المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قصة الحضارة ويل ديورانت - أريل ديورانت ‌ ‌عصر نابليون تاريخ الحضارة الأوربية من - قصة الحضارة - جـ ٤٣

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

قصة الحضارة

ويل ديورانت - أريل ديورانت

‌عصر نابليون

تاريخ الحضارة الأوربية من 1789 إلى 1815 م

عبد الرحمن عبد الله الشيخ

المجمع الثقافي - أبوظبى - الامارات العربية المتحدة

- دار الجبل - بيروت- لبنان

ص: 3

‌مقدمة

1 -

‌ مقدمة الترجمة العربية

ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يتناول "موضوعا" حيا مع أنه تاريخي، فلا زالت أصداؤه تترى، ومثل هذه الموضوعات التي لا تزال متفاعلةً مؤثرة في حاجة إلى كاتب عركته الأيام، وتأَمل فأغرق في التأمل ليخلص بالعبر والنتائج الصحيحة، وقد بدأ ول ديورانت - وزوجته - تأليف هذا الكتاب وقد تجاوز السبعين من عمره، بعد أن لاحظ - على حد تعبيره - أن الحصادة التي تحصد الناس قد تأخرت فلم "تحصده"،

وأن من غير الحكمة أن يجلس عاطلاً مكتئبا بلا عمل، فعكف مع زوجته على تأليف هذا الكتاب عن عصر نابليون، وجعل قسمه الأول عن الثورة الفرنسية، وهذا بعينه ما يضيف قيمة أخرى للكتاب ففي هذه المرحلة من العمر لا يكون المرء متهورا متسرعا، وإلا فمن غير ول ديورانت يقول لنا إن المساواة المطلقة بين الناس حلم غير قابل للتحقيق، وأقصى ما يمكن أن نصل إليه هو:"مساواتهم أمام القانون"؟ وهل نتوقع من ديورانت ابن السبعين إلا أن يقول إن مَبْدَأيْ الحرية والمساواة، مبدءان متناقضان بحكم الضرورة، فبمجرد إطلاق العنان للحرية، سيكون هناك "السابق" و"المتخلف" ومن يقع مغشيا عليه في أثناء السباق، ومن سيستطيع بالجهد والعرق أو بالغش والخداع أو بكل ذلك أن يصبح ثريا، ومن ستعوزه القدرة فيكون دون ذلك،

وإذا كان لا بد من التطبيق الحرفي للمساواة، فإن هذا يعنى قمع الحرية ويضرب أمثلة بالنظم الفاشستية التي قمعت الحرية ولم تستطع - مع ذلك - فرض المساواة المطلقة، لكنه مع هذا يشير إلى وقائع تاريخية تحتم ضرورة التكافل الاجتماعي وإحداث التوازن من خلال نظم ضريبية عادلة. إنه يشير إلى ملكيات دستورية، وحركات ديمقراطية، ومحاولات شيوعية، ويرى - بحق - أن الثورة الفرنسية كانت عدّة ثورات متداخلة وليست ثورة واحدة مما يطالعه القارئ في ثنايا هذا التاريخ الممتع.

ومن غير ديورانت الذي نيف على السبعين وهو يكتب سطور هذا الكتاب، يقول لنا: إن كل محاولات إبعاد الدين، وإحلال "عناصر طبيعية" مكانه لضبط السلوك البشرى قد باءت - عبر التاريخ - بالفشل، فالقانون وحده لا يكفي لضبط هذا الحيوان الناطق، وإنما لا بد من يقين إيماني بوجود إله يرى كل شيء ويسمع كل شيء، ويعاقب على السيئة، ويثيب على الحسنة، وهو الأمر الذي انتهى إليه

ص: 5

ثوار فرنسا الذين لم ينكر غالبهم وجود الله سبحانه، رغم ما يتردد في بعض الكتب من نسبة الإلحاد إليهم.

ومن غير ديورانت ابن السبعين يعكف على نتائج الثورة الفرنسية بتؤدة وتروٍ فلا ينكر جوانبها الإيجابية، ولكنه يقول: إن جزءاً كبيرا من هذه النتائج الإيجابية كان سيتحقق - بدون ثورة - من خلال التطور الطبيعي للأمور، والمسار المنضبط للتاريخ، وبذا تكون النتائج الطيبة قد تحققت بغير هذا القدر الهائل من الدماء المراقة. وسيجد القراء والمتخصصون أن "ديورانت وزوجته أضافا جديدا" إلى معلوماتنا عن الثورة الفرنسية، وصححا كثيرا من الأخطاء، ونشرا كثيرا من الوثائق المهمة خاصة مراسلات نابليون لزوجته جوزيفين التي أثرت كثيرا في حياته، بل وفي وقع خطواته في المعارك، حتى إن المؤلف أورد لنا خطابا أرسله نابليون إلى أخيه نفهم منه أنه كان قد اعتزم ترك مصر والعودة إلى فرنسا حتى قبل أن تطلب منه حكومة الإدارة العودة، وقبل أن يتأزم وضع الحملة في مصر بعد هزيمة الأسطول الفرنسي في موقعة أبى قير البحرية على يد الأسطول الانجليزي بقيادة نلسن، لا لشيء إلا لعلمه أن جوزيفين قد اتخذت في غيابه عشيقاً.

وحتى تحقق الترجمة - في أي مجال - غرضها لا بد أن تركز على نقل المفاهيم إلى القارئ العربي، وليس مجرد الألفاظ مجردة من مفاهيمها، وسيجد القارئ فيما ترجم وكتب عن الثورة الفرنسية ترجمةً قد تكون حرفيّة أو دقيقة من الناحية اللفظية، لكنها - وهذا مؤكد - تبعد القارئ العربي تماما عن المعنى المقصود، فالترجمة ليست من لغة إلى لغة فقط ولكنها في الأساس من ثقافة إلى ثقافة.

ولنبدأ بمصطلح السانس كولوت Sans Culotts الوارد في هذا الكتاب والذي يعنى حرفيا "الذين هم بغير [بناطيل] أو سراويل قصار " فالكلمة Sans تعنى (بغير) والكلمة Culotts تعنى " السروال " أو [البنطلون] القصير أي الذي يصل إلى الركبة فقط، والكلمة مستخدمة في عاميّة بعض البلاد العربية (الكلوت والجمع كلوتات)، ومن المعروف أن المجتمع الفرنسي قبل الثورة كان ينقسم إلى طبقة النبلاء وطبقة الإكليروس، وطبقة عامة الشعب أي الذي ليسوا نبلاء وليسوا إكليروس (رجال دين)،

فلما قامت الثورة حققت شرائح من الطبقة الثالثة بعض طموحاتها خاصة طبقة البورجوازية العليا (رجال البنوك والوسطاء والتجار والصناع والمديرون والمحامون

ص: 6

والأطباء والعلماء والمدرسون والحرفيون والصحفيون) أما طبقة عامة الشعب (وهم مثل البورجوازيه ليسوا نبلا ولا إكليروس) فكانت تشمل الفلاحين وعمال النقل البرى والبحري وبعض الحرفيين، ثم أصبحت تعنى خليطا غير متناسق يشمل فيما يقول ديورانت: الجزارين والطباخين والبائعين الجوالين والحلاقين وأصحاب المحلات والعاملين في الفنادق وتجار الخمور وصانعيها والنجارين والبنائين، والحذائين، والخياطين ....... الخ.

وكان هؤلاء يلبسون سراويل طويلة تصل إلى كعوب أقدامهم لأنهم عرضة لقسوة المناخ أكثر من غيرهم، ولطبيعة أعمالهم، وهم بلباسهم هذا يختلفون عن النبلاء الذين يرتدون السراويل القصيرة والجوارب الغالية. فعندما يقال: الذين لا يرتدون السراويل القصيرة فهذا لا يعني أكثر من أنهم ليسوا نبلاء، الكلمة لا تعني أكثر ولا أقل من ذلك، فإذا ترجمنا الكلمة (سانس كولوت) بقولنا (اللامتسرولون) أو الذين لا (يرتدون سراويل) كما ترجمتها المعاجم المتداولة (إنجليزي - عربي)، فليس على القارئ العربي جناح إن هو تصور هذه الشريحة من طبقة الشعب، تهتف صارخة في شوارع باريس، وأياديها تلوح مهددة، بينما تتأرجح أعضاؤها الأخرى مشاركة في الانفعال، ظاهرة لا تغطيها سراويل!.

وليس الأمر كذلك، ولدينا في التراث العربي الحديث أمثلة، فالمصريون كانوا حتى مطلع الخمسينات يقولون هذا مطربش (أي من لابسي الطرابيش) وهذا ليس مطربشا، وهذا لا يعني أنه لا يغطي رأسه بالضرورة وإنما المعنى أنه ليس (أفندي) أو ليس متعلما أو أنه جاهل، وفي العامية أيضا نصف فلاناً بأنه (حافي) وهذا يعني أنه هَمَل رقيق الحال، ولا يعني بالضرورة أن الرجل بغير خف أو نعال، وفي ثقافات أخرى كانوا يقولون حتى وقت غير بعيد: هذا لا يليق به "بشت" أو أنه يرتدي "بشتا" فأفسح له الطريق، وليس المعنى أن من لا يلبس بشتا عاريا بالضرورة. وترجم بعض المترجمين الكلمة (سانس كولوت) بما هو أسوأ إذ وصفهم بأنهم (العراة) كما في النص التالي:

" .. ولفت بعض المؤرخين، حديثاً، الانتباه إلى ثورة أكثر تقدما وأكثر أصالة، قادها المسعورون Les enrages وهم فرقة متطرفة أكثر إلى اليسار من العراة Sans culottes ومن اليعاقبة، كانت تحلم بإعادة صنع شاملة للنظام الاجتماعي، وبإلغاء كل تفاوت. وتقع حركة

ص: 7

بابوف، وان كانت مختلفة، ضمن نفس الامتداد".

وهذا بطبيعة الحال خطأ صراح رغم أنها الترجمة اللفظية - وليس الحضارية- الدقيقة.

وطائفة أخرى اكتفت بكتابة الكلمة كما هي لكن بحروف عربية أي (السانس كولوت) فماذا يفهم العربي؟ لا بد إذن من مقابل عربي لهذه الكلمة (الذين يرتدون السراويل الطويلة) مع عبارة شارحة توضح وضعهم الطبقي.

عبارة أخرى تردّدت في ثنايا هذا الكتاب، وفي الكتب الأخرى التي تعرضت للثورة الفرنسية وهي Hotel de la ville والعبارة تعنى دار البلدية أو دار المجلس البلدي.

حقيقة إن من بين معاني "أوتل Hotel "(فندق)، لكن لها معاني أخرى، والأهم من ذلك أن هناك لغة اصطلاحية اصطلح عليها أصحاب كل لغة. نقرأ في بعض الترجمات العربية على سبيل المثال مثل هذا:

"تشكلت في باريس سلطة مدينة جديدة في فندق "دي فيل". وكانت تتألف من الناخبين الثانويين الذين التقوا في الأصل لانتخاب ممثلي باريس بالطبقة الثالثة من مجلس الطبقات. وكان العمدة الجديد هو "بيلى" الذي أشرف على قسم ملعب التنس. وفي اليوم التالي لسقوط "الباستيل" تم الاعتراف بالمليشيا البرجوازية كحرس قومي، ...... الخ ".

وهكذا وجدنا الثورة الفرنسية تجرى أحداثها في فنادق، خاصة أن كلمة (أوتيل Hotel) وجدت في سياقات أخرى مختلفة، وبهذا أحضر نابليون المدافع من فندق، واجتمعت سلطة باريس في فندق، ....... وهذا طبعا غير صحيح.

والحقيقة أن اللغة الانجليزية قد دخلتها ألفاظ فرنسية كثيرة منذ القرن الحادي عشر للميلاد، وزادت هذه الألفاظ بشكل ملحوظ بعد الثورة الفرنسية. سنجد في المعاجم الإنجليزية Corvee بمعنى السخرة، و Coup d'etat بمعنى انقلاب، وسنجد في القصر الملكي صالة للمسرات البريئة Hotel des Menu Plaisirs، وفي المعاجم الإنجليزية كذلك

ص: 8

سانس كولوت Sans Colotts، وكلمة emigrés أي الذين هاجروا من فرنسا بعد أحداث الثورة الفرنسية، وغير ذلك كثير.

أما الكلمتان المضللتان اللتان نود التوقف أمامهما كثيرا فهما كلمة heresy وترجمتها الحرفية هرطقة وكلمة atheist وترجمتها الحرفيه ملحد. فمن المفهوم أن شخصا ما عندما يصف آخر بالكفر فإنه يعنى أنه غير مؤمن بما يؤمن به هو. وهكذا فالبوذي بالنسبة للزرادشتي كافر أو ملحد، والزرادشتي بالنسبة للبوذي كافر أو ملحد، والهندوسي بالنسبة للمانوي كافر أو ملحد، والعكس بالعكس، وهكذا يتحدث كل شخص من خندقه أو من منطلقه أو من خلفيته الثقافية هو، وعلى ذلك فعندما أقرأ في كتاب أوروبي أن جماعة ما أو شخصا ما من الملحدين أو من الهراطقة فإن هذا يتطلب مني أن أعرف خلفية المؤلف الدينية والثقافية ولا أكتفي بنقل الكلمة حرفيا، وانتهى الأمر.

فمن هم الهراطقة الذين نقرأ عنهم في التاريخ الأوربي؟ إنهم الذين أنكروا التثليث، وقالوا إن الله واحد أحد One Sole وليس ثالث ثلاثة، فاعتبرتهم المذاهب المسيحية الأخرى كلها هراطقة، بينما اعتبروا هم أنفسهم من المسيحيين الحقيقيين، وجرى العرف في كتب التاريخ الأوربي كلها على أنهم "هراطقة"، وأن مذهبهم هو الهرطقة herecy بعينها، وترجم المترجمون العرب هذه الكلمة على علاتها.

فهل هذا بالنسبة لي أنا كمسلم صحيح؟ أمن يقول إن الله واحد مسيحي مهرطق ومن يقول إن الله ثالث ثلاثة مسيحي صحيح المسيحية؟. الترجمة ليست نقلا من حرف إلى حرف أو من كلمة إلى كلمة أو حتى من لغة إلى لغة، وإنما هي نقل من ثقافة إلى ثقافة، وإلاّ أدّى الأمر إلى أن يفهم القارئ العربي عكس المطلوب. المهم أن هؤلاء المناهضين للتثليث تعرّضوا لأذى شديد فتشتتوا ودخلوا في المذاهب المسيحية الأخرى، وظلوا محتفظين بعقيدتهم سرا، وظل وجودهم مستمرا منذ القرن السادس عشر، وها نحن نقابلهم مرة أخرى في أثناء الثورة الفرنسية، فوصفهم مسيحيون آخرون بأنهم هراطقة، ووصفت الثورة الفرنسية بأنها ثورة هراطقة، وليس الأمر كذلك، ولجدة هذه الأفكار ربما حتى بالنسبة لبعض المثقفين، نورد فيما يلي المبحث التالي الذي نشرته إحدى الدوريات المتخصصة:

ص: 9

اتهم الكاثوليك لوثر ورفاقه بالخروج على المسيحية واتهم البروتستنت الكاثوليك بأنهم ليسوا على المسيحية الصحيحة، ولكن الطرفين - الكاثوليك والبروتستنت - تعاونا معا في إحراق جماعة أخرى واضطهادها، هي الجماعة المناهضة للتثليث. وهي تشكل حركة بكل معاني الكلمة في التاريخ الأوروبي، وتشير لها مراجع التاريخ الأوروبي العام، وتاريخ الأديان التي كتبها أوروبيون تحت عنوان شامل، هو الهراطقة والهرطقة. وتشير الكتب العربية التي تناولت التاريخ الأوروبي إلى هذه الحركة بالتسمية نفسها التي تسميها بها المراجع الأوروبية، وهذا خطأ واضح. وقد اعتمد في هذا البحث على وثائق منشورة ومصادر أصلية. ولعل هذا البحث يكون فاتحة لبحوث أخرى عن هذه الحركة المجهولة، مكتوبة من وجهة نظر عربية إسلامية.

المعروف أن القرن السادس عشر في أوروبا قد شهد حركة شهيرة عرفت بحركة الإصلاح الديني، نتج عنها مذهب جديد، عرف بالمذهب البروتستنتي، منشقا عن كنيسة روما الكاثوليكية. وكان الكاثوليك وكنيستهم يسمون هؤلاء المعترضين البروتستنت هراطقة أو مبتدعين.

وقد شغل هذا الصراع بين البروتستنت والكاثوليك مساحة كبيرة في كتب التاريخ الأوروبي، وهو جدير بهذه المساحة وأكثر. فقد شارك هذا الصراع في صياغة خريطة أوروبا المعاصرة. فالصراع بين الكاثوليك والبروتستنت كان أحد أسس ثورة الأراضي المنخفضة التي نتج عنها قيام كيانين: هولندا فبلجيكا. وهذا الصراع نفسه هو الذي أصل وعمق استقلال سويسرا، مما أدى إلى اعتراف مجتمع الدول الأوروبية بها في النهاية كدولة مستقلة سنة 1648 م في صلح وستفاليا. وهذا الصراع نفسه هو الذي صاغ تاريخ إنجلترا (بريطانيا فيما بعد)، فلا أحد إذن يقلل من أهمية حركة الإصلاح الديني التي تزعمها لوثر أولا وتلاه زونجلي فكالفن. تلك العصبة التي أطلق عليها الكاثوليك اسم الهراطقة أو المبتدعين.

وهذه الحركة الإصلاحية التي تزعمها لوثر، فزونجلي وكالفن بعده اختلطت فيها العوامل الاقتصادية والسياسية الاجتماعية والدينية، فقد أزكاها رغبة الأمراء الألمان في الاستيلاء على أملاك الكنيسة الكاثوليكية في مقاطعاتهم. كما أزكاها رغبة الإمبراطور في عدم

ص: 10

تدخل البابا في شؤونه. كما أن رغبة الملك الإنجليزي هنري الثامن في طلاق زوجته، كانت أحد العوامل في تبنيه منهجا إصلاحيا وخروجه على البابا، لكن الباحثين في التاريخ الأوروبي يغفلون أو يشيرون على استحياء إلى حركة إصلاحية دينية من نوع آخر زامنت وواكبت حركة مارتن لوثر، تلك هي حركة الموحدين Unitarians أو المناهضين للتثليث.

ولقد حظي هؤلاء الموحدون باتهامات من الكاثوليك والبروتستنت معا. وحركة الموحِّدين الأوروبيين تلك حركة دينية خالصة، وإصلاح ديني خالص لم تختلط فيها الأطماع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بدليل أن هذه الحركة اتخذت شكل المناظرات والمناقشات الفكرية في الغالب الأعم، ولم يلجأ القائمون عليها إلى عقد محالفات مع أمراء أوروبا، أو لم ينجحوا في ذلك. كما أنهم اتخذوا إنشاء المدارس والكليات طريقا لبث دعوتهم كما سيتضح من ثنايا هذا البحث. كما أن عددا كبيرا من المنخرطين في سلك هذه الدعوة كانوا من العلماء الأفذاذ في مختلف المجالات. وتلك الحركة هي موضوع هذا البحث الذي أرجو أن يكون بداية تعقبها بحوث أخرى.

2 -

إرازم (إرازمس) والبداية

كانت بداية إثارة الأفكار المناهضة للتثليث في التاريخ الأوروبي الحديث على يد أحد رواد الحركة الإنسانية في القرن السادس عشر، ونعني به إرازم Erasmus. لقد أقدم إرازم على الرجوع إلى نسخ عديدة من الإنجيل باللغة اليونانية ولم يكتف بالرجوع إلى الترجمات اللاتينية المتاحة. وشرع يترجم من اليونانية مباشرة إلى اللاتينية. وقرر إرازم أنه وجد في النص الإنجيلي الشائع على أيامه كثيرا من الأخطاء الواضحة. والأهم من هذا أنه عندما أصدر الإنجيل الذي ترجمه، والإنجيل اليوناني الذي حققه من نسخ عديدة سنة 1516 م أسقط منه العبارات المتعلقة بالتثليث أو على حد تعبير " دائرة معارف الدين والأخلاق"

His omission of the famous Trinitarian verse" Encyclopedia of Religion and Ethic ولم يكن من الممكن للرأي العام المسيحي وقتها أن يعتبر هذا خطأ غير مقصود أو سهوا أو خللا طباعيا، خاصة وأن من جملة الأفكار الأساسية التي كان يرددها الإنسانيون ومن بينهم

ص: 11

إرازم في ذلك الوقت أنه ينبغي أن ينفض العالم المسيحي كل ما يظن أنه دخيل على المسيحية. وأنه من الضروري الرجوع للأصول الأولى قدر الممكن.

كما كان من الآراء التي يرددها إرازم أن الإنجيل (العهد الجديد) الشائع على أيامه زاخر بالأخطاء اللغوية والأخطاء في المعاني الناتجة عن عدم فهم فيلولوجية اللغتين اليونانية واللاتينية. ورغم أن إرازم قد خاطب البابا ليو العاشر بشأن التناقض في الترجمة الإنجيلية المعتمدة عند الكنيسة الكاثوليكية Vulagate's discrepancies برقة وأدب شديدين، إلا أن هذا لم يقلل من خطورة ما أقدم عليه بنشر نص يوناني للإنجيل يختلف في بعض معانيه مع النص اللاتيني المعتمد. ورغم أن إرازم لم يهاجم عقيدة التثليث، إلا أن نشره لنص إنجيلي خال من الإشارة إليها جعل الأعمال التي راحت تنكر فكرة التثليث بشكل مباشر تتوالى تباعا، حتى اتخذت شكل حركة بكل معاني الكلمة، تفاعلت بها أوروبا كلها، حتى أنها في تأثيرها الديني لم تكن تقل خطرا وأهمية عن حركة مارتن لوثر ورفاقه وإن كانت آثارها السياسية أقل قيمة.

لقد كتب مارتن سيلاريوس Martin Cellarius (1499 - 1564) الذي كان تلميذا ليوحنا رخلن Reuchlin، وكان أيضا تابعا وصديقا لمارتن لوثر، مهاجما فكرة التثليث. وفي 1527 م أيد آراءه هذه بكتاب نشره في ستراسبورج Strasbourg أسماه De Operibus Dei.

3 -

ظهور سيرفيتوس وإحراقه

على أن المفكر الأكثر أهمية وشهرة ووضوحا في هذه الحركة المناهضة للتثليث هو سيرفيتوس (1151 - 3551) Servetus الذي أصدر كتابه الشهير "خرافة التثليث" De Trinitatis Erroribus سنة 1531 م. وعلى إثر ذلك: "بدأ هياج ولغط كبير بين المعلمين ورجال الدين والمحامين وعلماء الطبيعة والرياضيات ورجال العلم والأدب

لقد أصيب الجميع بحالة عدم توازن فكري were all astire. لقد رحلوا من مكان إلى مكان بحثا عن الحقيقة وانخرطوا في مناقشات صاخبة. وذهبت أفكارهم كل مذهب. ففي نابلي Naples كان الشاب الإسباني يوحنا فالدز John Voldes قد كون جماعة دينية ضم إليها النبيلات لدراسة الكتاب المقدس وإعادة النظر فيه. وظلت الجمعية قائمة حتى وفاته سنة 1541 م".

ص: 12

وفي 1539 م وجد ميلانشتون Melanchthon أنه من الضروري أن يحذر من انتشار أفكار سيرفيتوس على نطاق واسع في شمال إيطاليا. ثم ظهر برنارد أوشينو Bernard Ochino (1487 - 1565) الذي عبر سويسرا واتجه إلى لندن، وكان يحارب فكرة التثليث بكل قواه. وفي 1539 م تم إحراق كاترين فوجيل Catherine Vogel وكانت زوجة جواهري، وكانت في الثمانين من عمرها وذلك لاعتقادها كما جاء في قرار الاتهام:"بوجود إله واحد لا شريك له، خالق كل شيء، ما نراه وما لا نراه ولا يمكن للعقل البشري أن يحيط به".

ولما كان سيرفيتوس Migel Servetus أكثر أفراد الحركة المناهضة للتثليث صخبا في هذه الفترة وكان له من الثقل العلمي ما يجعله جديرا بالاهتمام، لذلك لا بد أن نتوقف لاستعراض ظروفه وأهم أفكاره خاصة وأن كتب تاريخ الهرطقة فد أفردت له فصولا مستقلة. ورغم أن مؤلف كتاب "حق الهرطقة" يصفه بأنه شخص لم يكن على قدر فائق من الذكاء وأنه كان مضطرب الشخصية سيء التنظيم، إلا أنه يعود فيقول عنه إنه كان ذا عقل قوي. ويزعم مؤلف كتاب "حق الهرطقة" أن سيرفيتوس لم يتفوق في علم من العلوم مع أنه درسها جميعا. فقد درس الفلسفة والطب واللاهوت؛ إلا أن المؤلف يعود فيقول إن له ملاحظات واكتشافات طبية رائدة.

لقد كان سيرفيتوس يعتقد أن لوثر وكالفن وزونجلي لم يكونوا حاسمين بما في الكفاية فيما يتعل بعقيدة التثليث the dogma of the trinity كما أنهم لم يطهروا الإنجيل cleansing على حد قوله من هذه الفكرة الخاطئة. بل لقد أعلن سيرفيتوس أن مجمع نيقية Council of Nicaea قد قرر عقيدة التثليث على نحو خاطئ وقد أكد سيرفيتوس إنكاره لفكرة التثليث في عدة كتب أصدرها تباعا، وترجمت للإنجليزية حاملة العناوين التالية:

- Seven Books on the Errors of the Trinity (1531) .

- Two Dialogues on the Trinity (1532) .

- The Restoration of Christianity (1535) .

لقد تملكت الأفكار المناهضة للتثليث عقل سيرفيتوس وقلبه فلم يكتف بدعوة الناس العاديين لها، وإنما راح ببراءة يزور كل رجال الدينليقدم لهم براهينه. كما راح يزور كل علماء عصره لهذا الغرض. ففي ستراسبورج Strasbourg زار كلا من رجال الدين

ص: 13

المشهورين: مارتن بوسر Bucer وكابيتو Capito .... الخ، وفي بازل Basle زار اوكلامباديوس Oecolampadius ليحثه على إصدار بيان أو كتاب عن تهافت عقيدة التثليث وخطئها وأنها مقحمة على المسيحية الحقة.

وكان رد فعل رجال الدين المسيحي من الكاثوليك والبروتستنت على السواء عنيفا ضد سيرفيتوس ووصفوه جميعا بأنه (مبعوث الشيطان) ويذكر تسايفج Zweig مؤلف كتاب الهرطقة أن أوكلامباديوس Oecolampadius قد طرد سيرفيتوس على نحو ما "يطرد كلب أجرب" وقد قرر أوكلامباديوس بأن سيرفيتوس ما هو إلا "يهودي أو تركي. وهو كافر يجدف على الله." وحذر ونجلي أتباعه من أفكار سيرفيتوس ذاكراً أن أتباعه سيخسرون عقيدتهم المسيحية. أما بوسر Bucer فقد أعلن أن سيرفيتوس هو "ظل الشيطان" ولما يئس سيرفيتوس من إقناع الخاصة من رجال الدين توجه بدعوته إلى الجماهير فأصدر كتابه الذي سبق أن أشير إليه وهو "خرافة التثليث" بعد أن أنفق كل ما يملك لطبعه. وأعلن سيرفيتوس بوضوح أن الكاثوليكية والبروتستنتية كلاهما هراء. وظن سيرفيتوس أنه سيجد خيرا عند كالفن فراح يراسله مراسلات ضافية زاخرة بالمسائل اللاهوتية. ولكن كالفن حقد عليه حقدا شديدا، لا لأسباب دينيه فحسب وإنما لأسباب شخصية أيضا. فلم يكن سيرفيتوس يخاطبه على أنه زعيم ديني كبير. كما أنه وجه نقدا لكتابات كالفن واصفا إياها بأنها كموضوعات الإنشاء التي يكتبها الصبية. وفي آخر خطاب من سيرفيتوس لكالفن ذكر له ما نصه:

" أنا شيطان؟ أنا أقترح ألا تكون بيننا مكاتبات بعد الآن. أعد إلي مخطوطاتي وكل مالي طرفك. ولكن إذا كنت تعتقد بصدق أن البابا ليس مسيحياً حقيقيا، فيجب أن تعرف أيضا أن التثليث وتعميد الأطفال هراء

إنها عقائد فاسدة".

ورغم أن سيرفيتوس ظل هادئا بعد ذلك لبضع سنوات إلا أن حقد كالفن عليه لم ينته وراح يدبر لاستدراجه لجنيف ذاكر أنه لو دخلها فلن يخرج منها حيا. وراسل كالفن البروتستنتي بعض الكاثوليك في فرنسا حيث كان يقيم سيرفيتوس مذكرا إياهم بهرطقته، وتآمر رجال الدين في ليون مع رجال الدين البروتستنت في جنيف على هذا "الطبيب

ص: 14

المجدف" على حد تعبيرهم. وقد تم سجن سيرفيتوس في فرنسا، ولكنه فر من سجنه متوجها إلى جنيف وكأنه يسعى إلى حتفه بنفسه.

ودخلها في 13 أغسطس 1553 م. وتوجه إلى كاتدرائية سانت بيير St.Pierre فأصدر كالفن أمره بالقبض عليه. وسجن سيرفيتوس ولاقى في سجنه كل أنواع العنت، ويبدو أن آراء سيرفيتوس كانت قد بدأت تنتشر مما أفزع كالفن لدرجة أنه كان في حاجة إلى مراسلات يرسلها في كل اتجاه ليحصل على دمغ لآراء سيرفيتوس قبل إحراقه. وفي 26 أكتوبر 1553 م قرر مجلس مدينة جنيف بالإجماع وبتحريض من كالفن إحراق سيرفيتوس حياً. وتقدم بعض أصدقائه منه وهو على المحرقة طالبا منه العدول عن آرائه في رفض التثليث، ولكنه أبى.

وهكذا تناقض البروتستنت مع أنفسهم. ووقعت الحركة الإصلاحية في الأخطاء نفسها التي وقع فيها أعداؤهم الكاثوليك. لقد كان الإصلاحيون البروتستنت ينظرون للمسألة الدينية من وجهة نظر أساسية وهي أن العلاقة بين الإنسان وربه يجب أن تكون حرة ومباشرة إذ يجب أن يكون الإنسان حراً ومسئولا مسؤولية مباشرة أمام ربه وحده ودون وساطة من بشر. "إلا أنهم بإحراقهم الجماعات المناهضة للتثليث يكونون قد تدخلوا بين الإنسان وربه".

ورغم أن الحركة الإصلاحية البروتستنتية كانت تعيب على الكنيسة الكاثوليكية عدم تسامحها وإجبارها الناس على معتقدات لا يريدونها واتخاذها أساليب العنف والإحراق ضد مخالفيها، إلا أن البروتستنت أنفسهم كما رأينا سرعان ما اتخذوا الأساليب نفسها التي كانوا يمجونها من قبل. خاصة ضد الموحدين أو المناهضين للتثليث.

وقد لاحظ بعض الباحثين في مقارنة الأديان أن: " نظرة الإسلام السني تشبه على نحو ما نظرة أتباع الحركة المناهضة للتثليث" Unitarianism ورغم أن سيرفيتوس كان واحدا من كثيرين قالوا بعدم التثليث إذ أن القائلين بهذه الأفكار كانوا يشكلون حركة - إلا أن شهرته واحتفاء المراجع به ترجع إلى أن الرجل لم يكن نكرة في عالم الدين والعلم. فهو عالم وطبيب ولاهوتي من أصل إسباني ودارس متعمق للقانون. لقد كان قمة من قمم العلم في القرن السادس عشر. ولا يخلو كتاب من كتب تاريخ العلوم من الإشارة إليه، فقد ترجم

ص: 15

كتاب الجغرافيا لبطليموس Ptolemy's Geography وهو أحد المكتشفين الكبار لتركيب الدم وحركة الدم في الرئة the pulmonary circulation of the blood كما كان عالما في مجال التشريح ووظائف الأعضاء، ورغم إحراق سيرفيتوس فإن أفكاره لم تمت.

فسرعان ما دافع عن أفكاره صديقه عالم النبات ليوناردفكس Leonard Fucks ولعل كون سيرفيتوس من أصل إسباني، بالإضافة لاتهام أعدائه له بأنه تركي أو متأثر بالترك، لا يجعلنا نستبعد تأثيرات إسلامية على تفكيرة كما لا نستبعد بالقدر نفسه أن تكون أفكاره هذه مستقاة من أصول إنجيلية صحيحة، خاصة وأن وجهة النظر الإسلامية تشير من خلال القرآن الكريم إلى أن المسيحية في بدايتها كانت من أديان التوحيد الخالص.

والواقع أنه عندما أحرق أهل جنيف سيرفيتوس أحرقوا معه كل طبعات كتبه فيما عدا نسخاً قليلة وتكفلت محاكم التفتيش بإحراق النسخ التي كان بعض الناس يحتفظون بها لأنفسهم، لهذا وجدنا المراجع تختلف اختلافا شديدا فيما ذهب إليه سيرفيتوس. ففي حين نجد بعض الباحثين يذكرون أن سيرفيتوس لم يجعل المسيح عليه السلام إلها، وأنه قد وضعه في مرتبة أقل مما يضعه سائر المسيحيين، نجد مراجع أخرى تذكر غير ذلك.

إذ نجد أن مور Moore يذكر أن سيرفيتوس كان يعتقد أن المسيح نفسه هو الله، ثم يعود الكاتب نفسه فيورد نصا لاتينيا يستخلص منه أن سيرفيتوس قد وضع المسيح عليه السلام في مرتبة أقل، ويذكر باحث آخر أن سيرفيتوس كان باختصار ينكر قدسية المسيح. ولسنا نجد تفسيرا لموقف الذين قالوا إن سيرفيتوس ذكر أن المسيح نفسه هو الله، إلا أنهم بعد إحراق الرجل أرادوا أن يخففوا التهمة الموجه إليه، على اعتبار أن إنكار إلوهية المسيح، هو أقصى درجات الكفر بالنسبة للمجتمع المسيحي، سواء كان كاثوليكياً أم بروتستنتياً.

ولما كان سيرفيتوس أحد علماء عصره، ومخافة أن يتأثر بأفكاره الدينية قوم آخرون، لذا جرى تشويه هذه الآراء. وتلك مسألة معروفة في التاريخ الكنسي خاصة، وتاريخ الفكر عامة، ولا نعدم شبيها لهذا في تاريخ الفكر الإسلامي إذ كثيرا ما شوه أعداء الإسلام أفكار بعض مفكريه بعد مماتهم. على كل حال، لقد كان ميلانشتون، ساعد مارتن لوثر الأيمن، قد كتب إلى كالفن ذاكرا أن سيرفيتوس يستحق كل عقاب، وأنه - أي ميلانشتون - يوافق على أي

ص: 16

عقاب ينزل به. والواقع أن كالفن لم يكن يطيق المختلفين معه في الرأي، فقد أجبر على سبيل المثال لاهوتياً آخر على مغادرة جنيف وهو كاستليو Sebastian Castellio فتركها له سنة 1544 م.

ومهما يكن من أمر فقد رفضت الكنائس الأوروبية اعتبار المناهضين للتثليث مسيحيين بينما اعتبروا هم أنفسهم المسيحيين الحقيقيين، ورأى عدد كبير من المسيحيين وهو عدد ليس بالقليل أن المسيح مجرد شخص مميز ورفضت الكنائس الأوروبية الرسمية ذلك. تبلور حركة المناداة بالتسامح الديني نتيجة اضطهاد المناهضين للتثليث.

يجمع الباحثون في تاريخ الأديان من الأوروبيين أن الأضطهاد الذي لاقاه المناهضون للتثليث من قبل الكاثوليك والبروتستنت على السواء هو الذي بلور المناداة بالتسامح الديني toleration ففي سنة 1551 م أعلن كاستيلو Sebastian Castellio أنه لا ينبغي أن ترتكب الجرائم لفرض عقيدة ما فيجب أن تكون حرية الاعتقاد مكفولة. لقد اهتز الضمير الأوروبي نتيجة إحراق سيرفيتوس، وإحراق مسيحيين آخرين لا يدخلون تحت حصر بتهمة الهرطقة التي كانت تعني في المقام الأول إنكار التثليث. فرغم كلمات لوثر التي تنص على أنه:"لا يجب استخدام العنف ضد الهراطقة وإنما علينا أن نهديهم بكلمات الله، فالهرطقة مسألة معنوية روحية لا يمكن أن نغسلها بنار الأرض ومائها".

ورغم هذه الكلمات فقد تم إحراق ما لا يقل عن عشرة آلاف مسيحي في قرن واحد تحت شعار العقيدة الحقة. رغم أن لوثر نفسه كان قد أتهم بالهرطقة. ورغم هذا فإن البروتستنت لم يأخذوا العبرة من ذلك فشاركوا في إحراق كثيرين من بينهم نساء بل وأسر كاملة حيث كان يساق للحرق كل من الزوج والزوجة والأبناء وأبدى بعض المحرقين تمسكا وشجاعة فقد ذهبت امرأة للمحرقة كأنما هي "ذاهبة لعرسها" وأحضروا زوجة رجل وأولاده بالقرب منه قبيل احتراقه ليعود عن معتقده فرفض حتى ولو جعلوا له "ملء الأرض ذهباً" على حد قوله. وصرخ رجل وهو يحترق قائلا، "لقد أخفيتم حقيقة الإنجيل فترة طويلة" وقد أورد براندت تفاصيل مذهلة عن حفلات النار هذه استغرقت من كتابه ذي القطع الكبير حوالي 40 صفحة، وكان يدخل

ص: 17

ضمن الهراطقة الذين أحرقوا أولئك الذين يعارضون: "سلطة البابا والمناهضون لتعميد الأطفال".

4 -

أشينو

ومن أقطاب الحركة المناهضة للتثليث برنارد أوشينو Bernard Ochino الذي حارب عقيدة التثليث بكل قواه على أساس أنه لم يجد لها سندا في الأصول الإنجيلية. ومن الأمور التي قال إنه لم يجد لها في الأصول الإنجيلية سندا مسألة تحريم تعدد الزوجات. إذ قال إنه مباح وإن العبارات الإنجيلية التي فهم خطأ منها المنع، يجب أن تحمل على سبيل المجاز وأن من فهم أن تعدد الزوجات ممنوع لا يفهم اللغتين اليونانية واللاتينية. ولقد اعتمد أوشينو في تفسيراته تلك على ترجمة كازيليو Casellio الإيطالية للإنجيل والتي رفضها كالفن. وبطبيعة الحال فقد حارب كل من الكاثوليك والبروتستنت آراء أوشينو عن تعدد الزوجات كما حاربوا إنكاره لفكرة التثليث.

ولم يكن برنارد أوشينو شخصا عاديا بعيدا عن علوم الدين المسيحي وإنما كان من أكثر رجال الدين شهرة في عصره مشهودا له "بطاقاته الروحية وبركاته" على حد قول مؤلف كتاب "الإصلاح الكاثوليكي" بير جانيل. وقد ترقى في السلك الكنسي إلى رتبة كاردينال سنة 1538 م ولكنه سرعان ما فتن بالبروتستنتية فاعتنقها وظل فترة حائرا "بين العقيدة الصحيحة والهرطقة"، وكان له اتصالات بالحركة الإصلاحية الدينية في إنجلترا.

أما دافيد جوريس David Joris (1501 - 1556) فقد ذكر في كتابة الموسوم باسم Wonder Book والصادر سنة 1542 م أنه لا يوجد إلا: "إله واحد أحد sole لا يُرى. وأنه لمن الحمق أن نتصوره في ثلاثة أشخاص أو ثلاثة ذوات أو نتصوره على هيئة ثلاثية".

لقد هاجر آلاف من معتنقي فكرة الإله الواحد من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا هروبا بعقيدتهم إلى انجلترا خلال حكم هنري الثامن وكونوا كنائس أسموها كنائس الغرباء. وبهذه الهجرة دخلت الحركة في مرحلة أخرى إذ بدأت أفكارهم تتفاعل في شمال أوروبا وزاد من قوة الحركة دخول قسس معترف بهم من عامة المسيحيين فيها.

ص: 18

ففي 28 ديسمبر 1548 م طلع علينا القس الإنجليزي جون اشيتون John Assheton بقوله: "إن الروح القدس ليس هو الله وإنما هو قوة أرسلها الله وإن عيسى المسيح الذي تلقته مريم العذراء هو نبي مرسل مبارك. ولكنه أبدا لا يمكن أن يكون الإله الحي".

ولكن حظ المناهضين للتثليث في إنجلترا لم يكن أفضل من حظهم في سواها، ففي إبريل 1548 م عينت لجنة لبحث أمور الهراطقة، وقد مثل كثيرون من التجار وأصحاب الحرف أمام هذه الهيئة في شهر مايو من العام نفسه. وكانت التهمة الموجهة إليهم هي أنهم يقولون:"لا تثليث وأن المسيح نبي وليس إلهاً البتة. وأن كل ما قدمه لنا المسيح هو أنه علمنا الطريق إلى السماء،" وقد نفذت فيهم أحكام قضائية تصل إلى السجن مدى الحياة.

5 -

الحركة السوسينية

ثم تمركز المناهضون للتثليث في بولندا خاصة منذ عام 1579 م حيث كان لاستقرار سوسينوس Faustus Socinus الذي تحلق حوله الأتباع وعرف تفكيرهم في أوروبا بالتفكير السوسيني. وهو يعود في الأصل إلى أسرة إيطالية هي أسرة Sozini. وقد ذكر سوسيني في كتبه التي نشرها أن المسيح لا يمكن أن يكون إلها على الحقيقة. وقد حوربت السوسينية بضراوة وتم إغلاق كليتهم التي افتتحوها في بولندا وأجبرهم الكاثوليك على الرحيل فتشتتوا. وفي إنجلترا كان يحرم من الكنيسة كل من يعتنق هذه الأفكار كما صدر قرار بمنع جلب الكتب التي تحمل هذه الأفكار أو طبعها أو نشرها. هذا هو الموقف الرسمي من هذه الحركة في كل أنحاء أوروبا طوال القرن السادس عشر وفي مطلع القرن السابع عشر للميلاد.

وقد حاول سوسينوس التوفيق بين الفرق المتنازعة داخل الحركة المناهضة للتثليث. وأهم أعمال سوسينوس والتي توضح فكره، كتابه The Racovian Cateckism الذي نشر سنة 1605 م. وكانت راكو Rakow في بولندا هي مركز الحركة التي انتشرت انتشاراً كبيرا، وأسس أصحابها مدرسة لهم ضمت في وقت من الأوقات ألف طالب، كما أسسوا مطبعة وأنشئوا مجمعا كنسياً يحضره السوسينيون في بولندا وترنسلفانيا يعقد سنويا. وفي القرن السابع عشر كان للحركة أتباع في ألمانيا نفسها، وكانت جامعة ألتدروف Altdrof

ص: 19

University مركزا لنشاطهم العلمي.

ولكن منذ 1632 م نشط الكاثوليك في بولندا وأصبح لهم اليد العليا، خاصة بعد أن تولى الحكم الملك جون كازيمير John Casimir سنة 1648 م، وهو كاثوليكي يسوعي وكان كاردينالا في الوقت نفسه فأجهز على السوسينين وألغى مؤسساتهم، فهربوا إلى الأراضي المنخفضة وبروسيا. وفي سنة 1648 م صدر تشريع برلماني في إنجلترا باعتبار أفكار السوسينين جريمة كبرى. ولم يعتبر مؤرخو الكنسية الإنجليزية كنائس الحركات المناهضة للتثليث ضمن الكنائس الإنجليزية ولا حتى الكنائس المنفصلة عن الكنيسة الإنجليزية. أي أنهم لم يعتبروهم مسيحيين على الإطلاق.

ويرجع بعض الباحثين أصول هذه الحركة للنهضة في إيطاليا ممثلة في إحياء التراث والعودة إلى المصادر والمنابع الأولى. ويوجز واحد من الباحثين في تاريخ الأديان الخطوط العامة لتفكير السوسينين فيقول:

إنهم يعتقدون أن المسيح عليه السلام إنسان مميز وغير عادي أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وهو نبي قدم لنا المعاني الحقيقية للتشريع والحياة الموعودة، وهم يؤمنون بمبدأ حرية الإرادة البشرية.

ورغم انحسار المد السوسيني نتيجة التشريعات المناهضة لهم، وحل مؤسساتهم إلا أن بعض الباحثين يذكر أنهم كانوا يعقدون اجتماعات على نحو سري، والتحق عدد منهم بالكنائس الكالفنية وراحوا يبثون عقائدهم سرا وبحذر شديد.

ورغم قمع هذه الحركة فقد ظلت الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية تخشى من انتشار أفكارها. لذلك بدأ بالنص على فكرة التثليث بعد ذلك في أسماء التجمعات الكنسية وركز الجهود الكنسية نشاطها بين المسيحيين التابعين للدولة العثمانية. وظل هذا واضحا حتى القرن الثامن عشر، بل والقرن التاسع عشر. ففي سنة 1807 م تم إنشاء كاتدرائية الثالوث الأقدس Holy Trinity Cathedral وكان فونتو Battista Fonto Giovanni يتخذ من اسطنبول مقرا دائما ويعمل بحرية شبه كاملة بين كاثوليك الدولة العثمانية.

ورغم كل هذه الاحتياطات التي اتخذتها كنائس أوروبا ضد الأفكار السوسينية، فإنها لم تندثر، فقد اعتنق المفكرون الإنجليز: جون بدل (1616 - 1662 م) وجون لوك (1632 - 1704 م) وبرستلي (1733 - 1804 م) وبلشام (1750 - 1829 م) أفكارا

ص: 20

لا تبعد كثيرا عن أفكار السوسينية.

وإذا كانت حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر ورفاقه في القرن السادس عشر، كانت فيما يرى لامبرت امتدادا لما كان يسمى بحركات الهرطقة في العصور الوسطى فهل يمكننا القول إن الحركة المناهضة للتثليث ستتمخض عن حركة إصلاح جديدة في المسيحية؟ هذا ما ستبديه الأيام.

لقد كان القرن السادس عشر هو قرن تفجر الصراعات الدينية في أوروبا، لذا كان من الطبيعي أن تظهر الحركة المناهضة للتثليث بمثل هذه القوة في هذا القرن بالذات، رغم وجود جذور لها في المسيحية. فالإسلام يقدم المسيحية من خلال القرآن الكريم على أنها ديانة توحيد، وأن ما اعتراها من فساد كان نتيجة الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليبتغوا به ثمنا قليلا. كما شهد تاريخ المسيحية الباكر خلافات مذهبية حادة حول طبيعة المسيح عليه السلام، لا تزال أصداؤها حتى اليوم، ولعل أشهر هذه الخلافات الأولى تلك التي كانت بين آريوس وأثناسيوس، لكننا بصدد بحث تاريخي في المقام الأول كما أن تفاصيل ما حدث في القرون الأولى للمسيحية تخرج عن نطاق هذا البحث.

6 -

تحليل الحركات مناهضة التثليث

فإذا ما عدنا للتحليل الاجتماعي للبيئة الأوروبية لمعرفة مبررات ظهور هذه الحركة المناهضة للتثليث، بمثل هذا التجلي والوضوح في هذا القرن بالذات، فإننا نجد عدة عوامل قد تقدم لنا بعض التفسير لذلك:

أولاً: أن النهضة الأوروبية كانت - في كثير من جوانبها - مراجعة للأفكار التي كانت مألوفة وسائدة في مختلف مجالات الحياة، فقد تأكد الأوروبيون على سبيل المثال من كروية الأرض بعد تمام رحلة ماجلان 1522 م، وكانت هذه الفكرة تحاربها الكنيسة الكاثوليكية، وثبت أن الأرض هي التي تدور حول نفسها فينشأ عن دورانها الليل والنهار، وما هكذا كانت تقول الكنيسة. كل هذا ومثله كثير جعل الأوروبيين يعيدون التفكير في أمور كانت تبدو في وقت من الأوقات في حكم المسلمات.

ولم يكن الإنجيل استثناء من هذه القاعدة، فقد وجدنا إرازم كما أشرنا في هذا البحث يعود للنسخ الإنجيلية القديمة غير مكتف بالنسخة التي اعتمدتها الكنيسة، ووجدنا ترجمات جديدة للإنجيل كثر عددها وفهم منها

ص: 21

مارتن لوثر على سبيل المثال في مرحلة من مراحل تفكيره تحريم الربا، وفهم منها أوشينو جواز تعدد الزوجات. فلم يكن بدعا إذن أن يظهر من يفهموا منها خرافة التثليث. وقد أفاضت الكتب الأجنبية والعربية التي تناولت تاريخ أوروبا الحديث منذ عصر النهضة في الحديث عن التحرر الفكري وانتشار مبدأ أفكر لأعتقد، وليس العكس بمعنى أعتقد لأفكر، وظهور حركة إحياء العلوم وتطور الروح الفردية وما إلى ذلك.

كل هذا وغيره هيأ ومهد لظهور حركات إصلاحية دينية. وإذا كان الأوروبيون ينظرون لحركة لوثر كحركة إصلاح ديني، وإلى الحركة المناهضة للتثليث كحركة دينية يصفونها بالكفر والهرطقة ويضعونها في مكان أقل أهمية من الناحية الدينية فمن السخرية أن ننظر نحن المسلمون لهذه الحركة نظرتهم نفسها إليها.

ثانياً: أنه منذ النصف الثاني من القرن الخامس عشر، والقارة الأوروبية كلها عرضه لتأثيرات إسلامية واضحة، في مختلف المجالات لم تحظ بدراسة كافية، فقد وجدنا لورد أكتون يقرر بوضوح أن التاريخ الأوروبي الحديث يبدأ تحت مطارق العثمانيين. وقد أظهرت الوثائق الأوروبية التي راجع الكثير منها بعض الباحثين الأوروبيين أن كثيراً من المناطق الأوروبية كانت تستنجد بالعثمانيين إذ كان يطلب أهلها بأنفسهم الفتح العثماني تخلصا من حكم مسيحيين يخالفونهم في المذهب، أو مسيحيين يسومونهم سوء العذاب، فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن أهل كريت توسلوا إلى العثمانيين لفتح ديارهم، كما يؤكد ذلك الباحث الغربي كولز. كما نظر أهل المورة للعثمانيين كمخلصين، بعد أن سئموا سيطرة البنادقة الكاثوليك. وقد كان وصول العثمانيين لساحل دلماشيا واستقرارهم فيه منذ القرن الخامس عشر، حدثا جللا أثر على سائر أنحاء أوروبا.

وكانت أوروبا كلها منذ منتصف القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن السابع عشر، وربما بعد ذلك تتابع الصراع بين المسلمين والكاثوليك، في البحر المتوسط خاصة، مع اختلاف وجهات نظرهم إزاء هذا الصراع بطبيعة الحال. فبينما كان عدد من البروتستنت (بعد ظهور البروتستنتية) يرى في إسبانيا الكاثوليكية حامية للمسيحية بمذاهبها المختلفة، أو على الأقل لا يتمنى هزيمتها أمام العثمانيين، ومجاهدي البحر المتوسط. كان هناك عدد آخر من

ص: 22

البروتستنت يرى في الصراع بين المسلمين والكاثوليك الأسبان، صراعا بين شيطانين، ويتمنى أن يذهب كلاهما - المسلمون والكاثوليك - إلى حيث لا عودة. وفي وقت من الأوقات كان البروتستنت يجدون في مناطق أوروبا الشرقية الخاضعة للعثمانيين ملجأ وملاذا لهم هروبا من الاضطهاد الديني.

فإذا ما تركنا شرق أوروبا وانتقلنا إلى غربها، وجدنا حقائق أخرى مذهلة، أثبتتها الوثائق التي كشف عنها الباحثون الغريبون، وهي أن الشعب الإسباني كان معارضا لإخراج المسلمين بعد سقوط غرناطة، وأن أصحاب الأراضي والأعمال ظلوا متمسكين بالعاملين المسلمين لديهم، حتى مطلع القرن السابع عشر، وأن طرد المسلمين كان عملا كنسيا خالصا، وأن الشعب الإسباني كان متعاطفا فقط مع إخراج اليهود لاشتغالهم بالربا وامتصاصهم دماء الشعب الإسباني. ويهمنا في هذا الصدد أن عدد كبيرا من المسلمين الأسبان قد خرجوا عبر البرانس إلى الأراضي الفرنسية ولاقوا في سفرهم هذا نصبا، وقد تمركزوا في سواحل فرنسا الجنوبية حيث رحلوا بعد ذلك إلى الشمال الإفريقي، وانضم عدد كبير منهم إلى حركة مجاهدي البحر المتوسط.

أبقي بعد هذا شك في أن أوروبا في مطلع العصور الحديثة لا بد أن تكون تأثرت بالفكر الإسلامي، أو على الأقل اطلعت عليه، بشكل أكثر وضوحاً؟ فقد غدا الإسلام بالنسبة لأوروبا بعد سقوط القسطنطينية وتمركز المسلمين في شرق أوربا، أقرب إليها من حبل الوريد، كما أن طبيعة العصر أتاحت لأكبر عدد ممكن من الباحثين والمثقفين، بل والناس العاديين، معرفة أمور عن الإسلام، ما كانت لتتاح لهم معرفتها قبل ذلك. كل هذا يجعلنا لا نستبعد وجود تأثيرات إسلامية على الحركات الإصلاحية الدينية الأوروبية عامة، والحركة الأوروبية المناهضة للتثليث خاصة.

بقي القول إن أحد الباحثين العرب المتخصصين في تاريخ أوروبا الحديث قد أشار إلى: "وجوب أن يكتب التاريخ الأوروبي الحديث من وجهة نظر إسلامية عربية تماما كما يكتب الأوروبيون تاريخنا الإسلامي من وجهة نظرهم. فمن غير المنطقي أن نسمي بالهرطقة ما يسمونه هرطقة ففي هذا تبعية، وبعد عن الأصالة. ولو أخذنا بهذا المنطق، لباركنا حركة

ص: 23

الاستعمار لأنهم يباركونها، ولأسمينا المسلمين الأوروبيين كفرة. لأنهم يسمونهم كذلك"، فهذا البحث رغم تواضعه دعوة للأصالة في كتابة التاريخ.

وفولتير، الذي وصفه لويس السادس عشر بأنه زعيم الهراطقة، ونسبت إليه الثورة الفرنسية لفرط تأثرها به، كان يؤمن بوجود الله سبحانه، لكنه لم يكن مقتنعاً بالكنيسة:.

وحين اقتنع باني لست ادري ما أنا، ولا استطيع أن اعرف من خالقي، أجد جهلي يضنيني، واسلي نفسي إذ أفكر، دون انقطاع، بأنه لا يهمني أن اعرف ما إذا كان خالقي موجوداً في المتسع أم لا، إذا إنا لم افعل شيئاً يناقض الوجدان الذي منحني إياه. وإذا سئلت: من بين جميع الأنظمة الإلهية التي اخترعها الإنسان، أيها سأعتنق؟ أجبت: لن اعتنق أياً منها، بل سأعبد الله.

ألأنه لا يؤمن بالتثليث أسميه مهرطقا؟! إنه مهرطق من وجهة نظر كاتب لا يؤمن بأفكاره، فما دخلي أنا؟ ولم أجعل القارئ العربي يفهم أن الرجل لا يؤمن بالله؟.

والعالم لا باّس عندما ألّف بحثا عن نظام الكون سأله نابليون: من فعل كل هذا؟ وهو سؤال يعني أنه لا بد من فاعل، فالكلمة atheist وإن كانت تعني الملحد حرفيا أي غير المؤمن بوجود إله إلا أنها في حاجة إلى عبارة شارحة في كل جملة ترد فيها. وفي هذه العجالة نورد نبذه عن أثر الإسلام في العقيدة المسيحية الأوروبية:

ثم إن انتشار روح عصر التنوير في أوروبا راح يطرد شبح الأحكام السلبية، المسبقة والجذرية المرتكزة على كليشيهات الدفاعات الدينية المبتورة والباترة. فقد أصبح الدين الإسلامي بالنسبة للفلاسفة عمل مشرع فطن. ويمكن للإسلام أن يقارن نفسه بالمسيحية دون أي عقدة نقص. على العكس. فهو يتميز على المسيحية بأنه يلجأ أقل منها إلى عالم الأسرار والعجيب الخلاب. كما ويتميز بأنه يعترف بالعقائد الأخرى ومشروعيتها. ولكنه

ص: 24

على الرغم من كل ذلك مطبوع بطابع التعصب كبقية الأديان. وفولتير، بعد أن جعل من مؤسس الإسلام المثال النموذجي على الرجل الدنيوي الذي استغل بساطة معاصرية (انظر مأساة، محمد 1741). راح يقارن بين تسامح المسلمين وتعصب المسيحيين. (انظر كتابه مقالة في الأخلاق 1756) وهو بذلك يضرب أكبر مثل على الغموض والازدواجية فيما يخص الموقف من الإسلام. وبعد صدور كتاب مونتسكيو"روح القوانين"(1748) صورت الدولة التركية على أساس أنها تُجَسِّد نموذج الاستبداد بالذات. وأما فيما يخص رجال الممارسة والانخراط فإنهم لا يهتمون بالطبع كثيراً بعملية الفهم بقدر ما يهتمون بمعرفة المصادر المادية ونقاط القوة والضعف لهذه البلاد. فهي لا تبدو مواضيع للمعرفة بقدر ما تبدو مصدراً محتملاً للفائدة والقوة. ثم تبدو كأرض للمغامرة. وهنا نلتقي بذلك الجزء من الحلم الذي طالما هيمن على روح بونابرت شاباً ....

وتشير بعض المراجع التي كتبها فرنسيون إلى هجرة إسلامية إلى جنوب فرنسا بعد سقوط غرناطة، وأن هؤلاء المسلمين "تقية" منهم اعتنقوا المسيحية، لكن ها نحن نرى جيرونديين في الثورة الفرنسية يسعون إلى إغلاق نوادي القمار ويسعون لتحريم الميسر، وأصدرت الثورة بالفعل مرسوما بذلك، لكنه سرعان ما أصبح حبرا على ورق. وعن هذه الهجرة الإسلامية الباكرة إلى فرنسا نقرأ:

" .. وكانت الهجرة الرابعة التي نحن بصدد الحديث عنها على شكل موجة جماعية هامة العدد نتجت عن طرد العرب المسلمين والأسبان المسلمين من إسبانيا. يبدو أن هؤلاء كانوا قد تحولوا إلى المسيحية منذ قرنين خشية العذاب والتنكيل والقمع، ولكنهم استمروا على دينهم الإسلامي بسرية اعتماداً على مبدأ التقية ".

علم ملك اسبانيا، فيليب الثالث، أن هؤلاء يمارسون الدين الإسلامي بسرية، وأنهم يحتفلون بالأعياد الإسلامية. وفي العاشر من كانون الثاني/يناير 1610، أصدر مرسوماً ملكياً يمنحهم مهلة 30 يوماً، ثم خفضها إلى 20، لمغادرة إسبانيا. هاجر خمس مئة ألف منهم إلى بلاد المغرب العربي، وشغلوا بصورة فورية مناصب هامة، ذلك لأنهم شكلوا،

ص: 25

بسبب ثقافتهم ومعرفتهم تياراً جديداً في البرجوازية المحلية. وتوجه مئة وخمسون ألفاً نحو الشمال، إلى فرنسا. عاد ثلاثون ألفاً منهم، فقط، إلى بلاد المغرب العربي أو إيطاليا عن طريق البحر، وكان هؤلاء من الأغنياء الذين يملكون نفقات السفر. أما الباقون، مئة وعشرين ألفاً، فقد استقروا في الجنوب الفرنسي. توجد الكثير من المخطوطات التي تتحدث عن هذه الحلقة من التاريخ الإسلامي، الفرنسي. كتب الماركيز فوسل إلى ملك فرنسا:" يعلم جلالتكم أن جميع لاجئي إسبانيا المسلمين قد عبروا الحدود، يصل عددهم إلى مئة وثلاثة وثلاثين ألفاً".

وفي مذكرة أرسلها الماركيز فيزيو إلى الملك، نستطيع أن نقرأ:"اليوم،28 كانون الأول/ديسمبر 1610، وصلتني رسالة من الماركيز دوسان جيرمان الذي يبحث عن وسائل لنقل عدد المسلمين الأندلسيين الذين يتمنون اللجوء إلى فرنسا". وفوراً، أصدر الملك أوامره باستقبال هؤلاء القادمين، كلاجئين وليس كغزاة، استقبالاً حسناً

"

ويلاحظ القارئ أن الثورة الفرنسية كانت حريصة على أن يكون لها ثلاثة شعارات (حرية وإخاء ومساواة) وكان ذلك لإحلالها محل الأقانيم المسيحية الثلاثة (آب وابن وروح قدس) وكانت حريصة على التخلص من التقويم المرتبط بميلاد المسيح عليه السلام، فابتدعت تقويما جديداً، كما كانت حريصة على إقامة مهرجانات لتوقير الكائن الأسمى أو الموجود الأعلى Supreme being، وبعض الثوار مزقوا الأناجيل. وتحدثوا عن "خرافات" العهدين القديم والجديد، وبالغ بعضهم في ذلك، وفي وقت من الأوقات شكلت لجان لضبط السلوك، وجرت محاولة لإغلاق بيوت الدعارة

لقد كانت لجانا شبيهة بلجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها لم تستمر فقد كانت هناك قوى أخرى ذات بأس أشد. نخلص من هذا إلى أن الثورة الفرنسية كانت في جانب من جوانبها استمرارا لحركة الإصلاح الديني التي انطلقت في أوروبا منذ القرن السادس عشر، وأن عداوة الثوار للكنيسة كانت أكثر بكثير من عداوتهم للملكية، وقد عادت الملكية بالفعل، وطالب بها كثيرون، لكن الكنسية لم تعد أبداً لسابق هيمنتها، ولم تسترد أبداً أموالها وأوقافها.

وركز الباحثون العرب على معاداة الثوار للملكية، لكنهم أغفلوا الشق الثاني والأهم وهو امتعاضها من الإكليروس أو

ص: 26

رجال الدين المسيحي، وبسبب هذا التركيز لم تحظ الثورة الفرنسية بالدراسة المتأنية الشاملة الحصيفة في عالمنا العربي، لأسباب لا تخفى، وهذا الكتاب يسد هذه الثغرة. وإذا كان مما زاد من أهمية الكتاب أن مؤلفه قد كتبه وهو في السبعينيات من عمره، فلعلّ مما يزيد من أهمية هذه الترجمة أن المترجم قد أنجزها وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وأظنه سنا يسمح بالبحث عن المعاني وعدم الاكتفاء بظاهر الحرف أو الكلمة.

بقي الحديث عن مصطلح آخر أسيء نقله إلى العربية أيضاً، ذلك أن الفرنسيين في هذه الفترة كانوا يطلقون لفظ philosophes أو الفلاسفة تجاوزا، على طائفة من الخطباء والمثقفين والأدباء ليسوا بالضرورة "فلاسفة" بالمعنى الضيق للكلمة philosophers، ومن هنا فترجمة المصطلح philosophes في هذه الفترة بالذات لا يعني أكثر مما نعنيه بقولنا "مفكرين" أو "مثقفين" .... الخ.

وقد نبه إلى هذا بعض من كتب عن الفلسفة الفرنسية، وهاك قبسٌ ممن نبهوا على ذلك:

ينبغي أن يقال في مبدأ الأمر أنه لا الفلسفة تنفصل عن ضروب النشاط الإنساني الأخرى، ولا فرنسا تنفصل عن غيرها من الأمم. والواقع أن القرن الثامن عشر الفرنسي حين أطلق اسم الفلاسفة على رجال كانوا في حقيقة الأمر أدباء أكثر منهم فلاسفة، فإنه جعلنا نشعرـ عن حق تماما ـ بأن الفلسفة ليست مجالا مقصورا على أشخاص محترفين. وعلى هذا ينبغي أن يحسب أي تاريخ للفلسفة الفرنسية حسابا لأدباء عظام من أمثال مونتيني وروسو.

وتاريخ الفلسفة الفرنسية لا ينفصل ـ بخاصة ـ عن تاريخ العلم، فديكارت ـ مثلا ـ لا يمكن أن يفهم دون الرجوع إلى العلم في عصره، وإلى جاليليو، كما لا يمكن أن يفهم فولتير دون نيوتن، أو بوترو Boutroux دون هنرى بوانكاريه Henri Poincare .

ص: 27

7 -

نبذة عن المؤلفين

ومن الطبيعي أن نخصص عدة فقرات في هذه المقدمة للحديث عن المؤلفين: إنهما ول ديورانت Will Durant وزوجته أريل Ariel Durant . ولد ول في نورث آدمز North Adams في ولاية ماساشوستس Massachusetts بالولايات المتحدة الأمريكية في 5 نوفمبر سنة 1885 وتلقى تعليمه في المدارس الأبرشية الكاثوليكية هناك، ثم في كيرني Kearny فنيويورك، ثم التحق بكلية القديس بطرس بيتر (Peter) وهي كلية جزويتية (ومعناها أنصار يسوع أو اليسوعيون) في مدينة جيرسي Jersey بولاية نيوجيرسي ثم التحق بجامعة كولومبيا. وكان يعمل في أثناء الصيف مراسلاً مبتدئا لصحيفة نيويورك New York Journal لكن هذا العمل لم يكن متمشيا مع طبيعته فالتحق بكلية سيتون هول Seton Hall في سوث أورنج South Orange في ولاية نيوجيرسي مدرساً للاتينية والفرنسية والإنجليزية والهندسة المستوية في الفترة من 1907 إلى 1911.

وفي سنة 1909 التحق بالمعهد اللاهوتي في سيتون هول لكنه انسحب منه في سنة 1911. وفي الفترة من 1911 إلى 1913 عمل مدرسا في إحدى مدارس الفرير الحديثة. وفي سنة 1912 قام بجولة في أنحاء أوروبا على نفقة صديقه ألدن فريمان Alden Freeman فلما عاد إلى مدرسة الفرير الآنف ذكرها أحب إحدى تلميذاته فتزوجها في سنة 1913، وهي من مواليد روسيا في 10 مايو سنة 1898.

درس ول أيضا علم الأحياء (البيولوجيا) في جامعة كولومبيا كما درس الفلسفة وفي سنة 1917 حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وعين في جامعة كولومبيا فدرّس فيها الفلسفة لمدة عام واحد. وفي سنة 1914 كان قد بدأ في إلقاء سلسلة من المحاضرات في التاريخ والأدب والفلسفة مرتين في الأسبوع طوال ثلاثة عشر عاما، وذلك في الكنيسة البروتستانتية المسيحية في نيويورك. وقد شكلت هذه المحاضرات نواة كتبه الأخيرة ومنها كتابنا هذا.

وفي سنة 1926 صدر كتابه "قصة الفلسفة" فلاقى نجاحا لم يكن يتوقعه، فخصص هو وزوجته أريل ما بين ثماني ساعات وأربع عشرة ساعة يوميا لتأليف كتاب "قصة الحضارة" وهو الكتاب الذي يمثل الحادي عشر الذي بين أيدينا. ولم يكتف المؤلفان بالاعتماد على المراجع والكتب وإنما هيأ نفسيهما بزيارة أوربا والتجول فيها سنة 1927، وقاما بجولة حول

ص: 28

العالم في سنة 1930 لدراسة مصر والشرق الأدنى والهند والصين واليابان، وقاما بجولة أخرى حول العالم في سنة 1932 زارا خلالها اليابان ومنشوريا وسيبيريا وروسيا وبولندا، وكانت هذه الزيارات العلمية بالإضافة إلى المصادر المكتوبة هي أساس كتاب (تراثنا الشرقي Our Oriental heritage) الصادر سنة 1935 كمجلد أول لكتاب قصة الحضارة الذي بين أيدينا.

وقاما بزيارات أخرى لأوروبا تمهيداً لإصدار (حياة اليونانيين The Life of Greece) في سنة 1939، وقيصر والمسيح Caesar & Christ في سنة 1944. وفي سنة 1948 قضيا ستة أشهر في تركيا والعراق وإيران ومصر وأوربا لتجهيز مادة حية لكتاب عصر الإيمان The Age of Faith الذي صدر سنة 1950 ثم زارا إيطاليا تمهيدا لإصدار كتاب عصر النهضة The Renaissance في سنة 1953، ثم كتاب عصر الإصلاح الديني The Reformation في سنة 1957.

وعند تأليف كتاب عصر العقل The Age of Reason وجد وِلْ أنه من العدل أن يكتب اسم زوجته معه على صفحة العنوان، وهكذا استمر اسمها إلى جوار اسمه في كتاب عصر لويس الرابع عشر The Age of Louis XN الصادر في سنة 1963 وعصر فولتير The Age of Voltaire الصادر في سنة 1965 وكتاب روسو والثورة Rousseau & revolution و (عصر نابليون) وهو الكتاب الذي بين أيدينا، والذي صدر في سنة 1975. وماتت أريل في 25 أكتوبر سنة 1981 وهي في الثالثة والثمانين من عمرها ولم يعش بعدها ول كثيرا فقد مات بعد موتها بثلاثة عشر يوما في 7 نوفمبر وقد بلغ من العمر ستا وتسعين عاما. وكانا قد نشرا كتابا عن قصة حياتهما في 1977.

بقى القول إنني استعنت بطائفة من القواميس للتحقق من بعض المصطلحات من اللغات الأوروبية الأخرى غير الانجليزية، فرجعت إلى معجم: Hamlyn Italian dictionary إيطالي - إنجليزي، وإنجليزي - إيطالي، للتحقق من كلمة أو كلمتين ومعجم يوسف رضا "الكامل الوسيط" فرنسي عربي لمطابقة المصطلح الفرنسي الذي دخل الإنجليزية رغم وروده في المعاجم الإنجليزية، وإلى بعض كتب القانون للتحقق من المفهوم القانوني لبعض المصطلحات التي لم ترد في القواميس، وقد نقلت عن هذه الكتب ما يراه القارئ مدرجا في الحواشي،

ص: 29

وأفادني معجم الفاروقي كثيرا في مجال المصطلح القانوني والسياسي، أما ما ورد من مصطلحات علمية قليلة فقد اعتمدت فيها المقابل العربي كما ورد في معجم الخطيب للمصطلحات العلمية.

وأخيرا فإنني أشكر المجمع الثقافي (بأبوظبي) وأمينه العام الأستاذ محمد السويدي، لحسن اختيارهم هذا المرجع الناضج المهم، لإكمال هذه الموسوعة التي سبقني إلى ترجمة أجزائها السابقة إخوة أفاضل.

والله من وراء القصد.

د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ

ص: 30

THE AGE OF NAPOLEON

1975

إلى ابنتنا إِثِل TO ETHEL

ص: 33

‌توطئة

ورد في الموسوعة البريطانية Encyclopaedia Britannica (16/10 أ) أن: "ما كتب عن نابليون حتى منتصف القرن العشرين زاد على مائة ألف مجلد" فلم إذن نضيف إلى هذا الكم الهائل كتابا آخر؟ ولا نجد سببا نقدمه خيراً من القول بأن الموت reaper قد تحاشانا، فصرنا بعد سنة 1968 نعيش حياة سلبية، ونقرأ قراءات غير موجهة فاعترانا القلق من هذا الفراغ التافه الذي لم نعتد عليه. ولكي نجعل لأيامنا هدفا ونخضعها لبرنامج قررنا أن نعكف على عصر نابليون (1789 - 1815) بمنهجنا الأثير الذي ندرس به التاريخ بشكل متكامل - فرحْنا ننسج في سياق واحد الجوانب المهمة كلها في الحضارة الأوروبية في هذه السنوات السبع والعشرين: الحكم والحرب والاقتصاد والأخلاق والعادات والدين والعلم والطب والفلسفة والأدب والدراما والموسيقي والفن، لتظهر جميعا كعناصر في صورة واحدة حية، وكأجزاء متفاعلة في كل واحد متكامل متحد.

سنرى رئيس الوزراء وليم بت William Pitt يأمر بالقبض على المؤلف توم بين Tom paine وسنعرف عن الكيميائي لافوازيه Lavoisier وعن شارلوت كورادى Charlotte Corday وهي تعتلي المقصلة، وعن الأدميرال نيلسون Nelson وهو يتخذ لادي هاملتون Lady Hamilton خليلةً له، وسنعلم كيف تنبأ جوته Goethe بأحداث قرن بعد معركة فالمي Valmy، وحماس وردزورث Wordsworth للثورة الفرنسية، وحماس بايرون Byron لليونانيين، وسنرى كيف راح شيلى Shelly يعلم التعاليم المخالفة للكاثوليكية (النص: الإلحاد) لأساقفة أكسفورد. ومدرسي الكليات الإكليريكية، وسنطالع عن نابليون وهو يحارب الملوك ويسجن البابا، ويضايق الأطباء والفلاسفة ويصحب خمسين عالما وباحثا ليغزو مصر أو يستكشفها ويستلهمها فاقداً إهداء بيتهوفن للإيرويكا Eroica من أجل الإمبراطورية. لقد راح يتحدث في الدراما مع تالما Talma وفي الرسم مع ديفيد David وفي النحت مع كانوفا Canova وفي التاريخ مع فيلاند Wieland وفي الأدب والفكر مع جوته وخاض الحروب طوال خمسة عشر عاما مع مدام ستيل Stael تلك

ص: 35

المرأة التي يمكن الوصول إليها بسهوله لكنها لا تقهر.

لقد أيقظتنا هذه الرؤية من الكسل والخمول اللذين اعتريانا وقد تجاوزت السبعين لنعود بتهور إلى دراساتنا التي نتخذها هواية ولنصور هذا العصر المثير الحافل بالأحداث ونتناوله ككل حي. أسوف نعترف بذلك؟ - لقد تعلمنا منذ مرحلة المراهقة رأيا حكيما بعيد النظر وهو أن نابليون ليس مجرّد مثير حرب طاغية لكنه أيضا فيلسوف قلما يخدعه التظاهر، وسيكولوجي لم يتوقف عن دراسة الطبيعة البشرية، سواء طبيعة الأفراد أم طبيعة الجموع. وكان أحدنا من الجسارة بمكان بحيث ألقى عشر محاضرات عن نابليون في سنة 1921، وطوال ستين عاما رحنا نجمع ما كتب عنه حتى إن بعض مراجعنا كانت في وقت من الأوقات مفيدة، وأصبحت الآن في حكم الميتة.

والآن فهذا جهد خمس سنوات عددا لكنه جهد كفيل بملء عمر بأكمله. إنه كتاب طويل جدا في مجمله، لكن كل جزء من أجزائه مختصر وغير كاف. فلم يجعلنا نعلن عن هذا الكتاب سوى الخوف أن يدهمنا الموت المتربص (النص: الحصادة المتربصة أو آلة الحصد المتربصة). ونحن لا نوجه هذا الكتاب للمتخصصين الذين لن يجدوا فيه جديدا لكن لأصدقائنا أينما كان مكانهم والذين صبروا معنا أعواما كثيرة، قد يجدون فيه بعض اللحظات التنويرية أو الفانتازيا المبهجة.

ول ديورانت وأريل ديورانت

ص: 36

‌شكر وعرفان

بفضل

نوجه الشكر أولاً لابنتنا إيثل ديورانت كي Ethel Durant Kay التي لم تكتف بطباعة المخطوط على الآلة الكاتبة بدقة، وإنما غالبا ما كانت تحسنه بتصويباتها واقتراحاتها. لقد كانت صبورة وشريكا مساعدا لنا في كل مرحلة من مراحل مشروعنا.

وإلى صديقينا العزيزين آرثر يونج Arthur Yong وجالا كورليف Gala Kourlaeff اللذين أعارانا كتبا قيمة من مجموعتيهما الخاصة.

وإلى مكتبة لوس أنجلوس العامة خاصة فرع هوليود Holly wood والعاملات في غرفة المراجع ونخص منهم السيدة إديث كروكشانك والسيدة إليزابيث فنتون.

وإلى ج كريستوفر هيرولد، فإن كتبه عن نابليون ومدام دي ستيل Stael كانت بالنسبة لنا كنزا أنار لنا الطريق ولي ليزلي أ. ماشاند؛ فمجلداته الثلاثة عن بايرون Byron قد خففت بما حوته من ثروة معلوماتية من الإدمان البايروني Byronic الذي كان بالفعل مستعراً في سنة 1905 عندما دعا ول ديورانت ربه أن يطلق سراح الشاعر الأعرج ويخرجه من الجحيم.

وإلى فيرا شنيدر التي استفاد كتابنا كثيرا من جهدها، لأنها طوال شهور طوال استغرقتها عملية التحرير استحضرت دقتها الدراسية ومجالات اختصاصها كلها.

وإلى صديقنا العزيز فيرناند كونت دى سان سيمون الذي أعطانا كثيراً جداً من وقته لإرشادنا في باريس في زياراتنا لنابوليونايا وفرساي ومالميزو Malmaison.

وفي الأحوال كلها فقد وجدنا في الحياة وفي التاريخ كثيرا من الرجال الطيبين والنساء الطيبات حتى إننا طرحنا جانبا أي قول عن مكر البشر.

ملحوظة

في النصوص المقتبسة الحروف المائلة التي يقصد بها التأكيد ليست من عندنا ما لم ينص على ذلك. الفقرات الفاترة غير الأساسية في مسار الكتاب كتبت بحروف صغيرة.

ص: 37

مقارنة قيمة العملات

من غير الممكن إيجاد صيغة متماسكة: العملات التي تحمل الأسماء نفسها الموجودة الآن، والتي كانت موجودة منذ مائتي عام كان لها قيمة شرائية أكثر كثيرا من قيمتها الحالية، لكن في بعض الأحيان كانت قيمتها أقل. التاريخ تضخمي (من التضخم أي كثرة النقود على قلة قيمتها) على الأقل من ناحية تخفيض قيمة العملة بشكل متكرر كطريقة قديمة لسداد ديون الحكومة، لكن فكرة أن البضائع (المنتجات) كانت تكلفتها في الماضي أقل من تكلفتها الآن ربما تقرب المسافة (تسحر المسافة على وفق النص (the enchantment of distance) . وبلغة العمل من المطلوب تحصيل (أو كسب) المال (النقود) لنشترى بها ما هو أغلى منها (ما يكلف أكثر من قيمتها). وعلى العموم، فمع كثير من الاستثناءات والاختلافات بين الدول، سنقدم ما يوازي قيمة بعض العملات الأوروبية في سنة 1789 من عملة الولايات المتحدة في سنة 1970، كالتالي:

الكراون 6.25 دولار،

الدوكات 12.50 دولار،

الفلورين 2.50 دولار،

الفرنك 1.25 دولار،

الجروشن groschen 1/4 سنت،

الجلدر guilder 5.25 دولار،

الجينيا guinea 26.25 دولار،

الجولدن 5 gulden دولار.

الكروزر kreuzer 1/2 سنت،

الليرا Lira 125 دولار،

الليفر (جنية) Livre 1.25 دولار،

لويس دور Louis d`or 1.25 دولار.

المارك 1.25 دولار،

البوند pound 25 دولار،

الشلن 1.25 دولار،

السو Sou 5 سنتات،

التالر (ثالر) thaler 5.25 دولار.

ص: 38

الفصل الأول

‌الثورة الفرنسية

‌خلفية الثورة:

من 1789 إلى 1799 م

The Background of Revolution

أو

أحوال فرنسا قبيل الثورة

ص: 42

‌1 - الشعب الفرنسي

كانت فرنسا هي أكثر أمم أوروبا سكاناً وأشدها ازدهاراً، فقد كان عدد سكان روسيا في سنة 1780 هو 24 مليون نفس، وإيطاليا 17 مليونا، وأسبانيا 10 ملايين وبريطانيا العظمى 9 ملايين، وبروسيا 8،6 ملايين، والنمسا 7،9 ملايين، وأيرلندا 4 ملايين، وبلجيكا، 2،2 مليون، والبرتغال 2،1 مليون، والسويد 2 مليون، وهولندا 1،9 مليون، وسويسرا 1،4 مليون، والدنمرك 800،000، والنرويج 700،000 بينما كان عدد سكان فرنسا 25 مليوناً. وكانت باريس هي أكبر مدن أوروبا إذ بلغ عدد سكانها حوالي 650،000 نفساً، كانوا هم الأفضل تعليما في أوروبا كلها، كما كانوا أكثر أهل أوروبا قابلية للهياج والثورة.

وكان الشعب الفرنسي مقسما إلى ثلاث طبقات: طبقة الإكليروس clergy أو رجال الدين وكان عددهم يبلغ نحو 130،000 نفساً، وطبقة النبلاء وكان عددهم يبلغ نحو 400،000، وطبقة العامة وهي الطبقة التي لا ينتمي أفرادها لواحدة من الطبقتين السابق ذكرهما. وكانت الثورة الفرنسية هي المحاولة التي بذلتها هذه الطبقة الثالثة (العوام) التي كانت مهضومة الحقوق السياسية رغم ازدهارها الاقتصادي، بغية الوصول إلى ما يتلاءم مع ثروتها النامية من سلطان سياسي وقبول اجتماعي. وكانت كل طبقة من هذه الطبقات السابق ذكرها منقسمة بدورها إلى طبقات أو شرائح يعلو بعضها الآخر حتى إن كل فردٍ تقريبا كان يمكنه أن ينعم بالنظر إلى من هم دونه، أو بتعبير آخر كان في مكنة كل شخص تقريبا أن ينظر من عَلِ إلى أشخاص هم دونه.

وكانت طبقة الهيئة الكهنوتية الكنسية - من كاردينالات ورؤساء أساقفة وأساقفة ورؤساء أديرة - هي أغنى الطبقات جميعاً، بينما كان القسس ومساعدوهم Pastors & Curates في الريف الفرنسي من بين أفقر خلق الله. ومن هنا وجدنا أنه في أثناء الثورة انضم الإكليروس من الرتب الأدنى درجة (كالقسس والرعاة السابق ذكرهم) إلى عامة الشعب ضد سادتهم، وبذا طغى العامل الاقتصادي على العامل الديني (**) وكانت الحياة في الأديرة

ص: 43

(حياة الرهبنة) قد فقدت بريقها، فطائفة الرهبان البنيدكتيين Benedictines الذين بلغوا في فرنسا في سنة 1770 م، 6434 راهبا قد تقلص عددهم في سنة 1790 ليصبح 4300، وفي سنة 1780 كانت تسع [أخويات] دينية (روابط أو تجمعات قائمة على أسس دينية) قد حلّت، وفي سنة 1773 كان جماعة الجزويت Jesuits (جماعة يسوع) قد تفككت وتدهورت أحوال الدين بشكل عام في المدن الفرنسية، فكانت الكنائس في كثير من المدن نصف خاوية،

وفي الريف زاحمت العادات الوثنية والخرافات القديمة عقائد الكنيسة وطقوسها، مزاحمةً فعالة. وعلى أية حال فقد كانت الراهبات لا يزلن يكرسن أنفسهن لتعليم الدين والتمريض بحماس، وكن يحظين بتقدير الأغنياء والفقراء على سواء. وحتى في هذا العصر المتسم بالنزوع للشك والاتجاهات العملية كان هناك الآلاف من النسوة والأطفال والرجال الذين استعانوا على قسوة الحياة بالتقوى فراحوا يعزون أنفسهم بحكايات القديسين وراحوا يخففون من حدة أيامهم الرتيبة المرهقة بممارسة الشعائر في الأعياد الدينية، وفي الاسترخاء، ووجدوا في الآمال الدينية ملاذاً يلوذون به ضد ما اعتراهم من ارتباك وقنوط.

وكانت الدولة تدعم الكنيسة لأن رجال الحكم بشكل عام كانوا متفقين على أن رجال الدين (الإكليروس) إنما يقدمون لهم عوناً لا غنىً عنه لحفظ النظام الاجتماعي. فقد كان رجال الدين (الإكليروس) يرون أن الاختلاف الخلْقي Natural بين الناس فيما يتمتعون به من مواهب، يجعل مما لا مناص منه أن تختلف حظوظهم من حيث الثراء، فقد بدا مهما لطبقة الملاك أن يستمر رجال الدين في تقديم نصائحهم للفقراء، تلك النصائح التي تحثهم على الإذعان المسالم لقاء دخول الفردوس تعويضا لهم عما يلاقون. وكان مما يعني كثيرا لفرنسا أن نظام الأسرة - وهو النظام الذي يدعمه الدين ويكثف أهميته - ظل كمرتكز للاستقرار الوطني في أثناء التقلبات كلها التي شهدتها الدولة.

وأكثر من هذا فقد جرى الحث على الطاعة باستخدام عقيدة الحق الإلهي للملوك - سواء في تعيينهم ملوكا أم في مباشرتهم لسلطاتهم. وكان رجال الدين يغرسون هذه العقيدة في نفوس الناس، وشعر الملوك أن هذه الخرافة (الحق الإلهي للملوك) كانت عوناً ذا قيمة غالية لهم لضمان سلامتهم

ص: 44

الشخصية ولاستقرار حكمهم. لذا فقد تركوا لرجال الدين الكاثوليك معظم مؤسسات التعليم العامة، وعندما هدد ازدهار البروتستانتية في فرنسا، بإضعاف سلطان الكنيسة الكاثوليكية وما يتمخض عنه من فوائد، جرى طرد الهوجونوت Huguenots (البروتستانت الفرنسيين) بلا رحمة.

وعرفاناً من الدولة بأهمية هذه الخدمات التي تقدمها الكنيسة، سمحت لها بجمع العشور وسمحت لها بدخول مالية أخرى تجبيها من أبناء كل أبرشية وسمحت لها بتقديم الوعود بتحقيق الأماني التي يرنو إليها العصاة الغافلون بتشجيعهم على شراء نعيم الآخرة لقاء تنازلهم عن ممتلكاتهم في الدنيا لصالح الكنيسة.

وأعفت الحكومة رجال الدين من الضرائب واكتفت بالحصول من الكنيسة بين الحين والآخر على منحةٍ كبيرة بلا مقابل. ونظراً لهذه المزايا المختلفة فقد جمعت الكنيسة مقاطعات شاسعة قدرها البعض بأنها تبلغ خمس الأراضي الزراعية في فرنسا. وكانت الكنيسة تدير هذه الأراضي باعتبارها ممتلكات إقطاعية وراحت تجمع منها العوائد الإقطاعية. لقد حولت الكنيسة إيمان المؤمنين إلى حليٍ من ذهب وفضة - كجواهر التاج الملكي - أصبحت كحاجز أو كمنطقة محرمة ذات مناعة، وقداسة وتخصيص لمواجهة أي ادعاء أو تطاول فبدت هذه المكاسب الكنسية راسخة عبر التاريخ عميقة الجذور.

وتلاعب كثير من الكهنة والقسس في عوائد العشور واحتالوا ليحصلوا منها على شيء، وعاشوا في فقر تغلفه التقوى بينما كان كثيرون من الأساقفة يعيشون عيشة مترفة فخمة وكان رؤساء الأساقفة يعيشون بعيدا عن مقارهم الأسقفية وراحوا يحومون حول البلاط الملكي. وفي وقت كانت الحكومة على حافة الإفلاس وجدنا الكنيسة الفرنسية على وفق تقديرات تاليران Talleyrand تنعم بدخل سنوي مقداره 150 مليون ليفر (فرنك)، وكانت طبقة العوام التي أنهكت الضرائب كاهلها في حالة عجب لعدم إرغام الكنيسة على إشراك الدولة معها في ثروتها. وعندما انتشرت كتابات غير المؤمنين (غير المتمسكين بتعاليم

ص: 45

الكنيسة) تخلى الآلاف من أفراد الطبقة الوسطى والمئات من أفراد الطبقة الأرستقراطية - عن العقيدة المسيحية، وكانوا مستعدين لأن ينظروا بهدوء فلسفي إلى غارات الثورة على الموروثات المقدسة والمصونة.

وكان النبلاء على وعي يشوبه غموض أن النبالة قد فقدت كثيراً من أسباب وجودها أو بتعبير آخر قد ظلت باقية رغم أن المهام المنوطة بها والتي كانت سبب وجودها قد انتهت. فعنصر الفخر في هذه النبالة (أو الشرف) متمثلا في القيام بدور الحماية العسكرية للمجتمعات الزراعية، أو التوجيه الاقتصادي لها أو الرياسة القضائية، لم يعد قائما كما كان، فكثير من هذه الخدمات قد حلت محلها السلطة المركزية والإدارية القوية في ظل ريشليو Richelieu ولويس الرابع عشر. لقد أصبح كثيرون من السادة الإقطاعيين الآن يعيشون في البلاط الملكي وأهملوا إقطاعياتهم، وفي سنة 1789 بدا أن أثوابهم الفخمة ورقتهم في التعامل ولطفهم لم تعد أمورا كافية لتبرير امتلاكهم لربع الأرض الزراعية وابتزازهم للعوائد الإقطاعية.

وادعت الأسر الأقدم من بين أسر النبلاء أنها من جنس أكثر نبالة (نبالة الجنس La Noblesse de race أو أصالة العرق) إذ أرجعت هذه الأسر أصولها إلى الفرنجة الجرمان (الفرنك الجرمانيين) الغزاة الذين تسموا في القرن الخامس باسم غال Gaul لكن كاميل ديمولان Camille Desmoulins أحال فخرهم إلى منقصة في سنة 1789 باعتبارهم غزاة أجانب، عندما دعا إلى الثورة باعتبارها ثأرا تأخر كثيراً من أعراق وافدة. ومن الناحية الفعلية كان نحو 95% من طبقة النبلاء الفرنسية قد أصبحوا بشكل متزايد بورجوازيين وسلتيين Celtic قد تركوا أفراد الطبقة الوسطى - ذوي العقول الذكية والثروة التي حازوها مؤخرا - يشاركونهم أراضيهم وألقابهم.

وكان ثمة قسم من الأرستقراطية - عرفوا بنبلاء (الروب) أو النبلاء بحكم المنصب Noblesse de robe وكانوا يكونون نحو أربعة آلاف أسرة شغل أربابها مناصب قضائية أو إدارية رفعت شاغليها - تلقائيا - إلى مرتبة النبالة.

ص: 46

ولأن معظم مثل هذه المناصب كان يمكن الحصول عليها بشرائها من الملك أو وزرائه الذين كانوا يبيعونها لزيادة دخل الدولة، فقد شعر كثيرون من المشترين لهذه المناصب بأحقيتهم في استرداد ما دفعوه فأصبحوا أكثر ميلاً إلى قبول الرشوة. لذا فقد انتشر الفساد (عدم طهارة اليد) بين شاغلي المناصب في فرنسا بشكل غير عادي وكان هذا واحدة من مئات الشكاوى والأسباب الداعية إلى التذمر من نظام حكم يموت. وكانت بعض هذه المناصب والرتب وراثية، ولأن شاغليها والحائزين عليها قد تضاعف عددهم خاصة في البرلمانات أو المحاكم القانونية في مختلف المديريات districts (أو المحافظات أو الدوائر) فقد تنافى شعورهم بالقوة والفخر حتى إن برلمان باريس في سنة 1787 ادعى لنفسه الحق في الاعتراض على المراسيم الملكية (التي لها قوة القانون). لقد بدأت الثورة قرب القمة.

وفي نشرة بعنوان "ما هي طبقة العوام أو الطبقة الثالثة؟ Qu'est-ce que le Tiers etat?" صدرت في شهر يناير سنة 1789 طرح الراهب الفرنسي إمانويل جوزيف سييز Emmanuel Joseph Sieyés ثلاثة أسئلة وأجاب عنها: ما هي الطبقة الثالثة أو طبقة العوام؟ إنها كل شيء. ما حالها حتى الآن؟ لاشيء. ماذا تود هذه الطبقة أن تكون؟ تريد أن تكون شيئاً ما - أو على وفق لتصحيح تشامفورت Chamfort - كل شيء. لقد كانت تقريبا كل شيء فقد ضمت البرجوازية أو الطبقة الوسطى التي تتكون من 100،000 أسرة وطبقاتها (شرائحها (layers العديدة - رجال البنوك والسماسرة والوسطاء والصناع والتجار والمديرون والمحامون والأطباء والعلماء والمدرسون والحرفيون والصحفيون (تشكل الصحافة السلطة الرابعة) وطبقة عامة الشعب Menu peuple والعبارة تعني قليلي الأهمية (وأحيانا يطلق عليهم لفظ عام هو الشعب) ويقصد بهم البروليتاريا proletariat وحرفيي المدن وعمال النقل البري والبحري والفلاحين.

وكانت الطبقة الوسطى العليا تقبض على زمام السلطة الصاعدة متسعة المدى وتديرها: كان لها السلطان على عملية انتقال الأموال وحركتها ورؤوس الأموال، وكانت تمارس هذه العملية بشدة وجرأة تتسم بالمغامرة، وكانت - في ذلك - تدخل في منافسة واسعة المدى مع الذين يمتلكون السلطان على الاقتصاد الزراعي الإستاتيكي المتسم بالسكون Static

ص: 47

ومع العقيدة الآفلة. لقد دخلوا في مضاربات تجارية في أسواق الأوراق المالية في باريس ولندن وأمستردام، فتحكموا - على وفق لتقديرات نيكر Necker - في نصف أموال أوروبا.

وكانوا يمدون الحكومة الفرنسية بالقروض ذوات الفوائد وكانوا يهددون بإسقاطها في حالة عدم سداد هذه الديون وعدم سداد ما اشترته الحكومة بالديون. وكانوا يمتلكون - أو يديرون - صناعة استخراج المعادن وتعدينها في شمال فرنسا، وصناعة النسيج في ليون Lyons وتروي Troyes وأبيفيل Abbeville وليل Lille ورون Rouen، وأعمال استخراج الحديد والملح في اللورين Lorraine ومصانع الصابون في مرسيليا Marseilles ومدابغ الجلود في باريس.

لقد أداروا الصناعة الرأسمالية التي حلت محل دكاكين الحرف والنقابات الحرفية التي كانت سائدة في الماضي، وكانوا من أنصار المذهب الفزيوقراطي Physiocrats المنادي بأن المشروع الحر (غير المرتبط بالدولة) أكثر إنتاجية ولدى القائمين عليه حوافز أقوى ودوافع أشد من المشروع التقليدي المرتبط بالتنظيمات والقواعد التقليدية التي تفرضها الدولة؛ سواء كان مشروعاً صناعيا أم تجاريا. لقد مولوا ونظموا الصناعات التحويلية (تحويل المواد الخام إلى بضائع) وراحوا ينقلون هذه البضائع من المنتج إلى المستهلك ليحققوا من كليهما ربحا. لقد استفادوا من ثلاثين ألف ميل من أفضل الطرق في أوربا لكنهم اعترضوا على الرسوم المعوقة التي كانت تفرض على استخدام طرق فرنسا وقنواتها، كما اعترضوا على اختلاف الموازين والمقاييس نتيجة تمسك بعض الولايات المقاطعات Provinces بها بسبب عوامل الغيرة.

لقد تحكموا في التجارة التي كانت سبب ثراء بوردو Bordeaux ومرسيليا ونانت Nantes، وكونوا شركات مساهمة كشركتي: Compagnie des Eaux ، Compagnie des Indes ووسعوا مجال سوقهم ومدوه. فلم يعد قاصرا على المدينة وإنما شمل العالم، وعن طريق مثل هذه التجارة جعلوا لفرنسا إمبراطورية فيما وراء البحار لا يبزها في المضمار سوى إنجلترا. لقد شعر أفراد هذه الطبقة أنهم - وليس طبقة الأشراف - هم صانعو الثروة الفرنسية النامية،

ص: 48

ومن ثم صمموا على مشاركة النبلاء ورجال الدين في المزايا التي تُسْبغها الحكومة عليهم وفي التعيينات وصمموا على أن يكون لهم الوضعية نفسها التي للنبلاء أمام القانون وفي البلاط الملكي وأن يستمتعوا بالمزايا كلها ويتسنموا مراتب الشرف كلها في المجتمع الفرنسي،

فعندما دعيت مانون رولاند Manon Roland وهي سيدة رقيقة كيسة - لكنها بورجوازية - لزيارة سيدة من النبيلات، وطلب منها أن تأكل مع الخدم وألا تجلس إلى المائدة مع الضيوف النبلاء صاحت محتجة وتغلغلت صيحتها في قلوب أفراد الطبقة الوسطى لقد كان هذا الامتعاض وذلك الطموح منغرساً في أفكار هذه الطبقة عندما رفعوا مع الثورة الفرنسية شعارها "حرية ومساواة وإخاء"، إنهم لم يكونوا يعنون بهذا "دونية" أو "رفعة" لكن هذا الشعار خدم أغراض هذه الطبقة حتى يجري تصحيح الأمور. وفي هذه الأثناء أصبحت الطبقة البورجوازية هي أقوى القوى التي تعمل على قيام الثورة.

لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين يملئون المسارح وهم الذي يصفقون لقصائد بومارشيه Beaumarchais التي يهجو فيها الأرستقراطيين. لقد كان أفراد الطبقة الوسطى هم الذين التحقوا - أكثر من أفراد طبقة النبلاء - بالمحافل الماسونية Freemason lodges ليعملوا على تحقيق الحرية في الحياة والفكر، لقد كانوا هم الذين يقرءون فولتير Voltaire ويستطيبون سخريته اللاذعة، ويتفقون مع جيبون Gibbon فيما ذهب إليه من أن الأديان كلها - بالنسبة للفيلسوف - زائفة، وهي - أي الأديان بالنسبة للحكومات (رجال الدولة) مفيدة. وكانوا في السر يبدون إعجابا بالمذهب المادي الذي قال به دهولباخ وهيلفيتيوس d'Holbach and Helvetius وقد لا يكون هذا المذهب صحيحا تماما أمام أسرار الحياة والنفس البشرية، لكنه كان سلاحا جاهزا يمكن شهره في وجه الكنيسة التي تتحكم في عقول ونفوس معظم الفرنسيين وفي نصف ثروة فرنسا. وكانوا متفقين مع ديدرو Diderot، ولم يكونوا مولعين بروسو Rousseau الذي يشتم منه طعم الاشتراكية ويفوح منه معنى اليقين لكنهم هم - أكثر من أي شريحة أخرى في المجتمع الفرنسي - الذين شعروا بتأثير الآداب والفلسفة

ص: 49

وعملوا على نشرهما.

وكان الفلاسفة بشكل عام معتدلين في سياساتهم. لقد قبلوا الملكية ولم يرفضوا عطايا الملك، وولوا وجوههم شطر الحكام المتنورين مثل فريدريك الثاني Frederick II في بروسيا، وجوزيف الثاني Joseph II في النمسا بل وحتى كاترين الثانية Catherine II في روسيا، أكثر مما ولوا وجوههم شطر الجماهير الأمية العاطفية، واعتبر الفلاسفةُ (المفكرون) هؤلاء الحكامَ المتنورين هم مهندسى الإصلاح. ووضع الفلاسفة ثقتهم في العقل رغم إدراكهم قصوره. لقد كسر هؤلاء الفلاسفة (المفكرون عامة) وصاية الكنيسة والدولة ورقابتهما على الفكر وفتحوا ملايين العقول ووسعوا من آفاقها، لقد مهدوا لانتصارات العلم في القرن التاسع عشر، رغم أن لافوازيه Lavoisier ولابلاس Laplace ولامارك Lamarck شهدوا الهياج في أثناء الثورة وما صاحبها من حروب.

