني أحتفظ بذكرى هذه الكلمات إطراءً صادقاً لإنسانيتي (75).
6 - دستور لكورسيكا
بعد أن زار بوزويل فولتير في فرنيه، مضى في رحلته إلى إيطاليا ونابلي وكورسيكا، ربما بحث من روسو. وكانت كورسيكا بزعامة باسكالي دي باولي قد حررت نفسها من سيطرة جنوة (1755) ورحب روسو في "العقد الاجتماعي" من قبل بمولد الدولة الجديدة.
"ما زال في أوربا بلد واحد مفتوح للمشرع. إنه جزيرة كورسيكا. والبسالة والإصرار اللذان برهن بهما هذا الشعب الشجاع على قدرته على استرداد حريته والدفاع عنها يستحقان المعونة من إنسان حكيم يعلمهم كيف يحتفظون بها. ونفسي تحدثني بأن هذه الجزيرة الصغيرة سوف تدهش أوربا يوماً ما (76) ".
ولو أخذ رأي فولتير لرأى أن روسو آخر رجل في أوربا يصح دعوته للتشريع. ولكن الذي حدث أن جان-جاك تلقى في 31 أغسطس 1764 الخطاب الآتي من ماتيو بوتافوكو، المبعوث الكورسيكي لدى فرنسا:
"لقد ذكرت كورسيكا يا سيدي في "عقدك الاجتماعي" على نحو يتيه به وطننا. وهذا الثناء من قلم مخلص كل الإخلاص كقلمك
…
أوحى بالرغبة القوية في إنك يمكن أن تكون المشرع الحكيم الذي يعين الأمة على الحفاظ على الحريات التي اقتنتها بدم كثير. وإني أدرك بالطبع أن المهمة التي أجرؤ على الإلحاح عليك في الاضطلاع بها تحتاج إلى معرفة خاصة بالتفاصيل
…
ولكنك إن تفضلت أن تقبل المهمة فسأزودك بكل المعرفة الضرورية لإنارتك. وسيبذل المسيو باولي
…
قصاراه ليرسل إليك من كورسيكا كل المعلومات التي قد تحتاج إليها. ويشاطرني رغبتي هذا الزعيم المرموق، لا بل جميع إخواني المواطنين الذين أتيح لهم الإطلاع على أعمالك، ويشاركني مشاعر الاحترام التي تشعر بها أوربا كلها نحوك، والتي أنت أهل لها لأسباب كثيرة جداً (77) ".
ورد روسو (15 أكتوبر 1764) بقبول المهمة، وطلب تزويده بالمعلومات عن طبيعة الشعب الكورسيكي، وتاريخه، ومشاكله. واعترف بأن العمل قد يكون "فوق طاقتي وإن لم يكن فوق تحمسي". ثم كتب إلى بوتافيوكو، في 26 مايو 1765 يقول:"غير إني أعدك أنه لن يكون لي اهتماماً فيما بقي لي من أجل غير نفسي وكورسيكا، وكل ما عدا ذلك من أمور سأقصيه عن أفكاري (78) ". ثم عكف من فوره على وضع "مشروع دستور لكورسيكا".
واقترح روسو في مشروعه و"العقد الاجتماعي" في ذاكرته، أن يوقع كل مواطن على تعهد ملزم لا رجعة فيه بوضع نفسه-"جسدي وأملاكي وإرادتي، وكل قدراتي"-تحت تصرف الأمة الكورسيكية (79). وحيا "الكورسيكيين البواسل" الذين ظفروا باستقلالهم، ولكنه نبههم إلى أن فيهم رزائل كثيرة-كالكسل، وقطع الطريق، والعداوات، والوحشية-ومعظمها ناجم عن كراهيتهم لسادتهم الأجانب. وخير علاج لهذه الرذائل أن يعيشوا عيشة زراعية خالصة. وينبغي أن توفر القوانين كل إغراء للشعب ليلزم الأرض بدلاً من التجمع في المدن، فالزراعة تعين على الخلق الفردي
والصحة القومية، أما التجارة بأنواعها والمالية فتفتح الأبواب لكل ضروب الغش والاحتيال، ويجب على الدولة ألا تشجعها. ويجب أن يكون السفر كله على الأقدام أو على ظهور الدواب، وأن يكافأ الزواج المبكر والأسرة الكبيرة؛ وأن تسقط المواطنة عن الرجال الذين يظلون عزاباً إلى الأربعين. ويجب خفض الملكة الخاصة وزيادة ملكية الدولة. "بودي أن أرى الدولة المالك الوحيد؛ ولا يصيب الفرد من الملكية المشتركة إلا بنسبة خدماته (80) "، وينبغي إلزام السكان بفلاحة أراضي الدولة إذا اقتضى الأمر، وأن تشرف الحكومة على التعليم كله، وعلى الآداب العامة كلها؛ وأن تشكل الحكومة نفسها على غرار الولايات السويسرية (الكنتونات).
وفي 1768 اشترت فرنسا كورسيكا من جنوه؛ وجردت عليها جيشاً؛ وعزلت باولي، وأخضعت الجزيرة للقانون الفرنسي. وكف روسو عن المضي في مشروعه؛ وندد بالغزوة الفرنسية لأنها انتهاك "لكل عدل؛ وإنسانية؛ وحق سياسي، وتفكير سليم (81) ".
