الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثالث
بريطانيا:
من 1789 م إلى 1812 م
مقدمة الترجمة العربية
يقدّم لنا المؤلفان كعهدنا بهما في الكتب السابقة فيضاً من الوقائع التاريخية، وفيضاً من الأفكار الجديدة التي لا نلتقي بها في كتب التاريخ التقليدية. إنه يسوق لنا عبر فصوله أسباباً مقنعة لعدم قيام ثورة في إنجلترا ومن ثم بريطانيا بكياناتها المختلفة (اسكتلندا، وإنجلترا وويلز وأيرلندا)، كتلك التي قامت في فرنسا.
إنه يربط ذلك بطبيعة الشعب الإنجليزي لا تقلقل ما هو مُستقر كما يربطه بطبيعة الأرستقراطية الحاكمة التي لا ترى في نظام الطبقات قيداً على الحريات، ويؤكد لنا أنه نظام طبقي غير جامد شتان بينه وبين النظام الطبقي الديني في الهند مثلاً، حيث يستحيل الانتقال من طبقة إلى أخرى، وحيث طبقة البراهمة المقدسة، ويشير إلى علاقات صداقة ودودة بين الفلاحين واللوردات .. إلخ. كما يشير إلى أن إنجلترا كانت قد شهدت ثورة دموية في القرن السابع عشر، ومن ثمّ لم تكن في حاجة إلى ثورة جديدة.
ولعل من أطرف الأفكار وأكثرها جدّة أن الشعب البريطاني في هذه الفترة على الأقل، بمليكه وبرلمانه ومثقفيه وعلمائه وشعرائه، كانوا متفقين - اتفاقاً غير مكتوب - على أن كثيراً من المسائل الدينية في المسيحية غير واضحة وغير مؤكدة، بل وفي كثير من الأحيان غير موثوق بها، وعلى هذا فليعتقد كل واحد ما يشاء، وليتصور الرب أو الإله كما يشاء، وليقم بأية طقوس يراها مناسبة بشرط واحد وهو أن يُعلن أنه مسيحي.
ولا نكاد نجد من بين الشخصيات اللامعة التي أوردها المؤلف، مسيحياً حقيقياً بالمعنى الدارج للكلمة، لقد كان بعضهم ربانياً يؤمن بالله وحده ويُنكر تماما إلوهية المسيح، كما ينكر أي نبوّات أخرى، ووجدنا الموحدين Uniterians أو المناهضين للتثليث الذين لم يعترض عليهم التاج البريطاني شريطة أن يدرجوا أنفسهم تحت المسمّى العام (المسيحية)، ووجدنا الحلوليين (الشاعر وردزورث) الذي يرى الله غير منفصل عن الطبيعة، ورأينا المصلح أوين Owen الذي حارب الميسر، وطالب بتحريمه وتجريمه، وطالب الدولة بمنع اللوترية (اليانصيب) وأوصل صوته إلى البرلمان وعبّر عنه في كتبه، وطالب بتحريم الخمر، ومنع استيرادها، بل وطالب بعدم إصدار
تراخيص للحانات والخمارات، ليبقى السُّكر في أضيق الحدود لينفق فيه الأثرياء الأغبياء أموالهم وأقام أوين مدارس لم تحجُر عليها الدولة يُعلِّم فيها الناشئة كل شيء مفيد إلا الخرافات - وهو يقصد اللاهوت المسيحي، ومع هذا فقد كان المسمى الرسمي للرجل أنه مسيحي.
أما موقف الدولة من الكاثوليكية فلم يكن مسألة خلاف عقائد في المقام الأول، وإنما كان مسألة - في الأساس - ذات بُعد وطني، فكيف يكون ولاء الكاثوليكي لملك بريطانيا بينما هو يقسم يمين الولاء لملك آخر هو الحَبْر الجليل في روما وكان هذا البابا صاحب سلطة زمنية إلى جانب سلطانه الديني؟!
والمؤلف يربط فصول كتابه كلها بمجريات الأمور في فرنسا، فهو عندما يتناول في الفصل الثاني والعشرين، الشعراء المتمردين وعلى رأسهم لورد بايرون يبيّن لنا تعاطف هؤلاء الشعراء في فترة من الفترات مع مبادئ الثورة الفرنسية ودستورها، ولكنه يُبيّن لنا أيضاً كيف تراجعوا عن هذا التأييد عندما أكلت الثورة أبناءها، وأقامت المذابح. وقد أورد المؤلف تفاصيل حياة الشخصيات التي يُترجم لها مما قطع في بعض الأحيان تسلسل العرض التاريخي، لكن هذا قد يكون مفيدا للراغبين في تتبع حياة هؤلاء المشاهير، فقراءة هذا الكتاب تحتاج إذن إلى صبر وجُهد إن أراد القارئ العام متابعته، لكنه لا يخلو من أفكار طريفة تتخلل عرضه الرتيب أحياناً.
وقد ركزت عند ترجمة هذا الكتاب على المعاني وأضفتُ بعض التعليقات البسيطة الشارحة، ففي التعليقات التي أوردتها عند ترجمة الكتابين السابقين ما لا داعي لتكراره هنا. ومن العدل والصدق أن أنوه هنا مرة أخرى، بفضل المجمع الثقافي، وعلى رأسه الأستاذ محمد السويدي باختيار هذه الكتب المفيدة لتقديمها إلى القارئ العربي.
وعلى اللَه قصد السبيل.
د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ
الفصل الخامس عشر
تأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث
كانت إنجلترا، حكومةً وشعباً، بانتشار صناعتها واتساع تجارتها وبأسطولها Navy وعلى رأسه ونيلسون Nelson، وبعقلها وإرادتها - كانت على رأس المعارضين للثورة الفرنسية بعد سنة 1792. كانت على رأس المقاومة ضد نابليون في الوقت الذي تهاوى فيه أعداء الثورة الآخرون نتيجة الهزائم المدمرة التي حاقت بهم أو نتيجة انهيار تحالفاتهم. لكن هذا الموقف الذي اتخذته إنجلترا لم يكن مفاجئاً كما لم تكن كل القوى فيها متفقة عليه منذ البداية، ففي بداية اندلاع الحريق الهائل (الثورة الفرنسية) كانت مواقف زعماء إنجلترا والرسميين فيها غير محددة، وظهر الانقسام بينهم، وتباينت المشاعر ما بين الخوف واستلهام أفكار الثورة، لقد تجاوب الشعراء والفلاسفة بحماس مع المثاليات الأولى للثورة، ومع حماسة جيوشها وشجاعتها، ولكنهم سرعان ما تأثروا ببلاغة بورك Burke الغاضبة،
وسرعان ما فُجِعُوا بأخبار المذابح والإرهاب في هذه اليوتوبيا Utopia (فرنسا)، ولأن هؤلاء المحرِّرين (يقصد الثوار الفرنسيين) أصبحوا غزاة ضموا نصف - طموحاً منهم - لفرنسا، فقد رأت إنجلترا أن توازن القوى في القارة الأوروبية يتوقف على نتيجة هذا الصراع بين فرنسا والقوى الأوروبية الأخرى، ذلك التوازن الذي ظلت إنجلترا - تلك الجزيرة الصغيرة - تعتمدُ عليه لضمان سلامتها وحريتها طوال قرون.
وشيئاً فشيئاً أصبحت الأمة الإنجليزية على قلب رجلٍ واحد، فرغم استسلام حلفائها، فإن التحدي الأكبر الذي لم تشهده إنجلترا منذ سنة 1066 متمثلاً في تعويق تجارتها وإفلاس شركاتها ومالييها واستنزاف صانعي الأقمشة، والإغراء اليومي بقبول شروط هذا الكورسيكي Corsican العبقري المرعب (نابليون) الذي يمتطي الآن القارة الأوروبية ويهدد بعبور القنال الإنجليزي بنصف مليون مقاتل لم يعرفوا الهزيمة - كل هذا جعل الملك الإنجليزي وبرلمانه يقفان بحزم، وجعل النبلاء والتجار يدفعون الضرائب الباهظة وجعل الإنجليزي العادي يؤدي خدمته الإلزامية في الجيش أو الأسطول، وجعل البحار الإنجليزي الذي لا مثيل له يجتاز مرحلة التمرد إلى مرحلة تحقيق الانتصارات، وجعل هذه البقعة
الصغيرة الحبيبة (إنجلترا) تنطلق خارجة من العوز والمجاعة التي كادت تحيق بها في سنة 1810/ 1811 لتبني خلال نصف قرن أكثر الإمبراطوريات قوة وتحضرا منذ سقوط روما.
لابد لنا أن نتوقف هنيهة عن متابعة هذه الدراما وهذا الصراع لندرس الأمور التي جعلت انتصار إنجلترا ممكنا - هذا الانتصار الذي يعد تحولا. لابد من التوقف لدراسة موارد التربة والعمل والعلم والأدب والفن والعقل والعقيدة والشخصية.
1 - ثورة مختلفة
لقد لعبت الجغرافيا دوراً، فلم يكن مناخ إنجلترا مثالياً، فالرياح الدافئة التي يسببها تيار الخليج شمال الأطلنطي تواجه بشكل مستمر الرياح القطبية الشمالية، ويؤدي هذا الصراع (المواجهة) إلى تتابع نشوء الضباب وتتابع هطول المطر فوق أيرلندا واسكتلندا وإنجلترا مما يجعل التربة خصبة، والحدائق خضراء والأشجار ضخاماً رائعة، والشوارع مبتلة، ومن هنا كانت السخرية السخيفة التي مؤداها أن الشمس لا تهاجم بعنف الكومنولث البريطاني، لكنها أيضاً لا تشرق في إنجلترا أبداً، وقد وقع نابليون في هذه المبالغة إذ قال ذات مرة لطبيبه البريطاني أرنوت Arnott:" ليس لديكم شمس في إنجلترا"، فصحَّح له معلوماته قائلا:"هذا صحيح .. لكن الشمس تشرق دافئة في إنجلترا في شهري يوليو وأغسطس".
هذا الضباب الذي يغلِّف البيئة الحيوانية والنباتية قد يكون ظلة استظل بها شعر بليك Blake وغلافاً تغلّف به تيرنر Turner، وربما يكون قد أسهم في تقوية شخصية الشعب الإنجليزي وتقوية مؤسساته. لقد جعلتهم هذه الجزيرة (البريطانية) معزولين (متفردين) لكنها كانت لهم دِرعاً يحميهم من التقلبات العقائدية التي كانت تهب كرياحٍ عاصفةٍ بين الحين والحين، وضد بِدَعِ الفن، وضد هوس الثورات وجنونها، وضد فظائع الحرب التي غالباً ما كانت تشوِّه وجه القارة الأوروبية. لقد وقفت الأمة الانجليزي بقدمين راسختين فوق الأرض الإنجليزية.
وإذا كانت جزيرتهم صغيرة، فقد كانت البحار بأمواجها التي تلطم شواطئها حيناً وتداعبها حانية مقبلة حينا آخر - تدعوهم إلى القيام بمغامرات للوصول إلى أماكن بعيدة. لقد أغرت آلاف الطرق السلسة الميسرة الرجال القادرين على الحل والترحال ليكونوا دائما
شامخين. لقد كانت آلاف المناطق Lands في انتظارهم بمنتجاتها وأسواقها، لتتحول إنجلترا - بسببها - من الزراعة إلى الصناعة والتجارة والمالية الواسعة على مستوى العالم. لقد أدت كثرة تعاريج سواحلها كثرة هائلة إلى وجود مداخل كثيرة وخلجان صغيرة كثيرة تقدم مرافئ آمنة للسفن من كل أنحاء العالم. وكان في الجزيرة البريطانية نفسها اثنا عشر نهراً صالحاً للملاحة النهرية ومئة قناة تُفضي إلى نهر أو آخر من هذه الأنهار فليس هناك إنجليزي واحد يبعد أكثر من خمسة وسبعين ميلاً عن المياه التي يمكن - عن طريقها - أن يصل إلى البحر.
لقد واجهت بريطانيا التحدي الجغرافي بقيامها بالثورة الصناعية وحمل تبعاتها على عواتقهم. لقد شيد البريطانيون سفناً ذوات أحجام كبار لم يُعرف لها من قبل مثيل، وكان بعضها مصمما للقيام برحلات تستغرق الرحلة منها نصف عام إلى الهند والصين. لقد أحبت إنجلترا البحر كأحد ممتلكاتها تعتبره امتداداً لها، وحاربت بلا هوادة للسيطرة على هذا الامتداد البحري ضد الأسبان، فالهولنديين، والآن ضد الفرنسيين. لقد مخرت عباب طرقٍ بحرية جديدة حول القارات وإليها؛ إلى موارد وأسواق أفريقيا والهند والشرق الأقصى وأستراليا وجنوب المحيط الهادي (الباسيفيكي) والأمريكيتين، وكان الإنجليز - سواء كأجانب (غرباء) أو كمتمردين - تواقين للتجارة مع الآخرين. ولم يتحد هؤلاء البريتون Britons النهمون سوى الطريق (الممر) الشمالي الغربي فقد صدهم وعادوا منه فرادى متفرقين، لكن غير مقهورين.
وعلى أية حال فإن هذه الأساطيل التجارية والأساطيل البحرية الطوافة التي تحميها كان لابد من بنائها - غالبا - من أخشاب منشورة مستوردة وكان لابد أن تحصل هذه المستعمرات وهؤلاء العملاء على مقابل لموادهم الخامة وفضتهم وذهبهم وبهاراتهم ومؤنهم وفاكهتهم الغريبة، فكان هذا المقابل هو المنتجات الصناعية البريطانية. وكان لا بد للثورة الصناعية من تمويل هذه التجارة المنتعشة ونقلها. وشيئاً فشيئاً راحت إنجلترا - خاصة المناطق الوسطى والشمالية منها، واسكتلندا - خاصة منطقتها الشمالية - تعيد تنظيم
حياتها الاقتصادية بسحب المزيد من سكانها من الحقول والقرى إلى المصانع والمدن، ومن العمل البطيء في مجال الحرف المنزلية وفي نطاق الطوائف المهنية (الحرفية) إلى العمل في نطاق مجموعات محددة منظمة ومدربة من رجال ونساء وأطفال دربوا على الميكنة والآلات لإنتاج منتجات مصنعة للعالم.
لقد ساعدت العزلة (كون بريطانيا جزراً تحيطها البحار) على إحداث هذا الانتقال. فمنذ وقت باكر يعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد كان الإنجليز النشطون قد وقر في عقولهم أن بإمكانهم الاستفادة من الأراضي إن كانت شاسعة أكثر من استفادتهم منها إن كانت مجزأة في قطع صغيرة. لقد اشتروا مزارع كبيرة وكونوا مشاعات Commons وكانت هذه المشاعات حقولاً ومحاطب حيث يقوم الفلاحون - تقليدياً - برعي مواشيهم وجمع حطب الوقود، وكان الإنجليز يشغِّلون في ممتلكاتهم الواسعة أُجراء hired hand's يعملون تحت إشراف مشرفين (نظّار).
وفي القرن الخامس عشر أدركوا أنه يمكنهم الحصول على مزيد من الأرباح بتربية الماشية والدواجن أو - وهذا هو الأفضل - برعي الخراف، فهذا أفضل من حرث الأرض وزراعتها، فهم بذلك يكونون أقل حاجة إلى الأيدي العاملة، كما أنهم قد وجدوا بالفعل أسواقاً للذبائح والصوف لدى البريطانيين الذين يعانون من البرد والمحبين لأكل اللحوم، وأيضاً لدى الشعوب الأخرى خارج بريطانيا، وشيئاً فشيئاً راح مزيد من الفلاحين يبيعون ممتلكاتهم أو يهجرون مزارعهم إلى المدن. واختفى - ببطء - صغار مالكي الأرض من الطبقة الوسطى آخذين معهم شيئاً من قوة الشخصية الإنجليزية وكبريائها. وبحلول سنة 1800 كان عدد السكان في بريطانيا 15 مليون نفس، بينما كان عدد الخراف 19 مليون، فقال الظرفاء "إن الخراف قد التهمت الناس".
وحتى اليوم يفاجأ المرء عند ترحاله في وسط إنجلترا وشمالها بندرة المزارع والأراضي المعدة للزراعة، بينما يكثر عدد المسيجات enclosures (الأراضي المسيّجة) الخضراء التي لا يرى فيها إلا الخراف التي تحوِّلُ العشب إلى صوف وتكافئ التربة الممتنة بإفرازاتها (تُسمدها).
يجب ألا نبالغ، فخلال هذه الفترة (باستثناء الأزمة التي اقتربت في أثنائها بريطانيا من المجاعة في سنة 1811 بسبب الحصار القاري الذي فرضه نابليون) نجحت الزراعة في إنجلترا
- تلك الزراعة التي راحت بشكل متزايد تعتمد على الميكنة ورأس المال - في إطعام إنجلترا دون حاجة لعون خارجي. لقد كان الزرّاع واثقين من أنفسهم لدرجة أنهم حثوا البرلمان على اعتماد (تمرير) وقف (مراجعة) قوانين الغلال (الحبوب) بفرض تعريفة عالية (رسوم جمركية قاسية) على استيراد الغلال (الحبوب grain) المنافسة (كانت الكلمة الإنجليزية Corn تعني أي حبوب، وفي إنجلترا كانت هذه الكلمة Corn تعني عادة القمح، بينما كانت تعني في اسكتلندا الشوفان Oats ومع هذا فحتى سنة 1790 كانت هجرة الفلاحين المرحلين إلى المدن بالإضافة إلى المهاجرين الذين اعتراهم الفقر من اسكتلندا وأيرلندا - هي التي قدمت القوى العاملة التي جعلت حركة التصنيع ممكنة.
لقد كانت الصناعة لا تزال في غالبها في البيوت والدكاكين لكن معظمها كان مصمماً محلياً ويتم استهلاك منتجاتها محلياً أيضاً. إن الصناعة في هذه المرحلة لم تكن منظمة للإنتاج بكميات كبيرة (للبيع بالجملة) فلم تكن تستطيع تمويل الأسواق المختلفة المنتشرة عبر الحدود. وكان العامل في المنزل أو الدكان تحت رحمة الوسطاء (السماسرة) الذي يبيعون له المواد الخامة ويشترون منه منتجاته. وكان ما يحصل عليه من مال لقاء منتجاته محكوماً بالعرض والطلب، وكذلك بمنافسيه الذين هم أشد منه جوعاً، وعادة ما كان على زوجته وأطفاله أن يعملوا معه من الفجر حتى حلول الظلام، لإبعاد الذئب عن باب الدار (المقصود لإبعاد شبح الفقر) وكان لابد من إيجاد طريقة ما أكثر كفاءة لتمويل الصناعة وتنظيمها إن كان عليها مواجهة احتياجات سكان المدن المتزايدين أو ملء مخازن التجار الراغبين في البضائع الأجنبية أو الذهب (المقصود التجار العاملين في مجال التصدير).
لقد دُفِعت الصناعة في إنجلترا نحو الخصخصة (المشروعات الخاصة) حيث الحافز لتحقيق الربح واضح، وحيث التحرر إلى حد كبير من التنظيمات أو الترتيبات الحكومية، وكان الاندفاع في هذا الطريق بتأثير من فكر آدم سميث Adam Smith مع تجاهل تحذيراته. لقد حصلت الصناعة الإنجليزية على رأس المال مما توفر لها من عوائدها ومن التجار الأثرياء ومن ملاك الأراضي الذين يجمعون العوائد الزراعية (الرَّيع) ومن الإيجارات في المناطق الحضرية، ومن رجال المال (البنكيين bankers) الذين عرفوا كيف يُولِّدون المالَ من المال،
والذين أقرضوا الأموال نظير نسبة من الفوائد أقل من النسبة التي كان يحصل عليها نظراؤهم الفرنسيون.
وعلى هذا فإن الأفراد والمؤسسات قدموا الأموال للمقاولين الذين عملوا على تدعيم منتجات المزرعة والحقل بخدمات الآلات (الماكينات) والعمل والمهارة اللذين يقدمهما العمال رجالاً ونساء وأطفالاً فيكون مقدار الإنتاج أكبر، إذ حقق لإنجلترا عوائد مالية لم تعرفها من قبل أبداً، وراح الممولون (مقدمو الأموال) يراقبون كيفية استخدام أموالهم، وحمل النظام الاقتصادي الذي كان على وشك إعادة تشكيل العالم الغربي أسماءهم.
لقد كانت لعبة تنطوي على المخاطرة، فقد تدمر الإدارة السيئة أي استثمار، وقد تدمِّره أيضاً تقلبات الأسعار والأسواق وتغير الأذواق وزيادة الإنتاج بما يفوق طاقة المستهلكين أو بسبب اكتشاف جديد يُخفيه أحد المنافسين.
لقد جعل الخوف من الخسارة الطمع والرغبة الشديدة في الكسب أكثر حدة. لقد كان لابد من الإبقاء على أجور العمل في حدها الأدنى وكان لابد من تقديم المكافآت على الاختراعات الجديدة، وكان لابد أن تحل الآلة محل القوى العاملة البشرية كلما أمكن ذلك. وكان لابد من استخراج الحديد أو استيراده لصنع الآلات والسفن الحربية المدرعة والجسور والمدافع والبنادق، وكان لابد من استخراج الفحم (وكان متوفراً في إنجلترا لحسن الحظ) لتزويد المصاهر التي تصهر المعادن بالوقود اللازم ولتنقية المعادن الخامة ولتحويل الحديد إلى صلب فيصير أشد وأمتن،
وكان لابد من ربط أكبر عدد ممكن من الآلات بمصدر طاقة واحد قوي، وقد يكون مصدر الطاقة هذا رياحاً أو ماءً أو حيوانات تدور بشكل مستمر أو تحرك لولباً (screw) ، لكن أفضل منتج للطاقة لابد أن يكون ماكينة (محرك) بخارية كتلك المحركات (الآلات) التي أقامها جيمس وات Watt في مصنع متّى بولتون Matthew Boulton بالقرب من برمنجهام (1774 م). وإذا كان هناك رأس مال كاف، وإدارة دقيقة أمكن تشغيل أي عدد من الآلات بمحرك واحد (أو عدد قليل من المحركات)، ويمكن أن يرتبط بكل آلة رجل أو امرأة أو طفل يراقبها ويهتم بأمرها طوال ساعات تتراوح ما بين 12 و 14 ساعة في اليوم مقابل أجرٍ يقيم أوده.
وسرعان ما راحت آلاف المداخن تقذف بدخانها في سماوات المراكز الصناعية الناشئة - مانشستر، وبرمنجهام، وشفيلد، وليدز، وجلاسجو، وادنبره Manchester، Birmingham، Sheffield، Leeds، Glasgow، Edinburgh - وكان في بريطانيا في سنة 1750 مدينتان سكان كل منهما 50،000، وفي سنة 1801 بلغ عدد مثل هذه المدن ثماني، ستصبح في سنة 1851 تسعاً وعشرين مدينة. وتم تمهيد الطرق لتسهيل نقل المواد الخامة والوقود والمنتجات للمصانع والأسواق والموانئ، وتم تشييد مركبات الجياد العمومية التي تسع الواحدة منها ثمانية ركاب ولتقطع عشرة أميال في الساعة. وفي نحو سنة 1808 قام توماس تلفورد Thomas Telford بابتكار أسطح جديدة للطرق تشبه بشكل أساسي الطرق السريعة المرصوفة بالحصباء هذه الأيام، وفعل الشيء نفسه جون مكآدم John McAdam في نحو سنة 1811، وكلاهما من المهندسين الاسكتلنديين. وفي سنة 1801 شيد جورج تريفيثك Trevithick أول محرك بخاري لسحب عربة المسافرين فوق قضبان، وفي سنة 1813 شيد جورج ستيفنسون Stephenson محركاً أفضل، وفي سنة 1825 افتتح أول سكة حديدية نظامية تجري عليها قاطرات بخارية بين ستكتون Stockton ودارلنجتون Darlington. وفي سنة 1801 بدأ تشغيل أول قارب بخاري في القناة الاسكتلندية، وفي سنة 1807 شيد مصنع بولتون ووات Boulton & Watt قارباً بخاريا لنقل الركاب حذا فيه حذو أنموذج قدمه روبرت فلتون Robert Fulton الذي أطلق قاربه (كليرمونت Clermont) من نيويورك إلى ألباني Albany في أغسطس من العام نفسه. وفي هذه الأثناء كانت لندن وهارفتش Harwich ونيوكاسل Newcastle وليفربول وجلاسجو موانئ متطورة وبها تسهيلات للتجارة عبر المحيط، وكان نيلسون قد انتصر في أبي قير وفي الطرف الأغر، محققاً لإنجلترا السيادة على البحار.
وفي سنة 1801 أجرت الحكومة أول إحصاء مبني على أسس علمية في بريطانيا العظمى (إنجلترا، وويلز، واسكتلندا) وأدى هذا إلى فزع المواطنين الذين استاءوا من انتهاك خصوصياتهم كمقدمة لإخضاعهم لتنظيم صارم. وأظهرت نتيجة الإحصاء المسجلة أن عدد سكان بريطانيا العظمى في ذلك الوقت كان 10،942،646 (كان عدد سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت نحو 6،000،000) وبحلول عام 1811 كان عدد سكان
بريطانيا العظمى قد ازداد ليصبح 12،552،144. وربما تعكس الزيادة زيادة كميات الطعام المتاحة وتحسن الخدمات الطبية وانخفاض نسبة الوفيات بين كبار السن والأطفال.
لقد زاد سكان لندن في سنة 1811 ليصبح 1،009،546 لكن التوسع الأكثر أهمية والأكثر ضخامة كان في الشمال والغرب الصناعيين، وفي سنة 1811 كان عدد السكان العاملين في مجالي الزراعة والرعي هو: 895،998 على وفق ما هو وارد في السجلات بينما كان العاملون في مجالي الصناعة والتجارة 1،128،049 وفي أعمال أخرى 51،9168.
لقد ضيّقت الحكومة على الزراعة بإقرارها نظام الحظائر المُسيجة (التي ترعى فيها الأغنام
…
) وشجعت الصناعة بالعمل لصالح المشروعات الخاصة (الحرة) وبالحماية الجمركية وبمنع اتحادات العمال من المطالبة بأجور أفضل (1800)، كما عملت على تحسين أحوال التجارة بتحسين الطرق والمجاري المائية، وبتشييد أسطول بحري بريطاني لا يُقهر. لقد حقق التجار والصناع والماليون ثروات كبيرة وفاز بعضهم بمقاعد في البرلمان أو اشتروها (حصلوا عليها لقاء مال دفعوه).
تُظهر الصورة الاقتصادية لبريطانيا في سنة 1800 أنه يوجد في القمة - كانت الأرستقراطية لا تزال موجودة وإن كانت في تناقص - سادة الاقتصاد الذين تسوّدوا خلال ملكيتهم للأراضي، وكان يتعاون معهم نبلاء البرلمان والأرستقراطية المهيمنة (الحاكمة)، وحولهم أو أدنى منهم التجار والصناع البورجوازيون أصحاب المشاريع الذين لا يرحمون، وهم يُظهرون ثراءهم الجديد ومسلكهم السيئ، ويصخبون مطالبين بمزيد من السلطة السياسية، وإلى الأدنى منهم أصحاب المهن المحترمة بدءاً من أكثر الأطباء علماً إلى أكثر الصحفيين شجاعة ودهاء، وإلى الأدنى من هؤلاء جميعاً الفلاحون الذين يفقدون ملكياتهم بشكل متزايد منتظرين العون والنجدة، وعمال المناجم الذين لا يرون الشمس والذين يعيشون في أحشاء الأرض، والعمال غير المهرة الذين يعبدون الطرق ويحفرون الترع وعمال المصانع الذين يشكلون بركة أو مجمعاً للجوع وعدم الانضباط وانهيار المعنويات، والذين راحوا يكتبون مأساتهم على صفحات سماوات ملوثة (لوثها دخان المصانع).
2 - في القاع
وإذا كان لنا أن نعيد النظر في أحوال عمال المصانع في بريطانيا في سنة 1800 وجب علينا ألا نبالغ في أهميتهم في نطاق الصورة العامة في ذلك الوقت، إذ يمكن أن نفترض وجود كثير من المشاهد الباعثة على السرور في إنجلترا السعيدة Merrie England. فلم يكن العمل في المصانع في حد ذاته في ذلك الوقت هو المَعْلم الرئيسي للصناعة البريطانية، فقد كان معظم الإنتاج الصناعي لا يزال يجري إنجازه في البيوت في الريف والحضر على أنوال أو مخارط، أو على يد حرفيين في محلات (دكاكين) مستقلة. وكان التصنيع من خلال نظام المصانع مقتصراً على عمليات إعداد القطن والكتان والصوف، ورغم محدودية هذا النظام، فإن دوره في بانوراما العصر panorama (المشهد العام للعصر) كان واحداً من أشد الأدوار مدعاة للحزن في التاريخ الإنجليزي.
لقد كانت المصانع نفسها قائمة في الأحياء القذرة أي أحياء الفقراء مكفّنة بالروائح الكريهة المنبعثة من الماء الآسن والدخان الناتج عن المصانع ذاتها التي كانت من الداخل متربة بشكل عام وقذرة وسيئة التهوية والإضاءة حتى عام 1805 حين بدأت الإضاءة بغاز الاستصباح. وكان يتم تشغيل الماكينات بسرعتها القصوى مما كان يتطلب من العاملين عليها مراقبتها بعيون حذرة وتظل أيديهم مشغولة طوال اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة في اليوم. لقد حدث وقتها كما حدث في وقت لاحق أن أدت المخترعات الآلية إلى إنقاذ العمل واستهلاك الإنسان. وكان مسموحاً للعمال بساعة لتناول الغداء وبعدها يستمر الكدح حتى الساعة الثامنة مساء في معظم الحالات. وعند الحاجة كان يتم دعم القوى العاملة من المخزون البشري المتمثل في الفلاحين المرحّلين والنسوة الضائعات.
وكان أصحاب المصانع يفضلون النساء على الرجال، والأطفال على النساء لقلة أجورهم. وفي سنة 1816 كان من بين 10،000 من العاملين في 41 طاحونة اسكتلندية: 3،146 رجلاً و 6،854 امرأة و 4،581 طفلاً دون الثامنة عشرة من العمر. وكان أصحاب المصانع يفضلون تشغيل الأطفال الأيتام والمعوزين الذين يُرسلهم مقاولو تشغيل الفقراء لنجدتهم، وذلك لانخفاض أجورهم. وحاول مرسوم المصانع The Factory Act الصادر في
سنة 1802 أن يضع حدودا دنيا لاستخدام مثل هؤلاء العمال المهنيين بمنع تشغيلهم أكثر من 21 ساعة يومياً، ولكن البرلمان قد رفض الدفع للمفوضين (مندوبي الحكومة) لوضع المرسوم موضع التطبيق وبشكل عام ظل تشغيل الأطفال ساري المفعول في المصانع البريطانية حتى سنة 1842.
وفي سنة 1800 كان متوسط أجر العامل البالغ في لندن هو 18 شلنا في الأسبوع (نحو 23 دولاراً في الولايات المتحدة سنة 1960) أما في الريف فكان المتوسط ينقص بنحو الثلث. وبالجملة فإن أجور الأسرة كان يتحكم فيها العدد المطلوب لاستمرار العمل لكن هذا كان يتوقف على انضمام الزوجة والابن إلى القوى العاملة في المصنع. وكان أصحاب العمل يدافعون عن مبدأ بقاء الأجور منخفضة لضمان عودة العمال إلى العمل، وكان بعض العمال يحصلون على إجازة أسبوعية لمدة يومين أو ثلاثة وعندما يعودون للعمل يكونون في حالة غير يقظة لفرط ما تناولوه من كحول في أثناء الإجازة ولم يكن يدفع العامل للعودة للعمل في المصنع بين الآلات سوى الجوع.
وكانت هناك بعض الميزات المعينة التي تُلطِّف عناء العمال، فبعض أصحاب الأعمال كانوا يدفعون قيمة الإيجار وتكاليف الوقود للعاملين لديهم. وكانت أسعار السلع منخفضة - كانت أرخص بنحو الثلث من الأسعار التي سادت في بريطانيا العظمى سنة 1960. وكانت الأجور - بشكل عام - تتناسب طردياً مع الأسعار، فكلما ارتفعت الأسعار زادت الأجور وكلما انخفضت الأسعار قلت الأجور، وظل الحال على هذا النحو حتى سنة 1793 عندما بدأت الحرب مع فرنسا فعانت الطبقات كلها من نقص دخولها، وإن كانت معاناة العمال هي الأشد لأن أجورهم كانت منخفضة انخفاضاً لا يمكّنهم من العيش إلاّ بشق الأنفس.
لقد كان العمال يعيشون في المدن حيث الهواء الملوّث (المسمَّم) في أحياء منعزلة تعمها الأمراض، في مساكن مزدحمة - وأحيانا في غرف رطبة ضيقة كالقبور لا يصلها نور الشمس إلاَّ لماما، ولا مكان فيها للنظافة، وحيث النزاعات بين المقيمين فيها تتلف الأعصاب المرهقة ولم يكن هناك مجال لاحتفاظ الفرد بخصوصيته ولم يكن ثمة ملجأ أمام المرأة سوى
التقوى، ولم يكن أمام الرجل سوى الخمَّارة. وكان السُّكر (تناول الخمر) يتم كل أسبوع. وكان سكان البيوت يحصلون على المياه من الآبار والطلمبات العامة فإذا ما قلَّ معين الماء في هذين المصدرين راحت النسوة يحملن الماء من أقرب نهر أو ترعة، وكانت هذه المياه ملوثة بالمخلفات الصناعية أو المنزلية أو البشرية.
وكان الصرف الصحي بدائيا وكانت البالوعات نادرة الوجود. وكتب ثورولد روجرز Thorold Rogers في سنة 1890 عندما كان أستاذاً للاقتصاد السياسي في أكسفورد: "إنني مُوقن أن التاريخ الإنجليزي الموثَّق لم يسجِّل في أي فترة من فتراته ظروفاً أسوأ للعمل اليدوي من تلك الظروف التي كانت موجودة في الأربعين سنة الممتدة من 1782 إلى 1821 وهي الفترة التي جمع فيها أصحاب المصانع ثرواتهم بسرعة، وهي الفترة التي تضاعفت فيها أجور الأرض الزراعية".
وقد استمرت هذه الأحوال حتى سني الأربعين من القرن التاسع عشر (1840). وقد لخّص كارليل Carlyle الذي نشأ في اسكتلندا وإنجلترا ما بين سنتي 1795 و 1840 حال عامل المصنع البريطاني في تلك الفترة بأن قال: إن البريتون Briton كانوا في حالة أفضل منه عندما كانوا أقنانا (عبيداً للأرض) في العصور الوسطى. فالتقدم الصناعي جعل للبروليتاري نصيباً تافهاً جداً من الثروة المتنامية، حتى إنّها جعلته يرتد إلى مرحلة البربرية في مسلكه ولباسه وطريقة حديثه والأسلوب الذي يتَّبعه للترفيه عن نفسه. وقد كتب أليكسيس دي توكفيل Alexis de Tocqueville بعد زيارته لمانشستر:"لقد كاد الإنسان المتحضر يتحول إلى همجي بدائي. ويرجع الفضل إلى هذه الأيام المريرة فيما حققته مانشستر والمدن الصناعية البريطانية الأخرى من تقدم".
وقدَّم قانون الفقراء الذي سُنّ في سنة 1601 (وجرت عليه تعديلات في فترات لاحقة) بعض المساعدة للمعدمين والعاطلين. وكان العاملون على تنفيذه مسئولين إداريين في الوحدات الإدارية المختلفة وكانوا عادة ما يسلّمون المبالغ المجمّعة للملاجئ وإصلاحيات الأحداث. ولتمويل تنفيذ هذا القانون كان لابد من ضريبة خاصة مفروضة على أرباب البيوت الذين كانوا متذمرين من هذه الضريبة لأنها - على حد رأيهم - تُنفق على العاطلين وعديمي النفع وتساعد على تفريخ الطائشين والمهملين، وكان من رأيهم أن ضريبة المبيعات
(المكوس) على ما يُباع أو يُتاجر به محلياً هي خير ضمان ضد الفوضى الاجتماعية.
وفي كثير من المديريات (الوحدات الإدارية) - بعد سنة 1795 - كان يتم تنظيم المساعدات (الإعانات) ليحصل عليها أصحاب الأجور المتدنية (التي لا تكفي لإقامة أَوَد العمّال الحاصلين عليها)، وكان بعض أصحاب العمل ينتهزون فرصة تقديم هذه الإعانات للإبقاء على الأجور التي يدفعونها للعمال متدنية.
ورغم هذه الإعانات المتواضعة، فقد وصلت الحالة البائسة للعمال إلى منعطف خطير مع بداية القرن التاسع عشر. فحتى سنة 1824 كان محظوراً تشكيل تنظيمات للمطالبة بأجور أفضل، ومع هذا فقد كانت هناك تنظيمات سرية، وكان محظوراً القيام بإضرابات ومع هذا فقد أضرب العمال وجرى قمعهم، فأضربوا ثانية. وحذر الإصلاحيين مثل روبرت أوين Robert Owen البرلمان أنه إذا لم تتحسن أحوال المصانع، فسيزداد العنف مما سيكلف كثيرا. وواجهت الحكومة السخط المتزايد بتجديد الأعمال العدائية مع فرنسا (1803) وراحت حالة السخط تزداد كلما ابتعد شبحُ الحرب حتى انفجرت في ثورة علنية في سنة 1811، ولم يكن في طليعة هذه الثورة عمال المصانع وإنما نسّاجو الجوارب والربط الذين يقومون بعملهم على ماكينات في البيوت والمحلات الصغيرة في نوتنجهام Nottingham أو بالقرب منها. وهؤلاء النسّاجون رجالاً ونساء كانوا لا يزالون قادرين على الاستمتاع بحياة في الهواء الطلق في الحقول والمزارع، وربا تحققوا من أن حياتهم ذات الطبيعة المنطلقة تتناقض - من الناحية المثالية مع انكفائهم على أنوالهم.
لقد امتعضوا من تبعيتهم لأصحاب الأنوال (آلات نسج الجوارب) الذين أجَّروا لهم هذه الأنوال، وباعوا لهم المواد الخامة واشتروا منهم منتجاتهم ولم يتركوا لهم ربحاً إلاَّ بالنسب التي يحددونها هم (أصحاب الأنوال) أو يحددها الذين موَّلوه بالخامات أو برأس المال. وأكثر من هذا فقد كانوا يخشون أن يفقدوا أعمالهم الحالية لصالح المصانع المنتشرة ذوات الأنوال الآلية التي تحركها الطاقة (البخارية) ذات الإنتاج المُضاعف، وفي فورة غضبهم قرروا أن يدمروا كلَّ ما يستطيعون تدميره من الآلات والماكينات التي اعتبروها رمزا لعبوديتهم.
ونظم ند Ned أو الملك لُود King Ludd - وهو شخصية غامضة وربما كان شخصاً
أسطوريا - النسَّاجين الغاضبين ووضع الخطط لغاراتهم. وفي خريف سنة 1811 راحت جماعات منفصلة من هؤلاء النسّاجين الثائرين (اللوديين Luddites) يغزون مديرية إِثر مديرية وحطموا كل ما وجدوه من آلات النسيج. وامتدت الحركة من نوتنجهامشير Nottinghamshire إلى لانكشير Lancashire ودربيشير Derbyshire وليزيسترشير Leicestershire واستمرت الحركة خلال عام 1812. وامتنع محطِّمو الآلات (اللوديون) عن إلحاق الأذى بالأشخاص إلاّ في حالة صاحب مصنع أمر رجاله بإطلاق النار عليهم، فقد أخرجه المضربون وقتلوه. وارتعد نصف إنجلترا خوفا وهلعاً متذكرة الثورة الفرنسية. وكتب روبرت سوثي R. Southey:
" في هذه اللحظات" لا شيء ينقذنا سوى الجيش. إنه الذي سينقذنا من أكثر النكبات والكوارث ضراوة. سينقذنا من عصيان الفقراء المسلّح ضد الأثرياء، لكن إلى أي مدى يمكن الاعتماد على الجيش في هذا الأمر؟ فهذا موضع سؤال قلما أجرؤ أن أوجهه إلى نفسي. إن البلاد ملغّمة تتسخ تحت أقدامنا".
ودافع وليم كوبت W. Cobbett الصحفي المفعم حيوية عن هؤلاء المغيرين في مجلس العموم البريطاني وألقى الشاعر بايرون Byron خطاباً حاراً لصالحهم في مجلس اللوردات، وقدم اللورد ليفربول Liverpool رئيس الوزراء بعض التشريعات القاسية التي أجازها البرلمان وأرسل كتيبة عسكرية لقمع الثوّار وتم القبض على قادة الثوار وأدينوا بسرعة في محاكمة جماعية في يورك (1813) ونفى بعضهم وشُنق آخرون. وتضاعف عدد الآلات والماكينات ولم يصدر تشريع يرحم العامل البريطاني البالغ حتى سنة 1824.
3 - قسوة العِلْم
لم يقدم الاقتصاديون سوى القليل لإراحة العمال والتخفيف من معاناتهم. وشرح توماس مالتوس Thomas Malthus في مبحثه (مقال عن السكّان) صدر سنة 1798 أن زيادة الأجور تؤدي إلى ظهور أسرة أكثر عدداً مما يؤدي بدوره إلى زيادة الضغط على موارد الطعام وهذا يؤدي بدوره إلى عودة الفقر حالاً لأن الفقر هو النتيجة الدائمة لعدم كفاية الموارد الطبيعية لحاجة الإنسان. وقد راجع مالتوس نظريته هذه سنة 1803 لكن دون
تراجع عن أفكارها الأساسية واضعاً بذلك قانونه الحديدي للأجور والقاضي بأَنَّ أُجرة العامل ينبغي ألاَّ تتجاوز الحدَّ اللازم لعيش الكفاف أو بتعبير آخر ستظل أجور العمل دائما تتحكم فيها نسبة إمداد العمل للحاجة.
وفي مبحثه مبادئ الاقتصاد السياسي (1820) حذَّر من أنَّ النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى التجاوز مادام سيؤدي إلى تقليص الاستثمار والإنتاج، ودافع عن الرِّيع rent (العوائد عن استثمار الممتلكات) باعتباره مكافأة عن الشجاعة والحكمة في الوقت الحالي، وعن قوةٍ أو براعةٍ كانتا في الماضي، واتفق مع فولتير في أنّ حياة الترف التي يعيشها الأثرياء لها أثر طيب إذ تتيح للحرفيين الفنيين المهرة فرصاً للعمل. وفي لحظة ليبرالية أوصى بإقامة الأعمال العامة (الأشغال العامة) وفي فترات نقص الإنتاج كإعانة للعاطلين وتخفيفاً من معاناتهم.
واتفق ريكاردو Ricardo مع نظريات صديقه مالتوس وأقام عليها مبحثه أسس الاقتصاد السياسي والضرائب (1817) الذي ظل طوال نصف قرن هو النص الكلاسيكي لما أطلق عليه كارليل العلم البارد أو القاسي. لقد كان (ريكاردو) ابناً ليهودي هولندي كانت أحواله قد انتعشت في سوق لندن للصرافة والأوراق المالية، وكان قد تحوّل إلى المسيحية على مذهب الموحِدين وتزوِّج من فتاة على مذهب الكواكر Quaker (جماعة مسيحية) وأسس شركة سمسرة وكوّن ثروة كبيرة وانسحب من عالم الأعمال سنة 1815 وكتب عدّة مباحث عميقة خاصة في المالية.
وفي سنة 1819 تم انتخابه لمجلس العموم البريطاني حيث حارب المفاسد البرلمانية ودافع عن الاتحادات العمالية وحذّر الرأسماليين كي ينتبهوا مخافة أن يجني ملاَّكُ الأراضي في بريطانيا - عاجلا أم آجلا - حصادَ الصناعة ومكاسبها بما لهم من حق في رفع الإيجارات. ودلّل في بحث له في هذه الفترة على أن رفع الأجور لم يكن أبداً أمراً حقيقيا بسبب ارتفاع الأسعار الناتج عن زيادة تكاليف الإنتاج، لأن الأجر الخالص للعامل هو ذلك الذي يمكِّنه من العيش والإبقاء على نوْعه (دون زيادة) ولم يترك ريكاردو إلا القليل لكارل ماركس بتعريفه لقيمة value (وليس سعر price) البضاعة "بكمية العمل المبذول اللازم لإنتاجها".
ولم يكن هو نفسه قاسيا (باردا) كَعِلْمه، فقد ظلّ هو ومالتوس صديقين إلى النهاية رغم أنهما كانا يختلفان غالبا في أمور خاصة وفي أمور الطباعة، وعندما ماتا (ريكاردو في سنة 1823 ومالتوس في سنة 1834) قال عنهما سير جيمس ماكينتوش Mackintosh (الومضة الباقية من التنوير الاسكتلندي): لقد عرفتُ آدم سميث معرفة سطحية، وعرفت ريكاردو جيدا وعرفت مالتوس بعمق فقد كانت علاقتي به حميمة. وبصرف النظر عمّا يُقال عن العلم الذي كان هؤلاء الثلاثة هم سادته ورجاله الأساسيين، فإن ثلاثتهم كانوا من أفضل من عرفت على الإطلاق.
4 - روبرت أوين
ROBERT OWEN: 1771 - 1858
نعود الآن بسرور إلى روبرت أوين، رجل الصناعة الناجح الذي حاول أن يجعل الاقتصاد البريطاني شأنا بهيجا يجعله عواناً بين الرأسمالية والاشتراكية. وُلد روبرت في نيوتن Newtown في ويلز Wales حيث كان أبوه صانع سروج وصاحب محطة تزويد المسافرين بجياد البريد، وصاحب مصنع حديد، وكان ناجحا في كل هذه الأعمال. وكان روبرت في صباه ضعيف البدن ولكنه تعلم كيف يحافظ على صحته وعاش حتى بلغ السابعة والثمانين. وقد جعله أهله يمارس العمل وهو في التاسعة من عمره، وفي العاشرة تمَّ تدريبه ليمتَهِن تجارة الأجواخ والألبسة في ستامفورد Stamford.
وفي الرابعة عشرة من عمره أصبح مساعدا لتاجر أجواخ وألبسة في مانشستر Manchester، وفي التاسعة عشرة من عمره أصبح مديرا لإحدى أكبر المصانع في لانكشير براتب سنوي قدره ثلاثمائة جنيه pounds (بوند)(نحو 7500 دولار؟) وظل في عمله هذا ثمانية أعوام حقق خلالها شهرة لكفاءته واستقامته. لقد راح يوفِّر ويدرس ويقرأ بشغف يفوق الحد، وكوّن صداقات مثيرة للانتباه مع كل من: جون دالتون Dalton المعروف بكيميائه الجزيئية atomic Chemistry وروبرت فلتون Fulton المعروف بقواربه البخارية وصموئيل (صامويل) كولرِدْج Coleridge المعروف بأفكاره الراديكالية وأشعاره المعروفة. وفي سنة 1799 وكان قد بلغ الثامنة والعشرين اشترى من ديفيد ديل David dale لنفسه واثنين من شرَكائه مجموعة مصانع نسيج في نيو لانارك New
Lanark بالقرب من جلاسجو Glasgow وحظي - مكافأةً له - بابنة ديل Dale التي أصبحت زوجته المحبوبة التي أنجب منها سبعة أبناء.
وكانت نيو لانارك تضم نحو 2،000 نفس بمن فيهم نحو 500 طفل أُرسلوا إليها من البيوت الفقيرة في جلاسجو وادنبره وكما تذكَّر أوين فيما بعد:
"كان السكان يعيشون في بطالة وفقر وسادت تقريبا كل أنواع الجرائم، وكانوا مدينين مرارا غير أصحاء وفي حالة بؤس
…
وأدى الجهل وقلة التدريب إلى اعتيادهم السُّكر والسرقة والكذب والغش والقذارة
…
وكانوا مجحفين في حق الأمة سياسيا ودينيا يتصدون لأية محاولة لتحسين أوضاعهم. وكانت المدن الصناعية الصغيرة تكاد تخلو من وسائل الصحة العامة ووسائل منع تفشي الأمراض. وكانت المساكن مظلمة قذرة، وبدت ممارسة الجريمة عملا ترفيهيا من عناء العمل، وكانت الحانات ملاذاً دافئا وباعثا على المسرّة من مشاكل البيوت".
وكان أوين Owen قد فقد إيمانه بالغيبيات تماما لكنّه تعلّق بإخلاص بالمثالية الأخلاقية للمسيح، لكنه صُدِم بالمزج بين العبودية الصناعية الجديدة واللاهوت المسيحي القديم (المقصود التوفيق بينهما)، وإنما راح يبحث عن سبيل للتوفيق بين الرأسمالية الناجحة والأخلاق المسيحية.
وأقنع نفسه - رغم تحذير والديه - بعائد قدره 5% من رأس المال المستثمر، ورفع الأجور ومنع تشغيل الأطفال تحت سن العاشرة، ورفض حجة مالتوس التي مؤدّاها أن زيادة الأجور ستزيد ضغط (استهلاك) السكان على الطعام المتاح مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مما يجعل الأجر الذي يتلقاه العامل وكأنه لم يزد (بمعنى أن قيمته الشرائية رغم الزيادة تظل كما هي) وساق الحجة على أن ما هو صالح للأكل مما يجود به البحر لا حد له، كما أن زيادة السكان تؤدي إلى زيادة الأراضي المزروعة وأن زيادة الإنتاج ستقترن بظهور المزيد من الاختراعات والمزيد من العمالة، كل ذلك سيساعد على توفير الطعام وتحقيق الازدهار للسكان، إذا أخذت الحكومة بالبرنامج الإصلاحي الذي يقترحه.
وافتتح في نيو لانارك New lanark محلا يبيع فيه مستلزمات الحياة بسعر التكلفة تقريبا، ودرّب - بصبر - العاملين معه ليس فقط على تقنيات الإنتاج بل أيضا على فن الحياة، وأكد لهم أنهم إذا تعاونوا وراعى
بعضهم بعضا سينعمون بسلام ورضا لم يألفوهما من قبل. ويبدو أنه كسب كثيرا من العمال إلى جانب النظام والنظافة والاعتدال، وعندما تذمّر والداه من أنه ينفق على أعمال الإحسان والتعليم أموالاً كان يمكن أَنْ تحقق أرباحاً وافرة، كوّن لنفسه شركة خاصة به (1813) بعد أن فسخ شركته معهما، ورحب شركاؤه الجدد (كان من بينهم جيرمي بنثام Jeremy Bentham) بتجربته وكانوا راضين بنسبة الخمسة في المائة كعائد لاستثماراتهم.
وحقَّقت مصانعه ومشروعاته في نيو لامارك شهرة على مستوى الوطن إن لم يكن على مستوى العالم. وكانت مدينة نيو لامارك تبعد عن الطريق الرئيسي مسافة تستغرق ركوب يوم كامل من جلاسجو عبر جبالٍ وضباب، ومع هذا كان آلاف الزائرين يأتون لفهم هذه الظاهرة التي لا تصدق - مصنع يُدار على وفق للمبادئ المسيحية، ووقَّع عشرون ألفا في دفتر الزيارات فيما بين عامي 1815 و 1825، كان منهم كتاب ومصلحون ورجال أعمال وأمراء مثل الأرشيدوق جوهان Johann (يوهان) وماكسميليان Maximilian النمساوي، وفي سنة 1815 كان الدوق الكبير نيكولاس (الذي سرعان ما أصبح قيصرا) قد اقتنع بمشروع أوين وبنتائجه فدعا أوين Owen إلى لتأسيس مصانع ومشروعات مماثلة في روسيا.
وبعد أربعة عشر عاما من التجربة شعر أوين Owen بضرورة تأكيد تجربته وإعلانها للعالم لأنه كان واثقا من أن انتشارها في أنحاء العالم "سيضمن السعادة لكل البشر عبر الأجيال" لذا فقد أصدر في سنة 1813 أول مقال من مقالات أربع كان لها عنوان شامل (نظرة جديدة للمجتمع) أصبحت من الكلاسيكيّات الكبرى في الإنتاج الفكري الذي يتناول الإصلاح. ولم يقدم اقتراحاته بشكل مُستقر وكأنه مستعد للقتال، فقد أكَّد لحكّام بريطانيا ورجال الصناعة فيها أنه لا يرغب في إحداث أيّ تغيير ثوري، ولا يؤمن به وأن خطته لا تهدف إلى إلحاق الخسارة بأيِّ أحد بل إنها حقاً قد تزيد من دخل صاحب العمل، وأنها - أي خطته - قد تجنِّب إنجلترا الثورة.
لقد بدأ باقتراحٍ وجدهُ أساسيا لأي إصلاح جذري - وهو ضرورة تعديل شخصية الإنسان منذ الطفولة ببث معتقدات وتجارب مفيده تُغير ما يبدو أنّه قد غُرِس فيه من خلال موروثات ثابتة تذكي فيه التنافس والصراع. إن أكبر أخطائنا تتمثل في فكرة مؤداها أن الأفراد يشكلون شخصياتهم لكن العكس هو
الصحيح، فآلاف المؤثرات التي تؤثر في الشخص قبل ميلاده ومن ميلاده إلى موته هي التي تكوّن شخصيته.
وانتهى أوين Owen بحماس رافضاً أي معدل أو ملطف فأي شخصية سواء كانت من أفضل الشخصيات أم من أسوئها، ومن أكثرها جهلاً أو أكثرها تنوراً لابد أن تكون موجودة في أي مجتمع، بل وفي العالم كله وذلك من خلال وسائل خاصة هي إلى حد كبير تحت سيطرة من يملكون زمام الأمر في الحكومات. ومن هذا المبدأ خلُص أوين بافتراضين: الأول؛ أن الطبقات المالكة الحالية لا لَوْم عليها في ممارساتها وأفكارها طالما أن أفراد هذه الطبقات هم نتاج ماضيهم والبيئات التي هم فيها الآن، والثاني أن الإصلاح لابد أن يبدأ بالأطفال وبتحسين أحوال المدارس وزيادة أعدادها. لابد من بذل كل جهد لتنشئة الأطفال بحيث يفهمون أنه لابد أن يحترم كل فرد الأفراد الآخرين طالما أن أي فرد غير ملوم لصفاته (شخصيته) وغير ملوم بسبب ظروف المجتمع الذي نشأ فيه:"لابد من تعليم الأطفال كيف يتعاونون بإراداتهم وأن يكونوا شجعانا". ولذا وجدناه عندما كانت المدارس المتاحة للعوام في إنجلترا قليلة جدا يقترح على الحكومات في كل البلاد "وضع خطة وطنية (على مستوى الأمة) للتعليم وإعادة تشكيل الشخصية .. دون نظر إلى وطن أو مذهب ديني أو حزب".
وكان ديفيد ديل David Dale قد أنجز بالفعل الكثير لتعليم الأطفال في نيو لانارك، وزاد أوين على ذلك بأن أقام في إحدى المباني من ممتلكاته المعهد الجديد 1816 لتحويل الملائكة والبربريين إلى مسحيين بدون لاهوت. لقد راح يبحث عن تلاميذ لمعهده من بين الأطفال الذين يستطيعون المشي فقد:
"كان يخشى (مثل أفلاطون) أن ينقل الآباء الذين تكونوا بالفعل (تشكلت عقولهم ونفوسهم بالفعل) أو فسدت طباعهم بالفعل - إلى أطفالهم روح التنافس ......... في الحكم الموجود (القائم)، واستسلم للأمهات اللائي أصررن على أن الأطفال في أعوامهن الأولى يحتجن إلى عطف الأم ورعايتها، وعادة ما كان يُلحق بمدرسته الأطفال في سن الثالثة ويتركهم - إن سمح الطقس - يتعلمون ويلعبون في الهواء الطلق، وكان الأطفال ذكوراً وإناثاً يلعبون ويتدربون معاً، وكان عليهم أيضاً أن يتدربوا في دار الفنون (الصناعات)، وكان الأولاد يتلقون تدريبات عسكرية، لكن كان عليهم أن
يتعلموا أيضاً الغناء والرقص والعزف على بعض الآلات الموسيقية كالبنات".
وكان كل هذا البرنامج التعليمي لخدمة تكوين الشخصية الأخلاقية مع تركيز على الاحترام واللطف والكياسة والرفق والتعاون. ولم يكن هنا عقاب وعند نهاية كل يوم دراسي يعود الأطفال إلى آبائهم ولا يكون مسموحاً لهم بالعمل في المصانع قبل العاشرة.
ولم تقدم مدرسة أوين أي مقرر ديني، ولا حتى في المحاضرات المسائية التي يحضرها الكبار، فقد كان أوين Owen مقتنعاً أن الدين سيفسد عقل الطفل بخرافاته ومن ثم وجب البعد بطفل التنوير عن الدين، فالذكاء هو الفضيلة العليا وانتشار التعليم هو الحل الوحيد للمشاكل الاجتماعية، وأن التقدم - إذا ما أُتيح التعليم - حتمي ولا حدود له. ولم تكن هناك في مصانعه ومدرسته أي فصل عرقي أو ديني. فقد كان يُقدم الإحسان والرفق للجميع على سواء وكان يؤمن أن "المناهج التي يقدمها هي محاولة للتحرك في اتجاه أخلاق المسيح وراح يتطلع بحماس ليوتوبيا أخلاقية! "
وفي مقاله الرابع (1816) وهو المقال الذي أهداه للوصيِّ على العرش قدم بعض المقترحات في مجال التشريع. لقد طالب البرلمان بالإسراع في إصدار مرسوم بتقليل المستورد من الخمور، ورفع الضرائب على المباع منها، وأخيراً إنهاء تراخيص محلات الجِن gin (شراب مُسْكر قوي) وحانات البيرة (الجعّة) وتضييق الخناق على السكر حتى يقتصر في النهاية على الأغنياء من ذوي المال. وأوصى "بنشر التعليم الابتدائي وتمويله لتحسين أخلاق الأجيال القادمة". ودافع عن صدور تشريع المصانع الذي يمنع تشغيل الأطفال دون العاشرة ومنع العمل الليلي لمن هم دون الثامنة عشرة كما أوصى بتحسين ظروف العمل وتنظيم ساعاته، وتدبير نُظم للتفتيش الدوري على المصانع. وأوصى بضرورة أن:
"يقوم المكتب الحكومي للعمل (الإدارة الحكومية المنوط بها أمور العمل) بجمع الإحصاءات بشكل دوري عن الحاجة للعمالة وغير ذلك من أمور العمل لاستخدامها للتخفيف من حدة البطالة". ودعا إلى "إلغاء اللوترية lottery (اليانصيب) التي تنظمها الدولة باعتبارها وسيلة للإيقاع بغير الوعي، وسرقة الجاهل".
واتفق مع مالتوس أن (قوانين الفقراء Poor laws) التي تُبقي العاطلين والفقراء على قيد
الحياة بالكاد ليست إلا خطوة واحدة من المجاعة، وهي تترك الذين يتلقون العون على وفق هذه لهذه القوانين نهباً للجريمة، وتجعلهم يتفرغون للتناسل، واقترح أوين (1817) بدلا من بيوت التشغيل Work houses التي تُدار في ظل هذه القوانين أن تقيم الدولة مجتمعات كل منها يتكوّن من 500 أو 1،500 نفس، وتنظم كل منها نفسها تنظيما داخليا ويقتسمون العمل فيما بينهم لإنتاج طعامهم وملابسهم وليديروا مدرستهم.
ولم تلق دعوته إلا استجابة قليلة الشأن من البرلمان، فتوجه في سنة 1818 إلى أصحاب المصانع البريطانيين يصف لهم نجاح النظام الذي اتبعه في نيو لانارك ويحثّهم أن يكفّوا عن تشغيل الأطفال دون الثانية عشرة من أعمارهم، لكنهم لم يجدوا ذلك متفقاً معهم وامتعضوا من تحليل أوين للركود الاقتصادي باعتباره راجعا إلى كون الإنتاج inventive productivity يتجاوز القدرة الشرائية للسكان. لقد رفضوه باعتباره حالما ملحدا لا يفهم فهما حقيقا حقيقة المشاكل التي يواجهها أصحاب العمل، ولا الحاجات البشرية التي لا يستطيع أن يشبعها إلاّ الدين.
وأخيراً عاد أُوين Owen إلى العمال أنفسهم فتوجه إليهم بخطاب إلى الطبقة العاملة (1819)، ولقد أسعدهم بإعلانه:"أن العمل اليدوي إذا تم توجيهه بشكل صحيح هو مصدر الثروة كلها ومصدر الرخاء والازدهار للأمة" ولكنه حذرهم من أن "إنجلترا وطبقاتها العاملة ليست مستعدة للاشتراكية"، وأنكر أي نيّة يُضمرها لتقديم اقتراح للحكومة البريطانية بضرورة تعيين كل القادرين على العمل في البلاد، تعيينا مباشرا. ورفض قيام الحكومة بأية إجراءات متطرفة كما رفض القيام بثورة لأنها ستثير الأحقاد والكراهية والثأر وعلى أية حال فقد أعلن في سنة 1820 في (تقرير إلى أصحاب الأراضي في لانارك):"أن إنجلترا الآن لا تحتاج إلى إصلاحات تدريجية وإنما إلى تغيير جذري في نظامها الاجتماعي".
وعندما لاقى إحباطاً في إنجلترا وجه وَجْهَهُ آملاً شطر الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان أصحاب فرق دينية مختلفة قد أقاموا بعض التجارب الاشتراكية. ففي سنة 1814 قامت جماعة من التقويين Pietists الألمان الأمريكيين بشراء ثلاثين ألف فدان (أكر) على طول نهر
وابش Wabash في جنوب غرب إنديانا وشيدوا مدينة طوروها أطلقوا عليها اسم هارموني Harmonie، وبحلول عام 1825 حل بهم الإفلاس فأسعفهم أوين، ودمر ماليته بأن قدم لهم أربعين ألف جنيه من أجل الأكرات (الفدادين) والمدينة التي أعاد تسميتها لتصبح هارموني الجديدة New Harmony ودعا الرجال والنساء من ذوي النوايا الحسنة للانضمام إليه لتكوين مجتمع تعاوني.
ودفع كل التكاليف ماعدا تكاليف المدرسة إذ دفعها وليم ماكلور Maclure وأتى إليه آلاف المتحمسين راحوا يأكلون طوال عام على نفقة أوين وتكيّفوا ببطء مع العمل المنظم واختلفوا في أمور الدين والسياسة، وفي 1827 كان قد خسر معظم الأربعين ألف جنيه فأحال أمور هذه المستعمرة إلى ماكلور وعاد إلى بريطانيا.
ومع هذا لم يكن قد أنهى ما في جُعبته تماماً، فقد قاد حركة لتطوير نقابات العمال لتكوّن روابط صناعية وتجارية تنافس المشروعات الخاصة في الإنتاج الصناعي. وقَبِل الاتحاد الوطني للبنائين عقوداً. وفعلت الاتحادات الأخرى ما يناسبها وفي سنة 1833 نظمها أوين في المنظمة الوطنية الكبرى للنقابات العمالية وكان يأمل أن تستأصل هذه المنظمة - بالتدريج - شأفة الرأسمالية وتحل أخيراً محل الدولة. وتدخل البرلمان بقوانين تكبح هذا الاتجاه لكنها لقيت مقاومة شديدة فرفضت البنوك تقديم قروض له وفي سنة 1834 اعترف أوين بالهزيمة.
إن حياته التي شهدت نجاحا كبيراً في مضمار الصناعة، يبدو أنها وصلت الآن أو كادت إلى مرحلة الفشل الكامل، وأدت الاختلافات الدينية إلى تعكير صفو زواجه، فقد كانت زوجته كالفنية متحمسة عندما اكتشفت أنه (لا أدري)، وفي وقت لاحق حثت ابنها روبرت على إعادة أبيه إلى حظيرة الكالفنية Calvinist، فكانت النتيجة أن تشكك الولد في دينه بدلا من أن يُقنع أباه. وبعد أن عاد أوين من أمريكا عاش منفصلاً عن زوجته رغم أنه ظل على علاقة صداقة بها. وكان يؤمن بالطلاق ولكنه لم يسع إليه واستغرق في مهمته (رسالته) استغراقاً كاملاً.
وقدَّم تشجيعاً فعّالاً للجماعات المختلفة التي حاولت تطبيق مبادئه: في أوربستون Orbiston في اسكتلندا، وفي رالاهين Ralahine في أيرلندا وفي كوينوود Queenwood في
إنجلترا. وقد حلت الجماعة الأولى نفسها في غضون عامين والثانية في غضون ثلاثة أعوام والثالثة في غضون ستة أعوام. وظل ينشر أفكاره بالخطب والتأليف وعاش حتى رأى كثيراً من تعاونيات المستهلكين في الجزر البريطانية. وظل مشغولاً بكتابة توصيات بالإصلاح للهيئات التعليمية والمسئولين الحكوميين والملكة فيكتوريا. وأخيراً - في سنة 1853 - عاد إلى الاتجاه الروحي Spiritualism وأغرق في التأمل الذاتي، وراح يجري حوارات حميمة (باطنية) مع فرانكلين وجيفرسون وشكسبير وشيلي ونابليون والنبي دانيال. وفي سنة 1858 كان قد تخلّى منذ زمن عن مجال اهتمامه بل وعن نفسه فعاد إلى بلدته نيوتون Newtown ومات فيها وهو في الثامنة والثمانين.
لقد كان رجلا طيبا، وكان غيْرياً يفكر في غيره أكثر من أي شخص آخر، ولم يستطع أن يسمو فوق ذاته كلية، فقد كان فخوراً في طيّات نفسه بسلطانه ونجاحه وفكره، وكان على حق عندما قرر أن التعاون السليم الذي يحقق الغرض في حاجة إلى نظام وسلطة. إنه أفضل من استطاع تضخيم ذاته لتضم بين جنباتها أقاربه وبلده وجنسه، ووجد - لهذا - رضا في توسيع نطاق الرحمة والعطاء. وهذا هو ما فعله روبرت أوين بعد كل شيء وقبل كل شيء، بشجاعة، وهذا وحده يكفي لنجعله بين الدعاة prophets الملهمين الداعيين إلى حياة أفضل.
الفصل السادس عشر
الحياة الإنجليزية:
من 1804 إلى 1807 م
1 - الطبقات
الحضارة شعب له نظام اجتماعي قامت عليه حكومة وقانون ودين وأخلاق وعادات وتقاليد ونظام تعليمي، مع إتاحة قدر كاف من الحرية للإبداع والتجربة وقدر كاف من الحرية لتكوين الصداقات وعلاقات الحب وأعمال الخير وتطويرها، وقدر كاف من الحرية يُتيح إبداع فن وأدب وعلم وفلسفة. والآن كيف كان حال هذه النظم والحريات في إنجلترا في الفترة من 1789 إلى 1815 وكيف كان شكلهما (تكوينهما) وماذا نتج عنهما؟
في البداية نجد أن الفروق التي فرضتها الطبيعة بين الناس - فيما هو موروث، وفي الفرص والمهارات - جعلتهم يندرجون في طبقات تُسهم كل طبقة منها بنصيب في الحياة المشتركة. ولم يكن في إنجلترا نظام الطبقات المغلقة (أو المتحجرة) لأن الفرد ذا الثروة الكبيرة أو التفوق قد يترقى (يصعد) من طبقة إلى أخرى بل يصل حتى إلى مرتبة النبالة، وغالبا ما كانت العلاقة بين النبيل والفلاح تتسم بروح الصداقة وقلما تكون ذات طابع برهمي of Brahmin (أو علاقة لا تسمح بأن يمس (يلمس) الفلاحُ النبيلَ). وكانت القِنانة Serfdom (عبودية الأرض) قد اختفت رغم أنه لم تكن هناك إلا أقلية تمتلك الأرض التي تزرعها. وكان النبلاء يدفعون الضرائب مثل غيرهم وفي بعض الأحيان (على عكس نظرائهم الفرنسيين) كانوا يعملون في مجال التجارة أو الصناعة. ولم يكن يرث لقب النبالة إلا الابن الأكبر أما بقية الأبناء فكانوا من الناحية القانونية (وليس الاجتماعية) من العوام.
وظلت كثير من مظاهر عدم المساواة (الفوارق) غير الطبيعية باقية. وكان تركُّزُ الثروةِ شديداً بشكل غير عادي. وكانت المساواةُ أمام القانون غير ذات معنى بسبب ارتفاع تكاليف التقاضي. ولم يكن ممكنا محاكمة اللوردات المتهمين إلا في مجلس اللوردات (الشيوخ)، وظلت مزايا النبالة هذه مستمرة حتى سنة 1841. وكان من الممكن إجبار
من لا شجرة نسب لهم على الخدمة في البحرية. وقلما كان العوام يصلون إلى رتبٍ عليا في البحرية أو الجيش أو الخدمة المدنية أو الجامعات أو القضاء. وقلما كانت طبقة النبلاء الحاكم تسمح للجماهير التي لا تنتمي لطبقة معينة بأي دور في تقرير سياسات الحكومة أو اختيار القائمين عليها.
وربما كان الوعي الطبقي أكثر حدّة ووضوحاً لدى البورجوازية التي ظلت متعالية بكبرياء بعيدة عن الفلاحين والبروليتاريا، وكان أفرادها يحلمون بمراتب النبالة. وفي داخل الطبقة البورجوازية نفسها كانت هناك قطاعات متنافسة؛ فكان الرأسمالي العامل في المجال الصناعي يتعالى على جاره صاحب المحل التجاري، والتاجر الكبير الذي تحلَّى بالأموال نتيجة مغامراته التجارية يقف متباهياً إزاء رجل الصناعة. وكان ذوو المكانة أو الثروة العظيمة يطلون ما جمعوه من المستعمرات بطلاء الوطنية وكوّنوا طبقة خاصة بهم.
وكما في فرنسا، كذلك في إنجلترا لم يكن أي فرد راضياً بما فيه الكفاية بقسمته التي قسمها الله له، أتاحتها له قدراته، أو فرضتها الظروف. لقد كان كل شخص منشغلاً بالصعود أو التردي. لقد كان قلق العصر الحديث قد بدأ. وكانت المعركة الأساسية هي معركة الرأسمالي كي يحل محل الأرستقراطي في توجيه أمور الدولة. وكان هذا قد استغرق جيلا كاملا في فرنسا، أما في إنجلترا فاستغرق قروناً.
وعلى هذا، فحتى سنة 1832 كان لطبقة النبلاء الغلبة، وكانوا يبتسمون ساخرين من متحديهم. وبالمعنى الضيق فقد كانت طبقة النبلاء هذه في سنة 1801 تتكوّن من 287 نبيلاً أو نبيلة زمنياً (أي ليس من الإكليروس أو رجال الدين) و 26 أسقفاً إنجيلياً هم النبلاء أو اللوردات الروحيون spiritual lords (أي من رجال الدين) وهم الذين يشكلون مجلس الشيوخ (مجلس اللوردات House of Lords) . وكان النبلاء الزمنيون (من غير رجال الدين) مرتبين طبقياً فيما بينهم ترتيباً تنازلياً: أمراء من دماء ملكية، دوقات dukes، ماركيزات marquesses، إيرلات earls، فيكونتات Viscount وبارونات barons .
وكان يمكن أن يُطلق على الواحد من كل هؤلاء - ما عدا الأمراء ذوي الدماء
الملكية - لقب لورد، وكان اللقب يُورَّث جيلاً بعد جيل للابن الأكبر. وكان الواحد منهم يمتلك أراضي شاسعة يزرعها فلاحون مقيمون وعمال مستأجرون، وكان لها بطبيعة الحال ريع بلغ في حالة دوق نيوكاسل Newcastle 120،000 جنيه إسترليني في السنة أو نحو 12،000 جنيه عادة كما في حالة الفيكونت بالمرستون Palmerston .
وكانت مزارع دوق بدفورد Bedford، ودوق نورفولك Norfolk ودوق ديفونشير Devonshire يمكن أن تغطي كونتيّة county (مقاطعة). وإلى الأدنى من هؤلاء اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) نجد 540 بويرين! baronets (تصغير بارون، وتكتب أحيان بارونت) وزوجاتهم (الواحدة منهن بويرينه، وتكتب أحياناً بارونيته) ويشفع الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير Sir) إن كان بويرينا، وباللفظ (ليدي Lady) إن كانت بويرينه ويُتوارث هذا اللقب (سير أو ليدي) من هذه الأسرات.
ويلي ذلك 350 فارساً Knights (لقب وليس له علاقة بالضرورة بركوب الخيل) وزوجاتهم، ويُسبق الاسم المسيحي للواحد منهم باللفظ (سير) أو (ليدي) أيضاً، لكن اللقب هنا لا يتوارث، ويلي حاملي لقب فارس نحو ستة آلاف من حاملي لقب حامل الدرع Squire أو شريف المحتد gentry وهم من ملاك الأراضي الذين وُلدوا في أسرات قديمة حازت قبولاً اجتماعياً ومن حق الواحد منهم أن يحمل شعار النبالة. كل هذه المجموعات السابق ذكرها من حملة الألقاب تقع دون اللوردات وهم يكوِّنون النبالة الدنيا أو النبالة الأقل درجة لكنهم بشكل عام من بين الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا.
لم يكن أحد يشعر بأن حكم الأقلية ينطوي على شيء من الخطأ. فقد كان هناك رضاً متزناً قانعاً رواقياً (متسم بقبول الواقع) يبرر فقر الفلاحين وتدني أوضاع عمال المصانع واستغلال أيرلندا. لقد كانت هناك قناعة أن الفقر هو عقاب ضروري وطبيعي لعدم الكفاءة أو الكسل ويجب ألا يُسمحً للمنظِّرين الخوَّارين بتحويل بريطانيا إلى ديمقراطية تقوم على تقديم الإعانات المالية (للكسالى وغير الأكفاء) ورغم الحالمين باختفاء أشكال الحكومة مثل وليم جودوين William Godwin أو بيرسي شيلي Percy Shelley، فإن شكلاً من أشكال الحكومة يُعد أمراً ضرورياً فمن غير الحكومة يصبح الشعب غوغاء يهددون كل فرد وكل حرية، ولم يكن نابليون ظالما في حكمه لصالح الأرستقراطية الإنجليزية، بل إنه قال في سانت هيلينا: "ستكون مأساة (أو
كارثة) أوروبية إذا اختفت الأرستقراطية الإنجليزية وتُركت الأمور لغوغاء لندن"، فكل الحكومات تقوم إما على حكم الأقلية أو حكم الطغاة (الحكم الفردي المستبد) والأقلية الحاكمة إما أن تكون بأرستقراطية المولد أو بلوتقراطية الثروة plutocracy of wealth (حكومة الأثرياء / أو حكم الطبقة الثرية) وبطبيعة الحال فإن الديمقراطية كانت في هذا الاتجاه الأخير (البلوتوقراطي) لأن الثروة وحدها هي التي يمكنها تمويل المعارك أو دفع تكاليف حث الناس على التصويت لصالح المرشحين الأغنياء والذين يتم انتخابهم بطريقة ديمقراطية وهم قلما يكونون - بحكم المولد أو الخبرات - قادرين على التعامل بنجاح مع قضايا الحكم، أما تعاملهم مع الشؤون الخارجية فنجاحهم فيها أقل بكثير.
فأرستقراطية المولد هي مدرسة لأجل الدولة. حقيقة إن بعض من تخرجوا في هذه المدرسة (أرستقراطية المولد) قد يصبحون عاطلين لا يصلحون لعمل، لكن هؤلاء قلّة، فأرستقراطيو المولد بحكم طول ارتباطهم بقضايا الحكم والأشخاص الحاكمين يكتسبون القدرة على التعامل مع الأمور الحرجة دون تعريض الأمة للخطر بحماقاتهم (تصرفاتهم غير المنضبطة). وأكثر من هذا فإن الأرستقراطية الموظفة توظيفا صحيحاً تستطيع أن تُلزم الناس بعادة الطاعة واحترام السلطة اللذين هما منحة للنظام العام والأمن.
وبدت هذه الحجج التي صيغت ببراعة وتغلغلت في الشعور بشكل غامض مقنعة لغالب الشعب البريطاني. لكنها لم تكن مقنعة للبورجوازية الصاعدة التي كان أفرادها ممتعضين من الثروة التي حققها ملاّك الأراضي فسيطروا على الوزارات والبرلمانات، كما كان العمال المتمردون ينكرون على الأرستقراطية - بغضب - دورها، كما تعرضت الأرستقراطية للمساءلة من المثقفين الذين هالتهم الوسائل التي توظفها الأرستقراطية التي تحكم إنجلترا لخدمة مصالحها.
2 - الحكومة
2/ 1 - الهيئة التشريعية The Legislature
دستور إنجلترا هو الكيان الكامل للتشريعات غير المُلغاة التي أصدرها البرلمان، والقرارات غير المُبْطَلة (بضم الميم) للمحاكم. فمثل هذه السوابق القانونية تُسند كل السلطات الحكومية إلى التاج (سواء أكان صاحبه ملكاً أو ملكة) والبرلمان اللذين يعملان بتوافق. وعادة ما كان الملك منذ سنة 1688 يقبلُ ما يشرّعه البرلمان ويوافق عليه. وليست هناك وثيقة مكتوبة تحد من سلطة البرلمان في إجازة أيِّ قانون يُرضي مجلسيه (مجلس العموم ومجلس اللوردات) (النص: غرفتا مشورته two chambers) وتتكون الغرفة العليا (مجلس اللوردات) من اللوردات الزمنيين (من غير رجال الدين) واللوردات الروحانيين (من رجال الدين) الذين يجلسون بترتيب على وفق الميلاد والتقليد،
ومن سلطتهم رفض أي إجراء يصوت عليه مجلس العموم وهم كمحكمة عليا تُستأنف (بضم التاء) القرارات القضائية لديها، وكمحكمة عليا عند تولي مجلس العموم محاكمة أحد أعضائه بسبب جناية أو جُنحة أو عند محاكمة أحد أعضاء الحكومة كما أنه مختص بالنظر في الأمر عند اتهام أحد أعضائه من غير الإكليروس في جريمة كبرى. لقد كان هو حصن الأرستقراطية تقوم من خلاله بنضال يعوق تقدم البورجوازية المتقدمة.
وكان عدد أعضاء مجلس العموم 558 عضواً: اثنان من جامعة أكسفورد واثنان من جامعة كامبردج، وواحد من كلية التثليث في دبلن، و 45 من اسكتلندا، والباقون يتم انتخابهم في أربعين كونتية (مقاطعة) وعشرين مدينة تمثل كل منها دائرة انتخابية من قِبَل ناخبين لهم امتيازات محدودة مختلفة اختلافاً كبيراً مما يجعل من غير الممكن النص عليها بالتفصيل في هذا السياق. ويُستثنى من المنتخبين (بكسر الخاء) النساء والذين يتلقون إعانات، والروم الكاثوليك والكويكرز Quakers (أصحاب مذهب ديني) واليهود واللا أدريين agnostics، وبشكل عام كل من لا يؤدي قسم الولاء والطاعة لكنيسة إنجلترا وعقائدها. وفي المجموع كان في إنجلترا ذات التسعة ملايين نفس 245،000 ناخباً.
وطالما كان التصويت علنياً فإن قلة من المصوتين (الناخبين) هم الذين كانوا يجسرون على انتخاب مرشح غير مالك
الأرض. وكان كثيرون من أهل المدن ممن لهم حق الانتخاب لا يُزعجون أنفسهم بالإدلاء بأصواتهم، وكانت بعض الانتخابات تجرى بترتيبات بين الزعماء دون أي تصويت. وكان عدد الممثلين البرلمانيين المسموح بهم لكل مدينة borough قد تحدد بحكم التقاليد المتوارثة دون أن يوضع في الاعتبار زيادة عدد السكان أو نقصهم في هذه المدينة التي تمثل دائرة انتخابية، إذ كان لبعض المدن التي لا يتجاوز عدد المصوتين فيها أصابع اليد ممثل أو أكثر، بينما لم يكن مسموحاً للندن سوى بأربعة ممثلين رغم أن عدد المصوتين فيها ستة آلاف. وكانت المراكز الصناعية قليلة التمثيل في البرلمان إن لم تكن غير ذات ممثلين برلمانيين أبداً.
فمانشستر Manchester وبرمنجهام Birmingham وشيفلد Sheffield لم يكن لها ممثلون في البرلمان، بينما كانت كونتية (مقاطعة كورنوال Cornwall القديمة) تتمتع باثنين وأربعين نائباً. وعلى أية حال يجب أن نضيف أن كثيراً من المدن والقرى كانت محتفظة بقدر كبير من الحكم الذاتي فيما يتعلق بأمورها الداخلية، وعلى هذا فمدينة لندن كانت تختار حكومتها عن طريق أصحاب الأملاك فيها (فهم وحدهم لهم حق التصويت). وكان نحو نصف مقاعد مجلس العموم يتم شغلها عن طريق انتخابات نصف جماهيرية، أما النصف الثاني فيتم شغله من خلال تعيينات الملاك المحليين أو المقيمين في مناطق نائية، ولا معقِّب على تعيينهم. وكان الراغبون في مثل هذه التعيينات يدفعون للمجالس المحلية في كثير من الحالات، وكانت هذه المجالس تعيِّن من يدفع أكثر من غيره أو بعبارة أخرى كانت مجالس المدن تبيع وتشتري مقاعدها في مجلس العموم بشكل علني واضح كما يجري التعامل في أية بضاعة.