أما روسو Rousseau فقد فك ارتباطه بالفلاسفة. لقد كان يحترم العقل، ولكنه احتفى بالمشاعر وبالعقيدة (الإيمان) المريح. وقد طرح كتابه Savoyard Vicar`s Profession of Faith الموقف الديني لروبيسبير Robespierre، وأدى إصراره على توحيد العقيدة الوطنية إلى أن اعتبرت لجنة الأمن العام الهرطقة السياسية جريمة عقوبتها الإعدام - خاصة في زمن الحرب. وقد قبل يَعاقِبةُ الثورةِ مبادئ العقد الاجتماعي التي مؤداها أن الإنسان خير بطبعه وما جعله شريرا سوى تبعيته لمؤسسات فاسدة منحرفة وقوانين جائرة، وأن الناس قد خلقوا أحرارا ولم يستعبدهم سوى الحضارة الزائفة. وعندما كان القادة الثوريون في السلطة تبنوا أفكار روسو Rousseau التي مؤداها أن المواطن بتلقيه حماية الدولة يصبح مطيعا لها ضمنا. وقد كتب مالي دى بان Mallet du Pan:" لقد سمعت مارا Marat في سنة 1788 يقرأ العقد الاجتماعي ويعلق عليه في الطرقات العامة وسط تصفيق المستمعين المتحمسين". لقد تحولت سيادة الشعب العليا التي نادى بها روسو إلى سيادة لجنة الأمن العام التي لا معقب عليها بعد الثورة، ثم أصبحت سيادة عليا لرجل واحد.

ص: 50

وكان"الشعب" في مصطلح الثورة يعني الفلاحين وعمال المدن، فحتى موظفي المصانع في المدن كانوا أقلية سكانية. لقد كانت الصورة هناك بعيدة عن صورة المنشآت أو المؤسسات الصناعية، إذ كان مصطلح الشعب أقرب ما يكون إلى معنى الخليط غير المتناسق الذي يضم الجزارين والخبازين وصانعي الجعة (البيرة) والبقالين والطباخين والبائعين الجوالين والحلاقين وأصحاب المحلات والعاملين في الفنادق وتجار الخمور وصانعيها والنجارين والبنائين والذين يطلون البيوت والعاملين في مجال الزجاج وصانعي الجص وصانعي الآجر وصانعي الأحذية والخياطين والصباغين وعمال النظافة وصانعي الثياب والحدادين والخدم وصانعي الأثاث وصانعي السروج وصانعي العجلات والعربات والصاغة وصانعي السكاكين والنساجين والدباغين والعاملين في مجال الطباعة وبائعي الكتب والعاهرات (المومسات) واللصوص.

وكان هؤلاء العمال يلبسون سراويل طويلة تصل إلى كعوب أقدامهم أكثر مما يرتدون السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبة والمعروفة باسم الكلوتات Culottes والجوارب كما يفعل أبناء الطبقات العليا لذا فقد أطلق على هؤلاء العمال اسم "الطبقة التي لا ترتدي كلوتات Sans Culottes" وقد لعبت هذه الطبقة دورا فعالا (دراماتيا) في الثورة الفرنسية. وقد أدى تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد وإصدار النقود الورقية بشكل متكرر إلى ارتفاع الأسعار في أنحاء أوروبا كلها، ففي فرنسا ارتفعت الأسعار فيما بين عامي 1741 و 1789 بمقدار 65% بينما لم ترتفع الأجور سوى 22%، وفي ليون Lyons كان هناك 30،000 شخص معفون من الخدمة في سنة 1787، وكان في باريس 100،000 أسرة مدرجة باعتبارها في حالة عوز في سنة 1791. وكان من الممنوع إنشاء اتحادات عمال ذوات أهداف اقتصادية ومن هنا تتالت الإضرابات. وكلما اقترب ميعاد الثورة كان مزاج العمال وحالتهم النفسية يزدادان توترا واكتئابا وميلاً إلى الثورة والتمرد، ولم يكن ينقصهم سوى بندقية وزعيم ليستولوا على الباستيل ويغزوا قصر التوليري Tuileries ويعزلوا الملك.

ومن المسلم به أن الفلاحين في فرنسا في سنة 1789 كانت حالهم أفضل مما كانت عليه قبل قرن من الزمان عندما بالغ لابرويير La Bruyére قائلاً: إنه لا يكاد يميز بينهم وبين البهائم.

ص: 51

وكان حال الفلاحين الفرنسيين في سنة 1789 أفضل من حال الفلاحين في سائر أنحاء أوروبا، ربما باستثناء فلاحي شمال إيطاليا. وكان نحو ثلث الأراضي الزراعية مملوكا للفلاحين، وكان ثلث آخر تتم زراعته بتأجير الأرض من النبلاء والإكليروس (رجال الدين) وأفراد الطبقة البورجوازية، أو بنظام المزارعة (المشاركة في المحصول، هذا لقاء ملكيته للأرض وذاك لقاء عمله فيها) أما ثلث الأرض الزراعية الباقي فكان يقوم على زراعته أجراء تحت إشراف الملاك أو من ينوب عنهم. وشيئا فشيئا أصبح عدد الملاك محصوراً فلم يكن أمامهم سوى الزراعة أو الرعي، بينما تكاليفهما غدت مرهقة، وأصبحت المنافسة حادة بينهم خاصة مع وجود الأرض العامة (المشاع) Common Land التي كان من حق الفلاحين - سابقا - أن يرعوا فيها وأن يجمعوا منها الحطب.

وكان حائزو الأرض من الفلاحين كلهم ملزمين بدفع رسوم إقطاعية فيما عدا قلة قليلة كانوا يمتلكون أراضي معفاة من أي التزام أو واجب أمام السيد الإقطاعي، إذ كان الفلاحون - خلا هذه القلة الآنف ذكرها - ملزمين بناء على عقد بينهم وبين صاحب العزبة بأن يعملوا لديه عدة أيام كل عام بدون أجر (بنظام السخرة (Corvee) لمساعدته في زراعة أرضه وإصلاح الطرق في عزبته، ومع هذا فقد كانوا يدفعون له رسوم مرور عند استخدامهم هذه الطرق. وكانوا يدفعون له بدلية (رسما في مقابل الإعفاء من أداء خدمات معينة) وكانت قيمة هذه البدلية معتدلة وكانوا يدفعونها كل سنة نقدا أو عينا، وإذا باع الواحد منهم ممتلكاته طالبه السيد الإقطاعي بمبلغ يساوي 10% أو 15% من الثمن الذي تقاضاه. وكانوا يدفعون له لقاء صيدهم الأسماك من المياه التابعة له، وإذا رعوا أنعامهم في حقله، وكانوا يدفعون له رسما في كل مرة يستخدمون فيه طاحونته أو مخبزه أو معصرته التي تستخدم في استخراج الزيت أو إعداد عصير العنب ليصير نبيذا.

ولأن هذه الرسوم كانت محددة على وفق القانون، فقد أصبحت قيمتها متدنية بسبب التضخم فشعر المالك أن لديه مسوغا في استنزاف هؤلاء الفلاحين بقسوة كلما ارتفعت الأسعار.

وكان على الفلاح أن يدعم الكنيسة التي تبارك محصوله وتهيئ أطفاله للطاعة والإيمان

ص: 52

وتشرف حياته بالطقوس والأسرار المقدسة، بأن يدفع لها سنويا العشور (tenth وإن كانت عادة ما تكون أقل من العشر) من محصوله وما ينتجه. وكانت الضرائب التي تفرضها الدولة عليه أشد وطأة من العشور والمستحقات الإقطاعية، فقد فرضت الدولة ضريبة الرأس كما فرضت عليه نصف العشر Vingtieme عن دخله السنوي، وفرضت عليه ضريبة المبيعات عن كل ما يشتريه من مشغولات ذهبية وفضية أو منتجات معدنية أو كحول أو ورق أو نشا ..... وفرضت عليه مصلحة الملح أن يشترى كل عام كمية محددة من الملح من الحكومة بالسعر الذي تحدده (أي تحدده الحكومة). وعلى هذا فقد كان العبء الأساسي لدعم الدولة والكنيسة - زمن الحرب وزمن السلم - يقع على كاهل الفلاحين، أما النبلاء والإكليروس فقد كانوا يجدون طرائق قانونية أو غير قانونية للتخلص من كثير من هذه الضرائب وكان الشباب الأثرياء يمكنهم زمن الحرب أن يدفعوا "البدلية"(مبلغ لقاء عدم التحاقهم بالقوات المقاتلة).

وكان من الممكن تحمل هذه الضرائب والعشور والمستحقات الإقطاعية طالما كان المحصول طيباً، لكن حالهم يصبح بائساً في أثناء الخراب الذي تسببه الحروب أو تقلبات المناخ فيصبح المحصول غير مجز ويضيع شقاء العام هباء، ساعتها يبيع الفلاحون الملاك أراضيهم أو عملهم أو كليهما للمغامرين المحظوظين المغرمين بشراء الأراضي الزراعية.

واتسم عام 1788 بكثرة مصائبه التي انهالت عليهم بلا رحمة، فقد أدى الجفاف الشديد إلى نقص شديد في المحصول ودمرت العواصف المصحوبة بالبَرَد 180 ميلا من الأراضي الزراعية الخصبة عادة من نورمنديا Normandy إلى شمبانيا Champagne، وكان شتاء 1788/ 1789 هو أقسى شتاء مر بالبلاد منذ ثمانين عاما، ففنيت آلاف من أشجار الفاكهة، وشهد ربيع سنة 1789 فيضانات مدمرة، أما الصيف فكان مصحوبا بمجاعة في المقاطعات تقريبا كلها.

وبسبب الأعمال الخيرية التي قدمتها الدولة والكنيسة والأفراد حصل الجوعى على الطعام فلم يمت من الجوع إلا عدد قليل، لكن الملايين أنفقوا في هذه المجاعة كل ما يملكون، وشهدت كان Caen ورون Rouen وأورليان Orleans ونانسي Nancy وليون Lyons

ص: 53

جماعات تتقاتل كالحيوانات للحصول على القمح، وشهدت مرسيليا 8،000 جائع عند بواباتها يهددون بغزو المدينة وسلبها. وفي باريس شهد حي سان (القديس) أنطوان St.-Antoine - حي الطبقة العاملة 30،000 معوز في حاجة إلى إعانة.

وفي هذه الأثناء أدت اتفاقية تيسير التجارة مع بريطانيا العظمى (1786) إلى إغراق فرنسا بالمنتجات الصناعية البريطانية الأرخص سعرا من المنتجات الفرنسية فأدى هذا إلى تعطل آلاف العمال الفرنسيين عن العمل - لقد فقد 25،000 عامل فرنسي عملهم في ليون، و 46،000 في أمين Amiens و 80،000 في باريس. وفي مارس سنة 1789 رفض الفلاحون دفع الضرائب بالإضافة إلى المخاوف من إفلاس الدولة.

وقد قابل آرثر يونج Arthur Young الذي كان يقوم برحلة في مقاطعات فرنسا في يوليو سنة 1789 - فلاحة فرنسية كانت تشكو من الضرائب والمستحقات الإقطاعية اللتين تجعلانها دوما على حافة الإملاق، لكنها أضافت قائلة إنها تعلم "أنه لا بد أن يقوم عدد كبير من الناس بعمل شيء من أجل هؤلاء البؤساء

لأن الضرائب والرسوم تسحقنا" لقد سمعوا أن الملك لويس السادس عشر Louis كان رجلاً طيبا راغبا في إصلاح الفساد وحماية الفقراء. لقد كانوا يتطلعون بأمل إلى فرساي Versailles ويدعون بطول العمر للملك.

‌2 - الحكومة

كان لويس السادس عشر رجلاً طيبا، لكنه يصعب - إلا قليلاً - اعتباره ملكا صالحا، فلم يكن الرجل يتوقع أن يصبح حاكما (ملكا)، فقد كان هو الابن البكر لأبيه الذي مات مبكراً 1795، وقد جعله موت جده لويس الخامس عشر 1774 سيدا لفرنسا وهو على حافة العشرين. ولم يكن لديه رغبة في حكم الرجال فقد كان بارعا في استخدام الأدوات والآلات وكان صانعا للأقفال ويجيد إصلاحها بشكل ممتاز، وكان يفضل الصيد على الحكم، فلم يكن يعتبر اليوم الذي لا يصطاد فيه أيّلا إلا يوما ضائعا غير محسوب من عمره ففي الفترة من سنة 1774 إلى سنة 1789 طارد 1.247 أيلا، وقتل 189.251 طريدة،

ص: 54

ومع هذا فقد كان لا يحب إصدار أوامر بإعدام البشر،

وربما يكون قد فقد عرشه لأنه منع حرسه السويسري من إطلاق النار في 10 أغسطس سنة 1792 وكان بعد أن يعود من رحلات الصيد يأكل بشراهة حتى يملأ معدته عن آخرها، وكانت طاقة معدته لتحمل مزيد من الطعام في ازدياد مستمر، وأصبح نتيجة لذلك بدينا لكنه كان قويا، وقد أصابت ماري أنطوانيت Marie Antoinette في حكمها على زوجها عندما قالت:

"الملك ليس جبانا، بل يتحلى بقدر كبير جدا من الشجاعة الكامنة لكن الخجل يربكه وتعوزه الثقة بالنفس .. وهو يخاف من القيادة .. لقد عاش كالطفل وفي حالة قلق دائم وهو تحت رعاية لويس الخامس عشر، وظلت هذه حاله حتى بلغ الواحدة والعشرين. لقد عمقت هذه القيود المفروضة عليه جبنه".

وكان حبه لمليكته جزءاً من الأسباب التي ألحقت الدمار به لقد كانت جميلة فخمة تزين بلاطه بجاذبيتها ومرحها، وغفرت له تباطؤه في عقد قرانه بها. لقد كان الملك ذا عضو تناسلي محكم الإغلاق بمعنى أن قلفته أو غرلته كانت ملتصقةً التصاقا شديدا بعضوه وكان هذا يسبب له ألماً لا يحتمل إذا ما أنعظ. وقد حاول مرات عدة طوال سبع سنوات، وكان يتحاشى العملية الجراحية البسيطة التي يمكن أن تحل مشكلته إلى أن حثه في سنة 1777 أخو الملكة جوزيف الثاني Joseph النمساوي على إسلام ذكره للسكين وما أن فعل حتى صارت أمور ذكره على ما يرام.

وربما كان الشعور بالذنب الذي يعتريه عنيفا حينا، وهوناً حيناً هو الذي جعله متسامحا جداً مع زوجته؛ متسامحاً إزاء مقامرتها ومغامرتها في لعب الورق (الكوتشينة)، متسامحا إزاء مبالغتها في اقتناء الثياب، متسامحا إزاء رحلاتها المتكررة إلى باريس لحضور الأوبرا، وتحمل صداقتها الأفلاطونية بالكونت فون فيرسن Count Von Fersen وصداقتها للأميرة دى لامبل de Lamballe وممارستها السِّحاق معها في ظل هذه الصداقة. لقد كان الملك بتكريسه نفسه لزوجته بشكل واضح يسلي حاشيته ويسعدها لكن هذا كان مدعاة لخجل أجداده.

وكان الملك يقدم لها الجواهر الغالية، لكنها - وكذلك فرنسا- كانت أكثر حاجة

ص: 55

إلى طفل. وعندما أتى الأطفال أثبتت أنها أم صالحة وانشغلت بمتاعبهم وقللت من غلوائها، واعتدلت في أمورها كلها خلا كبريائها، وتدخلها المتكرر في أمور الدولة (شئون الحكم)، وفي هذه كان لها بعض العذر لأن لويس كان قلما يحسم الأمور أو يحدد المسار أو يختار بين البدائل بل كان غالباً ينتظر الملكة لتنظم له تفكيره، وكان بعض أفراد الحاشية يتمنون لو كان له قدرتها على تقدير الأمور بسرعة واستعدادها للقيادة.

لقد فعل الملك كل ما استطاع لمواجهة المصائب والأزمات التي سببها له سوء الأحوال الجوية والمجاعة والشغب بسبب عدم توفر الخبز، والثورات ضد الضرائب، ومطالب النبلاء والبرلمان، ونفقات البلاط والإدارة وزيادة العجز في الخزانة. وظل طوال عامين (1774 - 1776) يسمح لتورجو Turgot بتطبيق نظرية الفيزيوقراطين (الطبيعيين) والتي مؤداها أن إطلاق الحرية للمشروعات الخاصة والمنافسة وعدم إعاقة قوانين السوق المتحكمة - قانون العرض والطلب - سينعش الاقتصاد الفرنسي ويضيف عوائد جديدة للدولة، وأنه من الضروري تطبيق هذه النظرية على أجور العمال وأسعار البضائع. لكن أهل باريس قد اعتادوا التفكير في أن الحكومة هي الملاذ الوحيد الذي يحميهم من جشع المضاربين في السوق، لذا فقد عارضوا إجراءات تورجو Turgot وقاموا بأعمال شغب، واعترتهم البهجة عند سقوطه (أي سقوط حكومة تورجو).

وبعد أن لبث الملك عدة شهور مترددا مشوش الفكر استدعى جاك نيكر Jacques Necker وهو خبير مال سويسري يدين بالمذهب البروتستانتي ومقيم في باريس ليكون مشرفا على أمور الخزانة (1777 - 1781).

وفي ظل هذا الغريب غير الكاثوليكي نفذ الملك لويس برنامجا شجاعا لإصلاحات صغرى؛ فقد سمح بتشكل مجالس (جمعيات) منتخبة على المستوى المحلي ومستوى المقاطعات لتعبر عن أهالي هذه المناطق لتكون كجسر يسد الفجوة بين الشعب والحكومة. وأعلن الملك رفضه لنظام السخرة Corveé، وكان إعلانه هذا صدمة لطبقة النبلاء، بل لقد

ص: 56

أعلن في بيان أمام الجمهور (1780)

"أن الضرائب المفروضة على القطاعات الأشد فقرا من رعايانا قد زادت زيادة كبيرة أكثر بكثير مما زادت فيه الضرائب على القطاعات الأخرى جميعا" وعبر عن "أمله في أن يفكر الأغنياء في تحمل الأعباء التي كان يجب أن يشاركوا الآخرين في حملها منذ مدة طويلة"

وقام الملك بتحرير الأقنان (عبيد الأرض) في ممتلكاته ولكنه قاوم ما حثه نيكر عليه بتطبيق ذلك على الأقنان في أراضي النبلاء والإكليروس. وأسس الملك مراكز للرهن (مراهن) لتقرض الأموال للفقراء (بعد إيداع رهن) بنسبة ربح 3%، ومنع استخدام أساليب التعذيب مع الشهود ومرتكبي الجرائم. ووعد بإلغاء الزنزانات في فينسين Vincennes وأن يدمر الباستيل Bastille ضمن برنامج لإصلاح السجون.

ورغم أن الملك كان تقيا متمسكا بكاثوليكيته إلا أنه سمح بقدر كبير من الحرية الدينية للبروتستانت واليهود. ورفض أن ينزل العقاب بأصحاب الأفكار الحرة، بل لقد سمح لمؤلفي الكتيبات (مصدري النشرات) الغلاظ الذي لا يرحمون أن يصفوه بأنه ديوث، ويصفوا زوجته بأنها بغي ويصفوا أولاده بأنهم أولاد زنا. ومنع حكومته من التجسس على مراسلات المواطنين الخاصة.

وأرسل لويس مساعدات مالية ومادية بلغ إجمالي قيمتها 240،000 دولار للمستعمرات الأمريكية دعماً لها في نضالها من أجل الاستقلال، وقد أيده في هذا بحماس بومارشيه Beaumarchais والفلاسفة Philosophes، بينما كان نيكر معارضا (بحجة أن ذلك سيعجل بإفلاس فرنسا إفلاسا كاملا). لقد كان الأسطول الفرنسي وكتائب لافاييت Lafayette وروشامبو Rochambeau هي التي ساعدت واشنطن Washington على حصار كورنويلز Cornwallis في يوركتاون York town وإرغامه على التسليم ومن ثم كانت القوات الفرنسية سببا في إنهاء الحرب. لكن الأفكار الديمقراطية عبرت المحيط الأطلنطي إلى فرنسا، وبينما كانت خزانتها تئن من وطأة الديون الجديدة، جرى طرد نيكر من

ص: 57

الحكومة عام 1781 وراح حاملو السندات من الطبقة البورجوازية يصرخون متذمرين مطالبين بضبط مالية الحكومة.

وفي هذه الأثناء راح برلمان باريس يضغط على دعواه بحقه في الاعتراض على المراسيم الملكية. وغالبا ما كان لويس- فيليب - جوزيف Louis - Philippe - Joseph دوق أورليان Orleans - ابن عمه فهو منحدر مباشرة من الأخ الأصغر للويس الرابع عشر - يخطط علنا للاستيلاء على العرش. وراح لويس - فيليب - جوزيف يوزع عن طريق كوديرلو دى لاكلو Choderlos de Laclos وغيره من الوكلاء عنه النقود والوعود على السياسيين وكتاب النشرات (الكتيبات) والخطباء والعاهرات (المومسات).

لقد أباح لأتباعه التسهيلات والبلاط وحدائق قصره الملكي والمقاهي والحانات ومخازن الكتب ونوادي القمار لتكون في خدمة الجماهير التي تجمعت هناك نهارا وليلا ووصلت الأخبار من فرساي Versailles بسرعة. حملها بعض أفراد الحاشية. فظهرت النشرات (الكتيبات) هناك في كل ساعة ودوى الخطباء بخطبهم من فوق المنصات والمناضد والكراسي، وحبكت المؤامرات لعزل الملك.

وانزعج الملك من فكرة عزله فاستدعى نيكر وولاه وزارة المالية (1788)، وأصدر بناء على حث نيكر له دعوة للفرنسيين بأن ينتخبوا ممثليهم من النبلاء ورجال الدين والعوام ويرسلوهم إلى فرساي ليشكلوا مجلس طبقات الأمة (لم ينعقد مجلس طبقات الأمة منذ سنة 1614) ليقدم له المشورة والدعم لمواجهة مشاكل المملكة. وكانت دعوة الملك لعقد مجلس طبقات الأمة هي الملاذ الأخير والخطير الذي اضطر للجوء إليه والذي قد يؤدي إلى إنقاذ عرشه أو الإطاحة به. وقد أصدر الملك دعوته هذه في 8 أغسطس سنة 1788.

وثمة بعض الملامح الجديرة بالملاحظة حول هذه الدعوة التاريخية التي وجهتها الحكومة لأنها طوال نحو قرنين من الزمان لم تكن تفكر في طبقة العوام إلا باعتبارهم مجرد دافعي ضرائب وموردي طعام، و- دوريا- وقود حرب. وقد أعلن الملك في البداية بناء على حث نيكر له أن طبقة العوام لا بد أن يكون لها ممثلون (نواب) بقدر عدد نواب الطبقتين

ص: 58

الأخريين (طبقة النبلاء وطبقة الأكليروس)، في هذا الاجتماع القادم. وكانت طبقة النبلاء معترضة على هذا الإعلان الملكي. أما الأمر الثاني: أن تكون الانتخابات في فرنسا أقرب ما تكون إلى نظم الانتخابات العالمية بالنسبة للبالغين؛ فأي رجل يبلغ السابعة والعشرين من عمره أو أكثر، يكون قد دفع في العام الماضي أي ضرائب للحكومة مهما قلت قيمتها، له حق التصويت في المجالس المحلية Local assemblies التي ستنتخب ممثليها لتمثيل المنطقة في باريس. والأمر الثالث أن الملك أضاف إلى دعوته طلبا من المجالس المنتخبة كلها أن تقدم له تقارير

Cahier لتحديد المشكلات وطلبات كل طبقة في كل مقاطعة أو إقليم district مع اقتراحات وتوصيات لعلاج هذه المشكلات ورسم سبل للإصلاح. ولم يحدث أبداً قبل ذلك - فيما تعي ذاكرة الفرنسيين - أن طلب أي من ملوكهم مشورة شعبه.

ومن بين 615 تقريراً حملها النواب للملك، بقي منها 545. وكلها تقريبا تعبر عن ولائها للملك بل وتعاطفها معه باعتباره رجلاً حسن النوايا بشكل ظاهر، لكن هذه التقارير كلها أو العرائض تقريبا قد اقترحت عليه أن يشرك معه في مشاكله وسلطاته مجلسا منتخبا ليكون معه ملكية دستورية. ولم يرد في تقرير واحد من هذه التقارير أي ذكر لحق الملوك الإلهي في الحكم. وطالبت التقارير جميعا بنظام قضائي قائم على المحاكمة أمام هيئة محلفين، وطالبت بخصوصية الرسائل (عدم جواز اطلاع السلطات عليها) وتخفيف الضرائب وإصلاح القانون.

أما التقارير التي كتبها النبلاء فقد اشترطت أن يجلس أفراد كل طبقة بمعزل عن الطبقتين الأخريين في مجلس طبقات الأمة القادم، وأن تصوت كل طبقة على حدة، وألا يصبح أي إجراء قانونيا إلا بعد موافقة الطبقات الثلاث. أما تقارير (عرائض) الإكليروس فدعت إلى نبذ التسامح الديني وأن تشرف الكنيسة - وبمفردها - على التعليم. وعكست تقارير الطبقة الثالثة (طبقة العوام) - مع اختلاف في درجة التركيز على عنصر أو آخر - مطالب الفلاحين في تخفيض الضرائب، وإلغاء القنانة (عبودية الأرض) والعوائد الإقطاعية وتعميم التعليم الحر وحماية المزارع من الدمار الذي تلحقه أنعام السادة وممارستهم الصيد فيها، وطالب أفراد الطبقة الوسطى بإتاحة الفرص للموهوبين بصرف النظر

ص: 59

عن الأصل وبإلغاء رسوم الانتقال، وبامتداد نظام الضرائب ليشمل النبلاء والإكليروس، واقترح بعضهم أنه يجب على الملك أن ينهي العجز المالي بمصادرة الأملاك الكنسية وبيعها. لقد ظهرت الخطوط العريضة للمراحل الأولى للثورة الفرنسية - بالفعل- في هذه التقارير (العرائض Cahiers) .

وقد ظهر في هذه الدعوة المتواضعة التي وجهها الملك لمواطنيه بعد ملحوظ عن التجرد والحياد، فبينما كان من حق كل مواطن خارج باريس أن يدلى بصوته ما دام قد دفع ضرائب، فلم يكن من حق الباريسي أن يدلي بصوته إلا إذا كان قد دفع ضريبة رأس قيمتها ست ليفرات Livres أو يزيد. ربما تردد الملك ومستشاروه في أن يتركوا للخمسمائة ألف عامل "الطبقة التي لا يرتدى أفرادها كلوتات قصيرة وإنما سراويل (بناطيل) " تصل إلى كواحل الأقدام Sans Culottes (انتخاب رجال يمثلون في مجلس طبقات الأمة أفضل مصدر للمعلومات للعاصمة (يكونون كاستخبارات داخل المجلس).

فمشكلة الديمقراطية المتمثلة في أن الكيف إنما هو ضد الكم والمتمثلة في الحصول على الكفاءات العقول الذكية (brains) بالتَّشَمُّم المحسوب (باستخدام الجواسيس) قد ظهرت هنا في الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، قبل إعلان الديمقراطية في سنة 1793 م. وعلى هذا فقد ترك أولئك الذين لا يرتدون كلوتات (العمال) خارج الحركة الشرعية للأحداث، وأدى هذا إلى أن تشعر هذه الطبقة أنه بالعنف وحده - ذلك العنف الذي يستطيعونه بسبب عددهم الكبير - يمكنهم أن يكونوا قاسماً مشتركا في كل ما ترغب الإرادة العامة للشعب التعبير عنه. كانوا هم الذين استولوا على الباستيل في سنة 1789، وهم الذين أطاحوا بالملك في سنة 1792، وهم الذين شكلوا حكومة فرنسا سنة 1793.

ص: 60

الفصل الثاني

‌الجمعية الوطنية:

من 4 مايو 1789 - 30 سبتمبر 1791

ص: 62

The National Assembly

‌1 - مجلس طبقات الأمة

THE STATES-GENERAL

في 4 مايو سنة 1789 اتجه ممثلو الطبقة الثالثة (طبقة العوام) وعددهم 621 وكيلا، وكانوا يلبسون الملابس البورجوازية السوداء، يتبعهم 285 من النبلاء وقد وضع الواحد منهم قبعته المزدانة بالريش فوق رأسه وارتدى ثيابا محلاة بالأشرطة والذهب، ثم 308 من رجال الدين، وقد امتاز الأساقفة عنهم بعباءات من قطيفة، ثم وزراء الملك وأفراد عائلته، ثم لويس السادس عشر وزوجته مارى أنطوانيت Marie Antoinette، وكان الجند يحيطون بالركب كله وراحت الأعلام ترفرف وكذلك الشارات، واتجهوا جميعا إلى المكان المخصص لاجتماعهم وهو صالة المسرات البريئة Hotel des Menus Plaisirs التي لا تبعد إلا قليلا عن القصر الملكي في فرساي.

وحفت الجماهير الفخورة والسعيدة بالموكب، وراح بعضهم يبكي فرحا وأملا وهو يرى في هذا المنظر الذي ينم عن وحدة الطبقات المتنافسة، وعداً بالتماسك والتضامن والعدل في ظل ملك خير.

وخطب لويس في الوفود المجتمعة معا معترفاً بأن الخزانة على شفا الإفلاس، وعزا ذلك إلى:"الحرب المكلفة والمشرفة في آن" وطلب منهم أن يفكروا في وسائل جديدة لزيادة دخل الدولة وأن يصدقوا على المراسيم التي تصدر بهذا الشأن. ثم جاء نيكر Necker فاستمر ثلاث ساعات يقرأ إحصاءات جعلت حتى الثورة نفسها، كئيبة ينقصها الحماس. وفي اليوم التالي خبا تألق الوحدة بين الطبقات الثلاث، فوجدنا الإكليروس clergy (طبقة رجال الدين) يتقابلون في صالة ملحقة أصغر من الصالة التي ضمت الطبقات الثلاث، وراح النبلاء يتقابلون ويجتمعون في صالة أخرى ملحقة وشعر أفراد الطبقتين (النبلاء والإكليروس) أنه يجب عليهم أن يتدارسوا الأمر في نطاق طبقتهم كما يجب عليهم أن يصوتوا بمعزلٍ عن الطبقتين الأخريين كما حدث في آخر مجلس طبقات أمة انعقد منذ 175 عاما مضت، وكان من رأي أفراد الطبقتين أنه لا يجوز إقرار أي اقتراح واعتباره قانونا إلا إذا وافقت عليه الطبقات الثلاث والملك، أما ترك الأمور للانتخابات الفردية أي أن يحسب صوت كل فرد بصرف النظر عن طبقته بين هؤلاء المندوبين المجتمعين فإن هذا يعني تسليم كل شيء لطبقة العوام.

ص: 63

وقد حدث بالفعل أن انضم رجال الدين الأشد فقرا من سواهم إلى جانب طبقة العوام

"بل إن بعض النبلاء مثل لافاييت Lafayette وفيليب دأورليان Philippe d'Orleans ودوق دلاروشفوكو La Rochefoucauld، وليانكو Liancourt أضمروا مشاعر ليبرالية خطرة".

وبسبب هذا بدأت حرب أعصاب لفترة طويلة، وكان يمكن لطبقة العوام أن تنتظر لأن إقرار ضرائب جديدة يستلزم موافقتهم العلنية بينما كان الملك ينتظر إقرار هذه الضرائب الجديدة بصبر فارغ. وكانت طبقة العامة تتحلى بالشباب والحيوية والفصاحة والتصميم. لقد كان هناك أونوري Honore- جابرييل Gabriel - فيكتور ريكيتي Victor Riqueti الذي قدم لهم الكونت دى ميرابو Conte de Mirabeau خبرته وشجاعته وقوة فكرة وصوته الجهوري، وقدم بيير - صامويل دى بو دى نيمور Pierre - Samuel du Pont de Nemours لهم معلومات عن طبيعة اقتصاد الفيزيو قراطيين Physiocrat (الطبيعيين) وعن الإستراتيجية، أما جان بيلي Jean Bailly فقد حقق بالفعل شهرة في مجال الفلك، وقد هدأ من حدة الانفعال ليصلوا إلى حكم هادئ بعد دراسة الأمور وتقليبها. أما ماكسميليان دى روبيسبير Maximilien de Robespierre فظل يتحدث بانفعال وباستمرار كرجل عقد عزمه ألا يسكت حتى يجد طريقه.

لم يبق من عمر روبيسبير الذي ولد في أراس Arras في سنة 1758 سوى خمسة أعوام، لكنه كان في غالب هذه الفترة هو محور الأحداث أو يتحرك بالقرب من قلبها. وكان روبيسبير قد فقد أمه وهو في السابعة من عمره، أما أبوه فقد اختفى في ألمانيا. وقام الأقرباء بتربية الأيتام الأربعة وفاز ماكسميليان الطالب الدءوب بمنحة دراسية في كلية لويس لي جراند Louis - le - Grand في باريس، ونال درجة جامعية في القانون ومارس المحاماة في أراس Arras وحقق شهرة كمدافع عن الإصلاح حتى إنه كان من بين الذين تم إرسالهم من إقليم أرتوا Artois لحضور مجلس طبقات الأمة State - General.

ولم يكن مظهر روبيسبير يدعم دورة كخطيب فقد كان طوله لا يزيد على خمسة أقدام وثلاث بوصات، وكان وجهه عريضاً ومسطحاً شوهه الجدري، وكانت عيناه ضعيفتين

ص: 64

محاطتين بدائرتين، وكان لونهما أزرق مخضراً حتى إن كارليل Carlyle أطلق عليه اسم "روبسبير البحر الأخضر" وله بعض العذر في ذلك. وكان روبيسبير يدعو إلى الديمقراطية ويدافع عن حق الذكور البالغين في الانتخاب رغم أن ذلك قد يجعل من أدنى الطبقات شركاء في الحكم بل ويجعل رايتهم ترتفع فوق الجميع. لقد عاش عيشة بسيطة كعيشة أحد أفراد طبقة العمال لكن لم يقلد ذوى السراويل (البنطلونات) الطويلة المعروفين باسم السانس كلوت (أي الذين لايرتدون الشورتات "الكلوتات" القصيرة) لقد كان يلبس سترة خطافية (فراك) زرقاء غامقة نظيفة، وسروالاً (بنطلوناً) قصيرا يصل إلى الركبة وجورباً حريرياً، وقلما كان يغادر بيته قبل أن ينثر المساحيق على شعره.

وكان يسكن مع نجار اسمه موريس دبلي Maurice Duplay في شارع سانت أونري Rue St-Honore وكان يتغذى على مائدة الأسرة وكان يدفع لقاء ذلك ثمانية عشر فرنكا في اليوم. وكان ينطلق من هذا المستوى المتدني (مستوى الحضيض) ليتحرك في معظم أنحاء باريس، وبعد ذلك في معظم أنحاء فرنسا. لقد كان يتحدث بشكل متتابع تتابعا ملحوظا عن الفضيلة، وكان يطبقها بقسوة وصرامة وعناد أمام الجماهير، أما في علاقاته الخاصة فقد كان "كريما عطوفا بل وكان مستعدا لتقديم الخدمات" على حد قول فيليبو بوناروتي Filippo Bunoarrotti الذي كان يعرفه جيدا.

لقد كان يبدو محصنا تماما ضد مفاتن النساء، فقد صرف طاقة الحب التي لدية لأخيه الأصغر أوغسطين Augustin وسان ـ جوست Saint - just ولم يتهمه أحدٌ أبداً بأي انحراف جنسي، ولم يكن من الممكن إغواؤه برشوة مهما بلغ قدرها، وعندما عرض أحد الفنانين صورة شخصية لروبيسبير في سنة 1791 لم يكتب إزاءها سوى فقرة واحدة "غير قابل للرشوة The incorruptible " ولم يبد أن هناك من تجرأ على الاعتراض على ذلك. وكان روبيسبير يؤمن بأفكار مونتسكيو Montesquieu باعتبارها أساساً لازما لجمهورية ناجحة، فمن غير ناخبين لا يمكن شراء أصواتهم الانتخابية ومن غير موظفين لا يمكن رشوتهم تصبح الديمقراطية كذبا ورياء. وقد آمن روبيسبير كما آمن روسو بأن الإنسان خير

ص: 65

بالطبيعة أو بتعبير آخر خلقه الله خيرا، بحيث يجب أن تكون "الإرادة العامة" هي قانون الدولة وأن أي معارض مصر على مواجهة الإرادة العامة يستحق بلا ريب الإدانة التي تفضي به إلى ساحة الإعدام. وكان روبيسبير متفقاً مع روسو في أن بعض أشكال المعتقدات الدينية لا بد منها لضمان السلام النفسي والانضباط الاجتماعي ولأمان الدولة وبقائها.

ولم يبد أنه بدأ يشك في اتفاقه التام مع الإرادة العامة "الإرادة الجماهيرية" إلا قرب نهاية حياته. لقد كانت نفسه أضعف من إرادته، وكانت معظم أفكاره مستقاة من قراءاته أو من الشعارات التي ملأت الجو الثوري المحيط. لقد مات في عمر باكر جدا مما لم يتح له فرصة سبر أغوار الحياة بعمق أو تحصيل قدر كبير من المعرفة التاريخية يتيح له أن يقارن بين أفكاره المجردة أو العامة وواقع الأمر من خلال تأمل محايد. لقد عانى بشدة مما حاق بنا من فشل عام، ولم يكن يستطيع أن ينأى بذاته بعيداً عن عينيه. لقد كان مقتنعاً بما يتفوه به مشوبا بالحماس والعاطفة. لقد كان على يقين خطر، وكان يصرخ عبثا بشكل يدعو للسخرية، قال عنه ميرابو Mirabeau:" هذا الرجل سيشتط كثيرا وسيذهب بعيدا. إنه مؤمن بكل كلمة يقولها" وكانت نهايته إلى المقصلة.

وقد ألقى روبيسبير على مدار عامين ونصف العام في الجمعية الوطنية نحو خمسمائة خطبة عادة ما كانت الخطبة منها طويلة طولا يبعدها عن تحقيق الإقناع، وعادة ما كانت جدلية خلافية مما يجعلها غير بليغة، ومع هذا فإن جماهير باريس فهمت مغزاها وتعلمت منها وأحبته من أجلها. لقد عارض روبيسبير التفرقة القائمة على أسس عرقية أو دينية واقترح تحرير السود وظل حتى شهور حياته الأخيرة مدافعا عن الشعب. لقد قبل مبدأ الملكية الخاصة، لكنه رغب في تعميم الملكية الصغيرة لتكون هي الأساس الاقتصادي لديمقراطية قوية. وقد اعتبر التفاوت في الثروة "شراً لا بد منه" راجع إلى التفاوت الطبيعي بين قدرات البشر. وفي هذه الفترة وجدناه يؤيد الإبقاء على الملكية فقد كان يرى أن الإطاحة بلويس السادس عشر قد تؤدي إلى فوضى وسفك دماء تفضيان في النهاية إلى دكتاتورية أكثر من طغيان الملكية.

واستمع كل عضو من أعضاء الجمعية الوطنية - تقريبا - لخطب هذا الخطيب الشاب

ص: 66

بحياد فيما عدا ميرابو Mirabeau الذي احترم حجج روبيسبير التي أعدها إعدادا متقنا وبسط شرحها بوضوح. ومن ناحية أخرى لاحظنا ميرابو الذي نشأ في ظل والد عبقري رغم دقته الشديدة الصارمة راح يتشرب بتوق شديد كل تأثير متاح في الحياة مما تهيؤه فرص الرحلة والمغامرة والخطيئة، وراح يطالع مظاهر الضعف البشري والظلم والفقر والمعاناة في اثنتي عشرة مدينة، وسجنه الملك بناء على طلب والده وشهر بأعدائه في نشرات هجائية واتهامات غاضبة،

وأخيرا انتخبته طبقة العوام في كل من مرسيليا Marseilles وإكس- أن- بروفانس Aix-en- Provence لمجلس طبقات الأمة فحقق انتصارا مزدوجا فعالا، وأتى إلى باريس وقد أصبح بالفعل أحد المشاهير اللامعين الذين تحوم حولهم الشكوك في بلد كانت الأزمة تدفع بالنابغين والعباقرة إلى الصدارة في ظروف قلما شهد لها التاريخ مثيلا. لقد رحب به متعلمو باريس كلهم، وأطلت الرؤوس من النوافذ لمشاهدة عربته وهي تمر، وكانت النسوة مشتاقات لمعرفة حقيقة الإشاعات المثارة حول غرامياته كما كن مفتونات بما في وجهه من ندوب وتشوه، فتنة لا يعادلها سوى الاشمئزاز من قبح هذه الندوب وهذا التشوه.

لقد استمع الأعضاء باستسلام لخطابه رغم أنهم كانوا شاكين في طبقته وأخلاقه ونواياه، فقد سبق أن سمعوا أنه كان يعيش عيشة تفوق إمكاناته، وأنه كان يشرب حتى يفقد عقله، وأنه لم يكن يتورع عن استخدام بلاغته وفصاحته للتخفيف من وطأة ديونه، لكنهم علموا أنه لام أفراد طبقته دفاعاً عن العوام الذين قدروا فيه شجاعته لأنهم تشككوا في أن يجدوا لهذا البركان من الطاقة المعتمل في نفسه مثيلا آخر.

لقد انتشرت الخطابة في هذه الأيام المحمومة وازدادت المناورات السياسية أكثر بكثير مما شهده قصر (صالة) المسرات البريئة مينو بلازير Hotel des Menus Plaisirs وطغت بها الصحف والنشرات والإعلانات المعلقة على الجدران والنوادي؛ فبعض المندوبين القادمين من بريتاني Brittany كونوا نادي البريتون Club Breton الذي سرعان ما فتح باب عضويته للأعضاء الآخرين وللخطباء والكتاب، وجعل منه كل من سييس Sieyes وروبيسبير، وميرابو منصة يعرضون عليها أفكارهم ويجربون وقع مشاريعهم على المستمعين، وشهد هذا النادي التشكيل الأول للتنظيم القوي الذي عرف بعد ذلك باسم اليعاقبة Jacobins . وكانت المحافل الماسونية Freemason lodges

ص: 67

نشيطة أيضا، وكانت عادة مؤيدة للملكية الدستورية، لكن ليس لدينا دليل عن مؤامرة ماسونية سرية.

وربما كان نادي البريتون هو الذي شهد خطة سييس Sieyes وآخرين القاضية بأن يتحرك النبلاء والإكليروس في خطوة واحدة مع طبقة العوام. وقد ذكّر سييس طبقة العوام بأنّ عددهم 24 مليونا من بين 25 مليون هم سكان فرنسا، فلم طال ترددهم في الحديث باسم فرنسا؟. وفي 16 يونيو اقترح على المندوبين في المينو بلازير (صالة المسرات البريئة) Menu Plaisirs ضرورة أن يرسلوا دعوة أخيرة للطبقتين الأخريين للانضمام إليهم فإن كانت الإجابة بالرفض فما على مندوبي الطبقة الثالثة إلا أن يعلنوا أنهم هم ممثلو الأمة الفرنسية وأن يشرعوا في سن القوانين.

واعترض ميرابو في بادئ الأمر بأن الملك على رأس مجلس طبقات الأمة وبالتالي فهو - من الناحية القانونية - تابع له، ومن ثم يمكن فض المجلس بناء على رغبة الملك. وبعد أن قضى المجتمعون ليلة في النقاش وسوق الحجج والتشابك بالأيدي تمّ طرح القضية للتصويت: أسوف يعلن المجتمعون أنفسهم جمعية وطنية؟ وتمت الموافقة على ذلك بأربعمائة وتسعين صوتا مقابل تسعين كانوا هم المعترضين فقط. وتعهد النواب بالالتزام بحكم دستوري. ومن الناحية السياسية تكون الثورة قد بدأت في 17 يونيو سنة 1789.

وبعد ذلك بيومين اجتمع ممثلو الإكليروس بشكل منفصل وصوتوا لصالح الانضمام لطبقة العوام (الطبقة الثالثة)، وكان عدد الأصوات الموافقة 149، مقابل 137 اعترضوا وألقى الإكليروس الأدنى درجة بثقلهم لصالح طبقة العوام وفزع ذوو الرتب الكنسية العليا من الإكليروس من هذا الانشقاق فانضموا للنبلاء ولجئوا إلى الملك لمنع اتحاد الطبقات معا حتى لو اقتضى الأمر حل مجلس طبقات الأمة وصرفه، فأمر الملك في مساء يوم 19 يونيو بإغلاق صالة المسرات البريئة (مينو بلازير Hotel des Menus Plaisirs) لإعدادها لجلوس ممثلي الطبقات الثلاث في الدورة الملكية التي ستعقد في 22 يونيو.

وعندما ظهر نواب الطبقة الثالثة في اليوم العشرين وجدوا الأبواب موصدة فاعتقدوا أن الملك يريد صرفهم فتجمعوا في ملعب تنس مجاور Salle du Jeu de Paume واقترح مونييه Mounier على

ص: 68

النواب وعددهم 577 المتجمعين أن يقسم كل واحد منهم ألا ينفصل عن المجموع وأن يواجه الظروف مهما كانت حتى يتم وضع الدستور بشكل نهائي "وبالفعل أقسموا جميعا ما عدا واحدا"، وقد سجل الفنان جاك لويس ديفيد Jacques - Louis David هذا المشهد التاريخي في واحدة من أهم اللوحات الفنية الكبرى في هذا العصر. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجمعية الوطنية هي أيضا الجمعية التأسيسية التي تتولى صياغة الدستور.

وتم افتتاح الدورة الملكية في 23 يونيو أي بعد الميعاد المقرر لها بيوم، وتلي خطاب للملك في حضوره، وكان الخطاب يعكس اقتناعه أنه بغير حماية النبلاء والكنسية ستتضاءل أهميته السياسية، ورفض في خطابه هذا دعوى الطبقة الثالثة بأنها هي الأمة، باعتبار ذلك أمراً غير قانوني. ووافق الملك في خطابه هذا على إلغاء السخرة، وإبطال إصدار المراسيم الملكية القاضية بالسجن من غير محاكمة وإلغاء رسوم الانتقال داخل فرنسا وكل ما يترتب على نظام القنانة serfdom (عبودية الأرض) لكنه أكد على اعتراضه عل كل ما يفسد "الحقوق الدستورية القديمة، .. فيما يتعلق بالملكية أو المزايا الشرفية لطبقتي النبلاء والإكليروس" ووعد بالمساواة في الضرائب في حالة موافقة هاتين الطبقتين. كما قال إن كل ما يتعلق بالدين أو الكنسية لا بد أن يتم بموافقة الإكليروس، وأنهى خطابه بإعادة تأكيده على النظام الملكي المطلق:

"وإذا شاءت الأقدار أن تخليتم عني في هذا المشروع العظيم، فإنني وحدي سأعمل على رفاهية شعبي، وأنا وحدي الذي يجب أن ينظر في أمر ممثليه الحقيقيين .. اعتبروا أيها السادة ولتعلموا أن أيا من مشروعاتكم وخططكم لن يكون له قوة القانون بغير موافقتي .. إنني آمركم أيها السادة أن تنفضوا فورا، وأن تجتمعوا غدا كل واحد منكم في الصالة المخصصة لطبقته".

وغادر الملك ومعظم النبلاء وعدد قليل من الإكليروس صالة الاجتماع، وأعلن المركيز دي بريزى de Breze عن رغبة الملك في إخلاء الصالة. وأجاب باييه Bailly - رئيس الجمعية - بأن الأمة المجتمعة لا يمكنها أن تقبل مثل هذا الترتيب، ودوى صوت ميرابو كالرعد معلنا لدى بريزى de Breze: " اذهب وقل لمن أرسلوك إننا هنا بإرادة الشعب ولن نغادر إلا إذا

ص: 69

أجبرتمونا على ذلك بالقوة المسلحة". ولم يكن ما قاله صحيحا فقد أتوا إلى هنا بناء على دعوة الملك ومع هذا فقد عبر المجتمعون عن هذا المعنى نفسه بالصياح قائلين: "تلك إرادة الجمعية" وعندما حاول الحرس الملكي دخول القاعة سدت مجموعة من النبلاء الليبراليين - وكان من بينهم - لافاييت Lafayette - المداخل بسيوفهم المشهرة، وعندما سئل الملك عما يجب عمله أجاب بضجر "دعوهم يبقون".

وفي 25 يناير انضم دوق أورليان Duc d'Orleans مع سبعة وأربعين نبيلا للجمعية الوطنية فاستقبلهم أعضاؤها بعاصفة من الفرح وتردد صدى صياحهم المتحمس في أرجاء القصر الملكي Palais - Royal وحوله، وتآخى الحرس الفرنسي مع الحشود الثائرة، وفي اليوم نفسه شهدت العاصمة ثورتها السلمية فقد التقى الرجال الذين كان قد تم اختيارهم (وكان عددهم 407) من أقسام باريس لاختيار مندوبي باريس في دار البلدية Hotel de Ville وقاموا بتعيين مجلس بلدي جديد، ولما رأى المجلس الذي عينه الملك أنه لا يجد دعما عسكريا يؤازره، تخلى - سلمياً - عن دار البلدية.

وفي 27 يونيو استسلم الملك لحكم الظروف وتوجهات نيكر Necker وأمر طبقتي النبلاء والإكليروس بالانضمام إلى الجمعية الوطنية الظافرة، وبالفعل ذهب النبلاء إليها لكنهم رفضوا المشاركة في التصويت ومن ثم عاد كثيرون منهم إلى ضياعهم.

وفي أول يوليو استدعى لويس عشرة أفواج - معظمهم من الألمان والسويسريين - لمساعدته، وفي العاشر من يوليو احتلت قوات قوامها ستة آلاف جندي بقيادة المارشال دى بروجلي Marechal de Broglie فرساي، واتخذ عشرة آلاف جندي بقيادة البارون دى بيسينفال Baron de Besenval مواقع حول باريس. وفي أجواء ملأها الهياج والرعب شرعت الجمعية في اعتبار التقرير الذي سبق تقديمه في 9 يوليو بمثابة دستور جديد. وتوسل ميرابو إلى الأعضاء أن يحتفظوا بالملك كدرع ضد الفوضى الاجتماعية وحكم الغوغاء، ووصف لويس السادس عشر بأنه رجل طيب القلب ذو نوايا حسنه لكن مستشاريه قصيري النظر يضللونه وقال لهم وكأنه يتنبأ:

"أَدَرَسَ هؤلاء الناس في تاريخ أي شعب كيف تبدأ الثورات، وكيف يجري تنفيذها؟

ص: 70

ألم يلاحظوا كيف أن سلسلة من الظروف التي يفرضها القدر تبعد أحكم الرجال عن حدود الاعتدال، وكيف أن الشعب الساخط تدفعه الأحداث المرعبة لتورده موارد الإسفاف؟ ".

وانصاع أعضاء الجمعية لنصيحته لأنهم شعروا أيضا بتطور الأحداث السريع في شوارع باريس. لكن الملك لويس بدلا من أن يكافئ الطبقة الثالثة بتنازلات جوهرية لتهدئتها، فإنه أثار غضب الراديكاليين والليبراليين بطرده نيكر Necker للمرة الثانية (في 11 يوليو) ليضع في منصبه صديق الملكة العنيد المتشدد البارون دي برتييه (Baron de Breteuil) وفي 12 يوليو جعل المقاتل دي بروجلي de Broglie وزيرا للحرب، وتأزمت الأمور وحان وقت الجد.

‌2 - الباستيل

THE BASTILLE

في 12 يوليو اعتلى كاميل ديمولان Camille Desmoulins الجزويتي Jesuit (اليسوعي) المتخرج، منضدة خارج مقهى دي فوي Café de Foy بالقرب من القصر الملكي وأعلن خبر طرد نيكر واستدعاء القوات الأجنبية وراح يصرخ:"إن الألمان سيدخلون باريس هذه الليلة ليذبحوا سكانها" وراح يحث مستمعيه على تسليح أنفسهم وقد نفذوا ما أشار به لأن المجلس البلدي الجديد لم يبد إلا مقاومة واهية عندما كسروا الأبواب وصادروا الأسلحة المخزونة في دار البلدية.

لقد أصبح الثوار المسلحون يستعرضون الآن قوتهم في الشوارع رافعين تماثيل نصفية لنيكر ودوق أورليان مزينين قبعاتهم بأشرطة ذوات عقد خضراء. وعندما أصبح معروفا أن هذا اللون هو أيضا لون ملابس خدم الكونت المكروه (كونت درتوا d'Artois) الأخ الأصغر للملك وكذلك حرسه، فإنهم سرعان ما غيروا ألوان عقد أشرطة قبعاتهم ليجعلوها حمراء وبيضاء وزرقاء - الألوان التي تمثل العلم الوطني.

وأغلق رجال البنوك البورصة وكونت الطبقة الوسطى ميليشيا خاصة بها أصبحت هي نواة الحرس الوطني بقيادة لافاييت Lafayette؛ كل ذلك خوفاً من عنف طائش لا يميز

ص: 71

وتدمير للممتلكات وذعر مالي. ومع هذا فإن بعض الوكلاء البورجوازيين - رغبة منهم في حماية الطبقة الوسطى التي أصبحت آمنة الآن - أسهموا في تمويل المقاومة الشعبية للملكية المطلقة وجذب الحرس الفرنسي من أحضان الملكية صوب المشاعر الديمقراطية. وفي 13 يوليو أعيد تشكيل الجماهير فانضم إليهم عدد كبير من أحياء الفقراء وأتاهم مدد جديد من الجنود الجدد من كل حدب وصوب، وغزت هذه الجماهير المتزايد عددها مخزن السلاح في مستشفى المحاربين القدماء Hotel des Invalides واستولت على 28،000 بندقية (مسكت) وبعض المدافع، وخشي بيسينفال Besenval أن تطلق هذه الكتائب الشعبية النار على الشعب فاحتفظ بهم في الأحياء الجانبية، وعلى أية حال فقد أصبحت الجماهير المسلحة تسيطر الآن على العاصمة.

كيف يتم تصريف طاقات هذه القوى؟ لقد اقترح كثيرون توجيهها في محاولة للاستيلاء على الباستيل، ذلك الحصن القديم الواقع في الجانب الشرقي من باريس والذي شرع في بنائه منذ سنة 1370 وجرت توسعته شيئا فشيئاً في السنوات اللاحقة بقصد احتجاز وسجن من يحيق بهم غضب الملك أو النبلاء، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال أوامر سجن تصدر بشكل سري من الملك Letters de Cachet، وفي سنة 1784 طلب من المهندس المعماري وضع خطط لتدمير الزنزانات الكئيبة من غير أن يعلم الناس بهذه الأوامر فقد كانوا يظنون أن الباستيل يضم زنزانات يقبع بها ضحايا الحكم الاستبدادي.

بل إنه لم يكن لدى الثوار نوايا - كما هو ظاهر - بتحطيم حصن الباستيل لكنهم بعد أن قضوا ليلة استراحوا فيها تقاربت آراؤهم حول فكرة التدمير في 14 يوليو، ذلك اليوم الذي سيصبح عيدا وطنيا لفرنسا. لقد كان هدفهم هو أن يطلبوا من محافظ السجن أن يسمح لهم بالدخول ويتناولوا البارود والأسلحة النارية التي ذكرت التقارير أنها موجودة خلف جدرانه، ولم يجدوا حتى الآن إلا القليل من البارود ولم تكن بنادقهم الكثيرة ومدافعهم القليلة - بلا مزيد من البارود - قادرة على منعهم إذا وجه بيسينفال كتائبه إليهم. وعلى أية حال فإن هذه الجدران ذوات السماكة البالغة ثلاثين قدما والارتفاع البالغ مائة قدم التي تحميها أبراج مزودة بالمدافع، والمحاطة بخندق يبلغ عرضه ثمانين قدما -

ص: 72

كانت كتحذير كاف. وانضم أعضاء المجلس البلدي الجديد للجماهير وعرضوا التدخل لدى محافظ الباستيل لعقد ترتيبات سلام.

وكان محافظ الباستيل هو برنارد - رينيه جوردان Bernard - Rene` Jordan، Marquis de Lavnay رجلاً من المؤكد أنه مثقف ولطيف المعشر، فقد استقبل المفوضين من الجماهير بترحاب، وعرض المفوضون أن يضمنوا أن يتصرف الثوار بشكل سلمي إذا هو أزاح المدافع من مواقع الإطلاق. وإذا أمر جنوده وكان عددهم 114 جنديا بعدم إطلاق النار، ووافق المحافظ واستضاف الزوار لتناول الغداء.

وتلقت لجنة أخرى ضمانا مشابها، ولكن المحاصرون راحوا يصيحون قائلين إنهم يريدون ذخيرة لا وعودا وكلمات.

وبينما الطرفان يتفاوضان تسلق بعض العمال النشيطين إلى مراكز التحكم ودلوا الجسرين المتحركين فاندفع المهاجمون عبر هذين الجسرين إلى ساحة الباستيل، فأمرهم دي لوني de Launay المحافظ الآنف ذكره بالتراجع لكنهم رفضوا، فأطلق عسكره النار عليهم، وتغلب الثائرون المقتحمون عندما قام الحرس الفرنسي بإحضار خمسة مدافع وبدأ في تدمير أسوار الحصن، فتحت هذا الغطاء من النيران اندفع جمهور الثائرين إلى داخل السجن واشتبكوا في معركة مع جنود الحرس، وتلاحم الطرفان فسقط من المهاجمين ثمانية وتسعون.

كما قتل واحد من المدافعين، وازداد المهاجمون عدداً وشراسة وعرض دى لوني محافظ السجن أن يسلم إذا سمح الثوار لرجاله بالخروج سالمين بأسلحتهم، لكن قادة الجماهير الثائرة رفضوا ذلك، فاستسلم فقتل المنتصرون ستة عساكر آخرين وحرروا سبعة سجناء واستولوا على الذخائر والأسلحة وأسروا محافظ السجن دى لوني واتجهوا مظفرين إلى دار البلدية. وفي الطريق كان جانب من الجماهير مغيظا محنقاً بسبب ما مر بهم من كوارث فضربوا رجلا أرستقراطيا اعتراه الارتباك والذهول وأجهزوا عليه وقطعوا رأسه ورفعوه على رمح، وقطع رأس جاك دى فليسيل Jacques de Flesselles شهبندر التجار والذي كان قد ضلل الناخبين عن موضع الأسلحة، وأضيف رأسه المقطوع إلى موكب الثوار، وكان قد جرى قطعه في بلاس دى جريف Place de Greve (ميدان الرمال).

ص: 73

وفي 15 يوليو جعل ناخبو الجمعيات المحلية من باييه Bailly محافظا لباريس (رئيساً لبلديتها Mayor) واختاروا لافاييت رئيسا للحرس الوطني الجديد، وبدأ العوام السعداء (السانس كولوت أي الذين لا يرتدون سراويل (بناطيل) قصيرة) في تدمير أحجار الباستيل حجراً حجراً، أما الملك الذي اعترته الصدمة وأصابه الرعب فقد ذهب إلى الجمعية الوطنية وأعلن أنه طرد الكتائب العسكرية التي سبق أن جلبها إلى فرساي وباريس.

وفي 16 يوليو نصحه مؤتمر من النبلاء بمغادرة البلاد تحت حماية الكتائب المغادرة وأن يجد لنفسه ملاذا في إحدى عواصم المقاطعات أو في بلاط أجنبي، وأيدت مارى أنطوانيت بحرارة هذا الاقتراح وجمعت جواهرها وما غلا ثمنه وسهل حمله استعداداً للرحلة أما لويس فقد استدعى نيكر في 17 يوليو، وابتهج لذلك رجال المال والعامة،

وفي 18 من الشهر نفسه اتجه إلى باريس وزار دار البلدية ووقع بقبوله المجلس البلدي الجديد وثبت على قبعته الشريط ذا الألوان: الأحمر والأبيض والأزرق، وهي التي ترمز للثورة، وعاد إلى فرساي وعانق زوجته وأخته وأطفاله وقال لهم:"يسعدني ألا يسفك مزيد من الدماء، وإنني أقسم ألا تسفك قطرة دماء فرنسية بأمري" أما أخوه الأصغر كونت درتوا d'Artois فقد أخذ معه زوجته ورئيسة الخدم وقاد أول مجموعة من اللاجئين السياسيين emigres خارج فرنسا.

‌3 - دخول مارا

Marat عام 1789 م

لم يكن الاستيلاء على الباستيل مجرد عمل رمزي ومجرد سهم ضد الحكم الاستبدادي، وإنما كان عملاً أنقذ الجمعية الوطنية من الخضوع لجيش الملك في فرساي كما أنقذ حكومة باريس الجديدة من أن تحكم الكتائب العسكرية التي تطوق باريس سيطرتها عليها. لقد حافظت هذه العملية - بشكل غير مقصود تماما - على الثورة البورجوازية، لكنها أتاحت لأهل باريس السلاح والذخيرة، وسمحت بذلك لتطورات أبعد مدى للقوى البرولتيارية.

لقد أدى سقوط الباستيل إلى إعطاء دفعة جديدة، للصحف التي زاد ولع الباريسيين بها

ص: 74

فزاد عدد قرائها. وكانت صحيفة فرنسا Gazette de France (جازيت دي فرانس)، ومؤشر فرنسا Mercure de France (مركير دي فرانس)، وجريدة باريس Journal de Paris (جرنال باريس)، من الصحف القديمة التي ظلت محافظة على مستواها بعد أحداث الثورة، أما الآن فقد أصدر لوستالو Loustalot صحيفة ثورات باريس Les Revolutions de Pris

في 17 يوليو 1789 وأصدر بريسو Brissot الوطني الفرنسي (لوباتريوت فرانسيه)(Le Patriote francais) في 28 يوليو، وأصدر مارا Marat صديق الشعب لامى دي بيبل L'Ami du peuple في 12 سبتمبر، وأصدر دى موليه Desmoulins صحيفة ثورات فرنسا Revolutions de France في 28 نوفمبر ..... وبالإضافة لهذه الصحف كانت اثنتا عشرة نشرة تظهر كل يوم تصفق لحرية الصحافة، وترفع صورا جديدة. وقيما جديدة، وتحطم ما جرى العرف على توقيره.

ويمكننا أن نتخيل محتوى هذه النشرات بملاحظة أصل الكلمة Libel والذي يعنى "يطعن أو يقذف أو يشهر" فمن هذه الكلمة كان المسمى الفرنسي لهذه النشرات وهو ليبل Libelles أي الكتب الصغيرة المخصصة للسب والهجاء.

وكان جان - بول مارا Jean - Paul Marat هو أكثر هؤلاء الصحفيين الجدد راديكالية وتهورا وقسوة وكان هو أقواهم وأكثرهم تأثيرا. ولد في نوشاتل Neuchatel في سويسرا في 24 مايو سنة 1743 من أم ملكية وأب سرديني Sardinian (من سردنيا) ولم يكف أبداً عن تبجيل روسو وهو وطني آخر اغترب عن بلده. درس مارا الطب في بوردو Bordeaux وباريس، ومارسه في لندن (1765 - 1777) وحقق قدراً معقولاً من النجاح في هذه المهنة. أما القصص التي رويت بعد ذلك عن الجرائم والسخافات التي ارتكبها فربما كانت من تدبير أعدائه في جو الحرية الصحفية التي أسيئ استخدامها في ذلك الوقت. ومنحته جامعة سانت أندرو St. Andrews درجة فخرية (شرفية)، وعلى أية حال فهي درجة كما قيمها جونسون كانت أهميتها تزداد على وفق الدرجات العلمية السابقة عليها.

وقد كتب مارا بالإنجليزية ونشر في لندن (1774) كتابه قيود العبودية The Chains of Slavery وهو شجب عنيف للحكومات الأوروبية باعتبارها مجموعة من

ص: 75

المتآمرين من الملوك واللوردات والإكليروس لخداع الشعوب والاحتفاظ بولائها وتبعيتها. وعاد مارا إلى فرنسا في سنة 1777 وعمل طبيباً بيطرياً في إسطبلات كونت درتوا Comte d'Artois ثم رقي طبيباً لحرس مخافر الكونت. وحقق بعض الشهرة في علاج الرئة وفي طب العيون. ونشر بحوثاً في الكهرباء والضوء والبصريات والنار، وترجمت بعض بحوثه إلى الألمانية. وظن مارا أنه جرى تعيينه لعضوية أكاديمية العلوم Academic des Sciences ولكن هجومه على نيوتن Newton جعله موضع شك الأكاديميين.

وكان مارا Marat رجلا شديد الكبرياء، وكانت العلل الجسدية تتناوب عليه فتعوقه وتجعله نزقا سريع الغضب إلى حد الهياج الشديد. وكان مصابا بالتهابات جلدية جعلته يجد راحة لبعض الوقت في الجلوس في الماء الساخن، وكان يكتب وهو بالفعل جالس في هذا الماء الساخن وكان ذا رأس ضخم جداً إذا قورن بطوله الذي لا يزيد عن خمسة أقدام، وكانت إحدى عينيه أعلى من العين الأخرى. من المفهوم إذن لم كان يفضل العزلة. وكان الأطباء يعالجونه بفصد دمه بين الحين والحين لتخفيف آلامه. وكان يعمل بجد شديد وكان يقول عن نفسه:"إنني لا أقضي في النوم سوى ساعتين .. إنني لم أستمتع بخمس عشرة دقيقة من اللعب طوال أكثر من ثلاث سنين ".

وفي سنة 1793 أصيب بداء الرئة وشعر أنه لن يعيش طويلا، وربما كانت إصابته هذه بسبب طوال مكوثه في البيت. وكانت هذه الحقائق غير معروفة لشارلوت كورداى Charlotte Corday.

لقد تأثرت شخصيته بعلله الجسدية، فعوض نقصه بالخيلاء والغرور وعمل تقلب مزاجه وادعاؤه العظمة وشجبه الضاري لكل من نيكر ولافاييت Lafayette ولافوازيه ودعوته المجنونة للعنف الجماهيري .. كل أولئك زاد من وطأته قدر من الشجاعة والحرفية والتكريس.

ولا يرجع نجاح جريدته لمجرد المبالغات المثيرة التي يتسم بها أسلوبه فحسب وإنما يرجع في الأساس إلى تأييده المتواصل والمتحمس للبرولتياريا الذين لا أصوات لهم، ذلك التأييد الذي كان لا ينطوي على أي نوع من الرشوة.

ص: 76

ومع هذا فهو لم يكن يبالغ في تقدير ذكاء الشعب. لقد كان يرى الفوضى ضاربة أطنابها، وأضاف إليها فوضى جديدة من عنده لكنه على الأقل في ذلك الوقت لم يكن يدعو إلى الديمقراطية وإنما إلى الديكتاتورية والثورة والاغتيال تماما كما كان يحدث في أيام روما الجمهورية، بل إنه قد اقترح أن يكون نفسه هو هذا الديكتاتور المطلوب. وفي بعض الأوقات كان يرى أن الحكومة يجب أن تكون في قبضة الملاك (أصحاب الثروة) طالما أن لديهم العصا الطولى التي تستخدم لصالح الجمهور. وكان يعتبر تركز الثروة أمر ا طبيعيا لكنه اقترح موازنة ذلك بالدعوة إلى أن الرفاهية أمر ينطوي على الفسق، وإلى الحق المقدس للجائع والمحتاج.

"لا شيء فائض عن الحاجة يمكن أن يكون من وجهة نظرنا شرعيا طالما أن الآخرين يعانون من نقص الضروريات

فمعظم الثروات الكنسية يجب أن يتم توزيعها على الفقراء، ولا بد من إنشاء المدارس المجانية في كل مكان، إن المجتمع يضم أولئك الذين لا يملكون شيئا والذين قلما يكفي حصاد عملهم لإعاشتهم، والمجتمع ملزم بالنسبة لهؤلاء أن يدبر لهم مورد رزق لتمكينهم من إطعام أنفسهم والسكنى واللباس بشكل مناسب، وعلى المجتمع أن يدبر الوسائل لعلاج المرضى منهم ورعاية كبار السن وتدبير وسائل تنشئة أطفالهم. وهؤلاء الذين يتمرغون في الثروة والنعيم لا بد لهم من إمداد المعوزين بضروريات الحياة"

وإن لم يفعلوا يصبح من حق الفقراء أن يحصلوا بالقوة على ما يحتاجونه.

وقد ارتاب معظم أعضاء الجمعيات المتتابعة في مارا وخافوا من أفكاره، لكن السانس كولوت Sans culottes (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة) من بينهم كانوا يتسامحون مع أخطائه بسبب فلسفته، بل وكانوا يخاطرون بإخفائه إذا ما جدت الشرطة في البحث عنه. ولا بد أن مارا Mara كان يتحلى ببعض الصفات المحبوبة لأن رفيقته (زوجته التي تزوجها عرفيا أي بمجرد اتفاق الطرفين دون طقوس كنسية) ظلت مخلصة له إلى النهاية.

ص: 77

‌4 - تخلي النبلاء عن امتيازاتهم

RENUNCIATION

في 4 و 5 أغسطس 1789 م

في 31 يوليو سنة 1789 كتب الحاكم موريس Gouverneur Morris من فرنسا: "إن هذه البلاد أقرب ما تكون في الوقت ا لحاضر إلى فوضوية لا ضابط لها" فالتجار يتحكمون في السوق وتسببوا في نقص الحبوب لصالحهم ورفعوا الأسعار، والعربات التي تنقل الطعام إلى المدن تتعرض للنهب في أثناء الطريق، وعمت الفوضى واختل الأمن وتهدد النقل. وضجت باريس من كثرة المجرمين. وكان الريف الفرنسي أيضا مرتعاً للصوص الطوافين حتى إن الفلاحين في كثير من المقاطعات سلحوا أنفسهم في ذلك الجو من الرعب الهائل الذي سببته هذه الجموع التي لا يحكمها قانون، ففي غضون ستة أشهر اقتنى المواطنون 400،000 بندقية، وعندما انتهت فترة الرعب الهائل Great Fear هذه قرر الفلاحون استخدام أسلحتهم ضد جامعي الضرائب والاحتكاريين والسادة الإقطاعيين، فهاجموا قصور الإقطاعيين بالبنادق (المسكت) والمذاري والمناجل (المحشات) وراحوا يطالبون بإظهار الوثائق والمستندات التي تثبت حقوق السادة، ومدى تفو يضهم في جمع الرسوم الإقطاعية، فإذا ما أطلعهم عليها السادة، قاموا بحرقها، وإذا رفضوا إطلاعهم وقاوموهم، أحرق الفلاحون قصر السيد الإقطاعي وحدث في عدة حالات أن قتلوا المالك (السيد الإقطاعي) واستمر الحال على هذا المنوال منذ بداية شهر يوليو سنة 1789 وانتشر حتى عمّ أنحاء فرنسا كلها.

وفي بعض الأماكن حمل المتمردون إعلانات يزعمون بمقتضاها أن الملك قد خولهم كل الصلاحيات في مقاطعاتهم. وغالبا ما كان التدمير يجري بغير ضابط وبعنف شديد حتى إن الفلاحين التابعين لأراضي دير مورباش Murbach أحرقوا مكتبة الدير، وحملوا معهم الطبق الذي يدار به على المتعبدين لجمع التبرعات واستولوا على ستائر الكتان وفتحوا براميل النبيذ وشربوا كل ما استطاعوا شربه وأراقوا الباقي. وفي ثمانية كومونات Communes (بلديات) اجتاح السكان الأديرة واستولوا على الحجج القانونية ومستندات الملكية بها وأعلنوا للرهبان أن رجال الدين (الإكليروس) أصبحوا الآن تابعين للشعب، وورد في تقرير مقدم للجمعية الوطنية أنه في كونتيّه فرانش Franche-Comte تم إحراق أو نهب نحو أربعين قصراً إقطاعيا، وفي لانجر Langers جرى نهب وإحراق ثلاثة قصور من

ص: 78

خمسة، وفي دوفينه Dauphine جرى إحراق وتدمير سبعة وعشرين قصرا وفي فينوا Viennois تم نهب الأديرة كلها. وتم اغتيال من لا حصر لهم من السادة الإقطاعيين والبورجوازيين الأثرياء".

أما المسئولون الرسميون في المدن الذين حاولوا إيقاف ثورة الفلاحين (ثورة الجاكيين Jacqueries) فقد جرى عزلهم، بل لقد جرى إعدام بعضهم. وهجر الأرستقراطيون بيوتهم وراحوا يبحثون عن الأمان في أماكن أخرى لكنهم كانوا يواجهون هذه الفوضوية التلقائية التي لا ضابط لها أينما ذهبوا، ثم بدأت موجة الهجرة الثانية (النزوح عن فرنسا).

وفي ليلة 4 أغسطس سنة 1789 ذكر مندوب للجمعية الوطنية في فرساي في تقرير له أن: "الخطابات الواردة من المقاطعات كلها تشير إلى أن مختلف الممتلكات عرضة للنهب بعنف إجرامي لا حد له، ففي أنحاء البلاد كلها جرى إحراق القصور الإقطاعية وتدمير الأديرة وتركت المزارع للناهبين". وتم إلغاء الرسوم الإقطاعية، وأصبح القانون بلا قوة تحميه وأصبح المسئولون بلا سلطة ولا صلاحيات. لقد أدرك من تبقى من النبلاء أن الثورة التي كانوا يأملون أن تكون قصراً على باريس وأن تهدأ ببعض التنازلات الصغرى التي تقدمها الحكومة قد أصبحت الآن على مستوى فرنسا كلها وأنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تحصيل الرسوم الإقطاعية، فاقترح الفيكونت دى نوال de Noailles:

" أنه لم يعد من الممكن فرض الرسوم الإقطاعية ..... إذ يجب إلغاء القنانة (عبودية الأرض) وغيرها من أشكال العبودية الشخصية بلا تعويض، وأنه لا بد من أن تكون المبالغ المدفوعة مقننة على أسس عادلة"

وأنهى حديثه معلنا نهاية التمايز الطبقي "لا بد أن يدفع كل فرد في المملكة ضرائب بما يتناسب مع دخله".

لقد كان الفيكونت دي نوال فقيرا وبالتالي كان يمكنه تحمل هذه الإجراءات تماما، لكن دوق ديجلون d'Aiguillon كان من بين أغنى البارونات ثنى على الاقتراح وأعلن قبوله ذا الوقع الشديد قائلاً:

"إن الناس قد حاولوا أخيراً أن ينفضوا عن كاهلهم نير العبودية الجاثم عليهم طوال قرون طويلة مضت، ويجب أن نعترف- رغم ضرورة شجب هذا العصيان المسلح- أن من الضروري أن نلتمس للثائرين عذراً فقد كانوا

ص: 79

ضحايا بشكل مثير "

وقد دفع هذا الاعتراف النبلاء الليبراليين إلى تأييده بحماس، فتزاحموا واحدا إثر الآخر لإعلان تخليهم عن امتيازاتهم التي كانوا يطالبون بها، وبعد ساعات من التخلي ذي الطابع الحماسي أعلنت الجمعية الوطنية في الساعة الثانية من صباح 5 أغسطس تحرير الفلاحين، وجرى إضافة بعض التحفظات بعد ذلك تطالب الفلاحين بدفع مبالغ على أقساط دورية لاسترداد رسوم معينة، لكن مقاومة هذه الفكرة جعلت تحصيلها غير عملي، وبذلك كان في هذا القرار إنهاء حقيقي للنظام الإقطاعي. وكان توقيع الملك على تخلي النبلاء عن امتيازاتهم مدعاة إلى اعتباره كما سجل في المادة 16 "معيد الحرية الفرنسية".

واستمرت موجة المشاعر الإنسانية مدة طويلة تكفي لإبراز وثيقة تاريخية أخرى هي "إعلان حقوق الإنسان" والمواطن (27 أغسطس 1789) وقد اقترح هذه الوثيقة لافاييت الذي كان لا يزال متحمساً لتأثره بإعلان الاستقلال ووثائق الحقوق التي أعلنتها عدة ولايات أمريكية، وأيد النبلاء الأصغر سناً في الجمعية مبدأ المساواة لأنهم كانوا قد عانوا من المزايا الوراثية التي كان يتمتع بها أكبر الأبناء، وبعضهم مثل ميرابو Mirabeau كان قد عانى من السجن التعسفي.

وشجب المندوبون ا لبورجوازيون تفرد الأرستقراطيين بالوضعية الاجتماعية واحتكار النبلاء المناصب العليا في المجالين المدني والعسكري. وكان معظم الأعضاء قد قرءوا ما كتبه روسو عن الإرادة العامة وقبلوا ما اعتقده هذا الفيلسوف من أن لكل إنسان حقوقا أساسية بمقتضى القانون الطبيعي. لكل هذا لم تكن هناك سوى معارضة قليلة لأن يتصدر الدستور الجديد إعلانا بدا مكملاً للثورة. وكانت بعض المواد تتضمن تكراراً:

مادة 1: ولد الناس أحرارا ويظلون أحراراً ومتساويين في الحقوق .....

مادة 2: هدف التنظيمات السياسية كلها هو ضمان الحقوق الطبيعية التي لا يمكن انتزاعها بحكم القانون أو العادة للإنسان (الحقوق الأساسية) وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الجور.

ص: 80

مادة 4: الحرية هي أن يمارس الفرد كل ما يحلو له شريطة ألا يكون في ذلك ضرر للآخرين، ومن هنا فإن ممارسة كل إنسان لحقوقه الطبيعية لا حد لها إذا عاقت أفراد المجتمع الآخرين عن التمتع بالحقوق نفسها. ومن ثم فهذه الحدود لا يرسمها إلا القانون .....

مادة 6: القانون هو تعبير عن الإرادة العامة، ولكل مواطن الحق في المشاركة شخصياً أو من خلال ممثل له في صياغته أي القانون

والمواطنين كلهم سواء في نظر القانون، ولهم حقوق متساوية في شغل المناصب والوظائف العامة على وفق قدراتهم .....

مادة 7: لا يجوز اتهام أي شخص أو القبض عليه أو سجنه إلا على وفق الطرائق التي يحددها القانون ....

مادة 9: الأفراد كلهم أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم، وإذا حتمت الضرورة القبض على أي شخص فإن القانون يمنع بشدة استخدام العنف مع السجين أو المعتقل.

مادة 10: لا يضار أحد بسبب آرائه بما في ذلك معتقداته الدينية طالما أن إظهار هذه الآراء والمعتقدات لا يخل بالنظام العام كما يحدده القانون.

مادة 11: حرية تداول الأفكار والآراء مكفولة وهي من أهم حقوق الإنسان، فكل مواطن له حق الكلام والكتابة وله أن ينشر ما يريد بحرية لكنه سيكون مسئولاً إذا أساء استخدام هذه الحرية مسئولية سيحددها القانون.

مادة 17: ما دامت الملكية حقاً مقدساً لا يجب انتهاكه فلن يسلب أحد ممتلكاته أو يجرد منها إلا على وفق ما تمليه المصلحة العامة وهو الأمر الذي يحدده القانون بوضوح، وفي حالة نزعها - أي الملكية - لا بد من تقديم تعويض عادل ومنصف للمنزوع ملكيته.

ومع تأكيد هذه المثاليات الديمقراطية ظل هناك بعض القصور فقد ظل الرق مستمراً ومسموحاً به في مستعمرات فرنسا في الكاريبي حتى أبطلها ميثاق إبطال الرق في سنة 1793، وقصر الدستور الجديد حق الاقتراع وشغل المناصب العامة على دافعي الحد الأدنى

ص: 81

من الضرائب. وظلت الحقوق المدنية غير كاملة بالنسبة للممثلين actors والبروتستانت واليهود. وامتنع لويس السادس عشر عن الموافقة على الإعلان على أساس أنه سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار. ولم يبق أمام الباريسيين سوى إجباره على القبول.

‌5 - إلى فرساي:

في 5 أكتوبر 1789 م

TO VERSAILLES

ظل الشغب في باريس طوال شهري أغسطس وسبتمبر، وتزايد نقص الخبز وراحت ربات البيوت يناضلن للحصول عليه من المخابز، وفي إحدى نوبات الشغب هذه أعدم العامة خبازاً وأحد مسئولي البلدية. ودعا مارا Marat إلى مسيرة للجمعية الوطنية والقصر الملكي في فرساي:

"عندما يكون الأمن العام في خطر لا بد للشعب أن يستولي على السلطة من أيدي أولئك الذين يقبضون عليها .... ضعوا هذه المرأة النمساوية (الملكة) وأخي زوجها (أرتوا Artois) في السجن

اقبضوا على الوزراء ومساعديهم وكبلوهم بالحديد .. تأكدوا من وجود المحافظ (رئيس البلدية)[ذلك البائس الدمث المستغرق في أحلام اليقظة] والقادة التابعين له، لا تدعوا الجنرال [لافاييت] يبتعد عن نواظركم واقبضوا على مساعديه

فلا حق لوريث العرش في الغداء طالما أنكم لا تجدون الخبز. نظموا صفوفكم المسلحة .. هيا إلى الجمعية الوطنية لنطالب معا وجميعاً بالطعام

طالبوهم أن يكون لفقراء الأمة مستقبل آمن من خلال تضامنها. إنكم إن رفضتم الالتحاق بالتشكيلات المسلحة فليس أمامكم إلا الاستيلاء على الأراضي والذهب الذي يمتلكه الأوغاد الذين يريدون إجباركم على شروطهم في ظل الجوع، اقتسموا فيما بينكم ذهبهم وممتلكاتهم. هيا احملوا رؤوس الوزراء وتابعيهم التافهين. هيا إنه الوقت المناسب! ".

وركن لويس إلى نصائح وزرائه القاضية بضرورة استدعاء جنود لم يتأثروا بالأفكار الثورية لحمايته وحماية أسرته وبلاطه، وذلك خوفا من تحريض الصحافة الباريسية وخوفا من الفوضى الضاربة أطنابها في باريس ومظاهرات الجماهير في فرساي. فأرسل في أواخر شهر سبتمبر إلى دواي Douai مستدعيا أفواج الفلاندرز العسكرية Flanders Regiment، فلما

ص: 82

وصلت رحب بها حرس الملك الذي أقام لأفرادها مأدبة في دار الأوبرا بالقصر، وعندما ظهر لويس ومارى أنطوانيت علا تصفيق الجنود بشدة، فقد كانوا نصف سكارى لفرط ما شربوا من النبيذ، كما أن جلال المشهد الملكي زادهم حماساً، لذا سرعان ما أزاحوا الشارات الوطنية مثلثة الألوان من على بزاتهم العسكرية ووضعوا الشارات الملكية (الأبيض والأسود) على قبعاتهم، وورد في التقارير أن الألوان التي ترمز للثورة قد طرحت أرضاً لتدوسها أقدام الراقصين (وقد أنكرت مدام كامبا Mme Campan الوصيفة الأولى للملكة والتي كانت شاهدة عيان حدوث هذا).

وتضخمت القصة عند وصولها إلى باريس، وتأكدت بسبب تقرير مؤداه أن جيشا يتجمع بالقرب من متز Metz بنية التوجه إلى فرساي لفض الجمعية الوطنية. واستنكر ميرابو Mirabeau والمندوبون الآخرون هذا التهديد العسكري الجديد. وطالب مارا ولوزتالو Loustalot وصحفيون آخرون بضرورة أن يرغم الشعب كلا من أفراد الأسرة المالكة والجمعية الوطنية على الانتقال إلى باريس حتى يكونوا تحت مراقبة الجماهير. وفي 5 أكتوبر أخذ النسوة في سوق المدينة ممن يعلمن بنقص الطعام على عاتقهن تكوين فرقة للتوجه إلى فرساي على بعد عشرة أميال من باريس. وكان ينضم إليهن في مسيرتهن رجال ونساء وكثيرون بلغوا الآلاف. ولم يكن الموكب تراجيديا أو كئيباً، فقد لطفت منه حيوية الفرنسيين، فقد راح جميعهم يصيح:

"سنحضر معنا الخباز وزوجته"، و "سنستمتع بالاستماع إلى ميرابو".

ووصل الموكب إلى فرساي بينما المطر ينهمر بكثافة، وتجمعوا في صفوف كيفما اتفق أمام بوابات القصر الملكي العالية وأسواره وطالبوا بمقابلة الملك، وتوجه وفد إلى الجمعية الوطنية وأصر على ضرورة أن يدبر المندوبون في الجمعية الخبز للحشود المتجمعة. واتجه مونييه Mounier - القائم بالحراسة في ذلك الوقت مع إحدى المندوبات وهي سيدة لطيفة اسمها لويسون شابري Louison Chabry لمقابلة لويس. فلما رأته تأثرت كثيرا حتى إنها لم تستطع أن تنطق سوى بكلمة واحدة (خبز) ومن ثم سقطت مغشيا عليها. فلما أفاقت وعدها لويس بتدبير خبز للجموع الجائعة التي بللها المطر. وعندما همت بالمغادرة أرادت أن

ص: 83

تقبل يده لكنه عانقها عناقا أبويا.

وفي هذه الأثناء اختلطت كثيرات من الباريسيات الجذابات بجنود الفلمنكية (كتائب الفلاندرز الآنف ذكرها) وأقنعنهم بعدم إطلاق النار على النسوة العزل. فتعاطف معهن الجنود واصطحب كثيرون من الجنود هؤلاء الجميلات الجائعات إلى ثكناتهم وقدموا لهن الطعام والدفء. وفي الساعة الحادية عشرة من هذه الليلة وصل لافاييت Lafayette على رأس خمسة عشر ألف من الحرس الوطني، فاستقبله الملك، وتعهد له لافاييت بحمايته، لكنه أي لافاييت - انضم إلى نكر Necker بتوجيه النصح للملك بقبول مطالب الشعب بالتوجه مع الملكة ليعيش في باريس. وكان لافاييت مرهقا فاتجه إلى هوتيل دي نوال Hotel de Noailles .

وفي الصباح الباكر في يوم السادس من أكتوبر اندفعت الجماهير الغاضبة المرهقة إلى ساحة القصر الملكي من خلال بوابة تصادف فتحها وشق بعض الرجال المسلحين طريقهم إلى السلم ومنه إلى غرفة نوم الملكة التي هربت بلباس نومها وابنها على ذراعيها إلى غرفة الملك. وقاوم حرس القصر هذا الاقتحام ولاقى ثلاثة منهم حتوفهم، وهب لافاييت متباطئا لكنه كان راغبا في تقديم العون- لتهدئة هذا الشغب، مؤكدا الموافقة على مطالب الثائرين. واتجه الملك إلى الشرفة ووعد الجموع بالانتقال إلى باريس، فصاحت:"عاش الملك"!

لكن هذه الجموع عادت فطلبت ظهور الملكة أمامهم، فظهرت الملكة وانتصبت واقفة وفي هذه الأثناء صوب واحد من الجماهير المحتشدة بندقيته (من نوع المسكت) إليها، لكن القريبين منه كسروا بندقيته وفي هذه الأثناء تقدم لافاييت ليقبل يد الملكة في إشارة منه للولاء فهدأت الجماهير التي هتفت بحبها للملكة إن هي أتت لتعيش في باريس.

وكلما اقترب وقت الظهيرة تجمع موكب لا نظير له في التاريخ أمام الحرس الوطني وكتائب الحرس الملكي، ثم أتت العربة الملكية التي تحمل الملك وأخته مدام إليزابيث والملكة وطفليها، وتلا ذلك صف طويل من العربات التي تجرها خيول حاملة أكياس الدقيق ثم الباريسيون المنتصرون وجثمت بعض النسوة فوق مدفع، ورفع بعض الرجال عاليا رؤوس من جرى إعدامهم من حرس الملك على أسنة الرماح، وفي سيفر Sevres توقفوا لنثر المساحيق

ص: 84

فوق هذه الرؤوس وعقص شعورها. وكانت الملكة تشك في إمكان أن تصل إلى باريس وهي على قيد الحياة، لكنها في هذه الليلة نامت وكذلك أفراد الأسرة المالكة على أسرة أعدت على عجل في قصر التوليري Tuileries حيث سبق للملوك الفرنسيين أن ناموا قبل أن يجعل عصيان المقاليع (الفروند Fronde) من باريس مكانا كريهاً بالنسبة للويس الرابع عشر. Louis XIV. وبعد ذلك بأيام قلائل تبعتهم الجمعية الوطنية حيث أقاموا في مسرح القصر نفسه.

ومرة أخرى فرض الباريسيون رأيهم بليّ ذراع الملك والآن انصاع الملك لرعاياه وقبل إعلان حقوق الإنسان كأمر واقع. وهكذا بدأت الهجرة الثالثة (هجر فرنسا).

‌6 - الدستور الثوري:

عام 1790 م

THE REVOLUTIONARY CONSTITUTION

وشرعت الجمعية الوطنية في كتابة الدستور الذي يحدد ويقنن منجزات الثورة، وكانت في عملها هذا متحررة من الضغوط الملكية، لكنها كانت واعية بشكل قلق للمدينة (باريس) التي تراقب أفعالها.

بادئ ذي بدء: أيجب الإبقاء على الملكية؟ لقد أبقت الجمعية عليها وسمحت أن تكون وراثية، لأنها أي الجمعية خشيت من انتقال الولاء ومشاعر الانتماء من العرش للأمة، فالهالة المحيطة بالملكية كانت أمراً ضروريا للانضباط الاجتماعي، ويمكن أن يكون حق انتقال الملك ضمانا يمنع نشوب حروب الوراثة ومثل هذه المشروعات المتعلقة بضبط وراثة العرش كانت بالفعل تختمر في ذلك الوقت في القصر الملكي. لكن سلطات الملك لا بد من تحديدها بصرامة، فستقدم له الجمعية الوطنية في كل سنة قائمة "بالمخصصات الملكية" لإنفاقه، وسيحتاج أي إنفاق يزيد عن هذه "المخصصات" إلى إصدار تشريع جديد.

وإذا غادر الملك المملكة الفرنسية بلا إذن الجمعية الوطنية أمكن عزله عن العرش. ومن حق الملك أن يختار وزراءه وعزلهم لكن على كل وزير أن يقدم تقريرا شهريا عن تصرفاته المالية في نطاق الميزانية المنوطة به ويمكن استجوابه في أي وقت أمام المحكمة العليا. والملك هو الرئيس الأعلى للجيش والبحرية لكنه لا يستطيع إعلان الحرب أو توقيع معاهدة بلا

ص: 85

موافقة مسبقة من المجلس التشريعي، ومن حقه أن يعترض على أي تشريع يقدم له لكن إذا أقرت ثلاثة مجالس تشريعية متوالية هذا التشريع الذي اعترض عليه اعتبر هذا التشريع قانونا (بصرف النظر عن اعتراضه).

والمسألة الثانية: أيحب أن يكون المجلس التشريعي مكونا من هيئتين كما هو الحال في إنجلترا وأمريكا؟ ويمكن للهيئة العليا أن تبتَّ في الأمور المستعجلة، لكنها يجب ألاّ تكون مكونة من أفراد الطبقة الأرستقراطية أو كبار السن. وقد رفضت الجمعية الوطنية ذلك فباعتبارها حارسا على منجزات الثورة أعلنت إبطال المزايا والألقاب الوراثية كلها فيما عدا تلك الخاصة بالملك.

ويقوم "المواطنون الفعالون" ويقصد بهم فقط أولئك الذكور البالغون ذوو الممتلكات الذين يدفع الواحد منهم ضريبة مباشرة تبلغ ما يساوي قيمة عمل ثلاثة أيام، وهذا التعريف يشمل الفلاحين الأثرياء لكنه لا يشمل الأجراء والبرولتياريا، إذ جرى اعتبار هؤلاء "مواطنين سلبيين" لأنه يسهل على سادتهم وعلى الصحفيين التأثير فيهم ليصبحوا أداة للفوضى والعنف والتراجع. وعلى وفق هذا الترتيب تمتع 4،298،360 رجلا (من بين 25 مليون نفس) بحق الانتخاب في فرنسا في سنة 1791، وأصبح ثلاثة ملايين بالغ لا حق لهم في التصويت. لقد أقرت الجمعية الوطنية البورجوازية ثورة البورجوازيين خوفاً من جماهير المدينة (باريس).

وقسم الدستور فرنسا على وفق أغراض انتخابية وإدارية إلى ثلاث وثمانين دائرة (محافظة أو قسم إداري كبير) تنقسم كل دائرة منها إلى بلديات (كومونات Communes) بلغت 43،360 كومون (بلدية). لقد أصبحت فرنسا للمرة الأولى أمة موحدة بلا أقاليم أو مناطق ذوات امتيازات وبلا رسوم انتقال داخلي، وأصبحت مناطق فرنسا جميعا تستخدم نظاما واحدا للمقاييس والمكاييل وتخضع للقوانين نفسها. والعقوبات حددها القانون ولم تعد على وفق تقدير القاضي، وتم إبطال التعذيب والتشهير والكي بالنار، ومع هذا فقد تم الإبقاء على عقوبة الإعدام، وكان هذا مثار سخط روبيسبير Robespierre، وأصبح المتهمون بارتكاب جرائم يمكنهم أن يختاروا المحاكمة أمام هيئة محلفين من "المواطنين الفعالين"

ص: 86

تختارهم الهيئة القضائية، ويكفي أن يؤيد ثلاثة من اثني عشر عضوا في هذه الهيئة تبرئة المتهم، لاعتماد براءته. ويقضي القضاة في القضايا المدنية.

أما البرلمانات القديمة التي كانت سببا في ظهور أرستقراطية ثانية فقد حلت محلها نظم قضائية جديدة تقوم جمعيات منتخبة بتعيين أفرادها. أما المحكمة العليا فيتم اختيارها من ممثلي العدالة في المحاكم الجنائية الأدنى درجة، بحيث يكون في هذه المحكمة العليا عضوان من كل محافظة (دائرة).

بقيت مسألتان مهمتان مرتبطتان معا هما: كيف يتم تجنب إفلاس المملكة؟ وكيف يتم تنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة؟ لقد فشلت الضرائب في تمويل الحكومة بينما الكنيسة تقبض بيديها على ثروة تحسد عليها ولا تدفع عنها ضرائب.

وقد أخذت الجمعية برأي تشارلز موريس دى تاليران بيريجور Charles Maurice de Talleyrand-Perigord أسقف أوتون Autun الذي اقترح في 11 أكتوبر سنة 1789 الاستفادة من ممتلكات الكنيسة لدفع الدين الوطني.

وتاليران هذا واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ إذ يرجع أصله إلى أسرة عريقة معروفة بخدماتها العسكرية وربما كان من الممكن أن ينهج نهج أسرته لو لم تنخلع قدمه إثر سقطة وهو في الرابعة من عمره وكان عليه أن يشق حياته بقدم عرجاء لكنه كان مصمما على اجتياز كل عقبة تواجهه، وقد عهد به والده إلى الكنيسة، وقد قرأ في مرحلة الدراسة فولتير ومونتسكيو وكان يحتفظ دائما بخليلة، ومن الواضح أنه طرد من المدرسة اللاهوتية التي كان بها في سنة 1775 لكن في تلك السنة وكان في الواحدة والعشرين من عمره عينه لويس السادس عشر مسئولا عن دير القديس (سان) دينيس St- Denis في رايم Reims

وقد جرى ترسيمه قسيسا في سنة 1779 وفي اليوم التالي أصبح هو النائب الأسقفي العام لعمة رئيس أساقفة رايم Reims، وظل مع هذا ينعم بصحبة السيدات ذوات الأصول الراقية وأنجب من إحداهن غلاما أصبح ضابطا تحت قيادة نابليون. وفي سنة 1788 تم تعيينه أسقفا لأوتو رغم معارضة أمه التقية التي كانت تعلم أنه رجل قليل الإيمان (رقيق العقيدة). ومع هذا فقد رتب أمر تقديم برنامج إصلاحي

ص: 87

لمجلس طبقات الأمة مما دفع رجال الدين (الإكليروس) التابعين له لجعله مندوبا عنهم.

وقد وافقت الجمعية الوطنية في 2 نوفمبر سنة 1789 بأغلبية 508 ضد 346 على تأميم الممتلكات الكنسية التي كانت تصل قيمتها وقتئذ إلى ثلاثة بلايين فرنك رغم المعارضة اليائسة لممثلي الإكليروس بها. وقد عهدت الجمعية للحكومة "بتقديم مصاريف إقامة العبادات العامة وتقديم الإعانات لرجال الدين وما يفرج عن الفقراء، وذلك بالطريقة المناسبة" وفي 19 ديسمبر خولت صندوق الأمور غير العادية Caisse de l'Extraordinaire ببيع 400 مليون فرنك مقابل أسينات assignats وهي أوراق نقدية تعطى لحائزها الحق في مبلغ مقرر (معلوم) من الممتلكات الكنسية بفائدة قدرها 5% عند إتمام البيع ودفعت الحكومة من هذه الأسينات assignates الديون العاجلة وبذا ضمنت دعم الجماعات المالية لنظام الحكم الجديد.

لكن الذين اشتروا هذه الأسينات وجدوا صعوبة في القيام بعمليات شراء على نحو مرض، فاستخدموها أي الأسينات كعملة، ولأن الدولة كانت قد أصدرت كثيراً من هذه الأسينات فقد استمر التضخم المالي، وفقدت الأسينات قيمتها إلا في دفع الضرائب حيث كانت الخزانة مرغمة على قبولها بقيمتها المدونة عليها، وبالتالي وجدت الخزانة نفسها مرة أخرى تعاني عجزاً ماليا يتزايد عاما بعد عام.

وبعد أن اتخذت الجمعية الوطنية هذه القرارات الخطيرة التي لا رجعة فيها، في 13 فبراير سنة 1790 كانت كأنها قد اجتازت نهر الربيكون Rubicon أوقفت الأديرة، وسمحت بصرف معاشات تقاعد للرهبان المطرودين أما الراهبات فقد تركن وشأنهن نظراً لقيامهن بخدمات قيمة في مجالي التعليم والإحسان. وفي 12 يوليو تم إعلان "الدستور المدني للإكليروس" الذي اعتبر القسس موظفين في الدولة يتقاضون منها رواتب، والذي اعتبر الكاثوليكية هي الدين الرسمي للدولة، أما بالنسبة للبروتستانت واليهود فلهم أن يتعبدوا بحرية على وفق عقائدهم في أماكن عبادتهم الخاصة لكن لا تقدم لهم الحكومة دعما.

وتقوم الجمعيات المنتخبة في الدوائر (المحافظات) باختيار الأساقفة الكاثوليك، على

ص: 88

أن يعفى من التصويت في هذه الحالة غير الكاثوليك أي البروتستانت واليهود واللاأدريين agnostic . وكان على كل القسس أن يتعهدوا بالامتثال الكامل للدستور الجديد كشرط لتسلّمهم رواتبهم. وقد رفض 130 أسقفا في فرنسا من بين 134 أن يقسموا يمين الولاء كما رفض 46،000 قس من بين 70،000 من قسس الأبرشيات أداء هذا القسم أيضا واتخذت الغالبية العظمى من السكان جانب أولئك الإكليروس الرافضين تقديم قسم الولاء للدستور الجديد وقاطعوا الطقوس الدينية التي يقوم عليها رجال الدين الذين أدوا القسم. لقد أصبح هذا الصراع المتنامي بين الكنيسة المحافظة التي يؤيدها الشعب والجمعيات اللاأدرية السائدة التي تؤيدها الشرائح العليا من الطبقة الوسطى- عاملا جوهريا في إضعاف الثورة. وبسبب عدم شعبية هذا الإجراء ظل الملك الفرنسي طويلا يرفض توقيع الدستور الجديد.

وكان لآخرين أسبابهم أيضا لرفضه، فقد قاد روبيسبير أقلية قوية للاعتراض على قصر حق الانتخاب على الملاك باعتبار أن ذلك انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، وباعتباره أيضا إهانة مثيرة لبرولتياريا باريس التي سبق لها أن أنقذت الجمعية الوطنية مرارا من القوات المسلحة الملكية.

واتفق الفلاحون وأهل المدن في استيائهم من التخلي عن الإجراءات والقوانين الحكومية التي كانت على نحو ما تحمي المنتجين والمستهلكين من (ضراوة) السوق الحرة التي يتلاعب فيها الموزعون.

