المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الثاني - قصة الحضارة - جـ ٤٤

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الثاني

ص: 1

‌تاريخ الحضارة الأوروبية

صعود نجم نابليون: من 1799 إلى 1811 م

ص: 4

NAPOLEON ASCENDANT

‌مقدمة الترجمة العربية

في هذا الكتاب الثاني من المجلد الحادي عشر لموسوعة قصّة الحضارة يُواصل المؤلفان حديثهما عن التطوّرات التي حدثت في أعقاب الثورة الفرنسيّة، وكان بعض هذه التطورات استمراراً لأفكار الثورة، وكان بعضُها الآخر تصحيحاً لها. وهذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه يتناول السياسة والاقتصاد والدين والفن والأدب والعلم ومختلف مظاهر الحياة في سياق واحد يُفَسّر بعضُه بعضَه الآخر فتأتي النظرةُ شاملةً عميقة، بالإضافة إلى أنّ هذا المنهج يُوضح تزاوج الحضارات ولقاء الأفكار.

نفهم من هذا الكتاب أنّ التقسيم النظري للمذاهب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا وُجود له بشكل واضح على أرض الواقع فثمة تقسيم نظري (وهذا مجرد مثال) تبين فصول الكتاب أنه مجرّد تقسيم لا يخرج عن رؤوس من سمّاهم نابليون بالأيديولوجيين أي المنظّرين، وكانت الكلمة - حين استخدمها - تنطوي على شيء من السخرية، ونعني به تقسيم النُّظم إلى علمانية ودينية، فليس هناك نظام واحد يستطيع حتّى لوْ أراد أن يُغفِل عقائد الشعب حتّى لو كانت عقائد خرافيّة.

من المؤكَّد أنّ الكنيسة الكاثوليكية في روما لم تكن تعتبر نابليون مسيحياً أو على الأقل لم تكن تعتبره كذلك من وجهة نظرها، ولم يحضر الرجل للصلاة في كنيسة، ولم يحضر تسبيحه شكر وفقاً للطقس المسيحي، ولم يؤمن في يوم من الأيام بفكرة التثليث في المسيحية، وتزوّج ماري لويز النمساوية في الوقت الذي لم يكن البابا قد أقرّ طلاقة من جوريفين (أى أنه جمع بين زوجتين) ولم يؤمن يوماً بعصمة البابا (وهو مُعتقد في صلب العقيدة الكاثوليكية) بل لقد أهانه بعد ذلك كما نقرأ في فصول هذا الكتاب وسَجَنه وجرّده من ممتلكاته

نابليون إذن من وجهة نظر معاصريه الأوروبيين كافر أو مُلحد أو عَلْماني بل إن السلطات الكنسيّة لم تكن مُقتنعة أن اعتناقه للإسلام في مصر كان مجرّد خدعة فوصفته بالمرتد عن المسيحية.

ومع كل هذه العلمانيّة إن صحّ التعبير، وجدنا نابليون نفسه عندما أراد أن يضبط ما انْفلت في فرنسا: ضياع، وتمرّد وتفسّخ في الأسرة وفي الحياة العامة، وافتقاد لجو الرخاء الاقتصادي والاستثمار

ص: 5

لم يجد إلاّ الدين وسيلة لذلك، وعندما أراد أنْ يُتوج نفسه ملكاً كان لابُد أن يتعزَّز بالدين أمام غالبية شعبه، رغم أنّ هذا أثار سخرية أهل باريس السّاخرين بطبعهم من الكنيسة، فاسترضى البابا ونَفَحَةُ جُعْلا ليتوّجه ويُباركه (أى يمسحه بالزيت)، ومع هذا كانت هناك إشارات تَتُمُّ عن حقيقة ما بداخله ففي حفل تتوجيه وَضَع هو نفسُه التاج على رأسه بعد أن تناوله من فوق منضدة مُعدَّة لذلك ولم يسمح للبابا بأن يضع التاج فوق رأسه (رأس نابليون)، والمعنى واضح، وشجع نابليون نشر كتاب عن (عبقرية المسيحية)، ومؤلفُ الكتاب نفسه اعترف في آخر حياته أنه لم يقصد إلاّ إيجاد وسيلة (هي هنا المسيحية) لإسكات الفقراء ومنع الثورات. ليست هناك إذن علمانيّة خالصة ولا يمكن أن تكون.

فإذا ما انتقلنا إلى النّظم الدينية وجدنا البابا يناور ويتحالف ويطالب بممتلكات دنيوية (الولايات البابوية) ووجدنا الأساقفة يطالبون بممتلكات الكنيسة، بل ووجدنا مثالاً طريفاً قد يكون من المفيد ذكره في هذا السياق، فعندما وصل نابليون إلى بولندا المقسّمة وقتها بين روسيا وبروسيا والنمسا راقت له امرأة جميلة من نسائها النبيلات، فاستقْصت عليه ورفضت ما أراد، فترجّاها نبلاءُ بولندا بمن فيهم رجال الدين المسيحي أن تُضحّي بنفسها وترضَخَ له وتُرضيه حتى يُخلِّص بولندا من أعدائها الذين اقتسموها وقسّموها وليعيد بولندا موحّدة كما كانت، فتكون (أي هذه المرأة) بذلك قدِّيسة مثل أستير وساقوا لها آيات من الكتاب المقدس (العهد القديم - سفر أستير)

فمن هي أستير هذه؟ إنها فتاة يهودية جميلة تراءت للإمبراطور أَحَشويروش الذي ملكَ من الهند إلى كوش فتزوّجها بعد أن أوصاها قريبها مردخاي ألاّ تذكُر للإمبراطور عن شعبها اليهودي، وسلبت أستير لُب الملك واستطاعت أن تُثير حفيظته ضد وزيره هامان إِذْ دبّرت إجلاس الوزير على سريرها فهاج الإمبراطور وقال أيكبسُ في بيتي وأعدمه، وكان هامان عدوا لليهود .. المهم أن أستير استطاعت بفضل حب الإمبراطور لها حماية شعبها اليهودي ومكّنته من قتل مئات من أهل البلاد.

نعود إلى حكاية نابليون، لنجد أنّ هذه المرأة البولندية بعد أن اقتنعت بهذا الشاهد

ص: 6

الديني أتاحت نفسها لنابليون فَذَاق عَسِيلتها وآَمْعن، لكنه والحقّ يُقال كان أذكى كثيراً من الإمبراطور أَحَشويرش فلا هو وحّد بولندا لأن هذا كان سيكلفه الكثير، ولا أخرج منها روسيا لأن هذا كان سيُفقده حليفاً محتملاً وهذا ما تحقق لكن إلى حين.

ولعلّ الفصل الرابع عشر (عن العلم والفلسفة في عصر نابليون) يكون من أمتع فصول الكتاب، فهو يقدم لنا في عَرْض بسيط وواضح جهود العلماء الفرنسيين في الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا (علم الأحياء) وما تمخّض عنها من آراء فلسفية تبنَّى منها كل حزب سياسي ما يُدعّم اتجاهه السياسي، وهذا أمر طريف، كما استثمر السياسيون النظريات العلمية الخالصة لدعمْ أفكارٍ سياسية، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي فضل العلماء وإن كان يعيب إنحراف السياسيين.

ولم يدع نابليون - على سبيل أمثال - مبادئ الثورة الفرنسية وحرية الأديان وما إلى ذلك تعوقُه عن النظر للأمور من خلال المنظور العملي الذي يؤكّده الواقع وتدعمه الإحصاءات. لقد أقر حرية الدين للجميع بمن فيهم اليهود لكنه أرسل ليسأل حاخاماتهم عن موقف الشريعة اليهودية من الربا فأجابوه أن هذه الشريعة كما جاء بها موسى تحرّم الربا، وسألهم عن موقفهم من غير اليهود فقالوا قولاً حسناً، فأتاح لهم حرية العبادة أُسوة بغيرهم لكنه أمرهم بعدم التمركز في منطقة بعينها وأن ينتشروا في أنحاء فرنسا، وأمرهم ألاّ يقتصروا على مهنة الصرافة والعمل في المعادن النفيسة وإنما عليهم توجيه أبنائهم للعمل في مختلف المهن، والأهم من هذا أنه أسقط الفوائد الربوية التي فرضها اليهود على رعاياه، وهدّأ نابليون من ثائرة فلاّحي الالزاس الذين كانوا على وشك الهجوم على البنوك التي يمتلكها يهود ألمان بأن أمر ألاّ تُحصِّل هذه البنوك المبالغ التي أقرضتها (بالربا) للفلاحين قبل عام (راجع تفاصيل هذا في الفصل الحادي عشر).

والفصول؛ السابع والثامن والتاسع تحوي صفحات شائقة في التاريخ العسكري وفن إدارة المعارك: معركة مارنجو، وأوسترليتز، وأولم وغيرها،

لقد تناول المؤلف بالتفصيل معارك فرنسا في عهد القنصلية (عندما كان نابليون هو القنصل الأول) وفي عهد الإمبراطورية

ص: 7

(بعد تتويجه إمبراطوراً)، ولم يكن عرضُه جافا وإنما تخلّله جانب من أقوال نابليون وتوجيهاته بل ونصوص نشراته التي كان يوزّعها على جنوده مما أعطى العرض حيوية فائقة.

وفيما يتعلّق بالأعلام الواردة في الكتاب بذلت كل الجهد لتقديم الاسم كما ينطقه أهله إلاّ في حالات قليلة، بالإضافة لإثبات الاسم كما هو متداول في الكتابات العربية نقلاً عن الصيغة الانجليزية التي غلبت في بلادنا العربية لظروف تاريخية، وعلى هذا فقد كتبتُ قُبالة الاسم وارسو Warsaw الصيغة (فرسافا) فهكذا ينطقون وارسو في شرق أوروبا، أما معركة وارنر فكتبتها أيضاً بنطقها الألماني فارنر، ومدينة ويمار وضّحت أيضاً أنها فيمار، وجعلت حرف الواو لها في الأعلام الألمانية (ف 7) في أسماء المدن والأشخاص ليكون الاسم كما ينطقه أهله مع عدم إغفال الإشارة للاسم كما هو متداول في الكتب العربية.

وفي حالتين أو ثلاث أغفلتُ ذلك لاستقرار الاسم في الاستعمال العربي استقراراً راسخاً، وعلى هذا فقد كتبتُ باريس Paris وليس باري كما ينطقها الفرنسيون، واستقر الاستعمال عندنا على الاسم لويس وليس لِوِي كما ينطقه الفرنسيون، والكتب العربية تذكر الجنرال كليبر بإثبات الراء فلم أجد مبرراً لكتابته (كِلِيبه). وهناك بعض الأسماء الأوروبية مألوفة لنا بصيغ عربية، فأثبت الصيغة العربية أيضاً مدّاً للجسور بين الحضارات، كالاسم جوزيف الذي هو يوسف وكونستانت الذي ينطقه الفرنسيون كونستان وأوردته الكتب التراثية العربية قستنطين، أما الفيلسوف الألماني جوته أو جيته والصيغتان واردتان في الكتب العربية - فقد اعتمدتُ الصيغتين وأشرتُ لهما معاً، فالألمان ينطقون ما بعد الجيم واواً يُميلونها حتى تكاد تكون ياء، أو واواً يميلونها حتى تكون ياء على نحو ما نُميل الياء المتطرّفة في بعض القراءات فنقول (والضُّحى) مع إمالة الياء لتكون عَواناً بين الألف والياء.

وقد راجعتُ المواضِعَ والأماكن التي وردت في الكتاب على الأطالس التاريخية وضبطتها وأذلت بعض اللّبس الذي وقع فيه سهواً آخرون، فمنطة نهر إِلْب Elbe تُطل على بحر الشمال ولا علاقة لها بمنطقة جبال الألب أو الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية).

ومن المصطلحات التي قمتُ بتصويبها في هذه الترجمة ما ورد في مجال التعليم عن

ص: 8

نشر كلَّبات المعلمين أو كليات التربية، والمصطلح المستخدم هو Ecole Normalle الذي يعني كلية المعلمين أو مدرسة المعلمين العليا، ولا يعني أبداً المدارس العاديّة وأخيراً فالكمال لِلّه وحده سبحانه وتعالى، ندعوه أن يُلهمنا الصواب ويُقيلنا من العثرات، وأكرر شكري للأستاذ محمد السويدي الأمين العام لاختياره - للترجمة - هذه الأعمال الكبيرة، فالمجمع الثقافي في (أبوظبي) أصبح بذلك صَرْحاً ثقافياً موجّهاً للضمير العربي.

وعلى الله قصد السبيل.

د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ

ص: 9

الفصل السابع

‌القنصليّة:

من 11 نوفمبر 1799 إلى 18 مايو 1804 م

The Consulate

‌1 - الدستور الجديد

THE NEW CONSTITUTION

1/1 - القناصل (الحكّام القناصل) The Consuls

في 21 نوفمبر سنة 1799 اجتمع القناصل المؤقتين في قصر لكسمبرج لإعادة بناء فرنسا من جديد. وكان هؤلاء القناصل المؤقتون هم نابليون وسييس Sieyes وروجر (روجيه Roger) دوكو Ducos، وساعدهم في مهمتهم لجنتان تضمان أفراداً من المجالس والجمعيات القديمة، وكان كل من سييس ودوكو لديهما بالفعل مقر إقامة في لكسمبورج باعتبارهما كانا عضوين في حكومة الإدارة السابقة، وقد انتقل نابليون وجوزيفين Josephine ويوجين Eugene وهورتنس Hortense والعاملون معهم إلى لكسمبورج في 11 نوفمبر 1799.

وقد واجه المنتصرون في هذا الانقلاب أمّة نهشت الفوضى في بِنْيتها الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية. وكان الفلاحون يخشون إذا ما عادت أسرة البوربون Bourbon المالكة أن تُلْغَى سندات الملكية التي بحوزتهم. وكان التجار والحرفيون يرون أن رفاهيتهم مهدَّدة بسبب الموانئ المحاصرة، والطرق التي اعتراها الإهمال وأعمال اللّصوصية وتردّد أصحاب الأموال في استثمار أموالهم بضمان الحكومة التي سبق أن اجتاحتها الانقلابات عدَّة مرَّات. والآن وقد أصبحت الحاجة ملحّة لقوّة القانون وتنفيذ المشروعات العامة، وتقديم الغوْث للفقراء، لم يكن تحت تصرف الخزانة إلاَّ 1200 فرنك.

وكان رجال الدين في حالة معارضة دائمة: فمن بين ثمانية آلاف قس كاثوليكي في فرنسا، رفض ستة آلاف منهم التوقيع على الدستور المدني لرجال الدين (الإكليروس Clergy) وراحوا يعملون ضد الدولة في عداء سافر أو مقنَّع، أما التعليم العام فقد تدهور حاله - بعد إبعاد الكنيسة عن تولِّي أمره - رغم البيانات الرسميّة الفخمة ورغم الخطط الحكومية الطموحة. أما الأسرة الدعامة الأساسية للنظام الاجتماعي فكانت قد اهتزّت بسبب حرية الطلاق مما أدّى لانتشاره، وبسبب كثرة الزواج

ص: 11

الاعتباطي (غير المدروس) وبسبب تمرّد الأبناء.

أما الروح العامة للشعب فقد كانت تحتضر خوفاً من الثورة والحرب وبسبب الشك في كل زعيم وبسبب التشاؤم لعدم تحقّق الآمال، بينما كانت هذه الروح في سنة 1789 قد بلغت ذُرى الوطنية والشجاعة. لقد كان مثل هذا الموقف يتطلب فنّ إدارة شؤون الدولة، لا دهاءً سياسياً، ويتطلب حسماً دكتاتورياً (كما تنبّأ مارا وحثّ من قبل) لا مناقشات ديمقراطية تَتَّسم بالترف في جمعيات فارغة - لقد كان المطلوب مزاوجة بين الرؤية الرحّبة والفكر الهادف والعمل المضني والبراعة مع البصيرة وإرادة آمرة. وقد انطبق كل هذا على نابليون.

وفي أوّل اجتماع لهؤلاء القناصل المؤقتين اقترح سييس أن يكون نابليون - ذلك الجنرال ذو الثلاثين عاماً - هو الرئيس (القنصل الأوّل) لكن نابليون استرضى سييس بترتيب الأمر بحيث يتولّى الرياسة كل واحد منهم على التعاقب، واقترح - أي نابليون - أن يكون سييس هو المسئول الأوّل عن صياغة الدستور الجديد. وعكف هذا المنظِّر القديم على دراسته وترك نابليون (مع دوكو اللطيف المسالم) لإصدار المراسيم لضمان حُسن سيرْ الإدارة، وتحسين أداء الخزانة بتطوير قدرتها على الوفاء بديونها، وتهدئة النزاعات واكتساب ثقة الشعب الذي أزعجه اغتصاب السلطة بالقوة.

وكان أوّل ما قام به القنصل الأول أنه ارتدى زيَّاً مدنياً مُتواضعاً مُحتشماً وطرح لباسه العسكري. لقد كان عليه أن يكون هو الفتى الأول فوق خشبة مسرح الأحداث. لقد أعلن عن نواياه بمجرد تأسيس الحكومة الجديدة مقترحاً شروط السلام مع إنجلترا والنمسا. وكان طموحه في بواكير فترة حكمه هذه هو طمأنة فرنسا وتقويتها لا إجبار إنجلترا على التسليم. لقد كان نابليون في هذا الوقت هو من أسماه بِت Pitt ابن الثورة ومضمّد جراح فرنسا الناتجة عن النزاعات الداخلية، ومخطط رخائها الساعي لاستتباب السلام. ابن الثورة الذي هو إفراز من إفرازاتها، وحاميها، والعامل على الاحتفاظ بما حققته من مكاسب اقتصادية، لكنه أيضاً كان واضحاً في إبداء رغبته في إنهاء الثورة.

لقد أسعد البورجوازية عندما أصدر في 17 نوفمبر سنة 1799 قراراً بنفي ثمانية وثلاثين شخصاً كانوا مصدر خطر على الأمن العام (وكان نابليون لا يستغني عن الدعم

ص: 12

الاقتصادي الذي تقدّمه البورجوازية له، فقد كان هذا أمراً ضرورياً لسلطته) وقد كان قراره هذا يمثل الدكتاتورية المفرطة إذ جلب من السّخط أكثر مما جلب من الاستحسان، لذا فإنه سرعان ما عدّل القرار ليجعله نفياً إلى المحافظات (المديريات الفرنسية) بدلاً من النفي خارج فرنسا. وألغى ضريبة المصادرة التي تتراوح قيمتها من 20% إلى 30% والتي كانت حكومة الإدارة قد فرضتها على كل الدخول التي تزيد على المستوى العادي.

والغي القانون الذي كانت الحكومة تعمل بمقتضاه على احتجاز المواطنين البارزين كرهائن يتم تغريمهم أو نفيهم إذا ارتكب مواطنوهم أية جرائم ضد الحكومة. وهدّأ الكاثوليك في إقليم الفندي Vendee بدعوة زعمائهم إلى مؤتمر وأكّد لهم نواياه الحسنة ووقّع معهم في 24 ديسمبر هدنة أنهت الحروب الدينية في فرنسا لفترة. وأمر أن تعاود كل الكنائس الكاثوليكية - التي سبق أن كُرّست قبل سنة 1793 - ممارسة العبادات الكاثوليكية في كل الأيام ما عدا يوم الديكادي decadi (اليوم العاشر) وفي 26 ديسمبر أو بعد ذلك بقليل أعاد من المنفى ضحايا أجنحة الثورة التي حققت انتصارات على الأجنحة الثورية الأخرى في وقت من الأوقات: الليبراليون السابقون في الجمعية الوطنية National Assembly بمن فيهم لافاييت Lafayette، ولطَّف من حدَّة أعضاء لجنة الأمن العام Committee of Public Safety، مثل بارير Barere ولازار كارنو Lazare Carnot الذي عاد إلى ممارسة مهامه في وزارة الحرب.

وأعاد بونابرت الحقوق المدنية للنبلاء غير المشاغبين، وللمسالمين من أقارب الذين تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة emigres . وأبطل المهرجانات التي كان وقودها الحقد والكراهية، كمهرجان الاحتفال بذكرى مقتل الملك لويس السادس عشر، ونفى الجيرونديين Girondins وذكرى سقوط روبيسبير. وأعلن نابليون أنه لن يحكم فرنسا لصالح أية فئة من الفئات المتصارعة - اليعاقبة أو البورجوازية أو الملكيين - وإنما سيحكمها كممثّل للأمّة كلها. لقد أعلن أنه إن حكم لصالح أي فريق فمعنى هذا أنه سيعتمد عليه (دون سواه) عاجلاً أم آجلاً. ولن يسمح لي الفرقاء الآخرون بذلك أبدا. إنني وطني فرنسي.

وعلى النحو نفسه نظر الشعب الفرنسي له - حقاً لقد نظر إليه الفرنسيون جميعاً

ص: 13

باعتباره وطنياً فرنسيا فيما عدا بعض الجنرالات الحاقدين، واليعاقبة Jacobins الجامدين. لقد تحوّل الرأي العام الفرنسي منذ 13 نوفمبر بشكل حاسم لصالحه. لقد كتب السفير البروسي لحكومته في ذلك اليوم قائلاً: كل ثورة سابقة اعتراها كثير من الخوف والريبة، أما هذه الثورة الفرنسية، فعلى العكس، فقد أبهجت أرواح الجميع وأيقظت أكثر الآمال حيوية، كما شهدتُ ذلك بنفسي. وفي 17 نوفمبر بلغ الهبوط في البورصة أحد عشر فرنك، وفي 20 من الشهر نفسه ارتفع إلى 14، وفي 12 من الشهر نفسه، ارتفع إلى 20.

وعندما قدَّم سييس للقنصليْن الآخرين خطته فيما يتعلق بدستور السنة الثامنة (1799) فإنهما سرعان ما أدركا أنَّ المولِّد السابق الذي وُلدت الثورة على يديه قد فقد كثيراً من ذلك الإعجاب الذي كان يُكنه للطبقة الثالثة أي طبقة العوام، ذلك الإعجاب الذي كان يُزكى أوار لهيب نشراته أو دفاتره الدعائية المتَّسمة بروح التحدي خلال العقد الماضي. لقد أصبح الآن متأكداً تماماً أنه ليس في مقدور أي دستور أن يحفظ الدولة لفترة طويلة إذا امتدت جذوره - وجذور الدولة معه - في إرادة غير ثابتة الاتجاه تحركها عواطف الجماهير غير المُدركة لأبعاد الأمور.

لقد كادت فرنسا في هذه الفترة تكون خالية من المدارس الثانوية، وكانت صحافتها مُمثِّلة للتحزّب والتشيّع لفئة أو أخرى مما جعلها مصدر تَعْمِية على العقل العام أكثر منها مصدر إِخْبار صحيح. وقد قصد الدستور الجديد لحماية الدولة من الجهل المنتشر من ناحية ومن الحكم الاستبدادي من ناحية أخرى. وقد تحقَّق نصف نجاح في هذا السبيل.

وقام نابليون بمراجعة سييس في بعض أفكاره التي أوردها في الدستور الجديد، لكنه بشكل عام قبل معظمها لأنه - أي نابليون - كان بدوره غير ميّال للديمقراطية. ولم يغير رأيه الذي مؤدّاه أنّ الشعب (الفرنسي) غير مؤهَّل لاتخاذ قرارات حكيمة بشأن انتخاب ممثليهم أو بشأن الأمور السياسية؛ فهم أناس تأسرهم الجاذبية الشخصية، وتخدعهم البلاغة الخطابية والكتابات الصحفية، ويُؤثِّر فيهم القُسس الذين ترفرف قلوبهم حول روما. واعتقد نابليون أن الشعب الفرنسي نفسه لابد أنه معترف بعدم مقدرته (أي مقدرة

ص: 14

الشعب) على مواجهة مشاكل الحكومة. وسيكون الشعب راضياً إذا خوّل لهم الدستور الجديد حق الموافقة أو الاعتراض على قضايا تطرح عليهم في استفتاء عام. لقد أعاد سييس الآن تشكيل فلسفته السياسية وفقاً للمبدأ الأساسي التالي: لابد أن تأتي السلطة من أعلى، وأن تأتي الثقة من أدنى وبتعبير آخر فلتحكم الحكومة وليثق الشعب.

لقد بدأ بإنحناءه احترام موجزة للديمقراطية. فقد كان على كل فرنسي بلغ العشرين أو أكثر أَنْ يصوّت لاختيار عُشر هذه الفئة العمرية ليُصبح المنتخَبون (بفتح الخاء) وجهاء محليون (في الكومونات) Communal notables ويقوم هؤلاء المنتخبون (بضم الميم وفتح الخاء) بدورهم بانتخاب عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى المحافظات (الأقسام أو الدوائر) departmental notables وهؤلاء بدورهم ينتخبون عُشر عددهم ليكونوا وجهاء على مستوى فرنسا National notables. وهنا تمخضّت العملية الديمقراطية عن: موظفين محلِّيين كان لا بد أن يعينهم (لا ينتخبهم) الوجهاء الكومونيون (المنتخبون على مستوى الكومونات)، وموظفين محليين على مستوى الدوائر أو المحافظات يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين على المستوى نفسه، وموظفين كبار على مستوى الدولة الفرنسية يتم تعيينهم من قِبَل المنتخبين (بضم الميم وفتح التاء) على هذا المستوى الثالث (الوطني). وكان لا بد أن تتم كل التعيينات من قِبل الحكومة المركزية.

وأسفرت هذه الانتخابات عن تأسيس:

(1)

مجلس الدولة الذي كان عادة ما يضم خمسة وعشرين عضواً يعينهم رأس الدولة The chief of state مخوَّلين باقتراح القوانين الجديدة.

(2)

مجلس التريبيون Tribunat أو مجلس المدافعين عن حقوق الشعب (وهو ما تعنيه الكلمة) ويتكون من مائة عضو Tribunes (والمعنى المباشر للكلمة هو: حامي حمى الشعب) مخوَّلين بمناقشة الإجراءات المقترحة ولهم الحق في تقديم توصياتهم إلى الهيئة التشريعية.

(3)

الهيئة التشريعية A corps Legislatif وهي مكونة من ثلاثمائة عضو من حقهم

ص: 15

رفض الإجراءات المقدَّمة أو تكييفها مع القانون (وليس مناقشتها).

(4)

السينات Senat أو مجلس الشيوخ وعادة ما يضم ثمانين عضواً من ذوي العقول الناضجة مخوَّلين بإلغاء القوانين التي يحكمون بأنها غير دستورية، وهم مخوّلون أيضاً بتعيين أعضاء مجلس التريبيون (مجلس المدافعين عن حقوق الشعب) وأعضاء الهيئة التشريعية، كما أنهم مخوّلون بإضافة أعضاء جدد إلى مجلسهم (مجلس الشيوخ أو السينات) من بين وجهاء الأمة National notables كما أن عليهم قبول الأعضاء الجدد الذين يعينهم الناخب العظيم grand elector.

(5)

الناخب العظيم: ومصطلح الناخب العظيم هو المصطلح الذي أطلقه سييس على رأس الدولة لكن نابليون رفض المصطلح وتوصيفه، لأنه رأى في هذا المنصب (كما يدل عليه المصطلح الذي وصَّفه سييس) مجرد وكيل تنفيذي لقوانين تمت إجازتها دون مشاركته أو موافقته، وتجعله مجرَّد رئيس شكلي (صُوري) ليس له من الأمر شيء سوى استقبال الوفود والدبلوماسيين، وتصدّر الحفلات الرسمية.

وشعر نابليون أنّ هذه الأمور لا تحتاج إلى موهبة، وكان على عكس ذلك يتطلع إلى أن يصل بأقصى سرعة ممكنة - عن طريق القوانين - إلى تحقيق أمل أمة تصرخ مطالبة بالنظام والتوجيه، ومصرّة على البقاء (الاستمرار)، لذا فقد قال لسييس إن ناخبكم العظيم هذا مجرّد ملك عاطل وقد ولّى الآن زمن هؤلاء الملوك الكسالى. إنَّ أيّ رجل ذي قلب وعقل لا يمكنه أن يقبل هذه الحياة البليدة مقابل ستة ملايين فرنك ومسكن في التوليري Tuileries؟ ما هذا؟ أيكمن جالساً يُعيِّن من يعملون بينما يظل هو بلا عمل! هذا غير مقبول. لقد طلب الحق في أن يبادر بالتشريع، وإصدار المراسيم وأن يعين في مناصب الحكومة المركزية من يراه كُفؤاً حتى ولو لم يكن من بين الوجهاء المنتَخَبين (بفتح الخاء).

لقد كان برنامجه لإعادة البناء في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يتطلب استحواذاً مضموناً على السلطة طوال سنوات عشر. لذا فإن نابليون لم يرغب في أن يكون الناخب العظيم - ذلك اللقب ذو المذاق البروسي - وإنما أراد أن يكون القنصل الأول ذلك اللقب الذي يحمل عبق روما القديمة. وهكذا رأى

ص: 16

سييس دستوره يسقط ليصبح ملكيا إلاّ أنه ملكي معدَّل نظراً للمهمة الإشرافية لمجلس الشيوخ (السينات) وتم تعيين سييس ودوكو قنصلين وفي 12 ديسمبر 1799 أحلّ نابليون محلّهما كلاً من: جان - جاك كامباسير Jean - Jacques Cambaceres كقنصل ثان، وتشارلز فرانسوا ليبرون Charles Francois Lebrun كقنصل ثالث.

ومن الخطأ تصنيف هذين القنصلينْ باعتبارهما مجرد موظَّفيْن مُطيعيْن. فقد كان لكل منهما خبراته وتجاربه. لقد أصبح كامباسير الآن هو المستشار القانوني لنابليون، وكان كامباسير قد شغل سابقاً في حكومة الإدارة منصب وزير العدل. وكان يترأس مجلس الشيوخ، كما كان في حالة غياب القنصل الأول - يترأس مجلس الدولة (Council of State) وقام بدور قيادي في تشكيل مدوَّنة نابليون القانونية Code Napoleon . وقد كان شخصاً هادئاً وكان معتزاً بالولائم الفخمة التي يُقيمها، لكن هدوءه هذا وكذلك ميله للتأمل مكَّناه - غالباً - من إنقاذ القنصل الأول (نابليون) من أخطاء طائشة. لقد قام بتحذير نابليون من معاداة أسبانيا وحذَّره من التورّط مع روسيا، أما تشارلز - فرانسوا ليبرون فقد كان فيما مضى أمين سر لريني دي موبو Rene de Maupeou في مهمته الساعية لإنقاذ فرنسا البوربوتيّة من الإفلاس (أي أنه قام بهذه المهمة يوم كانت فرنسا تحت حكم أسرة البوربون الحاكمة) وسبق له أن شارك في إعداد التشريعات المالية التي أصْدرتها الجمعية الوطنية National Assembly وحكومة الإدارة، والآن فقد بدأ مهمته في حكومة القناصل مع نابليون بخزانة خاوية فعمل على تنظيم مالية الحكومة الجديدة. لقد قرَّر نابليون كفاءة هذين الرجلين فعندما أصبح إمبراطوراً جعل من ليبرون Lebrun مسئولاً أول عن الخزانة، كما جعل من كامباسير مستشاره الأول، وقد ظلا وفيَّيْن له حتى النهاية.

ورغم إيمان نابليون الراسخ بأنّ ظروف فرنسا تتطلَّب قرارات عاجلة وتنفيذ سياسات سريعة إلاَّ أنَّه قدَّم مقترحاته. في عامه الأوَّل في الحاكم - إلى مجلس الدولة وسمع أعضاءه وهم يُهاجمون ويدافعون واشترك هو نفسه في المناقشات الدائرة بشكل إيجابي. وكان هذا دوراً جديدا له، فقد اعتاد أن يقود أكثر من اعتياده الاشتراك في المناقشات، وقد أصبحت

ص: 17

أفكاره الآن تتجاوز كلماته (تسبق كلماته): لكنه تعلَّم بسرعة وعمل بكل جهده داخل مجلس الدولة وخارجه وبذل كل ما يستطيع لتحليل المشكلات وإيجاد الحلول. لقد كان حتّى الآن مجرَّد مواطن قنصل Citoyen-Consul وسمح لآخرين بفرض آرائهم عليه وكان أعضاء مجلس الدولة من أمثال بورتالي Portalis وروديريه Roederer وثيباودو Thibaudeau من ذوي الكفاءة العالية، ولم يكونوا من النوع المنساق، ومع هذا فإنَّ مذكراتهم تَغُصّ بالثناء على رغبة نابليون الشديدة في الإصلاح وبذله قُصارى جهده في العمل. لنستمع إلى روديريه وهو يقول:

"أنه دقيق في كلِّ موقف، يُطيل الجلسة لخمس ساعات أو ست

ودائماً يعودُ إلى هذا السؤال: أهذا عدل؟ أهذا مفيد؟

وهو دائماً يربط كل مشكلة بظروفها التي يعمد إلى تحليلها تحليلاً دقيقاً والحصول على معلومات بشأن فلسفة التشريعات السابقة الصادرة في أيام الملك لويس الرابع عشر وفردريك العظيم Frederick the Great

ولم يحدث أبداً أن تم تأجيل المجلس دون أن يكون أعضاؤه أكثر علماً بالأمور من ذي قبل - إذا لم يكن ذلك من خلال المعلومات التي يحصلون عليها منه، فمن خلال البحوث التي يُجبرهم على القيام بها .. وما كان يُميزه عنهم جميعاً هو قوة ملاحظته ومرونته ودأبه إنني لم أره أبداً وقد اعتراه التعب. ولم أجده أبداً وقد فقد عقله تألّقه حتّى ولو كان بدنه متعباً

أنه لا يوجد أبداً من يُكرّس نفسه كُلِّية للعمل الذي هو عاكف عليه مثله، ولم أَرَ أفضل منه في استثمار وقته وتخصيصه لإنجازِ ما يتحتَّم عليه عمله ".

في تلك الأيام كان في مقدور المرء أَنْ يُحب نابليون.

1/ 2 - الوزراء The Ministers

وبالإضافة إلى تنظيم أمور التشريعات اللازمة لحكم فرنسا، فقد انخرط في العمل الأصعب ونعني به إدارة البلاد، لقد قسّم هذه المهام الإدارية بين ثماني وزارات جعل على رأس كل منها أكفأ من وجد من الرجال بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وماضيهم. لقد كان بعضهم يعاقبه وبعضهم من الجيرونديين Girondins وبعضهم الآخر من الملكيين وفي حالة أو

ص: 18

حالتين سمح نابليون لميوله الشخصية بتجاوز الحد فتطغى على الاعتبارات العملية، ومن ذلك أنه عيَّن لابلاس Laplace وزيراً للداخلية، لكنه سرعان ما وجد الفلكي والرياضي الكبير وقد نقل روح التفاصيل الرياضية الدقيقة إلى الإدارة فنقله إلى السينات (مجلس الشيوخ) وأوكل وزارة الداخلية لأخيه لوسين (لوسيان) بونابرت Lucien.

لقد كان العمل الأساسي، والذي يكاد يكون متعذراً، لوزارة الداخلية هو إعادة الحيوية للكمونات communes أو المجالس البلدية، وتطويرها لإعادة قدرتها على الوفاء بديونها، باعتبارها - أي هذه الكمونات أو المجالس البلدية - هي الخلايا المكونة للجهاز السياسي. وقد عبر نابليون بنفسه عن هذه الحال في خطاب وجهه إلى لوسين (لوسيان) في 25 ديسمبر سنة 1799.

منذ سنة 1790 وهذه الكيانات المحلية (الكمونات أو المجالس البلدية) البالغ عددها 36،000 تشبه البنات اليتيمات. لقد كانت هذه الكيانات هي وارثة الحقوق الإقطاعية القديمة، وقد أهملها وسلبها إرادتها الأمناء المفوضون الذين كانت حكومة المؤتمر الوطني وحكومة الإدارة ترسلهم. إن مناصب: رئيس البلدية والخبير التابع له. والمستشار البلدي، أصبحت بالتدريج لا تعني بشكل عام سوى أنها نوع جديد من اللصوصية. فشاغلي هذه المناصب يقطعون الطريق ويسرقون المشاة ويستولون على الأخشاب وينهبون الكنائس ويختلسون ممتلكات الكمونات .. وإذا كان لابد أن يستمر هذا النظام عشر سنوات أخرى فماذا سيحدث لمؤسسات الإدارة المحلية هذه؟ إن هذه المؤسسات لم ترث شيئاً سوى الانخراط في المناقشات، وسوى الإفلاس حتى أنها ستطلب الإحسان من السكان.

هكذا كان نابليون في نوبات غضبه، لقد كان مبالغاً بمرارة. وإن كان ما قاله صحيحا لجاز الاقتراح بأن يُسمح (بضم الياء) للكويونات باختيار موظفيها، كما هو الحال في كومون باريس. لكن نابليون لم يكن راغباً لوصول الأمور فيها إلى ما وصلت إليه في باريس. فالثورة الفرنسية - فيما يرى مؤرخ أتى بعد انقضاء أحداثها، لم تكتشف في الكومونات الأصغر (من كمومون باريس) سوى عدد قليل من الفلاحين كانوا متعلمين بدرجة كافية وكانوا مثقفين لدرجة تمكنهم من الإحساس بمعنى التكامل والصالح العام. وغالباً ما كان هؤلاء الحكام الذين تم اختيارهم محلياً - مثلهم مثل الحكام

ص: 19

الذين بعثت بهم باريس - إما أنهم غير أكفاء، وإما فاسدون، وإما غير أكفاء وفاسدون معاً. لذا فقد أصم نابليون أذنيه عن المطالبات بالحكم الذاتي المحلي communal self-rule.

لقد فضّل - بعد أن رجع للنظام الروماني القنصلي أو لنظام المحافظين intendants في أواخر حكم أسرة البوربون - أن يُعيِّن (أو يجعل وزارة الداخلية تعين) لكل دائرة أو محافظة أو مديرية أو قسم مأموراً prefect (منوطاً به تنفيذ القوانين)، ونائب مأمور (أو مأموراً مساعداً) في الوحدات الإدارية الفرعية، وأن يعين لكل كمون مديراً أو محافظاً أو رئيساً mayor ويكون كل معيَّن (بتشديد الياء وفتحها) مسئولاً أمام من هو أعلى منه وأخيراً أمام الحكومة المركزية. وعلى هذا فقد كان كل المأمورين المعيَّنين من الرجال ذوي الخبرة الواسعة، وكان معظمهم من الأكفاء جداً. وفي كل الأحوال وجدناهم يمكنون نابليون من القبض على زمام السلطة إلى حد كبير.

وكانت الخدمة المدنية (الجهاز الإداري كَكُل) في فرنسا في عهد نابليون هي الأكثر كفاءة والأقل ديمقراطية من بين كل ما عرفه التاريخ، ربما فيما عدا روما القديمة. وقاوم الشعب هذا النظام، الذي أثبت مع ذلك أنه ترياق يمكن تبرير استخدامه لعلاج نزعتهم الفردية المنطوية على تحقيق مكاسب، وقد احتفظ البوربون عندما عادوا للسلطة بهذا النظام كما احتفظت به الجمهوريات الفرنسية المتعاقبة. لقد أعطى هذا النظام لفرنسا استقراراً واستمرارية طوال قرن اجتاحته الاضطرابات السياسية والثقافية فقد كتب فاندال Vandal سنة 1903 إن فرنسا تعيش اليوم في ظل التشكيل الإداري والقوانين المدنية التي أورثها لها نابليون.

وكانت المشكلة الأكثر إلحاحاً هي إعادة ملء الخزانة. لقد عرض نابليون وزارة المالية على مارتن - ميشيل جودين Martin-Michel Gaudin بناء على توصية من القنصل ليبرون Lebrun وكان جودين قد رفض في وقت سابق هذا المنصب في ظل حكومة الإدارة، وكان مشهوراً بالكفاءة والأمانة. وكان توليه لهذا المنصب في ظل حكومة القناصل ضماناَ لتأييد الماليين وثقتهم في هذه الحكومة الجديدة. فوصلت للخزانة قروض لإنقاذ الدولة وقدم أحد الماليين (البنكيين) للخزانة قرضا مقداره 500،000 فرنك ذهبا ولم يطلب فوائد.

وسرعان

ص: 20

ما أصبح في الخزانة 12 مليون فرنك تُغطى بها نفقاتها الجارية وتقدم منها للجيش طعامه كساءه، فقد عانى أفراد الجيش طويلا من الملابس الرثة كما أنَّ رواتبهم لم تكن قد دفعت منذ فترة طويلة. (وكان نابليون يضع دائما الجيش في المحل الأول من اعتباره) وسرعان ما نقل جودين سلطة تقدير الضرائب وجمعها من المسئولين المحليين إلى الحكومة المركزية، نظرا للسمعة السيئة للسلطات المحلية في هذا الشأن. وفي 13 فبراير سنة 1800 وحد جودين الوكلات المالية المختلفة في بنك واحد هو بنك فرنسا Bank of France وطُرحت أسهمه للبيع وأصبح له حق إصدار العملة الورقية. وسرعان ما استطاعت الإدارة الدقيقة للبنك أن تُصدر أوراقاً نقدية محل ثقة انتشر استخدامها بين الناس. وكان هذا في حد ذاته ثورة. ولم يكن البنك مؤسسة حكومية وإنما بقي قطاعاً خاصا (in private hands) لكن الحكومة دعمته، وأشرفت عليه جزئياً عن طريق العوائد الحكومية المودعة به، وأصبح على وزير الخزانة باربي ماربوا Barbe-Marbois بالإضافة إلى وزير المالية إدارة ميزانية الدولة والحفاظ عليها في البنك.

وكانت أكثر الأمور في هذا النظام الإداري مدعاة للسخط هي: الحظر، وأعمال البوليس السري والعقاب على الجرائم، وإجراءات حماية المسئولين الحكوميين من الاغتيال. وكان جوزيف فوشي (فوشيه) هو رجل هذه المهام. لقد سبق أن تمرس بكثير من أشكال الخداع والتنكر، وباعتباره كان من المشتركين في قتل الملك، فقد كان الملكيون يضعونه نصب أعينهم كهدف للانتقام، لذا فقد كان يمكن لنابليون أن يعتمد عليه كحاجز منيع يحول بين البوربون والاستيلاء على العرش. فبينما دلل جودين الماليين ورجال البنوك وروّضهم، وجدنا فوشيه يُشرك اليعاقبه في آمال القنصل الأول باعتباره ابناً مخلصا للثورة - يحمي العامة من الارستقراطية والإكليروس (رجال الدين) ويحمي فرنسا من القوى الرجعية.

وكان نابليون يخشى فوشيه Fouche ولا يثق به، وظل محتفظا بطاقم منفصل من المخبرين السريين من بين مهامهم مراقبة وزير البوليس، ولكنه لم يبعده عن منصبة إلا في سنة 1802 وكان هذا بحذر شديد، وأعاده سنة 1804 وظل محتفظاً به إلى سنة 1810. لقد كان نابليون يقدر في فوشيه اعتداله في طلب الدعم المالي، وأوحى لهذا

ص: 21

الوزير اللمَّاح بأن يموِّل قواته - جزئياً - بمصادرة أموال نوادي القمار بالإضافة إلى الحصول على أموال من المباغي brothels والمواخير.

وكُلِّفت قوات درك خاصة (جندرمة gendarmerie) لمراقبة الشوارع والمخازن والمكاتب والمنازل التي من المفترض أنها تشارك في دخل الأحياء أو الدوائر (داخل المدن).

أما دفاع الفرد حتى لو كان مجرماً عن نفسه أمام البوليس والقانون والدولة فلم يحظ بالعناية الكافية في فرنسا على النحو الذي حظي به في انجلترا في تلك الأيام، لكن شيئا من ذلك قد كفله قضاة أكفاء. وعند إسناد هذا الفرع من فروع الإدارة للفقيه القانوني أنديه - جوزيف أبريمال André-Joseph Abrimal قال له نابليون: أيها المواطن. إنني لا أعرفك، لكن هناك من أخبرني أنك أكثر الرجال أمانة عندما تتولى أمراً من أمور الحكم، وهذا هو السبب الذي جعلني أعينك وزيراً للعدالة وسرعان ما امتلأت فرنسا بالمحاكم المختلفة التي غصت بهيئات المحلفين Juries التي تضم الكبار والشباب وقضاة الصلح Justices of Peace والمحضرين bailiffs والمدعين العموم (المفرد: مدّعي عام Prosecutor) والمدعين (مقدمي الدعاوى Plaintiffs) وكتاب العدل (محرري العقود notaries) والمحامين

أما حماية الدولة الفرنسية من الدول الأخرى فتلك هي مهمة وزارة الحرب التي تولاها الجنرال لويس - اسكندر بيرثييه Louis - Alexander Berthier ووزارة البحرية التي تولاها دينيس ديكر Denis Decres ووزارة الخارجية التي تولاها تاليران المستعصي على الفساد. وكان قد بلغ من العمر عند توليه هذا المنصب خمسة وأربعين عاماً، وقد حقق شهرة عريضة كشخص مهذب رقيق الحاشية عميق الفكر فاسد الأخلاق (عاهر) لقد رأيناه أخيراً (في 14 يوليو سنة 1790) يقيم قداساً مقدساً في مهرجان معسكر دي مار Champ-de-Mars، وبعد ذلك بفترة قصيرة كتب لآخر محظية من محظياته آديليد دي فيلول Adelaide de Filleul، كونتيسة فلاهوت:

"إنني آمل أن تكوني قد أحسست لأي إلهٍ وجهت صلواتي بالأمس، ولمن أقسمت قسم الولاء والإخلاص في هذه الصلوات. لقد كان ذلك موجهاً لك. فأنتِ الموجود الأسمى Supreme being الذي أعبده وسأظل أعبده

ص: 22

دوماً وقد أنجب من الكونتيسه ابناً لكنه حضر عرسها بهدوء كواهب خفي للعروس وكان ضعفه أمام جمال النساء مصحوباً بطبيعة الحال بشغفه بالفرنكات فبها يعيش الجمال (المقصود أن النساء الجميلات في حاجة إلى المال الوفير) ".

ومنذ رفض الأخلاق المسيحية واللاهوت الكاثوليكي وجدناه يوظف بلاغته وفصاحه لسانه لتحقيق المكاسب، وتلقى باقة ورد - لهذا - من كارنو Carnot الذي قال عنه:"لقد حمل تاليران معه كل رذائل الحكم القديم دون أن يكون قادراً على اكتساب فضائل الحكم الجديد. إنه شخص بلا مبادئ ثابتة. إنه يغير مبادئه كما يغير ملابسه، ويغير اتجاهه وفقا للريح، فهو فيلسوف إن كانت الفلسفة هي الصرعة السائدة، وهو جمهوري الآن لأن ذلك ضروري ليكون أي شيء، وسيعلن غداً أنه ملكي تماماً إن كان سيحصل من جراء هذا الإعلان على أي شيء. إنني لا أشتريه بشروى نقير أو بتعبير آخر أنا لا أريده بأي ثمن مهما كان بخساً". ووافق ميرابو Mirabeau على أن: "تاليران سيبيع روحه من أجل المال، وسيكون على حق لأنه في هذه الحال إنما يبيع القذارة بالذهب".

وعلى أية حال فقد كانت هناك حدود لدوران تاليران وعبثه، فعندما طردت الجماهير الملك والملكة من قصر التوليري وأقامت دكتاتورية البروليتاريا، فإنّه لم يَنْحَنِ للسادة الجدد وإنما استقل قارباً واتجه إلى إنجلترا في 17 سبتمبر سنة 1792، وهناك قُوبل بمشاعر مختلفة ومتباينة، فقد استقبله بحرارة كل من جوزيف يرستلي Joseph Priestley وجيرمي بنثام Jeremy Bentham وجورج كاننج George Canning وتشارلز جيمس فوكس Fox، أما من استقبلوه ببرود فهم الارستقراطية الإنجليزية الذين لم ينسوا دوره في الثورة الفرنسية.

وفي مارس سنة 1794 انتهى التسامح الانجليزي معه وصدرت الأوامر له بمغادرة انجلترا في غضون أربع وعشرين ساعة، فأبحر إلى الولايات المتحدة وعاش هناك بارتياح من عوائد ممتلكاته واستثماراته، وعاد إلى فرنسا (أغسطس 1796). وأصبح وزيراً للخارجية (يوليو 1797) في ظل حكومة الإدارة. وبمثل هذه الطاقة والقدرة استطاع أن يضيف لثروته الكثير

ص: 23

بأساليب شتى حتى أنه كان قادراً على إيداع مبلغ ثلاثة ملايين فرنك في البنوك الإنجليزية والألمانية. وعندما علم أن حكومة الإدارة ستسقط استقال منها في 20 يوليو سنة 1799 وراح ينتظر مطمئناً مترقباً وصول نابليون للحكم ليستدعيه لشغل منصبه من جديد، ولم يطل انتظاره فقد استدعاه القنصل (نابليون) في 22 نوفمبر سنة 1799 ليصبح - من جديد - وزيراً للخارجية.

لقد اعتبره نابليون شخصاً ذا قيمة باعتباره حلقة وسطى بين الحاكم (المقصود متولي المنصب) المُحْدَث (أي الذي لم يتول شؤون الحكم من قبل) والملوك المنحلين. لقد ظل تاليران - خلال كل ثوراته وتقلباته - محافظاً على ملابس الارستقراطية القديمة وعاداتها وطريقتها في التفكير وأسلوبها في الحديث: "فقد كان حسن المنظر مقبولاً (رغم قدمه المعوجة) كما كان هادئاً رابط الجأش حاد الذهن لماحاً حتى أنه إذا لزم الأمر استطاع أن يقتل بعبارة ساخرة. وكان دائب العمل ودبلوماسياً داهية قادراً على إعادة صياغة تصريحات سيده (نابليون) الطائشة الفظة ليغلفها بغلاف ودي أنيق. وكان مبدأه لا تتعجل في اتخاذ القرار - وهو شعار طيب يتناسب مع رجل أعرج، وفي حالات مختلفة أدى تأخره في إرسال بريد الدولة إلى تراجع نابليون عن قرارات غير صائبة".

لقد أراد - مهما كان العلم الذي يرفرف فوقه - أن يعيش مبذراً في بحبوحة دائمة، مغتنماً فرص المسرات بتروٍ، جامعاً ثمار أي شجرة يلقاها. وعندما سأله القنصل (نابليون):"كيف تمكن من جمع هذه الثروة الضخمة؟ " أجابه مبتسماً ودون مواربة: "لقد اشتريت بضائع في السّابع عشر من شهر برومير Brumaire (الجمهوري) وبعتها بعد ذلك بثلاثة أيام ". ولم يكن ما قاله لنابليون سوى البداية، ففي غضون أربعة عشر شهراً من استعادته لمنصبه كوزير للخارجية أضاف لحساباته البنكية خمسة عشر مليون فرنك أخرى. لقد كان يلعب في السوق بناء على معلومات يحصل عليها من داخل الحكومة، كما أنه تلقى عمولات tidbits من القوى الأجنبية التي بالغت في تقدير تأثيره على سياسات نابليون. وفي نهاية فترة القنصلية قُدرت ثروته بأربعين مليون فرنك. وكان رأي نابليون فيه:"أنه شخص مقزز وليس هناك من يحل محله (لا يمكن الاستغناء عنه) ". لقد وصفه مستوحياً

ص: 24

ذكرى ميرابو: "بأنه الأعرج، أنه بُراز (غائط) في جورب حريري". مستخدماً عبارات أقل إيحاء في الفرنسية من نظيراتها لدى الإنجلوسكسون Anglo-Saxon . وكان نابليون نفسه الذي استحوذ على الخزانة الفرنسية وفرنسا كلها - فوق مستوى الرشوة.

1/ 3 - كيف استقبل الفرنسيون الدستور الجديد؟

واجه الدستور الجديد عند نشره في 15 ديسمبر 1799 كثيراً من النقد رغم ما ورد به من دعوى أنه إنما قام على المبادئ الحقة لحكومة تمثيل نيابي، وعلى احترام حقوق الملكية والمساواة والحرية. وأن السلطات التي رسخها ستكون قوية راسخة كما ينبغي أن تكون لضمان حقوق المواطنين ومصالح الدولة. أيها المواطنون لقد قطعت الثورة شوطاً بعيد المدى في سبيل تحقيق المبادئ التي انطلقت منها. لقد انتهت الآن هذه الثورة. لقد كانت هذه كلمات مطاطة لكن نابليون اعتبرها كافية لأن الدستور سمح لكل الذكور البالغين بالإدلاء بأصواتهم في المراحل الأولى للانتخابات. وأنه - أي الدستور - نص على ألاّ يكون هناك تعيين جديد إلاَّ من بين الممثلين notables الذين انتخبهم الشعب بطريق مباشر أو غير مباشر، وأنّه - أي الدستور - أقر ملكية الفلاحين والبورجوازية التي استحوذوا عليها بالشراء نتيجة قيام الثورة، وأقر إلغاء الرسوم الإقطاعية وإلغاء العشور التي كانت تجمعها السلطات الكنسية.

ومن الناحية النظرية أكد مساواة كل المواطنين أمام القانون وأهليتهم لشغل أي موقع في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ورسخ - أي الدستور - حكومة مركزية قوية للقضاء على الجريمة والفوضى السياسية والفساد والتسيب الإداري، وللدفاع عن فرنسا ضد القوى الأجنبية، وأنه - أي الدستور - قد أنهى الثورة بأن جعلها أمراً واقعا (أي حقق ما كانت تعمل على تحقيقه) إذ حقق غرضها في نطاق حدود طبيعية وشكَّل شكلاً جديداً من التنظيم الاجتماعي يمتد بجذوره في حكومة ثابتة الأركان، وإدارة ذات كفاءة وحرية على مستوى الأمة كلها، وقانون دائم.

ومع هذا كان هناك متذمرون، فقد شعر اليعاقبة أن دستور السنة الثامنة قد تجاهلهم ذلك أن الحكومة النيابية (حكومة التمثيل الوطني representative government) التي أخذ بها

ص: 25

الدستور إنما هي حكومة تُسلِّم الثورة .. بشكل متملق للبورجوازية. وكان العديد من الجنرالات في حالة دهشة فَلِمَ لم يختر القدر واحداً منهم ليتسنم الذروة السياسية بدلاً من هذا الكورسيكي Corsican التافه (نابليون) ومن أقوال نابليون أنه ليس من جنرال من هؤلاء الجنرالات إلا وتآمر ضدي وحزن الكاثوليك لأن الدستور أقر مصادرة الثورة لممتلكات الكنيسة، وعم الاضطراب مرة أخرى منطقة الفندي Vendee (1800) . والملكيّون تملكهم الغيظ لأن نابليون قد رسخ وضعه بدلاً من أن يدعو لويس الثامن عشر ليعتلي عرش البوربون Bourbon .

وبدأ الملكيّون في شن حملات صحفية رافضين الحكم الجديد وساعدهم على ذلك أنهم كانوا يسيطرون على معظم الصحف. وقد رد نابليون على هذه الحملات (17 يناير سنة 1800) بوقف ستين صحيفة من ثلاث وسبعين صحيفة كانت تصدر في فرنسا في ذلك الوقت بحجة أنها تتلقى أموالاً من دول أجنبية. وتم تقليص الصحافة الراديكالية أيضا وأصبحت جريدة المونيتور (المرشد أو المعلم Moniteur) هي الجريدة الرسمية الناطقة باسم الحكومة. وأدان الصحفيون والكتاب والفلاسفة هذا التعدي على حرية الصحافة، والآن تحقق أمل مدام دي ستيل لتلعب دور إيجيريا Egeria (الناصحة) فبدأت هجوماً ضارياً استمر طوال حياتها ضد نابليون واصفة إياه بأنه دكتاتور وَأَدَ الحرية في فرنسا.

وكانت صحيفة المونيتور هي اللسان الناطق بالدفاع عن نابليون. لقد قالت أنه لم يدمر الحرية، وإنما كان هذا أمراً قائماً بالفعل بسبب الحاجة إلى حكومة مركزية لأغراض الحرب، وبسبب تلاعب اليعاقبة بالانتخابات، ودكتاتورية الجماهير المشاغبة، وتوالي الانقلابات في الأعوام التي تولت فيها حكومة المديرين الحكم، وما كان قد تبقى منها (الحرية) تمرغ في أوحال الرشوة السياسية والفساد الأخلاقي.

إن الحرية التي وَأَدَها (صَلَبها) نابليون كانت هي حرية الجماهير بعدم الالتزام بالقانون، حريتهم في ارتكاب الجرائم والسرقة والقتل، حرية الدعاية الغوغائية في الكذب وحرية القضاة في تقاضي الرشاوى وحرية رجال المال في

ص: 26

الاختلاس، وحرية رجال الأعمال في الاحتكار. ألم يدافع مارا Marat عن الدكتاتورية باعتبارها العلاج الوحيد لفوضى المجتمع التي ضربت أطنابها فجأة بسبب وصاية الدين والهيمنة الطبقية والأوتوقراطية الملكية، وأوصى بترك الأمور تحت رحمة إلحاح الغرائر وطغيان العامة؟ ألم تمارس لجنة الأمن العام هذه الدكتاتورية ممارسة فعلية؟ لقد آن الأوان لفرض شيء من النظام لإعادة ضبط الأمور، فهذا أمر لازم لتقوم الحرية على أساس.

أما الفلاحون فلم يكونوا بحاجة لمثل هذه الحجج ليؤيدوا الدستور الجديد، فهم يمتلكون الأراضي وقد أيدوا سراً كل حكومة تقمع اليعاقبة. وهنا وجدنا البروليتاريا في المدن يتفقون مع الفلاحين - رغم المصالح الاقتصادية المتعارضة. أما ساكنو الشقق - عمال المصانع والكتبة في المحلات والبائعون الجوالون - الذين هم مثل السانس كولت (الذين يرتدون البناطيل الطويلة أي الذين ليسوا نبلاء ولا إكليروس) وكانوا يكافحون طلباً للخبز والسلطة، فقد وجدناهم يفقدون إيمانهم بالثورة التي حلقت بهم في عنان السماء ثم هوت بهم من حالق، تاركة إياهم وقد تمزقت آمالهم، ولم يبق هناك سحر يثيرهم سوى بطل الحرب وهازم إيطاليا فهو في رأيهم لن يكون أسوأ من السياسيين في حكومة الإدارة. أما البورجوازيون - رجال البنوك والتجار ورجال الأعمال - فكيف يرفضون رجلا احترم المِلكية (بكسر الميم) احتراما كاملا وأقر مبدأ الحرية الاقتصادية؟ إنهم به (أي بنابليون) ربحوا الثورة وورثوا فرنسا. لقد كان هو رجلهم حتى سنة 1810.

وعندما أصبح نابليون واثقاً من تأييد الغالبية العظمى له طرح الدستور الجديد للاستفتاء العام في 24 ديسمبر سنة 1799 ولا ندري إن كان هذا الاستفتاء قد جرى التلاعب فيه مثل كثير من الاستفتاءات المشابهة قبل ذلك وبعده أم لا، لك الإحصاء الرسمي للأصوات يشير إلى موافقة 3،011،107 على الدستور الجديد، واعتراض 1562.

ولما أدرك نابليون كثرة المؤيدين له، انتقل مع أسرته ومعاونيه من لكسمبرج المزدحمة إلى قصر التوليري الرحب وكان ذلك في 19 فبراير سنة 1800. وكان انتقاله مصحوباً بموكب فخم يضم ثلاثة آلاف تشكيل من الجنود، وجنرالات يركبون خيولاً، والوزراء في العربات وأعضاء مجلس الدولة في مركبات كبيرة، أما القنصل الأول (نابليون) فكان في

ص: 27

مركبة فخمة تجرها ستة خيول بيض. لقد كان هذا الموكب أول نموذج للعروض التي كان نابليون يأمل عن طريقها في التأثير في جماهير باريس. وقد شرح ذلك لسكرتيره:

بوريين سنبيت أخيراً هذه الليلة في قصر التوليري. إنك في حال أفضل مني: "فأنت لست مضطرا لإظهار نفسك، لكنك قد تأخذ طريقك إلى هناك. وعلى أية حال فلابد أن أذهب إلى التوليري في موكب، وهذا يُزعجني لكنه ضروري للحديث إلى عيون الناس

في الجيش تتجلى البساطة لكن في مدينة كبيرة وفي القصر لابد أن يجذب رئيس الحكومة الانتباه بكل طريقة ممكنة مع الحذر".

واكتملت طقوس النصر بملاحظة مزعجة: على أحد مراكز الحراسة في ساحة قصر التوليري Roederer قرأ نابليون: "العاشر من أغسطس 1792 - تم إلغاء الملكية في فرنسا ولن تعود مرة أخرى أبدا" وأثناء تجواله في غرف القصر التي سبق أن شهدت يوما ما ثراء البوربون، أبدى مستشار مجلس الدولية - روديريه - الملاحظة التالية:"أيها الجنرال هذا محزن" فأجاب نابليون: "نعم، محزن مثل العظمة" واختار نابليون غرفة واسعة لا يزينها سوى الكتب ليعمل بها مع سكرتيره بوريين Bourrienne وعندما أطلعه مساعدوه على السرير الملكي وغرفة النوم الملكية رفض استخدامها مفضلاً النوم بشكل معتاد مع جوزيفين إلا أنه على أية حال قال لزوجته بطريقة لا تخلو من فخر تعالي يا صغيرتي كرول Creole ونامي في سرير سادتك.

‌2 - معارك الحكومة القنصلية

لقد أسس نابليون نظاماً داخليا وهيأ ظروفا تؤدي إلى ازدهار اقتصادي لكن بقي أن فرنسا كانت محاطة بالأعداء بسبب الحروب التي بدأتها (أي فرنسا) في 20 أبريل سنة 1792. لقد كان الشعب الفرنسي يتطلع للسلام لكنه كان يرفض التخلي عن المناطق التي سبق أن ألحقتها الثورة بفرنسا: أفنيون وبلجيكا والشاطئ الشمالي للراين وبازل Basel، وجنيف وسافوي Savoy ونيس Nice . وكانت كل هذه المناطق تقريباً داخلة فيما أطلقت فرنسا عليه اسم حدودها الطبيعية وقد تعهد نابليون في قَسَمِه عند

ص: 28

تولي السلطة بحماية هذه الحدود - الراين والألب والبيرينيز Pyrenees والحدود البحرية - باعتبارها مناطق كانت تابعة لبلاد غال Gaul القديمة وبالتالي فهي فرنسية. وأكثر من هذا فقد كانت فرنسا قد استولت على هولندا وإيطاليا ومالطة ومصر. أكانت فرنسا راغبة في التنازل عن هذه البلاد التي فتحتها مقابل السلام أم أنها سرعان ما سترفض أي زعيم يتفاوض للتخلي عن هذه المكاسب المربحة؟ إن شخصية فرنسا قد التحمت مع شخصية نابليون في سياسة فخورة ملؤها الوطنية والرغبة في الحرب.

وقد تلقى نابليون في 20 فبراير سنة 1800 خطابا يضم اقتراحا هو بمثابة مَخْرج من هذا القدر المحتوم. إنه خطاب من لويس الثامن عشر الذي يعترف به - تقريباً - كل الذين تركوا فرنسا مهاجرين بسبب أحداث الثورة، وكل أنصار النظام الملكي. يقول فيه:

سيدي

إن الرجال من أمثالك، مهما كان مسلكهم الظاهر لابد أنهم لا يرومون الأذى. لقد حققت مكانة عظيمة، وإنني أشكرك لهذا. إنك تعلم أكثر من أي شخص آخر مدى القوة والسلطة المطلوبتين لضمان السعادة لأمة عظيمة. أنقذ فرنسا من العنف فإن فعلت حققت أهم ما يصبو إليه قلبي. أعد لفرنسا ملكها، وستحيي الأجيال القادمة ذكراك وتباركها. وستكون دائما ضرورياً جداً للدولة فبشغلك للمناصب المهمة سأكون قادراً على رد أفضالك على أسرتي وعليَّ شخصيا.

لويس LOUIS

وترك نابليون هذا الطلب بلا إجابة. فكيف يستطيع أن يعيد إلى العرش رجلاً وعد رجاله المخلصين أن يعيد الحال في فرنسا إلى ما كان عليه قبل الثورة بمجرد عودته للعرش؟ وماذا يمكن أن يحدث للفلاحين المحررين الذين أصبح لهم حق الاقتراع؟ وماذا سيحدث لمن اشتروا ممتلكات الكنيسة؟ بل وماذا سيحدث لنابليون؟ فالملكيون الذين كانوا يتآمرون عليه يوميا، كانوا يعلنون ما يجب أن يفعلوه مع هذا الدَّعِيْ (نابليون) الذي تجرأ على تسنم منصب الملك دون أن يكون له مسوّغ أو أصل نبيل.

وفي يوم عيد الميلاد Christmas Day (الكريسماس) في سنة 1799 (وهو اليوم التالي لاعتماد نتيجة

ص: 29

الاستفتاء الذي أقر حكمه لفرنسا) كتب نابليون إلى ملك إنجلترا جورج الثالث George III:

"

أظن أنه من الملائم أن أخبر جلالتكم بالحقيقة وأكتبها لكم بخط يدي، وفقاً لما تمليه عليَّ مسئولياتي، بعد أن دعيت وفقاً لإرادة الشعب الفرنسي لشغل أعلى منصب في الجمهورية.

أليست هناك نهاية للحرب التي أشاعت الاضطراب في مختلف أنحاء المعمورة طوال السنوات الثماني الماضية؟ أليست هناك وسائل نصل بها إلى تفاهم؟ كيف لأمتين هما الأكثر تنوراً في أوروبا، وهما الأكثر قوة حتى أن قوة أي منهما تفوق ما يتطلبه أمنها واستقلالهما - كيف لهما أن يقنعا بالتضحية بنجاحاتهما التجارية ورخائهما الداخليين وسعادة شعبيهما من أجل أحلام العظمة الخيالية؟ كيف لا تدرك أمتانا أن السلام محقق لعظمة كل منهما بالإضافة لكونهما في أمسّ الحاجة إليه؟

إن مثل هذه المشاعر لا يمكن أن تكون بعيدة عن قلب جلالتكم لأنكم تحكمون أمة حرة ولا هدف لكم إلا أن تكون أمة سعيدة.

إنني أتوسل من جلالتكم أن تصدقوا أنه عند تناولكم هذا الموضوع، فإنني سأكون مخلصا وراغبا في المشاركة العملية لتحقيق هذا الأمر

أي العمل من أجل تحقيق سلام كريم .. إن قدر كل أمة متحضرة يقوم على إنهاء الحرب التي أزعجت العالم كله ".

ووجد جورج الثالث أنه لا يليق بملك أن يجيب فردا من العامة (يقصد نابليون) فعهد إلى اللورد جرنفيل Grenville بهذه المهمة، فأرسل جرنفيل إلى تاليران (في 3 يناير سنة 1800) ملاحظات حادة تشير إلى اعتداءات فرنسا وأن إنجلترا لا تستطيع التفاوض مع فرنسا إلا إذا عادت أسرة البوربون إلى المُلك فعودتها شرط لإحلال السلام. وتلقى نابليون الرد نفسه من المستشار النمساوي بارون فرانتس فون توجوت Baron Franz von Thugut على خطاب أرسله إلى الإمبراطور فرانسيس الثاني. وربما لم يضع نابليون في اعتباره أن تكون الردود على هذا النحو. إنها على عكس ما كان يتوقع. فلم يُخبر أحد نابليون أن رجال الدولة يزنون كلماتهم وفقاً لعدد ما لديهم من بنادق ومدافع فقد ظلت الحقيقة الواقعة تتمثل في أن الجيش النمساوي قد استعاد شمال إيطاليا ووصل إلى نيس Nice وأن

ص: 30

الجيش الفرنسي حبيس في مصر يحاصره البريطانيون والأتراك (العثمانيون) وقد اقترب وقت استسلامه أو تدميره.

لقد كان الجنرال كليبر Kleber (كليبه) قائداً شجاعاً وذكياً، لكنه كان دبلوماسياً غير ناجح، ذلك أنه عندما لم يتوقع وصول نجدة شارك رجاله القنوط والجزع، إذ أصدر أوامره للجنرال ديزييه Desaix بتوقيع اتفاق في العريش (24 يناير سنة 1800) مع الترك (العثمانيين) والقائد الإنجليزي المحلي يقضي بمغادرة القوات الفرنسية أراضي مصر بسلام بأسلحتهم وأمتعتهم محتفظين بشرفهم العسكري على سفن تركية تنقلهم لفرنسا، في هذه الأثناء كان الفرنسيون (في مصر) يسلمون للترك (العثمانيين) الحصون التي كان يحتمي بها الأوروبيون (المقصود هنا: الفرنسيون) من هجمات المصريين، وعندما تم التسليم وصلت تعليمات من الحكومة البريطانية برفض شروط الإخلاء (وفقاً لاتفاق العريش الآنف ذكره) مصرَّة على أن يُلقي الفرنسيون (في مصر) أسلحتهم ويسلموا أنفسهم كأسرى حرب.

ورفض كليبر ذلك وطالب بإعادة الحصون التي كان قد سلمها، وما كان الترك (العثمانيون) ليقبلوا ذلك وتقدموا نحو القاهرة، فقاد كليبر رجاله البالغ عددهم عشرة آلاف ليواجه القوات التركية البالغ عددها عشرين ألف مقاتل قوي في سهول هليوبولس (عين شمس) ورفع من الروح المعنوية لرجاله بخطاب بسيط إنكم لا تملكون من مصر سوى الأرض التي تحت أقدامكم، فإن لم تتراجعوا سوى خطوة واحدة لضاع كل شيء وبعد معركة استمرت يومين (20/ 21 مارس 1800) استسلمت الشجاعة التركية (العثمانية) أمام التكتيكات الفرنسية المنظمة وعاد من بقي من المنتصرين إلى القاهرة لينتظروا مرة أخرى المدد من فرنسا.

ولم يستطع نابليون أن يُرسل لهم غوثاً لأن بريطانيا كانت تتحكم في البحر المتوسط. لكنه كان يستطيع أن يفعل شيئاً ما إزاء التقدم الناجح الذي أحرزه الجنرال النمساوي الذي نيَّف على السبعين بعام (بارون فون ميلاس von Melas) على رأس مائة ألف من خيرة الجنود النمساويين عبر شمال إيطاليا إلى ميلان. لقد أرسل نابليون القائد ماسينا Massena لوقف تقدمه لكنه هُزم ولجأ بقواته إلى حصن جنوى Genoa فترك ميلاس قوة لمحاصرته وعيَّن فصائل

ص: 31

إضافية لحراسة ممرات الألب تحسبا لهجوم قادم من فرنسا وتقدم على طول الريفيرا Riviera الإيطالية حتى وصلت طلائع قواته إلى نيس Nice في أبريل سنة 1800. لقد قُلِبت (بضم القاف) الموائد على رأس نابليون أو بتعبير آخر صار موقفه حرجاً: فالمدينة التي كان قد بدأ منها هجومه لفتح سهل لومبارديا Lombardy في سنة 1769 أصبحت الآن في أيدي أمة كانت قد ذاقت الهزيمة على يديه - في الوقت الذي كان فيه أفضل جزء من جيشه المشهور الذي عُرف بالجيش الفرنسي فاتح إيطاليا مقسَّماً ضائعاً في مكان ناء بلا أمل هناك في مصر. لقد كان هذا أكبر تحد واجهه نابليون حتى الآن.

لقد ترك نابليون أمور إدارة فرنسا وطرحها جانباً، وعاد مرة أخرى قائداً عاماً يجمع المال ويحشد الجنود والعتاد ويرفع المعنويات وينظم الإمدادات ويدرس الخرائط ويرسل التوجيهات لجنرالاته. وعَهِد إلى مورو Moreau وهو الأكثر صراحة في إظهار عدائه لأعداء نابليون بجيش الراين وزوده بتعليمات حاسمة لا رحمة فيها:

"اعبر الراين وشق طريقك عبر الأقسام النمساوية تحت قيادة المارشال كروج Krug ثم أرسل 25،000 من رجالك عبر ممر القديس جوتهارد St. Gotthard في إيطاليا لدعم جيش الصمود Army of Reserve ".

الذي وعده نابليون بانتظاره قرب ميلان. وقد نفذ مورو معظم هذه الأعمال البطولية، ولكنه شعر - وربما كان على حق - أنه في موقفه هذا المنطوي على المخاطرة لن يعود لقائده (نابليون) إلاّ بخمسة عشر ألف رجل.

ومن بين كل معارك التاريخ العظمى، كانت معركة سنة 1800 هذه أحكمها تخطيطاً وأكثرها دهاءً وفي الوقت نفسه أسوأها تنفيذاً. لقد كان تحت قيادته المباشرة أربعة آلاف مقاتل فقط معظمهم من المجندين إلزامياً الذين لم يألفوا مشاق الحرب. تمركزت القوات بالقرب من ديجون Dijon وكان من الممكن أن تتحرك فوق الألب بالقرب من البحر إلى نيس لتنقض في هجوم مواجه (أمامي) على قوات ميلاس، لكن عدد القوات كان قليلاً جداً، بالإضافة إلى أن الجنود لم يكونوا متمرسين بالحرب جيداً، وحتى لو أنهم انقضوا عليه (ميلاس) وهزموه في مثل هذه المواجهة فقد كان يمكنه الانسحاب بأمان عبر شمال إيطاليا إلى مانتوا Mantua الحصينة.

وبدلاً من ذلك اقترح نابليون أن يقود قواته عبر ممر القديس

ص: 32

برنار St. Bernard في لومبارديا ليتَّحِد مع الرجال المتوقع وصولهم مع مورو ويقطع خطوط مواصلات ميلاس ويجتاح الفصائل العسكرية النمساوية التي تحرس هذه الخطوط لينقض على جيش هذا البطل الهرم (العجوز) أثناء تراجعه السريع من الريفيرا Rivera الإيطالية وجنوى في اتجاه ميلان. ومن ثم يواجهه فإما هزمه وإما انهزم أمامه، وفي أفضل الحالات فإنه (أي نابليون) سيحاصره ويمنعه من التراجع ويجبر جنراله على تسليم كل الشمال الإيطالي.

وذات يوم (17 مارس سنة 1800) أمر نابليون سكرتيره بوريين أن يبسط خريطة كبيرة لإيطاليا فوق الأرض. يقول بورين ثم انبطح أرضاً ليطالعها، ورغب إليَّ أن أفعل الشيء نفسه وفوق نقاط معينة على الخريطة ثبَّت دبابيس ذوات رؤوس حُمر، وفوق نقاط أخرى ثبّت دبابيس لونها أسود. وبعد تحريك الدبابيس حول مواقع مختلفة على الخريطة سأل سكرتيره:

"أين سأضرب ميلاس فيما تظن؟

هنا في سهول نهر سكريفيا the River Scrivia" ،

وأشار إلى سان جيليانو San Giuliano. لقد كان يعلم أنه يخاطر بكل شيء من أجل معركة واحدة. يخاطر بكل انتصاراته العسكرية والسياسية التي سبق أن أحرزها، لكن كبرياءه كان معه يسانده ويشد أزره. لقد ذكّر سكرتيره بورين قائلاً:

"منذ أربع سنوات مضت ألم أَسُق أمامي بجيشي الضعيف قطعان السردنيين (جيوش سردنيا) والنمساويين وطفت بجيشي على وجه إيطاليا؟ إننا سنفعل الشيء نفسه مرة أخرى، فالشمس التي تشرق فوقنا الآن هي الشمس ذاتها التي كانت تشرق في أركول Arcole ولودي Lodi. إنني أعوّل على القائد ماسينا. إنني آمل أن يصمد في جنوى، لكن إن أجبرته المجاعة على الاستسلام فأستيعد جنوى مرة أخرى وكذلك سهول السكريفيا. ساعتها سأعود مسروراً إلى عزيزتي فرنسا، ويا له من سرور! ".

لقد أضاف استعدادات لكل ما هو متوقع ببصيرة نافذة ولم يهمل التفاصيل البسيطة. لقد خطط للطريق الذي ستسلكه القوات ولوسائل النقل:

"من ديجون Dijon إلى جنيف، وبالقوارب عبر البحيرة إلي فيلينيف Villeneuve وبالخيول والبغال والمركبات أو سيراً على الأقدام إلى مارتيني Martigny، ومن هناك إلى سان بيير عند قاعدة الممر ومن

ص: 33

ثم فوق الجبال مسافة ثلاثين ميلاً في طريق لا يتجاوز عرضه في بعض الأحيان ثلاثة أقدام عرضاً، غالباً ما يكون على طول جُروف (جمع جرف - بضم الجيم) عادة ما تغطيها الثلوج ومعرضة في أي لحظة لانهيار جليدي أو صخري أو أرضي، ومن ثم إلى التوغل في وادي دوستا (فال دوستا Valle d'Aosta) ".

ورتَّب نابليون في كل مرحلة من مراحل هذا الطريق أمر الطعام واللباس والنقل ليكون في انتظار الرجال، وفي مراكز عديدة دبر أمر النجارين وصانعي السروج وغيرهم من العمال لإصلاح ما أفسدته المسيرة، كما دبَّر أن يجري التفتيش على كل جندي مرتين أثناء الطريق للتأكد من سلامة معداته. وأرسل للرهبان الذين يعيشون في صوامع على قمم الجبال أموالاً لشراء الخبز والجبن والنبيذ لإنعاش الجنود المارين بهم. ورغم كل هذه الاستعدادات فقد ظهر كثير من أوجه القصور، لكن هؤلاء الجنود الشبان المجندين إلزامياً بدوا وكأنهم على استعداد لتحمل هذه المشاق بصبر بسبب التشجيع الصامت الذي أبداه لهم المحاربون المخضرمون.

وغادر نابليون مدينة باريس في السادس من مايو سنة 1800. وما كان يغادر حتى شرع الملكيون واليعاقبة وآل بونابرت في التدبير لشغل مكانه إذا لم يعد منتصراً وناقش سييس وآخرون مدى أحقية أي من كارنو ولافاييت ومورو لشغل منصب القنصل الأول الجديد (الذي سيحل محل نابليون) وعرض أخوا نابليون: "جوزيف ولوسيان كورثة للعرش". وعاد جورج كادودال Cadoudal من انجلترا في الثالث من يوليو ليحرض الثوار الملكيين Chouans. لقد بدأت المواجهة الفعلية مع ممر سان بيرنار في 14 مايو. لقد تذكر السكرتير بورين قائلاً:

"لقد تقدمنا جميعاً على طول ممرات الماعز رجلاً في إثر رجل وحصانا في إثر حصان. وتم إنزال المدفعية والبنادق وتم وضعفها في جذوع أشجار جرى حفرها، وتم سحبها بالحبال .. وعندما وصلنا للقمة .. مركزنا أنفسنا في الجليد وانزلقنا فوق السفوح. وترجّل الخيالة حتى لا يؤدي انزلاق الخيول غير المدربة إلى هلاكها وهلاك راكبيها. وفي كل يوم كان قسم آخر من القوات يُكمل العبور، وبحلول اليوم العشرين من شهر مايو اكتمل العبور وأصبح جيش الاحتياط (الإنقاذ) آمناً في إيطاليا".

ص: 34

وبقي نابليون في مارتيني، وهو موقع جميل في منتصف الطريق بين بحيرة جنيف والممر - حتى رأى بنفسه آخر شحنة إمدادات. وبعدها ركب إلى القمة وهناك توقف ليشكر الرهبان لتقديمهم ما أنعش جنوده، ثم انزلق فوق المنحدر في معطفه وانضم لجيش في أوستا Aosta في 21 مايو. وكان لانز Lannes قد اجتاح بالفعل الفصائل النمساوية التي واجهته في الطريق. وفي اليوم الثاني من شهر مايو دخل نابليون مدينة ميلان منتصراً - للمرة الثانية - على الحامية النمساوية. ورحب به السكان الإيطاليون كما فعلوا في المرة السابقة. لقد استعاد نابليون الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية Cisalpine Republic) وسط مظاهر الفرحة الغامرة. وكان نابليون قد ارتد عن دين محمد (الذي سبق أن اعتنقه في مصر) فدعا إلى اجتماع عقده هيئة أساقفة ميلان وأكد لهم إخلاصه للكنيسة وأخبرهم أنه عند عودته لباريس سيجري صلحاً بين فرنسا والكنيسة. أما وقد أمّن ظهره على هذا النحو فقد أصبح حراً في رسم إستراتيجية معركته بالتفصيل.

لقد انتهك القائدان مبدءاً استراتيجياً أساسياً - لا تقسِّم القوات المتاحة تقسيما لا يُمكِّنها من إعادة لمّ شملها بسرعة. فالبارون فون ميلاس تمركز بالجزء الأساسي من جيشه في اليساندريا Alessandria (بين ميلان وجنوى) وترك حاميات في كل من جنوي وسافونا Savona وجافي Gavi وأكوي Acqui وتورين Turin وتورتونا Tortona وغيرها من النقاط التي قد تكون عُرضة لهجوم فرنسي. وتعرضت مؤخرة قواته التي كانت تزحف عائدة من نيس Nice لتنضم إليه لهجوم 20،000 جندي فرنسي بقيادة شوش Suchet وماسينا - الذي قد تمكن من الهرب من جنوى.

ولم يعد متبقياً من 70،000 نمساوي كانوا قد عبرو الأبينين من لومبارديا إلى ليجوريا Liguria (جنوى) سوى 40،000، كان على ميلاس أن يواجه بهم نابليون وقواته. لقد أرسل جزءاً من هذه القوات المتبقية (الأربعين ألف مقاتل) لإعادة الاستيلاء على الياسنزا Piacenza باعتبارها

ص: 35

طريقاً لا بديل له للهروب إلى مانتوا إذا حاقت بقوات جيشه الرئيسي الهزيمة. أما نابليون فقسَّم جيشه بطريقة محفوفة بالمخاطر:

"لقد ترك 32،000 مقاتل في ستراديلا Stradella لحراسة بياسنزا Piacenza و 9،000 في تيسينو Tessino و 3،000 في ميلان، و 10،000 على طول مجرى البو Po والأدّا Adda".

لقد ضحّى ببقاء جيشه موحدا رغبة منه في سد كل طرق الهرب في وجه رجال ميلاس.

وتعاون جنرالاته في إنقاذ سياسة الطريق المسدود هذه بعدم ترك نابليون يدخل المعركة الرئيسة بلا استعداد. ففي 9 يوليو قاد لانز 8،000 مقاتل من ستراديلا ليواجه بهم 18،000 مقاتل نمساوي كانوا في طريقهم الى بيسانزا، وتراجع الفرنسيون في مواجهة كلفتهم الكثير عند كاستيجيو Casteggio رغم صمود لانز الذي ظل يقاتل وهو متسربل بالدماء في طليعة قواته، لكن مدداً من ستة آلاف مقاتل فرنسي وصل في الوقت المناسب ليحوِّل الهزيمة إلى نصر بالقرب من مونتبلو Montebello.

وبعد ذلك بيومين سعد نابليون بوصول واحد من أقرب جنرالاته إلى نفسه قادماً من مصر. إنه لويس ديزييه Louis Desaix الذي ربما كان يعادل مورو Moreau وماسينا Massena وكليبر ولانز في مواهبه العسكرية، وإن كان يفوقهم جميعاً في رزانته الشخصية رزانة تصل إلى حد الكمال، وفي 13 يونيو أرسله نابليون إلى جنوب نوفي Novi على رأس 5000 رجل ليتأكد من الإشاعة التي مؤدّاها أن ميلاس ورجاله يهربون إلى جنوى حيث يمكن للأسطول البريطاني مساعدتهم على إتمام الهروب أو يقدم لهم دعماً من الغذاء والسلاح. وعلى هذا فقد ظل التشكيل الرئيسي لجيش نابليون يتناقص حتى حلول المعركة الفاصلة في 14 يونيو.

لقد كان ميلاس هو الذي اختار موقع المعركة الفاصلة، بالقرب من مارينجو وهي قرية على طريق أليساندريا - بياسنزا حيث لاحظ سهلاً فسيحاً يمكنه فيه حشد قواته البالغ عددها 35،000 مقاتل الذين لا يزالون متاحين له مع مائتي قطعة مدفعية. وعلى أية حال، فعندما وصل نابليون إلى هذا السهل في 13 يونيو لم يجد دليلاً يشير إلى أن ميلاس كان يخطط للمغامرة بالخروج من أليساندريا فترك عند

ص: 36

مارينجو فصيلين عسكريين بقيادة الجنرال فيكتور، وفصيلاً آخر بقيادة لانز مع خيالة بقيادة مورو وأربعة وعشرين مدفعا فقط.

وعاد هو نفسه (نابليون) بحارسة القنصلي في اتجاه فوجيرا Voghera حيث رتب للقاء مع ضباط من جيوشه المتناثرة. وعندما وصل لنهر السكريفيا Scrivia وجد مياهه وقد فاضت بدرجة كبيرة بسبب مياه الربيع، حتى أنه أجّل عبور النهر وبات ليلته في تور دي جارو فولو Torre di Garofolo. وكان هذا التأخير من حُسن حظه فلو أنه واصل طريقه الى فوجيرا لكان من المحتمل ألا يصل إلى مارينجو في الوقت المناسب لإصدار الأمر الذي يوفِّر يوما.

وفي وقت باكر من يوم 14 يونيو أمر ميلاس جيشه بالتقدم في سهل مارينجو وأن يشق طريقه إلى بياسنزا ففاجأت قوات نمساوية قوامها 30،000 مقاتل القوات الفرنسية بقيادة فيكتور ولانز ومورو البالغ عددها 20،000 مقاتل، وتراجع الفرنسيون رغم بطولتهم المعتادة أمام وابل قذائف المدفعية التي أهلكت منهم عدداً كبيراً، واستيقظ نابليون في جاروفولو Garofolo على صوت المدافع التي وصلت إلى أسماعه من مكانها البعيد فأرسل مبعوثاً لاستدعاء ديزييه من نوفي Novi واندفع هو نفسه إلى مارينجو وهناك خاضت قواته المكونة من 800 مقاتل من حرسه معركة شرسة لكنها لم تستطع وقف النمساويين، وواصل الفرنسيون تراجعهم إلى سان جوليانو. وكان ميلاس متعجلاً لطمأنة الإمبراطور فأرسل رسالة إلى فيينا يعلن فيها أنه حقق النصر، وانتشر التقرير نفسه في باريس مما سبب ذعراً للعامة وفرحاً لأنصار الملكية.

لقد جرى ما جرى بدون ديزييه الذي لم يعمل النمساويون له حساباً، وسمع ديزييه أيضاً وهو في الطرق إلى نوفي Novi دمدمة المدافع فعاد فجأة على رأس قواته البالغ عددها 5،000 مقاتل في اتجاه أصوات الدمدمة ووصل إلى سان جوليانو في الثالثة بعد الظهر فوجد إخوانه الجنرالات ينصحون نابليون بالتراجع أكثر فأكثر فاحتج فقالوا له لقد خسرنا المعركة فقال هذا صحيح، لكن الساعة الآن الثالثة بعد الظهر فقط وهناك وقت لكسب معركة أخرى فوافقوه ونظم نابليون خط هجوم جديد وركب حصانه بين الجنود لرفع روحهم المعنوية وقاد ديزييه العملية فتعرض لطلقة من نيران العدو

ص: 37

وخرّ من فوق حصانه وأوصى وهو يموت من يليه في القيادة اخف خبر مماتي، حتى لا يؤثر في معنويات الجنود ومع أن الجنود قد علموا بموته إلاّ أن ذلك لم يؤثر فيهم سلباً بل جعلهم يندفعون صائحين أنهم سيثأرون لمقتل قائدهم.

ومع هذا فقد واجهوا مقاومة لا تكاد تلين. فلما رأى نابليون ذلك أرسل إلى كيلرمان Kellermann تعليمات بالتوجه بكل قوة الخيالة التي معه لإنقاذ الرجال، فانقض بقواته بشراسة على جناح الجيش النمساوي فشقه قسمين واستسلم 2000 منهم وتم أسر الجنرال فون تساخ Von Zach الذي كان يقود الجيش بدلاً من ميلاس الغائب، وسلّم تساخ سيفه إلى نابليون، واستُدعي ميلاس من أليساندريا ليأتي متأخراً بحيث لا يستطيع تغيير نتيجة المعركة فعاد منكسر القلب حزيناً إلى مقره.

ولم يكن نابليون ليستطيع أن يسعد تماماً بهذا النصر لقد خسر خسارة شخصية أثّرت فيه تأثيراً عميقاً بموت ديزييه المخلص بالإضافة إلى كثيرين من الضباط الآخرين الذين لاقوا حتفهم مع ستة آلاف فرنسي في سهل مارينجو Marengo ولم يشف غليله موت ثمانية آلاف نمساوي هناك في اليوم نفسه، فنسبة القتلى النمساويين إلى إجمالي عدد القوات النمساوية كانت أقل من نسبة القتلى الفرنسيين إلى إجمالي عدد القوات الفرنسية.

وفي 15 يونيو طلب البارون فون ميلاس من نابليون عقد هدنة بعد أن أدرك أن ما تبقى من قواته في حالة لا تسمح له بخوض معركة جديدة. وكانت شروط الهدنة قاسية إذ كان على النمساويين إخلاء كل ليجوريا Liguria وبيدمونت، وكل لومبارديا إلى الغرب من منشيو Mincio ومانتوا وأن يعيدوا للفرنسيين كل الحصون في المناطق المسلحة. ويُسمح في مقابل ذلك بمغادرة القوات النمساوية محتفظة بشرفها العسكري كله، ووافق ميلاس على هذه الشروط التي ألغت حصاد كل فتوحاته في يوم واحد وأرسل إلى إمبراطور النمسا ملتمساً منه إبرام هذا الاتفاق. وفي 16 يونيو أرسل نابليون رسالة إلى فرانسيس

ص: 38

الثاني يطلب منه السلام على كل الجبهات. وبعض فقرات ذلك الخطاب لا يمكن أن تأتي إلاَّ من داعية للسلام:

" .. لقد كانت هناك حرب بيننا. آلاف من النمساويين والفرنسيين قضوا نحبهم .. آلاف من الأسر المحرومة تدعو أن يعود الآباء والأزواج والأبناء! .. الشر لا علاج له، لكن عساه - على الأقل - يُعلمنا أن نتجنب كل ما قد يُطيل فترة العداء. لقد أثرت هذه المشاهد في قلبي لدرجة جعلتني أرفض قبول ما أحرزته من تقدم في السابق لآخذ على عاتقي الكتابة إلى جلالتكم مرة أخرى متوسلاً إليك أن تضع نهاية لمآسي أوروبا.

في ميدان معركة مارينجو Marengo حيث يحيط بي الذين عانوا ويلات المعركة، وأنا في وسط 15،000 جثة، أتوسل إلى جلالتكم أن تسمع نداء الإنسانية وألا تسمح لأبناء أمتين قويتين يتسمون بالشجاعة، أن يذبح بعضهم الآخر من أجل مكاسب أنتم تعلمون أنها لا تعني شيئا

إن المعركة الحالية هي خير برهان على أن فرنسا ليست هي التي تهدد ميزان القوى. فكل يوم يؤكد أن إنجلترا هي التي تهدد ميزان القوى. إنجلترا التي احتكرت تجارة العالم وإمبراطورية البحار التي تستطيع منفردة التصدي لأساطيل روسيا والسويد والدنمرك وفرنسا وأسبانيا وهولندا متحدة.

إن اقتراحاتي التي أظن من الصواب توجيها لجلالتكم هي:

1 -

أن تمتد الهدنة لتشمل كل الجيوش.

2 -

أن يتم إرسال مفاوضين من الطرفين إما للتفاوض سراء أم علناً، وفقاً لما تفضلونه، وأن تكون المفاوضات في مكان ما بين منيشو والشيز Chiese للموافقة على وسائل ضمان الاحتفاظ بأقل عدد من القوات ولتوضيح مواد معاهدة كامبو فورميو Campoformio التي أظهرت التجربة أنها مواد غامضة

.

ولم يبد أن الإمبراطور قد تأثر، فمن الواضح أن الفاتح الشاب كان راغباً في ضمان مكاسبه التي حققها ولم يكن هناك ما يشير إلى أنه راعي الحياة الإنسانية عند خوضه معاركه. وربما لم يتوقف كل من الإمبراطور والقنصل الأول (نابليون) عن التساؤل عن

ص: 39

كيفية تصرف النمساويين والفرنسيين في إيطاليا. ووضع البارون فون توجوت von Thugut حداً واضحا لهذا الأمر بتوقيعه في 20 يونيو سنة 1800 معاهدة مع إنجلترا تضمن هذه الأخيرة تقديم عون مالي جديد للنمسا مقابل تعهدها بعدم التوقيع على معاهدة صلح منفرد مع فرنسا.

وفي هذه الأثناء كان نابليون يلعب بكل أوراقه فحضر قداساً مهيباً (قداس تسبيحة الشكر) عبَّر فيه رجال الدين في ميلان عن شكرهم الله لخروج النمساويين من بلادهم. واحتفلت الجماهير بإقامة الاستعراضات على شرف محقق النصر (نابليون) وسأل نابليون سكرتيره بورين:

"هل سمعت يا بورين التهليل والبهجة؟ إن أصداءها لا تزال تدوي. إن هذه الأصوات عندي في مثل حلاوة صوت جوزيفين كم أنا سعيد وفخور أن يحبني مثل هؤلاء الناس! ".

لقد كان لا يزال في إيطاليا عاشقاً للغتها مفتوناً بالجمال والعاطفة والبساتين المزدانة والدين المرن المتساهل والطقوس الشجية والألحان الغامضة. لكن ما حرّك مشاعره أيضاً هو تصفيق الجماهير التي تجمعت أمام قصر التوليري في 3 يوليو في الصباح الذي أعقب عودته ليلاً إلى باريس، فقد بدأ الشعب الفرنسي يعتقد أن الله يختصه، فشربوا بشغف حتى الثمالة من كأس العظمة.

أما لويس الثامن عشر الذي ورث قروناً من العداء بين بوربون فرنسا، وهابسبورج النمسا، فلم يستطع أن يكون محايداً - إلاّ بالكاد - إزاء هذا النصر الجديد الذي حققه نابليون على أعداء البوربون القدماء، وربما أيضاً رغبة منه في أن يكون نابليون هو صانع الملك، لا الملك نفسه، لذا فقد كتب (لويس الثامن عشر) مرة أخرى إلى نابليون في يوم غير معروف من صيف سنة 1800:

"لابد أنّك مقتنع أيها الجنرال منذ فترة طويلة أنني أكن لك تقديراً كبيراً. وإن شككت في تقديري لفضلك وعرفاني بجميلك، فحدد جائزتك التي تريدها وحدّد نصيب أصدقائك. فأنا فرنسي بمبادئي، رحيم بحكم شخصيتي، وبحكم ما يمليه العقل أيضاً.

لا، فمحقق النصر في لودي Lodie وكاستليون وأركول وفاتح إيطاليا ومصر، لا يمكن أن يفضل الشهرة الزائفة على المجد الحقيقي. لكنك تضيّع وقتاً ثميناً. إنه

ص: 40

يمكننا أن نؤكد عظمة فرنسا، وأنا أتحدث بضمير جمع المتكلِّمين وأقول يمكننا لأنني في حاجة إلى عون بونابرت، وبونابرت لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدوني.

أيها الجنرال إن أوروبا تنظر إليك والعظمة في انتظارك وإنني في شوق شديد لإعادة السلام لشعبي".

لويس

وقد أجاب نابليون على هذا الخطاب بعد فترة طويلة في 7 سبتمبر:

سيدي

"لقد تلقيتُ خطابك. وأشكرك على ملاحظاتك الرقيقة فيما يختص بشخصي. يجب أن تتخلى عن أي أمل في عودتك لفرنسا. فأنت إن عدت فسيكون ذلك على جثث مئات الألوف. ضَحِّ إذن بمصالحك الشخصية من أجل سعادة فرنسا وتحقيق السلام لها .. إن التاريخ لن ينسى. ولا أقول أنني لم أتأثر بمحنة أسرتك .. وسيسعدني أن أفعل ما أستطيع لأجعل حياتك في معتزلك (مكان تقاعدك) سعيدة ليس بها ما ينغِّص ".

وكان لويس الثامن عشر قد أرسل خطابه من ملجئه المؤقت في روسيا، وربما كان هناك عندما تلقى القيصر بولس الأول في يوليو سنة 1800 من نابليون هدية تكاد تكون قد غيّرت مسيرة التاريخ. ففي خلال حرب سنة 1799 وقع حوالي ستة آلاف عسكري روسي في قبضة الفرنسيين فعرض نابليون على إنجلترا والنمسا (حلفاء روسيا) أن يُبادل بهم الأسرى الفرنسيين، فرفضتا. ولم تكن فرنسا بقادرة على الاستفادة منهم بطريقة شرعية، كما أن احتفاظها بهم سيكلفها الكثير من النفقات، فأمر نابليون بإلباسهم ملابس جديدة وتسليحهم وإرسالهم إلى القيصر دون أن يطلب أي مقابل لفعله هذا. فأجاب القيصر بول بعقد أواصر الصداقة مع فرنسا، وشكّل في 18 ديسمبر سنة 1800 ضد إنجلترا العصبة الثانية للحياد المسلَّح. وفي 23 مارس سنة 1801 تم اغتيال القيصر بول فعادت الأمور سيرتها الأولى أي كما كانت قبل الهدية.

ص: 41

وفي هذه الأثناء رفض الإمبراطور النمساوي هدنة أليساندريا وأرسل ثمانية آلاف مسلح بقيادة الجنرال فون بيليجارد Bellegarde ليُحكم قبضته على طول مينشيو، فأجاب الفرنسيون بطرد النمساويين من تسكانيا ومهاجمتهم في بافاريا. في 3 ديسمبر سنة 1800 هزمت القوات الفرنسية بقيادة مورو والبالغ عددها 60،000 مقاتل القوات النمساوية البالغ عددها 65،000 في هوهنليندن Hohenlinden بالقرب من ميونخ، هزيمة منكرة وأسرت 25،000 نمساوي حتى أن الحكومة النمساوية وقد أدركت أن عاصمتها فيينا باتت تحت رحمة مورو، اضطرت لتوقيع هدنة شاملة في 25 ديسمبر سنة 1800 ووافقت على الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية للوصول إلى سلام مُنفصل (منفرد) بعيداً عن القوى الأوروبية الأخرى المناوئة لفرنسا. وعند عودة مورو إلى باريس لاقى استقبالا حافلاً وهتافات مدوية بدرجة ربما أثارت بعض المشاعر المضادة لدى نابليون، لأن مورو كان أثيراً لدى الملكيين واليعاقبة على سواء وكانوا يفضلون أن يكون رأساً للدولة.

واستمرت المؤامرات ضد حياة نابليون لا تنتهي، ففي بواكير سنة 1800، تم العثور على صندوق نشوق يُشبه صندوق النشوق الذي اعتاد القنصل الأول على استخدامه، في درج مكتبه في مالميزون Malmaison، وكان هذا الصندوق يحوي سماً مخلوطاً بالنشوق. وفي 14 سبتمبر و 10 أكتوبر تم القبض على عدد من اليعاقبة المشتركين في مؤامرة لقتل نابليون. وفي 24 ديسمبر قاد ثلاثة من الثوار الملكيين - أرسلهم جورج كادودال Cadoudal من بريطانيا - آلة مفخخة محملة بالمتفجرات واقتحموا بها الجموع التي كانت تحمل نابليون وأسرته إلى دار الأوبرا، فقتلوا اثنين وعشرين شخصا وجرحوا ستة وخمسين ولم يُصب نابليون ولا أحد من حاشيته، وواصل نابليون طريقه إلى الأوبرا بهدوء ظاهر لكنه أمر عند عودته لقصر التوليري بإجراء تحريات دقيقة وبإعدام اليعاقبة المسجونين بالإضافة إلى نفي أو اعتقال 130 آخرين، كانوا موضع شك، أما فوشيه الذي كان يعتقد أن الملكيين - وليس اليعاقبة - هم المجرمون فقد اعتقال مائة منهم وأرسل للمقصلة اثنين في أول أبريل سنة 1801. لقد تجاوز نابليون القانون وتخطاه، لكنه كان يشعر أنه يخوض حربا

ص: 42

وأن عليه أن يبث شيئا من الرعب في قلوب رجال كانوا هم أنفسهم يحتقرون القانون. لقد زاد عداؤه تدريجياً لليعاقبة وأصبح شيئاً فشيئاً متساهلاً مع الملكيين.

وفي 20 أكتوبر سنة 1800 أوعز إلى مساعديه بأن يشطبوا من قائمة المهاجرين إثر أحداث الثورة الفرنسية أسماء المسموح لهم بالعودة إلى فرنسا وأن يستردوا ما صادرته الدولة منهم إذا لم تكن الحكومة قد باعته أو خصصته للاستعمال الحكومي. لقد كان هناك الآن حوالي 100،000 مهاجر كان كثيرون منهم قد طلبوا الإذن بالعودة إلى فرنسا. ورغم احتجاج المعارضين الذين سبق لهم أن اشتروا الممتلكات المصادرة سمح نابليون لعدد بلغ 49،000 من هؤلاء المهاجرين بالعودة. وأكثر من هذا فقد كان يجري شطب أسماء أخرى من قائمة الممنوعين من العودة بين الحين والآخر أملاً في تقليص العداء الخارجي ضد فرنسا، وأملاً في إحلال السلام العام في أوروبا. وابتهج الملكيون لذلك، أما اليعاقبة فازدادوا كمداً.

وكانت الخطوة الأولى في برنامج السلام هذا هو اجتماع المفاوضين الفرنسيين والنمساويين في لونيفيل Luneville (بالقرب من نانسي Nancy) . وأرسل نابليون أخاه جوزيف لعرض حُجج فرنسا هناك، ولم يُرسل تاليران، وقد قام جوزيف بمهمته خير قيام. وكان نابليون يؤيده في كل خطوة تأييداً راسخاً ينطوي على التصميم، فكانت طلباته من الجانب النمساوي تزداد إذا لمس منه أي تأخير. وأخيراً استسلم النمساويون ووقعوا على ما أسموه - بسوء فهم - سلام لونيفيل المرعب في 9 فبراير سنة 1801 بعد أن رأوا جيوش فرنسا تبتلع كل إيطاليا تقريباً ورأوها تدق أبواب فينا.

واعترفت النمسا بتبعية بلجيكا ولوكسمبورج والأراضي الواقعة على طول الضفة الغربية للراين من بحر الشمال إلى بازل لفرنسا. وأقرت ما سبق أن ورد في معاهدة كامبو فورميو Campoformio واعترفت بسيادة فرنسا على إيطاليا فيما بين جبال الألب ونابلي وما بين الأديج Adige ونيس كما اعترفت بالحماية الفرنسية على جمهورية باتافيا (هولندا) وجمهورية هيلفيتيا Helvetic Republic (سويسرا). لقد كتب الوزير البروسي هوجفثز Haugwitz: لقد اتفقت النمسا الآن اتفاقاً منفرداً مع فرنسا لإقرار السلام في أوروبا وارتفعت بورصة باريس عشرين نقطة في يوم واحد وراح عمال باريس يفضلون الانتصارات أكثر من تفضيلهم للتصويت في الانتخابات،

ص: 43

يهتفون لإنجازات نابليون على الصعيدين السياسي والحربي، عاش نابليون. وعلى أية حال فربما كانت لونيفيل معركة حربية أكثر منها انتصارات دبلوماسية. لقد كانت لونيفيل انتصارا للكبرياء على التدبر والتعقل ففيها كمنت بذور حروب كثيرة انتهت بواترلو Waterloo .

وثمَّة مفاوضات أخرى جلبت لفرنسا مزيداً من القوة فبناء على الاتفاق مع أسبانيا في أول أكتوبر سنة 1800 أصبحت لويزيانا Louisiana تابعة لفرنسا. وأدت معاهدة فلورنسا (18 مارس سنة 1800) مع ملك نابلي إلى أن أصبحت جزيرة إلبا Elba وممتلكات نابلي في وسط إيطاليا تابعة لفرنسا، وأدَّت المعاهدة نفسها إلى إغلاق موانئ نابلي في وجه التجارة البريطانية والتركية. وأدّى الإدعاء الفرنسي القديم في سان دومينجو St. Domingue - القسم الغربي من هسبانيولا Hispaniola - إلى دخول نابليون في صراع مع رجل يكاد لا يقل عنه في قوة الشخصية. إنه فرانسوا - دومينيك توسين Francois Dominique Toussaint الذي وُلد كعبد زنجي في سنة 1743 وقاد عبيد سان دومنيجو وهو في سن الثامنة والأربعين - وهي سن يفترض أن بالغها يتسم بالحذر - في ثورة ناجحة، واستولى على الجانب الفرنسي من الجزيرة ثم على الجانب الاسباني منها.

وحكم الجزيرة باقتدار لكنه وجد صعوبة في ضبط النظام المؤدي لكثرة الإنتاج بين العبيد المحررين الذين كانوا يفضلون حياة البطالة ويبدو أن ذلك بسبب الحرارة. وسمح توسين Toussaint لكثير من الملاك السابقين بالعودة إلى مزارعهم وأسس نظام عمل يكاد يكون قائما على العبودية. وقد اعترف من الناحية النظرية بالسيادة الفرنسية على سان دومينجو أما من الناحية العملية فإنه - على أية حال - احتفظ بلقب الحاكم العام طوال حياته كما احتفظ بحقه في توليه من يخلفه، تماما - إلى حد كبير - كما سيفعل نابليون بعد فترة وجيزة في فرنسا. وفي سنة 1801 أرسل القنصل الأول (نابليون) عشرين ألف عسكري بقيادة الجنرال تشارلز لكلير Leclere لإعادة بسط السيادة الفرنسية في سان دومينجو، لكن توسين واجه هذه القوات بشراسة ومع هذا فقد لاقى الهزيمة ومات في جيل Jail في فرنسا (سنة 1803). وفي سنة 1803 وقعت الجزيرة كلها في يد بريطانيا.

ص: 44

وقد ظل الأسطول البريطاني - يدعمه التفوق البريطاني في مجالي التجارة والصناعة - هو العقبة الكأداء التي تعوق نجاح نابليون طوال فترة حكمه فيما خلال عامين اثنين. لقد كانت بريطانيا تستطيع أن تزوّد بالأموال جيوش حلفائها في أوروبا في محاولاتهم المتكررة للإطاحة بنابليون، فقد كانت إنجلترا قابعة وراء القنال الإنجليزي غير معرضة للدمار الذي تسببه الحرب، ثرية بفضل تجارتها البحرية التي لا ينافسها فيها أحد وعوائد مستعمراتها وسبقها في الثورة الصناعية.