وكان الأعضاء المختارون يقسمون بشكل مرن بين الحزبين: التوري Tories (المحافظون) والهويجز Whigs (الأحرار)، وكان هذان الحزبان قد نسيا إلى حد كبير القضايا التي اختلفا عليها في الماضي والتي كانت سبباً في انقسامهما إلى حزبين. وكان زعيماهما من بين الأسرات الأرستقراطية القديمة لكن الهويجز (الأحرار) كانوا أكثر ميلاً من التوري (المحافظين) للاستماع إلى لوردات التجارة والصناعة الأثرياء، بينما كان التوري (المحافظون) يدافعون عن الحقوق المقصورة على السلطة الملكية، وكان الهويجز (الأحرار) يتحدونها. لقد كان عصب الصراع هو السلطة لا المبدأ؛ أي حزب عليه تشكيل الوزارة الحاكمة واقتسام المناصب الرابحة والإشراف
على التطور.
ورغم الأساس الأرستقراطي للحكومة البريطانية فإنها كانت - بشكل ملحوظ - أكثر ديمقراطية في سَنِّ القوانين من حكومات معظم دول القارة الأوروبية، ففي هذه الدول (بما في ذلك فرنسا بعد سنة 1804) كان الإمبراطور أو الملك هو الذي يقبض على زمام السلطة، أما في بريطانيا فقد كان الحاكم الحقيقي منذ سنة 1688 هو البرلمان وليس الملك، وفي هذا البرلمان ذي المجلسين (مجلس اللوردات ومجلس العموم) كانت السلطة في الأساس في يد مجلس العموم من خلال سلطته على الميزانية Power of the purse: إذ لم يكن ممكنا إنفاق أي مبلغ من الميزانية العامة دون موافقته، ومن الناحية النظرية كان يمكن للملك أن يعترض على أي إجراء يُقرِّه البرلمان، لكن جورج الثالث - من الناحية الفعلية - لم يمد هذا الحق المقصور عليه إلى هذه النقطة الحساسة. وعلى أية حال، كان في مقدور الملك أن يحل البرلمان، ويلجأ إلى أهل البلاد go to the Country لإجراء انتخابات جديدة.
وفي هذه الحال يكون لدى المرشحين الذين يُؤيدهم ويُمولهم فرصة طيبة للفوز بالمقاعد لأن الملك الطبيعي المؤتلف مع شعبه قد أصبح مرة أخرى تجسيداً للأمة ومحور الولاء لها والفخر بها.
2/ 2 - النظام القضائي The Judiciary
كان النظام القضائي في إنجلترا - مثله مثل النظام التشريعي - كافياً بالغرض، وكان قد تم مصادفة (أي بدون قصد)، وكان مشوشاً غير محدد المعالم. لقد كان لابد بادئ ذي بدء من السيطرة على مجموعة القوانين التي كانت تكاد تصدر يومياً خلال مئات السنين فظلت طويلاً غير منظمة ولا متسقة وكانت تنص على عقوبات قاسية جداً حتى إن القضاة كانوا غالبا ما يعدلونها أو يتجاهلونها. لقد كان القانون مثقلا ببقايا أصوله الإقطاعية وتنقيحاته المسيحية: فاللوردات المتهمون كان لا يزال من الضروري أن يُحاكمهم لوردات، وحتى سنة 1827 كان القسس الأنجليكان Anglican مُستثنون من المثول أمام المحاكم المدنية.
وظلّت مئات القوانين (التي تنص على منع المقامرة ووسائل الترفيه الليلية والاجتماعات غير المصرَّح بها)
مُثبتة ومنصوصاً عليها، رغم عدم تطبيقها إلا فيما ندر. وجرت بعض التحسينات في هذه الفترة: فعدد الجرائم (نحو مائتين) التي كان (في سنة 1800) عقابها الموت، جرى تخفيف عقوبتها مراراً. وأصبح من الممكن تفادي السجن لعدم وفاء الدين بالحصر الدقيق للموجودات والديون والعوائق التي تعوق المدين عن سداد ديْنه. لكن قانون الإفلاس ظل ثقيل الوطأة حتى إن رجال الأعمال تحاشوه باعتباره طريقاً إلى إفلاس مضاعف.
وقانون الإحضار لأغراض التحقيق الصادر في سنة 1679 والذي كان يهدف إلى منع سجن المتهم قبل المحاكمة، غالباً ما عُلِّق (لم يُنفّذ) حتى فقد قوته في أثناء أزمات مرّت بها البلاد مثل فترة الحروب الثورية الفرنسية. واستمرت التناقضات والمعوقات والتشوّيش سمة من سمات القانون البريطاني حتى عكف بنثام Bentham عليها وأخضعها لمثابرته ودقته ومتابعته للتفاصيل بُغية إصلاحها.
ومما زاد من صعوبة القبض على المجرمين قلة عدد رجال الشرطة في المدن وانعدامهم - تقريباً - في القرى. وكان المواطنون مضطرون إلى تكوين مجموعات تطوعية لحماية حياتهم وممتلكاتهم، وحتى عندما كان يتم القبض على المجرم، فإن يستطيع أن يؤخِّر سجنه أو يُفلت منه باستئجار المحامين ليجدوا له أسباباً لاستئناف الدعوى أو ليفتعلوها له أو ليبحثوا له عن ثغرات في القانون فقد كان مجالا لفخر المحامين أنه لا يوجد قانون إلا واستطاعوا اختراقه وتوسيع رتقه ليسيروا خلاله بعربة بل وستة خيول.
في الدرجةِ الأدنى للمهنةِ القانونيةِ كَانتْ الوكلاء القانونيون (attorneys solicitors or) ، الذين يعملون كوكلاءِ قانونيينِ للزبائن، أَو يبَحثوا ويجهزوا مُحَضّرة للمحامين (barristers) ، وهم المحامين الوحيدينَ المسوح لهم بالدخول والاقتراب من منصة المحكمة. ومنهم الملك، عادة وبتوصياتِ مِن قِبل الوزراء يختارَ القضاة.
ومرَّة أو مرَّتين في السَنَة كان قضاة القانون العامَ يجوّلوا المقاطعات لعقد محاكم استئناف، محلياً، في القضايا مدنية والجنائية. كانوا يبقوا في مكان واحد مدة قصيرة، الحكومة في بعض الحالات تدع القضاة المحلين في كل مقاطعة أو دائرة ابتكار القوانين، و هم منتخبون من الحكومة المركزية من أغنى ملاك الأراضي بتلك المقاطعات، وكانوا لا يتقاضون أجور، وكان من المتوقع أن يبعدهم غناهم عن الفساد، لكنهم لم يكونوا بعيدين عن الشبهات وبعضهم كانوا مشهورين بأحكامهم القاسية ضد الراديكاليين؛ لكن، الكل في الكل، قاموا بنزاهة بدور الإدارة المحلية المؤهّلة، يَساوي تقريباً بذلك الحكامِ في فرنسا النابليونية.
وكان أفضل لمحة في القانون الإنجليزي هو حق المتهم في المحاكمة أمام هيئة محلفين. ومن الواضح أن هذه المؤسسة من مؤسسات الفرانك الكارولنجيين Carolingian Franks قد دخلت إنجلترا بشكلها الأوّلي مع الفتح النورماني Norman . ولم يكن عدد هيئة المحلفين قد حُدِّد بعد باثني عشر عضوا حتى سنة 1367، وفي نحو ذلك الوقت فقط كانت الموافقة الاجتماعية للمحلفين على قرار واحد أمراً مطلوباً. وكان يتم اختيار المحلفين (عادة كانوا من الطبقة الوسطى) من بين قائمة تضم من ثمانية وأربعين إلى واحد وسبعين رجلاً بعد جدال بين الحزبين المتصارعين. وكان قُضاة الصلح يعينون بشكل دوري بواسطة هيئة محلفين كبرى في كل كونتية county (إقليم)، وكان من المتوقع أن تأخذ المحاكم بتوصياتهم. وفي أثناء نظر القضايا
كان المحلفون يسمعون الأدلة والمرافعات المختلفة ويقوم القاضي بتلخيص كل ذلك، وبعد ذلك ينسحبون إلى غرفة مجاورة ويُمنع عنهم الطعام والشراب والتدفئة والشموع (إلاّ بإذن القاضي) لتجنب أي تأخير غير مُبرَّر أو إسراف، إلى أن يصدروا حكمهم بالإجماع.
2/ 3 - السلطة التنفيذية The Executive
من الناحية النظرية فإن الملك هو المخوَّل بالسلطة التنفيذية، ومن الناحية الفعلية فإنها مسؤولية مجلس وزرائه الذين لابد أن يكونوا أعضاء في البرلمان ومسئولين أمامه عن أعمالهم ومعتمدين عليه في إقرار ميزانيات وزاراتهم. ومن الناحية النظرية فإن الملك هو الذي يُعيّن هؤلاء الوزراء، ومن الناحية العملية كان من المتوقع أن يختار الملك رئيس الوزراء زعيم الحزب الفائز في آخر انتخابات، ويقوم رئيس الوزراء هذا مع البارزين من حزبه بتعيين الوزراء. وكان وليم بت Pitt في ولايته Administration الأولى (1783 - 1801) قد قام بدور مزدوج كمستشار لوزارة المالية ومسئول أول first Lord للخزانة وكانت هاتان المهمتان اللتان يقوم بهما مرهونتين بموافقة البرلمان فكل ما يتعلق بجمع الأموال المكونة للدخل الوطني وإنفاقها مرهونة بموافقة البرلمان. وفي مجلس الوزراء - والحكومة بشكل عام - كانت السلطة المالية هي الأداة الرئيسية للنظام والحكم.
ولم يقر الملك جورج الثالث George III بتبعيِّته للبرلمان فمنذ توليه العرش في سنة 1760 وهو في الثانية والعشرين من عمره عمل على تقوية الهيمنة الملكية، لكن الانهيار المكلِّف لقيادته في حرب الاستقلال الأمريكية وتعرضه بشكل متكرر لنوبات خلل عقلي (1765، 1788، 1804، 1810 - 1820) أوهن جسده وروحه وإرادته وبعد سنة 1788 سمح لوليم بت بالحكم بشروط ثلاثة:
"عدم تجريم الرّق وعدم السماح للكاثوليك البريطانيين بالتصويت (حق الانتخاب) وعدم إبرام سلام مع فرنسا حتى يعود لويس الثامن عشر إلى عرشه الذي هو حق له".
وكان جورج الثالث رجلاً طيباً ولكنه كان قصير النظر ضيق الأفق من الناحية الدينية. وقد وصفه نابليون في أثناء أسره وفي معرض تذكره للأحداث الماضية بأنه - أي جورج
الثالث "أكثر الناس أمانة في بلاده" وكان يمتاز عن أسلافه الهانوفريين Hanoverian بالتزامه بكل الوصايا العشر ما عدا الوصية الخامسة وقصّر كثيراً في الوصية اللاوية Levitican أحب جارك كحبّك لنفسك لكنه أحب الشعب الإنجليزي. ورغم أخطائه فقد أحبه شعبه بدوره (بادله حباً بحب) بسبب ما حل به من نكبات - لأنه أحب دينه الذي ورثه عن أسلافه وأحب زوجته وبناته ولأنه أعطى الأمة مثلاً مُلهِماً لحياة البساطة والإخلاص. لقد تقطَّعت قلوب شعبه من أجله حباً له وحدباً عليه عندما لوَّث معظم أبنائه ألقابهم الأميرية بعدم انضباطهم عسكرياً وانعدام وعيهم وممارستهم المقامرة وغلوّهم الطائش الذي أدى إلى انهيارهم جسدياً وتدهور شخصياتهم، رغم أن أباهم كان رجلاً طيباً. لقد وصفهم ولينجتون Wellington:" إنهم أكبر لعنة يمكن تصورها تحيط برقبة حكومة".
لقد كان أكبرهم - جورج أمير ويلز مزعجاً بشكل لا يمكن تصوّره. لقد كان جذاباً وسيماً وكان على وعي بذلك. وكان قد تلقى قدراً طيباً من التعليم ويستطيع التحدث بالفرنسية والألمانية والإيطالية بطلاقة وكان يُحسن الغناء ويعزف على الفيولونشللو Violoncello (آلة موسيقية إيطالية) ويكتب الشعر كما كان مُلماً بالأدب الإنجليزي المعاصر، وكان يُعد من بين أصدقائه الحميمين ريتشارد شريدان Richard Sheridan وتوماس مور Thomas Moore كما كان راعياً ذكياً للفنون وأقام في دار كارلتون Carlton House مؤسسة أميرية جعل فيها أثاثاً أنيقاً من أموال الأمة واشتغل بالسياسة ونافس تشارلز جيمس فوكس في اهتمامه الشديد بالسياسة، وأصاب والده بالذعر عندما أصبح معبوداً لحزب الهويجز (الأحرار) وكان أيضاً يحب الشباب المتأنقين الذين أنفقوا ثرواتهم على الملابس الأنيقة والنساء والخيول والكلاب. حذا حذو هؤلاء البريتون Britons في إقامة مباريات تكسبية (رهانات) ولم يكن له نظير في إنفاقه وديونه. وخصَّص البرلمان مرات عديدة مئة ألف جنيه لسداد ديونه.
وفي السابعة عشرة من عمره اعترف أنه "مغرم بالنساء والنبيذ أكثر من أي شيء آخر" وكان من بين خليلاته الأوليات - ماري روبنسون التي فتنته بقيامها بدور بيرديتا Perdita في حكاية شتاء A Winter's Tale، وظل ينفق عليها ببذخ طوال ثلاث سنوات. ثم كوَّن علاقة أكثر جدية مع ماريا آن فيتزهيربرت Maria Anne Fitzherbert التي ترمَّلت مرّتين
(مات عنها زوجها فتزوجت غيره ومات بدوره) وكانت كاثوليكية وأكبر منه بست سنوات، وكانت رقيقة لطيفة متحررة وقد رفضت أن تكون خليلته لكنها لم تمانع في الزواج منه.
وكان قانون وراثة العرش الذي كان قد أعطى عرش إنجلترا لأسرة هانوفر قد استثنى من حق المُلك كل من يتزوج كاثوليكية أو تتزوج كاثوليكياً، كما منع قانون 1772 أي فرد في الأسرة المالكة دون الخامسة والعشرين من الزواج دون موافقة الحاكم. ومع هذا فقد تزوج الأمير من السيدة ماريا فيتزهيربرت (1785) بعد أن دفع لراعي أبرشية شاب خمسمائة جنيه ليقوم بإجراءات (طقوس) الزواج غير الشرعي، مما أدى إلى احتفاظه بحق وراثة العرش إذ ادعى هذا الحق في سنة 1788 عندما انتابت والده نوبة خَبَل فراح يترقب موت والده بصبر نافد، وقلما كان الابن وأبوه على وفاق.
وعلى كل حال فقد كان هناك اتفاق أنه إذا دفع الملك (عملياً البرلمان) ديون الأمير (110،000 جنيه إسترليني) قام الوريث الظاهر بترك زوجته الأدنى منه منزلة وتزوج قريبة والده الأميرة كارولين البرونسفيكيه of Brunswick. لقد بدت في عينيه دميمة غير مشجعّة، وبدا في عينيها سميناً مقززا، لكنهما تزوجا في 8 أبريل 1795، وقد أكدت كارولين فيما بعد أنه قضى ليلة العُرس (الدُّخْلة) وقد أضاع الشراب همّته. وعلى أية حال فقد أنجبت له بنتاً في 7 يناير 1796 (الأميرة شارلوت Charlotte) وسرعان ما فارقها وعاد لفترة إلى زوجته السابقة السيدة فيتزهيربرت التي كانت فيما يبدو المرأة الوحيدة التي أحبها بعمق. (عندما مات وجدوا صورتها معلقة على صدره).
وفي نوفمبر سنة 1810 أصبح جورج الثالث مجنوناً تماماً بعد إنكساره أمام المعارضة البرلمانية، وخجلاً من تصرفات ابنه وحزناً على وفاة ابنته أميليا Amelia. وطوال تسع سنين بعد ذلك أصبح ملك إنجلترا مقيداً كمجنون يرتدي سترة المجانين وأشفق عليه شعبه وأحبه، بينما تولى الوصي على العرش (الابن السابق ذكره) مكانه مدّعياً السلطة الملكية والأبهة، وكان وقتها قد أصبح سميناً محطماً رقيقاً ديّوثاً Cuckolded مكروهاً محتقراً.
3 - الدين
كانت الحكومة وأهل الفكر في إنجلترا قد وصلوا إلى اتفاق شرف (اتفاق يسري بمراعاة الشرف لا بقوة القانون) بخصوص الدين. فالهجوم الذي شنه الربوبيون deistic على العقيدة التقليدية orthodox لابد أن تخف وطأته مادام المتشككون في الدين (المسيحي) ليس لديهم ما يحل محل الدين لتحقيق السلام بين الناس وضبط سلوك الأفراد. لقد كان وليم جودوين William Godwin، وروبرت أوين Owen، وجيرمي بنثام وجيمس مل James Mill أمثلة حية لعدم الإيمان (بالمسيحية) لكنهم لم يقوموا بدعاية ضد الدين. وكان توم بين Paine استثناء منهم. وكانت الأرستقراطية الإنجليزية - التي وجدت في فولتير الشاب ما يجذبها - تراعي الآن حرمة السبت بوضوح.
لقد لاحظ مؤرخ حوليّ في سنة 1798 دهشة الطبقات الدنيا في كل أنحاء إنجلترا لرؤيتها الطرق إلى الكنائس غاصّة بالعربات التي تجرها الخيول في أيام الآحاد. وفي سنة 1838 لاحظ جون ستيوارت مِلْ:
"يوجد في العقل الإنجليزي سواء من ناحية التفكير والتأمل أو الممارسة بُعد صحّي على درجة عالية من البُعد عن التطرّف
…
لا تزعج الهدوء أو بتعبير آخر لا تغير ما هو مستقر Quieta non movere وكانت هذه هي العقيدة الأثيرة في تلك الأيام
…
وعلى هذا، ففي حالة عدم إثارة ضوضاء كثيرة حول الدين أو عدم تناوله بجدية شديدة فلم يكن لدى الناس حتى الفلاسفة مانع من تأييد الكنيسة باعتبارها حصناً ضد التعصّب ومسكناً للروح الدينية لمنعها من إفساد هارمونية harmony المجتمع (اتساقه) أو تعكير صَفْو الدولة. ووجد الإكيروس clergy أنهم حققوا صفقة طيبة بهذا الاتفاق والتزموا بشروطه بإخلاص.
لقد كانت الكنيسة من الناحية الرسمية هي الكنيسة المتحدة لإنجلترا وأيرلندا. ورغم أنها قبلت تسعاً وثلاثين مادة من العقيدة الكالفنيّة إلاّ أنها احتفظت بكثير من ملامح الطقوس الكاثوليكية. لقد كانت تضم رؤساء أساقفة وأساقفة لكنهم عادة ما كانوا يتزوجون، وكان تعيينهم يتم عن طريق التاج. وبشكل عام كان كبار ملاك الأراضي المحليون
هم الذين يختارون الكهنة والقسس البروتستنت، وكان هؤلاء الكهنة والقسس يساعدونهم في حفظ النظام الاجتماعي. واعترف الإكليروس الإنجليكان بالملك باعتباره رأس كنيستهم وباعتباره حاكماً، واعتمدوا على الدولة في جمع العشور للكنيسة من أسر إنجلترا.
وقد وصف بورك Burke بريطانيا بأنها: "كومنولث مسيحي كانت فيه الكنيسة والدولة كياناً واحداً بل إنهما الشيء نفسه". إن كلاً منهما جزء مختلف عن الآخر لكنّه مكمّل له ووصف جون ولسون كروكر John Wilson Croker كنيسة وستمنستر Westminster Abbey بأنها جزء من الكومنولث البريطاني. لقد كانت العلاقة بينهما تشبه العلاقة التي بين الكنيسة الكاثوليكية وحكومة فرنسا في أثناء حكم لويس الرابع عشر مع فارق وهو أن إنجلترا لم تشهد - غالباً - إضطهادات أو مضايقات بسبب تهمة الهرطقة (الإلحاد).
وسُمِح للفِرَق (أصحاب المذاهب) المنشقة - الميثوديين Methodists (المنهجيين) والمشيخيِّين Presbyterians والمعمدانيين Baptists والإندبندنت Independents (المستقلّين) والابرشيين Congregationalists والكويكرز Quakers والموحّدين (المناهضين للتثليث) Unitarians - بالدعوة لعقائدهم بشرط واحد: أن يُعلنوا أنهم مسيحيون وكان هناك بعض من هؤلاء المنشقّين في مجلس اللوردات. وتحلّق عدد كبير من المستمعين حول المبشِّرين (الدعاة) الميثوديِّين لما عُرفوا به من بلاغة رائعة. ولجأ عمال المدن المعارضون بعد أن يئسوا من تحقيق آمالهم في الدنيا إلى عقيدتهم البسيطة (عقيدة الطفولة) وبهذه العقيدة البسيطة قاوموا كل الجهود لتحريضهم على الثورة عندما تسلّلت الأفكار الثورية عَبْر القنال الإنجليزي من فرنسا. وفي سنة 1792 طلب القادة الدينيون لجماعة الويزليان الميثوديّين Wesleyan Methodism من كل عضو من أعضائهم أن يقسم يمين الولاء والطاعة للملك.
وفي نطاق الكنيسة الرسمية نفسها وجدنا تأثير الميثودية الحركة الإنجيلية Evangelical؛ كثير من رجال الدين صغار السن وكذلك كثير من جمهور المؤمنين (بالمذهب) قرروا إحياء
العقيدة الإنجليكانية بتناول الإنجيل بحماسة وعاطفة (وضعه في القلب)، وتكريس أنفسهم لحياة البساطة والتقوى والإحسان وإصلاح الكنيسة. وكان أحدهم هو وليم ويلبرفورس، William Wilberforce هو الذي قاد معركة الإنجليز ضد الرق، وهناك أيضاً هانا مور Hannah More التي نشرت حماساً مسيحياً جديداً بمحاضراتها وكتبها ومدارس الأحد التي أسستها.
وظلت جماعتان دينيتان خارج دائرة التسامح الكامل: الكاثوليك واليهود. لم يكن البروتستنت الإنجليز قد نسوا جاي فوكس Guy Fawkes ومحاولته نسف البرلمان (1605) ولا مغازلات ملوك ستيوارت Stuart - تشارلز الأول وتشارلز الثاني وجيمس الثاني - للقوى الكاثوليكية والأفكار الكاثوليكية والخليلات الكاثوليكيات، ومال الإنجليز إلى النظر للكاثوليكي كشخص يُوالي حاكما أجنبياً (كان الباباوات يمثلون سلطة زمنية كحكام للولايات الباباوية)، وكان الإنجليز يندهشون كيف سيتصرف الكاثوليكي في حالة حدوث صراع بين الحَبْر الروحاني (البابا) والملك البريطاني.
وكان في إنجلترا في سنة 1800 نحو ستين ألف كاثوليكي. كان معظمهم من أصول أيرلندية لكن بعضهم كان ينحدر من سلالة كاثوليكية متوطنة قبل حركة الإصلاح الكاثوليكية في بريطانيا Pre. Reformation British Catholics. وفي الفترة الزمنية التي نتناولها كانت القوانين المناهضة لهم قد خفَّت وطأتها، فثمة مراسيم مختلفة صدرت فيما بين 1774 و 1793 أعادت لهم حق تملّك الأراضي وحق العمل في مجال الخدمة المدنية وحق الدعوة لعقيدتهم من خلال مدارسهم الخاصة بهم، وحقهم - على نحو خاص في ترديد قسم الولاء للملك والحكومة دون التبرؤ من البابا أو جحده. إلاّ أنه لم يكن لهم - على أية حال - حق التصويت، ولم يكن لهم حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.
وفي نحو نهاية القرن الثامن عشر بدت حركة إعطاء الكاثوليك كل حقوق المواطنة على وشك النجاح، وأيدها بروتستنت بارزون - ويزلي Wesley، وكاننج Canning، وويلبرفورس، ولورد جراي Grey. وقد أدّت الثورة الفرنسيّة إلى موقف مضاد لفولتير في إنجلترا بل وموقف مضاد لحركة التنوير، كما أدّت إلى شيء من التعاطف مع الدين (المسيحي) الذي تعارضه الحكومة الثورية (الفرنسية)، وبعد سنة 1792 تلَّقى المهاجرون الفرنسيون emigres (الذين تركوا فرنسا إثر
أحداث الثورة الفرنسية) استقبالاً حاراً ومساعدات مالية من الدولة البريطانية وكان بينهم رجال دين كاثوليك. وسمحت الدولة البريطانية لهؤلاء المهاجرين بإقامة أديرة، وحلقات بحثية. إن إنجلترا تبدو الآن في موقف سخيف (منافٍ للعقل) فقد كان الاتجاه أن الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تكون حليفاً ذا قيمة في حربها ضد فرنسا.
وفي سنة 1800 قدَّم بِتْ Pitt مشروع قانون لمنح كاثوليك إنجلترا حقوقهم كاملة. وعارض التوري (المحافظون) والكنائس والإنجليكانية العليا هذا القانون وأيدهم جورج الثالث بعزم، فسحب بِتْ مشروع قانونه واستقال، وكان على تحقيق الكاثوليك للمساواة الكاملة في إنجلترا أن ينتظر حتى سنة 1829.
أما مساواة اليهود في إنجلترا فتأخرت حتى سنة 1858. كان عددهم في سنة 1800 نحو 26،000؛ معظمهم في لندن وكان بعضهم في المدن الكبرى ولم يكن منهم - تقريباً - أحد في الريف. وقد أوقفت الحربُ الطويلة مزيداً من عمليات التهجير وسمحت لليهود بمواءمة أنفسهم مع أساليب الحياة البريطانية وإزالة بعض الحواجز العرقية. وظل القانون الإنجليزي يحول بينهم وبين حق الانتخاب وتولي المناصب الكبرى فذلك كان يتطلب قَسَماً بالإخلاص للعقيدة المسيحية وإقامة الشعائر على وفق لطقوس الكنيسة الرسمية في إنجلترا.
وفيما عدا ذلك فقد كان اليهود أحراراً ولهم حق العبادة في منازلهم ومعابدهم دون خفاء، وقبِل عدد من اليهود البارزين التحوّل إلى المسيحية - صامويل (صموئيل) جِدون Gideon رجل المال، وديفيد ريكاردو Ricardo الاقتصادي وإيزاك Isaac (إسحاق) المؤلف. وهذا الأخير نشر فيما بين 1791 و 1834 "نوادر الأدب Curiosities of Literature" دون أن يسجل اسمه عليه (تركهُ مجهول المؤلف)، وقد كان يكتبه بشكل عَرَضي أو مصادفة (أي كلما أتيحت له الظروف)، ولازال هذا الكتاب ممتعاً لأصحاب العقول المتعلِّمة التي تأنس للمتعة والراحة.
إن خبرات اليهود الطويلة في أعمال البنوك وارتباطاتهم العائلية والأسرية عبر الحدود مكنتهم من مساعدة الحكومة البريطانية في حرب السنوات السبع وفي نزاعها الطويل مع فرنسا. وساعد الأخوان أبراهام (إبراهيم) جولدسميد، وبنيامين جولدسميد Goldsmid، بِتْ، في كسر طوق السماسرة المبتزين الذين كانوا قد احتكروا التعاملات مع الخزانة. وفي سنة 1810
أسس ناثان روتشيلد Nathan Rothschild (1777 - 1836) في لندن فرعاً للشركة التي كان أبوه - مِيَر أمشيل روتشيلد Meyer Amschel Rothschild - قد أسسها في فرانكفورت - آم - مين Frankfurt - am - Main وبدا ناثان أكثر الماليين عبقرية - تلك العبقرية التي مازت الأسرة خلال عدة قرون في عدة دول. وأصبح هو الوسيط الأثير للحكومة البريطانية في علاقاتها المالية مع القوى الأجنبية، وكان هو - أو وكلاؤه - الذي نقل من إنجلترا إلى النمسا وبروسيا المساعدات التي مكنتهما من حرب نابليون، وقام بدور رائد في التوسع التجاري والتطور الصناعي في إنجلترا بعد سنة 1815.
4 - التعليم
بدت إنجلترا وكأنها اعتزمت أن تعرض قضية عدم إرسال أطفالها إلى المدارس، فكيف تستمر الحكومة دون الالتزام بهذا الواجب؟ ولم يكن الأرستقراطيون مهتمين بالتعليم إلاّ بالنسبة إلى أبنائهم. لقد بدا من الأفضل بالنسبة إلى الوقت الراهن (في ذلك الوقت) ألا يستطيع الفلاحون والبروليتاريا - بل وربما البورجوازيون - أن يقرءوا خاصة وأن جودوين Godwin، وأوين Owen وكوبت Cobbett وبين Paine وكولردج Coleridge وشيلي Shelley كانوا يطبعون في هذا الوقت هذا الهراء عن الأرستقراطية الاستكشافية (التمهيدية) والكمونات communes الزراعية ورِقّ المصانع وضرورة الإلحاد. لقد كتب جودوين نحو سنة 1793:
"المصممون على الدفاع عن النظام القديم ليس لديهم بصيرة نافذة. إنهم يعارضون بخسّة توصيل المعرفة للناس باعتباره بدعة تدعو إلى الحذر. ففي ملاحظتهم المشهورة إن الخادم الذي يعرف القراءة والكتابة لا يصبح بعد تعلّمهما هو الأداة التي يطلبونها نجد الجنين أو البذرة التي يسهل علينا من خلالها شرح كل فلسفة المجتمع الأوروبي".
بالإضافة إلى أن الطبقات الدنيا فيما ترى الطبقات الأعلى غير قادرة على الحكم بحذر وحكمة على الأفكار التي تُطرح عليهم في المحاضرات أو الصحف أو الكتب، وقد تكون أفكاراً مثيرة تخرّج من المدارس على مستوى الأمة أفواجاً من غير الأسوياء السذّج الحالمين الذين قد يحاولون تحطيم السلطات (القوى) والامتيازات الطبقية هي الوحيدة التي يمكنها حفظ النظام الاجتماعي والحضارة.
"وكان
أصحاب الصناعات قد اعتراهم الفزع من منافسيهم فكانوا يتطلعون إلى العمالة الرخيصة ولم يروا جدوى من تعليم الأطفال العاملين حقوق الإنسان وفخامة اليوتوبيا وبهائها" (اليوتوبيا هي المدينة المثالية).
لقد قال واحد من المحافظين غير المعروفين، اقتبس منه جودوين قوله: "إن هذه المبادئ سوف تثور بلا شك في عقول السّوقة محدثة هياجاً .. أو محاولة وضعها موضع التنفيذ (أي هذه المبادئ) مما سيؤدي إلى كل أنواع الكوارث
…
فالمعرفة والذوق وتطوير الفكر واكتشافات الحكماء وجمال الشعر والفن كل ذلك سيتم سحقه تحت أقدام البرابرة".
وفي سنة 1806 قدَّر باتريك كولكهون Colquhoun القاضي البوليسي في لندن - أن عدد الأطفال الذين لم يتلقوا أي قدر من التعليم في إنجلترا وويلز بلغ مليونين، وفي سنة 1810 ذكر إسكندر مري Murray عالم فقه اللغة أن ثلاثة أرباع العاملين بالزراعة أميون، وفي سنة 1819 ذكرت الإحصاءات الرسمية أن 674،883 طفلاً ملحقون بالمدارس في إنجلترا وويلز - 15% من السكان. وعندما اقترح بِت Pitt في سنة 1796 على الحكومة إنشاء مدارس للتعليم الصناعي، لم يُقدَّم مشروعه للتصويت، وعندما قدَّم صمويل (صموئيل) هوايتبريد Whitbread في سنة 1806 مشروع قانون بإقامة مدرسة ابتدائية في كل دائرة (كما كان موجوداً بالفعل في اسكتلندا) أقرّه مجلس العموم، لكن مجلس اللوردات رفضه على أساس أن هذا المشروع لا يجعل التعليم قائماً على أُسس دينية.
وكانت الجماعات الدينية تفرض رسوما على نفسها لإتاحة بعض التعليم لأطفالها، وواظب المجتمع على إقامة مدارس خيرية لتقديم المعارف المتعلقة بالدين المسيحي، لكن عدد التلاميذ في هذه المدارس لم يكن يتجاوز 150،000. وكانت مدارس هانا مور Hannah More تكاد تكون مقتصرة على التعليم الديني. وبناء على قانون الفقراء Poor Law تم إنشاء المدارس الصناعية لتستوعب 21،600 طفل لتأهيلهم للعمل، وكانت هناك إدارة منوط بها تنفيذ هذا القانون يتبعها 194،914 طفلاً. وفي المدارس الدينية لم يكن الأطفال يتعلمون إلاّ شيئاً واحداً بإتقان ألا وهو الكتاب المسيحي المقدس. لقد أصبح عقيدتهم وأدبهم وحكومتهم ومُعيناً له وزنه وقيمته يُعينهم في حياة لا تخلو من
سوء حظ وظلم وارتباك.
وفي سنة 1797 أسس الدكتور أندرو بل Bell نظام العرِّيفين أو المعيدين لمواجهة نقص المدرسين، وذلك بالاستعانة بالطلاب الأكابر سناً كمدرسين مساعدين في المدارس الابتدائية المرتبطة بنظم العبادة الإنجليكانية. وبعد ذلك بعام قدَّم جوزيف لانكاستر Lancaster مشروعاً شبيهاً على أسس قبلها كل المسيحيين ورفض رجال الكنيسة العمل من خلال هذه الخطة غير الطائفية (المفهوم غير الملتزم بعقائد فرقة مسيحية بعينها) فقد كان لانكاستر متهما بأنه ربوي Deist (مؤمن بالله مع عدم اعترافه بأديان منزّلة) مُرتد (عن دينه) وأداة للشيطان وفي سنة 1810 أسس جيمس مل، وولورد بروهام Brougham وفرانسيس بلاس Place، وصمويل (صموئيل) روجرز المؤسسة الملكية اللانكسترية لنشر المدارس غير الطائفية. وأسس الأساقفة الإنجليكان جمعية تعليم الفقراء على أسس المبادئ الدينية للكنيسة الرسمية وذلك خوفاً من انتشار التعليم غير الطائفي المشار إليه آنفاً. ولم يُؤسس في إنجلترا نظام وطني للمدارس الابتدائية على أسس غير طائفية إلاّ في سنة 1870.
وكان التعليم العالي متاحاً أيضاً لمن يقدر على تكاليفه، وذلك من خلال الأساتذة الذين يعلّمون في المنازل، ومن خلال المدارس العامة والمحاضرين وجامعتين. فالمدارس العامة - في إتون Eton وهارو Harrow ورجبي Rugby ووينشستر Winchester ووستمنستر، وتشارترهوس Charterhouse، كانت مفتوحة مقابل مصروفات لأولاد النبلاء والطبقات العليا وكان يُسمح بها في بعض المناسبات للبورجوازية الثرية. وكانت برامج الدراسة في هذه المدارس كلاسيكية في الأساس - لغة وأدب الإغريق القدماء والرومان، وفي بعض الأحيان كان يتم إضافة بعض العلوم Sciences لكن أهالي الطلبة كانوا يريدون تدريب أولادهم على فن الحكم والصُّحبة الرفيعة، وكانوا مقتنعين أن الشاب إذا تعلّم أدب الإغريق والرومان وتاريخهما وفن الخطابة كان ذلك أجدى لتحقيق الغرض من تعلم الفيزياء والكيمياء والشعر الإنجليزي. وعلى أية حال فإن هذه المدارس كانت تقدم ميلتون Milton الذي كان يكتب اللاتينية بكفاءة تقارب كفاءته في كتابة الإنجليزية - كمؤلف لا يقل كفاءة عن الرومان.
وكان النظام في المدارس الثانوية (الداخلية) الأهلية Public Schools قائماً على الجلد
والانتقاد القاسي flogging. والتكدير أو إلزام التلاميذ الصغار على خدمة الطلاب الآخرين ممّن هم أكبر سناً. وكان نظّار المدارس يجلدون الذين يرتكبون مخالفات كبيرة، أما إجبار التلاميذ الصغار على خدمة من هم أكبر فتعني أن يقوم التلاميذ في الصفوف الدنيا بأداء خدمات صغيرة لطلاب الصفوف الأعلى: ينقلون رسائلهم، وينظفون أحذيتهم ويعدّون لهم الشاي، ويحملون كُراتهم ومضارب الكريكت cricket bats الخاصة بهم، ويتحمّلون تنمّرهم صابرين، وكانت النظرية الكامنة وراء هذا الأسلوب هي أن على المرء أن يتعلّم كيف يُطيع حتى يكون صالحاً لإصدار الأوامر.
وكانت النظرية السائدة في الجيش والبحرية أيضاً قائمة على الجَلْد والانتقاد الشديد وقيام من هم أدنى رُتبة بخدمة من هُم أعلى رتبة وتنفيذ الأوامر دون اعتراض الطاعة الصامتة (وعلى هذا فإن الانتصار الذي تحقَّق في الطرف الأغر وفي واترلو لم يكن نتيجة الجهود في ميدان القتال فحسب وإنما أيضاً نتيجة ما كان يجري في قاعات وفصول المدارس الثانوية الأهلية)، وإذا ما وصل طالب الصفوف الدنيا الذي كان يخدم طالب الصفوف العليا أصبح مستعداً للدفاع عن هذا النظام. وكان هناك بعض الديمقراطية في حضّانات الأرستقراطية هذه (أو بتعبير آخر في معامل تفريخ متعلّمي الطبقة الأرستقراطية: لقد كان كل الخَدَم fags (الطلاب الذين يخدمون من هم في الصفوف الأعلى) متساوين بصرف النظر عن الثروة والنّسب، وكان كل المتخرّجين (إذا تحاشوا التجارة) يعتبرون أنفسهم سواء، ويعتبرون غيرهم أدنى منهم درجة مهما كانت مواهبهم.
ومن مثل هذه المدارس التي يتخرّج فيها الطالب وهو عادة في الثامنة عشرة من عمره، يلتحق بأكسفورد أو كمبردج. وكانت هاتان الجامعتان قد انحدرتا عن وضعهما الممتاز في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، ولم يكن جيبون Gibbon هو وحده الذي تأسف على الأيام التي قضاها في أكسفورد باعتبارها أياماً ضاعت في دراسات غير مجدية (رغم أنه استفاد كثيراً من دراسته للغتين؛ اللاتينية واليونانية) وتنافس بين الطلاب في المقامرة وشرب الخمر ومعاشرة البغايا. وكانت موافقة الكنيسة الرسمية شرطا للتقدم لإحدى هاتين الجامعتين. وكان المعلمون أو العمداء يقومون بالتدريس، وكان كل واحد يأخذ على عاتقه
طالباً أو أكثر وينقل إليهم معارفه وخبراته العلمية بأسلوب المحاضرة أو التوجيه والإرشاد، وهنا أيضا كانت الدراسات الكلاسيكية تسود المنهج الدراسي، لكن كان هناك أيضاً مكان للرياضيات والقانون والفلسفة والتاريخ الحديث، وكانت هناك أيضاً محاضرات في الفلك والفيزياء والنبات والكيمياء لكنها كانت قليلة.
وكانت جامعة أكسفورد من التوري (الاتجاه السائد فيها محافظ) أما كامبردج فكانت هويجز (الأفكار السائدة فيها كأفكار حزب الأحرار أو الهويجز). وفي كامبردج لم يكن يحصل على الدرجة العلمية إلا التابعون لكنيسة إنجلترا، رغم أن القيود المفروضة كشرط للالتحاق بهذه الجامعة وعددها تسعة وثلاثون قد أُزيلت. وكانت كامبردج هي التي سنّت الحرب على الرق منذ سنة 1785. ووجد العلم Science في كامبردج معلّمين أكثر وطلبة أكثر مما وجد في أكسفورد، وكانت كلتا الجامعتين متخلِّفة عن جامعات ألمانيا وفرنسا.
وكانت أكسفورد تدرِّس لطلبتها الفلسفة من كتب أرسطو، وأضافت كامبردج كتابات لوك Locke وهارتلي Hartley وهيوم Hume، وكانت كامبردج تخرِّج باحثين ذوي شهرة عالمية، أما أكسفورد فكانت أكثر اهتماماً بتخريج أفراد على قدر من الفصاحة، وملمّين بالإستراتيجية في البرلمان كي يصبحوا - بعد تجارب وخبرات، ومن خلال ارتباطات صحيحة - أصحاب أدوار في حكومة بريطانيا.
5 - المبادئ الأخلاقية
5/ 1 - الرجل والمرأة
أي نوع من الأخلاق يمكن أن ينبثق عن هذه الحكومة الطبقية، وهذا الاقتصاد المتغير، وهذه الوحدة بين الدولة والكنيسة، وهذا التعليم المحدود انتشاره، والمحدود في محتواه، وهذا التراث الوطني الذي كان في وقت من الأوقات قويا مؤثراً بسبب العُزلة التي تحدّتها الآن الاتصالات بالعالم الخارجي والثورة والحرب؟
ليس الرجال والنساء من الناحية الطبيعية naturally ملتزمين بالمبادئ الأخلاقية لأن مواهبهم الاجتماعية التي تُؤثر التعاون والعمل المشترك ليست في قوّة بواعثهم الفردية
ورغبتهم في تحقيق مصالحهم الذاتية، ومن هنا كان لابد من تقوية الباعث الاجتماعي وإضعاف الباعث الفردي بسن القوانين المعبّرة عن قوة الجماعة ورغبتها، وبالمواثيق الأخلاقية التي يتم بثّ محتواها من خلال الأسرة والكنيسة والمدرسة والرأي العام والعادات وتحديد المحرمات (الطابو أو التابو taboos) .
من الطبيعي إذن أن تكثر الجرائم في إنجلترا في الفترة من 1789 إلى 1815 وأن تكثر حالات عدم الأمانة، وأن يكون هناك ما لا حصر له من العلاقات الجنسية قبل الزواج، وإذا كان لنا أن نصدّق هوجارث Hogarth وبوزويل Boswell فقد كانت بيوت الدعارة والعاهرات تملأ لندن والمدن الصناعية. وكان أفراد الأرستقراطية يجدون البغايا أقل تكلفة من الخليلات مدبّرات شؤون المنزل، فاللورد إجريمونت Egremont الذي كان يفيض بكرمه على تيرنر Turner وغيره من الفنانين، يقال إنه استمتع بسلسلة من الخليلات أنجب منهن أطفالاً كثيرين .. وعلى أية حال فد زادت الشائعات أخباراً عن علاقة أصدقائه الدافئة به ويمكننا أن نحكم على أخلاق الطبقات العليا من خلال محاكاتهم لأمير ويلز واستئناسهم بأخلاقه، وكان هذا الأمير قد نشأ وسط أكثر الأرستقراطيين فجوراً وانحلالا. لقد كانوا ثُلَّة لم تشهد إنجلترا مثيلاً في فجورها وانحلالها منذ العصور الوسطى.
وربما كان الفلاحون يحترمون القيم الأخلاقية القديمة، لأن تنظيم الأسرة بما يخدم أغراض الزراعة يستلزم سلطة أبوية قوية، وقلما يسمح للشباب بالإفلات من سلطة من هم أكبر سنا. وعلى أية حال، فقد كانت البروليتاريا النامية قد تحررت من مثل هذه الهيمنة مقلّدة مستغليها في حدود ما تسمح به دخولهم (أي دخول البروليتاريا)، وقد كانت الأجور المتدنية في المصانع الصغيرة غير المنضبطة تمثل دافعاً قوياً للفسق بالنسبة إلى النسوة العاملات في المصانع ليبعن أجسادهن بثمن بخس ليُضفنه (أي هذا الثمن) إلى أجورهن المتدنية.
وحتى سنة 1929 كان العمر القانوني الذي يُسمح فيه بالزواج هو 14 سنة للذكور و 12 للإناث. وكان الزواج العادي ارتزاقا أو مصدر تعيّش وكسب. فالرجل (الزوج) كان مرغوباً بقدر ما لديه من مال فعلي أو متوقع، وكذلك كانت المرأة (الزوجة) مرغوب فيها
بقدر مالها الموجود فعلاً أو المتوقع الحصول عليه، وكانت الأمهات يخططن ليل نهار (كما في روايات جين أوستن Austen) لتزويج بناتهن بُغية الحصول على المال. ومع أن الأعمال الأدبية تُعلي من شأن الزواج عن حب، إلا أن مثل هذا الزواج كان استثناء لا قاعدة. وكان الزواج على وفق للقانون العام مُعترفاً به رغم عدم عقده بواسطة رجال الدين وكان عدد أفراد الأسرة كبيراً لأن الأطفال كانوا يُعينون الأسرة من الناحية الاقتصادية، وكان عددهم (الأطفال) في المصانع أقل بقليل من عددهم في المزارع. وكان منع الحمل يتم بطرق بدائية.
وكان عدد السكان يزداد لكنها كانت زيادة بطيئة بسبب وفيات الأطفال والشيوخ، وبسبب نقص الغذاء ونقص الرعاية الطبية وعدم مراعاة قواعد الصحة العامة. وانتشر الزنا، وكان يمكن أن يطلب الزوج الطلاق، وكذلك المرأة (بعد سنة 1801)، لكن هذا لم يكن ليتم دون إذن من البرلمان، وكان هذا يكلِّف كثيراً جداً، لدرجة أنه لم يحصل على الطلاق إلا 317 شخص قبل أن يُصبغ القانون بطابع ليبرالي في سنة 1859. وحتى سنة 1859 كانت الممتلكات المنقولة للزوجة تصبح مُلكاً للزوج عند الزواج، بالإضافة إلى أنه كان يحصل تلقائياً على كل مالٍ يأتيها بعد الزواج، لكنها كانت تحتفظ بملكية الأرض الخاصة بها أما الريع فلزوجها وإن ماتت قبله ورث كل ممتلكاتها.
وسمعنا عن نسوة ثريّات لكنهن كن قليلات العدد. وجرى العُرف أن يقوم الأب الذي ليس له ولد (ذكر) بوقف ثروته على أحد أقربائه الذكور، تاركاً بناته دون مال يرثنه وإنما يعشن على إعانات الأصدقاء ومن يتلطّف عليهن. إنه عالم الرجال.
5/ 2 - ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft
لقد تعوّد معظم النساء البريطانيات على هذا الجوْر بحكم ما اعتدْنَ عليه، لكن الرياح الآن تهب من فرنسا الثورية، فدفعت بعض اللائي يُعانين إلى الاحتجاج، وقد أحسَّت ماري ولستونكرافت بهذه الرياح فرفعت عقيرتها مطالبة بتحرير المرأة، وكانت مطالبتها من أقوى المطالبات التي شاهدتها حركة تحرير المرأة.
وكان أبوها من أهل لندن وقرر أن يجرب العمل في مجال الزراعة ففشل وفقد ثروته
وزوجته فعكف على الشراب وتخلى عن بناته الثلاث فتركهن يدبّرن أمور معيشتهن بأنفسهن، فافتتحن مدرسة فامتدحهن صامويل (صموئيل) جونسون لكنهم أفلسن وأصبحت ماري مربّية أطفال لكنها طُرِدت من عملها بعد عام لأن الأطفال أحبوا مربّيتهم أكثر من حبهّم لأمّهم وفي هذه الأثناء كتبت عدة كتب من بينها "دفاع عن حقوق المرأة" الذي كتبته في سنة 1792 وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها.
وقد أهدت كتابها إلى م. تاليران - بيريجورد M. Talleyrand-Perigord أسقف أوتون Autun الراحل مع إشارة إلى أنه ما دامت الهيئة التأسيسية قد أعلنت حقوق الإنسان فهي ملزمة أخلاقيا بإعلان حقوق المرأة. وربما رغبة منها في تسهيل طريقها وتحقيق أهدافها تحدثت بنبرة أخلاقية عالية معترفة بولائها لبلادها وتمسكها بالفضيلة، وإيمانها بالله. ولم تتحدث إلاّ قليلاً عن حق النساء في التصويت لأن:
"نظام التمثيل النيابي كله الآن في هذه البلاد ليس إلا أداة في يد الحكم الاستبدادي (حكم الفرد) فلا مجال لشكوى النساء لأنّهن معدودات كطبقة ذات عدد للعمل الشاق وكأنهن آلات"،
يدفعن لدعم الملكية عندما يصبحن قادرات بشق النفس على إسكات أصوات أطفالهن بحشوها خبزاً ومع هذا فإنني حقا أعتقد أنه من الضروري أن يمثل النساء في البرلمان بدلا من أن يُسْلبن حقهن في أي مشاركة مباشرة في تفكير الحكومة وتخطيطها. وأشارت كمثال على انحياز القانون للرجل إلى قانون حق الابن البكر في ميراث أبيه، وحق الأب في وقف ممتلكاته على نسله أو أقاربه من الذكور، وذكرت:
"أن الأعراف والعادات أشد قسوة على المرأة من القوانين فهي تُدين - وتُعاقب - المرأة للحظة واحدة فقدت فيها طهارتها، رغم أن الرجال يظلّون محترمين بينما هم منغمسون في الرذيلة".
وربما صُدِم بعض القراء بإعلان ماري حق المرأة بالإحساس بالإشباع عند اللقاء الجنسي، لكنها حذرت الجنسين قائلة إن الحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) شهوة حيوانية لها نهاية فالحب (المقصود هنا المتعة الجنسية) كعلاقة مادية لابد "أن تحل محله الصداقة بالتدريج، وهذا يتطلب احتراما متبادلا، والاحترام يتطلب أن يجد كل طرف (الزوج أو الزوجة) في الطرف الآخر شخصية متطورة"(يعتبر الطرف الآخر كياناً له ذاته) وهنا فإن
أفضل طريق لتحرر المرأة هو اعترافها بأخطائها والتحقّق من أن حريتها تعتمد على تثقيف عقلها وسلوكها.
وراحت المؤلفة في كتابها تعدّد أخطاء النساء في زمانها: "نزوعها إلى الضعف والجبن مما يغذي دعوى الرجل في التفوق والسيطرة ويُسعده، وإدمان لعب الورق والثرثرة والقيل والقال والتنجيم والتأثر العاطفي والتفاهة والاهتمام الزائد بالملبس والغرور.
الطبيعة والموسيقى والشعر والكياسة، كل ذلك يميل إلى جعل النساء مخلوقات للإحساس .. وهذا الإحساس أو الشعور إذا ما زاد عن حده أضعف - بشكل طبيعي - قوى النفس الأخرى ومنع الفكر من الوصول إلى المرتبة التي يجب أن يشغلها
…
لأن التدرّب على الفهم والاستيعاب - كما تشير لنا الحياة - هو الطريق الوحيد الذي قدّمته لنا الطبيعة لتهدئة عواطفنا وانفعالاتنا ورغباتنا الجنسية".
وقد شعرت ماري أن كل هذه الأخطاء تقريباً راجعة إلى "عدم المساواة مع الرجل في التعليم، وإلى نجاح الرجل في إقناعها بأن أفضل إمبراطورية لها وأحلاها هي أن تُمتع"(كما قالت لهن إحدى المؤلفات).
لقد امتعضت ماري من الأناقة المتكلّفة ومن التصنّع وراحت تنظر بحسد إلى النسوة الفرنسيات اللائي أصررن على تحصيل العلم واللائي تعلَّمن كيف يكتبن خطابات تعد من أجمل ما أنتجه العقل الفرنسي. في فرنسا تنتشر المعرفة أكثر من أي جزء آخر من العالم الأوروبي، "وأنا أعزو ذلك في جانب منه إلى العلاقات بين الجنسين على المستوى الاجتماعي، تلك العلاقات التي كانت مستمرة منذ فترة طويلة". لقد لاحظت ماري ولستونكرافت قبل بلزاك Balzac بجيل أنَّ:
"الفرنسي الذي يحكّم عقله في أمور الجمال أكثر من غيره، يفضل المرأة في الثلاثين من عمرها .. والفرنسيون يسمحون للنساء أن يكنّ في أكمل أوضاعهن عندما تتنازل الحيويّة لتعطي مكانها للعقل ولجدية الشخصية الدالة على النضوج
…
وفي مرحلة الشباب - حتى العشرين - يقذف الجسم خارج نفسه، وحتى الثلاثين تحقق الصلابة درجة من الكثافة، وتصبح عضلات الوجه المرنة يوما بعد يوم أكثر حدّة فتعطي شخصية للملامح - هذا يعني
أنها تعبر عما يعتمل في النفس"، فلا تخبرنا فقط عن القوى الكامنة فيها وإنما كيف يتم توظيفها.
لقد اعتقدت ماري أن أخطاء النساء راجعة كلها - تقريبا - إلى "إنكار حق المرأة في تعليم مساوٍ لتعليم الرجل، وإلى نجاح الرجل في إقناع المرأة بأنها لُعبة جنسية قبل الزواج وحِلية للزينة وخادمة مطيعة وآلة للإنجاب بعد الزواج". ولكي نُعطي الجنسين فرصاً متساوية لتنمية عقولهم وأجسادهم "لا بُد أن يتعلم الأولاد والبنات معاً"(حتى مرحلة الإعداد للوظيفة أو المهنة) وأن يتلقوا المناهج الدراسية نفسها، بل وأن يشتركوا في الألعاب الرياضية نفسها، في حالة إمكانية ذلك.
"ولابد أن تجعل كل امرأة من نفسها إنسانة قوية البدن وذات كفاءة عقلية لتتمكن من كسب عيشها بنفسها عند الضرورة".
وعلى أية حال فعاجلاً أو آجلاً ستلعب الوظائف البيولوجية والفروق الفسيولوجية بين الجنسين دورها. إن قيام المرأة بدورها كأم مفيد لصحتها، وقد يؤدي ما ذكرنا آنفاً إلى أن تصبح الأسر أقل عدداً وأقوى صحّة. إن تحرير المرأة بشكل مثالي يعني اتحاداً - على قدم المساواة - بين أم متعلمة وزوج متعلم.
وبعد أن رأت المؤلفة الشابة اللامعة كتابها في المطبعة عبرت القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وقد كانت مفتونة بالسنوات الخلاقة التي عاشتها الثورة الفرنسية، لكنها الآن - أي الثورة - قد تردّت في المذابح والإرهاب. وأحبّت في باريس أمريكياً هو القبطان جيلبرت إملي Gilbert Imlay ووافقت على الحياة معه دون ارتباط رسمي. وبعد أن أصبحت حُبلى غاب عنها إملي لعدّة شهور منشغلاً بأعماله أو أية أمور أخرى، فكتبت له خطابات تتوسّل فيها له أن يعود وكانت خطاباتها بليغة لكنها كانت بغير جدوى تماماً كخطابات جولي دي ليبيناس Julie de Lespinasse قبلها بجيل. وفي سنة 1794 حملت طفلها الذي بغير أب، وعرض إملي أن يُرسل لها مبلغاً سنوياً لكنها رفضت وعادت إلى إنجلترا (1795) وحاولت إغراق نفسها في نهر التايمز Thames لكن بعض المراكبية أنقذوها.
وبعد ذلك بعام قابلت وليم جودوين Godwin الذي تزوجها على وفق القانون العام (دون حضور رجل دين)، ولم يكن أي منهما يؤمن بحق الدولة في تنظيم الزواج. وعلى أية حال
فقد عقدا قرانهما على وفق الطقوس الدينية في 29 مارس 1797 تحسبا لطفلهما المرتقب. وتألقت - لفترة - بين الجماعة الثورية التي تحلّقت حول الناشر جوزيف جونسون وهم: جودوين، وتوماس هولكروفت Thomas Holcroft، وتوم بين Tom Paine، ووليم وردزورث William Wordsworth، ووليم بليك Blake (الذي رسم رسوماً لبعض كتاباتها) وفي 30 أغسطس 1797 وضعت طفلة بعد معاناة شديدة، وبعد ذلك بسنوات عشر ماتت.
5/ 3 - الأخلاق الاجتماعية
وعلى العموم فإن كل طبقات إنجلترا في هذه الفترة قد أسهمت في التفسخ الخلقي الذي عمّ البلاد، رغم ما أوردناه آنفاً عن حياة أشخاص عاشوا حياة مستقيمة ومحتشمة أهملها التاريخ. لقد كانت المقامرة شائعة تماماً، بل إن الحكومة نفسها (حتى سنة 1826) أسهمت فيها بإصدار اللوتارية الوطنية (اليانصيب الوطني) وكان الإغراق في شرب الخمور أمراً متوطّناً كوسيلة للهروب من الضباب البارد والأمطار والفقر المُدقع والنزاعات الأسرية والتوترات السياسية واليأس الفلسفي (المقصود تبرير الواقع على نحو يائس) وقد اتفق بِت Pitt وفوكس Fox - رغم ما بينهما من فروق - على تشجيع هذا السُّكر (المهدئ أو المخدر) كعامل مسكّن. وسُمِح للحانات أن تبقى مفتوحة في مساء السبت وحتى الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد. لأن يوم السبت هو يوم استلام الأجور وبذلك يُتاح للحانات أن تكون أول من يحصل على نصيبها من هذه الأجور الأسبوعية، وكان أفراد الطبقة الوسطى يشربون باعتدال، أما أفراد الطبقات العليا فيسرفون في الشراب لكن كان عليهم أن يتعلموا حمل مُسْكرهم بثبات كحوض يرشَح بما فيه.
وكان الانغماس في الشراب يُتيح الفساد والرشوة في كل مستوى من مستويات الحكم. وفي حالات كثيرة - كما لاحظنا آنفاً - كانت الأصوات الانتخابية وعضوية المجالس المحلية والتعيينات والوظائف - وفي بعض الأحيان رُتب النبالة - تُشترى وتُباع علناً كما تباع الأسهم والسندات في سوق الأوراق المالية. ولم يكن جورج الثالث - وكانت فضائله متأصّلة - لا يرى بأساً في تخصيص أموال للحصول على أصوات الناخبين لأعضاء البرلمان أو
توزيع الوظائف طلباً للدعم السياسي. وفي سنة 1809 كان ستة وسبعون عضواً في البرلمان M.P.s يشغلون وظائف عاطلة مجموعة قليلة من المقربين الأثيرين بحكم القرابة أو المصلحة التي تربطهم بالأثرياء وذوي النفوذ - تتلقى رواتب ضخمة دون عمل يؤدّونه بينما الذين يعملون بالفعل يتلقون في حالات كثيرة رواتب أقل مما يستحقون وكان القضاةُ يبيعون المراكز التابعة (الملحقة) لزمام مناطقهم القضائية وينتزعون من شاغليها حصّة من الرسوم التي يدفعها الناس لقضاء مصالحهم لدى الجهات الرسمية.
والحكومة قد تكون قاسية، كما قد تكون فاسدة قابلة للرشوة. لقد ذكرنا قسوة تشريعاتها العقابية. لقد كان إلقاء القبض على عابري السبيل لتجنيدهم إجبارياً في البحرية مقدمة لدفع رواتب متدنية وتقديم طعام سيء لهم، وضبطهم بقسوة وصرامة لا ترحم وفي عدة مناسبات تمرّدت أطقم السفن، وأدّى أحد هذه الإضرابات إلى تعويق ميناء لندن طوال شهر. ومع هذا كان البحارة الإنجليز هم أفضل رجال بحر وأفضل مقاتلين في الأساطيل عرفهم التاريخ.
وكان هناك سعي وجهود كثيرة للإصلاح الأخلاقي، ففي سنة 1787 أصدر جورج الثالث إدانة لكسر أحكام السبت، والتجديف على الله، والسُّكر، والأدب الفاحش، ووسائل الترفيه أللا أخلاقية، ولم يسجّل التاريخ أثراً لهذه الإدانة. وقد دلّنا جيرمي بنثام Jeremy Bentham التعاليم الإصلاحية البرلمانية Parliamentary Reform Catechism (1809) على اثنتي عشرة وسيلة لكشف الفساد السياسي وعدم الكفاءة السياسية. وكان لعظات الميثوديين، (طائفة دينية بروتستنتية) والإنجيليين (طائفة دينية بروتستنتية) بعض الأثر، وتضاعف تأثيرها عندما أثارت الثورة الفرنسية المخاوف، فقد أكد هؤلاء الدعاة أن أمة منضبطة أخلاقيا يمكنها أن تواجه بنجاح غزواً فرنسياً أو ثورة داخلية.
وحاربت جمعية القضاء على الرذائل ضد المبارزة والمواخير وبيوت الدعارة والكتابات الداعرة (الأدب الإباحي). وهاجم إصلاحيون آخرون تشغيل الأطفال، واستخدامهم في تنظيف المداخن وقسوة أحوال السجون، ووحشية القوانين العقابية. وقد كان لموجة الاتجاه الإنساني (الحركة الإنسانية) التي انبثقت في جانب منها من ناحية، ومن حركة التنوير من ناحية أخرى أثر
في نشر الأعمال التطوعية والخيرية والميل للإحسان وعمل الخير.
وكان وليم ويلبرفورس أكثر المصلحين الإنجليز دأباً. لقد ولد في هَلْ Hull (1759) في أسرة ثرية تعمل في التجارة وتمتلك الضياع، وكان زميلاً لوليم بِت Pitt في كامبردج، ولم يجد صعوبة تُذكر ليحرز النجاح في انتخابات أوصلته للبرلمان (1774) بعد عام من تولى وليم بِتْ منصب رئيس الوزراء. وعندما شعر بتأثير الحركة الإنجيلية Evangelical ساعد في تأسيس جمعية إصلاح عادات الشعب وأسلوب حياته (1787). والأهم من كل هذا أنه عارض أن تتسامح أمة تعتنق الديانة المسيحية رسمياً مع التجارة في الرقيق الإفريقي (تجارة العبيد).
وكانت إنجلترا الآن (في ذلك الوقت) رائدة في هذا المجال. وفي سنة 1790 نقلت السفن البريطانية 38،000 عبد إلى أمريكا ونقلت السفن الفرنسية 20،000 والبرتغالية 10،000 والهولندية 4،000 والدنمركية 2،000. لقد أسهمت كل أمة أوروبية في هذه التجارة على وفق قدراتها، تلك التجارة التي ربما كانت أفظع الأفعال إجرامية في التاريخ. ومن ليفربول Liverpool وبريستول Bristol حملت السفن الخمور والأسلحة النارية والمنسوجات القطنية والأشياء التافهة إلى ساحل العبيد في إفريقية. وهناك - أي في إفريقية - غالباً ما كان الزعماء من أهل إفريقية يساعدون الزعماء المسيحيين في تسلّم عبيد أو زنوج Negros مقابل ما جلبوه من بضاعة، ويتم نقل هؤلاء العبيد (الزنوج) بعد ذلك إلى جزر الهند الغربية والمستعمرات الجنوبية في أمريكا الشمالية.
وكان هؤلاء الأسرى (العبيد من الزنوج) يوضعون في جوف السفينة وفي أحيان كثيرة كانوا يُقيّدون بالسلاسل لمنعهم من التمرد أو الانتحار. وكانوا يُزوّدون بالماء والطعام بالقدر الذي يكفي - بالكاد - لإبقائهم على قيد الحياة، وكانت التهوية بائسة كما كانت وسائل التخلص من الإفرازات والفضلات في حدها الأدنى، وإذا ما هبت عاصفة شديدة وكان لابد من تخفيف حمولة السفينة تم - أحياناً - إلقاء العبيد المرضى في عُرض البحر لتخفيف الحمولة، وفي بعض الأحيان كان يتم إلقاء غير المرضى أيضاً. فمن بين عشرين مليون زنجي كانوا يُنقلون إلى جزر الهند الغربية البريطانية لم يصل منهم على قيد الحياة سوى 20% وفي رحلة العودة
كانت السفن تحمل دِبْس السكّر molasses (المولاس) الذي كان يستقطر في بريطانيا لصنع الرُّم (نوع من الخمور) الذي كان يستخدم بدوره كثمن لشراء العبيد في الرحلة التالية (إلى إفريقية).
وكان الكويكرز Quakers (صحاب مذهب ديني منشق) هم أصحاب الريادة في القارتين في مهاجمة هذه التجارة باعتبارها الخطوة الأولى لإلغاء الرق. وانضم ما لا حصر لهم من الكتاب الإنجليز لمحاربة هذه التجارة: جون لوك، إسكندر بوب، جيمس طومسون، ريتشارد سافج Richard Savage، وليم كوبر، ولا ننس أن السيدة أفرا بيهن Aphra Behn قد قدمت لنا في روايتها "أورونوكو Oroonoko "(1678) وصفاً للأحوال في جزر الهند الغربية يثير التقزز. وفي سنة 1772 استصدر جرانفل شارب Granville Sharp (من الكويكرز - جماعة دينية) من إيرل مانسفيلد رئيس مجلس الملكة مرسوماً بمنع استيراد العبيد في بريطانيا، وكل عبد يصبح حراً بمجرد أن تطأ قدمه أرض بريطانيا. وفي سنة 1786 نشر توماس كلاركسون، Thomas Clarkson (وهو أيضاً من جماعة الكويكرز) مبحثاً بعنوان (مقال عن الرق والتجارة في البشر) قدم فيه خلاصة مؤثرة لنتائج الرق والتجارة في العبيد، تكاد تكون حصاد عُمر بأكمله. وفي سنة 1787 كوّن كل من كلاركسون، شارب، ويلبرفورس، جوزياه ودجوود، زاكاري ماكولاي (والد المؤرّخ) Clarkson، Sharp، Wilberforce، Josiah Wedgwood، Zachary Macaulay جمعية منع تجارة الرق.
وفي سنة 1789 قدَّم ويلبرفورس إلى مجلس العموم مشروع قانون لإنهاء هذا الشر. ولم يحصل المشروع على الأصوات المطلوبة بسب أموال التجار، وفي سنة 1792 دافع بِت في واحد من أعظم خطبه عن إجراء مماثل (منع تجارة الرقيق) لكنه أيضاً لم يُوفق في تحقيق غرضه. وحاول ويلبرفورس مرات أخرى في سنة 1798 و 1802 و 1804 و 1805 لكنه مُني بالفشل في محاولاته تلك. وبقي على تشارلز جيمس فوكس في فترة وزارته القصيرة (1806/ 1807) أن يضغط على هذا الأمر حتى حقّق النصر، إذ استسلم البرلمان ومنع التجار البريطانيين من أي مشاركة في تجارة الرقيق. وكان ويلبرفورس والقدّيسون الذي ساندوه يعلمون أن هذا النصر الذي حققوه ليس سوى البداية، فواصلوا نضالهم لتحرير (عِتق) كل الرقيق على الأرض البريطانية. ومات ويلبرفورس في سنة 1833 وبعد موته بشهر جرى منع الرق في كل البلاد الخاضعة للحكم البريطاني، وكان هذا في 28 أغسطس سنة 1833.
6 - العادات وأسلوب الحياة
من بين أكثر الأحداث إثارة في سنة 1797 ظهور القبعة الحريرية العالية Silk top hat لأول مرة، ويظهر أن خردواتياً لندنياً وضعها فوق رأسه زاعماً أن الحق الفطري (الموروث) للرجل الإنجليزي أن يكون متفرداً، وتجمهر الناس حوله وقيل إن بعض النسوة بُهتْنَ لهذا المنظر المُرعب alarming sight، لكن لم يكن هناك ما هو منافٍ للعقل يمنع مصمّمي الأزياء النسائية والخردواتية haberdashers من تعميم هذه التقليعة (الموضة)، فسرعان ما وضع الذكور من أبناء الطبقات العليا هذه القبعات الحريرية فوق رؤوسهم.
واختفت السيوف الموضوعة على سنام تصفيفة الشعر وعلى الشعر المستعار. وحلق الناس لحاهم، وترك معظم الذكور شعرهم ينمو حتى الكتفين، لكن بعض الشباب عبروا عن تحديهم وفرديتهم بقص شعورهم وكسبت السراويل (البنطلونات) المعركة على سيقان الرجال، فبحلول سنة 1785 كان السروال (البنطلون) يصل إلى منتصف بطّة الساق (calf) ، وبحلول عام 1793 وصل إلى الكعب (رسغ القدم)، وحل رباط الحذاء محل الحِلية المعدنية، وبذا بدأت (أربطة الأحذية) دورها في مضايقة لابسي الأحذية وإزعاجهم. وكانت المعاطف طويلة خالية من التطريز والزخارف، لكن الصدرية كانت موضع اهتمام إذ كان الواحد منهم يُنفق عليها كثيراً من دخله ويتفنّن في تطريزها.
لقد أدّى التنافس بين النبلاء وأعضاء مجلس العموم إلى ظهور المتأنقين bucks (المعنى الحرفي ذكر الوَعل أو الظبي، والمعنى لا يتضح تماما هنا إلا باللهجات العربية العامية إنه كاشخ أو كشخة كما يُقال عادة في دول الخليج، أو إنه كالهامور وما إلى ذلك، وفي مصر عادة يقولون نافش ريشه أو محلفط
…
إلخ) وظهور المنمقين أو الذين يلبسون ملابس تروق للنساء beau. لقد كان جورج بريان "متأنقا" برومل George Bryan"Beau" Brummel (1778 - 1840) معروفا بشدة التأنق وتزيين نفسه فقد كان يقضي نصف النهار في ارتداء ملابسه وخلعها.
وفي أتون Aton حيث كان الطلبة يسمونه بَكْ duck وأصبح صديقاً حميماً لأمير ويلز الذي شعر أن التأنق في الملبس هو نصف فنّ الحُكم. ولأن برومل كان قد ورث ثلاثين ألف جنيه فقد استأجر حائكاً لكل جزء من بدنه وجعل من نفسه حكماً للأناقة بين رجال لندن، وكان حسن الفكاهة رقيقاً،
وكان يهتم بنفسه ورباط عنقه اهتماماً شديداً، لكنه كان يحب المغامرة ربما أكثر من التأنق فركبته الديون وفرّ عبر القنال الإنجليزي تخلّصا من دائنيه وعاش عشرين سنة في فقر مُدقع وملابس رثة ومات في الثانية والستين من عمره في مصحة فرنسية للمجانين.
وتخلّت النساء عن الطوق الموسِّع hoop (بتشديد السين وكسرها / وهو طوق من مادة لَدِنة لتوسيع أطراف التنورة أو الجيبة وتستخدم النسوة في بعض البلاد العربية الكلمة الأجنبية الدالة عليه: الهوب hoop ويجمعنه على هوبات) لكنهن ظللن المشدات corsets (الكورسيهات، والمفرد كورسيه) لصدورهن، ليبدو ثديا المرأة ممتلئين متوازنين وكان خط الوسط في الفساتين مرفوعاً إلى أعلى (أي أعلى من مستوى الخصر) وثمة ديكولتيه decollete (تقويرة واسعة قد تشمل الصدر والظهر والكتفين) تكشف ما فوق خط الوسط، وخلال فترة الوصاية على العرش (1811 - 1820) تغيرت أساليب اللباس (المودة) تغيراً شديداً، فاختفت المشدّات (الكورسيهات) ولم يَعُدن يستخدمن التنورات petticoats (الجيبات)، واستُخدمت العباءات gowns الشفافة بما يكفي للإيحاء بخطوط الفخذين والساقين أو بتعبير آخر أصبحت العباءات النسائية شفافة وصَّافة، وكان من رأي بايرون Byron أن هذا الأسلوب في اللباس يقلل من فتنة النساء وراح يشكو - على غير عادته - مدافعاً عن الأخلاق:
- لقد ضلّت نساؤنا السبيل كأمنّا حواء
- فهن عرايا
- لكنهن غير خَجِلات من عُرْيِهن
ومع هذا فقد كان هناك اعتدال في اللباس أكثر منه في تناول الطعام. لقد كانت الوجبات هائلة، لأن المناخ كان يحثّ على تناول اللحوم ذات الدهن طلباً للدفء وليس نَهَما تماماً وإن كان النَّهم أيضاً سبباً وارداً. وكان الفقراء يتناولون في الأساس خبزاً وجبناً ويشربون شاياَ أو مزرا (نوع من الجعة)، أما الطبقات ذوات المال فكانت الوجبة الرئيسية
عندها تمتد أحياناً من الساعة التاسعة إلى منتصف الليل، وكان يكن أن تمر بمراحل مختلفة: حساء، سمك، دجاج أو غيره من الطيور، لحوم، لحم غزال أو غيره من لحوم الطرائد، حلوى أو فاكهة، ونبيذ معدّل حسب الرغبة.
وبعد تناول الحلوى أو الفاكهة تفارق النسوة المائدة حتى يتناقش الرجال بحرية في أمور السياسة والخيل والنساء. وكانت مدام دي ستيل de Stael تعترض على هذا الفصل بين الرجال والنساء بعد تناول الحلوى أو الفاكهة لأن هذا يزيل الباعث إلى الاحتشام وإلى العادات والتصرفات المهذبة، كما أنه يُقلل من سعادة الجماعة. ولم تكن آداب المائدة (الإتيكيت) في إنجلترا بالأناقة نفسها التي هي عليها في فرنسا.
وكانت العادات بشكل عام حميمة وخالية من التصنع (مباشرة) وكان الحديث يُتَبَّل بكلمات لا تتناول الذات الإلهية بوقار (كلمات ذات طابع تجديفي). لقد اشتكى رئيس أساقفة كانتربري Canterbury قائلا إن الكلمات المنطوية على التجديف تزداد يوماً بعد يوم بسرعة وكان التلاكم Fisticuffs منتشرا بين الطبقات الدنيا، وكانت الملاكمة boxing رياضة أثيرة، وكانت الملاكمة بقصد الحصول على جائزة (الملاكمة التكسبية) تجذب المنظمين الطامعين من كل الطبقات. ولقد وصلنا وصف مكثف معاصر لهذه المباريات من روبرت سوثي Southey (1807) :
عندما يتم الإعداد لمباراة بين اثنين كل منهما يبغي الحصول على الجائزة سرعان ما تصل الأخبار للناس عن طريق الصحف، فتظهر فقرات فيها في مناسبات مختلفة متناولة المتنافسين وكيف يتدربون، وما هي التمارين التي يقومون بها، وكيف أن أحدهم يتناول اللحم النيئ استعداداً للمباراة. وفي هذه الأثناء يختار الهواة والمقامرون أحد الطرفين لينحازوا إليه أو يقامروا على فوزه أو إخفاقه، وتظهر المراهنات في الصحف أيضاً، وفي حالات غير قليلة ينخرط الجميع في المراهنات حتى إن عدداً قليلاً من المحتالين الأوغاد قد يخدعون أعدادً كبيرة من الأغبياء.
ويتجمع جمهور غفير يصل أحياناً إلى عشرين ألفاً وكأن هذا التجمع ولهذا الغرض بديلٌ عن الثورة والتمرد (أو بتعبير أدق تسامٍ بهذه الرغبة) وقد أوصى اللورد ألثورب
Althorp بممارسة الألعاب الرياضية للتسامي بالغرائز العدوانية السائدة بين الناس، لكن منظمي هذه المباريات يعتبرونها تطهيراً لجيوب المرتادين (أي وسيلة لتجريد الناس من أموالهم).
أما الأفقر حالاً فيبحثون عن التنفيس عن مكنونات صدورهم بتقييد ثور أو دُب، ثم يظلون يزعجونه بالعصي ويغرون به الكلاب، وأحياناً يظل هذا طوال ثلاثة أيام حتى تأتي لحظة الرحمة فيقتلون ضحيتهم أو يرسلونها إلى دار الذبح (أو القتل / المسلخ أو السلخانة)، واستمرت مباريات صراع الديوك حتى مُنعت في سنة 1822. أما الكريكت Cricket الذي عرفته إنجلترا منذ سنة 1550 فقد جرى تقنين قواعده في القرن الثامن عشر، وكانت مبارياته في إنجلترا هي الأكثر إثارة إذ كان يحضرها عدد غفير، وتكون المراهنات على أشدها، ويكون مشجعو كلٍ في حالة سعار.
وكان سباق الخيول يمثل ميداناً آخر للمقامرة لكنه أيضاً كان يُحيي العشق القديم للخيول والاهتمام اللذيذ بتدريبها ومتابعة سلالاتها. أما الصيد فكان رياضة تمثل ذروة المتعة إذ يركب الصيادون في عربات أنيقة، وتطير العظاءات Swifts محلقة فوق الحقول ويعبر الصيادون المحاصيل والقنوات المائية والأسيجة (جمع سياج) فوق ظهور الخيول التي تبدو عليها - بعد الكلاب - السعادة بهذه المهمة.
وكان لكل طبقة مناسباتها التي يتجمع فيها أفرادها بدءاً من المقاهي - حيث يجتمع البسطاء لشرب البيرة (الجعة) وتدخين البايب pipes (الغليون) وقراءة الصحف والحديث في السياسة والفلسفة - حتى الأجنحة الملكية الفخمة Royal Pavilion (البافليون الملكي) في بريتون Brighton حيث يشترك الأثرياء في مهرجانات غالباً ما كانت باعثة على المسرّة في الشتاء والصيف على سواء وعندما يتجمع الناس في منازلهم يلعبون الورق أو غيره من الألعاب المناسبة أو يستمعون للموسيقي أو يرقصون، وقد وصلت رقصة الفالس Waltz قادمة من ألمانيا واسمها مشتق من الفعل الألماني Walzen بمعنى يدور، وقد علم المتمسكون بالأخلاق على انتشارها بوصفها بأنها ألفة أو مودّة آثمة (المعنى يكاد يكون: لقاء جنسياً آثماً Sinful intimacy) ، وقد شكي كولردج عن قناعة في سنة 1798: "لقد
أزعجوني بدعوتي للرقص في كل حفلة رقص ليلية، وقد رفضت بتواضع. إنهم يرقصون رقصة شائنة تسمى الفالس" Waltzen. ربما بلغ عددهم عشرين راقصاً وعشرين راقصة - لقد كان كل راقص يحتضن مراقصته وهي أيضاً تحتضنه، فتتلامس الأذرع والخصور والركب يلف بها وتلف به، وهكذا دواليك .. على موسيقى داعرة.
وكان أفراد الطبقات العليا يستطيعون إقامة حفلات راقصة أو حفلات من أي نوع كانت في واحدة من النوادي الأنيقة: ألماك Almack، والهويت White والبروك Brook وهناك أيضاً يمكنهم المقامرة على مبالغ ضخمة ومناقشة آخر إنجازات السيدة سيدون Siddons وحفلات سمر الأمير وروايات جين أوستن ونقوش بليك Blake وأعمال تيرنر Turner وصور كونستابل. وكانت ذروة اللقاءات الاجتماعية عند الهويجز (الأحرار) تتمثل في دار هولاند Holland House حيث كانت ليدي هولاند تعقد اجتماعات مسائية كان يمكن للمرء أن يلتقي فيها بذوي المكانة مثل اللورد بروهام Brougham أو فيليب دوق أورليان، أو تاليران، أو ميترنيخ، أو جرتان Grattan أو مدام دي ستيل أو بايرون أو توماس مور، أو أكثر من الهويجز (الأحرار) نبالة - تشارلز جيمس فوكس. ولم يكن في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر صالوناً يضارع صالون هولاند.
7 - المسرح الإنجليزي
أَضِف إلى كل هذه الحياة المتعددة الأوجه، عشق الإنجليز للمسرح ولا يزالون مولعين به حتى اليوم. وكان الوضع كما هو عليه الآن حيث كان الناس ينظرون للمسرحية من خلال ممثليها ولا يعبئون كثيرا بمؤلفي هذه المسرحيات. ويبدو أن المؤلفين المسرحيين خشوا أن يكتبوا التراجيديات مخافة أن يبدوا قليلي الشأن في نظر الناس الذين سيعقدون بينهم وبين شكسبير مقارنة لن تكون في صالحهم، وبعد ذروة شريدان Sheridan وجولدسميث Goldsmith كانت الكوميديات (الملهاة) تمثل أعمالاً لا بقاء لها مثل الطريق إلى رون Ruin (1792) التي ألفها توماس هولكروفت Holcroft و (تعاهد العشاق)(1798) التي ألفتها إليزابيث إنشبالد Inchbald، فمثل تلك الأعمال تشبثت بالاتجاه الضعيف ولعبت
على أوتار سهولة الانقياد إلى الإثم مداعبة بذلك الطبقة الوسطى، وأين هذا من فكاهة شكسبير المنطوية على معان فلسفية، والأثر الرجولي الذي تحدثه مسرحيات بن جونسون في المشاهدين؟ ولم يبق في عالم المسرح من ظل متبوئاً مكانه سوى الممثلين.
لقد بدا الممثلون - من النظرة الأولى - وكأنهم جميعاً من أسرة (واحدة) من روجر كمبل Roger Kemble الذي توفي في سنة 1802 إلى هنري كمبل الذي توفي سنة 1907، وروجر كمبل أنجب سارة كمبل (التي أصبحت مدام سيدونز Siddons) وجون فيليب كمبل الذي انضم لفرقة دروري لين Drury Lane وفي سنة 1783 وأصبح مديراً للفرقة في سنة 1788، وستيفن كميل الذي أدار مسرح أدنبرة من سنة 1792 إلى سنة 1800.
وُلدت سارة في سنة 1755 في فندق شولدر أف متون Shoulder-of-Mutton Inn في بريكون Brecon، وفي ويلز في أثناء جولة فرقة أبيها. وأُسند إليها دور بمجرد أن أصبحت قادرة على التمثيل، وأصبحت ممثلة موسمية وهي في العاشرة من عمرها. وقد دبرت أمرها لتحصل على قسط غير قليل من التعليم في أثناء حياتها غير المستقرة هذه، فأصبحت امرأة ذات نضج أنثوي، وذات عقل واع مثقف، واحتفظت بجاذبيتها دوما، وتزوجت وهي في الثامنة عشر من عمرها وليم سيدونز Siddons أصغر أعضاء فرقتها. وبعد ذلك بعامين أرسل جارك Garrick - بعد أن سمع بنجاحاتها - وكيلا عنه لمراقبة أدائها التمثيلي، فكتب تقريرا لصالحها فعرض عليها جارك الارتباط بفرقة دروري لين، فظهرت هناك في دور بورتيا Portia في 29 ديسمبر 1775. ولم تؤد الدور جيدا لسببين أحدهما عصبيتها وربما كان ثانيهما أنها كانت قد وضعت مولوداً منذ فترة وجيزة.
