المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الرابع   ‌ ‌الإسلام والشرق السلافي 1715 - 1796 - قصة الحضارة - جـ ٤١

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الرابع

‌الإسلام والشرق السلافي

1715 -

1796

ص: 3

الفصل السادس عشر

‌الإسلام

‌1715 - 1796

1 -

الأتراك

حوصرت المسيحية في القرن الثامن عشر بين فولتير ومحمد صلى الله عليه وسلم بين حركة التنوير والإسلام. فمع أن العالم الإسلامي كان قد فقد سطوته الحربية منذ رد سويبسكي الترك على فيينا عام 1683، إلا أنه ظل مسيطراً على المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وشبه جزيرة العرب وفلسطين وسوريا وفارس وآسيا الصغرى والقرم وجنوبي روسيا وبسارابيا وملدافيا وولاشيا (رومانيا) وبلغاريا والصرب (يوغسلافيا) والجبل الأسود والبوسنة ودلماشيا واليونان وكريت وجزر الأرخبيل وتركيا. وهذه الأقطار كلها- باستثناء فارس- كانت جزءاً من إمبراطورية الأتراك العثمانيين المترامية الأطراف. فعلى الساحل الدلماشي بلغوا الأدرياتيك وواجهوا الولايات البابوية، وعلى البوسفور تسلطوا على المنفذ البحري الوحيد من البحر الأسود، وكان في مقدورهم أن يقفوا سداً منيعاً بين الروس والبحر المتوسط متى شاءوا.

فإذا عبرنا الأقاليم المجرية إلى بلاد المسلمين لم نلحظ للوهلة الأولى فرقاً يذكر بين المدينتين المسيحية والإسلامية. فهنا أيضاً كان فقراء المسلمين السذج الأتقياء يفلحون الأرض تحت إمرة سادتهم الأغنياء والأذكياء المتشككين. ولكن المشهد الاقتصادي يتغير فيما وراء البوسفور: فلا يكاد المزروع من الأقاليم يبلغ 15%، أما الباقي فصحراء أو جبال لا تتيح غير

ص: 5

التعدين أو الرعي، هناك كان الإنسان يتميز به الإقليم هو البدوي الذي أسود لونه وتحمص جلده من الشمس، وتدثر على نحو معقد اتقاء للرمال والقيظ. أما المدن الساحلية والمتفرقة هنا وهناك كانت حافلة بالتجارة والحرف اليدوية، ولكن الحياة بدت أكثر دعة واسترخاء مما كانت في المراكز المسيحية، فالنساء يلزمن بيوتهن أو يسرن في وقار شديد تحت أحمالهن ووراء خمرهن، والرجال يمشون الهوينا في الشوارع. وكان جل الصناعة يدوياً، وورشة الصانع ملحقاً يتصدر بيته، وكان يدخن غليونه ويتجاذب الحديث مع غيره أثناء العمل، وأحيناً يشارك زبوناً قهوته.

ويمكن القول بوجه عام أن التركي العادي كان قانعاً غاية القناعة بمدينته، حتى لقد ظل قروناً لا يطيق أي تغيير ذي بال. وكانت التقاليد هنا كما كانت في التعاليم الكاثوليكية مقدسة قداسة التنزيل. أما الدين فكان أعظم قوة وانتشاراً في الأقطار الإسلامية مما كان في العالم المسيحي، والقرآن هو الشريعة والديانة معاً، وفقهاء الإسلام شراح الشريعة الرسميون. وكان الحج إلى مكة المكرمة يقود كل عام درامته المثيرة فوق رمال الصحراء وعلى الطرق المتربة. أما في الطبقات العليا فإن البدع العقلانية التي طلع بها معتزلة القرن الثامن الميلادي، والتي واصلها الشعراء والفلاسفة المسلمون طوال عصر الإيمان، لقيت قبولاً واسعاً مستوراً. كتبت الليدي ماري ورتلي مانتاجيو من الاستانة في 1719 تقول:

"إن الأفندية (أي الطبقة المتعلمة) .. ليسوا أكثر إيماناً بالوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم منهم بعصمة البابا. ويصرحون بالربوبية بينهم وبين من يثقون بهم ولا يتكلمون على شريعتهم (أي ما يمليه القرآن الكريم) إلا بوصفها مؤسسة سياسية، تصلح الآن لأن يتقيد بها العقلاء من الناس وإن كانت أصلاً من عمل رجال السياسة والمتحمسين من رجال الدين"(1).

وانقسم الإسلام بين مذهبي السنة والشيعة كما انقسمت مسيحية الغرب

ص: 6

بين الكاثوليكية والبروتستنتية، ثم قام مذهب جديد في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، أحد شيوخ نجد- وهو الهضبة الوسطى التي نعرفها اليوم بالعربية السعودية. وكان الوهابيون من الإسلام أشبه بالبيورتان من المسيحية: استنكروا التعبد للأولياء، وهدموا أضرحة المشايخ والشهداء، واستهجنوا لبس الحرير والتدخين، ودافعوا عن حق كل فرد في أن يفسر القرآن لنفسه (2). وقد شاعت الخرافات في جميع المذاهب على السواء، ولقى دجاجلة الدين كما لقيت المعجزات الكاذبة التصديق السريع، وكان جل المسلمين يعدون مملكة السحر عالماً حقيقياً كعالم الرمال والشمس الذي يكتنفهم (3).

أما التعليم فهيمن عليه رجال الدين الذين آمنوا بأن أضمن سبيل لتكوين المواطنين الصالحين أو الأتباع الأوفياء القبيلة هي ترويض الخلق لا تحرير الفكر. وكان رجال الدين قد انتصروا في معركتهم مع العلماء والفلاسفة والمؤرخين الذين ازدهروا أيام الإسلام الوسيط، فانتكس الفلك إلى التنجيم، والكيمياء إلى الخيمياء، والطب إلى السحر، والتاريخ إلى الأساطير. ولكن في كثير من المسلمين حلت المحكمة الصامتة محل التعليم والتفقه في المعرفة. وكما قال داوتي الحكيم البليغ: "إن العرب والترك، الذين كتبهم هي وجوه الرجال

والذين شروحهم وتفاسيرهم هي الأقوال المأثورة السائرة ومئات الأمثال الحكيمة القديمة السائدة في عالم الشرق، هؤلاء قريبون من إدراك الحقائق الإنسانية. إنهم شيوخ راسخون في الحكمة وهم لا يزالون شباباً، ولا ينسون بعد ذلك إلا القليل مما تعلموا (4)". وقد أكد ورتلي مونتجيو في خطاب كتبه عام 1717 لأديسون أن "الرجال ذوي الشأن من الأتراك يبدون في أحاديثهم مهذبين لا يقلون تحضراً عن أي رجال التقيت بهم في إيطاليا" (5)، أجل فالحكمة ليس لها وطن.

ولقد كان عالم الإسلام على الدوام غنياً بالشعراء. ذلك أن الصحاري الرهيبة، والسماء المحيطة، والنجوم المنتشرة إلى ما لا نهاية في الليالي الصافية، كل أولئك حرك الخيال كما حرك الإيمان الديني بالإحساس بما في الكون من

ص: 7

أسرار ملغزة، وأضفى دم الشباب المضطرم بالرغبة المكبوتة على مفاتن النساء تصوراً مثالياً، تلك المفاتن التي زدنها إغراء في ذكاء وحكمة باحتجابهن وحيائهن. وفي 1774 نشر السير وليم جونس كتابه "شروح على الشعر العربي" الذي كشف للعقول اليقظة في غربي أوربا عن حب المسلمين للشعر وما ينطوي عليه من رقة وعاطفة مشبوبة. أما أعظم فحول الشعراء العثمانيين في القرن الثامن عشر فهو نديم، الذي تغنى بشعره أيام السلطان محمد الثالث (1703 - 30):

إيه أيها الحب الحائر، إن قلبي وروحي ضاعا هباءً

وفرغ مني الصبر وذهب الجلد

ذات مرة كشفت عن صدرها البديع،

فإذا الراحة والسلام يهربان من صدري

لها خال في خدها وثني، وضفائر وثنية، وعيون وثنية

أقسم أن دنيا جمالها القاسي بأسرها وثنية خالصة.

ولقد وعدتني بقبلات على نحرها، وبقبلات على صدرها،

ولكن ويلي فقد حنثت الوثنية بوعدها السابق.

يا للرشاقة المحببة التي أبرزت بها غدائرها من تحت طربوشها،

كل مخلوق أبصرها تأمل حسنها مشدوهاً لتوه.

يا قاسية القلب، لأجلك يبكي الرجال وينوحون يأساً،

إن قدك الرقيق لزكي من كل شذى وأبهج من كل لون،

فليت شعري هل أرضعتك وردة عطرة من ثديها.

وأنك لتقبلين أيتها الحلوة وفي إحدى يديك وردة وفي الأخرى كأس.

فلا أدري أي الثلاثة آخذ- الوردة أم الكأس أم أنت.

ص: 8

لكأن نبعاً متدفقاً تفجر من نهر الحياة.

حين طلعت عليَّ بذلك القد اللدن البديع (6).

وكان على النساء الإفادة ما استطعن من قدودهن اللدنة الرشيقة، فمتى ذبلت محاسنهن جر عليهن الزمن ذيول النسيان في زوايا الحريم. وكان لفظ "الحريم" هذا لا يقصر على أزواج الرجل وسراريه، بل ينسحب على كل إناث بيته. وقد ظل الحجاب مضروباً عليهن في القرن الثامن عشر، وكان يسمح لهن بالخروج من الدار، ولكن (بعد 1754) كان عليهن إذا خرجن أن يخفين كل عضو فيهن إلا عيونهن الساحرة، ولا يدخل جناحهن غير الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو الابن. وحتى بعد الموت كان المفروض أن يتصل هذا الفصل بين الجنسين في الدار الآخرة. فالمؤمنات لهن جنتهن غير جنة الرجال، والمؤمنون يمضون إلى فردوس آخر ترفه فيه عنهم حور من الجنة أبكار متجددات الشباب. وكانت خيانة المرأة لزوجها تعاقب عقاباً صارماً ويندر حدوثها، وكان العربي يحلف بـ "شرف حريمه" كأغلظ الإيمان (7). وروت الليدي ماري أن النساء التركيات اللاتي سمح لها بلقائهن لم تضقن بالحجاب الذي عزلهن عن الرجال. وقد رأت بعضهن يعدلن في جمال الوجه وحسن القد ورفاهة الطبع "أشهر حساننا الإنجليزيات (8). فلما أذن لها بدخول أحد الحمامات العامة الكثيرة، تبين لها أن النساء يمكن أن يكن جميلات حتى لو تجردن من الثياب. وقد افتتنت على الأخص بنساء الطبقة الراقية في حمام بأدرنة. دعوتها لخلع ملابسها والاستحمام معهن، فاعتذرت. "ولما اشتد إلحاحهن عليَّ اضطررت في النهاية إلى أن أفتح قميصي وأريهن مشدي (الكورسيه)، فأقنعهن هذا تماماً إذ رأيت أنهن اعتقدن أني حبيسة بقيود تلك الآلة بحيث لا أقوى على فتحها، وقد عزون هذه الحيلة لتدبير زوجي. وعلقت إحداهن قائلة "انظرن كم يقسو الأزواج الإنجليز على نسائهن المساكين (9) ".

وكان الأتراك فخورين بحماماتهم العامة، يرون أنفسهم على العموم شعباً

ص: 9

أنظف من النصارى الكفار. وكان الكثيرون من أفراد الطبقتين العليا والوسطى يختلفون إلى الحمام التركي مرتين في الأسبوع، وأكثر منهم يختلفون مرة في الأسبوع. هناك يجلسون في غرفة ملئت بخاراً حتى يتصببون عرقاً، ثم يأتي عامل فيدعك كل مفصل في أجسامهم ويدلك لحمهم ويكيسه بقطعة من القماش الخشن ثم يغسله. لا عجب إذن إن لم نسمع الكثير عن روماتيزم المفاصل في تركيا. على أن أمراضاً أخرى تفشت بينهم لا سيما الرمد، فالرمال والذباب كانت تنقل العدوى إلى العيون. ولكن الأتراك كما أسلفنا علموا أوربا التطعيم ضد الجدري.

ولم يخامرهم شك في أن مدينتهم تفوق مدنية الأقطار المسيحية. صحيح أنهم سلموا بأن الرق كان أوسع انتشاراً في بلاد المسلمين، ولكنهم لم يروا فرقاً حقيقياً بين الأرقاء في تركيا والأقنان ( Serfs) أو الخدم ( Servants) في العالم المسيحي، وقد اتفقت معهم في الرأي الليدي ماري واصل اللفظ. وكانوا لا يقلون عنا غلواً في حب الأزهار والعناية بها، فكانت لهم مثلنا مباريات مجموعة في تربية زهرة الطوليب؛ كما شهدت الآستانة في عهد السلطان أحمد الثالث (1703 - 30)؛ ويبدو أن الأتراك هم الذين أدخلوا إلى أوربا المسيحية بطريق البندقية وفيينا والأراضي الواطئة أزهار الطوليب والياقوتية ( Hyacinth) الشرقية وحوزان الحدائق ( ranuneulus) كما أدخلوا أشجار القسطل (أبي فروة) - والميموزا (10).

أما الفن في تركيا فكان الآن في اضمحلال شأنه في معظم الأقطار المسيحية. واعتبر الأتراك أنفسهم أرقى في صناعات الفخار والنسيج والأبسطة والزخرفة وحتى في المعمار. فقد ورثوا عن آبائهم كيف يضفون على التصوير التجريدي منطقاً وتواصلاً ودلالة. وفاخروا ببهاء القاشاني الذي صنعوه (كما يرى على نافورة أحمد الثالث في الآستانة)، وبيريق قرميدهم الذي لا ينطفئ، وبصلابة منسوجاتهم ورقتها" وبتألق أبسطتهم ومتانتها. واشتهرت الأناضول والقوقاز في هذه الحقبة بوبرهما اللامع وتصميم السجاد الهندسي الدقيق، لا سيما سجاجيد الصلاة التي توجه أعمدتها وأقواسها المدببة

ص: 10

المصلى الراكع صوب المحراب الذي يشير في كل مسجد إلى قبلة مكة المكرمة. كذلك فضل الأتراك جوامعهم ذات القباب والقرميد والمآذن على أبراج الكاتدرائيات القوطية وعقودها وفخامتها الكابية. وشيدوا حتى في هذه الحقبة المضمحلة المساجد العظيمة في نوري- عثمانية (1748) ولا ليلى- يامسي (1765)، وحاكى أحمد الثالث طراز الحمراء في القصر الذي شيده في عام 1729. أما الآستانة فلعلها كانت أروع العواصم الأوربية، كما كانت أوسعها رقعة برغم شوارعها المتشابكة وأحيائها الفقيرة الكثيرة الضجيج، وكان سكانها البالغون مليونين من الأنفس (11) مثلى سكان لندن، وثلاثة أمثال سكان باريس، وثمانية أمثال سكان روما (12). وحين أطلت الليدي ماري على المدينة والميناء من قصر السفير البريطاني، خيل إليها أنهما "ربما يؤلفان معاً أبهى مشهد في العالم"(13).

على عرش هذه الإمبراطورية العثمانية، من الفرات إلى الأطلنطي، تربع سلاطين عصر الاضمحلال. ولقد نظرنا في موقع آخر من هذا الكتاب (14) في أسباب ذلك الاضمحلال: وهي انتقال تجارة غربي أوربا التي تقصد آسيا، إذ أصبحت تدور حول أفريقيا بحراً بدلاً من طريقها البري الذي كان يختر مصر أو غربي آسيا؛ وتخريب قنوات الري أو إهمالها؛ وتوسع الإمبراطورية وامتدادها إلى مسافات مترامية لا تتيح لها الحكم المركزي الفعال وما ترتب على ذلك من استقلال الباشوات ونزوع الولايات إلى الانفصال؛ وتدهورت الحكومة المركزية لتفشي الرشوة والعجز والكسل، وتمرد الانكشارية المرة تلو المرة على النظام الصارم الذي كان له الفضل فيما بلغوا من قسوة وتسلط القدرية والجمود على الحياة والفكر، وتراخي السلاطين الذين استطابوا خدور النساء وآثروها على ساحات الوغى.

وقد استهل أحمد الثالث حكمه بسماحة للإنكشارية بأن يملوا عليه اختياره لكبير وزرائه (الصدر الأعظم). وهذا الوزير هو الذي قبل رشوة بلغت 230. 000 روبل بعد أن قاد 200. 000 تركي ضد 38. 000 جندي من جيش بطرس الأكبر عند نهر بروت، لقاء سماحه للقيصر المحاصر

ص: 11

بالفرار (21 يوليو 1711). وحدث أن حضرت البندقية أهل الجبل الأسود على الثورة على تركيا، فأعلنت هذه الحرب عليها (1715) وأتمت فتح كريت واليونان .. فلما أن تدخلت النمسا، أعلنت تركيا الحرب عليها (1716)، ولكن أوجين أمير سافوا هزم الترك في بترفارداين وأكره السلطان بمقتضى معاهدة بساروفتز (1718) على الجلاء من المجر، والنزول عن بلغراد وأجزاء من ولاشيا للنمسا، وتسليم البندقية حصوناً في ألمانيا ودلماشيا. ولم تسفر المحاولات التي بذلتها تركيا لتعويض هذه الخسائر بالغارات تشنها على فارس إلا على المزيد من النكسات والهزائم، وقد قتل الغوغاء- بقيادة عامل حمام- الوزير إبراهيم باشا وأكرهوا أحم على التنازل عن العرش (1730).

وجدد ابن أخيه محمود الأول (1730 - 54) الصراع مع الغرب ليفرض بالحرب تدفق الضرائب وتعاليم الدين، وانتزع جيش تركي أوخاكوف وكلبورون من الروسيا، واسترد جيش آخر بلغراد من النمسا. غير أن اضمحلال تركيا عاود سيرته الأولى في عهد مصطفى الثالث (1757 - 74). ففي 1762 أعلنت بلغاريا استقلالها. وفي 1769 خاضت تركيا الحرب مع الروسيا منعاً لانتشار سلطان الروسيا في بولندا. وهكذا بدأ ذلك الصراع الطويل الذي أنزلت فيه جيوش كاترين الكبرى هزائم ساحقة بالأتراك. فلما مات مصطفى أبرم أخوه عبد الحميد الأول (1774 - 89) معاهدة مذلة تسمى قجوق قينارجي (1774)، قضت على النفوذ التركي في بولندا وجنوبي الروسيا ومالدافيا وولاشيا، وعلى هيمنة الأتراك على البحر الأسود. وجدد عبد الحميد الحرب في 1787، فهزم هزائم منكرة، ومات كمداً. وكان على تركيا أن تنتظر حتى يجيء كمال باشا (أتاتورك) لينهي قرنين من الفوضى ويجعل منها دولة حديثة.

‌2 - الإسلام في أفريقيا

بعد أن فتح العثمانيون مصر (1517) أنابوا عنهم في حكمها الباشوات والولاة. وسمحوا للمماليك الذين كانوا يحكمون مصر منذ 1250 بالاحتفاظ

ص: 12

بسلطتهم بكوات على السنجقيات الاثنتي عشرة التي قسمت إليها البلاد. وبينما كان الباشوات يبددون عافيتهم في البذخ والترف، درب البكوات جنودهم على الولاء لأشخاصهم. وسرعان ما تحدوا سلطة الولاه المكروهين. وكان أكثر هؤلاء الحكام المحليين إقداماً هو على بك [الكبير]، الذي كان في طفولته قد بيع عبداً. ففي 1766 خلع الباشا وفي 1769 أعلن استقلال مصر. وانتشى بخمرة النصر فقاد جنده المماليك ليفتح جزيرة العرب، واستولى على مكة، واتخذ لقب سلطان مصر وخاقان البحرين (الأحمر والمتوسط). وفي 1771 أوفد "أبا الذهب" على رأس ثلاثين ألف مقاتل لفتح الشام، ففتحها، ولكنه تحالف مع الباب العالي، وقاد جيشه عائداً إلى مصر. وفر على بك إلى عكا، وجند جيشاً آخر، والتقى بقوات أبي الدهب والأتراك، وقاتل حتى أثخن بالجراح فعجز عن المضي في القتال، ووقع في الأسر، ثم قضى نحبه بعد أسبوع (1773). وعادت مصر ولاية عثمانية من جديد.

ودون ذبذبات السلطة ونشوات القتل هذه استطاعت مراكب التجارة وقوافلها، واجتهاد الحرفيين، وفيضان النيل السنوي، وعرق الفلاحين في التربة الطمية الخصبة-استطاعت كلها أن تبقى في مصر على اقتصاد لم يجن ثماره غير قلة حبتها الطبيعية أو الظروف بالكفاية أو المنصب. وأنتج جهد الحقول والبحار ومحصولها طعاماً للمدن وخصوصاً الإسكندرية التي كانت من أعظم الثغور، والقاهرة التي كانت من أكثر العواصم سكاناً في عالم القرن الثامن عشر. وكانت الشوارع ضيقة لتحجب الشمس، وقد زينت بالمشربيات والشرفات التي يستطيع الحريم اختلاس النظر منها إلى الحياة من تحتهن. وكانت الشوارع الكبيرة تعج بالحرف التي تحدت تطفل رأس المال أو إنتاج الآلات. وكانت كل صناعة في أقطار الإسلام فناً، وحلت الجودة محل الكم. فصنع الفقراء التحف والطرف للأغنياء ولكنهم لم يبيعوهم قط آباءهم وعزة نفوسهم.

وقام في القاهرة ثلاثمائة مسجد تدعم فقراءها بالرجاء، وتزين

ص: 13

المدينة بالقباب الضخمة والأروقة المعمدة الظليلة والمآذن الشامخة. وكان أحدها وهو الجامع الأزهر جامعة الإسلام الأولى، يؤمه على الطلاب ألفان أو ثلاثة من أقصى بقاع الأرض، من ماليزيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ليتعلموا لغة القرآن وعلوم البلاغة والتوحيد والأخلاق والشريعة، وكان خريجو الجامعة يؤلفون جماعة العلماء، ومنهم يختار المعلمون والقضاة. لقد كان نظاماً وضع لسنية صارمة في الدين والأخلاق والسياسة.

وهكذا لم يكد يطرأ على الأخلاق أي تغيير من قرن إلى قرن. وكانت سن بلوغ الأحداث متقدمة عنها في الأقطار الشمالية، فتزوج كثير من البنات في الثانية أو الثالثة عشرة، وبعضهن في العاشرة، وبقاء الفتاة بغير زواج إلى السادسة عشرة كان عاراً. ولم يقدر على تعدد الزوجات الذي أباحته الشريعة الإسلامية إلا أغنياء القوم. أما الزوج الذي تخونه زوجته فلم يكن من حقه الشرعي أن يقتل هذه الزوجة المجرمة فحسب، بل كان يلقى التشجيع من الرأي العام (15). وكان الفكر الإسلامي، كالمسيحي، يعتبر المرأة مصدراً رئيسياً للشر، لا يمكن السيطرة عليه إلا بإخضاعها إخضاعاً صارماً. وكان الأطفال ينشأون على نظام الحريم، فيتعلمون أن يحبوا أمهم وأن يخشوا أباهم ويجلوه، وكانوا كلهم تقريباً يتعلمون ضبط النفس وحين الأدب (16). وساد حسن السلوك جميع الطبقات، مع شيء من يسر الحركة ورشاقتها، لعله أخذ عن النساء اللائي ربما اكتسبنه من حمل الأثقال على رءوسهن. وكان المناخ مانعاً من العجلة مشجعاً على الكسل.

ولم يمنع تعدد الزوجات البغاء، ففي استطاعة البغايا توفير الإثارة التي أخمدها طول الألفة. وتخصصت غواني مصر في الرقصات الفاجرة، وبعض الآثار القديمة تكشف عن قدم هذا الإغراء. وكانت كل مدينة كبرى تخصص للبغايا حياً يمارسن فيه حرفتهن دون خوف من عقاب القانون. وكانت النساء اللائي يحذقن الراقصات الفاجرة، شأنهن في جميع الحضارات،

ص: 14

يستأجرن لهز أجسادهن أمام محافل الذكور، وفي بعض الحالات كانت النسوة أيضاً يستمتعن بمشاهدة هذا الرقص (17).

أما الموسيقى فكانت تخدم الحب والحرب، فهي تستفز المهاجمين وتهدي المهزومين. وكان الموسيقيون المحترفون من الجنسين يؤتى بهم للترفيه. كتب إدوارد لين في 1833 يقول "سمعت في القاهرة أعظم الموسيقيين شهرة وأطربتني أغانيهم أكثر من أي موسيقى أخرى استمتعت بها في حياتي (18). وكانت الآلة المفضلة هي "الكمنجة"، وهي ضرب من الفيولا النحيلة، ولها وتران من شعر الخيل على صندوق مصمت مصنوع من جوزة هند شقت بين وسطها ورأسها وغطيت بقشر سمك مشدود

(1)

. وكان العازف يتربع ويسند طرف الآلة المدبب على الأرض، ويضرب أوتارها بقوس من شعر الحصان وخشب الدردار. أو قد يقعد العازف وفي حجره قانون كبير وينقر الأوتار بريشة من القرن ملصقة بسبابتيه. وتحول العود القديم الآن إلى شكل الجيتار. فإذا أضفت تاياً، وماندولينا، وطمبورينا، اكتمل لك أوركسترا يروق الذوق المتحضر، خيراً من تلك الموسيقى البدائية التي تهيج اليوم المحافل الغربية.

أما "دول البربر" أي البلاد التي زعموا أنها "بربرية" أو همجية-وهي طرابلس وتونس والجزائر ومراكش-فقد دخلت التاريخ في القرن الثامن عشر أولاً بفضل بطولات قراصنتها أو اغتيال "باياتها" أو "داياتها" وقد احتفظت هذه الحكومات باستقلالها الفعلي بإرسالها "الهدايا" بين الحين والحين إلى السلاطين بالآستانة. وكان قوت الشعب يأتي أكثره من الزراعة أو القرصنة، وكانت الفدية التي تؤدى على الأسرى النصارى جزءاً هاماً من الدخل القومي: غير أن قباطنة القراصنة كان أكثرهم نصارى (19). أما الفنون فظلت محتفظة بوجود قلق، ولكن البنائين المغاربة احتفظوا بقدر من المهارة أتاح لهم أن يزركشوا بالقرميد الأزرق والأخضر المتألق "باب منصور" الفخم الذي أضيف في 1732 بوابة بقصر مولاي إسماعيل وجامعه الضخم

(1)

الوصف ينطبق على الربابة لا على الكمنجة (المترجم).

ص: 15

الذي ابتناه في القرن السابع عشر في مكناس، وكانت آنئذ مقر سلاطين مراكش. أما مولاي إسماعيل هذا فقد أقر النظام في حكمه الذي امتد خمسة وخمسين عاماً (1672 - 1727) وأنجب مئات الأبناء، ورأى في منجزاته ما يبرر طلب يد ابنة للويس الرابع عشر يضمها إلى حريمه (20). ويصعب علينا أن نسيغ أساليب حياة شديدة التباين ن أساليب حياتنا، ولكن قد يعيننا على ذلك أن نتذكر ملاحظة قالها رحالة مغربي عند عودته من زيارة إلى أوربا "يا لها من متعة أن يعود المرء إلى الحضارة"(21).

‌3 - الإسلام في فارس

1722 -

1789

ولو سئل رجل فارسي في هذه الحقبة لأعرب عن شعوره بالراحة شبيه بهذا عند عودته إلى وطنه بعد مقامه حقبة في الأقطار المسيحية أو حتى في أقطار العثمانيين المسلمين. فالفارسي المتعلم حتى سقوط الدولة الصفوية (1736) في أغلب الظن كان يضع المدنية الإيرانية في مرتبة أعلى من أي حضارة معاصرة، ربما باستثناء الصينية. وكان يستنكر النصرانية باعتبارها انتكاساً غلى الشرك الشائع بين العوام. ولعله كان يسلم بتفوق بلاد النصارى في العلوم والتجارة والحرب، ولكنه كان يؤثر الفنون على العلوم، والحرف اليديوة على الصناعة المميكنة.

كان القرن الثامن عشر قرناً أليماً على فارس. فأنى لإيران وقد غزاها الأفغانيون من الجنوب الشرقي، ولاحقتها غارات قناصة العبيد من الأزبك في الشمال الشرقي، وهاجمتها غارات السلب والنهب الروسية في الشمال، واجتاحتها المرة بعد المرة الجيوش التركية في الغرب، وأفقرها طغيان نادر شاه ملكها المحب للأبهة وتعسفه في جميع الضرائب، ومزق أوصالها الصراع الوحشي بين الأسر المتناحرة طمعاً في العرش الفارسي-نقول أني وكيف تستطيع إيران وقد ابتليت بهذا الاضطراب كله أو تواصل التقاليد العظمى للأدب والفن الفارسيين.

وكان البلد الذي نسميه الآن أفغانستان في القرن السادس عشر تتقاسمه

ص: 16

ثلاث حكومات: كابول الخاضعة للحكم الهندي، وبلخ الخاضعة للأزبك، وهراة وقندهار الخاضعتان للفرس. وفي 1706 - 8 ثار أفغانيو قندهار بقيادة مير (أمير) فايز وطردوا الفرس. وغزا ابنه مير محمود فارس، وخلع الحاكم الصفوي حسيناً، ونصب نفسه شاهاً. وقد دعم الدين سلاحه، لأن الأفغانيين كانوا يتبعون المذهب السني، ويكفرون الفرس المتشيعين. وقتل محمود في سورة غضب ثلاثة آلاف من حرس حسين وثلاثمائة من أشراف الفرس، ونحو مائتي طفل اشتبه في أنهم استنكروا قتل آبائهم. وبعد راحة طويلة قتل محمود في يوم واحد (7 فبراير 1725) جميع الأحياء من أفراد الأسرة المالكة خلاً حسيناً واثنين من أبنائه الصغار. ثم التاث عقل محمود، فقتله وهو لا يزال في السابعة والعشرين ابن عمه أشرف (22 أبريل 1725) الذي نادى بنفسه شاهاً. وهكذا بدأ سفك الدماء الذي هد كيان فارس في ذلك القرن.

واستنجد طهماسب بن حسين بروسيا وتركيا، فاستجابت بالاتفاق على اقتسام فارس فيما بينهما (1725). ودخل جيش تركي فارس واستول على همدان وقزوين والمراغة، ولكن هزمه أشرف قرب كرمانشاه. وكان الجنود الأتراك يفتقرون إلى الحماسة، فقد تساءلوا أي سبب يدعوهم لمقاتلة الأفغانيين، وهم أخوة لهم سنيون على شاكلتهم، ليردوا الصفويين الشيعيين الزنادقة إلى الحكم. وتصالح الأتراك مع أشرف ولكنهم احتفظوا بالأقاليم التي فتحوها (1727).

وبدا أن أشرف قد غدا الآن في أمان، ولكن ما مضي عليه عام حتى تحدى سلطانه المغصوب الدخيل ظهور رجل فارسي مغمور انقض على العدو في بضع سنين، فحقق انتصارات من أروع وأفظع ما سجله تاريخ الحروب قاطبة. وقد ولد هذا المقاتل واسمه نادر قيلي (أي عبد الله) في خيمة بشمال شرقي إيران (1686) وكان يعين أباه على رعي ما يملكان من قطعان الغنم والماعز، ولم يتح له من التعليم غير ما لقنته الحياة الشاقة المحفوفة

ص: 17

بالمخاطر. فلما بلغ الثامنة عشرة وخلف أباه كبيراً لأسرته اختطفه هو وأمه المغيرون الأزبك وحملوهما إلى خيوة حيث باعوهما عبيداً. وماتت الأم في ذل السر، ولكن نادراً هرب وأصبح زعيماً لعصابة لصوص، واستولى على كالات ونيشابور ومشهد، وأعلن ولاءه وولاء هذه المدن للشاه طهماسب، وتعهد بطرد الأفغانيين من فارس ورد عرش فارس إلى طهماسب. وقد أنجز هذا كله في حملات متلاحقة (1729 - 30) ورد طهماسب إلى عرشه، فعين نادراً سلطاناً على خراسان وسيستان وكرمان ومازندران.

وما لبث القائد المظفر أن شرع في استرداد الأقاليم التي استولت عليها تركيا. فاستطاع بهزيمة الترك هزيمة فاصلة في همدان (1731) أن يخضع العراق وأزربيجان لحكم الفرس. ثم نمى إليه نبأ تمرد في خراسان، فرفع الحصار عن أروان وزحف ألفاً وأربعمائة ميل عبر العراق وإيران ليحاصر هراة، وهو زحف يتضاءل بالقياس إليه الزاحف الشهير الذي عبر فيه فردريك الأكبر ألمانيا مراراً في حرب السنين السبع. ونزل طهماسب بشخصه أثناء ذلك إلى ساحة القتال ضد الترك فخسر كل ما كسبه نادر، ونزل عن جورجيا وأرمينيا لتركيا نظير تعهد الترك بمساعدته ضد روسيا (1732). فأسرع نادر قافلاً من الشرق وأنهى المعاهدة، وخلع طهماسب وسجنه، وأجلس على العرش غلاماً لطهماسب لم يجاوز عمره ستة أشهر باسم الشاه عباس الثالث، ونادى بنفسه وصياً على الصبي، وأرسل إلى تركيا إعلاناً بالحرب.

ثم زحف على الترك بجيش عدته ثمانون ألف مقاتل جندهم بالإقناع أو بالإرهاب. وعلى مقربة من سامراء التقى بجيش عرمرم من الترك يقودهم توبال عثمان من محفته لبتر ساقيه. وأطلقت النار مرتين على جوادي نادر أسفله، وفر حامل علمه ظناً منه أنه قتل، وانقلبت عليه فرقة عربية كان يعتمد على معونتها، وهكذا كانت هزيمة الفرس هزيمة نكراء ماحقة (18 يوليو 1733). ولكنه لملم فلول جيشه في همدان، وجند آلافاً

ص: 18

جدداً، وسلحهم وأطعمهم، ثم كر على الترك وبطش بهم في ليلان في مذبحة رهيبة لقي فيها توبال عثمان حتفه. ثم اندلعت ثورة أخرى في جنوب غربي فارس، فشق نادر طريقه من الغرب إلى الشرق، وهزم الزعيم المتمرد فانتحر. وفي عودته عبر فارس والعراق، التقى بثمانين ألف تركي في بغاوند (1735)، وهزمهم هزيمة نكراء أكرهت تركيا على إبرام صلح نزلت بمقتضاه لفارس عن تفليس وجوندة وأروان.

لم ينس نادر أن بطرس الأكبر هاجم فارس في 1722 - 23، واستولى على أقاليم جيلان وأستراباد ومازندران على بحر قزوين، وعلى مدينتي دربند وباكو. وكانت روسيا قد ردت الأقاليم الثلاثة لفارس (1732) لانشغالها في جهات أخرى. فهدد نادر الآن (1735) بالتحالفمع تركيا ضد روسيا إن لم تنسحب من دربند وباكو. وعليه سلمت إليه المدينتان، ودخل نادر أصفهان دخول الفاتح الظافر الذي أعاد بناء قوة فارس. فلما مات الصبي عباس الثالث (1736) مختتماً بموت ملك الصفويين، جمع نادر بين الواقع والمظهر، وارتقى العرش باسم نادر شاه.

وكان يؤمن بأن الخلافات الدينية بين تركيا وفارس تعمل على نشوب الحروب المتكررة، لذلك أعلن أن فارس ستتخلى منذ الآن عن بدعة التشيع وترتضي السنية مذهباً لها. فلما أدان زعيم الشيعة هذه الخطوة شنقه نادر بكل هدوء مستطاع. ثم صادر أوقاف قزوين الدينية ليفي بنفقات جيشه لأن فارس على حد قوله مدينة لجيشها أكثر مما هي مدينة لدينها (22). ثم إذ شعر بالحنين إلى الحرب، فأشرك معه في الملك ابنه رضا قلي، ثم قاد جيشاً من 100. 000 مقاتل ليفتح به أفغانستان والهند.

وضرب الحصار عاملاً كاملاً حول قندهار. فلما استسلمت له (1738) كان كريماً رحيماً مع المدافعين عنها، حتى أن جيشاً من الأفغانيين انضوى تحت لوائه وظل وفياً له إلى يوم مماته. ثم زحف على كابول مفتاح ممر

ص: 19

خيبر، وهناك أعانته الغنائم التي ظفر بها على رفع الروح المعنوية في جيشه. وكان محمد شاه، إمبراطور الهند المغولي، يأبى أن يصدق إمكان الغزو الفرس للهند، وكان أحد ولاته قد قتل مبعوث نادر إليه، فعبر نادر جبال الهملايا، واستولى على بشاور، وعبر السند، وزحف على دلهي حتى لم يعد بينه وبينها سوى ستين ميلاً قبل أن يهب جيشه محمد لمقاومته والتقى الجيشان الهائلان على بطاح كرنال (1739)، واعتمد الهنود على فيلتهم، أما الفرس فقد هاجموا هذه الحيوانات الصبورة بكرات النار، فانقلبت الفيلة هاربة وأشاعت الفوضى في جيش الهنود، وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عدد زاد على القتلى، ويروي نادر أن محمد شاه جاءه يلتمس الرأفة "أمام حضرتنا السماوية". (23) وفرض عليه القائد المنتصر تسليم دلهي وكل ثروتها القابلة للنقل تقريباً، والتي تقدر بـ 87. 500. 000 جنيه، بما فيها عرش الطاووس الأشهر، الذي كان قد صنع (1628 - 35) لشاه جيهان في أوج سطوة المغول. وقتل بعض جنود نادر في شغب أحدثه الأهالي، فانتقم بالسماح بجيشه بذبح 100. 000 من الوطنيين في سبع ساعات. واعتذر عن هذه الفعلة بتزويج ابنه نصر الله من ابنة محمد. ثم زحف قافلاً إلى فارس لا يعوقه عائق بعد أن أثبت أنه أعظم الفاتحين قاطبة منذ تيمور لنك.

وكان قدره المقدور أنه لو سرح جيشه فربما يعيث فساداً في الأرض ويشق عليه عصا الطاعة، ولو أبقى عليه جيشاً عاملاً فلزام عليه أن يكسوه ويطعمه، وكانت النتيجة التي خلص إليها أن الحرب أرخص له من السلم إذ استطاع خوضها على ساحة غريبة. فمن ترى يكون هدفه الآن؟ وتذكر غارات الأزبك على شمال شرقي فارس، وكيف باعوه عبداً، وكيف ماتت أمه في رقها. وإذن ففي 1740 قاد جيشه زاحفاً على أزبكستان، ولم يكن لأمير بخاري لا القوة ولا الميل للوقوف في وجه نادر، ومن ثم فقد أذعن، وأدى تعويضاً ضخماً، ووافق أن يكون نهر سيحون كما كان في القدم الحد بين أزبكستان وفارس. وكان أخاه خيوه قد أعدم مبعوث نادر،

ص: 20

فقتل نادر هذا الخان، وأطلق سراح آلاف من العبيد الفرس والروس (1740).

كان نادر بكل شخصيته مقاتلاً استغرقت الحرب عقله كله، فلم يعد فيه ذرة من الرغببة في الحكم والإدارة. وبات السلام عنده عبئاً ثقيلاً لا يطيقه. وجعلته الغنائم والأسلاب إنساناً جشعاً بخيلاً بدلاً من أن يكون جواداً كريماً. فحين ملأت خزائنه كنوز الهند أعلن تأجيل دفع الضرائب في فارس ثلاث سنين، ثم عدل عن رأيه وأمر بجمع الأموال كما كانت تجمع من قبل، وأفقر جباته فارس كما لو كانت بلداً مغلوباً. ثم خامرته الظنون بأن ابنه يتآمر على خلعه، فأمر بأن تفقأ عيناه. وقال له ابنه رضا قلي "إنك تفقأ عيني بل عيني فارس"(24). وبدأ الفرس يمقتون منقذهم كما تعلم الروس من قبلهم أن يمقتوا بطرس الأكبر. وأثار الزعماء الدينيون عليه بغض أمة طعنت في إيمانها الديني. فحاول أن يخمد التمرد المتعاظم بإعدام المتمردين بالجملة، حتى لقد بنى أهراماً من جماجم ضحاياه. وفي 20 يونيو 1747 اقتحم خيمته أربعة رجال من حرسه وهجموا عليه، فقتل اثنين منهم، ولكن الآخرين صرعاه. وتنفست فارس كلها الصعداء.

وهوت من بعد البلاد إلى درك من الفوضى أسوأ مما تردت فيه أيام سيطرة الأفغانيين. فطالب نفر من خانات الأقاليم بالعرش، وتلا ذلك مباراة في التقتيل والاغتيال. وقنع أحمد خان بتأسيس مملكة أفغانستان الحديثة. أما شاه رخ-الرجل الوسيم اللطيف الرحيم-فقد سملت عيناه بعد اعتلائه العرش بقليل، فتقهقر ليحكم خراسان حتى 1796. وخرج كريم خان منتصراً من الصراع، وأسس الأسرة الزندية (1750) التي احتفظت بسلطانها حتى 1794. واختار كريم شيراز عاصمة لملكه، وزينها بالمباني الجميلة، وساد جنوبي فارس تسعة وعشرين عاماً من نظام وسلام لا بأس بهما. فلما مات جعل التطاحن على السلطة يتخذ من جديد صورة الحرب الأهلية، وعادت الفوضى تضرب أطنابها من جديد.

اختتمت فارس آخر مراحلها الفنية العظمى بسقوط الدولة الصفوية على

ص: 21

يد الأفغانيين، فلم تجملها بعد ذلك غير بعض الآثار الفنية الصغيرة. وقد وصف اللورد كرزن مدرسة الشاه حسين (1714) بأصفهان-وكانت كلية لتدريب الدارسين والمحامين-بأنها "من أفخم الأطلال في فارس"(25). وتعجب السيربرسي سايكس من "قرميدها البديع

ورسومها المخرقة الجميلة" (26). وكان صناع القرميد لا يزالون أمهر صناعه في العالم بأسره، بيد أن افتقار الطبقات العليا نتيجة للحروب الطويلة قضى على سوق المهارة والتفوق وأكره الخزافين على الهبوط بفنهم إلى مستوى الصناعة. وصنعت أغلفة الكتب الفاخرة من الورق المعجن المصقول. وأنتج النساجون أقمشة مقصبة ومطرزة غاية في الرهافة. وظلت السجاجيد الفارسية تنسج للمحظوظين من شعوب كثيرة رغم أنها شهدت آخر أمجادها في عهد الشاه عباس الأول. وفي يوشاجان، وهراة، وكرمان، وشيراز على الأخص، كان النساجون ينتجون سجاجيد "لا يقلل من روعتها في عين الناظر إلا مقارنتها بأسلافها الكلاسيكية" (27).

أما الشعر الفارسي فقد حطم الفتح الأفغاني قلبه، وتركه أخرس أو كالأخرس طوال حقبة العبودية التالية لهذا الفتح. وحوالي 1750 صنف لطف على بك أدار-قاموساً بسير الشعراء الفرس، اختتم بستين من معاصريه. ومع هذه الوفرة الظاهرة فإنه آسف على ما رآه مجاعة في الكتاب المجيدين في عصره، وعزا ذلك إلى الفوضى والفقر السائدين، "واللذين استشريا بحيث لم يعد لإنسان رغبة في قراءة الشعر فضلاً عن قرضه"(28). ونسوق هنا تجربة نموذجية للشيخ على خازن، الذي نظم أربعة دواوين من الشعر، ولكنه أمسك في حصار الأفغانيين لأصفهان، ومات كل أهل بيته في الحصار، وظل هو على قيد الحياة، ثم أفاق من محنته، وهرب من أنقاض المدينة التي كانت رائعة الجمال يوماً ما، وأنفق الأعوام الثلاثة والثلاثين الباقية من أجله في الهند. وقد خلد في "مذكراته"(1742) ذكرى مائة شاعر فارسي في جيله، وأعظمهم في رأيه سيد أحمد هاتف الأصفهاني، ولعل أكثر قصائده ظفراً بالثناء تلك التي أكد فيها بوجد المتصوفة إيمانه بالله رغم الشك والدمار:

ص: 22

"في الكنيسة قلت لفاتنة نصرانية،

يا من يقع القلب في فخك أسيراً،

أنت التي يتعلق كل طرف شعرة من شعري بسدي منطقتك!

إلى متى تضلين الطريق إلى وحدانية الله؟

إلى متى تفرضين على الإله الواحد عار التثليث؟

كيف يتأتى أن تدعي الإله الحق الواحد أباً وابنا وروح القدس؟

فافتر ثغرها الجميل وقالت لي والضحك الحلو يتدفق منها:

إن كنت تعرف سر الإله الواحد فلا ترمني بسبة الكفر!

في ثلاث مرايا يشرق الجمال الأبدي بشعاع من وجهه الساطع.

وبينما نحن في حديثنا هذا انبعثت هذه الأنشودة بجوارنا من جرس الكنيسة:

"إنه إله واحد ولا إله سواه؟

"لا إله إلا الله وحده

في قلب كل ذرة تشقينها ترين شمساً في الوسط.

إن أنت بذلت لله كل ما تملكين، فلا حسب كافراً

إن أصابك مثقال ذرة من الخسران

سوف تعبرين الصراط الضيق وتبصرين الملكوت الرحب،

ملكوت الإله الذي لا يحده مكان .. ..

وسوف تسمعين ما لم تسمعه أذن، وترين ما لم تره عين،

حتى يأتوا بك إلى مكان لا تبصرين فيه من الدنيا وأهلها غير واحد أحد

إلى هذا الواحد ستبذلين الحب من قلبك وروحك،

حتى ترى بعين اليقين في جلاء لا خفاء فيه.

إنه إله واحد ولا إله سواه،

لا إله إلا الله وحده" (29).

ص: 23

الفصل السابع عشر

‌فاصل روسي

‌1725 - 1762

1 -

العمل والحكم

كتب فريدريك الأكبر حوالي عام 1776 يقول: "من بين جيران بروسيا أجمعين تستحق روسيا أعظم الاهتمام لأنها أخطرهم، فهي قوية وقريبة. وسيضطر حكام بروسيا القادمون كما اضطررت أنا للسعي إلى صداقة هؤلاء الهمج"(1).

وعلينا دائماً ونحن نفكر في روسيا أن نتذكر حجمها. كانت في عهد كاترين الثانية تضم أستونيا وليفونيا وفنلنده (بعضها)، وروسيا الأوربية، وشمالي القوقاز، وسيبريا. وقد اتسعت رقعتها من 687. 000 إلى 913. 000 كيلو متر مربع في القرن الثامن عشر، وزاد سكانها من ثلاثة عشر مليوناً في 1722 إلى ستة وثلاثين مليوناً في 1790 (2). وفي 1747 قدر فولتير سكان فرنسا أو ألمانيا بأنهم يزيدون قليلاً من سكان روسيا، ولكنه لاحظ أن روسيا تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة أي من الدولتين. وسيقوم الزمن والأصلاب الروسية بملء تلك المساحات الشاسعة.

وفي عام 1722 كان 97. 7% من سكان روسيا ريفيين، وظلت نسبتهم 96. 4% في 1790، فقد كان التصنيع يسير ببطء شديد. وفي 1762 كان كل الشعب إلا عشرة في المائة منه فلاحين، وكان 52. 4% من هؤلاء أقناناً (3)، ونصف الأرض يمتلكه نحو 100. 000 من النبلاء، ومعظم ما بقي منها تملكه الدولة أو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وبعضها

ص: 25

يملكه فلاحون شبه أحرار ما زالوا يلتزمون بأداء الخدمات وبالطاعة للسادة المحليين. وكانت ثورة الممالك تحسب بعدد أقنانه، من ذلك أن الكونت بيتر بلغت ثروته 140. 000 قن (4). وكان الأقنان الذين تمتلكهم الكنيسة وعددهم 992. 000 أهم جزء في ثروتها، وكان 2. 800. 000 قن يفلحون أراضي التاج في 1762 (5).

وكان الشريف يتكفل بالقيادة العسكرية والتنظيم الاقتصادي، وهو عادة معفى من الخدمة العسكرية ولكنه كثيراً ما تطوع بها أملاً في الحظوة عند الحكومة. وكان له حقوق محاكمة أقنانه، وله أن يعاقبهم، أو يبيعهم أو ينفيهم إلى سيبيريا. على أنه كان عادة يسمح لفلاحيه بإدارة شئونهم بواسطة مجلس قريتهم أو "المير" وكان القانون يلزمه بإمداد أقنانه بالبزار وبإعالتهم في فترات القحط. وقد ينال القن حريته بشرائها من مالكه أو بالانخراط في سلك الجيش، ولكن هذا مشروط في برضى الملك. وكان للفلاحين الأحرار حق شراء الأقنان وامتلاكهم، وكان بعض هؤلاء الأحرار ويلقبون "كولاكي"(أي القبضات)، يهيمنون على الشئون القروية، ويقرضون المال بالربا، ويبزون السادة الإقطاعيين استغلالاً وصرامة (6). وكان السيد والقن كلاهما متين السلالة، صلب العود، قوي الذراع واليد، عكفاً مع على تذليل التربة، واضطلعا معاً بعبء ترويض فصول السنة. وكانت المشاق أحياناً فوق ما يطيق البشر، بحيث نسمع مراراً بأقنان يهجرون مزارعهم في أعداد كبيرة ويختفون في بولندة أو الأورال أو القوقاز، وكان الألوف منهم يلقون حتفهم في الطريق، والألوف يتصيدهم الجند ويقبضون عليهم. وبين الحين والحين يهب الفلاحون في ثورة مسلحة على سادتهم وعلى الحكومة، وتنشب بينهم وبين الجيش معارك يستميتون فيها في الدفاع عن أنفسهم، ولكن الهزيمة تلاحقهم دائماً، فيزحف الأحياء منهم قافلين إلى واجباتهم-إلى إخصاب النساء بذريتهم، والتربة بدمائهم.

وقد درب بعض الأقنان على الفنون والحرف، فكانوا يمدون سادتهم بكل احتياجاتهم تقريباً. ويروي الكونت سيجور في معرضه حديثه عن

ص: 26

حفل أقيم لكاترين الثانية أن الشاعر الذي نظم الأوبرا والمؤلف الذي ألف موسيقاها، والمعماري الذي بنى قاعة الاستماع، والنقاش الذي زخرفها، وممثلي المسرحية وممثلاتها، والراقصين والراقصات في الباليه، والموسيقيين في الأوركسترا-كل أولئك كانوا أقناناً للكونت خريمتييف (7). وكان الفلاحون يصنعون في الشتاء الطويل الملابس والأدوات التي سيحتاجون إليها في السنة المقبلة. وكانت الصناعة في المدن بطيئة التطور، من جهة لأن كل بيت كان ورشة، ومن جهة أخرى لأن صعوبات النقل كانت عادة تضيق السوق فلا تجاوز الجهات المجاورة للمنتج. وشجعت الحكومة المشروعات الصناعية بتقديمها الاحتكارات للمحظوظين، وأحياناً بتزويدهم برأس المال، وقد وافقت على أن يشارك الأشراف في الصناعة والتجارة. وظهرت رأسمالية مبتدئة في صناعات التعدين والميتالورجيا والعتاد الحربي، وفي إنتاج المصانع للمنسوجات والخشب المنشور والسكر والزجاج. وسمح للـ "مقاولين" بشراء الأقنان لتزويد مصانعهم بالعمال، على أن هؤلاء "الفلاحين المملوكين" لم يكونوا مربوطين بالمالك بل بالمشروع، وألزمهم مرسوم حكومي صدر في 1736، هم ذريتهم، بالبقاء في مصانعهم حتى يؤذن لهم رسمياً بتركها. وكانوا في حالات كثيرة يعيشون في معسكرات منفصلين عن أسرهم في الغالب الأعم (8).

أما ساعات العمل فتتفاوت بين إحدى عشرة وخمس عشرة في اليوم للرجال، تتخللها ساعة الغداء، وأما الأجور فتتراوح بين أربعة روبلات وثمانية في اليوم للرجال، وبين روبلين وثلاثة للنساء. ولكن بعض أرباب العمل تكلفوا بإطعام عمالهم وإسكانهم ودفع الضرائب عنهم. وبعد عام 1734 ازداد تشغيل العمال "الأحرار"-أي غير الأقنان-في المصانع لأنه أتاح مزيداً من الحوافز للعمال وحقق مزيداً من الربح لحق العمل. وكان العمل من الرخص بحيث لا يشجع اختراع الآلات أو استخدامها، ولكن في عام 1748 استخدم بولزونوف آلة بخارية في مصانع الحديد التي ممتلكها بالأورال. (9)

ص: 27

وبدأت طبقة وسطى صغيرة عديمة الحول سياسياً تتشكل ببطء بين طبقتي النبلاء والفلاحين. ففي عام 1725 كان نحو ثلاثة في المائة من السكان تجاراً: أصحاب متاجر في القرى والمدن والأسواق، ومستوردين للشاي والحرير من الصين والسكر والبن والتوابل والعقاقير من وراء البحار، وللمنسوجات الفاخرة والخزف والورق من غربي أوربا، ومصدرين للخشب والتربنتينة والقار وشحم الحيوان والكتان والقنب. وكانت القوافل تسافر إلى الصين بطريق سيبيريا أو بحر قزوين، والسفن تقلع من ريجا وريفل ونارفا وسانت بطرسبرج. ولعل الأنهار والقنوات كانت تنقل من التجارة أكثر مما تنقله الطرق البرية أو البحرية.

وكانت موسكو تقع في قلب تلك التجارة الداخلية، وكانت من الناحية المادية أكبر مدن أوربا، إذ أنها بها شوارع طويلة عريضة، و484 كنيسة ومائة قصر، وآلاف الأكواخ والزرائب، ويكن بلغوا 277. 535 في 1780 (10)، والفرنسيون والألمان واليونان والإيطاليون والإنجليز والهولنديون والآسيويون يتحدثون لغاتهم ويعبدون آلهتهم كما يشاءون. وكانت سانت بطرسبرج قلعة الحكومة. ومعقلاً لأرستقراطية متفرنسة، ومركزاً للأدب والفن، أما موسكو فكانت قطب الديانة والتجارة، وتتسم بحياة نصف شرقية لم تخلع عنها طابعها الوسيط، وبوطنية وسلافية مشربة بالغيرة والإخلاص. هاتان كانتا البؤرتين المتنافستين اللتين تدور حولهما المدينة الروسية. حيناً تمزق الشعب شطرين كالخلية المنقسمة، وحيناً تحيله مركباً متوتراً سيصبح قبل ختام القرن مبعث الرعب لأوربا والحكم الفيصل في مصيرها.

وكان محالاً على شعب أضناه ووحشه صراعه مع الطبيعة، وأعوزته أسباب الاتصال أو الأمن على الحياة، وأفتقر أشد الافتقار إلى فرص التعليم وإلى الوقت الذي يفكر فيه-نقول إن شعباً كهذا كان محالاً عليه أن يحظى بامتيازات الديمقراطية في صورة من صورها، ومن ضرب عن النظام

ص: 28

الملكي في الحكم المركزي. وكان من الأمور التي لا بد من توقعها أن تتعرض الملكية للانقلابات المتكررة، تقوم بها أحزاب النبلاء المهيمنين على إمدادهم العسكرية للحكومة، وأن تسعى الملكية إلى الحكم المطلق، وأن تعتمد على الدين معواناً لجنودها وشرطتها وقضاتها على صيانة الاستقرار الاجتماعي والسلام الداخلي.

وكان الفساد عقبة كؤوداً سدت كل مسالك الإدارة. وحتى النبلاء الأثرياء الملتفون حول العرش كان من السهل اجتذابهم بـ "الهدايا". يقول كاستيرا الذي كان معاصراً تقريباً لهذه الحقبة "إن كان هناك عاصم الروس من التملق، فإنه ما من أحد منهم يستطيع مقاومة إغراء الذهب (11) ". وكان النبلاء يهيمنون على حرس القصر، ذلك الحرس المعز المذل، الذي يقيم الملوك ويخلعهم، ويؤلفون طبقة مميزة من الضباط في الجيش، ويملأون مجلس الشيوخ الذي كان يشرع القوانين في عهد اليزابيث، ويرأسون الوزارات (الكوليجيا) التي تهيمن على العلاقات الخارجية، والمحاكم، والصناعة، والتجارة، والمالية، ويعينون الكتبة الذين يواصلون السير على النظام البيروقراطي، ويوجهون اختيار الحاكم للمحافظين، الذين يديرون الـ "جوبرنيات" أي المحافظات التي انقسمت إليها الإمبراطورية ويختارون (بعد 1761)"الفويفوديين" الذين يحكمون الأقاليم. وكان مكتب الرقيب المالي المؤلف أكثره من رجال الطبقة الوسطى يبسط ظلله على جميع فروع الحكومة، وهو مكتب مخابرات اتحادي، مخول له أن يكشف ويعاقب الاختلاس، ولكنه ألقى نفسه محبطاً رغم استخدامه المخبرين على نطاق واسع. فلو أن الملك رفت كل موظف مذنب بالرشوة والفساد لتوقف دولاب الدولة. وكان في جباة الضرائب من الفهم للمال مالاً يبقى لخزانة الدولة مما يجمعون أكثر من ثلثه. (12)

‌2 - الدين والثقافة

كان للدين سلطان كبير في روسيا. لأن الفقر كان مدقعاً، ولأن تجار الأمل وجدوا مشترين كثيرين. واقتصرت الشكوكية على طبقة عليا

ص: 29

تقرأ الفرنسية، وكان للماسونية أتباع كثيرون في هذه الطبقة (13). أما سكان الريف وأكثر سكان المدن فكانوا يحيون في عالم فوق طبيعي قوامه التدين الذي يشيع فيه الخوف، يتخيلون الشياطين محيطة بهم، ويرسمون الصليب مراراً وتكراراً في اليوم، ويتضرعون للقديسين بالتشفع لهم، ويتعبدون لرفاتهم، يرهبون المعجزات، ويرتعدون فرقاً من النذر، ويخرون سجداً أمام الصور المقدسة، ويولولون بترانيم كئيبة تنطلق من صدور جهيرة. وكان للكنائس أجراس ضخمة قوية، وقد أقم بوريس جودونوف جرساً منها بلغ وزنه 882. 000 رطل، ولكن الإمبراطورة أنا إيفانو فينا بزته في هذا الميدان، إذ صب لها جرس يزن 432. 000 رطل (14). وعمرت الكنائس بالمصلين، وكانت الطقوس هنا أكثر مهابة ووقاراً والصلوات أكثر حماسة ووجدا منها في روما البابوية نصف الوثنية. أما القساوسة الروس-وكل منهم يلقب بالبابا-فكانت لهم لحي وشعر مرسل وأردية قاتمة تصل إلى أقدامهم (لأن مظهر السيقان يتعارض مع الكرامل والوقار). وقلما كانوا يختلطون بالنبلاء أو البلاط بل يعيشون في بساطة متواضعة، متبتلين في أديرتهم أو متزوجين في دورهم. وكان رؤساء الأديرة يحكمون الرهبان، والرئيسات يحكمن الراهبات؛ وكان الكهنة غير الرهبان يخضعون للأساقفة، وهؤلاء لرؤساء الأساقفة، وهؤلاء للمطارنة الإقليميين، وهؤلاء للبطريرك في موسكو؛ والكنيسة بجملتها تعترف برئيس الدولة رأساً لها. وخارج الكنيسة عشرات من الملل والنحل تتنافس في التصوف والتقوى والكراهية.

وأفاد الدين في بث ناموس أخلاقي حقق بالجهد خلق النظام وسط الدوافع القوية التي طبع عليها شعب بدائي. واتخذ نبلاء البلاط أخلاق الأرستقراطية الفرنسية وعاداتها ولغتها، وكانت زيجاتهم صفقات عقارية خفف من عبئها العشاق والخليلات. وكان نساء القصر أرقى تعليماً من رجاله، ولكنهن قد يتفجرن في لحظات الغضب بألفاظ حامية وعنف قاتل. أما عامة الشعب فكانت لغتهم سوقية غليظة، وكثر بينهم العنف، وكانت القسوة تتفق وقوة البدن وصفاقة الجلد. وكان كل إنسان يقامر ويسكر حسب طاقته،

ص: 30

ويسرق حسب منصبه (15)، ولكن الكل كانوا محسنين، وبزت الأكواخ القصور في كرم الضيافة. وكانت الوحشية والكرم صفتين شائعتين في المجتمع كله.

أما اللباس فيختلف من أزياء باريس العصرية في البلاط إلى القلانس من الفراء وجلد الغنم والقفازات الصفيقة التي يرتديها الفلاحون، ومن جوارب النبلاء الطويلة الحريرية إلى الأربطة الصوفية التي تحوي سيقان الأقنان وأقدامهم. وفي الصيف قد يستحم عامة الناس عراة في الأنهار متجاهلين الجنس. وكانت الحمامات الروسية كالتركية عنيفة ولكنها محبوبة. وفيما خلا هذا كان الاهتمام بالنظافة الصحية عارضاً، وحفظ الصحة العامة بدائياً. وكان انبلاء يحلقون لحاهم، أما عامة الشعب فيطلقونها رغم مراسيم بطرس الأكبر.

وكان في كل بيت تقريباً بالالايكا (جيتار)، وكان في سانت بطرسبرج على عهد اليزابيث وكاترين الثانية أوبرا مجلوبة من إيطاليا وفرنسا. وإليها وفد مشاهير المؤلفين والقادة الموسيقيين، وأبرع مغني العصر وعازفيه. وكان المال ينفق بسخاء على تعليم الموسيقى، وقد أثبت صوابه وفائدته بتفجير العبقرية الموسيقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان أصحاب الأصوات المبشرة من الذكور يرسلون من جميع أصقاع روسيا إلى الكنائس الكبرى لتدريبهم. ولما كانت الطقوس الكنسية اليونانية لا تبيح استعمال الآلات في الكورس، فإن الأصوات كانت حرة طليقة، فحققت من أعمال الانسجام والتناغم ما لم يكن له نظير في أي بلد آخر في العالم، وغنى الصبيان أدوار السوبرانو، ولكن المرتلين بأصوات الباص (العميقة الخفيفة) هم الذين أذهلوا كثيرين من الأجانب بمدى الخفض في أصواتهم وباتساع شعورهم من همسات الرقة والحنان إلى موجات القوة الحنجرية.

فمن تراهم مؤلفو هذه الموسيقى المؤثرة لفرق الترتيل الروسية، أكثرهم رهبان مغمورين لم تقرع الأجراس لموتهم ولم تشتهر أسمائهم. ويبرز

ص: 31

من بينهم راهبان في القرن الثامن عشر. أولهما سوزونوفتش بيريزوفسكي الصبي الأوكراني الذي وهب صوتاً كأنما خلق ليتعبد الله. وأوفدته كاترين الثانية إلى إيطاليا على نفقة الدولة ليحصل أفضل التعليم الموسيقي، وعاش سنوات في بولونيا، وتعلم التأليف الموسيقي على البادري مارتيني. فلما عاد إلى روسيا كتب موسيقى دينية جمعت بين القوة الروسية والرشاقة الإيطالية. وقوبلت جهوده لإصلاح ترتيل الكورس بالمقاومة من أنصار القديم، فبات فريسة لاكتئاب مرضى، وقتل نفسه غير مجاوز الثانية والثلاثين (1777)(16). أما الثاني، وهو أشهر منه، فاسمه ديمتري بورتنيانسكي، الذي أدخل وهو لا يزال طفلاً في السابعة كورس كنيسة البلاط، وناطت الإمبراطورة اليزابيث جالوبي بتعليمه، فلما عاد جالوبي إلى إيطاليا أوفدت كاترين الثانية ديمتري معه إلى البندقية ومنها انتقل إلى يد البادري مارتيني ثم إلى روما ونابلي، حيث ألف موسيقى على الطريق الإيطالية. وفي 1779 عاد إلى روسيا، وسرعان ما عين مديراً لكورس كنيسة البلاط، وقد احتفظ بمنصبه هذا حتى مماته (1825). وقد ألف لفرقة الترتيل قداساً يونانياً، وموسيقات في أربعة وثمانية أقسام لخمسة وخمسين مزموراً. وتدريبه للفرقة يرجع له أكثر الفضل في بلوغها مكانة من التفوق جعلتها إحدى عجائب العالم الموسيقي. وفي 1901 احتفلت سانت بطرسبرج بذكرى ميلاده المائة والخمسين بمظاهر الأبهة والفخامة.

أما الفن الروسي فقد سيطر عليه التأثير الفرنسي، ولكن الشخصية القائدة فيه كان إيطاليا يدعى فرانشيسكو، (أوبارتولوميو) راستريللي. وكان بطرس الأكبر قد استقدم أبلي كارلو إلى روسيا (1715)، فصب بالبرونز تمثالاً لبطرس ممتطياً صهوة جواد، وآخر بالحجم الطبيعي للإمبراورة أنا أيفانوفنا. وورث الابن طراز لويس الخامس عشر الذي جلبه كارلو من فرنسا، وأضاف إليه بعض ما استوحاه من روائع الباروك التي صنعها بلتازار نويمان وفيشر فون أرلاخ في ألمانيا والنمساء، وقد طوع هذه التأثيرات لحاجات روسيا وطرزها الفنية بانسجام فائق حتى أصبح المعماري المقرب للقيصرة اليزابيث. ويكاد يكون كل بناء روسي ذي خطر

ص: 32

مشيد من 1741 إلى 1763 مصمماً بيده أو بيد معاونيه. فعلى ضفة نيفا اليسرى أقام (1732 - 54)"القصر الشتوي" الذي أحرق في 1837 ولكن أعيد بناؤه طبقاً لتصميمه الأصلي فيما يظن: كتلة هائلة من النوافذ والعمد في ثلاث طبقات، تعلوها التماثيل والشرفات المفرجة؛ وكان أقرب منه إلى ذوق اليزابث قصر زاركوي سيلو (أي قرية القيصر)، المشيد على ربوة تبعد خمسة عشر ميلاً جنوبي سانت بطرسبرج. وعلى يساره بني كنيسة، وفي داخل القصر كان سلم فخم يؤدي إلى قاعة كبرى تضيئها نوافذ ضخمة بالنهار وست وخمسون ثرياً بالليل؛ وفي الطرف الأبعد قاعة العرش وأجنحة الإمبراطورة، ثم حجرة صينية تقدم فروض الإجلال التي درج القرن الثامن عشر على تقديمها للفن الصيني. وهناك "حجرة الكهرمان" المكسوة بألواح من الكهرمان والتي أهداها فردريك وليم الأول بديلاً لخمسة وخمسين من رماة القنابل اليدوية الفارعي الأجسام، وقاعة للصور تضم بعض المجموعات الإمبراطورية. أما داخل القصر فأكثره بزخرفة ركوكية، وصفها رحالة إنجليزي بأنها "مزيج من الهمجية والفخامة"(17). وقد أزيلت بأمر كاترين الثانية زخارف الواجهة الذهبية، فقد كانت كاترين بسيطة نقية في ذوقها.

وكان الأدب أبطأ تطوراً من الفن. فقد افتقد التشجيع لندرة القراء، وقيدت رقابة الكنيسة والدولة حرية التعبير، ولم تكن اللغة الروسية قد صقلت ذاتها نحواً ولفظاً بحيث ترقى إلى مستوى الأداة الأدبية. ومع ذلك فحتى قبل تولي اليزابيث العرش (1742 (ترك ثلاثة من الكتاب بصماتهم على صفحة التاريخ. وأولهم فازيلي تايتشيف-كان صاحب نشاط وفكر، رحالة مؤرخاً، دبلوماسياً وفيلسوفاً، يحب روسيا ولكنه يفتح عقله في تشوق للتطورات الاقتصادية والفكرية في الغرب. وكان واحداً من ذلك النفر من الشباب الذين أوفدهم بطرس إلى الخارج بغية إخصاب روسيا فكرياً. وقد أعاد بأفكار خطرة: فقد قرأ الأصول أو الخلاصات لكتب

ص: 33

بيكون وديكارت ولوك وجروتيوس وبيل، وذبل إيمانه السني، فلم يؤيد الدين إلا بوصفه معواناً على الحكم (18). وقد خدم بطرس في حملات حربية خطرة. وأصبح حاكماً لأستراخان، واتهم بالاختلاس. (19) واجتمع له من جولاته ذخيرة من المعلومات الجغرافية والعرقية والتاريخية انتفع بها في كتابه "تاريه روسيا". وقد أغضب هذا الكتاب رجال الدين، ولم يجرؤ أحد على طبعه حتى السنوات السمحة الأولى من حكم كاترين الثانية (1768 - 1774).

وواصل ثاني هؤلاء الكتاب الثلاثة-وهو الأمير أنطيوخ كانتمير-التمرد على الهوت. كان ابناً لحاكم (هوسبودار) ملدافي، وجيء به إلى روسيا في عامه الثالث، وتعلم الحديث بست لغات، وخدم في السفارات الروسية في لندن وباريس، والتقى بمونتسكيو وموبرتوي، فلما عاد كتب نقداً لاذعاً لأولئك الغلاة من الوطنيين الداعين للجامعة السلافية، المعارضين لتلويث الحياة الروسية بالأفكار الغربية. وإلى القارئ طرفاً من قصيدته "إلى عقلي":

"أيها العقل الفج، يا ثمرة الدراسات الحديثة، أمسك، ولا تدفع القلم في يدي

ما أكثر الطرق السهلة المؤدية في زماننا هذا إلى أسباب التشريف، ولكن أقل الطرق تقبلاً هو الطريق الذي خططته الأخوات الحافيات التسع (ربات الفنون)

عليك أن تكد وتكدح هناك، وبينما تشقى أنت يتجنبك الناس كأنك الوباء ويتهكمون عليك، ويبغضونك

"أن الذي يكب على الكتب ينقلب كافراً"، هكذا يدمدم كريتو متذمراً في يده مسبحته

ويريدني أن أرى مبلغ الخطر في بذرة المعرفة التي تلقى بيننا: إن أطفالنا ..... مما يفزع الكنيسة، بدأوا يقرأون الكتاب المقدس، وهم يناقشون كل شيء ويريدون معرفة العلة لكل شيء، ولا يضعون في رجال الدين إلا أقل الثقة

إنهم لا يوقدون الشمع أمام الصور، ولا يحفظون المواسم والأعياد

"أيها العقل، نصيحتي لك أن تصبح أشد صمماً من قطعة زلابية،

ص: 34

ولا تشك لأنك مغمور

وإذا كانت الحكمة المنعمة قد علمتك شيئاً،

فلا تشرحه لغيرك" (20).

وزاد كانتيمير من إساءاته بترجمته كتاب فونتنيل "أحاديث حول تعدد العوالم"، وقد أدين الكتاب لأنه كوبرنيقي، مهرطق، مجدف، ولكن كانتيمير أحبط ما بيته له مضهدوه، فقد مات وهو في السادسة والثلاثين (1744). ولم تجد هجائياته ناشراً يقدم على نشرها حتى عام 1762.

وفي عهد القيصرة اليزابيث بدأ الأدب الروسي يؤكد ذاته شيئاً أكثر من مجرد كونه صدى للأدب الفرنسي. وقد شعر ثالث هؤلاء الكتاب، وهو ميخائيل لومونوزف، بالتأثير الألماني لا الفرنسي، وكان قد درس في ماربورج وفرايبورج، ثم تزوج فتاة ألمانية، وجلب معها إلى سانت بطرسبرج حملاً ثقيلاً من العلم. وأصبح سبع الأكاديمية المبرز في كل شيء حتى في الشراب (21). ورفض أن يتخصص، فكان عالماً في المعادن، وجيولوجياً، وكيميائياً، وكهربائياً، وفلكياً، واقتصادياً، وجغرافيا، ومؤرخاً، وفيلولوجياً، وخطيباً. وقد لقبه بوشكن "أول جامعة روسية" (22) وفي غمار هذا كله كان يقرض الشعر:

وكان منافسه الأكبر على ثناء الطبقة المفكرة هو ألكسيس سوماروكوف الذي نشر ديواناً من القصائد الغنائية من نظمه ونظم لومونوسوف ليظهر أنه أشعر منه (وكان الفرق بينهما طفيفاً). أما مفخرة سوماروكوف الحقيقية فهي إنشاؤه مسرحاً قومياً روسياً (1756) ألف له تمثيليات رددت صدى تمثيليات راسين وفولتير. وقد ألزمت اليزابيث حاشيتها بالحضور، وكانوا لا يدفعون أجراً عن دخول المسرح، فشكا سوماروكوف من أن راتب الخمسة آلاف روبل الذي يتقاضاه في العام لا يقيم أوده، ولا يعين مسرحه على الحياة. "إن ما كان الناس يشهدونه في أثينا يوماً وما يشهدونه اليوم في باريس، يشهدونه كذلك في روسيا بفضل اهتمامي

وفي ألمانيا لم يوفق حشد من الشعراء لما وفقت إلى صنعه بجهودي أنا وحدي" (23).

ص: 35

وفي 1760 أعيا من هذه الجهود المضنية فشد رحاله إلى موسكو، ولكن ميله للشجار ما لبث أن أورثه الفقر هناك. فناشد كاترين الثانية أن تبعث به إلى الخارج على نفقة الدولة، وأمد لها أنه "لو وصف أوربا قلم كقلمي، لما كفاه 300. 000 روبل"(24) واحتملته كاترين في صبر حتى مات صريع الشراب (1777).

ولنبعث الآن شيئاً من الإشراق في هذه الصفحات بقصة غرام بطلتها أميرة اسمها ناتاليا بوريسوفنا دولجوروكايا، وكانت ابنة الكونت والمشير بوريس خريميتيف، رفيق سلاح بطرس الأكبر. ففي ربيعها الخامس عشر (1729) يوم كانت "باهرة الجمال ومن كار الوارثات في روسيا"(25) خطبت لفاسيلي لوكيش دولجوروكي، أقرب المقربين للقيصر بطرس الثاني. وقبل أن يتاح عقد القران مات بطرس، فنفى خلفه فاسيل إلى سيبريا، وأصرت ناتاليا على أن تتزوجه وتتبعه إلى المنفى. وعاشت معه ثمانية أعوام في تبولسك، وولدت له طفلين. وفي عام 1739 أعدم، وبعد أن قضت في المنفى ثلاثة أعوام أخرى سمح لها بالعودة إلى روسيا الأوربية فأكملت تعليم أبنائها، ثم دخلت ديراً في كييف. هناك، واستجابة لرجاء ولدها ميخائيل، كتبت "مذكراتها"(1768) التي نشرها حفيدها الشاعر الأمير إيفان ميخايلوفيتش دولجوروكي في 1810. وقد أحيا ذكراها ثلاثة عراء روس، وهي محل إجلال روسيا باعتبارها نموذجاً للكثيرات من النساء الروسيات اللاتي شرفن الثورة ببطولتهن ووفائهن.

والخلاصة أن الحضارة الروسية في جملتها كانت مزيجاً من الانضباط الحتمي والاستغلال القاسي، ومن التدين والعنف، ومن الصلاة والتجديف، ومن الموسيقى والتبذل، ومن الوفاء والقسوة، ومن الخضوع الذليل والبسالة التي لا تقهر. ولم يستطيع القوم أن يكتسبوا فضائل السلم لأنه كان لزاماً عليهم أن يخوضوا، خلال فصول شتاء مديدة، وليالي قارسة البرد طويلة، حرباً مريرة مع الرياح القطبية التي تكتسح سهولهم المتجمدة دون ما حاجز يعوقها. إنهم لم يعرفوا قط النهضة الأوربية ولا الإصلاح

ص: 36

البروتستنتي، ومن ثم كانوا-إلا في عاصمتهم المتكفلة-لا يزالون أسرى قيود اعصر الوسيط. وكانوا يعزون أنفسهم بكبرياء العرق ويقين الإيمان، دون أن يبلغ ذلك بعد مبلغ النزعة القومية الإقليمية، إنما كان اقتناعاً ضارياً بأنه بينما كان الغرب يورد نفسه موارد الهلاك بالعلم والثروة والوثنية والكفر، أقامت "روسيا المقدسة" وفية لمسيحية آباء الكنيسة الأولين، أقرب الأمم إلى قلب المسيح وأحبها إليه، وإليها سيؤول حكم العالم وافتداؤه، يوما ما.

‌3 - السياسة الروسية

1725 -

1741

ليس تاريخ روسيا ما بين بطرس الأكبر واليزابث بتروفنا إلا سجلاً كئيباً محيراً من الدسائس وثورات القصر. فهذه الحقبة تتيح لنا-إن كان لحقبة ما أن تتيح-ونحن مطمئنون-أن نوفر في الحيز والوقت. ومع ذلك فلا مناص من ذكر بعض عناصر هذا الخليط إن أردنا أن نفهم مركز كاترين الكبرى وخلقها وسلوكها.

كان الوريث الطبيعي للعرش عام 1725 بيوتر ألكسيفتش، صبي العاشرة وابن ألكسيس (وألكسيس هو الابن القتيل لبطرس الأكبر)، ولكن أرملة بطرس التي لم تعرف القراءة والكتابة أقنعت حرس القصر (بدفعها رواتبهم التي طال تخلفها) بأنه عينها خلفاً له، وبفضل تأييدهم أعلنت (7 فبراير 1725) توليها العرش باسم كاترين الأولى، إمبراطورة إقليم روسيا كلها. ولكن كاترين الصغرى هذه انغمست بعد ذلك في الشراب والفسق. وكانت تحب الخمر حتى تغيب عن وعيها كل مساء، وتمضي إلى فراشها عادة في الخامسة صباحاً، وقد تركت زمام الحكم لعشيقها السابق الأمير الكسندر دانيلوفتش منشيكوف ومعه مجلس أعلى، -واضطلع الكونت أندراي أوسترمان، الألماني المولد، بالشئون الخارجية ووجه روسيا إلى مصادقة ألمانيا والنمس ومعاداة فرنسا. وعملاً بمخططات

ص: 37

بطرس الأكبر، زوجت كاترين ابنتها آنا بتروفنا لكارل فريدرش، دوق هولشتين-جوتورب، وذهب العروسان ليعيشا في كيل، حيث ولدت آنا الغلام الذي صار فيما بعد بطرس الثالث. أما كاترين نفسها، فقد ماتت في 6 مايو 1727 شهيدة لذاتها، بعد أن عينت خلفاً لها الصبي بيوتر الكسيفيتش الذي اغتصب عرشه من قبل.

ولم يكن بطرس الثاني هذا يتجاوز الثانية عشرة، فظل منشيكوف يواصل الحكم، واستغل سلطاته في الإثراء تحسباً للمستقبل. فهب لفيف من النبلاء بزعامة الأخوين إيفان وفاسيلي لوكيتش دولجوروكي فأطاحوا بمنشيكوف ونفوه إلى سيبيريا حيث مات في 1729. ولم يمض عام حتى لقى بطرس الثاني حتفه بالجدري، وانتهى بموته صلب الذكور في أسرة رومانوف. هذا الحادث المؤسف هو الذي أتاح لروسيا أن تحكمها على مدى ستة وستين عاماً ثلاث نساء ضارعن، أو فقن، أكثر معاصريهن من الملوك كفاءة تنفيذية وآثاراً سياسية، وسبقنهم جميعاً-باستثناء لويس الخامس عشر-في مضمار العربدة الجنسية.

أما أولى هؤلاء القيصرات فهي آنا إيفانوفنا، ابنة إيفان الكسيفيتش البالغة خمسة وثلاثين عاماً، وأبوها كان الأخ الأبله لبطرس الأكبر. وقد اختارها المجلس الأعلى لأنها اكتسبت سمعة واقية بالوداعة والطاعة. ووضع المجلس الذي كان يهيمن عليه آل دولجوروكي وجولتسين "شروطاً" بعثوا بها إلى آنا وهي في كورلاند، لا بد من قبولها لتثبيتها على العرش. فوقعت على الشروط (28 يناير 1730). ولكن لا الجيش ولا الاكليروس أرادوا إحلال الاولجركية محل الأوتقراطية. لذلك انطلق وفد من حرس القصر للقاء آنا، والتمس منها أن تتقلد زمام السلطة المطلقة. فاستوحث الشجاعة من أسلحتهم، ومزقت "الشروط" على مرأى من الحاشية.

وكانت آنا عديمة الثقة بالنبلاء الروس، فاستقدمت من كورلاند الألمان الذين كانوا يمتعونها هناك. فأصبح إرنست فون بورن، أو بيرون

ص: 38

عشيقها السابق رئيساً للحكومة، ورد أوسترمان لرياسة الشئون الخارجية، وأعاد الكونت خريستوف فون مونيش تنظيم الجيش، وساعد لوفنفولدي وكورف، وكيزرلنج، على تطعيم نظام الحكم الجديد ببعض الكفاية الألمانية. فجمعت الضرائب بصرامة يقظة، ووسع التعليم وأدخلت عليه التحسينات، وهيئ للدولة جهاز مدرب من الموظفين المدنيين. وبمثل هذه الفاعلية سجنت الحكومة أو نفت أو أعدمت الدولجوروكيين والجولتسينيين.

وعاشت آنا عيشة منتظمة نسبياً، بعد أن قنعت بعشيقين (بيرون ولوفنفولدي)، فكانت تستيقظ في الثامنة، وتخص ثلاث ساعات لشئون الحكم، وتبتسم ابتسامة الرضى، إذ يبسط رجالها الألمان سلطان روسيا. فغزا جيش يقوده مونيش بولنده، وخلع ملكها ستانسلاس لسكزنسكي-الخاضع لتوجيه الفرنسيين-وأجلس على عرشه أوغسطس الثالث السكسوني، واتخذ أول خطوة على طريق ربط بولنده بالروسيا. وردت فرنسا بأن حرضت تركيا على أن تهاجم روسيا، ولكن السلطان تردد لانشغاله على جبهته الفارسية، فرأت روسيا الفرصة مواتية لإعلان الحرب على تركيا، وهكذا بدأت (1735) ستون سنة من صراع السيادة على البحر الأسود. وشرح دبلوماسيو آنا الموقف فقالوا إن الأتراك، أو من يلوذ بهم في جنوبي روسيا، في يدهم مخارج الأنهار الخمسة الكبرى-دنيستر، وبوج، ودنيير، ودون، وكوبان-التي كانت أهم مسالك التجارة الروسية المتجهة جنوباً، وأن القبائل الإسلامية نصف الهمجية التي سكنت الأحواض الدنيا لهذه الأنهار هي خطر دائم يتهدد مسيحيي روسيا، وأن الشواطئ الشمالية للبحر الأسود جزء طبيعي وضروري من روسيا، وأن شعباً عظيماً نامياً كالشعب الروسي يجب ألا يحال بعد اليوم بينه وبين الوصول إلى البحر الأسود والبحر المتوسط دون معوق، وقد ظلت هذه الحجج الأنشودة المتكررة التي ظلت تتغنى بها روسيا طوال ما بقي من القرن وما بعده.

أما أول الأهداف فكان القرم، شبه الجزيرة الذي يقوم معقلاً تركياً

ص: 39

على الجبهة الشمالية للبحر الأسود. وكان الاستيلاء على شبه الجزيرة تلك هو الغاية التي استهدفتها حملة مونيش عام 1736. وكان أعدى أعدائه في هذه الحملة المسافات المترامية والمرض

ذلك أنه كان عليه أن يعبر 330 ميلاً من القفار والبراري التي لا تستطيع لبلدة واحدة من بلادها أن تقدم الطعام أو الدواء لجيش عدته 57. 000 مقاتل، وكان لزاماً أن ترافقهم ثمانون ألف عربة في طابور طويل معرض في أي نقطة أو لحظة لهجوم قبائل التتار عليه. واستطاع مونيش بفضل قيادته الماهرة أن يستولي في تسعة وعشرين يوماً على بريكوب، وكوسلوف، وبخشيسراي (عاصمة القرم)، ولكن في ذلك الشهر تفشت الدوسنطاريا وغيرها من الأمراض في جيشه فأحدثت من الشقاء والتمرد بين رجاله ما أكرهه على التخلي عن فتوحه والتقهقر إلى أوكرانيا، واستولى أثناء ذلك قائد آخر من قواد آنا على آزوف المشرفة على مصب نهر دون.

وكر مونيش على الجنوب في أبريل 1737 بسبعين ألف مقاتل، واستولى على أوخاكوف، قرب مصب نهر بوج. وفي يونيو انضمت إليه النمسا في مهاجمة الترك، ولكن حملتها باءت بفشل ذريع ألجأها إلى إبرام صلح منفرد، أما روسيا التي تركت فجأة لتواجه الجيش التركي برمته، والتي كانت تتوقع حرباً مع السويد، فقد وقعت (18 سبتمبر 1739) صلحاً رد إلى الأتراك تقريباً كل ما كسبه الروس في حملات ثلاث. واحتفل بالمعاهدة في سانت بطرسبرج على أنها انتصار باهر لم يكلف أكثر من مائة ألف قتيل.

وعاش آنا بعد سنة الحرب، وقبيل موتها عينت وريثاً للعرش، إيفان السادس، الغلام الذي لم يتجاوز عمره ثمانية أسابيع: وهو ابن بنت أختها آنا ليوبيو لدوفنا الألمانية المولد وأنطون أولريش أمير برنزويك. وأوصت أن يكون بيرون وصياً على إيفان حتى يبلغ السابعة عشرة. ولكن مونيش وأوسترمان كانا الآن قد نالهما من بيرون ما يكفي، فانضما إلى أولريش وليوبولدوفنا ونفوه إلى سيبيريا (9 نوفمبر 1740). وأصبحت

ص: 40

آنا ليوبولدوفنا وصية، ومونيش "الوزير الأول". وخشي السفيران الفرنسي والسويدي أن يسيطر التيوتون على روسيا سيطرة كاملة، فمولا ثورة يقومبها الأشراف الروس. واختار الثوار سراً مرشحاً للعرش في اليزافيتا بتروفنا ابنة بطرس الأكبر وكاترين الأولى.

وكانت اليزابث، كما سندعوها هنا. في الثانية والثلاثين من عمرها، ولكنها في أوج حسنها وشجاعتها ونشاطها، تحب الألعاب الرياضية والتدريب العنيف، ولكنها أيضاً ولوعة بمتع الغرام، وقد رفهت عن سلسلة من العشاق، ولم تظفر بقدر يذكر من التعليم، وكانت تكتب الروسية بصعوبة وتتكلم الفرنسية بطلاقة. ويبدو أن فكرة تشريفها العرش لم تخطر لها ببال إلى أن نحتها آنا ليوبولدوفنا وأوسترمان جانباً مؤثرين عليها الأجانب. فلما أمرت الوصية فرق سانت بطرسبرج بالرحيل إلى فنلندة، وتذمر الجند لأنهم سيواجهون حرب شقاء، اغتنمت اليزابث الفرصة، فلبست الزي العسكري، وقصدت ثكنات الجند في الساعة الثانية من صباح 6 ديسمبر 1741، وناشدتهم أن يناصروها، ثم ركبت مركبة الجليد إلى القصر الشتوي على رأس فوج من الجيش وأيقظت الوصية، وزجت بها هي والقيصر والطفل في السجن. فلما استيقظت المدينة وجدت أن لها حاكماً جديداً، إمبراطورة روسية خالصة، وابنة لبطرس العظيم. واغتبطت روسيا وفرنسا بهذا الحدث.

‌4 - إليزابث بتروفنا

1741 -

1762

من العسير فهم هذه المرأة خلال ضباب الزمن والأهواء. وحين لقيتها كاترين الثانية في 1744 "راعها منها جمالها وجلال سلوكها .. ومع أنها كانت بدينة جداً، فإن بدانتها لم تنل قط من حسنها أو تجعل حركتها ثقيلة مضطربة

رغم ارتدائها طوقاً هائلاً لتنورتها حين تكتمل زينتها (26) ". وكانت تبطن الشكوكية إلى شفا الإلحاد (27)، وتظهر الغيرة

ص: 41

على الديانة التقليدية. وقد لاحظ مراقب فرنسي "ميلها السافر للشراب"(28)، ولكن علينا أن نتذكر أن روسيا بلداً بارداً وأن الفودكا تدفئ شاربها. وقد رفضت أن تتزوج مخافة أن يبدد الزوج قوتها ويضاعف من أسباب الخلاف والخصومة. ويزعم البعض أنها تزوجت سراً الكسيس رازموفسكي، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن سوى الأول بين أقران عديدين. وكان فيها غرور وخيلاء، وولع بالحلي والملابس المبهرجة، ولها خمسة عشر ألف ثوب، وأكوام من الجوارب، و2500 حذاء (29)، وقد استعملت بعضها قذائف أثناء النقاش، وكان في استطاعتها أن توبخ خدمها وحاشيتها بلغة السوقة، وقد صدقت على بعض العقوبات القاسية، ولكنها كانت في سريرتها رحيمة الفؤاد (30). ألغت عقوبة الإعدام إلا على جريمة الخيانة (1744)، ولم تسمح بالتعذيب إلا في أخطر المحاكمات؛ أما عقوبة الجلد فقد بقيت نافذة، ولكن اليزابث كانت تشعر أنه لا بد من إيجاد وسيلة لتثبيط المجرمين الذين جعلوا الطرق العامة وشوارع المدن غير مأمونة في الليل، وقد جمعت في طبعها بين القلق والكسل، ووهبت ذكاءً فطرياً حاداً، وأعطت وطنها خير حكومة سمحت بها حالة التعليم والأخلاق والعادات والاقتصاد الروسي.

وبعد أن نفت أوسترمان ومونش إلى سيبيريا، أعادت مجلس الشيوخ إلى قيادة السلطة الإدارية، ووكلت الشئون الخارجية إلى ألكسي بتروفيش بستوزيف-ريومين. وقد وصفته كاترين الثانية بأنه "دساس كبير، سيئ الظن بالناس، حازم جريء في مبادئه، عدواً لا يعرف الصفح، ولكنه صديق صدوق لأصدقائه"(31). وكان مشغوفاً بالمال كما يشغف به عادة من يعرفون أن سمو المنصب قد يفضي إلى السقوط، وحين حاولت إنجلترة أن ترشوه قدرت أن نزاهته تكلف 100. 000 كراون (32). ولا علم لنا إن كانت الصفقة قد تمت، ولكن بستوزيف وقف بوجه عام في صف إنجلترة ولكن هذا كان رداً طبيعياً على تأييد فرنسا للسويد وتركيا ضد روسيا. وقد عرض فردريك الأكبر هو الآخر على بستوزيف 100. 000 كراون إلى ألف بين روسيا وبروسيا، ولكن العرض رفض (33). وبدلاً منه

ص: 42

ألف بستوزيف بين روسيا والنمسا (1745) وإنجلترة (1755). فلما اتبعت إنجلترة هذا التحالف مع بروسيا (16 يناير 1756) تهدم بناء الأحلاف الذي أقامه بستوزيف، وأهملت اليزابيث بعدها الأخذ بنصائحه، وربطت وزارة جديدة روسيا بحلف فرنسي-نمساوي كان "نقضاً للأحلاف السابقة: وكان رحى حرب السنين السبع دائرة.

وقد رأينا في موضع سابق من هذا الكتاب-وما أبعد الشقة بيننا وبينه-كيف هزم القائد الروسي أبراكسين البروسيين في جروس بيجرزدورف (1757)، ثم سحب جيشه إلى بولندة. وأقنع سفيرا فرنسا والنمسا اليزابث بأن بستورزيف كان قد أمر بتقهقر أبراكسين وأنه يتآمر لخلعهما. فأمر بالقبض على المستشار والقائد جميعاً (1758). ومات أبراكسين في السجن، وأنكر بستورزيف التهمتين، وقد برأت ساحته المعلومات التي أنيط عنها اللثام فيما بعد. وأراد خصومه أن يعذبوه ليعترف، ولكن اليزابث كفتهم، وحل ميخائيل فورونستوف محل بستوزيف مستشاراً.

وفي غمار حفلات البلاط الراقصة، وموائد قماره ودسائسه وغيراته وأحقاده، كانت اليزابث تشجع معاونيها على دفع المدنية الروسية قدماً. ففتح محسوبها الشاب إيفان شوفالوف جامعة في موسكو، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية، وأوفد الطلاب في بعثات للخارج للدراسات العليا في الطب، واستقدم المعماريين والمثالين والمصورين الفرسيين لأكاديمية الفنون ( Akademia Iskustv) التي أقامها في العاصمة (1758). وقد تبادل الرسائل مع فولتير، وأغراه بتأليف "تاريخ الإمبراطورية الروسية في عهد بطرس الأكبر"(1757). أما أخوه بيوتر شوفالوف فقد أعان الاقتصاد بإلغاء المكوس على التجارة الداخلية. على أن اليزابث سمحت أثناء ذلك للتعصب الديني بأن يزداد إرضاء لدعاة الجامعة السلافية، فأغلقت بعض المساجد في أقاليم التتار، ونفت 35. 000 يهودياً.

وكانت أكبر مآثرها انتصار جيوشها وقوادها المرة بعد المرة على فردريك

ص: 43

الثاني، ووقفهم الزحف البروسي، وإشرافهم على سحقه لولا أن هد تدهور صحتها من قدرتها على حمل التحالف الفرنسي النمساوي الروسي على التماسك كتب السفير البريطاني في تاريخ مبكر (1755) يقول:"لقد ساءت صحة الإمبراطورية وأصيبت ببصق الدم والنهج، وبالسعال المستمر، وبالأرجل المتورمة، وبالماء في رئتيها، ومع ذلك فقد رقصت "منويتا معي". (34) وراحت الآن تدفع ثمناً باهظاً لإيثارحا حياة الفسق على الزواج. وإذ كانت بغير خلف، فق طالما بحثت عن شخص من دم ملكي يستطيع التصدي لمشاكل روسيا الخارجية والداخلية، فوقع اختيارها-وهو اختيار لا يمكن تفسيره-على كارل فريدرش أولرش، ابن أختها آنا بتروفنا وكار فريدرش، دوقهولشتين-جوتورب. وكانت هذه أكبر غلطة اقتفتها في حكمها، ولكنها كفرت عنها باختيارها لشريكة حياته.

‌5 - بطرس وكاترين

1743 -

1761

ولد بيوتر فيودوروفتش، كما أعادت اليزابث تسمية وريثها، بمدينة كيل في 1728. ووكان بوصفه حفيداً لبطرس الأكبر ولشارل الثاني عشر كليهما صالحاً لارتقاء العرشين الروسي والسويدي. وقد ألزم البيت لضعف صحته حى بلغ السابعة، ثم اختير بتغيير فجائي للانضمام إلى حرس هولشتين ونشئ على حياة الجندية. وأصبح رقيباً في التاسعة، وكان يسير شامخ الرأس في العروض الميدانية، وتعلم لغة ضباط الجيش وأخلاقهم. وحين ناهز الحادية عشرة عين له مرب ألماني نشأنه على الإيمان اللوثري بصورة لا تنسى، وأسرف في تأديبه إسرافاً أصابه بالعصاب. وإذ أرهبه هذا المربي بعنفه، فقد انطوى على الجبن والتكتم، ولاذ بالمكر والخداع، (35) وبات "دائم النزق والعناد وحب الشجار"(36). ولعل روسو كان مستشهداً به مثالاً يوضح الزعم بأن الإنسان خير الفطرة ولكن البيئة السيئة هي التي تفسده. ذلك أن بطرس كان رقيق الفؤاد، يتمنى أن يسلك المسلك الحق، كما سنرى من

ص: 44

مراسيمه الملكية، ولكن دمره ما فرض عليه من القيام بأدوار لا تناسبه. وحين التقت به كاترين الثانية وهو في الحادية عشرة وصفته بأنه "وسيم الطلعة حسن السلوك مجامل" وقالت "أنها لم تشعر بأي نفور من فكرة الزواج به". (37)

وفي 1743 أمرت اليزابث بأن يؤتى به إلى روسيا، وخلعت عليه لقب الغراندوق، ويبدو أنها أدخلته في المذهب الأرثوذكسي، وحاولت تدريبه على شئون الحكم. ولكنها "وقفت مشدوهة" لفقر تعليمه واهتزاز شخصيته وفي سانت بطرسبرج أضاف السكر عيباً إلى عيوبه الأخرى، وراود الأمل اليزابث بأن هذا الفتى الغريب قد يتاح له، إذا زوج بامرأة صحيحة البدن ذكية الفؤاد، أن ينجب قبل وفاة اليزابث قيصراً كفوءاً لروسيا في مستقبل أيامه. وبهذه الروح المجردة من التعصب العرقي، والتي اتسمت بها الأستقراطيات الأوروبية حتى أثناء قيام الدول القومية، اتجهت اليزابث ببصرها خارج روسيا، فوقع اختيارها على أميرة مغمورة من إحدى الإمارات الألمانية الصغرى. وكان فريدريك الثاني الماكر قد أوصى بهذا الاختيار أملاً في أن يظفر بقيصرة ألمانية صديقة في روسيا التي أصبحت الآن مبعث خوف لألمانيا.

وعند هذه النقطة تواجهنا مذكرات كاترين الكبرى، وهي مذكرات لا يتطرق الشك إلى صحة نسبتها إليها، لم تطبع حتى عام 1859، ولكن المخطوطة الفرنسية التي كتبتها كاترين بخط يدها محفوظة بدار المحفوظات القومية في موسكو فهل هي جديرة بالثقة؟ إن القصة التي ترويها هذه المذكرات تؤيدها على العموم مصادر أخرى. (38) وعيبها ليس الكذب بل التحيز فهي قصة أجادت روايتها بذكاء وحيوية، ولكنها في بعضها دفاع عن خلعها زوجها، وعن احتمالها نبأ قتله بمثل ما احتملته به من رباطة جأش.

وقد ولدت في شتتن بيومرانيا في 21 أبريل 1729 وسميت عند تعميدها صوفيا أوجستا فردريكا بأسماء ثلاث عمات لها. أما أمها فكانت يوهانا اليزابث أميرة هولشتين-جوتورب، ومن طريقها كانت كاترين ابنة

ص: 45

خالة بطرس. أما أبوها فكان كرستيان أوجست، أمير انهالت-تسربست في وسط ألمانيا، واللواء في جيش فريدريك. وقد خاب أمل أبويها لولادة بنت لا ولد، وحزنت الأم كأنها أسقطت جنيناً. أما كاترين فقد كفرت عن أنوثتها باتخاذها فحولة القادة العسكريين وحنكة الأباطرة المحاكمين، بينما ظلت طوال ذلك أكثر العشيقات في أوربا طلاباً وأقربهن منالاً.

كانت تشكو ألواناً من أمراض الطفولة، ومنها مرض اشتد عليها حتى خلفها تبدو للناظرين كأنها ستظل مشوهة ما بقي لها من العمر "في عمودها الفقري تعرج" و "كتفها اليمنى أعلى كثيراً من اليسرى"، وأصبحت الآن "تتخذ شكل حرف Z" فحبسها جلاد المدينة السابق" الذي تخصص في علاج انخلاع المفاصل، في مشد (كورسيه) "لم أكن أخلعه قط نهاراً ولا ليلاً إلا حين أغير ملابسي الداخلية، وبعد ثمانية عشر شهراً بدأت أبدي علامات على استقامة عودي". (39) ولكثرة ما تردد في سمعها أنها دميمة، صممت على أن تنمي ذكاءها بديلاً عن الجمال، فكانت مثالاً آخر من أمثلة النقص الذي يشعر به صاحبه فيحفزه إلى قدرات تعويضية. واختفت دمامتها حين لف البلوغ أعضاءها فاستدارت. وكانت رغم هذا الخطوب ذات "طبع رضي" وفيها من الفرح الفطري "ما استلزم ضبطه". (40)

تلقت تعليمها على مهذبين نخص منهم بالذكر قسيساً لوثرياً كان يلقى عنتاً من أسئلتها. مرة سألته "أليس من الظلم أن يحكم على تيطس، وماركوس أوريليوس، وجميع عظماء العالم القديم بالهلاك الأبدي رغم فضلهم، لأنهم لم يعرفوا شيئاً عن رؤيا يوحنا اللاهوتي؟ " وكانت تحسن الجدل إلى حد حمل معلمها على أن يعتزم جلدها لولا تدخل إحدى المربيات. وقد أرادت بصفة خاصة أن تعرف شكل تلك الهيولي التي سبقت الخليقة كما ورد في سفر التكوين. "ولكن إجاباته لم تبد قط مقنعة" و "فقد كلانا أعصابه"، وزاد انزعاجه بإصرارها على أن يفسر لها "بالضبط معنى الختان"(41) وكان معلموها الآخرون ومربيها فرنسيين، لذلك أتقنت

ص: 46

الفرنسية، فقرأت كورنيي، وراسين، وموليير، وكان واضحاً أنها مهيأة لقراءة فولتير. وهكذا أصبحت من أفضل نساء عصرها تعليماً.

وانتهى نبأ هذه الأميرة الذكية إلى الإمبراطورة اليزابث، وكانت تواقة إلى فتاة قد تمنح بطرس الذكاء بالتناضح. ففي أول يناير 1744 وصلت إلى أم صوفيا دعوة للحضور معها في زيارة البلاط الروسي. وتردد الوالدان، فقد بدت لهما روسيا بلداً قلقاً بدائياً إلى حد خطر، أما صوفيا التي حدست أن زواجها من الفرندوق قيد البحث فقد التمست الجواب بقبول الدعوة. وعليه ففي 12 يناير بدأوا الرحلة الطويلة الشاقة عبر برلين وشتتن وبروسيا لشرقية وريجا وسانت بطرسبرج إلى موسكو، وفي برلين استضافهم فريدريك، وأعجبته صوفيا، "وراح يسألني ألف سؤال ويتكلم على الأوبرا والكوميديا والشعر والرقض، وباختصار كل شيء يمكن أن يخطر ببال إنسان يتحدث إلى فتاة في الرابعة عشرة (42) " وفي شتتن "ودعني أبي، وكانت آخر مرة رأيته فيها، وقد بكيت بكاءً مراً". وبلغت الأم وابنتها موسكو في 9 فبراير في حاشية مترفة، بعد رحلة في مركبة جليد امتدت اثنتين وخمسين ساعة من سانت بطرسبرج.

وفي ذات المساء التقت ببطرس ثاني مرة، وقد وقع من نفسها هذه المرة أيضاً موقعاً طيباً، إلى أن أسر لها أنه لوثري صميم، وأنه يحب إحدى الوصيفات في البلاط (43). ولاحظت أن الروس يكرهون لهجته وعاداته الألمانية، أما هي فقد عولت على تعلم الروسية والتمكن منها. وعلى قبول المذهب الأرثوذكسي بحذافيره وشعرت بشيء "أكثر قليلاً من عدم المبالاة نحو بطرس، ولكن "لم أكن غير مبالية بالتاج الروسي". وعينوا لها ثلاثة مدرسين-للغة، والدين، وللرقصات الروسية. وقد شقت على نفسها في الدرس-فنهضت مرة في منتصف الليل للاستذكار-حتى ألزمت الفراش لإصابتها بذات الجنب، "زظللت أتذبذب بين الحياة والموت سبعة وعشرين يوماً، فصدمت خلالها ست عشرة مرة، أحياناً أربع مرات في اليوم" (44). وفقدت أمها حظوتها في البلاط لأنها طلبت استدعاء قسيس

ص: 47

لوثري. أما صوفيا فقد كسبت قلوباً كثيرة بطلبها قسيساً يونانياً. وأخيراً، في 21 أبريل، استطاعت أن تظهر أمام الناس. "كنت هزيلة كأنني هيكل عظمي

في وجهي وقسماتي غضون، وشعري ساقط، ولوني غاية في الشحرب" (45) وأرسلت لها الإمبراطورة ملء قدر من "الروج".

وفي 28 يونيو جازت صوفيا، في خشوع مؤثر، مراسم دخولها في المذهب الأرثوذكسي. وأضيف الآن إلى أسمائها اسمان هما إكاترينا ألكسيفنا؛ ومن ثم أصبحت منذ الآن تدعى كاترين. وفي صباح الغد، وفي الكتدرائية الكبرى، "أوسبنسكي سوبور"، خطبت رسمياً للغرندوق بطرس. وابتهج كل من رآها بتواضعها اللبق، وحتى بطرس بدأ يحبها. وبعد أربعة عشر شهراً من التدريب تزوجا في 21 أغسطس 1745 في سانت بطرسبرج. وفي 10 أكتوبر رحلت أم كاترين قاصدة أرض الوطن.

وكان بطرس الآن في السابعة عشرة، وزوجته في السادسة عشرة. كانت جميلة، وكان قبيحاً لأنه أصيب بالجدري في سنة خطبتهما. وكانت من الناحية الفكرية شرهة يقظة، أما هو فيقول سولوفيف أنه "بدت عليه كل إمارات التخلف العقلي، وكان أشبه بطفل كبير"(46)، يلهو بالدمى والعرائس والعساكر اللعب، ويولع بالكلاب حتى أنه يحتفظ بعدد منها في شقته، ولم تعرف كاترين أيهما شر من الآخر، نباحها أم رائحتها المنتنة (47). ولم يحسن الموقف بالعزف على كمانه. وازداد ميله للشراب، "ومنذ1753 كان يثمل بالشراب كل يوم تقريباً"(48) وكثيراً ما كانت الإمبراطورة اليزابث توبخه على نقائصه، ولكنها لم تضف القدوة إلى الوصية. وكان الذي يزعجها أكثر هو كرهه السافر لروسيا التي سماها "بلداً لعيناً"(49)، واحتقاره للكنيسة الأرثوذكسية وقساوستها، وأهم من هذا كله عبادته لفريدريك الأكبر، حتى أثناء اشتباك روسيا وبروسيا في حرب طاحنة، وأحاط نفسه بـ "حرس هولشتيني" من الجند كلهم تقريباً ألمان، وفي بيب لهوه بأورانينباوم كان يلبس أتباعه الزي الألماني، ويدربهم على الطريقة البروسية. وحين هرم القائدان الروسيان فرمور وسالتيكوف

ص: 48

البروسيين عام 1759 أمسكا عن متابعة انتصاراتهما مخافة أن يغضبا بطرس (50) الذي قد يصبح قيصراً في أية لحظة.

وكاد زواجهما أن يصبح صراعاً بين ثقافتين، لأن كاترين كانت تسعى إلى المزيد من التعليم بدراسة الأدب الفرنسي. ويبدو أمراً لا يصدق أن تقرأ هذه الشابة خلال سنيها التسعة وهي غراندوقة أفلاطون وبلوتارخ وتاسيتوس وبيل وفولتير وديدرو ومونتسكيو الذي قالت عن كتابه "روح القوانين" أنه ينبغي أن يكون "كتاب صلوات يومية لكل ملك سليم الإدراك"(51) ولا بد أن كتباً كهذه أتت على البقية الباقية من معتقدات كاترين الدينية-رغم أنها واصلت دون توان مراعاتها للطقوس الأرثوذكسية وأعطتها هذه الكتب ذلك المفهوم عن "الاستبداد المستنير" الذي تشربه فريدريك من فولتير قبل ذلك بجيل.

وخلال ذلك (إن صدقنا روايتها المباشرة)"لم يصل زواجي بالغراندوق إلى نقطة الاكتمال"(52) وفي رأي كاستيرا الذي كتب في 1800 سيرة لكاترين تنبئ بإطلاع حسن كما تتسم بالعداء لها، أن "بطرس كان يشكو عيباً بدا رغم سهولة إزالته أشد قسوة، ولم يستطع عنف حبه ولا محاولاته المتكررة أن يحققا نقطة الاكتمال في زواجه. (53) وهذه الحالة لها نظير لافت للنظر، وهي حالة لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، وربما كان النفور الذي انتهت كاترين إلى الإحساس به نحو بطرس خلال خطبتهما الطويلة قد وضح له وأورثه العنة النفسية. وسرعان ما اتجه إلى نساء أخريات، واتخذ الخليلة تلو الخليلة ممن راودهن الأمل في الحلول محل الغراندوقة كاترين. وفي روايتها أن سنوات الزواج الأولى هذه كانت سنوات شقاء وتعاسة لها. وذات يوم (فيم يروي هوراس ولبول)، حين سألتها الإمبراطورة لم يثمر زواجها، أجابت بأنه ينبغي ألا ينتظر أي ثمر له. وكان هذا في الواقع إعلاناً لعجز زوجها. وأجابت اليزابث بأن الدولة تطالب بالخلف، وتركت للغراندوقة مهمة الحصول على هذا الخلف

ص: 49

بمساعدة من تشاء. وكانت ثمرة طاعتها ولداً وبنتاً. " (54) وقد بينت مدام ماريا تشوجلوكوفا، التي عينتها إليزابث وصيفة لكاترين، للغراندوقة (فيما روته هذه) أن هناك استثناءات هامة لقاعدة الوفاء الزوجي، ووعدتها بأنها تكتم السر إذا اتخذت كاترين عشيقاً، (55) و (" لا ريب في أن هذا الاقتراح المخجل لم يأت من الوصيفة بل من الإمبراطورة ذاتها (56) ". وعلينا أن ننظر إلى هذه الأمور في منظور بلاط روسي طال إلفه لملكات عديدات العشاق، وبلاط فرنسي تعود على ملوك متعددي العشيقات، وبلاط سكسوني-بولندي ضم مائة وخمسين طفلاً أنجبهم أوغسطس الثالث.

فهل اقتدت كاترين بهذه المثل إلى درجة الإفراط؟ بعد ولايتها العرش، نعم. أما قبلها فيبدو أنها اقتصرت في قصد رواقي على ثلاثة عشاق-أولهم-بعد زواجها بنحو ست سنوات-سرجي سالتيكوف، الضابط الشاب المفعم حيوية. وتشرح كاترين استجابتها لحبه فتقول:

"إن جاز لي توخي الصراحة .... قلت إنني كنت أجمع بين عقل الرجل ومزاجه، وبين مفاتن المرأة الجديرة بأن تحب، وأرجو الصفح عن هذا الوصف، الذي يبرره صدقه

فلقد كنت جذابة، ومن ثم كان نصف الطريق إلى الإغراء قد قطع فعلاً، ومن الإنسانية الخالصة في مثل هذه المواقف ألا يقف الإنسان في منتصف الطريق .... فالمرء لا يستطيع أن يمسك بقلبه في يده، يحبسه أو يطلقه، يشد عليه قبضته أو يرخيها كما يشاء. " (57)

وفي 1751 حملت ولكنها أسقطت حملها، وتكررت هذه التجربة المؤلمة في 1753. وفي 1754 ولدت الطفل الذي صار فيما بعد الإمبراطور بولس الأول. واغتبطت اليزابث، وأهدت كاترين 100. 000 روبل، وأرسلت سالتيكوف لينزوي انزواءاً مأموناً في استكهولم ودرسدن، حيث كان "عابثاً مستهتراً مع جميع النساء اللاتي قابلهن" (58) كما تروي كاترين

ص: 50

أما بطرس فازداد سكراً، واتخذ مزيداً من الخليلات، واستقر أخيراً على اليزافينا فوروتسوفا، ابنة أخي المستشار الجديد. وكانت كاترين تتشاجر معه، وتسخر منه ومن أصدقائه علانية. (59) وفي 1756 قبلت ملاطفة فتى بولندي وسيم في الرابعة والعشرين يدعى الكونت ستانسلاس بونياتوفسكي، قدم إلى سانت بطرسبرج ملحقاً للسير هانبري-وليمز، السفير البريطاني. وتصفها سيرة ستانسلاس الذاتية في سنة 1755:

"كانت تناهز الخامسة والعشرين

في تلك اللحظة بالذات التي هي أجمل اللحظات للنساء الجميلات. كان لها شعر فاحم، وبشرة بيضاء ناصعة وأهداب سوداء طويلة، وأنف إغريقي، وفم كأنه خلق للقبلات، ويدان وذراعة غاية في الحسن، وقد نحيل يغلب فيه الطول على القصر. ومشية غاية في النشاط ملؤها المهابة رغم هذا. وكان رنين صوتها مبهجاً، وضحكتها مرحة كطبعها" (60).

فلما حدق النظر فيها "نسي أن هناك قطراً اسمه سيبيريا. "وكان هذا الغرام أعمق ما شعرت به من غراماتها الكثيرة، وغراماته هو، فقد ظل قلبها مع يونياتوفسكي بعد أن اتخذت عشاقاً آخرين بزمن طويل، أما هو فلم يفق قط تماماً مع افتتانه بها، مهما أنزلت به سياساتها من آلام موجعة. وحين ذهبت لتقيم مع بطرس في أورانينباوم، خاطر ستانسلاس بحياته بزيارتها سراً هناك. وكشف أمره، وأصدر بطرس أوامره بشفته. غير أن كاترين تشفعت لبطرس بخليلته التي هدأت ثائرة الغراندوق بعد أن ألانتها هدية من كاترين. وأخيراً، وفي نوبة من الود، ولم يكتف بطرس بالصفح عن يونياتوفسكي، بل دعا كاترين للانضمام إلى عشيقها، ودخل معهما ومع اليزافيتا فورونتسوفا في "معيشة رباعية" لطيفة تخللتها عشاءات مرحة اشتركوا فيها جميعاً (61).

وفي 9 ديسمبر 1758 ولدت كاترين بنتاً. واعتقد أفراد الحاشية عموماً أن أباها هو بونياتوفسكي (62) ولكن بطرس نسب الفضل لنفسه،

ص: 51

وتقبل التهاني، ونظم المهرجانات احتفالاً بهذا الإنجاز (63)، ولكن الطفلة ماتت بعد أربعة أشهر. واستدعى بونياتوفسكي إلى بولندة بأمر الإمبراطورة، وحرمت كاترين العشق هنيهة، ولكنها افتتنت بمغامرات الحب والحرب التي خاضها جريجوري جريجوريفتش أورلوف، ياور بيوتر شوفالوف. وكان أورلوف قد كسب لنفسه حسن السمعة بثباته في موقعه في معركة زورندورف رغم جروحه الثلاثة. وكان له بنية الرجل الرياضي و "وجه ملاك"(64)، ولكنه لم يعرف من المناقب إلا الظفر بالسلطة والنساء بأي وسيلة متاحة. وكان لشوفالوف خليلة هي الأميرة إلينا كوراكين، وكانت من أجمل حسان القصر وأكثرهن تحللاً، فاجتذبها أورلوف وظفر بها من رئيسه، وأقسم شفالوف أنه قاتله، ولكنه مات قبل أن ينفذ فيه وعيده. وأعجبت كاترين بشجاعة أورلوف، ولاحظت أن له أربعة أخوة في الحرس كلهم قوي فارع الطول، وقالت في نفسها إن هؤلاء الخمسة سيفيدون إذا طرأ طارئ. وعليه رتبت لقاء مع جريجوري، ثم ثانياً، فثالثاً، وسرعان ما أزاحت كوراكين واحتلت مكانها. ولم يحل يوليو 1761 حتى كانت حاملاً، وفي أبريل 1762 ولدت ابناً لأورولف، وأحيط الحدث بما أمكن من تكتم، وربى الغلام باسم الكسيس بوبرينسكي.

وفي ديسمبر 1761 وضح أن الإمبراطورة بادئة مرضها الأخير، وبذلت محاولات لإشراك كاترين في مؤامرة تستهدف منع بطرس من ارتقاء العرش، وقد أنذرت بأن بطرس إن أصبح قيصراً سينحيها جانباً ويجعل اليزافيتا فورونتسوفا زوجته ومليكته، ولكن كاترين رفضت الاشتراك في المؤامرة. وفي 5 يناير 1762 (حسب التقويم الجديد) ماتت الإمبراطورة اليزابث، وارتقى العرش بطرس دون معارضة سافرة.

‌6 - بطرس الثالث

1762

وقد أدهش الجميع بسماحة قراراته، فالود الفطري الذي حجبه ضباب العادات الفظة الغبية تكشف الآن في نوبة من العرفان لتقلده السلطة بسلام،

ص: 52

فصفح عن أعدائه، واستبقى معظم وزراء اليزابث، وحاول أن يتلطف مع كاترين. فخصص لها في القصر جناحاً مريحاً في طرف منه، وسكن هو جناحاً في الطرف الآخر. وخصص لخليلته الغرف الوسطى، وكان هذا بالطبع إهانة بالغة، ولكن كاترين ابتهجت في دخيلة نفسها بسكناها على مبعدة منه. وزودها بمخصصات سخية، ودفع ديونها الباهظة دون تحقيق في أصلها. (65) وفي الحفلات الرسمية كان يسوي بينها وبينه في المكان وأحياناً يقدمها على نفسه. (66)

ثم أعاد من المنفى الرجال والنساء الذين نفاهم الحكام السابقون إلى سيبيريا فعاد الآن مونيش وقد بلغ الثانية والثمانين ليرحب به اثنان وثلاثون حفيداً، ورده بطرس إلى رتبة المشير، وأقسم مونيش ليخدمنه إلى النهاية، وقد بر بقسمه. وأحل الإمبراطور السعيد النبلاء من الالتزام الذي فرضه عليهم بطرس الأكبر، وهو أن يعطوا الدولة سنين كثيرة في حياتهم، فاقترحوا أن يصنعوا له تمثالاً من الذهب، ولكنه أمرهم أن يستعملوا هذا الذهب استعمالاً أرشد. (67) وألغى مرسوم أصدره بطرس في 21 فبراير بالشرطة السرية التي أبغضها الناس جميعاً، وحرم الاعتقال للتهم السياسية حتى يراجعها مجلس الشيوخ ويقرها. وفي 25 يونيو أصدر بطرس مرسوماً بأن يعفى مقترف الزنا من التعنيف الرسمي منذ الآن، "فحتى المسيح لم يدن (الزانية) في ذلك الأمر". (68) وابتهجت الحاشية، وسر التجار لتخفيض رسوم التصدير، وخفض ثمن الملح، وأبطل شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع أما "قدامى المؤمنين" الذين هربوا من روسيا اتقاء اضطهادهم في عهد اليزابث فقد دعوا للعودة والتمتع بالحرية الدينية. ولكن رجال الدين أثارت سخطهم الشديد مراسيم 16 فبراير و21 مارس التي أممت جميع أراضي الكنيسة وجعلت جميع القساوسة الأثوذكس موظفين حكوميين ذوي رواتب. وحرر الأقنان العاملون على ضياع النبلاء أن يحرروا هم أيضاً-سريعاً. ووسط هذه الإصلاحات كلها-التي أشار بها عليه مختلف الوزراء-راح بطرس يشرب حتى يثمل.

ص: 53

أما أغرب قراراته الذي أسعده أيما سعادة، فهو إنهاؤه الحرب مع بروسيا. وكان حتى قبل ولايته العرش قد فعل الكثير ليساعد فريدريك، فأوصل سراً الخطط الحربية التي وضعها مجلس اليزابث، وراح الآن يفاخر بعمله هذا (69) وفي 5 مايو ربط الروسيا ببروسيا في تحالف دفاعي هجومي. وأصدر تعليماته إلى قائد القوات الروسية المحاربة مع الجيش النمساوي أن يضعها في خدمة "سيدي الملك"(70) ثم ارتدى بزة عسكرية بروسية، وأمر الجنود المحليين بأن يحذوا حذوه، تم أدخل الضبط والربط البروسيين في الجيش، ونظم التدريبات العسكرية كل يوم لحاشيته، وأجبر كل ذكر في الحاشية على المشاركة فيها دون مراعاة للسن أو النقرس (71). وقدم "حرس هولشتين" الخاص به على أفواج العاصمة المعتدة بمكانتها.

ولم يكن الجيش الروسي كارهاً للسلم، ولكن أذهله هجر روسيا لحلفائها الفرنسيين والنمساوين في عجلة، وتخليها عن جميع الأقاليم التي ظفرت بها من بروسيا خلال الحرب. وأفزعه أن يذيع بطرس عزمه على تجريد جيش روسي على الدنمرك لاسترداد دوقية شلزفج التي أخذتها الدنمرك من أدواق هولشتين، ومنهم أبو بطرس. وأبان الجلود في غير لبس إنهم سيرفضون خوض حرب كهذه، فلما طالب بطرس إلى كيريل رازوموفسكي أن يزحفبجيش على الدنمرك أجابه القائد "يا صاحب الجلالة يجب أولاً أن تعطيني جيشاً آخر يكره جيشي على الزحف. "(72)

وفجأة وجد بطرس نفسه مكروهاً رغم إصلاحاته الجريئة الممتازة، كرهه الجيش خائناً لوطنه، وكرهه الإكليروس لوثرياً أو شرامن اللثوري، وطالب الأقنان الذين لم يعتقوا بالحرية في تذمر وصخب، وسخر منه البلاط ووصفه رجلاً أحمق مأفوناً. وفوق هذا كله حامت حوله شبهة عامة في أنه ينوي تطليق كاترين والزواج من خليلته. (73)"أن هذه الشابة"(كما يروي كاستيرا) "العاطل من أي موهبة خطاب أو كلام، المتغطرسة في غباوة .. استطاعت بدهائها أن تحصل من القيصر-تارة بتملقه، وتارة يتأنبه، وتارة حتى بضربه-على تجديد للعهد الذي قطعه لها

وهو

ص: 54

أن يتزوجها ويبوئها عرش روسيا بدلاً من كاترين (74) ولما لعبت برأسه السلطة والخمر عنف في معاملة كاترين، حتى لقد رماها علانية بالحماقة. (75) كتب البارون دبروتري إلى شوازيل يقول: "إن الإمبراطورة (كاترين) في وضع شديد القسوة، وهي تعامل بمنتهى الاحتقار

ولن يدهشني أنا العليم بشجاعتها وعنفها إن دفعها هذا إلى نوع من الشطط

ولا يألو بعض أصدقائها جهداً في تهدئتها، ولكنهم لا يترددون في المخاطرة بكل شيء في سبيلها أن اقتضى الأمر" (76).

وكانت سانت بطرسبرج وأرباضها حافلة بأنصار كاترين. أحبها الجيش والحاشية وجماهير الشعب. وكان أخلص أصدقائها في هذه الأيام العصيبة، بعد وصيفاتها وجريجوري أورلوف، أميرة داشكوفا "إيكاترينا رومانوفنا". ولم تكن هذه السيدة الجريئة المغامرة تتجاوز التاسعة عشرة، ولكنها كانت ذات مكانة مرموقة في القصر لأنها ابنة أخي المستشار فورونتسوفوأخت خليلة بطرس. وكان بطرس في سذاجته أو بين كؤوس الخمر قد كشف لها عن نيته في خلع كاترين وإحلال اليزافيتا فورونتسوفا محلها على العرش. (77) ونقلت داشكوفا النبأ إلى كاترين، -ورجتها أن تشترك في مؤامرة لتنحية بطرس. ولكن كاترين كانت قد دبرت فعلاً مؤامرة مع نيكيتا بانين، مربي ولدها بولس، وكيريل رازوموفسكي، هتمان (زعيم) أوكرانيا، ونيقولا كورف رئيس الشرطة، والأخوين أورلوف، وب. ب باسيك، وهو ضابط في فوج محلي.

وفي 14 يونيو أصدر بطرس أمره بالقبض على كاترين، ثم ألغى الأمر، ولكنه أمرها بالاعتكاف في بيترهوف، على اثني عشر ميلاً غربي العاصمة. أما بطرس نفسه فخلاً بعشيقته في أورانينباوم. وترك تعليمات بأن يعد الجيش نفسه فلإبحار إلى الدنمرك، ووعد بأن يلحق به في يوليو. وفي 27 يونيو قبض على الملازم باسيك لإلقائه خطباً تحط من قدر الإمبراطور. وخشي جريجوري وألكسي أورلوف أن يكره بالتعذيب على الاعتراف بالمؤامرة، فقرر التصرف فوراً. وعليه ففي الثامن والعشرين ركب ألكسي

ص: 55

في عجلة قاصداً بيترهوف، وأيقظ كاترين، وأقنعها بأن تعود معه راكبة إلى سانت بطرسبرج. وفي طريقهما توقفاً عند ثكنات فوج اسماعيلوفسكي، واستدعى الجند على قرع الطبول، وناشدتهم كاترين أن ينقذوها من تهديدات الإمبراطور، فأقسموا على حمايتها، "اندفعوا ليقبلوا بدمي وقدمي، وهدب ثوبي، وهم يدعونني مخلصتهم"(في رواية كاترين ليونيا فوفسكي (78)) -لأنهم علموا أنها لن ترسلهم إلى الدنمرك. ومضت إلى كتدرائية كازن في حراسة فوجين والأخوين أورلوف، وهناك نودي بها حكماً مطلقاً لروسيا. ولحقت بها فرقه بريويرازنسكي هناك، وتوسل رجالها إليها "أن-تغفر لنا أننا آخر من جاء"(79) ثم انضم إلى صفوفهم حرس الخيالة، وصحبها أربعة عشر ألف جندي إلى القصر الشتوي؛ وهناك أعلن مجمع الكنيسة، ومجلس الشيوخ رسمياً خلع بطرس وتولية كاترين. واحتج بعض ذوي المقامات الرفيعة، ولكن الجيش أرهبهم، فأقسموا يمين الولاء للإمبراطورة.

وارتدت زي نقيب في حرس الخيالة، وركبت على رأس جندها إلى بيترهوف. وكان بطرس قد ذهب إلى هناك صبيحة ذلك اليوم ليراها، فلما علم بالثورة فر إلى كرونستات. وعرض عليه مونيش أن يصحبه إلى بومرانيا ويجند جيشاً ليرده إلى العرش، ولكن بطرس عاد إلى أورانينباوم وهو عاجز عن اتخاذ القرار. فلما اقتربت قوات كاترين أنفق يوماً في التماس حل وسط، ثم وقع على اعتزاله العرش في 29 يونيو (حسب التقويم القديم)؛ قال فردريك:"لقد سمح بأن يطاح به كما يسمح طفل بأن يرسل إلى فراشه"(80). وسجن في روبشا، على خمسة عشر ميلاً من سانت بطرسبرج. والتمس من كاترين أن تسمح له بالاحتفاظ بخادمه الزنجي، وكلبه الصغير، وكمانه، وخليلته. فأجيبت طلباته كلها إلا آخرها. ونفيت اليزافيتا فوونتسوفا إلى موسكو: ثم اختفت من صحائف التاريخ إلى الأبد.

ص: 56

الفصل الثامن عشر

‌كاترين الكبرى

‌1762 - 1796

1 -

الحاكمة المطلقة

انتصرت كاترين، ولكنها كانت عرضة لكل المخاطر التي ينطوي عليها التغيير الفوضوي. فلكي تكافئ الجنود الذين حرسوها في سعيها إلى السلطة أمرت حانات العاصمة بأن تقدم لهم الجعة والفودكا مجاناً، وكانت النتيجة السكر انتشار بينهم انتشاراً كاد يقوض الأساس الحربي لقوتها. ففي منتصف ليلة 29 - 30 يونيو، بينما كانت كاترين مستغرقة في أول نوم لها خلال ثمان وأربعين ساعة، أيقظها ضابط وقال لها، "إن رجالنا مخمورون جداً. وقد صرح فيهم فارس من الهوصار "إلى السلاح! أن ثلاثين ألف بروسي قادمون لاختطاف أمنا (كاترين)! فتقلدوا سلاحهم وهم قادمون ليطمئنوا عليك". وارتدت كاترين ثيابها، وخرجت، ونفت إشاعة قدوم البروسيين، وأقنعت محاربيها بالمضي إلى فراشهم (1).

ثم عرضها ابنها بولس للخطر. وقد بلغ السنة الثامنة من عمره وذلك أن بنين، وأشرافاً كثيرين، ومعظم الاكليروس، أحسوا أن الشرعية تقتضي تتويج بولس إمبراطوراً وتعيين كاترين وصية عليه، ولكنها خشيت أن إجراء كهذا يلقي بالحكم في أيدي أولجركيه أرستقراطية ستسعى إلى خلعها أو التسلط عليها. وأعلنت رسمياً أن بولس وارث للعرش، ولكن مؤيديه واصلوا إثارة المشاعر، وشب الابن على كراهية أمه لأنها سلبته حقه في التاج.

ص: 57

وحين ذاع نبأ الانقلاب في أرجاء روسيا تبين أن الرأي العام خارج العاصمة مناوئ لكاترين. ذلك أن العاصمة عرفت عيوب بطرس مباشرة، وأجمعت عموماً على عدم أهليته للحكم، أما الشعب الروسي خارج سانت بطرسبرج فقد عرفه من التدابير السمحة التي أضفت على حكومته شيئاً من السمو. فجماهير موسكو، البعيدة بعداً لا يسمح لها بالإحساس بفتنة كاترين، ظلت معارضة في عناد لتوليها العرش. وحين اصطحبت كاترين بولس إلى موسكو (معقل التقاليد السنية) صفق له أهلها بحرارة، أما كاترين فكان لقاؤهم لها فاتراً. وندد كثير من أفواج الجيش في الأقاليم بجنود بطرسبرج غاصبين للسلطة القومية.