لقد اتفق التجار والصناع مع الملك جورج الثالث والتوريين Tories (حزب المحافظين البريطاني) والمهاجرين الفرنسيين الذين اضطروا لترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وإدموند بورك Burke - على أن عودة أسرة البوربون إلى عرش فرنسا هي الطريقة المثلى لإعادة الاستقرار إلى نظم الحكم القديمة (غير الثورية) ومع هذا فإن الجناح المعارض للتوريين (المحافظين) وكان يشكل في إنجلترا أقلية قوية بقيادة تشارلز جيمس فوكس Charles James Fox وكان يمثل الاتجاه الليبرالي الراديكالي ويضم رجالا يتسمون بالبلاغة وحُسن البيان - اعترض على أساس أن الحرب المستمرة ستنشر الفقر وتحرض على الثورة، وعلى أساس أن نابليون أصبح الآن أمراً واقعاً، وعلى أساس أن الوقت قد حان لإيجاد تسوية مؤقتة مع قائد المرتزقة الذي لا يقهر (المقصود نابليون).

وأكثر من هذا فقد راحوا يسوقون الأدلة على أن مسلك بريطانيا كسيدة للبحار قد خلق لها أعداء أصبحوا أصدقاء لفرنسا. وادعى الأدميرالات البريطانيون أن حصارهم لفرنسا يعطيهم - ومن معهم من بحارة - الحق في تفتيش السفن المحايدة ومصادرة البضائع المتجهة إلى فرنسا، وقد امتعضت كل من روسيا والسويد والدنمرك وبروسيا من هذا التصرف واعتبرته انتهاكا لسيادتها وكوَّنت في ديسمبر سنة 1800 عصبة الحياد العسكري الثانية واقترحت مقاومة أي تعرض بريطاني لسفنها من الآن فصاعداً.

أما وقد ازدادت حدة الخلاف، فقد استولى الدنمركيون على هامبورج (التي كانت قد أصبحت الباب الرئيسي لبريطانيا المفضي إلى وسط أوروبا)، واستولى البروسيّون على هانوفر التابعة لجورج الثالث. وأخيراً أصبح نصف أوروبا الذي كان معادياً لفرنسا، معادياً لانجلترا الآن. ولأن فرنسا كانت بالفعل تسيطر على مصبات

ص: 45

الراين وشاطئه الشمالي، فقد أصبحت البضائع البريطانية لا تجد سبيلها - إلى حد كبير جدا - لأسواق فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والدنمرك ودول البلطيق وروسيا. وأغلقت إيطاليا موانئها في وجه التجارة البريطانية. وكانت اسبانيا متذمرة بسبب جبل طارق، وكان نابليون يكوّن جيشاً ويبني أسطولاً لغزو إنجلترا.

وحاربت إنجلترا عن مؤخرتها، وربحت من تغيّر اتجاه الأحداث، لقد دمر أسطول بريطانيا أسطولاً دنمركياً في ميناء كوبنهاجن (في 2 أبريل سنة 1801). وَخَلَف القيصر بول الأول، القيصر اسكندر الأول الذي غيَّر سياسة سلفه نحو فرنسا، وأدان غزو نابليون لمصر واعترف بالسيادة الإنجليزية على مالطة بعد أن كانت في يد الفرنسيين. ووقع مع إنجلترا معاهدة في 17 يونيو سنة 1801، وهكذا انهارت العصبة الثانية للحياد العسكري، ومع هذا فإن توقف الازدهار الاقتصادي في بريطانيا وتضخم الجيش الفرنسي في بولونيا وانهيار النمسا رغم المعونات المالية الباهظة التي قُدمت لها - كل ذلك جعل إنجلترا تجنح للسلم.

ففي أول أكتوبر سنة 1801 وقَّع مفاوضوها اتفاقاً مبدئياً تتعهد فيه فرنسا بتسليم مصر إلى تركيا (الدولة العثمانية)، وأن تُسلم بريطانيا جزيرة مالطة في ظرف ثلاثة أشهر لفرسان القديس يوحنا وكان لابد أن تستعيد كل من فرنسا وهولندا وأسبانيا معظم مستعمراتها التي سُلبت منها، وكان على فرنسا أن تسحب كل قواتها من وسط إيطاليا وجنوبها. وبعد سبعة أسابيع من المناقشات وقعت بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة السلام في أمين Amiens - تلك المعاهدة التي طال انتظارها - في 27 مارس سنة 1802. وعندما وصل ممثل نابليون إلى لندن بالوثائق مصدقة أخذت الجماهير السعيدة بألجمة خيوله وسحبت العربة إلى وزارة الخارجية وسط هتافات عاشت الجمهورية الفرنسية! عاش نابليون.

وكانت الجماهير الفرنسية مفعمة حماساً شاكرة وممتنة للرجل الشاب (نابليون) الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره، والذي وضع - بألمعيّة - نهاية لحرب استمرت عشر سنين. لقد سبق أن اعترفت أوروبا كلها بمقدرته كجنرال، وهاهي ترى الآن أن هذا العقل الصافي نفسه، وهذه الإرادة الراسخة، تتألقان في مضمار الدبلوماسية أيضاً. ولم تكن أمين

ص: 46

Amiens سوى البداية، ففي 23 مايو سنة 1802 وقَّع نابليون معاهدة مع بروسيا وفي اليوم التالي مع بافاريا وفي 9 أكتوبر مع تركيا (الدولة العثمانية) وفي 11 أكتوبر مع روسيا، وعندما اقترب التاسع من نوفمبر - الذكرى السنوية للثامن عشر من الشهر الجمهوري برومير - رتِّب الأمور للاحتفال به كمهرجان للسلام. وفي هذا اليوم أعلن بسعادة هدف جهوده: إن الحكومة إيماناً منها بطموحاتها وتنفيذاً لوعودها لن تستسلم للمشروعات المنطوية على المخاطرة. إن واجبها كان هو استعادة الهدوء، لتعمل على ترسيخ العلاقات القوية والأبدية بين الأسرة الأوروبية الكبيرة لتشكيل أقدار العالم وربما كانت هذه اللحظة هي أرقَّ لحظة في تاريخه.

‌3 - فرنسا المرموقة:

من 1802 إلى 1803 م

قال نابليون في جزيرة سانت هيلينا St. Helena:

" لقد اعتقدتُ بكل الإخلاص أن قدري وقدر فرنسا قد استقرا في إميان لقد كنت بصدد تكريس نفسي تماماً لإدارة فرنسا، واعتقدتُ أنني سآتي بالأعاجيب ".

لقد كان هذا القول بمثابة محاولة لإزالة آثام اثنتي عشرة معركة، لكن في اليوم التالي لتوقيع سلام أمين كتب جيرولامو لوشيسيني Girolamo Lucchesini السفير البروسي في باريس لمليكه تقريراً مفاده أن نابليون قرر الالتفات للزراعة والصناعة والتجارة والفنون وكل ما يُدِرُّ عائداً مالياً والتي كانت الحرب قد استنزفتها واستمر جيرولامو قائلا إن نابليون سيتحدث بحرارة عن افتتاح الترع والقنوات وإكمالها وإصلاح الطرق وتطهير الموانئ والمرافئ وإنشاء المدن، وإقامة المؤسسات الدينية وأماكن العبادة،

كما يتحدث عن مقررات دراسية والحقيقة إن قدراً كبيرا من التقدم في هذا المجال كان قد تحقق قبل أن تحتل الحرب - مرة أخرى - مكانة الاهتمام الأولى (16 مايو سنة 1803).

وكانت الضرائب معقولة وكان يتم جمعها بأقل قدر من الخداع والقوة، وقد غمرت عوائدها الحكومة فساعدت على بقاء الصناعة منتعشة وعلى تشغيل العمالة. وتوسعت التجارة بسرعة عقب رفع إنجلترا للحصار البحري، وانتعش الدين من جديد في ظل الكونكوردات Concordat (المعاهدة الباباوية) الذي عقده نابليون مع البابا. وبدأ

ص: 47

المعهد العلمي في وضع نظام للتعلم على مستوى الأمة الفرنسية. وجرى تقنين القوانين، وأصبح للقانون مكانته، وبلغت الإدارة درجة الامتياز وجنحت للأمانة.

وأصبحت باريس مرة أخرى - كما كانت في عهد لويس الرابع عشر - عاصمة السياحة في أوروبا. ونسي مئات من الإنجليز الرسوم الكاريكاتيرية الكثيرة التي كانت تهزأ بنابليون وتسخر منه في الصحف البريطانية فقطعوا الطرق الوعرة وعبروا القنال لإلقاء نظرة على التمثال ضئيل الحجم (المقصود نابليون) الذي تحدى القوى العظمى وفرض عليها السلام.

وأتى إليه عدد من أعضاء البرلمان الإنجليزي من مختلف الاتجاهات، ليس أقلهم رئيس الوزراء السابق والذي شغل المنصب بعد ذلك مرة أخرى: تشارلز جيمس فوكس الذي زاره في أغسطس سنة 1802، والذي سبق له أن بذل جهوداً مضنية لفترة طويلة لتحقيق السلام بين الإنجليز والفرنسيين. واعترت الدهشة الأجانب للرخاء الذي حطَّ على فرنسا بهذه السرعة بعد وصول نابليون للحكم. وقد وصف دوق بروجلي Broglie الأعوام من 1800 إلى 1803 بأنها أفضل صفحات الحوليات الفرنسية وأكثرها نبلاً.

3/ 1 - المدوَّنة القانونية النابليونية: 1801 - 1804 م

The Code Napoleon

استغرق نابليون في ذكرياته فقال:

"إن عظمتي الحقيقية ليست في المعارك الأربعين التي خضتها وأحرزتُ فيها النصر، ذلك لأن هزيمتي في واترلو Waterloo ستمحق ذكرى هذه الانتصارات .. أما ما لا يمكن محقه، وما سيبقى أبد الدهر فهو مدوَّنتي القانونية ".

إن كلمة أبد الدهر ليست ذات طابع فلسفي، فهذه المدونة هي بالفعل أعظم إنجازاته. لقد أجبر الطيشُ والفسادُ اللذان لا ينضب معينهما المجتمعَ - بشكل دوري - على تحسين طرائقه لحماية نفسه من العنف والسرقة والغش والخداع، واقتضى هذا إعادة صياغة هذه الطرائق. وكان جستنيان Justinian قد حاول ذلك في سنة 528 للميلاد، لكن مجموعة قوانينه المدنية التي سجلها رجال القانون في عهده كانت موجودة بالفعل ولم يتعد عملهم تنسيقها ولم تكن في غالبها بناءً قانونياً جديداً يهدف إلى تغيير المجتمع واجتثاث سلبيات كانت فيه.

أما المشكلة بالنسبة لفرنسا فكانت مضاعفة لأن كل محافظة (دائرة) كان لها قوانينها الخاصة

ص: 48

حتى أن القانون في منطقة (أو محافظة أو ولاية) لم يكن ليسود في المنطقة التي تليها. وكان مرلين الدُّوي Merlin of Douai وكامباسير Cambaceres قد قدَّما الخطوط العريضة لمدوّنة قانونية جديدة موَّحدة لحكومة المؤتمر الوطني في سنة 1795 لكن الثورة لم يكن لديها الوقت الكافي لإنجاز هذا العمل، ولأن الحكومة في ذلك الوقت كانت تواجه فوضى مربكة فقد أضافت آلافاً من القرارات والمراسيم المتسرّعة اقتضى الأمر فترةً من الوقت لتُصاغ بشكل متَّسق.

وأدى إقرار نابليون للسلام مع النمسا وبريطانيا إلى إتاحة الفرصة له لإنجاز مدوَّنته. ففي 12 أغسطس سنة 1800 فوَّض القناصل الثلاثة كلاً من فرانسوا ترونش Francois Tronchet وجان بورتالي وفيلي بيجو دي بريمينو Felix Bigot de Preameneu وجاك دي مالفيل Jacques de Maleville لوضع مخطط جديد لمدوّنة وطنية متسقة تضم القوانين المدنية وأرسل نابليون مشروع المدونة كما أعدوه وقدموه في أول يناير سنة 1801 إلى رؤساء المحاكم القانونية لإبداء تعليقاتهم وملاحظاتهم، فقدَّموه بدورهم بعد إبداء الملاحظات إلى نابليون بعد ثلاثة أشهر من إحالته لهم، فأحاله إلى اللجنة التشريعية في مجلس الدول لإعادة النظر فيه، وكان على رأس هذه اللجنة التشريعية كل من بورتالي Portalis وانطوان ثيبودو Antoine Thibaudeau وبعد أن مرَّت المدوّنة القانونية بكل هذه الفحوص تدارسها المجلس كله بنداً بنداً خلال سبعة وثمانين دورة قضائية.

وكان نابليون هو رئيس المجلس في خمس وثلاثين دورة منها. ولم يكن نابليون خبيراً بالقانون لكنه استفاد من فطنة زميله في القنصلية كامباسير وتعليمه القانوني. لقد اشترك نابليون في المناقشات بتواضع لدرجة حبَّبته إلى أعضاء المجلس وجعلته موضع إعجابهم. ولقد تأثر أعضاء المجلس بحرارته وحماسه وتصميمه فوافقوا برضا على مد فترة كل جلسة من الجلسات لتمتد من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الخامسة بعد الظهر، لكنهم لم يتحمسوا عندما دعاهم للاجتماع مرة أخرى مساء، فقد حدث أن اعترى النعاسُ بعض الأعضاء من جراء التعب في هذه الاجتماعات المسائية فنبههم نابليون - بكياسة ولطف - إلى ضرورة الانتباه. هيا أيها السادة فنحن لم نتقاض رواتبنا بعد

ص: 49

وفي رأى فاندال Vandal أن هذه المدوّنة ما كانت لتتم أبداً لولا حثّ نابليون الدَّءوب وتشجيعه الوِدِّي.

وغالبا ما كان القضاة وأعضاء المجلس يتوقفون عندما تتناول المدونة أمراً مرتبطاً بالتربيونية Tribunate (محامي الشعب). لقد أدان المجتمعون الذين كانوا لا يزالون متفاعلين مع الثورة المدونة لأن بنودها قمعت الاتجاهات التي تبنتها الثورة - باعتبارها أعادت تسلُّط الزوج على زوجته وتسلُّط الأب على أبنائه، وتوجت البورجوازية ليكونوا على رأس الاقتصاد الفرنسي. لقد تم إقرار هذه التوجهات إلى حد كبير. وقَبِلت بنود المدونة المبادئ الأساسية للثورة وطبقتها: حرية الحديث والعبادة والعمل التجاري ومساواة الجميع أمام القانون وحق الجميع في محاكمة علنية أمام القاضي، وإبطال الرسوم الإقطاعية وإلغاء العشور الكنسية وأقرت عمليات الشراء التي تمت بالنسبة لمن اشترى جانبا من الممتلكات المصادرة للكنائس أو الإقطاعيات أو الدولة،

ولكن المدوّنة حذت حذو القانون الروماني فقبلت الأسرة كوحدة أساسية للنظام الاجتماعي وكحصن للنسق الأخلاقي وأعطتها أساساً بإحياء السلطة الأبوية على النحو الذي كان سائداً في الحكم القديم (العهد البائد) فأصبح للأب الحق في التحكم في ممتلكات زوجته وأصبح له السلطة الكاملة على أبنائه حتى يبلغوا سن الرشد ويمكنه أن يطلب سجنهم فيتم ذلك بناء على طلبه هو وحده وأصبح يمكنه منع زواج الابن فيما دون السادسة والعشرين والابنة فيما دون الواحدة والعشرين. وانتهكت المدوَّنة مبدأ المساواة أمام القانون بنصها على أنه في حالة المنازعات حول الأجور فإن القول الفصل لصاحب العمل (وفيما عدا ذلك فالجميع أمام القانون سواء) ومن 12 أبريل سنة 1803 تجدد حظر الروابط العمالية (إلاّ ذات الأغراض الاجتماعية الخالصة) وبعد الأول من ديسمبر من العام نفسه (1803) أصبح على كل عامل أن يحمل معه بطاقة عمل مدوّن بها مهنته، وأعادت المدوَّنة - بموافقة نابليون - نظام الرِّق في المستعمرات الفرنسية.

لقد كانت المدونة تمثل ردة فعل تاريخية فقد كان توجهها العام هو الانتقال من مجتمع يكثر فيه ما هو مباح إلى مجتمع منضبط على مستوى الأسرة والدولة. وكان واضعو التشريع هم رجال هذه الأعوام، إذ نبههم إفراط الثورة وإسفافها، ورفض التراث والتقاليد

ص: 50

بطيش وبلا روية، وسهولة الطلاق وتفسخ الروابط الأسرية والسماح بالانحلال الأخلاقي بين النساء، والسماح بممارستهن للشغب السياسي، وتشجيع دكتاتورية البرولتياريا والتستر علي مذابح سبتمبر والإرهاب باسم الشعب. لقد قرر هؤلاء الرجال أن يُوقفوا ما بدا لهم مدمراً للمجتمع والحكومة. وقد أيد نابليون تأييداً مطلقاً اتجاه هؤلاء الرجال رغبة منه في استقرار فرنسا في ظل حكمه. لقد اتفق معه مجلس الدولة على ضرورة إغلاق باب المناقشة على المستوى العام في مواد المدوَّنة البالغة 2281 مادة، وفي 21 مارس 1804 أصبحت هذه المدونة - واسمها الرسمي المدونة القانونية المدنية لفرنسا - هي قانون فرنسا.

3/ 2 - الكونكوردات The Concordat (الاتفاق مع البابا) عام 1801 م

ولم يقنع الشاب نابليون بهذا فقد كان يعرف بطبيعته القوية أن روح الإنسان لا تميل للقانون إلا قليلاً. لقد سبق له أن رأى في إيطاليا ومصر كيف أن الإنسان لا يزال في رغباته قريباً من ماضيه الأول قنّاصاً حيواناً متمرداً متحرراً. ومن عجائب التاريخ أن هذه الكائنات الحية المتفجرة (سريعة الانفعال) ظلت بمنأى عن التفسخ الاجتماعي أو بتعبير آخر لم تحطم الهيكل الاجتماعي الذي تعيش خلاله حتى الآن. أكان هذا بفضل رجال الشرطة؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك لأن عدد رجال الشرطة قليل كما أنهم متباعدون (بمعنى أنهم لا يتجمعون في مكان واحد لضبطه) كما أن الميل للفوضى السياسية كامن في نصف أفراد المجتمع. فما الذي كبح انهيار البناء الاجتماعي؟

لقد انتهى نابليون نفسه - مع أنه من المتشككين في الدين skeptic - إلى أن النظام الاجتماعي قد استقر أخيراً على طبيعة هي مزاج من الحيوانية والإنسانية غُرس فيها بدقة خوف من القوى غير المنظورة supernatural powers (القوى الغيبة أو الفوقطبيعية) ومن ثم فقد راح نابليون ينظر للكنيسة الكاثوليكية كأداة مفيدة الفائدة كلها لضبط سلوك الرجال والنساء. إنها - أي الكنيسة الكاثوليكية - تعد أداة لضبط السلوك الإنساني في مواجهة تأرجحه ما بين الموافقة

ص: 51

والسخط إزاء التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والجنسي. وهي - أي الكنيسة الكاثوليكية - أداة لضمان الالتزام بالوصايا الدينية التي تقاوم متطلبات الجسد.

فإذا كان يستحيل وضع رجل بوليس في كل مكان، فالآلهة موجودة في كل مكان، وكل ما هو أكثر مدعاة للرعب (من البوليس) موجود، وهو أكثر مدعاة للرعب لأنه غير مرئي ويمكن مضاعفة كم الرعب عند الرغبة أو الحاجة عن طريق الموجودات الغامضة وبالوعظ العنيف والتهديد الشديد بالثبور وعظائم الأمور التي ستصبها الآلهة أو قوى الرهبان القابعين في الصحراء أو الأماكن النائية والقادرين على توجيه طلباتهم إلى الآمر الناهي المبقي على النجوم والبشر والقادر على تدميرهم. يا له من تصور سامٍ! يا له من تنظيم لا يُضاهى بمدى انتشاره ومدى مفعوله! يا له من نظام يدعم - بلا مقابل - المعلمين والأزواج والآباء ورجال الدين والملوك!. لقد انتهى نابليون إلى أن الفوضى والعنف اللذين سببتهما الثورة قد آن وضع حد لهما وما عاد هناك مجال للحديث عن رفض الدولة للكنيسة. لقد قرر إعادة الارتباط بين الدولة والكنيسة بقدر ما يستطيع أن ينتزع ذلك من مخالب اليعاقبة المرعبين والفلاسفة المستميتين.

لقد كان الدين في فرنسا في سنة 1800 في حالة تسيب مضطربة ولم يكن هذا بعيداً عن التسيب الأخلاقي الذي خلفته الثورة. لقد أصبح هناك أقلية كبيرة في المحافظات - وربما أغلبية أهل باريس - غير مبالين بمواعظ القسس. وكان هناك آلاف من الفرنسيين - فلاحين ومليونيرات - قد اشتروا من الدولة ممتلكات الكنيسة المصادرة. وكان هؤلاء المشترون قد جرى حرمانهم من رحمة الكنيسة، وكان الناس الذين يرون فيهم مشترين لممتلكات مسروقة ينظرون إليهم بعيون غير راضية. وكان في فرنسا في ذلك الوقت ثمانية آلاف قس نشط، منهم ألفان دستوريون أي من الذين أقسموا بيمين الولاء لدستور سنة 1791 الذي أقر مصادرة ممتلكات الكنيسة، أما الستة آلاف فكانوا قسساً غير معتمدين أو بتعبير آخر غير دستوريين لرفضهم الثورة وعملهم على إبطال إجراءاتها، وكانوا قد أحرزوا تقدما في مسارهم هذا.

فقد عمل النبلاء الذين لم يغادروا فرنسا إثر أحداث الثورة وكذلك كثيرون من أفراد الطبقة البورجوازية على إعادة المكانة للدين كحصن لضمان المِلكية

ص: 52

(بكسر الميم) والنظام الاجتماعي. وكثيرون من هؤلاء - رغم أن بعضهم كان سليل الثورة ومنتمياً إليها - أرسلوا أولادهم إلى مدارس يديرها - أو يُدرّس فيها - قسس وراهبات فهم (وفقاً لما يعتقدونه) يعلمون أكثر مما يعلم المدرسون الذين لا يرتدون الطيلسانات (عباءات رجال الدين) وهم الأقدر على تنشئة أبنائهم ليكونوا محترمين وبناتهم ليتصفن بالحياء. لقد أصبح الدين سائدا في المجتمع وفي الآداب، وسرعان ما أصبح كتاب شاتوبريان christianisme (1802) المرسوم باسم عبقرية المسيحية والذي يكيل فيه المديح للمسيحية - حديث الناس في هذا الوقت.

وقرر نابليون - في مسعاه لتدعيم حكمه الذي لا جذور له - الاستعانة بدعم الكنيسة الكاثوليكية الروحي والتنظيمي، وقد أدى هذا الاتجاه إلى تهدئة منطقة الفندي الثائرة وأسعد القاطنين في الدوائر (المحافظات) والستة آلاف قس آلآنف ذكرهم. إن نابليون بهذا يمكنه أن يضيف لرصيده تأييد البابا الأخلاقي (المعنوي) والروحي، وهو - بهذا - إنما يسحب البساط من تحت أقدام المطالبين بعودة أسرة البوربون، وهو أيضاً - بهذا - يحفظ العداء المستحكم بين فرنسا - وبينه شخصياً - وكل من بلجيكا وبافاريا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا وهي كيانات كاثوليكية. لذا فإنني بكل ما لدي من سلطة .. أُعيد ترسيخ الدين. إنني أجعل منه الأرضية والأساس اللذين أبني فوقهما. لقد اعتبرته دعماً للمبادئ الصحيحة والأخلاق الصالحة.

وقد قاوم اللاأدريون agnostics في باريس (القائلون بأن أمور الغيب لا سبيل للتيقن منها) وكاردينالات روما خطة نابليون هذه، فكثيرون من رجال الدين قاوموا التصديق على أي اتفاق، يتساهل بشأن الطلاق أو يُبطل دعاوى الكنيسة الفرنسية في أحقيتها في أملاكها المصادرة. واعترض كثيرون من اليعاقبة Jacobins على جعل الكاثوليكية ديناً رسمياً للأمة تحميه الحكومة وتنفق عليه، وكان من رأيهم أن مثل هذا القرار إنما هو تخلٍ عما اعتبروه أهم إنجاز من إنجازات الثورة الفرنسية، ألا وهو فصل الدولة عن الكنيسة.

أما بالنسبة للكاردينالات ورجال الدين الذين عارضوا مشروعه فقد أرهبهم مُهدداً أنهم إذا رفضوا مشروعه فإنه سيحذو حذو هنري الثامن في إنجلترا وسيفصل الكنيسة الفرنسية فصلاً كاملاً

ص: 53

عن روما. أما بالنسبة للاأدريين (المتشككين) فحاول نابليون تهدئتهم بأن شرح لهم أنه إنما يريد أن يجعل الكنيسة أداة حكومية لاستمرار السلام الداخلي. لكنهم خشوا أن يكون اقتراحه خطوة أخرى في طريق التراجع من الثورة إلى المَلكية (بفتح الميم). ولم يغفر نابليون أبداً للالاند Lalande (الفلكي) رغبته في إدراج اسم نابليون في قاموس الملحدين في اللحظة ذاتها التي فتح فيها - أي نابليون - باب المفاوضات مع بلاط روما البابوي وذلك على حد ما ذكره بوريين سكرتير نابليون.

وقد بدأت هذه المفاوضات في باريس في 6 نوفمبر سنة 1800 واستمرت عامرة بالمناورات طوال ثمانية أشهر، فقد كان الكاردينالات دبلوماسيين متمرسين لكن نابليون كان يعلم رغبة البابا الشديدة في الوصول إلى اتفاق ورغبته في تقديم كل ما هو في صالح سلطته على الكنيسة. لقد قدم البابا بيوس السابع Pius VII تنازلاً إثر تنازل لأن الخطة المقترحة عرضت إنهاء عقد من الكنبات التي ألمت بالكنيسة الفرنسية. ولأن هذه اللحظة تتيح له عزل كثيرين من الأساقفة الذين سبق وهزءوا بالسلطة الباباوية، وستمكنه - بمساعدة التدخل الفرنسي - من التخلص من الجيش النابولي الذي يحتل عاصمته، وستعيد للبابوية المفوَّضيات (فيرارا Ferrara وبولونيا Bologna ورافينا - التي عادة ما كان يحكمها سفراء باباويون papal Legates) التي انتقل حكمها إلى فرنسا في سنة 1797.

وأخيراً بعد جلسة استمرت حتى الساعة الثانية صباحاً وقع ممثلو كنيسة روما، وممثلو الدولة الفرنسية في 16 يوليو 1801 الاتفاق (الكونكوردات) الذي حكم العلاقات بين فرنسا والباباوية طوال قرن من الزمان. وصدَّق نابليون على الاتفاق في شهر سبتمبر، وصدَّق عليه البابا بيوس السابع في ديسمبر. وعلى أية حال فإن نابليون وقّع مع النص the proviso ما يفيد أنه قد يُقر فيما بعد بعض "الإجراءات لمنع ما قد ينشأ من تفسير حرفي متعنّت لهذا الاتفاق"(الكونكوردات Concordat) .

وهذه الوثيقة التاريخية ألزمت الحكومة الفرنسية بالاعتراف بالكاثوليكية كدين للقناصل الحاكمين وكدين لأغلبية الشعب الفرنسي (وبالتالي ألزمتها بتمويلها أي الإنفاق على مؤسساتها) ولكنها - أي هذه الوثيقة التاريخية - لم تجعل الكاثوليكية دين الدولة

ص: 54

وأكدت على حرية العبادة لكل الفرنسيين بمن فيهم البروتستنت واليهود. وسحبت الكنيسة دعاويها بأحقيتها في ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الدولة، ووافقت الدولة - على سبيل التعويض - أن تدفع للأساقفة راتباً سنوياً، خمسة عشر ألف فرنك لكل أسقف وأن تدفع رواتب أقل لقسس الأبرشيات. وكان للحكومة - كما كان الحال زمن لويس الرابع عشر - أن تُعيِّن الأساقفة، الذين يقسمون يمين الولاء للدولة على ألا يصبح تعيينهم سارياً إلا بعد موافقة البابا. ويُعد قرار تعيين الأساقفة الدستوريين (أي الذين أقسموا يمين الولاء لدستور الثورة الأول) صحيحاً، ويُعاد كل الأساقفة التقليديون orthodox (ولا علاقة لهذا المصطلح في هذا السياق بالمذهب الأرثوذكسي المعروف)، وتفتح الكنائس رسمياً للعبادة الصحيحة (وكانت قد فتحت عملياً بالفعل). وبعد مناقشات طويلة سلَّم نابليون للكنيسة في مسألة مهمة وهي حقها في قبول الأوقاف (الأموال التي يوقفها المتبرعون للكنيسة بوصية bequests) .

وليهدِّئ نابليون منتقديه من المتشككين في أمور الدين ممن هم أكثر كياسة من غيرهم من المتشككين الآخرين، فإنه أضاف من جانبه إلى الاتفاق / 121 مواد أساسية لضمان تفوق وضع الدولة على الكنيسة في فرنسا فمنع دخول أي مرسوم أو وثيقة بابوية أو موفد بابوي أو مرسوم للمجمع العام أو المؤتمر الكنسي إلى البلاد دون موافقة واضحة من الحكومة. وأصبحت الإجراءات المدنية للزواج شرطاً مسبقاً لإتمام الزواج من الناحية الدينية. وأصبح على كل الذين يدرسون ليصبحوا قسساً كاثوليك أن يدرسوا المواد الغاليَّة Gallican (نسبة إلى بلاد غال) الصادرة سنة 1682 التي تؤكد الاستقلال الشرعي للكنيسة الكاثوليكية الفرنسية عن السيادة الباباوية المطلقة.

وفي 8 أبريل سنة 1802 تم تقديم هذا الاتفاق البابوي (الكونكوردات) المعدَّل إلى مجلس الدولة والتربيونيت Tribunate (أو التربيون وهو مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) والهيئة التشريعية، فهاجمه أعضاء هذه المؤسسات بضراوة باعتباره اتفاقا مناهضاً للتنوير والثورة (فقد كان من الضروري أن يكون متسقاً مع دستور سنة 1791) ولم يكن هذا ليثير الرعب لدى نابليون. وفي التريبيون دخل كونت فولني Volney المثقف في مناقشة

ص: 55

جريئة مع القنصل الأول (نابليون) حول هذا الاتفاق البابوي (الكونكوردات) وانتخب الهيئة التشريعية تشارلز - فرنسوا دوبوي رئيساً لها، وهو مؤلف رسالة قوية مناهضة للإكليروس بعنوان "أصول كل العبادات L'Origine de tous les Cultes "(1794) . وسحب نابليون الاتفاق البابوي (الكونكوردات) من المناقشة وراح ينتظر الوقت المناسب.

وعند التسمية الجديدة لأعضاء التريبيون (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب Tribunate) والهيئة التشريعية لم يعيّن مجلس الشيوخ كثيرين مم انتقدوا الاتفاق البابوي (الكونكوردات). وفي هذه الأثناء كان نابليون قد نشر بين العامة قصة الاتفاق البابوي ومحتواه لأنه كان يتوقع أن الناس ستطالب بإقراره. وفي 25 مارس سنة 1802 حقق نابليون أمل الغالبية العظمى بتوقيعه اتفاق سلام مع إنجلترا، فزاده هذا قوة مما جعله يقدم الاتفاق البابوي (الكونكوردات) مرة ثانية للهيئات الآنف ذكرها، فأقره التربيون ولم يزد عدد المعارضين عن سبعة، وصوتت الهيئة التشريعية لصالحه بواقع 228 ضد 12. وفي 18 أبريل أصبح الاتفاق البابوي قانونا، وفي يوم أحد الفصح Easter Sunday تم إعلان سلام أمين والاتفاق البابوي في حفل وقور في نوتردام وسط أنين الثوريين، وضحك العسكريين وبهجة الشعب. وانتشر رسم كاريكاتيري يُظهر نابليون وقد غمر نفسه في مياه المعمودية (رمزاً يشير إلى أنه مسيحي كاثوليكي) مع عبارة ساخرة:

"عندما كان ملكاً لمصر آمن بالقرآن وعندما كان ملكاً لفرنسا آمن بالإنجيل".

وقد عزّى نابليون نفسه بإقناعها أنه إنما كان يعبِّر عنه إرادة الغالبية العظمى من الفرنسيين وأن ما قام به يقوّي سلطانه على مستوى القاعدة رغم أنه أضعفها على مستوى القمة. لقد أعاد الأساقفة لكن منذ أن عيَّن الأساقفة ودفع لهم أجورهم، وأجور حوالي ثلاثة آلاف قس، وضع في اعتباره أنه يمكنه أن يسيطر عليهم بهذا المقود الاقتصادي. لقد ظن أن الكنيسة يمكن أن تكون إحدى أدواته تُغَنِّي لعظمته وتؤيد سياساته. فبعد ذلك بفترة وجيزة نظر إليها (أي إلى الكنيسة) باعتبارها وسيلة لتعليم الأطفال الفرنسيين أن:

"توقير الإمبراطور يعني توقير الرب ذاته وأنهم إن فشلوا في أداء واجبهم نحو الإمبراطور

إنما هم بذلك

ص: 56

يعصون الله، وأن هذا (عصيانهم للإمبراطور) يجعلهم يستحقون اللعنة الأبدية وعبَّر نابليون عن امتنانه لرجال الدين (الإكليروس) بحضور القداس مبدياً الطاعة"، لكنه أوصى أن "يكون القداس موجزاً بقدر الإمكان".

لقد كان مقتنعاً في هذه اللحظات المفعمة بنشوة الانتصارات أنه قد كسب العالم الكاثوليكي كله إلى جانبه. ومن الناحية الفعلية فإن الإكليروس الفرنسيين لم يكونوا قد نسوا أبداً فقدانهم أراضيهم وكانوا ممتعضين لربطهم بالدولة بقيد الراتب (الأموال التي يتقاضونها من الدولة)، وكانوا ينظرون - أكثر فأكثر - للبابا لتأييدهم ضد حاكم كانوا يعتبرونه كافراً فيما بينهم وبين أنفسهم. إنهم وإن كانوا غاليِّين Gallican (نسبة إلى بلاد غال) وفقاً للقانون إلا أن مشاعرهم كانت متجهة نحو البابا فعندما نزع الإمبراطور من البابا بيوس السابع الأراضي التي كانت في حوزة الباباوية لآلاف السنين (وأكثر من هذا عندما تم انتزاع البابا من روما وسجنه في سافونا Savona وفونتينبلو Fontainebleau) - هبَّ الإكليروس وجماهير فرنسا للدفاع عن حبرهم (البابا) وعقيدتهم، واكتشف نابليون متأخراً أن قوة الخرافة والكلمة أشد من قوة القانون والسيف.

‌4 - طريق المجد

وسط مشروعاته وانتصاراته، كان عليه دائما أن يكون حذراً لمواجهة التحديات لسلطانه وللحفاظ على حياته. وكان الملكيون في فرنسا هادئين نسبياً لأنهم كانوا يأملون في إقناعه أن أكثر الطرق التي عليه أن يسلكها أمناً هي إعادة البوربون وأن يقبل منصباً شرفياً مقابل هذا. وشجعوا كتابا مثل مدام دي جينلي de Genlis على الكتابة في هذا الموضوع، وقد صوّرت روايتها مدموازيل دي لا فاليير Mademoiselle de la Valliéve فرنسا في صورة مبهجة في ظل حكم لويس الرابع عشر. ولعبوا على الميول الملكية السرية لبورين، سكرتير بونابرت وعملوا من خلاله على كسب جوزيفين إلى صفهم. لقد كان لهذه المعشوقة تطلعات سياسية مفرطة، لقد كانت تخشى إذا أصبح نابليون ملكاً أن يطلقها ليتزوج أخرى تستطيع أن تلد له وريثاً، وحاول نابليون أن يهدئ مخاوفها ببعض لحظات العشق والدلال

ص: 57

ولكنه منعها من التدخل في السياسات.

لقد كان نابليون يعتقد أن من يهددون سلطانه ليسوا هم الملكيين أو اليعاقبة وإنما الجنرالات الغيورين الذين يقودون الجيش الذي يعتمد عليه في المقام الأول لدعم سلطانه. لقد عبَّر هؤلاء الجنرالات علناً عن سخطهم: مورو وبيشجرو Pichegru، وبيرنادوت Bernadotte ومورا Murat وماسينا، ففي مأدبة غداء دعا إليها مورو أدان بعض الضباط نابليون واصفين إياه بأنه مغتصب ووصفه الجنرال دلما Delmas بأنه غول مجرم وكتب كل من مورو، وماسينا، وبيرنادوت طلبا لرفعه إلى نابليون مفاده أن يكتفي بحكم باريس وضواحيها، وأن يقسِّم بقية فرنسا بينهم مخولاً كل واحد منهم سلطة مطلقة على المنطقة (أو الإقليم) الذي يحكمه وعلى أية حال فإن أياً منهم لم يأخذ على عاتقه تسليم هذا الاقتراح للقنصل الأول. وكان بيرنادوت قائد جيش الغرب في رين Rennes على شفا التمرد أكثر من مرة وفقد أعصابه. وقد قال بونابرت:

"إذا حاقت بي هزيمة فسيكون الجنرالات هم أول من يتخلى عني ".

ويجب أن نفسر خطاب نابليون الذي لا يحمل طابعاً حربياً أمام مجلس الدولة في الرابع من مايو سنة 1802 دون أن نضع هذه الخلفية العسكرية التآمرية في اعتبارنا، بمعنى أنه في خطابه هذا لم يكن يشير بشكل أو بآخر إلى تآمر العسكريين عليه:

"في كل البلاد تنحني القوة أمام الحضارة: تنحني الحربة أمام القس

وأمام من هو أكثر علماً

فما كانت الحكومة العسكرية لتقبض على زمام الأمور في فرنسا لولا أن الأمة قد عانت من الجهل طوال خمسين عاما مما جعلها متوحشة قاسية الفؤاد

وإذا كان لنا أن نستخلص من علاقات أخرى لأدركنا أن الرجل العسكري لا يعرف قانوناً غير القوة ولا شيء سواها

أما الرجل المدني (المتمدن) فعلى العكس لا يرى سوى ما هو صالح. أن شخصية الرجل العسكري تجعله يُملي إرادته أو بتعبير آخر إذا أراد إذا أراد طغى بغية تحقيق إرادته، أما الرجل المتمدن فهو يطرح كل الأمور للمناقشة ويعرضها على العقل ويبسطها بين يدي الحقيقة، غالباً ما يغلِّف الخداع ذلك كله، ولكنه يُلقي مع ذلك ضوءاً

إنني لا أتردد في أن أعزو السمو والفضل للرجل المتمدن بشكل لا يقبل الجدل .. إن الجنود هم أبناء

ص: 58

المواطنين، والجيش الحقيقي إنما هو الأمة ".

اقترح نابليون على رفاقه الحميمين أن خططه لتأسيس فرنسا وتطويرها ستتطلب فترة حكم أطول من العِقْد الذي حصل عليه بالفعل، فقد كان نابليون مستاء من القلاقل ساعياً دوما لمزيد من السلطة. وفي الرابع من شهر أغسطس سنة 1802 أعلن مجلس الشيوخ دستوراً جديداً للسنة العاشرة من الثورة (1801) وزاد هذا الدستور عدد أعضاء مجلس الشيوخ من أربعين إلى ثمانين - وقد عيّن القنصل الأول كل الأعضاء الجدد، وصوَّت أعضاء المجلس على جعل نابليون قنصلاً أول مدى الحياة. وعندما اقترح المعجبون به تخويله حق تعيين خليفته اعترض مبدياً تواضعا غير معتاد تعيين من يخلفني أمر متناقض مع مبدأ سيادة الشعب وهو أمر غير ممكن في فرنسا لكن عندما وافق مجلس الشيوخ - بعد المناقشة - على الاقتراح بواقع 27 (موافقون) و 7 (معارضون)، وجد هؤلاء المعارضون السبعة أن يسحبوا خطأهم فجعلوا القرار بالإجماع، وعندها قبل نابليون متفضلاً باعتبار هذا الأمر (تعيين من يليه في المنصب) قد حظي بموافقة عامة.

وفي 17 أغسطس كان على كل الذكور البالغين المسجلين كمواطنين فرنسيين أن يُدلوا بأصواتهم للإجابة عن سؤالين: أيجب أن يكون نابليون قنصلاً (أول) مدى الحياة؟ أيجب أن يُسمح له باختيار من يخلفه؟ وكانت نتيجة الاستفتاء 3،508،885 موافقون و 8،374 معارضون. ومن المفترض - كما في استفتاءات أخرى - أنه كان للحكومة أساليبها للتشجيع على الموافقة. وتفاعلت البورصة مع نتيجة الاستفتاء مما أنعش الطبقات المالكة: لقد كان الرقم القياسي للأسهم لا يتعدى النقاط السبع قبل تولي نابليون للسلطة وقد ارتفع الآن بسرعة ليصل إلى اثنين وخمسين.

أما وقد آوى نابليون إلى ركن متين فقد أحدث بعض التغييرات في حاشيته. لقد تخيّر مجموعة قليلة العدد من الرجال ليكوّن منهم مجلسه الخاص يستطيع من خلالهم - بعد أن أصبحت سلطته لا تحتمل الجدل - إصدار المراسيم بالإضافة إلى مهامهم الاستشارية، واختصر أعضاء التريبيون Tribunate (مجلس الدفاع عن حقوق

ص: 59

الشعب) من مائة إلى خمسين وجعل مناقشاته من الآن فصاعدا سرية. وأقصى وزير الشرطة (الداخلية) فوشيه النشيط إلا أنه متقلب. ودمج وزارة الداخلية مع وزارة العدل وجعل على رأسها كلود رجنييه Claude Regnier وطرد سكرتيره بوريين Bourrienne في 20 أكتوبر سنة 1802 بعد أن اكتشف أنّّه يستغل مكانته لتحقيق ثروة، وراح من الآن فصاعداً يعوّل على الخدمات المخلصة التي يقدمها له كلود مينيفال Claude Meneval. بعد ذلك أصبحت مذكرات بورين لا يعوِّل عليها لفرط عدائها لنابليون وأصبحت مذكرات مينيفال لا يعول عليها لفرط محاباتها لنابليون. وعلى أية حال - فبتناولهما بحيطة - لا يزالان يكونان أكثر الروايات تعاطفاً عن نابليون الذي شاء قدره أن يمتطي صهوة أوروبا في العشر سنوات القادمة.

وربما كان هذا الاستفتاء الذي جرى سنة 1802 - بالإضافة إلى ما حققه نابليون من انتصار في مارينجو وأمين - هو الذي دمَّر في نابليون النزعة إلى الاعتدال والقدرة على رؤية العلاقات الصحيحة بين الأشياء، وبدونهما تصبح العبقرية على شفا الجنون. لقد وجد براهين قوية وحافزة تبرِّر له اتخاذ كل الخطوات التي تُفضي به إلى السلطة التي تُصيبه بالدوار، فعندما طلب منه زعماء الجمهورية السيزالبية (جمهورية الألب الشمالية Cisalpine) المتمركزون في ميلان أن يساعدهم في وضع دستور قدم لهم واحداً ينص على اختيار ثلاثة منتَخبين (بفتح التاء) يختارون لجنة من صلاحياتها تعيين أعضاء الهيئة التشريعية ومجلس الشيوخ ومجلس الدولة الذين يختارون بدورهم الرئيس (ويتم اختيار المنتخبين الثلاثة من ملاك الأراضي ورجال الأعمال والفنيين على التوالي).

وبالفعل اجتمع المندوبون في ليون في يناير سنة 1802 وأقروا هذا الدستور ودعوا نابليون الذي كانوا ينظرون إليه كإيطالي في فرنسا - ليكون أول رئيس للدولة الجديدة. فقدم من باريس ليخطب فيهم بالإيطالية، وفي 26 يناير أصبح قنصل فرنسا الأول هو رئيس الجمهورية الإيطالية وسط مظاهر الفرحة والابتهاج. واعترى الذهول كل أوروبا فماذا بعد، وماذا سيفعل هذا الساحر المنوِّم في خطوته التالية.

وزاد الحذر عندما ألحق بيدمونت Piedmont بفرنسا. لقد احتل الفرنسيون قدم الجبل

ص: 60

في سنة 1798. لقد كانت تقع وراء الحدود الطبيعية لفرنسا والتي تعهد نابليون بحمايتها. وعلى أية حال فلو استعادها ملك سردنيا لأصبحت عازلاً معاديا بين فرنسا ومحمياتها الإيطالية في ليجوريا Liguria ولومباردي Lombardy، وفي الرابع من سبتمبر سنة 1802 أعلن نابليون أنَّ بيدمونت جزءٌ من فرنسا.

وفي سويسرا حيث سبق أن وجد طرقاً كثيرة تؤدي إلى إيطاليا لم يستطع أن يتقدم بمثل هذه الثقة، فقد كانت كانتوناتها cantons (ولاياتها) القوية تغص برجال اعتبروا - عبر القرون - الحرية أثمن من الحياة نفسها، وكانوا على استعداد لتكبيد أي غازٍ خسائر فادحة. وعلى أية حال فقد رحَّب غالب السويسريين بالمُثُل العليا الفرنسية المعلنة في سنة 1789، وفي سنة 1798 كوَّنوا الجمهورية السويسرية (الهلفيتة Helvetic) تحت حماية فرنسا. وقاوم ملاَّك الأراضي الشاسعة هذا الإجراء وجنّدوا فلاحيهم وكوَّنوا حكومة مُنفصلة في بيرن Bern وتحدوا الجمهورية الخاضعة للحماية الفرنسية والتي اتخذت عاصمة لها لوزان Lausanne .

وأرسل كل من الطرفين مندوبا مفوضاً إلى نابليون لطلب تأييده، فرفض نابليون مقابلة مندوب بيرن الذي اتخذ طريقه بعد ذلك لطلب العون من انجلترا، فأرسلت أموالاً وأسلحة لهؤلاء الأوليجاركيين Oligarchs وأرسل نابليون جنوداً للجمهوريين (في نوفمبر سنة 1802) فاستطاعوا بهم قمع تمرد بيرن (ملاّك الأراضي) وسوَّى نابليون النزاع بين الطرفين وفقاً لإعلان تسوية (في 19 فبراير سنة 1803) الذي نشأت بمقتضاه كونفدرالية Confederation سويسرية من تسعة عشر كانتون (ولاية) مستقل لكل واحد منها دستوره الخاص به، وكلها تحت الحماية الفرنسية ومُلزمة بإرسال عدد معين من الجنود للجيش الفرنسي. ورغم هذه المادة، فإن إعلان التسوية - بشهادة انجلترا - قد لاقى قبولا من كثير من الجهات وأصبح بلا شك حائزاً على القبول في الكونتونات (الولايات السويسرية).

ومع ذلك فإن الحكومة الإنجليزية نظرت إلى التحركات الفرنسية المتوالية - في لومبارديا وبيدمونت وسويسرا - كتوسع خطير للنفوذ الفرنسي يدمّر توازن القوى في أوروبا، ذلك التوازن الذي كان قد أصبح حجر الزاوية للسياسة البريطانية في القارة. ومما سبّب لبريطانيا مزيدا من القلق، ما نشرته جريدة المونيتور Moniteur في عددها الصادر في 30 يناير سنة

ص: 61

1803 عن تقرير رسمي قدمه للحكومة الفرنسية الكونت هوراس سيباستياني Horace Sebastiani الذي كان نابليون قد أرسله لدراسة دفاعات القاهرة والقدس ويافا وعكا، وذكر التقرير أن ستة آلاف جندي كافين .. لفتح مصر وأثارت هذه الوثيقة شكوك بريطانيا مخافة أن يكون نابليون يفكر في إعداد حملة أخرى لغزو مصر. وشعرت الحكومة البريطانية أنها لا يجب أن تفكر بعد الآن في إخلاء مالطة والإسكندرية فهما الآن ضروريان للدفاع عن السيادة البريطانية في البحر المتوسط.

ولازال هناك ازدياد آخر لنفوذ نابليون أثار بريطانيا. فمعاهدة لونيفيل Lunéville اشترطت ضرورة تعويض حكام المديريات الألمان غرب الرين الذين تخلّوا عن 4،375 ميل مربع من الأرضي ذوات العائد الضرائبي باعترافهم بالسيادة الفرنسية على المنطقة، اشترطت تعويضهم بمديريات أخرى شرق النهر. وأرسل عشرون نبيلاً ألمانياً ممثلين إلى باريس للحث على تنفيذ مطالبهم.

واشتركت بروسيا وروسيا في الصيد، وجمع تاليران مبالغ أخرى كبقشيش (حَلَوان Pourboires) وأخيراً تم التوزيع بإقامة مدن دول City-States وإضفاء الطابع العلماني عليها بعد أن كان يحكمها طوال قرون أساقفة كاثوليك. وكان هدف نابليون من هذا إقامة كونفدرالية الراين كدولة عازلة بين فرنسا من ناحية والنمسا وبروسيا من ناحية أخرى. واحتجت النمسا على أساس أن قلب هذه الدويلات قد يكون دليلاً على خطورة أخرى لتفكيك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكان الأمر كذلك بالفعل.

وتساءل العسكريون الإنجليز وقد أغضبهم اتساع الرقعة التي تسيطر عليها جيوش نابليون، ما إذا كانت الحرب أقل تكلفة من مثل هذا السلام. واعترض رجال الصناعة البريطانيون على سيطرة فرنسا على الراين مما يجعلها وسيطاً بين التجارة البريطانية ومعظم الأسواق الأوروبية المُربحة. واشتكى التجار من أنه بينما أنهى صلح أمين حصار بريطانيا للسواحل الفرنسية فإن الفرنسيين فرضوا حظراً على استيراد المنتجات البريطانية التي تنافس مثيلاتها الفرنسية.

وأدانت الارستقراطية البريطانية السلام باعتباره استسلاما مُخزياً للثورة الفرنسية. واتفقت كل الأحزاب البريطانية تقريباً على ضرورة التمسك بمالطة، وفي هذه الأثناء راحت

ص: 62

الصحف البريطانية تَسُبّ نابليون قصصاً ومقالات ورسوماً، فاشتكى نابليون للحكومة البريطانية التي أجابته بأن الصحافة فيها حرة. فأمر (أي نابليون) الصحف الفرنسية أن تكيل لبريطانيا من السلعة نفسها.

وأصبحت العلاقة بين الحكومتين تقترب شيئاً فشيئا من الحرب، فقد أخبر السفير البريطاني اللورد هوتيورث Whitworth نابليون - بجفاء أن بريطانيا لن تترك مالطة حتى تقدم الحكومة الفرنسية تفسيراً مُرضياً لحركاتها التوسعية منذ عقد صلح أمين وفي 13 مارس سنة 1803، واجه نابليون السفير البريطاني هوريتورث وسط جمع غفير من أصحاب المقام الرفيع من فرنسيين وأجانب كما لو كان في معركة مُتَّهماً بريطانيا بانتهاك معاهدة السلام والاستعداد للحرب، وأصيب هوريتورث بالرعب لهذا الانتهاك الصارخ للأصول الدبلوماسية ففضَّل التعامل مع تاليران الذي يعرف كيف يُلبس الحقائق لبوساً يجعلها تبدو ودية.

وفي 25 أبريل تلقى هويتورث تعليمات من حكومته بتوجيه إنذار مؤدّاه أنه لابد أن توافق فرنسا على احتفاظ انجلترا بجزيرة مالطة لمدة عشر سنوات على الأقل، ويجب أن تنسحب (أي فرنسا) من هولندا وسويسرا وإيطاليا ويجب أن تعوَّض ملك سردنيا عن ضياع بيدمونت منه في الحرب التي جرت مؤخراً. وسخر نابليون من هذه المقترحات فطلب هويتورث جواز سفره فحصل عليه، وراح الطرفان يستعدان للحرب.

ولأن نابليون قد تحقَّق من سيطرة إنجلترا على البحار وأنه يمكنها الاستيلاء على أية مستعمرة فرنسية فقد باع لويزيانا للولايات المتحدة بمبلغ ثمانين بليون فرنك في 3 مايو سنة 1803 وزوّدت انجلترا قواتها البحرية بتعليمات - مع أنها رسمياً لازالت في سلام مع فرنسا - للاستيلاء أي سفينة فرنسية تلقاها. وتم إعلان الحرب رسمياً في 16 مايو سنة 1803 واستمرت إثني عشر عاماً.

ومنذ هذه اللحظة المريرة انسحب نابليون كإداري من التاريخ، واسترد نابليون الجنرال ابن الرابعة والثلاثين روحه الحربي، فأمر بالقبض على كل البريتون Briton الذين لازالوا موجودين على الأرض الفرنسية. وأمر فجأة جنراله مورتييه بالاستيلاء على هانوفر قبل أن تتحوّل إلى قاعدة عسكرية على يد جورج الثالث الهانوفري.

ص: 63

وما أحنقه انه خلال عِقْد من الصراع مع انجلترا موّلت فيها جيوش أوروبا ضد فرنسا وحاصرت الموانئ الفرنسية واستولت على السفن الفرنسية، وظلت - مع ذلك - هي نفسها بمنأىً عن الهجوم. وقد آن الآن أوان ما يرفضه في اللحظات التي كان فيها أكثر هدوءاً باعتباره حلماً غير عملي، لقد قرّر أن يحاول عبور هذه القناة اللعينة ليذيق هؤلاء التجار ورجال المال ويلات الحرب على أرضهم، ويكْوى بها جلودهم.

لقد أمر جنرالاته بجمع 150،000 رجل و 10،000 حصان على طول الساحل عند بولوني ودنكرك Dunkirk وأوستند Ostend، وأمر أدميرالاته بإعداد أسطول قوي في بريست Brest وركفورت Rochefort وطولون Toulon، وأن يُبحر بعد تجهيزه ويحارب ليشق طريقه بين شبكة السفن البريطانية المتناثرة إلى الموانئ حيث سيكون ملايين العمال مستعدين في انتظارهم حولي بولوني Boulogne، وفي هذه الموانئ سيقوم الرجال ببناء مئات من سفن النقل مختلفة الأنواع. وراح نابليون نفسه يغادر باريس بشكل متكرر لتفقّد المعسكرات وأحواض السفن ليطمئن على تقدم مشروعه وليرفع من روح الجنود والبحارة والعمال.

وراحت السفن الحربية البريطانية تُحكم الرقابة في القناة وعلى طول الساحل الإنجليزي - في دوفر Dover وديل Deal وفي كل مكان - راح آلاف الوطنيين يُحكمون المراقبة ليل نهار مُصرِّين على المقاومة حتى الموت لمحق أية محاولة لغزو سواحلهم التي لا تُنتهك حرمتها.

‌5 - المؤامرة الكُبرى:

من 1803 إلى 1804 م

في ليلة 21 أغسطس سنة 1803 أحضرت فرقاطقة بريطانية يقودها القبطان ريت Wright عَبْر القنال الإنجليزي من إنجلترا ثمانية فرنسيين على رأسهم جورج كادودال George Cadoudal الثائر العنيد الذي يقود الثوار الملكيين الذين لم تُفلح الثورة الفرنسية في ترويضهم. لقد أنزلتهم الفرقاطة على منحدر صخري بالقرب من بيفيل Biville في نورمنديا Normandy حيث سحبتهم عُصبة من الرجال كانوا على اتفاق سابق معهم - بالحبال. وفي العاشر من ديسمبر أحضر القبطان ريت من إنجلترا إلى بيفيل مجموعة

ص: 64

ثانية من المتآمرين بمن فيهم النبيل الذي هاجر من فرنسا عقب أحداث الثورة أرمان دي بوليناك Armand de Polignac،

وفي العبور الثالث في 16 يناير سنة 1804 أحضر القبطان جول دي بوليناك Jules والجنرالين الفرنسيين المهاجرين بيشجرو Pichegru ولاجولي Lagolais، وكان بيشجرو قد تآمر - بعد أن أحرز انتصارات مع جيوش الثورة - مع البوربون لإعادتهم للعرش فلما افتُضح أمره ولَّى مُدبراً إلى إنجلترا. وكان هذا في سنة 1801. واتخذت المجموعات الثلاث طريقها إلى باريس حيث اختبئوا في بيوت أنصار المَلكية (بفتح الميم) واعترف كادودال في وقت لاحق أنَّه كان يخطط لاختطاف نابليون فإن قاوم قتله. وربما جاز لنا تصديق أن الحكومة البريطانية قد زوّدت كادودال بمبلغ مليون فرنك لتمكينه من تنظيم عصيان مسلح في العاصمة باريس لكن ليس هناك دليل على أَنَّ الحكومة البريطانية قد وافقت على الاغتيال.

وأخَّر المتآمرون تنفيذ الخطة متوقِّعين أن ينضم إليهم في باريس الكونت درتوا d'Artois أخو لويس السادس عشر الأصغر لأنه كان مستعداً لتولي أمر فرنسا بعد نابليون، لكنه لم يأتِ. وفي هذه الأثناء (28 يناير سنة 1804) زار بيشجرو الجنرال مورو وطلب منه التعاون مع المتآمرين. لكن مورو رفض أن يشترك في أية محاولة لإعادة البوربون وإنما عرض نفسه كحاكم لفرنسا إذا تمت إزاحة نابليون. وفي حوالي هذا التاريخ قدَّم بيرنادوت لجوليت ريكامييه Juliette Recamier أسماء عشرين جنرالاً قال إنهم مخلصون له ومستعدون بتوق شديد لإعادة الجمهورية الحقيقية وقد استدعى نابليون إلى ذاكرته عندما كان في سانت هيلينا هذه الأيام فقال:

"لا أبالغ إن قلت إنني خلال الشهور من سبتمبر سنة 1803 إلى يناير سنة 1804 كنت جالساً فوق بركان ".

وفي 26 يناير أَدلى ثائر ملكي اسمه كوريل Querell - كان قد قُبض عليه منذ ثلاثة أشهر وحُكم عليه بالإعدام - بتفاصيل عن المؤامرة مقابل تخفيف الحكم عليه. واسترشاداً باعترافه تمكَّنت شرطة كلود ريجنييه Claude Regnier بطيئة الحركة من العثور على مورو وألقت القبض عليه في 15 فبراير كما قبضت على بيشجرو في السادس والعشرين

ص: 65

من الشهر نفسه، وعلى الأخوين بوليناك في 27 فبراير، وعلى كادودال في 29 مارس. وقد اعترف كادودال بفخر أنَّه كان يُخطط لإزاحة نابليون من السلطة وأنه كان يتوقع أن يقابله أمير فرنسي في باريس، لكنه رفض أن يدلي باسم أيٍّ ممن شركائه في المؤامرة.

وفي هذه الأثناء كان مفوَّض بريطاني يدير مجموعة أخرى من المتآمرين في ميونخ وبالقرب منها وقد وضع خطة لبث دعاية ضد نابليون في المناطق الفرنسية الجديدة على الشاطئ الغربي للراين. وإذا كان لنا أن نُصدِّق مينيفال Meneval فقد صدر أمر مجلس الملك البريطاني بأن يُفرض على المنفيِّين الفرنسيين التعامل مالياً مع بنوك الراين ومن لم يمتثل صودر معاشه (راتبه)، ووُضِعت الإجراءات لتحديد المبالغ المخصصة لكل ضابط وكل جندي وعندما علم نابليون عن طريق جواسيسه بهذه التطورات استنتج أن أمير أسرة البوربون الذي كان متآمري لندن ينتظرونه إنما كان من بين هؤلاء المهاجرين.

ولم يكن ممكناً أن يكون الكونت درتوا بينهم وإنما كان في مدينة إتنهيم Ettenheim الصغيرة التي تقع على بعد حوالي ستة أميال شرق الراين في مقاطعة بادن Baden، واكتشف رجال نابليون أنه كان يعيش حياة هادئة إلاّ أنه كان يزور في المناسبات - لكن بطريقة تدعو للشك - لويس أنطوان هنري دي بوربون - كونديه Louis - Antoine - Henri de Bourbon Conde ودوق دنجهين (وتكتب دنجيان) d'Enghein ابن دوق دي بوربون وحفيد الأمير دي كونديه وجميعهم في ستراسبورج.

وعندما وصل هذا التقرير إلى نابليون خَلُص بأن هذا الدوق البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاما هو قائد مؤامرة إقصائه عن الحكم. فاعترافات كوريل Querelle وعمليات القبض التي جرت مؤخراً في باريس أوقعت الجنرال المتسم دوماً بالجسارة في حالة من الذهول حتى أنَّه - ربما نتيجة الخوف والحنق - تعجّل في قراراته التي دافع عنها دوماً وربما كان يأسف لها بينه وبين نفسه. لقد أصدر تعليماته للجنرال أوردنية Ordener بأن يتجه على رأس قوة مسلحة إلى إتنهايم ويقبض على الدوق ويحضره إلى باريس، وبالفعل تم القبض على الدوق في ليلة 14/ 15 مارس سنة 1804 وفي 18 مارس أودع سجن حصن فيسين

ص: 66

Vincennes إلى الشرق من باريس بخمسة أميال.

وفي 20 مارس أمر نابليون محكمة عسكرية من خمسة كولونيلات وماجور major بالتوجه إلى فينسين لمحاكمة الدوق بتهمة تقاضي أموال من إنجلترا للتآمر عسكرياً على وطنه. وفي الوقت نفسه تقريباً أرسل الجنرال سافاري Sarvary - رئيس شرطته الخاصة - لمراقبة السجن وإجراءات محاكمته. لقد اعترف إنجهين Enghien (انجيان) بأن كان قد تلقى أموالاً من السلطات الإنجليزية وأنه كان يأمل في قيادة قوة عسكرية في الالزاس، وأعلنت المحكمة أنها وجدته مذنباً بتهمة الخيانة وحكمت عليه بالإعدام. فطلب الإذن برؤية نابليون فرفضت المحكمة طلبه لكنها اقترحت أن يرسل له رسالة يطلب فيها الرأفة، وتخطى سافاري هذا الاقتراح وأمر بتنفيذ حكم الإعدام.

وفي هذه الأثناء كان نابليون والمقربون منه في المقر الذي تقيم فيه جوزيفين يناقشون مصير الدوق. لقد استنتجوا أنه سيكون مُدانا - لكن هل يمكن العَفْو عنه كإشارة سلام للملكيِّين؟ أما تاليران - الذي أيّد في سنة 1814 عودة البوربون - فقد كان رأيه التعجيل بإعدامه كوسيلة سريعة لإنهاء آمال الملكيِّين ومؤامراتهم، بعد أن تذكر أدواره (أي أدوار تاليران) في الثورة وخوفاً على ثروته وربما حياته إذا عاد البوربون للسلطة. لقد كتب بارّا Barras إن تاليران كان راغباً في حفر نهر من الدم بين نابليون والبوربون أما كامباسير - أهدأ القناصلة الثلاثة وأكثرهم ميلاً للشرعية - فكان يفضل التريّث. أما جوزيفين فقد خرَّت عند قدمي نابليون مدافعة عن حياة إنجهين (انجيان)، وتضرّع إلى نابليون أيضاً للعفو عنه ابنة جوزيفين (هورتنس) وأخت نابليون كارولين.

وأرسل نابليون ليلاً هوج مار Hugues Maret إلى باريس برسالة إلى بيير ريل Pierre Real عضو مجلس الدولة يأمره بالتوجه إلى فينسين ليستجوب الدوق شخصيا ويرسل النتيجة إليه، وتلقّى ريل الرسالة ولكنه خرَّ نائماً في غرفته بسبب الإنهاك في العمل طوال النهار ولم يصل إلى فينسين حتى الساعة الخامسة عصراً في 21 مارس، وكان حُكم الإعدام قد نُفِّذ في دنجهين (انجيان) رمياً بالرصاص في ساحة السجن في الساعة الثالثة عصراً. وظن سافاري أنه قد خدم سيدة (نابليون) خدمة جليلة فاتجه إلى مقر نابليون عند جوزيفين ليزف

ص: 67

إليه الأخبار فتراجع نابليون إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب ورفض توسلات زوجته لدخولها غرفته.

وانتقد المناصرون للملكية وأفراد الأسرة المالكة ما حدث انتقادا مريرا. لقد روَّعتهم فكرة أن يَقْتلَ واحد من العامة فرداً من أفراد أسرة البوربون. وأرسل مجلس الوزراء في كل من روسيا والسويد احتجاجاً إلى دايت Diet الإمبراطورية الرومانية المقدسة في راتيسبون Ratisbon مع اقتراح بأن يكون غزو القوات الفرنسية لبادن Baden موضوعا لتحقيق دولي. ولم يُجب الدايت ورفض ناخب Elector بادن إدانة فرنسا. وزوَّد القيصر اسكندر الأول Czar Alexander I سفيره بباريس بتعليمات لطلب تفسير لهذا الإعدام، فأجاب تاليران بحجة مفحمة: لو كانت إنجلترا تدبِّر لاغتيال بول الأول، وعُرِف أن مدبِّري المؤامرة على مرمى حجر من الحدود، ألم يكن العمل يجري على قدم وساق للقبض عليهم بأقصى سرعة؟ أما وليم بت Pitt، فقد كان أكثر ما يكون ارتياحا عندما وصلته أخبار الإعدام إذ قال لقد ألحق بونابرت من الأذى بنفسه أكثر مما ألحقناه به منذ إعلان الحرب الأخيرة.

أما رد الفعل في فرنسا نفسها فكان أكثر اعتدالا مما توقع كثيرون، فقد استقال شاتوبريان Chateaubriand من منصب قليل الشأن في وزارة الخارجية، لكن أصبحت الكرة في ملعب تاليران وزير الخارجية رابط الجأش في 24 مارس (بعد إعدام إنجهين بثلاثة أيام) حضر إليه عشرون من نبلاء فرنسا القدامى وممثلون من كل بلاطات أوروبا. وبعد الحادث بثلاثة أشهر بدا أنه لم يعد محل اهتمام من الرأي العام الفرنسي، إلاّ أن فوشيه الذي كان يُراقب الأمور بذكاء علّق على الإعدام قائلا:"إنه ليس جريمة. إنه أكثر من جريمة. أنه خطأ فادح ".

وربما شعر نابليون ببعض الندم لكنه لم يعترف بذلك أبداً، لقد قال:

"هؤلاء الناس أرادوا أن يوقعوا الفوضى في فرنسا وأن يدمّروا الثورة بتدميري. لقد كان من واجبي أن أدافع عن الثورة وأن أثأر لها

لقد كان انجهين متآمراً كأي متآمر آخر وكان لابد من معاملته على هذا الأساس .. لقد كان علينا أن نختار بين اضطهاده اضطهادا دائما

ص: 68

وتوجيه ضربة قاضية. ولم يكن قراري موضع شك لقد أسكتُّ إلى الأبد أنصار الملكية واليعاقبة ".

لقد أظهر لهم ألاّ أحد بقادر على بث الرعب في قلبه وأن دمه ليس رخيصاً (ليس مجرّد ماء خندق). لقد ظن - وله بعض الحق - أنه بث الرعب بعقوبة الإعدام في قلوب أنصار الملكية المتآمرين الذين رأوا الآن رأى العين انه حتى لو كانت دماء البوربون تسري في عروقهم فإن ذلك لن يعصمهم من الإعدام. ومن الناحية الفعلية فقد كفَّت المؤامرات الملكية الهادفة لقتل نابليون.

وفيما يتعلق بالمتآمرين الذين سبق أن قُبض عليهم في باريس فقد التزم مزيداً من الحذر. فقد جرت المحاكمات علناً وسمح للصحف بالكتابة عنها بتفصيل. ورغم أن بوريين كان معارضاً لإعدام إنجهين إلاّ أن نابليون طلب منه حضور المحاكمات ليقدم له تقريراً عن سيْر الأمور فيها. ولم ينتظر بيشجرو حتى يتم تقديمه للمحاكمة ففي الرابع من شهر أبريل عُثر عليه ميتاً في زنزانته خنقاً برباط عنقه (كرافتته) وفي حالات أخرى اعترف المذنب أو قدم البراهين الدالة على براءته أما بالنسبة لمورو فلم يكن هناك أدنى شك أنه معاد لنابليون بشكل واضح وأنه أخفى عن السلطات الفرنسية معلوماته التي مؤدّاها أن بيشجرو وآخرين كانوا يُدبِّرون للإطاحة به (بنابليون) بالقوّة.

وفي العاشر من يونيو سنة 1804 أعلنت المحكمة الأحكام: "تسعة عشر متآمراً حُكم عليهم بالموت، وحُكم على مورو بالسجن لمدة عامين". ولم يندم كادودال على تآمره وأُعدم في 28 يونيو. ومن بين المتآمرين الباقين البالغ عددهم ثمانية عشر متآمراً عفا نابليون عن اثنى عشر منهم بمن فيهم الأخوين بوليناك. والتمس مورو نفيه بدلاً من سجنه ووافق نابليون على ذلك رغم أنه تنبأ بأن مورو سيواصل التآمر عليه. واستقل مورو سفينة إلى أميركا ومكث بها حتى سنة 1812 ثم عاد للخدمة في الجيش الروسي وحارب ضد نابليون في دريسدن Dresden (29 أغسطس 1813) ومات متأثراً بجروحه في الثاني من سبتمبر ودُفن في روسيا.

ص: 69

‌6 - الطريق إلى الإمبراطورية:

عام 1804 م

وبينما نابليون يتأمل في أمر المؤامرة اعترته الدهشة لم يتحتم عليه أن يمارس عمله في ظل تهديد دائم باغتياله، بينماـ الحكام الذين تحالفوا ضده مراراً - جورج الثالث في إنجلترا وفرنسوا الثاني في النمسا والإمبراطورية الرمانية المقدسة وفريدريك وليم الثالث في بروسيا واسكندر الأول في روسيا - يمكن للواحد منهم أن يُواصل حكمه حتى يوافيه الموت بشكل طبيعي، كما يمكن للواحد منهم أن يُعَوِّل على نقل سلطته إلى وريثه الطبيعي أو المُعيَّن. ووجد أن هذا لا يمكن أن يكون بسبب أخذهم بأساليب الحكم الديمقراطي سياسة وتعييناً. لقد ظهر له أن السر الكامن في استقرار أوضاعهم يكمن في شرعيتهم - أي رسوخ مبدأ الوراثة في الحكم في الرأي العام بسبب اعتيادهم عليه طوال أجيال وقرون.

لقد كان نابليون يحلم بينه وبين نفسه بالحكم المطلق الخالص بل وأن يكون مؤسس أسرة حاكمة تكتسب شرعيتها بمرور الزمن وتكتسب عبير العراقة. لقد شعر أن الأعمال التي يتطلع لإنجازها تتطلب استقراراً واستمرارية كالتي يتسم بهما الحكم المطلق. لقد وضع في اعتباره كيف أن قيصر أدخل القوانين الرومانية والحضارة الرومانية إلى بلاد غال Gaul وأبعد الجرمان إلى ما وراء الراين واكتسب لقب إمبراطور والقائد العام - حسناً، ألم يفعل نابليون هذا؟ وفكر نابليون كيف أن أوغسطس أنجز الكثير خلال فترة حكمه الإمبراطوري الذي دام واحداً وأربعين عاماً بعد أن أنهى الفوضى التي سببها العامة مُتلقياً دعم أعضاء السينات (مجلس الشيوخ) الذين كانوا على درجة كافية من الحكمة تجعلهم يتخلون عن المناقشات الطويلة واللَّغْو مُخْلين الطريق أمام العبقرية. وان نابليون ابن إيطاليا والذي يُكنُّ إعجاباً بالرومان القدماء يتطلع إلى مثل هذا الاستمرار في الحكم الذي لا يُعكِّر صفوه شيء وإلى الحق في تعيين من يَخْلُفه على نحو ما كان يفعل أباطرة القرن الثاني.

وكان يفكر أيضاً في شارلمان وغالباً ما كان يتحدث عنه. شارلمان الذي استمر حكمه ستة وأربعين عاما (768 - 814) ففزض النظام على بلاد غال وجلب لها الرخاء ونشر قوانين الفرانكيين (الفرنج Franks) - كقوة متحضرة - في ألمانيا وإيطاليا، ونال مباركة البابا، ألم

ص: 70

يفعل نابليون كل ذلك؟ ألم يُعِد لفرنسا دينها الذي قمع الشغب الوثني الذي أطلقته الثورة من عقاله؟ ألا يستحق - مثل شارلمان - التاج مدى الحياة؟

لم يكن أوغسطس ولا شارلمان يؤمنان بالديمقراطية ولم يكونا لِيُخْضِعا أحكامهما المصقولة الحكيمة وسياساتهما بعيدة النظر وخططهما المستقبلية لنقد ممثلي الجماهير الساذجة المتسم بالميل للأسفاف ومناقشاتهم غير المجدية لكونهم عُرضة لقبول الرشاوى. لقد عرف قيصر وأوغسطس الديمقراطية الرومانية في أيام شراء أصوات الناخبين مع أيام ميلو Milo وكلوديوس Clodius، وما كان لهما أن يحكما توصية من جماهير لا عقل لها. لقد شهد نابليون الديمقراطية الباريسية في سنة 1792 وشعر أنه لا يستطيع أن يقرر (ويعمل) باسم الجماهير الملتهبة عواطفها. لقد آن الأوان لطي صفحة الثورة وتعزيز مكاسبها الأساسية وإنهاء الفوضى والقلق والحرب بين الطبقات.

والآن بعد أن طارد أنصار الملكية بأحكام الإعدام، أصبح مُستعداً لقبول دعواهم الرئيسية التي مؤدّاها أنّ فرنسا ليست مستعدّة - عاطفياً أو عقلياً - لحكم نفسها بنفسها (المقصود ليست مستعدة للحكم الديمقراطي) وأن شكلاً من أشكال الحكم الفاشستي أمرٌ لا مفر منه. وفي سنة 1804 - وفقاً لما ذكرته مدام دي ريموزا Remusat بدأ أشخاص مُعيَّنون مُرْتبطون على نحو ما بالأمور السياسية يؤكدون أن فرنسا تشعر بضرورة حق السلطة في الحكم المطلق. ورأى السياسيون من الحاشية والمؤيدون للثورة أن استتباب الهدوء في البلاد يعتمد على حياة فرد واحد وراحوا يناقشون عدم استقرار نظام القنصلية. لقد مالت آراء الجميع شيئاً فشياً إلى الملكية. واتفق نابليون معهم، فقد ذكر لمدام ريموزا أن الفرنسيين يحبون الملكية وكل زخارفها.

وعلى هذا، فإنه ليبدأ الطريق إليها، قدَّم للفرنسيين كل زخارف الملكية (بهارجها الخارجية) فأمر القناصل بارتداء زى رسمي وكذلك الوزراء وأفراد الحكومة الآخرون. وشاع استخدام المخمل في صنع هذه الملابس، وكان هذا في جانب منه لتشجيع صُنّاع المخمل في ليون. وجعل نابليون في خدمته الشخصية أربعة جنرالات وثمانية معاونين وأربعة مديرين

ص: 71

وللشرطة اثنين من السكرتيرين. وشهدت المحكمة القنصلية بروتوكولات معقدة، وفُرِض فيها نمطُ سلوك خاص (اتيكيت) يضارع ما كان في العهد الملكي. وعُيّن الكونت أوجست دي ريموزا قيِّما على المراسم، بينما أصبحت زوجته كلير Claire على رأس أربع سيّدات لمرافقة جوزيفين

وأضاف الخدم ذوو الملابس المزركشة والمركبات المزدانة مزيداً من التعقيد للحياة الرسمية. وقد راعى نابليون كل هذه المراسم أمام الجماهير أما عندما يكن بعيداً عن عيون العامة فإنَّه يجنح إلى بساطته التي اعتاد عليها. وعلى أية حال، فإنّه كان يبتسم ابتسامة الرضا والموافقة في مهرجانات البلاط وعندما يرى الملابس التنكرية في الكرنفالات وعند قيامه بزيارات رسمية للأوبرا حيث تعرض زوجته عباءاتها (الغالية) مذكِّرة بأميرة أخرى مُسْرفة ماتت مؤخراً ميتة تثير الشفقة. لقد دلَّلته باريس كما دلّل هو جوزيفين، ومع ذلك فلم يكن نابليون هذا الحاكم الشاب لينخرط في الأناقة المتكلَّفة والمظاهر الكاذبة فما كان لمن جمع بين إهابة روح أوغسطس الإدارية وانتصارات قيصر ليفعل ذلك. لقد بدا من الطبيعي أن يصبح نابليون إمبراطوراً.

ومن الغريب أن نقول أن كثيراً من الجماعات سمعت - بلا امتعاض - الإشاعات التي مؤدّاها أنه على وشك أن يتوَّج. لقد كان هناك حوالي 1،200،000 فرنسي قد اشتروا من الدولة ممتلكات صادرتها من الكنيسة أو من المهاجرين الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة. وهؤلاء كانوا يرون أنه لا ضمان لسندات ملكيتهم خير من منع عودة البوربون ورأوا في استمرار سلطة نابليون خير ضمان لمنع وقوع كارثة بسلبهم ما اشتروه. وكان الفلاحون يفكرون على النحو نفسه، أما البروليتاريا فكانت منقسمة إذ كانت لا تزال مغرمة بالثورة باعتبارها - إلى حد كبير - من عملها لكنها أيضاً كانت مرتاحة للتوظيف الثابت والأجور الطيبة الذين أتاحهما الحكم القنصلي.

بالإضافة إلى أن أفرادها لم يكونوا بعيدين عن الإحساس بالعظمة أو مستثنين من الإحساس بفتنة الإمبراطورية وسحرها، وربما كانوا في هذا يفوقون كل أولئك الذين ناضلوا من أجل فرنسا. أما البورجوازية فكانت متشككة في الأباطرة إلاّ أن هذا الإمبراطور المرتقب (نابليون) كان هو رجلهم المخلص والنشط. وكان المحامون الذين نشئوا في أحضان القانون الروماني في غالبهم ميّالين إلى تحويل فرنسا

ص: 72

إمبراطورية لتواصل عمل أوغسطس والأباطرة الفلاسفة من نيرفا Nera إلى ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius، بل أن الملكيّين كانوا يرون أنه حتى لو لم يستطيعوا إعادة سلالة البوربون فإنها خطوة للأمام إن عادت الملكية لفرنسا. أما الإكليروس clergy فإنهم رغم معرفتهم أن تقوى نابليون ما هي إلاّ غطاء سياسي فقد كانوا ممتنين لإعادة الكنيسة. وكادت كل الطبقات خارج باريس تؤمن بأن الحكومة الملكية المستقرة هي وحدها التي تستطيع ضبط النَّزَق الفردي والانقسام الطبقي الذي يُدَمْدم تحت قشرة الحضارة أو بتعبير آخر الكامن في الحضارة التي لا تشكل سوى قشرة خارجية.

ومع هذا فقد كانت هناك أصواتٌ معارضة فباريس التي سبق أن قامت بالثورة وعانت من أجلها ما كان لها أن تتخلى عنها بكل دساتيرها التي تُتيح قدراً من الديمقراطية كَثُر هذا القدر أم قل - دون أسف عليها جهراً أم سراً. والزعماء اليعاقبة الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة رأوا في التغيير المتوقَّع نهاية لدورهم في توجيه فرنسا، وربما نهاية لحياتهم. والذين كانوا قد صوَّتوا لإعدام لويس السادس عشر قد علموا الآن أن نابليون قد استثمر اشتراكهم في قتل الملك، وكان عليهم أن يعتمدوا على فوشيه ليحميهم لكن فوشيه كان يمكن أن يُطرد مرة أخرى. والجنرالات الذين كانوا يأملون في اقتسام فرنسا معه ومشاركته السلطة لعنوا الحركة التي كانت تُعد لإلباس الثياب الملكية الأورجوانية لهذا التافه القادم من كورسيكا. أما الفلاسفة والعلماء في المعهد الفرنسي فحزنوا لأن واحداً من أعضاء معهدهم (نابليون) كان يخطط لإسقاط الديمقراطية في استفتاء إمبراطوري.

حتى بين أفراد الأسرة المالكة كانت هناك مشاعر متضاربة. فقد كانت جوزيفين تُعارض بخوفٍ أيَّ اتجاه نحو الإمبراطورية فإذا أصبح نابليون إمبراطوراً صار أكثر توقاً لوريث، وبالتالي مال لتطليقها فهو لا يتوقع أن تنجب له ولياً للعهد، وإذا ما تم طلاقها فقدت في لحظات عالمها المتألق العامر بالملابس الغالية والمجوهرات. وكان أخوة نابليون وأخواته يحثونه منذ زمن طويل على طلاقها. لقد كانوا يكرهون هذه الكرول Creole العاهرة اللعوب كعقبة في سبيل أحلامهم لتحقيق السلطة. والآن فإنهم يؤيدون الاتجاه للإمبراطورية كخطوة

ص: 73

لإزاحة جوزيفين، وقد صاغ جوزيف أخو نابليون القضية كالتالي: مؤامرة كادودال ومورو حتمت إعلان مبدأ الوراثة كأساس للحكم. فقد تؤدي حركة مفاجئة إلى الإطاحة بنابليون كقنصل (أول) ومن ثم فإن مبدأ الوراثة يُعد بمثابة ترس حماية فإن قَتْله في هذه الحال لا يُحقِّق الغرض المطلوب وهو الإطاحة بنظام الحكم كله. والحقيقة أنَّ طبيعة الأشياء تجعلنا نميل إلى تحقيق مبدأ الوراثة في الحكم. إنها مسألة ضرورة.

وتحرك أعضاءُ مجلس الدولة Councilors ومجلس الشيوخ (السينات senators) والتريبيون tribunes (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) وغيرهم في الحكومة بكياسة لتحقيق رغبات نابليون لأسباب بسيطة فموافقتهم لن تؤدي إلاّ إلى التقليل من حريتهم في المناقشة، تلك الحرية التي كانت قد قُيِّدت بالفعل بالإضافة إلى أن معارضتهم قد تُنهي أدوارهم السياسية، كما أن الموافقة في وقت باكر قد تُحقِّق لهم مكافآت سخية.

وفي الثاني من شهر مايو سنة 1804 أقرَّت الهيئات التشريعية ثلاثة اقتراحات.

1 -

سيتم تعيين نابليون بونابرت إمبراطوراً للجمهورية الفرنسية،

2 -

لقب إمبراطور والسلطات الإمبراطورية ستكون وراثية في أسرته ..

3 -

الحرص على حماية مبادئ المساواة والحرية وحقوق الشعب ككل

وفي 18 مايو أعلن مجلس الشيوخ (السينات) نابليون إمبراطوراً. وفي 22 مايو أقرت نتيجة الاستفتاء (من خلال الأصوات المسجلة والتي وقّع فيها كل منتخب على قراره) هذا الأمر الواقع بواقع 3،572،329 موافقون و 2،569 معارضون، فقال جورج كادودال في سجنه بعد أن وصلته هذه الأخبار:

"لقد أتينا هنا - أي إلى السجن - لنجعل لفرنسا ملكاً، أمّا الآن فقد جعلنا لها إمبراطوراً ".

ص: 74

الفصل الثامن

‌الإمبراطورية الجديدة:

من 1804 إلى 1807 م

‌1 - التتويج:

في 2 ديسمبر سنة 1804 م

THE CORONATION

وراح نابليون يسير على دَرْب الأباطرة برضا حتى قبل الاستفتاء، إذ كان قد بدأ منذ مايو سنة 1804 يوقَّع خطاباته ووثائقه باسمه الأول فقط، وسرعان ما أصبح يكتب الحرف الأول من اسمه ببساطة هكذا (ن N) فيما عدا الوثائق الرسمية ومنذ ظهر هذا الحرف الفخور (ن N) على النُّصب التذكارية والمباني والعربات، لم يعد نابليون يتحدث عن الفرنسيين كمواطنين Citizens وإنما راح يتحدث عنهم ولهم بقوله رعاياي. وراح يتوقع من أفراد حاشيته مزيداً من الإذعان والاحترام، ومن وزرائه مزيداً من التبعية وسلاسة القِياد، وعلى أية حال فقد حَذَا حَذْو أساليب تاليران Talleyrand الارستقراطية بصمت صارم وقَبِل بشيء من الاستمتاع سخرية فوشيه غير الوقورة. وتقديراً منه لما قدّمه فوشيه Fouche من مساعدة في تعقّب المتآمرين، أعاده لمنصبه كوزير للداخلية في 11 يوليو سنة 1804 وعندما فكَّر نابليون في قمع حرية فوشيه في التفكير المستقل والكلام بتذكيره أنه صوَّت بالموافقة على قتل لويس السادس عشر Louis XVI، أجاب فوشيه:"هذا صحيح تماما. لقد كانت هذه أول خدمة أؤديها لجلالتكم ".

بقي شيء واحد ينقص هذه الجلالة: إنها لم تحظ بالاعتراف ولا الإقرار الديني من أعلى ممثل لعقيدة الأمة الدينية، على النحو الذي حظيت به التيجان الأخرى. لقد كان هناك شيء لازال باقيا - على أية حال - من نظرية الحق الإلهي الوسيطة للملوك: فبالنسبة لشعب تسود فيه العقيدة الكاثوليكية، فإن قيام البابا بتكريس الحاكم ومسحه بالزيت يعني أن هذا الحاكم قد أصبح - بالفعل - مختاراً من الرَّب لأن البابا بدوره يزعم

ص: 75

أنه لم يشغل منصبه (منصب الباباوية) إلاَّ من قِبَل الرَّب، ومعنى هذا أن الحاكم الذي يكرسه البابا بمسحه بالزيت إن تحدث فغالباً ما يكون حديثه باسم الرّب. أي فكرة تساعد على تسهيل مهمة الحاكم أكثر من هذه؟ ثم أليس هذا المسح بالزيت سيضع نابليون في مصاف الحكام الأوروبيين حتى ولو كان لهم جذور عميقة في السلطة تمتد من الماضي حِقَباً؟

لهذا فقد أوكل إلى دبلوماسييه مهمة حث البابا بيوس السابع Pius VII للقيام بخطوة غير مسبوقة لباريس بتتويج ابن الثورة والتنوير باعتبار هذا نصراً للكنيسة الكاثوليكية على الثورة والتنوير. ثم أَلَن يكون مفيداً لقداسته (قداسة البابا) أن يستحوذ على أفضل القادة الحربيين في أوروبا وأكثرهم ألمعية ليكون مدافعاً عن المؤمنين؟ وعارض بعض الكاردينالات هذا العرض باعتباره تدنيساً للمقدسات، لكن بعض الايطاليين الماكرين اعتقدوا أن هذا سيكون نصراً كاملاً ليس للدين فحسب وإنما لإيطاليا أيضاً "إننا بهذا سنضع أسرة حاكمة إيطالية على عرش فرنسا لتحكم البرابرة، إننا بهذا سننتقم لأنفسنا من غال Gauls " وربما كان البابا أكثر عملية: إنه سيوافق على أمل إعادة أمّة تائبة مرة أخرى إلى طاعة البابا واستعادة المناطق التي كانت تابعة للباباوية والتي استولت عليها جيوش فرنسا.

وراح نابليون يستعد لهذا النصر المشترك كما لو كان يستعد لحرب كبرى، فكلّف من يقومون بدراسة مراسم الحكم القديم (الملكي) وتعديلها وإضفاء مزيد من التفاصيل والمبالغات عليها. وتم التخطيط للمواكب والمسيرات كما لو أن المخطط لها مدير فرقة راقصة وتم تحديد وقت كل تحرّك. وتم تصميم أزياء جديدة لسيدات الحاشية وتجمع أفضلُ المصممين للقبعات النسائية حول جوزيفين Josephine وأمر نابليون بإحضار المجوهرات من الخزانة لها بالإضافة لما لديها من مجوهرات. ورغم اعتراض أمه وإخوته وأخواته قرَّر أن يتوّجها معه. وقام جاك - لويس ديفيد (داود) Jacque - Louis David - الذي كان عليه أن يخلِّد الحدث في أعظم لوحات ذلك الوقت - بتدريب جوزيفين وحاشيتها على كل حركة وكل وضع.

وتم الإغداق على الشعراء للاحتفاء بالحدث. وصدرت التعليمات لدار الأوبرا بإعداد رقصات الباليه التي تشرح صدر البابا. وجرت الترتيبات لحماية الشوارع الكبرى بالجنود،

ص: 76

وأن يكون الحرس القنصلي مصطفاً في صَحْن نوتردام كما لو كان في حفل زواج حقيقي بين القيصر والكنيسة ودُعِيَ الأمراء وذوو المقام الرفيع من الدول الأخرى فلبوا الدعوة. ووصلت الجموع من المدينة والأحياء والمحافظات ومن الخارج وساوموا للحصول على أفضل الأماكن في الكاتدرائية أو في الطرقات، وراح أصحاب المحال يأملون في الحصول على ربح وفير، وقد كان. ورضي الناس عن الأعمال والمشاهد رضاءً مُفعماً بالسعادة ربما بطريقة لم تحدث منذ مهرجانات روما أيام الإمبراطورية.

واتخذ البابا بيوس السابع الدَّمث طريقه بتؤدة في الفترة من 2 نوفمبر إلى 25 من الشهر نفسه عَبْر مدن إيطاليا وفرنسا محاطاً بمراسم التشريفات وقابله نابليون في فونتينبلو Fontainebleau . ومنذ هذه اللحظة حتى التتويج قدَّم الإمبراطور (نابليون) للبابا كل مظاهر الود فيما عدا الإذعان، فلم يكن نابليون (الإمبراطور) ليتصرَّف على أساس أنه يخشى قوَّة أعلى متمثلة في البابا. ورحب أهل باريس - أكثر الناس تشككاً في الكاثوليكية على ظهر البسيطة في تلك الأيام - بالحَبْر (البابا) باعتباره يمثل مشهداً جديراً بالرؤية، وقادت ثُلَّة من الجنود والقسس هذا البابا في قصر التوليري Tuileries حيث تمَّ إيصاله إلى مقرِّ إقامته في جناح دي فلور Pavillon de Flore. ورحَّبت به جوزيفين وانتهزت هذه الفرصة لتُخبره أنها لم تكن مُرتبطة بنابليون من خلال زواج ديني، فَوَعَدها بيوس Pius بعلاج هذا الخطأ قبل التتويج، وفي ليلتي 29 و 30 نوفمبر أعاد تزويجهما وأحست جوزيفين أن عقبة مُباركة وُضعت لتمنع نابليون من تطليقها.

وفي بواكير يوم بارد (الثاني من ديسمبر) غادر اثنا عشر موكبا من نقاط مُختلفة لتتجمَّع في نوتردام: مفوَّضون من مدن فرنسا ومن الجيش والبحرية والجمعيات التشريعية والهيئات القضائية والإدارات، وجوقة الشرف، والمعهد العلمي وغُرف التجارة .. فوجدوا

ص: 77

الكاتدرائية تكاد تكون مُمتلئة عن آخرها بالمدعوِّين من المدنيين إلاّ أن الجنود تمكنوا من إفساح الطريق لهم للوصول إلى أماكنهم المخصَّصة سلفاً. وفي التاسعة صباحاً تحرك موكب البابا من جناح دي فلور في قصر التوليري:

"البابا بيوس السابع وخَدَمُه والكاردينالات وكبار معاونيه، في عربات فخمة مُزدانة بزينات مُبهجه تجرّها خيول جرى اختيارها بعناية، جميلة ونشطة، وأمام الموكب أُسقف يمتطي بَغْلاً ويحمل الصليب الباباوي ويرفعُه عاليا".

وعند الكاتدرائية ترجَّل الجَمْعُ الجميع وساروا في صف وصعدوا الدرجات إلى صحن الكاتدرائية وتوجَّهوا بين صفوف الجنود الشّداد إلى أماكنهم المحدّدة - البابا على عرشه إلى يسار مذبح الكاتدرائية.

وفي هذه الأثناء ومن مكان آخر من قصر التوليري انطلق موكب المركبات الإمبراطوري: في البداية، مارشال مورا Murat محافظ باريس، والعاملون معه، ثم بعض الأفواج العسكرية المميزة، ثم مركبات تجرُّ كلَّ واحدة منها ستة خيول، فيها: المسئولون القياديون في الحكومة، ثم مركبة أخوة نابليون وأخواته ثم المركبة الإمبراطورية مزركشة بشعار النبالة الحرف N تجرها ثمانية خيول وتحمل الإمبراطور (نابليون) في حلة مخملية أرجوانية مطرزة بالجواهر والذهب، والإمبراطورة (جوزيفين) في قمة تألّقها وجمالها (غير القائم على أساس متين) في فستان من حرير وهي تضوي بالجواهر، وقد أتقنت تجميل وجهها فبدت في الرابعة والعشرين بينما هي في الواحدة والأربعين، ثم عربات ثمان أخرى تحملن سيدات البلاط وموظفيه. واستغرق وصول هذه المركبات جميعاً للكاتدرائية ساعة. وهناك غَيَّر نابليون وجوزيفين ملابسهما ولبسا ملابس التتويج واتخذا مكانهما على يمين المذبح، وجلس هو على عرش، وهي على عرش أصغر من عرشه وأدنى مكانة منه بثمانية درجات.

وصعد البابا إلى المذبح وركع نابليون وجوزيفين على رُكبهم أمامه، فقام البابا بدهنهما بالزيت وباركهما. ونزل الإمبراطور والإمبراطورة الدرجات حيث الجنرال كلرمان Kellermann واقفاً حاملاً صينيّة عليها تاج، فتناوله نابليون ووضعه فوق رأسه، ثم ركعت جوزيفين أمامه بتواضع وولاء فوضع تاجاً من ماس فوق شعرها المحلّى بالجواهر - برقّة واضحة. ولم يُثر كل هذا دهشة البابا لأنه كان مرتباً سلفاً، عندئذ قبَّل الحَبْرُ (البابا) نابليون فوق

ص: 78

خدّه وأعلن الصيغة التقليدية التي تفيد أن الكنيسة قبلته إمبراطوراً Vivat Imperator in aeternum ورتّل البابا القدّاس، وأحضر مساعدوه الأناجيل إليه ووضع نابليون يده عليها وتلى القسم الذي لازال يؤكد أنه ابن الثورة:

"إنني أقسم أن أحافظ على حدود الجمهورية كاملة وأن أحترم بنود الكونوردات (الاتفاق الباباوي) وأدعمه وأن أقر حرية العبادة وأن أحترم - وأدعم - مبدأ المساواة أمام القانون، والحرية السياسية والمدنية وألاّ أُلغي ما تم من مبيعات ممتلكات الدولة وألاّ أفرض التزامات أو ضرائب إلاّ وفقاً للقانون وأن أحافظ على وسام الشرف، وألاّ أحكم إلاَّ وفقاً لما يحقق مصالح الشعب الفرنسي وسعادته وعظمته".

وانتهت المراسم في الساعة الثالثة، وعادت المواكب من حيث أتت وسط مظاهر الحفاوة والفرحة بينما الثلوج تتساقط وبقي البابا اللطيف في باريس أو بالقرب منها طوال أربعة شهور مفتوناً ببهاء باريس آملاً في مفاوضات مثمرة، وكان يظهر كثراً في شرفته ليُبارك الجموع التي تركع احتراماً له. ووجد أن نابليون جامد الشعور رغم ما يُبديه من أدب، وتحمل (أي البابا) بصبر تصرّف مضيفه (نابليون) العَلْماني وعدم التزامه بالمسلك ذي الطابع الديني في تعامله معه (البابا).

وفي 15 أبريل سنة 1805 غادر إلى روما. وواصل نابليون مشروعاته الإمبراطورية واثقاً من أنه الآن أصبح حاكماً مقدّساً holy كأي حاكم (أوروبي) آخر وأصبح يمكنه أن يُواجه - وهو مطمئن - القوى التي ستتحد حالاً لتدميره.

‌2 - الائتلاف الثالث ضد فرنسا:

عام 1805 م

بحلول سنة 1804 كانت كل الحكومات الأوروبية - باستثناء إنجلترا والسويد وروسيا - قد اعترفت بنابليون كإمبراطور للفرنسيين وخاطبه بعض الملوك بكلمة أخي وفي الثاني من شهر يناير سنة 1805 عرض نابليون - مرة أخرى - السلام على جورج الثالث وخاطبه هذه المرة بعبارة (أخي):

ص: 79

سيدي وأخي:

أما وقد دعاني الله وأصوات مجلس الشيوخ والشعب والجيش لأتبوأ عرش فرنسا فقد تأكَّد لي شعوري بالرغبة في السلام.

إن فرنسا وإنجلترا تُهدران ثرواتهما. ربما ناضلا طوال قرون، لكن هل أدّت حكوماتهما - بشكل صحيح - واجباتهما الأكثر قداسة لكفِّ هذه الدماء الغزيرة التي أُريقت عبثاً بغير هدف محدد؟ إنني لا أجد حرجاً في أن آخذ بزمام المبادأة في هذا الأمر (طلب السلام) ولديَّ فيما أظن براهين كافية .. فأنا لا أخاف الحرب إذا حَلَّت .. لكن السَّلام هو رغبتي الكامنة في قلبي ولم تكن أبداً بعيدة عن شهرتي. إنني أُناشد جلالتكم ألاَّ تحرموا أنفسكم من السعادة بإقرار السلام في العالم .. ولن تكون هناك فرصة أفضل لكبح الغضب والاستماع لصوت الإنسانية والعقل، فإذا ضاعت هذه الفرصة فأي أجل يمكن أن يُحدَّد لحرب قد لا أستطيع وقفها بكل مساعِيَّ؟ ..

ماذا تأمل أن تكسب من الحرب؟ تكوين ائتلاف من بعض القوى في القارة (الأوروبية)؟ انتزاع مستعمرات من فرنسا؟ إن المستعمرات هدف لفرنسا، لكنه هدف ثانوي ثم ألا تحتفظ جلالتكم بالفعل بمستعمرات أكثر مما تستطيع الاحتفاظ به؟

إنَّ العالم رحب واسع بدرجة تكفي لتعيش أمَّتانا فيه. وقوة العقل كافية لتمكيننا من تجاوز كل الصّعاب إذا توفرت الإرادة من الجانبين. وعلى أية حال فقد قُمت بواجبي لما أعتقد فيه الصلاح وما هو قريب إلى قلبي. إنني واثق من أن جلالتكم ستُصَدِّقون إخلاص مشاعري التي عبّرتُ عنها وعن توقي الشديد لتقديم ما يُثبتها لكم.

نابليون

ولا ندري ما هي التأكيدات الخاصة لنوايا السلام والتي ربما تم إرفاقها بهذا الاقتراح. وعلى أية حال فإن ذلك لم يُثْنِ انجلترا عن إقامة أمنها على مبدأ توازن القوى في القارة، والحفاظ على هذا المبدأ بتشجيع الضعيف ضد القوى. بل إن جورج الثالث لم يقبل مخاطبة نابليون له بكلمة أخي فلم يُرسل له رداً، لكن في 14 يناير سنة 1805 أرسل وزير الخارجية اللورد ملجريف Mulgrave إلى تاليران خطابا ذكر له فيه بَشكْل ودي شروط

ص: 80

إنجلترا للسلام:

"ليس لدي صاحب الجلالة رغبة أعز من انتهاز أول فرصة تُتيح لرعاياه مزايا السلام الذي سيُقام على أُسس غير مزعزعة لأمنٍ دائم ولتحقيق المصالح لطبقات الأمة، إنّ جلالته مُقتنع أنه لا يمكن الوصول لهذه النتيجة إلاَّ بترتيبات تؤدِّي أيضاً إلى مستقبل آمن وهدوء واستقرار في أوروبا لمنع تجدّد الأخطار والكوارث التي أَقْلقت القارة.

وعلى هذا فصاحب الجلالة يرى أنه من غير الممكن أن يجيب بشكل حاسم على الأسئلة التي طُرحت عليه إلاّ بعد أن يتصل بالقوى الأوروبية المُتحالفة معه خاصة إمبراطور روسيا الذي قدَّم أقوى الأدلة على حكمته ومشاعره الطيبة واهتمامه العميق بأمن أوروبا واستقلالها ".

وتولى وليم بت Pitt الأصغر رياسة وزراء إنجلترا في الفترة من (مايو 1804 إلى يناير 1806) وكان يُمثل - كَمَعْقل مالي جديد لبريطانيا - طبقة أصحاب المصالح التجارية التي كادت تكون هي الرابح الوحيد من الحرب. وقد عانت الطبقة ذات المصالح التجارية خسائر حقيقية من سيطرة الفرنسيين على مصبّات الراين ومجراه لكنها استفادت من السيطرة البريطانية على البحار. ولم يخنق هذا غالب الجهد الحربي الفرنسي فحسب بل مكَّن بريطانيا من الاستيلاء على المستعمرات الفرنسية والهولندية ساعة تشاء، وعلى السفن الفرنسية حيثما وُجدت. وفي الخامس من أكتوبر سنة 1804 استولت السفن الإنجليزية على عدّة سفن اسبانية (شراعية حربية من نوع الغليون galleons) متجهة إلى اسبانيا محملة بالفضة التي قد تمكنها من دفع كثير من ديونها لفرنسا.

وفي ديسمبر سنة 1804 أعلنت إنجلترا الحرب على اسبانيا ووضعت أسبانيا أسطولها تحت أمر فرنسا. وبصرف النظر عن هذا الاستثناء فإن البريطانيين استطاعوا بالتدريج عن طريق دبلوماسييهم البارعين وإعاناتهم المالية التي تقدم بحكمة - أن تكسب إلى جانبها القوى الأوروبية الأغنى بالرجال وإن كانت أقل حظاً في الذهب (المال).

ولم يستطع اسكندر الأول أن يحسم أمره: أيكونُ مصلحاً ليبرالياً وقائدا خيِّراً أم فاتحاً عسكرياً دعاه القدرُ للسيطرة على أوروبا؟. وعلى أية حال فإنه كان واضحاً في عدة نقاط:

ص: 81

لقد أراد أن يَمُدَّ حدوده الغربية بضم فاليشيا Wallachia ومولدافيا Moldavia التابعتين لتركيا. ورنا بالتالي - مثل كاترين المتوسّعة - إلى اجتياح تركيا (الدولة العثمانية) أن يستولى على البسفور والدردنيل جاعلاً قدماً في آسيا وأخرى في أوروبا، ليسيطر في الوقت المناسب على البحر المتوسط، وكان بالفعل قد استولى على الجزر الأيونية Ionian Isles.

لكن نابليون كان قد استولى فجأة على هذه الجزر وهي الآن تابعة له. ولا زال - أي نابليون - يتوق شوقاً للاستيلاء على مصر وهو ظمآن للسيطرة على البحر المتوسط، بل كان قد تحدث بشأن ابتلاع تركيا ونصف الشرق Orient. هنا كان يوجد منافس نَهِم، ولابد أن يستسلم واحدٌ منهما (اسكندر الأول أو نابليون). لكل هذا ولأسباب أخرى لم يكن اسكندر الأول راغباً في أن يرى انجلترا تُقيم مع فرنسا سلاماً. ففي يناير سنة 1805 وقع معاهدة تحالف مع السويد التي كانت بَدَوْرها متحالفة مع إنجلترا. وفي 11 يوليو أكمل أمره بعقد تحالف مع إنجلترا التي تعهدت أن تدفع لروسيا إعانةً مالية سنوية مقدارها 125،000 جنيه إسترليني لقاء كل 100،000 مُقاتل يشتركون في المعارك ضد فرنسا.

وتفاوض فريدريك وليم الثالث البروسي مع نابليون طوال عام على أمل أن يُضيف إلى مملكته مقاطعة هانوفر Hanover التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها في سنة 1803. وعرضها نابليون بشرط عقد تحالف تتعهد فيه بروسيا بدعم فرنسا في إقرار الوضع الجديد. ولم يستسغ فريدريك الفكرة خوفاً من الأسطول الحربي البريطاني الغاضب على طوال سواحله، وفي 24 مايو سنة 1804 وقَّعت بروسيا تحالفاً مع روسيا للقيام بعمل مشترك ضدَّ أي تقدم فرنسي إلى الشرق من وِزَر Weser.

وترددت النمسا أيضاً. إنها إن انضمت للائتلاف الجديد فستكون أول من يُكوى بنيران الهجوم الفرنسي. لكن النمسا - وهي الأقرب إلى فرنسا من إنجلترا - كانت قد شعرت بالاندفاعات المتوالية للقوات الفرنسية المتوسّعة: توجيهها وإشرافها على الجمهورية الإيطالية في يناير سنة 1802، وإلحاقها لبيدمونت في سبتمبر سنة 1802، وإخضاع سويسرا كمحمية فرنسية في فبراير سنة 1803، وادعاؤها (أي فرنسا) لقباً إمبراطورياً في مايو سنة

ص: 82

1804، واستمرت الاندفاعات الفرنسية: في 26 مايو 1805 تلقَّى نابليون في ميلان التاج الحديدي من لومبارديا وفي 6 يونيو قبل طلب دوق جنوا بدمج الجمهورية الليجورية Ligurian Republic في فرنسا.

وتساءل النمساويون متى سيتوقَّف شارلمان الجديد هذا؟ أليس هو بقادر بسهولة - إذا لم تتحد معظم أوروبا لإيقافه - على ابتلاع الولايات الباباوية Papal States أولاً ثم مملكة نابلي؟ ما الذي يمنعه من الاستيلاء على فينيسيا (البندقية) وكل زمامها المغري الذي كان يُسهم بعوائد مالية في دخل النمسا؟ لقد كان هذا هو تفكير النمسا القلق عندما عرضت إنجلترا عليها مساعدات مالية ووعدتها روسيا بمائة ألف مقاتل شديد المراس في حالة هجوم فرنسا عليها. وفي 17 يونيو سنة 1805 انضمت النمسا إلى كل من إنجلترا وروسيا والسويد وبروسيا، وبذا اكتمل الائتلاف الثالث ضد فرنسا.

‌3 - أوسترليتز

AUSTERLITZ: في 2 ديسمبر 1805 م

وفي مواجهة هذا التحالف الخماسي كانت فرنسا تتلقى دعما مترددا من هسي Hesse وفيرتمبرج Wurttemberg وتعاوناً من أسطولي هولندا وأسبانيا. وسحب نابليون من مختلف أنحاء مملكته الأموال والمجندَّين إلزامياً ونظَّم ثلاثة جيوش:

(1)

جيش الراين بقيادة دافو Davout ومورا Murat وسول Soult وني Ney، ليُواجه به القوة النمساوية الرئيسية بقيادة الجنرال ماك.

(2)

جيش إيطاليا بقيادة ماسينا لمواجهة الهجوم النمساوي الغربي الذي قوامه جيش على رأسه الأرشدوق كارل لودفيج Karl Ludwig.

(3)

وجيش نابليون العظيم الذي تجمع حديثاً حول بولوني Boulogne ولكنه قادر على الانقضاض انقضاضاً مفاجئاً على النمسا.

وكان أملُ نابليون يكمن في الاستيلاء - سريعاً - على فيينا ليُجبر النمسا على توقيع اتفاق سلام منفصل ويجمد - بذلك - تحالفاتها في القارة ويجعل - بذلك - إنجلترا مُحاصرة دون عَوْن.