لقد كانت نحيلة طويلة رزينة ذات ملامح كلاسيكية وكان صوتها ملائماً للمسارح الصغيرة، إذ كانت تفشل في مواءمة صوتها مع المسارح الواسعة. وبعد موسم غير ناجح عادت إلى جولاتها في المنطقة (المقاطعة) وظلت طوال سبع سنوات تعمل صابرة على الرقي بفنها. وفي سنة 1782 حثها شريدان - الذي خلف جارّك كمدير للفرقة - على العودة إلى لندن. وفي 10 أكتوبر 1782 أخذت دور البطولة في مسرحية (الزواج القدري) لتوماس سوثرن Southerne فأدت دورها بإتقان تام
حتى إنها أصبحت منذ هذه الأمسية تسير بخطى حثيثة لتصبح أفضل ممثلة مأساة (تراجيدية) في التاريخ البريطاني. وظلت طوال واحد وعشرين عاما تحكم دروري لين، وأصبحت لعشر سنوات بعدها ملكة كوفنت جاردن Covent Garden بلا منازع.
وأدت دور ليدي مكبث Lady Macbeth بإتقان صبّت فيه كل خبراتها المسرحية. وعندما اعتزلت خشبة المسرح في 29 يونيو 1812 وهي في السابعة والخمسين من عمرها بعد أن أدّت هذا الدور (ليدي مكبث) تأثر جمهور المسرح تأثراً شديداً بأدائها لمشهد (السير نائما) حتى أنه فضّل أن يظل يصفق لها على متابعة العرض المسرحي. وظلت طوال تسعة عشر عاماً بعد ذلك تعيش في عزلة هادئة، وقطعت ألسن مروجي الشائعات في المدينة، بوفائها لزوجها. وفاز جينسبورو Gainsborough برسم صورة لها لازالت حتى اليوم في المتحف الوطني للصور الشخصية.
وكان أخوها جون فيليب كمبل الذي وُلد مثلها في إحدى فنادق (خانات) الأقاليم، قد نذر والداه ليكون قساً كاثوليكياً وربما كان هذا (النذر) تمشياً مع الفكر الشعبي الذي مؤداه أن وجود أحد أفراد الأسرة في المؤسسة الدينية قد يضمن الفردوس لسائر أفراد الأسرة، فأرسله والداه إلى دواي Douai ليدرس في كليتها الكاثوليكية فتلقى هناك قدراً طيباً من التعليم الكلاسيكي كما اكتسب الرزانة والوقار اللذين مازا بعد ذلك كل أدواره تقريباً، وظل مفتوناً في طوايا نفسه بمهنة والده (التمثيل) فغادر وهو في الثامنة عشرة (1775) من عمره دواي وعاد إلى إنجلترا.
وبعد عودته بعام انضم لفرقة مسرحية، وبحلول عام 1781 كان يؤدي دور هملت Hamlet في دبلن، وانضمت إليه أخته سارة لفترة ثم ألحقته معها في فرقة دروري لين Drury Lane فكان ظهوره للمرة الأولى على هذا المسرح كظهوره في هملت (1783) مصحوباً بنجاح متواضع. لقد وجده جمهور لندن رزينا رزانة شديدة لا تتفق مع الدور وأدانه النقاد لأنه عدّل في نص شكسبير واختصره. وعلى أية حال فإنه عندما انضم إلى مدام سيدونز Siddons في مكبث (1785) كان أداؤهما رائعاً حتى إنه أصبح حدثا مهما في تاريخ المسرح الإنجليزي.
وفي سنة 1788 عيَّن شريدان - الذين كان في ذلك الوقت هو المالك الرئيسي لمسرح
دروري لين - كمبل مديرا للفرقة، فواصل القيام بأدوار البطولة لكن الممثل الحساس لم يكن مرتاحا بسبب تحكمات شريدان Sheridan وبسبب قلة العائد المالي. وفي سنة 1803 قبل إدارة مسرح كوفنت جاردن واشترى سدس الأسهم في هذا المسرح بمبلغ 23،000 جنيه إسترليني، وفي سنة 1808 احترق المبنى، وبعد فترة بطالة سببت له خسائر جسيمة أخذ كمبل على عاتقه إدارة المسرح بعد أن يعيد بناءه.
ولكنه عندما حاول أن يوازن التكاليف الهائلة غير المتوقعة للمبنى الجديد برفع أسعار دخول المسرح أوقف الجمهور عرضه التالي بصياحهم محتجين عُد إلى الأسعار القديمة ولم يسمح له الجمهور بالاستمرار في عروضه حتى يعد بذلك. وأنقذ دوق نورثمبرلاند Northumberland الفرقة بمنحة مقدارها 10،000 جنيه إسترليني وواصل كمبل كفاحه لكن ظهر ممثلون شبان مثلوا تحدياً له. وكان آخر نجاحاته في (كوريولانوس Coriolanus) عندما هز الجمهور المسرح تصفيقاً لفرط إعجابه، وكان هو الجمهور نفسه الذي سبق أن صاح في وجهه محتجاً في سنة 1809. واعتزل كمبل المسرح البريطاني مسلّماً تاجه لإدموند كين Edmund Kean واختفى الأسلوب الكلاسيكي في التمثيل من إنجلترا باعتزاله، تماما كما اختفى في فرنسا بانتهاء دور صديقه تالما Talma، وانتصرت الحركة الرومانسية في المسرح كما انتصرت في الرسم والموسيقى والشعر والنثر.
تضم حياة كين Kean بين جنباتها كل التقلبات التي حاقت بمهنته شديدة الحساسية - بما فيها من ملهاة ومأساة. وُلد في حي الفقراء بلندن في سنة 7871 نتيجة لقاء في نزهة ليلية بين آرون Aaron (أو إدموند) كين Kean وهو عامل (فرّاش) في مسرح وآن كاري Ann Carey التي كانت تكسب مالاً قليلاً من المسرح والشارع، وقد طرده أبواه في طفولته الباكرة فرباه عمه موسى كين المغني المشهور، وتولته على نحو خاص خليلة موسى واسمها شارلوت تدسويل Tidswell وهي ممثلة قليلة الشأن في مسرح الدروري لين.
لقد دربته على الفن المسرحي والخدع المسرحية، وحثه موسى على دراسة الأدوار الشكسبيرية، فتعلم الفتى يجلب إليه النظارة بدءاً من الأكروبات (الألعاب البهلوانية) وإصدار الأصوات من بطنه (دون تحريك شفتيه) والملاكمة إلى هملت وماكبث. لكنه كان متمردا في
أعماقه، ففر مراراً، وأخيراً وضعت شارلوت الطوق المقيّد للكلب حول عنقه ونقشت عليه مسرح دروري لين (المقصد ضبطته وربطته بهذا المسرح) لكنه نزع الطوق وهو في الخامسة عشرة من عمره، وشرد وراح يعمل ممثلاً بشكل مستقل يؤدي أي دور، مقابل 51 شلناً في الأسبوع.
وظل طوال عشر سنين يعيش حياة قلقة غير مستقرة ممثلاً جوالاً، يكاد يكون معدما محترقاً في كل الأوقات، لكنه كان واثقاً تماما من أنه يستطيع أن يبز الجميع على خشبة المسرح. وسرعان ما عكف على الكحول لينسى تعبه وعذابه وليغذي أحلامه وتمنياته بأن يكون نبيل الأصل، وليتصور انتصاراته المرتقبة. وفي سنة 1808 تزوج ماري شامبرز Mary Chambers زميلته في إحدى الفرق التي كان يعمل بها، فأنجبت له ولدين والتصقت به لم تفارقه في أثناء كل استبعاده لنفسه أمام الويسكي (الخمور) والنساء. وأخيرا بعد سنوات عديدة قضاها وهو يمثل الأدوار الشكسبيرية، ويحاكي الشمبانزي (قرد) الذكي تلقى دعوة من مسرح دروري لين ليقوم بدور تجريبي (ممثل تحت الاختبار).
وقد اختار دور شيلوك Shylock الصعب ليؤديه في أول صعود له على خشبة الدروري لين في 26 يناير 1814. لقد صَبّ في هذا الدور بعض الإهانات التي تلقاها في هذه الحياة. فعندما قال شيلوك - باحتقار وسخرية - لتاجر البندقية المسيحي الذي طلب منه قرضاً:
- ألدى الكلب مال؟ محال
- ألخسيس يستطيع أن يقرضك ثلاثة آلاف دوكة؟
لقد بدا أن كين قد تقمّص تماماً شخصية شيلوك ونسى أنه شخص آخر. لقد وضعت العواطف والمشاعر والانفعالات التي صبّها في دوره هذا نهاية للحقبة الكلاسيكية لفن التمثيل الإنجليزي (مع أن الدور الذي أدّاه كادت كلماته لا تتجاوز السطرين، وهكذا بدأت على مسارح لندن حقبة جديدة في التمثيل قوامها المشاعر والخيال والرومانسية. وبالتدريج راح جمهور المسرح يتفاعل مع هذا الممثل غير المعروف. لقد بدا المتحمسون له في البداية فرادى متشككين، لكن الجمهور سرعان ما تفاعل معه لفرط تفاعله واستغراقه في دوره. وسارع
وليم هازلت Hazlitt أبرع النقاد في عصره بكتابة عرض تحمس فيه كثيرا لهذا الممثل، واندفع كين عائدا إلى أسرته فعانق زوجته قائلا لها: الآن يا ماري ستركبين مركبتك الأنيقة وعانق ابنه قائلا: "يا ابني سوف تدرس في إيتون Eton".
وامتلأ المسرح عند عرض مسرحية تاجر البندقية التي كان يؤدي كين فيها دوره للمرة الثانية (في العرض الثاني) وبعد العرض الثالث قدم صامويل (صموئيل) هويتبيرد Whitebeard له عقداً للعمل في هذا المسرح لمدة ثلاث سنوات مقابل ثمانية جنيهات أسبوعياً فوقعه كين، لكن هويتبيرد غيرّه بعد التوقيع فجعل الجنيهات الثمانية، عشرين جنيها مع أن كين كان قد وافق على الثمانية. وأتى وقت دُعي فيه كين لأداء دور لليلة واحدة بخمسين جنيها. لقد أدى تقريباً كل الأدوار المشهورة في مسرحيات شكسبير - هملت، ريتشارد الثالث، ريتشارد الثاني، هنري الخامس، ماكبث، أوثيلو Othello، ياجو Iago، روميو. وقد نجح في كل هذه الأدوار باستثناء الأخير (روميو).
وعندما حان الوقت ليرى الممثلين الشبان ينتظرون بتوق ليحلوا محله، بدّد عوائده المالية في الشراب، وراح يرضي نفسه بما يتلقاه من حب شديد من مرتادي الحانات التي يرتادها وانضم إلى حركة سرية لإدانة كل اللوردات وذوي المكانة ونجح في إقامة علاقة آثمة مع زوجة أحد أعضاء المجلس التشريعي بالمدينة (1825) وعمل على استعادة مكانته في المسرح، لكن ذاكرته لم تعد قوية كما كانت فَصَعُب عليه حفظ أدواره فقد كان ينسى السطور الموكل به أداؤها. لقد حدث هذا أكثر من مرة.
ومع أن الجمهور كان معجباً به إعجاباً شديداً، إلاّ أنه عندما قصَّر لم يرحمه وصبّ عليه الإهانات صباً، وسأله لم يُغرق في الشراب دون اهتمام أو حذر؟ فغادر إنجلترا، وقام برحلة في أمريكا أدى فيها أدواراً تمثيلية فحقق انتصاراً في فنه وكوّن ثروة بدلاً من التي بددها، وبدّد الثروة الجديدة التي حققها، وعاد إلى لندن ووافق على القيام بتمثيل دور أوثيلو Othello أمام ابنه الذي كان عليه القيام بدور ياجو على مسرح كوفنت جاردن Covent Garden (1833) وصفق الجمهور لياجو، واستقبلوا أوثيلو صامتين.
وكان هذا شديد الوقع على كين الذي لم يلق التصفيق
الكافي، فانهارت قواه وأصبح على شفا الانهيار وبعد أن نطق بعبارة وداعا، لقد انتهت مهمة أوثيلو سقط بين ذراعي ابنه وهمس له: إنني أحتضر يا تشارلز تحدّث لهم نيابة عني فحملوه إلى بيته لترعاه زوجته التي كان قد هجرها ذات مرة، وبعد شهرين مات في 15 مايو 1833 ولم يتجاوز السادسة والأربعين. لقد اختطف الموت أعظم الممثلين في التاريخ الإنجليزي - باستثناء جارِك - وهو في منتصف العمر.
8 - خلاصة
الحق أن الحياة في إنجلترا كانت ناشطة مثمرة، والحق أيضاً أن الصورة لم تكن خالية من عيوب كثيرة، وهذا أمر طبيعي في الحياة. لقد اختفى صغار ملاك الأراضي من الطبقة الوسطى، وتعرضت البروليتاريا للاستعباد وخرّب القمار بيوتاً ودمّر ثروات، وكانت الحكومة قائمة على الامتيازات الطبقية، وكان هذا أمراً معلناً واضحاً، وكانت قلة قليلة من الرجال هي التي تشرّع لرجال آخرين ولكل النساء، ومع هذا ففي وسط الأخطاء والجرائم، كان العلم يتطوّر، وكانت الفلسفة تترعرع، وكان كونستابل يستوحي مناظر الريف الإنجليزي، وكان تيرنر Turner يقيّد الشمس ويثبّت العاصفة (المقصود يرسمهما) وكان وردزورث وكولردج Coleridge وبايرون وشيلي يقدمون لإنجلترا مهرجاناً من الشعر لا نظير له في أي مكان منذ إليزابيث الأولى.
وكان التمرد والاضطراب كقشرة خارجية إذ كان النظام والاستقرار هما العصب الأصيل الذي أتاح كثيرا من الحريات لم تكن متاحة في أي دولة أوروبية أخرى خلا فرنسا التي كان الإفراط في الحرية فيها مؤديا إلى الانتحار. لقد كانت حرية الحركة والانتقال والسفن مكفولة بغير قيود إلا في أوقات الحروب، وكانت حرية العبادة مكفولة فيما عدا التجديف على الله، وكانت حرية الصحافة مكفولة أيضاً فيما عدا الخيانة العظمى، وكانت حرية الرأي مكفولة فيما عدا الدفاع عن الثورة والتمرد فهذا على وفق لكل الشواهد والسوابق سيؤدي إلى عقد أو أكثر من الخطر حيث يختفي الأمن ومن الفوضى حيث يختفي القانون.
ولم يكن الرأي العام راقياً جدا فقد كان يتمسك بالمحاذير taboos البالية وغالبا ما كان
يدافع عن القديم لكن كانت لديه الشجاعة لإطلاق أصوات الازدراء نقداً لأمير منحط، واستحساناً لموقف زوجته التي طردها بقسوة، وعبّر الرأي العام عن نفسه أيضاً في مئات التجمعات والجمعيات التي وقفت نفسها لأغراض التعليم والعلم والفلسفة والإصلاح. وكان الرأي العام يظهر واضحاً في القضايا الحرجة إذ يعبّر الناس عن آرائهم في اجتماعات عامة، ويمارسون حق تقديم العرائض (الاحتجاجات) الذي كفله القانون الإنجليزي، فالإنجليز الصبورون لا يعمدون إلى المقاومة إلاّ كحل أخير إزاء هذه الدولة الأوليجاركية oligarchic .
لقد حدث أكثر من مرة أن قام تمرّد ناجح (حقق غرضه) في شوارع القرى والمدن. لقد كانت الحكومة أرستقراطية ومع ارستقراطيتها فقد كان أقل ما تتصف به هو أنها مهذبة فهذبت العادات وتصدَّت للمستحدثات الضارة، وحافظت على الذوق السليم في الآداب والفنون وحمته من البربرية، كما تصدت للخرافات، وأيدت العديد من القضايا الطيبة (الصالحة) ولم تترك شعراءها الكبار نهباً لمجاعة.
حقيقة لقد مر بها في بعض الأحيان ملك مجنون، لكن الحكومة كانت تُغل يده، ليظل ملكا محبوبا يمثل رمزاً للوحدة الوطنية ومحورا لكبرياء الأمة وحماسها ولم يجد الإنجليز معنى في قتل مليون شخص لعزل ملك له كل هذه الفائدة كرأس للتشريفات. فبعد انحراف لمرة أو مرتين يعود الإنجليزي إلى طبيعته غير مُصر على أن ماسح الأحذية والبويرن - البارون الصغير (البارونت baronets) لهما الحقوق نفسها في اقتراح بنود قانون الأراضي. وقد ذكرت مدام دي ستيل أن الإبداع في إنجلترا مُتاح للأفراد، ومن هناك كان يمكن تنظيم الجموع. إن النظام الأصالة originality في إنجلترا - حيث لكل طبقة مكانتها فوق الأخرى - هو الذي سمح بانتشار الحرية.
دعونا الآن نرى كيف تفاعل الفن والعلم والفلسفة، ونظام الحكم حتى تكتمل صورة الحياة في إنجلترا في سنة 1800. إننا سنعرض لذلك في الفصول التالية بقدر جهدنا.
الفصل السابع عشر
الفنون في إنجلترا
1 - الفنانون
كانت كلمةُ (فن art) تُطلق في العصور الوسطى (أيام نظام الطوائف التجارية والصناعَّية) على أية حرفة، كما كانت كلمة (فنّان artist) تطلق على أيٍّ حرفي وقد تغير معنى الكلمتين في القرن الثامن عشر لأن الحرف ونظام الطوائف الحرفية قد حل محلهما صناعات وعمال صناعة، لقد أصبحت كلمة (فن) تطلق على الموسيقى والديكور وأعمال السيراميك (الخزف) والرسم والحفر والتصوير والنحت والعمارة، وأصبحت كلمة فنان تطلق على كل من يمارس واحداً أو أكثر من هذه الأعمال. وقد تغير أيضا معنى كلمة العبقرية أو النبوغ genius، فقد كانت تعنى شيئا من التميُّز الفطري، أو روحا متفوقة بشكل غير طبيعي، أما الآن فقد أصبحت بشكل متزايد تشير إلى القدرة الوطنية الفائقة أو المتعالية (والمتَّسمة بشيء من الغموض بمعنى أن أسبابها غير واضحةً تماما) أو يوصف بها مالكو هذه المقدرة. إنها كالمعجزة أو لنقل هبة من الله أو هي فعل من أفعاله. لقد أصبحت هذه الكلمة (العبقرية) أو (النبوغ) بديلا مناسبا لوصف (شخص) أو (حدث) متفرّد أو غير عادي
لقد أدَّى الانتقال إلى الصناعة (الحديثة) والتجارة وحياة المدن إلى مزيد من التدهور فيما يتعلق برعاية الأرستقراطية للفن. وعلى أية حال لابد لنا أن نذكر رعاية الأثرياء للشاعر وردزورث Wordsworth والشاعر كولردج Coleridge، وأن لورد إجريمونت Egremont فتح بيته المحاط بمزرعة، في بتورث Petworth للرسّام تيرنر Turner ليلجأ إليه هروبا من ضوضاء لندن. وكان جورج الثالث قد عاون في تأسيس أكاديميةالفنون الملكية Royal Academy of Art (1768) بخمسة آلاف جنيه ومقار (جمع مقر) أنيقة في دار سومرست Somerset House . ولم يكن أعضاؤها الأربعون ليصبحوا خالدين بمجرد عضويتهم بها كنظرائهم الفرنسيين وإنما كان الواحد منهم يرقى إلى مرتبة النبالة (الأرستقراطية) بحصوله على لقب اسكوير (معناها الحرفي حامل الدروع Squire أو المبجّل المحترم) ورغم أن هذا اللقب لم يكن يرثه أبناؤهم، فقد ساعد على تحسين الوضع الاجتماعي للفنانين
الكبار في بريطانيا ونظمت الأكاديمية فصولا لتعليم التشريح والرسم والتصوير والنحت والعمارة. ومن الطبيعي أن تصبح قلعةً للتراث والتقاليد والوقار مادام يدعمها عرش محافظ.
وقد عارضها الفنانون المجددون الذين كثر عددهم وحازوا الإعجاب حتى إن بعض النبلاء والماليين موَّلوهم لتأسيس المعهد البريطاني لتطوير الفنون الجميلة الذي أقام معارض دورية وحصل على جوائز وأصبح منافسا - بشكل حيوي - للأكاديمية الملكية. وأدت هذه النافسة إلى ظهور أعمال ممتازة في مختلف مجالات الفنون في بريطانيا.
عفواً، لقد كانت الموسيقى مستثناةً من هذا، ففي هذه الفترة لم تظهر أعمال موسيقية خالدة. وكان الإنجليز على وعي شديد بهذا النقص، وتجلَّى هذا في تقديرهم الوافر للمؤلفين الموسيقيين الذين كانوا يأتون إليهم من القارة الأوروبية. لقد احتفوا بهايدن Haydn احتفاءً حارا في سنة 1790 وفي سنة 1794. وتمّ تأسيس الجمعية الملكية لعشاق الموسيقى في سنة 1813 وظلت باقية بعد الثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، وبعد النابليونيْين، وبعد قيام حربين عالميتين، ولازالت موجودة كعنصر دوام واستمرار في فيض غير متقطع. وانتعشت الفنون الصغرى دون أن يكون لها خصائص خاصة.
لقد واصل الإنجليز إنتاجهم للأثاث الأنيق - رغم صرامته، وأشغال المعادن المتسمة بالقوة والجمال وأعمال السيراميك (الخزف) البديعة تماما. وقد طوع بنيامين سميث Smith الحديد فشكل منه شمعدانا ذا شعب لتقدمه مدينة لندن لدوق ولينجتون Wellington . أما جون فلاكسمان John Flaxman فبالإضافة إلى قيامه بتصميمات كلاسيكيّة لمصنع ودجوود Wedgwood للفخار فإنه صمَّم كأس الطرف الأعز الشهير لتخليد ذكرى انتصار نيلسون Nelson، وكان نحَّاتا ومعماريا في أن عندما أقام النصب التذكاري لنيلسون في كنيسة القديس بول.
وعلى أية حال فإن فن النحت أوشك أن يكون من الفنون الصغرى في إنجلترا، وربما كان هذا لأن فن النحت يفضِّل العري غير الملائم للمناخ أو للأخلاق السائدة. وفي سنة 1801 - بينما كان توماس بروس Thomas Bruce، إيرل إلجن السابع Earl of Elgin، مبعوثاً لبريطانيا لدى الباب العالي (الدولة العثمانية) طلب من السلطات التركية (العثمانية) في أثينا السماح له بأن ينقل من الأكروبولس Acropolis أية أحجار عليها نقوش قديمة أو رسوم، وقد وجّه طلبه هذا باعتباره
لوردا، وبالفعل نقل اللورد الإفريز الضخم للبارثينون (معبدا إغريقي) وكثيرا من التماثيل النصفية في سفينة إثر سفينة إلى إنجلترا في الفترة من 1803 إلى 1812. وقد وصفه بايرون وآخرون - احتجاجا على هذا العمل - بأنه فاندالي vandal (نسبه إلى قبيلة أغارة على وسط أوروبا في القرن 15) وسلب، لكن لجنة برلمانية برأته، وبيع رخام إلجن بمبلغ 35،000 جنيه إسترليني دفعها الشعب البريطاني وتم إيداعها في المتحف البريطاني والمبلغ الذي دفعته الحكومة للورد إلجن كان أقل بكثير مما دفعه هو للحصول عليها.
2 - النَّحت
لقد أسهمت هذه الرخامات (المقصود الأعمال النحتية التي جلبها من اليونان اللورد إلجن السابق ذكره) في دعم الاتجاه الكلاسيكي، في مواجهة الاتجاه القوطي Gothic، وأنهى الصراع بينهما لصالح الاتجاه الأول في مضمار الأساليب المعمارية. لقد أدت آلاف الأعمدة - من الطراز الإغريقي: الدوري Doric أو الأيوني Ionic أو الكورنثي Corinthian - إلى تحدي جهود الهواة مثل والبول Walpole وبكفورد Beckford لإعادة الأقواس المستدقة (التي تنهتي من الجانبين بنقطة واحدة pointed arches) والشرفات أو الأسوار المفرجة (ذات الفرج أسوة بأسوار قلاع العصور الوسطى حيث كانت هذه الفرج تستخدم لإطلاق السهام وغيرها على العدو). تلك الشرفات والفرج التي كانت عزيزة على فرسان العصور الوسطى وقديسيها.
وحتى في المباني المدنَّية (غير الدينية) ربحت الأعمدة الجولة، فدار سومرست للسير وليم شامبرز William Chambers (1775 وما بعدها) كانت مثل بارثينون Parthenon واسع، وكان الكثير من بيوت الريف يبدو كالأروقة الإغريقية المعمّدة (ذات الأعمدة) التي تحيط بقصر روماني، ولندع قصر حديقة أشردج Ashridge Park mansion لجيمس وايات James Wyatt (1806 - 1813) يعطينا مثالا راسخا على هذا النوع. وفي سنة 1792 بدأ من سيعرف باسم السير جون سون John Soane وهو ابن أحد البنائين بالآجر - بدأ في إعادة بناء بنك إنجلترا خلف رواق كورنثي (على النسق الإغريقي الكورنثي) مازجاً بين قوس قسطنطين ومعبد الشمس أو القمر.
وبدأت المنافسة القوطية. بمبني هوراس ولبول Horace Walpole لستروبري هل (Strawberry Hill 1748
(1773 ولم تستطع (أي هذه المنافسة القوطية) أن تصمد في وجه طوفان الأعمدة والقباب والقواصر pediments (جمع قوصرة وهي مثلث في أعلى واجهة المبنى). وكان وليم بكفورد W. Beckford هو البطل الرومانسي لهذه النشوة الوسيطة (نشوة العصور الوسطى) لقد ولد ثرياً، فقد شغل أبوه منصب رئيس بلدية لندن لمرتين وتلقى تعليما مكثفا؛ تلقى دراسات في البيانو من الشاب موزارت وتدريبات معمارية على يد سير وليم شامبرز ومدرس التاريخ من خلال جولات واسعة زار خلالها المتاحف والمواقع الأثرية.
وفي لوزان اشترى مكتبة إدوارد جيبون Gibbon، وبعد إشاعات جنسية مخزية تزوج ليدي مارجريت جوردون Margaret Gordon التي ماتت في أثناء الولادة. وفي هذه الأثناء كتب رواية (فاثك Vathek) التي تعد أقوى الروايات التي استوحت أحداثها من أساطير الشرق، والتي كان لها فضل كبير على الحركة الرومانسية وقد نشرت بالإنجليزية والفرنسية (1786 - 1787) وأثنى عليها اللورد بايرون ثناءً عاطرا. وبدأ في سنة 1796 بمعاونة وايات Wyatt وبكفورد في تشييد مبنى على الطراز القوطي (على شكل كنيسة) في مزرعته في ولشير Wilshire، وملأه بالقطع الفنية والكتب وعاش فيها حياة النساك في الفترة من 1807 إلى 1822 ثم باعها، وتبين أن بالمبنى عيوبا في الأساسات والتصميم أدى إلى انهياره. ومات في باث Bath في سنة 1844 وهو في الخامسة والثمانين من عمره. وقد رسم له جون هوبنر Hoppner صورة شخصية أظهر فيها حبّه له (رسمها حوالي سنة 1800). والصورة تنطق بروحه الشاعرة وإنسانيته وتأمله الباطني.
وقد أضاف جون ناش Nash إلى العمارة البريطانية المتجهّمة لمسةً من مرح الروكوكو rococo (لمسة من الزخارف ذات الطابع المرح) وأتى ول Well وأعقبه همفري ربتون Humphry Repton ليقوم بدور بستاني فصمم القصور والمباني الواقعة في المزارع الريفية واضعاً في اعتباره توزيع الأكواخ والعرائش والزرائب على الطراز الفرنسي والهندي والصيني. وقد أمتعت هذه التصميمات النبلاء الذين كانوا قد برموا بحياتهم، وأفراد الطبقة العليا. وأصبح ناش Nash ثريا ورعاه الأمير السَّخيُّ. وفي سنة 1811 عهد إليه إعادة تشييد ميل من شارع الوصي على العرش (ريجنت ستريت Regent Street. بدءا من دار كارلتون Carlton House ثم في قوس كبير (شامل)
إلى المناطق الريفية. ونوع ناش في خطوط مشروعه مستخدما الأهلة والشرفات جاعلاً مساحات مكشوفة من الحشائش والأشجار بين مجموعات المباني واستخدم الأعمدة ذوات الطرز الأيونية لإضفاء البهجة على قوس الطريق (في وقت لاحق تم تدمير معظم هذا العمل للسماح بمزيد من المباني على حساب الحشائش والأشجار)، لقد كان مشروعا عبقريا في تخطيط المدن لكن تكاليفه صدمت الشعب الذي كان صابراً على الجوع أملاً في إلحاق الهزيمة بنابليون.
ومع هذا فإن الوصي على العرش كان مبتهجاً بعمل ناش فعهد إليه بتجديد الجناح الملكي في بريتون Brighton الذي كان مكاناً أثيرا للأمير وأصدقائه، فأنجز ناش العمل فيما بين عامي 1815 و 1823 بتكلفة بلغت 160،000 جنيه إسترليني لقد أعاد بناء الجناح على الطراز الهندي الإسلامي بمآذن ذات اليمين وأخرى ذات الشمال. ومبان أخرى ذوات قباب وكانت صالة المآدب ذات سقف محدّب وزخارف صينية، وبها ثريات على هيئة اللوتس والتنين، وتكلفَّت هذه الصالة 4،290 جنيها إسترلينيا. وكان الانطباع الأول الذي يأخذه المرء عند رؤيتها هو الفخامة الغريبة، وكان الحكم النهائي عليها أنها عمل مسرف سواء في النفقات أم في الزينات والزخارف.
وفي سنة 1820 أصبح الوصي على العرش ملكا. إنه جورج الرابع. وسرعان ما عهد هذا الملك الجديد إلى ناش إعادة بناء دار بكنجهام Buckingham لتكون قصرا ملكيا. ووسط هذا الفقر والاقتراب من الإفلاس الذي أعقب الانتصار على نابليون، راح ناش يعمل حتى مات الملك المبذّر (1830) فاستدعت الحكومة ناش ذلك المعماري الوافر الإنتاج ليوضح لها ما صرفه ويفسّر بعض الأخطاء التي نسبت إليه. قلما كانت إنجلترا في مثل هذا السناء العظيم أو البؤس الشديد.
3 - من الكارتون إلى كونستابل
FROM CARTOONS TO CONSTABLE
كان على آلاف الفنانين البريطانيين - طوال عشرين عاما من الحروب - أن يكافحوا لإطعام أسرهم وتحقيق أحلامهم. ولم يكن أسوأهم حالا من حيث العائد المالي والشهرة
رسامو الكاريكاتير الذين ملئوا الصحف برسومهم عن الأحداث الجارية. وكان نابليون هو الموضوع الأثير لدى هؤلاء العباقرة الشياطين. فقد راحوا يهجونه كل يوم هذا "الضئيل الحجم ناتئ العظام" أو هذا "المتوسطي الهجين" كما كانت تسميه صحيفة المورننج بوست Morning Post ويخزونه لإضعاف جهوده الحربية والحط من كبريائه كإمبراطور.
وكان أعظم هؤلاء الرسامين الكاريكاتيريين الذين ظلوا يخزون نابليون وخزا مؤلما هو توماس رولاندسون Thomas Rowlandson (1765 - 1827) الذي ولد لأب تاجر غني مولع بالمضاربة شجعه تشجيعا كبيرا لتنمية مواهبه في الرسم، وبعد أن درس في الأكاديمية الملكية قيد نفسه في أكاديمية باريس وعاد إلى إنجلترا فحازت رسومه الإعجاب، وفجأة اعتراه الفقر بسبب خسائر أبيه في القمار، وأقيل من عثرته عندما أرسلت له إحدى قريباته (aunt) الفرنسيات 35،000 جنيه إسترليني. وكان متحررا في هجاء ما في عصره من سخافات ورياء. لقد رسم كاريكاتيرا عن دوقة تقبل يد جزار طمعاً في صوته الانتخابي، وشخصا سمينا يتلقى خنزيرا كضريبة عشر من فلاح على وشك الموت جوعا، ومجموعة من ضباط البحرية تصطاد البغايا من الشاطئ. وواصل رسم صور مركبة وشاملة: حدائق فوكسهول Vauxhall، مباهج باث Bath، وسلسلة رسوم مرحة صاخبة حققت شهرة على مستوى بريطانيا - رحلات الدكتور سينتاكس Syntax. وأدى غضبه من السياسيين والمهرجين (الصخابين) والأغبياء إلى رسم رسوم كاريكاتيرية فيها مبالغة شديدة، لكنها كانت مبالغة يمكن غفرانها. وكثير من رسومه تحتاج إلى تنقيتها مما فيها من بذاءات، وقد فقد هجاؤه (البحث عن المثالب) كل تعاطف. وإنجازه الفني الأخير ينضح احتقارا للجنس البشري كما لو أن البشرية لم تشهد أما عطوفا ولا رجلاً كريما.
وكانت رسوم جيمس جيلراي James Gillray (1757 - 1815) الكاريكاتيرية أكثر شعبية، فكان الناس يتزاحمون على محلات بيع الكتب للحصول على الطبعات الأولى لرسومه. وقد درس جيمس جيلراي - مثل رولاندسون - في الأكاديمية الملكية وأصبح فناناً مصقولا خصب الخيال وإن كانت خطوطه صارمة. وكاد يضع كل فنه في خدمة الحرب: لقد صور نابليون كقزم وصور جوزيفين كامرأة بذيئة، ورسم فوكس Fox وشريدان Sheridan وهورن توك Horne Tooke
(مؤيّدي الثورة الفرنسية) ينتظرون في نادي لندن حضور الجنرال الثوري المنتصر. وقد انتشرت رسومه الهجائية ذات الأفكار البسيطة والخطوط المصقولة في مختلف أنحاء أوربا وأسهمت في خلع نابليون من فوق عرشه. وقد مات قبل معركة واترلو Waterloo بسبعة عشر يوما.
وشهد هذا الجيل كثيرا من الحفارين (النقاشين على الأخشاب أو المعادن) لكن أعمال وليم بليك Blake كانت هي الأكثر خلودا. لقد طور لنفسه طريقة خاصة في الحفر، بل إنه حاول أن يحل الحفر محل الطباعة، بحفر نصوص إلى جوارها رسومها التوضيحية على ألواح نحاسية، لكن قلمه سبق حفره، إذ راح يعبر عن نفسه في خاتمة المطاف بالشعر. وكان متمردا لأنه امتعض من فقره ويرجع هذا إلى كون الأكاديمية رفضت الاعتراف بالحفارين كفنانين ورفضت أن يقدموا أعمالهم في معارضها. ولأنه كان يرفض بشدة وصاياها بضرورة الالتزام بقواعد معينة وبالتقاليد الفنية التي فرضتها. لقد صرح في نحو سنة 1808:
"بأن القضية في إنجلترا ليست مسألة رجل موهوب وعبقري، وإنما لا بد أن يكون خاضعا مشتغلا بالسياسة وثورا قويا، ومطيعا لأوامر النبلاء فيما ينتجه من فن، فإن كان كذلك فهو رجل طيب، وإلا فعليه أن يموت جوعاً ".
وكان بالفعل قد اقترب من الموت جوعا في أوقات عدة لأنه لم يكن يتلقى سوى أجر زهيد لرسوم وأعمال حفر قدر ثمنها في لندن في سنة 1918 بمبلغ 110،000 دولار، ومكنته أعمال الحفر على المعادن التي قام بها لسفر أيوب والتي بلغت 22 لوحة، من العيش بما مقداره جنيهان في الأسبوع في الفترة من 1823 إلى 1825، وقد بيعت هذه اللوحات في سنة 1907 إلى ج. بيربونت مورجان J. Pierpont Morgan بمبلغ 5،600 جنيه إسترليني وهذه اللوحات التي حفرها لسفر أيوب من بين أجمل أعمال الحفر في التاريخ.
وكان بليك Blake في موقف وسط بين البيوريتانية puritan (مذهب ديني مسيحي متشدد) وإنكار المسيحية، كما كان في موقف وسط بين الكلاسيكية والرومانسية، وكان مفتونا بمجموعة تماثيل ميشيل أنجلو (مايكل أنجلو) والرسوم التي رسمها على سقف الكنيسة وأحسّ أيضا ببهاء الجسم الإنساني السليم ورمز له بتجسيد بارز (1780) في عمل جعل عنوانه يوم سعيد بشاب يرتدي ملابس شفافة
يعرف الحيوية المنضبطة، ولم يكن للجنس (العلاقة بين الرجل والمرأة سوى مكان متواضع في أعماله) فقد كانت زوجته مطيعة متعاونة محبة فجعلت الإخلاص لها ممكنا، وكانت خطوطه في البداية كلاسيكية صارمة يجعل الخط أهم من اللون والشكل أهم من الصورة الذهبية، لكنه كان كلما تقدمت به السنون وازداد حبه للعهد القديم (الجزء الأول من الكتاب المقدس عند المسيحيين)، ترك قلمه يجول في شخوص خيالية يغمرها بالملابس الكاسية، ووجوه تعبر عن ألغاز الحياة وغموضها.
وفي أعوامه الأخيرة حفر سبع لوحات لطبعة من طبعات دانتي Dante وحفر وهو على فراش الموت (1827) لوحة أخرى للرب يخلق العالم في قديم الزمان. ومن خلال خياله الراقي وتصوراته لما فوق الطبيعة، وكذلك من خلال دقة خيوطه وبراعتها، أصبح - طوال جيل بعد موته - السلف المعلن لمدرسة ما قبل الرافاييلية Pre-Raphaelite School . وسنلتقي به مرة أخرى في هذه الصفحات.
لقد كان السؤال الحيوي بين الرسامين (وهو سؤال ينطوي أحياناً على طلب الخبز والزبد) هو: إلى أي مدى هم متوافقون مع نصيحة الأكاديمية وذوقها؟ لقد كان بعض أساتذة هذه الأكاديمية يوافقون موافقة تنطوي على التشجيع على الموضوعات التاريخية باعتبارها تذكر بالشخصيات المشهورة في الأحداث الخالدة. وكان أساتذة آخرون يمتدحون رسم الشخصيات باعتباره فناً يسبر أغوار الشخصية، وباعتباره فنا يسعد المشاهير الراغبين في تخليد أنفسهم في صور زيتية. وكان عدد قليل جدا من أساتذة الأكاديمية يهتم بالرسوم التي تصور مشاهد من الحياة اليومية لأنها تبدو عامية، أو بتعبير آخر فيها ريح العامة. وكانت رسوم المناظر الريفية تحظى بأدنى موافقة. لقد كان على كونستابل Constable أن يطل يعمل فاقد الأمل في رسم لوحات فن الريف وهو خامل الذكر، ولم تمنحه الأكاديمية عضويتها الكاملة إلا وهو في الثالثة والخمسين.
وفي سنة 1792 مات السير جوشوا رينولدز Joshua Reynolds فاختارت الأكاديمية رئيساً لها أمريكياً مقيماً في إنجلترا إقامة دائمة. إنه بنيامين وست West الذي ولد في سبرنجفيلد Springfield في بنسلفانيا من سنة 1738. وقد أظهر في شبابه موهبة فنية عظيمة حتى إن جيرانه الكرماء أرسلوه للدراسة في فيلادلفيا وبعد ذلك إلى إيطاليا. وبعد أن تشرب التراث
الكلاسيكي هناك في الصالات الفنية والمتاحف والمواقع الأثرية انتقل إلى لندن (1763) حيث رسم بعض الصور الشخصية التي جلبت له الأموال، وأعجبت جورج الثالث، فتقدم بعدها لتناول الموضوعات التاريخية. لقد صُدمت الأكاديمية بلوحته (موت ولف Wolfe)(1771) الذي انتزع كندا من مونتكالم Montcalm وفرنسا - صُدمت لأنه صور شخوصا معاصرة بملابس حديثة، لكن كبار السن ذكروا أن نصف قارة أوربا تنحني احتراما للسراويل (البنطلونات).
وثمة أمريكي آخر هو جون سنجلتون كوبلي John Singleton Copley ولد بالقرب من بوسطن في سنة 1738 حقق شهرة برسمه جون هانوك John Hancock، وصامويل آدمز وأسرة كوبلي. وفي سنة 1775 انتقل إلى لندن وسرعان ما وصل إلى لذروة بلوحته (موت شاتام Chatham)(1779) . وليهرب من مثالية الكلاسيكية الجديدة في رسم الشخوص التاريخية رسم المشهد بواقعية شجاعة، أحدثت - رغم أنها أزعجت الأكاديمية - ثورة في فن الرسم الإنجليزي.
واستمر التعليم في الأكاديمية على أكتاف جوهان هينريتش فوسلي Johann Heinrich Fussli (من زيورخ) الذي أصبح اسمه في سنة 1764 هنري فوسيلي اللندني (من لندن) وكان وقتها في الثالثة والعشرين من عمره. وبتشجيع من رينولدز غادر إنجلترا في سنة 1770 ليدرس لمدة ثماني سنوات في إيطاليا. وكان نزوعه إلى التحليق الخيالي ذي الطابع الهرطقي غير متفق تماما مع النماذج والأساليب الكلاسيكية، وعندما عاد إلى لندن أيقظ الجمال النائم بلوحته الكابوس (1781) التي صور فيها امرأة جميلة تحلم باقتراب عفريت مرعب منها. (ارتبطت هذه اللوحة بدراسة لسيجموند فرويد Sigmund Freud) ، ورغم اتجاهه الساخر أصبح (فوسلي) أستاذا في الأكاديمية ويسرت محاضراته فيها الانتقال من الرومانسية إلى ما قبل الرافاييلية (اتجاه فني إنجليزي ذو طابع صوفي).
وقد وضحت أحوال جون هوبنر Hoppner (1758 - 1810) وجون كروم Crome (1768 - 1821) صعوبة حصول الفنانين على ما يمكنهم من العيش برسم الطبيعة، فهوبنر عانى شظف العيش كعاشق للمناظر الطبيعة لكن أحواله انتعشت كرسام للصور الشخصية، وكاد ينافس لورنس في زبائنه وأجره. لقد جلس نيلسون أمامه وكذلك فعل
ولينجتون Wellington ووالتر سكوت Walter Scott وعدد من اللوردات. وقصرُ القديس جيمس غني بلوحات هوبنر، وظل كروم في مسقط رأسه نورتش Norwich طوال ثلاثة وخمسين عاما هي كل عمره، ودرس صور هوبيما Hobbema وغيره من الرسامين الهولنديين الكبار وتعلم أن يجعل المشاهد البسيطة المألوفة في حياة العامة سائغة، ولأنه كان ملازما لبلدته لا يكاد يفارقها فقد بحث عن موضوعات للوحاته في المناطق الريفية المحيطة بنوروتش Norwich. لقد وجد هناك منظرا سجله في إحدى أجمل لوحاته (مرج موسهولد). لقد كانت هذه اللوحة ذروة فنية بالإضافة لما تنطوي عليه من معادن فلسفية ليس هناك ما هو أرقى منها.
أما السير توماس لورنس (1769 - 1830) فاتخذ طريق رسم الصور الشخصية (البورترية portraiture) وهو طريق معترف به ولا يحتاج إلى مقاومة. وكان السير توماس ابنا لصاحب فندق، ولم يتلق قدرا كبيرا من التعليم ولم يتلق إلا قدرا قليلا من التدريب الفني. وكان لابد أن تحار الأكاديمية عندما لاحظ أساتذتها أنه نجح في الالتزام بما يريدون. لقد كان لديه حاسة التقاط الشبه بسرعة، وبسرعة كان يرسمه - في صباه في بريستول Bristol كان يرسمه بقلمه الرصاص، وفي شبابه في باث Bath كان يرسمه بالألوان البستل Pastel ولم يستخدم الألوان الزيتية إلا عندما انتقل إلى لندن (1786) وربما كانت جاذبيته وروحه المرحة هما اللذين فتحا له القلوب والأبواب. وقد كلف وهو لم يتجاوز العشرين بالذهاب إلى وندسور Windsor لرسم صورة شخصية للأميرة شارلوت صوفيا Charlotte Sophia.
وتصرف بدبلوماسية شديدة انطبعت على لوحته (ذلك لأن الأميرة لم تكن جميلة) وأدت به دبلوماسيته هذه إلى أن انتخب عضوا مشاركا في الأكاديمية وهو في الثانية والعشرين، ومنح العضوية الكاملة فيها وهو في الخامسة والعشرين. وتنافس ذوو الحيثيات على الجلوس أمامه لرسمهم، ورفض نصيحة كرومويل Cromwell برسم البقع والبثور والتجاعيد كما يرسم الخال والغمازة (المقصود أن يرسم مظاهر القبح ومظاهر الجمال فيمن يرسمهم) ورفض لورنس الأخذ بهذه النصيحة فليس في البثور ذهب (المقصود أن ذلك قد لا يرضي من يرسمه فلا يدفع له مالاً كثيرا). لقد كان يحسن من ملامح من يرسمه، ولم يكن المرسوم ليعترض على ذلك. فإذا كانت المرأة أو الفتاة التي يصورها يعوزها الجمال، عمد إلى رسمها بملابس رقيقة شفافة
جميلة، ورسم يديها جميلتين دقيقتين، وجعل عينيها فاتنتين، وجعلها في وضع (بوز Pose) درامي (مثير).
وتعد لوحته (بورتريهه) للوصي على العرش التي أظهره فيها وسيما جميلا نموذجا نمطيا للوحاته. وقد رسم هذه اللوحة السابق ذكرها في سنة 1815. وفي بعض الأحيان كان يضفي شيئا من الغرابة الباعثة على السعادة في صوره كما في صورته (Pinkie) في جاليري (رواق) هنتجتون Huntington Gallery، لكن لوحاته التي رسم فيها الرجال كانت تفتقد الطبيعة القوية التي نجدها في رسوم رينولدز Reynolds. لقد كسب لورنس الكثير وأنفق الكثير وأصبح محبوب عصره. وعندما مات حفه موكب جنائزي فخم إلى مثواه الأخير في كنيسة القديس بول.
وأصر جون كونستابل (1776 - 1837) على رسم المناظر الطبيعة، ولم يتزوج حتى الأربعين. وكان والده هو طحان miller سوسكس Sussex، وقد قدم الدعم المالي لابنه لدراسة الفن في لندن لمدة عامين عندما لمس مواهبه، لكن تطور جون كان بطيئا، فعاد في سنة 1797 إلى سوسكس ليعمل في طاحونة أبيه، وظل يواصل الرسم في أوقات فراغه، وأرسل بعض أعماله إلى الأكاديمية فأتاحت له فرصة الالتحاق بمدرستها، فعاد إلى لندن في سنة 1799 بموافقة أبيه بتشجيع من بنيامين ويست West، ورسم له ريتشارد ريناجل Reinagle - وهو فنان زميل له - صورة شخصية في العام نفسه.
وربما قرأ أشعار وردزورث عن المناظر حول بحيرة وندرمير Windermere، لأنه كان يرى الله في كل ورقة شجر. وفي سنة 1806 قام برحلة في أنحاء منطقة (دائرة) البحيرة فدرس الجبال يحتضنها الهضاب، والحقول تهطل عليها الأمطار الهادئة، وعاد إلى لندن وقد قوي عزمه على وقف فنه للطبيعة.
لقد قال عن لوحته التي عالج فيها الطبيعة أنه يأمل أن يخلّد لحظة قصيرة أمسك بها من زمن سريع الزوال ليجعل لها وجودا دائماً رزينا وفي هذه الأثناء كان يتلقى تكليفات عرضية مكنته من تدبير أمر طعامه وسكناه. وأخيرا في سنة 1811 رسم لوحته العظيمة التي حازت الإعجاب - وادي ددهام Dedham Vale وهي بانوراما panorama (مشهد عام) لإسكس Essex في شمس منتصف النهار.
وفي ذلك العام فيما يبدو وقع في حب ماريا بكل Maria Bickell التي رحبت باهتمامه
بها لكن أباها منعها كي لا تنحط بقبول شخص ذي دخل منحط مثل كونستابل، ولم تكن تنقضي خمس سنوات حتى مات والده فأورثه دخلا ثابتا فعاود التقدم لطلب ماريا فوافق أبوها فانطلق كونستابل بعروسه واحتفى بها برسم صورة (بورتريه) لها لا زالت تزين جدار تيت جاليري (رواق تيت Tate Gallery) وبعد ذلك راح يرسم أجمل لوحات المناظر الطبيعية، التي لم تكن إنجلترا قد شهدت مثيلا لجمالها قبله.
لم تكن لوحاته مثيرة مدهشة كلوحات تيرنر Turner لكنها كانت تحتفي بأدق التفاصيل حتى ورقة الشجرة كما كانت تركز على الهدوء والسلام والثروة الخضراء في الريف الانجليزي. وفي هذه الفترة السعيدة قدم للأكاديمية (طاحونة فلا تفورد Flatford Mill ((1817) والحصان الأبيض (1819) والهاي وين Hay Wain (1821) وكاتدرائية سالسبوري Salisbury (1823) وحقول القمح (1826) وكانت كل لوحة من هذه اللوحات حدثا فنيا وحازت الإعجاب وكثيرا من الإطراء.
وفي سنة 1824 قدم الهاي وين (اسم لعربة تجرها الخيول) لتعرض في صالون باريس، وفي 1825 عرض (الحصان الأبيض) في ليل Lille وفازت كلتا اللوحتين بالميدالية الذهبية واحتفى الفرنسيون بكونستابل كأستاذ في فنه. وأحست أكاديمية لندن بتقصيرها في حقه فمنحته أخيرا عضويتها الكاملة (1829).
لقد أتى التكريم متأخراً فلم يكن له عنده معنى كبير، لأن زوجته ماتت في هذا العام نفسه بالسل الذي تفاقم ربما بسبب تلوث جو لندن بالسخام. وواصل كونستابل رسم المناظر مثل (مزرعة الوادي) و (جسر واترلو) لكن تكاد تكون كل أعماله الأخيرة تعكس ما يتحمله من أحزان، إذ ظل يلبس ملابس الحداد حتى موته المفاجئ.
4 -
تيرنر TURNER: من 1775 إلى 1851 م
كان چوزيف وليم تيرنر معتزاً بنفسه وباسمه ولم يسمح أبداً لنقد معاد أو حب عنيف محطم بتعويق مسيرته نحو التفوق المطلق في مجاله. ولد في 23 أبريل سنة 1775، وربما شارك شكسبير في يوم الميلاد وكذلك الشهر. وكان أبوه صاحب محل حلاقة في ميدن لين
Maiden Lane خلف الكوفنت جاردن Covent Garden، وهو مكان لا يكاد يكون ملائما لفنان المناظر (الطبيعة)، فعلى وفق لكاتب سيرة ذاتية متقدم زمنا كانت ميدن لين منطقة كئيبة مسواة بالطين، مزدحمة تعج بصيحات البائعين. وكان بالقرب من محل الحلاقة خان يغني المترددون عليه بأصوات منكرة. أضف إلى هذا أن أخت وليم سرعان ما ماتت وأصبحت أمها مجنونة لكن الطبيعة والظروف عوضا الصبي شيئا ما فجعلته قوي البدن حديد الإرادة، واقعي العقل، لا تهتز ثقته بنفسه فاستعان بهذا كله ليقاوم طوال ست وسبعين سنة الأزمات والنكبات والنقاد والجراثيم.
ورأى فيه والده علامات الموهبة، كما رأى أن مكانه ليس في ميدن لين، فأرسله وهو في العاشرة ليعيش مع عمه، وليلتحق بالمدرسة في برنتوود Brentwood في ميدلسكس Middlesex. وفي غضون عامين رسم الصبي لوحات فنية حتى إن والده الفخور علق بعضها في محل الحلاقة وعلق بعضها الآخر حول المحل، وعرضها للبيع. وذكر رجل دين كان يحلق عند أبيه بعض هذه اللوحات بخير عند صديق له في الأكاديمية، وسرعان ما أجري له اختبار في الأكاديمية فاجتازه بنجاح فقبل طالبا في مدرستها وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبعد ذلك بعام سمح له بعرض لوحات بالألوان المائية في معرض الأكاديمية.
وفيما بين عام 1789 و 1792 كان يقضي فترة الإجازة متجولا في الريف ومعه دفتر الرسم (دفتر الإسكتشات). لقد ذهب بعيدا حتى أكسفورد وبريستول وويلز، ولازالت هذه الاسكتشات sketches الشائقة التي سجل فيها الأرض والشمس والبحر موجودة في المتحف البريطاني. وكان يبيع رسومه وهو في التاسعة عشرة من عمره للمجلات، وفي الحادية والعشرين بدأ يعرض لوحاته الزيتية في الأكاديمية، وفي الرابعة والعشرين ثم اختياره عضوا مشاركا، وفي السابعة والعشرين أصبح عضوا كامل العضوية (في الأكاديمية) وبعد أن أصبح مستقلا من الناحية المالية بفضل ما باعه من لوحات افتتح في سنة 1800 مرسماً (ستوديو studio) واسعا في 64 شارع هرلي Hurly وأتى أبوه ليعيش معه كمساعد وممثل تجاري له. وكان هذا الحب المتبادل بين الوالد وابنه متمشيا مع عزوف الفنان الابن عن الزواج، فلم يكن جذابا من الناحية البدنية ولم يكن مليح الوجه، وكان ذا طباع فيها القليل من
الجاذبية. لقد كان رجلا منشغلا ظل نحو نصف قرن يسيطر على الفن في إنجلترا ويسوده بأعماله الرائعة الكثيرة.
وعمد كتاب السير إلى تقسيم حياته إلى ثلاث مراحل لتيسير دراستها ومحاولة فهمها. المرحلة الأولى (1787 - 1820) كان يميل فيها إلى الموضوعات التاريخية لكنه حولها إلى دراسات للشمس والبحر. وفي سنة 1799 كان من بين الرسامين الأربعة الذين احتفوا في معرض الأكاديمية بانتصار نيلسون وتحطيم أسطول نابليون في (أبو قير)، وفي سنة 1802 قام بأول رحلة له خارج بلاده، وعندما اقتربت السفينة التي تقله من كاليه Calais ارتفعت الأمواج عالية وهبت العاصفة الشديدة، فدبر تيرنر وبعض الركاب أمر الوصول إلى الشاطئ بقارب تجديف، وتناول - على الشاطئ - كراسة الرسم (الاسكتشات) وراح يخطط المنظر المعقد لسفينة تناضل ضد العاصفة، وبعد ذلك بعام عرض في لندن لوحته القماشية الضخمة (رصيف كاليه Calais Pier) قدم فيها تفاعله مع مناظر السحب السوداء والبحار الغاضبة والرجال الشجعان ومن فرنسا أسرع إلى سويسرا ليرسم 400 لوحة للجبال وهي تتحدى السماء بشموخها. لقد أصبحت رسومه (إسكتشاته) كذاكرة ثانية له.
وعندما عاد إلى لندن وجد النقاد الأكاديميين يشكون من أنه وضع ألوانه ثقيلة وباضطراب وبشكل طائش وخلطها بشكل ينافي كل السوابق المعقولة، ذلك أن طريقته تجاهلت التعاليم التي علمها الراحل سير جوشوا رينولدز Sir Joshua Reynolds للأساتذة Masters القدامى الذين خلفوه كما تتجاهل القواعد التقليدية المرعية.
وقد احترم تيرنر ذكرى الدكتاتور الرفيق (المقصود رينولدز) ولكنه أطاع ما تمليه عليه شخصيته. ومن الآن فصاعدا أصبح هو أوضح الأصوات المعبرة عن الثورة الرومانسية في مواجهة الموضوعات القديمة والقواعد العتيقة، والمحاكاة الحرفية للواقع والالتزام بما هو معتاد مما يخنق التجربة ويقيد الخيال. وقد واجه ناقديه بعرض لوحة (سفينة جانحة أو جنوح سفينة) في الاستوديو الخاص به في سنة 1804 وكانت اللوحة توضّح قسوة الطبيعة وهيمتها على الإنسان. وحظيت اللوحة بالإعجاب، وبعد ذلك بعام أحبه البريطانيون كثيرا لاحتفائه بانتصار نيلسون في معركة الطرف الأغر.
لقد كانت لوحته فوضى من السفن والرجال والعناصر الأخرى لكن هكذا تكون المعارك. ومع هذا فقد أحس النقاد إزاءها بالارتباك:
لقد كان كل ما يستخدمه تيرنر هو الألوان، وليس هناك خط واحد، وحتى الألوان بدت وكأنما رشرشها دون أن يقصد تكوين شكل محدد، بل وجعلها موضوعا في حد ذاتها. لقد كانت القصور والصروح والمباني والبشر في لوحاته (المرسومة على كانافاه canvases) بقعاً غير محددة ونقطا تشير إلى المعنى كما لو كان الفنان قد سلم بعجز الإنسان في مواجهة الطبيعة الساخطة.
وهذا لا يمنع من وجود استثناءات مبهجة كما في لوحة الشمس تشرق من خلال الضباب (1807) لكن في لوحته هانيبال يعبر الألب (1812) نجد كل معاني البطولة البشرية يضيع وسط السحب السوداء والصفراء التي تمثل دوامة فوق جنود يرتعدون خوفا. أكان هذا الفنان الجامح عدوا للجنس البشري؟.
لقد واصل تيرنر منهجه مُعْمِلاً فرشاته بقوة وحيوية عازما فيما يظهر على محق الحياة والبشر من فوق الأرض، مُخليِاً إياها إلا من الشمس والسحب والجبال والبحار الهائجة. لكنه لم يكن عدوا للبشرية تماما فقد كان قادرا على تكوين علاقات دافئة وطور صداقات هادئة مع السير توماس لورنس المناقض له في أسلوبه الفني وفي نظرياته الفنية. ولم يكن تيرنر يعترف بأية نبالة سوى نبالة العبقرية، وكان مخدوعا شيئا ما من العوام، وكان يحب عمله وخصوصيته، وكان يشعر - مثل ليوناردو Leonardo - أنه إذا كنت متفردا كلية فستكون كلية نفسك أي خير معبر عن نفسك ولم يكن له عقيدة إيمانية يمكن التأكد منها فيما يتعلق بأي وجود فوق الطبيعة (غيبي)،
فقد كان إلهه هو الطبيعة وقد وجه إليها نوعاً من العبادة خاصا به - عبادة ليست من نوع عبادة وردزودث الذي بحث في حكمتها وجمالها، وإنما راح تيرنر يركز على بقائها وإلحاحها وسطوتها، وكان يعلم أنها ستغمره أيضاً وستغمر الإنسان في زمنها الشرس المروع. ولم يزعج نفسه كثيرا بشأن الأخلاق. لقد كان لديه خليلة أو خليلتان، وجعلهما - بشكل رقيق - مقتصرتين عليه، ورسم بعض الصور الزيتية العارية ذات طابع جنس فتم تدميرها ذات مرة عندما وقعا في يد روسكين Ruskin وكان يحب المال ويتقاضى أثمانا باهظة وخلف ثروة. لقد كان ألماسا خاما "
سوليتير solitaire".
وبدأ في المرحلة الثانية (1820 - 1833) رحلة إلى إيطاليا بحثا عن دفء الشمس، وخلال هذه الرحلة التي استغرقت ستة أشهر رسم خمسة عشر إسكتشا، وبعد عودته إلى إنجلترا حول بعضها إلى لوحات حاول فيها استخدام أساليب جديدة في اللون والضوء والظلال مثل (خليج بايي Baiae) 1823 جعل كل شيء فيها ينطق - حتى الظل. ومرة أخرى في فرنسا (1821) استخدم الألوان المائية في رسم نهر السين وجعله يتألق منيرا. في 1825 - 1826 تجول في بلجيكا وهولندا وأحضر إلى بلاده إسكتشات حول بعضها إلى لوحات مثل (كولوني Cologne) و (ديبي Dieppe) وهي الآن في مجموعة الفريك Frick في نيويورك. وفي سني الثلاثين من هذا القرن كان بين الحين والحين ينعم بضيافة اللورد إجريمونت Egermont في بتورث Petworth وكان كعادته ينشغل بعمله لكنه أعطى لمضيفه لحظة خالدة بلوحته (البحيرة عند الغروب)
وفي مرحلته الأخيرة (1834 - 1845) راح يستسلم أكثر فأكثر لإغراء الضوء، فغالبا ما كانت تختفي في لوحاته الأشياء فلا يتبقى إلا دراسة فاتنة للألوان والتألق والظلال، وفي بعض الأحيان كان يترك الأشياء تلعب دورا أساسيا كما في لوحته Fighting temeraire towed to her Last berth (1839) أو لوحته (المطر والبخار والسرعة)(1844) التي تمثل إعلانا حركيا فخورا لقرن من الخيول الحديدية. وعندما احترق مبنى البرلمان في سنة 1834 جلس تيرنر بالقرب منه يرسم إسكتشات لآخر لوحاته عن هذا المشهد. وعندما كان يعبر من هاروتش Harwich تعرضت سفينة لريح مجنونة وهطل عليها الجليد فاندفع الفنان الهرم نحو الساري (ساري المركب) وظل عنده طوال أربع ساعات حتى يحفر في ذاكرته تفاصيل المشهد وما فيه من رعب ورسمه بعد ذلك مستخدما اللون الأبيض بكثرة في لوحته عاصفة ثلجية (1842)، وفي سنة 1843 حقق نصره الأخير بلوحته (شمس البندقية تتجه للبحر).
واسودت سنوات عمره الأخيرة بذروة الإجماع على إدانته، وإن خفف وطأة ذلك عنه ما كاله له سيد النثر الإنجليزي من مديح. لقد انتقد أحد النقاد لوحة (العاصفة الثلجية)
باعتبارها مجرد رغوة صابون ودهان أبيض ولخص آخر أعمال الفنان في حقبته الأخيرة بأنها نتاج عين مريضة ويد طائشة واقترح شرابا مخلصا من عناصر شتى كعنوان عام لأي لوحة من لوحات تيرنر (إعصار استوائي) يضرب (برياح سمومه)(دوامة) محدثا (اضطرابا عظيما) و (سفينة تحترق) وقت (الكسوف)، وتأثير (قوس قزح القمري) - لقد بدت الأعمال الكاملة لهذا الفنان الكبير المتألق بعد نصف قرن من العمل - حقيرة مرفوضة في نظر أصحاب الاتجاه المحافظ.
وفي مايو 1843 أصدر جون روسكين John Ruskin وكان في الرابعة والعشرين المجلد الأول من كتابه (رسامون معاصرون Modern Painters) ، ألح فيه بحماس على تفوق تيرنر على كل رسامي المناظر المحدثين، والحيوية البالعة التي عبر فيها تيرنر عن العالم (الوجود) الخارجي (خارج ذاته) حتى إنها تعد أفضل تقرير عن هذا العالم (الوجود)، ووجد تيرنر نفسه في درجة أعلى من كلود لورين Claude Lorrain الذي كان يستلهم رسومه من مطلع شبابه، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة إليه، لكنه كلما واصل قراءة كتاب روسكين راح يتساءل:"ألن يضره هذا المديح المبالغ فيه؟ " لقد أضره فعلا ولكن لفترة. لقد راح النقاد يثنون على كتاب روسكين لكنهم راحوا يناقشون أحكامه طالبين حكما أكثر توازنا، ولم يتقيد روسكين بهذا النقد فراح يكرر في مجلد إثر مجلد دفاعه عن تيرنر وتمجيده له حتى كاد يخصص لتيرنر ثلث كتابه ذي الألفي صفحة. وأخيرا كسب معركته وعاش حتى رأى فنانه المحبوب وقد اعترف به الجميع كواحد من أعظم المبدعين في الفن الحديث.
وفي هذه الأثناء مات تيرنر (19 ديسمبر 1851) وتم دفنه في مقبرة كنيسة القديس بول، وكان قد أوصى بأن تكون أعماله الفنية للأمة - 300 سكتش، 300 لوحة بالألوان المائية، 19،000 تخطيط (رسوم تخطيطية) وترك 140،000 جنيه إسترليني لإنفاقها على الفنانين الفقراء (حصل أقرباؤه الأحياء بعد موته على قرار ببطلان الوصية وقسموا الأموال بين أنفسهم ومحاميهم) وربما كان أعظم تراثه هو اكتشافه للضوئية (نزعة في التصوير الحديث)، وفي هذا الجيل نفسه صاغ توماس يونج Young نظريته عن الأمواج الضوئية، لقد نشر تيرنر عبر أوروبا رسومه التي طبق فيها هذا الأسلوب (الضوئي) وكذلك لوحاته بالألوان
المائية، معلنا أن الضوء هو (موضوع) للرسم كما أنه (وسيلة) للرسام أو (وسط) يرسم فيه الأشياء، وبالتالي فهو يستحق أن يمثل بأشكاله المختلفة وألوانه وتشكيلاته وتأثيراته.
تلك هي الانطباعية impressionism ظهرت على يد تيرنر فبل ظهور الانطباعيين Impressionists. وربما كان مانت Manet وبيسارو Pissarro قد رأوا بعض أعمال تيرنر التي استخدم فيها هذا الأسلوب عند زيارتهم للندن في سنة 1870. وبعد ذلك بسبع سنين أرسل ديجاس Degas، ومونت (مونيه) Monet وبيسارو، ورينوار Renoir، خطاباً إلى تاجر أعمال فنية، ذكروا فيه أنه في دراساتهم للظاهرة الهائمة للضوء لم ينسوا أنه قد سبقهم في هذا الاتجاه أستاذ عظيم لمدرسة فنية إنجليزية - إنه الفنان الشهير - تيرنر.
الفصل الثامن عشر
العِلْم في إنجلترا
1 - سُبُل التقدم
لقد كانت إنجلترا تقود النَّقلة من الزراعة إلى الصناعة، وكان طبيعيا أن تشجع تلك العلوم التي تقدم إمكانات عملية، تاركة الدراسات النظرية للفرنسيين، وكان من المتوقع أن يكون فلاسفتها في هذه الفترة - بورك Burke ومالتوس Malthus وجودوين Godwin وبنثام Bentham وبين Paine - رجال دُنيا يواجهون المشاكل أو القضايا الحية، والأخلاقية والدينية والسكانية والحكومية والثورية، تاركين للفلاسفة الألمان التحليق في أجواء المنطق والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة metaphysics) والدراسات الفلسفية لتطور العقل (فينومينولوجيا العقل phenomenology of mind) . وقد أعلنت جمعية لندن الملكية لزيادة المعلومات في مجال العلوم الطبيعية Natural عند تشكيلها في سنة 1660 أنها تعمل على تأسيس كلية لتحسين التعليم التجريبي الفيزيائي الرياضي.
لكنها لم تصبح كلية بمعنى أنها لم تصبح مؤسسة أو منظمة لتخريج معلمي الشباب في المرحلة الثانوية وإنما تطورت لتصبح ناديا مقتصر على خمسة وخمسين عالما، يجتمعون بشكل دوري للتشاور وتكوين مكتبة تضم كتب العلوم والفلسفة ويقدمون للجمهور المهتم المحاضرات والتجارب، ويقدمون الأوسمة لذوي الإسهامات العلمية، وينشرون في المناسبات مطبوعا بعنوان المدونات الفلسفية Transactions Philosophical. وكانت الفلسفة لا تزال تضم العلم بين جنبيها وقد تبرعمت العلوم وانبثقت منها علماً في إثر علم نتيجة إحلال الصياغات الكمية والتجارب اليقينية محل المنطق والنظر المجرد. ونظمت الجمعية الملكية - بدعم حكومي عادة - مشروعات ومهام علمية.
وفي سنة 1780 خصصت الحكومة لها مقراً أنيقا في دار سومرست Somerset House ظلت به حتى سنة 1857 حيث انتقلت إلى مقرها الحالي في دار بيرلنجتون Burlington House في بيكادلي Piccadilly وأنفق السير جوزيف بانكس Banks - رئيسها في الفترة من 1778 إلى 1820 - كثيرا من أمواله للارتقاء بالعلم ورعاية العلماء. وكانت
مؤسسة لندن الملكية - الأقل شهرة من الجمعية الملكية، وإن كانت أهدافها أكثر وضوحا من حيث كونها مؤسسة تهتم بالتعليم -
قد أسسها الكونت رمفورد Rumford في سنة 1800 لتوجيه الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم لخدمة الفنون والصناعات، وذلك عن طريق تقديم دراسات نظامية - محاضرات فلسفية وتجارب (معملية أو ميدانية) وأتاحت مبنى شاسعاً في شارع البيمارل Albemarle لتقديم برامجها التعليمية فألقى فيه جون دلتون Dalton وسير همفري ديفي Humphry Davy محاضرات في الكيمياء، وتوماس يونج Young محاضرات في الطبيعة وانتشار الضوء، وكولردج Coleridge محاضرات في الفكر والأدب وسير إدوين لاندسير Edwin Landseer محاضرات في الفنون
…
وكانت هناك جمعيات أكثر تخصصا كجمعيات الشلالات التي اندمجت في سنة 1802 في جمعية للنبات،
والجمعية الجغرافية (1807) وسرعان ما ظهرت بعد ذلك جمعية لعلم الحيوان وأخرى للبساتين وثالثة للكيمياء الحيوية ورابعة للفلك، وأسست مانشستر وبرمنجهام جمعياتها الفلسفية رغبة منها في تطبيق العلم على صناعاتها، وأقامت بريستول Bristol معهد دراسة الغازات، وتم تكوين أكاديميات لشرح العلوم وتبسيطها للجمهور العام. وقدم ميشيل فاراداي Michael Faraday في إحدى هذه الأكاديميات وهو في الخامسة والعشرين من عمره سلسلة محاضرات أسهمت طوال نصف قرن في حفز البحوث في مجال الكهرباء.
وقد ألقى ميشيل محاضراته هذه سنة 1816، وبشكل عام، ففي التعليم العلمي، كان مجتمع رجال الأعمال في طليعة الجامعات كما جرى كثير من التقدم العلمي في مجال العلوم على أيدي أفراد مستقلين (غير تابعين لمؤسسات علمية أو تعليمية) يدعمهم أو يمولهم أصدقاؤهم. لقد تخلى البريطانيون عن الرياضيات للفرنسيين، وراح العلم البريطاني يركز على الفلك والجيولوجيا والجغرافيا والفيزياء والكيمياء.
لقد اهتم التاج البريطاني بعلم الفلك ووضعه تحت حمايته وقدم لبحوثه الإعانات المالية، لأنه علم حيوي للملاحة ويساعد في السيطرة على البحار. واعترف بمرصد جرينتش Greenwich بما فيه من أدق المعدات التي أمكن شراؤها بالأموال التي أقر البرلمان صرفها -
بأنه على قمة المراصد الأخرى. ونشر جيمس هتون Hutton سنة 1795 قبل موته بعامين مبحثه نظرية الأرض وهو مبحث جيولوجي كلاسيكي:
يلخص الحياة العامة لكوكبنا من خلال عمليات دورية يقوم المطر في كل دور منها بجرف سطح الأرض فتنشأ الأنهار نتيجة التعرية الذي تسببه الأمطار أو تحمل الأنهار بدورها نتيجة التأكُل إلى البحر، وتتبخر المياه والرطوبة من فوق سطح الأرض فتصير سحابا، وبتكثيف المياه في السحب تنزل مرة أخرى مطرا
…
وعند الطرف الآخر لهذا العصر (1815) حقق وليم سميث W. Smith - الملقب بستراتا سميث أو سميث طبقات جيولوجية Strata Smith - شهرة لبحثه المركز الذي لا يزيد عن خمس عشرة صفحة والذي يحمل عنوان خريطة جيولوجية لإنجلترا وويلز ويظهر هذا البحث أن طبقات جيولوجية تتجه تدريجيا نحو الشرق صاعدة حتى تصل في النهاية إلى سطح الأرض، وتقدم لنا في أثناء اتجاهها الصاعد أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السابقة كما تظهر في المتحجرات الحيوانية والنباتية في العصور الجيولوجية المختلفة، وقد قدمت له الحكومة البريطانية راتبا سنويا مقداره مائة جنيه إسترليني مدى الحياة بدءا من عام 1831 مكافأة له لكشفه عن أسرار باطن الأرض، وتوفي وليم سميث سنة 1839.
واستمر الملاحون البريطانيون في شرح زوايا الأرض والبحر وشقوقها. وفيما بين عامي 1791 و 1794 رسم جورج فانكوفر G. Vancouver خريطة لسواحل أستراليا ونيوزيلندا وهاواي والباسيفيكي شمال غرب أمريكا، وهناك دار مبحرا حول الجزيرة الفاتنة التي تحمل اسمه.
2 - الفيزياء: رمفورد، ويونج
RUMFORD & YOUNG
من الصعب أن تحدد جنسية بنيامين طومسون Thompson الذي ولد سنة 1753 وأقام في أمريكا وحصل على رتبة فارس في إنجلترا وأصبح هو الكونت رمفورد في بافاريا Bavaria ومات في فرنسا سنة 1814. واتخذ جانب بريطانيا في أثناء حرب الاستقلال الأمريكية وانتقل إلى لندن في سنة 1776. وأعادته بريطانيا كوزير في مستعمرة جورجيا، وقد امتد اهتمامه ليشمل العلوم إلى جانب اهتمامه السياسية وقام بأبحاث علمية ضمنت له زمالة الجمعية الملكية.
وفي سنة 1784 دخل - بإذن من الحكومة البريطانية - في خدمة
بافاريا التي كان يحكمها الأمير ماكسميليان جوزيف - Maximilian Joseph وفي غضون الأحد عشر عاما التي قضاها وزيراً للحرب والشرطة في بافاريا أعاد تنظيم الجيش وحسن أحوال الطبقة العاملة وقضى على التسول ومع هذا فقد وجد لديه من الوقت لكتابة أبحاث لدورية الجمعية الملكية المدونة الفلسفية وقد جعله ماكسميليان - اعترافاً منه بفضله - كونت الإمبراطورية الرومانية المقدسة (1791)، ويظن أن لقبه هو اسم مكان ميلاد زوجته (الآن كونكورد Concord) في ماساشوستس.
وفي غضون عام قضاه في بريطانيا (1795) عمل على تنظيم وسائل التدفئة والطهي بقصد تخفيف حدة التلوث في الهواء، وبعد عام آخر قضاه في الخدمة في بافاريا عاد إلى إنجلترا وأسس مع السير جوزيف بانكس Banks المؤسسة الملكية Royal Institution، وأسس نظام تكريم العلماء المعروف باسم وسام رمفورد الذي تمنحه الجمعية الملكية وكان هو نفسه أول من حصل عليه. وقدم أموالا لجوائز وأوسمة مماثلة تقدمها أكاديميات الفنون والعلوم في بافاريا وأمريكا ولأستاذية رمفورد في جامعة هارفارد.
وبعد وفاة زوجته انتقل إلى باريس (1802) واتخذ لنفسه مسكنا في أوتيل Auteuil وتزوج من أرملة لافوازيه Lavoisier ظل في فرنسا رغم تجدد حربها مع إنجلترا. وظل نشيطا إلى آخر حياته وعمل في آخر أعوامه على إطعام العامة المعوزين من فرنسيين حساء رمفورد وكان نابليون قد أخذ معه كل أبنائهم (جنّدهم) وانطلق إلى قدره.
كانت إسهامات رمفورد في العلوم متباينة وعرضية بدرجة لا تجعلها دراماتيكية مذهلة، لكن إذا جمعناها معاَ وجدناها تمثل مجموعة عناصر مؤتلفة جديرة بالملاحظة نظراَ لانشغاله بالأعمال الإدارية، وبينما كان يراقب تجويف مدفع في ميونخ فوجئ بالحرارة الشديدة الناتجة من العملية. ولقياس هذه الحرارة رتب الحصول على أسطوانة معدنية دوارة ورأسها في مواجهة مثقب من الصلب وكلاهما الأسطوانة والمثقاب في صندوق محكم يحتوي على ثمانية عشر رطلا وثلاثة أرباع الرطل من المياه. وفي غضون ساعتين وثلاثة أرباع ساعة ارتفعت حرارة الماء من ستين درجه فهرنهيت Fahrenheit إلى 212 - درجة الغليان.
وقد ذكر رمفورد في وقت لاحق كان من الصعب أن نصف الدهشة التي اعترت المشاهدين عند رؤيتهم هذا
القدر الكبير من المياه يصل إلى درجة الغليان دون استخدام نيران وقد أثبتت هذه التجربة أن الحرارة ليست جوهرا أو مادة وإنما هي أسلوب للحركة الجزيئية تتناسب في الدرجة مع كمية الجهد المبذول لإنتاجها. وكان هذا الاعتقاد سائدا منذ فترة طويلة لكن تجربة رمفورد كانت هي الدليل التجريبي الأول، كما أنها كانت طريقة (منهجاً) لقياس المعادل الميكانيكي للحرارة - أي كمية العمل المطلوبة لتسخين رطل من المياه درجة حرارية واحدة.
ويكاد يكون توماس يونج مثل مونتيني Montaigne في تباين اهتماماته. ولد في سنة 1773 من أسرة على مذهب الكويكر Quaker في سومرست. لقد بدأ متعلقاً بالدين وانتهى مخلصا الإخلاص كله للعلم. وهناك ما يؤكد لنا أنه كان قد قرأ الكتاب المقدس المسيحي وهو في الرابعة من عمره وكان يستطيع الكتابة بأربع عشرة لغة وهو في الرابعة عشر من عمره وتم انتخابه وهو في الواحدة والعشرين من عمره كزميل في الجمعية الملكية، وفي الثمانية والعشرين كان يقوم بتدريس الفيزياء في المؤسسة الملكية، وفي سنة 1801 بدأ هناك التجارب التي أكدت - وطورت- فكرة هويجنز Huyghens عن الضوء كموجات لأثير افتراضي.
وبعد مناقشات طويلة أزاحت هذه النظرية بشكل عام - وليس على مستوى العالم - نظرية نيوتن Newton عن الضوء كإشعاع لجسيمات مادية، وقدم يونج أيضا فرضا مؤداه أن إدراك اللون يعتمد على وجود ثلاثة أنواع من الألياف العصبية في شبكية العين حساسة - على التوالي - للأحمر والبنفسجي والأخضر، وقد طور هيلمهولتس Helmholtz هذا الفرض فيما بعد. وقدم لنا أول وصف لحرج البصر (اللابؤرية أو اللا استجمية astigmatism) وضغط الدم والجاذبية الشعرية والمد والجزر وشارك بنشاط (1814) في فك رموز حجر رشيد. وقال مؤرخ طبي مثقف إنه كان أكثر الأطباء ثقافة وعلماً في عصره وأضاف هيلمهولتس قائلا "إنه كان أوضح الناس بصيرة".
3 - الكيمياء: دالتون وديفي
DALTON AND DAVY
في العقد نفسه، وأيضا في المؤسسة الملكية نفسها أحدث دالتون ثورة في مجال الكيمياء بنظريته الذرية atomic theory (1804) لقد كان ابنا لنساج من طائفة الكويكر. ولد في سنة 1766 في إيجلسفيلد Eaglesfield بالقرب من كوكرموث Cockermouth في الطرف الشمالي لمنطقة البحيرة الضبابية الرائعة Lake District التي أنجبت الشعراء: وردزورث Wordsworth وكولردج Coleridge وسوثي Southey. وفي وقت لاحق كتب على لسان شخص ثالث ملخصاً اهتماماته الأولى في عرض زمني مجرد لم يخف طموحه الحار الذي أضاء أمامه طريق الإنجاز:
كاتب هذه
…
درس في مدرسة القرية
…
حتى سن الحادية عشرة. وفي هذه الفترة قطع شوطا في دراسة حساب المساحات والأحجام، والمساحة والملاحة
…
الخ، وبدأ في سن الثانية عشرة في التدريس في مدرسة القرية
…
وكان يعمل في المناسبات لمدة عام أو أكثر في مجال الزراعة وتربية الحيوانات الداجنة، وانتقل إلى كندال Kendal وهو في الخامسة عشرة من عمره مساعداً في مدرسة مؤقتة (مشيدة من الألواح الخشبية) وظل في هذا العمل مدة ثلاث سنوات أو أربع، ثم أخذ على عاتقه إقامة مدرسة على نسق هذه المدرسة وقضى ثماني سنوات فيها وبينما كان في كندال كان يقضي وقت فراغه في دراسة اللاتينية واليونانية والفرنسية، والرياضيات مع الفلسفة الطبيعية natural، وفي سنة 1793 انتقل إلى مانشستر معلماً للرياضيات والفلسفة (العلوم) الطبيعية في الكلية الجديدة
وكان يواصل - إذا سمح الوقت والمال - ملاحظاته ومشاهداته وتجاربه التي كان يقوم هو شخصيا بكثير منها رغم أنه كان مصاباً بعمى الألوان ورغم الأدوات المعملية البسيطة (البدائية) ووسط اهتماماته الكثيرة وجد الوقت الكافي لتدوين سجل بالأرصاد الجوية منذ كان في الواحدة والعشرين من عمره إلى اليوم الذي سبق وفاته مباشرة. وعادة ما كان يقضي إجازاته طوافا باحثاً عن الحقائق في الجبال نفسها التي كان الشاعر وردزورث يجول فيها بعد ذلك بأعوام قلائل، وعلى أية حال فبينما كان وردزورث يطوف بحثا عن الله مصغيا له فإن دالتون كان يرصد الأحوال الجوية عند
الارتفاعات المختلفة (فوق سطح البحر)، وكان عمله هذا يشبه إلى حد كبير عمل بسكال Pascal قبل ذلك بقرن ونصف قرن.