ولا علم لنا إن كان العطف الواسع على بطرس هو أحد العوامل في موته. ذلك أن القيصر المخلوع الذي تحطمت روحه راح يرسل الالتماسات الذليلة لزوجته ويقول لها "ارحميني واعطيني سلواي الوحيدة"-يعني خليلته-ويرجوها أن تسمح له بالعودة إلى أقاربه في هولشتين. ولكنه بدلاً من أن يلتقي هذا العزاء حبس في حجرة واحدة وفرضت عليه رقابة دائمة. وكان الكسبي أورلوف، رئيس حراسة، يلعب الورق معه ويقرضه النقود. (2) وفي 6 يوليو 1962 (حسب التقويم الجديد)، ركب الكسبي في عجلة إلى سانت بطرسبرج وأنبأ كثيرين بأن بطرس تشاجر معه ومع غيره من الأتباع ومات في العراك الذي أفضت إليه المشاجرة. أما عن كيفية موته، فالتاريخ لا يعرف غير الشائعات التي لم تثبت صحة واحدة منها: قيل إنه سمم أو خنق (3)، وإنه ضرب حتى مات (4)، وإنه مات إثر "التهاب الأمعاء والسكتة الدماغية"(5) وينتهي آخر من أرخ هذه الحقبة إلى أن "تفاصيل القتل لم يمط عنها قط اللثام تماماً، والدور الذي لعبته فيه كاترين يظل غير مؤكد. "(6) ومن غير المحتمل أن تكون كاترين قد أمرت بهذه الفعلة، (7) ولكنها لم تعاقب أحداً على ارتكابها، وأخفتها عن الجماهير يوماً، وقضت يومين في بكاء ظاهر، ثم سلمت بالأمر الواقع. وقد أدانتها أوربا كلها تقريباً بالقتل، أما فردريك الأكبر الذي خسر الكثير بخلع بطرس فقد برأ ساحتها، "كانت الإمبراطورة جاهلة تماماً بهذه الجريمة، وقد سمعت بها في يأس

ص: 58

لم تصطنعه، لأنها توقعت بحق ذلك الحكم الذي يصدره عليها اليوم في كل إنسان. " (8) ووافق فولتير فردريك. أما بولس ابن كاترين، فبعد أن قرأ الأوراق الخاصة التي خلفتها أمه عند وفاتها، خلص إلى أن الكسي قتل بطرس دون أي أمر أو طلب من كاترين. (9)

وخلقت الحادثة مشاكل لكاترين كما حلت مشاكل أخرى: فقد أوحت بسلسلة متعاقبة من المؤامرات لخلعها، وتركتها في انزعاج متصل وخطر داهم وسط فوضى الحكم التي اكتنفتها. كتبت عن هذه الحقبة فيما بعد فقالت:"ظل مجلس الشيوخ متبلداً يصم أذنيه عن شئون الدولة. وبلغت كراسي التشريع درجة من الفساد والتفسخ كادت تطمس معالمها. "(10) وكانت روسيا قد خرجت لتوها من حرب انتصرت فيها ولكنها كلفتها ثمناً فادحاً، فكانت الخزانة مدينة بثلاثة عشر مليون روبل، وتشكوا عجزاً بلغ سبعة ملايين روبل في العام، وافتضح حال المالية من رفض كبار المصرفيين الهولنديين إقراض المال لروسيا. وتأخرت رواتب الجند شهوراً كثيرة. وبلغ من سوء نظام الجيش أن كاترين خشيت أن يغزو تتار جنوبي روسيا إقليم أوكرانيا في أية لحظة. أما البلاط فقد اضطرب بالمؤامرات وأضدادها، وبالخوف من فقدان مناصب الكسب أو السلطة، أو الأمل في الظفر بها. وبعد سقوط بطرس بقليل ذهب السفير البروسي إلى أنه "من المؤكد أن حكم الإمبراطورة كاترين لن يكون أكثر من فاصل قصير في تاريخ العالم"(11). وكان هذا من قبيل التمني، لأن فردريك حزن على موت حليفه العابد لشخصه. وأخذت كاترين تلغي الأوامر التي أصدرها بطرس لمساعدة فردريك.

وحاولت الإمبراطورة أن تهدئ معارضة رجال الدين بتأجيل تنفيذ المرسوم الذي أصدره بطرس بتأميم أراضي الكنيسة، ثم أدفأت صدور أنصارها بما خلعته عليهم من مكافآت سخية: فنفحت جريجوري أورلوف بخمسين ألف روبل، وفتح الطريق أمامه إلى الفراش الملكي. وأعيد بستوزيف من منفاه، ورد إلى حياة مريحة ولكن دون أن يرد إلى منصبه.

ص: 59

ثم ترفقت بمن عارضوها من قبل. وقدم مونيش فروض الطاعة والولاء فصفحت عنه فوراً وعينته حاكماً على استونيا ولفونيا، وربما أعانتها هذه التدابير على الثبات فوق عرشها المهتز، ولكن أهم العوامل التي كانت عوناً لها هي شجاعتها وذكاؤها. ذلك أن سبعة عشر عاماً قضتها زوجة مهملة لوريث العرش علمتها رغم حيويتها الشابة قدراً من الصبر والحكمة وضبط النفس وخداع الحكم. وقررت الآن، في تحد لنصيحة بانين، وارتياب في ولاء مجلس الشيوخ ونزاهته وكفايته، أن تركز الحكم كله في شخصها، وأن تواجه ملوك أوربا المستبدين-باستبدادية تنافس جمع فردريك بين العسكرية والفلسفة. ولم تتخذ لها زوجاً. وإذ كان النبلاء يسيطرون على مجلس الشيوخ، فقد كان الخيار بين أوتقراطية الملكة والاستبدادية المجزأة للسادة الإقطاعيين، وهو بالضبط الخيار الذي واجهه ريشلو في فرنسا للقرن السابع عشر.

وأحاطت كاترين نفسها بالكفاءة من الرجال، واكتسبت ولاءهم، بل حبهم في كثير من الحالات، ألزمتهم للعمل الشاق، ولكنها أجزلت لهم العطاء، ولعلها غالت في مكافآتهم، فقد أصبح بهاء بلاطها وبذخه عبئاً كبيراً على مواردها. وكان بلاطاً غير متجانس، مؤصلاً في البربرية ومصقولاً بالثقافة الفرنسية، ومحكوماً بامرأة ألمانية تفوق مساعديها تعليماً وذكاءاً. وقد أثمرت مكافآتها السخية للخدمات الاستثنائية المنافسة دون أن تكبح جماح الفساد. فكان الكثيرون من بطانتها يأخذون الرشا من الحكومات الأجنبية، واتخذ بعضهم موقف الحياد بقبول الرشا من طرفين متعارضين. وفي 1762 أذاعت كاترين على الأمة اعترافاً غير عادي، فقالت:

"أننا نعده واجباً أساسياً وضرورياً أن نعلن للشعب، بحسرة صادقة، أننا سمعنا منذ زمن مديد، وأننا الآن نرى في أفعال ظاهرة للعيان، إلى أي درجة استشرى الفساد في إمبراطوريتنا، بحيث لا يكاد يوجد منصب في الحكومة .... لا تعدو فيه على العدالة عدوى هذا الوباء. فإذا طلب

ص: 60

إنسان وظيفة كان عليه أن يدفع ثمنها، وإذا شاء إنسان أن يدفع عن نفسه شر الافتراء، فبالمال، وإذا أراد أن يتهم جاره زوراً وبهتاناً ففي استطاعته بالهدايا أن يضمن نجاح خططه الشريرة" (12).

وكان بعض المؤامرات التي تكاثرت من حولها يستهدف إحلال إيفان السادس محلها. وكان قد قضى الآن رهين السجن إحدى وعشرين سنة بعد أن خلعه انقلاب ديسمبر 1741. ففي سبتمبر 1762 أفصح فولتير عن خوفه من أن "إيفان قد يطيح بمن أحسنت إلينا" (13)، وكتب يقول: "أخشى أن تقتل إمبراطورتنا العزيزة. " (14) فزارت كاترين إيفان، ووجدته "إنساناً مهملاً مهجوراً تردى في العته نتيجة السجن سنين طويلة" (15) ثم تركت لحراسه أوامر بأنه لو بذلت أي محاولة لم تصرح بها هي نفسها للإفراج عنه، فعليهم أن يقتلوا إيفان خيراً من أن يسلموه. وفي منتصف ليلة 5 - 6 يوليو 1764 ظهر ضابط في الجيش يدعى فاسيلي ميروفتش على باب السجن يحمل ورقة فحواها أنها أمر من مجلس الشيوخ بتسليم إيفان له. ثم مضى يعينه بعض من الجند وطرق باب الزنزانة التي كان حارسان ينامان فيها مع إيفان، وطالب بالدخول. فلما رفض طلبه أمر بإحضار مدفع لتحطيم الباب. فلما سمع الحارسان الأمر قتلا إيفان. وقبض على ميروفتش وأعلنت وثيقة عثر عليها في جيبه أن كاترين خلعت، وإن إيفان السادس أصبح منذ الآن قيصراً لروسيا. ورفض عند محاكمته أن يفضي بأسماء شركائه. وكان جزاؤه الإعدام. واتهم الرأي العام عموماً كاترين بقتل إيفان. (16)

واتصلت المؤامرات. ففي 1768 أكد ضابط يدعى تشوجلو كوف أنه موكل من الله بالانتقام لمقتل بطرس الثالث، فتسلح بخنجر طويل، ووجد طريقة إلى القصر الملكي، واختبأ عند منعطف دهليز ألفت كاترين أن تمر فيه. وسمع جريجوري أورلوف بخبر المؤامرة، فقبض على تشوجلوكوف، الذي اعترف مفاخراً بأنه ينوي قتل الإمبراطورة، وكان جزاؤه، النفي إلى سييبريا.

ص: 61

‌2 - العاشقة

أحاط بكاترين نبلاء لا تستطيع أن تثق بهم، ولاحقتها الدسائس التي أحدثت الاضطراب في الإدارة، لذلك اخترعت ضرباً جديداً من الحكم جعلت فيه عشاقها المتعاقبين كبار إداري الحكومة. فكان كل عشيق خلال صعود نجمه كبير وزرائها، وأضافت شخصها إلى مكافأة المنصب، ولكنها اقتضت كفاءة الخدمة نظير ذلك. كتب ماسون (وهو واحد من أعداء كاترين الفرنسيين الكثيرين) يقول "لم تكن وظيفة واحدة من وظائف الحكومة كلها لا تؤدي فيها الواجبات بمنتهى التدقيق .. وربما لم يكن هناك أي منصب لم تبد فيه الإمبراطورة اختياراً وتمييزاً أكثر من غيره. وفي اعتقادي أنه لم تقع حالة تبين فيها أن المنصب شغله شخص غير كفء له. "(17) ومن الخطأ أن تكون فكرتنا عن كاترين أنها امرأة فاجرة منغمسة في اللذات، فقد راعت جميع مظاهر اللياقة، ولم تسمح لنفسها قط بالدخول في أحاديث نابية، ولا سمحت بها في حضرتها. (18) وقد بذلت لمعظم عشاقها الود الوفي-ولبعضهم الود الرقيق، ورسائلها إلى بوتمكين تم على إخلاص يكاد يكون صبيانياً، وقد أصابها موت لانسكوي بحزن مدمر.

وكانت تستعين بالفن والعلم معاً في مهمة اختيار صاحب الحظوة الجديد. فهي تنشد رجالاً يجمعون بين القدوة السياسية والجسدية، كانت تدعو المرشح لتناول العشاء، وتختبر عاداته وعقله، فإذا جاز هذا الامتحان الدقيق فحصه بأمرها طبيب القصر، فإذا خرج من هذا الاختبار سليماً عينته ياوراً لها، وأعطته راتباً مغرياً، وسمحت له بمعاشرتها. وإذ كانت مجردة تماماً من الإيمان الديني، فإنها لم تسمح لأي من الأخلاقيات المسيحية بأن تتدخل في طريقتها الفذة في اختيار الوزراء. وقد وضحت الأمر لنقولا سالتيكوف فقالت:"إنني أخدم الإمبراطورة بتربيتي الشبان الأكفاء"(19) وكانت الخزانة تتكلف غالياً في مكافأة هؤلاء المحظوظين-وإن كانت التكلفة على الأرجح أقل كثيراً ما كانت تنفقه فرنسا على خليلات لويس

ص: 62

الخامس عشر ومحظياته. وفي تقدير كاستيرا أن الاخوة الخمسة أورلوف تسلموا سبعة عشر مليون روبل، وبوتمكين خمسين مليوناً، ولانسكوي 7. 260. 000. وقد ارتدت بعض هذه النفقة إلى روسيا بصورة الخدمة الفعالة، فقد أضاف بوتمكين مثلاً، وهو أكثر عشاقها حظوة وتدليلاً، أقاليم درت على الإمبراطورية الربح الوفير.

ولكن لم كانت تغير وتبدل في عشاقها بهذه الكثرة، حتى أنها اتخذت منهم واحداً وعشرين في أربعين سنة؟ لأن بعضهم أخفق في واجب أو أكثر من واجباتهم المزدوجة، وبعضهم تبين عدم وفائه: وبعضهم مست الحاجة إليه في مواقع بعيدة. من ذلك أن أحدهم، ويدعى ريمسكي كورساكوف، فاجأته في مسكنها بين ذراعي وصيفة شرفها، فاكتفت كاترين بطرده، وتركها آخر يدعى مامونوف لأنه آثر عليها رفيقة أكثر شباباً، وأقالته الإمبراطورة دون أن تنتقم منه. (20) يقول ماسون، "من الخصائص الشديدة الغرابة في خلق كاترين أن أحداً من المقربين إليها لم يجلب على رأسه كرهها أو انتقامها، وإن أساء إليها العديدون منهم، ولم يكن تركهم مناصبهم بسببها. ولم ير الناس قط أحدهم ينزل به العقاب

وفي هذا تبدو كاترين أسمى من جميع النساء. " (21)

بعد تولي كاترين العرش احتفظ جريجوري أوزلوف بمكانته المرموقة عشر سنوات، وقد أطرته كاترين في حب فقالت:

"إن للكونت جريجوري عقل النسر، فأنا لم ألق في حياتي رجلاً أوتي فهماً أدق وألطف لأي أمر يضطلع به أو حتى يقترح عليه

ونزاهته تعصمه من أي تهجم عليه

ومن أسف أن التعليم لم يتح له أي فرصة لصقل سجاياه ومواهبه، وهي في الحق فائقة، ولكن حياته العشوائية تركتها كالأرض المرحة. " (22)

ثم كتبت في موضع آخر "أن هذا الرجل كان خليقاً بأن يظل (عشيقها وأثيرها) إلى النهاية لولا أنه كان أول من مل صاحبه. "(23)

ص: 63

وقد جاهد جريجوري لتحرير الأقنان، واقترح تحرير المسيحيين من ربقة العثمانيين، وأسن البلاء في الحروب، وأغضبت الحاشية بكبريائه وغطرسته وراغ من ذراعي كاترين. وقد أقصى في 1772 إلى حيث الثراء والدعة في ضياعه. أما أخوه ألكسي فقد أصبح أمير البحر الأول، وقاد الأسطول الروسي إلى النصر على الأتراك، وظل محتفظاً بالحظوة طوال العهد، وعمر حتى قاد أفواجه ضد نابليون.

وحل محل جريجوري في حظوته فتى فائق الحسن مغمور يدعى ألكسيس فاسيلتشيك، دسه حزب من أحزاب البلاط على كاترين ليصرف فكرها عن أورلوف المنفي، ولكنها وجدته غير كفء لا في السياسة ولا في غير السياسة، فأحلت مكانه (1774) جريجوري ألكسندروفتش بوتمكين، وكان ضابطاً في حرس الخيالة، الذين ارتدت زيهم (1762) لتقودهم ضد بطرس، فلما لاحظ بوتمكين أن سيفها تنقصه الشرابة التي يعتز بلبسها الحرس، انتزع شرابته من مقبض سيفه وركب في جرأة خارج صفوف الجيش، وقدم لها هذا الوسام، فقبلته، واغتفرت له جرأته، وأعجبت بوجهه الوسيم وجسمه المفتول. وكان أبوه-وهو كولونيل متقاعد من صغار النبلاء-قد قرر أن يكون ابنه قسيساً، وتلقى بوتمكين قدراً لا يستهان به من التعليم في التاريخ والدراسات الكلاسيكية واللاهوت، وأثبت تفوقه في جامعة موسكو. ولكنه وجد حياة الجيش أنسب لمزاجه الجموح الخصب الخيال من المدرسة اللاهوتية. وقد سحره بالطبع ما اجتمع لكاترين من جمال وسلطان، فقال عنها أنها إذا دخلت حجرة مظلمة أنارتها" (24).

وفي حرب 1768 قاد فوج خيالته ببسالة مستهترة حملت كاترين على أن تبعث إليه بإطراء شخصي. فلما عاد إلى سانت بطرسبرج أكلته الغيرة من الاخوة أورلوف وفاسيلتشيك. وتشاجر مع الاخوة أورلوف، وفي معركة معهم فقد إحدى عينيه (25). ولكي يخرج الإمبراطورة من عقله-أو يدخل نفسها في عقلها-ترك البلاط، واعتزل في ضاحية، ودرس اللاهوت، وأطلق شعره ولحيته، وأعلن أنه سيترهب، فرق له قلب كاترين، وبعثت إليه تقول أنها تقدره تقديراً

ص: 64

كبيراً، ودعته ليعود، فحلق لحيته، وهذب شعره، وارتدى بزته العسكرية، وظهر في البلاط، واهتز طرباً لبسمات الإمبراطورة. وحين افتقدت كاترين الكفاية في فاسيلتشيك فتحت ذراعيها لبوتميكن، وكان يومها في الرابعة والعشرين، في أوج عنفوانه وفتنته. وسعان ما هامت به هيامه بها، وراحت تحبوه بوصلها، وتغدق عليه الروبلات، والأراضي، والأقنان، وحين كان يغيب كانت ترسل إليه رسائل غرامية بريئة من مظهر الجلالة.

"ما أعجب حالي! كل شيء اعتدت أن أسخر منه وقع لي الآن، لأن حبي لك أعماني. فالعواطف التي ظننتها بلهاء مفرطة غير طبيعية أمارسها أنا نفسي الآن. إنني لا أقوى على إبعاد عيني الغبيتين عنك .. ..

"لا نستطيع الالتقاء إلا خلال الأيام الثلاثة القادمة، فبعدهايحل أول أسبوع في الصوم الكبير، المخصص للصلاة والصيام. وسيكون اللقاء إثماً كبيراً. إن مجرد التفكير في هذا البعد يبكيني"(26).

وعرض عليها الزواج، ويعتقد بعض المؤرخين أنهما تزوجا سراً، وفي خطابات عدوه تعدوه "زوجي الحبيب" وتتكلم عن نفسها فتقول "زوجتك"(27)، رغم أننا يجب ألا نستخلص الحقيقة أبداً من مجرد الألفاظ ويبدو أنه ملها، ربما لهيامها الجموح به؛ وتبين أن صوت المغامرة أقوى لديه من الدعوة للهجوم على قلعة فرغ من فتحها. وقد ظل نفوذه عليها عظيماً حتى أن معظم المقربين الذين خلفوه لم يخلفوه إلا بعد الحصول على موافقته.

وهذا ما حدث لبيوتر زافودوفسكي، الذي استدفأ في خدرها من 1776 إلى 1777، ولسيمون زوريتش (1777 - 1778)، وإيفان رمسكي-كورساكوف (1778 - 1780). ولم تشعر بغرام يملك عليها لها مرة أخرى إلا حين اتخذت ألكسيس لانسكوي (1780) عشيقاً. فهذا الفتى لم يكن وسيماً كيساً مثقفاً فحسب، بل كان صاحب حس شعري

ص: 65

مرهف وحب إنساني للخير، وصديقاً ذكياً للآداب والفنون. "لقد بدا أن الجميع يشاركون الملكة في ولعها به"(28). وفجأة أصيب بآلام لا تطاق في الأمعاء، واشتبهت الحاشية في أن يكون بوتمكين قد دس له السم، ثم مات رغم كل جهود الأطباء ورعاية كاترين المخلصة، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها. وقضت ثلاثة أيام في عزلة وحزن. ونحن نسمع المرأة من خلف الحاكمة-والقلب من خلف التاريخ-في رسالة كتبتها في 2 يوليو 1784.

"خيل إلي أنني هالكة بعد هذه الخسارة التي لا تعوض

لقد عللت نفسي بأن سيكون العون لي في شيخوختي. كان مجاملاً، وتعلم الكثير، واكتسب كل ميولي

كان فتى أقوم على تربيته، وكان شاكراً، رقيقاً، طيباً"

إن لانسكوي لم يعد له وجود .. وباتت حجرتي وكراً فارغاً بعد أن كانت تفيض إشراقاً وبهجة، ولا قدرة لي إلا على جر نفسي إليها كأنني طيف من الأطياف .. لا أستطيع النظر إلى وجه إنسان دون أن يختنق صوتي

لا أستطيع أن أذوق النوم ولا الطعام .. ولست أدري ماذا يكون مصيري" (29).

وظلت عاماً تحرم نفسها من العشاق، وأخيراً استسلمت لألكسيس أرمولوف، (1785 - 1786)، الذي ساء بوتمكين كثيراً فاستعيض عنه سريعاً بألكسيس مامونوف. ولكن سرعان ما زهد ألكسيس في خليلته ذات السبعة والخمسين، واستأذن في الزواج منالأميرة شرباتوف، واحتفلت كاترين بالعروسين في زفاف رسمي بالبلاط، ثم صرفتهما محملين بالهدايا (1789)(30). وآخر القائمة هو بلاتون زوبوف (89 - 1796) وكان ملازماً في حرس الخيالة، مفتول العضل دمث الطباع. وكانت كاترين شاكرة له خدماته، فاضطلعت بالإشراف على تعليمه، وانتهت بمعاملته معاملة الأم لابنها. وقد لازمها حتى مماتها.

‌3 - الفيلسوفة

بين الحب والحرب، وسياسة الدولة والدبلوماسية، وجدت هذه المرأة المدهشة وقتاً للفلسفة. وقد تكون فكرة عن سمو المكانة التي بلغتها جماعة

ص: 66

"الفلاسفة" الفرنسيين حين نرى أكفأ حاكمين من حكام القرن الثامن عشر يعتزان بتبادل الرسائل معهم ويتنافسان على الظفر بثنائهم.

وكانت كاترين قبل ولايتها العرش بزمن طويل تستطيب أسلوب فولتير وفكاهته الذكية وعباراته المجردة من التوقير، وتحلم بأن تكون ذلك الحاكم "المستبد المستنير" الذي راود أحلامه. ولا بد أنها أعجبت بديدرو أيضاً، لأنها في سبتمبر 1762 عرضت أن تطبع الموسوعة في سانت بطرسبرج إذا أمعنت الحكومة الفرنسية في حظرها. ولم يبق من الرسائل التي كتبتها لفولتير قبل 1765 إلا واحدة، وقد ردت على أبيات أرسلها لها في أكتوبر 1763:

"لأول مرة آسف على أنني لست شاعرة، وأن يكون ردي على أبياتك بالضرورة نثراً لا شعراً. ولكني أود أن أقول لك أنني منذ 1764 مدينة بأعظم الفضل لك. فقبل تلك الحقبة لم أكن أقرأ شيئاً غير الروايات، ولكن حدق أن وقعت كتبك في يدي مصادفة، وبعدها لم أكف عن قراءتها، ولا رغبت في قراءة كتب أقل جودة في الكتابة أو أقل تثقيفاً

وهكذا لا أفتأ أعود إلى خالق ذوقي عودتي إلى أعمق أسباب تسليتي، وأؤكد لك يا سيدي إن كنت قد حصلت أي معرفة فالفضل فيها لك. وأنا الآن أقرأ مقالك "في التاريخ العام"، وبودي لو حفظت كل صفحة منه عن ظهر قلب" (31).

وظلت كاترين طيلة حياتها، أو حتى مماتهم، تراسل فولتير وديدرو ودالمبير ومدام جوفران وجريم وكثيرين غيرهم من وجوه الفرنسيين. وأسهمت في المال الذي جمعه فولتير لقضية كالاس وسيرفانس وقد أسلفنا القول أنها أمرت باستيراد شحنات كبيرة من الساعات من فرنيه، ومن الجوارب التي صنعها عمال فولتير، وأحياناً فولتير نفسه (إن جاز لنا أن نصدق الثعلب العجوز). وكان من بواعث فخره ن الرؤوس المتوجة أغدقت عليه أسباب التكريم، وقد كافأ كاترين بأن أصبح مندوبها الصحفي في فرنسا. وقد برأ ساحتها من الاشتراك في جريمة قتل بطرس الثالث، وكتب يقول "أعلم أن

ص: 67

كاترين تلومها بعض الشائعات التافهة حول زوجها، ولكن هذه أمور عائلية لا شأن لي بها" (32). وناشد أصحابه أن يؤيدوه في الدفاع عن كاترين، فكتب إلى دارجنتال يقول:

"هناك صنيع آخر أرجو أن تسديه إلى، وهو يخص كاترين. يجب أن ندعم سمعتها في باريس بين أفاضل القوم ووجهاؤهم

وعندي أسباب قوية للاعتقاد بأن الدوقين براسلان وشوازيل لا يعتبر أنها أكثر نساء العالم نقاء ضمير، ومع ذلك فأنا عليم

بأنه لم يكن لها يد في موت زوجها السكير .. ثم أنه كان أكبر أحمق تربع على عرش

ونحن مدينون بالفضل لكاترين لأنها أوتيت الشجاعة لخلع زوجها، وهي تسوس ملكة بحكمة واعتزاز، وينبغي أن نبارك رأساً متوجاً ينشر التسامح الديني في أرجاء 135 درجة طولية

إذن أرجوك أن تذكر كاترين بخير كثير (33).

أما مدام دو دوفان فقد رأت أن تبرئة الإمبراطورة هذه مخزية جداً، كذلك أدانتها مدام دشوازيل وهوراس ولبول (34). وما كان يتوقع في براسلان وشوازيل اللذين يوجهان علاقات فرنسا الخارجية أن يعجبا بإمبراطورة تعارض النفوذ الفرنسي في بولندة وتتحداه في تركيا. وكانت الشكوك تساور فولتير ذاته بين حين وحين. فلما سمع بمصرع إيفان السادس، سلم في حزن بـ "أن علينا أن نخفف قليلاً من غلوائنا في التحمس" لكاترين (35). ولكنه ما لبث أن أطرى برنامجها التشريعي، ورعايتها للفنون، وحملتها لنسر الحرية الدينية في بولندة، وخلع عليها الآن (18 مايو 1767) لقب "سميراميس الشمال". وحين خاضت الحرب ضد تركيا قطع هجومه على الكنيسة الكاثوليكية I'imfame ليمتدح حملتها الصليبية لإنقاذ المسيحيين من المسلمين.

أما ديدرو فقد استهواه بالمثل ذلك الجمال المتربع على العرش، وكان له في ذلك مبررات قوية. ذلك أن كاترين سمعت أنه ينوي بيع مكتبته ليجمع مهراً لابنته، فأصدرت تعليماتها لوكيلها الباريسي بأن يشتريها بأي ثمن يطلبه ديدرو، فطلب ستة عشر ألف جنيه وقبضها. ثم رجت ديدرو أن يحتفظ

ص: 68

بالكتب حتى مماته، وأن يكون حارسها على المكتبة نظير راتب قدره ألف جنيه في العام، وزادت بأن دفعت راتبه مقدماً عن خمسة وعشرين عاماً. وأصبح ديدرو بين عشية وضحاها رجلاً غنياً ومحامياً يدافع عن كاترين. فلما دعته لزيارتها لم يستطع أن يرفض. قال "يجب أن يرى الإنسان امرأة كهذه ولو مرة في العمر"(36).

وبعد أن دبر شئون المال لزوجته وابنته خرج وهو في الستين (3 يونيو 1773) في الرحلة الطويلة الشاقة إلى سانت بطرسبرج. ولبث شهرين في لاهاي يرشف حلاوة الشهرة على مهل، ثم واصل الرحلة بطريق درسدن وليبزج، وحرص على أن يتجنب برلين وفردريك الذي كان قد أبدى عنه بعض الملاحظات الشائكة. وأصيب مرتين خلال الرحلة بالمغص إصابة عنيفة، ثم وصل إلى سانت بطرسبرج في التاسع من أكتوبر، واستقبلته كاترين في العاشر منه. كتب يقول "ليس هناك من يعرف خيراً منها فن رفع الكفلة عن محدثها"(37). ودعته للتكلم في صراحة، "كما يتكلم رجل لرجل". ففعل، وأومأ إيماءاته على عادته، وأكد نقاطع بصفع فخذي الإمبراطورة. كتبت كاترين لمدام جوفران تقول "إن ديدرو هذا رجل غريب الأطوار. فأنا أخرج من لقاءاتي معه بفخذين مرضوضتين سوداوين تماماً. وقد اضطررت إلى وضع منضدة بيننا وقاية لنفسي ولأعضائي"(38).

وقد حاول فترة أن يلعب دور الدبلوماسي كما حاول فولتير مع فردريك، وأن يصرف روسياً عن تحالفها مع النمسا وبروسيا إلى تحالف مع فرنسا (39)؛ ولكنها سرعان ما صرفته إلى موضوعات أقرب إلى صناعته. وأخبرها في شيء من التفصيل كيف يمكن أن تحول روسيا إلى بلد مثالي، واستمعت إليه جذلة، ولكنها ظلت على تشككها. وقد استعادت فيما بعد هذه الأحاديث في رسالة كتبتها للكونت لوي-فليب دسيجور. قالت:

"تحدثت معه كثيراً ومراراً، ولكن بفضول أكثر من الفائدة. ولو صدقته لانقلب كل شيء في مملكتي، فالتشريع والإدارة المالية- كلها

ص: 69

كانت تنقلب رأساً على عقب لتفسح مجالاً لنظريات غير عملية

ثم قالت له في صراحة: "يا مسيو ديدرو، لقد أصغيت بمنتهى اللذة لكل ما أوحى به فكرك اللماح .. أن المرء، بكل مبادئك السامية، قد يؤلف كتباً رائعة، ولكنه يخسر في تجارته

أنك تشتغل على الورق، الذي يتحمل كل شيء .. أما أنا، الإمبراطورة المسكينة، فأشتغل على جلد البشر، وهو جلد سريع التهيج حساس على نحو مختلف"

وبعدها قصر كلامه على الأدب (40). وحين وقعت على مذكرات كان قد كتبها "بتعليمات صاحبة الجلالة الإمبراطورة

لوضع القوانين" وصفتها (بعد وفاته) بأنها "محض هذيان، لا أثر فيه لمعرفة بالحقائق ولا لتدبير ولا لنظر ثاقب" (41). ومع ذلك استمتعت بحديثه المفعم حيوية، وكانت تبادله الأحاديث كل يوم تقريباً خلال مقامه الطويل

(1)

.

وبعد أن ديدرو خمسة أشهر من البهجة الغامرة في صحبتها، والتعب في بلاطها، نوى الرحيل إلى أرض الوطن. فأمرت كاترين بصنع عربة خاصة له يستطيع أن يتكئ فيها مستريحاً. وسألته أن الهدايا ترسلها إليه فقال لا شيء، ولكنه ذكرها بأنها لم تف بوعدها أن ترد له نفقات رحلته، وقد قدرها بألف وخمسمائة روبل، فنفحته بثلاثة آلاف وبخاتم ثمين، وعينت ضابطاً ليرافقه حتى لاهاي. فلما عاد إلى باريس أثنى عليها ثناء الشكر والعرفان.

ولم تحاول كاترين الاتصال بروسو، الذي كان نقيضها إلى حد مؤلم في الطبع والأفكار، ولكنها صادقت جريم، لأنها عرفت أن صحيفته "الرسائل الأدبية" تصل إلى أيدي الأوربيين ذوي النفوذ. واتخذ أول خطوة بعرضه (1764) أن يوافيها برسائله الدورية، فوافقت ونقدته ألفاً وخمسمائة روبل في السنة. وقد رآها أول مرة حين ذهب إلى سانت بطرسبرج (1773) في بطانة مير هسي-دار مشتات لحضور زفاف أخت الأمير إلى الغراندوق بولس. وقدوجدته كاترين أكثر واقعية من ديدرو، مطلعاً إطلاعاً مفيداً

(1)

لعل القصة التي زعمت أن أويلر أريك ديدرو أمام الحاشية الروسية ببرهان جبري وهمي على وجود الله قصة مشكوك في صحتها (42).

ص: 70

جداً على جميع مناحي ذلك العام الباريسي الذي سحرها بأدبه وفلسفته وفنه ونسائه وصالوناته. ودعته "للدردشة" معها كل يوم تقريباً خلال شتاء 1773 - 1774 وقد كتبت إلى فولتير عن هذه اللقاءات: "إن حديث السيد جريم يمتعني، ولكن الأشياء التي نود أن نتبادل الكلام فيها من الكثرة بحيث اتسمت لقاءاتنا إلى الآن بالحماسة أكثر من اتسامها بالنظام أو التتابع" وفي حرارة هذه الأحاديث كان عليها المرة بعد المرة أن تذكر نفسها بأن عليها (على حد قولها) أن تعود إلى "أكل العيش" أكل عيشها بالالتفافات إلى مهمة الحكم (43). وعاد جريم إلى باريس يطفح تحمساً لكاترين "غذاء روحي، وعزاء قلبي، وفخر عقلي، وبهجة روسيا، وأمل أوربا"(44). وعاد إلى زيارة بطرسبرج في 1776، وكان يلقاها كل يوم تقريباً على مدى عام. ورجته أن يمكث ويشرف على التنظيم الجديد للتعليم في روسيا، ولكن حن إلى باريس ومدام ريينيه. ولم تكن كاترين بالمرأة الغيور، فلما سمعت أن مدام ريينيه تعاني أزمة مالية بعثت إليها بطريق رقيق غير مباشر ما يكفي لتلبية حاجاتها (45). ومنذ 1777 قام جريم بمهمة الوكيل لكاترين في فرنسا في المشتريات الفنية والمهام السرية. ودامت صداقته لها إلى النهاية دون أن يكدر صفوها مكدر.

ماذا كان نتائج هذا الغزل بين الأوتقراطية والفلسفة؟ أما من حيث مصادقتها للفلاسفة بوصفهم وكلاؤها الصحفيين في فرنسا، فالأثر السياسي كان صفراً؛ فالسياسة الفرنسية، ومن ثم المؤرخون الفرنسيون، ظلوا خصوماً ألداء لبلد كروسيا يحبط الأهداف الفرنسية في أوربا الشرقية. ولكن إعجابها بأبطال التنوير الفرنسي كان مخلصاً، لأنه بدأ قبل تقلدها السلطة بزمن طويل، ولو كان تظاهراً وادعاءً لما ثبت للمواجهات الطويلة مع ديدرو وجريم. وقد أعان اتصالها بالفكر الفرنسي على صبغ روسيا المتعلمة بالصبغة الأوربية، وعلى تعديل الرأي الغربي الذي رأى في روسيا وحشاً هائلاً جباراً. وقد اقتدى روس كثيرون بكاترين، وراسلوا كتاب الفرنسيين، وشعروا بتأثير الثقافة والعادات والفنون الفرنسية. وزار باريس عدد متزايد من الروس، ومع أن كثيرين منهم أنفقوا وقتهم في المغامرات

ص: 71

الجنسية إلا أن الكثيرين اختلفوا إلى الصالونات والمتاحف والبلاط، وقرأوا الأدب والفلسفة الفرنسيين، وجلبوا معهم أفكاراً شاركت في الإعداد لتفجر الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.

‌4 - الحاكمة القديرة

لا يتطرق إلينا الشك في صدق نيات كاترين في مطلع حكمها.

فقد وجدت هذه القرارات في نسخة "تليماك" التي كانت تقرؤها:

"عليك بدراسة الإنسان، وبتعلم استخدام الرجال بغير الاستسلام لهم دون تحفظ. وابحثي عن الكفاية الأصيلة وإن وجدت في أقصى الأرض، لأنها تكون عادة متواضعة متوارية.

ولا تسمحي لنفسك بأن تصبحي فريسة للمتملقين، أفهميهم أنك ى تعبأين بالمديح ولا بالتذلل والخنوع. وضعي ثقتك في أولئك الذين لديهم الشجاعة للاعتراض على آرائك

والذين تهمهم سمعتك أكثر مما يهمهم رضاءك.

"كوني مؤدبة، رحيمة، منفتحة، عطوفاً، متحررة العقل. ولا تدعي سمو مكانتك بمنعك من النزول في تلطف إلى صغار الناس، ووضع نفسك في موضعهم. واحرصي على ألا يضعف هذا اللطف من سلطانك أو ينتقص من احترامهم لك

وانبذي كل تصنع وافتعال. ولا تسمحي للعالم أن يلوثك إلى الحد الذي يفقدك مبادئ الشرف والفضيلة القديمة.

أقسم بالسماء أن أطبع هذه الكلمات على صفحة قلبي" (46).

وكانت تدأب على الإحاطة بدقائق كل موضوع تتناوله، وقد كتبت تعليمات مفصلة عن مئات المواضع من تدريب الجيش والعمليات الصناعية إلى زينة حاشيتها وإخراج الأوبرات والتمثيليات. قال أحد كتاب سيرتها الأولين وكان من أقلهم تعاطفاً:

ص: 72

"إن الطموح لم يطفئ في روح كاترين تذوقاً حاراً للذة، ولكنها كانت تعرف كيف تنبذ اللذة، وتنتقل إلى الاضطلاع بأكثر الواجبات خطراً، وإلى الممارسة التي لا تكل لشئون الحكم. فتحضر جميع مداولات المجلس، وتقرأ رسائل سفرائها، وتملي، أو تشير

بالردود التي لا يرد بها. ولا تكل لوزرائها سوى تفاصيل العمل، ولا تفتأ تراقب تنفيذه" (47).

واستحالت أو كادت مهمة حكم رقعة ملكها الشاسعة لكثرة القوانين الموجودة (عشرة آلاف). وتنوعها، وتناقضاتها، وفوضاها. وإذ راودها الأمل في أن تؤدي لروسيا ما أداه من قبل جستنيان للدولة الرومانية، وفي أن تدعم سلطتها، فإنها دعت إلى موسكو في 14 ديسمبر 1766 موظفين إداريين وخبراء قانونيين من كل ركن من أركان الإمبراطورية، ليقوموا بمراجعة دقيقة شاملة وجمع وتنسيق للقانون الروسي. واستعداداً لمجيئهم أعدت بشخصها تعليمات " Nakaz" تصف المبادئ التي ينبغي أن يشكل على أساسها القانون الجديد. وقد عكست هذه المبادئ قرائتها لمونتسكيو وبكاريا وبلاكستون وفولتير. واستهلت تعليماتها بالتصريح بأنه يتعين التفكير في روسيا على أنها دولة أوربية، ينبغي أن يكون لها دستور قائم على "مبادئ أوربية". وليس معنى هذا في مفهومها "حكومة دستورية" تخضع الملك لهيئة تشريعية يختارها الشعب، فمستوى التعليم في روسيا لن يسمح حتى بحق انتخاب محدود كالموجود آنئذ في بريطانيا. إنما يعني حكومة يحكم فيها الحاكم طبقاً للقانون، وإن كان هو ف نهاية الأمر المصدر الوحيد للقانون. وقد أيدت كاترين النظام الإقطاعي-أعني نظام الولاء والخدمات المتبادلة بين الفلاح والمقطع (التابع) وبين المقطع والسيد الإقطاعي، وبين السيد والملك-باعتباره نظاماً لا غنى عنه للاستقرار القتصادي والسياسي والحربي في روسيا عام 1766 (وهي بلد الجماعات التي لا تكاد تنعزل بعضها عن بعض، وعن مركز الحكومة، نتيجة لصعوبات الانتقال والنقل)، ولكنها ألحت على ضرورة تعريف وتحديد حقوق السادة على أقنانهم قانوناً، وعلى السماح للأقنان بتمالك الأملاك، وعلى نقل محاكمة الأقنان وعقابهم من السيد الإقطاعي إلى قاضي عمومي يسأل محكمة إقليمية مسئولة أمام الملك (48). وينبغي أن تكون جميع المحاكمات

ص: 73

علنية، وأن يبطل استخدام التعذيب، وأن تلغى عقوبة الإعدام قانوناً وواقعاً. أما العبادة الدينية فينبغي أن تكون حرة، "فالتعصب هو أضر الكبائر بين هذه الكثرة من مختلف العقائد"(49). ثم قدمت هذه التعليمات قبل طبعها إلى مستشاريها، فنبهوها إلى أن أي تغيير فجائي من الأحوال المألوفة سيدفع بالروسيا إلى مهاوي الفوضى؛ وقد سمحت لهم بتعديل مقترحاتها، لا سيما ما استهدفت عتق الأرقاء تدريجياً (50).

وقد دفعت هذه التعليمات التي نشرت في هولندة في 1767 صفوة المفكرين الأوربيين إلى الثناء الحماسي عليها، حتى بعد أن عدلت على هذا النحو. وأرسلت الإمبراطورة نسخة منها رأساً إلى فولتير، الذي قدم فروض احترامه المعهودة:"سيدتي، تلقيت البارحة ضماناً من ضمانات خلودك-هو مجموعة قوانينك في ترجمة ألمانية. وقد شرعت اليوم في ترجمتها إلى الفرنسية. وسوف تظهر في الصينية، وفي كل لسان، وسوف تكون إنجيلاً للبشر أجمعين (51). وأضاف في رسائل تالية: "إن المشرعين يحتلون مكان الصدارة في هيكل المجد، أما الفاتحون فيأتوهم من بعدهم

إنني أعد (التعليمات) أجل آثار هذا القرن" (52). ومنعت الحكومة الفرنسية بيع (التعليمات) في فرنسا.

وقدمت "التعليمات" المعدلة إلى "لجنة صياغة القانون الجديد" التي اجتمعت في 10 أغسطس 1767. وكانت تتألف من 564 عضواً تنتخبهم جماعات شتى: 161 من النبلاء و208 من المدن، 79 من الفلاحين الأحرار، و54من القوزاق، و34 من القبائل غير الروسية (مسيحيين أو غير مسيحيين) و28 من الحكومة. ولم يمثل الاكليروس بصفتهم طبقة، ولم يمثل الأقنان إطلاقاً. وكانت اللجنة من بعض وجوها نظير لمجلس طبقات الأمة الفرنسي الذي تقرر أن يجتمع في باريس في 1789، وقد أتى المندوبون للحكومة بقوائم احتوت المظالم ومقترحات الإصلاح من دوائرهم على نحو ما سيفعل مندوبو ذلك المجلس الأشهر. ورفعت هذه الوثائق إلى الإمبراطورة فأتاحت لها ولمساعديها مسحاً قيماً لحالة المملكة.

ص: 74

ولم تخول اللجنة سلطة إصدار القوانين، بل تقديم المشورة للإمبراطورة عن حالة كل طبقة أو إقليم وحاجاته وتقديم الاقتراحات للتشريع. وكفلت للمندوبين حرية الكلام وعدم المساس بأشخاصهم. واقترح بعض عتق جميع الأقنان وطلب بعضهم مزيداً من التوسع في حق امتلاك الأقنان. وفي ديسمبر 1767 - استراحت اللجنة، وفي فبراير 1768 انتقلت إلى سانت بطرسبرج، وبلغ مجموع الجلسات التي عقدتها 203؛ وفي 18 ديسمبر أجلت إلى أجل غير مسمى لأن نشوب الحرب ضد تركيا استدعى وجود مندوبين كثيرين في الجبهة. ووكلت مهمة صياغة التشريع المقترح إلى لجان فرعية، ظل بعضها يجتمع حتى 175، ولكن لم توضع مجموعة قوانين. ولم تسوء كاترين تماماً هذه النتيجة غير الحاسمة، فقالت "إن اللجنة

أعطتني النور والمعرفة عن جميع الإمبراطورية، وأنا الآن على بينة مما يلزم، وأعرف بما ينبغي أن أهتم. وقد فصلت اللجنة جميع أقسام القانون، ووزعت الشئون تحت رؤوس مواضيع، وكنت خليقة بأن أفعل أكثر من هذا لولا الحرب مع تركيا، ولكنا أدخلنا وحدة لم نعهدها إلى الآن في مبادئ النقاش وطرائقه" (53). وقد أظهرت كاترين للنبلاء في الوقت نفسه مبلغ عرض القاعدة التي ترتكز عليها سلطاتها. واقترحت اللجنة قبل انفضاضها أن تخلع عليها لقب "الكبرى"، فرفضت، ولكنها وافقت على أن تلقب "أم الوطن".

وأصبحت اثنتان من توصيات كاترين قانوناً: إلغاء التعذيب وإقرار التسامح الديني. وقد توسع في هذا التسامح: فسمح القانون للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأن تنافس اليونانية الأرثوذكسية، وحمى اليسوعيين حتى بعد أن حل البابا كلمنت الرابع عشر طائفتهم (1773)، وأذن للتتار الفولجا بأن يعيدوا بناء مساجدهم. وسمحت كاترين لليهود بدخول روسيا، ولكنها أخضعتهم لضرائب خاصة، وقصرت إقامتهم على مناطق معينة (ربما تحقيقاً لسلامتهم). ثم تركت الراسكولنيكيين-المنشقين الدينيين-أحراراً في ممارسة شعائرهم دون عائق؛ وكتبت إلى فولتير تقول "صحيح أن عندنا متعصبين يحرقون أنفسهم لأنهم لم يعودوا مضطهدين من الغير، ولكن لو حذا حذوهم المتعصبون في الدول الأخرى لما نجم عن ذلك ضرر يذكر"(54).

ص: 75

وأبهج جماعة الفلاسفة بصفة خاصة إخضاع كاترين الكنيسة الروسية للدولة. وشكا بعضهم من أنها لا تزال تحضر الخدمات الدينية (وكذلك كان يفعل فولتير)، وأدرك أكبرهم سناً أن حضورها لا غنى عنه للاحتفاظ بولاء الشعب. وقد حولت بمرسوم أصدرته في 26 فبراير 1764 جميع أراضي الكنيسة ملكاً للدولة. وبدأت الدولة منذ الآن تدفع رواتب رجال الدين الأرثوذكس-وبهذا ضمنت تأييدهم للحكومة. وأغلق الكثير من أديرة الرهبان والراهبات، ومنع الباقي منها من قبول أكثر من عدد معلوم من المترهبين الجدد، ورفعت السن القانونية لنذر الرهبنة. واستخدمت الموارد الفائضة من المؤسسات الكنسية في إنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات (55).

وعارض رجال الدين والنبلاء التوسع في التعليم الشعبي مخافة أن يفضي انتشار المعرفة بين الجماهير إلى الهرطقة والكفر والتحزب، وأن يعرض النظام الاجتماعي للخطر. هنا بدأت كاترين-كما بدأت في غيره-بتطلعات تحررية، فلجأت إلى جريم:

"أصغوا إليَّ لحظة يا أصدقائي الفلاسفة: ستكونون لطافاً ظرافاً إذا تفضلتم برسم خطة للشباب، من ألف باء إلى الجامعة

ليس عندي-أنا التي لم أدرس في باريس ولم أعش فيها-معرفة بهذا الأمر ولا بصر به .. إنني مهتمة جداً بفكرة إنشاء جامعة وإدارتها، ومدرسة ثانوية (جمنازيوم) وأخرى أولية

وإلى أن تستجيبوا لطلبي سأنقب في "الموسوعة" عما أنشده وبالتأكيد سأستخرج منها ما أنشده" (56).

وقد أثرت فيها أثناء ذلك الحماسة البيداجوجية التي أبداها إيفان بتسكي، الذي جاب السويد وألمانيا وهولندة وإيطاليا وفرنسا، واختلف إلى صالون مدام جوفران ودرس الموسوعة والتقى بروسو. ففي 1763 أنشأت في موسكو مدرسة القطاء، خرجت في 1796 أربعين ألف طالب، وفي 1764 فتحت مدرسة للبنين في سانت بطرسبرج، وفي 1765 أخرى للبنات، وفي 1764

ص: 76

حول دير سمولني إلى معهد سمولني لبنات النبلاء- وهذا صدى لمعهد مدام دمانتنون "سان سير"، وكانت كاترين أول حاكم روسي يفعل شيئاً لتعليم النساء. ولما فت في عضدها افتقارها إلى المعلمين المؤهلين، بعثت الطلاب الروس لدراسة التربية في إنجلترة وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وأنشئت مدرسة للمعلمين في 1786.

وقد أعجبتها إصلاحات يوزف الثاني التعليمية في النمسا، فطلبت إليه أن يعيرها شخصاً خبيراً بنظامه، فأرسل إليها تيودور يانكوفش الذي وضع لها خطة نشرتها باسم "قانون المدارس الشعبية"(5 أغسطس 1786). وأنشئت مدرسة أولية في أهم بلدة في كل إقليم، ومدرسة ثانوية في كل مدينة كبرى من مدن ست وعشرين مقاطعة، وفتحت هذه المدارس لجميع الأطفال أياً كان طبقتهم، ولم يسمح فيها بالعقاب البدني؛ وكانت الدولة تمدها بالمدرسين والكتب المدرسية. بيد أن المشروع أحبطه إلى حد كبير عزوف الآباء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس بدلاً من استخدامهم للشغل في البيت. وخلال اسنوات العشر التي انقضت منذ تأسيس "المدارس الشعبية" حتى وفاة كاترين، زاد عدد ببطء من أربعين إلى 316 مدرسة، وعدد المعلمين من 136 إلى 744، وعدد التلاميذ من 4. 398 إلى 17. 341. وفي عام 1796 كانت روسيا لا تزال شديدة التخلف عن الغرب في ميدان التعليم الشعبي.

أما التعليم العالي فكان متاحاً على نطاق ضيق في جامعة موسكو وفي المعاهد أو الأكاديميات الخاصة، وأنشئت مدرسة تجارية في 1772، وأكاديمية للمناجم في 1773. ووسعت أكاديمية العلوم القديمة وزودت بالمال الوافر. وفي 1783، بناء على إلحاح الأميرة داشكوفا، وتحت رآستها، أنشئت أكاديمية روسية لتحسين اللغة، وتشجيع الأدب، ودراسة التاريخ، فأصدرت المترجمات، ونشرت الدوريات، وصنفت قاموساً صدر في ستة أجزاء بين 1789، 1799.

وقد روعت كاترين نسبة الوفيات العالية في روسيا، وبدائية وسائل

ص: 77

حفظ الصحة العامة والنظافة الشخصية، فاستقدمت الأطباء الأجانب، وأسست كلية للصيدلة في موسكو، ودبرت المال لإنتاج الأدوات الجراحية. وفتحت في موسكو ثلاثة مستشفيات جديدة ومستشفى للأمراض العقلية وفي سانت بطرسبرج ثلاثة مستشفيات جديدة بما فيها "مستشفى سري" للأمراض التناسلية (57). وفي 1768 أدخلت لروسيا التطعيم ضد الجدري، وهدأت مخاوف الشعب بوضعها شخصها وهي في الأربعين ليجري عليها العلاج كثاني شخص في روسيا، وما لبثت كاترين أن كتبت لفولتير تقول "إن الذين طعموا هناك في شهر واحد أكثر ممن طعموا بفيينا في سنة"(58). (وفي 1772 دخل التطعيم نابلي لأول مرة، وفي 1774 مات لويس الخامس عشر بالجدري غير مطعم).

‌5 - الاقتصادية

من القوانين الأساسية التي أصدرتها كاترين قانون (1765) قضى بأجواء مسح لجميع أراضي روسيا. وقد قوبلت هذه العملية بمقاومة شديدة من الملاك. وحين اختتم العهد كانت قد شملت عشرين إقليماً من خمسين، ولكنها لم تستكمل حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبينما كان المسح جارياً أدركت الإمبراطورة في وضوح مثبط للهمم كيف يعتمد اقتصاد روسيا على تنظيم الزراعة بواسطة نظام قوامه السادة والأقنان. وفي 1766 أعلنت عن جائزة من ألف دوقاتية تمنح لأفضل مقال عن تحرير الأقنان. وفاز بالجائزة بياردي دلابيه إكس لا شابل، الذي رأى أن "العالم كله يطالب الملوك بتحرير الفلاحين" وتنبأ بأن الإنتاج الزراعي سيزداد زيادة هائلة "إذا ملك الفلاحون الأرض التي يزرعونها"(59). غير أن الملاك الأشراف حذروا كاترين من أن الفلاح سيهجر القرى إلى المدن إن لم يربط بالأرض وبسيده الإقطاعي، أو سيهاجر من قرية إلى قرية في لا مبالاة أكثر، فيخلق بذلك الفوضى، ويمزق الاقتصاد، ويعوق تجنيد أبناء الفلاحين الأشداء للجيش أو الأسطول.

ومضت القيصرة الحائرة في مشروعها على حذر، فالنبلاء يملكون المال

ص: 78

والسلاح اللذين يستطيعان الإطاحة بها، وهم في هذه المحاولة يستطيعون الاعتماد على تأييد الاكليروس الذين ساءهم فقدان أراضيهم وأقنانهم. وخافت من الخلل الذي قد تحدثه هجرة جماعية من الفلاحين المحررين إلى مدن غير مستعدة لإسكانهم أو إطعامهم أو تشغيلهم. على أنها قامت بخطوات نحو عتق الأقنان. فجددت مرسوم بطرس الثالث الذي حرم شراء الأقنان لتشغيلهم في المصانع، وفرضت على أرباب العمل أن يدفعوا أجور عمالهم نقداً وأن يراعوا ظروف العمل التي يقررها موظفو المدينة أو "المير"(60)؛ ولكن حتى مع هذا ظل وضع الأقنان الصناعيين وضع العبودية القاسية المذهلة. وحرمت كاترين القنية في المدن التي أنشأتها (61)، ثم عتقت الأقنان المشتغلين على الأراضي التي أخذت من الكنيسة نظير دفعهم رسماً صغيراً (62)، على أن هذه التحسينات طغت عليها منحها المتكررة من أراضي الدولة لمن أخلصوا لها الخدمة كالقواد أو رجال الدولة أو العشاق، وعلى هذا النحو أصبح أكثر من 800. 000 من الفلاحين الأحرار أقناناً. وارتفعت نسبة الأقنان في سكان الريف من 52. 4% في بداية العهد إلى 55. 5% في ختامه، وزاد عدد الأقنان من 7. 6700. 000 إلى 20. 000. 000 (63). ثم أكملت كاترين استسلامها للنبلاء بـ "خطابات الامتياز للنبلاء" (1785): فقد أكدت فيها من جديد إعفاءهم من ضريبة الرؤوس، والعقوبة البدنية، والخدمة العسكرية، وحقهم في ألا يحاكموا إلا أمام أمرائهم، وفي استخراج المعادن من أرضهم، وفي امتلاك المشروعات الصناعية، وفي السفر إلى خارج البلاد كما يشاءون. وقد حظرت على الملاك أن يكونوا طغاة أو قساة، ولكنها أبطلت مفعول هذا الحظر بمنع الأقنان من أن يرسلوا إليها شكاواهم.

ولجأ الفلاحون بعد أن أخمد صوتهم على هذا النحو إلى الفرار أو التمرد أو الاغتيال. وقد قتل ثلاثون من السادة الإقطاعيين بأيدي فلاحيهم بين عامي 1760 و1769؛ واندلعت خمسون فتنة بينهم فيما بين عامي 1762 و1773 (64). وكانت هذه الفتن تخمد سريعاً حتى قائم زعيم ثائر عرف كيف يحول السخط نظاماً، وأسلحة اللاحين انتصارات. ذلك أن إمليان بوجاشيف كان قوزاقياً من إقليم الدون، حارب في صفوف الروس ضد

ص: 79

البروسيين والأتراك، ثم طلب تسريحه، ولكن طلبه رفض، ففر من الجيش، وقبض عليه، فعاودوا الفرار، وارتضى حياة طريد القانون. وفي نوفمبر 1772، بعد أن شجعه الرهبان الساخطون، أعلن أنه بطرس الثالث الناجي بأعجوبة من كل المحاولات التي بذلت لقتله. وجذب الفلاحين وقطاع الطرق للانضواء تحت لوائه، حتى أحس بأن ساعده اشتد، فهجر بعصيان الغاصبة كاترين (سبتمبر 1773). وتوافد عليه قوزاق الأورال والفولجا والدون؛ وآلاف الرجال الذين حكم عليهم بالسخرة في مناجم الأورال ومصاهر المعادن؛ وفئات "المؤمنين القدامى" التواقين إلى الإطاحة بالكنيسة الأرثوذكسية؛ وقبائل التتار والقرغيز والبشكير المحلية الذين لم ينسوا إكراه اليزابث لهم على الدخول في المسيحية؛ ثم أقنان آبقون من سادتهم، ومساجين هربوا من السجون: هؤلاء تقاطروا على لواء بوجاشيف حتى اجتمع له عشرون ألف رجل تحت إمرته. فزحفوا ظافرين من مدينة إلى مدينة، وهزموا القوات التي سيرها ضدهم الحكام المحليون، واستولوا على مدن هامة مثل قازان وساراتوف؛ ثم صادر المؤن، وقتلوا الملاك، وأكرهوا الفلاحين المعارضين على الانضمام إليهم، وزحفوا مصعدين في حوض الفولجا صوب موسكو. وأعلن بوجاشيف أن لن يرتقي هو العرش هناك، بل سيبوئة الغراندوق بولس. ولكنه-بمزاح رهيب على الأرجح-لقب زوجته الفلاحة بالملكة، وكبار ضابطه بأسماء ضباط كاترين: الكونت أورلوف، والكونت بانين، والكونت فورونشوف.

وسخرت كاترين أول الأمر من هذا "المركيز بوجاشيف"، ولكنها حين علمت أن العصاة استولوا على قازان، جردت قوة كبيرة تحت إمرة الجنرال بيوتر إيفانوفتش بانين لإخماد الفتنة. وخف النبلاء لنجدتها بعد أن أدركوا أن الخطر يتهدد هيكل الإقطاع بأسره، وسرعان ما انضم الجنرال الكسندر فاسيليفتش سوفوروف إلى بانين بفرسانه الذين أصبحوا أحراراً في التحرك بعد عقد الصلح مع الأتراك؛ وأوقع الخلل في صفوف العصاة التقاؤهم بجنود مدربين تحت قيادة ضباطهم الإمبراطوريين. فتقهقروا من موقع إلى آخر، واستنفدوا مؤنهم، وبدأوا يتضورون جوعاً. واعتقل بعض

ص: 80

زعمائهم-الطامعين في الخبر واعفو-بوجاشيف وسلموه للمنتصرين. فجيء به إلى موسكو في قفص من حديد، وحوكم في الكرملين، وقطع رأسه ومزق جسده أرباعاً، وعرض رأسه على عمود في أربعة أقسام من المدينة ليكون "عبرة لغيره" ثم أعدم خمسة من ضباطه، وجلد غيرهم على هذا الجانب من الموت، ونفوا إلى سيبيريا. وكان من نتائج الفتنة دعم التحالف بين الإمبراطورة والنبلاء.

على أنها تحدث النبلاء شيئاً ما بتأييدها لنمو طبقة قوامها رجال المال والأعمال. ذلك أن اقتناعها ببراهين الفزيوقراطيين دعاها لإقرار حرية التجارة في المحاصيل الزراعية (1762)، ثم في كل شيء، وأنهت (1735) الاحتكارات المعتمدة من الحكومة بإصدارها قراراً يبيح لكل إنسان حرية الاضطلاع بأي مشروع صناعي وتنفيذه. وقد أخر نمو الطبقة الوسطى غلبة الصناعة التي تقوم في الأكواخ والعزب، ومشاركة النبلاء في المغامرات الصناعية والتجارية. وزادت المصانع من 984 إلى 3. 161 في عهد كاترين، ولكن هذه كان أكثرها ورشاً صغيرة لا تستخدم من الصناع إلا القليلين. وزاد سكان المدن من 328. 000 في عام 1724 إلى 1. 300. 000 في عام 1796 - ومع ذلك لم يزل أقل من أربعة في المائة من مجموع السكان (65).

ولم تأل الإمبراطورة الكثيرة الشواغل جهداً في النهوض بالتجارة دون أن تلقى إلا التأييد الضنين من حاشيتها النبيلة. لقد كانت الطرق غاية في السوء، ولكن الأنهار كثيرة، وقد ربطتها القنوات في شبكة مفيدة. وفي عهد كاترين بدئ شق قناة بين الفولجا والنيفا لربط البلطيق ببحر قزوين، وقد خططت لقناة أخرى تصل بحر قزوين بالبحر الأسود (66). وظفرت بالتفاوض أو بالحرب بحرية مرور التجارة الروسية دون معوق في البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط. ثم حثت دبلوماسييها على عقد المعاهدات التجارية مع إنجلترة (1766) وبولندة (1775) والدنمرك (1782) وتركيا (1783) والنمسا (1785) وفرنسا (1787). ونمت التجارة الخارجية من 21. 000. 000 روبل عام 1762 إلى 96. 000. 000 عام 1796 (67).

ص: 81

في هذه الأرقام يجب أن نحسب حساب تضخم العملة الذي تدفع به الحكومات نفقات حروبها. وقد اقترضت كاترين من داخل البلاد وخارجها 130. 000. 000 روبل لتمويل حملاتها على تركيا، وأصدرت نقوداً ورقية تجاوزت كثيراً أي غطاء من الذهب. وفقد الروبل أثناء حكمها 32% من قيمته. وفي هذه الفترة ذاتها، ورغم زيادة الإيرادات من 215. 000. 000 (68). وأكثر هذا الدين نجم عن الحروب التي كسرت شوكة تركيا، ومدت حدود روسيا إلى البحر الأسود.

‌6 - المحاربة

بدأت كاترين بأهداف سلمية كما يبدأ كل فيلسوف: فأعلنت أن مشاكل الإمبراطورية الداخلية ستستغرق اهتمامها، وأنها ستتجنب كل صراع مع الدول الأجنبية إذا لم يتحرش بها أحد. فثبتت صلح بطرس الثالث مع بروسيا، وأنهت حربه مع الدنمرك. وفي 1762 رفضت الإغراء بفتح كورلاند أو التدخل في بولندة، وقالت "عندي ما يكفي من البشر الذين على إسعادهم، ولن يزيدني رفاهية ذلك الركن الصغير من أركان الأرض"(69). ثم خفضت الجيش، وأهملت ترسانات السلاح، وسعت إلى التفاوض مع تركيا لإبرام معاهدة للصلح الدائم.

ولكنها كانت كلما درست الخريطة وجدت عيباً في حدود روسيا. ففي الشرق كانت الإمبراطورية محمية جيداً بجبال الأورال وبحر قزوين وضعف الصين. وفي الشمال تحميها الثلوج. أما في الغرب فالسويد مستولية على جزء من فنلنده، قد يتوقع منه الهجوم في أي لحظة يشنه شعب ما فتئ يسوؤه ما غصبه منه بطرس الأكبر؛ وكانت بولندة وبروسيا تسدان الطريق إلى "أوروبا" والاصطباغ بحضارتها. أما في الجنوب فقد سد التتار، الخاضعون لخان مسلم يسيطر عليه الترك، الطريق إلى البحر الأسود. فأي إجهاضات للتاريخ أعطت روسيا جغرافية كهذه، وحدوداً شاذة كهذه؟ وهمس في أذنها القائد القديم مونيش، والقائد الجديد جريجوري أورلوف، بأن الوضع يكون معقولاً أكثر لو كان البحر الأسود هو الحد الجنوبي، وبأنه يكون

ص: 82

جميلاً رائعاً لو استطاعت روسيا الاستيلاء على الآستانة والتسلط على البوسفور. ما نيكيتا بانين، وزير خارجيتها من 1763 إلى 1780. فقد فكر في طرق لإعلاء نفوذ روسيا في بولندة ومنع هذا البلد الأعزل من الوقوع في براثن بروسيا.

وتأثرت كاترين بحججهم، وأخذت تتحرق شوقاً لأن تبوئ وطنها الثاني مكاناً في السياسة يتفق ومكانها على الخريطة. فلم ينقض عام على تقلدها السلطة حتى انطلقت إلى سياسة خارجية لا ترضى في طموحها بأقل من جعل روسيا الدولة المحورية على القارة. كتبت إلى الكونت كيزرلنج، سفيرها في وارسو تقول "أقول لك أن هدفي أن أرتبط بروابط الصداقة مع جميع الدول، في تحالف مسلح، حتى أستطيع على الدوام أن أقف في صف مظلوم، وبهذا أصبح الحكم لأوربا (70).

وأنت عليها فترات كانت فيها قاب قوسين من هدفها هذا. وآية ذلك أنها سحبت روسيا من حرب السنين السبع فإنها في الوقع حسمت ذلك الصراع الذي شمل القارة كلها لصالح فردريك. وفي عام 1764 أبرمت مع فردريك معاهدة كانت نذيراً بتقطيع أوصال بولندة. ثم استغلت حاجة الدنمرك إلى تأييد روسيا لها ضد السويد لتهيمن على سياسة الدنمركيين الخارجية. وفي عام 1779 كانت حكماً بين فردريك ويوزف في معاهدة تشن، وأصبحت حامية الدستور الإمبراطوري الألماني. وفي 1780 ربطت الدنمرك والسويد وبروسيا والنمسا والبرتغال بالروسيا في "عصبة حياد مسلح" لحماية السفن المحايدة في الحرب الدائرة بين إنجلترة ومستعمراتها الأميركية، فتقرر ألا تتعرض السفن المحايدة للهجوم من أي من الطرفين المحاربين ما لم تحمل ذخائر حربية؛ وأن الحصار لكي يكون شرعياً ولكي يحترم يجب أن يكون حقيقياً لا مجرد إعلان على الورق.

وقبل أن قلبت الأحلاف ذلك القلب الثاني بزمن طويل بدأ الصراع الطاحن على التسلط على البحر الأسود. وقد نشأت أول حروب كاترين

ص: 83

التركية نتيجة ثانوية غريبة لغزوها بولندة. ذلك أنها كانت قد أرسلت هناك جيشاً لإعانة غير الكاثوليك في كفاحهم لنيل حقوق متساوية من الأغلبية الكاثوليكية؛ وحمل الكاثوليك سفيراً بابوياً على أن يفهم تركيا أو فرصتها حانت لتهاجم روسيا؛ وأيدت فرنسا الاقتراح، وحرضت السويد وخان القرم على الانضمام للهجوم (71). وحزن فولتير على إمبراطورته التي أحدق بها الخطر. وكتب إليها يقول "إن تجنيد سفير بابوي للأتراك في حربه الصليبية عليك لموضوع جدير برواية هزلية إيطالية عنوانها "مصطفى الحليف الفاضل للبابا! "، فالموقف كاد يغريه بأن يكون مسيحياً. لا بل أنه في خطاب أرسله إلى كاترين في نوفمبر 1768 اقترح عليها حرباً مقدسة على الكفار.

"إنك تكرهين البولندين على أن يكونوا متسامحين سعداء على الرغم من سفير البابا، ويبدو أنك تلقين من السماء عنفاً. فإذا شنوا عليك الحرب فربما تبلورت فكرة بطرس الأكبر في جعل الآستانة عاصمة للإمبراطورية الروسية

وفي ظني أنه لو قدر على الأتراك أن يطردوا من أوربا يوماً فسيكون هذا على أيدي الروس

فليس يكفي لإذلالهم؛ بل يجب ردهم إلى موطنهم إلى الأبد (72).

ورفضت السويد أن تشارك في الهجوم على روسيا، ولكن تتار القرم اجتاحوا مستعمرة "الصرب الجديدة" الروسية، الحديثة، (يناير 1769). وزحف جيش تركي عدته 100. 000 مقاتل صوب بود وليا لينضم إلى جيش الاتحاد البولندي. ورفضت كاترين أن تسحب قواتها من بولندة. وجردت ثلاثين ألف مقاتل يقودهم ألكسندر جولتسين وبيوتر روميا نتسيف لهزيمة التتار ورد الترك؛ فلما قيل لها إن عدد هؤلاء الترك هائل أجابت "إن الرومان لم يكونوا يعبأون بكثرة إعدامهم، إنما كانوا يسألون، أين هم؟ "(73). ورد التتار على أعقابهم، واستولى الروس على آزوف وتاجانروج شمالي الدون؛ وهزم سبعة عشر ألف روسي 150. 000 تركي في كاجول (1770) وتقدم روميانتسيف حتى بلغ بوخارست، حيث استقبله السكان الأرثوذكس

ص: 84

بمظاهر الفرح والتهليل. وفي 1771 اجتاح فاسيلي ميخايلوفتش دولجوروكي القوم وقضى على الحكم التركي هناك.

وأكثر حتى من هذا إثارة للعجب والإعجاب جرأة الكرسي أورلف، الذي قاد أسطولاً روسياً مخر به عباب المانش، والأطلنطي، والبحر المتوسط، وهزم الأسطول التركي تجاه خيوس، وأباده في خزمي (يوليو 1770)؛ غير أن الضرر الذي لحق بمراكبه كان فادحاً فلم يتح له مواصلة انتصاراته.

على أن أحداثاً أخرى لم تبعث مثل هذه البهجة في فؤاد كاترين. من ذلك أن طاعوناً تفشي في الجيش الروسي على طول الدانوب ثم ارتد إلى موسكو حيث كان يحصد ألف روح كل يوم في صيف 1770. وكانت عليمة بأن فردريك ينظر باستنكار إلى امتداد ملكها وسلطانها؛ وأن يوزف الثاني يزعجه تقدم روسيا إلى حدود النمسا في البلقان؛ وأن فرنسا لا تترك حجراً لا تقلبه دعماً لحليفتها تركيا؛ وأن إنجلترة ستقاوم بشدة تسلط روسيا على البوسفور؛ وأن السويد إنما تترب بها الدوائر. فدعت كاترين الترك إلى مؤتمر، فحضروا، ولكنهم حرنوا لإصرارها على استقلال القرم؛ وفي 1773 استؤنفت الحرب.

وفي يناير 1774 مات مصطفى الثالث؛ وقرر خلفه أن تركيا قد بلغت من الفوضى والإرهاق حداً يهدد وجودها كدولة أوربية. فاعترفت تركيا بمقتضى صلح كجوق قينارجي (في رومانيا) 21 يوليو 1744 باستقلال القرم (التي ظلت تحت حكم التتار)، ونزلت لروسيا عن آزوف، وكرش وبنيكالي، وكلبورون (على مصب دنيبر). وفتحت البحر الأسود والبوسفور والدردنيل للمراكب الروسية، ودفعت لروسيا تعويض حرب قدره 4. 500. 000 روبل، ومنحت العفو للمسيحيين الذين شاركوا في ثورات على حكامهم الأتراك، واعترفت بحق روسيا في حماية المسيحيين في تركيا. وكان هذا في جملته من أميز المعاهدات التي أبرمتها روسيا في تاريخها (74). فقد غدت روسيا الآن من دول البحر الأسود؛ وتركت

ص: 85

القرم وغيرها من أقاليم التتار في جنوب روسيا مفتوحة أمام الغزو الروسي المبكر، واستطاعت الإمبراطورة الشاكة أن تظهر بمظهر المدافعة عن الإيمان. وراحت كاترين-بعد أن أسكرها النصر-تحلم بتحرير اليونان-أعني بفتحها، وبتتويج حفيدها قسطنطين في الآستانة رأساً لإمبراطورية جديدة. وأبهجت فؤاد فولتير الشائخ برؤى الألعاب الأولمبية وقد ردت إلى مجدها التليد؛ فكتبت إليه تقول "سوف تجعل ممثلين يونانيين يمثلون التراجيديات اليونانية القديمة في مسرح (ديوينسيوس) بأثينا". فلما تذكرت الجيوش والخزانة التي استنفدت أضافت:"على أن أمرس الاعتدال، وأقول إن السلم خير من أروع حروب الدنيا"(75).

وأخذت الآن تحل محل فردريك كأشهر ملوك أوربا، وتعجب الناس جميعاً من سعيها الحثيث لتحقيق أهدافها، ومن الامتداد المرعب لسلطانها، وسافر يوزف الثاني إمبراطور النمسا، الذي طالما انحنى لعبقرية فردريك، إلى موجيليف، ومنها أكمل الرحلة الطويلة إلى سانت بطرسبرج ليلتقي بالقيصرة ويسعى إلى التحالف معها. وفي مايو 1781 أبرمت مع يوزف ميثاقاً للعمل الموحد في بولندة وضد تركيا.

وكان بوتمكين في غضون هذا يبني لنفسه الشهرة في الجنوب. ذلك أنه نظم وسلح وأطعم جيشاً جديداً عدته 300. 000 مقاتل، وبنى أسطولاً للبحر الأسود، له موانئ في سباستبول وأودسا وترسانة في خرسون، واستعمر أقطار روسيا الجنوبية ذات المستوطنات الضئيلة، وأسس المدن والقرى، وأقام المصانع، وزود المستعمرين بالماشية والآلات والبزار-وكل هذا ليوفر قواعد للتموين في حملة حربية تضيف القرم إلى تاج كاترين، وربما ليظفر بتاج لنفسه. وتشاجر تتار القرم وانقسموا، فألان بوتمكين زعماءهم بالرشا؛ فلما غزا شبه الجزيرة في النهاية (ديسمبر 1782) لم يلق من المقاومة إلا أقلها؛ وفي 8 أبريل 1783، ورغم احتياجات تركيا عديمة الجدوى، ابتعلت مملكة الروس القرم. ورقى بوتمكين مشيراً، ورئيساً للكلية الحربية، وأميراً لطورس، وحاكماً عاماً للقرم. ونفحته الإمبراطورة فوق هذا كله

ص: 86

بمكافأة من 100. 000 روبل، أنفقها بوتمكين على الخليلات والشراب والطعام.

ورأتن كاترين هي أيضاً أن الوقت قد حان لشيء من الاسترخاء. فجمعت بين اللهو والعمل بترتيبها "رحلة ملكية" فخمة على اليابس والماء تفتش خلالها على فتوحها وتترك انطباعاً قوياً في نفوس هذه الأقاليم-وأوربا كلها-بثراء بلاطها وأبهته. وفي 2 يناير 1787، غادرت القصر الشتوي مدثرة بفرائها وشرعت في رحلتها الطويلة في "برلينيه" أي مركبة مقفلة في الكبر بحيث تحتوي-فضلاً عن شخصها الذي اتسعت أبعاده الآن-عشيقها مامونوف صاحب الخطوة آنئذ، وكبيرة وصيفاتها، وكلباً صغيراً، ومكتبة صغيرة. وتبعتها أربع عشرة عربة و170 مركبة جليد، تحمل سفراء النمسا، وبريطانيا، وفرنسا-كوبنتزل، وفتزهربرت، والكونت سيجور-مضافاً إليهم الأمير دلين وجيش من الموظفين والبطانة والموسيقيين والخدم. وكان بوتمكين قد سبقها بأيام ليعد لها الطريق، وليضيئه بمئات المشاعل، وليرتب كل ليلة وجباتها وأماكن لنوم الجميع. وكان الموكب إذا مر بمدينة كبرى استراح يوماً أو يومين ريثما تلتقي القيصرة بوجود المدينة، وتستعرض أحوالها، وتوجه أسئلتها، وتوزع اللوم أو المكافأة. وبدت كل مدينة على الطريق في أحسن مظهر عملاً بتحذيرات بوتمكين وتعليماته، فاغتسلت وتزينت كما لم تفعل قط من قبل، سعيدة ولو ليوم واحد في حياتها.

وفي كييف أشرف بوتمكين على نقل البلاط المتنقل إلى سبع وثمانين سفينة كان قد أعدها وزينها. وعليها أبحر الركب الإمبراطوري هابطاً الدنيبر. وعلى طول النهر شاهدت كاترين "القرى البوتمكينية" التي هيأها أمير طورس الأريب وجلاها ليدخل السرور إلى قلبها، وربما ليترك في نفوس الدبلوماسيين انطباعاً قوياً عن ثراء روسيا. وبعض هذا الثراء ارتجله بوتمكين، وبعضه كان حقيقياً. "أما أنه شيد القرى الكاذبة على الضفتين، ودرب الفلاحين ليخلقوا وهماً بما هم عليه من تقدم، فذلك من شطحات خيال دبلوماسي سكسوني"(76). فقد قام الأمير دلين بعدة رحلات

ص: 87

على الشاطئ ليستكشف ما وراء الواجهة، فقال أنه رغم بوتمكين لجأ إلى بعض الحيلة، فإنه (أي دلين) راعته "المنشآت الفخمة وهي بعد في مهدها، والمصانع النامية، والقرى ذات الشوارع المنتظمة التي تحفها الأشجار"(77). ولعل كاترين نفسها لم تنخدع، ولكنها ربما استنتجت كما استنتج سيجور، أنه حتى لو كان نصف ثراء تلك المدن ونظافتها مظهراً زائلاً، فإن حقيقة وجود سباستبول فعلاً-المدينة والقلاع والميناء، وكلها بنى على شواطئ القرم في عامين-هذه الحقيقة كفت لجعل بوتمكين جديراً بالثناء. وقد وصفه الأمير دلين الذي كان يعرف تقريباً كل إنسان ذي شأن في أوربا بأنه "أعجب رجل التقيت به في حياتي"(78).

وفي كانيوف جاء ستانسلاس بونياتوفسكي ملك بولندة، ليقدم فروض الولاء للمرأة التي منحته حبها وعرشه. وفي موقع أبعد على الدنيبر الأدنى، عند كايداكي، انضم يوزف الثاني إلى الموكب الذي اتخذ طريقه ثم برا إلى خرسون فالقرم. هنالك داعبت الإمبراطورة، والإمبراطور، والحاكم العام، أحلامهم بطرد الترك من أوربا، فحلمت كاترين بالاستيلاء على الآستانة، ويوزف بابتلاع البلقان، وبوتمكين بتولي عرش داشيا (رومانيا). ونصحت إنجلترة وبروسيا السلطان عبد الحميد بأن يوجه ضربته إلى الروس في غفلة منهم قبل أن يستكملوا استعداداتهم الحربية (79). وكان في وقاحة السفير الروسي في الآستانة ما هيأ لتركيا حافزاً إضافياً، فحبسه السلطان، وأعلن الجهاد، وطالب برد القرم ثمناً للصلح. وفي أغسطس 1787 عبر الجيش التركي الرئيسي الدانوب وزحف على أوكرانيا.

لقد تعجل بوتمكين في الإعلان عن فرحه؛ ذلك أن روسيا لم تكن مستعدة بعد للامتحان النهائي؛ لذلك نصح الإمبراطورة بالتخلي عن القرم. ولكنها وبخته على جبنه الذي لم تعهده فيه، ثم أمرته هو وسوفوروف وروميا نتسيف أن يعدوا كل القوات المتاحة لهم وينطلقوا للقاء الغزاة؛ أما هي فقد انسحبت إلى سانت بطرسبرج. ودحر سوفروف الترك في كلبورون، وحاصر بوتمكين أوشاكوف المشرفة على منافذ دنيبر وبوج. وبينما كان الجهاد والحرب

ص: 88

الصليبية يواجه أحدهما الآخر في جنوبي روسيا، قررت السويد أن الفرصة واتتها أخيراً لاسترداد ما فقدت من أقاليم. فجدد جوستاف الثالث حلفاً قديماً مع الترك بعد أن شجعته إنجلترة وبروسيا (80)، وطالب كاترين برد فنلنده وكاريليا للسويد، ةالقرم لتركيا. وقد نفصل الحديث عن هذه الحرب في موضع لاحق، أما الآن فحسبنا أن نقول أن أسطولاً سويدياً أنزل بالروس في البلطيق هزيمة فاصلة في 9 يوليو 1799، وكان قصف المدفعية السويدية يسمع من القصر الشتوي؛ وفكرت كاترين في إخلاء عاصمتها. على أن مفوضيها ما لبثوا أن أقنعوا السويد بأن تبرم الصلح (15 أغسطس 1790).

وغدت كاترين الآن حرة في تركيز قوات ضد الترك، وانضمت النمسا إلى روسيا في الحرب. وأنهى بوتمكين حصار أوشاكوف بأن أمر رجاله بالهجوم مهما كان الثمن. وكلف النصر الروس ثمانية آلاف قتيل، وختمت المعركة الضارية بمذبحة أتت على الضحايا دون تمييز (17 ديسمبر 1788) وتقدم بوتمكين ليستولي على بندر، واستولى النمساويون على بلغراد، ودحر سوفروف الأتراك في رمنيك (22 سبتمبر 1789). وبدا أن تركيا مقضي عليها بالفناء.

على أن الدول الغربية أحست أن الموقف يدعو إلى العمل الموحد ضد كاترين إن أريد ألا يقع البوسفور-ذلك المعقل الاستراتيجي-في يدها فتصبح روسيا السيد المتسلط على أوربا. وبعد موت فردريك الأكبر (1789) رأى خليفته فردريك وليم الثاني في فزع تحرك روسيا صوب الآستانة، وتحرك النمسا في البلقان؛ وبين روسيا والنمسا وهما بهذه القوة الجديدة ستبيت بروسيا تحت رحمتهما. وعليه ففي 31 يناير 1790 ربط حكومته مع الباب العالي في ميثاق ألزمه بأن يعلن الحرب على روسيا والنمسا جميعاً في الربيع، وبألا يضع السلاح إلا إذا ردت لتركيا كل إقليمها التي خسرتها.

وبدا أن المد السياسي يتحول ضد كاترين. فقد أضعف قوة يوزف الثاني نشوب الثورة في الأراضي الواطئة النمساوية وانتشار الفوضى في المجر؛ ثم مات في 20 فبراير 1790، وأبرم خلفه هدنة مع الأتراك. وحثت

ص: 89

إنجلترة وبروسيا كاترين مرة أخرى على عقد الصلح على أساس الاحتفاظ بكل الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في الحرب؛ ولكنها أبت؛ ذلك أن استيلاءها على أوشاكوف كان قد فتح الطريق أمام روسيا إلى البحر الأسود، فهي لا تريد أن تتخلى عن هذا الكسب الحيوي. ثم إن قوادها كانوا يسيرون من نصر إلى نصر، وتوجوا انتصاراتهم باستيلاء سوفوروف وبوتمكين على مدينة اسماعيل (22 ديسمبر 1790)؛ وقد خسر الروس في سبيل الاستيلاء على هذا المعقل التركي الواقع على الدانوب عشرة آلاف مقاتل، وخسر الترك ثلاثين ألفاً. وبعد هذه الوليمة الدموية انتكس بوتمكين الذي أنهكته الحرب إلى ضرب من الكسل المترف والسفاح المخزمي مع بنات أخيه؛ وفي 15 أكتوبر 1791 مات على طريق قريب من ياسي. وأغمى على كاترين ثلاث مرات في اليوم الذي سمعت فيه بنبأ موته.

وفي مارس 1791 اقترح وليم بت الابن على البرلمان إرسال إنذار نهائي إلى روسيا يطالبها بأن ترد لتركيا كل الأقاليم التي استولت عليها في الحرب الراهنة، واقترح إرسال أسطول بريطاني إلى البلطيق نذيراً بالحرب. ولم تجب كاترين، أما البرلمان فقد ثنى بت عن إنفاذ مشروعه حين سمع التجار البريطانيون يتحسرون على ضياع تجارتهم مع روسيا. وأما تركيا فقد كفت عن الصراع بعد أن أنهكتها الحرب، فوقعت في جاسي (9 يناير 1792) معاهدة ثبتت سيطرة روسيا على القرم وحوضي دنيبر وبوج. وهكذا لم تصل كاترين إلى الآستانة، ولكنها بلغت ذروة حياتها كأقوى حاكم في أوربا، وألمع امرأة في قرنها.

‌7 - المرأة

أكانت امرأة، أم هولة؟ رأينا أنها في مستهل حكمها كانت فاتنة الجسد، وفي عام 1780 كانت قد سمنت، ولكن هذه السمنة لم تفعل بها شيئاً إلا إضافة الثقل إلى العظمة. وقد وصفها الأمير دلين (الذي كان من أوائل من لقبوها "الكبرى" (84) وصفاً مهذباً فقال:

ص: 90

"كانت في 1780 لا تزال حسنة الصورة، وفي استطاعة الناظر إليها أن يستنتج أنها كانت فيما مضى رائعة الجمال أكثر منها وسيمة. ولم يكن بالمرء حاجة إلى فراسة ليقرأ على جبينها، كما يقرأ في كتاب، العبقرية والعدالة والشجاعة ةالعمق ورباطة الجأش ولطف الطبع والهدوء والتصميم. وقد اكتسب صدرها الجميل على حساب خصرها الذي كان يوماً ما شديد النحول؛ ولكن الناس عادة يسمنون في روسيا

ولم يلحظ المرء قط أنها قصيرة القامة" (82).

وقد صورها كاستيرا في كتابته عنها عقب موتها بأنها كانت ترتدي ثوباً أخضر في احتشام. "كان شعرها المبدر ببودرة خفيفة، يطفو على كتفيها، وتعلوه قلنسوة صغيرة مرصعة بالماس. وفي سنيها الأخيرة ألفت أن تستعمل قدراً كبيراً من الروج، لأنها كانت لا تزال تطمع في ألا تسمح لآثار الزمن أن تبدو على وجهها، ومن المحتمل أن هذا الطموح وحده هو الذي دعاها للعيش بمنتهى الاعتدال"(83).

كانت مغرورة، واعية في غير مواربة بثقافتها وسلطتها. قال يوزوف الثاني لكاونتز "إن الغرور معبودها، وقد أفسدها الحظ وثقافتها المسرفة"(84). وفي رأي فردريك الأكبر أن كاترين لو كانت تراسل الله لا دعت لنفسها مرتبة مساوية له على الأقل (85). ومع ذلك كانت تتحدث إلى ديدرو كما يتحدث "رجل إلى رجل"، ورجت فالكونيه أن يسقط من حديثه لها عبارات المجاملة. وكانت "باستثناء بعض جرائم القتل المحتملة ومذابح الحرب المبررة) لا تقل لطفاً وأنساً عن تشارلز الثاني ملك إنجلترة أو هنري الرابع ملك فرنسا. وفي كل يوم كانت تلقى من نوافذها الخبر لآلاف الطيور التي تجيئها بانتظام لتطعم (86). وفي سنوات ملكها الأخيرة كانت تطلق العنان بين الحين والحين لنوبات غضب لا تليق بصاحبة السلطان المطلق، ولكنها حرصت على ألا تصدر أمراً أو توقع ورقة وهي في هذه النوبات البركانية، وسرعان ما أخذت تشعر بالخجل من هذه التفجرات، وأخذت

ص: 91

نفسها بالتحكم في أعصابها. أما عن شجاعتها فقد نبذت أوربا كل شك فيها.

كانت شهوانية بلا مراء ولا مبالاة، ولكن غرامياتها لا تؤذينا بشيء بقدر ما تؤذينا "حديقة ظباء" لويس الخامس عشر. وقد درجت على ما درج عليه كل حكام زمانها فأخضعت الأخلاق للسياسة، وأخمدت المشاعر الشخصية إذا عرقلت توسيع رقعة دولتها. وحيث انعدم مثل هذا الصراع كان لها كل حنان المرأة ورقتها، تحب الأطفال، وتلاعبهم وتمرح معهم، وتعلمهم، وتصنع لهم اللعب. وكانت في رحلاتها تحرص دائماً على أن يطعم السائقون والخدم كما ينبغي أن يطعموا (87). وبين الأوراق التي وجدت على منضدتها بعد موتها قبرية كتبتها لنفسها، "كانت تغفر في يسر، ولا تبغض أحداً، وإذا كانت متسامحة، متفهمة، ذات طبع مرح، فقد أوتيت روحاً جمهورية وقلباً عطوفاً"(88).

ولم تكن عطوفاً على ولدها البكر، من جهة لأن بولس أخذ منها بعد ولادته بقليل، وقام على تربيته بانن وغيره تحت إشراف اليزابت؛ ومن جهة لأن المؤامرات التي دبرت لخلعها كانت أحياناً تنوي جعله إمبراطوراً تحت الوصاية؛ ومن جهة لأن بولس طالما خامره الظن بأن أمه قاتلة بطرس؛ كذلك لأن بولس "كان يطيل التفكير دائماً في سرقة حقوقه في خلافة أبيه الافتراضية على العرش". ولكن كاترين تعلقت بابني بولس الساحرين ألكسندر وقسطنطين، وأشرفت بشخصها على تعليمها، وحاولت إبعادهما عن تأثير أبيهما، وبيتت أن يرث تاجها ألكسندر لا بولس (89). أما بولس الذي سعد بزواجه الثاني فكان ينظر في اشمئزاز واضح إلى سلسلة العشاق الذين أمتعوا أمه واستنزفوا موارد الدولة.

أما من الناحية العقلية فقد بزت كاترين على عشاقها. كانت ترضى جشعهم، ولكن ندر أن سمحت لهم بتقرير سياستها. وقد أحسنت استيعاب الأدب الفرنسي إلى حد أتاح لها مراسلة أقطابه كما يراسل الواحد من جماعة

ص: 92

الفلاسفة صاحبه؛ لا بل إن خطاباتها لفولتير كانت تنافس خطاباته لها فطنة وتمييزاً، وتضارعها رشاقة وخفة دم. وكانت رسائلها كثيرة العدد كترة رسائل فولتير مع أنها كتبتها خلال فواصل دسائس القصر، والثورات الداخلية، والدبلوماسية الحرجة، والحروب التي غيرت خرائط الدول. وكان حديثها يجعل ديدرو دائم التنبه والاستعداد، ويحرك مشاعر جريم إلى حد الانتشاء. "كان على المرء في تلك اللحظات أن يرى هذا الرأس الفذ الذي هو مزاج من العبقرية والحسن حتى يكون فكرة عن النار التي تحركها، والسهام التي تطلقها، والهجمات التي تلاحق

الهجمة منها الهجمة

ولو كان في طاقتي أن أدون هذه الأحاديث كلمة كلمة لأتيح للدنيا كلها قطعة نفيسة وربما فريدة في تاريخ العقل البشري (90). على أنه كان يشوب هذا السيل الدافق من أفكارها اضطراب وعدم استقرارا سريعان؛ فكانت تندفع بأسرع مما ينبغي في مشاريع لم تمعن التفكير فيها، وكانت أحياناً يهزمها إلحاح الأحداث وكثرة الواجبات. ولكن النتيجة حتى مع هذا كانت هائلة".

ويبدو أمراً لا يصدق أن تجد كاترين في حياة اضطربت بمثل هذه الأحداث المثيرة سياسية كانت أم حربية وقتاً تكتب فيه قصائد الشعر، والأخبار التاريخية، والمذكرات، والتمثيليات، ونصوص الأوبرات، ومقالات المجلات، وحكايات الجن، ورسالة علمية عن سيبيريا، وتاريخاً للأباطرة الرومان، ومذكرات مستفيضة عن "تاريخ روسيا" وفي 1769 - 1770 رأست تحرير مجلة هجائية دون أن تعلن عن اسمها، وكانت هي أهم محرريها. ومن صورها الأدبية صورة وصفت منافقاً في الدين يحضر القداس يومياً، ويشعل الشموع أمام الصور المقدسة، ويتمتم بالصلوات في فترات متقطعة، ولكنه يغش التجار، ويفتري على الجيران، ويضرب الخدم، ويندد بالرذيلة الفاشية ويتحسر على الأيام الخالية الطيبة (91). أما حكاية الجن التي كتبتها كاترين، واسمها "الأمير خلور" فتحكي عن شاب خاض مغامرات خطرة بحثاً عن وردة خرافية بلا شوك، ليكشف في النهاية أنه ليس هناك وردة كهذه إلا الفضيلة؛ وقد أصبحت هذه القصة من عيون القصص في الأدب الروسي، وترجمت إلى لغات كثيرة؛ وكانت

ص: 93

اثنتان من مسرحياتها مآسي تاريخية تقلد شكسبير؛ ومعظمها فكاهيات بسيطة تسخر من المشعوذين والمغفلين والبخلاء والمتصوفين والمسرفين، وتهزأ بكاليسترو، والماسون، والمتعصبين الدينيين. هذه التمثيليات كان يعوزها الدقة والصقل، ولكنها أبهجت الجماهير مع أن كاترين أخفت أنها مؤلفتها، وقد وضعت هذه العبارة على ستار المسرح الذي شيدته في الهرمتاج "إنه يهذب العادات بالضحك"؛ وكان هذا خير تعبير عن هدف كوميدياتها. أما أفضل مسرحياتها، واسمها "أوليج" فكانت تتابعاً رائعاً لمشاهد من تاريخ روسيا، أشاع فيها الحيوية سبعمائة مؤد في الرقصات والباليهات والألعاب الأولمبية. وكانت جل إنتاج كاترين الأدبي يراجعه السكرتيرون، لأنها لم تتمكن قط من الهجاء أو النحو الروسي، ثم أنها لم تأخذ هوايتها للتأليف مأخذ الجد الشديد؛ ولكن الأدب استمد الشجاعة من قدوتها الإمبراطورية وأضفى على ملكها عظمة نهائية ومجداً تشوبه الشوائب.

‌8 - الأدب

أخذت روسيا تشعر بعدم نضجها الفكري، فراح جيش من المؤلفين يقلدون في تواضع النماذج الأجنبية، أو يترجمون آثاراً حظبت بالشهرة في فرنسا أو إنجلترة أو ألمانيا. وجادت كاترين بخمسة آلاف روبل من جيبها الخاص لتشجيع هذا السيل الدخيل، وترجمت هي نفسها قصة "بليزير" لمارمونتيل. فلما تحمس الروس للمشروعات العريضة ترجم رحمانينوف، أحد ملاك الأراضي في تامبوف، أعمال فولتير؛ وترجم فيريفكين، رئيس كلية قازان، إلى الروسية "موسوعة" ديدرو. وترجم غير هؤلاء شكسبير والكلاسيكيات اليونانية واللاتينية، "وأورشليم المحررة" لتاسو

أما أنجح شعراء العهد فهو جافريل رومانوفتش درزافين. ولد الأسرة رقيقة الحال في أورنبرج الشرقية، وكان الدم التتاري يجري في عروقه، فخدم في فوج بريوبرازنسكي عشرة أعوام، ورأى كاترين ترقى إلى ذري السلطة، وشارك في إخماد فتنة بوجاشيف ضابطاً في الجيش، وشق طريقه صعداً إلى عضوية مجلس الشيوخ، وحين لاحظ درازفين أن الإمبراطورة

ص: 94

أطلقت اسم "فليتسا" على أميرة خيرة في قصة "الأمير خلور"، أطلق هذا الاسم في قصيدة عاطفية شهيرة (1782) على "الملكة الشبيهة بالآلهة لقبيلة قرغيز-قازاق" وتوسل إلى هذه السلطانة قائلاً "علميني كيف أجد الوردة التي لا شوك لها

وكيف أعيش حياة تجمع بين اللذة والاستقامة" (92). وحين ناجى الشاعر فليتسا بأن "من قلمها تفيض السعادة على كل البشر الفانين" كان يمتدح كاترين على نحو واضح. وحين لام نفسه "على النوم حتى الظهر، وتدخين التبغ، وشرب القهوة

وجعل الدنيا ترتعد لنظراتي

والانغماس في ولائم فاخرة على مائدة تتألق بالفضة والذهب"، عرف البلاط كله أن هذه غمزة أراد بها بوتمكين. وقد ارتفع درازفين إلى قمة النشوة في مديح "الإمبراطورة" فليتسا، التي "تخلق النور من الظلمات، ولا تؤذي أحداً، وتقضي عن الهنات، وتدع الناس يتكلمون كما يشاءون، وتكتب القصص الخرافية لتعلم شعبها، وتعلم خور الأبجدية" (أي حفيدها ألكسندر). ويختتم الشاعر بقوله: "أتوسل إلى النبي العظيم أن يسمح لي بلمس تراب قدميك، وأن أستمتع بذلك الجدول العذب جدول ألفاظك ولحظك. أني أتضرع إلى قوى السماء أن تنشر أجنحتها الزرقاء وتحرسك في الخفاء

وأن يسطع صيت أعمالك في الأجيال القادمة سطوع النجم في السماء" (93). وأكد درازفين أنه لا يطمع في جزاء على كل هذا المديح العطر، ولكن كاترين رقته، وما لبث أن قرب منها قرباً بصره بعيوبها؛ فكف عن كتابة المدائح. واتجه إلى عرش أسمى ونظم "قصيدة غنائية للإله"، مهنئاً إياه تعالى على كونه "ثلاثة-في-واحد" وعلى حفظه السماوات في مثل هذا النظام الجميل. وكان أحياناً يهبط إلى الميتافزيقا، ويردد برهان ديكارت على وجود الله فيقول: "أنا بالطبع موجود، وإذن فأنت موجود" (94). وقد ظلت هذه القصيدة الغنائية نصف قرن لا ينافسها شعر في شعبيتها حتى جاء بوشكن.

وقد فاجأ دنيس إيفانوفتش فون فيزين العاصمة بكوميديتين رشيقتين هما "اللواء" و "القاصر". ونجحت الثانية نجاحاً كاملاً حتى أن بوتمكين نصح المؤلف قائلاً "مت الآن، أو لا تكتب شيئاً بعد اليوم" بمعنى أن أي شيء يكتبه بعد هذا سيضعف من شهرته (59). وقد فض فيزين النصيحة ورأى

ص: 95

تحقيق النبوءة التي احتوتها. وفي سنته الأخيرة جاب غربي أوربا وأرسل إلى وطنه بعض رسائل ممتازة احتوت إحداها نبوءة فيها رنين الافتخار "نحن (الروس) بادئون، أما هم (يقصد الفرنسيين) فمنتهون"(96).

وأطرف شخصية في أدب عصر كاترين هو نيكولاي إيفانوفتش نوفيكوف. فقد تطور هذا الفتى بعد أن طرد من جامعة موسكو لكسله وتخلفه ليصبح رجلاً ذا نشاط ذهني لايني. ففي الخامسة والعشرين (1769)، في سانت بطرسبرج، رأس تحرير مجلة "الدبور" التي أطلق عليها هذا الاسم بخبث شيطاني ليعارض دورية سوماروكوف "النحلة النشيطة". وقد هاجم نوفيكوف بأسلوبه المرح الفساد الذي استشرى في الحكومة، وهاجم الإلحاد الفولتيري السائد في الطبقات العليا لأنه مدمر للأخلاق الشخصية؛ وامتدح بالمقارنة ما افترض وجوده من إيمان الروس المسلم وأخلاقهم المثالية قبل بطرس الأكبر. "وكان قدامى الحكام الروس قد توقعوا أن إدخال الفنون والعلوم سيقضي قضاءً مبرماً على أثمن كنز يملكه الروس-وهو أخلاقهم"(97). هنا أيضاً كان روسو يخوض حرباً مع فولتير. وحدجت كاترين "الدبور" بنظرات متجهمة، فحتجبت في 1770. وفي 1775 انضم نوفيكوف إلى الماسون الأحرار، الذين كانوا ينزعون في روسيا إلى الغيبية، والتقوية، والأوهام "الروزكروشية"

(1)

بينما اخوانهم في فرنسا يداعبون الثورة. وفي 1779 انتقل إلى موسكو، واضطلع بأعمال مطبعة الجامعة، ونشر في ثلاث سنوات من الكتب عدداً يفوق ما أخرجته تلك المطبعة في أربع وعشرين سنة. وحصل بمعونة مالية من صديق له على مزيد من المطابع، وكون داراً للنشر، وفتح مكتبات لبيع الكتب في جميع أرجاء روسيا، وأذاع نشر إنجيله في الدين والإصلاح. وأسس المدارس، والمستشفيات، والمستوصفات والبيوت النموذجية للعمال.

فلما أحالت الثورة الفرنسية كاترين من حاكمة مستبدة مستنيرة إلى حاكمة

(1)

Rosicurucian نسبة لجمعية سرية اشتهرت في القرنين الـ 17 والـ 18 وزعمت أنها تملك معرفة سرية للطبيعة والدين. (المترجم)

ص: 96

مستبدة مذعورة، خشيت أن يكون نوفيكوف بسبيل قلب النظام القائم. فأمرت بلاتون، مطران موسكو، أن يفحص أفكار نوفيكوف. وكتب الحبر يقول:"أضرع إلى الله الواسع الرحمة أن يكون هناك مسيحيون مثل نوفيكوف، لا في القطيع الذي وكله الله وأنت إلى فحسب، بل في العالم بأسره"(98). ولكن الإمبراطورة التي ظلت على ربيبتها رغم ذلك أمرت بسجن نوفيكوف في قلعة شلوسلبورج (1792). هناك ظل حبيساً حتى ماتت كاترين. فلما أفرج عنه بولس الأول اعتكف في ضيعته بتخفين، وأنفق سنيه الأخيرة في التقوى وأعمال البر.

أما ألكسندر نيكولايفتش رد شتشيف فقد لقي حظاً أشد عثاراً. أوفدته كاترين إلى جامعة ليبزج، فتعرف إلى بعض أعمال جماعة الفلاسفة، وأثر فيهبنوع خاص كتاب روسو "العقدالاجتماعي" كما أثر فيه فضح رينال لوحشية الأوربيين في استغلال المستعمرات وتجارة الرقيق. وعاد إلى سانت بطرسبرج وهو يضطرم بالمثل الاجتماعية، فلما وكلت إليه إدارة الجمرك تعلم الإنجليزية ليتعامل مع التجار البريطانيين، ودرس الأدب الإنجليزي، وأثر فيه خاصة كتاب ستيرن "رحلة عاطفية". وفي 1790 نشر كتاباً من عيون الأدب الروسي اسمه "رحلة من سانت بطرسبرج إلى موسكو". وقد أقر الكتاب بالإيمان القويم، ولكنه ندد بخدع القساوسة التي يحتالون بها على سذاجة الشعب؛ وقبل النظام الملكي، ولكنه برر الثورة على الحاكم الذي ينتهك "العقد الاجتماعي" بتجاهله للقانون. ووصف تمزيق نظام التجنيد الإجباري لأوصال السر، وبغي السادة على أقنانهم. وقال راد شتشيف أنه أخبر في أحد الأماكن بنبأ مالك هتك عرض ستين فلاحة عذراء. ثم شهر بالرقابة ودافع عن حرية الصحافة. ولم يكن داعية للثورة، ولكنه طلب التفهم الرحيم لمن يدعون إليها. وناشد النبلاء والحكومة إنهاء القنية. "فلترق قلوبكم أيها القساة؛ حطموا أغلال أخوتكم، وافتحوا سجون الرق. إن للفلاح الذي يهبنا العافية والحياة الحق في التصرف في الأرض التي يفلحها"(99).

ص: 97

ومن عجب أن الرقيب أجاز الكتاب. ولكن كاترين خافت في 1790 أن يحذو شعبها حذو الثورة الفرنسية. فدونت ملاحظة بضرورة عقاب مغتصب العذارى الستين، ولكنها أمرت بمحاكمة راد شتشيف بتهمة الخيانة. ووجدت في كتابه فقرات عن اقتحام الحصون وثورة الجنود على قيصر قاس، ومدائح للإنجليز لمقاومتهم ملكاً ظالماً. فحكم مجلس الشيوخ على المؤلف بالإعدام؛ وخففت كاترين الحكم إلى النفي عشر سنين في سيبيريا. وسمح الإمبراطور بولس الأول لراد شتشيف بالعودة من المنفى (1796)، ثم دعاه ألكسندر الأول إلى سانت بطرسبرج (1801). وهناك انتحر بعد سنة، لأنه ظن دون مبرر أنه سينفي ثانية. ومصيره ومصير نوفيكوف من الوصمات الكثيرة التي تلطخ عهداً رائعاً.

‌9 - الفن

صنعت كاترين للفن أكثر قليلاً مما صنعته للأدب، لأن الفن لا يستهوي غير الطبقات العليا، ولا يقرع ناقوس الثورة. ولكن الموسيقى الشعبية كانت ثورية دون قصد منها، لأن كلها تقريباً تألف من أغان حزينة في مقام صغير وبمصاحبة شاكية باكية، لا تحكي قصة القلوب التي انفطرت حباً فحسب، بل الأنفس التي براها الكد والكدح. وندر أن سمع النبلاء تلك الأغاني، ولكنهم استمتعوا بالأوبرات الإيطالية التي جلبها إلى سانت بطرسبرج جالوبي، وبايزيللو، وسالبيري وتشيماروزا، الذين كانت الدولة تدفع أجورهم كلهم، أما كاترين نفسها فلم تكون شديدة الحب للأوبرا. قال "لا أستطيع في الموسيقى أن أميز نغمات غير نغمات كلابي التسعة، التي يشترك كل منها بدوره في شرف الوجود في حجرتي، والتي أستطيع التعرف على صوت كل كلب منها عن بعد"(100).

ثم اعترفت أيضاً أنها لا تملك القدرة على فهم الفن. وقد بذلت وسعها لتربي هذا الفهم في روسيا. فوفرت المال الذي مكن بتسكي من أن يدير بالفعل (1764) عجلة أكاديمية الفنون التي أنشئت أيام اليزابث (1757). واشترت روائع الفن المعترف بقيمتها في الخارج وعرضتها في قاعات تحفها،

ص: 98

فدفعت 180. 000 روبل ثمناً لمجموعة الكونت فون برول في درسدن، و40. 000 جنيه ثمناً لمجموعة السير روبرت ولبول في هوتن هول، و440. 000 فرنك لمجموعة شوازيل، و460. 000 لمجموعة كروزا. وقد عقدت بهذا كله صفقات رابحة دون أن تدري، لأن هذه المجموعات التي التقطتها من هنا وهناك ضمت ألفاً ومائة لوحة من أعمال رفائيل، وبوسان، وفانديك، ورمبرانت، وغيرها من التحف الخالدة التي زادت قيمتها مع الزمن وهبوط العملة. واستطاعت من طريق جريم وديدرو (اللذين كانت تتابع نشاط صالونيهما باهتمام) أن تكلف برسم اللوحات فنانين فرنسيين-أمثال فرنيه، وشاردان، وهودون-ونسخت لها كطلبها بالحجم الطبيعي لوحات جصية من أعمال رفائيل في الفاتيكان وبنيت قاعة خاصة بها في الأرميتاج.

ولم تكلف الفنانين الوطنيين إلا بالقليل، لأن ذوقها الفرنسي لم يجد في فن جيلها الروسي غير القليل مما له قيمة باقية .. على أنها قدمت المال لتعليم وإعالة الطلاب في أكاديمية الفنون وأوفدت عدداً منهم للدراسة في غربي أوربا. وفي تلك الأكاديمية تخرج رسام أحداث التاريخ أنطون لوزنكو، ورساما الأشخاص ديمتري ليفتسكي وفلاديمير بوروفيكوفسكي. أما لوزنكوا فقد قضى خمس سنين في باريس وثلاثاً في روما ثم عاد إلى سانت بطرسبرج (1769) ليعلم في الأكاديمية. وقد أثار ضجة بلوحته المساة "فلاديمير أمام روجنيدا"، ولكنه-ربما لفداحة واجباته الأكاديمية-أخفق في أن ينتج الروائع المنتظرة منه، ثم اختطفه الموت وهو في السادسة والثلاثين (1773). وأما ليفتسكي فقد استخدمته كاترين ليرسم بعض الشابات اللاتي كن يدرسن بمعهد سمولني؛ والنتيجة شاهد بجمالهن الرائع. وقد سترت اللوحة التي صور فيها كاترين بدانتها تحت أردية فضفاضة. كذلك جلست لتصورها مدام فيجه لبرون، وكانت من بين الفنانات الفرنسيات الكثيرات اللاتي دعتهن كاترين لإضفاء الرشاقة الفرنسية على الفن الروسي.

وأعظم فنانيها الذين استتقدمتهم كان فالكونيه. قدم في 1766، وأقام في روسيا اثنتي عشرة سنة. وقد طلبت إليه كاترين أن يصمم ويصب

ص: 99

بالبرونز تمثالاً لبطرس الأكبر ممتطياً جواده. وكان قد جلب معه شابة تدعى ماري-آن-كوللو، كانت النموذج لرأي التمثال الضخم. وتحدى فالكوفيه قوانين الفيزياء بتمثيله الحصان يقفز في الهواء، وقائمتاه الخلفيتان فقط تلمسان أرضاً صلبة، وهي صخرة ضخمة جلبت من كاريليا لترمز إلى المقاومة الهائلة التي تغلب عليها بطرس؛ وتحقيقاً للتوازن أظهر فالكونيه حية نحاسية-رمزاً للحسد-تلدغ ذيل الحصان. وقد احتفظت هذه الرائعة الفنية بتوازنها بينما تغيرت سانت بطرسبرج إلى بتر وجراد ثم إلى لننجراد. واستغرق فالكونيه في هذا العمل وقتاً أطول مما توقعته كاترين؛ ففقد اهتمامها به، وأهملت المثال، فعاد إلى باريس وقد خاب أملها فيه، وفي روسيا، وفي الحياة.

وفي 1758 وفد نيكولا-فرانسوا جييه من فرنسا ليعلم النحت في الأكاديمية. وقد نبغ ثلاثة من تلاميذه في عهد كاترين: تشوين وكوزلوفسكي وشخيدرين. أما تشوين فقط كلفه بوتمكين بنحت تمثال "كاترين الثانية" لقاعة نصر نارويدا المقببة (الروتندا)؛ وقد وصف الخبراء التمثال بأنه "عديم الحياة بارد (101) "، وكذلك يبدو التمثال الذي نحته تشوين لبوتمكين. أما كوزلوفسكي فقد انتهى إلى مثل هذا الجمود في المقبرة التي نحتها للمرشال سوفوروف، وحتى في تمثاله لإله الحب كيوبيد. أما شيخدرين فجل أعماله أنتجها في عهد ألكسندر الأول: فإلى عام 1812 ينتمي تمثاله المسمى "الكرتيدات يسندن الكرة السماوية"-وترى فيه امرأة تحمل الدنيا-وقد تخصص إيفان بتروفتش مارتوس في التماثيل الجنائزية، وحفلت الجبانات في بطرسبرج بتماثيله "الباكية"؛ وقد قيل عنه أنه "أبكى الرخام" وقد تخلف النحت الوطني إلا في تقليده للطرز الأجنبية. وكانت الكنائس الأرثوذكسية تحرم التماثيل وقنع النبلاء بالفنانين الذين يعثرون عليهم بين أقنانهم.

ولكن المعمار ازدهر في عهد كاترين، لأنها صممت على أن تترك بصمتها على عاصمتها. قالت "إن المباني العظيمة تعلن عظمة الحكم ببلاغة لا تقل عن بلاغة الأعمال العظيمة"(102). وكتبت في 1779 تقول "أنت تعلم أن هوس البناء أقوى اليوم عندنا مما كان في أي وقت مضى، ولم يهدم

ص: 100

زلزال قط عمائر قدر العمائر التي شيدناها

وهذا الهوس شيء لعين، فهو ينضب المال، وكلما بنينا ازددنا رغبة في البناء، إنه مرض كالسكر بالخمر" (103). ومع أنها قالت لفالكونيه "إني لا أعرف حتى كيف أرسم" فقد كان لها رأيها الخاص في الفن، أو قل رأى تأثير بالحفائر الرومانية في هركولانيوم وكتب كايلوس وفنكلمان. فولت ظهرها للباروك المزوق والروكوك الزاهي، وهما طرازان سادا في عهد اليزابث، وفضلت عليهما الطراز الكلاسيكي الجديد الأكثر بساط ونقاء. وقد عزا إليها بعض معاصريها فضل إصدار التعليمات الواضحة المحددة والرسوم التخطيطية التمهيدية لمعمارييها (104).

فلما افتقدت الفنانين الوطنيين الذين يحققون لها أفكارها، ولت وجهها شطر غربي أوربا التماساً لرجال ورثوا التقاليد الكلاسيكية. وهكذا قدم جان باتست فالان دلا موت، الذي شيد لها على نهر نيفا قصر أكاديمية الفنون (1765 - 72) وله واجهة بطراز النهضة منآجر مكسو ورواق معمد كلاسيكي، وداخله سلم نصف مستدير فخم يفضي إلى قاعة مستديرة تعلوها قبة. وبنى فلان ملحقاً للقصر الشتوي هي الأرميتاج الشهير، الذي كانت كاترين تراه ملاذاً تحتمي به من مراسيم البلاط، ولكنه أصبح قاعة تحفها، وهو اليوم من أهم متاحف العالم. وقالت كاترين في وصفه لجريم عام 1790 "أنه خلوتي الصغيرة، في موقع مناسب بحيث لا يكلفني الذهاب إليه أو الإياب منه إلى حجرتي أكثر من ثلاثة آلاف خطوة .. هناك أجول بين طائفة من الأشياء التي أحبها وأزهو بها، وتلك الجولات الشتوية التي تحفظ على عافيتي"(105).

ومن فرنسا أيضاً قدم الاسكتلندي تشارلز كاميرون، الذي درس الزخرفة الكلاسيكية في وطنه. وقد ابتهجت كاترين بالإشراق والرقة اللذين كان يزين بهما-بالفضة واللاكيه والزجاج واليشب والعقيق والرخام المتعدد الألوان-الجناح الخاص الذي احتفظت به لنفسها ولعشاقها وكلابها في "القصر العظيم" بتسارسكو سيلو. كتبت تقول "لم أر قط ضريباً لهذه

ص: 101

الحجرات حديثة الزخرف؛ ولم أمل قط طوال الأسابيع التسعة الأخيرة من تأملها" (106). وحول هذا القصر خططت لها حديقة بالطراز "الطبيعي" و "الإنجليزي"، وصفتها في خطاب إلى فولتير فقالت: "إنني الآن أهيم حباً بالحدائق الإنجليزية الطراز، بخطوطها القصيرة، والمنحنية، ومنحدراتها المدرجة في رفق، وبركها وبحيراتها

إنني شديدة النفور من الخطوط المستقيمة؛ وباختصار أقول أن الهوس الإنجليزي (الانجلومانيا) يسيطر على هوسي بالنبات" (107). وقد بنى كاميرون لولدها بولس وزوجته الثانية الفاتنة في بافلوفسك (وهي ضاحية أخرى من ضواحي العاصمة) قصراً بطراز الفيلات الإيطالية؛ هنا حفظ الغراندوق وماريا فيود وروفنا التحف التي جمعاها في رحلاتهما في غرب أوربا.

ومن إيطاليا أقبل أنطونيو رينالدي، الذي بنى قصرين باذخين أهدتهما كاترين لجريجوري أورلوف، قصر الرخام على نهر نيفا، وقصر جاتشينا قرب تسارسكوسيلو، الذي أصبح المسكن المفضل عند بولس الأول. ومن جاء جاكومو كورانجين الذي استهوته المعابد اليونانية في باسيتوم وروائع باللاديو في قتشنتشا. وفي 1780 عرض على كاترين عن طريق جريم تصميمات ونماذج لأبنية شتى كان يؤمل تشييدها. وافتتنت بها كاترين ومنذ ذلك التاريخ حتى 1815 شيد كورانجي في سانت بطرسبرج أو على مقربة منها العدد الوفير من المباني بالطراز الكلاسيكي، مسرح الأرميتاج، ومعهد سمولني (الذي ألحقه بدير سمولني في راستريللي)، ومصرف الإمبراطورية، ومصلى الطريق المالطية، والقصرالإنجليزي في بيتر هوف، وقصر ألكسندر في تسارسكو سيلو. وقد صمم هذا القصر لحفيد كاترين الذي أصبح فيما بعد ألكسندر الأول، والذي انتقل إليه في 1793، بعد الفراغ من تشييده بعامين. "إنه من روائع معمار القرن الثامن عشر"(108)

(1)

.

(1)

كان القصر المفضل لدى القيصر نيقولا الثاني: ومنه فر إلى سيبيريا والموت في 1917. وقد حوله السوفييت متحفاً. ولحقت به أضرار بالغة في الحرب العالمية الثانية. ولكنه رمم.

ص: 102

ولكن ألم يكن هناك معماريون روس ينفقون روبلات كاترين؟ بلى. فقد حداها الأمل في ترك أثر يخلد ذكرها في موسكو إلى أن تكلف فاسيلي بازينيف بتصميم "كرملن" من الحجر ليحل محل كرملن إيفان الأكبر المبني بالآجر. وصمم بازينيف قصراً هائلاً لو قام لتضاءل بالقياس إليه قصر فرساي؛ والذين رأوا نموذجه الخشبي-الذي تكلف ستين ألف روبل-تعجبوا من براعته. غير أن الأساسات التي أرسيت ليقوم عليها هبطت بهبوط التربة بفعل نهر موسكو، فنكصت كاترين عن المغامرة على أنها دبرت المال الذي أتاح لإيفان ستاروف أن يبني على ضفة نيفا اليسرى قصر تارويدا، وأهدت هذا القصر المنيف إلى بوتمكين تخليداً لفتحه القرم.

وأياً كانت تكلفة نفقات المباني التي شيدتها كاترين فإنها حققت هدفها. كتب ماسون المعاصر لها يقول: "إن الرجل الفرنسي بعد دورانه على شواطئ بروسيا الماحلة وشقه سهول ليفونيا المقفرة التي لم تزرع، تأخذه الدهشة والطرب إذ يعثر مرة أخرى وسط بيداء مترامية على مدينة كبيرة فخمة، تزخر بمجتمع راق وبأسباب الترويح وبالفنون وألوان الترف التي خالها لا توجد إلا في باريس"(109). أما الأمير دلين فبعد أن شهد أوربا كلها تقريباً خلص إلى أنه "رغم ما في كاترين من عيوب، فإن الصروح التي شيدتها، العامة منها والخاصة، تجعل سانت بطرسبرج أبدع مدينة في العالم"(110) ولا عجب، فقد حول لحم عشرة ملايين من الفلاحين ودمهم إلى طوب وحجر.

‌10 - خاتمة المطاف

لو أن كاترين سئلت لبينت-كما هو دأب الحكام طوال العصور والأزمان-أنه ما دام الموت حقاً على البشر على أية حال، فلم لا يسخر الحكام عبقرية الرجال لتوجيه هؤلاء الأحياء المطاردين والبشر المقضي عليهم لا محال بالموت، لجعل الدولة قوية، وجعل مدنها عظيمة؟ لقد عودتها سنوات السلطان، وتحديات الثورة والحرب، وتقلبات النصر والهزيمة،

ص: 103

أن تطيق آلام الغير دون أن تجفل، وأن تغضي عن استقلال الأقوياء للضعفاء باعتباره شراً لا قبل لها بعلاجه.

وقد أرهبتها الثورة الفرنسية بعد ما أزعجها العديد من المؤامرات لخلعها وأخافتها فتنة بوجاشيف. وقد أطاقتها راضية حين توقعت ألا تكون أكثر من إطاحة بأرستقراطية عاطلة وحكومة عاجزة؛ ولكن حين أكره حشد من رعاع باريس لويس السادس عشر وماري انطوانيت على ترك فرساي وسكنى التويلري وسط جماهير أفل زمامها-وحين أعلنت الجمعية التأسيسية أنها صاحبة السلطة العليا، وحين ارتضى لويس أن يكون الأداة المنفذة لأوامرها لا غير-عندها ارتعدت كاترين فرقاً من التشجيع الذي أعطى بالمثل للذين سعوا إلى أن يفعلوا نظير هذا في روسيا. فسمحت للأكليروس بأن يحظروا نشر أعمال فولتير التي كانت يوماً ما موضع حبها (111). ثم حرمت هي ذاتها بعد قليل جميع المطبوعات الفرنسية؛ ونقلت تماثيل فولتير النصفية من قاعاتها إلى حجرة لسقط المتاع (1792)(112) ثم نفت المثالي راد يشتشيف (1790)، وسجنت نوفيكوف المشرب بروح خدمة المجتمع (1792)، وفرضت رقابة تفتيشية على الأدب والمسرحيات. فلما قطع رأساً لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالجيلوتين (1793) قطعت صلاتها مع الحكومة الفرنسية، وحضت الملكيات الأوربية على تأليف تحالف ضد فرنسا. ولك تنضم هي ذاتها لذلك التحالف، بل استعملته لتشغل به الدول الغربية ريثما تتم ابتلاعها لبولندة. وقد قالت لأحد دبلوماسييها "إن كثيراً من مشروعاتي لم يستكمل بعد، ويجب شغل بلاطي برلين وفيينا حتى يتركانا طلقاء بغير قيود"(113).

على أن آثاراً ضئيلة تخلفت من تحررها القديم وبقيت حتى 1793. ففي ذلك العام أبلغها أحد الحاشية أن فردريك-سيزار دلاهارب، الذي كان المعلم الخاص لحفيديها، جمهوري عنيد. فأرسلت في طلبه وأنبأنه بالخبر، فأجاب "إن جلالتك كنت على علم قبل أن تكلي إلى تعليم الغراندوقين أنني سويسري، وإذن فجمهوري" ثم رجاها أن تمتحن تلميذيه، وأن

ص: 104

تحكم على عمله من سلوكهما. ولكنها كانت تعلم كم أحسن تعليمهما، فقالت له "سيدي، لتكن يعقوبياً أو جمهورياً أو ما شئت، إنني مؤمنة بأنك رجل أمين، وهذا يكفيني. فابق مع حفيدي واحتفظ بكامل ثقتي، وعلمهما بما عهدته فيك من غيرة"(114).

وفي وسط هذا الضجيج اتخذت آخر عشاقها (1789) وهو بلاتون زوبوف. وكان في الخامسة والعشرين، وهي في الحادية والستينز وكتبت لعشيقها "الشرفي" بوتمكين تقول:"عدت إلى الحياة كأنني ذبابة خدرها البرد"(115). واقترح "تلميذها" الجديد هجوماً مثلث الشعب على تركيا: جيش روسي بقيادة أخيه فاليران ذي الأربعة والعشرين ربيعاً يعبر القوقاز إلى فارس ويقطع كل تجارة اليابس بين تركيا والشرق؛ وجيش ثان بقيادة سوفوروف يتغلغل في البلقان ليحاصر الآستانة؛ ثم أسطول البحر الأسود الروسي، تحت إمرة الإمبراطورة نفسها ليتسلط على البوسفور. وبعد سنوات من الإعداد بدئ بتنفيذ هذه المغامرة الملحمية (1796) واستولى الروس على دربنت وباكو؛ وتطلعت كاترين إلى انتصارات تكمل برنامجها وتتوج حياتها.

وفي صباح 17 نوفمبر 1796 بدت مرحة كالعادة. وبعد الفطور اعتكفت في حجرتها. ومضى وقت ولم تظهر ثانية، فقرعت خادمتها الباب، فلما لم تجب دخلت، فوجدت الإمبراطورة منبطحة على الأرض، صريعة انفجار شريان في الدماغ، وفصدت مرتين، وأفاقت لحظة، ولكنها فقدت النطق. وفي العاشرة من مساء ذلك اليوم لفظت أنفاسها.

وأحس أعداؤها أنها لا تستحق ميتة رحيمة كهذه. ولم يغفروا لها قط تلك التناقضات بين مزاعمها التحررية وحكمها الاستبدادي، وضيقها بالمعارضة، وإخفاقها في تنفيذ الإصلاح المقترح للقانون الروسي، واستسلامها للنبلاء في توسيعها للقنية. ولم تحمد لها انتصاراتها تلك الأسر التي أفقرتها الضرائب الباهظة، أو التي ثكلت أبناءها بسبب حروبها. ولكن الشعب في جملته صفق لها لأنها مدت روسيا إلى حدود أرحب وأكثر أمناً. لقد

ص: 105

أضافت 200. 000 ميل مربع لمساحة روسيا، وفتحت ثغوراً جديدة لتجارة روسيا، وزادت السكان من تسعة عشر إلى ستة وثلاثين مليوناً. وكانت عديمة الضمير في دبلوماسيتها- ربما أكثر قليلاً من معظم حكام ذلك العهد في ابتلاعها بولندة.

أما أعظم منجزاتها فهو مواصلتها جهود بطرس الأكبر لإدخال روسيا في نطاق الحضارة الغربية. وبينما كان بطرس يفكر في هذا الهدف بلغة التكنولوجيا، كانت كاترين تفكر فيه أولاً بلغة الثقافة، فاستطاعت بقوة شخصيتها وشجاعتها أن تنتزع الطبقات المتعلمة في روسيا من العصور الوسطى وتدفعها إلى فلك الفكر الحديث في الأدب والفلسفة والعلوم والفنون. وكانت بين أندادها من الحكام المسيحيين (باستثناء فردريك الثاني غير المسيحي) سباقة إلى توطيد التسامح الديني. وقد عقد مؤرخ فرنسي مقارنة فضلها فيها على الملك الأعظم (لويس 14) قال "إن سماحة كاترين، وبهاء حكمها، وفخامة بلاطها ومنشآتها، وآثارها، وحروبها-هذا كله كان بالنسبة لروسيا بالضبط ما كأنه عصر لويس الرابع عشر بالنسبة لأوربا. غير أن كاترين إذا نظرنا إليها كفرد وجدناها أعظم من هذا الملك. ذلك أن الفرنسيين هم الذين بنوا مجد لويس، أما كاترين فهي التي بنت مجد الروس. ولم يتح لها كما أتيح له ميزة حكم شعب مهذب، ولا أحيطت منذ طفولتها بشخصيات عظيمة مثقفة"(116).

وفي تقدير مؤرخ إنجليزي أن كاترين "هي الحاكمة الوحيدة التي فاقت اليزابث ملكة إنجلترة كفاءة، وهي تعدلها من حيث الأهمية الباقية لأعمالها"(117). وقال مؤرخ ألماني "كان كل ما فيها "كائناً سياسياً"، لا ضريب لها من جنس النساء في التاريخ الحديث، ولكنها في الوقت ذاته امرأة خالصة، وسيدة عظيمة"(118)، ويجوز لنا أن نطبق عليها المبدأ السمح الذي وضعته جوته: كانت عيوبها عدوى انتقلت إليها من جيلها أما فضائلها فكانت من صنعها هي. "

ص: 106

الفصل التاسع عشر

‌اغتصاب بولندة

‌1715 - 1795

1 -

نظرة عامة على بولندة

1715 -

1764

كانت الجغرافيا، والعرق، والدين، والسياسة، هي الأعداء الطبيعية لبولندة. ذلك أن هذا القطر كان يعدل فرنسا اتساعاً، إذ امتد عام 1715 من الأودر غرباً إلى ما يقرب من سمولنسك وكييف شرقاً، ولكن لم يكن له حد طبيعي-من جبال أو نهر عريض-على أي جبهة ليقيه شر الغزو؛ وقد اشتق اسم بولندة من كلمة " Pole" وهو السهل. ولم يكن لها سوى منفذ واحد إلى البحر-عند دانتزج، أما الفستولا الذي وجد له مصباً هناك، فلم يكن بالحد الذي يصلح للدفاع ضد بروسيا المجاورة. وقد افتقدت الأمة وحدة العراق، فكانت كثرة البولنديين البالغة 6. 500. 000 نسمة (1715) في صراع متقطع مع الأقليات الألمانية واليهودية واللتوانية والروسية؛ وهنا التقى التيوتون والسلاف وجهاً لوجه في عداء طبيعي. ولم يكن هناك وحدة دينية: فالأغلبية الكاثوليكية الرومانية تحكم وتظلم "المنشقين"-وهؤلاء هم الآخرون منقسمون في نزاع وخصام بين بروتستنت وروم وأثرذكس ويهود. ولم يكن هناك وحدة سياسية، لأن سلطة السيادة التي حرص أصحابها على الاحتفاظ بها كانت في يد "السجم" أو "الديت"، المؤلف كله من نبلاء لكل منهم، بمقتضى حق النقض المطلق، سلطة إبطال مفعول أي اقتراح يقترحه الباقون كلهم، وإنهاء أي دورة، أو أي ديت منتخب، إن شاء. أما الملك فينتخبه الديت، وهو خاضع! "مواثيق" يوقعها شرطاً

ص: 107

لانتخابه، ولم يكن في استطاعته أن يتبع أي سياسة طويلة المدى وهو مطمئن أقل اطمئنان إلى توريث تاجه لذريته أو تلقى التأييد المتصل. وقد طالب النبلاء بهذه السلطة غير المقيدة على التشريع لأن كلاً منهم أراد أن يكون مطلق الحرية في السيطرة على أراضيه وأقنانه. ولكن التقييد وروح الحرية، فما إن تصبح الحرية مطلقة حتى تقضي عليها الفوضى، وتاريخ بولندة بعد جان سوبيسكي كان سجلاً للفوضى.

وكان أكثر الأرض يزرعه أقنان يرسفون في قيود ذل إقطاعي لا مغيث لهم منه. وكان السيد الإقطاعي أحياناً رفيقاً بهم، ولكنه كان دائماً مطلق السلطة. وأما أقنانه فلم يدينوا له فقط بجزء المحصول الذي يقدره ويطالبهم به، بل كان لزاماً عليهم أيضاً أن يعطوه من كدهم، دون أجر، عمل يومين أو ثلاثة في ضيعته كل أسبوع. ومن حسن الحظ أن الأرض الجيدة الري كانت خصبة، فوجد الفلاحون ما يكفي لإقامة أودهم، ولكن كوكس وصفهم بأنهم "أشد فقراً وذلاً وشقاءً من أي شعب لاحظناه في رحلاتنا"(1). وكان سادتهم المحليون هم الطبقة الدنيا من النبلاء أو صغار الأعيان (شلاختاً)، وهؤلاء الملاك بدورهم كانوا خاضعين لنحو مائة من الأقطاب الذين يملكون أو يشرفون على مساحات شاسعة. وكان صغار الأعيان يشغلون معظم الوظائف التنفيذية في الدولة، وهم من الناحية النظرية يؤلفون الغالبية في مجلس السجم، ولكن السياسة البولندية كانت من الناحية الفعلية صراعاً بين الأقطاب أو أسرهم، الذين يتلاعبون بمجموعات من صغار الأعيان مستعينين بالنفوذ الاقتصادي أو الرشوة المباشرة (2).