وكان الإمبراطور الشاب يُكنّ كراهية شديدة لإنجلترا باعتبار لعنة أصابت حياته والعقبة الرئيسية أمام تحقيق أحلامه. لقد كان يُسميها إنجلترا الغادرة وأعلن أن أموالها كانت هي السبب الأساسي لويلات فرنسا. لقد راح ليل نهار يُخطط - بالإضافة لمئات

ص: 83

المشروعات الأخرى - لبناء أسطول يُنهي سيادة بريطانيا على البحار. لقد أغدق الأموال وجلب العمال إلى مراكز صناعة السفن مثل طولون Toulon وبريست Brest وأخضع للاختبار اثنى عشر قائداً ليختار منهم أدميرالا (أمير بحر) يمكن أن يقود إلى النصر البحرية الفرنسية النامية.

وظنَّ أنه عثر على بغيته في شخص لويس دي لا توش تريفيل Louis de la Touche-Treville وبذل كل جهده ليبثَّ في روعه أنه يمكن غزو انجلترا واجتياحها إذا استطعنا السيطرة على القنال (الفاصلة بين فرنسا وإنجلترا) لمدة ست ساعات، فساعتها سنكون سادة العالم لكن لاتوش تريفيل مات في سنة 1804 فارتكب نابليون غلطة بأن جعل على رأس البحرية الفرنسية بيير دي فيلينيف Pierre de Villeneuve.

لقد كان فيلينيف قد أسهم في إخفاق الحملة الفرنسية على مصر، وصفحته الماضية تُشير إلى جُبنه وميله للعصيان، ولم يكن مؤمناً بإمكانية السيطرة على القنال الإنجليزي لستِّ ساعات، وقد تلكأ في باريس حتى أمره نابليون بالتوجه لشغل منصبه في طولون. وكانت تعليمات (أي تعليمات نابليون) ماكرة ومعقدة:

"فليقُد أسطوله في عرض البحر وليترك نلسون Nelson يتتبعه بالأسطول البريطاني الرئيسي ويغريه بتتبعه في الأطلنطي إلى جزر الهند الغربية، ثم يتملص منه بين هذه الجزر ويعود بأقصى سرعة إلى القنال الإنجليزي حيث تنضم إليه الأساطيل الفرنسية والهولندية والاسبانية في الالتحام بالسفن البريطانية فترة تكفي لعبور الجيش الفرنسي بقواربه التي تُعد بالآلاف إلى الأرض الإنجليزية قبل أن يتمكن نلسون من العودة من البحر الكاريبي".

ونفذ فيلينيف الجزء الأول من مهمته بطريقة حسنة. لقد أغوى نلسون بتتبعه إلى أمريكا، وراغ منه وكرّ عائداً إلى أوروبا. لكنه عند وصوله إلى أسبانيا لم يجعل سفنه ورجاله في حالة استعداد لاجتياح السفن الإنجليزية التي تحرس القنال، وبدلا من ذلك بحث عن الحماية في مرفأ آمن وصديق في كاديز (قادش) Cadiz. وفُجع نابليون في خطته فأصدر أوامره إلى فيلينيف ليخرج باحثاً عن أسطول نلسون وأن يخاطر بكل شيء في تحد متهوّر للقضاء على السيادة البريطانية على البحار.

وفي قرار عصبي مفاجئ ابتعد الإمبراطور عن القنال الإنجليزي ودار بآلاف الرجال ليسير جنوباً وشرقاً إلى الراين وما وراءه. وراحت قلوب الفرنسيين جميعاً تخفق أملاً وقلقاً مع هذا

ص: 84

الجيش العظيم (وفقاً لتسمية نابليون) وراح الناس في كل مدينة يمر بها يدعون له بالنصر لتحقيق مشروعه. وفي كل كنيسة تقريباً راح رجال الدين يحثون شباب الأمة على الانضمام إليه ليخدموا تحت راياته وراحوا يتلون من فقرات الأناجيل ما يفسرونه على أساس أن نابليون قد أصبح الآن في رعاية الله وتحت توجيهه المباشر.

ما أسرع ما أتى الكونكوردات Concordat (الاتفاق البابوي) بالثمار! وتعاونوا مع نابليون لترتيب أمر تمويل هذه العشرين ألف مركبة على طول الطريق، وعمد نابليون إلى الإسراع وإراحة الجند أثناء مرورهم عبر فرنسا. وركب هو نفسه مع جوزيفين إلى ستراسبورج التي أصبحت الآن مفعمة عاطفة وتلهفا وحبا، فقد كانت ثروتها معلقة أيضاً بكل رمية نرد (زهر). ووعد نابليون أنه خلال أسابيع قليلة سيكون سيِّد فيينا. وفي ستراسبورج ترك جوزيفين في رعاية ريموزا Remusat وأسرع إلى الجبهة.

وكانت إستراتيجيته - كالعادة - هي أن يُقَسّم جيش عدوه ويغزوه:

"أن يمنع الجيش النمساوي من التوحّد (من أن يشكل كُتلة مقاتلة واحدة)، وأن يُدمّر أو يُجمِّد القوات النمساوية قبل وصول القطيع الروسي (الجنود الروس) الذي يتوقع النمساويون وصوله لتقديم المساعدة، ثم يجتاح الجيش الروسي القادم مُحققاً النصر عليه مما سيُجبر أعداءه الأوروبيين على توقيع سلام مؤقّت على الأقل".

ورغم الأيام الكئيب نهارها الحالك سواد ليلها الممعن مطرها الغزير طينها وجليدها - نفذ جيش الراين ما أوكل إليه في المعركة على نحو شامل وأرسل من التوضيحات ما يدل على أن نابليون مدين لمارشالاته دَيْنا كبيراً.

وبعد أسبوع من المناورة وجد الخمسون ألف مقاتل التابعون للجنرال مارك أنفسهم في أولم Ulm محاصرون من ثلاث جهات بالمدفعية والفرسان والمشاة بقيادة دافو وسول Soult ومورا وني Ney واستحال عليهم التراجع عبر الدانوب خلفهم، وكانوا جوعى ينقصهم الطعام كما كانوا يعانون عجزاً في الذخيرة، وهدد الجنود النمساويون بالتمرد إذا لم يُسمح لهم بالاستسلام، فاستسلم ماك Mack بالفعل أخيراً في 17 أكتوبر سنة 1805 فأسر الفرنسيون ثلاثين ألفاً من رجاله وأرسلوهم إلى فرنسا. لقد كان النصر الذي أحرزه الفرنسيون في هذه المعركة هو الأقل تكلفة والأكثر حسماً وأثراً في تاريخ الحرب. وانسل

ص: 85

الإمبراطور فرانسيس الثاني وبعض النمساويين ممن بقوا على قيد الحياة بعد معركة أولم Ulm إلى الشمال لينضمّوا للروس الذي اقترب ميعاد وصولهم، بينما دخل نابليون فيينا في 12 نوفمبر دون مقاومة وأيضاً دون تباه.

وسرعان ما تعكر مزاج الفرنسيين وفسُدت عليهم نكهة النصر بوصول أخبار مفادها أن فيلينيف - تنفيذاً للتعليمات - انطلق لمقابلة نلسون ليُصارعه حتى الموت، فقد كانت نهاية هذه المواجهة موتاً لكليهما، وانتصر نلسون في الطرف الأعز (21 أكتوبر 1805) لكنه جُرح جرحاً مميتاً، أما فيلينيف فقد خسر وانتحر. ونحَّى نابليون جانباً - وهو حزين مكتئب - أمله في التصدي للسيادة البريطانية على البحار ولم يعد أمامه إلا كسب أكبر عدد من المعارك على البر الأوروبي حتى يجبر القوى الأوروبية على السير في ركاب فرنسا بإغلاق أسواقها في وجه البضائع البريطانية حتى يجبر تجار إنجلترا حكومتهم على عقد معاهدة سلام مع فرنسا.

وترك نابليون الجنرال مورتييه Mortier وخمسة عشر ألف مقاتل للسيطرة على فيينا وانطلق في 17 نوفمبر لينضم إلى جنوده لإعدادهم لمواجهة جيشين روسيين يتجهان نحو الجنوب؛ جيش بقيادة كوتوزوف Kutuzov الصارم وجيش آخر على رأسه القيصر اسكندر نفسه. وتقابل الدب الروسي مع النسر الفرنسي في أوسترليتز (قرية في مورافيا Moravia) في الثاني من شهر ديسمبر سنة 1805. وقبل المعركة أصدر نابليون لفيالق جيشه البيان التالي:

أيها الجنود:

الجيش الروسي أمامكم ليثأر لهزيمة الجيش النمساوي في أولم Ulm

إن المواقع التي نشغلها هائلة بينما هم يسيرون ليكونوا عن يميني وبذا سيعرضون جناح جيشهم لي

إنني شخصياً سأوجّه كتائبكم. إنني سأتجنب النيران إن أنتم - بشجاعتكم المعتادة - أحدثتم الفوضى والاضطراب في صفوف العدو. لكن إذا أصبح النصر في أي لحظة غير مؤكد فسترون إمبراطوركم أول من يعرّض نفسه للخطر لأن النصر لا يجب أن يكون موضع شك هذا اليوم بالذات فشرفُ الجيش الفرنسي الذي يعني - وبعمق - شرف الأمة الفرنسية كلها معلَّق على هذه المعركة .. إنه ينبغي علينا أن نهزم هؤلاء الذين استأجرتهم إنجلترا التي تُكِن مثل هذه الكراهية المريرة لأمتنا ..

ص: 86

إن هذا النصر سيضعُ نهاية للمعركة وسنكون بعد النصر قادرين على العودة إلى مقرّنا الشتوي حيث سننضم إلى الجيوش الجديدة التي يجري إعدادها في فرنسا وعندئذ سيكون السلام الذي سأعقده جديراً بشعبي وبكم وبي.

وكان أول تكتيك هو استيلاؤه على تل يسمح لمدفعيته بإطلاق نيرانها على الجيش الروسي (المشاة) المتحرك إلى يمين قواته لكن هذا التل استولى عليه عدد من رجال كوتوزوف الأكثر شجاعة. لقد تركوا طريقاً للقوات الفرنسية وأعادوا تشكيل قواتهم وحاربوا مرة ثانية لكن قوات نابليون الاحتياطية اجتاحتهم. وسرعان ما أصبحت المدفعية الفرنسية تحصُد الروس وهم يتقدمون في السهل الأدنى من التل، فانكسر قلب جيشهم رُعباً وأمعن في الفرار وانقسم جيشهم إلى قسمين عمَّت الفوضى فيهما؛ واجه القسم الأول مشاةُ دافو وسول Soult وواجهت القسم الثاني كتائبُ لان Lannes ومورا وبيرنادوت، أما بالنسبة للقلب المُبعثر فقد أرسل إليه نابليون عساكره الاحتياطيين ليجتثوه اجتثاثاً. ومن بين المقاتلين الروس والنمساويين البالغ عددهم 87،000 استسلم 20،000 واستولى الفرنسيون على كل مدفعية العدو تقريباً، وبينما انطرح على أرض المعركة من جيش أعداء فرنسا 15،000 قتيل. وهرب اسكندر وفرانسيس بمن تبقى إلى هنجاريا (المجر) بينما راح حليفهم الذي مُلِّئ رعباً فريدريك وليم الثاني يتوسّل السلام بذلَّة.

وفي هذه المذبحة فقدت القوات الفرنسية البالغ عددها 73،000 وحلفاؤها 8،000 ما بين قتيل وجريح. وهتف من بقي على الحياة من الجيش الفرنسي - وقد أنهكهم التعب، بعد أن تعبوا كثيراً من رؤية الموت - بحماسة وحشية بحياة نابليون. وفي بلاغ (نشرة توزع في الجيش) 3 ديسمبر وعدهم نابليون انه سيتوقف عن الحرب بعد أن يتم انجاز كل ما هو ضروري لتأمين سعادة ورخاء بلدنا، ساعتها سأعودُ بكم إلى فرنسا. وهناك ستكونون موضع عنايتي وحُبي. وسيرحّب بكم شعبي بفرح وما على الواحد منكم إلا أن يقول: لقد كنتُ في معركة أوسترليتز ليهتف الناس انظر إلى البطل.

ص: 87

‌4 - صانع الخرائط:

من 1806 إلى 1807 م

عندما تلقى وليم بت Pitt أخبار أوسترليتز كان يقترب من الموت، ولما رأى خريطة أوروبا معلَّقة على الحائط طلب إزاحتها من أمامه وقال أطووا هذه الخريطة، فلن نحتاج إليها في هذه السنوات العشر. ووافق نابليون وأعاد رسم الخريطة.

لقد بدأ نابليون في إعادة رسم بروسيا والنمسا. ونصحه تاليران Talleyrand الذي خلَّفه نابليون على فيينا لصياغة الإرادة الإمبراطورية بلغة دبلوماسية - أن يفرض على النمسا شروطاً مُعتدلة مقابل عقد تحالف بينها وبين فرنسا على أساس أن هذا قد يَفُك الارتباط بين المساعدات المالية الإنجليزية والسياسات النمساوية وقد تحصل فرنسا من جرّاء ذلك على بعض الدعم في صراعها مع بروسيا وروسيا (حتى لو كان هذا الدعم لا يعدو مزايا جغرافية) لكن نابليون الذي كان يعتقد أن تحالف أعدائه يتسم بالهشاشة كان من رأيه إضعاف النمسا بحيث لا يمكنها تحدِّي فرنسا مرة أخرى، وأن يكسب بروسيا ويُبعدها عن روسيا بأن يعرض عليها سلاماً سهلاً. وفي هذه الأثناء سمح لاسكندر بأن يقود الروس الذين لازالوا على قيد الحياة عائداً إلى روسيا دون أن يتعقبه.

وبناء على معاهدة وقِّعت في حجرة ماريا تريزا في القصر الملكي النمساوي في شونبرن Schonbrunn في الخامس من ديسمبر سنة 1805 طلب نابليون من بروسيا تسريح جيشها، والتنازل عن مرجريفية أنسباخ margravate of Ansbach (المرجريفية هي محافظة حدودية في المناطق الناطقة بالألمانية) لبافاريا وأن تتنازل عن إمارة (مديرية أو محافظة) نيو شاتل Neuchatel لفرنسا وأن تقبل تحالفاً وثيقاً مع غازيها (نابليون). وتوقَّع فريدريك وليم الثالث أن يحصل في مقابل ذلك على ولاية هانوفر وكان نابليون سعيداً بوعده بتحقيق ذلك ليكون في ضمّها لبروسيا حائلاً يمنع أية مشاعر مُتعاطفة مع الإنجليز في بروسيا.

لقد كانت معاهدة بريسبورج Pressburg مع النمسا (والتي اكتملت - في غياب نابليون - في 26 ديسمبر سنة 1805) معاهدة قاسية لم ترحم. لقد كانت النمسا قد بدأت فيما مضى الأعمال العدائية ضد بافاريا، وأصبح عليها الآن أن تتنازل لها (لبافاريا) ولبادن

ص: 88

Baden ولفيرتمبرج Wurttemberg عن كل أراضيها (أراضي النمسا) في التيرول Tirol وفورارلبرج Vorarlberg وجنوب ألمانيا، وبهذا اتسعت كل من بافاريا Bavaria وفيرتمبرج Wurttemberg فصارتا مملكتين وأصبحت بادن دوقية كبيرة متحالفة مع فرنسا.

ولتعويض فرنسا عن إنفاقها الأموال في الحرب وعما فقدته من رجال ومعدات تعيَّن على النمسا أن تجعل كل ممتلكاتها في ايطاليا بما في ذلك البندقية وظهيرها تحت الحماية الفرنسية، ووافقت - أي النمسا - على أن تدفع لفرنسا تعويضا مقداره أربعون مليون فرنك، ويا لسعادة نابليون عندما علم أن جزءاً من هذا المبلغ كان قد وصل حديثاً للنمسا من إنجلترا. وبالإضافة لهذا أمر نابليون خبراءه الاختصاصيين في الفنون أن يُرسلوا إلى باريس بعض اللوحات المختارة والتماثيل من القصور والمتاحف النمساوية. واعتبر نابليون كل ذلك - استيلاءه على الأراضي والأموال والأعمال الفنية - أسلاباً مشروعة، وفقاً لطريقته الرومانية. وأخيراً أمر بإقامة نُصُب النصر في ميدان فيندوم Vendome في باريس وأمر بتغطيته بمعادن مأخوذة من مدافع العدو التي استولى عليها في أوسترليتز.

ووقَّع تاليران هذه الاتفاقات ولكنه لم يكن مرتاحاً بسبب رفض اقتراحاته، فبدأ يستخدم نفوذه - ولم يكن دائماً خائناً لنابليون - للحد من المزيد من امتداد سلطان نابليون، وقد برَّر ذلك في وقت لاحق بأنه كان يخدم مصالح فرنسا بإساءته لمن يعمل في خدمته (نابليون).

وفي 15 ديسمبر سنة 1805 غادر نابليون فيينا ليكون مع جوزيفين في ميونخ، وهناك ساعدا في زواج يوجين Eugene (الذي كان قد تمَّ تعيينه نائباً ملكياً في إيطاليا) من الأميرة أوجستا Augusta الابنة الكبرى لملك بافاريا. وقبل الزفاف تبنى نابليون - رسمياً - يوجين ووعده بتاج إيطاليا كوريث له. لقد كان زواجاً سياسياً لتوثيق التحالف بين بافاريا وفرنسا، وقد أحبَّت أوجستا زوجها وساعدت في إنقاذه بعد سقوط أبيه الذي تبنّاه (نابليون).

وذهب الإمبراطور والإمبراطورة (نابليون وجوزيفين) إلى باريس، فتلقَّته بالمهرجانات الرسمية والاحتفاء الشعبي حتى أنَّ مدام دي ريموزا تساءلت مندهشة أيمكن لرأسٍ بشري ألاَّ تديرها هذه المبالغة في المديح لكن الحقائق أيقظته من سكرته. لقد وجد أن الخزانة الفرنسية قد أصبحت - أثناء غيابه خارج فرنسا - على وشك الإفلاس

ص: 89

بسبب سوء الإدارة، وأتى التعويض الذي قدمته النمسا لإنقاذها. وكان عليه أن يُناضل محاولاً الحفاظ على حياته؛ ففي 20 فبراير سنة 1806 تلقى معلومات من تشارلز جيمس فوكس - رئيس وزراء إنجلترا في ذل الوقت - تُحذره من أن قاتلا مُدّعيا عرض قتله (أي قتل نابليون) مقابل مبلغ معقول.

وكان فوكس قد اعتقل هذا الشخص لكن ربما كان هناك أشخاص آخرون وطنيون مستعدين لقتل نابليون لقاء مبالغ مالية. لقد كانت إنجلترا وقتئذ في حرب مع فرنسا، وكان تصرف رئيس الوزراء البريطاني الآنف ذكره ينطوي على معانٍ خُلقية مسيحية مُضافاً إليها روح الفروسية. ووسط أجواء القتل الفردي والجماعي عادت فرنسا في أول يناير سنة 1806 للتقويم المسيحي الجريجوري Gregorian calendar (التقويم الميلادي المعروف).

وفي الثاني من شهر مايو - بعد أربعة أشهر قضاها نابليون في إعادة الأمور الإدارية إلى سيرتها الأولى، قرأ أمام الهيئات التشريعية تقريره عن أحوال الإمبراطورية في سنة 1806 لقد سرد - مرة أخرى - باختصار انتصارات الجيش واكتساب الحلفاء والأراضي، ووصف انتعاش أحوال فرنسا في المجالين الزراعي والصناعي، وأعلن عن المعرض الصناعي - وهو أمر جديد على نحو ما في تاريخ فرنسا - وأمر بافتتاحه في اللوفر في الخريف، وأشار التقرير إلى بناء - وإصلاح - الموانئ والترع والجسور و 33،500 ميل من الطرق - كان عدد من هذه الطرق عَبْر الألب، وتحدّث التقرير أيضاً عن مشروعات عظيمة يجرى العمل فيها - مَعْبد النصر (الآن: لا ماديلين La Madeleine) والبورصة وقوس النصر .. وانتهى التقرير بالتأكيد على أنَّ فتوح مزيد من البلاد ليس هو ما يشغل بال الإمبراطور، فقد استنفذ أهدافه في المجد العسكري .. وإنما ما يشغله هو الوصول بالإدارة إلى درجة الكمال ليجعلها مصدراً لسعادة دائمة ورخاء مُتزايد لشعبه .. إنَّ ما يقصد إليه الآن هو تحقيق هذا المجد.

وواصل نابليون مهمته في صنع الخرائط، ففي 12 يوليو سنة 1806 قَبِلَ الإمبراطوُر - الذي بلغ النُّهى - إمبراطورية أخرى - كهدية - تتكوّن من ممالك، بافاريا وسكسونيا Saxony وفيرتمبرج ووستفاليا والدوقيات الكبيرة التالية: بادن،

ص: 90

وبرج Berg وفرنكفورت، وهسي - دارمشتات Hesse - Darmstadt وفيرتنسبورج وآرنبرج Arenberg ومكلنبورج - شفيرين Mecklenburg-Schwerin ونساو Nassau وأولدنبرج Oldenburg وساكس - كوبورج Saxe-Coburg وساكس - جوتا Saxe-Gotha وساكس فيمار Saxe-Weimar وست إمارات صغيرة.

لقد كانت المبادأة في هذا الاتحاد الوثيق بين الصديق والعدو على يد الأمير الأسقفي كارل تيودور فون دالبرج (وفقاً لما قال مينيفال) الذي كان فيما مضى رئيساً لأساقفة مينز Mainz. فبسبب توجيهاته طلبت هذه الكيانات (الدول) المختلفة من نابليون أن تكون تحت حمايته متعهِّدة بتقديم فرق عسكرية لجيوشه (يبلغ عدد أفرادها 63،000 مقاتل) مُعلنة انفصالها عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة (التي كان شارلمان قد أسسها في سنة 800 للميلاد)، وكونت كونفدرالية الراين. وربما كان هذا التوجّه الجديد للمناطق التيتونية Teutonic راجعاً لانتشار اللغة والأدب الفرنسيين فيها. فقد كاد مجتمع المثقفين والمفكرين يكون ذا طابع عالمي.

ومن الطبيعي أن تعترض بروسيا على كل ما يجعل من فرنسا قوة هائلة، لكن النمسا التي أفقدتها الهزيمة كلَّ أمل قبلت هذا التغيير. ومنذ انسحاب ستة عشر أميرا بوحداتهم السياسية من الإمبراطورية الرومانية المقدسة حتى تقلَّصت هذه الإمبراطورية إلى مُزَق تافهة فتخلَّى فرانسيس الثاني (في 6 أغسطس سنة 1806) عن لقبه وامتيازاته كرأس لما كان ذات يوم كياناً كبيراً أي الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي وصفها فولتير ذات يوم بأنها ليست مقدسة، وليست رومانية وليست إمبراطورية وأقنع نفسه بلقب فرانسيس الأول إمبراطور النمسا.

والآن فإن الإمبراطورية الفرنسية وفي ركابها مدوَّنةُ نابليون القانونية قد امتدت من ساحل الأطلنطي إلى نهر إلْب Elbe، واشتملت هذه الإمبراطورية على فرنسا وبلجيكا وهولندا والدول الحدودية غرب الراين وجنيف، وكل إيطاليا تقريباً إلى الشمال من الولايات الباباوية، إن الرجل الذي حَسَد شارلمان قد كرر - بشكل واضح - إنجاز شارلمان بتقديم

ص: 91

القوانين للغرب - المقصود غرب أوروبا. لكن من الأطلنطي إلى نهر إلب كان الناس يتساءلون: إلى متى تستمر هذه الأخُوّة بين التيوتون Teuton والغال Gaul؟

‌5 - جينا (يينا) وإيلاو وفريدلاند:

من 1806 إلى 1807 م

JENA، EYLAU، FRIEDLAND

في 15 أغسطس سنة 1806 احتفلت فرنسا بيوم القديس نابليون وبعيد ميلاده السابع والثلاثين. وكتبت مدام دي ريموزا (المنتقدة عادة) أصبحت الدولة في حالة هدوء عميق، وقلَّت المعارضة يوما فيوم، فقد نظَّمت الإدارة الحازمة الرصينة المستقيمة طريقة ممارسة السلطة وأساليب دعمها. فتم دعم نظام التجنيد الإجباري بشدّة لكن الآن أصبحت ثرثرة الفرنسيين وشائعاتهم واهنة ضعيفة، فالفرنسيون لم يكونوا قد استنفذوا بعد مشاعر العظمة والأهم من كل هذا أن فوكس رئيس وزراء إنجلترا والكونت بطرس أوبريل Peter Oubril قد فتحا باب المفاوضات من أجل السلام.

وعلى أية حال، فإن بروسيا كانت مترددة ترنو إلى الحرب، فاتحادها القسري مع فرنسا كان مكلِّفاً لها كما ثبت: فانجلترا والسويد كانتا قد أعلنتا الحرب عليها، والأسطول البريطاني حاصر سواحلها واستولى على سفنها في البحار، وكان اقتصادها يعاني، وكان شعبها في حالة دهشة لِمَ أقام ملكُهم هذا التحالف المدمّر؟ وأخبر رجل الدولة البروسي العجوز فريدريك وليم الثالث المتردد أن التحالف الدائم مع روسيا هو الطريق البديل الوحيد لمنع نابليون من ابتلاع بروسيا، ولم يقدم هذا السياسي العجوز اقتراحه إلا بعد أن لمس أن عظمة الجيش البروسي لا تزال قائمة بفعل الذكريات الداعية للفخر التي تتداعى للأذهان عن أيام فريدريك العظيم، كما أنه وضع في اعتباره القوى البشرية الهائلة التي يجندها القيصر اسكندر استعدادا لجولة أخرى مع فرنسا.

كما أن الأميرة لوسي (لويزا Louise) الجميلة المؤثرة التي كانت تحب زوجها الوسيم العطوف اسكندر، راحت تزدري خوف زوجها من حثالة الجحيم (تقصد نابليون)، وحثها الفوج العسكري الذي

ص: 92

يحمل اسمها على ارتداء زى الكولونيل لأنها تبدو فيه جميلة، وركبت حصانها وسارت أمامهم في ساحة العرض العسكري. وراح الأمير لويس فرديناند ابن عم الملك يحث على الحرب باعتبارها طريقاً لمجد العرش البروسي.

وفي 30 يونيو سنة 1806 أرسل فريدرك وليم إلى اسكندر تأكيداً مفاده أن معاهدة بروسيا مع فرنسا لن تكون حائلاً في سبيل تنفيذ معاهدة بروسيا مع روسيا والتي سبق توقيعها في سنة 1800. وفي شهر يوليو صدمه أن يعلم أن نابليون قد قبل تحت حمايته كونفدرالية الراين Confederation of Rhine، تلك الكونفدرالية التي شملت عدة مناطق كانت فيما قبل تابعة لبروسيا Prussia، والمفترض أنها لازالت داخلة في مجال نفوذها. وأكثر من هذا فإن السفير البروسي في فرنسا كتب لسيِّدة أن بونابرت اقترح بشكل سرّي عودة هانوفر لإنجلترا كجزء من ثمن السلام. وكان نابليون سبق أن وعد بضم هانوفر إلى بروسيا فشعر مليكها (أي مليك بروسيا) بالإحباط وأنه قد غُرِّر به.

وفي 9 أغسطس أمر بتعبئة الجيش البروسي، وفي 26 أغسطس أثار نابليون بروسيا أكثر من ذي قبل بأن أصدر أوامره - أو سمح - بإعدام بالم Palm وهو بائع كتب في نورمبرج Nuremberg لإصدارة كُتيباً يُحرّض على الثورة ضد فرنسا. وفي 6 سبتمبر تعهد فريدريك وليم في خطاب أرسله إلى القيصر بالانضمام إلى أي هجوم على مُزعج العالم وفي 13 سبتمبر مات فوكس الشجاع وقد ذكر نابليون عنه في وقت لاحق أنه كان من بين فعاليات قَدَرِي فلو أنه عاش لأمكن إبرام السلام وبعد موته عادت الوزارة البريطانية إلى سياسة النضال ضد نابليون حتى الموت وتخلى اسكندر عن الاتفاقية المؤقتة التي سبق أن وقعها أوبريل Oubril مع فرنسا.

وفي 19 سبتمبر أرسلت بروسيا إلى فرنسا إنذاراً أنه إذا لم تتحرك القوات الفرنسية في غضون أسبوعين إلى غرب الراين فإن بروسيا ستعلن الحرب، وعرض جودوي Godoy الوزير الماكر الذي كان يحكم أسبانيا في ذلك الوقت، صداقته على بروسيا، ودعا الأسبان لحمل السلاح ولم ينس له نابليون ذلك، وقرر أنه إذا ما أُتيحت الفرصة فسيقيم في أسبانيا حكومة تكون أكثر صداقة لفرنسا. وغادر نابليون باريس على مضض واتجه مع جوزيفين وتاليران إلى مينز Mainz لمواجهة أخطار الحرب مرة أخرى.

ص: 93

ولابد أنه كان قد فقد شهيته لخوض معركة لأنه عندما كان يتعيّن عليه مفارقة جوزيفين في مينز اعتراه انهيار عصبي، وربما كان قد أتى للتحقق أنه ليس هناك من أمر يستحق أن يخاطر من أجله بعرشه وحياته بخوض حرب، فلم يكن أي نصر ليحقق له سلاماً مقبولاً. وقد وصفت مدام دي ريموزا المشهد كما رواه لها زوجها:

"أرسل الإمبراطور زوجي ليدعو الإمبراطورة للاجتماع به فعاد بها إليه في غضون لحظات. لقد كانت تبكي، وحركت دموعها مشاعر الإمبراطور فضمَّها لفترة طويلة بين ذراعيه وكاد يبدو غير قادر على وداعها. لقد كان متأثراً بشدة وتأثرت مدام دي تاليران بدورها كثيرا، وقرّب نابليون بيده الممدودة مدام دي تاليران - وهو لا يزال يضم إلى قلبه جوزيفين، ثم ضمَّ المرأتين معاً في الوقت نفسه وقال لمدام دي ريموزا: "يصعبُ على المرء كثيراً أن يفارق اثنين، يُكِنُّ لهما أعمق الحب"، وبينما كان ينطق بتلك الكلمات اعترته نوبةٌ من الهياج العصبي زادت حتى أنه بكى فاقداً السيطرة على نفسه وأعقب ذلك نوبة تشنّج ثم تقيَّأ. فتمَّ رفعُه وإجلاسه على الكرسي وشرب بعض ماء زهر البرتقال لكنه استمر يبكي بشكل متواصل زهاء ربع ساعة. وأخيراً سيطر على نفسه وقام فجأة فصافح مدام دي تاليران، واحتضن زوجته للمرة الأخيرة قبل الوداع، وقال للسيد دي ريموزا: هل المركبات جاهزة؟ استدعِ الحاشية، ولننطلق ".

لقد كان عليه أن يُسْرِع لأن إستراتيجيته كانت تقوم على مواجهة بروسيا بأفضل قواته قبل أن يتمكن الروس من الوصول إلى الجبهة. ولم يكن البروس قد وحدوا قواتهم بعد: ففي المقدمة كان هناك 50،000 مقاتل بقيادة الأمير فريدريك لودفيج الهوهنلوهي Friedrich Ludwig of Hohenlohe وفي الخلف - إلى الأبعد - كان هناك 60،000 مقاتل بقيادة فريدريك وليم ودوق برونسفيك Brunswick الذي كان قد أقسم منذ خمسة عشر عاماً أن يدمر باريس؛ بالإضافة إلى حوالي 3،0000 من جنود هانوفر الذين أقبلوا دون رغبة شديدة لمساعدة مليكهم الجديد. وكان مجموع المقاتلين على الجبهة البروسية 140،000 مقاتل بينما بلغ عدد جنود نابليون 130،000 تم تجميعهم بسرعة لكنهم كانوا ماهرين في المناورة، وكانت الهزيمة غريبة عليهم، وكانوا واثقين في قادتهم: لين Lannes دافو وأوجيرو وسول Soult ومورا وني. واستولت قوات لين وأوجيرو

ص: 94

Augereau على فرقة عسكرية بروسية في سالفيلد Saalfeld وهو سهل بين سال Saale وإلم Ilm رافدي نهري إلب، وتعرض البروس لهزيمة أمام الفرنسيين لعدم دُربتهم على المناورات السريعة التي يجيدها الفرنسيون وفي هذه المعركة قُتل الأمير لويس فرديناند (10 أكتوبر 1806).

واندفع الفرنسيون بستة وخمسين ألف مقاتل وانقضوا على جيش هوهنلوهي بالقرب من يينا (جينا Jena) مقر الجامعة المشهورة التي كان شيلر Schiller قد درَّس فيها مؤخرا، وحيث كان على هيجل Hegel - بعد ذلك بعام - أن يُربك العالم بفلسفة جديدة. ونشر نابليون قواته في شبكة معقدة لتمكين فرق لين وسول من التعامل مع قلب جيش العدو وجناحه الأيسر، بينما هاجمت فرقة أوجيرو الميمنة واندفعت خيّالة مورا بعنف بين صفوف البروس الذين اجتاحتهم الفوضى وافتقدوا كل تنظيم فولوا مدبرين تاركين ساحة المعركة. وأثناء هروبهم مروّا بين كتائب دوق برونسفيك المنكسرة التي كانت قد لاقت الهزيمة في أورشتدت Auerstedt على يد الجيش الفرنسي الذي كان يقوده باقتدار دافو،

وفي هذه المعركة جُرح دوق برونسفيك Brunswick جرحاً مميتاً. وفي هذا اليوم (14 أكتوبر سنة 1806) فقد البروس 27،000 بين قتيل وجريح و 18،000 أسير كما فقدوا كل مدفعيتهم تقريبا. وفي هذا المساء أرسل نابليون تقريرا سريعاً إلى جوزيفين: لقد التقينا بالجيش البروسي ولم يعد له وجود. إنني على مايرام وأضمّك إلى قلبي. وفي الأيام التاليات تعقب ني وسول ومورا الهاربين وأسروا منهم 20000 وتوجهت قوات وأوجيرو مباشرة إلى برلين فاستسلمت المدينة سريعاً وفي 27 أكتوبر دخل نابليون العاصمة البروسية.

وكان من بين مهامه الأولى أن يجبي من البروس وحلفائهم 160 مليون فرنك ليدفع للجيش الفرنسي وبالإضافة لهذا فقد كان على برلين أن تمد القوات الفرنسية المحتلة بالغذاء والملابس والدواء. وأصدر أمراً بإرسال الأعمال الفنية (أفضل الرسوم والتماثيل) من برلين وبوتسدام Potsdam إلى باريس، وحصل نابليون نفسه - بدوره - على سيف فريدريك العظيم.

ص: 95

وأصدر من برلين في 21 نوفمبر سنة 1806 قراره:

"من الآن فصاعداً لا يُسح لأي سفينة قادمة من بريطانيا العظمى، ومستعمراتها بدخول أي ميناء من موانئ الإمبراطورية الفرنسية التي تضم الآن المدن الهانزييتية Hanseatic towns، ولا يُسمح لأية بضائع من بريطانيا العظمى أو ممتلكاتها بدخول الأراضي التي تحكمها فرنسا أو المتحالفة مع فرنسا، ولا يُسمح لبريتوني Briton بدخول أراضي الإمبراطورية الفرنسية وأراضي المناطق المتحالفة معها".

إن نابليون لمّا وجد كل انتصاراته الحربية غير مُجدية لحث إنجلترا على السلام، بالإضافة إلى علمه أنها (إنجلترا) ستفرض الحصار البحري على كل المناطق التي تحكمها فرنسا، كما سبق لها الحصار البحري على كل المناطق التي تحكمها فرنسا، كما سبق لها أن مدّت حصارها (في مايو سنة 1806) على كل الساحل من بريست إلى إلب - أراد أن يحوّل هذا السلاح نفسه (الحصار البحري) إلى صدر عدوه بمعنى أن يتم إبعاد بريطانيا عن القارة الأوروبية أو بتعبير آخر غلق القارة الأوروبية في وجه إنجلترا، تماماً كما أن الأسطول البريطاني كان منذ فترة يغلق أبواب التجارة البحرية في وجه فرنسا وحلفائها. وربما بهذه الطريقة - كما كان يأمل - يدفع تجار بريطانيا وصناعها للحركة مطالبين حكومتهم بالسلام.

وكانت هذه الخطة تنطوي على كثير من نقاط الضعف. فالصنّاع في القارة الأوروبية - بعد أن تخلَّصوا من منافسة الصنّاع الإنجليز - رفعوا أسعار منتجاتهم، وحزن المستهلكون لافتقادهم المنتجات البريطانية التي اعتادوا عليها. وكثرت الرشاوى وعمليات تهريب البضائع (وقد جمع بوريين بالفعل ثروة ببيع استثناءات من هذا الحصار، وكان نابليون قد عيَّنه وزيرا في هامبورج، فاضطر نابليون لطرده مرة أخرى). وكانت روسيا لا تزال متحالفة مع إنجلترا، وكان يمكن للبضائع البريطانية أن تجد طريقها إلى بروسيا والنمسا عبر الحدود الروسية. وكانت البضائع البريطانية تَصُبُّ يوميا في ميناء دانزج Danzig الذي كان العساكر البروس لا يزالون يسيطرون عليه.

ورغم أن الجيش البروسي كان قد تحطّم وأصبح نابليون دكتاتوراً في برلين إلاَّ أن موقفه العسكري سرعان ما أصبح مُزعزعا بشكل أكثر من موقفه الاقتصادي. وكانت معظم أراضي

ص: 96

بولندا واقعاً في أيدي الروسي والبروس، وكان الوطنيون البولنديون قد أرسلوا يناشدون نابليون القدومَ لتحرير بلادهم التي كانت في وقت من الأوقات ذات سيادة - تحريرها من العبودية المخزية. وعلى أية حال، فقد كان هناك جيش روسي جيد التسليح مكون من 80،000 مقاتل يتمركز غرب فيستولا Vistula بقيادة كونت ليفين بنيجسن Levin Bennigsen وكان يستعد لتحدي أي تدخل فرنسي في بولندا. وكان الجيش الفرنسي الذي لم يكن قد تخلّص تماما من آثار معركة يينا غير شغوف بخوض غمار معركة من أجل بولندا لأن رجاله لم يكونوا معتادين على البرودة الكئيبة في منطقة البلطيق فقد كانوا يرتجفون لاقتراب الشتاء ويتوقون العودة إلى بلادهم.

وفي هذه الأثناء قَدِم من باريس إلى برلين وفد مفوّض هدفه الظاهري هو تهنئة نابليون لانتصاراته الباهرة، لكن الحقيقة أنه أتى ليتوسّل إليه ليعقد سلاماً ويعود لفرنسا التي بدأت ترى في كل انتصار نابليوني ما يحتم مزيداً من الحروب الكثيرة التي قد يكون في أحدها مخاطرة بكل ما تمَّ تحقيقه من انتصارات، فأخبر الوفد أنه لا يستطيع أن يتوقف الآن، فلابد من مواجهة التحدي الروسي، وأن حصار إنجلترا (المقصود هنا حصار فرنسا لإنجلترا) سيفشل إذا لم تنضم روسيا للخطة الفرنسية مُجبرةً أو مُداهنة. وأمر نابليون جيشه بالتقدم في المناطق البولندية التي تسيطر عليها بروسيا ولم يلق في تقدمه مقاومة عاجلة، وفي 19 ديسمبر سنة 1906 دخل نابليون وارسو Warsaw (فرسافا) دون عائق وسط مظاهر الترحيب.

كل الطبقات في بولندا من النبلاء الذين كانوا لا يزالون توَّاقين للتحرّر، إلى الفلاحين الذين كانوا لا يزالون يعانون من مآسي عبودية الأرض serfdom (القِنانة) .. كلهم اتفقوا في النظر إلى نابليون كأعجوبة سيُبطل تقسيم دولتهم إلى ثلاثة أقسام قسم لروسيا وآخر لبروسيا وثالث للنمسا، وسيجعل بولندا مرة أخرى دولة ذات سيادة، ورد نابليون استحسان البولنديين له بالثناء على الأمة البولندية وامتدحها وبالثناء على أبطالهم ونسائهم (اللائي كن يتحدث الفرنسية بلكنة جذَّابة فيها صفير)

وقد انتقى نابليون منهن واحدة هي الكونتيسة ماري لاكزينسكا فالفسكا Laczynska Walewska ودعاها لسريره وقلبه. وكانت مُناشدته إيّاها - قبل أن يذوق عَسِيلتها وبعد أن ذاقها - مُفعمة بالعاطفة ومتسمة

ص: 97

بالتواضع تماماً كما كان واضحاً في خطاباته الأولى إلى جوزيفين لقد رفضته فالفسكا (كما قيل لنا) حتى طلبت منها مجموعة من النبلاء البولنديين في وثيقة وقَّعوها جميعاً بأسمائهم الأولى في بولندا أن تضحّى بنفسها على أمل أن يقوم نابليون من أجل خاطرها بتوحيد بولندا وإعادة سيادتها (تخليصها من التقسيم بين ثلاث دول) وذَّكرتها هذه الوثيقة بأن أستير قد أعطت نفسها لأحشويروش Ahasuerus لا حباً فيه وإنما لتنقذ شعبها وإن كان لنا أن نقول الأمر نفسه، فإنما أنت تفعلين ذلك لتحققي المجد لنفسك والسعادة لنا!. وعندما توسّلت جوزيفين أن يُسمح لها بالقدم إليه من مينز منعها نابليون بحجة أن الطرق سيئة (غير ممهدة) قائلاً لها:"عودي إلى باريس .. وكوني مُبتهجة وسعيدة، وربما سألحق بك حالاً هناك ".

وبينما كان كامنا مع فالفسكا طوال الشتاء راح يأمُل أن ينتظر الروس حتى حلول الربيع ولا يسببون له إزعاجاً قبل ذلك. لكنه عندما أرسل قوات بقيادة المارشال فرانسوا - جوزيف ليفيبفر Lefebvre للاستيلاء على دانزج Danzig، قاد بنيجسن كل قواته تقريباً، والبالغ عددها 80،000 مقاتل عبر الفيستولا في هجوم كاسح على قوات ليفيبفر عند اقترابهم من ثورن Thorn، وعاد المراسلون تواً لإحاطة نابليون علماً بما جرى فأسرع (نابليون) شمالاً على رأس 65000 مقاتل في 8 فبراير سنة 1807 وحارب عند إيلان Eylan (جنوب كونيجسبرج Konigsberg) معركة من أكثر معاركه قسوةً إذ كلّفته أكثر بكثير مما كان يتكلفه في المعارك السابقة إذ كانت المدفعية الروسية متفوقة على المدفعية الفرنسية،

وكان أوجيرو Augereau قد كَبر في السن وأصبحَ يُصاب بالدوار فطلب من قائده (نابليون) إعفاءه بحجة أنه لم يعد قادراً على التفكير بصفاء ذهن، واجتاحت خَياَّلةُ موراً صفوف الأعداء، لكنهم استطاعوا الاحتفاظ بتشكيلاتهم وصمدوا حتى المساء. ثم أمر بنيجسن Bennigsen قوّاته بالتراجع تاركاً في

ص: 98

ساحة المعركة 30،000 بين قتيل وجريح، إلاّ أنه - على أية حال - كتب إلى القيصر أنه حقق نصراً مجيداً، واحتفى به القيصر بإقامة قدّاس تسبيحة الشكر في سان بطرسبرج.

لقد انتصر الفرنسيون في هذه المعركة لقاء 10،000 ما بين قتيل وجريح، وراح من بقي على قيد الحياة يُبدون عدم رضاهم فكيف سيستطيعون مقاومة هجوم آخر يقوم به هؤلاء السلاف Slaves الشّداد كثيرو العدد. وأيضاً أصبح نابليون الآن مكتئباً اكتئاباً غير عادي، فآلام المعدة اشتدت عليه، تلك الآلام التي قضت عليه فيما بعد. ولم ينس أبداً ما أولته ماري فالفسكا من رعاية مُخلصة أثناء هذا الشتاء القاسي في معسكر الجيش في فينكنشتين Finkenstein. ومع هذه الآلام فقد كان يواصل العمل يومياً آمراً بالطعام واللباس والدواء لجنوده، مُشرفاً على الأمور العسكرية، مُجتمعاً بالمجنَّدين إلزامياً من شعبه المرهق وحلفائه الكارهين، مُصدراً المراسيم والأوامر للحكومة الفرنسية. وفي الوقت نفسه اجتمع القيصر اسكندر الأول والملك فريدريك وليم الثالث في بارتنشتين Bartenstein في 26 أبريل سنة 1807 ووقعوا اتفاقية لتقسيم أوروبا غير الفرنسية (المناطق الأوروبية التي لم تستولِ عليها فرنسا) بينهما بعد المعركة القادمة مع نابليون والتي توقعا أن يحطما فيها الجيش الفرنسي.

وعندما تم تدعيم هذا الجيش الفرنسي المتعدد الجوانب وانتعش الجنود بحلول الربيع أرسل نابليون قوّة للاستيلاء على دانزج Danzig فتم الاستيلاء عليها فعلاً. وتلقى بنيجسن - الذي كان بدوره يعيد بناء كتائبه - أوامر من اسكندر بالتوجه إلى كونيسجبرج Konigsberg حيث سيتقوّى بأربعة وعشرين ألف مقاتل بروسي شديد البأس. وانطلق بنيجسن لكنه أثناء الطريق سمح لقواته البالغ عددها 46،000 بأخذ قسط من الراحة في فريد لاند.

وهناك في الساعة الثلاثة من صباح 14 يونيو سنة 1807 (الذكرى السنوية لمارينجو) استيقظوا على وابل من النيران صبّه فوق رؤوسهم 12،000 فرنسي يقودهم لان Lannes القائد المتهور لكنه مستعصٍ على الهزيمة. ورد الروس على نيرانه فوراً، وكان من الممكن أن تنتهي مغامرته بكارثة لو لم يأته الدعم. اندفع نابليون بكل قواته وحاصر الروس من كل جانب خلا من ناحية نهر آل Alle لأن النهر سيعوق

ص: 99

تراجعهم، وفي الخامسة عصراً ساد الفرنسيون وولّى الروس الأدبار فاستقل بعضهم قوارب لعبور النهر، وألقى بعضهم الآخر بأنفسهم في النهر يأسا وخلَّفوا في ميدان المعركة 25،000 قتيل وجريح.

وفقد الفرنسيون في هذه المعركة 8،000 لكنهم أحرزوا نصراً حاسماً على الجيش الروسي المتبقي لمواجهة غزو خارجي. وهرب الروس والبروس إلى تيلسيت وفقدوا المئات أثناء الهروب بسبب تقعب الفرنسيين لهم حتى أن جنرالاتهم سألوا اسكندر أن يطلب الهدنة ووافق نابليون وترك جنراله سافاري Savary ليحكم كونيجسبرج ويدبّر أمورها، وتوجه هو نفسه إلى تيلسيت ليعقد سلاما مع ملكٍ منكسر، وقيصرٍ مقصوص الجناح.

‌6 - تيلسيت

TILSIT: من 25 يونيو إلى 9 يوليو 1807 م

وفي تيلسيت الواقعة على بعد حوالي ستين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من كونيجسبرج تواجه الجيشان المتنافسان تواجهاً سليماً، جيش على شاطئ نهر نيمن Niemen والآخر على الشاطئ المقابل، وزاد بينهما التفاهم وروح الصداقة وعلى أية حال فإن الأباطرة المتنافسين - بناء على اقتراح اسكندر - التقوا باحتراس - في خيمة أُقيمت على طوّافة جرى تثبيتها في وسط مجرى النهر. وكان على كل حاكم منهم أن يستقل قارباً ليصل إلى الطوافة، فوصل نابليون إلى الطوافة أولاً (كما كان يتوقع كل جندي فرنسي) واستغرق وقتاً في تفقد الخيمة ورحَّب باسكندر على الجانب الآخر، وتعانقا وواجها جيشيهما الذي راح أفراده يهتفون بحيوية وابتهاج. لقد كان مشهداً جميلاً على حد تعبير مينيفال Meneval الذي كان شاهد عيان.

لقد كان لدى كل واحد من هؤلاء الحكام أسبابه ليكون ودوداً: فجيش نابليون لم يكن في حالة تسمح له بغزو أراضٍ مجهولة لا حد لشساعتها وكثرة رجالها (لم يكن جيش نابليون عُدّةً وعدداً مستعداً لمثل هذا الغزو ولم تكن مؤخرته محمية وكان الدعم المتوقع وصوله من فرنسا - التي تصرخ طالبة السلام - غير مضمون الوصول)، أما اسكندر فكان سعيداً لحصوله على فترة لالتقاط الأنفاس قبل أن يأخذ على عاتقه هزيمة رجل لم تعرف

ص: 100

الهزيمة إليه سبيلاً (فيما عدا هزيمته في عكا Acre) ، وكان اسكندر مشمئزا من ضعف حلفائه وهشاشة جنودهم، وكان يخشى قيام عصيان مسلح في الدوائر التابعة له في بولندا أوليتوانيا، كما كان مشوّشاً بسبب علاقته السيئة بتركيا (الدولة العثمانية) وحالة جنوده.

وإلى جانب هذا فلم يكن نابليون هذا الرجل الفرنسي الذي كان يتعامل مع خريطة أوروبا وكأنها رقعة شطرنج، لم يكن غولاً وبربرياً كما وصفته القيصرة والكونيجن Konigen وإنما كان رفيقاً لطيفاً جذّابا، كَرَمُه كامل، وإن كان غير مفرط. وبعد هذا اللقاء الأول كان اسكندر قد وافق بالفعل على أن يكون مؤتمرهم القادم في مدينة تيلسيت في مقر ملائم يدبره نابليون بالقرب من مقرّه (مقر نابليون). وكانوا غالباً ما يتناولون عداءهم على مائدته وأحياناً مع ملك بروسيا وفي وقت لاحق مع مليكتها. ولفترة جعل القيصر من نفسه تلميذاً فسأل الكورسيكي (نابليون) أن يعلمه شيئاً من فن الحكم واتفق معه على أن لويس الثامن عشر (الذي كان يعيش وقتئذ في كورلاند Courland) تنقصه كل المواصفات اللازمة للحاكم وأنه أكثر من أي شخص آخر في أوروبا تفاهة وشرعية.

وعمد كل إمبراطور منهما إلى إبهاج الآخر ومداهنته. وبعد مفاوضات ودية بشكل واضح لم يوقِّعا معاهدة فحسب وإنما تحالفاً. وأصبح لروسيا أن تحتفظ بممتلكاتها كما هي لم يُنقص نابليون منها شيئاً لكن كان عليها أن تُنهي تعاونها مع إنجلترا وأن تنضم إلى فرنسا للحفاظ على السلام في أوروبا. وبناءً على اتفاق سرّي أصبحت روسيا حرّة في ضم فنلندا والاستيلاء عليها من السويد (التي كانت معادية لفرنسا منذ سنة 1792) كما أصبح من حق فرنسا أن تغزو البرتغال التي كانت قاعدة أمامية لإنجلترا في الحرب. وتعهد اسكندر بالتوسط لإقامة سلام مُرضٍ بين إنجلترا وفرنسا وإن فشل في تحقيق ذلك أن ينضم إلى فرنسا في مواجهة إنجلترا حصاراً وحرباً. وقد أبهج هذا التعهد نابليون لأنه قدَّر أن التعاون مع روسيا في حصار إنجلترا أهم بكثير من استحواذه على مزيد من الأراضي.

ولأن نابليون لم يكن مستعداً للتضحية بهذه الاتفاقات ولم يكن مستعداً لخوض حرب حتى النهاية ضد روسيا وبروسيا والنمسا - فقد نحَّى جانباً فكرة إعادة بولندا لوضعها السابق قبل تقسيمها بين هذه الدول الثلاثة، باعتبار أنها فكرة غير عملية، وإنما اقنع نفسه

ص: 101

بتأسيس دوقية وارسو Warsaw (فرسافا) تحت الحماية الفرنسية مقتطعاً إياها من المناطق البولندية التي تحتلها بروسيا.

ولهذه الدولة (الدوقية) الجديدة التي تضم مليوني نفس، وضع - في 22 يوليو سنة 1807 - دستوراً يمنع القِنانة (عبودية الأرض) ويجعل كل المواطنين أمام القانون سواء ويجعل المحاكم علنية أمام القضاء ويجعل مدوّنة نابليون القانونية أساساً للتشريع والعدالة. وألغى حق النبلاء في الاعتراض على القرارات والعوائد الإقطاعية وألغى الدايت الخامل، وخوّل السلطة التشريعية لمجلس شيوخ من الأعيان ومجلس من مئة نائب، أما السلطة التنفيذية فأوكلها لملك سكسونيا الذي كان سليلاً لحكام بولندا السابقين. لقد كان هذا الدستور دستوراً متنِّوراً مُتفقاً مع ظروف مكانه وزمانه.

ومع أن نابليون كان كريماً مع القيصر، فإنه كان قاسياً لا يرحم مع ملك بروسيا الذي سبق أن نقض تحالفه مع فرنسا لينضم إلى أعدائها. لقد طالب (نابليون) فريدريك وليم الثالث بتسليم كل المناطق البروسية غرب نهر إلب. وكان معظمها قد جرى إعادة تكوينها كدوقية بيرج Berg الكبيرة ومملكة وستفاليا. وكلُّ بولندا البروسية تقريباً أصبحت دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة ما عدا دانزج Danzig التي أصبحت مدينة حرّة في ظل حامية فرنسية.

وكان على نصف بروسيا الباقي أن يُغلق أبوابه في وجه التجارة البريطانية وأن يشترك في الحرب ضد إنجلترا إن دُعِي لذلك وأن تظل القوات الفرنسية تحتله حتى يتم دفع التعويض المالي الكبير كاملاً. وصُعق فريدريك وليم - الذي لم يكن يريد الحرب - لقسوة هذه الشروط.

واندفعت الملكة لوسي (لويزا) Louise - التي تكاد تكون هي السبب في دخول بلادها الحرب - من برلين (في 6 يوليو) وطلبت من نابليون متودّدة له بالحجج والعطور والابتسامات والدموع كي يُخفف من مطالبه. فبرَّد نابليون من فيض فصاحتها وأثر عطرها وسحر ابتسامتها بأن قدم لها كرسياً لتجلس فيصعُب عليها - وهي جالسة - بث سحرها، وشرح لها أنه لابد أن يدفع أحد الطرفين بسبب الحرب. ولماذا لا تكون الحكومة التي خرقت المعاهدة - بناءً على وصيتها - هي التي تدفع؟ وأبعدها بعد أن رفض طلباتها بأدب، وفي اليوم التالي أمر تاليران بإبرام الاتفاقات كما سبقت صياغتها قبل

ص: 102

قدوم الملكة لوسي (لويزا) وعادت الملكة إلى برلين مكسورة القلب وماتت في غضون ثلاثة أعوام وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها.

وفي 9 يوليو غادر الإمبراطوران وقد وقر في شعور كل منهما أنه حقَّق صفقة طيبة: الاسكندر أمَّن روسيا من الغرب وأصبح مطلق اليد في فنلندا وتركيا. ونابليون حصل على بيرج ووستفاليا وهدنة غير قائمة على أساس متين. وقد عرّف نابليون في سنوات لاحقة مؤتمر القوى هذا بأنه: "خدعة وافق عليها دبلوماسيون. لقد كان بمثابة قلم مكيافيللي وسيف محمد" وفي اليوم التالي غادر إلى باريس حيث استقبلته الجماهير الشاكرة الممتنّة بصيحات التهليل لإقراره السّلام أولاً ولتحقيقه الانتصارات ثانياً. وكان التقرير الذي قدَّمه للمجلس التشريعي عن حالة الأمة في سنة 1807 من بين أكثر تقاريره فخراً:

"فالنمسا قد عُوقبت، وبروسيا قد أُدّبت وروسيا أصبحت متحالفة مع فرنسا بعد أن كانت عدوّة لها. وثمة أراضٍ جديدة أُضيفت للإمبراطورية بالإضافة إلى 123،000 أسير - ودفع المعتدون المهزومون كل التكاليف ولم نضطر لأي زيادة في الضرائب في فرنسا ".

وأعلن نابليون ترقية تاليران ليجعله أميراً لبنيفنتو Benevento بالإضافة لترقيته آخرين. وقد أدت هذه الترقية لزيادة دخل هذا الأب (الراهب) الفرنسي النَّهِم بمقدار 120،000 فرنك، لكن هذه الترقية كانت تعني استقالته من منصبه كوزير للخارجية، مادام البروتوكول يقضي بأن الوزير أقل رتبة من الأمير.

وبهذه الطريقة أصبح الموقف الصعب سهلاً لأن نابليون كان قد بدأ يرتاب في أنه مختلس رغم عبقريته الدبلوماسية، لكنه (أي نابليون) تردّد في فلم يطرده، والحقيقة أيضاً أن نابليون استمر في استخدامه في عدة مفاوضات كبرى. وبعد أن درّب تاليران خليفته في

ص: 103

وزارة الخارجية جان - بابتست دي شامباني Jean-Baptiste de Champagny على طريق وأساليب وألاعب منصبه الجديد، أصبح (أي تاليران) حرا في الاستمتاع بحياته في قصره الفخم الذي سبق أن اشتراه في فالينساي Valencay بمبلغ مالي كان جزء منه من الأموال التي أعطاه إياها نابليون.

وفي 15 أغسطس احتفل البلاط بانتصار نابليون بإقامة مهرجان يُعيد للأذهان بهاء الملك العظيم: عُزفت الكونشرتات concert، ورقصت الباليرينات ballet وعُرِضت الأوبرات، وحضر الملوك والوزراء بملابسهم الرسمية، وحضرت النسوة وقد تزيّن بثروة من الجواهر، وارتدين العباءات النسائية الجميلة.

وبعد ذلك بأربعة أيام أُلغي التريبيون Tribunate (المجلس المدافع عن حقوق الشعب) ففي هذا المجلس كانت هناك أقلية جَسُرت لسنوات على معارضة قراراته ووجهات نظره، فأراد أن يستكمل أُبهته الملكية بإلغائه. وخّفف من وقع القرار بتعيين عدد من أعضائه الذين لا خطر منهم في مناصب إدارية، وبإلحاق معظم الأعضاء الآخرين في الهيئات التشريعية التي أصبح لها الآن الحق في أن تناقش أن تُناقش الإجراءات، والحق في التصويت.

أما الذين كانوا قد تركوا فرنسا بسبب أحداث الثورة الفرنسية ممن عادوا ولا زالوا على قيد الحياة، والذين كانوا في قصور ضاحية سان - جرمين Germain التي غدت - من جديد - مُفعمة بالحياة، فقد صَفَّقُوا لنابليون استحسانا وتقديراً كشخص يكاد يكون نبيل المولد. لقد راح كل واحد منهم يسأل الآخر:"لم لا يكون مُلكُه شرعياً؟ إذن لأصبحت فرنسا به كاملة". لكن نادراً ما أصبح نابليون - بعد ذلك - يحظى بمثل هذه الشعبية والقوة والرِّضا.

ص: 104

الفصل التاسع

‌المملكة الميِّتة:

من 1807 إلى 1811 م

The Mortal Realm

‌1 - آل بونابرت

لقد زاد نابليون من أعبائه بمضاعفة ممتلكاته، لأن المناطق العديدة التي أضافها لإمبراطوريته والتي كان أهلها مختلفين عِرقاً ولغةً وديناً وعادات وشخصية - لا يمكن أن يتوقع أحد أن تكون مُطيعة طاعةً مطلقةً لحِكُم أجنبي يُرسل الضرائب التي يتمُّ جمعها منهم إلى باريس ويُرسل أبناءهم إلى الحروب. ومن ذا الذي يستطيع نابليون اختياره ليحكم هذه البلاد بحكمةٍ وإخلاص، بينما هو (أي نابليون) منشغل بأمور فرنسا غير المنضبطة؟ لقد كان بإمكان نابليون أن يثق في عدد قليل من جنرالاته لإدارة بعض الأقاليم الصغيرة وعلى هذا فقد جعل من بيرثييه Berthier أميراً لنيوشاتل Neuchatel وجعل مورا Murat الدوق الكبير لبيرج Berg وكليف Cleves لكن معظم جنرالاته كانوا ذوي أرواح متمرسة على القيادة العسكرية ولم يكونوا مُلمِّين بفن الحكم وما يتطلبه من دهاء وكان عدد منهم - مثل بيرنادوت Bernadotte الطموح لا يرضون بغير الوصول للعرش.

لذا فقد لجأ نابليون إلى الاستعانة بإخوته فصلةُ الدم تضمن ولاءهم كما كانوا - وفقاً لبعض المقاييس من القوى الوطنية التي أدَّت دوراً في القنصلية والإمبراطورية. وربما يكون نابليون قد بالغ في قدراتهم وإمكاناتهم - بسبب مفهومه القوي لمعنى الأسرة - لأنه بذل قُصارى جهده - لمواجهة تطلّعاتهم لمشاركته الثروة والسلطة - لقد كافأهم جيداً لكنه أيضاً كان يتوقع مشاركتهم له في سياساته. خاصة في إحكام إغلاق القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية، التي كان يأملُ أن تُجبر إنجلترا على السير في طريق السلام. وربما أيضاً كان يأملُ في أن يستطيع بمشاركتهم أن يخطو خطوة نحو توحيد أوروبا كلها في ظلِّ قانون واحد ورياسة واحدة (كلاهما من عنده) وأن يعمل على انتشار الرخاء العام وإنهاء الحروب الوطنية - والحروب بين الأسرات الحاكمة - في أوروبا.

ص: 105

وبدأ مع أخيه الأكبر جوزيف Joseph (يوسف) الذي كان قد أدّى له خدمات معقولة في مفاوضاته مع النمسا وإنجلترا. وكان كورنويل Cornwallis - بعد أن تعامل معه في أمين Amiens- قد وصفه بأنه: "حسن النية، لكنه لا يتمتع بقدرات كبيرة .. إنه حساس ومتواضع ولطيف .. ومُتفتِّح .. " وربما أدت قرابته بالقنصل الأول بجعله - إلى حد ما - بعيداً عن روح المكر والخداع، تلك الروح التي تمكنت من وزير الداخلية (تاليران Talleyrand) بشكل واضح. وكان جوزيف يحب المال بالقدر نفسه الذي كان فيه نابليون يحب السلطة، ففي بواكير سنة 1798 كان جوزيف قادراً على شراء عقار مُترف في مورفونتين Mortefontaine بالقرب من باريس، كان يدعو فيه أصدقاءه والمؤلِّفين والفنانين وذوي المقام الرفيع حيثُ يَحْتفي بهم احتفاء سخياً.

وكان جوزيف مُتلهفاً كي يُعيِّنه أخاه وريثاً للعرش الإمبراطوري، ولم يكن قانعاً قناعةً كاملة عندما عيَّنه نابليون (في 30 مارس سنة 1806) ملكاً على نابلي - أي جنوب إيطاليا. ووصل فرديناند الرابع Ferdinand IV البوربوني الذي أُبعدت أسرته عن العرش إلى صقلية بمساعدة الأسطول البريطاني، وقادت زوجته الملكة تمرداً عسكرياً لإعادته لعرش بلاده، فأرسل نابليون أربعين ألف مقاتل بقيادة ماسينا Massena وريجنييه Regnier لقمع التمرد مهما كانت التكاليف، وقد كان إذ تم القمع بضراوة شديدة تركت ذكريات مريرة عبر الأجيال.

وحاول جوزيف أن يكسب ولاء رعاياه بالاعتدال واللطف والكياسة ولكن نابليون حذَّره قائلا: على الحاكم - كي يدعّم مركزه - أن يعملَ على أن يكون مُهاباً أكثر من عمله ليكون محبوباً. وكان حُكم نابليون النهائي على جوزيف متعاطفا:

"إن جوزيف لم يقدّم لي مساعدة، لكنه كان رجلاً طيباً جداً .. إنه يُحبني بإخلاص شديد، وأنا لا أشك في أنه يريد أن يفعل كلَّ شيء من أجلي. لكنَّ صفاته الشخصية ومزاياه لا تصلح إلاّ للحياة الخاصة، إنه لطيف رقيق في تصرفه ولديه مواهب ومعلومات، وهو بشكل عام رجل لطيف. وقد بذل قُصارى جهده في تنفيذ المهام الكبيرة التي أوكلتها إليه. لقد كانت نواياه طيبة، لذا فإن الخطأ إنما هو خطئي أنا فقد وضعته في المكان غير المناسب له".

أما أخوه لوسين (لوسيان) Lucien المولود في سنة 1775 فكان متقلّبا تماما كأخيه

ص: 106

نابليون، ذلك التقلب الذي لم يكن له ضابط سوى الطموح المهيمن. وبمعنى من المعاني فإن نابليون مدين له بالوصول إلى منصب القنصل الأول، فقد كان رفض لوسين - باعتباره رئيساً لمجلس الخمسمائة - ما اقترحه البعض من التصويت على خروج مغتصب العرش من تحت مظلة القانون (إهدار دمه)، بالإضافة إلى دعوته (أي دعوة لوسين) الجنود لتشتيت المجلس (مجلس الخمسمائة) فأنهى اليوم لصالح نابليون.

وفي وقت لاحق اقترح سلطات ملكية لأخيه قبل الأوان، فأبعده أخوه (نابليون) عن مسرح الأحداث بإرساله سفيراً له في أسبانيا. وهنالك استخدم كل الوسائل المتاحة لهُ لزيادة ثروته وبمرور الوقت صار أغنى من نابليون ولمّا عاد إلى باريس رفض الزواج السياسي الذي رتَّبه له أخوه وتزوج وفقاً لاختياره وذهب ليعيش في إيطاليا. وعاد إلى باريس ليقف إلى جوار أخيه خلال أخطار المائة يوم لقد خُلق لوسين للشعر وبالفعل فقد كتب ملحمة طويلة عن شارلمان.

أما أخوه لويس فقد كان أيضاً له عقل أخيه ومزاجه مع قدر من القناعة والمقدرة مما جعله قلقاً أو غير مستقر في ظل أوامر أخيه (نابليون) وسيطرته. وقد أنفق نابليون على تعليمه وأخذه معه إلى مصر وجعله معاوناً له، وهناك استغل منصبه العسكري في الانخراط في علاقات جنسية أدت لإصابته بمرض السيلان، ومن ثم لم يصبر حتى يُشفى من هذا المرض تماما. وفي سنة 1802 - وبناء على تشجيع جوزيفين - حثَّ نابليون أخاه اللامع لويس للزواج من هورتنس دي بوهارنيه Hortense de Beauharnais، وكانت شخصية نسائية لامعة.

وكان لويس زوجاً جِلفاً boorish (المقصود لا يجيد فنَّ الجِماع) وكانت هورتنس زوجة غير سعيدة وغير مخلصة، ومما ساهم في إفسادها تأثير مُتبنيها. وعندما أنجبت طفلاً (15 ديسمبر سنة 1802) هو نابليون - تشارلز، تم تسجيل نابليون كأب له في العِماد، وقد أدى هذا إلى إلقاء ظلال من الشك على علاقة نابليون بزوجة أخيه، وظل هذا الشك يطارهما إلى آخر حياتهما. ومما أعطى لهذه الشائعات بعض التسويغ أن نابليون اقترح تبنّي الطفل، وكان يُدلله بشغف ويُطلق عليه لفظ ولي عهدنا أو وريث العرش، لكن هذا الطفل مات وهو في الخامسة من عمره،

ص: 107

فأصيبت هورتنس بجنون مؤقت. وفي سنة 1804 أنجبت مولوداً آخر هو نابليون - لويس Napoleon Louis وفي سنة 1808 أنجبت آخر هو تشارلز - لويس - نابليون بونابرت الذي أصبح فيما بعد نابليون الثالث.

وفي 5 يونيو سنة 1806 جعل الإمبراطور (نابليون) من أخيه صعب المراس (لويس) ملكاً على هولندا، فكان مستعداً لعشق الشعب الهولندي أكثر من استعداده لعشق زوجته. لقد أدرك إلى أيِّ مدى يعتمد رخاء هولندا على تجارتها مع إنجلترا ومستعمراتها، وعندما وجد الهولنديون سبيلاً لاختراق المنع المفروض على التجارة البريطانية لم يترددوا في اختراقه ورفض لويس (أخو نابليون) أن يُدينهم، ولكن نابليون قاوم هذا التصرف فأصر لويس (أخو نابليون) عليه، ووجه القوات الفرنسية إلى هولندا فتنازل لويس (أخو نابليون) عن عرش هولندا في أول يوليو سنة 1810 فألحقها نابليون بفرنسا وجعلها تحت حكمه المباشر. وتراجع لويس (أخو نابليون) إلى جراز Graz وأصبح مؤلفاً يكتب الشعر والنثر ومات في ليفورنو Livorno في سنة 1846.

وانفصلت هورتنس Hortense عن لويس (أخي نابليون) في سنة 1810 وتلقَّت من نابليون منحة مقدارها مليوني فرنك سنويا للعناية بابنيها، وفي سنة 1811 أنجبت طفلاً آخر نتيجة علاقة مع الكونت تشارلز دي فلاهوت Charles de Flahaut إلاّ أن مدام دي ريموزا de Remusat تُخبرنا - على أية حال - أن:"هورتنس كانت امرأة ذات تصرفات ملائكية .. وأنها صادقة جداً وطيبة القلب جداً، ولا تعرف الشر أبدا ".

وبعد ترك نابليون العرش للمرة الأولى التحقت بأمها حيث اهتم بها القيصر اسكندر وأولاها رعايته. وقد اجتمعت مع

ص: 108

لويس الثامن عشر مما أفزع البونابرتيين. وعندما عاد نابليون من إلبا عملت كمضيفة له، وعندما تنازل عن العرش للمرة الثانية أعطته - سراً - قلادتها الماسية التي كانت قد اشترتها بمبلغ 800،000 فرنك، وقد تم العثور عليها تحت وسادته عندما مات في سانت هيلانة وأعادها الجنرال دي مونثولو de Montholon إلى هورتنس، فأنقذها - بذلك - من الفقر. وماتت في سنة 1837 ودُفنت بجوار رفاة أمها في رويل Rueil. لقد عاشت حياة حافلة بالمفارقات في تلك الأيام العصيبة.

أما جيروم بونابرت Jerome Bonaparte أصغر إخوة نابليون فقد قسَّم حياته وزوجاته بين نصفي الكرة الأرضية. وُلد جيروم في سنة 1874 وتم استدعاؤه وهو في السادسة عشرة من عمره للخدمة في الحرس القنصلي، ودخل في مبارزة فجرح فتمَّ إبعاده إلى البحرية فارتكب كثيراً من حماقات الشباب الطائشة ودفع من جراء ذلك غرمات اقترض قيمتها من بوريين الذي قدم إيصالات لنابليون بقيمة هذه الديون غير المستردة، وعندما كان جيروم في بريست كتب لنابليون يطلب 17،000 فرنك فأجابه نابليون بالتالي:

"تلقيتُ خطابك يا سيدي الملازم، وإنني في انتظار أن أسمع أنك تدرس - على متن سفينتك الحربية - مهنة أرجو أن تضع في اعتبارك أنها هي طريقك للمجد إنك لو مِت شاباً لكان في موتك بعض العزاء لي، لكن إن عشت حتى الستين من عمرك دون أن تخدم وطنك ودون أن تُخلِّف ذكرى مشرّفة، فتلك حياة كان من الأفضل لك ألا تحياها ".

وترك جيروم البحرية في جزر الهند الغربية ورحل إلى بلتيمور Baltimore وتزوج هناك وهو في سن التاسعة عشرة (سنة 1803) من إليزابيث بترسون Elizabeth Patterson وهي ابنة تاجر محلّي، وعندما عاد بها إلي أوروبا رفض البلاط الفرنسي الاعتراف بهذا الزواج على أساس أن كليهما (الزوج والزوجة) لم يبلغا سن الرشد. ورفض نابليون دخول العروس إلى فرنسا، فاتَّجهت إلى إنجلترا وهناك أنجبت ابنا هو جيروم نابليون بونابرت وعادت إلى أمريكا فتلقَّت هناك موافقة نابليون على قدومها إلى فرنسا، وأصبحت بعد ذلك هي جدة تشارلز جوزيف بونابرت الذي شغل منصب وزير البحرية الأميركية في عهد تيودور روزفلت.

ص: 109

وعُيّن جيروم قائداً في الجيش الفرنسي، وأحرز مكانة حَفِيَّة في معارك 1806 - 1807 باستيلائه على عدة حصون بروسية، وكافأه نابليون بأن جعله ملكاً على وستفاليا، وهي منطقة مؤلفة من مناطق بروسية بالإضافة إلي هانوفر وهس - كاسل Hesse-Cassel، وكي يُهيئ له شذاً ملكياً عمل على تزويجه من الأميرة كاترين ابنة ملك فيرتمبرج Wurttemberg . وفي 15 نوفمبر سنة 1807 أرسل نابليون إلى أخيه جيروم خطاباً يتجلَّى فيه بشكل جلي أنَّه لازال حاكما ملتزماً بالدستور:

"إنني أرفق لك دستور مملكتك. إنه يضم الشروط التي أعلنتُ فيها كل حقوقي على المناطق التي فتحتُها، وكل ما لي من حقوق على دولتك. لابد أن تُراعيها بإخلاص

لا تُنْصت لألئك الذين يقولون إن رعاياك قد اعتادوا العبودية وأنهم لن يشعروا بالامتنان لما تُقدمه لهم. ففي مملكة وستفاليا من الذكاء والوعي أكثر مما تظن، ولن يكون عرشك راسخ الأركان إلا بثقة الشعب وحبه. إن ما يُطالب به الرأي العام الألماني بإلحاح هو أنَّ الناس ليسوا برتبهم المتوارثة وإنما بقدراتهم - وهذا الرأي سيكون لصالحك، فعليك أن تُزيل كلَّ أثر للقنانة (عبودية الأرض) والمواريث الإقطاعية بين السلطة والطبقات الأدنى درجة من رعيتك.

إن مزايا مدوّنة نابليون القانونية، والمحاكمات العلنية، وأحكام القضاء ستكون ملامح بارزة في حكومتك

لأن امتداد حكمك وترسيخه يعتمد في الأساس عليها أكثر من اعتماده على الانتصارات المدوية. أُريد أن يسعد رعاياك بدرجة من الحرية والمساواة والرخاء لم يعرفها الشعب الألماني حتى الآن .. إن هذه الطريقة في الحكم ستكون أقوى مانع حصين بينك وبين بروسيا. إنه مانع أقوى من الألب والحصون وحماية فرنسا ".

وكان جيروم لا يزال شاباً لم يتجاوز الثالثة والعشرين فلم يُقدِّر هذه النصيحة حق قدرها، فكان يُعوزه ضبط النفس والرزانة اللذان يتطلبهما الحكم، وانغمس في الرفاهية وحرص على الأبهة والمظاهر وعامل وزراءه كتابعين قليلي القيمة وجعل لنفسه سياسة خارجية خاصة به، مما ضايق أخاه الذي كان عليه أن يُفكر واضعاً في اعتباره القارة كلها. وعندما خسر أخوه (نابليون) معركة ليبتسج الحيوية (1813) لم يستطع جيروم أن يجعل رعاياه موالين لقضية الإمبراطورية، فانهارت مملكته وفرَّ هو (جيروم) إلى فرنسا. وساعد أخاه

ص: 110

بشجاعة في معركة واترلو ثم فرَّ إلى حَمِية طالباً حمايته في فيرتمبرج، وعاش عمراً مديداً حتى أصبح رئيساً لمجلس الشيوخ (السينات) في عهد ابن أخيه نابليون الثالث وأسعده الحظ بموته في سنة 1860 في أوج مملكة ميتة أخرى.

أما يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais فكان تلميذا أفضل. لقد كان فتى محبوبا في الخامسة عشر من عمره عندما تزوجت أمه من نابليون، وقد امتعض في بداية الأمر من هذا الجنرال الشاب الفظ كمتطفل دخل أسرتهم وتزوّج أمه، لكنه سرعان ما أَنِس إلى نابليون الذي أولاه عاطفة وعناية. وكان يوجين سعيداً يكاد يطير فرحاً لأن نابليون - ذلك الغازي الشبيه بالإعصار - قد اصطحبه معه إلى إيطاليا ومصر كمعاون له. وتمزّقت مشاعره بين نابليون وأمه عندما علم بخيانتها، لكن الدموع التي ذرفها أعادت ارتباط أمه بزوجها (نابليون)، وبعد ذلك لم تتحطم أبداً الرابطة بينه (يوجين) وبين زوج أمه. وفي السابع من شهر يونيه عيَّن نابليون ابن زوجته هذا (يوجين) في منصب نائب ملك في إيطاليا، لكن نابليون قدَّر مدى ثقل المسؤولية التي ألقاها على عاتق شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، فغمره بقدر كبير من النصائح:

"بعهدنا إليك حُكم مملكتنا الإيطالية، إنما نقدم لك برهاناً على احترامنا لمسلكك. لكنك لازلت في سن لا تسمح لك بالتحقق من سوء طويّة الناس أو ما يُضمرونه من سوء. وعلى هذا فإنني لا أستطيع أن أشدّد عليك كثيراً بضرورة الحرص والحذر، فرعايانا الإيطاليون أكثر لؤماً وخداعاً بطبيعتهم من مواطنينا الفرنسيين، والطريقة الوحيدة التي تستطيع بها أن تحتفظ باحترامهم وتحقق سعادتهم هي ألا تُولي أحداً منهم ثقتك الكاملة وألاً تُخبر أياً من الوزراء وذوي المراتب العليا في بلاطك بحقيقة ما تفكر فيه. إنني يجب أن أُركِّز لك على ضرورة الاحتياط لأمرك بإخفاء قَصْدك، وهو أمر يأتي للمرء - طبيعياً - في سن النضج ..

قد يُحقُّ لك أن تفخر لكونك فرنسياً، إلاّ في حالة واحدة وهي عندما تكون في منصب نائب الملك في إيطاليا، ففي هذا المنصب يجب أن تنسى أنك فرنسي واعتبر نفسك قد فشلت إذا لم يصدق الإيطاليون أنك تُحبهم. إنهم يعرفون أنه لا حُب دون

ص: 111

احترام، تعلَّم لغتهم، ولا تكن غريبا عن مجتمعهم وخُصّهم باهتمام خاص في الحفلات والمناسبات.

قلّل من كلامك، هذا أفضل لك فأنت لم تتلَّق قدراً كبيراً من التعليم وليس لديك معلومات كافية تتيح لك أن تشترك في مناقشات عامة. تعلّم كيف تستمع، وتذكر أن الصمت لا يقل تأثيراً عن استعراض المعلومات. لا تُقلِّدني في كل مجال، فأنت تحتاج أن تكون متحفِّظاً بشكل أكثر. لا تترأس - غالباً - مجلس الدولة، فخبرتك لا تؤهلك للنجاح في هذا الموقع

وعلى أية حال لا تُلْق خطباً في مجلس الدولة

فقد يكتشفون فجأة أنك غير كفؤ لمناقشة مجريات الأمور

فطالما أن الأمير (الملك) يمسك لسانه، فإن سلطاته تكون كثيرة كَثْرة تفوق الحصر، إذ يجب على الأمير (الملك) ألاّ يتحدث إلاّ إذا علم أنه هو الأكثر قدرة من بين كلِّ مستمعيه.

كلمة واحدة أخيرة: اجعل لعدم الأمانة عقاباً غليظا .. ".

وقد أنجز يوجين ما كان يأمله منه الإمبراطور (نابليون) بمعاونة وزرائه أعاد تنظيم المالية وحسّن الخدمة المدنية وشيّد الطرق وطبق قوانين مدوّنة نابليون القانونية، وقاد الجيش الإيطالي بشجاعته المعهودة ومهارته المتزايدة، وزاره الإمبراطور المسرور من فِعَاله في سنة 1807، وانتهز الفرصة (بواسطة إعلان ميلان) بأن يَرُدَّ - بإجراءات صارمة - على الأمر البريطاني الذي يُطالب السفن المحايدة أن ترسو في ميناء بريطاني قبل التوجه للقارة الأوروبية. وبذل يوجين قُصارى جهده لتنفيذ الحصار القاري المثير. وظل موالياً لنابليون خلال الحروب وأثناء فترة تنازله عن العرش، وتوفي في سنة 1824 بعد موت نابليون (زوج أمه) بثلاث سنوات فقط. وقد كرر ستندهول Stendhal في أكثر من موضع ما يفيد حب الإيطاليين لذكرى حُكمه المتنوّر.

ولأن نابليون كان يمتلك أراضي أكثر من إخوته، فقد أوقف على أخواته الكثير، فقد أعطى إليزا Elisa (ماريا أَنّا Maria Anna) وزوجها اللطيف فليس باكيوكوش Felice Bacciocchi مقاطعات بيومبينو Piombino ولوشا Lucca، فحكمتهما بطريقة جيدة -

ص: 112

موَّلت المشروعات العامة، ورعت الآداب والفنون وشجعت باجانيني Paganini - حتى أن نابليون جعلها في سنة 1809 دوقة تسكانيا Tuscany الكبيرة حيث واصلت أعمالها الخيّرة.

أما بولين بونابرت Pauline التي اعتبرها نابليون أجمل نساء عصرها فقد وجدت أن إبداء مفاتنها على سرير واحد (المقصود لرجل واحد) أمر لا يُحتمل - ففي السابعة عشرة من عمرها (1797) تزوجت الجنرال تشارلز لكلير Leclerc، وبعد ذلك بأربع سنوات أمرها نابليون بمرافقة زوجها إلى سان دومنجو St.-Domingue لخوض معركة ضد توسّان لوفرتور Toussaint L'Ouverture، وربما كان نابليون يقصد بهذا إبعادها عن جو العبث الذي يعلم أنها ستنخرط فيه بمجرد غياب زوجها. على كل حال فقد مات لكلير هناك بالحمّى الصفراء، فعادت بولين إلى أوروبا مع جثمانه، وقد زوى جمالها بفعل المرض.

وفي سنة 1803 تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Borghese لكنها سرعان ما راحت تمارس الزنا وراح كاميلو يبحث عن المتعة مع مشرفة البيت (القيِّمة على الخدمة) وطلب نابليون من خالها الكاردينال فيش Fesch أن يوبخها أخبرها على لساني أنها لطيفة كما كانت وأنه في غضون أعوام قليلة ستغدو مرتبتها أدنى عندي بينما هي تستطيع أن تكون صالحة ومحترمة في كل أوجه حياتها وانفصلت بولين غير الطاهرة عن الأمير وفتحت بيتها العامر لجماعة الأُنس. وجعلها نابليون دوقة لجوستالا Guastalla (في مقاطعة رجيو إميليا Reggio Emilia في إيطاليا) لكنها فضَّلت أن يكون لها بلاط في باريس. وقد تجاوز نابليون عن آثامها لافتتانه بنظراتها وطريقتها، وطباعها الطيبة حتى رآها - في المرآة - تسخر من إمبراطورته الجديدة ماري لويز فنفاها إلى إيطاليا وسرعان ما أدارت صالونا في روما. وفي وقت لاحق (كما سنرى) هبَّت لمساعدته عندما أصابته الكوارث. وفي سنة 1825 عادت لزوجها مرة أخرى وماتت بين ذراعيه، فقال رغم كل هذا فقد كانت أرق مخلوق في العالم.

أما كارولين C aroline فكانت جميلة أيضاً، وكانت في أيامها الأخيرة أكثر تأثيراً وقد قيل لنا إنها كانت ناعمة الجلد مُشربة بحمرة، وكأنَّ جلدها قطعة من الساتان الأحمر،

ص: 113

وكانت ذراعاها ويداها وقدماها متناسقة الخلق سوية كما هو الحال في آل بونابرت. وفي سن السابعة عشرة (1799) تزوجت جوشيم مورا Joachim Mura الذي كان قد حقق بالفعل شهرة في الحروب في إيطاليا ومصر.

ولهذه الخدمات التي أداها ولإنجازه الحيوي في مارينجو Marengo تم تعيينه دوقاً لكل من بيرج وكليف. وبينما كان منشغلاً في عاصمته دوسلدورف Dusseldorf بقيت كارولين في باريس وسمحت لنفسها بإقامة علاقات جنسية غير شرعية مع الجنرال جونو Junot الذي أرسله نابليون إلى بوردو Bordeaux، وعاد مورا إلى باريس ليرد زوجته إلى طريق الصواب، لكنه كان يهوى المعارك والتعرض للأخطار. وفي أثناء غيابه المتتابع في ساحات الحرب أخذت كارولين على عاتقها إدارة دوقيتهما، وكانت إدارتها حسنة حتى أن الناس لم يفتقدوا مورا الذي لم يكن يلفت نظرهم إلاَّ بزيه الجميل.

وفوق كل هذه العصبة من الإخوة والأخوات تتربع الأم ليتيزيا Letizia صارمة لا يخدعها شيء مستقيمة لا يُفسدها شيء. لقد شاركت ابنها فخاره لانتصاراته وشاركته الحزن العميق لما حلّت به من كوارث. وفي سنة 1806 جعلها نابليون - وقد بلغت السادسة والخمسين من عمرها - الإمبراطورة الأم وسمح بصرف مبلغ 50،000 فرنك لها كل عام. وقدم لها بيتاً جميلاً في باريس وخدماً كثيرين لكنها عاشت العيشة المقتصدة التي اعتادتها قائلة إنها توفّر تحسباً لظروف صعبة تُلم به (بابنها نابليون). وكانوا يخاطبونها بالأم لكن لم يكن لها نفوذ سياسي ولم تحاول ذلك. وصحبت ابنها (نابليون إلى إلبا Elba كما صحبته في عودته، وراحت تراقب أحواله بقلق أثناء دراما المائة يوم، وكانت تُصلِّي من أجله.

وفي سنة 1818 قدَّمت طلباً للقوى الأوروبية بإطلاق سراحه من سانت هيلينا، مستعطفة من أجله لما أَلَمَّ به من أمراض خطيرة فلم يَرُد أحد على طلبها، وتحمّلت باستسلام قدريٍ كعادتها موت نابليون وإليزا Elisa وبولين Pauline وعدد من أحفادها، وماتت في سنة 1836 عن عمر يناهز السادسة والثمانين. "آه يا لها من امرأة! - Voila une femme"

ولم تؤتِ خطة أسرة بونابرت مفعولها وهذا يرجع في جانب منه أنها لم تُلب حاجة الشعوب التي حكمتها ويرجع في جانب آخر إلى أن كلَّ واحد من أفراد هذه الأسرة (فيما

ص: 114

عدا يوجين) كان ذا نزعة فردية وله أفكاره الخاصة ورغباته - وكان نابليون أيضاً كذلك فقد كان يفكر في سلطته أولاً، ووضع قوانين ممتازة إذا قورنت بالنظام الإقطاعي الذي كان قد أصبح عديم الجدوى، لكنه - أي نابليون - تجنَّب فحوى هذه القوانين وخفف من وطأتها بمزايا عسكرية ومالية فرغم أنه حطّم الإقطاع إلاّ أنه أقام إقطاعاً آخر خاصاً به - ظناً منه أن بمنحه إقطاعيات لإخوته وأخواته أصبحوا تابعين مُطيعين له يقدمون له المجندين إلزاماً وفقاً لحاجته في الحروب، ويقدمون له الضرائب في السلم. وقد دافع عن فكرته شارحاً أن كل المناطق - تقريباً - التي يحكمها بهذه الطريقة قد فُتحت عُنوة (تم إخضاعها بالقوة العسكرية) ومن ثم فأهلها رعايا لقانون الحرب وهم سعداء لخضوعهم لقوانين فرنسية حديثة وإمبراطور متنور هو بالنسبة لهم بمثابة أب. أما بالنسبة لأسرته فقد لخص الأمر بطريقة حزينة عندما كان في سانت هيلينا St. Helena:

" إنه لمن المؤكد أنني بائس فليس هناك من يخلفني في أسرتي، أو بتعبير آخر ليس لي ظهير منهم .. لقد قيل الكثير عن قوة شخصيتي، لكنني ضعيف وأستحق التوبيخ بسبب أسرتي، وكل أفرادها واعون بذلك. فبعد انتهاء العاصفة الأولى ضدي، كان إلحاحهم عليَّ لا ينتهي وفعلوا معي ما يشتهون (تصرفوا وفقاً لأمزجتهم). لقد أخطأتُ خطأ كبيراً بسماحي لهم بذلك. لقد كنتُ أثق في أحكامهم، وكان يمكننا أن نسير سوياً حتى إلى القطبين فتهاوى كل شيء أمامنا. لقد كان علينا أن نُغيّر وجه البسيطة.

لم يكن لدي حظ جنكيز خان فقد كان لديه أربعة أبناء لا هَمَ لهم إلاّ خدمته بإخلاص. إنني إذا ما جعلتُ من واحد من إخوتي ملكاً فإنه سرعان ما يظن أن العناية الإلهية هي التي جعلته ملكاً، وتنتقل هذه العبارة على نحو مرضىِّ للآخرين. فلا يعود هذا الذي عينته ملكاً قائداً يمكنني أن أوليه ثقتي وإنما يصبح عدواً جديداً عليَّ أن آخذ حِذْري منه إذ تغدو أعماله وجهوده سائرة في طريق تأكيد استقلاله، لا لدعم أعمالي .. ثم إنهم بالفعل راحوا ينظرون لي بعد ذلك كعقبة في سبيلهم .. يا للبؤس! وعندما استسلمتُ كان عَزْلهم عن عروشهم مسألة تلقائية، لم يعمل لها الأعداء حساباً بل ولم يشغلوا بها فكرهم، ولم يستطع واحد منهم إثارة حركة شعبية، لقد كانوا محتمين بجهودي، لقد ذاقوا حلاوة الملك، أما الأعباء فقد تحملتُها وحدي".

ص: 115

ولأن نابليون فتح كثيرًا من المناطق والمقاطعات فلم يكن هناك العدد الذي يكفيها من الأمراء من أسرته فقد عيَّن بعض جنرالاته وأفراد حاشيته على بعض البلاد الصغيرة ذات الأهمية الإستراتيجية القليلة، وعلى هذا فقد تولى المارشال بيرثييه Berthier مقاطعة نيوشاتل وأصبح كامباسير Cambaceres أمير بارما Parma وأصبح ليبرون Lebrun دوق بياسنزا Piacenza. وتم اقتطاع اثنتي عشرة دوقية صغيرة من مناطق إيطالية أخرى: وأصبح فوشيه Fouche دوقاً على أوترانتو Otranto وسفاري دوقاً على روفيجو.

وأخيراً كان أمل نابليون هو أن يجعل من إيطاليا دولة واحدة ويجعلها وحدة في اتحاد فيدرالي أوروبي بقيادة فرنسا وأسرته الحاكمة. وكان من الممكن حدوث هذا، فقط إذا كانت هذه الوحدات المتنافسة والمختلفة والمعتزة بخصوصيتها على استعداد لتكون جزءاً من كل، وعلى شيء من الاستعداد للتخلّي لسلطة بعيدة منها وأجنبية عنها عن حق كتابة قوانينها وتنظيم تجارتها!.

ص: 116

‌2 - الحرب الأولى في شبه جزيرة أيبيريا

من 18 أكتوبر 1807 إلى 21 أغسطس 1808 م

بحلول عام 1807 كان غالب البر الأوروبي ممتثلاً لبيان برلين، فالنمسا انضمت للحصار القاري المضاد في 18 أكتوبر سنة 1807، ومع أن الباباوية اعترضت إلاّ أنها وقّعت في 12 ديسمبر. أما تركيا (الدولة العثمانية) فكانت معارضة للانضمام إليه لكنها امتثلت بسبب التعاون المستمر بين روسيا وفرنسا. وكانت البرتغال مُتحالفة مع إنجلترا لكن كان يحدها من الشرق أسبانيا التي ربطتها أسرة البوربون تاريخيا بفرنسا، مما جعلها تتعهد بالالتزام بالحصار إذ بدت من الناحية العسكرية تحت رحمة نابليون وربما فكر الإمبراطور (نابليون) في أمر يمكنه تنفيذه ولو حتى بقيادة جيوشه عبر أسبانيا لإجبار البرتغال على الامتثال رغم السفن الحربية البريطانية التي تتحكَّم في موانئها ورغم الوكلاء التجاريين البريطانيين الذين يتحكّمون في تجارتها.

وفي 19 يوليو سنة 1807 أخبر نابليون الحكومة البرتغالية أن عليها إغلاق موانئها في وجه البضائع البريطانية فرفضت. وفي 18 أكتوبر عَبَرَ جيشٌ فرنسي من عشرين ألف مقاتل معظمهم من المجندين إلزاميا في غير موسم التجنيد الإلزامي - البيداسوا Bidassoe في أسبانيا، وكان على رأس هذا الجيش أندوش جونو Andoche Junot فرحبت به الدولة الاسبانية والشعب الاسباني الذي كان يأمل أن يحرِّر نابليون ملكَ أسبانيا من قبضة وزيره الخائن، كما كان هذا الوزير يأمل أن يكافئه نابليون لتعاونه معه بتركه يُشارك في تقطيع أوصال البرتغال.

لقد كان عهد التنوير الأسباني المتألق قد انتهى بموت تشارلز الثالث (1788) فرغم أن ابنه الذي بلغ الآن من العمر ستين عاماً كان ذا نوايا طيبة إلاَّ أنه كان مفتقداً الحيوية والذكاء، ففي اللوحة الشهيرة التي رسمها الفنان جويا Goya والتي جعل لها عنواناً (تشارلز الرابع وأسرته) يبدو الملكُ فيها مولعاً بالتهام الطعام أكثر من ولعه بالتفكير وبدت الملكةُ ماريا لويزا وكأنها هي الرجل، لكنها كانت امرأة أيضاً فلم تكتف بزوجها المطيع وإنما فتحت ذراعيها لمانويل دي جودوي Manuel de Godoy الذي رفعته من ضابط في الحرس الملكي إلى رئيس للوزراء.

وكان الشعب الأسباني أكثر شعوب أوروبا التزاماً بالأخلاق في أمور الجنس، لذا فقد استاء كثيراً من هذه العلاقة الجنسية غير الشرعية لكن جودوي العاهر كان يحلم بفتح البرتغال ليحصل لنفسه على الأقل على دوقية، إن لم يكن مملكة. فهبَّ لمساعدة نابليون وحاول أن ينسى ما كان منه في سنة 1806 حين عرض صداقته المصحوبة بالعمل على بروسيا للتخطيط لشن حرب ضد فرنسا. وشجَّع نابليون آمال جودوي ووقّع في فونتينبلو (27 أكتوبر سنة 1807) اتفاقاً لفتح البرتغال واحتلالها على أن يكون شمالها الغربي مع أوبورتو Oporto من نصيب الملكة الاسبانية، ومقاطعات الجارف Algarve وألينتجيو Alentejo في الجنوب من نصيب جودوي، وما تبقّى في الوسط مع لشبونة يوضع تحت الحماية الفرنسية حتى صدور تعليمات أخرى. وأضافت المادة الثالثة من المعاهدة أنه من المفهوم أن الأطراف المتعاقدة سيُقسِّمون بالتساوي - بين أنفسهم - جزر

ص: 117

البرتغال ومستعمراتها وسائر ممتلكاتها البحرية ونصت بنود سرّية على تعهد اسبانيا بإلحاق 8،000 مقاتل من المشاة و 3،000 مقاتل من الخيالة بجيش جونو Junot أثناء مروره باسبانيا.

ووجدت الأسرة المالكة البرتغالية أَلاَّ طاقة لها بمقاومة هذه القوات المشتركة الفرنسية الاسبانية، فاستقلَّت سفينة إلى البرازيل. وفي 30 نوفمبر دخل جونو لشبونة، وبدا أن فتح البرتغال قد اكتمل. ولكي يدفع نابليون تكاليف عملياته فرضَ على رعاياه الجُدد دفع تعويض مقداره مائة مليون فرنك، جزء من منه لمساعدة جونو إذا ما أرسلت بريطانيا حملة عسكرية إلى البرتغال، وربما لتحقيق أغراض أكبر، وأرسل نابليون إلى أسبانيا ثلاثة جيوش إضافية جعل قادتها تحت قيادة مورا Murat الموحّدة وأمره باحتلال بعض المراكز الإستراتيجية قرب مدريد.

وكانت الخلافات في الحكومة الاسبانية بين يدي نابليون يُكيِّفها كيف شاء. لقد خشي فرديناند ذو الثلاثة والعشرين عاما وهو الوريث الظاهر لعرش اسبانيا أن يعوق جودوي طريقة إلى العرش فقاد بنفسه مؤامرة للإطاحة به، واكتشف جودوي المؤامرة فأمر بالقبض على فرديناند ومؤيدّيه في 27 أكتوبر واقترح محاكمتهم بتهمة الخيانة. وبعد ذلك بشهرين علم أن مورا الذي يتقدم بجيوشه قد يعمل على إطلاق سراحهم، فبادر هو بإطلاق سراح فرديناند ومعاونيه واستعد للهرب إلى أمريكا مع الملك والملكة، فهاجت جماهير المدينة في 17 مارس سنة 1808 وقبضت على جودوي وأودعته في زنزانة بأحد السجون، وتنازل الملك الذي اعتراه الذهول عن العرش لابنه، وبناء على أوامر نابليون قاد مورا جنوده إلى مدريد (23 مارس) وأطلق سراح جودوي ورفض الاعتراف بفرديناند ملكاً فتراجع تشارلز عن تنازله عن العرش وسادت الفوضى. وحثّ تاليران، الإمبراطور نابليون للاستيلاء على عرش اسبانيا أي أن يجعل من نفسه ملكاً على أسبانيا أيضاً.

وانتهز نابليون الفرصة - وربما كان هو الذي دبّرها، فدعا كلا من تشارلز الرابع وفرديناند السابع للالتقاء به في بايون Bayonne (على بعد حوالي

ص: 118

عشرين ميلاً شمال الحدود الأسبانية الفرنسية) للنظر في إعادة الاستقرار والنظام للحكومة الأسبانية. ووصل الإمبراطور في 14 أبريل ووصل فرديناند في 20 من الشهر نفسه واستضاف نابليون الشاب ومستشاره كانون جوان إسكواكيز Canon Juan Escoiquiz على الغداء،

وخَلُص نابليون إلى أن هذا الشاب غير ناضج انفعالياً وعقلياً وأن مهمة قيادة اسبانيا وجعلها في تحالف مفيد مع فرنسا، مهمة لا يقدر عليها، وأفضى نابليون بهذه النتيجة إلى اسكواكيز الذي نقلها إلى فرديناند معترضا عليها، واعترض الشاب بدوره على أساس أن العرش انتقل إليه بتنازل أبيه عنه، وأرسل جواسيس إلى مدريد يُخبر مؤيِّديه بأنه أصبح ولا مُعين له لمواجهة قوات نابليون، لكن الفرنسيين عاقوا هؤلاء الجواسيس فتمَّت إعادتهم وما معهم من رسائل إلى الإمبراطور (نابليون) ومع هذا فقد وصلت أخبار موقف فرديناند إلى العاصمة فاعترى الجماهير شكٌ في أن نابليون يعتزم إنهاء حكم أسرة البوربون في أسبانيا ومما زاد من شكوكهم ما انتشر من أخبار مُفادها أن تشارلز الرابع والملكة وجودوي كانوا قد وصلوا إلى بايون في 30 أبريل، وأن مورا الذي يحكم مدريد الآن تلقى أوامر من نابليون بإرسال أخي الملك وابنه الأصغر وابنته إلى بايون.

وفي الثاني من شهر مايو سنة 1808 - وهو اليوم الذي ظل مشهوراً فترة طويلة في التاريخ الأسباني باسم Dos de mayo - تجمعت جماهير غاضبة أمام القصر الملكي الاسباني وحاولت منع الأمراء والأميرات من مغادرة القصر وقذفوا الجنود الفرنسيين بالحجارة، بل وقيل إنهم مزَّقوا بعض الجنود - ممن كانوا يحرسون العربة الملكية - إرباً، فأمر مورا جنوده بإطلاق النيران على الجماهير حتى تتفرّق.

وتم ذلك بالفعل وقد سجل الفنان جويا Goya هذا المشهد بتعبير فني قوي وخلّد بعمله هذا ذكرى الحدث، وتم إخمادُ التمرد في مدريد لكنه انتشر في سائر أنحاء أسبانيا الأخرى.

وعندما وصلت هذه الأنباء إلى نابليون في بايون (5 مايو) دعا كلاً من تشارلز فرديناند للمثول عنده وفي إحدى ثورات غضبه المحسوبة أدانهما لسماحهما للأسبان بالانخراط في أعمال الفوضى مما جعلها - بشكل خطير - لا يمكن الاعتماد عليها كحليف لفرنسا، وما هذا إلا بسبب عدم كفاءتهما. ولام الوالدان ابنهما وكالا له الانتقادات متهمانه بأنه كان

ص: 119

قد اعتزم قتل والديه (المقصود غالباً أنه بفعله هذا سيورد والديه موارد التهلكة)، وأعطى نابليون الشاب المرتعد خفاً مهلة حتى الساعة الحادية عشرة مساء ليتنازل عن العرش، فإن رفض فسيعتبر مدبّر انقلاب ضد والديه ومن ثم يُسجن ويحال للمحاكمة بتهمة الخيانة،

واستسلم الشاب فرديناند وأعاد التاج لوالده ولما كان تشارلز يتطلع للأمن والسلام أكثر مما يتطلع إلى السلطة والقوة فقد قدم الصولجان (العرش) لنابليون الذي عرضه بدوره على أخيه لويس فرفضه ومن ثم عرضه على أخيه جيروم الذي شعر أنه ليس ملائماً لمثل هذا المنصب الخطير، وأخيراً عرضه على أخيه جوزيف (يوسف) الذي تلقى بالفعل أمراً بقبوله وتم إرسال تشارلز ولويزا وجودي ليعيشوا في منتجع في مرسيليا تحت الحراسة.

أما فرديناند وأخوه فقد هُدِّئا وجرى إرضاؤهما بتهيئة مَصْدر دخل يُدِرُّ عليهما عائداً مالياً كبيراً وعُهد إلى تاليران بإسكانهما في مكان مريح وآمن في قصره في فالنسي Valencay. وأحسَّ نابليون أنه عقد صفقة رابحة فركب عائداً مرتاح البال إلى باريس وتلقَّته الجموعُ بحفاوة في كل خطوة باعتباره سيِّد أوروبا الغلاَّب.

وذهب مورا - الذي كان يأمل أن يكون ملكاً على اسبانيا - ممتعضاً ليحل محل جوزيف (يوسف) كملك على نابلي. أما جوزيف - فبعد أن توقف في بايون - دخل مدريد في 10 يونيو سنة 1808. لقد كان قد اعتاد على نابلي التي كان ملكاً عليها وسرعان ما أوحشته حياة المرح والسرور في إيطاليا، تلك الروح المرحة التي يتسم بها أهل جنوب إيطاليا والتي تلطّف قسوة الحياة، فهو لم يأنس ذلك في الأسبان الصارمين المتدينين.

وقد جلب معه إلى أسبانيا دستوراً نصف ليبرالي كيّفه نابليون على عجل، يضم كثيراً من بنود مدوّنة نابليون القانونية لكنه قَبِلَ الكاثوليكية باعتبارها الدين المعتمد الوحيد في اسبانيا (نظراً لإصرار تشارلز الرابع على ذلك)، وحاول جوزيف ما وسعته المحاولة أن يكون حاكماً محبوباً من الشعب وأيده عدد كبير من الليبراليين الأسبان، ولكن النبلاء ظلوا بعيدين عنه متحفّظين إزاءه، وأدانه الإكليروس clergy (رجال الدين الأسبان) على أساس أنه متحرر التفكير freethinker (المقصود غير متمسك بأهداف الكاثوليكية) يتظاهر بما لا يُكنّه، وصُدِم العامةُ لأن نابليون قد أحل محل أسرتهم الحاكمة التي باركتها الكنيسة رجلاً لا يكاد يعرف

ص: 120

كلمة من اللغة الاسبانية، ويفتقد تماماً الكارزما charisma أو مقومات الشخصية المحبوبة كما هي في ذلك العصر. وازداد الامتعاض ببطء ثم بسرعة، وتطور من مجرّد التجهم والعبوس إلى اللعن جهراً إلى التمرد.

وظهرت روابط الفلاحين في كثير من بلاد أسبانيا وسلّحوا أنفسهم بالأسلحة القديمة والسكاكين الحادة فصارت كل البيوت مصانع للسلاح وصارت كل عباءة شركاً يُخفي سلاحاً وراحوا يقتنصون كل فرنسي يشرد من معسكره أو يبتعد عن فرقته ورفع الإكليروس الأسبان (رجال الدين) الصلبان في مواجهة البنادق الفرنسية واتهموا جوزيف بأنه "لوثري وماسوني ومهرطق a Lutheran، a Freemason، a heretic" وحرّضوا جماهيرهم على العصيان المسلّح باسم الرب وأمِّه الطاهرة والقديس جوزيف وتفجّر الحماس ضد الفرنسيين مما أدى إلى عمليات بتر أعضاء وإخصاء وصلب وقطع رؤوس وشنق وإجلاس على الخوازيق (خوزقة impalings) كما صوّر لنا الفنان جويا.

وأعاد الجيش الأسباني تشكيلاته وانضم للثوار واجتاحت كتائبهم الموحّدة الحاميات الفرنسية المتناثرة والتي ينقصها العتاد والرجال. وفي بعض الأحيان تمكنت القوات الاسبانية من التفوق على قوات الفرنسيين الذين لم يألفوا الأرض الأسبانية كما كانوا يعانون نقصاً في الرجال والعتاد، ففي بيلا Bailen (شمال شرق قرطبة) توهمت فرقتان عسكريتان فرنسيتان أنهما محاصرتان بقوات كثيرة العدد والعُدَد فاستسلمتا في واحدة من أكثر الهزائم خزياً في التاريخ وأسر الأسبان 22،800 وتم اقتيادهم إلى جزيرة كابريرا Cabrera الصغيرة فمات مئات منهم جوعاً ومرضاً. وقد حدثت هذه الواقعة في 20 يوليو سنة 1808. ولما تم تجريد جوزيف (أخو نابليون) من قواته العسكرية الرئيسية انسحب مع ما تبقى من قواته من مدريد إلى خط دفاعي على طول الإبرو Ebro على بعد 170 ميلاً شمال شرق العاصمة.

وفي هذه الأثناء أرسلت الحكومة الإنجليزية - بعد أن صارت واثقة من تناقص قوات

ص: 121

جونو في لشبونة وأن لم يعد ممكنا أن تتلقى دعماً إسبانياً - أرسلت السير آرثر ولسلى (يُكتب أيضاً ولزلي) Arthur Wellesley (دوق ولنجتون فيما بعد) بأسطول وجيش إلى البرتغال. فأنزل رجاله عند مصب نهر مونديجو Mondego في أول يوليو سنة 1808 وسرعان ما انضمت إليه فرق مشاة برتغالية. وقاد جونو - الذي كان قد أَنِسَ إلى الراحة بدلاً من جعل قوّاته في حالة استعداد - قوّاته البالغ عددها 13،000 مقاتل من المجندين إلزامياً من لشبونة لمواجهة قوات وِلْسِلي (ولزلي) البالغ عددها 19،000 في فيميرو Vimeiro في 21 أغسطس سنة 1808 فمني بهزيمة نكراء، وعادت البرتغال للتحالف مع إنجلترا، وبدا الغزو الفرنسي لشبه جزيرة أيبيريا وقد تحول لكارثة بالنسبة للفرنسيين.