وقد قبل في تجاربه نظرية أن المادة مكونة من ذرات atoms غير قابلة للانقسام تلك النظرية التي قال بها كل من ليوسيبوس Leucippus (حوالي 450 ق م) وديموقريطس Democritus (حوالي 400 ق. م) وواصل فرضية روبرت بويل Boyle (1627 - 1691) التي مؤداها أن كل الذرات تنتمي إلى واحد أو آخر من عناصر معينة لا تنحل إلى عناصر أخرى أساسية - هذه العناصر المعينة التي لا تنحل هي: الهيدروجين والأكسوجين والكالسيوم
…
وقد دلل دالتون في كتابه نظام جديد لفلسفة الكيمياء (1808) A New System of Chemical Philosophy على أن وزن أي ذرة من ذرات عنصر إذا قورنت بأي ذرة من عنصر آخر، يجب أن يكون هو نفسه تماما كما أن وزن إجمالي العنصر الأول هو نفسه وزن إجمالي العنصر الآخر.
وبعد العديد من التجارب والحسابات أخذ دالتون وزن ذرة الهيدروجين كوحدة (as one) وراح يراوح بين كل ذرة من ذرات العناصر الأخرى بالوزن النسبي لأي واحدة من ذراتها من ناحية وذرة الهيدروجين من ناحية أخرى، ومن ثم كوّن قائمة بالأوزان الذرية للثلاثين عنصرا التي كانت معروفة لديه.
وفي 1967 تعرف الكيميائيين علي 96 عنصر جديد وكان لابد من أن تصحِّح أبحاث لاحقة ما وصل إليه دالتون من نتائج، لكن نتائجه وكذلك قانونه المعقد المعروف باسم قانون النسب المتضاعفة Law of multiple proportions ثبت أنها ساهمت إسهاما كبيرا في تطور العلم في القرن التاسع عشر.
كان السير همفري ديفي Humphry Davy بحياته وتعليمه واكتشافاته أكثر إثارة كما أنه كان نمطاً مختلفا. ولد في بنزانس Penzance (1778) من أسرة ثرية من الطبقة الوسطى وتلقى تعليما وزاد عليه بدراسات في الجيولوجيا وصيد الأسماك ورسم الاسكتشات sketches والشعر.
وأكسبته طبيعته المرحة أصدقاء مختلفين بدءا من كولردج وسوثي والدكتور بيتر روجت Peter Roget (الذي أعد قاموسا بمفردات الإنجليزية وعباراتها، والذي اتسم بالجد والاجتهاد والعبقرية، وأطلق على عمله هذا الذي صدر في سنة 1852 اسم:" Thesaurus of English words & phrases" - حتى نابليون. وكان له صديق آخر أتاح له استخدام معمله الكيميائي مما جعل ديفي يعبر عن امتنانه له في صيغة الإهداء التي وجهها
له. وقد نظم ديفي مكتبته الخاصة وكان يصنف الغازات بتشممها وحث كولردج وسوثي على مشاركته في تشمم الغازات كاد يقتل نفسه بتسممه أبخرة الغازات شديدة السمية.
ونشر وهو في الثانية والعشرين مبحثا عن تجاربه بعنوان مباحث كيميائية وفلسفية Researches Chemical and Philosophical في سنة 1800. ودعاه الكونت رمفورد وجوزيف بانكس Banks إلى لندن لإلقاء محاضرات عن عجائب المركم (البطارية battery) (عمود فولتا Voltas pile) وعرض لبعض إمكاناتها، فحقق شهرة جديدة في المعهد الملكي Royal Institution لقد استخدم بطارية مكونة من 250 زوج من الرقائق المعدنية كوسيلة للتحليل الكيميائي بالكهرباء واستطاع - بهذه الطريقة - تحليل المواد المختلفة إلى عناصرها، فاكتشف - وعزل - الصوديوم والبوتاسيوم، وواصل تجاربه فاستطاع عزل الباريوم barium والبورون boron والسترونتيوم strontium والكالسيوم والمغنيسيوم وأضافها إلى قائمة العناصر. لقد وضعت اكتشافاته وإنجازاته أسس علم الكيمياء الكهربائية، كعلم له إمكانات نظرية وعملية لا حد لها. ووصلت أخبار أعماله إلى نابليون فأرسل له في سنة 1806 عبر جبهة القتال جائزة المعهد الوطني الفرنسي Institute Nationale.
وكان بيرثوليه Berthollet قد شرح في سنة 1786 لجيمس وات Watt ما في الكلور chlorine من طاقة تبييض bleaching power وتوانت إنجلترا في الأخذ بهذه الفكرة إلا أن ديفي جدد الأخذ بها وكانت جهوده فعالة. لقد تطور العلم والصناعة من خلاله فقد كانت اكتشافاته وتجاربه ذوات دور رائد في التحول الاقتصادي لبريطانيا العظمى. وفي سنة 1810 أجرى ديفي تجارب لإظهار قوة التيار الكهربائي بتمريره من سلك كربوني دقيق إلى سلك آخر، لإنتاج ضوء وحرارة، وكان ذلك أمام جمهور المعهد الملكي. وقد وصف هذه العملية كالتالي:
عند تقريب قطع من الفحم النباتي يبلغ طول القطعة الواحدة منها بوصة واحدة ويبلغ قطرها سدس بوصة - بعضها من بعضها الآخر (بحيث تكون كل قطعة على بعد: واحد على أربعين أو واحد على ثلاثين من البوصة) ينتج عن هذا شرارة فيحترق أكثر من نصف حجم الفحم النباتي ليصبح رمادا أبيض، وبسحب مآخذ التيار points وإبعادها بعضها عن
بعضها الآخر يحدث تفريغ خلال الهواء الساخن في مساحة تبلغ أربع بوصات على الأقل فينتج عن هذا قوس من النور صاعد متألق
…
وعند إدخال أي مادة في هذا القوس الضوئي فإنها تشتعل (تحترق) فورا، فكل المواد في هذه الحال تنصهر وتتحد سواء البلاتين أو الشمع المعتاد أو الكوارتز أو الياقوت الأزرق أو الماغنسيوم أو الجير (أكسيد الكلسيوم).
إن إمكانات توليد الضوء والحرارة السابق ذكرها لم تتطور حتى تم اختراع وسائل أرخص لإنتاج التيار الكهربائي، لكن في هذه التجربة الألمعية كان أساس الأفران الكهربائية التي أحالت الليل إلى نهار لنصف سكان المعمورة.
وفي سنة 1813 ارتحل ديفي بصحبة مساعده الشاب ميشيل فاراداي Faraday عبر فرنسا وإيطاليا في وقت كانت فيه كل أوربا تقريبا تخوض الحرب، لكنه استطاع التنقل بفضل حق المرور الآمن الذي أصدره له نابليون. وراح يزور المعامل ويجرب التجارب واكتشف خواص اليود (عنصر لا فلزي) وأثبت أن الألماس هو نوع من الكربون. ولما عاد إلى إنجلترا درس أسباب إنفجارات المناجم واخترع مصباح أمان للعاملين في المناجم.
وفي سنة 1818 منحه الوصي على العرش Regent رتبة البارونتية (وهي رتبة دون البارون) وفي سنة 1820 خلف بانكس Banks كرئيس للجمعية الملكية Royal Society. وفي سنة 1827 بدأت صحته في التدهور فترك العلم ليمارس صيد السمك وكتب كتابا في هذا الموضوع وجعل فيه رسوم إيضاح من رسمه. وفي سنة 1829 - وكان مصابا بشلل جزئي - ذهب إلى روما ليكون حطاما بين الخرائب أو بتعبير آخر ليكون أثرا بين الآثار لكنه مات قبل انصرام العام. إنه لم يعش سوى 15 سنة لكن سنواته هذه كانت تساوي حيوات كثيرة. لقد كان رجلاً عظيما طيبا وكان واحداً من البشر المخلِّصين (بتشديد اللام وكسرها) الذين عملوا على تخليصنا من الجهل والخطايا (الآثام).
4 - البيولوجيا (علم الأحياء) إرازموس داروين
ERASMUS DARWIN
حتى الآن لم تكن البيولوجيا Biology (علم الأحياء) في إنجلترا تسير سيرا حسنا كسير الفيزياء والكيمياء والجغرافيا، فقد كانت هذه العلوم ذوات صلات وثيقة بالعمل على تحسين الصناعة والتجارة وتطويرهما، أما البيولوجيا فقد كانت توحي بتراجيدية (مأساوية) الحياة وبهائها وكانت تهز العقيدة الدينية.
لقد كان إرازمس داروين - جد تشارلز - قد تلقى بالفعل تقديرنا وثناءنا فقد كان شرارة وضّاءة وسط ألمعية هذا العصر الذي شهد نشر أعماله: الحديقة النباتية Botanic Garden (1792) وعلم أصول الحياة الحيوانية Zoonomia (1794 - 1796) ومعبد الطبيعة The Temple of Nature (1803) . لقد كتبت هذه الكتب جميعا من وجهة نظر تطورية. وقد اتفقت هذه الدراسات مع لامارك Lamarck في إقامة النظرية على أمل تكيف العادات والأعضاء على وفق للرغبة والمجهود والعزم فإذا ما استمر ذلك وقويت خلال أجيال كثيرة لأمكن انتقال (هذه الصفات الجديدة والمرغوب فيها) إلى العصب والجسم.
هذا الأستاذ العبقري الذي أصبح اسمه كبيرا على طول المدى عمد إلى التوفيق بين التطور والدين بافتراض "أن كل الحياة الحيوانية (بما فيها البشرية) كانت قد بدأت من مستودع لقاح حي واحد كان هو العلة الأولى الكبيرة المتضمنة لكل الكائنات الحية ثم خُلِّي سبيلها لتتحسن على وفق لنشاطها الداخلي الخاص بها، ولتسلم ما لحق بها من تطورات وتحسينات للأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل وبلا نهاية".
لقد دخل الحوار الدائم بين الدين والعلم - رغم خفوته في هذا العصر - في مملكة (عالم) السيكولوجي psychology الذي أصبح مجالا يحظى بالرعاية في وقت من الأوقات، عندما قام هارتلي Hartley وبريستلي Priestly بإعداد تفسير فسيولوجي للربط بين الأفكار وعندما استوحى علماء التشريح - بشكل متزايد - فكرة العلاقة بين الجسد والعقل (النفس).
وفي سنة 1811 نشر تشارلز بل Bell مبحثه فكرة جديدة عن تشريح المخ Anew Idea of the Anatomy of the Brain وبدأ في هذا المبحث يبرهن على أن أجزاء مخصوصة في الجهاز
العصبي تحول انطباعات الحواس إلى أجزاء مخصوصة في المخ، وأن أعصاباً مخصوصة تحمل أوامر الحركة إلى أعضاء الاستجابة المنوط بها التنفيذ. وبدت ظاهرة التنويم المغناطيسي - التي زاد انتشارها - تشير إلى تحول فسيولوجي للإحساس إلى أفكار ومن ثم إلى أعمال، وقد تم تناول تأثير الأفيون من حيث جلبه للنوم وتأثيره في الأحلام وحفزه للخيال وإضعافه للإرادة (كما ذكر كولردج Coleridge ودى كوينسي De Quincey) في سياق الحديث عن حرية الإرادة، وتم تقليص هذه القضية الكبيرة (حرية الإرادة) إلى مقادير جبرية تصوغ الدوافع والمحركات والخيالات المختلفة المتصارعة.
وبدا الوضع المزدهر الصاعد للمناقشات العلمية والمركز الاجتماعي المرموق لمهنة الطب مقارنة بالمركز المتدني للإكليروس الأنجليكاني (رجال الدين الأنجليكان) الذي قلت فعاليته كثيرا - يعكس اللامبالاة الدينية التي كانت قد بدأت تنتشر بشكل سري، بل وتعكس ما حاق بالدين من شك لدرجة وجود من أنكره تماما.
5 - الطب: جنر
Jenner
لا يكاد الإخاء الطبي (تمتع الجميع بالرعاية الطبية) يستحق هذا الاسم الذي أطلق عليه لأن الرعاية الطبية تعكس تماما الولع البريطاني بالتمييز بين الطبقات، فكلية الأطباء الملكية Royal College of physicians - الفخورة بتأسيسها في عهد هنري الثامن في سنة 1518 - تقصر زمالتها على نحو خمسين كانوا قد حصلوا على درجاتهم العلمية من أكسفورد Oxford أو كمبردج Cambridge، كما تقصر إجازاتها Licentiate على نحو خمسين من الممارسين المميزين. ويكون هؤلاء المائة نوعاً من المجالس أقرب ما يكون إلى مجلس لوردات الأطباء ودارسي الطب House of Lords to medicos في إنجلترا.
ويحصل هؤلاء الأعضاء على دخول كبيرة فأحيانا ما يصل دخل الواحد منهم إلى عشرين ألف جنيه في السنة. ولا يمكن للواحد منهم أن يكون نبيلا أو أميرا، وإن كان يمكن أن يصبح في رتبة فارس وقد يطمح للبارونتية baronetcy (درجة دون البارون) والكلية الملكية للجراحين التي أسست سنة 1800 من بين المؤسسات الأدنى درجة. ويلي تلك الدرجة الأطباء القائمون بتوليد النساء (الذين يقومون بعمل القابلات male midwives) الذين تخصصوا في سحب الأجنة من الأرحام (حيث
الدفء والأمان) إلى العالم الخارجي حيث المنافسة والصداع. وفي قاع السلم الاجتماعي للعاملين في المهن الطبية يأتي الصيادلة الذين يقدمون كل الرعاية الطبية تقريبا في المناطق الريفية.
ولا تقدم أي كلية من هذه الكليات السابق ذكرها أي نوع من التعليم الطبي فيما عدا بعض المحاضرات التي يلقيها مشاهير الأطباء في المناسبات. ولم يكن في أكسفورد ولا كامبردج مدرسة للطب فالطلاب الذين كانوا يرغبون في الحصول على تعليم وتدريب طبيين كان عليهم أن يلتمسوه في اسكتلندا وفيما عدا ذلك فإن تدريب الأطباء الإنجليز ترك للمدارس الخاصة التي أقيمت بالقرب من المستشفيات الكبرى بأموال المؤسسات الخيرية وتبرعات المحسنين.
وقد أنقق السير توماس برنارد Thomas Bernard كثيرا من ثروته في إصلاح مستشفى اللقطاء الشهيرة في شمال لندن وشارك غيره من الأثرياء في تمويل مستوصفات (عيادات Clinics) لعلاج السرطان والرمد والفتق، في لندن وأماكن أخرى. لكن وسائل منع انتشار الأمراض كانت هزيلة في المدن مما أدى إلى انتشار الأمراض بل وظهور أمراض جديدة، وكانت سرعة انتشار الأمراض تفوق إمكانات العلاج.
وفي سنة 1806 سجلت لندن حدثا فريدا: "لقد مضى أسبوع كامل دون أن يتوفى أحد بمرض الجدري - ذلك المرض المسبب للبثور والحمى والمشوّه للوجه والمعدي والذي كان في وقت من الأوقات متوطنا في إنجلترا وقد ينتشر في أي وقت مرة أخرى ليصبح طاعونا مميتا"(المقصود كارثة مسببة للموت).
وقد أعاد أسبوع المعجزات طبيب إنجليزي بسيط هو إدوارد جنر كان مدمنا على الصيد (القنص) وعلم النبات وقرض الشعر، وعزف الفلوت flute والضرب على الكمان violin (العثيولين)، بنشر التطعيم ضد هذا المرض طوال عقد من الزمان منهيا بذلك موقف المجتمع البريطاني المتحفظ ضد كل ما هو جديد. لقد كانت الوقاية من مرض الجدري عن طريق التطعيم بفيروس المرض بعد إضعافه طريقة يمارسها الصينيون القدماء ووجدت ليدي ماري ورتلى مونتاجيو Mary Wortley Montagu هذه الطريقة معتادة في القسطنطينية (إسطنبول أو استانبول) في سنة 1717 وقد أوصت عند عودتها إلى إنجلترا باستخدام هذه الطريقة. وقد
جرب نظام التطعيم هذا على المجرمين ومن ثم على الأيتام وحقق نجاحا ملحوظا. وفي سنة 1760 قرر الدكتور روبرت ستون Sutton والدكتور دانيال ستون أنه من بين ثلاثين ألف حالة طعمت ضد الجدري لم يصب بهذا المرض سوى 1200 (حالة). أيمكن أن تكون هناك طريقة أفضل لمنع الجدري؟
لقد اهتدى جنر إلى طريقة أفضل عندما لاحظ أن كثيرات من العاملات في حلب ماشية اللبن في بلده جلوسسترشير Gloucestershire يصابون بجدري البقر من خلال ملامستهم لحلمات الأبقار المصابة وبالتالي يصبحن ذوات مناعة ضد مرض الجدري (الذي يصيب البشر)، وتراءى له أنه يمكن تكوين مناعة شبيهة باستخدام طعم (لقاح) (الكلمة الإنجليزية Vaccine من الكلمة اللاتيينة Vacca وتعني بقرة) من فيروس جدري البقر الذي يمكن الحصول عليه من الأبقار المصابة. وفي بحث نشر في سنة 1798 ذكر جنر الإجراء المغاير لما هو متبع والذي وضع به أسس الطب التجريبي وعلم الطب الوقائي (علم المناعة):
.. لقد تخيرت صبيا صحيحا في نحو الثامنة من عمره بغرض تجريب تطعيمه بجدري البقر Cow Pox، وتم الحصول على القيح matter من قرحة من يد إحدى العاملات في حلب ألبان البقر وحقن الصبي بهذا القيح في 14 مايو سنة 1796 في ذراعه
…
وفي اليوم السابع اشتكى متوعكا .. وفي اليوم التاسع أصبح يرتعد وفقد شهيته وأصيب بصداع خفيف
…
وفي اليوم التالي كان في حالة جيدة تماما
…
وكي أتأكد مما إذا كان الصبي بعد تعريضه لإصابة خفيفة من فيروس جدري البقر، أصبح آمنا (اكتسب مناعة) ضد الجدري (الذي يصيب البشر)، فقد تم حقنه في أول يوليو التالي بقيح الجدري الذي يصيب البشر Variolous matter (الكلمة اللاتينية Variola تعنى الجدري Smallpox) تم أخذها مباشرة من بثرة مصاب بالجدري
…
فلم تظهر على الصبي أعراض الجدري وبعد عدة أشهر تم حقنه مرة أخرى بقيح الجدري الذي يصيب البشر لكن لم يظهر على بدنه أي عرض من أعراض الجدري.
واستمر جنر Jenner يصف حالات أخرى بلغت اثنتين وعشرين حالة اتخذ معها الإجراء نفسه فكانت النتائج مرضية تماما. وقد تعرض لاتهامات بإجراء التجارب على الأحياء وبدا للذين اتهموه وكأنه يقوم
بتشريح الأحياء وحاول الاستفادة من الأقلية الموافقة ببناء بيت صغير له، وإنشاء حديقة زهور يزرعها بيديه وفي عامي 1802 و 1807 وافق البرلمان على منح جنر 30،000 جنيه إسترليني لتحسين طرائقه لمقاومة الجدري ونشرها. وكاد الجدري يختفي من أوربا وأمريكا خلال القرن التاسع عشر، وإذا حدث وأصيب به شخص فإن هذا الشخص يكون غير مطعم (لم يتلق التطعيم ضد المرض).
وتم تطبيق نظام التطعيمات الواقية ضد أمراض أخرى وأسهم علم المناعة الجديد بالإضافة للوسائل الجديدة التي أحرزها الطب وبالإضافة لتحسن الظروف الصحية والبيئية العامة في تحسين الأحوال الصحية في المجتمعات الحديثة التي نهشها الفقر وترعرع فيها الجهل وازداد فيها الجشع وثابر فيها المرض بأساليب شتى.
الفصل التاسع عشر
الفلسفة الإنجليزيّة
لم يكن للعلم في بريطانيا في الفترة من 1789 إلى 1815 سوى تأثير ضئيل في الفلسفة. أعني أن العلوم الطبيعية Physical يمكن أن تتوافق مع اللاهوت (الثيولوجيا theology) الليبرالي liberal (المتحرر) بل وحتى فكرة التطور يمكن. مواءمتها مع تفسير الخلق في ستة أيام باعتبار كل يوم يمثل فترة من فترات التطور تتسم بالطول. لقد أصبح أفراد الطبقات العليا الآن بعد أن أنهت الثورة الفرنسية تعاطفهم مع فولتير والموسوعيين Encyclopedists، لا يثقون في الأفكار (الجديدة) باعتبارها أمراضاً معدية تصيب الشباب. لقد اعتبروا العبادة الأسبوعية استثمارا حكيما يؤدي إلى الانضباط الاجتماعي والاستقرار السياسي واشتكوا لأن رئيس الوزراء بت Pitt لا يجد وقتا للذهاب إلى الكنيسة وكان هناك بعض الأساقفة الذين تشككوا في أمور الدين فيما بينهم وبين أنفسهم لكنهم عرفوا بين العامة بتقواهم ومع هذا استمر الصراع القديم.
وفي عام 1794 ظهر صوتان معبران عن الفكرتين المتناقضتين: توماس بين Paine في كتابه عصر العقل The Age of Reason ووليم بيلي Paley في كتابه "نظرة في البراهين على المسيحية"
A view of the Evidences of Christianity.
1 - توم بين: عن المسيحية
لقد كان توم بين TOM PAINE - الذي عرف بهذا الاسم توم في قارتين - رجلا إنجليزيا ولد في أسرة من الكويكر Quaker في ثتفورد Thetford في نورفولك Norfolk في سنة 1737، وهاجر إلى أمريكا في سنة 1774 بناء على نصيحة بنيامين فرانكلين، وقام بدور ناشط في الثورة الأمريكية. وأثنى الجنرال واشنطن على كتيب بين Paine الموسوم باسم الحصافة أو الفطرة السليمة Common Sense (يناير 1776) لأنه أحدث تغييراً قويا في عقول أناس
كثيرين وفي أثناء حروب الثورة الأمريكية أصدر سلسلة من نشرات الدعاية باعتباره معاونا للجنرال ناثانيال جرين Nathanael Greene بعنوان الأزمة لرفع الروح المعنوية لجيش الثوار وللمواطنين. وقد بدأت إحدى هذه النشرات بالعبارة الشهيرة في هذه الأوقات تعرف معادن الرجال أو بتعبير آخر تلك هي الأوقات التي تختبر فيها أرواح الرجال.
وفي الفترة من 1787 إلى 1802 كان يعيش معظم الوقت في أوربا عاملاً لصالح الثورة الفرنسية في كل من فرنسا وإنجلترا. ووجدناه يخاطر برأسه عند تصويته لصالح تخفيف عقوبة الإعدام الصادرة ضد لويس السادس عشر إلى النفي. وفي ديسمبر من هذا العام (1793) - بتحريض ظاهر من روبيسبير Robespierre - أصدرت الجمعية الوطنية مرسوما بطرد كل الأجانب من عضويتها ولم يبق فيها إلا اثنان: أناكارزيس كلوتس Anacharsis Cloots وتوماس بين Paine. وعندما توقع بين Paine أن يقبض عليه سارع بكتابة ما يعرف الآن بالجزء الأول من عصر العقل The Age of Reason، وأرسل مخطوطة الكتاب إلى أمريكا مشفوعة بالإهداء التالي:
إلى رفاقي أهل بلدي في الولايات المتحدة الأمريكية: إنني أضع العمل التالي تحت حمايتكم. إنه يضم آرائي في الدين. إنكم ستسدون إليّ عدلاً إن تذكرتم أنني كنت دائما أؤيد بشدة حق كل إنسان في إبداء رأيه مهما كان مختلفا مع ما قد يكون رأيي. إن من ينكر على الآخرين حقهم في إبداء رأيهم إنما هو عبد لرأيه الحالي لأنه يسلب نفسه حق تغيير هذا الرأي.
إن العقل هو أمضى سلاح ضد كل أنواع الخطأ ولم يحدث أبداً أن استخدمت سواه وإنني واثق أنني لن أثق - مستقبلاً - في سواه.
صديقكم المخلص ومواطنكم
توماس بين
باريس، 27 يناير 1794.
ويقدم لنا بين Paine في مستهل كتابه هذا سببا غير متوقع لتأليف كتابه فيقول:
"إنه لا
يهدف إلى تدمير الدين وإنما يهدف إلى منع الفساد الناتج عن أشكاله (أشكال الدين) غير العقلية (اللاعقلانية) من أن يقوض النظام الاجتماعي ويدمره خوفا من الخراب العام الذي تسببه الخرافة، والذي تسببه النظم الحكومية الزائفة واللاهوت الزائف، فهذه النظم الزائفة تفقدنا الأخلاق والإنسانية واللاهوت الحق"،
ويضيف قائلاً ومؤكداً مجدداً: "إنني أومن بالله الواحد الأحد لا رب سواه One and no more، وإنني آمل في تحقيق السعادة بعد هذه الحياة أي بعد الموت".
ثم يستل موسى أوكام Occam's razor يقول: "إنني لا أومن بعقائد اليهود ولا عقائد كنيسة روما ولا كنيسة الأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة اليونانية) ولا عقائد المسلمين (النص: الكنيسة التركية Turkish Church) ولا الكنيسة البروتستنتية ولا أي كنيسة (مؤسسة دينية) أعرفها. فعقلي هو كنيستي. فكل الكنائس كمؤسسات وطنية
…
لا تبدو لي أكثر من كونها بدع بشرية أقيمت لإرهاب البشر واسترقاقهم ولاحتكار السلطة وتحقيق المكاسب ".
وكان معجبا بالمسيح كرجل فاضل ودود وكان مقتنعا أن الأخلاق والقيم اللتين بشر بهما وطبقهما كانتا خيرتين إلى أقصى حد لكن حكاية كونه ابن الله ليست سوى خرافة مشتقة من خرافة شائعة بين الوثنيين.
إذ يكاد كل الرجال المميزين الذين عاشوا في ظل الميثولوجيا mythology الوثنية قد كرروا الزعم بأنهم أبناء الآلهة
…
لقد كان اتصال الأرباب (الآلهة) اتصالا جنسيا بالنساء رأيا شائعا بين الناس. فالرب جوبيتر Jupiter في زعمهم قد تعايش مع كثيرات عيشة الأزواج. وعلى هذا فحكاية أن المسيح ابن الله ليست جديدة ولا غريبة ولا مدهشة ولا فاحشة وإنما هي مجرد فكرة كانت موجودة بالفعل ومريحة ومتمشية مع آراء وعقول غير اليهود Gentiles، ولأنها كانت منتشرة بينهم فهم وحدهم الذين آمنوا بها. أما اليهود الذين احتفظوا بالإيمان بإله واحد ولا سواه (لا شريك له) فكانوا يرفضون دائما الميثولوجيا mythology الوثنية ولم يوافقوا أبدا على هذه الحكاية (على أن المسيح هو ابن الله).
وعلى هذا فالميثوجيا المسيحية ليست سوى الميثولوجيا الوثنية في شكل جديد. إنها لا
تعدو كونها تكراراً للميثولوجيا الوثنية:
ففكرة التثليث أو وجود أرباب (أقانيم) ثلاثة التي ظهرت بعد ذلك ليست سوى تخفيض أو تنقيص للتعددية السابقة التي كانت تقول بوجود نحو عشرين ألف أو ثلاثين ألف رب. وقد حل تمثال مريم (العذراء) محل تمثال ديانا الإفسوسية Diane of Ephesus، وحل تأليه الأبطال heroes محل تقديس القديسين (المصطلح المسيحي canonization يعني ضم شخص ما إلى قائمة القديسين). فالمؤمنون بالأساطير (الميثولوجيون) لديهم آلهة (أرباب) لكل شيء، والمسيحيون المؤمنون بالأساطير عندهم قديسون لكل شيء، وأصبحت الكنيسة مزدحمة بهم كما كان البانثيون Pantheon مزدحما بالآلهة.
فالنظرية (العقيدة) المسيحية لا تختلف إلا قليلا عن وثنية الميثولوجيين Mythologists القدماء بعد تحويرها (أي العقيدة المسيحية) لتخدم أغراض السلطة والدخل (الاقتصاد) وبقي على العقل والفلسفة أن يبطلا هذا الدجل المبهم. ثم راح بين Paine يلقي أضواءه البحثية مستخدما العقل في سفر التكوين (السفر الأول في التوراة) ولم يطق صبرا على حكاياته الرمزية وأمثاله فهوى بمعوله على حواء والتفاحة.
وكان مثل ميلتون Milton مفتونا بالشيطان أول الثائرين لقد كان الشيطان (إبليس) ملكاً أُدْخِل جهنم لمحاولته الإطاحة بالعرش، وفي جهنم ظل يعاني طول الوقت بلا نهاية. ومع هذا فلا بد أن يهرب من هذه النار التي لا تخمد (جهنم) في وقت أو آخر لأنه كان قد وجد طريقه إلى جنة عدن، ولأنه استطاع غواية (الناس) بأكثر الطرق التواء. لقد استطاع أن يقدم المعرفة لحواء ونصف عالم المسيح.
ويعجب بين Paine من أن الميثولوجيا المسيحية قد أضفت على الشيطان (إبليس) شرفاً كبيرا. إنها تفترض أنه أجبر الله عز وجل على إرسال ابنه (المقصود المسيح) لبلاد اليهودية Judea ليُصلَب، وذلك ليعيد له (المقصود لله سبحانه) على الأقل جزءا من أهل الأرض كانوا على علاقة حب - بشكل واضح - مع الشيطان. ورغم صلب المسيح فلازال الشيطان يحتفظ لنفسه بكل الممالك غير المسيحية بل وله ملايين من الأتباع في الممالك المسيحية نفسها.
كل هذا - كما يقول مفكرنا المتشكك توماس - تُقدمه لنا بوقار شديد - على لسان
الله جل جلاله سلسلة من الأقوال منسوبة إلى موسى وحتى القديس بول (بولس). ورفض بين Paine كل هذه الأقوال (الحكايات) باعتبارها حكايات تصلح لأطفال الحضانة وللكبار الذين أنهكهم البحث عن الخبز والزبد وأعياهم المرض وأرهبهم الموت فباع لهم اللاهوتيون أوهام الوعود الموعودة. وقدم بين Paine لذوي الأرواح الأقوى الله بصورة لا تشبه الإنسان وإنما باعتباره حياة الكون (الروح الحي في الكون).
"لا يمكننا أن نوحد كل أفكارنا عن الله إلا من خلال الخلق .. إن الخلق (الكون) يتحدث لغة عالمية (كونية)
…
إنه كلمة الله (الكون) التي توحي للبشر كل ما هو ضروري لمعرفة الله. أتريد أن تتأمل قوته؟ إنها تتجلى في عظمة خلقه. أتريد أن تتأمل حكمته؟ إنها تتجلى في سنن الكون التي لا يعتريها تبديل والتي تحكم الكل الذي لا يحيط به أحد. أتريد أن تتأمل كرمه؟ إنها تتجلى في تلك الوفرة التي تملأ الأرض. أتريد أن تتأمل رحمته؟ إنها تتجلى في كونه لا يمسك فضله حتى عن ألعصاة. باختصار أتريد أن تعرف الله؟ ابحث عنه في الخلق لا في الكتاب المقدس المسيحي Scripture".
وقد سُجن في الفترة من 28 ديسمبر 1793 حتى سقوط روبيسبير في 27 يوليو سنة 1794. وفي 4 نوفمبر: "دعتني الجمعية الوطنية Convention علناً وبالإجماع للعودة إليها (الجمعية الوطنية)
…
وقبلت." وفي أثناء الاضطراب العظيم لرد الثيرموديريين Thermidorean reaction ألف الجزء الثاني من كتابه (عصر العقل The Age of Reason) وكرسه لتوجيه نقد حاد للكتاب المقدس Bible وأضاف قليلا لنقد أفكار وردت في دراسات أكاديمية كان معظمها من تأليف رجال الدين. لقد ضاعت سدى - في إنجلترا وأمريكا - اعتراضاته على الإيمان بالرب (المقصود هنا يسوع المسيح) بسبب اعتراضه وعدم تعاطفه مع الكتاب المقدس الذي كان عزيزا على الشعوب والحكومات، فوجد نفسه بلا تكريم في وطنه الأصلي ووطنه الجديد، وعندما عاد في سنة 1802 إلى نيويورك (التي سبق لها أن قدرت خدماته لجمهور الأمريكيين بمنحه 300 أكر (فدان) في نيوروشل New Rochelle) ووجه باستقبال بارد.
وأدمن الشرب في السنوات السبع الأخيرة من عمره ومات في نيويورك سنة 1809 وبعد موته بعشرة أعوام عمل وليم كوبت William Cobbett على
نقل رفاته إلى إنجلترا، حيث لعبت روحه غير الواهنة - من خلال كتبه - دورا في المعارك الطوال التي تمخض عنها صدور مرسوم الإصلاح Reform Act في سنة 1832.
ورغم أن بين Paine كان من القائلين بوجود إله (دون إيمان بأديان منزلة) ولم يكن ملحدا إلا أن كثيرين من المؤمنين بالمسيحية شعروا أن إيمانه بوجود إله لم يكن إلا غطاء مهذبا لعدم إيمانه برب متجسد (المسيح كرب) وقدم وليم بالي William Paley كاهن أسقفية ويرموث Wearmouth دفاعا مقتدرا عن عقيدته في كتابه نظرة في البراهين على المسيحية (1794) لدرجة أن قراءة هذا الكتاب ظلت حتى سنة 1900 شرطا للقبول في جامعة كمبردج وكان كتابه لاهوت الطبيعة Natural history (1802) لا يزال هو الأكثر شهرة فهو كتاب يبحث في البرهنة على وجود قوة ذكية علوية بتجميع براهين وأدلة من العلوم المختلفة. لقد قال:
"برهنا إذا رأى إنسان ساعة ولم يكن قد سبق له رؤية ساعة من قبل، ألن يتفحص ماكينتها، ويضع في اعتباره أن كائنا ذكيا صممها؟! ثم أليس في الطبيعة مئات العمليات تشير إلى تنظيم الوسائل لتحقيق الأثر المطلوب؟! فمن ناحية نحن نرى قوة ذكية ترتب نظام الكواكب
…
ومن ناحية أخرى فإنها - أي هذه القوة الذكية تقدم العملية (الميكانيكية) المناسبة لحركة جناحي الطائر الطنان وحركة ريشه
…
فكل جسم طبيعي متسق، بما ينطوي عليه من إمكانية حفظ نوعه وكيانه وإمكانية تكاثره يشهد بعناية الخالق وتوجيهه لتحقيق أهدافه ".
وبدأ نصف المتعلمين في إنجلترا بمناقشة كتب بالي Paley وساعته، وتحدث كولردج ووردزورث وهازلت Hazlitt عنها في مناقشة حيّة في كزويك Keswick. لقد عاش كتاب اللاهوت الطبيعي Natural Theology طويلا، بل إن دارون العظيم نفسه درسه بعناية قبل صياغة نظريته المنافسة عن تكيف الأعضاء وتطورها لتحقيق الغايات المطلوبة وأن البقاء للأصلح من خلال الانتخاب الطبيعي. وبعد بالي Paley بقرن جاء هنري بيرجسون Henri Bergson ليفيد - ببلاغة - صياغة برهان من تصميم الكون في كتابه " L'Evolution Creatrice" الصادر في سنة 1906. واستمر الجدل.
2 - جودوين: عن العدالة
GODWIN
رغم أن الجميع قد نسوا وليم جودوين (1756 - 1836) الآن إلا أنه كان أكثر الفلاسفة الإنجليز تأثيرا في جيله. لقد كتب هازلت Hazlitt في نحو سنة 1823: "ليس ثمة عمل في زماننا وجّه لطمة للتفكير الفلسفي في هذه البلاد مثل العمل الشهير "أسئلة حول العدالة السياسية" Enquiry Concerning Political Justice لقد قال وردزورث لطالب شاب: "القِ بكتب الكيمياء الخاصة بك واقرأ كتاب جودوين عن الضرورة" On Necessity
وعندما كبر جودوين في السن وراح يشك في نفسه رأى أفكاره تنتشر على جناحي أغنية تغنى بها الشاعر شيلي Shelley زوج ابنته وكان أبواه مسيحيين متمسكين بمذهب كالفن مؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره من الله (الجبرية) وقد أصبح جودوين مثلهما قدريا (جبريا) وكان أبوه منشقا عن كنيسة إنجلترا وتلقى هو نفسه تعليماً ليكون واعظاً وعمل كرجل دين في مدن كثيرة، وبينما كان في ستوماركت Stowmarket قدمه شاب جمهوري للمفكرين الفرنسيين الذين سرعان ما قلبوا عقيدته رأساً على عقب.
لقد أخذ الإلحاد عن دهولباخ d'Holbach رغم أنه في سنوات لاحقة جعل لله مكاناً - بشكل مهذب - في مجلده الحاشد. لقد أخذ من هلفيتيوس Helvetius الإيمان بالتعليم والعقل باعتبارهما أساس اليوتوبيا utopia (المدينة الفاضلة) وحذا حذو روسو في قبول مبدأ صلاح البشر لكنه كان يفضل إقامة مجتمع قائم على التعاون الطوعي بين الأفراد والجماعات - يفضله على دولة روسو ذات السلطة المطلقة. لقد تخلى عن منصبه في الكهنوت المسيحي وشرع في دهن خبزه بالأحبار والقلم. وانضم إلى لورد ستانهوب Stanhope وتوماس هولكروفت Holcroft في نادي الثوريين لكنه أسلم نفسه معظم الوقت للدراسة الشاقة والكتابة الصعبة، وفي سنة 1793 - وكان قد بلغ السابعة والثلاثين - أصدر أكثر الأعمال (الكتب) راديكالية في زمانه.
وقد جعل لكتابه عنواناً هو سؤال عن العدل السياسي وتأثيره في الفضائل العامة والسعادة Enquiry Concerning Political Justice & its influence on General virtue & Happiness وواضح أنه كتابا عن الحكومة يغطي تقريبا كل قضايا الفلسفة من الإدراك إلى
فن الحكم (فن إدارة شؤون الدولة) ويتوقف غير بعيد عن تناول الرب (الله). لقد احتقر خرافات الجنة والجحيم كأدوات (وسائل) واضحة لتسهيل أمور الحكم وفرض الطاعة. وأدان الإكليروس (رجال الدين) الذين يقسمون على قبولهم الإيمان الرسمي المصاغ في تسع وثلاثين مادة (قانون الإيمان) بينما هم يتخلون عنه فيما بينهم وبين أنفسهم.
لقد رفض حرية الإرادة free will والإرادة نفسها إذا جرى فهمها كسلطة أو صلاحية أو مقدرة مميزة أو استثنائية. إنها بالنسبة إليه مجرد مصطلح مجرد للاستجابات الواعية للمواقف والرغبات والحوافز أو المثيرات. وما دامت الأفعال مقررة سلفاً بفعل الوراثة والخبرة الفردية والظروف الحالية فلا بد أن نواجه أخطاء الآخرين بدون غضب أو اتهام مضاد وإنما لا بد من إصلاح نظامنا العقابي ليكون مبنياً على الإصلاح أو إعادة التأهيل أكثر من أن يكون مبنيا على العقاب، وعلى أية حال، فإنه قد يكون من الضروري أن نستخدم المديح واللوم والعقاب كوسائل معينة على الإصلاح مستقبلا.
ما هو الذي سنمتدحه وما هو الذي سندينه؟ سنمتدح ما هو حسن وسندين ما هو قبيح، فما هو الحسن؟ لقد سار جودوين على خطى هلفيتيوس (1758) وبنثام Bentham (1789) فعرف الحسن (الخير) بأنه ما يزيد سعادة الفرد والجماعة وعرف السعادة بأنها بهجة الجسد والنفس والعقل والمشاعر، بهجة سوية، وهذه الفلسفة الأخلاقية ليست حسية جسدية (شهوانية) وليست هي فلسفة اللذة لأنها تجعل المباهج العقلية فوق مباهج الحواس. إنها ليست أنانية (ذاتية تتحلق حول الأنا) لأنها تقول بأن الفرد جزء من جماعة لأن صلاح الجماعة شرط لأمان الأفراد الذين يكوّنون هذه الجماعة، ولأن من بين أرقى أنواع المباهج إسهام الأفراد في إسعاد رفاقهم في الجماعة. فغرائزنا الاجتماعية تؤدي إلى قيامنا بأفعال غير أنانية (منطوية على حب الغير) وهذه الأفعال يمكن أن تمنحنا مسرة تفوق أي بهجة حسية أو عقلية وأكثر دواماً منها. فأن تكون شفوقا رحيما يعني أن تكون سعيدا، وأن تنزع منك الرحمة يعني أن تكون بائسا.
"فالأخلاق - علم السعادة البشرية - هي المبدأ الذي يربط الفرد بجنسه البشري وهي الدوافع التي تعمل على حثنا على تعديل سلوكنا وجعله على نحو أمثل لتحصيل مزايا يجنيها الجميع ".
فالعدالة إذن هي تنظيم سلوك الفرد والجماعة لتحقيق أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. "فالهدف العاجل للحكومة هو أمن الجماعة والفرد وما دام الفرد يرغب في أكبر قدر من الحرية مما ينسجم مع أمنه، فإن أفضل وضع للبشر هو الوضع الذي يحافظ على الأمن العام مع أقل انتهاك ممكن لاستقلال الفرد ". وعلى هذا فليست هناك حاجة لمراسيم حكومية أو دينية للزواج، فاتفاق اثنين من البالغين على العيش معا يجب أن يكون كافيا، ويجب فسخ الارتباط (الاتفاق على العيش معا) إذا رغب في ذلك أحد الطرفين. (وقد أعجب الشاعر شيلي Shelley بهذا الاتجاه على نحو خاص).
ولم يكن جودوين يحب الحكومات. فمهما كانت أشكالها ومهما كانت النظريات التي تقوم عليها، فإنها لا تعدو أن تكون سيطرة الأقلية على الأغلبية. لقد كان دوما يتبرأ من دعوى المحافظين أن الجماهير مفطورة على الدونية وأنها دائما تميل للقتل، ولهذا فلا بد من حكمها إما بالكذب عليها أو إرهابها أو إجبارها (بالكذب أو الإرهاب أو القوة). وكان - مثل أوين Owen - يعتقد أن هذه الصفات الدونية ترجع إلى نقص التعليم أو قلة الفرص أو فساد البيئة. وسخر من المساواة أمام القانون لأنه كان يرى كل يوم الذين يحصلون الأموال الطائلة بطرق ملتوية وغير سليمة يفلتون من العقاب بحيل قانونية أو بسبب محاباة القضاة لهم. ولم يكن اشتراكيا فقد قبل مبدأ توريث الثروة ومبدأ تعيين أوصياء لإدارتها. وعارض السيطرة الحكومية على الإنتاج والتوزيع، لكنه أصر على ضرورة أن تكون الملكية الشخصية في خدمة الصالح العام، وحذر من أن تركيز الثروة ما هو إلا دعوة إلى الثورة.
وعلى أية حال، لم يكن ميّالاً إلى الثورة. فحين تتغير طبائع الأجناس البشرية تغيرا جوهريا فإن الإطاحة بالنظام القائم بالقوة، وأية محاولة ثورية لإعادة توزيع الثروة، ستسبب فوضى اجتماعية تلحق ضررا بالرخاء العام أكثر من الضرر الذي يلحقه عدم المساواة (التفاوت في الثروة) الذي تحاول إزالته. فالثورة في الفكر (تغيير الآراء) هي السبيل الوحيد للوصول لتوزيع أفضل للثروة. وهذا يتطلب تعليماً يستغرق فترة طويلة ويتطلب صبرا .. تعليماً تتلقاه الأجيال من خلال المدارس والإنتاج الأدبي والفكري.
ومع هذا فسيكون من الخطأ أن نقدم تعليما عاما من خلال نظام وطني للمدارس (المقصود نظام حكومي تتبناه الدولة) لأنه سيكون في هذه الحال أداة من أدوات الشوفينية chauvinism (الغلوّ في الوطنية) مما يؤدي إلى قيام الحروب، وأداة من أدوات البروباجندا propaganda (الدعاية) الحكومية التي تهدف إلى ترسيخ قيم الطاعة العمياء. إذ لا بد من ترك التعليم في أيدي القطاع الخاص الذي يجب دائما أن يقول الحق والذي يجب أن يعوّد الطالب على استخدام العقل. فالعقل ليس مبدأً مستقلاً أو ملكة أو قدرة كلية وليس لديه ميل لحثنا على الفعل. فهو من الناحية العملية مجرد أداة للمقارنة - والموازنة - بين المشاعر المختلفة. "فالعقل
…
قد صُمِّم (بضم الصاد) لتنظيم سلوكنا على وفق القيمة المقارنة للمثيرات أو المنبهات أو الدوافع. فالأخلاق ليست إلا حساب النتائج أو العواقب بما في ذلك النتائج أو العواقب التي تعود على المجتمع". وعلى هذا فتحسين العقل يعني تحسين أحوالنا الاجتماعية.
إن الطريق إلى المدينة المثالية (اليوتوبيا) عن طريق التعليم طريق طويل وشاق لكن الإنسان قد حقق بعض التقدم في السير في هذا الطريق، وليس هناك حد لمزيد من التقدم فيه. إن الهدف أن تتلقى البشرية تعليما كافيا متبصرا يتيح لها إعمال العقل بحرية (دون قيود). إن إلغاء الحكومة (الأنارشية Anarchism) هدف بعيد لكنه سيظل مع هذا هدفا لكثير من الأجيال القادمة وطبيعة الإنسان ستحتم شكلاً أو آخر من أشكال الحكومة. دعونا نواصل آمالنا في أن يتطور الذكاء - عبر أجيالنا القادمة - ليصبح حرية منضبطة.
ولابد أن جودوين كان يمتلك نبعاً ثرّاً من الذكاء لأنه في سنة 1794 أصدر - بعد عام واحد من نشرة كتابه الحاشد (أسئلة عن العدالة السياسية
…
) أصدر رواية حكم عليها كثيرون بأنها الرواية الرائعة البارزة في ذلك العصر. إنها رواية كالب وليمز Caleb Williams التي أظهرت روح الحكومة وطبيعتها من حيث كونها تقحم نفسها في حياة كل طبقات المجتمع وقد أضاف المؤلف إلى هذه الرواية قصة حياته: لقد تزوج ماري ولستونكرافت Wollstonecraft (1797) وتبنى ابنتها فاني إمالي Fanny Imaly التي أنجبتها نتيجة اتصالها الجنسي بشخص دون زواج (نتيجة علاقة زنا) وعاش مع ماري مدة عام في عِشْرةٍ
مثيرة. يقول: "لقد قدرت فيها طاقاتها العقلية، ونزوعها النبيل إلى الكرم، ولم تكن الرقة وحدها كافية لتحقيق السعادة التي جربناها" وقد ماتت - كما رأينا - بعد فترة قصيرة من إنجابها ماري جودوين شيلي Mary Godwin Shelley
وفي سنة 1801 تزوج من مدام ماري جين كليرمونت Mary Jane Clairmont التي كانت ابنتها (من زوجها الأول) واحدة من مديرات منزل بايرون. وقد دعم الزوج والزوجة حياتهما المعقدة بنشر الكتب التي كان من بينها حكايات من شكسبير (1807) الذي ألفه تشارلز لامب وماري لامب Charles & Mary Lamb. ونتيجة تخلي وردزورث وكولردج عنه وابتعادهما عن صداقته واجه أياما عصيبة، وساعده شيلي الذي كان هو نفسه معسرا، وفي سنة 1833 - ويا لسخرية التاريخ - عينته الحكومة - التي كان يعتبرها شرا لا بد منه - موظفاً في الخزانة براتب متواضع كان يكفي طعامه حتى مات في سنة 1836.
3 - دانيال مالتوس: عن السكان
لقد عمل كتاب جودوين السابق ذكره (أسئلة حول العدالة السياسية) على دفع كتاب آخر إلى المطبعة وقد أصبح هذا الكتاب الآخر أكثر شهرة من كتاب جودوين نفسه. وساعد على ذلك رد فعل غير عادي من ابن ضد فلسفة أبيه الليبرالية. لقد كان دانيال مالتوس Daniel Malthus (توفي سنة 1800) شخصاً لطيفاً غريب الأطوار وكان صديقاً شخصيا لديفيد هيوم David Hume (تكتب أيضا دافيد/الصيغة العربية للاسم هي داود) وجان جاك روسو. وشارك الاسكتلندي شكوكيتة skepticism والسويسري تشاؤمه، حول الحضارة. وقد كان هو شخصيا مشرفا على تعليم ابنه فيما قبل دخوله الكلية، وكان واثقا من أن توماس مالتوس (1766 - 1834) سيكون راديكاليا ممثلاً للقانون مثله (أي مثل أبيه دانيال مالتوس) مثل جودوين
وواصل مالتوس في كامبردج ودخل في سنة 1797 سلك الكهنوت الإنجليكاني Anglican، وعندما ظهر كتاب جودوين (1793) راح الأب والابن يتناقشان بشغف فيما ورد به من أفكار، ولم يشارك الابن أباه في حماسه لأفكار الكتاب. لقد شعر الابن بأنّ هذا الولع المثالي
(اليوتوبي) بالعقل المنتصر (بانتصار العقل) لا مبرر له، لأنه قد جرى تسفيهه مرارا بالحقيقة البسيطة التي مؤداها أنه كلما زاد الطعام وتحقيق الرخاء سرعان ما يؤدي تزايد السكان إلى محق هذا الرخاء، وقد عبر سِفْر الجامعة في التوراة عن هذا ببلاغة.
فمادامت خصوبة الأرض محدودة ولا سبيل لوقف الشهوة الجنسية فهذا يؤدي إلى تضاعف عدد الأفواه بسبب الزواج المبكر والإنجاب الكثير وانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال والشيوخ، وهذا بدوره يؤدي إلى استهلاك أية زيادة في الطعام بسرعة. ولم يتفق الأب مع ابنه في هذا النتيجة ولكنه كان معجبا بالطريقة التي دافع بها ابنه عن آرائه فطلب من ابنه أن يكتب وجهات نظره وبالفعل كتبها توماس ونشرها في سنة 1798 في كتاب بعنوان: مقال عن مبادئ السكان وتأثيرها في مستقبل المجتمع An Essay on the principle of population as it affects the future improvement of Society وقد بدأ كتابه باعتذار يسترضي فيه الكاتبين اللذين يتحدى في كتابه نزعتهما التفاؤلية:
"لا أستطيع أن أشك في مواهب رجال مثل جودوين، وكوندورسيه Condorcet
…
لقد قرأت - وبسرور شديد - بعضاً من آرائهما عن طرائق الوصول بالإنسان والمجتمع إلى حد الكمال، ولقد ابتهجت وتفاعلت بحرارة مع الصورة البهيجة التي رسماها. إنني أرغب بشدة في تحقيق هذه التحسينات. إلا أنني - على وفق ما يهديني إليه تفكيري - أرى صعوبات شديدة لا تقهر أمام ما ذكراه. وهدفي هو تبيان هذه الصعوبات، لكنني أعلن في الوقت نفسه أنني أبعد ما يكون عن السعادة لوجود هذه الصعوبات، وأنني لم أتخذها سببا يسعدني للانتصار على أصدقاء الفكر، فلا شيء يسعدني أكثر من أن أرى هذه الصعوبات وقد تلاشت ".
وحاول مالتوس أن يصيغ حججه بشكل رياضي. فافترض أن الطعام يزيد كل 25 عاما بمتوالية حسابية (من 1 إلى 2 إلى 3 إلى 4 إلى 5 إلى 6 وهكذا) أما السكان فيزيدون - إذا لم تكن هناك عوائق تمنع الزيادة - بمتوالية هندسية (1، 2، 4، 8، 16، 32 .. وهكذا) مفترضا: "أن كل زوج وزوجة سينجبان 4 أبناء يظلون على قيد الحياة. وعلى وفق هذه النسبة فإنه في غضون قرنين سيصبح (عدد السكان) بالنسبة إلى موارد الرزق 25 إلى 9، وفي غضون ثلاثة قرون 4096 إلى 13، وفي غضون ألفي سنة
سيصبح الفارق مهولا"
والسبب في أن عدد السكان لا يرتفع بمثل هذه السرعة هو أن الناس يواجهون بعوامل سلبية أو إيجابية تحول بينهم وبين التناسل. فالعوامل السلبية مانعة (وقائية): تأجيل الزواج بسبب الفقر أو غيره من الأسباب، الرذيلة (ويعنى بها مالتوس العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية) والعلاقات غير الطبيعية (كالشذوذ الجنسي .. الخ) واستخدام وسائل منع الحمل أو تمديد النسل داخل نطاق الزوجية أو خارجها. وإذا فشلت هذه العوامل السلبية في حفظ التوازن بين السكان والطعام المتاح فإن الطبيعة nature والتاريخ يقدمان لنا عوامل إيجابية تؤتي مفعولها مع الأفراد الموجودين بالفعل: قتل الأطفال، الأمراض، المجاعات، الحروب، وبذلك تتم الموازنة بين المواليد والوفيات.
وخلص مالتوس من هذا التحليل الكئيب بنتائج غريبة. أولا، لا يوصي بزيادة أجور العمال لأنه إن زادت أجورهم تزوجوا مبكرا وأنجبوا مزيداً من الأطفال مما سيؤدي إلى زيادة السكان زيادة تفوق الزيادة المتاحة في الطعام فيعود الفقر من جديد. وعلى النحو نفسه لا داعي لزيادة الضرائب المخصصة للإنفاق على العاطلين فهذا سيؤدي إلى التشجيع على الكسل وسيجعل عدد أفراد الأسرة يزداد فتتضاعف الأفواه بسرعة أكثر من تضاعف الطعام المتاح، وسيؤدي التنافس بين المشترين لأن يرفع البائعون أسعار بضائعهم المتناقصة، وسرعان ما يعود الفقراء الذين كانوا قد نعموا بشيء من الرخاء إلى الفقر من جديد.
وليواصل تدمير (أفكار) جودوين، استمر مالتوس متناولاً حلم فلسفة اختفاء الحكومة (الاستغناء عنها) فإذا اختفت الحكومة تعين على كل فرد أن يحرس مخزونه القليل بالقوة كما نحكم إغلاق أبوابنا ونوافذنا إذا ضاع القانون وعمت الفوضى. وستنتصر الأنانية وسيصبح النزاع أبديا وبإزالة كل العوائق أمام الاتصال الجنسي سيزيد عدد السكان زيادة تفوق زيادة الإنتاج مما سيؤدي إلى تقليص نصيب الفرد وستضيع المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) في خضم منافسة يائسة وستحل فوضى لا سبيل إلى تجنبها وسينتشر البؤس.
فلا يكون هناك حل إلا إعادة الحكومة وحماية الملكية الخاصة وتشجيع الإنتاج والاستثمار وإن حدث تمرد قامت عليه جماعة مخصوصة تحتم قمعه بالقوة وسيعود التاريخ
إلى صيغته التقليدية: منتجات الطبيعة nature تقسمها طبيعة الإنسان، أو طبيعة الإنسان هي التي تقسم منتجات الطبيعة. وفي صياغة جديدة موسعة ومراجعة لكتابه وضّح مالتوس بشكل أكثر حدة وتفصيلا العلاجات الوقائية التي تحول بيننا وبين الكوارث التي يلحقها بنا التاريخ والطبيعة كعلاج لمشكلاتنا (عدم التوازن بين عدد السكان والطعام المتاح).
لقد اقترح وقف الإعانات عن الفقراء وعدم التصدي للمشروعات الخاصة (الحرة) واقترح ترك قانون العرض والطلب ليقوم بدوره في العلاقات بين المنتجين والمستهلكين وبين العاملين وأصحاب العمل. واقترح وضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد. إن التزامنا هو ألا نتزوج إلا بعد أن تكون إمكاناتنا في حالة تسمح لنا بدعم (رعاية) أبنائنا وفوق هذا يجب أن يتعلم الناس كيف يكبحون شهواتهم قبل الزواج وبعده ولا بد أن تتسم الفترة الواقعة بين سن البلوغ والزواج، بالعفة والتزام الفضيلة فإذا ما تم الزواج لا بد أن يمنع الحمل بأي طريقة وبأي صورة من الصور.
وإذا لم نلتزم بهذه التدابير أو تدابير مماثلة، فلا بد أن نوطن أنفسنا على مجاعات أو أوبئة أو حروب تقوم بدورها في إنقاص عدد السكان. وتلقى المحافظون البريطانيون ما ورد في كتاب مالتوس كوحي مقدس (إلهي)، وشعر البرلمان وأصحاب الأعمال بأن لديهم ما يبرر موقفهم في مقاومة مطالب الليبراليين - مثل روبرت أوين Robert Owen - التي تنادي بالتخفيف من وطأة قانون العرض والطلب بإصدار قوانين لتخفيف آلام المحتاجين. وسحب وليم بت Pitt المرسوم الذي كان قد قدمه لتوسيع نطاق قوانين إغاثة الفقراء.
وبدت الإجراءات التي كانت الحكومة قد اتخذتها بالفعل ضد الراديكاليين البريطانيين عادلة بفعل مبررات مالتوس واتهاماته لهؤلاء الباعة الجوالين الذين يسوقون المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) والذين يضلون البسطاء تضليلا مأسويا. واشتد إيمان أصحاب الصناعة البريطانيين في جدوى خفض الأجور لتحقيق الطاعة والانضباط في العمل. وجعل ريكاردو Ricardo من نظرية مالتوس أساسا لعلمه الكئيب his dismal Science (أطلق كارليل Carlyle هذا الاسم العم الكئيب على الاقتصاد بعد قراءته لكتابات مالتوس).
والآن أصبحت كل الشرور تقريبا تعزى إلى خصوبة الفقراء الطائشة أو بتعبير آخر تعزى إلى كثرة إنجابهم بشكل غير محسوب - لقد أحدث كتاب
مالتوس الاضطراب والفزع في صفوف الليبراليين، فاستغرق جودوين عشرين عاما لإعداد رده وأخيرا أصدر كتابة عن السكان، رد على مالتوس (1820) وكان في غالبه تكراراً لآماله وشكوى من أن مالتوس حول أصدقاء التقدم إلى رجعيين. وكان وليم هازلت Hazlitt استثناء: ففي مقال عن مالتوس في كتاب روح العصر The spirit of the Age (1824) هاجم هذه القدسية التي لا تعرف الرحمة أو بتعبير آخر هاجم نسبة القسوة إلى الله بكل ما أوتي من طاقة عقلية وحدة في الذهن. لقد ذكر: "أن خصوبة النبات تفوق كثيرا خصوبة النساء فالحبوب ستتكاثر وتتضاعف أسرع بكثير جدا من زيادة الجنس البشري، فمقدار بوشل bushel (مكيال للحبوب يساوي ثمانية جالونات أو نحو 32 لترا ونصف اللتر) يزرع حقلا، وهذا الحقل سيثمر حبوبا تكفي لزراعة عشرين حقلا آخر". ستكون هناك ثورات خضراء green revolutions .
وفي أوقات لاحقة راح الكتاب يجمعون الحقائق لإبطال مخاوف مالتوس وتسكينها. ففي أوروبا والصين والهند زاد السكان لأكثر من الضعف بعد مالتوس، ومع هذا كان لديهم من موارد الطعام أكثر من ذي قبل. وفي الولايات المتحدة الأمريكية تضاعف السكان عدة مرات منذ سنة 1800 ومع ذلك زاد الإنتاج الزراعي عن الحاجة وتبقى فائض وفير للتصدير. وعلى العكس مما قاله مالتوس أدى ارتفاع الأجور إلى انخفاض نسبة المواليد. فلم تعد المشكلة نقصا في البذور أو الحقول وإنما نقصا في الطاقة غير البشرية (الآلية) لاستخدامها في الزراعة والصناعة، وإمداد القرى والمدن.
وبطبيعة الحال فإن الإجابة الحقيقية بالنسبة إلى مالتوس كانت هي منع الحمل - لقبوله على المستوى الأخلاقي، ولانتشاره وكفايته وقلة تكلفته. لقد حطمت علمانية الفكر الحواجز اللاهوتية التي وضعها رجال الدين في وجه ضبط النسل. لقد حولت الثورة الصناعية الأطفال من موجودات اقتصادية ذات نفع كما كان الحال عند عملهم في المزارع إلى موجودات معوقه اقتصاديا في المدن إذ راح تشغيل الأطفال ينقص تدريجيا، وارتفعت تكاليف التعليم وزاد ازدحام المناطق الحضريّة. وانتشر الوعي (الذكاء) فقد تحقق الرجال والنساء أن الأحوال التي تغيرت لم تعد تتطلب أسرة كبيرة العدد.
وحتى الحروب لم تعد
تتطلب حشوداً من الشباب ينتشرون في مواجهة حشود أخرى ليلقوا مصرعهم بقدر ما أصبحت في حاجة إلى الابتكار التقني لتحقيق التدمير المادي. وعلى هذا فالرد على مالتوس لم يكن متمثلاً في نظريات جودوين وإنما من المالتوسيين الجدد Neo Malthusians ودعوتهم إلى ضبط النسل.
وفي سنة 1822 نشر فرانسيس بلاس Place كتابيه توضيحات وبراهين حول قضية السكان. لقد وافق على المبدأ الذي وضعه مالتوس والذي مؤداه أن السكان يزيدون بمعدل أسرع من زيادة مقادير الطعام. ووافق على ضرورة وضع قيود على الزواج لكن ليس بتأجيله وإنما الأفضل قبول منع الحمل كبديل شرعي ومقبول - نسبيا - من الناحية الأخلاقية لمواجهة الخصوبة الطبيعية العمياء (غير الموجهة) والتدمير الجماعي الذي تسببه الحروب.
(وكان هو نفسه قد أنجب خمسة عشر طفلا مات منهم خمسة في مرحلة الطفولة) وقد وزع في لندن نشرات طبعها على نفقته الخاصة يدعو فيها لضبط النسل وواصل معركته (دعوته) هذه حتى موته وهو في الثالثة والثمانين من عمره (مات سنة 1854). ولقد عاش مالتوس عمرا طويلا يسمح له بالشعور بمدى قوة حجج بلاس Place. وفي سنة 1824 ساهم في دائرة المعارف البريطانية بمقال راجع فيه نظريته وتراجع عن نِسَبه الرياضية المرعبة، وركز - بشكل جديد - على زيادة عدد السكان كعامل في النضال من أجل الوجود. وبعد ذلك بسنوات طوال كتب تشارلز دارون في سيرته الذاتية:
"في أكتوبر سنة 1838 بعد أن بدأت بحثي النظامي بخمسة عشر شهرا، حدث أن قرأت - ترفيها عن نفسي - كتاب مالتوس عن السكان وكنت مهيأ لتقدير قيمة الصراع من أجل البقاء
…
من خلال ملاحظاتي المستمرة الطويلة لعادات الحيوانات والنباتات. لقد أذهلني ذات مرة أنه في ظل هذه الظروف فإن التغييرات الملائمة (المناسبة) ستتسبب حفظ النوع، والتغييرات غير الملائمة ستؤدي إلى التدمير. ونتيجة هذه العملية هو ظهور أجناس جديدة. وهنا أمسكت بنواصي نظرية البقاء للأصلح"
وعلى هذا وبعد نحو جيل استمر فيه المزيد من البحوث والتأمل والتفكير نشر دارون في سنة 1859 كتابه أصل الأنواع The Origin of species وهو الكتاب الأكثر تأثيرا في
القرن التاسع عشر. إن سلسلة من الأفكار تزين السلسلة الكبرى للوجود وتشكل تاريخ الحضارة.
4 - بنثام: عن القانون
استخلاص أفكار جرمي بنثام Jeremy Bentham أصعب من استخلاص أفكار جودوين ومالتوس، لأن جودوين قدم مثاليات مغرية، ومالتوس قدم بعض الرعب الفاتن أما بنثام (1748 - 1832) فكتب في الاقتصاد والربا والمنفعة والقانون والعدالة والسجون - بالإضافة إلى أنه كان ماردا انعزاليا ظل يتعلم بلا نهاية، دائم التفكير في الأمور التي يصعب تحديدها، وكان لا ينشر إلا قليلا وفكر في إصلاح كل شيء، وتذمر من اقتران العملاقين (الغولين): المنطق والقانون، واستمر تأثيره يزداد في أثناء حياته (بلغ من العمر 84 عاما) وساد طوال قرن.
لقد كان ابنا لمحام ثري كاد يسحقه من كثرة التعليم. وقيل إنه قرأ في الثالثة من عمره كتاب تاريخ إنجلترا ذي الثمانية مجلدات الذي ألفه بول دي رابين Paul de Rapin وكان قد بدأ تعلم اللغة اللاتينية وهو في هذه السن (كانت هذه التربية القاسية الخانقة قد انتقلت إلى جيمس مل Mill تلميذ بنثام وطبقها على ابنه جون). وفي مدرسة وستمنستر Westminster تفوق جيرمي في كتابة الشعر باليونانية واللاتينية.
وفي أكسفورد تخصص في المنطق وحصل على درجته العلمية وهو في الخامسة عشرة من عمره. وواصل دراسة القانون في لينكولن Lincoln لكن اضطراب كتب القانون أثار سخطه وانتهى إلى إدخال المنطق والنظام للتشريعات البريطانية وعلم القانون في بريطانيا مهما كلفه ذلك. وفي ديسمبر سنة 1763 وكان في الخامسة عشرة من عمره سمع مديح وليم بلاكستون William Blackstone للقانون البريطاني فاعترته الدهشة والسخط لهذا النفاق الصَّدّاح الذي سيؤخر الإصلاح التشريعي ولا شيء غير ذلك ويكاد يكون قد قضى عمره منذ ذلك الوقت حتى وفاته في إدخال المنطق والاتساق والروح الإنسانية للقانون الإنجليزي. لقد سأل نفسه:
"ألدى عبقرية في أي شيء؟ ماذا أستطيع أن أنجز؟ ما هو الأكثر أهمية في هذه الحياة؟ التشريع. ألدى عبقرية في التشريع (سن القوانين)؟ لقد أحببت
نفسي خائفا مرتجفا: نعم إن هذه الثقة وهذا الاعتزاز المصحوب بالخوف يمكن أن يكون ينبوعا للإنجاز".
لقد جلب إلى عمله الروح العملية (الواقعية) وسيف النظام والمنطق (العقل). لقد امتعض من التجريدات شديدة الوطأة، امتعض من المجردات كالواجب والشرف والسلطة والحق. لقد أراد أن يحولها إلى حقائق مشخصة (محددة) وأن يفحص كل جزء ليعرضه على الحقيقة من خلال وجهة نظر ثاقبة مثابرة. فما هو الحق - على سبيل المثال؟ أهو طبيعي natural - شيء مرتبط بنا منذ الميلاد كما افترض إعلان حقوق الإنسان الذي أصدرته الثورة الفرنسية؟ أم أنه مجرد حرية فردية تابعة للصالح العام أو في إطار الصالح العام؟ ما هي المساواة؟ آثمة شيء اسمه المساواة خارج نطاق المفاهيم الرياضية المجردة؟ هل التفاوت (عدم المساواة) قدر لا فكاك منه لكل كائن حي سواء عدم المساواة في القدرات أو الممتلكات أو السلطان؟. ما هو القانون الطبيعي؟ وما هي الحصافة أو الفطرة السليمة Common sense؟ كل هذه المجردات - في رأي بنثام هراء تضلل به الجامعات والبرلمانات والمحاكم.
وقد يمكننا أن نتخيل ما أحدثه هذا الواقعي realist في اللاهوت السائد في عصره وفي بلاده. إنه لم يجد جدوى في الإلوهية التقليدية عند محاولته النظر بتجرد إلى عالم العلم أو التاريخ أو الاقتصاد أو الحكم. لقد حاول أن يمسك لسانه الحاد الذَّرِب عن هذه الأمور لأنه شعر أن الكنيسة الإنجليكانية تعد كنيسة عقلية (تحترم العقل) بالنسبة إلى غيرها من الكنائس، وقد تكون خيِّرة، لكن الإكليروس (رجال الدين) شعروا بخصومته الصامتة وشجبوا مذهبه النفعي his utilitarianism تماما باعتباره فلسفة إلحادية godless philosophy
لقد بدأ بمحاولة عزل بلاكستون كاقتصادي يقوم بدور في نسج الدستور البريطاني، لقد بدا له هذا الوجود الباطني (الغامض) كخليط وناتج عتيق (عفا عليه الزمن) لمصادفات وأمور عارضة يتسم بالتناقض والتنقيحات المتعجلة غير قائم على منطق ولا أساس، وعلى هذا أصدر بنثام واحدة من الشرارات من سندانه، إنه كتابه A fragment on government) 1776) - كأول سهم تطلقه الراديكالية الفلسفية philosophical
radicalism التي كان عليها أن تناضل طوال نصف قرن قبل أن تحرز نصف انتصار في سنة 1832.
وفي الوقت الذي قام فيه هذا المتحدي البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاما بامتداح بلاكستون لأنه علّم عِلْم القانون أن ينطق لغة الباحثين والسادة الأماجد gentlemen إلا أنه لامه لأنه قلص الدستور فجعله لا ينص إلا على سلطة الملك المطلقة. وعلى العكس من ذلك فالدستور السليم (الذي يميز الخطأ من الصواب) هو الذي يوزع سلطات الحكومة بين أجزائها (مكوناتها) المختلفة، وسيسهل تعاونها وفرضها للقيود المتبادلة - فالمبدأ الهادي للمشرعين يجب ألا يكون هو الرغبة في الهيمنة وإنما تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس فهؤلاء الناس هم هدف التشريع والتشريع لم يوضع إلا لهم، والاختبار الصحيح لأي قانون مقترح هو مدى نفعه لتحقيق هذه الغاية (إسعاد أكبر عدد من الناس) هنا نجد أن مبدأ النفعية الشهير كان هو جوهر تعاليم بنثام التشريعية والأخلاقية.
لقد كان هناك ارتباط ملحوظ بينه وبين إعلان الاستقلال الذي أصدره توماس جيفرسون Thomas Jefferson في هذا العام نفسه. باختصار لقد تعانق التاريخ والفلسفة وعمل التراث المسيحي - بغير قصد من بنثام - على توثيق عرى هذه الوحدة (المقصود هذا التلازم) ومباركتها. لقد كتب بنثام كتابه الصغير الذي عرض فيه أفكاره هذه بأسلوب أكثر وضوحا وبروح أكثر جاذبية من مباحثه اللاحقة. والآن راح يقضي بعض الوقت في السفر والترحال. ومن روسيا أرسل في سنة 1787 إلى إنجلترا مبحثه دفاع عن الربا Defence of usury - أي الفائدة.
لقد عارض الإدانة اللاهوتية للفائدة interest، ففي مجال الاقتصاد ومجال السياسة يجب أن يترك الفرد حرا في تنفيذ ما يراه على وفق لأحكامه على أن يكون هذا في صالح المجتمع. لقد كان بنثام ليبراليا ولكن الكلمة (ليبرالي) في المفهوم السائد في القرن الثامن عشر كانت تعني المدافع عن الحرية. لقد اتفق مع الفزيوقراط Physiocrats ومع جيفرسون على أن يكون تدخل الدولة في حرية الفرد في حده الأدنى. لقد كان راديكاليا - يحب الوصول إلى جذور الأمور، ولكنه لم يكن مؤيدا لتأميم الصناعة. وفي سنة 1787 لم تكن الصناعة منتشرة انتشارا كبيرا ليطالب بتأميمها.
وعند عودته من روسيا أعد لنشر كتابه المهم: "مبادئ الأخلاق والتشريع The Principles of Morals & Legislation "(1789)، ارتبط طبعه بالتواريخ الثورية). لقد كان كتابا صعبا مدعما بصرامة بمئات التعريفات لدرجة تترك القارئ غير المختص مشوشاً لكن بنثام كان يأخذ على عاتقه عملاً عقليا مجهدا: لقد كان يهدف إلى إحلال الأخلاق الطبيعية محل اللاهوت، وإقامة السلوك والقانون على أسس قوامها صالح المجموع أو الوطن أكثر من إقامتها على أسس قوامها إرادة السلطة التنفيذية أو مصالح طبقة من الطبقات، وتحرير القانون والسلوك من فروض الدين من ناحية ومن الأحلام الثورية من ناحية أخرى.
إن هذه الأسس الجديدة - لكل من الأخلاق والقانون - قامت على مبدأ النفعية - فائدة الفعل act للفرد، وفائدة العادة للجماعة، وفائدة القانون للشعب وفائدة الاتفاقات الدولية للجنس البشري. وذهب بنثام إلى أن كل النظم تسعى لتحقيق المسرة وإبعاد الألم. وعرّف السرور بأنه "أي ترضية" وعرّف الألم بأنه "أي إزعاج" سواء للبدن أو النفس. والنفعية هي "ميزة تحقيق السعادة أو اجتناب الألم"، والسعادة هي "استمرار السرور". والنفعية "لا تحتاج لقصرها على الفرد فقد تكون - جزئيا أو أساساَ - للأسرة أو المجتمع أو الدولة أو الجنس البشري". وقد يجد الفرد (من خلال غرائزه الاجتماعية) السعادة أو تجنب الألم في ربط ما يرضيه بما يرضي الجماعة التي ينتمي إليها وعلى هذا فعلاوة على تحقيق الهدف العاجل، فإن الهدف النهائي والمحك الأخلاقي لكل الأعمال والقوانين هو مدى إسهامها في تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد. "قد يكون لدى صديق هو أعز الأصدقاء لكنني إن عرفت أن مصالحه تتعارض مع مصالح المجموع، فإنني لن أضع مصالحه في اعتباري. إنني سأخدم أصدقائي وأتوقع أن يخدموني" ولم يدع بنثام أنه أصل هذه الصيغة النفعية.
لقد أعلن بصراحته المعتادة - أنه وجد أساسها في كتاب جوزيف بريستلى Joseph Priestly مقال عن المبادئ الأساسية للحكم " Essay on the first principles of Government"(1768) وكان يمكن أن يجده في كتاب فرانسيس هتشسون في الأخلاق Hutcheson's Enquiry. عن الخير والشر Concerning Moral Good & Evil (1725) ، حيث عرف المواطن الصالح بأنه "الذي يقدم أقصى قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس" أو في كتاب
بيكاريا Beccaria الموسوم باسم: " Trattato dei delitti e delle pene"(1764) الذي وصف لنا محك الأخلاق وهدفها La massima felicita divisa nel maggior numero أو كما أورد هلفيتيوس - بشكل أوضح - في كتابه عن الروح " De l'Esprit
…
" 1758:
" النفعية هي أساس كل الفضائل البشرية وأساس كل التشريعات
…
فكل القوانين يجب أن تتبع مبدأ واحدا - منفعة العامة - أي أكبر عدد من الناس يعيشون في ظل الحكومة نفسها"
إن بنثام لم يفعل أكثر من تقديم صيغة كمية لوصية الكتاب المقدس أحب لجارك ما تحب لنفسك لقد كان إنجازه هو تطبيق مبدأ السعادة القصوى على قوانين إنجلترا. لقد أصبح لديه الآن حقيقة أخلاقية فكرتها واضحة وأصبح لديه معيار يمكن به الحكم على وصايا المبشرين وتحذيرات المعلمين ومبادئ الأحزاب وقوانين المشرعين ومراسيم الملوك. فلا يجب أن يقدم القانون كليات غامضة (باطنية) كالحقوق طبيعية أو جماهيرية أو مقدسة (إلهية) ولا يجب عليه أن يقدم وحيا أوحاه الله إلى موسى أو محمد أو عيسى، ولا عقوبات بقصد الثأر.
فكل اقتراح تشريعي يجب أن يجيب عن هذا السؤال: ما هو الأفضل أو ما هو الأصلح؟ ما هو الأصلح للفرد أو للأقلية أو للكثرة أو للجميع؟ فالقانون يجب أن يكيف نفسه مع الطبيعة البشرية التي لا سبيل لتغييرها ومع القدرات المحدودة للبشر ومع الحاجات العلمية للمجتمع، ولابد أن يكون واضحا ويسمح بالتنفيذ أو التطبيق العملي والمحاكمة العاجلة والحكم الحازم والعقوبات الصحيحة والإنسانية. ولهذه الغايات كرس بنثام الفصول العشرة الأخيرة من كتابه والسنوات الأخيرة من حياته.
وفي هذه الأثناء راح يطبق معياره هذا على القضايا المثارة في أيامه. لقد أيد آراء الفزيوقراطين في مبدأ عدم التدخل الحكومي في الشؤون الصناعية وإدارة الشؤون العامة Politics إلا في الحدود الدنيا، فالفرد هو - بشكل عام - أفضل من يجيد الحكم فيما يحقق سعادته ولا بد من تركه حرا في نطاق ما هو مقبول اجتماعيا، وعلى أية حال لا بد أن يشجع المجتمع المؤسسات الخيرية التي يتنازل أعضاؤها عن جانب من حريتهم لتوحيد الجهود لخدمة قضية عامة. وانطلاقا من المبادئ نفسها دافع بنثام عن حكومة التمثيل الغيابي فهي الأفضل مع كل أخطائها ومفاسدها.
وقد لاقى كتاب مبادئ الأخلاق والتشريع ترحيبا وثناء على نطاق واسع أكثر مما كان متوقعا فقد كان الكتاب صعبا في صياغته ذا روح إنتقادية وذا منحى علماني. وكان الترحيب به خارج البلاد أشد حرارة من الترحيب به داخلها. لقد ترجم في فرنسا التي جعلت مؤلفه مواطنا فرنسيا (منحته حق المواطنة الفرنسية) في سنة 1792. وراسله القادة السياسيون والمفكرون وأتته الرسائل من العواصم المختلفة ومن جامعات أوروبا. وفي إنجلترا أدان المحافظون Tories مبدأ النفعية باعتباره مبدأ غير وطني وغير مسيحي وأنه مبدأ مادي.
ودافع بعض الكتاب ذاكرين أن أفعالا كثيرة - مثل الحب الرومانسي والأبوي والتضحية بالنفس وتبادل المساعدة - لا تنطوي على حسابات واعية بإرضاء الذات (أو إشباع رغبات الذات)، واعترى الفنانون الإحباط للحكم على أعمالهم الفنية بمقياس المنفعة. لكن الجميع فيما عدا الموظفين الحكوميين وافقوا على أن النفع الذاتي هو خلق كل الحكومات وسياساتها إذا نحينا جانبا الادعاء والخداع.
لقد عاش بنثام لفلسفته وجعل أعوامه مفيدة بشكل متواصل. لقد ناضل في كتابه عن العقلانية في الدليل القضائي Rationale of Judicial Evidence (1825) وفي مواضع أخرى ليوضح القوانين القديمة والحالات المعاصرة ونجح في تحديث (التخفيف من وطأة) المبالغات البربرية في أساليب إدارة السجون ومعاملة المجرمين. وبدأ في سنة 1827 - وكان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره - في تقنين Codify القوانين الإنجليزية لكن المنية وافته بين المجلد الأول والثاني.
وقد ساهم في تأسيس The Westminster Review (1823) كمنبر للأفكار الليبرالية. وجمع حوله جماعة من التلاميذ والمريدين اعترفوا بحرارة قلبه وطيبته رغم فظاظته الخارجية. وكان بيير إتين دومون Pierre - Etienne Dumont داعيا لأفكاره في فرنسا، وجيمس ميل Mill - المفكر البارز - حرر بنفسه المخطوطة التي كتبها بنثام، ورفع جون ستيوارت ميل Mill الدافع أو السبب من مرحلة الحساب إلى مرحلة الإنسانية.
لقد عمل هؤلاء الفلاسفة الراديكاليون بقيادة بنثام على حق التصويت للذكور البالغين والاقتراع السري وحرية التجارة وتحسين الصحة العامة وتطوير السجون وتطهير
القضاء وعفة مجلس اللوردات وتطوير القانون الدولي. وحتى سني الستين من القرن التاسع عشر أكد أتباع بنثام فلسفته المنطوية على الفردية والحرية. وفيما بعد ترصدت الاشتراكية لمقولة سعادة أكثر لأكبر عدد من الناس وحولت تيار الإصلاح نحو استخدام كممثل لإرادة العامة في مهاجمة الأمراض الاجتماعية. وبينما كان بنثام يحتضر كان يفكر في أن يجعل جثته مفيدة تماما لأكبر عدد من الناس فأوصى بتشريح جثته في حضور أصدقائه. وحدث هذا بالفعل وبعد تشريحها ملئت جمجمته بالشمع - وطليت به وتم إلباس هيكله العظمي الملابس الداكنة التي اعتاد (بنثام) ارتداءها، ووضع بشكل منتصب في صندوق زجاجي في الكلية الجامعية في كمبردج ولازال موجودا حتى الآن.
الفصل العشرون
الأدب والفكر في مرحلة انتقال
1 - الصحافة
THE PRESS
إن كانت فرنسا قد هيمنت على المسرح السياسي في هذه الحقبة، فقد كانت إنجلترا هي قائدة الأدب والحركة الفكرية. فإذا استثنينا شاتوبريان Chateaubriand فَمَن لفرنسا في هذه الفترة يمكن مقارنته بوردزورث Wordsworth وكولردج وبايرون وشيلي Shelley؟ ولم نُدرج كيتس Keats (1795 - 1821) في هذه القائمة فأعماله الكبرى لا تدخل في مجال مقارناتنا الحالية، فقد كانت أزهى الورود في الشعر الإنجليزي طوال أربعة قرون بعد عصر إليزابيث الأولى.
فحتَّى الرسائل المتبادلة كان يمكن اعتبارها في ذلك العصر أدباً، فخطابات بايرون Byron وكولردج Coleridge تبدو أقرب إلى روحنا من أشعارهما. وفي تلك الأيام عندما جرت العادة أن يدفع المُرْسَل إليه ثمن طابع البريد، فإنّه كان يطلب لقاء ما دفعه ثروة أو أسلوباً (المقصود أنه كان يتوقع نظير دفعه لتكاليف البريد أن يكون الخطاب مشتملاً على أموال أو أن يكون على الأقل ذا أسلوب جميل) وكان معنى أن يتلقى خطابا من هذه الأرواح المتوهجة (المقصود الشعراء المشاهير) أنه حصل على جواز سفر يخلد ذكره بعد الوفاة.