7 - اللاجئ
ظل روسو عامين يحيا حياة متواضعة هادئة في موتييه؛ يقرأ؛ ويكتب ويرعى مرضه، ويعاني من إصابة بعرق النسا (أكتوبر 1764)؛ ويحتفي بالزوار الذين تجيزهم تريز بعد الفحص. وقد وصفه أحدهم وصف عارف بالجميل فقال:
"أنك لا تتصور أي سحر في الاجتماع به؛ ولا أي أدب صادق في سلوكه؛ ولا أي عمق في سلوكه؛ ولا أي عمق من الهدوء والبشاشة في حديثه. ألم تتوقع صورة مغايرة تماماً لهذه الصورة؛ وألم تصور لنفسك مخلوقاً غريب الأطوار؛ جاداً دائماً لا بل فظاً أحياناً؟ فيا لها من غلطة! إنه يجمع إلى سمات اللطف الكثيرة نظرة من نار؛ وعينين لم ير قط مثل لحيويتيهما. فإذ تناولت موضوعاً يهتم به، تكلمت عيناه، وشفتاه، ويداه-وكل ما فيه. وأنت تخطئ كل الخطأ أن تصورته إنساناً لا يكف عن التذمر. فهو على النقيض يضحك مع الضاحكين ويثرثر ويمزج مع الأطفال؛ ويسخر من مديرة منزله (82) ".
ولكن القساوسة المحليين كانوا قد اكتشفوا ما في "إميل" و"خطابات الجبل" من هرطقات، ورأوها فضيحة أن يمضي هذا الوحش في تلويث سويسرا بوجوده فيها. ورغبة في تهدئة ثائرتهم عرض (10 مارس 1765) أن يتعهد، في وثيقة رسمية "بألا ينشر أبداً أي كتاب جديد في أي موضوع ديني، لا بل أن يتناوله عرضاً في أي كتاب جديد آخر
…
وأكثر من ذلك أنني سأظل شاهداً، بمشاعري وسلوكي، بالقيمة العظمى التي أعلقها على سعادة الاتحاد بالكنيسة (83)". واستدعاه مجمع كنيسة نوشاتل للمثول أمامه والرد على تهم الهرطقة الموجهة إليه، فالتمس إعفاءه: "يستحيل على رغم صدق نيتي أن أحتمل جلسة طويلة (84) وهو ما كان الحقيقة المؤلمة". وانقلب عليه راعي كنيسته، وندد به في مواعظ علنية متهماً إياه بأنه عدو المسيح (85). وألهبت هجمات القساوسة شعب أبرشياتهم، فراح بعض القرويين يحصبون روسو إذا خرج للتمشي. وقرب نصف ليلة 6 - 7 سبتمبر أيقظته هو وتريز حجارة تقذف على جدرانهما وتحطم نوافذهما. وأخترق حجر كبير الزجاج وسقط عند قدمه. واستدعى جار له-وكان موظفاً في القرية-بعض الحراس لإنقاذه، وتفرق الجمع، ولكن أصدقاء روسو الباقين في موتييه نصحوه بأن يبرح المدينة.
وأتته عدة عروض تقد له الملجأ "ولكني كنت متعلقاً بسويسرا تعلقاً منعني من أن أصمم على الرحيل عنها ما دام في استطاعتي العيش فيها (86) ". وكان قد زار قبل عام "الأيل دسان-بيير"، الجزيرة الصغيرة الواقعة وسط بحيرة بيين، ولم يكن على الجزيرة سوى بيت واحد-هو بيت الوكيل، وخيل لروسو أن المكان بقعة مثالية لعاشق للعزلة يكرره الناس. وكان يقع في كانتون برن التي طردته قبل عامين، ولكنه تلقى تأكيدات غير رسمية بأن في استطاعته الانتقال إلى الجزيرة دون أن يغشى الاعتقال (87).
وهكذا، حوالي منتصف سبتمبر 1765؛ بعد ستة وعشرين شهراً في موتييه؛ ترك هو وتريز المنزل الذي أصبح عزيزاً عليهما وذهبا للإقامة مع
أسرة الوكيل في مكان لا يتيح انعزاله "لا للجمهور ولا لرجال الكنيسة تكديره (88) ". "وخيل إليه أنني سأكون في تلك الجزيرة أشد انعزالاً عن الناس .... وأن البشر سيكونون أسرع نسياناً لي (89) ". ورغبة في تغطية نفقاته أعطى الناشر دوبير حق نشر كل كتبه؛ "وجعلته مستودع جميع أوراقي؛ بشرط صريح هو ألا يستعملها إلا بعد موتي؛ لأن غاية أماني كانت أن أختم حياتي في هدوء؛ دون أن أفعل شيئاً يعيدني مرة أخرى إلى ذاكرة الجماهير (90) ". وعرض عليه المرشال كيت معاشاً قدره ألف ومائتا جنيه؛ فوافق أن يأخذ نصفه. ودبر معاشاً آخر لتريز واستقر معها على الجزيرة وهو لا يتوقع من الحياة شيئاً آخر. وكان الآن في سنته الثالثة الخمسين.
وبعد ثلاثة عشر عاماً- في آخر سنة من عمره-ألف كتاباً من أروع كتبه اسمه "أحلام متجول وحيد" وصف في بلاغة مخففة معيشته على جزيرة سان-بيير "كانت أول وأهم متعة أتوق إلى تذوقها بكل حلاوتها هي حياة الدعة اللذيذة (91) ". وقد رأينا في غير هذا الموضع مبلغ إعجابه بلينايوس؛ أما الآن، وفي بيده أحد كتب عالم نبات سويدي؛ فقد بدأ يعدد ويدرس النباتات التي وجدها على ملكه الصغير. أو كان إذ صحى الجو يفعل كما يفعل تورو على بركة فولدن:
"كنت أرتمي وحيداً في زورق أجدف به إلى وسط البحيرة حين يكون الماء هادئاً. هناك؛ وأنا ممدد بطولي كله في الزورق؛ وعيناي إلى السماء كنت أترك نفسي للماء يحملني هوناً كما يشاء؛ ساعات عدة أحياناً، وأنا غارق في مئات الأحلام المبهجة (92) ".