ومع هذا فقد شعرت الجمعية وكان لها بعض الحق في هذا. أن الدستور كان وثيقة مهمة تعطي للثورة المنتصرة شكلا قانونيا محددا. واعتبر مندوبو الطبقة الوسطى الذين لهم السيادة الآن أن العوام - وكانت غالبيتهم أميين ليسوا مؤهلين للمشاركة بنسبة أعدادهم في قرارات الحكومة ومداولاتها. وبالإضافة لهذا- وقد هرب النبلاء الآن - ألم يحن الآن دور البورجوازية في توجيه الدولة معتمدة بشكل متزايد على كبار السن الحكماء المجربين، وعلى اقتصاد متقدم فعال؟ لذا فإن الجمعية أعلنت فرنسا ملكية دستورية بلا اعتبار لتردد الملك،

وفي 5 يونيه سنة 1790 دعت المحافظات (الدوائر) الثلاث والثمانين لأن ترسل كل محافظة

ص: 89

(دائرة) حرسها الوطني الفدرالي لينضم لشعب باريس وحكومة فرنسا في ساحة دي مارس (شامب دي - مارس Champ de Mars) للاحتفال بإنجاز الثورة بمناسبة مرور عام على استيلاء الثوار على الباستيل. وفي أثناء انتشار نبأ هذه الدعوة وما صاحبها من حماس دخل ثلاثون أجنبيا على رأسهم الهولندي الثري المعروف في التاريخ "بِأنا شارزيس كلوتس Anacharsis Cloots " الجمعية في 19 يونيو وطلبوا أن يحوزوا شرف المواطنة الفرنسية وطلبوا حق التقدم "لعيد" الفدرالية باعتبارهم "سفارة" تمثل الجنس البشري". وصدرت الأوامر بتنفيذ طلبهم.

لكن ساحة مارس التَّلِّية hilly Field of Mars الآنف ذكرها كانت في حاجة إلى تسوية لتكون صالحة لهذه المناسبة إذ كان يجب تسوية مساحة تبلغ 3000 - 1000 قدم وإعداد شرفات بها لتستوعب 300،000 رجل وامرأة وطفل، وكان لا بد من الارتفاع بالرابية الوسطى ليكون مذبحاً يعتليه الملك والأمراء والأساقفة وأعضاء الجمعية وأصحاب الحق في الوقوف هذا الموقف لأداء يمين الولاء للأمة التي تولد ميلادا شرعيا جديدا الآن. وخصص لإعداد الساحة على هذا النحو خمسة عشر يوما فقط.

من الآن يستطيع أن ينافس الصفحات الأربع عشرة التي بين فيها كارليل Carlyle كيف أن أهل باريس رجالا ونساء، شيبا وشبانا قد أقبلوا جميعا حاملين معاولهم ومجارفهم ودافعين أمامهم عربات الواحدة منها ذات عجلة واحدة لنقل الركام، وراحوا يغنون "ستسير الأمور على ما يرام" وسووا الأرض الواسعة وشيدوا الشرفات ومذبح قسم الولاء للوطن Autel de la Patrie من منا اليوم يجسر اليوم أن يكتب بمثل هذه الجرأة نافخا في أبواق البلاغة معلنا هذا الانجذاب وذلك الفرح ذي الطابع التنبئي خاصة إذا علمنا أن نصف مخطوطاتنا قد أحرقتها خادمة متعجلة، وكان علينا أن نجمع ما تبعثر من جواهرنا مرة أخرى لنعيد ترتيبها وصقلها؟ أي نار كان يجب كبتها في هذا الاسكتلندي القاسي لإحياء مثل هذه المحرقة (الهولوكوست)!.

وعلى هذا فإنه طوال الأسبوع السابق على هذا العيد الديني Holyday راح جنود من مختلف أنحاء فرنسا يتجهون إلى باريس وراح الحرس الوطني الباريسي في بعض الأحيان

ص: 90

يقطع من باريس أميالاً كثيرة للقائهم ومرافقتهم. وفي 14 يوليو سنة 1790 دخلوا ساحة دي مارس الآنف ذكرها في موكب مهيب؛ خمسون ألفا من الأقوياء أعلامهم ترفرف وفرقهم الموسيقية تعزف وحناجرهم تدوي بالأغاني القوية، وثلاثمائة ألف من الباريسيين المثيرين للخيال يصاحبونهم.

ورتل الأسقف تاليران بيريجور Talleyrand-Perigord ولم يكن قد طرد من رحمة الكنيسة بعد القداس، واعتلى مئتان من الأساقفة والقسس المذبح وأقسموا اليمين، وتعهد الملك بطاعة القوانين الجديدة بكل ما وسعه من جهد وصاحت الجموع "عاش الملك" وعندما أطلق المدفع طلقات التحية رفع آلاف الباريسيين ممن لم يتمكنوا من الحضور- أيديهم في اتجاه ساحة دي مارس Champ de Mars وأقسموا يمين الولاء. وجرت في كل مدينة فرنسية تقريبا مهرجانات مشابهة وشارك الجميع في تناول النبيذ والطعام وتعانق القسس الكاثوليك والبروتستانت كما لو كانوا مسيحيين على مذهب واحد. كيف يمكن لأي فرنسي أن يتشكك في أن عصرا جديداً مجيدا قد بزغ فجره؟

‌7 - ميرابو يدفع ديونه

Mirabeau: في 2 أبريل 1791 م

كان رجل واحد وامرأة واحدة يمكنهما التشكك في بزوغ هذا الفجر الجديد. فبالنسبة للويس وزوجته الملكة بدا التوليري The Tuileries منزلاً زجاجياً ترصد من خلاله الجماهير كل حركة يأتيان بها بموافقة صامتة أو إدانة طال أمدها. وفي 31 أغسطس سنة 1790 تمرد فوج سويسري كان في خدمة الملك في نانسي Nancy بسبب تأخر الرواتب والمعاملة المتسمة بالاستبداد. وأطلق الحرس الوطني النار على بعض المتمردين وتم إرسال بعضهم إلى السفن، كما جرى شنق بعضهم. وتجمع أربعون ألف باريسي عند سماعهم بذلك وهددوا القصر الملكي واتهموا لافاييت ولاموا الملك بسبب ما أسموه "مذبحة نانسي" وطالبوه بإقالة وزرائه. وبهدوء غادر نكر Necker في 18 سبتمبر سنة 1790 ليعيش مع أسرته في كوبيت Coppet على ضفاف بحيرة جنيف، ونصح لافاييت الملك بتهدئة باريس بقبوله للدستور. وعلى أية حال فقد كانت الملكة مرتابة في مبدأ التخطيط لجعلها سلطة محركة للعرش، لذا فقد عبرت بوضوح عن بغضها بأن يترك البلاط ويترك لميرابو

ص: 91

Mirabeau مهمة إنقاذ الملكية.

ورحب ميرابو. وكان في حاجة إلى المال ليكفي أسلوب حياته المتسم بالإسراف. وشعر أن التضامن أو الائتلاف بين الملك والجمعية هو الخيار الوحيد لحكم يقوم عليه زعماء جماهيريون، ولم يكن يرى تناقضا في متابعة هذه السياسة وسد النقص (العجز) ثانية في موارده المالية. وكان قد كتب في 28 سبتمبر 1789 لصديقة لامارك La Marck:

" لقد ضاع كل شيء فسيتم إبعاد الملك والملكة وسترى الجماهير المنتصرة ترقص فوق جثتيهما" وكتب لصديقه هذا نفسه في 7 أكتوبر: "إن كان لك أي تأثير في الملك والملكة فلتحثهما على ترك باريس لأنهما إن لم يفعلا ضاعا وضاعت فرنسا. إنني مشغول بخطة لإبعادهما وقد رفض لويس هذه الخطة لكنه وافق على تمويل خطة ميرابو للدفاع عن الملكية".

وفي أوائل شهر مايو سنة 1790 وافق على أن يدفع ديون المغامر الكبير بالسماح له بمبلغ ألف دولار في الشهر بالإضافة إلى مكافأة مقدارها 192،000 دولار إن هو نجح في إزالة الخلافات بين الملك والجمعية. وفي أغسطس منحته الملكة شرف اللقاء بها لقاء خاصا في حدائقها في سان كلود St. Cloud .

وكان تأثير الملكة هائلا حتى أن تنين الثورة الصارم اهتز لفرط إخلاصه لها عندما قبل يدها. وتحدث ميرابو لأصدقائه المقربين عن جاذبيتها وسحرها "أنتم لا تعرفون الملكة .. إن لعقلها قوة مدهشة، وهي رجل إذا كان مقياس الرجولة هو الشجاعة".

وكان ميرابو يعتبر نفسه "شخصا يقبض أو يتسلم أموالاً لكنه لا يشتر" فعلى وفق ما ذكره لامارك فإنه يقبل أموالاً تدفع له للاحتفاظ بآرائه أو للتمسك بآرائه. ولم تكن لديه نية للدفاع عن الحكم المطلق (الاستبدادي) بل على العكس فقد كانت الأفكار التي تقدم بها لوزراء الملك في 23 ديسمبر 1790 تشكل برنامجا للتوفيق بين الحرية العامة (حرية الجماهير) والسلطات الملكية:

"إننا نخطئ الهدف إذا هاجمنا الثورة فهي حركة أعطت لشعب عظيم قوانين أفضل تستحق أن ندعمها

وإنما يجب قبول روح الثورة وكثير من العناصر في دستورها .. إنني أقدر نتائج الثورة كلها

باعتبارها فتوحات لا يمكن الانسحاب منها فلا مجال لتدمير هذه النتائج تحت أي ظروف".

ص: 92

لقد راح ميرابو يعمل على إنقاذ ما تبقى من السلطات الملكية، يدفعه لذلك إيمانه وإخلاصه من ناحية، وما تلقاه من رشاوى من ناحية أخرى. وقد تشككت الجمعية في أمر ذمته لكنها احترمت عبقريته، ففي 4 يناير سنة 1791 اختارته رئيساً لها لدورة عادية مدتها أسبوعان، فأدهش الجميع بانضباطه الإداري وحياد قراراته. وكان يعمل طول النهار ويظل يأكل ويشرب طول المساء، وكان يرافق النساء. وفي 25 مارس استضاف راقصتين من الأوبرا، وفي صباح اليوم التالي أصيب بتقلص معوي حاد، وحضر اجتماع الجمعية في 27 من الشهر نفسه لكنه سرعان ما عاد إلى مقر إقامته منهكا يرتجف.

وانتشر خبر مرضه في باريس فتم إغلاق المسارح احتراما له وحاصر الناس منزله يسألون عن أحواله وتقدم شاب عارضا نقل دمه إليه وقال تاليران Talleyrand له (لميرابو): "إنه من الصعب الوصول إليك فنصف أهل باريس يقيمون بشكل دائم خارج باب منزلك". وفي 2 أبريل 1791 مات ميرابو بعد أن عانى في مرضه كثيراً.

في 3 أبريل طلبت وفود من ناخبي باريس من الجمعية تحويل كنيسة القديس جنيفيف St. Genevieve إلى ضريح ومقبرة لأبطال فرنسا، وهذا البانثيون Pantheon كما أطلق عليه لا بد أن ينقش على مدخله "إلى عظماء الأمة، فبلاد أجدادهم ممتنة لهم"، وتم تنفيذ ذلك وتم دفن ميرابو في هذا المثوى في 4 أبريل وحضر جنازته فيما يقول ميشيل Michelet عدد غفير فكانت أكبر الجنازات التي شهدها العالم وأكثرها شعبية وقدر المؤرخون عدد من حضرها ما بين 300،000 و 400،000 ملئوا الشوارع وتسلقوا الأشجار وأطلوا من النوافذ ومن فوق أسطح المنازل وحضرها كل أعضاء الجمعية الوطنية كلهم ما عدا بيتيو Petion (الذي كان لديه دليل سري على أن ميرابو تلقى أموالاً من الملك) وحضرها كل أعضاء نادى اليعاقبة كلهم وعشرون ألفا من الحرس الوطني، لكأنما ينقلون رفات فولتير أو رفات واحد من أولئك الذين لا يموتون أبداً. وفي 10 أغسطس ظهرت أدلة من بين أوراق الملك تشير إلى دفعه مبالغ لميرابو، وفي 22 سبتمبر سنة 1794 صدرت الأوامر في اجتماع للجمعية بنقل رفات البطل الملوث من البانثيون (مقبرة الخالدين).

ص: 93

‌8 - إلى فارين

Varennes: 20 يونيو 1791

لقد قاوم الملك إلحاح النبلاء والملكة بضرورة الهرب من باريس وربما من فرنسا كلها ليعود مزودا بجيش قوي فرنسي أو أجنبي يمكنه من إعادة ترسيخ وضعه على العرش، ومع أن الملك كان غير راض عن تجريد النبلاء والإكليروس والملكية من صلاحياتهم القديمة ومع أنه كان مقتنعا أن شعْبا كالشعب الفرنسي يتسم بالعنف والطيش والفردية سينصاع لغياب الحكم ولن يسمح بفرض القيود وصدور المراسيم التي تتأصل بمرور الوقت، فإنه - أي الملك - راح يعلق الآمال على السلطات والصلاحيات غير المؤثرة التي لا تزال في حوزته،

ووقع في 21 يناير سنة 1791 الدستور المدني للإكليروس (رجال الدين) لكنه شعر أنه يخون العقيدة التي كانت ملاذه الأثير ضد ما حاق به في الحياة من خيبة أمل. لقد صدم بعمق بسبب قرار الجمعية الصادر في 30 مايو سنة 1791 بنقل رفات فولتير إلى مقبرة الخالدين (البانثيون Pantheon) لقد بدا له أمراً لا يحتمل أن تحمل رفاة كبير كفرة القرن في موكب نصر لتودع بشرف وتكريم في مقبرة كانت حتى الأمس فقط كنيسة للتكريس (موقوفة لغرض ديني نبيل) ووافق الملك أخيراً وبعد طول تردد على رأي الملكة وطلب منها أن تستعد للهرب خارج الحدود فجهز صديقها المخلص كونت أكسيل فون فيرسن Axel Von Fersen الأموال اللازمة للهرب ودبر تفاصيل الخطة، وكان الملك بالتأكيد رجلا مهذبا gentleman وربما لم يكن ديوثا (قوادا) لذا فقد شكره بحرارة.

والعالم كله يعرف القصة التالية: كيف تنكر الملك والملكة في زى رجل وزوجته. وغادر كورف Korff مع أطفالهم وخدمهم ومرافقيهم قصرَ التولير ي Tuileries خلسة في منتصف ليلة 20/ 21 يونيو سنة 1791 وظل راكبا طوال اليوم التالي بفرح مشوب بالخوف وقطع 150 ميلا إلى فارين Varennes بالقرب من حدود ما يعرف اليوم باسم بلجيكا (كانت وقتها الأراضي المنخفضة النمساوية أي التابعة للنمسا) ومعروف كيف أوقفهم فلاحون مسلحون بالمذاري والهراوات، وكيف قادهم جان بابتست دروت Jean- Baptiste Drouet مدير محطة البريد في ستي مينيهولد Ste Menehould، وأرسل أي مدير المحطة

ص: 94

للجمعية طالبا التعليمات وسرعان ما وافاه بارنيف Barnave وبيتيو Petion بالإجابة: " أحضر أسراك ولا تمسهم بسوء إلى باريس".

والآن لقد مضت ثلاثة أيام لا عمل فيها قضاها ستون ألفا من الحرس الوطني في مرافقة الأسرى الملكيين. وفي الطريق جلس بارنيف Barnave في العربة الملكية قبالة الملكة، وكان قد سبق تدريبه وفقا لنظام الفروسية الذي تم إحياؤه في عهد الحكم البائد. وقد تأثر بفتنة الجمال الملكي وراح يتأسى متحسراً، وراح يعجب متسائلاً في سريرته عما يكون مصيرها ومصير أطفالها. وعندما وصل الركب إلى باريس كان قد أصبح عبداً Slave لها (أسيراً لها).

وبسبب جهوده بالإضافة إلى محاذير أخرى رفضت الجمعية طلب الذين لا يرتدون كلوتات (الشريحة الدنيا من طبقة العوام/السانس كولوت) عزل الملك فورا. فلا أحد يستطيع أن يخبر بنوع الفوضوية التي ستنشأ عن ذلك. أتكون الجمعية البورجوازية والممتلكات كلها تحت رحمة الجماهير الباريسية الذين ليس لهم حق دستوري في الانتخاب؟ لذا فقد سرى القول بأن الملك كان قد خطف أو أبعد قسراً عن مقر إقامته، لذا فلا بد من السماح له بالاحتفاظ برأسه (عدم إعدامه) على الأقل لفترة،

واعترض الزعماء الراديكاليون ودعت النوادي والصحف الشعب للتجمع في ساحة دي مارس في 17 يوليو سنة 1791 فاجتمع خمسون ألفا ووقع ستة آلاف طلباً بتنازل الملك عن العرش وأصدرت الجمعية أوامرها للافاييت والحرس الوطني لتفريق المشاغبين الذي رفضوا التفرق بل وحصب بعضهم أفراد الحرس وقتل الجنود الغاضبون خمسين رجلاً وامرأة، كان قتل بعضهم حرقا، وبذا انتهت الأخوة العامة التي تعاهدوا عليها هناك منذ عام مضى. وطارد البوليس مارا الذي كان يعيش في قبو رطب وراح يدعو لثورة جديدة، أما لافاييت فقد انتهت شعبيته وعاد إلى الجبهة وراح ينتظر بصبر فارغ الفرصة المناسبة ليهرب من الفوضى التي بلغت ذروتها في فرنسا.

وكلما اقترب الشهر من نهايته كثفت الجمعية جهودها لإنهاء أعمالها، وربما كان أعضاء الجمعية قد اعتراهم التعب وشعروا أنهم أنجزوا ما يكفي إنجازه على مدى حياة الواحد منهم.

ص: 95

وحقيقة كانوا قد أنجزوا الكثير من وجهة نظرهم، فقد أشرفوا على القضاء على النظام الإقطاعي، وأبطلوا الامتيازات الوراثية وحرروا الناس من الاستبداد الملكي والأرستقراطية المتعجرفة التي لا عمل لأفرادها، ووضعوا أسس المساواة أمام القانون

وأنهوا مبدأ السجن بلا محاكمة وأعادوا تنظيم البلاد إداريا سواء على المستوى المحلي أم على مستوى الدوائر (المديريات أو المحافظات) وهذبوا الكنيسة التي كانت ذات يوم مستقلة لها القدرة على توجيه النقد القاسي، بمصادرة ثرواتها، وإعلان مبدأ حرية العبادة وحرية الفكر، وثأروا لجان كالاس Jean Calas وفولتير وشهدوا بسرور هجرة النبلاء الرجعيين، وجعلوا من الشرائح العليا للطبقة الوسطى حكاما للبلاد. وأنهم ضمنوا هذه التغييرات كلها في دستور استطاعوا الحصول على موافقة الملك عليه، وكذلك موافقة الغالبية العظمى من السكان باعتباره - أي هذا الدستور - أملاً في وحدة وسلام وطنيين.

وأكملت الجمعية الوطنية والتأسيسية (المنوط بها صوغ الدستور) أعمالها بالترتيب لانتخابات جمعية تشريعية لتضع قوانين محددة على هدى الدستور، ولتواجه بالدراسة المتأنية قضايا المستقبل. وحث روبيسبير Robespierre أعضاء الجمعية الوطنية على ألا يرشح أحد منهم نفسه لانتخابات‌

‌ الجمعية التشريعية،

آملاً في أن يؤدي الاقتراع الجديد إلى دفع مزيد من الممثلين الشعبيين إلى السلطة. وفي 30 سبتمبر سنة 1791 أعلنت الجمعية الوطنية أشهر الجمعيات السياسية جميعاً حل نفسها.

ص: 96

الفصل الثالث

الجمعية التشريعية: أول أكتوبر 1791 إلى 20 سبتمبر 1792

ص: 98

The Legislative Assembly

‌1 - شخصيات الأحداث

كانت انتخابات المؤسسة الثورية الثانية يراقبها الصحفيون بحماس وتشرف عليها الأندية بقوة فعالة. لقد أصبح للصحفيين تأثير جديد في السياسة العامة منذ كادت الرقابة على المطبوعات تختفي، فقد كان لكل من بريسو Brissot ولوزتالو Loustalot ومارا وديمولين Desmoulins وفريرو Fréron ولاكلو Laclos، دورية (صحيفة) كمنبر له يعبر من خلالها عن آرائه في الدفاع عن حقوق الشعب.

وفي سنة 1790 كان في باريس وحدها 133 صحيفة بالإضافة إلى مئات الصحف في الدوائر (المحافظات أو المديريات)، وكانت هذه الصحف كلها تقريبا تؤيد الخط الراديكالي. وكان ميرابو قد نصح الملك بضرورة شراء بعض الصحفيين ذوي الشعبية إن أراد الاحتفاظ بعرشه أو برأسه. ومما قاله نابليون إنه:

"كان من الممكن أن يبقى نظام النبالة القديم لو عرف النبلاء بقدر كاف أن يسيطروا على المطبوعات

لقد أدى ظهور المدافع إلى قتل النظام الإقطاعي، أما الحبر فسيقتل النظام الحديث ".

وكادت النوادي أن يكون لها تأثير الصحف نفسه، فنادي البريتون The Breton Club الذي تبع الملك والجمعية إلى باريس أعاد تسمية نفسه بجمعية أصدقاء الدستور Society of Friends the Constitution وأجرت حجرة في الدير اليعقوبي السابق بالقرب من التوليري Tuileries ليعقد الأعضاء فيها اجتماعاتهم، وفيما بعد توسعوا في المكان فضموا المكتبة بل وحتى المصلى. وكان اليعاقبة Jacobins كما أطلق عليهم التاريخ في البداية يمثلون كل أعضاء هذا النادي أو الجمعية لكنهم سرعان ما أثروا جماعاتهم بضم أشخاص مبرزين في العلوم والآداب والسياسة أو إدارة الأعمال. وهنا وجد الأعضاء السابقون (في الجمعية الوطنية) مثل روبيسبير الذي نحى نفسه عن عضوية الجمعية التشريعية منطلقاً جديداً يمارسون منه السلطة. وكانت الديون مرتفعة فحتى سنة 1793 كان معظم الأعضاء من أفراد الطبقة الوسطى.

وتضاعف تأثير اليعقوبيين بفعل منظمة النوادي المنتسبة إليهم في كثير من كومونات فرنسا (الكومون هنا تنظيم إداري أصغر من الدائرة أو المحافظة) والتي اتفقت جميعا على

ص: 99

الاعتراف بالنادي الأم وبقيادته في مجالي الفكر والإستراتيجية. وفي سنة 1794 كان هناك نحو 6،800 ناد يعقوبي تضم جميعا نصف مليون عضو. وكان اليعاقبة يشكلون أقلية منظمة وسط جماهير (أغلبية) غير منظمة. وعندما أيدت الصحف سياساتهم أصبح تأثيرهم في المحل الثاني لا يسبقه سوى تأثير الكومونات (البلديات) التي تتحكم في التشكيلات المحلية للحرس ا لوطني من خلال مجالسها البلدية وأقسامها التأسيسية.

وعندما كانت هذه القوى كلها تعمل بتناسق، كان على الجمعية أن تعمل حسابها أو تحسب أمر مواجهة جماهير غير مدركة لا يضبطها ضابط أو حتى مواجهة عصيان مسلح. لقد كتب رجل إنجليزي كان في باريس في سنة 1791 "إن النوادي متوفرة في كل شارع". لقد كانت هناك جمعيات أدبية ورياضية ومحافل ماسونية Freemason lodges وتجمعات عمالية. ولما وجد بعض الزعماء الراديكاليين أن اليعاقبة بورجوازيون غلاة أسسوا في سنة 1790 "جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن" التي سرعان ما أطلق عليها أهل باريس نادى الرهبان الفرانسيسْكان (نادي الكوردليير Cordeliers Club) لأن أعضاءه كانوا يجتمعون في مبنى كان فيما سبق ديراً للفرانْسِيسْكان، وقد أتاح هذا النادى لكل من مارا وهربير Herbert وديمولين Desmoulins ودانتون Danton عرض أفكارهم فيه.

وقد أسس كل من لافاييت وباييه Bailly وتاليران ولافوازيه وأندريه ومارى جوزيف دى شينيه de Chenier ودو بونت دى نيمور Du Pont de Nemours جمعية عرفت "بجمعية 1789" كان هدفها هو دعم الملكية المترنحة، وقد بدأت هذه الجمعية اجتماعاتها بشكل منتظم في القصر الملكي في سنة 1790، وكان تأسيسها بهدف الحد من غلواء اليعاقبة، إذ رأى مؤسسو هذه الجمعية (جمعية 1789) أن اليعاقبة راديكاليون مغالون (مفرطون في راديكاليتهم)، وظهرت جماعات أخرى ملكية (ذات توجه ملكي) بقيادة أنتوني بارنييف Antoine Barnave واسكندر دى لاميت Alexandre de Lameth اللذين كونا ناديا عرف في التاريخ باسمه المختصر الفويان Feuillants لأنهم

ص: 100

كانوا يعقدون اجتماعاتهم في دير بنيدكتي عرف بهذا الاسم.

إن هذا كله علامة على علمنة الحياة الباريسية بسرعة فقد أصبح كثير من الأديرة السابقة الآن مراكز للإثارة السياسية.

وقد ظهرت التيارات (الاتجاهات) المختلفة للأندية في أثناء الانتخابات التي استوعبت ببطء أوراق الاقتراع السري على الجمعية الجديدة (التشريعية) إذ تم الاقتراع في شهري يونيه وسبتمبر سنة 1791، فالموالون Loyalists الذين هذبهم التسامح والتعليم عولوا على حث الناخبين وعلى تقديم الرشاوى لجمع الأصوات لصالحهم، أما اليعاقبة وأعضاء النادي الفرانسيسكاني (الكوردلير) الذين عركتهم الأسواق والشوارع فقد زاوجوا في دعايتهم الانتخابية بين الرشوة واستخدام القوة (الإرغام) لقد فسروا القانون تفسيرا مفصلا إلى أبعد مدى ومنعوا أي شخص رفض أن يقسم يمين الولاء للدستور الجديد من الإدلاء بصوته، ومن هنا فإن غالب الكاثوليك المتدينين قد جرى استبعادهم تلقائيا. وتم تنظيم الجموع للإغارة على الاجتماعات التي يعقدها الموالون loyalists وتشتيت المجتمعين فيها، كما حدث في جرينوبل Grenoble، وفي بعض المدن مثل بوردو Bordeaux منعت السلطات البلدية كل اجتماعات النوادي ما عدا نادى اليعاقبة وحدث في مدينة واحدة أن أحرق اليعاقبة وأنصارهم صندوق اقتراع كانوا يشكون أنه يضم أصواتا غالبها محافظ.

ورغم هذه المظاهر الديمقراطية فلم تؤد الانتخابات إلى وصول أقلية أساسية تسعى للحفاظ على الملكية إلى الجمعية التشريعية. وشغل الفويلان Feuillants وعددهم 264 عضوا القسم الأيمن من القاعة، لذا فقد أعطوا اسمهم (المحافظون) في كل مكان لكل من اتخذ مجلسه إلى اليمين. وجلس اليعاقبة والكوردليير (جماعة أصدقاء الإنسان والمواطن) إلى اليسار في القسم المرتفع الذي أطلق عليه اسم الجبل وبالتالي فقد عرفوا باسم الجبليين Montagnards وفي الوسط جلس 355 عضوا رفضوا تصنيف أنفسهم ومن ثم فقد أطلق عليهم اسم أهل السهل Plain . ومن بين 755 عضواً كان هناك 400 قانوني كانوا ملائمين لطبيعة الجمعية التشريعية. والآن فقد خلف القانونيون رجال الدين في السيطرة على البلاد. وكان أعضاء الجمعية التشريعية كلهم تقريبا من الطبقة الوسطى، فلا زالت الثورة

ص: 101

إذن عيدا للبرجوازية.

وحتى 20 يونيو سنة 1792 كان أكثر الجماعات نشاطا في الجمعية التشريعية هم أولئك المنتمون إلى دائرة (محافظة) جيروند Gironde . إنهم لم يكونوا حزبا منظما ولم يكونوا من الجبليين ولكنهم كانوا جميعا تقريبا من مناطق ذوات نشاط صناعي وتجاري - كان Caen ونانت وليون Lyons وليموج Limoges ومرسيليا وبوردو Bordeaux، فسكان هذه المراكز النشيطة كانوا قد تعودوا على الحكم الذاتي Self-rule وكانوا يتحكمون في كثير من أموال المملكة وتجارتها الداخلية والخارجية، وكانت بوردو Bordeaux عاصمة الجيروند تتذكر بفخر أنها هي التي نشّأت مونتيني Montaigne ومونتسكيو، وكان زعماء الجيرونديين Girondins كلهم تقريبا أعضاء في نادي اليعاقبة وكانوا متفقين مع معظم اليعاقبة الآخرين في معارضة الملكية والكنيسة لكنهم كانوا ممتعضين من أن تحكم باريس وجماهيرها بلاد فرنسا، واقترحوا بدلا من ذلك أن تكون فرنسا جمهورية فدرالية تتمتع دوائرها (محافظاتها) بقدر كبير من الحكم الذاتي.

وكان منظرّهم هو كوندورسيه Condorcet وكان فيلسوفا ومتخصصا في التربية والمالية واليوتوبيا Utopia (المدينة الفاضلة أو المثالية). لقد مضى وقت طويل قبل أن ندفع له ما علينا من دين. وكان خطيبهم المفوه هو بيير فيرجنيو Pierre Vergniaud الذي ولد في ليموج من رجل أعمال وقد ترك بيير المعهد اللاهوتي ودرس القانون ومارس المحاماة في بوردو وتم انتخابه فيها للجمعية التشريعية التي جعلته رئيسا لها أكثر من مرة. وكان جاك بيير بريسو Jacques-Pierre Brissot لا يزال من أكثر أعضاء الجمعية التشريعية تأثيرا وهو من مواطني تشارترز Chartres وكان أقرب إلى المغامر، شغل عدة وظائف، وخبر مجموعات القوانين في أوروبا وأمريكا وعاش في مناخات مختلفة، وباختصار فقد تم سجنه في الباستيل في سنة 1784، وأسس في سنة 1788 جمعية الأصدقاء السود Societe des Noirs Amis وعمل بجد على تحرير العبيد.

ص: 102

وكان واحداً من مندوبي باريس في الجمعية التشريعية وأخذ على عاتقه مهمة السياسة الخارجية، وقد قاد الاتجاه المنادي بالحرب. وقدمه كوندورسيه Condorcet مع فيرجينيو Vergniaud إلى مدام دى ستيل de Stael فأصبحا من المداومين بإخلاص على الحضور إلى صالونها وساعدا عشيقها الكونت دى ناربون لارا - de Narbonne Lara كي يعينه لويس السادس عشر وزيرا للحرب. وظل الجيرونديون لفترة طويلة يطلق عليهم اسم البريسوتيين Brissotins نسبة إليه.

ويذكر التاريخ جيدا جان ماري رولاند دي لا بلاتيير Jean- Marie Roland de La Platiere لسبب رئيسي وهو أنه تزوج لامعة ألهمته الأفكار والأسلوب وخدعته واحتفت بذكراه، ومجد صعودها إلى المقصلة على وفق رواية شهيرة وقد تكون خرافية. وعندما كانت جين مانون فيليبو Jeanne Manon Phlipon في الخامسة والعشرين من عمرها تقابلت مع جان ماري الآنف ذكره في روان Rouen في سنة 1779، وكان وقتها في الخامسة والأربعين من عمره، برأسه بداية صلع وكانت الاهتمامات التجارية والتأملات الفلسفية قد أرهقته، وكان ذا ابتسامة أبوية جميلة، وكان يدعو لرواقية نبيلة فتنت مانون التي كانت بالفعل متآلفة مع الكلاسيكيات القديمة وأبطالها فقد قرأت بلوتارخ Plutarch وهي في الثامنة من عمرها، وكانت أحيانا تفضله على كتاب الصلوات عندما تكون في الكنيسة ومن أقوالها "إن بلوتارخ قد مهد الطريق لأكون جمهورية".

وكانت ذات روح عالية وهي طفلة، فمن أقوالها:"في مناسبتين أو ثلاث عندما ضربني أبي عضضت فخذه الذي كان يجلسني عليه" ولم تفقد عضتها أبدا، لكنها قرأت أيضا حيوات القديسين، وتطلعت - وكأنها تتنبأ - إلى الاستشهاد (الموت في سبيل المبدأ) وشعرت بالجمال وأحست بجلال الطقوس الكاثوليكية واحتفظت باحترامها للدين وبعض الكتابات التي تناولت العقيدة المسيحية حتى بعد استمتاعها بكتابات فولتير وديدرو ودهولباخ ودلامبير ولم تهتم كثيرا بروسو وكانت صارمة جداً إزاء مشاعره، وبدلاً من ذلك فقد أضاعت قلبها

ص: 103

لبروتس Brutus (شخص آخر) ومن كليهما أصبحت هي والجيرونديون يؤمنون بالمثل السياسية نفسها، وقد قرأت أيضا خطابات مدام سيفنيه Sevigne لأنها كانت تتطلع إلى كتابة نثر كامل الأوصاف.

وكان هناك من طلب يدها للزواج لكنها كانت واعية بمآثرها فلم تكن لتقبل أي عشيق عادي، وربما وجدت أنه من الأفضل أن تجد حلا وسطا، وكان هذا عندما بلغت الخامسة والعشرين من عمرها فوجدت في رولان Roland الآنف ذكره:"عقلا قويا وأمانة واستقامة ومعلومات وكياسة .... فقد جعلني وقاره أنظر إليه بتقدير كما هو بدون أي اعتبار للجنس". وبعد زواجهما في سنة 1780 عاشا في ليون التي وصفتها بأنها: "مدينة جرى تشييدها بفخامة بالإضافة إلى موقعها المهم، انتعشت فيها التجارة والصناعة

مشهورة بأثريائها الذين يحسدهم على ثرائهم حتى الإمبراطور جوزيف " وفي فبراير سنة 1791 تم إرسال رولان إلى باريس ليدافع عن مصالح تجارة ليون وأشغالها أمام لجان الجمعية التأسيسية، وحضر اجتماعات نادي اليعاقبة وكون صداقة قوية مع بريسو، وفي سنة 1791 أقنع زوجته بالانتقال معه إلى باريس.

وفي باريس لم تعد سكرتيرته وإنما تحولت إلى مستشارة له. إنها لم تكن ترتب تقاريره بأناقة وإنما بدت توجه سياسته. وفي 10 مارس سنة 1792 عين وزيراً لداخلية الملك بوساطة بريسو. وفي هذه الأثناء أصبح لمانو Manon صالونا كان يلتقى فيه بانتظام بريسو وبيتيو Petion وكوندرسيه وبوزو Buzot وغيرهم من الجيرونديين، ليضعوا خططهم. وكانت تقدم لهم الطعام والمشورة، كما كانت تقدم لبوزو حبها بشكل سرى (كانت على علاقة عشق به)، وقد تبعتهم أو سبقتهم بشجاعة إلى الموت.

ص: 104

‌2 - حرب عام: 1792 م

لقد كانت فترة عصيبة للثورة، فالمهاجرون (الذين تركوا فرنسا بسبب الثورة) كانوا قد جمعوا بحلول عام 1791 عشرين ألف فرقة في كوبلنز Coblenz وراحوا يتقدمون مع منجديهم لتقديم العون. واستجاب فريدريك وليم الثاني في بروسيا لأنه وجد إمكانية انتهاز الفرصة لتوسيع مملكته على طول الراين، وجوزيف الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد يكون السبب الوجيه بالنسبة له لخوض حرب ضد فرنسا هو مساعدة أخته لكن شعبه أيضا كان في حالة ثورة، وما لبث أن مات ولم يكن أخوه ليوبولد الثاني Leopold الذي خلفه على عرش الإمبراطورية في سنة 1790 ميالاً للحرب، ومع هذا فقد أصدر هو وملك بروسيا "إعلان بيلنتس Pillnitz " التحذيري في 27 أغسطس سنة 1791 دعيا فيه حكام أوروبا الآخرين للانضمام إليهما في جهودهما ليعيدوا إلى فرنسا

"الشكل الملكي لحكومتها لتكون مرة أخرى متمشية مع ما للملوك من حقوق ولتحسين أوضاع الأمة الفرنسية وازدهارها".

ومن الغريب أن نقول إن كلا من أنصار الملكية وأنصار الجمهورية كانوا يفضلون الحرب، فملكة فرنسا طالما حثت إخوتها على القدوم لإنقاذها، وكان الملك قد طلب صراحة من حكام بروسيا وروسيا وإسبانيا والسويد والإمبراطورية الثنائية (النمسا المجر) جمع قوات مسلحة لإعادة السلطان الملكي إلى ملك فرنسا. وفي 7 فبراير سنة 1792 وقعت النمسا وبروسيا حلفا عسكريا ضد فرنسا، فقد كانت النمسا في توق شديد للاستيلاء على الفلاندرز Flanders، وكانت بروسيا لا تقل عنها توقا للاستيلاء على الألزاس Alsace .

وفي أول مارس توفي ليوبولد الثاني وخلفه ابنه فرنسيس الثاني الذي كان متلهفاً لخوض الحرب بسبب تفويضه بخوضها، ولرغبته في تحقيق مجد شخصي. أما في فرنسا فقد كان لافاييت يحبذ الحرب على أمل أن يكون هو القائد العام للقوات المسلحة الفرنسية وبذا يكون في وضع يمكنه من السيطرة على الجمعية والملك معا. أما الجنرال دومورييه Dumouriez وزير الشئون الخارجية فكان أيضا يفضل الحرب على أمل أن ترحب الأراضي المنخفضة (نذرلاند Netherlands) به باعتباره محررا

ص: 105

لها من النمسا وقد تكافئه بتاج صغير، ولم يكن هناك حديث عن التجنيد الإلزامي لكن الفلاحين والبروليتاريا قبلوا الحرب باعتبارها شرا لا بد منه فإن عاد المهاجرون بلا عوائق فإن هذا قد يؤدي إلى عودة الظلم الذي كان سائداً في ظل الحكم القديم Old Regime وربما كانت عودتهم مصحوبة بالرغبة في الانتقام.

وكان الجيرونديون يفضلون الحرب لأنهم توقعوا أن تهاجم النمسا وبروسيا معا فرنسا وبالتالي فإن الهجوم المضاد من قبل فرنسا هو خير طريق للدفاع. وعارض روبيسبير الحرب خوفا من إراقة دم البروليتاريا الذي لن يحصد ثمنه سوى الطبقة الوسطى، ورد عليه بريسو قائلا:"لقد أتى الوقت المناسب لحرب جديدة حرب لتحقيق الحرية للعالم ".

وفي 20 أبريل سنة 1792 أعلنت الجمعية التشريعية (ولم يعترض سوى سبعة) الحرب على النمسا وحدها أملاً في فك حلف الدولتين المتحالفتين ضد فرنسا. وهكذا بدأت الحرب الثورية والنابليونية التي استمرت ثلاثة وعشرين عاما. وفي 26 أبريل ألف روج دي ليس Rouget de Lisle في ستراسبورج Strasbourg النشيد الوطني الفرنسي (المارسييز The Marseillaise) .

لكن الجيرونديين لم يكونوا قد حسبوا حساب أوضاع الجيش الفرنسي، فقد كان عدد أفراده في الجبهة الشرقية 100،000 رجل يواجهون 45000 مقاتل نمساوي، لكن كان على رأس هذه القوات الفرنسية رجال تمرغوا في نعيم الحكم القديم (العهد البائد)، فعندما أمر الجنرال دومورييه هؤلاء الضباط بقيادة جنودهم لخوض الحرب أجابوا بأن هؤلاء المتطوعين الغفل (غير المدربين) ليسوا مستعدين لخوض القتال ضد قوات مدربه، فأسلحتهم وتنظيمهم لا يؤهلانهم لذلك. ومع هذا فعندما تكرر صدور الأمر بالتقدم تخلى عدد من الضباط عن مناصبهم، واتخذت ثلاثة أفواج من الخيالة طريقها إلى العدو (لتكون في جانبه).

وأرسل لافاييت للحاكم النمساوي في بروكسل Brussels عرضا بأن يقود حرسه الوطني إلى باريس ويعيد الصلاحيات للملك الفرنسي، إذا وافقت النمسا على عدم دخول الأراضي الفرنسية ولم ينتج عن اقتراح لافاييت هذا شيء سوى ما حدث بعد ذلك

ص: 106

من اتهامه - أي لافاييت - بالخيانة (في 20 أغسطس 1792) وهروبه إلى العدو.

ووصلت الأمور إلى حد الأزمة عندما أرسلت الجمعية التشريعية لوزارة الجيرونديين المسيطرة طالبة توقيع الملك للموافقة على إنشاء معسكرات دفاعية مسلحة حول باريس ووقف الرواتب الحكومية للقسس والراهبات الذين لم يؤدوا اليمين للدستور. وفي قرار عجول غاضب لم يرفض الملك التوقيع فحسب بل وطرد الوزراء كلهم فيما عدا دومورييه الذي سرعان ما تخلى عن قيادة قوات الثورة على الجبهة البلجيكية. وعندما تناقل الناس في باريس أخبار هذا الاعتراض الملكي فسروا الأمر على أنه علامة على أن لويس كان يتوقع وصول جيش من الفرنسيين أو الأجانب إلى باريس في وقت قريب لوضع نهاية للثورة. فجرى وضع خطط غير متأنية لإخلاء العاصمة وتكوين جيش ثوري جديد في الجانب الأبعد للوار Loire، ونشر الجيرونديون في أنحاء باريس الدعوة إلى مظاهرات جماهيرية حاشدة أمام قصر التوليري Tuileries .

وعلى هذا ففي 20 يونيو سنة 1792 تجمعت الجموع المستثارة رجالا ونساء وطنيين منفعلين وغوغاء ومغامرين من الأتباع المتحمسين لروبيسبير، وبريسو، ومارا، وشقت هذه الجموع طريقها عنوة إلى ساحة قصر التوليري وهي تصيح ساخرة مصرة على رؤية " السيد فيتو ومدام فيتو Monsieur et Madame Veto " أي رؤية الملك والملكة اللذين اعترضا (Veto) . وأمر الملك حرسه بإدخال عدد منهم، فتم إدخال خمسين شخصا وهم يلوحون بأسلحتهم المختلفة، وجلس لويس إزاء المنضدة وسمع التماسهم بسحب اعتراضاته، فأجاب أنه لا هذا المكان ولا هذه الظروف تسمح بالبت في هذه الأمور المعقدة، وظل طوال ساعات ثلاث يصغي إلى حجج وطلبات وتهديدات، وصاح واحد من الثوار قائلاً:"إنني أطالب بالتصديق على مرسوم ضد القسس .. إما أن تصدق وإما ستموت! "

ووجه آخر سيفه تجاه لويس الذي ظل ثابتا بشكل واضح ولم يتحرك، وقدم له بعضهم غطاء رأس أحمر red cap فوضعه الملك بسرور فوق رأسه، فصاح هؤلاء "الغزاة":"تحيا الأمة! تحيا الحرية! وأخيراً "يحيا الملك". وغادر الملتمسون وذكروا أنهم أعطوا الملك درساً مفزعاً، وانسلت الجموع عائدة إلى المدينة مرهقة لكنها غير راضية، وتم فرض مرسوم على الإكليروس (رجال الدين)

ص: 107

الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور الجديد رغم الاعتراضات، لكن الجمعية التشريعية رغبة منها في ألا تبدو متعاطفة مع التمرد الجماهيري الآنف ذكره استقبلت الملك استقبالاً حماسيا عندما أتى بناء على دعوتها لتلقي عهدها باستمرار الولاء.

ولم يستطب الراديكاليون هذا التوافق الرسمي بين البرجوازية والملكية، فقد كانوا يشكون في إخلاص الملك وامتعضوا لاستعداد الجمعية التشريعية إيقاف الثورة الآن لأن الطبقة الوسطى قد ضمنت مكاسبها الاقتصادية والسياسية.

وتحول روبيسبير ومارا تدريجيا إلى نادي اليعاقبة تاركين مشاعرهم البورجوازية متعاطفين مع الجماهير العريضة. وتحركت البروليتاريا في المدن الصناعية لتتعاون مع عمال باريس. وعندما طلبت الجمعية التشريعية من كل دائرة (محافظة) من الدوائر إرسال فصيل من حرسها الوطني، ليشارك في الاحتفال بالذكرى السنوية الثالثة لسقوط الباستيل، تم اختيار هؤلاء الممثلين الفدراليين Federes في غالبهم من قبل بلديات المدن (الكومونات) ممن يفضلون السياسات الراديكالية. وكان هناك فوج ثوري على نحو خاص مكون من 516 جندياً، وهو ذلك الفوج الذي خرج من مرسيليا في 5 يوليو، وكان يطالب بعزل الملك، وراح هذا الفوج في أثناء مسيرته عبر فرنسا ينشد النشيد الجديد الذي وضعه روج دى ليسل Rouget de Lisle وقد أخذ هذا النشيد اسمه نسبة إلى أهل مرسيليا وهو أمر لم يكن مقصوداً عند تأليف النشيد الذي أصبح اسمه المارسييز The Marseillese .

ووصل فوج مرسيليا وعدد آخر من أفواج الممثلين الفدراليين إلى باريس بعد 14 يوليو لكن كومون باريس طلب منهم تأخير عودتهم إلى ديارهم فقد تتطلب مجريات الأمور وجودهم. وكان يسيطر على كومون باريس - وهو المكتب المركزي الذي يضم ممثلين من ثمانية وأربعين حياً Sections هي أحياء المدينة - زعماء راديكاليون - وكان يوما بعد يوم يحول الموظفين في دار البلدية إلى تشكيل حكومي لحكم المدينة، فجعل من دار البلدية تشكيلا حكوميا.

ص: 108

وفي 28 يوليو ارتعدت المدينة خوفا وغضبا عندما علمت بالبيان الرسمي الذي أصدره من كوبلينز Coblenz دوق برونسفيك Brunswick عهد إليّ صاحبي الجلالة الإمبراطور وملك بروسيا بقيادة قواتهما المسلحة الموحدة التي جرى حشدها على حدود فرنسا. إنني راغب في أن أعلن لسكان هذه المملكة (فرنسا) الدوافع الكامنة وراء تصميم هذين العاهلين والأغراض التي يضعانها نصب عيونهما.

بعد الافتئات الصارخ على حقوق الأمراء الألمان في الألزاس لورين Alsace Loraine والإطاحة بنظام طيب وحكومة شرعية في داخل المملكة (فرنسا) .... فإن أولئك الذين اغتصبوا صلاحيات الحكومة قد وصل بهم الأمر في النهاية إلى إعلان حرب غير عادلة على جلالة الإمبراطور وهاجموا محافظاته (مديرياته أو دوائره) في الأراضي المنخفضة ....

وبالإضافة إلى هذه المصالح المهمة لا بد أن نضيف أمراً آخر مهما يسبب القلق

وأعني به ضرورة وضع نهاية لهذا الحكم الفوضوي في داخل فرنسا لوقف الاعتداء على العرش والمذبح Altar (المقصود الكنيسة)

ولنعيد .... للملك أمنه وحريته اللذين سُلِبَهما ولجعله يمارس مرة أخرى سلطته الشرعية.

واقتناعا منا بأن العقلاء في الأمة ا لفرنسية يمقتون الزمرة النزاعة للشقاق التي تسيطر عليها وأن أغلب الفرنسيين يتطلع بصبر نافد إلى الوقت الذي يستطيعون فيه أن يعلنوا صراحة أنهم ضد المشروعات البغيضة التي يخطط لها أعداؤهم، فإن صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة ملك بروسيا يدعوانهم إلى العودة بدون توانٍ إلى طريق العقل والعدل والسلام. وبناءً عليه فإنني أنا .... أعلن:

1 -

أن ..... العاهلين المتحالفين ليس من هدفٍ لهما سوى ازدهار فرنسا، وهما - العاهلان المتحالفان - لا يبغيان الإثراء من وراء فتح البلاد الأخرى ....

7 -

كل من يجسر من سكان المدن والقرى على الدفاع ضد قوا ت صاحب الجلالة الإمبراطور وصاحب الجلالة الملك أو يطلق النار عليها .... سيعاقب على الفور وفقاً لأشد قوانين الحرب صرامة وسيتم تدمير بيته ......

8 -

سيكون مطلوبا من مدينة باريس ـ وكل سكانها ـ أن تذعن فوراً وبلا إبطاء

ص: 109

للملك .... والعاهلان المتحالفان يعلنان

أنه إذا تم اقتحام قصر التوليري أو مهاجمته أو جرى تعريض الملك والملكة والأسرة المالكة لأي إزعاج، وإذا لم يتم ضمان أمنهم على الفور، فسيتعرض أهل باريس لانتقام لا ينسى على مدى الدهر إذ سيتم إعدام أهلها على وفق القانون العسكري وسيتم تدميرها تماما .....

لكل هذه الأسباب فإنني أدعو وأحض بإلحاح سكان المملكة كلهم ألا يواجهوا تحركات القوات التي أقودها ولا عملياتها بل الأدعى أن يتيحوا لها مرورا آمنا وأن يساعدوها

بالنوايا الصادقة كلها.

كتب في مركز القيادة في كوبلنز Coblenz في 25 يوليو سنة 1792.

تشارلز وليم فرديناند

Charles William Ferdinand

دوق برونسفيك - لونبرج

Duke of Brunswick - Luneburg

وكانت الفقرة الثامنة الكئيبة (ربما قدمها للدوق المعروف بدماثته أحد المهاجرين الحاقدين - التاركين فرنسا بسبب أحداث الثورة) مثار تحد للجمعية التشريعية والكومون (حكومة باريس) ولأهل باريس، فإما أن يبطلوا الثورة أو يقاوموا الغزاة بالوسائل كلها ومهما كانت التكاليف.

وفي 29 يوليو خطب ر وبيسبير في نادي اليعاقبة مطالبا - تحدّياً لدوق برونسفيك - بسرعة الإطاحة بالملكية وتأسيس الجمهورية بإتاحة حق التصويت لجميع الرجال. وفي 30 يوليو انضم الممثلون الفدراليون القادمون من مرسيليا إلى وفود من دوائر (محافظات) أخرى لتقديم العون لعزل الملك. وفي 4 أغسطس وما تلاه أرسلت أحياء باريس، الحي إثر الحي Section مذكرات للجمعية التشريعية تفيد أنهم لم يعودوا يعترفون بالملك،

وفي 6 أغسطس تم تقديم ملتمس لأعضاء الجمعية بضرورة عزل لويس عن العرش، لكن الجمعية التشريعية لم تتخذ إجراء ما، وفي 9 أغسطس نشر مارا مناشدة

ص: 110

للشعب يطالبه باجتياح قصر التوليري والقبض على الملك وأسرته والموظفين الملكيين الكبار كلهم باعتبارهم "خونة لا بد أن تضحي بهم الأمة أولا لتحقيق رفاهية الجماهير" وفي تلك الليلة قام الكومون (المجلس البلدي أو حكومة باريس) وكذلك مسئولو الأحياء بدق ناقوس الخطر لدعوة الجماهير إلى التجمع حول قصر التوليري في صباح اليوم التالي.

وحضر بعض الجماهير مبكرا جدا في الساعة الثالثة صباحا، وقبل الساعة السابعة كان خمسة وعشرون حيا (قسما) قد أرسلت العدد الذي سبق تحديده لها من الرجال المسلحين بالبنادق (المسكت muskets) والرماح والسيوف، وأتى بعضهم بمدافع وانضم إليهم 800 من الممثلين الفدراليين Federes وسرعان ما وصل عدد المحتشدين إلى تسعة آلاف، وكان يدافع عن القصر تسعمائة سويسري ومائتين من الحراس الآخرين، ورغبة من لويس في تهدئة الهياج فإنه قاد أسرته من الغرف الملكية إلى مسرح القصر حيث كانت الجمعية التشريعية في دورة انعقاد مضطربة، وقال الملك:"لقد أتيت إلى هنا لأمنع جريمة كبرى".

وسمح للمتمردين بدخول ساحة القصر، وعند بداية الدرج المؤدي إلى غرف النوم الملكية منع الحرس السويسري المتمردين من التقدم إلا أن الجماهير الحاشدة ضغطت، فأطلق السويسريون النار فقتلوا أكثر من مائة رجل وامرأة، فأرسل الملك أوامره إلى الحرس السويسري بوقف إطلاق النار والانسحاب، فنفذوا الأوامر لكن المحتشدين وعلى رأسهم الممثلون الفدراليون لمرسيليا اجتاحوهم وتم ذبح معظم أفراد هذا الحرس السويسري كما جرى القبض على كثيرين منهم تم اقتيادهم إلى دار البلدية Hotel de Ville حيث أعدموا.

وجرى ذبح الخدم - بمن فيهم العاملون في المطبخ - في مهرجان دموي مجنون. وأنشد أهل مرسيليا نشيد المرسييز The Marseillese"The Marseillaise" بمصاحبة عزف على البيانو القيثاري (الهاربسكورد harpsichord) الخاص بالملكة، واستراحت العاهرات اللائي اعتراهن التعب فوق سرير الملكة، وأحرق المتمردون الأثاث وأراقوا النبيذ، وبالقرب من ساحة الفروسية أشعل الجمهور السعيد النار في تسعمائة مبنى وأطلقوا النار على رجال الإطفاء الذين أتوا لإخماد النيران. واستعرض بعض المنتصرين بأعلامهم التي صنعوها من السترات الحمراء لأفراد الحرس السويسري المقتول -

ص: 111

وبذلك كانت هذه أول حالة معروفة لاستخدام العلم الأحمر رمزاً للثورة.

وحاولت الجمعية التشريعية إنقاذ الأسرة المالكة، لكن مقتل عدد من أعضائها على أيدي الجماهير الغازية، أقنع الباقين بتسليم اللاجئين إليها من الأسرة المالكة لكومون باريس ليكونوا تحت تصرفه، فجرى التحفظ عليهم بعناية تحت حراسة صارمة في المعبد the Temple - وهو دير قديم حصين لجماعة الفرسان الداويين (رهبان وجنود في الوقت نفسه) واستسلم لويس بلا مقاومة حزينا على زوجته التي وخط الشيب - الآن - مفرقها، وعلى ابنه المريض، وراح ينتظر النهاية بصبر.

‌3 - دانتون

DANTON

خلال هذه الأسابيع المتشنجة امتنع غالب أعضاء الجمعية التشريعية ممثلو الحقوق Rights عن الحضور إلى مقر الجمعية فبعد العاشر من أغسطس لم يعد يحضر إلا 285 عضوا من مجموع الأعضاء البالغ عددهم 745. وصوت هذا المجلس التشريعي المبتور (الناقص) على أن يجعل الأمور في يد مجلس تنفيذي به ممثلون للدوائر (المحافظات) المختلفة ليحل محل الملك ومستشاريه، واختارت الأغلبية جورج دانتون Georges Danton ليرأس هذا المجلس وزيراً للعدل، وأن يكون رولان Roland وزيرا للداخلية وجوزيف سيرفان Servan وزيرا للحرب. وكان اختيار دانتون في جانب منه محاولة لتهدئة أهل باريس إذ كان له شعبية بينهم بالإضافة إلى أنه كان في ذلك الوقت أقوى شخصيات الحركة الثورية وأكثرهم قدرة.

وكان في الثالثة والثلاثين من عمره وسيموت في سن الخامسة والثلاثين، فالثورة امتياز للشباب. ولد دانتون في أرسي - سير - أوب Arcis-Sur-Aube في شمبانيا Champagne وحذا حذو أبيه في الاشتغال بالقانون، وازدهرت أحواله محامياً في باريس لكنه فضل أن يعيش في المبنى نفسه مع صديقه كاميل ديمولان Camille Desmoulins في حي الطبقة العاملة المنتمية لتنظيم الكوردليير Cordeliers Club (نادي الرهبان الفرانسيسكان أو نادى

ص: 112

جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن) وسرعان ما أصبح هو وصديقه أعضاء بارزين في هذا النادي الآنف ذكره (الكوردليير). وكانت شفتاه وأنفه مشوهة بسبب حادثة وقعت له في مرحلة الطفولة، وكان بجلده آثار الجدري لكن قليلين كانوا يدركون ذلك نظراً لطوله الفارع ورأسه الكبير ولشعورهم بقوة أفكاره الحاسمة الحادة المتبصرة خاصة عند سماعهم خطبه العاصفة وهو يهدر كالرعد في الاجتماعات الثورية لنادي اليعاقبة أو الحشود البرولتيارية، وغالبا ما كان يتعرض في خطبه تلك لما يمس المقدسات.

ولم تكن شخصيته قاسية وحشية أو مستبدة كوجهه أو صوته. وكان قادراً على التجرد من مشاعره ليكون فظا غليظ القلب في أحكامه كما تدل على ذلك مذابح سبتمبر ومع هذا فقد كانت به بعض الرقة الكامنة ولم يكن حقودا كامن الحقد، فقد كان سريع العطاء سريع الصفح، وكان معاونوه يدهشون عندما يجدونه يتراجع عن أوامره الظالمة أو يحمي ضحايا تعليماته القاسية، وسرعان ما فقد حياته لأنه جسر على القول بأن الإرهاب قد أمعن وتطرف كثيرا وأنه قد حان وقت الرحمة.

وكان على عكس روبيسبير الرزين، فقد كان يستطيب الفكاهات Rabelaisian humor ويحب المباهج الدنيوية، كان مقامراً عاشقا للنسوة الحسان وقد كون ثروة وأقرض واشترى منزلا جميلا في أرسي Arcis كما اشترى جزءاً كبيرا من ممتلكات الكنيسة، وقد تعجب أناس كثيرون كيف حصل مبالغ تفوق حاجاته الضرورية وشكوا في أنه تقاضى مبالغ مالية كرشوة لحماية الملك. وكانت البراهين التي تؤكد ذلك هي السائدة ولم تكن في غير صالحه. ومع هذا فقد كان ثوريا من الطراز الأول وبدا كأنه لم يخن أبداً أيا من مصالح الثورة الحيوية، لقد أخذ أموال الملك ومع هذا فقد عمل لصالح البرولتياريا، ومع هذا فقد كان يعلم أن دكتاتورية البرولتياريا أمر ينطوي على التناقض ولا يمكن أن يكون إلا للحظة في التاريخ السياسي (غير مستمر).

وقد تلقى تعليما كثيرا جعلته يوتوبيا (أي من أنصار المدن أو الحكومات المثالية)، وكانت مكتبته (التي كان يأمل أن يعود إليها بسرعة بعد خلاصه من مهامه السياسية) تضم 571 مجلدا باللغة الفرنسية و 72 بالإنجليزية و 52 بالإيطالية إذ كان يستطيع قراءة الإنجليزية والإيطالية بلا عناء، وكان لديه من مؤلفات فولتير 91 مجلدا و 16

ص: 113

لروسو، كما كان لديه موسوعة ديدرو كاملة Diderot's Encyclopedie وكان ملحدا لكنه كان متعاطفا على نحو ما مع فكرة أن الدين إنما هو للفقراء. فلنقرأه وهو يقول في سنة 1790 ما قاله موسى Musset بعد ذلك بجيل:

"من ناحيتي، أعترف أنني لا أعرف إلا إلهاً واحدا - إلهاً لكل الكون والعدالة

لكن الرجل في الحقول يضيف إلى هذا أوهاما

لأنه في شبابه ومرحلة رجولته ومرحلة كهولته مدين للكاهن (القسيس) بلحظات السعادة القليلة التي تمر به .. لندعه لهذا الوهم. علمه أيها القس إن شئت

لكن لا تجعل الفقير يخشى فقدان الشيء الوحيد الذي يربطه بالحياة".

وهو - دانتون - كزعيم ضحى بكل شئ حتى النهاية لحماية الثورة من الهجوم الأجنبي ومن الفوضى الداخلية. ولهذه الأغراض كان مستعداً للتعاون مع أي شخص - مع روبيسبير، ومارا والملك، والجيرونديين، لكن روبيسبير كان يحقد عليه، وكان مارا يتهمه، وكان الملك لا يثق به وكان الجيرونديون Girondins حذرين منه بسبب وجهه وصوته وكانوا يرتجفون من تعبيراته المنطوية على الازدراء. ومع هذا فلم يكن أي من هؤلاء بقادر على أن يتجاهل وجوده فقد نظم أمور الحرب وتفاوض من أجل السلم وكان يزأر كالأسد وهو يتحدث عن الرحمة وحارب من أجل الثورة وساعد بعض الملكيين على الهرب خارج فرنسا.

وكوزير للعدل عمل على توحيد كل الفصائل الثورية كلها لرد الغزاة، وتحمل مسئولية إثارة الجماهير في 10 أغسطس فالحرب في حاجة لدعم هذه الأرواح المثمرة فمنهم يمكن تجنيد جنود متوقدين حماسة، لكنه لم يشجع المحاولات غير الناضجة لدعم الثورات على الملوك الأجانب (الملوك خارج فرنسا) فهذا قد يؤدي إلى اتحاد الملكيات في عدائها ضد فرنسا. وقاوم اقتراح الجيرونديين بانسحاب الحكومة والجمعية إلى ما وراء اللوار Loire فمثل هذا التراجع لا بد أن يحطم معنويات الشعب.

لقد انقضى وقت المناقشات وحان وقت العمل لبناء قوات مسلحة جديدة وتحصين أفرادها بالروح العالية والثقة، وفي 2

ص: 114

سبتمبر سنة 1792 ألقى خطابا مشحونا بالعواطف والانفعالات وردت فيه فقرة حركت المشاعر في فرنسا ودوت في هذا القرن العامر بالاضطرابات. ودخلت القوات البروسية النمساوية فرنسا وحققت نصرا تلو نصر، واضطربت باريس وترددت بين الاستجابة العازمة المصممة والخوف المربك. وتحدث دانتون للمجلس التنفيذي وذهب إلى الجمعية لبث الحماس في أعضائها وفي الأمة كلها كي يتشجعوا ويتحركوا:

"إنه لأمر مرض لوزير في دولة حرة أن يعلن لهم أن بلادهم قد نجت فالكل مستثار والكل متحمس، والكل تواق للنضال

فجانب من شعبنا سيحرس حدودنا وجانب آخر سيقيم الحصون ويسلحها، وجانب سيدافع عن داخل مدننا بالرماح

إنني أطالبكم بإعدام أي شخص يرفض تقديم ما يقدر عليه سواء خدماته الشخصية أم تزويد القوات المسلحة بما يحتاجه ....

إن ناقوس الإنذار الذي سنسمعه ليس إشارة إلى الخطر وإنما هو يأمر بالهجوم على أعداء فرنسا. لا بد أن نكون قادرين على التصدي للهجوم

لا بد أن نجسر على ذلك، لا بد دائما أن نجسر على ذلك - عندها يكون قد تم إنقاذ فرنسا".

لقد كان خطابا قويا وتاريخيا لكن في اليوم نفسه بدأت أكثر الأحداث مأسوية في فرنسا بشكل غير متوقع.

‌4 - المذبحة:

من 2 إلى 6 سبتمبر 1792

THE MASSACRE

يعود الهياج العاطفي الذي بلغ ذروته في 2 سبتمبر في بعض أصوله البعيدة التي أعطته حرارته إلى الصراع المتزايد بين الدين والدولة والجهود التي بذلت لإحلال عبادة الدولة بديلاً للدين أو بتعبير آخر إزاحة الدين لتكون عبادة الدولة عوضاً عنه.

وكانت الجمعية التشريعية قد قبلت الكاثوليكية ديناً رسمياً، وتعهدت بدفع رواتب للقسس كموظفي الدولة، لكن الراديكاليين الذين كانت لهم السيادة في كمون باريس لم يجدوا سببا لتمويل الحكومة أفكاراً يعتبرونها من خرافات الشرق (يقصدون المسيحية) طالما تحالفت مع الإقطاع والملكية. ووجدت وجهات نظر هؤلاء الراديكاليين قبولاً في النوادي

ص: 115

كما وجدت قبولاً آخر الأمر في الجمعية التشريعية. وكان نتيجة ذلك سلسلة من الإجراءات جعلت العداوة بين الكنيسة والدولة تمثل تهديدا متكررا للثورة.

فبعد ساعات قليلة من عزل الملك عن عرشه أرسل كمون باريس إلى الأحياء المختلفة فيها Sections قائمة بالقسس المشكوك في أهدافهم والمشكوك في أن لديهم مشاعر معادية للثورة، وكان عدد كبير منهم - كما يفهم - قد أرسلوا إلى السجون المختلفة لذا فقد كانوا ضحية أساسية في أثناء المذبحة.

وفي 11 أغسطس أنهت الجمعية التشريعية أي إشراف للكنيسة على التعليم، وفي 12 أغسطس منع الكومون ارتداء الثياب الكنسية علناً، وفي 18 أغسطس جددت الجمعية التشريعية هذا الأمر بإصدار مرسوم لمنع ارتداء هذه الملابس الدينية على مستوى فرنسا كلها، وحلت التنظيمات الدينية الباقية كلها، وفي 28 أغسطس دعت لترحيل كل القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني للإكليروس على أن يمنحوا مهلة أسبوعين لمغادرة فرنسا، وبالفعل فقد هرب 25،000 قسيس إلى بلاد أخرى وراحوا يساندون هناك دعايات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب وقائع الثورة)، ولأن الإكليروس كانوا حتى الآن يحتفظون بسجلات المواليد وحالات الزواج والوفيات في الدوائر المختلفة، فقد كان على الجمعية أن تنقل هذه المهمة إلى سلطات علمانية (غير إكليريكية).

ولأن معظم السكان كان يؤمن بارتباط حالات الولادة والزواج والوفيات بطقوس دينية، فإن محاولة استبعاد هذه الطقوس القديمة قد وسعت الخرق (الثغرة) بين إيمان الناس من ناحية، وعلمانية الدولة من ناحية أخرى. وقد اتفق الكومون واليعاقبة والجيرونديون والجبليون بالمعنى السياسي السابق الإشارة إليه) على أنهم يأملون أن يكون الإخلاص للجمهورية الشابة سيصبح هو دين الشعب، فستحل مبادئ: الحرية والمساواة والإخاء محل الآب والابن والروح القدس وأن تعزيز هذا الثالوث الجديد يمكن أن يكون هو الهدف المهيمن للنظام الاجتماعي والمعيار النهائي للأخلاق.

وأجل الافتتاح الرسمي للجمهورية الجديدة إلى 22 سبتمبر أول يوم من العام الجديد. وفي هذه الأثناء التمس بعض المستقبليين المتطلعين من الجمعية أن تمنح الجمعية لقب

ص: 116

"مواطن فرنسي" لكل الفلاسفة غير الفرنسيين الذين أيدوا بشجاعة قضية الحرية فاستحقوا عن جدارة "رضا البشرية" وذلك كإيماءة إلى أحلامهم في تحقيق الديمقراطية العالمية.

وفي 26 أغسطس استجابت الجمعية فأعطت المواطنة الفرنسية لكل من جوزيف بريستلي Joseph Priestley وجيرمي بنثام Jeremy Bentham، ووليم ويلبرفورس William Wilberforce وأنا كارسيس كلوتس Anachasis Cloots وجوهان بيستالوزي Johann Pestalozzi وثاديوس كوسكيوسكو Thaddeus Kosciusko وفريدريش شيلر Friedrich Schiller وجورج واشنطن George Washington، وتوماس بين Thomas Paine وجيمس ماديسون James Madison وألكسندر هاملتون Alexander Hamilton.

وقدم الكسندر فون همبولدت Alexander Von Humboldt إلى فرنسا، وكان من بين ما قاله:"لقد أتيت إلى فرنسا لأتنسّم نسيم الحرية ولأعاون في طعن الحكم المطلق الاستبدادي وبدا أن الدين الجديد ينشر فروعه بمجرد وضع جذوره".

وفي 2 سبتمبر ارتدت فرنسا أبهى حللها وكأنها في يوم أحد Sunday Clothes وعبرت عن ولائها (للدين الجديد) بطرق مختلفة، فقد تجمع الشباب ومن هم في منتصف العمر في نقاط التجنيد ليتطوعوا للخدمة في الجيش، وراحت النسوة يخطن لهم عباءات تدفئهم، ويعددن الضمادات لمن قد يصاب بجروح منهم في المعارك، وأقبل الرجال والنساء والأطفال إلى مراكز أحيائهم لتقديم الأسلحة والجواهر والنقود لإنفاقها لأغراض الحرب. وتبنت الأمهات الأطفال الذين يعولهم جنود أو ممرضات سيغادرون إلى جبهة القتال، وذهب بعض الرجال إلى السجون لقتل القسس وغيرهم من أعداء العقيدة الجديدة.

ومنذ إعلان الدوق برونسفيك Brunswick (25 يوليو سنة 1792) كان القادة الثوريون يعملون كرجال يميلون إلى العمل عندما تكون حياتهم مهددة. ففي 11 أغسطس أرسل أعضاء اللجنة العامة في دار البلدية ملاحظة غريبة إلى أنطوني سانتير Antoine Santerre الذي كان وقتئذ هو القائد العسكري لقوات أحياء باريس: "لقد علمنا أن خطة توضع للمرور على سجون باريس لنقل السجناء كلهم لتنفيذ حكم العدالة فورا فيهم. إننا نرجوك أن يشمل إشرافك الحصون الصغيرة والبوابات وقوات الشرطة " - والمقصود مراكز

ص: 117

الحجز الثلاثة الرئيسية في باريس. ولا ندري كيف فسر سانتير هذه الرسالة، ففي 14 أغسطس عينت الجمعية أعضاء "محكمة استثنائية " لمحاكمة أعداء الثورة كلهم لكن ما ورد في المرسوم كان أقل بكثير من أن يرضي مارا، ففي جريدته "صديق الشعب" في عددها الصادر في 19 أغسطس قال لقرائه:

"إن أفضل طريق ننهجه وأحكمه هو أن نذهب مسلحين إلى الأباى Abbaye (الكلمة تعني الدير، وقد استخدم كسجن فالمقصود إذن هو التوجه لهذا السجن) لنجرجر الخونة خاصة الضباط السويسريين [من أفراد الحرس الملكي] وشركاءهم ونعمل السيف في رقابهم فما أغبى أن نحاكمهم! ".

وانجرافا مع هذا الحماس جعل الكومون من مارا المحرر الرسمي لنشراته وجعل له مكانا في غرفة اجتماعاته وضمه إلى لجنة الرقابة التابعة له (للكومون). وإذا أصغت الجماهير السمع إلى مارا وأطاعته بكل طاقاتها فما ذلك إلا لأنها كانت بدورها مرتجفة مرعوبة ممتلئة كرها وخوفا. وفي 19 أغسطس عبر البروس الحدود بقيادة الملك فريدريك وليم الثاني ودوق برونسفيك بصحبة قوات صغيرة من المهاجرين (الفرنسيين الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) الذين يطالبون بالانتقام من الثوار.

وفي 23 أغسطس استولى الغزاة على حصن لونجواى Longwy، وكان هناك ادعاء أن ذلك ما كان ليحدث لولا ضلوع ضباط الحصن الأرستقراطيين في هذا الأمر. وفي 2 سبتمبر وصلوا إلى فيردو Verdun ووصل إلى باريس خبر مبتسر (قبل الأوان) بسقوط هذا الحصن المنيع في الصباح لكنه في الحقيقة لم يسقط إلا بعد الظهر، والآن لقد أصبح الطريق إلى باريس مفتوحا للعدو فلم يكن هناك أي جيش فرنسي في هذا الطريق لإيقافه، وبدت العاصمة تحت رحمة الغزاة وتوقع الدوق برنسفيك أن يتناول عشاءه بعد قليل في باريس.

وفي هذه الأثناء اندلعت ثورة مضادة (ثورة على الثورة) في المناطق النائية في فرنسا مثل الفيندى Vendee والدوفينى، وكانت باريس نفسها تضم آلاف البشر المتعاطفين مع الملك المخلوع؛ ومنذ أول سبتمبر كانت توزع نشرة تحذر من مؤامرة لإطلاق سراح السجناء وقتلهم على يد الثوريين. ودعت الجمعية والكومون كل الرجال القادرين

ص: 118

للالتحاق بالجيش لملاقاة قوات العدو المتقدمة، لكن كيف يستطيع هؤلاء الرجال أن يخرجوا للقتال تاركين نساءهم وأطفالهم تحت رحمة الملكيين والقسس ومعتادي الإجرام ممن هم في سجون باريس، فقد يتمكنون من الخروج بأعداد كبيرة؟ فصوتت بعض أحياء باريس على حل مؤداة ضرورة قتل كل القسس والأشخاص المشكوك في ولائهم للثورة قبل خروج المتطوعين لقتال العدو.

وفي الساعة الثانية بعد ظهر يوم الأحد الموافق 2 سبتمبر اقتربت ست عربات حاملة القسس الذين لم يؤدوا يمين الولاء للدستور الجديد من سجن أباى Abbaye jail (الكلمة تعنى دير، ذلك أن هذا السجن كان في أصله ديرا)، فصاحت بهم الجموع مستهزئة وقفز رجل من الجموع إلى سلم العربة فضربه قس بعصا فسبت الجموع القس وتزاحمت وتضاعف عددها وراحت تهاجم السجناء عند توقف العربات عند البوابة بل وانضم حراس السجناء إلى المهاجمين، فتم قتل ثلاثين سجينا، واندفعت الحشود - منتشية بمنظر الدماء ونشوة القتل غير المنسوب إلى أحد بعينه - إلى مبنى دير الكرمل Carmelite Convent وقتلوا القسس المحتجزين هناك، وفي المساء، بعد قضاء فترة راحة،

كانت الحشود قد تزايد عددها الآن فانضم إليها كثير من المجرمين وغلاظ الأكباد وجنود الأفواج الفدرالية القادمة من مرسيليا وأفنيون Avignon وبريتاني Brittany وعادوا إلى أباى (الكلمة تعني ديرا لكن المقصود سجن يحمل هذا الاسم لأنه كان في الأصل ديرا) وأجبروا السجناء كلهم على الخروج والجلوس لسماع الحكم عليهم، وأسلموا الغالبية العظمى منهم، - أي سويسري أو قس أو ملكي أو أي شخص كان في خدمة الملك أو الملكة - إلى رجال متعطشين لقتلهم، فقتلوهم بالسيوف والسكاكين والرماح والهراوات.

وفي البداية كان القتلة مثاليين فكانوا يكتفون بالقتل ولا يسرقون المقتولين فقد كانوا يجردون الضحايا من مقتنياتهم القيمة لنقلها إلى السلطات الثورية في الكمون لكن في آخر الأمر راح هؤلاء القتلة الذين اعتراهم التعب يحتفظون من قتلاهم بتذكارات، وكان كل قاتل يتلقى ستة فرنكات في اليوم لقاء عمله بالإضافة إلى ثلاث وجبات وكل ما يريده من النبيذ، وأظهر بعضهم شيئا من الرحمة فهنئوا أولئك الذين تمت تبرئتهم واستضافوا

ص: 119

المميزين منهم في بيوتهم، وكان بعضهم متوحشا قاسيا فأطالوا من معاناة المتهمين بتعريضهم للسخرية أمام المشاهدين، وقام واحد من المتحمسين بعد أن نزع السيف من صدر الجنرال لالو General Laleu بدس يده في الجرح وانتزع القلب ووضعه في فمه كما لو كان يريد أن يأكله - وهي عادة كانت شائعة وفي وقت من الأوقات في أيام الهمجية - وكان كل قاتل، عندما يعتريه التعب يأخذ قسطا من الراحة ويتجرع خمرا ثم يواصل عمله حتى تم القضاء في أمر سجناء الأباى كلهم إما إلى الموت وإما إلى الأمان.

وفي 3 سبتمبر انتقل الجلادون (منفذو القتل) والقضاة إلى سجون أخرى - سجن ثكنات الشرطة La Force وسجن البوابة Conciergerie. حيث استمرت المذبحة في ضحايا جدد وبجلادين جدد.

وهنا كانت توجد سيدة مشهورة، إنها الأميرة دى لامبل de Lamballe التي كانت ذات يوم ثرية ورائعة الجمال وكانت محبوبة لمارى أنطوانيت وأثيرة لديها، وكانت قد اشتركت في مؤامرة لإنقاذ الأسرة الملكية. إنها الآن في الثالثة والأربعين من عمرها عندما قطعت رأسها وبترت أطرافها ونزع قلبها من جسدها وأكله الجمهوريون المتحمسون، ورفعوا رأسها على رمح ولوحوا به عارضين إياه من نافذة زنزانة الملكة في سجن تمبل (المعبد The Temple) .

وفي 4 سبتمبر تحرك القتلة إلى سجون تور سانت بيرنار Tour St.- Bernard، وسانت فيرمي St.- Firmin والحصن الصغير the Chalelet سجن مخزن ملح البارود the Salpetriere وهناك كانت النسوة الشابات يخيرن بين إتيانهن أو قتلهن، فكن يؤتين. وكان من بين نزلاء سجن بيستر Bicetre ملجأ للمجانين والمختلين عقلياً تتراوح أعمارهم بين سبعة عشر عاما وتسعة عشر عاما، وعددهم ثلاثة وأربعون شابا أنزلهم - في غالبهم - آباؤهم في هذا المكان لتلقى العلاج، وقد قتلهم الثوار جميعاً.

واستمرت المذبحة يومين آخرين في باريس حتى وصل عدد الضحايا بين 1247 و 1368، وانقسم الناس في الحكم على الأحداث: فالكاثوليك والملكيون اعتراهم رعب

ص: 120

شديد لكن الثوريين حاجّوا بأنه كان لا بد من هذه الاستجابة العنيفة بسبب تهديدات برونسفيك ولضرورات الحرب، واستقبل بيتيو رئيس بلدية باريس الجديد الجلادين كوطنيين بذلوا جهدا كبيرا وأنعشهم بتقديم النبيذ لهم. وأرسلت الجمعية التشريعية بعض الأعضاء إلى سجن الإباى (سجن الدير) ليوصوا بالتزام القانون وعادوا ليقرروا أن المذبحة لا يمكن إيقافها، وأخيرا وافق زعماء الجمعية - من الجيرونديين والجبليين ـ أن هذا الاتجاه الأكثر أمنا واحتياطا (المذبحة) أصبح محل موافقة.

وأرسل كمون باريس ممثلين عنه للمشاركة في منح الحصانة للقضاة، وكان بيلو - فارين - Billaud Varenne المحامي المندوب عن الكومون ممن شهدوا ما حدث في سجن أباى وقد هنأ القتلة: إنكم مواطنون زملاء، إنكم تدمرون أعداءكم، إنكم تؤدون واجبكم وبارك مارا بفخر العملية برمتها. وعند محاكمة شارلوت كورداى Charlotte Corday بعد ذلك بعام، سئلت:"لماذا قتلت مارا؟ " فأجابت: "لأنه كان هو السبب في مذبحة سبتمبر" ولما طالبوها بالدليل أجابت: "ليس لدي دليل، انه رأي فرنسا كلها".

وعندما طلب من دانتون أن يوقف المذبحة هز كتفية: "سيكون هذا مستحيلاً"، ثم أردف معللا: "ثم لماذا نوقفها؟ هل أزعج نفسي بسبب هؤلاء الملكيين والقسس الذين كانوا لا ينتظرون سوى اقتراب الأجانب الغزاة لذبحنا؟

لا بد أن نرعب أعداءنا." ومع هذا فقد سحب دانتون سراً أكثر من واحد من أصدقائه وأخرجهم من السجون، بل إنه أخرج حتى بعض أعدائه الشخصيين. وعندما اعترض عضو من زملاء دانتون في المجلس التنفيذي على عمليات القتل، قال له دانتون: "إجلس، فهذا أمر ضروري". وعندما سأله شاب:

"كيف تستطيع أن تساعد ما يسمى إرهابا؟ " أجابه: "إنك أصغر من أن تفهم هذه الامور

انه لا بد أن يفيض نهر الدم بين أهل باريس والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) ".

فقد كان يعتبر أن أهل باريس قد أصبحوا الآن عاهدوا الثورة، وأن المتطوعين للحرب

ص: 121

الذين كانوا يغادرون لملاقاة الغزاة يعرفون الآن أنهم لن يرحمهم العدو إن هم استسلموا، إنهم سيحاربون دفاعا عن حياتهم بكل ما في الكلمة من معنى.

وكان يوم 2 سبتمبر أيضا هو اليوم الذي صوتت الجمعية التشريعية للدعوة إلى انتخاب عام لمؤتمر وطني Convention لتضع دستورا جديدا يتلاءم مع ظروف فرنسا الجديدة ومع متطلبات الحرب، ذلك لأن الجمعية أحست أن مسيرة الأحداث قد أحدثت دمارا في الدستور الحالي الذي جرى اختيار أعضائها لتنفيذه، ولأنه منذ دعي الفلاحون والبرولتياريا والبورجوازية - على سواء - للدفاع عن وطنهم فقد بدا من غير المقبول أن أيا مهما كان سواء أَكان دافع ضرائب أم لا يحق منعه من حق الانتخاب (إبعاده عن صناديق الاقتراع).

وهكذا حقق روبيسبير أول انتصار كبير له، ف‌

‌ المؤتمر الوطني

الذي سيلعب فيه دورا كبيرا جرى انتخابه من الراشدين الرجال كلهم أي أنه كان انتخابا عاماً.

وفي 20 سبتمبر أنهت الجمعية التشريعية دورتها الأخيرة ولم يكن أعضاؤها يعلمون أنه في اليوم نفسه التقى الجيش الفرنسي بقيادة دومورييه وفرنسوا - كريستوف كيلرمان Francois-Christophe Kellermann بالجيوش المحترفة البروسية والنمساوية بقيادة دوق برونسفيك، عند قرية يقال لها فالمي Valmy بين فردو Verdun وباريس، وأن الجيش الفرنسي أرغم أعداءه على الانسحاب - لقد كان نصرا مؤثرا حتى إن ملك بروسيا أمر قواته المهاجمة بعد المعركة بالتراجع وتخلى عن فردو Verdun ولونجواي وترك الحدود الفرنسية. أما فريدريك وليم الثاني فلم يكن يتحمل الإزعاج الذي تسببه له فرنسا البعيدة الآن فقد كان يتنافس مع جارتيه؛ روسيا والنمسا للاستيلاء على أكبر جزء عند تقسيم بولندا، وأكثر من هذا فقد كان جنوده يعانون من الإسهال الذي أصابهم نتيجة تناولهم أعناب شمبانيا Champagne.

وكان حاضرا في هذه المعركة جوته ضمن العاملين مع دوق ساكس - فيمار Saxe-Weimar فقال (كما أخبرت) ملاحظة شهيرة:

"منذ الآن ومن هذا المكان تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العالم".

ص: 122

الفصل الرّابع

المؤتمر الوطني من 21 سبتمبر 1792 إلى 26 أكتوبر 1795

ص: 124

The Convention

‌1 - الجمهورية الجديدة

أدار اليعاقبة Jacobins بحذق ومهارة انتخابات هذه الجمعية الثالثة (المؤتمر الوطني) التي تعتبر ذروة المد الثوري وانحداره في الوقت نفسه، وكانت مهارتهم في هذه الانتخابات تفوق حتى مهارتهم في انتخابات سنة 1791. لقد وجهوا الأمور بعناية بشكل غير مباشر: فالمصوتون يختارون الناخبين الذين يلتقون في جمعية انتخابية تختار بدورها النواب أو الوكلاء الذين يمثلون دوائرهم الانتخابية في المؤتمر الوطني، وكان الانتخاب في المرحلتين علنا وبالتعبير الصوتي عن الرأي، وكان الناخب - في كل مرحلة - يتعرض للأذى إن هو أغضب الزعماء المحليين.

وفي المدن رفض المحافظون التصويت "فقد كان عدد الممتنعين كبيرا" فمن بين سبعة ملايين شخص مؤهلين للتصويت امتنع 6،3. وفي باريس بدأ التصويت في 2 سبتمبر واستمر لعدة أيام، بينما كانت المذبحة عند بوابات السجون ترسل الإشارات وتعطى التلميحات للناس: كيف تصوتون وكيف تبقون على قيد الحياة. وفي كثير من المناطق أحجم الكاثوليك الأتقياء عن التصويت وانتخبت منطقة فيندي Vendee المعروفة بانتمائها الملكي القوي تسعة نوّاب سيصوّت ستة منهم بالموافقة على إعدام الملك. وفي باريس اجتمعت الجمعية الانتخابية في نادي اليعاقبة وانتهوا إلى أن الأربعة والعشرين نائباً المختارين لتمثيل العاصمة لا بد أن يكونوا مقتنعين بالجمهورية وأن يكونوا مؤيدين للكومون:

دانتون Danton، وروبيسبير Robespierre ومارا وديمولين Desmoulins وبلو- فارن Billaud- Varenne وكولو دربوا Collot d'Herbois وفريرون Freron وديفيد David الرسام

وفي المحافظات قام الجيروند Girondins ببعض الاستعدادات الخاصة بهم، ومن ثم فإن بريسو Brissot ورولان Roland وكوندورسيه Condorcet وبيتيو. Pétion وجود Goudet وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot ربحوا حق الخدمة والموت. ومن بين الأجانب الذين جرى انتخابهم بريستلي Priestley وكلوتز Cloots وبين Paine، وتم اختيار دوق أورليان Duc d'Orleans الذي أعاد تسمية نفسه باسم المواطن فيليب المحب للمساواة

ص: 125

Citizen Philippe Egalite لتمثيل الحي (القسم) الراديكالي في باريس.

وكانوا جميعا - فيما عدا عضوين - من الطبقة الوسطى وعندما اجتمع المؤتمر الوطني في التوليرى Tuileries في 21 سبتمبر سنة 1792 كان يضم 750 عضواً، وكان هذان العضوان من العمّال، وكان الأعضاء كلهم تقريبا من المحامين، وكان الجيرونديون Girondins وعددهم 180 عضواً منظمين ومتعلمين وفصحاء وبلغاء هم الذين تولوا القيادة في مجال التشريع. وكان هناك استرخاء في إصدار القوانين ضد المشكوك في ولائهم والمهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) والقسس كما كان هناك تحرر من السيطرة على الاقتصاد، على أساس أنه لم يعد هناك خوف الآن من الغزو الأجنبي، لكن سرعان ما ظهرت الشكايات من الاستغلال والتلاعب بالأسعار.

ولإسكات حركة ظهرت بين الراديكاليين بمصادرة الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الشعب، أعلن الجيرونديون في اليوم الأول للمؤتمر احترام الملكية الخاصة. وهكذا هدأت الأمور فاتفق الجيرونديون مع أعضاء الجبل (اليسار) وأعضاء السهل (المعتدلون) على إعلان الجمهورية الفرنسية الأولى في 22 سبتمبر سنة 1792 وفي اليوم نفسه أصدر المؤتمر الوطني مرسوما، بعد عام من الدراسة والضبط والتعديل بإبطال التقويم المسيحي (الميلادي) في فرنسا وممتلكاتها ليحل محلة تقويم ثوري تبدأ فيه السنة الأولى (من 22 سبتمبر 1792 إلى 21 سبتمبر 1793) ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا وأن تسمى الشهور على وفق الحالة المناخية المعتادة (النمطية) شهر قطف العنب (فينرمينير Vendémiaire) وشهر الضباب (برومير Brumaire) وشهر الصقيع (فريمير Frimaire) بالنسبة للخريف، وشهر تساقط الثلج (نيفوز Nivose) ، شهر المطر (بلوفيوز Pluviose) ، شهر الرياح (فينتوز Ventose) بالنسبة للشتاء، وشهر التبرعم (جيرمينال Germinal) وشهر الإزهار (فلوريال Floréal) وشهر المروج الخضر (بريريال Prairial) بالنسبة للربيع، وشهر الحصاد (مسيدور Messidor) وشهر الدفء (ثيرميدور Thermidor) وشهر الفواكه (فركيتدور Fructidor) بالنسبة للصيف، وقد تم تقسيم الشهر إلى ثلاثة أقسام decades كل قسم عشرة أيام وينتهي كل قسم بيوم يقال له ديكادي decadi هو يوم الراحة بدلا من يوم الأحد الذي كان يوم راحة في التقويم الميلادي، وخمسة الأيام الباقيات في السنة

ص: 126

تسمى (السانس كولوتيد Sans - Culottides) يكون فيها مهرجان وطني، وكان المؤتمر الوطني يأمل أن يذكر هذا التقويم الفرنسيين بالأرض والعمل الذي يجعلها مثمرة لا بالقديسين religious saints والمواسم. فستحل الطبيعة محل الرّب God وتم استخدام هذا التقويم الجديد في 24 نوفمبر سنة 1793 وانتهى استخدامه في نهاية سنة 1805 للميلاد.

لقد وافق الجيرونديون وأعضاء الجبل (اليسار) على إقرار الملكية الخاصة وعلى الجمهورية وعلى الحرب على المسيحية، لكنهم اختلفوا اختلافا شديدا جدا في قضايا أخرى مختلفة، فالجيرونديون شجبوا بشدة النفوذ الجغرافي لباريس، باعتباره غير متوازن مع بقية المحافظات، فأهل باريس بنوابهم وجماهيرهم يؤثرون بإجراءاتهم التي يتخذونها في كل فرنسا، وامتعض

الجبليون من تأثير التجار وأصحاب الملايين في تكديس الجيرونديين لأصوات الناخبين. واستقال دانتون Danton (الذي حصل في دائرته الانتخابية على 638 صوتا من مجموع أصوات الناخبين وعددهم 700) من منصبه كوزير للعدل ليقوم بمهمة التوحيد بين الجيرونديين وأهل الجبل (اليسار) في سياسة العمل على إقرار السلام مع بروسيا والنمسا لكن الجيرونديين لم يكونوا يثقون به باعتباره معبود باريس الراديكالية وطالبوا ببيان بمصروفاته كوزير ولم يقدم لهم تفسيرا يقنعهم بالمبالغ التي أنفقها (كان دانتون من المؤمنين الكبار بجدوى الرشاوى) ولم يقدم لهم أيضا تفسيرا يقنعهم بكيفية حصوله على الأموال التي مكنته من شراء ثلاث منازل في باريس وضواحيها والعقارات الكبيرة في محافظة أوب Aube، فالذي لا ينكر أنه كان يعيش حياة مترفة، واتهم مستجوبيه بالعقوق ووجه جهده للتوفيق والمصالحة في الداخل والخارج وضم جهوده إلى جهود روبيسبير.

ورغم أن روبيسبير كان هو الشخصية الثانية بعد دانتون من حيث الشعبية في أحياء (أقسام) باريس إلا أنه كان لا يزال حتى الآن شخصية ثانوية بين نواب المؤتمر الوطني، فعند التصويت على رياسة المؤتمر لم يحز إلا على ستة أصوات، بينما حصل رولان على 235. وكان معظم النواب يعتبرونه متغطرسا غارقا في العموميات والتفاهات الافتراضية نهازاً للفرص يتحين الوقت المناسب بصبر ليستحوذ على سلطات إضافية، لكن ما تنطوي

ص: 127

عليه اقتراحاته من وضوح واستقامة قد جعلت نفوذه يزداد - ببطء - شيئا فشيئاً، فقد نأى بنفسه عن التورط المباشر في الهجوم على التوليري وفي أحداث مذبحة سبتمبر، ومنذ البداية كان يدافع عن حق الانتخاب العام للذكور الراشدين كلهم رغم أنه من الناحية العملية، تغاضى عن مسألة إبعاد الملكيين والكاثوليك عن المشاركة في الاقتراع والإدلاء بأصواتهم ودافع عن الملكية الخاصة ولم يشجع دعوى مصادرة الممتلكات وتوزيعها، وعلى أية حال فقد اقترح ضريبة على المواريث وضرائب أخرى بالإضافة إلى إجراءات أخرى مهذبة لكنها فعالة لمعالجة التفاوت الشديد في الثروات.

وفي هذه الأثناء راح ينتظر الفرصة المناسبة وسمح لمنافسيه بإرهاق أنفسهم حماسة وتطرفا، وبدا مقتنعا أنه سيحكم يوما وتنبأ أنه سيقتل ذات يوم. "لقد كان يعرف - كما يعرف هؤلاء الرجال كلهم أنه يكاد يحمل ساعة بعد ساعة روحه في كفه".

لقد كان مارا - وليس دانتون ولا روبيسبير - هو الذي ناصر البروليتاريا وناضل من أجلها، وقد غير مارا عنوان جريدته ليصبح "جريدة الجمهورية الفرنسية Journal de la République Francaise ". لقد بلغ الآن التاسعة والأربعين من عمره (كان عمره روبيسبير في الرابعة والثلاثين، وكان دانتون في الثالثة والثلاثين) ولم يبق له لينهي حياته سوى أقل من عام لكنه ملأ هذه الفترة بانشغاله بمعركة عنيدة وصلبة ضد الجيرونديين باعتبارهم أعداء للشعب وباعتبارهم ممثلين للبورجوازية التجارية الصاعدة التي ظهر أنها تعمل على استخدام الثورة سلاحاً سياسياً لصالح "المشروعات والنشاطات الاقتصادية الحرة" التي يتسم بها الاقتصاد الحر، وكان نقده الساخر وخطبه اللاذعة تتردد في باريس ومنها وتثير الأحياء (الأقسام) وتحرضها على التمرد وتشيع في المؤتمر الوطني روح العداوة العامة، وقد شجب الجيرونديون ما أسموه "بحكومة الثلاثة" ويقصدون دانتون وروبيسبير ومارا، لكن دانتون تبرأ منه وتنكر له، وتحاشاه روبيسبير فجلس مارا مع الجبليين (اليسار) لكنه كان عادة منفرداً وحيداً بلا أصدقاء.

وفي 25 سبتمبر سنة 1792 قرأ فيرجنيو Vergniaud وآخرون في المؤتمر الوطني وثيقة تفيد أن مارا Marat كان قد دعا إلى دكتاتورية وأنه كان قد تسبب في الإثارة التي أدت إلى المذبحة، وعندما هب مارا (نصير الشعب) للدفاع عن نفسه،

ص: 128

هوجم بغير هواده بصيحات: "اجلس! " فقال: "يبدو أن هناك أعداء كثيرين لي في هذا المؤتمر"، فصرخ الجيرونديون:"كلنا أعداؤك". وعمل مارا على تكرار طلبه بقيام دكتاتورية على النمط الروماني المحدود واعترف بتحريضه على العنف لكنه برأ دانتون وروبيسبير من أي مشاركة في خططه، واقترح واحد من النواب القبض عليه ومحاكمته بتهمة الخيانة لكن هذه الحركة لم تنجح، وأخذ مارا مسدسه من جيبه وصوبه إلى رأسه وأعلن:"إذا صدر مرسوم باتهامي فسأنثر مخي عند أقدام الشعب".

وكان موقف الجيرونديين الذين قادوا فرنسا في الحرب على الأعداء - قويا في هذه الشهور بسبب انتصارات جيش فرنسا وانتشار القوات الفرنسية والأفكار الثورية.

ففي 21 سبتمبر سنة 1792 قاد الجنرال أني - بيير دي مونتسكيو - فيز نزاك Anne - Pierre - Montesquiou - Fezensac قواته محققا فتحا سهلا لسافوى (كانت وقتها جزءاً من سردنيا) وذكر في تقرير له إلى المؤتمر الوطني أن: "تقدم جيشي إنما هو نصر، فقد كان الناس في الريف والمدينة يخرجون لاستقبالنا وكان الناس في الأنحاء كلها يضعون الشارة الثلاثية ألوانها" وفي 27 سبتمبر دخل قسم آخر من الجيش الفرنسي نيس Nice بلا مقاومة، وفي 29 سبتمبر فيلفرانش Villefranche وفي 27 نوفمبر تم إدماج سافوي Savoy في فرنسا بناء على طلب زعمائها السياسيين المحليين.

أما فتح بلاد الراين فكان أمراً أكثر صعوبة. ففي 25 سبتمبر قاد الجنرال آدم - فيليب دى كوستين de Custine المتطوعين التابعين له للاستيلاء على سبير Speyer وأخذ ثلاثة آلاف أسير وفي 5 أكتوبر دخل فورمز Worms وفي 19 أكتوبر مينز Mainz وفي 21 أكتوبر فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main. ولكسب بلجيكا (التابعة للنمسا) إلى صف الثورة حارب ديمورييه Dumouriez في جيمابز Jemappes (6 نوفمبر) إحدى أكبر المعارك في الحرب، فقد تراجع النمساويون بعد مقاومة طويلة مخلفين وراءهم أربعة آلاف قتيل في ساحة المعركة،

وسقطت بروكسل في 14 نوفمبر ولييج Liege في 24 نوفمبر وأنتورب Antwerp في الثلاثين من الشهر نفسه، وفي هذه المدن كلها استقبل السكان الفرنسيين كمحررين. وقد تأخر ديمورييه في بلجيكا، وأثرى

ص: 129

نفسه بالتعامل مع المضاربين في تمويل الجيش بالمؤن، بدلا من إطاعة أوامر المؤتمر الوطني بالتحرك جنوبا وضم قواته إلى قوات كوستين، وعندما أُنب على ذلك هدد بالاستقالة تمَّ إرسال دانتون لاسترضائه فنجح في مهمته، لكن عندما تراجع ديمورييه أمام العدو في 5 أبريل سنة 1793 عانى دانتون من الشعور بالذنب.

وقد تبنى المؤتمر الوطني اتجاهين سياسيين يكمل أحدهما الآخر بعد أن أنتشى أعضاؤه بسبب هذه الانتصارات: الاتجاه الأول هو مد فرنسا إلى "حدودها الطبيعية" الراين والألب والبرنيس (البرانس) Pyrenees والبحار - والثاني هو مساعدة سكان الحدود بتقديم مساعدات عسكرية لهم ليتمكنوا من تحقيق الحرية الاقتصادية والسياسية. ومن هنا كان هذا المرسوم الجسور الصادر في 15 ديسمبر سنة 1792.

"من هذه اللحظة تعلن الأمة الفرنسية سيادة الشعب [في المناطق المتعاونة كلها]، وقمع كل السلطات العسكرية والمدنية التي حكمتكم حتى الآن كلها، وإبطال كل الضرائب التي ينوء بها كاهلكم، وإلغاء العشور التي تتقاضاها الكنيسة وكذلك الرسوم الإقطاعية

وإلغاء القنانة serfdom (رق الأرض) .. وتعلن الأمة الفرنسية أيضا إبطال المؤسسات (التشكيلات) التي تضم النبلاء والإكليروس كلها، وإبطال الامتيازات كلها لتعارضها مع مبدأ المساواة".

"إنكم الآن منذ هذه اللحظة إخوة وأصدقاء، فالكل مواطنون متساوون في الحقوق ويمكن لأي منكم أن يتولى أمور الحكم وأن يقدم الخدمات وأن يدافع عن بلاده".

وأدى هذا المرسوم "مرسوم الأخوة" إلى عدد من المشاكل للجمهورية الشابة. فعندما فرضت الضرائب على المناطق المفتوحة "أو المحررة بتعبير رجال الثورة" لدعم الاحتلال الفرنسي جأر الناس بالشكوى قائلين إن سيدا حل محل سيد آخر وإن ضريبة حلت محل أخرى. وعندما رأت الهيئة الكنسية في كل من بلجيكا ولييج Liege وبلاد الراين التي ألفت أن تسيطر على السلطات الحاكمة أو تشاركها - أنها مهددة في سلطانها وعقيدتها، مدت أيديها إلى ما وراء الحدود لمقاومة الثورة الفرنسية وتحطيمها إذا أمكن. وفي 16 نوفمبر 1792 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بفتح نهر شيلدت Scheldt للملاحة كلها.

ص: 130

وكان الهدف من هذا القرار هو جذب تجار أنتورب إلى قضية الثورة الفرنسية - طالما أن صلح وستفاليا Peace of Westphalia (1648) كان قد منع الملاحة في هذا النهر إلا للهولنديين، (لأنها سحبت منها هذا الامتياز) وفسر ملوك أوروبا إعلان المؤتمر الوطني (السابق إيراد مقتطفات منه) بأنه إعلان للحرب عليهم جميعا وعلى السادة الإقطاعيين، فبدأ تشكيل أو تحالف ضد فرنسا.