ولم تكن الصحف على أية حال تمثل أدبا وفكرا. فعادة ما كانت الصحيفة صفحة كبيرة مطوية لتصبح أربع صفحات؛ الأولى والرابعة للإعلانات، والصفحة الثانية تتناول السياسة بما في ذلك ملخص للأعمال البرلمانية في اليوم السابق. وكان يصدر في لندن عدة صحف يومية: خاصة التايمز Times (الأزمنة) التي أسست في سنة 1788 وكانت تبيع نحو خمسة آلاف نسخة، والكوريير Courier (الوقائع) التي تبيع عشرة آلاف نسخة، وصحيفة مورننج بوست Morning Post وهي صحيفة حزب الأحرار Whigs (حزب الهويجز الذي عُرِف فيما بعد بحزب الأحرار) والمراقب Examiner صوت الليبراليين من أمثال لاي هنت Leigh Hunt. وكان لكل مركز من المراكز التي لها ممثلون في البرلمان ولكل كونتية (إقليم أو
مقاطعة) صحيفته الخاصة وأحيانا صحيفتان، واحدة للضالعين في السلطة، وأخرى لغير الضالعين فيها. وكانت هناك صحف أسبوعية مختلفة كان أشهرها بوليتكال ريجستر (المسجل السياسي) التي يصدرها وليم كوبت William Cobbett وكان هناك عدة دوريات سياسية واجتماعية وأدبية. كان أقواها مراجعات أدنبره Edinburgh Review التي تصدر أربع مرات في السنة (فصلية) وكان قد أسسها في سنة 1802 كل من فرانسيس جفري Francis Jeffery وهنرى بروهام Brougham وسدني سميث Sydney Smith للدفاع عن الأفكار التقدمية والمراجعات الفصلية Quarterly Review التي أسسها في 1807 جون مري Murray وروبرت سوثي Robert Southey ووالتر سكوت Walter Scott للدفاع عن أفكار حزب المحافظين (التوري Tory) وكانت سلطة الصحافة عنصرا مهيمنا على الساحة البريطانية.
فلم تعد أداة للتعبير الأدبي كما كانت في الأيام المتمهّلة التي عاشها أديسون وستيل Addison & Steele وإنما أصبحت منفذاً للمعلنين ولساناً ناطقا باسم الجماعات السياسية. وما دام المعلنون يدفعون على وفق مدى انتشار الصحيفة فقد كان على المحرر والناشرين أن يضعوا في اعتبارهم الرأي العام حتى لو كان هذا على حساب الحزب في السلطة، وعلى هذا راحت الصحافة تسخر من أبناء الملك الذين لا عمل لهم رغم كل جهود الحكومة لحمايتهم، وبالتدريج وكلما تقدمت أعوام القرن التاسع عشر، أصبحت الصحافة أداة - أصبحت أخيراَ أداة لا مفر منها - للديمقراطية الصاعدة
2 - الكتب
تضاعف عدد الكتب مع نمو الطبقة الوسطى وزيادة عدد القراء وأصبح النشر عملاً مربحاً بشكل كاف حتى إنه أصبح مهنة مستقلة، منفصلة عن بيع الكتب - لقد تنافس الناشرون للتعاقد مع المؤلفين ودفعوا لهم مبالغ جيدة وكرموهم في الصالونات الأدبية ومن هنا وجدنا الناشر جوزيف جونسون يفوز بالنشر لجودوين Godwin وبين Paine وبلايك Blake، ووجدنا الناشر أرشيبالد كونستابل Archibald Constable يشرك والتر سكوت في
ديونه، ووجدنا توماس نورتون لونجمان Thomas Norton Longman ينشر لوردزورث وجوزيف كوتل Joseph Cottle - في بريستول Bristol - ينشر لكولردج وسوثي. ووجدنا جون مري John Murray - من لندن. يستأثر ببايرون ويتحكم في تجواله.
وفي هذه الأثناء راحت شركة آل لونجمان العريقة تنفق ثلاثمائة ألف جنيه لنشر طبعة جديدة (1819) من موسوعة شامبرز Chamber's Cyclopoedia في 39 مجلدا، وصدر من الموسوعة البريطانية ثلاث طبعات جديدة في فترة وجيزة - الطبعة الثالثة في 18 مجلداً (1788 - 1797)، والطبعة الرابعة في 20 مجلدا في سنة 1810 والطبعة الخامسة في 25 مجلدا في سنة 1815. وكان الناشر يدفع مبلغا إجماليا (دفعة واحدة) عند تسلمه مخطوط الكتاب من المؤلف، ولا يتحدد المبلغ بنسبة من سعر كل نسخة مباعة، كما كان الناشر يدفع بعض المال بالإضافة إلى هذا المبلغ الإجمالي السابق ذكره إذا طبع من الكتاب طبعات أخرى وذلك بعد بيع النسخ المطبوعة من هذه الطبعات الجديدة،
ومع هذا فقد كان قليلون من الكتّاب هم الذين يعيشون من حصاد مؤلفاتهم - لقد هيأ التأليف لتوماس مور Thomas Moore معيشة مريحة، وكان الأمر مشكوكا فيه بالنسبة إلى سوثى وهازلت Hazlitt، وتراوحت حياة سكوت Scott بين الثراء والفقر. لقد خلف الناشرون النبلاء كحماة للأدب والفكر وظل بعض الأثرياء يقدمون يد العون، ومن هنا رأينا آل ودجوودز Wedgwoods يقدمون العون المالي لكولردج ووجدنا ريزلي كالفرت Raisley Calvert يوصي لوردزورث بتسعمائة جنيه، وأرسلت الحكومة للمؤلفين حَسَنِي السلوك مكافآت شرفية في المناسبات، ورعت شاعر البلاط بمائة جنيه لذا كان من المتوقع أن يؤلف قصائد تتناول نصرا حققه الجيش، أو تهنئة بمولود ملكي أو زواج ملكي أو رثاء لفقيد من الأسرة المالكية.
وقد عاق حركة القراءة العامة ارتفاع أسعار الكتب، لكن حركة القراءة هذه قد زادت بانتشار نوادي الكتب وبإتاحة الاستعارة من المكتبات التي كان أفضلها المكتبة العامة (قاعة المطالعة أو الأثينايوم Athenaeum) وقاعة المحاضرات (الليسيوم Lyceum) وكلتاهما في ليفربول Liverpool، وكان في الأولى ثمانية آلاف مجلد وفي الأخرى أحد عشر ألفا. وكان على المشترك أن يدفع رسماً (اشتراكا) سنويا يتراوح ما بين جنيه (إنجليزي) وجنيهين مما يعطيه
الحق في استعارة أي كتاب من الكتب المصفوفة فوق الرفوف. وكان في كل مدينة مكتبة لإقراض (إعارة) الكتب.
وكلما انتشرت القراءة بين العوام متخطية حدود الطبقة الوسطى فقدت شيئا من مذاقها ومستواها. فكلما اتسع جمهور القراء زاد التحول من التراث الكلاسيكي إلى الكتابات العاطفية (الرومانسية) ومما ساعد على هذا التحول أيضا زيادة إنعتاق حب الشباب وانفلاته من الرقابة الأبوية وروابط المِلكية (بكسر الميم) وكان من الممكن توظيف حكاية حب واحدة في خلق مائة عقدة قصصية. إن موضوعات ريتشاردسون Richardson المبكية مستقاة من حكايات فيلدنج Fielding عن العشاق المتيمين ومن حكايات سمولت Smollett عن المغامرين المفعمين رجولة.
لقد غلبت النساء (المقصود الشخصيات النسائية) على أعمال الروائيين باستثناء متى مونك Monk لويس وقصة أمبروزيو Ambrosio أو الراهب (1795) التي عرض فيها مشاهد مرعبة، ويليه في مدرسة الغموض والرعب السيدة آن راد كليف Ann Radcliffe، فهي فقط التي تستحق المكانة الثانية بعده في هذه المدرسة بأعمالها الناجحة: قصة صقلية (1790) قصة الغابة (1791) وأسرار أدولفو (1794) وعادة ما يطلق العامة من الإنجليز على مثل هذه الكتب: قصص romances (من الكلمة الفرنسية roman التي تعني قصة) أما الكلمة novel فخصصت للأعمال القصصية الممتدة التي تتناول أحداثا طبيعية في حياة مألوفة كما هو الحال في كتابات فيلدنج Fielding والكاتبة جين أوستن Jane Austin وقد وصلت روايات ويفرلي التي ألفها سكوت بين هذين الفرعين أو بتعبير آخر كانت وسطاً بينهما. وفي القصص الرومانسي تفوقت النساء على الرجال، وكان هذا أمراً طبيعيا.
لقد أحدثت فرانسيس (فانى) بيرنى Frances (Fanny) Burney زوبعة بروايتها "إفيلينا Evelina "(1778) واستمرت رواياتها كشرارات في الوسط الأدبي: سيسيليا Cecilia (1782) وكاميلا Camilla (1796) والمتجول Wanderer (1814) وبعد موتها (1840) شغلت يومياتها (1842) جيلاً آخر وكانت ماريا إدجورث Maria Edgeworth أكثر شهرة، فروايتاها Castle Rackrent (1800) والمتغيب Absentee (1812؟)
اتسمتا بالواقعية وقدمتا وصفا تفصيليا لاستغلال اللوردات الإنجليز للأيرلنديين لدرجة أن إنجلترا نفسها تأثرت وعملت على تخفيف هذه الشرور. ولم تتفوق عليها من نساء عصرها المؤلفات سوى امرأة واحدة فاقت الرجال جميعا.
3 - جين أوستن
JANE AUSTEN: من 1775 إلى 1817 م
كل المغامرين في قصصها كانت هي وكيلة عنهم (تتحدث باسمهم)، وما دامت تجد في الحياة العادية للأرستقراطيين والمهذبين إغراء كافيا فلم تكن في حاجة لإضافة إلا ما هو قليل - فهذه الحياة العادية لهذه الطبقة كانت عامرة بنساء متعلمات حساسات مثلها. وكان أبوها قسّاً لأبرشية ستيفنتون Steventon في هامبشير Hampshire. لقد وُلدت - إذن - في بيت قس وعاشت فيه حتى بلغت السادسة والعشرين من عمرها. وفي سنة 1809 قدم أخوها إدوارد لأمه وأخواته بيتا في شوتون Chawton.
وعاشت في هذا البيت حتى العام الأخير من عمرها وكانت تغير نمط حياتها البسيط بالقيام بزيارات لإخوتها وبالإقامة في لندن. وفي مايو سنة 1817 ذهبت إلى ونشستر Winchester لتعالج من مرض ألم بها فقضت نحبها في 18 يوليو عن عمر يناهز الواحدة والأربعين ولم تكن قد تزوجت.
وقد أعطت لحياتها معنى وأضفت عليها تشويقا بالحب الأخوي الذي جعل خطاباتها دافئة، بفكاهاتها الساخرة الخفيفة التي يشع منها الذكاء تلك الفكاهات التي تقتنص ما في الحياة من سخف وقلق باطني، ثم إنها راحت تصور كل هذا دون مرارة، ومما أضفى أيضا على حياتها معنى سعادتها بمشاهد الريف وإيقاع الحياة السهل فيه. وكان لديها من الأسباب ما يكفي لتكره مدينة لندن فهي لم تقدم لنا صورة مشوقة لها وإنما عرضت الحياة فيها توسط بين الفقر المزري والفساد المتأصل وصورتها كمكان لا تأتي إليه البنات الريفيات إلا ليتعرضن للاغتصاب. لقد شعرت أن أفضل أنواع الحياة في إنجلترا هي حياة الطبقة الأرستقراطية الدنيا في الريف الإنجليزي.
ففي بيوتهم تراث متوارث وانضباط يؤدي إلى شيوع الاستقرار والرضا والقناعة. وفي هذا الجو المشبع سلاما قلما يسمع المرء عن الثورة الفرنسية، ونابليون في هذا الوسط غول أو شبح بعيد جدا، إنه أبعد ما يكون عن انتزاع المرء
من أشغاله الأكثر أهمية المتمثلة في اختيار الشريك المناسب ليُراقصه أو ليعيش معه. وفي بيوت هذه الطبقة يجد المرء للدين مكانا يحفظه إذ إنهم نزعوا من الدين ما يجعله يسبب الرعب نتيجة التكلف الباطني (المقصود غالبا المصطنع) الذي قد يزدهر في بيت قسيس. ولم تكن الثورة الصناعية قد وصلت بعد إلى الريف لتغيظ الطبقات وتشوه المناظر وتلوث الهواء. إننا نسمع صوت جين أوستن الموثق والموثوق به في مواساتها لفاني برايس Fanny Price التي كان عليها أن تقضي شهورا في لندن على غير رغبتها:
"لقد حزنت فاني Fanny لا فتقادها كل مباهج الربيع .. إنها لم تكن تعرف إلى أي مدى كانت تسببه لها بداية ظهور الأوراق واستمرارها في الاخضرار من بهجة وسرور، إلا بعد أن افتقدتها. يا للانتعاش الذي كان يحس به الجسد والروح عند مراقبة تقدم الربيع الذي لا يمكن - رغم نزواته وتقلباته - أن يكرهه المرء
…
انظر إلى جماله الذي يزداد رويدا رويدا من بداية ظهور وروده الباكرة في أكثر الأجزاء دفئا في حديقة خالتها إلى البراعم في مزرعة عمها وعظمة الأشجار وسموقها".
لقد كانت مثل هذه البيئة هي التي أضفت على روايات جين أوستن جوا منعشا من السلام والصحة والطبيعة - إنها بيئة تمثل المنزل المريح والحديقة ذات العبير والتجول في الأمسيات مع الأخوات السعيدات، وكلمات التشجيع التي كانت تسمعها من أبيها عن تصفح مخطوطات رواياتها، هذا كله جعل قراءها من النوع غير التعجل الذين كانوا راضين بهدوء عما يقرءون وقلما نجد قراء من هذا النوع لأي نوع من الروايات. لقد تعلمت أن النهار نفسه به ما يكفي من البركة.
لقد كتبت رواياتها الست وصبرت كثيرا على عدم نشرها. نفي سنة 1795 - وكانت قد بلغت العشرين - ألفت أول أعمالها الشعور والإحساس لكنها لم تكن راضية عنه وفي العامين التاليين أنهت روايتها الكبرياء والكراهية وواصلت مراجعتها وتنقيحها وأرسلتها إلى الناشر وأعادها إليها لأنها لن تحقق ربحا. وفي سنة 1798 - 1799 وضعت التخطيط العام لرواية دير نورثانجر Northanger فاشترى كروسبي Crosby حق نشرها لكنه تركها - بعد أن دفع للمؤلفة - دون نشر. ثم مرت بها فترة غير مثمرة (بلا إنتاج) ربما كانت بسبب
تغير محل الإقامة وربما كانت بسبب عدم التشجيع.
وفي فبراير 1811 بدأت كتابة رواياتها حديقة مانسفيلد Mansfield Park، وفي نوفمبر أعادت صياغة روايتها الشعور والإحساس وتمت طباعتها. وفي آخر خمس سنوات عمرها ظهر الحصاد الكبير: فوجدت رواية الكبرياء والكراهية ناشرا في سنة 1813 وحديقة مانسفيلد في سنة 1814، وإيما Emma في سنة 1816، وبعد موتها في سنة 1817 ظهرت رواية دير نورثانجر وبعدها بقليل رواية الإقناع. وتقدِّم رواية الكبرياء والكراهية في بدايتها خمس أخوات كلهن جاهزات للزواج وتواقات إليه.
فقد كانت السيدة بنت Bennet ذات روح متقلبة مندهشة وكانت دعواتها كل صباح أن تجد لبناتها أزواجا، وكان فكرها دوماً يدور حول هذا الأمر. أما زوجها السيد بِينت فقد تعلم الهروب من حياته اليومية إلى المكتبة حيث يجد عالما آخر بلا إزعاج وكان قد تخلى تماما عن مشكلة تقديم خمس دوطات dowries - من الأراضي والجنيهات - لبناته، فهو يحتفظ ببيته طوال حياته فقط، وبعد الموت ينقل على وفق وصية للسيد المبجل كولنز Collins وهو قس بروتستنتي في مدينة قريبة ولما يتزوج بعد. آه لو أن إحدى بناته (بنات السيد بنت) استطاعت أن توقع هذا القسي في شراكها! لقد كانت كبرى البنات وألطفهن (جين Jane) .
قد عقدت الآمال على الزواج من السيد بنجلي Mr. Bingley الثري الوسيم لكن يبدو أنه كان يفضل أخرى، ولم تكن جين Jane تستطيع إخفاء أحزانها إلا بالكاد. أما إليزابيث Elizabeth التي تليها في العمر فلم تكن فخورة بجمال وجهها وقوامها وإنما باستقلالها وكونها شخصية معتمدة على نفسها فكانت تفكر بنفسها في أمر نفسها ولم تكن لتقبل أن تطرح في مزاد. لقد كانت تقرأ كثيرا في مجالات مختلفة وكان يمكنها مواجهة أي رجل في مضمار الثقافة والفكر، وأبدت المؤلفة إعجابا بمثل هذه الشخصية. والأخت الثالثة ماري Mary كانت صالحة للزواج من حيث السن وكانت تواقة إليه وكانت مغيظة ساخطة لأن الأكبر منها سنا سيستغرقن وقتا طويلا قبل أن يفسحن لها الطريق (المقصود أنها لن تتزوج إلا إذا تزوجن). أما ليديا Lydia أصغرهن فكانت مندهشة تتساءل لم يتحتم على البنت أن تنتظر الزواج الرسمي؟ ولِمَ لا يسمح لها باكتشاف أسرار الجنس قبل ذلك؟.
لقد ابتهجت الأسرة بأخبار مفادها أن السيد كولنز يخطط لزيارتها. وكان السيد
كولنز هذا رجلا معتزا بنفسه وواعيا بقداسته، لكنه يراعي بعناية الفروق الطبقية والمصالح المادية. ومن خلاله قدمت المؤلفة صورة قاسية للتبعية المطلقة للطبقة الاجتماعية المغلقة، تلك التبعية التي وقع فيها هذا القس الإنجليكاني Anglican المتدني الرتبة في السلك الكهنوتي. لقد كان هجاء المؤلفة شديدا، لكنه كان واضحا وعميقا وحادا كحد المقصلة.
وأتى الشاب المبجل ورأى أن جين الجميلة منيعة صعبة القياد فتقدم للزواج من إليزابيث التي أربكت الأسرة برفضها إياه فقد كانت إليزابيث حبيسة الصورة المثالية التي رسمتها لشريك حياتها. لكن ماري تُوجِّه عينيها وابتساماتها صوب وريث الثروة الموعود وراحت تلفت نظره برقتها وقد دفعه هذا إلى طلب يدها من والديها السيد والسيدة بنت، وهي لم تفعل ذلك إلا لإحساسها أن زواج الأخت الثالثة قبل الأخريات سيكون شركاً بكل معنى الكلمة.
لقد بدت كل الأمور على ما يرام ولكن ليديا كانت خائفة أن يفوتها قطار الزواج بسبب تهور السيد وكهام Wickham معها. لقد تلوثت الأسرة كلها بسبب خطيئتها مع السيد وكْمان وتجنبها كل الجيران تقريبا. وأرسل السيد المبجل كولنز توبيخاً للسيد بنت: "إن موت ابنتك كان أفضل مما حدث
…
من الذي سيرتبط بمثل هذه الأسرة؟ " وأنقذت إليزابيث الجميع بإغرائها السيد داركي Darcy الطبقي المتحفظ بتمنعها وكبريائها فألقى بملاينيه تحت قدميها وأجبر وكمان على إصلاح خطئه بالزواج من ليديا وحلت كل المشكلات وعبّرت المؤلفة عن هذا بطريقتها الساحرة لدرجة أن السيد بنجلي Bingley اكتشف أنه كان دوماً يحب جين.
أما رواية حديقة مانسفيلد فقد كانت أفضل بناء، فقد كان الحل متوقعاً في مستهل القصة. ويكاد يكون الإعداد له في كل حدث من أحداث الخطة بشكل تدريجي (خطوة خطوة). ولم تكن شخصيات القصة مجرد دمى في حبكة فنية وإنما كانت أرواحا تشق طريقها في الحياة بحيوية، وكلها توضح بشكل سوي توجيه (أو ملاحظة) هيراكليتوس Heracleitus التي مؤداها شخصية الإنسان هي قدره (وستكون هذه الملاحظة هي الدليل المرشد في كل القصة) أما الحديقة فمن الممتلكات الجميلة للسيد توماس برترام Thomas Bertram
الذي كان أبا أكثر تدقيقا ومراقبة من السيد بنت.
وعلى أية حال فقد ارتكب هو أيضا أخطاء غريبة؛ فقد انشغل بجمع الثروة والحصول على الرتب الشرفية فترك ابنه الكبير الذي انحط أخلاقيا وتدهور بدنيا بسبب عدم رعاية أبيه له، وسمح هذا الأب أيضا لابنته بقضاء إجازة طويلة في لندن حيث تصبح كل أخلاق الريف مجالا للسخرية مع أن أهل الريف هم عماد الحياة.
وكان مما يحسب له أنه تبنى في أسرته فاني برايس Fanny Price ابنة أخت زوجته الفقيرة والمتواضعة والحساسة. وكان محط فخره هو ابنه الأصغر إدموند Edmund المكرس للكنيسة والذي وصف بأنه نموذج لما يجب أن يكون عليه رجل الدين. لقد كان بديلاً مؤقتا للسيد كولنز. لقد استغرق الحديث عن إدموند مئات الصفحات لتؤكد المؤلفة أن تأثيره في فاني كبير، وقد عرضت المؤلفة في سياقها الهادئ ارتباطهما معا بالطريقة التي يحدث بها مثل هذا الارتباط في الحكايات الكلاسيكية.
لقد كانت جين أوستن حتى في روايتها هذه وفي دراساتها عن الحب كلاسيكيّة ذات عقل رزين وتناول ممتاز. ففي زمن سادت فيه أسرار أدولف Udolphian mysteries وقلاع والبول Walpolian Castles ظلت واقعية وظلت مراقبة تحكم أحكام العقل. وكان أسلوبها عفيفا محتشما كأسلوب دريدن Dryden وكانت تقواها غير انفعالية وإنما كانت كتقوى البابا (رزينة متعقلة) وكان مجال اهتمامها ضيقا لكنه كان عميقا تسبره بمسبارها. لقد أدركت أن الجانب الأساسي في الحياة هو تجنيد الفرد لخدمة الجنس البشري، فحتى أزمات الحكومات وصراع القوى بل والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، كل ذلك أقل أهمية من الجهود غير الواعية للشباب للوصول إلى مرحلة النضج، واستخدام قواهم والاستفادة منها. ونظرت المؤلفة إلى عنصري البشرية - الرجال والنساء - على قدم المساواة، فكلاهما - الرجل والمرأة - تستعصي أمراضهما على العلاج وتستعصي أهدافهما على الفهم، فيما ترى المؤلفة.
إنها تتناول موضوعها بهدوء، فلا نسمع لها صراخا لكننا نستطيع تتبع أفكارها بشوق بالقدر الذي تسمح به سرعة خطى الحياة أو سرعة وقع أحداثها، ويمكن في وسط هذه السرعة أن نكون هادئين أو بتعبير آخر أن نسمح لهدوء المؤلفة بالانتقال إلينا. في هذه الأيام كنا قلما نجد قرية في إنجلترا إلا وفيها متعبدوها (طائفة من المتدينين).
4 - وليم بلايك
WILLIAM BLAKE: 1757 - 1827
ولد وليم بلايك قبل جين أوستن بثمانية عشر عاما ولاقى نحبه بعد موتها بعشر سنين. ويمثل بلايك حلقة الوصل أو المرحلة الانتقالية إلى الرومانسية. لقد عاش في عالم الأسرار ورفض العلم وشك في الله وعبد المسيح وحوّل الكتاب المقدس ونافس الأنبياء ودعا إلى مدينة مثالية (يوتوبيا utopia) يقطنها قديسون يمشون على الأرض.
لقد كان ابنا لصانع جوارب في لندن، واعتراه الرعب وهو في الرابعة من عمره عندما رأى الرب ينظر إليه عبر النافذة. وبعد ذلك بقليل رأى الملائكة ترفرف فوق شجرة، كما رأى النبي حزقيال Ezekiel يتجول في حقل. وربما لم يُرسل به أهله إلى المدرسة حتى العاشرة من عمره بسبب خيالاته التي كانت تختلط بحواسه دون فاصل أو قاعدة. وقد التحق بعد وصوله هذه السن (العاشرة) إلى مدرسة رسم، وفي الخامسة عشرة بدأ التدرب على مهنة النحت مع النحات جيمس باسير Basire واستمر على هذه الحال طوال سبع سنوات.
لقد قرأ كثيرا بما في ذلك أعمالا رومانسية مثل ذخائر الشعر الإنجليزي القديم لبيرسى Percy ومؤلف ماكفرسون Macpherson المعروف باسم أوسيان Ossian وكتب هو نفسه الشعر ورسم الرسوم التوضيحية. وعندما بلغ الثانية والعشرين تم قبوله كدارس للحفر في الأكاديمية الملكية Royal Academy ولكنه تمرد على نصائح رينولدز Reynolds الكلاسيكية، وفي وقت لاحق ندم على أنه أضاع جهده وشبابه وعبقريته في ظل كابوس السيد يشوع Joshua وجماعته الماكرة من الخدم المستأجرين وقد طور أسلوبه الخيالي في الرسم رغماً عنهم وكان قادرا على إبراز شخصيته من خلال الألوان المائية وأعمال الحفر.
ولم يكن ميالاً بشدة إلى الجنس الآخر وقد عبر ذات مرة عن أمله في ألا تكون هناك لقاءات جنسية وعن أمنيته في زوال هذه الرغبة من البشر. ومع هذا فقد تزوج وهو في الخامسة والعشرين من كاترين بوشير Catherine Boucher وكان غالبا ما يسبب لها المتاعب بنوبات غضبه كما كان يرعبها برؤاه، ومع هذا فقد اعترفت بعبقريته واهتمت به بإخلاص حتى آخر حياته ولا نعرف أن له أطفالا لكنه كان يجب اللعب مع أطفال أصدقائه.
وفي سنة
1783 قام جون فلاكسمان Flaxman وأ. س. ماثوس A.S. Mathews بتمويل طبعة خاصة لأشعار بلايك الباكرة، وقد أعيد نشر هذه "الاسكتشات الشعرية Poetical Sketches" في سنة 1868 فأسهم ذلك في تحقيق شهرته التي تأخرت. وبعض هذه الأشعار مثل إلى نجم المساء (الزهرة) وهي مقطع ملحمي غير مقفى احتل مكانا حفيا في الشعر الإنجليزي. وقد كان مثله في ذلك مثل أي روح شاعرة حساسة باغضا لتركز الثروة وشيوع الفقر في إنجلترا.
لقد كان مثل توم بين Tom Paine وجودوين وماري ولستونكرافت Wollstonecraft وغيرهم من الراديكاليين الذين تعاملوا مع الناشر جوزيف جونسون، قد شرب حتى الثمالة من نبيذ التنوير الفرنسي وتغنوا بالعدالة الاجتماعية والمساواة. وكان مظهره ينم عن روح نافرة من أي نظام مفروض. كان قصيرا ممتلئا ذا ملامح نبيلة مفعمة تعبيرا وحيوية وكان شَعره بنيا مُشرباً بصفرة مصففا بإتقان وكانت خصلاته غير متدلية وإنما منتصبة وكان ينظر وكأنه رادار لما هو بعيد، ولابد أن عينه الحادة وجبهته العريضة وفراسته الشديدة قد أضفت على مظهره جاذبية حقيقية.
وفي سنة 1784 افتتح محل طباعة في شارع برود Broad Street واتخذ من أخيه الأصغر روبرت مساعداً له فكانت علاقتهما حميمة لأن كل وحد منهما كرس حياته للآخر، ولكن روبرت كان متلافا كثير الإنفاق وقد أدى موته في سنة 1787 إلى تعميق التوتر والكآبة في نفس وليم، وأدّى إلى الجانب الصوفي في فكره. لقد كان مقتنعا أنه رأى روح روبرت لحظة موته وهي تصعد عبر السقف. رآها وهي تصفق من فرط السعادة وقد عزا إلى شبح روبرت طريقة الحفر على إحدى اللوحات - سواء حفر النص أو حفر الرسوم التوضيحية. وكانت كل كتب بلايك تقريبا محفورة على النحو نفسه وكانت تباع بمبلغ يتراوح بين شلنات قليلة وعدة جنيهات للواحد منها. وكان قراؤه - حتى ذلك الوقت - قليلين.
وفي سنة 1789 أصدر أول عمل كبير من أعماله هو أغاني البراءة وكان يضم تسع عشرة مقطوعة شعرية. ومن الواضح أنه كان يعني بالبراءة مرحلة ما قبل البلوغ عندما كانت الحكايات المجمعة والمتعلقة بالمسيح تحظى بالتصديق وتسبب للمستمع إليها سعادة قصوى وبهجة، وعلى أية حال فقد كان بلايك قد بلغ الثانية والثلاثين من عمره عندما ظهرت
قصائده هذه ونحن نحس أن الخبرة راحت تنمي موت البراءة. ولابد أن نعيد هنا سطوره الشهيرة التي يمكن أن نضاهيها بأبياته التي وجهها لنمر Tiger بعد ذلك بخمس سنوات:
أيّها الحمل الصغير، من خلقك؟
ألا تعلم من سوّاك؟
ألا تعلم من نفخ فيك الحياة ورزقك؟
وهيأ لك المجرى تشرب منه
وكساك ثوب البهجة
ياله من ثوب! إنه أنعم الأثواب
ثوب من صوف فاتن متألق
أيها الحمل الصغير، من سوّاك فعدلك حملا؟
ألا تعرفه؟!
أيها الحمل الصغير
أنا سأقول لك
إنه يدعى باسمك
لأنه أسمى نفسه حَمَلا
إننا ندعو نفسنا باسمه
أيها الحمل الصغير ليباركك الرّب
ليباركك الرّب
وربما كانت القصيدة التالية هي الأجمل. إنها بعنوان الصبي الأسود الصغير وفيها يعجب الصبي الزنجي لم خلقه الله أسود البشرة. إنه يحلم بوقت يأتي يلعب فيه الصبي الأسود مع الصبي الأبيض دون أن تعوق ظلال اللون لعبهما. وثمة قصيدتان بعد ذلك -
قصيدة كنّاس المدخنة وفيها يتخيل ملكاً (ملاك) ينزل من السماء ليحرر العاملين في تنظيف المداخن من معاطفهم الملوثة بالسخام التي يعملون - وينامون - وهي تغطي أبدانهم، أما القصيدة الأخرى فهي الخميس المقدس والتي ينهيها بتحذيره: والآن، فلتتمسك بالرحمة والشفقة، وإلا أبعدت الملائكة عن بابك
ومرت خمسة أعوم: إنها الأعوام التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية وتألقت مثاليتها (1791) ثم عادت إلى المذابح والإرهاب (1792 - 1794). وفي سنة 1789 - على وفق بعض الروايات - وضع بلايك فوق رأسه غطاء الرأس الأحمر الذي يرمز للثورة الفرنسية وانضم إلى باين Paine في مهاجمة الكنيسة الإنجليزية وأثرت فيه الاضطرابات والفوضى فانفجر مؤلفاً قصيدة قصصية بسيطة زاخرة بالنبوءات تعكس ما ورد في إرمياء Jeremiah وهوشع Hosea، فكانت إعلانا مشئوما لعالم تجلله الخطايا والآثام.
ولا نوصي أولئك الذين يمتعضون من الإبهام بقراءة عمله هذا ولكننا نلاحظ أن بلايك في ديوانه زواج الفردوس وجهنم (في معرض هجائه لسويدنبرج Swedenborg) يقارن بين هاتين المملكتين (مملكة الفردوس ومملكة جهنم) من ناحية والبراءة والخبرة من ناحية أخرى. وبعض الأمثال التي أتى بها من الجحيم استوحت راديكالية هوتيمان وفرويد ونيتشه Whitmanic-Freudian-Nietzschean radicalism:
كل الطعام المفيد يتم الحصول عليه دون شباك أو شراك
…
فما هو أجدى وأرفع أن تجعل آخر في مواجهتك
…
فكبرياء الطاووس هي عظمة الرب
…
وعري
النساء هو عمل الرب
…
وقتله لطفل في مهده لا تجدي معه رغبات ممرضة
لا جدوى من جهودها
…
فالرب هو - فقط - الفعل والوجود في الكائنات
أو البشر
…
فكل الأرباب في صدور البشر
…
فعبادة الرب هي توقير مواهبه للآخرين .. وهي حب أعظم الرجال
…
إن أولئك الذين يغارون من الرجال العظماء أو يشوهون سمعتهم إنما يكرهون الرب لأنه ليس هناك أرباب سوى هؤلاء العظماء.
وفي ديوانه أغاني الخبرة (1794) نجد الشاعر يعارض ما ورد في ديوانه أغاني البراءة بقصائد غنائية أخرى عامرة بالشك والإدانة:
أيها النمر .. أيها النمر
المتألق كالنار في ظلمات الغابة
أي يد خالدة أو عين ساهرة
أمكنها صياغة تطابق (سيمتريّة) رُعبك؟!
يالكتفيك! يالمكرك! ويالحيلك!
أيمكنها أن تتحمل قلبك؟!
ومتى بدأ قلبك يسحق ويضرب ويخفق؟
يا لقسوة أقدامك! .. يالقسوة قدميك الخلفيتين!
وقدميك الأماميتين!
متى تطرح النجوم حرابك؟
ومتى ترتوى السماء بدموعك؟
أليس هو الذي يسرّه فعلك؟
أليس هو الذي جعل الحمل Lamb يوجدك؟
وبينما نجد في ديوانه أغاني البراءة الصبي الصغير التائه وقد أنقذه الرب وأعادهُ مسرورا إلى بيته، نجد في أغاني الخبرة صبيا يحرقه القُسس لأنهم لم يعرفوا له دينا. وفي ديوان أغاني البراءة يصف في قصيدته الخميس المقدس كاتدرائية القديس بول مزدحمة بالأطفال السعداء الذين ينشدون الترانيم، نجده يتساءل في خبرة، يتساءل:
أهذا شيء مبارك (مقدس) يستحق أن نراه؟.
في بلاد غنية مثمرة
يرزح الأطفال في البؤس
يأكلهم البرد والمرابون
أتلك أغنية صارخة مضطربة؟
أيمكن أن تكون أغنية مرحة؟!
وهذا العدد الكبير من الأطفال الفقراء فيها
إنها بلاد الفقر.
ولم تكن الثورة فيما يبدو علاجا لهذه الشرور فالقبضة الحديدية أطاحت برأس الطاغية، ثم أصبحت طاغية بدلا عنه. لقد وجد بلايك - الذي لم يكن يحب الثورات العنيفة - العزاء فيما تبقى لديه من عقيدة دينية. إنه الآن لا يثق في العلم لأنه خادم للماديّة وأداة يستخدمها النشيط ضد البريء وتستخدمها السلطة ضد البسطاء. فالفن هو شجرة الحياة والعلم هو شجرة الموت، والرب هو يسوع المسيح.
وبعد سنة 1818 لم يكتب بلايك شعرا إلا قليلا ولم يجد له إلا قلة من القراء، وعاش على إنتاجه في الفن. وفي بعض سني الستينيات من عمره عانى الفقر الشديد حتى اضطر إلى حفر الإعلانات لمصنع ودجوود Wedgwood للخزف. وفي سنة 1819 أنقذه من فقره جون لينل John Linnell إذ عهد إليه برسم الرسوم التوضيحيه لسفر أيوب Book of Job والكوميديا الإلهية لدانتي Dante's Divine Comedy .
ووافته منيته (1827) بينما كان يعمل في هذين العملين، ولم يكن ثمة حجر يشير إلى موضع دفنه لكن بعد قرن كامل من وفاته نصب لوح حجري عليه اسمه في البقعة التي دفن فيها، وفي سنة 1957 صنع له سير جاكوب إبستين Jacob Epstein تمثالا نصفيا وضع في كنيسة وستمنستر Westminster وعند موته كان الانتقال إلى مرحلة الرومانسية قد غدا انتقالا كاملا.
لقد بدأ هذا الانتقال مترددا عندما كانت الكلاسيكية في ذروتها مع الفصول Seasons التي ألفها طومسون (1730)، والقصائد الغنائية
Odes التي ألفها كولنز (1747)، و Clarissa Harlowe التي ألفها ريتشاردسون (1747)، وأغاني الرثاء Elegy التي ألفها جري Gray (1751) ، وجولي Julie، ou La Nouvelle Heloise لروسو (1761)، و Fingal التي ألفها ماكفرسون (1762)، وقلعة أوترانتو Otranto التي ألفها ولبول Walpole (1764) ، وكتابات بيرسي Percy عن الشعر الإنجليزي القديم (1768)، والقصائد الغنائية الاسكتلندية والألمانية، وما كتبه تشاترتن Chatterton (1769) ، وفرتر Werther التي كتبها جوته Goethe (1774) .
حقيقة أن أي عهد لم يكن يخلو من الرومانسية، فالرومانسية لم تنعدم أبداً في أي وطن أو عصر عند أي فتى أو فتاة، وكانت الكلاسيكية بناء متغلغلاً غير راسخ في الحكم وكانت قيدا على نبضات وعواطف تسري في العروق مسرى الدم.
ثم أتت الثورة الفرنسية فجلبت الحرية حتى في مرحلة انهيارها - أي انهيار الثورة، ففقدت الأشكال القديمة للقوانين والنظم التقليدية هيبتها وسطوتها، وانطلقت المشاعر والخيالات والطموحات والتطلعات تعبّر عن نفسها بالكلمة والفعل. لقد أشعل الشباب نيران الشعر والفن تحت كل قاعدة أدبية وكل حظر أخلاقي وكل تضييق عقدي وكل دولة مكتسية بقشور القانون، وفي سنة 1798 راح وردزورث وكولردج يكتبان معا القصائد والمباحث التقديمية للقصائد الغنائية المعروفة باسم Lyrical Ballads وراح بيرنز Burns وسكوت Scott يغنيان للحب والثورة والحب في اسكتلندا، وراحت جيوش نابليون تحطم الحدود بشكل أسرع من قدرة الثورة على نشر حلمها. لقد أصبح الأدب في كل مكان هو صوت الحرية. قلما بدا المستقبل مفتوحا بلا آفاق تحده كما هو الآن، وقلما كانت الآمال بلا نهاية كما هو الآن، وقلما بدا العالم شابا كما يبدو لنا الآن.
الفصل الواحد والعشرون
شعراء منطقة البُحَيْرة:
من 1770 إلى 1850 م
The Lake Poets
1 - البيئة المحيطة
لقد جمعنا في فصل واحد مُرْبك بين وردزورث Wordsworth، وكولردج Coleridge وسوثي Southey، لا لأنهم أسسوا مدرسة أدبية، فهذا لم يحدث ولا لأنهم اشتركوا في سمات أدبية واحدة، فأشعار كولردج الساحرة تغوص في أسرار عامرة بالغموض والأرواح الغريبة بينما أشعار وردزورث ذوات روح نثري تجول برضا بين ما هو عام مألوف، من البشر رجالاً ونساء وأطفالا وما هو عام مألوف من الأشياء. ولقد عاش كولردج ومات رومانسيا - لقد كان رجل المشاعر والآمال والمخاوف والهوى، أما وردزورث - باستثناء فترة رومانسية انتقالية في فرنسا وفترة الإعلان الثوري سنة 1798 - فقد كان كلاسيكيا مثل كريب Crabbe وكان يتسم بهدوء محافظ. أما بالنسبة إلى سوثي Southey فكان شعره رومانسياً في وقت راج فيه هذا الشعر،
وكان نثره ملتزما جديرا بدريدن Dryden (المقصود يضارع كتابات دريدن) وكانت سياساته الناضجة مرتبطة بالوضع الحالي (الراهن) وكانت حياته الزوجية المستقرة وصداقاته الخصبة توازن الاتجاهات الفلسفية والمالية والجولات الجغرافية لرفيق الشاعر الذي راح يحلم وإياه في وقت من الأوقات بمدينة مثالية (يوتوبيا utopia) اشتراكية على شواطئ سسكويهانا Susquehanna. إن هؤلاء الرجال لم يكونوا مدرسة إلا بمعنى أنهم جميعا قطنوا لسنوات طوال منطقة (ولاية أو محافظة) البحيرة في شمال غرب إنجلترا - إنها منطقة ضبابية ممطرة تتجمع فيها السحب ..
إنها منطقة تجلّل ذرى جبالها الثلوج وتمتلئ بالبحيرات والبرك الفضية مما يجعل المنطقة من كندال Kendal وعبر وندرمير Windermere أومبلسيد Ambleside وريدال ووتر Rydal Water وجراسمير Grasmere ودرونتووتر Derwentwater وكزويك Keswick حتى كوكرموث Cockermouth واحدة من أجمل مناطق كوكبنا. إن جبال المنطقة غير شاهقة فأعلاها لا يتجاوز ارتفاعه ثلاثة آلاف قدم وهي غير متجانسة (لا يشبه بعضها
البعض) ويكاد المطر يهطل يوميا لكن الضباب يعانق الجبال بحب، وتكاد الشمس تطل يوميا واعتاد المترددون على تحمل تقلبات المناخ بسبب السلام الذي يخيم على القرى وبسبب الخضرة الدائمة وكثرة الورود السعيدة يبللها الندى وروحي كولردج المجنون، ووردزورث الرصين اللتين تتردد أصواتهما بين التلال.
هناك في كوكرموث ولد وردزورث وفي جراسمير Grasmere مات، وهناك في كزويك Keswick عاش كولردج فترات متقطعة وعاش سوثي أربعين سنة، وهناك عاش فترات مختلفة كل من: دي كوينسي De Quincey وأرنولد الروجبي Arnold of Rugby وروسكين Ruskin وباختصار، فهناك أتى كل من سكوت Scott وشيلي Shelley وكارليل Carlyle وكيتس Keats ليتذوقوا طعم الجنة ويتنسموا عبيرها.
2 - وردزورث
WORDSWORTH: 1770 - 1797
كانت أمه ني آن كوكسون Nee Ann Cookson ابنة تاجر كتان في بنريث Penrith - أما أبوه جون وردزورث فكان محامياً نجح في عمله كوكيل لأعمال السير جيمس لوثر Lowther، وقد ربى الزوج والزوجة في منزلهما المريح في كوكرموث Cockermouth خمسة أطفال: ريتشارد الذي أصبح محاميا ووكيل أعمال، وأدار الأمور المالية للشاعر، ووليم William ودوروثي Dorothy وهما اللذان سنهتم بهما في سياقنا هذا، وجون الذي مات في حادث جنوح سفينة، وكريستيان الذي درس وتدرج في المناصب حتى صار رئيسا لكلية التثليث في كمبردج. ولأسباب لا نعلمها الآن لم يتم تعميد وليم إلا بعد ميلاد دوروثي التي ولدت بعده بعام (في سنة 1771) فقد تم تعميد الأخ وأخته في اليوم نفسه كما لو كان هذا لمباركة حبهما الذي استمر مدى الحياة.
لقد أصبحت دوروثي هي صديقة طفولته وكان ارتباطه بها يفوق ارتباطه بإخوته الآخرين. وكان وليم وردزورث حاد الذهن حساسا، وكانت هي أكثر منه حدة وأشد حساسية إذ كانت أسرع منه في تمييز أشكال النباتات وألوانها، وأنواع الأشجار وطبيعتها وما تفرزه وحركة السحب البطيئة وكانت شديدة الإحساس بضوء القمر الفضي الذي
يكسو البحيرات. لقد كان على الشاعر أن يقول عن أخته: "لقد كانت عيني التي أرى بها وأذني التي أسمع بها". لقد كانت تلطف من حدة اندفاعه في القنص ليطارد ويقتل، لقد أصرت على أن عليه ألا يؤذي أي كائن حي.
وعندما بلغت دوروثي السابعة من عمرها فُجِعا بموت أمهما. وحزن أبوهما حزنا شديدا ورفض أن يتخذ له زوجه أخرى، واستغرق في عمله وأرسل أطفاله ليعيشوا مع أقاربهم. فذهبت دوروثي إلى خالة لها في هاليفاكس Halifax في يوركشير Yorkshire فلم تعد الآن قادرة على رؤية وليم إلا في فترة الإجازات.
وتم إلحاقه في سنة 1779 بمدرسة جيدة في هوكشيد Hawkshead بالقرب من بحيرة وندرمير Windermere وفيها درس الكلاسيكيّات الإغريقية واللاتينية وبدأ - كما قال - ينسج الشعر. ويبدو أن الغابات والمياه القريبة قد لعبت دورا أكبر من دور كتبه في تشكيل أسلوبه وشخصيته. ولم يكن عازفا عن الحياة الاجتماعية فقد كان يشارك غيره من الشباب في المباريات وأحيانا كان يقضي أمسيات صاخبة في فندق محلي لكنه كثيرا ما كان يتجول وحيدا بين التلال على طول شاطئ اسثويت Esthwaite Water وبحيرة وندرمير. وبين الحين والآخر كان لا يعبأ بالمناخ فقد ألف تغيراته، فكان يمعن في تجوله إلى أماكن لا يكون فيها آمنا وعرف المخاوف التي يمكن أن تلم بالشباب الذين يترددون على الأماكن التي بها كائنات حية غير بشرية، لكنه بالتدريج بدأ يحس بالروح الكامنة في نمو النباتات وفي لعب الحيوانات وصراعها، وفي شموخ الجبال وفي ابتسام السماء وتجهمها.
لقد بدا له وكأن كل هذه الأصوات المنبعثة من الحقول والغابات والذرى والسحب تتحدث إليه بلغتها الخاصة. لغة أدق من لغة الكلمات وأرق وأكثر باطنية، لكنه يحس معانيها التي تؤكد له أن الأشياء المتعددة الكثيرة كثرة لا تصدق الموجودة حوله ليست مجرد ماديات لا حول لها وإنما هي إبداع رب أعظم وأقرب من الإله البعيد الصامت الذي لا شكل له، الذي يتوجه إليه في صلواته. ومن هنا أصبح ذا مزاج استبطاني جعله يستغرق في تأمل الحياة الداخلية أو الباطنية بالإضافة للعبادة الظاهرة.
وفي سنة 1783 مات أبوه فجأة. وكانت ممتلكاته متفرقة وغير موثقة، فمرت عبر قضايا
استغرقت وقتاً طويلا وكلفت الكثير من الأموال وتأخر سداد مبلغ 4700 جنيه إسترليني التي كان السير جيمس لوثر مدينا بها كثيرا حتى إن الوصية الموجودة لم تكن تسمح سوى بست مائه جنيه لكل طفل وهو مبلغ لا يسمح أبدا بمواصلة تعليمهم ومع ذلك وجد أخوهم ريتشارد من الوسائل ما يمكنه من رؤية وليم في هوكشيد وفي أكتوبر سنة 1787 التحق وردزورث بكلية القديس جون في كمبردج. وحث أحد أعمامه مدير الكلية لتقديم منحة دراسية له على أمل أن يتمكن من إعداد نفسه لتسلم منصب كهنوتي في الكنيسة الإنجليكانية Anglican، وبالتالي لا يشكل عبئا مالياً على أقاربه.
لكن وليم بدلاً من أن يعكف على دراسات تؤهله لمنصب كهنوتي راح يقرأ ما يعجبه، خاصة تشوسر Chaucer وسبنسر Spenser وشكسبير وميلتون Milton - واعترض على إلزامه بالحضور إلى الكنيسة مرتين في اليوم، فقد كان من الواضح أن قراءاته قد أزاحت شيئا من عقيدته الموروثة. لكن كثيرا من إيمانه وعقيدته الموروثة هذه لا بد أن يكون قد ظل مصاحباً له لأنه لم يكن يأنس لأفكار فولتير.
وفي يوليو سنة 1790 حث زميل دراسته، ابن ويلز، روبرت جون على أن يدخرا معا عشرين جنيها للقيام معا برحلة - مشيا على الأقدام - في القارة الأوربية. واتخذا طريقهما إلى بحيرة كومو Como واتجها شرقا في سويسرا، وهناك أصبح المال اللازم معهما قليلا فأسرعا بالعودة إلى إنجلترا ليهدئا من غضب المسئولين الماليين. وعوض وردزورث، دوروثي عن إهماله لها طوال عام بأن
راح يقضي أيام الكريسماس معها في فورنست ركتوري Fornsett Rectory (المقابل الحرفي للكلمة ركتوري هو بيت القسيس) بالقرب من نورويتش Norwich - لقد كتبت دوروثي إلى جين بولارد Jane Pollard: " لقد اعتدنا أن نتمشى كل صباح نحو ساعتين، وكنا في كل يوم نذهب إلى الحديقة في الساعة الرابعة مساء
…
لنسير جيئة وذهابا حتى السادسة .. آه يا جين .. إنني لم أكن أشعر بالبرد عندما يكون معي". وكانت تأمل أن يصير رجل دين وأن يسمح لها عندئذ بأن ترعى بيته. وعندما تخرج من كمبردج (يناير 1791) تحطمت كثير من آماله بذهابه إلى لندن "حيث عاش في خمول يكاد يكون تاما" وكان في كل شهر من شهور مايو يقوم مع جونز Jones بجولة في أنحاء ويلز، فكانا يتسلقان جبل سنودون Snowdon (1350 قدما) ليريا شروق
الشمس. وفي 27 نوفمبر عبر مرة أخرى بمفرده إلى فرنسا.
لقد كانت الثورة الفرنسية وقت وصوله إلى فرنسا هذه المرة في أجمل وأرق مراحلها، لقد كانت الثورة قد صاغت دستورها الليبرالي وتم إعلان حقوق الإنسان للعالم، فإلي أي حد كان شاب صغير لازال يتمرغ في مهاد الفلسفة، يستطيع أن يقاوم هذه الدعوة للعدالة والأخوة العالمية (على مستوى العالم)؟ لقد كان يصعب كثيرا على دارس فقير لحقه بعض الضرر من اللوردات وذوي الألقاب الطبقية (سير جيمس لوثر) أن يدين هؤلاء الفرنسيين الذين وصفهم بعد ذلك في مستهل ترجمته الذاتية (كتابته عن تاريخ حياته):
- هؤلاء الفرنسيون الذين يعرضون أموراً علينا النظر إليها،
- إنهم يعرضون جمهورية حيث يكون،
- كل الناس فيها - إلى حد كبير - سواء،
- يقفون على أرضية مشتركة
- لنصبح جميعا إخوة
- متساويين في الكرامة والشرف لنكوّن مجتمعا
- واحدا كريما وشريفا،
- مجتمعا واحداً يضم السادة والدارسين، ولا تغدو
-هناك فوارق
- ويقل شأن الألقاب والثروة
- أمام المواهب والجدارة والحرف (الصناعات) المزدهرة.
وعندما وصل إلى فرنسا تأثر بحماسة أمةٍ تفزع إلى السلاح لمواجهة تهديدات الدوق برونسفيك Brunswick بسحق الثورة وتسوية باريس بالأرض إن قاومته. وعقد صداقة مع أحد ضباط جيش الثوار ميشيل دي بوبوى Michel de Beaupuis الذي كان ينتمي بحكم ميلاده إلى طبقة النبلاء، لكنه يشعر الآن بضرورة الدفاع عن فرنسا ضد الغزاة. لقد حرك هذا الانفلات من أسر الطبقية مشاعر وردزورث وأوحى له أن يكون مفيدا لخدمة قضية الثورة، لكنه شعر أنه أوهن من أن يحمل سلاحا وأن ما يعرفه من اللغة الفرنسية لا يؤهله
للعمل في
المجال المدني أو السياسي، فاستقر في أورليان Orleans لدراسة الفرنسية، هذه اللغة الفاتنة خاصة إذا تحركت بها شفاه النساء. ووجد هذه اللغة رائعة جذابة، ومما زاد من هذه الروعة وتلك الجاذبية أنه تلقاها على يد أَنِت فالون Annette Vallon الشابة دافئة القلب دافئة الدماء التي لم تكتف بتعليمه الفرنسية وإنما وهبته جسدها أيضا. ولم يقدم لها مقابل هذا إلا شبابه فقد كان في الواحدة والعشرين بينما كانت هي في الخامسة والعشرين. وعندما ظهرت عليها بوادر الحمل ظنت أنها جديرة أن تكون زوجة له، ولكن وليم تساءل: أيستطيع هو - الذي يعرف من اللاتينية أكثر مما يعرف من الفرنسية أن يكون زوجاً في فرنسا، وهل تستطيع هي، وهي كاثوليكية وثنية Pagan Catholic أن تعيش في إنجلترا البيوريتانية Puritan (التطهرية)؟
وفي 29 أكتوبر سنة 1792 تركها في أورليان واتجه إلى باريس وقبل مغادرتها وقع مستنداً يخول السيد م. دفور M. Dufour أن يقوم بدور الأب الغائب عند تعميد الطفل المرتقب الذي ستنجبه أنت Annette وفي 15 ديسمبر أنجبت طفلة أطلق عليها اسم كارولين.
وانخرط وردزورث وهو في باريس في هذا الوقت في وقائع الثورة، فحضر اجتماعا لليعاقبة Jacobin Club وزار الجمعية التشريعية وكون صداقات مع الجيرونديين Girondins . لقد دهمته حمى العصر (المقصود أحداثه الساخنة) فوجد نفسه في وسط أحداث صنعت التاريخ وهزته:
- أن تكون على قيد الحياة في فجر هذه الأحداث، فتلك نعمة،
- أما أن تكون شابا فقد أدركت الفردوس بعينه!
ووصله خطاب من أخيه ريتشارد يرفض تقديم مزيد من الدعم المالي ويصر على عودته السريعة. ولم يعرض عليه الثوار دعما فعبر إلى لندن وحاول تحسين الأمور المالية للأسرة، وظل الأخ ريتشارد صارماً رغم حبه. أما العم وليم كوكسون Cookson وكاهن فورنست ومضيف دوروثي (أي الذي تقيم عنده دوروثي) فقد أوصد أبوابه في وجه هذا الشاب الذي كان يقدم له الدعم المالي لمواصلة تعليمه ليكون رجل دين فإذا به الآن يتحول فيما يبدو إلى يعقوبي كسول.
لقد أضير وليم ضررا شديدا، فعكف على الشعر يدرسه ويقرضه، وشعر أنه كتابع مخلص لربة الشعر والغناء (موزيه Muse) جدير بدعم الإخوة والأعمام والأخوال، وانضم إلى الراديكاليين الذين كانوا يترددون على مكتبة جونسون (لبيع الكتب ونشرها) وواصل تأييده العلني للثورة. وفي السطور الخمسين الأخيرة لإسكتشاته الوصفية Descriptive التي كتبها ونشرها في سنة 1793 امتدح الثورة الفرنسية لا باعتبارها تحريرا لأمة فحسب وإنما باعتبارها تنطوي على تحرير الجنس البشري كله، وقد اعترف في كتابات نشرت بعد وفاته أنه:"كان يكتم سعادته لانتصارات الثورة الفرنسية حتى عندما كان آلاف الإنجليز يلقون حتفهم في ميدان المعركة دون أن يتركوا وراءهم مجداً"،
وفي أول فبراير سنة 1793 أعلنت فرنسا الحرب على إنجلترا وفي مارس من العام نفسه وصل إلى وردزورث خطاب من أنت Annette تتوسل إليه أن يعود إليها لكن القنال الإنجليزي كان قد أغلق في وجه المسافرين المدنيين. ولم ينسها أبدا، فقد كانت ذكراها تحرق شعوره، وسنراه بعد ذلك بتسع سنين يحاول تقديم بعض الترضيات، وخلال هذه الأعوام أصبحت أنت Annette من أنصار الملكية المتحمسين، واكتشف وليم شيئا فشيئا مزايا الدستور البريطاني. لقد تضاءل إيمانه بالثورة الفرنسية عندما قطعت المقصلة رؤوس الجيرونديين في عهد الإرهاب في سنة 1794، وكان وليم معجباً بهم. وفي نحو هذا التاريخ كان متأثرا تأثرا شديدا بكتاب جودوين عن العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice لقد شجع هذا الكتاب اتجاهه الراديكالي لكنه أثر في تحذيره من الثورات التي يشعل الثوريون نيرانها.
وفي سنة 1795 قابل جودوين نفسه وأعجب به ودعي سبع مرات في هذا العام إلى منزل الفيلسوف الشهير. وحتى عندما أصبح هو محافظا متحمساً للاتجاه المحافظ ظل على صداقته لجودوين حتى فرق الموت بينهما (1836). وفي سنة 1795 أوصى له ريزلي كلفرت Raisley Calvert بتسعمائة جنيه، فزاده هذا اعتدالا ووقارا لكنه أقرض - بطيش - ثلاثمائة جنيه من هذه الثروة لصديقه المتلاف سيئ السمعة بازيل مونتاجيو Basil Montagu كما أقرض لصديق مونتاجيو الحميم المدعو تشارلز دوجلاس Douglas مائتي جنيه - وفي كلتا الحالتين لم يكن هذا الرهن ليدر أكثر من 10%،
وحسب وردزورث أن الفوائد السنوية التي قوامها خمسون جنيها (لم تكن تدفع بانتظام) مع الأربع مائه جنيه المتبقية لن تكفي حتى مع العشرين جنيها التي تمثل دخلا سنويا لدوروثي لتمويل حلم أخته بإقامة سكن يعيشان فيه عيشة مشتركة متواضعة قوامها الشعر والحب، لكن منذ الآن قدم لهما صديق آخر هو جون بني البريستولي John Pinney of Bristol مقر إقامته المؤثث في دورست Dorset ليقيما فيه مجانا، وهناك ظلا حتى يونيو سنة 1797 ونعما في هذا المكان بما لم يكونا يتوقعانه من راحة وخير.
إننا نصفه الآن وقد بلغ الخامسة والعشرين. شخص متوسط الطول، نحيل، منحن انحناء خفيفا، يتدلى شعره غير الكثيف وغير المرجَّل حول أذنيه وياقة قميصه، وتنظر عيناه الداكنتان الحزينتان على طول أنفه المتسائل العدواني المستفز على نحو ما. وكان سرواله ذا طابع ريفي من نسيج مزخرف بالمربعات، وكان معطفه عباءة واسعة، ولديه منديل أسود يستخدمه كرباط عنق وكان واهن الجسم لكنه كان ذا طاقه كبيرة وروح قوية وإرادة شديدة، وكان يستطيع أن يلبي حاجة ضيوفه مهما ثقلت وكان يستطيع أن يجعل نيرانه مشتعلة في الأخشاب التي جمعها من الغابة أو قطعها من أشجارها مستخدما قوة ذراعيه وضربات فأسه. لقد كان حساساً كشاعر، وعصبيا كامرأة وكان يعاني من الصداع خاصة عندما ينخرط في تأليف الشعر. وغالباً ما كان مكتئباً متقلب المزاج يميل إلى الهيبوكوندريا hypochondria (الوسواس المرضي) وكان قريب الدمع، وفكر ذات مرة في الانتحار - لكن هذا كان وسيلة معروفة في العلم للتظاهر بالشجاعة. وكان يحب المال حبا جما، معتزا بنفسه واثقا من تفوق أحاسيسه وسموه العقلي ورقيه الخلقي (متساهلاً مع ما أتاه من اتصالات جنسية لا تتسم بالمبالاة) لكنه كان متواضعا أمام الطبيعة معتزا بنفسه خادماً لها ومعبراً عنها.
أما دوروثي فكانت على نقيضه، أكسبت وجهها سمرة بكثرة مشيها تحت أشعة الشمس، ولم تكن أنانية مستغرقة حول ذاتها أو مفرطة بالإعجاب بنفسها فعكفت على خدمة أخيها ولم تكن تشك في عبقريته أبدا وجعلت بيتهما نظيفا دافئا ورعته في مرضه و"كانت تبحث عن مباهج الطبيعة وعجائبها وخوارقها بعينين متوهجتين" وذلك على حد
تعبيره، وكانت تدون بسرعة في يومياتها هذه المدركات لتتذكرها، وكان هو يستخدم هذه اليوميات (لتوحي له أفكارا وأشعارا). لقد جعلت أذنيها ويديها وعينيها في خدمته، فلم تكن تمل أبدا من الإصغاء إليه وهو ينشد أشعاره، ولم تكن تمل من نسخها. أما من ناحيته هو فقد أحبها حبا عميقا - دون أن يمنع نفسه عن إقامة علاقات جنسية محرمة معها - لأنها كانت أعز مساعداته له، كما كانت لا تطلب منه الكثير، وكانت بالنسبة إليه تمثل الجزء الذي يحتاجه النبات المتسلق للتعلّق والامتداد.
وعندما عادا إلى بيتهما حيث الأسرة، وحصلا على خمسين جنيها إضافية لدخلهما السنوي، شرعا يرعيان بازل Basil ذا الأعوام الثلاثة وهو ابن بازيل مونتاجيو وسعدا لرؤية هذا القاصر الغض وهو يتحول من نبات مرتعش هش على وشك الموت إلى صبي مفعم حيوية متوردا لا يعرف الخوف إليه سبيلا.
وفي ربيع سنة 1797 أتت صديقة دوروثي، ماري هتشنسون Mary Hutchinson من بنرث Penrith لتقيم معها حتى الخامس من يونيو. وفي السادس من الشهر نفسه اقتحم شاب في الخامسة والعشرين من عمره مسكون بالشِّعر البوابة وجاس خلال الحقل ودخل بكل قوته حياة وليم وردزورث ودوروثي وردزورث، وكان هذا استجابة لدعوة أرسلها إليه وليم وردزورث. إن هذا الشاب الشاعر هو كولردج.
3 - كولردج
COLERIDGE: 1772 - 1794
كولردج هو أكثر أفراد المجموعة التي نتناولها في هذا الفصل تشويقا وأكثرهم تباينا في مواهبه وتنوعا في جاذبيته، وأفكاره وقلقه ونقائصه. لقد اجتاز السلسلة كاملة من المثالية إلى كوارث في الحب والأخلاق، ونكبات في الأدب والفلسفة. وقد اقتبس من أفكار - وكلمات - مؤلفين كثيرين تأثر بهم واستوحى أفكارهم ولا يمكن لقسمٍ من فصل أن يوفيه حقه.
ولد صمويل (صموئيل) تايلور كولردج في 21 أكتوبر سنة 1772 وكان هو الابن العاشر والأخير لجون كولردج ناظر المدرسة والذي كان عند مولده قسا في أوتري سانت
ماري Ottery St. Mary في ديفونشير Devonshire وكان جون دارسا للرياضيات المتطورة وعالما باللغتين اليونانية واللاتينية واللغات الشرقية، وهو مؤلف كتاب عن نحو اللغة اللاتينية A Critical Latin Grammar أما الابن الذي أصبح بعد ذلك يشير إلى اسمه بالأحرف الأولى (S. T. C) فقد وقع في إسار هذا التراث الذي تعلمه إذ كادت كل فقرة من فقراته تتضمن اقتباسا يونانيا أو لاتينيا. وقد روى - فيما بعد - ما كان عليه حاله من الثالثة إلى السابعة:
"لقد أصبحتُ نكداً شكِساَ رعديدا نمَّاما واشيا، وكان رفاقي في المدرسة يبعدونني عن اللعب معهم وكانوا دائما يؤذونني لذا فلم أسعد بألعاب الصبية ومن ثم عكفت على القراءة باستمرار
…
لقد قرأت في السادسة من عمري بيليزاريوس Belisarius وروبنسون كروزو Robinson Crusoe وألف ليله وليلة
…
فتملكتني الأشباح
…
وأصبحت حالما وأصبحت أعاني انحرافا في صحتي إثر أي نشاط جسماني، وكنت جباناً رعديدا عاطفيا انفعاليا بشكل مبالغ فيه .. وكنت كسولا مكروها من الصبية لأنني كنت أستطيع القراءة والهجاء
…
وكانت لدي ذاكرة قوية وقدرة على الفهم تكادان تنمان عن نضج غير طبيعي، وكنت موضع إطراء وإعجاب من النسوة كبيرات السن
…
ولذا فقد أصبحت مختالا فخورا، وأصبحت قبل أن أبلغ الثامنة من عمري شخصية (المقصود شخصا ذا سمات خاصة) من حيث الأحاسيس والخيال والزهو والكسل، ومشاعر الاحتقار العميق والمرير لكل من يمر على تفكيري. حتى لو كان من المبرزين المشاهير".
وكان موت أبيه (1779) الذي كان الشاعر يحبه بعمق صدمة عنيفة له. وبعد موت أبيه بعامين أُرسل إلى مدرسة خيرية في لندن تابعة لمستشفى يسوع Christ's Hospital لمواصلة تعليمه. وكانت الوجبات التي تقدمها هذه المدرسة هزيلة وكان النظام فيها صارما، وقد تحدث في أواخر حياته عن العقاب الشائن الذي أنزلوه مضاعفا وبقسوة على صبي شعر أن أسرته قد نسيته. لقد أرادوا له أن يكون قسّا بينما كان هو يرنو أن يكون صانع أحذية. وفي سنة 1830 (في هذا التاريخ كانت ذاكرته - على نحو خاص لا يُعوّل عليها) جُلد، وهو يروي لنا قصة جلده ولم تكن هي المرة الوحيدة، فيقول:
"عندما كنت في الثالثة عشرة من العمر ذهبت إلى صانع أحذية وتوسلت إليه أن أعمل عنده ليعلمني المهنة. وكان رجلا أمينا لذا فإنه سرعان ما دبّر لي لقاء مع بوير Bowyer رئيس جماعة صانعي الأحذية، فثار غاضبا وركلني .. وسألني لماذا أبرهن هكذا على غبائي؟ فأجبته إنني شديد الرغبة في أن أكون صانع أحذية وأكره أن أكون رجل دين، فسألني لماذا؟ فقلت له: الحق أقول لك يا سيدي .. إنني كافر وبمجرد أن قلت ذلك لم يسمح بوير بمزيد من الكلام، وجلدني".
ومن الواضح أنه اقتطف بعض الفاكهة المحرمة، وربما كان ذلك من كتب إحدى محلات بيع الكتب بشارع الملك (كنج ستريت King Street) ففي هذه المكتبات - كما زعم بعد ذلك - بطريقته التذكارية:
"لقد قرأت في كل الكتب الواردة في الفهرس (المقصود كتالوج المكتبة) وفي كل الكتب الضخام (من القطع الأعظم) سواء كنت أفهم ما أقرأه أم لا
…
وكنت أغامر بكل شيء للحصول على المجلدين اللذين فرضت على نفسي الحصول عليهما يوميا. لقد كنت مدركا لما يجب أن أكون عليه وأنا في الرابعة عشرة من عمري. لقد كنت محموما دائما (المقصود أنه كان شديد التوق للقراءة). لقد كان كياني كله موجها نحو الانسحاب إلى ركن مشمس لأقرأ وأقرأ وأقرأ، مغمضا عيني عن أي هدف آخر".
وبطبيعة الحال فإننا نلمح زهواً مبالغا فيه هنا. وعلى أية حال فقد أنجز إنجازا طيبا في مدرسة مستشفى يسوع حتى إن أسرته رتبت أمر إدراجه بين الطلبة المساعَدين (بفتح العين) الذين يعملون ويدرسون في آن واحد في كلية يسوع Jesus College بكمبردج (1791) وهناك حاول دراسة الرياضيات المتقدمة واللغة اليونانية المغرقة في قدمها.
"لقد قرأت بندار Pindar ورحت أؤلف الشعر باللغة اليونانية وكأنني كلب مجنون أو بتعبير آخر ككلب مصاب بالسعار
…
وفي أي وقت فراغ يتاح لي كنت أترجم Anacreon .. وتعلمت العزف على الفيولين (الكمان) ".
وعندما نقرأ عن كولردج لابد أن نسمح لأنفسنا بتقبل ما هو عليه من غلو وإفراط. لقد أهمل صحته، وأصيب في سنة 1793 بالحمى الروماتزمية، ولجأ إلى الأفيون لتسكين آلامه، وكان الأفيون في ذلك الوقت شائعا كعقار مسكن لكن كولردج أدمنه، وأبطأت خطاه في
المجال الدراسي، وسمح لنفسه بمزيد من الاهتمام بالأمور العامة. وعلى أية حال فقد تجاوز ما سمحت له به أسرته ووقع في الديون وطارده دائنوه وفي جهد يائس للهرب منهم غادر كمبردج فجأة، وفي ديسمبر سنة 1793 تطوع في جيش كان يعد لحرب فرنسا. واشترى أخوه جورج إطلاق سراحه مقابل أربعين جنيها إنجليزيا وحثه على العودة إلى كمبردج. ودبر أمر تخرجه من الجامعة في سنة 1794 دون الحصول على الدرجة العلمية، ولم يزعجه هذا كثيرا لأنه في هذه الأثناء كان قد اكتشف اليوتوبيا (المدينة المثالية).
وكان يعد نفسه لهذا الاكتشاف بتخليه عن عقيدته الدينية، وعقد آماله على السعادة واليوتوبيا، وقد حركت الثورة الفرنسية مشاعره كما كادت تحرك مشاعر كل المتعلمين وغير الماليين في إنجلترا. والآن، في ربيع سنة 1794 وصلته رسالة من صديقه روبرت ألن Allen في أكسفورد مفادها أن طلبة مختلفي المشارب راغبون جدا في إصلاح الأساليب والمؤسسات البريطانية، وذكر ألن Allen أن أحد الطلبة يتميز بالألمعية ويكتب شعرا يحتفى فيه بالثورة الاجتماعية. أيستطيع كولردج أن يذهب إلى أكسفورد للقاء هؤلاء الشباب؟. لقد فعلها كولردج في يونيو سنة 1794.
4 - سوثي
Southey: 1774 - 1803
من بين ثلاثي منطقة البحيرة كان روبرت سوثي أفضل الرجال وأسوأ الشعراء (أقلهم قيمة). ولد في بريستول Bristol وكان ابنا لتاجر أثواب وأقمشة، لكن من بين هذه البيئة التجارية (الميركانتيلية mercantile) كانت خالته إليزابيث تايلور Elizabeth Tyler غالبا ما تدفعه إلى التهذب بسلوكيات المجتمع الأرستقراطي في باث Bath، وتم إرساله في الرابعة عشرة من عمره إلى مدرسة وستمنستر الراقية في لندن وفيها - بلا شك - قرأ سرا أعمال فولتير وروسو وجيبون كما قرأ "فرتر Werther" لجوته كما كتب بعض الشعر الملحمي وقطعا نثرية ثورية، وأثارت مهاجمته للعقاب البدني في مجلة مدرسية بعنوان "الضارب بالسياط The Flagellant" ناظر المدرسة الذي حار جوابا ففصله من المدرسة وهو على وشك التخرج، لكن روبرت استطاع بطريقة أو أخرى أن يتقدم إلى كلية باليول Balliol في أكسفورد في
ديسمبر سنة 1792.
وهناك واصل أعماله السرية، فكتب ملحمة John of Arc امتدح فيها الثورة الفرنسية، واشتغل بالدراما الشعرية محاكيا وات تيلر Wat Tyler الثائر الإنجليزي في سنة 1381 - عندما وصل كولردج. ووجد الشاعر الأكبر سنا أن الرجل الأكثر شبابا مستغرق في تفكير عميق لأن روبيسبير Robespierre كان قد أطاح برؤوس أكثر قادة الثورة الفرنسية حيوية - دانتون Danton وديمولان Desmoulins، ألم تنته حقوق الإنسان التي تم إعلانها إلى مجرد تنافس على القتل؟ لكن كولردج طمأن باله شارحاً أن أوربا ممزقة مهترئة، ومع هذا ففي غضون أسبوع أو نحو ذلك أبحرت من مدينة بريستول موطن سوثي سفينة متجهة إلى أمريكا الرحبة الخصبة الجمهورية.
لم لا ينظم كولردج وسوثي مجموعة من الشبان والشابات الجسورين ويتم عقد قرانهم بشكل صحيح ويهاجرون معاً إلى بنسلفانيا ليقيموا مستعمرة جماعية (اشتراكية) على شواطئ سسكويهانا Susquehanna الجميلة غير الملوّثة؟ لقد كان كل ما هو ضروري هو أن يشارك كل شاب بمبلغ 125 جنيه إسترليني لتكوين ميزانية موحّدة (مشتركة، وكان لا بد أن يكون لكل زوجين صوت - على قدم المساواة - في حكم المستعمرة، ومن هنا أطلق كولردج على هذه المستعمرة اسم البانتيسوكراسيا Pantisocracy.
وليرفع المؤسسان من نصيبهما المالي في التكاليف اشتركا معا في كتابة دراما شعرية بعنوان سقوط روبيسبير وتم نشرها لكنها لم تحقق المبيعات المطلوبة. وباع سوثي عمله الأدبي " John of Acre" إلى كوتل Cottle البريستولي of Bristol نظير خمسين جنيها.
وقام الخريجون (الذين لم يحصلوا على درجاتهم العلمية) بإلقاء محاضرات في بريستول وكسبوا ما يكفي لتمكين سوثي من الزواج وبالفعل فقد قبلته إديث فريكر Edith Fricker زوجاً لها (14 نوفمبر 1795) وكانت أخت إديث واسمها ماري قد قبلت بالفعل روبرت لوفل Lovell زوجاً لها كما قبلت مبدأ البانتيسوكراسيا (العيش في مستعمرة اشتراكية). والآن كما يقول سوثي كان من المرغوب فيه جدا أن يحب كولردج الأخت الثالثة سارة، وأن يتزوجها.
وقبل سوثي دعوة لزيارة لشبونة كمرافق لعم كان قسا بالسفارة البريطانية، وقد وسعت
الرحلة أفق هذا الشاب (سوثي). لقد ارتحل في إسبانيا وكذلك في البرتغال، وعندما عاد إلى إنجلترا (مايو 1796) اكتشف أنه يحب إليزابيث تيلر Tyler التي سبق أن رفضته لأفكاره المخربة وعدم عراقة أصله، كما اكتشف أن فكرة البانتيسوكراسيا أضاعت شبابه، فدرس القانون ووجد عملا كصحفي، وكان لديه الوقت الكافي لكتابة ملاحم لم يكتب لها الخلود بالإضافة إلى بعض القصائد القصصية البسيطة مثل معركة بلنهايم The Battle of Blenheim في سنة 1803 وأقام في جريتا هول Greta Hall في كزويك Keswick مستعينا بإعانة ودية قوامها 160 جنيها إسترلينيا.
5 - كولردج
COLERIDGE: 1794 - 1797
كان كولردج ممزقا بين أعصاب حية وجَلَد وصَبْر من ناحية، وإرادة مترددة من ناحية أخرى. لقد أحب ماري إيفانز Mary Evans ابنة لندن لكنه جفل من مهمة الإبقاء عليها في ظل أسلوبها المعتاد، أما هي فقد أحبت روحه الثرية المتحمسة لكنها لم تكن واثقة في قدرته على الكسب فابتعدت عنه، فوجد نفسه مستسلما لسارة فريكر Sara Fricker فهي رغم بساطتها وإفلاسها يمكن أن تحافظ له على بيته وتنجب أطفالا وإن كانت غير قادرة على إلهامه أشعاره.
وليموّل زواجه المأمول وأحلامه الباقية راح يلقي المزيد من المحاضرات في بريستول محصلا شلنا كرسم دخول (لقاعة الاستماع)(واستمر هذا في الفترة من يناير إلى يونيو 1795)، وكان نشاط هذه الجماعة راديكاليا بشكل طائش: لقد شجبوا الكنيسة القائمة Established Church كخادمة للأثرياء، وأنها لا تعرف ربا Lord سوى المالك الإقطاعي Lord of the manor وأدوانوا الحرب ضد فرنسا لقمع الثورة وإحداث ردة تاريخية. والتمسوا الأعذار للإرهاب باعتباره رد فعل لحرب بت Pitt's war وأدانوا مراسيم تقييد حرية الرأي Gag Bills كجهود حكومية لكبت إرادة الجماهير. لقد كان ما حصلوه من الأموال قليلا لكنه كان كافيا ليعقد كولردج قرانه على سارة فريكر في مذبح الكنيسة في 4 أكتوبر 1795.
وفي هذا الخريف نفسه التقى لأول مرة بوردزورث، ولم يكن وليم ليكبر صمويل
(صموئيل) بأكثر من عامين لكنه كان قد خَبَر الثورة الفرنسية، لقد كان قد عاين اليوتوبيا معاينة حية معاينة من رأى لا من سمع. وقد شارك الرجل الأصغر منه بعامين الخشية من استعادة البوربون عرش فرنسا، لكنه لم يكن قادرا على العيش في بنسلفانيا فقد كانت أوربا هي مسرح الصراع الفكري، أما بالنسبة إلى بهاء منطقة سسكويهانا وجمالها، فلم لا يكتفي قانعا بعظمة البحيرات الإنجليزية وبهائها؟ ولم يكن كولردج مقتنعا تمام الاقتناع لكنه كتب في مذكراته (مجموعة أوراقه) أن يتابع تطور وليم وربما ليتعلم منه كيف يتخطى صعوبات الحياة (يجتاز عواصفها ومنحدراتها) لقد ملأ كثيرا من الأوراق بمعلومات وأفكار كثيرة جمعها من الكتب وممن قابلهم. لقد كان يقرأ قراءات واسعة في مجالات شتى وبشغف في اثني عشر مجالا، لقد قرأ في التراجم وعن الحيوانات والنباتات والعلوم والأديان والفلسفة والأمم والأدب والفكر والفنون.
وكان واحداً من أكثر من عرفنا شغفا بالقراءة واستيعابا لما يقرأ وقدرة على التذكر. لقد أصبحت ذاكرته مخزنا يسحب من رصيده حتى نهاية حياته يسحب منه الأفكار والأخيلة والعبارات والأدلة، بل وحتى فقرات كاملة. وكثيرا ما كان يهمل ذكر مصدر معلوماته وربما كان ينسى المصدر سعيدا بهذا النسيان، وكان يخلط دون اهتمام أفكاره بالأفكار التي استقاها من مصادر أخرى. وفي خاتمة المطاف ضاق عقله بهذا المخزون الكبير من المعرفة المتباينة خاصة وأن عقله كان نزاعا للحرية نافراً من الانضباط. لقد كاد المخزن ينهار على المخزون.
وربما رغبة منه في تحرير ذاكرته أو رغبة منه في إطعام زوجته وجدناه يركز على فكرة طبع مجلة وبيعها، وكاد هو أن يكون كاتبها الوحيد، وأجبر معارفه والمستمعين لمحاضراته على الاشتراك في هذه المجلة ووزع عددا محدودا من هذه النشرة التمهيدية Prospectus حتى يعلم الجميع الحقيقة فقد تجعلنا الحقيقة أحرارا. وفي يوم الجمعة، الخامس من فبراير سنة 1796 تم نشر العدد الأول (بسعر أربعة بنسات) على أن تصدر كل ثمانية أيام بعنوان (المراقب Watchman) بقلم س. ت. كولردج مؤلف "نداءات إلى الشعب Addresses To the People".
وهنا - كما هو الحال في محاضراته - كان يتحدث كراديكالي أحرق خلفه كل الجسور، لقد راح يهاجم الحرب والعبودية (الرق) وتعويق حرية
الصحافة والنشر، وكان يهاجم بشكل خاص الضرائب على المبيعات لوطأتها الثقيلة على عامة الشعب. لكنه لم يوص بحق الانتخاب العام للبالغين من الذكور أو الإناث. يجب أن تكون لدينا الجرأة بالاعتراف بالحقيقة السياسية فقط لأولئك الذين هم قادرون على استخدام عقولهم والإقناع بما هو منطقي، ولا نعترف بها أو نقرها للغالبية الجاهلة المحتاجة، التي تحركها بالضرورة عواطفها المهتاجة. ووجد كولردج أنه من غير المحتمل أن يكتب اثنتين وثلاثين صفحة كل ثمانية أيام إذ راحت هذه الصفحات - بشكل متزايد - تمتلئ بكتابات غرباء لم يكونوا دائما معروفين. واحتج بعض القراء المتابعين للمجلة وقل التوزيع وارتفعت الديون وبعد العدد العاشر توقفت هذه المجلة (مجلة المراقب Watchman) .
وفي أول سبتمبر سنة 1796 وُلد لكولردج أول مولود. فأسماه ديفيد هارتلي David Hartley على اسم رائد علم النفس الإرتباطي (سيكولوجية الترابط أو التداعي associationist psychology) . لقد كان المولود صبوح الوجه باعثاً للمسرة، لكنه كان فماً جديدا يطالب بالطعام. وفي هذه الأثناء كان كولردج نفسه يعاني متاعب في القلب والرئتين، وراح يزيد من جرعات الأفيون لتسكين آلامه، وكادت موارده تنفد عندما قدم له صديق متساهل ودود هو توماس بول Poole منزلا صغيرا بالقرب من منزله (منزل بول) في نذر ستوي Nether Stowey بالقرب من بردجووتر Bridgewater - بإيجار رمزي مقداره سبعة جنيهات سنويا.
وفي 31 ديسمبر سنة 1796 انتقل كولردج وسارة وابنهما (ديفيد) إلى هذا المنزل. وجعلت سارة المنزل نظيفا مريحا، وعمل كولردج في حديقة مجاورة وساعد في رعاية خنازير بول Poole ودواجنه، وكتب شعرا جديراً بأن يخلد.