وظلت الأسرة في بولندة تحتفظ بأفضليتها البدائية على الدولة. فكان آل رادزيفل، وآل بوتوكي، وآل تشارتوريسكي، كل منهم يترابط أفراده بعاطفة من التماسك الأسري أوثق من أي رباط قومي؛ هنا كان حب الوطن هو حرفياً احترام الأب وتبجيله، والأب الأكبر سناً فوق كل شيء. وكانت الأسرة قوية كنظام أو مؤسسة، لأنها كانت وحدة الإنتاج الاقتصادي والتهذيب الأخلاقي، فلم يكن هناك نزعة فردانية اقتصادية تشتت الأبناء

ص: 108

في أرجاء الوطن؛ والابن يقيم عادة في الضيعة الموروثة، خاضعاً لأمر أبيه ما دام الأب حياً. وزكت الأسرة بفضل وحدة السلطة، هذه الوحدة ذاتها الذي أضعف الدولة افتقادها. وكانت كل ثروة الأسرة تحت إشراف أبوي ممركز، وفي كثير من الحالات كانت تزداد من عام إلى عام بفضل أرباح الاستغلال والتصدير المعاد استثمارها من جديد، وفي حالات عديدة فاقت ثروة الملك نفسه. وكان عشرون أسرة بولندية في القرن الثامن عشر ينفق كل منها أكثر من 200. 000 جنيه في العام على البيت (3). وكانت الأسرة القوية تسمى بيتها بلاطاً، له مستخدموه، وجيشه الخاص، وخدمه الكثيرون، ومظاهر الأبهة الشبيهة بأبهة الملوك؛ من ذلك أن الأمير كارول رادزيفيل، الذي بلغت مساحة أرضه نصف مساحة بولندة، أولم في 1789 وليمة لأربعة آلاف ضيف كلفته مليوناً من الماركات (4).

أما أشهر الأسر البولندية قاطبة-والتي بلغ من شهرتها أنها كانت تعرف باسم "الأسرة" فقط-فهي أسرة تشارتوريسكي. فقد تبوأت مرتبة الإمارة منذ القرن الخامس عشر، واتصلت بصلة القرابة ببيت جاجيللو، الذي حكم بولندة من 1384 إلى 1572. وقد تزوج الأمير كازيميرز تشارتوريسكي (مات 1741)، نائب مستشار لتوانيا، بايزابللا مورستن، التي أضافت دفعة جديدة من الثقافة الفرنسية إلى الأسرة. وأنجب منها ثلاثة من المشاهير هم: (1) فردريك ميشال تشارتوريسكي، الذي أصبح كبير مستشاري لتوانيا، (2) ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي، الذي أصبح أمير بالاتين لـ "روسيا الحمراء"، (3) قنسطنطنياً التي تزوجت ستانسلاس بونياتوفسكي الأول، وولدت له بونياتوفسكي الثاني، وهو الشخصية المأساوية الكبرى في التاريخ البولندي.

ومن مفاخر آل تشارتوريسكي فوق ما تميزوا به أن نزعتهم التحررية نمت بنمو ثروتهم. فقد طالما عرفوا بترفقهم بأقنانهم؛ قال أحد معاصريهم "لو أنني ولدت قناً لوددت أن أكون قناً للأمير ألكسندر أوغسطس تشارتوريسكي"(5). فأنشأوا المدارس للأطفال، وزودوهم بالكتب

ص: 109

المدرسية، وبنوا الكنائس والمستشفيات والأكواخ النموذجية. ثم جلبوا إلى ضيعتهم وقصرهم في بولافي (قرب لوبلين) معلمين ودارسين دربوا الشباب أياً كانت طبقتهم، على خدمة الدولة. أما من الناحية السياسية فإن الأسرة عارضت حق النقض المطلق لأنه من شأنه أن يجعل الحكم الفعال ضرباً من المحال. واتحدت ضدهم أسر كثيرة شعرت بأن حق النقض هو حاميها الأوحد من الأوتقراطية الممركزة. وكان أقواها أسرة بوتوكي، وزعيمها الأمير فيلكس بوتوكي، الذي كان في استطاعته أن يركب ثلاثين ميلاً في اتجاه واحد دون أن يجاوز أرضه-ثلاثة ملايين من الأفدنة في أوكرانيا.

أما الصناعة والتجارة، اللتان شاركتا في القرن السادس عشر في جعل بولندة قطراً عظيماً وفي إثراء مدنها، فقد عطلتهما خصومة ملاك الأرض ومجلسهم النيابي المطيع. فكانت مدن كثيرة بأسرها تقع في نطاق الملكية الخاصة لقطب من الأعيان آثر الزراعة على الصناعة مخافة أن تنشأ طبقة وسطى مستقلة. وكانت منافسة الحرف اليدوية التي ينتجها الأقنان في الضياع قد جرت الكساد على مهرة الصناع في المدن. كتب انطوني بوتوكي في 1744 يقول "إن خراب المدن ظاهر للعيان حتى أن كبرياتها في الدولة-باستثناء وارسو دون غيرها-أشبه بأوكار اللصوص"(6). ففي مدينة لفوف مثلاً كثر النجيل في الشوارع، وأصبحت بعض ميادينها حقولاً مفتوحاً، ومدينة كاراكاو التي كانت يوماً ما من أعظم المراكز الثقافية في أوربا هبط عدد سكانها إلى تسعة آلاف، وعدد الطلاب في جامعتها الشهيرة إلى ستمائة (7).

ويرجع بعض ما أصاب المدن من انحلال إلى عودة الكاثوليك إلى غزو بولندة. فقد كان كثير من البروتستنت المطرودين تجاراً أو صناعاً مهرة، وقد ترك تقلص عددهم في جميع أرجاء بولندة إلا غربيها (حيث بقي ألمان كثيرون) للمسرح البولندي لملاك الأرض، وكان هؤلاء من الكاثوليك الرومان، أو في الشرق من الروم الأرثوذكس أو الموحدين (وهم كاثوليك يمارسون الطقوس الشرقية ولكنهم يعترفون بابا روما).

ص: 110

وكان المنشقون أو المخالفون- من البروتستنت والروم الأرثوذكس واليهود، وجملتهم ثمانية في المائة من السكان-محرومين من الوظائف العامة ومن عضوية الديت، وكل الدعاوي المرفوعة ضدهم بنظرها محاكم كاثوليكية خالصة (8). وقد بلغت الخصومة الدينية مبلغاً دفع الجماهير عام 1724، في مدينة تورون (ثورن) التي كان أكثر أهلها من البروتستنت، إلى أن تنتهك قدسية القربان وتدوس على صورة العذراء بعد أن أثار غضبها الشديد مسلك طالب يسوعي. وقدأعدم تسعة من هؤلاء المغيرين. واستنجد بروتستنت بولندة ببروسيا، والروم الأرثوذكس بالروسيا، وعرضت بروسيا وروسيا الحماية، ومنها تقدمتا الغزو والتقسيم.

أما أخلاق البولنديين فقد شابهت الأخلاق الألمانية على المائدة، والفرنسية في الفراش. وقد أكره الفلاحين على الاكتفاء بالزوجة الواحدة عكوفهم على الأرض والنسل، ولكن هذا الاكتفاء كان عسيراً في العاصمة لجمال النساء و "سلوكهن المغري"(9)، هؤلاء النساء اللاتي لم يسمحن لتعليمهن الأرقى بأن يقف عقبة في طريق فتنتهن. ويروي أن نساء الطبقة الراقية في وارسو كن من الناحية الجنسية منحلات كنساء باريس (10). ويؤكد لنا بوتياتوفسكي أنه كان بكراً حتى الثانية والعشرين (11)، ولكنه يضيف أن هذه العفة كانت شاذة في طبقته-وكان السكر متوطناً لا يعرف الفوارق بين الطبقات. فهو بين الفلاحين أنساهم في نشوته ما يعانون من فقر أو مشقة أو برد، أما النبلاء فقد سرى عنهم ما يعانون من العزلة والسأم، وفي جميع الطبقات كان الذكور ينظرون إليه لا على أنه رذيلة بل مظهر من مظاهر التيمز. وقد كرم القوم يان كومارتشفسكي لأنه استطاع أن يفرغ في جوفة دلواً من الشبانيا في جرعة واحدة دون أن يدور رأسه أو تخونه قدماه. وقد نبه القوم بونياتوفسكي إلى أنه لن يكون محبوباً ما لم يثمل بالشراب مرتين في الأسبوع (12). وكان إكرام الضيف عادة شائعة بين الجميع، ولكن كان يقاس بمقدار الطعام والشراب الذي كان يقدم للضيف. وقد يحدث أن يرهن أحد الأقطاب مدينة يملكها ليدفع نفقات مأدبة.

ص: 111

وكان البولنديون المثقفون يضفون على المشهد رونقاً بأزيائهم. أما الفلاح فكان في الصيف يقنع بالقميص والسراويل إلى الركبة من التيل الخشن، دون جوارب طويلة أو حذاء. وفي الشتاء يدثر نفسه كالحزمة دون مراعاة للون، ولا وقت للزينة، وأما الأعيان الذين يعدون نحو 725. 000 فلباسهم الحذاء الطويل والسيف والقبعة ذاتالريشة والرداء الملون من الحرير أو المخرمات، ثم حول الخصر حزام عريض من النسيج المنقوش ذي الألوان الكثيرة. وهذا الزي الذي اعتزوا بقوميته نقلوه عن المسلمين نتيجة اتصال اللتوانيين بالأتراك في أوكرانيا، وقد عكس ما كان يحدث أحياناً من تحالف بين بولندة وتركيا ضد النمسا أو روسيا، وربما عبر عن نصر آسيوي في عادات البولنديين وأخلاقهم.

أما من الناحية الثقافية فقد عطل بولندة من 1697 إلى 1763 عدم مبالاة ملوكها السكسون بالأدب والفن السلافيين، كما عطلها حربان مدمران. ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية هم راع للفنون فحسب، بل إنها كانت الموزع للتعليم والأمين الأكبر على نفائس الثقافة والأدب. وقد فرضت حجراً دقيقاً على بولندة يقيها حركة العلم والفلسفة في الغرب، ولكنها في نطاق حدودها نشرت المعرفة ونمتها. من ذلك أن جوزيف زالوسكي أسقف كييف جمع 200. 000 مجلد في وارسو لمكتبته التي تعد من أعظم مكتبات العصر، وفي 1748 فتحها للجمهور وأهداها للأمة؛ وكان أثناء ذلك يحيا حياة الزهد، وقد ضحى بنفسه في الصراع الناشب ليحفظ على بولندة استقلالها.

وهو الذي وجه القسيس الشاب المتطلع، ستانسلاس كونارسكي، إلى دراسة التاريخ والقانون وفي 1731 أصدر كونارسكي المجلد الأول من أربعة مجلدات جمعت ونسقت القانون البولندي من كازيمير الأكبر حتى وقته. هذه الأبحاث وغيرها كشف لكونارسكي عن مدى سقوط بولندة المخزن من حالة الازدهار الذي شهدته أيام النهضة الأوربية. وقد اقتنع بأن البعث لن يأتي إلا من القمة، لذلك أنشأ في وارسو (1740)"كلية للنبلاء" يتلقى فيها شباب الأشراف تعليماً لا يقتصر على الرياضة واللغات والآداب الكلاسيكية (التي أجاد اليسوعيون تدريسها)، بل يشمل

ص: 112

العلوم الطبيعية واللغات الحديثة. وكان هذا عملاً بطولياً، لأنه لم يكن لديه مال ولاكتب، ولا معلمون ولا تلاميذ، ومع ذلك فقد جعل من كلية النبلاء هذه بعد خمسة عشر عاماً من الكد معهداً ذائع الصيت مرموقاً، وأحد المنابع للإحياء الثقافي في عهد بونياتوفسكي ولدستور 1791 المستنير. وقد دعا لإصلاح اللغة البولندية تخليصاً لها من العبارات اللاتينية والبلاغة المزوقة؛ واحتجت الأمة، ولكنها تعلمت. ثم توج كونارسكي أعماله بإصداره في بولندة (1760 - 63) أهم رسالة سياسية في القرن، تحمل هذا العنوان البريء، "في التسيير الفعال لدفة المناقشات" ولكنها احتوت ثورة شعواء على حق النقض المطلق. وهنا أيضاً ارتفعت الاحتجاجات الكثيرة ولكن بعد عام 1764 لم يحل "ديت" بحق النقض. وبمعونة كونارسكي بدأ يونياتوفسكي إصلاح الدستور البولندي.

وقبل ذلك الإحياء الرائع المتقطع عانت بولندة سبعة عشر عاماً من الفوضى والعار والاضمحلال تحت حكم الملوك السكسون.

‌2 - الملوك السكسون

1697 -

1763

في موضع آخر من هذا الكتاب (13) ذكرنا كيف تخطى الديت البولندي ابن سوبيسكي العظيم ليعطي تاج بولندة لفردريك أوغسطس، ناخب سكسونيا الذي دخل في المذهب الكاثوليكي بين عشية وضحاها ليصبح أوغسطس الثاني (أي القوي) ملك بولندة، وكيف ولى شارل الثاني عشر ملك السويد مكانه ستانسلاس لشتشز نسكي (1704)، وكيف أتاحت هزيمة شارل في بلطاوة (1709) لأوغسطس أن يستعيد عرشه، وقد تمتع بالقليل من السلطات التشريعية التي كان يتمتع بها ملوك القرن الثامن عشر، ولكن بكل امتيازات الملوك الجنسية. فلما فشل في حكم بولندة رد حبه إلى سكسونيا، فجمل درسدن، وأترع جوفه بالجعة، وأفرغ عافيته بالخليلات، ثم أضاف الإهانة إلى الأذى باتخاذه واحدة فقط من هؤلاء الخليلات من بين حسان

ص: 113

بولندة. وفي أخريات عهده وضع خطة لتقسيم بولندة بين النمس وبروسيا وسكسونيا، ولكنه مات (1 فبراير 1733) قبل أن ينفذ تدبيره الشرير. وقد قال على فراش الموت، "إن حياتي كلها كانت خطيئة متصلة"(14).

وفي فترة خلو العرش التي تلت ذلك خلال تجميع ديت انتخابي، أغدق المبعوثون الفرنسيون المال ليكسبوا نواباً يعملون على إعادة لشتشزنسكي. وكان ستانسلاس منذ خلعه يعيش في الألزاس مستمتعاً بالسلام والأمل. وفي 1725 أصبحت ابنته ماري ملكة على فرنسا بزواجها من لويس الخامس عشر، وتوقع لويس الآن أن يتبع حموه، متى رد إلى عرشه، السياسة الفرنسية، سياسة توحيد بولندة وبروسيا وتركيا في صف واحد يضرب نطاقاً حول النمسا. وشعرت الحكومة الروسية بأن حلفاً كهذا من شأنه إضعافها في صراعاتها المحتومة مع تركيا وبروسيا، فبادرت بإرسال الروبلات إلى وارسو لتمنع انتخاب لشتشزنسكي. ولكن الجنيهات الفرنسية كانت أثقل من الروبلات الروسية، وفي 10 سبتمبر 1733 أصبح لشتشزنسكي ملكاً على بوليدة باسم ستانسلاس الأول.

ورفضت أقلية الاعتراف بانتخابه، ووضعت نفسها تحت حماية جيش روسي زحف على الفستولا ونادى بالناخب السكسوني ملكاً على بولندة باسم أوغسطس الثالث (6 أكتوبر). وهكذا بدأت حرب الوراثة البولندية، وبدأ أول تدخل حاسم لروسيا في شئون بولندة وبحث ستانسلاس عن جيش بولندة يدافع عنه، فلم يجد جيشاً إلا على الورق، ففر إلى دانتزج واستنجد بفرنسا. وكان يرأس الحكومة الفرنسية آنذاك الكردينال فلوري، ولم يكن به رغبة لخوض حرب مع روسيا النائية، فأرسل مفرزة من 2. 400 جندي سحقها الروس بجيش من اثني عشر ألف مقاتل. وفر ستانسلاس من دانتزج واعتكف في اللورين. وفي يناير 1736 وقع على تنازله العرش، وفي يوليو اعترف بأوغسطس الثالث ملكاً.

ولكنه لم يكن أصلح من لشتشزنسكي لقيادة أمة ركبت الفوضى في صميم دستورها. وتعاون فترة مع آل تشارتوريسكي في محاولات لإنهاء

ص: 114

حتى النقض، فاستعملت أسرة بوتوكي الفيتو المرة بعد المرة للاحتفاظ بهذا الحق، وأخيراً يئس أوغسطس وأخلد إلى الدعة في درسدن، ولم يزر بولندة إلا لماماً. واستمر الفساد واستشرى، وشارك الملك فيه إذا ألفى نفسه عاجزاً عن وقفه، وباع المناصب لمن يدفع فيها أغلى الأثمان. وهيمن الأقطاب على المحاكم والقوات المسلحة، وتفاوضوا رأساً من الدول الأجنبية وتلقوا منها الإعانات المالية (15). وناورت فرنسا والنمسا وبروسيا وروسيا لترى أيها يستطيع الظفر بنصيب الأسد من انحلال دولة بولندة الوشيك.

وقبل موت أوغسطس الثالث (5 أكتوبر 1763) وبعده تذرعت المنافسة على تعيين خلفه والتسلط عليه بكل حيلة دبلوماسية حتى وصلت إلى شفا الحرب. فطالب آل بوتوكي بجيش دائم عدته 100. 000 مقاتل ليحمي بولندة من السيطرة الأجنبية، أما آل تشارتوريسكي فقد راضوا أنفسهم على أن تكون بولندة محمية روسية، وتفاوضوا مع كاترين الثانية. وادعت روسيا لنفسها الحق في حماية الأقلية الرومية الأرثوذكسية في بولندة، ومدت ذاكرتها إلى الماضي البعيد لتتذكر أن أقاليم بولندة الشرقية انتزعها من روسيا سانت فلاديمير (956 - 1015) قبل ثمانمائة سنة. أما فرنسا فقد ناصرت ابن أوغسطس الثالث خلفاً له، فلو أن روسيا سيطرت على بولندة لأنهار صرح السياسة الخارجية الفرنسية كله في الشرق. وأما فردريك الأكبر الذي كان قد اختتم لتوه سبع سنين من الحرب الطاحنة مع فرنسا والنمسا، فقد كان في حاجة إلى صداقة كاترين التي نجا من الكارثة بإذنها، ووافق على أن يؤيد مرشحها للتاج البولندي، ثم أبرم معها (11 أبريل 1764) معاهدة تلزم الطرفين سراً بمعارضة أي تغييرات في دستور بولندة أو السويد، مخافة أن تقضي أي زيادة ف سلطة الملك إلى جعل أحد هذين القطرين أو كليهما قوياً إلى حد خطر؛ وهكذا اعتزما الدفاع عن الفوضى باسم الحرية. وهدأت كاترين مخاوف آل تشارتوريسكي بوعدها باختزال حق النقض المطلق بعد أن تستقر الأمور في نصابها، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وباختيارها محسوباً من هذه الأسرة مرشحاً للعرش. وفي 7 سبتمبر 1764، وبإجماع آراء "ديت" أقنعته الروبلات،

ص: 115

وجيش روسي لا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أميال، اختير ستانسلاس بونياتوفسكي ليتبوأ عرش بولندة.

‌3 - بونياتوفسكي

ولد لستانسلاس بونياتوفسكي الأب، حاكم كراكاو، وقسطنطيا تشارتوريسكي، في 7 يناير 1732. قال لمدام جوفران "ربيت تربية صارمة جداً على يد أم ندر أن تجدي لها نظيراً اليوم في أي مكان، في حين اكتفى أبي في وعظي بأن أجد فيه الأسوة الحسنة" (16). وحين بلغ السادسة عشرة بدأ القيام برحلات واسعة. وفي 1753 بهر مدام جوفرات وصالونها وكل باريس تقريباً بهيأته ومسلكه وشبابه. وبعد بضع سنوات، وجرياً على سنة جيله، كتب صورة ذاتية كانت مطابقة للحقائق مطابقة منصفة، قال فيها:

"كان خليقاً بي أن أرضى عن شكلي لو كنت فقط أطول بوصة

وكان أنفي أقل انعقافاً، وفمي أصغر بعض الشيء. بهذه التحفظات أعتقد أن وجهي طلق معبر، ومظهري لا يخلو من امتياز

وكثيراً ما يجعلني قصر نظري أبدو مرتبكاً، ولكن للحظة واحدة فقط. فالواقع أنني قد أوذي شعور الغير بالتطرف في الناحية المضادة-بسلوك شديد الخيلاء ويعينني ما حصلت من تعليم ممتاز على إخفاء عيوبي العقلية والبدنية، حتى أن كثيراً من الناس ربما توقعوا مني أكثر مما أستطيع إعطاءه في يسر. وعندي من الذكاء ما يكفي للمشاركة في أي حديث، دون أن يكفي للحديث طويلاً ومراراً. على أن ما فطرت عليه من تعاطف ولطف كثيراً ما يخف لنجدتي. وبي ولع طبيعي بالفن

ويمنعني كسلى أو أوغل في الفنون والعلوم كما أشتهي. وأنا إما مفرط في العمل وإما عاطل منه. وفي استطاعتي الحكم على الأمور حكماً جيداً جداً

ولكنني في مسيس الحاجة للمشورة المخلصة لكي أنفذ أي خطة من بنات أفكاري. وأنا حساس جداً، ولكن الحزن يؤثر فيَّ أكثر كثيراً من الفرح. فأنا أول من يبتئس

وإذا أحببت أحببت حباً جماً

ولست

ص: 116

محباً للثأر. ومع أنني في أول لحظات غيضي قد أتوق للانتقام من أعدائي، إلا أنني لا قدرة لي أبداً على إنفاذ رغبتي، فالحنو يقف دائماً حائلاً بيني وبين الثأر" (17).

وتوحي قدرة بونياتوفسكي على أن يرى ذاته-ويعبر عنها-على هذا النحو الجميل بأنه ولد ليفكر ويكتب لا ليخطط وينفذ. وكان قد التقى بمونتسكيو وقرأ فولتير؛ واكتسب رهافة ونعومة المجتمع الفرنسي الفكرية مع درجة من تلك "الحساسية" التي أخذت تجد التعبير عنها في روسو. وكان شديد الحساسية للنساء، ويشعر أن ما أعطينه، جسداً وروحاً، لا يقدر بثمن. وقد شاع أنه قبض عليه في باريس لعدم وفائه بدين، ثم أطلق سراحه بعد حبسه ساعة، عندما دفعت مدام جوفران 100. 000 جنيه ليفرج عنه" (18).

وبعد أن قضى في باريس خمسة أشهر، وإذا كان قد تعلم الإنجليزية، فقد مضى إلى إنجلترة واختلف إلى بعض جلسات البرلمان، وتطلع إلى إعادة تشكيل الموقف البولندي على غرار إنجلترة كما صورها مونتسكيو. فلما عاد من رحلاته (1754) عين مشرفاً أول للتوانيا. وبعد عام رافق السير تشارلز هانبري وليمز إلى روسيا، وكانت النتائج كما أسلفنا. ثم عاد إلى وطنه عام 1756، ولكنه ذهب إلى سانت بطرسبرج في 1757 سفيراً لبولندة. وشارك في المؤامرة ضد اليزابث في 1758، وأكره على الرحيل عن روسيا دون أن يمهل وحزنت كاترين على رحيله، ولكنها حين أيدته ليرتقي عرش بولندة لم يكن دافعها أنها لم تزل تحبه، بل لأنه (في زعمها) أقل حقاً في العرش من أي مرشح آخر، وإذن فخليق به أن يكون أكثر عرفاناً بهذا الصنيع (19). أما هو فلم يفق قط كا الإفاقة من تلك العلاقة الغرامية المثيرة، وكان يتذكر كاترين قبل أن تقسي السلطة قلبها، وبقي افتتانه بها حتى حين اتخذته مطية لإخضاع شعبه.

وبعد انتخابه بيومين أرسل النبأ إلى مدام جوفران:

"ماما العزيزة: يبدو أنني أجد لذة أعظم وأنا أدعوك بذلك الاسم

ص: 117

منذ أمس الأول. (وكانت أمه ميتة) لم يكن في تاريخنا كله انتخاب بهذا الهدوء وهذا الإجماع .. وكانت كل كبريات نبيلات المملكة حاضرات في ساحة الانتخاب وسط أفواج النبلاء

وسرني أن تنادي بي أصوات جميع النساء كأصوات جميع الرجال

فلم لم تكوني هناك؟ إذن لانتخبت ابنك" (20).

وقد رأينا كيف اقتحمت "ماما" طرق أوربا لتزور "ابنها" في قصره بوارسو (1766). وإذ لم يكن لديها مفهوم واقعي عن الفجوة التي تفصل بين الحضارتين الفرنسية والبولندية، فقد تاقت نفسها إلى أن تراه يرفع بولندة في عام واحد ما يقتضي رفعه قرناً، وأصبحت مشورتها مصدر إزعاج له، وكدرت محبة بونياتوفسكي البنوية لها؛ فتنفس الصعداء حين رحلت، وإن هدأها بالمجاملات وبصورة لشخصه في إطار مرصع بالماس. واحتفظت بالصورة ولكنها ردت الماس. فلما نأت عنه عاودها حبها له في كل حرارته، وكتبت له من فيينا تؤكد له "المحبة التي هي ضرورة من ضرورات حياتي"(21).

وبذل ستانسلاس ما وسعه من جهد. فانقطع لمهام الحكم خلال هذه السنوات الأولى بشعور الحاكم المخلص لواجبه. فكان يحضر كل يوم مداولات وزرائه، ويعكف إلى ساعة متأخرة من الليل على مشكلات اضطلع ببحثها في تفصيل شديد التدقيق. وقد وفق إلى حد كبير في تدريب فيلق من الموظفين المدنيين ذوي الكفاية الفائقة والنزاهة المذهلة (22). ثم فتح بابه لمن يريد لقاءه، وسحر الجميع بلطفه، ولم يسحر الجميع بتحمسه للإصلاح. ولكن نشاطه خفف منه إحساسه بأنه معتمد على كاترين، لا بل على الجيش الروسي الذي خلفته في بولندة ليكفل سلامته وطاعته. وكان سفيرها الكونت أوتوفون شتاكلبرج يرقبه بعينه الساهرة مخافة أن ينسى سلطان روسيا عليه.

وكان الأعداء يحدقون به من بعيد ومن قريب. فالنبلاء البولنديون حزبان: الحزب الذي يتزعمه آل بوتوكي يدعو للاستقلال قبل الإصلاح،

ص: 118

ويرغب في كبح سلطة الملك بالإبقاء على قوة الأرستقراطية، والحزب الآخر الذي يتزعمه آل تشارتوريسكي يطلب الإصلاح أولاً، وحجته أن بولندة بفوضاها الراهنة أضعف من أن تنضو عنها الحماية الروسية. وكان آل تشارتوريسكي مترددين في تأييد يونياتوفسكي، فقد أحزنهم سرفه وكثرة خليلاته. وقد خصص له الديت 2. 200. 000 طالر في العام، وفي 1786 زادها إلى 6. 143. 000 جولدن-وهو ما يوازي ثلث إيراد الحكومة. ولكنه تجاوز مخصصاته، لأنه كان قد اقترض من المصارف في وطنه وفي خارجه. ودفعت الدولة ديونه مرتين، ومع ذلك ففي عام 1790 كان لا يزال مديناً بمبلغ 11. 500. 000 جولدن (23). وكان مثل كاترين يتطلع إلى تخليد ذكرى ملكه بتشييد صروح الباذخة، ووزع نفسه وحاشيته على قصرين غاليين، وأقام حفلات الترفيه الكثيرة التكلفة، وأغدق العطايا على الفنانين والكتاب والنساء.

وكانت جاذبيته غالية التكلفة. فلقد كان عند توليه العرش في الثانية والثلاثين من عمره، وسيماً مثقفاً كريماً غير متزوج، فجمع من حوله رهطاً من الحسان يتلهفن على يده وعلى كيس نقوده. وسر العديدات ممن أخفقن في الزواج منه أن يشاركنه فراشه، وشاركت بعض الممثلات الباريسيات في الترفيه عن الملك. واحتج التشارتوريسكيون، فاعترف بخطاياه وتمادى فيها. وأخيراً قادته خليلته تدعى باني جرابوفسكا إلى المذبح في زواج سري. وبعدها خضعت حياته الجنسية للرقابة الشديدة، واستطاع أن يبذل اهتماماً أكثر بشئون الحكم والأدب والفنون.

وقد اهتم اهتماماً شخصياً بأعمال وحياة فناني جيله ومؤلفيه. وحذا حذو كاترين فجمع الصور والتماثيل والكتب، وبنى قاعة للفن ومكتبة، وأبرز في المكتبة تمثالاً لفولتير. ووجد عملاً للفنانين الوطنيين، واستقدم غيرهم من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. ولم يستطع بيرانيزي وكانوفا الحضور، ولكنهما نفذا أعمالاً له في إيطاليا. وقد حول نصف القصر الملكي إلى مدرسة للفن،

ص: 119

ودبر المال ليمكن شباب الفنانين الواعدين من الدراسة في الخارج. وأسس قرب وارسو صناعة للبرسلان ضارعت منتجاته منتجات ميسن وسيفر. وقد ألهم بقدوته أثرياء البولنديين-كآدم تشارتوريسكي، واليزابث لوبوميرسكا، وهيلين رادزيفيل، وغيرهم-ليجمعوا التحف، ويكلفوا الفنانين بأعمال فنية، ويحلوا تنويعات الطراز الكلاسيكي الحديث محل ركوك الفترة السكسونية في بناء قصورهم وزخرفتها. وكان هو ذاته يحبذ مزيجاً من فن الباروك والفن الكلاسيكي، وبهذا الطراز صمم دومنيكو مرليني قصر لازينكي على مشارف وارسو. وكان المصورون الأجانب أثناء ذلك يدربون جيلاً جديداً من الفنانين البولنديين الذي بلغوا مرحلة النضج بعد أن اختفت الحرية البولندية.

أما أول الخطوات التي أفضت إلى تلك الكارثة فكانت العقبات التي وضعها فردريك الأكبر في طريق إصلاح بولندة لذاتها. وإلى ذلك الحين (1767) لم يكن لدى كاترين فيما يبدو نية تقطيع أوصال قطر كبولندة خاضع خضوعاً واضحاً لنفوذ الروسي، فالتقسيم سيوسع رقعة بروسيا بحيث تغدو عائقاً أشد خطراً مما يمكن أن تكونه بولندة السلافية أمام مشاركو روسيا في شئون غربي أوربا وثقافتها. لذلك اكتفت بالمطالبة بإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية الكاملة. ولكن فردريك أراد أكثر من هذا. فهو لم يستطع قط أن يروض نفسه على قبول هذه الحقيقة، وهي أن غربي بروسيا، الألماني البروتستنتي في غالبيته الكبرى، خاضع للحكم البولندي الكاثوليكي. ومن ثم كان نوع من التقسيم لبولندة هدفاً عنده لا يغيب عنه. وأي تقوية لبولندة، سياسية أو عسكرية، ستعرقل بلوغ أهدافه؛ لذلك أيد عملاؤه حق النقض المطلق، وعارضوا في تشكيل جيش قومي بولندي، ورحبوا بالخلافات المحتدمة بين الكاثوليك والمنشقين لأنها تتيح ذريعة للغزو.

وتعاون تعصب الكهنوت الكاثوليكي الروماني مع خطط فردريك. فقد قاوم كل محاولة تبذل لإعطاء المنشقين حقوقهم المدنية. وفي "روسيا البيضاء"-التي كانت آنئذ جزءاً من بولندة، مشتملة على منسك-انتزعت

ص: 120

السلطات الكاثوليكية الرومانية مائتي كنيسة من أتباعها الروم الأرثوذكس وأعطتها لطائفة الموحدين، ومنعت الجاليا الأرثوذكسية من ترميم كنائسها القديمة وبناء أخرى جديدة. وفي حالات كثيرة فصل الأطفال عن آبائهم لينشأوا على طاعة الكنيسة الرومانية، وأسيئت معاملة القساوسة الأرثوذكس، وأعدم بعضهم (24)، وكان بونياتوفسكي، وهو ربيب جماعة الفلاسفة الفرنسيين، ميالاً إلى التسامح الديني (25)، ولكنه كان عليما بأن الديت سيقاوم بالقوة إن اقتضى الأمر، أي خطوة للسماح لغير الكاثوليكي الرومان بعضويته؛ وأحس أنه ينبغي تأجيل اقتراحاً كهذا حتى يستطيع تعديل من نوع ما لحق النقض المطلق أن يشد أزره. وأجاب فردريك وكاترين بأنهما لا يطلبان من بولندة أكثر مما يمنحانه لأقلياتهم الدينية. وقدم للديت الذي اجتمع في أكتوبر ونوفمبر 1766 التماس من بروسيا وروسيا والدنمرك وبريطانيا العظمى بمنح اخوانهم في الدين في بولندة كامل حقوقهم المدنية.

وهناك أثارت بلاغة "كاجيتان سوليتك" أسقف كراكاو ثائرة النواب، فهبوا غاضبين وطالبوا لا برفض الالتماس فحسب، بل بتقديم مؤيديه البولنديين للمحاكمة لأنهم خونة لبولندة ولله (26). ونجا بجلدهم من الموت نفر حاولوا الدفاع عن الملتمس (27). وحاول بونياتوفسكي أن يهدئ المجلس بإصدار (نوفمبر 1766) نبذة سماها "آراء مواطن صالح" ودعا فيها جميع البولنديين للوحدة القومية، وأنذرهم بأن الشعب المنقسم على ذاته يحرض على الغزو. ثم رجا في الوقت نفسه السير البولندي في بطرسبرج أن يفصل روسيا عن الدول موقعة الملتمس. وكتب يقول "لو أصروا على هذا (الملتمس) فإنس لا أتوقع غير عشية كعشية (مذبحة) القديس بارتولميو للمنشقين، وحصاداً من السفاكين أمثال رافياك يغتالونني .. وستحيل الإمبراطورة عباءتي الملكية رداء (للقنطور) نيسوس. وسيكون على أن اختار بين نبذ صاقتها وبين مناصبة وطني العداء". وردت عليه كاترين بطريق نيكولاي ربنان سفيرها في وارسو تقول "لا أستطيع أن أتصور كيف يرى الملك نفسه خائناً لوطنه مجرد أن يؤيد مطالب العدل والإنصاف"(28).

ص: 121

لقد كان يفصلها عن بولندة من البون الشاسع سواء في المسافة أو التعليم ما لا يتيح لها الشعور بوطيس الغضب والكبرياء البولندين. فلما ألفت جماعة من نبلاء البروتستنت اتحاداً في ثورن، وألف حزب من المتشبعين لآل تشارتوريسكي اتحاداً في رادوم، أمرت كاترين ربنن بأن يعرض عليهما حماية روسيا. وتحت ستار هذه الحجة جلب ثمانين ألف مقاتل روسي إلى تخوم بولندة، وبعضهم إلى وارسو ذاتها.

وعاد الديت إلى الاجتماع في أكتوبر 1767. وحض الاسقفان الوسكي وسولتيك النواب على الوقوف بحزم أمام أي تغيير في الدستور. وهنا قبض ربنن على الأسقفين واثنين من العلمانيين بتهمة إهانة الإمبراطورة متخطياً بونياتوفسكي، ونقلهم إلى كالوجا على تسعين ميلاً جنوب غربي موسكو. فاحتج الديت، وأعلن ربنن أنه إذا لقي المزيد من المعارضة فإنه لن يكتفي بترحيل أربعة أقطاب فقط بل أربعين. وفي 24 فبراير 1768 استسلم الديت لتهديدات الحرب وأبرم مع روسيا معاهدة قبل بها كل مطالب كاترين. فمنح المنشقون الحرية الكاملة للعبادة الدينية، وحقهم في أن يختاروا لعضوية الديت وللوظائف العامة، وتقرر أن تنظر الدعاوي القضائية بين الكاثوليك والمنشقين أمام محاكم مختلطة. وسر الديت وكاترين وفردريك بتثبيت المعاهدة لحق النقض المطلق، مع بعض استثناءات للتشريع الاقتصادي. وقبل الديت كاترين حامية لهذا الدستور الجديد، ولقاء هذا ضمنت كاترين الوحدة الإقليمية لبولندة ما استمر هذا الاتفاق. واغتبطت لأنها لم تكتف بمنح بولندة نصيباً من الحرية الدينية أكبر حتى مما تمتعت به إنجلترة، بل أنها أحبطت خطة فردريك لتقسيم بولندة. وتلقى بونياتوفسكي تهاني جماعة الفلاسفة وازدراء شعبه.

‌4 - التقسيم الأول

اتفق الوطنيون والقساوسة البولنديون 1768 - 72 مع فردريك على عدم قبول الموقف. وأدان الأكليروس الكاثوليكي الروماني بقوة تسليم استقلال بولندة الذاتي لامرأة ملحدة روسية. واستنفر البولنديين رجلان،

ص: 122

أسقف كامر فنييك المسمى آدم كراسنسكي، ويوزف بولاسكي (أبو كازيمير ولاسكي الذي قاتل دفاعاً عن أمريكا)، بالعظات والنشرات ليؤكدوا من جديد حريتهم السياسية ودكتاتوريتهم الدينية. فما انقضى اسبوع على استسلام الديت لربنن حتى ألفت جماعة من البولنديين (29 فبراير 1768) اتحاد "بار"-وهي مدينة على الدنيستر في أوكرانيا البولندية. وكان الأقطاب الذين مولوا الحركة مدفوعين بكراهيتهم لكاترين والملك، وكان "الجمهور الأبله" كما لقب فردريك أتباعهم يضطرم غيرة على المذهب الحق الأوحد، وتردد صدى هذه الحماسة في شعر الشعراء يتحسرون في مراثي حزينة على إذلال بولندة و "ارتداد" ملكها. وبعثت تركيا والنمسا للوطنيين السلاح والمال، وأقبل دمورييه من فرنسا لينظمهم في وحدات مقاتلة. وانضم البولنديون الراغبون في رد الأسرة السكسونية للعرش إلى الحركة التي ما لبثت أن انتشرت إلى مواقع متفرقة في طول البلاد وعرضها. وكتب ربنن إلى كاترين يقول "إن بولندة بأسرها اشتعلن ناراً". وفكر بونيا توفسكي في الانضمام إلى الاتحاد، ولكن أعضاءه الغلاة المتهورين نفروه وأقصوه عنه بالمطالبة بخلعه لم يكن بإعدامه (29). وإذا جاز أن نصدق فولتير (30)، فإن ثلاثين من أعضاء الاتحاد أقسموا في تشستوكوفا هذا القسم:

"نحن الذين أثارتنا غيرة مقدسة دينية، والذين صممنا على الثأر لله والدين والوطن، بعد أن أسخطنا ستانسلاس أوغسطس، محتقر الشرائع الساوية والأرضية، وراعى الكفار والمهرطقين، نتعهد ونقسم أمام صورة أم الرب المقدسة المعجزية بأن نستأصل من وجه الأرض شأفة من يدنسها بوطئة الدين. فليساعدنا الرب! ".

وأمر ربنن الجيش الروسي بإخماد الفتنة، فطرد الاتحاديين وراء الحدود التركية وأحرق مدينة تركية. فأعلنت تركيا الحرب على روسيا (1768) وطالبت بجلاء الروس عن بولندة وتحريرها. واغتنم القوزاق فرصة الاضطراب الشديد ليغزو أوكرانيا البولندية. فطبشوا بملاك الأرض، ووكلائهم اليهود، والفلاحين الكاثوليك والرومان أو البروتستنت، في مهرجان من

ص: 123

التقتيل العشوائي، ففي مدينة واحدة قتلوا ستة عشر ألف رجل وامرأة وطفل. ورد الاتحاديون بقتل من وصلت إليهم أيديهم من الروس والمنشقين، وهكذا عانى البروتستنت واليهود من خطر مضاعف. ففي هذه السنوات بجملتها (1768 - 70) هلك خمسون ألفاً من سكان بولندة سواء في المذابح أو المعارك (31).

وبدأت كل الأطراف الآن حديث التقسيم. أما الاتحاديون فقد اتهمهم أعداؤهم بأنهم وافقوا على تقسيم بولندة فيما بينهم وبين حلفائهم (32). ففي فبراير 1769 أرسل فردريك إلى سنانت بطرسبرج اقتراحاً بتقسيم بولندة بين روسيا وبروسيا والنمسا، واشترطت كاترين في ردها أن تمد بروسيا والنمسا يد العون لروسيا لطرد الترك من أوربا، لكي توافق على أن تختص بروسيا بذلك الجزء من بولندة الذي يفصل بروسيا الكبرى عن بروسيا الشرقية، أما باقي بولندة فيخضع للحماية الروسية (33)، ولكن فردريك تردد. أما شوازيل المتحدث باسم فرنسا فقد اقترح على النمسا أن تستولي على الأقاليم البولندية المجاورة للمجر. ورأتها النمسا فكرة مواتية في وقت موات، وعليه ففي أبريل 1769 احتلت إقليم سبتز البولندي، الذي كانت المجر رهنته لبولندة في 1412 ولم يفك رهنه قط (34). وفي 1770 اقترح الترك الذين كانوا آنئذ يقاتلون بصفتهم مدافعين عن بولندة-على النمسا تقسيم بولندة بين النمسا وتركيا (35).

وبينما كانت هذه المفاوضات دائرة ارتضت الدول الغربية فكرة تقسيم بولندة نتيجة لا مناص منها لفوضاها السياسية، وأحقادها الدينية، وعجزها الحربي و "أدرك كل رجل دولة في القارة أن الكارثة واقعة لا محالة"(36). ولكن البولنديين من خصوم الاتحاديين في هذا الوقت أوفدوا عضواً في الديت ليطلب إلى الفيلسوف الاشتراكي مابلي، وإلى عدو جماعة الفلاسفة روسو، أن يضعا دستوراً مؤقتاً لبولندة جديدة. وقدم مابلي توصياته في 1770 - 71، أما روسو فقد فرغ من "دستور بولندة" في أبريل 1772 - بعد شهرين من التوقيع على أولى معاهدات التقسيم.

ص: 124

واستمتع اتحاد بار بلحظات من النشوة قبل انهياره. ففي مارس 1770، ومن مدينة فارنا التركية، أعلن خلع بونياتوفسكي. وفي 3 نوفمبر 1771، اعترض بعض-الاتحاديين طريقه وهو يغادر منزل عم له في الليل، وتغلبوا على حرسه، وقتلوا أحدهم رمياً بالرصاص، ثم جروا الملك من داخل عربته، وأحدثوا قطعاً في رأسه بضربة سيف، ثم اختطفوه من عاصمة ملكه. ولكن دورية من الشرطة هاجمتهم في غابة بيلني، وأثناء العراك هرب بونياتوفسكي، واتصل بالحرس الملكي، فأتى رجاله وعادوا به إلى قصره مشعث الشعر ينزف دماً في الخامسة صباحاً. وهكذا قضى على كل احتمالات المصالحة بين الحكومة والاتحاد. ولجأ بونياتوفسكي إلى المساعدة الروسية، وقمع الاتحاد، وبقيت منه بقية في تركيا-الهلال يحمي الصليب (1772)(37).

على أن تقدم جيوش روسيا إلى البحر الأسود والدانوب أزعج كلاً من بروسيا والنمس. فلا فردريك الثاني ولا جوزف الثاني كانا مغتبطين بتوقع سيطرة روسيا على البحر الأسود، وأسوأ من ذلك أن الآستانة. وكانت بروسيا قد تعهدت في معاهدتي 1764 و1766 بأن تساعد روسيا إذا هوجمت، وكانت تركيا من الناحية الشكلية هي المعتدي في حرب 1768 الروسية التركية؛ وكانت بروسيا تعرض خزانتها للإفلاس بإرسالها المعونات المالية لروسيا. أما النمسا التي ساءها دخول القوات الروسية فلاشيا فكانت تهدد بالتحالف مع تركيا ضد روسيا؛ في تلك الحالة كانت روسيا ستنتظر من بروسيا أن تهاجم النمسا. ولكن فردريك كان قد ضاق ذرعاً بالحرب. لقد خاض حربين ليستولي على سيليزيا ويحتفظ بها، فلم يخاطر بها الآن؟ ومن ثم آثر الطرق الدبلوماسية. وتساءل ألا يمكن استرضاء الدول الثلاث بحصص يلتهمونها من أرض بولندة؛ لو أن الأمور تركت تجري مجراها والسفير الروسي يحكم بولندة فعلاً لما كانت المسألة إلا مسألة وقت حتى تبتلع روسيا ذلك البلد كلية متسترة وراء أي حجة. فهل ما زال في الإمكان الحيلولة دون هذا؟ بلى، إذا ارتضت كاترين أن تأخذ بولندة الشرقية فقط، وتدع فردريك يأخذ بولندة الغربية وتنسحب من الدانوب. وهل يخفف

ص: 125

من شره يوزف للقتال أن يعطي نصيباً من الغنيمة؟

وعليه ففي يناير 1771 اقترح الأمير هنري، أخو فردريك، الخطة على الدبلوماسيين الروس في سانت بطرسبرج، واعترض بنن بأن روسيا قد ضمنت وحدة بولندة الإقليمية، فذكروه بأن هذا الضمان كان رهناً بالتزام بولندة بدستورها الجديد وتحالفها مع روسيا، وأن هذا الالتزام انقطع بانضمام العدد الكبير من النواب لاتحاد بار المتمرد. ومع هذا لم ترض كاترين عن الخطة. فأي شيء يدعوها لإعطاء فردريك جزءاً من بولندة بينما قد تأخذ هي الكل بعد قليل؛ ولم تدعم قوة بروسيا بمزيد من الأرض، والموارد، والثغور البلطية، ومزيد من الجند الفارعين، ولكنها لم ترد خوض حرب مع فردريك، فقد كان لديه 180. 000 رجل تحت السلاح؛ وآثرت على ذلك أن تجعله يمنع يوزف من الاتحاد مع تركيا ضد روسيا، فهدفها الحاضر ليس بولندة بل البحر الأسود. وعليه ففي 8 يناير 1771، أشارت لهنري عرضاً في حلة إلى موافقتها مبدئياً على خطة فردريك.

وانقضى عام قبل أن تتمكن المفاوضة من الفصل في تقسيم الغنيمة. فقد أراد فردريك أن يأخذ دانتزج، فاعترضت كاترين؛ وكذلك بريطانيا التي كانت تجارتها مع البلطيق ترسو على ذلك الثغر. وفي غضون هذا عبأت النمسا قواتها، وتحالفت سراً مع تركيا. وفي 17 فبراير 1772 وقع فردريك وكاترين "اتفاقاً" على تقسيم بولندة. وألانت كاترين جانب يوزف بتخليها عن جميع مطالب روسيا في فلاشيا وملدافيا؛ ثم إن رداءة محصول 1771 جعل من المستحيل عليه إطعام جيشه. وكانت ماريا تريزا من جهة أخرى تتوسل إلى ولدها بكل دموعها لتمنعه من الاشتراك في اغتصاب بولندة، غير أن فردريك وكاترين أكرهاه على الموافقة بشروعهما في الاستيلاء الفعلي على الأقاليم التي خصا نفسيهما بها. وفي 5 أغسطس 1772 أضاف يوزف توقيعه على ميثاق التقسيم.

أما المعاهدة فبعد الديباجة التي ابتهلت إلى الثالوث المبارك، وافقت على أن تحتفظ بولندة بثلثي أرضها وثلث سكانها. واستولت النمسا على بولندة الجنوبية بين فولينيا والكربات، مع غاليسيا وبودوليا الغربية-27. 000

ص: 126

ميل مربع، و2. 700. 000 - نسمة. وأخذت روسيا "روسيا البيضاء"(بولندة الشرقية إلى دوينا ونيبر)36. 000 ميل مربع، و1. 800. 000 نسمة. وأخذت بروسيا "بروسيا الغربية" فيما عدا دانتزج وتورن 13. 000 ميل مربع و600. 000 نسمة. وأخذ فردريك أصغر نصيب، ولكنه كان قد ألزم المتآمرين بالسلام، و "خاط"- على حد قوله بروسيا الغربية وبروسيا الشرقية مع براندنبرج. وقال قال الوطني ترايتشكي إن فردريك على أية حال لم يفعل أكثر من أنه رد إلى ألمانيا "معقل الفرسان التيوتون، -وادي فايشيزال الجميل- الذي انتزعه الفرسان الجرمان من البرابرة في الأيام الخالية"(38) وذكر فردريك وربا بأن سكان بروسيا الغربية كثرتهم العظمى ألمانية وبروتستنتية، أما كاترين فقد ذكرت أن الإقليم الذي أخذته يسكنه كله تقريباً أتباع الكنيسة الرومية الكاثوليكية المتحدثون بالروسية (39).

وسرعان ما احتلت الدول الثلاث أنصبتها من الغنيمة بجيوشها. واستنجد بونياتوفسكي بالدول الغربية لتمنع التقسيم، ولكنها كانت في شغل شاغل عنه؛ ففرنسا تتوقع الحرب مع إنجلترة، وقد ترددت في معارضة حليفتها النمسا، وإنجلترة تواجه الثورة الوليدة في أمريكا، والخطر الذي قد يأتيها من فرنسا وأسبانيا؛ ونص جورج الثالث بونياتوفسكي بأن يصلي لله (40). وطالبت الدول صاحبة التقسيم بدعوة الديت ليصدق على التقسيم الجغرافي الجديد؛ فماطل بونياتوفسكي عاماً، وأخيراً دعا الديت للاجتماع في جرودونو. ورفض الكثير من النبلاء والأساقفة حضوره، وبعض الذين جاءوا وأحنجوا نفوا إلى سيبيريا؛ وقبل غيرهم الرشا؛ وحولت البقية المتخلفة من الديت نفسها إلى اتحاد كونفدرالي (يبيح فيه القانون البولندي حكم الأغلبية)، ووقع الديت المعاهدة التي نزلت عن الأقاليم المنتزعة من بولندة (18سبتمبر 1773) وبكى بونياتوفسكي ووقع كما بكت ماريا تريزا ووقعت.

وقبلت أوربا الغربية هذا التقسيم الأول على أنه البديل الوحيد لابتلاع روسيا لبولندة ابتلاعاً تاماً. ويقال إن بعض الدبلوماسيين "أذهلهم اعتدال

ص: 127

الشركاء، الذين اكتفوا بالثلث في حين كان الكل رهن إشارتهم إن طلبوه" (41). واغتبط جماعة الفلاسفة لأن بولندة المتعصبة عاقبها مستبدوهم المستنيرون، ورحب فولتير بالتقسيم باعتباره هزيمة تاريخية للكنيسة الكاثوليكية، (42) ولكنه بطبيعة الحال لم يكن سوى انتصار للقوة المنظمة على العجز الرجعي.

‌5 - التنوير البولندي

1773 -

1791

كان على بونياتوفسكي أن يختار الآن بين روسيا وبروسيا حامياً له وسيداً عليه. فاختار روسيا، لأنها أكثر بعداً، ولأن روسيا دون غيرها تستطيع منه فردريك من الاستيلاء على دانتزج وتورن. وكانت كاترين تواقة إلى الحيلولة دون مزيد من توسع بروسيا، التي كان جيشها العقبة الكؤود في طريق التوسع الروسي غرباً. لذلك أمرت سفيرها في وارسو بأن يقدم العون لبونياتوفسكي بكل طريقة تتفق ومصالح روسيا، وأرسلت إلى الملك المقترحات التي وضعها بنين من قبل لدستور بولندي أيسر نفيذاً. وقد احتفظ هذا الستور بنظام الملكية الانتخابية وحق النقض المطلق، ولكنه دعم قوة الملك بأن أقام برآسته، وكأداته التنفيذية، مجلساً دائماً من ستة وثلاثين عضواً، ينقسم إلى وزارات للشرطة والعدل والمالية والشئون الخارجية والحرب؛ ثم نص على إنشاء جيش نظامي من ثلاثين ألف مقاتل. وخاف النبلاء أن يهدد الجيش كهذا سيطرتهم على الملك، فخفضوا العدد إلى ثمانية عشر ألفاً، على أن الديت الذي انعقد في 1775 صدق على الدستور الجديد مع هذا الاستثناء واستثناءات صغيرة أخرى، وأصبح في وسع بونياتوفسكي الآن أن يشرع في رد شيء من العافية على الأمة.

واستمر الفساد ولكن الفوضى قلت، فأمكن التغلب على عصابات قطاع الطرق، ونما الاقتصاد القومي. وعمقت الأنهار لتسمح بمرور السفن الكبيرة، وشقت الترع لتصل بين الأنهار، وأكملت في 1783 "قناة ملكية" تربط البحرين البلطي والأسود. وازداد سكان بولندة بين عامي 1715 و1773 من 6. 500. 000 إلى 7. 500. 000، وتضاعف دخل الدولة. وتقرر نظام للمدارس القومية، وأعدت الكتب المدرسية وزود بها التلاميذ،

ص: 128

ومنحت الهبات من جديد لجامعتي كراكاو وفلنو وبعث فيهما النشاط، وأسست الدولة كليات لتخريج المعلمين ومولتها. وكان يونياتوفسكي يحب أن يحيط نفسه بالشعراء والصحفيين والفلاسفة. كتب كوكس يقول "إن الملك يولم كل خميس للأدباء المشهورين بعلمهم وقدراتهم، وجلالته يترأس بنفسه المائدة"(43). ويقود النقاش في الكتب والأفكار. وقد استضاف ثلاثة مؤلفين ليعيشوا معاً، ورفع دخل مؤلفين آخرين في صمت (44). وكان آلاف البولنديين، مع تقديمهم فروض الإجلال للكنيسة-يقرءون لوك ومونتسكيو وفولتير وديدرو ودالامبير وروسو. وهكذا أرسيت أسس التنوير البولندي أو الستانسلافي.

وقد اجتذب يسوعي يدعى آدم ناروشفتش أذن الملك بشعره؛ فرقي أسقفاً، ولكنه واصل نظم الشعر العاطفي للطبيعة، وما زال "ترنيمته للشمس" و "فصوله الأربعة" تحبب فيه من يستطيعون قراءته في الأصل. وقد استعملت "قصائده الهجاءة" ألفاظاً شعبية رابيلية الطابع أحياناً أو نابية. وطلب إليه ستانسلاس أن يكتب تاريخاً لبولندة يجمع بين السهولة والعمق. فأنفق الشاعر في هذا العمل تسع سنين، وأخرج في ستة مجلدات (1780 - 86) أثراً يمتاز بتوثيقه الدقيق. ولكن حماسته فترت بعد التقسيم الثاني، وأصيب بالاكتئاب، ولم يعمر أكثر من سنة بعد التقسيم الأخير (45).

أما أبرز كتاب العهد البولنديين فهو اجناتسي كراسيكي. وقد اكتسب في رحلاته صداقة فولتير وديدرو (46) وأصبح قسيساً، ثم رئيساً للأساقفة آخر الأمر، ولكن ستانسلاس حثه على إطلاق العنان لمواهبه الشعرية. فكتب ملحمة هازلة سماها "ملحمة الفيران، انتقد فيها نقداً لاذعاً حروب جيله وصورها معارك بين الجرذان والفيران. وفي قصيدته "هوس الرهبنة" (1778) هزأ بالخصومات الديرية وأسلحتها الفتاكة هي الكتب اللاهوتية. ثم اتجه إلى النثر، فروى في "مغامرات السيد نيقولا المكتشف" (1776) كيف اكتشفت نبيل بولندي شاب، مزود بكل حصيلة العصر وعواطفه، تحطمت به السفينة على جزيرة غربية، إن الرجال والنساء يمكن أن يكونوا

ص: 129

مجدين فضلاء رغم جهودهم في "حالة الفطرة". وقد اقتفى خطر هومر وسويفت وديفو في أعماله هذه، ثم اقتبس أسلوب أديسون وأخرج سلسلة من صور الحياة اليومية، منها "بان بود ستولي"(1778 وما بعدها) التي تصف حياة جنتلمان ومواطن مثالي. وفي "قصص خرافية وأمثال (1779) تحدى فيدروس ولافونتين، وهاجم في تهكم لاذع خراب الذمة والوحشية المستشرية من حوله. وكانت آخر نصيحة له هوراسية النزعة، "التمس لك ركناً هادئاً، ودع السعادة تأتيك خلسة" (47).

ومع أن تأثير التنوير الفرنسي على ناروشفتش وكراسيكي قد حاد منه سلطان الدين، إلا أنه ظهر بشكل قاطع في ستانسلاس ترمبيكي، الذي لم يذكر الدين قط إلا بروح العداء. وقد مجد شعره الطبيعة، ولكن ليس في تلك المظاهر السارة التي كثيراً ما تحرك العواطف الرقيقة؛ فقد آثر جوانبها الأكثر جموحاً ووحشية، إسرافها المجنون في إنتاج النبات والحيوان، عواصفها وسيولها، صراع الحياة مع الحياة والمأكول مع الآكل؛ واقتبست خرافاته شكلها من لافونتين ولكن روحها منقول عن لوكريتيوس. وقد أكسبته قوة شعره ورهافته وصقله مكانة مرموقة في هذا الازدهار الأدبي. وسانده بونياتوفسكي في جميع محنه، وعند خلع الملك رافقه الشاعر في المنفى، ومكث معه حتى مات.

وكان هناك شعر ديني كثير، لأن الدين كان العزاء الأخير للبولنديين في خطوبهم الشخصية والقومية. وقصائد فرانتشيشيك كارينسكي المسماة "أغنية الصباح" و "أغنية المساء" و "ولادة المسيح" أدب كما أنها تعبد. أما فارنتشيشيك كثيازنين فكان يتنقل في غير عناء بين هذين العدوين القديمين، الدين والجنس، فحين أشرفعلى دخول القسوسية اكتشف أناكريون والحب؛ ونشر قصائد غزلية" إيروتيكا"(1770)، ونشد سعادة الدنيا، ثم عاد إلى الدين، ومات مجنوناً. إن محاولة التوفيق بين النقيضين قد تفضي إلى الجنون كما تفضي إلى الفلسفة.

أما في مضمار الدراما فإن أبرز رجالها هو فويتسيش بوجوسلافسكي،

ص: 130

الذي يكرم وطنه ذكراه باعتباره "أبا المسرح البولندي"؛ ويجوز لنا أن نسميه "جاريك" بولندة، ولكن البولنديين لو سئلوا لوصفوا جاريك بأنه بوجوسلافسكي إنجلترة. وكان فيما يبدو أول بولندي كرس حياته كلها للمسرح، ممثلاً، وكاتباً مسرحياً، ومخرجاً، ومديراً لمسارح دائمة في وارسو ولفوف، ومديراً لشركات نشرت تذوق الدراما في طول البلاد وعرضها ووراء الحدود. قدم شكسبير وشريدان مترجمين، وألف هو نفسه كوميديات ما زال بعضها يمثل على المسرح البولندي. وكانت أفضل تمثيليات هذه الفترة هي "عودة النائب" بقلم جوليان أورسين نيمتشفتش الذي كان هو نفسه نائباً، فقد صور جانبي الأزمة السياسية تصويراً درامياً في حب نائب من دعاة الإصلاح لفتاة يدافع أبواها عن امتيازات الأقطاب وأساليب العيش في الماضي.

وآخر رجال التنوير البولنديين وأعظمهم هو هوجر كوللونتاج. نقل إليه تعليمه عدوى أفكار جماعة الفلاسفة، ولكنه ستر هرطقاته ستراً كافياً حتى حصل على وظيفة كاهن مريحة في كراكاو. وعينه يونياتوفسكي (1773) عضواً في لجنة للتعليم، وضع لها كوللونتاج وهو لا يزال في الثالثة والعشرين برنامجاً لإصلاح تعليمي يتفق وخير برامج جيله. وحين ناهز السابعة والعشرين وكل بإعادة تنظيم جامعة كراكاو، وأنجز المهمة في بضع سنين، ثم بقي في الجامعة مديراً لها. وفي "خطابات من كاتب مجهول إلى رئيس الديت"(1788 - 89)، وفي "القانون السياسي للأمة البولندية"(1790) قدم مقترحات أصبحت أساساً لدستور 1791.

وكافحت بولندة، بفضل حث شعرائها ومعلقيها، لتنير نفسها وتصبح دولة قوية قادرة على الدفاع عن ذاتها. وحانت الفرصة حين عرض فردريك وليم الثاني-خلف فردريك الثاني-على "ديت السنين الأربع" الذي استمر انعقاده من 1788 إلى 1792 تحالفاً تتعهد فيه بروسيا بأن يحمي جيشها القوي بولندة من أي تدخل أجنبي. وكانت روسيا في شغل بحربها مع تركيا والسويد، فالآن قد تستطيع بولندة أن تعتق نفسها من خنوعها الطويل لكاترين، وتتخلص من أعمال السلب والنهب التي اقترفها الجنود الروس على الأرض

ص: 131

البولندية طوال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة. وحل الديت مجلس بونياتوفسكي الدائم رغم احتجاجاته، ووافق على أن يجند بإذن الديت جيش من 100. 000 مقاتل، وأمر الجيش الروسي بالرحيل عن بولندة فوراً (مايو 1789)، إما كاتربن التي كانت في حاجة لجميع قواتها في مواقع أخرى فلم تقاوم، ولكنها أقسمت على الانتقام. وفي 29 مارس 1790 أبرم الديت تحالفاً مع بروسيا.

وكان بونياتوفسكي هو أيضاً قد ثمل الآن بجو الحرية. فنبذ ولاءه لكاترين وتزعم صياغة دستور جديد. وقد نصت شروطه على جعل الملكية وراثية، ولكنها ضمنت وراثة البيت المالك السكسوني للعرش بعد موت بونياتوفسكي الذي لم يعقب. وتقرر أن توسع سلطات التاج التنفيذية بإعطاء الملك حق النقض المعلق-أي حق منع قرار وافق عليه دايت من أن يصبح قانوناً حتى يؤكده الدايت التالي. ونص على أن يعين الملك وزرائه والأساقفة، وأن يتولى قيادة الجيش، وعلى أن ينتخب عددصغير من المواطنين وغيرهم من أهل المدن نواباً. أما الديت فيتألف من مجلسين؛ مجلس للنواب له وحده الحق في وضع القوانين، ومجلس للشيوخ-يتألف من الأساقفة وحكام الأقاليم ووزراء الملك-تشترط موافقته على أي قانون. أما حق النقض المطلق فتحل محله قاعدة الأغلبية. ويعترف بالمذهب الكاثوليكي الروماني ديناً سائداً للأمة، ويعد الارتداد عنه جريمة، وفيما عدا ذلك فحرية العبادة مكفولة للجميع. وبقيت القنية، ولكن للفلاحين الآن أن يستأنفوا دعاواهم من المحكمة الوراثية إلى محكمة إقليمية أو قومية. وكان تأثير الدستور الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية (1787 - 98) واضحاً في هذه التوصيات. ذلك أن البولنديين الذين حاربوا دفاعاً عن المستعمرات الأمريكية كانوا قد هيأوا ذهن بونياتوفسكي، ولم يكن قد نسي قراءته للوك ومنتسكيو وجماعة الفلاسفة.

ورغبة في ضمان التصديق على مقترحاته لجأ بونياتوفسكي إلى الحيلة. ذلك أن كثيراً من أعضاء الديت ذهبوا إلى مواطنهم لقضاء عطلة عيد القيامة عام 1791، فدعاه الملك للانعقاد في 3 مايو، وهو تاريخ أبكر

ص: 132

من يتيح للأعضاء البعيدين العودة إلى وارسو لحضور الافتتاح الجديد؛ أما النواب القريبون الذين وصلوا في الميعاد فكان أكثرهم أحرار النزعة يمكن الاعتماد عليهم في تأييد الدستور الجديد. وعرض عليهم في القصر الملكي بمجرد اجتماعهم، فقوبل بتصفيق جارف، وصدق عليه بأغلبية كبيرة. وقد تذكر البولنديون الوطنيون ذلك اليوم، الثالث من مايو 1791، في فخر واعتزاز، وخلدوه في الأدب والفن والأغاني البولندية.

‌6 - تمزيق بولندة

1792 -

1795

اعترفت جميع الدول بالدستور الجديد إلا روسيا. ووصفه إدموند بيرك بأنه "أنبل امتياز نالته أمة في أي زمان" وصرح بأنه ستانسلاس الثاني قد تبوأ مكاناً في التاريخ بين عظماء الملوك ورجال الدولة (48)، ولكن هذه الحماسة ربما كانت انعكاساً لابتهاج إنجلترة بهزيمة كاترين.

وأخفت الإمبراطورة حيناً عداءها لبولندة الجديدة، ولكنها لم تغفر طرد جيشها منها على عجل، ولا إحلال النفوذ البروسي محل الروسي في الشئون البولندية. فلما أنهت معاهدة ياسي (9 يناير 1792) حربها مع تركيا، وتحررت من الخوف من شريكيها السابقين في الجريمة-بروسيا والنمسا-لتورطهما في الحرب ضد فرنسا الثائرة (أبريل 1792)، تلفتت حولها تبحث عن مدخل جديد إلى بولندة.

وقد هيأه لها البولنديون المحافظون، إذ وافقوا كاترين كل الموافقة على أن دستور بونياتوفسكي قد صدق عليه ديت جمع على عجل بحيث لم يستطع أشراف كثيرون حضوره. وكان فيلكس بوتوكي وغيره من الأقطاب ساخطين أشد السخط على التخلي عن حق النقض المطلق الذي ضمن لهم القوة أمام السلطة المركزية، ولم يكونوا راغبين في النزول عن حقهم في انتخاب الملك، وفي الهيمنة عليه تبعاً لذلك. ورفض بوتوكي حلف يمين الولاء للمرسوم الجديد، ثم قاد جماعة من النبلاء إلى سانت بطسبرج وطلب إلى الإمبراطورة أن تساعدهم على إعادة الدستور الأقدم (دستور 1775) الذي

ص: 133

سبق أن تعهدت بحمايته. فأجابت بأنها لا تريد التدخل في بولندة بناء على طلب أفراد قليلين، ولكنها ستنظر في نداء من أقلية بولندية منظمة يعتد بها، وأحيط فردريك وليم الثاني علماً بهذه المفاوضات، وكان متورطاً في الحرب ضد فرنسا، كارهاً لخوض حرب ضد روسيا، فأخير الحكومة البولندية (4 مايو 1792) بأنها إن كانت تنوي الدفاع عن دستورها الجديد بقوة السلاح فعليها ألا تتوقع الدعم مع بروسيا (49). وقف بوتوكي إلى بولندة، وألف 14 (مايو 1792)، في بلدة بأوكرانيا، اتحاد تارجوفيكا، ودعا للانضواء تحت لوائه كل الذين يريدون إعادة الدستور القديم. ولقب أتباعه أنفسهم بالجمهوريين، وأدانوا تحالف بولندة مع بروسيا، وأثنوا على كاترين، والتمسوا بركتها وطلبوا جيشها.

فأرسلتهما جميعاً، وزحف الاتحاديون على وارسو بعد أن توفر لهم هذا الدعم. وكانت دعوتهم إلى "الحرية" قد أحدثت بعض التأثير، لأن مدناً عديدة استقبلتهم استقبالاً للمحررين؛ وفي تريسابول (5 سبتمبر) رحب القوم ببوتوكي كأنه فعلاً ملك بولندة الجديد. ودعا بونياتوفسكي الديت أن يعطيه كل السلطات التي تلزم للدفاع. فعينه دكتاتوراً، ودعا كل الذكور البالغين من البولنديين للخدمة العسكرية، ثم ارفض. وعين بونياتوفسكي ابن أخيه، الأمير يوزف بونياتوفسكي ذا التسعة والعشرين عاماً، قائداً أعلى للجيش الذي وجده مفتقراً إلى التدريب ومجهزاً أسوأ تجهيز. وأمر يوزف جميع كتائب الجيش بأن تنضم إليه في لوبار على نهر سلوتش، ولكن القوات الروسية كانت قد طوقت الكثيرين فلم يستطيعوا الحضور، والذين حضروا كانوا أضعف من أن يقفوا الزحف الروسي. وتقهقر الشاب إلى بولون، مركز إمداداته تقهقراً منظماً أتاحه قتال المؤخرة الباسل بقيادة تاديوس كوتشيوسكو، الذي كان قد حارب من قبل في صفوف المستعمرات في أمريكا، وكان وهو في السادسة والأربعين عريقاً في أمجاد الوطنية والحرب.

ص: 134

وفي 17 يونيو 1792 التقى البولنديون بجيش روسي كبير عند زيلنتسي، وهزموه في أول معركة حامية انتصرت فيها بولندة منذ أيام سوبيسكي. هنا أيضاً أثبت كوتشيوسكو مهارته، باستيلائه على ربوة سيطرت منها مدفعيته على ساحة المعركة؛ أما يوزف، الذي كان إلى الآن موضع الريبة في كفايته من مرءوسيه الذين في مثلي عمره، فقد كسب احترامهم بقيادته احتياطية من الجنود بشخصه ليكره الروس على التقهقر. وأثلج نبأ النصر صدر بونياتوفسكي، ولكن كاد يغلب هذا النبأ نبأ آخر بأن الأمير لودفج فورتمبرج قائد الجيش البروسي الموكل بالقوات البولندية في لتوانيا، قد هرب من موقعه تاركاً جنوده في حالة من الفوضى أتاحت للروس في 12 يونيو الاستيلاء على فلنو عاصمة لتوانيا دون مشقة.

لم يبق من أسباب الدفاع عن بولندة الآن غير جيش يوزف. وكانت مؤنه وعتاده من الضآلة أفواجه إلى الصيام أربعاً وعشرين ساعة، ولم تملك المدفعية غير اثني عشر صندوقاً من الذخيرة. فأمر الأمير بالتقهقر إلى دوبنو؛ فلما رمى بالجبن ثبت عند دوبينكا (18 يوليو) واستطاع بجيشه البالغ 12. 500 مقاتل أن يتعادل مع 28. 000 مقاتل روسي. ثم تقهقر بنظام حسن إلى كوروف، حيث انتظر وصول التعزيزات والمؤن التي وعده بها الملك.

ولكن ستانسلاس كان قد يئس. ذلك أن رفض فردريك وليم الثاني أن ينفذ شروط الحلف البروسي البولندي، وخيانة الأمير لودفج، وهروب المئات من الجيش الذي جمعه في براجا-كل أولئك كان فوق ما تطيقه روحه التي لم تكن يوماً ما شديدة البسالة. وعليه فقد أرسل نداءً شخصياً لكاترين يلتمس شروطاً مشرفة، وكان جوابها (23 يوليو) إنذاراً نهائياً يشترط عليه الانضمام إلى اتحاد تاجوفيكا وإعادة دستور 1775. وقد صدمته لهجتها التيلم تعرف هوادة ولا ليناً؛ أفهذه هي المرأة التي استجابت يوماً لغرامه الطائش؟

ص: 135

وكان حنانه هو المسيطر عليه الآن. فلقد فكر في المقاومة، وفي التسلح والمضي إلى الجبهة ليقود دفاعاً يائساً؛ ولكن زوجته، وأخته، وابنة أخيه، اشتد بكاؤهم لفكرة موته وما يجره عليهم من الوحدة والأسى، حتى وعد الملك بأنه سيسلم. ثم ما جدوى المقاومة بعد هذا كله؟ فبعد أن قطع الأمل في أي معونة من بروسيا-في وقت توقع فيه الهجمات على الجبهة الغربية العزلاء-، كيف تستطيع بولندة الوقوف في وجه روسيا؟ ألم يحاول جاهداً أن يثني الديت عن الاستخفاف بكاترين والمغامرة بكل شيء اعتماداً على وعود بروسيا؟ ألم يلح في طلب جيش كبير حسن التجهيز، وألم يرفض الديت اعتماد المال لهذا الجيش بعد أن وافق على الرجال؟ وحتى لو حقق الجيش البولندي الراهن انتصاراً أو اثنين على الروس، أفلا تستطيع كاترين، المتخمة بالجنود بعد أن أبرمت الصلح مع تركيا، أن ترسل الموجة تلو الموجة من الجنود المدربين المدججين بالسلاح ضد فلوله المبعثرة المختلة النظام؟ فعلام التضحية بمزيد من الأرواح، وإسلام نصف بولندة إلى الخراب، إذا كان التسليم هو النهاية على كل حال؟

أرسل السفير الروسي الجديد، ياكوف سييفرس، إلى أخته وصفاً ملؤه العطف يصور فيه بونياتوفسكي في هذه الساعة، ساعة الانهيار البدني والروحي قال:

"لم يزال الملك (في عامه الستين) رجلاً وسيماً أنيقاً، وإن كان وجهه شاحباً، ولكن في وسع المرء أن يرى أن ستاراً قائماً قد أسدل على روحه. إنه يحسن الحديث، بل يتحدث بفصاحة، وهو مجامل حسن الاستماع دائماً ومع الجميع، ومسكن سيئ، وهو مهمل، مزدري مخذول، ومع ذلك فهو ألطف الناس جميعاً. وإذا غضضت النظر عن منصبه الرفيع، وتأملته من وجهة النظر الشخصية فقط، قلت إن فضائله ترجح رذائله. ولا ريب في أنه أسوأ الملوك حظاً بعد لويس السادس عشر. إنه يحب أقرباءه حباً جماً، وهؤلاء الناس هم علة نكباته كلها (50).

ص: 136

وفي 24 يوليو 1792 قرأ بونياتوفسكي الإنذار النهائي الروسي على مستشاريه الخصوصيين، ونصحهم بأن يركنوا إلى سماحة كاترين وشهامتها. واحتج كثيرون منهم على هذه السذاجة. واقترح أحدهم المدعو مالا خوفسكي أن يجمع في ساعة واحدة 100. 000 جولدن لأغراض الدفاع، وألح على أن الجيس البولندي يستطيع-حتى إذا اقتضى الأمر التخلي عن وارسو-أن يتقهقر إلى كاركاو ويجند جيشاً جديداً في الجنوب الآهل بالسكان. وهزم اقتراح بونياتوفسكي بالتسليم في المجلس بأغلبية عشرين صوتاً ضد سبعة. ولكنه أبطل قرارهم بحكم سلطته دكتاتوراً، وأمر ابن أخيه بالكف عن المقاومة. ورد يوزف بأن على الملك بدلاً من هذا التسليم أن يبادر إلى الجبهة بما يستطيع جمعه من قوات ويقاتل إلى النهاية. فلما أصر ستانسلاس على انضام الجيش إلى الاتحاد أرسل إليه جميع الضباط إلا واحداً استقالاتهم وعاد يوزف إلى موطنه السابق في فيينا. وفي 5 أغسطس احتل جيش روسي براجاً. وفي أكتوبر أرسل يوزف رجاء إلى عمه يدعوه لاعتزال ملكه قبل أن تزول البقية الباقية من الشرف. وفي نوفمبر دخل بوتوكي مع طلائع جيش الاتحاديين وارسو دخول الظافر، وألقى على بونياتوفسكي درساً في واجبات الملك. ولكن انتصار بوتوكي تبين بعد قليل أنه كارثة، لأن الجنود البروسيين دخلوا بولندة في يناير 1793، وواصلوا زحفهم ليحتلوا دانتزج وتورن، دون أن يطلق حلفاء بوتوكي الروس رصاصة ليمنعوهم. ووضح أن روسيا وبروسيا قد اتفقتا على تقسيم بولندة ثانية.

وكانت كاترين وفردريك وليم قد وقعا هذا الاتفاق في 23 يناير، ولكنهما تكتما أمره حتى 28 فبراير. أما بوتوكي فقد استنفر البولنديين من جميع الأحزاب ليهبوا دفاعاً عن بولندة؛ فضحكوا منه، وندد به يوزف خائناً لوطنه، وتحداه للمبارزة، ولكن ستانسلاس منعها.

وبمقتضى هذا التقسيم الثاني حصلت روسيا على 89. 000 ميل مربع من بولندة الشرقية، يعيش فيها 3. 000. 000 من السكان، بما في هذا

ص: 137

فلنو ومنسك؛ أما بروسيا فأخذت 23. 000 ميل مربع من بولندة الغربية، يعيش فيها 1. 000. 000 من السكان بما فيها دانتزج وتورن؛ وبقي لبولندة 80. 000 ميل مربع و4. 000. 000 نسمة-وهو يقرب من نصف ما ترك لها من قبل في 1773. ولم يكن للنمسا نصيب في هذه الغنيمة الثانية، ولكن هدأتها الوعود الروسية بمساعدتها في الحصول على بافاريا. أما الدول الغربية التي كانت لا تزال منهمكة في صراعها مع فرنسا الثائرة فلم تتخذ أي إجراء ضد هذا الاغتصاب الثاني، الذي عللته لها كاترين بأنه ضرورة اقتضاها تطور الدعوة الثورية في وارسو، التي تهدد بالخطر جميع الملكيات.

ولكي تلبس هذه السرقة ثوب الشرعية أمرت بونيا توفسكي أن يدعو الديت للاجتماع في جرودنو، وأمرته بالحضور بشخصه ليوقع على تحالف مع روسيا فأبى الذهاب أول الأمر، ولكن حين عرضت الوفاء بديونه-التي بلغت الآن 1. 566. 000 دوقاتية-قبل هذا الإذلال الجديد خدمة لدائنيه. وزود السفير الروسي بالمال لرشوة عدد كاف من النواب ليحضروا اجتماع الديت، ولم يجد عناء في رشوة عدة أعضاء من بطانة الملك ليفشوا كل كلمة فاه بها سيدهم وكل عمل أتاه. وأمكن إقناع هذا "الديت الأخير"(17 يونيو إلى 24 نوفمبر 1793) بأن يوقع معاهدة مع روسيا، ولكنه ظل شهوراً يأبى التصديق على التقسيم الثاني. وقيل للأعضاء أنهم ممنوعون من مغادرة القاعة حتى يوقعوا، فظلوا على رفضهم وجلسوا صامتين اثنتي عشرة ساعة. ثم طرح الرئيس المسألة للتصويت، فلما لم يسمع جواباً أن السكوت علامة الرضى (25 سبتمبر). وعاد ما بقي من أرض بولندة محمية روسية؛ وأعيد دستور 1775.

وإذا كان في استطاعة رجل واحد أن يفتدي الأمة فذلك هو كوتشيوسكو أمده التشارتوريسكيون بالمال فذهب إلى باريس (يناير 1793) والتمس معونة فرنسا لبلد يتعاطف في حرارة مع الثورة الفرنسية. وتعهد بأنه لو مدت فرنسا يد المعونة لبولندة لهب الفلاحون البولنديون في ثورة على القنية، وأهل المدن على النبلاء، وقال إن بونياتوفسكي سينزل عن عرشه ليكون النظام جمهورياً، وإن جيشاً بولندياً سيساند فرنسا في حربها مع بروسيا (51).

ص: 138

ورحب الزعماء الفرنسيون بمقترحاته، ولكن نشوب الحرب مع إنجلترة (فبراير 1793) وغزو الحلفاء لفرنسا، قضيا على كل أمل في تقديم العون لبولندة.

وفي غياب كوتشيوسكو جند بعض المواطنين والماسون الأحرار وضباط الجيش جيشاً بولندياً جديداً (مارس 1794). وهرع كوتشيوسكو من درسدن إلى كركاو لينضم إليه، فعين قائداً أعلى وأعطى سلطات مطلقة، وأمر كل خم بيوت في بولندة أن توافيه بجندي من المشاة، وكل خمسين بفارس، وأمر هؤلاء المجندين بأن يأتوا بما يجمعونه من سلاح، حتى المعاول والمناجل. وفي 4 أبريل هاجم بأربعة آلاف مقاتل نظامي وألفي فلاح مجند قوة عدتها سبعة آلاف روسي في راتسلافيس قرب كراكاو، وهزمها بفضل براعة قيادته من جهة وفاعلية مناجل الفلاحين من جهة أخرى.

فلما سمع فريق الرايديكاليين أو "اليعقوبيين" في وارسو بهذا النصر نظم رجاله عصياً مسلحاً انضم إليه الزعماء من الطبقة الوسطى في تردد. وفي 17 أبريل هاجم هؤلاء الثوار الحامية الروسية المؤلفة من 7. 500 مقاتل، وقتلوا الكثيرين منهم، وهزموا فرقة بروسية من 1650 جندي، وهربت قوات الاحتلال، وخضعت وارسو لحظة للسيطرة البولندية. وحررت انتفاضة كهذه مدينة فلنو (23 أبريل) وشنقت هتمان (زعيم) لتوانيا الأكبر، واستردت أجزاء من بولندة حتى منسك تقريباً. وفي 7 مايو وعد كوتشوسكو الإقنان بعتقهم، وكفل لهم تملك الأرض التي يزرعونها. وانضوى تحت لوائه خلق كثير من المتطوعين والمجندين حتى اجتمع له في يونيو 1794 (150. 000) رجل لم يكن منهم حسن التجهيز أكثر من 80. 000.

على هؤلاء تدفقت الموجات المتتالية من الجنود الروسية أو البروسية المدربة. وفي 6 يونيو فاجأ جيش متحالف من 26. 000 مقاتل البولنديين قرب تشيكوسيني، ولم يتح لكوتشيوسكو من الوقت إلا ما يجلب فيه 14. 000

ص: 139

مقاتل فقط. فهزم بخسائر فادحة، والتمس الموت في المعركة، ولكن الموت راغ منه؛ وتقهقرت فلول البولنديين إلى وارسو. وفي 15يونيو استولى البروسيون على كراكاو؛ وفي 11 أغسطس استعاد الروس فلنو؛ وفي 19 سبتمبر أبادت قوة روسية من 12. 500 من الجنود المتمرسين بالقتال بقيادة سوقوروف جيشاً بولندياً من 5. 500 مقاتل عند تريسابول؛ وفي 10 أكتوبر هزم 13. 000 روسي كوتشيوسكو نفسه وهو يقود 7. 000 بولندي عند ما سيسجويس، وجرح جرحاً خطيراً وأسر. ولم يفه كما زعمت الأسطورة بصرخه اليأس "لقد قضى على بولندة! " ولكن الهزيمة كانت قاضية على الثورة الباسلة.

أما سوفوروف فقد وحد مختلف الجيوش الروسية واقتحم معسكر البولنديين الحصين في براجا، وراح جنوده الذين أصابهم جنون المعركة يذبحون لا المدافعين فقط بل سكان البلدة المدنيين. وسلم بونياتوفسكي وارسو تفادياً لمذبحة أشد بشاعة. وأرسل سوفوروف كوتشيوسكو وغيره من زعماء الثوار إلى حيث السجن في سانت بطرسبرج، وأرسل الملك إلى جرودنو ليكون رهن إشارة الإمبراطورة. وهناك، في 25 نوفمبر 1795، وقع على اعتزاله الملك. وتوسل إلى كاترين أن تبقى على جزء من بولندة، ولكنها صممت على أن تحل المسألة البولندية بالقضاء على الأمة البولندية كما ظنت. وبعد خمسة عشر شهراً من النزاع، وقعت روسيا وبروسيا والنمسا معاهدة التقسيم الثالث (26 يناير 1797) واستولت روسيا على كورلاند ولتوانيا وغربي بودوليا وفولينيا-181. 000 ميل مربع؛ واستولت النمسا على "بولندة الصغيرة" بما فها من كراكاو ولودلن-45. 000 ميل مربع؛ وأخذت بروسيا الباقي بما فيه وارسو-57. 000 ميل مربع. وفي التقسيمات الثلاثة كلها استوعبت روسيا نحو 6. 000. 000 من سكان بولندة البالغين 12. 200. 000 نسمة (1797)، والنمسا 3. 700. 000، وبروسيا 2. 500. 000 نسمة.

ص: 140

وفر آلاف البولنديين من وطنهم، وتسلم الأجانب الأملاك المصادرة. وظل بونياتوفسكي في جرودنو، يتسلى بدراسة النبات ويكتب مذكراته. وبعد موت كاترين دعاه بولس الأول إلى سانت بطرسبرج وخصص له القصر الرخامي و100. 000 دوقاتية في العام، وهناك مات في 12 فبراير 1798 بعد أن بلغ السادسة والستين. أما كوتشيوسكو فقدأفرج عنه الإمبراطور بولس في 1796، وعاد إلى أمريكا، ثم إلى فرنسا، وواصل جهوده لتحرير بولندة حتى مماته (1817). وما يوزف بونياتوفسكي فقد فر إلى فيينا، وشارك في حملة نابليون على روسيا، وجرح في سمولنسك، وأحسن البلاء في ليبزج، ورقى مارشالاً في الجيش الفرنسي، ومات في 1813 مكرماً حتى من أعدائه. وأما بولندة فلم تعد دولة، ولكنها ظلت شعباً وحضارة، يلوثها الاضطهاد الديني، ولكنها تميزت بعظماء الشعراء والقصاصين والموسيقيين والفنانين والعلماء، ولم تتخل قط عن عزمها على النهوض من جديد.

ص: 141

الكتاب الخامس

‌الشمال البروتستنتي

ص: 144

الفصل العشرون

‌ألمانيا في عهد فردريك

‌1756 - 1786

1 -

فردريك المظفر

من هذا الغول الذي أثار الخوف والإعجاب دولياً، والذي سرق سيليزيا، وهزم نصف أوربا المتحد ضده، وهزأ بالدين، وازدرى الزواج، وأعطى فولتير دروساً في الفلسفة، واقتطع بعض أوصال بولندة ولو ليمنع روسيا من التهاماً كلها؟

لقد بدأ أقرب إلى الأشباح منه إلى الغيلان يوم عاد حزيناً منتصراً من حرب السنين السبع ودخل برلين (30 مارس 1763) بين تصفيق الجماهير المملقة. كتب إلى دارجنس يقول "إني أن أعود إلى مدينة لن أعرف فيها غير الأسوار، ولن أجد أحداً من معارفي، حين تنتظرني مهمة ضخمة، وحيث أخلف بعد زمن غير طويل عظامي في مثوى لا تكدر هدوءه الحرب ولا الكوارث ولا سفالة الإنسان"(1) كانت بشرته قد جفت وتغضنت، وعيناه الزرقاوان الرماديتان داكنتين منتفختين، ووجهه يحمل آثار المعركة والمرارة، وأنه فقط هو الذي احتفظ بجلاله القديم. وقد ظن أنه لن يستطيع الحياة طويلاً بعد أن استنزفت الحرب الطويلة موارده جسداً وعقلاً وإرادة، ولكن زهده مد في أجله ثلاثة وعشرين عاماً آخر. كان مقلاً في طعامه وشرابه، لا يعرف الترف؛ يعيش ويلبس في قصره الجديد ببوتسدام كما لو كان في المعسكر، وكان يضن بالوقت المخصص للعناية بشخصه؛ وفي سنيه الأخير أقلع عن الحلاقة، واكتفى بجز لحيته بمقص بين الحين والحين؛ ورددت الشائعات أنه لم يكن يستحم كثيراً (2).

ص: 145

وأكملت الحرب تقسى خلقه الذي بدأ دفاعاً ضد قسوة أبيه. فكان يتطلع بهدوء رواقي بينما الجنود المحكوم عليهم يمرون ستاً وثلاثين مرة (3) بين صفين من الرجال يجلدونهم. وكان يتعقب موظفيه وقواده ويزعجهم بالجواسيس السريين، والتدخل المفاجئ، واللغة البذيئة، والأجر الشحيح وبضروب من الأوامر التفصيلية تخنق روح المبادرة والاهتمام. ولم يكسب قط حب أخيه الأمير هنري الذي جد وأخلص في خدمته في الدبلوماسية والحرب. وكان له بعض الصديقات، ولكنهن كن يخفنه أكثر مما يحببنه، ولم يسمح لواحدة منهن بدخول دائرة أخصائه. كان يحترم المعاناة الصامتة التي عانتها ملكته التي أهملها، وعند عودته من الحرب فاجأها بهدية من 25. 000 طالر؛ ولكن من المشكوك فيه أنه شاركها فراشها إطلاقاً. ومع ذلك تعلمت أن تحبه إذا رأته بطلاً في المحن مخلصاً في الحكم؛ وكانت تشير إليه في حديثها عنه بعبارة "ملكنا العزيز" و "هذا الملك العزيز الذي أحبه وأعبده"(4). ولم يكن له ولد، ولكنه كان شديد التعلق بكلابه، وكان اثنان منها ينامان عادة في حجرته ليلاً، ربما لحراسته؛ وكان أحياناً يستصحب أحدهما إلى فراشه ليدفئه بحرارة الحيوان. وعندما مات آخر كلابه الكثيرة لديه "بكى اليوم كله"(5). وقد ظن به اللواط (6). ولكنا لا نملك في هذه الشبهة غير التخمين.

وعلى أنه كان يخفي تحت جلده العسكري الصلب عناصر من الحنان نبدر أن كشف عنها أمام الناس. فقد بكى كثيراً لموت أمه، وكان يرد على محبة أخته فلهلمينه الحارة بمحبة مخلصة. وقد وزع على بنات أخيه بعض الأفضال الصغيرة غير الملحوظة. كان يضحك من عواطف روسو المفرطة، ولكنه اغتفر له عداءه وعرض عليه الملجأ حين نبذه العالم المسيحي. وكان يتنقل بين التدريب الصارم لجنوده وصفير الألحان من نايه. وقد ألف الصوناتات والكونشرتوات والسمفونيات التي شارك في أدائها أمام حاشيته. وسمعه العالم بيرني هناك، وقرر أنه عزف "بضبط شديد، واستهلال صافي منسق، ولعب بالأصابع بديع، وذوق نقي بسيط، ودقة بالغة في التنفيذ، إتقان

ص: 146

متساو في كل معزوفاته"، على أن بيرني يضيف إلى ما ذكر أنه في بعض الفقرات الصعبة،

اضطر جلالته-على عكس ما تقتضيه القواعد-أن يلتقط نفسه ليكمل الفقرة (7)

(1)

.

وفي سنوات لاحقة أكرهه ازدياد النهج وفقدان عدة أسنان على الإقلاع عن العزف على الناي، ولكنه استأنف دراسة الكلافير.

وكانت الفلسفة هوايته المحببة بعد الموسيقى. كان يحب أن يشاركه مائدته فيلسوف أو اثنان ليسلخ جلد القساوسة ويستفز قواد الجيش. وكان ثابت القدم كفؤاً لفولتير في رسائله معه. وقد بقي على شكوكيته في حين اعتنق معظم جماعة الفلاسفة العقائد الجازمة والخيالات الشاطحة. وكان أول حاكم في العصور الحديثة يجهر بلادينيته، ولكنه لم يهاجم الدين علناً. وذهب إلى أن "لدينا من درجات الأرجحية ما يكفي لبلوغ اليقين بأن "لا شيء بعد الموت" (9)، ولكنه رفض حتمية دولباخ وأكد (كرجل هو الإرادة المتجسدة) أن العقل يؤثر على الأحاسيس على نحو خلاق، وأن في استطاعة العقل أن يسيطر على دوافعنا الفطرية بالتعليم (10) أما حب الفلاسفة إليه فهم (صديقي لوكريتيوس

وإمبراطوري الطيب ماركوس أوريليوس"؟ وعنده أن أحداً لم يضف إليهما شيئاً ذا بال (11).

وقد اتفق مع فولتير على الاعتقاد بأن "الجماهير" تسرف في إنسالها وتفرط ف كدها بحيث لا يتسع لها الوقت للتعليم الحقيقي. ولن يجدي تبصيرها بأوهام اللاهوت إلا في دفعها إلى العنف السياسي. وهو يقول في هذا "إن التنوير نور من السماء للواقفين على القمم، وجمرة مدمرة للجماهير"(12)،

(1)

في 1889 نشر براتكويف وهرقل 120 قطعة موسيقية من تأليف فردريك الأكبر. وقد سجل عدد منها على أقراص. وقد أحييت سنفونيته في مقام D لنايين وأوركسترا في بريلن عام 1928 وفي نيورك عام 1929. (8)

ص: 147

وقد أجمل قوله هذا تاريخ مذابح سبتمبر 1792 وإرهاب 1793 قبل أن تبدأ الثورة الفرنسية. وكتب إلى فولتير في أبريل 1759 يقول "فلنعترف بهذه الحقيقة: إن الفلسفة والفنون والآداب لا تنتشر إلا بين قلة من الناس، أما الجماهير العريضة

فتظل كما جبلتها الطبيعة، حيوانات شريرة حاقدة" (13) وكان يسمى النوع الإنساني (في شيء من المزاح). "هذا الجنس الملعون"-ويضحك من أحلام الخير والسلام يقول:

"إن الخرافة والنفعية والانتقام والخيانة ونكران الجميل سوف تثير المعارك الدامية المحزنة إلى آخر الدهر، لأننا محكومون بالعواطف، ونادراً، جداً بالعقل. ولن تنقطع أبداً الحروب وقضايا المحاكم ومظاهر الدمار والأوبئة والزلازل والتفاليس

وما دام الأمر كذلك، ففي ظني أن هذا الوضع ضرورة لا بد منها

ولكن يلوح لي أنه لو كان هذا الكون قد فطره كائن خير لخلقنا أسعدد ما نحن

إن العقل البشري ضعيف، وأكثر من ثلاثة أرباع البشر خلقوا ليخضعوا لأسخف ضروب التعصب. فالخوف من الشيطان والجحيم يبهر عيونهم، وهم يكرهون الرجل الحكيم الذي يحاول تنويرهم

وعبثاً التمس فيهم صورة الله التي يؤكد اللاهوتيون أنهم يحملونها. إن في داخل كل إنسان وحشاً، وقليلون هم الذين يستطيعون ترويضه، وأكثر الناس يرخون له اللجام ما لم يكبحهم الخوف من القانون" (14).

وقد خلص فردريك إلى أن السماح للحكومات بأن تتسلط عليها الأغلبية مجلبة للكوارث. فلكي تحيا الديمقراطية يجب أن تكون-كغيرها من نظم الحكم-أقلية تقنع الأغلبية بأن تسمح لنفسها بأن تقودها الأقلية. وقد رأى فردريك رأى نابليون فيما بعد من أن "الأرستقراطية موجودة دائماً بين الأمم وفي الثورات"(15) وآمن بأن الأرستقراطية الوراثية تربي الإحساس بالشرف والولاء، والرغبة في خدمة الدولة بتضحية شخصية بالغة، لا يمكن توقعها من نوابع البورجوازيين الذين نشأوا بفضل التسابق على الثروة،

ص: 148

لذلك أحل بعد الحرب شباب النبلاء محل معظم ضباط الطبقة الوسطى الذين ترقوا في الجيش (16). ولكن بما أن هؤلاء النبلاء المعتزين بعراقتهم قد يصبحون مصدراً للتفتت والفوضى، وأداة للاستغلال، إذن فلا بد من أن يحمي ملك مطلق السلطة الدولة من الانقسام، ويدفع الظلم الطبقي عن عامة الشعب.

وكان فردريك يحب أن يصور نفسه خادماً للدولة والشعب. وربما كان هذا تبريراً لإرادة القوة فيه، ولكنه تسامى بحياته إلى مستوى دعواه. فأضحت الدولة عنده "الكائن الأعلى" الذي يبذل في سبيله نفسه وغيره؛ ومطالب خدمة الدولة تغلب عنده على ناموس الفضيلة الفردية؛ فالوصايا تتوقف عند أبواب الملوك. ووافقته جميع الحكومات على هذه "السياسة الواقعية"، وقبل معظم الملوك النظرة إلى الملكية على أنها خدمة مقدسة. وقد اعتنق فردريك هذا المفهوم من اتصاله بفولتير؛ ومن طريق إلصاقهم بفردريك طور الفلاسفة ونظريتهم "الملكية" ومؤداها أن الأمل الأكبر في الإصلاح والتقدم معقود على تنوير الملوك.

وهكذا أصبح برغم حروبه معبود الفلاسفة الفرنسيين، وهدأ من عدائهم له، حتى عداء روسو الفاضل. وقد رفض دالامبير طويلاً دعوات فردريك له، ولكنه لم يكف عن الثناء عليه. فكتب لفردريك يقول "إن الفلاسفة والأدباء في كل بلد طالما تطلعوا إليك يا مولاي قائداً ومثالاً لهم"(17) وأخيراً أذعن الرياضي المتحفظ للدعوات المتكررة، وأنفق شهرين مع فردريك في بوتسدام عام 1763. ولم تنتقص الألفة (والمعاش الذي أجراه عليه) من إعجاب دالامبير به. فقد أبهجه إغفال الملك لقواعد التشريفات، وأطربته تعليقاته-لا على الحرب والحكومة فحسب، بل على الأدب والفلسفة أيضاً، وقال لجولي دلسبيناس إن هذا الحديث كان أروع من أي حديث يتاح للمرء سماعه آنئذ في فرنسا (18). فلما ابتأس دالامبير في 1776 حزناً على موت جولي، بعث إليه فردريك برسالة تظهر هذا الغول في ثوب الرجل الحكيم الحنون:

ص: 149

"يؤسفني الخطب الذي ألم بك

إن جراح القلب أكثر الجراح إيلاماً

ولا شيء يبرئها غير الزمن

إن لي لسوء طالعي حظاً وفيراً جداً من الخبرة بالآلام التي تحدثها خسائر كهذه. وخير دواء هو سيطرة المرء على نفسه ليصرف تفكيره بعيداً

وخليق بك أن تختار بحثاً هندسياً يتطلب العكوف الدائم عليه

إن شيشرون أغرق نفسه في التأليف ليتعزى عن موت حبيبته تلياً

وفي مثل سنك وسني خليق بنا أن نكون أكثر استعداداً للسلوى لأن لحاقنا بمن فجعنا فيهم لن يطول" (19).

ثم حث دالامبير على أن يحضر ثانية إلى بوتسدام "سوف نفلسف معاً تفاهة الحياة

وبطلان الرواقية

وسوف أشعر بالسعادة في تهدئة حزنك كأنني انتصرت في معركة. " هنا على الأقل ملك أحب الفلاسفة، إن لم يكن ملكاً فيلسوفاً بكل معنى الكلمة.

ولكن هذه المعاملة لم يعد يطبقها على فولتير، ذلك أن خلافاتهما في برلين وبوتسدام، والقبض على فولتير في فرانكفورت-كل هذا ترك جراحاً أعمق من الحزن. وبقي الفيلسوف يعاني الألم والمرارة أطول مما بقي الملك. فأخبر الأمير دلين أن فردريك "لا قدرة له على عرفان الجميل، ولم يعترف قط بجميل إلا للجواد الذي هرب على ظهره في معركته مولفتس"(20). ثم عاد تبادل الرسائل بين ألمع رجلين في القرن حين كتب فولتير إلى فردريك محاولاً أن يثني المحارب اليائس على الانتحار. وراحا يتبادلان العتاب والمجاملات. وذكر فولتير فردريك بالإهانات التي لقيها الفيلسوف وابنة أخته من عمال الملك، وأحاب فردريك: "لولا صلتك برجل فتن حباً بعبقريتك الرائعة لما أفلت بهذه السهولة

فاعتبر الأمر كله منتهياً، ولا تذكر لي شيئاً بعد اليوم عن ابنة أختك تلك المتعبة" (21). ولكن الملك رغم هذا لاطف الذات المفلسفة على نحو ساحر:

"أتريد كلاماً حلواً؟ حسناً جداً، سأخبرك ببعض الحقائق. إنني أقدر فيك أروع عبقرية ولدتها الأجيال، إنني أعجب بشعرك، وأحب نثرك

ولم يؤت كاتب قبلك مثل هذه اللمسة المرهفة، ولا مثل هذا

ص: 150

الذوق الأصيل الرقيق

إنك ساحر في حديثك، تعرف كيف ترفه وتعلم في وقت واحد. إنك أكثر المخلوقات التي عرفتها إغواء

كل شيء في حياة الإنسان يتوقف على الزمان الذي يجيء فيه إلى هذا العالم. وأنا وإن جئت متأخراً جداً، إلا أنني لست بآسف على هذا، لأنني رأيت فولتير،

ولأنه يكتب لي" (22).

وأعان الملك بتبرعاته السخية حملات فولتير دفاعاً عن أسرتي كالاس وسيرفان، وصفق للحرب التي شنها على الكنيسة الكاثولكية ( L،infame)، ولكنه لم يشارك جماعة الفلاسفة ثقتهم في تنوير النوع الإنساني. فقد تنبأ بفوز الخرافة في السباق بينها وبين العقل. فتراه يكتب إلى فولتير في 13 سبتمبر 1766 يقول:

"إن مبشريك سيفتحون أعين قلة من الشباب

ولكن ما أكثر الحمقى الذين لا يعقلون في هذا العالم! .. صدقني، لو أن الفلاسفة أقاموا حكومة فلن يمضي نصف قرن حتى يخلق الشعب خرافات جديدة

قد يتغير موضوع العبادة، كما تتغير الأزياء في فرنسا؛ (ولكن) ما أهمية أن يسجد الناس أمام قطعة من الفطير، وأمام العجل أبيس، أو أمام تابوت العهد، أو أمام تمثال من التماثيل؟ لأيهم الاختيار، فالخرافة واحدة، والعقل لا يكسب شيئاً" (23).

على أن فردريك تصالح مع الدين بعد أن قبله ضرورة بشرية، فحمى كل صوره السلمية بمنتهى التسامح. ففي سيليزيا التي غزاها ترك الكاثوليكية هادئة دون إزعاج، فيما عدا فتحه أبواب جامعة برلين لجميع المذاهب، وكانت من قبل وقفاً على الكاثوليك .. ثم رحب باليسوعيين بصفتهم معلمين ذوي قيمة كبرى، وكانوا بعد أن طردهم الملوك الكاثوليك قد التمسوا ملجأ تحت حكمه اللا أدري. وبالمثل بسط حمايته على المسلمين واليهود والملحدين؛ وفي عهده وفي مملكته مارس كانط حرية الكلام والتعليم والكتابة، وهي الحرية التي لقيت أشد تعنيف وقضي عليها بعد موت فردريك. وفي ظل هذا التسامح اضمحلت معظم صور الدين في بروسيا. ففي 1780 كان هناك

ص: 151

كنسي واحد لكل ألف من سكان برلين، وفي ميونخ ثلاثون (24). وقد ذهب فردريك إلى أن التسامح سيقضي على الكاثوليكية عاجلاً. كتب إلى فولتير في 1767 يقول "لا بد من حدوث معجزة لكي تعود الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق عزها، فلقد أصيبت بسكتة دماغية خطيرة، وسوف يمد في أجلك لتتعزى بدفنها وكتابة قبريتها"(25). ولكن أشد الشكاك غلواً في شكوكيته نسي لحظة أن يشك في الشكوكية.

‌2 - إعادة بناء روسيا

لم يكد حاكم في التاريخ في صناعة الحكم كما كد فردريك، ربما باستثناء تلميذه جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، كان يأخذ نفسه كما يأخذ جنوده بالتدريب الشاق، فيستيقظ عادة في الخامسة، وأحياناً في الرابعة، ويشتغل حتى السابعة، ثم يفطر، ويجتمع بمساعديه حتى الحادية عشرة، ويستعرض حرس قصره، ويتناول الغذاء في النصف بعد الثانية عشرة مع الوزراء والسفراء، ثم يعمل حتى الخامسة، وعندها فقد يسترخي بالموسيقى والأدب الحديث. أما عشاء "نصف الليل" بعد الحرب، فكان يبدأ في التاسعة والنصف، وينتهي في الثانية عشرة، ولم يسمح لأي روابط أسرية بأن تصرفه عما هو عاكف عليه، ولا لأي مراسم بلاطية بأن تثقله، ولا لأي عطلات دينية بأن تقطع عليه كده، وكان يراقب وزرائه، ويملي كل خطوة تقريباً من خطوات السياسة، ويرقب حالة الخزانة، وقد أنشأ فوق الحكومة كلها ديواناً للمحاسبات، خول له سلطة فحص أي مصلحة في أي وقت. وأصدر إليه تعليماته بأن يبلغ عن أي شبهة مخالفة. وكان يعنف في معاقبة الانحراف أو عدم الكفاية عنفاً اختفى معه من بروسيا أو كاد ذلك الفساد الحكومي الذي استشرى في كل بلد آخر من بلدان أوربا.

وكان يعتز بهذا العمل، وبسرعة إفاقة وطنه مما حاق به من دمار. بدأ بألوان من الاقتصاد في بيته أثارت السخرية من بلاطي النمسا وفرنسا المسرفين رغم أنهما بلدان مهزومان. فكان البيت الملك يدار باقتصاد شديد كأنه بيت حرفي. فصوان ملابسه لا يحوي غير حلة جندي، وثلاثة معاطف قديمة، وصدريات

ص: 152

متسخة بالنشوق، ورداء رسمي لازمه طوال حياته. وقد طرد بطانة أبيه من الصيادين وكلاب الصيد. ولم يبن أسطولاً، ولم يسع إلى تلك المستعمرات. وكان موظفوه يتقاضون أجوراً زهيدة، وقد أنفق بمثل هذا البخل على البلاط المتواضع الذي احتفظ به في برلين حينما هو مقيم في بوتسدام. ومع ذلك فقد حكم إيرل تشسترفيلد عليه بأنه أكثر بلاط في أوربا أدباً وتألقاً ونفعاً لشاب أن يوجد فيه، " ثم أردف قائلاً:"سترى فنون الحكم وحكمته في ذلك البلد الآن (1752) خيراً مما تراها في أي بلد آخر في أوربا"(26). على أنه بعد عشرين سنة من هذا التاريخ كتب اللورد مالمسبري، السفير البريطاني لدى بروسيا، ربما لتعزية لندن، يقول إنه "ليس في تلك العاصمة (برلين) رجل فاضل واحد ولا امرأة عفيفة واحدة"(27).

على أن فردريك كان يكبح شحه إذا اتصل الأمر بالدفاع القومي. فسرعان ما أعاد جيشه إلى سابق قوته بفضل الإقناع والتجنيد الإجباري؛ فهذا السلاح الذي في متناوله هو وحده الذي يتيح له صيانة وحدة أراضي بروسيا أمام أطماع جوزيف الثاني وكاترين الثانية. وكان على ذلك الجيش كذلك أن يدعم القوانين التي هيأت النظام والاستقرار للحياة البروسية. وقد أحس أن القوة المركزية هي البديل الوحيد للقوة المختلة الممزقة توضع في أيدي الأفراد. وكان يؤمل أن تتطور الطاعة بدافع الخوف من القوة، إلى طاعة بدافع الاعتياد على القانون-وهي قوة اختزلت إلى قواعد وأخفت براثنها.

وقد جدد أمره للفقهاء بأن ينسقوا في نظام قانوني واحد (قانون بروس عام) التشريع المتنوع المتناقض للكثير من الأقاليم والأجيال. وكانت هذه المهمة قد توقفت بموت صموئيل فون كوكسيجي (1755) وبنشوب الحرب، فاستأنفها الآن المستشار يوهان فون كارمر وعضو المجلس الخاص ك. ج. سفاريتس، واستكملت في 1791. وقد سلم القانون الجديد بوجود الإقطاعية والقنية، ولكنه حاول في

ص: 153

هذه الحدود أن يحمي الفرد من الطغيان أو الظلم الخاص أو العام. فألغى المحاكم التي لا ضرورة لها. وقلل من الإجراءات القانونية وعجلها، وخفف العقوبات، وصعب الشروط اللازمة للتعيين في وظائف القضاء. وتقرر ألا ينفذ حكم بالإعدام إلا بتصديق الملك، وفتح للجميع باب الاستئناف أمام الملك. وقد اكتسب سمعة العدالة المحايدة، وسرعان ما اعترف الجميع للمحاكم البروسية بأنها أنزه وأكفأ المحاكم في أوربا (28).

وفي 1763 أصدر فردريك النظام التعليمي العام ليثبت ويوسع التعليم الإلزامي الذي أعلنه أبوه في 1716 - 17. فتقرر أن يذهب كل طفل في بروسيا من سن الخامسة إلى الرابعة عشرة إلى المدرسة. ومن صفات فردريك المميزة إسقاط اللاتينية من منهج التعليم الأولى، وتعيينه قدامى الجند معلمين، وجعله منظم التعليم يجري بتدريب أشبه بالتدريب العسكري (29). وقد أضاف الملك: "من الخير أن يعلم المدرسون في الريف الأحداث الدين والأخلاق

وحسب أهل الريف أن يتعلموا القليل من القراءة والكتابة

ولا بد من تخطيط التعليم

بحيث يبقى عليهم في القرى ولا يؤثر عليهم ليهجروها" (30).

وحظي تجديد البناء الاقتصادي بالأولوية في الوقت والمال. فبدأ فردريك باستخدام المال الذي جمع من قبل لحملة حربية أخرى-زالت الحاجة إليها الآن-في تمويل تعمير المدن والقرى وتوزيع الطعام على المجتمعات الجائعة، وتقديم البذور للزراعات الجديدة؛ ثم وزع على المزارع ستين ألف حصان أمكن توفيرها من الجيش. وبلغت جملة المبالغ التي أنفقت على أعمال الإغاثة العامة 20. 389. 000 طالر (31). وأعفيت سيليزيا التي اجتاحتها الحرب من الضرائب ستة أشهر؛ وبنى فيها ثمانية آلاف بيت في ثلاث سنين، وقدم مصرف عقاري المال للفلاحين السيليزيين بشروط ميسرة. وأسست جمعيات للتسليف في مراكز شتى لتشجيع التوسع الزراعي. وصرفت مياه منطقة المستنقعات الممتدة على الأودر الأدنى، فهيأت أرضاً صالحة للزراعة لخمسين ألف رجل. وبعث المندوبون إلى الخارج لدعوة مهاجرين إلى بروسيا، فجاء منهم 300. 000 (32).

ص: 154

ولما كانت القنية تربط الفلاح بسيده، فإنه لم توجد في بروسيا حرية الانتقال إلى المدن، تلك الحرية التي يسرت في إنجلترة تطور الصناعة السريع. وقد جهد فردريك بكل الوسائل للتغلب على هذا المعوق. فأقرض الملتزمين المال بشروط ميسرة، وأجاز الاحتكارات المؤقتة، واستورد العمال، وفتح مدارس الصنائع، وأنشأ مصنعاً للبرسلان في برلين. وناضل لينشئ صناعة الحرير، ولكن أشجار التوت ذبلت في برد الشمال. وشجع التعدين النشيط في سيليزيا الغنية بالمعادن. وفي 5 سبتمبر 1777 كتب إلى فولتير كما يكتب أحد رجال الأعمال لزميل له يقول: "إنني عائد من سيليزيا راضياً عنها الرضى كله

فقد بعنا للأجانب ما قيمته 5. 000. 000 كراون من التيل، و1. 200. 000 كراون من القماش

وقد أمكن اكتشاف طريقة لتحويل الحديد إلى صلب أبسط كثيراً من طريقة ريومور" (33).

وتسهيلاً للتجارة ألغى فردريك المكوس الداخلية ووسع الموانئ، وحفر القنوات وشق ثلاثين ألف ميل من الطرق الجديدة. أما التجارة الخارجية فقد عاقتها الرسوم المرتفعة على الواردات والحظر المفروض على تصدير السلع الاستراتيجية؛ واقتضت الفوضى الدولية حماية الصناعة الوطنية لضمان الاكتفاء الصناعي في الحرب. ورغم ذلك نمت برلين قلباً للتجارة وللحكومة: ففي 1721 كانت تضم من السكان 60. 000، وفي 1777 زادوا إلى 140. 000 (34). لقد كانت تتهيأ لتصبح عاصمة لألمانيا.

ولكي يمول فردريك هذا المزيج من الإقطاعية، والرأسمالية، والاشتراكية، والأوتقراطية، اقتضى شعبه من الضرائب قدراً يقرب مما رد عليهم من نظام اجتماعي وإعانات مالية وأشغال عامة. واحتفظ للدولة باحتكار الملح والسكر والتبغ والبن (بعد 1781)، وامتلك ثلث الأرض الصالحة للزراعة (35). وفرض الضرائب على كل شيء، حتى على المغنين الجائلين واستقدم هلفتيوس ليخطط له نظاماً محكماً في جميع الضرائب. وكتب

ص: 155

سفير إنجليزي يقول: "إن مشروعات الضرائب الجديدة نفرت الشعب حقاً من ملكهم"(36). وقد ترك فردريك عند موته في خزانة الدولة 51. 000. 000 طالر-وهو ما يعادل إيراد الدولة السنوي مرتين ونصفاً.

وفي 1788 نشر ميرابو (الابن) بعد زيارات ثلاث لبرلين تحليلاً مدمراً عنوانه "في النظام الملكي البروسي تحت حكم فردريك الأكبر". وكان قد ورث عن أبيه مبادئ الفزيوقراطيين التي تنادي بالمشروعات الحرة، لذلك أدان نظام فردريك باعتباره دولة بوليسية، وبيروقراطية تخنق كل روح للمبادرة وتعدو على كل حرية شخصية. وكان في وسع فردريك أن يرد على هذه التهم بأنه لو انتهج سياسة "عدم التدخل Laissez Fairo" في حالة الفوضى التي ضربت أطنابها في بروسيا عقب حرب السنين السبع لأفسدت عليه هذه السياسة انتصاره بما تجر من فوضى اقتصادية. لقد كان التوجيه أمراً حتمياً، وكان هو الرجل الوحيد الذي يستطيع القيادة الفعالة، وهو لا يعرف شكلاً من أشكال القيادة غير قيادة القائد الحربي لجنوده. لقد أنقذ بروسيا من الهزيمة والانهيار، ودفع الثمن يفقدانه حب شعبه له؛ وقد فطن إلى هذه النتيجة، وعزى نفسه بمبررات أخلاقية:

"إن البشر يتحركون إذا حثثتهم على الحركة، ويقفون إذا كففت عن دفعهم

والناس مقلون في القراءة، زاهدون في أن يتعلموا كيف يمكن التصرف في أي شيء بطرق مختلفة. أما أنا، أنا الذي لم أصنع بهم قط غير الخير، فهم يظنون أنني أريد أن أضع سكيناً على حلوقهم بمجرد أن يلوح احتمال إدخال أي تحسين مفيد، لا بل أي تغيير على الإطلاق. في مثل هذه الحالات اعتمدت على شرف هدفي وسلامة ضميري، وعلى المعلومات التي أملكها، ثم مضيت في طريقي هادئاً" (37).

وقد انتصرت إرادته. فازدادت بروسيا حتى في حياءه غنى وقوة. وتضاعف عدد سكانها، وانتشر فيها التعليم، وأخفى التعصب الديني رأسه. صحيح أن هذا النظام الجديد اعتمد على الاستبداد المستنير، وأن هذا الاستبداد

ص: 156

بقي بغير الاستنارة بعد أن مات فردريك، وأن الهيكل القومي اعتراه الضعف وانهار في فيينا أمام إرادة تعادل إرادة فردريك قوة وجبروتاً. ولكن الصرح النابليوني أيضاً، الذي اعتمد على إرادة رجل واحد وتفكيره، انهار هو أيضاً، وفي خاتمة المطاف كان بسمارك، وريث فردريك والمستفيد البعيد في تركته، هو الذي عاقب فرنسا التي سيطر عليها وريث نابليون، وهو الذي جعل من بروسيا وعشرات الإمارات دولة موحدة قوية هي ألمانيا.

‌3 - الإمارات

لنذكر أنفسنا من جديد بأن ألمانيا لم تكن في القرن الثاني عشر أمة بل اتحاداً مفككاً من دول مستقلة تقريباً، قبلت صورياً الإمبراطور "الروماني المقدس" في فيينا رأساً لها، وأوفدت ممثلين لها بين الحين والحين إلى ديت إمبراطوري (رايشستاج)، أهم وظائفه الاستماع إلى الخطب، واحتمال عبء المراسم، وانتخاب إمبراطور جديد. وكان للدول لغة وآداب وفنون مشتركة، ولكنها تباينت في العادات والزي والعملة والعقيدة. وكان في هذا التفتت السياسي بعض الفوائد: فتعدد بلاطات الأمراء كان مواتياً لتنوع الثقافات تنوعاً مشجعاً؛ وكانت الجيوش صغيرة بدلاً من أن تكون متحدة فتصبح مصدر إرهاب لأوربا؛ ثم إن سهولة الهجرة فرضت على الدولة والكنيسة والشعب قسطاً كبيراً من التسامح في الدين والعادات والقانون. وكانت سلطة كل أمير مطلقة من الناحية النظرية، لأن المذهب البروتستنتي كرس "حق الملوك الإلهي". أما فردريك، الذي لم يقر بأي حق إلهي غير حق جيشه، فقد سخر من "معظم الأمراء الصغار، لا سيما الألمان منهم" الذين "يدمرون أنفسهم بالإشراف السفيه إذ يضللهم الوهم بعظمتهم المتصورة، فأصغر ابن لأصغ ابن لأسرة مقطعة يخيل إليه أنه من طراز لويس الرابع عشر، فيبني فرسايه، ويقتني الخليلات، ويحتفظ بجيش

له من القوة ما يكفي لخوض

معركة على مسرح فيرونا" (38).

ص: 157

وكانت أهم هذه الإمارات سكسونيا. وقد دالت دولة فنها ومجدها يوم تحالف أميرها الناخب فردريك أوغسطس الثاني مع ماريا تريزا ضد فردريك الأكبر، فقصف الملك القاسي درسدن ودمرها عام 1760 وفر الناخب إلى بولندة بصفته ملكها أوغسطس الثالث، ثم مات في 1763. وورث حفيده فردريك أوغسطس الثالث الإمارة الناخبة وهو في الثالثة عشرة، واكتسب لقب (العادل)، وحول سكسونيا إلى مملكة (1806)، واحتفظ طوال تقلبات كثيرة بعرشه إلى أن مات (1827).

ويدخل كارل أويجن، دوق فورتمبرج، قصتنا في المقام الأول باعتباره صديقاً ثم عدواً لشيلر. وقد فرض الضرائب على رعاياه ببراعة لا ينضب معينها، وباع عشرة آلاف من جنوده لفرنسا، واحتفظ ببلاط كان في رأي كازانوفا "ألمع بلاط في أوربا"(39)، حوى مسرحاً فرنسياً، وأوبرا إيطالية، وسلسلة من المحظيات. ويعيننا أكثر منه في قصتنا كارل أوجسط، دوق ساكسي-فايمار الحاكم من 1775 إلى 1828؛ ولكننا سنراه في مظهر أكثر بهاء وهو محاط بنجوم أناورا سماء ملكه-فيلاند، وهردر، وجوته، وشيلر. وكان واحداً من فريق "المستبدين المستنيرين" الصغار الذين ساهموا في هذا العصر في نهضة ألمانيا حين شعروا بتأثير فولتير وبالمثال الذي ضربه فردريك. ونهج نهج هؤلاء رؤساء الأساقفة الذين حكموا مونستر وكولون وتريير وماينز وفورتزبورج-بامبرج باستكثارهم من المدارس والمستشفيات، وحدهم من إسراف البلاط، وتخفيفهم من الفوارق الطبقية، وإصلاحهم السجون، وتقديمهم الإعانات للفقراء، وتحسينهم أحوال الصناعة والتجارة. كتب أدموند بيرك يقول "ليس من السهل أن نجد أو نتصور حكومات أكثر اعتدالاً وتسامحاً من هذه الإمارات الكنسية"(40).

على أن الفوارق الطبقية كانت تؤكد في أكثر الدول الألمانية باعتبارها جزءاً من أسلوب الضبط الاجتماعي. فكان النبلاء والاكليروس وضباط الجيش وأرباب المهن والتجار والفلاحون يؤلفون طبقات منفصلة؛ وداخل كل فئة من هؤلاء درجات ومراتب صلبت كل منها ذاتها باحتقار المرتبة

ص: 158

الأدنى منها. وكان زواج الفرد خارج طبقته أمراً مستحيلاً تقريباً، ولكن بعض التجار والماليين اشتروا النبالة. واحتكر النبلاء المناصب العليا في الجيش والحكومة، وقد اكتسب كثيرون منهم امتيازاتهم ببسالتهم أو كفايتهم ولكن الكثيرين كانوا عالة على المجتمع، لا يفضلون الحلل التي يرتدونها، يتنافسون على المكان الاجتماعي المقدم في البلاط، ويتبعون الموضات الفرنسية في اللغة والفلسفة والخليلات.

ومما يذكر بالفخر لأمراء ألمانيا الغربية وأساقفتها ونبلائها أنه لم يحل عام 1780 حتى كانوا قد أعتقوا فلاحيهم الأقنان، وبشروط يسرت الانتشار الواسع للرخاء في الريف. وقد ذهب رانيهولد لنتس إلى أن الفلاحين مخلوقات أفضل-أكثر بساطة ووداً وفطرية-من التجار الذين يحصون الدراهم أو شباب النبلاء الذين يختالون كبراً (41). وقد صورت سيرة هينريش يونج الذاتية (1777) حياة القرية في كدها اليومي وفي مهرجاناتها الموسمية في صورة مثالية؛ ووجد هردر أغاني الفلاحين الشعبية أصدق وأعمق من شعر الكتب؛ ووصف جوته في كتابه (الشعر والحقيقة) الاحتفال بموسم صنع الخمر بأنه "يغمر بالفرح إقليماً بأسره" من صواريخ وغناء ونبيذ (42). كان هذا جانباً من المشهد الألماني؛ أما الجانب الآخر فكان الجهد الشاق والضرائب المرتفعة والنساء يشخن في الثلاثين والأطفال الأميين يرتدون الأسمال ويتسولون في الشوارع. قالت إيفا كونيج لليسنج في 1770 "في إحدى المحطات تزاحم حولي

ثمانون شحاذاً

وفي ميونيخ جرت ورائي أسر بأكملها وأفرادها يصيحون بأنني بالتأكيد لن أتركهم يموتون جوعاً" (43).

لقد كانت الأسرة في القرن الثامن عشر أهم من الدولة أو المدرسة. أو المدرسة. وكان البيت الألماني المصدر والمركز للتهذيب الخلقي، والنظام الاجتماعي، والنشاط الاقتصادي. ففيه يتعلم الطفل أن يطيع أباً صارماً، ويلوذ بأم محبة، ويشارك في سن مبكرة في مختلف الواجبات البناءة التي تملأ فراغ اليوم. وقصيد شيلر "أغنية الجرس" تعطينا صورة مثالية ترى فيها "الزوجة الشديدة التواضع

تحكم دائرة الأسرة بحكمة، وتدرب

ص: 159

البنات، وتكبح تهور الأولاد، وتعكف في كل لحظة من فراغها على نولها" (44). وكانت الزوجة خاضعة لزوجها، ولكنها معبودة أبنائها. أما خارج البيت، إلا في قصور الأمراء، فكان الرجال عادة يقصون النساء عن حياتهم الاجتماعية، ومن ثم كان حديثهم ينحو إلى الإملال أو البذاءة. أما في قصور الأمراء فكان هناك كثير من النساء المثقفات المهذبات السلوك. ويرى إكرمان أن بعضهن "يكتبن بأسلوب رائع ويفقن في هذا كثيراً من أشهر مؤلفينا" (45). وكان على نساء الطبقة العليا في ألمانيا، كما في فرنسا، أن يتعلمن الإغماء جزءاً من بضاعتهن، والاستعداد لذرف الدموع دليلاً على رقة شعورهن.

أما أخلاق البلاط فقد اقتدت بالمثل الفرنسية في الشراب والقمار والفسق والطلاق. تقول مدام دستال أن النبيلات من النساء كن يبدلن أزواجهن "في غير مشقة وكأنهن يرتبن أحداث تمثيلية"، وكن يفعلن هذا "بقليل من مرارة النفس"(46). وضرب الأمراء المثل في السلوك اللا أخلاقي ببيع جنودهم للحكام الأجانب؛ وهكذا بنى حاكم هسي-كاسل قصراً أنيقاً، وأنفق على بلاط مترف، من حصيلة إتجاره في جنوده. وبلغ مجموع ما باعه الأمراء الألمان-أو ما "أقرضوه" على حد تعبيرهم-خلال الثورة الأمريكية ثلاثين ألف جندي لإنجلترة مقابل 500. 000 جنيه؛ ومن هؤلاء 12. 500 لم يعودوا قط (47). ولم يبد ألمان القرن الثامن عشر خارج بروسيا ميلاً يذكر للحرب وهم يتذكرون أهوال القرن السابع عشر. ويبدو أن "الخلق القومي" يمكن أن يطرأ عليه التغيير من قرن لآخر.

وكان الدين في ألمانيا أطوع للدولة منه في الأقطار الكاثوليكية. كان منقسماً إلى ملل ونحل، فحرم بذلك من حبر أعظم مرهوب ينسق عقيدته واستراتيجيته ودفاعه؛ وكان قادة الدين يعينهم الأمير، ودخل الدين يعتمد على مشيئته. وكان إيماناً قوياً في الطبقتين الوسطى والدنيا؛ ولم يتأثر بموجات الإلحاد التي تدفقت من إنجلترة وفرنسا غير النبلاء والمفكرين وبعض الأكليروس. وكان إقليم الراين أكثره من الكاثوليك، ولكن في هذا الإقليم بعينه شهدت هذه الحقبة قيام حركة تتحدى سلطة البابوات في جرأة.

ص: 160

وبيان ذلك أنه في 1763 نشر يوهان نيكولاوس فون هونتايم، أسقف تريير المساعد، متخفياً وراء اسم مستعار هو يوستينوس فبرونيوس، رسالة باللاتينية في "حالة الكنيسة، وسلطة بابا روما الشرعية" وترجم الكتاب من اللاتينية إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية، وأحدث ضجة في جميع أرجاء غربي أوربا. وقد قبل "فبرونيوس" سيادة البابا، ولكن على أنها سيادة شرف وإدارة تنفيذية؛ فالبابا غير معصوم، وينبغي أن يتاح استئناف قراراته أمام مجمع عام تكون له السلطة التشريعية النهائية في الكنيسة. وكان المؤلف سيء الظن بالتأثير المحافظ المستور للبلاط البابوي (الكيوريا)، -وألمع إلى أن التركيز المفرط للسلطة الكنسية تمخض عن حركة الإصلاح البروتستنتي؛ وقد تيسر اللامركزية رجوع البروتستنت إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية. وفي مسائل القانون البشري، لا الإلهي، يحق للأمراء العلمانيين أن يرفضوا طاعة البابوية، ولهم-إن لزم الأمر-حتى فصل كنائسهم القومية عن روما. وأدان البابا الكتاب (فبراير 1764)، ولكنه أصبح كتاب "صلاة للحكومات"(48) وقد رأينا تأثيره على يوزف الثاني.

ومال رؤساء أساقفة كولون وتريير وماينز وسالزبورج لآراء "فبرونيوس"، فقد رغبوا في الاستقلال عن البابا استقلال الإمارات الأخرى عن الإمبراطور. وعليه ففي 25 سبتمبر 1786 أصدروا "بيان إيمس التمهيدي" (قرب كوبلنتز) الذي كان خليقاً بإحداث حركة إصلاح بروتستنتي جديدة لو أخرج إلى حيز التنفيذ:

"إن البابا أعلى سلطة في الكنيسة وسيظل أعلى سلطة فيها

ولكن الامتيازات (البابوية) التي لا تنحدر عن القرون المسيحية الأولى بل هي مبنية على المراسيم الإيزادورية الباطلة، والتي تنتقص من قدر الأساقفة

لم يعد في الإمكان أن تعد قانونية، فهي تنتمي إلى اغتصابات الكيوريا الرومانية؛ وللأساقفة الحق (ما دامت الاحتجاجات السلمية لا تجدي) في صيانة حقوقهم الشرعية تحت حماية الإمبراطور الألماني-الروماني.

ص: 161

ويجب ألا يكون هناك بعد اليوم أي استئنافات (من الأساقفة) أمام روما .. وألا تتلقى الطرق (الدينية) أي توجيهات من رؤساء أجانب، ولا أن تحضر مجامع عامة خارج ألمانيا. ويجب ألا ترسل أية تبرعات لروما

وألا تملأ روما الوظائف الكنسية الشاغرة ذات الدخول، بل تملأ بانتخاب قانوني للمرشحين الوطنيين

وينبغي أن ينظم هذه الأمور وغيرها مجمع قانوني ألماني" (49).

ولم يؤيد الأساقفة الألمان هذا الإعلان خوفاً من قوة الكيوريا المالية، ثم أنهم ترددوا في الاستعاضة عن سيادة روما النائية بسلطة الأمراء الألمان المباشرة والأصعب تفادياً. وهكذا انهارت الثورة الوليدة. وعدل هونتهايم عن أقواله (1788)، وسحب رؤساء الأساقفة بيانهم التمهيدي (1789)، وعادت الأمور كلها تسير سيرتها الأولى.