ولكن راحته لم تطل حتى على هذه المياه. ذلك أن مجلس شيوخ برن أمره في 17 أكتوبر 1765 بأن يرحل عن الجزيرة والمقاطعة خلال خمسة عشر يوماً. وغلبته الحيرة والهزيمة "فالتدابير التي كنت فد اتخذتها تأميناً لموافقة الحكومة الضمنية، والهدوء الذي تركت فيه لأستقر، وزيارات العديدين
من أهل برن لي"، كل هذا حدا به إلى الاعتقاد بأنه الآن في مأمن من الإزعاج والمطاردة. والتمس من مجلس الشيوخ شيئاً من التفسير والتأجيل، واقترح بديلاً يائساً لحكم النفي:
"لست أرى لي غير سبيل واحد، ومهما بدا رهيباً، فإني سأتخذه لا دون نفور فحسب، بل برغبة شديدة إذا تفضل أصحاب السعادة بالموافقة. وذلك إنني إن طاب لهم سأقضي ما بقي لي من أجل سجيناً في إحدى قلاعهم، أو في أي مكان آخر في ضياعهم يرون اختياره. وسأعيش فيه على نفقتي، وسأقدم ضماناً بألا أكلفهم أي نفقة. وأقبل ألا أحمل ورقاً أو قلماً، أو أكون على اتصال بأي إنسان في الخارج. فقد سمحوا لي، وع بعض الكتب، بالاحتفاظ بحرية المشي بين الحين والحين في حديقة، وسيرضيني هذا.
أكان ذلك إيذاناً بانهيار عقله؟ إنه يؤكد لنا عكس هذا:
"لا تظنوا أن وسيلة تبدو بهذا العنف هي ثمرة اليأس. فعقلي في تمام الهدوء في هذه اللحظة. وقد ترويت في اتخاذ قراري، ولم انتهِ إليه إلا بعد تفكير عميق. وأرجو أن تلاحظوا أنه إذا بدا هذا قراراً شاذاً فإن وضعي أكثر شذوذاً. فالحياة المضطربة التي أكرهت على أن أحياها سنوات عديدة دون انقطاع، خليقة بتعذيب رجل موفور العافية، فما بالكم بعليل تعس براه التعب وسوء الحظ، ولم يعد له الآن من أمنية إلا أن يموت في هدوء وسلام (93) ".
وكان رد برن أن أمرته بالرحيل عن الجزيرة وعن كل إقليم برن خلال أربع وعشرين ساعة (94).
فإلى أين يمضي؟ كان لديه دعوات إلى بوتسدام من فردريك، وإلى كورسيكا من باولي، وإلى اللورين من سان-لامبير، وإلى أمستردام من ناشره ري، وإلى إنجلترا من ديفد هيوم. ففي 22 أكتوبر كتب إليه هيوم الذي كان يومها سكرتيراً للسفارة البريطانية في باريس يقول:
"أن محنك العجيبة التي لم يسمع بمثلها، فضلاً عن فضيلتك وعبقريتك
لا بد أن تثير عواطف كل إنسان فينحاز إليك، ولكني أعلل نفسي بأنك واجد في إنجلترا أماناً مطلقاً من كل اضطهاد، لا بفض ما تمتاز به قوانيننا من روح سمحة فحسب، بل بفضل الاحترام الذي يكنه كل الناس هناك لشخصيتك (95) ".
وفي 26 أكتوبر غادر روسو جزيرة سان-بيير ورتب أن تظل تريز حيناً في سويسرا، ورحل هو إلى ستراسبورج، ومكث فيها شهراً كاملاً دون أن يستقر على رأي. وأخيراً قرر أن يقبل دعوة هيوم إلى إنجلترا، ومنحته الحكومة الفرنسية جوازاً بالحضور إلى باريس. هناك التقى به هيوم أول لقاء، وما لبث أن شغف به، وتحدثت باريس كلها عن عودة للنفي. وكتب هيوم يقول "محال وصف أو تصور تحمس هذه الأمور لروسو
…
فلم يظفر شخص قط بما ظفر به من اهتمام القوم
…
لقد حجب بهاء فولتير وسواه حجباً تاماً (96) ".
ولكن الصدقة الوليدة أصيبت بصدع في المهد ومن العسير هنا أن نحدد الحقائق بدقة أو نرويها دون تحيز. ففي أول يناير 1766 أرسل جريم إلى قرائه التقرير الآتي:
دخل جان-جاك روسو باريس في 17 ديسمبر. وفي الغد تمشي في حدائق اللكسومبرج وهو يرتدي زيه الأرمني، وإذ لم ينبه أحد إلى الأمر فأن أحداً لم ينتفع بالمشهد. وقد أسكنه الأمير كونتي في التامبل حيث يعقد الأرمني المذكور بلاطه كل يوم. كذلك يتمشى يومياً في ساعة معينة في الشوارع الكبيرة القريبة من مسكنه
(1)
. وهاهو ذا خطاب تداولته الأيدي في باريس خلال مكثه هنا، وقد لقي نجاحاً كبيراً (98) ".
وهنا نقل جريم خطاباً زعم أن روسو تلقاه من فردريك الأكبر. وكان
(1)
قارن خطاب روسو لصديقه دلوز: "وددت لو استطعت الخروج وزيارتك، ولكني مضطر لرجائك أن تحضر أنت إليّ تحاشياً للإعلان عن قلنسوتي الأرمنية في الشوارع".
قد زيفه على روسو هوراس وليول. ولندع وليلول نفسه يتحدث عنه في خطاب له إلى هوراس كونواي في 12 يناير 1766.