وفي نحو هذا الوقت - على وفق ذاكرته الثرية العامرة دائما - ظهرت له فكرة قبلاي خان Kubla Khan في حلم رائع وقد كتب غالبها مستوحيا هذا الحلم:
"في صيف سنة 1797 عكف المؤلف - وكان معتلا صحيا - في منزل ريفي منعزل بين بورلوك Porlock ولينتون Linton
…
ونتيجة توعك صحته وتناوله العقارات المسكنة (الأفيون) غلبه النوم وهو جالس على مقعده بينما كان يقرأ
…
في كتاب رحلة بورشاز Purchas's Pilgrimage. وفي الحلم أمر قبلاي خان ببناء قصر بداخله حديقة، وتم تسوير
هذه الأميال العشرة من الأرض الخصبة بسور. ولقد استمر المؤلف في نوم عميق نحو ثلاث ساعات - على الأقل كانت حواسه الخارجية هي النائمة - وخلال هذه الساعات كان واثقاً ثقة تامة أنه لا يستطيع أن يكتب أقل من مائتي سطر أو ثلاثمائة سطر دون أن ينتابه الإرهاق والتعب. وعندما استيقظ ظهر أنه يتذكر تفاصيل الحلم فأمسك بقلمه وأدنى منه الحبر والورق، وراح يكتب بشكل مستمر وبشغف السطور التي بقيت لنا".
هذه المقدمة الشهيرة فسرها النقاد بأنها خرافة خدع بها كولردج نفسه أو آخرين لقبول فكرة الحَبَل بلا دنس immaculate Conception وديمومة قبلاي خان. وعلى أية حال فمن غير المعلوم أن المؤلف بعد صياغة جُمله خلال النهار، واصل عمله في أثناء الحلم أم لا، لكن تكاد هذه الدرّر دوما تغوص في اللاشعور وكأنها يقظة نائم وربما كان للأفيون أثره ليس في الحلم (الرؤيا) فقط وإنما في الإيهام بأن التأليف كان جزءا من الحلم. وعلى أية حال فإن كولردج بمهارته المميزة في السجع والجناس قد حول نثر بورشاز إلى واحد من أكثر النصوص - التي لم يكتمل إنجازها - تشويقاً في اللغة الإنجليزية.
وربما كان الحدث (الأدبي) الأكثر أهمية من قوبلاي بالنسبة لكولردج في عام 1797 هو دعوة ودزورث له لزيارته في ريسدون Racedown، فاستأذن من زوجته ساره وابنه ديفيد وانطلق ليسير كل المسافة تقريبا. وتراءى له هدفه في 6 يونيو فجرى - وقد أخذت الإثارة منه مأخذها - إلى باب أخيه الشاعر. وعندما فتح له وليم ودوروثي الباب وفتحا له مع الباب قلبيهما، بدأت حقبة جديدة في حياة ثلاثتهم، وكان تعاونهم واحداً من أعظم ما حققه التعاون بين الأدباء إثماراً في تاريخ الأدب.
6 - الثلاثي
A THREESOME: 1797 - 1798
كان كولردج Coleridge آنئذ في ذروة تألقه. كان بدنه - رغم آلامه وسمومه غير الظاهرة - مستجيباً لاهتمامات عقله الحيوية. وكان وجهه الوسيم - بفمه الشهواني وأنفه دقيق التكوين وعينيه الرماديتين تتألقان شغفا وحب استطلاع، ورقبته وأذنيه، وشعره الأسود
المهوّش المتدلي على رقبته وأذنيه - قد جعله جذابا خاصة في عيني دوروثي Dorothy .
لم يطل الأمر أحبته بطريقتها الخجولة، وإن ظل إعجابها بوليم في المحل الأول. لقد أخذ كولردج برقتها وجذبته إليها بعاطفتها الهادئة. لقد كانت صديقة جارتْه في كل آثامه وتجاوزت عن كسله لتستمتع بمشاعره الدافئة وخيالاته العميقة الغريبة وإيمانه المهتز، وضاعت آلام الشاعر المبرحة بين الحيل والصراع. وعلى أية حال، فقد كاد يرى في هذه الفتاة شبحاً رعديدا سحقها أخوها (سيطر عليها تماما).
وهنا تحقق كولردج أن هذا الرجل وردزورث Wordsworth بوجهه الهادئ الحزين وجبهته المرتفعة وعينيه المتأملتين شاعر حقيقي وحيوي حساس لكل خلجة ونبضة من خلجات الأشياء والأشخاص ونبضاتهم، وينأى بنفسه عن أي اضطراب اقتصادي جاعلاً من خلجات الطبيعة والناس ونبضهما وسيلة للبحث عن الكلمات المعبرة بعمق وعاطفة عن بصيرته وأحلامه.
وكان كولردج - الذي كانت (أغاني البحار القديم) تعتمل بالفعل في نفسه - هو أعظم الشاعرين - لكنه أحسّ بتكريس هذا الشاعر (وردزورث) نفسه للشعر وحسده لتكريس نفسه تماما للشعر، وربما كان قد تعجب ما إذا كانت الأخت ليست أفضل من الزوجة. لقد كتب حالما وصل: لقد شعرت بضآلتي بجواره، ومع هذا لم أعتبر نفسي أقل مما كنت أظن نفسي سابقا إن وليم (وردزورث) رجل عظيم جدا. إنه الرجل الوحيد الذي أحسست أنني أقل منه في كل الأوقات وفي كل حالات تفوقي.
وبدأ ثلاثتهم ثلاثة أسابيع يحث بعضهم بعضاً، لقد راح كل واحد منهم يقرأ قصائده على الآخرين. وكان وردزورث يقرأ أكثر، بينما كان كولردج يتحدث أكثر. كتبت دوروثي:
"إن مناقشاته وحواراته تتزاحم في الروح والنفس والعقل. وهو خيّر جدا حسن الطباع جذاب .. وهو يتحدث بعينه التي تعبر عن كل عواطفه".
وعادة ما يبرد الحب بين هذا الثلاثي بعد ثلاثة أسابيع فرجا كولردج كلاً من وليم ودوروثي أن يصاحباه إلى نذر ستوى Nether Stowey ليكرمهما كما أكرماه، فانطلقا معه متوقعين أن يعودا سريعا إلى ريسدون لكن الصديق بول Poole علم أن الفترة التي يقضيانها مع كولردج ستنتهي ولا مجال لتمديدها فدبر لهما منزلا جميلا مؤثثا في
ألفوكسدن مقابل 23 جنيهاً إسترلينياً سنويا، وألوفكسدن Alfoxden هذه على بعد أربعة أميال من مقر كولردج، وهناك أقام وليم وردزورث ودوروثي في راحة، وراحا يستلهمان الشعر طوال خمسة عشر شهرا.
وفي هذه الفترة السعيدة راحوا يسيرون وهم ينشدون الشعر أو يتناقشون فيه: أحيانا كان الرجلان يسيران معا، وأحيانا كولردج ودوروثي، وأحيانا ثلاثتهم معا. لقد راحوا يتبادلون المشاعر والأفكار والملاحظات: وردزورث شجع كولردج على ترك الخيال كمرشد له، وزاد كولردج من معارف وردزورث عن الفلاسفة وتحداه ليكتب ملحمة شعرية. وفي أعوام لاحقة تذكر وردزورث في (المقدمة) صديقه الذي كان يجول معه (كولردج) ذاكرا أنه:
صديق الأرواح المرحة / حيث كنا نخصص جانبا من أيامنا لأول مرة لننغمس معا في الشعر الجامح وكانت دوروثي هي رباطهما محفزتهما (مشجعتهما). لقد كانت تبهجهما بمديحها، وباستماعها باهتمام وشغف متحدية إياهما بحماسها وعمق إدراكها ونفاذ بصيرتها، موحدة إياهما كعروس روحية لكليهما. لقد كانوا - كما قال كولردج ثلاثة أشخاص في روح واحدة.
ولابد أن وردزورث وكولردج قد طالعا اليوميات التي بدأت دوروثي كتابتها في ألفوكسدن في 20 يناير سنة 1797. ولا بد أنهما توقفا عند سطر في الصفحة الثانية طنين الحشرات، تلك الضوضاء الصامتة (غير المزعجة) التي تملأ أجواء الصيف أما سارة كولردج فلا بد أنها كانت أكثر تأثرا بما ورد عن الفترة من 3 إلى 12 فبراير:
3 فبراير: سرت مع كولردج فوق التلال
…
4 فبراير: سرت مسافة طويلة في الطريق إلى ستوي مع كولردج ....
5 فبراير: سرت إلى ستوي مع كولردج
…
11 فبراير: سرت إلى قرب ستوي مع كولردج
21 فبراير: سرت وحدي إلى ستوي، وعدت مساء مع كولردج.
ولم تكن ساره سعيدة بحكاية المشي هذه، لقد بدا الأمر لها برئياً غير مرتبط بعلاقة جنسية، لكن أين تنتهي هذه الحكاية؟
7 - الشعر الغنائي
LYRICAL BALLADS: 1798
وفي يناير سنة 1798 ظهر في كولردج حافز آخر يحفزه على التفرغ للشعر، إذ إن جوسياه Josiah وتوماس ودجوود Wedgwood - ابني جوسياه ودجوود (1730 - 1795) ووريثاه - عرضا على الشاعر شبه المفلس راتباً سنوياً مقداره 150 جنيهاً (3،750 دولار) شريطة أن يتفرّغ تماماً للشعر والفلسفة. وكان أبوهما صانع فخار أتقن صنعته فجعل فخاره وخزفه مشهورا في أوربا كلها. وكتب كولردج لهما خطابا في 17 يناير يرحب فيه بهذه المنحة، وأغرق في التأمل والاندماج في عملية الإبداع ليكمل (أغنية الملاّح القديم) واقترح كولردج على وردزورث بعد أن تسلح بهذه المنحة الدالة على شهرته في مضمار الشعر - أن يجمعا معا قصائدهما الجديدة في مجلدات تحمل اسميهما فقد تعود عليهما بمبالغ مالية تكفي لتمويل رحلة يقومان بها إلى ألمانيا.
لقد كان كولردج يأمل في أن عاما يقضيه في ألمانيا سيمكنه من تعلم اللغة الألمانية بشكل يكفي لقراءة الأعمال الكبرى التي ألفها الألمان من جوته إلى كانط Kant في لغتها الأصلية وفهمها، فهؤلاء الأعلام الألمان قد جعلا من ألمانيا رائدة في مجال الفلسفة الأوربية بلا منازع أو على الأقل جعلتها تنافس إنجلترا وفرنسا في مجال الأدب والفكر. ولم يكن وردزورث متحمساً لألمانيا، لكن لأن فرنسا وشمال إيطاليا كانا في قبضة الثورة الفرنسية، فقد وافق كولردج على خطته.
وفي أبريل سنة 1798 وجها دعوة للناشر كوتل Cottle ليأتي إليهما من بريستول ليسمع أشعارهما الأخيرة، وأتى واستمع إليهما وعرض ثلاثين جنيها لشراء حق الطبع، وأراد أيضا أن ينشر اسمي الشاعرين ولكن كولردج رفض قائلا إن اسم وردزورث ليس شيئا أما اسمي فيلاقي احتجاجا عنيفاً.
وبعد ذلك بثمانية عشر عاما شرح كولردج نظريته الكامنة وراء هذا التعاون (العمل المشترك):
"من المتفق عليه أن محاولاتي تتناول شخوصاً وشخصيات ميتافيزيقية (فوق الطبيعة) أو على الأقل رومانسية .... أما السيد وردزورث فقد جعل هدفاً له أن يضفي الجدَّة والجاذبية على أمور تحدث كل يوم، وأن يثير مشاعر تناظر ما أثيره من أمور فوق طبيعيه
(ميتافيزيقية) بلغت الأنظار إلى ما في العادات من بلادة ولا مبالاة، إنه يوجه شعره إلى ما في العالم أمامنا من جمال وعجائب
…
لقد كتبت الملاح القديم من هذا المنطلق وكنت أجهز أيضا بمثل هذه الروح لعمليّ "الليدي السوداء The Dark Ladie " و"كريستابل Christable" اللذين كنت فيهما أكثر اقترابا من تحقيق هذه الغاية ".
وربما أخذت هذه النظرية شكلها بعد كتابة القصائد. وقد وضح هذا وردزورث في مقدمة الطبعة الأولى:
تعتبر معظم القصائد الواردة في هذه الطبعة تجارب شعرية. لقد كتبت في الأساس من وجهة نظر مؤداها التحقق من المدى الذي يمكن فيه للغة العادية (لغة الحوار) في الطبقتين الوسطى والدنيا أن تكون قادرة على تحقيق أغراض الشعر وما يحدث من بهجة. لقد اعتاد القراء على الزخارف اللفظية والأساليب الفارغة لكثيرين من الكتاب المعاصرين، لذا فإن هؤلاء القراء إذا ثابروا على قراءة هذا الكتاب إلى نهايته ربما كان عليهم أن يقاوموا ما يحسون به من غثاثة وسماجة وغرابة. إنهم سينظرون إلى الشعر الذي ألفوه واعتادوا عليه ثم يندفعون متسائلين بأي حق أطلقنا على محاولاتنا هذه لفظ الشعر؟ إنه لمن المرغوب فيه ألا يعاني مثل هؤلاء القراء أمام كلمة الشعر المتفردة، تلك الكلمة التي تنازع الناس حول معناها؟ انه لمن غير المرغوب فيه أن تقف هذه الكلمة عائقا بين الناس وبين الاستمتاع (بما نكتب) ....
والقراء الأرقى حكما قد لا يوافقون على الأسلوب الذي كتبنا به كثيرا من هذه القصائد
…
فسيظهر لهم أن المؤلف (الشاعر) رغبة منه في تجنب الأخطاء الشائعة قد تنازل كثيرا واستخدم كثيرا من التعبيرات الشائعة جدا والتي لا تتسم لفرط تداولها بالوقار الكافي
…
.
وتدخل النثر ليقطع عليهم روح الشعر: مالك منزل ألفوكسدن أحاط آل وردزورث علما أن لاحق لهم في الإقامة في المنزل بعد 30 يونيو 1798. وفي 25 يونيو غادر وليم وردزورث ودوروثي إلى بريستول للتفاوض مع كوتل (الناشر) وفي 10 يوليو
استقلتهما سفينة ليعبرا نهر سيفرن Severn وسار عشرة أميال في ويلز إلى كنيسة تنتيرن Tintern Abbey. وبالقرب من هذه الخرائب الجميلة جدا وفي طريق العودة إلى بريستول ألف وردزورث القصيدة التي أضيفت كقصيدة أخيرة إلى ديوانهما الشعر الغنائي Lyrical Ballads.
وتم نشر هذا الديوان الصغير في 4 أكتوبر 1798 بعد تسعة عشر يوما من مغادرة الشاعرين - غير المعترف بشاعريتهما - قاصدين ألمانيا. لقد كان عنوان الديوان مناسبا؛ فقد كان إسهام كولردج الرئيس يسير على نسق الأشعار الإنجليزية القديمة - حكايات شعرية صالحة للغناء، وكان معظم إسهام وردزورث قصائد غنائية بسيطة تتناول الحياة البسيطة تكاد تقتصر على استخدام ألفاظ من مقطع واحد يستخدمها الفلاحون الإنجليز.
وكانت القصيدة الأولى في الديوان هي (أغنية الملاح القديم) وشغلت 15 صفحة من 117 صفحة هي كل صفحات الديوان وهي أطول قصائده وربما أفضلها رغم أن إنجلترا لم تدرك ذلك إلا ببطء، أما وردزورث فلم يعترف بقيمتها أبدا. حقيقة أن هذه القصيدة كانت حاوية على أخطاء كثيرة لكن لا يجب التركيز على الأخطاء التي نعتبرها منافية للعقل (أفكار اللامعقول) في الحكاية الشعرية، ذلك لأن كولردج كان قد اقتحم عالم الغموض حيث الأسرار والرموز وحيث الخيال الذي يجعل كل شيء ممكنا، ففي عالم الخيال يمكن أن تنتج أحداث جسام من وقائع تافهة أو بسيطة. ومع هذا فإنه يتمسك بعبير الأسرار في الحكايات والأساطير القديمة، كما يتمسك بأوزان وإيقاعات الأشعار الغنائية والقصصية البسيطة القديمة (فالملاح القديم) تكاد تحملنا معه إلى النهاية. إنها (الملاح القديم) تعتبر - بالطبع - واحدة من أعظم قصائد الشعر الغنائي في اللغة الإنجليزية.
أما إسهامات وردزورث فتكاد كلها تكون نماذج من الحكمة التي وجدها في شخصيات البسطاء. وبعض هذه القصائد مثل (الصبي الأبله Idiot boy) و (سيمون لي Simon Lee) هجاهما المتابعون (النقاد) بصخب، لكن من منا لم يتعاطف مع حب الأم المتسم بالصبر لطفلها غير المؤذي ضعيف العقل (طفلها الأبله)؟ (إن شطراً واحدا من هذه القصيدة المفهومة يخبرنا عن العشب الأخضر - الذي تكاد تسمعه في أثناء نموه أيمكن أن
يكون هذا التعبير اقتباساً من دوروثي؟) وبعد أن أطال كثيرا في قصائده ذات المذاق الريفي أنهى وردزورث الديوان بأبيات تأملية من (أميال قليلة) فوق (دير تنتيرن Tintern Abbey) .
إنه هنا يقدم لنا تعبيرات فائقة (سامية) تعبر عن مشاعره عن أن (الطبيعة) و (الرب) هما شيء واحد (على وفق تعبير سبينوزا Spinoza's Deus sive Natura) إنهما (الطبيعة) و (الرب) لا يتحدثان فحسب من خلال معجزات النمو (أو التطور) وإنما أيضا من خلال الرهبة التي تبدو (من خلال قصر نظر البشر) قوى مدمرة كان تيرنر Turner يتعبد في محرابها (أي الرهبة) عند ممارسة فن الرسم. ومن جولاته (وردزورث) في الغابات والحقول، وتجديفه على صفحات البحيرات الهادئة وتسلقه فوق الصخور الضخام الوعرة، وعن آلاف النداءات صياحا أو همساً الصادرة من آلاف الكائنات الحية، وحتى من تلك الموجودات التي يفترض ألا حياة فيها نسمعه - عن هذا ينشد:
إليها
…
إنني مدين لها بكل ما هو مقدس ومبارك،
ففيها تكمن الأسرار،
وفيها يلقى الضوء،
على كل ما هو غامض مبهم في عالمنا،
وعن طريقها تريح هذا العبء الثقيل المرعب من الغموض والإبهام في عالمنا
فبسلطان التناسق (الهارمونية harmony) تسعد العين بالهدوء
وبسلطان البهجة العميقة
نرى أعماق كل ما هو حي.
وبعد ذلك يشرئب إلى دقائق إيمانه:
لقد تعلمت،
أن أنظر إلى الطبيعة،
لا كشاب لا فكر له، لكنني أسمع في أحوال كثيرة،
هارمونية الصمت، وموسيقاه الحزينة،
إنها ليست فجة وليست ضبابية غامضة رغم سلطانها الواسع الممتد، وقدرتها
على التطهير (تطهير النفس) والسيطرة (القهر). ولقد شعرت،
بحضور يثيرني بالبهجة،
بهجة الأفكار السامية: معانٍ تسمو،
الأشياء سمواً عميقا وبعيدا بما يتخللها،
معان محورها ضوء الشمس الغاربة،
والمحيط الهائل والهواء الطلق،
والسماء الزرقاء، وفي نفس الإنسان،
الحركة والروح اللتان تدفعان،
كل ما هو مفكر، وكل أهداف للأفكار،
وتدور في كل الأشياء، لذا ألا زلتُ
عاشقا لكل المروج والغابات
والجبال
…
معترفا أن،
في الطبيعة ولغة المعاني
دليل قلبي وحارسه وروح،
كل وجودي المعنوي (أو بتعبير آخر مغزى وجودي).
وقد وصلت دوروثي أيضا إلى هذه العقيدة (الإيمان) الشافية التي توحّد بين الطبيعة والرب ووجدت أنها لا تتفق مع العقيدة المسيحية. وفي نهاية قصيدته أضاف وردزورث إهداء يعبر فيه عن شكره لها وتسبيحه بفضلها كأخت روحه معلنا تمسكه بها حتى النهاية:
إن إيماننا البهيج الذي نتمسك به جميعا،
إيمان مقدس ومبارك. لذا دع القمر،
يبزغ بنوره عليك عندما تكون سائرا بمفردك،
ودع رياح الجبال التي بللها السديم تهب حرة،
دعها تهب عليك، .... وفي الأعوام التالية،
عندما تصبح هذه الانجذابات البرية ناضجة
في بهجة رصينة، عندما تصبح نفسك
ملاذاً لكل ما هو محبب
ستصبح ذاكرتك مسكناً
لكل الأصوات الحلوة، وكل ما هو متناسق جميل ....
ولم يحظ هذا الديوان (Lyrical Ballads) باستقبال حسن إذ ذكرت السيدة كولردج أن أحداً لم يحب هذه القصائد - لقد كانت السيدة كولردج زوجة معذورة إذ كانت تغار من ملهمة زوجها الشاعر.
وانشغل المتابعون (النقاد) انشغالا شديدا بعدم الحبكة في قصيدة (البحار القديم) وعدم الترابط في الأفكار العاطفية في القصائد الغنائية القصيرة التي كتبها وردزورث، وبدا أن أحدا منهم لم يعترف بقصيدة (البحار القديم) كشكل سيسود مستقبلا في كل الأعمال الأدبية الشعرية رغم أن بعض التابعين لاحظ وحدة الوجود (كون الطبيعة والرب شيئا واحدا) والإيمان بهما إيمانا شديداً في قصيدة (دير تنتيرن)، وبيع من هذا الديوان الصغير خمسمائة نسخة على مدار عامين وعزا كولردج أحد أسباب نقص المباع منه إلى كلمه (البحار) التي أوحت أن الديوان يتناول أغاني التجارة أما وردزورث فقد عزاه إلى احتواء الديوان في على قصيدة (الملاح القديم) هذه وليس مجرد اسم (الملاح).
وفي سنة 1799 بينما كان كولردج في ألمانيا أعد وردزورث طبعة ثانية من هذا الديوان. وفي 24 يونيو كتب إلى الناشر كوتل Cottle:
" من خلال ما سمعته وقرأته يبدو أن قصيدة (الملاح القديم) قد ألحقت ضررا بالديوان (قد يكون هذا صحيحا)
…
إذا قدر طبع الديوان طبعة ثانية فإنني سأضع مكانها بعض المقطوعات الصغيرة قد تكون أكثر مواءمة للذوق العام".
ومع هذا فقد اشتمل الديوان في طبعته الثانية على قصيدة (الملاح القديم) مع شروح غير متعاطفة قدمها وردزورث، يبيّن فيها عيوب القصيدة وأخطاءها ولكنه لفت الأنظار إلى
كونها قصيدة ممتازة. وهذه الطبعة (يناير 1801) اشتملت على قصيدة جديدة لوردزورث هي قصيدة تحمل عنوان ميشيل Michael - وهي حكاية كتبها بالشعر المرسل (غير المقفى) عن راع بلغ من العمر أربعة وثمانين عاما مخلص في عمله متمسك بالأخلاق الحميدة، محبوب في قريته، وعن ابنه الذي انتقل إلى المدينة فغدا فاسقا منحلا.
وذكر وردزورث في مقدمة جديدة للديوان بالتفصيل - وفي عبارات أصبحت الآن مشهورة -نظريته في الشعر:
"إن أي شيء وأية فكرة أن تثمر شعرا إذا حملت بالمشاعر والمعاني، وإن أي أسلوب أو لغة يمكن أن يكون شعرية إ ذا كان قادراً على نقل هذه المشاعر والأحاسيس والمعاني فالشعر هو فيض عفوي للمشاعر القوية".
التي تعود إلى أحاسيس وعواطف تراكمت بهدوء وعلى الشاعر نفسه أن يتحكم في هذه الأحاسيس وتلك العواطف قبل أن يعطيها شكلها الفني، ولكن مثل تلك المشاعر والأحاسيس ليست قصرا على المتعلمين أو النخبة المثقفة إذ يمكن أن تكون لدى الفلاح الأمي كما يمكن أن تكون لدى الدارس أو الباحث أو اللورد وربما تتخذ شكلها أنقى وأوضح عند الأشخاص الأكثرين بساطة، ولا يحتاج التعبير عنها إلى مفردات شعرية خاصة أو أسلوب شعري خاص فأفضل الأساليب هو أبسطها وأفضل الألفاظ هو أقلها زخرفة وخلوا من الادعاء والخيلاء.
والوضع الأمثل هو أن يتحدث الشاعر بلغة الرجل العادي وحتى الكلمات العلمية أو المكتسبة بالتعليم يمكن أن تكون شعرية إذا نقلت المشاعر والقيم المعنوية. وفي خاتمة المطاف
"فإن المضمون المعنوي - مشاعر وأحاسيس - هو المعول عليه في كل الفنون والآداب. المسألة إذن هي إلى أي مدى إذن نوظف مهارتنا (كشعراء) في توضيح الأفكار وتبرِئتها مما يشوبها والتسامي بها (جعلها نبيلة)، فالشاعر العظيم يجب أن ينقي المشاعر الإنسانية إلى درجة معينة
…
ليجعلها أكثر معقولية ونقاء ودواما - باختصار أكثر توافقا وتناغما مع الطبيعة - أعني مع الطبيعة الخالدة، والروح العظمى للأشياء. لابد للشاعر أن يكون إلى جوار الإنسان، وأن يسبقه (يستشف المستقبل) بين الحين والحين".
والشاعر المثالي - أو الرسام أو النحات - هو فيلسوف يلبس الحكمة ثوب الفن والأدب، ويوحي المعاني من خلال الشكل الأدبي أو الفني الذي ابتغاه.
لقد قامت هذه المقدمة (التي كتبها وردزورث) بدور في التاريخ لأنها ساعدت في وضع نهاية للذوق اللغوي الذي كان سائدا غالبا في الشعر والخطابة لدى الإنجليز في العهد الأوغسطي Augustan Age كما ساعد على وضع نهاية للظلم الطبقي والمرجعيات الكلاسيكية في ذلك العصر. لقد أعلنت هذه المقدمة حرية المشاعر (حق الجميع في الشعور)، وكانت عاملا آخر من عوامل الترحيب بالقصص الرومانسي - وإن صاغها وردزورث بأسلوب أبعد ما يكون عن الرومانسية. لقد كان وردزورث نفسه ذا مزاج وصفات كلاسيكية فكرا وحكما لقد تفاعلت ذكرياته معه بهدوء، بينما كان كولردج رجل عواطف وأحاسيس وخيال. لقد كان التعاون بين الرجلين تعاونا مثمرا ومفيدا. إنها مشاركة ممتازة.
8 - الباحثان المتجولان:
1798 - 1799
لم ينتظر الشاعران (وردزورث وكولردج) ليريا ديوانهما منشورا وأبحرا ومعهما دوروثي في 15 سبتمبر سنة 1798 من يارموث Yarmouth إلى هامبورج، وكان أحد أسباب قرارهما منحة إضافية تلقاها كولردج من جوزياه ودجوود Josiah Wedgwood وقرضا تلقاه وردزورث من أخيه رتشارد. وفي هامبورج، افترقا بعد أن قاما بزيارة غير ملهمة للشاعر العجوز كلوبشتوك Klopstock.
وذهب كولردج للدراسة في جامعة جوتنجن Gottingen أما وردزورث ودوروثي فاستقلتهما مركبة عمومية إلى جوسلار Goslar المدينة الإمبراطورية الحرة عند السفوح الشمالية لجبال هارتس Harz، وهناك مكثا أربعة أشهر، ولم يكن ذلك في خطتهما وإنما بسبب البرد الشديد. وفي هذه الفترة راحا يتسكعان في الشوارع ويتدفآن أمام الموقد المدفأة ويكتبان الشعر أو ينسخانه. وليدفئ نفسه بالذكريات ألف وردزورث الكتاب الأول من مقدمته (The Prelude) وهو ملحمة سيرته الذاتية. وفجأة تحققا من أنها يحبان إنجلترا كثيرا فانطلقا سيرا على الأقدام في 23 فبراير سنة 1799 وكان البرد قارسا ليودعا كولردج في جوتنجن، ثم أسرعا عائدين عبر بحر الشمال القارس إلى يارموث Yarmouth ومنها إلى سوكبيرن Sockburn حيث كانت ماري هتشنسون Mary Hutchinson تنتظر بصبر قدوم وليم (وردزورث) ليتزوجها.
وفي هذه الأثناء كان كولردج قد بذل قصارى جهده في جوتنجن ليكون ألمانياً إذ تعلم الألمانية وأصبح مشغولاً بالفلسفة الألمانية. ولم يجد توضيحا للعقل (أو النفس mind) في سيكولوجيا المادية Psychology of materialism وتخلى عن نظرية هارتلي Hartley عن التداعي Mechanistic associationism وتبنى مثالية idealism كانط ولاهوت شيلنج Schelling الذي جعل الطبيعة Nature والعقل Mind هما وجهي الرب (جانبي الله). وقرأ أو سمع محاضرات أوغسطس فيلهلم فون شليجل August Wilhelm Von Schlegel عن شكسبير واقتبس منها أفكارا كثيرة في محاضراته اللاحقة عن الدراما في عهد إليزابيث. وبعد أن تشبع تماما بالفكر والمجردات، فقد ميله للمشاعر والخيال وترك الشعر إلى الفلسفة. وكتب:"لقد مات الشعر فيّ. لقد نسيتُ كيف أنظم قصيدة ".
لقد أصبح هو حامل الفلسفة الألمانية إلى إنجلترا. وفي يوليو سنة 1799، غادر ألمانيا عائداً إلى نذر ستوى لكن ابتعاده عن زوجه مدة عام كان قد أثر في قدرتها على رعاية بيتها، لم تعد ساره كولردج رومانسية حالمة، وأصابها هم بسبب موت ابنهما الثاني حديثا - بيركيلي Berkeley. وفي شهر أكتوبر انطلق - وقد اعتراه الملل - شمالا ليرى وردزورث في سوكبيرن. وفي تلك الزيارة أبقى يد سارة هتشنسون - أخت ماري - في يده طويلا، وسرى تيار باطني غامض من المرأة إلى الرجل، وانشغل كولردج بحبه الثالث غير السعيد، فسارة هذه - لم تقدم له أكثر من التعاطف لأنها كانت تدرك التزاماته تجاه الأخرى. وبعد عامين من التودد إليها بلا أمل استسلم للهزيمة وكتب قصيدة غنائية مؤثرة بعنوان الأحزان تكاد تكون آخر نبض شعري له.
وصحب وردزورث في جولة على الأقدام في منطقة البحيرة يبحث كل منهما عن مسكن، وفي كزويك Keswick ظن أنه وجد مكانا للإقامة لكنه تلقى عرضا للعمل في جريدة مورنينج بوسط morning Past فغير خطته واتجه إلى لندن. وفي هذه الأثناء استأجر وردزورث مسكنا على بعد ثلاثة عشر ميلا إلى الجنوب - في جراسمير Grasmere. وعاد إلى سوكبيرن ورضيت دوروثي بالتحرك للمنزل الجديد وفي 17 ديسمبر 1799 بدأ الأخ والأخت رحلتهما الطويلة سيرا على الأقدام في معظم الوقت قطعا خلالها أميالا كثيرة في
طرق وعرة وغير مستوية في فصل الشتاء. وفي 12 ديسمبر أقاما مدفأتهما في المنزل الجديد فيما أ سماه ورزورث طرف المدينة وأصبح فيما بعد يحمل اسم مسكن اليمامة (دوف كوتاج Dove Cottage) وهناك قضيا أصعب أعوامهما وأسعدها في الوقت نفسه.
9 - قصيدة رومانسية في جراسمير:
1800 - 1803
IDYL IN GRASMERE
احتفظت لنا دوروثي في يومياتها في جراسمير في الفترة من 14 مايو 1800 إلى 16 يناير 1803 بتفاصيل شغلت 150 صفحة تمكننا من معرفة الحياة اليومية للأخ والأخت - والتي أصبحت باختصار فيما بعد حياة أخ وأخت وزوجة في آن واحد. ولم يكن مناخ جراسمير صحيا: فالمطر والثلج يكادان يسقطان يوميا. وبرد الشتاء بما يصاحبه من ثلوج قد يعاود الظهور في يونيو أو يوليو. لقد كانت الأيام المشمسة تمثل - لندرتها - بهجة غامرة، وكان ظهور القمر بين الحين والحين إلهاما وتجليا. وكان المنزل يدفأ بإشعال الفحم في المستوقد ولكن دوروثي ذكرت أنني لم أكن أستطيع النوم بسبب شدة البرد وقسوته
لقد اعتبرا مسألة المناخ هذه مسألة مفروضة وتصرفا إزاءها على نحو رُواقي، وكانا ممتنين للربيع وهوادة الأمطار لقد كانت السماء تمطر باعتدال وبشكل لطيف. هذه العبارة تكررت مرارا في يوميات دوروثي. وورد فيها أيضا أنه في بعض الأحيان كانت جراسمير تبدو جميلة جمالا يكاد يذيب القلب.
وكانا يسيران مسافات طويلة، معاً، أو فرادى وأحيانا كانا يقطعان ميلا إلى أمبلسيد Ambleside حيث مقر البريد، وأحيانا كانا يقطعان رحلة تستغرق نصف يوم إلى كزويك Keswick بعد استقرار كولردج بها. وبدا ورد زورت راضيا بزواجه من أخته إذ كان يدعوها:
رفيقة وحدتي في مسيرتي،
أملي وفرحتي وأختي وصديقتي،
وأحيانا أعز عليّ من هذا كله إن كان
العقل يدرك ما هو أعز من ذلك، أو كان،
في قلب الحب، ما هو أعز.
وفي وقت تأخر حتى سنة 1802 (عام زواجه) كان يشير إليها بعبارة (حبي) وكانت راضية بدعوتها له (أخي اللطيف).
لقد أصبح دخلها الآن أربعين جنيها أما هو فدخله سبعون جنيها بالإضافة إلى مبالغ ضئيلة متقطعة تصل إلى حوالي 140 جنيها (3،500؟ دولار) وهذا هو كل دخلهما السنوي. وكان عندهما خادم أو خادمان، ذلك لأن الفقر كان منتشرا جدا حتى إن نسوة كثيرات بل ورجالا من غير المتزوجين كانوا راغبين في أداء عمل مقابل المأوى والطعام ..
وكان الشاعر وأخته يرتديان ملابس بسيطة: دوروثي كانت ترتدي عباءة عادة ما تكون من صنعها هي، بل إنها عادة ما كانت تصنع حذاءها أما وليم وردزورث فكان يرتدي ملابس فلاح أو ملابس مستعملة أرسلها له أصدقاؤه.
وكان لديهما حديقة خضراوات، وكانا أحيانا يصطادان الأسماك من البحيرة. وأكثر من هذا فقد ورد في يوميات دوروثي:"لقد كنت أصنع كعكة الفاكهة والحلوى الخبز والحلوى الحلوى والكعك". لقد كانت تدلل وليم.
لقد كان وليم يعمل أيضا: فقد خصص شطراً من كل يوم عادي للتأليف، وعادة ما كان يؤلف في أثناء سيره منفردا فإذا ما عاد أملى على دوروثي. وكان أيضا يقطع الأخشاب ويعزق أرض الحديقة ويزرعها كان وليم يطهر المجرى المائي اللازم مثل المجرى اللازم حفره في الجليد للتخلص من صرف المرحاض. وبالإضافة إلى هذا كانت دوروثي تخمر الجعة وكنا نستعير بعض الزجاجات لتعبئة الرُّم (شراب مسكر) ورغم تناول وليم للخضراوات فقد كان يعاني من البواسير وبعد سنة 1805 أصبح يعاني من ضعف الإبصار والأرق فكان على دوروثي في كثير من الأمسيات أن تقرأ له حتى ينام.
وفجأة اضطربت تلك الأيام بسبب المال والزواج. ففي 24 مايو سنة 1802 توفي سير جيمس لوثر إيرل لونسديل Lonsdale تاركا ثروته ولقبه لابن أخيه - السير وليم لوثر الذي رتب دفع المبالغ المدين بها السير جيمس لورثة جون وردزورث. وكان
من الواضح أنه قد جرى تقسيم أربعة آلاف جنيه بين الأطفال ورغم أن نصيبي وليم ودوروثي لم يتم دفعه حتى سنة 1803 فإن وليم شعر أن توقعاته المعقولة تدعم تقدمه لطلب الزواج من ماري هتشنسون لكن ذكرى أنيت فالون Annette Vallon راحت تعتمل في وعيه.
ألا يجب عليه الكشف عن علاقته بها قبل أن يطلب من ماري الاقتران به؟ وفي التاسع من يوليو 1802 غادرا جالو هل Gallow Hill ثم في 26 من الشهر نفسه أقلتهما عربة إلى لندن. لقد أخذ بروعة المدينة كما بدت له في الصباح الباكر من جسر وستمنستر. وألف وردزورث واحدة من سونيتاته sonnets (السونيتة قصيدة من أربعة عشر بيتا) الخالدة - "ليس على وجه البسيطة ما هو أجمل من ذلك Earth has not anything to show more fair" وواصلا طريقهما إلى دوفر Dover واستقلتهما سفينة نقل البريد عبر القنال وفي 31 يوليو وجدا أنيت ابنتها كارولين ذات الأعوام التسعة في انتظارهما في كاليه Calais. ولا ندري ما توصلا إليه من اتفاق، وكل ما نعرفه أنه بعد 14 سنة، عندما تزوجت كارولين، كانت حالة وردزورث وقتها منتعشة خصص لها راتبا سنويا مقداره 30 جنيها (750 دولار). ومكث الأربعة في كاليه مدة أربعة أسابيع حيث راحوا يسيرون على شاطئ البحر في وفاق ظاهر. ونسج وردزورث قصيدة (سونيتة) أخرى رائعة:
إنها أمسية جميلة، هادئة وسمحة
الزمن القدسي هادئ كراهبة
كتم أنفاسه لفرط الوقار.
وانتهى بالدعاء لكارولين. وفي 29 أغسطس غادر وردزورث ودوروثي إلى دوفر ولندن. ومن الواضح أنه لم يكن في عجلة من أمره فلم يعد الأخ ولا أخته إلى جالو هل حتى 24 سبتمبر.
وفي 4 أكتوبر 1802 تزوج وليم وماري ولم تتلق العروس هدايا لأن أقاربها لم يكونوا موافقين على زواجها منه أما دوروثي التي كانت قد كتبت في يومياتها مؤخرا عن وليم أنه (عشيقها) فلم تستطع أن تثق في قدرتها على حضور مراسم زواجه فقد كانت مشاعرها مهتاجة تكاد لا تستطيع السيطرة عليها فصعدت السلم وهي لا تكاد تحس
بما حولها حتى دعتها سارة هتشنسون قائلة "إنهما عادا من الكنيسة". كان هذا - كما ذكرت في يومياتها - بعد الظهر -
"فاضطرت إلى انتزاع نفسها من سريرها وتحركت لا تدري كيف
…
وهي لا تكاد تحمل نفسها حتى قابلت حبيبي وليم فارتميت على صدره، فقام هو وجون هتشنسون باقتيادي إلى البيت وهناك مكثت لأرحب بعزيزتي ماري".
وفي هذا اليوم نفسه بدأ الشاعر وزوجته وأخته رحلة طويلة إلى جراسمير في عربة خفيفة تجرها خيول. وبالتدريج كيّفت دوروثي نفسها للعيش كثالثة ثلاثة وسرعان ما تعلمت أن تحب ماري كأخت وصديقة حميمة. بالإضافة إلى ذلك فقد جلبت ماري إلى بيت الزوجية دخلها السنوي البالغ عشرين جنيها. وعندما وصل مبلغ لوثر السابق ذكره أخيرا ارتقت أحوال الأسرة فنعمت بالرفاهية البورجوازية، وأصبح وليم وطنيا غيورا وأُدرج اسمه في قائمة متطوعي جراسمير للدفاع المدني عن إنجلترا ضد نابليون.
ومن أناشيده الرعوية الرومانسية التي تعد من أجمل قصائده (إلى فراشة To a Butterfly) وأقوى سونيتاته (ميلتون Milton) ، أما قصيدته (الثبات والاستقلال Resolution and Independence) فتعكس نزعته إلى الحزن الشديد، وبين عامي 1803 و 1806 ظهر أشهر أعماله (إعلانات الخلود من ذكريات الطفولة الباكرة) فقلما تكون هناك فنتازيا فلسفية جرى التعبير عنها بمثل هذا الجمال.
لقد بدأت بملاحظة كئيبة عن إعتام عينيه:
أدور قدر ما يمكن
ليلا أو نهارا
فالأشياء التي كنت أراها لم أعد أراها الآن.
ترى لم تخبو كلما تقدم بنا السن؟
ميلادنا ليس سوى نومٍ ونسيان،
فروحنا التي تشب معنا ونجم حياتنا،
لابد أن يخبوا (يغربا) في مكانٍ ما،
لقد أتت روحنا من بعد قَصِي
ليست من المجهول تماما
وليست من العري الكامل
لكننا أتينا من مؤخرات سحب الجلال
من الرب الذي هو سكننا
فالفردوس حولنا في مرحلة طفولتنا
وتبدأ ظلال السجن تدرك الصبي النامي،
لكنه يمسك النور، وحيثما ينساب النور
يراه في لحظات سعادته ومرحه
وأخيرا يدرك الإنسان أنه يتلاشى،
ويذوب في وضح النهار.
ومن ثم يحيى الشاعر الطفل باعتباره:
أنت أفضل فيلسوف، فأنت لا تزال تحتفظ
بتراثك
…
بل وعندما نبلغ من العمر مبلغا يكون لدينا وعي غائم بهذا الأفق الضائع:
الهواجس الشاحبة للخلق
تتحلق حول عوالم غير مؤكدة .. ،
تلقي أرواحنا نظرة على هذا البحر الخالد
الذي ألقى بنا هنا
أيمكن في لحظة أن نرحل إلى هناك،
ونرى ألعاب الأطفال على الشاطئ،
ونسمع أصوات الأمواج الجليلة مرة أخرى؟
تلك إنثروبولوجيا anthropology كُسيت كساء لاهوتيا: الطفل لا يزال حيوانا يسعد بحريته وأطرافه وعواطفه الحيوانية، ينفض أي كساء وأية قيود وأي حظر، يتطلع إلى الحرية في الحياة الحيوانية والحركة في الحقول أو الغابات أو البحار أو الهواء وشيئا فشيئا يفقد - بامتعاض - تلك الحريات كلما تقدم به السن وكلما أصبح شابا يعيش في ظل الحضارة. لكن وردزورث لم يرد أن يكون كذلك، لقد راح يتذكر فيثاغورث وراح يأمل أن يجد فيه جسرا يعبر منه إلى عقيدته أيام الطفولة (عقيدة الطفولة أو إيمانها) إن الرجل الهرم يبحث عن رحم لمشاعره كالرحم الذي أتى به إلى الحياة.
10 - حب وعمل وأفيون:
1800 - 1810
LOVE، LABOR، AND OPIUM
في أبريل سنة 1800 أتى كولردج إلى جراسمير بعد أن أكمل مهمته في جريدة مورننج بوست Morning Post ليقضي ثلاثة أسابيع مع آل وردزورث، فأخبرته دوروثي أنها وجدت مأوى جميلا له ولأسرته في منزل كبير يقال له جريتا هول Greta hall على بعد نحو ثلاثة أميال خارج كزويك Keswick وذهب كولردج ورأى البيت في عز الصيف ووجد في إحدى الغرف مكتبة تضم خمسمائة مجلد، كثير منها غلال ملائمة لطاحونته (المقصود ملائمة لمزاجه الفكري) فوقع عقد الإيجار بحماس.
وفي أغسطس سنة 1800 اصطحب زوجته سارة وابنه هارتلى Hartley من نذر ستوي إلى منزلهم الجديد، حيث وضعت ساره طفلا آخر أسموه درونت Derwent على اسم بحيرة ومجرى مائي قريب. وسرعان ما حل الشتاء فنبه الأسرة إلى خطئها فقد فاقم البرد والمطر من استعداد كولردج لمرض الربو والحمى الروماتيزمية، كما أن ابتعاد الزوجة عن أقاربها عمَّق اكتئابها لأن زوجها كان غالبا ما يتركها وحيدة مرتحلاً ببدنه وفكره.
فكثيرا ما كان يتركها ليسير على قدميه ستة عشر ميلا إلى كزويك وجراسمير ليسعد بمناقشات وردزورث المثيرة، ورعاية دوروثي الودودة. ولم يكن وردزورث ودورثي ليسيرا في اتجاه الشمال كثيرا ليبهجا أيام كولردج. وفي نوفمبر سنة 1800 أقبلت سارة هتشنسون من جالوهل لتمكث عدة شهور مع ماري ووليم ودوروثي في دوف كوتاج Dove Cottage
وهناك تابع كولردج ملاحقته لها، وببساطة قاسية غير مقصودة اعترف لزوجته بحبه لسارة الثانية وطلب منها أن تأذن له بحبهما معا. ويوما فيوم ابتعدت عنه نفسيا منشغلة باهتماماتها كأم، وانكفأ هو على كتبه وتأملاته.
وحاول أن يكمل قصته الشعرية (كريستابل Christabel) التي كان قد بدأها في سنة 1797 لكنه لم يجد في نفسه حماسا أو إلهاما فتركها ولما تكتمل. وقد امتدح سكوت Scott وبايرون هذه القصيدة في شكلها المخطوط رغم أنهما أخذا عليها بعض الهنات في الموضوع والوزن والحالة النفسية، وأخيرا (1816) طبعها الناشر مري Murray بتشجيع وحث من بايرون إنها بقايا لم تكتمل لأثر راح ما به من جمال يذوي.
وبعد عام في جريتا هول Greta Hall كانت صحة كولردج وميزانيته تنفد شيئا فشيئا وأحس أنه لن يستطيع الحياة شتاء آخر في منطقة البحيرات. وسعد لتلقيه دعوة للانضمام إلى هيئة تحرير المورننج بوست Morning Post وفي أكتوبر سنة 1801 ذهب إلى جراسمير للوداع وفي التاسع من الشهر نفسه سارت معه دوروثي وماري إلى جريتا هول Greta Hall، وفي العاشر من الشهر نفسه غادر إلى لندن، أما دوروثي وماري فقد عادتا إلى جراسمير. وكتبت دوروثي في يومياتها:
"لقد قضى كولردج يوما ممتعا
…
إن كل مشهد وكل صوت يذكرني به كرفيق عزيز عزيز .. لقد كنت مكتئبة ولا أستطيع الحديث لكنني أخيرا هوّنت على نفسي بالبكاء - قال وليم: يا له من انتحاب عصبي. ولم يكن الأمر كذلك، آه يا لكثرة الأسباب التي تجعلني قلقة عليه! ".
وصل كرلردج إلى لندن وانشغل بالكتابة بجدية كاملة في كتاب (الزعماء) الذي كان يتمشى مع سياسة الجريدة (مورننج بوست) الأداة الرئيسية لحزب الأحرار (الهويجز Whigs) - المعارض للوزارة، وإن كان مؤيداً للملكية (بكسر الميم). لقد أدان الرق والتنظيم الإداري القابل للرشوة (الذي كان يرسل بانتظام التورى Tories - المحافظين - إلى البرلمان) وأدان الحكومة لرفضها السلام الذي عرضه نابليون (1800) وكاد يحطم بت Pitt بتحليلاته التي لا ترحم له كرجل دولة. وعلى أية حال فقد دافع عن المِلكية (بكسر الميم) الشخصية كأساس ضروري لمجتمع متقدم ومنظم وساق الأدلة على أن الحكومة هي أفضل
من يجعل سلطان كل فرد متناسبا مع ممتلكاته لقد كانت كتاباته قوية ومؤثرة فزاد توزيع الجريدة كثيرا أثناء كتابته فيها. لكن عاما من العمل الشاق أسهم في تدمير صحته. وعندما عاد إلى جريتا هول (1802) كان منهاراً صحيا ومعنويا - آلام بدنية، وانصراف عن الزوجة، وبُعد عن الحب وأصبح عبدا للأفيون. وكان قد بدأ في تناول الأفيون في سنة 1791، وهو في التاسعة عشر من عمره لتهدئة أعصابه وتخفيف آلامه وجلب النوم ووقف ما حاق به من تدهور في القلب والرئتين. وعندما وافاه النوم المتقطع أخيرا اجتاحته في أثنائه الأحلام المروعة (الكوابيس) التي أشار إليها في آلام النوم (1803).
حشد شيطاني شرير،
خليط غريب من الرغبة والقرف،
أشياء كريهة وحشية يختلط بعضها ببعضها الآخر،
عواطف جامحة وهدير مثير،
وخجل، ورعب شامل.
ويخبرنا في مذكراته عن بشر خياليين على سطح القمر:
"إنهم مثل البشر على الأرض في كل شيء إلا أنهم يأكلون بمؤخراتهم (إلياتهم - جمع إليه) ويتبرزون (يتغوطون) في أفواههم .. ولا يمارسون التقبيل كثيراً ".
لقد كانت تعتريه الأحلام المزعجة (الكوابيس) مثل غالبنا، لكن أحلامه المزعجة هذه كانت حية جدا تكاد تكون حقيقية حتى إنه كان - في بعض الأحيان - يوقظ ساكني المنزل بصراخه.
وربما فتحت له آلامه وما يتناوله من عقاقير آفاقا جديدة وأتاحت له صورا ذهنية ومدركات حسية وخيالات غير متاحة للعقل العادي، رغم أنها - أي هذه الأمراض وتلك العقاقير - كانت تشوش على أفكاره وتضعف إرادته. على أية حال فقد كان محصوله المعرفي لا يبارى في جيله، فهو في هذا يفوق وردزورث بمراحل، فلم يكن وردزورث يستطيع أن يتحدث في غير قصائده، بينما كان الحوار مع كولردج - حتى في فترة تدهوره
- يشمل موضوعات كثيرة ويتسم بالحيوية كونه شائقا حتى إنه ترك بصماته على كارليل Carlyle، وربما كان قادرا حتى على إلزام مدام دي ستيل de Stael الصمت.
وما جعله مبهورا بوردزورث هو أن هذا الأخير كان شديد التركيز لتحقيق هدفه، بالإضافة إلى قوة إرادته أما هو (كولردج) فكان - شيئا فشيئا - يحل الإرادة محل الرغبة، ويزيح الخيال ليحل محله الحقيقة. لقد كان تواضعه شديدا بشكل غريب لكنه كان واعيا بذاته بشكل مكثف مدركاً أنه يكاد يكون مهتما بكل الموضوعات (وهو في هذا مثل وردزورث ومثلنا) وكان في طويته معتزا بنفسه بشكل عدواني (يفوق الحد) وقد لفت الانتباه بأمانته والتزامه الخلقي الصارم ولامبالاته بالشهرة والمال، لكنه كان يتطلع إلى المكانة. وانتحل عبارات الآخرين وأفكارهم بسعادة، واقترض المال وترك أصدقاءه ينفقون على زوجته وأولاده وربما أضعف الأفيون من قدرته على ممارسة الجنس.
وفي أبريل سنة 1804 راح يبحث عن تقليص آلامه التي ضاعفها الربو والحمى الروماتيزمية بالتوجه إلى شمس البحر المتوسط وهوائه فقبل مائة جنيه قرضا من وردزورث وأبحر إلى مالطة التي كانت في ذلك الوقت معقلا للقوة البريطانية وإن كانت موضح نزاع. وأخذ معه أوقية (أونصة) من الأفيون الخام crude opium وخمس أوقيات (أونصات ounces) من اللودانيوم laudanum (مستحضر أفيوني يسمى أحيانا صبغ الأفيون) وقد كتب عن الرحلة في مذكراته (يوم 13 مايو) دعاء يائس:
"يا ربي العزيز! أعطني القوة أن أقوم بتجربة واحدة عميقة - إذا رسوت في جريرة مالطة، فلا يكون الجو متعباً طوال شهر واحد، وأن تكون الطبيعة هادئة .. إنني عاشق رقيق القلب ولا أستطيع ممارسة الخطيئة دون إفلات من العاقبة، لكن آه إنني واهن جدا جدا منذ أيام طفولتي وحتى الآن، فلترحمني فلترحمني أيها الأب والرب ".
وفي نحو عام بدا وكأنه استعاد سيطرته على نفسه وفي يوليو تم تعيينه سكرتيرا خاصا لحاكم مالطة - السير إسكندر بول Ball، وفي يناير 1805 رقي إلى منصب السكرتير العام وهو منصب صلاحياته أكثر. لقد مارس عمله بجدية وأظهر براعة مدهشة في الحكم والتنفيذ. وبعد عام من الخدمة اعتراه إرهاق شديد، حتى إنه أسرف في تناول المخدرات،
وغادر مالطة إلى صقلية وإيطاليا وعاد إلى إنجلترا (1806) وفي هذا الوقت أصبح أكثر اعتمادا على الأفيون، وكان يقاوم تأثيره المنوم بتناول البراندي.
وفي 26 أكتوبر 1806 قابل وردزورث في فندق في كندال Kendal، وكتبت دوروثي تحت هذا التاريخ:
"لم أشعر أبدا قبل ذلك بصدمة مثل صدمتي عندما وقع عليه نظري، فمن النظرة الأولى وجدته سمينا جدا حتى إن عينيه بدتا غائرتين في وجهه المنتفخ والتألق الوحيد الذي بدا في عينيه للحظة كان تعبيرا مقدساً عن هدوء محياه"
وذهب إلى كزويك ليطلب من زوجته الانفصال لكنها رفضت فتركها وأخذ معه ابنه درونت Derwent البالغ من العمر ست سنوات، وحول لزوجته الراتب السنوي الذي كان يتلقاه من ودجوود لكن جوزياه ودجوود Josiah Wedgwood سحب مساهمته في هذا الراتب السنوي في سنة 1813. وأخذت سوثي التي استقرت في جريتا هول منذ سنة 1803 - على عاتقها رعاية امرأة أخيه. وتغلب كولردج على أزمته بفضل هدية أرسلها له رفيقه في الإدمان دي كوينسي De Quincey، وقد أرسلها له دون أن يحدد أنه هو مرسلها (أرسلها مجهولة المصدر) وبفضل المحاضرات التي ألقاها في المعهد الملكي Royal Institution في سنة 1808 و 1809 و 1810.
وفي هذا العام انتهت الصداقة الكبيرة التي كان أساسها تبادل الخبرات الشعرية. لقد توقفت عندما جف ينبوع الشعر عند كولردج بعد سنة 1800 بسبب وهن جسمه وتأثير الأفيون المنوم والنفور الزوجي وافتتانه بالفلسفة. وكان وردزورث قد شجع كولردج على ترك ربات الشعر، واقترح عليه كتابة النثر لأنه أقرب إلى عبقريته. وقد انزعج كولردج عندما علم أن آل وردزورث الثلاثة قد حذروا سارة هتشنسون من الاقتران به وبلغ الخلاف أشده عندما كتب وردزورث خطابا في 31 مايو 1809 يحذر فيه بول Poole من الارتباط كثيرا بالعمل في مجلة كولردج الجديدة (1809 - 1810) والتي تحمل عنوان الصديق The friend باعتباره - أي بول - أحد أعز أصدقاء كولردج وأقربهم إليه. كتب وردزورث:
"إن ما أقوله لك هو رأيي الذي لم أقدمه لك إلا بعد ترو وتفكير، وهو رأي قائم على أدلة وبراهين تعمقت طوال سنوات. وإن كولردج لا يقدر ولا يستطيع ولا يريد تنفيذ أي شيء مفيد
لنفسه أو لأسرته أو للبشرية. فلا مواهبه ولا عبقريته ولا معلوماته الواسعة ستفيده في أي شيء، لقد خابت جميعا بسبب ما اعترى تفكيره من تشويش. والحقيقة أنه لم يعد لديه طاقة عقلية من أي نوع ولا هو قادر على تنفيذ أي عمل يحتمه الواجب أو الالتزام المعنوي"
لقد كان هذا الرأي قاسيا متطرفا لكن وردزورث كان قد ذكر لكولردج الكثير في خطاب أرسله له منذ أسابيع قليلة سابقة. وتفاقم الأمر سوءا عندما أخبر بازيل مونتاجيو Basil Montagu كولردج أن وردزورث نصحه بألا يدعه (أي يدع كولردج) يقيم معه بسبب إدمانه الشديد الذي جعله مزعجا لا يطاق عندما كان يقيم في جراسمير إلا أن وردزورث بعد ذلك أكد لكولردج أن مونتاجيو أساء فهم كلماته، وتظاهر كولردج أنه اقتنع ولكن الخيوط بينهما كانت قد تقطعت واستحال وصلها وماتت الصداقة التاريخية.
11 - كولردج فيلسوفا:
1808 - 1817
ربما نكون قد بالغنا في انهيار كولردج، فلا بد أن نلاحظ أنه بين عامي 1808 - 1815 ألقى محاضرات في بريستول وفي المعهد الملكي في لندن - ظهر فيها أنه يعاني تشوشاً في الفكر والتعبير لكنه أثر في مستمعين مثل تشارلز لامب Lamb ولورد بايرون وصمويل (صموئيل) روجرز، وتوماس مور، ولاي هنت Leigh Hunt، وكأنما دفعتهم وغيرهم من الكتّاب للتضامن مع زميلهم الذي أصابه ما أصابه. وقد وصف هنري كراب Crabb الذي يعتبر واحدا من أصدقائه البارزين إنجليزاً وألماناً، المحاضرة الثالثة التي ألقاها في لندن بأنها محاضرة ممتازة وألمانية جدا وذكر أنه بالنسبة إلى لمحاضرة الرابعة فقد كانت ذات صبغة ألمانية جدا وكانت طريقة التناول فيها تتسم بالتجريد الشديد بما لا يطيقه المستمعون الذين كان عددهم قليلا.
لقد كان تجميع كولردج للحقائق والأفكار والفروض المسبقة تجميعا مزدحما وهائلا حتى إنه لم يستطع السيطرة على موضوعه. لقد كان يطوف بعناصر موضوعه بجموح لكنه كان مُلهما. لقد لخّص تشارلز لامب، كولردج في عبارة مشهورة إنه كمَلاك - بفتح الميم واللام - من الطبقة العليا، لحقه بعض الدمار وانتهى إلى أنه يكفينا أن نكون في نطاق رياح عبقريته ونسماتها حتى لا نمتلك مشاعرنا أو بتعبير آخر
حتى لا تصبح أرواحنا مستقرة.
وفي الفترة من 1815 إلى 1817 عندما كان كولردج مرة أخرى على وشك الانهيار دفع بخلاصة فكره إلى المطبعة. ففي كتابه نظرية الحياة Theory of Life (1815) أظهر لنا معلومات مثيرة في العلم - خاصة الكيمياء التي تعلمها عن طريق صداقته لهمفري ديفي Humphry Davy لكنه رفض كل المحاولات ليشرح العقل من خلال مصطلحات فيزيوكيميائية physicochemical . لقد سمى:
"فكرة إرازمس داروين السخيفة .. بأنها فكرة رجل انطلق من حالة انبثاق برتقالية" orang-outang state
وفي مطبوع Statesman's manual (1816) قدم الكتاب المقدس باعتباره أفضل مرشد للفكر السياسي، والتبصر بالعواقب. نجده يقول:
"يجد المؤرخ أن الأحداث الكبرى - وحتى التغيرات الأكثر أهمية في العلاقات التجارية العالمية .. أنا لا نجد جذورها لدى مجموعة رجال الدولة ولا في الرؤى العملية لرجال الأعمال وإنما نجد جذورها لدى المنظرين الذين لا تتسم كتاباتهم بالتشويق، وفي رؤى العباقرة المنعزلين (المتفردين)
…
كل الثورات الدينية التي أعادت صياغة فترات زمنية في العالم المسيحي، والثورات الدينية التي أعادت معها صياغة العادات المدنية والاجتماعية والمحلية تزامنت مع قيام نظم (نظريات) ميتافيزيقية أو سقوطها ".
ربما كان يفكر في نتائج الفكر الذي أتى به يسوع، وكوبرنيكس Copernicus (كوبرنيق) وجوتنبرج Gutenberg ونيوتن وفولتير وروسو وبعد موجز واضح للعوامل التي أدت إلى الثورة الفرنسية انتهى كولردج إلى أن صوت الشعب ليس هو صوت الله لأن الناس (الشعب) يفكرون في مجردات عاطفية أو مطلقات عاطفية ولا يمكن الوثوق بهم عند تولي السلطة، وأن أفضل طريق للإصلاح لا يكون إلا من خلال وعي الأقلية المتعلمة ذوات الممتلكات، وأفعالها. وبشكل عام فإن أفضل مرشد للعمل الصحيح في السياسة وفي كل مجال هو الكتاب المقدس Bible لأنه يحتوي على كل الحقائق المهمة في التاريخ والفلسفة:
"فأنتم يا من تتحركون في الطبقات العليا من المجتمع يجب أن تعلموا أيضا التاريخ والفلسفة واللاهوت، فأنتم أهل لها وليس أفراد الطبقات العاملة فتعلمهم التاريخ والفلسفة واللاهوت غير مطلوب إلى حد كبير بل وربما كان غير مرغوب فيه عموما. إن ترياق زيف رجال الدولة هو التاريخ ذلك أن جمع
الحاضر مع الماضي في سياق واحد، وتأصيل عادة مقارنة أحداث عصرنا - بعمق - بأحداث عصور خلت مسألة مطلوبة"
ويواصل في كتابه (Alay Sermon) الصادر في سنة 1817 دعواه للطبقات العليا والوسطى باعتبارها أفضل أداة للإصلاح الصحيح وباعتبار أفرادها حراسا ضد الغوغائية والسفسطائية وضد المدرسة الثورية المضرمة للنيران لكن الكتاب يعترف ببعض الشرور الجارية (الموجودة في زمنه): تضخم الدين الوطني بشكل غير محسوب، فقر الفلاحين فقرا شديدا، وعمل الأطفال في المصانع، ولاحظ كولردج:
"الحماقات والوقاحات والتبذير والتطرف الذي أعقب الرخاء الذي حل بنا والذي لم يسبق لنا أن شهدناه"، كما لاحظ "الممارسات العمياء والولع الأعمى بالمضاربات على مستوى التجارة العالمية بما في ذلك من مخاطر غير واضحة ومفاسد لقد تفجَّع بسبب احتمال تعرض الاقتصاد الجديد لهزات دورية تؤدي إلى انهيار عام ومعاناة يشرب الجميع كأسها ".
وأوصى ببعض الإصلاحات الأساسية "ضرورة خضوع أصحاب المصانع للقوانين العامة" خاصة فيما يتعلق بتشغيل الأطفال، "ولابد أن تعترف الدولة أن أهدافها الإيجابية، هي: 1 - أن تجعل مصادر الرزق ووسائل الإعاشة أكثر يسرا لكل فرد. 2 - أن تؤمن لكل المواطنين آمالهم في تحسين أحوالهم وأحوال أبنائهم. 3 - تطوير القيم الضرورية لإنسانية المواطن - كمخلوق عاقل" ودعا إلى "إنشاء منظمات (نقابات) تضم رؤساء كل العاملين في كل الحرف لدراسة المشاكل الاجتماعية من منظور فلسفي ولتقديم توصيات للجماعة"، ولابد "أن تمول الدولة هذه الطوائف الوطنية national church ".
وأنهى كولردج كتابه (عظات غير دينية Lay Sermon) بأن رضخ للاهوتيين معترفاً بأنه ليست هناك عظة أو حكمة علمانية خالصة أو بتعبير آخر ليست هناك حكمة خالية من البعد الديني يمكنها أن تحل مشاكل البشرية فلا يستطيع إلا الدين الغيبي (الفوق طبيعي supernatural religion) والنظام الأخلاقي الذي قدمه الله للبشر أن يواجه الشر الموروث في نفوس البشر، فالشر من شيم النفوس لدرجة أن الذكاء البشري وحده لا يعتبر كافيا لجعل الإرادة البشرية مبرأة من العيوب.
لقد دعا إلى العودة بتواضع إلى الدين وإلى الاعتقاد الكامل في يسوع
كرب مات لتخليص البشرية وفي 1815 - 1816 ألف (أو أملى)"فقرات عن حياتي الأدبية وآرائي Sketches of my Literary Life &opinions" لتكون أساساً لكتابة سيرته الذاتية. ولم يكمل هذا المجلد (سيرته الذاتية) ونشر (فقرات عن حياتي الأدبية وآرائي) في سنة 1817 بعنوان (ترجمة أدبية Biographia Literaria) التي تعد الآن أكثر مصادرنا أهمية عن فكر كولردج في مجالي الأدب والفلسفة.
إنه كتاب متماسك وواضح بشكل ملحوظ رغم أنه كتب غالبه خلال فترة قنوط وجزع بسبب إدمانه الأفيون وتراكم ديونه، وعدم قدرته على تقديم المال اللازم لتعليم أبنائه. لقد بدأ بالتبرؤ من علم النفس الترابطي associationist psychology الذي كان مفتوناً به في وقت من الأوقات. لقد رفض فكرة أن الفكر كله ما هو إلا نتيجة آلية (أوتوماتيكية) للحواس (للإحساس)، فالإحساس - كما أصبح يعتقد - يعطينا مجرد مواد خامة تقوم النفس - التذكر، والمقارنة، والفردية المستمرة - بإعادة تكييفها لتصبح خيالا خلاقا وفكرا موجها ذا هدف، وفعلا واعيا. فكل تجاربنا - واعية أو غير واعية - مسجلة في الذاكرة التي هي مخزن يستقي منه العقل - بوعي أو بغير وعي - المادة اللازمة لتفسير التجربة (الخبرة) الحالية، ولتنوير الخيارات الحالية (أي التي تعين الفرد على الاختيار من بين متعددات كثيرة) وهنا - بطبيعة الحال - نجد كولردج يتبع خطى كانط Kant.
إن الشهور العشرة التي قضاها في ألمانيا لم تحوله فقط من شاعر إلى فيلسوف وإنما من جبري determinist كسبينوزا إلى نصير لحرية الإرادة مثل كانط free-will Kantian وهنا اعترف اعترافا كاملا بدينه (المقصود اعترف لمن هو مدين له بفكره الجديد) كتابات الحكيم المشهور حكيم كونيجسبرج Konigsberg أكثر من أي كتابات أخرى، تلك الكتابات التي كانت في وقت من الأوقات قد أنعشت تفكيري ونظمته ومن أفكار كانط Kant تقدم كولردج إلى فكرة فيشته Fichte عن النفس وإعلاء مقامها باعتبارها الحقيقة الوحيدة المعروفة بشكل مباشر،
ومن ثم جاس خلال أفكار هيجل Hegel (الديالكتيك الهيجلي) بين الفكرة ونقيضها، والوحدة بين الطبيعة والنفس، إلى أفكار شيلنج Schelling عن خضوع الطبيعة للنفس أو تبعيتها لها، باعتبارهما - أي الطبيعة والنفس - وجهان لحقيقة واحدة إلا أن الطبيعة - على أية حال - تعمل بلا وعي، بينما
يعمل العقل بشكل واع ويصل إلى أسمى درجات التعبير من خلال الخلق العبقري الواعي. لقد اقتبس كولردج بانطلاق كامل من شيلنج إلا أنه غالباً ما كان يهمل ذكر مصادره. لكنه اعترف بشكل عام بمن هو مدين لهم بأفكاره وأضاف قائلا: بالنسبة إلي يكفيني سعادة وشرفا إن نجحت في نقل فكر شيلنج بشكل واضح إلى أهل بلدي.
والأحد عشر فصلا الأخيرة من كتابه السابق ذكره (ترجمه أدبية .. Biographia) تقدم مناقشة فلسفية للأدب باعتباره إفرازا للخيال، وقد ميز بين الوهم fancy والخيال، فالوهم فانتازيا (أو خيال جامح) كما في حالة حورية الماء (المخلوق البحري الذي له جسد امرأة ورأس سمكة) بينما الخيال IMAGINATION (كتب كولردج الكلمة بحروف كبيرة / كابيتال هكذا) فهو توحيد واع بين أجزاء لتشكل كلا جديدا كما في حالة حبكة الرواية، وتصنيف كتاب، وخلق عمل فني أو صياغة نتائج العلوم في نسق (نظام) فلسفي.
هذا التصور (أو الإدراك) يصبح أداة لفهم - ونقد - أي قصيدة أو كتاب أو رسم أو سيمفونية أو تمثال أو عمارة؛ إلى أي مدى استطاع الشاعر أو الفنان أن يجعل مكونات عمله متناسقة أو بعبارة أخرى إلى أي مدى استطاع أن يصل بين الأجزاء بالأجزاء الأخرى المرتبطة بها أو ذات الصلة بها، لتحقيق معنى العمل ككل ولتجعله متماسكاً في كل واحد؟ إلى أي مدى نجح المنشئ في هذا وإلى أي مدى فشل؟ وفي هذه الصفحات قدم لنا كولردج الأساس الفلسفي للحركة الرومانسية في الأدب والفن.
وقد أنهى كتابه السابق ذكره بنقد حاد لفلسفة وردزورث، وطريقته الشعرية. هل حقيقة أن أسمى فلسفة في الحياة يمكن أن يجدها المرء في طرائق التفكير عند أبسط الناس؟ أحقا أن لغة هؤلاء البسطاء هي أفضل وسيلة شعرية؟ أليس هناك فارق جوهري بين الشعر والنثر؟ في كل هذه النقاط وجه كولردج نقده لوردزورث بشكل دمث لكنه حاد ومؤثر. وانتهى أخيرا بما يفيد ولاءه وتقديره لحكيم جراسمير كأعظم شاعر منذ ميلتون Milton.
12 - وردزورث: الذروة:
1804 - 1814
وبعد أن قام آل وردزورث بجولات قصيرة نقلوا مقر سكناهم (1808) من دوف كوتاج Dove Cottage إلى مسكن أوسع بالقرب من ألان بانك Allan Bank وهناك أبدع الشاعر كبستاني فزرع حول البيت نباتات ووروداً راحت تختال تحت أمطار جراسمير Grasmere . وفي سنة 1813 انتقلت الأسرة أخيرا إلى عقار بسيط في جبل ريدال Rydal Mount في أمبلسيد Ambleside إلى الجنوب من جراسمير بميل. لقد أصبح آل وردزورث الآن في رغد من العيش ولديهم عدد من الخدم وصادقوا بعض ذوي المكانة. وفي هذا العام رتب اللورد لونسديل Lonsdale لتعيين وردزورث موزعا للطوابع في إقليم وستمورلاند Westmorland فاستمر يزاول هذا العمل حتى سنة 1842 وكان يدر عليه مائة جنيه إضافية في العام. أما وقد تخلص من متاعبه المالية فقد راح يقضي مزيدا من الوقت في بستانه فجعله فردوساً من الورود والنباتات المزهرة لا تزال موجودة.
ومن نافذته في الطابق الثاني كان يطل على مشهد ملهم - انه منظر بحيرة ريدال Rydal water التي تبعد مسافة ميلين. وفي هذه الأثناء (1805) أكمل كتابه (المقدمة The Prelude) الذي كان قد بدأه سنة 1798. وقد كتبت دوروثي: إنه كان يجمعنا كل يوم في اجتماع كبير كله متعة وصفاء بعد أن يقوم بجولاته مشيا على الأقدام. لقد كانت هي وسارة هتشنسون تنشغلان دوما بكتابة ما يُملى عليهما، وكان وردزورث قد تعلم التفكير من خلال الشعر المنثور.
وكان يضع العناوين الجانبية لملحمته الشعرية التي تأنى في كتابتها تطور عقل شاعر The growth of Poet's mind، قد قصد بهذا العمل أن يكون سيرة ذاتية لتطوره العقلي والنفسي، وكمقدمة للنزهة The Excursion التي تعرض بالتفصيل الفلسفة التي تمخض عنها هذا التطور. وقد قدم لنا ما يفيد مودته لكولردج بأن راح مرارا يستعيد ذكرياته معه، وتوجيه الحديث إليه. لقد اعتذر للأنانية والحديث عن الذات كما تبدوان في القصيدة لمن تناولها بشكل سطحي، فقد اعترف أنه لم يسبق لأحد أن تحدث عن نفسه بهذه الكثرة وربما لهذا السبب لم ينشر هذا العمل في أثناء حياته.
لكنها مقبولة ومحتملة تماما إن تناولناها في جرعات قليلة، وأكثر ما هو مبهج فيها هو مشاهد طفولته (كتاب 1 و 2) حيث ذكر جولاته في الغابات المنعزلة حيث بدا له أنه يسمع صوت الرب الكامن وراء كل شيء، الذي يأخذ صورا شتى، كلما جلس. لقد بدا له أنه يسمع هذا الصوت في أصوات الطيور والحيوانات وحفيف الأشجار بل ويسمعه حتى في الصخور نفسها وفي التلال:
- وحدي فوق ربوة ناتئة،
- مع تنفس الصبح
- ففي هذه اللحظات يكون - غالبا - هذا الهدوء القدسي،
- الذي يغمر روحي، فلا أعود أرى بعيني بدني
- إنني أنسى ذلك تماما، فما أراه
- يبدو لي وكأنه داخل نفسي، يبدو حلماً
- يبدو مشاهد موجودة داخل نفسي ..
- لقد كنت في هذا الوقت
- أرى بركات تنتشر حولي وكأنها بحر
…
- بركات قدسية لا توصف ..
- لقد شعرت بعاطفة الموجود Being تنتشر،
- فوق كل ما يتحرك، وفوق كل ما يبدو ساكنا،
- فوق كل ما لا يطوله فكر
- وفوق كل المعرفة البشرية، وفوق ما لا
- تراه عين البشر، بل إنني أحسست أنه يعيش حتى في القلب،
- فوق كل ما يثب وكل ما يجري، وكل ما يصيح وكل ما يغني
- أو يحرك الهواء العليل، فوق كل ما هو بين الأمواج، بل إنه موجود حتى في الأمواج نفسها،
- وفي أعماق البحار، وأعماق أعماقها،
- أحس بالبهجة القصوى، إن وصل الاتصال ذروته
- بين الأرض والسماء
- اتصال بين كل ما هو مخلوق، مع
- الخالق (غير المخلوق) ..
(قد نرى هنا تناقضا أو تراجعا، فالبيت الأخير يفترض وجود فاصل حقيقي بين الخلق والخالق، بينما نظرة وردزورث - كنظرة سبينوزا Spinoza تريان الرب) والطبيعة شيئاً واحداً - النظرة القائلة (بوحدة الوجود).
وفي كامبردج (III) كان أحيانا ينضم إلى حفلات السمر التي يرتبها الطلبة كما كان أحيانا يشاركهم عبثهم، ومع هذا فقد كان منزعجا لفهمهم للحياة بشكل سطحي طائش، فقد كان يجد متعة أكثر في دراسة الكلاسيكيات الإنجليزية (الأعمال الأدبية الكلاسيكية) أو ركوب الزوارق (النص boating on the Cam) وفي أوقات العطلات (IV) كان يعود إلى مأواه الأصلي فيتناول طعامه على مائدة أسرته ويأوي إلى فراشه المعتاد:
- هذا السرير المنخفض الذي كنت أسمع وأنا ثاو فيه عصف الريح، وصوت المطر المنهمر بعنف
- وكنت في ليالي الصيف أظل يقظان رغم تمددي على السرير وكان هذا يحدث كثيرا، لأراقب
- القمر في بهائه مضطجعا بين أوراق
- أشجار الدردار الباسقة القريبة من مسكننا،
-ورحت أرقب هذه الأشجار بعينين لا تبغيان عنها حولا، بينما تتحرك ذراها بين الحين والحين
- مع كل هبة من هبات النسيم.
وفي كوكرموث Cockermouth كان يستطيع السير مع كلبه الهرم الذي كان يتركه يؤلف الأشعار وينشدها بصوت عال دون أن يتهمه بخلل أصاب عقله:
- آه، أأنا في حاجة - يا صديقي العزيز
- أن أقول إن قلبي قد فاض؟، إنني لا
- أقدم نذورا، إنما كانت النذور تقدم لي
- ذلك أنني لا بد كنت روحا مكرسة يُهدى إليها
لقد كان يعيش للشعر. كما كان يجد مسرة أيضا في تلك الرحلات الممتعة التي كان يقوم بها خلسة في القنال الإنجليزي (VI) ليشعر بالسعادة المجنونة لفرنسا الثورة، وبالفوران فوق الألب (المفهوم طبعا أنه لا يصل إلى هذه الأماكن) ومن ثم يعود إلى لندن تلك المدينة الضخمة التي تشبه كثيب الرمال الناتج عن تشييد النمل لمساكنها حيث برلمانها الذي يرتل تراتيل فضائل التقاليد مع احتقار شديد لنظرية (أفكار) محدثي النعمة (المقصود ثوار فرنسا) وراح يراقب الجموع المزدحمة في فوكسهول Vauxhall والذين يتعبدون في كنيسة القديس بول،
وراح يرى أو يسمع الجموع المتحركة تضم مختلف الأجناس والوجوه والأزياء واللغات، وفوضى المرور، وابتسامات العاهرات ونداءات البائعين، ومناشدة النسوة، والفنانين يرسمون بالطباشير على أحجار الطريق (الرسم التقليدي - قرود على ظهور جمال) والمغنين في الطريق وكأنهم عشاق يعزفون السرينادات serenade (أغان يرددها العشاق تحت شرفات المعشوقات) - كل هذا شعر به الشاعر شعورا قويا كشعوره بالغابات لكنه لم يرتبط بها وانسل (VIII) إلى المشاهد الأكثر هدوءا حيث الحب لكل الطبيعة يمكن أن يعلمه أن يفهم ويعفو. ثم يعود مرة أخرى لفرنسا (IX) حيث برر الحكم الطاغي والبؤس القديم قيام الثورة وجعلها عادلة نبيلة بل إنه حتى البريتوني a Briton يمكنه أن ينخرط في هواها (تعتريه نشوة حب لها):
- الجمال بشير بالوعود،
- ليس في الأماكن الأثيرة وحدها وإنما في كل الأرض،
- فأي منا لا يتطلع مفكراً في السعادة المرتقبة.
ومن هذه النشوة التي بلغت السؤدد انحدرت فرنسا إلى الجريمة وانحدر وردزورث إلى النثر:
- لكن الآن أصبح الثوار ظلمة
- حولوا الحرب من أداة للدفاع عن أنفسهم
- إلى أداة للغزو، ولم يعودوا يرون
- كل ما كانوا يناضلون من أجله
…
وببطء وتردد أنهى الشاعر مقدمته his Prelude داعيا صديقه للعودة من مالطة (المقصود كولردج) لينضم للجهود المبذولة للعودة من الحرب والثورة إلى حب الطبيعة والبشر. ولم يكن على وفاق مع قصيدته فقد كان يعلم أنه توجد صحراوات شاسعات حول الواحات. ولم يكن وردزورث يرى إلا فروقا قليلة بين النثر والشعر. لقد اعترف بذلك، وكان غالبا أيضا ما يمزج بينهما في شعره غير المقفى، المتسم بفتور نبرته وتؤدة وقعه.
لقد جعل العاطفة والأحاسيس تنبع من السكون وهدوء النبرة، وجعل من هذا جوهر الشعر وروحه (دعنا نقل الموسيقى الداخلية) لكن هذا السكون الشعري الذي يستمر على نحو متواصل طوال أربع عشرة مقطوعة قد يحيلها إلى هوادة أو هدهدة تبعث على النوم. وبشكل عام فإن طبيعة الملحمة أنها تتناول حدثا عظيما أو نبيلا، أما الأفكار فهي شخصية جدا حتى إنه لا يصلح تناولها في ملحمة. ومع هذا فإن (المقدمة) تركت القارئ المصمم على مواصلة قراءتها وقد شعر بقبول سليم للحقيقة الباقية. وفي بعض الأحيان كان وردزورث - كأغاني الطفولة - يطهرنا بنقاء الغابات والحقول ويجعلنا - كالتلال الراسخات - نتحمل العواصف صامتين صابرين.
وكان وردزورث قبل المغادرة قاصدا ألمانيا في سنة 1798 قد بدأ (الناسك The Recluse) وهو عمل بث فيه فكرة أن الإنسان الذي يعرف الحياة حق المعرفة هو الذي عايشها ومن ثم انسحب منها، وقد حثه كولردج على تطوير هذه الفكرة في صياغة كاملة ونهائية لفلسفته. وبتحديد أكثر اقترح عليه كولردج قائلا أريدك أن تكتب قصيدة بالشعر الحر (غير المقفى) موجهة إلى هؤلاء الذين فقدوا كل أمل في تحسن أحوال
البشرية وانغمسوا فيما يكاد يكون أنانية لا تبحث إلا عن اللذة أو بتعبير آخر الأنانية الإبيقورية - وذلك نتيجة الفشل الكامل للثورة الفرنسية لقد اتفقا على أن ذروة الأدب هو الزواج السعيد بين الفلسفة والشعر.
وعندما عاود وردزورث التفكير شعر أنه غير مستعد لمواجهة هذا التحدي. وكان قد أحدث تطويرا مهما في (المقدمة) ليجعل منها تاريخا لتطوره العقلي (النفسي) فكيف يستطيع كتابة شرح أفكاره أو عرضها قبل إنجاز هذا العمل (الناسك)؟ لقد نحى (الناسك) جانبا وتابع كتابة (المقدمة The Prelude) إلى نهايتها. وبعد ذلك وجد نفسه واهن العزم قليل الثقة، وكان خروج كولردج من حياته قد حرمه من الإلهام الحي الذي كان يحفزه على العمل في وقت من الأوقات.