وعندما وصل نابليون إلى باريس في 14 أغسطس سنة 1808 بعد جولته الاحتفالية في محافظاته (دوائره) الغربية وجد أعداءه التقليديين سعيدين للنكسة التي ألمت بالجيوش الفرنسية في شبه جزيرة ايبيريا، وشرعوا بالفعل في تكوين تحالف ضد نابليون الذي أصبح الآن قابلاً للهزيمة. وكان ميترنيخ Metternich سفير النمسا لدى فرنسا يتحدث مع نابليون عن السلام بينما يُخطط للحرب. وكتب فريهر فوم أوند تسوم شتاين Freiherr vom und zum Stein رئيس الوزراء البروسي اللامع التوّاق للتحرر من الاحتلال الفرنسي - إلى صديق له في شهر أغسطس من العام الآنف ذكره قائلاً:"هنا تبدو الحرب بين النمسا وفرنسا مسألة لا مفر منها، وهذه الحرب ستقرر مصير أوروبا". ووافق نابليون الذي استولى وكلاؤه (جواسيسه) على هذا الخطاب، على ما ورد به، فالحرب كما كتب إلى أخيه لويس مؤجلة حتى الربيع.

وتأمل نابليون في خياراته، أيجب عليه أن يقود جيشه الكبير الذي لم يعرف الهزيمة إلى أسبانيا ويقمع تمردها ويطارد ولسلي (ولزلي) ليعود إلى سفنه، ويسد الفجوة البرتغالية ليُحكم الحصار المضاد ضد بريطانيا ويخاطر بالجبهة الشرقية على أساس أن النمسا وبروسيا ستضربان بينما أفضل جنوده على بعد ألف ميل - هناك في البرتغال؟ إن اسكندر في تليست كان قد وعد بمنع مثل هذا الهجوم بينما كانت اسبانيا معه، لكن أيصمد القيصر ويحافظ على وعده أمام الضغوط الواقعة عليه؟ ناهيك عن إمكان رشوته. وبعد أن

ص: 122

تفكّر نابليون في الأمر دعا القيصر إلى مؤتمر في إيرفورت Erfurt حيث يمكنه أن يحيطه بكوكبة لامعة من السياسيين لجعله يلتزم بما كان قد تعهّد به.

‌3 - كوكبة السياسيين في إيرفورت

ERFURT:

من 27 سبتمبر إلى 14 أكتوبر 1808 م

لقد أعد نابليون لهذا المؤتمر بعناية فائقة كما لو كان يُعد لخوض حرب، فقد دعا كل الملوك والدوقات التابعين له للحضور مع حاشياتهم بأبهة ملكية فخمة، فأتى عدد كبير منهم حتى أن مذكرات تاليران Talleyrand المطبوعة ضمت ثلاث صفحات تحوي قوائم بهؤلاء الذين لبوا الدعوة. واصطحب نابليون معه كل أفراد أسرته، وليس هذا فحسب وإنما معظم جنرالاته وطلب من تاليران أن يترك معتزله وأن يساعد شامباني Champagny في توجيه المفاوضات وصياغة النتائج، وأصدر تعليماته للكونت دي ريموزا أن ينقل إلى إيرفورت أفضل ممثلي المسرح الفرنسي بمن فيهم تالما Talma، وكل ما يلزم لإخراج التراجيديات الكلاسيكية في الدراما الفرنسية، وقال نابليون أريد أن أُبهر إمبراطور روسيا بمشاهد قوتي وسلطاني، فليس هناك مفاوضات أكثر عُرضة للفشل من تلك المفاوضات التي نحن مقبلون عليها.

ووصل نابليون إلى إيرفورت في 27 سبتمبر، وفي اليوم التالي خرج لتحية اسكندر وحاشيته باستقبالهم على بعد خمسة أميال من المدينة، وجرى إعداد كل الترتيبات لبعث المسرّة في نفس القيصر باستثناء شيء واحد وهو أن نابليون تصرف على أنه المُضيف (صاحب الدار) في مدينة ألمانية كانت قد أصبحت جزءا من الإمبراطورية الفرنسية. ولم ينخدع إسكندر بالهدايا التي تلقاها والإطراء الذي كِيلَ له كَيْلا، فتظاهر هو أيضاً بكل ما يوحي بالصداقة أو بتعبير آخر كال لهم من الكيل نفسه، وقاوم محاولاً ألا يقع في شباك هذه المظاهر النابليونية ومما ساعده على ذلك أن تاليران نصحه سراً أن يدعم النمسا وأن يكون إليها أقرب منه إلى فرنسا، مقدماً له الدليل على أن النمسا - وليس فرنسا هي مرتكز الحضارة الأوروبية (فيما يرى تاليران) التي دمرها نابليون، وقال له تاليران أيضا

ص: 123

إن فرنسا متحضرة ولكن السلطة فيها ليست كذلك وأكثر من هذا فكيف يكون من صالح روسيا دعم فرنسا والشد من أزرها؟

وعندما سعى نابليون لتوثيق التحالف بأن يتزوج من أخت إسكندر - الدوقة الكبيرة أنّا Anna، أشار تاليران على القيصر بعدم القبول وأجّل الروسي الماكر الإجابة عن هذا الاقتراح متحجّجاً بأن القيصرة هي صاحبة الرأي في هذه الأمور. وقد كافأ اسكندر، تاليران بترتيب زواج ابن أخيه (أو ابن أخته) من دوقة دينو Dino وارثة دوقية كورلاند Courland، ودافع تاليران - في وقت لاحق - عن خيانته ذاكراً أن شهية نابليون لابتلاع الأمم لن تتوقف باستنزاف أوروبا بالحروب فحسب وإنما ستؤدي إلى انهيار فرنسا وتقطيع أوصالها، وعلى هذا فخيانته لنابليون - فيما يقول - كانت وفاء لفرنسا وإخلاصاً لها. لكن من الآن فصاعداً ستترك تصرفاته الكيّسة انطباعا سيئاً (سُمعة رديئة) في كل مكان.

وخلال هذا المؤتمر دعا دوق ساكس - فيمار أشهر رعاياه للحضور إلى ايرفورت، ففي 29 سبتمبر، طلب نابليون من الدوق - بعد أن رأى اسم جوته في قائمة الذين سيصلون - ترتيب لقاء مع هذا الفيلسوف الشاعر، فجاء جوته سعيداً (في 2 أكتوبر) فقد كان من رأيه أن العالم لم يشهد عقلية أعظم من عقلية نابليون وكان موافقا تماماً (أي جوته) على توحيد أوروبا في ظل حكمه. والتقى جوته (جيته) بالإمبراطور نابليون على مائدة إفطار مع تاليران وبيرثييه وسافاري والجنرال دارو Daru، وقد كتب تاليران في مذكراته، ما زعم أنه تسجيل دقيق لهذه المحادثة الشهيرة (فيلكس ميلر Felix Muller قاضي فيمار الذي كان مصاحباً لجوته قدم تقريراً عن هذه المحادثة مختلفاً قليلاً عن رواية تاليران):

قال نابليون: السيد جوته Goethe إنني مبتهج لرؤيتك .. إنني أعلم أنك على رأس الشعراء المسرحيين في ألمانيا.

- سيدي أنت تظلم بلدنا .. فلابد أن عظمتكم تعرفون شيلر Schiller وليسنج Lessing وفيلاند.

- اعترف أنني لا أعرفهم إلاّ بالكاد. لقد رأيت عمل شيلر (حرب الثلاثين عاما) ..

ص: 124

أنت بشكل عام تعيش في فيمار .. انه المكان الذي يلتقي فيه معظم مشاهير أدباء ومفكري ألمانيا.

- إنهم يتمتعون بحماية في فيمار أكثر من سواها، لكن بالنسبة للوقت الحالي فليس هناك إلا رجل واحد في فيمار حقق شهرة على مستوى أوروبا، إنه فيلاند Wieland .

سأكون مبتهجاً لرؤية السيد فيلاند.

- إن سمحتُم لي عظمتكم أن أطلب منه الحضور، فعلتُ، فأنا متأكد من أنه سيحضر فورا

- هل أنت مُعجب بتاسيتوس Tacitus؟ .

- نعم يا سيدي أنا معجب به جداً.

- حسنا إنني لستُ معجباً به، لكننا سنتحدث في هذا الموضوع في وقت آخر. اكتب إلى السيد فيلاند ليأتي هنا. وسأرد له الزيارة في فيمار لأن دوقها دعاني.

وبينما كان جوته يغادر الغرفة قيل أن نابليون أبدى ملاحظة لبيرثييه ودارو Daru بشأن جوته قائلاً:

"هذا هو الرجل حقا! - Voila un homme! ".

وبعد أيام قليلة استضاف نابليون جوته وفيلاند مع رهط من ذوي المكانة. وربما قد أنعشَ ذاكرته بالمعلومات في هذه الأيام لأنه راح يتحدث كناقد أدبي واثق من معلوماته:

- السيد فيلاند، إننا نحب كتاباتك جداً في فرنسا. فأنت مؤلف أجاثون وأوبيرون Agathon & Oberon إننا نسميك فولتير ألمانيا.

- سيدي إن الإطراء يسعد المرء إن كان يستحقه

- أخبرني أيها السيد فيلاند، لماذا كتبت أعمالك ديوجنز Diogenes وآجاثون وبيريجرينوس Peregrinus بأسلوب رمزي يحتمل أكثر من معنى تخلط فيه السرد الروائي بالتاريخ والتاريخ بالسرد الروائي. إن رجلاً متفوقاً مثلك يجب أن يفصل بين هذين النوعين من الكتابة .. لكنني أخشى أن أتحدث كثيراً في هذا الموضوع لأنني أتحدث مع شخص أكثر خبرة في هذه الأمور مني.

وفي 5 أكتوبر قطع نابليون حوالي خمسة عشر ميلاً إلى فيمار، وبعد أن مارس رياضة

ص: 125

القنص في يينا ومشاهدة مسرحية "موت قيصر" - " la Mort de Cesar" في مسرح فيمار، حضر الداعون والمدعوون حفلاً راقصاً فأنستهم النسوة الجميلات المتألقات ذِكْر أشعار فولتير. وعلى أية حال فقد انسحب نابليون إلى أحد الأركان وطلب جوته وفيلاند، فحضرا ومعهما ثلّة من رجال الأدب، فتحدث نابليون موجها حديثه على نحو خاص إلى فيلاند، وكان موضوع حديثه يدور حول المجالين الأثيرين عنده: التاريخ وتاسيتوس:

"لابد من اعتبار المسرح التراجيدي الجيد مجالا لا يجدر إلا بالرجال المتفوقين. إنه فوق التاريخ إذا نظرنا إليه من وجهة نظر معينة. ففي أفضل وقائع التاريخ لا يمكن أن يُحدث إلا أثراً قليلا، فالإنسان إذا كان وحيداً لا يتأثر إلا قليلا، ويختلف الحال إن كان في جَمْع، فهنا يكون التأثير أقوى وأكثر ديمومة.

إنني أؤكد لك أن المؤرخ تاسيتوس الذي تستشهد دائما بفقرات من كتاباته لم يعلّمني أي شيء أيمكنك أن تجد كاتبا ينتقص من قدر الجنس البشري مثله؟ بالإضافة إلى أن أحكامه في بعض الأحيان غير عادلة فهو يجد في كل فعل - ولو كان بسيطاً - دافعاً إجرامياً. لقد أظهر الأباطرة كأجلاف أنذال، وعمّق هذه المعاني في نفس قارئه .. إن حولياته ليست تاريخاً للإمبراطورية وإنما ملخصاً لسجلات سجن روما، إن هذه الحوليات تتعامل دائماً مع تُهم وإدانات، ومع أناس يقطعون أوردتهم في الحمامات .. يا له من أسلوب ملتوِ! يا له من غموض! .. ألستُ على حق أيها السيد فيلاند؟ لكن

إننا لسنا هنا لنتحدث عن تاسيتوس. انظر، إلى أي حد يُتقن القيصر إسكندر فن الرقص .. "

ولم يقتنع فيلاند فقد دافع عن تاسيتوس بشجاعة وتعاطف، فقد أشار إلى أن سوتونيوس Suetonius وديوكاسيوس Dio Cassius قد رويا من الجرائم أكثر بكثير مما روى تاسيتوس لكن أسلوبهما تعوزه الحيوية، أما تاسيتوس فما أشد تأثير أسلوبه وفي غمزه جسورة قال لنابليون:

"إنه بلمسة عبقريته، يمكن للمرء أن يعتقد أنه لا مجال لأن يحب سوى الجمهورية .. لكنه عندما يتحدث عمن يحبهم من الأباطرة، والحرية والإمبراطورية، فإن المرء يشعر أن فن الحكم يبدو له أجمل اكتشاف على ظهر البسيطة

يا سيدي إن

ص: 126

كان حقا قولنا إن تاسيتوس يُعاقب الأباطرة بتصويرهم على هذا النحو فحقاً أيضاً قولنا أنه كافأ الأمراء (الملوك) الصالحين عندما تتبّع أعمالهم وصورهم وأهداهم لمن يصنعون المجد في الزمن الآتي".

وكان المنصتون المتجمعون مبتهجين بهذا الجواب اللاذع والخاطرة السريعة، وحار نابليون جوابا وقال:

"إن لديّ حججا قوية جداً لمناقشتك والاختلاف معك أيها السيد فيلاند .. وأنت لم تُغفِل أي عنصر مما يدعّم رأيك .. لا أحب أن أقول أنني هُزِمت في هذه المناقشة .. فمن الصعب أن أتفق مع هذا الرأي. غداً أعود إلى إيرفورت، وسنواصل مناقشاتنا وليس لدينا كتابات عن هذه المناقشات التي تمت بعد ذلك".

وفي 7 أكتوبر عاد معظم الزوّار إلى إيرفورت، وحث نابليون جوته على الإقامة في باريس قائلاً له هناك في باريس ستجد دائرة أوسع لتنشر فيها أفكار .. ومادة هائلة لإبداعاتك الشعرية. وفي 14 أكتوبر منح نابليون وسامَ صليب فيلق الشرفِ لكل من جوته وفيلاند.

وفي هذه الأثناء وقَّع وزراء خارجية فرنسا وروسيا اتفاقية تُجدد التحالف بينهما ويتعهد كل طرف بتقديم المساعدة للطرف الآخر في حال تعرضه لهجوم وأصبح اسكندر - بناء على الاتفاق - مُطلق اليد في الاستيلاء على فاليشيا Wallachia ومولدافيا، لكن ليس تركيا. وأصبح نابليون يستطيع التوجه إلى أسبانيا بمباركة قيصر روسيا وفي 12 أكتوبر تم توقيع وثيقة الاتفاق. وبعد ذلك بيومين غادر الإمبراطوران إيرفورت، وقبل أن يفترقا سارا للحظات جنبا إلي جنب وتعانقا وتعاهدا أن يلتقيا ثانية. (لكن هذا لم يحدث) وعاد نابليون إلى باريس أقل تعطشاً للدماء لكنه قرر أن يتوجه بجيش الأساسي (الجيش العظيم) إلى أسبانيا ليفرض أخاه جوزيف مرة أخرى على عرش اسبانيا رغم إرادة الأسبان.

ص: 127

‌4 - الحرب الثانية في شبه جزيرة أيبيريا:

من 29 أكتوبر 1808 إلى 16 يناير 1809 م

لقد كانت هذه الحرب معركة نابليونية تقليدية: انقضاض سريع، وانتصار، ثم لا جدوى. لقد أحس الإمبراطور بازدياد معارضة الشعب الفرنسي لسلسلة حروبه التي لا تنتهي. لقد كانوا قد وافقوه على أن حروبه في الجبهة الشرقية كانت حروبا سبّبتها حكومات تتآمر لمحق الثورة وإبطال نتائجها لكنهم شعروا أن دماءهم قد استنزفت، واستاءوا على نحو خاص من الأموال التي تم إنفاقها في حرب البرتغال وأسبانيا.

لقد فهم نابليون هذه المشاعر وخشي أن يكون بصدد فقدان سيطرته على الأمة الفرنسية لكنه كما برّر في وقت لاحق لم يكن من الممكن ترك شبه جزيرة أيبيريا فريسة لكيد الإنجليز ومطامع البوربون ومؤامراتهم وطموحاتهم فإذا لم ترتبط أسبانيا بفرنسا رباطاً وثيقاً يؤمّنها لأصبحت تحت رحمة الجيوش البريطانية القادمة عبر البرتغال أو كاديز (قادش Cadiz) Cadiz، وسرعان ما تجمع إنجلترا الذهب والفضة المجلوبة من المستعمرات البرتغالية والأسبانية في أمريكا لتقدم منها بسخاء معونات لتمويل تحالف جديد ضد فرنسا، مما يقتضي مزيداً من المعارك، مارينجو Marengos أخرى وأوسترليتز Austerlitzes أخرى وجينا (يينا Jenas) أخرى .. إن إحكام الحصار الأوروبي المضاد على البضائع البريطانية هو وحده الذي يجعل تجار لندن يطلبون السلام.

وترك نابليون حاميات على بعض الحصون تحسباً لأية مفاجآت نمساوية أو بروسية، وأمر 150،000 مقاتل من جيشه الأساسي (الجيش العظيم) بعبور جبال البرانس والانضمام إلى قوات أخيه جوزيف البالغ عددها 65،000 كانت تتجمع في هذه الأثناء في فيتوريا Vitoria. وغادر هو نفسه (نابليون) باريس في 29 أكتوبر ومعه خطة المعركة التي كان قد رسمها فعلاً. وكان الجيش الأسباني يحاول تطويق قوات جوزيف، فأرسل نابليون تعليمات إلى أخيه (جوزيف) أن يتجنب خوض معركة وأن يترك العدو يتقدم منتشراً في نصف دائرة حتى تكون قواته غير ذات عمق.

وعندما اقترب نابليون من فيتوريا نشر جانبا من قواته في جبهة مستعرضه لمهاجمة قلب الجيش الأسباني، فانكسر وولّى الأدبار واستولت

ص: 128

فرقة فرنسية أخرى على بورجوز Burgos (10 نوفمبر) واجتاحت فرق فرنسية أخرى بقيادة ني Ney ولان Lannes عند توديلا Tudela جيشاً اسبانياً بقيادة جوزي دي بالافوكس إي ميلزي Jose de Palafox y Melzi ولما أردك قادة الجيش الأسباني انه لا قِبَلَ لهم بنابليون وجنوده تفرقوا ثانية في ولايات اسبانيا وفي 4 ديسمبر دخل الإمبراطور مدريد، وعندما بدأ بعض جنوده في نهبها أمر بإعدام اثنين من الناهبين علناً فتوقفت عمليات السلب والنهب.

وترك المدينة (مدريد) تحت حماية عسكرية قوية وفرض فيها الأحكام العسكرية واتجه بقواته إلى شامارتين Chamartin على بعد ثلاثة أميال، وهناك وكأنه واحد من الأرباب خالقة الكون أصدر في 4 ديسمبر سلسلة من المراسيم ودستوراً جديداً لأسبانيا. وبعض بنود هذا الدستور تبين أنه لازال ابناً للثورة الفرنسية:

منذ نشر هذا المرسوم يتم إبطال الحقوق الإقطاعية في أسبانيا.

ويتم إبطال كل الامتيازات وكل الاحتكارات الإقطاعية وكل الالتزامات المفروضة على الأشخاص، وكل من سيلتزم بالقوانين سيكون حراً في تطوير عمله وصناعته وحرفته دون معوّق.

إبطال محاكم التفتيش لأنها لا تتمشّى مع السيادة المدينة، وتؤول ممتلكاتها إلى الدولة الاسبانية لتُسدّد منها الديون التي التزمت بسدادها

نظراً لزيادة أعداد أعضاء الطوائف الديِّرية المختلفة زيادة مفرطة

وكذلك بيوت العبادة، فسيتم تقليص أعدادها إلى الثلث

بتوحيد أعضاء البيوت المختلفة (المقصود بيوت العبادة أو الطوائف الديرية) الخاصة بطائفة واحدة في تشكيل واحد

ستزال الحواجز بين ولايات أسبانيا وهذا يعني من بين ما يعني إزالة الجمارك الداخلية لأنها أمر يقف حائلاً في سبيل رخاء أسبانيا.

ولم يكن هناك ما يمكن أن يدعم هذا الدستور في مواجهة المعارضة الفعالة للنبلاء الذين ترسّخت أوضاعهم ورجال الدين والرهبان والسكان الذين أَلِفوا بمرور الوقت الزعامة الإقطاعية وعقيدة المواساة (الصبر على مكارة الدنيا لدخول الفردوس في الآخرة) - سوى السيطرة العسكرية. وكان ولسلي (ولزلي) لا

ص: 129

يزال منتصراً في البرتغال واضعاً في اعتباره غزو أسبانيا حالما يعود الجيش الفرنسي الأساسي (العظيم) لمواجهة تحدّي النمسا. وأكثر من هذا فقد غادر جيش بريطاني مكوّن من 20،000 مقاتل بقيادة سير جون مور Moore، سالامنكا Salamanca في 13 ديسمبر وبدأ يزحف في اتجاه الشمال الشرقي آملاً في اجتياح فرق سول Soult بالقرب من برجوز.

ورد نابليون بسرعة على هذا التحدي فقاد قوة فرنسية رئيسية شمالَا عَبْر سيّراً دي جوداراما Sierra de Guadarrama آملاً في مهاجمة مؤخرة مور Moore والآن سيواجه - أخيراً - بمواهبه العسكرية وجنوده هؤلاء الانجليز المحتمين وراء البحر. وكان المرور عبر ممر جواداراما في عز الشتاء محنة قاسية لرجاله أشد وطأة من عبور الألب سنة 1800. لقد عانوا وتذمروا وكادوا يقومون بتمرد عسكري لكن نابليون لم يوقف المطاردة. ولما علم مور بقدوم نابليون خاف أن تقع قواته بين جيشين فرنسيين، فتوجه بقواته غرباً بسرعة قاطعاً 250 ميلاً على أراضٍ وعرة غطتها الثلوج حتى وصل كورونا Corunna ليستطيع مع قواته أن يلوذوا بالأسطول البريطاني.

وفي 2 يناير 1809 أصبح نابليون قريباً من مؤخرة هذا الجيش الإنجليزي عند أستورجا Astorga لكنه - أي نابليون - اضطر للتوقف بسبب أنباء مزعجة أتته من مصدرين: ففي النمسا كان الأرشيدوق كارل لودفيج يستعد استعداداً حقيقياً لخوض حرب ضد فرنسا، وفي باريس كان تاليران وفوشيه Fouche يؤيدان خطة للإطاحة بنابلين وإحلال مورا Murat مكانه. فترك نابليون مهمة تعقّب قوات مور Moore لسول وأسرع عائدا إلى فرنسا. أما وقد غادر السيد (نابليون) فقد تباطأ سول ولم يصل إلى كورونا حتى كان معظم القوات البريطانية قد آوى إلى سفن الأسطول. وقد قاد مور مؤخرة قواته ببطولة لحماية آخر مراحل ركوب السفن فأصيب بجرح مميت لكنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلاّ بعد اكتمال ركوب قواته سفن الأسطول البريطاني. وتحسَّر نابليون آه لو كان لدي وقت لتعقب الإنجليز، لما أفلت مني واحد منهم. إنهم لم يهربوا فحسب، بل لقد عادوا ثانية.

ص: 130

‌5 - فوشيه وتاليران والنمسا:

عام 1809 م

عندما وصل نابليون إلى باريس (23 يناير) وجد المؤامرات تختمر وسط استياء عام. فقد وصلت خطابات من الجنود من الجبهة إلى مئات من الأسر الفرنسية تُفيد أن المقاومة الاسبانية أعادت تشكيل قواها وأنها موطدة العزم علي طرد الفرنسيين، وأن ولسلي (أو ولزلي Wellesley) الذي تزداد قواته سيتحرك حالاً لطرد جوزيف (أخي نابليون) من مدريد مرة أخرى. ومن الواضح أن الحرب ستستمر وأن الصبية الفرنسيين سيجندون إلزامياً عاماً إثر عام ليفرضوا على الأسبان حكومة معادية لكنيستهم القوية وغريبة عنهم ومجرد وجودها يحطم كبرياءهم.

وواصل الملكيون في فرنسا مؤامراتهم للإطاحة بنابليون رغم تحركاته لاسترضائهم، وتم القبض على ستة متآمرين منهم فأعدموا رمياً بالرصاص في سنة 1808، وتم إعدام آخر هو أرمان دي شاتوبريان Armand de Chateaubriand في فبراير سنة 1809 رغم توسلات أخيه رينيه Rene الذي كان وقتها أحب كتّاب فرنسا للجماهير، وكان مصير عدد من اليعاقبة - لأسباب أخرى مختلفة - الموت أيضاً. وحتى في دوائر الحكومة الإمبراطورية بلغ السخط ذروته فقد راح فونتان Fontanes يردد لدى معارفه الكتومين أن الإمبراطور مجنون، مجنون تماماً، سيدمر نفسه ويدمرنا جميعاً وقال القول نفسه ديكري Decres لكن بشكل علني.

أما فوشيه وزير الشرطة فكان قد اكتسب تعاطف نابليون ومديحه لاكتشافه مؤامرات اغتياله لكن فوشيه كان قد بدأ يتشكك على نحو متزايد في سياسات سيده (نابليون) وفي أن مستقبله الشخصي سينتهي إلى انهيار لا مفر منه، لقد شعر فوشيه أن حكومتي النمسا وبروسيا المهزومتين واللتين رغم هزيمتهما لازالتا تحسان بالكبرياء، وحكومة روسيا المؤيدة تأييداً سطحياً (ظاهرياً) لفرنسا - سوف تتحد من جديد، عاجلاً أم آجلاً، يمولها الذهب البريطاني للقيام بانتفاضة أخرى ضد السيطرة الفرنسية غير المريحة.

وأكثر من هذا فإن نابليون قد يفقد حياته في واحدة من المعارك القادمة. فليس من المستبعد أن تصيبه طلقة تقضي عليه كتلك الطلقة التي أنهت - منذ وقت غير بعيد - حياة جنرال كان يقف إلى جانبه. إنه لا يجب أن يُوقع موته المفاجئ - ولا وريث له - فرنسا في فوضى تجعلها غير

ص: 131

مهيأة للدفاع ضد أعدائها. وربما كان ميتران يحث على الانضمام لمن يهيئون مورا Murat للعرش إذا ما خلا بموت نابليون. وفي 20 ديسمبر سنة 1808 اتفق تاليران وفوشيه على أن مورا هو رجلهم المنشود، وكان مورا مجنداً. ولما تشمَّم يوجين (ابن زوجة نابليون) أخبار المؤامرة وأخبر بها أم نابليون أرسلت سريعاً من ينقلها له في أسبانيا.

وكان نابليون على استعداد لمسامحة فوشيه أكثر من استعداده لمسامحة تاليران، فنصيحة فوشيه كانت غالباً في الجانب الآمن لكن تاليران كان قد أوصى بإعدام دون دنجهين (دنجان) d'Enghien كما كان قد شجع الاستيلاء على أسبانيا، وربما كان شريكاً في مسؤولية عدم تجاوب اسكندر بالقدر الكافي. وفي 24 يناير سنة 1809 أعرب نابليون عن استيائه الشديد من تاليران بعد أن كان قد كظم غيظه فترة طويلة، وذلك عندما رآه في مجلس الدولة. لقد انفجر نابليون موبخاً إياه علناً:

"أتجرؤ أيها السيد أن تقول أنك لم تكن تدري شيئاً عن موت إنجهين!! أتجرؤ على مواصلة القول أنك لا تدري شيئاً عن الحرب الأسبانية .. ! أنسيت أنك نصحتني كتابة بإعدام انجهين؟ أنسيت أنك نصحتني في خطاباتك بإحياء سياسة لويس الرابع عشر (أي بترسيخ أفراد أسرته على عرش أسبانيا) "،

ومن ثم لوّح بقبضته في وجه تاليران وصاح فلتفهم هذا: "إذا كان لابد أن تنفجر الثورة، فستكون أول من يُسحق، مهما كان الدور الذي لعبته فيها .. إنك قذارة في جورب حريري".

وما أن قال نابليون ذلك حتى سارع بمغادرة القاعة، وسار تاليران مترنحاً وراءه وقال لمستشاريه:"يا للأسف أيتصرف مثل هذا الرجل العظيم على هذا النحو السيئ! "

وفي صباح اليوم التالي أنهى نابليون كل المهام الموكلة إلى تاليران وأوقف راتبه الذي كان يتقاضاه كموظف كبير في البلاط. لكن نابليون سرعان ما اعتذر عن نوبة انفعاله - كما هي عادته - ولم يُبدِ اعتراضاً على استمرار تاليران في الحضور إلى البلاط. وفي سنة 1812 كان نابليون لا يزال يقول: "لقد كان تاليران أفضل وزير عندي على الإطلاق ".

ولم يترك تاليران أية فرصة للإسراع بسقوط نابليون. وكانت النمسا تقوم بدورها، فقد كان كل أهلها من فقراء إلى أغنياء تواقين للقيام بمحاولة للتحرر من هذا السلام الثقيل (المفروض) الذي فرضه نابليون على النمسا. وكان

ص: 132

الإمبراطور فرانسيس الأول هو وحده المتردد بحجة أن مستلزمات إعداد الجيش ستؤدي بالدولة إلى الإفلاس. وأرسل إليه تاليران كلمات تشجيع: "إن الجيش الفرنسي العظيم متورّط في المستنقع الأسباني والرأي العام الفرنسي يعارض الحرب بشدة، ووضع نابليون قلق ومشكوك فيه".

وكان ميترنيخ Metternich حتى الآن مترددا، وحذَّر نابليون الحكومة النمساوية من أنها إذا استمرت في التسلّح فإنه سيبني في فرنسا جيشاً آخر مهما كانت التكاليف، ولن يكون أمامه سوى هذا الاختيار. لكن النمساويين واصلوا تسليح أنفسهم فطلب نابليون من اسكندر تحذيرهم، فأرسل القيصر لهم كلمة تحذير يمكن تفسيرها على أنها متأخرة تأخراً مقصودا.

واستدعى نابليون فرقتين من أسبانيا وجمع 100،000 مجند إلزامي وأتاه بناء على أوامره 100،000 جندي من كونفدرالية الراين Rhine Confederation، وكان أهل هذه الكونفدرالية خائفين على حياتهم إذا اجتاحت النمسا فرنسا، وبحلول أبريل سنة 1809 كان تحت إمرة نابليون 310،000 مقاتل، وتم تنظيم قوات منفصلة قوامها 72،000 مقاتل فرنسي و 20،000 مقاتل إيطالي لحماية يوجين (ابن زوجة نابليون) والمُعَيَّن في منصب نائب الملك في إيطاليا من جيش نمساوي أُرسل إلى إيطاليا بقيادة الأرشيدوق جوهان (يوهان Johann) وفي 9 أبريل غزا الأرشيدوق كارل لودفيج Ludwig بافاريا على رأس قوة من 20،000 مقاتل، وفي 12 أبريل وقَّعت إنجلترا تحالفاً جديداً مع النمسا وتعهدت بتقديم معونات جديدة لها.

وفي 13 أبريل غادر نابليون باريس قاصداً ستراسبورج بعد أن أعلن لموظفي قصره المرتاعين في غضون شهرين سأجبر النمسا على نزع السلاح وفي 17 أبريل وصل إلى جيشه الرئيسي في دونّاوفوث Donauworth على الدانوب وأصدر أوامره النهائية بنشر قواته (تكوين جبهة مستعرضة) وانتصر الفرنسيون في بعض المواجهات الصغيرة في أبنسبرج Abensberg ولاندشت Landshut (19 و 20 أبريل) وقاد المارشال دافو في إكموهل Eckmuhl (22 أبريل) هجوماً لا يُقاوم على الجناح الأيسر لقوات الأرشدوق كارل لودفيج Ludwig بينما هاجمت القوات التي على رأسها نابليون القلب ولم يتراجع كارل إلا بعد أن فقد 30،000 من رجاله، وكان تراجعه إلى بوهيميا.

وزحف نابليون بقواته إلى فيينا فدخلها في 12 مايو بعد أن عبرت قواته إلى الشاطئ الأيمن

ص: 133

للدانوب، وكان عبوراً شاقاً استلزم جُهداً فائقاً اتسم بالشجاعة إذ كان عرض النهر عن نقاط العبور ثلاثة آلاف قدم. وفي الوقت نفسه أعاد كارل تنظيم قواته وقادها إلى الشاطئ الأيسر للنهر عند إسلنج Essling. وحاول نابليون أن يعبر النهر من جديد ليلتقي به أملاً في أن يهزمه في معركة حاسمة، لكن فيضان النهر كان مرتفعاً فأزاح ماؤه الجسور الرئيسية التي أقامها الفرنسيون وكان يتعين عليهم ترك جزء من الجيش الفرنسي وكثير من الذخيرة إذا كان لابد من العبور،

وفي 22 مايو وجدت قوات نابليون البالغ عددها 60،000 (التي تمكنت من العبور) نفسها تستعد لخوض معركة مع 115،000 نمساوي، وبعد أن فقد الفرنسيون 20،000 قتيل - كان لان Lannes المحبوب منهم - أمر نابليون من تبقى 40،000 بالعودة (الرجوع عبر النهر) بأية وسائل ممكنة. وفقد النمساويون 23،000 ومع هذا فإن هذه المواجهة اعتبرت في سائر أنحاء أوروبا هزيمة ماحقة ألمَّت بنابليون. وراحت بروسيا وروسيا ترقبان نتائج الموقف بشغف، وهما على استعداد - عند أي بارقة أمل - للانقضاض على هذا المدعي المزعج الذي أفلت مرات عديدة من قبضة سادة الإقطاع.

وفي إيطاليا أصبح مصير يوجين (الذي عينه نابليون في منصب نائب الملك) متأرجحاً مع الأحداث، فقد أصبحت Milan - قاعة حكمه - غير آمنة بسبب ازدياد سخط الناس من طريقة معاملة نابليون للبابا، رغم حكم يوجين المعتدل. لقد قاد يوجين جيشه وهو في حالة ذعر بيِّنة ليواجه الأرشيدوق جوهان، وهزم في تاجيليامنتو Tagliamento في 16 أبريل وكان من الممكن أن يتعرّض لما هو أسوأ لولا أن جوهان - عند سماعه انتصار نابليون في إكموهل استدار عائداً يحدوه أمل يائس أن يُنقذ فيينا، وترك يوجين إيطاليا مجازفاً بملكه كي يدعم بقواته جيش زوج أمه، فتحرك بقواته أيضاً إلى الشمال ووصل بقواته إليه وخاض معه معركة فاجرام Wagram.

وعمد نابليون - بعد الخيبة التي ألمت به في إسلنج إلى تدعيم قواته ومدفعيته وأمر بتشييد الجسور على الدانوب، وحصن جزيرة لوباي Lobay تحصيناً جيداً وجعل منها

ص: 134

معسكراً حصيناً، ومركزاً لإصلاح السفن، وإعداد الذخيرة، ولا تبعد هذه الجزيرة سوى ثلاثمائة قدم عن الشاطئ الأيسر للنهر. وفي الرابع من يوليو أمر قواته بالعبور مرة زخرى، وأدرك نابليون أن قواته كثيرة العدد وأن كارل لودفيج Ludwig يتراجع للشمال، فتعقّبه والتقى الجمعان في فاجرام (واجرام Wagram) التي تعد واحدة من أعنف المعارك في التاريخ إذ أريقت فيها دماء غزيرة، وكان عدد القوات الفرنسية والحليفة لها 187،000 بينما كان عدد القوات النمساوية والمتحالفة معها 136،000.

لقد حارب النمساويون ببسالة وكانوا في وقت من أوقات المعركة قريبين من النصر، لكن نابليون كان متفوقاً في عدد جنده وفي براعة تكتيكاته، فغيّر اتجاه المعركة فبعد يومين (5 و 6 يوليو 1809) استحر فيهما القتل من الطرفين أمر كارل قواته بالانسحاب بعد أن فقد 50،000 من رجال. وفقد نابليون في هذه المعركة 34،000 وبقي معه 153000، بينما كان المتبقي مع كارل 86،000. لقد أصبحت النسبة بينهما لصالح الفرنسيين تكاد تكون 2 إلى 1، وطلب الأرشيدوق الذي اعتراه الجزع الهدنة وأسعد هذا الطلب نابليون فوافق عليه.

وتمركز نابليون في شونبرون Schongrunn مع مدام فالفسكا Walewska وأسعده أن يعلم أنها حامل. إنه يستطيع الآن أن يقول إن عدم إنجاب جوزيفين إنما كان بسببها لا بسببه. وكان زوج ماري الهرم متسامحاً بما فيه الكفاية حتى أنه عفا عن خيانتها الزوجية ودعاها للعودة إلى مقره في بولندا، واستعد للاعتراف بالطفل الوليد باعتباره ابناً له.

وتباطأت مفاوضات السلام طوال ثلاثة أشهر وكان هذا - في جانب منه - لأن كارل لودفيج لم يستطع أن يقنع أخاه فرانسيس الأول باستحالة تنظيم مزيد من المقاومة، بالإضافة إلى أن فرانسيس الأول كان يأمل أن تهب بروسيا وروسيا لمساعدته. وساعد نابليون القيصر اسكندر على مقاومة هذا العرض بأن قدّم له جزءاً من جاليسيا Galicia ووعده بعدم استرداد مملكة بولندا، وفي أول سبتمبر أخبر القيصر النمسا أنه ليس مستعداً لنقض تعهداته مع فرنسا. وظلت المفاوضات النمساوية متعثرة فأصدر نابليون إنذاراً،

وفي 14 أكتوبر وقع الطرفان معاهدة شونبرون أملتها فرنسا في القصر الملكي على أعدائها القدامى من الهابسبورج Hapsburg . وتنازلت النمسا - بمقتضى هذه المعاهدة - عن إنفيرتل

ص: 135

Innvertel وسالزبورج (سالستبورج Salzburg) لبافاريا، وأصبح جزء من جاليسيا تابعاً لروسيا، وجزء آخر لدوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة في مقابل ما بيد النمسا من بولندا المقسّمة. واستولت فرنسا علي فيوم Fiume وإستريا Istria وتريست والبندقية (فينيزيا Venezia) وجزء من كرواتيا ومعظم كارنثيا Carinthia وكارينولا Carniola، وبدا يكون قد انسلخ من النمسا 3،500،000 مواطن من دافعي الضرائب وكان عليها أن تدفع 85 مليون فرنك كتعويض حرب لفرنسا، لقد استولى نابليون على كل ذلك باعتباره حقاً له، وبعد ذلك بستة أشهر توّج أسلابه بتزوجه من أرشدوقة (أميرة) نمساوية.

‌6 - الزواج والسياسة:

من 1809 إلى 1811 م

غادر نابليون فيينا في 15 أكتوبر سنة 1809 ووصل إلى فونتينبلو Fontainebleau في 62 من الشهر نفسه، وشرح لأقاربه الحميمين ومستشاريه قراره بطلب الطلاق، فأجمع جميعهم - تقريباً - على الموافقة، لكن نابليون لم تواته الشجاعة على الإفضاء بعزمه إلى جوزيفين إلاّ في 30 نوفمبر، فرغم إفراطه في المعاشرة الجنسية واللهو - وهو الأمر الذي كان يراه حقاً مشروعاً للمقاتل البعيد عن وطنه - إلاّ أنه كان لا يزال يحب جوزيفين وقد أدى انفصاله عنها إلى معاناة عاطفية استمرت عدة شهور.

لقد كان نابليون يعرف عيوبها - كسلها، وفتورها، ومبالغتها في التبرج، وإسرافها في استخدام الثياب والجواهر، وضعفها الشديد أمام بائعي القبعات النسائية ومصمميها الذين يأتون لعرض بضاعتهم عليها لقد اشترت كل ما أحضروه إليها دون أي اعتبار للسعر وأكثر من مرة زادت ديونها زيادة أدت إلى امتعاض زوجها امتعاضاً شديداً فطرد البائعات المتجمعات عند مقرّها وعنّفها ودفع ديونها. وقد اعتمد نابليون لها 600،000 فرنك سنوياً لنفقاتها الشخصية و 120،000 فرنك سنوياً لتهب منها من تشاء لأنه كان يعلم أنها مُلزمة بتقديم الصدقات والهبات.

وكان نابليون يتساهل مع عشقها للألماس ربما لأن التحلي به يجعلها فاتنة رغم بلوغها الثانية والأربعين، لقد كانت كلها مشاعر وأحاسيس ولا تملك من

ص: 136

العقل شيئاً اللهم إلاّ الحكمة التي وهبتها الطبيعة للنساء والتي بها يقدرن على اللعب بالرجال. لقد قال لها نابليون: "يا جوزيفين إن لك قلبا ممتازاً وعقلاً فارغاً"، وقلما كان يسمح لها بالحديث في السياسة وعندما كانت تقاومه وتتحدث في الأمور السياسية فإنه سرعان ما كان ينسى وجهات نظرها.

لكنه كان شاكراً ممتنا لأحضانها الدافئة الحارة وجسدها المؤثر، وحلاوتها التي لا تخف تدريجياً عند اللقاء، وبراعة تخلصها كما كان شاكراً ممتناً لاعتدالها وامتيازها في ممارسة كثير من مهامها كإمبراطورة. لقد أحبته حباً شديداً، وأحبها هو بعد السلطة، وعندما اتهمته مدام دي ستيل de Stael بأنه:"لا يحب النساء"، أجاب ببساطة:"أنا أحب زوجتي". ويعجب أنطوان أرنول Antoine Arnault من: "إمبراطورية تديرها جميلات لطيفات واهنات يحكمن رجالاً مستبدين متشددين كأشد ما يكون الاستبداد والتشدد". لقد كان كل الرجال يجبنون أمام تصميمه ومع ذلك لم يكن بمستطيع مقاومة دموع امرأة فكما قرر نابليون - بعد ذلك - في سانت هيلينا إنني بشكل عام كنت مستسلماً أمامها.

لقد كانت جوزيفين تعرف منذ وقت طويل أن نابليون في توق شديد لوريث من صُلبه ليرث الحكم بشكل شرعي ومقبول، وكانت تعلم خوفه من أن يؤدي موته أو أسره أو إصابته بمرض عضال إلى نزاع مجنون على السلطة بين الفرقاء المتنازعين والجنرالات، وأن تتحول فرنسا المنظمة والمزدهرة والقوية التي بناها إلى حُطام وأن تعود للإرهاب - الدموي أو الأبيض - كما كانت على الحالة التي أنقذها هو نفسه منها في سنة 1799، وكان من رأيه أن وريثاً شرعياً من صلبه تنتقل إليه السلطة بشكل تقليدي سيُعفي فرنسا من ذلك كله.

وعندما أخبر نابليون زوجته جوزيفين أخيراً بأن عليهما أن ينفصلا وهنت وغابت عن الوعي لعدة دقائق، فحملها نابليون إلى غرفتها واستدعى طبيبه جان - نيكولاس كورفيزار دي مارت Jean-Nicolas وطلب مساعدة هورتنس Hortense لتهدئة أمها، وظلت جوزيفين طوال أسبوع مصرّة على رفض الطلاق، وفي 7 ديسمبر وصل يوجين من إيطاليا وأقنع أمه بالموافقة. فطيب نابليون خاطرها بكل وسيلة وقال لها:"سأظل على حبّك دائماً لكن السياسة لا قلب لها"، ففي السياسة لا مجال إلا للعقل "

ص: 137

وقال لها أنها ستظل دائما محتفظة بلقب سيدة القصر الملكي وملحقاته ولقب إمبراطورة وبراتب سنوي كبير، وأكد لأبنائها أنه سيظل دائما وحتى آخر حياته كأب محب".

وفي 16 ديسمبر أصدر مجلس الشيوخ - بعد أن سمع رغبة كل من الإمبراطور والإمبراطورة في الطلاق - مرسوم الطلاق، وفي 12 يناير أُعلن رئيس أساقفة باريس فصل عُرى زواجهما، وتساءل عدد كبير من الكاثوليك عن مدى شرعية هذا الطلاق، ولم يُوافق معظم سكان فرنسا على هذا الانفصال، وتنبأ كثيرون أنه من الآن فصاعداً سيتخلى الحظ الحسن عن نابليون، ذلك الحظ الحسن الذي كان يتبعه دائما كظله.

لقد طغت السياسة على الحب وراح نابليون يبحث عن شريكة لحياته ليس فقط على أمل أن تكون أماً (لولي عهده) وإنما أيضاً ليكوّن عن طريقها بعض الروابط والصلات التي تُعين على تحقيق السلامة لفرنسا، وتشد من أزر حكمه.

ففي 22 نوفمبر (قبل إفضائه لجوزيفين برغبته في الطلاق بثمانية أيام) أرسل نابليون بتعليمات إلى كولينكور Caulaincourt سفيره في سان بطرسبرج أن يقدم طلباً رسمياً لاسكندر طالباً يد أخته البالغة من العمر ستة عشر عاماً - أنَّا بافلوفا Anna Pavlova. وكان القيصر يعلم أن أمه التي كانت تطلق على نابلين اسم الملحد لن توافق أبداً على مثل هذا الارتباط فأرجأ الإجابة على الطلب أملاً في أن يحصل من نابليون على مقابل مُمثَّل في حصوله على بعض المناطق (الأخرى) في بولندا. لكن نابليون بعد أن نفد صبره لطول المفاوضات في هذا الأمر ولخوفه أيضاً من الرفض - أرسل يوعز إلى ميترنيخ أنَّ النمسا ستتلقّى اقتراحاً لطيفاً بشأن الأرشيدوقة (الأميرة) ماري لويز. وعارض كامباسير Cambaceres الخطة متنبئاً أن هذا الارتباط سيؤدي إلى إنهاء التحالف الروسي مع فرنسا وسيؤدي للحرب.

ولم تكن ماري لويز البالغة من العمر ثمانية عشر عاما - جميلة، لكن كان يكفي نابليون أن عينيها زرقاوين، وخديها متوردان وشعرها كستنائي وطبعها هادئ وذوقها بسيط، وكانت كل الأدلة تؤكد عذريتها (لم يطمسها قبله إنس) وخصوبتها

ص: 138

(إمكان إنجابها). وقد تلقت قدراً طيباً من التعليم وتعرف عدة لغات وكانت بارعة في الموسيقي والرسم، وقد تعلمت منذ طفولتها أن تكره طالب يدها (نابليون) باعتباره شريراً بل أكثر أهل أوروبا امتلاء بالشر، لكنها تعلمت أيضاً أن الأميرة بضاعة سياسية يرتبط فهمها للرجال بصلاح الدولة. ومع هذا فلابد أن هذا الغول سيئ السمعة (المقصود نابليون) يمثل تغييرا مثيراً لفتاة محكومة تخضع لإشراف دقيق طال شوقها لعالم أكثر رحابة.

وعلى هذا ففي 11 مارس سنة 1810، وفي فيينا تم زواجها رسمياً من نابليون الذي لم يكن حاضراً وإنما مثله المارشال بيرثييه. وتحرك ركب الأميرة المكوّن من ثلاث وثمانين عربة ومركبة طوال خمسة عشر نهارا وليلة مصحوبة بالاحتفالات والترحيبات ليصل الركب إلى كومبيين Compiegne في 27 مارس. لقد كان موكبها كموكب زفاف ماري أنطوانيت في سنة 1770. وكان نابليون قد رتّب أموره للقائها في كومبيين هذه لكن - فضولاً منه أو لطفاً - انطلق ليقابلها مرحباً بالقرب من كورسيل Courcelles وعندما رآها .. لكن دعنا نتركه هو يروي لنا ما حدث:

"لقد خرجت من المركبة بسرعة وقبّلت ماري لويز. لقد كانت الطفلة الساذجة قد حفظت عن ظهر قلب حديثاً طويلاً كان عليها أن تردده على مسامعي وهي راكعة .. وكنت قد سألتُ ميترنيخ Metternich وأسقف نانت عمّا إذا كان يمكنني الليلة أن أكون تحت سقف واحد مع ماري لويز فأزاحوا كل شك علق بي وأكدا أنها الآن الإمبراطورة، وليس الأميرة (الأرشيدوقة)

وعكفتُ عليها في غرفة نومها لا أبرحها إلاّ إلى المكتبة، وسألتها عمّا قالوه لها عندما غادرت فيينا، فأجابتني بسذاجة شديدة أن أباها وفراو لاتسانسكي Frau Lazansky قد وجهاها بأن قالا لها: حالما تصبحين مع الإمبراطور ولا ثالث معكما عليك أن تفعلي كل ما يطلبه منك تماماً، عليك أن توافقي على كل شيء يطلبه منك لقد كانت مبهجة.

وقد أراد السيد سيجو Segur منّي ألاّ أظهره لها (!) مراعاة للتقاليد، لكنني بعد أن تزوجتها فعلاً أصبح كل شيء على ما يرام، وقلت له: اذهب إلى الشيطان ".

في أول أبريل أصبح الاثنان زوجين وفقاً للإجراءات المدنية وذلك في سان كلود St. Cloud

ص: 139

وفي اليوم التالي أصبح زواجاً دينياً في الصالة الكبرى في اللوفر، ورفض كل الكاردينالات تقريبا حضور المراسم الدينية للزواج على أساس أن البابا لم يلغ زواج جوزيفين، فطردهم نابليون إلى الأقاليم (المحافظات أو الدوائر) لكن هذا لم يعكر صفوه فقد كان مغموراً بالسعادة من نواح أخرى. لقد وجد عروسه باعثة على المسرّة حسياً واجتماعياً - متواضعة ومطيعة وكريمة ورقيقة. إنها لم تعرف أبداً أن تحبه لكنها كانت رفيقة جذابة. وهي كإمبراطورة لم تحقق جماهيرية كالتي حققتها جوزيفين، لكن صارت مقبولة كرمز لانتصار فرنسا على ملكيات أوروبا العدوانية.

ولم ينس نابليون جوزيفين فكان يزورها تباعاً في مقرها حتى أن ماري بدأت في الاستياء، فاضطر للتوقف عن زيارتها لكنه راح يرسل لها خطابات دافئة، جميعها تقريبا تبدأ بعبارة يا حُبّي وقد أجابت جوزيفين على أحد هذه الخطابات من نافار Navarre في نورمانديا Normandy في 21 أبريل سنة 1810:

"ألف ألف شكر لك لأنك لم تنسني. لقد أحضر إليّ ابني خطابك تواً. لقد اعتراني الضعف عند قراءته. وأي ضعف! .. فلم يكن به أي كلمة إلا وجعلتني أبكي، لكنها كانت دموعاً حلوة

لقد كتبتُ إليك عند مغادرة مقر إقامتي في باريس Malmaison، وبعد مغادرتي رغبت كثيراً في الكتابة إليك أكثر من مرة، لكنني أحسست بأسباب سكوتك وخشيت أن أكون مزعجة

كن سعيداً، كن سعيداً فأنت تستحق السعادة، إنني أحدّثك بكل قلبي. لقد أعطيتني أيضاً نصيبي من السعادة، وهو نصيب أُحس به إحساساً قوياً

وداعاً يا صديقي، وأشكرك بكل الحب فسأحبك دائماً ".

وراحت جوزيفين تُسلي نفسها بإشباع هوايتها في ارتداء الملابس والحُلي واستقبال الضيوف. وكان نابليون قد اعتمد لها ثلاثة ملايين فرنك سنوياً لكنها كانت تنفق أربعة ملايين، وبعد وفاتها في سنة 1814 لاحقته بعض فواتير مُشترياتها التي لم تُدفع في إلبا لقد جمعت جوزيفين في مقر إقامتها Malmaison أعمالاً فنية كثيرة هيأت لها صالة عرض وكانت تُنفق على الولائم ببذخ. وكانت قيمة تكاليف دعواتها تلي مباشرة

ص: 140

تكاليف زوجة نابليون (ماري لويز) وراحت تاليا Tallien الأميرة الأربعين لشيماي Chimay - تزور جوزيفين ويتذكران معاً أيام حكومة الإدارة ونفوذهما القوي الذي جعلهما كملكتين، وزارتها الكونتيسة فالفسكا Walewska فاستقبلتها جوزيفين بحفاوة وراحتا معاً يندبن حظهما لضياع حبيبهما (نابليون).

لقد قضى نابليون عامين كان فيهما سعيداً وفي سلام نسبي، فقد وسَّعت معاهدة شونبرون Schonbrunn مملكته وأثرت خزانته وفتحت شهيته، فقد ضمّ إلى ملكه الولايات الباباوية (17 مايو 1809) وأعاد أخاه جوزيف (يوسف) إلى عرشه في مدريد، وفي سنة 1810 وقّعت السويد - التي طال عداؤها له - معاهدة سلام مع فرنسا وانضمت للحصار القاري المضاد (المقصود منع التعامل مع البضائع البريطانية) وفي شهر يونيو قبلت - بناء على إلحاحه - أن يكون وريثاً للعرش السويدي. وفي ديسمبر ابتلع هامبورج وبريمن ولوبك Lubeck وبيرج وأولدنبورج Oldenburg وضمها للإمبراطورية الفرنسية. وأدت رغبته الشديدة في إغلاق كل موانئ القارة الأوروبية في وجه التجارة البريطانية إلى أن أصبح في نظر أعدائه غازياً نَهِماً لا يشبع يجمع الديون لأرباب الحقد والحسد.

وكانت الأمور الداخلية هادئة ومستتبة، فكانت أحوال فرنسا مزدهرة، وكان شعبها يحس بالفخار، ولم يكن هناك ما يعكر صفو انسياب الماء في النهر سوى ما أحدثه طرد فوشيه نهائيا لازدياد نفوذه زيادة كبيرة. وقد تم تعيين سافاري بدلاً منه كوزير للشرطة وعاد فوشيه إلى إكس- أن- بروفانس Aix-en. Provence ليدبِّر للانتقام لنفسه. أما الأمور الخارجية فلم تكن بمثل هذه السهولة؛ فهولندا كانت في الغاية من الاستياء لفرض الحظر على السفن البريطانية. وفقدت إيطاليا صبرها لسوء معاملة نابليون للباباوية، وكان الإيطاليون يفخرون بأنهم مقر الباباوية، وكان ولينجتون Wellington يبني جيشاً في البرتغال ليغزو به أسبانيا. وفيما وراء الراين كانت الدول الألمانية الخاضعة لحكم بونابرت متذمرة من الأعباء الضريبية في انتظار بعض الحماقات الإمبراطورية لتعود مرة أخرى لحكم سادتها السابقين الأكثر ملائمة لها.

ومع هذا فقد كانت ماري لويز حاملاً وكان الإمبراطور السعيد يَعُد الأيام

ص: 141

لوضعها هذا المولود. وعندما اقترب الحدث أحاطه بكل الطقوس الاحتفالية ذوات المهابة التي كانت تصاحب - تقليدياً - ميلاد طفل من البوربون، فجرى الإعلان إنه إن كان المولود طفلة فستسمع واحداً وعشرين طلقة مدفع تحية للمولودة أما إن كان المولود ذكراً فستستمر الطلقات إلى مئة وواحد. وكانت عملية الوضع شاقة جدا، فقد (أراد) الجنين أن يأتي للعالم بقدميه أولا، وقال الدكتور كورفيزار Corvisart لنابليون إنه إما أن يضحي بحياة الأم أو بحياة الوليد، فقيل له أن ينقذ الأم مهما كان الأمر.

واستخدم طبيب آخر أدوات ليعكس وضع الجني، وأصبحت ماري لعدة دقائق قريبة من الموت. وأخيراً (وافق) الجنين على الظهور برأسه أولاً، وعاش الطفل والأم (20 مارس 1811) ودوَّت مائة طلقة وطلقة معلنة لباريس ميلاد ذكر، وانتقل الخبر سريعاً في سائر أنحاء فرنسا، ولم يكن في أوروبا كثيرون يستكثرون على الإمبراطور هذه السعادة. فقد أرسل كل حكام أوروبا تهانيهم للأب الذي طال انتظاره لوليد ولمن تم إعلانه بالفعل ملك روما والآن ولأول مرة منذ بدأ مهامه أصبح يمكن لنابليون أن يحس بالطمأنينة بدرجة معقولة فقد أسس أسرة حاكمة يأمل أن تكون عظيمة مفيدة كالأسرات الحاكمة المعروفة بهذه الصفات في التاريخ، وربما أمكنها أن تجعل من أوروبا كياناً واحداً.

ص: 142

الفصل العاشر

‌عن نابليون

‌1 - الصفات البدنيّة

يجب ألا نتصور نابليون كما رسمه جروس Gros في سنة 1796 - يحملُ علماً في إحدى يديه وسيفاً مُشهراً في يده الأخرى بزيه المزخرف بالأحزمة الملونة والشارة الرسمية للسلطة، وشعره الكستنائي الهائج بفعل الرياح، وعينيه وحاجبيه وشفتيه المضمومتين بما توحيه هيئة كل هذه الأعضاء من عزم وتصميم. إن هذا التصور أبعد ما يكون عن الحقيقة. ويُقال إن جروس قد رآه - عندما كان أصغر بعامين من بطله (نابليون) البالغ من العمر سبعة وعشرين عاما - يغرس العلم على جسر أركول Arcole، لكن ربما كانت اللوحة التي رسمها تمثل حبا شديداً مفعماً بالحماسة. إنه الفنان عندما يتعبّد في محراب رجل الانجازات.

ومع هذا فإن جوري Guerin عندما رسم نابليون بعد ذلك بعامين مُبرزا في الأساس الملامح نفسها: شعرٌ متدلّ على الجبهة والكتفين، حاجبان مقوّسان على عينين داكنتين ثابتتين، وأنف مستقيم مدبّب حاد كإرادته، وشفتان مزمومتان عازمتان كعقله. هذا التصور - أيضاً - ليس إلاَّ جانباً واحداً من جوانب شخصية الرجل (نابليون) - شخصية الرجل العسكري، فهناك جوانب أخرى كثيرة يمكن أن تُخفف من حدة هذه القسمات - كصورته وهو يشد أُذُنَيْ سكرتيره مداعباً أو صورته وهو ينحني بشوق أبوي على الطفل ملك روما King of Rome.

وبحلول سنة 1802 قص خصلات الشعر الطويلة هذه كلها فيما عدا خصلة واحدة تركها تتدلى على جبهته غير البارزة، وبعد الأربعين بدا متثاقلاً واعتاد أحياناً أن يضع يده على كرشه، وعادة ما كان يعقد يديه خلف ظهره خاصة أثناء المشي، وقد ترسخت فيه هذه العادة حتى أنها كانت تكشف شخصيته في الحفلات التنكرية. وطوال حياته كانت يداه تجذبان الانتباه بجمال بشرتهما واكتمالهما

ص: 143

وأصابعهما المستدقّة، والحق أنه كان فخوراً تماماً بأطرافه الأربعة، وعلى أية حال فإن لاكاس Las Cases الذي كان يظنه واحداً من الأرباب لم يستطع أن يمنعنا من الابتسام سخرية عند رؤية هاتين اليدين الوسيمتين.

لقد كان بشكل عام قصيراً بشكل مفرط إذ لا يزيد طوله عن خمسة أقدام وست بوصات، أما روح القيادة فتتجلى في عينيه، فالكاردينال كابرارا Caprara الذي أتى للتفاوض بشأن الاتفاق البابوي (الكونكوردات Concordat) وضع على عينيه عدستين خضراوتين كبيرتين ليخفِّف بهما وهج عيني نابليون وحملقته. والجنرال فاندام Vandamme يعترف بخوفه من أثر عيني نابليون الشبيه بأثر التنويم المغناطيسي. يقول:"هذا الشيطان الآدمي يمارس معي سحراً يجعلني غير قادر على التعبير عمّا في نفس، ورغم أنني لا أخاف الله ولا الشيطان، فإنني أخشاه (نابليون) لدرجة أنني أرتعد كالطفل عندما أكون في حضرته وهو يستطيع أن يجعلني أمرق من سَمِّ الخياط (من ثقب الإبرة) لألقي نفسي في النار وكانت بشرة الإمبراطور شاحبة"،

إلاّ أنها - على أية حال - كانت تتألق بسبب حركات عضلات وجهه التي تعكس - إن أراد - أي خلجة من مشاعره أو فكرة من أفكاره. وكان رأس نابليون كبيراً بالنسبة لجسمه، لكنه كان ذا تكوين حسن، وكانت كتفاه عريضتين، وصدره بارزاً يَنُم عن بنية قوية. وكان لباسه بسيطا تاركاً أبهة الملبس لمارشالاته، ولم يكن في قبعته المعقدة التكوين والمنتشرة كالكعكة المطوية أية زينات خلا الشريط المثلث الألوان.

وعادة ما كان يلبس معطفاً رمادياً فوق الزى الرسمي لكولونيل من حراسه. وكان يحمل صندوق نشوق يضعه في حزامه (النطاق الذي يلفّه حول وسطه) ويستعمل ما به من نشوق snuffbox (سعوط) بين الحين والآخر، وكان يفضّل ارتداء البنطلون القصير (الشورت) والجوارب الحريرية الطويلة على البنطلون الطويل. ولم يتحلّ أبداً بالجواهر، لكن حذاءه كان محفوفاً بالحرير وإبزيم من ذهب. لقد كان في ملبسه ينتمي إلى ما كان سائداً أثناء حكم ما قبل الثورة، تماماً كما جنحت فلسفته السياسية الأخيرة إلى المنحى نفسه (منحى ما كان سائداً قبل الثورة).

ص: 144

لقد كان نابليون منظماً دقيقاً إلى درجة الوسوسة. وكان يحب كثيراً الاستحمام بالماء الدافئ وأحياناً كانت تستغرق فترة استحمامه ساعتين، وربما كان يجدُ في هذا راحة له من التوتر العصبي وآلام العضلات، وراحة لجلده بعد إصابته بداء الحكَّة أو الهرش الذي انتقلت إليه عدواه في طولون وكان يضع الكولونيا (العطر الكحولي المعروف) على رقبته وجذعه كما كان يضعه على وجهه. وكان معتدلاً بدرجة كبيرة في طعامه وشرابه إذ كان يخلط النبيذ بالماء كالإغريق القدماء وكان غذاؤه يستغرق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة لا غير. وفي المعارك كان يأكل إذا سنحت الظروف، وغالبا ما كان يلتهم طعامه في هذه الظروف بعجلة، وكان هذا يسبب له أحياناً عُسر هضم، وكان هذا غالباً ما يحدث في أكثر اللحظات حرجاً كما حدث له في معركتي بورودينو Borodino وليبزج Leipzig.

وكان يعاني من الإمساك وصحب ذلك في سنة 1797 داء البواسير الذي زعم أنه داواه بإجراء عملية نزف. لقد قال مينيفال Meneval:

" إنني لم أره مريضاً أبداً" ولكنه أضاف "إلاّ أنه فقط، كان عُرضة بين الحين والحين لنوبة قيء لا تترك أبداً آثاراً بعيدة المدى

وكان يخشى - لفترة - أن يكون قد أُصيب بداء وهن المثانة dysuria لأن هواء الجبال الشديد سبّب له نوعاً من عُسر البول لكن اتضح أن هذا الخوف بلا أساس".

وعلى أية حال، فهناك أدلّة قوية على أن نابليون أُصيب في أواخر حياته بالتهاب في جهازه البولي. وكانت أعصابه ذوات الحساسية المفرطة تنهار (كما حدث في مينز Mainz في سنة 1806) ليصير في حالة تشنج يشبه نوبات الصرع، لكن هناك اتفاقاً عاماً الآن أنه لم يكن مصاباً بداء الصرع.

لكن ليس هناك اتفاق كهذا فيما يتعلق بمعدته، فقد أخبر لاكاس Las Cases في 16 سبتمبر سنة 1816 إنني لم أُصب أبداً بالصداع ولا بآلام في معدتي وقد أيّده مينيفال في قوله هذا لم أسمعه أبداً يشكو من آلام في معدته وعلى أية حال فقد قرّر بوريين أنه:

"رأى نابليون أكثر من مرة يشكو من آلام في المعدة حتى أنني كنت أصطحبه إذا ما اعترته نوبة آلام المعدة إلى غرفة نومه، وكنت غالباً ما أضطر لمعاونته وسنده مخافة وقوعه".

وفي وارسو (فارسافا) في سنة 1806 بعد أن اجتاحته آلام عنيفة في

ص: 145

المعدة، تنبّأ بأنه سيموت بالمرض نفسه الذي مات به أبوه - سرطان المعدة. ولقد اتفق الأطباء الذين شرحوا جثته في سنة 1821 أنه كان مصاباً بمرض في المعدة يبدو ذا طبيعة سرطانية. وأضاف بعض الدارسين إصابته بالسيلان gonorrhea والزهري syphilis (السيفلس) ذاكرين أن آثار المرضين ظلت معه حتى آخر حياته.

وقد رفض نابليون أن يعالج اعتلاله الجسدي بالدواء وكان يؤمن بالحاجة إلى الجراحة فهي السبيل التي عادة ما كانت تستخدم مع الجنود الجرحى، أما الأدوية (العقاقير) فكان لا يثق فيها لآثارها الجانبية (لما تُحدثه من ضرر يفوق ما تقدمه من شفاء) وكان يفضّل إذا ما مَرِض أن يُعالج نفسه بالصوم وشرب ماء الشعير وعصير الليمون والماء الذي نقعت به أوراق البرتقال وممارسة رياضة عنيفة تؤدي لإفراز العرق، ثم يترك بدنه يشفي نفسه بنفسه.

وقد ذكر لاكاس أن: "الإمبراطور لا يذكر أنه تداوى في أي وقت بالعقاقير لكن ذاكرة الإمبراطور كانت في هذا الوقت تجنح للنسيان (كان النسيان يريحه) ".

وقد تحدث نابليون للطبيب نورثمبرلاند S. S. Northumberland وهو في الطريق إلى سانت هيلينا قائلاً: "اسمع يا دكتور. إن الجسد البشري كآلة مهيّأة لتحقيق أغراض الحياة، لقد نُظّم لتحقيق هذه الغاية - تلك هي طبيعته. اترك الحياة على سجيتها واترك هذا الجسد يعتني بنفسه، فهذا أفضل من أن تَشُلَّه بتحميله أعباء الأدوية ".

ولم يتعب نابليون من إزعاج طبيبه الأثير كورفيزار Corvisart بحديثه عن عدم جدوى الأدوية حتى استطاع أخيراً أن يجعله يتَّفق معه على أن الأدوية تُحدث من الأضرار أكثر مما تحدث من الفائدة. ومازح نابليون طبيبه الأخير فرانسيسكو أنتومارشي Antommarchi بأنه:

"سأله عمّن سيحاسب يوم القيامة عن قتل أكبر عدد من البشر أهم الجنرالات أم الأطباء".

ورغم اعتلاله الجسدي فقد كان لديه طاقة هائلة لم تتخل عنه أبداً. وكان العمل معه لا يعني أبداً البطالة المقنّعة، فلا مجال لبيروقراطية زائفة ومناصب بلا عمل، بل لقد كان العمل معه غالباً ما يؤدي إلى الموت البطيء (لكثرة الإرهاق) فكم من موظف (مسئول) فخور استنفذ كل طاقته وغدا مرهقاً تماما بعد خمس أو ست سنوات من ملازمة الإمبراطور الذي تتطلب ملازمته أن يكون المرء لاهثا دوما. وقد اعتبر أحد موظفيه نفسه أنه محظوظ لعدم وجود مقر عمله في باريس لو

ص: 146

كنت في باريس لوافتني المنية قبل انصرام الشهر بسبب الارهاق.

لقد قتل نابليون بالفعل بورتالي Portalis وكريت Cretet (المقصود قتلهم لكثرة ما أوْكل إليهم من أعمال ومهمات) ويكاد يكون قد قتل أيضاً تريلهار Terilhard - رغم قوّة بنيته - لقد كان تريلهار - كالآخرين - لا يستطيع التبوّل وقد قال نابليون إن الرجل المحظوظ هو الذي اختفي بعيداً عن عينَّي في عمق إحدى المحافظات وعندما سأل نابليون لويس - فيليب دي سيجور Louis-Philippe de Segur عما سيقوله الناس عنه بعد موته أجاب سيجور قائلاً:

"إن العالم كله سيعبّر عن أسفه"، لكن نابليون أجاب مصحّحاً:"عفواً، إنهم سيقولون: أفٍ، لقد ارتحنا سيقولونها بارتياح عميق وعلى مستوى العالم ".

لقد أرهق نفسه كما أرهق غيره فقد كانت طاقته أقوى من بدنه. لقد ملأ في عشرين سنة أحداثاً تكفي لقرن لأنه كان يكثّف عمل الأسبوع ليجعله في يوم واحد. لقد كان يأتي إلى مكتبه في حوالي الساعة السابعة صباحاً، ويتوقع أن يكون سكرتيره مستعداً للحضور في أي وقت. لقد كان يقول لبوريين:"تعالَ، دعنا نذهب للعمل". وقال لمينيفال: "كن هنا في الساعة الواحدة ليلاً أو الرابعة صباحاً، لنعمل معاً"، وكان يحضر اجتماعات مجلس الدولة ثلاثة أيام أو أربعة كل الأسبوع، وقال للمستشار روديريه Roederer:" إنني - دائماً - أعمل. إنني أعمل وأنا أتناول غدائي، وأنا في المسرح، بل إنني أقوم في منتصف الليل لأعمل".

وقد نتصوّر أنه لم يكن يجد وقتاً للنوم في ظل هذه الأيام الممتلئة عملاً وإثارة، لكن هذا غير صحيح فبوريين يؤكد لنا:"أن الإمبراطور كان ينام جيداً، ولمدة كافية - سبع ساعات أو ثمان ليلاً بالإضافة إلى إغفاءة بعد الظهر"، وكان يفخر قائلاً للاكاس:"إنني أستطيع النوم في أي ساعة وفي أي مكان إذا دعت الحاجة"، وقد وضَّح نابليون شارحاً أنه يحتفظ بأمور كثيرة مختلفة مرتبة في عقله أو ذاكرته كما لو كانت في أدراج خزانة

"فعندما أرغب في ترك موضوع أغلق الدُّرج الذي به هذا الموضوع لأفتح آخر به موضوع آخر

وإذا أردت النوم أغلقت كل الأدراج عندها أنام حالاً".

ص: 147

‌2 - عقله

كان جوته Goethe يظن أن عقل نابليون هو أعظم عقل أنجبته البشرية. واتفق معه لورد أكتون Acton في ذلك الرأي. أما مينيقال Meneval الذي كان متأثراً بقربه من السلطان والشهرة فقد نسب إلى سيده (نابليون) أرقى فكر مُنِحَهُ بشر على الإطلاق. أمّا تين Taine المعارض الشديد للمبالغين في الإعجاب بنابليون، والذي لا يكل ولا يمل من شجب موقفهم، فإنه رغم هذا يُبدي دهشة شديدة من قدرة الإمبراطور على العمل الفعلي المكثف لفترة طويلة:

"ليس هناك أبداً عقل كعقله من حيث التنظيم والانضباط دعونا نوافق على أن عقل نابليون كان من بين عقول كل من تبوّأ منصباً تنفيذياً هو العقل الأكثر إدراكاً ووعياً وحدّة وقدرة على التذكر وبراعة في استخدام المنطق".

لقد أحبّ أن يُشير لنفسه كعضو في المجمع العلمي الفرنسي وقد عبّر ذات مرّة للابلاس Laplace عن أسفه لأن الظروف قد أبعدته كثيراً عن مجال العلم فقد كان يوّد أن يشتغل به ليكون عالما ففي تلك اللحظة كان نابليون يقدّر الرجل الذي يضيف للفهم البشري تقديراً يفوق تقديره لمن يستحوذ على مزيد من السلطة وعلى أية حال، يمكننا أن نسامحه لاحتقاره أيديولوجية المعهد العلمي الفرنسي الذي أساء فهم الأفكار فظنّها هي نفسها الحقائق الموجودة على أرض الواقع، وراح (أعضاؤه) يشرحون أوضاع العالم (أو الكون) واقترحوا أن يعرضوا عليه كيفية حكم فرنسا.

لقد كان عقل نابليون يُعاني من عيوب الخيال الرومانسي، لكنه أيضاً كان يتعامل مع حقائق حية من لحم ودم من خلال احتكاكه اليومي بمثيرات واقعية. لقد كان نشاطه العقلي الدائم على أعلى مستوى يمكن أن يكون عليه رجل الدولة وقد وظّف هذا النشاط العقلي لتحقيق أهدافه بشكل دائم فأصبح جزءاً لأغنى عنه في أي عمل يقوم به.

لقد كان نابليون - في المقام الأول - حاد الحواس، بل لقد كان يعاني من هذه الحدة، فقد كانت أُذناه تلتقط كل شاردة وواردة أو بتعبير آخر كانتا تسمعان حتى الأصوات

ص: 148

الخافتة، وكان أنفه حسّاساً يجيد الشّم (كان شمّاماً) وكانت عيناه تخترقان ما هو ظاهر لتتغلغل للأعماق، وتستبعد ما هو عارض لتستجلي المعنى واضحاً لا شِيَةً فيه. وكان محباً للاستطلاع وجّه آلاف الأسئلة، وقرأ مئات الكتب ودرس الخرائط والتواريخ وزار المصانع والمزارع، واندهش لاكاس Las Cases لاتساع دائرة اهتماماته واتساع مجالات معرفته عن البلدان والقرون.

لقد كان يمتلك ذاكرة قوية أخضعها لطبيعة أغراضه فتخيّر لها ما يفيده. لقد كان يعلم ما يجب عليه نسيانه وما يجب عليه إبقاءه حياً في ذاكرته. لقد كان منظَّما؛ إذا كان يرتب رغباته بشكل موحّد وطبقي (نظامي) بشكل واضح ومباشر ليجعل أفكاره وسياساته وطريقة حكمه تسير في كُلٍ متكامل لتحقيق هذه الأغراض. لقد كان يطلب من مساعديه تقارير وتوصيات تتضمّن أهدافاً محدّدة ومعلومات حقيقية وإجراءات تنفيذية ونتائج محسوبة لا مجرد كتابات بليغة وأفكار مثالية تدعو للإعجاب. وكان يدرس هذه المادة التي تقدمها التقارير والتوصيات في ضوء خبرته وأهدافه ومن ثم يُصدر تعليمات قاطعة ودقيقة. ولا نعلم لحكومته نظيراً في التاريخ من حيث الإعداد الدقيق المنظم لمثل هذه الإدارة الدقيقة المنظمة. فمع نابليون أسلمت الحرية قيادها لدكتاتورية النظام.

وكان بتحويله مذكراته إلى توقعات ماهراً في حساب نتائج الاستجابات المحتملة، وفي التنبؤ بخطط أعدائه وتحركاتهم، فمن أقواله:

"إنني أقضي وقتاً طويلاً في التأمل والتفكير، فإذا كُنت نداً لموقف مستعداً لمواجهته إذا حل وقت المواجهة، فما هذا إلا لأنني قد فكرت في الأمر كثيراً قبل حدوثه

لقد كنتُ أُعد لكل احتمال عُدّته واضعاً في الاعتبار كل ما يمكن أن يحدث. لم يكن الجنّي [djinn] هو الذي يُلهمني فجأة بما يجب عليّ فِعله أو قوله .. وإنما هو تفكيري"

ومن ثم فقد وجدناه يستعد - واضعاً في اعتباره التفاصيل - لمعركة مارينجو Marengo وأوسترليتز Austerlitz وتنبّأ لا بالنتائج فحسب وإنما بالوقت الذي ستستغرقه كل معركة منهما. وفي قمة ازدهاره (1807) كان قادراً على الاحتفاظ برؤيته واضحة لا تشوِّش عليها رغباته. لقد حاول أن يدرس الصعوبات المتوقعة والمفاجآت التي يمكن حدوثها، وما قد يقوم به أعداؤه من مجازفات، وذلك ليستعد لمواجهتها:

"عندما أُخطط لمعركة فلا يمكن أن يكون هناك من هو أكثر جُبناً مني. إنني أُضخّم أمام عيني كل

ص: 149

خطر يمكن أن يحدث في ظل ظروف المعركة".

لقد كان مبدأه الأول في حالة حدوث أمور طارئة غير متوقّعة هو مواجهة العدو حالاً وبأقصى سرعة مهما كان الوقت؛ نهاراً أم ليلاً. وكانت تعليماته الدائمة لبوريين Bourrienne (سكرتيره): "لا توقظني من نومي إن كان لديك أخبار طيبة تريد أن تُفضي بها إليّ، ففي هذه الحال لا مبرّر للعجلة، لكن إن كان لديك أخبار سيئة فأيقظني على الفور، ففي حال الأخبار السيئة يجب ألاّ نُضيّع لحظة واحدة".

وقد اعترف نابليون أنه رغم كل هذا الاحتياط وبُعد النظر إلاّ أنه فوجئ ببعض الأحداث غير المتوقعة لكنه كان يتباهى بقدرته على التفكير الواضح والعمل الحاسم والمؤثر عقب استيقاظه من نومه فجأة وقد حاول أن يُحصِّن نفسه ضد المفاجأة وأن ينتهز المناسبة بسرعة، وكان يكرر دوماً قوله:"ليس هناك إلاّ خطوة واحدة بين النصر والهزيمة".

وكان حُكمه على الرجال عادة عميقاً كحساباته للوقائع والأحداث، فلم يكن ينخدع بالظواهر أو الاحتجاجات، فشخصية المرء - فيما يرى - "لا تظهر على وجهه إلاّ إذا صار كبير السن، وغالباً ما يُخفى الحديث بالقدر الذي يُفصِحْ". لقد أخضع نابليون نفسه للدراسة على نحو متواصل وخَلُص إلى أن: "كل الرجال وكل النساء تحرُّك مصالِحُهم الذاتية أفعَالهم الواعية". ومع أنه - أي نابليون - قد حظي بإخلاص شديد مجرّد من المصالح الذاتية (من ديزيه ولان ومينيفال ولا كاس

from Desaix، Lannes، Meneval، l'Empereur!) ومن أولئك الجنود الذين كانوا يهتفون وهم يحتضرون: عاش الإمبراطور) إلاّ أنه لم يستطع أن يتخيّل وجود هذا النوع من الإخلاص الذي لا ينطوي على مصالح ذاتية أو بتعبير آخر لم يستطع أن يُقنع نفسه بوجود شيء اسمه إنكار الذات فوراء كل كلمة وخلف كل فعل مَدْروس مقصود لم يكن يرى سوى سيطرة الأنا سيطرة لا تهمد - طموح الرجال الأقوياء وخوف الرجال الضعفاء، وتفاهة النساء أو خِداعهن. لقد كان نابليون يبحث في كل شخص عن العاطفة المتحكمة فيه أو نقطة ضعفه، ليلعب على أوتارها ويطوّعها لأغراضه الإمبراطورية.

ورغم كل حيطته وحذره وتوقعاته إلا أنه وقع في أخطاء متباينة تبايناً شديداً (لم يدرك

ص: 150

فحوى بعض الأحداث إلاّ بعد وقوعها) سواء فيما يتعلق بحُكمه على الرجال أم بتقويم النتائج وحسابها. وربما كان يعرف أن جوزيفين لا يمكن أن تتحمّل شهراً من العِفّة (لا يمكن أن تصون عفّتها لمدّة شهر) وإن ماري لويز لا يمكن أن تَشُد النمسا إلى السلام. وكان يظن أنه أسعد القيصر اسكندر في تليست وإيرفورت بينما كان القيصر يخدعه ببراعة بمساعدة تاليران.

لقد أخطأ بتوسيع نطاق العداوة لبريطانيا في سنة 1802 بمد سلطانه - بجسارة - على بيدمونت ولومبارديا وسويسرا. وقد أخطأ عندما نصَّب إخوته على عروش أكبر بكثير من عقولهم، وأخطأ عندما تصوّر أن الدول الألمانية في كونفدرالية الرَّاين ستخضع للسلطة الفرنسية ولن تفلت منها إذا واتتها الفرصة، وأخطأ بنشره وثيقة تُظهر نواياه في غزو تركيا، وأخطأ (كما اعترف في وقت لاحق) بتشتيت جيشه الأساسي (الجيش العظيم Grand Army) في أسبانيا. وأخطأ بغزوه روسيا الشاسعة أو ببقائه فيها حتى اقتراب الشتاء. ومع أنه كان متفوقاً على كثيرين إلاّ أنه كان كطبيعة الأشياء - كما قال - عرضة للمفاجآت ولأوهان المرض وتناقُص السلطة. لقد قال:

"لقد فكرت في كثير من الخطط لكنني لم أكن أبداً حراً مطلق اليد في تنفيذ واحدة منها. فكل ما في الأمر أنني كُنت أمسك المِقْوَد (الموِّجه) بيد ثابتة قوية، لكن الأمواج كانت أقوى، الحقيقة أنني لم أكن أبداً سيّد نفسي، لقد كانت الظروف دائما هي التي تحكمني ".

وعلى سبيل التخيّل أذكر الآتي. لقد كانت روح نابليون ساحة معركة بين ملاحظة حادة تضيء طريق العقل وتبث الحياة في خيال تتوجه الرومانسية أو حتى الخرافة. فعندما ذهب بحملته إلى مصر أخذ معه كثيراً من كتب العلوم وكثيراً من الكتب العاطفية أو الخيالية ومنها كتاب روسو " La Nouvelle Heloise" وكتاب جوته " Werther" وكتاب ماكفرسون Macpherson "Ossian" وقد اعترف نابليون - في وقت لاحق - أنه قرأ كتاب جوته (Werther) سبع مرّات، وفي خاتمة المطاف خَلُص بأن الخيال يحكم العالم وعندما أوصلته الظروف إلى مصر استغرق في أحلام الاستيلاء على الهند وخوض الحروب في الشام، وتصوّر نفسه يغزو القسطنطينية بحفنة رجال ومن ثم يتجه إلى فيينا وكأنه

ص: 151

سليمان الذي لا يُقهر (القانوني) بُعث من جديد ولأن القوة والسلطة قد طردتا الحذر من دمه، فقد تجاهل تحذير جوته (التحذير المعروف بالتوقف في الوقت المناسب Entsagen) . لقد كانت نجاحاته المتوالية تتحدّى الأرباب، وتتمرّد على أي حدود، وفي خاتمة المطاف وجد نفسه منبوذاً بلا عون مقيّداً إلى صخرة في المحيط.

‌3 - شخصيته

لقد بدأ كبرياؤه أو اعتداده بنفسه من اكتفائه بذاته أو بتعبير آخر باعتماده على نفسه، كان من الطبيعي أن يرتبط هذا بكل أعضائه، ففي شبابه تضخّم هذا الشعور متخذاً شكلاً دفاعياً أثناء الصدامات التي جرت بينه وبين أفرادٍ أو أسرات في كورسيكا، وبعد ذلك تجلّى ضد عجرفة طلبة برين Brienne الذين كانوا يتكبّرون عليه بحكم انتماءاتهم الطبقية أو العرقية. ولم يكن اعتداده بنفسه على أية حال خالياً من الأنانية، لكن هذا لم يمنع إخلاصه وتكريمه لأمه ولجوزيفين Josephine وأبنائها ولم يمنع حبه لابنه من ماري لويز ذلك الوليد الذي أطلق عليه اسم ملك روما وحبّه الشديد لإخوته وأخواته الذي كانوا أيضاً ذوي نفوس تواقة. لكن كلما اتَّسعت دائرة نجاحاته في السلطة والمسؤوليات، ازداد اعتزازه بنفسه واستغرقته ذاته، وبدأ يميل لنسبة كل انتصارات جيوشه لنفسه، لكنه مع هذا كان يمتدح ديزيه ولان Lannes، وقد أحبهما حقاً وحزن من أجلهما. وأخيراً فقد اعتبر نفسه هو فرنسا ذاتها وتضخّمت ذاته مع كل اتساع لحدودها.

وأحياناً كان كبرياؤه ووعيه بقدرته يتدنَّيان إلى مستوى من التفاهة أو الخواء، أو استعراض ما أنجزه. لقد قال يوماً لسكرتيره بورين:"حسناً يا بورين، أنت أيضاً ستكون خالداً"، فلما سأله بوريين:"لماذا يا جنرال"، قال نابليون:"ألست سكرتيري؟، أخبرني عن اسم سكرتير الاسكندر أليس هو هم Hm، هذا ليس أمراً سيئاً يا بورين ". وكتب نابليون ليوجين (حامل لقب نائب الملك في إيطاليا) في 14 أبريل سنة 1806: "إن شعبي

ص: 152

الإيطالي يجب أن يعرفني جيداً بشكل كاف ويجب ألا ينسى أن في إصبعي الصغير من الفهم أكثر مما في عقولهم جميعاً".

وكان الحرف الأول من اسمه (N) يتألق في آلاف الأماكن وكان أحياناً يقترن بالحرف الأوّل من اسم زوجته جوزيفين (J) . لقد شعر الإمبراطور أن الاستعراض مسألة ضرورية كدعامة من دعامات الحُكم.

لقد أعلن لروديريه Roederer في سنة 1804 عندما كان جوزيف (يوسف) يحتال ليكون وريثاً (ولياً لعهد نابليون): "إن السلطة هي خليلتي أو رفيقتي. لقد بذلت جهوداً فائقة في هذه الفتوحات، جهوداً تجعلني لا أسمح لأيٍّ مهما كان أن يأخذها مني أو يُبعدها عني أو حتى يرنو إليها أو يشتهيها .. منذ أسبوعين لم أكن مصمماً على معاملته بظلم. أما الآن فإنني غير متسامح. سوف ابتسم له بشفتي (ابتساماً ظاهرياً) - لكنه نام مع رفيقتي أو خليلتي (يقصد السلطة) "، (هنا أظهر نابليون نفسه غير عادل. لقد كان عاشقاً غيوراً لكنه كان رجلاً متسامحاً) ومن أقواله:"إنني أحب السلطة كما يحب الموسيقيُّ كمانه".

لذا فإن طموحهُ قد أدى به إلى وثبات متتالية من منطقة إلى أخرى. لقد كان يحلم بمنافسة شارلمان في توحيد أوروبا الغربية بما في ذلك الولايات البابوية - بالقوة، ومن ثم يتتبع خطى قسطنطين Constantine فيخرج من فرنسا إلى ميلان ومنها إلى القسطنطينية (اسطنبول) ليستولي عليها، ويشيد أقواس النصر التقليدية لإحياء ذكرى انتصاراته، ويستمر في أحلامه فيجد أوروبا صغيرة جداً، وأنها مجرّد تل من تراب، فيشرع في منافسة الإسكندر الأكبر فيغزو الهند، قد يكون هذا عملاً شاقاً له وللمليون جندي التابعين له، لكن العظمة ستكون عِوَضاً كافياً له ولهم عن هذا التعب، وإن أدركهم الموت فلا بأس فهذا ليس ثمناً باهظاً فالموت ليس مأساة، وإنما المأساة أن تعيش مهزوماً تافهاً، فتلك حياة تعني أنك تموت كل يوم إنني لا أعيش إلاّ للأجيال القادمة. لقد أصبح المجد هو حبّه المهيمن، لذا فقد قبلته فرنسا كلها - تقريباً - كمرشد (باعتباره نجماً هادياً) طوال عقد من الزمن، وكأنها مسوقة بقوى التنويم المغناطيسي.

لقد تابع تحقيق أهدافه بإرادة لا تلين إلاّ لتقفز من جديد - حتى استنفذ طاقاته في بلوغ الذروة وأصبح بعدها جديراً بالشفقة. لقد توحّد طموحه الذي لا يهمد مع إرادته

ص: 153

وتوجهاته ليتفاعل مع جوهر أيامه، ففي برين قال:"حتى عندما لم يكن أمامي شيء محدد لأقوم به، فإنني كنت أشعر دائماً أنني لا يجب أن أضيع الوقت"، وإلى جيروم Jerome في سنة 1805 وجه حديثه قائلا:"إنني لا أدين إلاّ لقوة الإرادة والشخصية والقدرة على التنفيذ والجسارة"، فالجرأة كانت جزءاً من إستراتيجيته، وكان يستغل عامل الوقت فكان يواجه عدوه بسرعة إجراءاته، وأفعاله الحاسمة في وقت لا يتوقَّعونه وفي مكان لا يتصوَّرون حدوث المواجهة فيه. لقد كان يقول:"إن هدفي هو الوصول للهدف مباشرة دون أن أسمح لأي اعتبار أن يوقفني"،

لكنه استغرق عقداً من الزمن ليتعلم الحكمة القديمة التي مؤداها أنه في السياسة يعتبر الخط المستقيم هو أطول مسافة بين نقطتين.

وفي بعض الأحيان كان الهوى يُفسد أحكامه ومسلكه ويُشكل حاجزاً بينه وبين الرؤية الصحيحة. وكان نفاذ الصبر (قصير البال كما أنه قصير البدن)، وكلما اتّسع سلطانه زاد نفاذ صبره (قلّ طول باله). لقد كانت ضراوة أهل كورسيكا وحرارتهم تسري فيه مسرى الدم، ورغم أنه عادة ما كان يتحكم في نفسه إذا ما اعتراه الغضب إلاّ أن أولئك المحيطين به بدءاً من جوزيفين إلى حارسه الشخصي القوي روستام Roustam كانوا يتحوّطون في كل كلمة وكل حركة مخافة إثارة سخطه.

وكان نافذ الصبر إذا ما ظهر له تناقض أو توان أو عدم كفاءة أو غباء. وعندما ينفذ صبره لأمكن أن يوبّخ علناً أحد السفراء، وأن يسبب أحد الأساقفة وأن يركل فيلسوفاً في بطنه، وإذا لم يتوفر له ما هو أفضل ركل الأخشاب في المدفأة. ومع هذا فقد كان غضبه يخمد بمجرد تفريغ شحنته، وغالباً ما كان هذا الغضب غطاء أو حركة من حركات السياسة، وفي معظم الحالات كان يقوم بعملية استرضاء لمن صبَّ عليهم غضبه بعد يوم أو حتى بعد دقيقة. وقلّما كان فظَّاً إلى حد مؤلم، فهو في غالب أحواله رقيق مداعب فكهٌ (حاضر النكتة) لكن روح الفكاهة عنده قد أضعفتها المعارك وما تعرّض له من مواقف صعبة، ولم يُتح له وقت كثير لمسرّات أوقات الفراغ أو الانهماك في القيل والقال، أو ظُرف الصالونات. لقد كان رجلاً في عجلة دوماً تحيط به ثُلَّة من الأعداء، ويمسك بزمام إمبراطورية، ومن الصعب علي رجل في عجلة من

ص: 154

أمره أن يكون متمديناً.

لقد استنفذ كثيراً جداً من طاقته في فتح نصف أوروبا، وتبقى منها - أي من هذه الطاقة - شطر كثير للانهماك في الأمور الجنسية على نحو منافٍ للعقل، وكان من رأيه أن كثيراً من أشكال الرغبة الجنسية يتم تعلّمها من خلال المعايشة البيئية أكثر من كونها مسألة مورثة فنجده يقول:"كل شيء بين الناس اصطلاحي أو متفق عليه حتى فيما يتعلق بالمشاعر التي قد يظن المرء أن الطبيعة وحدها هي التي فرضتها" لقد أمكنه أن يكوِّن له باقة من المحظيات علي النسق البوربوني بمعنى الكلمة لكنه تعامل أيضاً مع ستة خليلات أخريات على فترات بين المعارك، وكانت كل امرأة تُسعده لليلة تعتبر نفسها قد دخلت التاريخ، وعادة ما كان يُفشي أسرار لقاءاته الجنسية بفظاظة ويتحدث عن آخر شريكاته في الفراش ليس بامتنان وإنما بقسوة. وقد تسبَّب عدم إخلاصه في إزعاج جوزيفين لساعات طوال قضتها في كآبة وحزن، لكنه شرح لها الأمر (إن جاز لنا أن نصدّق مدام دي ريموزا Remusat) قائلاً:

"إن هذه التسالي وهذا الترويح عن النفس أمر طبيعي وضروري ومعتاد ولابد أن تتفهمه الزوجة، وكانت تبكي، وكان يُطيّب خاطرها، وكانت تسامحه. وفيما عدا ذلك فقد كان زوجاً صالحاً بقدر ما تسمح به مهامه وما تحتمه من تنقلات كثيرة".

وعندما أتته ماري لويز Marie Louise قبل بمبدأ الاكتفاء بزوجة واحدة (على حد علمنا) ولو حتى يكوْن الزنا قد يتسبب في فقدانه النمسا، وتضاعف إخلاصه لها (لماري لويز) عندما أدرك ما تعانيه من آلام مبرحة وهي تضع له طفلاً. لقد كان دائما يُظهر حبه الشديد للأطفال وسجلت المدوّنة القانونية النابليونية لهم ما ينم عن عناية خاصة. والآن فقد أصبح ابنه الذي سماه ملك روما معبوده ومحبوبه ومَعْقِدَ آماله، فراح يعتني به لتوريثه حُكم فرنسا واهبة القوانين لأوروبا الموحدة ليحكمها بِحِكمة. وبذا تضخمت ذاته المتضخمة أصلاً بالانغماس في حب الزوجة والحب الأبوي (حبه لابنه).

لقد كان نابليون منشغلاً بالأمور السياسية انغماساً هائلاً لا يجعل له وقتاً لأصدقاء. بالإضافة إلى أن الصداقة تعني أخذاً وعطاء على قدم المساواة وقد وجد نابليون أنه من الصعوبة أن يُذعن لمساواته وقد وجد نابليون أنه من الصعوبة أن يُذعن لمساواته مع آخرين

ص: 155

في أي شكل من أشكال المساواة. لقد كان هناك مخلصون أوفياء له ضحّى بعضهم بحياته فداء لمجده ومجدهم ومع هذا لم يكن أحدهم يفكر في أن يدعوه صديقاً. لقد أحبّه يوجين لكن حبّه له كان كحب الابن لأبيه أكثر منه كحب الصديق لصديقه، ويحكي لنا بوريين (وهو لم يكن جديراً بالتصديق تماماً) أنه سمع مراراً من نابليون في سنة 1800 قوله:

"الصداقة ليست إلاّ اسماً بلا مضمون. أنا لا أحبُّ أحداً. إنني حتى لا أحب إخوتي، ربما أحب جوزيف (يوسف) قليلاً بحكم التعوّد ولأنه أخي الكبير. وأنا أيضاً أحب دوروك Duroc

اعلم جيداً أنه لا أصدقاء حقيقيين لي. فطالما أنني مستمر على ما أنا عليه، فإنه يمكنني أن احتفظ بعدد كبير من الأصدقاء الظاهريين (غير الحقيقيين) كما أشتهي. دع رقة الشعور للنساء، فتلك مهمتهن. لكن الرجال يجب أن يكونوا رابطي الجأش ذوي أهداف محددة، وإلا تخلّوا عن مهامهم في الحرب والحكم ".

تلك هي الحلقة النابليونية الرواقية لكن ليس من السهل أن نوفِّق بين هذا وإخلاص رجال مثل ديزيه ودوروك ولان ولاكاس وآخرين كثيرين دام إخلاصهم له طوال حياتهم. بل أن بورين نفسه يصدّق على أن نابليون كان رفيقاً رقيق المشاعر خارج نطاق المعارك ويوافق مينيفال الذي كان قريباً من نابليون طوال ثلاثة عشر عاما على ذلك فيقول:

"لقد توقّعت أن أجده فظاً متقلب المزاج، لكنني - على العكس من ذلك - وجدته صبوراً متسامحاً من السهل بعث المسرّة في نفسه، وهو بلا شك منضبط كما أنه مرح وكثيراً ما يتخذ مرحه طابع الجلبة وروح السخرية، وأحياناً يتخذ طابع الوداعة الجذابة .. فلم أعد خائفاً منه، ومما جعلني أستمر في حالة الاطمئنان إليه كل ما رأيته من أساليب مؤثرة وداعية للمسرّة كان يتَّبعها في تعامله مع جوزيفين وحرصه على الاخلاص لضباطه ورقته مع ذوي قرابته ومع مستشاريه ووزرائه وألفته مع جنوده ".

ص: 156

ومن الواضح أنه كان يستطيع أن يكون شديد البأس إذا ما رأى أن السياسة تتطلب هذا، كما كان يغدو لطيفاً رقيقاً إن سمحت السياسة بذلك، فالسياسة عنده تأتي في المقام الأول. لقد أمر بسجن رجال كثيرين ومع هذا فقد سجل التاريخ له كثيراً من مظاهر التسامح أوردها فريديريك ماسون Frederic Masson في مجلّده. واتخذ إجراءات لتحسين أحوال سجون بروكسل لكن أحوال السجون الفرنسية في سنة 1814 كانت سيئة لا تتناسب مع الكفاءة العامة التي اتسم بها حكمه. لقد رأى آلاف القتلى في ساحة المعركة ومع هذا لم يتردد في خوض معارك أخرى، ومع هذا فقد سمعنا أنه غالباً ما كان يتوقف لإتاحة فترة راحة لجندي جريح ورآه فيري كونستان (قستنطين) Very Constant يبكي أثناء تناول إفطاره بعد عودته من عند سرير المارشال لان Lannes الذي أصيب بجروح مميتة في إسلنج Essling في سنة 1809.

ولا جدال في سخائه واستعداده للعفو. لقد عفا كثيراً عن بيرنادوت وبوريين وعندما طلب منه كارنو Carnot وشينييه Chennier - بعد أن ظلاّ يعارضانه سنوات - أن ينقذهما من الفقر أرسل لهما - على الفور - ما يُعينهما. وفي سانت هيلانة التمس الأعذار لمن تخلّوا عنه في سنة 1813 أو سنة 1815. ولم يكن هناك إلاّ البريطانيون الذين ظل ممتعضاً منهم حتى النهاية بسبب عداوتهم المتواصلة له، فلم يكن يرى في بت Pitt سوى أنه مرتزق قاس، وكان غير منصف على نحو أبعد في رأيه في سير هدسون لو Hudson Lowe وكان من المحال عليه أن يرى ميزة في ولينجتون Wellington وكان عادلاً بدرجة كبيرة في تقويمه لنفسه: "إنني اعتبر نفسي رجلاً طيب القلب لقد قيل لنا أن الرجل مهما كان شأنه لا يمكن أن يعتبر بطلاً في نظر خادمه الخصوصي". لكن فيري كونستان Very Constant الذي ظل طوال أربعة عشر عاماً يعمل مع نابليون بهذه الصفة يسجل لنا في مذكراته التي شغلت عدة مجلدات إعجاباً يفوق الحد.

ولم يكن الذين نشئوا في رحاب الحكم القديم (ملكية ما قبل الثورة) وتشربوا عاداته الأنيقة ليتحملوا طريقة نابليون المباشرة الفظة في الحركة واللباس. لقد أثار سخرية مثل هؤلاء بمركبته التي يريد أن يؤكد بها ذاته على نحو أخرق، وبطريقته الخشنة في الحديث في

ص: 157

بعض المناسبات. ولم يكن يعرف كيف يُرضي هؤلاء الناس ويبدو أنه لم يكن مهتماً بذلك فقد كان أكثر حرصاً على الجوهر منه على الشكليات:

"إنني لا أحب الغموض والإبهام وهذه العبارة السطحية التي تشير إلى الإيتكيت أو آداب المجتمع .. إن هذا إلاّ وسيلة الأغبياء ليرفعوا أنفسهم لمستوى رجال الفكر .. وعبارة الكياسة أو الذوق الحسن هي الأخرى من التعبيرات التقليدية التي لا تعني لي شيئاً .. أما ما يُقال له زِى أو مُوضة سواء كان حسناً أم سيئاً فلا يؤثر فيّ. إنني لا أهتم إلاّ بقوة الفكر"

وعلى أية حال فإنه كان يبدي إعجابه - على نحو سرّي بهدوء الرجال المهذبين ودماثتهم، وكان يتطلع لقبول الارستقراطيين له، أولئك الارستقراطيون الذين كانوا يسخرون منه في صالونات فابورج سان جرمين Faubourg St.-Germain . ومن ناحية فإنه بطريقته الخاصة كان يستطيع أن يكون جذاباً فاتناً عندما يريد.

وربما يرجع رأيه السخيف في النساء إلى تسرعه في عدم الاهتمام بمشاعرهن، لقد أبدى ملاحظة لمدام شاربنتييه Charpentier قائلاً:"يا لبشاعة منظرك في هذا الرداء الأحمر! ". وجعل من مدام دي ستيل عدوّه له عندما ذكر لها أنه: "يُقدر النساء وفقاً لدرجة خصوبتهن"(قدرتهن على الإنجاب). وقد وبّخته بعض النسوة لفظاظته بلطف أنثوي، فعندما قال لمدام دي شيفريز Chevreuse:" صدقيني ما أشد حُمرة شعرك! " أجابته قائلة: "ربما كان الأمر كذلك يا سيدي، لكن هذه هي المرة الأولى على الإطلاق يقول لي رجل هذا القول" وعندما قال لذات الجمال المشهور: "مدام إنني لا أحب أن تتدخل النساء في السياسة". أجابته إجابة مفحمة قائلة: "أنت على حق أيها الجنرال، لكن في بلد تُقطع فيه رؤوسهن، من الطبيعي أن يُردن معرفة السبب". ومع هذا فإن مينيفال الذي - غالباً - ما كان يراه كل يوم لاحظ جاذبية نابليون التي لا تُقام.

وكان نابليون يحب في بعض الأحيان أن يكون حديثه على سبيل المزاح، وغالباً ما يكون ذلك مفيداً وموجها. وكان يدعو العلماء والفنانين والممثلين والكتاب لمائدته ويدهشهم بدماثته وسعة معلوماته في مجالات تخصصهم وبراعة ملاحظاته، وقد ترك لنا إيزابي Isabey رسام المنمنمات ومونج Monge العالم الرياضي وفونتين المعماري وتالما Talma الممثل

ص: 158

مذكرات عن هذه اللقاءات، وجميعهم يشهدون بأن مناقشات نابليون معهم كانت ممتازة وودودة ومرحة.

وكان كثيراً ما يُفضّل الحديث على الكتابة، فقد كانت أفكارُه تسبقُ كلامه لذا فعندما كان يريد كتابة أفكاره فإنه كان يكتبها بسرعة شديدة حتى أن أحداً - بمن في ذلك هو نفسه - لا يستطيع فك مغاليقها. لذا فقد كان يُملي، وقد تم نشر 41000 خطاب من خطاباته ولا شك أن آلافاً أخرى لم تنشر، وهذا يجعلنا نفهم مدى المعاناة التي كان يعانيها سكرتيروه. لقد نجا بورين الذي عُيّن سكرتيراً له في سنة 1797 وكان حسن الحظ إذ تم فصله من عمله في سنة 1802 وبذلك تمكن من العيش حتى سنة 1834، لقد كان بورين يتوقع أن يستدعيه نابليون في السابعة صباحا ليظل يعمل معه طوال النهار كما كان يستدعيه ليلاً. وكان بورين يُتقن عدة لغات حديثاً وكتابةً كما كان يعرف القانون الدولي، وكان له طريقته في الاختزال مما مكّنه عادة من الكتابة أسرع مما يُملي نابليون.

أما مينيفال الذي خلف بورين في سنة 1802 فقد كان يعاني من العمل مع نابليون أكثر من معاناة بورين فهو يقول: "إنني لم أكن أعرف أي نوع من أنواع الاختزال" وكان نابليون يحبه وغالباً ما كان يمزح معه لكنه كان يرهقه كل يوم غالباً وبعدها يطلب منه أن ينصرف ليأخذ حماماً. وقد ذكر الإمبراطور وهو في سانت هيلينا: "إنني مسئول تقريباً عن موت مينيفال. لقد كنت ملزماً بإعفائه لفترة من واجبات وظيفته وجعله بالقرب من ماري لويز للاستشفاء". وكان منصبه الجديد هذا لا ينطوي على مهام عمل حقيقية وفي سنة 1806 خوّله نابليون في اختيار مساعد له أي مساعد لمينيفال، فرشح فرانسوا فان Fain الذي عمل مع نابليون للنهاية وفي كل المعارك. ومع هذا فقد كان مينيفال قد تعب تماما فهرب من إمبراطوره المحب له في سنة 1813. لقد كان حُب مينيفال له من نوع الحب الذي يزدهر في ظل الاعتراف بعدم المساواة بين المحبين، وهو حب غير مذموم.

ص: 159

‌4 - الجنرال

لقد صاغ تعليمه العسكري في برين Brienne - إلى حد ما - بدنه وعقله وشخصيته ومجال اهتمامه، فهناك تعلَّم كيف يكون لائقاً لكل طقس أو مكان، وأن يفكر بوضوح في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل وأن يميز بين الواقع والرغبة وأن يُطيع الأوامر وينفذها دون تردد وأن ينظر لتضاريس المنطقة من حيث إمكانية حركة الجماعات فيها، هل الأصلح أن تكون حركتها مكشوفة أم من وراء سُتر وأن يتوقع ما يُزمع العدو القيام به من مناورات وأن يستعد لمواجهتها وأن يتوقع ما سيحدث فلا يُفاجأ وأن يلتقي بالعدو لقاءً محسوبا لإلقاء الفُجاءة وأن يرفع الروح المعنوية لرجاله بالخطابة فيهم وأن يعوّض آلامهم ببث روح العظمة والمجد فيهم وأن يحبب إليهم الموت في سبيل الوطن وكل هذا بدا لنابليون عِلْم العلوم، فما دامت حياة الأمة تقوم على إصرارها وقدرتها على الدفاع عن نفسها عن طريق الحرب كَحَكَم نهائي لا خيار سواه إن فشلت الوسائل الأخرى. لقد أعلن نابليون أن فن الحرب دراسة هائلة تضم بين جنبيها كل الدراسات الأخرى.

وعلى هذا فقد تثقَّف بمعظم هذه العلوم التي تُسهم في تكوين علم الدفاع عن الوطن. لقد قرأ التاريخ ليتعلم طبيعة الإنسان وسلوك الدول. ولقد أدهش العلماء في وقت لاحق بمعلوماته عن الإغريق والرومان ومعلوماته عن أوروبا الوسيطة والحديثة. لقد درس وأعاد دراسة معارك الإسكندر، وهانيبال، وقيصر وجوستافوس أدولفوس Gustavus Adolphus وتورين Turenne ويوجين السافوي Eugene of Savoy وفريدريك الأكبر، وقال لضباطه سيروا على نهجهم وارفضوا الاقتداء بغير هؤلاء الرجال العظماء.

وانتقل من الأكاديمية العسكرية إلى المعسكر، ومن المعسكر للحكم، وربما أخذ عن أمه الرواقية (غير العاطفية) موهبة القيادة وعرف أسرارها، وكان لديه الشجاعة لتحمل المسؤولية وللمخاطرة بأمور مجرى حياته مرة ومرة معتمداً على تقديره للأمور، وقام بالمغامرة إثر المغامرة مستهزئاً - غالباً - بالمحاذير. لقد خسر الرهان الأخير، لكن بعد أن فرض نفسه كأبرع جنرال في التاريخ.