‌4 - عصر التنوير الألماني

ولكن ليس بكل معنى العبارة فالتعليم، باستثناء الإمارات الكنسية، كان قد انتقل من سيطرة الكنيسة إلى سيطرة الدولة. فأساتذة الجامعات تعينهم الحكومة وتدفع رواتبهم (في تقتير مخجل)، ولهم وضع الموظفين العموميين. ومع أن جميع المدرسين والطلاب كان يشترط عليهم الإقرار بأنهم يدينون بمذهب الأمير، إلا أن الكليات الجامعية، حتى سنة 1789، كانت تتمتع بقدر متزايد من الحرية الأكاديمية. وحلت الألمانية محل اللاتينية لغة للتعليم. وكثرت المقررات الدراسية في العلوم والفلسفة، وتوسع في تعريف الفلسفة (في جامعة كونجزبرج على عهد كانط) بأنها "القدرة على التفكير، وعلى البحث في طبيعة الأشياء دون تغرضات أو مذهبية"(50). وقد طلب كارل فون تسيدلتس وزير التربية المخلص في عهد فردريك الأكبر، إلى كانط أن يقترح طرقاً "لصد الطلاب في الجامعات عن دراسات "أكل العيش"، وإفهامهم أن القليل الذي يتعلمونه من القانون، لا بل اللاهوت والطب، سيكون أيسر استيعاباً وآمن تطبيقاً لو ملكوا ناصية المعرفة الفلسفية"(51).

ص: 162

وقد حصل الكثير من فقراء الطلاب على معونة حكومية أو أهلية لمواصلة التعليم الجامعي، وإنها لقصة مبهجة تلك التي روي فيها إكرامان كيف كان جيرانه الرحماء يمدون إليه يد المعونة في كل خطوة من خطى تطوره (52). ولم يكن بين جماعة الطلاب تفرقة طبقية (53). فكل خريج يسمح له بأن يحاضر تحت رعاية الجامعة مقابل أي رسم يستطيع جمعه من المستمعين، وقد بدأ كانط حياته المنهنية على هذا النحو؛ وكانت منافسة المعلمين الجدد لقداماهم تحفز هؤلاء على أن يكونوا مستعدين في كل لحظة. وقد حكمت مدام دستال على الجامعات الألمانية الأربع والعشرين بأنها "أرقى الجامعات علماً في أوربا. فليس في أي قطر، ولا حتى في إنجلترة، وسائل بهذه الكثرة للتعليم أو للارتقاء بقدرات الإنسان إلى الكمال

ومنذ عصر الإصلاح البروتستنتي تفوقت الجامعات البروتستنتية على الكاثوليكية تفوقاً لا جدال فيه، ويرتكز مجد ألمانيا الأدبي وفخرها على هذه المعاهد" (54).

وانتشر الإصلاح التعليمي وشاع في الجو. فأصدر يوهان بازدوا-مستلهماً قراءته لروسو-في 1774 كتاباً من أربعة مجلدات عنوانه "المبادئ" رسم مخططاً لتعليم الأطفال بطريق المعرفة المباشرة بالطبيعة؛ فيجب أن يكتسبوا الصحة والعافية بالألعاب والتمرينات الرياضية؛ وأن يتلقوا الكثير من تعليمهم في الهواء الطلق بدلاً من أن يلزموا مكاتبهم؛ وأن يتعلموا اللغات لا بالأجرومية والصم بل بتسمية الأشياء والأفعال التي يصادفونها في خبراتهم اليومية؛ وأن يتعلموا الأخلاق بتأليف جماعاتهم وتنظيمها؛ وأن يتهيأوا للحياة بتعلم حرفة ما. والدين يدخل في المنهج لا بالصورة القديمة الغالبة؛ وكان بازدو يتشكك في عقيدة التثليث جهاراً (55) وأنشأ في دساو (1774) معهداً خيرياً نموذجياً أخرج تلاميذ، صدمت الكبار "وقاحتهم، وسلاطتهم، وسعة علمهم وخيالهم"(56)، ولكن هذا "التعليم التقدمي"، كان متسقاً مع حركة التنوير، فانتشر سريعاً في طول ألمانيا وعرضها.

وكانت التجارب في مضمار التعليم جزءاً من الاختمار الفكري الذي

ص: 163

اضطربت به البلاد بين حرب السنين السبع والثورة الفرنسية. فكثرت الكتب والجرائد والمجلات والمكتبات المتنقلة وأندية القراءة كثرة ملؤها الحماسة. وانبثقت الحركات الأدبية العديدة، ولكل منها أيديولوجيتها ومجلتها وقادتها. وكانت أول جريدة يومية ألمانية "داي لبتزج ذيتونج" قد بدأت عام 1660، فلم يحل عام 1784 حتى كان هناك 217 جريدو يومية وأسبوعية في ألمانيا. وفي 1751 بدأ ليسنج يحرر القسم الأدبي من "فوسيك ديتونج" في برلين؛ وفي 1772 أصدر ميرك وجوته هردر "أنباء فرانكفورت الأدبية؛ وفي 1773 - 89 جعل فيلاند من "در تيوتش مركر" أكثر المجلات الأدبية في ألمانيا نفوذاً. وكان هناك ثلاثة آلاف مؤلف ألماني في 1773، وستة آلاف في 1787، وفي ليبزج وحدها 133. وكثيرون منهم كانوا كتاباً يعملون بعض الوقت. وربما كان ليسنج أول ألماني تعيش من الأدب سنين كثيرة. وكان جل المؤلفين فقراء، لأن حق التأليف لم يحمهم إلا دخل إماراتهم؛ واختزلت الطبعات المسروقة أرباح المؤلف والناشر على السواء اختزالاً شديداً. وقد خسر جوته من كتابه جوتز فون برليشنجن وكان ربحه ضئيلاً من قصته "آلام فرتر"، وهي أعظم انتصار أدبي لذلك الجيل. ويعد تفجر الأدب الألماني أحد الأحداث العظمى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. فحين كتب دالامبير من بوتسدام في 1763 لم يجد في المطبوعات الألمانية شيئاً يستحق الذكر (57)؛ ولكن ما وافى عام 1790 حتى كانت ألمانيا تنافس فرنسابل ربما تبزها في العبقرية الأدبية المعاصرة. وقد لاحظنا احتقار فردريك للغة الألمانية لأنها جشاء غليظة تؤذيها الحروف الساكنة؛ ومع ذلك فإن فردريك نفسه، بهزيمته الرائعة لهذا العدد الكبير من أعدائه، قد ألهم ألمانيا العزة القومية التي حفزت الكتاب الألمان على استعمال لغتهم والوقوف أنداداً لأمثال فولتير وروسو. فلم يحل عام 1763 حتى كانت الألمانية قد هذبت نفسها وأضحت لغة أدبية مستعدة للتعبير عن حركة التنوير الألماني.

ولم يكن هذا التنوير وليداً بتولياً. فهو الثمرة المؤلمة التي تمخضت عنها الربوبية الإنجليزية مقترنة بالتفكير الحر الفرنسي

ص: 164

على أرض مهدتها عقلانية كريستان فون فولف المعتدلة. وكانت تفجرات الربوبية الكبرى التي فجرها تولاند وتندال وكولتز ووستن وولستن قد تمت ترجمتها إلى الألمانية قبيل عام 1743، وما وافى عام 1755 حتى كانت "رسائل" جريم تثبت أحدث الأفكار الفرنسية بين الصفوة المثقفة من الألمان. وتوفر في 1756 من أحرار الفكر في ألمانيا نفر أتاح إصدار "معجم لأحرار الفكر". وفي 1763 - 64 أصدر بازدوف كتابه (محبة الصدق) الذي رفض أن وحي إلهي غير وحي الطبيعة ذاتها. وفي 1759 بدأ كريستيان فريدرش نيقولاي، وهو تاج كتب برليني، "رسائل عن إحداث ثمرات الأدب"؛ وقد ظلت هذه الرسائل التي أثرتها مقالات بأقلام ليسنج وهردر وموسى مندلسون حتى عام 1765 مناراً أدبياً لحركة التنوير يحارب التطرف في الأدب والسلطة في الدين.

وشاركت الماسونية في الحركة فتأسس أول محفل للماسون بهمبورج في 1753، ووتلته محافل أخرى؛ وكان من أعضائها فردريك الأكبر، وفرديناند دوق برنزويك، وكارل أوجست دوق ساكسي-فايمار، وليسنج، وفيلاند، وهردر، وكلويشتوك، وجوته، وكلاسيت. وكانت هذه الجماعات بوجه عام تميل إلى الربوبية. ولكنها تحاشت النقد العلني للإيمان التقليدي. وفي 1776 نظم آدم فايسهاويت، أستاذ القانون الكنسي في إنجولشتات، جمعية سرية شقيقة، سماها "برفكتيبيلستن"، ولكنها اتخذت بعد ذلك الاسم القديم (المستنيرين) وقد اتبع مؤسسها، وهو يسوعي سابق، المنهج الذي جرت عليه جماعة اليسوعيين، فقسم رفاقها إلى درجات من الإطلاع على أسرارها وأخذ عليهم العهد بطاعة قادتهم فيحملة "لتوحيد جميع الرجال القادرين على التفكير المستقل"، ولجعل الإنسان "آية من آيات العقل، فيبلغ بذلك أسمى درجات الكمال في فن الحكم". (58) وفي 1784 حظر كارل تيودور، ناخب بافاريا، جميع الجمعيات السرية، فلقيت "طائفة المستنيرين" حتفها في سن مبكرة.

وتأثر بحركة التنوير حتى الأكليروس. فطبق يوهان سملر أستاذ الفلسفة

ص: 165

في هالة "النقد الأعلى" على الكتاب المقدس. فزعم (على العكس تماماً من الأسقف فاربورتن) أن العهد القديم لا يمكن أن يكون موحى به من الله، لأنه-إلا في مرحلته الأخيرة-تجاهل الخلود. وألمع إلى أن المسيحية قد حرفها عن تعاليم المسيح لاهوت القديس بولس الذي لم ير المسيح قط؛ ثم نصح اللاهوتيين بأن ينظروا إلى المسيحية على أنها صورة عابرة من صور جهد الإنسان في بلوغ حياة فاضلة. فلما رفض كارل بارت وغيره من تلاميذه العقيدة المسيحية بأكملها إلا الإيمان بالله، عاد سملر إلى إيمانه السني، واحتفظ بكرسي اللاهوت من 1752 إلى 1791. ووصفبارت المسيح بأنه معلم عظيم فقط. "مثل موسى، وكونفوشيوس، وسقراط، وسملر، ولوثر، ومثلي أنا"(59) كذلك سوى يوهان إيبرهارت بين سقراط والمسيح، وقد طرد من وظيفة القسوسية اللوثرية، ولكن فردريك عينه أستاذاً للفلسفة في هالة. وقسيس آخر يدعى ف. أ. تيلر اختزل المسيحية إلى الربوبية، ودعا لعضوية كنيسته أي إنسان مؤمن بالله، بما في ذلك اليهود (60)، أما يوهان شولتز، الراعي اللوثري، فقد أنكر لاهوت المسيح، ولم ير في الله أكثر من "الأساس الكافي للعالم"(61)، وقد طرد من وظيفته في 1792.

هؤلاء المهرطقون المفصحون عن هرطقاتهم كانوا قلة قليلة؛ ولعل المهرطقين الصامتين كانوا كثيرين. أما وقد رحب هذا العدد الكبير من رجال الدين بالعقل، وكان الدين في ألمانيا أقوى كثيراً منه في إنجلترة أو فرنسا وكانت فلسفة فولف قد أمدت الجامعات بهذا التوفيق بين العقلانية والدين، فإن التنوير الألماني لم يتخذ صورة متطرفة. ولم يسع إلى تدبير الدين بل إلى تخليصه من الأساطير والسخافات وسلطان رجال الدين-وهي أمور جعلت الكاثوليكية في فرنسا مبعث سرور عظيم للشعب وسخط شديد لجماعة الفلاسفة، وقد فطن العقلانيون الألمان-وهم يتبعونروسو لا فولتير-إلى ما للدين من إغراء قوي للعناصر العاطفية في الإنسان؛ ثم أن النبلاء الألمان، الأقل جهراً بارتيابيتهم من الفرنسيين، ساندوا الدين معواناً للأخلاق والحكم. وجاءت الحركة الرومانتيكية فكبحت زحف العقلانية، ومنعت ليسنج من أن يكون لألمانيا ما كانه فولتير من قبل لفرنسا.

ص: 166

‌5 - جوتهولت ليسنج

1729 -

1781

كان جده الأعلى عمدة لبلدة في سكسونيا، وظل جده أربعة وعشرين عاماً عمدة على كامينتس، وكتب دفاعاً عن التسامح الديني؛ وكان أبوه الراعي اللوثري الأول في كامينتس، وكتب دروساً في تعليم العقيدة بالسؤال والجواب حفظها ليسنج عن ظهر قلب. أما أمه فكانت ابنة الواعظ الذي تقلد أبوه من قبل منصب الراعي لكنيسته. وكان تصرفاً طبيعياً منها أن تنذره للقسوسية، وطبيعياً منه بعد أن أتخم بالتقوى أن يتمرد.

وكان تعليمه المبكر في البيت وفي مدرسة ثانوية بمدينة مايسين مزيجاً من التأديب الألماني والآداب الكلاسيكية، ومن اللاهوت اللثوري والكوميديا اللاتينية. يقول "كان تيوفراستوس، وبلاوتوس، وترينس، عالمي الذي درسته بابتهاج"(62)، وحين بلغ السابعة عشرة بعث إلى ليبزج على منحة دراسية. فوجد المدينة أكثر إثارة للاهتمام من الجامعة؛ وانغمس في بعض حماقات الشباب، وعشق المسرح ووقع في غرام إحدى الممثلات، وسمح له بالدخول وراء الكواليس، وتعلم وسائل تقوية التأثير المسرحي. وفي التاسعة عشرة كتب تمثيلية، ووفق في جهوده فأخرجت. فلما سمعت الأم بنبأ هذه الخطيئة بكت، واستدعاه الأب إلى البيت غاضباً. ولكنه سرى عنهما بابتسامة، وأقنعهما بسداد ديونه. وحين وقعت أخته على قصائده وجدتها بذيئة إلى حد مذهل وأحرقتها؛ فرمى ثلجاً في صدرها ليخفف من حماستها. ثم أعيد إلى ليبزج ليدرس الفلسفة ويصبح أستاذاً، ولكنه وجد الفلسفة قاتلة، واقترض ديوناً عجز عن الوفاء بها، ثم هرب إلى برلين (1748).

هناك عاش حياة الأديب الذي يلتقط رزقه يوماً بيوم-يراجع الكتب، ويترجم، ويشترك مع كريستلوب ميليوس في تحرير مجلة مسرحية لم تعمر. وما أن بلغ التاسعة عشرة حتى أصبح مدمناً للتفكير الحر. فقرأ سبينوزا ووجده برغم هندسته لا يقاوم. وألف مسرحية (1749) عنوانها

ص: 167

"الروح الحر"، قابلت بين تيوفان القسيس الشاب اللطيف، وآدراست الحر التفكير الخشن الصخاب الذي تغلب عليه إلى حد ما صفات الأوغاد. هنا انتصرت المسيحية في الجدل. ولكن في هذه الفترة أو حولها كتب ليسنج لأبيه يقول "ليس الإيمان المسيحي بالشيء الذي ينبغي للمرء أن يتقبله من أبويه بتسليم"(63) وألف الآن تمثيلية أخرى (اليهود) ناقشت التزاوج بين المسيحيين واليهود. فهنا عبراني غني شريف لا اسم له إلا "المسافر". ينقذ حياة نبيل مسيحي وابنته، فيعرض النبيل عليه الزواج من ابنته مكافأة له، ولكنه يعدل عن عرضه حين يميط اليهودي اللثام عن حقيقة جنسه؛ ويوافق اليهودي على أن الزواج لو تم لكان غير سعيد. ولم يتعرف ليسنج إلى موسى مندلسون الذي رأى فيه تجسيداً للفضائل التي كان قد خلعها على "المسافر" إلا بعد خمس سنين (1754) وذلك أثناء مباراة للشطرنج.

وفي بواكير عام 1751 كلف فولتير أو سكرتيرة ليسنج بأن يترجم إلى الألمانية مادة أراد الفيلسوف المتغرب أن يستعملها في دعوى رفعها على أبراهام هيرش، وسمحالسكرتير لليسنج أن يستعير جزءاً من مخطوط كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر". وفي تاريخ لاحق من تلك السنة ذهب ليسنج إلى فتنبرج وأخذ المخطوط معه. وخشي فولتير أن تستعمل هذه النسخة غير المصححة في إصدار طبعة مسروقة، فأرسل إلى ليسنج طلباً عاجلاً بأسلوب مهذب ليرد الأوراق. واستجاب ليسنج، ولكنه أنكر النغمة المتعجلة، وربما كان هذا سباً في تشويه خصومته التالية لأعمال فولتير وخلقه.

ونال ليسنج درجة الأستاذية من جامعة فتنبرج عام 1752. فلما عاد إلى برلين شارك في دويات شتى بمقالات اتسمت بكثير من التفكير الإيجابي والأسلوب اللاذع، فما حل عام 1753 حتى كان قد اكتسب قراء بلغوا من الكثرة حداً يلتمس له معه العذر في أن ينشر وهو في الرابعة والعشرين طبعة جمعت كل أعماله في ستة مجلدات. وقد اشتملت على تمثيلية جديدة اسمها "الآنسة سارة سمامبسن" كانت من معالم تاريخ المسرح الألماني. وكان

ص: 168

المسرح الألماني إلى هذا التاريخ قد أخرج كوميديات وطنية، ولكن ندر أن أخرج مأساة وطنية. لذلك ناشد ليسنج زملاءه كتاب التمثيليات أن يتحولوا عن النماذج الفرنسية إلى النماذج الإنجليزية ويكتبوا مآسيهم هم. وامتدح ديدرو لدفاعه عن الكوميديا العاطفية ومأساة الطبقة الوسطى، ولكن تمثيلية "الآنسة سامبسن" استوحاه من إنجلترة-من "التاجر اللندني" لجورج ليللو (1731) و "كلاريسا" لصموئيل رتشردسن (1748).

ومثلت المسرحية في فرانكفورت-على-الأدور عام 1755، ولقيت قبولاً حسناً. وقد احتوت كل عناصر الدراما؛ بدأت بإغواء، واختتمت بانتحار، ووصلتهما بنهر من الدموع. والوغد مليفونت (الحلو المظهر) هو لفليس في قصة رتشردسن؛ تمرس بسلب الفتيات بكارتهن، ولكنه يستنكر الزواج بواحدة؛ يعد سارة بالزواج-ويهرب معها، ويعاشرها معاشرة الأزواج، ثم يسوف في الزواج؛ وتحاول خليلة سابقة له أن تسترده، وتخفق، فتدس السم لسارة، ويصل أبو سارة، مستعداً لأن يغفر كل شيء ويقبل ميلفونت صهراً له، وكأنه يطبق ملاحظة ليسنج الساخرة: إن الأبطال في المآسي لا يموتون من شيء إلا من الفصل الخامس (64).

وخيل إليه أن في استطاعته الآن أن يرتزق من الكتابة للمسرح، ولما لم يكن في بريلن مسارح فإنه رحل إلى ليبزج (1755) ثم اندلعت حرب السنين السبع، فأقفل المسرح، وكسدت سوق الكتب، وبات ليسنج مفلساً. فعاد إلى برلين، وشارك في مجلة نيقولاي "رسائل عن أحدث ثمرات الأدب" بمقالات سجلت قمة جديدة في النقد الأدبي الألماني. تقول رسالته التاسعة عشرة "إن القواعد هي ما يشاء أساتذة الفن مراعاته" وفي 1760 غزا الجيش النمساوي الروسي برلين، ففر ليسنج إلى برزلاو حيث عمل سكرتيراً لقائد بروسي. وخلال السنين الخمس التي أقامها هناك اختلف إلى الحانات، وقامر، ودرس سبينوزا، وآباء المسيحية القدامى، وفنكلمان، وكتب "لاوكون"، ثم عاد إلى برلين في 1765. وفي 1766 دفع بأشهر كتبه إلى المطبعة.

ص: 169

وهذا الكتاب "لاوكون، أو على التخوم بين التصوير والشعر" استلهم حافزه المباشر من كتاب فنكلمان "أفكار عن محاكاة الآثار الإغريقية في التصوير والنحت"(1755). وبعد أن كتب ليسنج نصف مخطوطه وصله كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم"(1764)، فقطع بحثه وكتب يقول، "لقد ظهر كتاب الهر فنكلمان في تاريخ الفن. ولن أجرؤ على التقدم خطوة أخرى قبل أن أقرأ هذا الكتاب"(65) واتخذ نقطة انطلاقة من مفهوم فنكلمان عن الفن الإغريقي الكلاسيكي متمثلاً في الوقار الهادئ والفخامة المطمئنة، ووافق على زعم فنكلمان أن مجموعة تماثيل اللاوكون المحفوظة بقاعة الفاتيكان للفنون احتفظت بهذه الصفات رغم الألم القتال (اشتبه لاوكون، كاهن أبوللو في طروادة، في أن هناك يونانيين يختبئون في "حصان طروادة"، فقذفه برمح، ولكن الإلهة أثينا المحابية لليونان أقنعت بوسيدان أن يطلع من البحر ثعبانين ضخمين التفا حول الكاهن وولديه التفافاً قاتلاً). وقد ظن فنكلمان أن مجموعة لاوكون-التي تعد الآن عملاً من أعمال نحاتين رودسيين في القرن الأخير قبل المسيح-تنتمي إلى عصر فيدياس الكلاسيكي.

أما لماذا خلع فنكلمان، الذي شاهد هذا الأثر ودرسه صفة الجلال المطمئن على ملامح الكاهن المشوهة فذلك سر غامض. وقد قبل ليسنج الوصف لأنه لم ير التمثال قط (66). ووافق على أن المثال خفف من تعبير الألم؛ ثم راح يتساءل عن سبب هذا الانضباط الفني، وأراد استنباطه من قيود الفن التشكيلي الأصيلة الصحيحة.

ثم تمثل بقول الشاعر الإغريقي سيمونيدس إن "التصوير شعر صامت، والشعر تصوير بليغ"(67). وأضاف أن الاثنين مع ذلك يجب أن يلزما حدودهما الطبيعية: فالتصوير والنحت ينبغي أن يصفا الأشياء في المكان، لا أن يحاولا قص قصة، أما الشعر فينبغي أن يروي أحداثاً في الزمان، لا أن يحاول وصف أشياء في المكان. وينبغي أن يترك الوصف المفصل للفنون التشكيلية، فإذا ورد في الشعر، كما في "فصول" طومسن أو "ألب" هالر، قطع السرد وشوش الأحداث. "ومعارضة هذا الذوق الفاسد

ص: 170

ومناقضة هذه الآراء التي لا أساس لها، هو والهدف الرئيسي للملاحظات التالية" (68). ولكن سرعان ما نسي ليسنج هذا الهدف، وتاه في نقاش مستفيض لكتاب فنكلمان في تاريخ الفن. هنا كانت تعوزه الخبرة والكفاية، وكان لتمجيده الجمال المثالي باعتباره هدف الفن أثر معطل على التصوير الألماني. ثم أنه خلط بين التصوير والنحت، وطبق عليهما جميعاً المعايير الخاصة بالنحت في المقام الأول. وبهذا شجع شكلية أنطون رفائيل منجز الجامدة. بيد أن أثره على الشعر الألماني كان بركة؛ فقد حرره من الأوصاف المسهبة، والنزعة الوعظية المدرسية، والتفصيل الممل، وأرشده إلى الحركة والشعور. وقد أقر جوته شاكراً بالتأثير المحرر لكتاب ليسنج "لاوكون".

ووجد ليسنج نفسه أكثر تمكناً من عمله حين انتقل (أبريل 1767) إلى همبورج كاتباً وناقداً مسرحياً براتب قدره ثمانمائة طالر في العام. وهناك أخرج تمثيليته الجديدة. "منافون بارنهيلم". وبطل التمثيلية-الميجر ثلهايم-العائد من الحرب بأكاليل الغار إلى أملاكه يظفر بخطبة منا الحسناء الغنية. غير أن الحظ الذي قلب له ظهر المجن، والدسائس المعادية التي لاحقته، يهويان به إلى درك الفقر، فينسحب من الخطبة لأنه لم يعد الزوج الصالح لوريثة ثروة ضخمة. ويختفي، ولكنها تطارده وتتوسل إليه أن يتزوجها، فيرفض. وإذ تدرك السبب تدبر خدعة تبيت بها معدمة ولكن في صورة جذابة؛ ويعرض الميجر الآن نفسه زوجاً لها ويدخل رسولان فجأة يعلنان كل من ناحية أن منا وتلهايم قد استردا ثروتهما. ويبتهج الجميع، وحتى الخدم يدفعون على عجل إلى الزواج. والحوار مبرح، والشخوص بعيدة التصديق، والحبكة منافية للعقل-ولكن كل الحبكات تقريباً منافية للعقل.

وفي اليوم الذي شهد افتتاح المسرح القومي بهمبورج (22 أبريل 1767) أصدر ليسنج نشرة قدم بها لمقالاته في نظرية الدراما وقد علقت هذه المقالات دورياً، طوال العامين التاليين، على التمثيليات التي أخرجت في ألمانيا، وعلى نظرية الدراما في أعمال الفلاسفة. وقد اتفق مع أرسطو على القول بأن الدراما أسمى أنواع الشعر، وقبل في تناقض مندفع القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه "في الشعر":

ص: 171

"لست أتردد في الاعتراف

بأني أعده معصوماً مثل "مبادئ"(69) اقليدس (الذي لم يعد الآن معصوماً). ومع ذلك توسل إلى مواطنيه أن يكفوا عن تبعيتهم لكورنيني وراسين وفولتير، وأن يدرسوا فن الدراما كما هو معلن في شكسبير (الذي تجاهل قواعد أرسطو). وقال أنه يشعر أن في الدراما الفرنسية إسرافاً في الشكلية لا يسمح بإحداث ذلك "التنفيس" أو تطهير العواطف الذي وجده أرسطو في الدراما اليونانية؛ وذهب إلى أن شكسبير قد حقق هذا التطهير على نحو أفضل في الملك لير، وعطيل، وهاملت بحدة الحركة وقوة لغتها وروعتها. وقد أكد ليسنج ضرورة توفر عنصر الاحتمال، ناسياً منديل ديدمونة. فكاتب الدراما القدير يتجنب الاعتماد على المصادفات والتفاهات، فيبني بالتدريج كل شخص من شخوصه بحيث تصدر الأحداث بالضرورة عن طبيعة الأشخاص المعنيين. وقد وافق كتاب الدراما في فترة حركة "شتورم أوند درانج (الاقتحام والجهاد) على اتخاذ شكسبير مثلاً أعلى، وحرروا الدراما الألمانية في ابتهاج من الدراما الفرنسية. وألهمت الروح القومية التي تصاعدت بانتصارات فردريك وهزيمة فرنسا نداء ليسنج ودعمته، وسيطر شكسبير على المسرح الألماني قرابة قرن من الزمان.

غير أن تجربة همبورج انهارت لأن الممثلين تنازعوا فيما بينهم ولم يتفقوا إلا على الاستياء من مقالات ليسنج النقدية. فشكا فريدرش شرودر من أن "ليسنج لم يستطع قط أن يفرغ لمشاهدة عرض كامل للمسرحية؛ فهو يخرج ويدخل، أو يتحدث إلى معارفه، أو يستسلم للتفكير، ومن السمات التي تثير سروره العابر يكون صورة هي نسج من عقله ولا تمت إلى الواقع بسبب"(70) وهذا الحكم المميز أجاد وصف حياة ليسنج وعقله المتمردين.

والآن هل يجدر بنا أن نقف به في منتصف طريقه لنلقي عليه بنظرة؟ كان ربعة، منتصب القامة في كبرياء، قوياً لدناً بفضل التمرين الرياضي المنتظم، مليح القسمات، أزرق العينين في دكنة، بنى الشاعر فاتحه محتفظاً بلونه هذا حتى مماته. وكان دافئاً في صداقاته، حاراً في عداواته. لا يسعده شيء كالجدل، فإذا اشتبك فيه أثخن الجراح بقلم حاد. كتب يقول "ليبدأ

ص: 172

الناقد بالبحث عن شخص يستطيع الاختلاف معه. وهكذا يلج موضوعاً ويوغل فيه شيئاً فشيئاً، ثم يقفو الباقي هذه الخطوة نتيجة طبيعية لها، وأنا أعترف صراحة بأنني اخترت أولاً المؤلفين الفرنسيين لهذا الغرض، لا سيما المسيو فولتير" (71) -وقد اقتضى هذا الاختيار قدراً كافياً من الشجاعة. وكان متحدثاً ذكياً ولكنه مندفع، حاضر الجواب، لديه عن كل شيء أفكار بلغت من الكثرة والقوة مبلغاً لم يتح له أن يضفي عليها النظام أو الاتساق أو الفعالية الكاملة. وكان يستمتع بالبحث عن الحقيقة أكثر من الوهم الخطر بأنه وجدها. ومن هنا جاءت أشهر ملاحظاته:

"ليست الحقيقة التي يملكها الرجل-أو يعتقد أنه يملكها-هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد المخلص الذي بذله للوصول إليها. لأنه ليس بامتلاك الحقيقة بل بالبحث يطور المرء تلك الطاقات التي فيها وحدها كماله المطرد النمو. فالتملك يجعل العقل راكداً كسولاً متكبراً. ولو أن الله احتوى في يمناه الحقيقة كلها، ولم تحتو يسراه إلا الحافز الدائم الحركة نحو الحقيقة، علماً بأنني سأخطئ دائماً أبداً-ثم قال لي "اختر! " لأحنيت رأسي في أتضاع أمام يسراه وقلت" أبتاه، أعطني هذا! فالحقيقة الخالصة لك أنت وحدك" (72).

وبقيت له من تجربة همبورج الفاشلة صداقتان غاليتان، إحداهما مع إليزر رايماروس، ابنة هرمان رايماروس أستاذ اللغات الشرقية في أكاديمية همبورج، التي جعلت من بيتها ملتقى لأرقى الجماعات ثقافة في المدينة. وانضم ليسنج إلى ندوتها، واختلف إليها مندلسون وياكوبي أثناء وجودهما في المدينة، وسوف نرى الدور الحيوي الذي لعبته هذه الجماعة في تاريخ ليسنج. أما الصداقة الثانية التي كانت أوثق حتى من هذه فصداقته لإيفا كونيج يقول ليسنج إن هذه السيدة التي كانت زوجاً لتاجر حرير وأما لأربعة أطفال "ذكية تفيض حيوية، وهبت لباقة المرأة وكياستها"، وأنها "كانت لا تزال محتفظة ببعض نضارة الشباب وفتنته"(73)، وقد جمعت هي أيضا

ص: 173

من حولها صالوناً من الأصدقاء المثقفين، كان ليسنج يحتل مكان الصادرة منهم. فلما رحل زوجها إلى البندقية في 1799 قال لليسنج، "إني أترك أسرتي وديعة بين يديك". ولم يكن هذا بالترتيب الحكيم، لأن الكاتب المسرحي لم يكن له ما يملكه إلا العبقرية، وكان مديناً بألف طالر. وفي أكتوبر من ذلك العام قبل دعوة من الأمير كارل فلهلم فريناند حاكم برنزويك ليضطلع بأمانة مكتبة الدوقية في فولفنيوتل، التي تقلص سكانها إلى ستة آلاف نسمة منذ أن نقل دوقها الحاكم مقره إلى برنزويك (1753) على سبعة أميال منها، ولكن مجموعة كتبها ومخطوطاتها كانت في رأي كازانوفا "ثالث أعظم مكتبة في العالم"(74) واتفق على أن ينقذ ليسنج ستمائة طالر في العالم ويخصص له مساعدان وخادم، ويعطي سكناً مجانياً في قصر الدوق القديم؛ وفي مايو 1770 استقر في بيته الجديد.

غير أنه لم يكن أمين مكتبة ناجحاً، ومع ذلك فقد أبهج رئيسه باكتشافه بين المخطوطات بحثاً مشهوراً مفقوداً بقلم بيرنجار الثوري (998 - 1088) يتشكك فيه في عقيدة استحالة خبز القربان وخمرة إلى جسد المسيح ودمه. وقد افتقد في حياته القاعدة، التي عاشها الآن، الكفاح والحافز اللذين وجدهما في همبورج وبرلين. ثم أن انكبابه على قراءة المخطوط الرديئة في الضوء الضعيف أضر عينيه وأصابه بنوبات من الصداع، وبدأت صحته تتداعى. فعزى نفسه بكتابة مسرحية جديدة سماها"إميليا جالوتي" أفصحت عن الضيق بامتيازات الطبقة الأرستقراطية وأخلاقها. فإميليا هذه ابنة جمهوري متحمس، يشتهيها سيدهما أمير جواستاللا فيقتل خطيبها بأمره، ثم يخطفها إلى قصره؛ فيعثر عليها أبوها، ويطعنها طعنات مميتة استجابة لإلحاحها، ثم يستسلم لبلاط الأمير ويحكم عليه بالإعدام، بينما الأمير سادر في غيه لا يختلج إلا لحظة. وحرارة المسيحية وبلاغتها أنقذتا خاتمتها، فأصبحت مأساة محببة على خشبة المسرح الألماني، وقد أرخ جوته بعرضها الأول (1772) بعث الأدب الألماني من رقدته. ورحب بعض النقاد بليسنج شكسبيراً ألمانياً.

وفي أبريل 1775 ذهب ليسنج إلى إيطاليا مرافقاً لليويولد أمير برنزويك، وقضى ثمانية أشهر يستمتع بالحياة في ميلان والبندقية وبولونيا ومودينا

ص: 174

وبارما وبياتشنتسا وبافيا وتورين وكورسيكا وروما؛ وهناك قدم إلى البابا بيوس السادس، وربما شاهد تمثال لأوكون متأخراً. وفي فبراير 1776 كان قد عاد إلى فولنفبوتل. وفكر في الاستقالة، ولكنه أقنع بالبقاء في منصبه بعلاوة قدرها مائتا طالر فوق راتبه، وبمائة جنيه ذهبي فرنسي (لوي دور) في العام بوصفه مستشاراً لمسرح مانهايم. وعرض الآن وهو في السابعة والأربعين على الأرملة إيفا كونيج أن تصبح زوجاً له وأن تحضر بأولادها معها. فحضرت، وتزوجا (8 أكتوبر 1776). وظلا عاماً يتمتعان بحياة سعيدة هادئة. وفي عشية الميلاد من عام 1777، ولدت طفلاً مات في الغد. وبعد ستة عشر يوماً ماتت الأم أيضاً، وفقد ليسنج طعم الحياة.

ولكن الجدل حفظ عليه حياته. في أول مارس 1768 ودع هرمان رايماروس الحياة مخلفاً لزوجته مخطوطاً ضخماً لم يجرؤ قط على طبعه. وقد مررنا في غير هذا الموضع (75) من الكتاب مرور الكرام بهذا "الدفاع عن المؤمنين العقلانيين". وكان ليسنج قد أطلع على شطر من هذا المؤلف الممتاز، فطلب إلى السيدة رايماروس أن تسمح له بنشر أجزاء منه، فوافقت. وكان له بصفته أميناً للمكتبة سلطة نشر أي مخطوط في المجموعة. فأودع مخطوط "الدفاع" في المكتبة، ثم نشر جزءاً منه في 1774 بعنوان "تسامح الربوبيين

بقلم كاتب مجهول". فلم يثر أي ضجة. ولكن الراسخين في الأمور الروحية أثارهم القسم الثاني في مخطوط رايماروس الذي أصدره ليسنج في 1777 بعنوان "مزيد من بحوث الكاتب المجهول عن الوحي". وقد زعم هذا القسم أنه لا يمكن لأي وحي موجه لشعب واحد أن يظفر بقبول جميع الناس في عالم تتنوع أجناسه وأديانه هذا التنوع الكبير، فالذين سمعوا إلى الآن بالكتاب المقدس؛ اليهودي-المسيحي، بعد ألف وسبعمائة سنة، ليسوا إلا أقلية من البشر، وإذن فلا يمكن قبوله تنزيلاً من الله للنوع الإنساني. ثم نشر قطعة أخيرة من المخطوط بعنوان "أهداف المسيح وتلاميذه" (1778) لم تصور المسيح ابناً لله بل صوفياً متحمساً شارك رأي بعض اليهود في أن العالم المعروف يومها قد أشرف على نهايته، وسيعقبه قيام

ص: 175

ملكوت الله على الأرض؛ وقد فهمه الرسل على هذا النحو (في زعم رايماروس)، لأنهم أملوا في أن يبوءوا عروشاً في هذا الملكوت القادم. فلما انهار الحلم بصرخة المسيح اليائسة على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"-اخترع الرسل (كما ظن رايماروس) خرافة قيامته إخفاء لهزيمته، وصوروه بصورة ديان العالم المكافئ المنتقم.

وهاجم اللاهوتيون الذين صدموا أجزاء "خطوط فولفتبوتل" هذه في نيف وثلاثين مقالاً في الصحف الألمانية. واتهم يوهان ملكيور جوتسي كبير رعاة همبورج ليسنج بأنه موافق سراً على مزاعم "الكاتب المجهول"، وحض الكنيسة والدولة جميعاً على عقاب هذا المنافق. أما الخصوم الأكثر اعتدالاً فقد وبخوا ليسنج على نشره بالألمانية المفهومة للقراء شكوكاً كان من الواجب الإفصاح عنها، إن جاز الإفصاح إطلاقاً، باللاتينية لفئة قليلة من القراء. ورد ليسنج في إحدى عشرة نشرة (1778) نافست "رسائل بسكال الإقليمية" في تهكمها المرح-ونكتتها الذكية الفتاكة. يقول هيني "لم يسلم منه رأس، وما أكثر الرءوس التي أطاح بها لمجرد العبث الخالص، ثم دفعته شقاوته إلى رفعها علانية ليرى الناس أنها فارغة"(76). وقد ذكر ليسنج مهاجميه بأن حرية الحكم والنقاش عنصر حيوي في برنامج حركة الإصلاح البروتستنتي؛ ثم إن للشعب الحق في كل المعرفة المتاحة له، وإلا لكان بابا واحد من بابوات روما خيراً من مائة نبي بروتستنتي. وعلى أية حال فإن قيمة المسيحية (في زعمه) ستبقى حتى لو كان الكتاب المقدس مجرد وثيقة بشرية وكانت معجزاته مجرد قصص خرافية ورعة أو أحداث طبيعية. وصادرت حكومة الدوق أجزاء مخطوط فولفنبوتل ومخطوط رايماروس، وأمرت ليسنج بألا ينشر المزيد دون موافقة الرقيب البرنزويكي.

فلما ألزم ليسنج الصمت على منبره اتجه إلى خشبة المسرح فألف أروع تمثيلياته. وكان قد أعسر مرة أخرى إثر النفقات التي تحملها بسبب مرض زوجته وموتها، فاقترض ثلاثمائة طالر من يهودي همبورجي ليوفر الوقت اللازم للفراغ من مسرحية "ناثان الحكيم. وقد اختار

ص: 176

مكاناً لأحداثها مدينة أورشليم أبان الحملة الصليبية الرابعة. وأما ناثان هذا فتاجر يهودي ورع له زوجة وسبعة أبناء يذبحهم المسيحيون الذين أتلفت الحرب الطويلة أخلاقهم. وبعد ثلاثة أيام يأتيه راهب بطفلة مسيحية ماتت أمها لتوها، وكان أبوها-الذي قتل في المعركة مؤخراً-قد أنقذ ناثان من الموت في مناسبات عديدة. ويسمي ناثان الطفلة ريكا، ويربيها وكأنها ابنته. ولا يلقنها إلا التعاليم الدينية التي يجمع عليها اليهود والنصارى والمسلمون.

وبعد ثمانية عشر عاماً، وبينما كان ناثان غائباً لقضاء بعض مصالحه، احترق بيته؛ وينقذ فارس شاب من فرسان المعبد ريكا ثم يختفي دون التعريف بشخصه؟ وتحسبه ريكا ملاكاً معجزاً. ويبحث ناثان بعد عودته عن المنقذ ليكافئه، فيسبه هذا لأنه يهودي، ولكن ناثان يقنعه بالمجيء لتقبل شكر ريكا وعرفانها. فيحضر، ويقع في غرامها وتبادله الحب، ولكنه حين يعرف أنها مسيحية المولد ولم ترب كمسيحية يساءل نفسه ألا يلتزم بيمين الفروسية بتبليغ الأمر إلى بطريرك أورشليم. ثم يشرح مشكلته للبطريرك دون ذكر أسماء الأفراد، ويحدس البطريرك أنهما ناثان وريكا، فيقسم أنه قاتل ناثان لا محالة. ثم يرسل راهباً ليتجسس على اليهودي، ولكنه هو الراهب ذاته الذي جاء بريكا إلى اثنان قبل ثمانية عشر عاماً؛ وقد لحظ طوال هذه السنين حكمة التاجر المشربة بالعاطفة، فيخبره بالخطر الذي يتهدد حياته، ويحزنه ذلك الحقد الديني الذي يجعل الناس قتلة سفاكين للدماء إلى هذا الحد.

ثم يقع صلاح الدين، حاكم القدس الآن، في ضائقة مالية. فيرسل في طلب ناثان بأمل الاقتراض منه. فيحضر ناثان، ويفطن إلى حاجة صلاح الدين، فيعرض السلفة قبل أن تطلب منه. أما السلطان، العليم بما اشتهر به ناثان من حكمة، فيسأله أي الأديان الثلاثة أفضل في رأيه. ويجيب ناثان بقصة حورها بحكمة من القصة التي رواها بوكاشيو ونسبها لملكي صادق اليهودي الاسكندري. تقول القصة إن خاتماً نفيساً كان يتوارثه جيلاً بعد جيل دليلاً

ص: 177

على الوارث الشرعي لضيعة غنية. ولكن في أحد هذه الأجيال يحب الأب أبناءه الثلاثة حباً يستوي حرارة وصدقاً، فيأمر بصنع ثلاثة خواتم متشابهة، ويعطي كل ابن خاتماً سراً، وبعد موته يتنازع الأبناء على أن الخواتم هو الأصيل والحقيقي، ثم يحتكون إلى القضاء-حيث ظل الأمر معلقاً لم يفصل فيه إلى اليوم. فأما الأب المحب فهو الله، وأما الخواتم الثلاثة فهي اليهودية والمسيحية والإسلام، والتاريخ لم يفصل بعد في أمر هذه الأديان وأيها هو شريعة الله الحقة. ويدخل ناثان تغييراً جديداً على القصة: فالخاتم الأصلي كان المفروض أنه يجعل لابسه إنساناً فاضلاً، ولكن بما أن أحداً من الأبناء الثلاثة لا يفضل غيره من الناس، فمن المحتمل أن يكون الخاتم الأصلي قد فقد، فكل خاتم-أي كل دين-حقيقي بقدر ما يجعل لابسه فاضلاً. ويعجب صلاح الدين بجواب ناثان إعجاباً شديداً فيقوم ويعانقه-وعقب هذا الحديث الفلسفي يظهر مخطوط عربي يتبين منه أن فارس المعبد وريكا ولدان لأب واحد. فيحزنان لأنهما لا يستطيعان الزواج، ولكنهما يفرحان لأن في استطاعتهما الآن أن يحب أحدهما الآخر كأخ وأخت ينالان بركة ناثان اليهودي وصلاح الدين المسلم.

أكان ناثان صورة صاغها على غرار موسى مندلسون؟ هناك أوجه شبه بين الاثنين كما سنرى في فصل لاحق، ومن المحتمل، برغم أوجه الخلاف الكثيرة، أن ليسنج وجد في صديقه الكثير مما ألهمه تلك الصورة المثالية لتاجر القدس. وربما رسم ليسنج اليهودي والمسلم بتعاطف أكثر مما رسم المسيحي مدفوعاً برغبته الشديدة في التبشير بالتسامح؛ ففارس المعبد في أول لقاء مع ناثان فظ في تعصب، والبطريرك (أهو ذكرى ليسنج لجوتسي؟) لا ينصف في صورته هذه الأساقفة الرحماء المستنيرين الذين كانوا آنئذ يحكمون تريير وماينزوكولون. وأنكر جمهور ألمانيا المسيحي التمثيلية حين نشرت في 1779 لأنه رآها غير منصفة؛ وانضم إلى هذا النقد العديد من أصدقاء ليسنج. فلم تصل تمثيلية "ناثان الحكيم" إلى خشبة المسرح إلا في عام 1783 م في الليلة الثالثة كان المسرح خالياً. وفي 1801 لقيت

ص: 178

نسخة معدلة أعدها شيلر وجوته قبولاً حسناً في فايمار، وبعدها ظلت من التمثيليات المحببة في المسارح الألمانية طوال قرن كامل.

وقبل أن يموت ليسنج بعام أصدر نداءه الأخير للتفاهم، وصاغه في عبارات دينية، كأنما أراد أن يلين جانب المقاومة ويقيم جسراً بين الأفكار القديمة والجديدة. وهذا المقال المسمى "تربية النوع الإنساني" من بعض نواحيه يبرر الأفكار القديمة؛ ثم ندرك أن الدفاع إنما هو دعوة لحركة التنوير. فالتاريخ بجملته يمكن أن ينظر إليه على أنه رؤيا مقدسة، وتربية تدريجية للنوع الإنساني. وكل دين عظيم كان مرحلة في هذه الإنارة المتدرجة الخطوات، فهو ليس كما افترض بعض الفرنسيين خدعة يخدع بها رجال الدين الأنانيون السذج من الناس، إنما هو نظرية عالمية قصد بها تمدين البشرية، وغرس الفضيلة والتهذيب والوحدة الاجتماعية. ففي إحدى مراحله (مرحلة العهد القديم) حاول الدين جعل الناس فضلاء بأن وعدهم بطيبات الدنيا ف عمر مديد؛ وفي مرحلة أخرى (مرحلة العهد الجديد) حاول التغلب على التناقض المثبط للعزائم بين الفضيلة والنجاح في هذه الدنيا بوعده بثواب الآخرة؛ وفي كلتا الحالتين خوطب الناس على قدر فهمهم المحدود في ذلك الوقت. وكل دين فيه نواة غالية من الحقيقة، ربما كان الفضل في تقبل الناس لها ذلك الغلاف من الخطأ الذي جعلها سائغة. فإذا كان اللاهوتيون قد أحاطوا المعتقدات الأساسية شيئاً فشيئاً بعقائد عسيرة الفهم، كالخطيئة الأصلية والتثليث، فإن هذه التعاليم أيضاً هي رموز للحقيقة وأدوات للتربية. فالله يمكن تصوره على أنه قوة واحدة لها وجوه ومعان كثيرة؛ والخطيئة أصلية بمعنى أننا كلنا مولودون بنزوع لمقاومة الشرائع الأخلاقية والاجتماعية (77). ولكن المسيحية فوق الطبيعة ليست سوى خطوة في تطور العقل البشري، وستأتي مرحلة أعلى حين يتعلم النوع الإنساني أن يعقل، وحين يصبح الناس من القوة ووضوح الرؤية بحيث يفعلون الصواب لأنهم يرونه صواباً ومعقولاً، لا طمعاً في ثواب مادي أو سماوي. وقد بلغ بعض الأفراد تلك المرحلة، وهي لم تتوفر للنوع الإنساني إلى الآن ولكنها "آتية، آتية لا ريب فيها

زمان رسالة جديدة خالدة! " (78) وكما أن

ص: 179

الفرد المتوسط يلخص في نموه التطور الفكري والخلقي للنوع، فكذلك يمر النوع في بطء خلال التطور الفكري والخلقي للفرد الأعلى. وإذا شئن التعبير بطريقة فيثاغورية، قلنا أن كلاً منا يولد من جديد، ثم يولد من جديد، حتى تكتمل تربيته-أي تكيفه مع العقل.

ترى ماذا كانت آراء ليسنج النهائية في الدين؟ لقد قبله معيناً هائلاً للفضيلة، ولكنه أنكره نسقاً من العقائد القطعية التي تفرض قبولها وإلا كانت الخطيئة والعقاب والعار الاجتماعي. وكان فكره عن الله أنه الروح الباطن للحقيقة، المسبب للتطور والمتطور هو ذاته؛ ورأى في المسيح أكمل إنسان مثالي، ولكنه ليس تجسيداً لهذا الإله إلا مجازاً؛ وقد تطلع إلى زمن يختفي فيه اللاهوت كله من المسيحية، فلا يبقى إلا مبدأ أخلاقي سام من العطف الصبور والأخوة العالمية. وفي مسودة خطاب إلى مندلسون صرح بالتزامه برأي سبينوزا في أن الجسم والعقل هما الظاهر والباطن لحقيقة واحدة، وصفتان لجوهر واحد متطابق مع الله. وقال لياكوبي" إن المفاهيم التقليدية عن الإله يعد لها وجود عندي، وأنا لا أطيقها، لا أطيقها كلها! لا أعرف غير هذا"(79)؛ وفي 1780 طلب إليه ياكوبي الذي زاره في فولفنبوتل أن يساعده في الرد على سبينوزا وتفنيد آرائه، فصدمه جواب ليسنج: "ليس هناك فلسفة غير فلسفة سبينوزا

ولو خيرت في أن أتسمى اسم آخر لما عرفت غير اسمه" (80).

وقد ترك ليسنج وحيداً في أخريات عمره بسبب هرطقاته وضراوته أحياناً في الجدل. وبقي له بعض الأصدقاء في برنزويك يختلف إليهم بين الحين والحين للحديث ولعب الشطرنج. وكان أبناء زوجته يعيشون معه في فولفنبوتل، وقد خصص لهم التركة الصغيرة التي خلفتها كاملةز ولكن خصومه شهروا به في طول ألمانيا وعرضها ملحداً رهيباً. فتحداهم، وتجاسر على معارضة الرجل الذي يدفع له راتبه، ذلك أن كارل فلهلم فرديناند، الذي أصبح الآن (1780) دوقاً على برنزويك، زج في السجن يهودياً

ص: 180

شاباً أثار سخطه. فزار ليسنج الفتى في سجنه، ثم اصطحبه إلى منزله بعد ذلك ليسترد عافيته.

أما عافيته هو فكانت قد ولت. وغشي بصره الآن حتى لم يكد يقوى على القراءة. وكان يعاني من الربو، وضعف الرئتين، وتصلب الشرايين. وفي 3 فبراير 1781 بينما كان في زيارة لبرنزويكأصابته نوبة ربو شديدة، وبصق دماً. وأوصى أصحابه قائلاً: حين ترونني مشرفاً على الموت، استدعوا موثقاً، وسأعلن أمامه أنني أموت على غير دين من الأديان السائدة (81). وفي 15 فبراير بينما كان راقداً في فراشه اجتمع نفر من أصحابه في الحجرة المجاورة. وفجأة فتح باب حجرته، وظهر ليسنج منحني الظهر مهزولاً، ورفع قلنسوته محيياً، ثم خر على الأرض صريعاً بسكتة دماغية. وأذاعت مجلة لاهوتية أن الشيطان حمله عند موته إلى الجحيم كأنه فاوست آخر باع روحه (82). ولم يخلف من المال إلا أقل القليل، فاضطر الدوق إلى دفع نفقات جنازته.

لقد كان البشير بأعظم عصور ألمانيا الأدبية. ففي عام موته نشر كانط كتابه الخطير "نقد العقل الخالص" ونشر شيلر أول تمثيلياته. وكان جوته يرى في ليسنج المحرر العظيم، وأبا التنوير الألماني. قال جوته موجهاً الخطاب إلى طيف ليسنج "في الحياة كرمناك إلهاً من الآلهة؛ أما الآن وقد مت فإن روحك تسيطر على جميع النفوس".

‌6 - رد الفعل الرومانتيكي

كان جوته يتحدث باسم أقلية صغيرة؛ أما السواد الأعظم من الشعب الألماني فتشبثت بتراثه الديني، ورحب بالشاعر الذي تغنى بإيمانهم رجلاً ملهماً من السماء. فبعد أن أثار هندل مشاعر إرلندة على الأقل بأنغام "المسيا" السمائية بست سنوات، أسر فريدرش جوتليب كلوبشتوك قلب ألمانيا بالقصائد الحماسية الأولى من ملحمته (المسيا)(1748 - 73).

ص: 181

وقد ولط كلوبشتوك في 1724 قبل مولد ليسنج بخمش سنين، وعاش اثنين وعشرين سنة بعده. وقد أصبح ليسنج رجلاً حر الفكر وهو ابن القسيس، أما كلوبشتوك ابن المحامي فقد اتخذ من نظم ملحمة شعرية عن حياة المسيح أهم رسالة لحياته. وبلغ من تحمسه الشديد لموضوعه أنه نشر الأقسام الثلاثة الأولى من الملحمة وهو لا يزال فتى في الرابعة والعشرين. وقد فتنت هذه الأبيات السداسية التفاعيل، غير المقفاة، جمهوراً من القراء بلغ من عرفانهم أنهم أرسلوا الرسائل من جميع أرجاء ألمانيا لابنة عمه حين تقدم لخطبتها بعد سنة يناشدونها أن تقبل الخطبة، ولكنها رفضتها. بيد أن فردريك الخامس ملك للدنمرك-استجابة لتوصية وزيره يوهان فون برنشتورف-دعا كلوبشتوك للحضور والإقامة في البلاط الدنمركي وإكمال ملحمته نظير أربعمائة طالر في العام. وفي طريق الشاعر إلى كوبنهاجن راقته إحدى المعجبات الدنمركيات، واسمها مارجريتا مولر؛ وفي 1754 تزوجها، وفي 1758 ماتت فحطمت قلبه وأظلمت شعره. وقد خلد ذكراها في القسم الخامس عشر من "المسيا" وفي بعض من أعمق قصائده الشعبية تأثيراً. وأقام في كوبنهاجن عشرين سنة، ثم ذهبت حظوته عند الملك بعد طرد برنشتورف، فعاد إلى همبورج، وفي 1773 نشر آخر أجزاء ملحمته الضخمة.

وكان مطلعها دعاء هو صدى لملتن، ثم روت في عشرين قسماً القصة المقدسة، ابتداءً من تأملات المسيح على جبل الزيتون وانتهاء بصعوده إلى السماء. وبعد أن أنفق كلوبشتوك في كتابة ملحمته وقتاً قارب ما أنفقه المسيح لكي يعيشها، اختتمها بتسبحة تفيض حمداً وشكراً لله:

هاأنذا بلغت هدفي! إن الفكرة المثيرة

ترف خلال روحي. وذراعك القادرة على كل شيء

ربي وإلهي هي وحدها التي هدتتي

عبر أكثر من قبر مظلم قبل أن أبلغ

ذلك الهدف البعيد! أنت الرب شفيتني،

وأنزلت فيضاً جديداً من الشجاعة على قلبي المتخاذل،

ص: 182

الذي كان في صحبة حميمة مع الموت؛

وكنت إذا شخصت إلى الأهوال لم تلبث

أشكالها المظلمة أن تتوارى، لأنك تحميني؛

لقد اختفت سريعاً ...... يا مخلصي، لقد تغنيت

بوعد رحمتك. ووطئت قدماي

طريقي المخيف، وكل رجائي فيك أنت؛ (83)

ورحبت ألمانيا السنية الإيمان بملحمة "المسيا" كأفضل شعر كتب إلى يومها بالألمانية. وينبئنا جوته عن مستشار في فرانكفورت كان يقرأ الأقسام العشرة الأولى "كل سنة في أسبوع الآلام، وبهذه الطريقة، ينعش روحه طوال العام". أما جوته فلم يكن يستطيع الاستمتاع بالملحمة إلا بنبذ شروط معينة لا تتخلى عنها ثقافة تسير قدماً إلا على مضض (84). وقد سكب كلوبشتوك ورعه بغزارة في شعره حتى أصبحت قصيدته سلسلة متعاقبة من الغنائيات والكوراليات الباخية أكثر منها الرواية المتدفقة التي يجب أن تكونها الملحمة؛ وليس من اليسير علينا أن نتتبع تحليقاً عاطفياً استغرق عشرين قسماً وخمسة وعشرين سنة.

وكما أن فولتير ولد نقيضه في روسو، كذلك جعل ليسنج بارتيابيته، وعقلانيته، ونزعته الفكرية، ألمانيا تشعر بحاجتها إلى كتاب يدركون مقابل هذا مكان وحقوق الوجدان، والعاطفة، والخيال، والغموض، والرومانس، والعنصر فوق الطبيعي في حياة البشر.

وقد أصبحت عبادة "الحساسية" عند بعض ألمان هذه الفترة، لا سيما النساء منهم، ديناً كما أصبحت موضة. وكان في دارمشتات "حلقة لذوي الحساسية" جعل أعضاؤها من العاطفة والتعبير الوجداني مبدأ وشعيرة. وكان روسو هو "مسيا" هذه النفوس. وفاق تأثيره في ألمانيا تأثير فولتير بمراحل؛ واعترف به هردر وشيلر ينبوعاً للإلهام؛ وكان كتاب كانط "نقد العقل العلمي" مشرباً بروسو، أما جوته

ص: 183

فقد بدأ بروسو "الشعور هو كل شيء" وانتقل إلى فولتير "فكر في أن تحيا"، ثم انتهى إلى ضرب رأسيهما بعضهما ببعض. وجاء في غضون ذلك شعراء الوجدان من إنجلترة: جيمس طومسون، ووليم كولنز، وإدورد ينج، وقصاصاً الوجدان رتشردسن وستيرن. وقد أثارت مختارات توماس برسي من روائع الشعر الإنجليزي القديم، وديوان مكفرسن (من الشعر المنثور الذي زعم أنه ترجمة لشعر "أوسيان" من مخطوطات غالية قديمة) الاهتمام بشعر العصر الوسيط وغموضه ورومانسيته؛ وبعث كلوبشتوك وهاينريش فون جرستنبرج إلى الحياة فيثولوجية اسكندناوة وألمانيا السابقة للمسيحية.

وكان يوهان جيورج هامان، قبل عام 1781، قائد الثورة على العقل. ولد مثل كانط في مدينة كونجزبرج الغائمة السماء، وأشربه أبوه الوجدان الديني بشدة، وتلقى علومه في الجامعة، ثم كافح وهو فقير واشتغل معلماً خاصاً، ووجد عزاءه في إيمان بروتستنتي يثبت لكل لطمات حركة التنوير. وكان يقول أن العقل ليس إلا جزءاً من الإنسان، حيث التطور وليس أساسياً؛ أما الغريزة، والحدس، والوجدان، فهي أعمق منه، والفلسفة الحقة تقيم نفسها على طبيعة الإنسان وجوانبها كلها. واللغة ليست في أصلها حصيلة للعقل بل منحة من الله للتعبير عن الوجدان. والشعر أعمق من النثر. والأدب العظيم لا يكتب بمعرفة القواعد والأسباب ومراعاتها، بل بتلك الخاصية التي لا يمكن تعريفها وهي العبقرية التي تتجاوز كل القواعد مهتدية بالوجدان.

ووافق فريدريش ياكوبي هامان وروسو. وقال أن فلسفة سبينوزا منطقية جداً إذا كنت تقبل المنطق، ولكنها زائفة لأن المنطق لا ينفذ أبداً إلى قلب الحقيقة، التي لا تتكشف إلا للوجدان والإيمان. فوجود الله لا يمكن إثباته بالعقل، ولكن الوجدان يعرف أنه بدون الإيمان بالله تكون حياة الإنسان عبثاً مأساوياً يائساً.

بهذا التمجيد للوجدان والشعر شحنت الروح التيوتونية لتطلق تحليقات

ص: 184

من الأدب الخصيب الخيال جعلت النصف الثاني من القرن الثامن عشر في ألمانيا مذكراً بحرارة إنجلترة وخصوبة إنتاجها على عهد اليزابث. فكثرت مجلات الشعر، التي عانت قصر العمر المألوف، وكتب يوهان هاينريش فوس قصة رقيقة بالشعر سماها "لويزة"(1783 - 95) فضلاً عن قيامه بترجمة هومر وفرجل وشكسبير، وقد كسبت هذه القصة محبة الألمان وحفزت جوته لينافسها. وظفر سالومون جسنر بقراء دوليين أقبلوا على غنائياته الرقيقة ورعوياته النثرية. ومس ماتياس كلوديوس قلوب مائة ألم أم بأغانيه الريفية عن الحياة العائلية، مثل أغنيته المسماة "تهويدة تغني على ضوء القمر":

نامي الآن يا صغيرتي!

لم تبكين؟

ناعمة هي الراحة،

وحلوة في ضوء القمر.

وسيقبل النعاس عما قليل

وبلا ألم.

إن القمر يفرح بالأطفال

ويحبك (85).

أما جوتفريد بورجر فقد أوتي كل فضائل لعبقرية الرومانسية. كان ابناً لراعي كنيسة، وأرسل إلى خاله في جوتنجن ليدرس القانون، ولكن حياته الفاجرة أفضت إلى تركه الكلية. وفي 1773 نال غفران جميع الناس لخطاياه بقصيدته الشعبية "لينوره". وحبيب لينوره هذه يرحل مع جيش فردريك إلى حصار براغ. وفي كل صباح تنتفض من أحلامها وتسأله "يا فلهلم، أأنت عديم الإيمان، أم أنت ميت؟ وإلى متى يبطئ قدومك؟ " وتضع الحرب أوزارها، ويعود الجند، ويلقاهم الزوجات والأمهات والأبناء بالفرح والشكر لله:

وراحت تستفسر من الجميع في ذلك العرض،

ص: 185

وتسأل كل واحد عن اسمه،

ولكن أحداً لم يعطها جواباً،

لا أحد ممن عادوا،

فلما مضى كل الجنود،

مزقت شعرها الفاحم،

وارتمت على الأرض

في نوبات أليمة من اليأس القاتل.

وتقول لها أمها أن "ما يفعله الله يفعله حسناً"، وتجيب لينوره بأن هذا وهم، وتطلب لنفسها الموت

وتحدثها الأم عن النعيم والجحيم، وترد لينوره بأن النعيم أن تكون مع فلهلم، والجحيم أن تحرم منه، وتروح تهذي طوال نهارها. فإذا جن الليل وقف فارس ببابها، وهو لا يذكر اسمه، بل يأمرها بأن تأتي معه وتكون عروسه. فتمتطي خلفه جواده الأسود، وتركب الليل كله. ثم يصلان إلى جبانة، وترقص الأشباح من حولها. وفجأة ينقلب الفارس جثة هامدة، وتجد ليسنورة أنها متشبثة بهيكل عظمي. وبينما هي تتأرجح بين الحياة والموت تنوح الأرواح بهذه الكلمات:

صبراً، صبراً! حتى حين ينفطر القلب!

لا تنازعي الله في سمائه!

لقد جردت من جسدك؟

فليسبغ الله رحمته على روحك (86)،

‌7 - الزوبعية

اندفعت الحركة الرومانتيكية من ورع كلويشتوك ورقة جسنر إلى النزعة الفردية الخارجة على تقاليد الاحترام، إلى تمرد الشباب الألماني وجهاده في نشوة الثورة الأخلاقية والاجتماعية. ذلك أن أرستقراطية البلاطات الجامدة المتصلبة وعقائدية الوعاظ المتهافتة وجشع طبقة رجال الأعمال وتكالبهم الكئيب على المال، وأساليب البروقراطيين المطردة المملة المبلدة بالشعور،

ص: 186

وحذلفة العلماء وغرورهم-كل أولئك أثار سخط شباب الألمان الواعين بقدراتهم المغموطين مكانتهم. وقد أصاخوا السمع لصيحة روسو طلباً للطبيعية والحرية، ولكنهم لم يعبأوا بتمجيده "للإرادة العامة" ووافقوه على رفض المادية، والعقلانية، والحتمية، ووافقوا ليسنج على تفضيل انحرافات شكسبير القوية عن القواعد، على كلاسيكية كورنبي وراسين المقيدة للحركة. وأساءوا ذكاء فولتير وظرفه، ولكن المكان الذي اجتازه تراءى لهم صحراء جرداء. وقد طربوا لتمرد المستعمرات الأمريكية على إنجلترة. كتب جوته وهو يستعيد ذكرى هذه الحقبة "تمنيناً للأمريكيين النجاح كله، وبدأ اسما فرانكلين وواشنطن يسطعان ويتألقان في سماء السياسة والحرب"(87). هؤلاء المتمردون المجاهدون أحسوا نشوة المراهقة الجسمية واليقظة العقلية، وشكوا من كابوس الشيوخ على الشباب، والدولة على النفوس. كانوا مع الأصالة، والتجربة المباشرة والتعبير الطليق، واعتقد بعضهم أن عبقريتهم تعفيهم من القانون. وأحسوا أن الزمن في صفهم، وأن المستقبل القريب سيشهد انتصارهم. يقول جوته "أوه، لقد كانت حقبة سعيدة حين كنت أنا وميرك شابين! "(88).

وأعرب بعض هؤلاء المتمردين عن فلسفتهم بتحدي تقاليد الزي وإحلال تقاليد من عندهم محلها، فكان كرستوف كاوفمان يسير عاري الرأس، مشعث الشعر، مفتوح القميص حتى السرة (89). ولكن هذا كان حالة شاذة، وإذا استثنينا حالة انتحار أو حالتين، فإن أكثر أبطال الحركة اجتنبوا هذا العرض المقلوب لزيهم. وكان بعضهم ميسوراً. وكان جوته نفسه واحداً من أسلاف الزوبعية بمسرحيته جوتز فون برليشنجن (1773)، وفي السنة التالية أصبحت قصته "آلام فرتر" لواء الرومانتيكية الخفاق. وانضم شيلر إلى الحركة فأصدر "اللصوص"(1781)، ولكن هذه النفوس المعقدة، المتطورة، سرعان ما تركت الحملة ليضطلع بها شباب أكثر التهاباً وأضعف جذوراً.

ص: 187

وكان يوهان ميرك أحد الآباء المؤسسين للحركة وكل الشواهد تدل على أنه كان سليم العقل قوي البدن، وكان قد أتم دراسته بالجامعة، وأصبح شخصاً أثيراً في بلاط هسي-دار مشتات، ثم عين رئيساً عاماً لصيارفة الجيش، واشتهر بالذكاء الحاد والكفاءة العملية. وحين التقى به جوته في 1771 وقع من نفسه موقعاً حسناً، فاشترك معه ومع هردر في تمويل مجلة نقدية تسمى "أنباء فرانكفورت الأدبية"، ومن هنا لقب "الفرانكفورتيين"(90) الذي أطلق أول الأمر على المتمردين. وإذ كان ميرك خبيراً بدنياً الأعمال والسياسة، ورحالة جاب أرجاء ألمانيا وتنقل في أنحاء روسيا، فقد شهد وانتقد انتقاداً لاذعاً غرور الغنى، وملل العيش في قصور الملوك والأمراء، واستغلال الفلاحين. فلما ألفى نفسه عاجزاً عن إصلاح هذه الأحوال، بات متألماً ساخراً. وقد سماه جوته "مفستوفيليس ميرك"، واتخذ من نفسه ومن ميرك نماذج الأدوار الأبطال في فاوست. واضطرب عقل ميرك لهزائمه في عمله وتعاسته مع زواجه. ووقع في حبائل الدين، فأنقذه منها دوق ساكسي-فايمار استجابة لرجاء جوته. ثم بات فريسة لاكتئاب لا يبرحه، وقتل نفسه وهو لا يزال في الخمسين (1791).

وأكثر مأساة حتى من هذه الحياة كانت حياة راينهولد لنتس. وكان ابناً لراعي كنيسة لوثري في ليفونيا، أثر في أعصابه الضعيفة، ومزاجه السريع الإثارة، في طفولته التأكيد على عقيدتي الخطيئة والجحيم (91). وأعانه حين استماعه إلى محاضرات كانط في كونجزبرج؛ وقاده كانط إلى كتابات روسو، فقال لنتس بعد قليل عن "هلويز الجديدة" إنها خير كتاب طبع إطلاقاً في فرنسا. وفي ستراسبورج التقى بجوته، فبهرته شخصية الإيجابية، وقلده في الفكر والأسلوب، وكتب أشعاراً غنائية أشبهت أشعار جوته إلى حد أنها ضمنت في بعض طبعات أعمال جوته. ثم مضى إلى زيزنهايم، ووقع (بعد جوته) في غرام فردريكه بريون، ونظم القصائد الحارة في مديحها. وأمد لها أنها إن لن تستجب لحبه فهو قاتل نفسه، فلم تفعل ولم يفعل. ثم انتقل إلى فايمار، وصادقه جوته، وحيد جوته على نجاحه، وسخر من علاقة جوته بشارلوته فون شتاين، وطلب إليه الدوق أن يرحل

ص: 188

عن الدوقية

وكان شاعراً ومسرحياً موهوباً. وتمثيليته المسماة "الجند" نقدت نقداً لاذعاً الفوارق الطبقية والحياة البرجوازية، وشخصيتها المحورية فتاة من الطبقة الوسطى تتطلع عبثاً إلى الزواج من ضابط. ثم تنقلب مومسا وتتحرش بأبيها الذي لم تتعرف عليه في الشوارع. وإذ كان لنتس مفتقراً إلى الثبات والاستقرار افتقاراً أعجزه عن العثور على مكان مرموق في الحياة، فقد راح يهيم متنقلاً من وظيفة إلى وظيفة ومن إخفاق إلى إخفاق، ويعاني نوبات من الجنون، ويحاول الانتحار غير مرة، وأخيراً مات مجنوناً (1792).

أما مكسمليان فون كلنجر فكان أذكى دعاة الحركة. ندد بالدنيا وارتقى فيها إلى مكان مرموق، وأطلق لقلمه العنان في الحديث العنيف في تمثيلياته، ثم أصبح أميناً لجامعة دوربات، واستمتع بكل آثام الشباب وحماقاته وعمر حتى التاسعة والسبعين. وعنه كتب جوته بيته الذي نم عن حسن إدراك وفطنة:"في الصبايا نحب ما هن عليه، أما في الفتيان فنحب ما يرجى أن يكونوه". وقد أعطت أشهر تمثيلية كتبها كلنجر وهو في الرابعة والعشرين (1776)"شتورم أوند درانج" اسمها ومزاجها للزوبعية. وترى فيها المتمردين الأوربيين يتغربون في أمريكا أملاً في أن يجدوا منافذ حرة لنزعاتهم الفردية؛ أما لغتها فلغة العاطفة المشبوبة وقد محت؛ وأما دعوتها فدعوة العبقرية التي تحررت من كل القواعد. وقد حارب كلنجر في الجيشين النمساوي والروسي، وتزوج ابنة غير شرعية لكاترين الكبرى، وهبطت ثورته أخيراً حين تولى منصب الأستاذية، ثم تجمد عموداً من أعمدة الدولة.

وأما فلهلم هاينزي فقد توج الحركة برواية "أرد نجهللو"(1787) التي جمعت بين الفوضوية، والعدمية، والشيوعية، والفاشية، واللامبالاة، بالأخلاق، وإرادة القوة، في مهرجان صاخب من الشهوانية والجريمة، بقول البطل بأن الجريمة ليست بجريمة إن كانت شجاعة؛ وما من جريمة حقيقة غير الصعف، وأصدق الفضائل شجاعة الجسم والإرادة؛ والحياة

ص: 189

إظهار للغرائز الأساسية، ونحن نخطئ إذا دمغنا هذه الغرائز باللا أخلاقية. وهكذا يغوي أردنجللو ويقتل إذا لاحت له الفرصة أو دفعته النزوة، ويرى في عواطفه المشبوبة الطليقة من كل قيد أسمى قوانين الطبيعة. وهو يصف بطولات هانيبال ويمجده إنساناً أعلى ويتساءل:"ما قيمة مليون من الرجال الذين لم يحظوا طوال حياتهم بساعة واحدة كساعاته-بالقياس إلى هذا الرجل الفرد؟ "(92) وهو يقيم مجتمعاً شيوعياً تسوده شيوعية النساء وحق الانتخاب للنساء وعبادة قوى الطبيعة باعتبارها الدين الأوحد.

في دوامة الزوبعية (شتورم) المضطربة هذه خلعت بعض الأفكار الغالبة على هذه الحركة طابعها وتأثيرها. فمعظم قادتها أتوا من الطبقة الوسطى، وبدأوا ثورتهم احتجاجاً على امتيازات الحسب والنسب، ووقاحة ذوي المناصب، وبذخ الأحبار الذين ينعمون بطيبات العييش على حساب عشور الفلاحين. وقد أجمعوا على الرثاء لحفظ الفلاح العاثر-حراً كان أو قناً-وتصوير خلقه في صورة مثالية. وأهابوا بالنساء أن ينبذن موضاتهن وأطواقهن وعواطفهن الهشة وإغماءاتهن وتقواهن الخانعة الذليلة، ودعوهن للمجيء والمشاركة في الحياة المثيرة التي يحياها العقل المحرر من الأغلال، والذكر الجوال. وأعادوا تعريف الدين بأنه إلهام سماوي في نفس عبقريتها جزء من الحافز الخلاق والسر المبدع في الدنيا. ووحدوا بين الطبيعة والله، وانتهوا إلى أن الإنسان يكون إلهياً إذا كان طبيعياً. واتخذوا من أسطورة فاوست المنحدرة من العصر الوسيط رمزاً للجوع الفكري والطموح الملتهب الذي يحطم كل حواجز التقاليد أو الأعراف أو الأخلاق أو القوانين. وهكذا نرى "مالرمولر" يكتب قبل جوته بزمان مسرحية سماها "فوستس لوبن" "لأنني عرفت فيه من البداية رجلاً عظيماً

يحس بقوته كلها، ويشعر باللجم الذي قيده به القدر، ويحاول أن يخلعه، ووتوفر له شجاعة الإطاحة بكل شيء يقف في طريقه" (93).

وقد وسمت حماسة الزوبعية وشططها هذه الحركة بأنها تعبير عن المراهقة الفكرية، وصوت أقلية قضى عليها بأن يعلو صوتها ثم يخبو. ولم تكسب

ص: 190

الحركة أي تأييد شعبي، لأن التقاليد والشعب يساند الواحد منهما الآخر دائماً. فلما وجد أتباع الحركة أنفسهم بغير قاعدة في بنيان الحياة الألمانية، تصالحوا مع الأمراء، وأملوا-كما أمل جماعة الفلاسفة-أن يقود الحكام المستنيرون الطريق إلى التحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي. وأدرك هردر وجوته وشيلر الحركة في شبابهم، ثم انسحبوا من نارها الآكلة، وقلموا أظافرهم وأطبقوا أجنحتهم، وتقبلوا حماية أدوق فايمار الكرام شاكرين.

‌8 - الفنانون

كان ألمان العصر الذي نحن بصدده أنداداً في الفن للفرنسيين والإيطاليين. فلقد نقلوا الباروك عن إيطاليا والروكوك عن فرنسا، ولكنهم أعطوا إيطاليا فنكلمان ومنجز، وآثر ملوك فرنسا وملكاتها الألمان المغتربين أمثال دافيد روتنجن، و "جان" ريزنر، وآدم فايسفايلر، على صناع الأثاث الفاخر الفرنسيين؛ من ذلك أن لويس السادس عشر دفع ثمانين ألف جنيه ثمناً لمكتب من صنع روتنجن (94). وحفل المقر الملكي في ميونخ، وقصر فردريك الجديد في بوتسدام، وبيوت أثرياء الألمان، بالأثاث الضخم الدقيق النقوش، حتى وفد طراز أخف في نهاية العصر من صنع الإنجليزيين تشينديل وشيراتن. وكانت مصانع مايسن قد أضرت بها الحرب، ولكن نمفنبرج ولود فجزبرج وبوتسدام وغيرها من المراكز واصلت صناعات البرسلان والخزف. وأشرقت رفوف الألمان ومدافئهم وموائدهم ومكاتبهم بصغار التماثيل المرحة الرشيقة الرقص والغناء والتقبيل.

وعلى نطاقأوسع ظهر نحت للتماثيل جدير بالإعجاب. شديد الاهتمام من ذلك أن مارتن كلاور نحت تمثالاً نصفياً لجوته في أيام فايمار الأولى-بدا فيه متشوفاً، براق العين، واثق النفس (95). ولم يبلغ لودفج، بن مارتن، هذا الاتقان في تمثاله الذي نحته لشيلر (96)، وأفضل منه تمثال شيلر المعروض الآن في ميدان بشتوتجارت من صنع يوهان فون دانيكر. أما سيد النحت الألماني في هذا العصر فيوهان جوتفيلد شادوف، الذي أصبح مثالاً للبلاط في برلين عام 1788. وفي 1791 نحت رأساً لفردريك،

ص: 191

وفي 1793 صنع له تمثالاً كامل الطول؛ وفي 1816 صب بالبرونز "فردريكاً"(97) أصغر-وهو رائعة لا ينساها من شهدها. وصب البرونز "مركبة النصر" لبوابة براندنبرج، وكاد يبلغ روعة الجمال الكلاسيكي في المجموعة الرخامية التي نحتها لولية العهد الأميرة لويزة وأختها فريدريكه.

وكثر المصورون في ألمانيا كثرة أتاحت لها أن تنزل لإيطاليا عن اثني عشر منهم ثم يبقى لها بعد ذلك مصورون أكفاء "من ذلك أن عدد المصورين من آل تيشباين الذي جمعتهم رابطة الفرشاة كان كبيراً بحيث يسهل علينا الخلط بينهم. فأحدهم وهو يوهان هاينريش تيشباين المصور فيبلاط هسي-كاسل رسم صورة بديعة لليسنج. أما ابن أخيه يوهان فريدريش تيشباين، فرسم في كاسل وروما ونابلي وباريس وفيينا ولاهاي ودساو وليبزج وسانت بطرسبرج، وصور مجموعة ساحرة لأبناء الدوق كارل أوجست أمير ساكسي-فايمار، وأما يوهان هاينريش فلهلم تيشباين فعاش في إيطاليا (1787 - 99)، ورسم صورة مشهورة "جوته في كمبانيا روما" ثم عاد ليصبح مصور البلاط لدوق أولدنبورج.

وكان من مصادر "الزوبعية""الألمانية المنحازة لإيطاليا آدم فريدريش أويزر، النحات، الرسام، النقاش، المعلم، وداعية إصلاح الفن على الأصول الكلاسيكية. وقد عاش فنكلمان معه زمناً في درسدن، وانتقد رسمه، وأعجب بخلقه، وقال "أنه يعرف كل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه خارج إيطاليا" (98) وفي 1764 عين أويزر مديراً لأكاديمية الفنون في ليبزج، وزاره جوته هناك وانتقلت إليه عدوى الحمى الإيطالية.

ويحتل مكان الصدارة بين الفنانين الذين بقوا في ألمانيا دانيل شودوفيكي، وكابولندياً. ولد في دانبرج، وترك يتيماً، فتلعم أن يكسب قوته بصنع الرسوم والمحفورات والصور. وفي 1743 انتقل إلى برلين وأصبح ألمانياً في كل شيء إلا اسمه. وقد روى حياة المسيح في منمنمات رائعة أذاعت صيته في طول البلاد وعرضها، في رسم بمزاج فولتيري "جان كالاس وأسرته" وتكاثر الطلب على رسومه حتى أنه لم ينشر أي أثر أدبي كبير في بروسيا

ص: 192

سنين طوالاً دون أن تزينه رسوم من صنعه. وفي أروع محفوراته صور أسرته: فصور نفسه ومكب على عمله، وزوجته تشرف في اعتزاز على أبنائه الخمسة، ثم جدران البيت تكسوها الصور. ورسم بالطباشير الأحمر صورة لوته (شارلوته) كستز، التي أحبها جوته وفقدها. وترى في عمله رشاقة في الخط ورقة في الشعور تميزه عن هوجارت، الذي كثيراً ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظر الحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة ما قورن به لكثرة ما صوره من مناظرالحياة المألوفة؛ ولكنه استنكر بحق هذه العلاقة. وكثيراً ما استلهم فاتو؛ وفي صورته "لقاء في حديقة الحيوان (99)، ترى ولع فاتو بالهواء الطلق وتموج ثياب النساء الخلاب.

وقد ترك أنطون جراف صورة لشودو وفيكي (100) -يفيض ابتسامات وقصاً ولحماً مكتنزاً-وصورة لنفسه (101) وهو يتطلع من فوق لوحته ولكنه مكتمل الزينة كأنه يتأهب للذهاب إلى حفلة رقص. وقد أفرغ حيوية أكثر على لوحته الجميلة لزوجته (102)، والتقط غرور الممثلة كرورنا شروتر (103) وجلل بالثياب المذهبة جسد السيدة هوفرات بومي الفضفاض (104).

وآخر قائمة المصورين في نصف القرن الذي نحن بصدده هو آزموس ياكوب كارستنز، الذي استوعب دعوة فنكلمان نصاً وروحاً، وأكمل الأحياء الكلاسيكي في التصوير الألماني. ولد في شلزفج، وتعلم في مدارسكوبنهاجن وإيطاليا، ومارس عمله في لوبك وبرلين على الأخص، ولكنه عاد إلى إيطاليا في 1792، ووجد المتعة الكبرى في تأمل أطلال النحت والعمارة القديمين. ولم يعرف أن الزمن قد نزح اللون من الفن اليوناني فلم يبق إلا على الخط؛ وعليه أحال فرشاته إلى قلم كما فعل منجز، ولم يستهدف إلا الشكل الأكمل. وقد أزعجته العيوب البدنية التي شابت أجساد نماذجه التي يصورها في مرسمه، فقرر أن يركن إلى خياله؛ وأبهجه أن يصور الأرباب اليونانية والمناظر المستقاة من الميثولوجيا اليونانية كما تخيلها هو وفنكلمان. ومن هذه انتقل إلى تصوير دانتي وشكسبير. وكان ولعه بالخط والشكل يفتقد دائماً اللون والحياة، وحتى حين كان يبلغ في رؤياه لأشباه الإله رؤيا تقرب

ص: 193

من رؤيا ميكلانجلوا، كما نرى في لوحة "مولد النور"(105)، فإننا لا نستطيع الثناء عليه إلا لأنه تذكر صور كنيسة السستين بالدقة التي تذكر بها موتسارت موسيقاها. وردت روما على محبته بمحبة مثلها، وأتاحت لعمله (1795) العرض في أوسع وأشهر المعارض التي أتيحت لأي فنان حديث. وهناك مات بعد ثلاث سنين غير متجاوز الرابعة والأربعين. ولا غرو فالفن كالجنس قد يكون ناراً آكله.

وغلب مزاج الكلاسيكية الجديدة على الزخرفة المعمارية لبوتسدام وبرلين في عهد فردريك الأكبر. وكان قد بدأ قصره الجديدة في 1755، ولم يسمح للحرب بأن تعوقه عن المضي في المشروع. فشارك في تصميمه ثلاثة معماريين-بورنج، وجونتارد، ومانجر؛ فمزجوا الكلاسيك بالباروك في صرح مهيب يذكر بقصور روما القديمة، أما الزخارف الداخلية فقد نافسوا فيها أبدع نماذج الروكوك الفرنسي. وكان للكنيسة الفرنسية في برلين رواق معمد كلاسيكي، فأضاف إليه جونتارد وتلميذه جبورج أونجر برجاً كلاسيكياً (1780 - 85). وزاد أونجر برلين جلالاً بتشييد مكتبة ملكية في 1774 - 80. أما بوابو براندنبورج التي بناها كارل لانجهانز في 1788 - 91 فقد قلدت تقليداً سافراً مداخل الأكروبول الفخمة؛ وقد نجت بالجهد من التدمير في الحرب العالمية الثانية، ولكنها فقدت "الكدريجة الشهيرة، وهي العربة ذات الجياد الأربعة التي توجها بها شادوف.

كانت مدن ألمانيا أخرى تنحت الآثار المخلدة لأمراء البيوت المالكة والنبلاء الرفات. فزينت أخت فردريك فلهلميه مدينة بايرويت بقصر زين بالروكوك الساحر (1744 - 73). وفي كاسل صمم سيمون لوي دوري (1769 وما بعدها) صالة الرقص الفخمة والحجرة الزرقاء في قلعة حاكم هسي-كاسل. وفي الراين قرب دسلدورف بنى نيكلاوس فون بيجاجي قلعة بنرات الفخمة (1755 - 69)، وبنى فليب دلا جبيير لودفجز بورج قصر مونريبو الجميل (1762 - 64).

ص: 194

‌9 - بعد باخ

أسعدت ألمانيا بالموسيقى وتأثرت بها أكثر من أي أمة أخرى باستثناء إيطاليا. فالأسرة التي خلت من الآلات الموسيقية كانت شذوذاً وكانت المدارس تعلم الموسيقى تعليمها للدين والقراءة سواء بسواء تقريباً. وكانت الموسيقى الكنيسية آخذة في الاضمحلال لأن العلم والفلسفة، والمدن والصناعة، كانت تصرف العقول عن الدين إلى الدنيا، وظلت الترانيم اللوثرية العظيمة تجلجل، ولكن الأغنية أخذت تتحول من الكوارس الكنسية إلى الليدات والتمثيليات الغنائية والأوبرا. وقد افتتح يوهان بيتر شولتس عهداً جديداً في الأغنية ب "أغان في فوكستن"(1782)؛ وبعدها حظيت ألمانيا بزعامة لا تنازع في استخدام الموسيقى في الشعر الغنائي.

وقد شجع التحسين الآلي الذي أدخل على البيانوا انتشار الحفلات الموسيقية وظهور مهرة العازفين على الآلات. وغزا العازفون أمثال يوهان شوبرت، وآبت فولجر، ويهان هومل، المدن الكثيرة بأدائهم الموسيقي. ففي 10 مارس 1789 قام هومل الذي لم يتجاوز الأحد عشر ربيعاً بعزف على البيانو في درسدن؛ ولم يدر أن موتسارت سيكون بين السامعين؛ وخلال الحفلة رأى أستاذه السابق وتعرف عليه؛ فما إن فرغ من عزف قطعته حتى شق طريقه بين الجمع المصفق وعانق موتسارت في عبارات حارة تفيض بالولاء والبهجة (106). واكتسبت آبت (أعني آبوت، أي الأب الديني) فوجلر لقبه هذا برسامته قسيساً (1773)؛ وفي مانهايم كان قسيس البلاط ومدير الموسيقى معاً. وكان في التأليف الموسيقي من أكثر كتاب القرن أصالة وتأثيراً؛ وفي العزف على الأرغن أثار غيرة موتسات؛ وفي التعليم كان صاحب الفضل في تكوين فيبر ومييربير؛ ثم أضحك مانهايم وهو ممثل للبابا يلبسه الجوار الطويلة الزرقاء وبحمله كتاب صلواته مع موسيقاه، وبجعله جمهوره أحياناً ينتظره ريثما يفرغ من صلاته.

وكان أوركسترا مانهايم الآن فرقة من ستة وسبعين موسيقياً منتقين،

ص: 195

يقودهم بكفاية كرستيان كانا بيش معلماً وقائداً وعازفاً منفرداً على الكمان. وقد أثر عن اللورد فوردابس قوله أن ألمانيا تبر سائر الأمم لسببين: الجيش البروسي وأوركسترا مانهايم. ويليه شهرة أوركسترا جيفاندهاوس بلييزج. وكانت الحفلات الموسيقية عملاقة تحوي ثلاثة أو أربعة أو أحياناًستة كونشرتوات في برنامج واحد. والقوم يحيونها في كل مكان-في المسارح والكنائس والجامعات والقصور والحانات والمتنزهات. ونافست السمفونية الآن الكونشرتو في الربرتوار الأوركسترالي، وما وافت سنة 1770 - حتى قبل مجيء هايدن-حتى حظيت السمفونية بقبولها كأرقى ألوان الموسيقى الآلية (107).

ونصف المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة منحدرون من قلب يوهان سبستيان باخ القوي وصلبه المكين. أنجبت له زوجته الأولى سبعة أطفال، أحرز اثنان منهم-فلهلم فريدمان وكارل فليب إيمانويل-سمعة دولية. وأنجبت له زوجته الثانية ثلاثة عشر طفلاً برز في عالم الموسيقى منهم اثنان هما يوهان كرستوف فريدرش ويوهان كرستيان. ثم أنجبت يوهان كسرستوف فريدرش مؤلفاً موسيقياً صغيراً هو فلهلم فريدرش ارنست باخ؛ وهكذا أعطى يوهان سبستيان باخ العالم خمسة رجال ضمنوا لهم مكاناً في تاريخ الموسيقى. يضاف إلى هؤلاء أحد أقربائه الأبعدين واسمه يوهان ارنست باخ، درس على الأستاذ في ليبزج، وأصبح رئيساً لفرقة المرتلين في فايمار، وترك عدة مؤلفات موسيقية ليجر عليها النسيان ذيوله.

أما فلهلم فريدمان باخ فقد ولد في فايمار. والقسم الأول من مؤلف أبيه "الكلافير الوسيط" كتب لتعليمه. وقد سار حثيثاً في دراسته، ولم يناهز الستة عشر عاماً حتى كان يؤلف الموسيقى. فلما بلغ الثالثة والعشرين عين عازفاً اللارغن بكنيسة صوفيا بدرسدن، ولكما كانت واجباته في هذه الوظيفة هينة فقد ألف عدة صوناتات وكونشرتوات وسمفونيات. ثم ازداد راتباً وشهرة حين اختير (1746) عازف أورغن في كنيسة ليفراون بهاله. وأقام هناك ثمانية عشر عاماً، ومن هنا تلقيبه "باخ هاله". وكان مولعاً بالشراب لا يعلو على ولعه به إلا ولعه بالموسيقى. ثم استقال في

ص: 196

1764، وظل عشرين عاماً يهيم متنقلاً من بلد إلى بلد، ويقيم بالجهد أوده بالعزف في حفلات موسيقية وبتعليم التلاميذ. وفي 1774 استقر في برلين حيث مات في ضنك عام 1784.

وكان كارل فليب إيمانويل باخ أعسر، فاضطر إلى قصر عزفه على الأرغن والبيانو. وفي 1734 حين بلغ العشرين التحق بجامعة فرانكفورت، وهناك حظي بصحبة جيورج فليب تليمان، الذي كان أحد عرابيه يوم عماده وأعطاه جزءاً من اسمه. وفي 1837 عزف بعض مؤلفاته أمام جمهور ضم فردريك وليم الأول ملك بروسيا. ولما علم بأن ولي العهد فردريك يحب الموسيقى، قصد راينزبرج وقدم إليه نفسه دون أن يظفر بثمرة عاجلة؛ ولكن في 1740 عينه فردريك، الذي أصبح الآن ملكاً، عازفاً على الصنج في أوركسترا الكنيسة ببوتسدام. ولكنه ضاق بمصاحبة ناي فردريك الهوائي المزاج وقبول سلطته الملكية في الموسيقى. وبعد أن قضى في الأوركسترا ستة عشر عاماً، اعتزل ليفرغ التعليم. وقد حدد كتابه "بحث في العزف الحقيقي على الكلافير"(1753 وما بعدها) بداية تقنية البيانو الحديثة، وكان لهذا الكتيب الفضل في اكتساب هايدن البراعة الفنية في العزف على البيانو، وبسبب قال موتسارت عن "باخ برلين" هذا:"إنه أبونا، ونحن صبيته؛ والذين يعرفون منا أي شيء على وجهه الصحيح، فإنما تعلمناه منه، ووغد ذلك الطالب الذي لا يعترف بهذا"(108). وقد خرج إيمانويل في مؤلفاته عامداً على أسلوب أبيه الكونترابنطي، مؤثراً تناولاً متجانس الصوت وخطا ميلوديا أبسط. وفي 1767 قبل وظيفة المدير لموسيقى الكنيسة في همبورج، وهناك أنفق الإحدى وعشرين سنة البقية في أجله. وفي 1795 جاء هايدن إلى همبورج ليراه، ولكنه وجد أن أعظم أبناء يوهان سبستيان قد مضى على موته سبع سنين.

أما يوهان كريستوف فريدرش باخ فقد درس على أبيه وفي جامعة ليبزج، ثم عين في الثامنة عشرة (1750) موسيقار الحجرة في بوكسبورج، لفلهلم كونت شاومبورج-ليه. وحين بلغ السادسة والعشرين أصبح مديراً للموسيقى. أما الحدث العظيم الذي وقع له ف عامه الثامن والعشرين فهو

ص: 197

مجيء هردر (1771) مبشراً؛ وقد زوده هردر بنصوص ملهمة للأوراتوربوات والكنتاتات، والأغاني؛ واتبع يوهان كرستوف أساليب أبيه وروحه، ثم ضاع في خضم تغيرات الدهر وتقلباته.

وعلى النقيض منه كان ولاء الابن الأصغر، يوهان كرستيان باخ، لإيطاليا. بعث إلى برلين وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة عند موت أبيه، وهناك بذل له أخ غير شقيق، يدعى فلهلم فريدمان، العون وقام على تعليمه. وحين بلغ التاسعة عشرة ذهب إلى بولونيا، حيث أدى الكونت كافالييري أجوستينوليتا نفقات دراسته على الأب مارتيني؛ وقد افتتن الشاب بالحياة الإيطالية والموسيقى الكاثوليكية، فدخل في المذهب الكاثوليكي، وظل ست سنوات يخص الكنيسة أولاً بمؤلفاته الموسيقية. وفي 1760 عين عازف أرغن في كتدرائية ميلان، وأصبح "باخ ميلان" ثم أثارت الأوبرا الإيطالية أثناء ذلك طموحه للتفوق في الموسيقى غير الدينية كما تفوق في الموسيقى الكنسية، فأخرج الأوبرات في تورين ونابلي (1761)؛ وشكا رؤساؤه الميلانيون من أن رشاقة هذه المؤلفات تتنافر مع مركزه في الكتدرائية فنقل يوهان كرستيان مقامه إلى لندن (1762)، حيث حظيت أوبراته عادة بعروض طويلة الأمد. وما لبث أن عين رئيساً للموسيقى عند الملكة شارلوت صوفيا، ورحب بالصبي موتسارت ذي الأعوام السبعة عند مجيئه إلى لندن في 1764، وراح يلهو معه على البيانو. وأحب الصبي هذا الموسيقى الذي اكتمل نضجه الآن، وأخذ عنه الكثير من الألماعات في تأليف الصوناتات والأوبرات والسمفونيات. وفي 1778 ذهب باخ إلى باريس ليقدم أوبراه "أماديس الغاليين"، وهناك التقى ثانية بموتسارت، وكان ابتهاج فتى الثانية والعشرين به كابتهاجه قبل خمسة عشر عاماً. كتب فولفجانج لأبيه يقول "إنه رجل أمين ينصف الناس، وأنا أحبه في كل قلبي"(109).

ويمكن القول على الجملة أن أسرة باخ هذه ابتداء من فايت باخ الذي مات في 1619، وانتهاء بفلهلم فريدرش إرنست باخ الذي مات في 1845، هي أبرز الأسر في تاريخ الثقافة. فمن بين نحو ستين من هؤلاء الباخين

ص: 198

المعروفة أسماءهم من أقرباء يوهان سبستيان، كان ثلاثة وخمسون موسيقيين محترفين، وكان ثمانية من أسلافه وخمسة من أخلافه من وزن كاف لتبرير نشر مقالات عنهم في قاموس للموسيقى (110). وقد ظفر عدد من الأبناء في حياتهم بيت ذائع وشهرة فاقت ما تتمتع به يوهان سبستيان. ولا يعني هذا أنهم احتكروا الشهة الموسيقية، فالموسيقيون الأفذاذ كانوا كالعادة يلقون المديح الأعظم وهم أحياء، ثم يجر عليهم النسيان ذيوله حين يموتون؛ وقد نافس مؤلفون موسيقيون مثل كارك فريدرش فاش وكرستيان فريدرش شوبارت أبناء باخ في ذيوع اسمهم.

وإذا نحن رجعنا النظر إلى هذا النصف الثاني من القرن الثامن عشر لحظنا بعض الخطوط الخاصة في التطور الموسيقي. فاتساع مساحة البيانوا وازدياد قوته حررا الموسيقى من خضوعها للألفاظ وشجع المؤلفات للموسيقى الآلية؛ ثم إن إقبال الجماهير المتزايد على الحفلات الموسيقية، وتقلص هيمنة الكنيسة، بعدا بالمؤلفين عن يوليفونية يوهان سبستيان باخ وقربهم من هارمونيات خلفائه الأسهل تذوقاً. وعمل تأثير الأوبرا الإيطالية على تفوق الميلوديا حتى في قطع الموسيقى الآلية، بينما أحدثت الليدات، بحركة مضادة، تعقيداً جديداً في الأغنية. وبلغت الثورة على الأوبرا الإيطالية ذروتها في جلوك، الذي أراد إخضاع الموسيقى للدراما، ولكنه بالعكس أضفى السمو على الدراما بالموسيقى. وعمل درب آخر طورت الثورة "المسحية الغنائية"، التي بلغت أوجهاً في "الناي السحري". وانتقل الكونشرتو جروسو إلى الكونشرتو الموضوع لآلة منفردة واحدة وأوركسترا، واتخذت الصونات شكلها الكلاسيكي في كارل فليب إيمانويل باخ وهيدان، وتطورت الرباعية إلى السمفونية. وهكذا تهيأ كل شيء لبيتهوفن.

‌10 - الشيخ فرتز

فوق كل هذه الحياة المنوعة، حياة السياسة والدين والصناعة واللهو والموسيقى والفن والعلم والفلسفة والبروالإثم-كان يلوح طيف البطل الشائخ الذي لقبته ألمانيا "الشيخ فرتز"-لا حباً بل تكريماً له بوصفه أعجب وأدهش

ص: 199

تيوتوني في عصره. فهو لم يقنع بحكم مملكته وأوركستراه، بل حسد قلم فولتير وتاقت نفسه إلى الظفر بالثناء عليه شاعراً ومؤرخاً. وقد خلف للأجيال التالية ثلاثين مجلداً من كتاباته: سبعة في التاريخ، وستة في الشعر، وثلاثة في الأبحاث العسكرية، واثنين في الفلسفة، واثني عشر في الرسائل، كلها بالفرنسية. أما أشعاره فأكثرها من النوع العابر سريع الزوال، ولم يعد القراء يذكرونها. ولكنه كان من كبار المؤرخين في جيله. ففي بواكير ملكه كتب تاريخ أسلافه-"مذكرات في تاريخ أسرةبراندنبورج" (1751). وقد زعم لنفسه الحياد كما يزعم أكثر المؤرخين:"لقد ارتفعت فوق كل الأهواء والميول، ونظرت إلى الأمراء والملاك والأقرباء نظري إلى أناس عاديين"، (111) ولكنه ارتفع إلى ذروة الحماسة والنشوة وهو يصف الناخب الأكبر فردريك وليم.

أما رائعته الأدبية فهي "تاريخ عصري" الذي سجل حكمه. وقد بدأه عقب انتهاء الحرب السيليزية الأولى (1740 - 42)، وواصل كتابته على فترات حتى أخريات عمره. وقد ضمنه تاريخ العلم والفلسفة والأدب والفن، ربما متأثراً بفولتير-وإن كان قد كتب جانباً كبيراً من هذا الكتاب قبل أن يظهر كتاب فولتير "قرن لويس الرابع عشر" و "مقاله في الأعراف" وقد اعتذر عن تضييعه حيزاً في كتابه على "بلهاء يلبسون الأرجوان، ودجاجلة يحملون التيجان

أما تتبع الكشف عن الحقائق الجديدة، وتفهم أسباب التغيير في الأخلاق والعادات، ودراسة الطرق التي قشعت بفضلها ظلمة الهمجية من عقول الناس-فهذه بالتأكيد موضوعات جديرة بأن تشغل جيع المفكرين". (112) وقد أثنى على هوبز ولوك والمؤلهة في إنجلترة، وعلى توماسيوس وفولف في ألمانيا، وفونتينيل وفولتير في فرنسا. "هؤلاء العظماء وتلامذتهم كالوا للدين ضربة قاضية. وبدأ الناس يمحصون ما كانوا يعبدونه بغباوة، وأطاح العقل بالخرافة

وكسبت الربوبية أتباعاً كثيرين، وهي العبادة البسيطة للكائن الأعظم". (113) وإذ كان فردريك يحتقر الحكومة الفرنسية ويحب الأدب الفرنسية، فإنه فضل ملحمة فولتير "الهنريادة" على الألياذة، وفضل راسين على سوفوكليس وسوى بين بوالو وهوراس،

ص: 200

وبين بوسويه وديموستين. وسخر من لغة ألمانيا وأدبها، وامتدح فنها المعماري. وشق على نفسه ليبرر غزوه سيليزيا، فقال أنه أحس أن لرجل الدولة أن ينتهك الوصايا العشر إن اقتضته ذلك مصالح دولته الحيوية "فخير أن يحنث الملك بعهده من أن يهلك الشعب"(114) -وهذا الهلاك-كما أمل أن تصدقه-هو الخطر الذي تهدد بروسيا في 1740؛ وقد اعترف بأنه اقترف أخطاء كثيرة في قيادته جيشه، ولكنه رآه أمراً لا ضرورة له أن يسجل فراره مولفتز. وهذان المجدان في جملتهما يقفان على قدم المساواة مع أفضل الكتابات التاريخية عن أوربا الحديثة قبل جبون.

وما أن وضعت حرب السنين السبع أوزارها حتى عكف فردريك على كتابة "تاريخ حرب السنين السبع". وكان كقيصر يتطلع إلى أن يكون خير مؤرخ لحملاته، وكقيصر تحاشى الحرج فتكلم عن نفسه بضمير الغائب. وهنا أيضاً حاول-ربما بعذر أفضل-أن يبرر المبادرة الجريئة التي بدأ بها الحرب. وقد امتدح ألد أعدائه، ماريا تريزا، في كل ما يتصل بحكمها الداخلي، أما في علاقاتها الخارجية فقد أدان هذه المرأة المتكبرة "التي" استبد بها الطمع فأرادت أن تبلغ هدف المجد من كل طريق" (115) ووسط سجل الحملات، المحايد إلى حد لا بأس به، توقف ليندب أمه التي ماتت في 1757 وشقيقته التي لحقت بها في 1758. والصفحة التي وصف فيها فلهلمنية واحة من الحب في بيداء خربة من الحرب.

وقد خلص إلى أن التاريخ أستاذ عظيم تلاميذه قليلون: "إن في طبيعة البشر ألا يتعلم إنسان من التجربة. وحماقات الآباء تضيع هدراً على الأبناء، وكل جيل لا بد مقترف حماقاته"(116)"كل من يقرأ التاريخ بإمعان يدرك أن المشاهد ذاتها كثيراً ما تتكرر، وأنه لا حاجة بنا إلا لتغيير أسماء الممثلين"(117). ولكنا حتى لو استطعنا أن نتعلم، فإننا سنظل عرضة للمصادفة التي لا يمكن التنبؤ بها. "إن هذه المذكرات تقنعني أكثر فأكثر بأن كتابة التاريخ إن هي إلا تجميع لحماقات الناس وضربات الحظ. فكل شيء يدور حول هذين الموضوعين"(118).

ص: 201

وقد حاول مرتين (1752 و1768) في "وصية أخيرة" أن ينقل لورثته بعض الدروس المستفادة من تجربته الخاصة. فحثهم على دراسة أهداف الدولة المختلفة ومواردها، والوسائل المتاحة لحماية بروسيا وتنميتها. وحذا حذو أبيه في تأكيده على الحاجة لأحكام ضبط الجيش، وحذر خلفاءه من الإنفاق فوق ما يسمح به الدخل؛ وتنبأ بالمتاعب السياسية التي ستحيق بفرنسا لسفهها المالي؛ ونصح بزيادة الإيرادات لا بفرض ضرائب جديدة بل بحفز إنتاجية الاقتصاد. وينبغي حماية كل الأديان ما التزمت الهدوء والسلام-رغم أن "جميع الأديان إذا فحصها المرء وجدها ترتكز على نسق من الخرافة غير معقول قليلاً أو كثيراً (119). أما سلطة الملك فيجب أن تكون مطلقة، ولكن على الملك أن يعد نفسه أول خادم للدولة. وما دامت بروسيا في خطر من صغر حجمها وسط دول كبيرة كروسيا وفرنسا والإمبراطورية النمساوية المجرية، فإن من واجب الملك أن يغتنم أي فرصة ليوسع بروسيا ويوحدها-ويحسن أن يكون ذلك بفتح سكسونيا وبروسيا البولندية وبومرانيا السويدية: "أن أول شغل شاغل للأمير هو أن يصون سلطته، أما الثاني فهو أن يوسع رقعته. وهذا يقتضي المرونة وسعة الحيلة

وستر المطامع الخفية يكون بإعلان الميول السلمية حتى تأتي اللحظة المواتية. تلك طريقة جميع رجال الدولة العظماء" (120).

وينبغي أن يعد الملك خلفه للحكم، فيهيئ له التعليم على يد رجال مستنيرين لا رجال كنسيين، لأن هؤلاء يشحنون رأسه بخزعبلات يقصد بها أن يكون أداة طيعة في يد الكنيسة (121). وتعليم كهذا من شأنه أن يخرج عقلاً ضعيفاً سرعان ما تسحقه مسئوليات الدولة. "ذلك ما رأيته، وإذا استثنيت ملكة المجر (ماريا تريزا) وملك سردينيا (شارل إيمانويل)، فإن كان ملوك أوربا ليسوا سوى بلهاء مشهورين"(122). وقد كتب هذا واليزابث تحكم روسيا. وكانت "وصية" 1768 أكثر تأدباً، لأن كاترين كانت قد أثبتت علو همتها، وتنبأ فردريك الآن بأن روسيا ستكون أخطر دولة في أوربا (123).

فلما شاخ بدأ يسائل نفسه إن كان ابن أخيه ووريثه المحتمل-فردريك

ص: 202

فلهلم الثاني-صالحاً لوراثة الحكم. كتب إليه يقول "إنني أشقى من أجلك ولكن على أن أفكر في الاحتفاظ بما أصنع، فإن كنت كسولاً خاملاً ذاب في يديك كل ما جمعته بالجهد والمشقة"(124). وفي 1728 كتب وقد ازداد تشاؤماً "لو أن ابن أخي لان وتراخى بعد موتي، لما بقي شيء اسمه بروسيا في ظرف عامين"(125). وقد تحققت النبوءة في فيينا عام 1806، لا لأن فردريك وليم الثاني كان رخواً ليناً، بل لأن نابليون كان صلباً قاسياً.

وقد بات فردريك ذاته في عقدة الأخير قاسياً إلى حد لا يحتمل. فاختزل قدراً كبيراً من الحرية التي سمح بها للصحافة قبل 1756. كتب ليسنج إلى نيقولاي في 1769 يقول "إن حريتكم البرلينية تتقلص .. إلى حرية جلب ما تشاءون جلبه إلى السوق من سخافات ضد الدين

ولكن لريفع إنسان صوته نيابة عن الرعايا، وضد الاستغلال والاستبداد

وعندها ستتبين سريعاً أي دول أوربا أكثرها اليوم عبودية وذلاً". (126) وكره هردر وطنه بروسيا، وانصرف فنكلمان في "رعب" عن ذلك "البلد المستبد" (127). وحين زار جوته برلين في 1778 أدهشته عدم شعبية الملك. ومع ذلك كان الشعب يبجل فردريك شيخاً لم يضن طوال خمسة وأربعين عاماً بيوم واحد في سبيل خدمة الدولة.

وقد برته الحرب كما براه السلم. وكثرت واشتدت عليه نوبات النقرس والربو، والمغص والبواسير، وزادت أوجاعه حدة لولعه بالوجبات الثقيلة والأطعمة الحريفة. وفي 22 - 25 أغسطس 1778 استعرض جيشه السيليزي قرب برزلاوز وفي اليوم الرابع والعشرين ظل على صهوة جواده ست ساعات بردائه العسكري العادي والمطر يهطل غزيراً، وعاد إلى مسكنه مبللاً يرتعد من البرد. ولم يستعد عافيته بعدها قط. وفي يونيو 1786 أرسل في طلب الدكتور تسمرمان من هانوفر. وتوقف عن تعاطي العقاقير التي وصفت له، وآثر الأحاديثالمرحلة عن الأدب والتاريخ، ولكي يلزمه تسمرمان الهدوء وصف له كتاب جبون "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية

ص: 203

وسقوطها" (128). وتفاقمت أوصابه بالاستسقاء، وأحدثت القطوع التي أجريت له لتخفيف الانتفاخات غرغرينة. ثم أطبق عليها الالتهاب الرئوي فاكتمل الحصار، وفي 17 أغسطس 1786 مات فردريك وهو في الرابعة والسبعين. وكان قد طب أن يدفن في حديقة "صانسوسي" قرب قبور كلابه وحصانه الحبيب، ولكن أمر رحيله هذا الذي أصدره على البشرية أغفل، فدفن إلى جوار أبيه في كنيسة الحامية ببوتسدام. وحين جاء نابليون ووقف أما قبر فردريك بعد أن هزم البروسيين في يينا قال لقواد جيشه "لو كان على قيد الحياة لما كنا هنا" (129).

ص: 204

الفصل الحادي والعشرون

‌كانت

‌1724 - 1804

1 -

مقدمة

لعل كانت ما كان ليظهر قط لولا وجود فردريك الأكبر. ذلك أن كتابيه "نقد العقل الخالص" و "الدين في حدود العقل وحده" يسرت صدورهما شكوكية فردريك وتسامحه الديني؛ فلم ينقض على موت فردريك عامان حتى أخرجت الحكومة البروسية كانت.

كان كانت كفردريك ربيباً لحركة التنوير، وقد تشبث بولائه للعقل حتى النهاية-رغم كل ذبذبته الاستراتيجية، ولكنه أيضاً كروسو كان جزءاً من الحركة الرومانتيكية، مكافحاً للتوفيق بين العقل والوجدان، وبين الفلسفة والدين، وبين الفضيلة والثورة. وقد أشربه أبواه النزعة التقوية، ثم هجنها بعقلانية كرستيان فونفولف؛ واستوعب هرطقات جماعة الفلاسفة؛ وهجنها بـ "اعتراف قسيس سافوا بالإيمان" في كتاب روسو "إميل"؛ وورث سيكولوجية لوك وليبنتس وباركلي وهيوم الدقيقة البارعة، واستخدمها في محاولة لينقذ العلم من هيوم، وينقذ الدين من فولتير. وقد رتب حياته بانتظام بورجوازي، ورحب بالثورة الفرنسية. وإذ عاش منفرداً في بروسيا الشرقية، فإنه أحس ولخص كل تيارات عصره العقلية.

ولد في كونيجزبرج (22 أبريل 1724) النائية عن فرنسا، المولعة بالوضوح والمعتمة بضباب البحر. وقد أثيرت بعض الشكوك حول أصل أسرته الاسكتلندي، ولكن كانت نفسه يخبرنا أن جده "في ختام القرن

ص: 205

الماضي هاجر من اسكتلندة إلى بروسيا، ولا أدري لم" (1). وتزوج أبوه يوهان جيورج كانت من آنا رويتر، وكان إيمانويل (ومعناها الله معنا) رابع أبنائهم الأحد عشر. وقد اتخذ اسمه الأول من قديس يوم ميلاده، ثم غير اسم الأسرة من Cant إلى Kant ليمنع الألمان من أن ينطقوه "تسانت" (2) وقد نشئت الأسرة كلها على مذهب التقويين، الذي كان كالمثودية الإنجليزية يشدد على الإيمان والتوبة والالتجاء رأساً إلى الله، بعكس العبادة اللوثرية التقليدية في الكنيسة بقسيس وسيط.

وكان أحد وعاظ التقويين قد أنشأ في كوينجزبرج "كلية فردريكية". والتحق إيمانويل بها من سن الثامنة إلى السادسة عشرة. وكان اليوم المدرسي يبدأ في الخامسة والنصف صباحاً بنصف ساعة من الصلاة، وكل حصة في الصف تختم بالصلاة؛ وخصصت ساعة كل صباح لتعليم الدين، مع التشديد على نيران الجحيم؛ وكان التاريخ يدرس أساساً من العهد القديم، واليونانية من العهد الجديد. وحده. ويوم الأحد يكرس أكثر للعبادة. لقد كان تعليماً أثمر الفضيلة في بعض خريجيه، والنفاق في آخرين، وربما روحاً كئيبة في معظمهم. وقد أنكر كانت فيما بعد هذه الجرعة الثقيلة من التقوى والإرهاب، وقال أن الخوف والرعدة يغلبانه حين يتذكر تلك الأيام (3).

وفي 1740 انتقل إلى جامعة كوينجزبرج. هنا كان أحب المدرسين إليه مارتن كنوستن الذي عرف كانت بـ "عقلانية" فولف رغم كونه تقوياً. وكان كنوتسن قد قرأ للربوبيين الإنجليز، وأدانهم ولكنه ناقش آراءهم، وترك بعض الشكوك الربوبية في واحد من تلاميذه على الأقل. فلما دعي كانت بعد قضاء ست سنين في الجامعة ليرسم قسيساً لوثرياً، رفض الدعوة رغم ما وعد من ترقية قريبة إلى وظيفة مريحة (4). وعاش بدلاً من ذلك تسع سنين رقيق الحال يعلم أبناء الأسرة الخاصة ويواصل دراسته. وكان اهتمامه حتى 1770 بالعلم لا باللاهوت "وكان لوكريتيوس من أحب المؤلفين إليه"(5).

وفي 1755 نال كانت درجة الدكتوراه، وسمح له بأن يحاضر في الجامعة

ص: 206

بوصفه "معلماً خاصاً" لا يكافأ إلا بالرسوم التي يقرر الطلبة دفعها. وظل خمسة عشر عاماً في هذا الوضع القلق. وخلال هذه البداية الطويلة الأمد رفضت طلباته لوظيفة الأستاذية مرتين. وظل فقيراً، يتنقل من نزل إلى نزل، ولا يجرؤ على الزواج، ولا يسكن بيتاً خاصاً به حتى بلغ التاسعة والخمسين (6). وقد حاضر في مواضيع كثيرة التباين، ربما ليجتذب عدداً أكبر من الطلاب، وكان عليه أن يحاضر بلغة واضحة ليتيسر له العيش. ولا بد أن كانت المعلم كان يختلف تماماً عن كانت المؤلف الذي اشتهر بغموضه. وقد وصفه هردر، الذي كان أحد تلاميذه (1762 - 64) بعد ثلاثين عاماً، محتفظاً له بذكرى ملؤها العرفان بالجميل، فقال:

"أسعدني الحظ بمعرفة فيلسوف كان معلمي. ففي مقتبل عمره تحلى بشجاعة الشباب المرحة، وأعتقد أن هذه الشجاعة لازمته حتى الشيخوخة. وكان جبينه الواضح المفكر مستقراً للبشر والسرور الذي لا يكدر صفوه مكدر، وكان حديثه حافلاً بالأفكار شديد الإيحاء؛ وفي متناوله الضحك والدعابة الذكية والخيال الفكه؛ ومحاضراته تجمع بين التعليم والترفيه الكثير. وبالروح ذاتها التي انتقد بها ليبنتس وفولف وباومجارتن

وهيوم، بحث في القوانين الطبيعية التي قال بها نيوتن وكبلر والفيزيائيون. وبهذا الأسلوب تناول كتابات روسو

ولم يكن لأي عصبة أو ملة، ولا تحيز أو إجلال لاسم من الأسماء، أدنى تأثير عليه مقابل نشر الحقيقة ودعمها. وكان يشجع سامعيه على التفكير لأنفسهم ويضطرهم في رفق إلى هذا التفكير؛ أما الاستبداد فكان غريباً على طبعه. وهذا الرجل الذي أذكر اسمه بأعظم عرفان وتبجيل هو إيمانويل كانت، وصورته مماثلة أمامي، وهي محببة إلى نفسي" (7).

ولو أردنا أن نتذكر كانت على الأخص من واقع عمله قبل أن يبلغ السابعة والخمسين (1781) لوجب أن نرى فيه العالم أكثر من الفيلسوف-رغم أن هذين المصطلحين لم يكونا بعد منفصلين. وأول أعماله المنشورة "خواطر من التقييم الحقيقي للقوى الديناميكية، 1747" نقاش علمي عن قوة الجسم أثناء حركته وهل تقاس (كما زعم ديكارت وأويلر) بالكتلة

ص: 207

مضروبة في السرعة، أو (كما زعم ليبنتس) بالكتلة مضروبة في مربع السرعة؛ وهو إنجاز ممتاز لفتى في الثالثة والعشرين. وتلا بعد هذا سبع سنوات مقال في زمن دوران الأرض اليومي وهل يتغير بالمد والجزر. وفي العام نفسه نشر كانت بحثاً عن الأرض وهل بسبيلها إلى الشيخوخة؛ هنا أعرب كانت عن القلق الذي يساور عصرنا الحديث على فقد الشمس بعض طاقتها كل يوم على تجمد أرضنا في المستقبل.

وفي بحث رائع نشر عام 1705 قدم الشاب الجريء ذو الحادية والثلاثين عاماً "التاريخ الشامل للطبيعة، ونظرية السماوات". وقد تنشر الكتاب غفلاً من اسم المؤلف وأهدي إلى فردريك الأكبر؛ وربما خاف كانت أن يلحقه أذى من رجال اللاهوت وأمل في أن يبسط الملك عليه حمايته، وقد رد جميع عمليات الأرض والسماء إلى قوانين آلية، ولكنه أكد أن النتيجة، بما فيها من تناسق وجمال، تثبت وجود عقل اسمي. ولكي يفسر كانت أصل المنظومة الشمسية اقترح "الفرض السديمي". قال:

"إنني أزعم أن كل مادة المنظومة الشمسية

كانت في بداية الأشياء كلها متحللة إلى عناصرها الأولية، وأنها ملأت كل الفضاء

الذي تدور فيه الآن الأجسام المكونة منه

وفي فضاء مملوء على هذا النحو، لا يمكن أن يدوم هدوء شامل إلا لحظة

فالعناصر المشتتة الأكثفنوعاً، بحكم قوتها الجاذبة، تجمع من حولها كل المادة الأقل وزناً نوعياً؛ وهذه العناصر هي الأخرى، مع المادة التي وحدتها معها، تتجمع في النقط التي توجد فيها جسيمات من نوع أكثر كثافة، وهذه بالمثل تنضم إلى جسيمات أكثف، وهلم جراً

"ولكن للطبيعة قوى أخرى،

بفعلها تتنافر هذه الجسيمات، وهي التي تحدث-بصراعها مع الجاذبيات-تلك الحركة التي هي بمثابة الحياة الدائمة للطبيعة

وقوة التنافر هذه تظهر في مرونة الأبخرة، وتدفق الأجسام القوية الرائحة، وانتشار جميع المواد الكحولية. وهذه القوة هي التي بفعلها تحيد تلك العناصر التي قد تكون ساقطة إلى النقطة التي تجتذبها

ص: 208

عن حركتها في خط مستقيم؛ وسقوطها العمودي يكون في حركة دائرية حول المركز الذي تسقط نحوه" (8).

واعتقد كانت أن جميع النجوم تجمعت أو هي بسبيل التجمع-في مثل هذه المنظومات من الكواكب والشموس، وقد أضاف عبارة ذات مغزى "أن الخليقة لا تكتمل أبداً، إنها لا تكف عن مواصلة السير"(9). وهذا الفرض السديمي الذي افترضه كانت في 1755، وكذلك التعديل الذي أدخله عليه لابلاس (1796)، حافل بالصعوبات كمعظم ما تلاه من النظريات في أصل الكون، ومع ذلك يقول فيه فلكي حي شهير "إني أعتقد أن بحث كانت عن أصل الكون كان أبدع تلخيص موضوعي للعلم حتى ذلك الوقت"(10). أما بالنسبة لنا فإن دلالة البحث تكمن في بيانه أن كانت لم يكن ميتافيزيقياً غيبياً بل رجلاً فتن بالعلم، وكافح للتوفيق بين المنهج العلمي والعقيدة الدينية. وهذا لب جهوده حتى النهاية".

وفي 1756، حين هزته كارثة زلزال لشبونة التي وقعت في 1755 - كما هزت فولتير-إلى أعماق فلسفته، نشر كانت ثلاث مقالات عن الزلازل ومقالاً عن نظرية في الرياح. وفي 1757 نشر "مجملاً لمجموعة محاضرات في الجغرافيا الطبيعية وبياناً عنها"، وفي 1758 نشر "نظرية جديدة في الحركة والسكون. فلما اتسعت دائرة اهتماماته أرسل إلى المطبعة رسائل قصيرة عن موضوعات التفاؤل (1759)، والقياس المنطقي (1762)، وأمراض الرأس (1764). وقد ألمع في هذه الرسالة إلى أن تقسيم العمل المتزايد قد يقضي إلى الجنون نتيجة التكرار الرتيب الممل. وفي 1763 انتقل إلى اللاهوت ببحث عنوانه "الدعامة الوحيدة الممكنة للبرهنة على وجود الله"؛ وواضح أنه كان مبلبل الخاطر لاهتزاز إيمانه الديني. وفي 1764، بعد ثماني سنين من نشر بيرك رسالة مماثلة، قدم "ملاحظات على الشعور بالجميل والجليل".

ومرت به أوقات خطر له فها أن يوسع فرضه في أصل الكون التطوري

ص: 209

ليشمل علم الأحياء؛ وكان على علم بأن الأشكال الجديدة تطورت من القديمة بفعل تغيرات في ظروف الحياة (11)، وقبل الرأي القائل بأن تشريح الإنسان كان في الأصل ميسراً لحركة أرجل أربع (12). ومع ذلك أحجم عن فكرة البيولوجية القائمة كلها على المذهب الآلي". "كذلك مرت بي أوقات سرت خلالها في هذه الدوامة مفترضاً هنا ميكانيكا طبيعية عمياء أساساً للتفسير، واعتقدت أنني أستطيع استكشاف طريق أسلكه إلى المفهوم البسيط الطبيعي. ولكنني كنت دائماً أنتهي إلى تحطيم سفينة العقل، ومن ثم آثرت المغامرة في محيط الأفكار الذي لا حدود له" (13). وكان رودلف راسبي (مؤلف رحلات البارون مونتشاوزن) قد اكتشف مؤخراً مخطوط ليبنتس المفقود منذ زمن طويل "مقالات جديدة في الفهم البشري" ونشره في 1765، واستطاع كانت أن يقرأه بالفرنسية، وقد أسهم في تحويله إلى نظرية المعرفة. على أنه لم يهجر اهتمامه بالعلم هجراناً تاماً، فقد كتب في تاريخ متأخر (1785) مقالاً عنوانه "في براكين القمر". غير أن الصراع الباطن بين دراساته العلمية ولاهوته الموروث حفزه إلى التماس التوفيق بينهما في الفلسفة.

ويحتمل أن يكون من العوامل التي وجهته هذه الوجهة الجديدة عرض (1770) منصب أستاذ المنطق والميتافيزيقا عليه. وكان الراتب ضئيلاً لرجل بلغ السادسة والأربعين وهو 167 طالراً في العام، زيد ببطء إلى 225 في 1786؛ وقد رفعت الراتب خدمات عارضة أداها بوصفه "سناتورا" و "أقدم أساتذة الكلية" في 1789 إلى 726 طالراً وكانت التقاليد تقضي بأن يلقي الأستاذ الجديد خطاباً افتتاحياً باللاتينية. واختار كانت موضوعاً عسيراً هو "في شكل ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول". واستعمل كانت المصطلحات "المدرسية" التي كانت تزال سائدة في الجامعات الألمانية. وقصد بالعالم المحسوس العالم كما تدركه الحواس، وسوف يسميه أيضاً فيما بعد بعالم الظواهر. أما العالم المعقول. فيقصد به العالم كما يدركه الذهن أو العقل، وسوف يسميه بعد ذلك العالم "النوميني". ونحن نحاول فهو العالم المحسوس بأن نطبق عليه المفاهيم الذاتية للزمان والمكان بواسطة الرياضة والعلوم؛ والعالم المعقول بتجاوز الحواس عن طريق العقل

ص: 210

والمتافيزيقا إلى مصادر العالم المحسوس وأسبابه فوق الحسية. هنا أرسى كانت نظريته الأساسية: وهي أن الزمان والمكان ليسا شيئين موضوعيين أو محسوسين بل شكلين من أشكال الإدراك الحسي أصيلين في طبيعة العقل وبنيانه؛ وأن العقل ليس متلقياً وناتجاً سلبياً للأحاسيس، بل هو عامل إيجابي-له طرائق وقوانين عمل أصيلة لتحويل الأحاسيس إلى أفكار.

وقد عد كانت هذا البحث الجوهري "النص الذي سيفصل القول فيه في الكتاب التالي" وتدل هذه العبارة الواردة في خطاب حرره في 1771 إلى ماركوس هرتس على أن الفيلسوف كان الآن يخطط لكتابة "نقد العقل الخالص". وبعد اثنتي عشرة سنة من العكوف على ذلك البحث الضخم نشره على الناس في 1781، وأهداه لكارل فون تسيدلنتس وزير التعليم والشئون الدينية في عهد فردريك الأكبر. وكان تسيدلنتس، كما كان الملك، ربيب حركة التنوير، ونصيراً لحرية النشر. وقد قدر كانت أن حمايته ستكون مفيدة جداً إذا استشف اللاهوتيون وراء ألفاظه الغامضة واستنتاجاته السنية في ظاهرها تحليلاً من أشد التحليلات التي تلقاها اللاهوت المسيحي تدميراً.

‌2 - نقد العقل الخالص

1781

إذا وجد العالم هذا الكتاب عسيراً فقد يكون السبب منهج العمل الذي انتهجه كانت. كتب إلى موسى مندلسون (16 أغسطس 1783) يقول: مع أن الكتاب "ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عاماً، فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلاً أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ-وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلا فلو تباطأت وحاولت صياغته في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقاً في أغلب الظن"(14). إن الوضوح يقتضي الوقت، ولم يكن كانت واثقاً من أنه يملك الوقت. وق حذف عمداً بعض الأمثلة الموضحة

ص: 211

مخافة أن يتضخم كتابه؛ "فهذه ليست ضرورية إلا من وجهة النظر الشعبية، وهذا الكتاب لا يمكن أبداً جعله صالحاً للاستهلاك الشعبي"(15). وهكذا كتب كانت لأهل حرفته، وركن إلى غيره في تبسيطه وتخفيفه ليصلح للهضم. ومع أن كرستيان فون فولف كان قد سبقه في التأليف الفلسفي بالألمانية، إلا أن تلك اللغة لا تزال على جفافها في التعبير عن ظلال التفكير، ولم تكن قد استقرت على مصطلحات فنية في الفلسفة. وكان على كانت في كل خطوة تقريباً أن يخترع ترجمة ألمانية لمصطلح لاتيني، وفي كثير من الحالات حتى اللاتينية كانت تفتقر إلى مصطلحات تفي بالفوارق الدقيقة التي أراد التعبير عنها. وقد أربك قراءه بخلعه المعاني الجديدة على الألفاظ القديمة، وبنسيانه أحياناً تعاريفه الجديدة. والصفحات المائة الأولى واضحة وضوحاً لا بأس به، أما باقي الكتاب فحريق فلسفي لا يبصر فيه القارئ غير الخبير شيئاً من الدخان.

وقد احتاج العنوان نفسه إلى إيضاح. فأنى للقارئ أن يعرف أن "نقد العقل الخالص" معناه تمحيص نقدي حصيف للعقل مستقلاً عن التجربة، و "النقد لم يعن التحليل والعرض فحسب، بل الحكم أيضاً، كما يستفاد من سلف اللفظة اليوناني (بمعنى يحكم). وقد قصد كانت أن يصف الحس، والإدراك الحسي والفكرة والعقل، وأن يقرر لكل منها حدودها واختصاصاتها الصحيحة. ثم أمل أن يبين أن في استطاعة العقل أن يعطييا المعرفة مستقلاً عن أي خبرة مؤيدة، كما هي الحال في معرفتنا أن ستة مضروبة في ستة تساوي ستة وثلاثين، أو أنه لا بد أن يكون للمعلول علة. تلك أمثلة لـ "العقل الخالص"-أعني المعرفة القبلية أو الأولية، أي المعرفة التي لا تتطلب برهاناً من التجربة. يقول: "إن ملكة المعرفة الحاصلة من المبادئ القبلية يمكن أن نسميها العقل الخالص، والبحث العام في قدرتها وحدودها (يؤلف) نقد العقل الخالص" (16). وقد اعتقد كانت بأن بحثاً كهذا سينطوي على مشكلات الميتافيزيقا؛ وكان على ثقة من أنه "ما من مشكلة ميتافيزيقية واحدة لم تحل، أو لم يقدم

ص: 212

مفتاح حلها على الأقل" في هذا النقد (17). وذهب إلى أن الخطر الوحيد الذي يخشاه "ليس خطر تفنيد آرائي بل عدم فهمي" (18).

فما الذي جرى يا ترى إلى خوض هذه المغامرة البطولية؟ قد يظن أن إعلاء حركة التنوير الفرنسية من شأن العقل-وزعم جماعة الفلاسفة أن الإيمان يجب أن يخضع للعقل-وما حاق باللاهوت المسيحي نتيجة لهذا من دمار، كان السبب الذي جعل كانت يصمم على دراسة أصل العقل وعمله وحدوده. وقد لعب ذلك الحافز دوره، كما ورد في مقدمة كانت للطبعة الثانية (19)، ولكن المقدمة ذاتها أوضحت بجلاء أن العدو الذي أسهدفه هو هذه التوكيدة الإيقانية (الدجماطيقية) بكل ألوانها-أي كل مذاهب الفكر التقليدية والمبتدعة على السواء، التي ينشئها عقل لم يخضع للامتحان. وقد لقب كرستيان فون فولف بـ "أعظم الفلاسفة الدجماطيقيين قاطبة" لأنه اضطلع بإثبات عقائد المسيحية، وفلسفة لبنتس بالعقل وحده. وكل المحاولات التي تبذل للبرهنة على صدق الدين أو كذبه بالعقل الخالص هي في نظر كانت صور من الدجماطيقية؛ وقد حكم بـ "دجماطيقية الميتافزيقا" على كل مذهب في العلم أو الفلسفة أو اللاهوت لم يخضع أولاً لامتحان نقدي للعقل ذاته.