"أن الفضل في شهرتي الراهنة لتأليف تافه جداً، ولكنه أثار ضجة لا تصدق. ذلك إنني كنت ذات مساء في بيت مدام جوفران أسخر من ادعاءات روسو وتناقضاته، وقلت أشياء أضحكتهم. فلما عدت إلى البيت دونتها في خطاب، وأريته في الغد لهلفتيوس ودوق نفرنوا، وقد سرا به كثيراً حتى إنهما، بعد الإشارة على بعض الأخطاء اللغوية .... شجعاني على إطلاع الناس عليه. وأنا كما تعلم يطيب لي أن أهزأ بالدجالين سواء السياسيين منهم أو الأدباء مهما عظم قدر مواهبهم، لذلك لم أنكر الفكرة. وسرت النسخ مسرى النار، وهاأنذا "أصبحت موضة Et Me Voici (la mode
…
وإليك الخطاب (وهو مترجم حرفياً عن فرنسية وليلول):
ملك بروسيا إلى مسيو روسو عزيزي جان-جاك
لقد لفظت جنيف وطنك، لقد جعلتهم يطاردونك من سويسرا، البلد الذي أطريته كثيراً في كتاباتك، وقد أصدرت فرنسا أمراً باعتقالك. فتعال إليّ إذن، فأنا معجب بمواهبك، وتمتعني أحلامك، وهي (بهذه المناسبة) تشغلك فوق ما ينبغي وأطول مما ينبغي. وعليك أن تكون في النهاية حكيماً وسعيداً. لقد أثرت ما يكفي من الأقاويل بسبب غرائب لا تليق برجل عظيم بحق. فأثبت لخصومك أن في استطاعتك أحياناً أن تكون معقولاً، فمن شأن هذا أن يغيظهم دون أن يؤذيك. إن بلادي تقدم لك معتكفاً هادئاً، وإنني أرجو لك الخير، وأحب أن أساعدك إذا استطعت أن تستطيب مقامك. أما إذا واصلت رفض معونتي، فتأكد أنني لن أخبر أحداً بالأمر. وإذا أصررت على إجهاد نفسك لتجد نكبات جديدة، فاختر ما يحلو لك منها، فأنا ملك، وفي استطاعتي أن أحصل لك منها على ما يلبي رغباتك، وسأكف عن اضطهادك حين تكف عن أن تجد فخرك في أن تضطهد-وهو بالتأكيد ما لن يحدث لك أبداً بين خصومك.
صديقك المخلص فردريك (69)
أما وليول فلم يحدث له أن التقى بروسو قط. ولم يجد عقله الرفيع الثقافة، وثراؤه الموروث معنى في كاتبات روسو. وقد عرف عيوب روسو وحماقته من حفلات عشاء مدام جوفران، حيث كان يلتقي ديدرو وجريم. وأغلب الظن أنه لم يدرك أن روسو الحساس إلى درجة العصاب، قد دفعته إلى مشارف الانهيار العقلي سلسلة من المجادلات الضيقات. ولو كان وليول على علم بهذا حقاً لكانت دعابته قاسية شائنة. على أننا ينبغي أن نضيف أنه حين طلب هيوم رأيه في إيجاد معتكف لروسو في إنجلترا، تعهد وليول بأن يمد الطريد بكل ضروب المعونة (100).
أكان هيوم على علم بهذا الخطاب؟ يبدو أنه كان موجوداً ببيت مدام جوفران حين لفق أول الأمر، وقد اتهم بأنه "شارك" في تحريره (101). وقد كتب إلى المركيزة دباربنتان في 16 فبراير 1766:
"إن الدعابة الوحيدة التي سمحت بها لنفسي في أمر خطاب ملك بروسيا المزعوم كانت على مائدة عشاء اللورد أو سوري (102) ". وفي 3 يناير 1766 قام هيوم بزيارة وداع لضيوف البارون دولباخ وأخبرهم بآماله في إنقاذ "الرجل القصير القامة" من الاضطهاد وتوفير أسباب السعادة له في إنجلترا. أما دولباخ فتشكك قائلاً يؤسفني أن أبدد الآمال والأوهام التي تخدعك، ولكني أقول لك أنه لن يمضي طويل زمن حتى ينقشع عنك الوهم بصورة محزنة. إنك لا تعرف صاحبك، وأصارحك بأنك تحتضن ثعباناً في صدرك (103) ".
وفي صباح الغد غادر باريس إلى كاليه في مركبتي أجرة هيوم وروسو مع جان-جاك دلوز وسلطان كلب روسو. ودفع روسو نفقاته بعد أن رفض عروض هيوم ومدام دبوفليه، ومدام دفرديلان بمده بالمال. فلما بلغوا دوفر (10 يناير) عانق هيوم، وشكره لأنه أتى به إلى بلد تسوده الحرية.
8 - روسو في إنجلترة
وصلوا إلى لندن في 13 يناير 1766 ولاحظ المارة زي روسو-قلنسوته الفراء، وروبه الأرجواني، وحزامه، وأوضح لهيوم أنه يشكو مرضاً يجعل سراويل الركوب القصيرة غير مريحة له (104). واقنع هيوم صديقه كوفواي بأن يقترح معاشاً للغريب الكبير، ووافق جورج الثالث على منحه مائة جنيه في العام، وأبدى رغبة في أن يلقي عليه نظرة سريعة بصفة غير رسمية. وحجز جاريك لروسو وهيوم مقصورة في المسرح دروري لين في مواجهة المقصورة الملكية في ليلة تقرر فيها حضور الملك والملكة. ولكن حين زار هيوم روسو لقي عنتاً شديداً في إقناعه بأن يترك كلبه الذي مزق نباحه بسبب حبسه قلب الغريب المنفي. وأخيراً "احتويت روسو بين ذراعي و .... حملته على المسير في شيء من الإكراه (105) ". وبعد الحفل دعا جاريك روسو إلى عشاء لتكريمه وهنأه روسو على تمثيله:"سيدي، لقد جعلتني أذرف الدموع على مأساتك، وابتسم لملهاتك، مع أنني لم أكد أفهم كلمة من لغتك".