وبدأت إستراتيجيته العسكرية باتخاذ إجراءات لكسب عقول رجاله وقلوبهم. لقد شغل

ص: 160

نفسه بخلفية كل ضابط تحت قيادته المباشرة وشخصيته وآماله. وكان يختلط بين الحين والآخر بالجنود العاديين مذكّراً إياهم بانتصاراتهم سائلاً عن أحوال أسرهم مستمعاً لشكواهم. وقد كان يحشد حرسه الإمبراطوري ويسميهم المدمدمون لكثرة دمدمتهم، وقد حاربوا من أجله حتى الموت. وفي بعض الأحيان كان يتحدث إليهم ساخراً من سذاجة جندي المشاة، فعلى سبيل المثال عندما كان في سانت هيلانة أبدى ملاحظة مؤداها أن الجنود جُعلوا ليُلقوا بأنفسهم إلى التهلكة ولكنه تبنّى - وأعان - كل أطفال المقاتلين الفرنسيين الذين ماتوا في أوسترليتز Austerlitz. لقد كان جنوده يحبونه حباً يفوق حب أي طائفة أخرى من الشعب الفرنسي له، لذا فقد كان حضوره في ميدان المعركة - وفقاً لرأي ولينجتون يعادل حضور أربعين ألف مقاتل.

وكانت خطاباته لجيشه جزءاً مهما من إستراتيجيته، فمن أقوال أنه في الحرب تعتبر المعنويات والرأي تعادلان ما هو أكثر من نصف المعركة. فمنذ معركة قيصر على نهر الروبيكون Rubican لم يكن لقائد مثل هذا التأثير الذي كان نابليون يُحدثه في جنوده. ويخبرنا بورين الذي كتب بعض هذه البيانات الشهيرة من إملاء نابليون أن الجنود في حالات كثيرة لم يكونوا يستطيعون فهم ما يقوله نابليون لكن هذا لم يكن مهما فقد كانوا على استعداد لتنفيذ أوامره راغبين غير مكرهين حتى لو كانوا حُفاة وبلا مؤن وفي كثير من خطبه شرح لهم خطط عملياته وعادة ما كانوا يفهمون ما يعنيه، وكانوا يتحملون المسيرات الطويلة الشاقة بصبر مما كان يمكّنهم من مفاجأة العدو أو اجتياحه بالتفوق العددي عليه.

ومن أقوال نابليون أن: "أفضل الجنود هو الذي يسير بلا تعب، فهذا أفضل من مقاتل لا يجيد المسيرات الطويلة". وفي إعلان سنة 1799 قال للمستمعين إليه: "إن فضائل الجندي تتمثل في الجَلَد والتحمل والنظام، وتأتي الشجاعة في المقام الثاني". وغالباً ما كان يبدي رحمة ولكنه لم يكن يتردد في اتخاذ قرارات قاسية إذا كان الانضباط في خطر. وبعد انتصاراته الأولى في إيطاليا عندما سمح لجنوده - بعد تروّ - بشيء من السلب لتعويض تقصير حكومة الإدارة في إمداد الجنود بالطعام واللباس والرواتب، عاد فمنع مثل هذه المسلك (السلب) وفرض النظام بشدّة ومنع السلب وسُرعان

ص: 161

ما وُضعت أوامره موضع التنفيذ. يقول مينيفال لقد شهدت فيينا وبرلين ومدريد وغيرها من المدن حالات إدانة جنود وإعدامهم بمن فيهم جنود تابعون للحرس الإمبراطوري لارتكابهم أعمال سلب ونهب.

وقد عبّر نابليون عن جانب من إستراتيجية في صيغة رياضية كالتالي: "قوة الجيش كالقوة الدافعة في الآلة تُقَدَّر بمدى السرعة التي تم تحقيقها في إجمالي مدة زمنية محدّدة". فالسرعة في المسير (الزحف أو الحركة) تزيد من الروح المعنوية للجيش، وتزيد من قوته لتحقيق النصر وليس هناك مصدر موثق لتأكيد قول من ينسب إليه قوله:"إن الجيوش تزحف على أمعائها" والمقصود إمداداتها من الطعام. بل إن رأيه أقرب ما يكون إلى القول بأنها تزحف على أقدامها فقد كان شعاره القوة، النشاط، السرعة وعلى هذا فهو لم يكن يعوّل على التحصينات كوسائل للدفاع فقد كان سيضحك ساخراً من خط ماجينو Maginot الذي أقيم سنة 1939، فقد قال في سنة 1793 (أي قبل إنشاء خط ماجينو الدفاعي بحوالي قرن ونصف):"إنه لمن البديهي أن الجانب الذي سيبقى خلف خط محصّن سيظل دائماً مهزوماً"، وكرر قوله هذا في سنة 1816.

لقد كانت عناصر إستراتيجية نابليون تقوم على: ترقُّب قيام العدو بتقسيم قواته أو نشرها، واستخدام الجبال والأنهار كساتر لحماية تحركات قواته (أي قوات نابليون)، والاستيلاء على المرتفعات الإستراتيجية التي تستطيع منها المدافع أن تدك ساحة المعركة، واختيار ساحة معركة تُتيح المناورة للمشاة وقوات المدفعية والفرسان، والتركيز على جانب من القوات - عادة ما يكون ذلك بالحث على سرعة الحركة - لمواجهة الكتلة الأكثر عدداً من قوات العدو التي بعدت عن القلب بُعداً يجعل من الصعب قدوم قوات أخرى لدعمها في الوقت المناسب.

والمَحَك الأخير للجنرال (نابليون) هو تكتيكاته - تنظيم قواته والمناورة بها من أجل المعركة وأثناءها. وكان نابليون يتخذ لنفسه موقعاً يستطيع منه أن يُشرف منه على أكبر مساحة من ساحة العمليات بحيث يكون آمناً له بقدر المستطاع. وطالما كانت خطة العمليات قد بدأت في الدخول إلى حيز التنفيذ - بما يتطلبه ذلك من تغيير سريع في مسار وقائعها - فإن هذا يستلزم تركيزاً ومتابعة شديدين منه، وفي هذه الحال يكون لسلامته

ص: 162

(أمنه الشخصي أو عدم إصابته أو وقوعه في يد العدو) الاعتبار الأول، وحتى هذا كان بناء على تقدير جنوده للموقف أكثر من كونه إجراء عملياً يتم تنفيذه فعلاً، ذلك أنه إن خطر في باله أنه من الضروري أن يعرّض نفسه للخطر فإنه لم يكن يتردد في ذلك كما حدث في أركول Arcole وأكثر من هذا فقد قرأنا عن مقاتلين قد قُتلوا وهم إلى جواره في موقعه الذي يشرف منه على المعركة.

لذا فقد كان يُرسل التعليمات لقيادات قواته في المشاة والمدفعية والفرسان عن طريق عسكر المراسلة الراكبين، ليعودوا إليه سِريعاً لإخباره بمجريات الأمور في كل جانب من جوانب مسرح العمليات، فقد كان نابليون يعتقد أن الجنود لا تكون لهم قيمة بشكل أساسي في المعركة إلاّ من خلال مواقعهم، والمناورة بهم. هنا - أيضاً - كان هدفه هو التركيز بزخم جنوده وكثافة نيرانه علي نقطة بعينها، وكان يفضل أن تكون هذه النقطة هي جناح جيش العدو على أمل بث الفوضى في صفوف قوات جيش العدو في هذا الجزء (الجناح) مما يؤدي لانتشاره (تشتته). فمن أقواله:

"في المعارك تأتي لحظة يشعر فيها أشجع الجنود - بعد أن يكونوا قد بذلوا أقصى المجهود - بالرغبة في الجري (ترك ساحة القتال) .. فالجيشان المتحاربان كيانان يلتقيان ويناور كل واحد منهما ليخيف الآخر، وتحدث لحظة الرعب، ولابد من استغلال هذه اللحظة والاستفادة منها".

وعندما يكون الإنسان قد اعتاد حضور العمليات العسكرية، يمكنه أن يتعرّف على هذه اللحظة ويحدّدها دون مشقّة. وكان نابليون سريعاً - على نحو خاص - في انتهاز مزايا هذه الفرص في تطور المعارك أو أنه إذا اعترى رجاله التردد، يقوم بإرسال التعزيزات، أو يغير خط العمليات أثناء المعركة، وقد أدى هذا إلى توفير يوم لصالحه في معركة مارينجو Marenego. لم يكن التراجع لفظاَ معروفاً في قاموسه قبل سنة 1812.

وكان من الطبيعي أن رجلاً طوَّر مثل هذه المهارة القيادية العسكرية أصبح يجد إثارة مُرعبة في الحرب. لقد سمعنا أنه يجعل المدنيين (غير العسكريين) في المحل الأول قبل الجنود، فقد كان يُعطي الأسبقية في بلاطه لرجال الدولة (المدنيين) ليأتي المارشالات بعدهم (في المقام الثاني) وعندما كان ينشأ صراع بين السكان المدنيين والعسكريين، فإنه كان يأخذ تلقائياً جانب المدنيين. لكنه لم يستطع أن يُزيل من نفسه أو من الآخرين الإحساس بأنه

ص: 163

كان يجد في ساحة المعركة سعادة أكثر من أي سعادة أخرى في مجال الإدارة. لقد قال، واعترف لجوميني Jomini أن هناك مرحاً أو متعة في الخطر وأنه يحب جو الإثارة في المعركة لقد كان أسعد ما يكون عندما يرى جموع المقاتلين يتحركون وفقاً لمشيئته في العمليات العسكرية التي غيّرت الخريطة وكتبت التاريخ. لقد كان ينظر لمعاركه على أنها استجابة لهجوم (رداً على هجوم) لكنه كان يؤمن بما ذكره لبورين - على حد رواية هذا الأخير:"إن سلطاني يقوم على مجدي، ومجدي يعتمد على انتصاراتي. وسيضيع سلطاني إذا لم أدعمه بمجد جديد وانتصارات جديدة. فالفتح (الغزو) هو الذي جعلني على ما أنا عليه الآن، والفتح وحده هو الذي سيبقينى". ولا نستطيع أن نثق تماما في نسبة هذا الاعتراف بالغ الأهمية لنابليون، فقد رواه بورين غير المحب لنابليون (في فترة كتابته عنه) لكن لا كاس الذي كان نابليون بالنسبة له يأتي في المحل الثاني مباشرة بعد الرب نسب إليه قوله (في 12 مارس سنة 1816):"لقد تطلعت أن أكون إمبراطوراً للعالم، وأن أؤمّن ذلك لنفسي، فالسلطة التي لا تحدها حدود مسألة ضرورية لي ".

أكان نابليون - كما قال أعداؤه عنه - جزاراً؟ لقد قيل إنه جند في جيوشه عدداً يبلغ إجمالية 2،613،000 فرنسي، مات منهم حوالي مليون في سبيل خدمته. أكان يُزعجه القتل؟ لقد ذَكَرَ القتل الجماعي (مُنَدِّداً) في مناشدته للقوى المعادية له طلباً للسلام، وقيل أنه بكى عندما رأى جثث القتلى في إيلاو Eylau، بل إنه قال للاكاس بعد أن انتهى كل شيء، وراح يسترجع ما كان:

"لقد كنت أقود المعارك التي أخوضها واضعاً في اعتباري مصير الجيش ككُل (برمته) دون أن أضع العواطف في اعتبار. لقد كنت أرقب تنفيذ المناورات التي يقتضي تنفيذها كثيراً من القتلى يسقطون بين صفوفنا، ومع هذا تظل عيناي جافتين (بلا دموع) ".

ومن المحتمل أنه كان علي الجنرال (نابليون) أن يعزّي نفسه بفكرة أن موت هؤلاء الشباب صغار السن لم يكن أمراً مهماً بالنسبة للمكان والزمان اللذين لاقوا حتفهم فيهما، فعلى أية حال، أليست هذه هي النهاية الطبيعية لهم، فمن لم يمت بالحرب مات بغيرها، وإن كان - أي نابليون - يؤمن بشكل غامض أن موتهم في غير الحرب أقل مجداً لهم كما أن موتهم في غير الحرب ربما سبب لهم آلاماً أكثر ففي

ص: 164

الحرب يكون المرء مخدّراً مستعداً للموت، كما أن الموت في الحرب يُعطي المرء تعويضاً عن موته متمثلاً في بريق الشهرة!

ومع هذا فقد شعر كما شعر كثيرون من العلماء (رانكه Ranke وسورل Sorel وفاندال Vandal

) أنه إن كان مذنباً فإنما ارتكب آثامه ضد من هم أشد منه إثماً ذلك أنه حارب ومارس القتل دفاعاً عن النفس ذلك لأن المتحالفين ضده قد صمَّموا على عزله باعتباره ابناً للثورة ومغتصباً لعرش البوربون. لقد طالب مراراً بالسلام، فلم تلق طلباته بهذا الشأن إلاَّ إعراضاً. ومن أقواله:"إنني ما غزوت إلاَّ دفاعاً عن النفس. فأوروبا لم تكف عن شن الحرب ضد فرنسا ومبادئها وضدي شخصياً".

وظل التحالف الأوروبي قائما ضد فرنسا إما سراً وإما جهراً وكان نابليون قد تعهد عند تتويجه بالحفاظ على الحدود الطبيعية لفرنسا، فماذا كانت ستقول فرنسا لو أنه تخلّى عن هذه الحدود؟ فمن أقواله إن:

"السُّوقة لم يتوقفوا عن لومي على أساس أن كل حروبي إنما كانت لتحقيق طموحي. لكن أكانت هذه الحروب من اختياري؟ ألم تكن دائماً مفروضة يتعذر اجتنابها؟ ألم تكن نضالاً بين الماضي والمستقبل ".

وكان نابليون دائماً مثقلاً - بعد الأعوام الأولى النشطة المفعمة أحداثاً - بمشاعر مؤدّاها أنّه مهما كان عدد انتصاراته فإن هزيمة واحدة حاسمة ستمحقه ليغدو تحت رحمة أعدائه. لقد كان مستعداً للتنازل عن نصف العالم مقابل السلام لكن وفقاً لشروطه.

ويمكننا أن نُنهي حديثنا بالحديث عن نابليون كجنرال، أنه كان حتى في تيلسيت Tilsit (1807) وفي غزوه لأسبانيا (1808)، في حالة دفاع، ومن ثمّ فإن محاولته لضم النمسا ثم بروسيا فأسبانيا فروسيا وإحكام الحصار القارِّي (المضاد) إنما فرض حروباً إضافية على فرنسا المنهكة وأوروبا الممتعضة. ورغم أنه كان قد برهن على أنه إداري متفوق من الطراز الأول إلاّ أنه تخلّى عن الاهتمام بأمور الدولة في سبيل تحقيق المجد في مضمار مباهج الحرب. لقد رَبِح فرنسا كجنرال، لكنه أيضاً ضيّعها كجنرال. لقد أصبح موطن قوته هو حَتْفه.

ص: 165

‌5 - نابليون الحاكم

لم يَنْس نابليون تماما وهو حاكم مدني أنه كان قد نشأ في رحاب الجنرالية. لم يغب ذلك عنه أبداً، فقد ظلت عادات القيادة باقية فيه لكنها مقموعة مُثبطة إلاَّ في مجلس الدولة وفي الاعتراض أو المناقشات. لنسمعه يقول: منذ دخولي الحياة العامة (المقصود غير العسكرية) للمرّة الأولى كُنتُ معتاداً على ممارسة القيادة (إصدار الأوامر) فتكوين شخصيتي وقوّتها كانتا من النوع الذي يجعلني إذا ما أصبحت السلطة في يدي لا اعترف بأيِّ سيِّد إلاَّ ما هو نتيجة فكري ولا أي قانون إلاّ إذا كان من وضعي أو بتعبير آخر إلا إذا كان منبثقا من قناعتي لقد رأيناه في سنة 1800 يؤكد على الصيغة المدنية (غير العسكرية) لحكمه - عندما كان الجنرالات يتآمرون عليه لعزله،

لكن في سنة 1816 دافع عن وجهة النظر التي مؤدّاها أنه في خاتمة المطاف، فإن التحليل الصحيح يعني أنه إن أردت أن تحكم فمن الضروري أن تكون رجلاً عسكرياً، فالمرء لا يمكن أن يحكم إلاّ ملوحاً بغنيمة ومستخدماً مهمازاً لذا فإنه بنظرته الثاقبة لُمِثُل الشعب الفرنسي ما ظهر منها وما بطن، ما هو سَوِي منها وما متناقض - أعلن أنه رجل السلام وعبقري الحرب. ومن هنا فإن الديمقراطية النسبية التي شهدها عهد القنصلية ذابت في ظل النظام الملكي في عهد الإمبراطورية، ثم ذابت أخيراً .. في عهد السلطة المطلقة. لقد كان مصير مدونات نابليون القانونية - فيما يتعلق بقانون العقوبات (1810) - أن أصبحت قاسية مثّلت في قسوتها أساليب العقاب البربرية في العصور الوسطى.

ومع هذا فقد ظل نابليون متألقاً ذكياً في أمور الحكم كما كان في أمور المعارك. ولقد تنبأ نابليون أن إنجازاته في أمور الإدارة ستبزّ انتصاراته العسكرية وستكون أكثر خلوداً في التاريخ، وأن مدوّنته القانونية ستكون أثراً أكثر خلوداً من إستراتيجية وتكتيكة (التي لم تصبح ذات صلة بالحروب الجارية). لقد كان نابليون يرنو لأن يكون جستنيان Justinian عصره بالإضافة إلى كونه قيصره Caesar.

ولم يقض نابليون في باريس سوى 955 يوماً من إجمالي أيامه التي كان فيها إمبراطوراً، والبالغة 3680 يوماً (1804 - 1814)، ومع هذا فقد أعاد صياغة فرنسا في هذه الأيام البالغة 955 يوماً، ففي هذه الأيام كان قبل 1808 يرأس بانتظام مرتان في الأسبوع -

ص: 166

مجلس الدولة، وقال لا كاس Las Cases في ذلك الوقت (وكان هو عضواً في المجلس):"ولم يكن أحد منا يغيب مهما كان السبب وكان يعمل بجد شديد فنظراً لرغبته الشديدة في إنجاز الأمور، كان يستيقظ أحياناً في الساعة الثالثة صباحاً ويظل يواصل العمل طوال النهار". وغالباً ما كان يتوقّع أن يبذل مساعدوه الجهد نفسه. وكانوا دائماً جاهزين لتقديم معلومات حديثة جداً عن أي أمر واقع في دائرة اختصاصهم، وكان يحكم عليهم وفقاً لدرجة دقة تقاريرهم ونظامها ووفائها بالمراد، وسرعة تقديمها حاوية آخر التطورات حتى آخر ساعة. ولم يكن يعتبر يومه منتهياً حتى يقرأ المذكرات والوثائق التي غالباً ما كانت تأتيه يومياً من دوائر الحكومة المختلفة. وربما كان نابليون هو صاحب أفضل جهاز للتزويد بالمعلومات في التاريخ.

وقد اختار للوزارات الكبرى (المهمة) رجالاً ذوي قدرات عالية من الطراز الأول مثل تاليران Talleyrand وجودين Gaudin وفوشيه Fouche رغم اعتزازهم الشديد بأنفسهم مما كان يسبب له بعض المتاعب، وكان يفضل - بشكل عام - للمناصب الأخرى خاصة الإدارية رجالاً من الطبقة الثانية ممن لا يوجِّهون أسئلة له أو يقترحون عليه إجراءات من عند أنفسهم، فلم يكن لديه الوقت أو الصبر لمثل هذه المناقشات، فقد كان ينتهز الفرص وفقاً لتقديره هو، كما كان يتحمل المسؤولية والمخاطرة.

وكان يطلب من العاملين معه أن يُقسموا يمين الإخلاص ليس فقط لفرنسا وإنما الإخلاص له شخصيا. وفي معظم الحالات كانوا علي استعداد للموافقة على أداء هذا القسم مَسُوقين بتأثير شخصيته وكأنهم منوَّمون مغناطيسياً وبتأثير عظمة مخططاته. لقد كنت أثير المنافسة وأكافئ كل مستحق وأُزيح للخلف حدود المجد لأجعل مجالها أرحب. لكنه دفع ثمن منهجه في اختيار مساعديه ذلك المنهج الذي سار بالتدريج نحو إحاطة نفسه بتابعين قلّما كانوا يجسرون على مناقشة وجهات نظره حتى أن الأمر انتهى بإزاحة كل اعتراض في سبيل تسرعه أو كبريائه إلاَّ ما تمثله الدول الأجنبية المعادية له، إلا أن كولينكور Caulaincourt يُعد استثناء من هؤلاء المحيطين به في سنة 1812.

لقد كان نابليون قاسياً مع مرؤوسيه، صارماً إذا وبّخ، بطيئاً إذا امتدح، لكنه كان مستعداً

ص: 167

للمكافأة على الخدمات الباهرة (غير العادية) ولم يكن يؤمن بوضع مرؤوسيه في وضع يكونون فيه مطمئنين مرتاحي البال، فشيء من الوعد غير المؤكدة بمنصب أو ولاية قد يدفع لمزيد من العمل الجاد، ولم يكن نابليون يعترض على اتصالاتهم وتكوين علاقات وثيقة بينهم، بل ولم يكن يعترض على وجود أمور غامضة مشبوهة في ماضي الواحد منهم فذلك يتيح له ممسكاً يضمن به حُسْن سلوكهم.

وكان يستخدم مساعديه إلى أقصى درجة، ثم يترك الواحد منهم ليعود متراجعاً مستمتعاً بمعاشٍ سخي، وربما ببعض ألقاب النَّبالة كمفاجأة سارة. ولم يعش بعضهم حتى يتلقوا هذه المكافأة أو حتى يصلوا إلى هذه النتيجة المرجوّة، فقد فضل فيلينيف Villeneuve الذي هُزِم في الطرف الأغر - الانتحارَ علي مواجهة لومه، ولم تَهُز الاعتراضات مشاعره القاسية، فمن أقواله:

"يجب أن يكون قلب رجل الدولة في رأسه ولا يجب أن يُدخل مشاعره في الأمور السياسية، وفي عملية إدارة إمبراطورية، لا يساوي الفرد إلاّ قليلاً إلاّ إذا كان هذا الفرد هو نابليون".

وربما بالغ نابليون في عدم إحساسه بأهمية الجاذبية الشخصية عندما قال: "أنا لا أحب إلاّ المفيدين لي، وطالما هم مفيدون" وقد استمر نابليون في حبّه لجوزيفين فترة طويلة بعد أن أصبحت مُعوَّقةً لخططه. وبالطبع فإنه كمعظم البشر كان في هذا راضخاً لرغبته فيها. وكان يعدّل في نشراته الحربية - كما تفعل معظم الحكومات - ليحتفظ بالروح المعنوية العامة مرتفعة. وقد درس مكيافيللي وقلمه الرصاص في يده (كناية عن الاهتمام ليخط به تحت السطور الحاوية على فكرة مهمة) وثمة نسخة من كتاب الأمير (لمكيافيللي) عليها بعض التعليقات تم العثور عليها في مركبته في واترلو Waterloo.

لقد كان نابليون يعتبر أن كل شيء يُعجِّل بتحقيق أهدافه شيء طيب أو بتعبير آخر كان يعتبر الغاية تبرر الوسيلة. إنه لم ينتظر نيتشه Nietzsche ليُرشده بقوله أن الرغبة في القوة كامنة وراء الخير والشر على سواء لذا فإن نيتشه اعتبره الناتج الطيب الوحيد للثورة الفرنسية وأطلق عليه Ens realissimum وقد قال نابليون القوة خير والضعف شر وقد حزن من أجل أخيه جوزيف (يوسف) قائلاً: "إنه أطيب من أن يكون رجلاً عظيماً". ومع هذا فقد كان نابليون يحبه.

ص: 168

وقريب من آرائه هذه - التي تعلمها في كورسيكا وفي ميادين القتال - ما كان يكرره كثيراً أن الناس لا يمكن دفعهم أو حكمهم إلاَّ بالتلويح بمصالحهم أو بإخافتهم أو بتعبير آخر لا يرضخون إلاّ خوفاً أو طمعاً. لذا فإنه عاماً بعد عام أصبحت مشاعره هذه هي أساس حكومته وعُمُدُها. ففي سنة 1800 نصح الجنرال هيدوفيل Hedouville أنه ليقمع الاضطرابات في إقليم فندي Vendee عليه أن يحرق مدينتين كبيرتين - أو ثلاث - ويسويها بالأرض، على أن تكون هذه المدن في المناطق الأكثر إثارة للاضطراب، وذلك لتكون عِبْرة لغيرها. لقد علّمته خبرته (كقنصل أول) أن القسوة المروّعة هي أكثر الوسائل إنسانية ورحمة في ظل هذه الظروف التي تواجهها، فالضعف هو وحده القاسي وغير الإنساني.

وكان يوجه تعليمات لقضاته بإصدار أحكام قاسية. وقال لفوشيه إن فنّ الشرطة يعني أن نعاقب قليلاً لكن إن عاقبت فكن قاسيا ولم يكتف نابليون بالاعتماد على قوات كبيرة من الشرطة والمخبرين السريين تحت إدارة فوشيه أو ريجنييه Regnier، وإنما نظَّم هيئة إضافية للشرطة السرّية، مهمتها مساعدة فوشيه وريجنييه والتجسّس عليهما، وأن يكتب أفرادها تقارير له عن أية مشاعر معادية ضدّه (ضد نابليون) في الصحف أو المسارح أو الصالونات أو الكتب. ومن أقوال نابليون إن الحاكم عليه أن يشك في كل شيء. وبحلول عام 1804 كانت فرنسا دولة بوليسية.

وبحلول عام 1810 أصبح فيها نماذج مصغرة لسجن الباستيل - سجون الدولة التي كان يمكن فيها احتجاز المعارضين السياسيين بناء على أوامر إمبراطورية دون أن يتم ذلك من خلال إجراءات قضائية نظامية. وعلى أية حال فلابد أن الإمبراطور كانت تبدر منه مبادرات الرحمة والعفو في عدة مناسبات. فقد أصدر كثيراً من مراسيم العفو حتى بالنسبة للذين تآمروا ليقتلوه، وأحياناً كان يخفف الأحكام الشديدة التي تصدرها المحاكم. لقد قال - وهو مستغرق في التأمل - لكولينكور في ديسمبر سنة 1812:

"إنَّهم يظنوني صارماً أو حتى متصلّب الفؤاد. هذا أفضل كثيراً، فهذا يجعل من غير الضروري أن أُثبت لهم ذلك. إنهم يظنون ثباتي (تصميمي) قسوة قلب. إنني لن أشكو ما

ص: 169

دامت هذه الفكرة عنِّي هي السبب في الانضباط وحُسن النظام الذين أصبحا سائدين .. انظر هنا يا كولكينكور، إنني بشر، فمهما كان ما يقوله بعض الناس فإن لدي مثلهم أحشاء [أحشاء الرحمة] وقلب - لكنه قلب حاكم. إن دموع أرشدوقة لا تحركني. وإنما تحركني معاناة الناس".

ولا جدال أنه كان إمبراطوراً وأنه في غالب أحواله كان متنوراً، وفي غالب أحواله كان في عجلة مطلقة. لقد اعترف للاكاس:"الدولة أنا". وربما كان علينا أن نغفر له شيئاً من استبداده باعتباره إجراء معتاداً تقوم به الحكومات لضبط الاقتصاد الوطني والمسارح والمنشورات زمن الحرب. وقد شرح نابليون إحكامه الهيمنة على أمور البلاد باعتبارها أمراً ضرورياً في مرحلة الانتقال الصعبة من الحرية المتسيِّبة بعد سنة 1791 نتيجة وقائع الثورة، والنظام البنّاء في عهدي حكومتي القنصلية والإمبراطورية.

وقد استدعى نابليون لذاكرة الناس أن روبيسبير Robespierre - وكذلك مارا Marat - كان قد أوصى بالدكتاتورية كضرورة لإعادة النظام والاستقرار لفرنسا التي أشرفت على الانحلال والتفسّخ على صعيد الأسرة وعلى صعيد الدولة. ولم يشعر نابليون أنه دمَّر الديمقراطية، فما أزاحه في سنة 1799 كان هو أوليجاركيّة oligarchy الفساد (جمهورية تسيطر عليها مجموعة فاسدة) والقسوة وعصبة من رجال لا ضمير لهم. لقد قضى على حرية الجماهير (الجموع) لكن هذه الحرية كانت تدمّر فرنسا بالاضطرابات التي كان يثيرها العامة، وبالتسيّب الأخلاقي، ولم يكن يمكن لفرنسا أن تستعيد قوتها كدولة متحضرة ومستقلة إلاّ بإعادة السلطة المركزية.

وحتى سنة 1810 لم يكن نابليون بمستطيع أن يتسامح مع نفسه لعدم صدقه في ادعائه الإيمان بالهدف الثاني للثورة الفرنسية وأعني به المساواة، لكنه آمن بمبدأ مساواة الجميع أمام القانون وعمل على نشر هذا المبدأ. فهو لم يفرض مساواة مستحيلة تجعل كل قدرات الناس واستحقاقاتهم على نحو سواء، وإنما أسس نسقاً من المساواة قوامه إتاحة الفرص - على نحو سواء - لكل الموهوبين وذوي القدرات بصرف النظر عن مكان مولدهم ليطوروا أنفسهم في مجتمع يُقدِّم للجميع دون مفاضلة فرص التعليم، والفرص الاقتصادية والحقوق السياسية،

ص: 170

وربما كان فتحه المجال لكل ذي موهبة ومقدرة هو أكثر عطاياه لفرنسا بقاءً. وكان نابليون يقضي على الفساد في الحياة العامة. وهذا وحده يكفي لتخليد ذكراه. لقد أعطى المثل - بكل معنى الكلمة - لرجل يكرس نفسه للإدارة إذا لم تدعُه الحربُ لميادينها. لقد أعاد صياغة فرنسا.

لماذا فشل إذن؟ ذلك لأن ما كان في حوزته فاق إمكاناته (استطاعته)، وخياله سيطر على طموحه، وطموحه تحكم في بدنه ونفسه وعقله وشخصيته. لقد كان عليه أن يعرف أن القوى المناوئة له لم تكن لترضى أبداً بترك فرنسا تحكم نصف أوروبا. لقد نجح - بشكل يمكن تحديده. في تخليص بلاد الراين الألمانية من إقطاع القرن التاسع عشر لكنه لم يكن بمستطيع - لا هو ولا أي رجل في عصره - أن يُدمج في فيدرالية دائمة منطقة طال عليها العهد وهي مقسمة إلى دول، كل دولة منها لها تراثها الحريصة عليه، ولها لهجتها الخاصة وعاداتها وعقيدتها وحكوماتها. ويكفي أن نذكر هذه الممالك المختلفة من الراين إلى فيستولا Vistula ومن بروكسل لنابلي لنحس بحجم المشكلة:

ممالك أو إمارات مثل هولندا، وهانوفر، ووستفاليا Westphalia والمدن الهانسياتية Hanseatic، وبادن Baden وبافاريا، وفيرتمبرج Wurttemberg وإيليريا Illyria والبندقية (فينيسيا) ولومبارديا Lombardy والولايات الباباوية والصقليتين - من أين له برجال أقوياء بالقدر الذي يكفي لحكم هذه المناطق، وفرض الضرائب على أهلها، وأخيراً لتجنيد أبنائهم لشن حروب ضد أمم أقرب إليهم من فرنسا؟

كيف يستطيع أن يفرض الوحدة بين هذه الدوائر الإضافية البالغ عددها أربعة وأربعين ودوائر فرنسا البالغ عددها ستاً وثمانون؟ أو كيف يستطيع أن يوحّد قسراً ستة عشر مليوناً من الأقوياء المعتزين بأنفسهم مع ستة وعشرين مليونا من الفرنسيين المتقلبين والمعتزين بأنفسهم أيضاً؟ ربما كان أمراً رائعاً أن يحاول ذلك لكن كان لابد أن يحالفه الفشل في هذه المحاولة. وفي خاتمة المطاف أطاح الخيال بالعقل. لقد تفرّق شمل هذا الكيان غير المستقر، وهزمت القوة الراسخة للشخصية الوطنية إرادة الدكتاتور الكبير.

ص: 171

‌6 - نابليون الفيلسوف

وعندما طوي الخيال جناحيه، أصبح نابليون قادراً على استخدام عقله على نحو ما يفعل أفضل العلماء وأكثرهم مقدرة في المعهد العلمي الفرنسي، ومعهد دراسة مصر. ورغم أنه لم يستنبط نظاماً محدداً من الفكر يتحتم سجن الكون داخله بحيث لا تفلت منه شاردة ولا واردة، إلاّ أن عقله الواقعي قد أظهر القصورَ في أعمال المفكرين الذين يسيئون استخدام الأفكار ويبنون قلاعاً في الهواء لا أساس لها من البيولوجيا biology (علوم الأحياء) أو التاريخ. فبعد أن جرَّب (أي نابليون) لابلاس وغيره من العلماء في المناصب الإدارية، خلص إلى "أنك لا تستطيع أن تنجر أي عمل مع فيلسوف" وعلى أية حال فإنه شجع العلوم وأوصى بدراسة التاريخ فمن أقواله لابد أن يدرس ابني كثيرا من علم التاريخ وأن يستغرق في تأمله،" فالتاريخ هو الفلسفة الوحيدة الحقيقية ".

وكان الدين واحداً من المجالات التي روّج لها المفكرون بدلاً من ترسيخ أنفسهم في مجال التاريخ. وقد شعر نابليون أن عالم المنطق وحده هو الذي يمكن أن يقلق طويلاً أمام هذا السؤال: هل الله موجود؟ أما الفيلسوف الحقيقي الذي تعلم في مدرسة التاريخ فيجب أن يسأل لماذا يظل الدين حياً دائماً ويلعب دوراً مهماً في كل حضارة، رغم أنه - أي الدين - كان في أغلب الحالات تنقصه الحجة ويدعو للسخرية؟ لماذا قال فولتير الفيلسوف المتشكك إن الله لو لم يكن موجوداً لكان من الضروري أن نخترعه أو بتعبير آخر نتخيل وجوده؟.

لم يكن نابليون نفسه يؤمن بعقيدته الدينية منذ كان في الثالثة عشرة من عمره. وفي بعض الأحيان كان يتمنّى لو كان قد احتفظ بها. إنني أتخيّل أنها (أي العقيدة) لابد أن تؤدي إلى سعادة كبيرة حقيقية وكلنا يعرف القصة التي حدثت في مصر عندما سمع بعض العلماء (الفرنسيين) يتحدثون عن (الخالق) بغير وقار، إذ تحداهم مشيراً إلى النجوم:"تحدثوا كما تشاءون، وأطيلوا الحديث كما يحلو لكم أيها السادة من خلق كل هذه النجوم؟ "

ومن الممكن أن نقتبس من أقواله ما يؤيد وما يعارض مقالته هذه وموضوعات أخرى كثيرة، لأنه غيّر وجهات نظره بمرور الوقت، كما تغيرت حالته النفسيّة أيضاً ونحن نميل لتجاهل تواريخ حدوث هذا التغير، فحتى بالنسبة للمفكّر الذي لم يبلغ

ص: 172

الخمسين من عمره نجده يتخلّى عن عقائد أقسم في شبابه ألا يتخلى عنها، ومن في الثمانين من عمره لا يبتسم ساخراً من وجهات النظر الناضجة التي قال بها في أواسط عمره؟ وبشكل عام فإن نابليون ظل محتفظاً باعتقاده في "وجود عقل كامن وراء العالم المادي أو كامن فيه" لكنه ينكر معرفته بأية معلومات عن طبيعة هذا العقل وهدفه.

لقد استقر رأيه وهو في سانت هيلينا على أن كل شيء يشهد بوجود الله لكن أن تقول من أين جئت؟ ومن أكون، وإلى أي مصير أنا صائر، فتلك كلها مسائل فوق مستوى الفهم وفي بعض الأوقات نجده يتحدث كالتطوريين الماديين materialistic evolutionist المادة كل شيء

فالإنسان ليس إلاّ موجوداً أكثر اكتمالاً من الحيوان، وأفضل منه تفكيراً ومن أقواله أن:

"الروح ليست خالدة، وإذا كان لابد أن نقول بشأنها قولا فقد وجدت قبل أن نولد"، ومن أقواله أيضاً:"إن كان لابد أن أتخذ ديناً لعبدتُ الشمس لأنها السبب في خصوبة كل شيء إنها الرّب الحقيقي للأرض"، ومن أقواله:"لقد كان يتحتم عليَّ أن أتخذ ديناً لو أنه وُجد مع بداية الكون. لكنني عندما أقرأ سقراط أو أفلاطون أو موسى أو محمد (المترجم؛ عليهما السلام فإنني لا أزداد إيماناً، فكلها عقائد ابتدعها الناس".

لكن لماذا ابتدع الناس الأديان؟ يجيب نابليون: "لقد ابتدعوها ليريحوا الفقراء وليمنعوهم من قتل الأغنياء". ذلك لأن الناس قد ولدوا غير متساوين وزادت الفروق بينهم مع كل تقدم في مجال التكنولوجيا والتخصص، ولابد للحضارة أن تستنبط وسائل لمكافأة ذوي القدرات المتفوقة والاستفادة منهم وتطويرهم، ولابد أن تُقنع الأقل حظاً بأن يقبلوا بسلام هذا التفاوت في العوائد والممتلكات باعتباره أمراً طبيعياً وضرورياً. كيف يمكن أن يتم هذا؟ يجيب نابليون:"بالقول أن ما حدث إنّما هو إرادة الله ومشيئته، إنني لا أرى في الدين سر التجسّد بل سرّ النظام الاجتماعي". إن المجتمع لا يمكن أن يقوم إلاّ في ظل التفاوت

ص: 173

(عدم المساواة) في الرواتب أو المكافآت أو الدخل، ومن ثم في الممتلكات هذا التفاوت (عدم المساواة) لا يمكن الإبقاء عليه إلاّ بالدين

لابد أن يكون في مقدورنا أن نقول للفقير:

"تلك إرادة الله. لابد أن يكون هناك غني وفقير في هذا العالم لكن في الآخرة حيث الخلود، سيكون هناك توزيع مختلف" ومن أقواله إن: "الدين ينسب إلى (فكر) الله فكرة المساواة التي تنقذ الأغنياء من مذبح يقيمها لهم الفقراء".

وإذا كان هذا صحيحاً فقد أخطأت حركة التنوير في مهاجمتها للمسيحية وأخطأت الثورة الفرنسية في وضع العراقيل في سبيل الدعوة للكاثوليكية. فانعدام الحكومة على المستوى الفعلي والخلقي الذي قاسينا منه نتيجة الفوضى العقلية الأخلاقية - انهيار الإيمان وإنكار العقيدة كانا استهلالاً له أو سبقاه فكان انعدام الحكومة نتيجة لهما:

"وربما لهذا السبب ولأغراض سياسية أعاد نابليون الكنيسة الكاثوليكية لتكون حارساً مقدّسا للأمة الفرنسية"

وهو - أي نابليون - لم يفسرّ هذا التحالف الجديد مع الكنيسة بمعنى ارتباطه بالوصايا العشر، وإنما كان يطوف حولها - أي هذه الوصايا - بين الحين والحين ومع هذا فقد دفع رواتب القسس ليبشروا بها لجيل مرتعب من الفوضى ومستعد للعودة إلى النظام.

وكان معظم الآباء والمعلمين سعداء بالحصول على عون العقيدة الدينية لتنشئة أبنائهم وتربيتهم - لمواجهة النزوع الطبيعي للشباب إلى الفوضى - بالقوانين الأخلاقية القائمة على أسس من التقوى الدينية وأسس من حب الآباء لأبنائهم وولاء الأبناء لآبائهم، باعتبارها - أي هذه الأسس - من عند الله المطّلع على كل شيء والذي يعاقب المخطئ عقاباً أبدياً، ويثيب المصيب ثواباً أبدياً، وكان معظم أفراد الطبقة الحاكمة ممتنيّن لعملية تعليمية تُفرز رأياً عاماً يقبل بمبدأي التفاوت (عدم المساواة) في القدرات والممتلكات باعتبار هذا من الأمور الطبيعية التي لا مفر منها. فأبناء الأرستقراطية القديمة قد جرى إيجاد المبرّرات لهم بالقول أنهم طهرَّوا ثرواتهم بما لهم من أفضال وبأسلوب حياتهم،

ص: 174

أما أبناء الارستقراطية الجديدة فقد ترسَّخت ارستقراطيتهم كما أن الثورة - طوال جيل - قد كفّت صوتها وأخفت بنادقها.

في هذا المجتمع الذي تُبعث فيه الحياة من جديد لزم أن يُعاد للزواج أهميته وقداسته وشرعيته مرة أخرى، وكذلك لزم الأمر نفسه بالنسبة للأمومة، وكذلك الملكية - وليس الحب الرومانسي، لزم لهذا كله أن يُرسَّخ لتحقيق غاياته. فالحب الذي ينشأ نتيجة المفاتن البدنية بين الفتى والفتاة إنما هو بسبب الهرمونات وتقارب العمر والاقتراب المكاني. وأن توجد زواجاً دائماً اعتماداً على هذه الظروف القائمة على المصادفة والظروف العابرة إنما هو تفكير يدعو للسخرية. "إنه حماقة مزدوجة ".

إن كثيراً من هذا الحب تثيره - بشكل غير طبيعي - الكتابات الرومانسية. وربما اختفى لو أن الناس كانوا أميِّين. يقول نابليون إنني اعتقد جازماً أن الحب الرومانسي له من الأضرار أكثر مما له من الحسنات .. وربما كان من الخير إقصاؤه كسبب لتوحّد رجل وامرأة في مشروع دائم لتنشئة الأطفال وأساس لنقل الملكية (المقصود التوريث أو انتقال الثروة بالميراث) ويقول نابليون: "لابد من منع الزواج بين ذكر وأنثى يعرف كل منهما الآخر لفترة تقل عن ستة أشهر".

وكان نابليون يؤمن بنظرة محمد صلى الله عليه وسلم: المترجم) للزواج: إن هدفه هو إنجاب عدد كبير من الذرية في ظل ظروف يتمتع فيها الرجل بالحرية، وتتمتع فيها الزوجة المخلصة المطيعة بالحماية. وشعيرة الزواج - رغم إمكان عقد القران مدنياً - لابد أن تكون ذات طابع مقدّس وقور يتم التأكيد خلالها على التزامات الطرفين. ولابد أن ينام الزوج والزوجة معاً، "فهذا يُقصي الفردية من الحياة الزوجية ويضمن وضع المرأة وارتباط الزوج بها، ويجعل بينهما مودة ورحمة intimacy ويضمن الفضيلة" وقد اتبع نابليون هذه العادات القديمة حتى استقر رأيه على الطلاق.

وعلى أية حال فإن كانت الزوجة المخلصة الواحدة غير كافية للرجل:

"فإنني أجد أنه من السخرية ألاّ يكون قادراً على أن يكون له أكثر من زوجة شرعية، ذلك أن المرء إذا كان لديه

ص: 175

زوجة واحدة حُبلى، أصبح وكأنه لا زوجة"

لذا فتعدد الزوجات Polygyny أفضل من الطلاق أو الزنا. ويجب ألا يُسمح بالطلاق بعد عشرة زوجية استمرت عشر سنوات. ويجب ألا يُسمح للزوجة بالطلاق إلاّ مرة واحدة وألاّ يُسمح لها بالزواج - إن طُلقت - إلا بعد خمس سنوات

"ولا يعتبر زنا الزوج مبرراً كافياً للطلاق إذا لم تكن هناك ظروف أخرى كاحتفاظ الزوج بخليلته في مكان إقامة الزوجة وإذا اقترف الزوج عملاً من أعمال الخيانة الزوجية وجب عليه أن يعترف لزوجته ويبدي ندمه فيمحو باعترافه وندمه كل أثر من آثار جُرمه. تغضب الزوجة وتعفو فتنصلح الأمور بينهما. لكن الأمر يختلف إن كانت الزوجة غير مخلصة لزوجها. شيء طيب أن تعترف وتعتذر لكن من الذي يضمن ما إذا كان قد بقي - نتيجة خيانتها - شيء من رَحِمها أو في عقلها؟ لذا فالزوجة بعد خيانتها لا يجب (ولا يمكن) أبداً أن تنتهي مع زوجها إلي تفاهم"

(المؤلف: ولكنه سامح جوزيفين على خيانتها له مرتين).

وقد حصّن نابليون نفسه ضد فتنة النساء بأخذه بالنظرة الإسلامية (النص: نظرة محمد صلى الله عليه وسلم للمرأة:

"إننا نعامل النساء معاملة جيدة جداً، وبهذه الطريقة نفقد كل شيء. إننا نخطئ خطأً كبيراً في رفعهن إلى مستوانا. حقاً إن شعوب الشرق أكثر منا عقلاً وإحساساً بإعلانهم أن الزوجة ملكية حقيقية لزوجها. فالحقيقة أن الطبيعة قد جعلت المرأة جارية للرجل. فالمرأة تضع الأطفال للرجل .. وعلى هذا فهي من ممتلكاته تماماً كما أن فاكهة الشجر ملك لصاحب البستان ".

كل هذه الأفكار تتسم بالبدائية (السذاجة) وهي تناقض البيولوجيا (أي علم الأحياء) الذي عادة ما يُظهر الأنثى جنساً مسيطراً أو سائداً بينما الرجل مجرد تابع يقدّم الطعام، وأحياناً ما يؤكل هو نفسه أي تأكله الأنثى، لذا سنكون سعداء بقبول تأكيد لا كاس إن كثيراً من أكفار نابليون المتعلقة بالنساء إن هي إلاّ تظاهر بالشجاعة أو تبجّح ومزاح أو أحلام رجل عسكري توّاق لعدد لا نهاية له من المجنّدين إلزامياً الذين تنتجهم أرحام النساء، لكن نظرة نابليون هذه متسقة تماماً مع أفكار أي قائد من قوّاد المرتزقة في

ص: 176

كورسيكا.

وقد أصرّت المدوّنة القانونية النابليونية على أن الرجال قوّامون على النساء قوامةً مطلقة، بل وقوَّامون على ممتلكاتهن، واعتبرت ذلك (أي مدوّنة نابليون) مسألة ضرورية لتحقيق الانضباط الاجتماعي. لقد كتب نابليون إلى جوزيفين في سنة 1807:"لقد كُنت دائماً أعتقد أن المرأة خُلِقت للرجل، والرجل للوطن والأسرة والمجد والشرف". وبعد معركة فريدلاند Friedland (14 يونيو 1807) التي شهدت مذبحة مروّة على الجانبين وضع نابليون برنامجاً دراسياً لمدرسة تُبنى في إكوين Ecouen " للبنات اللائي فقدن أمهاتهن واللائي ليس لهن أهل قادرون على إعالتهن".

"ماذا يجب أن تتعلّم البنات في إكوين؟ يجب أن نبدأ بتعليمهن الدين بكل صرامته .. فما نطلبه من تعليم البنات هو أن يجعلهن مؤمنات لا مفكّرات، فضعف عقول النساء وكونهن غير مستقرات في أفكارهن (يحركهن الهوى)

يجعلهن في حاجة إلى الإذعان الدائم .. ولا يمكن الوصول لكل هذا إلا من خلال الدين .. إنني لا أريد لهذه المدرسة أن تُخَرّجَ نساء ذوات فتنة وإنما نساء ذوات فضيلة ولابد أن يكن جذّابات بحكم مبادئهن السامية وقلوبهن الدافئة لا بحكم ظُرفهن وكونهن مُسلِّيات .. وبالإضافة لهذا لابد أن نعلِّم البنات الكتابة والحساب ومبادئ اللغة الفرنسيّة

ولا ضرورة لتدريس اللاتينية لهن .. ولابد من تعليمهن إجادة كل أعمال المرأة .. ولا مجال لأن يقوم الرجال بالتدريس للبنات، فلا يجب أن يكون في المدرسة رجل إلاّ الناظر .. حتى أمور حديقة المدرسة يجب أن يقوم عليها النساء ".

وكانت فلسفة نابليون السياسية غير متسقة بالقدر نفسه. فما دام كل الناس قد وُلدوا غير متساوين فلا مناص من أن الأقلية وهي التي تمتلك العقول الأقوى هي التي ستحكم الأغلبية بقوة السلاح والفكر (الكلمة)، ومن ثمَّ فإن يوتوبيا المساواة ما هي إلاّ خرافة مسلّية (أو بتعبير آخر إن هي إلاّ أساطير) يقول بها الضعفاء، فالصيحات الفوضوية المطالبة بالتحرر من القوانين والحكومات، إنما هي تضليل فج يدل على عدم النضوج كما يدل على عقول مستبدّة.

والديمقراطية لعبة يستخدمها الأقوياء ليُخفوا بها حُكمهم الأوليجاركي (الأوليجاركية تعني حكم الأقلية التي تعمل لصالحها في ظل نظام ظاهره جمهوري)

ص: 177

ومن الناحية الفعلية فقد كان على فرنسا أن تختار بين حُكم النبلاء الوراثي وحكم طبقة رجال الأعمال.

"وعلى هذا فالأرستقراطية دائماً موجودة بين الأمم وفي أثناء الثورات، وإذا حاولت التخلّص منها بتدمير نظام النبالة فإنها سرعان ما تعيد تكوين نفسها بين الأسر الغنية والقوية من الطبقة الثالثة Third Estate فإن دمّرتها في موقعها الجديد هذا، اتخذت لنفسها ملاذاً بين زعماء العمال وزعماء الشعب فالديمقراطية - إن كانت معقولة - يجب أن تقتصر على إتاحة فرص متساوية أمام الجميع ليتنافسوا ويتملكوا"

ويزعم نابليون أنه حقق هذا بكسر الحواجز أمام المتفوقين والموهوبين في كل المجالات، ولكنه سمح بكثير من الانحرافات التي أخرجت مسار حكمه عن هذه القاعدة.

لقد كان رأيه غير واضح فيما يتعلق بالثورات. فهي تُطلق العنان لمشاعر الجماهير المتقدة "مادامت الجرائم الجماعية" لا تُوقع المسؤولية الجنائية على أحد "ولا يمكن أن تكون هناك ثورة بدون إرهاب" و"الثورات هي السبب الحقيقي لبعث الأعراف العامة وبث الروح فيها من جديد" لكنه انتهى بشكل عام (في سنة 1816). إلى أن "الثورة واحدة من أكثر الشرور التي يمكن أن يُبتلى بها البشر. إنها كارثة حلّت بجيل ومهما كانت المزايا الناتجة عنها، فإنها لا يمكن أن تكون تعويضاً عن البؤس الذي نغَّصت به حياة الذين قاموا بدور فيها ".

لقد كان نابليون يفضل النظام الملكي على كل أشكال الحكم الأخرى ولو من قبيل الدفاع عن التوريث في الحكم (يعني توريث ذريته وقرابته هو) ضد الشكوك التي أثارها القيصر اسكندر "إن فرص تأمين الحكم الصالح في النظام الوراثي أكثر منها في النظام الانتخابي"، فالناس يكونون أكثر سعادة في ظل مثل هذه الحكومة الراسخة الدائمة منهم في ظل ديمقراطية:

"تجعل كل الأمور متاحة للجميع بلا ضابط فيستولى الشيطان في خاتمة المطاف على مقدّراتها ففي الأزمنة التي يسودها الهدوء والنظام ينعم كل فرد بنصيبه من السعادة فيصبح عامل الإسطبل سعيدا في إسطبله سعادة لا تقل عن سعادة

ص: 178

الملك على عرشه، ويسعد الجندي العادي سعادة لا تقل عن سعادة الجنرال ".

وكان حُلمه السياسي المثالي هو توحيد أوروبا في فيدرالية واحدة أو جعل باريس عاصمة العالم التي تحكم القارات والدول من خلال علاقاتها الخارجية. وفي هذا الكيان الأوروبي المشترك تُلغي الحواجز السياسية وتُكفل حرية السفر والنقل والتجارة، ويتم توحيد العملة والموازين والمكاييل والمقاييس. وعندما وصل نابليون إلى موسكو في سنة 1812 ظن أن تحقيق سلام عادل - فقط - مع اسكندر هو الأمر الوحيد الباقي لتحقيق حلمه في توحيد أوروبا. لقد أساء نابليون تقدير القوى الطاردة المركزية الممثلة في الفروق بين الوطنيات المختلفة (الاختلاف بين الأمم)، لكن ربما كان نابليون على حق في الاعتقاد في أن أوروبا إذا ما حقّقت الوحدة فلن يكون ذلك بالإقناع أو بالاحتكام إلى أحكام العقل وإنما رضوخا لقوة متفوقة تستمر طوال جيل. ومع هذا فقد تستمر الحرب، لكنها - على الأقل - ستصبح مدنية (أقرب ما تكون للمنافسة).

وكلما اقترب نابليون من نهايته راحت فكرة عجيبة تُلح عليه أكان حُر الإرادة مُبدعاً فيما أتاه أم أنه كان أداة لا حَوْل لها في يد قوى كونية معيّنة. ولم يكن نابليون قدرياً (جبرياً)، ينزع من الإنسان قدرته على العمل الحر، والجبري هو ذلك الشخص الذي يعتقد أن نجاحه وفشله، وصحته ومرضه، وطبيعة حياته ولحظة مماته قد حدّدتها - سلفاً - قوى غير منظورة بصرف النظر عمَّا يختاره هو بإرادته، ولم يكن نابليون يؤمن بالحتمية على نحوٍ واضح، والحتمي هو الشخص الذي يعتقد أن كل ما يجري - بما في ذلك خياراته وأفكاره وأفعاله - إنما هو محكوم سلفاً بتوليفة من كل القوى أو العوامل بالإضافة لما حدث في الماضي (أحداث التاريخ)،

لكنه كان يتحدث كثيراً عن القضاء والقدر أو القسمة والنصيب destiny - المجرى الرئيسي للأحداث الذي يمكن تطويعه جزئياً عن طريق الإرادة البشرية لكنه يسير في مساره لا يمكن مقاومته بشكل أساسي، وكأنه ينساب من طبيعة الأشياء ملازماً لها لا يبغي عنها حِولاً. وفي بعض الأوقات كان يحدثنا عن إرادته القوية قوّة تكفي لاعتراض المجرى أو تحويله - لقد كُنتُ دوما قادراً على فرض إرادتي على القدر وينسب إليه قول يتعذّر التعويل عليه لأنه غير مؤكد: "إنني اعتمد على

ص: 179

مجريات الأحداث، فلا إرادة لي. إنني أترقب كل الأمور عند صدورها - أي من مصادرها".

فالأعظم والأعلى سلطة هو الذي يمتلك قدراً أقل من حرية الإرادة فثمة قوى أكثر وأعظم إرادة تفرض نفسها عليه وترتطم بإرادته فالمرء يعتمد على الظروف والأحداث. "إنني العبد Slave الأعظم بين الرجال فسيّدي هو طبيعة الأشياء". لقد مَزَج بين أمزجته المتقلبة وحالاته النفسية المتباينة والفكرة المنطوية على كبرياء والتي مؤدّاها أنه كان أداة في يد القدر، وهو يقصد بالقدر طبيعة الأشياء التي تفرض مجرى الأحداث ونهاياتها. إن القدر يدفعني لهدف أجهله، وحتى يتحقق هذا الهدف "فأنا منيع حصين لا يستطيع أحد مواجهتي فإذا ما تحقق هذا الهدف أصبحت ذبابة واحدة كافية لتدميري". لقد شعر بنفسه مقيّداً بقدر محتوم، قدر رائع لكنه خَطير. لقد كان المجد والظروف يسوقانه سَوْقاً "فلابد من إنجاز ما يريده القدر".

وكان نابليون يفكر مراراً - مثلنا جميعاً - في الموت، وكان تكوينه النفسي يجعله ميالاً للدفاع عن الانتحار أو التأمل فيه. وفي شبابه شعر "أنّ الانتحار هو الحق النهائي لكل إنسان" لكنه عندما بلغ الواحدة والخمسين أضاف لذلك إذا لم يضر بموته أحداً وكان لا يؤمن بالخلود،

"ليس هناك خلود وإنما الذكرى التي يتركها المرء في عقول الناس ونفوسهم

أن تعيش بلاد مجد، ودون أن تترك أثراً لوجودك، فكأنك لم تَعِش على الإطلاق ".

‌7 - من هو نابليون؟

أكان فرنسياً؟ لقد كان فرنسياً بالصدفة وبمرور الوقت، وإلاّ فهو ليس فيه من الفرنسيين شيء لا في تكوينه الجسماني ولا في عقله ولا في شخصيته. إنه قصير وأصبح في وقت لاحق بديناً، وكانت ملامحه أقرب ما تكون إلى الصرامة الرومانية منها إلى الملامح الغاليّة الوضاءة وكان ينقصه ما يتمتع به المثقفون الفرنسيون من مرح وتسامح وروح فكاهة وأناقة. لقد كان ميالاً للسيطرة على العالم أكثر من ميله للاستمتاع به. وكان يعاني من بعض الصعوبات في نطق اللغة الفرنسية فقد ظل حتى سنة 1807 يشوب نطقهُ لها لكنة أجنبية وكان يتحدث الإيطالية بطلاقة وكان يبدو في ميلان أكثر التصاقاً بها وألفة

ص: 180

معها مما هو في باريس.

وقد عبَّر في مناسبات مختلفة عن عدم حبّه للشخصية الفرنسية. قال لا كاس Las Cases:

" إن الإمبراطور يتحدث بإسهاب عن تقلّبنا وتغير مواقفنا بسرعة فهو يقول إن كل الفرنسيين متمرّدون ميَّالون لتوجيه اللوم

فرنسا تحب التغيير ولا تُطيق بقاء أي حكومة لفترة طويلة ".

وتحدث غالباِ - بإلحاح شديد لا يُلح مثله إلاّ من كان غير واثق - عن حبه لفرنسا، وكان يكره أن يُقال له يا كورسيكي Corsican فمن أقواله:"أريد أن أكون فرنسياً خالصاً وأنه لنُبل ما بعده نُبل أن يكون المرء قد وُلد فرنسياً". لكنه في سنة 1809 أفضى إلى روديريه Roederer بما يعنيه بهذا الحب:

"ليس له إلاّ عاطفة حب واحدة وخليلة واحدة. إنها فرنسا. إنني أنام معها، فلم تخذلني أبداً. لقد ضحّت بدمائها وأموالها من أجلي، فإن طلبت منها 500،000 مقاتل قدمتهم لي لقد أحبّها على نحو ما يحب عازف الكمان كمانه، كأداة سريعة الاستجابة لقوسه وإرادته".

لقد شد على أوتارها حتى قطعها، قطعها جميعاً تقريباً وفجأة.

أكان نابليون هو ابن الثورة الفرنسية؟ هكذا كان يطلق عليه المتحالفون الأوروبيون ضدّه لكنهم كانوا يقصدون بذلك أنه ورث كل آثامها وجرائمها وأنه واصل مهمتها في إبعاد أسرة البوربون التي كانت حاكمة. أما هو نفسه فقال مراراً إنه قد كان سبباً في إنهاء الثورة الفرنسية أو بتعبير آخر أوصلها إلى النهاية - انه لم يُنه ما سبّبته من فوضى وعنف فحسب، وإنما أنهى أيضاً دعاويها الديمقراطية (غير الحقيقية). لقد كان ابناً للثورة إلى الحد الذي احتفظ فيه بإنعتاق الفلاحين وتحررهم، وحرية التجارة والقيام بالمشروعات وإلى الحد الذي جعل فيه الناس سواسية أمام القانون وإلى الحد الذي فتح فيه أبواب المناصب على مصاريعها أمام الموهوبين والقادرين كما كان ابناً للثورة في إرادته المعقودة على الدفاع عن حدود فرنسا الطبيعية،

لكنه عندما جعل من نفسه قنصلاً مدى الحياة فإمبراطوراً وعندما قضى على حرية الحديث وحرية الصحافة وأنهى شراكة الكنيسة الكاثوليكية في الحكم وأقام سجوناً جديدة وشجع الأرستقراطية القديمة والجديدة - فإنه - بالتأكيد - يكون قد أصبح بعيداً عن كونه ابناً للثورة. وكان نابليون يمكث أيضاً في البلاد المفتوحة، وفيها أنهى

ص: 181

الإقطاع ومحاكم التفتيش وسيطرة رجال الدين على مناحي الحياة، وأدخل لهذه البلاد مواد مدونته القانونية وشيئاً من التنوير، لكنه أيضاً ربط هذه الدول المفتوحة به فعين عليها ملوكا.

أكان حقاً - رغم إرادته - كورسيكا؟ هذا غير صحيح إلاّ فيما يتعلق بولائه لأسرته، وميله للقتال، وعاطفته الجياشة في الدفاع عن فرنسا ضد أعدائها، لكنه لم يكن كورسيكا إذا نظرنا لعدم ميله للإقطاع كما أن قراءاته للمفكرين الفرنسيين أبعدته عن كاثوليكية العصور الوسطى التي كان عليها أهل جزيرته (كورسيكا). لقد كان كورسيكي الدم، فرنسي التعليم، إيطالياً في كل شيء خلال ذلك.

نعم فبعد كل محاولاتنا للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نرجع إلى ما قاله ستندهال Stendhal وتين Taine من أن نابليون كان كأحد قادة الجنود المرتزقة في إيطاليا في عصر النهضة، وساعد على بقائه محتفظاَ بهذه الخاصية، انعزال كورسيكا وحروبها ونظامها الإقطاعي. لقد كان هو كسيزاري بورجيا Cesare Borgia لكنه ضِعْفه عقلاً، وكان كمكيافيللي لكن حذره بمقدار النصف، وإرادته تزيد على ما أوصى به مكيافيللي مئة مرة. لقد كان إيطالياً لكن فولتير جعله شكّاكاً، كما جعلته الثورة الفرنسية التي شهد وقائعها حاذق الذهن محتالاً، وأصبح لمّاحاً حاد الذهن بدخوله في مناقشات يومية مع المفكرين الفرنسيين اللامعين.

لقد ظهرت فيه كل صفات إيطاليا في عصر النهضة: الفنان والمقاتل والفيلسوف والقائد وحدتهم جميعا - في شخصه - مواهبه وأهدافه وفكره المتغلغل الثاقب اللمّاح، واتجاهه المباشر للانجاز والهيمنة، لكنه لم يكن قادراً علي التوقف. وباستثناء هذا الخطأ الحيوي، فقد كان هو أبرع من شهده التاريخ تحكماً في الأمور المعقدة وأبرع من شهده التاريخ تنسيقاً للطاقة البشرية. لقد أحسن توكويفيل Tocqueville عندما قال: لقد كان كأفضل ما يكون الرجال لكن دون فضيلة، وكأحكم ما يكون الرجال لكن دون تواضع. ومع هذا فقد كان نابليون في نطاق ما هو معقول محتمل عندما توقّع أن العالم قد لا يشهد نظيراً له لقرون كثيرة قادمة.

ص: 182

الفصل الحادي عشر

‌فَرنسا في عَهْد نابليون

من 1800 إلى 1815 م

‌1 - الاقتصاد

رغم أنَّ نابليون نشأ ليكون رجلاً عسكرياً إلاَّ أنه كان ذا حِس صائب إزاء الحقائق الاقتصادية باعتبارها أساس تحديد مصائر الأسر وباعتبارها ركيزة للحضارة، وبها يكون الحُكُم على قوّة الدولة أو ضعفها. وبشكل عام فإنه رغم ميله الشديد للتنظيم كان مناصراً للحرية الاقتصادية، وفتح أبواب المنافسة، وحقوق الملكية الخاصّة. فلم يهتم كثيراً بالخطط الاشتراكية التي قال بها تشارلز فورييه Charles Fourier وغيره والمتعلقة بالإنتاج الجماعي وتوزيع الناتج توزيعاً متساوياً. فقد كان يشعر شعوراً أكيداً أن الأقلية الأكثر مقدرة - في أي مجتمع - سرعان ما تحكم الأكثرية وتستوعب - أي هذه الأقلية النَّشِطة - القدر الأكبر من الثروة، وأكثر من هذا فإن المُثْل الشيوعية لا تستطيع على المدى الطويل بأساليبها المتباينة في تقديم الحوافز في حفز الناس على الكدح، ففي تحليل جانبي ورد أن الجوع هو الذي يجعل العالم يتحرك وأكثر من هذا فإن الملكية الجماعية تمثّل إغراء مستمراً باللامبالاة.

"فبينما الملكية الفردية بما فيها من مصالح شخصية للمالك في ثروته - تدفع لليقظة الدائمة والانتباه المستمر مما يجعل خططه مثمرة محققة لأهدافها، فإن الملكية الجماعية تؤدي للخمول وعدم الإنتاجية، لأن المشروع الفردي مسألة موهبة ومهارة بينما المشروع الجماعي مسألة روح عامة، وتوفر الروح العامة العالية لا يكون إلاّ نادراً".

ومن هنا فقد فتح نابليون كل الأبواب و"أتاح كل الفرص لكل الناس بصرف النظر عن ثرواتهم وأنسابهم". وقد نعمت فرنسا حتى سنوات حكمه الأخيرة بالرخاء الذي حقَّق السلام الاجتماعي بين كل الطبقات ولم تعد هناك بطالة ولا اضطرابات سياسية. ولم يعد أحد مهتماً بالإطاحة بحكومة وظّفت أو أتاحت فُرصة عمل لكل محتاج.

لقد كان نابليون يؤمن بمبدأ أساسي هو "أن دولة تقوم ماليتها على نظام زراعي جيد لا

ص: 183

تسقط أبداً". لقد أدرك أنه بإشرافه على كل شيء وعدم إغفاله أي شيء أن التعريفات الحامية Protective tariffs والتمويل المالي الموثوق به وصيانة الطرق والقنوات بشكل جيد، كل ذلك لابد أن يشجع الفلاحين على العمل الجاد المتواصل وعلى شراء الأراضي واستصلاح المزيد منها، وتزويد جيوشه بالشباب الأقوياء. لقد كان عدد كبير جداً من الفلاحين الفرنسيين يعملون بنظام المزارعة (أي العمل في مزارع الآخرين لقاء المشاركة في المحصول) أو في أراضٍ مستأجرة لكن نصف مليون منهم أصبحوا بحلول عام 1814 يمتلكون الفدادين (الأكرات acres) التي يزرعونها. وقد وصفت سيدةٌ إنجليزية قامت برحلة إلى فرنسا في هذا العام الفلاحين الفرنسيين بأنهم يتمتعون بدرجة من الرخاء لم يصل إليها الفلاحون في أي مكان في أوروبا. وقد نظر هؤلاء الزرَّاع إلى نابليون باعتباره الضمان الحي لحُجج ملكياتهم وظلوا موالين له حتى وهنت أراضيهم نتيجة غياب أبنائهم المجندين في جيوشه.

واهتم نابليون أيضاً بالصناعة اهتماماً أساسياً. فجعل من مهامه زيارة المصانع وإظهار اهتمامه بعمليات الإنتاج والمنتجات، وبالعمال والحرفيين والمديرين. وتطلّع إلى وضلع العِلْم في خدمة الصناعة. لقد أقام المعارض الصناعية - ففي سنة 1801 أقام معرضاً في اللوفر، وآخر في سنة 1806 في خيمة هائلة في ميدان الجنود المتقاعدين ومشوّهي الحرب ونظم مدرسة الفنون والحِرَف، وكافأ المخترعين والعلماء. وأجريت التجارب في سنة 1802 لاستخدام طاقة البخار وبالفعل فقد تم تجريب آلة غير مُتقنة تعمل بالبخار لتسيير بارجة نقل بضائع في ترعة قرب باريس، لكن أمر استخدام الطاقة البخارية كان في حاجة إلى مزيد من الجهود.

وفي سنة 1803 قدَّم روبير فلتون Robert Fulton خطة لاستخدام الطاقة البخارية في الملاحة، فأحالها نابليون إلى المعهد الوطني الفرنسي Institute National الذي رفضها بعد شهرين من التجارب لكونها غير عملية. لقد كانت الصناعة الفرنسية تتقدم على نحو أبطأ من الصناعة البريطانية، فقد كانت أسواق تصريف منتجاتها أقل ورؤوس أموالها أقل، واستخدام الآلات فيها أقل.

وعلى أية حال ففي سنة 1801 عرض جوزيف - ماري جكوار Joseph-Marie Jacquard آلة جديدة للنسج وفي سنة 1806

ص: 184

اشترت الحكومة الفرنسية اختراعه هذا ونشرته فأصبحت صناعة النسيج الفرنسية تنافس نظيرتها البريطانية. وزاد عدد الأنوال (جمع نول) المستخدمة في صناعة الحرير في ليون من 3،500 نُول سنة 1800 إلى 10،720 في سنة 1808 وفي سنة 1810 كان يعمل في مصانع مورّد نسيج واحد أحد عشر ألف عامل.

وفي هذه الأثناء كان الكيميائيون الفرنسيون يواصلون جهودهم لمواجهة منع المنتجات البريطانية من السكر والقطن والأصباغ (النيلة أو الأصباغ الزرقاء) فصنعوا السكّر من البنجر والأصباغ الزرقاء من نباتات الوَسمة woad، وطوّروا الكتان فجعلوا منسوجاته أفضل من المنسوجات القطنية، وصنعوا البراندي (نوعاً من الخمور) من البطاطس.

وساعد نابليون الصناعة الفرنسية بالتعريفات الحامية Protective tariffs والحصار القاري المضاد وعاونها لتجاوز الصعاب المالية بالقروض بشروط مُيسَّرة وفتح أسواقاً جديدة للمنتجات الفرنسية في إمبراطوريته الواسعة، وكان يستوعب العمال في أشغال عامة على نطاق واسع إن شهدت البلاد ركوداً في عمليات التشغيل أو التوظيف.

وكان بعضها شاهداً على عظمة نابليون وجيوشه مثل عمود فيندوم Vendome Column والمادلين Madeleine (الكلمة تعني حرفياً فواكه الصيف) وقوس النصر المرصّع بالنجوم وقوس نصر ميدان الفروسية، وشغَّل الشباب في بعض الأعمال الأخرى مثل إقامة تحصينات عسكرية أو أعمال تهدف لتسهيل التحركات العسكرية وغيرها كالأشغال التي جرت في ميناء شيربورج Cherbourg وحصنه وقناته،

وبعض هذه الإنشاءات ذات النفع كانت مصمّمة بحيث يكون لها أبعاد فنية جمالية، كمبنى البورصة وبنك فرنسا ومبنى مكتب البريد العام ومسرح الأوديون Odeon (الكلمة تعني حرفياً مسرح إغريقي للموسيقي والغناء)، بل وحتى سوق القمح Bels أو سوق النبيذ Vins (1811) وبعض هذه الأشغال العامة كانت لتسهيل العمل الزراعي، كتجفيف المستنقعات بالإضافة لأعمال أخرى تُيسِّرالنقل والتجارة. وتم افتتاح شوارع جديدة في باريس مثل طرق ريفولي Rivoli وكاستينجليون Castiglione والبو Paix (السلام) وميلين من الأرصفة على طول نهر السين ومقر وزارة الخارجية الفرنسية

ص: 185

المطل على هذا النهر ذاته،

والأكثر أهمية إنشاء 33،500 ميل من الطرق الجديدة في فرنسا، وما لا حصر له من الجسور بما في ذلك جسر أوسترليتز Ponts d'Austerlitz في باريس وجسر لينا Lena في باريس أيضاً، أضف إلى هذا تطهير النهر ومد شبكة رائعة من الترع والقنوات. لقد تم حفر ترع كبرى لتربط باريس بليون Lyons وليون بستراسبورج Strasbourg وبوردو Bordeaux. وسقط نابليون قبل أن يستطيع إكمال مشروعين آخرين: قنوات تربط الراين بالدانوب والرون، وقنوات أخرى تربط البندقية (فينيسيا) بجنوى Genoa .

ولم يكن مسموحاً للعمال الذين يعملون في حفر القنوات وإقامة أقواس النصر وتشغيل المصانع بالاشتراك في أي إضراب أو تكوين اتحادات للمطالبة بتحسين ظروف العمل أو رفع الأجور. وعلى أية حال فإن حكومة نابليون عملت على أن تكون الأجور متمشية مع الأسعار وأن يخضع الخبَّازون والجزارون (اللحّامون) والمنتجون لتنظيم الدولة وأن تتوفّر ضروريات الحياة خاصة في باريس.

وحتى الأعوام الأخيرة من حكم نابليون كانت الأجور تزداد بمعدّل أسرع من ازدياد الأسعار وشاركت البروليتاريا (الطبقة العاملة) على نحو معتدل في الرخاء العام وفي مجد انتصارات نابليون، فأصبحوا أكثر وطنية من البورجوازية. فأعطوا أذناً غير مصغية للبورجوازيين الليبراليين مثل مدام دي ستيل وبنيامين كونستات (قستنطين) Constant في تبشيرهم بالحرية.

ومع هذا كانت هناك أصوات مستاءة، وأسباب للاحتجاج. فلأن الاقتصاد الحر كلما تقدَّم أصبح النشيطون أثرياء، فقد أدرك بعض الناس أن المساواة تتدهور في ظل الحرية، وعلى هذا فقد كان رأيهم أن الحكومة تقوم بعمل مُنكر بسماحها بتركيز الثروة لتستثني بذلك نصف السكان من ثمار الاختراعات ومزايا الحضارة،

ففي سنة 1808 أصدر فرانسوا - ماري فورييه Fourier كتابه نظرية الحركات الأربع ومصير العامة الذي يمثل أول مثال تقليدي للاشتراكية المالية Utopian. لقد اقترح على غير الراضين بأوضاعهم في ظل النظام الصناعي القائم أن يتَّحدوا في كتائب تعاونية phalanges بمعنى أن تعيش حوالي أربعمائة أسرة معاً في مستعمرات تعاونية (تستخدم بعض الكتب والقواميس العربية مصطلح كتائب تعاونية أو كتائبية تعاونية) أو مبنى واحداً مُشاعاً بينهم بحيث يقضي كل الأعضاء

ص: 186

جزءاً من العمل اليومي في مجال الزراعة (بحيث يكون هذا العمل منظماً تنظيماً جماعياً) وجزءاً آخر في الصناعة الجماعية أو المنزلية، ويقضون الجزء الثالث في الترفيه أو التثقيف،

وفي نظامه هذا يتحتم أن يقوم الفرد بمهام مختلفة وأن يُغير موقعه في العمل بين الحين والحين، بمعنى أن يساهم كل فرد على قدم المساواة في إنتاج أو أرباح هذه المستعمرة التعاونية (أو الكتيبة التعاونية Phalanx) ووفقا لهذا النظام يكون في كل مستعمرة تعاونية مركز اجتماعي ومدرسة ومكتبة وفندق وبنك. وسرعان ما كانت هذه الخطة مصدر إلهام في شطري الكرة الأرضية وكانت مزرعة بروك Brook Farm بالقرب من بوسطن Boston هي الوحيدة التي تكوّنت من عدّة مجتمعات مثالية (يوتوبية Utopian) سرعان ما تناقص عددها نتيجة النزعات الفردية الطبيعية للبشر.

ولم يكن نابليون نفسه مولعاً ولعاً شديداً بالرأسمالية. فقد كان يقول عن الأمريكيين أنهم مجرّد تجّار فهم يكرّسون كل همهم لجمع المال الذي هو مجدهم وقد شجّع نابليون التجارة الفرنسية بمضاعفة وسائل النقل وصيانة الطرق بشكل مستمر، وبالتمويل المالي وضخ الأموال بشكل ثابت لكنه عوّقها بألف مرسوم ومرسوم لإحكام الحصار القاري المضاد، وأخيراً اضطر للتسليم نتيجة شكاوى التجار (1810 - 1811) وسمح بتصدير بضائع معينة لبريطانيا وباستيراد السكر والبن ومنتجات أجنبية أخرى.

لقد أرهقته هذه التراخيص (بالاستيراد أو بالتصدير) فقد عملت المحسوبية عملها وظهر الفساد من خلالها. فكلما نمت الصناعة في فرنسا كانت استفادة التجارة والحرفيين الصغار أكبر من استفادة تجارة الجملة فكلما توسعت الزراعة والصناعة ووسائل النقل أصبحت بضائع المخازن غير متاحة لتجار الجملة الفرنسيين. حقاً إن عدداً كبيراً من الشوارع قد انتعش بالبوتيكات (المحلات) العامرة، لكن الموانئ الكبرى - مرسيليا وبوردو ونانت Nantes ولا هافر La Havre وأنتورب Antwerp وأمستردام - كلها كانت تعاني الكساد الذي أرجع التجار سببه لنابليون وحصاره القاري (المضاد).

وكان أعظم نجاحات نابليون كإداري في مجال المالية. ومن الغريب أن نقول إن حروبه حتى سنة 1812 عادة ما كانت تدر عائداً أكثر من تكاليفها. لقد حمّل أعداءه مسئولية

ص: 187

بدء الحرب وعندما هزمهم فرض عليهم وعلى حُكامهم السابقين دفع مبالغ طائلة تأديباً لهم، وكان نابليون يحتفظ بجانب من هذه الغرامات تحت إشرافه الشخصي كملك استثنائي Domaine extraordinaire وقد تباهى في سنة 1811 أن لديه 300،000،000 فرنك ذهبي في أقبية (جمع قبو) قصر التوليري Tuileries وكان يستخدم هذه الميزانية في تذليل صعوبات الخزانة الفرنسية، وفي تصحيح التحوّلات الخطرة في سوق الأوراق المالية وتمويل الأشغال العامة أو التحسينات البلدية والقروية، وللمكافأة على الخدمات البارزة ولتمييز الفنانين والكتاب ولإنقاذ الصناعات المتعثرة ولرشوة صديق أو عدو، ولتنفيذ سياساته السرّية. ويتبقي جزء كافٍ للاستعداد للحرب التالية وليجعل الضرائب أقل بكثير مما كانت عليه في ظل لويس السادس عشر أو أثناء الثورة الفرنسية.

يقول تين Taine قبل سنة 1789:

"كان الفلاح الفرنسي يدفع من كل مئة فرنك يكسبها 14 فرنكاً للسيد الإقطاعي و 14 فرنكاً للإكليروس (رجال الدين) و 53 فرنكاً للدولة ولا يبقى له سوى 18 أو 19 فرنكًا".

وبعد سنة 1800 لم يعد يدفع للسيد الإقطاعي أو للإكليروس وإنما أصبح يدفع قدراً قليلاً للدولة و 25 فرنكاً لمجلس الدائرة أو المحافظة ويحتفظ لنفسه بسبعين فرنكاً من مئة لنفسه.

وقبل سنة 1789 كان العامل اليدوي يدفع ما يعادل أجر أيام عمل تتراوح ما بين عشرين يوماً إلى تسعة وثلاثين يوماً ليسدّد ما عليه من ضرائب كل عام، وبعد سنة 1800 أصبحت هذه الفترة تتراوح ما بين ستة أيام إلى تسعة عشر يوماً. وكاد عبء الضرائب المباشرة يقع كله على كاهل من يملكون مقابل الإعفاء شبه الكامل (من الضرائب) لمن لا يملكون وعلى أية حال فقد كانت هناك ضرائب كثيرة معتدلة تماماً غير مباشرة أو ضرائب مبيعات كان يتحملها كل الناس على نحو سواء ومن ثم كان الفقراء يعانون منها أكثر من الأثرياء.

وقرب نهاية الحكم الإمبراطوري زادت تكاليف الحرب عن عوائدها فارتفعت الضرائب والأسعار وعمّ السخط. ودفعت الأزمة المالية في سنة 1805 نابليون إلى إعادة تنظيم بنك فرنسا الذي كان قد أنشئ في سنة 1800 في ظل إدارة خاصة. وبينما كان نابليون يحارب دفاعاً عن وجوده السياسي في مارينجو Marengo أحكمت مجموعة من المضاربين سيطرتها على إمدادات القوات

ص: 188

المسلحة وكان على رأس هؤلاء المضاربين جابرييل جوليان أوفرار Gabriel - Julien Ouvrard وقد طلب هؤلاء المضاربون - أثناء مرورهم بمصاعب - من البنك قرضاً كبيراً، ولكي يقدم البنك هذه المبالغ أصدر - بعد استئمان وزارة الخزانة - عملته النقدية كعملة رسمية معترف بها، وفشل هذا الإجراء فلم تُقبل هذه الأوراق النقدية عند إجراء الصفقات وتدنَّت قيمتها الفعلية إلى نحو 90% من قيمتها المدونة عليها (الاسميّة). وواجه البنك وجماعة المضاربين الإفلاس.

وعند عودة نابليون إلى باريس أنقذ البنك بجزء من التعويضات التي تسلَّمها من النمسا، لكنه أصر - أي نابليون - أن يصبح البنك من الآن فصاعداً تحت إشراف الدولة لكن على الدولة ألاَّ تتجاوز الحد في هذا الإشراف وفي 22 أبريل سنة 1806 وضعه تحت إشراف محافظ governors واثنين من المساعدين تُعينهم الحكومة، وخمسة عشر وصى يختارهم المساهمون، وافتتح هذا البنك الجديد (المقصود بنظامه الجديد) فروعاً له في ليون Lyons وروان Rouen وليل Lille وبدأ مهمته التي طال أمدها في خدمة الاقتصاد الفرنسي والدولة. وظلت الحكومة لا تمتلك إلاّ القليل من أسهم هذا البنك.

ولم يكن نابليون يحترم كثيراً أولئك الذين يبيعون المؤن لجيشه ووزاراته. فقد كان كل متعاقد من المتعاقدين يحشو فواتيره وكان بعضهم يُقدم مواد زائفة (مغشوشة) مقرونة بأسعار تشير إلى أنها (أي هذه المواد) ممتازة. وأصدر تعليماته لموظَّفيه ليراجعوا بحزم كل الفواتير المقدمة لهم بل لقد كان يراجعها بنفسه في بعض الأحيان. لقد قال لبوريين Bourrienne:

" إن كل المتعاقدين (المورّدين) وكل وكلاء التمويل محتالون .. إنهم يمتلكون الملايين ويتمرغون في النعمة، بينما جنودي ليس لديهم خبز ولا أحذية .. "

وفي فيينا تلقي سنة 1809 شكاوي من رداءة الملابس والمعدّات التي بيعت لجيشه، فأمر بإجراء تحقيق تبيّن منه أن المتعاقدين حققوا أرباحاً طائلة من هذه المبيعات بغير وجه حق، فأمر بتشكيل محكمة عسكرية حكمت على المختلسين بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم رغم كل الوساطات التي بُذلت لإنقاذهم والتي رفضها نابليون.

وعلى العموم فحتى ناقدو نابليون المعادون يعترفون أنه في السنوات الثلاث عشرة الأولى من حكم نابليون شهدت فرنسا أقصى درجات الرخاء والازدهار لم تعرفه قبل ذلك

ص: 189

أبداً. وعندما عاد لا كاس Las Cases إلى فرنسا سنة 1805 من جولة في ستين دائرة (محافظة) ذكر في تقرير له أن فرنسا لم تكن في أي فترة في تاريخها أكثر قوة وانتعاشا وسعادة، وأفضل حكما مما هي عليه الآن وكان لا كاس أحد الذين هاجروا من فرنسا عقب أحداث الثورة الفرنسية لكنه عاد إليها بعد العفو عنه. وفي سنة 1813 زعم وزير الداخلية الكونت دي مونتاليف Montalivet: " أن هذا الرخاء المستمر راجع إلى القضاء على النظام الإقطاعي، والنظام الطبقي والنظم الدّيرية

والاتجاه بشكل أكثر نحو توزيع أكثر عدالة للثروة وتبسيط القوانين وجعلها أكثر وضوحاً"

وفي سنة 1800 كان تعداد سكان فرنسا حوالي 28 مليون، أصبحوا في سنة 1813 ثلاثين مليوناً. ولا تبدو هذه الزيارة مروّعة لكن لو كانت هذه النسبة في الزيادة قد استمرت حتى سنة 1870 (حتى بدون حساب الزيادة المركبة) لكان على ابن أخي نابليون أن يحكم خمسين مليوناً ليواجه بهم تحدي ألمانيا بزعامة بسمارك.

‌2 - المعلّمون

لقد لاحظنا أن نابليون خلال فترة القنصلية (الفترة التي كان يحكم فيها فرنسا كقنصل أول) يحاول أن يقدم لفرنسا في فترة ما بعد الثورة نظاماً جديداً ويُعيد إليها الاستقرار بمدوَّنة القانون المدني، وكونكوردات السلام Concordat (الاتفاق مع البابا) والتعاون بين حكومته والدين التقليدي للشعب الفرنسي.

وبالإضافة إلى هذه القوى المكوّنة للوجدان الفرنسي، رأى نابليون أن يضيف قوّة أخرى ثالثة بإعادة تنظيمه التعليم في فرنسا. من بين كل الآليات الاجتماعية، ربما كانت المدرسة هي الأكثر فعالية وتأثيراً، لأنها تمارس على الأطفال والشباب ثلاثة أنواع من التأثيرات بشكل مباشر وغير مباشر: تأثير الناظر والمدرسين، وتأثير من خلال الدراسة المشتركة، وتأثير أخير من خلال القواعد المتبعة والإجراءات المرعية.

لقد كان نابليون مقتنعاً أن سبباً واحداً كان كامناً وراء انهيار القانون والنظام أثناء الثورة الفرنسية هو عدم قدرتها على ترسيخ نظام تعليمي جديد يكفي ليحل محل النظام التعليمي الذي كانت تديره الكنيسة

ص: 190

قبل الثورة. لقد نسيت الثورة هذا المشروع في خضم صراع الموت أو الحياة في هذه الفترة. لقد تم وضع خطط رائعة، لكنها لم توضع موضع التنفيذ بسبب نقص المال، كما أن الوقت الكافي لتنفيذها لم يكن متاحاً أثناء الثورة. وكان التعليم الابتدائي قد تُرِك للقسس والراهبات أو في أيدي معلمين ونظار تركهم الآباء والمجالس البلدية (الكومونات communes) يعيشون فوق خط الجوع بقليل.

وكانت المدارس الثانوية موجودة بالكاد في مؤسسات تعليمية lycees تقدم مقررات دراسية في العلوم والتاريخ دون أن تهتم - إلاّ قليلاً - بتكوين شخصية الطالب. لقد فكر نابليون في التعليم العام من منظور سياسي: إن وظيفته هي تخريج مواطنين أذكياء لكن مطيعين. لقد قال بصراحة غير معهودة في الحكومات:

"عند تكوين هيئات التدريس، فإن هدفي الأساسي هو تأمين وسائل توجيه الرأي السياسي والأخلاقي

فطالما أن المرء ينشأ دون أن يعرف ما إذا كان جمهورياً أم ملكياً، كاثوليكياً أو لادينياً irreligious، فإن الدولة لن تستطيع أبداً تكوين أمّة، وإنما ستقوم على أسس غامضة وغير أكيدة، وستكون دائماً عرضة للفوضى والتغيير".

وبعد أن أعاد الارتباط بين الكنيسة والدولة سمح لمنظمات نصف ديرية مثل جماعة إخوة المدارس المسيحية Freres des Ecoles Chretiennes بتقديم مناهج دراسية في المرحلة الابتدائية، كما سمح للراهبات بتعليم البنات الموسرات. لكنه رفض أن يدخل الجزويت Jesuits (اليسوعيين) فرنسا من جديد. ومع هذا فقد كان معجباً بهم لتنظيمهم المنضبط كنقابة مكرَّسة للمدرسين. لقد كتب نابليون (16 فبراير سنة 1805):

"أن الأمر الأساسي هو تعليم الأطفال على نسق الجزويت الأوائل" وتذكر بوريين قائلا: "عندما كنت معه (نابليون) كان كثيراً ما يقول لي أنه من الضروري أن تكون كل المدارس والكليات وغيرهما من مؤسسات التعليم العام خاضعة للنظام العسكري"

وفي ملاحظة أبداها نابليون في سنة 1805 قال: "لا يمكن تكوين نظام للتدريس إلاّ إذا خضع كل مديري المدارس وموجهيها ومعلميها في الإمبراطورية لرئيس واحد أو عدة رؤساء على نسق رؤساء

ص: 191

عموم الرهبنة ومسئوليها المحلِّيين

"

عند الجزويت (اليسوعيين) وإلاّ إذا كانت القاعدة هي ألا يشغل أي شخص منصباً أعلى في المؤسسة التعليمية إلا إذا كان قد سبق له وشغل المناصب والمراكز الأخرى الأدنى درجة. ومن المستحب أيضاً "ألا يتزوج المدرّس أو أن يؤجّل زواجه حتى يؤمّن لنفسه مركزا ودخلاً .. كافيا لإعالة أسرة".

وبعد عام (10 مايو سنة 1806) ضَمِنَ أنطوان فرنسوا دي فوركروي Antoine - Francois de Fourcroy - الموجّه العام للتعليم العام من المجلس التشريعي مرسوماً مؤقتاً مفاده "تأسيس الجامعة الإمبراطورية لتكون جهازاً مختصاً دون سواه بالتدريس على مستوى الإمبراطورية"(أسست جامعة باريس حوالي سنة 1150 وألغتها الثورة الفرنسية في سنة 1790). وكان على هذه الجامعة الجديدة ألا تكون مجرّد مجموعة كليات - كلية للاهوت، وأخرى للقانون وثالثة للطب ورابعة للعلوم وخامسة للآداب، وإنما أن تكون المؤسسة الوحيدة لتخريج مدرّسي المرحلة الثانوية في فرنسا،

وأصبح يتعين تأسيس مدارس ثانوية في مدينة أو أكثر في كل محافظة لتقدم لطلبتها مناهج دراسية تزاوج بين اللغات الكلاسيكية والآداب والعلوم وأن تقوم المجالس البلدية بتمويلها، لكن كل مدرسيها لابد أن يكونوا من خريجي الجامعة، وألا يرقى أي منهم إلى منصب أعلى إلا إذا سبق له شغل المنصب الأدنى منه، وأن يُطيع رؤساءه على نحو ما يطيع الجندي الضابط. ولحث الشباب الفرنسي على الالتحاق بهذه الطاحونة الشاقة Treadmill قدّم نابليون 6400 منحة دراسية تعهّد الذين حصلوا عليها بالتفرغ لمهنة التدريس وأن يؤجلوا زواجهم حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين على الأقل. وسيكون أمامهم في النهاية فرص الترقي لأعلى المناصب في الدولة. وقال نابليون لفوركروي:"إن كل هذا مجرد بداية، شيئاً فشيئاً ستقوم بتحقيق ما هو أكثر وما هو أفضل".

وبالفعل فقد فعل ما هو أفضل - من وجهة نظره - بأن أعاد (في سنة 1810) دار المعلمين Ecole Normale لتكون فرعاً من فروع الجامعة، وفي هذه الدار يعيشون معاً في ظل نظام عسكري ويتلقون تعليماً خاصاً على يد هيئة تدريس ذات تقدير واحترام تضم أساتذة مثل لابلاس ولاجرانج Lagrange وبيرثول Berthollet ومونج Monge وبحلول عام

ص: 192

1813 كان من المتوقع أن يكون كل معلّمي الكليات من خريجي دار المعلمين، وبدأ العِلم يسود على حساب الدراسات الكلاسيكية في مناهج الكليات وأصبح هو الذي يَسِمُ الروح العامة لفرنسا المتعلمة.

وتحولت مدرسة البوليتقينة Ecole Polytechnique التي أسست خلال الثورة إلى الأكاديمية العسكرية حيث وُضعت العلوم الفيزيقية في خدمة الحرب، وبقيت عدة جامعات في المحافظات حتى بعد انتهاء انتصارات الإمبراطور العسكرية، وسُمح بإقامة كليات خاصة بعد الترخيص لها من الجامعة وعلى أساس خضوعها للتفتيش الدوري. وبعد استتباب الأمور سُمِح لأفراد من المحاضرين باستخدام قاعات الجامعة لتقديم برامج دراسية خاصة وسُمح للطلبة بحضور هذه البرامج وفقاً لرغباتهم.

وكان على رأس الهرم الفكري المعهدُ الوطني الفرنسي. وأعيدت الأكاديمية الفرنسية التي كانت قد ألغيت في سنة 1793 لتكون في سنة 1795 بمثابة القسم الثاني للمعهد الجديد. وكان نابليون فخوراً بعضويته في المعهد لكن عندما تجرأ قسم السياسة والأخلاق في المعهد في سنة 1801 على تقديم محاضرات عن كيفية إدارة دفّة الحكم، أمر نابليون الكونت لويس - فيليب دي سيجور de Segur أن يخبر القسم الثاني في المعهد أنني لا أسمح أن يناقش الأعضاء في اجتماعاتهم موضوعات سياسية وكان المعهد يضُم في ذلك الوقت كثيراً من الثوّار القدامى المؤمنين بالتنوير والثورة وقد عبَّروا عن سخطهم بالضحك أو البكاء لإعادة الكنيسة الكاثوليكية بشكل رسمي. واستخدم كاباني Cabanis وديستوت دي تراسي Destut de Tracy كلمة أيديولوجية للتعبير عن دراسة تكوين الأفكار.

وقد أطلق نابليون على هؤلاء السيكولوجيين والفلاسفة اسم الأيديولوجيين ideologues وقال عنهم: "إنهم أناس غارقون في الأفكار ويُعربدون بالمنطق والعقل لدرجة تجعلهم غير قادرين على فهم حقائق الحياة والتاريخ". وكان نابليون يرى أن المفكرين الذين ينشرون أفكارهم عبر منشورات لا يُحصى عددها يشكلون عقبة في سبيل الحكومة الصالحة. ومن أقواله: "إن من يجيدون الكتابة ويتمتعون بالفصاحة ليس لديهم القدرة الحاسمة على الفصل في الأمور" وقد حذَّر نابليون أخاه جوزيف الذي كان يحكم وقتها نابلي (18 يوليو سنة 1807) قائلا:

"أنت تقضي وقتاً طويلاً مع رجال

ص: 193

الأدب إنهم مثل المثقفين والمفكرين الذين يثرثرون وينشرون الإشاعات في الصالونات إنني أعتبر العلماء والمفكرين كالنِّسوة المغناجات الحنَّانات لابد أن يتابعهن المرء ويتحدث معهن لكنه أبداً لا يختار من بينهم زوجة له كما أنه لا يختار من بين هؤلاء الناس وزراءه ".

وفي 23 يناير سنة 1803 أعاد تنظيم المعهد وقسَّمهُ إلى أربعة أقسام، وألغى منه قسم السياسة والأخلاق. القسم الأول وهو القسم الذي كان يقدّره تقديراً شديداً مختص بدراسة العلوم. وكان من بين أعضائه الستين ادريان ليجندر Adrien Legendre ومونج وبيوت Biot وبيرثول وجاي - لوسّاك Gay-Lussac ولابلاس ولامارك وجيوفري سان - هيلير Geoffroy Saint-Hilaire وكوفييه Cuvier والقسم الثاني ويضم أربعين عضواً مختصاً بدراسة اللغة الفرنسية وأدبها وقد حلّ هذا القسم محل الأكاديمية الفرنسية القديمة، وواصل العمل في القاموس Dictionnaire وكان هذا القسم يضم الشاعر المخضرم ديليل Delille والدرامي الشهير ماري - جوزيف دي شينييه Marie Joseph de Chenier والمؤرخ الشاب جيزو Guizot والكاتب الرومانسي شاتوبريان Chateaubriand،

والفلاسفة: فولني Volney وديستوت دي تراسي Destutt de Tracy ومين دي بيرا Maine de Biran. أما القسم الثالث الذي يضم أيضاً أربعين عضواً فمختص بدراسة التاريخ القديم وتاريخ الشرق سواء التاريخ العام أم تاريخ الآداب والفنون، وفي هذا القسم تابع لويس لانجلي Langles تلك الدراسات عن فارس والهند التي أدّت بالفعل إلى ظهور مدرسة اللغات الشرقية Ecole des Langues Orientales (1795) واكتشف جان بابتست دَنس دي فيلوسو Jan - Baptiste d'Ansse de Villoison المعلّقين السكندريين على هوميروس وبذا مهّد الطريق أمام نظرية ف. أ. ولف F.A. Wolf التي مؤداها أن أعمال هوميروس اشترك في كتابتها عدد كبير. والقسم الرابع - أكاديمية الفنون الجميلة - يضم عشرة رسامين وستة نحاتين وستة معماريين وثلاثة حفارين (مشتغلين بفن الحفر) وثلاثة ملحنين، وفي هذا القسم تألق ديفيد وانجر Ingres وهودو Houdon.

ورغم نفور نابليون من الأيدلوجيين فقد دعَّم المعهد بإخلاص وكان تواقاً لجعله حلية

ص: 194

يتحلّى بها حكمه. وكان كل عضو من أعضاء المعهد يتلقى من الحكومة 1،500 فرنك كراتب سنوي، وكان كل فرد من أفراد السكرتارية الدائمة يتلقى راتباً سنوياً مقداره ستة آلاف فرنك. ويقدم كل قسم في شهري فبراير ومارس، للإمبراطور تقريراً بانجازاته، وكان نابليون مسروراً من الصورة العامة، فقد زعم مينيفال أنه قال:

"إن هذه المتابعة العامة للآداب والعلوم والفنون

تظهر أن الذكاء البشري أبعد ما يكون عن الارتداد والتراجع وأنه لم يتوقف أثناء مسيرته المتواصلة نحو التقدم"،

وقد نتشكك في كلمة المسيرة المتواصلة لكن الذي لا شك فيه أن إعادة تنظيم المؤسسات العلمية، وتقديم المنح الدراسية في ظل حكم نابليون جعل المشتغلين في الحقول العلمية والأدبية والفنية في فرنسا على رأس قرنائهم الأوروبيين طوال نصف قرن.

‌3 - المحاربون

لقد أدى قيام الثورة الفرنسية إلى أن أصبحت الحرب هي الأكثر تتابعاً والأكثر مدعاة للقتل والأكثر تكلفة، وقد أدى التجنيد العفوي العام (تسليح الشعب بشكل عام لمواجهة عدو لم تجر الاستعدادات العسكرية المعتادة لمواجهته) في سنة 1793 إلى قناعة بأن "الحرب لم تعد (ولا يجب أن تكون) مباراة بين الملوك يستخدمون فيها المرتزقة وإنما نضال أمم تشترك فيه كل الطبقات" - رغم أن الحكومات الأخرى حذت حذو فرنسا قبل ذلك ببعض الوقت بسماحها للعوام أن يُصبحوا ضباطاً بل وحتى مارشالات.

وكان روسو قد وضع بالفعل القاعدة العامة التي مؤداها أن الخدمة العامة هي اللازمة المنطقية للاشتراك في التصويت (في الانتخابات)، فيجب على من سيصوّت أن يخدم (وطنه) ففرنسا بمواجهتها للملكيات الأوروبية دفاعاً عن نظامها الجمهوري، فرنسا تلك التي كانت قبل لويس الرابع عشر تضم خليطاً من مناطق لكل منطقة مقوّماتها الخاصة ولا تربطها معها روح وطنية عامة، وحدّها الآن (1793) الخوف العام. لقد كانت استجابتها للتهديد حاسمة وذات طابع وطني عام. لقد أصبح من الضروري تكوين جيش كبير يضم كل الرجال، وبدأ التجنيد الإلزامي وعندما بدأت جماهير الفرنسيين (من غير العسكريين) في هزيمة القوات

ص: 195

العسكرية المحترفة للملكيات الإقطاعية - فإن هذه الدول الملكية المهزومة فرضت هي الأخرى التجنيد الإلزامي، وبذا أصبحت الحرب صراع جماهير تتنافس في مضمار القتال. لقد أصبحت الحرب في الأساس صراعاً على المجد بين القوميات (الوطنيات) بعد أن كانت صراعاً بين الأسرات الحاكمة التي تبغي كل منها تحقيق ذاتها على حساب الأخرى.

وفي سنة 1803 أصدر نابليون قانوناً جديداً للتجنيد الإلزامي لمواجهة انهيار سلام معاهدة أمين Amiens وتحسباً لحرب ضد تحالف أوروبي آخر ضدّه. ونص هذا القانون الجديد على تجنيد كل الذكور من الشريحة العمرية ما بين عشرين وخمسة وعشرين، مع استثناءات كثيرة كاستثناء المتزوجين حديثاً وطلبة المعاهدة اللاهوتية والذين فقدوا زوجاتهم أو طلقوهن ويقومون بإعالة أطفال، كما تم إعفاء من كان له أخ مجنَّد والأخ الأكبر من بين ثلاثة أيتام. وأكثر من هذا فقد كان يمكن للمجنَّد أن يقدِّم بديلاً يحل محلّه. وقد بدا هذا - في البداية - أمراً غير عادل في نظر نابليون لكنه عاد فسمح به، وكان هذا في الأساس لاقتناعه بأن الطلبة الذين قطعوا شوطا متقدماً في الدراسة لابد من تركهم لمواصلة دراساتهم لهيئوا أنفسهم لشغل المناصب الإدارية.

لقد تحمّل الشعب الفرنسي بصبر هذا الاستنزاف السنوي الملح للقوي البشرية في نشوة الابتهاج بانتصارات نابليون، لكن عندما بدأت الهزائم (1808) مخلّفة آلاف الأسر الحزينة، نمت المقاومة وتضاعفت أعداد المتهرِّبين والفارِّين. وبحلول عام 1814 كان نابليون قد جند في جيوشه 2،613،000 فرنسي. مات منهم حوالي مليون بسبب جروح شديدة ألمّت بهم أو بسبب الأمراض. وبالإضافة لهؤلاء فقد ضمَّ لجيوشه نصف مليون من الدول الأجنبية المتحالفة مع فرنسا أو التابعة لها.

وفي سنة 1809 طلب نابليون من القيصر اسكندر أن يتوسط بين فرنسا وإنجلترا ذاكراً له أن تحقيق السلام العام سيُتيح الفرصة لوضع نهاية للتجنيد الإلزامي. لكن هذا الأمل لم يتحقق. وطالما كان أعداء فرنسا المهزومون يفيقون من أحزانهم ليكوِّنوا تحالفات جديدة وليخوضوا معارك جديدة فقد جنَّد نابليون كثيرين قبل حلول دورهم في التجنيد بخمس سنوات، وكان يستدعي للتجنيد كل عام دفعات قبل حلول دورها وفي سنة 1813 جندّ دفعة سنة 1815. وأخيراً نفذ صبر

ص: 196

الآباء الفرنسيين وتعالت صيحات يسقط التجنيد الإلزامي في كل مكان في فرنسا.

وبهذه الطريقة كان الجيش العظيم ينمو ويزداد عدده، ذلك الجيش الذي كان حُب نابليون ومصدر فخره. وقد عمل نابليون على رفع الروح المعنوية لهذا الجيش فجعل لكل كتيبة من كتائبه علماً خاصاً بها ذا لون محدّد كان يحمله أحد الشبان الشجعان أثناء المعركة ليقود أفراد الكتيبة ويبث العزم فيهم فإن سقط اندفع شاب آخر ليرفعه. وعادة ما كان هذا العلم يمثل روح الكتيبة وعلامتها الظاهرة.

وعادة ما كان يُحتفظ بهذا العلم ليتم عرض ما بقي منه في الاستعراضات العسكرية احتفاء بالنصر، وأخيراً يتم تعليقه كشارة مقدسة للنصر رغم تمزقه وإهترائه في كنيسة ضحايا الحرب. وكان لكل كتيبة تقريبا لباسها المحدّد الخاص بها واسمها، وكانت هذه الكتائب مشهورة في وقت من الأوقات من بريست Brest إلى نيس ومن أنتورب إلي بوردو: رُماة القنابل اليدوية (الرمّانات) Grenadiers الهوصّار Hussars (سلاح الفرسان الخفيف)، القنّاصة Chasseurs حاملو الرماح Lancers الفرسان Dragoons .. إلخ والأهم من كل هؤلاء الحرس الإمبراطوري البالغ عدده 92،000 مقاتل كاحتياطي دفاعي حول الإمبراطور حين يظهر موقف متأزم يقتضي منهم التضحية بحياتهم. وكان من الممكن لأي مجنَّد أن يترقّى ليصبح عضواً في هذا الحرس الإمبراطوري أو حتى يحمل عصا المارشالية كواحد من الثمانية عشر مارشالاً في فرنسا النابليونية.

لقد كانت نتائج الحروب لا حد لها - بيولوجياً واقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً. والرقم القديم الدال على عدد القتلى الفرنسيين في هذه الحروب هو 1،700،000 إلاّ أن الحسابات اللاحقة قد قلّصته ليصبح مليوناً. وحتى لو كان هذا الرقم الأخير صحيحاً فإنه كفيل بإضعاف فرنسا طوال جيل حتى تستطيع أرحام نسائها تعويض هذه الخسارة. ومن الناحية الاقتصادية فإن هذه الحروب والاحتياجات العسكرية وظروف الموانئ المحاصرة - قد عجّلت بتقدم الصناعة وازدهارها. ومن الناحية السياسية فإنها قوَّت الوحدة بين الحكومات الإقليمية (في فرنسا) وعمَّقَت الولاء للحكم المركزي.

ومن الناحية الأخلاقية فإن الصراع المستمر عوَّد أوروبا على توسيع نطاقات الحروب وعوّدها على تقنين المذابح

ص: 197

البشرية على نحو لم يشهده العالم منذ غزوات البرابرة، فعلى جبهات القتال ومن ثم في العواصم تخلّى الحكّام عن الوصايا العشر. فقد كتب نابليون إلى الجنرال بيرثييه Berthier في سنة 1809:

"الحرب تبرّر كل شيء، فلم يحدث أن استقر شيء - مطلقاً - إلاّ بالسيف وأن التحليل الأخير يشير إلى أن الحكومة لابد أن تتحلّى بالصفات العسكرية فبدون الجيش لا تكون دولة".

ولتعويد الشعب الفرنسي على هذه الأخلاقيات العسكرية عمد نابليون إلى استثارة حبهم للمجد. فالمجد la gloire أصبح حمّى وطنية يغمر الجميع بالوئام والحماس والطاعة. ومن هنا كان يحق لنابليون أن يقول إن حروب الثورة قد جعلت من كل الأمة الفرنسية نبلاء، وطوال عشر سنوات وبمساعدة حلفائه كان الشعب الفرنسي كأنه منوّم تنويماً مغناطيسيا وراح نابليون يوحي إليه بنشوة المجد. ولندع ألفرد دي موس Alfred de Musset الذي كان شاهداً للأحداث، يصف لنا الروح العامة في فرنسا في سنة 1810:

"لقد كان شباب هذا العصر يتنفّسون هواء في جو لا يعكر صفوه شيء، حيث يتألق المجد. كثير من المجد، وحيث تبرق السيوف. كثير من السيوف. لقد كانوا يعرفون جيداً أن قدرهم أن يكونوا ضحايا في مجزرة لكنهم كانوا ينظرون إلى مورا Murat كقائد لا يُغلب وللإمبراطور على أنه عبر الجِسْر والقذائف الكثيرة تنهمر من حوله مدوّية فراحوا يعجبون: أهو محصّن ضدّ الموت؟ وحتى الموت نفسه كان يبدو لهم جميلاً نبيلاً متألقاً في معركته المخضّبة بالدماء.