وقرر المؤتمر الوطني قراره (حتى لا يكون أمامه سبيل للتراجع) بمحاكمة لويس السادس عشر بتهمة الخيانة. فمنذ 10 أغسطس راح المسئولون في التمبل يقدمون لمعظم أفراد الأسرة المالكة معاملة نصف إنسانية: للملك وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، والملكة كانت في السابعة والثلاثين من عمرها، وأخت الملك "مدام إليزابيث Madame Elisabeth" وكانت في الثامنة والعشرين، وابنة الملك مارى تريز Marie-Therese " مدام روال Madame Royale" وكانت في الرابعة عشرة، وابن الملك ولي العهد لويس- تشارلز Dauphin Louis-Charles وكان في السابعة من عمره.

وبذل الجيرونديون كل ما في وسعهم لتأجيل المحاكمة لأنهم كانوا يعلمون أن الأدلة ستؤدي بالضرورة إلى الإدانة وتنفيذ حكم الإعدام وهذا سيؤدي إلى تكثيف القوى الخارجية جهودها للهجوم على فرنسا، واتفق معهم دانتون في هذا الرأي لكن ظهر شخص آخر في المؤتمر الوطني، إنه لويس - أنطوان سان - جوست Louis - Antoine -Saint - Just، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد لفت نظر المؤتمر الوطني بدعوته لقتل الملك:

"لويس قتل الشعب وحاقت به الهزيمة

انه همجي (بربري) سجين حرب أجنبي. لقد رأيتم خططه وتصميماته الغادرة .. إنه هو القاتل في الباستيل وفي نانسي Nancy وساحة دي مارس Champ-de - Mars .. في التوليري فأي عدو وأي أجنبي قد ألحق بكم الضرر أكثر منه؟ "

وكان من الممكن أن يتوقف هذا الهجوم بسبب الحكمة والتدبر، لكن حدث في 20 نوفمبر أن تم اكتشاف صندوق حديدي في جدار الغرف الملكية في قصر التوليري فأحضره رولان إلى المؤتمر الوطني، وكان به دليل يؤكد بقوة تهمة الخيانة، لقد كان الصندوق يضم 625 وثيقة سرية تفضح تعاملات الملك مع لافاييت وميرابو وتاليران، وبرنيف Barnave وعدد

ص: 131

من المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) والصحفيين المحافظين. كان من الواضح أن لويس رغم تأكيده ولاءه للدستور، يتآمر للقضاء على الثورة. وأصدر المؤتمر الوطني أوامره بكشف النقاب عن ميرابو، وحطم اليعاقبة تمثالا في ناديهم كانوا قد أقاموه إحياء لذكراه، وتم القبض على بارنيف في جرينوبل Grenoble وهرب لافاييت إلى جيشه، أما تاليران فهرب كما يفعل دائماً.

وفي 2 ديسمبر ظهر بعض الوفود من أحياء (أقسام) باريس أمام المؤتمر الوطني وطالبوا بالتعجيل بمحاكمة الملك، وسرعان ما أرسل كومون باريس توصيات شديدة للغرض نفسه، وفي 3 ديسمبر انضم روبيسبير للمطالبين بهذا الأمر. وحمل مارا لواء المطالبة بأن يكون التصويت على المحاكمة علنا حتى يضع الجيرونديين المترددين تحت رحمة السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة) في الممرات والشوارع.

وبدأت محاكمة الملك في 11 ديسمبر سنة 1792 أمام أعضاء المؤتمر الوطني جميعا. على وفق ما ذكره سيباستين ميرسييه Sebastien Mercier أحد النواب في المؤتمر الوطني فإن:

"خلفية الصالة تحولت إلى مقصورات وكأنها مسرح، حيث كانت النسوة يرتدين أكثر ملابسهن أناقة ورحن يلعقن المثلجات ويأكلن البرتقال ويشربن المسكرات المعطرة والمحلاة .... ويمكن للمرء أن يرى السعاة والحجاب

يرافقون خليلة دوق أورليان"

وتم إطلاع الملك على الوثائق التي وجدت في الصندوق فأنكر توقيعه وأنكر أي علم له بالصندوق. وواجه الأسئلة بالتعلل بعدم التذكر ليعين لنفسه محامين، فعرض شريتين دى ماليشيرب Chretien de Malesherbes الذي دافع عن الفلاسفة والموسوعيين في عهد لويس الخامس - الدفاع عن الملك، فوافق لويس السادس عشر وهو حزين وقال له:"إن تضحيتك عظيمة لأنك تعرض حياتك للخطر ومع هذا فلن يمكنك إنقاذ حياتي". (وبالفعل فقد أعدم ماليشيرب بالمقصلة في أبريل سنة 1794) وفي هذه الأثناء اقترح ممثلو القوى الأجنبية شراء بعض الأصوات لصالح الملك ووافق دانتون أن يكون وكيلا للمشترين لكن المبلغ المطلوب كان أكثر مما يريد أصحاب

ص: 132

الجلالة استثماره.

وفي 26 ديسمبر قدم رومين سيز Romain de Seze القضية للدفاع، وساق رومين الحجة بأن الدستور لم يعط لأعضاء المؤتمر الوطني الحق في محاكمة الملك، وأن للملك الحقوق الإنسانية للدفاع عن حياته، فقد كان واحدا من أكثر الرجال إنسانية وأرقهم حاشية ومن أكثر الحكام ليبرالية ممن تبوءوا عرش فرنسا. هل نسي نواب المؤتمر الوطني إصلاحاته العديدة؟ ألم يكن هو الذي بدأ الثورة بدعوته مجلس طبقات الأمة للانعقاد ودعوته الفرنسيين كلهم ليقولوا له عن الأخطاء الحادثة وعن رغباتهم؟

وأجاب المدعي العام بأن الملك قد تفاوض مع القوى الأجنبية للقضاء على الثورة، فلم نستثني وارث العرش إذا كان خائنا من إيقاع القصاص عليه؟ فطالما ظل على قيد الحياة ستحاك المؤامرات لإعادته إلى سلطانه كما كان قبل الثورة. فليكن عبرة للملوك كلهم حتى يرعووا ويتفكروا قبل أن يخونوا آمال شعوبهم.

وبدأ التصويت على جرم (إدانة) الملك في 15 يناير سنة 1793. فصوت 683 - بمن فيهم ابن عم الملك فيليب دأورليان Philippe d'Orleans من بين 749 نائبا على إدانة الملك. وقد عارض روبيسبير ومارا وسان ـ جوست Saint-Just حركة طرح هذا القرار (الحكم) للتصديق أو دعوة الشعب الفرنسي للاقتراع عليه من خلال جمعيات القاعدة Primary assemblies، ولم يحظ هذا الاقتراح بالقبول فقد عارضه 424 ولم يوافق عليه سوى 287، لأن دعوة الشعب إلى مثل هذا الاقتراع تعني استفتاءهم على عودة الملكية، كما قال سان جوست. أما روبيسبير الذي طالما دافع عن الديمقراطية وحق الذكور جميعهم في الانتخاب فقد تردد الآن وقال إن:"الفضيلة (وتعني الحماسة الجمهورية) كانت دائما في الأقلية على هذه الأرض" وعندما وضع السؤال التالي في صياغته الأخيرة في 16 يناير:

"ما هو الحكم الذي سيتعرض له ملك فرنسا؟ "

فإن الفريقين دخلا في نزاع شهدته الشوارع حيث صاحت الجموع مطالبة بحكم الإعدام وهددوا حياة كل من يصوت لحكم أقل من الإعدام، حتى إن النواب الذين كانوا حتى الأمس يطالبون بعدم إعدامه أصبحوا خوفا على حيواتهم يصوتون لصالح الحكم عليه بالإعدام، وأذعن دانتون، وثبت بين Paine على

ص: 133

موقفه، أما فيليب دأورليان الذي كان مستعدا للحاق بابن عمه فقد صوت لإقصائه (لإعدامه) أما مارا فقد صوت لإعدامه في ظرف أربع وعشرين ساعة أما روبيسبير الذي كان دائما يعارض العقوبات الغليظة (الإعدام) فقد أصبح الآن يقدم الحجج ليبرهن على أن بقاء الملك حيا سيكون خطراً على الجمهورية، أما كوندورسيه فطالب بإبطال العقوبات الغليظة (الإعدام) الآن وإلى الأبد، وحذر بريسو من أن الحكم بالإعدام سيؤدي إلى دخول ملوك أوروبا كلهم الحرب ضد فرنسا.

وبعض النواب في المؤتمر الوطني أضافوا إلى تصويتهم شروحا (تعليقات) فقد قال باجانل Paganel: " الموت! - إن الملك لا يصلح إلا له، أو لا فائدة منه إلا له"، وقال ميلو Millaud:" اليوم إذا لم يكن الموت موجودا لوجب اختراعه". هكذا اقترح فولتير على الرب أما دوشاتل Duchatel - وكان قد مات - فكم كان يود أن ترد إليه الحياة ليصوت ضد قتل الملك أمام المحكمة ثم يموت مرة أخرى. وكانت النتيجة النهائية هي موافقة 361 على موت الملك عاجلا، وصوت 334 لتأجيل هذا الأمر.

وفي 20 يناير قتل العضو السابق في فيلق حراسة الملك، لويس - ميشيل ليبليتيه دي سان فارجو \ Louis-Michel Lepeletier de Saint-Fargeau الذي كان قد صوت لصالح قتل الملك.

وفي 21 يناير حملت عربة يحيط بها حرس مسلح، سارت على طول الشوارع التي حددها الحرس الوطني، لويس السادس عشر إلى ميدان الثورة (الآن ميدان الكونكورد Concorde أي ميدان الوفاق والوئام). وقبل أن تهوي عليه المقصلة حاول أن يتحدث إلى الجموع:

"أيها الفرنسيون، إنني أموت بريئا .. إنني أقول ذلك وأنا على سقالة المقصلة وسأمثل قريبا أمام الرب. إنني أعذر أعدائي، وآمل أن فرنسا - "

لكن عند هذه الكلمة أشار سانتير Santerre رئيس حرس باريس الوطني وقال: "فلتدق الطبول Tambours" فدقت الطبول، وراحت الجماهير تنظر في صمت كئيب والنصل الثقيل يسقط، وراحوا يبكون حتى النخاع، وفي وقت لاحق قال واحد ممن حضروا هذا المشهد:

"في ذلك اليوم راح كل واحد يسير ببطء ولم يكن الواحد منا يجسر على النظر إلى الآخر".

ص: 134

‌2 - الثورة الثانية:

عام 1793 م

لقد كان إعدام الملك نصراً بالنسبة للجبليين Mountain (اليسار) والكومون Commune وسياسة الحرب، كما أنه وحد المشتركين في قتل الملك والمتسببين فيه فارتبطوا ارتباطاً مصيرياً بالثورة فقد يقع عليهم الاختيار للتضحية بهم عند إعادة عرش البوربون Bourbon . وقد أدى هذا الحدث إلى انقسام الجيرونديين Girondins وعزلتهم، فقد انشقوا عند التصويت وهم الآن يتحركون في باريس وهم في حالة خوف على حيواتهم وتطلعوا إلى المحافظات حيث السلام والنظام موجودان بشكل نسبي، واستقال رولان - مريضا محبطا - من المجلس التنفيذي بعد يوم من إعدام الملك، والسلام الذي كان ممكنا بانشغال النمسا وبروسيا بتقسيم بولندا، غدا مستحيلا الآن بسبب غضب ملوك أوروبا لقطع رأس واحد من إخوانهم.

وفي انجلترا وجد وليم بت William Pitt رئيس الوزراء الذي كان يفكر في شن الحرب على فرنسا، أنه لم يعد هناك كبير أثر لأي معارضة برلمانية لسياسته، وصدم جماهير الإنجليز لأخبار إعدام الملك الفرنسي كما لو أن الملكية نفسها هي التي وضعت تحت المقصلة، كما لو أنهم هم أنفسهم (الإنجليز) ليسوا سلالة من نفذ الإعدام في تشارلز الأول، وكان هدف بت Pitt الحقيقي - بطبيعة الحال - هو أن سيطرة فرنسا على أنتورب Antwerp ستعطي لها - وهي عدوة بريطانيا القديمة - مفتاح الراين - وهو الطريق الرئيسي لتجارة بريطانيا مع وسط أوروبا. وأصبح هذا الخطر أكثر حدة عندما أعلن المؤتمر الوطني في 15 ديسمبر سنة 1792 ضم بلجيكا إلى فرنسا. والآن لقد فتح الطريق للسيطرة الفرنسية على هولندا وبلاد الراين، فكل وادي الراين الخصب والمعمور بالسكان يمكن أن يغلق في وجه بريطانيا التي تعيش على تصدير منتجات صناعتها المنتشرة.

وفي 24 يناير سنة 1793 طرد بت Pitt السفير الفرنسي وفي أول فبراير أعلن المؤتمر الوطني الحرب على كل من إنجلترا وهولندا. وفي 7 مارس انضمت إليهما أسبانيا وبدأ التحالف الأوربي الأول (المكون من بروسيا والنمسا وسردنيا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا) المرحلة الثانية في العمل على كبح الثورة الفرنسية.

لقد توالت الكوارث بسرعة جعلت المؤتمر الوطني غير قادر على ملاحقتها، فالجيوش

ص: 135

الثورية قد خملت بعد انتصاراتها المبدئية وترك آلاف المتطوعين الخدمة بعد انقضاء الفترة المحددة وتناقص عدد الجنود في الجبهة الشرقية من 40،000 إلى 225،000، وحتى هؤلاء كانوا ذوي ثياب رثة طعامهم الكفاف بسبب عدم كفاءة الممولين (المتعاقدين لتمويل الجيش) وفسادهم وارتشائهم، هؤلاء الممولين الذين كان يحميهم دومورييه Dumouriez ويستغلهم.

وفي 24 فبراير لجأ المؤتمر الوطني إلى التجنيد الإلزامي لإنشاء جيوش جديدة لكنه حابى الأثرياء بالسماح لهم بدفع المقابل لمن يقاتل عنهم (النص: شراء من يقوم مقامهم)، وانفجر التمرد على التجنيد الإلزامي في محافظات مختلفة، ففي الفنيدي Vendee كان السخط على التجنيد الإلزامي وارتفاع تكاليف المعيشة وندرة الطعام، بالإضافة للسخط على التشريع المضاد للكاثوليكية، كل أولئك تضافر معا ليسبب تمردا حقيقيا اتسع مداه حتى استلزم الأمر استدعاء جيش من الجبهة للسيطرة على الأمور.

وفي 16 فبراير قاد دومورييه 20،000 جندي لغزو هولندا، فهاجمت قوة نمساوية بقيادة الأمير ساكس - كوبرج Saxe - Coburg الحامية التي تركها دومورييه في بلجيكا، وكان هجومه مفاجئا مما تسبب في إبادة الحامية الفرنسية، أما دومورييه نفسه فقد هزم في نيرفندن Neerwinden (18 مارس)، وفي 5 أبريل انضم إلى النمساويين ومعه ألف رجل (تخلى عن الثورة لصالح أعدائها). وفي ذلك الشهر التقى مندوبون. من إنجلترا وبروسيا والنمسا لوضع الخطط لإخضاع فرنسا.

لقد هددت المصاعب الداخلية والنكسات الخارجية بانهيار الحكومة الفرنسية، فرغم مصادرة أملاك الكنسية وممتلكات المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) فإن الأسينات assignats (العملة التي أصدرتها حكومة الثورة) كادت تفقد قيمتها فجأة، إذ أصبحت لا تساوي سوى 47% من قيمتها الاسمية في أبريل سنة 1793 وفي غضون ثلاثة أشهر بعد ذلك تدنت قيمتها إلى 33% (أي أصبحت لا تساوى سوى 33% من القيمة المكتوبة عليها) واتسع مدى المقاومة للضرائب الجديدة حتى أصبحت تكاليف جمعها تكاد تساوي قيمتها.

ص: 136

وأدت القروض الجبرية (اقتراض الحكومة بتوجيه الأوامر لمن تقترض منهم) - كما في حدث في الفترة من 20 - 25 مايو 1793 - إلى سلب البورجوازية الصاعدة، وعندما حاولت هذه الطبقة استخدام الجيرونديين لحماية مصالحهم في الحكومة، أدى هذا إلى تعميق الصراع بين الجيرونديين والجبليين (اليسار) في المؤتمر الوطني. واستطاع دانتون Danton وروبيسبير Robespierre ومارا Marat نزع نادي اليعاقبة من سياساته البورجوازية الأصلية ليجعلوه أقرب إلى الأفكار الراديكالية. أما الكومون الذي يقوده الآن بيير شومت Pierre Chaumette وجاك هيبير Jacques Hebert فقد استخدم الجريدة الضارية (العنيفة) التي يمتلكها هذا الأخير (جاك) والتي تحمل اسم Pére Duchesne لإثارة المدينة (باريس) ومحاصرة المؤتمر الوطني بوابل من المطالب والإلحاح على مصادرة الثروات، وراح مارا يوما بعد يوم يشن الحرب ضد الجيرونديين باعتبارهم حماة للأثرياء.

وفي فبراير سنة 1793 قاد جاك رو Jacques Roux وجان فارلت Jean Varlet مجموعة من البرولتياريا (الذئاب المسعورة Enrages) لمهاجمة ارتفاع أسعار الخبز والإصرار على أن يقوم المؤتمر الوطني بتحديد أسعار كل ما هو ضروري للحياة. ولأن المؤتمر الوطني قد أزعجته عاصفة المشاكل فقد عهد بأعماله المنوطة به في عام 1793 إلى لجان تتم الموافقة على قراراتها بأقل قدر من النقاش.

وتم تعيين معظم اللجان لتكون مخصصة لمجال معين من مجالات النشاط والإدارة: الزراعة، الصناعة، التجارة، المحاسبة، المالية، التعليم، الخدمة الاجتماعية، شئون المستعمرات.

وعادة ما كانت كل لجنة تضم اختصاصيين في مجالها، وقد أدت هذه اللجان أعمالاً طيبة جداً، بل إنها وسط الأزمات التي بلغت ذروتها، أعدت دستورا جديدا وتركت تراثا تشريعيا بناء راق لنابليون فكون على هديه "المدونة القانونية النابليونية Code Napoleon" .

ولحماية الثورة من الوكالات الأجنبية (غير الفرنسية) والتخريب الداخلي والإزعاج السياسي عين المؤتمر الوطني في 10 مارس 1793 لجنة الرقابة العامة كوزارة وطنية

ص: 137

للبوليس ذات صلاحيات عملية مطلقة للقيام بزيارات مفاجئة للأماكن كلها بما فيها البيوت دون تحذير للقبض على أي شخص يشك في عدم ولائه أو في ارتكابه جريمة وقد تم إنشاء لجان أخرى للمراقبة في الكومون وأحياء (أقسام) المدن.

وأنشأ المجلس الوطني أيضا في 10 مارس محكمة ثورية لمحاكمة من يرسل إليها من المشكوك فيهم الذين سمح لهم بمحامين للدفاع عنهم لكن الحكم الذي يصدره المحلفون jurors لا يمكن استئنافه أو إعادة النظر فيه. وفي 15 أبريل عين المؤتمر الوطني أنطوان - كوينتن فوكير - تينفيل Antoine -Quentin Fouquier - Tinville مدعياً عاماً رئيسياً أمام هذه المحكمة الثورية الآنف ذكرها وهو محام حقق شهرة بسبب إتقانه التحقيق ولعدم رحمته لكنه كفء، وإن كان لا يخلو من المشاعر الإنسانية بين الحين والآخر، وعلى أية حال فإننا عرفناه من خلال رسم محفور يظهره بوجه كالصقر وأنف كالسيف. وبدأت هذه المحكمة الثورية جلساتها في 6 أبريل في قصر العدل، وكلما سارت الحرب قدما، وزاد عدد المتهمين المقدمين للمحكمة زيادة يصعب على المحكمة السيطرة عليها، اختزلت إجراءاتها القانونية وراحت تصدر الحكم بالإدانة في القضايا كلها تقريبا التي أحالتها لجنة الأمن العام (Committee of Public Safety) .

وهذه اللجنة الأخيرة لجنة الأمن العام (Comite de Salut Public) أنشئت في 6 أبريل سنة 1793 لتحل محل المجلس التنفيذي Executive Council وأصبحت هي ذراع الدولة الفعال (الرئيسي). لقد كانت مجلس حرب. إنه لا يجب النظر إليها كحكومة مدنية تعترف بالقيود الدستورية (المقصود تمتنع عما يمنعه الدستور) وإنما كجهاز مخول تشريعيا بقيادة أمه تحارب من أجل وجودها، وبالتالي توجيه الأوامر لها. ولم تكن لسلطاته حدود إلا بمسئولياته أمام المؤتمر الوطني، ولا بد من تقديم قراراته لهذا المؤتمر الوطني الذي أحالها كلها تقريبا إلى مراسيم ملزمة.

لقد كانت هذه اللجنة تدير السياسة الخارجية وتتحكم في

ص: 138

الجيوش وجنرالاتها وفي الموظفين المدنيين ولجان الفنون والدين، والخدمات السرية للدولة، وكان يمكنها أن توجه الرسائل الخاصة (للأفراد والهيئات) والعامة (للجماهير)، وكانت ذات ميزانيات سرية ومن خلال "ممثليها المبعوثين" أو المرسلين في مهام كانت تتحكم في الموت والحياة في المحافظات وكانت تجتمع في حدائق (قسم النباتات) في التوليري بافيلون دي فلور (Pavillon de Flore) بين القصر (التوليري Tuileries) والسين Seine وكان أعضاؤها يجتمعون حول منضدة اجتماعات مغطاة بقماش أخضر، أصبحت - أي هذه المنضدة - لمدة عام مجلساً للحكومة الفرنسية.

وكان يجلس في صدر اللجنة حتى 10 يوليو دانتون الذي تم اختياره للمرة الثانية ليقود الأمة وهي في حالة خطر، وبدأ دانتون على الفور بحث زملائه في اللجنة - وبالتالي المجلس الوطني - على ضرورة أن تتراجع الحكومة علناً عن عزمها التدخل في الشئون الداخلية لأي أمة أخرى. وأرسل المؤتمر الوطني بسبب حث دانتون ورغم اعتراضات روبيسبير مبعوثها لجس النبض طلبا للسلام لكل دولة من الدول التي شكلت تحالفا ضدها. وحث دوق بونسفيك لإيقاف تقدمه، ونجح في ترتيب حلف مع السويد. وحاول مرة أخرى التوفيق بين الجبليين (اليسار) والجيرونديين لكن الخلافات بينهما كانت عميقة جداً.

وكثف مارا هجومه على الجيرويدنيين حتى إنهم في ثورة غضبهم استصدروا في 14 أبريل سنة 1793 مرسوما من المؤتمر الوطني بإحالته إلى المحكمة الثورية لدفاعه عن القتل ودعوته إلى الدكتاتورية. وعند محاكمته تجمع عدد كبير من السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أي الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة) في قصر العدل والشوارع المفضية إليه يطالبون: "بالانتقام من أي حماقة ترتكب ضد حاميهم الأثير لديهم"، وعندما خاف المحلفون أطلقوا سراحه فحمله أتباعه في موكب نصر على أكتافهم إلى المؤتمر الوطني وهناك هدد بالانتقام من متهميه، ومن هناك حملته الجماهير المبتهجة إلى نادي اليعاقبة وهناك جعلوه على مقعد الرياسة. وواصل مارا معركته مطالب بطرد الجيرونديين من المجلس الوطني باعتبارهم خونة الثورة البورجوازيين bourgeois betrayers of the revolution .

ص: 139

وحقق مارا مكسبا خطيرا عندما أصدر المؤتمر الوطني - رغم اعتراض الجيرونديين وتحذيرهم - مرسوما بوضع حد أقصى لأسعار الحبوب في كل مرحلة من مراحل انتقالها من المنتج إلى المستهلك وأمر الجهات الحكومية بأن يصادروا من الزراع الإنتاج كله اللازم لمواجهة الاحتياجات.

وفي 29 سبتمبر امتدت هذه الإجراءات لتحديد أسعار البضائع الأساسية كلها، فدخلت تحت سياسة "تحديد سقف أعلى للأسعار" لقد برزت الآن الحرب الداخلية بين المنتج والمستهلك، فثار الفلاحون على مصادرة محاصيلهم وقل الإنتاج للشعور بأن القوانين الجديدة عاقت الدوافع للربح واتسعت السوق السوداء، عارضة بأسعار عالية البضائع للقادر على الدفع، والأسواق التي نفذت قوانين تحديد الأسعار خلت من الحبوب والخبز، ومرة أخرى سارت مظاهرات الجياع خلال شوارع المدينة.

وفزع الجيرنديون إلى ناخبيهم من الطبقة الوسطى في المحافظات لإنقاذهم من استبداد الجماهير، بعد أن امتعضوا بشدة ومراره من الضغط الذي تمارسه الطبقات الدنيا في باريس على المجلس الوطني. وكتب فرجنيو Vergniaud إلى ناخبيه في بوردو في 4 مايو سنة 1793:"إنني أدعوكم إلى منبر الدفاع عن حقوق الشعب لتدافعوا عنا إن كان هناك وقت باق للثأر للحرية، بإبادة الطغاة" وكتب باربارو Barbaroux على النحو نفسه إلى مؤيديه في مرسيليا، وفيها - أي في مرسيليا- كما في ليون تحالفت الأقلية البورجوازية مع النبلاء السابقين لطرد رئيسي البلدية الراديكاليين في كلتيها.

وفي 18 مايو حث النواب الجيرونديون المؤتمر الوطني لتعيين لجنة للتفتيش على علميات كومون باريس وأحيائه (أقسام باريس) لكشف المخالفات القانونية. وكان أعضاء هذه اللجنة كلهم من الجيرونديين. وفي 24 مايو أمر المؤتمر الوطني بالقبض على هيبير Hebert وفارلت Varlet باعتبارهما محرضين (مثيرين للفتنة)، وطالب الكومون والستة عشر قسما التابعة له - في الوقت نفسه - بالإفراج عنهما، لكن المؤتمر الوطني رفض. وحرض روبيسبير في نادي اليعاقبة في 26 مايو المواطنين على الثورة:

"عندما تظلم الجماهير، وعندما لا يكون لها ملجأ إلا إلى نفسها، فمن الجبن حقا ألا ندعوها إلى الثورة. فعندما تنتهك

ص: 140

القوانين كلها وعندما يبلغ الاستبداد ذروته، وعندما تداس العقيدة الطيبة واللياقة فلا بد أن يقوم الشعب بحركة مقاومة شعبية. لقد آن الأوان لذلك"

وفي 27 مايو طالب مارا في المؤتمر الوطني بقمع اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها)"لانها معادية للحرية ولأنها تميل إلى الحث على معارضة الشعب ومقاومته، وهذا التهديد مصلت فوق الرأس قريب الحدوث بسبب الإهمال الذي وقعتم فيه بالسماح بارتفاع أسعار البضائع ارتفاعا فظيعاً". وفي تلك الليلة مهد الجبليون (اليسار) الطريق لاتخاذ إجراء بإلغاء اللجنة (لجنة الجيرونديين الآنف ذكرها) وجرى التصويت الذي كانت نتيجته هذا الإلغاء، بأغلبية 279 ضد 238. وفي 30 مايو انضم دانتون إلى روبيسبير ومارا للدعوة إلى "نشاط ثوري أو هبة ثورية revolutionary Vigor".

وفي 31 مايو قرعت الأحياء أجراس التنبيه للخطر ليهب المواطنون - عند سماعها، وتجمعت الجماهير عند دار البلدية وكونوا مجلس مقاومة، وضمنوا دعم حرس باريس الوطني بقيادة قائده الراديكالي هانريوت Hanriot، ودخل هذا المجلس الجديد - يحميه هانريوت بحرسه والجماهير المتزايدة العدد - إلى صالة المؤتمر الوطني وطالب بمثول الجيرونديين ليحاكموا أمام محكمة الثورة، وتحديد سعر الخبز عند ثلاثة جنيهات في أنحاء فرنسا كلها، وأي عجز ينتج عن ذلك يعالج بفرض ضريبة على الأثرياء، وأن يكون حق الانتخاب مقتصرا مؤقتا على السانس كولوت (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة - الطبقة الثالثة)، وأقر المؤتمر الوطني الاعتراض الثاني فقط لهذه اللجنة البغيضة، وتراجعت الفصائل المسلحة لحلول الليل.

وعاد مجلس المقاومة الآنف ذكره إلى المؤتمر الوطني في أول يوليو مطالبا بالقبض على رولان الذي اتهمه السانس كولوت sansculottes (الطبقة الدنيا) بارتباط مصالحه بالمصالح البورجوازية. وفر رولان هاربا إلى الجنوب حيث لاقى ترحيباً. أما زوجته مدام رولان فقد تأخرت ولم تلحق به لأنها خططت للدفاع عنه أمام المؤتمر الوطني لكن قبض عليها وأودعت في سجن أباى Abbaye jail (الكلمة تعني، الدير لأن هذا السجن كان في أصله ديرا) ولم يتح

ص: 141

لها أن ترى زوجها بعد ذلك أبدا، وفي 2 يونيه احتشد ثمانون ألف رجل وامرأة - كان كثيرون منهم مسلحين - حول مقر المؤتمر الوطني، ووجه الحرس مدفعه للمبنى، وأخبر مجلس المقاومة الآنف ذكره نواب المؤتمر الوطني أن أحداً منهم لن يسمح له بالخروج حتى تتم الاستجابة لطلبات المجلس (مجلس المقاومة) كلها.

وذكر مارا بصوت عال أسماء الجيرونديين الذين يوصي بالقبض عليهم، وكان مارا قد سيطر على المنصة (المنبر) التي يتحدث متحدثو المؤتمر من فوقها ودبر بعض نواب المؤتمر أمر تملصهم من الحرس والجماهير وهربوا إلى المحافظات، وجرى القبض على اثنين وعشرين وفرضت عليهم الإقامة الجبرية في منازلهم بباريس. ومنذ هذا اليوم وحتى 26 يوليو أصبح المؤتمر الوطني خادماً مطيعا للجبليين (اليسار) ولجنة الأمن العام وجماهير باريس. لقد هزمت الثورة الثانية البورجوازية وأسست مؤقتا دكتاتورية البرولتياريا.

وأعطى المنتصرون للنظام الجديد شكلا بتكليف كل من هيرول دى سيشل Herault de Sechelles وسان - جوس Saint - Jus بصياغة الدستور الجديد الذي كان قد صدر في 11 أكتوبر 1792. وقد أعاد حق الانتخاب للذكور البالغين كلهم وأضاف حق كل مواطن في مورد رزق، والتعليم والمقاومة، وقصر حقوق الملكية بحيث لا تتعارض مع المصلحة العامة، وأعلن حرية العبادة واعترف بكرم ولطف بوجود الله (سبحانه) a Supreme being كموجود أسمى وأعلن الأخلاق كأمرٍ لازم للمجتمع، وقد أطلق كارليل Carlyle الذي لم يكن يستطيع أن يهضم (يستسيغ) الديمقراطية هذا بأنه " أكثر الدساتير- التي حبرت على الورق - ديمقراطية وقبله المؤتمر الوطني (في 4 يونيو سنة 1793) وأقره ربع الناخبين 1،801،918 واعترض عليه 11،610. وظل دستور 1793 على الورق فقط لأنه في 10 يوليو جدد المؤتمر الوطني للجنة الأمن العام Committee of Public Safety صلاحياتها كسلطة حاكمة فوق الدستور حتى يعود السلام.

ص: 142

‌3 - مصرع مارا:

في 13 يوليو 1793 م

EXIT MARAT

ولجأ ثلاثة من الجيرونديين هم بتيو Petion وباربارو Barbaroux وبوزو Buzot- إلى كان Caen حيث وجدوا الحماية، وكانت هي الحصن الشمالي "للفدراليين Federalist " الذين يعارضون هيمنة أهل باريس على الحكومة الوطنية. وراحوا يلقون الخطب ليشجبوا السانس كولوت (ذوي السراويل الطوال) والمتحدثين باسمهم خاصة مارا Marat ونظموا مظاهرات عسكرية للاعتراض ونظموا جيشا للتقدم صوب العاصمة.

وكانت شارلوت كورداي Charlotte Corday من بين أكثر المستمعين إليهم حماسة وتعاطفا، وهي تنحدر من سلالة المسرحي بيير كورنيل Pierre Corneille سليلة أسرة مؤيدة للنظام الملكي بشدة، وكانت أسرتها قد أصابها الفقر فتعلمت شارلوت في دير للراهبات وخدمت مدة عامين كراهبة وأتاحت لها الظروف قراءة بلوتارخ Plutarch وروسو بل وحتى فولتير، وقد تركت إيمانها (تشككت في المسيحية) وفتنت بأبطال روما القديمة. وقد صدمت عندما سمعت بقتل الملك الفرنسي (لويس السادس عشر) وكانت ممتعضة بسبب ما أثاره مارا من سخط على الجيرونديين. وفي 20 يونيو سنة 1793 زارت باربارو وكان وقتها في السادسة والعشرين وكان وسيما جدا حتى أن مدام رولان شبهته بأنطونيوس محبوب الإمبراطور هادريان

وكانت شارلوت تقترب من الخامسة والعشرين، وكان عقلها مشغولا بأمور أخرى بالإضافة إلى الحب، وكل ما طلبته هو خطاب تعريف لنائب في المؤتمر الوطني ليرتب لها لقاء مع المؤتمر، فكتب لها باربارو خطاب تقديم إلى لوز دوبرى Lauze Duperret، وفي 9 يوليو استقلت مركبة عمومية إلى باريس فوصلتها في 11 يوليو واشترت سكين مطبخ يبلغ طول نصلها ست بوصات، ودبرت أن تدخل قاعة اجتماع المؤتمر الوطني وتقتل مارا على مقعده لكنها علمت أن مارا مريض ومقيم في منزله، فحصلت على عنوانه وذهبت إليه لكن لم يسمح لها بالدخول إذ قيل لها "السيد في الحمام" فعادت إلى محل إقامتها.

لقد كان الحمام الآن هو "المكتب الأثير" لدى مارا، فقد تفاقم مرضه الذي يظهر أنه كان نوعا من الدرن "الاسكروفولا Scrofula" وكان يجد

ص: 143

راحة من آلامه بالجلوس مغمورا في الماء الدافئ حتى وسطه، وكانوا يضيفون له في هذا الماء المواد المعدنية والأدوية، وكان يضع قطعة قماش للتجفيف (منديلاً) فوق كتفيه، ويلف حول رأسه منديلا كبيرا مبللاً بالخل، وكان يحتفظ بالأوراق والقلم والمحبرة فوق متسع على حافة الحوض، وكان يكتب يوما بعد يوم المادة المطلوبة لصحيفته على هذه الحافة وهو في هذا الحوض. وكانت أخته ألبرتين Albertine تتولى العناية به، ومنذ سنة 1790 أصبح موضع رعاية من خادمته سيمون إيفارد Simonne Evrard التي تزوجها زواجا غير موثق كنسيا (لم يعقد أمام الإكليروس) وإنما:"أمام الله Supreme being أو الموجود الاسمي، .... في معبد الطبيعة الواسع".

وأرسلت شارلوت Charlotte من مقر إقامتها طلباً لمقابلته: "لقد قدمت من كان Caen، إن حبك لأمتك يجب أن يجعلك متنبها للمؤامرات التي تحاك هناك. إنني في انتظار إجابتك". ولم تطق شارلوت صبرا حتى تتلقى الإجابة، ففي مساء 13 يوليو طرقت باب داره مرة أخرى، فلم يسمح لها بالدخول ولكن مارا سمع صوتها فطلب السماح لها بالدخول واستقبلها بترحيب وأمر لها بمقعد فجلست فقربت مقعدها منه، فسألها:"ماذا يجرى في كان Caen؟ "(أو هكذا روت شارلوت فيما بعد هذا الحوار الغريب) فأجابت: "ثمانية عشر نائبا من المجلس الوطني يحكمون هناك بالتآمر مع مسئولي المحافظة" فسألها: "ما أسماؤهم"، "فذكرتها له، فكتبها،، وأصدر حكمه التالي: ستجز المقصلة رقابهم" وعندئذ سحبت شارلوت سكينها وطعنته في صدره بكل قوتها حتى أن نصل السكين اخترق الأورطي aorta وتفجر الدم أثر الطعنة، فصرخ مناديا سيمون:" أسرعي إلى .. أسرعي إلى يا صديقتي العزيزة" فأقبلت سيمون فمات بين ذراعيها، واندفعت شارلوت خارجة من الحجرة فاعترضها رجل وكف مقاومتها مستخدما كرسيا، وتم استدعاء البوليس فقبض عليها، فقالت:"لقد أديت واجبي فلندعهم - أي رجال الشرطة - يؤدون واجبهم".

ولا بد أن مارا كان يتمتع ببعض الصفات الطيبة فقد اجتمعت على حبه امرأتان تنافستا في ذلك ونذرت أخته نفسها فيما تبقى من عمرها لتوقير ذكراه.

ص: 144

وكان مارا في وقت من الأوقات طبيبا ناجحا، ولم يترك عند مماته شيئا سوى بعض المخطوطات العلمية وخمسة وعشرين سو Sous وكان مارا متعصبا لكنه أخلص للجماهير الذين نسيتهم الطبيعة والتاريخ، واحتفظ نادي الكوردليير (نسبة إلى مقرهم في دير فرانسيسكاني) بقلبه كأثر مقدس (ذي طابع ديني كرفات القديسين)، وأقبل الآلاف لإلقاء نظرة عليه "بتوقير صامت وقد كتموا أنفاسهم" وفي 16 يوليو تبع جثمانه أعضاء المجلس الوطني المتبقون كلهم وخلق كثير من رجال ونساء أتوا من الأحياء (الأقسام) الثورية، إلى مثواه في بساتين الكوردليير (نسبة إلى دير فرانسيسكاني جعلوه مقراً لهم) ونصب تمثاله الذي نحته دافيد في قاعة المؤتمر الوطني وفي 21 سبتمبر سنة 1794 نقل رفاته إلى البانثيون Pantheon (مدفن العظماء).

وكانت محاكمة شارلوت قصيرة فقد اعترفت بفعلتها لكنها لم تعترف بأنها مذنبة، فقد قالت إنها لم تفعل سوى الانتقام لضحايا مذبحة سبتمبر، وقالت لقد قتلت:"رجلا لأنقذ مائة ألف رجل" وكتبت في خطاب إلى باربارو بصراحة قائلة: "إن الغاية تبرر الوسيلة" وبعد ساعات قليلة من اعترافها تم إعدامها في ميدان الثورة، وواجهت بزهو لعنات الجماهير التي حضرت تنفيذ الحكم فيها ورفضت عرض أحد القسس تلقينها العبارات التي يقولها الكاثوليكي عند الموت ورفضت قيامه بطقوس دينية قبل إعدامها.

لقد ماتت شارلوت قبل أن تتحقق من أن فعلتها (قتل مارا) فيها هلاك الجيرونديين الذين كانت تظن أنها تخدمهم بفعلتها هذه. وقال فيرنيو للجيرونديين مسامحاً إياها ومدركاً لأبعاد فعلتها:

"لقد قتلتنا، لكنها علمتنا كيف نموت".

‌4 - اللجنة الكبرى:

عام 1793 م

THE "GREAT COMMITTEE"

احتفظ المؤتمر الوطني لنفسه بحق المراجعة الشهرية لعضوية لجنة الأمن العام، وفي 10 يوليو كانت سياسة السلام التي تبنتها اللجنة وكذلك سياستها الخارجية والداخلية قد فشلت، فأزاح المؤتمر دانتون، وفي 25 يوليو انتخبه المؤتمر رئيساً له لدورة عادية لمدة

ص: 145

أسبوعين (وربما كان هذا كي يظهر المؤتمر استمرار تقديره له)، وماتت زوجة دانتون في فبراير وتركت له طفلين، وفي 17 يونيو تزوج من فتاة في السادسة عشرة، وفي 10 يوليو استقر في بيته كزوج مرة أخرى.

وفي 27 يوليو تم تعيين روبيسبير في لجنة الأمن العام ولم يهتم دانتون به وقال: "هذا الرجل ليس لديه من الدهاء ما يكفي لسلق بيضة" ومع هذا ففي أول أغسطس حث المؤتمر الوطني على تخويل لجنة الأمن العام صلاحيات وسلطات كاملة. وربما اعتذاراً منه عن هذه المشورة، ذكر لديمولان Desmoulins وهما يراقبان غروب الشمس على نهر السين، وكانت أشعة الشمس الغاربة قد جعلت مياهه حمراء قانية:"إن النهر يجرى دما". وفي سبتمبر اقترح المؤتمر الوطني عليه العودة إلى لجنة الأمن العام لكنه رفض وغادر باريس في 12 أكتوبر مرهقا مريضا ونشد الراحة في البيت الذي كان قد اشتراه في موطنه الأصلي أرسي - سير أوب Arcis-Sur-Aube في وادي ميرن Marne، وعندما عاد إلى باريس في 21 نوفمبر كان السين يجرى دما بالفعل.

وخلال الصيف أخذت "اللجنة الكبرى" كما أصبحت تسمى شكلها التاريخي. إنها الآن تتكون من اثنى عشر رجلاً كلهم من الطبقة الوسطى وكلهم نالوا قسطا طيبا من التعليم، وكلهم ذوو دخول جيدة وكلهم يعرفون الفلاسفة وروسو، لقد كان ثمانية منهم محامين واثنان مهندسين، ولم يكن منهم من اشتغل بيديه سوى كولوت دربوا Collot d'Herbois إن دكتاتورية البرولتياريا إذن ليست على الإطلاق برولتيارية، ولنراجع السجلات:

1 -

برتران بارير Bertrand Barere، في الثامنة والثلاثين، أوكل إليه بالإضافة إلى واجباته المختلفة مهمة الحضور أمام المؤتمر الوطني والدفاع عن القرارات التي تصل إليها اللجنة (لجنة الأمن العام) والعمل على صدور مراسيم بشأنها. كان ودودا مقنعا، فقد كان يصوغ الإحصاءات شعرا ويزف أحكام الموت ببلاغة ولم يكن له أعداء كثيرون على قيد الحياة وكان يتلون بلون السياسة القائمة وعاش حتى سن السادسة والثمانين، وهي فترة طويلة

ص: 146

ليتعلم منها أن الحكومات تموت وكذلك الأفكار.

2 -

جان - نيكولاس - بيلو - فارين Jean -Nicolas Billaud Varenne، في السابعة والثلاثين قدم البراهين على أن الكنسية الكاثوليكية هي أخطر أعداء الثورة على الإطلاق ولا بد من تدميرها. وقد احتفظ بصلاته مع أحياء باريس والكومون في تناغم تام، واتبع سياسات تتسم بالعناد والإلحاح مما جعل رفاقه في اللجنة (لجنة الأمن العام) يخافونه، وحمل مسئولية مراسلة المحافظات ورأس الجهاز الإداري الجديد، وكان في وقت من الأوقات "أقوى أعضاء اللجنة".

3 -

لازار كارنو Lazare Carnot، في الأربعين من عمره كان معروفا كعالم رياضيات ومهندس عسكري، أخذ على عاتقه الجيوش الفرنسية ورسم خرائط المعارك، وعلم الجنرالات ودربهم وكسب احتراما عاما لمقدرته واستقامته وهو الوحيد من بين أعضاء هذه اللجنة الذي لا يزال اسمه يحظى بالتكريم والتشريف في فرنسا كلها حتى اليوم.

4 -

جان - مارى كولو دربوا Jean- Marie Collot d'Herbois، في الثالثة والأربعين، كان ممثلاً سابقا، وقد عانى من موقف الثورة التي كانت تعتبر المهن المسرحية لا تعطيه الأهلية الشرعية للترقي في مدارجها. ولم ينس أبدا أن البورجوازيين كانوا يغلقون أبوابهم في وجهه وأن الكنيسة قد أصدرت قرار الحرمان ضده بسبب مهنته، وكان أقسى أعضاء اللجنة الاثني عشر في التعامل مع أرستقراطية التجار aristocracy of merchants واقترح ذات مرة - كإجراء اقتصادي - نسف سجون باريس - المزدحمة بالمشكوك فيهم والمحتكرين والمتربحين - بالألغام (بمن فيها).

5 -

جورج كوتو George Couthon، في الثامنة والثلاثين، أقعده الالتهاب السحائي فكان لا بد من حمله على مقعد أينما ذهب، وكان قد أفرط في الممارسات الجنسية في شبابه فأدى هذا إلى إصابته بالعلل لكن زوجته كانت تحبه، وكان طيب القلب حديدي الإرادة عرف عنه إدارته الإنسانية للمحافظات المحورية في أثناء عهد الإرهاب.

6 -

مارى - جان هيرول دى سيشل Jean Hérault de Séchelles، في الرابعة والثلاثين وكان يبدو في غير موضعه ودرجته بين هؤلاء الاثني عشر (لجنة الاثني عشر أي لجنة

ص: 147

الأمن العام التي نحن بصددها الآن) فقد كان أحد نبلاء الأرواب (نبيل بحكم المنصب الذي شغله) ومحامياً ثرياً، كان مرموقا لأناقته وسلوكه المهذب وعقله ذي النزعة الفولتيرية (كان متأثرا بفكر فولتير). وعندما شعر بالمد الثوري يزداد انضم مع الذين هاجموا الباستيل وكتب معظم دستور سنة 1793 وعمل منفذاً لسياسات اللجنة في الألزاس Alsace فنفذها بصرامة، وعاش حياة مريحة مع خليلة نبيلة حتى قصت المقصلة رقبته في 5 أبريل سنة 1794.

7 -

روبرت لند Robert Lindet، في السابعة والأربعين تولى أمر إنتاج الطعام وتوزيعه في ظل سياسة التوجيه الاقتصادي المتزايدة، وحاز إعجابا لجهوده في إطعام الجيوش الفرنسية وتقديم الكساء لها.

8 -

كلود - أنطوان برييز - دوفيرنوا Claude Antoine Prieur - Duvernois، كان يسمى بريير ساحل الذهب the Cote d'Or، عمره ثلاثون سنة بذل جهودا مميزة - مثل روبرت لند - في تزويد الجيوش بالأغذية وغيرها من المواد اللازمة.

9 -

بيير - لويس Pierre - Louis المعروف ببيير المارن The Marne (الكلمة في المعاجم الفرنسية العربية تعني المَرِن أو السجيل أي خليط من جملة مواد)، كان في السابعة والعشرين من عمره، بذل كل جهده في محاولة كسب الكاثوليك والملكيين في محافظة بريتاني Brittany إلى جانب الثورة.

10 -

أندريه جانبون سان أندريه Andre-Jeanbon Saint-Andre. في الرابعة والأربعين. من ذرية بروتستانتية ولكنه تلقى تعليما يسوعيا (جزويتيا). أصبح قائدا (قبطانا) لسفينة تجارية ثم كاهنا بروتستانتيا وتولى مسئولية الأسطول الفرنسي في بريست Brest وخاض به معركة مع الأسطول البريطاني.

11 -

لويس - أنطوان سان - جوست - Louis - Antoine Saint - Just، في السادسة والعشرين. وكان أكثر أعضاء اللجنة الإثنى عشر شبابا وغرابة، فهو الابن الإرهابي لعصر الإرهاب، إذ كان شديد الإيمان بالثورة إيمانا ثوريا انفعاليا غلابا لا يقهر. ربته في بيكاردي Picardy أم مطلقة فكان مدللا مطلقاً العنان لرغباته فرفض أي حكم أو ضوابط وهرب إلى

ص: 148

باريس وأخذ معه فضة أمه وأنفقها على العاهرات وقبض عليه وأودع السجن ودرس القانون وكتب قصيدة جنسية من عشرين قسما (مكونة من عشرين مقطوعة) وكان مولعاً باغتصاب النساء خاصة الراهبات منهن، وكان يمجد اللهو واللذة باعتبارهما حقا مقدسا. وقد وجد في الثورة، في البداية تبريرا شرعيا ظاهرا لمذهبه في المتعة واللذة لكن مثلها العليا وغاياتها جعلته يسمو بفرديته ليتمسك بالفضائل الرومانية بطريقة جعلته على استعداد للتضحية بكل شيء لجعل هذه المثل العليا على أرض الواقع.

لقد تحول من الإبيقورية epicurean (مذهب اللذة) إلى الرواقية stoic (مذهب مجاراة الضرورة) لكنه ظل رومانسيا حتى النهاية. لقد كتب: "عندما يأتي اليوم الذي لا أستطيع فيه أن أهدي الشعب الفرنسي إلى طرق مناسبة وقوية وعقلية لا تنثني أمام الطغيان والظلم .. ساعة تبين عجزي عن هذا سأطعن نفسي" وفي "المؤسسات الجمهورية Republican Institutions"(1791) قدم البراهين على أن تركز الثروة إنما هو سخرية من مَبْدَئي المساواة والحرية من الناحية السياسية والقانونية، فلا بد من تحديد الثروات وتوزيعها، ولا بد أن تقوم الحكومة على ملاك فلاحين وحرفيين مستقلين، ولا بد أن تمول الحكومة التعليم للجميع وتقدم إعانات للفقراء. ولا بد أن تكون القوانين قليلة ومختصرة ومفهومة "فالقوانين الطويلة مثل كوارث ومصائب عامة"، ولا بد أن تتولى الدولة تربية الأطفال كلهم بعد سن الخامسة ببساطة إسبرطية (لتعليمهم البساطة والجلد) ولتطعمهم الخضراوات ولتدربهم على القتال. والديمقراطية أمر طيب لكن الدكتاتورية أمر لازم وقت الحرب. وعندما تم انتخابه للجنة الأمن العام في 10 مايو سنة 1793 نذر نفسه للعمل الجاد المضني ورد على الشائعات التي ترددت باتخاذه عشيقة مع الزعم "بأنه مشغول جداً ولا وقت لديه لمثل هذه الرفاهية".

وأصبح الشاب العنيد سريع الهياج متجهما صارما منضبطا ومنظما قديرا وجنرالا لا يهاب ومحققا للنصر. وعندما عاد منتصرا إلى باريس تم اختياره رئيساً للمؤتمر الوطني (19 فبراير 1794) ومع أنه كان فخورا معتزا بنفسه واثقا بها متسيداً على الآخرين إلا أنه قبل بتواضع قيادة روبيسبير ودافع عنه في هزيمته وصحبه إلى الموت وهو - أي سان جوست - في سن السادسة والعشرين وأحد عشر شهرا.

ص: 149

12 -

روبيسبير لم يحل محل دانتون تماما كعقل حاكم مدبر وكشخص فارض إرادته على لجنة الأمن العام - الإثنا عشر (The Twelve) فقد كان كل من كارنو وبيلو وكولو لديهم من الصرامة والشدة مما يعسر معه حكمهم، فلم يصبح روبيسبير أبدا دكتاتوراً. لقد كان يعمل من خلال دراسة متأنية صبورة وإستراتيجية مراوغة لا من خلال أوامر مباشرة (زعامة واضحة) وحافظ على شعبيته بين أفراد الطبقة الثالثة (السانس كولوت) فقد عاش عيشة بسيطة وراح يمدح الجماهير ويمجدها ويدافع عن مصالحها،

وفي 4 أبريل 1793 قدم للمؤتمر الوطني "الإعلان المقترح لحقوق الإنسان والمواطن":

"المجتمع ملزم بتقديم ما يقيم أود كل فرد فيه، سواء بإتاحة فرص العمل لهم أم بضمان وسائل العيش لغير القادرين على العمل .... فمن كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له

إنه لدين على القادرين أن يساعدوا من تنقصهم الضروريات. إن التخلص النهائي من الاستبداد يكون بمقاومة الظلم الذي يلبس لبوساً قانونيا (يأخذ شكلاً شرعيا)

والهيئات والمؤسسات التي لا تؤمن بأن الناس كلهم صالحون طيبون وأن الحكام والقضاة مرتشون فاسدون، هي هيئات أو مؤسسات كلها باطلة

فالناس في كل البلاد سواسية (إخوة) ".

بالتأكيد لم يكن أعضاء لجنة الأمن العام الاثنا عشر كلهم مجرد قتلة أوغاد كما توحي بذلك النظرة السطحية. حقيقة أنهم اتبعوا باستعداد تام تراث الإرهاب وحذوا حذو ذلك التراث الذي كان قد وصل إليهم من الحروب الدينية ومذبحة 1572 فترة القديس بارثولوميو Bartholomew وكان معظمهم قد تعلم أن يعدم أعداءه من غير أن يتحرك ضميره بل وفي بعض الأحيان بلا وازع من فضيلة لكنهم كانوا يتذرعون بضرورات الحرب وأعرافها. وكانوا هم أنفسهم عرضة لهذا الحظ العاثر، فقد كان كل واحد منهم مهددا بالعزل وجز رقبته بالمقصلة، وبالفعل فقد حدث لعدد منهم هذا.

وكانوا في كل لحظة عرضه لسخط جماهير باريس أو الحرس الأهلي (الوطني) أو جنرال طموح، وكانت أي هزيمة كبرى على الحدود أو في المحافظات (الدوائر) المتمردة كفيلة بالإطاحة بهم. وفي الوقت نفسه فإنهم كانوا يعملون ليل نهار لإنجاز المهام الموكلة إليهم، فكان الواحد منهم يواظب من الثامنة صباحا حتى الظهر

ص: 150

في مكتبه أو لجنته الفرعية (المنبثقة من اللجنة الأم- لجنة الأمن العام) ومن الساعة الواحدة حتى الرابعة يحضر جلسات المؤتمر الوطني، ومن الساعة الثامنة حتى وقت متأخر يدخل في مناقشات ومشاورات حول المنضدة الخضراء في غرفة اجتماعاتهم.

وعندما تولوا أمر فرنسا كانت البلاد تمزقها الحروب الأهلية بسبب الرأسمالية الطارئة في ليون وبسبب اضطرابات الجيرونديين في الجنوب وحروب الكاثوليك والملكيين في الغرب، وكانت الجيوش الأجنبية تهددها من الشمال الشرقي والشرق والجنوب الغربي، وكانت تعاني الهزيمة برا وبحرا وكانت موانئها كلها محاصرة، وعندما سقطت هذه اللجنة العظمى (الكبرى) كانت فرنسا قد أصبحت وحدة سياسية تحت مطارق الدكتاتورية والإرهاب وظهر جيل جديد من الجنرالات الشبان مدربين قادوا المعارك أحيانا فقد أحرز كارنو Carnot وسان جوست Saint - Just انتصارات حاسمة أجبرت الأعداء على التراجع، ووقفت فرنسا وحدها ضد أوروبا كلها تقريبا وظهرت منتصرة على كل شيء لكنها لم تنتصر على نفسها.

‌5 - عهد الإرهاب:

من 17 سبتمبر 1793 إلى 28 يوليو 1794 م

THE REIGN OF TERROR

5/1 - الأرباب عِطاش. The Gods Are Athirst

كان الإرهاب هو السمة العامة المتكررة (منذ ظهور الثورة الفرنسية) وارتبط أيضا بفترة زمنية بعينها. وعهد الإرهاب يطلق اصطلاحا على الفترة الممتدة من صدور قانون المشتبه فيهم في 17 سبتمبر 1793 حتى إعدام روبيسبير في 28 يوليو 1794 لكن كان هناك قبل ذلك إرهاب سبتمبر 1792 وكان هناك ما يمكن تسميته "الإرهاب الأبيض White Terror " في مايو سنة 1795 وثمة إرهاب آخر سنجده بعد سقوط نابليون.

وكانت أسباب عهد الإرهاب الشهير (الفترة التي نتحدث عنها متمثلة في الأخطار الخارجية والفوضى الداخلية، مما أدى إلى خوف عام وشغب فظهرت الأحكام العرفية (قانون الطوارئ) فالتحالف الأوربي الأول كان قد أدى إلى إعادة الاستيلاء على مينز Mainz (23 يوليو) وغزو الألزاس، ودخول فالينسين Valenciennes على بعد مائة ميل من باريس،

ص: 151

واستولت القوات الاسبانية على بيربينان Perpignan وبايون Bayonne وكانت القوات الفرنسية في حالة فوضى وكان جنرالاتها يجهلون أوامر حكومتهم. وفي 29 أغسطس سلم الملكيون للبريطانيين الأسطول الفرنسي وكذلك سلموهم القاعدة البحرية المهمة والترسانة في طولون Toulon، وحكمت بريطانيا الأمواج (تحكمت في البحار) واستولت بلا جهد على المستعمرات الفرنسية في قارات ثلاث، وتداول الحلفاء المنتصرون في:"تقطيع أوصال فرنسا وأعادوا الحقوق الإقطاعية للمناطق التي تقدموا فيها".

وعلى الصعيد الداخلي بدت الثورة وقد انفرط عقدها فأهل فاندي Vendée كانوا يعملون بحماسة منقطعة النظير إلى جانب المناهضين للثورة، وهزم المتمردون الكاثوليك قوات الدولة في فيير Vihiers (18 يوليو) وراح الأرستقراطيون في الداخل والأرستقراطيون المهاجرون يخططون بثقة لإعادة الوضع كما كان قبل الثورة. وأيدت ليون وبورج Bourges ونيم ومرسيليا وبوردو ونانت وبريست Brest الجيرونديين الثوار (ضد الثورة)، وكانت الحرب الطبقية مُسْتَعِرة بين الأغنياء والفقراء.

وكان الاقتصاد نفسه ساحة حرب. فالنظام الذي تم وضعه لضبط الأسعار في 4 مايو و 29 سبتمبر فشل بسبب براعة الجشعين، وفقراء المدن كانوا من أنصار التطرف الشديد (الاستيلاء على أموال الآخرين) وعارضهم الفلاحون والتجار، وشيئا فشيئا رفضوا - بشكل متزايد - إنتاج البضائع التي حددت أسعارها أو توزيعها، فراح ما يرد لمخازن المدن من الأسواق أو الحقول يتضاءل شيئا فشيئا ولم يعد يكفي سوى الأقلية التي تقف صفوفاً يوميا أمام أبواب هذه المخازن. واجتاح الخوف من المجاعة باريس والمدن الفرنسية الأخرى. ففي باريس وسينلي Senlis وأمين Amiens وروان Rouen كادت الجماهير تطيح بالسلطات الحاكمة اعتراضا منها على نقص الغذاء. وفي 25 يونيو قاد جاك رو Jacques Roux جماعته من الهائجين Enrages (والترجمة الحرفية للكلمة هي الكلاب المسعورة) إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بالقبض على المستغلين كلهم - الذين ذكر جاك رو من بينهم بعض أعضاء المؤتمر الوطني - وإجبارهم على التخلي عن ثرواتهم الجديدة (التي جمعوها

ص: 152

باستغلال الموقف الاقتصادي في فرنسا).

"هذه الديمقراطية التي تدعونها ليست ديمقراطية لأنكم تسمحون بتكوين الثروات، فلم يجن سوى الأثرياء - خلال السنوات الأربع الأخيرة - ثمار الثورة. إنها الارستقراطية التجارية التي هي أكثر ظلماً لنا من النبلاء. إننا لا نرى حدا لاستغلالهم، فأسعار البضائع تزداد بشكل يثير الذعر.

لقد آن الأوان لمعركة حتى الموت بين المستغلين والعمال .... هل ممتلكات الأوغاد (السفلة) أكثر قداسة من حياة الإنسان؟ لا بد من إتاحة ضرورات الحياة وتوزيعها من قبل أجهزة إدارية تحت إشرافكم، تماما كما أن القوات المسلحة تحت إشرافكم، فلن يكون كافيا تحصيل ضريبة من الأثرياء طالما أن النظام لم يتغير، لأن الرأسماليين والتجار سيرفعون في اليوم التالي الأسعار ليستردوا المبلغ الذي دفعوه كضريبة من السانس كولوت (الشريحة الدنيا من الطبقة الثالثة)

إذا لم يتم تدمير الاحتكاريين وقوى الاستغلال فلا حل ".

وأدان جاك هيبير Jacques Hebert البورجوازيين باعتبارهم المخططين للثورة - بعبارات أقل جنوحا نحو الشيوعية - وحث العمال على الاستيلاء على السلطة من الحكومة المهملة أو المتسمة بالجبن. وفي 30 أغسطس نطق واحد من النواب بالعبارة السحرية: "فليكن الإرهاب هو نظام هذه الأيام". وفي 5 سبتمبر أتت جماهير من الأحياء تهتف: "الحرب على الطغاة وخازني البضائع (لمنعها عن الناس) والأرستقراطيين" واتجهت إلى مقر الكومون في دار البلدية، فصحب رئيس البلدية - جان جولوم بيش Jean - Guillaume Pache - ووكيل المدينة - بيير شومت Pierre Chaumette - مفوّضين عن الجماهير المتظاهرة واتجهوا جميعا إلى المؤتمر الوطني وطالبوا بجيش ثوري يطوف فرنسا ومعه مقصلة للقبض على الجيرونديين وإجبار كل فلاح لتسليم منتجاته المخزونة وإلا جرى إعدامه في المكان نفسه.

وفي هذا الجو الذي يخيم فيه شبح الغزو الأجنبي، وشبح الثورة داخل الثورة - كونت لجنة الأمن العام الجيوش الفرنسية وقادتها للنصر، وكانت هي آلة الإرهاب (جهاز الرعب) التي كوت بنارها أمة شديدة الاضطراب فوحدتها.

وفي 23 أغسطس، وبناء على خطط جسورة وضعها كارنو Carnot وبارير Barere - أمر

ص: 153

المؤتمر الوطني بتجنيد جيش شعبي بطريقة عفوية ينضم إليه الفرنسيون Levy en masse، لا نظير له في تاريخ فرنسا:

"من الآن وحتى يتم طرد أعداء الجمهورية الفرنسية من أراضيها، الفرنسيون كلهم مطلوبون بشكل دائم للخدمة في قواتها المسلحة، فالشباب سيذهبون للقتال والمتزوجون سوف يعدون السلاح وينقلون الطعام والنسوة سيعددن الخيام والملابس ويخدمن في المستشفيات، وكبار السن سينتقلون إلى أماكن التجمع لبث الشجاعة في المقاتلين ويدعون لكراهية الملوك ويحثون على وحدة الأمة".

كل غير المتزوجين من سن الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين تم تنظيمهم في كتائب ترفرف عليها أعلام كتب عليها: "الشعب الفرنسي يتصدى للطغاة".

وسرعان ما تحولت باريس إلى مؤسسة نابضة لصناعة السلاح، وامتلأت حدائق قصر التوليري ولكسمبرج Luxembourg بالمحلات التي تنتج نحو 650 بندقية في اليوم بالإضافة إلى مواد أخرى. وانتهت البطالة وصودرت الأسلحة الشخصية والمعادن والملابس الزائدة عن الحاجة، ووضعت آلاف المطاحن تحت إشراف الدولة. لقد صودرت رؤوس الأموال والعمل، واقترضت الحكومة - بالضغط من الموسرين بليون جنيه (ليفر - Livres) ، وحددت الحكومة الأسعار وحددت للمتعاقدين معها ما ينتجون. وهكذا أصبحت فرنسا بين عشية وضحاها دولة شمولية totalitarian state.

وكان لا بد من الحصول من تربة فرنسا المحاصرة من كل ناحية وفي كل ميناء - على النحاس والحديد والملح الصخري (نترات البوتاسيوم والصوديوم) والبوتاس والصودا والكبريت، وكان الاعتماد جزئيا فيما سبق على الاستيراد للحصول على بعض هذه المواد. ومن حسن الحظ أن قام الكيميائي لافوازيه (الذي سرعان ما قصت المقصلة رقبته) في سنة 1775 بتحسين نوعية البارود وزيادة إنتاجه، فكان لدى الجيوش الفرنسية بارود من نوعية أفضل مما لدى أعدائهم وتم استدعاء علماء مثل مونج Monge وبيرثولية Berthollet وفوركروي Fourcroy لتدبير إمدادات من المواد التي دعت الحاجة إليها أو اختراع بدائل لها، وكان هؤلاء العلماء هم الأعلام في مجال دراساتهم في ذلك الوقت وقد

ص: 154

أدوا خدمات جيدة لبلادهم.

وفي نهاية سبتمبر كان لدى فرنسا 500،000 مجند كانت معداتهم غير كافية، وكان تنظيمهم بائسا وكانت روحهم يعتريها التردد فلا أحد يتحمس وهو مقبل على الموت سوى القديسين. والآن ولأول مرة أصبحت الدعاية (البروباجندا propaganda) صناعة حكومية (صناعة من صناعات الدولة) تكاد تكون حكراً عليها، فدفع وزير الحرب جان - بابتست بورشوت Jean - Baptiste Bourchotte أموالاً للصحف لتقدم موضوعات عن حالة الأمة وأوصى القائمين عليها بتوزيع نسخ من هذه الصحف في معسكرات الجيش، فلم يكن هناك - إلا القليل - من يقرأها في أي مكان آخر (غير معسكرات الجيش) وذهب أعضاء من اللجنة أو ممثلون عنهم إلى جبهة القتال لإلقاء الخطب الرنانة في الجنود ولمراقبة الجنرالات.

وفي أول اشتباك مهم في المعركة الجديدة - في هوندشوت Hondschoote في 6 - 8 سبتمبر - مع قوات بريطانية ونمساوية كان ديبرل Debrel مبعوث اللجنة هو الذي حول الهزيمة إلى نصر بعد أن كان الجنرال هوشار (أوشار Houchard) قد اقترح انسحاب القوات الفرنسية. ولهذا، ولأخطاء أخرى جرى إرسال هذا المقاتل العجوز لتجز المقصلة رقبته في 14 نوفمبر سنة 1793. وسجن اثنان وعشرون جنرالا - كلهم تقريبا من بقايا النظام القديم - لأخطاء وقعوا فيها أو لعدم مبالاتهم أو لإهمالهم تعليمات اللجنة. أما الشباب الذين نشأتهم الثورة فقد تبوءوا مكانتهم - رجال مثل هوش Hoche وبيشجرو Pichegru وجوردا Jourdan ومورو Moreau الذي كان أهم من نفذ سياسة كارنو القاضية بالهجوم المتواصل، ففي واتجنز Wattignies في 16 أكتوبر عندما واجه 50،000 مجند فرنسي جديد 65،000 نمساوي حمل كارنو ذو الأربعين عاما بندقيته على كتفه وخاض هو ورجال جوردا المعركة. حقيقة إن النصر الذي حقَّقوه لم يكن حاسما لكنه رفع من معنويات جيوش الثورة ودعم من سلطة اللجنة (لجنة الأمن العام).

وفي 17 سبتمبر أقر المؤتمر الوطني المطيع (المقصود المذعن للجنة الأمن العام) قانون الاشتباه مخولاً اللجنة أو من ينوب عنها القبض على أي مهاجر عائد إلى فرنسا (المهاجرون هم الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) وأي قريب لهذا المهاجر وأي موظف عام موضع

ص: 155

شك ولا يعاد إلى وظيفته مرة أخرى، وأي شخص تبدر منه أية إشارة تفيد مقاومة الثورة أو معارضة الحق، ويحق للجنة أو من تنيبه عنها أن يقبض على أي من المذكورين آنفا دون سابق إنذار أو تحذير. لقد كان هذا (قانون الاشتباه) قانونا قاسيا فقد فرض على الجميع - باستثناء الثوريين المعروفين - أن يعيشوا في خوف دائم من القبض عليهم أو حتى من قتلهم، وكان من بين هؤلاء الذين أصابهم الرعب الكاثوليك كلهم تقريبا والبورجوازيون كلهم.

ووافق بعض المهاجرين (الذين كانوا قد تركوا فرنسا عقب أحداث الثورة) لجنة الأمن العام "الإثني عشر the Twelve" على أن استخدام الرعب والخوف من الأمور الشرعية المباحة التي يحق لنظام الحكم استخدامها في الظروف الحرجة. وفي سنة 1792 كتب الكونت مونتمورين Montmorin وزير الخارجية السابق في ظل حكم لويس السادس عشر: "أعتقد أنه من الضروري معاقبة أهل باريس بالإرهاب" وقدم الكونت فلاشلاندر Flachslander الأدلة على أن المقاومة الفرنسية للحلفاء "ستستمر حتى يتم ذبح المؤتمر الوطني" وعلق واحد من سكرتارية ملك بروسيا على موقف المهاجرين: "إن لغتهم مرعبة. فإذا كنا مستعدين للتخلية بينهم وبين مواطنيهم ليثأروا منهم، فسرعان ما ستصبح فرنسا مقبرة رهيبة لا أكثر".

لقد واجه المؤتمر الوطني خيارا بين الإرهاب والرحمة في قضية ملكة فرنسا. لقد نحى جانبا تبذيرها وإسرافها في المرحلة الأولى، وتدخلها في شئون الدولة وعدم استساغتها لجمهور باريس وكان هذا معروفاً عنها (وهي إهانة تستحق عليها الإعدام بجدارة)، فبصرف النظر عن ذلك كله فقد كان من المؤكد أنها اتصلت بالمهاجرين والحكومات الأجنبية لإيقاف الثورة وإعادة السلطات التقليدية إلى العرش الفرنسي، وكان رأيها أنها بفعلها هذا إنما هي تمارس حقا إنسانيا في الدفاع عن النفس، أما متهموها فاعتبروا أنها بفعلها هذا انتهكت القوانين التي أقرها نواب الأمة المنتخبون، وبذا فهي قد اقترفت خيانة. وكان من الواضح أنها أفشت لأعداء فرنسا بالمشاورات التي جرت في المجلس الملكي بل وأفشت لهم الخطط الحربية لجيوش فرنسا.

وقد أنجبت من لويس السادس عشر أربعة أطفال مارى تريز

وهي الآن

ص: 156

في الخامسة عشرة من عمرها، وابن مات في مرحلة الطفولة، وابن ثان مات في سنة 1789، وطفل ثالث هو لويس - تشارلز هو الآن في الثامنة من عمره واعتبر هو لويس السابع عشر، وكانت ابنة الملكة وأخت زوجها (إليزابيث) تعاوناها في العناية بالطفل الذي راحت تنظر إليه بقلق ومن ثم بيأس لتدهور صحته وحالته المعنوية، بسبب طول فترة احتجازه. وفي مارس سنة 1793 عرضت عليها خطة للهروب لكنها رفضت لأن الخطة تتطلب ترك أطفالها. وعندما علمت الحكومة بهذه الخطة التي لم تنفذ نقلت ابن الملكة ونزعته منها رغم مقاومتها وأبعدته عن أقربائه، وفي أغسطس سنة 1793 - بعد عام من السجن في سجن التمبل Temple تم نقل الملكة وابنتها وأخت زوجها إلى غرفة في مسكن البواب (الكونسيرجيري Conciergerie) ذلك القسم من قصر العدل الذين كان يشغله قبل ذلك مشرف المبنى. وهناك راحوا يعاملون هذه الأرملة Widow Capet - كما كانوا يسمونها - برقة أفضل من ذي قبل بل إنهم أرسلوا لها قسا ليرتل القداس في زنزانتها. وفي آخر هذا الشهر وافقت على محاولة أخرى لتهريبها، وفشلت المحاولة فنقلوها إلى غرفة أخرى ووضعوها تحت مراقبة وحراسة مشددتين.

وفي 2 سبتمبر اجتمعت اللجنة لتقرير مصيرها، وكان بعض الأعضاء إلى جانب الاحتفاظ بحياتها للمساومة عليها مع النمسا مقابل سلام مقبول، أما بارير Barere وسان أندرية Saint-Andre فدعوا إلى إعدامها لأن هذا وسيلة لتوحيد الموقعين على الحكم وربطهم بميثاق الدم. أما هيبير Hebert عضو الكومون، فقال للجنة "الإثني عشر":"إنني باسمكم وعدت العامة (السانس كولوت) برأس مارى أنطوانيت، وهم (العامة) غاضبون ساخطون يطالبون بها، وأنتم لا تستطيعون الاحتفاظ بمقاعدكم بل ووجودكم دون دعم منهم .. إنني سأذهب وأقطع رأسها بنفسي إذا كان علي أن انتظر كثيرا لتسلّم هذا الرأس".

وفي 12 أكتوبر جرى تحقيق مبدئي مطول مع الملكة، وفي 14 و 15 أكتوبر حوكمت أمام المحكمة الثورية، وكان المدعي العام هو فوكييه - تينفيل Fouquier-Tinville، وظلت الأسئلة توجه لها من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة، ومن الساعة الخامسة حتى الحادية

ص: 157

عشر مساء، وذلك في اليوم الأول للمحاكمة ومن الساعة التاسعة صباحا إلى الثالثة، في اليوم الثاني من المحاكمة. لقد أتهمت بتحويل ملايين الفرنكات من الخزانة الفرنسية لأخيها جوزيف الثاني إمبراطور النمسا ودعوة القوات الأجنبية لغزو فرنسا، وكان هناك افتراض - أكد إلى بعيد - أنها حاولت أن تفسد "ابنها جنسيا". وكان هذا الاتهام الأخير هو الاتهام الوحيد الذي لم يثرها فقد أجابت:"إن الطبيعة ذاتها ترفض أن ترد على مثل هذه التهمة (تعيرها اهتماما) الموجهة إلى أم، إنني أستغيث بكل الأمهات الموجودات هنا".

لقد تأثر الجمهور الحاضر بمنظر هذه المرأة التي كان جمالها وشبابها ومرحها في وقت من الأوقات حديث أوروبا، أما الآن فقد اشتعل رأسها شيبا وهي في الثامنة والثلاثين من عمرها مرتدية ملابس الحداد بعد إعدام زوجها، وراحت تناضل دفاعاً عن حياتها أمام رجال كانوا قد انتهوا - كما هو واضح - إلى قرار بتحطيم روحها وتعذيبها بإطالة فترة المحاكمة بلا رحمة لتذهب نفسها حسرات قبل تدمير جسدها. وعندما انتهت المحاكمة أصابها العمى لفرط الإرهاق وكان لا بد من مساعدتها لتتخذ طريقها إلى زنزانتها، وهناك علمت أن قرار المحلفين هو الحكم عليها بالموت.

والآن فإنها كتبت في محبسها الانفرادي خطاب وداع لمدام إليزابيث طالبة منها أن تنقل لابنها وابنتها التوجيهات التي تركها أبوهما الملك. لقد كتبت: "إن ابني يجب ألا ينسى كلمات أبيه الأخيرة والتي طالما كررتها على مسامعه وهي قوله: لا تعمل أبداً على الثأر لمقتلي".

ولم يسلم الخطاب إلى مدام إليزابيث فقد سلمه - بعد أن استولى عليه - فوكييه - تينفيل إلى روبيسبير، وتم العثور عليه ضمن أوراقه السرية بعد موته.

وفي صباح 16 أكتوبر 1793 أقبل المنفذ (الجلاد) هنرى سانسون Henry Sanson إلى زنزانتها وعقد يديها خلف ظهرها وفض شعرها الذي يغطى رقبتها وحملها في عربة مرت على طول شارع يحفه الجنود والجموع التي كانت قبل ذلك معادية لها هازئة بها إلى أن وصلت إلى ميدان الثورة. وعند الظهر عرض سانسون على الجموع رأسها العنيد.

إن المحكمة الثورية الآن قد أنست إلى عملها، راحت تصدر أحكام الموت بمعدل سبعة

ص: 158

أحكام في اليوم، لقد تم القبض على الأرستقراطيين الذين تيسر القبض عليهم وتم إعدام كثيرين منهم، وفي 24 أكتوبر أحيل الواحد والعشرون جيرونديا الذين كانوا تحت الحراسة منذ 2 يونيو، إلى المحاكمة، فلم تغن عنهم بلاغة فيرنيو وبيسو Vergniaud &Brissot شيئاً، وطعن واحد منهم نفسه بينما هو يغادر المحكمة فوضعت جثته بين المتهمين وحملت في عربة إلى سقالة المقصلة حيث هوى النصل المحايد (الذي لا يميز بين حي وميت) على رقبته (رقبة الجثة). إن الثورة - فيما قال فيرنيو Vergniaud " مثل ساتورن Saturn تفترس أبناءها".

لنضع في اعتبارنا هذا الحنق وذلك الرعب اللذين سببتهما هذه الأحداث والتي لا بد أنها قد تغلغت في أعماق مانون رولا Manon Roland التي تنتظر مصيرها في غرفة البواب (الكونسيرجيري) التي أصبحت هي المنطلق أو العتبة الأخيرة إلى المقصلة. وقد كانت تلاقي في سجنها بعض المتع والكياسة فقد كان أصدقاؤها يحضرون لها الكتب والزهور، فجمعت في زنزانتها مكتبة تدور في غالبها حول بلوتارخ وتاسيتوس Tacitus (الخطيب والمؤرخ الروماني)، ولأن موقفها كان أقوى فقد راحت تشغل نفسها بكتابة مذكراتها التي أطلقت عليها "دعوة لأجيال غير منحازة" كما لو أن الأجيال أيضا لا يمكن تقسيمها، وبينما كانت تكتب ذكريات شبابها في أيام السعادة tempi felici تعمق لديها الشعور بمرارة حاضرها. لقد كتبت في 28 أغسطس سنة 1793:

"أشعر أنني فقدت الرغبة في متابعة هذه المذكرات. فالبؤس الذي يعانيه وطني يعذبني، إن كآبة تتغلغل في روحي رغم إرادتي فتشل خيالي، فقد أصبحت فرنسا جلجوثا Golgotha واسعة (ساحة إعدام) .. لقد أصبحت ميدانا للإرهاب وأصبح أطفالها يبكون ويدمر

ص: 159

بعضهم بعضا

لا يستطيع التاريخ أن يصور هذه الأيام المرعبة، ولا الغيلان التي تملأها ومن معها (مع الغيلان) من برابرة

أكانت باريس يوما مثل روما أو بابل؟ ".

وتنبأت أن دورها سيحين حالا فقد كتبت في مذكراتها المخطوطة كلمة وداع لزوجها وعشيقها اللذين هربا من الشرك الذي أعدّ لهما:

"آه يا صديقي، ربما قادكما قدركما الملائم السمح إلى الولايات المتحدة الملاذ الوحيد للحرية .. وأنت يا زوجي وصديقي قد اعتراك الضعف فقد صرت عجوزا قبل الأوان وتملصت من القتلة بصعوبة، أيسمح لي أن أراك مرة أخرى؟

إلى متى يجب أن أبقى شاهدة على خراب بلادي وانحطاط مواطني؟ ".

ولم يطل الانتظار ففي 8 نوفمبر سنة 1793 مثلت أمام المحكمة الثورية ووجهت إليها تهمة الاشتراك مع رولان في إساءة استخدام الميزانية العامة وإرسالها خطابات من زنزانتها لتشجيع باربارو Barbaroux وبوزو Buzot اللذين كانا في ذلك الوقت يثيران التمرد على سيطرة اليعاقبة على المؤتمر الوطني، وعندما تحدثت مدافعة عن نفسها اتهمها الحضور (المشاهدون) الذين تم اختيارهم بعناية بأنها خائنة. وصدر الحكم بأنها مذنبة وتم إعدامها بالمقصلة في اليوم نفسه في ميدان الثورة. وثمة رواية غير مؤكده تفيد أنها نظرت إلى تمثال الحرية الذي أقامه ديفيد في الميدان المهيب، وصاحت:" آه أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك! ".

وتبعها إلى المقصلة موكب من الثوريين، ففي 10 نوفمبر أتى دور باييه Bailly رئيس البلدية والفلكي الذي كان قد قدم شارة الثورة الحمراء للملك وكان قد أمر الحرس الوطني بإطلاق النار على مقدمي الالتماسات في غير الوقت المحدد في معسكر دي مارس. وفي 12 نوفمبر هوت المقصلة على فيليب مساواه Philippe Egalite، ولم يفهم لم رغب الجبليون (اليسار) في إرسال مثل هذا الحليف المخلص إلى المقصلة! إن السبب هو أن الدماء الملكية تجرى في عروقه وأنه كان يتلهف للوصول للعرش. من الذي يستطيع أن يقول إن هذه الرغبة الملحة يمكن أن تعتريه مرة أخرى؟، وفي 29

ص: 160

نوفمبر أتى دور أنطوان بارنيف Antoine Barnave الذي سبق له أن حاول حماية الملكة ثم أتى دور الجنرالات كوستين Custine وهوشار أو شار Houchard وبيرو Biron

الخ.

وبعد أن شكر رولان Roland أصدقاءه الذين خاطروا بحياتهم لحمايته تابع مسيرته وحيدا، وفي 16 نوفمبر جلس إزاء شجرة وكتب كلمة وداع:"ليس الخوف هو الذي دفعني للتراجع وإنما هي السخط والنقمة، فعندما علمت بقتل زوجتي لم أعد أرغب في البقاء أكثر من ذلك على أرض لوثتها الجرائم". ثم طعن نفسه بسيفه، أما كوندورسيه Condorcet فبعد أن كتب أنشودة الشكر أو التسبيح (دعاء ديني) ليواصل طريقه تناول السم (28 مارس سنة 1794) أما باربارو Barbaroux فأطلق النار على نفسه فلم يفلح في قتل نفسه فقامت المقصلة بما عجز عنه في 15 يونيو. أما بتيو Pétion وبوزو Buzot فقد جد ممثلو الحكومة في إثرهما، فانتحرا في حقل بالقرب من بوردو Bordeaux، وتم العثور على جثتيهما في 18 يونيو، وقد نهشتهما الذئاب فلم يبق من كل جثة إلا نصفها.

5/ 2 - الإرهاب في الدوائر (المحافظات)

كان هناك جيرونديون Girondins آخرون لا يزال كل واحد منهم يحمل رأسه، وحققوا في بعض المدن مثل بوردو Bordeaux وليون Lyons مكانة عالية وأصبح لهم اليد الطولي، فشعر اليعاقبة Jacobin بضرورة استئصالهم لتكون فرنسا موحده ويعقوبية وهذا يتطلب مد حركتهم إلى الدوائر (المحافظات) المكتفية ذاتيا. ولهذا الغرض وأغراض أخرى، أرسلت لجنة ا لأمن العام ممثلين مبعوثين عنها وتكاد تكون قد خولتهم بكل الصلاحيات والسلطات المطلقة المخولة إليها في كل المناطق المحددة لهم، فلهم الحق في عزل المسئولين المنتخبين وتعيين آخرين محلهم، والقبض على المشتبه فيهم، وإعداد الرجال للالتحاق بالجيش وفرض الضرائب وضبط الأسعار وتحديد مبلغ القروض المطلوبة ومصادرة المؤن والملابس وغيرهما من المواد وتشكيل لجان محلية للأمن العام أو إقرارها لتكون كوكيل للجنة الكبرى (لجنة الأمن العام المركزية في باريس) وحقق ممثلو اللجنة هؤلاء معجزة التنظيم الثوري والعسكري، في وسط شبه معاد أو لا مبال. لقد قمع هؤلاء الممثلون المعارضة بلا رحمة بل بإفراط في الحماس في

ص: 161

بعض الأحيان.

وكان أكثر هؤلاء الممثلين نجاحا هو سان جوست Saint - Just، ففي 17 أكتوبر سنة 1793 تم إرساله مع جوزيف ليباس Joseph Lebas (الذي ترك له القيادة عن رضى) لإنقاذ الألزاس Alsace من الغزو النمساوي الذي اجتاح بسرعة منطقة ذات طبيعة ألمانية إذا تسود فيها اللغة الألمانية والآداب الألمانية ونمط الحياة الألماني، وأجبر الجيش الفرنسي المعروف بجيش الراين على التراجع إلى ستراسبورج وسادت فيه روح الهزيمة والتمرد.

وعلم سان - جوست Saint - Just أن القوات الفرنسية كانت تعامل معاملة سيئة متسمة بروح الاستبداد وأن قيادتها كانت سيئة وربما ضللها ضباط غير متحمسين للثورة بما فيه الكفاية، فأمر بإعدام سبعة من هؤلاء الضباط أمام القوات العسكرية المتجمعة، واستمع إلى المظالم باهتمام وأزال أسبابها بحسم مميز، وصادر من الطبقات الموسرة كل ما هو فائض عن حاجتها من الأحذية والسترات والمعاطف والقبعات ومن 193 ثري من أثرياء المدينة جبي تسعة ملايين جنيه Livres وطرد من الخدمة الموظفين غير الأكفاء أو اللامبالين، وأمر بإطلاق النار على المستغلين الذين ثبت استغلالهم. وعندما التقى الجيش الفرنسي بالنمساويين مرة أخرى تم طرد الغزاة (النمساويين) من الألزاس Alsace الذي أعيد إلى السيطرة الفرنسية. وعاد سان - جوست إلى باريس راغبا في أداء أعمال أخرى والقيام بمهام جديدة وكاد ينسى أنه كان قد ارتبط بأخت ليباس Labas .

أما جوزيف لوبون Joseph Le bon فلم يسلك السلوك الذي يتطلبه عمله كمندوب ممثل للجنة الأمن العام، فحذره موظفوه ليحذر من:"الطبيعة البشرية الزائفة والمعرضة للخطأ"، وظن الرجل ذو العينين الزرقاوين أنه يسعدهم بتقليص عدد 150 كمبري Cambrai مرموق في غضون ستة أسابيع، و 392 في آراس Arras، وكتبت السكرتارية التابعة له تقريرا ذكرت فيه أن لوبون قتلهم بطريقة محمومة وعندما وصل إلى منزله راح يقلد تقلصات الوجه التي كانت تبدر من الموتى ليسلي زوجته. وسرعان ما قصت المقصلة رقبته بعد ذلك بقليل في سنة 1795.

وفي يوليو سنة 1793 انتدب جان - بابتست كارييه Jean-Baptiste Carrier لقمع

ص: 162

التمرد الكاثوليكي في الفندي the Vendée وليؤمن نانت حتى لا يحدث فيها مزيد من التمرد وشرح له عضو اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام) هيرول دى سيشل Hérault de Séchelles مهمته قائلا: "يمكننا أن نكون إنسانيين عندما نتأكد من النصر" فكان هذا القول ملهما لهيرول. ففي لحظة حماس فرضتها ظروف فرنسا البيئية، أعلن أن فرنسا لا تستطيع أن تطعم سكانها الذين يتزايد عددهم بسرعة لذا فمن المطلوب تقليص هذه الزيادة بقطع رقاب النبلاء والقسس والتجار والحكام magistrates كلهم.

وفي نانت Nantes اعترض على المحاكمات باعتبارها من قبيل تضييع الوقت فأمر القاضي "بضرورة إعدام المشتبه فيهم كلهم في ظرف ساعتين وإلا أمرت بإطلاق الرصاص عليك وعلى زملائك". ولأن السجون في نانت Nantes كانت في غالبها مزدحمة إلى حد الاختناق بالمقبوض عليهم والمدانين وكان هناك نقص في الطعام فقد أمر مساعديه بملء البوارج (السفن الكبيرة) والطوافات (نوع من السفن) وغيرها من السفن بخمسمائة رجل وامرأة وطفل - معطيا الأولوية للقسس - وإغراقهم في نهر اللوار Loire.

وبهذه الوسيلة وغيرها قرر مصير أربعة آلاف من غير المرغوب فيهم في غضون أربعة أشهر. وأقنع نفسه بأن هذا ضروري على وفق قوانين الحرب. وكان الفينديين (أهل الفيندى) the vendéans في حالة تمرد مصممين على معاداة الثورة حتى الموت، فقال:"سنجعل من فرنسا مقبرة إذا لم نستمر في طريقنا" وكان على اللجنة الكبرى (لجنة الأمن العام في باريس) أن تكبح جماحه فهددته بالقبض عليه لكنه لم يخف وقال: "على أية حال فإننا جميعا ستذبحنا المقصلة واحدا إثر الآخر".

وفي نوفمبر سنة 1794 قدم للمحكمة الثورية، وفي 16 ديسمبر تحققت نبوءته فجزت المقصلة رقبته.

وصبغ ستانسلاس فريرو Stanislas Fréron (ابن عدو فولتير المفضّل) وغيره من ممثلي اللجنة نهرى الرون والفار Var بدماء غير الموالين للثورة. 120 في مرسيليا، 282 في طولون و 332 في أورنج Orange. وعلى النقيض من ذلك كان جورج كوثو

ص: 163

Georges Cothon قد تجلت صفة الرحمة في بعثته لجمع متطوعين للجيش في دائرة (محافظة) بيى - دي - دوم Puy-de-Dome . وفي كليرمونت - فران Clermont-Ferrand أعاد تنظيم الصناعات من خلال التركيز على إنتاج المواد للأفواج الجديدة. وعندما رأى المواطنون أنه يمارس سلطاته بعدل وإنسانية أحبوه حتى أنهم راحوا - بالتناوب - يحملونه وهو فوق كرسيه. وفي أثناء بعثته لم يعدم أحد على وفق "العدالة الثورية".

أما جوزيف فوشي Joseph Fouche الذي كان في وقت من الاوقات أستاذا للغة اللاتينية والفيزياء، فهو يبلغ الآن الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يكن حتى الآن:"أمهر الرجال الذين قابلتهم أبداً" على حد تعبير بلزاك Balzac . لقد بدا كرجل خلق للتآمر والخداع: "هزيل بارز العظام مذموم الشفتين حاد العينين، مدبب الأنف كتوم صامت رزين صارم". وكان عليه أن ينافس تاليران Talleyrand في سرعة التحول والمراوغة من أجل البقاء. ومن خلال الملاحظات الظاهرية، فهو رب أسرة ملتزم معتدل في عاداته ومسلكه كما كان في الوقت نفسه جسورا في أفكاره.

وفي سنة 1792 تم انتخابه للمؤتمر الوطني عن نانت Nantes . وفي البداية جلس مع الجيرونديين وصوت معهم، ثم انتقل إلى الجبليين (اليساريين) بعد أن تنبأ في نفسه بسقوط الجيرونديين وسيادة باريس وأصدر نشرة يدعو فيها الثورة للانتقال من مرحلة البورجوازية إلى المرحلة البروليتارية. ولتطوير الحرب والسير بها قدما قدم البراهين على ضرورة أن تقوم الحكومة "بالاستيلاء على كل شيء يزيد عن حاجة المواطنين، لأن ما هو زائد عن الضرورة (الفَضْل) إن هو إلا انتهاك واضح غير مسوغ لحقوق الشعب" فلا بد من مصادرة كل الذهب والفضة حتى تنتهي الحرب. "إننا سنكون مزعجين قاصرين في ملء السلطة المخولة لنا. فلا وقت لأنصاف الحلول .... ساعدونا لتوجيه لكمات قوية".

وباعتباره ممثلا للجنة الأمن العام في محافظة لوار Loire الأدنى خاصة في نيفير Nevers ومولين Moulins وفوشي - فتح النار على الملكية الخاصة، فاستطاع بمصادرة الأموال والمعادن النفيسة والأسلحة والملابس والطعام أن يجهز عشرة آلاف متطوع كان قد أدرجهم في قوائم المجندين الجدد. لقد نهب الكنائس وجردها مما بها من أوعية القربان المقدس

ص: 164

المصنوعة من الذهب والفضة ومن الشمعدانات والأواني وأرسلها إلى المؤتمر الوطني ووجدت اللجنة (لجنة الأمن العام) أنه من غير المفيد معارضة حماسته واعتبرته الرجل المناسب لمساعدة كولو دربوا Collot d'Herbois في إعادة ليون Lyons إلى حظيرة العقيدة الثورية.

لقد كانت ليون تكاد تكون عاصمة الرأسمالية الفرنسية فمن بين سكانها البالغ عددهم 13،000 كان هناك ماليون ذوو صلات بأنحاء فرنسا كلها وتجار يتعاملون مع أسواق أوربا كلها وأصحاب صناعات يتحكمون في مئات المصانع، وعدد كبير من البرولتياريا، كانوا يحسدون برولتيارية باريس التي كادت تستولي على الحكم. وفي بداية سنة 1793 وتحت قيادة القس السابق (المطرود من رحمة الكنيسة) ماري جوزيف كالييه Marie - Joseph Chalier حققوا نصرا مشابها، لكن الدين أثبت أنه أقوى من الطبقة (الانتماء للدين أقوى من الانتماء للطبقة) فقد ظل نصف العمال على الأقل كاثوليكيا واعترضوا بامتعاض على سياسة اليعاقبة المناهضة للمسيحية وعندما عبأت البورجوازية قواها المختلفة ضد دكتاتورية البرولتياريا انقسم العمال وطرد تحالف رجال الأعمال والملكيين والجيرونديين الحكومة الراديكالية وتم إعدام كالييه ومائتين من أتباعه (في 6 يوليو سنة 1793) وغادر آلاف العاملين المدينة واستقروا في الضواحي والمناطق المحيطة بها وراحوا ينتظرون التحول الثوري التالي.

وأرسلت لجنة الأمن العام جيشا للإطاحة بالرأسماليين المنتصرين وأقبل كوثو Couthon مقطوع الساق من كليرمونت لقيادة هذا الجيش. وفي 9 أكتوبر شق طريقه إليها وأعاد تأسيس الحكم اليعقوبي بها. وظن كوثو أن سياسة الرحمة مطلوبة في مدينة يعتمد سكانها إلى حد كبير على التشغيل المستمر للمصانع والمحلات لكن لجنة الأمن العام في باريس كان لها رأى مخالف، فطرح الأمر في المؤتمر الوطني في 12 أكتوبر وتم إرسال توجيه إلى كوثو. توجيه صاغه روبيسبير مطالبا بالثأر لمقتل كالييه والمائتين من الراديكاليين الذين جرى قتلهم. نقرأ في جزء من هذا التوجيه:

"ستدمر مدنية ليون. لا بد من تدمير سكانها الأثرياء كلهم

وسيمحى اسم ليون من قائمة المدن الجمهورية .... وما سيبقى من منازلها سيطلق عليها اسم المدينة المحررة

ص: 165

Ville Affranchisèe، وسيقام بين أطلال ليون عمود ليذكر الأجيال القادمة بالجرائم التي ارتكبت بالعقاب الذي حاق بالملكيين ".

ولم يستسغ كوثو المهمة التي أوكلت إليه لقد أدان تدمير المباني التي تكلف بناؤها الكثير، فنقل لممارسة أنشطة أكثر ملائمة له في كليمونت فران وحل محله في ليون في 4 نوفمبر كولوا دربوا الذي سرعان ما لحق به فوشي وبدأا معا حفلاً شعائرياً دينيا هازلا في ذكرى كالييه باعتباره "ربا مخلّصا مات ليخلص الشعب" وقاد الموكب حمار ألبسوه زى الأسقف ووضعوا فوق رأس التاج الكنسي (تاج الأسقف) وربطوا في ذيله صليباً ونسخة من الكتاب المقدس، وفي ميدان عام تم تشريف "الشهيد Martyr" بمدائح لتأبينه وأعدت المشاعل من الإنجيل والكتب الدينية (كتب القداس) وخبز العشاء الرباني وتماثيل القديسين المختلفة المصنوعة من الخشب وأنشأ كولو وفوشي Fouche لجنة مؤقتة من عشرين عضوا ومحكمة من سبعة أعضاء لتحقيق الطهارة الثورية في ليون، بالتحقيق مع المشتبه فيهم وأصدرت هذه اللجنة المؤقتة إعلانا بالمبادئ التي أطلق عليها "المانيفستو الشيوعي الأول" في التاريخ الحديث.

واقترح المانيفستو manifesto (البيان) أن تعتمد الثورة على "الغالبية الفقيرة" وانتقد النبلاء والبورجوازية وخاطب المانيفستو العمال: "إنكم ظلمتم ولا بد أن تقمعوا من ظلمكم " فكل ما تنتجه أرض فرنسا ملك لفرنسا والثروات الخاصة كلها لا بد أن تكون في خدمة الجمهورية، وكخطوة أولى نحو العدالة الاجتماعية لا بد من تحصيل ضريبة مقدارها ثلاثون ألف جنيه من كل من لديه دخل يصل إلى عشرة آلاف جنيه في السنة. وتم تحصيل مزيد من المبالغ من السجناء من النبلاء والقسس وغيرهم وبمصادرة ممتلكاتهم.

ولم يستقبل أهل ليون هذا الإعلان الشيوعي استقبالا حسنا فقد كانت قلة لها وزنها منهم قد ارتفعت إلى مستوى الطبقة الوسطى. وفي 10 نوفمبر قدم طلب موقع من عشرة آلاف امرأة يطالبن فيه بالرحمة لآلاف الرجال والنساء الذين تزدحم بهم السجون، فأجاب مبعوثو لجنة الأمن العام بصرامة: "قرن في بيوتكن وانشغلن بأعمالكن المنزلية

وكفى

ص: 166

دموعاً فهذا لا يليق بكن". وفي 4 ديسمبر - ربما لجعل الأمور واضحة - أدانت المحكمة الجديدة ستين سجينا فتم إخراجهم من السجن إلى ساحة مكشوفة عبر الرون ووضعوا بين خندقين وأطلقت عليهم المترليوزات زخات الرصاص، وفي اليوم التالي، وفي البقعة نفسها تم ربط سجناء عددهم 209 معا (بحبل واحد) وتم حصدهم بالمترليوز mitraillade (المدفع) نفسه.

وفي 7 ديسمبر تم إعدام مائتين بالطريقة نفسها وبعد ذلك وجد أن الذبح بالمقصلة أكثر متعة كما أن الجثث التي امتلأ بها الخندق كانت قد بدأت تسمم هواء المدينة. وبحلول شهر مارس 1794 بلغ عدد المعدمين في ليون 1667 ثلثاهم من الطبقتين الوسطى والعليا وتم تدمير مئات البيوت الغالية تدميرا شديدا.

وفي 20 ديسمبر 1793 ظهر وفد من مواطني ليون أمام المؤتمر الوطني يطالبون بإنهاء عمليات الانتقام، لكن كولو ردهم إلى باريس ودافع عن سياسته بنجاح، وترك فوشي ليرعى أمور ليون فواصل سياسة الإرهاب. ولما علم بأن طولون قد تم الاستيلاء عليها مجددا كتب إلى كولو:"ليس أمامنا للاحتفال بالنصر سوى طريق واحد. لقد أرسلنا هذا المساء 213 متمردا تحت نار السهام النارية المشتعلة وفي 3 أبريل 1794 تم استدعاء فوشي ليقدم تقريرا عن نفسه أمام المؤتمر الوطني". لقد أفلت من العقاب لكن لم يسامح أبداً روبيسبير لاتهامه له بالبربرية. وسيأخذ منه ثأره يوما.

واعترفت لجنة الأمن العام شيئا فشيئا أن الإرهاب في المحافظات قد زاد زيادة مفرطة. وفي هذا الصدد كان روبيسبير ذا تأثير ملطف (مهدئ) فأخذ على عاتقه دعوة كارييه Carrier وفريرو Fréron وتاييه Tallien وطلب تقارير عن أعمالهم. لقد انتهى الإرهاب في المحافظات (الدوائر) في مايو سنة 1794 بينما كان يزداد في باريس. وفي ذلك الوقت أصبح روبيسبير نفسه ضحية له (27 - 28 يوليو 1794)، لقد بلغ ضحايا الإرهاب 2،700 في باريس و 18،000 في سائر أنحاء فرنسا الأخرى. وهناك من يرفع إجمالي الرقم إلى 40،000 وبلغ عدد المسجونين المشتبه فيهم حوالي 300،000. وكان الإرهاب مربحا للدولة إذا نظرنا إلى أموال وممتلكات من جرى إعدامهم والتي عادت إلى لدولة.

ص: 167

5/ 3 - الحرب ضد الدين

والآن، فقد كان هناك انقسام حاد بين أولئك الذين يعتبرون العقيدة الدينية هي سندهم النهائي في الدنيا التي - بغيره - تغدو بلا غاية ولا معنى ومأسوية، وأولئك الذين يعتبرون الدين - على وفق تفكيرهم، خرافات مكلفة ومحبوكة لسد الطريق أمام العقل والحرية، وهذا الخلاف كان حادا في الفندي Vendee وهي منطقة ساحلية بين اللوار Loire ولاروشيل La Rochelle حيث المناخ القاسي والأرض الصخرية المجدبة، وحيث الولادات والوفيات تجري بشكل روتيني مكرر، مما جعل السكان في غالبهم محصنين ضد أفكار فولتير ورياح التنوير.