وفي ظل هذه الأحوال المثبطة كتب (الرحلة The Excursion) لقد بدأها بداية جيدة بوصفه لأطلال المسكن حيث كان يعيش الجوال (الرحالة) ويبدو أنه أخذ هذا الوصف من عمله الذي تخلى عنه ولم يكمله ونعني به الناسك Recluse وهذه الصورة التي رسمها وردزورث تقود الرحالة إلى العزلة والتنسك Solitary فهو يحكي لنا كيف فقد إيمانه الديني وأصبح متخماً بالحضارة فعاد إلى سلام الجبال. وقدم لنا الجوال الدين على أنه العلاج الوحيد لليأس، والمعرفة شيء طيب لكنها تزيد من قوتنا أكثر من زيادتها لسعادتنا، ثم ينقاد للقس (راعي الأبرشية) الذي يقدم الإيمان البسيط والترابط الأسري عند رعاياه الفلاحين باعتبارهما أكثر حكمة من محاولة الفيلسوف صياغة حكمة العصور في روابط فكرية. لقد كره الجوال حياة المدن المصطنعة وشرور الثورة الصناعية ودعا إلى تعليم عالمي وتنبأ بآثاره العظيمة. وعلى أية حال فإن القس (راعي الأبرشية) كانت لديه الكلمة الأخيرة فراح ينشد أنشودة التسبيح للرب.
وقد نُشرت (الرحلة) وهي في جانب منها (الناسك) في سنة 1814 وبيعت النسخة بجنيهين (ومن المفترض أن المقدمة لم تكن قد طبعت حتى سنة 1850) وطلب وردزورث من جيرانه - كلاركسون Clarksons - مساعدته في بيع نسخ مطبوعة بين أصدقائهم من طائفة الكويكر Quaker الذين كانوا أثرياء وشغوفين بالكتب التنويرية والثقافية وقدم نسخة للروائي تشارلز لويد Charles Lloyd على ألا يعيرها لأي قادر على شراء نسخة ورفض أن يعير نسخة لأرملة
ثرية اعتبرت أن سعر النسخة مرتفع بالنسبة إلى جزء من عمل وبعد ثمانية أشهر من النشر لم يكن قد باع إلا ثلاثمائة نسخة.
أما المتابعون للعمل فقد تباينت آراؤهم فاللورد جفري Jeffrey أدان في نوفمبر سنة 1814 (في مطبوع مستخلصات ادنبره Edinburgh Review) القصيدة بمقدمة تعتبرها نذير سوء إن هذا لن يحدث أبداً أما هازلت Hazlitt فبعد أن امتدح الفقرات البهيجة المتعلقة بوصف الطبيعة، والأفكار الموحية ذكر أن القصيدة طويلة ومتكلفة وكرر النتائج نفسها حتى أصبحت سطحية وتافهة أما كولردج الذي دعا إلى تأليف عمل كبير خالد، فقد رأى في (الرحلة Excursion) إسهابا وإطنابا وتكرارا وإعادة لكن كولردج راح بعد ذلك في (Table Talk) يمتدح الكتابين (الجزأين) الأول والثاني باعتبارهما من أجمل القصائد في اللغة الإنجليزية. أما شيلي فقد كره (الرحلة) لأنها تبين استسلام وردزورث للفكر الحلولي naturalistic pantheism (كوْن الرب والطبيعة شيئا واحدا)، لكن كيتس Keats اعتبر وردزورث بسبب هذه القصيدة أعلى مرتبة من بايرون، وبمرور الوقت ترسخ رأي كيتس.
13 - حكيم الهايجيت:
1816 - 1834
THE SAGE OF HIGHGATE
في أبريل سنة 1816 كان كولردج قريبا من الأنهيار الجسدي والنفسي وهو في الثالثة والأربعين، وفي هذه الأثناء استقبله د. جيمس جيلمان James Gillman كمريض في هايجيت بلندن، وكان كولردج في هذه الأثناء يتناول ما وزنه باينت Pint من اللودانيوم laudanum (مستحضر أفيوني) يوميا. وقد وصفته سوثي في نحو هذه الفترة بأنه كان كزوج هائلا كمنزل.
لقد أصبح مُنحنيا غير متماسك، وأصبح وجهه شاحبا منتفخا مترهلا وأصبح ينهج (قصير النَّفَس)، وأصبحت يداه واهنتين مرتعشتين لا يستطيع إلا بالكاد أن يرفع كوباً إلى شفتيه وكان له بعض الأصدقاء المحبين له مثل لامب Lamb ودي كوانسي De Quincey وكراب روبنسون Crabb Robinson لكنه قلما كان يرى زوجته وأولاده. وربما كان الطبيب الشاب قد سمع أن بايرون ووالتر سكوت Walter Scott قد اعتبرا هذا الإنجليزي
المكسور أعظم رجال الأدب الإنجليز. وعلى أية حال فقد كان من رأي هذا الطبيب أنه يمكن إنقاذ كولردج - فقط - بالمداومة على العناية الطبية به والإشراف عليه، فأخذه إلى بيته (أي بيت الطبيب) بموافقة زوجته (زوجة كولردج) وأطعمه واعتنى به وعالجه، وظل تحت إشرافه إلى أن مات.
لقد استعاد كولردج نشاطه العقلي بشكل مدهش، ودهش الطبيب لاتساع دائرة معارف مريضه وثراء أفكاره وألمعية حواراته ومناقشاته التي فتحت أبوابه لعدد كبير من الشباب وكبار السن اعتبروا هذا الملاك المحطم ذا تأثير كبير وذا فطنة، ولحديثه مذاق خاص رغم أنه قلما يلتزم الوضوح الكامل والنظام المنطقي الصارم. ولازالت متفرقات من هذه المناقشات المدونة في (الحوارت Table Talk) تبرق تألقا: كل إنسان ولد أرسطيا أو أفلاطونيا إما أن تكون لنا أرواح خالدة، أو لا تكون. فإن لم تكن لنا فنحن دواب، دواب من الدرجة الأولى أو دواب حكيمة أو أحكم الدواب ليس هذا مهما، المهم أننا بدون أرواح خالدة نكون دواباً (بهائم) حقيقية.
ولم يكن يرضيه أن يكون من بين أحكم الدواب. وكلما اقترب من الموت كان يبحث عن راحته وسلواه في أحضان الدين، كما لو كان يريد التأكيد من صفقته فقد اعتنق الدين (المسيحي) في أقصى درجات سلفيته (أرثوذكسية) المعروفة - ممثلة في كنيسة إنجلترا باعتبارها ركيزة الاستقرار والأخلاق في إنجلترا والتي لها الدوام للأبد.
وقد قدم في مقاله عن دستور الدولة وكنيستها الدستور والكنيسة باعتبارهما ثنائيا ضروريا لوحدة الأمة يحمي كل منهما الآخر. وقد عارض هو ووردزورث التحرر السياسي للكاثوليك البريطانيين على أساس أن قوة الباباوية ستعرض الدولة للخطر بازدياد تنازع الولاء بين الوطنية والدين.
وقد أخذ الجانب المحافظ حتى كبر سنه. ففي سنة 1818 أيد روبرت أوين والسير روبرت بيل Peel في معركتهما لفرض قيود على تشغيل الأطفال، لكنه في سنة 1831 عارض مرسوم الإصلاح Reform Bill الذي كان سيؤدي إلى كسر هيمنة
التوريين (حزب المحافظين) على البرلمان، وعارض إلغاء الرق في الهند وجزر الهند الغربية وكان هو من درس العلوم وأيد العلم - أكثر من غيره من الفلاسفة، ومع هذا فقد رفض فكرة التطور وفضل على حد تعبيره التاريخ كما أجده في الكتاب المقدس وفي النهاية استسلم ذكاؤه الرحب ورؤيته البعيدة المدى لآلام جسده وما اعترى إرادته من اعتلال، واعتراه خوف شديد من أي تغيير في السياسة أو العقيدة الدينية.
وكان يفتقد الصبر والدأب لتأليف عمل متكامل مترابط، ففي السيرة الأدبية Biographia Literaria (1817) أخبرنا عن عزمه على كتابه اللوجوسوفيا Logosophia كعمل كبير يلخص فيه العلم والفلسفة والدين ويربط بينها، لكن كل ما سمح له به بدنه وروحه هو خليط غير مترابط مشوش وغامض. لقد أصبح هذا هو حال العقل الذي وصفه (في وقت من الأوقات) دي كوينسي De Quincey بأنه أرحب عقل بشري وأكثر العقول دقة وفهما.
وفي يوليو سنة 1834 بدأ كولردج وداعه للحياة. إنني أموت، لكن دون أن أتوقع راحة سريعة
…
هوكر Hooker رغب العيش ليُنهي كتابه الحكومة الإكليريكية - كذلك أنا أرغب أن تمهلني الحياة ويكون لدي القوة لإكمال فلسفتي، لأنني - والله يسمعني - عزمت وصممت في قلبي على السمو باسمه الجليل كما أهدف - بعبارات أخرى - للرقي بالبشرية.
لكن المرء يريد والله يريد والله فعّال لما يريد، وما أراده الله كان وما لم يرده لم يكن ومات كولردج في 25 يوليو 1834 في الثانية والستين من عمره.
وصدم وردزورث لرحيل أفضل من عرفهم وقال لامب Lamb الصديق الصدوق لكليهما إن روحه العزيزة والعظيمة تلبَّستني.
14 - على الهامش
كان تشارلز لامب (1775 - 1834) واحداً من عدة أرواح قلقة ومؤثرة جعلتهم مؤلفاتهم أجدر بالتناول في فترة ما بعد سنة 1815، لكننا تناولناه في فترتنا هذه التي نتناولها الآن لأنه دخل بشكل حميم في حياة شعراء منطقة البحيرة. فقد كان لامب واحداً
من أقرب أصدقاء كولردج في لندن. لقد تعارفا كرفيقي دراسة في مدرسة مستشفى يسوع، وفي هذه المدرسة لم يتفوق لامب بسبب ما يعانيه من تلعثم شديد. وغادر المدرسة في الرابعة عشرة من عمره ليعول نفسه، وفي السابعة عشرة عين محاسبا في مؤسسة الهند الشرقية وظل في هذه الوظيفة حتى أحيل للتقاعد في الخمسين من عمره.
وشهدت حياته سلسلة من حالات الجنون فقد قضى هو نفسه ستة أسابيع في مصحة للأمراض العقلية (1795 - 1796)، وفي سنة 1796 قتلت أخته ماري آن Ann (1764 - 1847) - في نوبة جنون شديدة - أمها، وبسبب جنونها ظلت ماري محتجزة في مصحة الأمراض العقلية عدة فترات، لكن لأن لامب لم يكن يرغب في الزواج فقد جعلها تقيم معه حتى وفاته. وقد شفيت ماري من جنونها بدرجة كانت تكفي لتشاركه في كتابة "حكايات من شكسبير Tales from Shakespeare"(1807) . أما عمله الوحيد الذي أنجزه بمفرده فهو "مقالات إليا Essays of Elia"(1820 - 1825) وفيه تجلى أسلوبه العبقري ووقاره وفنه الذي أوحى بواحدة من أكثر الشخصيات المحببة في هذا العصر غير المفرط في تسامحه.
وفي سنة 1797 - وكان لا يزال متأثرا بالمآسي التي واجهها في العام السابق - قبل دعوة من كولردج لزيارته في نذر ستوي Nether Stowey . وكان لا يكاد يتكلم - بسبب تلعثمه - عندما يكون في مواجهة شاعرين (كولردج، ووردزورث) يباري كل منهما الآخر في جراءة اللسان. وبعد ذلك بخمس سنوات زار مع أخته عائلة كولردج في جريتا هول Greta Hall، وذكر لامب أنه تلقاهم بفيض من الكرم يفوق الوصف ورغم أنه هو نفسه ظل شكوكيا skeptic حتى آخر عمره إلا أنه لم يسمح أبداً لتجاوزات كولردج اللاهوتية أن تتغلغل إليه رغم تأثره به ورغم إعجابه الشديد به.
ويضم المتحف الفني للفنون The National Portrait Gallery (المفهوم أنه متحف مقتصر على رسوم الأشخاص) رسما مؤثرا ولطيفا للامب إلى جوار صديقه وليم هازلت William Hazlitt (1787 - 1830) الذي كان أبرع النقاد وأكثرهم حيوية في عصره. وقد زار هازلت كولردج سنة 1798. كما زاره مرة أخرى في جريتا هول في سنة 1803. وفي
المناسبة الثانية انضم إليهما وردزورث وهناك راح ثلاثتهم يتناقشون فيما إذا كان الله God موجودا. وكان وليم بالي Paley - كما رأينا - قد دافع مؤخرا عن وجوده بأدلة من التصميمات الهندسية والفنية، وقد رفض هازلت هذه الأدلة، أما وردزورث فاتخذ موقفا وسطا مؤكدا أن الله ليس موجودا خارج الكون، يوجّهه من مكان قصي وإنما هو كامن فيه إنّه حياة الكون وعقله. وفي هذه الزيارة أثار هازلت غضب الجيران باغتصابه تلميذة، وخوفا من القبض عليه أو حدوث ما هو أسوأ هرب إلى جراسمير حيث آواه وردزورث هناك طوال ليلة، وفي الصباح قدم له مبلغا من المال ليسافر إلى لندن.
وعندما عاد كولردج ووردزورث وهاجما الثورة وأدانا نابليون في قصيدة هجاء شديدة اعتبرهما هازلت متراجعين عن أفكار آمنا بها يوماً، وكتب أربعة مجلدات عن (حياة نابليون بونابرت 1828 - 1830) مدافعا عن وجهات نظر نابليون. وفي هذه الأثناء كان معروفا كناقد من خلال محاضراته (1820) عن الدراما في العصر الإليزابيثي وكتابه عن (روح العصر - 1825) ولم يكن وردزورث سعيدا بهجومه على مدرسة البساطة في الأدب أو على حد تعبير وردزورث Peasant school.
لقد أحب الشاعر العجوز أكثر توماس دي كونسي Thomas De Quincey (1785 - 1859) الذي كان يبدي إعجابه به بشكل مستمر. لقد كان توماس عبقريا فيما يرى لأنه نبَّه بريطانيا في سنة 1821 بمؤلفه " Confessions of an English Opium Eater" أي (اعترافات إنجليزي يتعاطي الأفيون).
لقد كانت بدايته كولد معجزة يتحدث اليونانية الكلاسيكية بطلاقة وهو في الخامسة عشرة من عمره، وأنهى الدراسة في المدرسة بسرعة وانتقل إلى أكسفورد حيث كانت خطاه أسرع من خطى أقرانه (المقصود أنه كان أكثر تفوقا) ولابد أنه اندهش مبتهجاً بالبساطة الخلابة التي صيغت بها الأشعار الغنائية Lyrical Ballads وفي مايو سنة 1803 كتب إلى وردزورث خطابا ربما أدار رأس الشاعر المتفرد.
ليس هناك ما يغريني بصداقتك أكثر - فيما أظن - مما يغري كل من قرأ Lyrical Ballads وأحس بها كما أحس. إن محصلة البهجة التي أحسست بها من ثماني قصائد أو تسع استطعت الحصول عليها جعلت العالم يبدو مقصراً تقصيراً لا حد له عن إدراك ما
يعنيه هذان المجلدان الفاتنان - إن اسمك سيرتبط معي إلى الأبد بمشاهد الطبيعة الجميلة
…
أي زعم يمكنني من ادعاء القدرة على مرافقة جماعة فيها مثلك تشع عبقرية وسناء فائقين؟.
وأضاف أن وردزورث "لن يجد أبداً أحدا أكثر استعدادا .. للتضحية حتى بحياته (مثله) لتحقيق مصالحك وسعادتك" وكان رد وردزورث ينطوي على توجيهات رقيقة، فقد كتب له:
"إنني لا أقدر على منح صداقتي (لأحد) فهذا ليس في يدي. إنها هبة لا يستطيع الإنسان تقديمها
…
فالصداقة الصحيحة والحقة تتكون بمرور الوقت وتحكمها الظروف. إنها ستزهو كالزهور البرية إن كانت الظروف حولها ملائمة، فإن لم يحدث هذا فعبثا البحث عنها".
وحاول أن يثني الشاب عن مراسلته بشكل منتظم فقال له "إنني أكثر الناس كسلاً في هذا العالم وأكثرهم عزوفاً عن كتابة الخطابات" لكنه أضاف قائلا: "وسأكون سعيداً جدا حقا أن أراك في جراسمير".
ورغم حرارة دي كوانسي De Quincy ورغبته في لقاء وردزورث، فإنه لم يقبل الدعوة إلا بعد ثلاث سنوات، وعندما أصبح منزل وردزورث على مرأىً منه فقد الشجاعة وكأنما هو حاج واهن يقترب من روما، فرجع ولم يواصل رحلته للقاء وردزورث، ولكن في سنة 1807 وفي بريستول قبل كولردج دعوته لمرافقة زوجته (زوجة كولردج) وأولاده إلى كزويك Keswick، وفي الطريق توقف معه عند منزل وردزورث، والآن، وأخيرا رأى دي كوانسي، الشاعر وردزورث رأي العين، كما كان على بروننج Browning أن يرى شيلي Shelley. قال دي كوانسي: رأيته كومضة نور. إنه رجل أقرب إلى الطول. مد يده وحياني مرحبا ترحيبا ودوداً جداً.
15 - سوثي
SOUTHEY: 1803 - 1843
وفي هذه الأثناء - في كل من جريتا هول ولندن - كان سوثي يعول زوجته إديث Edith وبناته الخمس (ولدن في الفترة من 1804 و 1812) وابنه - الذي أحبه حبا يفوق الوصف، والذي وافته منيته سنة 1816 وهو في العاشرة من عمره. كان سوثي ينفق على كل هؤلاء من
حصاد كتاباته المتقنة - لكنها غير ملهمة. وبعد انتقال كولردج إلى مالطة تولى سوثي رعاية أولاده (أي أولاد كولردج) وزوجته. وحتى وردزورث كان أحيانا يعتمد عليه: فعندما فقد أخو وليم في البحر (1805) اضطربت الأسرة في جراسمير. فأرسل وردزورث خطابا إلى سوثي متوسلا إليه أن يأتي ويساعده لبث الطمأنينة في دوروثي وماري. واستجاب سوثي، وكان رحيما رفيقا جدا: إذ كبت دوروثي: " لقد كان ودودا حتى إنني أحببته في وقت من الأوقات. لقد بكى معنا وأبدى حزنه لحزننا، لذا أظن أنني لا بد أن أحبه دائما".
وعبثا حاولوا إثناءه عن التسرع في الكتابة. فكتب ملحمة شعرية في إثر ملحمة، لاقت جميعا الفشل، فكرس نفسه للنثر فكانت النتائج أفضل، ونشر في سنة 1807 (خطابات من إنجلترا لدون مانويل ألفاريز إسبريلا Letters from England by Don Manuel Alvarez Esprlella) ووضع على لسان هذا الإسباني المتخيل شجباً عنيفا لتشغيل الأطفال والأحوال الأخرى السائدة في المصانع البريطانية:
إنني أجد الجرأة الكافية لأتساءل عن أحوال هؤلاء البشر الذين يعملون في ظل هذه الأحوال الرهيبة، وأجد
…
أنه نتيجة جمع مثل هذه الأعداد من الجنسين بشكل يتنافى تماما مع مبادئ الدين والأخلاق، لابد أن يكون هناك تهتك وخلاعة وفساد، ورجال سكيرون ونساء منحلات، ومهما كانت الأجور التي يحصلون عليها مرتفعة، فإن قصر نظرهم سرعان ما يجعلهم في حالة عوز. وإن على المحافظات (الدوائر) التي هي غير قادرة على حمايتهم كأطفال، أن تقدم لهم العون في حالة المرض الناتج عن أسلوب حياتهم، وفي حالة العجز والشيخوخة وكان ما انتهى إليه هذا الأرستقراطي فيما يتعلق بالاقتصاد البريطاني هو أنه في التجارة - ربما أكثر مما في الحرب - يعتبر البشر والدواب - في الأساس - مجرد آلات، ويتم التضحية بهم دون أي وخز من ضمير.
وسرعان ما أدرك سوثي أنه لن يستطيع العيش من حصاد كتاباته فقد وجد نفسه عاجزا عن إعالة من يعولهم خاصة زمن الحرب، إلا إذا تبنى اتجاها أكثر محافظة، وتم هذا التغير بسهولة بسبب إعانة حكومية قوامها 160 جنيهاً في السنة (1807) وبسبب دعوة للمساهمة بتقديم مقالات بشكل منتظم لمجلة حزب المحافظين (التوري) ربع السنوية Tory
Quarterly Review. وفي سنة 1813 رفع من شأن نفسه كمؤلف وكوطني بإصداره كتابا عن حياة نيلسون Life of Nelson فكان كتابا واضحا وحيويا يتضح فيه أثر البحث الجاد، وكتبه بأسلوب القرن الثامن عشر، بسيطا واضحا وسهلا يحمل القارئ رغم انحياز المؤلف الطبيعي للتعاطف مع نيلسون بطلاً ومع بريطانيا وطنا. أما عن افتتان نيلسون بإمّا هاملتون Emma Hamilton فلم يتناوله المؤلف سوى في فقرة واحدة.
وقد حزن بايرون وشيلي وهازلت Hazlitt عندما بدأ سوثي يحط من شأن الشعر بقبوله جائزة إنجلترا Laureateship of England. وكان شأن هذه الجائزة قد انحط عندما قدمها بت Pitt في سنة 1790 لهنري بي Pye قاضي السلام الغامض. وعند موت بي Pye (1813) عرضت الحكومة المنصب على والتر سكوت Scott فرفضه وأوصى به لسوثي وقبل سوثي فكوفئ بزيادة معاشه السنوي إلى ثلاثمائة جنيه وعلق وردزورث الذي كان يجب أن يحصل على هذا التعيين بلطف قائلا: إن لدى سوثي عالما صغيرا يقوم على أكتافه.
أما بايرون الذي أدان سوثي أخيرا بكلمات هي وسط بين التجريح والعفو فقد راح يتحدث عنه بشكل طيب بعد لقائه في دار هولندا Holland House في سبتمبر 1813: "إنه أفضل من رأيت من الشعراء منظرا" وذكر لتوماس مور Moore: " إنه رجل ذو موهبة .. لطيف المعشر .. نثره يتسم بالكمال" لكن حرص سوثي على إرضاء ذوي المال والسلطة جعل بايرون يشن عليه حربا علنية في سنة 1818، وتمت القطيعة الكاملة مع الجميع عندما استطاعت مجموعة من هؤلاء الثوار الحصول على مخطوطة مسرحية (وات تيلور Wat Tyler) وهي دراما راديكالية كان سوثي قد كتبها في سنة 1794 وتركها مخطوطة لم يطبعها وقاموا بنشرها - سعداء بما فعلوا - في سنة 1817.
وعاد سوثي إلى جريتا هول ومكتبته وزوجته التي كانت قد اقتربت من الجنون أكثر من مرة، وفي سنة 1834 فقدت عقلها تماماً وماتت في سنة 1837. أما سوثي نفسه فقد تخلى عن معركته مع المناوئين له في سنة 1834، ومن ثم جعل وردزورث أميرا للشعراء رغم معارضته هو نفسه (أي وردزورث) وقد حظي هذا التعيين بموافقة عالمية.
16 - آخر ما قاله وردزورث:
1815 - 1850
WORDSWORTH EPILOGUE
الشعر للشباب، وقد عاش وردزورث ثمانين عاما ومات كشاعر في نحو سنة 1807 وعندما كان عمره 37 سنة ألف أنثى الظبي البيضاء في ريلستون The White Doe of Rylstone. وفي هذا الوقت كان والتر سكوت قد نشر أنشودة آخر المغنين The Lay of the Last Minstrel (1805) ، وقد أثارت حسد وردزورث لأسلوبها المزهر فاستخدم الوزن نفسه لكتابة أنشودة من تأليفه - قصيدة قصصية غنائية عن الحروب الدينية في شمال إنجلترا في السنة الثانية عشرة من حكم إليزابيث الأولى.
إن أسرة كاملة تقريبا - أب وثمانية أبناء - قد هلكت في معركة واحدة. إميلى Emily - الأخت التي ظلت على قيد الحياة - قضت ما تبقى لها من الحياة في حالة حداد، وكانت أنثى الظبي البيضاء تأتيها كل يوم لتعزيها وكانت تصطحبها كل سبت لزيارة قبر أخيها الصغير في ساحة كنيسة بولتون Bolton وعندما ماتت إميلى ظلت أنثى الظبي البيضاء تقوم بهذه الرحلة الأسبوعية وحدها من رايلستون إلى بولتون وتظل إلى جوار القبر حتى تنتهي صلوات السبت Sabbath في الكنيسة ثم تعود بهدوء قاطعة الغابات والمجاري المائية إلى مأواها في رايلستون. إنها حكاية جميلة حكاها بطريقة جميلة ورائعة ومؤثرة.
وكان هذا العمل هو آخر انتصار أدبي لوردزورث، بصرف النظر عن بعض السونيتات Sonnets (السونيتة قصيدة تتألف من أربعة عشر بيتا) التي عبر فيها عن مشاعره بأقل قدر من الإثارة - وفيما عدا ذلك - لم يقدم للشعر جديدا آخر. وبعد أن بلغ الخمسين بدا حكيما، طويلا، رزينا متدثرا بعباءة تقيه البرد الشديد وأصبح شعره مهوشا ورأسه مطأطأ وعيناه غائرتين مغرقتين في التأمل كما لو كان بعد أن رأى شيلي وبايرون ينتقلان من الطفولة إلى الانجذاب الصوفي إلى الموت - راح ينتظر الآن - بهدوء - دوره راضيا أن ترك من الآثار الأدبية ما هو أكثر خلودا من المدن المثالية (اليوتوبيات) أو الأشعار الساخرة.
لقد كان في فضائله نقص فقد تحدث عن ذاته كثيرا. لقد كتب هازلت إن ميلتون هو وثنه الأكبر أو بتعبير آخر هو إلهه الزائف، وكان أحيانا يجد الجرأة لمقارنة نفسه به
وقد قبل المديح كأمر لا يمكن تجنبه وكان يكره النقد ويعتبره جحودا، وكان يحب إنشاد شعره وقد لاحظ ذلك - بخبث - إمرسون Emerson الذي زاره في سنة 1833، لكنه كان قد قال في مقدمة سنة 1815:
"إن قصائده قد ألفت لتقرأ بصوت عال والحقيقة أنها كانت قصائد تحوي من الموسيقى قدرا يساوي ما تحويه من معان، والقصيدة في حاجة إلى قيثارة".
وبطبيعة الحال كان اتجاهه المحافظ يزداد كلما تقدم به السن. إنها ميزة التقدم في السن، وربما كان واجب الأعوام أن تجعل المرء محافظا. وإذا كان بايرون وشيلى لم يعترفا بهذا فربما لأنهما ماتا وهما لا يزالان في حالة جنون الشباب. لقد أدى تدهور الثورة الفرنسية من الدستور إلى الفوضى إلى تحفظ وردزورث إلى حد ما، كما أن وحشية الثورة الصناعية بدت على نحو ما مرضية لمشاعره؛ ذلك أن شيئا لطيفا ومفيدا قد لحق بإنجلترا بإحلال عمال المصانع محل الحرس الوطني المكون من فرسان غلاظ شداد من طبقة صغار مالكي الأرض، ذلك الحرس الذي أنشئ سنة 1761.
وفي سنة 1805 أصبح - عن طريق الشراء أو تلقي الهبات - مالكا لعدة عقارات متواضعة، وكان كمالك للأرض مستعدا للتعاطف مع فكرة (الرّيع) أو (عوائد الأرض) كأساس للنظام الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. وقد عارض الحركة الإصلاحية كخطة تبناها أصحاب المصانع لخفض أسعار الغلال، وبالتالي أجور العمال بإبطال (قوانين الغلال Corn Laws) وكذلك الرسوم الجمركية العالية التي تفوق استيراد الغلال من الخارج.
وقد أصبح وردزورث الذي كان طوال سنوات عديدة معجبا بأفكار جودوين - أصبح الآن يرفض دعوة جودوين للفردية (الحرية الفردية Free individualism) على أساس أن الأفراد لا يمكنهم العيش إلا من خلال وحدة اجتماعية (إلا من خلال جماعة) لا يمكنها الاستمرار إلا من خلال الاحترام العام للتقاليد والملكية والقانون. وبعد سنة 1815 أيد الحكومة في كل إجراءاتها القمعية، ووصف بأنه ارتد عن مبدأ الحرية. وتمسك بموقفه ولخص تشخيصه لحال العصر قائلا:
"العالم يجري بجنون معتقدا أن شفاءه من شروره لا يكون إلا بالتغيرات السياسية والعلاجات السياسية والحلول السياسية، بينما الشرور العظمى - وهي الحضارة والرق والبؤس - تكمن عميقة في قلوب البشر ولا علاج لها إلا بالتمسك بالفضيلة
وأهداب الدين".
وعلى هذا فقد دعا الشعب الإنجليزي مناشدا لدعم الكنيسة الإنجليزية وكتب (1821) مقطوعات شعرية دينية بلغت سبعا وأربعين مقطوعة " Ecclesiastical Sonnets"(سونيتات) تناول فيها جانبا من جوانب التاريخ الإنجليزي، نقلنا فيها إلى أبطال إنجليز لم يعد أحد يذكرهم، وأثار في قرائه الدهشة. على وفق ما قاله هنري كراب روبنسون، فإن وردزورث قال "إنه سيبذل دمه عند الضرورة للدفاع عن الكنيسة القائمة"(الإنجليزية) ولم يهتم بالضحكات الصاخبة التي ضحكها الآخرون ذاكرين أنه سبق أن اعترف أنه لا يدري متى كان تابعا لكنيسة في بلاده.
ونحن لا نعرف أنه بحث عن سلواه في أحضان الدين عندما بدأ عالم الحب حوله ينهار. في سنة 1829 عانت دوروثي من حصاة في الكلى مما أدى إلى ضعف صحتها وانهيار روحها المعنوية باستمرار. وتعرض جهازها العصبي للتلف، وبعد سنة 1835 لم تعد تستطيع تحريك ساقها، ولم تعد تتذكر إلا الأحداث البعيدة التي مضى عليها زمن طويل، وقصائد أخيها التي كانت - لا تزال - تستطيع إنشادها. وظلت قعيدة طوال العشرين سنة التالية بلا معين وأطبق عليها الجنون، وكانت تجلس صامتة على مقعد قرب المدفأة منتظرة الموت صابرة. وفي سنة 1835 ماتت ساره هتشنسون، وتُرِك وردزورث مع زوجته ماري للعناية بأخته وأولاده. وفي سنة 1837 كان لديه الجلد الكافي للقيام بجولة طوال ستة أشهر في فرنسا وإيطاليا مع روبنسون ذي الشخصية المؤثرة.
وتوفي في 23 أبريل 1850 ودفن بين من مات من جيرانه في باحة كنيسة جراسمير. وعاشت دوروثي (أخته) بعد موته خمس سنوات صابرة تعينها ماري التي أصبحت الآن شبه عمياء. وماتت ماري سنة 1859 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، وبعد عمر طويل أدت فيه واجباتها بإخلاص. ولا بد أن وردزورث كان يتحلى بصفات أعظم من كونه شاعرا كبيرا لأنه احتفظ بحب امرأتين - من هذا النوع - أخلصتا له دوما. - ومثلهما في ملايين البيوت - لا بد من تذكرهما كلمحة من ملامح صورة إنجلترا.
الفصل الثاني والعشرون
الشُّعراء الثوريّون
من 1788 إلى 1824 م
1 - قافلة فقدت بريقها:
1066 - 1809 م
كي نفهم بايرون لابد أن نُعرّف ببعض التفاصيل تاريخ أجداده وطبيعتهم الذين تجري دماؤهم - كالحمّى المتقطعة - في عروقه. إن بعضاً من هذه الدماء - كاسمه - قد تعود إلى فرنسا، فالتاريخ يذكر لنا عديداً من آل بيرون Birons في فرنسا، وقد ذكر بايرون نفسه متفاخراً في (دون جوان)(النشيد 10 / البيت 63) أحد جدوده - ردولفس دي بورو Radulfus de Burun الذي قدم إلى إنجلترا في ركاب وليم الفاتح. وفي القرن الثاني عشر أصبح آل بورو Buruns هم آل بايرون Byron (أي تغير نطق الاسم ليتماشى مع طبيعة اللغة الإنجليزية أو الأسماء الإنجليزية)،
وعمل السير جون بايرون في خدمة هنري الثامن بإخلاص حتى أن الملك عندما حل الأديرة نقل إليه نظير مبلغ ضئيل ملكية دير (أسس في نحو 1170) والأراضي التابعة له، ودير راهبات نيوستيد Newstede .. في زمام نوتنجهام Nottingham ولعب آل بايرون بعد ذلك أدوارا صغرى في التاريخ الإنجليزي وأيدوا أسرة ستيوارت المالكة وتبعوا تشارلز الثاني في المنفى وصادرت الحكومة منهم مبنى دير نيوستيد، واستعادوه بعد عودة الملك للعرش وخدم وليم عم والد الشاعر- لورد بايرون الخامس (1722 - 1798) في البحرية، وكان وسيما طائشا وأطلق عليه اسم اللورد الشقي أو اللورد الشرير إذ عاش حياة الخلاعة في مبنى الدير السابق ذكره وأتلف كثيرا من ثروته وقتل قريبه وليم شورث Chaworth في مبارزه مرتجلة (لم يُعد لها) في غرفة مظلمة بأحد الفنادق، فتم إرساله إلى القلعة بتهمة القتل وحاكمه مجلس اللوردات (1765) الذي قرر أنه ليس مذنبا كقاتل عمدا وإنما هو مذنب بالقتل غير العمد فعاد إلى مبنى الدير وعاش في عزلة كئيبة حتى وافته منيته.
وقد أصبح أخوه جون بايرون (1723 - 1786) ضابط صف بحري وتعرض لجنوح سفينته ونشر سرداً قصصيا عن جنوح السفينة استقى منه حفيده مشاهد حية في (دون جوان). وقد دار جون - كقبطان للسفينة دولفين - حول الكرة الأرضية. وأخيرا عاد لموطنه في غرب إنجلترا وعرف باسم (الملاح العاشق) لأنه كان يحتفظ بزوجة أو خليلة في كل ميناء.
وكان ابنه الأكبر الكابتن جون بايرون (1756 - 1791) وهو والد شاعرنا الذي نتناوله الآن. قد مارس كثيرا من الأعمال الشريرة في سنوات عمره البالغة خمسا وثلاثين سنة حتى عُرف بجاك المجنون. وبعد أن خدم في المستعمرات الأمريكية قضى بعض الوقت في لندن وجعل خليلاته يدفعن ديونه. وفي سنة 1778 فرَّ مع مركيزة كارمارثن Carmarthen فطلقها زوجها المركيز، وتزوجها القبطان بايرون ونعم بثروتها وأنجبت له ثلاثة أبناء كان منهم أوجستا لاي Augusta Leigh الأخت غير الشقيقة لشاعرنا، وأحيانا خليلته.
وفي سنة 1784 ماتت لادي كارمارثن. وبعد ذلك بعام تزوج الأرمل الأنيق من فتاة اسكتلندية في العشرين من عمرها ولها دخل يبلغ 23،000 جنيه إسترليني - إنها كاترين جوردون الجيتية Catherine Gordon of Gight، وكانت متكبرة جدا وتعود شجرة نسبها إلى ملك اسكتلندا جيمس الأول. وعندما حملت بشاعرنا أورثته التميز والقلق: فرنسي الأصل، عاصف الشخصية أو بتعبير آخر ذو طبيعة عاصفة ميال للنهب والقتل والعداوة، وكانت الأم نفسها مزيجا من الحب العنيف والكراهية. لقد أنفقت على زوجها الذي بدد ثروتها ثم هجرها ثم على ابنها الوحيد الذي غمرته بعواطفها فأصبح لفرط الدلال كالطفل الكسيح. قال شيلد هارولد Childe Harold (أي بايرون):"لا بُد أن يعرف المرء الثمرة التي تثمرها شجرة هذه بذورها".
ولد جورج جوردون بايرون في لندن في 22 يناير 1788، ولحق بقدمه اليمنى تشوّه عند الولادة بسبب ليّة للداخل مع رفع الكعب لأعلى، وكان يمكن معالجة هذا الخلل بتدليك يدوي يوميا لكن الأم لم يكن لديها صبر ولا طاقة على هذا بالإضافة إلى أن هذا قد يبدو للطفل قسوة مقصودة كما أن الأطباء لم يكونوا ميالين لنصيحتها لهذا العمل العلاجي وفي سن الثامنة، تحسنت القدم المصابة كثيرا حتى أصبح الصبي يستطيع لبس الحذاء المعتاد
فوق حذاء داخلي مصمم لموازنة الاعوجاج والتقليل من أثره. وفي الحياة العامة، وفي أثناء ممارسة الألعاب الرياضية اتسم بالرشاقة رغم عرجته لكنه لم يكن يستطيع عبور قاعة الاستقبال دون أن يحس بألم وفي شبابه كان يغضب بشدة عند أي إشارة لعاهته. وقد ساعد هذا على جعله حساسا، وربما حثه هذا على تحقيق انتصارات في مجال السباحة والتودد للنساء والشعر، فربما يصرف هذا النظر عن إعاقته.
وفي سنة 1789 انتقلت الأم مع ابنها إلى أبردين Aberdeen، وبعد ذلك بعام هرب زوجها إلى فرنسا حيث مات في سنة 1791 معدما فاجرا. ولم يكن قد ترك إلا قليلا من ثروة زوجته التي بذلت قصارى جهدها لتعليمه تعليما يليق بلورد. وكانت تصفه أوصافاً تنم عن حبها الشديد له عندما كان في السادسة من عمره "إنه ولد لطيف يمشي ويجري كأي ولد آخر" وفي السابعة دخل مدرسة أبردين الإعدادية حيث تلقى أساسا طيبا في اللغة اللاتينية وعن طريق مزيد من التعليم وكثير من الأسفار في اليونان وآسيا الصغرى وإيطاليا أصبح عاشقا للآداب اللاتينية واليونانية لدرجة أن الدارسين للآداب الكلاسيكية هم وحدهم الذين يمكنهم فهم الاقتباسات والإشارات التاريخية التي بثها في عمله (دون جوان Don Juan) . لقد أحب بايرون التاريخ - مبرّأ من الوطنية والميثولوجيا mythology - كحقيقة - لا حقيقة سواها - عن الإنسان - أما شيلي Shelley فقد أنكره وكان لا يرتاح للتاريخ.
وفي سنة 1798 مات عم والده اللورد الشقي أو الشرير السابق ذكره في نيوستيد تاركا لقب البارون لابنه البالغ من العمر عشرة أعوام، ومبنى الدير و 3،200 أكر (فدان إنجليزي) وديونه (أي ديون اللورد الشقي)، وكان هذا لا يكفي إلا لتمكين الأرملة من الانتقال من أبردين إلى مبنى الدير لتعيش هناك مستمتعة بمزايا الطبقة الوسطى. لقد أرسلت الصبي إلى مدرسة في دلوش Dulwich، وفي سنة 1801 أرسلته إلى مدرسة ثانوية داخلية مشهورة في هارو Harrow على بعد أحد عشر ميلا من لندن. وفيها بَشِم العبادات المملة التي كان يفرضها الطلاب الأكابر سنا على الطلاب الأصغر سنا، وعندما أصبح هو نفسه كرجل من الطبقة العليا - يتحتم عليه القيام بهذه العبادات، أداها بحماس.
وكان طالبا قلقا يكره النظام ويحب التهريج ويهمل الواجبات المدرسية لكنه قرأ كثيرا من الكتب
غالبها جيد، بل وقرأ بيكون ولوك Locke وهيوم Hume وبيركيلي Berkeley. وكان من الواضح أنه فقد عقيدته الدينية لأن أحد رفاق دراسته وصفه بأنه ملحد ملعون. وفي السابعة عشرة من عمره التحق بكلية التثليث Trinity College في كامبردج، وهناك أقام في جناح مكلف به خدم وكلب كما اتخذ له رفيقاً غير متزن يشاركه السكن وتعامل مع العاهرات والأطباء وكان بين الحين والحين يبحث عن خدمات متميزة في لندن. وفي إجازة قضاها في بريتون Brighton (1808) كان معه فتاة متنكرة في شكل صبي، لكنه طور في كامبردج ما أسماه حبا شديدا وعاطفة قوية - رغم نقائها though Pure لشاب وسيم.
وقد أقام صداقات دائمة بسبب مرحه وحيويته وكرمه، وكان أفضل هذه الصداقات هي صداقته مع جون كام هوبهوس John Cam Hobhouse الذي كان يسبقه في الدراسة بعامين إلا أنه ساهم في ضبط حياة بايرون غير المنضبطة في بعض الأحيان. فقد كان الشاعر الشاب (بايرون) يبدو على وشك تدمير نفسه بتحرره (المقصود عدم انضباطه الخلقي) فلم يكن ذكاؤه بقادر على أن يحل محل المحاذير الدينية التي لم يعد يأخذ بها.
وفي يونيو سنة 1807 - وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره. ونشر ديوان ساعات من الكسل بقلم جورج جوردون ولورد بايرون، الصغير. وذهب إلى لندن لترتيب أن يحظى ديوانه بتعليقات طيبة وقد حيته دورية مستخلصات ادنبره (عدد يناير 1808) بتعليقات ساخرة. لقد سخرت من العنوان كعنوان يليق بالنثر لا بالشعر، وانتقدت المؤلف واعتبرت ذكر اسمه مقرونا بغيره هو نوع من الاعتذار، فلم لا ينتظر هذا اللورد المراهق الوقت المناسب للنشر عندما يصبح أكثر نضجا.
وبلغ الحادية والعشرين من عمره في 22 يناير 1809، ودفع ديونه الملحة وانغمس في المقامرة وشغل مقعده في مجلس اللوردات وعانى كثيرا بسبب الصمت الذي ينصح به العضو الجديد (المبتدئ) لكن بعد ثلاثة أيام شن هجوما على ناقدي كتابه في دورية (English Bards & Scotch Reviewers) لقد شن هجوما حادا وحيويا وكأنما هو يحاكي - بل ويضارع - بيانات البابا. لقد سخر من الحركة الرومانسية الوجدانية (التي أصبح بعد ذلك رائدها) ودعا للعودة إلى الروح الرجولية والأسلوب الكلاسيكي اللذين سادا في عصر أوغسطس Augustan Age:
- سوف تؤمن بميلتون ودريدن والبابا Milton، Dryden، Pope،
- ولن تُعلي من شأن وردزورث وكلردج وسوثي،
…
Wordsworth، Coleridge، Southey .
- إننا نعلم من هوراس Horace إن "هوميروس Homer ينام أحياناً"،
- ونشعر بدونه أن وردزورث أحيانا يستيقظ
(يظل يقظان - والمقصود أنه نائم عادة).
وبعد أن حصل بايرون على درجة الماجستير في كمبردج صادق الملاكمين وتعلم تحاشي الضربات وأخذ دورة عملية أخرى في حياة الليل في لندن، وأبحر في 2 يوليو 1809 مع هوبهوس إلى لشبونة وتطلع للشرق.
2 - الرحلة الكبرى:
بايرون 1809 - 1811 م
لم تكن رحلة - من الناحية التقليدية - هائلة: فقد كانت إنجلترا في حالة حرب، وكان نابليون يحكم فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وإيطاليا، لذا فقد قضى بايرون معظم العامين اللذين استغرقتهما رحلته في ألبانيا واليونان وتركيا، وقد تركت هذه الرحلة أثرا مهما في سياساته وفي وجهات نظره عن النساء والزواج بل وأثرت في موته. لقد خلف ديونا مقدارها 13،000 جنيه إسترليني وراءه (المقصود قبل أن يبدأ رحلته) واصطحب معه أربعة من الخدم. لقد وجد لشبونة فقيرة مسلوبة القوة ولم تكن حرب شبه الجزيرة الأيبيرية مبررا كافيا لهذه الحال، وبدا كل الناس عدوانيين فكان بايرون يحمل مسدسيه أينما ذهب.
وانتقل ركبه على ظهور الخيل إلى أشبيلية وقادش Cadiz ومنها - على ظهر فرقاطة بريطانية - إلى جبل طارق (وهناك أعفى كل خدمه ما عدا خادمه الخصوصي متولي أمور ملابسه وليم فلتشر) ومن جبل طارق اتجه إلى مالطة حيث أحب السيدة سبنسر سميث (1 - 18 سبتمبر 1809)، وتصرف بشكل مناف للذوق حتى إن القبطان البريطاني علق على تهوره وعدم كياسته. فتحداه بايرون مع تلميح ادعائي سخيف
"طالما أن السفينة التي عليّ أن أركبها لا بد أن تبحر على أول تغير في اتجاه الريح، فإن الإبحار في الساعة السادسة غدا هو الوقت المناسب تماما، فهذا أدعى لترتيب أشغالنا بشكل أفضل وأسرع"
واعتذر القبطان عن عدم تنفيذ ذلك.
وفي 19 سبتمبر غادر بايرون وهوبهوس على السفينة سبيدر Spider
(الكلمة تعني العنكبوت أو المقلاة) وبعد أن ظلت مبحرة طوال أسبوع وصلت إلى باتراس Patras. فنزلا إلى الشاطئ فورا لمجرد وضع أقدامهما على تربة اليونان، لكن في الليلة نفسها عاودا ركوب السفينة (سبيدر) وأبحرت السفينة متجاوزة ميسولونجي Missolonghi وبينيلوب الملحقة بإيثاكا Penelope's Ithaca نزلا إلى الشاطئ في بريفيرا Preveza بالقرب من أكتيوم Actium التي شهدت معركة تحدد فيها مصير أنطونيو وكليوباترا. ومن هنا اتجها شمالا على ظهور الخيل خلال إبيروس Epirus ودخل ألبانيا التي كان التركي المرعب علي باشا يحكم من عاصمتها - بالسيف والأوامر - كل ألبانيا وإبيروس، وقد رحب ببايرون ترحيبا يليق بلورد بريطاني لأنه (كما قال للشاعر) عرف أنه ذو أصل نبيل لصغر يديه وأذنيه.
وفي 23 أكتوبر عاد بايرون ورفاقه. وفي 27 من الشهر نفسه وصلا إلى يانينا Janina عاصمة إبيروس. وهناك بدأ يسجل انطباعاته عن الرحلة في (Childe Harold Pilgrimage) على شكل سيرة ذاتية. وفي 3 نوفمبر ارتحلت المجموعة جنوبا حتى ما يعرف اليوم باسم إيتوليا Aetolia في حماية حرس الباشا من المرتزقة الألبانيين، وكان كل واحد من هذا الحرس بارعاً في القتل والسرقة. وقد أحبوا سيدهم الجديد (المقصود لورد بايرون) وكان أحد أسباب ذلك أنه بدا لهم غير هياّب من الموت. وعندما أصابت الحمى بايرون هددوا الطبيب بالقتل إذا مات مريضه، ففر الطبيب وشفي بايرون.
وفي 12 نوفمبر استقلت المجموعة سفينة نقلتهم من ميسولونجي إلى باتراس Patras وتقدموا يصاحبهم حرس جديد على ظهور الخيول في البلوبونيز وأتيكا Attica (في اليونان الحالية) ورأوا دلفي Delphi وثيبز Thebes ودخلوا أثينا في يوم الكريسماس 1809. وكان لابد أن يمر على الرحالتين يوم حافل بالأفراح والأحزان معا. عظمة الآثار القديمة، والدمار الذي لحق بالبلاد حديثا، وعدم الترحيب الشديد بالحكم التركي، فاليونانيون كانوا يوما شعبا فخورا معتزا بنفسه وأصبحوا الآن وقد نزلوا من علياء مجدهم السياسي والفكري ورضوا بحكم الأيام. لقد كان هذا مدعاة لتسلية هوبهوس لكنه أحزن بايرون الذي تجسدت فيه روح الاستقلال، والفخر بالعرق.
وعلى أية حال فقد كانت نساء اليونان جميلات، عيونهم سوداء مثيرات، خضوعهن (استسلامهن) لطيف. وقد سكن بايرون وهوبهوس عند الأرملة ماكرى Macri التي تولت خدمتهما، وكان لديها ثلاث بنات كلهن دون الخامسة عشرة. الفاسقة الصغيرة تعلمت أن تحسّ إزاءهم بعاطفة أبهجتهما وذكرتهما بحبهما أيام براءتهما الأولى. إنها تريزا البالغة من العمر اثنتي عشرة سنة وهي التي علّمته التحية الشجية:
"يا حياة حياتي، أنا أحبك" Zoe mou sas agapo
وقد كتب أغنيته الشهيرة مستوحيا أفكارها من هذه الكلمات:
يا عذراء أثينا، هل سنفترق!
أعيدي إليّ قلبي!
وفي 19 يناير 1810 انطلق بايرون وهوبهوس مع خادم ودليل ورجلين للعناية بالخيول لزيارة واحد من أكثر المشاهد إلهاما في اليونان، واستغرق انتقالهم راكبين أربعة أيام لكن الغاية تبرر الوسيلة: لقد أصبحوا على مرأى الأعمدة الباقية من معبد بوسيدون (النص temple to Poseidon) في الماضي البطولي على قُمةَّ جبل سونيوم (Sunium Promontorium) Cape Colonna لتخبر البحارة أنهم وصلوا بلاد الإغريق. ومما يذكر أن مشاهد هذا الكمال القدسي المتناثرة ومنظر بحر إيجة الذي يبدو على البعد هادئا ناعما، كل ذلك أوحى للشاعر بتأليف قصيدته (جزر اليونان) التي أدرجها أخيرا في النشيد الثالث في عمله (دون جوان). ومن سونيوم تستغرق المسافة إلى الماراثون ثلاثة أيام فقط على ظهور الخيل، وفي الماراثون Marathon تحركت قريحة الشاعر بالأبيات المشهورة التالية:
- الجبال تُطل على الماراثون،
- والماراثون يُطل على البحر،
- ورحت أسلّي نفسي هناك ساعة وحدي،
- وحلمت أن تعود اليونان حرة
- تقف على جثت الفرس (المقصود الأتراك)
- إنني لا أُطيق أن أكون عبدا.
وفي 5 مارس غادر بايرون وهوبهوس أثينا واستقلتهما سفينة إنجليزية (البايلادز Pylades) قاصدين سميرنا Smyrna، وأجبروا هناك على الانتظار شهرا حيث أكمل الشاعر
النشيد الثاني في مؤلفه الشعري (شايلد هارولد Childe Harold) . وقام برحلة جانبية استغرقت ثلاثة أيام إلى إفسوس Ephesus واستوحى خرائب (آثار) مدينة شهدت أوج الحضارات الثلاث - الإغريق، والمسيحية والإسلام (النص: الديانة المحمدية). ولاحظ هوبهوس أن انحلال الأديان الثلاثة يقدم هناك من وجهة نظر واحدة.
وفي 11 أبريل عبروا (الشاعر وهوبهوس ومن معهما) على الفرقاطة سالست Salsette إلى القسطنطينية (المقصود إستانبول)، وأدت الرياح القاسية والموانع الدبلوماسية للإبقاء على السفينة طوال أسبوعين راسية على الجانب الأسيوي من الدردنيل، ووطئ بايرون وهوبهوس سهل طروادة Troad Plain على أمل أن يكون قد غطى عظام هومر (هوميروس) Homer's Ilium ولكن شليمان Schliemann لم يكن قد ولد بعد. وفي 15 أبريل قام بايرون والضابط البحري الإنجليزي - الليفتنانت (Lieutenant) وليم إكنهيد بالانتقال عبر الهيليسبونت Hellespont إلى الجانب الأوربي، وحاولا العودة سباحة لكنها عانيا من شدة التيار وبرودة الماء.
وفي 3 مايو حاولا مرة ثانية وعبرا من سيستوس Sestos في الجانب الأوربي من تركيا إلى أبيدوس Abydos في آسيا الصغرى. وأنجز إكنهيد Ekenhead قطع المسافة في 65 دقيقة أما بايرون فأنجزها في سبعين دقيقة، وكان طول القناة في هذا الموضع (المقصود القناة الموصلة بين البر والأسيوي والبر الأوربي) ميلا واحدا فقط، لكن التيارات المائية أجبرتها على السباحة أكثر من أربعة أميال.
ووصل السائحان إلى القسطنطينية (المقصود إستانبول) في 12 مايو وأثارت المساجد إعجابهما وغادراها في 14 يوليو وفي السابع عشر من الشهر نفسه رست سفينتهما في مرفأ زي Zea في جزيرة كوس Keos، وهناك افترقا فتابع هوبهوس طريقه إلى لندن واستقل بايرون وفلتشر Fletcher قارب آخر متجها إلى باتراس Patras. ومرة أخرى عبر الطريق البري إلى أثينا. وهناك راح بايرون يواصل بحثه الطويل عن الفروق بين النساء (الفوارق الأنثوية). لقد تباهى بغزواته (المفهوم طبعا غزواته النسائية) وأصيب بالسيلان gonorrhea، وسار سراعا في طريق الاكتئاب، ففي 26 نوفمبر كتب إلى هوبهوس: "لقد رأيت العالم الآن
…
وذقت كل أنواع اللذة .. ليس لي من أمل آخر. وربما بدأت في التفكير في أفضل طريقة للخروج من هذا العالم ..
آمل أن أستطيع أن أجد بعضاً من نبات الشوكران Hemlock (نبات سام) الذي حصل عليه سقراط".
وفي يناير سنة 1811 استأجر غرف لإقامته وإقامة بعض خدمه في دير كابوشن Capuchin عند سفح الأكروبولس Acropolis وراح يحلم بالسلام (النفسي) الذي تتيحه الحياة في دير.
وفي 22 أبريل غادر أثينا لآخر مرة ومكث شهرا في مالطة ثم واصل رحلته عائدا إلى إنجلترا التي وصلها في 14 يوليو بعد عامين واثني عشر يوما من مغادرتها، وبينما كان منشغلا بتجديد عقوده في لندن تلقى خبر وفاة أمه عن عمر يناهز السادسة والأربعين، فاندفع متجها إلى مبنى دير نيوستيد Newstead، وقضى الليل جالساً في الظلام إلى جوار جثمان أمه وعندما توسّلت إليه الخادمة أن يترك الجثمان ويعود إلى غرفته رفض قائلا:"لم يكن لدي إلا صديق وحيد في العالم إنها أمي. وقد فارقتني! "، وكان قد قال عبارة قريبة من هذه ونقشها على قبر كلبه (من نيو فوندلاند Newfoundland) بوتسوين Boatswain الذي مات في نوفمبر سنة 1808 ودفن في سرداب بحديقة الدير:
"للتذكير ببقايا صديق أقمت هذا الشاهد، فلم يكن لي إلا صديق واحد - انه يرقد هنا".
وفي أغسطس سنة 1811 سجل وصية لوقف مبنى الدير على ابن عمه جورج بايرون، وخصص منحاً لخدمه، وترك توجيهات تنفذ عند دفنه:
"أريد أن يدفن جسدي في قبو في حديقة نيوستيد دون أية شعائر أو صلوات وألا ينقش على شاهد القبر أي شيء سوى الذي هو مدفون فيه" وبعد أن رتب الأمور المتعلقة بموته اتجه إلى لندن لمواصلة غزواته.
3 - أسد لندن:
بايرون 1811 - 1814 م
لقد كان لديه - في لندن - أصدقاء بالفعل لأنه كان جذابا دمثا جيد الحديث واسع المعرفة في الأدب والتاريخ كما كان مخلصا لأصدقائه أكثر من إخلاصه لخليلاته. لقد استأجر مقراً في 8 شارع جيمس، وهناك في مقره هذا استقبل بترحاب توماس مور Thomas Moore وتوماس كامبل Campbell وصامويل (صموئيل) روجرز، وهوبهوس
…
كما زارهم ورحبوا به
بدورهم. وعن طريق روجرز، ومور دخل بايرون دائرة الضوء في دار هولاند Holland House، وهناك قابل ريتشارد برينسلي شريدان Richard Brinsley Sheridan الذي كان نفوذه السياسي قد قل لكنه لم يكن قد فقد ميله للنقاش والحديث لقد روى بايرون متذكرا:"عندما كان يتحدث كنا نصغي من الساعة السادسة حتى الواحدة دون أن يتثاءب واحد منا .. يا له من رفيق بائس! لقد انهمك في الشراب بشدة .. لقد كان من نصيبي في عدة مناسبات أن أنقله للبيت".
وتبنى بايرون موقف اللوديت Luddite (محطمو الماكينات في موطنه نوتنجهامشير Nottinghamshire) متأثرا بهؤلاء المثقفين المؤيدين للإصلاح (الهويجيين Whiggish- الهويجز هو حزب الأحرار فيما بعد)،
وفي 20 فبراير سنة 1812 أجاز مجلس العموم مرسوما بالحكم بالإعدام على كل من يضبط متلبساً بتحطيم الماكينات، وعند مناقشة هذا المرسوم في مجلس اللوردات في 27 فبراير عارضه بايرون، وكان قد كتب خطابه مقدما بلغة إنجليزية راقية. وذكر أن بعض العمال مذنبون لقيامهم بأعمال عنيفة سببت خسائر في الممتلكات وأن الماكينات المحطمة كانت - على المدى البعيد - ستحقق مكاسب للاقتصاد الوطني. لكنها - أي هذه الماكينات - قد أدت إلى حرمان المئات من العمال من العمل الذي كانوا يعولون أسرهم عن طريقه، فأصبحوا الآن فقراء بائسين يعتمدون على ما يتلقونه من هبات وصدقات، وأن هذا اليأس وهذه المرارة هما اللذان أديا إلى قيامهم بأعمال العنف. وكلما تقدم في خطابه تخلى الخطيب الشاب عن حذره وراح يهاجم الحرب كمصدر لبؤس غير مسبوق يعاني منه العمال الإنجليز.
لكن اللوردات تجهموا لمقالته وأجازوا المرسوم السابق ذكره. وفي 21 أبريل ألقى بايرون خطابا ثانيا أدان فيه الحكم البريطاني في أيرلندا ودعا إلى تحرير (عتق) الكاثوليك في كل أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وقد امتدح اللوردات بلاغته ورفضوا قضيته وأجبروه على الجلوس (عدم مواصلة حديثه) باعتباره غرا سياسيا لمّا ينضج بعد، وتخلى عن السياسة وقرر الدفاع عن قضاياه وأفكاره من خلال الشعر.
فبعد اثني عشر يوما من خطبته الغير مسبوقة قدم النشيدين الأولين الواردين في مؤلفه " Childe Harold's Pilgrimage" للناس. وكادا يلقيان نجاحاً غير مسبوق فقد نفدت الطبعة
الأولى (500 نسخة) في ثلاثة أيام مما أقنعه أنه وجد وسيلة أكثر بقاء وقوة من الخطب المثيرة للجدل. لقد لفت الآن الأنظار إليه بشدة "لقد استيقظت ذات يوم فوجدت نفسي مشهورا". حتى أعداؤه القدامى في دورية (مستخلصات ادنبره) امتدحوه، وإقراراً بالفضل أرسل اعتذارا لجفري Jeffrey لتعرضه له في دورية " English Bards & Scotch Reviewers".
تكاد تكون كل الأبواب مشرعة أمامه الآن، ودعته النساء الشهيرات - اثنتا عشر امرأة تحلّقن حوله مبتهجات بوجهه الوسيم كل منهن تأمل في إيقاع الأسد الشاب في حبائلها. ولم يبعدهن عنه ما عرف عنه من نهم جنسي، كما أن لقب اللورد الذي يحمله جعله يبدو صيدا ثمينا لمن لا يعرفن ديونه. لقد سعد باهتمامهن به وكان بالفعل مستثارا بسحرهن الغامض. لقد قال:
"هناك شيء فيَّ مريح جدا يظهر في حضور امرأة - إنه تأثير غريب على نحو ما حتى لو كنت غير عاشق لها - شيء لا أعرف كُنهه، فلست خبيرا بالجنس خبرة يشار إليها بالبنان ".
وكانت ليدي كارولين لامب Lady Caroline Lamb (1785 - 1828) تمثل إحدى غزواته النسائية الأولى، وهي ابنة الإيرل الثالث لبيسبورو Bessborough وتزوجت في العشرين من عمرها من وليم لامب الابن الثاني للورد ملبورن وليدي ملبورن Melbourne . وبعد أن قرأت كتابه (Childe Harold's Pilgrimage) قررت مقابلة المؤلف لكنها عندما رأته اعتبرته "شخصا من الخطر معرفته" وابتعدت عنه سريعا، فأثاره ذلك وعندما التقى بها ثانية "رجاها أن يلتقيا" وأتى إليها وكانت وقتها أكبر منه بثلاث سنين وكانت قد أنجبت بالفعل وكانت وارثة لثروة كبيرة كما كانت عطرة مرحة.
وأتى إليها ثانية، وتكررت زياراته فغدت كل يوم تقريبا. وكان زوجها مشغولا بأعماله فقبله كمرافق لزوجته أو عشيق لها وهو أمر شائع في إيطاليا (Cavaliere Servente) وتعلقت به أكثر فأكثر وذهبت إلى بيته علنا أو متنكرة في زى غلام وكتب له خطابات غرامية حارة، وازداد اندماجهما حتى إنه اقترح عليها أن تفر معه تاركة بيت الزوجية لكن عندما ذهبت إلى أيرلندا (في سبتمبر 1812) مع أمها وزوجها، كان قد تخلى عنها بالفعل وسرعان ما وثّق علاقته بليدي أكسفورد Lady Oxford .
وفي خضم مثل هذه الأمور المعكرة للصفو، احتفظ بايرون ببعض الاستقرار النفسي بأن راح يكتب بسرعة شعراً سهلاً كان
مجاله حكايات مغامرات وعنف وحب مستوحاة من تراث الشرق. ولم يعرض فيها صور العظمة الصارخة المدعاة، وإنما كانت حكايات خيال رومانسي تعكس أفكار الشاعر ومشاعره التي استوحاه من رحلاته في ألبانيا وإبيروس Epirus واليونان، ولم يجهد المؤلف فكره في كتابتها، كما لم تكن تتطلب من قارئها قدح ذهنه وإجهاد عقله، وقد راجت بشكل مدهش وبيع منها عدد كبير من النسخ.
ظهرت القصة الشعرية الأولى وهي " The Giaour" في مارس سنة 1813، وسرعان ما ظهرت الأخرى في ديسمبر The Bride of Abydos التي بيع منها ستة آلاف نسخة في شهر واحد، ثم الثالثة التي كانت أكثر رواجا وهي Corsair (يناير 1814) التي حطمت كل الأرقام السابقة إذ بيع منها عشرة آلاف نسخة في اليوم نفسه الذي ظهرت فيه، ثم ظهرت "لارا Lara "(1815) و"حصار كورنثة The Siege of Corinth "(1816) . وجمع الناشر جنيهاته وقدم نصيبا منها لبايرون الذي تصرف كلورد وعفّ أن يأخذ ثمنا لأشعاره.
وحتى عندما كان بايرون يؤلف هذه الحكايات التي تدين الخارجين على القانون كان هو نفسه قلقا منزعجاً بسبب حياته غير الملتزمة (الخارجة عن العرف والقانون). فلم يكن يستطيع مواصلة التشبب بالنساء إلا إذا دمَّر صحته، وميزانيته. لقد كان قد نذر هو وهوبهوس ألا يتزوجا لأن الزواج سجن للروح والبدن، أما الآن فقد راح يميل إلى أن الزواج كابح أساسي ومنظم للرغبات التي إن تركت على عواهنها دمرت الفرد والمجتمع جميعا. لقد شعر أنه قد يجد مبررا للتخلي عن حريته في سبيل الاستقرار والهدوء أو في سبيل دخل أكثر ثباتا مما يدره عليه مبنى الدير (الذي يمتلكه) ذلك المبنى الذي أصبح آيلاً للسقوط.
وبدت له أنابلا ميلبانك Annabella Milbanke وكأن فيها من المواصفات ما يحقق كل مطالبه. ففيها الجمال ونالت قسطا من التعليم وكانت الطفلة الوحيدة لأسرتها وتنتظرها ثروة طائلة. وعندما قابلها للمرة الأولى في 25 مارس 1812 في منزل عمتها ليدي ملبورن Melbourne تعلق بها فقد كانت ملامحها صغيرة وأنثوية، رغم أنهما أي الملامح - غير منتظمة، كانت بشرتها أجمل بشرة يمكن تخيلها، وكان قوامها جميلا مكتمل الخلق متناسبا مع طولها، وكان يحيط بها جو من البساطة والتواضع "مما جعلني أزداد تعلقاً
بها".
ولم يتحدث إليها، فقد كان كل منهما ينتظر المبادأة من الآخر. لكنها كانت هي أيضا شغوفة به، ففي يومياتها وخطاباتها راحت - أحيانا - تحلل شخصيته:
"حدة روح .. سخرية شديدة
…
مخلص ومستقل .. يقال إنه كافر (غير مؤمن) ربما كان هذا صحيحا وذلك من خلال الطبيعة العامة لعقليته. وقصيدته (Childe Harold) برهان كافٍ على أنه يستطيع أن يحس أحاسيس نبيلة، لكنه كان يداري طيبته أو بتعبير آخر لا يظهر أحاسيسه الطيبة".
كانت هذه عبارة متدبّرة ذكية ربما راودها بعد ذلك سؤال هو كيف حاولت أن تنزع من هذا الرجل الحساس مشاعره - تلك المحاولة الشائقة إلا أنها خَطِرة - وكيف حاولت أن تمنعه وهو أسد لندن - عن كل هؤلاء النسوة اللائي انجذبن إليه بسبب شهرته الكبيرة؟
ومضت شهور اعتلت فيها ليدي كارولين لامب خشبة المسرح (المقصود دخلت حياته ثانية) لكن لهيب الحب برد بسبب القناة الأيرلندية (المقصود أن البعد جفاء - أي أنها عندما ذهبت لأيرلندا تاركة حبيبها وفي لندن، راح لهيب شوقها وشوقه يبردان أو ينطفئان رويدا كلما زاد البعاد)، وفي 13 سبتمبر سنة 1812 كتب بايرون إلى ليدي ملبورن خطابا غريبا فرض على حياته اتجاها بدا وكأنه قدر محتوم:
"أخشى أن أقول إنني كنت ولا زلت وسأظل مفتونا
…
بتلك الآنسة التي لم أقل عنها كثيرا، لكنها لم تغب أبداً عن ناظري .. إنها تلك التي أريد أن أتزوجها لولا أن أمور مدام لامب هذه اقتحمت حياتي .. إنني أريد الزواج منها هي الآنسة ميلبانك Milbanke .. إنني لم أر أنثى حظيت بتقديري مثلما حظيت هي"
وأخبرت ليدي ملبورن - سعيدةً - ابنة أخيها باعتراف بايرون طالبة منها الموافقة. وفي 12 أكتوبر أرسلت الآنسة ميلبانك رداً جديراً بتاليران Talleyrand:
" اعتقاداً مني أنه لن يكون أبداً موضع حب شديد يجعلني سعيدة في حياتي الأسرية إلا أنني أغمطه حقه على نحو ما إن أنا - حتى ولو بشكل غير مباشر - جعلته يتأكد من مشاعره الحالية. فمن خلال ملاحظاتي المحدودة لمسلكه أراني أميل إلى أن سبب ذلك هو تزكيتك الشديدة له، وإنني أعزو موقفي هذا منه إلى قصور في مشاعري أكثر من أن أعزوه إلى طبيعته، ذلك أنني لا أميل إلى مبادلته مشاعره. بعد هذا الذي قلت بأسف لما يسببه من
آلام له فلا بد أن أترك علاقاتنا في المستقبل حسب تقديره وحكمه. وليس لدي سبب يحملني على التخلي عن معرفة ما يشرفني فهو قادر على منحي كثيرا من المباهج والمسرات الفكرية إلا أنني أخشى خداعه بشكل غير مقصود .. "
وتلقى بايرون هذا الرفض بتسامح فلم يكن في حاجة ماسة لهذه الليدي Lady المتعلمة يقظة الضمير، ذلك أنه - بالفعل - كان يجد سلواه في أحصان كونتيسة أكسفورد، وفي أحضان ليدي فرانس Frances وبستر وفي الوقت نفسه في أحضان أخته غير الشقيقة أوغسطا لاي Augusta Leigh لقد مضى على زواجها الآن (1813) من ابن عمها الأول الكولونيل جورج لاي، ست سنوات وأنجبت منه ثلاثة أطفال، وفي هذه الأثناء أتت إلى لندن من منزلها في كمبردجشير Cambridgeshire لتطلب من بايرون مساعدة مالية لتعينها في مواجهة الصعاب بعد الخسائر التي مني بها زوجها وغيابه الطويل في حلبات السباق ولم يستطيع بايرون أن يقدم لها الكثير لأن دخله كان متقلقلاً غير قائم على أساس وطيد. لكنه أمتعها بحواراته الممتعة واكتشف أنها امرأة (المعنى مفهوم). لقد كانت في الثلاثين ولم تكن أنثى متفجرة وكان ينقصها الجانب الفكري والثقافي كما كانت الحيوية تنقصها أيضا لكنها كانت عاطفية لينة العريكة وربما كانت متأثرة بشهرة أخيها، فكانت ميالة لإعطائه ما ترغبه، فطول بعادها عنه بالإضافة لإهمال زوجها جعلها في حالة خواء عاطفي.
وكان بايرون قد نحى جانبا كل المحاذير الأخلاقية أو كل المحرمات التي لم تتفق مع عقله الشاب فتساءل متعجبا لم لا يتزوج أخته كما كان الفراعنة يفعلون. وتشير الدلائل اللاحقة أنه الآن أو بعد ذلك أقام مع أخته أوجستا علاقات جنسية. وفي أغسطس سنة 1813 فكر في اصطحابها في رحلة في البحر المتوسط. لكن الخطة فشلت فأخذها إلى مبنى دير نيوستيد في شهر يناير، وعندما أنجبت بنتا في 51 أبريل كتب بايرون إلى ليدي ملبورن أنه:"إذا كانت قردة، فلا بد أن يكون ذلك خطئي" وكانت الطفلة نفسها - ميدورا لاى - تعتقد أنها ابنته. وفي شهر مايو أرسل إلى أوجستا ثلاثة آلاف جنيه لدفع ديون زوجها. وفي يوليو كان معها في هاستنجز Hastings وفي شهر أغسطس أقامت معه في مبنى الدير.
وبينما راح يندمج أكثر وأكثر في علاقاته الجنسية مع أخته غير الشقيقة أرسلت له الآنسة ميلبانك خطابات أججت مشاعره حتى إنه كتب في يومياته عند حديثه عن الأول من ديسمبر سنة 1813:
"بالأمس وصلني خطاب رقيق من (أنابلا Annabella) وقد أرسلت لها خطابا رداً على خطابها. إن لصداقتنا وموقفنا وضع فريد غريب، وأي غرابة! - فبدون بارقة حب واحدة من كلينا
…
هي امرأة متفوقة جدا، عيوبها قليلة جدا بالنسبة لامرأة لها هذا النصيب الوافر من المال والثراء وفي العشرين من عمرها .. فمن هي في وضعها وفي سنها قد لا تزيد عن طفلة. إنها شاعرة ورياضية ومتيافيزيقية ومع ذلك - وفوق هذا - فهي لطيفة جدا وكريمة جدا وظريفة جدا، لا تدعي كثيرا. إن أحداً غيرها قد تدور رأسه إذا امتلك ما تملك وإن كان لديه عُشر مزاياها ".
وكأنما كانت قد قرأت هذا التقدير لها (مع أنه لم يكتبه لها وإنما سجله في يومياته) فقد أصبحت خطاباتها في سنة 1814 تعجّ شوقا وأكدت له أن قلبها غير مشغول الآن بأحد: "وطلبت منه صورة له ووقعت خطاباتها مشفوعة بكلمة (مع حبي) أو (المحبة) ". وقد كتب لها تجاوبا مع خطاباتها الدافئة في 10 أغسطس: "كنت دوما ولا زلت أحبك"، فأجابت أنها لا تصلح للزواج فقد استغرقتها الفلسفة والشعر والتاريخ. وقد أجاب على تحديها بأن أرسل لها في 9 سبتمبر اقتراحاً آخر أقل عاطفية يدعوها لتواجهه في لعب الشطرنج فإن رفضت مرة أخرى فإنه سيخطط لمغادرة بريطانيا مع هوبهوس إلى إيطاليا. وقبلت مواجهته في (دَوْر) شطرنج.
لقد بدأ قدره ينحو به نحو الانضباط. لقد كان قد فقد الحرية التي اعتادها - حرية في الصداقة والجنس والأفكار آملاً في أن ينقذه الزواج من الروابط المتشابكة المعقدة والخطرة. لقد شرح لأصدقائه: "لا بد بطبيعة الحال أن أصلح حالي. .. إنها إنسانة طيبة"، وقال لخطيبته:"آمل أن تكوني صالحة طيبة .. سأكون كما تريدين". وقبلت مهمتها على أساس أنها مهمة يقوم بها الصالحون الأتقياء. وكتبت لإميلي ميلنر Emily Milner في نحو الرابع من أكتوبر سنة 1814:
إن شخصية لورد بايرون الحقيقة لا مجال للبحث عن نظير لها في هذا العالم، وكل ما
يمكننا هو البحث عن شخصية أقرب ما تكون إلى شخصيته. نبحث عن التعس الذي واساه وعن البائس الذي ساعده وعن أتباعه الذين كان لهم نعم السيد. أما عن قنوطه فأخشى أن أكون مسئولة عنه طوال العامين الأخيرين. إنني أحس باطمئنان عميق - فأنا أثق في الله وفي الإنسان.
وعندما حان الوقت ذهاب بايرون إلى أسرة أنابلا في سيهام (بالقرب من درهام Durham) لطلب الزواج منها خانته شجاعته فعرّج في الطريق على منزل أوجستا وهناك كتب خطابا إلى خطيبته معلنا انسحابه من مشروع الارتباط بها لكن أوجستا حثته على تمزيق الخطاب وأن يقبل الزواج كرباط منقذ له. وفي 29 أكتوبر تابع طريقه إلى سيهام وبصحبته هوبهوس الذي كتب في يومياته: "لم يكن متعجلا". لم أر عاشقا أقل تسرعا منه ورحبت أسرة العروس به وأظهر هو من الصفات الطيبة ما جعلهم مسرورين وفي الثاني من شهر يناير 1815 ذهب معها إلى مذبح الكنيسة (لإتمام الزواج).
4 - محنة الزواج:
بايرون 1815 - 1816 م
وبعد إتمام طقوس الزواج ركبا في يوم من أيام الشتاء العابسة متجهين إلى (هالنابي هول Halnaby Hall) في ضواحي درهام لقضاء شهر العسل. لقد كان عمره الآن يقترب من السابعة والعشرين، وكانت هي في الثالثة والعشرين. وقضى ثماني سنوات أو أكثر يكاد لا يكف عن اللقاءات الجنسية غير الشرعية وغير المسئولة وقلما كانت معاشرته الجنسية ترتبط بالحب. وعلى وفق ما ذكره مور Moore عن فقرة قرأها في مذكرات بايرون (تم إحراقها في عام 1824) فإن الزوج لم ينتظر حلول الليل، "وإنما طرح الليدي بايرون Lady Byron على الأريكة قبل تناول العشاء في يوم الزواج نفسه وبعد تناول العشاء" إن جاز لنا أن نثق في ذاكرته سألها إن كانت تنوي أن تنام معه في السرير نفسه، وأضاف قائلا:"إنني أكره النوم مع أي امرأة لكن إن اخترت ذلك فسأفعل"، وكيّف وضعه مع طبيعتها (المعنى غير عادته ونام معها في السرير نفسه) لكنه أخبر هوبهوس أنه في تلك الليلة الأولى حاصرته نوبة مفاجئة من الانقباض وغادر السرير وفي اليوم التالي (كما زعمت الزوجة): "قابلني عازفا عني وتمتم
بكلمات ساخرة لاذعة لقد نفد القضاء"، وكان ما كان ووصله خطاب من أوجستا لاي Leigh فقرأ على أنابلا استهلاله: "يا أعز خلق الله وأفضلهم وأولهم" وعلى وفق ما روته الزوجة فإنه كان يشكو قائلا:
"إنه إذا كنت تزوجته قبل ذلك بعامين لكنت قد أنقذته من علاقة لا يستطيع هو نفسه أن يسامح نفسه عليها - لقد قال إنه يستطيع أن يخبرني لكن لا يجوز لأن هذا سر شخص آخر
…
وتساءلت إذا كانت أوجستا تعرف هذه العلاقة، فبدا مرعوبا لتساؤلي"،
وعلى أية حال فيبدو أن أنابلا لم تكن تشك في أوجستا وقتها. وبعد ثلاثة أسابيع في (هالنابي هول) عاد العروسان وهما لا يزالان في شهر العسل إلى (سيهام) ليقيما مع أسرة (ميلبانك). وكيّف بايرون نفسه وأصبح أليفا لكل من حوله بمن فيهم زوجته. وبعد ستة أسابيع بدأ يَحِنّ لمباهج لندن وأصوات أصدقائه. ووافقت (أنابلا).
وفي لندن أقاما في مقر فاخر في 13 (بيكادللي تراس Piccadilly Terrace) وبعد يوم من وصولهما أتى (هوبهوس) واستعاد بايرون روحه الفَكِهه. تروي زوجته أنه طوال عشرة أيام كان رقيقا رقة لم أعهدها فيه أبداً من قبل وربما عرفاناً بالجميل أو خوفاً من الوحدة دعت أوجستا لقضاء بعض الوقت معهما. وبالفعل أتت أوجستا في أبريل سنة 1815 وظلت مقيمة معهما حتى يونيو. وفي العشرين من هذا الشهر زار جورج تكنور George Ticknor المؤرخ الأمريكي الذي تخصص في تاريخ الأدب الإسباني عش الزوجية الجديد وأثنى على مسلك بايرون. وفي هذه المناسبة دخل عم (أنابلا) مبتهجا بأخبار يحملها مفادها أن نابليون قد هزم لتوه في واترلو Waterloo، فقال بايرون "لقد كدت أموت كمداً لذلك".
وواصل بايرون كتابة الشعر. وفي أبريل 1815 اشترك مع مؤلفين يهوديين في إصدار (ألحان عبرية Hebrew Melodies) وقد ألف بايرون كلماتها ووضع اليهوديان ألحانها. وبيع منها عشرة آلاف نسخة رغم أن سعر النسخة كان جنيها إنجليزيا، وأصدر الناشر مري Murray طبعة بالقصائد وحدها (دون الألحان الموسيقية) لاقت أيضا رواجا كبيرا.
وفي أكتوبر أنهى بايرون (حصار كورنيث The Siege of Corinth)، وقدمت ليدي بايرون نسخة واضحة للطابع. لقد قال بايرون لليدي بليسنجتون Blessington: " إن (أنابلا) على درجة كبيرة من الانضباط والتحكم في النفس بشكل لم أر له مثيلا .. وهذا يؤثر فيَّ
سلبا ". وكان لديه بعض العذر لنزقه وسرعة استثارته. وقد استأجر بيتا مفروشا غاليا ليقيم فيه مع زوجته وراح ينفق ببذخ في إعادة تأثيثه - كل هذا لأنه افترض أن الثمن الذي سيتقاضاه من بيع بيته في نيوستيد سيكون مرتفعا، لكن الأسعار تدنت في هذه الأثناء ووجد بايرون نفسه محاصراً بكل ما تعنيه الكلمة. وفي نوفمبر سنة 1815 دخل مساعد المأمور البيت المؤثث واحتجز بعض الأثاث وهدد بالمبيت في البيت إلى أن يدفع بايرون ما عليه من ديون (يسدد فواتيره). وشعر بايرون أن والديْ (أنابلا) الثريين لابد أن يساهما مساهمة أكثر كرما في تكاليف منزل الزوجية الجديد.
وقد طبعت متاعبه أثراً واضحا بسبب ما سببته من مرارة وكآبة. لقد قال لزوجته: "إذا كانت هناك امرأة قادرة على جعل الزواج أمراً محتملاً لي، فهو أنتِ. أعتقد أنك ستظلين تحبينني حتى أضربك"، وعندما عبَّرت عن أملها ويقينها أنه سيعرف كيف يحبها، راح يكرر:"هذا متأخر جدا الآن. لو أنّك تزوجتني منذ عامين مضيا .... لكن قدري هو أن أحطم كل من أقتربُ منه". وقبل بايرون وظيفة في الهيئة الحكومية لمسرح درورى لين Drury Lane Theatre فاستغرقه الشّراب مع شريدات وآخرون، وكوّن علاقة جنسية مع إحدى الممثلات. ودعت (أنابلا) أخته غير الشقيقة (أوجستا) للقدوم لمعاونتها على ضبطه. وفي 15 نوفمبر 1815 قدمت (أوجستا) ووبخّت أخاها، ووجدت نفسها هي و (أنابلا) ضحايا حنقه وغضبه و"حزنت (أوجستا) كثيرا لحال زوجة أخيها ".
وخلال أصعب هذه الشهور حملت ليدي بايرون وفي العاشر من ديسمبر 1815 وضعت أنثى وأسمتها (أوجستا أدا Augusta Ada) وأصبح اسمها بعد ذلك (أدا) وفرح بايرون وسَعِد بالطفلة وبالتالي بزوجته. لقد قال لهوبهوس في هذا الشهر: "إن زوجتي كاملة .. إنها الكمال نفسه. إنها أفضل مخلوق يتنفس .. لكن نفسي ترفض الزواج" وسرعان ما عاودته نوبات الغضب بعد مولد (أدا) وفي إحدى نوبات غضبه قذف في نار المدفأة ساعة ثمينة كانت معه منذ صباه ثم كسرها بالقضيب المعدني الذي يحرّك به وقود المدفئة، وفي 3 يناير 1816 - على وفق ما قالته (أنابلا) لأبيها - "دخل بايرون غرفتها وتحدث بعنف ظاهر عن علاقته الجنسية بإحدى نساء المسرح". وفي 8 يناير استدعت الدكتور متّى بيلي
Matthew Baillie لفحص بايرون، فأتي وفحص الشاعر الحبيس، ومال إلى وصف الأفيون له.