لقد استعار الموت لون الأمل. لقد حصد كثيراً من المحاصيل التي حان قطافها فأصبح شاباً. لقد ماتت الشيخوخة، فكل أَسِرَّة الأطفال في فرنسا وكل القبور كانت مسلّحة بالتروس، ولم يعد هناك شيوخ (عجائز) وإنما هناك جثث لأنصاف آلهة demi - gods وفي هذه الأثناء كان جنود نابليون على الجبهة يسرقون ويقامرون ويبتلعون مخاوفهم ليتمكنوا من النوم،

وكان ضباطه يسرقون بالقدر المتلائم مع مواقعهم: جمع ماسينا الملايين. ولم يكن ما جمعه سول Soult أقل كثيراً مما جمعه ماسينا Massena، وجوزيفين اللطيفة وجوزيف الرحيم ولوسيان Lucien الشجاع والعم الكاردينال فيش Fesch، كل

ص: 198

هؤلاء تربّحوا بتوظيف أموالهم في الشركات التي كانت تبيع البضائع المغشوشة للجنود الفرنسيين. وقد زين نابليون نشرات الحرب التي كان يوزعها داخل جيشه بالمبالغات وإخفاء الحقائق، واستنزف ثروات الأمم المهزومة وسلب أعمالها الفنية بغير حق وراح يتفكّر مليا في بعض الأخلاق والقيم الفرنسية من جديد.

‌4 - الأخلاق والسلوك

إنَّ الثورة الفرنسية - بتحطيمها للسلطة السياسية والسلطة الأبوية (قوامة الآباء على الأبناء) وبتدميرها للمعتقد الديني (الكاثوليكي) قد أطلقت غرائز أفراد الشعب الفرنسي من عقالها وتركتها بلا ضابط، وكان هذا الانفلات فاجعاً مأسوياً في العاصمة وإن اتَّسم بالاعتدال في الدوائر (المحافظات)، فوجد القانون ورجاله أنفسهم يناضلون ضد الفوضى والجريمة. وصمّم نابليون - الذي كان هو نفسه مارقاً غير ملتزم بالقانون - أن يعيد ترسيخ القيم الأخلاقية والانضباط السلوكي كأمر حيوي لإعادة بعث فرنسا والرضا لشعبها والنجاح لحكمه.

لقد أوضح بجلاء أنه سيراقب بعين يقظة كل العلاقات والارتباطات التجارية في الحكومة ومعها، وسيعاقب بشدّة كل من يثبت عدم أمانته. والتفت نابليون معترضاً على الملابس غير المحتشمة في المجتمع وفي المسرح، ووَّبخ - رسميا - أخاه لوسيان وأخته إليزا Elisa لكشفهما جانباً كبيراً من جسميهما عند حضورهما العروض المسرحية الخاصة. وفي إحدى الحفلات المسائية عندما وجد نفسه في مواجهة مدام دي ستيل de Stael وقد ارتدت فستاناً واسع الصدر يكشف عن جانب كبير من صدرها وظهرها وكتفيها (فستان ديكولتيه decollete) انتقدها بحدِّة قائلا:"إنني أفترض أنك تربين أطفالك بنفسك"

وأصرَّ نابليون على أن يتزوّج تاليران Talleyrand من خليلته. ومدام تاليا Tallien التي كانت توجّه أخلاقيات حكومة الإدارة باستدارة وِرْكَيْها (مُثنّى ورك) اضطرت إلى التواري في الأقاليم (الدوائر أو المحافظات) وقالت جوزيفين للزنا وداعاً وابتعد بائعو القبعات النسائية عنها وشقّوا فواتيرهم. لقد كادت قوانين مدوّنة نابليون تعطي للزوج كل السلطات التي كان يتمتع بها الزوج الروماني على زوجته وأطفاله، فواصلت الأسرة وظيفتها لتحويل الحيوانات (المقصود

ص: 199

الأطفال) إلى مواطنين، مهما كان هذا على حساب الحرية الشخصية.

لقد كانت الحالة النفسية للعصر تعتريها معاناة من بعض الكآبة كجزء من ثمن (كان لابد من دفعه) لقاء النظام الجديد. فالمسرّات الطائشة بين الجنسين وبين الطبقات في ظل الثورة قد استسلمت لآداب المجتمع البورجوازية. ومتاعب البروليتاريا. والحواجز الطبقية التي كانت تفصل السكان بشكل صارم إلى طبقات في عهد البوربون Bourbon قد انهارت لتفتح الطريق لحمّى المنافسة التي لا تهمد في ظل فتح أبواب المناصب ومجالات العمل للكفاءات مما أدّى إلى بناء جسور بين كل الطبقات، وجعلت شباباً لا أصول لهم يتسلقون الأهرام الزَّلقة إلى ذرى السلطة. لقد كان معنى هذا أن لنابليون الحق في أن يشعر أنه في ظل حكمه، عادت الأخلاق إلى فرنسا واستعادت السلوكيات شيئاً من الاحترام واللطف الذين كانا يميزان حياة المتعلمين في فرنسا قبل الثورة.

وقد شعر أنه رغم كل الجهود لإتاحة فرص متساوية للجميع فإن شيئاً من التمييز الطبقي لابد أن يظهر كأمر لا مناص منه نتيجة الاختلافات الطبيعية في القدرات وظروف النشأة. وليجعل نابليون هذه النتيجة غير مقتصرة على مجرد الأرستقراطية الناشئة عن استحواذ الثروة، فقد أنشأ في سنة 1802 جوقة الشرف Legion of Honor لتتكوّن من رجال تختارهم الحكومة من المميزيَّن تميزاً خاصاً في مجالاتهم: الحرب، القانون، الدين، العلوم، الدراسات الأكاديمية الفن

إلخ على أن يكون هذا الجهاز نصف ديمقراطي كما هي الحياة إذ جعله قَصْراً على الرّجال دون النساء.

وكان الأعضاء يقسمون عند انضمامهم أن يؤيدوا مبدأي الحرية والمساواة لكن سرعان ما تم تصنيفهم في ثلاثة رُتب وفقاً للجدارة أو التقسيم أو الأقدمية. وكان كل واحد منهم يتقاضى من الحكومة الفرنسية راتباً سنوياً، فإن كان من رتبة مسئول مهيب Grand officer استحق 5،000 فرنك وإن كان من رتبة قائد Commander استحق 2،000 وإن كان من رتبة مسئول officer استحق 1،000 أما الفارس Chevalier فيستحق 250، وللتمييز بينهم كان على كل واحد منهم أن يضع شريطاً خاصاً (وشاحاً) أو صليباً يرمز لرتبته وعندما ابتسم بعض المستشارين لمثل هذه

ص: 200

الامتيازات الشكلية البسيطة (النص: الدّمى baubles) قال لهم نابليون إن قيادة الرجال تكون أسهل بالأوسمة (التكريم) منها بالقوّة أو السلطة، أو على حد قوله إن:"المرء يحصل على كل شيء من الرجال باستنهاض معاني الشرف لديهم ".

واتخذ الإمبراطور خطوة أخرى نحو إيجاد ارستقراطية جديدة بإنشائه في سنة 1807 النبالة الإمبراطورية فأعطى الألقاب لأقربائه ومارشالاته وبعض العاملين في الإدارة والعلماء المبرّزين، ونتيجة لهذا وجدنا أنه في السنوات السبع التالية قد أوجد: 13 دوق و 452 كونت و 1،500 بارون 1474 فارسا (بالمعني التشريفي لا العسكري)، وأصبح تاليران يحمل لقب أمير بنيفنتو Benevento وفوشيه أمير دوترانت Otranto- d'Otrante وجوزيف بونابرت أصبح فجأة هو الناخب الأعظم، ولويس بونابرت الكونستابل الكبير (النبيل الكبير Grand Constable) ومورا قائد الفرسان اعترته الدهشة عندما وجد نفسه الأدميرال الكبير وتم الإنعام على المارشال دافو بلقب دوق دأورشتدت Duc d'Auerstedt ولان Lannes بلقب دوق دي مونتبلو Duc de Montebello وسافاري بلقب دوق دي روفيجو Duc de Rovigo وليفبفر Lefebvre بلقب دوق دي دانتسج Duc de Dontzig. وأصبح لابلاس كونتا وكذلك فولني Volney أما أخوات نابليون فأصبحن أميرات.

وخُصص لكل لقب زى رسمي خاص بألوان بهيجة وراتب سنوي وأحياناً كان يُخصص لحامل اللقب ممتلكات كعقار أو مزارع أو أراضٍ. وأكثر من هذا فإن معظم هذه الألقاب أضحى وراثياً، وهنا نجد نابليون يدير ظهره بشكل صريح للمبادئ الجمهورية. لقد كان نابليون يرى أنه لا يمكن لأرستقراطيته الجديدة أن تحتفظ بوضعها وقوتها إلاّ بانتقال الملكية (وراثياً) وبالتالي يمكن استخدامها كدعامة للحاكم. بل إن الإمبراطور نفسه رغبة منه في الاقتراب أكثر فأكثر نحو الارستقراطية الجديدة التي سرعان ما راحت تتباهى بألقابها وملابسها الرسمية المميزة ونفوذها - أحاط نفسه بالحجَّاب والياورات ومسئولي البلاط ومسئولي القصر ومئات من الخدم، وأُحيطت جوزيفين بالوصيفات اللائي يحملن ألقاباً تعود إلى زمن البوربون وما قبل البوربون.

ص: 201

والتفت نابليون إلى من ظل على قيد الحياة من النبلاء القدماء (نبلاء ما قبل الثورة) وعمل على إغرائهم بشتى الطرق لضمّهم لبلاطه، واستدعى كثيرين منهم من خارج فرنسا ليبارز بهم اليعاقبة الذين كانوا لا يزالون متشبَّعين بروح الثورة، وأملاً منه في مد جسور التواصل والاستمرار بين فرنسا ما قبل الثورة وفرنسا الجديدة. وبدا هذا مستحيلاً لأن هؤلاء المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) العائدين كانوا يحتقرون نابليون باعتباره مُحدث نعمة ومغتصب عرش فشجبوا سياساته وهجوا مسلكه ونظراته وأحاديثه وسخروا من ارستقراطيته الجديدة.

وعلى أية حال، فبالتدريج زادت مكانته بانتصاراته وكلما ارتفع شأن فرنسا حتى وصلت من حيث الثروة والقوة درجة لم تصلها حتى في أيام لويس الرابع عشر - تضاءل هذا الاتجاه المتعالي للأرستقراطية القديمة، فقبل أبناء المهاجرين emigres بسعادة تعيينهم في مناصب أو ألقاب شرفية (تلك المناصب التي كان آباؤهم يصفونها بأنها مناصب أو ألقاب مُحدثي النعمة) وأقبلت السيدات العظيمات ليلتحقن ببلاط جوزيفين، وأخيراً وجدنا بعض النبلاء القدامى ينضمون إلى البلاط الإمبراطوري ليُكسبوه عبير البلاط القديم، ومن هؤلاء النبلاء القدامى: مونتمورنسي Montmorencys ومونتسكيو وسيجور وجرامونت Gramonts ونُوال Noailles وتورين Turennes وقد كافأهم نابليون بأن أعاد لهم بعضاً من ممتلكاتهم المُصادرة.

وبعد أن تزوج نابليون من ماري لويز بدت المواءمة كاملة. لكن كثيراً من مظاهر هذه المواءمة كان سطحياً فأبناء الثورة وبناتها الأكثر حداثة لم يستسيغوا ملكيات ذوي الأصول (المنتمين إلى أسرات عريقة) ولا أوضاعهم المتعالية. والجيش الذي كان لا يزال يتغنّى بالمثل الثورية مُغرماً بها تذمّر لرؤيته مُثله الثورية تتبادل الانحناء مع الأعداء القدامى الذين كانوا يتعالون علي الجنرالات الطوال والعلماء العصبيين وآل بونابرت الطموحين الذين تجرءوا على شغل أماكنهم.

ولتجنّب حرب بالكلمات أو السيوف مع عرين الأسود هذا، أصرّ نابليون على إصدار مدوّنة لقواعد السلوك (كود للاتيكيت Code of etiquette) فعهد إلى بعض الاختصاصيين بكتابتها بتخيّر أفضل النماذج من تراث البوربون، على أن تكون دليلاً

ص: 202

للسلوك يمكن إتباعه ويلبي حاجات المواقف المختلفة، بحيث يبدو مسلك المرء ودودا. وبالفعل فقد تم إنجاز هذا العمل في ثمانمائة صفحة ودراسة الفلاسفة ورماة القنابل اليدوية وأصبح البلاط الإمبراطوري نموذجاً يتجلَّي فيه اللباس المتأنق والخطب الجوفاء أو الكلام الفارغ.

وراح رجال الحاشية يلعبون الورق وفقدت اللعبة قيمتها لأن نابليون منع الميسر، وأخرجت المسرحيات وعُزفت الكونشرتات وأقيمت المراسم والتشريفات والحفلات التنكرية، وعندما تضاءل ما تسببه الأزياء والحوارات الفكرية من إثارة، وجد أفراد الحاشية الأساسيين متعتهم في الانتقال مع الإمبراطور والإمبراطورة إلى سان كلو St. Cloud أو رامبول Rambouillel أو تريانون Trianon أو - وهذا أكثر مدعاة للسعادة - إلى فونتينبلو حيث تتلاشى الرسميات وتؤدي ممارسة القنص إلى تدفئة الدماء.

ولم يكن أحد أكثر ضيقاً بهذه الطقوس الملكية كنابليون فقد تجنبها بقدر ما يستطيع. وقد قال: "إن الاتيكيت (قواعد السلوك) هي سجن الملوك" وقال للاكاس: "الضرورة تجبرني على مراعاة درجة من الأبهة (أو التكلّف State) وأن أتبع نظاماً معيناً يجعلني وقوراً - أو بعبارة أخرى أن ألتزم بالاتيكيت. وإلاّ كنت عُرضة للضرب على كتفي يومياً"

وكان للمراسم والتشريفات أيضاً أساسها المنطقي فالحكومة التي تم تأسيسها حديثاً لابد أن "تكون مُبهرة مثيرة للدهشة، فإذا فقدت تألّقها سقطت فالاستعراض للسلطة كالطقوس للدين أليس صحيحاً أن الدين الكاثوليكي يروق بشكل أفضل للخيال بأبهة طقوسه أكثر مما يروق بسمو عقائده؟! فإن أردت أن تثير الحماسة في الجماهير فلتبد في نواظرهم مقبولاً أو بتعبير آخر اعمل على أن تروق لعيونهم ".

وكما جرت العادة في التاريخ فقد تدهورت سلوكيات البلاط، وتدنت تدريجياً في محيط المتعلمين. قال بول لاكروا Paul Lacroix جامع الكتب المتعلّم "لتجعل غالب مجتمع حكومة الإدارة راقياً مهذباً حسن التربية فإن هذا يستغرق ما بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة"، وهذا حقيقي على نحو خاص بالنسبة لليون وبوردو، لكننا

ص: 203

لا نتحدث عن باريس التي قالت عنها مدام دي ستيل: "أنه يتلاقى فيها كثيرون من رجال الفكر .. واعتاد عدد كبير منهم أن يزاوجوا بين مسرّات النقاش والقضايا الفكرية الجادة"

وقد ذكر نابليون للاكاس: "نقول الحق إن أشرنا للحساسية والذوق الرفيع اللذين يميزان سكان العاصمة الفرنسية؛ فلن تجد في مكان آخر غير باريس مثل هذه الفطنة وتلك الألمعيّة ومثل هذا الذوق ".

مئات المقاهي يتجمع الناس فيها بروح اجتماعية فيجلسون ويرتشفون مشروباتهم ويتبادلون الأخبار والنكات والقفشات الذكية السريعة، بينما العالم يتحرك أمامهم في استعراض عنيد، وكل حيوان ميكروسكوبي يجعل من نفسه محور الكون. وكانت المطاعم الجميلة قد اختفت في فترة الإرهاب إلا أنها عادت لنشاطها في ظل حكومة الإدارة وأصبحت الآن خير شاهد على أذواق الفرنسيين ومدى امتلاء جيوبهم بالنقود. وحدث خلال فترة حكم القنصلية والإمبراطورية أن أنثيلم بريلا - سافارين Anthelme Brillat-Savarin جمع الحقائق والأساطير المتعلقة بعلم الأكل أو فن تذوق الطعام (الجاسترو نوميا gastronomy) والتي ضمّنها عمله الكلاسيكي فسيولوجيا تذوّق الطعام La physiologie du gout الذي لم يمثل للطبع إلاَّ سنة 1826 أي قبل وفاته بعام واحد.

وكان أسلوب الحديث ونمط اللباس في حالة تغيّر. فقد حلت كلمتا مواطن Citoyen ومواطنة Citoyenne محل كلمتي سيّدي (مسيو Monsieur) ومدام Madame اللتين كانتا سائدتين قبل الثورة. وتراجع الرجال الملتزمون بقواعد اللباس والسلوك عن ارتداء السراويل التي تصل للركبة (البناطيل القصار) والجوارب الحريرية الطويلة، فاستعادت البناطيل الطوال سيادتها كلما شحبت الإمبراطورية. أي راحت تزوي. وهجرت السيدات نمط اللباس الإغريقي الذي كان سائدا في عهد حكومة الإدارة وعُدن إلى التنورة skirt (الجيبة) والقميص bodice (البلوزة)، وظل الديكولتيه Decollete واسعاً سخياً في إظهار لحْم المرأة حيث تكون الأكتاف مكشوفة وكذلك الذراعين، وعارض نابليون هذا الطراز في اللباس (الديكولتيه) لكن جوزيفين وافقت عليه وأقرته، فانتصرت (على نابليون) بذراعيها الجميلتين وكتفيها وثدييها الناتئين.

ووافق الإمبراطور على إقامة الحفلات التنكرية لسروره بازدهار الحياة الاجتماعية. ولم

ص: 204

يهتم بالصالونات التي كانت تنتعش في باريس، فقد أصبحت موئلاً للسياسيين والمؤلفين والأيديولوجيين (المنظِّرين) ومنتقدي حكمه الذي يتجه أكثر فأكثر نحو الدكتاتورية. ونظم أخواه جوزيف ولوسين حفلات استقبال متتالية كان الكلام يجري فيهما - بالضرورة - لصالح الإمبراطور، لكن فحواه - بشكل عام - كان موجهاً ضد جوزيفين وأقام كل من تاليران وفوشيه بلاطاً خاصاً لنفسه حيث كانت الانتقادات مهذّبة. وشجب المهاجرون العائدون كل تصرفات آل بونابرت في حفلات مسائية كئيبة في فابورج سان جيرين Faubourg St. Germain وواصلت مدام دي ستيل الإبقاء على صالونها الشهير كجزء من حربها ضد نابليون طوال خمسة عشر عاماً، وكرَّست مدام جلني Gelnis - التي عادت إلى فرنسا بعد سبع سنوات قضتها كمهاجرة خارجها - صالونها وكتاباتها للدفاع عن نابليون ضد البوربون ومدام دي ستيل ومدام ريكامييه

‌5 - مدام ريكامييه

MME. RECAMIER

يعود نجاح صالون ريكامييه إلى جمالها الأخّاذ وثروة زوجها المِطْواعة. وُلدت في ليون في سنة 1777 وسامها الحقيقي هو جين - فرانسوا - جولي أديلادي برنار Jeanne-Francoise-Julie- Adelaide Bernard وعُرفت بين أصدقائها باسم جولي أو جوليت، وكانت تتمتع بوجه محبوب وقوام جذّاب، وظلت تتحلّى بهاتين الميزتين حتى بعد أن بلغت السبعين وأصابها العمى، لقد كادت تجمع في شخصها كل ما تتحلّى به الأنثى من جاذبية - لطف وعطف وميل للخدمة أو المساعدة وذوق وكياسة وحساسية وبراعة

وقد أضافت إلى هذه المرونة والحساسية أنها جذبت إليها مئة ذكر (رجل فحل) دون أن يتركوا أي أثر معروف علي عذريتها (أي أنها ظلت عذراء رغم هؤلاء الرجال المائة).

وفي سنة 1793 وكان عمرها ستة عشر عاماً تزوّجت من جاك روز ريكامييه Jacques-Rose-Recamier وكان في الثانية والأربعين من عمره لكنه كان صاحب بنك. وكان سعيداً جداً بتأمل جمالها وسماع غنائها وملاحظة يديها الدقيقتين الجميلتين وهي تعزف البيانو أو الهارب (القيثارة) فكان يُجلسها على وسائد ليريحها في جلستها تماماً وكان يُنفق على

ص: 205

صالونها، وتحمّل بتسامح أبوي استعصاءها عليه فلم تسمح له بغزوها ولم تمكنه من الوصول إلى المُرام وإن كان هو - فيما يظهر - لم يكن مصراً على حقوقه الزوجية.

وفي سنة 1798 اشترى منزل جاك نيكر Jacques Necker في شارع مونت بلانك Mont-Blanc في باريس. وأثناء إجراءات إتمام الصفقة تقابلت جوليت التي كانت قد بلغت واحداً وعشرين عاماً مع مدام دي ستيل البالغة اثنين وثلاثين عاماً. لقد كان لقاءً بالصدفة لكن هذا اللقاء كان بداية صداقة استمرت طوال العمر لم يستطع أن ينهيه حتى التنافس في مضمار الحب. وحذت جوليت حذو مدام دي سيتل (الأكبر منها سناً) والتي جمعت في صالونها الرجال المشاهير والبارزين في عصرها من رجال دولة ومؤلفين،

فافتتحت - أي جوليت - صالونها في منزلها الجديد (1799) لتعقد فيه اجتماعات دورية للرجال والنساء البارزين في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية في باريس، وقضى لوسين Lucien بونابرت وزير الداخلية وقتاً قصيراً يبثها فيه حبّه الذي لا نهاية له، فأظهرت له خطابات زوجها الملتهبة التي ينصحها فيها بمعاملة لوسين بصبر خشية أن يتعرض بنك ريكامييه لعداء من الأسرة الحاكمة الصاعدة، وأطفأ نابليون النيران المتأججة حباً في صدر لوسين بأن أرسله كسفير في أسبانيا.

وربما كان نابليون نفسه قد صوّب عينيه على جوليت وليمة جديرة بملك لكن اتجاهاتها كانت مختلفة تماماً، فرغم تحذيرات زوجها ومنصب أبيها المتقلقل (غير المستقر) كمسئول للبريد في الحكومة القنصلية، فإنها رحبت في صالونها بالموالين للملكية مثل ماثيو دي مونتمورنسي Mathieu de Montmorency، والجنرالات المعادين لنابليون مثل برنادوت ومورو وغيرهما ممن امتعضوا من الاتجاهات الإمبراطورية المتزايدة للقنصل الأول (نابليون).

لقد كانت الآن في ذروة جمالها وكان الرسامون الرواد يسعدون بجلوسها أمامهم. وقد رسم لها دافيد لوحة في الوضع الأثير لربّات الجمال وهن متكئات على الحشائش - وقد ارتدت ثوباً على النّسق اليوناني فضفاضاً، وقد ظهر ذراعاها عاريان، وكذلك قدميها. وقد شعر السيد ريكامييه (زوجها) أن الرسام ديفيد لم يُثر زوجته أو بتعبير آخر لم يحرك مشاعر حبها الوقور، فتحدّى فرانسوا جيرار Gerard - تلميذ ديفيد -

ص: 206

أن ينافس أستاذة فنجح جيرار في رسمها بشكل رائع ولم يغفر له ديفيد ذلك أبداً.

وفي سنة 1802 زارت جوليت وأمها إنجلترا فاستقبلها ذوو المكانة كأمير ويلز والجميلات كدوقة ديفونشير Devonshire بكل مظاهر التكريم بسبب جمالها ومشاعرها المناهضة لنابليون. وسرعان ما قُبض على أبيها بعد عودتها من إنجلترا لتواطئه في مفاوضات سرية بين الباريسيين والموالين للملكية والمتمردين الملكيين في إقليم الفندي، وأصبح أبوها عُرضة للحكم عليه بالإعدام، إلا أن ابنته الذاهلة حثت بيرونادوت على التوسط لدى نابليون لإطلاق سراح والدها. ووافق نابليون لكنه طرده من منصبه، فقالت جوليت لقد كانت الحكومة على حق تماماً في إبعاده.

وفي سنة 1806 لجأ زوجها لبنك فرنسا لإنقاذه من الإفلاس بإقراضه مليون فرنك. وأحال مديرو البنك طلبه إلى نابليون الذي كان قد وجد بنك فرنسا نفسه - بعد عودة نابليون من مارينجو Marengo - يعاني مصاعب مالية، فرفض تقديم هذا القرض. وباع ريكامييه البيت الكائن في شارع مونت بلانك، وباعت جوليت فضتها ومجوهراتها وقبلت - دون تذمّر - أن تعيش عيشة أكثر بساطة. لكنها كانت على حافة الانهيار عندما ماتت أمها في 20 يناير سنة 1807. فلما علمت مدام دي ستيل بما كان من أمرها دعتها للإقامة في قصر نيكر في كوبت Coppet في سويسرا. وكان السيد ريكامييه متسغرقاً حتى أذنيه في العمل على سداد ديونه فأذن لها بالذهاب إلى سويسرا. وفي 10 يوليو وصلت إلى كوبت وهناك بدأت أهم مرحلة من مراحل عمرها من حيث ممارسة العشق.

وتتابع الراغبون فيها في الوصول إلى هناك بمن فيهم عاشق مدام دي ستيل وهو بنيامين كونستانت Constant (قسطنطين). وقد سعدت جوليت (مدام ريكامييه) بهم وشجعتهم وقد قيل إنهم كانوا يحرسون قلعتها طوال الوقت، وقد اتهمها بعض ناقديها أنها كانت تتعامل بتهور مع قلوب الرجال (المقصود بعدم اهتمام) وقد كتبت كونستانت بمرارة:"لقد لعبت بسعادتي وحياتي، عليها اللعنة! " لكن كونستانت هو أيضاً لعب بقلوب وحيوات. وتتذكر دوقة أبرانتس Duchesse d'Abrantes جوليت (مدام ريكامييه) كإنسانة مبرأة

ص: 207

من العيوب تماماً:

"إن المرء لا يتوقع أن يوجد لها نظير في المستقبل. إنها امرأة راودها عن صداقتها (خطب ودّها) ألمع رجال العصر. امرأة ذات جمال فائق طرح تحت قدميها كل الرجال الذين وقع نظرهم عليها. لقد كان الفوز بحبّها هدفاً عاماً، ومع هذا فإن فضائلها ظلت نقية (لا شائبة فيها) .. وفي أيام مسرّاتها وبهائها كانت مستعدة دائماً للتضحية بمسرّاتها لتقدم مواساتها .. لأي صديق ألمت به بلوى أو مرض".

إن مدام ريكامييه بالنسبة للعالم امرأة مشهورة، وهي بالنسبة لمن أسعدهم الحظ بمعرفتها ومعرفة قدرها مخلوق كريم مميّز جعلته الطبيعة نموذجاً كاملاً للطباع الخيّرة الرحيمة.

وفي أكتوبر سنة 1807 دخلت جوليت في علاقة حميمة مع الأمير أوجست البروسي وهو ابن أخ فريدريك الكبير، حتى أنها كتبت لزوجها طالبة منه الطلاق، فذكرها ريكامييه بأنه شاركها في ثروته طوال أربعة عشر عاماً وأنه لبّى لها كل رغبة، ألا يبدو بعد هذا أنه من الخطأ أن تهجره وهو يبذل قصارى جهده لإقالة عثرته المالية؟ فعادت لباريس ولزوجها وراح الأمير أوجست يعزي نفسه بخطاباتها.

وبعد أن أصبح زوجها غنياً مرة أخرى وبعد أن ورثت من أمها ثروة، افتتحت صالونها من جديد وواصلت معارضتها لنابليون. وفي سنة 1811 - عندما كانت مدام دي ستيل تتبادل الكراهية والإزداء الشديدين مع نابليون. تجرأت جوليت وأصرت على قضاء يوم على الأقل مع مدام دي ستيل في كوبت رغم تحذيرات جيرمين فما كان من نابليون الذي أزعجته الأخبار السيئة التي أتته من أسبانيا وروسيا - إلاّ أن منعها من الاقتراب من باريس وأن تكون على بعد 120 ميلاً على الأقل من العاصمة (باريس). وبعد تنازله الأول (11 أبريل سنة 1814) عادت لباريس وأعادت افتتاح صالونها ودعت إليه ولنجتون وغيره من قادة الحلفاء المنتصرين. وعندما عاد نابليون من إلبا واستعاد فرنسا بلا ضجة استعدت لمغادرة العاصمة لكن هورتنس وعدت بحمايتها فبقيت مقهورة لفترة، وبعد اعتزال نابليون للمرة الثانية (22 يونيو سنة 1815) واصلت استقبال ضيوفها. لقد عاد شاتوبريان Chateaubriand فدخل حياتها من جديد - وكان قد سبق لها الالتقاء به سنة 1801 - فأعاد لها شبابها في قصة رومانسية غريبة وتاريخية.

ص: 208

‌6 - اليهود في فرنسا

بدأ إنعتاق اليهود الأوروبيين أول ما بدأ في فرنسا لأنها كانت رائدة في تحرير العقول ولأن حركة التنوير قد عوّدت نسبة كبيرة من الراشدين على تفسير التاريخ تفسيراً غير ديني (تفسيراً علمانياً Secular) . والبحوث المتعلقة بالكتاب المقدس تظهر المسيح عليه السلام كداعية محبوب مؤمن باليهودية لكن الفريسيِّين Pharisees هم الذين عادوْه. والأناجيل نفسها تظهر آلاف اليهود يستمعون إليه بسرور وأن الآلاف منهم قد استقبلوه بترحاب عند دخول القدس. فكيف إذن يُعاقب شعب كامل عبر آلاف السنين لجريمة حَبْر كبير وحِفْنة مختلطة من الناس طالبوا بموته؟

لقد بقيت عداوات وخصومات اقتصادية غذّت قلقاً طبيعياً وخوفاً مرتقباً في وجود أحاديث غريبة وأزياء أو ملابس غير مألوفة، بل لقد انهار هذا الاتجاه المناهض لليهودية فلويس السادس عشر لم يواجه مقاومة شعبية في إزاحته الضرائب التي كانت تثقل كاهل اليهود على نحو خاص، وميرابو Mirabeau في مقاله الذي زاوج فيه بين المنطق والأسلوب اللاذع قد دعا إلى انعتاق اليهود انعتاقاً كاملا (1787) وفاز الراهب الفرنسي جريجوار Abbe Gregoire بجائزة من الجمعية الملكية للعلوم والآداب في ميتز Metz في سنة 1789 لمبحثه الذي حمل عنوان البعث اليهودي المادي والأخلاق والسياسي.

وبدا أن النتيجة المنطقية الوحيدة لإعلان حقوق الإنسان قد تحققت عندما مدّت الجمعية التأسيسية في 27 سبتمبر سنة 1791 مظلة الحقوق المدنية كاملة لتشمل كل يهود فرنسا. وأعطت جيوش الثورة الحرية السياسية ليهود هولندا في سنة 1796 ويهود البندقية (فينيسيا) سنة 1797 ويهود مينز Mainz في سنة 1798 وسرعان ما أقرت المدوّنة القانونية النابليونية ذلك بشكل تلقائي وجرى تطبيقها في كل المناطق التي فتحها نابليون.

وقد تعامل نابليون نفسه مع القضية بالروح المعتادة للجندي الذي يحتقر التجّار، فعندما توقف في ستراسبورج في يناير سنة 1806 أثناء عودته بعد خوضه معركة أوسترليتز

ص: 209

Austerlitz تلقى طلبات لمساعدة فلاحي الإلزاس وإقالتهم من عثراتهم المالية، لأنهم بعد أن تحرروا فجأة من عبوديتهم للإقطاع وجدوا أنفسهم بلا وظائف أو أرض يحصلون منها على مصدر لرزقهم. وكانوا قد طلبوا من رجال البنوك المحليين - وكان معظمهم من اليهود الألمان - أن يُقرضوهم المبالغ المالية التي يحتاجونها لشراء أكرات (أفدنة) وأدوات وبذور ليرسّخوا أوضاعهم كفلاحين ملاّك، وقد قدّم اليهود من أصحاب البنوك هذه المبالغ لكن بفائدة تصل إلى 16% وقد اعتبر المُقرِضون (بضم الميم وكسر الراء) أن هذا عدلاً نظراً للمخاطرة التي تنطوي عليها عملية الإقراض (ملحوظة: المقترضون في أميركا الآن يدفعون النسبة نفسها) والآن فإن بعض الفلاحين لم يستطيعوا الوفاء بدفع هذه النسبة ولم يستطيعوا تخصيص جزء من عوائدهم ليستنزلوا تدريجياً ما عليهم من ديون. وعلم نابليون أنّه إذا لم يتدخّل في الأمر تعرّض فلاحون كثيرون لضياع أراضيهم، وحُذِّر نابليون من أن كل مسيحيي الألزاس ساخطون بشدّة بسبب هذا الوضع وأنهم على وشك القيام بهجوم على اليهود.

وعندما وصل نابليون إلى باريس تداول الأمر مع مستشاريه فنصحه بعضهم باتخاذ إجراءات عنيفة، وذكر بعضهم الآخر أن يهود مرسيليا وبوردو وميلان وأمستردام كانوا يعيشون في سلام واحترام في مجتمعاتهم ولا يجب معاقبتهم في ظل أي إلغاء للحقوق التي يتمتعون بها في المناطق التي تحكمها فرنسا.

ووقف نابليون موقفاً وسطا (موقفاً توفيقياً) فحكم ألاّ يجمع الدائنون اليهود أية مبالغ يطالبون دائينهم بها في ولايات (محافظات) بعينها قبل مرور عام. لكنه في الوقت نفسه (30 مايو 1806) دعا أولي الشأن من اليهود في مختلف أنحاء فرنسا للاجتماع في باريس للتباحث في أمور العلاقات بين المسيحيين واليهود وليقترح توزيع اليهود على فرنسا (بمعنى عدم تمركزهم في مكان واحد) وتوزيعهم أيضاً على المهن والوظائف المختلفة (بمعنى عدم استئثارهم بمهنة بعينها). وكان على مديري الشرطة الفرنسية في الدوائر المختلفة (المحافظات) أن يختاروا هؤلاء اليهود المهمين الذين سيجتمعون في باريس، فكان اختيارهم بشكل عام موفقاً.

فتجمع اليهود من الرابيين rabbis (الحاخامات) وغيرهم في باريس في يوليو سنة 1806 وحظوا

ص: 210

باحترام كبير وبلغ عدد المجتمعين منهم 111 وقدم لهم المجلس البلدي قاعة Hotel de Ville يتداولون فيها. وقدّم نابليون - أو مستشاروه - للمجتمعين بعض الأسئلة يود الإمبراطور معرفة إجابتها:

هل يُقر اليهود تعدّد الزوجات؟ أيسمحون بالتزاوج بين اليهود والمسيحيين؟ أيزعم الرابيون (الحاخامات) الحق في إبرام الطلاق بعيداً عن السلطان المدنية؟ أيعتبر اليهود الرّبا شرعيا Lawful؟ .

وصاغ الرابيون إجابات عملوا على أن تكون مدعاة لسرور نابليون: تعدد الزوجات ممنوع في المجتمعات اليهودية. ولا يُسمح بالطلاق إلاّ إذا أقرّته المحاكم المدينة، والتزاوج بين اليهود والمسيحيين مسموح به، والربا معارض للشريعة الموسوية.

فأرسل نابليون الكونت لويس مولي Louis Mole ليعبّر لهم عن رضاه. والكونت لويس مولي الذي كان معارضاً لليهود قبل ذلك أصبح الآن يخاطبهم ببلاغة تلقائية قائلا:

من الذي لا تعتريه الدهشة لرؤية هذا الجمع من الرجال المتنورين الذين تم اختيارهم من سلالة أقدم الأمم؟ أنه إذا بُعِث للحياة شخص ممن عاشوا في القرون الخوالي وشاهد هذا المنظر، ألا يظن أنه قد انتقل إلى داخل أسوار المدينة المقدسة؟

وعلى أية حالة، فقد أضاف قائلاً إن الإمبراطور يضفي على المبادئ الغالبة على هذا الاجتماع مزيداً من المصداقية واليقين ويقترح ضرورة دعوة هؤلاء اليهود من أولي الشأن للحضور إلى باريس فيما بعد لهذا الغرض ولأغراض أخرى وأن هذا الاجتماع الرابي (الحاخامي) الأعلى (السنهدريم العظيم) الذي لم ينعقد بعد تشتت اليهود عقب دمار الهيكل منذ سنة 66 قبل الميلاد. وكان الرابيون سعداء وأبدوا رغبتهم في التعاون. وفي السادس من أكتوبر أرسلوا إلى كل المعابد اليهودية الأساسية في أوروبا دعوة الإمبراطور لانتخاب مندوبين يهود لحضور السنهدريم (الاجتماع اليهودي والسنهدريم Sanhedrin مشتقة من الكلمة اليونانية سينيدريون Synedrion) لدراسة وسائل تخفيف الصعوبات الناشئة بين المسيحيين واليهود ولتسهيل تمتع اليهود الفرنسيين بكل الحقوق والمزايا في الحضارة الفرنسية. وأرفق هؤلاء اليهود ذوو الشأن دعوتهم بإعلان سعيد ينم عن الفخر:

إن حدثاً عظيماً على وشك أن يصبح أمراً واقعاً. حدث لم يتوقعه آباؤنا طوال قرون متوالية، بل لم نكن نتوقعه نحن في أيامنا هذه. إن العشرين من أكتوبر قد أصبح هو اليوم

ص: 211

المقرر لافتتاح السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) في عاصمة أحدى أقوى الأمم المسيحية وبحماية مليكها الخالد. إن باريس ستُظهر للعالم مشهداً جديراً بالملاحظة، وإن هذا الحديث التاريخي (السنهدريم) سيفتح للبقايا المشتتة من سلالة إبراهيم عصراً من التحرر والرخاء.

ولم يستطع السنهدريم الكبير (الاجتماع اليهودي) أن يستمر وفقاً لهذه التوقّعات الحماسيّة، فبعد إرسال هذه الدعوات بثمانية أيام حارب نابليون وجنوده البروس في يينا Jena، وظل طوال هذا الخريف في ألمانيا أو بولندا ويقطّع أوصال بروسيا وينشئ دوقية وارسو Warsaw (فيرسافا) الكبيرة، ويعزف على أوتار السياسية أو الحرب، وظل طوال الشتاء في بولندا يعيد تنظيم جيشه ويحارب الروس ليتعادل معهم في إيلاو Eylau ويهزمهم في فريدلاند Friedland ويعقد سلاماً مع القيصر اسكندر في تيلسيت (1807) ولم يعد لديه وقت للسنهدريم الكبير إلاّ بشق النفس.

واجتمع السنهدريم الكبير في 9 فبراير سنة 1807. وتباحث فيه 45 من الرابين (الحاخامات) و 26 من اليهود العاديين (غير ذوي المراتب الدينية) واستمعوا إلى الخطب وأقرّوا الإجابات التي قدّمها إخوانهم من ذوي الشأن (في اجتماعهم السابق) لنابليون. وخلصوا بإصدار توصيات لليهود:

أن ينهوا عداوتهم للمسيحيين، وأن يحبوا البلاد التي يقيمون فيها باعتبارها أصبحت الآن بلادهم وأن يقبلوا الخدمة العسكرية للدفاع عنها وأن يتجنبوا الربا وأن ينخرطوا أكثر فأكثر في أعمال الزراعة والحرف والفنون.

وفي مارس أرسل السهندريم تقريره إلى نابليون البعيد عن فرنسا، فتم إرجاؤه.

وفي 18 مارس سنة 1808 أي بعد حوالي عام أصدر نابليون قراراته النهائية التي قضت بإقرار الحرية الدينية لليهود وإقرار حقوقهم السياسية في كل أنحاء فرنسا ما عدا في منطقتي الإلزاس واللورين، ففيهما وُضِعت - طوال العشر أعوام التالية - فيود على رجال البنوك لتقليل عدد المفلسين ولتخفيف العداوة العرقية، وتم إلغاء ديون النساء والقُصَّر والجنود، وخوّلت المحاكم في إلغاء أو تخفيض الديون المتأخّرة التي قوامها الفوائد بالإضافة إلى فترة سماح (تأخير مواعيد السداد)، ولم يكن مسموحاً لأي يهودي بالعمل في التجارة قبل

ص: 212

الحصول على إذن من مدير الشرطة ومُنع مزيد من هجرة اليهود إلى الإلزاس وفي سنة 1810 أضاف الإمبراطور طلباً آخر وهو ضرورة أن يُصبح لكل يهودي اسم أسرة لأنه كان يأمل في أن يساعد هذا على تسهيل الاندماج العرقي.

وكان هذا غير ملزم من الناحية القانونية ولكن لابد من التماس بعض العذر لحاكم أصرّ على السيطرة على كل شيء ومن ثم وجد نفسه مراراً غارقاً في المشاكل والتفاصيل. وشعر يهود الإلزاس بأنهم أُضيروا بهذه التنظيمات الإمبراطورية ولم يكونوا على حق في ذلك، لكن معظم الجماعات اليهودية في فرنسا وفي غيرها قبلت هذه التنظيمات كمحاولة معقولة لتلطيف الوضع المتفجرّ. وفي هذه الأثناء، أعلن نابليون من خلال الدستور الذي وضعه لوستفاليا أن كل يهود هذه المملكة الجديدة لابد أن ينعموا بكل حقوق المواطنة مثلهم في ذلك مثل أي مواطن من مواطنيها. ومرّة الأزمة في فرنسا بسلام وأصبح لليهود دور مثمر وخلاق في آداب فرنسا وعلومها وفلسفتها وموسيقاها وفنونها.

ص: 213

الفصل الثاني عشر

‌نابليون والفنون

‌1 - الموسيقى

كان على نابليون أن يُدير قارة، لذا لم يكن لديه كثير من الوقت للموسيقي. إنَّه لمن الصعبِ أن نتصوَّره جالساً صامتاً يستمع إلى كونشرتو في مسرح فيدو Theatre-feydeau، ومع هذا فقد سمعنا عن كونشرتات concerts تُعرف في قصر التوليري وهناك من أكَّد لنا أنّه كان يستمتع علي نحوٍ ما بحفلات موسيقية يُحْيها عازِف واحد، كانت جوزيفين تقيمها في جناحها بالقصر. وعلى أيَّة حال فقد كان سِيَباسْتيان إيرار Sebastien Erard وإجْناز بلييل Ignaz pleyel يصنعون بيانوات pianos جميلة ولم يكن يخلو بيت من بيوت الطبقة الراقية من بيانو. ورتَّب كثيرون من المُضيفين سهرات موسيقية خاصّة حيث كان الضيوف - كما يقول الجونكورث Goncourts - يتكلَّفون الاستماع بينما هم في الحقيقة يُفَضِّلون الحوار الهامس أو المناجاة. فالألمان مآدبهم الموسيقي بلا كلمات، والفرنسيون يعيشون على كلمات بلا موسيقي.

وكان نابليون يُفَضِّل الأوبرا على الكونشرتات فلم يكن يستسيغ الغناء إلاَّ قليلاً ولم يكن صوتُه ليساعده على الغناء، لكن كان من متطلبات المظاهر الملكية ضرورة حضور الحاكم للأوبرا في المناسبات، ليراه الناس، وليتأمَّل. وقد أَسِف نابليون لأنّ:"باريس ينقصها .. دار أوبرا جديرة بمكانتها العالية كعاصمة للحضارة"، لكن اقتضى الأمر الانتظار حتى استطاع ابن أخيه وتشارلز جارنييه Garnier أن يُقيما في الفترة من 1861 إلى 1875 الدَرّةَ المتلألئة التي كَلّلت شارع الأوبرا Avenue de l'Opera إلاَّ أنّ مئات الأعمال الأوبرالية جرى تأليفها وإخراجها أثناء فترة حكم نابليون، وأوبرا السّيدة الشقراء (لا دام بلانش La Dame blanche) التي وضعها فرنسوا أريان بويلديو Francois - adrien Boieldien سيّد الأوبرا الكوميدية (الهزْليّة) عُرِضت ألفَ مرة في أربعين عاماً.

وكانت طبيعة نابليون الإيطالية تميل أكثر للأوبرات الإيطالية بما تتميز به من ألحان شجية وحبكات

ص: 215

دراميّة. ولحماس نابليون لمؤلفات جيوفاني بيزيللو Giovanni Paisiello دعاه لتولِّي إدارة أوبرا باريس والكونسرفتوار (المعهد الموسيقي) وأتى بيزيللو لباريس في سنة 1802 وقد بلغ من العمر خمسة وستين عاماً، ولم يؤلف فيها سوى أوبرا واحدة هي بروسربينا Proserpina في سنة 1803 وتضايق من الاستقبال الفاتر الذي قُوبل به، فعاد إلى إيطاليا سنة 1804 وقدَّمَ أعماله لجمهور أكثر تجانساً وملائمة في نابلي حيث كان جوزيف بونابرت وجوشيم مورا Joachim Murat.

وكان نابليون أكثر حظاً مع جاسبارو سبونتيني Gasparo Spontini الذي قَدِم إلى فرنسا في سنة 1803 إذ حظي بتأييد الإمبراطور ودعمه بمعالجته موضوعات تاريخية بطريقة تُضفي الجلال والعظمة على الإمبراطورية الجديدة، وأشهر أوبرا قام بوضعها هي أوبرا كاهنة الإلهة الرومانية فستا أو قيِّمة النار المقدّسة (لافيستيل La Vestale) إلاَّ أنه واجه صعوبات في إيجاد مسرح لعرضها، فتدخَّلت جوزيفين فتم إخراج هذه الأوبرا، وقد أدَّى ما بها من غرابة وضوضاء بالإضافة إلى قصة الحب التي تتحلَّق حولها إلى تحقيقها نجاحاً فائقاً سجَّله تاريخ الأوبرا. وعندما أُطيح بنابليون أَلَّف سبونتيني مقطوعة موسيقية احتفاءً بعودة البوربون إلى العرش.

واستمر شيروبيني Cherubini الذي كان مُهيمنا على الأوبرا الباريسية أثناء الثورة مُهيمناً عليها أيضاً في ظل حكم نابليون. وعلى أية حال فإن الإمبراطور كان يُفضِّل الموسيقى المرحة على أعمال شيروبيني الجادة لذا لم يُقدم له جوائز أو مكافآت، وكان هذا أمراً ملحوظاً. وقد قبل شيروبيني دعوة للحضور إلى فيينا (يوليو 1805) لكن نابليون استولى عليها في شهر نوفمبر من العام نفسه. ولم يكن شيروبيني سعيداً تماماً عندما دُعي لقيادة فرقة موسيقية تعزف في حفلات مسائية تكريماً لنابليون في قصر شونبرون Schonbrunn، وعاد لفرنسا ووجد تكريماً في قصر أمير دي شيمي de Chimay الذي أَضْفى الاحترام على مدام تالييه Tallien بتزوِّجه منها.

وعندما عاد نابليون من إلبا Elba ورغم مشاغله الكثيرة فإنه وجد من الوقت، ما يجعله يمنح شيروبيني رتبة فارس في جوقة الشرف، لكن لم يحدث إلاّ في عهد لويس

ص: 216

الثامن عشر أن تلقَّى هذا الإيطالي الكئيب اعترافاً بفضله ودخلاً كافياً. وفي الفترة من 1821 إلى 1841 وهي الفترة التي كان فيها مديراً للكونسرفتوار في باريس (معهد باريس للموسيقى) أثَّر في جيل كامل من الموسيقيين الفرنسيين. ووافته منيّته في سنة 1842 عن عمر يناهز الثانية والثمانين، وكاد يطويه النسيان في مشكاة الزمن المتغيرة (اللامبالية).

‌2 - متنوعات

يشبه نابليون تماماً لويس الرابع عشر في رعايته للفنون فهو - مثله - كان راغباً في ترسيخ مجد فرنسا وعظمتها، وكان يأمل أن يجعله الفنانون حياً في ذاكرة البشر. ولم يكن ذَوْقه الخاص على أحسن ما يكون فقد كان ملتفتاً دائماً للأمور العسكرية لكنه قام بما يستطيع لِيُلْهم فنَّاني فرنسا بالأصول التاريخية والمثيرات الشخصية، لقد نهب الأعمال الفنية الكبيرة ليس فقط باعتبارها ثروة قابلة للنقل وقابلة للتفاوض بشأنها (على نحو ما تُشترى في أيامنا هذه) وكأوسمة وشواهد على انتصاراته، وإنما أيضاً كنماذج (موديلات) يحتذيها طلبة الفنون في متاحف فرنسا.

لقد نقل فينوس وهي من أعمال دي ميديتشي Medici من الفاتيكان، والقديسون المتسامحون وهي من عمل كوريجيو Correggio من بارما، وزواج كانا وهي من أعمار فيرير Vermeer من البندقية (فينيسيا) وسلالة الصليب وهي من أعمال روبنز Rubens من أنتورب وصعود العذراء وهي من أعمال موريللو Murillo من مدريد

وحتى تماثيل خيول القديس مرقس St. Mark الصغيرة وجدت طريقها المحفوف بالمخاطر إلى باريس. وفي الفترة من 1796 إلى 1814 أرسل نابليون إلى باريس 506 من الأعمال الفنية الإيطالية عاد منها - بعد سقوطه - 249، وبقي 248 وضاع تسعة أعمال. وعن طريق النهب حلَّت باريس محل روما كعاصمة للفن في غرب أوروبا.

وكلَّما زادت فتوح نابليون زادت الأسلاب حتى فاضت على أقاليم (محافظات) فرنسا وأنشئت المتاحف لاستيعابها في نانسي Nancy وليل Lille وتولوز ونانت Nantes ورون Rouen وليون وستراسبورج وبوردو ومرسيليا وجنيف وبروكسل ومونبلييه Montpellier

ص: 217

وجرينوبل Grenoble وأمين Amiens .. وَعيَّن نابليون دينون الدومينيكاني Dominique Denon كمسئول عن كل هذه المجموعات الفنية خاصة متحف اللوفر، وكان دينون قد خدمه في بلاد كثيرة ولم ينس دينون أنَّ الإمبراطور قد ذهب بنفسه ليمكِّنه من الانسحاب بأمان من هضبة كان العدو قد غمرها بنيرانه خلال معركة إيلاو Eylau .

وقد رصد نابليون الجوائز المادية وأقام المسابقات في مجالات فنية مختلفة، فجدَّد جائزة روما وأعاد الأكاديمية الفرنسية في روما. ودعا الفنانين إلى مائدته وتحدث في النقد الفني حتى أثناء خوضه المعارك وقدَّر أعمال معظم الرسّامين الذين بذلوا كل طاقاتهم لتخليد أعماله وكذلك المعماريين الذين استطاعوا مساعدته في أن يجعل باريس أجمل المدن وحكمة ذِروة تاريخية وَعَهِدَ للمثّالين والنحاتين بتزيين خمس عشرة نافورة جديدة في ميادين باريس.

ولأن ذوقه في الرسم والعمارة كان ينحو نحواً كلاسيكيّا فإنه كان معجباً بالأسلوب التذكاري الذي ساد في روما القديمة، وكان هذا الأسلوب يهدف لإظهار القوّة والسمو أكثر من الحسن المريح وجاذبية التفاصيل. لذا فقد عَهِد إلى بارثيليمي فينون Barthélemy vignon لتصميم معبد المجد على شرف جيشه الأساسي (الجيش العظيم) وأمر بُناته ألا يستخدمون في تشييد هذا المعبد سوى الرخام والحديد والذهب. وقد أثبتت الأيام أن هذا المعبد (معبد المجد) كان مكلّفا جداً وكان العمل فيه صعباً حتى أنه رغم أنّ بداية العمل فيه كانت في سنة 1809 إلاَّ أنه ظلّ غير مكتمل حتى سقوط نابليون، فأكمله خلفاؤه في سنة 1842 لكنهم جعلوه كنيسة إحياء لذكرى القديسة ماري ماجدالين Magdalen- لاماديلين La Madeleine.

ولم تَنْعم به فرنسا أبداً سواء لتحقيق أغراض التقوى (المقصود العبادة) أو لجلب المسرّات نظراً لواجهته الكالحة ولأعمدته الأكثر تعبيراً عن جيش متقدّم منها عن آثم واهن نادم توَّاق لحبها (حب المكان الذي أصبح كنيسة). ومن المباني التذكارية أيضاً مبنى البورصة الذي بدأ اسكندر تيودور برونجنيار Alexandre-Theodore Brongniart العمل به

ص: 218

في سنة 1808 وواصل إتين دي لا بار Etienne de La Barre إكماله في سنة 1813، ولا يوجد في أي مكان آخر لشيطان الجشع وحب المال Mammon مثل هذا المبنى الفخم ذي الأُبَّهة.

وكان المعماريّان المُفضَّلان في فترة حكم نابليون هما بيرسييه Percier والمعماري المرتبط به عادة بيير فرانسوا ليونار فونتين Pierre-Francois-Leonard Fontaine وقد عملا معاً للربط بين اللوفر وقصر التوليري رغم تفاوت خطوطهما المعمارية ومن ثم فقد بنيا الجناح الشمالي (كور كاري Cour Carrée) للوفر (1806) وأصلحا وجدّدا السطح الخارجي وربطا الأرضيات بسلالم قوية (المقصود أن الأرضيات لم تكن في مستوى واحد فاضطرا لإقامة سلالم لمواصلة الطريق أو الممر). وصمَّما قوس النصر في ميدان الفروسية Arc de Triomphe du Carrousel (1806 - 1808) على نمط (وبالنسب نفسها) قوس سيتيميوس سيفيروس Septimius Severus في روما.

وبدأ جان فرنسوا شالجرين Jean-Francois Chalgrin في سنة 1806 في إقامة قوس النصر المرصّعه بالنجوم - وهو القوس الأكثر فخامة - في الطرف الأقصى لرحْبة الإليزيه، لكنه ما كاد يرفع قواعده حتى سقط نابليون ولم ينته العمل به حتى سنة 1837 أي قبل ثلاث سنوات من مرور رفاته تحته في طريقه إلى مثواه الأخير في مقبرته بدار ضحايا الحرب Hotel des Invalids ولا ريبَ أن هذا القوس يُحاكي قوس قسطنطين Arch of Constantine في روما إلاّ أنه يتفوَّق عليه - وعلى أى قوس نصر روماني آخر - في جماله، ويرجع هذا. في جانب منه - إلى نقوشه الدقيقة على الرخام. فإلى اليسار حفر جان - بيير كورتو Jean-Pierre Cartot تتويج نابليون، وإلى اليمين فرانسوا رودي Rude وهو يعزف النشيد الوطني الفرنسي (1833 - 1836) معبراً عن النشوة العسكرية في ظلال الثورة، إن هذا العمل يُعد واحداً من روائع فن النحت في القرن التاسع عشر.

لقد قام هذا الفن الصعب في ظل نابليون على الأمجاد التي حقَّقها قبل وصوله للحكم. وقد عاش هودو Houdon حتى سنة 1828 ونحت له تمثالاً نصفياً (موجود الآن في متحف ديجو Dijon) وقد ضمن هذا التمثال للفنان مكاناً بين جوقة الشرف. ولأن نابليون كان لا يزال يتذكر الأباطرة الرومان خاصة من خلال الأعمال النحتية المتعلّقة بتراجان Trajan، فقد عُهِد إلى

ص: 219

جان بابتست الأب Jean-Baptiste Le Pere وجاك جُونْدوِي Jacques Gondouin بتخليد ذكرى معركة أوسترليتز Austerlitz في أعمال من النحت البارز لتُلصق طبقة طبقة بشكل تصاعدي حول العمود الذي سيشغل مكاناً بارزاً في ميدان فيندوم Vendome وتم هذا بالفعل (1806 - 1810)، وفي سنة 1808 توَّج أنطوان شود Antoine Chaudet اسطوانة العمود بتمثال لنابليون نحته من مدفع كان - أي نابليون - قد استولى عليه من الأعداء. وقلّما وصل الفخر بالانتصارات إلى هذا المستوى العالمي.

وكادت الفنون الصغرى - كصناعة الأثاث الفاخر، والزخرفة الداخلية (الديكور) والتطريز وأشغال الإبرة والفخار والخزف والمجوهرات والزجاج والتماثيل الصغيرة - تموت أثناء الثورة لكنها بدأت تنتعش في ظل حكومة الإدارة (حكومة المديرين) وانتعشت في عهد نابليون، فقد أنتج سيفر Sevres مرة أخرى أعمال خزفٍ جميلة. واتخذ الأثاث النمط الإمبراطوري بصرامة. وتُعد المصغّرات التي صوّر فيها إيزابي Isabey الشخصيات القيادية في هذا العصر من بين أجمل المصغّرات الفنية في التاريخ.

وأبدعَ جوزيف شينار Chinard تماثيل نصفية جميلة من طين نضيج لجوزيفين ومدام ريكامييه، وكانت تماثيل مدام ريكامييه على نحو خاص تتَّسم بالجمال وقد عرَّى أحد نَهْيْها ليظهرها كنموذج للمرأة المثل التي قررَّت أنْ تبقى نصف عذراء حتى آخر حياتها.

‌3 - الرسَّامون

لقد انتعش فن الرسم الآن مع انتعاش البلاد ممّا مكّن رعاة الفنون من الدفع. وكان نابليون يدفع بسخاء لأنّه كان يرنو للخلود عَبْر القرون وكان يرنو للفت الأنظار لإنجازاته بالتقرب إلى أهل الأدب والفن. لقد جعله إعجابه بأوغسطس Augustus روما ولويس الرابع عشر الباريسي يميل للإعجاب بالمعايير الفنية الكلاسيكيّة - في الخط والانضباط والمنطق والنِّسب والتصميم والعقلانية والتحّفظ، لكن حدَّة أحاسيسه، ومدى خياله وقوة عاطفته، كل ذلك جعله يتفهَّم على نحو ما الحركة الرومانسية التي قامت لإطلاق الفرديّة والمشاعر والخيال والأصالة والإبداع والتأمل الباطني والألوان وتحريرها من أسر التقاليد والشكليات. لذا فإن

ص: 220

نابليون جعل من ديفيد الرسّام الرسمي في بلاطه، لكنه أَوْلى أيضاً شيئاً من رعايته لوجدان جيرار Gerard ورعوّية برودون Prud'hon وألوان جروس Gros المتفجِّرة الصَّاخبة.

وقد كان جاك لويس ديفيد (داود) مولعاً ولعاً طبيعياً بهذا الرَّاعي النصير (المقصود نابليون) الذي اتخذ لنفسه لقب قنصل والذي كان لفترة حامي حمى المدافعين عن حقوق العامة والذي تخّفى وراء قراراته ومراسيمه الشبيهة بقرارات مجلس الشيوخ الروماني ومراسيمه وسرعان ما زار ديفيد هذا الكورسيكي المنتصر (المقصود نابليون) بعد الثامن عشر من شهر برومير Brumaire (وفقاً للتقويم الجمهوري الذي وضعته الثورة الفرنسية)، وكسبه نابليون إلى جانبه بأن "حياة ذات مرة كفرنسي مُقَدَّم" لكنه وبّخه بكياسة لاستنزافه كثيراً من موهبته في التاريخ القديم، "أليست هناك أحداث تستحق الخلود في تاريخنا الحديث بل والمعاصر؟! "

وعلى أية حال فقد أضاف نابليون قائلاً: "افعل ما يسّرك، فقلمك الرصاص سيُحقِّق الشهرة لأيِّ موضوع تختاره، لأنَّ أي صورة تاريخية ترسمها ستتلقَّى مقابلها 100،000 فرنك". وكان هذا مُقْنعا. وصدَّق ديفيد على الاتفاق بأن رسم لوحة لبونابرت وهو يعبر الألب (1801) تلك اللوحة التي تظهر المقاتل الوسيم بساق جذّابة فوق حصان رائع يعدو بسرعة فوق المنحدر الصخري للجبل - إنها إحدى أجمل الصور في هذا العصر.

وكان ديفيد قد صوّت إلى جانب قرار إعدام لويس السادس عشر ولابُد أنه جفل عندما جعل نابليون من نفسه إمبراطور وأعاد للملكية كل أبهتها وسلطانها، ومع هذا فقد ذهب (أي ديفيد) ليرى سيّده الجديد (المقصود نابليون) وهو يضع التاج فوق رأسه، وكان افتتانه بالمشهد يفوق توجّهاته السياسية، وبعد ثلاث سنوات من الإخلاص المتردّد لسيّده (الذي أصبح ملكاً)، خلّد هذا الحدث في لوحة زيتية تُعد من روائع هذه الفترة. ويكاد يكون قد صوّر مائة شخصية في لوحة تتويج نابليون (1807) بل إنه رسم فيها مدام ليتيزيا (الأم) Letizia التي لم تكن حاضرة أثناء التتويج. وكان معظمهم راضين عن اللوحة ما عدا الكاردينال كابرارا Caprara الذي اشتكى ديفيد لأنه رسمه أصلعَ

ص: 221

بدون شعره المستعار الذي اعتاد وضعه فوق رأسه. وبعد أن تأمل نابليون اللوحة لمدة نصف ساعة رفع قبعَّته للفنان (ديفيد) وقال له: "هذا حسن، حسن جداً يا ديفيد، إنني أُحيّيك".

ولم يكن ديفيد مجرد رسّام رسمي للبلاط، وإنما كان زعيم الفن الفرنسي في هذه الفترة بلا منازع. لقد سعى إليه كُلّ ذوي الحيثية يجلسون أمامه طمعاً في لوحة منه - نابليون، بيوس السابع، مورا Murat، وحتى الكاردينال كابرارا بعد أن وضع باروكته (شعره المستعار) فوق رأسه. وقد نشر تلاميذ ديفيد - خاصة جيرار Gerard وجروس Gros وإيزابي Isabey وإنجر Ingres - تأثيره حتى عندما انحرفوا عن أسلوبه. وفي وقت متأخر زمنا حتى سنة 1814 كان زوّار اللوفر الانجليز يندهشون لوجود فنانين شبان ينسخون لوحات ديفيد - لا لوْحات عصر النهضة. وبعد عام تم نفيه بعد عودة البوربون، فذهب إلى بروكسل حيث انتعشت أحواله نتيجة عمله في رسم اللوحات الشخصية خاصة. ومات ديفيد في سنة 1825 عن عمر يناهز السابعة والسبعين بعد أن عاش حياة حافلة.

ومن بين تلاميذه انجر (1770 - 1867) الذي عاش بعده سنوات طوال. وعرَّجنا أثناء حديثنا عن جيرار وجيرين Guerin على رسومهما الشخصية ذات الطابع التنويري، وتوقفنا أكثر إزاء انطوان - جان جروس Antoine-Jean Gros بسبب تنقله الشائق بين الأساليب المختلفة. لقد لاحظناه في ميلان يرسم أو يتخيَّل نابليون على جسر أركول Arcole ففي هذه اللوحة، سرعان ما ندرك ميراث ديفيد الفني يعانق الرومانسية. وقد كافأ نابليون الفنان جروس الذي كان معجباً به إعجاباً أعمى، بأن أرسله ليشهد إحدى المعارك حتى يتمكن الفنان الشاب من رؤية الحرب عن قرب، وبعد ذلك بسنوات قلائل أصبح مثل جويا Goya لا يرى أن الحرب تسبب معاناة شديدة، ففي لوحته طاعون يافا (1804) أظهر نابليون يلمس قروح الضحيّة، لكنه أظهر أيضاً الفزع واليأس بادِيَيْن على الرجال والنساء والأطفال وقد أصابهم قدرهم الأعمى القاسي.

ولم يصوّر في لوحته معركة إيلاو Eylau (1808) مجريات الحرب وإنما صوّر ميدانها وقد غصّ بالمُحْتَضرين والموتى. وقد أحس بدفء ألوان روبين Ruben وأغرق رسومه بحيوية الدم واللحم التي رفعت الروح الرومانسية لفرنسا بعد

ص: 222

عصر نابليون. لكن شعوره بأنه يخون سيده المنفي (نابليون) جعله يحاول العودة في أعماله للأسلوب الكلاسيكي بما فيه من هدوء وسكون. وفشل واستسلم للاكتئاب (المانيخوليا) وجفت فيه منابع الحيوية وحب الحياة. لقد تاه وأصبح عرضة للنسيان في عصر يَمُور بهوجو Hugo وبيرليوز Berlioz وجيريكول Gericault وديلاكُرْوا Delacroix. وفي 25 يونيو سنة 1835 غادر بيته وهو في الرابعة والستين من عمره وانطلق إلى ميدون Meudon حيث أغْرق نفسه في رافد نهر السّين.

أما بيير- بول برودن Pierre-Paul Prud'hon (1758 - 1823) فطوّر الفَوَران الرومانسي بتفضيله الجمال المثالي على الحقيقة والنسوة الفاتنات على الأرباب وفضل كوريجيو Correggio على رافاييل Raphael. وأعاد مع ديفيد الأهمية الأولى للخط لكنه شعر أنَّ الخطَّ يموت بلا ألوان. وكان دقيقاً إلاّ في حبّه للنساء، (النص: لم يكن رجلاً إلاّ عندما يتعامل مع النساء) فولعه بالتأمل وحساسيته الشديدة للحب والعشق يمكن أن يغفرا كل أخطائه التي تأتي في سياق مهذّب، ولأنه كان الأخ الأصغر لثلاثة عشر طفلاً فقد عانى الفقر في كلوني Cluny لكنه تطور على نحوٍ متردد، وعلى أية حال فإن رجال الدين عندما رأوه وهو يخطِّط ويرسم حثّوا الأسقف على تمويل دراسته للفن في ديجون Dijon، فكان طالباً جيداً، لكنه في سن العشرين تزوّج من امرأة فاتنة إلاّ أنها سرعان ما تحوّلت إلى امرأة فظة سليطة اللسان. وحصل على منحة دراسية فذهب إلى روما دون أن يصحب زوجته معه، فَفُتن برافاييل ثم ليوناردو وأخيراً استسلم لتأثير كوريجيو Correggio.

وفي سنة 1789 عاد لزوجته وانتقل معها إلى باريس وسرعان ما وجد نفسه منساقاً في الفوضى الثورية ولم يعد لديه وقت أو تذوق لكيوبيدْ his Cupids ولسايكييه his Psyches، لكنه بعناد واصل رسمهما وبدا رقيقاً محباً في رسمه حتى لقد بدا كأن فرشاته تعانق الأجساد البشرية التي يصورها. وكان يتكسّب عيشه من تصميم أوراق الشركات

ص: 223

والمؤسسات التي يكتب في رأسها اسم الشركة أو المؤسسة وعنوانها، ورسم المُصَغَّرات والإعلانات التجارية، وبعد عشر سنوات من العذاب فاز بتكليف من حكومة الإدارة برسم صورة الحكمة تهبط للأرض التي لفتت إليها نظر الجنرال بونابرت، وفي وقت لاحق كان نابليون يركّز على ديفيد David وكان أحياناً يعتمد بشكل عابر على برودون Prud'hon، وعلى أية حال فقد جلست جوزيفين أمامه ليرسمها فكانت لوحة عُلّقت في اللوفر، وفي هذه الأثناء كان يُعاني من زواجه بواحدة، فاتفق مع زوجته على الانفصال.

ولم يلفت النظر ويحظى بالتصفيق إلاّ وهو في الخمسين من عمره أي من حوالي سنة 1808 ففي هذا العام صَبَ أحلامه الشهوانية في لوحته اغتصاب بسوخي (سايكي Psyche) ثم وازنها بلوحته العدالة والانتقام يلاحقان الجريمة وتأثر نابليون بجمال لوحاته فعيَّنه في

ص: 224

جوقة الشرف ومنحه مكاناً لإقامته في السوربون، وفي المكان المجاور لهذا الفنان الجائع للحب كانت تُقيم فنانة أخرى، إنها كونستانس مابيه Constance Mayer التي أصبحت خليلته ومديرة شؤون بيته وعزاءً له في شيخوخته. وفي سنة 1821 اعترى كونستانس ماييه وخز ضمير مفاجئ ومشاعر دينية عارمة وانتحرت. وتأثر برودون بهذا الحدث تأثراً كبيراً عصف به. وفي سنة 1823 وافته منيته ولم يُحدث موته - إلاّ بالكاد - تأثيراً كبيراً في الحركة الرومانسية التي سبق له أَنْ عزّزها بالرجوع إلى أعمال الفنانين من ديفيد إلى واتو Watteau، فأعاد للفرنسيين من جديد حُبَّهم للجمال والحُسْن.

‌4 - المسرح

كان نابليون مُلماً تماماً بالدراما الكلاسيكيّة في فرنسا، وكان إلمامه بأدب الدراما في بلاد الإغريق القديمة أقل. وكان نابليون يفضّل كورنيل Corneille لأنه وجد فيه ما شعر أنه فهم دقيق للبطولة والنبالة، وقد عبَّر كورنيل عنهما - فيما أحسن نابليون - بشكل أفضل كثيراً مما فعل راسين Racine قال نابليون في سانت هيلانة:"إن التراجيديا الجيّدة تقترب منا اقتراباً شديداً كل يوم" والتراجيديا من النوع الأرقى هي مدرسة العظماء: "إنه لمن واجب الحكَّام تشجيعها والعمل على تشجيع الناس على تذوّقها .. آه لو أنَّ كورنيل عاش في زماني لجعلته أميراً".

ولم يكن الإمبراطور يهتم بالكوميديا فلم يكن في حاجة للتسلية والترفيه، وكان تاليران يُشفق على السيِّد دي ريميوزا de Remusat لأنه كمسئول عن الحفلات والترفيه في البلاط الإمبراطوري. كان يتوقع أن يقوم بترتيب أمور الترفيه والتسلية لهؤلاء المسئولين المرهقين لكن هؤلاء المسئولين أنفقوا الأموال على الكوميدي فرانسيز Comedie-Francaise (المصطلح يعني المسرح الفرنسي وليس مرتبطاً بالكوميديا بالضرورة - المترجم) ونجومه. وقد رحَّب نابليون بتالما على مائدته كما رحب بالآنسة (المدموازيل) جورج Mlle. George على فراشه.

وفي سنة 1807 قلَّص نابليون عدد مسارح باريس إلى تسعة مسارح وأعاد تأسيس المسرح الفرنسي Theatre Francais (وهو غير الكوميدي فرانسيز الآنف ذكره) كما كان

ص: 225

يهتم بين الحين والآخر بدار الكوميديا الفرنسية - وكان لها حقوق - مقصورة عليها - لإخراج الدراما الكلاسيكيّة. وفي 15 أكتوبر سنة 1812 - وبين خرائب موسكو المحترقة - وجد الوقت الكافي ليصوغ للمسرح الفرنسي مجموعة قواعد وإجراءات دقيقة ظلت تحكم هذا المسرح حتى اليوم وفي ظل هذا التشجيع قدّم الكوميدي فرانسيز خلال فترة الإمبراطورية أجمل مسرحيات شهدها التاريخ الفرنسي.

ولإضافة نشاطات أخرى لهذه النشاطات أعيد بناء مسرح أودون Theatre de l'Odeon - الذي كان شُيّد في سنة 1779 ودّمرْ حريق في سنة 1799 - في سنة 1808 وكانت خطوط معماره كلاسيكيّة كما أراد لها المعماري شالجرين Chalgrin. وأنشئ مسرح البلاط في قصر التوليري، كما أنشئت منصات خاصة للتمثيل المسرحي تميزت بقدر كبير من الامتياز في كثير من الدور التي يتمتع أهلها بالثراء.

وقد وصل تالما Talma بعد أن لعب أدواره في الثورة الفرنسية - إلى ذروة مجده في ظل حكم نابليون. وكان معتزاً بنفسه وكان انفعالياً مميَّزاً فلا بُد أنه كان يجد صعوبة في السيطرة على مكوّنات شخصيته الحقيقية عند أداء أدواره التمثيلية. لقد أصبح هو سيّد الفن البارع بتعلّمه كيف يضبط وينسق كل حركة من حركات أطرافه، وكل خَلْجة من خلجات وجهه، وكل نبرة من نبرات صوته، ليجعلها ملائمة لأية أحاسيس ومشاعر أو أفكار للشخصية التي يمثلها، وليجعلها ملائمة للتعبير عن أية دهشة أو معنى أو مغزى .... تريد هذه الشخصية أن توصلها للمشاهدين، وكان بعض المولعين بمشاهدة المسرحيات يذهبون عدّة مرّات لمشاهدة العرض الواحد ليروْه في الدّور نفسه ليستمتعوا ببراعة فنه وليدرسوه.

ولم يكن أسلوبه في الأداء خطابياً على نحو ما كان عليه أسلوب الأداء التمثيلي في ظل الحكم القديم (قبل الثورة). لقد كان يلقي الأشعار سداسية التفاعيل كما لو كان يقرأ نثراً (غير منظوم) وكان يعارض المبالغة غير الطبيعية في إظهار المشاعر ومع هذا فقد كان بمقدوره أن يكون حالما كأي عاشق انفعالياً كأي مجرم. وكادت مدام دي ستيل de Stael تصل إلى حد الرّعب عندما شاهدت تالما يؤدي دور أوثيلو Othello فكتبت له في سنة 1807:

"انّك في مجال

ص: 226

فنك فريد في العالم (ليس لك نظير) ولم يصل أحد قبلك إلى هذه الدرجة من الإتقان حيث وحَّد الفن في شخصك بين الإثارة والإلهام والتفكير من ناحية والتلقائية من ناحية أخرى، وبين العقل والسجيّة".

وكان نابليون أيضاً مفتوناً بهذا التراجيدي (تالما) فقدّم له مبالغ عينية ودفع ديونه ودعاه مراراً على مائدة الإفطار وكان الإمبراطور يستطيع أن يظل مستغرقاً في الحديث عن الدراما والدبلوماسيون والجنرالات ينتظرون لقاءه بينما هو يشرح تفاصيل تاريخية يجب مراعاتها عند تقديم الشخصية. وذات صباح بعد أن شاهد مسرحية موت بُمبي La Mort de Pompee قال لتالما:

"إنني لستُ براضٍ تماماً. إنك تستخدم ذراعيك كثيراً. إن الملوك لا يُكثرون هكذا من الإشارات والإيماءات. إنهم يعرفون أنَّ الحركة أمر وأن النظرة موت، لذا فهم يقتصدون في الإشارات والحركات والنظرات"

وقد تأكدنا أنّ تالما قد استفاد من هذه النصيحة. وعلى أية حال فقد ظل تالما حتى آخر حياته سيّداً للمسرح الفرنسي.

وكان للمسرح الفرنسي أميراته (ممثلاته البارعات) أيضاً فقد كانت الآنسة (المدموازيل) دوشسنوا Duchesnois ذات وجه عادي لكنها متناسقة القوام. لذا فقد كانت - على حد ما ذكر دوماس الأب Dumas Pere - معجبة على نحو خاص بدور الزير Alzire حيث كانت تستطيع عرض دوْرها وهي شبه عارية وكان صوتها أيضاً ذا نغمات شجيّة عميقة ويُعبِّر عن الأسى الميلودي melodious (يتسم بأنه صوت رخيم) حتى أنه في يوم عرض هذه المسرحية فضَّلها معظم من شاهدوها في دور ماريا ستورات Maria Stuart على الآنسة راشيل Mlle. Rachel لقد كانت أكثر ما تكون إبداعاً عندما تؤدي أدواراً تراجيدية إذ كانت تنافس تالما Talma في أداء هذه الأدوار، وعادة ما كان يتم اختيارها لتلعب أدوارها معه. أما الآنسة جورج فكانت ذات جمالٍ يُحَرِّضُ على الإثم ولا بد أن المسرح الفرنسي تردّد عند توزيعه الأدوار في أن يعهد إليها بدوْر كليتمسترا Clytemnestra في مسرحية راسين Iphigenie .

لقد جذب صوتها وقوامها القنصل الأول (نابليون) وكأيّ سيد إقطاعي يتمتّع بحق السيّد droit de seigneur راح يزورها زيارات قصيرة بين الحين

ص: 227

والحين وكان عليها أن تستجيب لطلبه. ورغم أن هذه العلاقة قد انتهت بعد عام إلاّ أنها - مثل تالما - ظلت مخلصة لنابليون طوال انتصاراته وهزائمه على سواء، ومن ثمّ فقد فقدت مكانها في المسرح الذي كانت تعمل به عندما سقط نابليون، لكنها عادت بعد ذلك لتُشارك في حركة المسرح الرومانسي بما في هذه الحركة من إثارة.

واعتقد نابليون - وله بعض الحق - أنَّ المسرح الفرنسي في عهده رفع من شأن المسرح عموماً إلى درجة من الامتياز لم يحقّقها من قبل. وأمر نابليون فرقة هذا المسرح عدة مرات بتقديم عروضها على نفقة الدولة إظهاراً لتفوقها ودليلاً علي عظمته - في مينز أو كوْمِبْنيْ Compiegne أو فونتينبلو في مسرح البلاط أو - كما حدث في إيرفورت ودريسْدن Dresden - لعرض مسرحية قبل لقاء الملوك.

ص: 228

الفصل الثالث عشر

‌الكتابات المناهضة لنابليون

‌1 - الرقيب

كان نابليون مهتماً بالمسرح أكثر من اهتمامه بالكتابات الأدبية. لقد راقب بعناية برامج المسرح الفرنسي وأبدى حكمه عليها، وكان إلى حد كبير - مسئولاً عن استبعاد (مسرحيات) فولتير وإحياء مسرحيات كورنيل وراسين. ولم يكن ذوقه في الأعمال الأدبية راقياً على هذا النحو. وكان يقرأ الرِّوايات بشغف بل كان يأخذ معه كثيراً من الروايات - معظمها ذوات طابع رومانسي - عند ذهابه للمعارك. وكانت مائدة حديثه في سانت هيلينا تضم بعض كُتب النقد الأدبي الجيّدة التي تحوي معلومات عن هومر وفرجيل وكورنيل وراسين ولا فونتين ومدام دي سيفنيه وفولتير وريتشاردسون ورسّو Homer، Virgil، Corneille، Racine، La Fontaine، Mme. de Sevigne، Voltaire، Richardson، Rousseau، لكنه كان لا يستسيغ شكسبير على الإطلاق. "انه لمن المحال أن يُنهي المرءُ أيّاً من مسرحيّاته. إنها هزيلة يُرثى لها، فليس فيها شيء يجعلها تقترب - في أي موضع فيها - من أعمال كورنيل أو راسين"(كانت الترجمات الفرنسية لأعمال شكسبير غير كافية وغير جيّدة).

وكمعظم رجال الأعمال لم يكن نابليون يُكن احتراماً للكتاب في مجال الاقتصاد أو الحكم، إذ كان يعتبرهم بائعي كلام ليس لديهم إلاّ القليل من الحِسِّ الصائب لفهم الحقيقة والطبيعة وحدود القدرة البشريّة. وكان متأكداً أنه يعرف أفضل منهم ما يُريده الشعب الفرنسي وما يجب أن يكون:

"كفاءة الحكومة وتكاملها، والاعتدال في الضرائب، وحرية السوق، وانضباط الإجراءات، وانتظام التمويل، وضمان توفّر فرص العمل بشكل يعادل العمالة المطروحة في مجال الصناعة، والأراضي الزراعية المُتاح ملكيتها للفلاحين، وتهيئة مكانه عزيزة لفرنسا بين الدول، فإن تحقق ذلك فلن يصر الشعب على تدابير (إجراءات) محدَّدة ولن يهتم الشعب بمسألة شغل المناصب بحفنة من المخبرين بعد نزاع كلامي".

ولم يكن نابليون في سعيه الدءوب للوصول لهذه الغايات يُطبق كثيراً تدخل لوردات الكلام من

ص: 229

رجال القلم والخطباء. وكان نابليون إذا وجد أن تهدئة هذه الطائفة (لوردات الكلام من كتاب وخطباء) يستلزم تقديم جوائز أو مكافآت أو معاشات فإنه لم يكن يتوانى في تقديمها، وإلاّ فإنه يعمل على الحيلولة بين مسببي الإزعاج لحكمه القنصلي أو الإمبراطوري والنشر، أو العمل على إبعادهم عن باريس أو فرنسا. وقد كتب نابليون في سنة 1802:

"إنَّ حرية الصحافة التي لا تحدّها حدود سُرعان ما تُسبب الفوضى وترسّخها في دولة كل شيء فيها مهّيأ لذلك بالفعل".

وكما كان يحدث في عهد حكومة الإدارة، فإن نابليون رغبة منه في متابعة الرأي العام، عمد إلى إصدار الأوامر لمديري البريد بفضِّ بعض الخطابات الخاصَّة، وكتابة تقارير له فيما يتعلق بالفقرات المعادية له، وأن يُعيدوا إغلاق الأظرف، وأن يُرسلوا نسخاً من المقتطفات التي يجمعونها من هذه الخطابات إليه شخصياً أو إلى الغرفة السوداء في مكتب البريد العام في باريس.

وأصدر تعليمات لأمين مكتبته الخاصة أن يُعِد تقريراً ملخصاً يعرضه عليه كل يوم فيما بين الساعة الخامسة والسادسة يتضمن ما ورد في الدوريَّات الجارية متعلقاً بالأمور السياسية، وأن يُقدِّم هذا التقرير كل عشرة أيام، وأن يتضمن هذا التقرير أيضاً تحليلاً لما ورد في الكتب والنشرات والأبحاث التي نُشرت في غضون العشرة أيام السابقة على تقدير التقرير وأمر نابليون أمين مكتبته الخاصّة أن يقدم له في اليوم الأول والسادس من كل أسبوع (أسبوع الثورة الفرنسية عشرة أيام) فيما بين الساعة الخامسة والسادسة نشرة بالملْصقات والإعلانات التي قد تلفت الانتباه وأن يكتب في تقريره أيضاً ما يكون قد نما إلى علمه من أقوال أو أفعال في المدارس المختلفة والتجمّعات الأدبية والخطب والمواعظ .. مما قد يكون ذا أهمية من منظور سياسي أو خلقي.

وفي 17 يناير سنة 1800 أمر نابليون بوقف ستين صحيفة من بين ثلاث وسبعين صحيفة كانت تصدر في فرنسا في ذلك الوقت. وكان نابليون يُواصل بذلك السياسة التي سارت عليها حكومة الإدارة. وفي نهاية هذا العام المذكور آنفاً لم يَعُد باقياً من هذه الصحف إلاّ تسع، لم تكن واحدة منها ذات طابع نقدي راديكالي. قال نابليون:"إن هذه الصحف المعادية تسبب الرعب أكثر مما تسببه ألف حربة". ودأبت صحيفة لي مونتير

ص: 230

يونيفرسال Le Moniteur universel على الدفاع عن سياسة نابليون، وكان في بعض الأحيان يكتب لها المقالات بل وحتى مستخلصات الكتب، لكنه لم يكن يوّقع هذه المقالات، لكن أسلوبها الدكتاتوري authoritative كان يُفشي بسرّ كاتبها. وقد سمِّي المفكرون الظرفاء هذه الصحيفة الحكومية باسم ساخر محرّف يعني الصحيفة الكذّابة مونتير يونيفرسال.

"إنني أريد منك أن تكتب لمحرِّري (جورنال دي ديبات le Journal des debats) وبيليسيزت Le Publiciste وجازيت دي فرانس La Gazette France فهي الأكثر انتشاراً، كما أعتقد .. أمراً تُعلن لهم فيه .. أن عصر الثورة قد انتهى وأنه ليس في فرنسا الآن إلاّ حزب واحد، وأنني لن أتسامح مُطلقاً مع الصحف التي تكتب - أو تفعل - أيَّ شيء ضِدَّ مصالحي، فإن نشرت هذه الصحف مقالات قليلة تحوي قدراً من السم مهما كان قليلاً، فإنها ستجد ذات صباح جميل من يُغلق أفواه كتَّابها".

وفي 5 أبريل سنة 1800 امتدت الرقابة لتشمل الدراما. وكانت حجة الحكومة في إجرائها هذا أنَّ الآراء التي يتم التعبير عنها على مستوى الأفراد وبشكل خاص قد لا تُحدث إلاّ أضراراً قليلة، لكن هذه الآراء نفسها إذا ما تم وضعها على لسان شخصية تاريخية شهيرة فإنها ستُحدث تأثيراً انفجارياً مُضاعفاً عند عَرْضها على المسرح بسبب بلاغةِ ممثلٍ محبوب جماهيرياً وقوة أدائه، إنها - أي هذه الأفكار - في هذه الحال ستُثير المشاعر بشكل مُضاعف بين جمهور المشاهدين. وقد استثنت الرقابةُ من ذلك نقد المَلَكِيَّة، وامتداح الديمقراطية. وقد تمَّ استبعاد مسرحية موت قيصر La Mort de Cesar من المسارح بسبب تَصْفيق جماهير النظَّارة لخطب بروتس Brutus ضد الدكتاتورّية. وأخيراً أحكمت الدولةُ السيطرةَ. على كلِّ المطبوعات.

"انه لمن المهم جداً ألاَّ يُسمح بالنشر إلاَّ لمن تثق بهم الحكومة. فمن يُخاطب الجماهير من خلال مطبوعات هو كمن يتحدث إليهم في اجتماع عام، في مقدوره أن يعرض موادَّ مثيرة ولا بد من مراقبته"

ص: 231

باعتباره محرِّضاً مُحتملاً أو مُسبباً مُحتملاً للحرائق. وعلى هذا فكلُّ طابع لابد أن يُقدِّم للرقيب كلَّ نصًّ قبل طبعه، سواء قَبْل أَنْ يطبعه أو أثناء طبعه ولابُدَّ من الحصولِ على موافقة الدولةِ على الطَّبْع، ولا بد أن يُوافق الطابعُ (الناشرُ) على حذفِ المادة التي تعترضِ عليها الرقابةُ أو إحلال البديل عنها كما تقترحه الحكومة. وحتى بعد أن يُوافقَ الرقيبُ وبعد طباعة الكتاب أو الصحيفة أو النشرة، فمن حقِّ وزير الشرطة (الداخلية) أن يُصادر المادةَ المنشورةَ أو حتى يُتْلفها تماماً، دون اعتبار لخسارة المؤلِف أو الناشر.

وكان على الأدب والفكر في ظل هذه القيود على الفكر أن يُناضلا ليظلاَّ على قَيْد الحياة في ظلِّ نابليون. وقد وقع هذا النضال بأشجع معانيه على كاهل امرأة.

‌2 - مدام دي ستيل:

من 1799 إلى 1917 م

MME. DE STAEL

2/1 - خَصْمُ نابليون اللَّدود

سبق للجنة الأمن العام أن أبعدت مدام دي ستيل عن فرنسا وخفّضت حكومة الإدارة هذه العقوبة فاكتفت بإقصائها عن باريس، وبعد سقوط حكومة الإدارة أسرعت عائدة إلى العاصمة (12 نوفمبر 1799) وسكنت شقّة في شارع دي جرينل de Grenelle في حي فوبورج سان جيرمين Faubourg ST. Germain الرَّاقي. ولم تعترض الحكومةُ القنصليةُ - أعنى نابليون - على عَوْدتها - وسرعان ما افتتحت صالوناً جديداً لأسباب منها أن المناقشات في باريس .. كانت دائماً أكثر فتنةً وسحراً من كل المسرّات وأنها كانت قد صمَّمت على أن تلعب دوراً في توجيه الأحداث، ولم تضع في اعتبارها أن مثل هذا الدور لا يليق بامرأة.

لقد بَدَالها أنَّ هذا أمر لائق تماماً لامرأة مثلها ذات مال وذكاء، خاصة إن كانت وريثة جاك نيكر Jacques Necker (والدها) الذي كانت تعتبره بطل الثورة الفرنسية الذي لم يُقَدَّر حق قدره. وبالإضافة لهذا فقد كانت الحكومة الفرنسية لا تزال مدينة له

ص: 232

بمبلغ عشرين مليون فرنك كان قد أَقْرضها لها (للحكومة) في سنة 1789، وكان أحد أهداف مدام دي ستيل هو استعادة هذا المبلغ. وكان نموذج الحكومة الأمثل من وجهة نظرها هو الملكية الدستورية التي تسمح بحرية الصحافة والعبادة والخطابة، والتي تحمي مِلْكية الأثرياء ضد حسد الفقراء، تماماً كما كان رأي أبيها.

وبهذا المعنى كانت تَشْعر أنها كانت مُخلصة للثورة كما عرفتها الجمعية الوطنية 1789 - 1791. لقد كانت تحتقر المشتركين في قَتْل الملك ورحَّبت في صالونها بجيرانها من ذوي الرُّتب والألقاب في فوبورج الذين كانوا يدعون كل يوم طالبين من الرب عوْدة البوربون إلى الحكم. ومع هذا فقد حلَّقت المتجمعين في صالونها حول بنيامين كونستات Benjamin Constant (قسطنطين) الذي نذر حياته للدفاع عن الجمهورية والذي كان - كعضو في التربيونيت Tribunate- يُعارض كل حركات نابليون من مرحلة القنصلية إلى مرحلة السلطة الإمبراطورية، ورحّبت في صالونها أيضاً بإخوة القنصل الأول (نابليون) لأنهم كانوا هم أيضاً غير مرتاحين في ظلِّ سلطته المتزايدة.

وحقيقة الأمر أن كل ذوي الشأن في المجاليْن السياسي والفكري في باريس - وجدوا طريقهم إلى اجتماعات المساء في صالونها، شغفاً منهم في معرفة آخر الأقاويل في المجال السياسي وليسمعوا مدام دي ستيل تَخُوض غمار الحوار والمناقشات على نحو لم تشهده باريس من امرأة منذ مدام دو ديفان Mme du Deffand. وقد أعلنت مدام دي تيسّي Tesse:" لو كنتُ ملكة لأمرتُ مدام دي ستيل بالحديث معي طوال الوقت". وقد كتبت جيرمين Germaine نفسها أن: "كل طبقات فرنسا كانت تشعر بضرورة النقاش، فلم يكن الكلام (الحوار) هنا كما هو في أي مكان آخر - مجرد وسيلة للتعارف والاتصال بين الناس

وإنما كان كآلة موسيقية شُغف الناس بالعزف عليها".

ولم تكن دوماً معارضة لنابليون إن كان لنا - حقيقة - أن نُصدّق بوريين Bourrienne، فقد كتبت له خطابات إطراء وتملّق في بداية الفترة القنصلية لتعرض خدماتها عليه.

ص: 233

ولكن قرارهُ بتجاهل عروضها، وتوسيع دائرة الرقابة واحتقاره للمكفرين السياسيين، وفكرته عن المرأة التي مؤداها أنها مجرد أداة للإنجاب، ووسيلة للذة، وأنه لا يُوثق في فكرها، كان بمثابة لدغة لها دفعتها للرد عليه. وعندما أطلق على ضيوفها اسم الأيديولوجيين ideologues أطلقت عليه بدورها عدو الفكر / أيدو فوب ideophobe، ولأن غضبها منه (من نابليون) كان يزداد، فقد وصفته بأنه:"روبيسبير Robespierre فوق صهوة جواد أو هذا البورجوازي الذي اعتلى العرش".

وفي السابع من مايو سنة 1800 انتقلت بزوجها وبطانة صغيرة من المخلصين إلى كوبت Coppet في فترة الصيف. وكان نابليون قد غادر باريس في اليوم السابق ليعبر جبال الألب ويواجه النمساويين في مارينجو Marengo، واعترفت جيرمين (مدام دي ستيل) في وقت لاحق:"لم أستطع أن أمنع نفسي من تمنّي أن تحيق الهزيمة بنابليون إذ بدت هزيمته هي الطريق الوحيدة لوقف الطغيان". وفي خريف هذا العام عادت إلى باريس بعد أن ضَجِرت من الإقامة في كوبت ومونت بلانك Mont Blanc، فقد كانت لا تستطيع العيش دون مناقشات "ولم تكن المناقشات مزدهرة في أيِّ مكان ازدهارها في باريس".

وسرعان ما جمعت في صالونها جماعة من العباقرة والنوابغ راحوا يتحاورون في موضوعهم الأثير وهو دكتاتورية نابليون. واشتكى نابليون من هذا الوضع قائلاً: لقد حملت كنانتها المليئة بالسهام. إن الجماعة المتحلّقة حولها تتظاهر بأنها (مدام دي ستيل) لا تتحدث في السياسة ولا تتحدث عنِّي لكن كيف - إذن - أفسرّ أنَّ كلَّ من رآها، قلَّ حُبّ لي؟ وقال بعد ذلك في سانت هيلينا St. Helena:

" إن بيتها أصبح حقاً ترسانة توجِّهُ أسلحتها ضدي. لقد كان الناس يذهبون إلى هذا البيت ليكونوا فرساناً زائفين في حرب صليبية تشنها ضدي". بل أنه ذهب إلى حد القول: "إن تلك المرأة علَّمت الناس أن يفكروا فيما لم يتعوَّدوا التفكير فيه قبل ذلك، وما كانوا قد نسوا كيفية التفكير فيه".

ص: 234

لقد شعر نابليون أنه كقائد يعمل على إخراج فرنسا من حالة الفوضى بفرض نظام إداري يتَّسم بالكفاءة، وبتحقيق جيوشها انتصارات - في الوقت نفسه - ضد التحالفات المعادية، أنَّ من حقه أن يتوقع - أو يفرض عند الضرورة - معنويات عامة وأخلاقاً عامة على الجماهير، وأن يفرض تنسيقا بين الروح الوطنية والإرادة الوطنية للدفاع عن جمهورية فرنسا الجديد وحدودها الطبيعية - لكن هذه المرأة (مدام دي ستيل) جمعت حولها كلا من الموالين للملكية واليعاقبة Jacobins ووحَّدتهم ضده، ووالت أعداءه.

وكان والد جرمين متفقاً مع نابليون. لقد أنَّبها (أي أنّب ابنته) لهجومها المتواصل على الدكتاتور الشاب (نابليون) وقال لها إن شيئاً من الدكتاتورية ضروري أثناء الحرب. لكنها أجابته قائلة: "إن الحرية أهم من النصر". وشجعت مدام دي ستيل، بيرنادوت في معارضته لنابليون، وكتبت بعض الخطب التي ألقاها كونستانت في التريبيونيت Trebunate (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) ضد انتهاكات نابليون لاختصاصات وصلاحيات المجلس التشريعي (الهيئة التشريعية). لقد كانت هي (مدام دي ستيل) وبونابرت سريعي الغضب متّسمين بالغرور، ولم تكن فرنسا لتتسع لكليهما، ليكون كل منهما حراً يتصرف كما يشاء.

وفي ربيع سنة 1801 كتب نابليون لأخيه جوزيف Joseph (يوسف): "إن السيِّد دي ستيل في بؤس شديد، ومع هذا فإن زوجته تُقيم الولائم والحفلات الراقصة" ونقل جوزيف إليها هذا التوبيخ، فانتقلت إلى مقرِّ إقامة زوجها في ميدان الكونكورد (الكلمة تعني الوفاق) فوجدته وقد أخذ به الشَّلل كل مأخذ، فراحت تُمرِّضه وتعتني به، وفي شهر مايو سنة 1802 أخذته معها عندما غادرت باريس إلى سويسرا، ومات في الطريق وتمّ دفنه في مقبرة كوبت. وفي العام نفسه بدأت مدام دي ستيل في تعاطي الأفيون لأن نوبات الهياج كانت تعتريها.

ص: 235

2/ 2 - المؤلفة

كانت مد دي ستيل أعظم مؤلفة في أوروبا في زمانها وكانت أعظم كتاب فرنسا باستثناء شاتوبريان Chateaubriand لقد كتبت خمسة عشر كتاباً قبل سنة 1800 (أصبحت هذه الكتب منسيّة الآن)، وفي ذلك العام (1800) قدَّمت عملاً كبيراً عن الأدب De la Litterature ثم ألفت روايتين (دلفين Delphine في سنة 1803 وكورين Corrine في سنة 1807) وقد حقَّقت هاتان الروايتان لها الشهرة في أنحاء أوروبا.

وفي الفترة من 1810 إلى 1813 خاضت معركة حياتها لنشر عملها المهم (عن ألمانيا De L'Allemagne) ، وتركت بعد موتها كتاباً آخر مهماً وكبيراً (أفكار وتفسيرات حول

الثورة الفرنسية Considerations Sur

La Revolution Francaise) و (عشر سنوات في المنفى Les dix Annees d'exil) لقد اتّسمت كتاباتها التي أشرنا إليها هنا بالصدق، كما أنها كانت أعمالا أساسيَّة، وبعضها بلغ 800 صفحة. وكانت مدام دي ستيل تبذل جُهدا شاقاً في العمل. لقد كانت تعمل بجد وتمارس الحب بجد ومواظبة، وتكتب بعاطفة جيَّاشة وحماس. لقد حاربت حتى النهاية أقوى رجال العصر (نابليون) وكان سقوطُه نصراً لها، مع أنها كانت تعاني ظروفاً حزينة.

لقد تناول عملها الموسوم باسم: (De la litterature consideree dans ses rapports avec les institutions sociales) موضوعاً كبيراً ومهماً:

"إنني أريد أن أفحص أثر الدين والأخلاق والقوانين على الأدب (والفكر) وأثر الأدب (والفكر) على الدين والأخلاق والقانون".

لقد كانت لا تزال تتنفّس روح القرن الثامن عشر - حرية الفكر، الفرد في مواجهة الدولة، تطور المعرفة والأخلاق، هنا لا مجال للميثولوجيا (الأساطير) الفوقطبيعية supernatural myth (التي لا تنسجم مع قوانين الطبيعة)، فقد كانت مدام دي ستيل تؤمن بنشر التعليم والعلم والمعرفة.

وكان المطلب المسبّق - في رأيها - لإحداث أي تطور هو تحرير العقل من سطوة السيطرة السياسية. فبالعقول المتحررة على هذا النحو، سينتعش الأدب (والفكر) ويتضمّن أفكاراً

ص: 236

مفيدة، وسينتشر لينتقل لنا تراث الجنس البشري. لا يجب أن نتوقع أن يزدهر الفن والشعر على نحو ما يتقدم العلم والفلسفة لأنهما (الفن والشعر) يعتمدان بشكل أساسي على الخيال الذي اتَّسم بالخصوبة والتوقّد في الأزمنة المتأخرة كما كان في الأزمنة الباكرة في التاريخ. وفي التطور الحضاري يسبق الفن والشعر العلمَ والفلسفة، ومن هنا فإن عصر بركليز Pericles سبق عصر أرسطو، والعصور الوسطى سبقت جاليليو Galileo، والفن في عهد لويس الرابع عشر سبق عصر التنوير العقلي.

والتطور العقلي لا يتسم بالاستمرار، فهناك تقهقر أو تراجع أو نكوص بسبب اضطرابات في الطبيعة أو تقلّبات السياسة، لكن حتى في العصور الوسطى كان العلم والمنهج العلمي يتقدمان مما مهّد لظهور كوبرنيكس Copernicus وجاليليو وبيكون وديكارت. وفي كل العصور تمثل الفلسفة تجميعاً تراكمياً للتراث الفكري وجوهره. وتأملت مدام دي ستيل وتنبأت قائلة:

"أنه ربما أصبحت الفلسفة في بعض حقب المستقبل مفهومة وناضجة بشكل كاف بحيث تحل محل العقيدة المسيحية أو بتعبير آخر تغنينا عن العقيدة المسيحية التي كنا نعتقدها في الماضي".

وقد عرَّفت التنوير الفلسفي les lumieres philosophiques بأنه "الحكم على الأشياء بمعيار العقل" ولم تفقد مدام دي ستيل إيمانها بحياة العقل إلاّ عند حديثها عن الموت. "إن انتصار التنوير الفلسفي (العقلي) كان دوماً ملائما لعظمة الجنس البشري وإصلاح حاله".

لكنها استمرت تقول (وكانت قد قرأت روسّو كما قرأت فولتير)"إن تطور العقل (الفكر) ليس كافيا فالمعرفة ليست إلاّ عنصراً واحداً في عملية الفهم. أما العنصر الآخر فهو الشعور، فلابد أن تكون الروح حساسة مرهفة كما لابد أن تكون الحواس كذلك". فبدونها (الحواس) تصبح الروح كلوح ميت غير قابل للتلقي أو تصبح كمتلق ميت للمثيرات المادية (الفيزيقية)، فبالحواس تدخل الروح في حياة الموجودات الحية الأخرى وتشاركها إعجابها ومعاناتها، فبشعور الروح من خلال الجسد يكون الشعور بوجود الله وراء العالم المادي. ومن خلال وجهة النظر هذه تصبح الآداب الرومانسية التي ظهرت في الشمال الضبابي (ألمانيا واسكندينافيا وبريطانيا العظمى) على الدرجة نفسها من الأهمية التي لآداب الجنوب المشمس (اليونان وإيطاليا) وتصبح قصائد أوسيان Ossian في أهمية ملاحم هوميروس Homer.

ص: 237

وكان من الممكن أن يوافق نابليون في فترة شبابه على هذا التقويم لكن كان لا بد أن ينزعج من وجه نظر المؤلفة عن العلاقة بين الأدب (والفكر) والحكومة. فالديمقراطيات (كما اعتقدت مدام دي ستيل) تجنح إلى جعل الكُتَّاب والفنانين يجنحون إلى إرضاء أذواق الجماهير بينما تعمد الارستقراطيات إلى جعل الكتاب والفنّانين يعملون على إرضاء أذواق النُّخبة (الخاصّة) وتشجيع الفكر المصقول المحكم ورصانة الصياغة والشكل.

فنظام الحكم الاستبدادي يعمل على ترقية الفنون والعلوم ليُظهر نفسه - أي هذا الحكم الاستبدادي - من خلال البهاء والقوة، ولكنه - أي النظام الاستبدادي - لا يشجع الفلسفة والدراسات التاريخية لأنها خطر على الدكتاتورية بسبب تناولها للأمور بعمق وسِعَة، والديمقراطية تحفز الآداب وتؤخّر الفن، والارستقراطيات تفرض الذوق لكنها تعمد إلى إطفاء الحماسة والجدة والإبداع، والحكومة المطلقة (الاستبدادية) تكبت الحريات والإبداع والفكر. فلو أمكن أن يكون لفرنسا حكومة دستورية تُزاوج ما بين النظام والحرية لأمكنها أن تزاوج بين تشجيع الديمقراطية والقيود المفروضة بحكمة في ظل حكم القانون.

نقول الحق تماماً إن هذا الكتاب كان كتاباً جديراً بالاهتمام بالنسبة لامرأة في الرابعة والثلاثين من عمرها، وتمتلك سبعة ملايين من الفرنكات. وبطبيعة الحال كانت هناك أخطاء في هذا الكتاب ذي الستمائة صفحة لأنَّ العقل عندما يفلت يكون عُرضة للزَّلل بشكل أكيد رغم أنه قد يُسْقِط بعض الثمار التي يتعذَّر الإمساك بها (المراوغة). لقد كانت مدام دي ستيل شخصية غامضة في مجالي التاريخ والأدب، لقد كانت ترى أنَّ الايرلنديين ألمان وأن دانتي شاعر صغير (قليل القيمة) بل لقد دافعت بشجاعة عن الحكومة الليبرالية وعن المسيحية القائمة على أسس عقلية فأسقطت في طريقها مئات من المُسلَّمات.

وتنبّأت بأن تطوّر الإحصاءات قد يجعل الحكومة أكثر وعياً وأن التعليم السياسي قد يساعد في إعداد مرشحين للوظائف العامة. ولاحظت وكأنها تتنبّأ أن التقدم العلمي سيجعل التقدم الخلقي أمراً لا مناص منه لأنه إذا زادت قوة الإنسان زادت قوةً وسائل منعه من إساءة استخدامها وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن الثامن عشر لم

ص: 238

يتناولها هذا الكتاب، وقلما كانت هناك فكرة من أفكار القرن العشرين لم يبذر هذا الكتاب بذرتها.

لقد كتبت في هذا المجلد حياتها بطولها بما فيها من آلام وحسرات ذلك أن النظام الاجتماعي بكامله .. قد حشد حشوده ضد امرأة أرادت أن تُحقق شهرة لم يُحققها الرجال في عالم الأدب والفكر. والآن فقد كان عليها أن تكون استثناء لأنها كما كتبت بعد ذلك بواحد وعشرين عاما في ربيع سنة 1800 نشرتُ كتابي في الأدب وأدى نجاحه إلى استعادتي ثقتي كاملة بالمجتمع، وامتلأت - مرة أخرى - غرفة الاستقبال عندي بالزائرين. وكانت قلوب كثيرين قد انخلعت فابتعد عن صالونها من كان يتردد عليه بعد هجوم كونستانت (قسطنطين) العنيف على الدكتاتورية إلاّ أنهم بعد صدور كتابها هذا عادوا إليها نادمين وراحوا يتملَّقونها ووجد العريف الصغير Little Corporal (المقصود نابليون) في قصر التوليري Tuileries أن عليه أن يعترف بوجود عدو له يُباريه في همته وطباعه.

وفي أغسطس سنة 1802 أرسل جاك نيكر للقنصل ليبرون Lebrun نظرات أخيرة في السياسة والمالية Les Dernieres Vues de politique et de Finance - الذي عرض فيه آخر أفكاره في السياسة والاقتصاد. وفي هذا الكتاب التمس الأعذار لدكتاتورية نابليون لكن باعتبارها شراً لا بُد منه، وافترض أن هذه الدكتاتورية مؤقتة وحذر من استمرار تركز السلطة في أيدي العسكريين وعبَّر عن أسفه لأن مالية الحكومة الجديدة تعتمد اعتمادا كبيرا على تعويضات الحرب، واقترح دستوراً أكثر ليبرالية يكون نابليون حارسا عليه.

وقد أطلع ليبرون نابليون على هذا الكتاب وكان نابليون وقتها قد أصبح بالفعل نصف إمبراطور (على وشك أن يكون إمبراطوراً) فامتعض - أي نابليون - من فكرة تقليص سلطاته. ولأن نابليون كان مُقتنعاً أن مدام دي ستيل هي التي وجهت أفكار أبيها، فقد أصدر أمراً بإبعادها عن باريس مما يعني إغلاق صالونها المزعج ونسي نابليون أنها كانت تستطيع الكتابة بالمهارة نفسها التي تتحدث بها. وقضت شتاء 1802/ 1803 في جنيف لكنها أصبحت في ديسمبر حديث باريس بنشرها روايتها

ص: 239

"دلفين Delphine". لا أحد يقرأ هذه الرواية الآن، لكن عند صدورها لفتت نظر كل المهتمين بالأدب والسياسية لأنها كانت جزءاً من نضال قوي بين امرأة وعصرها.