حقيقة إن أهل المدن والفلاحين قبلوا الثورة لكن عندما أعلنت الجمعية التأسيسية الدستور المدني للإكليروس - مصادرة ممتلكات الكنيسة محوِّلة القسس كلهم إلى موظفين في الدولة - أيد الفلاحون قسسهم في رفضهم الموافقة على هذا الدستور، فتحولت دعوة شبابهم للتطوع في الجيش أو التجنيد الإلزامي فيه، إلى دعوة لإشعال النار في الثورة. فلم يقدم أولادهم حياتهم لحماية حكومة كافرة؟، فالأولى هو أن يدافعوا عن قسسهم ومذابح كنائسهم ومعبودات أسرهم.

وعلى هذا ففي 4 مارس 1793 انفجر التمرد في الفندي وبعد ذلك بتسعة أيام انتشرت في الإقليم، وبحلول أول مايو أصبح هناك 30،000 متمرد مسلح، وشارك عدد من الموالين للملكية الزعماء القرويين في تنظيم هؤلاء المتطوعين في كتائب منظمة، وقبل أن يتحقق المؤتمر الوطني من قوتهم كانوا قد استولوا على توار Thouars وفونتني Fontenay وسومور Saumur وأنجر Angers وفي أغسطس أرسلت لجنة الأمن العام إلى الفندي جيشا بقيادة الجنرال كليبر (كليبه) مزودا بتعليمات بتدمير قوات الفلاحين وتدمير المناطق التي تؤيدهم كلها. وهزم كليبر Kleber جيش الكاثوليك في شولت Cholet في 17 أكتوبر ولاحقه حتى سافيني Savenay في 23 ديسمبر، وجرى تعيين مندوبين عسكريين من لجنة الأمن العام في أنجر Angers ونانت ورين Rennes وتور Tours وزودتهم بأوامر بإعدام أي واحد من أهل فندي يحمل السلاح. وفي غضون عشرين يوما تم إعدام 463 في أنجر

ص: 168

أو بالقرب منها. وقبل إخضاع الفنديين على يد المارشال هوش Hoche (في يوليو 1796) كان نصف مليون شخص قد فقدوا حياتهم في هذه الحرب الدينية الجديدة.

وفي باريس كان عدد كبير من السكان غير مبالين بأمر الدين ولهذا سهل الاتفاق بين الجبليين اليسار والجيرونديين، فقد تعاونا معا في تقليص قوة الإكليروس وعملا معا على إنشاء تقويم وثني Pagan Calendar، وشجعت الثورة زواج القسس بل وصدر مرسوم بإبعاد (نفي) كل أسقف امتنع عن الزواج. وفي حماية الثورة تم تزويج ألفي قس وخمسمائة راهبة. وكان ممثلو لجنة الأمن العام يعمدون إلى بعض الإجراءات المناهضة للمسيحية في عملهم، وقد أمر أحدهم بسجن قس وألا يفرج عنه حتى يتزوج.

وفي نيفر Nevers أصدر فوشي أحكاما صارمة فيما يتعلق بالقسس: لا بد أن يتزوجوا، ولا بد أن يعيشوا ببساطة حياة غير مترفة. لتكن حياتهم كحياة الرسل (Apostles) ولا بد أن يمتنعوا عن ارتداء ثياب الكهنوت وأن يمتنعوا عن ممارسة الطقوس الدينية خارج الكنائس، وتم إبطال الطقوس الكنسية في أثناء الجنائز ولا بد أن تنقش على المقابر عبارة "الموت نوم أبدي" وأمر (فوشي) رئيس الأساقفة وثلاثين قسا أن يطرحوا قلنسواتهم الدالة على هويتهم الدينية ليضعوا فوق رؤوسهم غطاء الرأس الثوري الأحمر. وفي مولين Moulin ركب (فوشي) على رأس موكب ليحطم في طريقه الصلبان المجردة كلها، والصلبان التي تمثل المسيح مصلوبا والصور والتماثيل الدينية كلها.

وفي كليرمونت - فران أعلن كوثو أن دين المسيح قد تحول إلى دجل مالي (خداع للحصول على المال)، واستأجر طبيبا لإجراء تجارب أمام الجماهير ليثبت أن ظهور "دم المسيح" بشكل إعجازي في الزجاجة التي تقدمها الكنيسة ليس سوى زيت التربنتينة مصبوغاً باللون الأحمر (Colored Turpentine) . وألغى المرتبات التي تدفعها الحكومة للقسس وصادر ما في الكنائس من آنية ذهبية وفضية، وأعلن أن الكنائس التي لا

ص: 169

يمكن أن تتحول إلى مدارس يمكن - بموافقته - أن تهدم ليبنى مكانها مساكن للفقراء، وأعلن لاهوتا جديدا (نظرية دينية جديدة) تحل فيها الطبيعة محل الرب God، وتصبح السماء (المقصود الآخرة أو ما بعد الموت) مكانا لجمهورية مثالية (دولة مثالية - يوتوبيا) يصبح بها الناس كلهم صالحين.

وكان زعماء المعركة ضد الدين هم هيبير Hebert في مجلس مدينة باريس وشوميت Chaumette في كومون باريس. وبسبب الحماس الذي أثارته خطب شوميت وصحافة هيبير اقتحمت جموع من الطبقة الثالثة الدنيا (السانس كولوت) دير القديس دينيس (سان ديني) Abbey of St. Denis في 16 أكتوبر سنة 1793 وأفرغوا توابيت أفراد الأسرة المالكة المدفونين فيها، وصهروا معادن هذه التوابيت لاستخدامها في صنع أسلحة للحرب، وفي 6 نوفمبر وافق المؤتمر الوطني رسميا على إعطاء كومونات فرنسا الحق في نقد الكنسية المسيحية،

وفي 10 نوفمبر راح رجال ونساء قادمون من أحياء الطبقة العاملة ومن النوادي (المراكز الأيديولوجية) في باريس يلوحون في الشوارع بطريقة هزلية بالملابس التي يرتديها رجال الدين الكاثوليك ويسخرون من طقوسهم، ودخلت جموعهم المؤتمر الوطني وفرضوا على أعضائه الحضور في المهرجان المسائي في كاتدرائية نوتر - دام Notre-Dam التي أصبح اسمها "معبد العقل the Temple of Reason" وهناك تم تنظيم طقوس جديدة حيث ارتدت الآنسة كاندل Mlle Candeille ممثلة الأوبرا علم الثورة الثلاثي الألوان ووضعت فوق رأسها الكاب الأحمر، ووقفت باعتبارها ربة الحرية وراحت نسوة مقنعات يحطن بها ويغنين "نشيد الحرية Hymn to Liberty" الذي ألفه لهذه المناسبة ماري جوزيف دى شينيه Marie-Joseph de Chenier. ورقص المتعبدون وغنوا في صحن الكنيسة، بينما راح المستفيدون من الحرية يحتفلون بممارسة الحب (الجنس) في المصلات الجانبية في الكنيسة، كما ذكر كتاب التقارير المعادون للثورة.

وفي 17 نوفمبر تم إحضار جان - بابتست جوبل Jean-Baptiste Gobel أسقف باريس، بناء على طلب الجماهير، ليمثل أمام المؤتمر الوطني ليشجب منصبه ويتنكر له ويسلم لرئيس المؤتمر صولجانه صولجان الأسقف ذا الدلالة الدينية (Crozier وجرسه ring) وأن يضع فوق رأسه الكاب الأحمر red cap الدال على الحرية.

ص: 170

وفي 23 نوفمبر أمر الكومون بإغلاق الكنائس كلها في باريس.

ومن ناحية أخرى كان المؤتمر الوطني يرى أنه لا يجب المغالاة في تأكيد دوره في العمل ضد المسيحية. وكان أعضاء المؤتمر جميعا - تقريبا - من اللاأدريين agnostics والمؤمنين بوحدة الوجود أو من الملحدين (المقصود كما سبق القول غير المؤمنين بالثالوث والطقوس المسيحية) ومع هذا فإن كثيرين منهم تشككوا في مدى حكمة إثارة الكاثوليك المخلصين الذين كانوا يشكلون الأغلبية، وكان كثيرون منهم مستعدين لحمل السلاح ضد الثورة. وكان بعض الأعضاء مثل روبيسبير وكارنو Carnot قد شعروا أن الدين هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تمنع تكرار حدوث التمرد الاجتماعي ضد عدم المساواة المبدأ عميق الجذور جدا في الطبيعة لدرجة يصعب معها إزالته بالتشريعات. واعتقد روبيسبير أن الكاثوليكية كانت استثمارا منظما للخرافة لكنه رفض الإلحاد باعتباره افتراضاً مغروراً وقحاً باستحالة المعرفة، وفي 8 مايو سنة 1793 كان قد أدان الفلاسفة باعتبارهم منافقين احتقروا العامة وراحوا يلتمسون المنح من لدن الملوك. وفي 21 نوفمبر قال أمام المؤتمر الوطني وكانت مهرجانات معاداة المسيحية قد بلغت ذروتها في هذا الوقت.

"كل فيلسوف وكل شخص يمكنه أن يعتقد من أفكار الإلحاد ما يحلو له. وأي شخص يرغب في أن يجعل هذا الفكر جريمة متهم، لكن الرجل العام (صاحب المسئولية) أو المشرع إذا ما تبنى هذه الأفكار الإلحادية فإنه غبي بل إن غباءه يتضاعف مائة مرة عن غيره ....

فالإلحاد أرستقراطي؛ ففكرة الموجود الأعظم (الله) الذي يرى ويعلم كل شيء والمطلع على كل ما يناقض الطهارة، ويعاقب على الجرائم الكبرى هي فكرة الشعب في الأساس (فكرة شعبية) إن هذه الفكرة هي التي تمثل شعور أوربا بل والعالم. إنها فكرة الشعب الفرنسي التي تمثل مشاعره وإحساسه. إن هذه الفكرة (وجود موجود أعظم) لا علاقة لها بالقسس ولا بالخرافة ولا بالطقوس. إنها فقط مرتبطة بقوة لا يدركها أحد (مبهمة لا يمكن سبر أغوارها) .. إنها فكرة مرهبة للآثمين وراحة واستقرار للمتمسكين بالفضيلة".

وهنا كان دانتون Danton متفقا مع روبيسبير: "إننا لا ننوي هدم صروح الخرافة لنقيم حكم

ص: 171

الإلحاد .. إنني أطالب بإنهاء هذه الحفلة التنكرية ضد الدين في هذا المؤتمر الوطني".

وفي 6 ديسمبر سنة 1793 أعاد المؤتمر الوطني تأكيده على حرية العبادة وضمن حماية الطقوس الدينية التي يقوم عليها قسس موالون، واعترض هيبير ذاكرا أنه هو أيضا يشجب الإلحاد لكنه انضم للقوى التي تهدف إلى تقليص شعبية روبيسبير. لقد أصبح روبيسبير الآن يعتبره عدوا لدودا وراح ينتهز الفرص لتدميره.

5/ 4 - الثورة تأكل أبناءها The Revolution Eats Its Children

كانت قوة هيبير Hebert تعتمد على شريحة العوام من السانس - كولوت التي يمكن تنظيمها وحشدها عن طريق إدارات الأحياء في باريس وعن طريق الصحافة الراديكالية لاجتياح المؤتمر الوطني واستعادة حكم باريس على سائر الجمهورية الفرنسية أما قوة روبيسبير التي كانت تعتمد سابقا على جماهير باريس فقد أصبحت الآن تعتمد على لجنة الأمن العام التي سيطرت على المؤتمر الوطني من خلال تسهيلات كبرى في المعلومات والقرارات والإنجاز.

وفي نوفمبر سنة 1793 كانت لجنة الأمن العام في ذروة شهرتها ومجدها، وكان هذا يعود في جانب منه إلى نجاحها في حشد الجماهير وتجنيدهم، لكن السبب الأساسي لهذه الشهرة والمجد كان يرجع على نحو خاص للانتصارات العسكرية على مختلف الجبهات، فالجنرالات الجدد - جوردان Jourdan وكلرمان Kellermann وكليبر وهوش Hoche وبيشرجو Pichergu - كانوا أبناء للثورة غير مقيدين بالنظم والتكتيكات القديمة، ولم تكن ولاءاتهم قد تناقصت بمرور الوقت، وكانوا يقودون مائة مقاتل كانوا - رغم كونهم ناقصي السلاح والتدريب - مفعمين حماسا وشجاعة فماذا يمكن أن يحدث لهم ولأسرهم إن اخترق العدو خطوط القتال الفرنسية؟ حقيقة لقد جرى صدهم عند كيزرسكوتيرن Kaiserslautern لكنهم استعادوا تقدمهم واستولوا على لاندو Landau

ص: 172

وسبير Speyer . وقد أجبروا الأسبان على التراجع عبر جبال البرانس وأعادوا الاستيلاء على طولون بمساعدة الشاب نابليون.

ومنذ 26 أغسطس استولت على طولون ذلك الميناء المهم ذو الموقع الاستراتيجي على ساحل البحر المتوسط قوات متعددة إنجليزية وإسبانية ونابلي (قادمة من نابلي في إيطاليا) يحميها أسطول إنجليزي إسباني مشترك ويؤازرها المحافظون المحليون (غير المؤازرين للثورة)، وظل جيش الثوار يحاصرها ثلاثة أشهر بلا جدوى، وكان هناك رأس هو كشريط محدد للطرفين (رأس أوجوليت Cap l'Aiguillette) والكلمة في القواميس الفرنسية تعنى الرأس أو الشريط أو القنة الداخلة في البحر) يقسم الميناء ويشرف (من علٍ) على الترسانة، والقوات التي تستولي على هذا الموقع تتحكم في الميناء لكن البريطانيين كانوا قد أغلقوا الطريق إلى هذا الرأس من ناحية البر بحصن جيد التسليح ومتين جدا حتى إنهم أطلقوا عليه جبل طارق الصغير.

وكان من رأي بونابرت وكان عمره 24 سنة أنه إذا أمكن إجبار الأسطول المعادي على مغادرة الميناء، فإن الحامية التي تحتل المدينة ستفقد المؤن والمدد اللذين يأتيانها من البحر، مما يجبرها على التخلي عن المدينة. ووجد نابليون - بعد عملية استطلاع تنطوي على المخاطرة والتصميم - داخل دغل موقعا يمكنه منه - بشيء من الأمن - أن يطلق مدافعه على الحصن الذي يتحصن به الأعداء، وعندما دمرت قذائف المدافع جدرانه شنت القوات الفرنسية هجوما عاصفا على الحصن، فقتلت المدافعين عنه واستولت على ما به من بنادق وحولت القوات الفرنسية المهاجمة جهودها لضرب أسطول العدو، فأمر اللورد هود Hood الحامية بمغادرة المدينة وأمر سفنه بمغادرة الميناء.

وفي 19 ديسمبر سنة 1793 استرد الجيش الفرنسي مدينة طولون. وكتب أوغسطين روبيسبير المبعوث المفوض المحلي من لجنة الأمن العام إلى أخيه مادحاً جهود نابليون مبينا "الجدارة التي تفوق الحد" لقائد المدفعية الشاب. وبدأت ملحمة جديدة.

هذه الانتصارات الآنف ذكرها وانتصارات كليبر في الفندي أطلقت يد لجنة الأمن العام في التعامل مع المشاكل الداخلية. لقد كان هناك زعم بوجود "مؤامرة أجنبية" لاغتيال قادة الثورة وإن لم يوجد دليل على ذلك. وانتشر الفساد (خراب

ص: 173

الذمم) في مجال إنتاج المؤن للجيش وتسليمها له "ففي جيش الجنوب فقد 30000 زوج من السراويل (البناطيل) - فكانت أكثر الفضائح خزيا" وساعدت المضاربات على عمليات التلاعب في السوق مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشدة. ولم تعد الأسعار التي حددتها الحكومة (حددت لها سقفا Maximum) تسري إلا على المنتجات المهمة، ولكن المنتجين اشتكوا من أنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بهذا السقف (الحد الأقصى للأسعار كما حددته الحكومة) إذا لم يتم ضبط أجور العمال أيضا.

وجرت مواجهة التضخم لفترة، ولكن الفلاحين والصناع والتجار خفضوا الإنتاج وزادت البطالة بينما الأسعار ترتفع وراحت المؤن تقل وراحت ربات البيوت يقفن في الصفوف للحصول على الخبز والحليب واللحم والزبد والزيت والصابون والشموع وخشب التدفئة. وراحت الصفوف تبدأ منذ منتصف الليل ليكون لمن فيها السبق في الحصول على المواد المطلوبة، فراح الرجال والنساء ينطرحون عند مداخل المحلات على الممرات انتظارا لفتح المحلات لأبوابها، وتحرك الصفوف للحصول على المؤن. وهنا وهناك راحت المومسات الجائعات يعرضن بضاعتهن على الواقفين في الطابور. وفي حالات كثيرة كانت جماعات قوية مسلحة تقتحم المخازن لتحمل معها ما تريد من بضائع وتدنت الخدمات البلدية وانتشرت الجرائم وكان عدد أفراد البوليس قليلا، وامتلأت الشوارع بالقمامة، وأفسدت جو المدن، واعترت ظروف مشابهة روان وليون ومرسيليا وبوردو.

ونقل عوام باريس (السانس كولوت) ولاءهم من روبيسبير إلى هيبير Hebert وشومت Chaumette لأنهم اعتبروا أن لجنة الأمن العام قد أساءت إدارة الاقتصاد وأن المستغلين والمتربحين قد حاصروا "سفينة" الدولة وراح عوام باريس يصغون بشغف ورغبة إلى اقتراحات بتأميم الثروات والممتلكات كلها أو - على الأقل - الأراضي. واقترح أحد زعماء الأحياء (أقسام باريس) معالجة المحنة الاقتصادية بقتل الأثرياء كلهم. وبحلول عام 1794 كانت هناك شكوى عامة بين العمال من أن البورجوازية قد سرقت الثورة (جعلتها لصالحها).

ص: 174

وفي نهاية 1793 ظهرت تحديات جديدة للجنة الأمن العام سببها زعيم ثوري قوي وصحفي لامع. فرغم الشراسة الظاهرة التي يبديها دانتون Danton فقد كان به لمسة محببة لدرجة أنه جفل عند إعدام الملكة وبسبب العنف الشديد في فترة الإرهاب، فعند عودته من أرسيز Arcis حكم بأن طرد الغزاة من فرنسا وإعدام معظم أعداء الثورة النشيطين لم يعد يترك مسوغا معقولاً للحرب أو الإرهاب وعندما عرضت بريطانيا السلام أوصى بقبوله، أما روبيسبير فقد رفض وكثف من الإرهاب على أساس أن الحكومة ما تزال تواجه العقبات التي يضعها غير الموالين والمتآمرين والمفسدين.

أما كاميل ديمولان Camille Desmoulins الذي كان في وقت من الأوقات سكرتيرا لدانتون وصديقه المعجب به وقد كان مثله ينعم بزواج سعيد، فقد أسس جريدة هي "الكوردليري العجوز Le Vieux Cordelier"(الكلمة كوردليير تعنى الراهب الفرانسيسكاني لكن هذا ليس هو المعنى المقصود فقد تم إنشاء ناد ثوري كما ذكرنا في سياقات سابقة في مقر دير للرهبان الفرانسيسكان بعد طرد الرهبان منه، فعرف بنادي الكوردليير) جعلها المتحدث الناطق باسم المتسامحين أو دعاة السلام، ودعا من خلالها إلى إنهاء حكم الإرهاب:

"الحرية ليست إحدى عذراوات الأساطير اللائي يشاهدن في الأوبرا، وليست غطاء رأس (كاب) أحمر وليست قميصا قذرا أو أسمالا. إنما الحرية هي السعادة والعقل والمساواة والعدالة، وإعلان حقوق الإنسان الذي هو دستوركم الأعلى الذي لا يزال يدعو إلى التحرر.

أتريدونني أن أعترف بهذه الحرية (بمعناها الثاني الذي أقره) وأخر عند قدميها وأسفك دمي من أجلها؟ إذن أفتح السجون وأخرج منها من بلغ عددهم 200،000 ممن تسمونهم المشتبه فيهم

لا تظنوا أن في هذا الإجراء نهاية للجمهورية. إن العكس هو الصحيح. إنه إجراء أكثر ثورية مما تظنون. أتريدون إبادة أعدائكم كلهم بقطع رقابهم بالمقصلة؟ أهناك جنون أكثر من هذا؟ أيمكنكم أن تنهوا حياة شخص من غير أن توجدوا لأنفسكم عدوين من بين أسرته وأصدقائه؟

إنني مختلف تماما مع أولئك القائلين بضرورة الإبقاء على الإرهاب كنظام لهذه الفترة، إنني على ثقة من أن الحرية ستتأكد وأن فرنسا ستفتح أوربا حالما تصبح لجنتكم لجنة

ص: 175

للرحمة والاعتدال Committee of Clemency ".

وانزعج روبيسبير - الذي كان حتى الآن صديقا لديمولان - من دعوته لفتح السجون، فهؤلاء الارستقراطيون والقسس والمضاربون والبورجوازيون المنتفخون، ألن يواصلوا - إذا ما أطلق سراحهم - بغير تردد مشروعاتهم لاستغلال الجمهورية وتدميرها؟ لقد كان روبيسبير مقتنعا أن خوفهم من القبض عليهم وإدانتهم إدانة سريعة، وشبح الموت المتراقص أمامهم، هي وحدها القوة التي تبعدهم (أعداء الجمهورية) عن حبك المؤامرات ضدها والعمل على إسقاطها.

لقد شك روبيسبير في أن تحول دانتون المفاجئ إلى سياسة الرحمة إنما هو خدعة لينقذ من نصل المقصلة بعض الذين قبض عليهم مؤخرا لقيامهم بأعمال محظورة ممن لهم علاقة به، ولحماية نفسه (دانتون) إذا افتضحت علاقته (أي دانتون) بهم. وكان بعضهم - فابر دجلانتين Fabre d'Eglantine وفرنسوا شابو Francois Chabot - قد حوكما في 17 يناير سنة 1794 واتضح أنهما مذنبان. وانتهى روبيسبير إلى أن دانتون وديمولان يميلان إلى التخلي عن مقعديهما وإنهاء أعمال لجنة الأمن العام. وخلص روبيسبير إلى أنه لن يكون آمناً أبدا طالما ظل صديقاه القديمان هذان على قيد الحياة.

وعمل (روبيسبير) على ألا يتحد أعداؤه وعمل على تحويل معارضتهما له إلى معارضة كل واحد منهم للآخر فقد شجع هجوم دانتون وديمولان على هيبير (إيبير) ورحب بمساعدتهما في شجب الحرب على الدين، وعول هيبير Hebert على شغب أهل المدن بسبب غلاء أسعار الطعام وندرته. ووجه النقد لكل من الحكومة وجناح المتساهلين المطالبين بالتسامح وإنهاء الإرهاب Indulgents، وفي 4 مارس 1794 أدان روبيسبير وذكره بالاسم، وفي 11 مارس هدد أتباعه في نادى الكوردليير (لأن هذا النادي أصبح أعضاؤه يجتمعون في مقر دير سابق للرهبان الفرانسيسكان - الكوردليير) صراحة بعصيان مسلح.

واتفقت غالبية لجنة الأمن العام مع روبيسبير على أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراء، فتم القبض على هيبير وكلوت Cloots وعدد آخر غيرهما وحوكموا بتهمة ارتكاب أعمال محظورة عند توزيع المؤن على الناس، وكانت تهمة ماكرة لأنها

ص: 176

جعلت العوام من السانس كولوت يتشككون في قادتهم الجدد، وقبل أن يستطيع هؤلاء المتهمون إثارة الناس، جرى اتهامهم واقتيادهم بسرعة إلى المقصلة (في 24 مارس)، وانهار هيبير وبكى، أما كلوت، فبقى باردا هادئا - بطريقة تيوتونية منتظرا دوره ليموت، وخاطب الجماهير قائلا:"يا أصدقائي لا تخلطوا بيني وبين هؤلاء الأنذال".

ولا بد أن دانتون قد تحقق أنه كان قد استخدم كأداة ضد هيبير وأنه أصبح الآن قليل القيمة بالنسبة للجنة (لجنة الأمن العام)، ومع هذا فقد استمر في محاولاته في تحويل اتجاه اللجنة إلى الرحمة والسلام. وهي سياسة تتطلب من الأعضاء نبذ الإرهاب الذي حافظوا من خلاله على مقاعدهم، ونبذ الحرب التي بررت دكتاتوريتهم.

وحث دانتون على إنهاء عمليات القتل فقال: "دعونا نترك شيئا لذبح الآراء (بدلا من البشر) " وظل يخطط لمشروعات تعليمية وإصلاحات قضائية. وظل جريئاً متحديا إذ قال له أحدهم إن روبيسبير يخطط للقبض عليه، فأجابه:"إذا ظننت أن مجرد فكرة كهذه في رأسه فسأجعل قلبه يذوب حسرات" فحكم الإرهاب قد حول فرنسا في غالبها إلى دولة من دول الطبيعة (State Nature) فغدا معظم الناس يشعرون أنه يجب عليهم أن: "يأكلوا قبل أن يؤكلوا".

وحثه أصدقاؤه أن يأخذ المبادرة ويهاجم لجنة الأمن العام أمام المؤتمر الوطني، لكنه كان مرهقا جدا معتل الإرادة فلم يشأ أن يعقب اجتماعاته التاريخية بحماقة. لقد استنفدت مقاومة أمواج الثورة طوال أربع سنوات طاقته وقد ترك الآن الأمواج التحتية (غير الظاهرة) تحمله بعيدا دون مقاومة. لقد قال:"لأن تقطع المقصلة رقبتي أفضل عندي من أن أقطع رقاب الآخرين"(لم يكن أمره كذلك دائما)"بالإضافة إلى أنني سئمت البشر".

وكان من الواضح أن بيلو - فارين - Billaud Varenne هو الذي أخذ المبادرة بالتوصية بالقضاء على حياة دانتون، واتفق معه كثيرون من أعضاء لجنة الأمن العام لأن معنى السماح باستمرار سياسة المتسامحين Indulgents هو تسليم الثورة لأعدائها في الداخل والخارج.

ص: 177

وكان روبيسبير لفترة يعارض فكرة "اختصار" حياة دانتون، لكنه شارك أعضاء اللجنة الآخرين الاعتقاد بأنه - أي دانتون - سمح لجزء من أموال الدولة بالتسرب بين أصابعه، لكنه أدى خدمات للثورة، وكان روبيسبير يخشى أن يؤدي الحكم بالإعدام على واحد من أكبر زعماء الثورة إلى عصيان مسلح في أحياء باريس وفي الحرس الوطني.

وخلال فترة تردد وربيسبير هذه كان دانتون يزوره لمرتين أو ثلاثة لا ليدافع عن ذمته المالية فحسب، وإنما ليحول هذا الوطني العنيد (روبيسبير) إلى سياسة السلام وإنهاء حكم الإرهاب، لكن روبيسبير ظل غير مقتنع بذلك بل وزادت شراسته، فساعد سان - جوست (الذي كان دانتون كثيرا ما يسخر منه) في إعداد التهمة ضد منافسه الكبير (دانتون). وفي 30 مارس جمع لجنة الأمن العام ولجنة الضمان العام لاتخاذ قرار مشترك (واحد) ليضمن إصدار المحكمة الثورية حكما بالإعدام على دانتون وديمولان واثني عشر شخصا أدينوا مؤخراً بالاختلاس. ونقل واحد من أصدقاء هذا الجبار (التيتان Titan) الأخبار إليه وحثه على مغادرة باريس والاختباء في إحدى المحافظات، لكن "الجبار"(المقصود دانتون) رفض العرض. وفي صباح اليوم التالي قبض عليه البوليس الذي قبض أيضا على ديمولان Desmoulins الذي يعيش في طابق فوق الطابق الذي يسكن فيه دانتون في البناية نفسها.

وسجن دانتون ومن معه في الكونسير جيري Conciergerie (غرفة البواب في قصر التوليري) فأبدى ملاحظة: "ذات يوم مثل يومنا هذا نظمتُ المحكمة الثورية .... إنني أسأل الله والبشرية أن يسامحاني على هذا

في الثورات يظل قابضا على السلطة من هو أكثر نذالة ".

وفي أول أبريل اقترح لويس ليجندر Louis Legendre على النواب أن يسمح لدانتون بالدفاع عن نفسه أمام المؤتمر الوطني فقد أرسل يطلب ذلك من سجنه وأنه - لويس ليجندر الذي كان معيناً حديثا مبعوثاً مفوّضاً للجنة الأمن العام - قد وافق، لكن روبيسبير أوقفه عن مواصلة حديثه بحملقة مشئومة منذرة بسوء وصاح قائلا: "دانتون غير مميز

سوف نرى هذا اليوم ما إذا كان المؤتمر الوطني قادراً على تدمير وثن (إله زائف)

" عندئذ قرأ سان - جوست قائمة الاتهامات التي كان قد أعدها سلفا فأمر النواب - وكان

ص: 178

كل واحد منهم متنبهاً لسلامته الشخصية - بتحويل دانتون Danton وديمولان للمحاكمة فورا.

وفي 2 أبريل قيد دانتون وديمولان ليمثلا أمام المحكمة. وربما لخلط الأمور، كانا ضمن دفعة من المتهمين بمن فيهم فابر ديجلانتين Fabre d'Eglantine ومتآمرون أو مختلسون آخرين، وهيرول دى سيشل Herault de Sechelles (وقد أدى هذا إلى دهشة عامة ودهشة دانتون) وكان هيرول هذا عضوا مهذبا دمثا في لجنة الأمن العام لكنه متهم الآن بالتعاون مع أتباع هيبير وبالتورط في مؤامرة خارجية ودافع دانتون عن نفسه بقوة وأمعن في السب وتوجيه التهم مما أثر في اللجنة والحاضرين لمشاهدة المحاكمة وسماعها. ل

درجة أن فوكييه تينفيل Fouquier-Tinville أرسل يطلب من لجنة الأمن العام قرارا بإسكات الدفاع واضطرت اللجنة لأن ترسل للمؤتمر الوطني تتهم أتباع دانتون وديمولان Desmoulins - وفقا على ما وصلها من معلومات - بأنهم يتآمرون لإطلاق سراحهما بالقوة، وعلى هذا الأساس أعلن المؤتمر الوطني أن كلا الرجلين لم يعودا تحت حماية القانون وهذا يعني أنه يمكن إعدامهما دون إجراءات قانونية. وعندما تلقى أعضاء المحكمة هذا القرار أعلنوا أنه قد أصبح لديهم أدلة كافية وأنهم مستعدون لإصدار الحكم. وأعيد المسجونان إلى سجنهما وتم صرف من حضروا لمتابعة المحاكمة.

وفي 5 أبريل صدر حكم بإجماع أعضاء المحكمة بإعدام المتهمين كلهم، وعندما سمع دانتون بالحكم تنبأ قائلا:"قبل أن تنقضي هذه الشهور سيمزق الشعب أعدائي إربا ". وقال: "حقير أنت يا روبيسبير! إن المقصلة تناديك أنت أيضا. إنك ستتبعني". وكتب ديمولان من سجنه إلى زوجته: "حبيبتي لوسيل! Lucile. لقد ولدت لأقرض القصائد وأدافع عن سيئي الحظ

يا عزيزتي اهتمي بصغيرك. عيشي لحبيبي هوراس Horace، وحدثيه عني

يداي المقيدتان تعانقانك".

وبعد ظهر الخامس من أبريل حمل المتهمان في عربة إلى ميدان الثورة، وفي أثناء الطريق تنبأ دانتون مرة أخرى قائلا:"إنني أترك الأمور مشوشة متخبطة. ليس من رجل فيهم لديه فكرة عن الحكم، إن روبيسبير سيتبعني إلى المقصلة. لقد جروه إلى المقصلة وجعلوني أسبقه". وعلى سقالة المقصلة كان ديمولان هو الثالث في طابور من ينفذ فيهم حكم

ص: 179

الإعدام وكانت أعصابه تكاد تتحطم، وكان دانتون في آخر الطابور وفكر دانتون أيضا في زوجته الشابة وراح يتمتم ببعض الكلمات ذكرها فيها ثم أمسك وقال لنفسه:"أقبل دانتون، لا تضعف" وبينما كان يقترب من نصل المقصلة، قال لجلاده (منفذ الحكم):"اعرض رأسي على الشعب. إنه جدير به". لقد كان وقت إعدامه في الرابعة والثلاثين من عمره وكذلك ديمولان، لكنهما عاشا أعماراً كثيرة منذ ذلك اليوم في شهر يوليو الذي دعا فيه كاميل Camille أهل باريس للاستيلاء على الباستيل. وبعد موتهما بثمانية أيام تم إعدام لوسيل ديمولان مع أرملة هيبير وشومت.

لقد بدت الساحة ممهدة فكل الجماعات التي كانت قد تحدت لجنة الأمن العام قد تم التخلص منها أو قمعها، فالجيرونديون إما ماتوا أو تفرقوا، والعامة من السانس كولوت إما قسموا أو أرغموا على الصمت، وتم إغلاق النوادي ما عدا نادي اليعاقبة وأخضعت الصحافة والمسارح لرقابة صارمة، وتخلى المؤتمر الوطني خوفا منه وجبنا عن القرارات الكبرى كلها للجنة الأمن العام. وأقر المؤتمر الوطني - بتوصية من لجانه الأخرى - قوانين ضد المضاربين والمحتكرين (خازني البضائع Hoarders) وقوانين لمجانية التعليم الابتدائي وإتاحته للجميع، وإنهاء القنانة (عبودية الأرض) في المستعمرات الفرنسية وتأسيس دولة الرفاهية مع الأمن الاجتماعي (الضمان الاجتماعي) وقوانين تنص على تقديم إعانة لغير العاملين (إعانة بطالة) ومساعدات طبية للفقراء ومساعدات لكبار السن. وقد أدت الحرب والفوضى الداخلية إلى حد كبير بالإسراع في هذه القرارات لكنها بقيت كأفكار تلهم الأجيال ا لمتتالية.

أما روبيسبير الذي كانت يداه مخضبتين بالدم لكنهما طليقتان - فإنه الآن يعمل على إرجاع "الله" إلى فرنسا، فمحاولة إحلال "المذهب العقلي rationalism" محل المسيحية أثارت الفرنسيين ضد الثورة، ففي باريس كان الكاثوليك ثائرون لإغلاق الكنائس وإزعاج القسس بالغارات المستمرة عليهم، وشيئا فشيئا بدأت تزداد أعداد أفراد طبقة العوام والطبقة الوسطى التي تذهب لحضور قداس الأحد. وقدم روبيسبير البراهين في إحدى خطبه البليغة

ص: 180

(7 مايو 1794) على أن الوقت قد حان لعقد وفاق بين الثورة وجدها الأعلى روسو الذي نقلت رفاته إلى البانثيون - (مدفن العظماء) في 14 أبريل فلا بد للدولة أن تدعم الدين النقي البسيط - خاصة ذلك الذي اعتنقه Savoyard Vicar في كتاب إميل Emile - القائم على الإيمان بالله واليوم الآخر، والدعوة إلى الفضائل المدنية والاجتماعية كأساس لقيام الجمهورية. ووافق المؤتمر الوطني على ذلك على أمل إرضاء الأتقياء والتخفيف من حدة الإرهاب، وفي 4 يونيو انتخب روبيسبير رئيساً له.

وترأس روبيسبير في 8 يونيو 1794 في سياق هذا التوجه ا لرسمي مهرجانا للاحتفاء "بالموجود الأسمى Fast of the Supreme Being " حضره مائة ألف رجل وامرأة وطفل في ساحة دي مار Champ-de-Mars وعلى رأس موكب كبير (يضم النواب المتشككين) امتد مسافة طويلة كان هذا المستقيم غير القابل للفساد أو الرشوة (المقصود روبيسبير) وقد حمل في يده الورود وسنابل القمح. وكانت هناك عربة محملة بحزم القمح يجرها ثور أبيض بلون الحليب، وخلفها سار الرعاة من رجال ونساء يمثلون الطبيعة (في فطرتها الأولى) باعتبارها - أي الطبيعة - هي تركيبة واحدة وهي صوت الله Voice of God، وفي حوض يزين ساحة دي مار، أقام ديفيد David الفنان الفرنسي الرائد في هذا العصر تمثالاً من خشب يمثل الإلحاد وقد قام على الرذيلة وتوج بالجنون، وإلى الأعلى في مواجهة هذا التمثال جعل الحكمة المنتصرة ترفع إصبعها في مواجهة الإلحاد والرذيلة والجنون. ووضع روبيسبير - الذي هو تجسيد للفضيلة - المشعل ناحية الإلحاد (ليحرقه) لكن ريحا تعسه حولت اللهب إلى "الحكمة". ووضع نقش يشير إلى المبادئ الجديدة ويتسم معناه بالسماحة:"إن الشعب الفرنسي يؤمن بالموجود الأسمى وخلود الروح" وجرى إقامة احتفالات مشابهة في مختلف أنحاء فرنسا.

وكان روبيسبير سعيداً لكن بيلو فارين - Billaud - Varenne قال له: "لقد بدأت تضجرني مع موجودك الأسمى".

وبعد ذلك بيومين حث روبيسبير المؤتمر الوطني على إصدار مرسوم يدعم - بشكل مثير للدهشة - حكم الإرهاب، لقد بدا روبيسبير وكأنه يجيب دانتون ويتحداه (رغم أن دانتون

ص: 181

كان قد أعدم بالمقصلة) عندما أقام مهرجانا لتكريم "الموجود الأسمى" كما بدا وكأنه يوبخ هيبير، فالقانون الصادر في 10 يونيو 1794 (22 بريريال Prairial بالتقويم الجمهوري) نص بهدف شجب الملكية والدفاع عن الجمهورية والرقي بها - على إعدام كل من يسيء للأخلاق أو يروج أخبارا كاذبة أو يسرق المال العام أو يتربح ويستغل أو يختلس أو يعوق نقل الطعام أو يعوق بأي شكل مسار الحرب، وأكثر من هذا فإن هذا القانون خول المحاكم أن تقرر ما إذا كان المتهم في حاجة إلى محام أو مستشار أو شهود، إذا ظهر برهان إدانته. وقال واحد من المحلفين:"بالنسبة لي شخصيا، فإنني مقتنع بذلك دائما ففي ظل الثورة، يعد كل من يمثل أمام هذه المحكمة Tribunal مدانا".

وكان ثمة تبريرات لهذا الإرهاب المكثف. ففي 22 مايو جرت محاولة للاعتداء على حياة كولو دربوا Collot d'Herbois، وفي 23 مايو جرى وقف شاب حاول - بشكل واضح - اغتيال روبيسبير. وأدى الاعتقاد في وجود مؤامرة أجنبية إلى أن أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بالتعامل بغير رحمة مع أسرى الحرب البريطانيين والهانوفريين Hanoverian. وكان في سجون باريس نحو ثمانية آلاف من المشكوك في ولائهم، وكان لا بد من إرهابهم حتى لا يفكروا في إثارة الاضطرابات أو الهروب.

لهذا ظهر على نحو خاص ما يسمى "الإرهاب الأعظم Great Terror " واستمر من 10 يونيو إلى 27 يوليو سنة 1794، ففي أقل من سبعة أسابيع قطعت المقصلة رقاب 1376 رجل وامرأة، هذا بالإضافة إلى 155 كان قد جرى إعدامهم خلال الواحد والستين أسبوعا، بين مارس 1793 و 10 يونيو 1794. ولاحظ فوكييه تينفيل أن الرؤوس تتدلى من السقف كألواح الاردواز. ولم يعد الناس يذهبون لمشاهدة تنفيذ أحكام الإعدام فقد أصبح المشهد معادا مكررا، وإنما راحوا يعكفون في منازلهم يتحسسون أي كلمة ينطقون بها. وتوقفت الحياة الاجتماعية تقريبا، وكادت المواخير وبيوت الدعارة والحانات تكون خاوية على عروشها. بل وتقلص عدد الحضور في المؤتمر الوطني نفسه، فمن بين 750 عضوا لم يعد يحضر - الآن - سوى 117، وحتى هؤلاء امتنع كثيرون منهم عن

ص: 182

التصويت حتى لا يورطوا أنفسهم، وحتى أعضاء اللجنة عاشوا في رعب من أن يقعوا تحت نصل هؤلاء الثلاثة (المتحكمين الجدد) روبيسبير، وكوثو وسان جوست.

وربما كانت الحرب هي التي أدت إلى أن يتبوأ الصدارة أفراد أقوياء عمدوا إلى تركيز السلطة في أيديهم بشكل مثير. وفي أبريل سنة 1794 كان الأمير ساكس كوبرج Saxe-Coburg قد قاد جيشا آخر داخل فرنسا، وكانت أي هزيمة تلحق بالدفاعات الفرنسية كفيلة بإثارة الفوضى والخوف في باريس، وحاول البريطانيون من خلال فرض الحصار البحري منع الإمدادات الأمريكية عن فرنسا ولولا نجاح الدفاعات الفرنسية في إلحاق الهزيمة بالأسطول البريطاني في أول يونيو ما وصلت الحمولات الغالية الثمن إلى بريست Brest واستطاع الجيش الفرنسي أن يصد الغزاة بالقرب من شارلروي Charleroi (25 يونيو) وبعد ذلك بيوم قاد سان جوست قوة فرنسية لإحراز نصر حاسم في فلورس Fleurus. وانسحب كوبرج Coburg من فرنسا، وفي 27 يوليو عبر جوردا Jourdan وبيشجرو Pichegru الحدود لإقامة الحكم الفرنسي في أنتورب ولييج وقد يكون الانتصار الذي تحقق بصد الغزوة الكبيرة، مما ساهم في تدمير روبيسبير، فأعداؤه الكثيرون كانوا يشعرون أن الدولة والجيش قد يعملان على تفجير صراع مكشوف في قلب الحكومة، صراع لا هوادة فيه.

فلجنة الأمن العام كانت على خلاف مع لجنة الضمان العام Committee of public Safety بسبب التنازع على السلطة السياسية. وفي هذه اللجنة الأخيرة كان بيو فارين Billaud-varenne وكولو دربوا Collot d'Herbois وكارنو Carnot في حالة ثورة متزايده ضد روبيسبير وسان - جوست. فلما شعر روبيسبير بعداوتهم الشديدة له تحاشى حضور اجتماعات اللجنة في الفترة من أول يوليو إلى 23 من الشهر نفسه لعل هذا يؤدي إلى تخفيف حساسيتهم من زعامته، لكن غيابه هذا أعطاهم الفرصة ليخططوا لإسقاطه. وأكثر من هذا فإن إستراتيجيته راحت تضطرب وتترنح: ففي 23 يوليو أحال المؤيدين له إلى

ص: 183

أعداء بتسليمه لنواب السهل (المعتدلين) من رجال الأعمال بتوقيعه مرسوما بتحديد سقف الأجور (الحد الأقصى للأجور)، ومن الناحية الفعلية، وبسبب انخفاض قيمة العملة، خفض المرسوم بعض الأجور إلى النصف.

وكان هناك الإرهابيون الذين عادوا من الدوائر أو المحافظات - فوشي وفريرو Freron وتاييه وكاريه Carrier - الذين وجدوا أن حياتهم متوقفة على إقصاء روبيسبير، فقد كان هو الذي استدعاهم إلى باريس طالباً منهم تقارير عن مهامهم لقد قال متسائلاً:"تعال يا فوشي وأخبرنا من الذي فوضك لتقول للناس إن الله غير موجود؟ " وفي نادي اليعاقبة اقترح روبيسبير التحقيق مع فوشي فيما يتعلق بعملياته في طولون وليون أو سحب العضوية منه، ورفض فوشى أن يجيب عن مثل هذا الاستجواب، وانتقم لنفسه بإشاعة قائمةً بأسماء أشخاص زعم أن روبيسبير اعتزم إعدامهم بالمقصلة. أما بالنسبة لتاييه Tallien فلم يكن في حاجة إلى من يحرضه ضد روبيسبير فقد كان هذا الأخير قد أمر بالقبض على خليلته الجذابة في 22 مايو. وتقول الإشاعات أنها أرسلت إلى تاييه خنجرا، فأقسم أن يحررها (يخرجها من المعتقل) مهما كلفه ذلك.

وفي 26 يوليو ألقى روبيسبير آخر خطاب له أمام المؤتمر الوطني الذي كان نوابه معادين له لأن كثيرين منهم كانوا معارضين للتسرع في إعدام دانتون ولام كثيرون منهم روبيسبير لتقليله من شأن المؤتمر الوطني. وحاول روبيسبير أن يدفع هذه التهم عن نفسه:

"أيها المواطنون

أريد أن أفتح قلبي، وأنتم في حاجة إلى سماع الحقيقة

لقد أتيت إلى هنا لأصحح أخطاء فظيعة. لقد أتيت لأبطل الأيمان المغلظة التي أقسمها بعض الرجال بقصد العصيان والتي راحوا يملئون بها معبد الحرية هذا

أي أساس لما هو موجود من نظام إرهابي بغيض؟ وأي أساس لهذا القذف والتشهير بالسمعة؟ ألكم أنتم نبدي أنفسنا مرعبين؟ إنهم الطغاة والأنذال هم الذين يخشون بأسنا لا الوطنيون وذوو النوايا الطيبة. ألم نضرب الإرهاب في المؤتمر الوطني؟ لكن من نكون نحن بغير المؤتمر الوطني؟ إننا نحن الذين دافعنا عن المؤتمر الوطني مخاطرين بحياتنا. نحن الذين وقفنا أنفسنا للحفاظ عليه، بينما يعمل فرقاء بغيضون على التآمر لتدميره كما ترون جميعا؟

إلى من توجه سهام التآمر

ص: 184

في المقام الأول؟ إننا نحن المقصودون. إننا نحن الذين يطلقون علينا سوط فرنسا أو سبب نكبها .. منذ فترة أعلنوا الحرب على بعض أعضاء لجنة الضمان العام (تسميها بعض المراجع العربية أيضا لجنة السلامة العامة).

وأخيرا بدوا يعملون على تحطيم رجل واحد

إنهم يسمونني طاغية، إنهم يودون على نحو خاص أن يثبتوا أن محكمة الثورة إنما هي محكمة دم أنشأتها أنا وحدي وأسيطر عليها وحدي سيطرة مطلقة لقتل ذوي النوايا الطيبة كلهم ....

إنني لا أجسر على تسمية هؤلاء المتهمين هنا والآن. إنني لا أستطيع وحدي أن أزيح بشكل كامل الحجاب الذي يغطى الألغاز العميقة لهذه الجرائم. لكنني أؤكد بشكل جازم أن من بين حابكي هذه المؤامرات ممثلين لجهاز فاسد مرتشٍ يدفعه الأجانب لتدمير الجمهورية

إن الخونة موجودون هنا مختبئون تحت مظهرهم الكاذب الزائف. إنهم سيتهمون من يوجه لهم الاتهامات وسيضاعفون خداعهم .. ليضربوا وجه الحقيقة. إن هذا جزء من مؤامرة.

وأريد أن أنهي حديثي هنا بأن الطغيان يحكم بيننا، لكن ليس لهذا يجب أن أصمت. كيف يمكن لأي شخص أن يلوم رجلاً الحق بجانبه، ويعرف كيف يموت في سبيل وطنه ".

وثمة بعض الاضطراب في هذا الخطاب التاريخي فقد كان روبيسبير حتى لحظة إلقاء خطابة يشق طريقة بحذر بين أشراك السياسة، والسلطة تفقد العقل أكثر مما تسبب الفساد، والاحتفاظ بالسلطة يتطلب العمل السريع (اتخاذ إجراءات سريعة أكثر مما يتطلب تأملا). إن لهجة الخطاب التي لا تكتفي بالدلالة على البراءة وسلامة الطوية فقط، وإنما تشير إلى أنه "رجل يقف الحق بجانبه" .... مثل هذا الكلام لا يصلح إلا أن يكون على لسان سقراط بعد أن قطع نصف الطريق فعلا إلى الموت.

إنه لمن الصعب أن ندخل في باب الحكمة ما قام به من حث لأعدائه على معاداته، وإثارة غيظهم وحنقهم بتهديدهم بفضح أخطائهم وكشفها - وهذا يعني الحكم عليهم بالإعدام. لقد كان من غير الحكمة أن يؤكد أن المؤتمر الوطني متحرر من الخوف والإرهاب، عندما

ص: 185

يكون معروفاً أن هذا غير صحيح. والأسوأ من كل هذا رفضه أن يسمي الأشخاص الذين سيتهمهم (يقدمهم للمحاكمة) مما ضاعف من أعداء الأعضاء الذين قد يعتبرون أنفسهم ضحايا في المستقبل لغضبه. لقد تلقى المؤتمر الوطني اتهامه ببرود وأحبط حركة نادت بطبع خطابه وكرر روبيسبير خطابه هذا المساء في نادي اليعاقبة فقوبل بتصفيق حاد، وفي النادي أضاف لخطابه الآنف ذكره هجوما واضحا على بيلو- فارين Billaud-Varenne وكولو دربوا، اللذين كانا حاضرين فخرجا من النادي إلى حجرات لجنة الأمن العام حيث وجدا سان - جوست يكتب ما ذكره لهما بجسارة وهو قرار توجيه الاتهام لهما.

وفي صباح اليوم التالي 27 يوليو (التاسع من شهر ثيرميدور حسب التقويم الجمهوري) هب سان - جوست ليقدم هذا الاتهام المكتوب إلى المؤتمر الوطني الذي أعمت العدوانية بصائر أعضائه وأرعبهم الخوف. وكان روبيسبير يجلس أمام منصة الخطابة مباشرة. وكان دبلي Dupaly وضيفه المخلص قد حذره من توقع اضطرابات، لكن روبيسبير أعاد من جديد تأكيده لمن تنبأ بذلك (دبلي) بأن:"المؤتمر الوطني سائر على خط الأمانة والإخلاص، والجماهير مخلصة كلها".

ولسوء الحظ كان الضابط الرئيسي (رئيس الضباط) في هذا اليوم من أعدائه (أي أعداء روبيسبير) الذين أقسموا أن يتخلصوا منه - إنه كولو دربوا Collot d'Herbois . وعندما بدأ سان جوست يقرأ قائمة الاتهامات، توقع تاييه أن يكون من بينهم، فاندفع إلى المنصة وأزاح الخطيب الشاب جانبا، وصاح قائلا:"إنني أطالب بإزاحة الستارة" يقصد كشف حقيقة الأمور. وحاول جوزيف ليباس Joseph Lebas الموالي لسان - جوست أن يأتي لنجدته لكن كلماته ضاعت إذ أسكتته مئات الأصوات، وطلب روبيسبير الفرصة ليسمعوه، فرفع تاييه Tallien السلاح الذي أرسل إليه عاليا وأعلن:"لقد سلحت نفسي بخنجر سيتغلغل في جسده إذا لم يكن لدى المؤتمر الوطني الشجاعة الكافية لإصدار قرار باتهامه ".

وسلم كولو المقعد لثريو Thuriot الذي كان من أنصار دانتون، واقترب

ص: 186

روبيسبير من المنصة صائحا، لكن جرس ثريو بعثر معظم كلمات روبيسبير، واعتلى أحدهم موجة الفتنة وقال:"لآخر مرة يا زعيم الحشاشين Assassins سيكون كلامي بالإذن منك" وارتفعت أصوات أعضاء المجلس الوطني معبرة عن عدم رضائها عن هذه الطريقة في الخطاب، ونطق أحد الأعضاء بكلمات كأنها قدر نزل:"إنني أطالب بالقبض على روبيسبير" فقام أوغسطين روبيسبير يتحدث كرجل روماني: "إذا كان أخي مذنبا فإنني مذنب معه، إنني أشترك معه في فضائله، فليكن اسمي مدرجا في قراركم بالقبض عليه" وطلب ليباس Lebas الطلب نفسه، وبالفعل فقد ناله. وجرى التصويت على القرار فقبض البوليس على الروبيسبيرين (روبيسبير وأخيه) وسان - جوست، وليباس Lebas وكوثون Couthon وأسرع بهم إلى سجن لكسمبرج.

وأمر محافظ باريس (رئيس بلديتها) فلوريو - ليكو Fleuriot Lescot بنقل السجناء إلى دار البلدية فتلقاهم كضيوف مكرمين وبسط عليهم حمايته، وأمر رؤوس الكومون (أولو الأمر فيه) هانريو Hanriot رئيس الحرس الوطني في العاصمة - أن يأخذ جنودا وأسلحة من التوليري Tuileries وأن يحاصر أعضاء المؤتمر الوطني حتى يسحبوا قرارهم بالقبض على روبيسبير والآخرين الذين قبض عليهم معه لكن هانريو كان ثملا لإفراطه في الشراب فلم ينفذ هذه المهمة.

وعين نواب المؤتمر الوطني بول بارا Paul Barras ليكون على رأس قوة من قوات الدرك (الجندرمة gendarmes) والتوجه إلى دار البلدية ليعيد القبض على السجناء، ودعا رئيس المجلس البلدي هانريو مرة ثانية فوجده قد جمع بشكل ارتجالي مجموعة من عوام السانس كولوت، بدلا من رجال الحرس الوطني (الأهلي) الذين لم يستطع جمعهم، وكان أفراد الطبقة الدنيا قد أصبحوا الآن لا يحبون كثيرا الرجل (روبيسبير) الذي خفض أجورهم وقتل هيبير وشومت ودانتون وديمولان، وثمة سبب آخر وهو أن الأمطار كانت قد بدأت تسقط فانصرفوا إلى منازلهم وأعمالهم، واستطاع بارا - وجنود الدرك الذين معه - أن يحاصر دار البلدية بسهولة.

ص: 187

وحاول روبيسبير الانتحار عندما رآهم، لكن الطلقة التي أطلقها بيده غير الثابتة اخترقت وجنته ولم تحطم غير فكه. أما ليباس فقد كانت يده أكثر ثباتا فقد أطلق النار على رأسه فشقها وخرج مخه، أما أوغسطين روبيسبير فقفز من النافذة في محاولة لم تنجح للهروب فكسرت ساقه أما كوثون المشلول (الذي لا يحس بساقيه) فقد دفع تحت السلالم وظل هناك لا أحد يقدم له مساعدة حتى حمله الجنود إلى السجن فأودعوه إياه مع روبيسبير وأخيه وسان - جوست.

وبعد ظهيرة اليوم التالي (28 يوليو 1794) نقلت أربع عربات هؤلاء السجناء الأربعة بصحبة فلوريو Fleuriot وهانريو Hanriot (وكان لا يزال ثملا) وستة عشر آخرين إلى المقصلة التي نصبت فيما يعرف الآن - ويا للعجب - بميدان الوئام Place de La Concorde، وفي الطريق سَمعوا مِنْ المشاهدين الشتى النداءاتَ، من بينهم "يسقط الحَدّ الأعلى! " وَجدوا الجمهور عصري الذي يَنتظرُهم: النوافذ التي تُشرفُ على المربعِ كَانتْ قَدْ إستأجرتْ في الأسعار الخيالية؛ جاءتْ السيداتُ مُتأنقات كما يكون بالنسبة للمهرجان. عندما رئيس الـ Robespierre زجر إلى الحشدِ ارتفعت صيحات الرضاء. "موت واحد أكثر قَدْ يَعْني قليلاً"، لكن هذا، في مشاعر باريس، عَنى بأنّ الإرهابَ جاءَ إلى نهايةِ.

‌6 - الثيرميدوريون (نسبة إلى شهر الدفء)

أو الثيرميدور في التقويم الجمهوري الفرنسي

من 29 يوليو 1794 إلى 26 أكتوبر 1795 م

في 29 يوليو أرسل الذين انتصروا في التاسع من ثيرميدور Thermidor (شهر الدفء في التقويم الجمهوري) سبعين من أعضاء كومون باريس إلى المقصلة وبعدها أصبح الكومون تابعا للمؤتمر الوطني، وتم إلغاء قانون يوم 22 من شهر المروج الخضر وهو الشهر التاسع من التقويم الجمهوري (تم الإلغاء في أول أغسطس)، وتم إطلاق سراح من سجنهم روبيسبير وتم

ص: 188

سجن بعض أعوانه. وتم إصلاح المحكمة الثورية لضمان محاكمات عادلة. وتم استدعاء فوكييه- تينفيل Fouquier-Tinville للدفاع عن أعماله فاستطاع بسبب براعته الاحتفاظ برأسه حتى 7 مايو سنة 1795 وظلت لجنة الأمن العام ولجنة المراقبة العامة (لجنة الضمان العام) لكن مخالبهما كان قد قصت، وازدهرت الدوريات المحافظة وماتت الصحف الراديكالية لافتقارها للدعم الجماهيري.

ووجد تاييه وفوشيه وفريرون أنه يمكنهم أن يشاركوا في القيادة الجديدة بالتأثير في المؤتمر الوطني لتجاهل أدوارهم في فترة حكم الإرهاب، وتم إغلاق نوادي اليعاقبة في أنحاء فرنسا كلها (12 نوفمبر)، وانتقل نواب المؤتمر الوطني ممن كانوا في السهل (نواب الوسط) الذين طالما عانوا من التخويف والإرهاب إلى اليمين، أما الجبليون فقد أزيحوا عن السلطة، وفي 8 ديسمبر استعاد ثلاثة وسبعون عضوا من الجيرونديين ممن ظلوا على قيد الحياة مقاعدهم. وهكذا أعادت البورجوازية قبضتها على "الثورة".

وسمح استرخاء الحكومة بإعادة إحياء الدين. لقد كان معظم الرجال الفرنسيين، والنساء الفرنسيات كلهن تقريبا يفضلون الاحتفال بالقديسين والطقوس الدينية على وفق التقويم الكاثوليكي على مهرجانات الاحتفاء بالموجود الأسمى Supreme being ولم يكن على خلاف هذا الاتجاه الشعبي سوى قلة صغيرة ممن تلقوا تعليما عاليا وأفراد الشريحة العليا من الطبقة الوسطى التي تأثرت بحركة التنوير. وفي 15 فبراير سنة 1795 تم توقيع معاهدة سلام مع متمردي الفندي يضمن لهم حرية العبادة، وبعد أسبوع واحد امتد هذا الحق ليشمل فرنسا كلها؛ وتعهدت الحكومة بالفصل بين الكنيسة والدولة.

أما المشكلة الأكثر صعوبة واستعصاءً على الحل الدائم المرضي فهي مشكلة العلاقة بين المنتج والمستهلك، فالمنتجون يطالبون ويلحون في المطالبة بإلغاء سقف الأسعار (الحد الأقصى الذي حددته الحكومة لأسعار السلع) والمستهلكون يطالبون بإلغاء الحد الأعلى للأجور، وقد استمع المؤتمر الوطني إلى طلبات الطرفين وألغى الحد الأقصى في الحالتين (في 24 ديسمبر سنة 1794) فقد كان يسيطر على المؤتمر في ذلك الوقت أعضاء متحمسون

ص: 189

يؤمنون بالاقتصاد الحر والمنافسة وحرية التجارة، فأصبح العمال الآن أحرارا في البحث عن الأجور العليا، وأصبح الفلاحون والتجار أحرارا في التصرف على وفق الحركة التجارية.

وارتفعت الأسعار على الجانبين (أسعار البضائع وأسعار العمالة) وأصدرت ا لحكومة أسينات جديدة كعملة ورقية لكن قيمتها تدنت أكثر من ذي قبل: فبشل bushel الدقيق الذي كان يكلف أهل باريس أسينين اثنين في سنة 1790 أصبح يكلفهم 225 أسيناً في سنة 1795 وارتفع سعر الحذاء من خمسة أسينات إلى مائتين، وارتفع سعر الاثنتي عشرة بيضة من 67 إلى 2،500.

وفي أول أبريل سنة 1795 انفجرت في أحياء مختلفة في باريس مرة أخرى اضطرابات بسبب أسعار الخبز واقتحمت جماهير غير مسلحة مقر المؤتمر الوطني مطالبة بالغذاء وإنهاء اضطهاد الراديكاليين، وقد أيدهم عدد من الأعضاء ممن أصبحوا الآن ضمن الجبليين ووعد المؤتمر الوطني بإيجاد حل عاجل لكنه في الوقت نفسه دعا الحرس الوطني لتفريق المشاغبين. وفي تلك الليلة أصدر المؤتمر الوطني قرارا بترحيل (نفي) الزعماء الراديكاليين بيلو فارين Billaud-Varenne . وكولو دربوا وبارير Barere وفادييه Vadier إلى غيانا Guiana، وتملص بارير وفادييه من القبض أما كولو وبيلو Billaud فقد نفيا إلى مستعمرة أمريكا الجنوبية حيث الحياة القاسية، وهناك مرض هذان المعاديان للإكليروس فاعتنت الراهبات بهما ومرضنهما. واستسلم كولو للموت أما بيلو Billaud فعاش وتزوج من جارية مخلطة وأصبح فلاحا قانعا، ومات في هيتي Haiti في سنة 1819.

وأصبحت المعارضة العامة شرسة فقد ظهر بلاكار Placards داعيا للعصيان المسلح، وفي 20 مايو غزا حشد من النساء والرجال المسلحين المؤتمر الوطني مطالبين بالخبز ومطالبين بإطلاق سراح الراديكاليين المقبوض عليهم وبحل abdication الحكومة، وقتل أحد النواب بطلقة مسدس ورفع قاتلوه رأسه اليابس (إشارة لعناده) على رمح أمام رئيس المؤتمر بوينسي

ص: 190

دنجلا Boissy d'Anglas الذي أدى له (للرأس) التحية الرسمية، وأجبرت القوات الحكومية والمطر الهاطل المتمردين على العودة لبيوتهم.

وفي 22 مايو حاص رت قوة بقيادة بيشجرو Pichegru عمال فابورج سان أنطوان Fabourg St. Antoine وأجبرت المتمردين المسلحين الآخرين على الاستسلام وقبض على اثني عشر نائبا من النواب الجبليين (أي اليساريين) بتهمة المشاركة في الاضطرابات وقد هرب منهم اثنان وانتحر أربعة وكان خمسة على وشك الموت من جراء جروح أحدثوها بأنفسهم فأسرعوا بهم إلى المقصلة حيث جزت رقابهم. وطالب عضو محافظ بالقبض على كارنو Carnot فاعترض صوت: "لقد خطط لانتصاراتنا ونظم أمرها" وهكذا احتفظ كارنو برأسه.

والآن (مايو ويونيه 1795) استعر الإرهاب الأبيض White Terror الذي كان ضحاياه هم اليعاقبة وقضاته هم البورجوازية (المعتدلون Moderates) المتحالفة مع الروابط الدينية: "جماعة يسوع Companies of Jesus " و"جماعة يهوه Companies of Jehu" و"جماعة الشمس Companies of Sun".

وفي ليون (5 مايو) جرى ذبح 97 إرهابيا سابقا في السجن وفي إكس- أن- بروفانس Aix- en Provence (17 مايو) جرى ذبح ثلاثين آخرين "للتخلص من البربرية" وحدث أمر كهذا في أرل Arles أفنيون ومرسيليا. وفي تاراسون Tarascon (25 مايو) حاصر مائتا رجل ملثم الحصن المليء بالمسجونين وقذفوا بهم إلى الرون Rhon . وفي طولون ثار العمال على الإرهاب الجديد، فقام إسنار Isnard أحد الجيرونديين الذين عادوا إلى وضعهم السابق بقيادة كتيبة جند وقضى على هذا الاضطراب العمالي (31 مايو). إن الإرهاب إذن لم ينته، وإنما غير يديه "حل إرهابيون جدد محل إرهابيين قدامى".

لم يعد البورجوازيون المنتصرون في حاجة لحلفاء من البروليتاريا لأنهم - البورجوازيين - قد كسبوا دعم الجنرالات وأولئك الذين أحرزوا الانتصارات التي رفعت من مركز البورجوازيين حتى بين طبقة العوام (السانس كولوت) ففي 19 يناير سنة 1795 استولى بيشجرو Pichegrn على أمستردام وهرب ستادثولدر وليم الرابع Stadtholder William IV إلى إنجلترا وأصبحت هولندا طوال عقد من الزمن هي جمهورية "باتا فيا Batavian Republic" تحت

ص: 191

الوصاية tutelage الفرنسية.

وقامت جيوش فرنسية أخرى بإعادة الاستيلاء على الشاطئ الأيسر لنهر الراين واحتفظت بمواقعها فيه. أما المتحالفون ضد فرنسا Allies فإنهم بعد أن هزموا واختلفوا تركوا فرنسا واتجهوا إلى فريسة أسهل في بولندا، فبروسيا رغبة منها في منع روسيا من الاستيلاء على أي شيء في التقسيم الثالث (1795) أرسلت مبعوثيها إلى باريس ومن ثم إلى بازل Basel للتفاوض لعقد سلام منفصل (أي بغير مشاركة حلفائها) مع فرنسا. وما كان المؤتمر الوطني ليستطيع تحمل هذا الطلب لأنه نظر بذعر إلى سلام يمكن أن يعيد إلى باريس أو أي مكان آخر في فرنسا آلاف الجنود نصف المتوحشين يعيشون الآن من موارد البلاد التي فتحوها، ولو عادوا لكانوا إضافة جديدة للمجرمين والمرضى والمشاغبين في المدن الفرنسية التي يصرخ ساكنوها الآن طالبين فرص عمل وخبزا.

كما أن الجنرالات الذين لم يستريحوا من متاعب الحروب والذين أثملتهم الانتصارات - بيشجرو وجوردا وهوش ومورو - ربما لا يقاومون الإغراء بالقيام بانقلاب عسكري ضد الحكومة إن هم عادوا من جبهات القتال. لكل هذا أرسل المؤتمر الو طني إلى بازل، مارك فرنسوا دى بارثليمي Marquis Francois de Barthelemy مزودا بتعليمات بالتمسك بالممتلكات الفرنسية على الشاطئ الأيسر للراين، ورغم اعتراض بروسيا إلا أنها استسلمت للواقع، ولحقت سكسوني Saxony وهانوفر وهسي كاسل Hesse-Cassel بالمناطق الأخرى، وفي 22 يونيو تخلت إسبانيا لفرنسا عن الجزء الشرقي سانتو دومنجو Santo Domingo من جزيرة هسبانيولا Hispanola . واستمرت الحرب مع النمسا وإنجلترا لسبب بدا كافيا وهو إبقاء الجنود الفرنسيين على جبهات القتال.

وفي 27 يونيه جلبت السفن البريطانية 3،600 مهاجرا (من الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة) من بورتسموث Portsmouth وأنزلتهم عند قنة كيبورن Quiberon (قنة الجبل الداخلة في البحر) من بريتاني Brittany لينضموا إلى كتائب شوا Chouan الملكية لإحياء تمرد أهالي فندي، وقد هزمهم تاييه في معركة عبقرية (21 يوليو) وفي حركة قادها تاييه قبض المؤتمر الوطني على 748 وأمر بقتلهم.

ص: 192

وفي 8 يونيو سنة 1795 مات ابن لويس السادس عشر (ولي العهد) البالغ من العمر عشر سنوات. مات في السجن وليس من دليل على أن ذلك كان لسوء المعاملة، وربما كان موته بسبب درن العقد اللمفاوية العنقية (Scrofula) والاكتئاب despondency . ومن ثم اعترف الملكيون بالأكبر من أخوي لويس السادس عشر ملكا وهو المهاجر كومت (كونت) دى بروفانس Comte de Provence باعتباره لويس الثامن عشر وأقسموا أن يجعلوه ملكا لفرنسا، وأعلن هذا البوربوني غير الإصلاحي (في أول يوليو 1795) أنه إن عاد للعرش أعاد نظام الحكم القديم على حاله كما كان بلا تغيير بما في ذلك الحق المطلق للملك والحقوق الإقطاعية، ومن هنا كان الدعم المشترك الذي قدمه البورجوازيون والفلاحون والعامة من السانس كولوت لنابليون خلال اثنتي عشرة معركة.

لقد أرهقت الثورة فرنسا فبدأ التسامح مع المشاعر الملكية التي تظهر في بعض الصحف والصالونات والأسر الثرية. فلا يستطيع سوى ملك شرعي يتولى الملك بالوراثة وعلى وفق التقاليد المتبعة أن يعيد النظام والأمن لشعب خائف وتعس بعد سنوات من التمزق السياسي والاقتصادي والانقسام الديني والحرب والمستمرة، وعدم ضمان فرصة عمل أو طعام أو حتى حياة. وكان نصف سكان جنوب فرنسا أو أكثر نافرين بعمق من باريس وسياسيّيها.

وفي باريس وجدنا اجتماعات الأحياء التي كان يسيطر عليها العامة (السانس كولوت) في وقت من الأوقات أصبحت الآن بشكل متزايد يسودها رجال الأعمال، بل وقبض على زمام الأمور فيها الملكيون وكانت صالات المسارح تضج بالتصفيق استحسانا عندما يرد في سياق المسرحية حديث عن "أيام زمان الطيبة" قبل سنة 1789 وأصبح الشباب الذين كانوا في حالة ثورة دائمة يشاغبون أو يتمردون على الثورة فنظموا أنفسهم في روابط كرابطة الشباب الأنيق (الترجمة الحرفية: الشباب المموه بالذهب) Jeunesse Doree ورابطة الهوى Merveilleux (أو العجيب كما تفيد الكلمة في القواميس الفرنسية) ورابطة الشباب الغندو أو الأنيق Muscadins (أو شباب الثمار أو الفاكهة على وفق المقابل الإنجليزي الذي - وضعه المؤلف لها Fruits) وراحوا يتباهون بملابسهم الغالية الغريبة وشعورهم الطويلة المعقوصة يجوبون الشوارع حاملين الهراوات الخطرة معبرين بجسارة عن مشاعرهم الملكية.

ص: 193

لقد أصبح من غير الملائم (مما لا يتمشى مع المودة) أن يؤيدوا الحكومة الثورية بدليل أنه عندما سرى خبر مبتسر عن حل المؤتمر الوطني قوبل ذلك بالفرح حتى إن بعض الباريسيين رقصوا في الشوارع.

لكن المؤتمر الوطني استمات للاستفادة مما بقي له من وقت، ففي يونيو سنة 1795 بدأ في وضع دستور جديد مختلف كثيرا عن الدستور الديمقراطي غير العملي الصادر في سنة 1793 والآن فقد تبنى المؤتمر الوطني نظاما توجد بمقتضاه هيئتان تشريعيتان إحداهما عليا مكونة من النواب الأكبرين سنا والأكثرين خبرة، وموافقة هذه الهيئة العليا Upper Chamber يعد ضروريا لإقرار أي إجراء تتبناه الهيئة الأخرى (الأدنى درجة Lower chamber) الأكثر انفتاحا واتصالا مباشرا بالحركات الشعبية والأفكار الجديدة. فالشعب كما قال بويسى دنجلا Boissy d'Anglas ليس على الدرجة الكافية من الحكمة والتوازن ليقرر سياسة الدولة.

وعلى هذا كان دستور السنة الثالثة Constitution of the year III (تبدأ السنة الثالثة من 22 سبتمبر سنة 1794) كمراجعة لإعلان حقوق الإنسان (1789) لحذف ما به من تضليل وخداع فيما يتعلق بالفضائل والسلطة. لقد جرى حذف الافتراض القائل إن: "الناس يولدون أحرارا، ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق" وعرف المساواة بأنها لا تعني أكثر من أن: "القانون ينطبق على الجميع" وجعل الانتخابات غير مباشرة بمعنى أن يقوم المصوتون Voters (من كان لهم حق الانتخاب وأدلوا بأصواتهم) بانتخاب مندوبين (أو مفوضين delegates) ليكونوا أعضاء في هيئة المنتخبين (بكسر الخاء) electoral College في كل دائرة (محافظة) ويقوم هؤلاء الناخبون بدورهم باختيار أعضاء الهيئة التشريعية الوطنية (على مستوى فرنسا) وأفراد السلطة القضائية Judiciary والهيئات الإدارية. واقتصرت عضوية هيئة المنتخبين على أصحاب الملكيات وبذا يكون اختيار الحكومة الوطنية منوطا بثلاثين ألف فرنسي.

وقدم واحد من الأعضاء اقتراحا للمؤتمر الوطني بإتاحة حق الانتخاب للنساء لكن عضواً آخر أقنعه بسؤال وجهه: "أين هي الزوجة الصالحة التي تجسر على القول بأن رغبة زوجها غير رغبتها؟ " ورفض مبدأ سيطرة الدولة

ص: 194

على الاقتصاد باعتباره غير عملي لأنه يعوق الإبداع والمشروعات ويبطئ من نمو ثروة البلاد.

وضم هذا الدستور بعض الأفكار الليبرالية: لقد أكد على الحرية الدينية، وكذلك حرية الصحافة " لكن في حدود آمنة"(وكانت الصحف في ذلك الوقت في غالبها تديرها الطبقة الوسطى) وأكثر من هذا فإن التصديق على الدستور ترك للناخبين الذكور الراشدين، مع إضافة شرط يدعو للدهشة: أن يكون ثلثا النواب في الهيئات الجديدة أعضاء في المؤتمر وإذا لم ينجح عضو المؤتمر في الانتخابات ملأ الأعضاء (من المؤتمر الوطني) الذين أعيد انتخابهم الفراغ (في الثلثين) باختيار زملاء لهم ممن هم أعضاء في المؤتمر الحالي، وكان تعليل ذلك هو ضرورته لاستمرار السياسات والخبرات.

وكان المصوتون طيعِّين (متجاوبين) فمن بين 958،226 أدلوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع وافق على الدستور 941،853، ومن بين 26،3131 صوت كانت مطلوبة للثلثين (الشرط الآنف ذكره) وافق 167757. وفي 23 سبتمبر سنة 1795 جعل المؤتمر الوطني الدستور الجديد هو قانون فرنسا وجهز لانسحابه (أي المؤتمر) بنظام.

لقد كان من الممكن أن يزعم بقيامه ببعض الإنجازات رغم شهوره التي قضاها في التشوش والإرهاب والخضوع للجان التابعة له وخوف أعضائه من الطرد (من المؤتمر الوطني) بناء على طلب السانس كولوت (عوام الطبقة الثالثة). لقد حافظ المؤتمر على شيء من القانون في المدينة في وقت فقد فيه القانون هالته وجذوره. كما أن المؤتمر دعم تفويض السلطة للبورجوازيين لكنه حاول السيطرة على جشع التجار بدرجة تكفي لمنع حدوث مجاعة تسبب شغب العامة وكان قد نظم الجيوش الفرنسية ودربها، ورفع من شأن الجنرالات الأكفاء المخلصين، وصد التحالف القوي ضد فرنسا وحقق السلام بأن جعل فرنسا تحميها حدود طبيعية (الراين وجبال الألب وجبال البرانس) ومياه المحيط، وبالإضافة إلى هذه الجهود كلها المكلفة أسس النظام المتري، وأسس أو أعاد تأسيس متحف التاريخ الطبيعي ومدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique (البوليتكنك) ومدرسة الطب. وافتتح معهد فرنسا Institute of France، لقد

ص: 195

بات المؤتمر الوطني الآن بعد ثلاثة أعوام ظل فيها باقيا بما يشبه المعجزة يستحق موتاً هادئا على أن يبعث ثلثا أعضاؤه (بانضمامهم للهيئات الجديدة).

لكن ما حدث هو أن موته لم يكن بسلام وإنما ملطخاً بالدم كما هو المألوف في ذلك الوقت فالبلوتوقراط (ذوو النفوذ الناشئ عن ثرواتهم plutocrats) والملكيون الذين كانوا قد استولوا على قسم (حي) الليبليتيير Lepeletiere في باريس حول البورصة، قاموا بحركة تمرد على التشريعات التي ولدت من جديد، وانضمت إليهم أحياء أخرى لأسباب مختلفة تخصها، وكونوا جميعا قوة قوامها 25،000 رجل وتقدموا إلى عدة مواقع فتحكموا في التوليري ومن ثم في المؤتمر الوطني (5 أكتوبر، 1795/ 13 فيندميير Vendemiaire بالتقويم الجمهوري) فعين نواب المؤتمر المرعوبون بارا لتولى أمور الدفاع كيفما اتفق فعين بدوره بونابرت وكان في السادسة والعشرين من عمره، وكان وقتها عاطلا في باريس (أي بلا عمل) ليجمع الرجال والمؤن والأهم من ذلك المدفعية.

وكان بطل طولون Toulon يعرف مكان المدافع فأرسل مورا Murat مع قوة لتأمينها فأحضروها ووضعوها في مراكز تشرف على المتمردين المتقدمين، وصدرت النداءات للمتمردين بالتفرق، فاحتقروها، فأمر نابليون بإطلاق المدافع فسقط ما بين مائتي قتيل وثلاثمائة جريح وفر الباقون، وأحيا المؤتمر الوطني بذلك آخر محاكماته المصحوبة بالتعذيب ودخل نابليون الحاسم القاسي لتكون أعماله وسيرته من أكثر المشاهد دراماتيه في التاريخ الحديث.

وفي 26 أكتوبر حل المؤتمر الوطني نفسه وفي الثاني من نوفمبر سنة 1795 بدأ الطور الأخير للثورة الفرنسية.

ص: 196

‌حكومة الإدارة

ص: 198

‌1 - الحكومة الجديدة

كونت هذه الحكومة من خمسة أجهزة (هيئات Council) أولها مجلس الخمسمائة Les Cinq Cents وخوّل لها اقتراح الإجراءات ومناقشتها لكنها غير مخولة بتحويلها إلى قوانين. وثانيها مجلس الشيوخ Ancients وهو مكون من 250 عضوا لا بد أن يكون الواحد منهم متزوجا وفي الأربعين من عمره على الأقل وهم ليسوا مخولين بوضع التشريعات أو اقتراحها وإنما الاعتراض عليها أو إقرارها (التصديق عليها) وتأتيهم (الاقتراحات resolution) من المجلس (الجهاز) السابق (مجلس الخمسمائة). ويكوّن هذان المجلسان آنفا الذكر الهيئة التشريعية (Corps Legislatif) Legislature ويغير ثلثا أعضائهما سنويا على وفق تصويت هيئات المنتخِبين (بكسر الخاء) الآنف ذكرها.

ويمثل مجلس الإدارة أو حكومة المديرين Directoire السلطة التنفيذية في الحكومة ويتكون من خمسة أعضاء لا يقل عمر الواحد منهم عن أربعين عاما ويتم اختيارهم لمدة خمس سنوات ويقوم على اختيارهم مجلس الشيوخ Ancients من بين خمسين اسماً يقدمهم إليه مجلس الخمسمائة. وفي كل عام يتم اختيار عضو جديد ليحل محل واحد من الأعضاء الخمسة. وتقوم هيئات المنتخِبين (بكسر الخاء) في الدوائر (المحافظات) باختيار السلطات القضائية ومسئولي الخزانة وهما سلطتان مستقلتان عن الهيئات (المجالس) الثلاث الآنف ذكرها "مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ وحكومة (مجلس) الإدارة". إنها حكومة مراجعات وموازنات صمم نظامها لحماية البورجوازية المنتصرة من العوام غير المنضبطين.

واتخذ مجلس الإدارة (حكومة الإدارة أو الخمسة) مقراً له قصر لوكسمبورج وسرعان ما أصبح فرعا دائماً للحكومة سيطر على الجيش والأسطول ورسم السياسة الخارجية وأشرف على وزراء الداخلية والخارجية والبحرية والمستعمرات والحرب والمالية. وأصبح مجلس الإدارة (حكومة الإدارة) تقريباً مستقلا عن الهيئات الأخرى كما كان الحال بالنسبة للجنة الأمن العام، وذلك بفعل الجاذبية الطبيعية التي تنساب بها السلطة إلى القيادة أو بتعبير آخر بفعل الميل للمركزية.

وكان أول مجلس إدارة تم اختياره مكونا من الخمسة الآتية أسماؤهم: بول بارا Paul

ص: 199

Barras ولويس مارى دى لاريفيليير ليبو Louis Mari de Larevelliere-Lepaux وجان فرانسوا ريبل Jean Francois Rewbell وتشارلز ليتورنيه Charles Letourneur ولازار كارنو Lazare Carnot . وكانوا جميعا ممن اشتركوا في قتل الملك (بمعنى وافقوا عليه وعملوا له) وكان أربعة منهم يعاقبة Jacobins وواحد منهم وهو بارا Barras فيكونت (الفيكونت viscount دون الكونت وفوق البارون)، وهم الآن قد كيفوا أنفسهم مع الحكم البورجوازي.

وكان جميعهم رجالا ذوي كفاءة لكنهم باستثناء كارنو لم يكونوا معروفين بالاستقامة الشديدة (لم يكونوا فوق الشبهات). وإذا كان الاستمرار في الساحة السياسية أو البقاء فيها مقياسا للجدارة فإن بارا هو أكثرهم مهارة وقدرة، فقد خدم لويس السادس عشر ثم روبيسبير Robespierre وساعد كليهما حتى آخر دقيقة في حياة كل منهما وناور من أجل سلامته بنجاح فاجتاز الأزمة إثر الأزمة من خلال علاقته بالنساء، فقد اتخذ خليلة إثر خليلة، وجمع الثروة وحقق النفوذ في كل فترة وأعطى نابليون جيشا وزوجه وقد عاش بعدهما وعمر حتى مات بهدوء في باريس في وقت عادت فيه لحكم البوربون وقد بلغ من العمر أربعا وسبعين سنة (1829). لقد عاش تسع حيوات باعها جميعا.

والصعوبات التي واجهتها حكومة الإدارة في سنة 1795 ربما كانت بسبب تعدد المشاكل وكثرتها وتنوعها، مما يعطي حكومة الإدارة عذرا في بعض الأمور التي عجزت عن حلها. فجماهير باريس كانت تواجه دائما المجاعة، والحصار البريطاني قوى من حدة الصراع الاقتصادي لإعاقة حركة نقل الطعام والبضائع وخفض التضخم من قيمة العملة فقد أصبح مطلوبا دفع خمسة آلاف من الأسينات assignats في سنة 1795 لشراء ما كان ثمنه مائة من الأسينات في سنة 1790 وكانت الخزانة تدفع فائدة (أرباحا) على سنداتها بالأسينات على وفق قيمتها الاسمية، مما أدى إلى انضمام أصحاب الدخول الذين كانوا يستثمرون أموالهم في "سندات الحكومة وأسهمها Securities " إلى الفقراء الثائرين.

ص: 200

واشترى آلاف الفرنسيين بضائع ومواد غذائية بكميات كبيرة، وبسباق محموم، ليستفيدوا من التضخم بالغش والخداع، فعندما ترتفع الأسعار وتبلغ ذروتها يطرح المضاربون بضائعهم في السوق، وجرى سباق محموم لبيع مخزون البضائع الرخيصة (التي انهارت أسعارها)، ووجد الأبرياء (غير المضاربين) أن مدخراتهم قد حصدتها قلة نشيطة. لقد واجهت الخزانة الإفلاس مرارا وأعلنته في سنة 1795 مما أفقدها الثقة العامة، وأدى القرض الذي أخذته الحكومة من الأثرياء إلى قيام التجار برفع الأسعار وإلى دمار تجارة الكماليات، وارتفعت نسبة البطالة، واستمرت الحرب ومعها استمر التضخم.

ووسط هذا الفقر وهذا التشوش استمر الحلم الشيوعي الذي كان قد داعب خيال مابلي Mably في سنة 1748 وموريللي Morelly في سنة 1755 ولنج في سنة 1777، استمر في قلوب الفقراء اليائسين، ووجد هذا الحلم الشيوعي من يعبر عنه في جاك رو Jacques Roux في سنة 1793، وفي 11 أبريل 1796 وجدت أحياء الطبقة العاملة في باريس ملصقات تقدم "تحليلا لعقيدة بابيف Babeuf " نقرأ بعض موادها كالتالي":

1 -

لقد جعلت الطبيعة لكل الناس حقوقا متساوية في الاستمتاع بالسلع كلها .....

3 -

فرضت الطبيعة على الإنسان العمل، فلا يمكن منع أى إنسان (لم يرتكب جريمة) عن العمل.

7 -

في المجتمع الحر لا يجب أن يكون هناك غني وفقير.

8 -

الثري الذي لا يساهم بما لديه من فائض لمساعدة الفقراء هو عدو للشعب .....

10 -

هدف الثورة هو القضاء على التفاوت (عدم المساواة) وتحقيق السعادة العامة.

11 -

الثورة لم تنتهِ لأن الأثرياء يمتصون السلع كلها من كل نوع ويسيطرون وحدهم [على السوق] لا يشاركهم أحد، بينما العمال الفقراء كعبيد حقيقيين .. ولا تعتبرهم الدولة شيئا مذكورا.

12 -

دستور 1793 هو قانون فرنسا الحقيقي

وقد أطلق المؤتمر الوطني النار على الشعب الذي طالب بالإبقاء على هذا الدستور وأيدوه ..

فدستور 1793 أقر الحق

ص: 201

الثابت لكل مواطن لممارسة حقوقه السياسية وحقه في الاجتماع والمطالبة بما يعتقد أنه مفيد، وحقه في تعليم نفسه وحقه في ألا يموت من الجوع، وهي جميعا حقوق عارضها بشكل كامل وبصراحة دستور 1795 الذي يمثل الثورة المضادة أو بتعبير آخر المناهض للثورة Counterrevolutionary .

وقد ولد صاحب هذا المنشور وهو فرنسوا إميل بابيف Francois-Emile " Gracchus" Babeuf في سنة 1760 وذكر التاريخ اسمه للمرة الأولى في سنة 1785 كمندوب عينه ملاك الأراضي لدعم حقوقهم الإقطاعية على الفلاحين. وفي سنة 1789 غير اتجاهاته فوزع نشرة، يطالب بإلغاء العوائد الإقطاعية. وفي سنة 1794 استقر في باريس فدافع عن الثيرميدوريين Thermidoreans (نسبة لشهر ثيرميدور أي شهر الدفء في التقويم الجمهوري) ثم ما لبث أن هاجمهم، فقبض عليه وظهر في سنة 1795 كشيوعي متحمس، ونظم بسرعة "رابطة المساواة Sociéte des Egaux" أو رابطة الأنداد " وقد أتبع تحليله Analysis" الذي أوردنا فقرات منه آنفا بإعلان جعل عنوانا له:"قرار العصيان المسلح" موقع باسم لجنة العصيان المسلح للأمن العام. ومن مواده القليلة:

10 -

المجلس (المقصود مجلس الخمسمائة ومجلس الشيوخ) وحكومة الإدارة اغتصبا السلطة، وسوف يتم حلهما، وسيحاكم الشعب أعضاءهما فورا.

18 -

وضع الممتلكات العامة والخاصة تحت رعاية الشعب.

19 -

سيكون من مهام الجمعية الوطنية National assembly المكونة من ديمقراطي عن كل دائرة (محافظة) معين من قبل المتمردين (الخارجين عن السياسة والتنظيمات الحالية) والتي تحمل اسم لجنة العصيان المسلح واجب إنهاء الثورة وفرض الحرية والمساواة ودستور 1793 على الجمهورية. وسيكون هذا الحق قصرا عليها (على لجنة العصيان المسلح). وستبقى هذه اللجنة بشكل دائم حتى يتم إنجاز العصيان المسلح بشكل شامل.

لقد كانت هذه الدعوة المشئومة كدعوة لدكتاتورية جديدة. إنها مجرد تغيير روبيسبير بروبيسبير آخر، وبالغ بابيف في حلمة هذا، فكتب في صحيفته التي تحمل عنوان

ص: 202

"منصة (أو منبر) الشعب Tribune du peuple ".

" لا بد أن يكون ما يملكه الفرد متناسبا مع دوره في [إنتاج] سلع المجتمع، وأي ممتلكات تزيد عن هذا الدور، تم تحصيلها بالسرقة والاغتصاب، فمن العدالة إذن سلبهم هذه الممتلكات (أو الثروات). والشخص الذي يبرهن أنه يستطيع بقوته (بطاقته) الشخصية أن يكسب أو يعمل ما يكسبه أو يعمله أربعة أشخاص إنما هو برغم ذلك يتآمر على المجتمع لأنه يدمر مبدأ المساواة الغالي .... لا بد للتمرد الاجتماعي المسلح أن يستمر حتى يزيح أي شخص لديه أمل أن يكون أغنى من الآخرين أو أقوى منهم أو أكثر تميزا منهم بحكم تنوره ومواهبه. إن الخلاف والتنافر أفضل من الوئام البشع الذي يموت المرء في ظلاله جوعا. دعونا نعود إلى الفوضى والاضطراب، ومن خلاله دعوا خلقاً جديدا يظهر للوجود ".

وأخبر أحد العملاء المحرضين حكومة الإدارة أن أعدادا متزايدة من أهل باريس يقرءون ملصقات بابيف وصحفه وأنه يجري الإعداد لثورة مسلحة في 11 مايو 1796 وفي 10 مايو صدر أمر بالقبض على بابيف والزمرة ذات الموقع القيادي المرتبطة به: فيليبو بوناروتي Filippo Buonarrotti وأ. دارثي A. Darthe وم. ج. فادييه M. G. Vadier وج.- ب. درو J.- B. Drouet . وتمت محاكمتهم في فيندوم Vendome في 27 مايو سنة 1797 بعد سجن دام عاما فشلت فيه مساعي إطلاق سراحهم. وصدر الحكم بسجن بوناروتي وهرب درو Drouet أما بابيف ودارثى فحكم عليهما بالإعدام فحاولا الانتحار لكن الجلادين أسرعوا بهما إلى المقصلة قبل أن تفيض روحاهما. وبطبيعة الحال كانت خطتهما غير عملية تبسط طبيعة الإنسان تبسيطا شديدا لدرجة أنه حتى برولتياريا باريس لم يأخذوا أفكاره على محمل الجد، بالإضافة إلى أن فرنسا بأغنيائها وفقرائها وجدوا في سنة 1797 بطلاً جديدا. إنه أكثر الحالمين سحرا وأكثر المنفذين مدعاة للإبهار في التاريخ السياسي للبشرية.

ص: 203

‌2 - نابليون الشاب

من 1769 إلى 1795 م

قال اللورد أكتون Acton: " لا يمكن أن تكون هناك تدريبات عقلية يمكن أن تكون أكثر فعالية ونشاطا من ملاحظة كيف يعمل عقل نابليون المعروف تماما بأنه أقدر رجل في تاريخ البشرية لكن من الآن يمكن أن يشعر أنه عرف بصدق وبشكل كامل رجلا قدمه لنا مئات المؤرخين المثقفين كبطل ناضل لتوحيد أوربا وسيادة القانون بها، ومئات المؤرخين المثقفين قدموه أيضا كغول استنزف دماء فرنسا وخرب أوربا ونهبها ليشبع نهمه للسلطة والحرب؟ "

من منا يستطيع الزعم بالإحاطة بكل أبعاد نابليون في ظل هذا السؤال الآنف ذكره رغم أن 200،000 كتاب ونشرة قد صدرت عنه. "فالثورة الفرنسية" كما يقول نيتشه:" جعلت نابليون ممكنا بمعنى أنها جعلت من الممكن ظهور نابليون فهو تسويغ أو تبرير لها" ..

وقد استغرق نابليون في التأمل وهو واقف أمام قبر روسو وتمتم قائلا: "ربما كانت الأمور على نحو أفضل لو لم يولد كلانا أبداً".

ولد نابليون في أجاسيو Ajaccio في 15 أغسطس سنة 1769، قبل أن تبيع جنوا Genoa كورسيكا لفرنسا بخمسة عشر شهرا، وقبل أن تؤكد فرنسا تبعيتها (كورسيكا) لها بإخماد ثورة باولي Paoli . ولمثل هذه الأمور التافهة يلتفت التاريخ. ولقد كتب نابليون بعد بعشرين عاما لباولى قائلا:" لقد ولدت عندما كان وطني يموت. ثلاثون ألف فرنسي يتقيئون على شواطئنا، يغرقون تاج الحرية في بحر من الدم. لقد كان هذا منظراً كريها أزعج عيني في مرحلة الطفولة".

وذكر ليفي Livy أن: "كورسيكا جزيرة وعرة جبلية معظمها غير مأهول بالسكان. وأهلها يشبهون طبيعة بلادهم فهم متمردون كالوحوش لا يحكمون" لكن احتكاكها بإيطاليا قد هذب نوعاً ما من هذه الوحشية، ولكن جدب الأرض والحياة القاسية، البدائية غالبا والعداوات الأسرية الشديدة والدفاع الضاري ضد الغزاة، كل ذلك جعل أهل كورسيكا على أيام باولي صالحين لحرب العصابات أكثر من صلاحيتهم للتنازلات التي يتحتم على ذوي الطباع العنيفة أن يقوموا بها للخضوع للنظام وهو أمر مطلوب لتشكيل الحضارة. لقد كانت الحياة المدنية تتطور في عاصمة كورسيكا، لكن خلال معظم الفترة التي كانت

ص: 204

فيها ليتيزيا رامولينو بونابرت Letizia Ramolino Buonaparte (أم نابليون) تحمل بونابرت، كانت تتبع زوجها من معسكر إلى معسكر مع باولي، وعاشت في خيام أو أكواخ في الجبال وتنفست هواء المعركة. ويبدو أن طفلها (نابليون) يتذكر كل ذلك ويسري فيه مسرى الدم فلم يكن لديه بعد ذلك مقدار من السعادة كتلك التي يحس بها وهو يخوض غمار الحروب. لقد ظل إلى النهاية كورسيكا Corsica . وفي كل شيء كان إيطاليا فيما عدا الفترة الزمنية والتعليم -، إيطالياً سلَّمه عصر النهضة لكورسيكا، فعندما استولى على إيطاليا وضمها لفرنسا استقبله الفرنسيون بترحيب باعتباره إيطاليا غزا فرنسا.

وكان أبوه كارلو بونابرت Carlo Buonaparte يمكنه أن يرجع سلالة نسبه إلى أفراد كان لهم وجود في التاريخ الإيطالي: من سلالة نشيطة كانت تعيش في غالبها في تسكانيا Tuscany ثم انتقلت إلى جنوى Genoa ثم هاجرت في القرن السادس عشر إلى كورسيكا، واحتفظت الأسرة بسلالة نسب نبيلة اعترفت بها الحكومة الفرنسية، وعلى أية حال، فعندما أصبحت النبالة في عهد الثورة الفرنسية تمثل خطوة نحو المقصلة طرح نابليون ذكر هذا النسب (غير وضع النرد). وكان كارلو (والد نابليون) ذا موهبة في القدرة على التكيف، فقد حارب في جانب باولي من أجل تحرير كورسيكا فلما فشلت المحاولة سالم الفرنسيين وعمل في الإدارة الفرنسية الكورسيكية وأمن دخول اثنين من أبنائه في الأكاديميات الفرنسية وكان من بين النواب الذين أرسلهم نواب كورسيكا إلى مجلس طبقات الأمة (الذي دعا إليه الملك لويس السادس عشر)"وقد أخذ نابليون عن أبيه عينيه الرماديتين وربما أخذ عنه أيضا سرطان المعدة المميت".

وقد أخذ عن أمه ما هو أكثر: "إنني مدين بنجاحاتي وبكل عمل طيب قمت به لأمي ومبادئها الممتازة. إنني لا أتردد في التأكيد على أن مستقبل الطفل يعتمد على أمه".

وقد كان نابليون يشبه أمه في طاقتها ونشاطها وشجاعتها وثباتها الشديد (المجنون) وحتى في إخلاصها لآل بونابرت كثيري الذرية. ولدت أم نابليون ليتيزيا رامولينو سنة 1750 وتزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها وأصبحت أرملة وهي في الخامسة والثلاثين وأنجبت ثلاثة عشر مولودا في الفترة من 1764 إلى 1784 وشهدت موت خمسة

ص: 205

من أولادها وهم في سن الطفولة ورفعت الباقين بعزم صارم وسعدت بنجاحهم وعانت بسقوطهم.

وكان نابليون هو ابنها الرابع، والثاني بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة من أبنائها. أما الابن الأكبر فهو جوزيف بونابرت (1768 - 1844) فكان لطيف المعشر مغرقا في الشهوات (إبيقوريا epicurean) ونصب ملكا على نابلي ثم على إسبانيا، وكان يأمل أن يكون هو الإمبراطور الثاني لفرنسا، وبعد نابليون في ترتيب أفراد أسرته يأتي لوسيا Lucien (1775 - 1840) الذي ساعده في القبض على زمام الحكومة الفرنسية في سنة 1799، وأصبح عدوه اللدود، لكنه وقف بجانبه في المائة يوم المتسمة بالعبث البطولي، ثم تأتي ماريا أنا إليزا التي أصبحت دوقة لتسكانيا وكانت معتزة بنفسها ومقتدرة وعارضت أخاها في سنة 1813 وسبقته إلى الموت، ثم يأتي من أفراد أسرته لويس (1778 - 1846) الذي تزوج الرقيقة هورتنس دى بوهارنيه Hortense de Beauharnais فقد أصبح ملكا على هولندا وقد أنجب نابليون الثالث.

وأخته الأخرى هي بولين Pauline (1780 - 1825) الجميلة الخليعة التي تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Borghese وقد حكي نابليون قائلا: "إنني وبولين كنا الأثيرين عند أمي هي لأنها كانت ألطف أخواتي وأظرفهن، وأنا لأن إحساسها الفطري جعلها تعتقد أنني سأكون مؤسس عظمة الأسرة ". أما أخته ماريا كارولينا (1782 - 1839) فتزوجت، جوشيم مورا Joachim Murat وأصبحت أميرة نابلي، وأخيرا Jerome (1784 - 1860) الذي أسس الأسرة البونابارتية في بلتيمور Baltimore وأصبح ملكا لوستفاليا Westphalia .

وفي سنة 1779 حصل كارلو (والد نابليون) من الحكومة الفرنسية على امتياز إرسال ابنه نابليون إلى الأكاديمية (المدرسة) العسكرية في برين Brienne التي تبعد نحو تسعين ميلا جنوب شرق باريس. وكان هذا حدثا أساسيا في حياة الفتى، لأنه ربط مصيره بالمجال العسكري، كما جعله حتى نهاية حياته تقريبا يفكر في الحياة والقضاء والقدر بمفاهيم الحرب ومصطلحاتها. لقد أصبحت برين بالنسبة لابن العاشرة محنة أثرت في تكوينه فقد

ص: 206

ابتعد عن داره بعيدا وعاش في بيئة غريبة وصارمة. ولم يستطع الطلبة الآخرون أن يغفروا له كبرياءه وحدة مزاجه اللذين يبدوان غير متجانسين مع نبالته nobility الغامضة (غير الواضحة بالنسبة لهم). وقد عبر نابليون عن ذلك قائلا: "لقد عانيت كثيرا جدا من سخرية زملاء الدراسة الذين كانوا يعتبرونني غريبا".

وانسحب الفتى الذي لم يأتلف مع أقرانه وتقوقع على نفسه واستغرق في الدراسة والكتب والأحلام. وكان ميله للعزلة عميقا، فقد كان قليل الكلام لا يثق في أحد وجعل نفسه بعيدا عن عالم بدا قد صمم لتعذيبه. ومع هذا فقد كان هناك استثناء واحد ذلك أنه صادق لويس أنطوان فيفيليت دى بورين Louis-Antoine Fauvelet de Bourrienne الذي ولد أيضا في سنة 1769 وقد تحمس كل منهما للآخر ودافع عنه، وحارب كل منهما الآخر وبعد انفصال طال بينهما أصبح سكرتيرا له في 1797 وظل قريبا منه حتى سنة 1805.

ومكنت العزلة هذا الشاب الكورسيكي Corsican من التفوق في دراسته التي أشبعت عطشه للسمو والتفوق. لقد نفر من دراسة اللاتينية ومن كل الدراسات الميتة فلم يكن ثمة فائدة له من دراسة فضائل فرجيل Virgilian graces ومحكماته الصامتة. وتلقى دراسات قليلة في الأدب أو الفن لأن المعلمين (في هذه المدرسة الحربية) غير ملمين كثيرا بهذه الأمور. لكنه كان شغوفا منذ البداية بالرياضيات ففيها وجد ما يصبو إليه من دقة ووضوح بعيدا عن الأحكام المسبقة والجدال بالإضافة إلى ضرورتها الدائمة لمهندس عسكري.