وقد اتهم تفكيره هو، حتى عام 1770، بأنه مدان بهذه الدجماطيقية. يقول أن ما أيقظه من هذه التأملات غير الممحصة هو قراءته لهيوم-ربما كتابه "بحث في الفهم البشري" الذي ظهرت ترجمته ألمانيا له في 1755. وكان هيوم قد زعم أن كل تدليل يعتمد على فكرة العلة، وأننا في التجربة الفعلية لا ندرك العلة إدراكاً حسياً بل التعاقب وحده؛ وإذن فكل العلم والفلسفة واللاهوت يرتكز على فكرة-علة ليست غير فرض ذهني لا حقيقة مدركة حسياً. كتب كانت يقول "أعترف بصراحة أن ملاحظة ديفد هيوم هي التي قطعت على سباتي الدجماطيقي منذ سنين طويلة ووجهت أبحاثي في مجال الفلسفة النظرية في اتجاه مختلف كل الاختلاف"(20). فكيف يمكن إنقاذ مفهوم العلة من المكان الوضيع، مكان الفرض غير اليقيني، الذي

ص: 213

خلفه فيه هيوم؟ يقول كانت أنه لا سبيل إلى ذلك إلا ببيان أنه قبلي، مستقل عن الخبرة، واحد من تلك المقولات، أو أشكال الفكر، التي وإن كانت ليست بالضرورة فطرية، إلا أنها جزء من التركيب الفطري للعقل

(1)

. ومن ثم صمم على التغلب على دجماطيقية فولف وارتيابية هيوم جميعاً بنقد-أي بتمحيض نقدي-يصف في الوقت نفسه سلطة العقل ويحددها ويحييها. وهذه المراحل الثلاث-الدجماطيقية، والارتيابية، والنقد-هي في نظر كانت المراحل الثلاث الصاعدة في تطور الفلسفة الحديثة.

وفي ولع بالتعاريف، والتمييزات، والتصنيفات، وباستخدام للألفاظ الطويلة اختصاراً للكلام، قسم كانت المعرفة كلها إلى معرفة تجريبية (تعتمد على التجربة) وأخرى ترانسندنتالية (مستقلة عن التجربة ومن ثم متجاوزة لها). وقد وافق على أن المعرفة كلها "تبدأ" بالتجربة، بمعنى أن إحساساً ما لا بد أن يسبق وينبه عمليات الفكر، ولكنه يعتقد أن في اللحظة التي تبدأ فيها التجربة فإن تركيب العقل يشكلها بما تأصل فيه من أشكال "الحدس"(الإدراك الحسي) أو الإدراك العقلي. وأشكال "الحدس" الأصيلة هي الصور المشتركة بين الجميع، والتي تتخذها التجربة في إحساسنا الظاهر كمكان، وفي حساسيتنا الباطنة كزمان.

وبالمثل توجد أشكال فطرية من الإدراك العقلي أو الفكر، مستقلة عن التجربة وهي تشكلها. وقد سماها كانت المقولات، وقسمها بتناسق أولع به وحرص عليه حرصاً شديداً إلى أربع مجموعات ثلاثية: ثلاث مقولات للكم-هي الوحدة والكثرة وجملة الكل؛ وثلاث مقولات للكيف-هي الوجود والسلب وحد التناهي؛ وثلاث مقولات قوائم للإضافة هي الجوهر في مقابل العرض، والسببية في مقابل التلازم، والمشاركة أو التفاعل؛

(1)

ذكر كانت في خطاب لجارفي في 1798 تفسيراً لاحقاً لـ "يقظته" هذه. قال: "إن تناقضات العقل الخالص (الصعوبات التي ينطوي عليها الإيمان بالله أو عدم الإيمان به، أو حرية الإرادة، أو الخلود)

هي التي بدأت إيقاظي من سباق الدجماطيقي وساقتني إلى نقد العقل" (21).

ص: 214

وثلاث مقولات قوائم للجهة-هي الإمكان في مقابل الاستحالة، والوجود في مقابل العدم، والضرورة في مقابل العرضية. وكل إدراك حسي يندرج تحت واحد أو أكثر من هذه الأشكال أو القوالب الأساسية للفكر. فالإدراك الحسي إحساس تترجمه الأشكال الفطرية للزمان والمكان، والمعرفة إدراك حسي تحوله المقولات إلى حكم أو فكرة. والتجربة ليست قبولاً سلبياً لانطباعات موضوعية على حواسنا، إنما هي حصيلة العقل المؤثر إيجابياً على خامة الإحساس.

وقد حاول كانت أن يعارض ارتيابية هيوم في العلية، وذلك بأن عد علاقة العلة والمعلول شكلاً حقيقياً من أشكال الفكر لا حقيقة موضوعية؛ وهي بهذه الصفة مستقلة عن الخبرة وليست خاضعة لعدم يقينية الأفكار التجريبية. ولكنها مع ذلك جزء ضروري من كل تجربة، لأننا لا نستطيع فهم التجربة بدونها. ومن ثم فإن "إدراك العلة العقلي" ينطوي على صفة الوجوب، التي لا يمكن لأي تجربة أن تعطيها" (22). وقد ظن كانت أنه بـ "خفة القلم" هذه أنقد العلم من ذلك القيد المذل، قيد الاحتمال، الذي قضى عليه به هيوم. بل إنه زعم أن العقل البشري لا الطبيعة-هوالذي ينشئ "قوانين الطبيعة" الشاملة، وذلك بإضفائه على بعض تعميماتنا-كالتعميمات الرياضية-صفات من الشمول والوجوب لا تدرك موضوعها إدراكاً حسياً. "إننا نحن الذين ندخل ذلك الترتيب والانتظام على المظهر الذي نسميه "الطبيعة". وما كنا لنجدهما قط في المظاهر لولا أننا نحن أنفسنا بحكم طبيعة عقلنا، وضعناهما في الأصل هناك" (23) و "قوانين الطبيعة ليست كيانات موضوعية بل مركبات عقلية نافعة في معالجة التجربة".

وكل معرفة تتخذ شكل الصور أو المثل، والمثالي بهذا المعنى على صواب: فالعالم "بالنسبة لنا" ليس إلا أفكارنا. وما دمنا لا نعرف المادة إلا كأفكار وبواسطة الأفكار، فالمادة إذن مستحيلة منطقياً، لأنها تحاول أن ترد المعلوم مباشرة (الأفكار) إلى المجهول أو المعلوم بطريق غير مباشر. ولكن المثالي يخطئ إذا اعتقد أنه لا شيء "موجود" إلا صورنا، لأننا نعلم أن الصور

ص: 215

يمكن إحداثها بالأحاسيس، ونحن لا نستطيع تفسير كل الأحاسيس دون أن نفترض، لكثير منها، علة خارجية. وبما أن معرفتنا مقتصرة على الظواهر أو المظاهر-أي على الشكل الذي يتخذه السبب الخارجي "بعد" أن تشكله أساليب إدراكنا الحسي والعقلي-فإننا لا نستطيع أبداً أن نعرف الطبيعة الموضوعية لتلك العلة الخارجية (24)، ولا بد أن تظل بالنسبة لنا شيئاً-في-ذاته، ملغزاً، "نومينا" يدرك عقلياً ولا يدرك حسياً على الإطلاق. فالعالم الخارجي موجود ولكنه في حقيقته المطلقة مجهول لا يمكن معرفته" (25).

والنفس أيضاً حقيقية ولكن لا يمكن معرفتها. ونحن لا ندركها حسياً على الإطلاق بوصفها كياناً مضافاً إلى الحالات العقلية التي ندركها حسياً، وهي الأخرى"نومين" يدرك عقلياً بالضرورة باعتبارها الحقيقة التي من وراء الذات الفردية، والحس الأخلاقي وأشكال العقل وعملياته. والإحساس بالذات يمتزج مع كل حالة عقلية، ويوفر الاستمرارية والهوية الشخصية. والوعي بالذات "وعي الذات الاستبطاني" هو أوثق تجاربنا قاطبة، ولا سبيل إلى إدراكه عقلياً كشيء مادي بأي جهد بطولي من جهود المخيلة (26). ويبدو من المستحيل أن تؤثر نفس لا مادية في جسد مادي، وأن تتأثر به، ولكن لنا أن نعتقد أن الحقيقية المجهولة والكامنة وراء المادة "قد لا تكون مع ذلك شديدة الاختلاف في طبيعتها" من ذلك الشيء-في-ذاته، الباطن، الذيهو النفس (27).

وليس في استطاعتنا بالعقل الخالص أو النظري أن نثبت (كما حاول فولف) أن نفس الفرد خالدة، أو أن الإرادة حرة، أو أن الله موجود؛ ولكنا أيضاً لا نستطيع بالعقل الخالص أن ندحض هذه المعتقدات (كما خطر لبعض الشكاك أن يفعلوا) فالعقل والمقولات مهيأة للتعامل مع الظواهر أو المظاهر فقط، الظاهرة أو الباطنة، ولا نستطيع تطبيقهما على الشيء-في-ذاته، أي على الحقيقة من وراء الأحاسيس أو النفس التي من وراء الأفكار. فإذا حاولنا إثبات عقائد الدين أو دحضها وقعناً في أغلاط (في البرهان)

ص: 216

أو أغاليط (مغالطات) أو نقائض-تناقضات ملازمة. كذلك ينتهي الأمر إلى استحالات كهذه إذا قلنا أن العالم كان له بداية أو لم يكن، أو أن الإرادة الحرة أو غير حرة، أو إن كان واجباً أو كائناً أعلى موجود أو غير موجود. وعبر كانت في بلاغة غير معهودة فيه عن البرهان الغائي (28). ولكنه خلص إلى أن "قصارى ما يستطيع هذا البرهان إثباته هو "مهندس"

تعوقه دائماً أشد التعويق تكيفية المادة التي يشتغل بها، لا "خالق" .. يخضع لفكرته كل شيء" (29).

ومع ذلك كيف نستطيع الرضى بمثل هذه النتيجة المحيرة-وهي أن حرية الإرادة، والخلود، والله، هذه كلها لا يمكن إثباتها أو نفيها بالعقل الخالص، يقول كانت إن في باطننا شيئاً أعمق من العقل، هو شعورنا الذي لا يقبل التفنيد بأن الوعي، والعقل، والنفس، ليست مادية، وأن الإرادة حرة إلى حد ما، وإن يكن على نحو غامض ولا منطقي؛ ونحن لا نستطيع أن نقنع طويلاً بالنظر إلى العالم على أنه تسلسل لا معنى له من التطور والفناء دون مغزى خلقي أو عقل أصيل. فكيف نستطيع تبرير إرادة الإيمان فينا؟ من جهة (كما يقول كانت) بالجدوى الفعلية للإيمان-لأنه يقدم لنا بعض الهداية في تفسير الظواهر، ويوفر لنا شيئاً من السلامة الفلسفية والسلام الديني، يقول:

"إن أشياء العالم يجب النظر إليها" كأنها "تلقت وجودها من عقل أسمى. ففكرة (الله) هي في الحقيقة مدرك عقلي موجه، لا مدرك عقلي مباشر (هي فرض يعين على الكشف والفهم، ولكنها ليست برهاناً)

ففي ميدان اللاهوت يجب أن ننظر إلى كل شيء "كأن" جماع المظاهر كلها (العالم المحسوس ذاته) له أساس واحد، أسمى، كل الاكتفاء، وراء ذاته-هو عقل موجود بذاته، مبتكر، مبدع. لأنه في ضوء هذه الفكرة، فكرة العقل المبدع، نوجه الاستخدام التجريبي "لعقلنا" بحيث نحصل على أقصى امتداد مستطاع له .. والمفهوم المحدد الوحيد الذي يعطينا إياه العقل النظري الخالص عن الله هو، بأدق معنى، مفهوم "ربوبي"؛ أي أن العقل لا يحددالصحة

ص: 217

الموضوعية لمثل هذا المفهوم، إنما هو يعطينا فقط الفكرة عن شيء هو الأساس للوحدة الأسمى والواجبة لكل الحقيقة التجريبية" (30).

ولكن المبرر الأشد إلزاماً للاعتقاد الديني، في رأي كانت، هو أن هذا الاعتقاد لا غنى عنه للأخلاقية و "لولا أن هناك كائناً أصلياً متميزاً عن العالم، ولو كان العالم

بغير خالق، ولو كانت إرادتنا غير حرة، ولو كانت الروح

فانية كالمادة، إذن لفقدت الأفكار والمبادئ الأخلاقية "كل صحتها"(31). وإذا شئنا للصفة الأخلاقية والنظام الاجتماعي إلا يعتمدا كلية على الخوف من القانون، فلا بد لنا من دعم الإيمان الديني، ولو بوصفه مبدأً منظماً، ويجب أن نسلك، كأننا نعرف "أن هناك إلهاً، وأن نفوسنا خالدة، وأن إرادتنا حرة"(32). أضف إلى ذلك، أننا إعانة للفكر والأخلاق-مبررون في تمثيل سبب العالم بلغة تشبيهية لطيفة دقيقة. (بغيرها لا نستطيع تصور أي شيء متصل بهذا السبب) أعني ككائن ذي فهم، ومشاعر سرور واستياء، ورغبات ومشيئات تقابلها" (33).

وهكذا يختتم كتاب "النقد" الشهير، مخلفاً مذاهب الفكر المتعارضة وقد سرى عنها وأثار استياءها. لقد أصبح في وسع الشكاك أن يزعموا أن كانت برد اللاإدرية، وأن يزدروا إرجاعه الله إلى مكانته السابقة مكملاً للشرطة. ووبخه اللاهوتيون المصدومون على تسليمه بهذا القدر الكبير للكفار، واغتبطوا لأن الدين خرج-فيما بدا لهم-حياً من رحلته الخطرة داخل متاهة عقل كانت. وفي 1786 وصف كرال راينهولت هذه الضجة الكبرى فقال:

"لقد حكم الدجماطيقيون على كتاب "نقد العقل الخالص": بأنه محاولة شاك يقوض يقينية المعرفة كلها؛ والشكاك بأنه قطعة من التبجج المستعلي تضطلع بإقامة صورة جديدة من الدجماطيقية على أنقاض مذاهب سابقة؛ وفوق الطبيعيين بأنه حيلة مبيته بدهاء لإزاحة الأسس التاريخية للدين، ولاقاه المذهب الطبيعي دون جدل عنيف؛ والطبيعيون بأنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان المحتضرة؛ وحكم عليه الماديون بأنه إنكار مثالي النزعة لحقيقة

ص: 218

المادة؛ والروحانيون بأنه قصر لا مبرر له للمعرفة كلها على العالم المادي مستتر تحت اسم ميدان التجربة

" (34).

وهاجمت مدارس الفكر هذه كلها تقريباً الكتاب فأذاعت بذلك شهرته ولو بتجريحه. وأعلت من قدرة كل العوامل حتى عسر فهمه الذي جعله تحدياً يتعين على كل عقل عصري أن يقبله. وسرعان ما جرت مصطلحات كانت وألفاظه الطويلة على كل لسان مثقف.

ولم يستطع كانت أن يفهم لم عجز نقاده عن فهمه. ألم يعرف كل مصطلح أساسي مراراً وتكراراً؟ (بلى، وما أشد التباين في تعاريفه!) وفي 1783 رد على الهجمات بإعادة صياغة "النقد" فيما خاله صورة أبسط، وسمى رده في تحد "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة قادرة على الظهور كعلم". وزعم في هذا الرد أنه قبل كتابة "نقد العالم الخالص" لم تكن هناك ميتافيزيقا حقيقية على الإطلاق، لأنه ما من مذهب قدم لنفسه بتمحيص ناقد لأداته-وهي العقل. فإذا كان بعض القراء عاجزين عن فهم كتاب "النقد" فقد يكون السبب أنهم ليسوا على مستواه تماماً؛ "وفي هذه الحالة على القارئ أن يستخدم مواهبه العقلية في شيء آخر"، وعلى أي حال "ما من حاجة تدعو كل إنسان لدراسة الميتافيزيقا"(35). لقد كان في الأستاذ العجوز دعابة وكبرياء، وفيه حدة الطبع أيضاً. على أن "المقدمة" باتت كلما أو غلت عسرة عسر كتاب النقد الأصلي.

واتصل الجدل في ظل حكومة فردريك الأكبر المتسامحة. وكان كانت قد كتب في كتابه "نقد العقل الخالص" فقرات بليغة عن شرف العقل، وعن حقه في حرية التعبير (36). وفي 1784، حين كان لا يزال مطمئناً إلى حماية فردريك وتسيدلتس، نشر مقالاً عنوانه (ما التنوير؟). وقد عرف التنوير بأنه حرية الفكر واستقلاله، واتخذ شعراً ونصيحة القول المأثور "تجرأ على أن تعرف". وأبدى أسفه على تخلف التحرر الفكري نتيجة لمحافظة الأغلبية على القديم. "فإذا سألنا

ص: 219

هل عائشون في عصر مستنير؟ فالجواب لا"، إنما نحن نعيش في "عصر التنوير" "ثم حيا فردريك باعتباره عنوان حركة التنوير الألماني وحاميها، والملك الوحيد الذي قال لرعاياه "فكروا كما تشاءون"(37).

ولعله كتب هذا الكلام مؤملاً أن خليفة فردريك سيلزم سياسة التسامح. ولكن فردريك وليم الثاني (1786 - 97) كان أكثر اهتماماً بقوة الدولة منه بحرية العقل. فلما أعدت طبعة ثانية من "نقد العقل الخالص"(1787) عدل كانت بعض فقراته، وحاول التخفيف من حدة هرطقاته بمقدمة طابعها الاعتذار. قال "وجدت من الضروري أن أنفي المعرفة (بالأشياء في ذواتها) لأفسح مجالاً للإيمان

فالنقد وجده يستطيع أن يقطع جذور المادية والقدرية والكفر والإلحان والتعصب والخرافة" (38). وكان محقاً في هذا الحذر. ففي 9 يوليو 1788 أصدر يوهان كرستيان فون فولنر، وزير الإدارة اللوثرية "مرسوماً دينياً" رفض التسامح الديني صراحة باعتباره مسئولاً عن التحلل الخلقي، وهدد بالطرد من منابر الكنائس أو كراسي الجامعات كل الوعاظ أو المدرسين المنحرفين عن المسيحية التقليدية. في هذا الجو الرجعي نشر كانت "نقده" الثاني.

‌3 - نقد العقل العملي

1788

وما دام كتاب "النقد" الأول زعم أن العقل الخالص لا يستطيع أن يثبت حرية الإرادة، وما دامت الأخلاقية-في رأي كانت-تحتاج إلى هذه الحرية، فإن عمليات العقل بدت وقد تركت الأخلاقية، كاللاهوت، دون أساس عقلي. بل أسوأ من هذا أن حركة التنوير قوضت الأساس الديني للأخلاق بالتشكيك في وجود إله مثيب معاقب. فأنى للحضارة أن تبقى حية إذا انهارت عمد الأخلاقية التقليدية هذه؟ وأحس كانت أنه هو نفسه، بوصفه تلميذاً صريحاً للتنوير، ملتزم أخلاقياً بالعثور على أساس عقلي ما لناموس أخلاقي. وعليه ففي مقال تمهيدي عنوانه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق"(1785) رفض محاولة أحرار الفكر إقامة الأخلاقية على

ص: 220

تجربة الفرد أو النوع؛ فمثل هذا الاشتقاق البعدي خليق بأن يسلب المبادئ الأخلاقية تلك الكلية وذلك الإطلاق اللذين هما في رأيه شرط للمبدأ الأخلاقي السليم. ثم أعلن بما تميز به من ثقة بالنفس: "أنه من الواضح أن المفاهيم الأخلاقية كلها مستقرة ومتأصلة قبلياً في العقل كلية"(39). وقد استهدف كتابه الثاني الكبير "نقد العقل العملي" العثور على ذلك المستقر والأصل وإيضاحه. فسيحلل العناصر القبلية في الأخلاقية كما حلل الكتاب الأسبق في النقد العناصر القبلية في المعرفة.

يزعم كانت أن لكل فرد ضميراً، إحساساً بالواجب، وعياً بقانون أخلاقي آمر. "شيئان يملآن العقل بالإعجاب والرهبة المتجددين المتعاظمين أبداً

السموات المرصعة بالنجوم من فوقنا، والقانون الأخلاقي في داخلنا" (40). وكثيراً ما يتعارض هذا الشعور الأخلاقي برغباتنا الحسية، ولكننا ندرك أنه عنصر أسمى فينا من طلب اللذة. وهو ليس ثمرة التجربة، إنما هو جزء من بنائنا النفسي الأصيل، مثل المقولات؛ وهو محكمة باطنية حاضرة في كل شخص من كل جنس (41). وهو مطلق الحكم، يأمرنا أمراً غير مشروط، وبغير استثناء أو عذر، بأن نفعل الحق من أجل الحق، كغاية في ذاته، لا كوسيلة للسعادة أو الثواب أو لخير غيره. فأمره مطلق.

وهذا الأمر المطلق يتخذ شكلين: "أعمل بحيث تستطيع قاعدة إرادتك أن تظل على الدوام صادقة كمبدأ للتشريع العام"؛ أسلك بحيث إذا سلك الغير مثلك سار كل شيء على ما يرام، وهذه (الصيغة المعدلة من القاعدة الذهبية-أي التي تأمر بمعاملة الناس كما تحب أن يعاملون) هي "القانون الأساسي للعقل العملي الخالص"(42)، وهي "الصيغة لإرادة خيرة خيراً مطلقاً (43). وفي صيغة ثانية، "أعمل بحيث تعامل الإنسانية، سواء ممثلة في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، وفي كل حالة، كغاية لا كمجرد واسطة إطلاقاً" (44)، -في هذه الصيغة الثانية أعلن كانت مبدأ أشد ثورية من أي شيء احتواه الإعلان الأمريكي أو الفرنسي لحقوق الإنسان.

والإحسان بالالتزام الخلقي دليل إضافي على قدر من حرية الإرادة.

ص: 221

فأنى يكون لنا هذا الشعور بالواجب أو لم نكن أحراراً في أن نعمل أو لا نعمل، ولو كانت أفعالنا مجرد حلقات في سلسلة لا تنفصل من العلة والمعلول الميكانيكيين؟ والشخصية بدون الإرادة الحرة عديمة المعنى؛ وإذا كانت الشخصية عديمة المعنى كانت الحياة كذلك، وإذا كانت الحياة عديمة المعنى كان الكون كذلك (45). ويدرك كانت بمنطق الحتمية الذي لا يبدو ولا مهرب منه، فكيف يستطيع الاختيار الحر أن يتدخل في عالم موضوعي يبدو محكوماً بقوانين ميكانيكية (كما يعترف كانت)؟ (46) وجوابه عن هذا السؤال بلغ الغاية في الغموض والإبهام. فهو يذكرنا بأن القانون الميكانيكي مركب عقلي، نظام يفرضه العقل، بواسطة مقولته العلية، على عالم المكان والزمان ذرية للتعامل معه باتساق. وما دمنا قد قصرنا المقولات على عالم الظواهر، وما دمنا قد سلمنا بأننا لا نعرف كنه العالم النوميني-الشيء-في-ذاته الكائن خلف الظواهر-فأننا لا نستطيع الزعم بأن القوانين التي نركبها للظواهر تصدق أيضاً على الحقيقة المطلقة. وبما أننا سلمنا أننا لا نعرف، في ذواتنا، إلا الذات الظاهرية-عالم المدركات الحسية والصور فقط-ولا نعرف كنه النفس الباطنة والنومينية، فإننا لا نستطيع الزعم بأن قوانين العلة والمعلول التي يبدو أنها تحكم أفعال أبداننا (بما فيها أمخاخنا) تنطبق أيضاً على إرادات الحقيقة الروحية المطلقة الكائنة وراء عملياتنا العقلية. فوراء ميكانيكيات العالم الظاهري للمكان وللأفكار في الزمان قد تكون هناك حرية في العالم النوميني الذي بلا مكان ولا زمان، عالم الحقيقة المطلقة-الظاهرة أو الباطنة. وأفعالنا وأفكارنا تحدد بمجرد دخولها عالم الأحداث المادية أو العقلية المدركة حسياً؛ وقد تظل حرة في أصلها في النفس غير المدركة حسياً؛ "وهكذا يمكن لحرية والطبيعة أن توجد معاً"(47)، وليس في إمكاننا إثبات هذا، ولكن يجوز لنا شرعاً أن نفترضه متضمناً بحكم طبيعة حسناً الأخلاقي الآمرة؛ وبدونه تموت حياتنا الأخلاقية.

على أي حال (في رأي كانت)، لم لا ينبغي أن نقدم العقل العملي على النظري؟ أن العلم، الذي يبدو أنه يجعلنا آلات ذاتية الحركة، هو في النهاية مضاربة-مقامرة على الصحة الدائمة لنتائج ومناهج لا تفتأ تتغير. ونحن

ص: 222

على حق إذا شعرنا بأن الإرادة في الإنسان أهم من الذهن، فالذهن أداة صاغتها الإرادة للتعامل مع العالم الخارجي والميكانيكي، وما ينبغي أن يكون السيد المتسلط على الشخصية التي تستخدمه (48).

ولكن إذا كان الحس الأخلاقي يبرر افتراضنا قدر من الإرادة الحرة، فإنه يبرر أيضاً اعتقادنا بخلود النفس، ذلك أن حسناً الأخلاقي يستحثنا إلى كمال تحبطه المرة بعد المرة دوافعنا الحسية، ونحن لا نستطيع تحقيق هذا الكمال في حياتنا على الأرض؛ فإذا كان هناك عدل في العالم فلا بد أن نفترض أننا سنمنح حياة متصلة بعد الموت لاكتمالنا الأخلاقي. وإذا كان هذا يفترض أيضاً وجود إله عادل، فإن هذا أيضاً يبرره العقل العملي. فالسعادة الأرضية لا تتفق دائماً والفضيلة، ونحن نشعر أن التوازن بين الفضيلة والسعادة سيصحح في مكان ما، وهذا لا سبيل إليه إلا إذا افترضنا وجود إله يحقق هذه المصالحة، وعليه فإن وجود سبب للطبيعة كلها، متمايز عن الطبيعة ذاتها، محتوياً لمبدأ

الانسجام الدقيق بين السعادة والفضيلة، هذا أيضاً من مسلمات "العقل العملي"(49).

وقد عكس كانت النهج التقليدي المألوف. فبدلاً من أن يستنبط الحس الأخلاقي والناموس الأخلاقي من الله (كما فعل اللاهوتيون من قبل)، استنبط الله من الحس الأخلاقي. ويجب أن نتصور واجباتنا لا على أنها "أوامر تعسفية لإرادة غريبة عنا" بل قوانين أساسية لكل إرادة حرة في ذاتها". على أنه ما دامت تلك الإرادة والله كلاهما ينتميان إلى العالم النوميني، فينبغي أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية ولن ننظر إلى الأفعال (الأخلاقية) على أنها إلزامية لأنها أوامر الله، ولكنا سنعدها أوامر إلهية لأن فينا التزاماً باطنياً نحوها"(50).

وإذا كان هذا التفكير "الإرادي"(العنيد) يشوبه بعض الغموض، فقد يكون السبب أن كانت لم يكن شديد التحمس لمحاولته التوفيق بين فولتير وروسو. فقد مضى "نقد العقل الخالص" شوطاً أبعد حتى من فولتير في الاعتراف بأن العقل الخالص لا يستطيع إثبات حرية الإرادة،

ص: 223

أو الخلود، أو الله. ولكن كانت كان قد وجد في تعاليم روسو-عن تهافت العقل، وأولية الوجدان، وانبثاق الدين من الحس الأخلاقي للإنسان-مهزباً مستطاعاً من اللاإرادية، والتحلل الخلقي، وبوليس فولنر. ورأى أن روسو أيفظه من "السبات العقائدي" في الأخلاق كما أيقظه هيوم في الميتافيزيقا (51). فكان كتابه الأول في النقد ينتمي إلى حركة التنوير، والثاني إلى الحركة الرومانتيكية، ومحاولة الجمع بين الاثنين كانت من أبرع الإنجازات في تاريخ الفلسفة. وقد عزا هايني المحاولة إلى الحرص على حاجات عامة الشعب: لقد رأى الأستاذ خادمه الأمين لامبه يبكي على موت الله؛ "فرق له قلب إيمانويل كانت، وأثبت أنه ليس فيلسوفاً عظيماً فحسب، بل إنساناً طيباً أيضاً، وقال بمزيج من العطف والتهكم: "يجب أن يكون للامبه العجوز إله، وإلا فلن يستطيع أن يكون سعيداً

أما من جهتي فأنا فإن العقل العملي يستطيع أن يضمن وجود الله" (52).

‌4 - نقد الحكم

1790

ولا بد أن كانت نفسه كان غير راض عن براهينه، لأنه في كتابه "نقد الحكم" عاد إلى مشكلة الآلية مقابل الإرادة الحرية، وتقد إلى مشكلة الصراع بين الآلية والقصد، وأضاف إليها مقالات معقدة في الجمال، والجلال، والعبقرية، والفن. وهو مزيج لا يثير الشهية.

أما ملكة الحكم هذه، "فهي عموماً ملكة التفكير في الجزء على أنه محتوى في الكل"، وهي إدراج شيء أو فكرة أو حدث تحت صنف أو مبدأ أو قانون. لقد حاول كتاب "النقد" الأول أن يدرج جميع الأفكار تحت المقولات الكلية القبلية، وحاول الثاني إدراج جميع المفاهيم الأخلاقية تحت حس أخلاقي قبل كلي، أما الثالث فاضطلع بالعثور على مبادئ قبلية لأحكامنا الجمالية (الإستطيقية) -في النظام أو الجمال أو الجلال في طبيعة أو الفن، (53)"إني أجرؤ على الأقل في أن تنهض صعوبة حل معضلة، في طبيعتها مثل هذا التعقيد، عذراً يبرر بعض الغموض الذي لا يمكن تجنبه في حلها"(54).

ص: 224

إن الفلسفة "الدجماطيقية" قد حاولت من قبل أن تجد عنصراً موضوعياً في الجمال؛ أما كانت فيشعر أن هنا، على الأخص، يكون العنصر الذاتي هو الغالب. فليس هناك شيء جميل أو جليل إلا أن يجعله الوجدان كذلك. ونحن نصف بالجمال أي شيء يعطينا تأمله لذة منزهة-أي لذة مجردة من رغبة شخصية؛ فنحن نستمد إشباعاً جمالياً، وجمالياً فقط، من غروب الشمس، أو من لوحة لرفائيل، أو كتدرائية، أو زهرة، أو حفلة موسيقية، أو أغنية. ولكن لم تعطينا أشياء أو تجارب بعينها هذه اللذة المنزهة؟ لعل السبب أننا نرى فيها اتحاداً من الأجزاء يؤدي وظيفته بنجاح في كل متناسق. وفي حالة الجليل تلذنا العظمة أو القوة التي لا تهددنا بخطر؛ وهكذا نشعر بالجلاء في السماء أو البحر، إلا إذا هددنا اضطرابهما بالخطر.

ويزداد تقديرنا للجمال أو الجلال بقبولنا الغائية-أي بتبيننا في الكائنات الحية موائمة أصيلة بين الأجزاء وحاجات الكل، وبشعورنا بحكمة إلهية في الطبيعة وراء التناسق والانسجام، والعظمة والقوة. ولكن العلم يهدف إلى عكس هذا تماماً-وهو أن يثبت أن الطبيعة الموضوعية كلها تعمل بقوانين ميكانيكية، دون خضوع لأي قصد خارج عنها، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذين المدخلين إلى الطبيعة؟ بقبولنا الآلية والغائية جميعاً بقدر ما تساعداننا كمبدئين موجهين، كفرضين ييسران الفهم أو البحث. فالمبدأ الآلي يساعدنا على الأخص في البحث في المواد غير العضوية، أما المبدأ الغائي فهو خير عون لنا في دراسة الكائنات الحية. ففي هذه الكائنات قوى للنمو والتوالد تعيي التفسير الميكانيكي؛ فهناك توفيق واضح بين الأجزاء وأغراض العضو أو الكائن، كاستخدام المخالب للقبض والعيون للإبصار. ومن الحكمة الإقرار بأنه لا الآلية ولا الغائية يمكن إثبات صدقهما صدقاً كلياً. والعلم نفسه، بمعنى من المعاني، هو غائي، لأنه يفرض في الطبيعة ترتيباً، وانتظاماً، ووحدة معقولة، "كأن" عقلاً إلهياً نظمها ويبقى عليها (55).

وقد اعترف كانت بالصعوبات الكثيرة التي تعترض النظر إلى الإنسان

ص: 225

والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره والعالم على أنهما حصيلة تدبير إلهي: "إن أول شيء كان يقتضي تدبيره بجلاء في نظام يوضع بحيث يحقق كلاً غائياً للكائنات الطبيعية على الأرض هو موطنها-التربة أو العنصر الذي يراد لها أن تزكو عليه أو فيه. ولكن التعمق في طبيعة هذا الشرط الأساسي للإنتاج العضوي كله أثراً يظهر أثراً لأي علل إلا تلك التي تعمل دون غاية إطلاقاً، بل تنزع في الواقع إلى التدمير دون أن يكون القصد منها تشجيع تكوين الأنواع والنظام والغايات. والبر والبحر لا يحويان فقط آثار كوارت قديمة العهد هائلة حلت بهما وبكل ما زخرا به من كائنات حية، ولكن تكوينهما بجملته-طبقات اليابس وخطوط سواحل البحر-يحمل كل المظاهر الدالة على أنه نتيجة قوى عنيفة قهارة لطبيعة تعمل في فوضى" (56).

ومع ذلك أيضاً، فإننا لو تخيلنا عن كل فكرة في وجود هدف في الطبيعة لسلبثا الحياة كل معناها الأخلاقي، فتصبح سلسلة حمقاء من ولادات مؤلمة وميتات معذبة، ليس فيها للفرد ولا للأمة ولا للنوع شيء مؤكد إلا الهزيمة. فلا بد لنا من أن نؤمن بغاية إلهية ولو للاحتفاظ بسلامة عقولنا-وما دامت الغائية لا تثبت غير صانع مكافح بدلاً من خيرية إلهية كلية القدرة، فلا بد إذن من أن نرسي إيماننا في الحياة على حس أخلاقي لا يبرره غير الاعتقاد باله عادل. بهذه العقيدة نستطيع أن نعتقد-وأن كنا لا نستطيع أن نثبت بالبرهان-إن البار هو الغاية النهائية للخليقة، وأنه أنبل ثمرة للتدبير العظيم الملغز (57).

‌5 - الدين والعقل

1793

لم يكن كانت قانعاً قط بلاهوته الـ "كأني" المتردد. ففي 1791، في كتيب عنوانه "عن تهافت جميع المحاولات الفلسفة في الإلهيات" أعاد القول إن "عقلنا عاجز عن تبصيرنا بالعلاقة بين العالم

والحكمة السامية". وأضاف إلى هذا تحفظاً، ربما لنفسه، فقال: "على الفيلسوف ألا يلعب دور المحامي الخاص في هذا الأمر؛ وعليه ألا يدفع عن أي قضية

ص: 226

يعجز عن فهم عدالتهم، ولا يستطيع إثباتها بطرق التفكير الخاصة بالفلسفة" (58).

ثم عاد إلى المشكلة في سلسلة من المقالات أفضت به إلى تحدي الحكومة البروسية تحدياً سافراً. وطبعت أولى هذه المقالات وعنوانها "في الشر المتأصل" في "مجلة برلين الشهرية" عدد أبريل 1792. وأذن الرقيب بنشرها على أساس أن "العلماء المتعمقين في التفكير هم وحدهم الذين يقرءون كتابات كانت" (59). ولكنه رفض نشر المقال الثاني "في الصراع بين مبادئ الخير والشر للسيطرة على الإنسان". ولجأ كانت إلى حيلة. ذلك أن الجامعات الألمانية كان لها امتياز اعتماد الكتب والمقالات للنشر؛ فقدم كانت المقال الثاني والثالث والرابع إلى كلية الفلسفة بجامعة يينا (وكان يشرف عليها آنئذ جوته وكارل أوجست دوق فايمار، وكان شيلر أحد أساتذتها)، وأذنت الكلية بالنشر، وبهذا طبعت المقالات الأربع كلها في كونجزبرج عام 1793 بعنوان "الدين في حدود العقل وحده".

والسطور الأولى تعلن الفكرة الرئيسية السائدة فيها: "بقدر ما تبنى الأخلاق على مفهوم الإنسان كفاعل حر، هذا الإنسان الذي-بسبب حريته هذه-يتعامى بعقله عن رؤية القوانين غير المشروطة، فإن هذه الأخلاق في غير حاجة إلى فكرة كائن آخر من فوقه ليجعله يدرك واجبه، ولا إلى حافز غير القانون ذاته يجعله يؤديه

ومن هنا فإن الأخلاق من أجل ذاتها هي لا تحتاج إلى دين على الإطلاق" (60). ويعد كانت بطاعة السلطات، ويسلم الحاجة به إلى الرقابة، ولكنه يشدد على "ألا تسبب الرقابة أي اضطراب في مجال العلوم" (61) فغزو اللاهوت للعلم، كما حدث في حالة جاليليو، "قد يعطل جميع جهود العقل البشري

ويجب أن يتمتع اللاهوت الفلسفي بكامل الحرية على قدر ما يمتد إليه علمه" (62).

ويستنبط كانت مشكلات الأخلاق من وراثة الإنسان لنوازع الخير والشر. "لا حاجة لإقامة الدليل صورياً على أن نزعة الفساد لا بد متأصلة في الإنسان وذلك لكثرة الأمثلة الصارخة التي تضعها الخبرة أمام

ص: 227

أعيننا" (63). وهو لا يوافق روسو على أن الإنسان يولد خيراً أو كان خيراً في "حالة الطبيعة"، ولكنه يتفق معه في إدانة "رذائل الحضارة والمدنية" لأنها "أشد عيوب أذى" (64)، "والواقع أن هذا السؤال ما زال بغير جواب، وهو، ألا تكون أسعد في حالة غير متحضرة

مما نحن في حالة المجتمع الراهنة" (65) ما فيهمن استغلال ونفاق وخلل أخلاقي وتقتيل بالجملة في الحرب. وإذا شئنا أن نعرف طبيعة البشر الحقيقية فيكفي أن نلاحظ سلوك الدول.

ولكن كيف بدأ "الشر المتأصل في طبيعة البشر"؟ .. إنه لم يبدأ بسبب "الخطية الأصلية"، "فلا ريب في أن أشد التفسيرات كلها سخفاً لذيوع هذا الشر وانتشاره في جميع أفراد وأجيال نوعنا هو التفسير الذي يصفه ميراثاً منحدراً إلينا من أبوينا الأولين"(66). وربما كانت النوازع "الشريرة" قد تأصلت في الإنسان تأصلاً قوياً لأنها كانت ضرورية للبقاء في الأحوال البدائية، وهي لا تصبح رذائل إلا في المدنية-في المجتمع المنظم، وفيه لا تحتاج إلى القمع بل إلى الضبط (67). "فالميول الطبيعية، إذا نظرنا إليها في ذاتها، خيرة، أي أنها لا تلام، ومحاولة القضاء عليها ليست عديمة الجدوى فحسب، بل ضارة ومستحقة للوم. والأولى أن نروضها، وبدلاً من أن يصطدم بعضها ببعض يمكن أن ينسق بينها لتنسجم في كل يسمى السعادة (68). والخير الأخلاقي هو أيضاً غريزي، كما يدل على ذلك الحس الأخلاقي في جميع الناس، ولكنه في أول الأمر ليس إلا حاجة، لا بد من تنميتها بالتعليم الأخلاقي والتهذيب الشاق. وأفضل الأديان ليس الذي يفوق غيره في التمسك الدقيق بالعبادة الطقسية، بل أعظمها تأثيراً في الناس ليحيوا حياة أخلاقية (69). والدين القائم على العقل لا يبني نفسه على وحي إلهي، بل على إحساس بالواجب يفسر على أنه أقدس عنصر في الإنسان (70). ومن حق الدين أن ينظم نفسه على هيئة كنيسة (71)، وله أن يحاول تحديد عقيدته بالأسفار المقدسة، وأن يعبد، بحق، المسيح بوصفه أعظم البشر شبهاً بالله، وأن يعد بالجنة وينذر بالنار (72)، و "لا يمكن تصوير دين لا يحتوي على اعتقاد بحياة آخرة" (73). ولكن لا ينبغي أن يكون ضرورياً للمسيحي أن يؤكد إيمانه بالمعجزات، أو بلاهوت المسيح، أو بالتكفير عن خطايا البشر بصلب المسيح، أو بالحكم المقدر على الأرواح بالجنة

ص: 228

أو النار بالنعمة الإلهية تمنح دون نظر إلى الأعمال الصالحة أو الشريرة (74). و "من الضروري أن نغرس بعناية بعض أشكال الصلاة في أذهان الأطفال "الذين لا يزالون في حاجة إلى حرفية الدين) (75).، ولكن صلاة الضراعة "التي يتوسل بها لكسب النعمة الإلهية وهم خرافي"(76).

أما حين تنقلب كنيسة ما مؤسسة لإكراه الناس على الإيمان أو العبادة؛ وحين تزعم لنفسها الحق الأوحد في تفسير الكتاب المقدس وهي تعريف الأخلاقية، وحين تكون كهنوتها يدعي لنفسه سبل الاتصال وحده بالله والنعمة الإلهية؛ وحين تجعل من عبادتها مجموعة طقوس سحرية لها قوى معجزية؛ وحين تصبح ذراعاً للحكومة وأداة للطغيان الفكري؛ وحين تحاول أن تتسلط على الدولة وتستخدم الحكام العلمانيين مطايا للطمع الكهنوتي-عندها يثور العقل الحر على كنيسة كهذه، ويبحث خارجها عن ذلك الدين العقلي الخالص، الذي هو السعي لبلوغ الحياة الأخلاقية (77).

وقد تميز هذا الأثر الكبير الأخير من آثار كانت بالتذبذب والغموض الطبيعيين في رجل لا ولع له بحياة السجون. ففي الكثير من الحشو "السكولاستي"، ويشوبه العجيب من تشقيقات المنطق ومن اللاهوت المفرق في الخيال. ومع ذلك فالعجب العجاب مع رجل بلغ التاسعة والستين. أن يظل مبدياً مثل هذه القوة في الفكر والقول، ومثل هذه الشجاعة في صراعه مع قوى الكنيسة والدولة مجتمعة. وقد بلغ الصراع بين الفيلسوف والملك ذروته حين (أول أكتوبر 1794) أرسل إليه فردريك وليم الثاني الأمر التالي الصادر من المجلس الملكي:

"إن شخصنا البالغ السمو قد لاحظنا طويلاً باستياء شديد كيف تسيء استخدام فلسفتك لتقوي وتحط من قدر الكثير من أهم وألزم تعاليم الأسفار المقدسة والمسيحية، وكيف أنك على التحديد، فعلت هذا في كتابك "الدين في حدود العقل وحده"

ونحن نطالبك فوراً بجواب غاية في النزاهة، ونتوقع أنك في المستقبل، تجنباً لسخطنا الشديد، لن يبدر منك ما يسيء كهذا الذي بدر، بل على العكس فإنك طبقاً لمقتضيات

ص: 229

واجبك ستستخدم مواهبك وسلطتك لكي يتحقق هدفنا الأبوي أكثر فأكثر. إما إذا تماديت في المقاومة فلك أن تتوقع بالتأكيد أن تجر عليك المقاومة عواقب وخيمة" (78).

ورد كانت رداً ملؤه الاسترضاء. فذكر أن كتاباته لم يوجهها إلا للدارسين واللاهوتيين، الذي ينبغي صيانة حرية تفكيرهم لصالح الحكومة ذاتها. وقال أن كتابه قد سلم بقصور العقل في الحكم على الأسرار النهائية للإيمان الديني. ثم اختتم بتعهد الطاعة:"إنني بوصفي خادم جلالتكم المخلص كل الإخلاص أعلن هنا إعلاناً قاطعاً أنني منذ الآن سأمتنع كلية عن جميع التصريحات العلنية عن الدين، الطبيعي منه والموحي، سواء في المحاضرات أو المؤلفات. "فلما مات الملك (1797) أحس كانت أنه في حل من وعده؛ ثم أن فردريك وليم الثالث عزل فولنر (1797) وألغى الرقابة، وأبطل المرسوم الديني الصادر في 1788. وبعد هذه المعركة أجمل كانت نتائجها في كتيب سماه "صراع الملكات" (1798)، كرر فيه دعواه بأن الحرية الأكاديمية لا غنى عنها للنمو الفكري للمجتمع. ونحن إذا نظرنا إلى الأمر في جوهره، تبين لنا أن الأستاذ القصير القامة، القابع في ركن قصي من أركان المعمورة، قد انتصر في معركة ضد دولة تملك أقوى جيش في أوربا. وستنهار الدولة عما قريب، ولكن ما وافى عام 1800 حتى كانت كتب كانت أبلغ الكتب تأثيراً في حياة ألمانيا الفكرية.

‌6 - المصلح

واعتزل إلقاء المحاضرات في 1797 (بعد أن بلغ الثالثة والسبعين)، ولكنه واصل نشر المقالات في الموضوعات الحيوية حتى 1798. وظل على صلة بالشئون العالمية رغم عزلته. فلما اجتمع مؤتمر بازل عام 1795 ليرتب صلحاً بين ألمانيا وأسبانيا وفرنسا، اغتنم كانت الفرصة (كما فعل من قبل الأبيه سان-بيير مع مؤتمر أوترخت في 1713) لينشر كراسة عنوانها "في السلام الدائم".

ص: 230

وقد استهلها استهلالاً متواضعاً بوصفه "السلام الأبدي" شعاراً يليق بجبانة الموتى، وأكد للساسة أنه لا يتوقع منهم أن يروا فيه أكثر من مجرد "معلم نظري متحذلق عاجز عم إلحاق أي خطر بالدولة". (79) وبعد أن نحى مواد الصلح المبرم في بازل جانباً باعتبارها مواد تافهة قصد بها مسايرة الظروف، وضع بصفة لجنة مؤلفة من رجل واحد-"ست مواد أولية" تجمل الشروط الأساسية للسلام الدائم: فحرمت المادة الأولى جميع التحفظات والملاحق السرية لأي معاهدة. وحظرت المادة الثانية على أي دولة أن تستولي على أخرى أو تسيطر عليها. وطالبت المادة الثالثة بالتخلص تدريجياً من الجيوش الدائمة. وذهبت المادة الرابعة إلى أنه لا يجوز لأي دولة "أن تتدخل بالقوة في دستور دولة أخرى". وطالبت المادة السادسة كل دولة تخوض حرباً مع أخرى بألا "تسمح بأعمال عدائية من شأنها أن تجعل الثقة المتبادلة مستحيلة، في حالة إبرام سلام في المستقبل، كالاستعانة بالقتلة يغتالون أو يدسون السم

والتحريض على الفتنة في دولة العدو".

وإذ كان من غير المستطاع إبرام صلح طويل الأمد بين دولة لا تعترف بحدود لسيادتها، فإنه لا بد من بذل الجهود الحثيثة لتطوير نظام دولي، وإيجاد بديل للحرب بهذه الطريقة. ومن ثم وضع كانت بعض "المواد المحددة" للسلام الدائم. أولاً، "يجب أن يكون دستور كل دولة جمهورياً. ذلك أن الملكيات والارستقراطيات تنزع إلى الحروب المتكررة، إذ أن الحاكم والنبلاء هم عادة في مأمن من فقد أرواحهم وثرواتهم في الحرب، لذلك يبادرون إلى خوضها بوصفها "تسلية الملوك"؛ أما في الجمهوريات "المواطنون هم المسئولون عن قرار إعلان الحرب أو عدم إعلانها، "وهم الذين سيتحملون العواقب"، ومن ثم "فليس من المحتمل أن يغامر مواطنو دولة (جمهورية) في أي وقت بلعبة غالية التكلفة إلى هذا الحد"(80). ثانياً "يجب أن يبنى كل حق دولي على أساس اتحاد فدرالي بين الدول الحرة"، (81) وألا يكون هذا الاتحاد دولة عظمى، "فالواقع أن الحرب ليست سيئة سوءاً لا برء منه كسوء الملكية العالمية"(82). فينبغي أن يقرر كل شعب حكومته الخاصة

ص: 231

به، ولكن على كل دولة بمفردها (على الأقل .. دول أوربا) أن تتجمع في اتحاد كنفدرالي تخول له سلطة التحكم في علاقاتها الخارجية. والمثل الأعلى الذي لا بد من التمسك به هو أن تمارس الدول القانون الأخلاقي الذي تطالب به مواطنيها. فهل يمكن أن تسفر مغامرة كهذه عن شر أعظم مما ينجم عن الممارسة الدائمة للخداع والعنف الدوليين؟ لقد راود كانت الأمل بأن مكيافللي سيثبت في نهاية المطاف أنه مخطئ، وليس هناك ن داع للتضارب بين الأخلاقية والسياسية، ذلك أن "الأخلاق وحدها هي القادرة على قطع العقدة التي لا تقوى السياسة على فكها"(83).

وواضح أن كانت كان مخدوعاً في أمر الجمهوريات (التي شاركت بعد ذلك ف أبشع الحروب قاطبة)؛ ولكن ينبغي أن نقرر أنه كان يعني بـ "الجمهورية" الحكومة الدستورية لا الديمقراطية كاملة. فلقد كان عديم الثقة بالدوافع المتهورة التي تحفز رجالاً لا تكبحهم قيود (84)، وكان يخشى إطلاق حق التصويت للجميع باعتباره تسليطاً للأغلبيات الجاهلة على الأقليات التقدمية والأفراد الخارجين على الإجماع (85). ولكن كانت تغيظه الامتيازات الموروثة، وخيلاء الطبقة، والقنية التي تطوق كونجزبرج، ورحب بالثورة الأمريكية التي أخذت، في رأيه، تكون اتحاداً فدرالياً من دويلات مستقلة، على غرار النظام الذي اقترحه لأوربا. وناصر الثورة الفرنسية بحماسة تقرب من حماسة الشباب، حتى بعد مذابح سبتمبر وحكم الإرهاب.

ولكنه، شأن أتباع التنوير جميعاً تقريباً، آمن بالتعليم أكثر مما آمن بالثورة. في هذا المجال، كما في مجالات كثيرة، أحس بتأثير روسو والحركة الرومانتيكية. "يجب أن نسمح للطفل منذ نعومة أظفاره بكامل الحرية من جميع النواحي

شريطة ألا يتدخل في حرية غيره" (86). على أنه تحفظ بعد قليل في هذه الحرية الكاملة، وسلم بأن قدراً من الضبط ضروري في تكوين الخلق؛ "فإهمال الضبط شر أعظم من إهمال الثقافة، لأن إهمال الثقافة يمكن علاجه في الحياة فيما بعد"، (87) أما أفضل ضبط فهو العمل، وينبغي مطالبة الطفل به في جميع مراحل تعليمه. والتربية

ص: 232

الأخلاقية لا غنى عنها، وينبغي أن تبدأ في مرحلة مبكرة. وإذ كانت الطبيعة البشرية تحتوي بذرة الخير والشر كليهما، فإن كل تقدم أخلاقي رهن باقتلاع الشر وغرس الخير، ولا يكون هذا بالثواب والعقاب، بل بالتشديد على مفهوم الواجب".

والتعليم الذي تقوم به الدولة ليس أفضل من التعليم الذي تقوم به الكنيسة، فالدولة ستسعى إلى تكوين المواطنين المطيعين اللينين المتعصبين لوطنهم. والأفضل ترك التعليم للمدارس الخاصة التي يرأسها معلمون مستنيرون ومواطنون مشربون بروح الخدمة العامة (88). لذلك أشاد كانت بمبادئ ومدارس يوهاك بازروف. وأسف على ما تتسم به مدارس الدولة وكتبها المدرسية من تحيز للقومية، وتطلع إلى زمن تعالج فيه جميع الموضوعات بحيدة ونزاهة. وفي 1784 نشر مقالاً بعنوان "أفكار لتاريخ عام من وجهة نظر عالمية"؛ وقد أجمل المقال لتقدم البشرية من الخرافة إلى التنوير، ولم يفسح للدين إلا دوراً صغيراً، وطالب بمؤرخين يرتفعون فوق التعصب القومي.

وقد أدفأ فؤاده بالإيمان بالتقدم، الأخلاقي منه والفكري، كما أدفأ جماعة الفلاسفة أفئدتهم. ففي 1793 وبخ موسى مندلسون على قوله أن كل تقدم يلغيه تقهقر. "في الإمكان الاستشهاد بأدلة كثيرة على أن النوع الإنساني بوجه عام، لا سيما في زماننا بالقياس إلى الأزمنة السابقة كلها، قد سار خطوات لا يستهان بها نحو حياة أفضل من الناحية الأخلاقية. ولا ينقض هذا القول حالات التوقف المؤقتة. وصراخ القائلين بأن النوع الإنساني ينحط باستمرار منشؤه بالضبط أن المرء حين يقف على درجة أعلى من الأخلاقية يمتد بصره إلى مدى أبعد أمامه فيكون حكمه على حالة الناس كما هم، بالقياس إلى ما ينبغي أن يكونوا، حكماً أشد صرامة"(89).

فلما بدأ كانت آخر عقد في عمره (1794) أصاب تفاؤله المبكر شيء من الإظلام، ربما سبب الرجعية في بروسيا وتحالف الدول على فرنسا الثائرة. فانطوى على نفسه، وكتب سراً ذلك الأثر الذي نشر بعد وفاته، والذي قدر له أن يكون وصيته الأخيرة للنوع الإنساني.

ص: 233

‌7 - بعد الموت

كان في بدنه من أضأل الرجال في جيله حجماً-لا يجاوز طوله خمسة أقدام إلا قليلاً، يزيده قصراً تقوس إلى الأمام في عموده الفقري. وكان يشكو ضعفاً في رئتيه، ووجعاً في معدته، ولم يطل عمره إلا بفضل تغذية منتظمة معتدلة. ومما يتفق وطبيعته أنه وهو في السبعين كتب مقالاً عنوانه "في قدرة العقل على التحكم في الشعور بالمرض بقوة العزيمة". وكان يؤكد على حكمه التنفس من الأنف؛ فالمرء يستطيع التغلب على الكثير من نزلات البرد، وغيرها من العثرات بإقفال فمه (90). ومن ثم كان في مسيراته اليومية يمشي وحيداً تجنباً للحديث. ثم يمضي إلى فراشه بانتظام في العاشرة، ويستيقظ في الخامسة، ولم يستغرق في النوم إلا ما بعدها مرة على مدى ثلاثين عاماً (كما يؤكد لنا)(91). وقد فكر في الزواج مرتين، ثم أحجم مرتين. ولكنه لم يكن عزوفاً من عشرة الناس؛ فقد اعتاد أن يدعو ضيفاً أو ضيفين، غالباً من تلاميذه، دون أي امرأة قط-لمشاركته غداءه في الواحد بعد الظهر. وكان أستاذاً للجغرافيا، ولكن ندر أن تحرك خارج كونجزبرج، ولم يرقط جبلاً، ولعله لم ير البحر قط على قربة منه (92). وقد شد من أزره طوال محنة الفقر والرقابة عزة نفس لم تلن إلا ظاهرياً لأي سلطان غير سلطان عقله. وكان كريم النفس سمحاً، ولكنه صارم في أحكامه، يفتقد روح الفكاهة الخليق بأن ينقذ الفلسفة من الغلو في الجد. وكان حسه الأخلاقي أحياناً يبلغ من الرهافة حد التزمت الذي يسيء الظن بكل اللذات حتى تثبت أنها فاضلة.

ولقد بلغ من قلة اكتراثه بالدين المنظم أنه لم يختلف إلى الكنيسة إلا إذا اقتضته ذلك واجباته الجامعية (93). ويبد أنه لم يصل قط في حياته بعد الرشد (94). روى هردر أن تلاميذ كانت بنوا شكوكيتهم الدينية على تعليم كانت (95). وقد كتب كانت إلى مندلسون يقول "صحيح حقاً أنني أفكر بأوضح اقتناع، وبغاية الرضى، في أشياء كثيرة ليس لدي الشجاعة أبداً على قولها، ولكني لا أقول أبداً أي شيء لا أعتقده"(96).

ص: 234

وكان حتى آخر سني حياته يجاهد لتحسين عمله، وفي 1798 أخبر صديقاً:"إن العمل الذي أشغل به نفسي الآن يجب أن يتناول الانتقال من الأساس الميتافيزيقي للعلوم الطبيعية إلى الفيزياء. فلا بد من حل هذه المشكلة، وإلا كان هنا فجوة في نسق الفلسفة النقدية". (97) ولكنه في ذلك الخطاب وصف نفسه بأنه "قد عجز عن العمل الذهني". ودخل حقبة طويلة من اضمحلال البدن، والأوجاع المتراكمة، وشعور الوحشة الذي يصاحب شيخوخة العزب. ووافته المنية في 12 فبراير 1804. ودفن في كتدرائية كونجزبرج، فيما يعرف الآن بـ "ستوا كانتيانا"، (مثوى كانت) ونقشت على قبره كلماته "السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقاموس الأخلاقي في باطني".

وقد خلف عند موته خليطاً كبيراً من الكتابات نشرت على أنها "أثر منشور بعد وفاة مؤلفه" في 1882 - 84. وفي إحداها وصف "الشيء-في-ذاته"-الطبقة السفلية المجهولة من وراء الظواهر والأفكار-بأنه "ليس شيئاً حقيقياً،

ولا حقيقة موجودة، بل مجرد مبدأ

للمعرفة القبلية التركيبية للعيان-الحسي المتعدد (98) ". وقد سمته

"أي شيئاً لا وجود له إلا في فكرنا". وقد طبق هذه الارتيابية ذاتها على فكرة الله:

"ليس الله جوهراً موجوداً خارجي، بل مجرد علاقة أخلاقية في باطني

والأمر المطلق لا يفترض جوهراً يصدر أوامره من عل، ويتصور إذن على أنه خارجي، بل هو أمر أو نهي من عقلي أنا

والأمر المطلق يمثل الواجبات الإنسانية كأوامر إلهية لا بالمعنى التاريخي، كأن (كائناً إلهياً) قد أصدر أوامر للناس، بل بمعنى أن العقل

له القدرة على الأمر بسلطة شخص إلهي وعلى هيئته

"وصورة كائن كهذا، يجثو أمامه الجميع

الخ. تنبعث من الأمر المطلق، وليس العكس

أن الكائن الأعلى

هو من خلق العمل

لا جوهر خارج عني" (99).

ص: 235

وهكذا انتهت الفلسفة الكانتية التي تشبثت بها المسيحية طويلاً، في ألمانيا ثم بعدها في إنجلرة، باعتبارها آخر وأفضل أمل للألوهية، بتصور كئيب لله يراه خيالاً نافعاً نماه العقل البشري ليفسر المطلقية الواضحة للأوامر الأخلاقية.

أما خلفاء كانت الذين يجهلون هذا الأثر الذي خلفه بعد موته، فقد أشادوا به منقذ المسيحية، والبطل الألماني الذي قتل فولتير؛ وغلوا في تمجيد إنجازه غلو غلب تأثيره على تأثير أي فيلسوف من المحدثين. وتنبأ أحد تلاميذه وهو كارل راينهولت بأنه لن يمضي قرت حتى تنافس شهرة كانت شهرة المسيح (100). وقبل الألمان البروتستنت كلهم (باستثناء جوته) زعم كانت بأنه أحدث "ثورة كوبرنيقية" في علم النفس: فبدلاً من أن يكون الفكر (الشمس) هو الذي يدور حول الشيء (الأرض)، جعل الأشياء تدور حول الفكر، ويعتمد عليه. وقد أرضى غرور الذات الإنسانية أن يقال لها أن أساليبها الفطرية في الإدراك الحسي هي المقومات المحددة لعالم الظواهر. وخلص فشته (حتى قبل وفاة كانت) إلى أن العالم الخارجي من خلق العقل، واستهل شوبنهاور-الذي قبل تحليل كانت-بحثه الضخم "العالم كإرادة وفكرة" بهذا الإعلان "إن العالم فكرتي"-وهو إعلان أثار بعض الدهشة في مدام دستال.

واغتبط المثاليون لأن كانت كان قد جعل المادية مستحيلة منطقياً ببيانه أن العقل هو الحقيقة الوحيدة المعروفة لنا مباشرة. وسعد الصوفيون لأن كانت قد قصر العلم على الظواهر، وأقصاه عن العالم النوميني والحقيقي حقاً، وترك هذه المملكة الغامضة (التي أنكر في دخيلة نفسه وجودها) متنزهاًخلاصاً للاهوتيين والفلاسفة. أما الميتافزيقا، التي كان جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين قد أقصوها عن الفلسفة، فقد رد لها اعتباراً حكماً للعلوم كلها، وأقر جان بول لاشتير لألمانيا بسيادة الهواء، بعد أقر لبريطانيا بسيادة البحر، ولفرنسا بسيادة اليابس. وبنى فشته وشيلنج هيجل القلاع الميتافيزيقية على مثالية كانت الترانسندنتالية، وحتى رائعة شوبتهاور اتخذت نقطة انطلاقها

ص: 236

من تشديد كانت على أولوية الإرادة. قال شيلر "انظر كيف هيأ غني واحد أسباب الرزق لمجموعة من المتسولين"(101).

كذلك أحس الأدب الألماني هو أيضاً تأثير كانت سريعاً، لأن فلسفة عصر تكون على الأرجح أدب العصر الذي يليه. ففرق شيلر برهة في مؤلفات كانت، وكتب خطاباً ملؤه الإجلال للمؤلف، وبلغ في مقالاته النثرية غموضاً يقرب من الغموض الكانتي. وأصبح الإبهام واللبس موضة فاشية في الكتابة الألمانية، وشعار نبالة يشهد بعضوية حامله في تلك الطائفة العتيقة، طائفة نساجي خيوط العناكب. قال جوته "إن التأمل الفلسفي، على العموم، أذى للألمان، لأن من شأنه أن يجعل أسلوبهم غامضاً عسيراً مبهماً. وكلما قوي تعلقهم بمدارس فلسفية بعينها ازدادت كتابتهم سواء"(102).

ويتردد المرء في اعتبار كانت كاتباً رومانتيكياً، ولكن الفقرات الأدبية الغائمة التي كتبها في الجمال والجلال غدت من الينابيع التي انبثقت منها الحركة الرومانتيكية. ولقد انبعثت محاضرات شيلر في يينا "ورسائله في تربية الإنسان الاستطيقية"(1795) -وهي معالم على طريق تلك الحركة-من دراسته كتاب كانت "نقد الحكم". وقد هيأ التفسير الذاتي النزعة لنظرية كانت في المعرفة أساساً فلسفياً لمذهب الفردية الرومانتيكية الذي نشر لواءه مزهواً في حركة "شتورم"(الزوبعية). وعبر تأثير كانت الأدبي إلى إنجلترة، فتأثر به كولبردج وكارليل، ثم عبر إلى إنجلترة الجديدة، وأعطى اسماً لحركة إمرسن وثورو-الترانسندنتالية (103). لقد هز أستاذ الجغرافيا القصير القامة المحدودب الظهر العالم وهو يطأ أرض "متنزه الفيلسوف" في كونجزبرج. وما من شك في أنه قدم للفلسفة وعلم النفس أشق ما عرفه التاريخ إلى الآن من تحليل لعملية المعرفة.

ص: 237

الفصل الثاني والعشرون

‌الطرق إلى فايمار

‌1733 - 1787

1 -

أثينة ألمانيا

ترى لم أختار أسمى عصور الأدب الألماني فايمار دون غيرها وطناً له؟ إن ألمانيا لم يكن لها عاصمة واحدة ترتكز فيها ثقافتها كما كانت الحال في فرنسا وإنجلترة، ولم تكن تملك ثروة مركزة لتمويل هذه الثقافة. وكانت حرب السنين السبع قد أضعفت برلين ولييبزج، أما درسدن فكادت تدمرها تدميراً؛ وأما همبورج فقد بذلت مالها أولها للأوبرا؛ ثم للمسرح. وفي 1774 كانت فايمار، عاصمة دوقية ساكسي-فايمار-آيزيناخ، بلدة هادئة يسكنها نحو 6. 200 نسمة، وحتى بعد أن ذاع صيتها أشار إليها جوته بـ "هذه العاصمة الصغيرة التي تضم-كما يقول الناس على سبيل المزاح عشرة آلاف شاعر وبعض السكان" (1) فهل مجدها يا ترى بناه أفراد عظام؟.

لقد حكمت فايمار من 1758 إلى 1775 ابنة أخت فردريك الأكبر، وهي المرأة المرحة، الدوقة الأرملة آنا أماليه، التي ترملت وهي في الثامنة عشرة بموت زوجها الدوق قسطنطين، وأصبحت وصية على ولدهما كارل أوجست الذي لم يتجاوز العام الواحد. وإليها يرجع الفضل في فتح باب بين الحكومة والأدب بدعوتها فيلاند للحضور والقيام على تهذيب أبنائها (1772). وكانت واحدة من نساء عديدات مثقفات حفزن الشعراء والمسرحيين

ص: 239

والمؤرخين تحت قيادتها وحتى موتها في 1807 بإغراء الجنس والمديح، وقد حولت بيتها بعد عام 1776 صالوناً، شجعت فيه استعمال الألمانية لغة الأدب-رغم أن الجميع كانوا يتكلمون الفرنسية أيضاً.

وفي 1775 كان بلاط فايمار يضم نحو اثني عشر شخصاً وأتباعهم. وقد وجد الشاعر الكونت كرستيان تسوشتولبرج في هذا البلاط جواً ساراً خالية من الكلفة في ذلك العام الذي وصل فيه جوته. يقول "إن الدوقة العجوز (وكانت يومها في السادسة والثلاثين) هي الفطنة المجسمة، وهي مع ذلك لطيفة وطبيعية جداً. أما الدوق فغلام عجيب، كله وعد وتبشير، وكذلك أخوه. ثم هناك الكثير من الأشخاص الممتازين". (2) وفي 1787 وصف شيلر "نبيلات فايمار" بأنهن "شديدات الحساسية وقل أن تجد بينهن واحدة لم تخض تجربة غرام، وجميعهن يحاولن غزو القلوب

فهنا حكومة هادئة لا تكاد تحس بها، تسمح لكل إنسان بأن يحيا، وأن يصطلي في الهواء والشمس. وإذا كان بالمرء ميل إلى المرح فكل الفرص متاحة له" (3).

وتقلد كارل أوجست حكم الدوقية في 3 سبتمبر 1775 حين بلغ الثامنة عشرة. وما لبث أن اتخذ زوجة بعد أن أجرى معاشاً على خليلته (4)، والزوجة هي لويزة أميرة هسي-دارمشتات، ثم اقتنص جوته في الطريق، وكان يمارس الصيد في ضراوة، ويسوق مركبته في تهور مخترقاً شوارع المدينة الهادئة، ويتنقل على عجل بين النساء؛ ولكن تهوره كبحه عقل نضج ببطء حتى بلغ القدرة على الحكم الصائب. وقد درس الزراعة والصناعة وبسط رعايته عليهما، وشجع العلوم، وأعان الأدب، وجاهد لخير إمارته وشعبها. واستمع إلى مدام دستال التي جابت ألمانيا في 1803 تقول: "ليس بين الإمارات الألمانية كلها إمارة تشعرنا أكثر من فايمار بمزايا الدويلة حتى يكون أميرها رجلاً قوي الفهم قادراً على السعي لإسعاد جميع طبقات رعاياه دون أن يفقد شيئاً من طاعتهم

ومواهب الدوق الحربية يحترمها الجميع، وحديثه المثير المشرب بالتفكير يذكرنا على الدوام بأنه ربيب فردريك

ص: 240

العظيم. ولسمعته وسمعة أمه الفضل في اجتذاب ألمع رجال العلم والثقافة إلى فايمار. ولأول مرة أصبح لألمانيا حاضرة أدبية كبرى" (5).

‌2 - فيلاند

1733 -

1775

كرستوف مارتن فيلاند هو أقل الرجال الأربعة، الذين أذاعوا صيت فايمار، شهرة بين الناس، ولكن لعله كان أجدرهم بالحب. وقد عزفت على قيثارته كل مؤثرات جله تقريباً ووفقت نغماتها بكل دوره. كان ابناً لراعي كنيسة في أبروهولتسهايم (قرب بيبراخ في فورتمبرج) فنشئ على التقوى واللاهوت. فلما اكتشف الشعر جعل الرجل الفاضل كلوبشتوك مثله الأعلى، ثم تحول إلى فولتير ترفيهاً عن نفسه. ثم وجد في بلدة فارتهاوزن القريبة منه مكتبة الكونت فون شتاديون الضخمة، فنهل من الأدبين الفرنسي والإنجليزي، ونفض عنه قدراً كبيراً من اللاهوت، حتى لقد هزأ بإيمان صباه في رواية سماها "دون سلفيو فون روزالفا"(1764). ونشر مترجمات نثرية لعشرين من مسرحيات شكسبير (1762 - 66)، فأتاح بذلك لألمانيا لأول مرة نظر إلى شكسبير ككل، ويسر لكتاب التمثيليات الألمان مهرباً من الصيغة الكلاسيكية التي اتخذتها الدراما الفرنسية. وكان فنكلمان وآخرون أثناء ذلك يبشرون بالدعوة الهيلينية، وصاغ فيلاند لنفسه صورته الخاصة من هذه الدعوة فاتخذ نغمه أبيقورية خفيفة في كتابه "قصص هزلية"(1765)، وجعل رجلاً إغريقياً وهمياً البطل لأهم عمل نثري ألفه وهو "تاريخ أجاثون"(1766 - 67)، الذي وصفه ليسنج بأنه "الرواية الوحيدة اللائقة بالرجال المفكرين"(6).

وقد أراد فيلاند (البالغ ثلاثة وثلاثين عاماً) في صفحاتها المطوفة أن يبسط فلسفته في الحياة، متمثلة في المغامرات الجسدية والعقلية لرجل أثيني من عصر بركليس. قال في المقدمة "لقد اقتضت خطتنا تصوير بطلنا وهو يجتاز شتى المحن"، وهي محن من شأنها أن تربي الإنسان على الأمانة والحكمة دون الالتجاء إلى الحوافز أو الدعائم الدينية (7). وأجاثون (أي الطبيب)،

ص: 241

الشاب الوسيم، يقاوم محاولة إحدى كاهنات دلفي لإغوائه، وبدلاً من ذلك يشعر نحو العذراء الساذجة "بسوخي"(النفس) يجب نقي وإن كان مشوباً. ويدخل عالم السياسة، فيشمئز من تعصب الأحزاب، ويندد بالناخبين لافتقارهم بالناخبين لافتقارهم إلى المبدأ، ثم ينفى من أثينا. وفيما هو يهيم فيجبال اليونان يقع على لفيف من النسوة التراقيات يحتفلن بعيد باخوس برقصات شهوانية عنيفة؛ فيحسبنه باخوس، ويكدن يخنقنه بعناقهن، ثم تنقذه عصابة من القراصنة، تبيعه عبداً في أزمير لهبياس، وهو أحد سوفساطي القرن الخامس ق. م. ويشرح فيلاند فلسفة السوفسطائيين في سخط فيقول:

"إن الحكمة التي جعل منها السوفسطائيون مهنة لهم كانت من حيث الكيف كما كانت من حيث الأثر النقيض للحكمة التي جهر بها سقراط. فالسوفسطائيون علموا فن إثارة أهواء الرجال (بالخطابة)؛ بينما غرس سقراط فن سيطرة الإنسان على أهوائه. وقد بينوا كيف يظهر الإنسان أمام الناس حكيماً فاضلاً، أما هو فقد بين كيف يكون الإنسان كذلك. وهم شجعوا شباب أثينا على محاولة السيطرة على الدولة، أما هو فبين لهم أنهم سينفقون نصف عمرهم ليتعلموا كيف يحكمون ذواتهم. وكانت فلسفة سقراط تفخر بالحياة مجردة من الغنى، أما فلسفة السوفسطائيين فكانت تعرف كيف تحقق الغنى. كانت كيسة، خلابة، متقلبة، مجدت العظماء

وعبثت بالنساء، وتملقت كل شخص ينقدها ثمن التملق. كانت فيكل مكان لا تحس الغربة، لها الحظوة في البلاط، وفي مخادع النساء، ومع الطبقة الارستقراطية، وحتى مع طبقة الكهان، في حين أن تعاليم سقراط

يحكم عليها الفضوليون بأنها عديمة النفع، والمتبطلون بأنها عديمة المذاق، والأتقياء بأنها خطرة. " (8).

وتتمثل في هبياس كما يصوره فيلاند كل أفكار السوفسطائيين ورذائلهم. فهو فيلسوف، ولكنه حرص على أن يكون مليونيراً أيضاً. وهو يعتزم

ص: 242

أن ينشئ أجاثون المستقيم الخلق على أسلوب أبيقوري في التفكير والعيش. ويزعم أن أحكم سياسة ينتهجها الإنسان أن يجري وراء الأحاسيس اللذيذة، و "كل اللذات هي في حقيقتها حسية"(9). وهو يضحك من أولئك الذين يحرمون أنفسهم من لذات هذه الحياة الدنيا أملاً في مباهج السماء التي قد لا تتحقق أبداً. "فمن ذا الذي رأى مرة أولئك الأرباب، وتلك المخلوقات الروحية، التي يؤكد (الدين) وجودها؟ "فهذا كله حيلة يخادعنا بها الكهنة (10). ويدين أجاثون هذه الفلسفة لأنها تتجاهل العنصر الروحي في الإنسان وحاجات النظام الاجتماعي. ويقدمه هبياس إلى داناي المرأة الغنية الجميلة، ويشجعها على إغوائه، ويخفي عنه ماضي داناي حين كانت محظية. وترقص المرأة وتحمل أجاثون رشاقة جسدها مع سحر حديثها وموسيقى صوتها على أن يقدم لها حبه الخالص الطاهر. وتفسد داناي على هبياس مؤامراته إذ ترد حب أجاثون بمثله. ذلك أنها بعد أن تقبلت في أحضان رجال كثيرين تجد تجربة وسعادة جديدتين في حب أجاثون. وهي تتطلع إلى أن تبدأ مع أجاثون حياة جديدة أكثر طهراً بعد أن سئمت غرامياتها العديمة العاطفة. فتشتريه مع هبياس، وتعتقه، وتدعوه لمقاسمتها ثروتها؛ ولكن هبياس يبوح لأجاثون بماضي داناي وهي محظية انتقاماً منها. فيركب أجاثون البحر إلى سيراكيوز.

وهناك يكتسب سمعة طيبة بالحكمة والنزاهة، فيصبح الوزير الأول للدكتاتور ديونيسيوس. وقد تخلى الآن عن بعض مثاليته:

"فلم يعد يحلم كما كان بتلك المثاليات الرفيعة عن طبيعة البشر. أو قل أنه انتهى إلى معرفة البون الشاسع بين الإنسان الميتافيزيقي، الذي يفكر فيه المرء أو يحلم به في خلوته المتأملة، أو الإنسان الفطري وهو خارج لتوه في بساطته الفجة من يدي الطبيعة الأم، وبين الإنسان الزائف الذي جعله المجتمع والقوانين والآراء والحاجات والتبعية والصراع المتصل بين رغباته وظروفه، وبين مصلحته ومصلحة غيره، وما يترتب على ذلك من ضرورة إخفاء مقاصده الحقيقية وسترها باستمرار-أقول أن هذا كله

ص: 243

جعل الإنسان كاذباً، منحطاً، مشوهاً، متنكراً وراء مئات الصور الخداعة وغير الطبيعية. ولم يعد ذلك المتحمس، الفتى الذي كان يخيل له أن تنفيذ مشروع عظيم سهل يسير كتصوره. وقد تعلم أن على المرء ألا يتوقع الكثير من الآخرين، وألا يعتمد كثيراً على تعاونهم معه، و (أهم من ذلك كله) ألا يثق كثيراً بنفسه

وتعلم أن أكثر الخطط كمالاً هي في الغالب أسوؤها (وأنه) لا شيء في العالم الأخلاقي، كما في العالم المادي، يتحرك في خط مستقيم، وبالاختصار أن الحياة أشبه برحلة بحرية يتعين فيها على الربان أن يكيف مسيره وفق هوى الريح والجو، ولا يطمئن أبداً إلى أن التيارات المعاكسة لن تعطله أو تجنح بمركبة؛ وأن كل شيء رهن بهذا: وهو أن يضع نصب عينيه ميناء الوصول الذي يقصده رغم مئات الانحرافات عن الطريق" (11).

ويخلص أجاثون الخدمة لسيراكيوز وينجز بعض الإصلاحات، ولكن مؤامرة في القصر تخلعه، فيعتزل في تارنتوم. وهناك يرحب به صديق قديم لأبيه هو الفيلسوف والعالم الفيثاغوري أرخيتاس (ازدهر 400 - 365 ق. م) الذي يحقق حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف. وهناك يعثر على حبيبة صباه بسوخي، ولكنها للأسف متزوجة من ابن أرخيتاس، ثم يتبين أنها أخت أجاثون. على أن داناي يؤتي بها (بعصا الروائي السحرية) من أزمير إلى تارنتوم، وقد هجرت عاداتها الأبيقورية لتحيا حياة العفة والبساطة. ويطلب إليها أجناثون أن تغفر له بعد أن أدرك أنه أثم بهجرانه إياها، فتعانقه، ولكنها ترفض الزواج منه، فقد عولت على التفكير عن انحرافات الماضي بحياة الزهد والتعفف في ما بقي لها من أجل. وتختتم القصة بأجناثون قانعاً قناعة لا تصدق بأن يعد المرأتين أختين له.

والكتاب تشوبه عشرات المآخذ. فبناؤه مفكك؛ ومصادفاته ذرائع كسولة للتهرب من الصنعة الروائية؛ وأسلوبه لطيف ولكنه شديد الأطناب؛ وفي كثير من الفقرات يبتعد الفاعل عن الفعل حتى ينسى؛ وقد هنأ أحد النقاد المؤلف بعيد ميلاده بأن تمنى له حياة طويلة طول جمله. ولكن "تاريخ

ص: 244

أجاثون" برغم هذا يعد من أعظم آثار عصر فردريك. وقد دلت استنتاجاته على أن فيلاند قد اصطلح مع الدنيا، وأن في الاستطاعة الآن أن يوكل إليه تعليم الشباب المندفع المتوتر وترويضه. فعين في 1769 أستاذاً للفلسفة في إيرفورت. ومنها أصدر بعد ثلاث سنين "المرآة الذهبية" وهو كتاب بسط فيه آراءه في التربية. وافتتنت به آنا آماليا، فدعته ليجرب نظرياته التربوية مع أبنائها. فذهب، وأنفق ما بقي من عمره في فايمار، وفي 1773 أنشأ مجلة (الرائد الألماني)، التي ظلت جيلاً (1773 - 89) تحت قيادته أعظم المجلات الأدبية نفوذاً في ألمانيا. وكان النجم الفكري لفايمار حتى أتى جوته، وحين اقتحم الكاتب الشاب الجريء المدينة في 1775، رحب به فيلاند دون شعور بالغيرة، وسيظل صديقه مدى ست وثلاثين سنة.

‌3 - جوته بروميثيوس

1749 -

1775

أ - نشأته

تقبلت على يوهان فولفجانج فون جوته شتى التجارب منذ كان يجوب شوارع فرانكفورت- على- المين وهو واع بأنه حفيد عمدتها، حتى سبعينياته التي كان لأحاديثه العارضة فيها الفضل في إذاعة اسم كاتب سيرتهإكرمان (كما أذاع جونسون اسم بوزويل)، واستوعب كل ما وسع الحياة والحب والرسائل أن تمنحه، راداً إياه- في عرفان- حكمة وفناً.

وكانت فرانكفورت "مدينة حرة"، يسودها التجار والأسواق، ولكنها إلى ذلك المقر الذي خصصه الأباطرة للتويج الملوك الألمان وأباطرة الدولة الرومانية المقدسة. وفي 1749 كان يسكنها 33. 000 نسمة جلهم تقي مهذب بشوش الوجه. وكان مولد جوته في منزل متين ذي طوابق أربعة (دمره حريق في 1944 ثم أعيد بناؤه في 1951). وكان أبوه يوهان كاسبار جوته ابن خياط وفندق ميسور الحال، وقد دمر يوهان كاسبار مستقبله السياسي بالكبر والخيلاء، واعتزل مهنة المحاماة مؤثراً حياة الدراسة الهاوية في مكتبته

ص: 245

الأنيقة. وفي 1748 تزوج كاتارينا اليزابث، ابنة يوهان فولفجانج تكستور عمدة فرانكفورت. ولم ينس ابنها قط أنه عن طريقها ينتسب إلى الإشراف من غير حملة الألقاب، الذين حكموا المدينة أجيالاً قبل ذلك. قال لأكرمان وهو في الثامنة والسبعين، "نحن أشراف فرانكفورت كما نعد أنفسنا دائماً مساوين لطبقة النبلاء؛ وحين احتوت يداي إجازة النبالة (التي منحت له عام 1782) لم أر أني ظفرت بشيء أكثر مما كنت أملك منذ زمن طويل". (12) وكان يحس أن "الأوغاد فقط هم المتواضعون"(13).

وكان أكبر أطفال ستة، لم يتجاوز الطفولة منهم غيره هو وأخته كورنيليا؛ في تلك الأيام كان الحنان الأبوي الكبير يعد عناءً باطلاً. ولم يكن بيتهم بالبيت السعيد؛ فالأم لطيفة الطبع تميل إلى الفكاهة والشعر، ولكن الأب حاكم صارم متزمت أقصى عنه قلوب أطفاله بخشونة طبعه وضيق خلقه. يقول جوته مستعيداً ذكرى طفولته "لم يكن في الإمكان نمو علاقته سارة مع أبي"(14). وربما اكتسب جوته منه كما اكتسب من تجربته عضواً في مجلس شورى الدوق بعض التصلب الذي بدا عليه في أخريات حياته. وربما أخذ عن أمه روحه الشاعرة وحبه للدراما. وقد بنت في بيتها مسرحاً للعرائس؛ ولم يفق ابنها قط من افتتانه بهذا المسرح.

وتلقى الأطفال تعليمهم المبكر على يد أبيهم، ثم من معلمين خصوصيين. واكتسب فولفجانج الإلمام بقراءة اللاتينية واليونانية والإنجليزية وبعض العبرية، والقدرة على التحدث بالفرنسية والإيطالية. وتعلم أن يعزف على الهاربسيكورد والفيولنشييلو، ويرسم ويصور بالألوان، ويركب الخيل ويثاقف ويرقص، ولكنه اتخذ الحياة خير معلم له. فارتاد كل نواحي فرانكفورت بما فيها حي اليهود؛ وسدد النظرات الغرامية للفتيات اليهوديات الحسان، وزار مدرسة يهودية، وحضر حفلة ختان، وكون لنفسه فكرة عن أيام اليهود المقدسة (15). وأضافت إلى تعليمه أسواق فرانكفورت إذ جلبت إلى المدينة وجوهاً وسلعاً غريبة دخيلة، وكذلك أضاف الضباط الفرنسيون في بيت جوته إبان حرب السنين السبع. وفي 1764 شهد الصبي ذو الخمسة

ص: 246

عشر ربيعاً تتويج يوزف الثاني ملكاً على الرومان؛ وقد حفظ كل صغيرة وكبيرة في الحفل، وأنفق عشرين صفحة على وصفه في سيرته الذاتية (16).

وحين ناهز الرابعة عشرة وقع في أول غرام من غرامياته الكثيرة التي أثمرت نصف شعره. وكان في تلك الآونة قد اشتهر ببراعته في قرض الشعر، فطلب إليه بعض الصبية ممن اختلط بهم أحياناً أن يكتب خطاباً منظوماً بأسلوب فتاة موجهة إلى فتى؛ فأحسن كتابته، مما حملهم على أن يرتبوا تسليمه لعضو مقيم من جماعتهم على أنه مرسل إليه من حبيبته. وأراد الصبي أن يرد على الشعر بالشعر ولكن أعوزته الكفاية وخانته القوافي، فطلب إلى جوته أن ينظم له رداً. فوافق، وعرفاناً بجميله دفع العاشق نفقات نزهة خرجت فيها الجماعة إلى فندق في إحدى ضواحي المدينة. وكانت الخادمة صبية مراهقة تدعى مرجريته- أو جرتشن اختصاراً، وقد أطلق جوته اسمها على بطلة تمثيليته "فاوست". وربما هيأته القصص الغرامية التي قرأها، والرسائل التي كتبها، لتذوق سحر الأنوثة في الصبايا. كتب وهو في الستين يقول "إن أول نوازع الحب في شاب غشيم يتجه اتجاهاً روحياً بحتاً. ويبدو أن الطبيعة ترغب في أن يدرك أحد الجنسين بحواسه الجمال والطبيعة في الجنس الآخر. وهكذا تكشف لي عالم جديد من الجميل والرائع بمرأى هذه الفتاة وبميلي الشديد لها". (17) ولم يفقد ذلك العالم بعدها قط؛ فكانت المرأة بعد المرأة تحرك روحه الحساسة، وتحركها غالباً بالتبجيل كما تحركها بالرغبة؛ فحين كان في الثالثة والسبعين وقع في غرام فتاة في السابعة عشرة.

وغلبه الارتباك لحظة وأعجزه عن التحدث إلى ساحرته. "ذهبت إلى الكنيسة مدفوعاً بحبي لها

ورحت خلال الخدمة البروتستنتية الطويلة أحدق فيها بملء عيني". (18) ثم رآها ثانية في فندقها جالسة في المغزل. كما جلست جرتشن أخرى في فاوست. واتخذت هي الخطوة الأولى الآن، ووقعت في ابتهاج الخطاب الغرامي الثاني الذي اصطنعه كأنه مرسل من فتاة. ثم قبض على واحد من الجماعة كان جوته قد أوصى جده به، وهو يزيف سندات ووصايا؛ فهي فولفجانج أبواه عن مزيد من الاتصال بهؤلاء

ص: 247

الصبية، ورحلت جرتشن إلى مدينة بعيدة، ولم يرها جوته بعدها قط. وقد تضايق كثيراً حين علم أنها قالت "كنت أعامله دائماً على أنه طفل"(19).

وكان الآن (1765) راضياً تمام الرضى بالرحيل عن فرانكفورت ودراسة القانون في جامعة ليبزج، وراح ككل شاب طلعة يقرأ قراءات واسعة خارج الموضوعات المقررة لدراسته. وكان قد تصفح "قاموس بيل التاريخ النقدي" في مكتبة أبيه، وخرج منه بأذى كبير لإيمانه الديني؛ "ما إن وصلت إلى ليبزج حتى حاولت أن أتحرر كلية من صلتي بالكنيسة"(20). ثم أنفق فترة في التنقيب في الغيبيات والخيمياء وحتى السحر، وهذا أيضاً دخل في مسرحية "فوسمت". ثم جرب الحفر وصنع الرواسم من الخشب، ودرس مجموعة الصور المعروضة في درسدن؛ وتكررت زياراته للمصور أويزر في ليبزج. وقد ألم بكتابات فنكلمان بطريقة أويزر، وعن هذه الكتابات وكتاب ليسنج "اللاوكون" تلقى أول نفحات إجلاله للطراز الكلاسيكي. وكان هو وطلاب آخرون يعدون استقبالاً حاراً لفنكلمان في ليبزج حين وافاهم نبأ مصرعه في تريست (1768).

وكان الإحساس بالجمال هو الغالب في مدخله إلى العالم. ففي الدين لم يحب غير أسراره المقدسة، المثيرة، الغنية بالألوان. ولم يحب الفلسفة كما كتبها الفلاسفة، باستثناء سبينوزا؛ وكان يرتعد من المنطق ويهرب من كانط. وقد أحب الدراما، وكتب مسرحية لا قيمة لها في ليبزج، ودأب على قرض الشعر كل يوم تقريباً، حتى وهو يستمتع إلى محاضرات القانون. والقصائد التي نشرها باسم "أغاني ليبزج" مكتوبة بأسلوب أناكريون، فيها عبث ولهو، وأحياناً إثارة وشبق:

ومع ذلك فأنا قانع تملؤني الفرحة

إن هي جادت فقط ببسمتها الحلوة،

أو إن استعملت وهي على المائدة

قدمي حبيبها وسادة لقدميها؛

ص: 248

أو أعطني التفاحة التي قضمتها،

أو الكأس التي شربت منها،

وكشفت عن ثديها المكنون

حين تنشد ذلك قبلتي (21).

أكانت هذه مجرد من؟ لا فيما يبدو. ذلك أنه كان قد وجد في ليبزج رأساً جميلاً- رأس آنيت شونكويف- راغباً في أن يلج على الأقل الدهليز إلى الحب. وكانت ابنة تاجر خمور يقدم وجبة الظهر للطلاب. وكان جوته يتناول طعامه هناك مراراً فاشتهاها. واستجابت لحرارة عاطفته بتحفظ حكيم، وسمحت لرجال آخرين بأن يتقربوا منها، فبدأ يغار، وأخذ يتجسس عليها؛ وتشاجرا ثم تصالحا، ثم تشاجرا وافترقا. ولقد ذكر نفسه حتى في هذه النشوات أنه حفيد عمدة، وأن باطنه قريناً- هو حافز ودافع لجن نهم يطالب بالحرية في سبيل الاكتمال التام إلى مصيره المحتوم. وقبلت آنيت خطيباً غيره.

ورأى جوته في هذا هزيمة له، وحاول نسيانها بالانغماس في اللذات. "لقد فقدتها حقاً وكان للجنون الذي انتقمت به لخطئي من نفسي بالعدوان على طبيعتي الجسدية بشتى الطرق المسعورة، لألحق بعض الأذى بطبيعتي الخلقية- أقول كان له ضلع كبير جداً في إصابتي بالأمراض البدنية التي خسرت بسببها بعضاً من أفضل سني عمري". (22) واستسلم للاكتئاب، وأصابه عسر هضم عصبي، وابتلى بورم مؤلم في عنقه، واستيقظ ذات ليلة على نزيف كاد يقضي عليه. وغادر ليبزج دون أن يظفر بدرجته الجامعية، وقفل إلى فرانكفورت (سبتمبر 1768) ليواجه تأنيب الأب ومحبة الأم.

ثم تعرف أثناء فترة نقاهته الطويلة إلى سوزانة فون كلتنبرج، وكانت تقوية مورافية، لطيفة، عليلة. "كان صفاؤها وهدؤ عقلها لا يبرحانها قط، وكانت تنظر إلى مرضها نظرتها إلى عنصر ضروري في وجودها الأرضي

ص: 249

العابر" (23). وقد وصفها بعد سنين وصفاً فيه تعاطف وبراعة في "اعترافات روح جميلة". التي أدخلها في كتابه "ولكنه سجل في غير مبالاة مزاعمها من أن قلقه واكتئابه سببهما إخفاقه في المصالحة مع الله. "كنت أعتقد منذ حداثتي إنني على علاقة طيبة جداً مع إلهي- لا بل إنني تخيلت

أنه قد يكون مديناً لي بدين لم يوفه بعد، لأنني كنت مع الجرأة بحيث رأيت أن عليه لي مأخذاً يقتضي أن اغتفره له. وكان هذا الغرور قائماً على حسن نيتي الذي لا حد له، وهو ما كان خليقاً بإلهي أن يعينني عليه معونة أفضل كما بدل لي. وللقارئ أن يتصور كم من المرات دخلت في مناعات مع أصدقائي حول هذا الموضوع، ولكنها كانت تنتهي دائماً بغاية المودة والصفاء" (24).

ومع ذلك مرت به لحظات متفرقة من التقوى، إلى حد الاختلاف إلى بعض جلسات الإخوان المورافيين، ولكن نفره من هؤلاء القوم البسطاء (25)، "ضعف ذكاءهم" وسرعان ما ارتد إلى الجمع المتقطع بين الإيمان بوحدة الوجود والشك العقلاني.

وفي أبريل 1770 رحل إلى ستراسبورج أملاً في نيل درجته القانونية. ووصفه زميل من الطلاب (وهو في الحادية والعشرين) بأنه "فتى وسيم الوجه، له جبين رائع وعينان واسعتان متقدمتان "ولكنه أردف" أن التعامل مع هذا الشاب لن يكون أمراً يسيراً، إذ يبدو أن له طبعاً جموحاً غير مستقر"(26). وربما كان مرضه الطويل سبباً في إثارة أعصابه؛ وكان "قرينه" أشد إقلاقاً له من أن ينيله الهدوء والاستقرار، ولكن أي شاب تسري النار في دمه يستطيع أن ينعم بالهدوء؟ وحين وقف أمام الكتدرائية الكبرى حياها بشعور الوطنية، لا بوصفها كاثوليكية بل معماراً ألمانياً، معمارنا، فالإيطاليون لا يستطيعون المفاخرة بشيء نظيرها، وأقل منهم الفرنسيون" (27) (ولم يكن قد رأى بعد إيطاليا ولا فرنسا). "وصعدت وحيداً إلى أعلى قمة في البرج

وغامرت من هذا العلو بأن أخطو إلى الخارج على افريز لا يكاد يبلغ ياردة مربعة. وقد أوقعت هذا الرعب

ص: 250

والعذاب على نفسي مراراً وتكراراً حتى أصبحت التجربة في نظري أمراً غير ذي بال". (28) وقد لاحظ أحد أساتذته أن "الهرجوته كان يسلك بأسلوب جعل الناس ينظرون إليهم نظرتهم إلى دعي كاذب من أدعياء العلم، وخصم مسعور لكل تعليم ديني. والرأي الذي أجمع عليه الكل تقريباً أن في رأسه برجاً ناقصاً" (29).

وعملت التجارب الجديدة الكثيرة على تأجيج ناره. فقد التقى بهردر مرات خلال إقامته في ستراسبورج. وكان هردر الذي يكبره بخمس سنوات، هو الطرف المسيطر في هذه اللقاءات؛ وقد وصف جوته نفسه، في نوبة تواضع عارضة، بأنه "كوكب" يدور حول شمس هردر. وأزعجته نزعة هردر الدكتاتورية، ولكنه حفزه إلى قراءة الأغاني الشعبية القديمة، وكتاب مكفرسن "أوسيان" ومسرحيات شكسبير (في ترجمة فيلاند). ولكنه قرأ أيضاً فولتير وروسو وديديرو ثم درس مقررات في الكيمياء والتشريح والولادة، فضلاً عن مواصلة دراسة القانون

ثم أنه واصل دراسته للنساء.

ذلك أنه شعر بفتنتهن بكل ما في الشاعر من حساسية مرهفة، وكل ما في الشاب من توهج كهربي. وبعد هذه الحقبة بسبعة وأربعين عاماً أخبر إكرمان بأنه يعتقد أن للأشخاص تأثيراً مغنطيسياً غامضاً على غيرهم، وأكثره عن طريق تباين الجنس (30). فكانت تحركه خطرات الفتيات الخفيفة الرشيقة، وموسيقى أصواتهن وضحكهن، ولون أثوابهن وحفيفها؛ وكان يحسد الزهرة التي كن أحياناً يزين بها مشدهن أو شعرهن على التصاقها بهن. وكانت الواحدة تلو الأخرى من هذه المخلوقات السحرية تستنفر دمه، وتكبر في خياله، وتحرك قلمه. لقد أحب من قبل جرتشن وآنيت، وعما قليل سيكون هناك وللي وشارلوته، ثم منا وأولريكه. أما الآن، في زيزنهايم (قرب ستراسبورج). فكانت افتنهن قاطبة- فردريكه بريون.

كانت الابنة الصغرى (تسعة عشر ربيعاً في 1771) لراعي كنيسة

ص: 251

المدينة، الذي شبهه جوته بقسيس ويكفيلد الفاضل الذي روى جولد سمت قصته. والصفحات التي كتبها جوته عن فردريكه في سيرته الذاتية هي أروع ما كتب في حياته من نثر (31). وكان يركب مراراً من ستراسبورج ليستمتع بما اتسمت به هذه الأسرة الريفية من بساطة لم تفسدها حضارة. وكان يصطحب فردريكه في نزهات طويلة لأنها كانت ترسل نفسها على سجيتها في الهواء الطلق. وقد أحبته، ومنحته كل ما طلب. "في خلوة في الغابة تعانقنا بعاطفة عميقة، وتبادلنا أخلص التأكيدات بأن كلاً منا يحب الآخر من أعماق قلبه". (32) ولكن سرعان ما راح يعترف لصديق بأن "المرء لا تزداد سعادته مثقال ذرة بنيله ما تمنى".

وكان خلال ذلك يكتب باللاتينية رسالة الدكتوراه التي أكدت (كما أكد فبرونيوس حق الدولة في الاستقلال عن الكنيسة. وقد نالت موافقة الكلية الجامعية؛ ونجح في الامتحانات؛ وفي 6 أغسطس 1771 نال درجة الليسانس في القانون. وجاء أوان الرحيل عن ستراسبورج. فركب إلى زيزنهايم ليودع فردريكه، "وحين مددت إليها يدي وأنا على صهوة جوادي، اغرورقت عيناها بالدموع. وأحست بضيق شديد

وبعد أن نجوت آخر الأمر من انفعال الوداع، تمالكت نفسي تماماً ومضيت في رحلة هادئة مطمئنة". (33) أما تقريع الضمير فجاء بعد ذلك. "لقد انتزعت جريتشن مني؛ وهجرتني آنيت؛ أما الآن فكنت مذنباً لأول مرة. فقد جرحت أحب قلب جرحاً في الصميم؛ وكانت فترة الندم الكئيب مع افتقادي ذلك الغرام المنعش الذي كنت قد ألفته- فترة عذاب أليم .. " (34) إنه شعور أناني إلى حد محزن، ولكن من منا، في تجارب الحب وزلاته، لم يجرح قلباً أو قلبين قبل أن يظفر بقلب؟ وماتت فردريكه دون أن تتزوج، في 3 أبريل 1813.

ب- جوتز وفرتر

لم يمارس حامل إجازة القانون الجديد مهنة المحاماة في فرانكفورت إلا كرهاً وكان يزور دارمشتات بين الحين والحين، وأحس تأثير تمجيدها

ص: 252

للعاطفة في وجدانه. وجاز الآن فترة من رد الفعل الشديد ضد فرنسا، وضد الدراما الفرنسية وقواعدها الصارمة، وحتى ضد فولتير. وراح يسيغ أكثر فأكثر شكسبير الذي عرض على خشبة المسرح طبيعة الإنسان حلالاً كانت أو حراماً. في هذا المزاج، وفي عنفوان الشباب وحيويته، كان مهيأ للحركة الزوبعية. فتعاطف مع رفضها للسلطة، وإعلائها للغريزة فوق العقل، وللفرد البطل فوق الجماهير الحبيسة في سجن التقاليد. وهكذا كتب "جوتز فون برليشنجن" في 1772 - 73.

وكانت إنجازاً ممتازاً من فتى في الثالثة والعشرين: دراما جمعت بين الحب والحرب والخيانة في قصة تنبض بالحماسة للحرية، وتنضج حيوية، وتشد الانتباه من أولها لآخرها. أما جوتز هذا ففارس أطاح الرصاص بيمناه في المعركة وهو في الرابعة والعشرين (1504)؛ فركبت في ذراعه يد حديدية أعانته على استعمال سيفه قاطعاً بتاراً كما كان من قبل، وإذ رفض الاعتراف بأي سيد إلا الإمبراطور، فقد أصبح واحداً من أولئك "البارونات اللصوص" الذين ادعوا باسم الحرية أن لهم مطلق السلطة على أرضهم إلى درجة سلب عابري السبيل وشن الحروب الخاصة. وفي 1495 أصدر الإمبراطور مكسمليان الأول مرسوماً يحرم الحروب الخاصة، وإلا كان عقاب المذنب مزدوجاً- النفي بأمر الإمبراطور والحرم بأمر الكنيسة. ورفض جوتز ذو اليد الحديدية النفي لأنه يخالف الحقوق المتوارثة، ودارت التمثيلية أول أمر حول الصراع بين فارس المتمرد وأمير بامبرج الأسقف. وإذ كان جوته يحب النساء أكثر كثيراً من حبه للحرب، فإنه ركز الاهتمام على أوليده فون فالدورف التي ألهب جمالها وثراؤها رجالاً كثيرين بالرغبة المشبوبة المستهترة. ففي سبيلها نقض أدلبرت فون قايزلنجن، وهو فارس "حر" آخر، تحالفه مع جوتز وفسخ خطبته لماريا أخت جوتز، وإنجاز إلى الأسقف. ولعل جوته تذكر- في حب فايزلنجن المتذبذب- عدم وفائه هو. وأرسل نسخة من التمثيلية إلى فردريكه بيد صديق قائلاً "سيري عن فردريكه المسكينه بعض الشيء أن ترى العاشق الخائن يموت بالسم"(35).

ص: 253

وقد حور المؤلف التاريخ ليطوعه لمسرحيته، فجوتفريد فون برليشنجن لم يبلغ في نبله وشهامته مبلغ جوتز كما صوره جوته؛ ولكن تعديلات كهذه تعد من قبيل الجواز الشعري، شأنها شأت القوافي المشوهة. كذلك يغتفر لجوته ذلك الحديث الخشن المتهور الذي أجراه على لسان بطله تعبيراً عن الفحولة. وحيي أخرجت المسرحية في برلين (1774) أدانها فردريك الأكبر "تقليداً بغيضاً" لتلك "البربرية" التي رآها هو في شكسبير، كما رآها فولتير؛ ثم دعا المسرحيين الألمان أن يلتمسوا نماذجهم في فرنسا. وقد وافق هردر فردريك أول الأمر، وقال لجوته "لقد دمرك شكسبير"(36)، ولكنه بعث بالنسخة المشهورة إلى أصدقائه مشفوعة بالتقريظ العظيم. "أمامكم ساعات من السحر. فهناك قدر غير عادي من القوة والعمق والإخلاص الألماني الأصيل في التمثيلية، وإن كانت بين الحين والحين لا تعدو أن تكون تدريباً ذهنياً"(37). أما الجيل الأصغر فقد حيا جوته بوصفه أسمى تعبير عن حركة "شتورم" وطالب للقراء الألمان أن يسمعوا أخبار فرسان العصر الوسيط، ورموز الخلق الألماني الجبار. ولذ البروتستنت أن يسمعوا أصداء لوثر في "الأخ مارتن"، الذي يشكو من أن نذوره الفقر والعفة والطاعة نذور غير طبيعية، والذي يصف المرأة بأنها "فخر الخليقة وتاجها"، ويهش للخمر لأنها "تبهج قلب الرجل"، ويقلب قولاً مأثوراً قديماً بقوله أن "البهجة أم الفضائل كلها"(38). وحتى أبو جوته، الذي اضطر أن يعاونه في مهنة المحاماة والذي رأى فيه صورة لتدهور سلالة أبيه، اعترف بأنه ربما كان في غير الغلام خير رغم كل شيء.

وفي مايو 1772 كان على المحامي الشاب أن يذهب في مهمة قضائية إلى فنتسلار، مقر محكمة الاستئناف الإمبراطورية. وراح يجول بين الحقول والغابات ومخادع النساء غير مكترث البته بالقانون، وهو يرسم ويكتب ويستوعب. وفي فنتسلار التقى بكارل فلهلم يروزاليم، الشاعر والمتصوف، وجيورج كرستيان كستنر، وهو موثق وصفه جوته بأنه "يتسم بالسلوك الهادئ الرصين، وبوضوح الرؤية،

وبالنشاط الرزين الذي لا يكل" (39)،

ص: 254

وبلغ من ثقته بالترقي في وظيفته أنه كان مرتبطاً بفتاة ليتزوجها. وقد وصف كستنر جوته وصفاً فيه سماحة وكرم:

"هو في الثالثة والعشرين، والابن الوحيد لأب غني جداً. وقد تقرر- وفقاً لمشيئة أبيه- أن يمارس المحاماة في المحكمة هنا، أما مشيئته هو فهي أن يدرس هومر وبندار وأي شيء آخر توحي به عبقريته وذوقه وقلبه

والحق أنه صاحب عبقرية أصيلة، ورجل على خلق. وهو صاحب خيال ذو حيوية خارقة، ويعبر عن نفسه بالصور والتشبيهات

ومشاعره عنيفة، ولكنه يملكها عادة. وقناعاته نبيلة، وهو بريء تماماً من الهوى ويسلك كما يحب دون أن يعبأ إن كان سلوكه هذا يسر غيره، أو هو السلوك العصري، أو السلوك المباح. وكل ألوان القهر بغيضة في نظره. وهو يحب الأطفال، وفي وسعه أن يلاعبهم ساعات بطولها

إنه رجل ممتاز تماماً" (40).

وفي 9 يونيو 1772 التقى جوته بخطيبة كستنر في حفلة رقص ريفية، واسمها شارلوته بوف. ثم زارها في الغد، ووجد في الأنوثة فتنة جديدة. أما لوته هذه التي كانت يومها في العشرين فهي أكبر الأخوات في أسرة من أحد شر طفلاً. وكانت الأم ميتة والأب مشغولاً بكسب قوته؛ وقامت لوته بدور الأم للأطفال الكثيرين. ولم تؤت بهجة الفتاة الصحيحة البدن ونضارتها فحسب، بل زادت عليهما جاذبية المرأة الشابة التي تؤدي في بساطة وأناقة هندام مهام وظيفتها بكفاءة وحب وبشاشة. وسرعان ما وقع جوته في غرامها، فما كان في استطاعته أن يظل طويلاً بغير صورة أنثى تدفئ خياله. ورأى كستنر الموقف، ولكنه لثقته مما يملك أبدى تسامحاً كريماً. أما جوته فقد سمح تقريباً بمزايا الخطيب المنافس، ولكن لوته كانت دائماً تصده، وتذكره بأنها مخطوبة. وأخيراً طلب إليها أن تختار بينهما، ففعلت، ورحل جوته عن فنتسلار في الغد (11 سبتمبر) دون أن تختلج كبرياؤه إلا لحظة. وظل كستنر صديقه الوفي حتى مماته.

وقبل أن يعود جوته إلى فرانكفورت توقف في ايرنبرايشتاين على الرين، وهي موطن جيورج وصوفي فون لاروش. وكانت لصوفي ابنتان "سرعان

ص: 255

ما جذبتني بشدة كبراهما مكمسليانة، وإنه لإحساس لذيذ جداً حين يبدأ غرام جديد في التحرك داخلنا قبل أن يخمد القديم تماماً. فعند غروب الشمس يود المرء أن يرى القمر يطلع على الجانب المقابل" (41). على أن مكسمليانة تزوجت بيتر برنتانو، وولدت بنتاً رشيقة اسمها بتينا، وقعت في غرام جوته بعد خمسة وثلاثين عاماً. وراض جوته نفسه على حياة فرانكفورت والمحاماة. ولكنه لم يرتض هذه الحياة تماماً، فقد فكر حيناً في الانتحار. يقول:

"كنت أملك فيما أملك من مجموعة كبيرة من السلاح خنجراً جميلاً جيد الصقل. وكنت أضعه كل ليلة بجوار فراشي، وقبل أن أطفئ الشمعة جربت إن كان في استطاعتي أن أفلح في إغماد السن الحاد بوصتين في قلبي. فلم أوافق في هذه المحاولة قط، أقلعت أخيراً عن الفكرة بضحكي من نفسي، وكففت عن كل أوهامي ووساوسي، وصممت على أن أعيش.

"ولكي أستطيع هذا العيش في بشر اضطررت إلى حل مشكلة أدبية، تتحول فها كل مشاعري الماضية

إلى ألفاظ. فجمعت لهذا الغرض العناصر التي كانت تعتمل في سنوات، واستحضرت في ذهني الحالات التي أثرت في وعذبتني أشد تأثير وعذاب؛ ولكن شيئاً لم ينته إلى شكل محدد. فقد افتقدت الحدث، أو الأسطورة، التي يمكن فيها أن ترى هذه الحالات كلاً متكاملاً" (42).

وقد محام من زملائه في فتسلار هذا الحدث الذي يدمج هذه العناصر. ففي 30 أكتوبر 1772 قتل فلهلم يروزاليم نفسه يأساً من حبه لزوجة صديق له، بعد أن استعار مسدساً من كستنر. قال جوته وهو يستحضر الحدث "وبمجرد سماعي بنبأ موت يروزاليم .... تشكلت خطة "فرتر" في ذهني، وتسابق الكل معاً من جميع الجوانب"(43). ربما، ولكنه لم يبدأ تأليف الكتاب إلا بعد خمسة عشر شهراً. وواصل أثناء ذلك مغازلته لمكسمليانة برنتانو- التي كانت قد انتقلت مع زوجها إلى فرانكفورت- بمثابرة وإصرار جعلا الزوج يحتج، فانسحب جوته.

وشتت جهده ألوان مختلفة من المشروعات الأدبية المخففة. فقد داعب

ص: 256

فكرة قص قصة اليهودي التائه من جديد، وخطط زيارة يقوم بها اليهودي لسبينوزا، وأن يبين أن الشيطان كما تدل جميع الظواهر منتصر على المسيح في العالم المسيحي (44)، ولكن لم يزد على عشر صفحات في "اليهودي التائه". ثم نظم هجائيات في ياكوبي، وفيلاند، وهردر، ولنتس، ولافاتر، ولكنه وفق رغم ذلك على كسب صداقتهم. وشارك في كتاب لافاتر في الفراسة، سمح له بأن يفحص قسمات دماغه، وكانت النتائج مرضية لغروره. وكان حكم السويسري "إن هنا ذكاء، مع حساسية تؤججه. لاحظ الجبين النشيط

والعين السريعة النفوذ والفحص والافتتان

والأنف، الذي يكفي ذاته إعلاناً عن الشاعر .. مع الذقن الفحل، والأذن القوية المتسعة- فمن ذا الذي يرتاب في العبقرية الكامنة في هذا الدماغ؟ (45) ومن ذا الذي يستطيع تطبيق هذه المقاييس الدماغية؟ " على أن ياكوبي قال أن هذا ممكن، لأنه بعد أن زار جوته في يوليو 1773 وصفه في رسالة إلى فيلاند بأن "عبقري من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، رجل به مس من الجن، كتب عليه أن يسلك وفق أوامر الروح الفردي" (46).

وأخيراً، في فبراير 1774، كتب جوته الكتاب الذي ذاع اسمه في طول أوربا وعرضها، "آلام الفتى فرتر". وكان قد أطال التفكير فيه، وأطال ترديده في تأملاته وخياله، حتى لقد أطلقه الآن كما يقول "في أربعة أسابيع

اعتزلت الناس كلية، ومنعت زيارة أصحابي" (47). قال لأكرمان بعد خمسين سنة "كان ذلك خلقاً غذوته بدم قلبي كما يفعل طائر البطريق" (48). وقد قتل فرتر ليمنح نفسه السلام.

وكان ملهماً في إيجاز الكتاب. اشتعل شكل الرسائل، محاكاة لقصة رتشردسن "كلاريسا" وقصة روسو "جولي" من جهة، ومن جهة أخرى لأن هذا الشكل كان ملائماً للإفصاح عن العاطفة وتحليلها، وربما لأنه في هذا الشكل استطاع أن يستعمل بعض الرسائل التي كتبها من فتسلار لأخته كورنيليا أو لصديقه ميرك. وصدم شارلوته وكستنر بإطلاقه اسمها الفعلي

ص: 257

"لوته على بطلة حب واضح أنه يصف غرام جوته بعروس كستنر، وكستنر يقابله في القصة "البرت" الذي صوره المؤلف في إطراء. وحتى اللقاء في المرقص، وزيارة الغد، كانا في القصة كما كانا من قبل في الواقع. "منذ ذلك اليوم تستطيع الشمس والقمر والنجوم أن تسير سيرتها في هدوء، ولكني لا أعي بنهار ولا بليل، وكل العالم من حولي يتلاشى

لم يعد عندي صلوات أتلوها إلا لها" (49). على أن فرتر ليس جوته بالضبط: فهو أكثر عاطفية، وأميل إلى البكاء والكلام المتدفق والرثاء لنفسه. ولكي يقود المؤلف القصة إلى نهايتها الفاجعة، اقتضاه ذلك أن يغير فرتر من جوته إلى فلهلم يروزاليم. أما اللمسات الأخيرة فهي تحي تاريخ ما حدث: يستعير فرتر، كما استعار يروزاليم، مسدس البرت لينتحر به، وقصة ليسنج "إميليا جالوتي" ملقاة على مكتبة وهو يموت. "ولم يصحبه كاهن" إلى قبره.

كانت قصة "آلام الفتى فرتر"(1774) حدثاً في تاريخ الأدب وتاريخ ألمانيا. فقد عبرت عن العنصر الرومانسي في الحركة الزوبعية ودعمته، كما عبرت قصة "جوتز فون برليشنجن" من قبل عن العنصر البطولي. واستقبلها الشباب المتمرد بالمديح والمحاكاة، وارتدى بعضهم السترة الزرقاء والصدرة الصفراء البرتقالية كفرتر، وبكى بعضهم كفرتر، وانتحر بعضهم باعتبار الانتحار الشيء "العصري" الوحيد الذي يجلب عمله. واحتج كستنر على الولوغ في أسراره، ولكن لم يلبث أن هدئ، ولم يقل لنا أحد أن شارلوته شكت حين قال لها جوته "إن اسمك تنطقه آلاف الشفاه المعجبة بكل إجلال"(50). ولم يشارك رجال الدين الألمان في هذا الاستحسان. وأدان واعظ همبورجي القصة لأنها دفاع عن الانتحار، أما الراعي جوتسي، عدو ليسنج، فقد حمل على الكتاب، وأدانه ليسنج لعاطفيته المفرطة وافتقاره إلى القصد الكلاسيكي (51). وفي عشاء عام لأي القس ي. ك. هازنكمبف جوته في مواجهته على "تلك القطعة الشريرة من الكتابة"، ثم أردف "ليهد الله قلبك الضال"! وأفحمه جوته بجواب

ص: 258

هادئ: "اذكرني في صلواتك"(52). وكان الكتيب أثناء ذلك يكتسح أوربا في مترجمات عديدة، منها ثلاثة في فرنسا خلال سنوات ثلاث؛ واعترفت الآن فرنسا لأول مرة بأن في ألمانيا أدباً.

جـ - الملحد الشاب

كان لرجال الدين بعض العذر في القلق على جوته، لأنه كان في هذه المرحلة يهجر بعداء الكنيسة المسيحية. كتب كستنر في 1772 يقول "أنه يجل الدين المسيحي، ولكن ليس في الصورة التي يصوره بها لاهوتيونا

إنه لا يتردد على الكنيسة، ولا يتناول القربان، ونادراً ما يصلي. " (53) وكان جوته يكره على الأخص تأكيد المسيحية على الخطيئة والندم (54)، ويؤثر أن يأثم دون ندم. كتب إلى هردر (حوالي 1774) يقول "ليت تعليم المسيح كله لم يكن هذا الهراء الذي يثير سخطي بصفتي بشراً، مخلوقاً مسكيناً محدوداً ذا رغبات وحاجات! " (55) ووضع مخططاً لمسرحية عن بروميثيوس رمزاً فلإنسان يتحدى الآلهة، ولكنه لم يزد على مقدمته صدمت ياكوبي وأبهجت ليسنج. وما بقي منها هو أكثر تفجرات جوته المعادية للدين تطرفاً. يقول بروميثيوس:

غط سماءك يا زيوس بالضباب الملبد بالغيوم،

وإله- كما يلهو طفل يقطع رؤوس الشوك

على شجر البلوط وقمم الجبال!

فأنت لا بد تارك أرض قائمة،

وكوخي، الذي لم تبنه،

ومدفأتي التي تحسدني على توهج نارها.

لست أعرف تحت السماء من هو أفقر منكم أيها الآلهة!

إنكم تغذون جلالتكم بالجهد من الضحايا وصلوات الرغبات،

ولولا حمق الأطفال والمتسولين المتعللين بالآمال

لماتت هذه الجلالة جوعاً.

ص: 259

حين كنت طفلاً لا أعرف في ماذا أفكر،

كانت عيناي الضالتان تتطلعان إلى الشمس،

كأن لها أذناً تصيخ السمع إلى شكاتي،

أو قلباً كقلبي يرق لنفس معناة.

فمن ترى أعانني على غطرسة الطاغية؟

ومن أنقذني من الموت، من العبودية؟

أليس هو قلبي المقدس المضطرم،

هو الذي صنع هذا كله وحده،

ولكنه لحداثته وطيبه ولأنه كان مخدوعاً،

فهو يرفع الشكر لذلك النائم هناك؛

أمجدك؟ لماذا؟

هل خففت مرة أحزان المثقلين بالهموم؟

هل كفكفت مرة دموع المعذبين؟

ألم يفطرني بشراً؟

ذلك الزمان الجبار والقدر السرمدي-

سيداي وسيداك

هاأنذا قاعد هنا، أصنع الرجال على شاكلتي،

سلالة شبيهة بي،

تحزن وتبكي، تفرح وتمرح،

وتزدريك كما أزدريك.

ثم انتقل جوته ببطء من حضيض الإلحاد المغرور هذا إلى "حلولية" سبينوزا الأكثر تهذيباً. روى لافاتر أن "جوته قال لنا أشياء كثيرة عن سبينوزا ومؤلفاته

فقد كان رجلاً غاية في الإنصاف والاستقامة والفقر

وكان الربوبيين المحدثين فقد أخذوا آراءهم عنه أولاً

وأضاف جوته أنه رسائله أطرف ما عرف العالم كله عن الاستقامة وحب البشر" (56)،

ص: 260

وبعد اثنين وأربعين عاماً قال جوته لكارل تسلتر إن أكثر الكتاب تأثيراً فيه هم شكسبير وسبينوزا ولينايوس (57) وفي 9 يونيو 1785 كتب إلى ياكوبي بتسلمه كتابه "في تعاليم سبينوزا"، وتكشف مناقشته لتفسير ياكوبي لهذه التعاليم عن دراسة مستفيضة للفيلسوف- القديس اليهودي. كتب يقول "إن سبينوزا لا يبرهن على وجود الله، إنه يبرهن على أن الوجود (حقيقة المادة- العقل) هو الله. فليرمه غيري لهذا السبب بالإلحاد، أما أنا فأميل إلى أن أصفه وأثني عليه رجلاً تقياً جداً، لا بل مسيحياً جداً!

وأنا آخذ عنه أصح المؤثرات في تفكيري وسلوكي" (58).

وقد علق جوته في سيرته الذاتية على رده على ياكوبي بقوله: "كنت لحسن الحظ قد أعددت نفسي

بعد أن انتحلت إلى حد ما أفكار وعقل رجل خارق للعادة

وهذا العقل، الذي كان قدأثر في تأثيراً حاسماً جداً، وكتب له أن يؤثر تأثيراً عميقاً جداً في أسلوب تفكيري كله، هو سبينوزا. ذلك أنني بعد أن بحثت في العالم عبثاً عن وسيلة لتطوير طبيعتي الغريبة، وقعت في النهاية على كتاب "الأخلاق" لهذا الفيلسوف

فوجدت فيه مسكناً لعواطفي المشبوبة، وتفتحت أمامي نظرة واسعة حرة تشرف على العالم الحسي والخلقي

ولم تبلغ بي الجرأة قط مبلغ الاعتقاد بأنني فهمت كل الفهم رجلاً

ارتقي، بدراساته الرياضية والربانية، إلى ذري الفكر، رجلاً يلوح أن اسمه حتى في يومنا هذا، يعين الحد الذي تقف عنده كل المحاولات التأملية" (59).

وقد أضاف مزيداً من الدفء لعقيدته الاسبينوزية في الحلول (وحدة الوجود) بولعه الشديد بالطبيعة، ولم يكن هذا الولع ابتهاجاً فحسب بمرأى الحقول النضرة أو الغابات الغامضة أو النباتات والأزهار المتكاثرة في تنوع غزير، بل أنه عشق أيضاً حالات الطبيعة الأكثر صرامة، وأحب أن يشق طريقه خلال الريح أو المطر أو الثلج، ثم صعوداً إلى قمم الجبال الخطرة. وكان يتحدث عن الطبيعة كأنها أم يرضع من صدرها رحيق الحياة ونكهتها. وقد عبر فيملحمة من الشعر المنثور سماها "الطبيعة"(1780)، بوجدان

ص: 261

وديني، عن استسلامه المتواضع للقوى الخلاقة المدمرة التي تكتنف الإنسان، واندماجه السعيد فيها:

"الطبيعة! إنها تكتنفنا وتحضرنا- ونحن نستطيع الخطو خارجها، ولا التعمق في داخلها.

إنها تتلقانا، دون توسل إليها ولا تحذير، في حلبة رقصها، ثم ترافقنا في رقص سريع حتى تنهك قوانا ونخر من بين ذراعيها ..

"إنها لا تفتأ تخلق الأشكال الجديدة، فما هو موجود الآن لم يكن موجوداً قط من قبل،

وما فات لن يعود؛ الكل جديد، ومع ذلك فهو دائماً القديم.

إنها تبدو وكأنها دبرت كل شيء للفردية، ولكنها لا تعبأ مثقال ذرة بالأفراد،

إنها بانية أبداً، هادمة أبداً، ومصنعها لا سبيل للوصول إليه

إنها تملك الفكر؛ وهي تتأمل باستمرار، لا كإنسان، بل كالطبيعة.

إنها لها عقلاً كلي الشمول خاصاً بها؛ وما من أحد يستطيع النفوذ إليه

إنها تسمح لكل طفل بأن يعبث بها، ولكل أحمق بأن يحكم عليها،

والآلاف تعثر أقدامهم ولا يرون شيئاً، إن فرحتها بالكل.

إنها رحيمة، وأنا أثني عليها وعلى كل أعمالها. إنها حكيمة هادئة.

لا يستطيع المرء أن يستخلص منها أي تفسير، أو ينتزع منها عطية لا تعطيها بمشيئتها الحرة.

لقد وضعتني هنا، وسوف تقودني بعداً. وأنا أوكل إليها نفسي، ولها أن تفعل بي ما تشاء.

فهي لن تكره صنعة يدها" (60).

وفي ديسمبر 1774 توقفت الدوق كارل أوبست بفرانكفررت في الطريق بحثاً عن عروس في كارلسروهي.

وكان قد قرأ "جوتز فون برليشنجن" وأعجبته، فدعا مؤلفها للقائه. وذهب جوته، ووقع من نفس الدوق موقعاً طيباً، وساءل الدوق نفسه ألا يجوز أن يصبح هذا العبقري الوسيم المهذب نجماً ساطعاً في بلاط فايمار. وكان عليه أن يعجل بالرحيل، ولكنه طلب إلى جوته أن يلتقي به ثانيةفي رجوعه من كالسروهي.

ص: 262

كان جوته كثير الكلام عن القدر، قليلة جداً عن المصادفة. ولعله لو سئل لأجاب أن القدر- لا المصادفة- هو الذي جاء به إلى الدوق، وأنه هو الذي صرفه عن حسن للي شوثيمان إلى مخاطر فايمار وفرصها المجهولة. أما للي هذه فكانت ابنة تاجر غني في فرانكفورت. وقد دعى جوته إلى حفل استقبال في بيتها بعد أن أصبح الآن سبعاً من سباع المجتمع الراقي. وعزفت للي على البيانو عزفاً رائعاً، واتكأ جوته على ركن منه وراح يحدق على مهل في مفاتنها ذات الستة عشر ربيعاً وهي تعزف. "كنت أحس أنني أشعر بقوة جذابة غاية في الرقة

ثم ألفنا أن نلتقي

وأصبحنا الآن ولا غنى للواحد عن صاحبه

وملكني شوق لا سبيل إلى مقاومته (61). فما أسرع ما ترتفع هذه الحمى الشهيرة، التي فجرتها حساسية شاعر. قبل أن يدرك معنى ما فعل، كان قد خطبها رسمياً (أبريل 1775). أما للي التي ظنت أنها اقتنصته وأمنته، فراحت تعابث غيره. وشهد جوته ذلك فغلت مراجل غيظه.

في هذه الفترة بالضبط مر صديقان هما الكونت كرستيان والكونت فريدريش تسو شتولبرج بفرانكفورت في طريقهما إلى سويسرة. واقترحا على جوته أن ينضم إليهما. وحثه أبوه على الذهاب ومواصلة الرحلة إلى إيطاليا. "وانفصلت عن للي بعد أن أفضت إليه ببعض السر ولكن دون أن استأذن قبل الرحيل"(62).

وقد بدأ الرحلة في مايو 1775، والتقى بالدوق ثانية في كارلسروهي، فدعاه بصفة نهائية إلى فايمار. ومضى إلى زيورخ، حيث التقى بلافاتير وبودمير. وتسلق سانت جوتهارد وتطلع باشتياق إلى إيطاليا، ثم تسلطت على خياله من جديد صورة للي، فترك أصحابه ويمم شطر وطنه، وفي سبتمبر كانت للي بين زراعيه. ولكن ما أن خلا إلى نفسه في حجرة حتى عاوده خوفه القديم من الزواج سجناً وركوداً. وأنكرت للي تردده، فاتفقا على فسخ خطبتهما، وفي 1776 تزوجت برنهارد فون توركهايم.

أما الدوق الذي ألم بفرانكفورت في طريق عودته من كارلسروهي

ص: 263

فقد عرض على جوته أن يرسل إليه عربة تقله إلى فايمار. ووافق جوته، ودبر أمره، وانتظر اليوم الموعود. ولكن العربة لم تأت. أفكان ذلك عبثاً وخديعة. وبعد أن قضى أياماً من التلبث المغيظ انطلق في رحلته إلى إيطاليا. ولكن العربة الموعودة لحقته في هيدلبرج، وقدم مبعوث الدوق التفسيرات والاعتذارات، فقبلها جوته. وفي 7 نوفمبر 1775 وصل إلى فايمار، وكان يومها في السادسة والعشرين، ممزقاً كعادته دائماً بين إله الغرام والقدر، تهفو نفسه إلى النساء ولكنه مصمم على أن يصير إنساناً عظيماً.

‌4 - هردر

1744 -

1776

لم يمض شهر على وصول جوته إلى فايمار حتى أنهى إلى الدوق اقتراحاً مشفوعاً بموافقته الحارة، هو اقتراح فيلاند بأن تعرض على يوهان جوتفريد هردر وظيفة المشرف العام على اكليروس الدوقية ومدارسها. ووافق الدوق. أما هردر فقد ولد بمورنجن في بروسيا الشرقية (25 أغسطس 1744)، فهو من حيث الجغرافيا وضباب البلطيق قريب إيمانويل كانط. وكان أبوه معلماً فقيراً وقائد فرقة ترتيل تقوى النزعة، وهكذا كان للصبي أوفر نصيب من الشدائد. فمنذ كان في الخامسة كان يشكو ناسوراً في عينه اليمنى. واضطرته ضرورة المشاركة بعد قليل في موارد الأسرة إلى ترك المدرسة والاشتغال سكرتيراً وخادماً لسبستيان تريشو، الذي كان يكسب رزقاً طيباً بتأليف كتيبات في التقوى. وكان لديه مكتبة استوعبها يوهان. فلما بلغ الثامنة عشرة أرسل إلى كونجزبرج لإزالة الناسور ولدراسة الطب في الجامعة. على أن الجراحة أخفقت، وقلبت فصول التشريح معدة الشاب فانصرف عن الطب إلى اللاهوت.

وتصادق مع هامان الذي كان يعلمه الإنجليزية مستعملاً هاملت نصاً، وحفظ هردر المسرحية كلها تقريباً عن ظهر قلب. واختلفت إلى محاضرات كانط في الجغرافيا والفلك وفلسفة فولف. وبلغ من حب كانط له أنه أعفاه من الرسم الذي يحصل من الطلبة نظير حضورهم المحاضرات. وكسب هردر قوته بالترجمة وتدريس التلاميذ الخصوصيين، ثم قام بالتدريس في مدرسة

ص: 264

الكتدرائية بمدينة ريجا من سن العشرين إلى سن الخامسة والعشرين. وحين بلغ الحادية والعشرين رسم قسيساً لوثرياً، وفي الثانية والعشرين أصبح ماسونياً (63)، وفي الثالثة والعشرين عين مساعداً للراعي في كنيستين قرب ريجا. ودخل عالم النشر في الثانية والعشرين بكتاب في الأدب الألماني الحديث، ثم أضاف إليه جزءاً ثانياً وثالثاً بعد عام. وراعت ثقافة المؤلف الشاب كانط وليسنج ونقولاي ولافاتر-وامتدحوا دعوته إلى أدب قومي متحرر من الوصاية الأجنبية.

واستبق هردر الموضة "الفرترية" بوقوعه في غرام يائس بامرأة متزوجة. واشتدت معاناته من الاكتئاب والغم في بدنه وعقله، فمنحه رؤساؤه إجازة ينقطع فيها عن عمله، ووعدوه بأن يوظفوه من جديد براتب أعلى عند عودته. وافترض مالاً، ثم غادر ريجا (23 مايو 1769) ولم يرها ثانية قط. وركب البحر إلى نانت، وأقام فيها أربعة أشهر، ثم مضى إلى باريس والتقى بديدرو ودالامبير، ولكن أحداً لم يستطع إقناعه بالانحياز إلى التنوير الفرنسي.