وإلى هنا كان هيوم على الجملة مسروراً غاية السرور بضيفه. وكتب إلى مدام دباربنتان بعد وصوله إلى لندن بقليل يقول:
سألتني رأيي في جان-جاك روسو. وأني بعد أن راقبته في جميع النواحي .... أصرح بأنني لم أعرف رجلاً أكثر منه لطفاً ولا أكرم خلقاً. فهو رقيق، متواضع، ودود، نزيه، مرهف الحس، فإذا بحثت عن عيوب فيه لم أجد سوى قلة صبر مفرطة، وميل لاحتضان شبهات ظالمة في خير أصدقائه
…
أما عن نفسي فبودي لو أمضيت حياتي في صحبته دون أن يكدر علاقتنا مكدر. أن في سلوكه بساطة عجيبة. وهو في الأمور العادية طفل بمعنى الكلمة. وهذا من شأنه أن يسهل
…
لمن يعيشون معه أن يسوسوه (106) ".
ثم يقول: "إن له قلباً حاراً ممتازاً، وفي الحديث كثيراً ما تشتد حماسته
إلى ما يشبه الإلهام. وإني أحبه حباً جماً وأرجو أن يكون لي في وده نصيب
…
لقد تنبأ لي فلاسفة باريس إنني لت أستطيع اصطحابه إلى كاليه دون شجار، ولكني أحسبني قادراً على العيش معه طوال حياتي في صداقة وتقدير متبادلين. وأعتقد إن من أكبر أسباب انسجامنا أن كلينا لا يحب الجدل، وهذا ليس حالهم. ويسؤهم منه أيضاً ظنهم إنه مغال في الدين؛ ومن الغريب حقاً أن يكون فيلسوف هذا الجيل، الذي لقي أشد اضطهاد أكثرهم تديناً (107)
…
أن به شوقاً إلى الكتاب المقدس، وهو في الحق أفضل من المسيحيين قليلاً (108) ".
على أنه كان هناك صعوبات. ففي لندن، كما في باريس، توافد النبلاء والنبيلات، والمؤلفين والنواب على بيت السيدة آدمز في شارع بكنجهام، حيث أسكن هيوم روسو. وسرعان ما ضاق بهذه المجاملات، ورجا هيوم أن يجد له بيتاً بعيداً عن لندن. وجاء عرض بالعناية به في دير ولزي، فأراد أن يقبله، ولكن هيوم أقنعه بأن يسكن مع بدال في تشيزيك على التيمز على ستة أميال من لندن .. فانتقل إلى هذا المنزل روسو وسلطان في 18 يناير وأرسل الآن في طلب تريز، وأزعج مضيفه وهيوم بإصراره على وجوب السماح لها بالجلوس إلى المائدة معه. وشكا هيوم في خطاب إلى مدام دبوفليه.
"إن مسيو دلوز .. يقول أن الناس يرونها شريرة محبة للشجار والثرثرة، ويظنون أنها أهم سبب في رحيله عن نوشاتيل (موتييه). وهو نفسه تعترف أنها من الغباء بحيث لا تعرف في أي سنة ميلادية نحن ولا في أي شهر من السنة، ولا في أي يوم من الشهر أو الأسبوع، وأنها لا تستطيع أن تتعلم أبداً القيم المختلفة للعملة في أي بلد. ومع ذلك فهي تحكمه حكماً مطلقاً كما تحكم المربية طفلاً. وقد اكتسب كلبه هذه السيادة في غيابها، فحبه لهذا المخلوق يفوق كل تعبير أو تصور (109).
ووصلت تريز خلال ذلك إلى باريس فاستقبلها بوزويل وتطوع باصطحابها إلى إنجلترا. وفي 12 فبراير كتب هيوم إلى مدام دبوفليه
يقول "جاءني خطاب فهمت منه أن الآنسة مسافرة على جناح السرعة في صحبة صديق لي، وهو شاب في غاية الطيبة، وفي غاية اللطف، وفي غاية الجنون .. وبه من الولع بالأدب ما يجعلني أتوجس من حدث مؤذ لشرف صديقنا (110). وقد ادعى بوزويل أنه برر هذا الإحساس السابق. وقد جاء في صفحات في يوميته، تالفة الآن (111)، أنه شارك تريز فرشها في نزل ثاني ليلة بعد رحيلها عن باريس. ثم ليالي عديدة بعدها. ووصلا إلى دوفر باكراً في 11 فبراير. وتقول اليومية: "الأربعاء 12 فبراير. ذهبت صباح أمس إلى الفراش مبكراً جداً، وفعلتها مرة، والجملة ثلاث عشرة. كنت في الحق محباً لها. وفي الثانية بعد الظهر قمنا في رحلتنا. في ذلك المساء صحب تريز إلى هيوم بلندن ووعدها بأنه "لن يذكر علاقتنا الغرامية حتى مماتها أو ممات الفيلسوف".
وفي المرة الثالثة عشرة أسلمها إلى روسو. ولقيها بقبلات كثيرة .. وقد بدا في حال من الشيخوخة والضعف حتى "إنك (بوزويل) لم يعد فيك حماسة له (113) طبعاً".