وفي هذا المجال تفوق نابليون على كل طلبة فصله، كما أنه كان يستسيغ الجغرافيا فهذه الأراضي المختلفة لا بد من دراستها، ودراسة الشعوب التي تعيش عليها، وفي الأرض الطعام وهو لازم للأحلام وكان التاريخ فيما يرى (وهو كذلك رأي كارليل Carlyle) هو عبادة الأبطال خاصة الذين يقودون الأمم ويشكلون الإمبراطوريات وأحب بلوتارخ Plutarch حتى أكثر من حبه لإقليدس Euclid . لقد تنفس التعاطف مع هؤلاء الوطنيين القدماء وشرب من دم هذه المعارك التاريخية، فقد قال له باولي ذات يوم:"ليس من شيء جديد فيك فأنت تنتمي إلى بلوتارخ تماما". ولا بد أنه كان يفهم هاين Heine الذي قال إنه عندما قرأ بلوتارخ تطلع إلى ركوب حصان والانطلاق لفتح باريس. وقد حقق نابليون هذا الهدف من خلال غزوه

ص: 207

لإيطاليا ومصر، لكن نقطة قوته (مجال تميزه) كانت تبدو واضحة في هجماته الجانبية (هجماته على جناحي الجيش المعادي).

وبعد أن قضى خمس سنوات في برين وقد أصبحت سنه الآن خمس عشرة سنة، أصبح من بين الطلبة الذين تم اختيارهم من اثنتي عشرة مدرسة عسكرية في فرنسا ليحضروا برامج دراسية متقدمة في مدرسة باريس العسكرية (إيكول ميليتير Ecole Militaire) . وفي أكتوبر سنة 1785 تم تعيينه قائم مقاماً ثانياً (ليفيتنانت ثانى Second Lieutenant) للمدفعية في فوج لافير La Fere Regiment المتمركز في فالنس Valence على الرون Rhone . وكان إجمالي راتبه هناك 1،120 جنيه في السنة.

ومن هذا المبلغ كان فيما يظهر يرسل جانبا لمساعدة أمه في تربية أخيه الأصغر، ولأن أباه قد مات في فبراير ولم يكن جوزيف (الابن الأكبر) يملك بعد موارد للمعيشة فقد أصبح نابليون هو رأس الأسرة الفعال. وفي أثناء إجازاته كان يقوم بعدة زيارات إلى كورسيكا وحيدا حتى يشم ترابها " .. حبا في جروفها وجبالها العاليات ووديانها العميقة" وذلك على حد تعبيره.

وفي فالنس وكذلك في أوكسن Auxonne سنة (1788) كسب احترام زملائه الضباط بتقدمه السريع في الفنون العسكرية وبسرعة استيعابه وما لديه من خصوبة فكرية تتمثل في اقتراحاته العملية واستعداده للمشاركة في الأعمال التي تتطلب جهدا بدنياً للتحكم في المدافع. وقد درس بعناية كتابا في التكتيك الحربي هو Essai de tactique generale (1772) بالإضافة إلى كتابات عسكرية أخرى ألفها جاك أنطوان هيبوليت دى جوبير Jacques Antoine Hippolyte de Guibert الرجل الذي أهملته عشيقته جولي دى ليسبيناس ولم يعد نابليون منبوذاً الآن فقد كون صداقات وارتاد المسارح وسمع الكونشرتات وتلقى دروساً في الرقص واكتشف مباهج النساء.

وفي إجازة له قضاها في باريس (22 يناير سنة 1787) راح يحدث نفسه مجهدا عن مغامرة جنسية مع إحدى البغايا. لقد أكد لنا ذلك قائلا: "هذه الليلة باشرت امرأة للمرة الأولى في حياتي" ومع ذلك ظل بعض الاكتئاب يراوده، فكان أحيانا عندما يكون في غرفته

ص: 208

البسيطة منفردا يتساءل بمنطق صرف لم ينبغي أن تستمر حياته؟ "أليس من المحتم أن أموت في وقت ما؟، فربما كان من الأفضل أن أقتل نفسي".

لكنه لم يكن يستطيع أن يفكر في طريقة يتم فيها ذلك بسرور لقد وجد لنفسه وقتا متاحاً في ساعات الفراغ ليوسع مجال تعليمه الذاتي بدراسة الأدب والتاريخ، وقد ظنته مدام دى ريموزا de Remusat آخر وصيفة لجوزيفين Josephine أنه:"جاهل لا يقرأ إلا قليلا، ومتسرع". والحقيقة أننا وجدنا أنه حتى في فالنس وأوكسون Valence & Auxonne كان يقرأ الأعمال الدرامية التي ألفها كورنيل Corneille وموليير Moliere وراسين Racine وفولتير Voltaire، وكان يتلو من الذاكرة فقرات مما قرأ.

وأعاد قراءة ترجمة أميوت Amyot لبلوتارخ ودرس كتاب "الأمير Prince" لمكيافيللي، و"روح القوانين Esprit des lois" لمونتسكيو وكتاب رينال Raynal وعنوانه:" Histoire Philosophique des deux Indes" وكتاب ماريني Marigny عن تاريخ العرب " Histoire des arabes" وكتاب هوسي Houssaye عن تاريخ حكومة البندقية " Histoire du gouvernement de venise" وكتاب بارو Barrow الموسوم باسم: " Histoire d'Angleterre" وغيرها كثير.

وكان يكتب مذكرات أو تعليقات في أثناء القراءة ويقوم بتلخيص الكتب المهمة ولا زالت توجد 863 صفحة من مذكراته وتعليقاته هذه منذ أيام شبابه. وكانت شخصيته متأثرة بالنهضة الإيطالية كما كانت عقليته متأثرة بالتنوير الفرنسي. ولكن شعاعا من الرومانسية تغلغل فيه استجابة لنثر روسو العاطفي والقصائد المنسوبة إلى "أوسيان Ossian" التي كان يستطيبها: "للسبب نفسه الذي جعلني ابتهج لتلاطم الموج وهفهفة الريح".

وعندما قامت الثورة الفرنسية رحب بها وقضى إجازة أخرى في سنة 1790 يعمل بتواؤم كامل مع حكم الثورة. وفي سنة 1791 قدم نابليون لأكاديمية ليون مقالاً دخل بها مسابقة لنيل جائزة قدمها رانيال حول "ما هي الفضائل أو المشاعر التي يجب أن يتحلى بها الشخص ليحقق مزيداً من السعادة؟ " وربما كان مقال نابليون بهذا الشأن متأثرا بما كتبه روسو "هلويز الجديدة Julie، ou La Nouvelle Heloise" . يقول نابليون إجابة عن هذا السؤال:

"علّمهم أن أفضل حياة هي أبسطها. ليفلح الآباء والأبناء التربة وينعموا بثمارها بعيدا عن ضوضاء المدينة وفسادها. فكل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا هو الطعام

ص: 209

واللباس وكوخ وزوجة. دعه يعمل ويأكل وينجب وينام وسيكون أسعد من أمير. فحياة أهل إسبرطة وفلسفتهم هما الفضليان" و"الفضيلة شجاعة وقوة

والطاقة حياة الروح

والرجل القوي صالح والرجل الضعيف هو وحده السيئ".

هنا كان الشاب نابليون صدى لبترا سيماكوس Thrasymachus ومقدمة لنيتشه الذي رد المديح بأن جعل نابليون بطلا للإرادة والقوة. ومن بين آرائه التي ساق لها الأدلة إدانته للملكية والامتيازات الطبقية وتفاهة الإكليروس. وقد رفضت أكاديمية ليون مقالة نابليون تلك باعتبارها فجة.

وفي سبتمبر سنة 1791 زار نابليون مرة أخرى بلده الأصلي [كورسيكا] وابتهج بقرار الجمعية التأسيسية الفرنسية بجعل كورسيكا دائرة (محافظة) تابعة لفرنسا، وحدث شعبها عن مزايا المواطنة الفرنسية كلها. لقد سحب رغبته في الانتقام من الأمة التي جعلته فرنسيا رغم أنفه ذلك أنه شعر أن الثورة كانت تخلق وطنا فرنسيا جديدا ألمعيا، وفي حوار متخيل بعنوان (Le Souper de Beaucaire) نشره على نفقته الخاصة في خريف سنة 1793 دافع عن الثورة باعتبارها:"نضالاً حتى الموت بين الوطنيين والحكام المستبدين في أوربا".

وحث المعارضين كلهم لينضموا للنضال من أجل حقوق الإنسان وعلى أية حال فقد شعر بطله القديم باولي أن انضمام كورسيكا للأمة الفرنسية لن يكون مقبولا منه إلا إذا خولته الثورة سيادة كاملة على الجزيرة، وتقديم دعم مالي له وإلا تم طرد القوات الفرنسية من كورسيكا وكان من رأي نابليون أن هذا اقتراح متطرف واختلف مع مثله الأعلى السابق (باولي Paoli) وعارض طلباته في انتخابات المجلس البلدي في أجاكسيو Ajaccio في أول ابريل سنة 1792، وفاز باولي وعاد نابليون إلى فرنسا.

وشاهد في باريس في 20 يونيو اجتياح الجماهير لقصر التوليري Tuileries وعجب لأن الملك لم يفرق هؤلاء "الوحوش cannibals" بوابل من طلقات حرسه السويسري. وفي 10 أغسطس رأى العوام (السانس كولوت sansculottes) والاتحاديين يسوقون الأسرة الملكية من القصر، فوصف المتجمهرين بأنهم:"حثالة" .. إنهم لا ينتمون للطبقة العاملة أبدا". واستمر في دعم

ص: 210

الثورة مع اتخاذه الحذر والاحتياط بشكل متزايد، وأصبح الآن ضابطا في جيشها. وفي ديسمبر سنة 1793 كما ذكرنا في مناسبة سابقة وجد نفسه في عملية الاستيلاء على طولون ونتيجة التوصيات التي أرسلت إلى روبيسبير بشأنه تم تعيينه عميدا (بريجاديير جنرال brigadier general) وهو في الرابعة والعشرين من عمره.

لكن هذا أدى إلى القبض عليه بعد سقوط روبيسبير، فسجن في أنتيب Antibes ووضع اسمه في قائمة المحالين للمحاكمة وكان من الممكن أن يعدم إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وأعيد لخدمة في مواقع غير فعالة براتب مخفض. وفي ربيع سنة 1795 (كما أخبرنا) كان يتجول على طول نهر السين تراوده فكرة الانتحار عندما التقى به صديق وجعل الحياة تسري في عروقه إذ منحه ثلاثين ألف فرنك وأعاد نابليون المبلغ في وقت لاحق مضاعفا. وفي شهر يونيو وصفه بويسي دنجلا Boissy d'Anglas بأنه:"إيطالي صغير شاحب ونحيل وسقيم لكن وجهات نظره جريئة بشكل لا نظير له". وقد فكر في وقت من الأوقات في الذهاب إلى تركيا لإعادة تنظيم جيش السلطان (العثماني) وليخلص لنفسه بمملكة شرقية على نحو ما. وعندما كان في حالة مزاجية أكثر انتحاء نحو ما هو عملي قدم لوزارة الحرب خطة معركة لطرد النمساويين من إيطاليا.

وفي واحدة من نزوات التاريخ حيث تفتح الأبواب التي لا مناص من فتحها تم تعيين بارا لتنظيم الدفاع عن المؤتمر الوطني عندما حاصره الملكيون وغيرهم في 5 أكتوبر سنة 1795، فقرر بارا أن طلقات المدافع قد تحقق الغرض لكن لم تكن هذه المدافع تحت يده، وكان قد تذكر ما فعله نابليون في طولون فأرسل إليه وأوكل له مهمة تدبير المدافع وإطلاقها، فأدى المهمة وأصبح نابليون فجأة مشهوراً وسيء السمعة. وعندما احتاجت وزارة الحرب قائدا جسورا مجربا لقيادة الجيش الفرنسي المتوجه إلى إيطاليا زكى كارنو Carnot (أو بارا Barras) تعيين بونابرت (2 مارس 1896) وبعد ذلك بسبعة أيام تزوج الجنرال السعيد من جوزيفين التي كانت لا تزال جميلة.

ص: 211

‌3 - جوزيفين دى بوهارنيه

JOSEPHINE DE BEAUHARNAIS

كانت جوزيفين كروليّةً Creole (وهي كلمة تطلق على من كان من سلالة فرنسية أو أسبانية ولكنه ولد في المستعمرات الاستوائية وترعرع فيها). وقد كانت جزيرة مارتينيك Martinique الواقعة في البحر الكاريبي فرنسية طوال 128 عاما عندما ولدت مارى جوزيف روز تاسكر دى لا باجيرى، هناك في سنة 1763 من أسرة أورليان Orleans العريقة. وكان عمها البارون دى تاسكر de Tascher حاكما للميناء، وكان أبوها وصيفاً في مقر أم لويس السادس عشر ماري جوزيف Marie Josephe.

وتلقت جوزيفين تعليمها في دير سيدات العناية الإلهية في فورت رويال Fort Royal (الآن فورت دى فرانس Fort de France) عاصمة الحكومة الاستعمارية. وكان المنهج الدراسي في ذلك الوقت يتكون من تعليم مبادئ العقيدة الدينية بطريقة السؤال والجواب وتعليم السلوك (الاتيكيت) وفن الخط والرسم والتطريز والرقص والموسيقي إذ كانت الراهبات المعلمات يعتقدن أن هذا أجدى نفعا للمرأة من تعليمهن اللاتينية واليونانية والتاريخ والفلسفة. وقد أثبتت جوزيفين أنهن كن على صواب. فقد أصبحت - أي جوزيفين - فيما تقول مدام دى بومبادر de Pompadour " كطبق شهي مقدم لملك a morsel for a king".

وفي السادسة عشرة من عمرها جيء بها إلى فرنسا وزوجت من الفيكونت (دون الكونت وفوق البارون) الكسندر دى بوهارنيه وهي في التاسعة عشرة من عمرها ومع صغر سنها فإنها كانت بالفعل قد خبرت فن الغزل وطرائقه في المجتمع الأرستقراطي الفرنسي. لكن سرعان ما كشف غياب زوجها الطويل والمتكرر انخراطه في ممارسة الرذيلة مما جعل جوزيفين الحساسة تقتنع أن القائد السادس لم يخلق ليكون من الطبقات العليا، فوقفت حياتها بإخلاص لطفليها: يوجين Eugene (1781 - 1824) وهورتنس Hortense (1783 - 1837) وقد ظلا وفيين لها طول حياتهما.

وعندما قامت الثورة مال الفيكونت إليها وكيف سياساته معها وظل محتفظا برأسه طوال خمس سنوات، لكن كلما تقدم الإرهاب أصبح أي لقب من ألقاب النبالة يعرض حاملة للقبض عليه، وبالفعل ففي سنة 1794 تم القبض على الكسندر وجوزيفين وأودع كل منهما

ص: 212

في سجن منفصل وفي 24 يوليو قصت المقصلة رقبة زوجها.

وبينما هي تنتظر المصير نفسه عرض عليها الجنرال لازار هوش Lazare Hoche حبه، فلبت بهيت لك، فكانت من بين النبلاء كثيري العدد الذين تم الإفراج عنهم بعد سقوط روبيسبير.

ولما أصبحت تقريباً معدمة لمصادرة ثروة زوجها وكانت في الوقت نفسه حريصة على تعليم أبنائها، استغلت عينيها الزرقاوين المغريتين وجمالها الهادئ الجاذب لعقد صداقة مع تاييه وأصبحت عشيقة لبارا الصاعد نجمه، وبذا عاد إليها كثير من أموال بوهارنيه المصادرة بما فيها عربة أنيقة ومجموعة خيول سوداء. وأصبحت الآن في المرتبة الثانية بعد مدام تاييه Tallien مباشرة تأثيرا في مجتمع حكومة الإدارة وقد وصف نابليون صالونها بأنه "أكثر صالونات باريس تميزا".

وكان نابليون يحضر بعض الأمسيات في صالونها، وكان مفتونا بمفاتنها الناضجة ودلالها السهل وتصرفاتها الحلوة بشكل يفوق الوصف:"على وفق وصف أبيها المتسامح". "ولم تكن جوزيفين معجبة ببونابرت الذي بدا لها شاباً نهما ذا نظرة جائعة تنادي" بالإضافة إلى أن دخله غير قابل للزيادة. وأرسلت ابنها وكان في ذلك الوقت في الرابعة عشرة من عمره ليلتمس مساعدته لاستعادة سيف زوجها المصادر.

وكان يوجين (ابن جوزيفين) فتى وسيما بسيطا حتى أن نابليون وافق مباشرة على التدخل في الأمر، وأعاد لها السيف بالفعل، فدعته جوزيفين لتشكره ودعته لتناول الغداء عندها في 29 أكتوبر، فأتى إليها وأصبح راغبا فيها أو بتعبير آخر لقد غزته وفي أوائل شهر ديسمبر سنة 1795 لم تكتف بالخضوع بالقول لهذا الذي أصاب قلبه مرض العشق، وإنما خضعت بالفعل فقدمته لسريرها، لكنهما عزفا عن الزواج.

وفيما راح نابليون يستغرق في سرد ذكرياته في جزيرة سانت هيلينا St. Helena فقال: "إن بارا أسدى إليّ خدمة عندما نصحني بالزواج من جوزيفين لقد أكد لي أنها تنتمي إلى المجتمعين؛ القديم والجديد معا، وأن هذه الحقيقة ستكون مزيداً من الدعم لي، فقد كان منزلها هو أفضل منازل باريس، وستخلصني

ص: 213

من اسمي الكورسيكي، وأخيرا فبالزواج منها يمكنني أن أصبح فرنسيا تماما".

وقام بارا أيضا بتوجيه النصح لجوزيفين لتحقيق الغرض نفسه (زواجها من نابليون) لأسباب لا تزال موضع خلاف. إذ قال لها إنه رجل تشير الدلائل كلها أنه سيحقق لنفسه مركزا عاليا في العالم. ولم يهتم نابليون بأمر عشقها السابق لآخرين ولم يكن ذلك عائقا أمامه للزواج منها إذ كتب لها: "كل شيء فيك يعجبني .. حتى عندما أتذكر ما ارتكبته من أخطاء .... فالفضيلة بالنسبة لي هي ما قمت به".

وقد تزوجا في 9 مارس سنة 1796 على وفق إجراءات مدنية (وليس كنسية)، وشهد على وثيقة الزواج كل من تاييه وبارا ولم يحضر أحد من أقارب العروسين. وليخففا من حدة فارق العمر بينهما إذ كان نابليون في السابعة والعشرين من عمره، بينما هي في الثالثة والثلاثين، سجل نابليون أن سنه ثمانية وعشرون عاما، وسجلت جوزيفين أن سنها تسعة وعشرون عاما. وقضى العروسان ليلة الزواج الأولى في منزل العروس، لكن جوزيفين أبدت مقاومة حاسمة لا تراجع فيها فيما يتعلق بكلبها المدلل المسمى بالمحظوظ، إذ قال لها نابليون (كما روى لنا):

"هذا السيد (يقصد الكلب) أسيظل شاغلاً سرير المدام

إنني أريد منه أن يغادر السرير. لكن لم تكن هناك جدوى من مطالباتي فقد قيل لي إما أن أشارك الكلب في النوم فوق السرير، أو أن أنام في أي مكان آخر. لقد كان عليّ أن أقبل هذا الأمر لكن هذا الكلب المدلل كان أقل مجاملة مني".

ففي أسوأ لحظة ممكنة عقر ساقي عقره شديدة خلفت ندبة ظلت فترة طويلة.

وفي 11 مارس كان نابليون ممزقا بين هذه البهجة الجديدة، وعاطفته الطاغية للسلطة والعظمة، فترك البهجة الجديدة ليقود جيشا لغزو إيطاليا في إحدى أكثر المعارك عبقرية في التاريخ.

‌4 - الزوبعة الإيطالية:

27 مارس 1796 - 5 ديسمبر 1797 م

لقد بُسِّط الموقف العسكري بعقد معاهدات مع كل من بروسيا وإسبانيا، أما النمسا فقد رفضت السلام طالما فرنسا متمسكة بفتوحها في الأراضي المنخفضة (Netherlands)

ص: 214

وعلى طول نهر الراين. وواصلت انجلترا حروبها في البحر وقدمت للنمسا إعانة مالية قيمتها 600،000 جنيه إسترليني لتمويل حروبها البرية على فرنسا. وكانت النمسا تحكم لومبارديا Lombardy منذ سنة 1713، وهي الآن متحالفة مع تشارلز إمانويل الرابع Charles Emmanuel IV ملك سردنيا وبيدمونت Piedmont الذي كان يأمل في استعادة سافوي Savoy ونيس Nice اللتين استولى عليهما الفرنسيون في سنة 1792.

وكانت حكومة الإدارة قد تركت أمر التخطيط لعملياتها العسكرية في سنة 1796 لكارنو Carnot، فخططها بحيث تشن فرنسا ثلاث هجمات إختراقية على النمسا. فكان على جيش يقوده جوردا Jourdan أن يهاجم النمساويين عند الحدود الشمالية الشرقية على طول سامبر Sambre والميز Meuse وعلى جيش آخر بقيادة مورو Moreau أن يتقدم ضد النمساويين على طول الموسيل Moselle والراين وعلى جيش ثالث بقيادة نابليون أن يحاول طرد النمساويين والسردينيين من إيطاليا. أما جوردا فبعد أن حقق بعض الانتصارات، واجه القوات المتفوقة للأرشيدوق كارل لودفيج Karl Ludwig فعانى من الهزائم في أمبرج Amberg وفيرتسبورج Wurzburg وتراجع إلى الشاطئ الغربي للراين. أما مورو فتقدم بجيشه في بافاريا وكاد يصل إلى ميونخ ثم علم أن الأرشيدوق المنتصر يمكن أن يقطع خطوط مواصلاته أو أن يهاجمه عند مؤخرة جيشه فانسحب إلى الألزاس. وكأمل أخير لجأت حكومة الإدارة إلى نابليون.

وعندما وصل إلى نيس في 27 مارس وجد أن "الجيش المعد لغزو إيطاليا" ليس على حال يسمح له بمواجهة القوات النمساوية والسردينية التي تسد المدخل الضيق في إيطاليا بين البحر المتوسط وجبال الألب الشاهقة. وكانت قواته مكونه من 43،000 مقاتل شجاع اعتادوا على الحروب في الجبال لكن ملابسهم بائسة ونعالهم بائسة، وطعامهم الكفاف حتى إنهم كانوا يضطرون للسرقة ليظلوا على قيد الحياة، ويكاد لا يصلح منهم لخوض معارك شاقة سوى 30،000، خيولهم قليلة جداً، ويكادون يكونون بلا مدافع. كما أن الجنرالات الذين وضع على رأسهم نابليون ابن السبع والعشرين سنة كانوا مستاءين لتعيينه قائدا لهم وأرادوا أن يشعروه بأنهم أعلى خبرة (هؤلاء الجنرالات هم أوجيرو

ص: 215

Augereau وماسينا Massena ولاهارب Laharpe سيسورييه Sèsurier) لكن عند أول اجتماع عقده لهم نابليون راعهم شرحه لخططه بوضوح واثق، وإصداره أوامره جلية فسرعان ما أصبحوا له طوعا.

لقد استطاع نابليون أن يفرض نفسه على جنرالاته لكنه لم يستطع أن يحرر نفسه من سحر جوزيفين، فبعد أربعة أيام من وصوله إلى نيس نحى خرائطه ومعاونيه وكتب لها خطابا حارا فيه عاطفة مشبوبة لشاب قد اكتشف لتوه عمق عواطفه الكامنة تحت أحلامه بالسلطة:

نيس في 31 مارس 1796

لا يمر يوم دون أن أتدله في حبك، ولا تمر ليلة إلا وأنا أضمك بذراعي. أنا لا أستطيع أن أشرب كوباً من الشاي دون أن ألعن الطموح المادي (الدنيوي) الذي أبعدني عن روح حياتي. لكن مهما كنت مشغولا بالأعمال أو قيادة جنودي أو التفتيش على المعسكرات، فإن جوزيفين حبيبتي تملأ جوانحي ....

إن روحي حزينة وقلبي في الأغلال، وإني أ تخيل أشياء ترعبني، فأنت لا تحبينني كما أحبك، فأنت ستسلين نفسك في مكان آخر ......

إلى اللقاء يا زوجتي يا معذبتي يا سعادتي .... فأنت أنت التي أحبها، وأنت التي أخشاها، إنك مصدر المشاعر التي تجعلني مهذبا كالطبيعة نفسها، ومصدر الدفع الذي يجعلني مفجعاً كالصاعقة .... إنني لا أطلب منك أن تحبينني للأبد أو أن تكوني مخلصة لي، لكنني أطلب منك ببساطة .... أن تقولي لي الصدق .... لقد وهبتني الطبيعة روحا مصممة قوية، بينما روحك رقيقة كونت من شرائط زينة وشاش ..... عقلي منشغل بالخطط الواسعة، بينما قلبي مستغرق فيك منشغل بك تماما ....

إلى اللقاء! آه لو أنك تحبينني أقل مما يجب، ذلك أنك لم تحبينني أبداً، لذا فقد كنت أهلاً للشفقة.

بونابارت

ص: 216

وكتب لها مرة أخرى مرتين في يومي 3 و 7 أبريل، وسط معمعة الحرب. وقد درس المعلومات كلها التي أمكنه الحصول عليها عن قوات العدو التي يتحتم عليه هزيمته: جيش نمساوي بقيادة بوليو Beaulieu في فولتري Voltri بالقرب من جنوا، وجيش آخر بقيادة أرجنتاو Argentau في مونتنوت Montenotte إلى الغرب من الجيش الآنف ذكره (جيش بوليو) وجيش سرديني بقيادة كولي Colli عند سيفا Ceva أبعد إلى بالجنوب.

وقد افترض بوليو Beaulieu أن خطوط مواصلاته هي التي ستملي عليه أي جيش من جيوشه سيكون في حاجة لنجدة طارئة. وعلى هذا الأساس كان يتوقع بناء على أسباب معقولة أن يصد الهجوم الفرنسي نظراً لقواته المشتركة (المتحدة) التي تفوق القوات الفرنسية عددا بنسبة 2 إلى 1 أي أن قواته ضعف القوات الفرنسية، أما إستراتيجية نابليون فهي أن يتحرك بأكبر عدد من جنوده بأقصى سرعة ممكنة وبسرية ليواجه واحداً من الجيوش المدافعة ويسحقه قبل أن ينجده أي جيش من الجيشين الآخرين. لقد كانت خطة نابليون تنطوي على الإسراع بالقوات الفرنسية في طرق جبلية وعره، وكان هذا يتطلب مقاتلين شديدي البأس ذوي عزم. وعمد نابليون إلى إثارة حماسهم ورفع روحهم المعنوية بأول بيان من بياناته المشهورة التي كانت إحدى عُدَدِه - غير قليلة الشأن - في معاركه:

"أيها الجنود. إنكم جائعون عراه. إن الجمهورية مدينة لكم بالكثير، لكنها تفتقد الوسائل لرد ديونها لكم. لقد أتيت لأقودكم إلى أخصب سهول طلعت عليها الشمس. فالمديريات الغنية والمدن الوافر ثراؤها .. كلها ستكون تحت أمركم. أيها الجنود، أيكون هذا الرخاء أمامكم ثم تعوزكم الشجاعة والثبات؟.

لقد كان ذلك دعوة واضحة للسلب والنهب. وكان هذا ضرورياً وإلا بأية وسيلة كان يستطيع هؤلاء الرجال الذين لم يتقاضوا مرتباتهم تحمّل المسيرة الطويلة ثم مواجهة الموت؟ فما كان نابليون مثل معظم الحكام والثوريين ليسمح للاعتبارات الأخلاقية أن تعوق النصر، وكان واثقا أن نجاحه سيمحو خطاياه. ألا يجب أن تساهم إيطاليا في تكاليف تحريرها؟

ص: 217

لقد كان الهدف الأول لإستراتيجيته هو أن يحطم الجيش السرديني ويدفع ملك سردنيا للتراجع إلى تورين Turin عاصمة بيدمونت التابعة له ودخل نابليون في سلسلة مواجهات عسكرية حسمها لصالحه بنجاح: في مونتنوت (11 أبريل) وميليسيمو Millesimo (13 أبريل) وديجو (15 أبريل) وموندوفي Mondovi (22 أبريل) وأدى هذا إلى بعثرة القوات السردينية وتدميرها مما أرغم تشارلز إمانوئيل على توقيع هدنة في شيراسكو Cherasco (28 أبريل) تنازل بمقتضاها عن سافوي ونيس لفرنسا، ومن ثم ا نسحب من الحرب.

وفي هذه المعارك أثر القائد الشاب في المحاربين التابعين له بأوامره الواضحة الحاسمة، وتكتيكاته المنطقية الناجحة التي تكمل حكمة إستراتيجيته التي كانت مبنية في غالبها على مهاجمة جناحي العدو ومؤخرته. وتعلم الجنرالات الأقدمون أن يطيعوه ثقةً منهم في رؤيته وحكمه، أما الضباط الأصغر سنا (مثل جونو Junot ولان Lannes ومورا Murat ومارمون Marmont وبيرتييه Berthier) فكانوا مخلصين له حتى أنهم واجهوا الموت مرارا بسببه. وعندما وصل الجنود الباقون على قيد الحياة بعد هذه الانتصارات إلى مرتفعات مونت زيموتو Monte Zemoto التي يمكن أن يروا منها سهول لومبارديا Lombardy المشمسة انخرط كثيرون منهم في تحية تلقائية للقائد الشاب الذي قادهم بعبقرية.

والآن لم يعد يتحتم عليهم أن يسلبوا وينهبوا كي يعيشوا، فحيثما أقام نابليون الحكم الفرنسي فرض على الأثرياء والإكليروس الضرائب وحث المدن (أو أمرها) على الإسهام في ضبط سلوك جنوده. وفي 26 أبريل، في شيراسكو Cherasco خاطب جيشه مادحاً إياه ومحذرا من قيام الجنود بعمليات سلب أو نهب:

أيها الجنود

لقد حققتم في أسبوعين ستة انتصارات، واستوليتم على واحد وعشرين علما، وخمسة وخمسين مدفعا، وفتحتم أغلى جزء في بيدمونت

كل ذلك بدون أية موارد تزودكم بما هو ضروري. لقد حققتم النصر بلا مدفع، وعبرتم الأنهار بلا جسور، وسرتم سيرا حثيثا بلا نعال، وعسكرتم بلا براندي بل وغالبا بلا خبز ..... إن وطنكم المقدر للجميل والمعترف به

ص: 218

سيكون مدينا برخائه لكم ....

لكن أيها الجنود، إن كل ما فعلتموه لا يساوى شيئا إذا قيس بما ستعملونه. لا تورين Turin ولا ميلان Milan صارت لكم

أثمة واحد فيكم تنقصه الشجاعة؟ أهناك من سيفضل العودة عبر قمم جبال أبنين والألب ليتحمل بصبر نذالة جندي حقير؟ لا ليس من شخص كهذا بين فاتحي مونتنوت وفاتحي ديجو Dego، وفاتحي موندوفي Mondovi . فكلكم تحترقون لزيادة عظمة الشعب الفرنسي ....

أيها الأصدقاء إنني أعدكم بهذا الفتح شريطة أن تقسموا (وتنفذوا ما أقسمتم عليه) أن تحترموا الشعوب التي تحررونها، وأن تكفوا عن السلب الذي يقترفه بعض الأوغاد بتحريض من أعدائنا. وإذا لم تكفوا عن هذا السلب فما أنتم محررون للشعوب بل أنتم إذن جلادوها لو استمر النهب لضاعت ثمار انتصاراتكم وشجاعتكم ونجاحاتكم ودم إخوانكم الذين ماتوا في المعركة، بل وضاع أيضا شرفكم وعظمتكم. ذلك أنه بالنسبة لي وللجنرالات الذين حازوا ثقتكم لا بد أن نستحي من قيادة جيش بلا نظام وضوابط .... إن أي شخص سيقوم بعملية نهب أو سلب سيتم إعدامه رمياً بالرصاص بلا رحمة.

أيها الشعب الإيطالي إن الجيش الفرنسي أتى ليحطم أغلالكم، فالشعب الفرنسي صديق لكل الشعوب، فلتستقبلوا الجيش الفرنسي بثقة، فممتلكاتكم ودينكم وعاداتكم كلها موضع احترام، فلسنا نحقد على أحد سوى على الطغاة الذين يظلمونكم".

بونابرت

لقد شهدت المعركة الأولى عمليات سلب كثيرة، وظل شيء منها رغم هذا الطلب وذاك التهديد، وقد أمر نابليون بإطلاق النار على بعض السلابين وعفا عن آخرين منهم قائلاً:

"هؤلاء البؤساء لا بد من التماس الأعذار لهم، لقد ظلوا طوال ثلاث سنوات يتطلعون للأرض الموعودة

والآن وقد دخلوها فإنهم يريدون الاستمتاع بها". وقد هدأهم بأن جعلهم يشاركون في المؤن والأموال التي تم جمعها من المدن " المحررة".

ص: 219

ووسط هذا الهياج العظيم كله بسبب طول المسيرة، والمعارك ورغم انشغاله بالأمور الدبلوماسية، فقد كان نابليون في كل ساعة تقريبا يفكر في الزوجة التي كان قد تركها بسرعة بعد ليلة العرس. والآن وقد أصبح يمكنها أن تمر بأمان في السيفن Cevennes فقد أرسل لها خطاباً في 17 أبريل يتوسل إليها فيه أن تحضر إليه. وكتب لها في خطاب آخر في 24 أبريل سنة 1796 قائلاً:

"تعالي بسرعة. إنني أحذرك فإن زاد تأخرك، فستجدينني مريضا. فهذه المتاعب التي أواجهها الآن، أيضاف إليها غيابك عني؟! لا أطيق هذا

فليكن لك جناحان، ولتطيري إليّ .. قبلة مني على قلبك .. وقبلة أخرى تحت قلبك بقليل .. وقبلة ثالثة تحت القبلة السابقة

وأخرى تحت

تحت .... أبعد تحت؟! ".

أكانت جوزيفين مخلصة؟ أكان يمكنها، وهي التي تعودت على المسرات أن تكتفي طوال عدة شهور برسائل التملق التي كان يرسلها إليها؟ وفي الشهر نفسه الآنف ذكره (أبريل) وجد ضابط وسيم في الرابعة والعشرين من عمره هو هيبوليت تشارل Hippolyte Charle طريقه إليها. وفي شهر مايو دعت تاليران Tallyerand للقائه.

"ستكونين عاصفةً معه، فمدام ريكامييه Récamier ومدام تاييه Tallien ومدام هاميلا Hamelin كلهن يتقن إليه أو بتعبير آخر فقدن اتزانهن من أجله".

وشغفت به جوزيفين حبا، حتى إنه عندما أتى مورا قادما من طرف نابليون محملاً بالأموال ومعه تعليمات لها بأن تلحق به في إيطاليا، فإنها تلكأت مُتعلِّلة بالمرض وقالت لمورا أن يبلغ نابليون (رئيسه) أنه قد ظهرت عليها دلائل الحمل. وكتب لها نابليون في 13 مايو:

"أحقا ما قاله مورا Murat من أنك حامل!

إن مورا يقول إنك متوعكة وهذا ما جعله يعتقد أنه ليس من التدبير السليم أن تتحملي مشاق هذه الرحلة الطويلة. وعلى هذا فإن عليّ أن أظل فترة أطول دون أن أسعد بضمك بين ذراعي! أمن الممكن أن أحرم من رؤية بطنك وقد ارتفع قليلا من جراء الحمل؟ "

لكن فرحته لم تدم فلم تكن جوزيفين أبداً لتلد له طفلا.

ص: 220

وفي هذه الأثناء قاد نابليون رجاله ليخوض بهم اثنتي عشرة معركة للفوز بدرة لمبارديا مدينة ميلان الغنية المتحضرة. وعند لودي Lodi على الشاطئ الغربي للأدا Adda لحقت قواته الرئيسية بالقوة الرئيسية في الجيش النمساوي بقيادة بوليو Beaulieu ، فتراجع بوليو وعبر النهر فوق جسر خشبي طوله 002 متر تم نصب مدافعه في مواقع تسمح له بمنع الفرنسيين من القيام بعبور مماثل، فأمر نابليون فرسانه بالاتجاه شمالا حتى يجدوا مخاضة يعبرون المجرى منها، ومن ثم يتجهون جنوبا لمهاجمة مؤخرة الجيش النمساوي. واحتفظ نابليون بمشاته خلف أسوار المدينة ومنازلها، وشارك بفعالية في توجيه نيران مدافعه إلى المدافع النمساوية التي تحمي الجسر. وعندما وصل فرسانه فجأة إلى الشاطئ الشرقي للنهر وهاجموا القوات النمساوية، أمر نابليون الرماة (رماة القنابل اليدوية) أن يشقوا الطريق عبر الجسر فحاولوا لكن المدافع النمساوية أوقفت تقدمهم، فاندفع نابليون متقدما وانضم إلى كل من لان Lannes وبيرثييه Berthier في قيادة المجموعة فهزم النمساويون وأسر منهم ألفان، فانسحب بوليو Beaulieu إلى مانتوا Mantua واستراح الجيش الفرنسي مدة يوم ثم دخل ميلان وبسبب هذه الواقعة وهي اندفاع القوات الفرنسية بقيادة بونابرت بشكل انتحاري وبروح عالية في الوقت نفسه معرضا نفسه لنيران العدو أطلق عليه تدليل محبب وهو "العريف الصغير Le petit Caporal ".

وبعد هذا الانتصار بفترة وجيزة تلقى نابليون من حكومة الإدارة اقتراحاً مهينا له حتى إنه نص في رده لهم عن تخليه عن مهامه مضحيا بما وصل إليه من مجد. فهؤلاء الرجال الخمسة (حكومة الإدارة) الذين كانوا ينعمون بالمهرجانات الاحتفالية عندما تصل أخبار انتصارات نابليون إلى باريس، أخبروه (7 مايو) بضرورة أن ينقسم جيشه الآن إلى قسمين؛ قسم يقوده الجنرال فرانسوا إيتين كيلرمان Franscois- Etienne Kellermann (ابن محقق نصر فالمي Valmy) ليعهد إليه حماية الفرنسيين في شمال إيطاليا من هجمات النمساويين، وقسم بقيادة بونابرت ليتجه به جنوبا ليضم الولايات الباباوية Papal States ومملكة نابلي إلى الحكم الفرنسي. ولم ير نابليون في هذا الاقتراح حيفا أو ظلما لشخصه فحسب وإنما رأى فيه خطأ إستراتيجيا أساسيا، فالهجوم على الباباوية Papacy لن يثير فحسب كاثوليك

ص: 221

أوربا كلهم بمن فيهم كاثوليك فرنسا على الثورة الفرنسية، وإنما سيكون كاثوليك النمسا مستعدين بالفعل لإرسال جيش قوي بقيادة الفيلد مارشال كونت داجوبيرت فون فيرمسر (فورمسر (Wurmser لطرده (أي طرد نابليون) إلى فرنسا. لذا فقد أجاب نابليون بأن الجيش الفرنسي في إيطاليا Army of Italy في حاجة لأن يكون موحدا مزودا بما يلزمه ليحافظ على مكاسبه ولا يمكن أن تتم قيادته بنجاح إلا بقيادة واحدة، لذا فهو - أي نابليون - سيترك موقعه القيادي للجنرال كيلرمان Kellermann وسيقدم استقالته.

وتلقت حكومة الإدارة رسالة نابليون في الوقت الذي تلقت فيه تقارير عن نجاحاته الأخيرة في المجالين الحربي والدبلوماسي. ذلك أن الجنرال الشاب (نا بليون) كان قد أعطى لنفسه الحق في عقد معاهدات السلام تماما كحقه في شن الحرب، كما أعطى لنفسه الحق في أن يقدر الثمن الذي يجب أن تدفعه كل مدينة أو دولة إيطالية لتنعم بالحماية الفرنسية بدلاً من أن يتركها نهباً لطمع عساكره، ولم يعط نابليون لنفسه هذه الحقوق إلا اعتزازا منه بما حققه من نصر ولشعوره بأن هؤلاء السياسيين القابعين بعيدا في باريس (حكومة الإدارة) ليسوا في موقف يمكنهم من التفاوض لعقد المعاهدات بما يتناسب مع موارد العدو وظروف الجيش الفرنسي. وإنما وجد نفسه هو الأقدر بحكم قربه من الحقائق الموجودة على أرض الوا قع. لكل هذا فإنه بعد دخوله ميلان Milan منتصرا (51 مايو 6971) رتب هدنة مع دوق بارما Duke of Parma ودوق مودينا Modena وملك نابلي Naples ، ضمن - من ناحيته - لهم السلام مع فرنسا وحمايتهم من النمسا، وحدد لكل منهم قيمة ما يدفعه لقاء هذا التفاهم، فدفعوا مبالغ طائلة وتحملوا - عاجزين عن فعل أي شيء - سرقة الأعمال الفنية الخالدة من متاحفهم وقصورهم وميادينهم العامة.

لقد رحبت به ميلان، فطوال ما يقرب من قرن كانت تتطلع للتحرر من حكم النمسا، وكان هذا القائد الحربي الشاب - على غير العادة - كريما - إذا قيس بالفاتحين الآخرين، وكان متآلفا مع أسلوب الحياة الإيطالي ومع اللغة الإيطالية مقدرا للنساء الإيطاليات، حفيا بموسيقا الإيطاليين وفنهم. ولم يكن ذلك غريبا على الإيطاليين فلم يكن إدراكهم لشغفه بالفن الإيطالي مفاجئا. وعلى أية حال فهو لم يكن إيطاليا إلا لشهر أو نحو ذلك (المقصود

ص: 222

أنه لم يظل ودوداً بهذا الشكل إلا لفترة شهر أو نحو ذلك). لقد جمع حوله فناني إيطاليا وشعراءها ومؤرخيها وفلاسفتها وعلماءها وراح يتحدث معهم بألفة. لقد بدا له لفترة وكأن لودوفيكو سفورزا Lodovico Sforza وليوناردو دا فنشي Leonardo da Vinci بعثا معا من جديد وصارا كيانا واحدا. أي شيء يمكن أن يكون أكثر جاذبية وتشويقا من خطابه إلى عالم الفلك بارنابا أورياني Barnaba Oriani ؟

" المثقفون والعلماء في ميلان لم يعتادوا أن ينعموا بما يستحقونه من تقدير. فهم مختبئون في معاملهم يظنون أنه إذا لم ينلهم من الملوك والقسس أذى، إنهم إذن لفي نعيم. إن الأمر ليس كذلك الآن. لقد أصبح الفكر في إيطاليا حرا. لا مكان لمحاكم التفتيش بعد الآن. لا مكان للتعصب وعدم التسامح. لا مكان للظلم والطغيان. إنني أدعو المثقفين والعلماء كلهم أن يجتمعوا معا وأن يدلوني على ما يجب عمله أو الاحتياجات المطلوبة حتى نبث حياة جديدة في العلوم والفنون الجميلة

أرجوك أبلغ هذه المشاعر عني للرجال المميزين من قاطني ميلان المثقفين والعلماء" (05).

قد أدمج نابليون مدينة ميلان ومدناً أخرى في جمهورية لومبارديا التي كان على سكانها أن يشاركوا الفرنسيين في "الحرية " و "المساواة" و "الإخاء" و "الضرائب".

وفي إعلان للمواطنين الجدد (صدر في 91 مايو 6971) وضح أنه ما دام الجيش المحرر قد دفع ثمنا باهظا لتحرير لومبارديا، فإن على المحررين أن يشاركوا بدفع نحو عشرين مليون فرنك لإنفاقها على جنوده (جنود نابليون)، وهذا - بالتأكيد - مجرد إسهام صغير بالنسبة لبلاد بمثل هذا الخصب، وأكثر من هذا فإن الضرائب ستفرض على "الأثرياء

وعلى المؤسسات الكنسية حتى يتم إعفاء الفقراء (15). ولم يحظ النظام الذي فرض في الأيام الآنف ذكرها بكثير من الشعبية، ذلك النظام القاضي بأن يصحب مندوب إيطالي الجيش الفرنسي ليدله على الأعمال الفنية والمستلزمات العلمية وما إلى ذلك الموجودة في المدن المفتوحة لتحويلها إلى الجمهورية (25). ولم يستطع الإيطاليون الثأر لأنفسهم وإنما عللوا أنفسهم ببعض التوريات اللفظية كقولهم:"ليس الفرنسيون كلهم لصوصا وإنما منهم عدد كبير من الصالحين". وعلى أية حال فقد كان نابليون يتبع في هذا النظم التي وضعها المؤتمر

ص: 223

الوطني وحكومة الإدارة، وكان سلب الأعمال الفنية في المدن المفتوحة عملاً ليس له سوابق إلا فيما ندر، أثار السخط في كل مكان ما عدا فرنسا، وكان نموذجا احتذاه المحاربون بعد ذلك. وتم إرسال كل ما سلب إلى حكومة الإدارة فتلقتها بسرور ووجدت هذه المسلوبات طريقها إلى اللوفر Louvre حيث توجهت لوحة الموناليزا Mona Lisa التي لم تفقد ابتسامتها رغم ما تعرضت له من اغتصاب (المقصود أن نقل اللوحة من إيطاليا إلى فرنسا نوع من الاغتصاب) واحتفظ نابليون لنفسه بقليل من العوائد الإيطالية (35) استثمر بعضها في تقديم الرشاوي بحكمة وتدبير، واستخدم كثيرا منها في الدفع لجنوده ليخفف من حماسهم للسرقة.

وبعد أن جهز نابليون عشا لعروسه أرسل يلح على جوزفين (81 مايو) لتأتي إليه: "ميلان

لابد أن تعجبك فهي جميلة جداً .. سأطير من الفرح

أكاد أموت شوقاً لأراك وأنت تحملين طفلك

Addio،mio dolce amor .... تعالي بسرعة لتسمعي الموسيقا اللطيفة ولترى إيطاليا الجميلة" (45). وبينما كان خطابه في الطريق إليها عاد لينهمك في طرد النمساويين من إيطاليا. وفي 02 مايو كان مرة أخرى مع جنوده ولأنه كان يعلم أنهم سيواجهون بعد فترة وجيزة كثيرا من المصاعب وقوات العدو، فقد خاطبهم في بلاغ آخر من بلاغاته البليغة:

"أيها الجنود

لقد اندفعتم كالسيل من جبال أبينين Apennines وهزمتم كل قوة اعترضت مسيرتكم وشتتم شملها

فبو Po وتيسينو Ticino وأدا Adda لا يمكنها أن توقف تقدمكم .. نعم، أيها الجنود، لقد قمتم بالكثير لكن أحقا ما عاد مطلوبا منكم شيئا آخر؟ لا! إنني أراكم بالفعل وقد طرتم لتقبضوا على أسلحتكم

فأنتم لا تحبون الاستجابة الكسلى .. فكل يوم يمر دون أن تحققوا أمراً جليلا، إنما هو يوم ضائع لا يحسب من أعماركم .. وهو ضائع أيضا لأنكم لم تحققوا فيه سعادتكم. دعونا نتحرك بسرعة، فما زال أمامنا مسيرة شاقة، ومازال أمامنا عدو يتحتم علينا الانتصار عليه، ولا زالت أمامنا أكاليل الغار نحوزها، ومن الخطأ أن تحركنا روح الانتقام

لا تفزعوا الشعوب التي نمر بها، فنحن أصدقاء

ص: 224

للشعوب كلها

ستحوزون العظمة الخالدة لتغييركم وجه الحياة في أجمل بقاع أوربا .. فالأمة الفرنسية الحرة

ستقدم لأوربا سلاما مجيدا

عندها ستعودون إلى بيوتكم ومواطنيكم الذين سيميزونكم عن سواكم

سيقول قائلهم عن الواحد منكم " إ نه كان مع الجيش الفرنسي المقاتل في إيطاليا "(55).

وفي 72 مايو واصلت القوات الفرنسية تقدمها في لومبارديا واحتل نابليون بريسكيا Brescia - متجاهلاً أنها تابعة للبندقية - وجعلها المركز الأول للمعركة القادمة، وعندما أرسلت البندقية مبعوثيها إليه للاحتجاج، تظاهر بالغضب وأثار الرعب فيهم بقوله لهم إن البندقية - بالفعل - تسمح للقوات النمساوية باستخدام طرقها ومدنها، فاعتذر البنادقة له ووافقوا على أن يكون له الحق نفسه في استخدام أراضي البندقية (65).

وأدى جد القوات الفرنسية في المسير إلى وصولها إلى بشيرا Peschiera ، فهربت الحامية النمساوية التي تركها النمساويون فيها، وتملك نابليون الحصن الاستراتيجي ودعمه ليحمي طرق مواصلاته، واندفع إلى مانتوا Mantua حيث كانت بقايا جيوش بوليو Beaulieu الثلاثة قد اتخذت لنفسها مواقع دفاعية حصينة. وترك نابليون جزءاً من قواته لمحاصرة الحصن، وأرسل جزءاً آخر إلى الجنوب لطرد البريطانيين من ليجورن Leghorn ، وتم ذلك فعلا، وسرعان ما قامت ثورة شعبية أرغمتهم على مغادرة كورسيكا. ووجد مورا Murat أن طرد المبعوث (السفير) النمساوي من جنوا مسألة بسيطة، وعمل على ضم هذا الجزء النَّاتئ في البحر المتوسط في الجمهورية الليجورية تحت الحكم الفرنسي. ولا تكاد تكون إيطاليا قد شهدت مثل هذه التغييرات في القوى في فترة قصيرة كما شهدتها في هذه الفترة.

وعاد نابليون إلى ميلان وانتظر جوزفين التي وصلت في 31 يوليو، فعانق القائد المنتصر (نابليون) هازمه (جوزفين). وفي اليوم التالي حيتها المدينة بإقامة عروض خاصة في لاسكالا La Scala أعقبها حفل راقص قدم لها فيه الشخصيات المحلية البارزة كلهم -

ص: 225

وبعد ثلاثة أيام من النشوة كان على الجنرال (نابليون) أن يعود إلى جنوده في مارميلورو Marmiloro، ومن هناك بثها أنشودة حب وإعجاب وفتنة لا تصدر إلا عن شاب:

"منذ فارقتك وأنا حزين الفؤاد. عندما أكون معك لا أستطيع ادخار شيء من السعادة

فمفاتن جوزفنيني (حبيبتي جوزفين) التي لا مثيل لها تشعل النار التي تحرق قلبي باستمرار وتلهب مشاعري. وعندما أتخلص من مشغولياتي ومسئولياتي، وأكون حرا في قضاء وقتي كله معك، فلن أفعل شيئا سوى أن أحبك.

منذ أيام قليلة مضت ظننت أنني أحبك، لكن الآن وقد رأيتك مرة ثانية فإنني أحبك أكثر من ذى قبل آلاف المرات ....

آه! إنني أتوسل إليك، دعيني أرى أن فيك عيوبا. كوني أقل جمالا، أقل لطفا، أقل رقة، أقل طراوة. وفوق كل هذا لا تكوني غيوراً. لا تبكِي، فدموعك تفقدني عقلي، تجعل دمائي تغلي .. تعالي بسرعة إليّ، على الأقل لنستطيع القول قبل الممات: لقد قضينا ساعات كثيرة طيبة معاً

" (75).

وأطاعت جوزفين رغم خطر شرك العدو في الطريق فلحقت به في بريسكيا Brescia وصحبته إلى فيرونا Verona وهناك حمل له جواسيسه أخبارا مفادها أن جيشا نمساويا جديدا كان قد دخل إيطاليا بقيادة الكونت فون فيرمسر Von Wurmser كان قد طرد مؤخرا الفرنسيين من مانهيم Mannheim وقدر أن عدد أفراد هذا الجيش المعادي يفوق عدد قوات نابليون بنسبة 3 إلى 1.

وتحسبا لكارثة محتملة أعاد جوزفين إلى بيشيرا Peschiera ودبر أمر نقلها من هناك إلى فلورنسا. وفي هذه الأثناء أصدر أوامره للفصائل الفرنسية بضرورة أن تغادر إلى مانتوا Mantua لفك الحصار عنها، وأن تأتي من طرق ملتوية (غير مباشرة) لتنضم إلى قوات جيشه الرئيسية. ووصلت القوات الفرنسية في وقت مكنها من المشاركة في معركة كاستيجليون Castiglione (5 أغسطس 6971). ولم يكن فيرمسر Wurmser يتوقع هذا الهجوم الفرنسي المبكر، فقد كان يقود كتائبه صوب الجنوب في صفوف طويلة ليس لها عرض كثيف، فانقض نابليون على القوات النمساوية غير المستعدة وشتتها وأسر خمسة

ص: 226

عشر ألف أسير، وتراجع فيرسمر Wurmser إلى روفيريتو Rovereto فتبعته القوات الفرنسية وألحقت به الهزيمة هناك، كما ألحقت به هزيمة أخرى في باسانو Bassano ، وهرب القائد العجوز الحزين مع من تبقى من جيشه ليجد له ملجأ خلف أسوار مانتوا Mantua، فترك نابليون بعض فصائل قواته للتعامل معه هناك.

لكن - الآن - وصلت قوات نمساوية إضافية عددها 000.06 مقاتل بقيادة بارون ألفتزي Alvinczy عبر جبال الألب لتخوض حربا مع 000.54 مقاتل فرنسي هم من بقى الآن مع نابليون. والتقى الجيشان في أركول Arcole، لكن هذه القوات النمساوية كانت على الجانب الآخر من نهر أديجي Adige ولم يكن يمكنها العبور إلا على جسر في ظل وابل من النيران. ومرة أخرى - كما حدث في لودي Lodi في الأدا the Adda كان نابليون من بين أول العابرين. وقد حكى نابليون بعد ذلك:"عندما كنت في معمعة المعركة، ألقى مساعدي الكولونيل مويرو Muiron بنفسه ناحيتي وغطاني بجسده وتلقى عني قذيفة كانت موجهة لي، وغرق عند قدمي"(85). وفي معركة الأيام الثلاثة التي تلت ذلك (51 - 71 نوفمبر 6971) تراجع النمساويون - بعد قتال شرس - تراجعا منظما. وأعاد ألفنتسي Alvinczy ترتيب قواته في ريفولي Rivoli لكنه لاقى هناك هزيمة أخرى، فقاد ألفنتسي ما تبقى من قواته - بعد أن فقد 000.03 مقاتل، وعاد متراجعا إلى النمسا. أما فيرسمر Wursmer فبعد أن فقد الأمل في استرجاع شيء وبعد أن عانت قواته من الجوع بشكل يدعو للشفقة - استسلم في 2 فبراير سنة 7971، وبذلك يكون قد تم استيلاء الفرنسيين على لومبارديا.

وبعد ذلك استدار نابليون - النهم - بقواته إلى الجنوب في اتجاه الولايات الباباوية، وطلب - بأدب - من البابا بيوس السادس Pius VI أن يتنازل عن بولونيا Bologna وفرارا Ferrara ورافنا Ravenna وأنكونا Ancona والأراضي التابعة لهذه المدن جميعا. وبالفعل

ص: 227

سلم البابا هذه المدن إلى نابليون على وفق معاهدة تولينتينو Tolentino (91 فبراير 7971)، ودفع البابا مبلغ خمسة عشر مليون فرنك "تعويضاً indemnity " عما لحق الجيش الفرنسي من خسائر. لقد أصبح نابليون الآن هو سيد الشمال الإيطالي كله فيما عدا بيدمونت Piedmont والبندقية (فينيسا)، فأعاد تنظيم قواته وأضاف إليها بعض الكتائب كونها في إيطاليا بالإضافة إلى دفعة جديدة وصلته من فرنسا بقيادة الجنرال برنادوت Bernadotte فبلغ عدد أفراد القوات تحت إمرته 000.57 مقاتل قادهم عبر الألب في طرق ارتفع فيها الجليد ثلاثة أقدام، ليهاجم فينا نفسها، المركز الإمبراطوري للهجوم على الثورة الفرنسية.

وأرسل الامبراطور فرانسيس الثاني Francis II جيشا قوامه 000.04 مقاتل لمواجهته بقيادة الأرشيدوق كارل لودفيج Karl Ludwig الذي عاد لتوه ثملاً بما حققه من انتصارات على جبهة الراين Rhine لكنه عندما علم بأعداد القوات الفرنسية المتقدمة، وهالته شهرة نابليون المقرونة بالاحترام اتخذ استراتيجية تراجعية (خططاً للانسحاب)، فتعقبه نابليون حتى أصبح على مسافة ستين ميلا من العاصمة النمساوية، وكان يمكنه حتى بلا جيش أن يستولي على المدينة فيحلو له عند ذلك أن يترنم مع هايدن العجوز Haydn وبيتهوفن الشاب. لكن لو أن ذلك حدث لتراجعت حكومة فينا إلى المجر وساعتها قد تطول مدة الحرب وتتسع رقعتها، وفي وسط الشتاء، وسيكون الجيش الفرنسي في وسط معادٍ عرضة في كل لحظة للهجوم على جناحيه. وفي لحظة نادرة من لحظات الاعتدال وبالحذر الذي استفاد منه كثيرا في سنواته اللاحقة - أرسل نابليون إلى الأرشيدوق دعوة للتفاوض لعقد هدنة، لكن الأرشيدوق رفض العرض، فألحق به نابليون هزائم منكرة في نو ماركت Neumarkt وفي أومتسماركت Umzmarkt فوافق كارل على التباحث، وفي 81 ابريل في لوبن Leoben عقد القائدان الشابان معاهدة سلام مبدئية يتوقف إقرارها على موافقة حكومتيهما.

وكان الطريق إلى التصديق على المعاهدة مغلقا يعترضه رفض النمسا التسليم من ناحية، وإصرار نابليون على الاحتفاظ بفتوحاته في لمبارديا من ناحية أخرى. لكن حدثاً بدا قليل

ص: 228

الشأن أعطى لنابليون فرصة - كفرصة لاعب القمار - ليتخلص من هذا المأزق. لقد كان نابليون قد احتل عدة مدن تابعة للبندقية (فينيسيا)، وقد سرى عصيان مسلح في بعض هذه المدن ضد الحاميات الفرنسية. ولأن مجلس الشيوخ (السينات (Senate في البندقية كان متورطا في إثارة هذا العصيان، فقد عزله نابليون وأحل محله سلطات بلدية (جهاز إداري على نمط المجالس البلدية) تابعة للسيطرة الفرنسية وجردها (أي البندقية) من الأراضي التابعة لها في البر الإيطالي. وعندما حان الوقت لتحويل الاتفاق المبدئي في لوبن Loeben ليصبح معاهدة كامبوفورميو Campoformio (71 أكتوبر 7971) عرض نابليون على النمسا أن تكون حرة في ضم البندقية إلى إمبراطوريتها مقابل تنازلها عن لمبارديا وبلجيكا واعترافها بالحقوق الفرنسية على الشاطئ الأيسر لنهر الراين Rhine. لقد اعترى أوربا كلها تقريبا رعب شديد بسبب دبلوماسية التبرع بأراضي الآخرين هذه (إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق)، ونسيت آلاف المعاهدات.

وعلى أية حال فإن مكيافيللي الجديد أصر على الاحتفاظ لفرنسا بالجزر التابعة للبندقية في البحر الأدرياتي وهي كورفو Corfu وظانطه Zante وسيفالونيا Cephalonia. فقد كتب نابليون إلى حكومة الإدارة في 61 أغسطس 7971 "إن هذه الجزر بالنسبة لنا أكثر فائدة لنا من إيطاليا كلها مجتمعة. إنها حيوية لإنعاش تجارتنا وازدهارها وإذا كان علينا أن ندمر إنجلترا بفاعلية فلا بد لنا من الاستيلاء على مصر. فالإمبراطورية العثمانية تذوي يوما بعد يوم، وهذا يرغمنا على استباق الأحداث وأن نتخذ خطوات مبكرة للحفاظ على تجارتنا في الشرق (95) Levant ". لم يكن لدى الشيوخ إلا القليل ليعلموه لهذا الشاب ابن الثامنة والعشرين (نابليون).

وأعاد نابليون تنظيم المناطق التي فتحها فخول لنفسه صلاحيات سياسية واضحة، فجعل من ميلان مركزا لجمهورية سيزالبينية Cisalpine وجعل من جنوا مركزا لجمهورية ليجورية، يحكم كل منهما حكومة ديمقراطية محلية تحت الحماية الفرنسية وأيضا تحت السيادة الفرنسية. والآن وقد انتقم من الفتح القيصري الروماني لبلاد الغال، عاد العريف

ص: 229

الصغير Little Corporal (عبارة تدليل أطلقها عليه جنوده) مكللا بغار المجد محملاً بالأسلاب - إلى باريس لاعتماد معاهداته التي أبرمها من حكومة إدارة انتقالية كان هو - بانتصاراته - قد ساعد أعضاءها على البقاء في مناصبهم.

‌5 - انقلاب: 18 فروكتيدور - 4 سبتمبر 1797

لم تكن باريس التي وصلها هي باريس نفسها التي ألفها في أيام عامي 1792 و 1793 حيث حكم الجماهير والحشود. بل إنه حتى منذ سقوط روبيسبير سنة 1794 كانت العاصمة (باريس) تتبع خطى أهل الريف فزادت معارضتها للثورة؛ معارضة ذات بعد ديني وبعد سياسي أيضا. فالكاثوليكية - بقيادة القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني - استعادوا نفوذهم على شعب كان قد فقد تصديقه للبديل الدنيوي عوضا عن الآمال المعقودة على حياة أخرى فيها العزاء وزاد حنينه إلى الطقوس الدينية والمناسبات المرتبطة بالقديسين، فزاد إهماله للنظام العشري لتقسيم الأيام الذي ابتدعته الثورة The décadi واعتبار اليوم العاشر هو يوم الراحة، وعادوا للاحتفاء بيوم الأحد من كل أسبوع وتوقيره. إن فرنسا تصوت الآن لصالح الرب.

أما بالنسبة للملك، ففي البيوت والصالونات والشوارع بل وفي تنظيمات الأحياء التي كان العوام (السانس كولوت) يسيطرون عليها - راح الرجال والنساء يتحسرون على أيام الرجل الطيب لويس السادس عشر وراحوا يلتمسون الأعذار لما وقع فيه البوربون Bourbon من أخطاء وراحوا يتساءلون أيمكن لأي حكومة أخرى غير الملكية الشرعية أن تعيد النظام والأمان والرخاء والسلام وتخرج فرنسا من حالة الفوضى والجريمة التي دمرت فرنسا؟ والمهاجرون العائدون (الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) كثر عددهم حتى إن الظرفاء منهم أطلقوا على مقار إقامتهم في باريس اسم "كوبلنز الصغيرة Le petit Coblenz"(إشارة إلى مكان إقامتهم في ألمانيا بعد مغادرتهم فرنسا)، وفي مقارهم في باريس بعد عودتهم كان يمكن للمرء أن يسمع الفلسفات الملكية التي كان يدعوهم إليها

ص: 230

خارج فرنسا بونال Bonald وميستر Maistre.

والجمعيات المنتخبة التي كان يسودها البورجوازيون كانت ترسل إلى مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة مزيدا من النواب المستعدين لمغازلة النظام الملكي شريطة ضمان الممتلكات. وبحلول سنة 1797 كان أنصار النظام الملكي في المجلسين من القوة بمكان حتى إنهم انتخبوا لحكومة الإدارة الماركيز دى بارثيليمي de Barthelemy ووجدنا لازار كارنو عضو حكومة الإدارة منذ سنة 1795 يعود مرة أخرى إلى اليمين ويتخذ موقفا معارضا من دعايات بابيف وراح ينظر بعين الرضا إلى الدين باعتباره طعما (تطعيم) ضد الشيوعية.

وشعر الجمهوريون الراسخون من أعضاء حكومة الإدارة - بارا ولاريفيليير - ليبو - Larevelliere-Lepaux وروبل Rewbell، بالخطر على مناصبهم وحياتهم بسبب الحركة الملكية، فقرروا المخاطرة بكل شيء والقيام بانقلاب يمكن أن يخلصهم من الزعماء الملكيين في كلا المجلسين وفي حكومة الإدارة.

وراحوا يطلبون الدعم الجماهيري من اليعاقبة الراديكاليين الذين اختفوا عن الساحة والمرارة في حلوقهم في أثناء حركة المحافظين (المطالبين بالعودة إلى الماضي الملكي)، كما طلبوا الدعم العسكري من نابليون ليرسل لهم من إيطاليا جنرالا ذا كفاءة لتنظيم جنود باريس للدفاع عن الجمهورية. وكان نابليون راغبا في مساعدتهم، فإحياء مطالبات أسرة البوربون بالعرش قد تحبط خططه، إذ كان راغبا في ترك الطريق مفتوحا لوصوله هو للسلطة السياسية، فالوقت لم يصبح مناسبا بعد لهذه المغامرة. فأرسل إليهم قائدا حازما هو بيير أوجرو وهو رجل محنك عركته المعارك.

فقام أوجرو بضم بعض جنود هوش للعمل معه، وبهؤلاء الجنود اقتحم في 18 فروكتيدور Fructidor (شهر الفواكه) المجلسين التشريعيين وقبض على 53 نائبا وكثير من الوكلاء الملكيين كما قبض على عضوي حكومة الإدارة: بارثيليمي وكارنو، وهرب كارنو إلى سويسرا وتم ترحيل معظم الباقين إلى جويانا (غيانه) Guiana في أمريكا الجنوبية حيث الكدح والعمل وحيث لا يعرف بهم أحد. وفي انتخابات سنة 1797 سيطر الراديكاليون على المجلسين وضموا كلا من ميرلي Merlin الدووى of Douai وجان

ص: 231

بابتست تريها ر Jean-Baptiste Treilhard إلى الثلاثة الآخرين في حكومة الإدارة التي تم تعديلها على هذا النحو، وخولوها سلطة تكاد تكون مطلقة.

وعندما وصل نابليون إلى باريس في 5 ديسمبر 1797 وجد إرهابا جديدا موجها إلى المحافظين كلهم، وكل ما كان يفرق بين هذا الإرهاب الجديد والإرهاب القديم، أن الإرهاب الجديد استخدم نفي المعارضين إلى جويانا (غيانه) Guiana بدلا من قطع رقابهم بالمقصلة. ومع هذا فقد بدت الطبقات كلها متفقة على كفاءة هذا الشاب (نابليون) الذي أضاف نصف إيطاليا إلى فرنسا. وقد نحى نابليون جانبا الآن تطلعه إلى القيادة الصارمة، وراح يظهر بمظهر التواضع والاعتدال، وراح يعمل على إرضاء الجميع بطرق مختلفة؛ إرضاء المحافظين بتمجيد النظام، وإرضاء اليعاقبة بإظهار دوره في نقل إيطاليا من مرحلة العبودية الإقطاعية إلى مرحلة الحرية، وإرضاء المثقفين بكتابته "إن الفتوح الحقيقية تتمثل في القضاء على الجهل، ولا عذر لنا في التواني في القضاء عليه". وفي 10 ديسمبر قام أصحاب المقام الرفيع في الحكومة الوطنية بتكريمه بشكل رسمي. وكانت مدام دى ستيل Mme. de Stael حاضرة، وقد حفظت لنا مذكراتها هذا المشهد:

"استقبلت حكومة الإدارة الجنرال بونابرت استقبالا مهيبا كان في بعض جوانبه علامة مميزة في تاريخ الثورة وقد اختاروا قصر لكسمبرج لإقامة هذه المراسم، فلم تكن هناك قاعة من السعة بحيث تتسع لمثل هذا الحشد؛ وتجمع الناس لمشاهدته فوق كل سطح. وقد وقف أعضاء حكومة الإدارة الخمسة - وقد ارتدوا ملابس رومانية - على منصة، وبالقرب منهم كان نواب مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة وأعضاء المعهد العلمي ..

ووصل نابليون وهو يلبس ملابس بسيطة جدا ويتبعه مساعدوه، وكانوا جميعا أطول منه لكنهم كانوا يحترمونه جدا وينحنون له، وشملت النخبة - المتجمعة هناك - الجنرال المنتصر بالتحية والتصفيق. لقد كان نابليون هو أمل الجميع من جمهوريين وملكيين، فالجميع رأوا الحاضر والمستقبل في قبضته".

وفي هذه المناسبة سلم أعضاء حكومة الإدارة معاهدة كامبوفورميو Campoformio،

ص: 232

فتم اعتمادها رسميا وأصبح نابليون قادرا على قضاء فترة راحة من المشاغل الدبلوماسية ومن الحرب.

وبعد أن حضر نابليون هذا الاحتفال الفخم الذي أقامه تاليران على شرفه (تاليران كان في ذلك الوقت هو وزير الخارجية أو عضو حكومة الإدارة للشئون الخارجية) انسحب نابليون إلى بيته في شارع شانترين Chantereine وقبع فيه يستجم مع جوزيفين وأبنائها وكان يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور فامتدح المعجبون به تواضعه، وراح المقللون من شأنه يبدون سعادتهم بانتهاء دوره، وعلى أية حال فقد دأب على زيارة المعهد العلمي، وراح يتحدث في الرياضيات مع لاجرانج Lagrange وفي الفلك مع لابلاس Laplace وفي نظم الحكم مع سييس Sieyes وفي الأدب مع مارى - جوزيف دى شنييه Marie-Joseph Chenier وفي الفن مع ديفيد وربما كان بنشاطه هذا يعد بالفعل للحملة على مصر، ويفكر في أن يصحب معه مجموعة من الدارسين والعلماء.

ورأت حكومة الإدارة في مسلكه المتواضع هذا شيئا غير واضح المعالم يدعو إلى الريبة، فهذا الشاب الذي كان في إيطاليا والنمسا يتصرف وكأنه هو الحكومة، كيف يتخذ قرارا بالتصرف على النحو (المتواضع) في باريس؟ فأرادوا أن يشغلوه ويبعدوه فعرضوا عليه أن يقود خمسين ألف جندي وبحار جمعوهم في بريست Brest لغزو إنجلترا. ودرس نابليون المشروع ورفضه وحذر حكومة الإدارة في خطاب بتاريخ 23 فبراير 1798:

"لا بد أن تتخلوا عن محاولة حقيقية لغزو إنجلترا وأن تقنعوا أنفسكم بالاكتفاء بالظهور أمامها (بمظهر القوة) فالأولى هو أن نركز انتباهنا لمواردنا ناحية الراين

ويجب ألا نبعد الجيش الكبير عن ألمانيا

أو يمكننا إرسال حملة إلى الشرق ونهدد تجارة (إنجلترا) مع الهند".

فهناك في الشرق كان حلمه، فحتى عندما كان وسط معامع المعارك في إيطاليا كان يفكر في إمكانيات القيام بغزوة في الشرق: ففي ظل الانهيار التدريجي للدولة العثمانية، فإنه بروح جسور ورجال شجعان جوعي يمكن تشكيل الأمور، وتكوين إمبراطورية. إن إنجلترا تحكم المحيطات ولكن قبضتها على البحر المتوسط يمكن خلخلتها بالاستيلاء على

ص: 233

مالطة، وقبضتها على الهند يمكن إضعافها بالاستيلاء على مصر، ففي مصر حيث العمالة رخيصة يمكن بالفرنكات والتفكير السليم بناء أسطول، ويمكن بالشجاعة والخيال الخصب دفع هذا الأسطول عبر البحر والمحيط ليصل إلى الهند والاستيلاء من النظام الاستعماري البريطاني على أغلى ممتلكاته. وقد اعترف نابليون في سنة 1803 لمدام دى ريموسا de Remusat:

" لا أدري ما كان يحدث لي لو لم تواتني الفكرة السعيدة بالذهاب إلى مصر. فعندما غادرت السفن إلى شواطئها لم أكن أعرف سوى أنني قد ودعت فرنسا إلى الأبد، وإن اعتراني قليل من الشك أن فرنسا ستستدعيني. إن سحر فتح بلاد الشرق قد أبعد أفكاري عن أوربا أكثر مما كنت أتصور".

ووافقت حكومة الإدارة على اقتراحاته، وكان أحد أسباب موافقتها هو اعتقادها أنه سيكون أكثر أمانا (لها) أن يكون هو بعيدا عن فرنسا، ووافق أيضا تاليران لأسباب لا تزال محل خلاف، فمشرفة بيته مدام جراند Grand تفسر ذلك بأنه اتخذ هذا الموقف " لمصلحة أصدقائه الإنجليز" بتحويل مسار الجيش الذي يهدد بغزو إنجلترا إلى مصر. وأخرت حكومة الإدارة موافقتها لأن الحملة مكلفة وتتطلب من الرجال والعتاد ما تحتاجه فرنسا لحماية أراضيها من إنجلترا والنمسا وربما أيضا من تركيا التي قد تنظم في حلف جديد ضد فرنسا (وكانت السلطة التركية - العثمانية - على مصر متراخية) لكن التقدم السريع للقوات الفرنسية في إيطاليا - ضم الولايات الباباوية ومملكة نابلي - أدى إلى وصول أسلاب متتالية إلى حكومة الإدارة، وفي أبريل سنة 1798 غزا جيش فرنسي آخر - بموافقة نابليون - سويسرا وأقام فيها الجمهورية الهيلفيتية Helvetic وتم جمع "التعويضات" منها، وتم إرسالها إلى باريس. والآن أصبح يمكن الإنفاق على تحقيق حلم الاستيلاء على مصر.

وبدأ نابليون فورا في إصدار أوامر مفصلة لإعداد أسطول فرنسي جديد (استخدم المؤلف عبارة new armada أي أسطول قوي على نمط الأساطيل الإسبانية والبرتغالية في عصورها الزاهرة)، فكان لا بد من تجميع القوات والمواد التالية في طولون Toulon وجنوى وأجاكسيو

ص: 234

Ajaccio أو سيفيتا فيشيا: Civitavecchia 13 سفينة حربية وسبع فرقاطات و 35 سفينة قتال أخرى و 130 سفينة نقل، 16،000 بحار و 38،000 جندي (كثيرون منهم كان مع الجيش الفرنسي الذي حارب في إيطاليا) بالإضافة إلى المواد والعتاد الضروري، ومكتبة مكونة من 287 مجلداً. وكان العلماء والباحثون والفنانون سعداء بقبول الدعوة للانضمام إلى ما وصف بأنه اتحاد مثير وتاريخي بين المغامرة (العسكرية) والبحث. وكان من بين هؤلاء العلماء: مونج Monge الرياضي وفورييه Fourier الفيزيائي، وبيرثولي Bertholet الكيميائي. وجيوفرى سان هيلار Geoffroy Saint-Hilaire البيولوجي (عالم الأحياء). وقام تاييه Tallien بالتنازل عن زوجته لبارا واتخذ سبيله بين العلماء.

وقد لاحظ العلماء وقد اعتراهم الفخر أن نابليون أصبح الآن يوقع خطاباته مشفوعة بعبارة "بونابرت عضو المجمع العلمي الفرنسي والقائد العام". وبوريين Bourrienne الذي كان قد رافق نابليون كسكرتير له في كامبوفورميو Campoformio في سنة 1797، صحبه أيضا في هذه الرحلة (إلى مصر) وقدم لنا رواية مفصلة عن مصيرها. وأرادت جوزيفين أيضا أن تواصل الرحلة، فسمح نابليون لها بمرافقته حتى طولون لكنه منعها من ركوب السفن، وعلى أية حال فقد أخذ معه ابنها يوجين بوهارنيه الذي كان نابليون قد أحبه لتواضعه وكفاءته وولائه وقوة إخلاصه، وقد حزنت جوزيفين حزنا مضاعفا لهذا الفراق؟ أيمكنها أن ترى ابنها أو زوجها مرة أخرى بعد هذا الفراق؟ ومن طولون اتجهت جوزيفين إلى بلومبيير Plombiéres لتتناول "مياه الخصوبة" لأنها أصبحت الآن - وكذلك نابليون - تريد طفلا.

وفي 19 مايو سنة 1798 أبحر الأسطول الأساسي من طولون ليكرر في التاريخ الحديث إحدى روايات تاريخ العصور الوسطى.

ص: 235

‌6 - الفانتازيا الشرقية (الحملة الفرنسية على مصر)

ORIENTAL FANTASY

من 19 مايو 1798 إلى 8 أكتوبر 1799

لقد تمت التعمية على الجهة التي يقصدها الأسطول حتى إن الرجال كلهم - تقريبا - والبالغ عددهم 54،000 لم يكونوا يعلمون وجهة الأسطول، وفي بيان له سمات خاصة وجهه نابليون "لجيش الشرق" الجديد أشار إليه بأنه مجرد "جناح" للجيش الفرنسي المعد لغزو انجلترا، وطلب من البحارة والجنود أن يثقوا به رغم أنه لا يستطيع حتى الآن أن يحدد المهام الموكلة إليهم. وقد حققت هذه السرية بعض الأغراض: فالحكومة البريطانية كانت مضطربة الفكر بشكل ظاهر بناء على معلومات وصلتها عن أسطول فرنسي صغير يجري إعداده ليشق طريقه عابرا مضيق جبل طارق ليشارك في غزو إنجلترا. وكانت سفن نلسون Nelson غير دقيقة في مراقبة البحر المتوسط، وكانت السفن التجارية وسفن النقل تروغ منها في البحر المتوسط.

وفي 9 يونيو ظهر الأسطول الفرنسي إزاء سواحل مالطة، وكانت حكومة الإدارة قد قدمت رشوة لرئيس جماعة فرسان مالطة Malta وذوي الشأن فيهم لتكون مقاومتهم شكلية، ونتيجة لهذا استولى الفرنسيون على الحصن المنيع الممول جيدا في هذه الجزيرة بسهولة ولم يفقدوا في سبيله سوى ثلاثة رجال. وتأخر نابليون في الجزيرة أسبوعا ليعيد تنظيم إدارة الجزيرة على نمط الإدارة الفرنسية Gaulward وكان ألفريد دي فيني Alfred de Vigny - الذي سيصبح شاعرا فيما بعد - يومئذ في الثانية من عمره، وقد قدموه لنابليون، فرفعه وقبله، وقال ألفريد - فيما بعد - "عندما أنزلني بعناية إلى سطح السفينة، كان قد كسب إلى جانبه، عبداً آخر يضاف إلى عبيده". وعلى أيه حال فإن نابليون ذلك الرجل الشبيه بالإله عانى دوار البحر طوال فترة الإبحار إلى الإسكندرية تقريبا، وفي هذه الأثناء درس القرآن.

ووصل الأسطول إلى الإسكندرية في أول يونيو سنة 1798 وكان في الميناء حامية،

ص: 236

ومعنى هذا أن رسوه بالأسطول قد يكلفه كثيرا، ومع هذا فقد كانت عملية إنزال القوات مسألة لا بد منها حتى لو لم يكن الأسطول الفرنسي موضع مراقبة من أسطول نلسون، وكانت الأمواج تتكسر على الساحل بعنف ومع هذا فإن نابليون شخصيا قاد مجموعة من خمسة آلاف مقاتل ونزل بهم على جزء من الساحل غير محمي (ليس به قوات مدافعة)، وتقدم بقواته ليلاً بلا فرسان ولا مدفعية وانقض على الحامية وهزمها ولم يكلفه ذلك سوى مائتين من رجاله بين قتيل وجريح، واستولى على المدينة (الإسكندرية) وقدم الحماية لبقية سفن الأسطول الفرنسي فتم إنزال بقية الجنود وأسلحتهم على أرض مصر.

وحث نابليون القادة المحليين في المدينة على الاجتماع به، وكان عماده في هذه الدعوة هو ما حققه من انتصار بإنزال جنود على البر المصري، وكلمات قليلة أتقنها باللغة العربية. وراح نابليون يسليهم - ومن ثم يؤثر فيهم - بمعلوماته عن القرآن (الكريم) واستخدامه الماهر لآياته وأفكاره، وتعهد لهم نيابة عن نفسه وباسم جيشه أن يحترم دينهم وقوانينهم وممتلكاتهم، ووعدهم - إن هم ساعدوه بالعمال والعتاد - أن يعيد لهم البلاد (مصر) التي استولى عليها المرتزقة المماليك الذين جعلوا من أنفسهم حكاما لمصر في ظل أسر حاكمة متراخية. ووافق العرب نصف موافقة (كانت موافقتهم غير حاسمة)، وفي 7 يوليو أمر نابليون جيشه الذي تملكه العجب بالتقدم معه لقطع 150 ميلاً في الصحراء للوصول إلى القاهرة.

لم يسبق للعسكر الفرنسيين أن خبروا مثل هذه الحرارة وهذا العطش، وتلك الرمال التي تعمي البصر، والحشرات التي لا تعرف التعب أو هذه الدوسنتاريا (الزحار والإسهال) المنهك. وراح بونابرت يخفف من حدة شكاويهم بمشاركتهم المتاعب في صمت. وفي 10 يوليو وصلوا إلى نهر النيل، فشربوا حتى الامتلاء وأنعشوا أجسادهم. وبعد مسيرة أخرى استمرت خمسة أيام، شاهدت طليعة الجيش بالقرب من قرية شبراخيت جيشا قوامه ثلاثة آلاف مملوك "تشكيل عسكري مبهر من الفرسان" على حد تعبير نابليون الذي قال أيضا:

"كلهم يومضون بفعل بريق الذهب والفضة ومسلحون بأفضل البنادق اللندنية القصار Carbines & Pistols وبأفضل سيوف الشرق، وكانوا يركبون - ربما - أفضل خيول

ص: 237

في القارة"

وانقض الفرسان المماليك سراعا على الجيش الفرنسي من الأمام ومن ناحية الجناحين فلم يكن لهجومهم نتيجة سوى أنهم سقطوا بقذائف مدافع الفرنسيين وبنادقهم، ففروا هاربين وقد جرحوا في أبدانهم وكرامتهم.

وفي 20 يوليو وكان لا زال باقيا على القاهرة مسافة ثمانية عشر ميلا شاهد المنتصرون الهرم. وفي مساء هذا اليوم علم نابليون أن جيشا من ستة آلاف مملوك بقيادة ثلاثة وعشرين بك من البكوات حكام الأقاليم - قد تجمع في إمبابه، وأن هذا الجيش قد اتخذ أهبته لمواجهة الغزاة الكفار. وبعد ظهيرة اليوم التالي انقضوا بكل قواتهم على الفرنسيين في معركة حاسمة عرفت بمعركة الأهرام. وهناك قال لجنوده (إن كان لنا أن نثق في ذاكرة نابليون):

"إن أربعين قرنا تتطلع إليكم" ومرة أخرى واجه الفرنسيون هذا الهجوم بطلقات المدافع والبنادق والحراب المثبته فقتل سبعون فرنسيا وألفٌ وخمسمائة مملوك، وغرق كثيرون منهم في النيل في أثناء هروبهم الطائش. وفي 22 يوليو أرسلت السلطات التركية (العثمانية) في القاهرة مفاتيح المدينة إلى نابليون مما يعني الاستسلام. وفي 23 يوليو دخل نابليون المدينة البهية من غير أن يواجه مقاومة.

ومن القاهرة أصدر أوامره بأن تدار أمور مصر عن طريق دواوين عربية (لجان) تابعة لسيطرته. ومنع جنوده من السلب والنهب وحمى حقوق الملكية الموجودة لكنه استمر في تحصيل الضرائب التي فرضها المماليك الغزاة على أهل البلاد لتمويل جيشه، وجلس مع الزعماء المحليين واعترف باحترامه للشعائر الإسلامية وإعجابه بالفن الإسلامي، وشهد ألا إله إلا الله، وطلب مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء والازدهار مصر. وعقد اجتماعا مع علماء الحملة لوضع الخطط للقضاء على الطاعون وإدخال صناعات جديدة وتطوير نظم التعليم المصري وتحسين القوانين المعمول بها، وإنشاء خدمات بريدية ونظام مواصلات، وإصلاح الترع وضبط الري وربط النيل بالبحر الأحمر.

وفي يوليو سنة 1799 نظم المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة، وكان العلماء هم الذين أعدوا الأربعة والعشرين مجلداً الضخام التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان وصف مصر

ص: 238

(1809 - 1828) Description de l'Egypte وأحد هؤلاء العلماء لا نعرف إلا أن اسمه بوشار Bouchard وجد في سنة 1799 في مدينة تبعد عن الإسكندرية ثلاثين ميلا حجر رشيد Rosetta Stone عليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط (الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية hieroglyphic، demotic، Greek) وقد مكنت هذه الكتابات توما يونج Thomas Young (1814) وجان - فرنسوا شامبليون Champollion (1821) من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية ففتحوا بذلك أمام أوربا "الحديثة" أبواب حضارة مصر القديمة المركبة والناضجة بشكل يدعو إلى الدهشة. وكان هذا هو النتيجة الرئيسية لحملة نابليون على مصر، أو النتيجة الوحيدة المهمة.

لكن فتح مصر كان - لفترة - مدعاة لفخره، كذلك كان مدعاة لمباهاته إدخال نظم الإدارة فيها. لقد قال لمدام دى ريموسا في وقت لاحق وهو يستدعي ذكرياته:

"لقد كانت الفترة التي قضيتها في مصر هي أكثر الفترات بهجة في حياتي

لقد وجدت نفسي في مصر متحررا من قيود الحضارة وإزعاجها. لقد رحت أحلم بأمور كثيرة ورأيت كيف أن كل ما حلمت به يمكن أن يتحقق.

لقد خلقت دينا (المقصود ابتدعت دينا) وتصورت نفسي في الطريق إلى آسيا راكبا فيلا وعلى رأسي عمامة وفي يدي قرآن جديد كان علي أن أصيغه على وفق أفكاري .... وكان عليّ أن أهاجم القوات الإنجليزية في الهند وتجديد علاقاتي بأوربا القديمة بفتحها

لكن القدر كان ضد أحلامي".

وكان أول سهام القدر ضده هو معلومات نقلها إليه أندوش جونو Andoche Junot الضابط المعاون مؤداها أن جوزيفين اتخذت لها في باريس عشيقا. لكن الحالم الكبير (نابليون) بكل تألقه العقلي أهمل أن يضع في اعتباره أنه من الصعب على نبات استوائي كجوزيفين أن تظل لشهور عديدة دون أن تمتع مفاتنها بشكل حسي. لقد ظل نابليون لعدة أيام حزينا ساخطا، وكتب في 26 يوليو سنة 1798 خطابا يظهر فيه الاكتئاب والقنوط إلى أخيه جوزيف:

"في غضون شهرين سأكون في فرنسا مرة أخرى

فهناك أمور كثيرة تزعجني في

ص: 239

بلادي

إن صداقتك تعني لي الكثير، أكنت لأفقدها أو أظنك تخدعني. إنه لا بد لي أن أكون صالحا تماما مبغضا للشر ....

إنني أريدك أن تهيئ لي مكانا في الريف أستقر فيه عندما أعود، إما في برغنديا Burgundy أو بالقرب من باريس. إنني أفكر في قضاء الشتاء فيه بحيث لا أرى أحدا. لقد سئمت المجتمع. إنني أحتاج أن أنفرد بنفسي. مشاعري متبلدة. لقد سئمت الشهرة. إنني متعب من تحقيقي هذا المجد وأنا في سن التاسعة والعشرين. لقد فقد ذلك جاذبيته بالنسبة لي، فلم يعد لي سوى الأنانية الكاملة ....

إلى اللقاء يا صديقي الوحيد الذي لا صديق لي سواه .... حبى لزوجتك ولجيروم Jerome".

ووجد بعض العزاء عندما جعل من امرأة فرنسية شابة قيمة لمسكنه، وكانت هذه المرأة الشابة قد تبعت زوجها الضابط إلى مصر. إنها بولين فورى Pauline Foures التي لم تستطع مقاومة اهتمام نابليون بجمالها المرح فبادلته الابتسام ولم تبد مقاومة جادة عندما أرسل زوجها السيد فوري في مهمة في باريس، ليوسع لنفسه الطريق. وعندما علم زوجها سبب مكرمة نابليون وتمييزه بإرساله إلى باريس عاد إلى القاهرة وطلق بولين. وفكر نابليون أيضا في الطلاق وشغلته فكرة الزواج من بولين وإنجاب وريث لكنه وضع في اعتباره دموع جوزيفين وعمل لها حسابا. وقد سعدت بولين بهدية حقيقية، وعاشت بعد ما نالته من حظ عاثر تسعا وستين سنة.

وبعد أسبوع من أخبار جوزيفين المحبطة التي أتى بها جونو حدثت كارثة كبرى قوضت نصر جيش الشرق. فإن نابليون عندما ترك أسطوله في الإسكندرية متجها إلى القاهرة كان قد أمر (على وفق رواية نابليون) نائب الأدميرال (اللواء البحري) فرنسوا - بول بروي Brueys أن يفرغ كل حمولته من المواد اللازمة للجنود ومن ثم يبحر بأقصى سرعة ممكنة إلى كورفير Corfu التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها. كما أمره

ص: 240

بضرورة اتخاذ الإجراءات كلها لتجنب تدخل البريطانيين، لكن سوء الأحوال الجوية أخر إبحار بروي، وفي أثناء فترة التأخير هذه رسا بأسطوله في خليج أبي قير القريب، وهناك في 31 يوليو سنة 1798 رآه نيلسون وهاجمه بسرعة.

وبدت القوتان البحريتان المتواجهتان متكافئتين: فالقوات البحرية الإنجليزية قوامها 14 سفينة حربية وسفينة بصاريين، والقوات البحرية الفرنسية قوامها 30 سفينة حربية وأربع فرقاطات. لكن البحارة الفرنسيين كان الحنين إلى العودة إلى بلادهم قد ازداد ولم يكونوا متدربين بما فيه الكفاية، أما البحارة البريطانيون فقد كان البحر هو وطنهم الثاني ألفهم وألفوه، والآن فإن تنظيمهم (البريطانيين) الأكثر تفوقا وبراعتهم البحرية وشجاعتهم سادت طوال النهار والليل لأن المعركة الدامية استمرت حتى فجر الأول من أغسطس.

ففي الساعة العاشرة من يوم 13 يوليو انفجرت، سفينة القيادة (التي بها بروي) التي بها 120 بندقية، وقتل كل من كان على متنها تقريبا بمن فيهم اللواء بحري نفسه، وكان يبلغ من العمر خمسة وأربعين عاما. ولم تستطع الهروب سوى سفينتين فرنسيتين، وبلغت خسائر الفرنسيين ما يزيد على 1750 قتيلاً و 1500 جريح، أما خسائر البريطانيين فكانت 218 قتيلاً و 672 جريحاً (بمن فيهم نيلسون). وهذه المعركة (أبوقير) بالإضافة إلى معركة الطرف الأغر Trafalgar (1805) هما آخر محاولتين قامت بهما فرنسا النابليونية لتحدي السيادة الإنجليزية على البحار.

وعندما وصلت أخبار هذه النكسة الكاسحة إلى نابليون في القاهرة أيقن أن فتحه لمصر غدا بلا معنى. فالمغامرون المرافقون له قد أحيط بهم الآن برا وبحرا وما من سبيل لوصول العون الفرنسي إليهم، وأنهم سرعان ما سيصبحون تحت رحمة أهل البلاد المعادين، والبيئة غير المواتية ومن الأمور التي تذكر لهذا القائد الشاب، أنه وجد الوقت في ظروفه العصيبة هذه ليعزي أرملة اللواء البحري المتوفى في مصابها:

"القاهرة، 19 أغسطس 1796

لقد قتل زوجك بطلقة مدفع بينما كان يحارب على سطح سفينته، لقد مات بشرف كما يتمنى أن يموت كل جندي. (ولم يعانِ زوجك حال وفاته).

إن أساكِ يؤثر في كثيرا. إنها لحظة قاسية عندما نفارق من نحب

وإذا لم يكن من

ص: 241

سبب للحياة فقد يكون من الأفضل أن نموت، لكن هناك جانب آخر للأمور عندما تضمين أطفالك لقلبك فستحيي الدموع والعطف رغبتك في الحياة، لتعيشي من أجل أولادك. نعم يا مدام ستبكين معهم وستنشئينهم وسترعين طفولتهم وستعلمينهم في شبابهم وستحدثينهم عن أبيهم وما حدث له، وعن حبهم وجمهوريتهم. وعندما تربطين روحك بهذا العالم ثانية من خلال التفاعل المتبادل مع أطفالك، أريدك أن تجعلي لصداقتي بعض القيمة ولتضعي في اعتبارك اهتمامي الصادق الذي سأوليه دوما لزوجة صديقي. كوني متأكدة أن هناك رجالا

يمكنهم أن يحولوا الأسى إلى أمل لأنهم يشعرون بشكل واضح تماما بعذابات القلب".

وتضاعفت المحن، فلا يكاد يمر يوم بلا هجمات يشنها العرب أو الترك أو المماليك غير المؤتلفين مع سادتهم الجدد - على القوات الفرنسية. وفي 16 أكتوبر قامت جماهير القاهرة بثورة على الفرنسيين الذين قمعوا الثائرين، وتخلى نابليون لفترة عن دور الفاتح المتسامح وأمر بقطع أعناق كل ثائر مسلح.

وعندما سمع نابليون أن الأتراك (العثمانيين) يعدون جيشا لاستعادة مصر صمم على مواجهة التحدي فأعدّ ثلاثة عشر ألفا من رجاله إلى سوريا، وانطلق في 10 فبراير سنة 1799 واستولى على العريش وأتم عبور صحراء سيناء. ويبين لنا خطاب كتبه نابليون في 27 فبراير بعض جوانب هذه المحنة: حرارة وعطش "وماء غير عذب تعتريه ملوحة، وأحيانا لا ماء أبداً لقد أكلنا الكلاب والحمير والجمال" ووجدوا في غزة - ويا لسعادتهم - بعد معركة قاسية - خضراوات طازجة وبساتين ذوات فواكه لا مثيل لها.

وفي يافا (3 مارس) توقفوا أمام مدينة ذات أسوار وسكان معادين وحصن يدافع عنه 2700 مقاتل تركي من ذوي البأس، فأرسل نابليون يعرض عليهم شروطا، لكنهم رفضوها، وفي 7 مارس أحدث المهندسون العسكريون الفرنسيون في أسوار المدينة ثغرة اندفع الجنود خلالها فقتلوا من قاومهم من السكان وسلبوا المدينة، وأرسل نابليون، يوجين دي بوهارنيه لإعادة النظام في المدينة فعرض حق الخروج الآمن لكل من يستسلم، وسلم جنود الحصن أسلحتهم حتى لا يلحق الفرنسيون مزيدا من الدمار في المدينة، وسيقوا أسرى

ص: 242

إلى نابليون، فرفع يديه فزعا وتساءل:"ماذا يمكنني أن أعمل معهم؟ " فلم يكن نابليون يستطيع أن يأخذ 2،700 أسير معه في مسيرته تلك فالرجال الفرنسيون بذلوا قصارى جهدهم ليجدوا الطعام والشراب لأنفسهم، ولا يمكنه تدبير عدد كاف من الحراس لاصطحاب هؤلاء الأسرى ليسجنوا في القاهرة، وإذا هو أطلق سراحهم فما الذي يمنعهم من حرب الفرنسيين ثانية فعقد نابليون اجتماعا عسكريا وسألهم عن رأيهم في هذه المشكلة، فكان رأيهم أن أفضل حل هو قتل هؤلاء الأسرى، فتم الصفح عن نحو ثلاثمائة منهم، وقتل 2،441 طعنا بالحراب لتوفير الذخيرة.

وواصل الغزاة مسيرتهم، وفي 18 مارس وصلوا إلى مدينة عكا شديدة التحصين، وكان يقود المقاومة الجزار باشا يساعده أنطوان دي فيليبو Phélippeaux - الذي كان زميلا لنابليون في الدراسة في بريين Brienne، وحاصر الفرنسيون المدينة دون مدافع حصار ذلك أن مدافع الحصار التي كان قد تمَّ إرسالها من الإسكندرية بحرا استولى عليها أسطول إنجليزي بقيادة سير وليم سدني Sir William Sidney وسلمها إلى حصن المدينة (عكا) وراح يزود حاميتها بالطعام والمواد اللازمة في أثناء الحصار.

وفي 20 مايو بعد أن قضى الفرنسيون شهرين أمام أسوار المدينة وتكبدوا خسائر فادحة أمر نابليون بالعودة إلى مصر، وقد ذكر نابليون بعد ذلك متفجعا:

"إن فيليبو جعلني أتراجع عن عكا، فلولاه لأصبحت سيد مفتاح الشرق ولأمكنني الذهاب إلى القسطنطينية واستعادة الإمبراطورية الشرقية".

وفي سنة 1803 (غير متوقع أحداث سنة 1812) ذكر لمدام دى ريموسا de Remusat: " لقد مات خيالي عند عكا. لن أسمح لها أبدا بالتداخل معي مرة أخرى".

كانت العودة على طول الساحل في أيام نحسات متوالية، لقد كان الجيش أحيانا يقطع مسيرة تصل إلى إحدى عشرة ساعة يوميا بين آبار لا يشرب ماؤها في معظم الحالات يسمم البدن ولا يكاد يطفئ عطشا. وطلب نابليون من أطباء الحملة تدبير جرعات مميتة من الأفيون للقضاء على المصابين بأمراض لا شفاء لها، لكن الأطباء رفضوا وسحب نابليون اقتراحه، وأمر بالتخلي عن ركوب الخيل وتركها للمرضى وجعل من نفسه قدوة لضباطه

ص: 243

بسيره على قدميه تاركا حصانه المريض. وفي 14 يونيو دخل الجيش الفرنسي المنهك مدينة القاهرة دخول المنتصر وعرض سبعة عشر علما من أعلام الأعداء وستة عشر أسيرا تركيا، كدليل أن الحملة قد حققت نصرا يدعو للفخر. وكان دخولهم القاهرة بعد رحلة شاقة قطعوا فيها 300 ميل في ستة وعشرين يوما.

وفي 11 يوليو أنزلت مائة سفينة على ساحل خليج أبي قير جيشا تركيا لطرد الفرنسيين من مصر فخرج نابليون من القاهرة متجها شمالا على رأس أفضل جنوده وانقض على الجيش التركي فألحق به هزيمة منكرة (في 25 يوليو) حتى إن كثيرين من الترك فضلوا الاندفاع إلى البحر ليموتوا غرقى بدلا من مواجهة الفرسان الفرنسيين المندفعين بعنف.

ومن الصحف الإنجليزية التي أرسلها سيدني سميث Sidney Smith إلى نابليون علم - ويالدهشته - أن التحالف الأوربي الثاني قد طرد الفرنسيين من ألمانيا، وأعاد الاستيلاء على إيطاليا كلها (تقريبا) من الألب إلى كالابريا Calabria. إن صروح انتصاراته كلها قد انهارت عبر سلسلة من الكوارث من الراين وبو Po إلى أبي قير وعكا، والآن من خلال هزائم مخزية وجد نفسه وجيشه الذي هلك جانب كبير منه وقد حوصروا في ممر يحيط به الأعداء، حيث يمكنهم محق الفرنسيين في غضون وقت قليل.

وفي نحو منتصف شهر يوليو تلقى من حكومة الإدارة أمرا كان قد أرسل له في 26 مايو، مؤداه أن يعود إلى باريس فورا. فصمم على العودة إلى فرنسا بطريقة ما رغم الحصار البريطاني، ليشق طريقه إلى السلطة، وليعزل القادة المخطئين الذين سمحوا بضياع مكاسبه كلها في إيطاليا بهذه السرعة السريعة. ونظم نابليون الأمور العسكرية والإدارية في القاهرة وعين كليبر Kleber المعارض ليكون على رأس ما تبقى من حلم فرنسا ضم مصر إليها.