وذلك أن ميله الفطري كان جمالياً (استطيقياً) أكثر منه عقلياً. ففي باريس بدأ يجمع الشعر البدائي، ووجد فيه متعة تفوق ما في أدب فرنسا الكلاسيكي. وقرأ كتاب مكفرس:"أوسيان" في ترجمة ألمانية، وحكم بأن هذه التقليدات البارعة أروع من معظم الشعر الإنجليزي الحديث بعد شكسبير. ثم بدأ في 1769 مقالات في النقد الفني والأدبي أطلق عليها اسم (الغياض)، ونشر ثلاثة مجلدات منها في حياته بعنوان (غابات من النقد). وفي فبراير 1770 أنفق أربعة عشر يوماً في اتصال مثمر مع ليسنج في همبورج. ثم صاحب أمير هولشتين-جوتورب معلماً ورفيقاً. وجاب معه ألمانيا الغربية. وفي كاسل التقى برودلف راسبي، أستاذ الآثار والمؤلف القادم لكتاب "قصة البارون مونتشاوزن عن أسفاره وحملاته العجيبة في روسيا"(1785). وكان راسبي قد استرعى اهتمام ألمانيا بكتاب توماس برسي "مخلفات من الشعر الإنجليزي القديم" سنة ظهوره (1765).

ص: 265

وتقوى هردر في إيمانه بأن واجب الشعراء أن يهجروا الدعوة الفنكلمانية، اللسنجية لتقليد الكلاسيكيات اليونانية، وأنه أخلق بهم أن يتشبثوا بالمنابع الشعبية لتقليد أمتهم في الشعر الفولكلوري والتاريخ القصصي الغنائي.

وانتقل هردر مع الأمير إلى دارمشتات، فالتقى بجماعة "الحساسيين" فيها. وراقه إعلاؤهم شأن العاطفة، وخص بالتقدير عواطف كارولينية فلاخسلاند، الأت اليتيمة لزوجة عضو المجلس الخاص أندرياس فون هسي، ودعي هردرللوعظ في كنيسة محلية، فسمعته، وتأثرت بوعظه، وتمشيا معاً في الغابات، وتلامست أيديهما، فانعطف قلبه، وعرض عليها الزواج ولكنها نبهته إلى أنها تعيش على صدقة أختها، وأنها لن تستطيع أن تدفع له مهراً، ورد هو بأنه مثقل بالدين، وأن المستقبل أمامه غامض جداً، وأنه ملتزم بمرافقة الأمير. وتعاهدا بألا تكون خطبة رسمية، ولكنهما اتفقا على تبادل الحب بالرسائل. ثم رحلت جماعته إلى مانهايم في 27 أبريل 1770.

فلما وصلوا إلى ستراسبورج ترك هردر الأمير رغم شوقه لرؤية إيطاليا. ذلك أن الناسور الذي في غدته الدمعية سد القناة الدمعية الموصلة إلى المنخر فأصابه بألم لا يهدأ. ووعده الدكتور لوبشتين أستاذ أمراض النساء في الجامعة بأن الجراحة ستزيل الانسداد في ثلاثة أسابيع. واستسلم هردر، دون مخدر، للثقب المتكرر لقناة خلال العظم إلى ممر الأنف. ولكن الجرح بدأ يتلوث، وظل هردر ستة أشهر تقريباً حبيس حجرته في الفندق وقد فت في عضده فشل الجراحة، وران عليه اكتئاب بسبب شكوكه في مستقبله. في هذه الحالة النفسية من المعاناة والتشاؤم، التي بجوته (4 سبتمبر 1770). ويذكر جوته هذه الفترة فيقول "أتيح لي أن أحضر الجراحة وأن أكون نافعاً في نواحي كثيرة"(64). وقد ألهمه رأي هردر القائل بأن الشعر ينبثق غريزياً في الشعب، لا من "بضعة رجال مهذبين مثقفين"(65). وحين رحل هردر وقد نفد ما معه من مال، "اقترض جوته مبلغاً من أجله" رده هردر فيما بعد.

ص: 266

ثم قبل على مضض دعوة من الكونت فلهلم تسوليبي، حاكم إمارة شاومبورج-ليبي الصغيرة في شمال غربي ألمانيا، ليعمل واعظاً لبلاطه ورئيساً للمجلس الكنسي في عاصمته المتواضعة بوكيبورج. وفي أبريل 1771 غادر هردر استراسبورج، وزار كارولينه في دارمشتات وجوته في فرانكفورت، ووصل إلى بوكيبورج في الثامن والعشرين. فوجد الكونت حاكماً "مستبداً مستنيراً" من طراز إداري صارم، أما المدينة فكانت قروية في كل شيء إلا الموسيقى، التي كان يحسن تزويدها بها يوهان كريستوف فريدريش باخ، وراض هردر نفسه عن الانفصال عن التيار الرئيسي للفكر الألماني، ولكن الكتب التي أصدرها في مكانه الصغير أثرت تأثيراً قوياً في ذلك التيار، وأسهمت في تشكيل الأفكار الأدبية للحركة الزوبعية. وقد أكد للكتاب الألمان أنهم إن التمسوا الإلهام في جذور الأمة وحياة الشعب فسوف يأتي الوقت الذي يبزون فيه الفرنسيين كل ما حققوه. وقد تحققت هذه النبوءة في الفلسفة والعلم.

وقد ظفر بحثه في أصل اللغة (1772) بالجائزة التي قدمتها أكاديمية برلين عام 1770. ومع أن هردر كان يجهر بتدنيه مخلصاً، إلا أنه رفض الفكرة التي تزعم أن اللغة من صنع الله وحده؛ وقال أنها من صنع البشر، وأنها نتجت طبيعياً من عمليات الإحساس والتفكير. وألمع أن اللغة والشعر كانا واحداً باعتبارهما تعبيرين عن الانفعال، وأن الأفعال، المعبرة عن الفعل، كانت أول أقسام الكلام". وفي مجلد آخر سماه "فلسفة أخرى مضافة إلى فلسفات التاريخ" (1774) عرض التاريخ على أنه "الفلسفة الطبيعية للأحداث المتعاقبة" فكل حضارة هي وجود بيولوجي له مولده وشبابه ونضجه وانحلاله وموته؛ ويجب أن تدرس من وجهة نظر عصرها، دون تحيزات مبنية على بيئة وعصر آخرين. وقد أعجب هردر إعجاب الرومانتيكيين عموماً بالعصور الوسطى لأنها زمان الخيال والوجدان، والشعر والفن الشعبيين، والبساطة والسلام الريفيين؛ وعلى نقيض ذلك كانت أوربا بعد النهضة عبارة عن عبادة للدولة، وللمال، وللترف الحضري، وللتكلف والافتعال، وللرذيلة. وانتقد التنوير لأنه عبادة لوثن العقل، وقارن بينه وبين ثقافات

ص: 267

اليونان والرومان مقارنة لا تخدم التنوير. ولقد أبصر هردر يد الله كما أبصرها بوسويه في العملية التاريخية كلها، ولكن الواعظ المفوه كان أحياناً ينسى لاهوته، ويرى أن "التغيير العام للعالم كان يقوده الإنسان أقل كثيراً مما يقوده قدر أعمى (66) ".

وحمله شعوره بالوحدة إلى أن يطلب كارولينة وزوج أختها أن يأذنا له بالحضور والزواج منها رغم ضآلة دخله. فوافقا، وزف الحبيبان في دارمشتات في 2 مايو 1773. ثم عادا إلى بوكيبورج، واقترض هردر بعض المال ليجعل دار القسيس بيتاً مبهجاً لزوجته. وقد بذلت له زوجته الخدمة والحب الخالص مدى الحياة. وبفضل وساطتها انقشع الفتور الذي ران من قبل على المودة بين هردر وجوته، وحين وجد جوته نفسه في موقف يسمح له بتزكية الراعي لوظيفة أسخى عطاء، أسعده أن يفعل ذلك. وفي أول أكتوبر 1776 وصل هردر وكارولينة إلى فايمار، وانتقلا إلى البيت الذي أعده لهما جوته. ولم يبق الآن سوى عضو واحد ليكتمل عقد الرباعي الذي سيضع شهرة فايمار.

‌5 - شيلر في سني تطويقه

1759 -

1787

ولد يوهان كريستوف فريدريش شيلر في 10 نوفمبر 1759 بمدينة مارباخ في فورتمبرج. وكانت أمه ابنة صاحب فندق الأسد، وأبوه جراحاً-ثم ضابط برتبة الكابتن-في جيش الدوق كارل أويجين؛ وكان يتنقل مع فوجه، ولكن زوجته أقامت أكثر الوقت في لورش أولود فجزبرج. وفي هاتين المدينتين تلقى فريدريش تعليمه. وقد نذره أبواه للقسوسية، ولكن الدوق أقنعهما بأن يبعثا به وهو في الرابعة عشرة إلى كارلشولي (مدرسة كارل) في لود فجزبرج (ثم في شتوتجارت)، حيث يعد أبناء الضباط لمهنة المحاماة أو الطب أو الجندية. وكان نظام المدرسة نظاماً عسكرياً صارماً، والدراسات مجافية لطبيعة غلام فيه حساسية مرهفة تقرب من حساسية الفتيات. وكان رد فعل شيلر أن تشرب كل ما وجد إليه سبيلاً من

ص: 268

الأفكار الثورية، ثم صبها (1770 - 1789) في مسرحية "اللصوص" التي فاقت جوتز فون برليشنجن تعبيراً عن الحركة الزوبعية.

وفي 1780 تخرج شيلر في الطب، وأصبح جراحاً لفوج في شتوتجارت. وكان راتبه ضئيلاً، وسكن حجرة واحدة مع الملازم كايف. وكانا يجهزان طعامهما وأكثره من السجق والبطاطس والخس، ثم أن النبيذ في المناسبات السارة. وقد شق على نفسه ليكون رجلاً له كل حس الجندي بالمعركة والجعة والمواخير، وزار المومسات اللاتي يختلفن إلى المعسكر (67)؛ ولكنه لم يكن يسيغ الابتذال والسوقية، فالنساء في نظرته المثالية أسرار غامضة مقدسة يجب أن يدنو منها الرجل في إجلاله ورعدة. وكانت صاحبة الدار واسمها لويزة فيشر أرملة في الثلاثين، ولكنها إذا عزفت على الهاربسيكورد "فارقت روحي جسدي الترابي الفاني"(68)، وتمنى لو "أنني التصقت إلى الأبد بشفتيك"

لا تشرب أنفاسك" (69). وهي طريقة مبتكرة في الانتحار.

وحاول عبثاً أن يجد ناشراً لمسرحية "اللصوص"، فلما أن أخفق، وفر واقترض ثم طبعها على نفقته (1781). وقد أدهش نجاحها الناس حتى مؤلفها ذا الاثنين والعشرين ربيعاً. وفي رأي كارليل أنها بدأت "عصراً في الأدب العالمي"(70)، ولكن ألمانيا الوقور صدمها أن المسرحية لم تترك ناحية من نواحي الحضارة الراهنة إلا إدانتها. وذكرت المقدمة التي صدر بها شيلر تمثيلته أنها تبين عظمة الضمير وأذى التمرد.

وخلاصة التمثيلية أن كارل مور، وهو الابن البكر للكونت المسن مكسمليان فون مور، يخصه أبوه بحبه لما اتسم به من مثالية وسماحة خلق؛ ومن ثم يحسده ويبغضه أخوه فرانتن. ويرحل كارل ويدخل جامعة ليبزج، ويتشرب مشاعر التمرد التي تضطرب بها صدور شباب أوربا الغربية. فلما ألح الدائنون في مطالبته بالدين، راح يندد بعباد المال القساة الذين "يلعنون الصدوقي الذي يقصر في الحضور إلى الكنيسة بانتظام، ومع أن تقواهم لا تخرج عن عد مكاسبهم، المجلوبة بالربا، على مذبح الكنيسة ذاته"(71).

ص: 269

ثم يفقد كل إيمان بالنظام الاجتماعي القائم، وينضم إلى عصابة من اللصوص، ويصبح زعيماً لها، ويقسم يمين الولاء لها حتى الموت، ثم يهدي ضميره بلعب دور روبن هود. ويصفه أحد أفراد العصابة بهذه العبارات:

"إنه لا يقتل كما نقتل طمعاً في شيء يسلبه، أما المال

فيبدو أنه لا يعبأ به مثقال ذرة، فثلث الغنيمة الذي هو حق خالص له يعطيه لليتامى، أو ليعين به شباب الكلية المبشرين بمستقبل مرموق. أما إذا وقع في براثنه عين من أعيان الريف الذين يسومون فلاحيهم سوء العذاب كأنهم الأنعام، أو وغد يرفل في فاخر الثياب ممن يعوجون القضاء ليخدم مآربهم

أو أي رجل من هذا النوع-عندها يا بني يتجلى على فطرته ثائراً هادراً كأنه شيطان رجيم" (72).

ويندد كارل برجال الدين لأنهم يتملقون السلطان ويعبدون صنم المال سراً، "وخيرهم لا يتردد في أن يخون الثالوث الأقدس كله في سبيل عشرة شواقل"(73).

ويدبر فرانتس في غضون هذا إبلاغ الكونت في رسالة كاذبة أن كارل مات. ويصبح فرانتس الوريث لثروة أبيه، ويتقدم لخطبة إميليا التي تحب كارل حياً أو ميتاً. ويدس فرانتس السم لأبيه، ويهدئ وخز ضميره بالإلحاد: "لم يثبت بعد أن فوق هذه الأرض عيناً ترقب كل ما يجري عليها

ليس هناك إله (74). ويسمع كارل بجرائم أخيه، فيقود عصابته إلى قلعة الأب ويضرب حصاراً على فرانتس، فيتضرع هذا إلى الله مستمياً في التماس العون، فإذا لم يصله عون قتل نفسه. وتقدم أميليا نفسها لكارل شريطة أن يقلع عن حياة اللصوصية؛ وهو تواق إلى هذا، غير أن أتباعه يذكرونه بتعهده البقاء معهم حتى الموت. فيحترم تعهده، وينصرف عن أميليا؛ ولكنها تتوسل إليه أن يقتلها، فيستجيب لها، وبعد أن يرتب أن ينال عامل فقير المكافأة المرصودة للقبض عليه، يستسلم للقانون وللمشنقة.

وهذا كله بالطبع هراء. فالشخوص والأحداث يستحيل تصديقها،

ص: 270

والأسلوب منمق طنان، والخطب لا تطاق، والفكرة عن المرأة مثالية على نحو رومانسي. ولكنه هراء قوي. ذلك أن فينا كلنا تقريباً تعاطفاً خفياً مع أولئك الذين يتحدون القانون؛ فنحن أيضاً نحس أنفسنا أحياناً وقد ضيقت علينا الخناق وأرهقتنا آلاف القوانين والأوامر التي تكبلنا أو تغرمنا وقد طال اعتيادنا على المنافع التي وهبنا إياها القانون حتى أننا لنأخذه قضايا مسلمة؛ ونحن لا نشعر بتعاطف طبيعي مع الشرطة حتى نقع ضحية من ضحايا التمرد على القانون. ومن ثم وجدت التمثيلية المطبوعة قراء متحمسين واستحساناً حاراً، ولم تمنع شكاوي الوعاظ والمشرعين، الذين زعموا أن شيلر مجد الجريمة، أحد النقاد من أن يحييه لأنه يعد بأن يصبح شكسبيراً "ألمانيا"(75)، ولا منعت المخرجين من أن يقترحوا إخراج المسرحية.

وعرض البارون فولفجانج هريبرت فون دالبرج أن يقدمها على المسرح القومي بمانهايم إذا وضع لها شيلر نهاية أسعد. ففعل: واقتضى التعديل أن يتزوج مور أميليا بدلاً من أن يقتلها. وتسلل شيلر من شتوتجارت دون أن يستأذن الدوق كارل أو بجين قائده الحربي ليحضر العرض الأول للمسرحية في 13 يناير 1782. وأقبل الناس من فورمز ودارمشتات وفرانكفورت وغيرها من المدن ليشهدوا التمثيل. ولعب أوجست افلاند دور كارل، وكان من ألمع ممثلي الجيل؛ وأبدى النظارة استحسانهم بالصياح والتشيج، ولم تلق مسرحية ألمانية أخرى من قبل مثل هذا الاحتفاء (76)، وكانت قمة في الحركة الزوبعية. وبعد المسرحية كرم الممثلون شيلر وتودد إليه ناشر من مانهايم، وشق عليه أن يعود إلى شتوتجارت ويستأنف حياته جراحاً للفوج. وفي شهر مايو تسلل ثانية إلى مانهايم لشهد عرضاً آخر لمسرحية ثانية. فلما أن عاد ثانية إلى فوجه، وبخه الدوق وحظر عليه تأليف المزيد من التمثيليات.

ولم يقو على تقبل هذا الحظر. ففي 22 سبتمبر 1782 هرب إلى مانهايم في صحبة صديق يدعى أندرياس سترايشر. وهناك قدم لدالبرج تمثيلية جديدة سماها "مؤامرة فييسكو في جنوه". وقرأها على الممثلين،

ص: 271

فحكموا أنها هابطة مؤسفاً عن مستوى "اللصوص"، وقال والبرج أنه قد يخرج المسرحية إذا راجعها شيلر؛ فعكف شيلر أسابيع على هذه المهمة، ولكن دالبرج رفض حصيلة هذا الجهد. ووجد شيلر نفسه لا يملك فلساً. وأنفق سترايشر على إعاشته النقود التي ادخرها ليدرس الموسيقى في همبورج. فلما نفدت، رحب شيلر بدعوة للإقامة في باورباخ في كوخ تملكه السيدة هنرييتا فون فولتسوجن. وهناك كتب تمثيليته ثالثة سماها "الدسيسة والحب". ووقع في غرام الآنسة لوته فون فولتسوجن البالغة من العمر ستة عشر ربيعاً. ولكنها آثرت عليه منافساً في حبها. وظفرت "فييسكو" التي نشرت في غضون هذا بتوزيع جيد. وندم دالبرج، وأرسل إلى شيلر دعوة ليكون كاتب التمثيليات المقيم لمسرح مانهايم براتب قدره ثلاثمائة فلورن في العام. فوافق (يوليو 1783).

ونعم شيلر بعام من السعادة القلقة رغم كثرة ديونه التي عجز عن سدادها ورغم ما أصيب به مرة من مرض خطير. وعرضت فييسكو على المسرح أول مرة في 11 يناير 1784، وقد أفسدها ما أصر عليه دالبرج من نهاية سعيدة لا يمكن تصديقها، ولم تثر المسرحية أي حماسة من النظارة. بيد أن "الدسيسة والحب "كانت أفضل بناء، وأقل خطباً، وأظهرت حساً متزايداً بالمسرح؛ وقد رأى فيها البعض، من وجهة النظر المسرحية، أفضل المآسي الألمانية قاطبة (77). وبعد أن فرغ الممثلون من العرض الأول (15 أبريل 1784) ضج النظارة بتصفيق صاخب حمل شيلر على أن يقوم من مقعده في إحدى المقصورات وينحني للجمهور.

كانت سعادته مفرطة قصيرة الأجل. ذلك أنه لم يكن بطبيعته صالحاً للتعامل مع الممثلين، الذين كانوا على شاكلته تقريباً في عصبيتهم؛ فقد قسا في الحكم على آدائهم، ولا مهم على عدم حفظ أدوارهم حفظاً دقيقاً (78). ولم يستطع أن يكمل تمثيلية ثالثة سماها "دون كارلوس" في الزمن المشروط. فلما أن قارب عقده "كاتباً للمسرح" الانتهاء في سبتمبر 1784 رفض دالبرج تجديده. ولم يكن شيلر قد ادخر شيئاً، فعاد من جديد يواجه الإملاق والدائنين الذين فرغ صبرهم.

ص: 272

في هذه الفترة أو نحوها نشر بعض "الرسائل الفلسفية" التي تدل على أن الشكوك الدينية قد أضيفت إلى مشكلاته الاقتصادية. فهو لم يستطع تقبل اللاهوت القديم، ومع ذلك اشمأزت روحه الشاعرة من الإلحاد المادي، كذلك الذي عبر عنه دولباخ في كتابه "مذهب الطبيعة"(1770). ولم يعد قادراً الآن على أن يصلي، ولكنه كان يحسد القادرين على الصلاة؛ وقد وصف في إحساس بالخسارة الفادحة ذلك العزاء الذي يهبه الدين لآلاف النفوس في ظروف الألم والحزن والاحتضار (79). على أنه احتفظ بإيمانه بحرية الإرادة، وبالخلود، وبإله مجهول، بانياً هذا كله، كما بناه كانط، على الوجدان الأخلاقي. وقد أعرب في عبارة لا تنسى عن مبدأ المسيح الأخلاقي "حين أبغض انتزع شيئاً من نفسي، أما حين أحب فإنني أزيد ثراء بما أحب. والصفح معناه أن أتلقى ثروة فقدت. وكراهة البشر إنما هي انتحار بطيء"(80).

وسط هذه الظروف المعقدة جمل كرستيان جوتفريد كورنر حياة شيلر بصداقة من أروع الصداقات في تاريخ الأدب. ففي يونيو 1784 أرسل إلى شيلر من ليبزج رسالة تنم على الإعجاب الحار، مشفوعة بصور له، ولخطيبته مناشتوك، وأختها دوراً، وخطيب دوراً لودفج هوبر، ومحفظة جيب طرزتها منا. أما كورنر هذا فقد ولد في 1756 (قبل مولد شيلر بثلاثة أعوام) لراعي كنيسة القديس توماس التي قاد فيها باخ قبل جيل الكثير من الموسيقى الخالدة. وقد نال الشاب إجازته في القانون وهو في الحادية والعشرين، وكان الآن مستشاراً لمجلس الكنيسة الأعلى في درسدن. وآخر شيلر رده حتى 7 ديسمبر، إذ كان مرهقاً بمتاعبه وهمومه. ورد عليه كورنر يقول "نحن نقدم لك صداقتنا دون تحفظ، فاحضر إلينا بأسرع ما تستطيع"(81).

وتردد شيلر. وكان قد كون صداقات في مانهايم، ووقع في غرام العديدات، لا سيما (1784) شارلوته فون كالب، التي تزوجت قبل

ص: 273

ذلك بعام واحد. وفي دارمشتات، في ديسمبر 1784، التقى بالدوق كارل أوجست أمير ساكسي-فايمار، وقرأ عليه الفصل الأول من "دون كارلوس، ونال لقب Rat أو المستشار الفخري، ولكن لم يصله أي عرض بمكان في سماء فايمار. ومن ثم فقد قرر أن يقبل دعوة كرونر لليبزج. وعليه، ففي 10 فبراير 1785 أرسل إلى المعجب الذي لم يعرفه به نداء عاطفياً يظهره ريباً من نقطة الانهيار.

"في الوقت الذي في نصف سكان مانهايم إلى المسرح

أطير إليكم أيها الأصدقاء الأعزاء

فمنذ أن تلقيت خطابكم الأخير لم تبرحني قط الفكرة بأننا مخلوقون بعضنا لبعض، لا تسيئوا الظن بصداقتي إذ تبدو متعجلة بعض الشيء. فالطبيعة تطرح الكلفة في رضاها عن بعض الكائنات. والنفوس النبيلة ترتبط بخيط رقيق كثيراً ما يتبين أنه طويل البقاء.

"فإذا ما التمستم العذر لرجل تدفئ قلبه أفكار عظيمة ولكنه لم ينجز غير أفعال صغيرة؛ رجل لا يستطيع إلى الآن إلا أن يحدس من حماقاته أن الطبيعة رصدته لشيء ما، ويطالب بالحب الذي لا حدود له، وهو مع ذلك يجهل ما في وسعه أن يقدمه رداً على هذا الحب؛ ولكنه رجل يستطيع أن يحب شيئاً ما يتجاوز شخصه، ولا يعذبه شيء كرؤيته نفسه بعيداً كل البعد من أن يكون ما يشتهي أن يكونه؛ أقول إذا تطلع رجل هذه طبيعته إلى صداقتكم فإن صداقتنا ستكون أبدية، لأنني أنا ذلك الرجل. فلعلكم ستحبون شيلر، حتى إن كان تقديركم للشاعر قد تضاءل".

وقد توقف عن إكمال هذا الخطاب، ولكنه استأنفه في 22 فبراير:

"لا أستطيع المقام بعد اليوم في مانهايم

فلا بد لي من زيارة ليبزج والتعرف إليكم. إن نفسي متعطشة لغذاء جديد-لناس أفضل-للصداقة، والمودة، والمحبة. لا بدأن أكون قريباً منكم، وبفضل حديثكم وصحبتكم ستنتعش روحي الجريحة

يجب أن تهبوني حياة جديدة، وسأصبح خيراً مما كنت في أي وقت مضى. سأكون سعيداً-إنني لم أنعم بالسعادة قط إلى الآن .. أتراكم ترحبون بمقدمي؟ " (82).

ص: 274

ورد كورنر في 3 مارس يقول "سنستقبلك بأذرع مفتوحة" ثم نقد ج. ي. جوشن الناشر الليبزجي بعض المال ليرسل إلى شيلر مقدم أتعابه عن مقالات مستقبله (83). فلما أن وصل الشاعر إلى ليبزج (17 مارس 1785 كان كورنر غائباً في درسدن، ولكن خطيبته، وأختها، وهوبر، أدفأوا شيلر بالطعام والحفاوة البالغة. وأحبه جوشن لتوه، وكتب يقول "لا أستطيع أن أصف لك مبلغ عرفان شيلر واستجابته حين تبذل له النصيحة الناقدة، ومبلغ جهاده في سبيل تطوره الخلقي" (84).

والتقى كورنر بشيلر أول مرة في ليبزج في أول يوليو، ثم قفل إلى درسدن. وكتب إليه شيلر يقول "لقد جمعت السماء بيننا بطريقة عجيبة، وصداقتنا معجزة. " ولكنه أردف أنه أشرف على الإفلاس من جديد (85). فبعث إليه كورنر بالمال، والطمأنينة، والنصيحة:

"إن كنت في حاجة إلى المزيد فاكتب لي وسأرسل لك أي مبلغ برجوع البريد. أنني لو كنت ذا ثراء طائل، وكان في استطاعتي

أن أرفعك فوق العوز والحاجة لضروريات الحياة في يوم من الأيام، لما جرؤت على أن أفعل هذا، فأنا عليم بأنك قادر على كسب ما يفي بكل حاجاتك بمجرد أن تشرع في العمل. ولكن اسمح لي-على الأقل سنة واحدة-بأن أعفيك من ضرورة العمل. في استطاعتي أن أدبر هذا دون إعسار، وفي استطاعتك أن ترد لي المال إن شئت حين تسمح بذلك ظروفك" (86).

وزاد من قدر هذا الجود أن كورنر كان يجهز نفسه للزواج. وزف العروسان بدرسدن في 7 أغسطس 1785. وفي سبتمبر لحق بهما شيلر وعاش معهما، أو على حسابهما، حتى 20 يوليو 1787. في هذه الفترة أو نحوها-ربما وسط سعادة العروسين-كتب أشهر قصائده "أغنية للفرح" التي أصبحت تاج السمفونية التاسعة. وكلنا يعرف ميلودية بيتهوفن المؤثرة، ولكن القليلين منا، خارج ألمانيا، من يعرفون كلمات شيلر. وقد بدأت بنداء للمحبة الشاملة، وانتهت بدعوة للثورة:

ص: 275

أيتها الفرحة المنبثقة من لهب سماوي يا ابنة الفردوس، إننا نقبل إلى هيكلك ملتهبين بتلك النار المقدسة. أنت صاحبة التعاويذ التي وحدت من باعت التقاليد الرهيبة بينهم، كل الناس يصبحون أخوة حيث يمتد جناحاك الرفيقان.

الكورس: نحن نجمع الملايين بين أحضاننا، ونرسل قبلتنا إلى الدنيا بأسرها! أيها الأخوة، إن وراء السماء المرصعة بالنجوم يسكن أب محب من جرب النعم المقيم في صداقة الأصدقاء، ومن ظفر بعذرية محبوبة ليشاركنا في ابتهاجنا. ومن سبى قلباً يملكه دون الناس أجمعين-ومن أخفق، فلينصرف عن جماعتنا باكياً.

الكورس: كل ساكن للكون الكبير يقدم الإجلال للمحبة وهي تتقدم إلى طريق النجوم حيث يملك الإله المجهول. إن القلوب الباسلة الرازحة تحت الآلام تمد يد العون حيثما يبكي الأبرياء. والعهد الذي لا يخذل أبداً

ص: 276

والوفاء للصديق والعدو! وتحدي الملوك، والروح الجريئة، وإن كلفتنا المال والدم أيها الأخوة، التيجان لأشرف مستحقيها والموت لكل سلالة الكذابين!

الكورس: اقفل الدائرة المقدسة وأقسم بالخمرة الذهبية! أقسم بالوفاء بهذه العهود المقدسة أقسم برب الفلك.

وظل كورنر يعون شيلر عامين أملاً في أن يصوغ الشاعر في شكل لائق تلك المسرحية التي قصد بها تصوير الصراع بين فليب الثاني وابنه كارلوس. ولكن شيلر طال توانيه وتسويفه للتمثيلية حتى فقد المزاج التي بدأها به، ولعل ازدياد إطلاعه على التاريخ غير نظرته إلى فليب؛ ومهما يكن الأمر، فقد غير الحبكة حتى افتقدت الوحدة والتسلسل. "وفي غضون هذا (فبراير 1787) وقع في غرام هنرييتا فون أرنيم، واستهلكت الخطابات الغرامية مداد قلمه، بينما كانت هي تتصيد خطيباً أغنى منه. وأقنع كورنر شيلر بأن يعتكف في إحدى الضواحي حتى يفرغ من مسرحيته. وأخيراً تمت (يونيو 1787)، وعرض مسرح همبورج أن يخرجها. وانتعشت معنوية شيلر وكبرياؤه، فلعله الآن يرى جديراً بالانضمام إلى كوكبة الأدباء المتألقة حول الدوق كارل أوجست، أما كورنر الذي تنفس الصعداء فقد وافقه على أنه ليس للشاعر مستقبل في درسدن. ثم إن شارلوته فون كالب كانت في فايمار، بغير زوج، تغريه بالمجيء. وعليه، ففي 20 يوليو، وبعد الكثير من عبارات الوداع، ركب شيلر منطلقاً من درسدن إلى حياة جديدة. فوصل فايمار في الغد، وهكذا اكتمل عقد الزمرة العظمى.

ص: 277

الفصل الثالث والعشرون

‌فايمار إبان ازدهارها

‌1775 - 1805

1 -

تتمة لفيلاند

1775 -

1813

حين رأى موتسارات فيلاند في مانهايم عام 1777 قال في وصف وجهه أنه "قبيح إلى حد مخيف، تغشاه ندوب الجدري، وله أنف طويل،

وفيما خلال هذا فهو

رجل موهوب جداً

والناس يحدقون فيه كأنه قد هبط من السماء" (1). وقد كرهه طيور النوء الهائجون أنصار الحركة "الزوبعية" لأنه سخر من انتشاءاتهم المتمردة؛ أما فايمار فأحبته لأنه لطف نقده اللاذع بالكياسة ويغفران عام للنوع الإنساني، ولأنه احتمل في رضى تفجر النجوم الجديدة مراراً في سماء الأدب بينما كان في استطاعته أن يدعي لنفسه مكان الصدارة. وقد خلد جوته ذكره في سيرته الذاتية بشعور العرفان بصنيعه (2). أما شيلر فقد خال في أول لقاء بينهما مغروراً محزوناً، ولكن "الموقف الذي اتخذه مني للتو يدل على الثقة والحب والتقدير" (3).

وقال الشاعر الكبير للشاعر الفتى "سنفتح عما قليل قلبينا الواحد للآخر، وسياسعد كل منا صاحبه بدوره"(4)، وقد أثبت وفاءه بهذا الوعد. "إنني وفيلاند نتقارب أكثر كل يوم

ولا تفوته مناسبة لا يذكرني فيها بكلمة طيبة" (5).

وقد وفق فيلاند في منافسته للوافدين الجدد بإصداره في 1780 رواية شعرية اسمها "أوبرون" تحكي قصة فارس تنقذه عصا أمير الجان السحرية من مائة جنيه ومن شراك مفاتن ملكة اشتدت بها حرارة العشق. وحين

ص: 278

اضطر جوته إلى الجلوس لمصور يرسم صورته وأراد أن يقعد ساعة دون حركة، طلب إلى فيلاند أن يقرأ عليه أجزاء من هذه الملحمة. يقول فيلاند "لم أشهد قط إنساناً سعد بعمل إنسان آخر كما سعد جوته"(6). وقد ترجم جون كوينسي آدمز القصيدة وهو سفير للولايات المتحدة في بروسيا في 1797 - 1801، واقتبس منها جيمس بلانشيه نصر أوبرا فيبر (1826).

واحتوى عدد مارس 1798 من مجلة فيلاند "الرائد الألماني الجديد" مقالة يحتمل أنها بقلم فيلاند-تنبأت بالأحداث المقبلة على نحو يلفت النظر. فقد لاحظت الفوضى التي تردت فيها فرنسا منذ 1789، وأوصت بتعيين دكتاتور لها، كما وقع في الأزمات التي تعرضت لها روما الجمهورية؛ ورشحت بونابرت الشاب، الذي كان يواجه المتاعب يومئذ في مصر، بوصفه صالحاً لهذه المهمة بشكل واضح. وحين فتح نابليون ألمانيا فعلاً التقى بفيلاند في فايمار وايرفورت (1808)، وتحدث معه في أدب اليونان والرومان وتاريخهم، وكرمه فيمن كرم من الكتاب الألمان بوصفه أعظمهم بعد جوته (7).

وفي 25 يناير 1813 كتب جوته في يوميته "دفن فيلاند اليوم" ثم أنهى النبأ إلى صديق في كارلسباد قائلاً: "لقد تركنا صديقنا الطيب فيلاند .. ففي 3 سبتمبر احتفلنا كما ألفنا كل عام بعيد ميلاده الثمانين بمظاهر الابتهاج. لقد كان في حياته توازن بديع بين الهدوء والنشاط. فلقد أسهم بقدر هائل في ثقافة الأمة العقلية في ترو وأناة ملحوظين، دون أي نضال مشبوب أو صراخ عال"(8).

‌2 - هردر والتاريخ

1777 -

1803

كتب شيلر في يوليو 1787 "لقد تركت هردر لتوي

أن حديثه رائع، ولغته دافئة قوية، ولكن مشاعره يراوحها الحب والكره" (9).

وكانت واجهات هردر في فايمار متنوعة، فلم تتح له متسعاً من الوقت للتأليف. فكان بصفته قسيساً خاصاً للدوق يقوم بواجبات العماد، والتثبيت

ص: 279

في الإيمان، وعقد الزيجات والإشراف على الجنازات لأسرة الدوق وبلاطه. وبصفته المراقب العام للدوقية كان يشرف على سلوك الأكليروس وتعييناتهم، ويحضر اجتماعات مجلس الكنيسة ويلقى عظات فيها من سلامة العقيدة القدر الذي تسمح به شكوكه الخاصة. وكانت مدارس الدوقية تحت إدارته، فأصبحت نموذجاً تحتذيه ألمانيا كلها. هذه المسئوليات مضافاً إليها ناسوره وسوء صحته عموماً، جعلته سريع الغضب وصبغت حديثه بين الحين والحين بما سماه جوته "اللدغة الخبيثة"(10). وقد ظل ثلاث سنين (1780 - 83) هو وجوته يتجنب أحدهام صاحبه؛ وقد أنكر الدوق بعض عظات هدر. قال جوته "بعد عظة كهذه لم يبق أمام أي أمير إلا الاعتزال"(11). وقال فيلاند اللطيف الطبع معلقاً في 1777 "وددت لو قام بيني وبين هردر اثنا عشر هرماً"(12)، وتعلمت فايمار أن تلتمس المعازير "الاكلينيكية" لقسيسها الشبيه بدين سويفت، وردت زوجته اللطيفة كارولينة على بعض لدغه. وفي 28 أغسطس 1783 اغتنم جوته اتفاق وقوع عيد ميلاده وعيد ميلاد ابن هردر البكر في يوم واحد ليدعو آل هردر العشاء. واصطلح عضو المجلس الخاص والمراقب العام، وكتب جوته يقول أن "السحب الكئيبة التي فرقت بيننا طويلاً قد انجلت، وإلى الأبد في اعتقادي"(13). وبعد شهر أضاف "لست أعرف رجلاً أنبل قلباً أو أسمح وروحاً"(14)، وذكر شيلر في 1787 أن "هردر شديد الإعجاب بجوته-بل هو يكاد يعبده". (15) وأصبح فيلاند وهردر في الوقت المناسب صديقين متفاهمين (16)، وكان هذان، لا جوته ولا شيلر، هما اللذين قادا الحديث في صالون آنا أماليا واكتسبا قلب الدوقة الأرملة (17).

وواصل هردر وسط واجباته الإدارية البحث في الشعر البدائي، وجمع عينات منه من نيف وعشرة شعوب، ومن أورفيدس إلى أوسيان، ونشرها في "مختارات سماها Volksliede " أغاني شعبية" (1778) أصبحت ينبوعاً من ينابيع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا. وبينما كان جوته يتهيأ لعودة إلى المثل والأشكال والأساليب الكلاسيكية ولضبط العقل للعاطفة، كان هردر يشير بالانتفاض على عقلانية القرن الثامن عشر وشكلية القرن السابع عشر والعودة إلى إيمان العصر الوسيط وأساطيره وأناشيده وأساليب حياته.

ص: 280

وفي 1788 عرضت الأكاديمية البافارية جائزة لأفضل مقال "في آثار الشعر في عادات الأمم وأخلاقها". وفاز مقال هردر ونشرته الأكاديمية في 1781. وقد تتيع المقال ما رآه المؤلف تدهوراً للشعر بين العبرانيين واليونان والأوربيين الشماليين، من التعبير الملحمي المبكر عن التاريخ والمشاعر والأفكار الشعبية في إيقاعات طليقة فياضة، إلى تدريب "مصقول" ومدرسي، بعد المقاطع، ويلوي القوافي، ويقدس القواعد، ويضيع حيوية الشعب وسط مظاهر الافتعال المميتة التي تشوب حياة الحضر. وزعم هردر أن النهضة الأوربية قد انتزعت الأدب من الشعب وحبسته بعيداً في قصور الملوك والأمراء، وأن الطباعة قد أحلت الكتاب محل المنشد الحي. وفي مقال آخر "في روح الشعر العبري"(1783) اقترح هردر قراءة سفر التكوين على أنه شعر لا علم، وكان قد تمكن من العبرية بجهده الخاص؛ وألمع إلى أن شعراً كهذا يستطيع أن يحمل بالرمزية من الحقيقة قدر ما يحمله العلم بـ "الواقع".

ولقد كافح إيمانه الديني للصمود رغم سعة إطلاعه على الكتب العلمية والتاريخية. ففي عامه الأول في فايمار اشتبه بعضهم في أنه ملحد، حر الفكر، سوسيني، صوفي (18). وكان قد قرأ أجزاء "مخطوطة فولفنبوتل" لريماروس، التي نشرها ليسنج، وتأثر بها تأثراً كفى لتشكيكه في لاهوت المسيح (19). ولم يكن ملحداً، ولكنه وافق على وحدة الوجود التي قال بها سبينوزا. قال لياكوبي في 1784 "لست أتبين إلهاً من وراء العالم المادي"(20) وقد حذا حذو ليسنج في دراسة سبينوزا والدفاع عنه، "يجب أن أعترف أن هذه الفلسفة تسعدني جداً"(21). وقد كرس لسبينوزا الفصول الأولى من رسالة عنوانها "أحاديث عن الله"(1787)، ففي هذا البحث فقد الله صورته الذاتية وأصبح قوة الكون وروحه، الذي لا سبيل إلى معرفته إلا في نظام العالم والوعي الروحي للإنسان (22). على أن هردر في دراساته الموجهة إلى الأكليروس قبل الصفقة الخارقة لمعجزات المسيح، وخلود النفس (23).

ثم جمع العناصر المتفرقة لفلسفته وجعل منها كلاً منسقاً نسبياً في رائعة ضخمة سماها في تواضع "أفكار نحو فلسفة في تاريخ الإنسان"، وهي

ص: 281

كتاب من كتب القرن الثامن عشر البزرية الخطيرة. صدر في أربعة أجزاء في 1784 و1787 و1791. وإشراف مشروع ضخم كهذا على التمام وسط مسئوليات هردر الرسمية يقوم شاهداً على الخلق القوي والزوجة الصالحة. وآية ذلك ما كتبه هردر إلى هامان في 10 مايو 1784: لم أؤلف طوال حياتي كتاباً كهذا وأنا نهب للكثير من المتاعب وأسباب الإرهاق من الداخل ودواعي الإزعاج من الخارج، بحيث أستطيع القول أنه لولا أن زوجتي، التي هي "المؤلف الحقيقي" لكتبي، ولولا جوته الذي نظر مصادفة في الجزء الأول-أقول لولا أنهما لم يفترا عن تشجيعي وحثي، لظل كل شيء في مثوى الكائنات التي لم تر النور" (24).

ويستهل الجزء الأول بقصة للخليقة، دنيوية في صراحة، مبنية على الفلك والجيولوجيا المعروفين، دون لجؤ للكتاب المقدس إلا بوصفه شعراً. وقد زعم أن الحياة لم تنشأ من المادة، لأن المادة ذاتها حية. والجسم والعقل ليسا جوهرين منفصلين متضادين. إنما هما صورتان لقوة واحدة، وكل خلية في كل جسم حي تحتوي الصورتين إلى حد ما. وليس هناك قصد خارجي يمكن رؤيته في الطبيعة، ولكن هناك قصداً باطنياً-هو "التصميم الكامل" والباعث لكل بذرة أن تتطور إلى كائن نوعي بكل ما لها من أجزاء معقدة مميزة. وهردر لا يقول بأن الإنسان تطور من الحيوانات الدنيا، ولكنه يراه عضواً في المملكة الحيوانية، يناضل كغيره من الكائنات للطعام والبقاء. وقد أصبح الإنسان إنساناً باتخاذه القامة المنتصبة، مما طور فيه جهازاً للحس قائماً على البصر والسمع لا على الشم والذوق؛ فغدت قوائمه الأمامية أيدي، حرة في القبض، والاستعمال، والاحتواء، والتفكير. وأسمى ثمرات الله أو الطبيعة هو الذهن الواعي، الفعال بتفكير وحرية، المكتوب له الخلود.

ويبدأ الجزء الثاني من "الأفكار" بفرض يزعم أن الإنسان بطبيعته خير، ويجدد القول بالتفوق والسعادة النسبيين للمجتمعات البدائية، ويستنكر الفكرة الكانطية-الهيجلية فيما بعد-التي تزعم أن الدولة هي هدف التطور البشري. وقد احتقر هردر الدولة كما عرفها. كتب يقول "في الدول العظمى لا بد

ص: 282

أن يتضور الفئات جوعاً لكي يزهو فرد واحد ويتقلب في النعيم؛ أن عشرات الألوف يظلمون ويساقون إلى الموت لكي يستطيع أحمق أو عاقل متوج واحد أن يحقق حلمه" (25).

وفي الجزء الثالث امتدح هردر أثينا على ديمقراطيتها النسبية التي أتاحت للحضارة أن تنتشر في كثير من طبقات السكان. أما روما التي أقامت ثراءها على الفتح والرق فقد طورت حضارة ضيقة خلفت الشعب في الفقر والجهل. في هذا التاريخ كله لم ير هردر أي "عناية إلهية"، فهو أشر من أن يكون من عند الله. فالله، الواحد مع الطبيعة، يدع الأمور تجري في أعنتها وفق القانون الطبيعي وغباوة البشر. ومع ذلك فبحكم صراع البقاء ذاته ينبعث بعض التقدم من الفوضى؛ فيطور العون المتبادل، والنظام الاجتماعي، والأخلاق، والقانون، كوسائل للبقاء، ويتحرك الإنسان في بطء صوب إنسانية رحيمة. لا لأن هناك خطاً متصلاً للتقدم، فهذا غير ممكن، لأن كل حضارة قومية هي كيان فريد، له طابعه المتأصل، ولغته، ودينه، وناموسه الخلقي، وأدبه وفنه، وكل حضارة-شأنها شأن أي كائن حي-إذا استثنينا ما يطرأ عليها من حوادث عارضة-تنحو للنمو إلى نهايتها القصوى الطبيعية، التي تضمحل بعدها وتموت. وليس هناك ضمان لتفوق الحضارات اللاحقة على السابقة، ولكن إسهامات كل حضارة تنقل على نحو أفضل إلى الحضارة التي تخلفها، وهكذا ينمو التراث الإنساني.

والجزء الرابع يمتدح المسيحية أما للمدنية الغربية. فالبابوية الوسيطة حققت هدفاً نافعاً يكبحها استبدادية الحكام والنزعة الفردية للدول؛ والفلاسفة المدرسيون، وأن نسجوا نسيجاً واهياً أجوف بألفاظ ثقيلة، إلا أنهم أرهفوا أدوات العقل ولغته، وجامعات العصر الوسيط جمعت وحفظت ونقلت الكثير من ثقافة اليونان والرومان، بل بعض علوم العرب والفرس وفلسفتهم. وهكذا أصبح المجتمع الفكري أكبر عدداً وأرهف حساً من أن يقوى عليه سدنة السلطة، وتحطمت أغلال العرف، وأعلن العقل الحديث تحرره.

ص: 283

وحقق هردر فيما بين الجزئين الثالث والرابع من "الأفكار" حلمه الذي طال تأجيله برؤية إيطاليا. ذلك أن يوهان فريدريش هوجو فون ذالبرج، المستشار الكاثوليكي الخاص لرئيس أساقفة تريير الناخب، دعا هردر ليصحبه في رحلة كبرى تدفع لها فيها كل نفقاته. وأذن له دوق ساكسي-فايمار، وكارولينة، بالغياب؛ فغادر فايمار في 7 أغسطس 1788. فلما لحق بدالبرج في أوجزبرج وجد أن خليلة دالبرج عضو هام في الجماعة. واجتمع على هردر وجودها ومطالبها، وسوء صحته، لتنغص عليه رحلته. وفي أكتوبر وصلت آنا أميليا إلى روما. فترك هردر دالبرج وانضم إلى بطانتها. وقد استلطف أنجليكا كاوفمان استلطافاً أكثر مما ترضى عنه كارولينة، وأسرفت رسائل كارولينة في الكلام عن جوته والميل إليه. وعاد هردر لدغه، وكان قد سمع أنباء عن حياة جوته في روما. وكتب يقول "إن رحلتي هنا كشفت لي لسوء الحظ عن حياة جوته الأنانية على نحو أوضح مما كنت أتمنى، وهي حياة في صميمها لا تعبأ بالغير على الإطلاق. إنه لا يملك غير هذا، فلندعه، وشأنه إذن .. "(26).

وعاد إلى فايمار في 9 يوليو 1789. وبعد خمسة أيام سقط الباستيل، وغير هردر خططه في التأليف. فأكمل الجزء الرابع من "الأفكار"، ثم نحى الكتاب جانياً، وكتب بدلاً منه "رسائل لتقدم الإنسانية (1793 - 97). وقد بدأها بتقريظ حذر للثورة الفرنسية، ورحب بانهيار الإقطاع الفرنسي، ولم يذرف دموعاً على علمنة الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا (27)، وحين انطلق الدوق وجوته لمواجهة الفرنسيين عند فالمي، وعادا يجرران أذيال الهزيمة، حبس هردر هذه "الرسائل" الأولى، وخصص الباقي للثناء على الموتى من العباقرة الذين لا خوف من الثناء عليهم.

ولم يفقد في يخوخته من لذة الصراع الفكري. فقابل نقد كانط لكتاب "الأفكار" بهجوم حاد على "نقد العقل الخالص". ووصف الكتاب بأنه تلاعب رهيب بالألفاظ الميتافيزيقية الأشباح، مثل "الأحكام التركيبية القبلية"، وأنكر ذاتية المكان والزمان، واتهم كانط بأنه أعاد إلى علم النفس فكرة الملكات، التي زعم الفلاسفة

ص: 284

المدرسيون أن العقل ينقسم إليها. ثم ألمع، في تنبؤ، إلى أن الفلسفة قد تختط طريقاً جديداً بالتحليل المنطقي للغة-لأن الاستدلال ما هو إلا حديث باطني.

وقد وافق جوته إلى حد كبير على نقد هردر لكانط، ولكن هذا لم يعصمه من لدغه نصيبه منه بين الحين والحين. فحين أقام كلاهما تحت سقف واحد في يينا عام 1803 قرأ جوته على جماعة كان هردر واحداً منها أجزاء من مسرحيته الجديدة "الابنة الطبيعية"(أي غير الشرعية). وأثنى هردر على المسرحية للآخرين، ولكن حين سأله المؤلف رأيه لم يستطع مقاومة الرد بتورية عن الصبي الذي ولدته خليلته جوته فقال:"إني أحب ابنك الطبيعي أكثر من ابنتك الطبيعية" ولم يستطب جوته الدعابة. وبعدها لم يلتق الرجلان قط. واعتكف هردر في خلوة بيته بفايمار، ومات هناك في 18 ديسمبر 1803 - قبل شيلر بعامين، وقبل فيلاند بعشرة، وقبل جوته بتسعة وعشرين ودفن بأمر الدوق كارل أوجست-الذي كثيراً ما ضايقه هردر-بمراسم التكريم الكبير في كنيسة القديسين بطرس وبولس.

‌3 - جوته عضو المجلس الخاص

1775 -

1776

لقي جوته في فايمار ترحيباً من الجميع إلا السياسيين. كتب فيلاند إلى لافاتر في 13 نوفمبر 1775 "لا بد لي من إنبائك بأن جوته معنا منذ الثلاثاء الماضي، وأنه لم تنقض ثلاثة أيام حتى شعرت بمحبة عميقة لهذا الشخص الرائع-فأنا أنفذ إلى أعماقه وأحسه وأفهمه تماماً-على نحو تستطيع أن تتخيله أفضل كثيراً مما أستطيع أن أصفه"(28). وفي الشهر نفسهكتب أحد رجال الحاشية إلى والدي جوته يقول "فكرا في ابنكما كأوثق صديق لدوقنا العزيز،

وهو محبوب إلى حد العبادة أيضاً من جميع السيدات من فضليات النساء في هذه المنطقة" (29).

بيد أن سماء فايمار لم تخل من غيوم. ذلك أن الدوق كان يستطيب الصيد العنيف والإفراط في الشراب، وقد صاحبه جوته فيهما جميعاً أول الأمر،

ص: 285

فاتهم كلوبشتوك الشاعر علانية بأنه يفسد أميراً فاضلاً. وخشيت لويزة أن يقصي جوته زوجها عنها، مع أن حقيقة الأمر أنه استخدم تأثيره ليرد الدوق إلى الدوقة رغم أن زواجهما لم يكن زواج حب. وتشكك بعض الموظفين في جوته باعتباره تابعاً متطرفاً من أتباع الحركة "الزوبعية" ذا معتقدات وثنية وأحلام رومانسية. وهجم على فايمار عدد من أنصار تلك الحركة-لنتن، وكلنجو، وغيرهما-وقدموا أنفسهم باعتبارهم أصدقاء جوته، وطالبوا بالغنيمة. وحين استلطف جوته بيتاً ذا حديقة خارج بوابة المدينة ولكنه قريب من قلعة الدوق-أفقد كارل أوجست جوته بعض عطف الرأي العام بإخلائه شاغلي البيت تمكيناً لجوته من الانتقال إليه (21 أبريل 1776). هناك تخفف الشاعر من مراسم البلاط، وتعلم كيف يزرع الخضر والأزهار. وظل ثلاثة أعوام يسكن البيت على مدار السنة، ثم في الصيف فقط حتى 1782، حين انتقل إلى قصر فسيح في المدينة لينصرف إلى واجباته المتزايدة بصفته عضواً في الحكومة.

كان الدوق قد فكر فيه شاعراً، ودعاه إلى فايمرا ليكون كوكباً من كواكب الأدب في بلاطه. ولكنه رأىأن مؤلف مسرحية ثائرة ورواية غرامية باكية، هذا الكاتب الذي ناهز السادسة والعشرين، أخذ يصبح رجلاً ذا حكم عملي سديد. وعليه فقد عين جوته في "مكتب للاشتغال"، وطلب إليه أن ينظر في حالة المناجم في المينا وفي تشغيلها. وقام جوته بالمهمة بهمة وذكاء حملاً كارل أوجست على التصميم على ضمه للمجلس الخاص الذي يدير شئون الدوقية. واحتج عضو قديم على تدفق الشعر على المجلس على هذا النحو الفجائي، وهدد بالاستقالة. ولكن الدوق والدوقة الأرملة هدءاً ثائراً، وفي 11 يونيو 1776 أصبح جوته "عضو المجلس المختص بالتفويض الدبلوماسي" براتب سنوي قدره ألف ومائتا طالر. فقلل من مغازلاته للسيدات. وقد كتب فيلاند لميرك في 24 يناير يقول "منذ أمد طويل، من اللحظة التي قرر فيها أن يكرس نفسه للدوق وشئون الدوق، راح يسلك بحكمة مبرأة من الخطأ وبحذر الرجل الخبير بأمور الدنيا"(30). وفي 1778 رقي إلى منصب وزير الحرب، وكان يومها

ص: 286

منصباً هادئاً، ثم إلى العضوية الكاملة للمجلس الخاص في 1799. وقد حاول بعض الإصلاح، ولكنه وجد نفسه معوقاً بالمصالح المكتسبة في القمة، واللامبالاة العامة في القاعدة، وما لبث هو نفسه أن بات محافظاً تام المحافظة. وفي 1781 عين رئيساً لغرفة الدوقية. وفي 1782 خلع عليه يوزف الثاني براءة النبالة، وغداً "فون" جوته. قال لأكرمان بعد خمسة وأربعين عاماً "في تلك الأيام كنت أشعر بغاية الرضى عن نفسي بحيث أنني لو كنت رقيت أميراً لما وجدته تغييراً ذا بال"(31).

وامتزجت بمستقبله السياسي قصة غرام كانت أبقى وأحر وآلم حب في حياته. استمع إلى وصف الدكتور يوهان تسمرمان لإحدى مرضاه وصفاً لا يمت إلى الطب بسبب في نوفمبر 1775.

"إن للبارونة فون شتين، زجة البارون ورئيس الخيالة، عيوناً نجلاء سوداء رائعة الجمال. وصوتها رقيق خافت. ولا يفوت أحداً أن يلحظ على وجهها سمات

الرزانة، ودماثة الطبع، واللطيف

والفضيلة، والحساسية العميقة. إن آداب السلوك في البلاط، التي تملك ناصيتها إلى حد الكمال، تحولت فيها إلى بساطة رفيعة نادرة. وهي نقية جداً، ذات سمو روحي مؤثر يكاد يبلغ حد النشوة. ولا يستطيع المرء من مشيتها الأنيقة ومهارتها في الرقص التي تقرب من مهارة المحترفين أن يستشف نور القمر الهادئ المطمئن

الذي يملأ قلبها بالسلام. أنها في الثالثة والثلاثين، ولها عدة أطفال، وأعصابها ضعيفة. ووجنتاها ورديتان، وشعرها فاحم، وبشرتها

إيطالية اللون" (32).

وقد ولدت شارلوته فون شارت في 1742، وتزوجت البارون يوسياس جوتلوب فون شتين في 1764. وفي 1772 بلغ مجموع ما أنجبت من أطفال سبعة، مات منهم أربعة. وحين التقى بها جوته كانت لا تزال تعاني من الحمل المتكرر، وامتزج إحساسها بالضعف بما فطرت عليه من تواضع وحياء. ورفعها جوته في خياله إلى السماء، ولا غرو فقد كان فيه دم شاب وخيال شاعر، ألف تجميل الواقع ونيط به هذا التجميل، ومع ذلك لم يجاوز

ص: 287

ما قاله طبيبها في تمجيدها. فقد كانت شيئاً جديداً في بستان وروده النسائية: كانت ارستقراطية، كأنما ركب السلوك المهذب في فطرتها، ورآها جوته كأنهما من النفائس المذخورة في قدس النبالة. وكان من ثمرات علاقتهما أنها نقلت إليه آداب طبقتها، وعلمته ضبط النفس، والطبيعة، والاعتدال، والمجاملة. وكانت شاكرة حبه إياها لأنه رد إليها اهتمامها بالحياة، ولكنها قبلت هذا الحب كما تقبل امرأة كريمة المربى إعجاب فتى يصغرها بسبع سنين-باعتباره آلام النمو لروح متشوف يبحث عن التجربة وتحقيق الذات.

ولم يكن حباً من أول نظرة، فبعد أن انضم إلى زمرة فايمار بستة أسابيع كان لا يزال يقرض الشعر عن "الجميلة للي" شونمان (33). ولكن في 29 ديسمبر 1775، لاحظ الدكتور تسمرمان تنبه جوته إلى "فضائل ومفاتن جديدة في شارلوته". وما حل 15 يناير حتى كان يحاول مقاومة افتتانه الوليد بها، فقال لها "إنني مسرور لأنني أبعد عنك وأفطم نفسي منك"، ولكن لم يواف 28 يناير حتى كان قد ألقى السلاح، وكتب إليها يقول "يا ملاكي الحبيب، لن آتي إلى البلاط. إن بي من شعور السعادة ما لا أطيق معه كثرة الخلق

فاسمحي لي أن أحبك كما أفعل". ثم كتب في 23 فبراير "يجب أن أخبرك أيتها المختارة بين النساء أنك ألقيت في قلبي حباً يملؤني بهجة" (34).

وردت برسائل كثيرة، ولكن لم يبق منها غير واحدة من هذه الحقبة:"لقد عزلت نفسي بعيداً عن العالم، ولكنه الآن يعود إلى عزيزاً، وعزيزاً بسببك. إن قلبي يبكتني وأنا أشعر أنني أعذب نفسي وأعذبك. فقبل ستة أشهر كنت على أتم استعداد للموت، وأنا لم أعد الآن مستعدة للقائه"(35). وملكته النشوة. فقال لفيلاند "ليس من تفسير لما تفعله هذه المرأة بي

إلا إذا قبلت نظرية التقمص. أجل، لقد كنا يوماً ما رجل وزوجته! (36) واتخذ لنفسه امتياز الأزواج في الشجار والمصالحة. كتب شارلوته إلى تسمرمان في مايو 1776 تقول: "لقد تركني ثائراً قبل أسبوع، ثم عاد بحب طاغ

فماذا هو صانع بي في النهاية؟ (37) ويبدو أنها أصرت على أنيظل حبهما أفلاطونياً، أما هو فكان به من حرارة العشق مالا يجعله

ص: 288

يترك حبهما عند هذا الحد، فقال لها "إن أمتنع على العيش معك فإن حبك لن ينفعني بأكثر من حب غيرك الغائبات عني"(38). ولكنه أردف في الغد "اصفحني عني أنني آلمتك. وسأحاول بعد اليوم أن أحتمل الألم وحدي"(39).

وشعر بالوحشة حين ذهبت إلى بيرومنت النائية في الشمال للعلاج، ولكنها زارته في المينا وعند عودتها (5 - 6 أغسطس 1776). وكتب في 8 أغسطس يقول "كان لحضورك أثر عجيب في

وحين أفكر أنك كنت هنا في كهفي معي، وإنني أمسكت بيدك وأنت تنحنين على

أرى صلتك بي مقدسة وغريبة معاً

فليس هناك كلام يعبر عنها، وأعين الرجال لا تبصرها" (40). وكان لا يزال حاراً في حبه لها بعد أن انقضى على لقائهما الأول قرابة خمس سنين. ففي 12 سبتمبر 1780 كتب وهو وحيد في زلباخ "كلما استيقظت من أحلامي وجدتني ما زلت أحبك وأصبو إليك. والليلة بينما كنا راكبين ورأينا النوافذ المضاءة في بيت أمامنا، قلت في نفسي ليتها هناك لتضيفنا. إن هذا المكان جحر حقير، ومع ذلك فلو أنني استطعت أن أعيش هنا في هدوء طوال الشتاء معك لأحببته كثيراً (41). ثم كتب في 12 مارس 1781:

"لقد امتزجت روحانا امتزاجاً جعلني كما تعلمين مربوطاً بك رباطاً لا فكاك منه، ولن يفصلنا علة ولا عمق. وددت لو كان هناك قسم ما أو أسر مقدس ما ييربطني بك على نحو مرئي ووفقاً لقانون ما. لكم يكون هذا رائعاً! ولا شك أن فترة الاختبار كفاني طولها لإنعام التفكير الواجب في الأمر

أن اليهود يربطون زناراً حول أذرعتهم أثناء الصلاة. وهكذا أربط على ذراعي زناك العزيز حين أوجه صلاتي إليك، وأرغب إليك في أن تنقلي إلى طبيعتك وحكمتك واعتدالك وصبرك".

وقد فسر بعضهم "فترة الاختبار" المنصرمة، بأنها تشير إلى أن شارلوته أسلمت جسدها إليه" (42)، ومع ذلك كتب إليها بعد ست سنوات يقول.

ص: 289

"يا عزيزتي لوته، أنت لا تعلمين أي عنف أوقعته بنفسي وما زلت أوقعه. وكيف أن فكرة عدم امتلاكي إياك

ترهقني وتفنيني" (43). فإذا كان غرامهما قد اكتمل حقاً فإن السر قد كتم أحسن كتمان. وقد احتمل البارون فون شتين، الذي عمر حتى 1793، هذه العلاقة الغرامية بمجاملة جنتلمان من أهل القرن الثامن عشر. وكان جوته يختم خطاباته بين الحين والحين بعبارة "تحياتي إلى شتين" (44).

وقد تعلم أن يحب أطفالها أيضاً، وكلما امتد به العمر اشتد شعوره بحرمانه من أطفال له. وفي ربيع 1783 أقنعها بأن لا تسمح لابنها فرتز ذي السنين العشر بالإقامة معه في زورات طويلة، وحتى بمصاحبته في رحلات طويلة. وفي أحد خطاباتها لفرتز (سبتمبر 1783) يظهر جانب الأمومة فيها، وتتكشف قلوب البشر الكامنة خلف واجهة التاريخ المجردة من عواطف البشر.

"إنني عظيمة الابتهاج لأنك لم تنسني وأنت منطلق في هذا العالم الجميل، وأنت تكتب إلي بحروف لا بأس بها وإن لم يكن رسمها حسناً جداً. وما دمت تعتزم الإقامة أطول مما توقعت، فإنني أخشى أن لا تبدو ثيابك حسنة المظهر جداً. فإذا اتسخت واتسخت أنت أيضاً، فاطلب إلى عضو المجلس الخاص جوته فقط أن يلقي بفرتزي الصغير الحبيب في الماء

حاول أن تستمتع بفرصتك الطيبة، واجتهد أن تسر عضو المجلس بسلوكك، ووالدك يرغب إلى أن أقرئك تحيته (45).

فإذا وافى عام 1785 كان غرام جوته قد هدأت فورته في فترات صمت طويلة. وفي مايو 1786 شكت شارلوته من أن "جوته يفكر كثيراً ولا يقول شيئاً"(46). وكانت الآن تناهز الرابعة والأربعين، أما هو ففي السابعة والثلاثين، وكان آخذاً في الانطواء على نفسه. كثير التردد على يينا هروباً من بلاط فايمار والتماساً لتجدد الشباب بين الطلاب. وكان قد اعتاد دائماً أن ينعش نفسه بالطبيعة، فيتسلق قمة بروكن (وهي قمة ارتفاعها 3. 747 قدماً في جبال هارتس، اقترنت منذ أمد بعيد بأسطورة فاوست)، ويخرج في

ص: 290

رحلات مع الدوق في سويسرة (سبتمبر 1779 إلى يناير 1780). وكان أحياناً وهو يسترجع الماضي يشعر "بأنني خلال السنوات العشر الأولى من حياتي في الوظيفة والبلاط بفايمار لم أكد أنجز شيئاً"(47) في مضمار الأدب أو العلم. ولكن كان من الخير تهجين الشاعر بالإداري، وتأديب الغني الذي كان التدليل يفسده، والعاشق الخائن، بتبعات المنصب وبطء الانتصار في الحب. وقد أفاد من كل تجربة ونما مع كل هزيمة. "أن خير ما في، هو ذلك السكون الباطني العميق الذي أعيش فيه وأنمو، رغم العالم، والذي بفضله اكتسب مالاً يقوى العالم على انتزاعه مني أبداً"(48). فلم يكن شيء يضيع هدراً عليه، وكل شيء وجد التعبير عنه في مكان ما في كتاباته، وأخيراً أصبح خير ما حوته ألمانيا المفكرة منصهراً في كل متكامل.

وينتمي إلى هذه الحقبة قصيدتان من أعظم قصائده: أولاهما مزواجة بين الفلسفة والدين، وبين الشعر والنثر، في قصيدة "الطبيعة". وثانيتهما أعظم أشعاره الغنائية كمالاً. وهي الثانية من قصائده المسماة "أنشودة الجوالين في الليل" التي نقشها على جدران كوخ الصيد في 7 سبتمبر 1780 (49) ربما في حالة من حالات الشوق القلق:

على قمم التلال كلها ران السكون؛ وعلى ذري الأشجار لا تكاد تسمع نفساً يتردد؛ الطير نيام في الغابات مهلاً: فأنت أيضاً ستهجع مثلها سريعاً (50).

وهناك قصيدة من قصائد جوته العاطفية المشهورة الأخرى تنتمي إلى هذه المرحلة من مراحل تطوره: وهي قصيدة "ملك العفاريت" الحزينة وضع لها شوبرت لحناً موسيقياً. فمتى عبر شاعر عن إحساس الطفل بالكائنات

ص: 291

الخفية المنتشرة في الطبيعة تعبيراً أقوى مما في هذا الخيال السريع، خيال الطفل المشرف على الموت، الذي يرى "ملك العفاريت" آتياً ليخطفه من بين ذراعي أبيه؟.

في هذه الحقبة أيضاً كتب جوته ثلاث مسرحيات نثرية: "اجمونت (1775) وافجيني في تاوريس (1779) وتورقواتو تاسو ( Torquato Tasso) (1780) - وهي ثمر كاف لخمس سنين قضاها في خضم السياسة. ولم تخرج "اجمونت" على المسرح إلا في 1788، أما إفجيني فقدمت على مسرح فايمار في 6 أبريل 1779 (قبل العرض الأول لأوبرا جولك التي بهذا الاسم بستة أسابيع (؛ ولكن جوته غير فيها وبدل، ونظمها شعراً، أثناء مقامه في روما، بحيث يحسن النظر إليها على أنها نتاج لمرحلة جوته الكلاسيكية. كذلك أعاد صياغة "تاسو" ونظمها شعراً في إيطاليا، ولكنها تدخل هنا جزءاً من افتتان جوته بشارلوته فون شتين. ففي 19 أبريل 1781 كتب إليها يقول: "كل كلام تاسو موجه إليك" (51). وصدقت كلامه، فطابقت بينها وبين ليونورا، وبين جوته وتاسو، وبين كارل أوجست ودوق فرارا.

وقد تلقف جوته الأسطورة التي زعمت أن انهيار عقل تاسو في بلاط فرارا قد اشتد، إن لم يكن قد نشأ أصلاً، عن غرام تعس بأخت لألفونس الثاني (حكم 1559 - 97) (52). وما من شك في أن جوته كان يفكر في نفسه حين وصف ما يدور في فكر تاسو الشعري:

إن عينه قلما تطيل النظر إلى هذا المشهد الأرضي، أما أذنه فمرهفة السمع لأنغام الطبيعة. وأما صدره فيتلقى للتو في ابتهاج ما يقدمه التاريخ وتأتي به الحياة، ثم يجمع الأشتات المتفرقة ويربط بينها ويبعث حسه الذكي الحياة في الموتى. وهكذا يغرينا الرجل العجيب

ص: 292

وهو يتحرك في عالمه المسحور بأن نطوف معه ونشاركه فرحه. وهو يبدو كأنه يدنو منا، إلا أنه يظل بعيداً كما كان، فإذا اتفق ووقعت عينه علينا رأي الأشباح في مكاننا (53)

وقد تكون ليونورا، الأميرة الجليلة التي ترتضي حب الشاعر ولكنها تأمره بأن يكبح حماسته ويراعى اللياقة، هي شارلوته فون شتين تضبط غرام جوته المشبوب في هذا العالم الفاسق ويعلن تاسو-وهنا يتكلم الشاعران كلاهما:

كل ما يصل القلب إلى أغنيتي فيتردد صداه فيه، إنما أدين به لواحد، وواحد فقط! فلم يحم حول روحي طيف غامض، يتقدم تارة في سناء باهر، ثم يتوارى ثانية. فأنا نفسي، بعيني رأس، أنا الذي أبصرت مثال كل فضيلة وكل جمال (54)

وأما الدوق ألفونسو فهو شبيه كارل أوجست في صبره على غضبات الشاعر وغرامياته وأحلام يقظته، وهو مثله يحزنه تباطؤ الشاعر في الفراغ من رائعة موعودة:

بعد كل خطوة بطيئة يدع عمله، لا يفتأ يبدل ويغير، ولا طاقة له على الانتهاء (55).

وهو وصف صادق لكتابه جوته المنجمة وإبطائه وتسويفه في إنجاز "فلهم مايستر" و "فاوست". وأميرة أخرى تمتدح ألفونسو كارل أوجست على إتاحته الفرصة لتاسو-جوته لينضج بممارسته لشئون الدنيا وهنا تعلو أبيات مشهورة:

"إن الموهبة تكون نفسها في سكون" والشخصية تتشكل في نهر العالم" (56).

ص: 293

ولكن التلازم بين الشاعرين يتضاءل في النهاية: فتاسو لا يبدي شيئاً من قدرة جوته على السباحة في نهر العالم، فيغرق في مملكة أحلامه ويضرب بالحذر واللياقة عرض الحائط، ويحتضن الأميرة المذهولة بين ذراعيه، ويجن جنونه حين تنتزع نفسها من ضمته ومن حياته. ولعل جوته أحس بأنه كان قد وقف على شفا هذا الجرف.

وكثيراً في إيطاليا ملاذاً يعتصم به من موقف يهدد سلامة عقله. وفي نحو هذه الفترة في الصيغة الأولى لـ "فلهلم مايستر" نظم لمينون أغنية شوق ولهفة تلائم آماله أكثر من آمال مينون:

أتعرف البلد الذي تزهر فيه أشجار الليمون، حيث تتوهج ثمار البرتقال الذهبية في الأوراق الداكنة، حيث يهب النسيم العليل من السماء الزرقاء، حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة النار السامقة حيث تقوم شجرة الآس المطمئنة وشجرة الغار السامقة أتعرفه جيداً؟ هناك! هناك! أشتهي يا حبيبتي أن انطلق معك!

لقد كانت فايمار جميلة، ولكنها لم تكن دافئة. ثم إن هموم المنصف كدرت روح الشاعر، "أنها لوسيلة مرة من وسائل كسب القوت أن يضطر المرء إلى محاولة خلق التناغم والانسجام بين نشازات العالم"(57). وقد أضنته حياة البلاط، "ليس بيني وبين هؤلاء القوم ولا بينهم وبيني شيء مشترك يربطنا"(58). وكانت قد وقعت بعض الجفوة بينه وبين الدوق لعجزه عن مسايرة خطى الدوق في الصيد والغزل، وغرامه الكبير الوحيد قد براه الزمن وكثرة الشجار. فأحس أنه لا بد له من التحرر من هذه الأصفاد الكثيرة، والبحث عن اتجاه ونظرة جديدين. فطلب إلى الدوق أن يمنحه إجازة، فاستجاب الدوق، ووافق على أن يواصل دفع راتب جوته. ورغبة في توفير مبلغ إضافي من المال باع جوته لجوشن، الناشر الليبزجي، حق نشر طبعة من مجموعة مؤلفاته. ولم يبع جوشن إلا 602 نسخة، فخسر 1. 720 طالر في هذه المغامرة.

ص: 294

وفي أول سبتمبر 1786 كتب جوته إلى شارلوته من كارلسباد يقول:

"الآن وداعاً أخيراً، أريد أن أكرر لك أني أحبك حباً جماً

وأن تأكيدك لي أنك تجدين من جديد لذة في حبي يجدد فرحة حياتي. لقد احتملت الكثير في صمت إلى الآن، ولكني لم أرغب في شيء بأحر مما رغبت في أن تتخذ علاقتنا صورة لا يقوى عليها أي ظرف. فإذا لم يكن هذا مكناً، فلن أرتضي أن أسكن حيث تكونين، بل أوثر أن أكون وحيداً في ذلك العالم الذي انطلق إليه الآن (59).

‌4 - جوته في إيطاليا

1786 -

1788

واتخذ له في رحلة اسماً مستعاراً هو "المسيو جان-فليب مولر" لأنه أراد التحرر من مضايقات الشهرة. وكان في السابعة والثلاثين، ولكنه ذهب بتطلع يفوق حتى تطلع الشباب وترقبه المرح، وباستعداد يفضل كثيراً استعداد الشباب، لأنه كان ملماً ببعض تاريخ إيطاليا وفنها. وفي 18سبتمبر كتب إلى هردر يقول "آمل أن أعود شخصاً مولوداً من جديدا" وكتب إلى كارل أوجست "أرجو أن أعيد معي إنساناً تطهر تماماً وتجهز تجهيزاً أفضل كثيراً من ذي قبل". وإلى هذيثن وإلى غيرهما من الأصدقاء أرسل "رسائل مع إيطاليا" ما زالت تحوي نبض الحياة الإيطالية السريع. وقد قدم لها بالشعار القديم " Auch in Arkadien- هو أيضاً كان الآن في أركاديا. وقد رأينا في موضع آخر من الكتاب مبلغ شكره على ضوء الشمس. فقد صاح عند دخوله إيطاليا" إني أومن بالله من جديد! " (60) ولكنه أحب الشعب الإيطالي أيضاً، وجوههم وقلوبهم الطلقة، وطبيعة حياتهم، وحرارة حديثهم ومرحه. وإذ كان عالماً كما كان شاعراً، فإنه لاحظ الخصائص الخاصة بالظواهر الجوية، والتكوينات الجيولوجية، والعينات المعدنية، وأنواع الحيوان والنبات، وأحب حتى السحالي المارقة فوق الصخور.

وبلغ من شدة شوقه للوصول إلى روما أنه مر مرور الكرام بفنيسيا ولمبارديا وتسكانيا ولكنه تلبث في فتشنتسا وقتاً كفى لأشعاره ببساطة معمار بلاديو وقوته الكلاسيكيتين. وعاد يؤكد من جديد نفوره من الطراز القوطي.

ص: 295

"لقد تحررت إلى الأبد-ولله الحمد-من كل ميل إلى تلك الأعمدة الشبيهة بقصبات التدخين، وقلاعنا الصغيرة المتوجة بأبراج الكنائس، والأطراف المورقة لمبانينا!

لقد فسح بلاديو أمامي الطريق لكل

فن" (61). وعاد بهذا الطريق إلى فتروفيوس الذي درسه في طبعه أشرف عليها جالياني، صاحبنا الظريف القادم من نابلي وباريس. واستحال الطراز الكلاسيكي الآن غراماً عنده، يلون كتاباته وفكره، ويعيد صياغة بعض أناجه القديم، مثل "افجيني" و "تاسو" في قالب وخط كلاسيكيين. وفي البندقية بدت قصور الباروك في عينيه مسرفة إلى البهرج. مفرطة في الأناقة النسائية؛ لا بل أنه انصرف عن واجهات النهضة إلى أطلال العمائر والتماثيل الكلاسيكية في المتاحف. ولكن دمه الحار تجاوب مع لون فيرونيزي وتتسيانو وكبريائهما.

وقد بحث في فرار عبثاً عن القصر الذي حبس فيه تاسو. وبعد أن قضى ثلاثة أيام في بولونيا وثلاث ساعات فقط في فلورنسة انطلق حثيثاً عبر بروجه وتيرني وتشيتا دي كاستيللو، وفي 29 أكتوبر 1786 ركب إلى روما مخترقاً "البورتا ديل بوبولو"(بوابة الشعب) وأحس الآن بلحظة عابرة من التواضع "كل الطرق مفتوحة أمامي لأني أسير بروح التواضع"(62).

وإذ لم يكن قد تمكن من لغة الحديث الإيطالية، فقد بحث عن الجالية الألمانية، لا سيما الفنانين الألمان، لأنه تطلع إلى أن يتعلم على الأقل أصول الرسم والتصوير والنحت. وأعجبت أنجليكا كاوفمان بحماسته ووسامته فرسمته في صورة أبرزت شعر الأسود وجبينه العالي وعينيه الصافيتين. وارتبط بصداقة حميمة مع يوهان هاينريش فلهلم تيشباين، الذي أسلمه لنا في لوحته الشهيرة "جوته في الريف"(63). يستلقي في استرخاء كأنه فتح أركاديا. وكان جوته قد راسل هذا المصور قبل حضوره إلى إيطاليا بزمن طويل، ثم التقيا لأول مرة في 3 نوفمبر، حين اجتمعا في "بياتسا سان بيترو (ميدان القديس بطرس)، وتعرف الشاعر على الفنان، وقدم إليه نفسه ببساطة "أنا جوته" (64)، ووصفه تيشباين في خطاب إلى لافاتر بهذه العبارات:

ص: 296

"وجدته تماماً كما توقعت. ولم يدهشني غير الرزانة والهدوء في رجل له هذه الحساسية الناشطة، ثم قدرته على الاسترخاء والتصرف بحرية في جميع الطروف. وما يسرني أكثر حتى من هذا هو بوساطة حياته. فكل ما طلبه مني كان في إعداد حجرة صغيرة يستطيع أن ينام فيها ويعمل دون إزعاج؛ ثم أبسط الطعام

وهو يجلس الآن في تلك الحجرة الصغيرة عاكفاً على قصة "افجيني" من الصباح الباكر إلى الساعة التاسعة. ثم يخرج لدراسة روائع الفن" (65).

وكثيراً ما كان تيشباين مرشداً له في جولاته هذه، ورتب تزويده بما طلب من الرسوم، وحصل له على نسخ من الصور الأكثر شهرة. وقد رسم جوته بنفسه رسوماً تخطيطية للصور التي أراد تذكرها بنوع خاص. ثم جرب النحت، ونحت رأساً لهرقول. واعترف بأنه غير موهوب في الفنون التشكيلية، ولكنه شعر أن هذه التجارب تعطيه إحساساً أفضل بالشكل، وتساعده على تصور ما يريد وصفه (66). ثم أكب على كتاب فنكلمان "تاريخ الفن القديم"، "هنا على الطبيعة أجده ثميناً جداً

والآن يستطيع عقلي في النهاية أن يتسامى إلى أعظم وأنقى إبداعات الفن في مأمن هادئ" (67). "إن تاريخ العالم كله يربط نفسه بهذه القبعة، وأحسبني ولدت

ولادة جديدة صادقة منذ اليوم الذي دخلت فيه روما

أظنني تغيرت إلى الصميم" (68). ويبدو أنه استمتع خلال ذلك بالفن الحي الذي قدمته الموديلان "اللذيذات" اللائي جلسن للمصورين في مراسمهم (69). وأنهت إقامته في روما ذلك التخلص من النزعة الرومانتيكية الذي بدأ بمسئوليات المنصب. وبدأ الآن تمرد جوتز على القانون، ودموع فرتر، في نظر جوته الذي أخذ ينضج كأنها إمارات عقل غير متزن، "إن الرومانتيكية مرض، والكلاسيكية صحة" (70). وقد كان في تحمسه الجديد للآثار الرخامية والأعمدة والتيجان والقواصر الكلاسيكية والخطوط النقية للتماثيل اليونانية مسحة رومانتيكية. "إذا شئنا حقاً نموذجاً نحتذيه، فعلينا دائماً أن نرجع إلى قدماء اليونان، الذين يتمثل في أعمالهم دائماً جمال الإنسان" (71). وقد رأى جوته، كلما رأى فنكلمان، الجانب "الأبوللوني "للحضارة

ص: 297

والفن اليونانيين فقط-تمجيد الشكل والقصد، وكان الآن يتجاهل تلك النشوة "الديونيسية" التي لونت الخلق والدين والحياة اليونانية تلويناً دافئاً جداً، والتي أعربت في جوته ذاته عن نفسها خلال "قرينه" وغرامياته.

في هذا الوجد الكلاسيكي أعاد كتابة "افجيني في تاوريس" شعراً (1787)، واعتزم أنه ينافس راسين، لا بل يوربيديس نفسه. وإذ كان قلبه لا يزال محتفظاً بجمرات النار التي أضرمتها فيه شارلوته فون شتين، فقد سكب في أحاديث الأميرة اليونانية شيئاً من رقة البارونة الألمانية وتمالكها نفسها. وروى القصة القديمة جداً، بكل ما فيها من تعقيدات الميثولوجية والأنساب، وزاد من حدة الدراما بتصويره الملك السكوذي تصويراً متعاطفاً، وأقدم على تغيير الخاتمة لتتوافق مع الفكرة-النادرة بين اليونان-التي تزعم أن على الإنسان التزامات حتى للبرابرة (الهمج أو غير اليونان). ولا يستطيع تقدير إنجاز جوته حق قدره إلا الذين يقرءون الألمانية بطلاقة، ومع ذلك قال ايبوليت تين، وهو رجل فرنسي، وناقد فذ، خبير على الأرجح بدرمات راسين:"إنني لا أفضل أي عمل أدبي حديث على درامة جوته افجيني في تاوريس"(72).

وقد أحيت ذكريات شارلوته في هذه المسرحية، ثم في "تاسو""أكثر منها، اللتين أعاد كتابتهما في روما، شعوره من نحوها. لقد أصابها بجرح عميق هروبه المفاجئ إلى إيطاليا وتركه ولدها في عهده الخادم، فأعادت فرتز لفورها، وطالبت جوته برد كل الرسائل التي كتبتها له. فكتب معتذراً من روما (8 و13 و20 ديسمبر 1786)، وبعثت إليه (18 ديسمبر) بتذكرة فيها لوم "حلومر" فكان رده (23 ديسمبر) "ليس في طاقتي أن أصف لك كيف يدمى قلبي أنك مريضة، ومريضة بسبب غلطتي. فاصفحي عني. لقد صارعت أنا نفسي الموت والحياة، وما من لسان يقوى على النطق بما كان يعتمل في داخلي. "وأخيراً لانت. فكتب لها أول فبراير 1787 "الآن أستطيع أن أنصرف إلى عملي وأنا أسعد مزاجاً لأنني تسلمت منك رسالة تقولين فيها أنك تحبين رسائلي وتبتهجين بها".

ص: 298

في ذلك الشهر ذهب هو وتيشباين إلى نابلي وارتقى فيزوف مرتين؛ وفي محاولته الثانية غطى ثوران صغير للبركان رأسه وكتفيه بالرماد. ووجد متعة عظمى في الأطلال الكلاسيكية في بومبي، وبهت للجلال البسيط الذي رآه في المعابد اليونانية ببايستوم. فلما عاد إلى روما ركب البحر إلى بلرمو، ومضى ليدرس المعابد الكلاسيكية في سجسته وجرجنتي (أجرجنتو)، ووقف في المعبد اليوناني بتاورمينا، ثم قفل إلى روما في شهر يونيو. فلما تعاظم افتتانه بـ "أروع مدينة في العالم كله"(73). أقنع الدوق كارل أوجست بأن يواصل دفع راتبه حتى نهاية 1787. فلما أن نفدت المهلة راض نفسه ببطء على العودة إلى الشمال. فغادر روما في 25 أبريل 1788، وسافر على مهل عبر فلورنسة وميلان وكومو حتى بلغ فايمار في 18 يونيو. وكان كل يوم يتساءل كيف يستقبل الدوق، والحاشية، وشارلوته، رجلاً يحس أنه تبدل إنساناً آخر.

‌5 - جوته في الانتظار

1788 -

1794

كان الدوق قد عين رئيساً جديداً للمجلس بموافقة الشاعر الغائب؛ والآن أعفي جوته بناء على طلبه من جميع واجباته الرسمية عدا منصب وزير التعليم، ولم يخدم المجلس بعدها إلا بصفة استشارية. وكان الدوق لطيفاً معه، ولكنه كان قد اتخذ أخصاء غيره، ثم أنه لم تعجبه العواطف الشبيهة بالنزعات الجمهورية التي استشفها من "إجمونت" بعد أن أعاد الشاعر كتابتها. أما جمهور القراء قد نسي جوته أو كاد؛ وأقبل على شاعر جديد يدعى شيلر، وصفق بحماسة لتمثيلية "اللصوص" الزاخرة بروح التمرد والعنف الذي اتسمت به الحركة "الزوبعية"، والذي بدأ الآن سخيفاً فجافى عين شاعر يتأهب للتبشير بالنظام والقصد الكلاسيكيين. وأما شارلوتة فون شتين فقد استقبلته ببرود. وأنكرت طول غيابه، وتمهله في العودة، وتحمسه المتصل لإيطاليا، ولعلها سمعت بـ "موديلات" روما. كتبت تقول إن لقاءهما الأول عقب وصوله كان "زائفاً كل الزيف في طابعه، ولم نتبادل شيئاً غير الملل"(74). ورحلت لتقيم فترة في كوخبرج، وصار جوته حراً في التفكير في كرستيانة فولبيوس.

ص: 299

وقد دخلت هذه الفتاة حياته في 12 يوليو 1788 إذ حملت عليه رسالة من أخيها. وكانت في الثالثة والعشرين، تعمل في مصنع للأزهار الصناعية، وراع جوته منها روحها النضرة، وعقلها البسيط، وأنوثتها المتفتحة. فدعاها إلى بيته ذي الحديقة لتعمل مديرة للبيت، وما لبث أن جعلها خليلة له. ولم تنل حظاً من التعليم، وقال "إنها لا تستطيع فهم الشعر إطلاقاً (75)، ولكنها استسلمت له في ثقة واطمئنان، ومنحته تحقيق ذاته الجسدي الذي أنكرته عليه شارلوتة فيما يبدو. وفي نوفمبر 1789، حين أوشكت أن تصبح أماً، أخذها إلى بيته في فايمار، وجعلها زوجته علانية في كل شيء إلا الاسم. وصدمت شارلوتة والحاشية لتجاوزه الحدود الطبقية وعدم إخفائه العلاقة المحرمة. وقد أحزنه كثيراً هو وكرستيانة هذا الموقف، ولكن الدوق المتمرس بالخليلات قام عراباً للطفل الذي ولد في عيد الميلاد 1789، وعمده في أغسطس هردر الصارم، الغفور رغم صرامته.

أما جوته، الذي كثيراً ما كان عاشقاً، ولكنه الآن فقط كان أباً، فقد وجد الكثير من السعادة في "الرجل الصغير" و "المرأة الصغيرة". ودبرت له أمر بيته، واستمتعت إليه في حب حتى وهي لا تفهمه، ومنحته الصحة والعافية. قال لصديق منذ اجتازت هذه العتبة أول مرة لم ينلني منها غير الفرح" (76). ولم ير فيها عيباً غير حبها للخمر حباً فاق حتى حبه، وما أفضى إليه هذا أحياناً من المرح والقصف الذي لا يمكن السيطرة عليه. وكانت تختلف إلى المسرح، وترتاد حفلات الرقص الكثيرة، بينما يظل جوته في البيت ويخلد ذكرها في "المراثي الرومانية" Romische Elegien (1789 - 90) ، التي كتبها على طريقة بربروتيوس وبأخلاقيات كاتوللوس. وليس في هذه "المراثي الرومانية" شيء حزين، إنما تشتق اسمها هذا من بحر المراثي " elegiac" الذي تتناوب فيه البحور السداسية والخماسية التفاعل؛ وهي لا تتصل بروما بل بأرملة طروب-نستشف من ورائها كرستيانة نفسها:

"كل ما تحويه أسوارك المقدسة أي روما الخالدة يشغى بالحياة، ولكنه في ناظري ساكن ميت.

ص: 300

أواه، منذا يوشوش في أذني؟ متى أشهد في النافذة ذلك القد الجميل الذي يحيي وإن أحرق؟ لا تندمي يا حبيتي على أنك استسلمت هكذا سريعاً! ثقي بي، أراك غير جريئة؛ إنما أشعر بالإجلال .. إن الإسكندر وقيصر وهنري وفردريك، هؤلاء الجبابرة، يودون أن يخلعوا على نصف المجد الذي ظفروا به لو أنني وهبتهم ليلة واحدة على الأريكة التي أرقد عليها؛ ولكنهم وما أسفاه يقعدهم ليل أوركوس في قسوة. فاغتبط إذن، أيها الحي، ناعماً في بيتك المنور بالحب قبل أن تبلل موجة "ليذي" الحزينة قدمك الهاربة" (77)

وربما كانت تلك الأرملة الجميلة ذكرى من أيام روما، وكلن دفء هذه الأبيات مبعثه كرستيانة. على أية حال ألم يكن يدرس الفن؟

على أنه مما يعينني على الدرس أيضاً أن أرسم بيد حساسة تلافيف صدرها الجميلة وأدع الأنامل الحكيمة تنزلق هابطة على الفخذ الناعم، لأنني هكذا أتمكن من صنعة النحات القديم، وأتأمل، وأقارن، وأتعلم أن آتي وأبصر بعين شاعرة، وأشهر بيد مبصرة (78).

ولم يرق نبيلات فايمار هذا العرض المرخص لمفاتنهن، وحزنت شارلوته الوقور على انحدار بطلها "جالاهاد" لا بل أن كارل أوجست ذاته انزعج قليلاً، ولكن سرعان ما هدأت نفسه. وعندما كانت الدوقة الأرملة عائدة من إيطاليا أرسل الدوق جوته إلى البندقية ليصحبها إلى أرض الوطن. وطال مقامه هناك (مارس إلى يونيو 1790) طولاً ضايقه، وتاق إلى كرستيانة، وصب جام غيظه من الباعة الإيطاليين ووسائل النظافة الإيطالية في "الابجرامات الفينيسية"-وهي، أقل أعماله إغراء بالقراءة.

فلما عاد من البندقية وجد أن الثورة الفرنسية تبعث النشوة في شباب ألمانيا، والخوف في حكامها. وكان الكثيرون من أصحابه، وفيهم فيلاند

ص: 301

وهردر، يصفقون للإطاحة بالاستبدادية الملكية في فرنسا. أما جوته، الذي أدرك أن كل العروش مهددة بالخطر، فقد اتخذ موقفه إلى جوار الدوق، وأشار عليه بالحيطة وقال إن أناساً كثيرون جداً "يجرون وفي أيديهم منفاخ بينما يلوح لي أن الأجدر بهم أن يبحثوا عن أباريق الماء البارد للسيطرة على النار (79). وأطاع أمر كارل أوجست له بأن يصحبه في حملة الحلف الأول ضد فرنسا. وحضر معركة فالمي (20 سبتمبر 1792)، ووقف هادئاً تحت النيران، وشارك في الهزيمة. وقد سجل ضابط ألماني في يوميته أن الشاعر-عضو المجلس الخاص، حين طلب إليه التعليق على الحدث أجاب "منذ اليوم ومن هذا الموضع يبدأ عصر جديد في تاريخ العالم" (80). وليس لدينا ما يؤيد هذه القصة. ومهما يكن من أمر، فإن جوته هاجم الثورة بقوة حين عاد إلى فايمار، وكانت تدخل فترة شططها ووحشيتها (1792 - 94).

ورسخت هذه التطورات في جوته ذلك التحول الطبيعي، تحول العقل الآخذ في النضج، من التلذذ بالحرية إلى حب للنظام. وشعر جوته أنه إذا كان في استطاعة أي أحمق أن يكون مبتكراً، فإن في استطاعة أي أحمق أن يحيا كما يشاء" (81) منتهكاً العادات أو القوانين في اطمئنان لأن غيره يراعونها. ولم يشعر بتحمس للديمقراطية، فلو أتيح لنظام كهذا أن يمارس فعلاً لكان معناه تسلط الغفلة والجهل والخرافة والهمجية. لقد كان لطيفاً سمحاً في نطاق دائرته، ينفق بعض دخله على أعمال البر المستوردة (82)، ولكنه كان ينكمش من الجماهير. فإذا وجد بين الجماهير أو الأغراب انطوى على نفسه في كبرياء وأحجام، وكان يجد سعادته الوحيدة في بيته. في سني القلاقل هذه (1790 - 94) ران عليه سبات كئيب أيقظته منه لمسة شباب شيلر المتحمس ومنافسة قلمه.

‌6 - شيلر في الانتظار

1787 -

1794

كان جوته في إيطاليا حين وصل شيلر إلى فايمار. واعترف الشاعر المعسر بغيرته من عضو المجلس الخاص الغائب. "بينما هو يرسم في إيطاليا، يبذل النكرات

ص: 302

من الناس العرق من أجله كأنهم دواب الحمل. إنه يبعثر هناك راتباً قدره 1. 800 طالر، وهنا عليهم أن يضاعفوا كدهم ليحصلوا على نصف هذا المال" (83). وفي 12 أغسطس 1787 كتب بروح أكثر تعاطفاً.

"يتكلم الكثيرون هنا عن جوته في شيء من الحب، بل إنهم أكثر حباً له وإعجاباً به إنساناً أكثر منه مؤلفاً. ويقول هردر أنه أوتي حكماً شديد الوضوح وعمقاً كبيراً في الوجدان، وعواطف نقية جداً. وجوته في رأي هردر مبرأ من كل روح للدس والوقعية، وهو لم يؤذ أحداً قط

وهو في معاملاته السياسية يتصرف بصراحة وجرأة

ويقول هردر أن جوته أحق بالإعجاب كرجل دنيا منه شاعراً

وأن له عقلاً يتسع لأي شيء" (84).

وكان الدوق غائباً حين حضر شيلر، ولكن أنا أمالياً وشارلوته فون شتين استقبلتاه استقبالاً حاراً. وأخبره فيلاند أنه "ينقصه الصقل والوضوح والذوق"(85)، وتطوع بأن يصقله، وسرعان ما أخذ الشاعر المتحمس يكتب المقالات لمجلة فيلاند "الرائد الألماني". وقد وجد ترفيهاً أحر مع شارلوت فون كالب، التي كان لها كشارلوته الأخرى زوج واسع الأفق "إن الناس أخذوا يهمسون في صوت عال بعض الشيء حول علاقتي بشارلوته

وقد كتب لي الهر فون كالب. وسيحضر في آخر سبتمبر، وسيؤثر وصوله كثيراً في ترتيباتي. وصداقته لي لم يطرأ عليها تغيير، وهو أمر مدهش، لأنه يحب زوجته، ويعلم بصلتي الحميمة بها

ولكنه لا يمكن أن يشك لحظة واحدة في وفائها

وما زال كما كان، الرجل الأمين الطيب القلب" (86).

وفي 27 أغسطس 1787 عرضت "دون كارلوس" أول مرة في همبورج. وكان بشيلر من الولع بفايمار ما من منعة من الذهاب لحضور العرض. وقد استقبلت تمثيليته هذه وهي أولى تمثيلياته الشعرية، بالمديح والذم كليهما لأنها استسلام لأسلوب المأساة الفرنسية، ولكن يعوزها الوحدة المسرحية التي تتطلبها قواعد أرسطو. وقد استهلت بالصراع بين فليب الثاني وابنه على حب اليزابث أميرة فالوا، ثم انتقل مركز الاهتمام في منتصف التمثيلية

ص: 303

إلى كفاح الأراضي الواطئة للتحرر من السيادة الأسبانية ومن قسوة ألفا. وحاول شيلر أن يرسم صورة محايدة لفليب، وقد صفق القراء البروتستنت لهذا النداء الذي وجهه المركيز بوزا إلى الملك:

يا صاحب الجلالة، لقد مررت مؤخراً بأرض فلاندر وبرابانت-أقاليم كثيرة غنية موفقة، تزخر بشعب باسل عظيم أمين! قلت في نفسي أنه لشيء رائع حقاً أن يكون الإنسان أباً لشعب كهذا! ثم تعترث قدمي فوق كومة من عظام رجال محترقة! فليتك ترد لنا كل ما حرمتنا منه، وتدع السعادة تتدفق من نبع خيرك لأنك قوي كريم النفس؛ دع عقل الإنسان ينضج في ملكك الشاسع

ويصبح ملكاً حقاً بين مئات الملوك!

دع كل فرد من رعيتك يصبح ما كانه يوماً ما-الغاية والهدف لرعاية المليك واهتمامه، لا يربطه واجب غير محبة الأخ لأخيه" (87).

وهجر شيلر الدراما طويلاً رغم نجاح دون كارلوس. وكان قد كتب إلى كورنر في 1786 يقول "إن التاريخ يدخر لي مع كل يوم تال مغريات جديدة

وددت لم أدرس شيئاً غيره طوال عشر سنوات متصلة؛ أظنني كنت أصبح مخلوقاً من نوع آخر. أترى أنه ما زال أمامي متسع من الوقت للتعويض عما فقدت؟ " (88) ولم يكن في استطاعته أن يعول نفسه، فضلاً عن يعول أسرة، من حصيلة مسرحيات عارضة قد تذبل وتموت

ص: 304

موتاً مبكراً حتى بعد أن تحظى بعرض أول يصفق له النظارة. فلعل كتاباً ناجحاً في التاريخ يكسبه من الشهرة العلمية ما يكفي للظفر بأستاذية في جامعة يينا. هناك لن يبعد عن فايمار بأكثر من أربعة عشر ميلاً، وسبقي في نطاق سلطة الدوق وكرمه.

وعليه، فبعد أن فرغ من "دون كارلوس" عكف على تأليف "تاريخ سقوط الأقاليم الواطئة المتحدة". وإذ كان لا يقرأ الهولندية، فقد اعتمد على مراجع ثانوية جمع من رواياتها تصنيفاً غير ذي قيمة باقية. وانتقد كورنر المجلد الأول (1788) بأمانته المعهودة:"إن العمل الراهن، مع كل مزاياه، لا يحمل طابع تلك العبقرية التي أنت ميسر لها"(89). وتخلى شيلر عن الكتاب، ولم يصدر مجلد ثان في موضوعه.

وفي 18 يوليو 1788 عاد جوته من إيطاليا، وفي سبتمبر التقى بشيلر في ضاحية رود ولشتات. وكتب شيلر إلى كورنر يقول: "إن الفكرة العظيمة التي كونتها عنه لم تنقص مثقال ذرة

ولكنني أشك في أننا سنتقارب تقارباً وثيقاً يوما ما

إنه يسبقني بمراحل

فلا يمكن أن نلتقي على الطريق. وقد سارت حياته كلها من بدايتها في اتجاه معاكس لاتجاه حياتي. وعالمه ليس عالمي. وأفكارنا في بعض النقاط متعارضة تعارضاً تاماً" (90). والحق أن الشاعرين كانا يبدوان وكأن العناية قصدت بهما أن يكره الواحد صاحبه. فجوته، ذو التسعة والثلاثين، قد وصل ونضج، أما شيلر، ذو التسعة والعشرين، فكان يتسلق ويجرب؛ ولم يتفقا إلا في الأنانية المتعالية. كان أصغرهما من غمار الشعب، رقيق الحال، يكتب الشعر القريب من الثورية؛ أما الآخر فكان غنياً، رجلاً ذا مكانة ومنصب مرموق، عضواً في المجلس الخاص يستنكر الثورة. وكان شيلر قد خرج لتوه من حركة "الزوبعية"؛ كان صوت الوجدان والعاطفة والحرية والرومانس؛ إما جوته، الذي تولع باليونان، فكان بكل ميوله مع العقل، والقصد، والنظام، والأسلوب الكلاسيكي. على أية حال ليس من الطبيعي في عالم المؤلفين أن يحب بعضهم بعضاً، فإنهم إنما يسعون للظفر بذات الجائزة.

ص: 305

فلما أن عاد جوته وشيلر إلى فايمار لم يكن يفصل مسكنيهما غير مسيرة قصيرة، ولكنهما لم يتصلا الواحد بالآخر. وساءت العلاقة بينهما بظهور نقد شيلر المناوئ لتمثيلية جوته "إجمونت" وقرر جوته أن أثينا الصغيرة" لا تتسع لكليهما. ففي ديسمبر 1788 زكى شيلر لكرسي في التاريخ بجامعة يينا. وقبل شيلر المنصب مسروراً وزار جوته ليشكره، ولكنه كتب إلى كورنر في 29 فبراير 1789:

لو طالت عشرتي لجوته لشقيت بها. فهو لا يهش حتى لأصدق أصدقائه، ولا شيء يربطه. وأنا أومن حقاً أنه أناني من الدرجة الأولى. وقد أوتي موهبة تطويق أعناق الناس بمجاملات صغيرة وكبيرة، ولكنه يفلح دائماً في أن يظل هو نفسه حراً

وأنا أنظر إليه على أنه تجسيد لنظام مدروس جيداً من الأنانية التي لا حد لها. وينبغي ألا يطيق الناس مخلوقاً كهذا بقربهم. وأنا أبغضه لهذا السبب، وإن لم أملك إلا الإعجاب بعقله، والتفكير فيه بسمو. لقد بعث في مزيجاً عجيباً من البغض والحب" (91).

وفي 11 مايو 1789 تسلم شيلر عمله في يينا، وفي 26 مايو ألقى "خطاب الافتتاح" وموضوعه "ما التاريخ العالمي وما الهدف من دراسته"؟ وإذ كان الدخول مجاناً، فقد تبين أن الحضور يفوق كثيراً ما تتسع له الحجرة المخصصة، وانتقل الأستاذ مع جمهوره في هرج ومرج إلى قاعة في الطرف الآخر من المدينة. وقد لقيت هذه المحاضرة ثناءً مستطاباً، "فقد غنى لي الطلبة سريناداً في تلك الليلة وهتفوا لي ثلاثاً (92). غير أن عدد من سجلوا أسماءهم لحضور المحاضرات كان صغيراً-وكان الحضور نظير رسم يدفعه الطالب، ومن ثم كان دخل شيلر من التدريس ضئيلاً.

فأضاف إليه بالكتابة. وفي 1789 - 91 أصدر على ثلاث دفعات "تاريخ حرب الثلاثين". هنا وجد اليسر على الأقل من حيث اللغة، وإن منعته مضايقات شديدة مرة أخرى من الرجوع إلى المصادر الأصلية، وشوه حبه لإصدار الأحكام والتفلسف القصة وقطعها. ومع ذلك فقد رحب فيلاند بالكتاب دليلاً على "قدرة شيلر على أن يرتفع إلى مستوى هيوم وروبرتسن

ص: 306

وجبون" (93). وبيعت سبعة آلاف نسخة من المجلد الأول في السنة الأولى لصدوره.

وشعر شيلر الآن أن في استطاعته إشباع شوقه إلى بيت خاص به، وإلى امرأة تمنحه حبها ورعايتها. وكان قد أتيح له لمحة خاطفة لشارلوته وكارولينة فون لنجفيلد في مانهايم عام 1784. ثم رآهما ثانية في رودولشتات في 1787، وكانت "لوته" تعيش هناك مع أمها، أما كارولينة، الشقية في زواجها، فكانت تسكن في البيت المجاور. وكتب شيلر إلى كورنر يقول: (94)"إنهما لذيذتان رغم أنهما غير جميلتين، وهما ترانني غاية السرور. وهما مطلعتان على أدب العصر، وتتوفر الأدلة على تمتعهما بتعليم راق جداً. وهما عازفتان ماهرتان على البيانو". وأنكرت السيدة لنجفيلد فكرة زواج ابنتها عن شاعر مملق، ولكن كارل أوجست منحه بمعاش صغير قدره مائتا طالر، وأنعم عليه دوق ساكسي-ميننجن بشعار النبالة. وقد نبه لوته إلى أن فيه عيوباً كثيرة. فقالت أنها لحظتها، ولكنها أضافت "إن الحب حب الناس كما نجدهم، وقبول مواطن ضعفهم إن وجدت بقلب محب". (95) وزفا في 22 فبراير 1790، واتخذا منزلاً متواضعاً في يينا. وأتته لوته بدخلها البالغ مائتي طالر في العام، وأنجبت له أربعة أطفال، وأثبتت خلال شدائده كلها أنها الزوجة الصابرة الحنون. كتب يقول "إن قلبي يسبح في السعادة، وعقلي يستمد قوة وعافية جديدتين"(96).

وعكف على عمله بهمة، يعد محاضرتين كل أسبوع، ويكتب المقالات، والقصائد، والتاريخ. وظل شهوراً يكد ويكدح أربع عشرة ساعة في اليوم (97). وفي يناير 1791 أصيب بنوبتين من "الحمى النزلية" جلبتا معهما آلاماً في المعدة وبصقاً للدم. وظل طريح الفراش ثمانية أيام ومعدته ترفض كل طعام. وأعان الطلبة لوته على الهناية به و "تنافسوا أيهم يسهر معي .... وبعث إلى الدوق بست زجاجات من نبيذ ماديرا المعتق الذي أفادني مع بعض النبيذ المجري"(98). وفي شهر مايو أصابه "تشنج رهيب، مصحوب بأعراض الاختناق، فتراءى لي أن ساعتي قد دنت

وودعت

ص: 307

أحبائي، وظننتني راحلاً عن الدنيا في أي لحظة

وخففت عني كثيراً جرعات قوية من الأفيون والكافور والمسك واستعمال عوامل التبثر" (99).

وأزعج أصحابه شائعة كاذبة بموته، وصلت حتى كوبنهاجن. وهناك-بناء على اقتراحين من كارل راينهولت ويينز باجيزن-وهما نبيلان دانمركيان-عرض الدوق فردريش كوستيان أمير هولشنين-أوجستنبورج واللونت إرنست فون شيملمان على شيلر منحة سنوية قدرها ألف طالر على مدى ثلاث سنين. فقبلها شاكراً. وأعفته الجامعة من التدريس ولكنه ظل يحاضر فرقة خاصة صغيرة. ثم خصص بعض فراغه الجديد، بناء على اقتراح من راينهولت، لدراسة فلسفة كانط التي قبلها كاملة تقريباً، وهو ما أضحك جوته وأثار اشمئزاز هردر، وربما ألحق بعض الأذى بشعر شيلر.

ونشر الآن (1793) مقاله الطويل "في الكياسة والكرامة" الذي استهل التربية الرومانسية "للروح الجميلة". وقد عرف هذه الروح الجميلة بأنها تلك التي "ينسجم فيها العقل والحواس، والواجب والميل، وتجد هذه كلها التعبير الخارجي في الكياسة"(100). ولا بد أن المتبرعين الكوبنهاجيين قد هالهم أن يتلقوا، كبعض الرد على منحتهم، كتيباً عنوانه "رسائل في التربية الجمالية (الاستطيقية) للإنسان"(1793 - 94). وقد بدأ شيلر بفكرة كانط على الإحساس بالجمال كتأمل نزيه للصور المتناسقة، ثم زعم (مع شافتسبري) أن "الشعور الذي ينميه الجميل يهذب السلوك" ويصبح الحس الجمالي هو والفضيلة واحداً. وأنه لعزاء أن نقرأ، في هذا الرأي المنبعث من أيام فايمار المزدهرة أن شيلر (كجوته) رأى أن جيله منحل، غارق في انحطاط خلق سحيق" (101).

فلما عاد من الفلسفة إلى الشعر وجد عناء في استحضار "تلك الجرأة والنار المضطرمة التي كنت أملكها من قبل، .. لقد أفسدني الجدل النقدي"(102). ولكنه أصر على أن "الشاعر هو الإنسان الأصيل الوحيد، وليس أفضل الفلاسفة إلا كاريكاتوراً إذا قيس به"(103)، ورفع

ص: 308

وظيفة الشاعر في تعليم البشر والتسامي بهم إلى مستوى الإلهام السماوي. وقد وصف في قصيدة غنائية طويلة "الفنانون 1789" الشعراء والفنانين بأنهم يرشدون النوع الإنساني إلى وحدة الجمال مع الفضيلة والحق. وفي قصيدة أخرى "آلهة اليونان"(1788) امتدح اليونان على حساسيتهم الجمالية وإبداعاتهم الفنية، وزعم، في إبهام حذر، إن العالم بات كئيباً قبيحاً منذ حلت المسيحية محل الهيلينية. وكان واقعاً الآن تحت سحر جوته كما وقع جوته من قبل تحت سحر فنكلمان.

ولعل تصوير شيلر وجوته الرومانسي لليونان القديمة كان هروباً من المسيحية. فشيلر ينتمي إلى التنوير رغم بعض الفقرات الورعة، شأنه في ذلك شأن جوته؛ وقد قبل إيمان القرن الثامن عشر بالخلاص عن طريق العقل البشري لا النعمة الإلهية. واحتفظ باعتقاد ربوبي في الله-شخصي في الشعر فقط-وخلود غامض. ورفض الكنائس كلها البروتستنتية منها والكاثوليكية. ولم يكن المواعظ حتى مواعظ هردر. وقد كتب بيتين شهيرين في إبجرام عنوانه (عقيدتي) يقول فيهما:

أي دين أعترف به؟ ولا واحد من كل الأديان التي تذكرها لي. ولم؟ بسبب الدين (104).

وكتب إلى جوته في 9 يوليو 1796 يقول "إن الطبيعة السليمة الجميلة-كما تقول أنت نفسك-ليست في حاجة إلى ناموس أخلاقي، إلا إلى القانون لطبيعتها، ولا إلى ميتافيزيقا سياسية. وكان في وسعك أن تضيف أيضاً أنها ليست في حاجة إلى إله، ولا فكرة خلود تدعم وتصون بها ذاتها". ومع ذلك كان فيه عوامل من الخيال والرقة ردته صوب المسيحية:

"إنني أجد أن المسيحية تحتوي فعلاً على الأصول الأولي لكل ما هو أسمى وأنبل؛ وصورها الخارجية المختلفة لا تبدو لنا بغيضة منفرة إلا لأنها تعبيرات سيئة عن الأسمى .. ولم يشدد أحد تشديداً كافياً على ما يمكن أن يكون هذا الدين لعقل جميل أو على الأصح ما يمكن أن يفهمه منه

ص: 309

عقل جميل. وهذا يفسر نجاح هذا الدين نجاحاً كبيراً مع الطبائع الأنثوية، وأنه في النساء فقط مكن احتماله إطلاقاً" (105).

ولم يكن شيلر كجوته مركباً من حيث بدنه للوثنية الخالصة. كان وجهه مليحاً ولكنه شاحب، وقوامه فارعاً ولكنه نحيل هش. وكان يخشى تقلبات الجو اليومية ويؤثر القعود في حجرته يدخن ويتنشق. وكان يقابل بينه وبين جوته مقابلة الفكرة ضد الطبيعة، والخيال ضد العقل، والعاطفة ضد الفكر الموضوعي (106). وكان يجمع بين الحياء والكبرياء، يخشى الخصومة ولكنه يرد دائماً على الهجوم؛ سريع الغضب فاقد الصبر أحياناً (108). وكان يميل إلى استخراج العبرة عن كل شيء، وإلى الضرب على وتر مثالي عال. ومما يريح نفوسنا أن نراه يستمتع بغراميات قصة ديدرو "الحلي الواشية" (109). وقد أجاد تحليل موهبته في خطاب مبكر إلى جوته:

"لقد غلبني عقل الشاعر عموماً حين كان ينبغي أن أفلسف، وغلبني عقل الفيلسوف حين كنت أريد الشعر. وحتى الآن كثيراً ما يحدث أن يقتحم الخيال تجريداتي، والفكر الهادئ نتاجي الشعري. ولو استطعت السيطرة على هاتين القوتين بحيث أعين لكل منهما حدودها (كما كان جوته يفعل) لبقي لدي أمل في التطلع إلى مصير سعيد. ولكن حين بدأت أعرف طاقاتي المعنوية وأستخدمها على الوجه الصحيح، هاجمني المرض للأسف وهددني بتقويض قوالي البدنية"(110).

وعاوده المرض بعنف في ديسمبر 1793؛ ثم تماثل للشفاء، ولكن إحساسه بأن لا شفاء له منه وأنه يجب أن يتوقع نوبات راجعة أورثه الكآبة. ففي 10 ديسمبر كتب إلى كورنر يقول "إنني أكافح هذا الشعور بكل قوى عقلي

ولكنني أصد دائماً

فإن غموض مستقبلي؛

والشكوك في عبقريتي التي لا يدعمها ولا يشجعها الاتصال بغيري، والافتقار التام لذلك الحديث العقلي الذي أصبح ضرورة لا غنى لي عنها"؛ تلك كانت الأفكار الملازمة لمحنته الجسدية. وراح يتطلع في تشوق، من يينا لفيمار،

ص: 310

إلى جوته الذي ينعم بعافية يحسد عليها، ذلك "العقل السليم في الجسم السليم" وأحس شيلر أنه هناك يوجد الرجل الذي يستطيع أن يعطيه الحافز والدعم، لو أن الجليد القائم بينهما ذاب، وسقط حاجز الأميال الأربعة عشرة الذي يفصل بينهما!

‌7 - شيلر وجوته

1794 -

1805

وسقط الحاجز لحظة حين حضر الرجلان في يونيو 1794 جلسة عقدتها جمعية التاريخ الطبيعي في يينا. فلما التقى شيلر بجوته وهما يغادران القاعة، قال معلقاً أن العينات البيولوجية المعروضة في المؤتمر تعوزها الحياة، ولا يمكنها أن تعين مشاهدها حقاً على فهم الطبيعة. ووافق جوته مشدداً، وتجاذبا الحديث حتى بلغا بيت شيلر. وقال جوته فيما بعد مستعيداً ذكرى اللقاء "وأغراني الحديث بالدخول معه وشرحت له

"تحور النباتات"-وهي مقالة زعم فيها جوته أن جميع النباتات تنويعات من نمط أولي واحد. وأن كل أجزاء النبات تقريباً تنويعات أو تطويران للورقة. "واستمع

إلى هذا كله بكثير من الاهتمام وبفهم واضح، ولكن ما إن فرغت حتى هز رأسه وقال لي "ليست هذه تجربة، إنما هي فكرة"، أي أنها نظرية لم تثبتها الملاحظة أو الاختبار. وغاظ التعليق جوته، ولكنه رأى أن لشيلر عقلاً مستقلاً، فازداد احترامه لها. أما زوجة شيلر "التي أحببتها وقدرتها منذ طفولتها، فقد بذلت قصاراها لتوثق تفاهمنا المتبادل"(111).

وفي مايو 1794 كان شيلر قد وقع عقداً بالإشراف على تحرير مجلة أدبية شهيرة "تسمى داي هورين والهوراي" في الميتولوجيا الإغريقية ربات الفصول. وكان يأمل أن يجند للمجلة كانط، وفشته، وكلوبشتوك، وهردر، وياكوبي، وياجيزين، وكورنر، وراينهاولت، وفلهلم فون همبولت، وأوجست فلهلم فون شليجل، ثم جوته-أفضل صيد يطمع في اقتناصه. وفي 3 يونيو أرسل إلى فايمار رسالة موجهة إلى "السيد الكريم المحتد، الرفيع المقام، المكرم، عضو المجلس الخاص"، تحتوي على نشرة تمهيدية للمجلة المقترحة، وأضاف: "أن الورقة المرافقة تعرب عن

ص: 311

رغبة عدد من الرجال الذين يقدرونك تقديراً بغير حدود في أن تشرف الدورية بمقالات من قلمك، يجمع الكل بصوت واحد على عظم قيمتها. ونحن نشعر يا صاحب السعادة بأن موافقتك على دعم هذا المشروع ستكون ضماناً لنجاحه" (112). ورد جوته بأنه يسره المشاركة بمقالاته، وأنه "على ثقة من أن الاتصال الأوثق بالرجال الأصلاء الذين يؤلفون لجنتكم سيبعث حياة جديدة في كثير مما هو راكد الآن في باطني (113).

وهكذا بدأ تراسل يعد من ذخائر تاريخ الأدب، وصداقة اتصلت إحدى عشرة سنة-حتى موت شيلر-فيها من تبادل الاحترام والعون ما ينبغي أن يدخل في تقديرنا للنوع الإنساني. روربم كان أكثر هذه الرسائل الباقية كشفاً-وعددها 999 - هي الرسالة الرابعة (23 أغسطس 1794)، التي حلل فيها شيلر-بعد عدة لقاءات مع جوته جمعت بين المجاملة والصراحة وبين التواضع والاعتزاز بالنفس، الفوارق بين عقليهما. قال:

"إن أحاديثي الأخيرة معك حركت كل ذخيرة أملكها من الأفكار

فكثير من الأشياء التي لم أستطع أن أصل فيها إلى تفاهم خاص مع نفسي تلقت ضوءاً جديداً غير متوقع من تأملي لعقلك (فهكذا أسمي التأثير العام لأفكارك على) .. لقد أعوزني التجسيد لعدد من أفكاري التأملية، وأنت وضعتني على الطريق المفضي إليه. وأسلوبك الهادئ الواضح في النظر إلى الأشياء يعصمك من التيه في الطرق الجانبية التي كثيراً ما يشرد بي فيها تأملي وخيالي المستبد. إن حدسك الصائب يدرك كل الأشياء، ويدركها على نحو أكمل كثيراً مما ينشده المرء في عناء بالتحليل

وعقول كعقلك قل أن تعرف إلى أي حد بعيد نفذت وتغلغلت، وأنه ما من داع يذكر يدعوها للاستعارة من الفلسفة، التي لا تستطيع في الواقع إلا أن تتعلم منها

ومع أنني فعلت هذا على بعد، إلا أنني طالما راقبت المسار الذي سلك فيه عقلك .. أنت تبحث عن الضروري في الطبيعة، ولكنك

تنظر إلى الطبيعة بوصفها كلا حين تحاول جعل الضوء يلقي على أجزائها الفردية، أنت تبحث عن تفسير الفرد في جماع مظاهرها المتنوعة (114).

ص: 312

أما رد جوته (27 أغسطس) فقد تجنب في ذكاء تحليل عقل شيلر:

"ما كنت لأتلقى بمناسبة عيد ميلادي الذي وقع هذا الأسبوع هدية أجمل من رسالتك التي تلخص فيها حياتي بيد ودود، وتشجعني فيها بتعاطفك على استخدام قدراتي استخداماً أكثر مثابرة ونشاطاً. وسيكون من دواعي سروري أن أكشف لك حين تتاح لي الفرصة ما كانه حديثك لي، وكيف أنني أنا أيضاً أعد تلك الأيام مرحلة متميزة في حياتي، لأنه يبدو لي أننا لا نملك بعد هذا اللقاء غير المتوقع إلا أن نطوف في دروب الحياة معاً".

وتابع جوته هذه الرسالة (4 سبتمبر) بدعوة لشيلر لحضر إلى فايمار وينفق معه أياماً فيها. "سيكون فلي استطاعتك أن تشرع في أي عمل تشاء دون أن يزعجك أحد. وسنتجاذب الحديث معاً في أوقات ملائمة. وفي ظني أننا لن نفترق دون أن تحقق بعض الكسب. وعليك أن تعيش هنا تماماً كما تحب، وكما لو كنت في بيتك ما أمكن ذلك". ولم يتردد شيلر في القبول، ولكنه حذر جوته قائلاً "إن تشنجات الربو التي أعاني منها تلزمني الفراش طوال الصباح لأنها لا تسمح لي بأي راحة في الليل". وهكذا كان شيلر ضيف جوته وعليله تقريباً من 14 إلى 28 سبتمبر. وأعتني أكبر الرجلين بالشاعر العليل عناية رفيقه، وحماه من المضايقة، وبذل له النصح في أمر غذائه، وعلمه حب الهواء الطلق. كتب شيلر (29 سبتمبر) بعد عودته إلى يينا يقول "أجدني في بيتي مرة أخرى، ولكن أفكاري لا تزال في فايمار. ولا بد لي من وقت طويل أحل فيه خيوط كل الأفكار التي أيقظتها في". ثم (8 أكتوبر)، ناشده بما عهد فيه من تحمس "يبدو لي أنه من الضروري أن نصل فوراً إلى قدر من التفاهم الواضح حول أفكارنا عن الجميل".

ثم تلا ذلك شهور ثلاثة من التحضير للعدد الأول من مجلة "هورين" الذي صدر في 24 يناير 1792، والثاني في أول مارس، والأعداد الباقية شهرياً على مدى ثلاث سنين، وكتب جوته من فايمار (18 مارس) يقول "إن الناس يتهافتون عليها، ويتخاطفون أعدادها، وما كنا لنطمع في أكثر

ص: 313

من ذلك لهذه البداية". وفي 10 أبريل كتب شيلر لجوته يقول "لقد كتب لي كانط خطاباً ودياً جداً، ولكنه طلب مهلة لإرسال مقالاته

ويسرني أننا أغرينا الطائر العجوز بالانضمام إلينا. " وطلب جوته أن تنشر مقالاته غفلاً من التوقيع، لأنها اشتملت على عدد من "مراثيه الرومانية"، وكان عليما بأن نزعتها الشيقة القوية ستبدو غير لائقة بعضو في المجلس الخاص.

وفي حماسة النجاح المتهورة أقنع شيلر جوته بأن يشترك معه في إصدار دورية أخرى "التقويم السنوي للشعر" صدرت كل سنة من 1796 إلى 1800. وأطرف ما احتوته هو الابجرامات المسماة Xenien والتي صاغها الشاعران على غرار ابجرامات مارتيال Xenia ( اكسينا) التي كانت تكتب هدايا للضيوف. وقد وصف شيلر المشروع لكرونر فقال: "إن العملية كلها تجميع لأبجرامات، كل منها مقطع شعري من بيتين. وهي في أكثرها هجائيات عنيفة شيطانية، موجهة بصفة خاصة ضد المؤلفين وأعمالهم، يتخللها هنا وهناك ومضات خاطفة من الأفكار الشعرية أو الفلسفية. فسيكون هناك عدد لا يقل عن ستمائة من هذه المقطوعات"(115). وكان جوته قد اقترح هذه الفكرة ذريعة لرد اللطمات إلى نقادهما، وللسخرية من المؤلفين المغرورين وأصحاب الميول البورجوازية، ولتنبيه جمهرة القراء الألمان إلى الاهتمام بالأدب اهتماماً أشد. وعزماً على أن يطلقنا هذه "الهدايا" على معسكر الرجعيين "كالثعالب المشتعلة الذيول". (116) وكانت الأبجرامات بلا توقيع، وكان بعضها نتاجاً مشتركاً للمتآمرين كليهما. وإذ كان الكثير من هذه الذيول المشتعلة موجهاً ضد مؤلفين طواهم النسيان أو جدليات لا يذكرها الناس الآن، فإن الزمن أطفأ نارها، ولكن واحداً منها بقلم جوته يستحق منا التنويه الخاص:

"جاهد دائماً في سبيل الكل، وإذا لم تستطع أنت نفسك أن تصبح كلاً، فاربط نفسك إلى كل ما يوصفك جزءاً تابعاً".

وهناك إبجرام آخر يعزى عادة إلى شيلر يفصل الفكرة:

"أتخاف الموت؟ أتريد الحياة دون أن تموت؟ إذن عش في الكل!

ص: 314

فسوف يبقى بعد أن تموت بزمن طويل. " وقد جر عليهما الجزء الهجائي من الابجرامات هجمات مضادة آلمت شيلر وأضحكت جوته. ونصح جوته شيلر بأن يجعل من عمله الرد الوحيد على هذا الهجوم. "بعد مغامرتنا المجنونة في الابجرامات، علينا أن نحرص على العكوف على أعمال الفن العظيمة الجليلة دون غيرها، وأن نخزى جميع خصومنا بتحويل طبائعنا المتقبلة إلى صور نبيلة" (117).

وهكذا كان، ففي سني صداقتهما النامية تلك كتب جوته وشيلر بعضاً من أروع قصائدهما: فكتب جوته "عروس كورنت" و "الإله والبايدير"؛ وكتب شيلر "المسيرة"(1795) و "كراكي أبيكوس"(1797) و "أنشودة الناقوس"(1800). وأضاف شيلر مقالاً كبيراً في "الشعر الساذج العاطفي"(1795) -وطلع جوته على الناس بقصته "تلمذة فلهلم مايستر"(1796).

وقد عني شيلر بالشعر الساذج العاطفي، ذلك الشعر المنبعث عن الإدراك الحسي الموضوعي مقابل الشعر الذي ينشئه الوجدان التأملي؛ وكان في طويته يقارن بين جوته وشيلر. أما الشاعر "الساذج" فليس بسيطاً ولا سطحياً ولا مخدوعاً، إنما هو شاعر توافق في يسر مع العالم الخارجي بحيث لا يشعر بأي تعارض بينه وبين الطبيعة، بل يجد طريقه إلى الواقع بالحدس المباشر غير المتردد: ويستشهد شيلر بهومر وشكسبير مثالين على فكرته. وكلما أصبحت المدنية أكثر تعقيداً وافتعالاً فقد الشعر هذه المباشرة الموضوعية والانسجام الذاتي؛ ودخل الصراع النفس، وكان على الشاعر أن يقتنص من جديد بالخيال والوجدان هذا التوافق والاتحاد بين النفس والعالم-كمثل أعلى يتذكره أو يتطلع إلى تحقيقه؛ ويغدو الشعر عندئذ تأملياً، يلبد الفكر سماءه (118). وكان شيلر يعتقد أن معظم الشعر اليوناني من النوع الساذج أو المباشر، ومعظم الشعر الحديث حصيلة التنافر والتفكك والشك. والشاعر المثالي هو الذي يصهر المدخلين جميعاً-البسيط والتأملي-في رؤية واحدة وصورة شعرية واحدة. وقد ذكر جوته فيما بعد أن هذا المقال أصبح مصدراً للجدل بين الأدب والفن الكلاسيكيين والرومانتيكيين.

ص: 315

ونمو فكرة "تلمذة فلهلم مايستر" من بدايتها إلى تمام تنفيذها يوضح منهج جوته في الخلق. فقد تصور القصة في 1777، وأتم الكتاب الأول في 1778، تم نحاه جانباً، ولم يكمل الكتاب الثاني حتى يوليو 1782. ثم عكف على الكتاب الثالث حتى نوفمبر من ذلك العام، وعلى الرابع حتى نوفمبر 1783؛ أما الكتابان الخامس والسادس فقد امتد بهما الزمن ثلاث سنين أخرى. وقد أطلق على الكتب الستة "انطلاق فلهلم مايستر المثير" وقرأ أجزاء منها على بعض أصحابه، ثم طرحها جانباً. وعاد إلى القصة في 1791 بإلحاح من هردر وآنا آماليا، وأضاف إليها كتابين في 1794، ثم عرض المخطوط المتعاظم على شيلر، الذي رد بانتقادات واقتراحات وتشجيع كلما وافاه المؤلف بصفحات جديدة، وكأنها صورة لقابلة تعين الأم على ولادة فات أوانها. وأخيراً، في 1796، دفع جوته بالمؤلف كله إلى المطبعة. لا عجب إذن أن كانت الحصيلة النهائية مشوهة تشويهاً طفيفاً، ضعيفة البناء، "دهنية" القوام، مهوشة، ممتازة في أجزاء فقط، وفي عكسها لتردد جوته بين الاهتمامات المتضاربة، والمثل العليا الغامضة. لقد كان الحسم والثقة بالنفس، اللذان نعته بهما شيلر، هما الستار المتكبر للتذبذب والصراع الداخليين.

وقد عبر الكتاب عن فترة التلمذة في النقابات الحرفية الألمانية، وخلال زمن الوصاية هذا أصبح فلهلم "معلماً" فموضوع القصة المطوف إذن هو تلمذة فلهلم البطيئة الأليمة في نقابة الحياة. وبسبب مسارح العرائس إلى أحبها جوته طفلا، واهتمامه المتصل بالمسرح، ربط القصة بفرقة من الممثلين تجتاز مدنا كثيرة وتتقلب عليها عشرات الغير دروسا في الحياة وصورا لأساليب العيش الألمانية. واد كان وفيا لعدم وفاته فقد أدخل بطله إلى مسرح الأحداث بهجراته خليلته ماريانه. وفلهلم ليس بالشخصية الفتانة. فهو ترك نفسه تساق من موقف لآخر أو من فكرة لأخرى على هوى الظروف أو بقوة الشخصية المفروضة عليه، والمرأة هي التي تقوم بالمبادرة في غرامياته. ولد برجوازياً، ومن ثم فهو يتعثر إعجاباً بالرجال النبلاء

ص: 316

المولد، ويأمل في تواضع أنهم في يوم ما سيعترفون بأرستقراطية العقل. أما فيلينه فأكثر جاذبيته منه: فهي ممثلة جميلة تثب بخفة من عشق إلى عشق، ولكنها تجمل تطويفها الغرامي بمرح معد وعدم وعي بالإثم يحلها من خطيئتها. أما مينون الصغيرة ففريدة في بابها، تتبع أباها الشيخ في إحساس بالواجب وهو يعزف عزفاً غير بارع على قيثارته في جولات يجمع فيها الدراهم. ويقول جوته في وصفها أنها تتكلم "ألمانية ركيكة جداً"(119). ولكنه يجري على لسانك تلك الأغنية الرائعة "أتعرف ذلك البلد". وهي تقع في غرام المراهقة بفلهلم الذي يحبها حبه لطفلة، وتموت هي حزناً حين تراه بين ذراعي تريزاً. وقد التقطها امبرواز توما من بين هذه الصفحات الثمانمائة ليجعل منها أوبرا حزينة ممتعة (1866).