وفي تشيزيك، كما في موتييه، تلقى رووس من البريد أكثر مما أراد، وشكا من نفقات البريد التي كان عليه أن يدفعها. وذات يوم، حين جاءه هيوم بـ"شحنة" من لندن، رفض تسلمها، وطلب إليه أن يردها إلى مكتب البريد. ونبهه هيوم أن موظفي البريد في هذه الحالة سيفتحون الخطابات المرفوضة ويطلعون على أسراره. وتطوع الاسكتلندي الصبور بأن يفتح ما يرد من رسائل روسو إلى لندن وألا يأتيه إلا بما يراه هاماً منها. ووافق جان-جاك، ولكنه سرعان ما توجس شراً من عبث هيوم ببريده.
وأتته دعوات للغداء، شاملة للآنسة ليفاسير عادة، من الأعيان في لندن فاعتذر روسو من قبولها بحجة مرضه ولكن السبب على الأرجح هو كرهه إظهار تريز أمام علية القوم. وكان يبدي رغبته في الانزواء في أعماق الريف. فلما سمع رتشارد ديفنيورت برغبته هذه من جاريك،
عرض عليه بيتاً في ووتن بداربيشير على 150 ميلاً من لندن. فقبله روسو مغتبطاً. وأرسل ديفنيوت مركبة تنقله هو وتريز، وشكا روسو من أنه بعامل معاملة المتسولين، وأردف قائلاً لهيوم "إن كانت هذه حقاً حيلة من حيل ديفنبورت، فأنت عليم بها موافق عليها، وما كان في إمكانك أن تسيء ألي بأكثر من هذا". وبعد ساعة (كما يقول هيوم)، جلس فجأة على ركبتي، وطوق عنقي بيديه، وقبلني بكل حرارة ثم قال وهو يبلل وجهي كله بالدموع:"أممكن أن تصفح عني يا صديقي العزيز؟ إنني بعد جميع دلائل الود التي تلقيتها منك، أجازيك في النهاية بهذه الحماقة وهذا المسلك السيئ. ولكن لي رغم ذلك قلباً جديراً بصداقتك، وأنا أحبك ولأقدرك، ولم تضع علي سدى أقل مكرمة من مكرماتك" فقبله وعانقه عشرين مرة بفيض من الدموع (113).
وفي الغد 22 مارس انطلق جان-جاك وتريز قاصدين ووتن، فلم يرهما قط بعد. ولم يلبث هيوم أن كتب إلى هيوبليز تحليلاً بصيراً بحالة روسو وخلقه.
كان مصمماً تصميم البائس على الاندفاع إلى هذه العزلة رغم كل اعتراضاتي، أنا أتوقع لأنه سيكون تعساً في موقفه ذاك كما كان في الواقع تعساً في جميع المواقف. فسيكون محروماً تماماً من أي شغل يشغله، ومن الأصحاب ومن أي تسلية من أي نوع تقريباً. لقد قرأ أقل القليل في حياته، وطلق الآن كل قراءاته طلاقاً بائناً، ولقد رأى أقل القليل من الدنيا وليس به أي فضول ليرى أو يلاحظ. والواقع أنه لا يملك الكثير من المعرفة، وكل ما فعله طوال حياته أنه أحس فقط، وإحساسه في هذه الناحية مرهف إلى حد لا أعرف له مثيلاً، ولكنه مع ذلك يشعره بالألم بأحد مما يشعره باللذة، وما أشبهه برجل لم تنزع عنه ثيابه فحسب، بل جاده أيضاً. ثم دفع به ذلك الموقف ليصارع قوى الطبيعة الغاشمة الصاخبة التي تلم على الدوام بهذا العالم الأسفل (114).
ووصل وروسو وتريز إبلا ووتن في 29 مارس. وراقه البيت الجديد لأول وهلة. فوصفه في خطاب لصديق بنوشاتل: "بيت منعزل
…
ليس واسعاً جداً ولكنه مناسباً جداً، شيد في منتصف الطريق على جانب واد، وأمامه "أبدع مخضرة في الوجود" ومشهد طبيعي من مروج، وأشجار، ومزارع متفرقة، وعلى مقربة منه طرق للتنزه على ضفاف غدير. وفي أسوأ الأجواء أخرج في هدوء لجميع النباتات (115)". وكان آل ديفنبورت يشغلن قسماً من البيت حين يلمون به، وبقي به خدمهم ليعنوا بالفيلسوف و "مديرة بيته". وأصر روسو على أن يؤدي لديفنبورت ثلاثين جنيهاً في العام نظير الأجرة والخدمة.
ولم تعمر سعادتها أكثر من أسبوع. ففي 3 إبريل نشرت مجلة لندنية تسمى "سانت جيمس كرونكل" بالفرنسية والإنجليزية خطاب فردريك الأكبر المزعوم إلى روسو، دون إشارة إلى كاتبه الحقيقي. وحز الأمر في نفس جان-جاك حين نمى إليه الخبر، وزاد من ألمه أن محرر المجلة وهو وليم ستراهان كان صديقاً قديماً لهيوم. يضاف إلى هذا أن نغمة الصحف البريطانية في حديثها عن روسو تغيرت تغيراً واضحاً منذ برح تشزيك، فكثرت المقالات التي انتقد الفيلسوف الغريب الأطوار، واحتوى بعضها على أشياء أعتقد أن هيوم وحده هو الذي يعرفها، ويمكن أن يزود بها الصحف. على أية حال شعر أن واجب هيوم كان يقتضيه أن يكتب شيئاً للدفاع عن ضيفه الأسبق. وسمع أن الاسكتلندي كان يسكن بلندن البيت الذي يسكنه فرانسوا ترونشان، ابن عدو جان-جاك في جنيف، وأغلب الظن أن هيوم كان الآن على علم بنقائص روسو.