ودلفين (بطلة القصة) فتاة فاضلة قوية تتوق إلى الاستسلام (الإذعان) وتخشاه (ويُقصد بها مدام دي ستيل) وأحب ليونس Leonce (= ناربون Narbonne) الارستقراطي الوسيم الفتاة دلفين لكنه جفل منها (ابتعد عنها) بسبب إشاعة تتهمها بعلاقات جنسية غير شرعية affairs فلم يستطع أن يُقامر بوضعه الاجتماعي باتخاذها زوجة له، فتزوج من ماتيلدا دي فيرنون Matilde de Vernon التي كانت أمها تمارس السحر وتغطي أكاذيبها بالظُّرف والذكاء، ونظر أهل باريس لهذه السيدة (الواردة في الرواية) على أنها تاليران، رغم أنها امرأة بينما تاليران رجل، وقد انتقم تاليران لنفسه بأن ذكر أن هذه المؤلِّفة المسترجلة masculine (المرأة الذَّكر) قد تنكرت وكذلك هو في زى النساء.

(يقصد أنه ليس فيها من الأنوثة شيء). وتُواصل القصة ذاكرة أن دلفين - بعد رفضها - عادت للدير حيثُ قادتها رئيسة الدير لعالم العفة طوال الحياة. وعندما اكتشف ليونس Leonce طهارتها فكر في تطليق زوجته غير الحساسة وأن يتزوج دلفين لكنه خشي تدمير مصالحه بخرقه قانون الكنيسة القاضي بالزواج الأحادي (الزواج مرة واحدة في العمر)، وماتت ماتيلدا Matilde - ضحية، وكان موتها مناسبة درامية (في القصة) مناسبة ليحث ليونس Leonce دلفين على الفرار معه لتستسلم لعواطفه، وهجرها وانطلق ليلحق بالمهاجرين (الذين غادروا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) إلاّ أن السلطات قبضت عليه وحكم عليه بالإعدام.

واندفعت دلفين - التي كانت تحب قسوته - لإنقاذه، إلا أنها لم تصل إلا لتراه صريعا بعد إطلاق النار عليه، وعندئذ خرت هي أيضاً وفارقتها روحها. واستخدمت المؤلفة هذه الأحداث الدرامية السخيفة أو المنافية للعقل، وهذه الحبكة الرومانسية النمطية لتجعل منها منصة خطابة تناقش من خلالها شرعية الطلاق، وتعصّب الكاثوليكية (وكانت قد ورثت عن أسرتها المذهب البروتستنتي)، والحقوق المعنوية للمرأة بدلاً من المعايير المزدوجة، ومشروعية الوعي الفردي (تصرف الفرد بما يميله عليه ضميره) بدلا من شرف الانتماء إلى طبقة. وقد تلقى المثقفون في باريس حججها بقبول حسن، لكن نابليون لم

ص: 240

يكن سعيداً بها، فقد كان في ذلك الوقت قد ولى وجهه شطر الكاثوليكية كعلاج للتفسّخ الخُلقي، والاضطراب الفكري في فرنسا، وفي 13 أكتوبر سنة 1803 أصدر أمراً يمنع مدام دي ستيل من الاقتراب من باريس مسافة أربعين فرسخا.

وظننت مدام دي ستيل أن الوقت الملائم قد حان لزيارة ألمانيا. وكانت قد تعلَّمت قدراً كافياً من الألمانية يُتيح لها قراءة ما هو مكتوب بهذه اللغة، إلاّ أنها لم تكن تجيد الحديث بها، فلم لا تنعم الآن بموسيقي فيينا، ومفكري فيمار Weimar والمجتمع الملكي في برلين؟ وفي 8 نوفمبر عبرت الراين عند متز Metz إلى ألمانيا مع أوجست والابنة ألبرتين Albertine وخادمين وكونستانت (قسطنطين) الذي أصبح بالنسبة لها عشيقاً أفلاطونياً أو بتعبير آخر فارساً أقل رتبة في خدمة فارس كبير.

2/ 3 - السَّائحة

وكان انطباعها الأول - في فرانكفورت - غير سار، فقد بدا الرجال في ناظريها ذوي بدانة، وكأنهم يعيشون ليأكلوا، ويأكلون ليدخنوا، وكانت تجد صعوبة في التنفس عندما يقتربون منها. وكان الألمان مندهشين من هذه المرأة المعتزة بنفسها التي لا تستطيع أن تُقدّر ما تُسببه غليوناتهم pipes من جوٍ مريح، وكتبت أمُّ جوته قائلة لابنها:

"إنها تكبس على نفسي كحجر الرحى. إنني أتحاشاها قدر استطاعتي وأرفض أي دعوة لحضور أي مكان هي فيه، إنني أتنفس بحرية أكثر عندما تكون غير موجودة".

وأسرعت جيرمين مع حاشيتها إلى فيمار حيث وجدت الشِّعر قد نقّى الجو المحيط بها. لقد كانت المدينة (فيمار) يسودها الكتّابُ والفنانون والموسيقيون والفلاسفة، وكان البلاط يقوده بتسامح وحكمة الدوق تشارلز أوجستس Charles Augustus وزوجته الدوقة لويز Luise وأمه الدوقة دواجر أنّا أمالي Dowager Anna Amalie. وكان هؤلاء الناس على درجة عالية من التعليم، ويتسمون بحسن التمييز والحصافة، وكانوا جميعاً - تقريباً - يتحدثون الفرنسية. وأكثر من هذا فقد قرأ كثيرون منهم رواية دلفين وكان عدد أكثر بكثير قد سمع عن حربها ضد نابليون ولاحظ كثيرون أنها

ص: 241

كانت ذات مال وأنها أنفقته.

وقد أكرموها بالدعوة على الغذاء والمسرح والحفلات الراقصة، ودعوا شيلر ليقرأ مشاهد من فيلهيلم تل Wilhelm Tell واستمعوا إليها وهي تقرأ فقرات طوال من كتابات راسين، وحاول جوته - الذي كان وقتئذ في يينا Jena - أن يتهرَّب من واجبه بادعاء إصابته بالبرد، لكن الدوق حثَّه على المجيء إلى فيمار رغم هذا، فأتى وتناقش مع مدام دي ستيل بغير ارتياح. ولكنه غدا حذراً بسبب تهديدها الصريح بأنها تنوي طبع تقرير عن ملاحظاته.

وكانت مستاءة خائبة الرجاء لأنها وجدت جوته على غير ما توقعت فلم يعد هو فرتر Werther وأنه تحوّل من عاشق إلي حَبْر (كبير كهنة). وحاول جوته أن يُربكها بالمتناقضات وبالآراء المتضاربة "لقد أدى تناقضي ومشاكستي بشكل عنيد إلى إصابتها باليأس في غالب الأحوال"، لكنها كانت في ذلك الوقت ودودة جداً وأظهرت على نحو متألق ذكاءها وفصاحتها وقد ذكرت هي في وقت لاحق أنه:

"كان من حسن حظي أن جوته وفيلاند كانا يتحدثان الفرنسية بطلاقة، أما شيلر فكان يناضل من أجل ذلك وقد كتبت لشيلر بود، وكتبت لجوته باحترام، فهو - أي جوته - بالإضافة إلى نابليون هما الرجلان الوحيدان اللذان قابلتهما وأجبراها على التزام حدودها"(عرَّفاها حدودها أو أوقفاها عند حدودها أو جعلاها تتحقق من إمكاناتها المحدودة)

ولم يكن شيلر مرتاحاً لسرعتها في الحديث وتوالي أفكارها بشكل سريع، لكنه انتهى متأثراً، فقد كتب إلى أحد أصدقائه:

"لقد قادني الشيطان إلى امرأة فرنسية فيلسوفة هي من بين كل المخلوقات الحية، الأكثر حيوية والأكثر استعداداً للجدال والنضال دفاعاً عن رأيها، والأكثر امتلاكاً لنواصي الكلمات، وهي أيضاً الأكثر ثقافة والأكثر اتقاداً ذهنياً من بين نساء العالمين، وإذا لم تكن شائقة حقيقة وممتعة، لما سبَّبت لي إزعاجاً".

وتنفّست فيمار الصعداء عندما غادرت مدام دي ستيل برلين بعد إقامة استمرت ثلاثة أشهر.

لقد وجدت ضباب برلين محبطاً مسببا للكآبة، بعد أن شهدت التألق في فيمار، وكان سادة الحركة الرومانسية غير موجودين بها أو وافتهم منيتهم، وكان الفلاسفة قد انشغلوا في جامعات بعيدة. هيجل في يينا، وشيلنج في فيرتسبورج Wurzburg، فكان على جيرمين

ص: 242

أن تقنع بما عند الملك والملكة وأوجست فلهيلم فون شليجل من معارف لغوية وثقافية أبهجتها. وقد اتفقت معه أن يصطحبها إلى كوبت ليكون معلّما ومرشداً لابنها أوجست فوافق وأحبها في أسوأ فترة في حياتها.

وفي برلين تلقت أخباراً تُفيد أن أباها مريض بشكل خطير فأسرعت عائدة إلى كوبت لكنها تلقت خبر وفاته (9 أبريل 1804) قبل وصولها (إلى كوبت). فكان هذا الحدثُ لطمةً لها سبَّبت لها حزناً أكثر من أي نزاع بينها وبين نابليون. لقد كان أبوها يمثل لها دعماً معنوياً ومالياً، وكانت تراه دوماً على حق وصلاح، وما كان أيٌّ من عشاقها ليحل محله.

ووجدت عزاءً بعد موته في كتابة نصر أدبي يَغُصُّ بتوقيره وحبه (السيد نيكر، شخصيته وحياته الخاصة Monsieur Necker's Character & Private Life) كما كتبت عنه في مقدمة عملها الكبير (عن ألمانيا De l'Allemagne) وقد ورثت معظم ثروة أبيها وأصبح دخلها الآن 120،000 فرنك في السنة.

وفي شهر ديسمبر ذهبت تلتمس الدفء في إيطاليا وأخذت معها ثلاثة أطفال - أوجست وألبرتين وألبرت - وشليجل Schlegel الذي أصبح معلّماً ومرشداً لها أيضاً (وليس لأطفالها فحسب) لأنه وجد معلوماتها قليلة جداً عن الفن الإيطالي. وفي ميلان انضم إليهم بيدكر دي سيسموندي Baedeker Jean-Charles-Leonard de Sismondi الذي كان قد شرع في كتابة كتابه التعليمي: تاريخ الجمهوريات الإيطالية.

وقد وقع هو أيضاً في حب جيرمين - أو بالأحرى وقع في حب عقلها ومالها - حتى اكتشف كما اكتشف شليجل من قبله أنها لم تأخذ الأمر علي محمل الجد. واتَّجهوا معاً عبر بارما Parma ومودينا Modena وبولونيا (مدينة إيطالية) وأنكونا Ancona إلى روما. وكان جوزيف بونابرت مولعاً بها أيضاً فزودها بخطابات تُقدّمها إلى أفضل المجتمعات الإيطالية، واحتفت بها الطبقات الارستقراطية لكنها وجدت الأمراء والأميرات أقل احتفاءً بها من الكاردينالات الودودين الذين عرفوا كتبها وثروتها وعداءها لنابليون ولم تزعجهم عقيدتها البروتستنتية، لقد تم استقبالها بشكل رسمي ولافت ترحاباً وأُلقيت أمامها القصائد وعُزفت الموسيقى في أكاديمية أركاديا Accademia dell Arcadia وقد سجلت هذه التجربة في روايتها "كورين Corinne".

ص: 243

وفي يونيو سنة 1805 كانت في كوبت مرة أخرى وسرعان ما أحاط بها العشاق والأصدقاء والدارسون والدبلوماسيون (الأمير إسترهازي الفيني Esterhazy of Vienna وكلود هوشي Claude Hochet من مجلس الدولة شكله نابليون) بل وحتى الحاكم (منتخَب بفتح الخاء بافاريا). لقد أصبح صالونها في كوبت الآن أكثر شهرة من أي صالون في باريس. لقد كتب تشارلز فيكتور دي بونستيتن Charles-Victor de Bonstetten:

" لقد عُدتُ لتوّي من كوبت. إنني أشعر بالذهول الكامل .. وأشعر بالإنهاك والارتباك الكاملين بسبب هذه المفاسد العقلية (الفكر الضّار). فمزيد من المثقفين والمفكرين يُنفق الواحد منهم في كوبت في يوم واحد أكثر مما يُنفقه واحد منهم في أي بلد آخر طوال عام".

إن الحشد المجتمع كثيرُ العدد متعدد المواهب بحيث يكفي لتمثيل العديد من المسرحيات. وجيرمين Germaine نفسها في دور البطلة في أندروماك Andromaque وفيدر Phedre واعتبر بعض الضيوف أداءها رائعاً لا يفضله سوى بطلات (نجمات) مسرح باريس. وفي مناسبات أخرى عُزفت الموسيقي، وتم إحياء الاجتماعات بقراءة أشعار واحد من الشعراء. وكانت مائدتها عامرة ثلاث مرات في اليوم يتحلَّق حولها الضيوف الذين يبلغ عددهم أحياناً ثلاثين شخصاً، وهناك دوماً خمسة عشر خادماً لا يكفّون عن العمل، وفي الحدائق ترى العشاق يتجوّلون وفي هذا الجو قد تُعقد صداقات جديدة.

وكان محبّي (عشاق) جيرمين الذين تتخذ منهم أداة للتسلية أو بتعبير آخر الذين تضيّع بهم الوقت (بمعنى أنها لم تكن تعتبر جبهم إلاَّ وسيلة للتسلية ولا تعتبره من نوع الحب الجاد) وهم موتنمورنسي Montmorency وكونستانت (قسطنطين) وشليجل وسيمسندي - سرعان ما يفتر حبهم لها لأنها كانت ترهقهم بمطالبتهم بطاعتها والإخلاص لها في الوقت الذي كانت تستحوذ على الدفء لنفسها مع بروسبر دي بارانت Prosper de Barante الذي كان في الثالثة والعشرين من عمره بينما هي في التاسعة والثلاثين ولكنه لم يستطع أن يُلاحقها فأرهقته (والمعنى مفهوم) فولّى مدبراً طالبا ملاذاً منها في البُعد عنها، وقد هجته في قصتها كورين Corinne، وقد أسمته في هذه القصة باسم أوزوالد

ص: 244

Oswald.

هذه الرواية (التي كانت شهيرة في وقت من الأوقات) أصبحت الآن على وشك الاكتمال فراحت المؤلفة تبحث عن ناشر فرنسي، وكان الأمر يتطلب موافقة على الطبع من وزارة الداخلية، وأكد والد بروسبير Prosper - مدير شرطة ليمان Leman - لفوشي أن مدام دي ستيل قد أصبحت متحفظة وحذرة طوال العام الماضي، وبناء على هذا سُمِح لها بقضاء صيف سنة 1806 في أوكزير Auxerre (على بعد 120 ميلاً من باريس) فاتخذت لها فيلا هناك، وفي الخريف سُمِح لها بالانتقال إلى روان Rouen لقضاء الشتاء، وزارها أصدقاء كثيرون في المدينتين وعبر بعضهم عن أمله في أن تحيق الهزيمة أخيراً بنابليون في معركة شرسة تجبره على قضاء الشتاء مع جيشه في الشمال المتجمدّ وفضَّ البوليس السرّي التابع لنابليون مراسلات جيرمين (مدام دي ستيل) وعلم نابليون بمشاعرها.

فكتب غاضباً إلى فوشيه في 13 ديسمبر: "لا تترك هذه البَّغي bitch مدام دي ستيل تقترب من باريس إنني أعلم أنها ليست بعيدة عنها"(وكانت قد انسلت بشكل سري إلى باريس وقضت فيها فترة وجيزة في ربيع سنة 1807) وأثناء الاستعداد لمعركة فريدلاند Friedland كتب نابليون إلى فوشيه Fouche في 19 أبريل:

من بين ألف أمر وأمر وصلني بشأن مدام دي ستيل يوجد خطاب يمكن أن يظهر لك كم هي لطيفة هذه المرأة الفرنسية الموجودة هناك .. حقيقة أنه من الصعب أن يكبح المرء سخطه ونقمته عند رؤية كل هذه المسوخ عند هذه البغي. لن أقول لك عن المشروعات التي أعدتها بالفعل هذه الزمرة السخيفة في حالة وقوع الحدث السعيد الممثل في مقتلي، مادام وزير الداخلية لابد أن يكون قد علم بذلك.

وفي 11 مايو كتب إلى فوشيه مرة أخرى:

لقد كتبت لي هذه المرأة المجنونة خطاباً من ست صفحات زادت فيه الخلاف إلى الضعف .. إنها تقول لي إنها اشترت عقاراً في وادي مونتمورنسي وخَلُصت إلى أن هذا يخوّلها حق الإقامة في باريس. إنني أكرر لك أن معنى أن تترك هذا الأمل

ص: 245

يُداعب خيال هذه المرأة هو أنك تُعذّبها دون مبرر. إنني لو أظهرت لك الأدلة التفصيلية على كل ما فعلته في محل إقامتها خلال شهرين لأصابتك الدهشة. حقيقة رغم بُعدي عن فرنسا بخمس مائية فرسخ، فإنني أعلم ما يحدث هناك بشكل أفضل من وزير داخليتي.

وعلى هذا فقد عادت جيرمين (مدام دي ستيل) على غير رغبتها إلى كوبت في 25 أبريل سنة 1807. وقد صحبها كونستانت Constant (الثابت رغم التقلبات) لكنه فارقها عند دول Dole ليقيم مع والده المريض. فلمّا وصلت إلى كوبت أرسلت شليجل إلى كونستانت (قسطنطين) ليقول له "أنه إذا لم يَعُد إليها فإنها ستقتُل نفسها". وكان بنيامين يعلم أن هذا تهديد خيالي (تهديد سيرانه siren أو بتعبير آخر تهديد امرأة فاتنة لعوب، والسيرانة كائن أسطوري عند الإغريق له رأس امرأة وجسد طائر) وليس تهديد أوزّة عراقية swan (أي ليس تهديداً حقيقيا) ومع هذا فقد عاد إليها وتحمل صامتاً توبيخها. كان قد كفّ عن حبها منذ وقت طويل لكن كيف يقول المرء الحقيقة لامرأة لا إجابة عندها سوى ابتلاع الأفيون وفي العاشر من يوليو أتت جوليت ريكامييه Juliette Recamier في زيارة طويلة فأحبتها جيرمين (مدام دي ستيل) وقررت أن تعيش.

وسمحت وزارة الداخلية بطبع روايتها كورين، وتم نشرها في ربيع سنة 1807 فأعطى المؤلفة انتصارا يُعزيها عن انتصار نابليون في فريدلاند في 14 يونيو. وكانت الكتابات التي موَّلتها الحكومة معادية للرواية لكن آلاف القراء عبروا عن رضاهم وسعادتهم بهذه الرواية. إننا اليوم غير مفتونين بشكل (بناء) هذه الرواية - إنها رواية عاطفية تخللتها مقالات كئيبة مؤرخة عن مشاهد وشخصيات وأحوال دينية وآداب وفنون في إيطاليا، ولم يؤثر بطل الرواية ذو الوجه الرجولي في أي من القراء (فقد تحوّل إلى شخصية ضعيفة) أو إيحاء سماوي تُوّج (بضم التاء) في عيني بطلة القصة.

لكن في سنة 1807 لم تكن إيطاليا قد أصبحت بعد بلدا انتشر فيه التأليف، كانت بلادا أكثر شهرة في نواظرنا في مجالي التاريخ والفنون، وكان فن الرواية فَرْخاً ينشر جناحيه وكان الحب الرومانسي يناضل للتحرر من سلطان الوالدين والروابط الاقتصادية والمحرمات، وبدأت حقوق المرأة تجد من يُعبر

ص: 246

عنها. وكان في رواية كورين كل هذه الأمور الفاتنة تجرى على لسان شخصيات تُغني الأشعار بشكل تلقائي وتداعب أوتار القيثارات الفاتنة، وكورين في شبابها (كشخصية في الرواية) هي نفسها - كما هو واضح جيرمين، "بشال هندي حول خصلات شعرها الأسود الصقيل

وذراعاها جميلان جمالاً فائقاً .. وقوامها الذي ينم عن قوة ونشاط". وأكثر من هذا فإن حوارها وطريقة كلامها، "يجتمع فيهما كل ما هو طبيعي وخيالي ودقيق وسام وقوي وحلو" انه لأمر غريب أن نقول إن الإمبراطور (نابليون) الذي لم يكن يُطيق مدام دي ستيل، عندما وصلت السفينة التي تقله إلى سانت هيلينا، تناول الكتاب (كورين) ولم يستطع أن يضعه جانباً إلا بعد أن قرأه حتى آخر سطر فيه.

2/ 4 - عندما تصبح ألمانيا مفهومة

لقد أضافت الآن مدام دي ستيل إلى مهامها (الإطاحة بنابليون والانغماس في الملذات الحسية والمعنوية) مهمة أخرى وهو مشروع حساس يهدف إلى توضيح ألمانيا وشرحها للفرنسيين. وحتى عندما كانت روايتها الوليدة (كورين) تناضل دفاعاً عن نفسها ضد الصحافة الخاضعة لسلطة نابليون، كانت مدام دي ستيل تُخفي في نفسها معزوفة جَسُورة مفعمة في بلاد ما وراء الراين. ولإعداد نفسها لهذه المهمة (المعزوفة) ولتكون على وعي كامل بما هي مقدمة عليه شرعت في القيام بجولة سياحية أخرى في أوروبا الوسطى.

وفي 30 نوفمبر سنة 1807 غادرت كوبت مع ألبرت والبرتين وشليجل وخادمها الخاص (راعي ملابسها) يوجين Eugene (جوزيف أجينت Uginet) . وفي فيينا استمعت إلى موسيقي هايدن Haydn وجلوك Gluck وموزارت Mozart لكنها لم تُعر بيتهوفن التفاتاً. وخلال ثلاثة أسابيع من بين الأسابيع الخمسة التي قضتها في النمسا راحت تمارس الحب مع الضابط النمساوي موريتس (موريس) أودونيل Moritz O'Donnell وعرضت عليه المال والزواج لكنها فقدته فكتبت إلى كونستانت خطابات مفعمة بالإخلاص الذي لا حدود له - "قلبي وحياتي وكل ما عندي ملكك كما تشاء وكيف تشاء"، لكنه اكتفى باقتراض بعض من

ص: 247

أموالها. وفي تبليتز Teplitz وبيرنا Pirna أجرت مباحثات مع فريدرتش فون جينتس Friedrich Von Gentz الناشر (النص وكيل الدعاية والإعلان Publicist) المعادي لنابليون عداء شديداً، وعندما علم نابليون بهذا اللقاء خَلُص بأنها تعمل على تدمير اتفاق السلام الذي عقده مؤخراً في تيلسيت Tilsit في شهر يوليو. وفي فيمار لم تجد شيلر (كان قد مات سنة 1805) ولا جوته، فواصلت طريقها إلى جوتا Gotha وفرانكفورت، وفجأة اعتراها المرض والإحباط فأسرعت عائدة إلى كوبت.

وربما ساهمت أخبار الموت التي تلقتها، في اتجاهها نحو التأمل الباطني (التصوّف)، وقد أسهم شليجل في ذلك أيضاً، لكن التأثير الأقوى كان من الزاهد جولي فون كرودنر Julie Von Krudener والدرامي الداعر زكاريا (زكريا) فيرنر Zacharias Werner وقد جال كلاهما في كوبت في سنة 1808. وبحلول شهر أكتوبر من هذا العام كان معظم ضيوفها بين الألمان وسادت اللغة الألمانية في صالونها واستسلم التنويريون Enlightenment لتأثير الدين الصوفي (ذي المنحى الباطني). لقد كتبت جيرمين (مدام دي ستيل) إلى أدونل O'Donnell:" لا حقيقة على هذه الأرض إلاّ الدين وسلطان الحب، وكل شيء آخر فان، بل إنه أكثر فناء من الحياة نفسها".

وفي هذا الجو كتبت كتابها عن ألمانيا De L'Allemagne. وفي سنة 1810 قَرُب كتابها من الاكتمال وتطلّعت إلى باريس لتطبعه فيها. وكتبت بتواضع إلى نابليون قائلة له إن ثمانية أعوام من النفي والبؤس قد غيّرت كل الشخصيات والقدر يعلِّم الاستسلام. واقترحت أن تذهب للولايات المتحدة وطلبت منه جواز سفر كما طلبت أن تقضي فترة انتقالية في باريس. فمنحها نابليون جواز السفر لكنه لم يوافق على دخولها باريس-. ومع هذا ففي أبريل سنة 1810 تحركت بأسرتها ومعها شليجل إلى شومونت Chaumont (بالقرب من بلوا Blois) ومنها أشرفت على طبع كتابها المخطوط ذي المجلدات الثلاثة في تور Tours. وفي شهر أغسطس انتقلت إلى فوسي Fosse المجاورة.

وسلّم الطابع نيكول Nicolle بروفات (التجارب الطباعية) للمجلدين الأوّلين إلى الرقابة في باريس، فوافقت على الطباعة بعد حذف جمل قليلة غير مهمّة. وطبع نيكول خمسة

ص: 248

آلاف نسخة وأرسل نسخاً للأشخاص ذوي الحيثية، وفي 3 يونيو أُزيح فوشيه وزير الداخلية المتعاطف، وحل محله الصارم رينيه سافاري (دوق دي روفيجو de Rovigo) . وفي 25 سبتمبر أحضرت جوليت ريكامييه J. Recamier للرقيب بروفات (التجارب الطبيعية) المجلد الثالث، وبروفات المجلدات كلها مع خطاب من المؤلفة للأميرة هورتنس Hortense لتسليمها لنابليون.

وقرر سافاري أن الكتاب ليس في صالح فرنسا ولا حاكمها وبالتالي فلا يمكن السماح بتوزيعه، ومن الواضح أن نابليون كان موافقاً على هذا المنع. وأمر وزير الداخلية الطابِعَ بوقف النشر، وفي 3 أكتوبر أرسل إلى مدام دي ستيل ملحوظة صارمة مؤداها أن تُنفِّذ ما كانت قد عقدت العزم عليه وأن تغادر إلى أمريكا فورا. وفي 11 أكتوبر هاجمت فرقة من الجنود دار الطباعة وحطمت ألواح الطباعة وحملت معها ما استطاعت الوصول إليه من مجلدات الكتاب، وفي وقت لاحق جرى فَرْمها، وطالبَ ضُباط آخرون بمخطوط الكتاب فأعطتهم جيرمين (مدا دي ستيل) الأصل، لكن ابنها أوجست Auguste أخفى نسخة احتياطية. وعوّضت المؤلفة الطابعَ عن خسارته وانسلّت عائدة إلى كوبت.

وهذا الكتاب (عن ألمانيا) كما نُشر في سنة 1813 هو محاولة جادة لتناول كل جوانب الحضارة الألمانية في عصر نابليون بإيجاز وتعاطف. إن امرأةً لها هذه الاهتمامات الكثيرة والعشّاق الكثيرون ثم بعد هذا تجد الوقت الكافي لإنجاز هذا العمل، والطاقة والكفاءة اللتين تُعينانها على إتمامه، لهي حقاً إحدى عجائب هذه الفترة المتسمة بالهيجان والاضطراب. فمن خلال خلفيتها السويسرية العالمية وزواجها من واحد من بارونات الهولشتين Holstein وتراثها البروتستنتي وكراهيتها لنابليون كانت مؤهلة لإعطاء ألمانيا كل مزية وأن تجعل - تقريبا - كل ارتباط لها فيها في صالحها، وكانت تستخدم الفضائل الألمانية كوسيلة توجه بها نقدا غير مباشر لنابليون وطغيانه، ولتقدم الثقافة الألمانية للفرنسيين كثقافة غنية بالمشاعر والعواطف والدين وبالتالي كثقافة مناسبة بشكل جيد لتصحيح ما ساد بين مثقفي فرنسا من صفة الشك والمصلحة (حب الذات) والميل للسخرية.

ومن الغريب أن نقول أنها لم تهتم بفيينا رغم أن فيينا كانت مثلها مرحة وحزينة في آن واحد - مَرِحةً بسبب النبيذ والكلام (المناقشات والأحاديث) وحزينة بسبب موت الحب،

ص: 249

وبسبب توالي انتصارات نابليون. كانت فيينا كاثوليكية وجنوبية (لها مزاج أهل الجنوب) في موسيقاها وفنها وعقيدتها التي تكاد تكون عقيدة طفولية ساذجة، أما هي (مدام دي ستيل) فكانت بروتستنتية شمالية (لها مزاج أهل الشمال) مثقلة بالطعام والمشاعر تتقدم متعثرة في الفلسفة، لم يكن هنا ثمة كانط Kant وإنما موزارت، فلا خلافات حادة ولا مناقشات ملتهبة، ولا كتابات للمفكرين تشبه الألعاب النارية فليس هناك إلا المسرات البسيطة التي نعم بها الأصدقاء والعشاق، والآباء والأبناء، والنزهات في المنتزهات والتسكع على نهر الدانوب.

حتى الألمان أذهلها وضعهم: "مدفأة وبيرة (جعّة) وتدخين التبغ tobacco حول كل تجمع شعبي، فيصبح الجو ثقيلاً حاراً مع هذا فهم لا يميلون أبداً إلى التخلي عنه وكانت ترثي للبساطة الريفية التي يتصف بها اللباس الألماني، وميل الرجال الألمان للمسالمة (كونهم مروضين أو داجنين) واستعدادهم للتخلي عن السلطة. والانفصال بين الطبقات

أكثر ما يكون وضوحاً في ألمانيا منه في أي مكان آخر

فكل شخص محتفظ برتبته (المقصود وضعه الطبقي) ومكانه .. كما لو كان منصباً أو وظيفة مخصصة له منذ زمن طويل"

لقد افتقدت في ألمانيا هذا التلاحم الخصب بين الارستقراطية والمؤلفين والفنانين والجنرالات والسياسيين، ذلك التلاحم الذي وجدته في المجتمع الفرنسي، فهنا في هذا المكان "ليس لدى النبلاء سوى القليل من الأفكار، وليس لرجال الأدب خبرة عملية كثيرة بالأمور العامة". والطبقة الحاكم ظلت إقطاعية والمفكرون أضاعوا أنفسهم في أحلام لا أساس لها على أرض الواقع (أحلام في الهواء). وهنا اقتبست مدام دي ستيل القول المأثور الشهير الذي قال به جان بول ريختر (ريشتر) Jean Paul Richter:

" إمبراطورية البحار لإنجلترا، وإمبراطورية البر لفرنسا، أما ألمانيا فلها إمبراطورية الهواء" وأضافت قائلة "إن انتشار المعارف في العصر الحديث يؤدي إلى إضعاف الشخصية إذا لم يتم تدعيم هذا الانتشار بعادة العمل في المجالات المختلفة وتحقيق الإرادة".

ص: 250

وأُعجبت مدام دي ستيل بالجامعات الألمانية كأفضل جامعات في العالم في ذلك الوقت، لكنها كانت تأسى للغة الألمانية بما فيها من حروف صامتة متوالية، كما بغضت تركيب الجملة الألمانية وطولها، تلك الجملة التي تجعل الفعل الحاسم في آخرها (أي الفعل الأساسي الذي يحدّد المعنى)، وبذا تكون المقاطعة أو المداخلة أثناء الحوار أمراً صعباً، وكانت تشعر أن المداخلة أو المقاطعة إنما هي حياة المناقشات. كما أنها وجدت في ألمانيا القليل جداً من المناقشات المُفعمة بالحيوية والمهذبة في الوقت نفسه. تلك المناقشات التي تعد خاصية من خواص الصالونات الباريسية.

وهذا فيما ترى كان يرجع إلى عدم وجود عاصمة وطنية (واحدة) لألمانيا يمكنها - أي العاصمة - أن تجمّع مفكري البلاد (ألمانيا)، بالإضافة إلى العادة الألمانية المتمثلة في إبعاد الألمان للنساء عن مائدة العشاء أو الغداء عندما يشرعون في التدخين أو الحديث.

"في برلين قلما يتحدث الرجال إلا مع بعضهم، فالجو العسكري (المقصود الروح العسكرية) يجعلهم يتسمون بشيء من الخشونة والغلظة ينأى بهم عن مشاكل مجتمع النساء"

وعلى أية حال ففي فيمار نجد السيدات مثقفات وميّالات للحب والعشق ونجد الجنود وقد هذبوا من عاداتهم وسلوكياتهم، ونجد الدوق وقد تحقق من أن شعراءه قد خلّدوا له مكانا لائقاً في التاريخ. "ورجال الأدب في ألمانيا .. كوّنوا - في نواحٍ كثيرة - أكثر التجمعات المتنورة تميزاً في العالم".

لهذا السبب رحبت مدام دي ستيل بالفلسفة الألمانية رغم صعوبتها لأنها - مثلها في ذلك مثل مدام دي ستيل - تركز على الذات. إنها - أي الفلسفة الألمانية - ترى في الشعور (الوعي) معجزة أعظم من ثورات العلم. لقد رفضت سيكولوجيا لوك Locke وكوندياك Condillac التي قصرت كل المعارف على الحواس، وبالتالي جعلت الأفكار آثاراً لأشياء خارجية، وهذا - فيما شعرت - يؤدي ولا مناص إلى المادية materialism والإلحاد atheism (إنكار وجود الله).

وفي واحد من أطول فصول كتابها حاولت - بتواضع - أن تحدثنا عن جوهر الديالكتيك الكانطي (فلسفة كانط فيما يتعلق بالديالكتيك): إنه - أي هذا الديالكتيك disclaimer - يُعيد العقل إلى مكانه كمشارك فعّال في البحث عن الحقيقة، والإرادة الحرة (حرية الاختيار) كعنصر فعلا في تقرير الأفعال، والالتزام الخلقي الذي يمليه المضير كمقوِّم (بتشديد الواو

ص: 251

كرسها) أساسي للأخلاق. لقد شعرت أنه بهذه النظريات فصل "كانط بيد ثابتة إمبراطورية الروح عن إمبراطورية الحواس" وعلى هذا فقد أقام الأساس الفلسفي للمسيحية كبناء خُلقي فعّال.

ورغم أنها كانت قد جعلت من الوصية السادسة من الوصايا العشر ساحة مخضبّة بالدماء إلا أنها اقتنعت أنه لا حضارة تبقى بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا عقيدة دينية. ودللت على أن تدخل العقل في الدين إجراء خائن فالعقل لا يعطي السعادة لمن فقدوها فالدين سلوى البؤساء وثروة الفقراء ومستقبل الأموات وفي هذا وافقها الإمبراطور والبارونات. وعلى هذا فقد كانت تُفضل بروتستنتية ألمانيا على الكاثوليكية التي تدعيها الطبقة العليا الفرنسية. واهتزت مشاعرها عند سماع الترانيم الدينية الرائعة منطلقة من حناجر الألمان في الأماكن المخصصة للتراتيل في الكنائس وفي المنازل والشوارع، واشمأزت لأن أثرياء الفرنسيين يفضلون حضور البورصة (سوق الأوراق المالية) تاركين الفقراء ليلتقوا بالرب (المقصود لينفردوا بالتعبّد). وكان لديها كلمة طيبة تقولها للإخوة المورافيين Moravian Brethren، فالفصل الأخير في كتابها يمثل دعوة للحماسة الصوفية (الوجد الديني الباطني) - إنه المعنى الباطني للدعوة إلى الله كُلّي الوجود (سبحانه).

لقد كان كتاب (عن ألمانيا) واحداً من رز الكتب في عصره، لقد كان بالنسبة لها يُمثل قفزة هائلة من كورين (الرواية) إلى كانط (الفيلسوف) مع ما فيه من بعض القصور لظروف العصر، ونزوع كاتبته إلى التمرد. وكان نابليون حكيما عندما قلّص تأثيره بالإقلال من امتداحه. لقد كان كتاباً رائعا من سيّدة غير متعاطفة مع توجهات الحكومة. لقد انتقدت الرقابة على المطبوعات بشدّة، لكن كان عليها أن توضح قضيتها وتدعمها.

لقد امتدحت ألمانيا في كثير من الصفحات على حساب فرنسا، لكنها غالبا ما كانت تمتدح فرنسا على حساب ألمانيا، ويحوي الكتاب مئات الفقرات تبث فيها حبها لوطنها (فرنسا) المحرم عليها. وتناولت بخفة وحساسية الموضوعات الغامضة (غير الواضحة) لكنها كانت تهدف إلى جذب اهتمام قِطَاع عريض من القراء في فرنسا، وبتلك الوسيلة تحقق تفاهماً عالميا. لقد

ص: 252

طالبت بتزاوج خصب بين الثقافتين الفرنسية والالمانية مما قد يُساعد نابليون في توحيد اتحاد الراين مع فرنسا.

لقد كتبت بذكاء - وأحياناً بألمعية - مزّينة صفحات كتابها بالأفكار والملاحظات التنويرية. وأخيراً لقد قدمت ألمانيا إلى فرنسا، كما سرعان ما قدمها (ألمانيا) كولردج Coleridge وكارليل Carlyle لإنجلترا. يقول جوته: إن هذا الكتاب لابد من اعتباره صدعا في سور الصين العظيم الذي فصل الأمتين الفرنسية والألمانية، نتيجة سوء الفهم والأحكام المسبقة، لقد أصبح الألمان الآن معروفين بشكل أفضل فيما وراء الراين وفيما وراء القنال (يقصد بحر المانش) - الأمر الذي لن نعدم بسببه تحقيق نفوذ كبير في كل غرب أوروبا. لقد كانت امرأة أوروبية جيّدة.

2/ 5 - نَصْرُ لم يكتمل

مؤلف آخر - ولا غيره - كان يمكن أن يفهم ماذا يعني لجيرمين دي ستيل أن يبقى إنتاجها المتراكم وفكرها غير منتشر، وقابع في مُعتزلات كوبت، كوليد وأدوه عند مولده. لقد اكتشف أن بيتها محاط بجواسيس الإمبراطور، وأن بعض خدمها تلقّوا الرشاوى لكتابة تقارير عنها، وأن أي صديق يجسر على زيارتها سيتعرض لانتقام الإمبراطور وأُحيط ذوو الحيثية - الذي أنقذتهم وثرواتهم أثناء الثورة الفرنسية - علماً بألا يقتربوا منها الآن.

ومع هذا فقد كان هناك موقفان مُرْضيان لها. في سنة 1811 قابلت ألبير جان روكا Albert-Jean Rocca وكان عند التقائه بها في الثالثة والعشرين من عمره، وكان ليفتنانت ثاني (ملازم) lieutenant، أصيب بجرح في إحدى المعارك وأصبح أعرج، ومصاباً بالسل، وقد أحبها وكانت وقتها في الخامسة والأربعين ولم يعد جسدها على ما يرام وما عاد مزاجها في التمام إلاّ أنها كانت متألقة فكرياً، ولم تكن بغير جاذبية مالية.

وحاصرها جون وأنجب منها طفلاً، ورحبت جيرمين بالحب الجديد متحدية الشيخوخة ملتمسة تأخيرها - وكان أملها الثاني هو أنها إن استطاعت أن تتخذ طريقها إلى

ص: 253

السويد أو إنجلترا فربما تجد ناشراً لمخطوط كتابها الذي أخفته (عن ألمانيا)، لكنها لم تكن تستطيع أن تلتمس طريقاً إلى السويد خلال أي من المناطق الخاضعة لسلطة نابليون، فقررت أن تأخذ مخطوطها سراً عبر النمسا ومن ثم عبر روسيا إلى سان بطرسبرج ومنها إلى ستوكهولم حيث سيساعدها الأمير بيرنادوت.

ولم يكن يسيراً عليها أن تترك الوطن الذي حققت فيه شهرتها، وفيه قبر أمها التي لم تستطع - الآن - نسيانها وقبر أبيها الذي كان لا يزال يبدو لها حكيم السياسة وقديس المال - وفي 7 أبريل سنة 1812 أنجبت ابنها من روكا Rocca وأرسلته إلى مربية تعتني به، وفي 23 مايو سنة 1812 استطاعت أن تفلت من مراقبة كل جواسيس نابليون فصحبت ابنتها ألبرتين وابنيها وعشيقها العجوز شليجل وعشيقها الجديد روكا أو أنها سبقتهم ثم تبعوها هم، قاصدة فيينا على أمل أن تدبر هناك جواز سفر إلى روسيا ومن ثم تجد طريقها إلى سان بطرسبرج وقيصر الوسيم المتحرر المتحلي بروح الفروسية. وفي 22 يونيو عبر نابليون بخمسمائة ألف جندي النيمن Niemen في روسيا على أمل أن يجد هناك قيصر المهزوم النادم.

وقد روت جيرمين قصة رحلتها هذه في كتابها عشر سنوات في المنفى Ten Years of Exile. إن المرء وهو يتأمل الآن هذه الإرادات والأحداث المتشابكة، ليدهش للشجاعة التي دفعت هذه المرأة المنهكة عبر آلاف العوائق والمشاكل لتصل - عبر شعب كان التصور أنه بربري - إلى زيتومير (تسيتومير Zhitomir) في بولندا الروسية (المناطق البولندية التابعة لروسيا) قبل وصول جيوش نابليون بثمانية أيام فقط لقد أسرعت إلى كييف Kiev ومنها إلى موسكو حيث - ويا للقدر - تلبثت لزيارة الكرملين لتستمع إلى موسيقى الكنيسة وتزور المبرزين المحليين في العلم والأدب. وقبل وصول نابليون بشهر غادرت موسكو عن طريق نوفجورود Novgorod إلى سان بطرسبرج، وفي كل مكان في المدن التي مرت عليها تلَّقاها الناس كحليف مميز في الحرب ضد الغازي (نابليون). وتملَّقت القيصر وامتدحته كأمل للحرية الأوروبية (الليبرالية الأوروبية) وخططت معه لتنصيب بيرنادوت ملكاً على فرنسا.

وفي سبتمبر وصلت إلى ستوكهولم وساعدت في إدخال بيرنادوت في تحالف ضد

ص: 254

نابليون وبعد أن أقامت في السويد ثمانية أشهر عبرت إلى إنجلترا، فنادت بها لندن كسيدة أوروبا الأولى، وأتى بايرون Byron وغيره من ذوي الحيثيات لتقديم احترامهم لها، ولم تجد صعوبة في ترتيب نشر مجلدات كتابها (عن ألمانيا) مع ناشر كتب بايرون وهو جون مري Murray (كان هذا في أكتوبر سنة 1813)، وبقيت في إنجلترا بينما الحلفاء يهزمون نابليون في ليبزج Leipzig، ويتجهون إلى باريس ويضعون لويس الثامن عشر على العرش.

وعندها (في 12 مايو سنة 1814) أسرعت بعبور القنال الإنجليزي (المانش) واستعادت صالونها في باريس بعد عشر سنوات في المنفى واستضافت ذوي الحيثية من اثني عشر بلداً - الإسكندر، وولينجتون Wellington وبيرنادوت، وكاننج Canning وتاليران، ولافاييت. ولحق بها كونستانت وتألقت مدام ريكامييه Recamier مرة أخرى. ودعت جيرمين (مدام دي سيتل) الإكسندر إلى تذكّر إعلاناته (بياناته) الليبرالية، وحث الاسكندر وتاليران الملك لويس الثامن عشر أن (يمنح) رعاياه الذين استعادهم دستورا ينص على وجود مجلسين تشريعيين على النسق البريطاني، وأخيراً أصبح لمونتسكيو Montesquieu طريقه. لكن مدام دي ستيل لم تكن تحب كلمة (يمنح to grant) هذه فقد أرادت أن يعترف الملك بسيادة الشعب وسلطته المطلقة. وفي يوليو سنة 1814 اتخذت طريقها عائدة إلى كوبت منتصرة فخورة، لكنها كانت تحس باقتراب أجلها.

إن مغامراتها ومعاركها وحتى انتصاراتها استنزفت حيويتها المذهلة. ومع هذا فقد اهتمت بروكا Rocca أثناء موته، ورتبت لزواج ابنتها من الدوق دي بروجلي Broglie وبدأت تكتب تحفتها ملاحظات على الأحداث الرئيسية للثورة الفرنسية Considerations sur les principaux evenements de la Revolution Francaisc في 600 صفحة. وكان الجزء الأول من هذا الكتاب مُخصصا للدفاع عن نيكر (أبيها) في كل سياساته، والثاني تشجب فيه بقوة حكم نابليون الاستبدادي. فهو - أي نابليون - بعد استيلائه على السلطة بدت كل حركة من حركاته في ناظريها خطوة نحو الدكتاتورية، وكانت حروبه - في ناظريها - دعامات ومبررات لممارسة الحكم المطلق، وقبل ستندهال Stendhal - قبل تين

ص: 255

Taine بكثير - كانت تُشبِّه نابليون بالقادة العسكريين الإيطاليين في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لقد قرأ مبادئ مكيافيللي في الحكم واقتنع بها دون أن يشعر بحبٍ لوطنه يمكن مقارنته بحبه لهذه المبادئ.

لم تكن فرنسا حقيقة بلاد آبائه وإنما كانت حجراً يعتليه ليعلو فوقه. ولم يكن الدين بالنسبة له قبولاً متواضعاً بوجود الموجود الأعظم وإنما أداة للفتح والغزو والسلطة، فالرجال والنساء لم يكونوا في ناظرية أرواحاً وإنما مجرد أدوات. لم يكن سفاحاً متعطشاً للدماء ولكنه كان دوما غير مبال بالقتلى مادام النصر قد تحقق. لقد كانت فيه غِلظة قائد العساكر المرتزقة وليس خلق الإنسان المهذب (الجنتلمان) وأدى هذا إلى تتويج سُوقي جعل من نفسه قاضياً ورقيباً على كل حديث وكل فكر، وعلى كل الصحافة التي كانت هي الملاذ الأخير للحرية، وعلى الصالونات التي كانت قلاعاً للعقول المتحررة في فرنسا. إنه لم يكن ابن الثورة، وإن كان ابناً لها فهو أيضاً قاتلها.

وعندما علمت مدام دي ستيل بخطة تُحبَك لقتل نابليون ذلك الإمبراطور المعزول عن العرش أسرعت بإخبار أخيه جوزيف بذلك وعرضت أن تذهب إلى إلبا Elba لتحمي عدوّها المخلوع، فأرسل نابليون يشكرها على موقفها، وعندما عاد من إلبا واستعاد حُكم فرنسا دون تفاخر، لم تستطع أن تكتم إعجابها بشجاعته:

"إنني لن أكف عن معارضة نابليون لقد فعل ما هو طبيعي لاستعادة عرشه، وكانت مسيرته من كان Cannes إلى باريس واحدة من أعظم مظاهر الجُرأة والجسارة في التاريخ".

وبعد واترلو انسحبت أخيراً من ميدان الصراع السياسي. ولم تستسغ احتلال قوات أجنبية لفرنسا كما لم تستسغ اندفاع النبلاء القدامى لاستعادة الأرض والثروة والسلطان. وعلى أية حال فقد كانت سعيدة بأن يرسل لها لويس الثامن عشر العشرين مليون فرنك التي كانت الخزانة الفرنسية مدينة بها لأبيها نيكر أو لورثته. وفي العاشر من أكتوبر سنة 1816 تزوجت روكا بشكل شخصي (دون مراسم زواج) وفي 16 أكتوبر رغم أن كليهما كان مريضاً، اتجها إلى باريس وأعادت جيرمن (مدام دي ستيل) افتتاح صالونها. وكان هذا آخر نصر حققته. وحضر لصالونها أشهر قاطني باريس:

ص: 256

وحضر ولنتجتون من انجلترا، بلوشر Blucher وفلهلم فون همبولدت Wilhelm von Humboldt من بروسيا، وكانوفا Canova من إيطاليا، وهنا بدأ شاتوبريان حكايته الرومانسية مع مدام ريكامييه.

لكن صحة جيرمين كانت قد تدهورت كثيراً وخاب أملها في الذين استعادوا العرش وراحت هذه الخيبة تزداد عندما بدأ الملكيّون يعملون على إزالة كل أثر للثورة الفرنسية من الحياة السياسية. ولم يكن هذا هو حلمها الذي حلمت به لقد عرَّفت في كتابها (ملاحظات عن الوقائع الرئيسية للثورة الفرنسية) الطغيان (الحكم المطلق) بأنه تجمّع السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في شخص واحد، وأصرّت على وجود جمعية وطنية ينتخبها الشعب المخول، لا مجال للتعيين فيها.

ولم تعش مدام دي ستيل حتى ترى كتابها هذا منشورا لقد ضعف جسدها لفرط ما أفرطت في ممارسة العواطف والجنس، وتسمَّم لفرط ما تناولت من مخدرات، ولم تكن تستطيع النوم إلا إذا زادت من جرعات الأفيون، وفشل جسدها في محاولاته لدعم عقلها. وفي 21 فبراير سنة 1817 وبينما هي تصعد السُّلَّم لحضور استقبال دعاها إليه أحد وزراء لويس الثامن عشر، ترنحت وسقطت إذا أصابها شلل دماغي، وظلت طوال ثلاثة أشهر منطرحة على ظهرها لا تستطيع حراكاً لكنها كانت قادرة على الكلام وشاعرة بالألم. وحثت ابنتها على القيام بدورها كمضيفة في صالونها. قالت لشاتوبريان "لقد أحببتُ الله وأبي والحرية" وماتت في 14 يوليو سنة 1817 (الذكرى السنوية لسقوط الباستيل) ولم تكن قد بلغت عند موتها الواحدة والخمسين وبعد أربعة أعوام مات عدوها العظيم (نابليون) ولم يبلغ الثانية والخمسين.

وقد نتفق مع ماكولي Macaulay أنها كانت أعظم امرأة في زمانها وأعظم اسم في عالم الأدب والفكر بين روسو وشاتوبريان. وكانت أعمالها (كتاباتها) ذوات أهمية من حيث الهدف والمدى أكثر من أهميتها من حيث كونها أعمالا أدبية خالصة وكان فكرها أكثر انتشاراً (يشغل رقعة واسعة) أكثر من كونه عميقاً. وكانت تشترك مع عدوها الذي اختارته (نابليون) في كثير من الصفات: شخصية قوية: طاغية، شجاعة عند النزاع، روح مهيمنة وثابة، تعصّب للرأي، لكن كان ينقصها عقله الواقعي فكان خيالها - كما يبدو في

ص: 257

رواياتها - طفولياً رومانسياً، إذ ما قورن بأحلامها السياسية. لنتركه (أي نابليون) يلخصها لنا من خلال منظوره في جزيرته المنعزلة:

"لقد أصبح بيت مدام دي ستيل ترسانة حقيقية تصوّب أسلحتها ضدي. لقد كان يأتيها كثيرون ليتسلَّحوا كما لو كانوا فرسانها في حرب يشنونها ضدي

ومع هذا فمن الحق أن نقول إنها كانت امرأة ذات موهبة عظيمة وتمييز فائق وشخصية قوية. إنها ستتحمّل وتثبُت".

‌3 - بنيامين كونستانت (قسطنطين):

من 1767 إلى 1816 م

BENJAMIN CONSTANT

هناك اثنان، اسمُ كلٍّ منهما كونستانت (قسطنطين) - في حياة نابليون العاصفة: فيري كونستانت، خادمة المعنى بشؤون ملابسه الذي كتب عن الحياة الخاصة للدكتاتور الكبير (نابليون) مذكرات طويلة، وبنيامين كونستانت دي ريبك Benjamin Constant de Rebeque الذي ولد في سويسرا وتعلم في عدة مدن (اثنتي عشرة مدينة) وأخيراً أعد للمعركة في فرنسا وضيَّع حياته في ديون لم يسدّدها وخليلات منبوذات وتقلّبات سياسية حتى أصبح التعامل معه لا يكاد يكون مُربحاً هنا إلاّ إذا اقترب من التاريخ بالدخول في كثير من المنازعات فأحبَّته امرأة ذات حيثية لتلهو به، وكان قادراً على وصف أخطائه ببلاغة وحدَّة ذهن وموضوعية وتجرّد وربما يكون قد ساعدنا بعمله هذا على فهم أنفسنا.

لقد أرَّخ للعشرين سنة الأولى في حياته في كتاب سماه المذكرة الحمراء Cahier rouge وكتب عن العشرين سنة التالية من حياته في رواية قصيرة بعنوان أدولف Adolphe وكتب عن الأعوام من 1804 إلى 1816 مُؤلَّفاً بعنوان اليومّيات Journal intime تنقل فيه من باريس إلى كوبت إلى فيمار إلى لندن وذكر فيه نُتَفاً من التاريخ والأدب والسيكولوجيا والفلسفة وروايته أدولف هي المؤلف الوحيد الذي تم نشره أثناء حياته (لندن 1816)، أما اليوميات فظلّ مخطوطاً حتى سنة 1887، والمذكرة الحمراء حتى سنة 1907، وهذه المؤلفات المتناثرة بالإضافة لآلاف المراجع المعاصرة هي التي تكون فكرتنا عن كونستانت (قسطنطين) هذه الأيام.

أنه سليل أسرة سويسرية عريقة ترجع بها شجرة نسبها إلى ثمانمائة سنة، لكننا لن نحتاج

ص: 258

إلاّ لتناول حياة والده في هذا الصَّدد، فقد كان أبوه أيضاً منشغلاً بآثامه لدرجة أنَّه لم يكن لديه وقت لرعاية ابنه. وكان البارون أرنولد جوست كونستانت دي ريبيك Baron Arnold-Juste Constant de Rebecque ضابطاً في فرقة عسكرية سويسرية في خدمة برلمان الأراضي المنخفضة (نذرلاند Netherlands / هولندا) وكان وسيماً قارئاً جيداً لفولتير وصديقاً له.

وفي بواكير سنة 1767 تزوّج من بروتستنتية (هوجونوت Huguenot) فرنسية هي هنريت دي شاندييه (كاندييه) Henriette de Chandieu، وكان هو في الأربعين من عمره بينما كانت هي في الخامسة والعشرين، وفي 25 أكتوبر أنجبت له بنيامين في لوزان Lausanne ثم ماتت بعد الإنجاب بأسبوع، فكانت هي الأولى من بين نساء كثيرات عانيْن من عدم انضباطه، وعهد الأب بابنه لمشرفين كثيرين لم يكن يدقق عند اختيارهم، حاول أحدهم بالضرب تارة والتدليل أخرى أن يجعل منه طفلاً أعجوبة في اليونانية وعندما أضرّ الضرب بصحة بنيامين تمَّ نقله إلى مشرف (معلّم) ثان فأخذه إلى ماخور في بروكسيل، أما مشرفه (معلّمه) الثالث فعلمه قدراً طيباً من المعلومات الموسيقية، أما المعلِّمون الآخرون فعوّلوا على أن يُعلّم نفسه بنفسه بتدريبه على القراءة، فكان بنيامين يقرأ من ثماني ساعات إلى عشر يومياً، فأضر ذلك - بشكل دائم - بعينيه وإيمانه وقضى عاماً في جامعة ارلانجن Erlangen ثم نُقل إلى ادنبره Edinburgh، حيث شعر بالهبّة الأخيرة للتنوير الاسكتلندي لكن هناك أيضاً بدأ في المقامرة، فأصبح القمار (الميسر) في المحل الثاني بعد ممارسة الجنس في حياته المضطربة. وبعد مغامرات في باريس وبروكسل استقر في سويسرا وبدأ يكتب تاريخ الدين من وجهة نظر تُظهر تفوق الوثنية على المسيحية.

وراح يتنقل من امرأة إلى امرأة ومن كازينو (نادي قمار) إلى كازينو حتى رتّب أبوه أخيراً (1785) أمر إقامته في باريس مع أسرة جان - بابتست سوار Jean-Baptiste Suard الناقد الأدبي الوَدُود:

"لقد تلقتني جماعته بقبول تام، وكان يَنْقُصني في ذلك الوقت السلامة والانضباط نقصاً معيباً، لكن حدث تغير مُحكم بشكل مضحك في حياتي. فقد بدا تعليمي - الذي كان متقطعاً غير منهجي، لكنه أرقى من تعليم معظم أدباء الجيل الصاعد - وأصالة

ص: 259

شخصيتي أمراً جديداً وشائعاً

وعندما أتذكر نوعية الموضوعات التي اعتدتُ تناولها في ذلك الوقت والأزدراء المُقْنِع الذي كنتُ أبديه لكل الناس، أحتار في معرفة كيفية تسامح الآخرين معي".

وفي سنة 1787 قابل "أول امرأة ذات ذكاء فائق عرفتها حتى الآن زيليدا Zélide" أو إيزابيلا فان تويل Van Tuyll - إذ كانت فيما مضى صعبة المراس مُستعصية في بوزويل Boswell أثناء الفترة التي قضيتُها في هولندا. لقد سبق لها أن رفضت آخرين لتتزوّج من معلِّم أخيها وأصبحت تعيش الآن معه ساخطة مستاءة في مدينة كولومبييه Colombier بالقرب من بحيرة نيوشاتل Neuchatel وعندما التقى بها كونستانت كانت في باريس تتابع روايتها كالست Caliste في المطبعة وكانت في السابعة والأربعين لكنها بدت كعاشقة في التاسعة عشرة من عمرها، فاتنة لا يزال جسدها ينادي ولازال عقلها متألقاً، كما كانت نافرةً لدرجة أظهرتْه فتى مغروراً ذا ثقافة سطحية. لقد كُنت لا أزال أتذكر بعاطفة تلك الأيام والليالي التي قضيناها معاً نشرب الشاي ونتحدث بحرارة لا تنضب في كل موضوع ممكن. وعندما عادت إلى كولومبييه اتخذ له مسكناً بالقرب من لوزان واعتقد زوجها - وكان مخطئاً في اعتقاده - أنَّ فارق السن بين كونستانت (قسطنطين) وزوجته (زيليدا) سيحُدّ من العلاقة بينهما، لكنها راحت تعلّم بنيامين كونستانت بحماسه غواية النساء وأكاذيب الرجال. لقد أسْكرَ كلٌّ منا الآخر بسخريتنا من الجنس البشري واحتقاره.

وقطع أبوه عليه هذا اللَّهو شبه الفكري بإرساله إلى برونسفيك Brunswick ليعمل كمرافق للدوق الذي كان عليه - حالاً - أن يقود جيشاً ضد الثورة الفرنسية. وأثناء مراسم التشريفات وقع في فخ (شَرَك) سهل نصبته له البارونة فيلهيلمينا فون كرام Wilhelmina Von Cramm فتزوجها (في 8 مايو سنة 1789) ووجد أن الزواج أسوأ من العِشق وخَلُص إلى أن مينا Mina أحبت قططاً وكلاباً وطيوراً وأصدقاء وعشيقا أكثر من حبها لزوجها الشرعي، وتسعى للطلاق. وعندما شعر أن قلبه أصبح خالياً تودّد لشارلوت فون هاردنبرج Charlotte von Hardenberg زوجة البارون فون مارينهولتس Marenholz،

فرفضت إرضاءه بممارسة الزنا معه لكنها

ص: 260

عرضت عليه أن يتزوجها حالماً تستطيع الحصول على الطلاق من البارون، خاف كونستانت من فكرة الزواج مرة ثانية فانْسل إلى لوزان (1793) وكولومبييه حيث واصلت زيليدا تعليمه. لقد أصبح الآن في السادسة والعشرين من عمره وشعرت هي أن عليه أن يضحّي بلذَّة التنويع (مضاجعة نساء مختلفات) ليستقر معها ويرتبط بها. لقد قالت له: لو أنني أعرف امرأة أخرى شابة ونشيطة تحبك كما أحبك وليست أكثر غباءً مني، لكان لديّ من الكرم ما يجعلني أقول لك: اذهب إليها ويا لدهشتها ونقمتها، إذ وجدت أنه سرعان ما عثر على امرأة غيرها شابة ونشيطة.

في 28 سبتمبر سنة 1794 وفي الطريق بين نيو Nyon وكوبت قابل بنيامين كونستانت جيرمين دي ستيل وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها، فقفز داخل مركبتها وبدأ كوميديا (مهزلة) استمرت خمسة عشر عاماً من العهود والوعود والدموع والكلمات. لم يسبق له أن عرف أبداً امرأة ذات فكر بهذه الخصوبة وإرادة بهذه القوة وعواطف ومشاعر بهذه الحرارة وفي مقابل هذه القوى، كان هو يُمثّل الضَعف كلَّه فقد كان قد فقد شخصيته خلال فترة شبابه الإباحية الممزّقة وقلّص حيويته الطبيعية (الجنسيّة) بسبب معاركه البدنية (الفسيولوجية)(المفهوم مع أجساد النساء) دون وقار وقبل الزواج.

وهنا أيضاً كان انتصاره الفعلي هزيمة فرغم أنها (جيرمين دي ستيل) قبلته كعشيق وجعلته يعتقد أنه كان والداً لألبرتين Albertine (أن ألبرتين من نُطفته) إلاّ أنها حثَّته على أن يوقِّع معها - في تاريخ لا نعلمه - قسم ولاء يجعله مرتبطاً بها ارتباطاً معنوياً (النص: سيكولوجيا) حتى بعد أن اصطحَبت جيرمين غيره إلى مخدعها، واصطحب هو غيرها إلى مخدعه، وقد استغلت جيرمين كوْنه مديناً لها لإجباره على التوقيع على هذا العهد (القَسَمْ).

إننا نقسم على أن يكرّس كلّ منا حياته للآخر. إننا نعلن أننا نعتبر شخصينا وقد ارتبطنا رباطاً لا يقبلُ الانفصال. قدرنا واحد للأبد وفي كل الظروف ولن يدخل أيّ منا إطلاقاً في أي رباط آخر، وأننا سنقوِّي الرباطَ الذي يوحِّد بيننا الآن بكل ما لدينا من طاقة.

إنني أُعلن أنني أقررت بهذا الاتفاق بقلب مخلص وأنني أعرف ألاَّ شيءَ في العالم يستحق مني كما يستحق حب مدام دي ستيل، وأنني كنت أسعد الرجال خلال الأشهر

ص: 261

الأربعة التي قضيتُها معها، وأنني أعتبر أن أعظم سعادة في حياتي هي أن أجعلها سعيدة في فترة شبابها، وأن أكون إلى جانبها مسالماً مع تقدمنا في العمر وأن أقضي عمري (أجلى term) معها (مع الروح التي تفهمني) والتي بدون وجودها تصبح الحياة على الأرض (في هذه الدنيا) لا قيمة لها بالنسبة لي التوقيع بنيامين كونستانت.

وتبعها إلى باريس في سنة 1795 فكانت لهما سياسات مشتركة فأيّد حكومة الإدارة (حكومة المديرين) وقبل انقلاب نابليون كضرورة تُمليها ظروف فرنسا وكان متحدثاً رسمياً باسمها، كما كان يتحدث بالأصالة عن نفسه عندما أصبح عضواً في التريبيونيت Tribunate (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) بعد تعيين نابليون له. ولكن حالما ظهرت علامات من القنصل الأول (نابليون) تشير لرغبته في الحكم المطلق عارضه العاشقان معاً: هي في صالونها وهو في خطبته غير المسبوقة (5 يناير سنة 1800) والتي طالب فيها بحق التريبيونيت (مجلس الدفاع عن حقوق الشعب) في إطلاق حرية النقاش والحوار دون قيد أو شرط، وقد حقّق شهرة كخطيب مُفَوَّه، لكنه وُضع في اعتبار الحكومة بحيث يتم عزله من هذا المجلس حالما يأتي ميعاد تغيير أعضائه (1802) وعلى أية حال فعندما استمر العاشقان في حربهما ضد نابليون، تم إبعادهما - عقاباً لهما - عن باريس.

وذهب كونستانت (قسطنطين) معها إلى كوبت، رغم أن أقاربهما كانوا - فيما ظهر - غير متحمسين لهذا الهدوء الأفلاطوني. لقد قال لنفسه:"إنني أريد امرأة، وجيرمين غير شهوانية"(والمعنى لا تُشْبِعُني) وعرض أن يتزوجها ولكنها رفضت قائلة إن هذا الزواج قد يجعلها تضحّي بمكانتها الاجتماعية ويُضيِّع فرص الزواج المشرّف أمام ابنتها، وفي سبتمبر سنة 1802 أحبّت كاميل جوردان Camille Jordan ودعته لصحبتها إلى إيطاليا وتم دفع كل النفقات ونذرت نفسها أمامه "أن أنسى كل شيء معك، فأنا أحبك بعمق" ورفض جوردان العرض.

وفي إبريل سنة 1803 غادر كونستانت (قسطنطين) كوبت إلى عقار كان قد اشتراه بالقرب من مافلير Mafliers على بعد حوالي ثلاثين ميلاً من باريس، وفي الخريف خاطرت بإثارة غضب نابليون بانتقالها مع أسرتها لمنزل ريفي في مافلير، وعندما علم نابليون أَمَرها بإطاعة أوامره بالابتعاد 120 ميلاً عن باريس، ففضلت أن تزور

ص: 262

ألمانيا، وقرر كونستانت (قسطنطين) - لامتعاضه من قسوة نابليون وتأثره بحزن جرمين- أن يصطحبها. وساعدها وأطفالها على تحمل مشاق الرحلة وابتهج عند وصوله إلى فيمار فأقام فيها ليؤلف كتابه عن تاريخ الدين.

وفي 22 يناير سنة 1804 بدأ يدوّن كتابه (اليوميات Journal Intime) بادئاً إياه بمدخل مرح:

"لقد وصلت لتوي إلى فيمار إنني أنوي البقاء هنا بعض الوقت ففي هذا المكان سأجد المكتبات والمناقشات الجادة التي تتمشَّى مع ذَوْقي، والأهم من هذا الهدوء الذي يساعدني على العمل"

وبعض الفقرات الأخرى في يومياته هذه تشير إلى تطوره العقلي والنفسي: 23 يناير:

"إنني أعمل قليلاً وبشكل سيء، لكن عوّضني عن ذلك أنني رأيتُ جوته! صفاء وعزّة وحساسية مفرطة لدرجة المعاناة. روح فياض وملامح وسيمة وجسد اعتراه الوهن شيئاً ما .. وبعد العشاء تحدثت بغير كلفة مع فيلاند Wieland - روح فرنسية، بارد كفيلسوف رقيق كشاعر

هيردر Herder كسرير دافئ ناعم حيث يمكن للمرء أن يرى أحلاماً طيبة

"

27 يناير: "شرح لي المؤرخ السويسري جوهان فون ميلر Johannes Von Muller خطته في كتابة تاريخ العالم

ومعه ثار سؤال شائق: هل العالم مخلوق أم غير مخلوق. وفقاً لكيفية الإجابة عن هذا السؤال، فإن مسار التاريخ البشري سيظهر لنا نتيجة متناقضة (متعارضة) بمعنى الكلمة: فإن كان العالم مخلوقاً فلا محالة من فنائه وإن كان غير مخلوق فلا محالة من تحسّنه (تطوره)

"

12 فبراير: "أعدت قراءة فاوست Faust لجوته (الجزء الأول. إنها تسخر من الجنس البشري وكل العلوم. لقد وجد الألمان فيها عمق تفكير غير مسبوق، لكنني أفضل كانديد " Candide.

26 فبراير: زيارة لجوته Goethe ..

27 فبراير: أمسية مع شيلر Schiller

28 فبراير: عشاء مع شيلر وجوتة. لا أعرف من العالم ما هو أكثر مرحاً وفكاهة ورقة

ص: 263

وقوة وسعة صدر من جوتة

29 فبراير:

غدا سأغادر قاصداً ليبزج Leipzig وسأكون حزيناً لتركي فيمار. لقد قضيت هنا ثلاثة أشهر كنت فيها سعيداً جداً. لقد درست، وعشت في أمان ولم أعانِ إلاّ قليلاً .. لم أطلب أكثر من هذا

3 مارس: زرت المتحف في ليبزج المكتبة تحوي 80،000 مجلد .. لم لا أبقى هنا وأعمل؟

10 مارس: لقد اشتريت بستة لويسيّات (جنيهات ذهبية فرنسية/ حوالي 150 دولار) كتباً ألمانية.

لقد ترك مدام دي ستيل في ليبزج واتخذ طريقه إلى لوزان لزيارة أقاربه، وبمجرد وصوله علم بموت والد جيرمين (نيكر) - هذا السيّد الطيِّب نيكر كم هو نبيل وكم هو كُفء وكم هو نقي: لقد أحبني. مَنْ الآن سيُرشد ابنته؟ واندفع عائداً إلى ألمانيا على أمل أن يُخفف وطأة الخبر عليها فقد كان يعلم أن هذه الخسارة ستجتاحها. وعاد معها إلى كوبت ومكث معها حتى أفاقت من هَوْل الصدمة.

لقد كانت في مسيس الحاجة إليه في تلك الأيام التي كان يتطلع فيها لفراقها ليكون حراً في متابعة أموره السياسية وأعماله دون أن يربط نفسه بمصالحها. لقد شعر أنه كان قد دمّر مصالحه السياسية عندما أصبح ليفتنانت (ملازم) lieutenant في حربها ضد نابليون. وفي أبريل سنة 1806 دوّن في يومياته تحليلاً يبيِّن اختلال إرادته:

"إنني دائماً أميل إلى قطع علاقتي بمدام دي ستيل، لكن في كل مرة أحس فيها بضرورة السير في هذا الطريق أجد نفسي في صباح اليوم التالي على خلاف ما كُنتُ عقدت عليه العزم. وفي هذه الأثناء أجد أن اندفاعها وطيشها يجعلاني في عذاب وخطر دائم. يجب أن نفترق

إنها فرصتي الوحيدة لحياة آمنة" وبعد ذلك بشهر نقرأ في يوميّاته: "في المساء كان المشهد مرعباً - ألفاظ شنيعة لا مبالية ومرعبة. إنها مجنونة أو أنني مخبول. فكيف تكون النهاية؟ ".

ص: 264

ومثل كثيرين من المؤلفين الذين لا يستطيعون أن يسوسوا حياتهم، عمد إلى كتابة حكايته من وجهة نظره في رواية أخفى فيها الشخوص الحقيقية والوقائع الحقيقية بعناية، لكنها كانت اعترافات صريحة. لقد كتب في خمسة عشر يوماً (يناير 1807) وهو ممتعض بحرارة من سيطرة جيرمين وتوبيخها له، غاضب من نفسه لتردده وضعف إرادته - مائة صفحة أصبحت هي أول رواية نفسية (سيكولوجية) في القرن التاسع عشر. لقد كانت أكثر سَبْراً لأغوار النفس البشرية وكانت طريقة تناوله أكثر ذكاء وألمعية من معظم الروايات. لقد حلَّل شخصية الرجل والمرأة بطريقة لا ترحم.

لقد تابعت هذه الرواية التي جعل عنوانها (أدولف) شبابه الضائع (الذي لا هدف له) وتعليمه المتقطع غير المنتظم وغير المنهجي، وعلاقاته العاطفية السطحية والمتسرِّعة، وشغفه بالقراءة الذي جعل إيمانه يُشاب بالسخرية (الكلبيّة Cynicism) مما أثر في حياته فجعلها بلا معنى. وقد حكي تطوافه في مجال العشق غير المسئول ووصل بأحداثه إلى ذروة المأساة في حكاية قصة إلينور Ellenore - وهي قصة امرأة من النبلاء ضحّت بأسرتها وشرفها ومستقبلها لتكون خليلة للكونت ب

ولاحظ أدولف (بطل القصّة) أن المجتمع يعاقب المرأة التي تخرج عن القواعد المرعية بالقيل والقال والازدراء (أكثر بكثير مما يفعل مع الرجل)، ذلك لأن المجتمع يقيم نظامه واستقراره على القوانين والأعراف التي تكبح الرغبات التي لا تتمشى مع صالح المجتمع.

وكان سهلاً أن يتحوّل عطفه على إليّنور (إحدى شخصيات القصة) المنبوذة، وإعجابه بشجاعتها إلى حب، وربما لرغبة سرّية (مكبوته) في انتزاع حب امرأة ترضى غروره. وبمجرد أن بَرُدت حرارة حبه استسلمت له وتركت الكونت وأمواله واتخذت له مسكناً متواضعاً وحاولت أن تعيش على زيارات أدولف وأمواله، وكلما زاد إخلاصها قل اهتمامه بها. لقد حاول أن يبتعد عنها لكنها وبَّخته وأخيراً تشاجرا وانفصلا. لقد تركته وتاهت في غياهب الفقر وفقدان الإرادة فلم تستطع العيش، ولم يلحق بها إلاّ لتموت بين ذراعيه.

وعمد كونستات إلى التعمية على شخصياته في الرواية حتى لا يُدرك أحد أنه يقصد شخصيات مقيمة في كوبت، فجعل بطلة القصة بولندية، وجعلها خاضعة سَلِسلة غير

ص: 265

متحكّمة وجعلها تموت يأسا، ومع هذا فإن كل من قرأ الكتاب وكان يعرف مؤلفه قَرَنَ بين المؤلف وشخصية أدولف وبين مدام دي ستيل وشخصية إلينور. وأحجم كونستانت (قسطنطين) تسع سنوات عن نشر كتابه، لكن الخُيلاء انتصر على الحذر فراح يقرأ مقاطع منه وأحياناً يقرأه كله لأصدقائه، وأخيراً لجيرمين نفسها التي فُجعت بنهاية القصة.

وبعودة شارلوت فون هاردنبرج انتعشت حياة كونستانت شيئاً ما. لقد كانت طلِّقت زوجها الأول وعانت مع زوجها الثاني الفيكونت دي ترتر Tertre، وهي الآن تواصل ما انقطع من علاقتها الغرامية بكونستانت، وتزوجا في 5 يونيو سنة 1808 لكن عندما عاد بنيامين كونستانت إلى عبوديته في كوبت، إرضاءً لمدام دي ستيل، عادت شارلوت إلى ألمانيا. ولم يشعر كونستانت أنه أصبح حراً إلا بعد أن اكتشفت جيرمين عشيقاً جديداً هو جون روكا Rocca (1811) ، عندها ذهب كونستانت مع شارلوت ليعيشا بالقرب من جوتنجن Gottingen وأعانته مكتبة جامعتها فواصل عمله في كتابه عن تاريخ الأديان. وربما كان العامان التاليان هما أسعد عامين مرَّا في حياته.

لكن السعادة لم تكن ملائمة له أو بتعبير آخر لم تكن متَّفقة مع طبعه، فعندما سمع (في يناير سنة 1813) من الكونت دي ناربوت de Narbonne لأول مرة عن قصة الكارثة التي حلّت بنابليون في روسيا، أحس بقرب سقوط نابليون، فعاد إليه قلقه القديم فسأل نفسه - كما كتب في يومياته، أيجب أن أكون دائما مجرد متفرج؟ وأثناء تراجع نابليون إلى الراين أمام قوات الحلفاء المنتصرة، اتجه كونستانت إلى هانوفر، وقابل بيرنادوت هناك، فحثه على كتابة نشرة روح الغزو Esprit de conquete يعزو فيها انهيار فرنسا إلى دكتاتورية نابليون واستبداده.

وتم نشر هذا الكتيب (النشرة) في هانوفر في يناير سنة 1814 في ذروة اندفاع قوات الحلفاء داخل فرنسا، وقد أدى هذا إلى اعتباره أي (كونستانت) شخصاً مهما كقادة القوات المتحالفة وتبع كونستانت جيوشهم إلى باريس (أبريل (1814) على أمل أن يتلقى تعويضا شخصيا (على أمل أن يستعيد مكانته).

وزار صالون مدام دي ستيل الذي تم افتتاحه من جديد فوجدها غير عابئة به بالمرّة.

ص: 266

ولأن شارلوت كانت لا تزال في ألمانيا فقد صرّح في يومياته (31 أغسطس 1814) أنه قد وقع في حب مدام ريكامييه وكان كونستانت (قسطنطين) يسخر منذ زمن طويل من إستراتيجية مدام ريكامييه التي تجعلها تتيح عسيلتها مع الحفاظ على عذريتها (أو بتعبير آخر تتيح لمن تحبّه أن يظهرها لكنها لا تُمكنه من نقبها)، (وبالفعل فقد استطاع كثيرون أن يعلوها ولكنهم ما استطاعوا لها نقبا) وقد اعترف للدوق بروجلي Broglie أنه حاول أن يبيع روحه للشيطان مقابل الاستمتاع بجسد جوليت ريكامييه وكانت مدام ريكامييه من المؤيدين المتحمسين للبوربون وخافت على حياتها عندما علمت أن نابليون هرب من إلبا Elba ووصل إلى كان Cannes، فطلبت من كونستانت أن ينشر في جريدة باريس Journal de Paris (6 مارس 1815) نداء لشعب فرنسا ليهب ضد مغتصب العرش (تقصد نابليون)

"إن نابليون يَعِد بالسلام لكن مجرد ذكر اسمه يشير إلى الحرب. انه يَعِد بالنصر ومع هذا تخلّى عن جيوشه كجبان ثلاث مرات - في مصر، وفي اسبانيا وفي روسيا".

لقد أجّجت ريكامييه نيران كونستانت - وكان لهوباً بطبعه - حتى بدا وكأنه يحرق كل الجسور وراءه أو بتعبير آخر يقطع على نفسه طريق التراجع. وفي 19 مارس أعلن في جريدة الحوار / جورنال دي ديبات Journal des debats أنه مستعد للموت في سبيل الملك الذي عزلوه (لويس 18) وفي هذه الليلة هرب لويس الثامن عشر إلى جنت Ghent وفي اليوم التالي دخل نابليون باريس فاختبأ كونستانت في سفارة الولايات المتحدة، وأصدر نابليون عفواً عاماً فظهر كونستانت من مخبئه، وفي 30 مارس أكد له جوزيف بونابرت أن أخاه الإمبراطور في مزاج معتدل يميل للعفو. وفي 14 أبريل استقبله نابليون وطلب منه أن يصيغ مشروع دستور ليبرالي، وراجع نابليون مشروع الدستور بعناية وأعلنه كعهد أو ميثاق للحكومة الفرنسية. فأدار الإحساس بالمجد رأس كونستانت.

وفي 20 يونيو - بينما كان يقرأ روايته أدولف للأميرة هورتنس، دخل الدوق دي روفيجو Rovigo ليخبرها أن نابليون قد لاقى الهزيمة في واترلو منذ يومين. وفي 8 يوليو عاد لويس إلى قصر التوليري، فأرسل له كونستانت اعتذارا متذللا فأصدر الملك عفوا

ص: 267

عنه، أثار استغراب الجميع، لأن الملك اعتبره مراهقاً غير مسئول تمرّد، وأنه يكتب الفرنسية بامتياز. وتجنّبه كل أهل باريس وراحوا يحبكون التوريات (جمع تورية) والكنايات (جمع كناية) حول اسمه. وكتب كونستانت إلى مدام ريكامييه يُسامحها لأنها:"دمرت مجال عملي ومستقبلي وسمعتي وسعادتي".

وفي أكتوبر غادر قاصداً بروكسل حيث التحق بشارلوت الصبورة، وفي أوائل سنة 1816 عبرا معاً إلى انجلترا حيث كانت روايته أدولف قد نشرت. وفي سبتمبر عاد مع زوجته إلى باريس، واشتغل بالسياسة وبدأ مرحلة جديدة من عمره.

‌4 - شاتوبريان

CHATEAUBRIAND: 1768 - 1815 م

4/ 1 - شبابه

كان فرانسوا رينيه دي شاتوبريان أعظم كتاب فرنسا المعاصرين له. قال سانت بيف Sainte-Beuve في سنة:1849 "أنه الأكثر شهرة بين كتابنا المعاصرين" وثمة لؤلؤة كبيرة (دانة) أخرى من لآلئ الأدب هو إميل فاج Emile Faguet، كتب في سنة 1887 (ناسيا فولتير):"شاتوبريان هو أعظم مَعْلم في تاريخ الأدب الفرنسي منذ بلياد" Peliade (حوالي 1550)، ومن المؤكد أن سيادته للأدب الفرنسي لا تضارعها إلاّ سيادة فولتير. وترجع مكانة شاتوبريان أنه انتصر للدين على حساب الفلسفة تماما كما انتصر فولتير للفلسفة على حساب الدين، وقد عاش عمراً طويلاً يكفي لِيَرَ الكفر بالدين يُبعث من جديد. وعلى هذا فإن اتجاهاً ما رغم أنه يلقى ترحاباً في وقت من الأوقات تقل الحماسة له بمرور الوقت، ليولد من رَحِمِه اتجاه آخر مناهض له عبر الأجيال، خلال المعركة الدائرة في نفوس البشر بين الفكرة ونقيضها بحيث لا يكون للاعتدال (الموقف الوسط) وجود.

لقد كتب: "إن حياتي والدراما تنقسم إلى ثلاثة فصول (أو مشاهد). من شبابي الباكر حتى سنة 1800 كنت جندياً ورحالة، ومن 1800 حتى 1814 في ظل الحكومة القنصلية والإمبراطورية، كرّست حياتي للأدب والفكر، ومنذ عودة الملكية حتى اليوم [1833] اشتغلت بالسياسة".

وثمة فصل رابع غائر (1834 - 1848) كان على بطلنا الثلاثي

ص: 268

هذا the triple hero أن يعيشه وقد وهنت ذاكرته ترعاه امرأة حنون. إنها فترة ضبابية ضاعت مع الزمن.

"كان أسمي في البداية يكتب هكذا: بريا Brien

ثم بريان Briand

ذلك أنه في بداية القرن الحادي عشر كان آل بريا Brien (بريان Briand فيما بعد) قد أطلقوا اسمهم على قصر فرنسي في بريتاني Brittany في فرنسا، وأصبح هذا القصر مقراً لبارونية شاتوبريان".

وعندما فقدت الأسرة العتيدة كل شيء تقريباً سوى قصرها وكبرياءها، ذهب الأب إلى أمريكا وكوّن ثروة متواضعة. وعندما عاد إلى فرنسا تزوّج أبولين دي بيديه Appoline de Bedee التي أنجبت له بنين وبنات عدداً حتى أنه انطوى على نفسه في كآبة استمرت حتى إنجاب ابنه الأخير وهو الوحيد - من بين أبنائه - الذي بقيت ذكراه. وعمدت الأم إلى العبادة واستغرقت فيها لتخفف عن نفسها متاعب العمل وما ألمَّ بها من مرض. ومات لهذا الأب أربعة من أبنائه قبل مولد رينيه Rene في 4 سبتمبر سنة 1768 في سانت مالو St. Malo على الشاطئ الفرنسي الشمالي. وقد ذكر فيما بعد. "ما أسوأ أن يُرزق المرء بمولود" وكانت أخته لوسي Lucie متوعكة دائماً فدمجت متاعبها مع متاعبه ودخلا معا في علاقة مُغرقة جعلت كليهما غير راغبين في الزواج. لقد أضاف ضباب الشمال، والرياح التي تضرب جزيرتهم وبيتهم إلى كآبة روحهما كآبات أخرى، لكنها أصبحت فيما بعد ذكريات عزيزة.

وعندما بلغ التاسعة من عمره انتقلت أسرته إلى عقار في كومبورج Combourg الأمر الذي جلب للأسرة لقب كونت Comte وأصبح رينتيه فيكونت Vicomte (شريف فوق البارون ودون الكونت) لقد تم إرساله الآن إلى مدرسة بالقرب من دول Dol وتلقى تعليمه على يد قسس، حثّتهم أمه لإعداده ليكون قَسّاً، فتلقى على يديهم تعليماً طيباً في الآداب الكلاسيكيّة، وسرعان ما شرع في الترجمة عن هو ميروس وزينوفون Xenophon.

" في عامي الثالث في دول Dol .. وضعت الصدفة في يديّ

هوراس Horace غير المهذبة .. فألقيت نظرة على مباهج الجنس غير المعروفة، ذلك الجنس الذي لم أعرفه إلا من خلال أم وأخوات

إن رعبي من ظلال الشياطين ونار جهنم .. أثَّر فيَّ معنوياً وبدنياً، فظللتُ على براءتي

ص: 269

متمسكاً بطهري أحارب ضد عواصف عواطف غير ناضجة"،

ورعب لا عقلاني من المجهول وأدت طاقته الجنسية - دون أية اتصالات جنسية نعرفها - إلى أن تطورت في خياله صورة امرأة نموذجية أخلص لها (أي لهذه الصورة المتخيّلة) إخلاصاً باطنياً (ينحو نحواً صوفياً) شديداً، مما انحرف به وعاقه عن التطور المعتاد.

وكلما اقترب موعد حضوره أول طقس للعشاء الرباني (جزء من القدّاس) يقام له، اعتراه خوف من أن يُدلي لقس الاعتراف بهواجسه الداخلية، وممارساته السرية، وعندما وجد الشجاعة واعترف لقس الاعتراف هدَّأه القس وأراحه وأحلّه من تبعاته (غفر له)، عندها شعر بفرح الملائكة. وفي اليوم التالي أقاموا لي طقوساً سامية محركة للمشاعر،

"حاولت عبثاً أن أصفها في كتابي عبقرية المسيحية Le Genie du christianisme. إن الحضور الحقيقي للفادي Victim (يقصد المسيح) في القربان المقدّس على مذبح الكنيسة كان واضحاً لي كحضور أمي إلى جانبي. لقد شعرت كما لو أن نوراً قد انبثق في داخلي".

فارتعد إجلالا وبعد ثلاثة أشهر غادر كلية (مدرسة) دول College de Dol. " إن ذكرى هؤلاء المعلمين الجادين ستبقى دائماً عزيزة إلى نفسي".

هذا السمو (المقصود هذه المشاعر الدينية) راح يقل كلما أمعن في القراءة مما أدى إلى ظهور قضايا أو أسئلة في حاجة لإجابة في أمور العقيدة. واعترف لوالديه أنه لا يريد أن يكون قساً. فتم إرساله وهو في السابعة عشر من عمره إلى كلية رين College de Rennes لمدة عامين لتؤهله لوظيفة في الحراسة البحرية Naval Guard في بريست. وفي سنة 1788 (كان قد بلغ العشرين) تم تعيينه تحت الاختبار لكن حياته التي اعتاد عليها قبل ذلك بالإضافة إلى الانضباط في البحرية الفرنسية جعلاه خائفاً جداً من العمل في البحرية حتى أنه عاد إلى والديه في كومبورج Combourg ووافق على الالتحاق بكلية دي دينان de Dinan ليكون قساً، وربما قال هذا رغبة في أن يخفّف والده من حدّة توبيخهما له. يقول:"الحقيقة أنني لم أكن أريد إلا كسب الوقت لأنني لم أكن أعرف ما أريد"، وأخيراً التحق بالجيش برتبة ملازم، وتم تقديمه للملك لويس السادس عرش، وكان يمارس الصيد معه، وشهد الاستيلاء على الباستيل، وتعاطف مع الثورة إلى أن قامت في سنة 1790 بإلغاء

ص: 270

الرّتب والألقاب والحقوق الإقطاعية. وعندما نذرت كتيبته نفسها للانضمام لجيش الثورة استقال من مهامه واكتفى بدخل متواضع من ميراث تركه له أبوه عند مماته - وفي 4 أبريل سنة 1791 غادر فرنسا قاصداً الولايات المتحدة، وأعلن أنه سيحاول اكتشاف طريق شمالي غربي عبر القطب الشمالي (شمال أمريكا). "لقد كنتُ مفكراً حراً متحمساً في ذلك الوقت".

ووصل إلى بلتيمور Baltimore في 11 يوليو سنة 1791 ومنها إلى فيلادلفيا، وتناول الغداء مع الرئيس واشنطن ورفّه عنه بخططه المتسمة بالمبالغة واتخذ طريقه إلى ألباني Albany واستأجر دليلاً واشترى حصانين وركب مزهوا إلى الغرب، وكان معجباً بجلال المشاهد التي شاهدها حيث الجبال والبحريات والمجاري المائية تتلألأ تحت شمس الصيف. لقد وجد متعة بالغة في هذه المساحات الواسعة المكشوفة وهذا الفن الذي خطته يد الطبيعة، ليكون ملجأ يلجأ إليه المرء هرباً من الحضارة وتكلّفها. وقد سجل تجربته في يوميات نقَّحها في وقت لاحق ونشرها بعنوان: رحلات في أمريكا Voyages en Amerique وظهر في هذه الرحلات بالفعل جمال أسلوبه:

"أيتها الحرية البدائية (حرية الفطرة الأولى) لقد استعدتك أخيراً! إنني انطلق مثلما ينطلق الطير، أتنقّل كالذبابة فهي تقود نفسها لا عوائق أمامها، ولا تعرف إرباكاً ولا حيرة إلاّ في اختيارها للمكان الظليل. هنا أنا بطبيعتي كما خلقني الله جل جلال؛ سيد الطبيعة، منتصر أنا إذ يحملني الماء، بينما قاطنو المجاري المائية يصطحبونني في طريقي وقاطنو الهواء يغنون أغنياتهم لي، وحيوانات الأرض البرية تحييني وأشجار الغابات تحني ذُراها لي كلما مررت، أليست أصولنا الأولى حُفِرت (سُجّلت) على جبين الإنسان في مجتمعه أو على جبيني؟ اجرِ إذن لتُخرس أنفاسك في مدنك! اذهب لتكون عبداً لقوانينك التافهة، احصل على خبزك بعرق جبينك أو التهم خبز الفقراء. ليقتل بعضنا بعضاً من أجل كلمة، من أجل السيدّ؛ فنتشكك في وجود الله أو نعبده بصيغ عبادة خرافية، أما أنا فسأذهب أتجوّل في قفرى المنعزل ففيه لن يقمع أحد فكري ولن يُدمي أحد قلبي، فسأكون حراً كالطبيعة، ولن أعترف بسلطان أحد سوى سلطانه (الله) الذي أبقى لنا الشمس، والذي بإشارة واحدة من

ص: 271

يده قادر على إشعال الثورة في كل العوالم".

هنا كل ميراث الحركة الرومانسية: الحرية والطبيعة والصداقة، لكل الكائنات الحية، احتقار للمدن واحتقار لمحاربة الإنسان لأخيه الإنسان من أجل الخبز أو السلطان، هنا رفض للإلحاد والخرافة، هنا نعبد الله بتأمل الطبيعة، هنا يكون الهرب من كل قانون خلا قانون الله.

لا يهم - من وجهة نظر أدبية - أن يكون شاتوبريان قد فقد إيمانه الديني، أو أن كثيراً من أوصافه كان أقرب للخيال منه للحقيقة، أو أن النقاد الفرنسيين والأمريكيين سرعان ما اكتشفوا مئات المبالغات والمستحيلات والمواضع التي اتسم فيها بعدم الدقة، وإنما المهم أن أسلوبه النثري هنا قد أثَّر تأثيراً كبيراً في مشاعر كل النساء وكثير من الرجال. لم يشهد النثر الفرنسي منذ روسو أو بيرناردين دي سانت بيير Bernardin de Saint-Pierre مثل هذا البهاء والخصوبة، ولم تقدّم الطبيعة بهذا الإشراق، ولم يُظهر أحد الحضارة بهذا السخف. إن كل ما تنتظره الحركة الرومانسية هو أن تقدم بشكل مقنع الهنود الحمر (الهنود الأمريكيين) كسادة يتجولون في الفردوس يتربعون على عروش الحكمة، وأن تقدم بشكل مقنع الدين كأساس للأخلاق والفنون والخلاص Salvation. وسرعان ما قدَّم شاتوبريان مثلاً على هذا في قصته أتالا Atala ورينيه Rene، وقدّم مثالا ثالثا في كتابه عبقرية المسيحية The Genus of Christianity.

لقد تجوّل مكتشف الشاعر راكباً خلال ولاية نيويورك واستقبله بعض الأونونداجا Onondaga الهنود وأكرموه ونام بشكل بدائي على الثرى (الأرض الأم) بالقرب من نياجارا Niagara وسمع الأصوات المكبوتة لخرير مياه الشلالات. وفي اليوم التالي جلس بشكل تلقائي على شاطئ النهر الذي يُسرع في جريانه ليصل إلى مصبّه. "لكم تُقتُ لإلقاء نفسي فيه" ولأنه كان شغوفاً لرؤية الشلالات من أدنى فقد هبط المنحدر الصخري فزلَّت قدمه وكُسِر ذراعه، ورفعه الهنود (الحمر) إلى حيث الموضع الآمن. وتخلّى عن حلمه بالاتجاه نحو الشمال الغربي فاتجه جنوباً ووصل إلى الأوهايو Ohio.

وعند هذه النقطة تصبح روايته للوقائع والمشاهد مُلتبسةً مشكوكاً فيها. إنه يخبرنا أنه تابع الأوهايو إلى المسيسبِّي

ص: 272

ومنه إلى خليج المكسيك ومن هناك عَبْر آلاف الأميال ومئات الجبال إلى فلوريدا. وقارنَ النقّادُ المسافات ووسيلة الانتقال بزمن الرحلة وانتهوا إلى أن روايته مشكوك فيها. كما أنه وظفَ حيوانات المنطقة وغطاءَها النباتي بما لا يتفق أبداً مع طبيعة هذه المنطقة وغطائها النباتي بعد رحلته بمائة سنة، وعلى أية حال فإن قرناً من الزمان يكفي لتغيير الحياة البرية في المنطقة تغييراً حاداً، ولو حتى من خلال انتشار الزراعية والتعدين وارتفاعات الأرض وانخفاضاتها.

وبعد أن مكث مع الهنود الحمر من جماعات السمينول Seminole اتخذ طريقه نحو الشمال الغربي إلى شيليكوث Chillicothe وهي الآن إلينوي Illinois. وهناك قرأ في صحيفة إنجليزية أخبار هروب لويس السادس عشر إلى فارين Varennes (22 يوليو 1791) فأصابه الرعب فمعنى القبض على الملك تعرض حياته - يومياً - للخطر. "قلت لنفسي: عُد لفرنسا وقطعت رحلاتي فجأة"

وفي 2 يناير سنة 1792 وصل فرنسا بعد غياب دام تسعة أشهر، وكان عمره عند عودته لا يتجاوز الثالثة والعشرين.

4/ 2 - تطوره

لقد كان قد أنفق تقريباً كل ما لديه من مال، وكان لا يزال غير متيقن ولا آمن في وطن يُعادي الفيكونتات (المقصود النبلاء عامة) ويسير نحو الحرب ومذابح سبتمبر. ونصحه أَخَواته أن يتزوّج بالمال ودبّرا له عروساً في السابعة عشرة من عمرها قبلت مهراً معتدلة وهي سيليست بوسو دي لا فني Celeste Buisson de La Vigne فتزوجها في 21 فبراير سنة 1792. وظلت سيليست المتواضعة مُخلصة له خلال كل التقلبات التي مرت به وتحملت خليلاته وتحملته خلال فترة صراعه مع نابليون مع أنها كانت معجبة به (بنابليون) وبعد سنوات طوال تعلّم شاتوبريان أن يحبها. وذهبا للعيش في باريس معاً بالقرب من أختيه لوسيل Lucile وجولي Julie . وضاع جزء من ثروة زوجته كان يتم استثماره في سندات تصدرها الكنيسة عقب مُصادرة حكومة الثورة للممتلكات الكنسية وخسر رينيه جزءاً آخر على موائد القمار.

ص: 273

وفي 20 أبريل أعلنت الجمعية التشريعية الحرب على النمسا، فكوّن المهاجرون الفرنسيون (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) كتيبةً لتنضم إلى النمسا للإطاحة بالثورة. وشعر شاتوبريان أن عليه أن ينضم لزملائه النبلاء رغم أنه لم يكن على يقين من رغبته في الإطاحة بالثورة. ترك شاتوبريان زوجته وأخواته في باريس وسرعان ما قرر ثوار باريس سجن (وإعدام) مئات من أفراد الطبقة الارستقراطية. واندفع إلى كوبلنز Coblenz وانضم لجيش المهاجرين واشترك في حصار ثيونفيل Thionville الفاشل (أول سبتمبر 1792) وجُرح في فخذه، وفي لفتة كريمة تم إطلاق سراحه. ولمّا لم يكن قادراً على العودة لزوجته عبر فرنسا المعبّأة، اتخذ طريقه إلى أوستند Ostend قاطعاً المسافة في غالبها على قدميه، وهناك وجد طريقا إلى جزيرة جيرسي Jersey فاعتنى به خاله، وفي مايو سنة 1793 عبر إلى إنجلترا.

وفي إنجلترا عرف حياة الفقر وتحمّلها "رغم صحتي المعتلة ورغم تلاشي الأحلام الرومانسية في الحرية". ورفض شاتوبريان الإعانة المالية التي كانت الحكومة البريطانية تقدمها للنبلاء الفرنسيين المهاجرين emigre وراح يتكسّب بتعليم الفرنسية لمن يريد، كما راح يتكسب من التدريس في مدرسة داخلية. وأحب إحدى تلميذاته وهي شارلوت إيفز Charlotte Ives وبادلته الحب واقترح والدها أن يتزوجها فاعترف لهما أنه متزوّج بالفعل. وفي هذه الأثناء سُجنت زوجته وأخواته في فرنسا، وقطعت مقصلة الثوار رأس أخيه الأكبر وزوجته (أي زوجة أخيه) وجدِّها البطل ماليشيرب Malesherbes في 22 أبريل 1794. أما زوجة شاتوبريان وأخواته فلم يُطلق سراحهن حتى انتهاء فترة الإرهاب بسقوط روبيسبير Robespierre .

وكانت أخته لوسيل قد لاحظت كثيراً سهولة تعامله مع الكلمات فحثته ليكون كاتباً ومؤلفاً. وخلال السنوات التي قضاها في إنجلترا بدأ في كتابة ملحمته النثرية الطويلة (ناتشز Natchez) راح يصب في صفحاتها البالغة 2،383 صفحة أحلامه الرومانسية معتبراً حياة الهنود الحمر (الهنود الأمريكيين) حياةً مثالية. ولرغبته الشديدة في تحقيق الشهرة كفيلسوف نشر في لندن في سنة 1797 كتابه:

"الثورات قديماً وحديثاً، دراسة تاريخية

ص: 274

وسياسية وأخلاقية"

" Essia historique، politique، et moral sur les revolutions anciennes et moderns".

وكان هذا عملاً جديراً بالالتفات من شاب لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره ينقصه انضباط حياته وإن كان غنياً بالأفكار. لقد برهن شاتوبريان على أن:

"الثورات هيجان يحدث بشكل دوري، وما يتبعها يتخذ دوماً شكل منحنى يبدأ بالثورة ويمر بالاضطراب والفوضى وينتهي بالدكتاتورية. ومن هنا وجدنا الإغريق يخلعون ملوكهم ويُقيمون الجمهوريات ثم يرضخون للإسكندر، ووجدنا الرومان يخلعون ملوكهم ويُقيمون جمهورية ثم يرضخون للقياصرة"

وهنا نجد أن شاتوبريان يتنبأ بنابليون قبل الثامن عشر من برومير Brumaire بعامين.

"إن التاريخ دائرة أو أنه دوران متكرر على الدائرة نفسها، مع ظهور أهداب من هذه الدائرة تجعل القديم يبدو جديدا، ومع هذه الانقلابات العظيمة الواضحة يسقط البشر في الشرور نفسها، ويكررون أيضاً ما هو خير. وليس هناك في التاريخ تطور حقيقي، حقيقة إن المعلومات تزداد، وإنما - فقط - لتكون في خدمة الموهوبين الذين لا يتغيَّرون. والإيمان بالتنوير كوسيلة للوصول بالإنسان إلى كمال لا حد له، هذه الفكرة وهم طفولي. ومع هذا فقد نجح التنوير في تقويض دعائم المسيحية (وهذه النتيجة أذهلت معظم القراء) وليس هناك احتمال راجح أن يستعيد الدين مكانته في نفوس شبابنا في هذه القرن حيث السلام السياسي والحرب الفكرية. فأي دين سيحل - إذن محل المسيحية؟ أو بتعبير آخر ما هو الدين الآخر الذي سيُحلِّه المسيحي محل دينه؟ ربما لا دين آخر"

(هكذا انتهى الشاب المتشكك). فالنزاعات الفكرية والسياسية ستقوّض الحضارة الأوروبية وستعود بأوروبا إلى بربريتها الأولى.

لقد حقق هذا الكتاب لشاتوبريان شهرة في أوساط المهاجرين الفرنسيين لكنه صدم أولئك الذين شعروا أن الارستقراطية والدين يجب أن يقفا معاً ويصمدا معاً، أو أن يموتا منفصلين. وقد ترك هذا النقد أثره في شاتوبريان، فقد كانت كتبه التي صدرت بعد ذلك - في جانب كبير منها - اعتذاراً عن هذه الفكرة، لكنه الآن قد غدا متأثراً تأثراً عميقا بخطاب أرسلته له من فرنسا أخته جولي Julie في أول يوليو سنة 1789:

"صديقي، لقد

ص: 275

فقدنا لتوّنا أفضل الأمهات .. لو عرفتَ كثرة الدموع التي ذرفتها أُمُّنا العزيزة بسبب أخطائك، وكم هي هذه الأخطاء الباعثة على الأسى تبدو للجميع واضحة سواء من منظور التقوى والتدين أو العقل. أما وقد عرفت هذا فافتح عينيك وتخلّ عن الكتابة، وإذا استجاب الله لدعائنا واجتمعنا ثانية فستجد بيننا كل السعادة التي يمكن أن تكون على ظهر هذه الأرض".

وعندما تلقى شاتوبريان هذا الخطاب، كان معه خطاب آخر يفيد أن أخته جولي هذه قد ماتت أيضاً. وفي مقدمة كتابه عبقرية المسيحية La Genie du Christianisme عزا إلى هذين الخطابين تحوله الكامل الذي ظهر في كتابه هذا الآنف ذكره.

"إن هذين الصوتين المنبعثين من القبر (صوت أمه وصوت أخته) كانا يطنّان في أذنيَّ، فأصبحت مسيحياً .. بكيتُ وآمنت، فقد فسّر لي موتهما ما يعنيه الموت".

إن مثل هذا التغير المفاجئ والمبهر (الدرامي) يُغري بالتشكك، لكنه لم يكن تشككاً بمعناه الحرفي، وربما أرجع شاتوبريان - الذي لم ينفصل الفيلسوف في شخصه أبداً عن الشاعر - للحظة واحدة، عملية تحوّله من عدم الإيمان إلى الإيمان (بالمسيحية) التي رآها أولاً جميلة ثم رآها مفيدة خيِّرة، ثم - أخيراً - اعتقد أنها - أي المسيحية - رغم أخطائها - تستحق التعاطف معها على المستوى الشخصي كما تستحق دعمها على المستوى العام (بين الناس)، لقد تأثر في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر بخطابات وصلته من صديقه لويس دي فونتين de Fontanes يصف فيها التفسخ الأخلاقي والانحلال الخلقي الذي حاق بفرنسا، ورغبة الناس المتزايدة في العودة إلى كنائسهم وقُسسهم. وخَلُص فونتين إلى أن هذا التوق الشديد سيجبر الدولة في وقت قريب جداً على العودة للعبادة الكاثوليكية.

وقرر شاتوبريان أن يكون هو الصوت المعبّر عن هذه الحركة (حركة العودة للكاثوليكية) فكتب دفاعاً عن المسيحية ليس من خلال المفاهيم العلمية والفلسفية وإنما من خلال الأخلاق والأدب والفن. لا جُناح إن كانت هذه القصص الفاتنة التي قصّوها علينا في شبابنا خرافات أكثر من كونها تاريخاً حقيقياً. إنها أبهجتنا وأوحت لنا بالكثير، وجعلتنا إلى حد

ص: 276

ما متآلفين مع الوصايا العشر التي قام عليها نظامنا الاجتماعي وبالتالي الحضارة المسيحية.

"أليست جريمة كبرى أن تنزع من الناس العقائد التي ساعدتهم في السيطرة على الفوضى الاجتماعية وتحمل الظلم والشر والمعاناة، والمصير المحتوم الذي لا مهرب منه - الموت؟ "

وعلى هذا فإن شاتوبريان قد عبّر في مذكراته الأخيرة عن إيمانه وشكه في الوقت نفسه. إن روحي لا تميل للاعتقاد في شيء حتى في نفسي، وتميل إلى ازدراء كل شيء - الفخامة والعظمة والبؤس والشعوب والملوك،

"ومع هذا فإن روحي يهيمن عليها العقل الذي يطالبها بالتسليم بكل ما هو جميل: الدين والعدالة والإنسانية والمساواة والحرية والمجد".

وفي سنة 1800 دعا فونتين شاتوبريان للعودة إلى فرنسا، وكان فونتين شخصاً مقبولاً للقنصل الأول (نابليون) وفي مقدوره أن يضمن ألاَّ يتعرض هذا الشاب المهاجر (شاتوبريان) للأذى. وكان نابليون يفكر بالفعل في إعادة الكاثوليكية، وقد يساعده كتاب جيِّد عن فضائل المسيحية في مواجهة سخرية اليعاقبة Jacobins، تلك السخرية التي لا مناص من مواجهتها إن هو (نابليون) أعاد الكاثوليكية.

وفي 16 مايو سنة 1800 عاد شاتوبريان إلى زوجته وأخته لوسيل Lucile في باريس، وقدّمه فونتين للدوائر الأدبية التي تجمع أفرادها في بيت الكونتيسة بولين دي بومومنت Pauline de Beaumont التي كانت سهلة الانقياد نحو الإثم لكنها جميلة، وهي ابنة الكونت أرمان - مارك دي مونتموري Armand-Mare de Montmorin الذي كان في وقت من الأوقات وزيراً للخارجية في عهد الملك لويس السادس عشر، وقطع الثوار رأسه بالمقصلة بعد ذلك،.

سرعان ما أصبحت بولين خليلة شاتوبريان. وفي بيتها الريفي وبتشجيعها أنهى كتابه عبقرية المسيحية. ولم يكن يعتقد أن الوقت المناسب قد حان لنشر كتاب يعارض بشدَّة الحركة المتشككة في المسيحية السائدة في دوائر الفكر والأدب، لكن في سنة 1801 قدم لباريس مئة صفحة مستخلصة منه على شكل نص نثري ذي طابع شعري يقدم

ص: 277

الفضائل المسيحية والحب الرومانسي بشكل بسيط تغمره الطمأنينة دون لهجة خطابية أو وعظية. وجعله هذا الكتاب - فجأة - حديث المتعلمين في فرنسا ومحبوب النساء وابن الكنيسة الحبيب - تلك الكنيسة التي جرى إحياؤها من جديد.