وامتد شيلر رصانة أسلوب القصة وصفاءه، وما وصف في الفرقة التمثيلية الجوالة من صدق ومطابقة للحياة، ولكنه أشار إلى تناقضات في الترتيب الزمني، وشبه استحالات سيكولوجية، وانتهاكات للذوق، وأخطاء في التصوير والتصميم" (120). واقترح تغييرات في الحبكة، وأولى بأفكاره على النحو الذي ينبغي أن تختم عليه القصة (121). وقال له جوته مؤكداً، "إنني بالتأكيد سامتثل لرغباتك المنصفة ما استطعت (122). ولكنه اعترف لأكرمان، بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، بأنه بذل قصاراه ليحمي قصته من تأثير شيلر (123). وكان نقاد آخرون أقل تعاطفاً؛ فوصف أحدهم الكتاب بأنه ماخور متجول، وشكت شارلوتة فون شتين قائلة "حين يتناول جوته العواطف السامية يقذفها دائماً ببعض الأقذار، وكأنما يريد أن ينكر على الطبيعة البشرية أي طموح إلى القداسة"(124). على أن القصة لم تستحق هذه الانتقادات العشوائية، ففيها الكثير من الصفحات السارة، وما زال في استطاعتها أن تثير شوق القراء الذين تححروا من ضجيج العالم وصخبه.

وفي 23 مارس 1796 ذهب شيلر إلى فايمار مرة أخرى ضيفاً على جوته. هناك عملاً معه في خدمة المسرح. وكان جوته مديراً صارماً، يختار التمثيليات المراد عرضها، ويدرب الممثلينز "فاسبعد كل ما كان كئيباً

ص: 317

أو ضعيفاً أو باكياً أو هش العاطفة، كما استبعد تماماً كل ما كان مخيفاً أو مرعباً أو نابياً" (125). أما الجمهور فاقتصر على البلاط، إلا حين يدعى بعض الطلاب من يينا. وقد علق أوجست فون شليجل على هذا الوضع تعليقاً لاذعاً "أن لألمانيا مسرحين قوميين-فيينا بجمهور من خمسين ألف مشاهد، وفيمار من خمسين" (126).

وعاد شيلر إلى يينا في 12 أبريل، وقد حفزه اتصاله المجدد بالمسرح لينصرف عن التاريخ والفلسفة والشعر العارض إلى الدراما. ولقد طالما فكر من قبل في تأليف مسرحية عن فالشتين، فحثه جوته على الشروع فيها. وفي نوفمبر ذهب جوته إلى يينا، وعاش حيناً في اتصال يومي بشيلر. فلما عاد جوته إلى فيمار كتب إليه يقول "لا يفتك أن تستغل أفضل أوقاتك، حتى تمضي قدماً بمأساتك، ليتسنى لنا أن نشرع في مناقشتها"(127).

وبينما كان شيلر عاكفاً على تأليف "فالنشتين، شحذ روح المنافسة في جوته نجاح "لويزة" (1795) التي ألفها يوهان هينريش فوس قصة ريفية شعرية تمثل الحياة والعواطف الألمانية-فجرب هذا اللون المحبب، ونشر في 1798 - "هيرمان ودوروتيا". أما هيرمان فهو الابن القوي السليم، الخجول الهادئ، لأب صفراوي المزاج وأم حنون يديران "الخان الذهبي" ومزرعة واسعة في قرية قريبة من الراين. ويصل إلى علمهم أن مئات من اللاجئين قادمون من بلدة على التخوم استولى عليها الفرنسيون، فتجهز الأسرة رزماً من الثياب والطعام، يحملها هيرمان إلى اللاجئين. ويجد بينهم صبية لها "نهدان بارزان" و "كاحلان رائعان" (128) تقدم للاجئين العون وأسباب الراحة. فيهيم بها، وبعد شدائد لا بد منها، يصطحبها إلى بيته ويقدمها إلى أبويه بوصفها عروسه. ويروي الشاعر القصة في أبيات متدفقة من البحر السداسي التفاعيل، وصور الحياة الريفية الموجزة تضفي رواء على القصة، وقد أبهجت النداءات لطرد الغزاة الفرنسيين الألمان المتحمسين لوطنهم والذين وجدوا مسرحيتي جوته "إفجيني" و "تاسو" غريبتين عويصتين. وأكسبت الملحمة الصغيرة شعبية جديدة لمؤلف لم يظفر منذ "فرتر" إلا بقلة من القراء خارج دوقية ساكسي فايمار.

ص: 318

أما شيلر فكان نجمه في صعود من 1798 إلى 1800. ففي 28 نوفمبر 1796 كتب إلى كورنر يقول "ما زلت أطيل الفكر جاداً في "فالنشتين"، ولكن العمل التعس ما زال أمامي بلا شكل ولا نهاية. "وقد بدأ المسرحية نثراً، ثم نحاها، ثم استأنفها شعراً. وكان على إلمام بالمدة من الدراسات التي قام بها ليؤلف كتابه "تاريخ حرب الثلاثين"، ولكنها بلغت من الوفرة والتعقيد في الشخوص والأحداث مبلغاً أكرهه على الإقلاع عن محاولة ضغطها في خمسة فصول. وقرر أن يقدم للدراما بتمهيد (برولوج) من فصل واحد سمته "معسكر فالنشتين"، وأن يقسم الباقي إلى تمثيليتين. وشرحت الأولى مؤامرة خلع القائد المتمرد، ووازنتها بغرام ملتهب بين ابنة فالنشتين وابن زعيم في المؤامرة. وإما الدراما النهائية والأساسية فستكون "موت فالنشتين".

فلما قرأ جوحه التمهيد "راعه التصوير الواقعي لمعسكر الجيش، والإعداد البارع للتطورات اللاحقة، فأصر على عرض "معسكر فالنشتين" على مسرح فايمار (12 أكتوبر 1798) قبل أن يكتمل القسم الأول؛ وربما كانت هذه الطريقة ذكية لإلزام الشاعر بالعكوف على مهمته. وفي مطالع 1799 ذهب شيلر إلى فايمار لإخراج التمثيلية الأولى، فعرضت أول مرة في 30 يناير ولقيت قبولاً حسناً. وعاد إلى يينا وراح يعكف بشكل محموم على "موت فالنشتين". ويكشف خطاب في 19 مارس 1796 عن الحالة النفسية لكاتب خرج لتوه من أتون الخلق "لقد طالما روعتني اللحظة التي سأفرغ فيها من عملي، مع شدة رغبتي في مجيء تلك اللحظة؛ والواقع أنني أشعر بأن حريتي الراهنة أسوأ من حالة العبودية التي كنت أعانيها إلى الآن. فقد ذهب الآن الجمهور الذي اجتذبني حتى الآن وألزمني هذا الواجب، وأنا أحس كأنني معلق في الهواء إلى ما لا نهاية".

وجاء ما يكفي من الإثارة مع التدريبات والعرض الأول (20 أبريل 1799) لموت فالنشتين. وكان نجاحها كاملاً. وحتى جمهور فايمار النقاد أحس أنه شهد رائعة من روائع العرض الدرامي. ووصل شيلر الآن

ص: 319

إلى قمة تطوره. لقد قصر الخطب وكثف الحركة، ورسم كل الشخوص الهامة بحيوية وقوة، وجمع كل خيوط الحبكة معاً في الخاتمة الفاجعة-وهي ذلك الموت المخزي لرجل عظيم دمره الطمع والكبرياء اللذان لا حدود لهما. وأحس شيلر أن في وسعه الآن أن يقف على قدم المساواة مع جوته (129)، وكان على حق في مضمار الدراما. وأضاف الدوق مائتي طالر لمعاش شيلر، ربما بناء على اقتراح من جوته، ودعاه للإقامة في فيايمار. وهكذا نتقلت الأسرة في 3 ديسمبر 1799 إلى بيت قريب جداً من بيت جوته، حتى أن الشاعرين ظلا حيناً يلتقيان كل يوم (130).

وكان شيلر خلال ذلك قد زج بنفسه في مسرحية أخرى بعد أن حفزه انتصاره. كتب إلى كورنر في 8 مايو 1799 يقول "شكراً لله! لقد وقعت وقعت فعلاً على موضوع جديد لمأساة" ودرس لهذه التمثيلية "ماريا ستيوارت" الخلفية التاريخية، ولكن لم يدع أنه يكتب التاريخ، فقد نوى أن يكتب تمثيلية يستخدم فيها التاريخ مادة وخلفية. فرتب من جديد الأحداث والتسلسل الزمني ليخدما الاتساق والتأثير الدراميين؛ وأكد على العناصر غير السارة في خلق اليزابث، وجعل من ماري بطلة مبرأة من كل دنس تقريباً، ثم أتى بالملكتين وجهاً لوجه في مواجهة درامية. والتاريخ لا يعرف هذا اللقاء، ولكن المشهد من أقوى المشاهد في أدب المسرح. فلما أن عرضت في فايمار في 14 يونيو 1800 انتشى شيلر مرة أخرى بنجاحه. وما وافى شهر يوليو حتى كان عاكفاً على تمثيلية "عذراء أورليان". هنا أيضاً عدل التاريخ ليخدم هدفه: فبدلاً من حرق العذراء صور جان دارك هاربة من آسريها الإنجليز، مندفعة إلى المعركة لتنقذ ملكها، لاقية حتفها وهي منتصرة على ساحة القتال. وكان العرض الأول في ليبزج (18 سبتمبر 1801) أعظم انتصار ظفر به شيلر طوال حياته.

أكان جوته يغار من صعود نجم صديقه فجأة على المسرح الألماني؟ لقد اغتبط بهذا الصعود، وظل بعد مضي ثمانية وعشرين عاماً يحكم على "موت

ص: 320

فالنشتين" بأنها "عظيمة حتى أنك لا تجد لها نظيراً من نوعها" (131). على أنه لم يرفع قدر منافسه في الشعر إلى المقام الذي رفعه إليه في الدراما، فقد أحس أن شيلر كدر صفاء شعره بالفلسفة، وأنه لم يملك قط ناصية موسيقى الشعر تماماً (132). وحين أراد بعض المعجبين بشيلر أن يقدموا على مسرح فايمار تعبيراً عن تقديرهم له، منع جوته هذا العرض بحجة أن فيه غلواً في التباهي (133). وفي يوليو 1800 ذهب إلى يينا للخلوة والدرس، بينما ظل شيلر في فايمار، ولكن في 23 نوفمبر كان شيلر لا يزال يتكلم عن جوته بعبارات الصداقة التي لم تشبها شائبة. وكان رأيه في جوته أنه "أعظم رجل موهوب منذ شكسبير

وطوال سني صداقتنا الحميمة الست لم يخامرني أدنى شك في نزاهته. لقد اتصف بأسمى صفات الصدق والإحساس بالشرف، وأعمق الجد في السعي إلى ما هو حق وخير" (134). ثم أردف "وددت لو استطعت أن أبرر جوته بمثل هذه الحرارة من جعة علاقاته الأسرية!

فبسبب أفكار خاطئة عن مقومات السعادة البيتية، وخوف منكود من الزواج، انزلق إلى ورطة تضنيه وتشقيه في بيته ذاته، وهو أضعف وألين قلباً من أن يتخلص منها. ذلك مغمزه الوحيد. " وقد أبت زوجة شيلر كغيرها من سيدات فايمار أن تستقبل كرستيانة في بيتها، وندر أمن ذكر شيلر كرستيانة في اتصالاته القائمة بجوته.

على أن هذه الصداقة بين "الديوسقورين"-كما كانا يلقبان أحياناً-رغم ما شابها من صدوع، أثبتت على الأقل أن الانسجام ممكن بين عبقرية كلاسيكية وأخرى رومانتيكية. كانا يبعثان الرسائل الواحد لصاحبه كل يوم تقريباً؛ ويتناولان العشاء معاً مراراً، وكثيراً ما وضع جوته مركبته تحت تصرف شيلر؛ وأهدى شيلر "شطراً من الطلب الذي سلمه الساعة تاجر النبيذ الذي أتعامل معه" (135). كتب جوته في 20 أبريل 1801: لنتمش معاً قرب المساء"، وكتب في 11 يونيو "وداعاً، بلغ تحياتي الرقيقة لزوجتي العزيزة، واشرح صدري عند عودتي (من جوتنجن) بإطلاعي على بعض ثمرات جهدك"؛ وفي 28 يونيو 1802: "سيصلك مفتاح حديقتي وبيتي، وأريدك أن تمض هناك ما أمكنك من الأوقات

ص: 321

السعيدة". وبعد موت شيلر باثنين وعشرين عاماً قال جوته لأكرمان، "كان من حسن حظي

إن وجدت شيلر، لأننا رغم اختلاف طبائعنا فإن ميولنا كانت تتجه إلى نقطة واحدة، مما وثق صلتنا إلى حد استحال معه حقيقة على الواحد أن يعيش بدون الآخر" (136).

وقد عوقهما المرض في سنوات صداقتهما الأخيرة. ففي الشهور الثلاثة الأولى من سنة 1801 كان جوته يشكو العصبية، والأرق، والأنفلونزا العنيفة، والخراريج التي أقفلت عينيه حيناً. وفي إحدى مراحل مرضه طالت غيبوبته حتى توقعت فايمار موته. وفي 12 يناير كتبت شارلوته فون شتين لولدها فرتز تقول: لم أكن أدري أن صديقي السابق جوته ما زال عزيزاً جداً علي، وأن مرضاً خطيراً قهره منذ تسعة أيام سيهزني إلى الأعماق" (137). وأخذت أوجست، ابن كرستيانة، إلى أبيها فترة لتخفف الأعباء التي ألقاها مرض جوته على خليلته التي كانت تبذل له العناية دون كلل. وكان إبلاله بطيئاً أليماً. كتب إلى شارلوته يقول "صعب على المرء أي يجد طريقه إلى العودة (138).

وفي 1802 اشترى شيلر بيتاً في فايمار لقاء 7. 200 جولدن، وكان الآن ميسوراً بفضل الحصيلة المتزايدة من مسرحياته الممثلة والمنشورة؛ وساعده جوته، وكان وقتها في يينا، على بيع البيت الذي كان يسكنه هناك. وفي 17 مارس 1803 أخرج شيلر "عروس مسينا"، وهي محاولة-اعترف بها لنفسه (135) -لمنافسة كمسرحية سوفوكليس "أوديب" بتصوير النضال بين أخوين يعشقان امرأة يتبين أنها أختها مستعيناً بكورس مقسم. ولم تحز المسرحية الرضى. وجاز جوته بنكسة مماثلة حين أخرج في 1803 "الابنة الطبيعية"(أي غير الشرعية).

وكان بين المشاهدين لعرض من عروض "الابنة الطبيعية" سيدة لامعة هوائية هي جرمين نكير، مدام دستال، التي كانت تجمع مادة لكتابها "فن ألمانيا" وقد رأت شيلر أول مرة في ديسمبر 1803:

"في صالون دوق ودوقة فايمار، في جماعة جمعت بين الاستنارة

ص: 322

والنبالة. وكان يجيد قراءة الفرنسية، ولكنه لم يتكلمها قط من قبل. وقد عبرت في شيء من التحمس عن تفوق نظامنا الدرامي على ما عداه من الأنظمة قاطبة، فلم يرفض منازلتي دون أن يشعر بأي ضيق لما يجد من مشقة وبطء في التعبير عن نفسه بالفرنسية

وسرعان ما اكتشفت الكثير جداً من الأفكار خلال عقبة ألفاظه، وراعتني جداً بساطة خلقه

فقد وجدته شديد التواضع،

شديد الحيوية، حتى لقد أخذت على نفسي العهد منذ تلك اللحظة بصداقة له ملؤها الإعجاب" (140).

وقد أعد شيلر جوته للتعرف إليها! "إنها تمثل الثقافة الفكرية لفرنسا في نقائها

ولا يعيها غير تدفقها المفرط. ولا بد للمرء أن يحول نفسه إلى جهاز سمع مركز واحد لكي يتابعها" (141). وأتى بها إلى جوته في 24 ديسمبر. وكتب جوته يقول: "ساعة لذيذة جداً. لم أجد فرصة للنطق بكلمة. أنها تجيد الحديث، ولكن بإسراف شديد. " وكانت روايتها عن اللقاء مطابقة لروايته مع تغيير طفيف، فقد قالت أن جوته أكثر من الكلام حتى لم تجد فرصة للنطق بمقطع واحد (142). وقد كان كتابها بمثابة كشف أماط لفرنسا اللثام عن ألمانيا "موطن الفكر". كتبت تقول "لا يعقل ألا يكون الكتاب الألمان، وهم أكثر الرجال في أوربا إطلاعاً وتفكيراً، جديرين بلحظة انتباه تبذل لأدبهم وفلسفتهم" (143).

واعتزم شيلر أن يسترد جمهوره الذي رفض "عروس مسينا"، فاختار بناء على اقتراح جوته موضوعاً لدرامته التالية قصة وليم تل الشعبية. وسرعان ما عكف على الموضوع في لهفة وانفعال. قال جوته في 1820 مستحضراً تلك الفترة، "بعد أن جمع كل المادة الضرورية قعد للعمل

ولم يبرح مقعده حتى فرغ من المسرحية. فإذا غلبه التعب أسند رأسه على ذراعه وأغفى هنيهة

وبمجرد أن يستيقظ كان يطلب

قهوة سوداء قوية ليظل يقظاً. وهكذا فرغ من المسرحية بعد ستة أسابيع (144).

وقبل شيلر أسطورة شائعة-على أنها تاريخ-عن وليم تل قائد ثورة

ص: 323

السويسريين على النمسا في 1308. كانت الثورة حقيقية، وكذلك كان جسلر الوكيل النمساوي المكروه. وتروي الأسطورة أن جسلر تعهد لوليم تل بالعفو الكامل إذا أثبت براعته المشهورة في استعمال القوس والسهام بإصابته تفاحة على رأس ولده. ووضع تل سهمين في منطقته، وأصاب التفاحة بأولهما. وسأله جسلر عم كان يريده بالآخر؛ وأجاب تل "كنت أريدك أنت إن أصاب الأول ولدي". ولقيت المسرحية الاستحسان في فايمار في 17 مارس 1804 وفي كل مكان عرضت فيه بعدها بقليل، وتبنتها سويسرة جزءاً من تقاليدها القومية. فلما نشرت المسرحية بيع منها سبعة آلاف نسخة في بضعة أسابيع. وأصبح اسم شيلر الآن أوسع ذيوعاً من اسم جوته.

ولكن أجله دنا، إذ لم يبق له في الحياة غير شهور. ففي يوليو 1804 أصابته نوبة من المغص اشتدت حتى خشي طبيبه أن يموت وتمنى هو الموت. ثم تماثل للشفاء ببطء، وشرع في تأليف مسرحية أخرى اسمها "ديمتريوس"("ديمتري الكاذب" الذي يذكره تاريخ روسيا). وفي 28 أبريل 1805 رأى جوته آخر مرة، ومن ذلك الاجتماع عاد جوته إلى بيته وأصيب هو الآخر بإصابة خطيرة بالمغص. وفي التاسع والعشرين بدأ مرض شيلر الأخير. كتب هينريش فوس يقول:"غارت عيناه في رأسه، وكان كل عصب فيه ينتفض متقلصاً"(145). وائتمرت عليه توترات الجهد الأدبي الضارة، والتهاب أمعائه، واعتلال رئتيه. قال جوته فيما بعد "إن شيلر لم يسرف في الشراب قط، وكان شديد الاعتدال فيه، ولكنه اضطر في ساعات ضعفه البدني إلى تنشيط قواه بالمسكر"(146). وفي 9 مايو قابل شيلر الموت بهدوء عجيب: فقد ودع زوجته وأطفاله الأربعة وأصدقائه، ثم نام، ولم يستيقظ ثانية. وأظهر تشريح جثته الرئة اليسرى وقد أتلفها السل تماماً، والقلب منحلاً، والكبد والكلية والأمعاء كلها مصابة. وقال الطبيب للدوق "في هذه الظروف لا تملك غير العجب من أن الرجل المسكين استطاع أن يعيش كل هذا العمر"(147).

ص: 324

وكان جوته عندئذ في حال من المرض لم يجرؤ معها إنسان على أن ينبئه بموت شيلر. وفي 10 مايو أفضت إليه كرستيانة بالنبأ وهي تشنج. وكتب إلى تسلتر يقول "كنت أظن أنني أفقد حياتي أنا، فإذا أنا أفقد صديقاً كان نصف وجودي ذاته"(148). ووصل بما بقي له من وجوده إلى تمام تحقيق ذاته.

ص: 325

الفصل الرابع والعشرون

‌جوته "تسطورا"

(1)

‌1805 - 1832

1 -

جوته ونابليون

أيحسن بنا-ونحن مقيدون بحدودنا المقررة-أن نترك جوته معلقاً عند هذه النقطة، وعلى قلمه فاوست وفي شيخوخته الحكمة، أم أن نلاحق هذا الأولمبي-الذي لا يكف عن التطور-إلى نهايته، مقلبين الصحائف مضحين بالوقت؟ "إن الحكمة السرمدية تجذبنا إلى العلا". (1)

في 14 أكتوبر 1806 هزم نابليون البروسيين في يينا. وكان الدوق كارل أوجست، المتحالف مع بروسيا، قد قاد جيشه الصغير ضد الفرنسيين في تلك المعركة. ودخل الأحياء المدحورون فايمار، وأعقبهم الغالبون الجياع، فنهبوا المحال واحتلوا بيوت الناس. واستولى ستة عشر جندياً الزاسياً على بيت جوته، وأعطتهم كرستيانة الطعام والشراب والفراش. في تلك الليلة اقتحم البيت جنديان آخران ثملا بالخمر، فلقد افتقدا الأسرة في الطابق الأسفل، صعدوا عدة إلى حجرة جوته، ولوحا بسيفهما في وجهه، وطالباه بمكان للنوم، ووقفت كرستيانة حائلاً بين الجنديين ورفيقها، وأقنعنهما بالخروج ثم ارتجت الباب. وفي الخامس عشر من الشهر وصل نابليون إلى فايمار وأعاد النظام إلى نصابه، وصدرت التعليمات بعدم إزعاج "الأديب الكبير" وبضرورة اتخاذ جميع الإجراءات لحماية جوته العظيم وبيته. (2) ومكث معه المارشالات لأن ونيه وأوجروا برهة ثم رحلوا معتذرين مجاملين. وشكر جوته كرستيانة على شجاعتها وقال لها "إن أذن الله سنكون زوجاً وزوجة" وفي 19 أكتوبر تزوجا. أما أمه الطيبة التي احتملت في حب جميع مثالبه، وفي تواضع جميع مفاخره، فقد جددت بركاتها لهما. ثم ماتت في 12 سبتمبر 1808، وورث جوته نصف تركتها.

(1)

أي المرشد الحكيم المتقدم في السن (المترجم).

ص: 327

وفي أكتوبر 1808 رأس نابليون مؤتمراً من ستة ملوك وثلاثة وأربعين أميراًفي أرفورت، وأعاد رسم خطة ألمانيا، وحضر الدوق كارل أوجست المؤتمر واصطحب جوته في بطانته. وطلب نابليون إلى جوته أن يزوروه في 2 أكتوبر، وذهب الشاعر، وأنفق ساعة مع الغازي، وتاليران، وقائدين، وفريدريش فون مولر، وهو قاضي فايماري. وهنأه نابليون على عافيته (وكان جوته يومها في التاسعة والخمسين)، واستفسر عن أسرته، ثم دخل في نقد جريء لفتر. وقد عاب الدرامات الشائعة التي تؤكد على القضاء والقدر "فلم الحديث عن القضاء والقدر؟ إن السياسة هي القضاء والقدر

ما قول المسيو جوته في هذا؟ " ولا علم لنا بجزاب جوته ولكن موللر روى أن نابليون قال لقواده معلقاً بينما جوته يبرح الحجرة "هاكم رجلاً! " (3).

وفي 6 أكتوبر عاد نابليون إلى فايمار، واصطحب معه فرقة ممثلين من باريس من بينهم تالما العظيم. ومثلوا في مسرح جوته مسرحية فولتير "موت قيصر" وعقب الحفلة انتحى نابليون بجوته جانباً وناقش معه التراجيديا، فقال "إن الدراما الجادة تصلح جداً لأن تكون مدرسة للأمراء كما هي مدرسة الشعب، لأنها من بعض نواحيها فوق التاريخ

يجدر بك أنت أن تصور موت قيصر صورة أبهى مما صوره فولتير، وتبين كم كان قيصر (نابليون) سيسعد العالم لو أن الشعب أتاح له الوقت لإنفاذ خططه السامية. "ثم بعد قليل" لا بد أن تأتي إلى باريس! إني أوجه إليك هذا الرجاء المشدد! ستتاح لك هناك نظرة أوسع للعالم، وستجد ذخيرة من الموضوعات لشعرك" (4) وحين مر نابليون بفايمار ثانية عقب تقهقره المشئوم من موسكو طلب إلى السفير الفرنسي أن يبلغ جوته تحياته.

وأحس الشاعر أنه في بونابرت قد التقى، على حد تعبيره، بـ "أعظم فكر شهده العالم"(5) إلى الآن. وقد وافق تماماً على حكم نابليون لألمانيا، فلم يكن هناك ألمانيا على أية حال (كما كتب جوته في 1807) إنما هي خليط من الدويلات، أما الإمبراطورية الرومانية المقدسة

ص: 328

فقد نفذ قضاء الله فيها في 1806، وبدا لجوته أنه من الخير أن تتوحد أوربا، لا سيما تحت رآسة رجل ألمعي كوبنابرت. ولم يغتبط بهزيمة نابليون في واترلو، مع أن دوقة قاد أفواج فايمار مرة أخرى ضد الفرنسيين. لقد كانت ثقافته واهتماماته أشمل وأعم من أن يتيحا له الشعور بالكثير من الزهو الوطني، ولم يستطع أن يستشعر في نفسه الميل لتأليف الأغاني ذات الحماسة القومية رغم كثرة ما طلب إليه. قال لأكرمان وهو في الثمانين:

"أنى لي أن أؤلف أغاني الحقد وأما لم أشعر بشيء من الكره؟ وأقول فيما بيني وبينك أنني لم أكره الفرنسيين قط وإن شكرت الله على خلاصنا منهم. وأنى لي، أنا الذي أرى الحضارة والهمجية الشيئين الوحيدين اللذين لهما مغزى، أن أبغض أمة هي من أكثر أمم الأرض ثقافة، أمة أدين لها بجزء عظيم من ثقافتي؟ على أية حال أرى أن مسألة الكراهية بين الأمم هذه شيء غريب. فأنت ستجد دائماً أقوى وأشد مما تكون ضراوة في المراتب الدنيا من المدنية. ولكن يوجد مستوى تختفي فيه كلية، ويقف عليه الإنسان فوق الأمم إذا جاز التعبير، ويحس أفراح شعب مجاور أو أتراحه كأنها أفراحه هو وأتراحه. ولقد كان هذا المستوى يلائم طبيعتي، ولقد بلغته قبل أن أبلغ الستين بزمن طويل"(6).

ألا ليت كل دولة غنيت بمليون من هؤلاء "الأوربيين الصالحين! ".

‌2 - فاوست (الجزء الأول)

لم يقبل جوته دعوة نابليون إياه للانتقال إلى باريس أو للكتابة عن قيصر، ذلك أنه طالما احتضن في ذهنه وفي مخطوطاته موضوعاً أثاره إثارة أعمق من حتى أعظم مستقبل سياسي: إلا وهو صراع النفس لبلوغ الفهم والجمال "وهزيمة النفس بسبب قصر عمر الجمال وروغان الحقيقة، والسلام المستطاع للنفس، بتضييق الهدف وتوسيع الذات. ولكن كيف

ص: 329

السبيل إلى تخل هذا كله في قصة رمزية عصرية وشكل درامي؟ لقد ظل جوته يحاول تحقيق هذا الهدف ثمانية وأربعين عاماً.

وكان قد تعلم قصة فاوست (7) في طفولته من كتيبات القصص الشعبية ومسارح الدمى، ورأى صوراً لفاوست والشيطان على جدران حانة آورباخ في ليبزج. وتطفل هو نفسه في شبابه على السحر والخيمياء. وامتزج بحثه الدءوب عن الفهم بتصوره لفاوست، ودخلت قراءته لفولتير وإلمامه بتهكمات هردر في تصويره لفستوفيليس، وأعطت جريتشن التي أحبها في فرنكفورت، وفردريكه بريون التي هجرها في زيزنهايم، لمارجريت اسمها وصورتها.

ويتجلى عمق تأثر جوته بقصة فاوست، وتباين الأشكال التي اتخذتها في فكره، إذا علمنا أنه شرع في تأليف المسرحية في 1773 فلم يفرغ منها إلا في 1831. وحين التقى بهردر في 1771 كتب في ترجمته الذاتية:

"أخفيت عنه في تكتم شديد اهتمامي بشخوص معينة أصلت جذورها في كانت تشكل نفسها شيئاً فشيئاً في صورة شعرية. وتلك هي جوتزفون برليشنجن وفاوست

فمسرح عرائس فاوست ذو المغزى كان يجلجل ويتردد في باطني بأنغام كثيرة. كذلك كنت قد طوفت في شتى ضروب العلم، وانتهيت في فترة مبكرة من حياتي إلى تبين بطلانه، ثم إنني جربت كل أساليب العيش في الحياة الواقعية، وكنت دائماً أعود منها ضيق النفس غير راض عنها. هذه الأشياء وغيرها حملتها معي وسعدت بها في ساعات العزلة ولكن دون أن أكتب شيئاً" (8).

وفي 17 سبتمبر 1775 كتب إلى مراسل يقول: "أحسست بانتعاش هذا الصباح وكتبت مشهداً في مسرحيتي فاوست"(9). وفي تاريخ لاحق من ذلك الشهر سأله. بوهان تسمرمان عن سير المسرحية. "فأتي بحقيبة مملوءة بمئات من قطع الورق وألقاها على المائدة. وقال: هاك فاوستي"(10). وحين ذهب إلى فايمار (نوفمبر 1775) كان أول شكل للدراما قد اكتمل (11). ولكنه نحاها لأنه لم يرض عنها، ولم تصل "فاوست الأصلية"

ص: 330

هذه قط إلى المطبعة إلا في 1887 حين وجدت في فايمار (12) نسخة خطية نسختها الآنسة فون جوشهاوزن. وراح ينفخ ويوسع فيها طوال خمسة عشر عاماً أخرى. وأخيراً نشرها (1790) باسم "شذرة من فاوست" تبلغ الآن ثلاثاً وستين صفحة، (13) وكان هذا أول شكل مطبوع لأشهر مسرحية منذ هاملت.

على أن جوته ظل غير راض عنها، فأسقط الموضوع حتى 1797. وفي 22 يونيو كتب إلى شيلر يقول "اعتزمت أن أستأنف كتابة "فاوستي

مفككاً ما طبع منها، مرتباً إياه في كتل كبيرة

معداً تطور المسرحية إعداداً أو في ..... كل ما أريده أن تتفضل بتقليب الأمر في فكرك في ليلة من لياليك النابغة-وتخبرني بما تتطلبه المسرحية بوصفها كلاً، وتفسر لي أحلامي تفسير نبي صادق. ورد عليه شيلر في الغد. "إن ازدواج الطبيعة البشرية، ومحاولة الإنسان الفاشلة للجمع بين العنصر الإلهي والعنصر الجسدي، لا تغيب عن البصر أبداً

إن طبيعة الموضوع ستكرهك على تناوله فلسفياً، وعلى الخيال أن يكيف نفسه لخدمة فكرة عقلية. " أما خيال جوته فكان غاية في الخصوبة، وأما تجاربه الناصعة الذكرى فكثيرة جداً، لذلك أدخل الكثير منها في "شذرة من فاوست" فضاعف بذلك من حجمها. وفي 1808 أذاع على العالم ما نسميه الآن الجزء الأول من فاوست.

وقبل أن ينطق دميته بكلمة، صدر الدراما بإهداء رقيق إلى أصدقائه الموتى، وبفصل تمهيدي هزلي "برولوج في المسرح" بين المدير والمؤلف والمضحك، و "برولوج في السماء" يراهن الله فيه مفستوفيليس على أن فاوست لا يمكن أن يظفر به الإثم بصفة دائمة. ثم يتكلم فاوست أخيراً في أبسط شعر هزلي:

"أجهدت نفسي في دراسة الفلسفة والشريعة والطب، وتعمقت أيضاً-ويا للحسرة في دراسة علوم الدين، بجد لا يعتوره فتور وهمة لا تعرف الكلال. ثم أراني-أنا البليد المسكين-بعد هذا كله لم أتقدم شبراً ولم أخط نحو العرفان خطوة.

ص: 331

"سميت الأستاذ والدكتور، وقضيت زهاء عشر سنوات وسط تلاميذي أخادعهم وأغرر بهم وأذهب بهم ذات اليمين وذات الشمال. ثم أرانا بعد هذا كله لم نزل عاجزين عن أن ندرك شيئاً أو أن نلم بشيء"

(1)

.

وقد تبين أن البحر الرباعي التفاعيل، المنحدر من تمثيليات هانز زاكس القصيرة، هو الوزن المترقرق اللائق لدراما هذبت الفلسفة بالفكاهة.

وفاوست هو بالطبع جوته، حتى في كونه رجلاً في الستين، لم يزل كجوته ينتشي في الستين بحسن المرأة ورشاقتها. وتطلعه المزدوج إلى الحكمة والجمال هو روح جوته الضميم، وقد تحدى تطلعه الآلهة المنتقمة بوقاحته، ولكنه كان نبيلاً. لقد قال فاوست وجوته نعم للحياة، الروحية والحسية، الفلسفية والمرحة، وعلى النقيض من ذلك كان مفستوفيليس (وهو ليس إبليس بل فيلسوف إبليس فقط) شيطان الإنكار والشك، كل تطلع في نظره هراء، وكل حس إنما هو هيكل عظمي يكسوه جلد. وقد كان جوته في لحظات كثيرة هذا الروح الساخر أيضاً. وإلا لما استطاع أن يسبغ عليه هذا الذكاء وهذه الحياة. ويبدو مفيستوفيليس أحياناً صوت التجربة، والواقعية والعقل، يكبح رغبات فاوست وأوهامه الرومانسية، والحق، كما قال جوته لأكرمان "إن شخصية مفيستوفيليس

حصيلة حية لخبرة واسعة بالدنيا" (15).

وفاوست لا يبيع روحه بغير شروط، فهو لا يوافق على أن يقذف به في الجحيم إلا أن أراه مفيستوفيليس لذة فيها من الإشباع الدائم له ما يحبب له معايشتها إلى الأبد:

"لئن جاء اليوم الذي أرقد فيه على فراش الكسل والراحة،

فليكن ذلك اليوم آخر عمري!

ولو مرت بي لحظة من الزمن وكانت من الحسن بحيث قلت لها أن "لا تيرحي فما أحلاك! إذن فتهيئ لي سلاسلك وأغلالك

هنالك أرحب بالموت"

(2)

(1)

الترجمة للدكتور عوض محمد: فاوست: لجنة التأليف والترجمة والنشر ص (7).

(2)

فاوست: د. محمد عوض محمد، ص 58.

ص: 332

وبهذا الشرط يبرم فاوست حلقة مع دمه ويصيح في استهتار "هلم نطفأ الآن ظمأ رغباتنا المتأججة في بحر من الشهوات"(16).

ويأخذه مفيستوفيليس إلى مارجريت-"جريتشن" فيجد فيها فاوست كل فتنة البساطة التي تولي مع المعرفة وتعود مع الحكمة. ويتودد إليها بالجواهر والفلسفة:

"مارجريت: قل لي ما رأيك في الديانة؟ لست أنكر أنك من أطيب الناس وأحسنهم. لكني أخشى أن تكون قليل الإيمان.

فاوست: دعي هذا يا حبيبتي! أنت ترينني متيماً بك؛ أود أن أبذل من أجل حبك لحمي ودمي، وما أريد لعمري أن أسلب أحداً دينه ومعتقده.

مارجريت: هذا خطأ. يجب على الإنسان أن يؤمن بالدين!

قل لي: هل تعتقد وتؤمن بالله؟

فاوست: أيتها الحبيبة! من ذا الذي يستطيع أن تبلغ به الجرأة والقحة أن يقول "أنا أعتقد بالله"

مارجريت: إذن فأنت لا تؤمن بالله؟

فاوست: لا تسيئي فهم أقوالي أيتها الحبيبة: أي الناس يقدر أن ينطق باسمه؟ وأيهم يستطيع أن يقول "أنا لا أؤمن به؟ وأي الورى يحسن ويبصر، ويسمع، ويعي، ثم يجرؤ أن يقول "أنا لا أؤمن به"؟ ذلك القابض على كل شيء وممسك كل شيء؟ أليس هو الممسك لي ولك ولنفسه! أما تنظرين إلى السماء كيف رفعت وإلى الأرض كيف سطحت؟

وإلى هذه النجوم الزهر تسبح في السماء، مرسلة ضياءها الأبدي المحبوب؟

فمن هذا كله فاملأي قلبك حتى يطفح

بتلك السعادة، ويستنير بذلك النور. وعندئذ فلتسميه كما تشائين، ولتدعيه بما يحلو لك من الأسماء: السعادة أو القلب أو الحب أو الرب. أما أنا فما له اسم عندي. وكل همي أن أحسه وأستشعره. فالشعور هو كل شيء! وما الاسم إلا صدى لا طائل تحته، أو غمام يستر عن أبصارنا محيا الشمس البديع.

ص: 333

مارجريت: هذا كله حسن وجميل

لكني ما زلت قلقة لأني أرى قدمك في المسيحية غير راسخة.

فاوست. ولم أيتها الطفلة العزيزة! (17) "

(1)

.

وهي لا تتأثر بحيلولته الغامضة، بل بالصورة الجميلة والثياب الرائعة التي خلعها سحر مفيستوفوليس على شبابه المحدد. وهي تنشد على مغزلها أنشودة ملؤها الحنين الحزين

(2)

.

"أنا-صبحي ومسائي

في عذاب وبلاء،

واعنائي! وأشقائي!

هل لدائي من دواء؟

كيف لا يشتد خطبي

كيف لا يزداد كربي

كيف لا يحزن قلبي

وحبيب القلب ناء؟

بان صفو العيش عني

قرح التسهيد جفني،

لم يسكن نار حزني

دمع عيني وبكائي.

قد نبا عني الرقاد

وبرى جسمي السهاد

آه! قد طال البعاد

وشفائي في اللقاء.

(1)

فاوست، ترجمة د. محمد عوض محمد ص 147، 148.

(2)

مترجمة بتصرف بقلم د. محمد عوض محمد: فاوست ص 144.

ص: 334

فمتى يسمح دهري

ويريني وجه بدري

قد أضل الحب فكري

والهوى أعضل داه.

أو ما يدنو الحبيب

فأرى العيش يطيب؟

الهوى أمر عجيب

منه سقمي ودوائي؟

ما أحلاه إذا ما

ثغره أبدى ابتساما!

قد حكى البدر التماما

في سناء وبهاء.

آه لو أشفى بلثمة

منه أو أحظى بضمة!

ثم يقضي الدهر حكمه

بهلاكي وفنائي (18).

وبقية القصة يعرفها الغرب كله، ولو من جونو فقط. فمارجريت تعطي أمها شراباً منوماً لا تفيق منه لكي تقبل حبيبها وتغيب عن الوعي دون رقيب. ويقتل فاوست فالتين أخا مارجريت في مبارزة ثم يختفي؛ أما مارجريت فتقتل طفلها العديم الأب خزياً وحسرة، فيقبض عليها ويحكم عليها بالإعدام. ويزورها فاوست في زنزانتها ويرجوها أن تهرب معه، فتعانقه، ولكنها ترفض مغادرة زنزانتها. ويجذب مفيستوفيليس فاوست بعيداً، بينما يصبح صوت من السماء "كتبت لها النجاة".

ص: 335

ولم يدرك جمهور القراء-إلا ببطء-أن فاوست 1808 هذه أروع دراما وأجمل شعر أنتجتهما ألمانيا إلى ذلك التاريخ. ولكن قلة من أصحاب العقول اليقظة فطنوا للتوالي أنها جديرة بأن تتبوأ مكانها بين شوامخ الأدب العالمي. وشبه فريدريشنشليجل جوته بدانتي، وسوى جان بول رشتر بينه وبين شكسبير، ورفعه فيلاند في دنيا الشعر إلى مقام السيادة الذي ارتفع إليه نابليون في دنيا الحكم والحرب (19).

‌3 - نسطورا عاشقاً

في السنوات 1818 - 21 دخل جوته في غرامين مثيرين، فضلاً عن صلته ببتينا برنتانوا. ففي 23 أبريل 1807 جاءت بتينا ذات الاثنين وعشرين ربيعاً إلى الشاعر المسن بخطاب تقديم من فيلاند. وكانت حفيدة صوفي فون لاروش التي أحبت فيلاند من قبل، وابنة مكسمليانة برنتانو التي غازلت جوته في شبابها، وقد أحست أن لها دالة الحفيدة على قلب جوته. ولم تلبث بعد أن دخلت حجرته أن ألقت بنفسها بين ذراعيه. وقبلها هو على أنها طفلة، وبعدها كان يراسلها بهذا المعنى، ولكنه طوي رسائله على أحدث قصائده الغزلية، ومع أنها لم تكن موجهة إليها إلا أنها عدتها بوحاً بغرام مشبوب، وأضفت عليها ذلك اللون في كتابتها "رسائل جوته إلى طفلة" الذي نشرته في 1835.

أما ملهمة أكثر هذه القصائد فهي فلهلمينا هرتسليب. وكافت منا، كما دعاها جوته بعد قليل، ابنة كتبي في يينا. وقد عرفها طفلة، ولكنها في عام 1808 كانت في التاسعة عشرة، فتاة خجولاً، رقيقة، مشرقة. وكانت تتلقف كل كلمة يفوه بها، وتتحسر على أن شيخوخته ومكانته الاجتماعية تمنعانها عن عشقه وتملكه. وأدرك هو شعورها، واستجاب له ونظم لها الصونيتات، موريا على اسمها كقلب محب، ولكنه تذكر أنه لم يمض على زواجه من كرستيانة إلا زمن قصير. ويلوح أنه كان يفكر في منا وهو يصور أوتيلييه الخجول الودود، المشدودة الأعصاب، في قصته "الانجذابات العاطفة 1809".

ص: 336

وهذه القصة الممتازة، في رأي مؤلفها (20)، خير قصصه المنثور، فهي أفضل تنظيماً وأكثر تماسكاً في روايتها من أي من تطويفات فلهلم مايستر. وهنا نلاحظ قول جوته لأكرمان (9 فبراير 1819):"ليس في قصة "الانجذابات العاطفة) بأسر هاسطر لم أعشه أنا نفسي حقيقة وفعلاً، ووراء النص معان أكثر كثيراً مما يستطيع أي إنسان استيعابه من قراءة واحدة". والواقع أن عيب الكتاب أن فيه من جوته أكثر مما يجب، ومن التفلسف الجاري على ألسنة لا يتوقع أن يجري عليها قدر أكبر مما ينبغي.

"مثال ذلك أنه يجعل الفتاة أوتيلييه تحتفظ بيومية يودع فيها بعضاً من أنضج التأملات كقوله "لا سبيل إلى الدفاع عن أنفسنا أمام التفوق العظيم في إنسان غيرنا سوى سبيل الحب (21). ولكن احتواء هذا الكتاب على هذا القدر الكثير من جوته هو الذي يجعله دافئاً بالحياة غنياً بالفكر: لأن شارلوته القصة هي أيضاً شارلوته فون شتين. تغري ولكنها تأبى أن تخون زوجها، ولأن الكبتن هو جوته العاشق لزوجة صديقه، ولأن إدورد، الزوج ذا الخمسين المقيم بأوتيلييه هو جوته المفتتن بمنا هرتسليب، ولأن القصة هي محاولة جوته تحليل حساسيته الشبقة.

وقد قصد هنا أن يفكر في الجاذبية الجنسية بلغة كيميائية. ورما اتخذ عنوان كتابه من "الانجذابات العاطفية" الذي نشره الكيميائي السويدي العظيم توربرن أولوف برجمان في 1775. والكبتن يصف لإدورد وشارلوته انجذابات جزئيات المادة وتنافراتها وتجمعاتها فيقول: "ينبغي أن تريا بنفسيكما هذه الجواهر-التي تبدو ميتة جداً وهي مع ذلك زاخرة باللشاط والقوة-تعمل أمام عيونكما، يبحث بعضها عن بعض

ويمسك ويسحق ويلتهم ويدمر بعضها بعضاً. ثم يعود إلى الظهور فجأة

في صور نضرة، مجددة، غير متوقعة. " (22) فحين يدعو إدورد صديقه الكبتن، وتدعو شارلوته ابنة أخيها أوتيلييه، للإقامة معهما في زيارات طويلة، يهم الكبتن بشارلوته، وإدورد بأوتيلييه. وحين يتصل إدورد بزوجته جنسياً يفكرفي أوتيلييه، وتفكر

ص: 337

شارولته في الكبتن، في ضرب من الزنا السيكولوجي. ويبدو الوليد عجيب الشبه بأوتيلييه، وتحنو أوتيلييه على الطفل كأنها طفلها. ثم تتركه ليغرق كأنما جاء ذلك مصادفة، ويحملها تأنيب الضمير على أن تضرب عن الطعام حتى الموت. ويموت إدورد حسرة، ويحتفي الكبتن، وتبقى شارلوته على قيد الحياة، ولكنها ميتة روحياً.

ويخلص فيلسوف في المدينة إلى أن "الزواج هو البداية والنهاية لكل ألوان الحضارة. أنه يروض المتوحشين، ويمنح أكثر الناس ثقافة، خير فرصة للرقة ودماثة الخلق. وينبغي أن يكون غير قابل للفسخ لأنه يجلب من السعادة الكثير، ما يجعل متاعبه العارضة لا وزن لها (23) ". على أن أحد شخوص القصة يقترح بعد أربع صفحات من هذا القول زواج التجربة الذي لا يتجاوز العقد فيه المرة خمس سنوات.

وفي 1810 نلتقي بجوته في كارلسباد يستشفي بمياهها ويغازل شاباتها، بينما تظل كرستيانة التي مضى على زواجها أربعة أعوام في البيت تغازل الشبان. فقد تتيمت بالشاعر ذي الحادية والستين عاماً يهودياً حسناء سمواء تدعى ماريانه فون إيبنبرج، ثم هرب منها إلى الشقراء سلفي فون تسيجزار. وفي قصيدة وجهها إلى سلفي يدعوها "الابنة الخليلة، الحبيبة، البيضاء النحيقة القوام"(24)، وقد أرسلت إليه كرستيانة نداءات تناشده الوفاء:

"وهل وصلت بتينا وتلك السيدة فون أيبنبرج إلى كارلسباد؟ يقولون هنا أنه من المتفق عليه أن تكون زلفي وآل جوترز هناك أيضاً. فماذا أنت صانع وسط كل معابثاتك؟ ما أكثرها! ولكنك لن تنسى أقدمها عهداً، أليس كذلك؟ فكر فيَّ قليلاً أيضاً، بين الحين والحين. إني أريد الوثوق بك ثقة تامة، مهما قال الناس. لأنك كما تعلم الوحيد الذي يفكر فيَّ إطلاقاً"(25). ويبعث إليها هدايا صغيرة.

وقد وجد وقتاً كل يوم تقريباً لكتابة شيء من الشعر أو النثر. وحوالي عام 1809 بدأ يكتب سيرته الذاتية، وقد سماها "الخيال والحقيقة من حياتي" واعترف العنوان اعترافاً جميلاً بأنه بين الحين والحين، من عمد أو غير عمد،

ص: 338

ربما مزج الخيال بالواقع. أما غرامه بشارلوته بوف فقد مسه مساً خفيفاً رقيقاً، ولكنه كان أكثر إفاضة في قص غرامه بفردريكه بريون، وكانت المرأتان لا تزالان على قيد الحياة. ثم حلل في براعة وأريحية الكثير من أصدقاء شبابه-لنتس، وبازدوف، ومرك، وهردر، وياكوبي، ولافاتر. أما عن نفسه فقد تكلم في تواضع، وقد شكا في ملاحظاته الخاصة من أن كاتب السيرة الذاتية يتوقع منه الناس أن يعترف بنقائصه ولا يعلن عن فضائله (26). والكتاب تاريخ فكر أكثر منه تاريخ حياة، والأحداث فيه قليلة والتأملات وفيرة. إنه أعظم كتبه النثرية".

وفي 1811 تلقى من بيتهوفن خطاب إعجاب مع "مقدمو موسيقية لأجمونت". والتقى الشاعر والمؤلف الموسيقي في تبلتز في يوليو 1812، وعزف بيتهوفن لجوته وكان يتمشى معه. وإذا صدقنا الروائي أوجست فرانكل، "كان الناس في المتنزه-أينما ذهبا-يفسحون لهما الطريق باحترام ويحيونهما. وقال جوته وقد غاظته هذه المقاطعات المستمرة:"يا لها من مضايقة! لا أستطيع أبداً تجنب هذا الأمر. "وأجاب بيتهوفن بابتسامة "لا يضايقك هذا يا صاحب السعادة، فلعلي أنا المقصود بالاحترام. " وكتب جوته إلى تسلتر (2 سبتمبر 1812): "لقد أذهلتني موهبة بيتهوفن، ولكن شخصيته للأسف لا يمكن السيطرة عليها إطلاقاً. إنه ليس مخطئاً

في اعتباره العالم بغيضاً، ولكن هذا الموقف لا يجعل هذا العالم أكثر إمتاعاً لا له ولا لغيره. وكثير من هذا الموقف يلتمس له العذر فيه بسبب مؤسف هو أنه يفقد قدرته على السمع. " (27) أما تعليق بيتهوفن على جوته فكان "ما أشد صبر الرجل العظيم على! وما أعظم الخير الذي أسداه إلى! ولكن "جو البلاط يلائمه أكثر مما ينبغي. "(28).

لقد كانت مظاهر البلاط وسلوكه جزءاً من حياة جوته الرسمية، لأنه كان لا يزال يمارس نشاطه في الإدارة. أما حياته البيتية فقد فقدت سحرها. فأوجست ابنه، الذي بلغ الثانية والعشرين في 1812، كان ضعيف المواهب لا أمل في إنقاذه، وكرستيانة باتت بدينة مدمنة للشراب، وكان لها بعض العذر، لأن مغازلته للنساء لم تتوقف. فخلال زياراته لفرانكفورت، كثيرا

ص: 339

ما كان يقيم في فيلا يوهان فون فلليمير الواقعة في إحدى الضواحي، وكان يعجب بماريانة زوجة فلليمير. وفي صيف 1812 أنفق أربعة أسابيع تقريباً معهما. وكانت مريانة في الحادية والثلاثين، ولكنها كانت في ريعان جمالها الأنثوي. وكانت تغني أشعار جوته العاطفية وألحان موتسارت غناءً ساحراً، وتنظم الشعر الرفيع، وتتبادل مع جوته سلسلة من القصائد محاكاة لحافظ والفردوسي وغيرهام من شعراء الفرس (وكان حافظ قد ترجم إلى الألمانية في 1812). وفي بعض القصائد شهوانية سافرة وحديث عن الفرح المتبادل في العناق الجسدي، ولكن هذا الترخص قد يكون مجرد انحراف شعري. والتقى ثلاثة مرة أخرى في سبتمبر بهيدلبرج، وكان الشاعر يخرجان معاً في مسيرات طويلة، وكتب جوته اسم مريانة بحروث عربية في التراب حول نافورة القلعة. ولم يلتقيا قط بعد ذلك اليوم، ولكنهما ظلا يتراسلان طوال السبعة عشر عاماً الباقية من حياته. ويبدو أن فلليمير زاد اعتزازاً بزوجته لأنها فتنت رجلاً بهذه الشهرة، ولأنها عارضت شعر جوته بقصائد لا تقل روعة عن قصائده. وضمن جوته أشعارها وأشعاره في "الديوان الشرقي الغربي" الذي نشره في 1819.

وبينما هو ماض في مراسلاته نثراً وشعراً ماتت كرستيانة (6 يونيو 1816). وسجل جوته في يوميته: "كان صراعها مع الموت رهيباً

خواء وصمت قاتل في باطني ومن حولي. " (29) وران على هذه السنوات اكتئاب عميق. وحين زارته شارلوته كستنر، حبيبة صباه التي فقدها، والتي كانت الآن زوجة في الرابعة والستين لعضو المجلس الناجح كستنر الهانوفري، في صحبة ابنتها (25 سبتمبر 1816) لم يستشعر أي عاطفة تحتلج بين جوانحه، وكان حديثه كله حديثاً تافهاً مجاملاً. ولكن في 1817، تزوج ابنه أوجست من أوتيلييه فون بوجفيش، بعد أن قطع حياة كلها خلاعة وفسق، ودعاه جوتن ليسكن معه، وأتت أوتيلييه بمرح الشباب إلى البيت، وما لبثت أن أعطت الشاعر المسن أحفاداً أنبضوا قلبه بالحياة من جديد.

وأعانته على ذلك أورليكه فون لفتزوف، وكانت إحدى بنات ثلاث

ص: 340

لأماليا فون لفتزوف التي عرفها جوته في كارلسباد. والتقى في أغسطس 1821 بأولريكه في مارينباد، وقد قالت فيما بعد مسترجعة ذكرى هذا اللقاء: "لما كنت قد أقمت سنوات في مدرسة داخلية فرنسية بستراسبورج، وكانت لا أتجاوز السابعة عشرة، فإنني لم أسمع قط بجوته، ولا خطر لي أنه رجل مشهور وشاعر فحل. وعلى ذلك لم أشعر قط بالخجل من السيد العجوز الودود

وفي غد ذلك اليوم ذاته طلب إليَّ أن أتمشى معه

وكان يصحبني معه في نزهته كل صباح تقريباً. " (30) وعاد إلى مارينباد في 1822، و "طوال ذلك الصيف أبدى لي جوته غاية الود". وبعد عام التقيا في كارلسباد، وسرعان ما أثار القيل والقال في منتجع المياه المعدنية. وكان الشاعر الآن قد قرر أن حبه أكثر من الحب الأبوي. وألح الدوق كارل أوجست على أولريكة في أن تتزوج جوته، ووعدها إن فعلت بأن يمنع أسرتها في فايمار بيتاً جميلاً، وأن تحصل بعد موت الشاعر على معاش قدره عشرة آلاف طالر في العام (31). وفضت الأم وابنتها. وقفل جوته محزوناً إلى فايمار، وأغرق خيبة أمله في المداد. وعمرت أولريكه حتى أوفت على الخامسة والتسعين.

في ذلك العام، عام 1821 الذي قاد جوته لأولريكه، جاءه في فايمار كارل تسلتر-مدير الموسيقى في يينا-بتلميذ في الثانية عشرة يدعى فيلكس مندلسون. وكان تسلتر قد فتح روح جوته على عالم الموسيقى، بل أنه علمه التأليف الموسيقي. وأذهلت براعة عازف البيان الصغير الشاعر العجوز وأبهجته، فأصر أن يمكث معه أياماً. وقد كتب فيلكس في 6 نوفمبر يقول: في كل صباح يقبلني مؤلف "فاوست" و"فرتر". وفي العصر أعزف له قرابة ساعتين، وبعض العزف فوجات من باخ، وبعضه من ارتجالي. وفي 8 نوفمبر أقام جوته حفل استقبال ليقدم فيلكس إلى مجتمع فايمار الراقي. وفي 10 نوفمبر كتب فيلكس:"في كل عصر يفتح البيان ويقول: لم أسمعك قط اليوم. تعال واسمعني شيئاً من الضوضاء. ثم يجلس إلى جواري ويصغي. لا تتصور كم هو عطوف ودود. "فلما أراد تسلرت أن يرجع فيلكس إلى يينا، أقنعه جوته بأن يترك تلميذه أياماً أخرى. وكتب الصبي

ص: 341

السعيد "وعلت الآن أصوات الشكر لجوته من كل ناحية، ولثمت أنا والبنات شفتيه ويديه. وطوقت أوتيلييه دون بوجفيش عنقه بذراعيها، ولما كانت جميلة جداً، وهو يغازلها طوال الوقت، فقد كان الأثر رائعاً"(32). إن في التاريخ لحظات سعيدة تتوارى خلف درامة المأساة. وتحت ملاحظة المؤرخين.

‌4 - العالم

ولنعد الآن إلى سنوات صباه، حيث بدأ بحثه الذي امتد طوال حياته في العلم، باهتمام يقظ ولذة تلتهم كل شيء. وقليل منا من يعرفون أن جوته كرس للبحث والمؤلفات العلمية وقتاً أكثر مما كرس لكل شعره ونثره مجتمعين (33). وكان قد درس الطب والفيزياء في ليبزج، والكيمياء في ستراسبورج: ثم بدأ دراسة التشريح في 1781، وظل سنوات يضرب في؟ أرجاء ثورنجيا جامعاً للعينات المعدنية والنباتية ويرقب التكوينات الجيولوجية. وكان في أسفاره لا يلحظ الرجال والنساء والفن فحسب، بل الحيوان والنبات والظواهر البصرية والميتورولوجية أيضاً. وقد قام بدور رائد في إنشاء المختبرات في يينا. وكان يشتد فرحه بانتصاراته في العلم أو حزنه بهزائمه فيه، اشتداده بنجاحه أو إخفاقه في الأدب.

وقد استحدث شيئاً من دراسة الطقس. ذلك أنه نظم محطات للرصد الجوي في دوقية ساكسي-فايمار، وأعان على إنشاء محطات أخرى في طول ألمانيا وعرضها (34)، وأعد التعليمات اللازمة لها. وكتب المقالات في "نظرية الطقس" و "أسباب تذبذبات البارومتر" وأقنع الدوق كارل أوجست بأن يشرع في اقتناء المجموعات التي كانت النواة لمتحف علم المعادن في ييتا، وبعد أن درس الطبقات الجيولوجية في إلمينا وذهب إلى أنها تؤيد نظرية أبراهام فرنر التي زعمت أن جميع التكوينات الصخرية على القشرة الأرضية نتيجة لفعل المياه البطيء. (ويجب أن تقرن هذه النظرية "النبتونية" بالنظرية "البركانية" التي تقول بالتغير نتيجة للحركات العنيفة). وكان من أوائل من ألمعوا إلى أن عمر الطبقات قد يقرر من المتحفرات

ص: 342

المطمورة فيها، ومن دافعوا عن الرأي القائل بأن الجلاميد الهائلة الموزعة الآن توزيعاً شاذاً في المرتفعات قد قذفتها هناك موجات من الجليد هابطة من المنطقة القطبية الشمالية (35).

وفي 1791 - 92 نشر جوته في مجلدين "مقالات في البصريات"، وكتب يقول "كان هدفي تجميع كل ما هو معروف في هذا الميدان، والقيام بكل التجارب بنفسي، منوعاً فيها قدر الاستطاعة، ميسراً متابعتها، مراعياً أن تكون في متناول الشخص العادي (36). وقد أجرى خلال السنوات من 1790 إلى 1810 ما لا يحصى من التجارب لتفسير اللون، وما زال متحف جوته بفايمار يحتفظ بالأدوات التي استعملها، وظهرت الحصيلة في 1800 في مجلدين كبيرين يحتويان النصوص، ومجلد للوحات، تحت هذا العنوان "في نظرية اللون". وكان هذا أكبر آثاره عالماً.

وقد درس الألوان باعتبارها ناشئة لا عن التركيب الكيميائي للأشياء فحسب، بل عن تكوين العين وعملها، وحلل تكيف الشبكية للظلام والنور، وفسيولوجية العمى اللوني، وظواهر أطياف اللون والصور التلوية، وآثار تناقضات الألوان وتجمعاتها في الإحساس وفي التصوير. وحسب اللون الأخضر-خطأ-مزيجاً من الأصفر والأزرق. (وهما يمتزجان هكذا حقاً على لوحة ألوان الرسام، ولكن حين يتحد الأزرق والأصفر في الطيف ينتج عنهما الرمادي والأبيض). وقد أعاد إجراء الكثير من التجارب التي ورد وصفها في "بصريات" نيوتن (1704)، فوجد في عدة حالات نتائج تختلف عما ذكر في ذلك الكتاب، وخلص إلى اتهام نيوتن بعدم الكفاية وبالغش أحياناً (37). وقد عارض رأي نيوتن في أن اللون الأبيض تأليف من عدة ألوان، وذهب إلى أن اتحاد الألوان ينتج عنه بانتظام اللون الرمادي لا الأبيض. ولكن نتائجه لم يقبلها لا معاصروه ولا من أتوا بعده في ميدان البصريات. فقد أثنوا على تجاربه ورفضوا الكثير من نظرياته. وفي 1815 أرسل إليه آرثر شوبنهاور مقالاً دافع فيه كفاية عن فكرة نيوتن في أن الأبيض تأليف من عدة ألوان-وكان شوبنهاور يعجب بجوته شاعرا

ص: 343

وفيلسوفاً؛ ولم يغتفر له الشيخ فعلته قط. وزاد الرفض العام لنظريته في الألوان سنيه الأخيرة قتاماً.

وكان طبيعياً لرجل كجوته، حساس إلى هذا الحد أن يستهويه عالم النبات. فحين زاروا بادوا في أبهجته الحدائق النباتية، ففيها وجد مجموعة أغني وأكثر تنوعاً من كل ما رأي في حياته. وشاهد مدى اختلاف نباتات الجنوب عن نباتات الشمال، فصمم على دراسة تأثير البيئة على شكل النبات ونموه. كذلك لم يشعر قط بمثل هذا الشعور العميق بقدرة الطبيعة الملغزة العارمة على تطوير كل نوع-بما تفرد به من حيث التركيب والنسيج واللون والخط-من بزور تبدو بسيطة متشابهة. فيا لها من خصوبة، ويا لها من قدرة على الابتكار! ولكن أهناك بعض عناصر مشتركة في كل تنوع الأفراد، وفي كل تطور الأعضاء والأجزاء؟ وخطر له أن هذه الأجناس والأنواع والأشكال هي تحورات من نموذج أصل أساسي، وأن هذه النباتات كلها، مثلاً، شكلت على غرار نموذج أساسي أصيل-حتى وإن كان متخيلاً-أو نبات أول، هو أم النبات جميعاً. وكتب إلى هردر يقول "إن هذا القانون ذاته يمكن تطبيقه على كل حي" أي على الحيوانات كما يطبق على النباتات، فالحيوانات هي أيضاً تحورات من أصل بنائي واحد (38). وكما أن الكائن الحي الفرد، بكل تفرده، هو محاكاة لنمط أول، كذلك قد تكون أجراء الكائن تحورات لشكل أساسي واحد. ولاحظ جوته في بادوا تخيله (بلميطة) كانت أوراقها في مراحل مختلفة من التطور؛ فدرس مراحل الانتقال المرئية من أبسط ورقة إلى مروحة السعف الكاملة الرائعة؛ وتصور فكرة مؤداها أن جميع تركيبات النبات-باستثناء المحور أو الساق-هي تحورات ومراحل للورقة

(1)

.

وبعد عردة جوته إلى فايمار نشر نظريته في كتيب من ست وثمانين صفحة عنوانه "محاولة قام بها س. ف. جوته عضو المجلس الخاص لدوقية ساكسي-فايمار، لتفسير تطور النباتات"(1790).

(1)

كانت كاسبار فريدريش فولف قد خلص إلى هذه النتيجة في 1768.

ص: 344

وضحك علماء النبات من الكتيب وقالوا إنه أحلام شاعر، ونصحوا الشاعر بأن يلزم حرفته. (39) فلم يكذبهم، وصاغ آراءه من جديد، في قصيدة سماها "تحور النباتات" وتجمعت الأدلة والمؤيدون للنظرية شيئاً فشيئاً.

وفي 1830 قدم إتيين جوفروا سانتللير مقال جوته لأكاديمية العلوم الفرنسية، وأشاد به أثراً من آثار البحث الدقيق والخيال الخلاق يؤيده تقدم على النبات (40).

وألمع جوته (1790) في محالوة لتطبيق نظريته على التشريح إلى أن الجمجمة ليست تحور وتتمة للفقرات، تحتوي المخ كما يحتوي العمود الفقري على الحبل الشوكي، وليس هناك اليوم اتفاق على هذه الفكرة. ولكن إنجازاً ذكياً أكيداً يرجع الفضل فيه إلى جوته في التشريح-وهو إئباته وجود العظمة البينفكية في الإنسان (وهي العظمة التي تتوسط عظمتي الفك العلوي والتي تحمل القواطع العلوية). وكان علماء التشريح قد تبينوا وجود هذه العظمة في الحيوان، ولكنهم ارتابوا في وجودها في الإنسان، وكان لاكتشاف جوته الفضل في تضييق الخلاف البنياني بين الإنسان والقرد.

استمع إلى الشاعر يعلن نجاحه في خطاب من ييتا إلى شارلوته فون شتين مؤرخ 27 مارس 1784 - العاشق والعالم ممتزجين معاً: "سطور إلى حبيبتي لوته، أقرئها تحية الصباح

لقد منحت شعوراً بالرضى يبهجني. ذلك أنني اهتديت إلى كشف تشريحي جميل وهام في وقت معاً. وسيكون لك نصيبك فيه، ولكن لا تبسني بكلمة عنه". (41) وأذاع كشفه في مقال خطي أرسله إلى مختلف العلماء في 1784 بعنوان "محاولة قائمة على علم العظام المقارن، لإثبات أن العظمة البينفكية في الفك الأعلى يشترك فيها الإنسان والحيوانات العليا" وكانت هذه "أول رسالة كتبت من قبل يمكن أن توصف بحق أنها تدخل في باب التشريح المقارن، وهي إذن معلم في

ص: 345

تاريخ هذا العلم" (42)(وقد نشر المسرح الفرنسي فيلكس فيك دازير هذا الكشف ذاته في السنة نفسها 1784).

كتب جوته في رسالته: "إن الإنسان شديد الشبه بالحيوان الأعجم

فكل مخلوق إنما هو نغمة أو تحوير في تآلف ألحان عظيم" (43) وقد ذهب كثيرون من العلماء والفلاسفة الذين سبقوه إلى أن الإنسان جزء من مملكة الحيوان ونظم قصيدة سماها "تطور الحيوانات" ولكنه لم يكن من دعاة التطور بالمعنى الدارويني. فقد افترض ثبات الأنواع إتباعا لمذهب نينايوس، وهكذا لم يكن "النبات الأول" الذي قال بعه نباتاً بدائياً فعلياً تطورت منه جميع النباتات، إنما كان مجرد نمط عام كانت كل النباتات تحويرات له. ولم يكن رأيه كرأي معاصريه لا مارك وإرازمس دارون في أن الأنواع متطورة من أنواع أخرى بالانتخاب البيئي لأشكال واحدة.

فهل كان جوته عالماً حقيقياً. ليس بالمعنى الاحترافي. لقد كان هاوياً غيوراً مستنيراً، وعالماً بين القصائد والروايات والغراميات والتجارب الفنية والواجبات الإدارية.

وقد استخدم أجهزة كثيرة وجمع مكتبة علمية كبيرة، ولاحظ ملاحظات مفيدة وتجارب دقيقة وشهد هلمهولتز بالدقة الواقعية للعمليات والتجارب الموضوعية التي وصفا جوته (44). وقد نجب التفسيرات الغائية. ولكن العلماء المحترفين لم يقبلوه عالماً، لأنهم نظروا إليه هارياً يعتمد على الحدس والفرص بثقة مفرطة. وكان ينتقل بسرعة أكثر مما ينبغي من موضوع أو تحقيق آخر لامسا كلاً منهما نقطة خاصة، دون أن يبلغ في أي منها مسحاً للميدان في إلا في البصريات ونظرية اللون. ولكن كان هناك شيء مثالي وبطولي في إصراره المتشعب المتعدد الأشكال. وقال إكرمان في 1825: "سيبلغ جوته عامه الثمانين بعد بضع سنوات، ولكنه لم يكل الأبحاث والتجارب، فهو لا يفتأ جاداً في أثر تأليف كبير (45). وربما كان الشاعر محقاً في رأيه أن الهدف الأكبر للعالم ينبغي ألا يكون إمداد الرغبات القديمة بأدوات جديدة، بل توسيع الحكمة بالمعرفة في سبيل إثارة الرغبة.

ص: 346

‌5 - الفيلسوف

كان في الفلسفة، كما كان في العلم، عاشقاً لا أستاذاً محترفاً-مع أنه صاحب الفضل في تعيين فشته وشيلنج وهيجل في كراسي الفلسفة بيينا. وكان قليل الاهتمام جداً بجدليات المذاهب الفلسفية، ولكنه كان معنياً أشد العناية بتفسير الطبيعة ومعنى الحياة. وكلم تقدم به العمر بات بفضل العلم والشعر حكيماً، وقد وجد الإنارة عن "الكل" من كل شيء، وكل لحظة، وكل جزء:"كل عابر ليس إلا رمزاً"(46) و "الأقوال المأثورة العارضة" التي خلفها عند موته دون أن تطبع، تنضج بالحكمة في كل صفحة.

ولم يقدم أي نسق منطقي، ولكنه ألمع، براجماتباً إلى "أنه لا حقيقي إلا ما هو مثمر"(47) وإلى أنه "في البدء كان الفعل (لا الكلمة) "(48) فنحن نجد الحقيقة في الفعل أكثر مما نجدها في الفكر، وينبغي أن يكون الفكر أداة للعمل، لا بديلاً عنه. ولم يولع بكانط كما أولع به شيلر، فقد اعترف بأن الطبيعة النهائية للحقيقة تتجاوز علمنا، ولم يكن يشعر أن هذا يلزمه بسنيه العقيدة، بل على العكس أوصي بتجاهل ما لا يمكن معرفته، "إن ما لا سبيل إلى سير أغواره ليست له قيمة عملية"، والعالم المحسوس كاف لحياتنا (49) ولم تساوره أي ريب أو مخاوف معرفية حول الاعتراف بوجود عالم خارجي. كتب لشيلر بعد أن قرأ كانط وشيلنج يقول "إني أسلم مختاراً بأن ما ندركه حسياً ليس الطبيعة (في ذاتها)، بل إن الطبيعة تفهم طبقاً لصور وملكات معينة لفكرنا .... ولكن توافق طبائعنا العضوية مع العالم الخارجي

(يدل على) تصميم من الخارج، وعلاقة نحو الأشياء" (50) "وكثيرون يقاومون الاعتراف بالحقيقة، لا شيء إلا أنهم لو قبلوه لانهاروا" (51).

ولكن جوته رفض المادية رفضه للمثالية الذاتية. وقال أن "مذهب الطبيعة" الذي قال به دولباخ "بدا لنا [نحن الطلاب في ستراسبورج] شديد القتام

رهيباً كالموت، حتى لقد وجدنا في إطاقة وجود عناء ونكداً، وكنا نرتعد فرقاً منه كأنه عفريت". (52) كان هذا في شبابه،

ص: 347

ولكنه أحس به أيضاً في شيخوخته وهو يكتب إلى كنيبل في 8 أبريل 1812:

"إن الرجل الذي لا يدرك هذه الحقيقة. ولا يسمو إلى هذه الرؤية، وهي أن الروح والمادة، للنفس والجسد، الفكر والامتداد،

إنما هما مقوما الكون التوأمان الضروريان، وسيظلان كذلك أبد الدهر، وإن لهذين الاثنين حقوقاً متساوية، ومن ثم يمكن اعتبارهما في وجودهما معاً ممثلين لله؛ أقول أن رجلاً لا يدرك هذا خير له أن ينفق عمره في ثرثرة أهل الدنيا ولغوهم الفارغ.

وهذا بالطبعة هو سبينوزا، وجوته يتبع سبينوزا إلى الحتمية-"نحن ننتمي إلى قوانين الطبيعة، حتى أن تمردنا عليها (53)، ولكنه أحياناً يميل إلى الاتفاق مع كانط على أن "حياتنا، مثلها مثل الكون الذي ننتمي إليه، تتألف على نحو ملغر من الحرية والضرورة. " (54) وكان يشعر بقوة قضاء وقدر تعمل فيه-صفات تفرض نمره وتقرره، ولكنه يتعاون معها، كما يتعاون عامل حر يخدم قضية تحركه وتحتويه.

أما دينه فتجميد للطبيعة، ورغبة في التعاون مع قواها الخلاقة-قدرتها الإنتاجية المتعددة الأشكال ومثابرتها العنيدة؛ على أنه استغرق زمناً طويلاً ليكتسب صبرها. وقد شخص "الطبيعة" على نحو مبهم، فرأى فيها فكراً وإرادة، ولكنه فكر يختلف تماماً عن فكرنا، وإرادة محايدة في غير اكتراث كأنها تحايد بين ناس وبراغيث. فليس للطبيعة مشاعر أخلاقية بالمعنى الذي نقصده من التزام الجزء بالتعاون مع الكل، لأنها "هي" الكل. وفي قصيدته "الإلهي"(1782) وصف جوته الطبيعة بأنها بغير شعور ولا رحمة. فهي تدمر كما تعمر بإسراف. "كل مثلكم العليا لن تمنعني (جوته) من أن أكون أصيلاً، صالحاً وطالحاً، كالطبيعة"(55)، ومبدؤها الأخلاقي الوحيد هو: عش واجعل غيرك يعيش. وقد سلم جوته بحاجة كثير من النفوس إلى سند فوق طبيعي، ولكنه لم يشعر بمثل هذه الحاجة إلا في أخريات عمره. ""من عنده الفن أو العلم فهو يملك (ما يكفي من)

ص: 348

الدين؛ أما من ليس عنده فن أو علم فهو في حاجة إلى الدين" (56). إنني بصفتي شاعراً وفناناً أشعر بتعدد الآلهة (فأشخص قوى الطبيعة المنفصلة)، أما في دوري عالماً فأنا أميل إلى الحلولية (أي أرى إلهاً واحداً في كل شيء)(57).

وإذا كان "وثنياً ثابتاً عامداً" في الدين والأخلاق، فقد خلا من الإحساس بالخطيئة، ولم يشعر بحاجة إلى أنه يموت كفارة عنه، (58) وأنكر كل حديثعن الصليب. وقد كتب إلى لافاتر في 9 أغسطس 1782 يقول "يقول لست عدواً للمسيحية، ولا مضاداً لروح المسيحية، ولكني قطعاً لا-مسيحي

أنك تقبل الإنجيل، كما هو، على أنه حقيقة إلهية. حسناً، ما من صوت مسموع من السماء يمكن أن يقنعني بأن امرأة يمكن أن تحبل بطفل دون رجل، وأن رجلاً ميتاً يقوم من قبره. وأنا أعد هذه كلها تجديفات على الله وعلى إعلانه ذاته في الطبيعة" (59). وضيق عليه لافاتر الخناق (كما يروي لنا جوته) و "أخيراً سألني السؤال العسير" إنا مسيحي وأما ملحداً "فصارحته بأنه إن لم يترك لي مسيحيتي كما اعتززت بها إلى ذلك الحين، ففي استطاعتي أن أنحاز دون تردد إلى صف الإلحاد، خصوصاً وأنني أرى أنه ما من إنسان يعرف على التحديد المعنى المقصود من كل من هذين اللفظين" (60). وقد ذهب جوته إلى أن "الدين المسيحي ثورة سياسية جهيضة انقلبت أخلاقية" (61) وفي الأدب "مئات الصفحات التي فيها من الجمال والفائدة، مثل ما في الأناجيل (62)، ومع ذلك أعد الأناجيل الأربعة كلها حقيقية لا غبار على صحتها، ففيها يتجلى البهاء المنعكس للقوة السامية التي انبثقت من شخص المسيح وطبيعته، الذي كان إلهياً ما ظهرت الألوهية في الأرض

وأنا أنحني أمامه بوصفه المظهر الإلهي لأسمى مبدأ للفضيلة" (63). ولكنه اعتزم أن يعبد الشمس كما يعبد المسيح، باعتبارها مظهراً عادلاً من مظاهر القوة الإلهية (64). وقد أعجب بلوثر، وامتدح حركة الإصلاح البروتستنتي لتخطيها أغلال التقاليد، ولكنه أسف على انتكاسها إلى العقائدية المتزمتة (65). وخامره شعوره بأن البروتستنتية ستعاني من افتقارها إلى المراسم الملهمة المكونة للعادات، ورأى أن الكاثوليكية

ص: 349

حكيمة سمحة في رمزها للعلاقات والتطورات الروحية بالأسرار المقدسة البالغة الوقع في النفوس (66).

أما آراء جوته في الخلود فقد تغيرت مع السنين. ففي 2 فبراير 1789 كتب إلى فريدريش تسو شتولبرج يقول. "أما أنا فأتمسك بوجه عام بتعاليم لوكريتيوس، وأقصر نفسي وكل آمالي على هذه الحياة". ولكنه في 25 فبراير 1824 قال لأكرمان "لا أريد إطلاقاً أن أستغني عن سعادة الإيمان بحياة مستقبلة؛ والحق أني أقول مع لورنتسو دي مديتشي أن الذين لا رجاء لهم في حياة أخرى هم موتى حتى في هذه الحياة"؛ وفي 4 فبراير 1825، "إني راسخ الاقتناع بأن روحنا شيء لا يقبل الفناء إطلاقاً"(67). وقرأ زفيد نبورج، وقبل فكرة عالم الروح (68)، وداعب آمال تقميص الأرواح. ودرس القبلانية وبيكوديللا ميراندولا، بل رسم البروج أحياناً لكشف الطالع (69). وكلما تقدم به العمر ازداد تسليمه بما للإيمان من حقوق.

"إذا توخيت الدقة في التعبير، قلت إنه لا يمكنني أن أصل إلى معرفة لله إلا المعرفة التي أستقيها من الرؤية المحددة المتاحة لمدركاتي الحسية على هذا الكوكب المفرد. ومعرفة كهذه إنما شظية من شظية. ولست أسلم أن هذه المحدودية، التي تصدق على ملاحظتنا للطبيعة، يجب أن تصدق في ممارسة الإيمان. فالعكس هو الصحيح. ولعل معرفتنا، وهي ناقصة بالضرورة، تتطلب الإضافة والاستكمال بفعل من أفعال الإيمان"(70).

وفي 1820 أسف على تأليفه "برومثيوس" المتمرد أيام شبابه، لأن شباب المتطرفين يومئذ كانوا يستشهدون به ضده (71). وقد انصرف عن فشته حين اتهم فشته بالإلحاد (72). وكان رأيه الآن "أنه من واجبنا ألا نخبر غيرنا بأكثر مما في قدرتهم تلقيه. فالإنسان لا يفهم إلا ما يناسبه"(73).

وكما تغيرت آراؤه في الدين، كذلك تغير مفهومه للأخلاق مع تقدم عمره. فحين كان يظفر بنشاط الشباب وكبريائه فسر الحياة بأنها ليست سوى

ص: 350

مسرح لتنمية الذات والظهور. "إن هذه الرغبة الملحة في أن أرفع ما استطعت هرم حياتي الذي أعطيته وأرسيت قاعدته لي، ترجح كل ما عداها، ولا تكاد تسمح بلحظة انتكاس"(74). وقد رأيناه يجرح نفوساً رقيقة في هذه العملية. ولكنه حين نضج بفضل المنصب السياسي أدرك أن الحياة البشرية عملية تعاونية؛ وأن الفرد إنما يحيا بالمساعدة المتبادلة؛ وأن الأفعال الأنانية-وأن ظلت القوة الأساسية-إلا أنه لا بد من أن تحد بحاجات الجماعة. ففاوست في قسمها الأول هي النزعة الفردية متجسدة؛ وفي قسمها الثاني يجد "الخلاص" وسلامة الروح، بالعمل للصالح العام. وفلهلم مايستر في "تلمذته" يحاول تعليم ذاته وإنماءها وإن كان بحكم طبيعته وتدريه كثيراً ما يعين إخوانه؛ وفي "تطويفاته" يحاول تحقيق المزيد من سعادة المجتمع. وقد غض جوته من الوصية بمحبة الأعداء، ولكن عرف النبل بنبل في قصيدة من أروع قصائده:

"ليكن الإنسان نبيلاً

معيناً وطيباً

فذلك وحده

هو الذي يميزه

عن سائر الكائنات

التي نعرفها

إن الطبيعة

مجردة من العواطف

تشرق شمسها

على الأشرار والأبرار،

ويضيء القمر والنجوم

على الصالحين والصالحين.

والرياح والسيول،

والرعد والبرد،

ص: 351

تهدر في طريقها،

تنتزع وتكتسح أمامها

واحداً بعد واحد

ولا مناص لنا كلنا بحكم القوانين

العظمى، الأبدية الصارمة،

من أن نكمل دورة وجودنا.

ولكن الإنسان وحده

يستطيع المحال،

فهو يميز،

ويختار، ويحكم؛

ويستطيع أن يطيل مكث

اللحظة العابرة.

هو وحده القادر على

أن يثيب الخير،

ويعاقب الشر،

ويشفي وينقذ،

ويصدق النصح

للخطاة والضالين

فليكن الإنسان النبيل

معيناً وطيباً.

ولكي يكون الإنسان نبيلاً عليه أن يحذر المؤثرات المفسدة، و "الكل مؤثر إلا ذواتنا"(75). "دعك من دراسة المعاصرين والذين يحاربونك؛ بل أدرس عظماء الماضي الذين احتفظت آثارهم بقيمتها ومكانتها وقروناً. فالرجل الموهوب حقاً ينحو هذا النحو بحكم طبيعته، والرغبة في التنقيب في أعمال الأسلاف العظام علامة صادقة على الموهبة السامية"، (76) وعليك باحترام المكتبات وإجلالها لأنها التراث الذي خلفه هؤلاء الرجال. "إن

ص: 352

المرء حين يتأمل مكتبة ما يشعر كأنه في حضرة رأس مال هائل يأتي في صمت بفائدة لا تقدر" (77). ولكن الفكر يغير الخلق أكثر كثيراً من الخلق بغير الفكر، "فكل ما يحرر العقل دون أن يمنحنا السيطرة على أنفسنا مؤذ" (78). خطط لحياتك، ولكن حاول الموازنة بن الفكر والعمل؛ فالفكر بغير العمل مرض. "فلأن تعرف حرفة وتمارسها يزودك بثقافة أكثر مائة مرة من نصف المعرفة" (79). "وما من بركة تعدل بركات العمل" (80) وفوق كل شيء كن "كلاً" أو انضم إلى كل "أن النوع الإنساني وحده هو الإنسان الحق، ولا يستطيع الفرد أن يفرح ويسعد إلا إذا امتلك شجاعة الشعور بنفسه في الكل" (81).

وهكذا نرى الفني الذي ورث أسباب الرغد والأمن، والذي أضحك طلاب ستراسبورج على لباسه المترف الغريب، فلم تعد بفضل الفلاسفة والقديسين وتجارب الحياة أن يفكر في الفقراء بعطف، وأن يتمنى لو تقاسم المحظوظون من الناس ثرواتهم مع الفقراء بسخاء أكثر. وينبغي أن تفرض الضرائب على النبلاء بنسبة دخولهم، وأن يتيحوا لأتباعهم الإفادة من "المنافع التي تهيئها المعرفة والرجاء المتزايدين"(82) وقد أحس جوته بما يحس به البورجوازيين من حسد لأصحاب النبالة بالميلاد حتى بعد أن أطبق صيته آفاق أوربا. "في ألمانيا لا تتاح فرصة الحصول على

ثقافة شخصية مكتملة الجوانب للنبلاء" (83). وكان يراعي جميع فروض الاحترام المألوف في سلوكه مع رؤسائه. وكل الناس يعرفون ما وقع لجوته وبيتهوفن في تبلتز، في يوليو 1812؛ ولكن المصدر الوحيد لهذه القصة هو بتينا برنتانوفون آرنيم، غير الموثوق بروايتها، التي ادعت أنها تنقل عن رواية بيتهوفن:

"يستطيع الملوك والأمراء حقاً أن يخلعوا الألقاب والأوسمة، ولكنهم لا يستطيعون أن يصنعوا عظماء الرجال الذين يجب إذن النظر إليهم بإجلال. وحين يجتمع اثنان مثل جوته ومثلي، فلا بد لهؤلاء السادة من ذوي الحسب

ص: 353

والنسب أن يفقهوا معنى العظمة عند أمثالنا. فبالأمس التقينا بالأسرة الإمبراطورية (النمساوية) كلها، وخلص جوته ذراعه من ذراعي ليقف جانباً. أما أنا فكسبت قبعتي على رأسي واخترقت الجمع في أكثف نقطة وذراعاي تتدليان على جانبي. واصطف الأمراء وأفراد الحاشية في صفين؛ ورفع دوق فايمار قبعته لي، وحيتني الإمبراطورة أولاً. وقد أضحكني أن أرى الموكب يمر أيام جوته الذي وقف على جنب وقبعته في يده. وقد عنفته بعدها بقسوة على ما أتاه (84).

وسيختلف انفعالنا بهذه القصة باختلاف عمرنا. فلقد شعر جوته بأن الأرستقراطية العاملة بنشاط وبروح خدمة الجماعة تهيئ خير الحكومات الممكنة آنئذ في أوربا، وتستحق الاحترام الواجب للنظام والضبط الاجتماعيين. وينبغي إصلاح المفاسد، ولكن في غير عنف أو اندفاع؛ فالثورات تكلف أكثر مما تساوي، وتنتهي عادة إلى حيث بدأت. ومن يقول مفستوفيليس لفاوست:

"وأسفاه! إليك عني! كف عن الثرثرة حول ذلك الشجار بين الطغيان والرق! إنه يضايقني. فما إن ينته حتى يبدأ من جديد مع المهزلة كلها"(85).

ومن ثم يقول جوته لأكرمان في سنة في سنة 1824: "صحيح أنني لم أكن صديقاً للثورة الفرنسية. فلقد كانت أهوالها عاجلة جداً

على حين لم تكن آثارها النافعة منظورة بعد

ولكنني بالمثل لم أكن متعاطفاً مع الحكم التعسفي الذي سبقها. وكنت حتى في ذلك الوقت مقتنعاً بأنه ما من ثورة هي غلطة الشعب. بل هي دائماً غلطة الحكومة" (86). وقد رحب بنابليون نعمة على النظام في فرنسا وأوربا بعد عقد حفل بالاضطرابات. وكان يتشكك في الديمقراطية لأنه "ما من شيء أسوأ من الجهل النشيط" (87)، و "محال أن نتصور أن الحكمة يمكن أن تكون في يوم من الأيام صفة شعبية" (88).

ثم سخر من تذبذب السلطان بين الأحزاب. "أن الناس يتقلبون في

ص: 354

السياسة كما يتقلبون على فراش المرض من جنب إلى جنب أملاً في مزيد من الراحة في رقادهم" (89). وقد عارض حرية النشر بحجة أنها تعرض المجتمع والحكومة للإزعاج المستمر على يد كتاب يعوزهم النضج والشعور بالمسئولية. وبدت له الصرخة المطالبة بالحرية، في أواخر عمره، مجرد جوع المحرومين من المناصب للسلطان والمغانم. "إن الهدف الأوحد هو نقل القوة والنفوذ والثراء من يد إلى اليد التالية. وما الحرية إلا كلمة السر التي يهمس بها المتآمرون المتسترون، وصيحة المعركة الصاخبة يصيح بها الثوار السافرون، لا بل شعار الاستبدادية ذاتها وهي تسوف جماهيرها الخاضعة على العدو واعدة إياها بالخلاص من الطغيان الخارجي إلى الأبد" (90).

لقد وفى جوته كل الوفاء بواجب الكبار، بقيامه بوظيفة الكابح لطاقة الصغار.

‌6 - فاوست (الجزء الثاني)

ولقد سكب فلسفته التي تقدم بها العمر في الجزء الثاني من فاوست. ففي خاتمة الجزء الأول كان قد ترك "نفسه الثانية"، محطمة يائسة، في قبضة مفستوفيليس- الشهوة تعاقب على إفراطها. ولكن، أكان ممكناً أن يكون هذا كل شيء، وأن يكون جماع الحكمة؟ إن فاوست لم يكن قد خسر رهانه كل الخسران، فالشيطان لم يعثر له بعد على أية متعة تهدئ نضاله وتملأ حياته. فهل ثمة أشباع كالذي يتوق إليه في أي مكان؟ لقد كافح جوته طوال أربعة وعشرين عاماً ليجد للقصة تتمة وقمة تحويان أو ترمزان إلى النتائج التي خلص إلى تفكيره، وتسبغان على بطله خاتمة نبيلة ملهمة.

وأخيراً، وحين بلغ الثامنة والسبعين، تصدى للمهمة. ففي 24 مايو 1827 كتب إلى تسلتر الذي شاخ هو وكان مزمعاً أن يموت معه: "أود أن أعترف لك في هدوء

بأنني عاودت العكوف على فاوست. فلا تختر بذلك أحداً". وكانت خاتمة بايرون المشرة في حرب اليونان التحريرية

ص: 355

قد حركت مشاعر جوته؛ فالآن يستطيع أن يجعل بايرون، في شخص "يوفوريون"(ومعناه السعادة)، بن فاوست وهيلانة يمثل شفاء العقل العصري، الممزق الحائر، بفضل اتحاده مع جمال اليونان القديمة الهادئ. ومن ثم راح يكد ويكدح في ساعات الصباح، فلا يبلغ من ذلك غير صفحة واحدة على أحسن تقديره، حتى أفضى لأكرمان في أغسطس 1831، قبل موته بسبعة شهور، بأن المهمة المضنية قد تمت- بعد أن انقضت تسع وخمسون سنة على تصوره إياها أول مرة. وكان قد كتب يقول "أسعد الناس من استطاع وصل نهاية حياته ببدايتها"(91). وقال الآن "أياً كان مقدار ما بقي لي من الحياة ففي وسعي أن أعده منذ الآن منحة، ولست في الحق أبالي إن كنت سأنجز فوق ما أنجزت أم لا"(92).

ولا يستطيع المرء أن يسترسل اليوم في قراءة كل الجزء الثاني من فاوست إلا في ثقة واطمئنان أعوام ثمانين. فابتداء من المنظر الافتتاحي الذي يصف فيه فاوست، بعد استيقاظه بين حقول الربيع، شروق الشمس ببلاغة لم تبل جدتها، تقف حركة القصة المرة بعد المرة للتغزل في الجمال الطبيعة أو التغني بعظمتها أو رهبتها؛ وقد أجاد المؤلف الوصف، ولكنه أسرف فيه؛ فجوته المبشر بالانضباط الكلاسيكي يأثم هنا ضد شعار "القصد في القول". ذلك أنه صب في الدراما كل شيء تقريباً تراكم بغير نظام في ذاكرته الجياشة: الميثولوجيات اليونانية والألمانية، ووليدا والبجعة، وهيلانة وركبها، والساحرات، والفرسان، والجنيات، والأقزام الحيوانات الخرافية، والأقزام البشرية، وحوريات الغاب، والسيرانات، ومقالات الجيولوجية "النبتونية"، والخطب الطويلة يلقيها الرسل، وألفيات بائعات الزهر، وحوريات الحدائق، والحطابون، - والمهرجون القصار السمان، والسكارى، وأتباع الفرسان، ووكلاء الإقطاعيين، والنظار، ثم سائق مركبة حربية وأبو هول، ومنجم وإمبراطور، وآلهة الحقول وفلاسفة، وكراكي أبيكوس، و "رجل قصير"(قزم) صنعه فجنر تلميذ فاوست كيميائياً. والخليط أشد تحيراً وإرباكاً من الدغل المداري،

ص: 356

لأنه يضيف العنصر فوق الطبيعي إلى الطبيعي، ويسبغ على كل شيء موهبة الخطابة أو الغناء.

وما أعظم الراحة التي نستشعرها حين نظهر هيلانة في الفصل الثالث، وهي ما تزال على نحو معجز إلاهة بين النساء، تغزو قلوب الرجال برشاقة حركتها أو بلحظ عينيها. وتتخذ القصة قوة جديدة، ويرتفع الكورس إلى نبرة سوفوكلية، حين تسمع هيلانة أن منيلاوس رغبة في عقاب "الجمال الوقح المتغطرس" أمر بأن تسلم هي ووصيفاتها إلى شهوات قبيل "بربري" يغوة بلاد اليونان من الشمال. أما زعيمهم ففاوست نفسه، الذي انقلب بحيلة مفستوفيلية فارساًمن فرسان العصور الوسطى، مليح القد والصورة واللباس. ويبلغ جوته ذروة فنه الدرامي حين يصف لقاء هيلانة وفاوست- اليونان القديمة تواجه ألمانيا الوسيطة. فليتحد الإثنان! تلك هي الفكرة الرئيسية في القصة. ويفتتن فاوست ككل الرجال فيلقي عند قدمها بكل ما وهبه السحر والحرب من مال وقوة. وتستسلم هي لتوسلاته، فهذا المصير على أي حال لم يكن شراً من الموت. ولكن منيلاوس يقترب مع جيشه فيقطع عليهما نعيمهما. وفي لمح البصر ينقلب فاوست من الغرام إلى الحرب، ويستنفر رجاله ويقودهم إلى غزو اسبرطة (وهذه ذكرى "الفرنجة" يغزون المورة في القرن الثالث عشر).

ثم يتغير المشهد، فقد مرت السنون سراعاً، وإذا يوفوريون شاب سعيد يشرح صدر فاوست وهيلانة بـ "العناق والمزاح اللعوب والنداءات المرحة"(93). قافزاً في استهتار من جرف إلى جرف، وأبواه يحذرانه في رفق، راقصاً في عنف مع الحوريات اللائي افتتن بحسنه (بايرون في إيطاليا)، ويمسك بواحدة منهن في جذل، فإذا هي تنفجر مشتعلة بين ذراعيه. وحين يسمع في ترحيب ناقوس الحرب يدق، يندفع خارجاً، فيهوى من منحدر قائم، ويدعو أمه وهو يموت لتلحق به في العالم السفلي.

"هيلانة (لفاوست) ويلاه! إن حكمة قديمة يتحقق في صدقها- فزفاف المال إلى الجمال لا يدوم أبداً. إن رباط الحياة يتمزق كما يتمزق

ص: 357

رباط الحب، فوداعا لهما جميعاً وأنا أبكيهما في عذابي، وعلى صدرك أرتمي مرة أخرى، فتلقيني يا برسيفوني أنا وولدي. (تعانق فاوست؛ ويتلاشى جسمها وتبقى الثياب والنقاب بين ذراعيه) ".

وهكذا يختتم الفصل الثالث، وهو أجمل فصول هذا الجزء الثاني من فاوست. وهو الجزء الذي بدأ جوته بكتابته، وسماه "هيلانة"، وظل حيناً يفكر فيه على أنه كل كامل قائم بذاته؛ ولو تركه كذلك لكان خيراً له. فهنا ارتفع جوته لآخر مرة إلى قمة شعره بجهد بطولي لاستنهاض ما بقي له من قوى، مازجاً الدراما بالموسيقى كما جرى اليونان على عهد بركليس، نافخاً الحياة والحرارة في شخوص قصة رمزية معقدة لشفاء العقل العصري.

ومن ذلك العلو الشاهق ينزلق الجزء الثاني من فاوست إلى حرب بين إمبراطور وغريم ينافسه على العرش الروماني المقدس. ويحقق فاوست ومفستوفليس بحيلهما السحرية النصر في الحرب للإمبراطور؛ ويطلب فاوست وينال جزاء له مساحات كبيرة من ساحل الإمبراطورية الشمالي، مضافاً إليه ما يسعه انتزاعه من الأرض من براثن البحر. وفي الفصل الخامس نرى فاوست وقد بلغ المائة سيداً على ملك شاسع، ولكنه لم يصبح بعد سيداً على نفسه. وذلك أن كوخاً لزوجين من الفلاحين هما فليمون وباوكيس يحجب المنظر من قصره؛ فيعرض عليهما بيتاً أفضل في موقع آخر، ولكنهما يرفضان؛ فيطلب إلى مفستوفيليس وعملائه أن يطردوهما؛ ولكنهم يلقون المقاومة، فيشعلون النار في الكوخ؛ ويموت الزوجان العجوزان رعباً. ولا يلبث فاوست أن تطوف به رؤى الأرواح المنتقمة. عجائز شمطاوات اسمهن الفقر، والذنب، والهم، والحاجة، والموت. وينفخ الهم في وجهه فيعميه. وتنتشله من اليأس فكرة فيها شيء من الإيثار؛ فيأمر مفستوفيليس وشياطينه بأن يقيموا السدود على البحر، ويجففوا المستنقعات، ويبنوا على الأرض الجديدة ألف بيت وسط الحقول الخضراء؛ ويتخيل هذه الأرض المنتزعة من البحر، ويشعر بأنه استطاع "مع شعب حر أن يقف على أرض حرة" لقال أخيراً لهذه اللحظة العابرة "لا تبرحي لأنك جميلة جداً"(94). ويسمع أصوات الفؤوس والمعاول، فيظن

ص: 358

أن مشروعه الضخم يتقدم؛ أما الحقيقة فهي أن الشياطين تحفر قبره. ويأخذ منه الإرهاق كل مأخذ، فيخر صريعاً على الأرض؛ فيشمت فيه مفيستوفيليس بينما يتهيأ حشد من الشياطين لحمل روح فاوست إلى الجحيم؛ ولكن جيشاً من الملائكة ينقض من السماء، وبينما يتسلى مفيستوفيليس بالإعجاب بسيقانهم، يرفع الملائكة رفات فاوست. وفي السماء نرى فاوست الذي ألبس جسداً نورانياً تستقبله بالتحية جريتشن الممجدة الآن، والتي تتوسل إلى الأم العذراء قائلة:"هبيني أن أعلمه! " وتأمرها العذراء بأن تقوده صعداً، ويختتم كورس سحري المسرحية بهذا النشيد:

"كل عابر

ليس إلا رمزاً؛

وكل ناقص لم يكمل

يبلغ الكمال هنا"

وما لا يمكن وصفه

يتحقق هاهنا

السرمدي الأنثوي

يجذبنا صعداً وقدماً.

‌7 - التمام

1825 -

1832

في 1823 أصبح يوهان بتر إكرمان، البالغ واحداً وثلاثين عاماً، سكرتير جوته، وبدأ يدون حديث الشيخ للأجيال القادمة وتحتوي فصيلة هذا الجهد "أحاديث مع جوته"(ثلاثة مجلدات 1836 - 48)، التي راجعها جوته جزئياً، من ذخائر الحكمة أكثر مما نجده عند معظم الفلاسفة.

وفي سبتمبر 1825 احتفلت فايمار بالذكرى الخمسين ولي كارل أوجست العرش وحضر جوته الاحتفال. وأمسك الدوق بيده وتمتم قائلاً له معاً إلى أخر نسمة" (95). وفي 7 نوفمبر احتفل البلاط بالذكرى الخمسين

ص: 359

لقدوم جوته إلى فايمار، وأرسل إليه الدوق خطاباً أذيع أيضاً على الشعب:

"ببالغ السرور أود أن أنوه بالذكرى الخمسينية لهذا اليوم يوبيلاً لا للخادم الأكبر لدولتي فحسب، بل لصديق صباي الذي رافقني طوال تقلبات الحياة بثبات المحبة والولاء والوفاء. وأني لمدين في نجاح أهم مشروعاتي لمشورته الواعية ولتعاطفه الذي لا يني وخدمته النافعة. وأني لأعد ضمي إياه لشخصي بصفة دائمة مفخرة من أعظم مفاخر ملكي (96).

ثم أقبلت سنوات الشيخوخة الحزينة حين يختفي الصديق تلو الصديق. ففي 26 أغسطس 1826، بعد عيد ميلاد جوته السابع والسبعين بيومين، أرسلت شارلوته فون شتين، وهي في الرابعة والثمانين، آخر ما نعرف من رسائل لحبيبها منذ نصف قرن:"كل تمنياتي الصادقة وبركاتي بمناسبة هذا اليوم. وأتوسل إلى الملائكة الحارسة في المحفل السماوي أن تأمر بمنحك أيها الصديق الأعز كل خير وجميل. وأنني ما زلت المخلصة لك في رجاء وبلا خوف، وأنا أسألك أن تهبني عطفك السمح خلال الفسحة القصيرة التي بقيت لي في الأجل"(97). ثم ماتت في 6 يناير 1827، فلما سمع جوته بالنبأ بكى. وفي 15 يونيو 1828 مات الدوق، وعرفت فايمار أن عصرها الذهبي أخذ يولي. واستعد جوته لدوره بالعكوف على فاوست بنشاط محموم. ولكن الدور لم يكن دوره بعد. ذلك أن أوجست، ابنه الوحيد الباقي على قيد الحياة، بعد أربعين سنة من الفشل، وعشرين من الفسق، مات في روما في 27 أكتوبر 1830. وقد أظهر تشريح جثته أن حجم كبده خمسة أضعاف الحجم العادي. فلما أبلغ جوته بالنبأ قال (باللاتينية)"لم أكن أجهل أنني أنجبته إنساناً فانياً"(98). وكتب يقول "حاولت إغراق نفسي في العمل وقد ألزمت نفسي بالمضي في المجلد الرابع من كتاب "الشعر والحقيقة" (99).

وحين بلغ الثمانين بدأ يحد من مجال اهتماماته. ففي 1829 كف عن قراءة الصحف. وكتب إلى تسلتر يقول "لست أستطع البدء بإنبائك بما اكتسبته من

ص: 360

وقت وما أنجزته من أعمال خلال الأسابيع الستة التي تركت فيها جميع الصحف الفرنسية والألمانية دون أن أفتحها" (100) "سعيد من كان عالمه في بيته" (101). وقد حظي بالمحبة والرعاية من أرملة أوجست، أوتيلييه، واستشعر البهجة بأطفالها. ولكنه كان أحياناً يعتكف حتى عنهم ويطلب الخلوة التامة ويثني على الوحدة لأنها المواسية والمحك للعقل المثقف.

وقد أفصح وجهه الآن عن أعوامه الثمانين: غضون عميقة غير الجبين وحول الفم، وشعر فضي يتراجع، وعيون هادئة متسائلة؛ ولكن عودة ظل مستقيماً وصحته جيدة. وكان يفخر بأنه اجتنب القهوة والتبغ وكلاهما مذموم في رأيه لأنه سم زعاف. وكان معجباً بطلعته وبكتبه، يستطيب ثناء الناس عليه صراحة، ولا يبذله إلا ضنيناً به. بعث إليه شاعر شاب في 1830 بديوان شعر، فرد عليه جوته ينبئه بتسلمه رداً لاذعاً قال فيه "تصفحت كتيبك، ولكنني نحيته على المرء في وباء من أوبئة الكوليرا أن يحمي نفسه من المؤثرات المضعفة"(102). وكان يضيق بأصحاب الكفايات الهزيلة، وازداد ضيقه بالناس أكثر فأكثر كلما أكرهته الشيخوخة على الانطواء على نفسه، وقد اعترف بهذا فقال "كل من ظنني لطيفاً من واقع مؤلفاتي ألفي نفسي مخدوعاً أشد الخداع حين أحتك برجل فيه برود وتحفظ (103). ووصفه زواره بأنه بطيء الانفراج، فيه شيء من التكلف والتصلب ربما نتيجة لارتباكه، أو لضنه بالوقت ينتزع من واجباته. ومع ذلك فإن كثيراً من رسائله تدل على القرة ومراعاة مشاعر الآخرين.

وطبق صيته الآن آفاق أوربا. وأشاد به كارليل-قبل موت جوته بزمن طويل-فحلاً من فحول الأدب العالمي. وأهدى بايرون "ورنر" إليه، وأهدى برليوز "هلاك فاوست" إلى "المونسنيور جوته"؛ وأرسل إليه الملوك الهدايا. ولكن قراءه في ألمانيا كانوا قلة، والنقاد مناوئين له، وانتقص منافسوه من قدره ورموه بأن عضو في مجلس الأمير مغرور يدعى أنه شاعر وعالم. وأدان ليسنج "جوتز" و "فرتر" لأنهما هراء رومانسي؛ واحتقر كلويشتوك "ارمان ودوروتيا" لأنه كتاب عادي لا امتياز فيه،

ص: 361

و "افجيني" لأنه تقليد جامد لليونان. ورد جوته بعبارات متكررة من الاحتقار لألمانيا-لمناخها، ومناظرها الطبيعية، وتاريخها، ولغتها، وفكرها. وشكا من أنه اضطر "للكتابة بالألمانية، وهكذا

أهدر الحياة والفن على أسوأ مادة" (104). وقال لأصحابه أن "هؤلاء الألمان الحمقى" يستحقون تماماً هزيمتهم على يد نابليون في يينا (105)، وقد جاء دور ألمانيا لتضحك منه حين انتصر الحلفاء على بونابرت في وورترلو.

وإذ انسلخ عن نهر الأدب الرئيسي (النهر الرومانتيكي) في شيخوخته، فقد عزى نفسه باحتقار ازداد عمقاً للعالم والإنسان. "تبدو الحياة كلها-إذا نظرنا إليها من قمم العقل-كأنها مرض خبيث، والعالم كأنه مستشفى للمجانين"(106). وكتب إلى تسلتر في 26 مارس 1816 "قبل أيام وقعت على نسخة من أول طبعة لآلام فرتر، وبدأت ترتفع من جديد تلك الأغنية التي طال إسكاتها. وشق على أن أفهم كيف استطاع رجل أن يطيق العالم أربعين سنة مع أنه تبين سخفه حتى في صباه"(107). ولم يتطلع إلى أي تحسين ذي بال في المستقبل. "إن الناس لا يعيشون إلا ليكدر ويقتل بعضهم بعضاً. كذلك كان، وكذلك هو اليوم، وكذلك سيظل إلى أبد الدهر"(108)، وكان يرى كما يرى معظمنا بعد الستين أن الجيل الجديد منحط. "إن هذه الخيلاء التي لا تصدق، والتي يشب عليها الشباب، ستتمخض بعد بضع سنوات عن أعظم الحماقات

ومع ذلك فهناك الكثير الذي يتحرك وينشط، وقد يكون مبعث اغتباط في السنين القادمة (109) ".

وفي 15 مارس 1832 أصيب بنزلة برد وهو راكب عربته في نزهة. ثم بدا أنه تماثل للشفاء في الثامن عشر من الشهر، ولكن في اليوم العشرين كانت الإصابة قد نزلت إلى صدره، وألهبته حمى النزلة، وشوه الألم وجهه. وفي الثاني والعشرين لا حظ أن الربيع بدأ، وقال ""لعل هذا يعينني على البرء. "وكانت الحجرة قد أظلمت لإراحة عينيه؛ فاعترض قائلاً "أدخلوا مزيداً من الضوء". وإذ كان لا يزال ضيقاً بالظلام أمر خادمه قائلاً "افتح ستارة النافذ الأخرى ليدخل مزيد من الضوء. " وكانت هذه

ص: 362

فيما يبدو آخر كلماته. وكان قد قال لأوتيلييه "أيتها المرأة الصغيرة، ناوليني كفك الصغيرة" ومات بين ذراعيها قابضاً على يدها ظهر يوم 22 مارس 1832 بالغاً اثنتين وثمانين سنة وسبعة شهور (110).

ورأى إكرمان جثمانه في الغد:

"كان الجسد عارياً إلا من كفن أبيض

وأزاح الخادم الملاءة فأذهلني ما رأيت في أطرافه من بهاء إلهي. وكان الصدر قوياً، عريضاً، مقبباً، والذراعان والفخذان ممتلئة مفتولة في رقة؛ والقدمان أنيقتين وفي أكمل هيئة؛ ولم يكن في الجسم كله أثر لا لشحم ولا نحول ولا لتحلل. فقد رقد أمامي رجل كامل في أجمل صورة؛ وأنستني بهجة المنظر لحظة أن الروح الخالدة قد فارقت هذا المسكن" (111).

وهكذا اختتم عصر عظيم، ابتداء من انتصار فردريك الكئيب في 1763، ومروراً بليسنج وكانط، وفيلاند وهردر، وانتهاء بشيلر وجوته. ولم يوفق العقل الألماني منذ لوثر إلى مثل هذا النشاط والتنوع والثراء في التفكير المستقل. ولم يكن بالكارثة على ألمانيا أنها لم تكن إمبراطورية مترامية كإمبراطورية بريطانيا مستغرقة في الفتح والتجارة؛ ولا ملكية ممركزة كالملكية الفرنسية يمزقها فشل الحكومة؛ ولا استبدادية كاستبدادية روسيا تتخم نفسها بالأرض أو تخدر نفسها بالماء المقدس. إن ألمانيا-من الناحية السياسية-لم تكن قد ولدت بعد، ولكنها في الأدب كانت تتحدى العالم الغربي، وفي الفلسفة تقود هذا العالم.

ص: 363

الفصل الخامس والعشرون

‌اليهود

‌1715 - 1789

1 -

كفاح الحياة

قال روسو:

أن اليهود يقدمون لنا مشهداً عجيباً. فقد ماتت قوانين صولون، ونوما، وليكورجوس؛ أما شرائع موسى، الأقدم بكثير، فما زالت حية. وقد بادت أثينا، واسبرطة، وروما، ولم تترك خلفاً على الأرض، أما صهيون التي دمرت فلم تفقد بينها؛ فقد احتفظوا بكيانهم، وهم يتكاثرون، وينتشرون في أرجاء العالم

وهم يخالطون كل الشعوب دون أن يذوبوا فيها (1)؛ وليس لهم حكام، ومع ذلك فهم دائماً شعب".

وربما كان بقاء ناموس راجعاً لا لحكته الأصلية بقدر جدواه في حفظ النظام والاستقرار بين جماعات تعيش في خطر وسط عقائد معادية وشرائع أجنبية. ففي الشتات كان على الكنيس (المجمع) أن يقوم بما تقوم به الكنيسة والحكومة، وربط الحاخامات بين أفراد شعبهم في وحدة متماسكة خلال جميع التقلبات والغير بإعطائهم بركة إيمان ديني فخور لناموس نظم كل منحى من مناحي الحياة اليهودية وأصبحت الأسفار الموسوية الخمسة الدستور-وأصبح التمود المحكمة العليا-لدولة غير منظورة.

وفقد العداء لليهودية بعض قواعده الدينية باضمحلال الاعتقادات السنية. وقد عرف المسيحيون ممن ألموا بطرف من التاريخ أن كل شعب تقريباً من الشعوب المسيحية، في فترة أو أخرى، اضطهد المهرطقين بالقتل

ص: 365

الجماعي جيلاً بعد جيل أو دواوين التفتيش أو المذابح المنظمة. وعرف فولتير هذا (2)، وندد المرة بعد المرة باضطهاد المسيحيين لليهود، وأثنى على ما رآه في اليهود من "أسلبو في الحياة رزين منظم، ومن زهد، وكد" وأدرك أن اليهود الأوربيين أقبلوا على التجارة لأن حرمانهم من تملك الأرض "أعجزهم عن التوطن بصفة دائمة-أي مأمونة-في أي بلد"(3). ومع ذلك فقد انقلب فولتير عدواً لليهود عداوة لا هوادة فيها. ذلك أنه تورط في معاملات غير موفقة مع رجال المال اليهود. فعند رحيله إلى إنجلترة حمل معه صكوكاً على المصرف اللندني "مديناً"، الذي أفلس أثناء ذلك وهو مدين لفولتير بعشرين ألف فرنك (4). وفي برلين كلف ابراهام هيرش-كما أسلفنا-بشراء سندات هبطت قيمتها في سكسونيا، بقصد استيرادها (بطريقة غير قانونية كما حذره هيرش) إلى بروسيا ليسترد قيمتها هناك بربح يبلغ خمسة وستين في المائة (5). وتشاجر الفيلسوف ورجل المال، واحتكما إلى القضاء، وانتهيا بالكراهية المتبادلة. وفي مقال فولتير عن "الأعراف" أطلق لحده العنان فوصف العبرانيين القدامى بأنهم "أمة حقيرة، وشعب من اللصوص، فظيع، رجس، ناموسه ناموس المتوحشين، وتاريخه نسيج من الجرائم ضد الإنسانية". (6) واعترض قسيس كاثوليكي بأن هذا اتهام وحشي إلى حد مضحك (7). ونشر يهودي برتغالي عالم يدعى إسحاق بنتو في 1762 "تأملات" في نقد للفقرات المعادية لليهود والواردة في مقال بعنوان "اليهود" في القاموس الفلسفي؛ واعترف فولتير بأنه "أخطأ في وصم أمة بأسرها برذائل أفراد"، ووعد بحذف الفقرات المهينة في الطبعات القادمة؛ ولكنه غفل عن الوفاء بوعده (8). وكان موقف الكتاب الفرنسيين عموماً ضد فولتير في هذا الأمر (9). وتكلم روسو على اليهود بتعاطف مشرب بالفهم (10).

ولم يكن لليهود في فرنسا حقوق مدنية قبل الثورة، ولكنهم أنشأوا جماعات ناجحة وخرجوا زعماء ذوي نفوذ، اشترى أحدهم إقطاعية اشتملت على أميان؛ واستعمل حقه الإقطاعي في تعيين قساوسة الكتدرائية، فاحتج الأسقف، ولكن برلمان باريس أيد الإقطاعي اليهودي (1787) واعترفت الحكومة الفرنسية شاكرة بمساعدة الماليين اليهود لها في حروب الوراثة

ص: 366

الأسبانية والبولندية، ولعب اليهود دوراً كبيراً في إحياء شركة الهند الشرقية بعد انهيار مغامرة "لو" في 1720 (11). وكان يهود بوردو ذوي ثراء عريض؛ واشتهر تجارهم ومصرفيوهم بنزاهتهم وجمودهم؛ ولكنهم اعتزوا بأصلهم الصفاردي، ونجحوا في إقصاء جميع اليهود الاشكنازيين عن بوردو.

ولم يكن في أسبانية القرن الثامن عشر يهود سافرون. ففي مطالع حكم البوريون الأسبان استغلت جماعات صغيرة منهم استنارة فليب الخامس المزعومة لاستئناف شعائر العبادة اليهودية سراً، واكتشفت حالات كثيرة، وأعدم ديوان التفتيش بين عام 1700 و1720 ثلاثة يهود في برشلونة، وخمسة في قرطبة، وثلاثة وعشرين في طليطلة، وخمسة في مدريد. واحفظت الديوان هذه الاكتشافات فهب ينشط من جديد، وبلغ عدد الدعاوي التي نظرتها محاكمة بين عامي 1721 و1727 أكثر من ثمانمائة بتهمة اليهودية من بين 868 دعوى، وأحرق خمسة وسبعون ممن أدينوا. أما بعد ذلك فالحالات المثيلة كانت نادرة جداً. وفي سنوات الديوان الختامية، (1780 - 1820) حاكم الديوان الأسباني نحو خمسة آلاف منهم، لم يرم منهم باليهودية غير ستة عشر، وكان عشرة منهم أجانب (12). وظلت قوانين أسبانيا تحرم من المناصب المدنية أو الحربية جميع الأشخاص الذين لا يستطيعون إثبات نقاء دمائهم من كل أثر علق به من أسلاف يهود. وقد شكا المصلحون من أن هذا الشرط حرم الجيش والحكومة الأسبانيين من خدمات الكثير من الرجال الأكفاء. وفي 1783 خفف شارلي الثالث هذه القوانين (13).

أما في البرتغال فقد أحرق ديوان التفتيش سبعة وعشرين بيهودياً لرفضهم الارتداد عن الديانة اليهودية (1717)(14). وقد وفد على لشبونة في 1712 قادماً من ريودجانيرو أنطونيو دا سيلفا، الذي كان في رأي سوذي أفضل كتاب المسرحيات البرتغال؛ فقبض عليه هو وأمه في 1726 لأنهما يهوديان، وأحرقت الأم، واستعطف الابن فأطلق سراحه،

ص: 367

ويبدو أنه ارتد بعد ذلك، لأنه أحرق في 1739 ولما يعد الخامسة والثلاثين (15) ثم أنهى المركيز دبومبال بإصلاح من إصلاحاته الكثيرة كل تفرقة بين المسيحيين القدامى والمحدثين (الذين اعتنقوا المسيحية)(1774)(16).

أما في إيطاليا فقد سبقت البندقية غيرها إلى تحرير اليهود، ففي 1772 أعلن أن يهود الجمهورية أحرار متساوون مع سائر السكان. وتخلفت روما، وكان الغيت (حي اليهود) هناك أسوأ أحيائهم في أوربا. وزادت خصوبة الإنجاب الشديدة التي شجعها الأخبار من لفقر والقذارة، وأتت على يهود روما فترة كان عشرة آلاف منهم يسكنون في حين لا يزيد على كيلومتر مربع واحد (17). وكان نهر تيير يفيض على ضفافه كل عام فيغمر شوارع الحي الضية ويملأ الحجرات السفلى بالطين الموبوء. واحترف يهوديو روما الخياطة لحرمانهم من أكثر الحرف؛ ففي 1700كان ثلاثة أرباع الذكور البالغين منهم خياطين (18)، فبدأوا بذلك عادة تحدرت بينهم حتى أيامنا هذه. وفي 1775 أصدر بيوس السادس مرسوماً بابوياً جدد فيه القديم من المحظورات على اليهود وأضاف إليها جديداً: فحرم عليهم ركوب العربات، وترتيل المراثي في الجنائز، وإقامة الشواهد على قبور موتاهم (19). وكان على يهود روما أن ينتظروا مجيء نابليون ليحررهم من هذه القيود.

وأما في النمسا فقد أحست ماريا تريزا أن التقوى تلزمها بحبس اليهود في أحياء ضيقة بعينها، وبحرمانهم من الحرف والمناصب وتملك العقارات (20)، ولكن ابنها يوزف الذي مسه التنوير الفرنسي اقترح على مجلس الدولة في 1781 مشروعاً "يفيد به المجتمع من طبقة الإسرائيليين الكبيرة في أراضينا الوراثية"(النمسا والمجر وبوهيميا) وذلك بتشجيعهم على أن يتعلموا-وبعد ثلاثة أعوام يشترط عليهم أن يستعملوا-اللغة القومية في جميع الشئون القانونية أو السياسية أو التجارية. ويجب "ألا يضايق اليهود على أي وجه في ممارسة شعائرهم أو عقائدهم". وينبغي دعوتهم للاشتغال بالزراعة، ولدخول ميدان الصناعة والتجارة، ولممارسة الفنون-على أن يظل محظوراً عليهم أن يصبحوا معلمي حرف في النقابات الحرفية، لأن هذا يتطلب حلف يمين الولاء للعقيدة المسيحية. ثم تلغي كل أسباب التفرقة المهنية، وكل

ص: 368

القيود المفروضة إلى ذلك الحين على اليهود، "وكذلك كل العلامات الظاهرة أياً كانت". واعترض مجلس الدولة والمديرون الإقليميون على البرنامج لأنه فضفاض مفاجئ بحيث لا يقبله الشعب. وقدم يوزف حلاً وسطاً، فأصدر في 2 يناير 1782 "ترخيص تسامح" ليهود فيينا والنمسا السفلي: فنالوا بمقتضاه حق إدخال أبنائهم مدارس الدولة وكلياتها، والتمتع بالحرية الاقتصادية إلا أن يتملكوا العقارات؛ ولكن حرم عليهم التنظيم الطائفي المستقل، وبناء المجامع في العاصمة، ومنعوا من سكنى مدينة معينة-ربما لأنه العداء لليهود فيها كان مستحكماً إلى درجة خطرة. ونصف يوزف رعاياه المسيحيين باحترام أشخاص اليهود وحقوقهم باعتبارهم إخوانا لهم، وكل إهانة أو عنف يعامل به يهودي "سيعاقب مقترفه عقاباً صارماً"، ويجب أن يمنع إدخالهم في المسيحية بالإكراه. وما لبث الإمبراطور أن أصدر تراخيص مماثلة لبوهيميا ومورافيا وسيلرينا النمساوية. وقد قدر لليهود مساهماتهم في خزانته، فخلع النبالة على عدة يهود، واستخدم عدد منهم ماليين للدولة (21).

ولكن إصلاحاته-كما ذكر المبعوث الفرنسي إلى فيينا-"أثارت صيحة استنكار عامة

والتسهيلات الكبيرة الممنوحة لليهود يراها الناس مفضية بلا ريب إلى خراب الدولة" (22). وشكا التجار المسيحيون من المنافسة الجديدة، وأدان القساوسة المراسيم لأنها تتسامح مع الهرطقة السافرة. واعترض بعض الحاخامات على اختلاف الأطفال اليهود إلى مدارس الدولة مخافة أن تفتن الشباب عن اليهودية، ولكن يوزف أصر على موقفه، وقبل أن يموت بسنة وسع "ترخيص التسامح" ليضم غاليسياً أيضاً، وكانت إحدى مدنها، وهي برودي، تضم خلقاً كثيراً من اليهود (18. 000) حتى لقد لقبها الإمبراطور أورشليم الحديثة. وعند موت يوزف (1790) كانت فيينا قد عودت نفسها على النظام الجديد، ومهدت الأرض لثقافة فيينا اليهودية المسيحية الرائعة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر.

ويمكن القول عموماً إن حظ اليهود في الأقطار الإسلامية كان خيراً من

ص: 369

حظهم في الأقطار المسيحية. وقد وصفت الليدي ماري ورتلي مونتجيو، ربما في شيء من المبالغة حالهم في تركيا عام 1717 فقالت:

"إن اليهود

يتمتعون بسلطان لا يصدق في هذا البلد. فلهم امتيازات كثيرة يفوقون فيها جميع الأهالي الأتراك أنفسهم

لأنهم يحاكمون طبقاً لقوانينهم. وقد استقطبوا كل تجارة الإمبراطورية في أيديهم، وذلك بفضل ما يربطهم من وحدة وثيقة من جهة ومن جهة أخرى لبلاده الترك وافتقارهم إلى الجد والاجتهاد. ولكل باشا مساعده اليهودي الذي يدير أعماله

وهم الأطباء، والوكلاء، والمترجمون، لأكابر القوم أجمعين

وكثير منهم ذوو ثراء عريض" (23).

والبون شايع بين حظ هؤلاء وحظ اليهود القلائل الموجودين في روسيا-لاسيما في "أقاليم التخوم" المواجهة لبولندة-عند وفاة بطرس الأكبر. وفي 1742 أمرت الإمبراطورة اليزابث بتروفنا بأن "يرحل فوراً من إمبراطوريتنا كلها

جميع اليهود

ولا يسمح لهم منذ الآن بدخول إمبراطوريتنا بأية حجة

ما لم

يعتنقوا الديانة المسيحية على المذهب الرومي". وما حلت سنة 1753 حتى كان قد طرد قرابة 35. 000 يهودي (24) وتشفع بعض رجال الأعمال الروس لدى الإمبراطورة لتخفف من صرامة المرسوم، محتجين بأن طرد اليهود قد أحدث كساداً في اقتصاد الأقاليم لأنه حول التجارة منها إلى بولندة وألمانيا، ولكن اليزابث لم تلن لها قناة.

فلما أن تربعت العرش كاترين الثانية أرادت أن تسمح بدخول اليهود من جديد، ولكنها أحست بأن هذا العرش يهتز من تحتها اهتزازاً لا تجرؤ معه على التصدي لمعارضة رجال الدين. غير أن التقسيم الأول لبولندة أوصل المشكلة إلى مرحلة جديدة. فما العمل في 27. 000 يهودي طال مقامهم في ذلك الجزء من بولندة الذي ظفرت به روسيا الآن؟ لذلك أعلنت كاترين (1772) "أن الجماعات اليهودية المقيمة في المدن والأقاليم التي أدمجت الآن في الإمبراطورية الروسية تترك لتتمتع بجميع الحريات التي تملكها الآن" (25). وسمح لهؤلاء اليهود البولنديين بقسط كبير من الحكم الذاتي، وأجيز لهم

ص: 370

شغل المناصب البلدية، ولكن حرم عليهم الهجرة من "نطاق الاستيطان"(الأقاليم البولندية السابقة) إلى داخل روسيا. وفي 1791 أبيح لليهود أن يستوطنوا أقاليم خرسون وتاوريدا وإكاترينوسلاف سبيلاً إلى التعمير السريع لهذه الأقاليم المفتوحة حديثاً وتيسير للدفاع عنها. وكان العداء الاقتصادي لليهود الذي يلقونه من معظم رجال الأعمال الروس، والعداء الديني الذي يلقونه من عامة الروس، يجعلان الحياة أثناء ذلك شاقة خطرة على اليهود في الإمبراطورية.

وفي 1766 كان يسكن بولندة 621. 000 يهودي (26). وقد صدق أوغسطس الثاني وأوغسطس الثالث على "امتيازات" الحماية التي منحها لهم الحكام السابقين، ولكن هذين الحاكمين السكسونيين، المشغولين بمملكتين ومذهبين دينيين (فضلاً عن خليلاتهما)، لم يتح لهما وقت يذكر للتصدي لذلك العداء العرقي الذي استشعرته الجماهير البولندية نحو اليهود. ففرضت. الحكومة عليهم ضرائب إضافية، وحاول الإقطاعيون الهبوط بهم إلى درك الإقنان، وكلفهم الحكام المحليون ثمناً باهظاً لحمايتهم من عنف الغوغاء. وندد القساوسة باليهود لأنهم "متشبثون بكفرهم" وطالب مجمع كنسي عقد في 1720 بأن تحظر الحكومة "بناء المجامع الجديدة لليهود وترميم القديمة منها". وكرر مجمع عقد في 1733 مبدأ العصر الوسيط القائل بأن المبرر الوحيد للتسامح مع اليهود هو أنهم قد يصلحون "أداة للتذكير بعذابات المسيح، ومثلاً يضرب-بعبوديتهم وبؤسهم-للعقاب العادل الذي ينزله الله بالكافرين"(27).

وفي 1716 نشر عبراني دخل في المسيحية يدعى سيرانوفيفتش كتاباً اسماه "فضح الشعائر اليهودية" اتهم فيه اليهود باستعمال دم المسيحيين لشتى الأغراض السحرية: لتلطيخ أبواب المسيحيين، ولمزجه بالفطير الذي يأكلونه في الفصح، ولغمس قطعة قماش فيه محتوية على تعزيمه يقصد بها حماية بيت أو نجاح تجارة

وتحدى اليهود سيرافينوفتش أن يثبت صحة دعاواه، وجمعوا مجلساً من الحاخامات والأساقفة ليستمعوا إليه، ولكنه لم يمثل أمام المجلس، بل أعاد نشر كتابه (28). وقد اتهم اليهود غير مرة بقتل

ص: 371

الأطفال للحصول على دم مسيحي، واستدعى يهود بولنديون لمحاكمتهم على تهم كهذه في 1710 و1724 و1763 و1747 و1748 و1753 و1756 و1759 و1760، وعذبوا في حالات كثيرة، حتى الموت أحياناً، وسلخت جلود بعضهم أحياء، ومات بعضهم بالخازوق موتاً بطيئاً

(29) وفزع اليهود المروعون إلى البابا بندكت الرابع عشر ليكف عنهم هذه الاتهامات، وعرضت أدلة الإثبات والنفي على الكردينال كامبانيللي، وبعد أن تلقى تقريراً من الفير البابوي في وارسو، أصدر مذكرة مؤداها أنه لم يثبت في حالة من هذه الحالات أنهم مذنبون. وأيدت محكمة ديوان التفتيش بروما مذكرة الكردينال. وكتب السفير البابوي للحكومة البولندية (1763) يقول "إن الحبر الأقدس، بعد فحص كل الأسس التي قام عليها اتهامهم بهذا الشذوذ-وهو أن اليهود يحتاجون إلى الدم البشري لتجهيز فطيرهم، خلص إلى أنه ما من دليل يثبت صحة ذلك الاتهام المغرض"(30). وكان البابا انوسنت الرابع قد أصدر حكماً مماثلاً في 1247. ولكن الاتهام بالشذوذ لم يتوقف.

وكان الخوف من المذابح عنصراً يتردد في حياة اليهود البولنديين. ففي 1734 و1750 و1768 تألفت جماعات من القوزاق والفلاحين الأرثوذكس الروس الذين نظموا على شكل عصابات مثيرة للشغب، وشنت الغارات على كثير من المدن والقرى في أقاليم كييف وفولهينيا وبودوليا، وينهبون الضياع ويقتلون اليهود. وفي 1768 حمل المغييرون "مرسوماً ذهبياً" نسب زوراً وبهتاناً إلى كاترين الثانية، ويدعوهم إلى "استئصال شأفة البولنديين واليهود، الذين يدنسون ديانتنا المقسدة"، وذبحوا في مدينة واحدة هي أومان عشرين ألف بولندي ويهودي. وجردت كاترين جيشاً روسياً يتعاون مع القوات البولندية على قمع المغيرين (31).