وفي 24 إبريل كتب روسو إلى سانت جيمس كرونكل ما يأتي:
"لقد عدوت يا سيدي على الاحترام الذي يدين به كل فرد لملك بأن نسبت علناً إلى ملك بروسيا خطاباً امتلأ مبالغة وغلاً، وكان يجب بناء عليه أن تعرف إنه ما كان يمكن أن يصدر عنه. لا بل إنك جرؤت على نقل
توقيعه كأنك رأيته مكتوباً بيد. وإني أخبرك يا سيدي أن هذا الخطاب زيف في باريس، ومما يحزنني ويمزق قلبي أن المحتال الذي كتبه له شركاء ضالعون معه في إنجلترا. وواجبك نحو ملك بروسيا، ونحو الحقيقة، ونحوي أيضاً، يقتضيك أن تنشر خطابي هذا، الموقع بإمضائي، تصحيحاً لخطأ لا شك إنك كنت تلوم نفسك على ارتكابه لو علمت أن مؤامرة خبيثة سخرت لها. وإني أقدم لك خالص تحياتي".
جان-جاك روسو (116)
وفي وسعنا الآن أن نفهم لم ظن روسو أن هناك "مؤامرة" عليه. فمن غير خصومه القدامى، فولتير، وديدرو، وجريم، وغيرهم من نجوم التنوير، يمكن أن يدبروا هذا التغير الفجائي في لهجة الصحف البريطانية من الترحيب والتكريم إلى الهزء والتحقير؟ وفي نحو هذه الفترة نشر فولتير "خطاباً إلى الدكتور ج. ج يانسوف"، غفلاً من اسمه، أعاد فيه ذكر الإشارات المؤذي للشعب الإنجليزي في كتابات جان-جاك-كقوله إنهم ليسوا في الحقيقة أحراراً، وأنهم شديدو الولع بالمال، وأنهم ليسوا بطبيعتهم طيبين. وأعيد نشر أكثر الفقرات إيذاء في كتيب فولتير في دورية لندنية تسمى (للويدز افننج نيوز (117)).
وفي 9 مايو كتب روسو إلى كونواي يطلب إليه وقف المعاش الذي يمنح له مؤقتاً. وألح عليه هيوم في قبوله، فرد عليه روسو بأنه لا يستطيع قبول أي امتياز يأتيه من وساطة هيوم. وطالبه هيوم بالتفسير. ويبدو أن روسو قد انتقل الآن إلى حالة من الشك والغيظ. ففي 10 يوليو بعث إلى هيوم بخطاب من ثماني عشرة صفحة من القطع الكبيرة، لا يسمح طوله المفرط بنقله هنا كاملاً، ولكنه من الأهمية البالغة لهذا الشجار الأشهر بحيث يقتضينا الأمر أن نتذكر بعض فقراته الرئيسية: "إنني مريض يا سيدي، وليس بي كبير ميل للكتابة، ولكن بما أنك طلبت التفسير، فلابد من تقديمه لك ....
إنني أعيش خارج العالم، وأجهل الكثير مما يدور فيه
…
ولا أعرف إلا ما أشعر به
…
"
"إنك تسألني في جرأة من هو الذي يتهمك؟ أنه يا سيدي الرجل الوحيد في العالم كله الذي
…
أود تصديقه، إنه أنت
…
وإذا أشير إلى ديفد هيوم بشخص الغائب، فإني جاعلك الحكم فيما ينبغي أن يكون رأيي فيه".
واعترف روسو في إسهاب بأفضال هيوم، ولكنه أردف:
"أما إذا تحريت عن الخبر الحقيقي الذي صنعته بي، فإن هذه الخدمات ظاهرية أكثر منها جوهرية، .. فأنا لم أكن نكرة تماماً بحيث أنني لو وصلت وحيدا. لما لقيت عوناً ولا مشورة .. وإذا كان مستر ديفنبورت قد تفضل بإعطائي هذا المسكن فهو لم يفعل ذلك لإرضاء مستر هيوم الذي لم يكن يعرفه .. وكل الخير الذي أصابني هنا كان يصيبني في الطريقة ذاتها بدونه (هيوم) ولكن الشر الذي أصابني ما كان يقع لي. إذ لم يكون لي أعداء في إنجلترا؟ وكيف لم يتفق أن يكون هؤلاء الأعداء بالضبط أصدقاء لمستر هيوم؟
"وقد نمى إلى أيضاً أن ابن المشعوذ تروشان، ألد خصومي، لم يكن فقط صديق مستر هيوم بل محسوبه أيضاً، وأنهما يسكنان معاً .... "
وكل هذه الحقائق مجتمعة تركت في انطباعاً جعلني قلقاً
…
وفي الوقت نفسه لم تصل الخطابات التي كتبتها إلى وجهتها، وتلك التي تلقيتها كانت مفتوحة؟ وهذه كلها تناولتها يد مستر هيوم".
"ولكن ما الذي حدث لي حين رأيت خطاب ملك بروسيا المزعوم منشوراً في الصحف العامة؟ .. لقد كشف لي شعاع من النور، سر ما طرأ على اتجاه الشعب البريطاني نحوي من تغير فجائي إلى حد مذهل؟ ورأيت في باريس مركز المؤامرة التي تنفذ في لندن .. فحين نشر هذا الخطاب
المزعوم في لندن لم ينبس مستر هيوم ببنت شفة، ولا كتب لي شيئاً، وهو العليم ولا ريب بأنه خطاب زائف .... "
"لم يبقَ لي غير كلمة واحدة أقولها لك. إن كنت مذنباً فلا تكتب إلي، إذ لا جدوى من الكتابة، وثق إنك لن تخدعني. ولكن إن كنت بريئاً فتفضل بتبرير نفسك .. وإلا فوداعاً إلى الأبد (118) ".