وكانت الخزانة خاوية بالإضافة إلى كونها مدينة بستة ملايين فرنك، فقد كانت هناك متأخرات للجنود وصلت قيمتها إلى أربعة ملايين فرنك، وكان عدد الجنود الفرنسيين يتناقص يوما بعد يوم وكذلك معنوياتهم، بينما أهل البلاد المقاومون يزدادون قوة ويتحينون الفرصة للقيام بثورة أخرى. وكان من الممكن في أي وقت أن ترسل تركيا وبريطانيا العظمى قوات عسكرية إلى مصر يمكنها - بمساعدة أهل البلاد - عاجلا أم آجلا إجبار الفرنسيين

ص: 244

على التسليم. وكان نابليون يعلم ذلك كله ولم يكن يستطيع تبرير مغادرته مصر إلا بالقول إنه مطلوب في باريس ولديه أمر بالعودة. وعندما كان يودع جنوده رفع صوته قائلا: "إذا حالفني الحظ ووصلت إلى فرنسا فلا بد أن ينتهي حكم هؤلاء الثرثارين الحمقى".

ولا بد من إرسال الدعم لهؤلاء الفاتحين المحاصرين. ولم يصل هذا الدعم أبداً (ومما يذكر أن نابليون كان قد وعد - في وقت سابق - أن يقدم لكل جندي من جنوده ستة هكتارات من الأرض بعد أن يعودوا ظافرين إلى بلادهم).

وكانت الفرقاطتان مويرو Muiron وكارير Carrere قد أفلتتا من الإبادة التي ألحقها الأسطول البريطاني بالأسطول الفرنسي في أبي قير، فأرسل نابليون أمراً بتجهيزهما في محاولة منه للوصول إلى فرنسا. وفي 23 أغسطس سنة 1799 ركب السفينة مويرو ومعه كل من بورين Bourrienne وبيرثولي Berthollet ومونج Monge، وتبعهم الجنرالات لان Lannes ومورا ودينو Denon وغيرهم السفينة كارير وبسبب الضباب وحسن الحظ أفلتت السفينتان من مراقبة جواسيس نلسون وأسطوله. ولم يستطع نابليون ومن معه التوقف في مالطا لأن البريطانيين المنتصرين كانوا قد استولوا على هذا الموقع الحصين في 9 فبراير. وفي 9 أكتوبر رست السفن إزاء فريجو وجدف نابليون ومساعدوه حتى الشاطئ عند سان رافاييل والآن إما أن يكون:

" القيصر أو لا أحد "" aut Caesar aut nullus".

‌7 - انهيار حكومة الإدارة:

من 4 سبتمبر 1797 إلى 9 نوفمبر 1799

أدت نجاحات الجيوش الفرنسية - والتي بلغت ذروتها في إخضاع بروسيا في بازل Basel في سنة 1795، والنمسا في كامبوفورميو في سنة 1797، ونابلي وسويسرا في سنة 1798 - إلى تراخي الحكومة الفرنسية التي تكاد تكون قد أصيبت بالكسل الشرقي (الكسل والتراخي السائدين في بلاد الشرق) فقد خضع المجلسان التشريعيان لحكومة الإدارة (حكومة المديرين) واعترف هؤلاء (أعضاء حكومة الإدارة)

ص: 245

بدورهم بزعامة كل من بارا Barras وروبل Rewbell ولاريفيليير Larevelliere. ويبدو أن هؤلاء الثلاثة قد اتخذوا من الشعار الذي تنسبه الروايات إلى البابا ليو العاشر، ذلك الشعار القائل: إنه "ما دام الرب قد أعطانا هذا المنصب فدعونا نستمتع به".

لقد كانوا سعداء فيما يبدو بفترة السلام النسبي التي أتاحت لفرنسا أمنا من الناحية الظاهرية، وكانوا قد تعلموا بالخبرة أن المناصب الحكومية غير مضمونة خاصة في أثناء الثورات، فراحوا يستعدون للإطاحة بهم بفرش أعشاشهم (المقصود راحوا يجمعون الأموال ليؤمنوا حياتهم إذا ما تركوا الحكم)، فعندما عرضت إنجلترا المعزولة عليهم السلام في يوليو سنة 1797 قيل لها إن ذلك أمر يمكن ترتيبه إذا دفعت مبلغ 500،000 جنية إسترليني لكل من بارا وروبل واستطاع هؤلاء الأشخاص الآنف ذكرهم الحصول على رشوة - فيما يظهر - من البرتغال، كان مقدارها 400،000 جنية إسترليني، لقاء السلام الذي حصلت عليه من فرنسا في أغسطس من العام نفسه.

وكان روبل جشعا وكان بارا يحتاج إلى دخل متحرك (غير ثابت كالمرتبات الحكومية) ليحتفظ بالمدام تاييه Mme. Tallien وأما المرتبطون به فكانوا ذوي نزوات ومتسمين بالمرح، وكانوا في حاجة إلى الأموال للاحتفاظ بمساكنهم الفاخرة في قصر لكسمبرج أما تاليران وزير الشئون الخارجية فقلما كان يفلت فرصة ليجعل الثورة تمول ما يشبع ذوقه الأرستقراطي، وقد أحصى بارا العمولات التي يحصل عليها، فوجدها - غالبا - تزيد عن 100،000 جنية في السنة. وفي أكتوبر سنة 1797 حضر إلى باريس ثلاثة مندوبين أمريكيين لفض نزاع حول سفن أمريكية استولى عليها قراصنة فرنسيون مفوضون من الحكومة، على وفقا ما ذكره الرئيس جون آدمز John Adams فقد قيل لهم أنه يمكنهم الوصول إلى اتفاق بتقديم قرض قيمته 32 مليون فلورين لحكومة الإدارة و"حلاوه douceur"(المقصود رشوة) قيمتها 50،000 جنية إسترليني لتاليران.

لقد واجه هؤلاء الثلاثة (أعضاء حكومة الإدارة الآنف ذكرهم) كثيرا من المشاكل فقد يجوز لنا التسماح مهم في معظم أخطائهم - على الأقل فيما يتعلق بإنعاش أنفسهم مساء

ص: 246

بابتسامات الغيد الحسان. لقد تجنبوا انهيارا ماليا آخر بجمع الضرائب التقليدية بجدية أكثر من ذي قبل، واستردوا الضرائب التي كانت في حكم الميتة كضريبة الانتقال، وفرضوا ضرائب جديدة - كتلك التي فرضوها على الرخص، والأختام والدمغات وطوابع البريد، وعلى النوافذ والأبواب. لقد ترأسوا أمة ممزقة الجسد والروح، ممزقة في الدوائر (المحافظات) وممزقة حتى على مستوى الطبقة الواحدة، ممزقة لتصارع أغراضها:

النبلاء والبلوتوقراط plutocrats (الذين حازوا النفوذ بسبب ثرواتهم)، أهالي فيندي Vendean الكاثوليك واليعاقبة غير المؤمنين بالكاثوليكية (النص: الملاحدة atheists) . الاشتراكيون أتباع بابيف Babeuvian Socialists والتجار المطالبون بالحرية، والعوام الحالمون بالمساواة والذين يعيشون على حافة المجاعة. ولحسن الحظ فقد أدت وفرة المحاصيل في عامي 1796 و 1798 إلى تقليل أعداد الواقفين في الصفوف للحصول على الخبز.

لقد كان انتصار الليبراليين على أعضاء حكومة الإدارة ذوي الاتجاه الملكي في سنة 1797، من إنجاز الراديكاليين الذين قدموا دعما ضد ذوي الاتجاهات الملكية في ذلك الوقت. وعن طريق الدفع إلى حد ما (تقديم الرشاوى) استطاع هؤلاء الثلاثة - على أية حال - فرض الرقابة على الصحافة ذات الميول البورجوازية والمسارح والانتخابات غير النزيهة والقبض على المعارضين بلا سابق إنذار، وجددوا معركة هيبير Hébertist Campaign ضد الدين.

وتم إبعاد الراهبات عن مهمة تعليم النشء، وعهد به إلى معلمين صدرت إليهم الأوامر بنزع الأفكار الغيبية كلها من المقررات التي يدرسونها. وفي غضون اثني عشر شهرا في عامي 1797 و 1798، جملة الكهنة المرحلين من فرنسا 1448 و 8235 من بلجيكا من 193 إكليريكياً ecclesiastics تم ترحيلهم على السفينة ديكاد Décade لم يبق منهم على قيد الحياة بعد ترحيلهم بعامين سوى تسع وثلاثين.

وبينما كان الصراع الداخلي يشتد كان الخطر الخارجي يزداد، ففي هولندا وبلاد الراين أدى جشع حكومة الإدارة إلى خلق أعداء لفرنسا بدلا من الأصدقاء، فقد كانت الضرائب

ص: 247

باهظة، وعارض الشباب التجنيد الإلزامي، وزاد الحنق بسبب القروض الإجبارية (الاقتراض بدون رغبة المقرض - بكسر الراء)، والاستيلاء على الذهب والفضة والقطع الفنية من الكنائس ورجال الدين المبعدين، والناس العاديين على سواء. وفي غضون ثلاث سنوات جمعت حكومة الإدارة من بلجيكا ومناطق الراين وإيطاليا بليونين من الجنيهات.

وبعد مغادرة بونابرت مصر "واصلت حكومة الإدارة سياسة الفتح أو بمعنى أوضح سياسة السلب"، فاحتلت مناطق جديدة بقصد تحصيل الأموال وسلبت السكان وفرضت "التعويضات" على الحكومات المحلية (التعويض هو مبلغ تقدمه الحكومة المحلية لقاء قيام الثورة بتحريرها). "كل ذلك جعل فرنسا ملعونة مكروهة" فقد قال مالي دي با Mallet du Pa وهو موالٍ للنظام الملكي:

" إن فرنسا تأكل أوربا ورقة ورقة وكأنها - أي أوربا - رأس خرشوفة. إنها - أي فرنسا تحرض الشعوب على الثورة حتى تسلبها، وهي تسلبها حتى تتمكن هي من الاستمرار"

لقد أصبحت الحرب مربعة أما السلام فقد يكون مدمرا لها. وقد وجد تاليران أن سفينة الدولة غير ثابتة وتبحر في جو عاصف فقدم استقالته من منصبه الوزاري (20 يوليو 1798) وانسحب ليستمتع بما سلبه.

وكان نابليون قد قدم مثالا حفز غيره على تقليده، بجعل الحرب وسيلة لجمع الأموال، كما أن عملياته الطائشة كانت إلى حد ما مسئولة عن ويلات الحرب التي أوقعت فرنسا في براثن حكومة الإدارة المنهارة. لقد تسرع نابليون كثيرا - وبشكل سطحي - بإخضاع إيطاليا للحماية الفرنسية وترك المناطق التي فتحها في أيدي أتباع ينقصهم ما كان يتصف به هو من حدة ذهن ومهارة دبلوماسية. وكان نابليون قد عول - بشكل متفائل جدا - على رغبة الجمهوريات الإيطالية الجديدة في دفع مبالغ لفرنسا لقاء تحريرها من النمسا، وأساء تقدير موقف إنجلترا العنيف من احتلاله لمالطة ومصر، فما كان يظن أن موقف انجلترا إزاء هذا الاحتلال سيكون بمثل هذه الشدة، وإلى أي مدى ستقاوم تركيا الخاملة دعوة عدوّتيْها القديمتين: روسيا والنمسا إلى الانضمام إليهما لتأديب هؤلاء الثوار محدثي النعمة وإلى أي مدى سيؤدي اهتمام روسيا وبروسيا والنمسا بتقسيم بولندا في شرق أوربا إلى انشغالهم عن إعادة الحق الإلهي إلى الملوك في غرب أوربا.

ص: 248

لقد كانت عروش أوربا كلها تقريبا تتحين الفرصة للانقضاض على فرنسا مرة أخرى. وقد أدرك الملوك أن هذه الفرصة قد سنحت عندما أخذ نابليون معه 35،000 من خيرة جنود فرنسا ورجالها إلى مصر، فحاصروا فرنسا بمجرد انتصار نلسون في معركة أبي قير البحرية، وما نتج عن ذلك من عدم قدرة الجيش الفرنسي في مصر على العودة سريعا إلى فرنسا. وقبل القيصر بول الأول نتيجة انتخاب ليكون الرئيس الأعلى لفرسان مالطة وأخذ على عاتقه طرد الفرنسيين من هذه الجزيرة بالغة الأهمية وعرض مساعدته على فرديناند الرابع لاستعادة نابلي، وكان يحلم بأن تكون لروسيا مواني صديقة في نابلي ومالطا والإسكندرية، وبالتالي بجعل روسيا قوة من قوى البحر المتوسط. وفي 29 ديسمبر سنة 1798 عقد حلفا مع إنجلترا، وعندما سمح الإمبراطور فرانسيس الثاني بالمرور الآمن في الأراضي النمساوية للجيش الروسي ليمر إلى الراين، أعلنت فرنسا الحرب على النمسا (12 مارس 1799)، فانضمت النمسا - إثر هذا - إلى كل من روسيا وتركيا ونابلي والبرتغال وانجلترا في الحلف الثاني ضد فرنسا.

وتجلى ضعف حكومة الإدارة في هذا الصراع الذي كانت هي السبب في إثارته، وعجزت عن التنبؤ به. لقد كانت بطيئة كسلي فلم تستعد له بما فيه الكفاية، وكانت غير ناجحة في إعداد ميزانية الحرب، وكانت خرقاء في تطبيق سياسة التجنيد الإجباري. لقد جندت 200،000 رجل لم يكن صالحا منهم للخدمة سوى 143،000 وقد مثل من هؤلاء للأوامر 97،000 وفر منهم آلاف في أثناء المسيرة فلم يصل منهم إلى وحداتهم العسكرية المحددة لهم سوى 74،000، وفي معسكراتهم وجدوا الفوضى ضاربة أطنابها ووجدوا نقصا في الملابس والمعدات والأسلحة. وكانت روح الحماسة التي كانت في وقت من الأوقات تغمر الجيش الجمهوري شجاعة ورغبة في القتال، قد اختفت من هؤلاء الرجال الذين عاشوا سنين محبطين حيث الفوضى وخيبة الأمل. لم يكن هناك في ظل حكومة الإدارة الآن (1798) ذلك العزم والنظام الذي ساد في حرب 1793 في ظل لجنة الأمن العام.

لقد كانت هناك بعض النجاحات الأولية والمضللة فقد فتح الفرنسيون بيدمونت وتسكانيا وجمعوا منهما الضرائب. وانتصار الملك فرديناند Ferdinand IV الرابع

ص: 249

بطرد الفرنسيين من روما، سرعان ما محقه الفرنسيون باستعادة روما بقيادة جان - اتين شامبيون Jean-Etienne Championnet الذي دخل المدينة (روما) في 15 ديسمبر، وتراجع فرديناند بحاشيته مع لادي هاملتون Lady Hamilton وعشرين مليون دوكات إلى باليرمو في ظل حماية أسطول نلسون.

واستولى شامبيون على نابلي وأقام فيها الجمهورية البارثينوبية Parthenopean تحت حماية فرنسا. وكلما تقدمت الحرب كانت تنضم فرق عسكرية جديدة للقوات الروسية النمساوية الإنجليزية فوجد الفرنسيون أنفسهم أمام قوات تفوق قواتهم عددا (170،000 مقاتل فرنسي مقابل 320،000 من قوات الحلفاء). وكان الجنرالات الفرنسيون - رغم براعة عمليات ماسينا Massena في سويسرا - تنقصهم قدرة بونابرت على هزيمة قوات أكثر عددا باستخدام استراتيجيات أكثر براعة وتكتيكات ونظم متقدمة.

لقد هزم جوردا Jourdan في ستوكاش Stockach (25 مارس 1799) وتراجع إلى ستراسبورج وتخلى عن منصب القائد. وهزم شيريه Scherer في ماجنانو Magnano (5 أبريل) وانسحب بقواته بغير نظام ففقد قواته كلها تقريبا وتخلى عن منصبه تاركا إياه لمورو، عندئذ أقبل "شيطان الإنس" حقا الإكسندر سوفوروف Aleksandr Suvorov على رأس ثمانية عشر ألف روسي وقادهم مع بعض الفصائل النمساوية في معركة شرسة فاستعاد من الفرنسيين المناطق التي كان نابليون قد فتحها في عامي 1796 و 1797، منطقة إثر منطقة، ودخل ميلان منتصرا في 27 أبريل فتراجع مورو Moreau إلى جنوا، وانتهت جمهورية سيزالبين Cisalpine النابليونية نهاية مبكرة. ولما وجد ماسينا نفسه وحيدا بجيش صغير في سويسرا تخلى عن فتوحاته هناك وانسحب إلى الراين.

ولما وجد سوفورف مدى سهولة استرجاع لومبارديا إلى حوزة النمسا انطلق من ميلان لمقابلة القوات الفرنسية القادمة من نابلي وروما وألحق بها الهزيمة في تريبيا Trebbia (17 - 19 يونيو 1799) فلم يبق منها إلا بقايا وصلت جنوا. وبذا انتهت الجمهورية البارثينوبية نهاية مبكرة. واستعاد فرديناند عرشه وأقام حكم إرهاب، حكم في ظلاله بالإعدام على مئات الديمقراطيين.

وقاد جوبير Joubert الذي تولى منصبه

ص: 250

مؤخراً بقايا القوات الفرنسية في إيطاليا ضد سوفوروف في نوفى Novi (15 أغسطس) وتصرف بتهور شديد فلاقى حتفه في مستهل المعركة. لقد حارب الفرنسيون بشجاعة لكن من غير أن يحققوا نتائج طيبة. لقد سقط منهم في ساحة المعركة 12،000، وعندما علمت الحكومة الفرنسية بهذه النكبة التي بلغت ذروتها تحققت أن فتوحاتها التي حصلت عليها بصعوبة شديدة قد ضاعت، وأنه قد يصبح الروس بقيادة سوفوروف حالاً على الأرض الفرنسية. وكان خيال العامة في الألزاس وبروفانس Provence يصور هذا القائد الروسي ورجاله وكأنهم "برابرة عماليق" كموجات عاتية من السلاف المتوحشين تجوس خلال مدن فرنسا وقراها.

إن فرنسا التي كانت إلى عهد قريب فخورة بقوتها وانتصاراتها أصبحت الآن في حالة فوضى وفزع لا تقل عن حالة الفوضى والفزع التي سادتها سنة 1792 والتي أدت إلى مذابح سبتمبر. لقد ثار أهل إقليم فيندي مرة أخرى وتمردت بلجيكا على حكامها الفرنسيين، وأصبح خمس وأربعون دائرة (محافظة) من ست وثمانين محافظة - تقريباً بلا حكومة ولا ضوابط، لقد قاتل الشبابُ الضباطَ الذين أتوا لتجنيدهم إجباريا، وجرى قتل موظفي البلديات وجامعي الضرائب وأثار مئات اللصوص وقطاع الطرق الذعر في قلوب التجار والمسافرين سواء في شوارع المدن أم على الطرق الزراعية (المارة بالريف) وفاقت قوة المجرمين رجال الشرطة، ففتحوا السجون وأطلقوا سراح المسجونين وضموهم في تنظيمات شكلوها، وتعرضت المساكن ودور العبادة كلها للنهب. لقد عاد "الرعب الكبير" الذي ساد في سنة 1794 مرة أخرى.

وتطلعت الأمة بأمل طالبة الحماية من نوابها الذين أرسلتهم إلى باريس لكن المجلسين كانا قد استسلما لحكومة الإدارة، وحكومة الإدارة بدورها لم تبد سوى أنها أوليجاركية oligarchy مغتصبة (حكومة أقلية مغتصبة) تحكم بالرشوة والمغالطة والقهر.

وفي مايو سنة 1799 وجدنا سييس Sieyes - الذي كان راهبا في وقت من الأوقات، والذي راح طوال عشر سنوات مضت يغازل الثورة بتوجيه هذا السؤال: ما هي الطبقة الثالثة؟ وكان يجيب عن السؤال الذي طرحه بقوله إنها الأمة ويجب أن يسمي أبناؤها

ص: 251

أنفسهم بذلك (الأمة) سييس هذا خرج من ثوب الغموض الذي كان يتدثر به، فتم انتخابه عضوا في حكومة الإدارة وذلك لأنه كصانع دساتير أصبح متفاعلاً مع القانون والنظام ووافق سييس على الخدمة شريطة استقالة روبل Rewbell، فاستقال روبل بعد أن حصل على ترضية باهظة: 100،000 فرنك).

وفي 18 يونيو أرغمت أقلية قوية من ا ليعاقبة في المجلسين حكومة الإدارة على إبعاد لاريفيليير وتريهار Treihard ومرلي Merlin على أن يحل محلهم لويس جيروم جوهييه Gohier وجان فرنسوا مولي Jean-Francois Moulin وروجر دوكو. وأصبح فوشي وزيرا للشرطة وروبرت ليند رئيسا للخزانة، وكان كلاهما في لجنة الأمن العام المنحلة وأعيد فتح نادي اليعاقبة في باريس، وراح الناس يسمعون ثناء على روبيسبير وبابيف.

وفي 28 يونيو فرضت الهيئة التشريعية بتأثير اليعاقبة تحصيل قرض مقداره مئة مليون جنيه على شكل ضريبة تتراوح بين 30% و 55% على الدخول العالية، فاستأجر المواطنون الأثرياء محامين لإيجاد ثغرات في القانون لتحاشي هذا القرض الإجباري وراحوا يصيخون السمع برغبة لحبك مؤامرات للإطاحة بالحكومة. وفي 12 يوليو مهد اليعاقبة لإصدار "قانون الرهائن" والذي بمقتضاه صدرت الأوامر إلى كل كومون commune في فرنسا أن يعد قوائم المواطنين من النبلاء الذين لا يحميهم القانون في دائرته والتحفظ عليهم وإخضاعهم للمراقبة فإذا حدثت سرقة اتهم فيها واحد منهم تحتم إرغامه على إعادة المسروقات وإن قتل واحد من الوطنيين (المقصود هم الموالون للحكم القائم) تم نفي أربعة من هؤلاء الرهائن. وقد قوبل هذا القرار بصيحات الفزع من الطبقات العليا ولم يرحب به العامة ترحيبا كافياً.

وبعد عقد من الهياج والنزاع بين الطبقات والحروب الخارجية والقلاقل السياسية والمحاكمات غير القانونية والسلب والنهب والإعدامات والمذابح أصبح أهل فرنسا كلها من ضحايا الثورة فراحوا يتحسرون على الأيام الطيبة التي خلت، أيام لويس السادس عشر وشعروا أنه لا يستطيع أحد أن يعيد إلى فرنسا النظام والسلامة سوى ملك. وأولئك الذين

ص: 252

ظلوا على كاثوليكيتهم راحوا يصلون مبتهلين طالبين أن يحل اليوم الذي يتخلصون فيه من حكم الملحدين، بل إن بعض المتشككين الذين تخلوا عن المعتقدات الغيبية كلها راحوا الآن يتشككون الآن في إمكانية أن يستطيع نظام أخلاقي لا يدعمه دين مقاومة العواطف والانفعالات غير المنضبطة والدوافع غير الاجتماعية التي ترسخت في قرون انعدم فيها الأمان وسادت فيها الوحشية والقنص، وراح كثيرون من الآباء غير المتمسكين بعقيدة يرسلون أبناءهم إلى الكنائس لأداء الصلوات، وتأدية طقس الاعتراف وتناول العشاء الرباني حتى يعين ذلك كله على تحليهم بالتواضع ولتقوية عرى الروابط الأسرية وتحقيق السلام مع النفس.

والفلاحون والبورجوازيون الذين يدينون للثورة بأراضيهم ويريدون الاحتفاظ بهذه الأراضي قد بغضوا الحكومة رغم هذا، فهي ترسل لهم غالبا من يفرض الضرائب على محاصيلهم أو يجند أبناءهم قسراً. وكان عمال المدن صاخبين في مطالبتهم بالخبز بدرجة أ كثر يأساً عن ذي قبل حتى عن فترة ما قبل سقوط الباستيل، لقد رأوا التجار والصناع والسياسيين وأعضاء حكومة الإدارة يعيشون في رغد من العيش فراحوا ينظرون إلى الثورة باعتبارها أحلت البورجوازيين سادةً ومستغلين للدولة بدلا من النبلاء،

ومع هذا فقد كان سادتهم البرجوازيين ساخطين بدورهم فالطرق غير الآمنة والتي اعتراها الإهمال جعلت التجارة عملية مرهقة ومنطوية على المخاطرة، وأحبطت القروض القسرية (على غير رغبة المقرض بكسر الراء) والضرائب المرتفعة الراغبين في الاستثمار وإقامة المشروعات، ففي ليون أغلق ثلاثة عشر محلا تجارياً أبوابها من بين خمسة عشر ألفا، باعتبارها غير مربحة، وكان هناك الألوف من العاطلين رجالا ونساء، وكان لي هافر Le Havre وبوردو ومرسيليا قد اعتراها الخراب بسبب الحرب وبسبب الحصار البحري البريطاني.

ولم تكن الأقلية التي يزيد تناقصها تستطيع إلا بجهد شاق أن تعقد رباطا بين الثورة والحرية، فقد حطمت الثورة كثيرا من الحريات وأجازت كثيرا من القوانين الإرهابية وأرسلت خلقاً كثيرا رجالا ونساء- إلى السجن أو المقصلة. وراحت النسوة خلا الزوجات ومشرفات البيوت وبنات الأثرياء الجدد وكبار السن ينتقلن من صف إلى صف باضطراب أمام المحلات مخافة أن ينفد

ص: 253

المعروض من البضائع ورحن يتساءلن متى يعود أبناؤهن وإخوانهن وأزواجهن من الحرب؟ أما لهذه الحرب من نهاية؟

وكان الجنود الذين اعتادوا على العنف والسرقة لا يعانون فقط من الهزيمة وإنما أيضا من نقص المؤن ورداءة الطعام، وكان مما يثير غضبهم ما يصل إلى علمهم مرارا بشأن فساد الرجال الذين يقودونهم وأولئك الذين يقدمون لهم الغذاء واللباس، وعندما كان هؤلاء الجنود يعودون إلى باريس أو إلى مدنهم كانوا يجدون أيضا عدم الأمانة سائدة في المجتمع وفي التجارة والصناعة والمالية والحكومة. لقد كان سراب إيجاد عالم بهيج جديد يتراجع ويتلاشى كلما زادت أيام الثورة.

وارتفعت الروح المعنوية شيئا ما ولفترة قصيرة عندما وصلت أنباء بأن الحلفاء قد تنازعوا وانقسموا على أنفسهم، وأنهم قد هزموا وتراجعوا في سويسرا والأراضي المنخفضة، ذلك لأن ماسينا استعاد المبادرة وقسم الجيش الروسي إلى قسمين في زيوريخ (26 أغسطس 1799) ذلك أن هؤلاء السلاف المرعبين كانوا في حالة تراجع لأن روسيا كانت قد خرجت من التحالف ضد فرنسا وبدأ الفرنسيون يأملون في أن يعود بعض الجنرالات الأكفاء مثل ماسينا أو مورو Moreau، وحبّذا بونابرت الذي عاد من مصر سالما ويقود جماعة منظمة في باريس ويطيح بالسياسيين ويمنح فرنسا الانضباط والأمان حتى لو كان هذا على حساب الحرية. لقد انتهى الفرنسيون إلى نتيجة مؤداها أنه لا يقدر على إنهاء فوضى الثورة، وفرض النظام في فرنسا وإحلال الأمن بها مما هو ضروري لحياة متحضرة سوى حكومة مركزية يقودها زعيم واحد متمتع بالصلاحيات اللازمة.

‌8 - نابليون يتولى المسئولية

في: 18 برومير BRUMAIRE (9 نوفمبر) 1799

ووافق سييس، لكنه عندما درس زملاءه في حكومة الإدارة رأى أنه لا أحد منهم (ولا حتى بارا البارع) يشاركه الفكر والرؤية اللازمتين لفرنسا موحدة سوية وكان الرجل متشربا بفكرة الدستور لكن يحتاج إلى جنرال ليكون عوناً على إصدار الدستور وليكون ذراعاً له (أي لسييس). وفكر في جوبير Joubert لكن جوبير كان قد مات، فأرسل

ص: 254

في طلب مورو وراح يحثه أن يكون "فارس الحلبة" لكنهما عندما علما بعودة نابليون من مصر، قال مورو:"جاء رجلك إنه يستطيع أن يقوم بالانقلاب الذي تفكر فيه أفضل مما أستطيع أنا" وتفكر سييس ملياً، فنابليون يمكن أن يكون هو الرجل المطلوب، لكن أيقبل أن يوجهه سييس والدستور الجديد؟

وفي 13 أكتوبر أحاطت حكومة الإدارة المجلسين علما بأن بونابرت قد رسا بالقرب من فريجو Frejus فهب النواب وقوفاً وهللوا. وظل أهل باريس طوال ثلاثة أيام يحتفلون ليلا ونهارا بهذه الأخبار بالشرب في الحانات والغناء في الطرقات. وفي كل مدينة تقع على الطريق من الساحل إلى العاصمة (باريس) هبت الجموع شعبا وقادة لتحية الرجل الذي بدا لهم رمزا للنصر وتأكيدا له. حتى إنهم لم يسمعوا بالنكبة التي حدثت للفرنسيين في مصر، ففي المراكز والتجمعات المختلفة ذكر المراقبون أن:"الجموع المتجمعة كثيرة جدا مما عطل حركة المرور فلا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بصعوبة" وفي ليون جرى عرض مسرحية تكريما له، ووجه الخطيب الحديث إليه قائلاً:"اذهب وحارب العدو واهزمه وسننصبك ملكا" لكن الجنرال الصغير (نابليون) كان صامتا مكتئبا، لقد كان يفكر في كيفية التصرف مع جوزيفين

وعندما وصل باريس (16 أكتوبر) اتجه مباشرة إلى المنزل الذي كان قد اشتراه في الشارع الذي كان اسمه قد تغير تكريما له ليصبح اسمه "شارع النصر Rue de la victoire" .

لقد كان يأمل أن يجد زوجته المنحرفة هناك ليطردها من حياته، لكنها لم تكن هناك لسببين، أولهما أنه في 21 من أبريل سنة 1799، بينما كان يحاصر عكا، اشترت هي 300 أكر على نهر السين على نحو عشرة أميال من باريس وشيدت في هذه المساحة بيتاً Malmaison (بيت الضرار أو بيت السوء) قدم لها بارا Barras 50،000 فرنك كدفعة أولى من تكلفته البالغة 300،000 فرنك، وكان الكابتن هيبوليت تشارلز Hippolyte Charles هو أول ضيوفها في هذا القصر الرحب.

والسبب الثاني أنها هي وابنتها كانتا قد غادرتا باريس قبل أربعة أيام لتتجها إلى ليون على أمل مقابلة بونابرت في الطريق، وعندما اكتشفت جوزيفين وهورتنس Hortense أن نابليون كان قد اختار طريقا

ص: 255

مغايرا عادا وقد اعتراهما التعب وشملهما المرض حقا بسبب الرحلة وقطعا مائتي ميل إلى العاصمة، وفي هذه الفترة أتاه والد زوجها الراحل، الرجل الهرم الماركيز دى بوهارنيه de Beauharnais وراح يبرر له ويحثه على مسامحتها:

"مهما تكن أخطاؤها فلتنسها، لا تلوث لحيتي التي اشتعلت شيبا ولا تلوث الأسرة التي منحتك التشريف". أما إخوة بونابرت فقد حثوه على طلاقها وقد كانت أسرته مستاءة من سلطانها عليه، لكن بارا حذره من أن الفضيحة العامة تضر بمركزه السياسي.

وعندما وصلت الأم المنهكة (جوزيفين) وابنتها إلى 3 شارع النصر (18 أكتوبر) قابلهما يوجين عند نزولهما من العربة وحذرهما من عاصفة متوقعة، فتركت جوزيفين، يوجين يحتفي بأخته، وأسرعت بصعود السلم قفزا وطرقت باب غرفة نابليون الذي أجابها بأنه قرر ألا يراها ثانية، فخرت على السلم وراحت تنشج بالبكاء حتى أتى يوجين وهورتنس فساعداها على النهوض، وعادا معها ليتوسلا إلى نابليون معا، وفي وقت لاحق قال نابليون:

"لقد تأثرت بشدة فلم أكن أستطيع أن أتحمل بكاء ابنها وبنتها، وسألت نفسي: أيجب أن يكونا ضحية سقوط أمهما؟ فبسطت يدي وأمسكت بذراع يوجين وأردفته خلفي. عندئذ أتت هورتنس ومعها أمها

ماذا يمكن أن يقال؟! إن المرء لا يكون إنسانا دون أن يرث الضعف البشري".

في هذه الأيام التي نزع فيها إلى السكون والتأمل تجنب فيها أن يظهر أمام العامة، فقد كان يعرف أن الرجل العام (موضع اهتمام العامة) لا يجب أن يكون عاما جدا. وفي البيت وعندما يخرج، كان لباسه مدنيا حتى يحبط الشائعات القائلة بأن الجيش كان يخطط للاستيلاء على الحكم. وقام بزيارتين: زيارة ليقدم احترامه لمدام هيلفيتيوس Helvetius البالغة من العمر ثلاثة وثمانين عاما، وذلك في أوتيل Auteuil،

والزيارة الثانية للمعهد العلمي حيث تحدث عن الحملة الفرنسية على مصر باعتبارها في جانب كبير منها ذات أبعاد علمية (لصالح العلم) وقد أيده في هذا بيرثولي Berthollet ومونج وراح لابلاس ولاجرانج وكابانيه Cabanis وكثيرون غيرهم يستمعون إليه

ص: 256

كعالم وفيلسوف. وفي هذا الاجتماع قابل سييس وكسبه إلى جانبه بملاحظة واحدة: " ليس لدينا حكومة لأنه ليس لدينا دستور أو على الأقل ليس لدينا الدستور الذي نحتاج لا بد أن تقدم لنا بعبقريتك هذا الدستور المطلوب".

وسرعان ما أصبح بيته مركزا لمفاوضات سرية. لقد استقبل زوارا من "اليسار" ومن "اليمين"(يساريين ويمينيين)، ووعد اليعاقبة بالمحافظة على الجمهورية ودافع عن مصالح الجمهور، لكنه أعلن أخيرا وبصراحة أنه قابل ممثلي "البوربون" Bourbons وعلى أية حال فقد جعل نفسه بعيدا عن أي فريق، خاصة الجيش.

ونصحه الجنرال بيرنادوت Bernadotte الذي كان يأمل أن يتولى الحكومة بنفسه ألا يقحم نفسه في السياسة ويكتفي بمنصب قيادي عسكري. واستمع نابليون بمزيد من الرضا لمدنيين مثل سييس الذي نصحه بتولي أمر الحكومة وتدشين دستور جديد. وكان هذا يتطلب تعديل أو خرق قانون أو قانونين، ولكن مجلس الشيوخ خوفاً من إحياء حركة اليعاقبة قد يتغاضى عن شيء من التجاوز للقانون (يتغاضى عن خروج قليل عن القانون)، أما مجلس الخمسمائة فرغم أن به أقلية يعقوبية قوية، فإنه قد انتخب مؤخراً لوسين بونابرت Lucien Bonaparte رئيساً له. ومن بين أعضاء حكومة الإدارة الخمسة كان سييس ودوكو Ducos إلى جانب نابليون، وكان تاليران يحث بارا على الانسحاب بما حققه من مجد ومكاسب (غنائم) أما جوهييه Gohier رئيس حكومة الإدارة فكان على علاقة نصف غرامية بجوزيفين ويمكن شل حركته بابتسامة منها. وقد يكون بعض المصرفيين قد أرسلوا فرنكات لتأكيد صداقتهم.

وفي الأسبوع الأول من شهر نوفمبر سرت إشاعة في باريس مؤداها أن اليعاقبة كانوا يجهزون لقيام الجماهير بتمرد، واعتبرت مدام دى ستيل de Stael هذه الأخبار صحيحة فجهزت نفسها للخروج السريع من باريس إذا انفجرت الاضطرابات. وفي 9 نوفمبر (اليوم الثامن عشر من شهر برومير (شهر الضباب) الذي سيصبح يوما شهيرا من الآن فصاعدا) أمر مجلس الشيوخ مستخدما حقوقا كفلها له الدستور بنقل اجتماعاته وكذلك اجتماعات مجلس الخمسمائة إلى القصر الملكي في ضاحية سان كلود St. Cloud

ص: 257

اعتبارا من اليوم التالي، وتوسع في استخدام حقه الدستوري فقام بتعيين بونابرت قائداً لحامية باريس وأمره بالقدوم فورا إلى مقر مجلس الشيوخ في التوليري Tuileries لأداء القسم، فأتى نابليون يرافقه ستون ضابطا والتزم بشروط فضفاضة بما فيه الكفاية ليسمح لنفسه بشيء من حرية العمل والاختيار فيما بعد، واستخدم عبارات عامة تتيح له تفسيرها فيما بعد:"إننا نريد جمهورية قائمة على الحرية والمساواة والمبادئ المقدسة لتمثيل الأمة، وسنصل إلى هذه الجمهورية، إنني أقسم".

وعندما خرج من القاعة قال للجنود المتجمعين: "الجيش متحد معي ثانية، وأنا أتحدث ثانية مع المجلسين". وفي هذه الأثناء أحضر بوتو Bottot سكرتير بارا إلى نابليون رسالة من بارا عضو حكومة الإدارة الذي كان قويا ونافذا في وقت من الأوقات، يطلب فيها ضمانا بالخروج الآمن من باريس لأنه ينوي الخروج منها. فهب نابليون صارخاً في بوتو - البائس الذي لا ذنب له إلا أنه حامل رسالة - وراح يقول له بصوت عال يريد أن يسمعه الجند والمدنيون، كلمات كانت كحكم بالإعدام على حكومة الإدارة، لقد قال له بطريقة إياك أعني واسمعي يا جارة:

"ماذا فعلتم بفرنسا التي تركتها لكم مزدهرة؟ لقد تركتكم تنعمون بالسلام، فوجدتكم - عندما عدت - في حرب، لقد تركت لكم انتصارات فوجدتها هزائم! لقد تركت لكم الملايين من إيطاليا فوجدت السلب والبؤس. ماذا فعلتم بمئات الآلاف من الفرنسيين الذين أعرف أنهم زملائي وشركائي في النصر والعظمة؟ لقد ماتوا."

ولم يكن المستمعون إليه يعلمون أنه استعار بعضا من هذه السطور من جرينوبل اليعقوبي Grenoble Jacobin فأحسوا بقوتهم إذ كان قد جرى اختزانهم في الذاكرة فترة طويلة كمبرر للانقلاب الذي سيحدث. ومخافة أن تثير كلماته هذه سخط بارا فقد انتحى جانبا ببوتو وأكد له أن مشاعره الشخصية عن عضو حكومة الإدارة (بارا) لم تتغير. ثم ركب حصانه واستعرض جنوده وعاد إلى جوزيفين سعيدا بنجاحه كخطيب.

وفي 10 نوفمبر قاد الجنرال ليفيبفر Lefebvre خمسمائة من حامية باريس إلى سان كلو وعسكر بالقرب من القصر الملكي، وتبعهم نابليون وعدد من ضباطه المقربين،

ص: 258

ثم لحق بهم سييس، ودوكو Ducos، وتاليران، وبوريين Bourrienne . وراحوا يراقبون اجتماع مجلس الشيوخ في بهو مارس Mars واجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال المجاورة للبهو (الأورنجيري Orangerie) وحالما دعا لوسين بونابرت الخمسمائة للجلوس والنظام حتى تعالت الاحتجاجات على وجود العساكر حول القصر. لقد تعالت الصيحات:"لا للدكتاتورية .. فليسقط كل دكتاتور! إننا أحرار ولن تخيفنا الحراب" وكان هناك اقتراح مؤداه أن على كل نائب أن يتقدم إلى المنصة وأن يجدد بصوت مسموع قسمه بحماية الدستور، وجرى تنفيذ ذلك بهدوء حتى الساعة الرابعة بعد الظهر.

وتباطأ مجلس الشيوخ أيضا على أساس أنه من الضروري انتظار ما يتقدم به الخمسمائة من اقتراحات، وكان نابليون في غرفة جانبية مغيظا حانقا مخافة أن يضيع هدفه إذا لم يتم اتخاذ عمل حاسم حالا. وشق نابليون طريقة بين بيرتييه Berthier وبوريين واتجه إلى منصة مجلس الشيوخ وحاول أن يثير هؤلاء الرجال كبار السن ليتحركوا للقيام بعمل ما، لكنه رغم ما كان معروفا عنه من بلاغة في بياناته وحسم في مناقشاته كان في هذه المرة يكظم غيظه ويكتم أفكاره مما جعله غير قادر على ارتجال خطبة منسقة أمام هذا المجلس التشريعي. لقد تحدث بحدة وعنف وطريقة مشوشة:

" إنكم فوق بركان! .... اسمحوا لي أن أتحدث بحرية كجندي (كمقاتل) .. لقد كنت أعيش في سلام في باريس عندما استدعيتموني لتنفيذ أوامركم .... إنني أجمع رفاق السلاح

لقد هببنا لنجدتكم .... بينما الناس يغمرونني بافتراءاتهم .. لقد قالوا إنني مثل قيصر، كرومويل Cromwell وتحدثوا عن حكومة عسكرية

إن الوقت يمضي بسرعة. إنه من الضروري أن تتخذوا إجراءات حاسمة فورية .... إن الجمهورية بلا حكومة، فلم يبق إلا مجلس الشيوخ، فليتخذ المجلس إجراءات، فلينطق، وسأكون أداة التنفيذ. دعونا ننقذ الحرية! دعونا ننقذ المساواة! ".

وقاطعة أحد الأعضاء: "وننقذ الدستور أيضا! "

فأجاب نابليون بانفعال غاضب:

"دستور!؟ إنكم أنفسكم قد دمرتموه. أنتم انتهكتموه

ص: 259

في 18 فروكتيدور Fructidor! أنتم انتهكتموه في 22 فلوريل Floreal . أنتم انتهكتموه في 13 بريريال Prairial . إنه لم يعد جديرا باحترام من أي إنسان".

وعندما طالبوه بأن يسمى الذي وقفوا وراء مؤامرة اليعاقبة، ذكر اسم بارا ومولا، فلما طلبوا منه دليلا تلعثم ولم يجد ما هو أكثر إقناعا من توجيه حديثه للجنود الواقفين عند المدخل:

"أنتم، يا رفاقي الشجعان الذي تصطحبونني، يا رماة القنابل الشجعان .. إذا تجاسر أي خطيب من هؤلاء، مدفوعا من أحد الأجانب وأعلن إباحة دمى (أنني لست تحت حماية القانون Hors La Loi) ، فدعوا بريق الحرب يمحقه فورا"

وغمرت الأسئلة والاعتراضات المتحدث (نابليون) فأصبحت كلماته أكثر اضطرابا وتشوشا، فهب مساعدوه لإنقاذه من هذه الورطة ورافقوه إلى خارج الغرفة. لقد بدا أنه دمر مشروعه.

لكنه قرر أن يحاول مرة أخرى، لكنه في هذه المرة سيواجه عدوه مباشرة، أولئك الخمسمائة الذين تلونوا بلون اليعاقبة، فاتخذ سبيله إلى حديقة البرتقال المجاورة (الأورنجيرى) يرافقه أربعة من رماة البنادق. وكان النواب مستائين من العرض العسكري فضجت القاعة بالصياح:

"يسقط الدكتاتور .. يسقط الطغيان! دمه حلال

إنه ليس تحت حماية القانون Hors La Loi ". لقد كانت هذه العبارة الأخيرة هي التي تسببت فيما سبق في إسقاط روبيسبير وموته. لقد طرحت فكرة "إهدار دم نابليون" بالفعل فرفض لوسين بونابرت رئيس المجلس طرح الفكرة للتصويت وترك مقعد الرياسة ليعتلي المنصة ويدافع عن نابليون (أخيه). وأحاط النواب المُستقرون بنابليون: "إنه من أجل هذا حققت انتصاراتك؟! " هكذا سأل أحدهم، وتكالب آخرون عليه وتزاحموا حوله حتى كاد يغمى عليه، فأفسح له العسكريون المصاحبون له الطريق وخرجوا به خارج القاعة، فأنعشه الهواء الطلق، فركب حصانه ولجأ الجنود الذين وقفوا مندهشين لرؤية ثيابه ممزقة وشعره مهوشاً، فخاطبهم: "أيها الجنود. أيمكنني أن أعتمد عليكم؟ " فرد كثيرون منهم بنعم وتردد آخرون. لقد كان نابليون مرة أخرى في الغاية من التشوش، فخطته الكبرى تبدو قد تعثرت.

لقد أنقذه أخوه الذي أسرع خارج القاعة الكائنة في حديقة البرتقال (الأورنجيري)

ص: 260

وامتطى أقرب حصان وجعل حصانه إلى جانب حصان نابليون وخاطب الحرس غير المنظم بحسم وبلاغة ولوي الحقائق بشدة:

"إنني كرئيس لمجلس الخمسمائة أعلن لكم أن الغالبية العظمى في المجلس في هذه اللحظة قد اعتراهم الرعب بسبب الخناجر التي يحملها بعض النواب والذين حاصروا المنصة وهددوا زملاءهم بالموت

إنني أعلن أن هؤلاء المجرمين الوقحين لا شك قد تلقوا أموالا من إنجلترا وأنهم ضد إرادة مجلس الشيوخ وأنهم تجرءوا على اقتراح إهدار دم الجنرال الذي أخذ على عاتقه تنفيذ قرار مجلس الشيوخ .. إنني أعهد إلى المقاتلين بمسئولية تحرير الأغلبية من ممثليهم. أيها الجنرالات والجنود والمواطنون أنتم يجب ألا تعترفوا بمشرعين لفرنسا إلا بالنسبة لهؤلاء الذين يتبعونني أما الذين سيظلون في قاعة حديقة البرتقال (ألأورنجيري) فليتم طردهم بالقوة ".

وشهر لوسين سيفه ووجهه لصدر نابليون وأقسم أنه إذا تصدى أخوه (نابليون) لحرية الشعب الفرنسي فسيقتله بسيفه هذا.

وعندئذ أمر نابليون بقرع الطبول وأمر الجنود باجتياح الأورنجيرى (قاعة اجتماع مجلس الخمسمائة في حديقة البرتقال) وتفريق النواب غير الممتثلين للأوامر، فشق مورا Murat وليفيبفر Lefebvre ليكونا في المقدمة وتبعهما رماة القنابل وهم يصيحون:

"برافو Bravo (حسناً) يسقط اليعاقبة! يسقط من كان لهم من دور في سنة 1793

هذا هو القرار الحاسم

إننا الآن نعبر الروبيكون Rubicon ".

وعندما رأى النواب الحراب مشرعة هرب معظمهم وقفز بعضهم من النوافذ وتجمعت أقلية حول لوسين. وتقدم هذا المنتصر الذي حبك هذه الأفاعيل إلى مجلس الشيوخ وشرح لأعضائه أن مجلس الخمسمائة قد تخلص من أعضائه غير المرغوب فيهم، عندئذ وافق مجلس الشيوخ الذي سعد أعضاؤه بعدم إبعادهم على مرسوم يقضي بأن يحل ثلاثة قناصل بشكل مؤقت محل حكومة الإدارة، وهؤلاء القناصل الثلاثة هم: بونابرت وسييس ودوكو. وتم تنظيم نحو مائة من بين الخمسمائة في

ص: 261

مجلس ثان (بدلا من مجلس الخمسمائة)، وتم إرجاء اجتماعات المجلسين حتى 20 فبراير سنة 1800 وتفرد القناصل الثلاثة لكتابة الدستور الجديد وحكم فرنسا. وقال نابليون لبوريين:

"غداً سننام في لكسمبورج".

ص: 262

الفصل السادس

‌الحَياة في ظلّ الثورة:

من 1798 م إلى 1799 م

ص: 264

‌1 - الطبقات الجديدة

هنا نوقف الزمن (نتوقف عن سرد الوقائع التاريخية المتتابعة سراعاً) لننظر إلى شعب يعاني من كثافة التجارب التاريخية التي مرت به. فالست والعشرون سنة الكائنة بين سقوط الباستيل، حتى تنازل نابليون نهائيا (1789 - 1815) كانت حافلة بالأحداث التي لا تنسى، مثلها في ذلك مثل العشرين سنة الكائنة بين عبور قيصر للربيكون Rubicon ووصول أوغسطس للسلطة (49 - 29 ق. م). لقد كانت هذه الفترة التي مر بها الشعب الفرنسي حافلة بالأحداث الخصبة فإنها أحداث تكفي لتشغل قرونا قد تشتمل على وقائع أقل تشنجا وتحولا.

ومع ذلك فقد واصلت الحضارة مسيرتها رغم العقبات، ففي ظل حكومات مرتعشة غير ثابتة الأيدي ظلت المؤسسات وزاد عددها ومجدت العبقرية وتواصلت عناصر الحضارة وفضائلها: إنتاج الطعام والبضائع وتوزيعهما، والعمل على الوصول إلى المعرفة ونقلها، ورعاية المواهب والشخصية، وتبادل التأثير والتأثر، وتلطيف حدة الكدح من أجل الحياة، والنضال من أجل الارتقاء بالفنون والآداب والأعمال الخيرية والألعاب الرياضية والأغاني، وإحداث تحولات في الخيال والعقائد والآمال. حقيقة ألم يكن ذلك هو جوهر التاريخ واستمراره، إذا قورن بهياج الحكومات السطحي وفوران الأبطال؟! فهذه الظواهر الأخيرة إن هي إلاّ عرضية سريعة الزوال، لا تمثل جوهر الحلم.

1/ 1 - الفلاحون The peasantry

كان كثيرون منهم في سنة 1789 لا يزالون إما عمال يومية (عمال اليومية يتلقى الواحد منهم أجرا عن عمل أداه في أثناء اليوم) أو يعملون في الأرض لقاء المشاركة في المحصول (نظام المزارعة)، وكانوا يعملون في أراضٍ يمتلكها الآخرون، لكن ما أن حل عام 1793 إلا وكان الفلاحون يمتلكون نصف الأراضي الزراعية في فرنسا، إذ كان معظمهم قد اشترى أكراتهم (فدادينهم Acres) بأسعار خفضت للمساومة من ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الثورة.

وتحرر معظم الفلاحين إلا قليلا منهم من الرسوم الإقطاعية. فدوافع الملكية حولت العمل من كونه جهدا شاقا وكدحاً مرهقا إلى نوع من العبادة أو الحب الشديد، إذ أدى ذلك كل يوم إلى زيادة الفائض الذي يتحول إلى بناء

ص: 265

المنازل وأماكن الاستجمام والكنائس والمدارس، وهذا يحدث فقط إذا تم التحايل على جامع الضرائب أو تضليله أو استرضائه. وكان يمكن دفع الضرائب بالأسينات assignats (العملة النقدية الورقية الحكومية) على وفق قيمتها الاسمية (المكتوبة عليها) بينما كانت المنتجات تباع بأسينات مضاعفة مائة مرة حتى يضمن البائع أن المبلغ الذي باع به أصبح يساوي قيمة ما باعه.

ولم يحدث أبدا أن كانت زراعة الأرض الفرنسية تتم في أي وقت مضى بمثل هذا الحماس وهذه الطريقة المثمرة، وكان تحرير أكبر الطبقات في مجتمع أصبح الآن بلا طبقات هو أهم نتائج الثورة وأكثر ديمومة وأشدها وضوحا. فهؤلاء الممولون الأشداء أصبحوا أقوى المدافعين عن الثورة لأنها أعطتهم الأرض التي سيأخذها منهم البوربون Bourbon إن هم عادوا ملوكا لفرنسا. وللسبب نفسه أيد الفلاحون نابليون وقدموا طوال خمسة عشر عاماً نصف أبنائهم. وباعتبارهم (أي الفلاحين) ملاكا - وكان هذا مدعاة لفخرهم - فقد صنفوا أنفسهم سياسيا مع البورجوازية، وعملوا خلال القرن التاسع عشر كثقل محافظ يحفظ توازن الدولة التي كانت تعتريها نوبات تغيير مفاجئ.

وليضمن المؤتمر الوطني (1793) المساواة في الحقوق، منع نظام البكورة في الميراث (حق الابن الأكبر في أن يرث الميراث كله) وأصدر أوامره بأن يوصى للأبناء بأسهم متساوية بمن في ذلك الأبناء غير الشرعيين (المولودين خارج نطاق الزوجية) إذا اعترف الأب ببنوتهم له. وكان لهذا التشريع نتائج مهمة على المستويين الأخلاقي (المعنوي) والاقتصادي: وقد عارضه معارضون لأن هذا النظام الجديد يفضي بالورثة إلى الفقر نتيجة تقسيم الميراث على التوالي بين أبناء كثيرين، لذا فقد رسخ الفرنسيون وسائل تحديد النسل القديمة. لقد ظل الفلاحون مزدهري الأحوال لكن عدد سكان فرنسا راح ينمو ببطء خلال القرن التاسع عشر إذ ارتفع من 28 مليون نفس سنة 1800 إلى 39 مليون نفس في سنة 1914، بينما ارتفع سكان ألمانيا في الفترة نفسها من 21 مليوناً إلى 67 مليوناً. ونظراً لخصوبة الأرض ووفرة ثمرها تباطأ الفلاحون الفرنسيون في الانتقال والحركة إلى المدن والمصانع، لذا بقيت فرنسا دولة زراعية في الأساس، بينما تطورت إنجلترا وألمانيا صناعيا وتكنولوجيا، فأدى هذا لتفوقها في الحرب وسادت أوربا.

ص: 266

1/ 2 - البروليتاريا The proletariat

ظل الفقر شديد الوطأة بين الفلاحين الذين لا يمتلكون أراضي، والمشتغلين في المناجم والعمال والحرفيين في المدن. لقد راح الرجال يحفرون الأرض لاستخراج المعادن اللازمة للصناعة والحرب، فقد كان الملح الصخري (نترات البوتاسيوم أو الصوديوم) لازما لصناعة البارود، وزاد استخدام الفحم ليحل محل الأخشاب كمولد للطاقة المحركة. وكانت المدن متألقة مفعمة بالحيوية نهارا مظلمة هامدة بالليل حتى سنة 1793 عندما أخذت الكومونات communes على عاتقها إضاءة شوارع باريس، وواصل الحرفيون العمل ليلا في محلاتهم المضاءة بالشموع وراح البائعون الجوالون ينادون على بضائعهم ليلا في مركز السوق المفتوح، وكان في الضواحي مصنع أو مصنعان.

وفي سنة 1791 ألغيت روابط الطوائف المهنية Guilds وأعلنت الجمعية الوطنية أنه "من الآن فصاعدا لكل فرد الحق في ممارسة العمل الذي يختاره والمهنة التي يرتضيها والفن أو التجارة التي يبتغيها". ومنع قانون منع التكتلات Law of le Chapel (الصادر في سنة 1791) العمال من الانضمام إلى تكتلات اقتصادية، وظل هذا المنع ساريا حتى سنة 1884، وكانت الإضرابات ممنوعة لكنها حدثت لفترات متواصلة أحيانا، وبشكل متقطع أحيانا أخرى. وناضل العمال حتى لا يأكل التضخم أجورهم، وعلى كل حال، وبشكل عام، استطاعوا الحفاظ على أجور لا يقلل ارتفاع الأسعار من جدواها. وبعد سقوط روبيسبير Robespierre أحكم أصحاب الأعمال قبضتهم وساءت أحوال البروليتاريا. وبحلول عام 1795 أصبح العوام من السانس كولوت sansculottes طبقة فقيرة ومطحونة كما كان حالها قبل الثورة. وبحلول عام 1799 فقدت هذه الطبقة إيمانها بالثورة، وفي سنة 1800 رحبوا بدكتاتورية نابليون عاقدين عليها الآمال.

ص: 267

1/ 3 - البورجوازية The bourgeoisie

حققت البورجوازية نصراً من خلال الثورة لأنها كانت أغنى بالأموال والعقول من الأرستقراطية أو العوام Plebs . لقد اشتروا من الدولة من خلال صفقات معظمها رابح ممتلكات الكنيسة المصادرة، ولم تكن ثروة البورجوازية مرتبطة بالأرض التي لا يمكن نقلها (الممتلكات الثابتة) وإنما كان يمكنهم نقل ثرواتهم من مكان إلى مكان، وتشغيلها في أي مجال ولأي غرض، كما كان يمكنهم تداولها والانتقال بها من ظل قانون (تشريع) إلى ظل قوانين أخرى. وكان يمكن للبورجوازية أن يدفعوا للجنود والحكومات وللجماعات المشاركة في أي عصيان مسلح.

وحصلت هذه الطبقة خبرة في إدارة الدولة فكان أفرادها يعلمون كيف يجمعون الضرائب وأثروا في خزانة الدولة من خلال ما أقرضوه لها، وكان أفراد البورجوازية أكثر تحصيلا للتعليم ذي المردود العملي، من النبلاء ورجال الدين، وكانوا أكثر كفاءة في حكم مجتمع، المال هو دورته الدموية، وكانوا يعتبرون الفقر عقاباً للأغبياء، وأن ثراءهم ما هو إلا مكافأة عادلة لعملهم وذكائهم، ولم يشاركوا في حكومة العامة من السانس كولوت، واعتبروا تدخل البروليتاريا في أمور الحكم شيئا لا يطاق ويؤدي إلى اضطراب الحكومة. وانتهوا إلى نتيجة مؤداها أنه عندما يهمد صوت الثورة وعنفها، سيصبح البورجوازية هم سادة الدولة.

وكانت البورجوازية في فرنسا بورجوازية تجارية أكثر منها صناعية، ولم تشهد فرنسا تحول بعض مزارعها إلى مراع كما كان يحدث وقتها في إنجلترا، مما أدى إلى نزوح الفلاحين الإنجليز من حقولهم إلى المدن مكونين طاقة عاملة رخيصة في المصانع، كما أن الحصار الذي فرضته بريطانيا على فرنسا منعها من تصدير منتجاتها، ذلك التصدير الذي يؤازر التوسع الصناعي. ومن هنا فإن نظم الصناعة كانت تتطور في فرنسا بشكل أبطأ مما عليه الحال في إنجلترا.

لقد كان هناك بعض التنظيمات الرأسمالية الكبيرة في باريس وليون وليل Lille وتولوز Toulouse ...... ، لكن الصناعة الفرنسية في معظمها كانت لا تزال في المرحلة "الحرفية" وكانت لا تزال في محلات (دكاكين)، بل إن الرأسماليين (الفرنسيين) قد أوكلوا كثيرا من الأعمال اليدوية على أسر تعمل في مساكنها الريفية أو غيرها. وباستثناء الفورات الفاشستية زمن الحرب، وتعاطف اليعاقبة Jacobin شيئا ما مع الاشتراكية، فإن الحكومة الثورية قد

ص: 268

قبلت النظرية الفيزيوقراطية Physiocratic في الاقتصاد الحر باعتبار ذلك نظاما اقتصاديا يحفز على العمل ويزيد الإنتاج. وخففت معاهدات السلام مع بروسيا في سنة 1795 ومع النمسا في سنة 1797، من العوائق الاقتصادية، ودخلت الرأسمالية الفرنسية كالرأسمالية الإنجليزية والأمريكية، القرن التاسع عشر بمباركة الحكومة التي تمارس عليها حدا أدنى من الحكم.

1/ 4 - الأرستقراطية The aristocracy

فقدت الارستقراطية سلطانها كله في توجيه الاقتصاد والحكم. فقد كان معظم الأرستقراطيين ما زالوا خارج فرنسا (مهاجرين منها) يعيشون عيشة مذلة، فقد صودرت أملاكهم في فرنسا وتوقف دخلهم. وكان منهم النبلاء الذين بقي بعضهم في فرنسا، وعاد بعضهم الآخر من مهجره، وقد قصت المقصلة رقاب كثيرين منهم وانضم بعضهم للثورة، وظل الباقون حتى سنة 1794 مختبئين بشكل غامض وكانت السلطات تزعجهم بتكرار الإغارة على عقاراتهم. وفي ظل حكومة الإدارة قلت المعوقات فعاد كثيرون من هؤلاء المهاجرين واستعاد بعضهم جزءاً من ممتلكاته، وفي سنة 1797 راحت أصوات كثيرة تهمس بأن الملكية وحدها تدعمها (أو تراجعها) أرستقراطية نشيطة هي وحدها التي يمكن أن تعيد النظام والأمان للحياة الفرنسية، واتفق نابليون معهم لكن على وفق طريقته وتمشيا مع مقتضيات زمنه.

1/ 5 - الدين Religion in France

عرف الدين في فرنسا كيف يشق طريقه دون عونٍ من الدولة، بعد أن اقتربت الثورة من التخلص منه. وتحرر البروتستانت الذين كانوا يشكلون 5% من السكان من المعوقات التي اعترضت سبيل عقيدتهم، فحقهم في العبادة الذي أقرهم على قليل منه لويس السادس عشر في سنة 1787 أصبح الآن حقا كاملا على وفق دستور سنة 1791، وامتدت الحقوق المدنية إلى يهود فرنسا ليصبحوا ذوي حقوق قانونية مساوية للمواطنين الآخرين، على وفق مرسوم 28 سبتمبر سنة 1791.

أما الإكليروس الكاثوليك The Catholic clergy الذين كانوا فيما مضى من الطبقة الأولى فقد أصبحوا الآن

ص: 269

يعانون من عنف حكومة فولتيرية Voltairean مناهضة للإكليروس. وفقدت الطبقات العليا معتقداتها (إيمانها) بالكنيسة، وحصلت الطبقة الوسطى على معظم أراضي الكنيسة وفي سنة 1793 بيعت ممتلكات الكنيسة لأعدائها، تلك الممتلكات التي قدرت قيمتها بمليونين ونصف مليون ليفر، وفي إيطاليا جردت الباباوية Papacy من ولاياتها وعوائدها، وأصبح بيوس السادس أسيرا، وفر آلاف الفرنسيين إلى البلاد الأخرى، وعاش كثيرون منهم على إحسان البروتستانت وأغلقت مئات الكنائس أو صودرت أموالها وتحفها، وصمتت أجراس الكنائس أو راحت تدق على استحياء. لقد كسب فولتير وديدرو، وهليفيتيوس Helvetius ودهولباخ d'Holbach معركتهم مع الكنيسة فيما يظهر.

لكن هذا النصر لم يكن واضحا. حقيقة لقد فقدت الكنيسة ثرواتها وسلطانها السياسي لكن جذورها الحية ظلت متمثلة في الولاء للإكليروس وفي حاجات الناس وآما لهم، فكثيرون من الرجال في المدن الكبيرة ممن كانوا قد شردوا بعيدا عن معتقداتهم أصبحوا جميعا تقريبا من رواد الكنائس في عيدي الكريسماس والفصح، وفي ذروة أحداث الثورة (مايو 1793) كان أهل باريس (على وفق رؤية شاهد عيان) رجالا ونساء وأطفالا يخرون على ركبهم توقيراً واحتراما عندما يمر القس حاملا خبز القربان المقدس في شوارع باريس بل وحتى المتشككون لا بد أنهم شعروا بالتأثير "المغناطيسي" للشعائر الدينية، وما توحيه من جمال لا يذوي، ولابد أنهم تأملوا ما كتبه بسكال Pascal في "الرهان Wager" من أنه من الحكمة أن يكون المرء مؤمناً، ففي خاتمة المطاف لن يفقد المؤمن شيئا، بينما يفقد غير المؤمن كل شيء إن ثبت خطؤه (أو بتعبير آخر: المصدق لن يفقد شيئا والمكذب سيفقد كل شيء إن ثبت خطؤه).

وفي ظل حكومة الإدارة انقسمت الأمة الفرنسية إلى قسمين: شعب عاد ببطء إلى العقيدة التقليدية، وحكومة عمدت إلى تأسيس مجتمع علماني خالص اعتمادا على القانون والتعليم، ففي 8 أكتوبر 1798 أرسلت حكومة الإدارة الجديدة (بعد طرد الأعضاء غير المرغوب فيهم منها) لكل المعلمين في مدارس الدوائر (المحافظات) التعليمات التالية:

ص: 270

"يجب أن تحذفوا من مقرراتكم الدراسية كل ما يتعلق بعقائد أي دين وشعائره (أو طقوسه) من أي مذهب كان. إن الدستور يكفل حرية العبادة، لكن تدريسها ليس جزءاً من المقررات الدراسية العامة (الحكومية) ولا يمكن أن تكون أبدا مجالاً للتدريس. لقد قام الدستور على قاعدة الأخلاق العامة (غير المرتبطة بدين) وهي أخلاق (مبادئ أخلاقية) صالحة لكل زمان وكل مكان وكل الأديان فهذا القانون (الأخلاقي) محفور في ألواح الأسرة البشرية - إنها - أي هذه الأخلاق الصالحة لكل زمان ومكان ودين - هي ما يجب أن تكون روح دروسكم وهدف وصاياكم والرابط بين مجالات الموضوعات التي تدرسونها كما أنها الرباط الذي يربط بين أفراد المجتمع".

وهنا نجد هذا المبدأ الذي جرى النص عليه بوضوح كان واحدا من أكثر مشروعات الثورة صعوبة، فتلك قضية من أصعب قضايا عصرنا: أن تبني نظاما اجتماعيا اعتمادا على نظام أخلاقي قائم على عقيدة دينية. وقد اعتبر نابليون ذلك اقتراحا غير عملي، وكان على أمريكا أن تلتصق به حتى عصرنا هذا.

1/ 6 - التعليم Education

تولت الدولة الإشراف على التعليم بدلاً من الكنيسة، وعمدت الدولة إلى أن تجعل من هذه المدارس مراكز تربوية لتنمية الذكاء وتعميق الأخلاق، وترسيخ الوطنية. وفي 21 أبريل سنة 1792 قدم كوندورسيه Condorcet مسئول التعليم العام للجمعية التشريعية تقريرا تاريخيا داعيا إلى إعادة تنظيم التعليم حتى يحدث:

"التقدّم الدائم المستمر في مجال التنوير مما قد يفتح موارد لا نهاية لها لسد احتياجاتنا ومداواة عللنا ولتحقيق السعادة للفرد والرخاء للجميع".

وقد عوّقت الحرب تحقيق هذا التصور المثالي، لكن في 4 مايو سنة 1793 جدد كوندورسيه عرضه لكن على أساس أضيق مما سبق. لقد قال:

"البلاد (فرنسا) لها حق تربية أبنائها وتنشئتهم، ولا يمكن أن نعهد بهذه المهمة إلى طموح الأسرة، ولا إلى أفراد مفسدين

فالتعليم لا بد أن يكون مباحاً للفرنسيين كلهم وعلى قدم المساواة ..... إننا نعول عليه كثيرا ليكون متمشيا مع طبيعة حكومتنا ومبادئ جمهوريتنا الراقية"

وهذه الصياغة كما هو واضح تحل عقيدة محل أخرى - الوطني بدلاً من

ص: 271

الكاثوليكي -، وتبشر "بالوطنية" كدين رسمي. وفي 28 أكتوبر سنة 1793 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بمنع تعيين أي إكليريكي مدرساً في مدارس الحكومة، وفي 19 ديسمبر صدر بيان بجعل التعليم الابتدائي مجانيا وإلزاميا للأولاد كلهم. أما البنات فكان من المتوقع أن تعلمهن أمهاتهن أو يتلقون التعليم في الأديرة أو على يد معلمين خصوصيين.

وكان من الضروري إرجاء تنظيم المدارس الثانوية إلى ما بعد الحرب، وعلى هذا ففي 22 فبراير سنة 1794 بدأ المؤتمر الوطني في تأسيس "المدارس المركزية Ecoles Centrales" التي أصبحت هي مدارس المحافظات أو الدوائر Lycees الثانوية. وتم افتتاح مدارس خصوصية Special للتعدين والأشغال العامة والفلك والموسيقي والفنون والحرف، وفي 28 سبتمبر سنة 1794 بدأت مدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique التدريس في مجالها المميز. وتم إغلاق الأكاديمية الفرنسية في 8 أغسطس سنة 1793 باعتبارها مركزا للمعارضين القدماء، لكن في 25 أكتوبر سنة 1795 دشن المؤتمر الوطني أكاديمية أخرى هي المعهد القومي الفرنسي الذي ضم أكاديميين مختلفين لتشجيع كل العلوم والفنون، وتجمع في هذا المعهد العلماء والباحثون الذين أخذوا على عاتقهم إنجاز التراث الفكري التنويري، وهم الذين أعطوا حملة نابليون على مصر أهمية دائمة (بفضل إنجازاتهم العلمية).

1/ 7 - السلطة الرابعة The "Fourth Estate"

الصحفيون والصحافة: قد يكون لها أهمية تفوق المدارس من حيث تأثيرها في تشكيل عقل فرنسا وحالتها النفسية في هذه السنوات المفعمة هياجاً. فأهل باريس وعلى نحو أقل أهل فرنسا عامة كانوا يلتهمون ورق الصحف التهاما بشغف شديد (المقصود يقرءونه برغبة عارمة) كل يوم. لقد ازدهرت صحف الشباب (صحف الهجاء أو الفضائح) التي راحت تجرح السياسيين والعلماء وتقلل من أقدارهم أمام العامة. وقد التزمت الثورة في (إعلان حقوق الإنسان) بالمحافظة على حرية الصحافة، وقد جرى تنفيذ ذلك خلال فترة حكم الجمعية الوطنية فالتأسيسية (1789 - 1791) لكن نتيجة اشتداد حدة النزاع بين الفرقاء عمد كل جانب إلى التقليل من عدد منشورات أعدائه، لكن الواقع أن حرية الصحافة قد ماتت بإعدام الملك (21 يناير 1793)،

وفي 18 مارس أصدر المؤتمر الوطني قرارا بإعدام كل: "من يقترح قوانين بتقسيم الأراضي وتوزيعها أو أية قوانين تؤدي إلى تدمير

ص: 272

الملكية الخاصة أو التجارية أو الصناعية"

وفي 29 مارس حث قتلة الملك والمؤيدون لقتله المؤتمر الوطني على إصدار قرار بإعدام كل من: "يدان بطبع أو كتابة ما يحث على

إعادة الملكية أو إعادة أي سلطات أخرى في عودتها ضرر بسيادة الشعب".

ودافع روبيسبير طويلا عن حرية الصحافة، لكنه بعد أن أرسل إلى المقصلة كلا من هيبير Hebert ودانتون وديمولين Desmoulins وضع بإعدامهم حدا لظهور الصحف التي كانوا يدعمونها. وخلال فترة حكم الإرهاب اختفت حرية التعبير حتى في المؤتمر الوطني، وأعادت حكومة الإدارة حرية الصحافة في سنة 1796 لكنها ألغتها بعد ذلك بعام واحد بعد انقلاب 18 فروكتيدور ونفت محرري 42 جريدة. ولم يدمر نابليون حرية التعبير وحرية الصحافة لأنه عندما وصل إلى السلطة كانت مدمرة بالفعل.

‌2 - الأخلاق الجديدة

2/ 1 - الأخلاق والقانون Morality and Law

أما وقد تم استبعاد الدين أساساً للأخلاق (أي حب الرب المراقب العليم المكافئ المعاقب والخوف منه، وطاعة شريعته والتزام أوامره واجتناب نواهيه)، فإن الأرواح المتحررة في فرنسا وجدت نفسها بلا دفاع (إلا من خلال الأصداء الأخلاقية للعقائد التي هجرتها) ضد غرائزها الأقدم والأقوى والأشد فردية التي غرست وتأصلت بفعل قرون بدائية ساد فيها الجوع والجشع والصراع وانعدم فيها الأمان. لقد راح الفرنسيون يبحثون عن فكرة جديدة لتكون مرساة في بحر هائج، أفراده متمردون، لا يخشون إلا القوة (لا يذعنون إلا إذا كان هناك ما يخيفهم)، أما الأخلاق المسيحية فتركوها لزوجاتهم وبناتهم. لقد انعقدت آمالهم على أن تكون هذه الفكرة الجديدة (التي هي عوض عن القيم الدينية) في حقوق المواطنة وواجباتها (civisme citizenship) بمعنى قبول الواجبات التي تفرضها هذه المواطنة، وتحصيل المزايا الناتجة عن الانتماء إلى مجتمع منظم يحظى بالحماية، وفي مقابل هذه

ص: 273

الحماية وكثير من الخدمات العامة (التي تقدم للجميع) لا بد أن يراعى الفرد في كل اختيار معنوي (أخلاقي) يقدم عليه مصالح المجتمع باعتبارها القانون الأعلى Salus Populi Suprema Lex .

لقد كان ترسيخ " أخلاق طبيعية natural ethic" محاولة نبيلة وقد اكتشف النواب الفلاسفة ميرابو Mirabeau وكوندورسيه وفيرجنيو Vergniaud ورولان وسان جوست وروبيسبير من خلال مراجعاتهم للقرون المسيحية الماضية أن التاريخ الكلاسيكي أو المرويات التاريخية للنماذج التي يبحثون عنها: فليونيداس Leonidas وإيبا مينونداس Epaminondas وأرستيدس Aristides والبروتسيون Brutuses وكاتوس Catos وسبيوس Scipios كل أولئك كانت "الوطنية" بالنسبة لهم إلزاما حاكما حتى إن الرجل قد يقتل استقامة منه وتمسكا بالخلق أبناءه أو والديه إذا اعتقد أن هذا ضروري لصالح الدولة.

لقد أصابت المجموعة الأولى من الثوار نجاحا معقولا مع هذه الأخلاقيات الجديدة. والمرحلة الثانية بدأت من 10 أغسطس سنة 1792: جمهور باريس الذي خلع لويس السادس عشر وزعم أن السلطة التي قد قامت بذلك مغفور لها (لها عذرها). وفي ظل الحكم القديم كانت بعض فضائل الأرستقراطية وبعض لمسات الإنسانيين التي بشر بها الفلاسفة والقديسون قد لطفت من ميل الناس الطبيعي للنهب والسلب وهجوم بعضهم على بعضهم الآخر، لكن - الآن - وجدنا أنه قد تبع هذا في موكب الموت، مذابح سبتمبر واعدم الملك والملكة وانتشار حكم الإرهاب والمقصلة مما وصفته مدام رولان (التي كانت إحدى ضحايا الإرهاب):"ساحة إعدام موسعة مليئة بالأشلاء مثل الجلجوثا Golgotha " وأصبح زعماء الثورة متربحين مستغلين ظروف الحرب وفرضوا على المناطق "المحررة" أن يدفعوا ثمنا لحقوق الإنسان، وقيل للجيوش الفرنسية أن تعيش في المناطق المفتوحة، وأصبحت كنوز الفن في المناطق المحررة أو المهزومة ملكا لفرنسا، وفي هذه الأثناء تآمر أعضاء المجلسين وضباط الجيش مع الموردين لخداع الحكومة والجنود.

وفي ظل الاقتصاد الحر

ص: 274

عمد المنتجون والموزعون والمستهلكون إلى الخداع وراح كل طرف يخدع ا لطرف الآخر أو يعمد إلى التهرب من سقف الأسعار المسموح به (الحد الأقصى لسعر البضاعة المطروحة) أو الأجور، أو ممارسة الأعمال الأخرى المشابهة والتي تتسم بعدم الانضباط، وكل هذا بطبيعة الحال كان موجودا لآلاف السنين قبل الثورة، لكن في محاولة لضبط كل هذا بدت القيم الأخلاقية الجديدة- أخلاق المواطنة. أنها ليست بقوة تأثير الخوف من الآلهة. أو بتعبير آخر بدت فكرة التركيز على واجبات المواطن وحقوقه أنها ليست بنفس قوة "الخوف من الآلهة".

لقد زادت الثورة من عدم الأمان في الحياة، ومن عدم الاستقرار في القوانين، فكان أن عبر الناس عن توترهم الشديد بارتكاب الجرائم، كما راحوا يبحثون عن وسيلة يلهون بها أنفسهم فوجدوا طريق القمار، واستمرت المبارزات لكنها قلت عما كانت عليه قبل الثورة. وقد منع القمار بمراسيم صدرت سنة 1791 و 1792 ومع هذا فقد تضاعفت بيوت القمار السرية، ففي سنة 1794 كان هناك ثلاثة آلاف محل قمار في باريس. وخلال فترة بحبوحة الطبقة العليا في سنوات حكومة الإدارة راح الرجال يراهنون بمبالغ ضخمة فخربت بيوت أسر كثيرة مع دوران العجلة (عجلة القمار) لكن في سنة 1796 دخلت حكومة الإدارة مجال القمار بإعادة "اللوترية الوطنية Loterie Nationale" أو "اليانصيب الوطني أي على مستوى الدولة". وفي التماس طالب حي (قسم) التوليري Tuileries التابع لكومون باريس المؤتمر الوطني بإصدار قانون بمنع كل بيوت القمار والمواخير كلها (بيوت الدعارة) وساقت لذلك برهانا هو أنه:"بلا أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون أو نظام، وبدون أمان شخصي لن تكون حرية".

لقد أقامت الحكومات الثورية نظاما قانونيا جديدا لشعب مستثار ومضطرب، وتركت له الحبل على الغارب، فانفلت من القيم الأخلاقية والضوابط القانونية كلها بعد انهيار المعتقد الديني وموت الملك. وكان فولتير في وقت سابق قد دعا إلى إعادة النظر في القوانين الفرنسية بشكل عام وجمع قوانين الولايات الفرنسية كلها، وعددها _ أي القوانين 360 مجموعة وضمها معا في خلاصة واحدة محكمة لتطبيقها على فرنسا كلها. ولم يستجب أحد لهذه الدعوة فقد كانت الثورة على أشدها، وكان لا بد لهذه الدعوة أن تنتظر نابليون

ص: 275

لتحقيقها. وفي سنة 1780 قدمت أكاديمية شالون سير مارن Chalons-sur-Marne جائزة لأحسن مقال عن: "أحسن طريقة لتخفيف حدة قانون العقوبات الفرنسي دون الإضرار بالأمن العام".

واستجاب لويس السادس عشر بمنع التعذيب (1780) و 1788 أعلن عن عزمه بمراجعة القوانين الجنائية الفرنسية كلها وصياغتها في مدونة قانونية مقومة، وأكثر من هذا:"سوف نبحث الوسائل كلها للتخفيف من حدة العقاب دون الإخلال بالنظام" وعارض القانونيّون المحافظون الذين كانوا وقتها يسيطرون على "برلمانات Parlements" باريس ومتيز Metz وبيسانسون Besancon الخطة، واضطر الملك للتخلي عنها اضطرارا.

وعرضت المذكرات والعرائض التي تم تقديمها لمجلس طبقات الأمة في سنة 1789 عدة إصلاحات قانونية: المحاكمة لا بد أن تكون علنية. ضرورة أن يكون للمتهم محام أو مجموعة تقدم له المشورة القانونية. إلغاء المراسيم الملكية بالسجن دون محاكمة Lettres de Cachet . لابدّ من ترسيخ قواعد المحاكمة أمام محلفين. وفي يونيو أعلن الملك إبطال المراسيم الملكية بالسجن بلا محاكمة، وسرعان ما تبنت الجمعية التأسيسية هذه المطالب الإصلاحية وصاغتها قوانين، وأعيد نظام المحاكمة أمام محلفين الذي عرفته فرنسا في العصور الوسطى مرة أخرى.

لقد أصبح المشرعون الآن محصنين ضد التأثيرات الإكليريكية (المسيحية) بما فيه الكفاية، وواعين لاحتياجات الأعمال (التجارية) ليعلنوا في 3 أكتوبر سنة 1789 (بعد قرون من وجود هذا الأمر على أرض الواقع) -

أن تحصيل فائدة ليس جريمة! Charging of interest was not a crime!

وصدر قانونان في سنة 1792 - 1794 لتحرير العبيد في فرنسا ومستعمراتها، وإعطاء الزنوج حقوق المواطنين الفرنسيين. وعلى أساس أن:"الدولة الحرَّة بمعنى الكلمة لا يمكن أن تسمح بأي نتوءات مفتعلة في صدرها" ومنعت قوانين مختلفة كل - الأخويات (المقصود الجمعيات أو التكتلات المكونة من جماعة ذات اتجاهات معينة تربط أعضاءها) والجمعيات العلمية والأدبية والتنظيمات الدينية وروابط الأشغال (الجمعيات الحرفية أو المهنية). وكان أمراً مستغرباً تماما أن نوادي اليعاقبة تم استثناؤها من هذا الحظر بينما حُظرت اتحادات العمال. والواقع أن الثورة سرعان ما أحلت

ص: 276

"الدولة كلية السلطة أو الدولة الشمولية Omnipotent State" محل الملكية.

والحقيقة أن تباين التشريعات القديمة، وإقرار قوانين جديدة وازدياد تعقد علاقات الأعمال كل هذا أدى إلى زيادة أعداد القانونيين زيادة كبيرة، فهم - الآن قد حلوا محل الإكليروس كطبقة أولى. ومنذ حل "البرلمانات " لم يكونوا تابعين لتنظيم رسمي، لكن معرفتهم بكل ثغرات القانون، وبالإجراءات القانونية بكل حيلها، ووسائل التسويف فيها، قد أعطتهم قوة وجدت الدولة نفسها صعوبة في السيطرة عليها (مع أن الحكومة نفسها كانت تضم مجموعة من القانونيين) وبدأ المواطنون يحتجون على التسويف في ظل القانون (التسويف القانوني) وعلى حيل المحامين، وتكاليف التقاضي المرتفعة مما جعل - ويا للسخط - المواطنين حقيقة غير متساوين أمام المحاكم.

وحاولت الجمعيات المتتالية خلال اختزال إجراءات التقاضي، والتقليل من حدة سلطان المحامين، وفي إجراء عنيف صدرت مراسيم بإبطال وظيفة الموثق العام (كاتب العدل) في 23 سبتمبر سنة 1793. وتم إلغاء مدارس القانون (15 سبتمبر 1793) وصدر مرسوم في 24 أكتوبر 1793 بإلغاء وظيفة الوكيل القانوني attorney at Law وإنما يقوم المتقاضون (المتخاصمون) بتفويض مندوبين عنهم ليمثلوهم أمام المحاكم بلا مقابل وهذه الإجراءات غالباً ما كان يتم الالتفاف حولها وظلت مجرد قوانين في الكتب حتى أعاد نابليون نظام المحامين أو الوكلاء القانونيين attorneys في 18 مارس سنة 1800.

وقد أحرزت الثورة تقدما في إصلاح القوانين الجنائية فأصبحت الإجراءات أقرب إلى فهم العامة، فقد انتهت لفترة سرية الاستجوابات، والأخذ بشهادة أشخاص لا تذكر أسماؤهم، ولم يعد السجن وسيلة للتعذيب، فقد سمح لكثيرين من المساجين بإحضار الكتب والأثاث، وأن يدفعوا لشراء وجبات لهم من خارج السجن، وسمح للمساجين الذين سجنوا للاشتباه فيهم ولم يدانوا بعد بالتزاور معا وممارسة الألعاب الرياضية أو على الأقل ممارسة العشق، وقد سمعنا عن بعض الأمور الدافئة كالتي حدثت بين السجينة جوزيفين بوهارنيه والسجين الجنرال هوش Hoche والمؤتمر الوطني الذي نفذ في عهده مئات من أحكام الإعدام، أعلن في دورته الأخيرة (26 أكتوبر سنة 1795) أن "أحكام الإعدام ستمنع في

ص: 277

أنحاء الجمهورية كلها بمجرد إعلان السلام".

وفي هذه الأثناء استطاعت الثورة أن تزعم أنها قد حسنت طريقة الإعدام وفي سنة 1789 اقترح الدكتور جوزيف إيجناس جليوتين Dr. Joseph Ignace Guillotin عضو مجلس طبقات الأمة إحلال المشنقة وحامل البلطة (منفذ حكم الإعدام باستخدام البلطه) بحيث تكون بلطته حادة النصل بحيث تفصل رأس المحكوم عليه بالإعدام عن جسده بسرعة فلا يتألم كثيراً قبل الموت. ولم تكن هذه الفكرة جديدة، فقد سبق استخدامها في إيطاليا وألمانيا منذ القرن الثالث عشر.

وبعد بعض التجارب التي أجراها الطبيب بسكينته (مشرطه) على جثث الموتى، تم نصب المقصلة (25 ابريل 1792) في ميدان الرملة Place de Greve (الآن ميدان دار البلدية) ثم توالى نصبها في كل مكان، وتوالى تنفيذ أحكام الإعدام بها. وظلت مشاهدة المقصلة وهي تهوي على رقاب الضحايا تجذب اهتمام الجماهير، وكان بعضهم يبدو سعيدا بمن فيهم النساء والأطفال، ولما تكرر المشهد كثيرا أصبح أمرا عاديا مألوفا لا يجذب الجماهير، فقد ذكر الناس المعاصرون لهذه الأحداث أن:

"عربات نقل السجناء المحكوم عليهم بالإعدام بالمقصلة، كانت تمر وهم يعملون في محلاتهم، فلا تؤثر فيهم ولا يكلفون أنفسهم حتى رفع رؤوسهم لمشاهدتها"

فالرؤوس المطأطِئة تبقى أكثر من الرؤوس المرفوعة.

2/ 2 - الأخلاق الجنسية

بين عربات نقل المسجونين إلى المقصلة، وبين الخراب لم يتوقف العشق ولا توقفت الممارسات الجنسية. وكانت الثورة قد أهملت المستشفيات، لكن هناك وفي ميادين المعارك، وأحياء الفقراء كان الإحسان يخفف الألم والحزن، والصلاح يواجه الشر، والمشاعر الأبوية تفوق نزوع الأبناء إلى الاستقلال. وراح أبناء كثيرون يعجبون من عدم استطاعة آبائهم فهم طابعهم الثوري وطرائقهم الجديدة، وتخلى بعضهم بشدة عن الكوابح الأخلاقية القديمة وأصبحوا إبيقوريين epicureans غير مبالين (أي ميالين إلى المتع والملذات) فانتعش الاتصال الجنسي غير الشرعي وانتشرت الأمراض التناسلية، وتضاعف عدد اللقطاء، واستمر الانحراف.

ص: 278

والكونت دوناتين ألفونس فرانسوا دى ساد Donatien-Alphonse-Francois de Sade (1740 - 1814) سليل أسرة عريقة بروفنسية، وارتقى فأصبح حاكما عاما لمحافظتي (دائرتي) بريس Bresse وبوجي Bugey وبدا قاصداً للعيش كمدير من مديري المحافظات (الأقاليم غير العاصمة) لكنه كان مولعا مهتاجا بالخيالات والرغبات الجنسية وراح يبحث عن فلسفة ليبرر بها هذا الولع. وبعد علاقة جنسية غير شرعية مع أربع فتيات حكم عليه بالموت في إكس- أن- بروفانس Aix en Provence (1772) لجرائم "دس السم وممارسة اللواط". لكنه هرب، وأعيد القبض عليه، فهرب مرة أخرى، وارتكب مزيدا من الأمور الشنيعة القبيحة، وفر إلى إيطاليا ثم عاد إلى فرنسا، وقبض عليه في باريس وسجن في فينسن Vincennes (1778 - 1784) وفي الباستيل وفي شارينتون Charenton (1789) ، وأطلق سراحه سنة 1790 وأيد الثورة، وفي سنة 1792 أصبح سكرتيرا لحي (قسم) دي بك des Piques .

وخلال فترة حكم الإرهاب قبض عليه بناء على افتراض زائف وهو أنه أحد المهاجرين (المعادين للثورة) العائدين، وتم إطلاق سراحه بعد عام، لكن في سنة 1801 في ظل حكم نابليون تعرض للسجن بسبب نشره لقصة بعنوان جوستين Justin (1791) وجوليت Juliette (1792) ، فقد تعرضت هاتان الروايتان لتجربة جنسية سوية وشاذة، وكان المؤلف يفضل الشاذة واستغل مهارته الأدبية في الدفاع عن هذا الشذوذ (العلاقات الجنسية غير الطبيعية أو السوية)، ودلل على أن كل الرغبات الجنسية طبيعية لا شذوذ فيها ولا بد من ممارستها والضمير مرتاح حتى لو تم تحصيل اللذة الجنسية بإحداث الألم، وبهذا المعنى الأخير حقق شهرته فأصبح خالدا بكل معنى الكلمة، وقد قضى سنوات حياته الأخيرة في سجون مختلفة وكتب مسرحيات جيدة ومات في مصحة للأمراض العقلية في شارينتون وفي أثناء الثورة رحنا نسمع عن الشذوذ الجنسي بين طلبة المدارس،

وربما كان لنا أن نسلم بانتشاره في السجون، فالمومسات والعاهرات كان عددهن كبيراً خاصة بالقرب من القصر الملكي وحدائق التوليري وفي شارع سان هيلير St. Hilaire وشارع الساحات الصغيرة (بيتيت شامب Petits Champs) ، ويمكن أن يوجدوا أيضا في المسارح ودار

ص: 279

الأوبرا بل وحتى في طرقات المجلس التشريعي والمؤتمر الوطني. وكانت النشرات توزع حاوية عناوين بيوت الدعارة والرسوم المطلوبة وكذلك أسماء النسوة وعناوينهن. وفي 24 أبريل 1793 أصدر حي (قسم) المعبد Temple أمرا:

"الجمعية العامة

رغبة منها في إيقاف ما لا يحصى من كوارث (سوء حظ) سببها تدهور الأخلاق العامة، وانزلاق النسوة للفسق وقلة احتشامهن،

بموجب هذا قامت بتعيين مأمورين أو مندوبين

الخ".

وراحت أحياء (أقسام) أخرى تشن الحرب (على الفساد) فجرى تشكيل فرق من الخفر أو العسس، وتم القبض على بعض المستهترين. وأيد روبيسبير هذه الجهود، لكن بعد موته تراخت قبضة هؤلاء المراقبين، فظهرت فتيات المتعة Filles مرة أخرى وازدهر حالهن في ظل حكومة الإدارة حتى أن النسوة ذوات الخبرات الجنسية الواسعة أصبحن زعيمات (سيدات مجتمع) ورائدات "المودة"(أي تقلدهن النسوة في لباسهن).

وكان من الممكن مواجهة هذا الشر بتيسير الزواج المبكر، فلم يعد وجود قس مسألة ضرورية لإتمام الزواج بعد 20 سبتمبر 1792، فالزواج المدني كان كافيا من الناحية القانونية، وهذا لا يتطلب سوى موافقة الطرفين وأن يوقع الطرفان أمام السلطات المدنية. وبين أفراد الطبقة الدنيا، كانت هناك حالات كثيرة لنساء ورجال يعيش كل رجل وأليفته معا دون عقد زواج وبلا إزعاج. وكثر عدد أبناء الزنا، ففي سنة 1796 دلت الإحصاءات الرسمية على وجود 44،000 لقيط. وبين عامي 1789 و 1839 كان 24% من إجمالي عدد النسوة (العرائس) في مدينة نمطية هي مولان Meulan حبالى (حوامل) عندما أتوا إلى مذبح الكنيسة. وكما كان الحال في عهد الحكم السابق على الثورة كان الزنا بين المتزوجين مغفور، وكان الرجال متوسطي الحال يفضلون اتخاذ مدبرة لشئون المنزل (لا زوجة شرعية) وفي ظل حكومة الإدارة كانت مدبرات المنازل هؤلاء يظهرن في المجتمع كزوجات. وأبيح الطلاق بمرسوم صدر في 20 سبتمبر سنة 1792، ومنذ صدور هذا المرسوم أصبح يمكن الحصول على الطلاق بموافقة الطرفين أمام مسئول المجلس البلدي.

وتضاءلت السلطة الأبوية مع التطور الهادئ في حقوق المرأة القانونية، وتفاقم الأمر بزيادة ثقة الشباب (الأبناء) في أنفسهم، والنظر إلى أنفسهم باعتبارهم قد تحرروا من

ص: 280

سلطة الوالدين. وقد عرضت لنا آن بلمبتر Anne Plumptre التي تجولت في فرنسا سنة 1802 ما ذكره بستاني:

"خلال فترة الثورة لم نكن نجسر على توبيخ أبنائنا إذا ارتكبوا خطأ، فقد كان أولئك الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين يعتبرون قيامنا بتصحيح سلوك أبنائنا، مما يتناقض مع مبادئ الحرية، وقد اعتبر الأبناء مسألة تقويمهم مما يتناقض مع القانون، فغالبا ما كان الواحد من هؤلاء الأبناء يقول لأبيه إذا ما وبخه" التفت لعملك. فأنا وأنت والناس كلهم أحرار ومتساوون. إن الثورة هي أبي، ولا أب لي سواها ثم يستطرد البستاني قائلا:"سيستغرق الأمر سنوات طويلة حتى نعيد هؤلاء الأبناء إلى صوابهم".

وانتشر الأدب الإباحي Pornographic literature (وفقا لما ذكرته الصحف المعاصرة) وكان هو الأثير المفضل لدى الشباب. وراح بعض الآباء الذين كانوا راديكاليين في وقت سابق يرسلون أبناءهم في سنة 1795 (كما حدث سنة 1871 بعد ذلك) إلى مدارس يديرها قسس، بغية إنقاذهم من التفسخ الخلقي والتسيب الذي ساد المجتمع. وظلت هناك لفترة فكرة مؤداها أن نظام الأسرة لا بد أن يكون كارثة على الثورة الفرنسية، لكن استعادة النظام في ظل حكم نابليون أرجأ التفسخ الأسري حتى أتت الثورة الصناعية.

والنساء اللائي كن قد حققن مكانة رفيعة في ظل حكم ما قبل الثورة إنما كان ذلك بفضل تأثير سلوكهن الراقي المهذب وترقية تفكيرهن وتثقيف أنفسهن، لكن هذا في غالبه كان قصرا على الطبقة الأرستقراطية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة. وعلى أية حال فقبيل عام 1789 انخرطت نسوة طبقة العوام بشكل واضح في الأمور السياسية. لقد كدن يكن هن صانعات الثورة بمسيرتهن إلى فرساي، وإحضارهن الملك والملكة إلى باريس ليكونا أسيرين تحت إشراف الكومون، فاكتشفن - أي نساء العوام - مدى قوتهن، فازدادت ثورتهن شراسة.

وفي يوليو سنة 1790 نشر كوندورسيه Condorcet مقالا بعنوان "إعطاء الدولة الحقوق للنساء"، وفي شهر ديسمبر قامت مدام إيلدر Aelders بمحاولة لتأسيس ناد

ص: 281

مخصص لحركة تحرير المرأة. وكان صوت النساء مسموعا في ممرات الجمعيات المختلفة (الوطنية، فالتأسيسية، فالمؤتمر الوطني

) لكن محاولا ت تنظيم أنفسهن للحصول على حقوقهن السياسية ضاعت بسبب الانشغال بالحرب وعنف الإرهاب، ورد فعل المحافظين بعد شهر ثيرميدور Thermidor . ومع هذا فقد حققت النساء بعض المكاسب: أصبح للزوجة مثل الزوج حق طلب الطلاق، وأصبح رضى الأم تماما كموافقة الأب - مطلوبا لزواج الأبناء الذين لم يبلغوا الرشد. وفي ظل حكومة الإدارة، أصبح النساء رغم أنه لا حق لهن في التصويت، نفوذ سياسي واضح، يرقين الوزراء والجنرالات ويمارسن بفخر حريتهن الجديدة في السلوك والأخلاق والثياب، وقد وصفهن نابليون البالغ من العمر ستة وعشرين عاما في 1795:

"النساء في كل مكان؛ في المسرحيات، وفي الطرقات العامة، وفي المكتبات. وأنت ترى نساء لطيفات جدا في غرفة دراسة الدارس. هنا فقط (في باريس) من بين بلاد المعمورة كلها تستحق النساء هذا النفوذ كله (التأثير)، وحقيقة فإن الرجال مجنونين بهن، لا يفكرون إلا فيهن، ولا يعيشون إلا عن طريقهن ومن أجلهن. وعلى المرأة كي تعرف ما لها من سلطان أن تعيش في باريس ستة أشهر".

‌3 - أساليب الحياة

عادات الشعوب وأساليب حياتها تكاد تكون مثل أي شيء آخر تتأثر بحركة البندول جيئة وذهابا، تمرد وعودة عن التمرد. لقد أخذت الأرستقراطية معها وهي تفر قبل العاصفة التي ساوت الجميع - ألقابها الفخمة، وملابس البلاط، ولغتها المعطرة، وتوقيعاتها الزهرية، وتحررها الواثق، ونعمتها وترويها. وسرعان ما أصبح لطف الصالونات واللياقة في الرقص، وأسلوب المتعلمين من نقائص النبلاء التي قد تؤدي إلى احتجازهم باعتبارهم عناصر مشكوك فيها متمسكة بالتقاليد البالية، وكأنهم مخلوقات عاشت في عصر ما قبل الطوفان ونجت منه.

وفي نهاية سنة 1792 أصبح الفرنسيون كلهم في فرنسا "مواطنين citoyens" وأصبحت الفرنسيات كلهن "مواطنات citoyennes". الكل على قدم المساواة فلا أحد "سيد Monsieur "

ص: 282

ولا "سيدة Madame "، وأصبح الخطاب بأنتَ وأنتِ بدلا من "أنتم" أو "سيادتكم" سوا ء في المنزل أم في الشارع. وعلى أية حال فمع بواكير عام 1795 انتهى هذا الأسلوب في التخاطب (التخاطب بصيغة الفرد) وعاد التخاطب بأسلوب التوقير أو الجمع Vous وحل "السيد" و"السيدة" محل المواطن" و"المواطنة". وفي ظل حكومة نابليون عادت الألقاب ثانية بل وزاد استخدام الألقاب بحلول سنة 1810 عن ذي قبل.

وتغيرت طرز الثياب ببطء أكثر من تغير الظاهرة السابقة، فالرجال الأثرياء رفضوا أن يتخلوا عما اعتادوا عليه منذ مدة طويلة من ملابس النبلاء؛ القبعة المرتفعة ذات الزوايا الثلاث في أعلاها، والقميص الحريري، والرباط المنساب، والصدرية الملونة المشغولة (المطرزة)، والمعطف الكامل الذي يصل إلى الركبة، والسروال القصير الذي ينتهي أدنى الركبة بدرجات متفاوتة، والجورب الحريري والحذاء ذو الأبزيم مربع المقدمة. وفي سنة 1793 حاولت لجنة الأمن العام "تلطيف الزى الوطني الحالي لتجعله متمشيا مع العادات الجمهورية وروح الثورة" لكن لم يلتزم سوى الطبقات الوسطى بسروال "بنطلون" العمال والحرفيين الطويل. واستمر روبيسبير نفسه يلبس كاللوردات، ولم يكن هناك ما يفوق بهاء الثياب الرسمية التي كان يرتديها أعضاء حكومة الإدارة التي كان بارا Barras يمشى بها متبخترا. ولم يكسب السروال (الطويل pantaloons) معركته ضد السروال الذي يصل إلى الركبة (الكلوت culottes أو السروال القصير) إلا منذ سنة.1830 وكان العوام فقط (السانس كولوت sansculottes) هم الذين يرتدون قلنسوات الثورة ذات اللون الأحمر والكارمانول Carmagnole .

وتأثرت ملابس النساء بالثورة التي كان رجالها يرون أنهم يسيرون في نهجهم كروما الجمهورية، وكبلاد الإغريق البركليزية Periclean Greece (نسبة إلي بركليز PERICLES) . وقد اتخذ جاك لويس ديفيد Jacques Louis David الذي ساد الفن الفرنسي من 1789 إلى 1815 من الأبطال الكلاسيكيين موضوعات لأعماله الفنية الأولى وجعل لباسهم على النمط الكلاسيكي. وعلى هذا فإن النسوة الباريسيات الأنيقات (الحريصات على ارتداء الأزياء الحديثة أو المتمشية مع -الموضة-)، قد تحلين بعد سقط البيوريتاني puritan (المتطهر) روبيسبير عن -التنورة- Petticoat والبلوزة

ص: 283

chemises (القميص)، وأصبح لباس الواحدة منهن في الأساس عباءة فضفاضة بسيطة شفافة (تشف وتصف) بلغ من شفافيتها أنها توحي بالخطوط الداخلية الناعمة (توحي بالأجزاء المنبعجة والمنقعرة في الجسم Contours) حتى أنها لتثير الرجل الذي لم يستثر في حياته.