لقد أطلق على كتابه (قصته) هذا اسم "اتالا " Atala أو حب اثنين من البدائيين في الصحراء. والمشهد الافتتاحي في لويزيانا Louisiana التي يقطنها الهنود الحمر (الأمريكيين) من جماعة ناتشز Natchez Indians والراوي هو شيخ الجماعة أو القبيلة وهو أعمى واسمه شاكتاس Chactas. إنه يقص علينا كيف أسَرَتهُ في شبابه قبيلة معادية وحكمت عليه بالموت حرقا لكن أنقذته أتالا وهي عذراء هندية (من الهنود الحمر) وهربت معه عبر المستنقعات والغابات والجبال والمجاري المائية وأحب كل منهما الآخر لاقترابهما واشتراكهما في مواجهة الأخطار، وطلب منها إكمال الحب بالتواصل الجنسي لكنها رفضت لأنها كانت قد تعهدت أمام أمها التي ماتت أن تظل عذراء طوال عمرها، والتقيا بمبشر مسيحي عجوز أيد تقواها لاعناً الحب كشكل من أشكال السُّكر والزواج كقدر أسوأ من الموت، وتمزقت اتالا بين الدين والجنس (كما في التاريخ) وخرجت من المأزق بتناول السم. وغدا شاكتاس وحيداً معزولاً لكن المبشّر شرح له الموت باعتباره خلاصاً مباركاً من هذه الحياة:

"رغم ازدحام رأسي بذكريات أيام كثيرة

فلم يحدث أبداً أن التقيت برجل لم يخدع في حلمه بالسعادة، فليس هناك قلب إلاّ وانطوى على جرح داخلي .. فالروح في صفائها الظاهري تشبه الآبار الطبيعية بين الحشائش الطوال (السفانا) في فلوريدا: إن سطحها يبدو هادئاً رائعاً، ولكن عند النظر إلى قيعانها .. تُدرك وجود التماسيح الكبيرة

"

لقد أصبح وصف شاتوبريان لجنازة أتالا حيث تعاون القس والوثني في مواراة جسدها الثرى، وصفاً مشهوراً في الأدب الرومانسي، كما ألهم الفنان جيرود - تريوزن Girodet-Trioson فرسم إحدى أعظم اللوحات في فترة حكم نابليون. إنها لوحة دفن أتالا التي بكى عند رؤيتها نصف سكان باريس في سنة 1808، لكن التراث الكلاسيكي كان قوياً

ص: 278

في فرنسا في سنة 1801 لدرجة تمنع ترحيب النقاد جميعاً بالقصة وابتسم منهم كثيرون (ساخرين) عند قراءة الفقرات المنمّقة (المصاغة بعناية) وعند إدراكهم توظيف الحب والدين والموت (وهو توظيف قديم) لإنعاش القلوب وإيقاظها من غفوتها، وحشد مكوّنات الطبيعة بمختلف مظاهرها وأحوالها لتكون لحناً إلزامياً مصاحباً لأفراح الإنسان وأتراحه.

لكن كان هناك أيضاً نقاد آخرون وعدد كبير من القراء امتدحوا بساطة استخدامه للكلمات والموسيقى الهادئة في أسلوبه ووصفه للحياة الحيوانية والنباتية والجبال والغابات والمجاري المائية معبراً عن الأصوات والأشكال والألوان بأزهى عبارة، مما شكَّل خلفية مفعمة بالحياة لأحداث القصة. لقد كان المزاج العام في فرنسا على استعداد لسماع كلمات طيبة عن الدين والطهارة. وكان نابليون يخطط لتصالح مع الكنيسة. لقد حان الآن الوقت المناسبة لنشر كتاب (عبقرية المسيحية).

4/ 3 - كتاب عبقرية المسيحية

لقد ظهر هذا الكتاب في خمسة مجلدات في 14 أبريل سنة 1802 في الأسبوع نفسه الذي شهد إعلان الوفاق البابوي (الكونكوردات Concordat) وقد كتب جول ليميتر Jules Lemaitre في سنة 1865: "إن كتاب عبقرية المسيحية هو أعظم إنجاز في تاريخ الأدب والفكر الفرنسيَّين"، وقد امتدح فونتين Fontanes الكتاب في مقال بصحيفة المونتير Moniteur مستخدماً صيغ التفضيل بشكل ينم عن احتفائه الشديد. وقد ظهرت الطبعة الثانية في سنة 1803 مصّدرة بإهداء إلى نابليون. ومنذ هذا الوقت شعر المؤلف أن نابليون هو الشخص الوحيد الذي يتفوَّق عليه (والمعنى أن المؤلف اعتز بنفسه اعتزازاً شديدا، فقد أصبح يحس أنه يلي نابليون مباشرة في الأهمية).

وكلمة genie الفرنسية التي تظهر في عنوان الكتاب لا تعني بالضبط كلمة genius الإنجليزيّة (عبقرية أو نبوغ) رغم أنها تنطوي على ذلك المعنى أيضاً. إنها تعني الشخصية المميزة والروح الخلاق الكامن في صلب الدين، تلك الشخصية وهذه الروح التي أنجبت وغذت الحضارة الأوروبية بعد الفترة الكلاسيكية. لقد اقترح شاتوبريان أبطال تنوير القرن

ص: 279

الثامن عشر أي الحركة التنويرية Enlightenment المعروفة في ذلك القرن مُظهراً أن في المسيحية ما يُغني عنها ففي المسيحية - على حد قوله - فهم متعاطف أو تعاطف فاهم مع حاجات الإنسان وفيها بَلْسم لأحزانه، وفيها إلهام متعدد الجوانب للفن ودعم قوي للنظام الاجتماعي والأخلاق، وهذا يكفي أما مصداقية العقائد والمرويات الكنسية فهي مسألة قليلة الأهمية. فالسؤال الحقيقي هو: هل المسيحية تمثل دعما للحضارة الأوروبية؟ وهل هو دعم لا يُبارى ولا يُجارى ولا يعوّض ولا يمكن فصله عنها؟ - أي عن هذه الحضارة.

لقد كانت صورة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي والسياسي في فرنسا الثورة التي طلَّقت نفسها من مسيحيتها الكاثوليكية تمثل برهاناً أقوى وأكثر منطقيّة من حُجج شاتوبريان. لكن شاتوبريان كان رجل مشاعر وأحاسيس وربما كان على حق في تأكيده أن معظم الفرنسيين هم أقرب إليه منهم إلى فولتير وغيره من المفكرين الذين عملوا بحماس على إبعاد عار هيمنة الدين المطلقة. لقد أطلق على نفسه اسم "المعادي للمفكرين anti-philosophe" . لقد اشتط كثيراً - أكثر من روسو بكثير في حملته ضد المنهج العقلي ووبّخ مدام دي ستيل de Stael لدفاعها عن التنوير. وعلى هذا فقد بدأ بالدعوة إلى الإحساس والشعور، وترك العقل في المحل الثاني.

لقد أعلن في البداية إيمانه بالسِّر الأساسي للعقيدة الكاثوليكية وهو التثليث Trinity: الرب God باعتباره الآب Father الخالق، والرب God باعتباره الابن المخلص أو الفادي Son redeeming، والرب Holy Spirit باعتباره الروح القدس Holy Spirit الذي يُنير الطريق ويبارك.

إن المسألة ليست مصداقية هذا الأمر، فالمهم أنه دون عقيدة في وجود إله مدبِّر تُصبح الحياة معركة لا رحمة فيها وصراعاً وحشياً، وتُصبح الخطايا لا غافر لها ويُصبح الزواج رباطاً ممزقاً هشاً غير قائم على أساس وطيد، وتُصبح الشيخوخة انفصاماً كئيباً ويُصبح الموت شيئاً قبيحاً، وإن كان كرباً لا يمكن اجتنابه.

أما الطقوس (الشعائر sacraments) الكنسية من تعميد Church- baptism (أو عماد) واعتراف confession وعشاء مقدس Communion وتثبيت التعميد confirmation والزواج matrimony ومسح المحتضر بالزيت المقدس extreme unction والسيامة الكهنوتية sacerdotal ordi nation (مراسم تعيين الكهنة) - فتحيل آلامنا وانهيارنا المخزي

ص: 280

إلى تطور روحي متقدم يتم تعميقه بإرشاد القسس والكهنة وتوجيهاتهم وبالطقوس (الشعائر) المؤثرة، وتقوّي موقف الفرد الضعيف بمفرده ليكون كثيراً بإخوانه من المؤمنين بالمسيح المحبوب المخلص وأمه العذراء الشفيعة التي بلا خطيئة، والله الحكيم الكلّي القدرة المراقب المعاقب المسامح والمجازي. بهذا الإيمان يتم خلاص الإنسان من أعظم لعنة يمكن أن تحيق به - أن يكون بلا معنى في عالم بلا معنى.

وراح شاتوبريان يُعارض الفضائل التي أوصى بها الفلاسفة الوثنيون بتلك التي دعت إليها المسيحية: فمن ناحية نجد الجَلَد (الثبات) والاعتدال (ضبط النفس) والتدبر (التعقل) - كل هذه الفضائل تتجه نحو هدف تقدم الفرد، ومن ناحية أخرى نجد الإيمان والأمل وعمل الخير وهي - أي هذه الفضائل الأخيرة تجعل الحياة نبيلة وتقوي الروابط الاجتماعية وتحيل الموت إلى حياة (من خلال فكرة البعث). وقارن وجهة نظر الفيلسوف فيما يتعلق بالتاريخ باعتباره نضالاً وهزائم تلحق بالأفراد والجماعات بالنظرة المسيحية للتاريخ باعتباره جهدا إنسانياً للسمو فوق الخطيّة المتأصلة في طبيعته ولتحقيق آفاق أوسع.

"إنه لمن الأفضل أن تعتقد أن السماوات تمجد عظمة الرب من أن تعتقد أنها ركام عارض من صخور وتراب، خالدة لكن بلا معني، جميلة لكنها كئيبة. وكيف نستطيع أن نتفكّر في جمال معظم الطيور وكثير من ذوات الأربع دون شعور بأن بعض القداسة كامن في نموّها المَرِن (التدريجي) وأشكالها الفاتنة؟ "

وبالنسبة للأخلاق فقد بدا الأمرُ لشاتوبريان واضحاً بشكل مؤلم: إن دستورنا الأخلاقي لابد أن يباركه الرب وإلا تردّى ليكون ضد طبيعة الإنسان (الطبيعة البشرية)، فليس هناك دستور أخلاقي من وضع البشر يمكن أن تكون له القوة الكافية للسيطرة على غرائز البشر المناقضة للحياة الاجتماعية. لكن الخوف من الله هو بداية الحضارة وحب الله هو هدف الأخلاق، وأكثر من هذا فإن هذا الخوف (من الله) والحب له لابد أن ينتقل من جيل إلى جيل على أيدي الآباء والمعلمين ورجال الدين. فآباء بلا إله ومعلمون دون دعم من عقيدة دينية ورداء كهنوتي سيجدون الأنانية مستشرية وسيجدون أن الهوى والانفعال والجشع أقوى من كلماتهم غير المؤثرة. وأخيراً لا يمكن أن تكون هناك أخلاق إن لم يكن هناك

ص: 281

عالم آخر لابد أن تكون هناك حياة أخرى لتعوضنا عن محنة الفضائل في عالمنا الأرضي.

ودلّل شاتوبريان على أن الحضارة الأوروبية تكاد تكون مدينة كلية للكنيسة الكاثوليكية - بدعمها للأسرة والمدرسة، ودعوتها للفضائل المسيحية، ولمعارضتها للخرافات والخوف اللاعقلاني والممارسات الخاطئة والقضاء عليها، وإلهامها للآداب والفنون وتشجيعها. إن العصور الوسطى قد منعت بحكمة السعي غير الموجّه للوصول للحقيقة، وكان منعها هذا لصالح الجمال فقد تجلى فن العمارة في الكاتدرائيات القوطية بشكل يفوق تجليه في البارثينون Parthenon . والآداب الوثنية فيها الكثير مما هو متعة للعقل والكثير مما هو مفسد للأخلاق. والكتاب المقدس المسيحي أعظم من كتابات هوميروس، والأنبياء أكثر تأثيراً في الناس من الفلاسفة، فأي رواية يمكن مقارنتها في رقتها وتأثيرها بحياة المسيح وتعاليمه؟!

إنه لمن الواضح أن كتاباً مثل عبقرية المسيحية لا يمكن أن يكون مقبولاً إلاّ من أولئك الذين كانوا مستعدين عاطفيا للاعتقاد (للإيمان) بسبب تجاوزات الثورة الفرنسية أو بسبب مِحَن الحياة. ومن هنا قال الفيلسوف جوبير Joubert صديق شاتوبريان أنه بحث عن ملجأ في الكاثوليكية هرباً من عالم ثوري مُرعب بدرجة لا تُحتمل. وقد يبتسم بعض القراء لتفسيره الطفولي لغاية أو غرض بعض مظاهر الطبيعة عندما يقول:

"إن شَدُو الطيور قد صُمِّم ليتمشي مع آذاننا

فرغم قسوتنا عليها (أي على هذه الطيور) فهي لا تستطيع أن تكُف عن إمتاعنا كما لو كانت مضطرة لتنفيذ أوامر إلهية".

لكن هؤلاء القراء كانوا دوماً منبهرين برقة موسيقى اللفظ والأسلوب حتى أنهم لم يتوقفوا كثيراً لفهم ما ذكره عن النّعم الثلاث لشرح فكرة التثليث في العقيدة المسيحية أو الخوف المالتوسي Malthusian (الذي أثاره مالتوس) من زيادة عدد السكان زيادة هائلة للدفاع عن فكرة التبتل celibacy أو البقاء بلا

ص: 282

زواج، تلك الفكرة ذات الأبعاد الكنسية (الإكليريكية). وإذا كانت الحجج التي ساقها ضعيفة في بعض الأحيان إلا أن جاذبية أسلوبه غطت على هذا الضعف. إن الطبيعة نفسها ليعتريها المرح إذا سمعت ابتهالات شاتوبريان وتدلّهه في حبها، بعد أن تكون ساخطة معبرة عن سخطها بالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير المصحوبة بمطر ورعد وبرق.

والسؤال الآن: هل كان شاتوبريان حقاً مؤمناً؟ بدءاً من سنة 1801 إلى آخر حياته سمعنا أنه كفَّ عن صلاة عيد الفصح Easter فلم يعد يشترك في العشاء الرباني ولم يعد يتقدم للكاهن لأداء طقس الاعتراف - وهو الحد الأدنى الذي تطلبه الكنيسة من الأطفال. وقد ذكر سيسموندي Sismondi حوراً معه في سنة 1813:

"إن شاتوبريان قد لاحظ تدهور الدين في العالم على مستوى أوروبا وآسيا، وقارن علامات التدهور هذه بتعدد الآلهة على أيام جوليان Julian

وانتهى إلى أن أمم أوروبا قد تختفي مع دياناتها. لقد صُعِقت لروحه المتحررة هذه

لقد تحدث شاتوبريان عن الدين

أنه يعتقد أن الدين ضروري لمساندة الدولة. إنه يعتقد أنه والآخرين ملزمون أو مقيدون بالإيمان بدين أو بتعبير آخر لا فكاك من ذلك".

إننا مندهشون لكتمانه شكّه في الدين (الكاثوليكي) طوال ستين عاماً، يا له من عبء ثقيل حمله! إنه لم يتخلّص أبداً من التشاؤم الذي ألمَّ به في شبابه والذي وصفه في كتابه رينيه Rene. وفي أواخر حياته قال كان يجب ألا أُولد.

4/ 4 - رينيه Rene

كان كتاب شاتوبريان (عبقرية المسيحية) ملمحاً مهما للتعبير عن الحركة الرومانسية في مجال الدين. لقد شكل عودة للإيمان والأمل إن لم نقل أيضاً الخيرية أو النزوع لعمل الخير. لقد رفع من شأن شعر العصور الوسطى وفنونها وحث على إحياء فن العمارة القوطي في فرنسا. فخلال مجلداته الخمسة ضمَّ ليس فقط أتالا (القصة الآنف ذكرها) بل أيضاً رينيه حتى سنة 1805. هذه الصفحات الأربعون (التي تكوّن رينيه) المفعمة تشاؤماً تعكس قنوط المهاجرين واكتئابهم (المهاجرون الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة)

ص: 283

ومعاشرته لأخواته أثناء فترة الشباب. لقد أصبحت هذه الصفحات الأربعون ينبوعاً لآلاف الفواجع (والعويل والنواح) من اليأس والأحزان التي تستدر الدموع.

لقد كان رينيه (شخصية القصة) من الأرستقراطية الفرنسية التي هرب أفرادها من فرنسا والتحق بقبيلة ناتشز Natchez وهي قبيلة من الهنود الحمر على أمل أن ينسى حبّه المحرَّم (ممارسته الجنس مع محارمه). وكان أبوه الذي تبناه شاكتاس قد قص عليه قصة أتالا وحثّه على أن يحكي حكايته هو (أي حكاية رينيه).

"لقد كنت خائفاً مخلوع الفؤاد مقيَّداً أمام أبي. لكنني كنت أحس باليسر والسهولة والرضا - فقط - مع أختي أميلي " Amelie.

وعندما تحقق أن حبه لها قد اقترب من إمكانية غشيانه لها، بحث عن خلاصه بالضياع وسط زحام باريس أو بالجلوس ساعات في كنيسة مهجورة طالبا من الله أن يخلصه من جريمة حبّه أو من حياته التي تمثل كابوساً. وراح يبحث عن العزلة بين الجبال والحقول. لكنه في كل الأماكن التي هرب إليها لم يستطع أن يطرد أفكاره عن أميلي ووجده لها وعِشقه إياها. يا للعار، لقد كان معذّباً بسبب رغبته في الذهاب إليها والاعتراف لها بحبه، فقرر أن يقتل نفسه. وأحسّت أميلي بقراره (حدّثها قلبها بقراره هذا) فأسرعت إلى باريس ووجدته وعانقته بشدة وضمته إليها، و"غطت جبهتي بالقبلات".

وأعقب ذلك ثلاثة أشهر من الرفقة والصداقة والسعادة المنضبطة (المقيّدة)، ثم غلبها الندم فهربت إلى أحد الأديرة وتركت له كلمة تريح بها مشاعره، كما تركت له كل ثروتها، وبحث عنها وتوسل للحديث معها ولم تُرِد أن تَرَه. وعندما كانت على وشك أن تُوفي نذرها ذهب إليها في مصلاها في الكنيسة وركع إلى جوارها وسمعها وهي ساجدة أمام مذبح الكنيسة، تتوسل إلى الله قائل:"يا رحيم لا تدعني أقوم من هذا السرير الكئيب واشمل برحمتك أخي الذي أخي الذي لم يشاركني أبداً في عواطفي الآثمة" ولم ير أي منهما الآخر مرة أخرى. وواصل تفكيره في الانتحار لكنه قرر أن يتحمل آلاماً أشد بأن يعيش.

"لقد وجدتُ في المعاناة نوعاً من التكفير. لقد اكتشفتُ أن الأسى (الندم) ليس شعوراً ينتهي انه في هذا ليس كالسرور .. إن نزوعي إلى الحزن والانقباض أصبح يملأ كل لحظات حياتي. لقد انغمس قلبي تماماً وبشكل طبيعي في السأم والضجر والملل والبؤس"

وقد أصبحت عباراته هذه

ص: 284

شاهداً تقليدياً يتم الاستشهاد به عند الحديث عن الحزن الرومانسي. لقد قرر أن يضيع في أمريكا ويعيش حياة بسيطة كالتي تعيشها إحدى القبائل الهندية الأمريكية، هروباً من أمراض الحضارة. ووبخه أحد المبشرين لتقوقعه وانعزاله ودوام تفكيره في نفسه وأمره بالعودة إلى فرنسا ليطهر نفسه بخدمة الجنس البشري. وعلى أية حال فقد "مات بعد ذلك كل من رينيه وشاكتاس في مذابح جرت في كل من فرنسا (حيث قُتل رينيه) وفي لويزيانا بالولايات المتحدة"(حيث قُتل أفراد قبيلة ناتشز التي منها شاكتاس الهندي الأمريكي).

إنها قصة جيدة لولا أن أحداثها وطريقة التعبير عن المشاعر والعواطف فيها تتسم بالمبالغة. لكن المشاعر كانت قد ماتت منذ عقد من الزمان كما كان الحزن خطيراً وعميقاً فجفّت الدموع، أما الآن فقد انتهت الثورة وتم استعادة الأمن، فأصبحت المشاعر حرة وآن للدموع أن تنهمر. إن أحزان رينيه - كرجع لصدى ويرثر Werther عبر جيل - أصبحت من سمات رينيه دي شاتوبريان، وانعكس تأثيرها في أوبرمان Obermann التي وضعها سيناكور Senacour في سنة 1804، وظهر أثرها أيضاً في رحلة شيلد هارولد إلى الديار المقدسة Childe Harold's Pilgrimage (1813) ووبّخ شاتوبريان الكاتب بايرون لعدم اعترافه بما هو مدين به. لقد أصاب هذا الكُتيب جيلاً كاملاً بمرض العصر. لقد أصبح نموذجاً تحتذيه آلاف وربما مئات الآلاف من الحكايات الحزينة التي يطلق على بطلها (الشخصية الرئيسية فيها) اسم الراوي (رومانسير romancier) وربما كان اسم الحركة الرومانسية مشتقاً منها. وقد سادت هذه الحركة الفنون والآداب في فرنسا مدة نصف قرن.

4/ 5 - شاتوبريان ونابليون

قال نابليون: "إن كتاب عبقرية المسيحية عمل من رصاص وذهب، وإن كان الذهب فيه أكثر .. إن كل ما هو عظيم ووطني في شخصية الإنسان لابد أن يعترف بعبقرية شاتوبريان"

وقد رحب نابليون من جانبه بالكتاب باعتباره متفقاً بشكل يدعو للعجب

ص: 285

مع الكونكوردات البابوي (الاتفاق مع البابا)، ورتب نابليون لقاء مع المؤلف واعترف به كشخص مهم ذي قيمة وعيَّنه في سنة 1803 كسكرتير أول في السفارة الفرنسية في روما. وقد كتب المؤلف عن هذا اللقاء بتواضع وفخر:

"لم يكن يهم نابليون كثيراً ألا يكون لدي خبرة في الشؤون العامة، فأنا لم أتمرّس إطلاقاً في الشؤون السياسية العملية، لكنه - أي نابليون - كان يعتقد أن بعض العقول قادرة على الفهم وليست في حاجة للتدريب".

وسرعان ما لحقته خليلته إلى روما إلاّ أنها - على أية حال - سرعان ما ماتت (5 نوفمبر) وشاتوبريان إلى جوارها، وكانت قد طلبت منه العودة إلى زوجته قبيل وفاتها. وسرعان ما أصبح شاتوبريان شخصاً مقبولاً لدى البابا، وشخصاً مزعجاً لدى السفير كاردينال فيش Fesch خال نابليون الذي اشتكى من أن المؤلف الألمعي يتعدى على صلاحيات السفير. ولم يكن الكاردينال بالرجل الذي يسمح بذلك وطلب إعفاءه، فاستدعى نابليون الفيكونت وعيّنه متابعاً للأمور في جمهوري فالي Valais السويسرية الصغيرة. وذهب شاتوبريان إلى باريس لكن عند سماع خبر إعدام دوق دينين Duc d'Enghien أرسل لنابليون استقالته من الخدمة في السلك الدبلوماسي:

"عندما جرؤت على التخلي عن نابليون (ترك العمل معه) وضعت نفسي في مكان المساوي له (جعلتُ نفسي كُفواً له) فتوجه نحوي بكل قوة غدره

وكنت في بعض الأحيان منجذباً إليه للمناصب الإدارية التي كان يغريني بها وبفكرة أنني شاهد على تحوّل في المجتمع وليس مجرد تغيير في الأسرات الحاكمة، لكن طبيعة كل منا المختلفة عن طبيعة الآخر في جوانب كثيرة كان لها دوماً اليد العليا. وإذا كان هو (نابليون) سيكون سعيداً إن جعلني أُعدم بإطلاق النار عليّ، فإنني أيضاً لم أكن لأشعر بوخز شديد في ضميري إن رأيته مقتولا".

ولم يلحق بشاتوبريان ضرر عاجل. لقد انشغل عن السياسة بمرض زوجته (التي أحبها فترات علاقاته الغرامية) وبموت أخته لوسيل (1804). وفي هذه الأثناء اتخذ من دلفين دي كوستين Delphine de Custine خليلةً له. وفي سنة 1806 سعى ليُحل محلّها ناتالي دي نوال Natalie de Noailles التي اشترطت قيامه برحلة للأماكن المقدسة في

ص: 286

فلسطين. فترك زوجته في البندقية (فينيسيا) وذهب إلى كورفو Corfu، فأثينا، فسميرنا Smyrna، فالقسطنطينية (استانبول) فالقدس، وعاد عن طريق الإسكندرية، فقرطاجة Carthage، فأسبانيا ووصل إلى باريس في يونيو 1807. ولقد أظهر شجاعة وقوة احتمال في جولته الشاقة، وكان أثناء الطريق يجمع بجد ومثابرة مواد لكتابين عزَّزا شهرته الأدبية: الكتاب الأول عن الشهداء " Les Marytrs de Diocletien" (1809) والكتاب الثاني عن رحلته للقدس " Itineraire de Paris a Jerusalem" (1811) .

وبينما كان يُعد لهذين المجلّدين أظهر عداءه لنابليون (الذي كان يتفاوض في تيلسيت Tilsit للوصول إلى سلام) بكتابة مقال في جريدة Mercure de France (ميركيور دي فرانس، والعبارة تعني المؤشر الزئبقي لفرنسا) وفي 4 يوليو سنة 1807. حقيقة أن هذا المقال كان عن نيرون Nero وتاسيتوس Tacitus لكنه كان ينطبق بالفعل على نابليون وشاتوبريان:

"في الصمت الذليل عندما لا تسمع تنهيدة فلتفكَّ أغلال العبد، ولتطلق حنجرة الراوي (المؤرّخ)، وعندما تكون الرجفة من الطاغية، ويصبح رضاه وسخطه خطراً على نحو سواء، هنا يظهر المؤرّخ ويُصبح مؤتمناً على مهمة الانتقام للأمة. لقد كان ازدهار نيرون ونجاحه عبثاً (بلا جدوى) لأن تاسيتوس Tacitus كان بالفعل موجوداً في أنحاء الإمبراطورية (المقصود موجوداً بفكره وكتاباته). لقد نشأ مغموراً (غير معروف) إلى جانب بقايا جيرمانيكوس Germanicus وكان الله العادل قد سلّم بالفعل لطفل غامض (المقصود نيرون) مجد سيادة العالم. إذا كان دور المؤرخ دورا عادلا، فغالباً ما يتعرض للأخطار، لكن هناك مذابح altars (أي أماكن للعبادة) كما أن هناك ميادين للمجد، ومع أن هذه المذابح (أماكن العبادة) مهجورة (لا يرتادها كثيرون) إلا أنها تحتاج لمزيد من التضحيات .. فحيثما توجد فرصة الثروة لا تجد مؤرخاً يحاول الاستحواذ عليها. فالأعمال التي تتسم برحابة الصدر وسعة التفكير هي الأعمال التي نتيجتها التي يمكن التنبؤ بها هي المحنة والموت. ومع ذلك ماذا لو سبب ذكر اسمنا - الذي تردده الأجيال - طعنة في قلب كريم واحد، بعد ألفي عام من موتنا؟ ".

ص: 287

وعند عودة نابليون من تيلسيت أمر تاسيتوس (المقصود بالطبع شاتوبريان) بمغادرة باريس وتم تحذير صحيفة الميركيور من نشر مقالات أخرى له، وأصبح شاتوبريان مدافعاً متحمساً عن حرية الصحافة. وعاد إلى عقار كان قد اشتراه في وادي لوب Vallee-aux Loups في شاتيني Chatenay وعكف على إعداد كتابه عن الشهداء للنشر، وشَطَبَ من مخطوطة الكتاب الفقرات التي قد تُفسَّر على أنها تحط من قدر نابليون. وفي سنة 1809 ثم القبض على أخيه أمان Armand لنقله رسائل من أمراء البوربون خارج فرنسا لأعوانهم في الداخل. وكتب شاتوبريان إلى نابليون طالباً الرحمة لأخيه، ووجد نابليون أن الخطاب ينم عند اعتداد شديد بالنفس فألقاه في النار، وحُوكم أمان وأُدين وأُعدم بإطلاق النار عليه في 31 مارس. ووصل شاتوبريان بعد لحظات قليلة من إعدامه، ولم ينس أبداً المشهد: أمان الميت وقد مزَّقت الرصاصات جمجمته ووجهه "وكلب الجزار يلعق دمه ومخه". لقد كان هذا هو يوم الجمعة الحزينة Good Friday في سنة 1809.

ودفن شاتوبريان أحزانه بانعزاله والإعداد لكتابه "مذكرات من القبر Memoires d'outre-tombe"، وقد بدأ في كتابة مذكراته هذه في سنة 1811، وكان يكتب هذا العمل بشكل متقطع ليأنس إلى نفسه ويستريح من عناء الرحلة والسياسة، وكتب آخر صفحة منها سنة 1814 ومنع نشرها إلا بعد موته ليصبح عنوانها مذكرات القبر. لقد كانت مذكرات جسورة الفكر، طفولية المشاعر، رائعة الأسلوب. وهنا - على سبيل المثال - نجد إسراع حشود من عينهم نابليون إلى لويس الثامن عشر ليُقسموا يمين الولاء الأبدي له، بعد سقوط نابليون "دخلت الرذيلة مستندة إلى ذراع الجريمة - السيد تاليران يسير مستنداً إلى السيد فوشيه "، إننا نجد هنا في هذه الصفحات المكتوبة برويّة وصفاً للطبيعة البشرية يضارع ما هو مكتوب في قصَّته "أتالا Atala" وقصة "رينيه Rene"، نجد فيها أحداثاً زاخرة كأحداث حرق موسكو. إنها صفحات عامرة بوصف المشاعر:

"الأرض أمنا الحنون. لقد أتينا من رَحِمها. في طفولتنا ضمتَّنا إلى صدرها الذي يفيض لبناً وعسلا، وفي شبابنا ورجولتنا أفاضت علينا بالماء البارد والمحاصيل والفاكهة

وعندما نموت تفتح صدرها لنا مرة أخرى وتُلقي علينا غطاء من حشائش وورود، بينما هي تحول

ص: 288

أجسادنا بشكل سرّى إلى تراب لنكون من جوهرها، فتنمو من جديد بشكل آخر جميل".

وبين الحين والحين تومض الفلسفة في كتاباته، لكنها عادة ما تكون متشائمة:"التاريخ يعيد نفسه فهو ليس إلاً تكراراً للحقائق نفسها وإن اختلف الناس والزمن" إن مذكرات من القبر هو أكثر أعمال شاتوبريان بقاء.

لقد ظل حتى سنة 1814 يعيش في الريف إلى أن أعادته القوات المتحالفة ضد نابليون - بعد انتصارها - إلى فرنسا. هل سيؤدي تقدمهم - كما حدث في سنة 1792 - إلى ثورة الشعب الفرنسي ومقاومته البطولية؟ في الذكرى السنوية الخامسة لإعدام أمان Armand أصدر شاتوبريان نشرة قويّة تحمل عنوان عن بونابرت والبوربون De Buonaparte et des Bourbons انتشرت في فرنسا أثناء تراجع نابليون. وقد أكد المؤلف للأمة: "أن الرب نفسه يسير على رأس قوات الجيوش المتحالفة ضد نابليون ويجلس في مجلس (اجتماع) الملوك Council of the Kings ". لقد عرض إساءات نابليون - "إعدام انجهين Enghein وكادودال Cadoudal وتعذيب بيشجرو Pichegru واغتياله وسجن البابا

وهذه الأخلاق التي جلبها بونابرت (كتب بونابرت بالهجاء الإيطالي Buonaparte) غريبة على الطبيعة الفرنسية".

إن حكاماً كثيرين قد قمعوا حرية الصحافة وحرية الكلام، لكن نابليون تمادى إلى أبعد من ذلك فأمر الصحافة بامتداحه مهما كان هذا على حساب الحقيقة. إن الضرائب التي جمعها لم يكن يستحقها فقد جعل من الاستبداد علماً ومن الضرائب مصادرة ومن التجنيد الإجباري مجزرة. لقد مات في معركة روسيا وحدها 243،610 مقاتل بعد معاناة شديدة بينما كان قائدهم (نابليون) في مأمن يأكل أحسن الطعام وتخلّى عن جيشه هارباً إلى باريس. كَمْ كان لويس السادس عشر نبيلاً وإنساناً بالمقارنة به!! وكما سأل نابليون أعضاء حكومة الإدارة في سنة 1799:"ماذا فعلتم بفرنسا التي كانت متألقة يوم تركتها؟ "

فكذلك الآن يوجه كل البشر السؤال نفسه لنابليون:

"إن البشر جميعاً يتهمونك (أي يتهمون نابليون)، طالبين الثأر منك باسم الدين والأخلاق والحرية. أي مكان لم تنشر فيه الخراب؟ في أي بقعة من بقاع العالم نجت أسرة من

ص: 289

دمارك وسلبك ونهبك؟ إن اسبانيا وإيطاليا والنمسا وألمانيا وروسيا تطالبك بأبنائها الذين نحرتهم وبقصورها ومعابدها وخيامها التي أضرمت فيها النار، إن العالم كله يُعلن أنك أكبر مجرم على ظهر البسيطة

إنك أنت الذي أردت في عصرك الحضارة والتنوير أن تحكم بسيف أتيلا Attila وحكمة نيرون. فلتسلِّم الآن صولجانك الحديدي ولتنزل الآن من فوق ركام الخراب الذي جعلته عرشاً لك! إننا نطردك كما طردت حكومة الإدارة. اذهب - إن استطعت - فعقابك الوحيد هو أن ترى الفرحة لسقوطك تعم فرنسا، وأن تتأمل وأنت تذرف دموع الغيظ - مدى سعادة الناس".

"والآن من الذي سيحل محله؟ إنه ملك أتى من أسرة نبيلة، نبيل مقدّس بالمولد، نبيل في شخصيته - إنه لويس الثامن عشر، ملك معروف بتنوّره وتحرره من الأحكام المُسَبَّقة (الظلم) وعدم اعترافه بالانتقام أي أنه متسامح إنه ملك أتى يحمل في يده عهداً بالعفو عن كل أعدائه. يا له من أمر رائع أن نرتاح أخيراً بعد كثير من الفوضى والإزعاج وسوء الطالع في ظل السلطة الأبوية لملك شرعي .. أيها الفرنسيون .. أيها الأصدقاء .. أيها الشركاء في المعاناة، دعونا ننسى معاركنا وكراهيتنا وأخطاءنا لننقذ أرض الآباء. دعونا نتعانق فوق أطلال بلدنا العزيز .. وليساعدنا على ذلك وريث هنري الرابع Henry IV ولويس الرابع عشر .. عاش الملك".

وليس غريباً أن يقول لويس الثامن عشر بعد ذلك أن هذه الصفحات الخمسين كانت تساوي عنده 100،000 جندي.

دعونا الآن نترك شاتوبريان للحظة. لقد كان قد انتهى دوره مع أنه بقي له من العمر 34 سنة كان عليه أن يعيشها بعد ذلك. وان عليه أن يلعب دوراً فعالاً في سياسات ما بعد عودة الملكية، وكان أمامه وقت لجمع مزيد من الخليلات وانتهى أخيراً بين ذراعي مدام ريكامييه التي ودّعت الجمال واشتغلت بأعمال الخير وراح يقضي وقتاً يتزايد شيئاً فشيئاً في كتابة مذكراته. والآن فإن عدوّه نابليون سجين في جزيرة بعيدة وهي نفسها - أي الجزيرة - سجينة مياه المحيط، لذا فقد كتب عنه كتابات أكثر اعتدالاً ساعد على اعتدالها مرور الوقت وما حققه (أي شاتوبريان) من انتصار. لقد كتب عنه 456 صفحة. وعاش شاتوبريان حتى سنة 1848 وشهد ثلاث ثورات فرنسية.

ص: 290

الفصل الرّابع عشر

‌العلوم والفلسفة في ظل حكم نابليون

‌1 - الرياضيّات والفيزياء

شهدت العلوم عصراً من أزهى عصورها في عصر نابليون لقد كان هو نفسه أوّل حاكم في التاريخ الحديث تلقى تعليماً علمياً، وربما لم يتلق الإسكندر تلميذ أرسطو مثل هذه الخلفية العلمية العميقة التي تلقاها نابليون. لقد كان الفرانسيسكان Franciscan الذين علّموه في المدرس العسكرية في برين Brienne يعلمون أن العِلْم أكثر فائدة من اللاهوت لكسب المعارك، فدرَّسوا للكورسيكي Corsican الشاب كل ما كانوا يعلمونه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والجغرافيا. وعندما وصل للسلطة أعاد التقليد الذي كان على أيام لويس الرابع عشر، بتقديم جوائز مالية وعَيْنية لمن حققوا إنجازات ثقافية وقد قدّم معظم هذه الجوائز للعلماء مستوحياً بذلك خلفيته العلمية، ومرة أخرى حذا حذو من سبقه فوسّع مجال عطاياه ليشمل غير الفرنسيين،

ففي سنة 1801 دعا المعهد العلمي الفرنسي باسمه العالم أليساندرو فولتا Alessandro Volta للحضور إلى باريس ليعرض نظرياته عن التيار الكهربائي، وحضر فولتا بالفعل وحضر نابليون ثلاث محاضرات من محاضراته وقدَّم لهذا الفيزيائي الإيطالي ميدالية ذهبية. وفي سنة 1808 أعطى جائزة الاكتشافات في مجالي الكيمياء الكهربيّة لهمفري ديفي Humphry Davy الذي حضر إلى باريس لتسلّمها رغم أن فرنسا وانجلترا كانا في حالة حرب. وكان نابليون يدعو بشكل دوري علماء المعهد العلمي الفرنسي ليجتمعوا به ليقدموا له تقريراً عن الأعمال التي قاموا بها أو الجاري العمل فيها في مختلف مجالات تخصصهم. وفي أحد هذه الاجتماعات، في 26 فبراير سنة 1808 تحدث سكرتير المعهد كوفييه Cuvier ببلاغة كلاسيكيّة رصينة كبلاغة بوفوّن Buffon وكان يحق لنابليون أن يشعر أن العصر الذهبي للنثر الفرنسي قد عاد من جديد.

لقد تفوق الفرنسيون في العلوم البحتة مما جعل فرنسا أكثر الأمم عقلانية وتشكّكاً، أما الإنجليز فشجعوا العلوم التطبيقية وطوّروا الصناعة والتجارة والثروة. مما جعلهم سادة العالم

ص: 291

في القرن التاسع عشر. وفي الحقبة الأولى من هذا القرن التاسع عشر خطا في الرياضيات خطوات واسعة كلٌّ من لاجرانج Lagrange وليجندر Legendre ولابلاس Laplace ومونج Monge وهذا الأخير كان صديقا حميماً لنابليون واستمرت صداقتهما حتى الموت. لقد أسف لتحوّل القنصل إلى إمبراطور ولكنه تحمل ذلك بتسامح بل لقد سعد عندما جعله نابليون كونت بلوز Conte de Peluse، وربما كان بينهما سرُّ أن البيلوزيوم Pelusium كان خرائب قديمة في مصر. وقد حزن عندما نفى نابليون إلى إلبا Elba وأظهر فرحه وسعادته علناً عند عودته. وقد أمر البوربوني العائد إلى مُلكه المعهد الفرنسي بطرد مونج، فاستجاب المعهد للطلب، وعندما مات مونج في سنة 1818 أراد تلاميذه في مدرسة البوليتقنية Ecole Polytechnique (التي ساعد في إنشائها) في حضور جنازته لكنهم مُنِعوا من ذلك، وفي اليوم التالي ذهبوا متجمّعين إلى قبره ووضعوا باقة من الزهور.

وقد تأثر لازار كارنو Lazare Carnot بمونج عندما كان يدرس في الأكاديمية العسكرية في ميزيير Mezieres. وبعد أن عمل كمنسِّق للنصر في لجنة الأمن العام وهروبه مع زوجته من الانقلاب الراديكالي في 4 سبتمبر 1797، وجد أمنه وسلواه في الرياضيات. وفي سنة 1803 نشر كتابه انعكاسات على ميتافيزيقيّة حساب التفاضل والتكامل:

Reflexions sur la metaphysique du calcul infinitesimal

وبعد ذلك كتب مقالين آخرين وضع فيهما أسس علم الهندسة التركيبية Synthetic geometry. - وفي سنة 1806 أحدث فرانسوا مولييه Mollein ثورة في مجاله بإدخاله نظام المدخلين في علم مسك الدفاتر إلى بنك فرنسا - وفي سنة 1812 التحق جان فيكتور بونسيل Jean Victor Poncelet - تلميذ مونج - بالجيش العظيم لغزو روسيا، فتم أسره، فشغل وقته في فترة حبسه في صياغة النظريات الأساسية في الهندسة الاسقاطيّة (الإسقاط الهندسي) Projective Geometry وكان وقتا في الرابعة والعشرين من عمره.

الرياضيات هي أم العلوم ونموذجها الأمثل: فقد بدأت بالحساب وارتفعت إلى مستوى المعادلات. ومن خلال مثل هذه التقديرات الكمية دلّت الفيزياء والكيمياء المهندس على ملاحظة العالم وفهمه، وفي بعض الأحيان - كما في حالة تصميم معبد أو جسر - قد تُثمرُ

ص: 292

الرياضيات فَنّا. ولم يكن جوزيف (يوسف) فورييه Fourier راضيا بطريقة أيرز Isere (1801) فأراد أيضا تسجيل المعلومات عن توصيل الحرارة في صياغات رياضية دقيقة.

فأجرى على مراحل، تجارب في جرينوبل Grenoble وطوّر، بل واستخدم ما يعرف الآن باسم متتاليات فورييه Fourier Series في المعادلات التفاضلية - ولا زالت معادلات فورييه التفاضلية هذه فعالة في مجال الرياضيات ولا تزال سرا غامضا بالنسبة للمؤرخين. وقد أعلن اكتشافاته في سنة 1807 لكنه لم يعرض منهجه ونتائج بحوثه في هذا المجال في كتابه نظرية تحليلية في الحرارة Theorie Analytique de la Chaleur (1822) الذي يعد واحداً من أكثر الكتب أهمية في القرن التاسع عشر لقد كتب فورييه:

"أثر الحرارة موضوع لقوانين ظهرت باستمرار، ولا يمكن اكتشاف هذا الأثر دون الاستعانة بالتحليل الرياضي. وهدف النظرية التي علينا أن نشرحها هو عرض هذه القوانين وإظهارها. إن التحليل الرياضي يختصر كل البحوث الفيزيائية عن انتشار (امتداد) الحرارة في مسائل متعلقة بحساب التكامل، بعد إخضاع الانتشار الحراري للتجارب .. وهذه الاعتبارات تقدم لنا مثالاً فريدا للعلاقة الموجودة بين الرياضيات، والقضايا (أو المسائل) الطبيعية".

والأكثر إثارة هي التجارب التي أجراها جوزيف لويس جاي لوزاك Lussac بهدف قياس أثر الارتفاع عن سطح البحر على المغناطيسية الأرضية وانتشار الغازات، ففي 16 سبتمبر 1804 صعد في بالون إلى ارتفاع 23،012 قدم، وأدت اكتشافاته التي كتب عنها تقريراً إلى المعهد العلمي الفرنسي في الفترة من 1805 إلى 1809 إلى وضعه بين مؤسسي علم الأرصاد الجوية (الميتيورولويجا meteorology) كما أن دراساته (التي أتت بعد ذلك) عن البوتاسيوم والكلور والسيانوجين cyanogen كانت تعد استمرارا لأبحاث لافوازيه Lavoisier وبيرثول Berthollet في جعل الكيمياء النظرية في خدمة الصناعة والحياة اليومية.

وكان الأكثر تأثيراً في العلوم الفيزيائية في عهد نابليون هو لابلاس Pierre Simon Laplace انه لم يكن يدري أنه كان أوسم رجل في مجلس الشيوخ الذي تم تعيينه فيه بعد فشله كوزير للداخلية. وفي سنة 1796 قدّم بأسلوب متألق لكن ليفهمه العامة كتابة عن نظام الكون " Exposition du Systeme du Monde" تناول فيه نظريته السديمية cosmic origins (نظرية

ص: 293

السديم الأعظم) عن أصل الكون. أما العمل الذي بذل فيه جهودا أكثر روية فهو كتابه الصادر في خمسة مجلدات معالجة للميكانيكا الفلكية " Traite de mecanique celeste"(1799 - 1825) . لقد وظّف التطورات في مجال الرياضيات والفيزياء لتطبيقها على النظام الشمسي - وبالتالي أخضع كل الأجسام السماوية الأخرى لقوانين الحركة ومبدأ الجاذبية.

وكان نيوتن Newton قد ذكر أن بعض ما يبدو وكأنه عدم انضباط (عدم انتظام أو عدم خضوع لقاعدة) في حركة الكواكب السيارة - قد تحدّى كل محاولاته لشرحها. فعلى سبيل المثال فإن مدار زُحل يتسع باستمرار وإن كان ببطء أو تمهل - حتى أنه إذا لم يتم وقف هذا الاتساع في المدار، فلابد أن يضيع (أي زُحل) في الفضاء اللانهائي. كما أن مدار المشتري (Jupiter) ومدار القمر ينكمشان (يضيقان) ببطء، لذا فإنه - على المدى البعيد - لابد أن تمتص (تستوعب) الشمس كوب المشتري، ولابد أن تحدث مأساة بارتطام القمر بالأرض.

واستنتج نيوتن أن الله نفسه لابد أن يتدخل بين الحين والحين لتصحيح مثل هذا الخلل، لكن كثيرين من الفلكيين رفضوا هذا الفرض الباعث على اليأس باعتباره مناقضاً لمبادئ العلم والطبيعة، وذهب لابلاس إلى أن هذا التفاوت (عدم الانتظام) راجع إلى تأثيرات تُصحح نفسها بنفسها بشكل دوري وأن قليلا من الصبر (في حالة المشتري 929 سنة) لازم لتعود الأمور لمسارها المنضبط. وانتهى إلى أنه ليس من سبب يدعونا للقول أن النظام الشمسي والنظام النجمي لن يستمرا حتى النهاية وفقاً للقوانين التي اكتشفها نيوتن ولابلاس.

لقد كانت فكرة مهيبة مرعبة، تلك الفكرة القائلة بأن الكون آلة محكوم عليها أن تستمر وفقاً لرسم بياني لا يتغير، في حركة دائمة في السماء وإلى الأبد. لقد كان لهذه الفكرة أثر هائل في تطوير النظرة الميكانيكية للعقل (النفس) وللمادة على سواء وساهمت مع أفكار داروين Darwin في تقويض أساس اللاهوت المسيحي وإضعافه. فالله - كما قال

ص: 294

لابلاس لنابليون - لم يكن رغم كل شيء لازماً (أو لابد من وجوده كضرورة) واعتقد نابليون أن هذا الافتراض غير واضح أو أنه غائم أو غامض بعض الشيء، بل أن لابلاس نفسه أتى عليه حين بدأ فيه يتشكك فيما كان هو نفسه قد قال به في وقت من الأوقات (تراجع عن رأيه). وكان يتوقف بين الحين والحين عن بحوثه عن النظام الشمسي والنجمي ليكتب نظرية تحليلية عن الاحتمالات " Theorie analytique des probabilities" (1812 - 1820) . وفي نهاية عمره ذكر زملاءه العلماء:

"أن ما نعرفه قليل وأن ما لا نعرفه هائل".

" That which we know is a little thing; that which we do not know is immense."

‌2 - الطب

ويمكن للأطباء أن يتحدثوا أيضاً عن نابليون برضاً تام. وهو لم يتخلّ أبداً عن أمله في إقناع طبيبه أن العقاقير (الأدوية) ضررها أكثر من نفعها وأنهم سيعذبون يوم القيامة لأن أعداد من تسببوا في قتلهم تفوق أعداد من راحوا ضحية حروب الجنرالات. وكان الدكتور كورفيزار Corvisart الذي أحب نابليون يسمع مزاحه صابرا، وقد انتقم الدكتور أنتومارشي Antommarchi من سخرية نابليون بأن راح يعطيه حقنه شرجية إثر أخرى، وكان نابليون حال تلقيه هذه الحقن الشرجية قد اقترب من الموت، وكان الدكتور الآنف ذكره يعتقد أنه يستحق (يستاهل) هذه الحقن. ويتضح مدى تقدير نابليون لعمل الأطباء المخلصين الأكفاء من أنه أوصى بمائة ألف فرنك للجرّاح الدومينيكاني "الفاضل" لرّي Larrey) 1766 - 1824) الذي صحب الجيش الفرنسي إلى مصر وروسيا وواترلو والذي كان يسارع لتقديم المساعدة السريعة للجرحى، وأنجز مائتي عملية بتر في يوم واحد في بورودينو Borodino وترك لنا أربعة مجلدات عن العمليات الجراحية أثناء الحروب والمعارك Memoires de chirurgie militaire et Campagnes (1812 - 1817) .

ولم يخطئ نابليون عندما اختار جان - نيكولا كورفيزار كطبيب خاص له. فقد كان أستاذا للطب التطبيقي في الكوليج دي فرانس College de France حريصاً عند التشخيص حذراً عند وصف الدواء. لقد كان هو أول طبيب فرنسي يفحص مرضاه بدق الأصابع

ص: 295

percussion (طريقه في التشخيص) - بزل الصدر - كوسيلة تشخيصية مُعِيَنة في حالة أمراض القلب أو الرئتين. وكان قد قرأ عن هذه الطريقة في كتاب ليوبولد أونبرجر Leopold Auenbrugger من أهل فيينا بعنوان طريقة جديدة للتشخيص بقرع الأصابع Inventum novum ex Percussione (1760) وترجم كورفيزار إلى الفرنسية هذه الدراسة المكونة من 95 صفحة وأضاف إليها خبراته وشرحها في كتاب تعليمي في 440 صفحة. وأدى نشر مقاله عن الأمراض والآفاق العضوية في القلب .. إلخ Essai sur les maladies et les lesions organiques du coeur et des gros Vaisseaux (1806) إلى اعتباره أحد المؤسسين الكبار لعلم التشريح الباثولوجي (المرضي) وبعد ذلك بعام انتقل إلى المقر الإمبراطوري كطبيب مقيم، واعتاد الإمبراطور الصعب أن يقول أنه لا يؤمن بالطب لكنه يعتقد في كفاءة كورفيزار. وعندما نفى نابليون في سانت هيلينا انسحب كورفيزار ليعيش مغموراً في الريف، ومات وهو باق على إخلاصه في العام نفسه الذي مات فيه نابليون (1821).

وأجرى تلميذه رينيه - نيوفيل لينِّي Rene Theophile Laennec مزايد من التجارب على طريقة الفحص بالتسمّع auscultation (الكلمة حرفيا تعني الإصغاء) وقد استخدم في محاولته الأولى اسطوانتين يوضع طرف كل منهما على جسد المريض وطرف كل منهما الآخر عند أذن الطبيب الذي يفحص بهذه الطريقة الصدر (Seeing the Chest) والمقصود يتسمَّع الصدر Stethos بأذنيه، فالأصوات الصادرة عن الأعضاء الداخلية - كما في حالة التنفس والكحّة والهضم يمكن سماعها واضحة غير مختلطة بأصوات أخرى تشوّش على معناها، ولمساعدة هذه الأداة واصل لينِّي أبحاثه ولخَّص نتائجه في بحث عن استخدام طريقة التسمّع في التشخيص Traite de l'auscultation mediate (1819) الذي طبع طبعة ثانية في سنة 1826 ووصف هذا المبحث في طبعته الجديدة بأنه أهم بحث كُتب في أعضاء الصدر وظل وصفه لمرض التهاب الرئة (ذات الرئة) مصدرا تقليدياً حتى القرن العشرين.

وكان الانجاز البارز للطب الفرنسي في هذه الفترة هو الطريقة الإنسانية في معالجة المجانين وطريقة معاملتهم. وفي سنة 1792 عندما تم تعيين فيليب بينل Philippe Pinel مشرفاً طبياً

ص: 296

على البيمارستان (مستشفى الأمراض العقلية) الذي كان ريشليو Richelieu قد أسسه في ضاحية بيكتر Bicetre - صُدِم عندما وجد أنّ حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة بثقة لا وجود لها بالنسبة للمرضى العقليين المحجوزين هنا أو في البيمارستان الآخر - سالبترييه Salpetriere، فكثير من النزلاء كانوا مقيَّدين بالسلاسل حتى لا يؤذوا الآخرين أو أنفسهم كما كان يتم تهدئة كثيرين منهم بِفَصْدِ دمائهم بشكل متتابع أو بتقديم أدوية منوّمة لهم، وأي نزيل جديد (ليس من الضروري أن يكون مجنونا فربما كان مزعجاً - لا غير - لأهله أو للحكومة) يُزَج به في البيمارستان ويُترك عُرضة للتلف البدني بتعرضه للعدوى أو المرض العقلي (النفسي) كمداً وحزناً.

والنتيجة جمع من غريبي الأطوار المحدّقين بغباء اليائسين يظهرون في المناسبات للتسوّل من العامة. وقد ذهب بينل بنفسه للمؤتمر الوطني ليطلب الصلاحيات لمحاولة تخفيف الوضع. لقد فك القيود، وقلَّل عدد مرات فصد الدم وعدد جرعات الأدوية (المهدئة)، وأطلق صراح المرضى في الهواء المنعش وأمر الحراس ألاَّ يعاملوا المجانين كمجرمين ارتكبوا جرائم سرية حقت عليهم بسببها لعنة الله وإنما كمرضى يمكن شفائهم بتحسين أحوالهم ورعايتهم بصبر. وقد صاغ وجهات نظره ونظامه هذا في مبحث كُتب له البقاء بعنوان" Traite medico-philosophique sur l'alienation mentale"(1801) ، وكان لهذا العنوان أكثر من دلالة، إذ كان يقصد ما ذهب إليه أبقراط Hippocratic من أن الطبيب إذا جمع بين عِلْم العَالِم والفهم السوّي الذي يتحلى به الفيلسوف أصبح هو النموذج والمثال. قال أبقراط:"الطبيب محب الحكمة مساوٍ للأرباب".

‌3 - البيولوجيا (علم الأحياء)

BIOLOGY

3/1 - كوفييه Cuvier (1769 - 1832)

بلغ كوفييه النهى وأصبح على رأس أقرانه رغم انه كان بروتستنتيا في بلد كاثوليكي، وقد شغل منصبا سياسيا رفيعا بل وأصبح عضوا في مجلس الدولة (1814) فقد رفع نابليون من شأن كثير من العلماء في عهده، واحتفظ كوفييه بمكانه في مجلس الدولة في عهد البوربون العائدين للحكم وأصبح رئيساً للمجلس ونبيل فرنسا في

ص: 297

سنة 1830. وعندما مات (1832) كان قد حاز الشرف في كل أنحاء أوروبا باعتباره مؤسسا لعلم البالونتولوجيا paleontology (علم أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة) وعلم التشريح المقارن كما أنه جعل البيولوجيا (علم الأحياء) مفهومة للعقل الأوروبي وقادرة على تغييره.

وكان أبوه ضابطا في كتيبة سويسرية فازت بوسام الاستحقاق (الجدارة) وتزوج أبوه في الخمسين من عمره من زوجة شابة رعت بحب واهتمام ابنه من الناحيتين البدنية والعقلية (النفسية) وكان ابنه هذا هو جورج - ليوبولد - شريتي Georges Leopold-Chretien، لقد كانت تراجع واجباته المدرسية وهو طالب وتجعله يقرأ لها كلاسيكيّات الأدب والتاريخ، فتعلم كوفييه أن يكون فصيحا إذا كان الحديث عن الرخويات molluscs (كالمُحّار والبسيدج والحلزون .. ) والديدان worms .

وكان لديه من المال ليقدمه للأكاديمية التي كان تشارلز يوجين Charles Eugene دوق فيرتمبرج Wurttemberg قد أسسها في ستوتجارت Stuttgart حيث يقوم ثمانون معلماً بتعليم أربعمائة طالب مختار. وفي هذه الأكاديمية فُتِنَ لفترة بكتابات لينايوس Linnaeus وفُتِن بشكل دائم بكتاب بوفون Buffon: " التاريخ الطبيعي Histoire naturelle". وتخرّج من الأكاديمية وحصل منها على كثير من الجوائز لكن لم يكن لديه أي إرث يُتيح له تموين مزيد من الدراسة فعمل معلّما خصوصياً لدى أسرة تعيش بالقرب من فيكامب Fecamp على القنال الإنجليزي. وجذب اهتمامه بعض الحفريات (البقايا المتحجرة من عصور جيولوجية سالفة) قد ظهرت عليها - بكل معنى الكلمة - بقايا حياة نباتية وحيوانية لعصور ما قبل التاريخ.

كما فتنته بعض الأصداف (المحارات) المتجمعة من البحر بتباين تكوينها الداخلي وأشكالها الخارجية حتى أنه اقترح من خلالها تصنيفا جديداً للكائنات الحيّة وفقاً لتركيبها واختلافها أو بتعبير آخر وفقاً لطبيعة تكوينها واختلاف كل نوع منها عن النوع الآخر. ومن هذه البداية طوّر معلومات عن الحفريات وأشكال الحياة لم يكن لها نظير قبله وربما لم يحدث بعده أن ظهرت معلومات على الدرجة نفسها من القيمة. لقد عكف بشغف وحب استطلاع ودأب لا يكلّ ولا يمل.

ووصلت أخبار عن علمه وتطبيقاته إلى باريس وحظي بتوصيات مفيدة من أولئك الذين

ص: 298

سينافسونه مستقبلا، سانت هيلار Saint - Hilaire ولامارك Lamarck وجعلته هذه التوصيات ينال أستاذية علم التشريح المقارن وهو في سن السابعة والعشرين (1796) في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي. ونشر وهو في الواحدة والثلاثين كتاباً يُعد واحداً من كلاسيكيّات العلوم في فرنسا دروس في "علم التشريح المقارن Lecons d'anatomie Comparee" وحتى الثالثة والثلاثين أصبح أستاذا أساسيا (باحثاً معترفاً به) في حديقة النباتات (جاردين دي بلانت Jardin des Plants) ، وفي الرابعة والثلاثين أصبح سكرتيراً دائماً (أي مديراً تنفيذياً) لقسم العلوم الفيزيائية والطبيعية في المعهد الوطني. وفي هذه الأثناء (1802) كثرت أسفاره كمندوب للمعهد في مهمة إعادة تنظيم التعليم الثانوي.

ورغم واجباته كمعلّم وإداري فقد واصل أبحاثه مستعيناً ببعض المتعاونين معه لدراسة وتصنيف كل أنواع النبات والحيوان التي حفظت الحفريات بقاياها أو التي لا تزال حيّة تدب على الأرض أو تعيش في البحر. وكتابه "التاريخ الطبيعي للأسماك Histoire naturelle des Poissons "(1828 - 1831) يصف لنا خمسة آلاف نوع من السمك. وأبحاثه عن "حفريات ذوات الأربع Recherches sur les ossements fossiles des quadrupedes "(1812 - 1825) تكاد تكون قد أوجدت علم حفريات الثدييات. إنّ هذا البحث يضم وصف كوفييه للفيل الأول الغامض وقد أسماه الماموث mammoth والذي تم العثور على بقاياه (1802) مدفونة تحت كتل جليدية ظلت متجمدة بشكل دائم في سيبيريا وظلت محفوظة بشكل جيد حتى أن الكلاب أكلت من لحمها بعد إذابة الجليد الذي فوقها. وفي واحد من مجلداته هذه شرح كوفييه مبدأه العلمي عن اتصال الأجزاء وعن طريق هذا المبدأ فكر في إعادة بناء نوع محدّد بدراسة عظمة واحدة تكون باقية من أحد أفراده (أي أفراد هذا النوع).

كل فرد سوي (المقصود فرد من النوع أياً كان هذا النوع) يكوّن نظاماً (نسقاً) كاملا، فكل أجزائه تتواصل بشكل طبيعي، وتعمل في الوقت نفسه لتحقيق هدف محدّد بعينه عن طريق ردود فعل تبادلية، أو عن طريق العمل المشترك الذي يصل إلى غاية واحدة. ومن هنا فإن أيّاً من هذه الأجزاء المنفصلة لا يمكن أن يُغيَّر شكله دون تغيير يتم بالاتفاق مع

ص: 299

الأجزاء الأخرى في الكائن الحي نفسه (الحيوان) وعلى هذا فإن كل جزء من هذه الأجزاء، - إذا تمت دراسته بشكل منفصل - يشير إلى كل الأجزاء الأخرى في الكيان (الفرد) الذي ينتمي إليه. وعلى هذا

إذا كانت أمعاء حيوان منضبطة لتكون ملائمة فقط لهضم اللحوم الطازجة، فإن هذا يتطلب أن يكون الفكّان مهيَّأين لالتهام الفريسة وأن تكون الأسنان مهيّأة لتقطيع لحمها،

وأن يكون نظام الأطراف كله، أو سائر أعضاء الحركة مهيّأة لنتبّع الفريسة وإدراكها، وأن تكون الحواس مهيّأة لاكتشافها - أي الفريسة - عن بُعد .. وإذا كنا قد استنتجنا كل ذلك من دراستنا للأمعاء، فالأمر أيضاً ينطبق على المخالب وعظام الكتف والنتوءات المفصلية وعظم الذراع أو أي عظام منفصلة، فكل هذه الأجزاء تمكننا من اكتشاف وصف الأسنان في الحيوان الذي تنتمي إليه، وعلى نحو تبادلي يمكننا أن نعرف عن عظام هذا الكائن بدراسة أسنانه. وعلى هذا فإن بدأنا دراستنا بتمعّن عظمة واحدة من الكائن الحي أمكننا أن كنا على قدر كافٍ من العلم بالتكوين العضوي للحيوان، إعادة تشكيل أو تكون (أو تصور) هذا الكائن الحي - الذي أتت منه هذه العظمة - بشكل كامل.

وفي سنة 1817 ومن خلال عمله في ماموث آخر قدّم لنا كوفييه في مبحثه " Le Regne animal distribue d'apres son organization" تصنيفه للحيوانات في فقاريات، ورخويات ومفصليات وإشعاعات radiates وعمد إلى شرح تعاقب طبقات الحفريات بإرجاعها إلى انقراض مئات الأنواع بسبب اضطرابات أرضية شديدة. أما عن أصل الأنواع فقد قبل النظرة التقليدية السائدة وقتئذ والتي مؤدّاها أن الله خلق كل نوع على حدة (أي لم يتطور نوع من نوع آخر) لأن تباينها ناتج عن التوجيه الإلهي ليتلاءم كل كائن عضوي مع بيئته، وأن هذا التباين بين الأنواع لا يمكن أن يُنتج أنواعاً جديدة. ولقد انشغل كوفييه في مناقشة هذه الأمور وغيرها طوال عامين قبل وفاته، وكانت مناقشاته قد حققت شهرة كبيرة بدت لجوته أهم أحداث التاريخ الأوروبي في سنة 1830. وكان إتين جيوفروي سانت هيلار Etienne Geoffroy Saint Hilaire هو مناوئه ممن بقوا على قيد الحياة قد بني نظريته على تحوّل العضو الحي وتطور الأنواع معارضاً بذلك كوفييه الذي لا يزال أعظم علماء البيولوجيا (علم الأحياء).

ص: 300

3/ 2 - لامارك Lamarck (1744 - 1829)

من السهل أن نحب لامارك لنضاله ضد الفقر في شبابه، ولنضاله في فترة نضجه ضد كافييه الذي حقق شهرة عالمية، ولنضاله ضد العمى والفقر في شيخوخته، وأكثر من هذا لأنه ترك لنا نظريته عن أسباب التطور وطرائقه، تلك النظرية الأكثر قبولا لرقتها وتخلّصها الرفيق من نظرية الاختيار الطبيعي القاسية التي قدمها لنا دارون المهذب.

ومثل معظم الفرنسيين حمل لامارك جيشاً من الأسماء. انه جان - بابتست - بيير - أنطوان دي مونت - فارس لامارك Jean - Baptiste-Pierre-Antoine de Monet، Chevalier de Lamarck وكان الابن الحادي عشر لأب عسكري استطاع تدبير مناصب عسكرية لكل أبنائه ما عدا الأخير الذي أرسله إلى كلية من كليات الجزويتيين Jesuit college (اليسوعيين) في أمين Amiens

وغار من إخوته بأسلحتهم وخيولهم فترك الكلية فأنفق مخصصاته في شراء حصان هَرِم وانطلق إلى أسبانيا محارباً. لقد حارب ببسالة، لكن مجاله البطولي انتهى بجرح في رقبته أثناء مباريات في المعسكر، وكانت هزيمته في المباراة مخزية،

فذهب ليعمل ككاتب في بنك ودرس الطب وقابل روسّو واهتم بالنباتات وراح يتتبعها ويدرسها طوال تسع سنين ونشر في سنة 1778 كتابه عن النباتات في فرنسا Flore francaise وقَبِلَ بعد أن أوشكت موارده الاقتصادية على النفاد أن يعمل كمعلم خصوصي لأولاد بَفّون Buffon، ولو حتى مقابل انتهاز فرصة مقابلة هذا العجوز المخضرم. وعندما مات بفّون (1788) قبل لامارك عملاً متواضعاً كأمين لمخزن الأعشاب في الحديقة الملكية Jardin du Roi (جاردين دي روي) في باريس وبعد إقالة الملك تحول اسمها بناء على اقتراح لامارك إلى حديقة النباتات. ولأن الحديقة كانت تضم أيضاً مجموعات حيوانية فقد أطلق لامارك مصطلح البيولوجيا على العلم الذي يدرس كل الأحياء من نبات وحيوان.

وكلما اتسعت دائرة اهتمامه لتشمل الحيوانات إلى جانب النباتات، ترك دراسة الفقاريات لكوفييه وأخذ على عاتقه دراسة الحيوانات التي ليس لها عمود فقري وأطلق عليها اسم اللافقاريات invertebres . وبحلول عام 1809 توصّل لأفكار أصلية فشرحها في مبحثيه:"نظام اللافقاريات Systeme des animaux sans vertebres" و"فلسفة عالم الحيوان

ص: 301

Philosophie Zoologique" . ورغم تدهور قدرته على الإبصار، فقد واصل دراساته وكتاباته مستعيناً بأخته الكبرى وبيير أندريه لاتريل Pierre Andre Latreille. وفي الفترة من 1815 إلى 1822 أصدر تصنيفه النهائي والنتائج التي توصّل إليها في كتابه الضخم: "التاريخ الطبيعي للافقاريات Histoire naturelle des animaux sans vertebres" وبعد ذلك أصابه العمى تماماً وأصبح عاطلاً عن العمل يكاد يكون معدوما. لقد كانت حياته ضريبة ثقيلة دفعها لقاء شجاعته، وكانت حالُه في شيخوخته عاراً لحكومته.

وبدأت فلسفته في علم الحيوان (أو بتعبير آخر إقامته على أسس عقلية) بتأمله التغيّر الدائم (الذي لا ينتهي) والغامض في أشكال الحياة. فكل فرد يختلف عن كل الأفراد الأخرى (فرد بمعنى واحد من جنس أو نوع من الكائنات الحية)، ومن بين أي نوع يمكن أن نجد فروقاً دقيقة تجعل من الصعب - وربما من عدم الدقة - أن نفصل النوع عن جيرانه الأقرب إليه شبها ونَسَبا سواء من حيث الشكل أو الوظيفة، وانتهى لامارك إلى أن النوع هو فكرة مجرَّدة أو مجرد مفهوم، أما في الحقيقة فليس هناك إلاّ موجودات فُرادى أو أشياء فُرادى أما الأقسام والفروع والأنواع التي نجعلها إطارا نجمع تحتها الأفراد أو نصنِّفهم من خلالها فما هي إلاّ أدوات فكرية (عقلية) تساعدنا على التفكير فيما هو متشابه.

لكن كيف ظهرت هذه الأنواع المختلفة من نبات وحيوان؟ هنا يجيبنا لامارك بالقانونين التاليين:

القانون الأول: في كل حيوان مازال في حالة تطور نجد أن العضو الأكثر استخداما والأكثر اعتماداً عليه، يقوى تدريجيا ويتطور وينمو بمرور الوقت، بينما العضو الذي لا يستخدم باستمرار يضعُف ويتقلص تدريجيا وينتهي الأمر باختفائه. (قانون الاستعمال والإهمال).

القانون الثاني: كل شيء أرادته الطبيعة أفرادا كي يكتسب بتأثير الظروف التي يمر بها جنس أو نوع هؤلاء الأفراد صفات بطول التعرض لهذه الظروف، أو يفقد بتأثير هذه الظروف نفسها صفات أخرى، وعلى هذا فتأثير الاستخدام السائد (المهيمن أو الغالب) للعضو أو بتأثير عدم استخدامه ينتقل بالوراثة إلى أفراد جديدين ينحدرون منه، والتغييرات

ص: 302

الحادثة نتيجة الظروف السابقة تشمل الذكر والأنثى أو بتعبير آخر تشمل أولئك الأفراد الناتجين من أصلاب السابقين.

وكان القانون الأول واضحاً. فذراع الحداد تنمو لتصير أكبر وأقوى بسبب كثرة الاستخدام، ورقبة الزرافة تطول بسبب جهدها في الوصول إلى الأوراق العلوية للأشجار، وحيوان الخُلْد mole أعمى لأن حياته بشكل مستمر في الجحور تجعل عينيه لا تستخدمان. وفي كتاباته الأخيرة قسّم لامارك قانونه الأول إلى عنصرين مكمِّلين: الظروف البيئية أو (التحدي) وحاجة الكائن الحي ورغبته التي تحث جهوده لتحقيق الاستجابة المطلوبة كتدفق الدم في الحيوان أو العصارة في النبات إلى العضو المستخدم. وهنا حاول لامارك أن يجد إجابة للسؤال الصعب التالي: كيف تنشأ هذه الاختلافات؟ لقد أجاب كوفييه Cuvier عند هذا السؤال قائلا أن الله سبحانه يتدخل بشكل مباشر لإحداث هذا التغيير، أما دارون فذهب إلى أن هذا يتم من خلال اختلافات تصادفية أي تتم بالصدفة، ولا نعرف سببها. أما لامارك فقال بأن التغييرات تنشأ من حاجة الكائن الحي ورغبته وجهده الدائم لمواجهة الظروف البيئية. وقد لاقى هذا التفسير ترحيبا من علماء النفس المعاصرين الذين ركّزوا على الفعل الإبداعي للإرادة.

لكن قانون لامارك الثاني ووجه بآلاف من الاعتراضات. فقد رفضه البعض على أساس أن الختان عند الشعوب السامية وهو عادة تُمارس منذ القديم لم تؤد إلى ظهور مواليد مختونين بالطبيعة، والأمر نفسه بالنسبة لضغط القدم عند الصينيين لم تؤد إلى ظهور مواليد ذوي أقدام صغيرة (رغم أن العادة تُمارس من قديم)، وهذا ينفي وراثة الصفات المكتسبة التي قال بها لامارك، لكن مثل هذه الاعتراضات التافهة فشلت - بطبيعة الحالي - في أدراك أن هذه العمليات كانت ذات أبعاد خارجية متعدّدة الجوانب وليست بأية حال منطوية على حاجة داخلية أو نتيجة جُهد داخلي مبذول.

وفشلت بعض الاعتراضات الأخرى لفشلها في إدراك معنى المدى الزمني الطويل المطلوب لكي تُحدث الظروف البيئة أثرها بإحداث تغيير في (الجنس) أو (النوع) وقد وافق كل من دارون، وهربرت سبنسر - وفقاً لهذه الشروط: طول المدى الزمني، والجهد الداخلي المبذول - على إمكانية توريث

ص: 303

الصفات المكتسبة، وكان هذا لصالح نظرية التطور، والمقصود بالصفات المكتسبة العادات أو التغيرات العضوية التي تتطور بعد الميلاد. واتخذ ماركس وانجلز موقفاً مؤيداً لمبدأ التوريث (البيولوجي) هذا وعوّلا على بيئة أفضل لإنتاج إنسان أفضل، وظل الاتحاد السوفييتي لفترة طويلة يعتبر اللاماركية جزءا من عقيدته المحدّدة.

وفي حوالي سنة 1885 صفع أوجست فيسمان August Weisman نظرية لامارك صفعة قوية بأن أعلن أن البلازما germ plasm (الخلايا التي تحمل الصفات الوراثية) محصّنة ضد التغييرات في الجسد المحمي (المغطّى enveloping body) فهذا الجسد وفقاً للتعبير العلمي سوما بلازم Somaplasm وبالتالي لا يمكن أن يتأثر (يتغير) بالخبرات الحادثة بعد الولادة. لكن هذا الزعم أصبح غير صحيح عندما وجدت بعض الكروموزومات Chromosomes (المورثات) في الخلايا البدنية، وخلايا البلازما، لقد أعادت التجارب - بشكل عام - التشكيك في نظرية لامارك، لكن أخيراً ظهرت بعض الأدلة في الباراميسيوم Paramecium وبروتوزوا Protozoa أخرى تؤيد التغير أو التحوّل الذي قال به لامارك. وربما ظهرت أمثلة أخرى تؤيد نظريته إذا أمكن أن تستمر التجارب على مدى الأجيال المتعاقبة، فمعاملنا تعاني من عدم إمكانية استمرار التجربة لفترة طويلة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للطبيعة.

‌4 - ما هو العقل؟

كان تركيز لامارك على الشعور بالحاجة وعلى الجهد المتواصل كعوامل لرد الفعل العضوي متناسقا مع تراجع علماء السيكولوجي (علم النفس) في المعهد العلمي الفرنسي عن النظر للعقل كآلة ليس لها حق المبادرة وإنما هو استجابة لأحاسيس خارجية وداخلية. وقد استخدم علماء النفس كلمة فلسفة عند تلخيص ما توصّلوا إليه. فالفلسفة لم تنفصل بعد تماما عن العلم، والحقيقة أن الفلسفة قد تكون - بالضبط - هي خُلاصة العلم إذا نجح العلم في أن يكون مطابقاً للعقل (المنطقة) وكان واعيا لصياغة مناهج فروضه، وتطبيق ملاحظاته (مشاهداته) وإحكام تجاربه وصياغاته الرياضية ذات النتائج التي يمكن إثباتها

ص: 304

والتحقق منها لكن هذا الوقت لم يكن قد أتى بعد واعتبر (علماء نفس) القرن التاسع عشر أنفسهم هم الذين عليهم أن يجدوا المبررات المنطقية أو الأسس الفعلية للأمور التي لازالت بعيدة عن منال العلم وأدواته.

ورغم معارضة نابليون، استمر الأيديولوجيون ideologues طوال عقد من الزمان يهيمنون من خلال تدريس الفلسفة وعلم النفس في المعهد العلمي الفرنسي. وكان عدوّه اللدود his bete noire في المعهد العلمي هو أنتوان ديستون دي تراسي Antoine Destutt De Tracy المهيّج حامل شعلة حسيَّه كوندياك Condillac's sensationism طوال سنوات الحكم الإمبراطوري. وتم إرساله كمندوب جماهيري إلى مجلس الدولة في سنة 1789 فعمل على إصدار دستور ليبرالي وهو الذي صدر بالفعل في سنة 1791، لكن في سنة 1793 اعتراه سخط وخوف بسبب وحشية الجماهير وإرهاب اللجنة الكبرى فابتعد عن السياسة واشتغل بالفلسفة.

ففي ضاحية أوتيل Auteuil انضم لمجموعة جذابة مُلتفة حول مدام هلفيتيوس Helvetius الجميلة أبدا، وهناك تعرض للتأثيرات الراديكالية لكل من كوندورسيه Condercet وكاباني Cabanis. وأصبح عضواً في المعهد العلمي فكانت له السيادة في القسم الثاني المخصص للفلسفة وعلم النفس وفي سنة 1801 بدأ في نشر أجزاء من كتابه عناصر الأيديولوجية Elements d'ideologie وأتم نشره في سنة 1815. وقد عرّف الأيديولوجية بأنها دراسة الأفكار على أساس حسِّية كوندياك أو المذهب الحسي القائل بأن كل الأفكار نابعة من الحواس أو مشتقّة منها. وهذا - فيما اعتقد - قد يبدو غير حقيقي فيما يتعلق بالأفكار العامة والمجردة كالفضيلة والدين والجمال أو الإنسان،

لكن عند التعامل مع مثل هذه الأفكار يجب أن نفحص الأفكار الأساسية التي تم استخلاصها منها، وأن نعود إلى الإدراك الحسّي البسيط الذي انبثقت منه وظن ديستوت Destutt أن هذه الدراسة الموضوعية يمكن أن تُزيح الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعية) من مكانها، وتُنهي حكم كانط Kant . وإذا لم نستطع أن نصل إلى نتيجة محدّدة بهذه الطريقة علينا أن ننتظر وأن نُرجئ الحكم وأن نحاول توضيح أننا - حقيقة - لا ندري. هذه أللا أدرية agnosticism (مشتقه من لا ندرى) المحكمة لم

ص: 305

تُعجب نابليون أللا أدري ذلك أن نابليون في هذا الوقت كان يرتب أمور الوفاق (الكونكوردات Concordat) مع الكنيسة.

وصنّف ديستوت - دون أن يأبه لاعتراض - الأيديولوجيا (ويقصد السيكولوجيا psychology) باعتبارها أحد أقسام علم الحيوان Zoology، وعرَّف الوعي consciousness بأنه إدراك الحواس (إدراك حسّي sensations) وعرّف الحكم Judgment (أي التمييز الإدراكي) بأنه الإحساس بالعلاقات، وعرّف الإرادة بأنها حاسّة الرغبة. فكما أن المثاليين (أصحاب المذهب المثالي) نافحوا عن فكرة أن الحواس لا تُثبت بطريق لا تحتمل الشك وجود العالم الخارجي، فإن ديستوت كان يعني المشاهد والأصوات والروائح والطعم لكنه أصرّ على أنها قد تدرك على سبيل اليقين وجود العالم الخارجي عن طريق اللمس والوجود والحركة، فكما سبق أن قال الدكتور جونسون أننا نستطيع أن نحسم هذه المسألة بركل حجر.

وفي سنة 1803 ألغى نابليون القسم الثاني في المعهد العلمي فوجد ديستوت دي تراسي نفسه بلا مدرّج يلقي فيه محاضراته وبلا طابع ولم يكن قادرا على الحصول على تصريح لنشر كتابه ملاحظات على روح القوانين لمونتسكيو فأرسل مخطوطة الكتاب إلى توماس جيفرسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي أمر بترجمته للإنجليزية وطُبع في سنة 1811 دون الإشارة لاسم مؤلفة. وعاش ديستوت حتى بلغ الثانية والثمانين، وأصدر في أواخر عمره بحثاً عن الحب De L'Amour (1826) .

بدأ مين دي بيران (Marie-Francois-Pierre Gonthier de Biran) عمله في مجال الفلسفة بعرض فلسفته الحسية Sensationism بغموض ضَمِن له الشهرة. لقد بدأ عسكرياً وانتهى صوفيا (باطنيا). في سنة 1784 التحق بالحرس الملكي للويس السادس عشر وساعد في الدفاع عنه ضد كتيبة النساء الرهيبة التي حاصرت الملك والملكة في فرساي في الخامس والسادس من أكتوبر سنة 1789. ولما أصابه الرعب من الثورة عاد إلى عقارٍ له بالقرب من برجراك Bergerac. وتم انتخابه للمجلس التشريعي في سنة 1809 وعارض نابليون في سنة 1813 وأصبح مسئولاً عن خزانة مجلس النواب في عهد لويس الثامن عشر. وكانت كتاباته عملاً إضافياً إلى جانب مهمته

ص: 306

السياسية، ولكنها رفعت شأنه بين الفلاسفة الفرنسيين في عصره وجعلته في مكان الصدارة، وحقق شهرة سنة 1802 بفوزه بالجائزة الأولى في مسابقة موّلها المعهد العلمي. وبدت مقالته أثر العادة في القدرة على التفكير L'Influence de l'habitude sur les facultes de penser تنهج نهج وهات النظر الحسية التي قال بها كوندياك بل وحتى السيكولوجيا الفسيولوجية (علم النفس الفسيولوجي) التي قال بها ديستوت دي تراسي Destutt de Tracy.

" لقد كتب أن طبيعة الفهم ليست أكثر من مجموع العادات الرئيسية للعضو المركزي الذي لابد من اعتباره الحاسة الجامعة للإدراك وفكر في أن المرء قد يفترض أن أي تأثير (انفعال) في الحقيقة ممثل في المخ بحركة عن طريق الألياف العصبية لكن مع الإستطراد ابتعد عن هذه الفكرة التي تعني أن العقل ليس أكثر من جامع لحواس الجسم، فقد بدا له أنه عند بذل الجهد للانتباه أو جمع الإرادة يصبح العقل فعّالاً، وفاعلاً أصيلاً وليس مجرد اختصار لأي تجميع لإشارات الحواس".

واتسعت هوّة الخلاف مع الأيدلوجيين في سنة 1805 بنشر مبحث مذكرات عن تحليل التفكير Memoire sur la decomposition de la pensee الذي يتفق مع رجوع نابليون للدين. لقد برهن مين دي بيران على أن الجهد المبذول لتحقيق الإرادة يُظهر أن روح الإنسان ليست مجرد ترداد سلبي لحواسه وإنما هي إيجابية وذات قوة إرادية كاملة. إنها الجوهر الحقيقي للنفس، فالإرادة والذات (الأنا ego) شيء واحد. (شوبنهاور Schopenhauer سيركز على هذه الإرادية Voluntarism في سنة 1819 وستستمر في الفلسفة الفرنسية لتأخذ شكلاً متألقاً عبقرياً على يد بيرجسون Bergson) . هذه الإرادة المبذولة بجهد بالإضافة للعوامل الأخرى هي التي تقرر الفعل، فيصبح الإنسان حر الإرادة Free will (قضاؤه وقدره في يده) وبالتالي لا يصبح مجرد آلة لا معنى لها. هذه القوة الداخلية هي حقيقة روحية وليست مجرد تجميع لخبرات الحواس والذكريات. وليس هناك شيء مادي عنها، ولا نعرف لها حيزا أو مكانا. حقيقة - كما يقول مين دي بيران - ربما كانت كل القوى - على هذا النحو - غير مادية ولا يمكن فهما إلا - بالقياس التمثيلي - للإرادة نفسها. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه

ص: 307

كان ليبنز Leibniz على حق في وصف العالم (الكون) بأنه مجموعة من عناصر الوجود الأولية monads مركبة ومتصارعة، وكل منها يمثل محوراً أو مركزاً لقوة Force وإرادة Will وذاتية individuality.

وربما كانت حياة مين دي بيران الموزّعة بين السياسة والفلسفة بالإضافة إلى المشاركات الحية في اللقاءات الأسبوعية في المعهد العلمي مع كل من كوفييه، وروييه كولار Royer-Collard وأمبير Ampere وجيزو Guizot وفيكتور كوزي Victor Cousin، قد أصبحت حياة خصبة وشاقة، فتدهور صحته وقربت حياته القصيرة البالغة ثمانية وخمسين عاما من الانتهاء، فتحول من التفكير العقلي الواسع المدى إلى الإيمان الديني الهادئ وأخيراً إلى الصوفية (التأمل الباطني) التي انتشلته من آلام العالم. لقد قال إن الإنسان لابد أن يترقّى من المرحلة الحيوانية الحسّية إلى المرحلة الإنسانية حيث الإرادة الحرة الواعية ليذوب في الوعي بالله وحبهّ.

‌5 - أصوات محافظة

لقد أضعف مفكرو القرن الثامن عشر الحكومة الفرنسية بتشكيكهم في مصداقية الكنيسة وموقفها الأخلاقي وبدعوتهم إلى الاستبداد المتنّور (فكرة المستبد العادل enlightened despotism) للتخفيف من شرور الجهل، وعدم الكفاءة والفساد والظلم والفقر والحرب. وقد أجاب فلاسفة بواكير القرن التاسع عشر على هؤلاء الحالمين بالدفاع عن ضرورة الدين وحكمة التراث وسلطة الأسرة ومزايا المَلَكية monarchy (بفتح الميم واللام) الشرعية والحاجة الدائمة لأسيجة (حدود سياسية) وأخلاقية واقتصادية لمواجهة طوفان الجهل والطمع والعنف والبربرية وزيادة السكان عن المعدَّل المطلوب.

هناك رجلان في هذه الفترة أدانا بغضب دعوة القرن الثامن عشر للتحول من الإيمان إلى العقل ومن التراث للتنوير. ولد الفيكونت لويس جبريل امبروز دي بونال Ambroise de Bonald) 1754) في أسرة تنعم بالرخاء ودرس في ظل الأمن والطاعة والتقوى. واعترته الدهشة لأحداث الثورة الفرنسية وأصبح مهدّداً فهاجر إلى ألمانيا

ص: 308

وانضم لفترة إلى جيش الأمير كونديه Conde المعادي للثورة لكنه امتعض من فَوْضاه الانتحارية، فتراجع إلى هايدلبرج Heidelberg ليواصل حربه بقلمه المتحفّظ (المنضبط)

ففي كتابه الذي تناول فيه إمكانات السياسة والدين Theorie du pouvoir politique et religieux (1796) دافع عن المَلَكِيّة المطلقة وعن الأرستقراطية المتوارثة ومن السلطة الأبوية في الأسرة وعن سلطان الباباوات الديني والمعنوي على كل ملوك العالم المسيحي وأدانت حكومة الإدارة هذا الكتاب لكنها سمحت للمؤلف بالعودة إلى فرنسا (1797). وبعد فترة التزم فيها الحذر واصل هجومه الفلسفي بنشره مقالاً بعنوان: مقال تحليلي عن القوانين الطبيعية للنظام الاجتماعي (1800) ورحب نابليون بدفاعه عن الدين كضرورة للحكومة، وعرض عليه عضوية مجلس الدولة فرفضها، ثم قبل في سنة 1806 قائلاً إن الله هو الذي عيّن نابليون ليُعيد الإيمان الحق.

وبعد عودة الملكية شغل سلسلة من الوظائف العامة، وأصدر سلسلة من البيانات المتحفّظة، المتوهّجة حماساً إلاّ أنها كانت غبيّة. لقد عارض الطلاق وعارض حقوق المرأة باعتبارها مدمّرة للأسرة والنظام الاجتماعي وأدان حرية الصحافة باعتبارها تشكل تهديداً لاستقرار الحكومة ودافع عن الرقابة وعقوبة الإعدام واقترح الحكم بالإعدام على كل من يجدِّف (يسخر من) الأواني (الكئوس) المستخدمة في طقوس العبادة الكاثوليكية. وابتسم المحافظون لإمعانه في الحماسة وتمسكه الشديد بالأصولية (المفهوم أنهم ابتسموا ساخرين)، لكنه لقي ترضيةً بمراسلاته مع جوزيف (يوسف) دي ميستر Joseph de Maistre الذي أرسل له من سانت بطرسبرج ما يفيد تأييده الكامل له، ونشر هذا الأخير بعد ذلك مجلدات لابد أنها أسعدت بونال Bonald وهيجت فيه ميلهما الكامل للمحافظة، والتزام الأسلوب المتألق.

ولد ميستر في سنة 1753 في شامبري Chambery التي علّمت فيها مدام دي وارن de Warens روسّو فن الحب قبل ذلك بعشرين عاماً. وباعتبار شامبري عاصمة لدوقية سافوي فقد كانت تابعة لملوك سردنيا، وعلى أية حال فإن أهل سافوي كانوا يتكلمون الفرنسية كلغة وطنية وتعلَّم جوزيف أن يكتب الفرنسية بحيوية وقوة بشكل جعل أسلوبه

ص: 309

قريباً من أسلوب فولتير. وكان أبوه رئيساً لمجلس شيوخ سافوي وأصبح هو نفسه عضواً في هذا المجلس في سنة 1787، إذن لقد كان لديه هو وأبوه أسبابٌ تجعلهما يدافعان عن الوضع الراهن، أسباب أكثر من كونها فلسفية.

وإذا كان جوزيف ابن أبيه سياسياً (المقصود يذهب مذهب أبيه في السياسة) فقد كان ابناً لأمه عاطفياً فقد نقلت إليه الولاء الحار للكنسية الكاثوليكية. لقد كتب في فترة لاحقة لا شيء يمكن أن يحل محل ما يتلقاه المرء من تعليم على يد أمه وتلقى تعليمه على يد الراهبات والقسس ثم في الكلية الجزوتية (اليسوعية) في تورين Turin، ولم يفقد حبه أبداً لهؤلاء القسس والراهبات، وبعد مغازلة - لم تَطُل - للماسونيين Freemasonry قبل بشكل تام نظرة الجزويت (اليسوعيين) والتي مؤدّاها أن الدولة يجب أن تكون تابعة للكنيسة وأن الكنيسة يجب أن تكون تابعة للبابا.

وفي سبتمبر سنة 1792 دخل جيشُ الثورة الفرنسية سافوي Savoy وفي نوفمبر من العام نفسه تم إلحاق الدوقية بفرنسا. لقد تركت هذه الصدمة التي أعادت تقديم كل الأمور على أسس جديدة - القِيَم والكلاسيكيّات والسلطات والعقائد - ميستر، في حالة من البعض والكراهية عكَّرت مزاجه وجعلت حياته قاتمة، وأثَّر ذلك في كتبه وجعل أسلوبه حاراً مُفْعماً، لقد هرب مع زوجته إلى لوزان وأصبح مراسلاً رسمياً لملك سردنيا تشارلز إمانوئيل الرابع Emmanuel وكان يجد بعض السلوى في تردّده على صالون مدام دي ستيل de Stael بالقرب من كوبت Coppet، لكن المفكرين الذين قابلهم عندها - مثل بنيامين كونستانت (قسطنطين) بَدوْاله وقد أصابتهم عدوى التشكّك المخزي الذي ساد فرنسا في القرن الثامن عشر.

حتى المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إثْر أحداث الثورة الفرنسيّة) المحتشدين في لوزان كانوا مدمنين على قراءة فولتير، واعترت الدهشة ميستر لعدم وعيهم فقد كان يرى أنَّ معاداة الكاثوليكية ستقوّض كل أساسات الحياة في فرنسا بإضعافها السّند الديني للقيم والأخلاق والأسرة والدولة. ولأنه قد غدا كبير السن لا يستطيع حمل السلاح ضد الثورة فقد قرر أن يحارب بقلمه غير المؤمنين (بالكاثوليكية) والثوريين. لقد مزج النّقد اللاذع بحبر قلمه وترك أثره كعلامة في هذا القرن. ولم يتفوق عليه - في عصره - في نزعته

ص: 310

المحافظة تلك سوى إدموند بورك Edmund Burke .

وعلى هذا فقد أصدرت له إحدى مطابع نيوشاتل Neuchatel ملاحظات حول فرنسا Considerations sur la France ذكر فيه أن حكومة لويس السادس عشر كانت متذبذبة متردّدة تُعْوِزها الكفاءة وأن الكنيسة الفرنسية تحتاج إصلاحاً. لكن أن نُغَيِّر شكل الدولة وسياساتها ونهجها بمثل هذه السرعة وهذا التهوّر يعني أن نُضَلل جهل المراهق (غير الناضج) الذي لا يفهم الأسس العميقة لفن الحكم. لقد اعتقد أنه.

"لا يمكن أن يكون للأخلاق مكان إذا لم يكن لها جذور في التراث والزمن أو إذا لم تجد لها سنداً من دين وقِيَم، والثورة الفرنسية لمَ أغلقت كل هذه الأبواب المُفضية للأخلاق بإعدامها الملك وتجريدها الكنيسة من ممتلكاتها. أبداً لم يحدث أن كان لمثل هذه الجريمة البشعة كل هؤلاء المشاركين الكثيرين فيها .. إن كل قطرة نزفت من الملك لويس السادس عشر ستكلف فرنسا سيلاً من الدماء. ربما سيدفع أربعة ملايين فرنسي حياتهم بسبب هذه الجريمة الوطنية البشعة .. جريمة العصيان المسلح ضد الدين وضد النظام الاجتماعي، تلك الجريمة التي بلغت ذروتها بقتل الملك".

وفي سنة 1797 دعاه الملك شارل إمانوئيل ليعمل في تورين كتابع له، لكن سرعان ما استولى نابليون على تورين فهرب الفيلسوف إلى البندقية (فينيسيا). وفي سنة 1802 تم تعيينه مفوّضاً سردنيا كامل الصلاحيات في بلاط القيصر اسكندر الأول. ولأنه كان يتوقع ألاّ تطول مدّة مهمته فقد ترك أسرته ولم يصطحبها معه لكن خدمة مليكه اقتضت منه البقاء في سانت بطرسبرج حتى سنة 1817. وتحمل بُعده عن وطنه بصبر نافذ.

وأهم أعماله هو مبحثه عن المبادئ الدستورية Essai Sur le principe generateur des Constitutions Politiques (1810) وقد استخلص مثل هذه الدساتير التي تناولها من الصراع البشري بين الخير والشر (بين ما هو اجتماعي وما هو غير اجتماعي)، ومن الاندفاعات (الاضطرابات) ومن الحاجة لسلطة منظمة ودائمة لحفظ النظام العام ولحفظ الجماعة بدعْم روح التعاون في مواجهة الفردية والأهواء. إن كل إنسان يتطلع وهذا طبيعي للسلطة والتملّك وهو إذا لم يُروّض تحول إلى دكتاتور مجرم مغتصب. إن بعض القدّيسين

ص: 311

يتحكمون في جشع البشر، وعدد قليل من الفلاسفة قد يمكنهم تحقيق ذلك (التحكم في أطماع البشر) عن طريق العقل لكن ما هو كامن في معظمنا لا يمكّن الفضيلة من السيطرة على غرائزنا الأساسية. وأن نترك كل من نفترض أنه ناضج ليحكم على الأمور وفقاً لعقله هو (وهو عقل ضعيف بسبب عدم الخبرة وبسبب العبودية للرغبة) فإن معنى هذا أن نضحّي بالانضباط (النظام) لصالح الحرية. ومثل هذه الحرية غير المنضبطة تصبح فوضى اجتماعية تهدد سلطة الجماعة التي من حقها أن تتّحِدَ ضدَّ هجوم يأتيها من الخارج أو فوضى تنشب في الداخل.

وعلى هذا فقد كانت حركة التنوير المغالية فيما يرى ميستر Maistre خطأ هائلاً. لقد قارنها بالشاب الذي تبنّى لنفسه وهو في الثامنة عشرة من عمره خططاً راديكالية لإعادة البناء في مجالات التعليم والأسرة والدين والمجتمع والحكم. واعتبر ميستر أن فولتير مثالاً اختاره لمثل هؤلاء التافهين الذين ادَّعْوا الإحاطة بكل شيء علماً انه حدّثنا عن كل شيء في كل العصور دون أن يتوغّل مرة واحدة إلى ما تحت السطح، لقد كان مشغولاً دائماً بتعليم العالم أنه قلما يكون لديه وقت للتفكير لو أنه درس التاريخ بتواضع كفرد زائل (مجرد فرد في مرحلة تاريخية) يبحث عن العلم من خبرات الجنس البشري، لكان قد عرف أن" الزمن نفسه مُعَلِّم أفضل من التفكير الشخصي"، ولكان عرف "أن أصحّ اختبار لفكرة هو تأثيراتها العملية (البرجماتية) في الحياة والتاريخ والجنس البشري"،

ولكان عرف أن المؤسسات العريقة في تراث القرون الخوالي لا يجب رفضها دون حساب دقيق للخسائر في مقابل المكاسب، ولكان عرف أن:

"المعركة التي شُنّت لتدمير الكنيسة وإلحاق الخزي بها ستؤدي إلى انهيار الأخلاق والأسرة والمجتمع والدولة فالكنيسة هي التي صاغت النظام الاجتماعي في غرب أوروبا (يقصد الكنيسة الكاثوليكية) ".

إن الثورة القاتلة المغتالة هي النتيجة المنطقية لحركة التنوير العمياء.

"إن الفلسفة قوّة مخرّبة أساسيّة لأنها وضعت كل ثقتها في العقل، والعقل فردي، والعقل يمثل الفكر الفردي، وتحرر الفرد من التراث السياسي والديني وتحرره من قبضة السلطة، يهدد الدولة بل والحضارة نفسها".

ومن هنا فإن الجيل الحالي يشهد واحداً من أكثر الصراعات حدّة لم تشهد لها البشرية مثيلاً: الحرب حتى الموت

ص: 312

بين المسيحية وعقيدة الفلاسفة.

وما دام عمر الفرد قصيراً جداً لا يمكنه من سَبْر حِكْمة التراث فيجب أن يتعلّم القبول به (أي بالتراث) كمرشد له ودليل حتى يبلغ من العمر مبلغاً كبيرا يمكّنه من فهمه (أي هذا التراث). انه - بطبيعة الحال - لن يكون قادراً على فهمه فهماً كاملاً. ولا بد أن يتشكك في أي تغيير مقترح في الدستور أو الأعراف الأخلاقية. ويجب أن يكرّم السلطة الشرعية باعتبارها رأي التراث وتوجّهه، وباعتبارها خبرة بشرية وباعتبارها بالتالي صوت الله.

الملكية الوراثية والمطلقة سلطتها هي من رأيه أفضل أنواع الحكم لأنها تمثل التراث الأعرض والأعمق والأطول وهي تعمل على تحقيق الانضباط والاستمرارية والاستقرار والقوة، بينما الديمقراطية بدوام التغيير فيها - سواء تغيير القادة والزعماء أو تغيير الأفكار - وجنوحها بشكل دَورْي لإرضاء نزوات العوام وجهلهم تؤدي إلى الفوضى وعدم الرضي والطيش، وتنتهي سريعاً. إن فن الحكم يعني من بين ما يعني تسكين العوام، أمَّا إِنْ أطاعتهم الحكومة فهي - بذلك - تنتحر.

وبتؤدة (1802 - 1816) عرض في أكثر مؤلفاته شهرة: أمسيات في سان بطرسبرج Les Soirees de Saint petersbourg (نشر سنة 1821) بعض الجوانب الثانوية لفلسفته. لقد كان يؤمن أن العلم يثبت وجود الله، لأن

"الله قد أوحى للطبيعة انضباطها العظيم الذي هو جزء من عبقرية النظام الكوني لا يجب أن ننزعج وألاّ تهتز عقائدنا بالنجاحات المؤقتة للشر، أو للإحباطات التي يواجهها الخير"،

فالله يتيح للخير والشر أن يهبطا على القديس والمجرم على سواء كما يتيح الشمس أن تشرق على كليهما، ويتيح للمطر أيضاً أن يهطل عليهما لا يمنعه عن أحدهما، لأنه - أي الله - يكره أن يعطّل قوانين الطبيعة، وعلى أية حال فإن الله قد يستجيب لدعاء الدَّاعين لتغيير تأثير هذه القوانين الطبيعية. بالإضافة إلى أن معظم الشرور تعد عقاباً على أخطاء أو خطايا، وربما كان كل مرض وكل ألم عقاباً على بعض الفساد الكامن في نفوسنا أو نفوس أسلافنا أو نفوس مجموعتنا التي نعيش بينها.

وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن ندافع عن العقاب البدني، والإعدام كعقاب لبعض

ص: 313

الجرائم بل وندافع حتى عن التعذيب الذي تقوم به محاكم التفتيش، ويجب أن نبارك الجلاّد (منفّذ حكم الإعدام) بدلاً من جعله منبوذاً، فهو يقوم أيضاً بعمل الله (المهمة التي كلفه بها الله) وهي مُهمة حيوية للانضباط الاجتماعي. فاستمرار الشر ومثابرته يتطلب استمرار العقاب ومثابرته، فإن تواني العقاب نمت الجريمة. وأكثر من هذا فليس هناك عقاب لا يؤدي إلى تطهير وليس ثمة اعتلال جسدي أو عقلي يُحدثه الحبيب الباقي (الله Eternal love) إلاّ ويتحول إلى سهم في صدر مبدأ الشر والحرب مقدَّسة ما دامت هي قانون العالم وما دام الله قد سمح بها عبر التاريخ. إن الحيوانات المفترسة تطيع هذه القاعدة وتنفّذها. ويأتي الملاك الفاني (كذا: exterminating) بشكل دوري ليُفْنى آلافاً من هذه الحيوانات.

ويمكن اعتبار البشرية كشجرة، وأن هناك يداً غير منظورة تشذّبها باستمرار، وغالباً ما يكون هذا التشذيب لصالحها

والدماء الغزيرة التي تُراق غالباً ما يمكن ربطها بزيادة عدد السكان فابتداء من الديدان بل وحتى الإنسان نجد القانون الكبير - وهو قانون التدمير العنيف للأحياء - يفعل فِعْله. فالأرض جميعاً التي تشرب الدماء ليست إلا مذبحاً كبيراً (المقصود بالمذبح مكان تقديم القرابين في الكنائس والمعابد) حيث لا بد من التضحية بكل موجود حي، فالوقت بلا نهاية، بلا حدود، بلا توقف بل وحتى فناء كل شيء وحتى مَوْت الموْت نفسه.

وإذا كنّا نعارض أنّ مثل هذا الكون يدفعنا بشدَّة لعبادة خالقه. فإن ميستر يجيب بأننا لا بد أن نعبده رغم كل شيء لأن كل الشعوب وكل الأجيال عبدته، وأن مثل هذا التراث الباقي والعالمي لابد أن يحتوي حقيقة تفوق قدرة العقل الإنساني على الفهم وتستعصي على الدحض أو التفنيد. في خاتمة المطاف فإن الفلسفة - إن كانت حقيقة تحب الحكمة - ستستسلم للدين، والعقل سيستسلم للإيمان.

وفي سنة 1817 استدعى ملك سردنيا - وكان قد استعاد عرش تورين Turin - ميستر من روسيا، وفي سنة 1818 عينه في منصب كبير وجعله مستشاراً للدولة. وفي هذين العامين أَلَّف هذا الفيلسوف الشَّرس grim كتابه الأخير عن البابا Du Pape نُشر سنة 1821 بعد موته مباشرة. والكتاب إجابة عنيده عن الأسئلة التي أثيرت حول تمجيده

ص: 314

للملكيّة كحماية للمجتمع ضد فرديّة المواطن: ماذا لو أن الملك كان هو أيضاً - كقيصر أو نابليون - متسما بالفردية والاهتمام بذاته كأي مواطن، وكان عاشقاً للسلطة عشقاً يفوق عشقه لسواها؟

هنا يجيب ميستر بغير تردّد أن كل الحكَّام يجب أن يقبلوا تبعيتهم وخضوعهم لسلطة أعرق من سلطتهم وأعظم منها وأحكم: لابد أن يخضعوا في كل الأمور الدينية والأخلاقية لحُكم الحَبْر الجليل (البابا) الذي ورث سلطانه من القديس بطرس (النص الرسول بطرس، وكلمة الرسول يُطلقها المسيحيون على الدعاة الأوائل للمسيحية والمسيحيون يُلحقون بالأناجيل الأربعة ما يُسمّى أعمال الرسل Apostles أي الدعاة الأوائل، وفضلنا كلمة القديس على الرسول لأنها توفي بالمعنى وحتى لا يختلط الأمر على القارئ العربي) الذي ورثه بدوره عن المسيح (النص: Son of God) .

وفي هذا الوقت (1821) ودول أوروبا تكافح لتتخلَّص من وحشية الثورة واستبداد نابليون، لزم أن يتذكر قادة أوروبا كيف أن الكنيسة الكاثوليكية قد أنقذت بقايا الحضارة الرومانية بتصدّيها للبرابرة كثيري العدد وترويضهم، وكيف أنها أسست - من خلال أسقُفيَّاتها - نظاماً اجتماعياً منضبطاً وتعليماً نظامياً أنجب - ببطء - خلال الظُّلمة والعصور الوسطى، حضارةً قائمة على موافقة الملوك على الاعتراف بالسلطة الروحية للبابا. "فالأمم لا تتحضّر أبداً إلاَّ بالدين" لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء هو وحده - أي هذا الخوف - الذي يضبط النزعات الفردية المتمثلة في الرغبات البشرية والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها. وعلى هذا فلا بد أن يقبل ملوك أوروبا مرة أخرى البابا كسيد أعلى لهم في كل الأمور الأخلاقية والروحية. يجب أن يُبْعدوا التعليم عن أيدي العلماء ويعيدوه للقسس لأن ارتقاء العلم سيُقَسى قلوب الناس بينما استعادة الدين لمكانته ستؤدي إلى سلام للأمة وأرواح أفرادها.

لكن ماذا لو كان البابا أيضاً أنانياً ويعمل على تحويل كل مسألة وقضية لتحقيق مكاسب دنيوية للباباوية؟ هنا نجد ميستر حاضر الإجابة: ما دام البابا يُرشده الرّب - فإنه

ص: 315

معصوم إذا تحدث في أمور العقيدة والأخلاق لأنه الرّأس الرسمي للكنيسة التي أسسها المسيح. وعلى هذا فقد أعلن ميستر عصمة البابا قبل أن تعلنها الكنيسة نفسها كجزء من الإيمان الكاثوليكي بنصف قرن. لقد اعترت الدهشةُ البابا نفسه ووجد الفاتيكان من الحكمة أن يعارض المبالغين في سيادة البابا Ultramontanists الذين يعلنون مزاعم مُرْبكة عن السيادة السياسية للباباوية.

وباستثناء هذه النقطة الأخيرة وبعض المبالغات الأخرى التي يمكن أن تدعو للابتسام (المقصود السخرية) فإن المحافظين في أوروبا رحبوا بدفاعه العنيد عن وجهات نظرهم، وأثنى عليه كل من شاتوبريان وبونال Bonald ولاميني Lamennais ولامارتين. بل وحتى نابليون اتفق معه في بعض المسائل - نزوع الملك لويس السادس عشر للخير وخسّة قاتليه، وتجاوزات الثورة، وضعف العقل وسهولة وقوعه في الخطأ وتهافت الفلاسفة، وضرورة الدين، وقيمة التراث وأهمية السلطة، وضعف الديمقراطية، وكون الملكية المطلقة والوراثية أمراً مرغوباً فيه، وكون الحرب مفيدة للتقليل من عدد السكان (الخدمات البيولوجية للحرب)

وكان الأمر بالنسبة لأعداء نابليون الذين لا يزالون في الحكم أنهم شعروا أنَّ في فلسفة ميستر المستقيمة بعض الأسباب المعقولة تحتم عليهم الإطاحة بهذا الكورسيكي مُحْدث النعْمة (نابليون) وريث الثورة التي هدّدت كل ملكيّات العالم. لقد كانوا يؤمنون في قرارة أنفسهم أنهم لم يكونوا أبداً قادرين (ولن يقدروا) على أن يبرّروا لرعاياهم: لماذا قبلوا وهم الملوك الذين ورثوا الملك كابرا عن كابر، وهم أباطرة أوروبا وارستقراطييها - أعباء الحكم وأخطاره وطقوسه بينما كان مارا Marat وروبيسبير وبابيف Babeufs يتهمونهم بعدم الرحمة باستغلال العوام الأبرياء بدعوى الحق الإلهي للملوك، مستغلِّين كل المزايا (محقّقين كل المكاسب) من النظام الاجتماعي (السائد) مبتلعين كل خيرات الأرض، وكيف كانوا يقتلون رعاياهم ويذبحونهم بدعوى هذا الحق نفسه (حق الملوك الإلهي).

أما الآن وبعد كتابات ميستر Maistre فقد ظهرت عقيدة يستطيع في ظلها أن يتحد كل حكام أوروبا الشرعيون لإعادة النظام القديم في بلدهم ولشعوبهم، بل وحتى لفرنسا البربرية غير المتسامحة قاتلة الملوك خائنة ربها المتخلّية عنه.

ص: 316