أما في ألمانيا فإن اليهود كانوا يعيشون في أمن ورخاء نسبيين وإن أعانوا من شتى المعوقات في الحياة الاقتصادية والسياسية. فقد فرضت عليهم ضرائب خاصة في معظم الإمارات (32). ولم يسمح القانون إلا لعدد محدود من اليهود بالعيش في برلين، ولكن القانون لم ينفذ بدقة، فزادت الجالية

ص: 372

البرلينية عدداً ومالاً، وقامت مستوطنات مماثلة في همبورج وفرانكفورت. وبلغ عدد من اختلف من التجار اليهود إلى سوق لينبزج في 1789 نيفا وألف تاجر (33). واستخدام الحكام الألمان، وحتى الأمراء-الأساقفة الكاثوليك منهم، اليهود لإدارة شئونهم المالية أو لتموين جيوشهمز وقد أدى يوزف أوبنهايمر (1692 - 1738) المعرفو باسم "اليهودي سوس" هذه المهام وغيرها لناخب بالاتين في مانهايم، ولكارل ألكسندر دوق فورتمبرج. وكان لذكائه واجتهاده الفضل في إثرائه وإثراء الدوق، وفي اكتسابه الكثير من الأعداء. وقد اتهم بالغش في دار ضرب النقود، ولكن مجلساً من المحققين برأ ساحته، فرقي عضواً في مجلس الدوق الخاص، حيث لم يلبث أن يصبح القوة المسيطرة. وقد ابتكر ضرائب جديدة، وأنشأ احتكارات ملكية، وقبل على ما يبدو الرشا-التي اقتسمها مع الدوق (34). فلما اقترح الدوق إيداع جميع أموال الكنيسة في مصرف مركزي للدولة، انضم رجال الدين البروتستنت مع الإشراف في معارضة الدوق ووزيره. وفي 3 مارس 1737 مات الدوق فجأة، فقبض قادة الجيش والزعماء المدنيون على أوبنهايمر وكل يهود شتوتجارت، وحوكم أوبنهايمر وداين، وفي 3 فبراير 1738 خنق وعلقت جثته في قفص في ميدان عام (35).

ذكرنا من قبل جولات جوته في حي اليهود بفرانكفورت. وقد اشتقت أسرة من أقدم الأسرات هناك اسمها الأخير، وهو روتشيلد، من الدرع الحمراء التي ميزت مسكنها. وفي 1755 أصبح ماير أمشيل صاحب الدرع الحمراء رب الأسرة بعد وفاة أبويه، وكان في الحادية عشرة من عمره. وكانت كثرة الدويلات الألمانية، وكل لها عملتها المستقلة، قد جعلت تغيير النقود ضرورة متكررة للمسافرين؛ وتعلم ماير في صباه معادلات النقود بين الدويلات، فكان يتقاضى رسماً صغيراً على كل تحويل. ثم درس علم العملات هواية جانبية وجمع العملات النادرة، وأرشد جماعاً آخر هو الأمير فلهلم الهاناوي وحصل منه على لقب "وكيل التاج" الذي ساعده في عمله بفرانكفورت. ثم تزوج

ص: 373

في 1770، وأنجب خمسة أبناء، أنشأوا فيما بعد فروعاً لشركة روتشيلد في فيينا ونابلي وباريس ولندن. واكتسب ماير سمعة الحكم السديد والنزاهة والجدارة بالثقة. فلما أن خلف فلهلم أمير هاناو إياه حاكماً على هسي كاسل، ازداد تعامل ماير أمشيل مع القصر، فما وافى عام 1790 حتى بلغ دخله السنوي ثلاثة آلاف جولدن-وهو ما يعادل دخل أبي جوته الثري ستمائة مرة (36). ونمت ثروة الأسرة نمواً سريعاً خلال حروب الثوة الفرنسية، وشغل ماير بتموين الجيوش، وعهد إليه بإخفاء أموال الأمراء وأحياناً باستثمارها.

وواصل اليهود في الأراضي الواطئة واسكندناوة تمتعهم بحرية نسبية. وازدهرت جماعة أمستردام اليهودية. ولم تعرف الأحياء المقصورة على اليهود في الدنمرك، فقد تنقل اليهود بحرية وسمح بالزيجات المختلطة. وفي ألتونا، المدينة التجارية الواقعة وراء نهر ألب من همبورج، والتي كانت آنئذ ملكاً للدنمرك، عاشت جالية من أغلى الجاليات اليهودية في أوربا. وفي السويد يسط جوستاف الثالث حمايته على اليهود في ممارستهم السلمية لشعائرهم.

ووجد كثيرين من اليهود الهاربين من الاضطهاد في بولندة وبوهيميا الملجأ في إنجلترة. وزاد عددهم من 6. 000 في 1734 إلى 26. 000 في 1800، وكان نصيب لندن منهم 20. 000. وكانوا يعيشون في فقر مدقع، ولكنهم رعوا فقراءهم وتكفلوا بنفقات مستشفياتهم (37). وكان تعقب اليهود ومطاردتهم رياضة محببة للناس، اضمحلت حين تعلم اليهود الملاكمة وغدا أحدهم بطل الملاكمة القومي (38). وقد أقصى شرط حلف يمين الولاء للمسيحية اليهود عن الوظائف المدنية والحربية. وأصبح سامسون جدعون أحد محافظي بنك إنجلترة بعد أن قبل الدخول في المسيحية. وفي 1745، حين كان الشاب المطالب بالعرش يزحف على لندن بجيش اسكتلندي أخذ على نفسه العهد بخلع جورج الثاني ورد آل ستيوارت إلى العرش، فأصاب الذعر جماهير الشعب بعد أن فقدوا الثقة في أمن الحكومة وسلامها وهددوا بالتزاحم على المصرف لاسترداد ودائعهم، في هذا الظرف قاد

ص: 374

جدعون التجار والأعيان اليهود لإنقاذ المصرف، فتدفقت أموالهم الخاصة فيه، وتعهدوا بقبول بنكنوت المصرف بالقيمة الاسمية في معاملاتهم التجارية ووفى المصرف بالتزاماته، وأعيدت الثقة، ورد المطالب بالعرش على أعقابه (39).

وأعربت وزارة الأحرار (الهوجز) عن تقديرها لصنيع اليهود بتقديمها مشروع قانون إلى البرلمان (1753) يبيح الجنسية والمواطنة لجميع اليهود المولودين في الخارج والذين أقاموا في إنجلترة أو ارلندة ثلاثة أعوام. (أما اليهود المولودين هناك فكانوا يكستبون الجنسية بلولد (40). ووافق اللوردات والأساقفة على المشروع، ووافق عليه أعضاء مجلس العموم بأغلبية ستة وتسعين صوتاً مقابل خمسة وخمسين. ولكن الشعب البريطاني الذي لم يكن له كبير علم أو فهم للدور الذي لعبه اليهود في إنقاذ المصرف هب معارضاً مشروع القانون معارضة ساحقة. وانهالت الاحتجاجات على البرلمان من كل مدينة في بريطانيا تقريباً، وأجمعت المنابر والحانات على إدانته، وشكا التجار من أن منافسة اليهود لهم في التجارة ستصبح أمر لا يحتمل. وكان الشتم والإهانة في الشوارع نصيب الأساقفة الذين صوتوا للمشروع؛ وبعثت الأساطير القديمة التي ادعت قتل اليهود للمسيحيين طبقاً لشعائرهم، وأذيعت مئات النشرات والقصائد الشعبية والصور الكاريكاتورية والأهاجي الساخرة، وزين النساء ثيابهن وصدورهن بالصلبان ولبس أوشحة تحمل هذا الشعار "لا يهود، المسيحية إلى الأبد"(41). وخاف زعماء الأحرار الهزيمة في الانتخاب القادم فحصلوا على إلغاء القانون (1754).

‌2 - العزاء الصوفي

ولاذ كثير من اليهود، لا سيما في بولندة، بأسباب العزاء فوق الطبيعي هرباً من معاناتهم الأرضية. وأتلف بعضهم بصرهم بإدمان قراءة التلمود، وفقد بعضهم عقولهم في القبلانية، وظل بعض "الصبطائيين" يؤمنون بألوهية صبطاي زيفي رغم ارتداد هذا المسيح الكاذب وموته، وانصرفوا عن التهودية التلموذية إلى الآمال والطقوس المهرطقة. وأقنع يانكيف ليبوفتش،

ص: 375

الذي أصبح معروفاً باسم يعقوب فرانك الذي أطلقه عليه الترك، مئات من اليهود البولنديين بأن روح زيفي تقمصته، وعلمهم عقيدة شبيهة بهرطقة مسيحية لطيفة تصورت الثالوث مؤلفاً من الله الآب، ومريم الأم، والمسيح ابنهما، وأخيراً قاد أتباعه إلى الكنيسة الكاثوليكية (1759).

وأنقذت الحركة "القاصدية" اليهود البولنديين بعض الإنقاذ من حالتهم الوضعية. وكان مؤسس "عقيدة التقوى" هذه إسرائيل بن ألعازر، المعروف باسم بعل شم-توب ("السيد الصالح لاسم الله")، واختصاراً باسم "بشت" الجامع لأول حروف اسمه الكامل. وكان يجوب البلاد معلماً للأطفال، وعاش في فقر تجمله البهجة، وكان يصلي بانتشاء ويشفي المرضى شفاء "معجزياً" بالأعشاب الجبلية. وقد طلب إلى أتباعه ألا يعيروا طقوس المجمع والمعرفة التلمودية كبير اهتمام، وأن يقتربوا إلى الله رأساً في شركة متواضعة ولكنها حميمة، وأن يبصروا الله ويحبوه في شتى صور الطبيعة ومظاهرها، في الصخور والأشجار، وفي حالات اليسر والألم؛ وأمرهم بأن يستمتعوا بالحياة في الحاضر بدلاً من البكاء على خطايا الماضي وآلامه. وكانت أقواله المأثورة البسيطة أحياناً تشبه أقوال المسيح. "شكا بشت أن ابنه ترك الله، وسأله قائلاً: يا معلم، ماذا أصنع؟ وأجابه بشت: أحبه أكثر مما فعلت في أي وقت"(42).

والحركة القاصدية في بولندة تقابل من بعض الوجوه حركات الأخوان الموافيين، والتقويين الألمان، والمثوديين الإنجليز؛ فقد اتفقت مع هذه الحركات على إخراج الدين من المعبد وإدخاله إلى القلب، ولكنها رفضت النسك والاكتئاب، وأمرت أتباعها بأن يرقصوا، ويستمتعوا بعناق أزواجهم، لا بل بالشراب بين الحين والحين إلى حد النشوة.

فلما مات بعل شم-توب (1760) تولى رعاية قطيعة، وأحياناً جز صوفه، (43) سلسلة من "الصديقين". وحارب التلموديين السنيون بزعامة عالم متعصب من فلنا يدعى إيليا بن سليمان "القاصدين" بالنصح والحرم، ولكن عددهم زاد بانهيار بولندة (1772 - 92)، ولم يختتم القرن حتى كانوا يعدون 100. 000 نسمة (44).

ص: 376

وما كان لحياة مطاردة على الأرض على هذا النحو، ونفوس مثبتة في السماء إلى هذا الحد، أن تسهم بقسط كبير في الأدب الدنيوي أو العلم أو الفلسفة. وكان اليهود في كل بلد تقريباً ممنوعين من الالتحاق بالجامعات بحكم القسم بالولاء للعقيدة المسيحية المشترط على جميع الطلاب. ثم أن ناموس موسى حرم عليهم ممارسة فن التصوير وبلد تذوقهم الفني. وإذ كانوا يكتبون بالعبرية التي لا تفهمها غير قلة قليلة، أو بالييدية التي لم تكن بعد قد أصبحت لغة أدبية، فقد افتقدوا الحافز لإنتاج أي أدب خلاف الشروح الدينية أو السفاسف الشعبية. وثمة إسهام بارز واحد أسهموا به الفنون العملية في هذا العصر: فقد اخترع يعقوب رودريج، بيرير، وهو أحد يهود بوردو، لغة إشارات للصم والبكم، فأثنى عليه ديدرو ودالامبير وروسو وبوفون. ثم شاعر يهودي واحد أنار هذه الظلمة.

وقد ولد الشاعر موسى حايم لونساتوا في إيطاليا (1707) لوالدين أتاح لهما بعض اليسر أن يحسنا تعليمه. وقد أخذ عن الشعراء اللاتين، وعن الشعراء الإيطاليين من أمثال جواريني، براعة في الأوزان الشعرية مكنته من أن يسبغ على شعره العبري من الإيقاع المتدفق والسحر الرقيق ما لم يعرف في تلك اللغة منذ أيام يهوذا هاليفي. وحين بلغ السابعة عشرة كتب مسرحية عن شمشون والفلسطينيين. ثم أقبل على دراسة "الزهر"، وهو كتاب القبلانية المقدسة، فاقتن خياله بأوهامه الصوفية، فأدار بعضها شعراً، وأدارت هي رأسه فخيل إليه أنه ملهم من السماء. فكتب "زهراً" ثانياً، وأذاع أنه المسيح الذي وعد به اليهود. فحرمه حاخامات البندقية (1734). ففر إلى فرانكفورت-على المين، حيث أجبروه الحاخامات على الوعد بالإقلاع عن أوهامه بأنه المسيح المنتظر. وانتقل إلى أمستردام حيث رحبت به الجالية اليهودية، وهناك كسب قوته كما كسبه سبينوزا بصقل العدسات، ثم استأنف دراساته القبلانية. وفي 1743 ألف مسرحية عبرية "لا-ي أشاريم تهيللا (مجداً للأبرار) كان حظها التقريظ ممن كانوا أكفاء للحكم عليها، برغم التجريدات التي استخدمها شخوصاً للمسرحية.

ص: 377

ومؤدى المسرحية أن الجهل المستشري بين العوام، يدعمه المكر والخداع، يولد الحماقة، التي تحبط الحكمة مراراً، وتحرم الكفاية من تاجها، حتى ينتصر العقل والصبر في النهاية على الخداع بالكشف عن الحقيقة، على أن "الحقيقة" كان يقصد بها القبلانية. وفي 1744 ذهب إلى فلسطين، أملاً في أن ينادي به المسيح المنتظر، ولكنه مات في عكا بالطاعون (1747) وهو في التاسعة والثلاثين. وكان آخر صوت فصيح لعصر اليهودية الوسيط، كما كان أول صوت كبير ليهودية تنبعث من العزلة الواقعية إلى الاحتكاك بالفكر الحديث.

‌3 - موسى مندلسون

كان جد فيلكس مندلسون من أنبل شخصيات القرن الثامن عشر، وكان صديقاً وخصماً لكانط، وصديقاً وملهماً لليسنج. وكان أبوه مناحم مندل كاتباً ومعلماً بمدرسة يهودية في دسو. وهناك ولد "موسى الثالث" في 6 سبتمبر 1729، وشب مشغوفاً بالدرس حتى لقد أصابه شغفه هذا بتقوس مستديم في العمود الفقري. فلما بلغ الرابعة عشرة أوفد إلى برلين لمزيد من دراستة التلمود، وهناك اتبع بحذافيره تقريباً أمر التلمود الذي نصه "كل الخبز بالملح، واشرب الماء بمقدار، ونم على الأرض اليابسة، وعش عيشة الحرمان، وليكن الناموس شغلك الشاغل"(45). وظل سبع سنين قانعاً بسكناه في إحدى العليات يعم رغيف خبزه الأسبوع بخطوط تحدد جرايته اليومية (46)، ويكسب الرزق الضئيل بنسخ الوثائق بخطه الأنيق. وفي برلين أكب على آثار موسى بن ميمون، ووجد الشجاعة في حياة "موسى الثاني" ذاك وتعلم منه ومن الحياة أن ينزل بكبريائه إلى التواضع وبحدة طبعه من اللطف والمجاملة. وعلمه رفقاؤه البرلينيون اللاتينية والرياضيات والمنطق، وقرأ لوك في ترجمة لاتينية، وانتقل إلى ليبنتس وفولف، ولم يلبث أن عشق الفلسفة. ثم تعلم كتابه الألمانية في نصاعه رقيقة ندر أن تجاهد لها نظيراً في أدب وطنه جيله.

ص: 378

وانتهت أيام فقره حين أصبح في الحادية والعشرين معلمً خاصاً في أسرة صاحب مصنع حرير في برلين يدعى إسحاق برنهارت، وبعد أربع سنوات عين محاسباً بالشركة ثم مندوباً متجولاً لها، وأخيراً شريكاً فيها. وقد احتفظ بصلة العمل هذه بنشاط حتى نهاية عمره، لأنه اعتزم ألا يعتمد في رزقه على رواج كتبه وحصيلتها من المال. والراجح أنه التقى بليسنج في 1754، على لعبة شطرنج فيما يبدو، وهكذا بدأت صداقة اتصلت حتى موت ليسنج رغم ما بينهما من خلافات فلسفية. كتب لينج إلى صديق آخر في 16 أكتوبر 1754 يقول: "إن مندلسون رجل في الخامسة والعشرين، اكتسب دون أي تعليم جامعي معلومات كبيرة في اللغات والرياضيات والفلسفة والشعر. وأني لأتطلع فيه إلى مفخرة لأمتنا إذا أتاح له إخوانه في الدين أن يصل إلى درجة النضج

وأن صراحته وروحه الفلسفية ليجعلانني أعده سلفاً، اسبينوزا ثانياً" (47). أما مندلسون فكان يقول أن كلمة ود أو نظرة محبة من ليسنج تطرد عنه كل حزن أو غم (48).

وفي 1755 رتب ليسنج نشر كتاب مندلسون "أحاديث فلسفية"، الذي شرح ودافع عن كلاً من سبينوزا وليبنتس. وفي العام ذاته تعاون الصديقان على كتابة مقال "بوب ميتافيزيقيا! " زعما فيها أن هذا الشاعر الإنجليزي لم يكن له فلسفة من بنات أفكاره، وكل ما فعله أنه نظم فلسفة ليبنتس شعراً. وفي 1755 أيضاً نشر مندلسون "رسائل في الوجدان"، وقد سبق هذا كانط في رأيه أن الإحساس بالجمال مستقل كل الاستقلال عن الشهوة. وقد أكسبت هذه الكتب المنشورة اليهودي الشاب الترحيب في برلين بين "الإخوان الفلاسفة الذين لم يكونوا على تمام الصفاء والرزانة". وعن طريق ليسنج التقى بفردريش نيقولاي، ودرس هو ونيقولاي اليونانية معاً، وما لبث أن بدأ يقرأ أفلاطون في لغته الأصلية. ثم ساعد نيقولاي في إنشاء مجلة سميت "مكتبة الآداب البحتة والفنون الجميلة"، وأسهم في هذه المجلة وغيرها من المجلات بمقالات كان لها تأثير قوي في الأفكار السارية في نقد الأدب والفن.

وأحس مندلسون الآن بقدر من الأمن والطمأنينة يتيح له أن يقيم بيتاً

ص: 379

خاصاً به. ففي 1763، وهو في الثالثة والثلاثين، تزوجت فرومريت جوجنهايم البالغة خمسة وعشرين ربيعاً. وكان كلاهما قد بلغ سن النضج الفكري، فأثمر اتحادهما الكثير من السعادة. وفي شهر العسل بدأ العمل في مسابقة قدمت فيها أكاديمية برلين جائزة لأفضل مقال يتناول هذا الموضوع "هل العلوم الميتافيزيقية تقبل الأدلة كالعلوم الرياضية". وكان من المتسابقين إيمانويل كانط. وفاز مقال مندلسون (1763)، فأتاه بخمسين دوقاتية وبشهرة دولية.

وكان بين المتسابقين توماس آبت، وهو أستاذ في فرانكفورت-على الأودر. وفي رسائل كثيرة تبادلها مع مندلسون أعرب عن شكوكه في خلود الروح، وأسف على أن فقدان ذلك المعتقد قد يقوض الناموس الأخلاقي ويحرم التعساء من آخر عزاء لهم. وبعض الفضل راجع إلى هذه الرسائل في وضع مندلسون لأشهر كتبه قاطبة "فيدون". وقد صاغه على مثال نموذجه الأفلاطوني في شكل حوار وفي أسلوب ميسر. فروح الإنسان (كما يزعم) متمايزة مع المادة بشكل واضح، إذن لنا أن نعتقد أنها لا تشارك الجسد مصيره؛ وإذا كنا نؤمن بالله فإننا لا نستطيع الافتراض بأنه يخدعنا إذ يغرس في عقولنا أملاً دون أن يكون له إحساس من الحقيقة. يضاف إلى هذا (وهو ما سيذهب إليه كانط) أن للروح حافزاً طبيعياً نحو كمال الذات؛ وهذا لا يمكن تحقيقه في حياتنا؛ ولا بد أن الله يسمح للروح بأن تحيا بعد موت الجسد. وقد شعر مندلسون بأنه "بدون الله، والعناية الإلهية، والخلود" تفقد كل طيبات الحياة قيمتها في نظري وتصبح حياتنا على الأرض

أشبه بالتيهان في الريح والمطر دون أمل يعزي التائه بالعثور على غطاء ووقاء في الليل" (49). وبراهين الكتاب هشة، ولكن أسلوبه أبهج قراء كثيرين، ولاح أن الكاتب ظفر باستعادة سحر محاورات أفلاطون، والواقع أن لقب "أفلاطون الألماني" اسماً ثانياً لمندلسون. وطبعت من الكتيب خمس عشرة طبعة وترجم إلى جميع اللغات الأوربية تقريباً كما ترجم إلى العبرية، وكان في جيله أوسع الكتب انتشاراً في ألمانيا باستثناء القصص. وشارك هردر وجوته في تقريظه.

ص: 380

وزار لافاتر مؤلفه، وفحص رأسه ووجهه، وأعلن أن كل نتوء وخط فيه يشي بروح سقراط (50).

وأشاد المسيحيون على اختلاف مذاهبهم باليهودي البليغ، والتمس منه راهبان بندكتيان النصيحة الروحية. ولكن في 1769 آثار لافاتر، الذي كان لاهوتياً غيوراً كما كان عالمة في الفراسة، ضجة بتوجيهه نداءاً علنياً لمندلسون أن يدخل في المسيحية. ورد مندلسون في " (1770) فسلم بعيوب الديانة اليهودية والحياة اليهودية. ولكنه ذكر أن عيوباً كهذه تنشأ في كل ديانة في أثناء تاريخها، وطلب إلى لافاتر أن يفكر في الشدائد التي عاناها اليهود في الأقطار المسيحية، ثم أضاف: "إن الذي يلم بما نحن عليه الآن من حال، إن كان له قلب رحيم، سيفهم أكثر مما في وسعي التعبير عنه". واختتم بهذه العبارة "إنني لوطيد الثقة بالعناصر الأساسية في إيماني

بحيث أشهد الله على أنني سأثبت على عقيدتي الأصلية ما لم تتخذ روحي طبيعة أخرى" (51) وتأثر لافاتر، واعتذر بتواضع عن توجيهه هذا النداء (52). ولكن نفراً كبيراً من المعلقين شهروا بمندلسون متهمينه بالكفر، وأدته بعض اليهود السنين لتسليمه بأن هناك نقائض تسلك إلى الشعار اليهودية (53). وظل الجدل حيناً يثير من النقاش أكثر مما تثيره السياسة القومية أو تدهور صحة فردريك.

وعانت صحة مندلسون نفسه من هذه الضجة، فاضطر طوال شهور من عام 1772 أن يكف عن أي نشاط ذهني. فلما استعاد عافيته كرس من وقته قدراً أكبر للتخفيف من آلام إخوانه في الدين. وحين تهيأت بعض أقاليم سويسرة لفرض مزيد من القيود على اليهود طلب إلى لافاتر أن يتدخل في الأمر، ففعل، وكان موقفاً في شفاعته. وحين وضعت سلطات درسدن خطة لطرد مئات من اليهود استعان مندلسون بصداقة تربطه بموظف محلي للحصول على الأمان لهم (54). وبدأ في 1778 نشر ترجمته للأسفار الموسوية الخمسة؛ وأصدرها في 1783، فأثارت عاصفة جديدة. ولكي يكتب بعض الشروح على النص كلف هرتس هومبرج بالمهمة، وكان مرتبطاً بيهود من برلين مبتوتي الصلة تماماً بالمجمع اليهودي. وحرم الترجمة أحبار عديدون، ولكنها شقت طريقها إلى الجاليات اليهودية؛ وتعلم شباب

ص: 381

اليهود الألمانية منها، وتحرك جيل اليهود التالي للمشاركة النشيطة في الحياة الفكرية لألمانيا. ونشر ليسنج خلال ذلك (1779) مسرحيته "ناثان الحكيم"، التي فسرها القراء على أنها تمجيد لصديقه اليهودي.

أما وقد بلغ مندلسون قمة الشهرة والنفوذ، فإنه أقنع ماركوس هرتس بأن يترجم إلى الألمانية كتاب "الدفاع عن اليهود" الذي وجهه منسي بن إسرائيل إلى الشعب الإنجليزي في 1656. وأضاف إلى الترجمة مقدمة في "خلاص اليهود" (1782)، ناشد فيها الأحبار أن يتخلوا عن حقهم في الحرم. واتبع هذا في 1783 بكتاب بليغ سماه" أورشليم، أو في السلطة الدينية والديانة اليهودية"، أعاد فيه تأكيد إيمانه اليهودي، وأهاب باليهود أن يخرجوا من عزلتهم وانطوائهم ويدلوا بدلوهم في الثقافة الغربية، وحث على الفصل بين الكنيسة والدولة، وأدان أي إكراه في الدين، وذهب إلى أن الحكم على الدول بقدر اعتمادها على الإقناع لا القوة. وكتب كانط، الذي كان هو الآن أيضاً في أوج شهرته، إلى المؤلف رسالة تستحق أن يفرد لها مكان في سجلات الصداقة. قال:

"إني أعد هذا الكتاب بشير إصلاح عظيم لن يؤثر في شعبك فحسب بل في الشعوب الأخرى. فلقد وفقت في الجمع بين دينك وبين قدر من حرية الضمير لم يتصور أحد أنه ميسور

ثم أنك في الوقت نفسه أبنت في كثير من الوضوح والدقة ضرورة حرية الضمير التي لا حدود لها في كل دين، بحيث أن كنيستنا (اللوثرية) ستضطر آخر الأمر إلى النظر في أن تزيل من وسطها كل شيء من شأنه إقلاق الضمير أو إكراهه" (55).

وهاجم الكتاب الزعماء السنيون مسيحيين كانوا أو يهوداً، ولكنه أسهم إلى حد هائل في تحرير اليهود وتغريبهم.

في عام 1783 لم يكن مندلسون قد تجاوز الرابع والخمسين، ولكنه كان دائماً رقيق البنية معتل الصحة، وقد أحس أنه لم يبق له من الأجل كثير. وفي أخريات سنيه ألقى على أبنائه وعلى بعض أصحابه محاضرات حدد فيها عقيدته الدينية، وقد نشرت في عام 1785 باسم "ساعات الصباح أو محاضرات في وجود الله". وفي آخر سنة من عمره صدمه أن يقرأ في كتاب

ص: 382

ألفه ياكوبي أنه صديقه العزيز ليسنج، والذي كان قد فارق الحياة، اتبع طويلاً عقيدة سبينوزا في وحدة الوجود، فلم يستطع أن يصدق الخبر، وكتب دفاعاً حاراً عن ليسنج عنوانه "إلى أصدقاء ليسنج". وفيما هو حامل المخطوط إلى الناشر أصيب بنزلة برد؛ وأثناء مرضه ذلك أصيب بسكتة دماغية أودت بحياته في 4 يناير 1786. واشترك المسيحيون مع اليهود في إقامة تمثال له في مسقط رأسه دسو.

لقد كان واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً في جيله. فقد خرج شباب اليهود من عزلتهم بعد أن ألهمتهم كتاباته وعبوره الناجح للفواصل الدينية، ولم يلبثوا أن تركوا بصماتهم على الأدب والعلم والفلسفة. فذهب ماركوس هرتس إلى جامعة كونجزبرج في طلب الطب؛ والتحق بعدة فصول دراسية لكانط، وأصبح المساعد والصديق لفيلسوف المعرفة العظيم. وهو الذي توقف في منتصف قراءته "نقد العقل الخالص" مخطوطاً مخافة أن يصاب بالجنون إذا مضي في القراءة إلى النهاية. فلما نقل إلى برلين، اشتغل بالطب وكثر زبائنه، وألقى محاضرات في الفيزياء والفلسفة على جمهور من المسيحيين واليهود. وافتتحت زوجته الجميلة المثقفة هنرييتا صالوناً كان في نهاية القرن ملتقى هاماً لمفكري برلين؛ وإليه اختلف فلهلم فون همبولت، وشلاير ماخر، وفريدريش شليجل، وميرابو الابن

ولعل اختلاط الأفكار الذي تمحضت عنه هذه اللقاءات ما كان ليسر مندلسون. فقد دخل عدد من أبنائه في المسيحية، واشترك ابنتان من بناته مع هنرييتا هرتس وغيرها في "رابطة للفضيلة" تحترم "الانجذابات العاطفية" أكثر من الولاء الزوجي. وكان لهنرييتا علاقة غرام بشلاير آخر؛ وهجرت دوروتيا مندلسون زوجها لتصبح خليلة فزوجة وفية لفريدريش شليجل، وأخيراً تابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية؛ كذلك اعتنقت هنرييتا مندلسون العقيدة الرومانية، وجعل أبراهام مندلسون أبناءه، ومنهم فليكس، يعمدون في الكنيسة اللوثرية؛ وزعم الحاخامات السنيون أنهم كانوا على حق في مخاوفهم. ولكن هذه كانت نتائج عارضة للحرية الجديدة؛ أما النواحي الأبقى على الزمن في تأثير مندلسون فقد ظهرت في تحرير اليهود فكرياً واجتماعياً وسياسياً.

ص: 383

‌4 - نحو الحرية

وفي هذه الحقبة اتخذ التحرير من الناحية الفكرية، شكل "الهسلقة"-وهي كلمة كانت تعني الحكمة، ولكنها أصبحت في هذا السياق ترمز إلى التنوير اليهودي، أو تمرد عدد متزايد من اليهود على سيطرة الأحبار والتلمود، وتصميمهم على أن يندمجوا اندماجاً نشيطاً في تيار الفكر الحديث. وتعلم هؤلاء المتمردون الألمانية، وتعلم بعضهم الفرنسية-لا سيما في أسر التجار أو الماليين؛ وقرأوا مؤلفات أحرار الفكر الألمان أمثال ليسنج، وكانط، وفيلاند، وهردر، وشيلر، وجوته؛ وكثيرون نقبوا في أعمال فولتير، وروسو، وديدرو، وهلفتيوس، ودولباخ. ووقع انقسام بين اليهود المتحررين المقبلين على الحداثة، واليهود المحافظين الذين شعروا بأن الولاء للتلمود والمجمع هو الطريق الأوحد للحفاظ على الوحدة الدينية والعرقية والأخلاقية للشعب اليهودي.

وانتشرت حركة الهسلقة من ألمانيا جنوباً إلى غاليسيا والنمسا، وشرقاً إلى بوهيميا وبولندة وروسيا. وزاد عن سرعتها في النمسا ترخيص التسامح الذي أصدره يوزف الثاني، والذي دعا دخول يهود المدارس غير اليهودية. فلما عارض الأحبار المحافظون، ناشدهم شاعر يهودي هامبورجي يدعى نفتالي فيسيلي، في بيان يهودي بليغ، أن يباركوا اشتراك اليهود في التعليم العلماني؛ وحث الجيل الصاعد على أن يحلوا العبرية والألمانية محل اليبدية، وأن يدرسوا العلوم والفلسفة كما يدرسون التوراة والتلمود. وقد رفض أحبار النمسا آراءه؛ ولكن قبلها زعماء اليهود في تريسته والبندقية وفرارا وبراغ. ومنذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا أسهم اليهود في العلم والفلسفة والأدب والموسيقى والقانون بقدر يفوق كثيراً نسبتهم إلى عدد السكان.

وأعانت التطورات الفكرية والاقتصادية على تحير اليهود. فنشر الدارسون الكاثوليك من أمثال رتشرد سيمون المعارف الربانية بين طلاب الكتاب المقدس؛ وألف لاهوتي بروتستنتي يدعى جاك باناج كتاباً مشرباً بروح الود يسمى "تاريخ ديانة اليهود"(1707). وجمع نمو التجارة

ص: 384

والمالية بين المسيحيين واليهود في اتصالات أججت أحياناً نار الخصومة العرقية، ولكنها كثيراً ما خففت منها. ولعب الماليون اليهود في عدة حكومات أدواراً تجلت فيها روح العون والوطنية.

وارتفعت الآن أصوات مسيحية تقترح إنهاء الاضطهاد الديني، ففي 1781 نشر كرستيان فلهلم دوم، وكان صديقاً لمندلسون، بناء على اقتراحه نبذة خطرة الأثر سماها "في تحسين الأحوال المدنية لليهود في ألمانيا". وكانت المناسبة نداء وجهه يهود الالزاس إلى مندلسون يطلبون إليه كتابة احتجاج على القيود المفروضة عليهم. واضطلع دوم بالمهمة، ووسعها إلى نداء عام لتحرير اليهود .. ووصف في تفصيل مؤثر، المعوقات التي يعانيها اليهود في أوربا، وأشار إلى فداحة الخسارة التي خسرتها الحضارة الغربية لأنها لم تفد فائدة تذكر من مواهب اليهود العقلية-"إن مبادئ التفرقة هذه، المنافية للإنسانية والسياسة على حد سواء، تحمل طابع العصور المظلمة، وهي غير جديرة بتنوير عصرنا هذا"(56) واقترح دوم السماح لليهود بحرية العبادة الكاملة وبالالتحاق بمعاهد التعليم، وبممارسة جميع المهن والحرف، وبإعطائهم جميع الحقوق المدنية، ويستثني مؤقتاً اختيارهم للمناصب وهو ما لم يكونوا بعد مهيئين له.

وأثارت الرسالة التعليق في أقطار كثيرة، فاتهمه بعض خصومه بأنه باع قلمه لليهود، ولكن العديد من رجال الدين البروتستنت سارعوا إلى الدفاع عنه. وأيده المؤرخ السويسري يوهان فون مولر، وطلب ترجمة أعمال موسى بن ميمون إلى الألمانية أو الفرنسية. واكتسبت حركة التحرير دفعاً من براءة التسامح الصادرة في 1782 بالنمسا ومن تحرير اليهود السياسي في الولايات المتحدة (1783). واستجابت الحكومة الفرنسية استجابة هزيلة برفع الضرائب الشخصية (1784) التي أثقلت كواهل اليهود. واشترك المركيز ميرابو مع ماليرب في تحقيق هذا التخفيف، وساعد الحركة ابنه الكونت ميرابو بمقالة "عن مندلسون والإصلاح السياسي لليهود"

ص: 385

(1787)

ودفع الأب هنري جريجوار الحركة بكتابته مقالاً نال جائزة في مسابقة عن "الأحياء المادي والخلقي والسياسي لليهود"(1789).

على أن التحرير السياسي النهائي لم يأت إلا مع الثورة. فقد احتواه ضمناً إعلان حقوق الإنسان الذي أذاعته الجمعية الوطنية (27 أغسطس 1789)، وفي 27 سبتمبر 1791 وافقت الجمعية التأسيسية على إعطاء كامل الحقوق المدنية ليهود فرنسا. وجاءت جيوش الثورة أو جيوش نابليون بالحرية ليهود هولندة في 1796، وليهود البندقية في 1797، ومابنز في 1798، وروما في 1810، وفرانكفورت في 1811. وهكذا اختتمت حقبة العصور الوسطى بالنسبة لليهود.

ص: 386

الفصل السادس والعشرون

‌من جنيف إلى استوكهولم

‌1 - السويسريون

1754 -

1798

إن الذي استمتعوا منا بالهدوء وسط جنة الطبيعة في سويسرة، وبالإلهام من شجاعة شعبها وأمانته، يشق عليهم أن يدركوا أن من تحت الخلق الهادئ، والفلاحة الصابرة، والصناعة المستقرة التي أعجبت بها أوربا وتعجب بها الآن، كانت تمكن الصراعات الطبقية-صراعات بين الجنس والجنس، وبين اللغة واللغة، وبين العقيدة والعقيدة، وبين الإقليم والإقليم، وبين الطبقة والطبقة. وكان السويسريون في نطاقهم المتواضع قد اقتربوا جداً من تحقيق ذلك المثل الأعلى الذي صوره الأب سان-بيير وحلم به بروسو وكانط: وهو الاتحاد الكونفدرالي يعقد بين دويلات مستقلة في شئونها الداخلية، ملتزمة بالعمل الموحد في علاقاتها بالعالم المحيط بها. في 1760 تكون الاتحاد الهلفيتي لدعم الولاء للأمة أكثر من الإقليم، ولتوحيد الحركات المبعثرة للإصلاح السياسي.

وقد قدر فولتير-الذي كان يعيش عن كثب-سكان سويسرا في 1767 بـ 720. 000 نسمة (1). وكان أكثرهم يفلح الأرض أو يزرع الكروم، ويسطب المنحدرات إلى ما يقرب من قمم الجبال. وكانت صناعة النسيج في نمو مطرد لا سيما في إقليم سانت جالن وكانتون زيوريخ؛ وكانت مراكز صناعية أخرى بسبيلها إلى التشكل في جلاروس، وبرن، وبازل؛ أما جنيف ونويشاتل فكانتا المركزين العظيمين لصناعة الساعات. وأنشأ الوكلاء المنتشرون في أرجاء أوربا من لندن إلى الآستانة (التي كان بها ثمانية وثمانون

ص: 387

منهم) لجنيف تجارة صادر حققت الثراء السريع للمدينة الواقعة على الرون. وكثرة المصارف لأن الماليين السويسريين كانوا قد اكتسبوا سمعة دولية بالأمانة.

وكانت أغلب الكفاءات، كما هي الحال في كل بلد، مركزة في أقلية الرجال، فأدى هذا إلى تركيز الثروة. وكانت الكانتونات بصفة عامة تحكمها أولجركيات تسلك مسلك أي طبقة حاكمة. فلإشراف رعاة أسخياء للآداب والعلوم والفنون ولكنهم يقاومون كل خطوة للتوسع في حق الانتخاب. وقد اتهم جبون، الذي يسكن لوزان، أولجركية برن بأنها تثبط الصناعة في الأقاليم التابعة لها، وتبقى على هبوط مستوى المعيشة فيها عملاً بالمبدأ اللائق "إن الرعايا الفقراء المطيعين خير من الأغنياء المتمردين"(2). وقد نظمت جماعات لإلغاء الامتيازات الاقتصادية أو السياسية غير مرة، ولكنها صدرت بقوة الدولة والكنيسة المتحالفتين (3). واضطربت أحوال جنيف آناً بعد آن نتيجة حرب الطبقات طوال القرن الثامن عشر. وساد فها سلام نسبي من 1737 إلى 1762، ولكن إحراق المجلس البلدي لكتاب إميل (1762) فجر الدعوة لتوسيع حق التصويت. وعضد الحركة روسو وفولتير، بعد جدل كثير نزلت طبقة الإشراف للطبقات الوسطى عن قسط صغير في الحكم.

وقد خلف هذا ثلاثة أرباع السكان مجردين تماماً من حق التصويت-الوطنيون (أو الأهالي) وهم الأشخاص المولودون في جنيف ولكن الأبوين من غير الوطنيين. وهؤلاء حرموا أيضاً من معظم المهن، ومن المناصب الحربية، ومن الارتقاء معلمين في النقابات الحرفية؛ وقد منعوا من توجيه الملتمسات إلى المجلس الأكبر والمجلس الأصغر اللذين يحكمان الجمهورية. غير أنهم أثقلوا بالضرائب. وفي 4 أبريل 1766 ذهب وفد من "الوطنيون" إلى فرنيه وطلبوا إلى فولتير أن يساعدهم في نيل حق التصويت. فقال لهم: "يا أصدقائي، إنكم تؤلفون أكثر الطبقات عدداً في مجتمع مستقل كادح، وأنتم ترسفون في العبودية ولا تطلبون إلا أن تتمتعوا بميزاتكم الطبيعية، أي أن تمنحوا هذا الطلب المتواضع لا أكثر. وسأعنيكم بكل ما أملك من نفوذ

ص: 388

فإذا أكرهتم على الرحيل عن وطن يثري على حساب كدكم، فسأستطيع تقديم العون لكم وحمايتكم في مكان آخر" (4). ولكن الطبقتين الأرستقراطية والبورجوازية اتحدتا في مقاومة نداء "الوطنيين"، وكل ما استطاعه فولتير هو أن يرحب في مستعمرته الصناعية بكل من وفد عليه من الصناع الساخطين (1768). وفي 1782 هب الوطنيين في ثورة أطاحت بطبقة الإشراف وأقامت حكومة نيابية. ولكن النبلاء استنجدوا بفرنسا وبرن سردينيا؛ فتدخلت هذه الدول، وأخمد التمرد، وردت الأولجركية إلى الحكم. وكان على الوطنيين أن ينتظروا مجيء الثورة الفرنسية لتأتيهم بالحرية.

وأنجبت الكانتونات في ثلث القرن الذي نحن بصدده بعض الشخصيات ذات الشهرة الدولية. فكان يوهان هاينريش بستالوتسي أحد الأفراد النادرين الذين يتخذون العهد الجديد مرشداً للسلوك. وقد اتفق مع روسو على أن المدنية أفسدت الإنسان، ولكنه أحس أن الإصلاح يمكن أن يأتي لا عن طريق القوانين والنظم الجديدة، ولكن بإعادة تكوين السلوك الإنساني بالتربية. ومن ثم كان طوال حياته يرحب بالأطفال لا سيما الفقراء منهم، وخصوصاً المشردين؛ يؤويهم ويعلمهم، ويطبق في تعليمهم المبادئ التحررية التي احتواها كتاب روسو "إميل"، مع أفكار من عنده. وقد بسط آراءه في كتاب كان أكثر الكتب انتشاراً بين قراء ذلك الجيل. فالبطلة في كتابه "ليونهارد وجرترود"(1781 - 85) تصلح قرية بأسرها بمحاولة معاملة الناس كما لو كان المسيح يعاملهم، وبتعليم أطفالها في مراعاة صابرة لغرائزهم واستعداداتهم الفطرية. ومن رأي بستالوتسي أن يعطي الأطفال من الحرية القدر الذي تسمح به حقوق الآخرين. فينبغي أن يبدأ التعليم المبكر بالقدوة، وأن يعلم الطفل بالأشياء والحواس، والخبرة، لا بالكلمات أو الأفكار أو الصم. وقد مارس بستالوتسي طرائقه في مدارس سويسرية شتى، ولا سيما في ايفردون. وهناك زاره تاليران، ومدام دستال، وغيرهما؛ ومنها انتشرت نظرياته في طول وأوربا وعرضها. على أن جوته شكا من أن

ص: 389

مدارس بستالوتسي تكون أشخاصاً فرديي النزعة، وقحاء، مغرورين، متمردين (5).

وهناك انجليكا كاوفمان، المولودة في كانتون جريزون، والتي نافست مدام فيجيه لبرون بوصفها أشهر فنانة في جيلهما. فكانت تجيد الرسم، فضلاً عن إتقانها العزف، حتى وهي في الثانية عشرة، إجادة حملة الأساقفة والنبلاء على أن يجلسوا إليها لتصورهم. وفي الثالثة عشرة (1754) اصطحبها أبوها إلى إيطاليا حيث واصلت دراساتها، واحتفى بها القوم أينما ذهبت تقديراً لمهاراتها وإعجاباً بسحر شخصها. وحين دعت إلى إنجلترة عام 1766 أثارت ضجة بتصويرها جاريك. وأغرم السير جوشو رينولدز جداً بـ "الآنسة اينجل"، وصورها، فصورته بدورها. وقد شاركت في إنشاء الأكاديمية الملكية للفنون، التي كلفتها هي وغيرها في 1773 بتزيين كتدرائية القديس بولس. وفي 1781 قفلت إلى روما، حيث (1788) سلكت جوته في عداد أصدقائها الأوفياء. وماتت هناك في 1807، وكان مأتمها الذي نظمه كانوفا حدثاً من أحداث العصر، وشيعها مجتمع الفنانين بأكمله إلى مثواها الأخير.

أما أبرز شخصيات الجيل السويسرية بعد روسو فهو يوهان كاسبار لافاتر. ولد في زيورخ في 1741، وأصبح راعياً بروتستنتياً، واحتفظ طوال حياته بأحر الولاء للمسيحية التقليدية. وقد رأينا محاولاته لهداية جوته ومندلسون. ولكنه لم يكن دجماطيقياً، فقد احتفظ بصداقاته عبر الحدود الدينية والقومية، واحترمه كل من عرفه، وأحبه الكثيرون (6). وقد ألف كتباً فيها ورع صوفي، وشرح سفر الرؤيا شرحاً مغرباً في الخيال، وآمن بالقوى المعجزية للصلاة ولكاليوسترو، وأعطى زوجته علاجات "تنويمية" عملاً بإرشادات مزمير. وكان أخص دعاواه أن خلق الإنسان يمكن الحكم عليه من ملامح وجهه ومحيط دماغه. فأثار اهتمام جوته وهردر بآرائه، وقد أسهما بمقالات لكتابه "شذرات في الفراسة"(1775 - 78) وقد درس نظرات الأفراد البارزين، وأدمغتهم، وأشكالهم، وربط بين ملامح الجمجمة والوجه وصفات نوعية للعقل والخلق. وقد قبلت

ص: 390

تحليلاته واستنتاجاته على نطاق واسع، ولكنها الآن مرفوضة بوجه عام. على أن المبدأ العام الذي نادى به، وهو أن الصفات السيكولوجية تشارك (مع الهواء والبيئة والغذاء والمهنة الخ .. ) في تشكيل الجسم والوجه، مازال يحوي قدراً كبيراً من الحقيقة، فكل وجه إنما هو ترجمة ذاتية.

ةكان لافاتر جزءاً من حركة إزهار شملت روسو، والشاعر والعالم ألبرشت فون هالر، والشاعر والمصور سلومون جسنر، والمؤرخ يوهان فون مولر، وهوراس دسوسير، الذي بدأ رياضة تسلق الجبال بارتقائه جبل مون بلان في 1787 بعد محاولات اتصلت سبعة وعشرين عاماً. وأحست الكنتونات خلال ذلك برياح الثورة تهب عليها عبر الحدود من فرنسا. وفي 1797 انضم فردريك سيزار ولاهارب، الذي كان معلماً خاصاً لحفيدي كاترين الكبرى، إلى بيتر أوخس عضو نقابة التجار في بازل، في دعوة حكومة الثورة الفرنسية لتساعدهما على إنشاء جمهورية ديمقراطية في سويسرة. وقد مهدت الطريق لهذه الخطوة ثورة محلية في برن وفو (يناير 1798)؛ فعبر جيش فرنسي الحدود في 28 يناير، ورحب به أكثر السكان السويسريين محرراً لهم من الأولجركية، وفي 19 مارس أعلنت "جمهورية هلفيسية واحدة لا انقسام لها". فأطاحت بكل امتيازات الكانتونات والطبقات والأشخاص، وجعلت سويسرة كلها سواء أمام القانون. وكان زيورخ أطول الأقاليم مقاومة، وفي الهياج الشديد الذي تلا ذلك أصيب بطلق ناري الشيخ الأمين لافاتر (1799)، فمات في 1801 متأثراً بجرحه تأثراً بطيئاً.

‌2 - الهولنديون

1715 -

1795

أعجب الناس جميعاً بالهولنديين. وقد وصف المسرحي الدنمركي هولبرج، الذي زار الأقاليم المتحدة (هولندة) و "بلجيكا" في 1704، هذه البلاد وصفاً تحمس فيه على الأخص لقنواتها التي كانت زوارقها كما قال "تنقلني من مكان لآخر" في هدوء عذب و "تمكنني من إنفاق كل ليلة في مدينة كبيرة، حتى أنني كنت أستطيع في الأمسية ذاتها أن أذهب إلى

ص: 391

الأوبرا أو المسرح وصولي رأساً" (7). وقد أعربت عن مثل هذا السرور الليدي ماري ورتلي مونتجيو بعد اثني عشر عاماً فقالت:

"إن هذا البلد كله (هولندة) يبدو وكأنه حديقة فسيحة الأرجاء: فالطرق كلها حسنة الرصف، تظللها على الجانبين صفوف الأشجار، وتحفها قنوات واسعة غاصة بالزوارق الغادية الرائحة

وكل الشوارع (في روتردام)

معتنى بنظافتها جداً

حتى أنني جلت بأرجاء المدينة كلها تقريباً أمس، متنكرة، في خفى دون أن تنالني لوثة قذر واحدة، وترى الخادمات الهولنديات يغسلن الطوار

بعناية تفوق عناية خادماتنا بغسل غرف نومنا. ومراكب التجار تصل (على القنوات) حتى أبواب البيوت. والدكاكين والمتاجر نظيفة بهية إلى حد مدهش، غاصة بمقادير هائلة من السلع الجميلة" (8).

على أن هذه التقارير الوردية وصفت هولندة قبل أن تحس بالآثار الاقتصادية لانتصارها على لويس الرابع عشر في حرب الوراثة الأسبانية. ففيها أراقت دمها ومالها إلى ما يقرب الإنهاك؛ فتضخم دينها العام، وفقدت كثيراً من تجارة النقل التي ذهبت إلى حلفائها العسكريين الذين كانوا رغم تحالفهم العسكري معها منافسين لها في التجارة-وإلى ألمانيا. وهبطت أرباح شركة الهند الشرقية من أربعين في المائة إلى 1715 إلى اثني عشر ونصف في المائة في 1737، وأرباح شركة الهند الغربية الهولندية من خمسة في المائة في 1700 إلى اثنين في المائة في 1740 (9). وجرت حرب السنين السبع مزيداً من الأذى. ذلك أن مصرفيي أمستردام أثروا بفضل القروض المرتفعة الفائدة التي أقرضوها للدول المحاربة، ولكن صلح 1763 أنهى هذه النعمة الكبرى، فأفلس كثير من المصارف الهولندية، وتضرر نتيجة لذلك كل مشروع تجاري كبير. كتب بوزويل الذي كان في هولندة في 1763 يقول "إن الكثير من كبريات المدن تضعضعت إلى حد محزن

وأنت تلتقي بمجموع من القراء الذين يتضورون جوعاً وهم عاطلون" (10). وزيدت الضرائب فأفضى ذلك إلى هجرة رأس المال والعناصر البشرية الصلبة؛

ص: 392

وفي هذه الفترة امتزجت دماء المستعمرين الهولنديين والألمان في جنوب أفريقيا وانبعث البوير ببطء نتيجة الامتزاج.

وجاء الانتعاش بفضل خلق الهولنديين وجدهم وأمانتهم. فقد عكف شعب هادئ قوي مدبر على فلاحة أرضه، وتشحيم طواحين هوائه، ورعي أبقاره، وتنظيف معامل ألبانه، وإنتاج ألوان لذيذة من الجبن الشهي الكريه الرائحة؛ وكانت هولندة سباقة بين دول أوربا في مضمار الزراعة العلمية (11). واستعادت دلفت سوق البرسلان الذي فقدته. واسترد مصرفيو أمستردام الهولنديون واليهود ما اشتهروا به من جدارة بالثقة وقدرة على التصرف؛ فأقرضوا المال بقليل من الفائدة والمخاطرة، وحصلوا على عقود رابحة بدفع رواتب الجند وتموينهم؛ ولجأت الحكومات ورجال الأعمال إلى أمستردام طلباً للقروض، وندر أن ردوا فارغين؛ وطوال ذلك القرن المضطرب كله تقريباً كانت بورصة أمستردام المركز المالي للعالم الغربي. كتب آدم سمث حوالي عام 1775 يقول: "إن إقليم هولندة

بالنسبة إلى مساحة أرضه وعدد سكانه، بلد أغنى من إنجلترة" (12).

وأكثر ما راع فولتير في 1725 (13) كان تعايش مختلف الأديان تعايشاً لم يكدر صفوه مكدر. فهنا كان كاثوليك سنيون وكاثوليك جانسنيون (ألم يكن جانسن نفسه هولندياً؟)، وبروتستنت أرمينيون من القائلين بحرية الإرادة، وبروتستنت كلفنيون من القائلين بالقضاء والقدر، ومعمدانيون من القائلين بتجديد العماد، وسوينيون، وإخوان مورافيون ويهود، ثم حفنة من أحرار الفكر يصطلون في دفء التنوير الفرنسي (14). وكان أكثر القضاة من البروتسنت، ولكنهم "كانوا يأخذون النقود بانتظام من الكاثوليك" كما يقول مؤرخ هولندي "للإغضاء عن ممارستهم شعائر دينهم والسماح لهم بشغل مناصبهم"(15). وكان الكاثوليك الآن ثلث السكان الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين. أما الطبقات العليا، الملمة بأديان كثيرة بفضل اشتغالها بالتجارة، فقد تشككت في هذه الأديان كلها، ولم تسمح لها بالتدخل في القمار، والشراب، والشره في الطعام، وشيء من الفسق المتستر على الطريقة الفرنسية (16).

ص: 393

وكانت الفرنسية لغة المثقفين. وكثرت المدارس، واشتهرت جامعة ليدن بدراساتها في الطب التي أحيت ذكر بويهافي العظيم. وكان في كل المدن جمعيات للفنون، ومكتبات، و "قاعات للخطابة" تعقد مباريات دورية في الشعر. وكان تجار التحف الهولنديون يتمتعون بشهرة أوربية بكنوزهم وتزييفاتهم (17). وكان عصر الفن الهولندي الذهبي قد ولى بموت هوبيما (1709)، ولكن كورنيلس تروست كان على الأقل صدى يردد عظمته. وربما كان أروع نتاج الفن الهولندي في هذا العصر هو الزجاج الرقيق المنقط أو المحفور بأبر من الماس (18). وكانت أمستردام عشاً للناشرين، بعضهم شرفاء وبعضهم قراصنة. وهبط النشاط الخلاق في الأدب إلى مستوى منحط النصف الأول من القرن الثامن عشر، ولكن حوالي 1780 غذت حركة إحياء للأدب شاعراً مطبوعاً هو فلليم بلدريدك.

ويروي بوزويل أن صديقاً له أخبره أنه سيجد الهولنديين "سعداء في غبائهم"(19)؛ ولكن بوزويل كتب من أوترخت يقول "إننا نعقد اجتماعات متألقة مرتين في الأسبوع، وحفلات خاصة كل مساء تقريباً .. وفي زمرتنا سيدات جميلات محبوبات هن من الكثرة بحيث لا تستطيع الصحائف الكثيرة أن توفيهن حقهن من الثناء"(20) وأروع الصفحات في مذكرات بوزويل السريعة الموجزة عن هولندة تلك التي تصف غرامه المتردد بزيليده أو "حسناء زويلين"-وهي ايزابيللا فان تويل. وكانت تنتمي إلى أسرة عريقة مرموقة؛ فأبوها "سيد زويلين وفستبروك" كان أحد حكام إقليم أوترخت. وقد تلقت من التعليم فوق ما تحتمل، فباتت تجر بهرطقاتها في فخر، وهزأت بالتقاليد، والأخلاق، والدين، ومراتب الشرف، ولكنها فتنت الناس جميعاً بحسنها ومرحها وصراحتها المثيرة. وقد أحجمت عن الزواج المهذب الوفي، وكتبت تقول "لو لم يكن لي أب ولا أم لما تزوجت .. ولا اغتبطت كل الاغتباط بزوج يتخذني كخليلته؛ ولقلت له "لا تنظر إلى الوفاء على أنه واجب. فما ينبغي أن يكون لك غير حقوق العاشق وغيرته" (21). فأجاب بوزويل أشد الفاسقين إلحاحاً في أوربا "يا للعار يا زيليدتي، أي أوهام هذه" ولكنها أصرت على موقفها "إني

ص: 394

لأوثر أن أكون غسالة لحبيبي، وأن أسكن علية، على حرية أسرنا الكبيرة الجرداء وآداب سلوكها المهذب" (22).

وجازت زيليدة سلسلة من العلاقات الغرامية التي خفتها وحيدة مثخنة بجراح لا تبرحها. وراحت تهدئ أعصابها بالأفيون وهي بعد في الرابعة والعشرين. وحين بلغت الثلاثين (1771) تزوجت سان-هياسنت دشاربير، وهو معلم خاص سويسري، وذهبت لتعيش معه قرب لوزان. فلما وجدته قاصراً من الناحية الفكرية، وقعت في أربعيناتها في حب رجل يصغرها بعشر سنين، فقضى وطره منه ثم هجرها. والتمست التنفيس في كتابة قصة أسمتها "كاليست"(1785 - 88)، طرب لها سانت-بيف أي طرب. وحين بلغت السابعة والأربعين، التقت في باريس ببنجامن كونستان، وكان فتى في العشرين، فأغوته بفكرها (1787) وكتب يقول "إن لمدام شاربير أسلوباً غاية في الأصالة والحيوية ف النظر إلى الحياة، واحتقاراً عميقاً جداً للتعصب، وفكراً بالغ القوة، وتفوقاً على أوساط الناس عارماً محتقراً

حتى أنني على غرابة أطواري وتكبري مثلها

وجدت في حديثها لذة لا عهد لي بها قط

وقد انتشينا باحتقارنا للنوع الإنساني" (23). وسار الحال على هذا المنوال حتى عام 1794 حين وجد بنجامن نشوة جديدة مع مدام دستال. واعتكفت زيليدة في عزلة مرة، وماتت في الخامسة والستين، بعد أن خلقت خواء الحياة الدنيا واستنفدته.

ولو شاءت لوجدت غذاء للتشاؤم في التاريخ السياسي للأقاليم المتحدة في القرن الثامن عشر. ذلك أن حكم البلاد بعد موت وليم الثالث (1702) احتكرته أولجريكه من كبار رجال الأعمال انصرفوا إلى فرض الضرائب على الشعب ومحاباة الأقرباء والدس والتآمر. كتب كاتب هولندي في 1737 يشكو هذه الحال فقال "إن المواطنون ممنوعون من المشاركة في الحكومة

ولا يطلب منهم نصيحة ولا رأي في إدارة شئون الدولة" (24). وقد تكشف العجز الحربي لهذا النظام حين دخلت هولندة حرب الوراثة النمساوية (1743) فغزاها جيش فرنسي ولم يلق مقاومة تذكر، وسلمت

ص: 395

مدن كثيرة دون جدال. كتب المرشاي دنوال يقول "علينا أن نتعامل مع شعب غاية في اللطف والكرم"(25) على أنهم لم يكونوا كلهم كذلك، فقد ارتفعت أصوات معظم المواطنين مطالبة بزعيم حربي ينقذ البلاد على نحو ما فعل وليم الثالث في 1672، ونصب سليله غير المباشر، وليم الرابع أمير أورانج، حاكماً للأقاليم السبعة، وقائداً للجيش، وأميراً للبحرية (3 مايو 1747)؛ وفي أكتوبر جعلت هذه المناصب وراثية في أسرته، ومعنى ذلك أن الملكية أعيدت في واقع الأمر، غير أن وليم الرابع كان فيه من التمسك بالخلق المسيحي ما لا يجعله قائداً حربياً صالحاً؛ فلم يستطع أن يعيد النظام إلى الجيوش، وتوالت الهزائم يقفو بعضها بعضاً، وفي معاهدة إكس-لا-شابل (1748) كانت هولندة محظوظة لاحتفاظها بأراضيها سليمة، ولكنها عادت خربة من الناحية الاقتصادية ومات وليم بالحمرة وهو في الأربعين (1751)، وقامت أرملته الأميرة آن-بالوصاية على العرش إلى أن ماتت (1759)، ثم حكم لودفج إرنست أمير بروزويك-فوفلنبوتل البلاد حكماً صارماً كفئاً حتى بلغ وليم الخامس سن الرشد (1766).

وفي الحرب الدائرة بين إنجلترة والمستعمرات الأمريكية احتجت هولندة على عدوان البريطانيين على السفن الهولندية، وانضمت إلى روسيا في "الحياد المسلح" المبرم في 1780؛ وأعلنت إنجلترة عليها الحرب، واستولت على جميع السفن الهولندية تقريباً، وفي معاهدة باريس (1783) كادت مصالح هولندة أن تغفل، فنزلت عن نجاباتام (في جنوبي الهند) لإنجلترة، وسمحت للإنجليز بحرية الملاحة في جزؤ الملقا. وهكذا لم تعد هولندة تلعب دوراً بين الدول.

ودمرت هذه الخطوب شعبية وليم الخامس. ثم إن نجاح الثورة في أمريكا حفز الأفكار الديمقراطية في الأراضي الواطئة، وأفضى إلى قيام حزب "الوطنيين" المناهض للأسرة الحاكمة. وكانت القلة صاحبة المال تمتص ثروة الأمة المتناقصة خلال كل تغيير في الحكومة امتصاصاً ألجأ رجالاً كثيرين إلى التسول ونساء كثيرات إلى البغاء في المدن التي كانت يوماً ما

ص: 396

مزدهرة يسودها النظام. وفي 1783. تكونت سراً جماعات من "الرماة الأحرار" في أمستردام ولاهاي للإعداد للثورة. وفي 1787 استولى "الوطنيون" على السلطة، ولكن وليم الخامس أعيد إلى عرشه بفضل تدخل بروسيا المسلح. ثم نفخت الثورة الفرنسية الحماسة من جديد في أفئدة الوطنيين، فدعوا فرنسا لتخف لنجدتهم. وعليه ففي 1794 غزت الجيوش الفرنسية هولندة، وبطشت بالجيش الهولندي، وفر وليم الخامس إلى إنجلترة، وانضم أنصار الثورة الهولنديون إلى الفرنسيين في تنظيم الجمهورية البتافية (1795 - 1806). وفي 1815 أعاد ابن وليم الخامس بيت أورنج-نيساو إلى السلطة باسم الملك وليم الأول، وأسلاله يتربعون على عرش هولندة اليوم (1967).

‌3 - الدنمركيون

1715 -

1797

بلغ عدد سكان الدنمرك حسب أول تعداد رسمي للبلاد (1769)825. 000 نسمة، يضاف إليهم 727. 600 في النرويج التي ظلت خاضعة للملوك الدنمراكيين حتى 1814. وكان كل الفلاحين تقريباً في النرويج يملكون أراضيهم، وفيهم كبرياء ككبرياء الفيكنج. أما الدنمرك فكان نصف فلاحيها أقناناً، والنصف الآخر خاضعين للرسوم الإقطاعية. وجهد الملوك لكبح جماح هذا الإقطاع، ولكنهم كانوا معتمدين مالياً على الإشراف، واستمرت القنية حتى 1787. في هذا النظام لم تلق التجارة ولا الصناعة تشجيعاً يذكر، ولم تنم طبقة وسطى ذات شأن؛ وأفاد فتح قناة كيل (1783) الإنجليز والهولنديين أكثر مما أفاد الدنمركيين. وفي 1792 كانت الدنمرك أول دولة أوربية تلغي النخاسة في ممتلكاتها.

وكما سيطر النبلاء على الدولة كذلك سيطرت الكنيسة على المنابر والطباعة، وأملت أن تسيطر على العقول أيضاً. فحرمت الرقابة الصارمة التي امتدت من 1537 إلى 1849 كل ما يطبع أو يقال مما لا يتفق والتعاليم اللوثرية القويمة؛ وصودر الكثير من الكتب غير اللاهوتية، كقصة جومة "آلام فرتر" لأنها خطر يهدد الأخلاق العامة. وزاد من القيود المعطلة لنمو الأدب استعمال الألمانية في البلاط، واللاتينية في الجامعات، والفرنسية في الآداب

ص: 397

البحتة-التي لم يكد يوجد منها شيء. وكان تدشين الأدب الدنمركي بالتأليف باللغة القومية، وإدخال بصيص من التنوير إلى الدنمرك، من مآثر ألمع دنمركي في القرن الثامن عشر.

وتستطيع كل من النرويج والدنمرك أن تنسب إليها لودفج فون هولبرج، لأن ولد في برجن (3 ديسمبر 1684). وبعد أن تلقى العلم في المدرسة اللاتينية المحلية، عبر الماء ليلتحق بجامعة كوبنهاجن. ولكن سرعان ما نضب ماله؛ فقفل إلى النرويج واشتغل مدرساً خصوصياً في أسرة قسيس ريفي. فلما أن ادخر ستين طالراً انطلق ليرى الدنيا من حوله. فنراه في 1704 في هولندة، وفي 1706 - 1708 كان يعلم نفسه في مكتبات أكسفورد. فلما عاد إلى كوبنهاجن ألقى محاضرات لم تأته بأكثر كثيراً من تعليم الذات، وعاش أثناء ذلك على التدريس الخصوصي، واغتذى بالطموح. وفي 1714 عينته الجامعة أستاذاً دون راتب، غير أن منحة خاصة أتاحت له الجولان عامين في ربوع إيطاليا وفرنسا، على قدميه أكثر الوقت. فلما آب من أروع رحلة بين الرحلات الرائعة كلها، عين أستاذاً للميتافيزيقا، وهي مادة أبغضها، ثم للاتينية والبيان، وأخيراً (1730) للتاريخ والجغرافيا اللذين أحبهما.

ولقد خلق الأدب الدنمركي في لحظات فراغه. فحتى زمنه لم يكن في الدنمركية شيء سوى الأغاني الشعبية والفارصات والترانيم والكتب العقيدية الشعبية. وألف هولبرج مكتية صغيرة من القصائد والهجائيات والقصص والأبحاث بالدنمركية في السياسة والقانون والتاريخ والعلوم والفلسفة. ولم ينافسه غير فولتير في تعدد جوانبه. وقد استعمل الهزل كما استعمله فولتير ليسوط به الأساتذة المزهوين من عباد الدراسات الكلاسيكية، والمحامين الذين يقيدون حركة العدالة بأغلال الدقائق التقنية، ورجال الدين المتزاحمين بالمناكب على المال والمنصب، والأطباء الذين ييسرون دخول المرضى إلى الأبدية. وتناول كل أعمدة المجتمع هؤلاء تقريباً بالتشهير في أول آثاره الأدبية الكبرى، وهو ملحمة ساخرة سماها بيدرباس (1719). وأوجع بعض كبار الدنمركيين وخز هذا الهجاء، فناشدوا الملك فردريك الرابع

ص: 398

أن يصادر الكتاب باعتباره ضاراً بالأخلاق مستهزئاً بالقساوسة؛ وقرئ على الملك أول قسم في الملحمة كطلبه، فحكم بأنها "عمل بريء مسل"، غير أن المجلس الملكي أحاط هولبرج بأنه كان خيراً لو أن القصيدة لم تكتب قط (26).

وعلى ذلك انصرف إلى المسرح. ففي 1720 افتتح ممثل فرنسي اسمه إتيين كابيون في كوبنهاجن أول مسرح دنمركي. فلما افتقد المسرحيات الدنمركية الجديرة بالإخلاتج استورد الدرامات من فرنسا وألمانيا. غير أنه استشف من "بيدربارس" أن هولبرج يملك المواد والموهبة اللازمة للكوميديا، فلجأ إليه ليمد المسرح الجديد بتمثيليات باللغة العامية، ولم ينقض عام حتى كان هولبرج قد ألف خمس تمثيليات، وفي ثمانية أعوام ألف عشرين، كلها غني في صور الأعراف والعادات المحلية غني حمل خلفه العظيم آدم أو هلنشليجر على أن يقول فيه "إنه عرف كيف يصور الحياة البورجوازية لمدينته كوبنهاجن بأمانة عظيمة بحيث لو انشقت الأرض وابتلعت هذه المدينة، وبعد مائتي عام أميط اللثام عن كوميديات هولبرج، لاستطاع المرء أن يعيد بناء العصر منها، على نحو ما نعرف أيام روما القديمة من أطلال بوميي وهركيولانيوم (27).

ونقل هولبرج القوالب والأفكار عن بلوتوس وترنس وموليير والكوميديا ديللارتي التي شهدها في إيطاليا. وبعض كوميدياته تمثلياته من فصل واحد ذات موضوعات تافهة فقدت قوة دفعها، مثل "رحلة سجاناريل إلى أرض الفلاسفة"(28). وبعضها ما زال يحتفظ بقوته، مثل "يبي رجل التل" التي نعرف منها أن الفلاحين حين يظفرون بالسلطة يكونون أشد بغساً من سادتهم. وبعضها تمثيليات مكتمة الدول مثل "رازموس مونتاثوس"، وهي هجائية مرحة تسخر بتنطع العلماء، وبغطرسة اللاهوتيين وبجهل العوام، مع مسحه خبيثة من صراحة الريفيين وصدقهم، مثل قول لسبيد لأبيها بعد أن سمعت بأن خطيبها عائد من الجامعة "إذن فقد صدق حلمي .. لقد حلمت أنني نمت معه البارحة"(29) على أن مسرح كوبنهاجن

ص: 399

رغم هذه الكوميديات المرحة أغلق أبوابه في 1727 لافتقاره إلى الدعم الشعبي. وكان آخر ما مثل فوق خشبته مسرحية هولبرج "مأتم الكوميديا الدنمركية".

لقد صدم زملاءه من أساتذة الجامعة بالكتابة للمسرح؛ أما الآن فقد ألان جانبهم بمؤلفات تاريخية يسرت للقراء الدنمركيين ثمرات الدراسات الأوربية الغربية. وكانت كتبه "تاريخ للدنمرك"(1732 - 1735)، تاريخ عام للكنيسة" (1727 - 1747)، و "تاريخ لليهود" منصفات، ولكنها متقنة. والتمس هولبرج التخفف من هذه الجهود في رائعته. "رحلة نيلس كليم السفلية" (1741). وقد كتبها نثراً لاتينياً لتصل إلى القراء الأوروبيين، فوصلت، ولكن بطريق الترجمة: ترجمها ينز باجيزبن إلى الدنمركية فطبعت الترجمة ثلاث مرات، وظهر منها بالألمانية عشر طبعات، بالسويدية، والهولندية، والإنجليزية، وثلاث، وبالفرنسية والروسية اثنتان، وبالمجرية واحدة. هذه "الرحلة السفلية" هي التي جعلت هولبرج "سويفت الدنمرك" وفولتيرها" معاً.

والقصة تروي أن الضوضاء المنبعثة من كهف تثير فضول نيلس، فيصمم على استقصاء مصدرها ويدليه أصحابه بحبل ينقطع، "وبسرعة مذهلة دفع بي إلى أعماق الهاوية"(30). ثم يعثر في قشرة الأرض على مساحة مكشوفة أو قبة سماوية فيها شمس وكواكبها السيارة، ونجوم كثيرة. ويسقط صوب أحد هذه الكواكب فيصبح قمراً تابعاً له ويدور حوله عاجزاً، ولكنه يمسك بنسر يحمله حتى يهبط في رفق على الكوكب بوتو (أي يوتويا) مقلوبة. هنا يجد الأشجار هي النوع السائد، وهي غنية بعصارتها العاقلة، ولسوء الحظ "كانت الشجرة التي تسلقتها

هي زوجة العمدة" (31). ولبوتو بعض القوانين الممتازة. فالناس الذين "يتجادلون علانية حول صفات الكائن الأعظم وماهيته ينظر إليها على أن يهم مساً من الجنون"، فيعالجون بفصدهم لتهبط حامهم، ثم يحبسون حتى "يفيقوا من هذا الهذيان بـ" (32). والأمهات في بوتو يرضعن أطفالهن-وهي فكرة سبقت بعشرين سنة دعوة روسو للأمهات إرضاع أطفالهم من ثديهن. وفي إقليم كوكليكو

ص: 400

تحكم النساء الدولة، ويعني الرجال بشئون البيت أو يصبحون بغايا، وللملكة "حريم" من ثلاثمائة شاب وسيم. وينفق الفلاسفة في كوكليو وقتهم في محاول الوصول إلى الشمس، ولا يهتمون اهتماماً يذكر بشئون الدنيا. وفي إقليم ميكولاك تجد الناس كلهم ملحدين، "يقارفون أي شيء يستطيعون إخفاءه عن الشرطة" (33) ويقع نيلس على كتاب بعنوان "رحلة تانيان إلى العالم السفلي" يصف أوربا وعاداتها الغريبة: الرءوس التي تكسبوها البواريك الضخمة، والقبعات المحمولة تحت الأذرع (كما يفعل نبلاء فرنسا)، "والكعكات الصغيرة أوالقرابين تحمل مروراً بالشوارع ويقول الكهان أنها آلهة، والناس الذين خبزوها

يحلفون على الإيمان بأن هذه القرابين خلقت الدنيا" (34).

وقد اشتملت "الرحلة السفلية" على انتقادات للعقيدة المسيحية، ودعت إلى إطلاق حرية العبادة لجميع المذاهب، ولكنها أوصت بالإيمان بالله، وبالجنة، وبالنار، باعتبارها ركائز ضرورية لناموس أخلاقي لا تفتأ تهاجمه مطالب النفس والجسد هجوماً شرساً (35). ورقى العلم فردريك الخامس المصلح الذي انصلح أمره باروناً في 1747؛ واستمتع هولبرج بلذة التمرد في سبابه والرضي يعنه في شيخوخته التي اختتمت سنة 1754. وما زال إلى اليوم إمام الأدب الدنمركي.

على أن البعض قد يخصون بهذا المقام يوهان إيفالد الذي ضارعت حياته حياة بايرون وكيتس وشلي مغامرة ومعاناة وقصراً. وقد ولد في كوبنهاجن في 1743 لقسيس لوثري، وتمرد على المتزمتين من الكبار، ووقع في غرام آرنسي هوليجارد وهو في السادسة عشرة، وهجر مهنة اللاهوت لأنه استبطأ ثمراتها، وتطوع في الجيش البروسي ثم النمساوي، وصمم على الظفر بالثروة والمجد اللذين ينيلانه آرنسي عروساً. ولكن الحرمان والمرض أتلفا صحته، فعاد إلى كوبنهاجن واللاهوت، وزوجت آرنسي ثروة أعجل، وسكب إيفالد قلبه في الشعر والنثر. فكتب أول مأساة دانمركية أصيلة

ص: 401

سماها "رولف كراجي"(1770)، ويبلغ قمة الشعر الدنمركي في القرن الثامن عشر بمسرحية "موت بالدر"(1773) وهي دراما ملحمية بالشعر. على أن جهده لم أته إلا بالكفاف، فاعتكف في عزلة ريفية، وراح يجتر سلسلة من الأوصاب، ثم أنعشه معاش من الحكومة آخر الأمر. وقد رد على الصنيع بتمثيلية "صيادي السمك"(1776) التي احتوت أغنية شعبية وطنية مطلعها "وقف الملك كرستيان إلى جوار الصاري العالي" التي أصبحت أنشودة الدنمركيين القومية المفضلة (36). وكانت دعوة إيفالد إلى المجد، ووداعه للحياة، ومات في 1781 إثر مرض طويل أليم غير متجاوز الثامنة والثلاثين. ويعد السكندنافيون "من أعظم شعراء الشمال الغنائيين، بل ربما أعظمهم قاطبة"(37).

وبتقدم القرن الثامن عشر أصبح التقدم السياسي للدنمرك جزءاً من الدراما الحديثة المتصلة أبداً بين التقاليد المتوارثة والتجربة. وقد مزج كرستيان السادس (حكم 1730 - 46) بين القوى المتعارضة. فدفع هو ووزراؤه التنمية الاقتصادية قدماً باستجلاب الغزالين والنساجين لإنشاء صناعة النسيج، وبتكوين الشركات القومية للاتجار مع آسيا وأمريكا، وبفتح مصرف كوبنهاجن (1744). ونشروا التعليمين الابتدائي والثانوي، وأسسوا الأكاديميات لتشجيع الأدب والعلم. على أنهم جددوا قانوناً قديماً يلزم بحضور بخدمات الصلات اللوثرية، وأغلقوا جميع المسارح وساحات الرقص، ونفوا الممثلين، ومنعوا الحفلات التنكرية.

وأبقى فردريك الخامس (حكم 1746 - 66) ابن كرستيان على هذه القوانين ولكنه خفف من وطأتها بروحه اللطيفة وحبه للذات الحسية. ففي 1751 استقدم من هانوفر يوهان هارفنج أرنست فون بيرنشتورف، الذي وفق وهو رئيس للوزراء في رفع مستوى الأمانة والكفاءة في الإدارة، وأصلح شأن الجيش والبحرية، وأبعدهما عن حرب السنين السبع، وحرك مياه الثقافة الدنمركية الراكدة بجلب الأساتذة والشعراء والفنانين والعلماء؛ وقد رأينا كلويشتوك يقبل هذه الدعوة. وفي 1767 توج الكونت فون

ص: 402

بيرنشتورف سياسته الخارجية السلمية بإقناع كاترين الكبرى بتوقيع اتفاقية نزلت بمقتضاها للدنمرك عن هولشتين-جوتورب.

ومات فردريك الخامس في الثالثة والأربعين (1766) بعد أن أنهكته لذاته. وقد زوج ابنه كرستيان السابع (حكم 1766 - 1808) على عجل وهو بعد في السابعة عشرة من كارولين ماتيلدا أخت جورج الثالث ملك إنجلترة، وقد أفاضت إشراقاً على حياة العاصمة الاجتماعية، ولكن زوجها نصف المجنون أهملها إيثاراً لحياة الخلاعة، وانزلقت كاترين إلى غرام مأساوي من طبيب البلاط يوهان فريدريش شتروينزي. وكان ابناً لأستاذ لاهوت في هاله، فدرس فيها الطب، وفقد إيمانه الديني كما يفقده أكثر الأطباء. وقد دان بحظوته عند الملك لبراعته في علاج العواقب الاكلينيكية لغراميات الملك، وعند الملكة لتوفيقه في الأتيان بكرستيان السابع إلى فراشها بما يكفي لإنجاب وريث للعرش. فلما تردى عقل الملك في درك الاكتئاب وعدم المبالاة، وزادت سلطة الملكة في الحكومة، وسمحت لطبيبة بإدارة سياستها كما سمحت له بالاستمتاع بحظوتها فغدا (1770) حاكم الدولة الفعلي. وخرجت الأوامر من القصر الملكي ممهورة من شتروينزي باسم الملك "غير المتمال قواه العقلية". وطرد برنشتورف، فاعتكف بهدوء في ضياعه بألمانيا.

وكان شتروينزي قد قرأ مؤلفات جماعة "الفلاسفة" الفرنسيين، وعلى مبادئهم نوى أن يشكل الحياة الدنمركية من جديد. فألغى استغلال النبلاء لامتيازاتهم، وأنهى الرقابة على المطبوعات، وأسس المدارس، وطهر المصالح الحكومية من الرشوة والاستغلال، وأعتق الأقنان، وحرم التعذيب القضائي، وأعلن التسامح لجميع الأديان، وشجع الآداب والفنون، وأصلح القانون والمحاكم والبوليس، والجامعة، والمالية، ووسائل حفظ الصحة البلدية

ثم ألغى معاشات كثيرة تخفيفاً من الدين العام، ورصد دخول المؤسسات الدينية للإنفاق على الأغراض العامة.

"ولكن النبلاء تآمروا ليسقطوه، واستغلوا حرية النشر لاستنزاف شعبيته.

ص: 403

وكره الأتقياء من الدنمركيين التسامح الديني لأنهم رأوه كفراً، ورددت أحاديثهم عن شترونيزي أنه أجنبي دخيل ليس لسلطته سند غير فراش الملكة. وفي 17 يناير 1772 أقنع لفيف من ضباط الجيش الملك بأن شتروينزي والملكة يبيتان قتله فوقع أمراً بالقبض عليهما. ورحلت كارولين إلى كرونبورج قلعة هاملت. أما شتروينزي فألقي في السجن، وبعد خمسة أسابيع من المعاناة اعترف بزناه مع الملكة. وفي 28 أبريل 1772 قطع إرباً على مقصلة على مرأى من جمهور محبذ لهذا العقاب. وسمح لكارولين بعد إلحاح جورج الثالث بالاعتكاف في تسليله بهانوفر، حيث ماتت في 10 مايو 1775 وهي بعد في الرابعة والعشرين.

وقلد المتآمرون الفائزون الحكم لأوفى جولد برج، المعلم الخاص للأمير فردريك. ود قاد جولدبرج خلال اثني عشر عاماً من الحكم حركة انتفاض وطنية على النفوذ الأجنبي في الحكومة واللغة والتعليم، وفتح باب المناصب للعامة، وأعاد القنية، والتعذيب القضائي، وسيادة الكنيسة اللوثرية، والتوجيه الديني للجامعة. ووكلت الشئون الخارجية لأندرياس بيتر فون برنشتورف، ابن أخي الكونت فون برنشتورف ومحسوبه. فلما نصب الأمير فردريك نفسه وصياً (1784) طرد جولدبرج: وأصبح أندرياس فون برنشتورف رئيس الوزراء وظل كذلك إلى يوم مماته. وبإرشاده الحكيم ألغيت القنية الثانية (1787)، وأنهيت النخاسة في المملكة الدنمركية، وأطلقت حرية القيام بالمشروعات الاقتصادية. فلما مات برنشتورف (1797) كانت الدنمرك قد ثبتت أقدامها على الطريق إلى ذلك الرخاء السلمي الذي جعلها محسودة من العالم كله.

‌4 - السويديون

أ - السياسة

1718 -

1771

كانت حياة شارل الثاني عشر المثيرة مأساة للسويد. ذلك أن مراميه لم تسترشد بموارد وطنه بل بظمئه للمجد. وقد احتمله الشعب السويدي بشجاعة وهو يأتي على قوتهم البشرية وثروتهم، ولكنهم كانوا يدركون قبل موته

ص: 404

بزمان أن مصيره الفشل المحقق. فقد نزلت السويد بمقتضى معاهدات ستوكهولم (1718 - 20) عن دزقيتي بريمن وفرمن لهانوفر، وعن الجزء الأكبر من بومرانيا لبروسيا. وبمقتضى صلح نيستاد (1721) نزلت عن ليفونيا واستونيا وامجرمانلاند وكاريليا الشرقية لروسيا. وقضى على سلطة السويد على أرض القارة، وأكرهت على التقهقر إلى شبه جزيرة غنية بالمعادن وصلابة الخلق القومي، متطلبة الجهد الشاق والمهارة المثابرة ثمناً للحياة.

وقد أضعفت خزيمة شارل شوكة الملكية، وأتاحت للنبلاء أن يستردوا سيطرتهم على الحكومة. فأعطى دستور 1720 السلطة الغالبة لمجلس نيابي أو "دايت" مؤلف من أربع "طبقات" أو مجالس. مجلس نبلاء "ريدارهوس" قوامه رؤساء الأسر النبيلة كلها؛ ومجلس قساوسة-من الأساقفة مضافاً إليهم نحو خمسين مندوباً ينتخبهم اكليروس الأبرشيات من بينهم؛ ومجلس سكان المدن، من نحو تسعين مندوباً يمثلون الموظفين الإداريين وأقطاب رجال الأعمال في المدن؛ ومجلس فلاحين، من مائة مندوب تقريباً يختارون بواسطة المزارعين من ملاك الأرض الأحرار ومن بينهم. وكانت كل طبقة تجلس منفصلة عن غيرها، ولا يمكن أن يصبح أي مشروع قانوناً ما لم توافق عليه ثلاث طبقات؛ ولم يكن لطبقة الفلاحين في حقيقة الأمر قوة تشريعية إلا بموافقة طبقتين أخريين. وخلال اجتماعات المجلس النيابي كانت "لجنة سرية" من خمسين نبيلاً، وخمسة وعشرين قسيساً، وخمسة وعشرين نائباً عن المدن تحضر مشروعات القوانين جميعها، وتختار الوزراء، وتهيمن على السياسة الخارجية. وقد أعفى النبلاء من الضرائب، واحتكروا حق شغل مناصب الدولة العليا (38). فإذا لم يكن المجلس منعقداً سير دفة الحكم "راد"(مجلس) من ستة عشر أو أربعة وعشرين رجلاً يختارهم المجلس النيابي ويسألون أمامه. وكان الملك يرأس هذا المجلس وله صوتان، وفيما عدا هذا لم يكن له سلطة التشريع. وتضافرت روسيا وبروسيا والدنمرك لتأييد هذا الدستور لأنه يحبذ سياسة السلام ويكبح النزعات الحربية للملوك الأقوياء.

ولم تعد الملكية وراثية بل أصبحت انتخابية. وبعد موت شارل الثاني

ص: 405

عشر (30 نوفمبر 1718) كان مآل العرش بالوراثة إلى كارل فريدريش دوق هولشتين جوتورب، وهو ابن لأخت شارل الكبرى؛ ولكن الجلس النيابي المنعقد في يناير 1719 لأول مرة في عشرين سنة، أعطى التاج لأولريكا اليانورا وهي أخت لشارل، بعد أن وافقت على التخلي عن سياسة الاستبداد الملكي التي مارسها أخوها. ولكن حتى مع هذه الموفقة تبين أنها عسيرة القياد، وفي 1720 أقنعت بالنزول عن العرش لزوجها الحاكم فردريك الأول أمير هسي-كاسل الذي أصبح الآن فردريكاً الأول ملك السويد. وبفضل الإرشاد الحكيم الذي بذله الكونت آرفيد برنهارد هورن-وكان مستشاراً للدولة-أتيح للسويد ثمانية عشر عاماً من السلام لترأ فيها من جراح الحرب.

غير أن الأباة من السويديين سخروا من سياسته السلمية ولقبوا أشياعه "الطواقي" وهم يعنون بهذا اللقب أنهم خرفون نيام بينما تتراجع السويد إلى المؤخرة في ركب الدول. وقام ضد هؤلاء حزب "القبعات" الذي كونه الكونت كارل جيلنبورج.، وكارل تسين، وغيرهما. وتسلط هذا الحزب على المجلس النيابي في 1738، وحل جيلنبورج محل هورن. وإذ كان مصمماً على إعادة السويد إلى سابق مكانها بين الدول، فإنه جدد التحالف المتقادم مع فرنسا التي أرسلت معوناتها المالية للسويد لقاء معارضتها لمطامع روسيا؛ وفي 1741 أعلنت الحكومة الحرب على روسيا، أملاً في استرداد أقاليم البلطيق التي استولى عليها بطرس الأكبر، ولكن لا الجيش ولا البحرية كانا معدين الإعداد الكافي، وقد أعجز المرض رجال البحرية، وسلم الجيش فنلنده كلها أمام الزحف الروسي. على أن القيصرة اليزابث، الحريصة على كسب تأييد السويد، وافقت على رد معظم فنلنده إذا عين ابن عمها ادولفس فردريك أمير هولشتين-جوتورب للعرش السويدي. وبهذه الشروط أنهى صلح آبو الحرب (1743). فلما مات فردريك الأول (1751) ارتقى ادولفس فردريك العرش.

ولم يمض وقت طويل حتى علمه مجلس الطبقات أنه ملك بالاسم

ص: 406

لا بالفعل. فقد نازعه حقه في تعيين النبلاء الجديد، أو اختيار أعضاء بلاطه، وهدد بالاستغناء عن توقيعه أنه اعترض على التوقيع على قوانين أو وثائق معينة. وكان الملك رجلاً لين العريكة، ولكن كان له زوجة متكبرة آمرة هي لويزة أولريكا أخت فردريك الأكبر. وحاول الملك والملكة الثورة على سلطة المجلس. ولكن الثورة أخفقت، وعذب عملاؤها وقطعت رءوسهم أما الملك فعفى عنه لأن الشعب كان يحبه. وأما لويزة فعزت نفسها بحب الأدب وبرزت في مضاره. وقد صادقت لينايوس وجمعت من حولها لفيفاً من الشعراء والفنانين نشرت خلالهم أفكار التنوير الفرنسي. وعين المجلس النيابي معلماً جديداً لابنها ذي الأعوام العشرة، وأصدر إليه تعليمات بأنه يحيط ملك المستقبل جوستافس الثالث بأن الملوك في الدول الحرة لا يحتفظون بعروشهم إلا إذا سمح لهم بشروط، وأنهم إنما تخلع عليهم الأبهة والجلال "لتشريف المملكة لا لأجل الشخص الذي يتفق أن يشغل المكان الأول في الموكب "وأنه" بما أن بريق البلاط ووهجه "قد يضللهم بأوهام العظمة، فإنهم يحسنون صنعاً أن هم تفقدوا أكواخ الفلاحين بين الحين والحين، ورأوا الفقر الذي يدفع تكاليف الأبهة الملكية" (39).

وفي 12 فبراير 1771 مات أدولفس فردريك ودعا المجلس جوستافس الثالث ليأتي من باريس ويتمثل لمراسم الملكية.

ب - جوستافس الثالث

كان أكثر الملوك جاذبية بعد هنري الرابع ملك فرنسا. وإذ كان وسيماً مرحاً، عاشقاً للنساء والفنون والسلطة، فقد لمع وتوهج خلال تاريخ السويد كأنه الشحنة الكهربية دافعاً إلى الحركة كل العناصر الحيوية في حياة الأمة. وكان قد أحسن تعليمه على يد كارل تسين، ودللته أمه المولعة به. وكان من حيث الفكر نابغاً مرهفاً، ومن حيث الخيال والحس الجمالي موفور الحظ، لا يستقر على حال لفرط طموحه وكبريائه، فليس من اليسير أن يكون المرء أميراً متواضعاً. ونقلت إليه أمه عشقها للأدب الفرنسي، فقرأ فولتير بنهم، وبعث إليه بعبارات الاحترام، وحفظ الهنريادة عن ظهر

ص: 407

قلب. وكان السفير السويدي في باريس يوافيه بكل مجلد من "الموسوعة" عند صدوره. ودرس التاريخ باهتمام وافتتان، وأطربته سير جوستافس فازا، وجوستافس أدولفس، وشارل الثاني عشر؛ وبعد أن قرأ عن هؤلاء الرجال لم يطق أن يكون ملكاً خاملاً. وفي 1766، زوجة المجلس للأميرة صوفياً مجدلينا ابنة فردريك الخامس ملك الدنمرك دون أن يؤخذ رأيه، ولا رضى أبويه. وكانت خجولاً دمثة الطبع تقية ترى المسرح مكاناً للإثم؛ أما هو فكان شكاكاً، يحب الدراما، ولم يغتفر قط للمجلس إقحامه في هذا الزواج المتنافر. وهدأ المجلس ثائرته مؤقتاً بمنحة طيبة تتيح له الرحلة إلى فرنسا (1770 - 71).

وتوقف في كوبنهاجن، وهمبورج، وبروزويك، ولكن باريس كانت مقصده. وتحدى غضب لويس الخامس عشر بزيارة شوازيل المنفى، وانتهك التقاليد بزيارة مهام دوباري في قصره الريفي في لوفيسيين. والتقى بروسو، ودالامبير، -ومارمونتيل، وجريم، ولكن ظنه فيه خاب وكتب لأمه يقول "تعرفت إلى جميع الفلاسفة" وأني لأجد كتبهم ألطف كثيراً من أشخاصهم" (40) وسطع نجماً من نجوم الشمال في صالونات السيدت في جوفران ودودفان ودلسبيناس ودبينييه ونكير. وتلقى وسط انتصاراته نبأ يفيد أنه أصبح ملك السويد. فلم يتعجل الرجوع، بل أقام في باريس ردحاً أتاح له الحصول على معونات مالية كبيرة للسويد من حكومة فرنسا المشرفة على الإفلاس، و300. 000 جنيه لاستعماله الشخصي في ترويض أعضاء مجلس الأمة. وفي الطريق إلى أرض الوطن توقف ليرى فردريك الأكبر الذي أنذره بأن بروسيا ستدافع-بالسلاح إن اقتضى الأمر-عن ذلك الدستور السويدي الذي قيد سلطات الملك تقييداً شديداً.

ووصل جوستافس إلى ستوكهولم في 6 يونيو. وفي الرابع عشر افتتح أول مجلس أمة في عهده بكلام جميل أشبه بذلك الذي افتتح به ملك آخر معوق، هو جورج الثالث، برلمانه الأول في 1760. قال "إنني قد ولدت ونشأت بين ظهرانيكم تعلمت منذ نعومة أظفاري أن حب وطني، وأني لأعده أعظم امتياز أنني ولدت سويدياً، وأكبر شرف أن أكون المواطن الأول

ص: 408

لشعب حر" (41). وقد أكسبته بلاغته ووطنيته تجاوباً حاراً من الأمة، ولكنهما لم تحركا قلوب رجال السياسة. وفاز حزب الطواقي-أصدقاء الدستور وروسيا-الذين تمولهم كاترين الثانية بأربعين ألف جنيه، بأغلبية في ثلاث من مجالس الطبقات الأربع. ورد جوستافس باقتراض 200. 000 جنيه من المصرفيين الهولنديين ليشتري انتخاب مرشحه رئيساً للمجلس. ولكن كان عليه أن ينتظر تتويجه، فراجعت مجالس الطبقات التي يسيطر عليها حزب الطواقي يمين التتويج ليربط الملك بتعهد يلتزم فيه بقرار "أغلبية مجالس الطبقات" وأن تكون الكفاية وحدها أساساً لجميع الترقيات. وقاوم جوستافس نصف عام هذه الخطوة نحو الديمقراطية، وأخيراً وقع (مارس 1772)، ولكنه في دخيلة نفسه اعتزم الإطاحة بهذا الدستور الكريه لأول بادرة تسنح له.

وقد مهد أرضه بتوطيد شعبيته. ففتح أبوابه للجميع، و "أغدق الهبات كأنه يتلقاها"، ولم يصرف أحداً غير راض. وقد وافقه نفر من قادة الجيش على أنه لا يستطيع تخليص السويد من تسلط روسيا وبروسيا-اللتين كانتا في هذا الوقت بالذات (5 أغسطس 1772) تقطعان أوصال بولندة-إلا حكومة مركزية قوية لا يعوق حركتها مجلس أمة مرتش. وساهم فرجيين السفير الفرنسي بمبلغ 500. 000 دوقاتية في نفقات الانقلاب. وفي 18 أغسطس رتب جوستافس أن يقابله ضباط الجيش في الترسانة صباح الغد. وجاء مائتان منهم، فطلب إليهم أن ينضموا إليه في الإطاحة بنظام حكم فاسد قلق يدعى عمه أعداء السويد، فوافقوا كلهم على أن يتبعوه إلا واحداً. أما الخارج على الإجماع، وهو رودبيك الحاكم العام، فقد ركب مخترقاً شوارع ستوكهولم داعياً أفراد الشعب إلى حماية حريتهم، ولكنهم ظلوا غير مكترثين، لأنهم كانوا معجبين بجوستافس، ولم يحبوا هذا المجلس الذي كان في رأيهم يستر أولجركية من النبلاء ورجال الأعمال وراء أشكال ديمقراطية. وقاد الملك الشاب (وقد بلغ السادسة والعشرين) الضباط إلى ثكنات حرس ستوكهولم فتحدث إليهم حديثاً بلغ من الإقناع مبلغاً جعلهم

ص: 409

يتعهدون بتأييده. وبدأ أنه يكرر خطوة فخطوة الطريقة التي أوصلت كاترين الثانية إلى السلطة قبل عشر سنوات.

فلما التأم شمل مجلس الأمة في 21 أغسطس وجد ساحته يحيط بها الرماة والقاعة نفسها قد احتلها الجنود. ووبخ جوستافس في خطاب صنع التاريخ مجالس الطبقات لأنها لوثت نفسها بالتناحر الحزبي والرشوة الأجنبية، وأمر بأن يقرأ عليها الدستور الجديد الذي أعدوه معاونوه. وقد احتفظ هذا الدستور بملكية مقيدة، ولكنه وسع سلطات الملك، فخول له الهيمنة على الجيش والبحرية والعلاقات الخارجية، وله وحده حق تعيين الوزراء وإقالتهم، ولا يجتمع مجلس الأمة إلا بدعوة منه، وله أن يفضه متى شاء، ولا يناقش المجلس إلا ما قدمه له الملك، ولكن لا يصبح مشروع قانوناً دون موافقة المجلس، ويحتفظ المجلس بالإشراف على المالية عن طريق مصرف السويد وحق فرض الضرائب. وليس للملك أن يخوض حرباً هجومية دون موافقة المجلس. والقضاة يعينهم الملك ثم يصبحون غير قابلين للعزل، ويحمي حق "الهابياس كوريس" كل الأشخاص المعتقلين من تعطيلات القضاء. وطلب جوستافس إلى النواب أن يقبلوا هذا الدستور، وأقنعتهم أسنة الحراب فقبلوه، وأقسموا يمين الولاء. وشكر الملك المجلس وفضه واعداً بدعوته من جديد خلال ستة أعوام. واختفى حزباً الطواقي والقبعات. وقد تم الانقلاب في سرعة لم يرق فيها دم، وبرضى الشعب على ما يلوح. "وقدهتفوا لجوستافس محرراً لهم وأغرقوه دعاء

وتعانق الناس وهم يذرفون دموع الفرح" (42). واغتبطت فرنسا، أما روسيا وبروسيا فهددتا بالحرب لرد الدستور القديم. ولكن جوستافس لم يهتز، وتراجعت كاترين وفردريك، مخافة أن تعرض الحرب مغانهما البولندية للخطر.

وسلك جوستافس في العقد التالي مسالك الملك الدستوري-أي أنه خضع للقانون الموضوع. وقام بإصلاحات نافعة، وتبوأ له مكانا بين حكام القرن "المستبدين المستنيرين". وأشاد به فولتير باعتباره "الوريث الجدير باسم جوستافس العظيم"(43). وأما طورجو الذي كان يعاني الإحباط في

ص: 410

فرنسا. فقد طاب نفساً حين رآى سياساته الاقتصارية تنجح في السويد، حيث أجيزت حرية التجارة في الغلال، وأطلق عقال الصناعة من نظم النقابات الحرفية التي شلت حركتها. وحفز التجارة تنظيم المواني الحرة على البلطيق ومدن الأسواق الحرة في الداخل. واستشير ميرابو الأب في تحسين الزراعة، وكلف لمرسييه ولا ريفيير بوضع خطة للتعليم العام (44). وأرسل جوستافس إلى فولتير نسخة من الأمر الذي كفل حرية النشر (1774)، وكتب يقول "إنك أنت الذي يجب أن تسدي إليك الإنسانية الشكر على تحطيم تلكك العقبات التي ألقاها الجهل والتعصب في طريق تقدمها (45) وقد أصلح القانون والقضاء، وألغى التعذيب، وخفف العقوبات، وثبت العملة. ثم خفف الضرائب على الفلاحين، وأعاد تنظيم الجيش والأسطول، ومنح التسامح لجميع المذاهب المسيحية ولليهود في ثلاث مدن كبرى منهياً بذلك احتكار المذهب اللوثري لتقوى السويديين؛ فلما أن دعا مجلس الأمة للانعقاد في 1778، وافق المجلس على سنوات حكمه الست الأولى دون أن يخرج صوت واحد على الإجماع وكتب جوستافس إلى صديق له "لقد بلغت أسعد مراحل حياتي العملية. فأفراد شعبي مقتنعون بأنني لا أبغي شيئاً غير زيادة رفاهيتهم وتوطيد دعائم حريتهم" (46).

جـ - التنوير السويدي

وفي زحمة هذا النشاط التشريعي والإداري، أسهم الملك بكل قلبه في ذلك التفجر الرائع للآداب والعلوم، الذي أوقف السويد على قدم المساواة مع التطورات الفكرية الأوربية في القرن الثامن عشر. وكان هذا عصر لينايوس في النبات، وشيليه وبرجمان في الكيمياء، وقد أشدنا بذكرهما في غير هذا الموضع-ولكن ربما كان من واجبنا أن ندرج في قائمة العلم رجلاً من ألمع السويديين في زمانه، وهو إيمانويل سويد نبورج، لأنه اشتهر أول ما اشتهر بوصفه عالماً. فقد أنجز عملاً أصيلاً في الفيزياء والفلك والجيولوجيا والبليونتولوجيا وعلم المعادن والفسيولوجيا وعلم النفس. وحسن المضخة الهوائية باستعمال الزئبق؛ وإجاد وصف المغنطيسية

ص: 411

والوميض الفوسفوري؛ واقترح نظرية سديمية قبل كانط ولابلاس بزمان؛ وسبق البحث الحديث في الغدد الصماء. وبين قبل أي عالم آخر بمائة وخمسين عاماً أن حركة المخ متزامنة مع التنفس لا مع النبض. وحدد مكان عمليات العقل الراقية في سحاء المخ، وحدد لأجزاء معينة من المخ وظيفة التحكم في أعضاء معينة من الجسم (47). وخطب مجلس الخطباء في النظام العشري، وإصلاح العملة، وموازنة التجارة. وبدا أن عبقريته كلها موجهة إلى العلم. ولكنه حين خلص إلى أن دراساته تقوده إلى نظرية ميكانيكية للعقل والحياة، وأن هذه النظرية مفضية إلى الإلحاد، انتقص على العلم بقوة وتحول إلى الدين. وفي 1745 بدأ يرى رؤى للجنة والنار، وانتهى به الأمر إلى تصديق هذه الرؤى حرفياً، فوصفها في رسالته "السماء وعجائبها والجحيم" وأخبر قراءه الذين يعدون بالألوف أنهم في الجنة لن يكونوا أرواحاً مجردة من جسومها بل رجالاً ونساء حقيقيين من لحم ودم، يستمتعون بمباهج الحب الجسدية والروحية. جمعاً. ولم يعظ، ولا ألف مذهباً أو شيعة، ولكن تأثيره انتشر في طول أوربا وعرضها، فتأثر به ويسلي، ووليم بليك، وكولردج، وكارليل، وإمرسن، وبراوننج، وأخيراً (1788) كون أتباعه "كنيسة أورشليم الجديدة".

على أن السويد رغم معارضته أسلمت عقلها أكثر فأكثر للتنوير. وسرعان ما أسفر استيراد المؤلفات الفرنسية والإنجليزية أو ترجمتها عن علمنة للثقافة وتهذيب للذوق والأشكال الأدبية. ووجدت النزعة التحررية الجديدة في عهد جوستافس الثالث وأمه قبولاً واسعاً في الطبقتين والوسطى والعليا، حتى بين كبار رجال الدين، الذين بدأوا يبشرون بالتسامح وبعقيدة ربوبية بسيطة (48). وكانت الشعارات السائدة في كل مكان هي "العقل"، و "التقدم"، و "العلم" و "الحرية" و "الحياة الطيبة هنا على الأرض". ونظم لينايوس وغيره الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في 1739، وأسس كارل تسين الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في 1733. وكانت الأكاديمية الملكية للآداب البحتة قد عاشت فترة قصيرة على عهد الملكة لويزا أولريكا، فأحياها جوستافس (1784) بوقف سخي، ووجهها لمنح مدالية كل عام

ص: 412

قيمتها عشرون دوقاتية لأفضل إنتاج سويدي في التاريخ أو الشعر أو الفلسفة، وفاز هو نفسه بأول جائزة كوفئ بها على ثنائه لنارت تورشتنسن ألمع قواد جوستافس أدولفس. وفي 1786 أسس الملك، (على حد قوله)"أكاديمية جديدة لتهذيب لغتنا وصقلها، على غرار الأكاديمية الفرنسية، ويطلق عليها اسم الأكاديمية السويدية، وتتألف من ثمانية عشر عضواً. "وأمدت هذه الأكاديمية هي وأكاديمية الآداب البحتة بالمال اللازم لصرف المعاشات للدارسين والمؤلفين السويديين (49). وكان جوستافس يساعد شخصياً رجال الأدب أو العلم أو الموسيقى؛ وقد أشعرهم بأن وجوده حق لهم، ورفعهم إلى مقام اجتماعي جديد بدعوتهم إلى بلاطه، ثم حفزهم بمنافسته إياهم.

وكان في السويد دراما قبل عهده، لا سيما بتشجيع من أمه، ولكنها كانت تزوده بالممثلين الفرنسيين الذين يقدمون المسرحيات الفرنسية. فصرف جوستافس الفرقة الأجنبية، واستنهض المواهب الوطنية لإخراج تمثيليات لمسرح سويدي حقاً. وتعاون هو نفسه مع يوهان فيلاندر في تأليف أوبرا "تيطس وبيليه"، وعرضت أول مرة في 18 يناير 1773، واستمر عرضها ثماني وعشرين ليلة. ثم انصرف الملك إلى السياسة ثمانية أعوام. غير أنه عاد إلى تناول القلم من جديد في 1781 وألف سلسلة من التمثليات ما زالت تحتفظ بمكانة مرموقة في الأدب السويدي، وأولى هذه التمثيليات-المسماة (أريحية جوستافس أدولفس، 1782) -كانت فاتحة الدراما السويدية. وكان الملك يستقي موضوعاته من سجلات التاريخ، وقد علم شعبه تاريخ أمتهم كما علم شكسبير الإنجليزي. وفي 1782 بنى على حساب الدولة مسرح منيف للدراما والموسيقى. وكان حوستافس يكتب مسرحياته نثراً، ثم يصوغها يوهان كلجرين شعراً، ثم يدفعها إلى مؤلفين موسيقيين أجانب ليضعوا موسيقاها، وهكذا أصبحت تمثيلياته أوبرات. وكانت أشهى ثمرات هذا التعاون "جوستاف أدولف وإيبا براهي" التي أحبت ذكرى قصة غام القائد العظيم، وجوستاف فازا، التي وصفت تحرير أول جوستاف للسويد من الحكم الدنمركي.

وبفضل هذه القيادة الملكية، وبفضل ثلاث جامعات (أوبصالا،

ص: 413

وآبو، ولوند) دخلت السويد حركة تنويرها الخاصة. ومهد للحركة أولوف فون دالين بتمهيد أديسوني (أي على طريقة جوزف أديسون) بكتابته غفلاً من التوقيع، ونشره دورياً (1733 - 34) مجلة دن سفنسكا أرجوس" التي ناقس فيها كل شيء إلا السياسة، بأسلوب صحيفة سبكتيتور المهذب، وابتهج كل قارئ تقريباً بما كتب، ووافق مجلس الأمة على إجازة الكتب الذي طلع الآن من مخبئه. وعينته الملكة لويزة أولريكا شاعراً للبلاط ومعلماً لابنها الذي أصبح جوستافس الثالث. فقيد المنصب شاعريته وبلدها، ولكنه أتاح له من الوقت والمال ما أعانه على كتابة رائعته في تاريخ السويد، وهو أول تاريخ نقدي للملكة السويد.

وكانت أطرف الشخصيات في كوكبة الشعراء الجديدة امرأة تسمى هدفيج نوردنفليشت، وهي للسويد قريع لسافو، وأسبانيا، وشارلوت برونتي في أوطانهن. وقد أفزعت أبويها المتزمتين بقراءتها المسرحيات والشعر، فعاقباها، ولكنها لم تنته، وكتبت شعراً فيه من الحلاوة والفتنة ما أكرههما على أن يروضا نفسيهما على هذه الفضيحة. ولكنهما أجبراها على الزواج من ناظر ضيعتهما، وكان رجلاً حكيماً دميم الوجه، قالت "كنت أحب أن أصغي إليه فيلسوفاً، ولكن منظره عاشقاً كان لا يحتمل"(50). وتعلمت أن تحبه، ولكنه لم يلبث أن مات بين ذراعيها بعد زواجهما بثلاث سنين. وأنهى قسيس وسيم حدادها بخطبتها، فأصبحت زوجاً له، واستمتعت "بأسعد حياة تتاح لإنسان فإن في هذا العالم الناقص"، ولكنه مات بعد سنة، وكان هدفيج تجن حزناً عليه. فاعتكفت في كوخ على جزيرة صغيرة، وبثت حزنها ف قصائد حظيت بقبول حسن حملها على الانتقال إلى ستوكهولم حيث ظلت تصدر كل سنة (1744 - 50)"حكماً للنساء، بقلم راعية من الشمال" وأصبح بيتها صالوناً يلتقي فيه صفوة المجتمع والفكر. وحذا حذوها الشعراء الشبان أمثال فردريك جلينبورج وجوستاف كروتز في اتخاذ الأسلوب الفرنسي الكلاسيكي وفي اعتناق التنوير. وفي 1758، حين بلغت الأربعين، وقعت في غرام يوهان فشرشتروم، وكان في الثالثة والعشرين، واعترف لها بأنه يحب امرأة غيرها، ولكنه حين رأى

ص: 414

هيدفج وحيدة مبتئسة عرض عليها الزواج. فرفضت هذه التضحية، وحاولت إغراق نفسها حلاً للمشكلة، فأنقذت، ولكنها ماتت بعد ثلاثة أيام. وما زالت "راعية الشمال" علماً من أعلام الأدب السويدي.

وحذا كروتز حذو خيالها الرومانسي المحلق بمجموعة رقيقة جداً من الأغاني سماها "أتيس وكاميللا"(1762). ظلت سنين كثيرة أعظم ما يعجب به القراء من قصائد في هذه اللغة. فكاميللا، بوصفها كاهنة لديانا، تنذر للعفة، ولكن أتيس الصياد يراها فتهفو في نفسه إليها ويضرب في الغابات يائساً. وتتحرك عاطفة كاميللا أيضاً فتسأل ديانا "أليس ناموس الطبيعة مقدساً قداسة أملاك؟ " ثم تصادف أيلاً جريحاً فتعني به وتخفف ألمه، فيعلق يدها، ويتوسل إليها أن أتيس أن تهبه امتيازات مماثلة، فتوبخه، فيقفز من جرف عال طلباً للموت، ولكن كيوبيد يعترض سقطته، وتحنو عليه كاميللا وترضى بعناقه، غير أن ثعباناً ينشب نباه في صدرها المرمري، فتموت بين ذراعي أتيس. ويمتص أتيس السم من جرحها فيشرف على الموت. وتلين قناة ديانا، فتردهما إلى الحياة، وتحل كاميللا من نذورها العذرية، وينتهي كل شيء نهاية سعيدة. وقد أشاد بهذه القصيدة الرعوية المثقفون السويديون كما أشاد بها فولتير، ولكن كروتز انصرف إلى السياسة وأصبح مستشاراً للسويد.

وإذا كان هدفيج نورد نفليشت هي سافو السويد، فإن كارل بلمان كان روبرت بيرنز السويد. نشأ في أحضان العز والتقوى، ولكنه تعلم أن يفضل أغاني الحانات المرحة على ترانيم بيته الكئيبة. ففي الحانات كانت حقائق الحياة والوجدان تعلن دون اكتراث بالتقاليد واللياقة، وفيها يعري الخمر كل نفس فتتيح للحقيقة أن تكتشف بين الوهم والغضب. وكان أكثر الشخصيات بعثاً للأسى في هذا الحطام البشري يان فريدمان، الذي كان يوماً ما صانع ساعات البلاط، والذي حاول الآن أن ينسى في الشراب فشل زواجه. وأكثرها مرحاً ماريا كليشتروم، ملكة الأعماق السفلى. وقد غني بلمان أغانيهم معهم، وألف الأغاني عنهم، وأنشدها أمامهم على أنغام موسيقى من تأليفه. وقد شاب بعض أغانيه شيء من التحلل، فوبخه

ص: 415

كيلجرين، الأمير غير المتوج لشعراء العصر. ولكن حين أعد بلمان "رسائل فريدمان" للطبع (1790) قد كلجرين لهذه الرسائل الشعرية بمقدمة حماسية، وحظي الكتاب بجائزة من الأكاديمية الملكية السويدية. واستمع جوستافس الثالث إلى بلمان في سرور، ولقبه "أناكريون الشمال" ومنحه وظيفة شرقية في الحكومة. على اغتيال الملك (1792) ترك الشاعر بغير مورد، فتردى في مهاوي الفقر، وحبس للدين، ثم أفرج عنه بمعونة أصدقائه. وبينما كان مشرفاً على الموت بالسل وهو في الخامسة والخمسين أصر على زيارة حانته الأثيرة لآخر مرة، وراح يغني فيها حتى بح صوته. ولم يلبث أن وافته منيته في 11 فبراير 1795. ويعده البعض "أكثر الشعراء السويديين أصالة" و "بالإجماع أعظم شاع في زمرة الشعراء" الذين شرفوا هذا العهد (51).

ولكن الرجل الذي أقر معاصروه بأنه لا يفضله سوى الملك في حياة العصر الفكرية هو يوهان هنريك كليجرين. كان ابناً لقسيس، ولكنه تنكر للعقيدة المسيحية، وسار في ركاب التنوير الفرنسي، ورحب بكل لذائذ الحياة ومتعها بأقل قدر من الندم. وكان أول كتبه "ضحكى"، أغنية طويلة للفرح، بما فيه أفراح العشق؛ وقد أشاد كليجرين بالضحك باعتباره "العلامة الوحيدة الإلهية المميزة للبشرية" وناشده أن يصحبه حتى آخر أيامه (52). وفي 1778، وهو في السابعة والعشرين، اشترك مع كارل بيتر لنجرين في تأسيس مجلة "بريد ستوكهولم"، وقد جعل قلمه المرح هذه المجلة الصوت الغالب في الحياة العقلية السويدية على مدى سبعة عشر عاماً؛ وفي صفحاتها بسط التنوير الفرنسي سلطانه كاملاً، وشرف الأسلوب الكلاسيكي باعتباره أسمى معيار للتفوق. وسخرت المجلة من الرومانسية الألمانية، وامتدحت خليلات كلجرين في قصائد أفزعت المحافظين في البقاع النائية. على أن اغتيال مليكه المحبوب انتزع من فلسفة اللذة التي دان بها الشاعر. وفي 1795 أفلت منه زمام إحدى علاقاته الغرامية فعمقت حتى أصبحت حباً صادقاً. وبدأ كيلجرين يعترف بحقوق الرومانس، والمثالية، والدين، وعدل من إدانته لشيكسبير وجوته، ورأى أن رأس الحكمة قد يكون مخافة

ص: 416

الله (رغم كل شيء). على أنه حين مات (1795) غير متجاوز الرابعة والأربعين. طلب ألا تقرع لموته نواقيس (53) وهكذا عاد في النهاية ابناً لفولتير.

ومن النواحي السحرة في خلقه استعداده لفتح أعمدة مجلته لمعارضي آرائه. وكان أعنفهم توماس توريلد، الذي أعلن الحرب على التنوير باعتباره الإعجاب الفج بالفكر السطحي. وقد روع توريلد ستوكهولم وهو في الثانية والعشرين بكتابه "العواطف المشبوبة" الذي قال عنه أنه "يحوي القوة الكاملة لفلسفتي والبهاء كله لخيالي-طليقاً، نشوان، رائعاً". وصرح بأن "حياته بأسرها مكرسة

للكشف عن الطبيعة وإصلاح العالم" (54). والتف حوله نفر من الأدباء المتمردين الذين أججوا نارهم بوقود الحركة الزوبعية وفضلوا كلوبشتوك على جوته، وشكسبير على راسين، وروسو على فولتير. فلما أخفق توريلد في كسب جوستافس لصفه، هاجر إلى إنجلترة (1788)، وغذى روحه بجيمس طومس، وإدوارد يونج، وصموئيل رتشردسن، وانضم إلى المتطرفين الذين ناصروا الثورة الفرنسية. وفي 1790 قفل إلى السويد ونشر دعوة سياسية حملت الحكومة على نفيه وبعد أن قضى عامين في ألمانيا سمح له بالعودة إلى السويد حيث استكان إلى كرسي في الجامعة.

وقد لمع في سماء الأدب نجوم آخرون، منهم كارل جوستاف آف ليوبولد الذي سر الملك بما اتسم به شعره من شكل كلاسيكي وطابع مهذب؛ ومنهم بنجت ليدنر الذي آثر الرومانس كما آثره توريلد. وقد طرد من جامعة لوند لمغامراته الطائشة (1776)، ثم واصل دراساته وانحرافاته في روشتوك، فوضع على ظهر سفينة مبحرة إلى جزر الهند الشرقية، ولكنه هرب منها، وعاد إلى السويد، وأثار انتباه جوستافس بديوان من القصص الخرافية الشعرية؛ وقد عين سكرتيراً للكونت كرويتز في سفارة باريس، وهناك درس النساء أكثر من السياسة، فأرسل إلى وطنه، حيث مات فقيراً

ص: 417

في الخامسة والثلاثين (1793). وقد كفر عن حياته بثلاثة دواوين تضطرم بنار بايرونية. ثم هناك شاعرة متواضعة هي آنا ماريا لنجرين، زوجة مساعد كليجرين في تحرير مجلة بريد ستوكهولم. فقد أسهمت فيها بشعر أكسبها ثناءً خاصاً من الأكاديمية الملكية السويدية. ولكنها لم تسمح لبرة شعرها أن تعوقها عن أداء واجباتها المنزلية؛ وفي قصيدة موجهة إلى ابنة وهمية نصحتها بأن تتجنب السياسة والمجتمع وتقنع بواجبات البيت ومباهج الحياة البيتية.

ونسأل الآن، هل قامت في الفن السويدي أي حركة تتجاوب مع الأدب والدراما؟

قليلاً ما

ومن أمثلتها أن كارل جوستاف التسيني زخرف بالروكوك (حوالي 1750) القصر الملكي الذي بناه أبوه نيقوديموس تسودين في 1693097، وجمع مجموعة وافرة من الصور والتماثيل هي الآن جزء من متحف ستوكهولم القومي. وحفر يوهان طوبياس زرجيل بالأسلوب الكلاسيكي تمثالاً لفينوس وآخر لفون سكران (وهو إله الحقول والقطعان)، وخلد في الرخام ملامح يوهان باش الغليظة. وكان هناك أربعة مصورين في أسرة باش: لورنتس الأكبر، وأخوه يوهان، وأخته أولريكا، ولورنتس الأصغر، وصور كل منهم الملكية والنبالة، وكانوا جانباً متواضعاً في التنوير الرائع الذي ازدان به هذا الحكم.

‌5 - الاغتيال

كان الملك ذاته هو الذي ختم هذا الازدهار الرائع ختاماً حزيناً. ذلك أن الثورة الأمريكية التي عضدتها فرنسا أعظم تعضيد بدت له خطراً يتهدد كل الملكيات، فوصف المستعمرين بأنهم "رعايا متمردون" وأقسم أنه لم يعترف بهم أمة حتى يحلهم ملك إنجلترة من يمين الولاء له (55). وراح في العقد الأخير من عمره يحكم زمام السلطة الملكية أكثر فأكثر، ويحيطها بالاحتفالات والمراسم، ويقصي معاونيه الأكفاء ذوي العقول المستقلة ليحل محلهم خداماً له يمتثلون لرغباته دون تردد أو معارضة. وبدأ يقيد الحرية التي منحها للمطبوعات. وحين وجد زوجته امرأة غبية خاملة انغمس في

ص: 418

مغازلات (56) صدمت الرأي العام الذي كان يتوقع من ملوك السويد أن يكونوا للأمة قدوة في المحبة والولاء الزوجيين. ثم نفر الشعب بتقريره احتكار الحكومة لتقطير المسكرات، وتهرب الفلاحون الذين ألفوا أن يقطروا شرابهم بأنفسهم من هذا الاحتكار بعشرات الحيل. وقد أنفق مالاً متزايداً على الجيش والبحرية، وكان يتأهب بشكل ظاهر للحرب مع روسيا. فلما جمع مجلس الأمة مرة ثانية (6 مايو 1786) افتقد في طبقاته ذلك الإجماع الذي وافق به مجلس 1787 على قوانينه، ورفض المجلس مقترحاته كلها تقريباً، أو عدلها تعديلاً أفقدتها قيمتها، فاضطر الملك إلى إلغاء احتكار الحكومة لتقطير الخمور. وفي 5 يوليو فض المجلس وقرر أن يحكم البلاد دون موافقته.

وكانت هذه الموافقة طبقاً لدستور 1772 ضرورية في أي حرب إلا الحرب الدفاعية. وكان جوستافس ينوي الهجوم على روسيا. فما السبب؟ لقد علم أن روسيا والدنمرك قد وقعتا (12 أغسطس 1774) معاهدة سرية للعمل الموحد ضد السويد. وزار كاترين الثانية في سانت بطرسبرج في 1777، ولكن تظاهرهما بالصداقة لم يخدع المضيفة ولا ضيفها. فلما تكاثرت انتصارات روسيا على تركيا، خشي جوستافس إذا لم يقم بعمل لإنهائها أن توجه الإمراطورية عاجلاً جيوشها الضخمة غرباً بأمل إخضاع السويد لمشيئتها على نحو ما فعلت ببولندة، فهل من سبيل لإحباط تلك الخطة؟ لا سبيل في رأي الملك إلا أن تعان تركيا بهجوم جناحي على سانت بطرسبرج. وساعده السلطان على اتخاذ هذا القرار بعرضه على السويد إعانة قدرها مليون قرش كل سنة على امتداد السنوات العشر التالية إذا انضمت إليه في الجهد المبذول لكبح جماح كاترين. وعلل الملك نفسه بأن السويد قد تستطيع الآن أن تسترد ما أسلمته لبطرس الأكبر في 1721. وعليه ففي 1785 بدأ جوستافس في تجهيز جيشه وبحريته للحرب. وفي 1788 أرسل إلى روسيا إنذاراً نهائياً طالب فيه برد كاريليا وليفونيا للسويد، وبرد القرن لتركيا. وفي 24 يونيو أبحر قاصداً فنلندة. وفي 2 يوليو، تولى في هلسنجفورس قيادة قواته لا متجمعة، وشرع في الزحف على سانت بطرسبرج.

ص: 419

ولكن الحظ خانه في كل شيء فالأسطول أوقفه أسطول روسي صغير في معكرة غير حاسمة تجاه جزيرة هوجلاند (17 يوليو). وتمرد في الجيش 113 ضابطاً، متهمين الملك بأنه حنث بعهده بألا يشن حرباً هجومية دون موافقة مجلس الأمة، ووافدوا مبعوثاً إلى كاترين يعرضون عليها أن يضعوا أنفسهم تحت حمياتها وأن يتعاونوا معها في جعل فنلندة السويدية والروسية دولة مستقلة. وجردت الدنمرك على عجل خلال ذلك جيشاً يهاجم جوتبورج، أغنى مدينة في السويد. وتقبل جوستافس هذا الغزو باعتباره تحدياً يستنفر شعبه، ووجه نداءه إلى الأمة لا سيما الفلاحين الصلاب أهل مناطق التعدين المسمين "ديلز" ليعطوه جيشاً جديداً أكثر ولاء له، وذهب بشخصه مرتدياً الزي الذي يتميز به رجال الديلز ليخطبهم من فناء الكنيسة في قرية مورا وهو الفناء الذي التمس فيه جوستافس فازا معونتهم في 1521. واستجاب الشعب، وتألفت أفواج المتطوعين في مائة مدينة، وفي سبتمبر ركب الملك الذي كان يقاتل لأجل حياته السياسية 250 ميلاً في ثمان وأربعين ساعة، وشق طريقه إلى جوتبرج، واستنفر الحامية لتواصل دفاعها ضد اثني عشر ألف من الدنمركيين الذين يحاصرونها. وتحول الحظ إلى جانبه. ذلك أن بروسيا التي كرهت أن تترك تخضع لروسيا هددت بشن الحرب على الدنمرك، فانسحب الدنمركيون من الأرض السويدية. وعاد جوستافس ظافراً إلى عاصمته.

أما وقد اشتد ساعده بجيش جديد موال له فقد دعا مجلس الأمة للانعقاد في 26 يناير 1786. وأيد سبعمائة عضو من أعضاء مجلس النبلاء-وعددهم 950 - الضباط المتمردين، ولكن المجالس الأخرى-القساوسة، وأهل المدن، والفلاحين-ناصروا الملك بأغلبية ساحقة. وأعلن جوستافس الحرب السياسية على النبلاء بتقديمه لمجلس الأمة "قانوناً للوحدة والأمن" أنهى كثيراً من امتيازات الطبقة الأرستقراطية، وفتح باب المناصب كلها تقريباً للعامة، وأعطى الملك سلطات ملكية مطلقة في التشريع والإدارة والحرب والسلم. وقبلت الطبقات الثلاث الدنيا القانون، أما طبقة النبلاء فقد رفضته باعتباره غير دستوري. واعتقل جوستافس واحداً وعشرين نبيلاً، ومنهم

ص: 420

الكونت فردريك آكسل فون فرسن والبارون كارل فردريك فون بكلين-وأحدهما رجل شريف الخلق غير فعال، والآخر ذكي غادر. ولكن سلطة المال ظلت في يد مجلس الأمة، وكانت موافقة المجالس الأربعة جميعها شرطاً لإقرار الاعتمادات المالية. ووافقت مجالس الطبقات الثلاث الدنيا على المال الذي طلبه الملك-للفترة التي يراها ضرورية-لمواصلة الحرب ضد روسيا، أما مجلس النبلاء فرفض أن يوافق على الاعتمادات لأكثر من سنتين. وفي 17 أبريل دخل الملك مجلس النبلاء، واتخذ مقعد الرئيس، وطلب إلى النبلاء أن يوافقوا على قرار المجلس الثلاثة الأخرى. ورجحت كفة الرافضين، ولكن الملك أعلن أن اقتراحه فاز. وشكر النبلاء على تأييدهم الكريم، ثم خرج بعد أن خاطر باغتباله بأيدي النبلاء الساخطين.

وأحس الآن أنه مطلق اليد في خوض الحرب. فأعاد فيما بقي من عام 1789 بناء الجيش والأسطول. وفي 9 يوليو 1790 التقت بحريته في بالبحرية الروسية في الجزء السفنسكوندي من خليج فنلندة، وأحرز أعظم نصر حاسم في تاريخ السويد البحري، وخسر الروس ثلاثاً وخمسين سفينة و9. 500 رجل. واستعدت كاترين الثانية لعقد الصلح وهي ما تزال مشغولة بالترك، فوافقت بمقتضى معاهدة فارالا (15 أغسطس 1790) على أنها جهودها للهيمنة على سياسة السويد، وأعيدت الحدود إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وفي 19 أكتوبر 1791 أقنعها جوستافس بأن تبرم معه حلفاً دفاعياً تعهدت فيه بأن ترسل للسويد كل عام 300. 000 روبل.

ولا ريب في أن خوف العدوين القديمين المشترك من الثورة الفرنسية حولهما إلى هذه المشاركة الجديدة. وتذكر جوستافوس في عرفان أن فرنسا كانت الصديق الوفي للسويد طوال 250 عاماً، وأن لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر أمداه بمعونة بلغت 38. 300. 000 جنيه بعد عامي 1772 و1789. واقترح تأليف عصبة من الأمراء والملوك تغزو فرنسا وتعيد الملكية إلى سابق قوتها، وأوفد هانز آكسل فون فرسن (وهو ابن عدوه الكونت فون فرسن) ليدبر فرار لويس السادس عشر من باريس،

ص: 421

وذهب بنفسه إلى إكس-لا-شابل ليقود جيش الحلفاء، وسمح للمهاجرين الفرنسيين بالالتجاء إلى معسكرة. وقدمت كاترين المال دون الرجال. ورفض ليوبولد الثاني التعاون، وقفل جوستافس إلى ستوكهولم ليحمي عرشه.

ذلك النبلاء الذين قضى على سيادتهم السياسية لم يرتضوا الهزيمة. وكانوا يرون في حكم جوستافس الاستبدادي انتهاكاً صريحاً للقانون الذي أقسم من قبل على مساندته. وأطل يعقوب انكارشتروم التفكير في سقوط طبقته، "لقد فكرت كثيراً في أنه قد يكون هناك سبيل مشروع لجعل الملك يحكم وطنه وشعبه بمقتضى القانون ومحبة الخير، ولكن كل الأدلة قامت ضدي

فخير أن يغامر إنسان بحياته في سبيل المصلحة العامة". وفي 1790 حوكم بتهمة التحريض "لقد عقدت هذه المحنة

عزمي على أن أموت خيراً من أن أحيا حياة تعسة، حتى إن قلبي الذي طبع في غير هذا على الحساسية والمحبة انقلب قاسياً أشد القسوة فيما يتصل بهذه الفعلة الشنيعة" (57). وانضم بكلين-كونت كارل هورن-وغيره إلى المؤامرة التي بيتت قتل الملك.

وفي 16 مارس 1792، وهو تاريخ يذكر بقيصر ذكرى مشئومة، تلقى جوستافس رسالة تحذره من الذهاب إلى مرقص تنكري حددت له تلك الليلة في المسرح الفرنسي. وذهل الملك نصف مقنع، ولكن الأوسمة التي حملها على صدره كانت تشي بمقامه. فتعرف عليه أنكارشتروم، وأطلق عليه النار، ثم فر هارباً. وحملوا جوستافس إلى مركبة مضوا بها إلى القصر الملكي مخترقين جمعاً هائجاً مضطرباً. وكان ينزف نزفاً خطراً، ولكنه علق مداعباً بأنه أشبه بباباً يحمل في موكب يخترق طرق روما. ولم يمض على الهجوم ثلاثة ساعات حتى قبض على أنكارشتروم، ثم على رؤوس المؤامرة أجمعين بعد أيام. واعترف هورن بأن المؤامرة تضم مائة متآمر.

ص: 422

وطالبت الجماهير بإعدامهم، وأوصى جوستافس بالترفق بهم. فجلد أنكارشتروم، وقطع رأسه، ومزق جسده أرباعاً، وأفسح لجوستافس في الأجل عشرة أيام، فلما أنبئ بأنه لم يبق له في الحياة غير ساعات، أملى وثائق بتعيين هيئة وصاية تحكم البلاد والعاصمة. ثم مات في 26 مارس 1792 بالغاً من العمر خمسة وأربعين عاماً. وبكته الأمة كلها تقريباً، لأنها تعلمت أن تحبه رغم أخطائه، وأدركت أن السويد تحت قيادته عاشت عصراً من أمجد العصور في تاريخها.

ص: 423