وكان رد هيوم موجزاً (22 يوليو 1766) ولم يجب عن التهم، لأنه خلص إلى أن روسو مشرف على الجنون. وكتب إلى ديفنبورت يقول إن جاز لي أن أبذل النصح فهو أن تمضي فيما بدأته من حسنة حتى يحبس كلبه في مستشفى المجاذيب (119)
…
فلما سمع أن روسو ندد في خطابات أرسلها إلى باريس (كخطابه إلى الكونتيسة دبوفليه في 9 إبريل 1766)، بعث إلى دبوفليه صورة من خطاب جان-جاك الطويل. فردت على هيوم بما يلي:
"إن خطاب روسو فظيع، أنه مبالغ جداً ولا عذر له فيه إطلاقاً
…
ولكن لا تحسبه قادراً على الكذب أو الخداع، ولا تتصور انه دجال أو وغد، إن غضبه بلا مبرر حق، ولكنه غضب مخلص، وليس لدي في هذا أي شك
…
"
"وإليك ما أتصوره السبب فيه. لقد سمعتهم يقولون، ولعله أخبر، إنك صاحب عبارة من خير ما ورد في خطاب مستر ولبول-وأنك قلت مازحاً وأنت تتحدث باسم ملك بروسيا "إن شئت الاضطهاد، فأنا ملك، وأستطيع اضطهادهم نيابة عنك بأي نوع تريد" وأن مستر ولبول
…
قال إنك صاحب هذه العبارة. فإن صح هذا، وعلم به روسو، فهل تعجب أن يثور سخطه
…
وهو المرهف الحس، الغضوب، السوادي المزاج، المتكبر (120) ".
وفي 26 يوليو كتب ولبول إلى هيوم يحمل نفسه كل اللوم-دون الإعراب عن اي ندم-في أمر الخطاب المزيف، ويدين "قلب روسو
الجحود الشرير" (121)، ولكنه لم ينكر أن هيوم كان له يد في الخطاب. وكتب هيوم إلى دولباخ يقول "إنك محق تماماً؛ فروسو وحش". فلما سمع من ديفنبورت أن جان-جاك يكتب "اعترافاته" أفترض أن روسو سيذيع رأيه في الأمر على الملأ. ونصحه آدم سمث، وطورجو والمرشال كيث، بأن يتحمل الهجوم صامتاً، ولكن جماعة الفلاسفة في باريس يقودهم دالامبير، حرضوه على أن ينشر رايته عن نزاع ذاع خبره في عاصمتين. وعليه فقد أصدر (أكتوبر 1766) عرضاً موجزاً للنزاع الذي ثار بين السيدين هيوم وروسو، صاغه بالفرنسية دالامبير وسوار، وبعد شهر ظهر بالإنجليزية. وأذاع جريم مضمونه على نطاق واسع "في خطاب الاشتراك" الذي كتبه في 15 أكتوبر، فتردد صدى المشاجرة في جنيف، وأمستردام، وبرلين، وسانت بطرسبورج. وضاعفت الضجة أكثر من عشر نشرات، ونشر ولبول روايته للنزاع، وهاجم بوزويل ولبول، ورمت مدام دالاتور في "مجمل عن مسيو روسو"، هيوم بأنه خائن، ووفاه فولتير بمزيد من البيانات عن نقائص روسو وجرائمه، وعن اختلافه إلى أماكن سيئة السمعة وعن أعمال التحريض التي أتاها في سويسرا (123). أما جورج الثالث فقد تابع المعركة بفضول شديد (124). وأرسل هيوم الوثائق المتعلقة بها إلى المتحف البريطاني (125).
ووسط هذه الضجة الكبرى لزم روسو الصمت الرهيب. ولكنه صمم الآن على العودة إلى فرنسا أياً كان الخطر والثمن. فقد اكتأب لرطوبة مناخ إنجلترا وتحفظ الخلق الإنجليزي، وكانت العزلة التي نشدها فوق ما يطيق، ولم يكن قد بذل أي جهد في تعلن الإنجليزية فوجد مشقة في التفاهم مع الخدم. ولم يستطع الحديث إلا مع تريز-التي ما فتئت كل يوم تلح عليه في أن يأخذها إلى فرنسا. ودعماً لخططها أكدت له أن الخدم يبيتون دس السم له. وعليه ففي 30 إبريل كتب إلى مالك بيته الغائب يقول:
"غداً اترك بيتك يا سيدي .. ولست أجهل الكمائن التي تدبر لي، ولا عجزي عن حماية نفسي، ولكني عشت يا سيدي، ولم يبقَ لي إلا أن أنهي بشجاعة حياة قضيت بشرف .. وداعاً سيدي. سآسف دماً على المسكن الذي أبرحه الآن، ولكن أسفي سيكون أكثر لأنني وجدت فيك مضيفاً غاية في اللطف، ومع ذلك لم أستطع أن أجعل منه صديقاً"(126).
وفي أول ما يوفر مع تريز على عجل وفي رعب. وتركا حقائبهما ومالاً للوفاء بإيجار ثلاثة عشر شهراً .. ولجهلهما بجغرافية إنجلترا استقلا مختلف وسائل الانتقال غير المباشرة، وقطعا شطراً من الطريق على الأقدام، وظلا عشرة أيام تائهين لا يعرف أحد مستقرهما. وأعلنت الصحف عن اختفائهما، ثم ظهرا في 11 مايو في سبولدنج لينكولنشير، ومنهما وجدا طريقهما إلى دوفر، وهناك استقلا سفينة إلى كاليه في 22 مايو. وبعد أن قضيا في إنجلترا ستة عشر شهراً. وكتب هيوم إلى طورجو وغيره من الأصدقاء طالباً إليهم أن يمدوا يد المعونة للمنبوذ الذي عاد الآن وحيداً مهجوراً إلى فرنسا وهو من الناحية القانونية لا يزال تحت طائلة الأمر باعتقاله.