فخط الخصر في هذا الزى مرتفع ارتفاعا غير معتاد ليدعم الثديين، وخط الرقبة في هذا الزى منخفض بما فيه الكفاية ليقدم للرائي مساحة واسعة مكشوفة، والكمان قصيران قصرا يكفى لإظهار الذراعين الجذابين. واستبدل (الكاب Caps) بعصابة الجبين bandeaux، واستبدل الحذاء ذو الكعب العالي، بصندل بلا كعب (شبشب أو خف) وكتب الأطباء عن الوفيات بين النساء اللائي يرتدين هذه الملابس البهيجة ويذهبن بها إلى المسارح والمتنزهات، بسبب الهبوط الحاد في درجة الحرارة في باريس مساء. وفي هذه الأثناء، عمل الرجال، والنساء الغندورات المثيرات للإعجاب على جذب انتباه الطرف الآخر بالملابس اللافتة للنظر بشكل مبالغ فيه. وفي سنة 1792 ظهرت مجموعة من النساء بزي الرجال أمام اجتماع كومونات باريس، فوجه إليهن شوميت Chaumette تأنيباً مهذبا:

"أنتن أيتها النسوة الطائشات اللائي تردن أن تكن رجالا. ألستن قانعات بنصيبكن كما هو؟ ماذا تردن أكثر من هذا؟ إنكن تسيطرن على مشاعرنا، المشرع والرئيس تحت أقدامكن. فسحركن هو وحده الذي لا نستطيع مقاومته، لأنه سحر الحب، وبالتالي فهو عمل الطبيعة، فباسم الطبيعة، كن كما أرادت الطبيعة لتحققن الهدف الذي قصدته الطبيعة بوجودكن".

وعلى أية حال فقد كانت النسوة متأكدات أنهن قادرات على إدخال تحسينات على الطبيعة. ففي إعلان في المونيتير Moniteur في 15 أغسطس سنة 1792 أعلنت مدام بروكين Broquin أنها: " لم تستنفد مسحوقها الشهير، ذلك المسحوق الذي يصبغ الشعر الأحمر أو الأبيض ليجعله كستنائياً (بنيا مشوبا بحمرة) أو أسود، وهي تعرضه لمن يطلبه" وعند الضرورة كان الشعر الذي لا يرضى عنه صاحبه يغطى بالباروكات wig (الشعر المستعار) والذي كان في حالات كثيرة مقطوعا من ضفائر النسوة الشابات اللاتي قصت المقصلة رقابهن. وفي سنة 1796 اعتاد الرجال من الطبقتين الوسطى والعليا أن يضفر الواحد منهم شعره الطويل في ضفيرة.

ص: 284

وخلال العامين الأوليين من الثورة راح الثمانمائة ألف (سكان باريس) يمارسون أعمالهم المفيدة، ولا يلتفتون إلا بين الحين والحين لما يجري في الجمعية الوطنية والسجون. لقد كانت الحياة مبهجة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت بالنسبة للطبقات العليا؛ فقد استمرت الأسر في تبادل الزيارات والدعوة إلى الولائم، واستمر حضور الحفلات الراقصة، وغير الراقصة، والمسرحيات والذهاب لسماع الكونشرتات حتى خلال فترات العنف بين مذابح سبتمبر سنة 1792 وسقوط روبيسبير في يوليو سنة 1794 عندما جرى في هذه الفترة إعدام 2،800، كانت الحياة التي يحياها - تقريبا - كل من بقوا على قيد ا لحياة تسير سيرها المعتاد في العمل واللهو، والممارسات الجنسية والحب الأبوي.

لقد كتب سيباستيان ميرسييه Sébastian Mercier في سنة 1794:

"الأجانب الذين يقرءون صحفنا يتصورون أننا جميعا قد غرقنا في الدم وغطتنا الأسمال البالية، ونعيش حياة ملؤها البؤس. لكنهم سيدهشون عندما يعرفون أن الطريق الرائع الذي تحفه الأشجار في الشامب إليزيه Champs Elysees (ميادين الإليزيه) حيث توجد في الجانب المقابل منه المركبات الخفيفة الأنيقة التي تجرها الجياد (الحناطير) والنسوة الجذابات الجميلات .. هذه الحدائق الباهرة، أصبحت الآن أكثر بهاء وأجمل من ذي قبل".

وكانت هناك مباريات رياضية في الكرة والتنس والركوب، وسباق الخيل، وألعاب القوى

وكان هناك متنزهات شائقة مثل حدائق التيفولي Tivoli حيث يمكنك التمتع، وشراء الكماليات من (البوتيكات) ومشاهدة الألعاب النارية والبهلوانات وهم يمشون على الحبال، أو إطلاق البالونات، وسماع (الكونشرتات) أو أن تضع صغيرك في الحلقة الدوارة (الأرجوحة الدوارة)، وستجد معك في هذه المتع اثني عشر ألفا آخرين في أيام المرح. ويمكن أن تجلس في مقهى أقيم في الهواء الطلق أو تحت سرادق مقهى دي فوي Cafe de Foy أو في إحدى مقاهي الطبقة الراقية مثل مقهى تورتوني Tortoni أو مقهى فراسكاتي Frascati أو تتبع السائحين إلى النوادي الليلية مثل السافو Caveau (القبو) والسوفاج (الوحشي Sauvage) ومقهى العميان Les Aveugles حيث يلتقي الموسيقيون العميان.

ص: 285

ويمكن أن تذهب إلى ناد لتقرأ أو تتحدث أو تستمع إلى المناقشات السياسية. ويمكنك أن تحضر إحدى المهرجانات المرحلة المتنوعة التي نظمتها الدولة والتي نسقها فنانون مشاهير مثل ديفيد، وإذا أردت أن تجرب رقصة جديدة كرقصة الوالتس waltz التي وصلت من ألمانيا لتوها يمكنك أن تجد شريكة تراقصك في إحدى قاعات الرقص التي بلغ عددها في باريس في عهد حكومة الإدارة ثلاثمائة قاعة.

والآن (1795) في السنوات التي خمدت فيها حدة الثورة، سمح لبعض المهاجرين (الذين كانوا قد فروا من فرنسا بسبب أحداث الثورة) بالعودة إلى فرنسا، وبرز النبلاء المختبئون من مخابئهم التي كانوا يتوارون فيها، وأظهر البورجوازيون ثرواتهم فشيدوا البيوت الغالية وأثثوها بالأثاث الفاخر وحلوا نساءهم بالجواهر الثمينة وأقاموا الحفلات المسرفة. وظهر أهل باريس من شققهم ومنازلهم للتمتع بقسط من الشمس نهارا أو ليستمتعوا بالنسيم ليلا في حدائق التوليري أو لكسمبورج أو على طول شوارع الإليزيه التي تحفها الأشجار، وخرجت النسوة متفتحات كالزهور في أثوابهن الجذابة الطائشة (العربيدة) ورحن يحركن مراوحهن بطريقة معبرة تعجز عنها الكلمات. وأحذيتهن الأنيقة التي تظهر ما خفي من القدمين بشكل فاتن. لقد بعثت الحياة في المجتمع من جديد.

لكن مئات الأسر (أو نحو ذلك) التي تكوّن الآن المجتمع لم تكن من الأسر عريقة النسب والفلاسفة الذين حققوا شهرة عالمية والذين كانوا متألقين في الصالونات في ليالي ما قبل الثورة، وإنما كانت هذه الأسر في الغالب من محدثي النعمة (الأثرياء الجدد) الذين كدسوا الليفرات livres من (شراء) العقارات الكنسية، أو من التعاقدات مع الجيش أو الاحتكارات التجارية أو البراعة المالية أو الصداقات السياسية.

وراح بعض من عاشوا أيام البوربون Bourbon وظلوا على قيد الحياة يترددون على منازل مدام دى جينلى Genlis أو أرملتى كوندورسيه وهلفيتيوس، لكن معظم الصالونات التي فتحت بعد موت روبيسبير (باستثناء حلقة مدام دى ستيل de Stael) لم تكن عامرة بالمناقشات الذكية وكان ينقصها جو الراحة والطمأنينة، ذلك الجو الذي كان يسودها في الماضي (قبل الثورة) نتيجة الأمن الذي طال أمره والثراء الراسخ. وصالون القمة الآن هو ذلك الذي يعقد في

ص: 286

الغرفات المريحة في قصر بارا عضو مجلس الإدارة في لكسمبرج أو في قصر جروسبوا Chateau Grosbois الذي يمتلكه أيضا. ولم تكن جاذبية صالون بارا هذا ناتجة عن معارف الفلاسفة (المثقفين) الذين يرتادونه وإنما كانت جاذبيته تكمن في ابتسامات مدام تاييه Tallien وجوزيفين دى بوهارنيه Josephine de Beauharnais .

ولم تكن جوزيفين قد تزوجت نابليون بعد، كما أن مدام تاييه لم تعد بعد (في ذلك الوقت) زوجة له (لتاييه)، لقد تم تزويج هذه المدام الأخيرة منه في 26 ديسمبر 1794، ونودي بها فترة سيدة ثيرميدور Notre Dam de Thermidor لكنها هجرت هذا الإرهابي الذي أفل نجمه بعد فترة وجيزة من زواجها منه وأصبحت خليلة (راعية شئون منزله) لبارا Barras، وغمزها بعض الصحفيين في أخلاقها ومع هذا فقد بادلوها جميعا الابتسام لأنه لم يكن في جمالها شيء من الكبر أو التغطرس، وكانت معروفة برقتها الشديدة مع النساء والرجال على السواء. وقد وصفتها في وقت لاحق الدوقة دبرانت D'Abrantés بأنها:"فينوس الكابيتول وأنها أجمل من العمل الفني الذي أنجزه فيدياس Pheidias، لأنك تدرك فيها اكتمال الملامح كما في عمل فيدياس، وتدرك فيها التناسق نفسه في الذراعين واليدين والقدمين، كل هذا تعبير كريم حي". وكان من فضائل بارا Barras أنه كان كريما معها ومع جوزيفين، وقدر جمالهما تقديرا يفوق مجرد الإعجاب الجنسي، ذلك التقدير الذي اشترك معه فيه مئات المنافسين الذين كانوا من الممكن أن يفوزوا بهما، لكنه بارك فوز نابليون بجوزيفين.

‌4 - الموسيقي والدراما

انتعشت أنواع الموسيقي كلها، وكان يمكنك أن تجعل أحد المغنين في الشوارع يعيد لك أغنية مقابل قطعة عملة أو يمكنك أن تنظم لمجموعة مغنين لتخيف البورجوازيين بأغنية الكارمانول Carmagnole or Ca ira)) أو أن تهز الحدود بنشيد "المارسيليز The Marseillaise " الذي كان روج دى

ص: 287

ليزل Rouget de Lisle قد ألف معظمه. وفي كونشرتو فيدو Concert Feydeau يمكنك أن تعجب مع دومينيك جارا Dominique Garat الذي يعتبر كاروز عصره الذي يحرك صوته مشاعر القلوب، بل ويحرك حتى الألواح وكان مشهورا في أنحاء أوربا كلها لطبقة صوته.

ووسط الرعب الذي ساد في سنة 1793 افتتح المؤتمر الوطني المعهد الوطني للموسيقي وبعد ذلك بعامين أصبح اسمه الكونسرفتوار، ومنح المؤتمر الوطني المعهد مبلغ 240،000 جنية كل عام للتدريس لستمائة طالب بدون أن يدفعوا رسوما دراسية. وفي الليلة التي أطلق فيها الرصاص على روبيسبير، كان الباريسيون يستطيعون سماع "أرميد Armide" في الأوبرا أو بول وفرجيني Paul et Virginie في الأوبرا كوميك Opera-Comique (الأوبرا التي يتم فيها الغناء والحوار غير الملحن وليس من الضروري أن تكون هزلية).

وانتعشت الأوبرا في عهد الثورة. ففيما عدا وضع بيرناردين دى سان بيير Bernardin de Saint Pierre للألحان الرعوية (مقطوعات موسيقية ذات طابع رعوي أو رومانسي) في سنة 1794، فإن جان فرانسوا لوزير Jean Francois Leuseur (1760 - 1837) قد حقق نجاحا آخر في هذا المجال في العام نفسه فمقطوعاته الموسيقية بالإضافة إلى مقطوعة "تيليماك " Telemaque التي وضعها فينيلون Fenelon كانت تنهج النهج الموسيقي نفسه. لقد أثار فرنسا كلها وحرك مشاعر الإرهاب فيها بمقطوعته لا كافيرن (الكهف La Caverne) التي عرضت سبعمائة مرة، وقد استمر في الإنتاج خلال فترة صعود نابليون، وعاش عمراً مديدا فدرس على يديه بيرليو Berlioz وجونو Gounod .

وقد كتب إيتين ميهول Etienne Mehul (1763 - 1817) في عمره القصير جدا مقارنة بعمر لوزير أكثر من أربعين أوبرا من نوع الأوبرا كوميك (المصطلح لا يعني بالضرورة الأوبرا الهزلية كما ذكرنا في تعليق سابق) بينما كانت كورالاته chorales الغزيرة: أنشودة إلى العقل Hymne a La raison (1793) ، ونشيد الرحيل Chant du depart (1794) هي السبب في

ص: 288

جعله رب الموسيقي في عهد الثورة.

وكان ماريا لويجي كارلو سالفاتور شيروبيني Maria Luigi Carlo Salvatore Cherubini هو أعظم مؤلف موسيقى في فرنسا الثورة. ولد في فلورنسا في سنة 1760 يقول: "لقد بدأت في تعلم الموسيقي وأنا في السادسة من عمري، وألفت مقطوعات موسيقية وأنا في التاسعة". وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره كان قد ألف ثلاثة أعمال كبيرة؛ رائعته " Te Deum" وهي موشحة دينية oratorio وثلاث كنتاتات cantatas (الكنتاتة قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقي بلا تمثيل). وفي سنة 1777 وجدنا ليوبولد دوق تسكاني الكبير الخير يمنحه منحةً للدراسة مع جيوسيب سارتي Giuseppe Sarti في بولونيا Bologna فأصبح شيروبيني في غضون أربعة أعوام سيدا يشار إليه بالبنان في مجال التأليف الطباقي الموسيقى Contrapuntal composition

وفي سنة 1784 دعي إلى لندن لكن سوقه لم يرج فيها، وفي سنة 1786 انتقل إلى باريس التي ظلت موطنه الدائم لم يغادرها إلا لفترات قصيرة حتى مات في سنة 1842، وفي أولى أعماله الأوبرالية في باريس (ديموفون Démophon) التي وضعها في سنة 1788 تحاشى روح الجزالة والخلو من اجترار الهموم تلك الروح السائدة في الإنتاج النابولي Neapolitan بإخضاع القصة والأوركسترا للألحان، وإنما حذا حذو جلوك Gluck في الأوبرا العظيمة " grand opera" والتي كانت الأنغام (الألحان) تحتل فيها المرتبة الثانية من حيث الأهمية. وكانت أهم الأعمال التي حققت له نجاحا في باريس في عهد الثورة هي:"لودويسكا Lodoiska "(1791) و"ميدي Medee "(1797) . ومع العمل الذي لا زال مشهورا: "يومان Les deux Journees "(1800) بدأ مرحلة مضطربة في حياته في ظل حكومة نابليون ويمكننا تشبيهه بشهاب.

ص: 289

لقد كان في باريس في أثناء الثورة أكثر من ثلاثين مسرحا، وكانت جميعها مزدحمة ليلة بعد ليلة حتى أيام حكم الإرهاب، وتحرر الممثلون في ظل الثورة من العراقيل التي كانت تضعها الكنسية أمامهم، وكان يمكنهم الابتسام عند صدور قرار الحرمان الكنسي (ضدهم) أو قرار بعدم دفن جثثهم (بعد الوفاة) في مقابر المسيحيين، لكن الحكومة أخضعتهم (1790 - 1795) لرقابة أشد صرامة، وكان عليهم على وفق توجيهات المؤتمر الوطني ألا يجعلوا في كوميدياتهم أي "بطل" أرستقراطي، أو أية مشاعر أرستقراطية وأصبحت المسارح أداة للدعاية الحكومية، وأسفت الكوميديا وهبطت إلى مستوى منحط، واتبعت التراجيديات الخط الثوري (من حيث المضمون) والوحدات الكلاسيكية (من حيث الشكل).

وجرت العادة أن يكون الممثلون الكبار أكثر شهرة من رجال الدولة، بل إن بعضهم مثل فرانسوا جوزيف تالما Francois-Joseph Talma كان محبوبا من الناس أكثر من رجال الدولة بكثير. وكان أبوه مستخدما في فندق ثم أصبح طبيب أسنان، وذهب إلى لندن وانتعشت حالته فيها فأرسل ابنه إلى فرنسا ليتلقى تعليمه فيها، وبعد التخرج عاد فرانسوا ليعمل مساعداً لأبيه، فتعلم الإنجليزية، وقرأ شكسبير ورأى أن تمثيل مسرحياته أمر شائق، وانضم إلى فرقة من الممثلين الفرنسيين كانت تقدم عروضها في إنجلترا، ولما عاد إلى فرنسا قُدم للكوميدي فرانسيز Comédie Francaise وظهر على المسرح لأول مرة سنة 1787 في شخصية سعيد Seide في مسرحية فولتير (محمد Mahomet) وساعده على التقدم في مجال التمثيل المسرحي شكله المتناسق وملامحه الكلاسيكية الواضحة وكأنما نحتت بإزميل، وشعره الكثيف وعيناه المتألقتان لكن تأييده للثورة ودعمه لها صرف عنه معظم أفراد الفرقة الذين كانوا يدينون بوجودهم لعطف الملك.

وفي سنة 1785 شاهد تالما الصورة التي رسمها ديفيد والتي جعل لها عنوانا هو "قسم الهوراتي the Oath of Horatii" وتأثر كثيرا لا بما في الصورة من قوة دراماتية وإنما أيضا بالتزامها الشديد المتقن بالزى القديم. فقرر أن يظهر على المسرح بهذا

ص: 290

الزى نفسه، وأدهش زملاءه عندما ظهر بهذا التنك (الرداء الروماني ذو الحزام المشدود حول الخصر) والصندل بذراعين وساقين مكشوفين، ليلعب دور بروكولوس proculus في مسرحية فولتير التي تحمل عنوان بروتس Brutus.

وأصبح صديقا لديفيد الذي نضح عليه من ثوريته. وعندما قام بدور ماري جوزيف دي شينيير Marie-Joseph de Chenier في مسرحية "شارل التاسع"(4 نوفمبر 1789) أدى د وره بشحنة عاطفية بثها في مشاهديه في الفقرات المعارضة للملكية تلك الفقرات التي تصور الملك الشاب كآمر بمذابح ليلة القديس بارثولوميو St. Bartholomew's Eve، وقد صدم هذا مشاعر معظم مشاهديه وكثيرين من زملائه الذين كانوا لا يزالون يشعرون بالولاء للملك لويس السادس عشر.

وكلما تطورت أحداث الثورة زاد الصراع حدة بين "الحمر Reds" و"السود Blacks" في الفرقة وبين المشاهدين حتى إن تالما ومدام فيسترى Vestris (التراجيديانه الرئيسية) وغيرهما من الممثلين انشقوا عن فرقة الكوميدي فرانسيز ذات الامتيازات الملكية وأقاموا فرقة أخرى خاصة بهم في مسرح الجمهورية الفرنسية بالقرب من القصر الملكي. وهناك طور تالما فنه بدراسته للتاريخ والشخصية ولباس كل شخصية على وفق الفترة الزمنية التي كانت فيها، وذلك في المسرحيات والأدوار كلها التي أدتها الفرقة ومارس تحكما في ملامحه لتتمشى مع كل تغيير في المشاعر أو الأفكار (في أثناء التمثيل)، وقلل من نبرته الخطابية، والمبالغة الانفعالية فوق المسرح، حتى أصبح متمكنا تماما من فنه.

وفي سنة 1793 غيرت الفرقة القديمة اسمها ليصبح مسرح الأمة Theatre de la Nation الذي أنتج مسرحية "أحباء القانون L'Ami des Lois" وهي المسرحية التي تضمنت هجاء وسخرية من زعماء الثورة. وفي ليلة 3 و 4 سبتمبر تم القبض على أعضاء الفرقة كلهم. وقبلت فرقة تالما فرض الرقابة الصارمة عليها، فأصبحت مسرحيات راسين Racine محرمة وتعرضت مسرحيات موليير للتغيير وحذف أجزاء منها، وحذفت الألقاب الأرستقراطية من المسرحيات المسموح بها (مثل سيد "مسيو" وسيدة "مدام")، وفرض هذا في مسارح فرنسا كلها. وبعد سقوط روبيسبير تم الافراج عن الممثلين الذين كان قد قبض

ص: 291

عليهم، وفي 31 مايو 1799 وكلما اقتربت الثورة من نهايتها وجدنا الفرقة القديمة والأخرى الجديدة تتحدان معا لتصبحا فرقة واحدة هي "الكوميدي فرانسيز" وجعلت مقرها في المسرح الفرنسي في القصر الملكي حيث هي موجودة ومزدهرة اليوم.

‌5 - الفنانون

تأثر الفن في فرنسا الثورة بثلاثة أحداث خارجية: خلع الأرستقراطية وهجرتها (عقب أحداث الثورة) والحفائر الأثرية التي كشف عن آثار قديمة في هيركولانيوم وبومبي Herculaneum & Pompeii (1738 وما بعدها)، واستيلاء نابليون على ذخائر الفن الإيطالي، وقد أدت هجرة الأرستقراطية بعد الثورة إلى أن نزح عن فرنسا أكثر الطبقات امتلاكا للثروة وتمتعاً بالذوق مما يمكنهم من شراء الأعمال الفنية، وفي بعض الأحيان هاجر الفنانون مع هؤلاء المهاجرين، ومن أمثلة هؤلاء الفنانين المهاجرين مدام فيجيه - ليبرون Vigee-Lebrun، أما الفنان فراجونار Fragonard فرغم أنه كان قبل الثورة يعتمد في حياته كلية على أموال الطبقات الموسرة (التي لا عمل لها) إلا أنه أيد الثورة وعاش حياة بائسة على حافة المجاعة. وهناك فنانون آخرون أيدوا الثورة لأنهم تذكروا أن النبلاء كانوا يعاملونهم كعبيد ومأجورين مرتزقة، وكيف أن أكاديمية الفنون الجميلة لم تسمح إلا لأعضائها لعرض أعمالهم في صالوناتها.

وفي سنة 1791 أتاحت الجمعية التشريعية الأكاديمية للفنانين الأكفاء كلهم سواء كانوا فرنسيين أم أجانب لخلق مجال للتنافس. وقد ألغى المؤتمر الوطني الأكاديمية باعتبارها مؤسسة أرستقراطية في الأساس. وفي سنة 1795 أعادتها حكومة الإدارة باسم أكاديمية الفنون الجميلة وجعلت مقرها اللوفر Louvre الذي كان منذ سنة 1792 قد أصبح متحفا عاما، وسمح للفنانين الفرنسيين بدراسة ونسخ أعمال رافاييل Raphael وجيورجيون Giorgione وكوريجيو Correggio وليوناردو Leonardo، وفيرونيزي Veronese

بل وحتى خيول القديس مرقس St. Mark، ولم تحدث سرقات، وتمت الاستفادة من هذه الأعمال بشكل يدعو إلى الثناء. وفي سنة 1793 جدد المؤتمر الوطني دعمه للأكاديمية الفرنسية في روما وكذلك للمؤسسة المعروفة باسم Prix de Rome . وشيئا

ص: 292

فشيئا حلت الطبقة الوسطى الصاعدة محل النبلاء كمشترين للأعمال الفنية. وازدحم صالون سنة 1795 بالمشاهدين، وقد عمر هذا الصالون بخمسمائة وخمس وثلاثين لوحة. لقد ارتفعت أسعار الأعمال الفنية.

من المستغرب أن نقول إن الثورة لم تحدث أية حركة راديكالية في مجال الفن. بل العكس، فالإلهام الذي قدمه للكلاسيكية الجديدة هو النبش والتنقيب عن التماثيل والعمائر القديمة في نابلي، وكتابات فنكلمان Winckelmann (1755 وما بعدها) وليسنج Lessing (1766) قد عملت على إحياء الأسلوب الكلاسيكي بكل ما فيه من مضامين أرستقراطية. وردة الفعل هذه ثبت أنها من القوة بحيث تتصدى للتأثيرات الرومانسية، والديمقراطية المنبعثة من الثورة. لقد قبل الفنّانون في هذه الفترة المتزنة (باستثناء برودون Prud'hon) نظريةً وتطبيقا الصيغ الكلاسيكية والنبيلة كلها التي تشير للنظام والشكل والاتساق والفكر والعقل باعتبارها حارسا يحول بين التعبير الفني، واعتماده على الانفعال والعاطفة والحماسة والفوضى. وقد راعى الفن في ظل لويس الرابع عشر هذه القواعد القديمة التي توخاها كونتيليان Quintilian وفيتروفيوس Vitruvius وتوخاها كورنيل Corneille وبوالو Boileau، لكن في ظل لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وجد الفنانون راحتهم في الباروك وأنسوا إلى الركوكو rococo ومع مشاعر روسو المتحفظة ومشاعر ديدرو المؤيدة بدا أن عصر الرومانسية أصبح قريب التناول. لقد كان هذا في المجالين السياسي والأدبي، لكنه لم يكن في مجال الفن.

وفي سنة 1774 اتجه جوزيف مارى فين Joseph Marie Vien إلى إيطاليا بعد أن زاد شوقه للاطلاع على حفائر هيركولانيوم وبومبي بعد أن وصلته تقارير عنها، وقد اصطحب جوزيف معه تلميذه جاك لويس ديفيد لكن الشاب (ديفيد) وقد وقف نفسه لفكر الثورة عزم على ألا يجعل الفن المحافظ والأرستقراطي الذي يتجلى في الآثار الكلاسيكية، يضله أو يبعده عن هدفه. لكن شيئا ما في داخله كان يتحكم فيه جعله يستجيب لعظمة التكوين ومنطق البناء وقوة الخط ووضوحه، كما تتجلى في الفن الإغريقي والروماني.

لقد قاوم لفترة رسالتها الموحية بالرجولة والقوة،

ص: 293

لكنه استسلم لها بالتدريج، وحمل هذا التأثير معه عند عودته إلى باريس، وجعله يتناسق مع مناهضة الثورة للمسيحية وتمثلها بالجمهورية الرومانية ولكاتوس Catos وسبيوس Scipios بل إن هذا الاتجاه كان متفقاً مع عباءة مدام تاييه الإغريقية. والآن لقد حان الوقت المناسب لطرح استلهام الفن القوطي ذي النزعات العلوية (السماوية) وما يوحيه الباروك baroque من يفاعه مدهشة، وما يتجلى في الروكوكو من زخارف بهيجة، والصور الزيتية العارية والمتفائلة التي أنتجها بوشيه ولوحة الفتيات وهن يقفزن، التي أنتجها فراجونار Fragonard . الآن يجب أن يكون الخط الكلاسيكي والمنطق الكلاسيكي، والمنطق المجرد Cold reason والقيد الأرستقراطي والشكل الرواقي هو هدف الفن وعليه تقوم دعائمه في فرنسا الثورة الرومانسية، الديمقراطية، العاطفية، الزاخرة بالمشاعر.

وقد ولد ديفيد الذي كان عليه أن يتبوأ الصدارة في الفن في فرنسا الثورة وإمبراطوريتها، في باريس في سنة 1748 من أسرة بورجوازية ثرية كانت تقيه العوز دوما. وقد التحق وهو في سن السادسة عشرة بأكاديمية الفنون الجميلة Academie des Beaux Arts ودرس على يد فين Vien وحاول مرتين من أجل الحصول على الجائزة المعروفة بجائزة روما Prix de Rome وفشل في المرتين، فحبس نفسه وحاول أن يموت جوعا لكن جاره الشاعر افتقده فبحث عنه فوجده وراح يتوسل إليه حتى تناول طعامه، ودخل ديفيد المسابقة مرة أخرى في سنة 1774 وفاز برسم من نوع الروكوكو جعل له عنوانا هو (Antiochus Dying for the love of Stratonic أنتيوشس تموت حبا في ستراتيونيس)

وفي روما أصبح مفتونا برافاييل ثم تخلى عن افتتانه به لرقة خطوطه رقة شديدة ووجد في أعمال ليوناردو ما هو أقوى، ووجد في بوسين Possin انضباطاً أشد في الفكرة والتكوين، وانتقل من صور العذراء في عصر النهضة إلى الأعلام القدامى في عالم الفلسفة والأساطير والحرب، وفي عاصمة المسيحية تخلى عن عقيدته المسيحية.

وعاد إلى باريس في سنة 1780 وتزوج من ثرية وعرض في صالونات الأكاديمية سلسلة متتابعة من أعماله الكلاسيكية (بليزا ريوس Belisarius وأندروماك Andromache) وبعض البورتريهات (رسوم لأشخاص). وفي سنة 1784 ذهب إلى روما ليرسم صورة بتكليف من

ص: 294

لويس السادس عشر فخرج فيها عما ألفه الرسامون في روما. إنها اللوحة التي جعل لها عنوانا (The Oath of the Horatii) . وعندما عرضت اللوحة في روما، قال له الفنان الإيطالي العجوز بومبيو باتوني Pompeo Batoni:

" أنت وأنا وحدنا رسامان، أما الباقون فلا يستطيعون القفز في النهر".

" Tu ed io soli، siamo pittori; pel rimanente si puo gettarlo nel fiume"

ولما عاد إلى باريس قدم عمله الموسوم باسم (قسم الهوراسيين Serment des Horaces) في صالون سنة 1785. وهنا في تاريخ ليفي الأسطوري وجد ديفيد في "الوطنية " الدين الحقيقي لروما القديمة: ثلاثة إخوة من أسرة هوراتية Horatii Family يقسمون أن يشعلوا الحرب بين روما وألبالونجا Alba Longa (القرن السابع قبل الميلاد) وأن يقتتلوا حتى الموت مع ثلاثة إخوة من عشيرة كورياتي Curiatii لقد صور ديفيد الهوراتيين وهم يقسمون ويتسلمون السيوف من أبيهم بينما أخواتهم يندبن، وكان واحدٌ منهم خطيبا لفتاة كورياتية. وكان الفرنسيون يعلمون القصة من كتاب كورنيل هوراس Corneille's Horace وفسروا فحوى اللوحة على أن "الوطنية" تجعل الأمة فوق الفرد، بل وحتى فوق الأسرة.

لقد كان الملك (لويس السادس عشر) راغبا وبإخلاص في القيام بإصلاحات، وكانت المدينة (باريس) معبأة بالفعل للثورة، وكان أهلها متفقين على استحسان إنجازات الفنانين، وكان منافسو ديفيد يعلمون مهارته في إحياء الشجاعة البطولية والتضحية الأبوية وأحزان النساء، لقد كان النجاح الذي حققته لوحته (قسم الهوارتيين) إحدى العلامات البارزة في حوليات الفنون، لأنها كانت تعني نجاح الأسلوب الكلاسيكي.

ولاقى ديفيد تشجيعا لأسلوبه الفني ولاختياره لموضوعاته فعاد إلى التراث الإغريقي وقدم في سنة 1787 عمله "موت سقراط " ولما رأى السير جوشوا رينولد Joshua Reynolds هذه اللوحة في باريس وصفها بأنها: "أعظم إنجاز فني منذ مايكل (ميشيل) أنجلو ورافاييل". إنها يمكن أن تكون امتيازا لأثينا في عصر بركليز. وبعد ذلك بعامين عاد ديفيد إلى التراث الروماني بلوحته (الليكتور The Lictors) " أي الموكلون بإفساح الطريق للحاكم الروماني

ص: 295

يعيدون إلى بروتس في بيته جثث أبنائه" وكانت هذه اللوحة تصور حكاية أوردها ليفي عن القنصل الروماني (509 ق. م) ذلك القنصل الذي حكم على اثنين من أبنائه بالموت من أجل تآمرهما لعودة الملكية. وقد كانت هذه اللوحة قبل سقوط الباستيل ولم يكن لدى الرسام فيما يظهر أية فكرة عن الثورة المرتقبة، وقد منع وزير الفنون عرضها لكن الجلبة التي سببتها الجماهير ضمنت له عرضها في صالون سنة 1789، واعتبرتها الجماهير التي أتت لرؤيتها جزءاً من الثورة، وهكذا وجد ديفيد نفسه الناطق الفني باسم عصره.

وعلى هذا فقد قدم ديفيد نفسه للثورة في زواج نادر بين السياسة والفن. لقد قبل ديفيد مبادئها ووضح أحداثها ونظم مهرجاناتها وزينها وأحيا ذكرى "شهدائها"، وعندما قتل واحد من الملكيين النائب الراديكالي ليبيلتييه دى سان فارجو Lepeletier de Saint Fargeau (في 20 يناير 1793) نذر ديفيد نفسه لإحياء ذكرى هذا المشهد، ففي غضون شهرين قدم صورة المشهد للمؤتمر الوطني الذي علقها على جدران مقره. وعندما قتل مارا (13 يوليو 1793) دخلت جموع الحزانى إلى ممرات المؤتمر الوطني، وانطلق صوت من بينهم:

"أين أنت يا ديفيد؟ لا بد أن تنقل للأجيال القادمة ما حدث كما فعلت بالنسبة لليبيلتييه، فهو ومارا قد ماتا من أجل الوطن. إن عليك أن ترسم لوحة أخرى".

فوقف ديفيد وقال: "سأرسمها" وبالفعل قدم لوحة مكتملة للمؤتمر الوطني في 11 أكتوبر. وقد أظهرت هذه اللوحة مارا وقد غطت مياه حوض الاستحمام الخاص به نصفه وقد تدلى رأسه إلى الخلف فاقداً الحياة وإحدى يديه تقبض على مخطوط وذراعه متدلية إلى الأرض، وقطعة الخشب إلى جانب الحوض موضوع عليها مخطوطة تدعو للفخر "إلى مارا ديفيد". لقد كانت اللوحة نقلة ترك فيها ديفيد أسلوبه الفني المميز. فقد حلت الحماسة المتوهجة محل الكلاسيكية الجديدة مع الواقعية. وأكثر من هذا فهذه اللوحة بالإضافة إلى اللوحة التي رسمها لليبيليتييه قد كسرتا المنحى الكلاسيكي باتخاذهما الأحداث الجارية موضوعا لهما. لقد جعلت هاتان اللوحتان الفن مشاركا في الثورة.

وبحلول عام 1794 كان ديفيد مشهورا سياسيا حتى إنه قد تم انتخابه عضواً في لجنة الأمن العام. وقد كان من أتباع روبيسبير، ونظم ديفيد موكب مهرجان الموجود الأعظم

ص: 296

Supreme being وقدم فيه ديكوراته وروحه الفنية. وبعد سقوط روبيسبير قبض عليه باعتباره واحداً من أتباعه وقضى في السجن ثلاثة أشهر قبل أن يفرج عنه بسبب ضجيج تلاميذه. وفي 1795 عكف في مرسمه لكنه عاد إلى الظهور في سنة 1799 فقدم "البانوراما الكبيرة The Rape of the Sabine". وفي العاشر من نوفمبر استولى نابليون على السلطة، فبدأ ديفيد الذي بلغ الواحدة والخمسين من عمره مرحلة فنية جديدة منتصرة.

‌6 - العلم والفلسفة

الثورات لا تتعاطف مع العلوم البحتة، وإنما هي تحفز العلوم التطبيقية على مواجهة احتياجات مجتمع يناضل من أجل حريته. لقد ساعد لافوازيه الكيميائي المالي الثورتين الأمريكية والفرنسية بتحسين نوعية البارود، وزيادة كمية إنتاجه. وبيرتوليه Berthollet وكيميائيون آخرون حفزهم الحصار البريطاني على إيجاد بدائل للسكر المستورد وكذلك بدائل لما يستورد من صودا ونيله (صبغة زرقاء)، وقد تم إعدام لافوازيه بتهمة أنه مستغل متربح (1794) لكن بعد إعدامه بعام شجبت الحكومة الثورية هذا الإعدام. وحمى المؤتمر الوطني العلماء في لجانه وقبل خططهم فيما يتعلق بالنظام المتري Metric System .

وبوأت حكومة الإدارة العلماء مكانا حفيا في المعهد الفرنسي الجديد. ولا زالت أسماء لاجرانج ولابلاس وأدريان ماري ليجيندر Adrien Marie Legendre وديلامبر Delambre وبيرتوليه ولامارك Lamarck وكوفييه Cuvier، شهبا تلمع في تاريخ العلم، وكانوا جميعا من بين أعضائها الأول. لقد أصبح العلم لفترة هو عماد التعليم الفرنسي حالاً محل الدين، وعرقلت عودة البوربون هذه الحركة لكن سقوطهم (1830) كان مصحوبا برفع شأن العلم متمثلا في الفلسفة الإيجابية التي نادى بها أوجست كونت Auguste Comte .

وترك لاجرانج Lagrange وليجيندر علاماتهما الأخيرة على الرياضيات، فصاغ لاجرانج حساب التغاير والذي لا تزال معادلاته جزءا من علم الميكانيكا. وظل ليجيندر يدرس التكامل

ص: 297

الإهليجي elliptic (ناقص المقطع) من سنة 1786 إلى سنة 1827 عندما نشر نتائج بحوثه في إحدى الدوريات المتخصصة Traité des fonctions أما جاسبار مونج Gaspard Monge وهو ابن بائع جوال فقد ابتدع الهندسة الوصفية وهي طريقة أو منهج لتقديم أبعاد ثلاثة للأشياء على مستوى ذي بعدين، وقد نظم أمور استخلاص النحاس والقصدير على مستوى الدولة، وكتب نصا شهيرا عن الفن الدقيق لصناعة المدافع وخدم الحكومة الثورية ونابليون فترة طويلة في مجال اختصاصه رياضياً وإدارياً.

وأثار لابلاس Laplace أهل الفكر في أوربا بمبحثه "عرض لنظام الكون Exposition du Systeme du Monde"(1796) صاغ من خلال النظرية السديمية nebular hypothesis (كون النظام الشمسي نشأ من سديم غازي) وحاول أن يشرح الكون من خلال ميكانزم خالص (مجرَّد) وعندما سأله نابليون: "من الذي فعل كل هذا النظام"(mechanism) ؟ أجاب لابلاس: "إنني لست في حاجة إلى هذه الفرضية". أما لافوازيه Lavoisier مؤسس الكيمياء الحديثة فقد ترأس اللجنة التي صاغت النظام المتري (1790) وطور بيرثوليه Berthollet كلا من الكيمياء النظرية والعملية وساعد لافوازيه في وضع مصطلحات ورموز كيميائية جديدة.

وساعد وطنه الذي كان يخوض الحرب بطريقته في تحويل خام الحديد إلى حديد، وتحويل الحديد إلى صلب. وكان زافييه بيشا Xavier Bichat رائدا في مجال علم الأنسجة (الهيستولوجيا) بدراساته الميكروسكوبية للأنسجة. وفي سنة 1797 بدأ سلسلة محاضراته الشهيرة في علم الفيسيولوجيا والجراحة ولخص نتائج بحوثه في دورية علمية هي Anatomie generale (1801) . وفي سنة 1799 وكان سنه وقتها ثمانية وعشرين عاماً عين طبيبا في مصح الرّب Hotel-Dieu وعكف على دراسة التغيرات العضوية الناتجة عن المرض في مرحلة الاحتضار (1802) وكان عمره وقتها واحداً وثلاثين عاما.

وربما يمثل بيير كاباني Pierre Cabanis مرحلة انتقال في مجال الفلسفة رغم أنه كان معروفا في عصره كطبيب في الأساس، إلا أن الأجيال التالية اعتبرته فيلسوفا. وفي سنة 1791 كان يرعى ميرابو Mirabeau في مرضه الأخير. وحاضر في مدرسة الطب عن الصحة

ص: 298

والطب الشرعي وتاريخ الطب، وكان لفترة رئيسا لكل مستشفيات باريس. وكان واحدا من كثيرين من الرجال المشهورين الذين أحبوا حبا عاقلا مكتوما أرملة المثقف (الفيلسوف) هلفيتيوس Helvétius التي كانت دائما جديرة بأن تحب. وقد قابل في صالونها كلاً من:

ديدرو Diderot ودلامبير d`Alembert ودهولباخ d`holbach وكوندورسيه Condorcet وكوندياك Condillac وفرانكلين Franklin وجيفرسون Jefferson، وباعتباره دارسا للطب فقد كان على نحو خاص منجذباً إلى كوندياك الذي كان معروفا تماما في المجال الفلسفي في فرنسا باعتقاده أن كل المعارف أساسها الحس (أو الإحساس Sensation) . وقد راقت هذه الفلسفة الحسية (التي مؤداها أن الحس هو أساس المعرفة) لكاباني Cabanis، فاتفقا اتفاقا تاما على ما وجده من علاقة ارتباط بين العمليات الجسدية والنفسية. ولقد صدم حتى المفكرين الذي بلغوا مرتبة كبيرة في عصره بقوله:

" لتكون فكرة صحيحة عن العمليات التي ينتج عنها الفكر، من الضروري أن تنظر للمخ كعضو خاص مهمته المحددة هي إنتاج الفكر، تماما كما للمعدة والأمعاء وظيفة هي هضم الطعام، وكما أن للكبد وظيفة هي ترشيح الصفراء، ...... الخ".

ومع هذا فإن كاباني عدل من تحليلات كوندياك (كما فعل كانط Kant مؤخراً في كتابه نقد العقل الخالص) فقال بأن الحس يدخل التكوين العضوي (الكائن العضوي) الذي يكون قد تكوّن على نحو ما (نصف تكوّن) عند الميلاد، لكنه يعدل بعد ذلك من خلال كل تجربة يخوضها، ويحمل معه ماضيه في خلاياه وذاكرته ليشكل جزءا من الشخصية المتغيرة بما في ذلك الأحاسيس الداخلية والأفعال الانعكاسية والغرائز والمشاعر والرغبات. فالكلية السيكولوجية تنتج كذلك نماذج لكل بنية (تكوين) وتجعل لكل حس (محسوس) تستقبله غرضا. وبهذا المعنى يكون كاباني قد اتفق مع كانط على أن العقل (أو النفس) ليست غفلاً قبل التعليم (أو ليست كصفحة بيضاء خالية) بحيث يطبع عليها الحس ما يشاء. إنها "منظمة" لتحويل

ص: 299

الأحاسيس إلى أفكار وأعمال. وعلى كل حال فقد أصر كاباني على أن "العقل" الذي يرجع إليه كانط ليس منفصلاً انفصالا تاما عن الأنسجة والأعصاب.

هذا النظام (أو النسق) المادي ظهر للمرة الأولى (1796) في المذكرات الاثنتي عشرة التي نشرها كاباني معا في سنة 1802 بعنوان:

"حصاد دراسة فيزيقية الإنسان وأخلاقه"

" Rapports du Physique et du moral de l'homme"

وهذه المذكرات تجعل العقل (أو المخ) القوي فعالا وبشكل نشيط على منطقة واسعة من حب الاستطلاع والتأمل. والمقالة الأولى تكاد تكون مسحا للسيكولوجيا الفيسيولوجية physiological psychology وتدرس الأعصاب ذات الصلة بالحالة النفسية. والمقالة الثالثة تحلل "اللاشعور unconscious": فذكرياتنا المتجمعة (أو العلامات التي تحدثها الأعصاب) قد تتداخل مع المثيرات الحسية الداخلية والخارجية لتنتج أحلاما، وربما على نحو لا شعوري تؤثر في أفكارنا حتى ونحن في حالة يقظة وانتباه. والمقال الرابع بارتباط العقل بالعمر فأفكار الشخص نفسه وشخصيته قد تختلف تماما في سن السبعين عنها في سن العشرين. أما المقال الرابع فيتناول كيف أن إفرازات الغدد خاصة الجنسية قد تؤثر في مشاعرنا وأفكارنا. والمقال العاشر يؤكد أن الإنسان عرضة لتغير يتم مصادفة أو تبدل، ثم إن هذه الصفات المتغيرة تورث.

وفي كتاب نسب إلى كاباني بعنوان "خطابات في العلل الأولى Lettres sur les causes premieres"(1824) نشر بعد موته بستة عشر عاما يظهر أنه تراجع عن مذهبه المادي وأرجع العلة الأولى للذكاء والإرادة. والمادي قد يذكرنا بأن الجراح الكبير قد حذرنا من تأثير الجسم الهرم (الذي اعترته الشيخوخة) على عقله المرتبط به (أي المرتبط بهذا الجسم). وربما افترض الشكوكي skeptic (النزاع إلى الشك خاصة في مبادئ الدين) أن غموض الوعي (الشعور) هو الذي دفع كاباني إلى الشك في قدرة المذهب المادي على تبسيط الحقيقة المعقدة جدا والمباشرة. وعلى أية حال فإنه لأمر طيب أن يذكر فيلسوف نفسه بين الحين والحين أنه مجرد ذرة يتحدث إلينا عن اللامتناهي infinity .

وثمة رجلان عاصرا عهد الفلاسفة (المفكرون philosopher) عاشا حتى يلتقيا بالثورة التي كانت حلما مرغوباً فيه. فعندما رأى الأب الراهب رينال Raynal الذي أصبح

ص: 300

اسمه لامعا في سنة 1770 بإصداره كتابا عن التاريخ الفلسفي Histoire philsophique

des deux Indes - نور الحركة التنويرية يخبو بسبب إسفاف الجماهير (العوام)، أرسل إلى الجمعية التأسيسية خطابا في 31 مايو سنة 1791، يعترض فيه ويتنبأ:"لقد كانت لدي الجسارة مدة طويلة لأذكر الملوك بواجباتهم، فدعوني اليوم أن أقول للشعب أخطاءه". لقد حذر هذا الأب الراهب من أن طغيان العامة يمكن أن يكون ظالما وطاغيا كالحكم المطلق للملوك. لقد دافع عن حق الإكليروس في الدعوة للدين، ما دام المناوئون للدين أو رجاله يتمتعون بحرية الكلام. وأدان كذلك التمويل المالي الحكومي لأي دين (كانت الدولة في ذلك الوقت تدفع رواتب القسس) كما أدان هجوم الغوغاء المعادين للدين على رجال الدين. وحث روبيسبير أعضاء الجمعية الغاضبين على التسامح مع هذا الفيلسوف (المثقف) الهرم البالغ من العمر ثماني وسبعين سنة، وبذا نجا من القبض عليه، ومع هذا فقد صودرت ممتلكاته ومات فقيرا محبطا في سنة 1796.

وعاش كونستانتين شاسبيف دي فولني Constantin Chassebeuf de Volney في معمعة أحداث الثورة وعرف الشخصيات البارزة كلها في باريس من دهولباخ إلى نابليون. وبعد أعوام من الترحال في مصر والشام تم انتخابه لمجلس طبقات الأمة كما كان عضوا في الجمعية التأسيسية (الوطنية قبل ذلك) حتى حلها سنة 1791. وفي هذا العام نشر الأصداء الفلسفية لرحلاته وجولاته في كتابه:

Les Ruines، ou Meditations sur les revolutions des empires .

ما سبب انهيار هذه الحضارات القديمة الكثيرة؟ وقد أجاب فولني على هذا السؤال بقوله إنها انهارت بسبب الجهل المبثوث في شعوب هذه الحضارات بفعل الأديان الغيبية التي تدعمها حكومات استبدادية، وبسبب صعوبة نقل المعرفة من جيل إلى جيل. والآن وقد فقدت هذه العقائد الخرافية أساسها، ويسرت الطباعة حفظ المعرفة وانتقال العناصر الحضارية، فإن على البشر أن يأملوا في بناء ثقافات (حضارات) دائمة قائمة على نظم أخلاقية تفضي إلى امتداد سيطرة الإنسان على نزعاته غير الاجتماعية وتساعده على التعاون والوحدة خاصة وأن المعرفة قادرة الآن على التطور والانتشار وقد قبض عليه في سنة

ص: 301

1793 باعتباره جيرونديا Girondin وقضى في السجن تسعة أشهر، فلما أطلق سراحه أبحر إلى أمريكا ورحب به جورج واشنطن، لكن الرئيس آدمز (1798) اتهمه بأنه جاسوس فرنسي فكرّ عائداً إلى فرنسا. وعمل كسيناتور في ظل حكم نابليون وعارض الانتقال من "القنصلية Consulate" إلى الإمبراطورية وعكف على الدراسة منعزلا حتى عهد لويس الثامن عشر الذي جعله شريفا (نبيلا) في سنة 1814 ومات في سنة 1820، وقد شارك في تنحية البوربون عن العرش كما شارك في إعادتهم للعرش.

‌7 - الكتب والمؤلفون

رغم المقصلة ظل الناشرون ينشرون، وظل الشعراء يقرضون، وظل الخطباء يخطبون وظل المسرحيون يستوحون التاريخ والعشق، وراجع المؤرخون أحداث الماضي، وهذب الفلاسفة الحاضر، ونافست امرأتان الرجال في مجال التأليف من حيث عمق المشاعر والشجاعة السياسية وعمق الفكرة. وإحدى هاتين المرأتين هي مدام رولان Roland التي سجنت وجزت المقصلة رقبتها.

واستمرت أسرة ديدو Didot أكثر الأسر شهرة في مجال النشر، في تحسين صب الحروف وإتقان تجليد الكتب وكان فرنسوا ديدو قد أسس الشركة - للطباعة وبيع الكتب - في باريس في سنة 1713 وأجرى ابناه فرنسوا أمبروز Ambroise وبيير فرنسوا تجارب في مجال فن الطباعة، وأصدرا مجموعة من الأعمال الكلاسيكية الفرنسية برعاية لويس السادس عشر. ونشر بيير - ابن فرنسوا - أمبروز طبعات فرجيل (1798) وهوراس (1799) وراسين (1801)، وكانت هذه الطبعات فاتنة ولائقة حتى إن الأثرياء كان يمكنهم شراءها للاستمتاع باقتنائها من قراءاتها.

وحقق فيرمين ديدو Firmin (1764 - 1836) شهرة بابتداعه حروفا طباعية جديدة، كما حاز قصب السبق في اختراع الاستريوتيب stereotyping (الصفحة الطباعية التي تصنع بصب المعدن في قالب من الجص أو الورق المعجن مأخوذ عن حروف منضدة) وقد نشرت شركة فيرمين ديدو في سنة 1884 الطبعة الفاخرة لكتاب بول لاكروا Paul Lacroix بعنوان "حكومة

ص: 302

الإدارة والقنصلية والإمبراطورية" " Directoire، Consulat et Empire" وهو الكتاب الذي رجعنا إليه في هذا الموضع عدة مرات، فمنه على سبيل المثال علمنا أنه على طول فترة الحقبة الثورية كانت مبيعات كتب فولتير وروسو بمئات الألوف من النسخ. وقد أصدر المؤتمر الوطني مرسوما (19 يوليو 1793) لضمان الملكية الفكرية للمؤلف في مطبوعاته حتى بعد وفاته بعشر سنوات.

وأشهر شاعرين في العقد الثوري بدأا متفردين في طريقة التعبير والأسلوب، وانتهت حياتهما بنصل المقصلة نفسها. لقد ألف فيليب فرانسوا فابر Philippe-Francois Fabre d'Eglantine أشعارا جميلة ومسر حيات ناجحة، وأصبح رئيسا لنادي الكوردليير Cordeliers Club (تجمع سياسي يساري سبقت الإشارة إليه) وسكرتيرا لدانتون Danton وعضوا في المؤتمر الوطني وفيه صوت لصالح طرد الجيرونديين وإعدام الملك وعين في اللجنة المنوط بها وضع تقويم جديد (التقويم الجمهوري بدلا من التقويم الميلادي). وابتدع كثيرا من أسماء شهوره الفصلية، تلك الأسماء المتسمة بجمال التعبير وحسن التصوير، وفي 12 يناير سنة 1794 قبض عليه بتهمة الفساد والتزوير والتعامل مع الوكلاء الأجانب والتربح والاستغلال، وفي أثناء محاكمته غنى قصيدته القصصية الجذابة:

"الدنيا تمطر Il pleut

الدنيا تمطر Il pleut

هيا أيها الراعي bergere

اجمع غنمك البيضاء rentre tes blancs moutons "

لكن القضاة لم تكن لهم آذان لسماع هذه الأغنية الرعوية (المعنى: لم تجده قصائده شيئا) وفي طريقة إلى المقصلة (5 أبريل 1794) راح يوزع نسخاً من أشعاره على الناس.

أما أندريه ماري دى شينييه Chenier فكان أفضل شعرا وأفضل أخلاقا، لكنه لم يكن أفضل مصيرا. ولد في القسطنطينية سنة 1762 من أب فرنسي وأم يونانية وقد قسم حبه الأدبي بين الشعر الإغريقي والفلسفة الفرنسية. تلقى تعليمه في نافار Navarre وأتى إلى باريس في سنة 1784، وعقد صداقات مع ديفيد ولافوازيه وقبل الثورة

ص: 303

بتحفظ. وعارض الدستور المدني للإكليروس الذي ربط الكنيسة الكاثوليكية بالدولة، وأوصى في الجمعية الوطنية بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة،

وبإطلاق حرية العبادة لكل الأديان والمذاهب وأدان مذابح سبتمبر وامتدح شارلوت كورداي Charlotte Corday لقتلها مارا وكتب خطابا من أجل لويس السادس عشر إلى المؤتمر الوطني طالبا استئناف حكم الإعدام أمام الشعب، وأدى هذا إلى أن أصبح موضع شك من اليعاقبة الحاكمين، فتم سجنه باعتباره جيرونديا، وقد أحب سجينة جميلة هي الآنسة دى كواني de Coigny التي وجه إليها "الفتاة الأسيرة La Jeune- Captive" التي أكد لامارتين Lamartine أنها:"أكثر التنهدات التي خرجت من زنزانات السجون شجنا" وعندما مثل للمحاكمة رفض الدفاع عن نفسه وذهب في طريقه إلى الموت تخلصا من عصر تسوده البربرية والطغيان. ولم ينشر سوى قصيدتين طوال حياته لكن أصدقاءه أصدروا بعد إعدامه بخمسة وعشرين عاما طبعة جمعوا فيها أشعاره جعلته مثل كيتس Keats بالنسبة للأدب الفرنسي. ولا بد أن يكون تفجعه لمأساته ومأساتها هو ما عبر عنه في المقطع الشعري الأخير من قصيدته "الفتاة الأسيرة The Young Captive".

" آه أيها الموت لست في حاجة للعجلة!

انصرف! انصرف!

اذهب لتواسي قلوبا عرفت العار والخوف

حيث النواح والعويل بلا أمل

بالنسبة لي فإن بالز Pales إلهة القطعان سيظل أمامها طرقها المعشوشبة

إن للحب قبلاته، وللربة موزيه Muse راعية الشعر والفنون والعلوم أناشيدها

وأنا أيضا لا أرغب الموت."

وكان أخو أندريه الأصغر جوزيف دى شينييه (1764 - 1811) مسرحيا ناجحا، وأعاد للأذهان الهياج الذي سببه تمثيل تالما Talma لمسرحية تشارلز التاسع. وكتب كلمات الأنشودة العسكرية "نشيد الرحيل Chant du depart" و"أغنية للحرية Hymne a la liberte" وقد غنيتا في "مهرجان العقل

ص: 304

Fast of reason" وقدم لفرنسا ترجمة بارعة لكتاب جراى Gray:

Elegy Written in a Country Churchyard وتم انتخابه للمؤتمر الوطني، وأصبح بمعنى الكلمة هو الشاعر الرسمي للثورة. وفي آخر ع مره كلفه المعهد الفرنسي بإعداد حصر تاريخي بحالة الفكر الفرنسي وتطوره منذ سنة 1789، لكنه مات قبل أن يتمه، ومع هذا فهو سجل واسع للكتاب الذين حققوا شهرة في هذه الفترة والذين نسي الناس معظمهم حتى المتعلمون الفرنسيون. وقد مات أعضاء الأكاديمية الفرنسية الملقبين بالخالدين بعد موته بفترات بسيرة.

وكان الأدب الفرنسي قد استعاد عافيته في ظل حكومة الإدارة بعد أن تحكمت فيه السياسة في عهد المؤتمر الوطني. لقد تكونت مئات من الجمعيات الأدبية وكثرت نوادي القراءة، وانتشرت عادة القراءة وازدهرت. وكانت معظم القراءات في مجال الروايات والقصص الرومانسي والشعر، فهذه القراءات بدأت تحل محل الولع بقراءة الأعمال التراجيدية. وترجم كتاب ماكفرسون Ossian إلى الفرنسية وأقبل عليه القراء على اختلاف ميولهم من خادمات غرف النوم إلى نابليون.

‌8 - مدام دى ستيل والثورة

MME. DE STAEL AND THE REVOLUTION

كان ثمة امرأة تقف بمعزل عن صائغي الكلمات التي يفرضونها بقوة الصوت أو بقوة شخصياتهم، لقد قبلت هذه المرأة الثورة في الوقت الذي كانت فيه معشوقة من عشاق كثيرين أتى الواحد منهم إثر الآخر، لكنها شجبت الغوغاء وحكم الإرهاب وتصدت لنابليون في كل خطوة وظلت حية حتى النصر، بينما كان هو يذوي حيا كالميت. لقد تمتعت جيرمين نيكر Germaine Necker بمزايا هيأت لها الشهرة والحظ الحسن: فأبوها الذي سرعان ما أصبح مليونيرا أصبح وزيرا لمالية فرنسا، وأمها التي كان إدوارد جيبون Edward Gibbon يلاحقها في وقت من الأوقات، جمعت في صالونها عبا قرة باريس المشهورين، ليؤدي ذلك إلى تعليم ابنتها، سواء كانت هذه النتيجة مقصودة مدبرة أم أتت بغير قصد ولا تدبير.

ص: 305

ولدت في باريس في 22 أبريل سنة 1766. وقد ملأتها مدام نيكر Mme.Necker - باعتبارها مرشدها الرئيسي - بمزيج متفجر من التاريخ والأدب والفلسفة، وكتابات راسين Racine وريتشاردسون Richardson وكالفن Calvin وروسو. ولقد تجاوبت في رقة الشعور مع كلاريسا هارلو Clarissa Harlow وفي حماس الشباب مع دعوة روسو إلى الحرية لكنها أثبتت حساسيتها بشكل مؤلم مع الكالفنية وقاومت النظام واللاهوت اللذين كانا هما طعامها اليومي.

وشيئا فشيئا نفرت بسرعة مما يزعجها - سيطرة أمها - وأحبت أباها الفاضل المعين رغم تسامحه. تلك هي العلاقة الوحيدة التي حافظت عليها وتمسكت بها بإخلاص كامل، أما علاقاتها الأخرى فكانت عرضية لا تتسم بالاستمرار. لقد كتبت:"قدرانا كانا سيكونان قدرا واحدا يوحدنا للأبد لو كان القدر قد شاء أن يجعلنا في الفترة الزمنية نفسها". وفي هذه الأثناء سمح لها من سن البلوغ فصاعدا أن تحضر اجتماعات أمها الدورية مع المفكرين، وكان الهدف من السماح لها بذلك هو مزج عواطفها بالفكر، وفي صالون أمها أسعدت العلماء بسرعة فهمها وحضور بديهتها. وبمرور الوقت أصبحت وهي في السابعة عشرة نجمة الصالون.

والآن حان وقت البحث لها عن زوج موافق لعقليتها ومناسب لمكانة أسرتها الثرية. ورشح لها والداها وليم بت النجم الصاعد في سماء السياسة الإنجليزية لكن جيرمين Germaine رفضت الفكرة للسبب نفسه الذي جعل أمها ترفض جيبون وهو أن الشمس لا تكون مشرقة فترة كافية في إنجلترا كما أن الإنجليزيات جميلات لكنهن مقموعات (لا يسمعهن أحد). وتقدم لها البارون إريك ماجنوس ستيل فون هولشتين Eric Magnus Stael Von Holstein الذي كان قد أصبح مفلسا، وأرجأ آل نيكر طلبه حتى أصبح هو السفير السويدي لدى فرنسا. فما أن حدث هذا حتى وافقت جيرمين على الزواج منه لأنها توقعت أن تكون وهي زوجة أكثر استقلالا منها وهي ابنة. وفي 14 يناير في سنة 1786 أصبحت هي البارونة دى ستيل هولشتين Baronne de Stael-Holstein وكانت في العشرين من عمرها، بينما كان البارون (زوجها) في السابعة والثلاثين من عمره.

وكان هناك تأكيد أنها: "لم تكن تعرف شيئا عن الاتصال الجنسي حتى زواجها" لكنها كانت

ص: 306

سريعة التعلم في مختلف المجالات. وقد وصفتها الكونتيسة دي بوفلر de Boufflers التي كانت في مقدمة الحاضرين في حفل العرس بأنها: "معجبة بعقلها وذكائها بشكل زائد حتى إنه من الصعب أن يجعلها ذلك تتحقق من عيوبها. إنها متغطرسة وذات إرادة قوية بشكل يفوق الوصف، وواثقة من نفسها حتى إنني لم أر لها في هذا نظيراً ممن هم في مثل عمرها" لم تكن جميلة فبنيانها رجولي كعقلها لكن عينيها تتلألآن بالحيوية أما عند النقاش فليس لها كفء.

وقد ذهبت لتعيش في السفارة السويدية في شارع دوباك Rue du Bac وسرعان ما أسست لها صالونا هناك، لكن أيضا - تخلصاً من إزعاج أمها - اتخذت لصالونها مقرا في شقة فوق بنك أبيها. وطرد نيكر من وزارة المالية في سنة 1781 ولكنه استدعى مرة أخرى ليشغل المنصب نفسه في سنة 1788 لتحاشي تهديد الثورة. إنه الآن رغم ملايينه المثل الأعلى في باريس، وكانت جيرمين تؤيده بشدة بلسانها وقلمها، وكان لديها بعض الأسباب التي تجعلها فخورة به، وأصبحت السياسة والحب غير المشروع هما طعامها وشرابها (لا هم لها سواهما).

وبناء على نصيحة نيكر دعا لويس السادس عشر مجلس طبقات الأمة للانعقاد، وأمر الملك متجاوزا اعتراض نيكر أن تجتمع كل طبقة في مكان منفصل محافظا بذلك على الفصل بين الطبقات. وفي 12 يوليو سنة 1789 طرد الملك نيكر للمرة الثانية وأمره بمغادرة فرنسا فورا. فأسرع نيكر وزوجته بالتوجه إلى بروكسل وتبعتهما جيرمين وقد ملأها الغضب فنسي ستيل Stael مهام منصبه وصحبها وربط مصيره بمصيرها. وفي 14 يوليو اجتاح الباريسيون سجن الباستيل وهددوا العرش. فأرسل الملك الذي تملكه الرعب لاستدعاء نيكر إلى باريس ليشغل منصبه فعاد نيكر وصفق له الشعب، واندفعت جيرمين عائدة إلى باريس وراحت تحس كل يوم برياح الثورة الساخنة حتى مذابح سبتمبر.

وأيدت مجلس طبقات الأمة لكنها دافعت عن فكرة وجود مجلسين تشريعيين في ظل ملكية دستورية مؤكدة أفكار الحكومة النيابية والحريات المدنية وحماية الملكية. وكلما تقدمت الثورة في مسارها كانت هي تبذل قصارى جهدها للتخفيف من أفكار اليعاقبة Jacobins .

ص: 307

وكانت تشجع الجيرونديين.

وعلى أية حال فقد بزّت اليعاقبة في فلسفتها الأخلاقية وكل من قابلتهم من الرجال تقريبا كان الواحد منهم يرى أنه من المعقول أن يكون زواجه قائما على اتحاد الثروات (ثروته وثروة زوجته) لا على اتحاد القلوب، إذ يمكن لمحظية أو محظيتين أن تتيح له الإثارة والرومانسية، لكن الواحد من هؤلاء الرجال لم يكن يظن أن هذا الامتياز يمكن أن يمتد ليشمل الزوجة لأن عدم إخلاصها قد يؤدي إلى إنجاب أولاد ليسوا من صلبه وبالتالي تضيع الثروة (تذهب لغير أبنائه أي تفسد عملية التوريث) ولم تكن جيرمين تشعر بهذه الحجة لأنها وهي الابنة الوحيدة يكاد يكون الميراث كله لها، لذا فقد انتهت إلى نتيجة مؤداها أن عليها أن تبحث عن الرومانسية متحررة من القيود كلها حتى في اختيار أسرّة أخرى (التعامل في غير مخدع الزوجية).

وكانت قد فقدت احترامها لزوجها سريعا، فقد كان مطيعا جدا بطريقة لا تجعله مثيرا، وكان غير كفء بطريقة تجعله غير قادر على تسديد ديونه، ولم تكن معترضة على اتخاذه من الآنسة كليرون Clairon محظية، لكنه كان ينفق دخله الحكومي على ممثلة مسرحية عمرها إحدى وسبعون سنة وكان يهمل واجباته كسفير وكان يقامر ويخسر وتراكمت عليه الديون مرارا، فكان يدفعها عنه زوجته وأبوها مكرهين، ومن هنا فقد شقت طريقها بين موكب العشاق لأنه كما قالت في "دلفين Delphine "" بين الله والحب لا أعترف بوسيط سوى ضميري" والضمير يمكن التحكم فيه وكان من بين أول من تعاون معها تاليران أسقف أوتون Autun المطرود الذي اتفق معها في مسألة مرونة النذر أو القسم (Flexibility of vows) تم أتى بعده الكونت جاك أنطوان دى جوبير Jacques Antoine de Guibert الذي أصبح فيما بعد "المثل الأعلى الجميل" لجولي دى ليسبيناس Julie de Lespinasse لكنه على أية حال مات في سنة 1790 وهو في السابعة والأربعين.

وقبل موته بعام كون علاقة أعمق وأكثر استمرارا مع لويس دي ناربون لارا Louis de Narbonne Lara، وكان ابنا غير شرعي، وكان لديه هو نفسه عندما بلغ الثالثة والثلاثين من عمره عددا من الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) لكنه

ص: 308

كان وسيما بشكل ملحوظ، ويتحلى بدماثة وفضائل قلما يتحلى بها شاب وضيع الأصل (ليس له شجرة نسب). وكان بحكم ميراثه الاجتماعي يقف إلى جانب الأرستقراطية ضد البورجوازية (محدثي النعمة) لكن جيرمين جذبته إلى أفكارها وجعلته من أنصار الملكية الدستورية التي يمكن في ظلالها للطبقة التي تمتلك أن تشارك النبلاء والملك في الحكم. وإذا كان لنا أن نصدقها فإن ناربون:

"غير قدره من أجلي، وتخلى عن ارتباطاته ووقف حياته لي. باختصار

لقد أقنعني أنه سيعتبر نفسه سعيدا بامتلاكه قلبي، وأنه إذا لم يجد لذلك سبيلا فقد لا يستطيع البقاء على قيد الحياة".

وفي 4 سبتمبر سنة 1790 استقال نيكر، لعدم رضا النبلاء المحيطين بالملك عن سياسته، واتجه هو وزوجته ليعيشا حياة هادئة في قصره في كوبت Coppet، ولحقت بهما جيرمين في أكتوبر لكنها سرعان ما سئمت الهدوء في سويسرا، وأسرعت عائدة لما أسمته - بالمقارنة - باسم شارع دو باك du Bac اللذيذ، فهناك كان صالونها تتردد فيه أصوات لافاييت وكوندورسيه وبريسو Brissot وبارنيف Barnave وتاليران وناربون، وصوتها. ولم تكن راضية عن اكتفائها بالمناقشات الألمعية، فقد كانت تتطلع للقيام بدور سياسي. وأطلقت العنان لأحلامها بتحويل فرنسا من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وكانت تأمل من خلال عش النبلاء الذي بنته أن تنهي الثورة بملكية دستورية تحقق فرنسا في ظلها السلام. وبمساعدة لافاييت Lafayette وبارنيف ضمنت تعيين ناربون وزيرا للحرب (6 ديسمبر 1791). وقد أيدت ماري أنطوانيت هذا التعيين مكرهة، فقد علقت قائلة:

"يا للمجد الذي حازته مدام دي ستيل" يا لسعادتها أن يكون الجيش كله تحت تصرفها!! ".

لقد اشتط ناربون Narbonne كثيرا، ففي 24 فبرا ير قدم للويس السادس عشر مذكرة يشير عليه فيها أن يولي ظهره للأرستقراطية، وأن يعطي ثقته ودعمه لبورجوازية الملاك التي تأخذ على عاتقها المحافظة على القانون والنظام والملكية المقيدة، وقد اعترض بقية الوزراء غاضبين،

ص: 309

ورضَخَ لويس لمعارضتهم وطرد ناربون، فسقط بيت جيرمين غير الراسخ أو غير القائم على أساس، وقامت مدام رولان بوضع الملح على جروح منافستها بأن عملت من خلال بريسو على تعيين زوجها (زوج مدام رولان) وزيرا للداخلية.

لقد عاشت جيرمين في باريس خلال معظم عام 1792، هذا العام المتسم بالاضطراب، وفي 20 يونيو سنة 1792 شاهدت اجتياح الجموع لقصر التوليري، ورغم أنها رأت المشهد عبر نهر السين إلا أن طريقة الجماهير غير المتحضرة سببت لها الرعب.

"لقد كانت صيحاتهم المرعبة وتهديداتهم المصحوبة بالقسم وإيماءاتهم وأسلحتهم الغدارة القاتلة، كل ذلك كان يشكل مشهدا مرعبا يمكن أن يدمر وإلى الأبد الاحترام الذي يجب أن يتطلع إليه الجنس البشري".

لكن هؤلاء الجورنى journee (كما اعتاد الفرنسيون تسميتهم بعد ذلك) أصبحوا هادئين بعد أن استرضاهم الملك بوضع (كاب) الثورة الأحمر فوق رأسه. وعلى أية حال ففي 10 أغسطس شاهدت من مكمنها الآمن استيلاء الغوغاء على التوليري وإراقة الدماء في أثناء عملية الاستيلاء وكيف أن الغوغاء لم يهدءوا حتى فر الملك والملكة ليكونا تحت حماية الجمعية التشريعية. وبدأ الثوار في القبض على كل أرستقراطي وقعت عيونهم عليه، واستغلت جرمين وضعها الآمن في حماية أصدقائها من الأرستقراطيين، فخبأت ناربون في موضع منعزل في السفارة السويدية، وصمدت بعناد وأخيرا اتفقت مع جماعة من خفر السواحل، وفي 20 أغسطس كان ناربون آمنا في إنجلترا.

وكان بعد ذلك ما هو أسوأ، ذلك أنه في 2 سبتمبر قاد لابسو السراويل "البناطيل" الطويلة (الذين لا يرتدون سراويل قصيرة أو السانس كولوت) النبلاء ومؤيديهم وقتلوهم ولم تنج مدام دى ستيل من هذا المصير إلا بشق الأنفس. فبعد أن ساعدت كثيرين من أصدقائها على الخروج من باريس بل ومن فرنسا كلها بدأت هي نفسها في يوم 2 سبتمبر الساطع هذا رحلتها في عربة من عربات الدولة تجرها ستة خيول ومعها خدم ذوو ثياب مميزة واتجهت إلى بوابات المدينة، ووضعت بتروٍ شارة السفراء وعلاماتهم على أمل أن يستقبلها موفدون دبلوماسيون، وما كادت العربة تنطلق حتى أوقفها "سرب من النسوة العجائز،

ص: 310

وكأنهن خرجن من الجحيم" وأمرت جماعة من العمال الحوذيين بالتوجه إلى مركز الحي (القسم) وهناك أمر الحراس المجموعة بتوجيههم العربة ومن فيها إلى دار البلدية.

"وهناك خرجت من العربة وأحاط بي غوغاء مسلحون وشققت طريقي بين أسنة الرماح، وبينما كنت أصعد السلم الذي كان أيضا غاصا بحاملي الرماح وجه أحدهم رمحا إلى قلبي. لكن رجل الشرطة المصاحب لي أبعده عني بسيفه. لو أن قدمي زلت في هذه اللحظة لكان في ذلك نهايتي".

وفي مقر الكومون وجدت صديقا عمل على إطلاق سراحها ورافقها إلى السفارة وسلمها جواز سفر مكنها في صباح اليوم التالي من مغادرة باريس بأمان إلى كوبت. لقد كان هذا هو اليوم الذي رفع فيه رأس الأميرة ديلامبل de Lamballe على سن رمح وطيف به لتراه الملكة السجينة.

ووصلت جيرمين إلى أحضان والديها في 7 سبتمبر وعندما سمعوا بثورة في جنيف اتجهوا شرقا إلى رول Rolle بالقرب من لوزان Lausanne . وفي 20 نوفمبر سنة 1792 أنجبت جيرمين ابنها ألبرت وكان سنها وقتئذ ستة وعشرين عاما والذي كانت تحمله معها خلال مغامراتها مع الموت. وربما تكون قد أنجبته من خلال علاقتها مع ناربون لكن زوجها (دي ستيل) أقنع بأنه أبوه، فاقتنع أو تظاهر بالاقتناع. وفي رول وبعد ذلك في كوبت آوت إليها عددا من الرجال والنساء المشاهير وغير المشاهير الهاربين من فرنسا قبل حكم الإرهاب في طريقهم إلى بلاد أخرى. "ولم تعبأ هي ولا أبوها بأن هذا قد يسبب المتاعب لهما".

وعندما علمت أن ناربون عرض أن يغادر ملجأه في إنجلترا ويعود ليدافع عن لويس السادس عشر، لم تستطع تحمل فكرة أن يعرض نفسه للخطر، فوجدت أنه يجب عليها التوجه إلى إنجلترا لإثنائه عن عزمه، فاتخذت طريقها عبر فرنسا وعبرت القناة والتقت بناربون في صالة جونيبر Juniper Hall في ميكلهام Mickelham بالقرب من لندن، وفي 21 يناير سنة 1793 أي اليوم نفسه الذي قدم فيه الملك لويس السادس عشر للمقصلة. وكان عشيقها السابق مستثارا جدا بالأخبار التي وصلته، فلم يرحب بها الترحيب الكافي. لقد غلب عليه أصله الأرستقراطي، وضاع حبه لخليلته وسط أحزانه لمقتل الملك، وراح

ص: 311

تاليران المقيم بالقرب من لندن يزورهما تباعا للتخفيف عنهما بفكاهاته.

وانضمت إليهما فاني بيرني Fanny Burney وذكرت في تقريرها أنها: "لم تكن قد سمعت أبداً مثل هذه المناقشة قبل ذلك. لقد تجمعت أمور كثيرة لتفتنها: بلاغة تتسم بالحيوية وملاحظات حادة كأشد ما تكون الحدة، وعقل متألق كأشد ما يكون التألق، ولطف وكياسة وعاطفة جياشة، كأشد ما يكون ذلك كله".

ورفضت فاني أن تصدق الإشاعات القائلة بأن ناربون وجيرمين يعيشان في الحرام (يمارسان الزنا معا). لقد كتبت إلى أبيها المؤرخ الموسيقى الشهير:

"لقد كانت هذه المشاركة الحميمة

جديدة تماما لي، وإنني أعتقد اعتقادا راسخا أن ما يقال عنها محض افتراء. إنها تحبه حبا حنونا، لكن بشكل واضح جدا وبسيط جدا .. خال تماما من كل غنج أو عبث. إنها متسامحة جدا، وسهلة جدا، وهو وسيم جدا، ولا بد أن موهبتها العقلية هي مصدر جاذبيتها له، ولا شيء آخر

أظن أنك لا تستطيع أن تقضي يوما معهما من غير أن تدرك أن تجاوبهما الفكري من النوع الخالص رغم سموه وهو أي هذا التجاوب عماد صداقتهما".

لكن عندما تأكدت فاني أنهما يمارسان الرذيلة تخلت آسفة عن زيارتهما في صالة جونيبر. بل إن المهاجرين (الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة) قد ابتعدوا عن هذه المجموعة الصغيرة باعتبار أنهم دافعوا عن الثورة مدة طويلة. وفي 25 مايو سنة 1793 عبرت جيرمين إلى أوستند Ostend واتخذت طريقها بأمن إلى بيرن Bern باعتبارها لا تزال زوجة للسفير السويدي، وفي بيرن التقت بزوجها الموسمي (الذي لا يلقاها إلا بين الحين والحين أو بتعبير آخر زوج المناسبات) وذهبت معه إلى كوبت. وهناك نشرت كتابها:"تأملات في محاكمة الملكة بقلم امرأة" دعت فيه بحرارة للنظر إلى ماري أنطوانيت بعين الرحمة، لكن المقصلة سرعان ما قطعت رقبة الملكة في 16 أكتوبر سنة 1793.

وماتت مدام نيكر في 15 مايو سنة 1794 وحزن عليها زوجها حزنا عميقا لا ينتج إلا عن طول العشرة، أما جيرمين فلم تتأثر كثيرا، وانتقلت إلى قصر ميزيرى Mezerey لتكون صالونا جديدا ولتنسى كل شيء آخر في أحضان كونت ريبنج Ribbing، ووصل ناربون

ص: 312

متأخرا فوجد أحضانها مشغولة بغيره فعاد إلى خليلته السابقة، وأحيانا في أثناء سقوط سنة 1794 كان بنيامين كونستانت (قسطنطين) Benjamin Constant يلتقى بها في نيون Nyon، ليندمجا معا في علاقة طويلة قوامها الفكر والعشق، وكان بنيامين هذا سويديا في نحو السابعة والعشرين من عمره، طويلا بوجهه نمش وكان أحمر الشعر.

وفي هذه الأثناء سقط روبيسبير ووصل المعتدلون إلى السلطة فآن لها أن تعود إلى باريس فعادت في مايو سنة 1795 وتصالحت مع زوجها وأحيت صالونها في السفارة النمساوية ودعت إليه الزعماء الجدد للمؤتمر الوطني المحتضر: بارا، وتالييه Tallien وبويسى دنجلا Boissy d'Anglas وأسود الأدب مثل ماري جوزيف شينييه Marie Joseph de Chenier . واقتحمت مجال السياسة بشوق شديد حتى إن أحد أعضاء المؤتمر الوطني اتهمها بأنها تدبر مؤامرة ملكية واتهم زوجها بأنه ديوث (يقبل الزنا في أهله).

وأصدرت لجنة الأمن العام الجديدة قرارا بإبعادها عن فرنسا، وفي أول يناير سنة 1796 عادت مرة أخرى إلى كوبت، وهناك بين قسطنطين وكتبها كتبت دراسة كئيبة بعنوان:" De l'influence des Passions" أي "أثر الهوى" استوحت فيه روسو وشعورها، وكانت فيه صدى لكتاب The Sorrows of Werther وقد امتدحت في كتابها هذا الانتحار، ورتب أصدقاؤها في باريس طلبات مفعمة حماسا وعاطفة لإعادة النظر في أمرها، فأعلمتها حكومة الإدارة أنه في مقدورها أن تعود إلى فرنسا على أن تكون في مكان يبعد عن العاصمة عشرين ميلا على الأقل، فعادت مع قسطنطين لتستقر في دير سابق في هيريفو Herivaux،

وفي ربيع سنة 1797 سمح لها بالانضمام لزوجها في باريس، وفي 8 يونيو أنجبت ابنتها ألبرتين Albertine لا يعرف أبوها على وجه اليقين. وخلال هذه التعقيدات استطاعت عن طريق باراـ Barras أن تتوسط لاستدعاء تاليران من منفاه وتعيينه (في 18 يوليو 1797) وزيرا للخارجية. وفي سنة 1798 فقد البارون دي ستيل منصبه كسفير، فمنح جيرمين انفصالا وديا (اتفق معها على الانفصال بشكل ودي) مقابل حصة ماليه، وعاد إلى منزله الذي يعرف الآن باسم قصر

ص: 313

الكونكورد Concorde وظل به حتى وجدناه ميتا في سنة 1802.

وفي 6 ديسمبر سنة 1796 قابلت نابليون لأول مرة في استقبال أعده تاليران لاستقبال فاتح إيطاليا عند عودته لفرنسا. وتحدث إليها نابليون مادحا والدها في عبارات موجزة. ولأول مرة في حياتها لم تكن جاهزة للرد (للتجاوب في الحديث). لقد قالت بعد ذلك: "لقد اعتراني الاضطراب إعجابا به ورهبة منه" وقد سألته سؤالا غبيا: "من هي أعظم امرأة بين الأحياء والأموات؟ " فأجابها إجابة ملتوية شيطانية: "إنها المرأة التي أنجبت أكبر عدد من الأبناء"

وبعد ذلك بأربعة أيام رأته مرة أخرى وأعضاء حكومة الإدارة يستقبلونه مصفقين في قصر لكسمبورج. لقد كانت مرتبكة إزاء شخصية نابليون التي جمع فيها مزاج من الكبرياء والتواضع، وهنا شعرت أن نابليون هو الرجل الذي يحمل معه قدر فرنسا. وظلت طويلاً تواقة لكسب ثقته والاشتراك معه في مشروعات كبيرة، ربما ليكون ذلك نصرا لها يضاف إلى انتصاراتها السابقة، وقد سعدت كثيرا كعاشقة تكتم عشقها في 10 نوفمبر سنة 1799 عندما أخبرها لوسين بونابرت Lucien Bonaparte أن نابليون خرج منتصرا في سان كلود St.- Cloud وحمل لقب القنصل الأول وهذا يعني عمليا أنه حاكم فرنسا. لقد شعرت عندئذ أن عصر الفوضى والتشوش والمثاليات الكاذبة قد أنتهي وأن عصرا جديدا للأبطال والعظمة قد بدأ.

‌9 - النتائج، وتأملات في الأحداث

أما وقد قصصنا قصة الثورة الفرنسية بحياد بقدر ما سمح بعدها عن زماننا. لقد بقي أن نواجه الأسئلة التي أثارها الفلاسفة: أكان للثورة مبرراتها المعقولة في أسباب قيامها وما تمخضت عنه؟ هل حققت مكاسب مهمة للشعب الفرنسي أو البشرية؟ أكان من الممكن الوصول إلى هذه لمكاسب بغير ما جرى من فوضى ومعاناه؟ أيمكن أن نخلص من أحداثها بنتائج يمكن تعميمها على الثورات عامة؟ أتلقي أضواء على طبيعة الإنسان؟ إننا نتحدث هنا - فقط عن الثورات السياسية أي التغيرات السريعة والعنيفة لتغيير الحكومات سواء

ص: 314

تغيير الحكام أم تغيير السياسة أما التطور بلا عنف فسنطلق عليه "التحول" أو النمو والتقدم evolution، أما التغير السريع والعنيف أو التغيير غير الشرعي الذي يشمل الأشخاص بلا إحداث تغيير في شكل الحكومة فسنسميه انقلاباً Coup d'eltat، أما أي مقاومة علنية للسلطة القائمة فسنسميها عصيانا rebellion .

إن أسباب الثورة الفرنسية باختصار هي:

(1)

عصيان برلمانات الدوائر (المحافظات) مما أدى إلى إضعاف سلطة الملك وإضعاف الولاء لنبلاء (الأرواب) of the robe .

(2)

طموح فيليب دأورليان Philippe d'Orleans للوصول إلى العرش ليحل محل لويس السادس عشر.

(3)

عصيان ا لبورجوازية وتمردها على تخلي الدولة عن مسئوليتها المالية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وعدم مشاركة الكنيسة بثرواتها لمواجهة الإفلاس المالي للدولة، واعتراض البورجوازية أيضا على امتيازات الأرستقراطية في أموال الدولة، وفي الحياة الاجتماعية.

(4)

عصيان الفلاحين وتمر دهم بسبب العوائد والمراسيم الإقطاعية والضرائب والعشور الكنسية church tithes .

(5)

عصيان جماهير باريس ضد الظلم الطبقي والمعوقات القانونية والعجز الاقتصادي والأسعار المرتفعة والتهديد العسكري. وقد مول البورجوازيون وفيليب دأورليان الدعاية التي بثتها الصحف وأججها الخطباء، وتوجيه الجماهير، وإعادة تنظيم الطبقة الثالثة في جمعية وطنية تمكنت من فرض دستور ثوري. وأدت شجاعة العوام وصلابتهم وعنفهم وما بذلوه من دماء إلى إرهاب الملك وإرغامه على قبول الجمعية والدستور كما أرغموا الأرستقراطية على التخلي عن عوائدها الإقطاعية وأرغموا الكنيسة على التخلي عن العشور، وربما وجب أن نضيف كعامل ثانوي إنسانية الملك ورغبته في تحاشي إراقة الدماء.

أما نتائج الثورة الفرنسية فعديدة ومعقدة ومتنوعة ودائمة تماما حتى إنها تجعل من المحتم

ص: 315

تناولها عند كتابة تاريخ القرن التاسع عشر.

9/ 1 - النتائج السياسية

وهي نتائج واضحة: انتهاء النظام الإقطاعي، ليصبح الفلاحون أحراراً، ويصبح جانب منهم ملاكا. وحلت المحاكم المدنية محل المحاكم الإقطاعية وحلت ديمقراطية الملاك محدودي الملكية محل الملكية المطلقة، وحل بورجوازيو الأعمال، محل الأرستقراطية كطبقة ذات سيادة تتولى أمور الإدارة. ومع الديمقراطية أتت المساواة أمام القانون وإتاحة الفرص للجميع على سواء وحرية إبداء الرأي وحرية العبادة وحرية الصحافة (على الأقل تم الإعلان عن هذا كأمل) لكن سرعان ما قلت مقادير الحرية المتاحة بسبب التباين الطبيعي بين الناس في القدرات، والتباين بين بيئاتهم في البيوت والمدارس والثروات. ويلاحظ أن هذا التحرر السياسي والاقتصادي والتشريعي قد امتد إلى شمال إيطاليا وبلاد الراين وبلجيكا وهولندا بفضل جيوش الثورة، ففي هذه المناطق أيضا أزيح النظام الإقطاعي ولم يعد حتى بعد سقوط نابليون. ومن هنا كان الفاتحون محررين وإن لوثوا عطاياهم بما مارسوه من ابتزاز في أثناء حكم هذه المناطق.

وأكملت الثورة توحيد ولايات (محافظات) فرنسا نصف الموحدة وجعلوا منها دولة فرنسية ذات حكومة مركزية وجيش وطني وقانون يسري في جميع الولايات جميعها. وكانت وحدة هذه المحافظات في كيان واحد ناقصة قبل الثورة بسبب البارونات الإقطاعيين وضرائب الانتقال من محافظة إلى أخرى واختلاف أصول (أعراق) سكانها واختلاف تقاليدها وعملتها وقوانينها. لكن هذا التغيير فيما يشير توكفيل Tocqueville كان يسير سيرا حثيثا في ظل البوربون، فكان من المحتمل انجاز وحدة فرنسا بغير الثورة لأن التجارة على مستوى فرنسا كلها كانت بشكل متزايد تتجاهل الحدود بين المحافظات، تماما كما فرض الاقتصاد الوطني في الولايات المتحدة تقليص حقوق (الولايات) بإيجاد حكومة فدرالية كان لا بد أن تكون قوية.

وعلى النحو نفسه فإن تحرير الفلاح وصعود البورجوازية للسلطة السياسية والهيمنة الاقتصادية، كان من الممكن أن يحدث بغير الثورة، وإن كان حدوثه في هذه الحال سيكون بشكل أبطأ. وكانت الثورة في ظل الجمعية الوطنية (1789 - 1791) معقولة ولها ما يبرر

ص: 316

تصرفاتها فيما وصلت إليه من نتائج دائمة، لكن الثورة في ظل حكومات الفترة من 1792 إلى 1795 كانت تمثل فترة بربرية تمثل فيها القتل والإرهاب والانهيار الخلقي بطريقة لا يمكن تبريرها بشكل كاف بوجود مؤامرات خارجية وهجوم خارجي. وفي سنة 1830 عندما أنهت ثورة أخرى الأمور بتأسيس ملكية دستورية، كانت النتيجة هي تقريبا مثل النتيجة التي تم التوصل إليها في سنة 1791.

وما حققته الثورة من مكسب بتوحيد فرنسا جرت موازنته بتطور "الوطنية nationalism" لتصبح مصدرا جديدا للعداوة بين الجماعات، فالقرن الثامن عشر كان ينحو عند الطبقات المتعلمة إلى التحرر من الأحقاد الوطنية بإضعاف الفروق بين الأوطان في الثقافة واللباس واللغة، لقد كانت الجيوش نفسها في غالبها تنحو نحو العالمية جنوداً وقادة. وقد غيرت الثورة هذا الاتجاه باتخاذها التجنيد الإلزامي نظاما، وأصبح الولاء للأمة بدلا من الولاء للأسرات المالكة هو الأساس وهو دافع الحرب وينبوعه. ونجح التآخي (الرفقة) بين الجنرالات في أن يحل محل ا لتكتل الأرستقراطي بين الضباط، وطغت وطنية الجنود المفعمة حماسا على برود موظفي الحكم القديم وممارستهم أعمالهم بلا روح. وعندما طور الجيش الفرنسي نظامه وازداد كبرياؤه أصبح القوة الوحيدة المنظمة في دولة مشوشة، وأصبح الملجأ الوحيد من بلبلة حكومات لا تتسم بالكفاءة وجماهير متمردة.

لا شك أن الثورة قد أتاحت الحريات بشكل أفضل في فرنسا وما وراءها، ومدتها لفترة إلى المستعمرات الفرنسية، بل وحررت عبيد هذه المستعمرات. لكن الحرية الفردية كانت تنطوي على مثالب. لقد ظلت هذه الحرية الفردية تزداد حتى تجاوزت الحدود الضرورية لنظام اجتماعي والضرورية لبقاء المجتمع على قيد الحياة، فالحرية التي لا حدود لها هي الفوضى كاملة، وأكثر من هذا فإن القدرات المطلوبة لإشعال ثورة تختلف تماما عن القدرات المطلوبة لبناء نظام جديد، فإشعال ثورة يتطلب - ليتم بسرعة - سخطا وعاطفة وانفعالا وشجاعة ولامبالاة بالقانون، وبناء نظام جديد يتطلب صبرا وعقلا وتقديرا للأمور بشكل عملي واحتراما للقانون. وما دامت القوانين الجديدة لا يدعمها تراث وعادات، فإنها عادة ما تفرض بالقوة. وأصبح دعاة الحرية هم القابضين على السلطة أو الذين أفسحوا المجال

ص: 317

للقابضين على السلطة ولم يعودوا هم زعماء الغوغاء المدمرين وإنما قادة البناء المنظمين في ظل دولة عسكرية تحميهم وتشرف عليهم. ولحسن الحظ، فإن الثورة استطاعت أن تتخلص من الدكتاتورية أو تقصر أمدها، فحافظت على مكاسبها من الحرية للأجيال التالية.

9/ 2 - النتائج الاقتصادية

وتتمثل في ملكية الفلاحين وفي الرأسمالية وقد نتج عن كل منهما آثار لا نهاية لها، فبعد أن أصبح الفلاحون ملاكا صاروا قوة محافظة شديدة، أبطلوا الاتجاه الاشتراكي للبرولتياريا الذين لا يملكون، وعملوا - أي الفلاحون - كمرساة أمان لاستقرار الدولة التي كانت تعاني من صدمات ما بعد الثورة، وظل دورهم هذا قائما عبر قرن من الزمان. وعلى هذا فقد تطورت الرأسمالية التي تلقى الحماية في الريف كما تطورت في المدن، وحلت النقود السائلة (السيولة النقدية) محل الثروة العقارية كقوة اقتصادية وسياسية، وتخلص الاستثمار الحر من السيطرة الحكومية.

وحقق الفيزيوقراطيين Physiocrats نصرا في معركتهم، أي أن يتركوا لحركة السوق تحديد الأسعار والأجور والإنتاج، فيكون "النجاح" أو "الفشل" محكوما بالمنافسة في "السوق" فيجب ألا تعوق القوانين حركة السوق. وتحركت البضائع من محافظة إلى محافظة بلا إزعاج أو تعويق بعد إلغاء ضرائب الانتقال الداخلية (من محافظة إلى أخرى) ونمت الثروة الصناعية وزاد تركزها عند القمة.

وعملت الثورة أو تشريعات الثورة بشكل متكرر على إعادة توزيع الثروة التي تركزت في جانب دون الجوانب الأخرى وأدى تفاوت القدرات أو الامتيازات إلى تركزها مرة أخرى (في جانب أو طبقة). لقد حتم تفاوت قدرات الأفراد حصول كل منهم على ما يكافئ جهده، فكان من الضروري أن تتفاوت حظوظهم في الحياة. فكل تفوق "طبيعي" يؤدي إلى مزايا في البيئة أو في الفرص. وحاولت الثورة أن تقلل من هذا التفاوت ا لمتكلف (المصطنع)، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى وبشكل أسرع في ظل الحرية، فالحرية والمساواة لا يجتمعان

(الحرية والمساواة عدوان لا يلتقيان Liberty and equality are enemies)

فالناس تسعد بمزيد من الحرية لا لشيء إلا ليحصدوا نتائج تفوقهم"الطبيعي" و"البيئي" ومن هنا

ص: 318

فإن التفاوت (عدم المساواة) يزداد كثيرا في ظل الحكومات التي تؤيد الاقتصاد الحر وتدعم حقوق الملكية.

فالمساواة مبدأ مزعزع غير مستقر (توازنه غير ثابت) أي أن المساواة (بفرض وجودها) سرعان ما تنتهي إن حدث تغير في المواريث أو الصحة أو الذكاء أو الشخصية. وقد وجدت معظم الثورات أنه لا سبيل لمواجهة التفاوت "عدم المساواة" إلا بالحد من الحرية، كما في نظم الحكم الشمولية. وفي فرنسا الديمقراطية كان التفاوت (عدم المساواة) مطلق السراح ليزداد، أما المساواة فقد ذبحتها الجيلوتين guillotine (المقصلة) وفي الوقت المحدد أصبحت اتفاقا على ارتداء السراويل (يقصد المساواة من الناحية الشكلية كون الناس جميعا في فرنسا يرتدون زيا واحدا - السراويل - أو أن من حقهم ذلك).

9/ 3 - النتائج الثقافية

لا تزال النتائج الثقافية للثورة الفرنسية تؤثر في حياتنا. لقد أعلنت الثورة حرية الحديث والصحافة والاجتماع، حقيقة لقد جرى تقليص هذه الحريات بشدة، بل وانتهت على يد نابليون تحت ضغط الحرب، لكن المبادئ نفسها ظلت باقية وخاضت معارك متتالية لإثبات وجودها خلال القرن التاسع عشر لتصبح قابلة للتطبيق (أو إدعاء تطبيقها) في ديمقراطيات القرن العشرين. وخططت الثورة لقيام نظام وطني للمدارس ونفذت ذلك بالفعل.

وشجعت العلم ليكون بديلا للاهوت على مستوى العالم كله. وفي سنة 1791 عينت الحكومة الثورية لجنة جعلت على رأسها لاجرانج Lagrange لتضع لفرنسا الجديدة الموحدة نظاما جديدا للموازين والمقاييس فتم اعتماد النظام المتري الذي أوصت به رسميا في سنة 1792، وصدر به قانون في سنة 1799. وكان على هذا النظام المتري أن يناضل ليشق طريقه في المحافظات الفرنسية إذ لم يكن قد حقق النصر الكامل حتى سنة 1840 وقد ألغي في بريطانيا العظمى الآن ليحل محله النظام الاثني عشري duodecimal system .

وبدأت الثورة بفصل الكنيسة عن الدولة لكن هذا ثبت أنه أمر صعب في دولة كفرنسا تهيمن عليها الكاثوليكية وتعتمد تقليديا على الكنيسة في تهذيب شعبها. ولم يكن هذا الفصل كاملا حتى سنة 1905 وعاد ليضعف مرة أخرى هذه الأيام تحت ضغط أسطورة

ص: 319

مؤازرة الحياة a life-sustaining myth . وفي محاولتها إحداث طلاق بين الدولة والكنيسة ناضلت الثورة لنشر "الأخلاق الطبيعية". ووجدنا أن هذه المحاولة لم تنجح. فمن ناحية نجد أن تاريخ فرنسا في القرن التاسع عشر كان يمثل محاولات متشنجة دورية طال أمدها للخروج من كهف الانهيار الأخلاقي الذي سببته الثورة. وها هو القرن العشرون على مشارف النهاية من غير أن تجد البشرية حتى الآن بديلا طبيعيا للدين في حث هذا الحيوان الناطق (الإنسان) على الالتزام بمبادئ الأخلاق.

وتركت لنا الثورة بعض الدروس في الفلسفة السياسية لقد بدأت بالأقلية التي راح عددها يزداد إلى التحقق من أن الإنسان هو الإنسان بصرف النظر عن طبقته، فهؤلاء الثوار الذين وصلوا إلى السلطة راحوا يتصرفون كما تصرف من سبقوهم بل وفي بعض الحالات راحوا يتصرفون بشكل أشد فظاعة. قارن تصرفات روبيسبير بتصرفات لويس السادس عشر. لقد أصبح الناس نزاعين للشك في دعاوى الثورة فما عادوا يتوقعون شرطة لا يعتريها الفساد وسيناتورات يراعون الفضائل، وعلموا أن الثورة لا يمكن أن تحقق أكثر مما يمكن أن يحققه التحول والتطور التدريجي، وتسمح به الطبيعة البشرية، وما كانت هذه الفكرة لترسخ في الأذهان لولا ما عاينه الناس في نفوسهم من جذور البربرية الراسخة التي تمتد لتعمل خلاف ضوابط الحضارة.

ورغم نواقص الثورة وعيوبها - وربما بسبب بتجاوزاتها وإسفافها - فقد تركت تأثيرا قويا في آداب فرنسا وفنونها وتطلعاتها وانفعالاتها وذاكرتها. بل وتركت التأثيرات نفسها في أمم أخرى من روسيا إلى البرازيل. فحتى سنة 1848 كان كبار السن يحكون لأبنائهم عن أبطال هذه الفترة المثيرة، وما سادها من إرهاب اتسم بالطيش والقسوة بشكل يناقض القيم المتوارثة كلها. أكان عجباً أن يتحرك الخيال وتجيش العواطف على نحو قلما كان يحدث قبل قيام هذه الثورة؟ أكان عجباً أن يدفع التفكير في قيام دول يعيش فيها الناس على نحو أسعد، الرجال والنساء لتكرار محاولات تحقيق الأحلام النبيلة لهذه الحقبة التاريخية؟ إن قصص الوحشية والفظاعة التي سادت في أثناء الثورة الفرنسية دفعت الأرواح إلى التشاؤم والتخلي عن كل عقيدة.

لقد ظهر شوبنهاورين

ص: 320

Schopenhauers وليوباردز Leopardis وبايرونين Byrons وموسيت (موسى) Mussets، وشوبرت a Schubert وكيتس a Keats في الجيل الثاني. لكن كانت هناك أيضا أرواح يملؤها الأمل والانتعاش: هوجو، وبلزاك، وجوتير Gautier وديلاكروا Delacroix وبيرليوز Berlioz وبلاك Blake وشيلي Shelley وشيلر Schiller وبيتهوفن الذين سيشاركون بشكل مكثف في الصحوة الرومانسية للمشاعر والخيال والرغبة في التخلص من التقاليد والمحظورات والعوائق. وكان على فرنسا طوال ستة وعشرين عاما أن تظل مندهشة حائرة - تحت تأثير الثورة ونابليون - أعظم قصة على الإطلاق! إنها الأكثر رومانسية من بين الرومانسيات كلها، ومنذ حدوثها أصبح نصف العالم مستثاراً خوفاً أو تطلعا وانبهاراً بهذا القرن العامر بالأحداث الذي لمست فيه أمة عانت الكثير مثل هذه الذرى وتلك الأغوار بطريقة قلما عرفها التاريخ قبل ذلك، ولم يعرف لها مثيلا منذ حدوثها (حتى الآن).

ص: 321