وكان من الواضح أن بايرون موافق على ضرورة ذهاب (أنابلا) مع طفلها لتقيم مع أمها ليدي (ميلبانك) وكان اسم أسرتها قبل زواجها هو نول Noel - المقيمة في عقارات نول Noel في كيركبى Kirkby في ليسسترشير وفي بكور، الخامس عشر من شهر يناير غادرت مع (أدا) بينما كان بايرون لا يزال نائما. وفي ووبورن Woburn توقفت لترسل له تحذيرا وعظيا، جديرا بالذكر:
بايرون الأعز:
الطفلة على ما يرام وهي أفضل المسافرين. آمال أن تكون صالحا good، وتذكر دعواتي وصلواتي ووصاياي لا تستسلم لحرفة الشعر البغيضة ولا للبراندي (نوع من الخمور) ولا لأي شيء غير شرعي أو شخص لا يكون على جادة الطريق. رغم أنك غير مطيع فدعني أسمع أنك أصبحت مطيعا وأنا في كيركبى ابنتنا (أدا) تحبك. وكذلك أنا.
بيب Pip
وكتبت له من (كيركبى) مرة أخرى كتابات فكهة وعاطفية ذاكرة له: "أن والديها يتطلعان لرؤيته". وفي اليوم نفسه كتبت لأوجستا (التي كانت لا تزال تقيم مع بايرون) تنصحها "بتخفيف اللودانيوم (مستحضر أفيوني) الذي يتناوله بايرون بثلاثة أرباعه ماء". وبالتدريج أخبرت (أنابلا) والديها كيف كان بايرون يعاملها - ذلك من وجهة نظرها، فَصُدِما وأصرا على انفصالها عنه نهائيا، فاندفعت ليدي (ميلبانك) إلى لندن لمناقشة الطبيب الذي كان يراقب سلوك بايرون، فإذا كان خبل (جنون) بايرون محقَّقا لأمكن إبطال زواجه دون ضرورة الحصول على موافقته. وكتب الطبيب تقريراً ذكر فيه أنه لا يرى علامات الجنون على الشاعر لكنه سمع أنه كانت تنتابه حالات هياج عصبي وأرسلت (أنابلا) تحذيرا لأمها بألا تُدخِل (أوجستا لاي) في الأمر:"لأن (أوجستا) هي أصدق صديقاتي .. وأخشى كثيرا أن تدرك أن كثيرين يؤيدون الانفصال عن بايرون، وسيكون هذا قاسيا بالنسبة إليها".
وفي الثاني من فبراير سنة 1816 راسل السير (رالف ميلبانك Sir Ralph Milbanke) - والد (أنابلا) - بايرون طالبا منه الانفصال عن ابنته بشكل ودي، فأجابه بايرون متوددا ذاكراً أنه لا يرى سببا لأن
تغير زوجة ظلت ترسل إلى وقت قريب رسائل ملؤها الحب موقفها هذا التغيير الكامل. وكتب إلى (أنابلا) متسائلا هل هي حقا موافقة بكامل إرادتها على موقف أبيها. وأصبحت في حالة أسى ومحنة بسبب هذا الخطاب لكن والديها منعاها من كتابة خطاب ترد فيه عليه. وكتبت (أوجستا) إليها طالبة إعادة النظر في الأمر، فأجابتها (أنابلا):
"إنني فقط - أذكر اللورد بايرون بمقته الشديد الذي يفوق الحد للحياة الزوجية. وبرغبته وتصميمه. اللذين عبر عنهما - حتى منذ بداية الزواج - على التخلص من هذا الرباط الذي كان يرى فيه قيدا لا يحتمل".
وفي 12 فبراير ذهب (هوبهوس) ليرى بايرون. وفي الطريق سمع بعض الإشاعات تدور في الأوساط الاجتماعية والأدبية في لندن مفادها عدم إخلاص بايرون لزوجته وفيما يلي نُتفة مما كتبه (هوبهوس) في مذكراته عن هذا اليوم:
"رأيت السيدة (لاى Leigh) وجورج بايرون - ابن عم الشاعر - وعلمت منهما ما أخشى أن يكون حقيقة وهو أن بايرون مذنب لطغيانه الشديد، كثير التهديد والوعيد دائم الغضب والثورة، مهمل لزوجته، بل وألحق بها أذى حقيقيا فكان على سبيل المثال يخبرها بأنه كان يعيش مع امرأة أخرى
…
لقد كان يغلق الأبواب، ويلوح بالمسدسات .. وهي أمور ترويها جميعا ليدي بايرون تؤكد إنه مدان (مذنب) - لكنهم يبرئونه - كيف؟ بقولهم انه مجنون .... بينما سمعت هذه الأمور أتت السيدة (لاي) وراحت تقول إن أخاها يصرخ بمرارة في غرفة النوم .. إنه بائس .. بائس حقا.
الآن وجدت من واجبي أن أخبر بايرون أنني غيرت رأيي
…
وعندما أخبرته بما سمعته في الشوارع في هذا اليوم ذهل - لقد كان قد سمع أنه متهم بالقسوة والإغراق في الشراب وعدم الإخلاص لزوجته. لقد ذكرت له كثيرا مما سمعته في الصباح - فاهتاج هياجا هائلا وقال إنه محطم وإنه سيحطم رأس نفسه .. وكان أحيانا يقول: وحتى لو أحبتني ذات مرة، وفي أوقات أخرى كان يقول إنه سعيد للتخلص من مثل هذه المرأة - وقال: لو أنني غادرت البلاد لانفصلت عنها فورا".
وفي نحو هذه الفترة تلقى بايرون فاتورة مطلوباً سدادها بمبلغ ألفي جنيه ثمنا للمركبة الكبيرة التي كان قد اشتراها له ولزوجته. ولم يستطع تسديد الدين فلم يكن معه إلا
150 جنيها، ومع هذا فإنه في نحو 16 فبراير 1816 أرسل مائة جنيه إلى الشاعر كولردج Coleridge وهذا دليل على كرمه الطائش الذي تتسم به شخصيته.
وفي 22 فبراير أتت (أنابلا) إلى لندن وذكرت للدكتور (ستيفن لوشينجتون Stephen Lushington) أن الانفصال عن بايرون أصبح ضروريا بناء على تقريره عن حالة بايرون. وفي هذا الأسبوع سرت إشاعات ذكرت السيدة لاي Leigh وبايرون المتهم باللواط، أو العلاقة الجنسية غير السوية، وهنا أدرك بايرون أن الاستمرار في رفضه الانفصال بهدوء عن زوجته قد يؤدي إلى إجراء قضائي تتعرض فيه (أوجستا) لتدمير سمعتها. وفي 9 مارس وافق على الانفصال وعرض التخلي عن كل حقوقه في ثروة زوجته التي كانت تتيح للزوجين ألف جنيه في السنة. لكنها وافقت على حصوله على هذا المبلغ سنويا ووعدت علانية بتجديد صداقتها مع (أوجستا) وأوفت بوعدها، كما أنها لم تطلب الطلاق.
وسرعان ما ألف بعد الانفصال قصيدة أرسلها إليها:
رحيلك حَسناً، وإن للأبد
ما زالَ رحيلك حَسناً
- Fare thee well، and if for ever.
- Still fare thee well.
وواساه في إخفاق زواجه جماعة من أصدقائه أتوا إليه هم: هوبهوس، سكروب ديفز، لاي هنت، صامويل روجرز، لورد هولاند، بنيامين كونستانت Hobhouse، Scrope Davies، Leigh Hunt، Samuel Rogers، Lord Holland، Benjamin Constant . وحملت له ربيبة جودوين (ابنة زوجة جودوين Godwin) - كلير Claire كلمة إعجاب من الشاعر المنافس بيرسي شيلي Shelley وعرضت نفسها عليه لتكون بلسماً لجراحه. وقبل عرضها مفتتحاً بذلك سلسلة جديدة من الأحزان. وفي 25 أبريل 1816 أبحر مع ثلاثة من الخدم وطبيبه الخاص قاصدا أوستند ولم يرى إنجلترا بعد ذلك.
5 - شباب شيلي:
من 1792 - 1811 م
THE YOUTH OF SHELLEY
كان بيرسي Percy معجباً بجده - السير بيشي شيلي Sir Bysshe Shelley لأنه تصرف بشكل جيد جدا مع زوجاته الثلاث وأكثر من هذا فقد كان ملحداً كامل الإلحاد وشيد كل آماله على إبطال العقيدة (المفهوم المسيحي) واتخذ بيشي اسمه غير المعتاد بين
المسيحيين من اسم جدته لأمه قبل أن تتزوج أي قبل أن تحمل اسم زوجها. وكان له شجرة نسب طويلة (مثل بايرون) تعود إلى أيام الفتح النورماندي Norman Conquest وفي هذه السلالة المميزة تم إعدام واحد لتأييده ريتشارد الثاني، وتم إعدام آخر لاشتراكه في مؤامرة لقتل إليزابيث الأولى.
وقد أغوى بيشي زوجته الثانية فهرب معها بعد أن تركت زوجها، وماتت عنده، فأغوى امرأة أخرى وهرب معها، وكانت تعود في نسبها إلى السير فيليب سدني وقد تضخمت ثروتها فزادت ثروة زوجها فساعده ذلك على الوصول إلى البارونية في سنة 1806، وعاش إلى أن بلغ الثالثة والثمانين من عمره مما جعله عبئا على أبنائه الذين كان أكبرهم (تيموثي شيلي Timothy Shelley) الذي تخرج في أكسفورد وأصبح عضوا في البرلمان حيث اتخذ اتجاه حزب الهويجز (الأحرار). وفي سنة 1791 تزوج من إليزابيث بلفولد Elizabeth Pilfold ذات الجمال الرائع والطباع الطيبة وشيء من أللا أدرية agnosticism وقد ظهرت هذه الصفات جميعاً مرةً أخرى في ابنها الأكبر.
وُلد بيرسي بيشي شيلي في 4 أغسطس 1792 في أحد عقارات الأسرة المعروف باسم فيلد بلاس (الترجمة الحرفية تعني مكان الحقل) - وهو بيت رحب بالقرب من (هورشام Horsham) بالقرب من سوزكس Sussex. وأنجبت أمه بعده أربع بنات وبعد ذلك بمدة طويلة أنجبت له أخا. ونشأ بيرسي بين أخواته فأخذ منهن شيئا من الرقة والخيال وسرعة الاستثارة، وكون مع أخته الكبرى علاقة حميمة.
وفي (إتون Eton) عانى كربا شديدا بسبب إلزامه بخدمة تلاميذ أكبر منه، وعزف عن كل أنواع الرياضة إلا التجديف ومن سوء الطالع أنه لم يتعلم السباحة أبدا، وسرعان ما نبغ في اللغة اللاتينية فراح يساعد زملاءه في دروسهم فرد لهم بذلك الكيل بتنمرهم له في مجالات أخرى. وكانت قراءاته الإضافية (الخارجة عن المقرر الدراسي) تضم كثيرا من الحكايات والأمور الغامضة والمرعبة، لكنه أيضا استساغ مادية لكريشيوس Lucretius في كتابه " De rerum natura" وكتاب بليني Pliny في العلوم - "التاريخ الطبيعي Natural History" وتفاؤل كوندورسيه في كتابه:" Sketch of a tableau of the Progress of Human Mind" وكتاب جودوين الذي يفلسف الفوضوية (إلغاء الحكومة) والذي جعل له عنوانا هو:
(البحث عن العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice)
لقد كتب في وقت لاحق: "أن هذا الكتاب قد فتح عقلي على آراء جديدة ورحبة. لقد أثر في شخصيتي. لقد أصبحت بعد دراسته بإمعان، أفضل وأكثر حكمة
…
لقد آمنت أن عليَّ واجبات لا بد أن أؤديها".
وخلال الإجازة وقع في حب قريبة لم تتجاوز ستة عشر ربيعا. إنها هاريت جروف Harriet Grove التي كانت تزور أسرته في (فيلد بلاس Field Place) كثيرا. وبدأا يتبادلان الرسائل الحارة حتى إنهما في سنة 1809 تعاهدا على الإخلاص الأبدي. لكنه اعترف لها بشكه في الرب، فأظهرت خطابه المنطوي على منحى لا أدري لأبيها فنصحها ألا ترتبط به (أن تتركه بلا هدف) وعندما نقلت هاريت في يناير سنة 1811 تعهدها بالإخلاص الأبدي له إلى وليم هلير William Helyer، كتب شيلي لصديقه توماس جيفرسون هوج خطابا جديرا بأن يكون على لسان أبطال بايرون القساة:
"إنها لم تعد لي. إنها تمقتني مقتا شديداً كربوني (مؤمن بالله دون الإيمان بأديان منزلة deist) مع أنها كانت تؤمن الإيمان نفسه قبل ذلك. آه! آه أيتها الديانة المسيحية كيف أغفر هذا الاضطهاد القاسي، عسى أن يدمرني الرب (إن كان للرب وجود) .. هل الانتحار خطأ؟ لقد نمت ومعي مسدس محشو وبعض السم ليلة البارحة، لكنني لم أمت".
وفي هذه الأثناء (1810) كان قد انتقل من (إتون Eton) إلى الكلية الجامعية في أكسفورد. وتجنب هناك الإفراط في العلاقات الجنسية - فيما عدا ليلة أو ليلتين مارس فيهما الجنس على سبيل التجريب، وكانت العلاقات الجنسية تبدو لمعظم الطلبة الذين لم يتخرجوا بعد أمرا لازما دالا على الرجولة. وكان يستمع بين الحين والحين إلى محاضرات يلقيها الأساتذة والعمداء الذين لم يكونوا يتفوقون عليه في اللاتينية واليونانية سوى بخطوة واحدة وسرعان ما راح يؤلف الشعر باللاتينية ولم ينس أبدا إيسخيلوس Aeschylus . وكان مقر إقامته غاصا بالكتب المبعثرة والمخطوطات والتعويذات غير الواضحة الواردة في كتب العلم القديمة (في الكتب العلمية قبل نضوجها).
لقد كاد يملأ غرفته عند إجرائه لإحدى التجارب لقد كان يؤمن بقدرة العلم على صياغة الكون والإنسان. ولم يكن يهتم بالتاريخ
فقد كان يؤمن بما قاله فولتير وجيبون Gibbon من أن التاريخ هو في الأساس سجل لجرائم البشر وغبائهم، ومع هذا فقد قرأ كتابات هذين المؤلفين المتشككين بشغف. وقد ظن أنه وجد حلا لسر الكون عند لكريشيوس والمثقفين الآخرين، فحركة الذرات atoms لابد أن تحكمها قوانين، ثم اكتشف سبينوزا Spinoza وفسره شارحاً أنه يؤمن بجوهرين وحيدين: المادة matter والعقل mind (النفس) باعتبارهما جانبين لجوهر مقدس واحد - فشيء كالعقل (النفس) يسري في المادة، وشيء من المادة يغطي العقل (النفس).
لقد كان يقرأ بشغف، وقد وصفه رفيق دراسته هوج بأن: "كتابا في يده طوال الوقت - إنه يقرأ .. وهو جالس إلى المائدة، وهو في السرير، بل وفي أثناء المشي خاصة
…
لم يكن هذا في أكسفورد فقط، وإنما في الطريق السريعة بل وفي أكثر مناطق لندن ازدحاما .... لم تقع عيناي على من يلتهم الصفحات التهاما بشراهه أكثر منه. وكان يعتبر تناول الطعام مضيعة للوقت إذا لم يكن مصحوبا بالقراءة، وكان يفضل أبسط أنواع الطعام، ولم يكن قد أصبح نباتيا بعد ومع هذا فقد كانت وجبة من الخبز والزبيب تبدو له متوازنة. وعلى أية حال فإنه كان مولعاً بما هو حلو، وكان يفضل عسل النحل على خبز الزنجبيل وكان يحب أن يخلط ماء الشرب بالنبيذ. وقد وصف في أيام أكسفورد بأنه طويل نحيل، حزمة منحنية من الأعصاب والنظريات والبراهين، غير مهتم بملبسه وغير مرجل لشعره، يترك قميصه مفتوحا من عند الرقبة يكاد يكون وجهه ذا ملامح أنثوية. عيناه متألقتان لكنهما غير مستقرتين وطباعه حادة لكنها ودودة، وكان كشاعر ذا أعصاب حساسة، دافئ المشاعر، مستسلما للأفكار الغامضة التي لم تتبلور بعد لكنه كان ينفر من التاريخ".
وكان كالشعراء يركز على الحرية الفردية ويشك في القيود الاجتماعية وقد ذكر هوج Hogg أن الليالي في غرفة شيلي كانت رائعة عندما كانا يقرآن الشعر والفلسفة معاً ويدحضان القوانين والعقائد ويظلان يتبادلان الأفكار حتى الساعة الثانية صباحا ويتفقان - قبل كل شيء - على مسألة أساسية هي أن الرب God لا وجود له.
وقد أعد المتمردان الشابان مؤلفا عن هذا الموضوع جعلا له عنوانا هو (ضرورة الإلحاد The necessity of Atheism) وكان هذا المصطلح Atheism (تستخدم القواميس المتداولة إنجليزي عربي، كلمه إلحاد كمعنى لهذا المصطلح)،
وكان هذا المصطلح ممنوع الاستخدام في المجتمع المهذب، فقد كان الشكاكون المهذبون يطلقون على أنفسهم deists أي الربانيين أو الربوبيين أي المؤمنين بوجود إله مع عدم إيمانهم بالأديان (المفهوم هنا كما هو واضح عدم إيمانهم بالمسيحية) وكانوا يتحدثون باحترام عن الله God كموجود لا يمكن معرفة طبيعته، كموجود في الطبيعة وهو حياتها - أي الطبيعة - والروح السارية فيها، وهو موجود غير مشخص Spirit (روحاني).
وقد اعتنق شيلي في وقت لاحق أفكارهم، لكن عند صدور الكتاب الذي نتحدث عنه كان شيلي وزميله في مرحلة الشباب وكانا لا يقدران عواقب الأمور ففضلا استخدام لفظ Atheists ليطلقاه على نفسيهما متحدين بذلك كل ما هو طابو taboo (أي محرم) ولجذب الانتباه. وقد كانت الحجج التي ساقاها هي أنه لا الحواس ولا العقل ولا التاريخ تثبت وجود الرب فالحواس لا تدلنا إلا على المادة في حركتها على وفق قانون، والعقل يرفض الفكرة - فكرة وجود خالق واحد خلق الكون من لا شيء. والتاريخ لا يقدم مثلاً واحداً لفعل إلهي ولا لشخص إلهي ظهر على الأرض. ولم يوقع المؤلفان باسميهما لكنهما نسبا الكتاب على صفحة العنوان إلى ملحد، ألحد لنقص البراهين على وجود الرب.
واحتوى مطبوع جامعة أكسفورد وسيتي هيرالد Oxford university and City Herald إعلانا عن هذا الكتيب في 9 فبراير سنة 1811 وظهر الكتيب فعلا في 31 فبراير، ووضع شيلي على الفور نسخا منه في مدخل مكتبة بيع الكتب في أكسفورد، ورآه جون ووكر John Walker الإكليريكي الموقر فطلب من البائع تدمير كل النسخ وبالفعل تم هذا. وفي هذه الأثناء أرسل شيلي نسخاً إلى كثير من الأساقفة وكثير من الشخصيات المرموقة في الجامعة.
وأحضر واحد من هؤلاء الكتيب (النشرة) إلى عميد الكلية الجامعية وأساتذتها فاستدعوا شيلي للمثول أمامهم في 25 مارس، فمثل أمامهم فسألوه عن مؤلف الكتيب فرفض الإجابة ودعا لحرية الفكر وحرية الكتابة، فطلبوا منه مغادرة أكسفورد في الصباح التالي، وعندما سمع هوج Hogg بذلك اعترف أنه شاركه في تأليف الكتيب وطلب أن يطبقوا عليه العقاب نفسه الذي طبقوه على شيلي، وقد كان. وبعد الظهر ظهر في نشرة الكلية أن شيلي، وهوج قد فصلا لتمردهما برفضهما الإجابة عن بعض الأسئلة
الموجهة إليهما وأرسل العميد - بشكل شخصي إلى شيلي ذاكرا له أنه إذا تعذر عليه الرحيل (مغادرة أكسفورد) خلال هذه الفترة الوجيزة فإنه - أي العميد - يمكنه السماح له بالبقاء لأيام قليلة إن قدم طلبا بذلك، وتجاهل شيلي الرسالة وغادر ومعه هوج في 26 مارس في أعلى مركبة قاصدين لندن.
6 - التطور الأول:
شيلي 1811 - 1812 م
استأجر شيلي وهوج مسكنا في 15 شارع بولاند Poland وأتى والد شيلي - الذي كان في لندن لحضور جلسات البرلمان - إليهما وطلب منهما التراجع عن آرائهما فلما وجد ابنه متمسكا بموقفه أمره بالانفصال عن هوج لما له من تأثير شرير عليه وأن يعود إلى بيت الأسرة ويمكن هناك في رعاية شخص سيعينه الأب وعليه الاستماع لتعاليمه وتوجيهاته، ورفض شيلي فتركهما الأب غاضبا يائسا. لقد اعترف بقدرات شيلي وكان يتطلع لتبوئه مكانا مرموقاً في البرلمان. وترك هوج لندن قاصدا يورك لدراسة القانون وسرعان ما نفد ما كان مع شيلي من مال وراحت أخواته اللاتي كن يدرسن في مدرسة مسز فننج Mrs. Fenning's School في محافظة (دائرة) كلافام Clapham يرسلن له ما يحصلن عليه من مصروف. وفي شهر مايو رق قلب أبيه فسمح له بمئتي جنيه إسترليني في العام.
وكان من بين زميلات أخواته في (كلافام) فتاة في السادسة عشرة من عمرها هي هاريت وستبروك Harriet Westbrook، وهي ابنة مالك ثري لحانة في ميدان جروسفينور Grosvenor Square . وعندما التقت ببيرسي فتنت بنسبه وبراعته في اللغة واتساع دائرة دراساته وسحر آرائه الفاتنة، وسرعان ما آمنت مثله أن الرب قد مات وأن القوانين إزعاج غير ضروري. وقرأت بشغف النصوص الثائرة التي أعارها إياها، والكلاسيكيات المترجمة التي تعكس حضارة رائعة، لم تسمع أبداً أن المسيح أتى بمثلها. ودعته لبيتها.
وكتب شيلي إلى هوج في مايو سنة 1811 إنني أقضي معظم وقتي في منزل الآنسة وستبروك إنها تقرأ المعجم الفلسفي لفولتير Dictionnaire Philosophique وعندما اكتشفت زميلاتها أن صديقها ملحد atheist قاطعنها باعتبارها قد شمت بالفعل ريح جهنم وعندما ضبط معها خطاب منه تم فصلها. وفي بدايات شهر
أغسطس كتب شيلي إلى هوج:
"أبوها يضطهدها بشكل مرعب لإجبارها على الذهاب إلى المدرسة لقد طلبت نصيحتي، فنصحتها بالمقاومة وحاولت في الوقت نفسه أن أطوع السيد وستبروك، لكن دون جدوى! ونتيجة نصيحتي لها جعلت حمايتها على كاهلي". ثم تناول نتائج هذا فقال في خطابه "لقد أصبحت أخيرا مرتبطة بي وخائفة ألا أبادلها موقفها
…
من غير الممكن أن أبتعد عن إنسانة لها مثل هذه المشاعر، لقد قررت أن أربط مصيري بمصيرها"،
ومن الواضح أنه عرض عليها الارتباط بعلاقات حب حرة لكنها رفضت فلما اقترح عليها الزواج وافقت لكن والدها رفض.
وفي 25 أغسطس هرب العاشقان واستقلتهما مركبة إلى ادنبره وتزوجا على وفق طقوس الكنيسة الاسكتلندية في 28 أغسطس 1811 واستسلم أبوها للأمر الواقع وخصص لها مبلغاً سنويا مقداره 200 جنيه. وأتت أختها الكبرى إليزا Eliza لتعيش معها في يورك (اعترف شيلي أنه كان صفر اليدين) وكان شيلي ينفق من ميزانية الأسرة، وذكر أن:"إليزا كانت تحتفظ بالميزانية المشتركة في أحد جيوبها لتخرج منها عند الطلب" ولم يكن شيلي سعيدا تماما بالإشراف المالي لإليزا لكنه كان يجد عزاءه في مرونة هاريت وانصياعها له. لقد كتب في وقت لاحق إلى جودوين: "إن زوجتي تشاركني أفكاري ومشاعري".
ومكثت هاريت وإليزا - غير بعيدتين عن هوج - في يورك، بينما ذهب شيلي إلى لندن ليلين من عريكة والده الذي كان قد أوقف دعمه المالي له بعد أن سمع بزواجه من هاريت، وبعد أن تودد الشاعر إليه عاد فسمح به لكنه منعه (أي منع ابنه) من دخول منزل الأسرة، وعاد شيلي إلى يورك ووجد "أن صديقه العزيز هوج كان قد حاول اغتصاب زوجته هاريت". إنها لم تقل لزوجها شيئا عن هذه المحاولة لكن هوج هو الذي اعترف وطلب الغفران ورحل.
وفي نوفمبر غادر الثلاثة (الشاعر وإليزا وهاريت) إلى كزويك Keswick حيث تعرف شيلي على الشاعر سوثي Southey الذي كتب في 4 يناير 1812: "يوجد هنا رجل هو مثل قرين لي. إنه كشبحي. إنه يشبهني تماما عندما كنت في سنة 1794 .. لقد قلت له إن الفرق الوحيد بيننا أنه في التاسعة عشرة من عمره وأنا في السابعة والثلاثين"، ووجد شيلي أن سوثي شخص لطيف وكريم وراح يقرأ شعره بلذة.
وبعد ذلك بأيام قلائل كتب: "إن سوثي يفكر بطريقة أسمى من الطريقة التي أفكر بها .. ولابد أن أعترف أنني عندما أراه في أسرته يبدو أكثر ما يكون سناء وبهاء
…
كيف أزعجه العالم وأفسدته العادات، إن قلبي يتمزق عندما أفكر فيما آل إليه".
ووجد بعض التسلية والمتعة عند قراءة كتاب جودوين (العدالة السياسية). وعندما علم أن هذا المؤلف الذي كان ذات يوم فيلسوفا مشهورا أصبح يعيش الآن فقيرا في الظل، كتب خطاب إعجاب:
"لقد سجلت اسمك في قائمة العظماء الذين وافتهم المنية. لقد شعرت بالأسف لأن عظمة وجودك قد فارقت عالمنا الأرضي. ولم يكن الأمر كذلك. فأنت ستظل حيا وإنني أعتقد جازما أنك تخطط لرفاهية الجنس البشري. إنني لم أدخل إلا لتوي في معترك التفاعلات البشرية ومع هذا فمشاعري وتفكيري تواصلا مع مشاعرك وأفكارك .. إنني شاب وشغوف بقضايا الفلسفة والحقيقة .. عندما آتي إلى لندن سأبحث عنك. إنني مقتنع أنني أستطيع المثول أمامك مع أنني غير جدير بصداقتك.
وداعا. سأكون متشوقا لتلقي إجابتك.
وفقد رد جودوين Godwin، لكن يمكننا الحكم على فحواه من خطابه المؤرخ في مارس 1812:
"على قدر ما أستطيع التغلغل في شخصيتك فإنني مقتنع أن فيك جملة من الصفات الحميدة بشكل غير عادي، وإن كانت لا تخلو من بعض العيوب. وهذه العيوب تحدث دوما وبشكل أساسي نتيجة كونك لازلت صغيرا جدا، وأنك لست مقتنعا قناعة كافية بهذا ونصح شيلي ألا ينشر كل ما يعن له، وإن نشر شيئا من هذا النوع ألا يضع اسمه عليه فحياة الإنسان الذي ينشر ويوقع ستكون سلسلة من التراجعات".
وكان شيلي بالفعل يطبق هذا بالاحتفاظ بمخطوطات مؤلفاته أو يطبعها طبعات خاصة (محدودة) وأول مؤلفاته المهمة (Queen Mab) :
" كنت قد كتبتها وأنا في الثامنة عشرة من عمري - وأجرؤ على القول أنني كتبتها بحماس كاف وروح عاليه - لكنني
…
لم أكن أنوي نشرها" وفي سنة 1810 كان لا يزال مولعا بالمثقفين والمفكرين الفرنسيين لقد قدم لقصيدته (Queen Mab) بشعار فولتير الغاضب Ecrasez l'infame! واستعار أفكارا كثيرة من كتاب فولني:
Volney's Les Ruines، ou Meditations sur les revolutions des Empires (1791)
في مطلع القصيدة الآنف ذكرها نجد يانث Ianthe العذراء نائمة. وفي الحلم نجد الملكة ماب (وهي جنية) تهبط عليها من السماء وتصعد بها إلى النجوم وتطلب منها أن تتأمل من هذا المنظور ماضي الأرض وحاضرها ومستقبلها فمرت أمام عينيها إمبراطوريات الماضي متتابعة - مصر وتدمر واليهودية والإغريق والرومان
…
وعند الانتقال إلى الحاضر صورت الملكة ماب ملكاً (من الواضح أن المقصود هو الوصي على العرش) هو في الحقيقة عبد لنهمه الشديد ودهشت لأن أحدا من البؤساء الذين يجوّعهم بينما هو متخم لم يرفع ذراعه للإطاحة به من فوق عرشه. فأطلقت حكمها الذي أصبح الآن مشهورا:
- الرجل
- ذو الروح الفاضلة العفيفة لا يأمر ولا يؤمر
- فالسلطة كالطاعون المدمر،
- تلوث كل ما تمسه.
وكانت الملكة ماب تكره أيضا التجارة وتكره آدم سميث: إن اتساق وسعادة شخص يستسلم لثروة الأمم يتمثلان في أن كل شيء للبيع حتى الحب. وصورت لها أيضا إحراق ملحد مما أرعب البكر يانث فواستها الملكة بأن أكدت لها أنه لا وجود لله There's no God ودخل أهاسويروس Ahasuerus اليهودي الجوال وراح يوبخ الله God كما ورد في سفر التكوين (السفر الأول من التوراة) لأنه عاقب بليون رجل وامرأة وطفل عبر آلاف السنين من أجل خطيئة غير مفهومة (خطيئة غامضة) ارتكبتها امرأة واحدة. (ربما وجد بايرون هنا أفكار أوحت له عمله قابيل Cain، وكان شيلي قد أرسل بصفة شخصية نسخة من عمله - ملكة ماب). وأخيرا صورت الملكة ماب (الجنية) مستقبلا زاهرا: الحب بلا قانون. السجون خالية ولا لزوم لها. لا بغاء. الموت بلا ألم. وعندئذ أمرت يانث بالعودة إلى الأرض لتبشر بإنجيل الحب العالمي، وكان لديها إيمان غير واهن بانتصار هذا الحب. واستيقظت يانث.
إنها قصيدة قوية رغم فكرها الصبياني ورغم أسلوبها عالي النبرة في بعض المواضع (المقصود الأسلوب المنمق أو الطنان رغم بساطة
المعنى). وعلى أية حال فقد كان هذا عملا لافتا للنظر لفتى في الثامنة عشرة من عمره. وعندما تم نشر (الملكة ماب) في سنة 1821 دون موافقة الشاعر رحب بها الراديكاليون في إنجلترا باعتبارها تمثل حلمهم وخلال عشرين عاما ظهرت منها أربع عشرة طبعة غير مرخص بها.
وبعد أن مكث شيلي وهاريت في أيرلندا (فبراير - مارس 1812) حيث عمل ببطولة محايدة لصالح قضايا الكاثوليكية والبروليتاريا، انتقل إلى ويلز. وهناك فجع وزوجته بمناظر الفقر السائدة فاتجها إلى لندن ليؤسسا صندوقا لجمع الأموال لصالح أهل ويلز. وانتهز هذه الفرصة لتقديم احترامه لجودوين الذي سره أن تتزاور أسرتاهما كثيرا. وبعد زيارات قصيرة متكررة لأيرلندا وويلز استقر الزوجان الشابان (شيلي وهاريت) في لندن. وهناك أعاد شيلي وهاريت مراسم زواجهما على وفق طقوس كنيسة إنجلترا ليضمنا شرعية أي ابن يرزقانه ليكون وريثا شرعيا، وكان هذا في 24 مارس سنة 1814. وكان شيلي قبل ذلك ببعض الوقت قد كتب لها قصيدة يجدد فيها حبه وعهده بمناسبة عيد ميلادها:
- هاريت، دعي الموت يدمر كل الروابط الزائلة،
- أما رباطنا فلن يتمزق أبدا،
- فالفضيلة والحب، راسخان صامدان
- وكذا الحرية والإخلاص والنقاء،
- فروحي مكرسة لك في هذه الحياة.
7 - التطور الثاني:
شيلي 1812 - 1816 م
بدا شيلي خلال كل جولاته لا يفكر في تدبير مورد رزق له. ربما كان يشارك وردزورث نظرته في أن الشعر لا شريك له وأنه لا بد من إعفاء الشاعر من العمل أو الاهتمامات التي قد تخنق الشعر في دمه. ولم يكن يرى تناقضا بين دعوته للمساواة في الحقوق في ظل جمهورية وجهوده في الحصول على نصيبه من الثروة التي وقفها جده على أبيه. وقد أضاف إلى المبلغ السنوي الذي خصصه له والداه مبلغاً آخر فقد باع للمرابين حقه الذي سيحصل عليه بعد وفاة والده، ففي سنة 1813 تقاضى 600 جنيه نقدا مقابل تنازله عن ألفي جنيه
من ميراثه المتوقع.
وربما شجع المرابين على ذلك هشاشة بنيانه، والأمراض التي كانت تعاوده دوما. فالآلام الدائمة التي كانت تعتري جنبه الأيسر (كما ذكرت زوجته الثانية) كانت تؤثر في أعصابه فتحيله حساساً حساسية شديدة، وتجعل نظرته للحياة مختلفة عن نظرة إنسان سليم الصحة. لقد كان يعاني من الاضطراب والقلق إلى حد كبير وكان أقرب ما يكون إلى الاستثارة وكانت قدرته على التحمل دوما يتسع مداها، حتى يكون لطيفا مع الآخرين متذرعاً بالصبر.
وظن أن بمقدوره تخفيف آلامه بتناول وجبات نباتية، وتمسك بهذا الأمل بناء على تجارب وصفها جون نيوتن في كتابه عودة للطبيعة أو دفاع عن الرجيم النباتي (1811). وثبت على هذه الفكرة فأصبح هو وهاريت نباتيين في سنة 1812. وفي سنة 1813 تحمس لما أسمته زوجته (النظام الفيثاغورسي) فأقحمه في تعليقاته على قصيدة (الملكة ماب) ودعا إليه:
"إنني أناشد كل الذين يحبون السعادة والحقيقة أن يجربوا بشكل مناسب النظام النباتي (الاكتفاء بأكل ما هو نباتي) .. إنني أدعوهم لهذا بحق ما هو مقدس في آمالنا لصالح الجنس البشري
…
فالوجبات النباتية والماء النقي لا تسببان أمراضاً بدنية أو عقلية (نفسية)، بل إنه لا يوجد مرض إلا ويسكنه هذا العلاج الناجع (الماء والنبات) فيتحول الضعف إلى قوة ويتحول المرض إلى صحة".
وفي مطبوع (الدفاع عن الوجبات الطبيعية Vindication of Natural Diet)(1813) عزا الدوافع الشريرة للبشر ومعظم الحروب للوجبات التي تحتوي على لحوم ودعا إلى ترك التجارة والصناعة والعودة للزراعة:
"عندما نأخذ بالنظام الطبيعي لن نكون بحاجة إلى بهار الهند ولا نبيذ البرتغال وإسبانيا وفرنسا وماديرا Madeira .... إن روح الأمة التي ستبادر بقيادة هذا الإصلاح العظيم ستصبح - لا إرادياً - زراعية. فالتجارة بكل آثامها وأنانيتها ستنهار تدريجيا، ومزيد من العادات الطبيعية سيتمخض عنها طباع أكثر دماثة".
وأدت ظروف غريبة متتابعة نتجت عن نباتيته (مذهبه في الاقتصار على تناول ما هو نباتي) إلى دمار زواجه الأول. فبسبب إعجابه بجون نيوتن قابل أخت زوجته (أي أخت زوجة جون نيوتن) السيدة جون بوينتون John Boynton النباتية الجمهورية، الجذابة رغم شعرها الأبيض، والقادرة على إجراء مناقشات تنم عن علم وثقافة بالغتين.
وفي يونيو سنة 1813 وضعت هاريت Harriet مولودة جميلة أسماها شيلي (يانث Ianthe) وفي هذا الصيف انتقل بزوجته وابنته والأخت إليزا إلى براكنل Bracknell وهو مكان جميل يبعد عن لندن بثلاثين ميلا. وبعد ذلك بفترة يسيرة استأجرت السيدة بوينتون منزلاً هناك وجمعت حولها المهاجرين الفرنسيين (الذين تركوا فرنسا بسبب الثورة الفرنسية) والراديكاليين الإنجليز الذين كانت آراؤهم في الحكم والتشريع تعجب شيلي. وزادت فترات افتراقه عن هاريت وابنته يانث وإليزا Eliza فقد كان يذهب للاستمتاع بصحبة السيدة بوينتون وأصدقائها وابنتها المتزوجة.
ولم تعد علاقته بزوجته حميمة تماما كما كانت إذ يعدو أنه بدأ يشعر بشيء من التأخر في تطورها الفكري، كما أنها راحت تنشغل بابنتها انشغالا شديدا، ولم تعد تهتم بالسياسة بل راحت تهتم كثيرا بالمسرات والملابس الجميلة، وقد اشترى من أجلها عربة غالية الثمن، وفي هذه الفترة الحرجة تلقى في 26 مايو 1813 من والده ما يفيد أنه (شيلي) إذا لم يتراجع عن إلحاده atheism ويعتذر لعميد كليته في أكسفورد، فإنه (أي الوالد) سيحرمه من الميراث ويمنع عنه كل مساعدة مالية وكان شيلي قد استدان مقدماً على حساب الثروة التي ستأتيه بعد ذلك (استدان في 4 أغسطس 1813) وذعرت هاريت وأختها إليزا. أحقا لا تستحق باريس إقامة قداس؟! (المقصود أن هذه الأحوال ومثلها مبرر كاف لقيام الثورة الفرنسية)
ورفض شيلي التراجع عن آرائه وواصل سهراته المسائية التي تقيمها السيدة بوينتون. وأرسل جودوين ما يفيد أن دائنيه يهددون بالقبض عليه وطلب المساعدة. وفي يونيو سنة 1814 انتقلت هاريت وابنتها إلى باث Bath متوقعة أن يلحق بها زوجها بسرعة، لكن شيلي ذهب إلى لندن واستأجر غرفة في شارع فليت وحاول أن يجمع مالاً لصالح جودوين وكان غالبا ما يتناول غداءه على مائدة هذا الفيلسوف في شارع سكينر
Skinner، وهناك التقى بماري جودوين
لقد كان دفاعها عن حقوق المرأة دفاعا طيبا لكن لم يلق قبولا على نطاق واسع، وكان شبابها الغض وعقلها النشيط. ووجهها الشاحب المفكر وإعجابها الذي لم ينته بشيلي - كبيرا جدا بالنسبة لشاعر لازال شابا في الحادية والعشرين من عمره. ومرة أخرى اختلطت الشفقة بالرغبة. وكان طالما سمع عن ماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft وكتابها المثير للانتباه، وها هي ابنتها التي لم تكن سعيدة بحياتها مع زوجة أبيها القاسية، تذهب كثيرا لتجلس وحيدة بجوار قبر أمها. وهنا شعر شيلي معها بتآلف نفسي وعقلي ووجدها أرقى عقلا وألطف روحا من هاريت، وفي غضون أسبوع بدا له أنه يحس إزاءها بعاطفة قوية لم يألفها من قبل. وفي 6 يوليو طلب من جودوين يد ابنته، واعتبر الفيلسوف المندهش هذا الطلب فسقا منه فمنعه من دخول بيته، ووضع ماري في رعاية زوجته (زوجة أبيها). وبعد ذلك وجد توماس لف بيكوك Thomas Love Peacock الشاعر يكاد يكون مهتاجا في غرفته بشارع فليت.
"لاشيء كالذي رأيته سبق لي أن قرأته في الحكايات أو التاريخ. لاشيء يقدم صورة أوضح للمفاجأة والعنف وعدم الاستقرار .. والوجد
…
أكثر من الصورة التي وجدته عليها عندما دعاني لآتيه من الريف
…
لقد كانت عيناه كالدم وشعره مهوشا وثيابه غير مهندمة .. وأحضر زجاجة من اللودانيوم laudanum (مستحضر أفيوني) وقال: لن أفارق هذه".
ورغم كل هذه العراقيل رتب شيلي الأمر ليقابل ماري عند قبر أمها وخفف اعتراضها بأن أخبرها أن هاريت لم تكن مخلصة وأنها كانت تخونه مع المدعو السيد (مستر) ريان Mr. Ryan واستمر لفترة ينكر أبوته للطفل الذي تحمله هاريت في بطنها الآن (في وقت لاحق زعم أنه ابنه). وأنكرت اتهامه وأيدها أصدقاء شيلي: بيكوك، وهوج، وتريلاوني Peacock، Hogg، Trelawny، ومتعهد نشر كتبه هوكهام Hookham . وقد رفض جودوين في وقت لاحق هذه التهمة. وكتب شيلي إلى هاريت (وكانت لا تزال في باث) وطلب منها القدوم إلى لندن فأتت في 14 يوليو 1814 إلى بيت والدها فزارها الشاعر هناك ووجدها مريضة بشكل خطر، فطلب منها أن توافق على الانفصال عنه لكنها رفضت وعندما عاد إلى غرفته كتب لها خطابا محموما يقترح فيه عليها نوعاً من الاتفاق:
يا أعز صديقة:
رغم أنني كنت منهكاً عندما التقينا ورغم أننا سنلتقي غدا في الساعة الثانية عشرة، فإنني لم أستطع منع نفسي من الكتابة لك. لقد أصبحت هادئا وأكثر سعادة بسبب تأكيداتك
…
لهذا يا عزيزتي هاريت فإنني أشكرك من أعماق روحي. ربما كان هذا أعظم ما تلقيت من بركة على يديك. لقد كرهت النهار في وضحه وكرهت - بعمق - حتى وجودي. لقد عشت على أمل أن تمنحيني السعادة، والعزاء لما أنا فيه، ولم يخب أملي. إنني أكرر لك (صدقيني فأنا مخلص فيما أقول) أن ارتباطي بك لم تنفك عراه، بل إنني مقتنع أنه قد أصبح أعمق وأكثر ديمومة فهو الآن أقل عرضة لتقلبات الهوى والنزوات. فارتباطنا لم يكن ارتباط هوى ونزوة، بل لقد كانت الصداقة هي أساسه، وعلى هذا الأساس كبرت هذه الصداقة وقويت، فأنت لم تملئي قلبي بمشاعر المعاناة
…
ألن أكون أكثر من صديق؟ آه .. سأكون أكثر من أخ، فأنا والد ابنتك الحبيبة لكلينا
…
إن أردت الدفع لأصحاب المصارف قبل أن أراك، فإن هوكهام سيعطيك كل الشيكات.
وداعا. أحضري معك طفلتي الحبيبة الحلوة، فلا بد أنني سأكن لها حبا للأبد من أجلك.
المخلص والمحب دوما
پ. ب. شيلي
وروت هاريت الأمور من وجهة نظرها في خطاب إلى كاترين نُوجِنْت Catherine Nugent مؤرّخ في 20 نوفمبر سنة 1814:
…
إن ماري مصرة على اغتصابه
…
لقد ألهبت خياله باصطحابه إلى قبر أمها كل يوم وبمداومة الحديث عن أمها حتى أخبرته أخيرا أنها تموت فيه حبا
…
فلم لا نعيش جميعا معا؟ هكذا سألته ماري. أنا كأخته وهي كزوجته؟ وكان من الغباء أن اعتقد بإمكان هذا، فأرسل يطلبني ثم أقام في باث Bath. يمكنك تصور شعوري بعد افتضاح هذا الأمر. لقد لازمت الفراش طوال أسبوعين ولم أستطع إنجاز شيء. لقد توسل إليّ أن نعيش
…
وها أنا يا
صديقتي العزيزة في انتظار أن أضع طفلاً في هذا العام المحزن. وفي الشهر القادم سأكون حبيسة المخاض، ولن يكون قريباً مني.
هـ. شيلي
وقدم لنا جودوين بعض التفاصيل في خطاب أرسله إلى جون تايلور مؤرخ في 27 أغسطس سنة 1814:
لقد كنت أثق فيه (أي شيلي) إلى أقصى درجة فقد عرفته سريع التأثر بالمشاعر النبيلة. لقد كان رجلاً متزوجاً عاش بسعادة مع زوجته طوال ثلاث سنين
…
وفي 26 يونيو (وكان يوم أحد) اصطحب ماري وأختها جين كليرمونت Jane Clairmont إلى قبر أم ماري
…
وهناك يبدو أن فكرة غير تقية راودته. لقد فكر في اغتصابها، فخانني بعد أن ائتمنته، وهجر زوجته
…
وفي السادس من يوليو، وكان يوم الأربعاء .. وصل به الجنون حدا جعله يفضي إليّ بما يعتزمه وطلب موافقتي، فتجادلت معه
…
فوعدني في لحظة وهو في غاية التأثر بالتخلي عن حبه الآثم .. لكن الاثنين خدعاني، ففي ليلة 27 يوليو هربت ماري وأختها جين من بيتي وفي الصباح وجدت خطابا يخبرانني فيه بفعلتهما.
وكانت جين كليرمونت أختا غير شقيقة لماري فهي ابنة زوجة جودوين الثانية من زوجها السابق. وكان اسمها الأصلي كلارا ماري جين، لكنها كانت تفضل أن ينادوها كلارا ثم أصبح اسمها كلير (Claire أو Clare) . ولدت في 27 أبريل 1798، وقد بلغت الآن السادسة عشرة من عمرها، وكانت صالحة للزواج بشكل واضح. لقد كانت موهوبة وحساسة ومعتزة بنفسها ولم تكن مرتاحة لسلطة أمها المرعبة وطباعها الثائرة، وكان زوج أمها مفلساً ومنشغلاً بدرجة لم تمكنه من تعويضها بأي قدر من الحب، فطلبت من ماري وشيلي أن يأخذاها معهما. وقد كان، ففي 28 يوليو سنة 1814 هرب ثلاثتهم من لندن إلى دوفر Dover ومنها إلى فرنسا.
وفي 20 أغسطس وصلوا إلى لوسيرن Lucerne، فلم يجد شيلي أية رسائل في انتظاره ولم يأته مال من لندن، ولم يكن معه سوى ثمانية وعشرين جنيهاً، فأخبر رفيقتيه وهو حزين بضرورة العودة إلى إنجلترا لتدبير المسائل المالية. فاستقلتهما عربة ثم قارب وأسرعا للشمال،
وفي 13 سبتمبر سنة 1814 كانوا - مرة ثانية - في لندن. ومكث طوال اثني عشر شهرا مختبئا من دائنيه، بل واقترض أموالاً أخرى ليطعم نفسه وماري وكلير وجودوين الذي كان لا يزال يرفض رؤيته لكنه رحب بالمساعدة المالية. وفي هذه الأثناء وضعت هاريت مولودها الثاني، وأسمته تشارلز، ووضعت ماري مولودها الأول وليم. وأوت كلير إلى مخدع بايرون. وأخيرا مات جد شاعرنا تاركا ثروة لوالد شيلي الذي أصبح الآن هو السير تيموثي شيلي - تقدر بثمانين ألف جنيه. لقد أصبح شيلي الآن وارثا، لكن والده لم يعترف بذلك. لقد عرض عليه التنازل عن حقوقه مقابل مبلغ سنوي قدره ألف جنيه فوافق، فجعل شيلي مائتين منها كل عام لهاريت، وفي 4 مايو 1816 غادر الشاعر وماري ووليم وكلير مرة أخرى قاصدين دوفر ومنها إلى فرنسا، وكان بايرون - قبلهم بتسعة أيام قد نفض عن قدميه تراب إنجلترا.
8 - إجازة سويسرية:
بايرون وشيلي 1816 م
اختار شيلي وكذلك بايرون، دون اتفاق سابق، سويسرا لتكون ملاذا لهما، واختارا جنيف لتكون مركزا لنشاطهما. ووصلت جماعة شيلي في 15 مايو واتخذت لها محل إقامة في ضاحية سيشيرون Secheron. أما بايرون وبطانته فاستقلتهما في أوستند Ostend مركبة فخمة كان قد أمر بتشييدها بتكلفة خمسة مائه جنيه على نمط مركبة كان يستخدمها نابليون واستولى عليها أعداؤه في جناب Genappe بعد هزيمته في واترلو. لقد كان بها سرير ومكتبة وكل ما يلزم لتناول الطعام.
وقام بايرون بجولة خاصة في أرض المعركة (واترلو) وتفقد ما تخلف عنها، وربما يكون قد ألف في بروكسل هذه الليلة المقاطع الشعرية من 21 إلى 28 وهي المقاطع الأكثر خلودا في النشيد الثالث في (رحلة شيلد هارولد Childe Harold Pilgrimage) وفي 25 مايو وصل إلى فندق دنجلتير d'Angleterre الواقع على بعد ميل إلى الشمال من قلب جنيف، فطلب منه موظف الاستقبال كتابة سنّه فكتب مائة واكتشفت كلير كليرمونت التي كانت مشرفة بمراجعة أسماء الواصلين فأرسلت إليه تواسيه لكبر سنه واقترحت عليه اللقاء.
وفي 27 مايو أتى ليلتقي بشيلي وماري وكلير فكان هذا
أول لقاء بين الشاعرين. وكان بايرون قد قرأ (الملكة ماب) فامتدح القدرة الشعرية لكنه صمت تأدبا فيما يتعلق بالجانب السياسي الذي تنطوي عليه، فقد كان من الصعب أن يتوقع من شاب في الرابعة والعشرين أن يفهم فضائل الأرستقراطية - رغم أنهما ربما اتفقا على أهمية التوريث. وأخيرا اعتبر شيلي أن لورد بايرون أرقى منه شعرا.
وفي 4 يوليو استأجر بيتا في مونتاليجر Montallegre التي تبعد عن جنيف بميلين، وتقع على الشاطئ الجنوبي لبحيرة جنيف. في 7 يوليو استأجر بايرون فيلا ديوداتي Diodati التي لا تبعد عن شيلي سوى بمسيرة عشر دقائق، واشتركا معا في استئجار قارب صغير وغالبا ما كانت الأسرتان تبحران فيه معاً في البحيرة كما كانا يقضيان الأمسيات في النقاش والمسامرة في فيلا ديوداتي.
وهناك، في 14 يوليو، اقترح بايرون أن يكتب كل واحد منهم قصة عن الأشباح. وحاول كل منهم وفشلوا إلا ماري التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها فقد ألفت واحدة من أشهر الروايات في القرن التاسع عشر. هي:
"فرانكنشتين أو بروميثيوس المعاصر Frankenstein، or the Modern Prometheus"
وتم نشرها في سنة 1818 وكتب شيلي مقدمة لها. وقد طرحت القصة - من بين أمور أخرى كثيرة - قضيتين غاية في الأهمية، ما تزالان محل اهتمام: أيمكن للعلم أن يخلق الحياة؟ وهل يمكنه تسخير قوته لمنع الشر بنفس مقدرته على إزجاء الخير؟
واقترح بايرون أيضا أن يقوم هو وشيلي بالطواف بقاربهما المتواضع حول البحيرة وأن يتوقفا عند النقاط التاريخية خاصة التي حققت شهرة بسبب كتاب روسو "هلويز الجديدة"(Julie، ou La Nouvelle Heloise) ووافق شيلي رغم أنه لم يكن قد تعلم السباحة. وانطلقا في 22 يونيو واستغرق منهما الوصول إلى مليري Meillerie (في سافوي) يومين، وهناك تطلعا إلى البقعة التي افترق فيها سان - برو Saint - Preux عن جولي (كما ورد في الرواية أي أن هذه الأسماء وردت في الرواية وليس لها بالضرورة حقيقة تاريخية) وحيث - كما هو مفترض - نقش اسمها على الصخر. وواصلا الرحلة فتعرضا لعاصفة مفاجئة وغمرت الأمواج بشكل متكرر مقدمة القارب مهددة بقلبه رأساً على عقب، وقد تذكر بايرون بعد ذلك ما حدث:
"لقد خلعت معطفي وطلبت منه أن يفعل الشيء نفسه وأن يمسك بالمجداف وأخبرته أنني
أظن
…
أنه يمكنني إنقاذه إذا لم يقاوم إذا أمسكت به
…
فأجاب ببرود شديد أنه ليست لديه فكرة عن إمكانية إنقاذه وأن كل ما يمكنني عمله هو إنقاذ نفسي وتوسل ألا يزعجني".
واستقر القارب ونزل الشاعران إلى البر واستراحا، وفي صباح اليوم التالي زارا شيلون Chillon والقلعة التي كان فرانسوا دي بونيفار de Bonnevard قد سجن فيها (1530 - 1536)، بأمر من دوق لوزان. وفي كلارنز Clarens كان شيلي يمسك بيده رواية روسو ليسترشد بها - لقد سار الشاعران على الأرض التي أصبحت جديرة بالذكر كمقدس للرومانسية الفرنسية. وفي 27 يونيو وصلا بقاربهما إلى أوشي Ouchy مرفأ لوزان، وفي هذه الليلة كتب بايرون "سجين شيلون Prisoner of Chillon" كما كتب مقاطع شعرية عن روسو في (شيلد هارولد Childe Harold) وفي 28 يوليو زار الشاعران منزلاً في لوزان كتب فيه جيبون كتابه (انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها). وفي أول يوليو عاد الجوالان إلى مونتاليجر وديوداتي. وفي غضون الأسبوعين التاليين كتب بايرون النشيد الثالث في رحلة شيلد هارولد Childe Harold's Pilgrimage ونسخت كلير كليرمونت نسخة منها فقد عرفت الآن إحدى لحظات السعادة القليلة في حياتها.
لقد كان قدرها أن يصاحبها سوء الحظ، فقد أدى إخلاصها لبايرون إلى إثارة الأقاويل في سويسرا لدرجة مؤذية: لقد كان هناك اتهام بأن الشاعرين كانا يعيشان مع الأختين في علاقات مشتركة غير شرعية، وسمى بعض الخياليين بايرون وشيلي بالشيطانين المتجسدين، وأصيبت سيدة إنجليزية تقوم برحلة في سويسرا، بالإغماء عندما ظهر بايرون في صالون مدام دي ستيل de Stae في كوبت Coppet . وربما أسهمت هذه الأقاويل في تصميم بايرون على إنهاء علاقته بكلير. لقد طلب من شيلي ألا يسمح لها بالقدوم إلى فيلا ديوداتي مرة ثانية. وكانت كلير في ذلك الوقت حاملاً من بايرون، وكانت في شهر حملها الثالث، فطلبت أن يسمح لها بزيارة واحدة أخرى لكن تم إثناؤها عن عزمها.
وفي 24 يوليو أخذ شيلي كلا من كلير وماري في رحلة إلى شامونكس Chamonix في سافوي. وفشلوا في هذا اليوم في محاولتهم الوصول إلى المير دي جلاس the Mer-de-Glace لكنهما نجحا في اليوم التالي. وعند
عودتهما إلى سويسرا توقفا عند دير شارتيز Chartreuse في مونتنفير Montenvers. وكتب تحت توقيعه في دفتر الزيارات - وقد أثارته مظاهر التدين - كتب باللغة اليونانية:
"إنني أحب البشر، وديمقراطي وملحد"،
" Eimi philanthropos demokratikos t'atheos te-"
وعندما زار بايرون بعد ذلك بفترة وجيزة المكان نفسه محا الكلمة الدالة على الإلحاد خوفاً من أن تستخدم في غير صالح شيلي في إنجلترا.
وقد كان. وفي 9 أغسطس غادر شيلي وماري وكلير سويسرا قاصدين إنجلترا، وأعطى بايرون، مخطوطة (سجين شيلون) والنشيد الثالث والرابع من (شيلد هارولد) لشيلي كي يسلمها للناشر جون مري. أما شيلي نفسه فقد كان مشغولا مع ماري وكلير فلم يحضر سوى (ترنيمة جمال الفكر) وقصيدة Mount Blanc:(أبيات كتبت في قصيدته (وادي شامونكس Chamonix) . وهذه القصيدة تكاد تكون مرتبكة كنهيرات الجليد التي تهبط ملتفة حول المنحدرات الجبلية في المير دي جلاس.
فقد وجد شيلي انطباعاته عديدة ومتباينة حتى إنه كان غير قادر على التعبير عنها بوضوح بأي شكل من الأشكال وفكر برهة من الزمن في الكتلة الشاهقة مخاطبا إله الطبيعة كما تصوره وردزورث لكنه عاد مرة أخرى إلى الشعور بالكثافة الباردة تاركاً كل الأمور لأحكام البشر. وتظهر أيضا في قصيدته (ترنيمة جمال الفكر Hymn to Intellectual Beauty) بعض تأثيرات وردزورث لكن سرعان ما زوي إعلان شيلي بالخلود لقد عبر عن دهشته لوجود الظلمة جنبا إلى جنب مع النور، والشر جنبا إلى جنب مع الخير، وراح يحلم بخلاص الإنسان بتنمية إحساسه بالجمال وتعميقه وتوسيع مداه، ومتابعة الإحساس بالجمال في الفكر والعمل كما نتابعه في الشكل والبدن:
- لقد نذرت نفسي ..
- لك .. ألم أف بنذري؟
- ليس من فرح أزال عن جبيني التقطيب
- فلا أمل لدي أن تتحرري
- فمن هذا العالم، من عبوديته المظلمة
- يمكنك التعبير عما لم تستطع هذه الكلمات التعبير عنه
- يا للفتنة المدهشة!
وأخيراً كان على محاولات وردزورث، وبايرون، وشيلي أن تجد صديقا خيرا في طبيعة هوت أمام الحياد الهادئ، فاستسلم وردزورث لكنيسة إنجلترا، واستسلم بايرون وشيلي لليأس.
9 - انحلال في فينيسيا:
بايرون 1816 - 1818 م
في شهر سبتمبر سنة 1816 قدم هوبهوس Hobhouse من إنجلترا وانضم إلى بايرون في رحلة واسعة المدى في الألب السويسرية. وفي أكتوبر عبراها إلى إيطاليا، فتلقاهما أهل ميلان بقبول حسن واحتفى المثقفون الإيطاليون ببايرون كأعظم شاعر إنجليزي على قيد الحياة وقدروا شجبه الواضح لحكم النمسا في لومبارديا Lombardy . لقد أخذ وساما في لاسكالا La Scala ورآه ستندهال Stendhal هناك ووصفه بإعجاب:
"لقد فوجئت بعينيه
…
لم أر في حياتي ما هو أجمل ولا أكثر تعبيرا. وحتى اليوم فإنني إذا فكرت في التعبير الذي يجب أن يسبغه الرسام على العبقرية - لم أجد أمامي إلا هذا الرأس السامق (رأس بايرون)
…
لن أنسى أبدا التعبير القدسي في وجهه .. إنه يشيع جو القوة والعبقرية ".
ووصل الشاعر وصديقه إلى فينيسيا في 16 نوفمبر 1816 وفارقه هوبهوس لرؤية ما يستحق الرؤية وتابع طريقه بسرعة إلى روما، أما بايرون فاستأجر منزلاً في شارع جانبي متفرع من بيازا سان ماركو Piazza San Marco وجعل من زوجة صاحب الفندق واسمها ماريانا سيجاتي مدبرة لأمر جناحه في الفندق، ووجد وقتا لإتمام (مانفرد Manfred) وفي شهر سبتمبر سنة 1818 بدأ عمله (دون جوان Don Juan) الذي انتقل فيه من الرومانسية العابسة والانهماك في الذات إلى الأهاجي المرحة الساخرة ذات الطابع الواقعي.
وبطبيعة الحال فإن (مانفرد) هو (بايرون) نفسه مرة أخرى، وقد ألبسه المؤلف شخصية مكتئب كارهٍ للبشر في قلعة قوطية شاعرا بلعنة هائلة على روحي راقدا محتضنا بيض خطاياه. لقد استدعى الفاتنات من مخادعهن فوق الألب وطلب منهن منحة واحدة - النسيان، فقالا له لا نسيان إلا بالموت، وتسلق الجنجفراو Jungfrau ورأى في شجرة صنوبر ذابلة شبيها يرمز إليه جذع أصابه التلف على صخرة ملعونة لا تمد الشجرة إلا بالفناء
وبحث عن الموت بمحاولة القفز من فوق منحدر صخري شاهق لكن صيادا أوقفه واصطحبه إلى كوخ في الجبل وقدم له نبيذا دافئا وسأله عن سبب يأسه. وأجاب مانفرد الذي اعتبر النبيذ رمزا للدم - بكلمات قد يفهم منها اعترافه بمعاشرة المحارم:
إنني أقول إنه (أي النبيذ) دم! فالمجرى الدافئ النقي
الذي جرى في عروق آبائي وعروقنا
عند ما كنا في شبابنا، وكانت قلوبنا
في حالة عشق وأحب أحدنا الآخر كما لا يجب أن يكون
إن هذا كان ولا يزال يغلق أبواب السماء دوني.
وراح يحسد الصياد لحريته وحياته الصحيحة.
وقدم للصياد ذهبا ورحل، واستخدم علمه غير المقدس
فاجتمع بأستارت Astarte التي رأى فيها شبح حبه المحرم
ودعاها للصفح عنه أستارت،
يا حبيبتي تحدثي إلي
- في الذروة إذ حلق بايرون معبراً عن عواطفه وانفعالاته. وكما كان يحدث في بلاد جليفر Gulliver التي يعيش فيها اللجناجيون Luggnaggians حكم عليه بالخلود، ظنا منه أن الخلود هو أقصى درجات العقاب. لقد توسل إليها (إلى أستارت) أن تستخدم قوتها السحرية وتمنحه الموت، فطمأنته قائلة مانفرد، غدا تنتهي حياتك في هذه الدنيا وصفقت ساحرة حاضرة لشجاعته:"إنه يسيطر على نفسه". إنه يجعل عذابه مرتبطا بإرادته. أكان واحداً منا؟! سيكون روحا مرعبة. وربما يكون شيطان Satan ميلتون Milton قد ترك واحدا من أصدائه الكثيرة في أعمال بايرون. وقد أجاب (مانفرد) رئيس دير الرهبان الذي أراد جذبه مرة أخرى إلى المسيحية، قائلا: إن هذه دعوة جاءت متأخرة جدا وأضاف قائلا:
ليس هناك نظام
للبشر على الأرض، فهناك من أصبحوا
شيوخا في شبابهم وماتوا قبل منتصف العمر،
دون أن يذوقوا الموت في ساحات الوغى.
وعندما غادر (مانفرد) للقاءاته الأخيرة حزن رئيس الدير وتفجع:
هذا لا بد أنه كان مخلوقا نبيلا، إن لديه
كل الطاقة التي تخلق عناصر رائعة،
وقد تم مزجها بحكمة!
وكما لو كان يتحدى العالم معترفا بما كان موضع شك، أرسل بايرون عمله (مانفرد) إلى إنجلترا فنشره الناشر مري Murray في 16 يونيو سنة 1817، وبعد النشر بأسبوع ظهر عرض في صحيفة لندنية منهيا كل تعاطف مع بايرون انه:"تناول شخصه (أي شخص) بايرون وأطلق عليه اسم مانفرد. إنه يقصد نفسه .. إن (مانفرد) قد طرد نفسه من المجتمع فكيف نتعاطف مع منعزل مطرود؟! إنه ببساطة قد ارتكب أشد أنواع الجرائم المقززة. لقد غشي محارمه ".
وفي 17 أبريل 1817 غادر بايرون مدينة فينيسيا ليقضي شهرا مع هوبهوس في روما. وعاقته قدمه (المصابة) عن القيام بجولة في متاحف روما لكنه رأى البقايا الهائلة لروما الكلاسيكية وزار بومبي Pompeii " لقد وقفت كبقايا وسط بقايا" هكذا قال شيلد هارولد. وفي 28 مايو عاد إلى فينيسيا (البندقية) وفي ديسمبر نجح بعد محاولات كثيرة في بيع مبنى دير نيوستيد Newstead والأراضي المحيطة به بمبلغ 94،500 جنيه إسترليني وفوض مسئول أموره المالية في لندن دوجلاس كنيرد Douglas Kinnaird لدفع كل ديونه وأن يرسل له 3،300 جنيه إسترليني سنويا عن أرباح المبلغ المتبقي، وبالإضافة إلى هذا فقد أصبح الآن يقبل الحصول على أموال مقابل نشر أشعاره.
وامتلأ بالحيوية فاشترى قصرا فخما Palazzo Mocenigo على القنال الكبير (جراند كانال Grand Canal) وحشدها بأربعة عشر خادما وقردين وكلب حراسة ضخم وخليلة جديدة هي مارجاريتا كوجني وهي زوجة معتزة بنفسها لأحد المسئولين المحليين. ولم يكن ليكتفي بامرأة واحدة فقد تباهى بعلاقاته الجنسية بمائتي امرأة على التوالي في فينيسيا (البندقية) وفي 20 يناير سنة 1817 أخبر كنيرد أنه في الأمسيات أخرج أحيانا، وأنخرط دوما في علاقات جنسية وفي 9 مايو 1818 كتب لمسئوله المالي إن لدي عالماً من العاهرات وفي منتصف الصيف تردت أحواله
الصحية فأصبح بعيدا تماما عن الأوصاف الرائعة التي وصفه بها ستندهال منذ عامين. لقد أصبح سمينا وتحول شعره إلى اللون الرمادي وبدا أكبر من سنه (كان في الثلاثين من عمره) وصدم شيلي عندما رآه على هذه الحال عندما التقيا مرة أخرى.
10 - أمور شيلي العائلية:
من 1816 - 1818 م
في الثامن من سبتمبر سنة 1816 وصل شيلي وماري Mary وابنهما وليم ومربيته السويسرية إليز فوجي Elise Foggi وكلير كليرمونت Claire Clairmont - إلى إنجلترا. وذهب جميعهم عدا شيلي إلى باث Bath أما شيلي فأسرع إلى لندن متوقعاً أن يجد أباه قد ترك له خمس مائه جنيه، لكن شيئا لم يصل وكان عليه أن يسحب وعده بأن يعطي ثلاثمائة جنيه لوالده الروحي واهتاج جودوين وهرب شيلي إلى باث حيث زوجته غير الشرعية.
وهناك (في باث) تلقت ماري خطابات حنونة من أختها غير الشقيقة فاني جودوين في 26 سبتمبر و 3 أكتوبر. ولدت فاني Fanny في فرنسا سنة 1794 وكانت هي الابنة الطبيعية (ابنة زنا) من القبطان إملاي Imlay وماري ولستونكرافت Wollstonecraft، وتبناها جودوين عند زواجه من أمها ورغم شفقته عليها فإنها لم تكن سعيدة بحياتها مع زوجته الثانية السيدة كليرمونت. وعكست خطاباتها روحاً لطيفة تتحمل التعاسة بشجاعة ولا تلوم أحدا وتتوق للسرور بقلب مخلوع.
وكانت ماري محبة لها لكن بعد أن غادرت ماري وكلير مع شيلي، لم يعد لفاني سند يواسيها لظروف حياتها مع زوجة أبيها، وعندما عاد العاشقان الهاربان إلى إنجلترا لم تساعدهما ظروفهما المالية على استقبال فاني لتعيش معهما. وفي 12 سبتمبر حمل شيلي لماري وكلير أخبارا مفادها أن فاني كانت قد ذهبت إلى سوانسي Swansea واعتزلت في غرفتها بالفندق وقتلت نفسها بالأفيون.
ولم ترحم الأحوال شيلي إلا قليلا. فعند عودته إلى إنجلترا جرى معه تحقيق بشأن زوجته التي كان لا يزال مرتبطا بها من الناحية الرسمية. لقد علم أنها كانت تعيش مع أبيها وكانت تتلقى بانتظام مائتي جنيه سنويا. وفي نوفمبر سعى إلى زيارتها فعلم باختفائها، وفي 12 ديسمبر 1816 كتبت جريدة التايمز Times تقريرا عن انتشال جثتها منذ يومين
من بحيرة سيربنتين Serpentine في الهايد بارك Hyde Park وأسرع شيلي بتوثيق زواجه من ماري (جعل ارتباطه بها شرعيا) في 30 ديسمبر سنة 1816، رغبة منه في رعاية نسله من هاريت Harriet - الابنة يانث والابن تشارلز، وظلت مطالبته بابنيه تسوّف في محكمة شانسري Chancery طوال ثلاثة أشهر.
وقد أكدت له ماري أنها ستكون سعيدة باستقبال هذا الكنز العزيز ليكونا تحت رعايتها، لكن والد هاريت وأختها رفضا دعوى شيلي على أساس أنه ملحد وغير مؤمن بالزواج الشرعي (الزواج الموثق من الكنيسة) وأنه هجر زوجته وهرب مع امرأة غير متزوجة، فمثل هذا الرجل - على وفق رأيهما - غير جدير بتربية أطفال بطريقة سوية تجعلهم صالحين للعيش في إنجلترا، وحكمت المحكمة على شيلي في مارس سنة 1817 معترفة بالحجج التي ساقها والد هاريت بصرف النظر عن المسائل اللاهوتية (الدينية).
وعلى أية حال فإن المحكمة زكت اختياره والدين لتنشئة طفليه ووافق هو على دفع مائة جنيه سنويا لإعاشتهما. وسهرت ماري لرعاية كلير كليرمونت التي كانت لا تزال في التاسعة عشرة من عمرها ووضعت مولودة في 12 يناير سنة 1817 سميت أخيرا أليجرا Allegra في الوقت الذي كان فيه شيلي يرفع دعوى قضائية في لندن. ولم تكن كلير قد تلقت ردودا على خطاباتها التي أرسلتها لبايرون منذ مغادرة سويسرا، وكانت الفكرة الراسخة لديها أن بايرون لن يعترف أبداً بالطفلة مما دفع الأم لليأس وطلب شيلي من بايرون تعليمات بشأن رعاية الطفلة مركزاً في خطابه على جمالها.
ووافق بايرون على رعاية الطفلة وضمها إليه إذا أتت إليه. وتعقدت الأمور في سبتمبر سنة 1817 عندما وضعت ماري مولودها الثاني، وقد وضعتها أنثى وجرى تعميدها باسم كلارا إيفيرينا Clara Everina . وعانت الأم والمولودة فاتفقت الأسرة كلها على أن ما يحتاجونه هو دفء إيطاليا وسمائها وفاكهتها. وفي 11 مارس 1818 عبروا إلى فرنسا وبدؤوا رحلة طويلة في مركبات مال دي مير mal-de-mer إلى ميلان.
ومن ميلان أرسل شيلي إلى بايرون ليأتي لرؤية أليجرا. وخوفا من أن يؤدي هذا إلى تجديد العلاقة مع كلير، رفض بايرون القدوم، واقترح - بدلا من ذلك - أن تأتي المربية بالطفلة إلى فينيسيا، فإذا تم ذلك بشكل مرض أصبحت الأم حرة في زيارة الابنة (أليجرا)
بين الحين والآخر، فوافقت كلير على كره منها، ووجد بايرون الطفلة رائعة جميلة فأخذها إلى قصره لكنها خافت من حيواناته ومومساته حتى إن بايرون سرعان ما دفع للقنصل البريطاني - ريتشارد هوبنر Richard Hoppner - وزوجته ليأخذا الطفلة إلى بيتهما.
وعندما سمع شيلي وكلير بذلك (تركا ماري وأطفالها في لوكا Lucca) وذهبا إلى فينيسيا ووجدا أليجرا تعامل معاملة جيدة بشكل معقول. وقابل بايرون، شيلي بحرارة واصطحبه في جولة في ممرات البندقية المائية " gondola ride" إلى الليدو Lido ودعاه هو وأسرته وكلير وأليجرا للإقامة في فيلته ما طابت لهم الإقامة. وقدمت ماري من Lucca مع أطفالها لكن كلارا إيفيرينا مرضت في الطريق وماتت في البندقية (فينيسيا) في 24 سبتمبر 1818. وفي 29 أكتوبر، بعد مرور شهر من الإقامة في فيلا بايرون (I Cappuccini) ودعوا أليجرا وقصدوا روما.
11 - شيلي: الذروة:
من 1819 - 1821 م
في الفترة من وصول شيلي إلى روما (1819) حتى ارتباطه ثانية ببايرون في بيزا Pisa، كانت قصائده هي الأحداث الكبرى في حياته. وهذا لا يمنع أنه قبل هذه الفترة كانت هناك ومضات شعرية فائقة الجودة متناثرة هنا وهناك في قصيدته الطويلة (الملكة ماب Queen Mab) وبعد ذلك في عمله (Ozymandias)(1817) وهو سونتة (قصيدة من أربعة عشر بيتا) الفكر المحكم والقوة الهائلة فـ (الأبيات المكتوبة في التلال الإيجانية Lines Written in the Euganean Hills)(1818) كان ينقصها مثل هذا التركيز في الفكر والحبكة في الشكل والصياغة، والأبيات المكتوبة وهو في حال اكتئاب Dejection بالقرب من نابلي (1818) مغرقة في المرارة والتحسر على الذات إغراقا شديدا لا يدفع على المواساة (التعاطف مع كاتبها)، فالمرء لا يجب أن يحمل أحزانه وتظلماته في أكمامه. لكنه الآن بعد ثلاث سنين طلع علينا بروميثيوس المنطلق:(قصيدة إلى الريح الغربية Ode to the West Wind) و (إلى طائر القنبرة To a Skylark) و (السحاب The Cloud) و (إبيسيكيدون Epipsychidion) و (أدونيس Adonais) . ونغفل هنا عمله (The Cenci)(1819) الذي
حاول فيه - محققا بعض النجاح - أن ينافس جون وبستر وغيره من دراميي اليعاقبة في عصر إليزابيث في قصصهم الدموية القاتمة التي تعج قتلا وغشياناً للمحارم.
وعلى وفق مقدمة المؤلف (لبروميثيوس المنطلق Prometheus Unbound) فإنه كتبها في أعلى حمامات كاراكالا Caracalla في روما سنة 1820.
وكان قد تحدى مؤلفي العصر الإليزابيثي بعمله (the Cenci) أما الآن فإنه يخاطر بقفزة أبعد بطموحه لتحدي الكتاب الإغريق. ففي (بروميثيوس المقيد Prometheus Bound) نجد إيسخيلوس يظهر العارف سلفاً fore knower كثائر. وتم تقييد تيتان Titan إلى صخرة في القوقاز ليوحي للبشرية كثيرا جدا من شجرة المعرفة. وفي البقايا المفقودة من هذه الثلاثية - على وفق المرويات - فإن زيوس Zeus فقد الآن قلبه وحرر بروميثيوس وفك قيوده كما حرره من الصقر الذي كان ينقر كبده باستمرار بناء على أوامر إلهية، ينقر كبد بطلنا كما ينقر الشك في صلب اليقين.
وتصور (الدراما الغنائية Lyrical Drama) كما أسماها شيلي، زيوس، كبوربوني as Bourbon عجوز فظ مسئول بقسوة عن تعاسة البشر وانقلاب حال الدنيا. لقد أطاح به بروميثيوس بكل حماسة خريج أكسفورد الفاهم المستوعب الذي يستدعي الأساقفة لحضور جنازة الرب (المقصود هنا جنازة زيوس). وهنا يظهر ندم تيتان على قسوة لعنته:"إنني لا أرغب في أن يعاني كائن حي من الآلام" لقد عاد يباشر مهمته التي اختارها - أن يجلب الحكمة والحب للبشرية. وهنا نجد روح الأرض Earth تهلل سعيدة هاتفة باسمه: "أنت أكثر من إله، فأنت حكيم ورحيم" خلال الفصل الأول نجد الحديث محتملا وقصائد الأرواح الحاضرة تدمدم بقوة جوهرية، متلألئة بكنايات واستعارات ومجازات حلوة وقصائد مقفاة متسقة - لكن الخطب - سواء كانت لاهوتية أم غير لاهوتية ليست هي روح الشعر ونوره، فبالخطب تصبح القصائد الغنائية كريهة، وبالخطب تفقد القصائد فتنتها وإغراءها عندما تهبط كالصخرة على القارئ بإسراف مربك.
إن الجمال في هذه الحال يصبح مصدر إزعاج لا ينتهي! ففي كثير من شعر شيلي نجد عواطف متأججة دون سكون، وكلما تقدمنا في القراءة أحسسنا شيئا من الضعف في هذا الشعر وأحسسنا بكثير جدا من المشاعر إزاء أفعال درامية قليلة جدا، وكثير جدا من حالات القلوب ومجموعات الورود (تقول روح الأرض: "
إنني كقطرة ندى تموت". إن أسلوبه الشعري يمكن أن يكون لائقا جدا بالقصيدة الغنائية لكنه بطيء بالنسبة إلى الدراما، فكلمة الدراما تعني من بين ما تعني الفعل والحركة، وعلى هذا فعنوان عمله (الدراما الشعرية Lyrical Drama) ينطوي على تناقض (فالقصيدة تركز على المشاعر، والدراما تركز على الحركة مع عدم إغفال المشاعر) وعلى العكس من (الدراما الشعرية) نجد أن (قصيدة للريح الغربية Ode to the West Wind) تثيرنا لأن ما بها من أفكار ومشاعر قد تمّ تكثيفها في سبعين بيتاً. لقد ركز في قصيدته على فكرة واحدة، ولم ينشر المشاعر والعواطف على نحو ضحل، ولم يتخم قصيدته على ما فيها من ثراء القوافي والعبارات - إن الفكرة التي تتحلق حولها القصيدة هي أن الربيع آت بما يحمله من نماء رغم ما يعترينا من سخط نفقد الأمل فيه في أثناء الشتاء. لقد راح شيلي يستخدم المجاز الراقي على نحو متكرر. لقد كان هذا المجاز معيناً له عند التعبير عن عالم آماله وأحلامه الذي بدا حطاما أمام قسوة التجارب لكنه راح يأمل أن تبقى أفكاره وتنتشر من خلال أشعاره / النص: "تعاويذ أشعاره كما تذرو الرياح الأوراق المتساقطة فتنشرها". وقد حدث هذا بالفعل. هذه القصيدة التي لامست ذروة الشعر راودت الشاعر فكرتها فكتب معظمها كما يقول لنا شيلي نفسه:
" في غابة تطوق الأرنو the Arno بالقرب من فلورنسا، في يوم كانت الريح فيه عاصفة
…
مما أدى إلى تجمع الضباب فخرت أمطار الخريف"
لماذا غادر شيلي روما؟ إن هذا يرجع في جانب منه إلى أنه كان يريد أن ينفرد بنفسه لأنه لم يتحمل القرب من السياح البريطانيين الذين كان رأيهم فيه أنه زان ملحد لا شاعر كبير. كما أنه هو وماري قد أثر فيهما كثيرا موت ابنهما وليم (7 يناير 1819) ولم يتجاوز الرابعة من عمره. ولم يستطع الأب ولا الأم أن يفيق من هول فقدان طفليهما في غضون تسعة أشهر. لقد ظهر الشعر الأشيب في حاجب شيلي رغم أنه لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره.
وبعد دفن وليم في المقبرة الإنجليزية في روما انتقلت الأسرة إلى ليفورنو Livorno - ليجهورن الأنجليكانية Anglice Leghorn وعندما راح يتجول في حديقة هناك شعر بالألم -ربما كأي شاعر - لهروب الطيور طيراناً خوفاً من اقترابه -وقد فتن على نحو خاص بطائر من هذا السرب كان
يغني في أثناء تحليقه، فلما عاد الشاعر إلى غرفته ألف قصيدته (إلى طائر القنبرة) من شكلها الأول بتفاعيلها السداسية hexameters المتتابعة، وسرعة وقعها. وهذه المقاطع الشعرية المرحة كان كل بيت شعري فيها عامراً بالمشاعر الدافئة، والفكر الجاف، في آن واحد.
وفي الثاني من شهر أكتوبر 1819 انتقل شيلي وأسرته إلى فلورنسا حيث وضعت ماري مولودها الثالث الذي سرعان ما أطلقوا عليها اسم بيرسي Percy. وفي فلورنسا وجدت كلير كليرمونت وظيفة معلمة خصوصية فأعفت - أخيرا - شيلي من رعايتها. وفي 29 أكتوبر 1820 نقل أسرته إلى فندق تري بالازي Tre Palazzi في بيزا حيث ربما يكون قد قام بأغرب مغامراته على الإطلاق. ورغم مرضه المتكرر فإنه لم يفقد حساسيته إزاء الجنس الآخر. وعندما وجد امرأة لم تكن فقط جميلة وإنما كانت تعسة، انجذب إلى جمالها وتعاستها.
لقد كانت إيميليا فيفياني Emilia Viviani فتاة من أسرة راقية وضعوها على غير رغبتها في دير بالقرب من بيزا لضمان احتفاظها بعذريتها حتى يتم تدبير زوج ثري لها. وكان شيلي وماري - وأحيانا كلير يذهبون لرؤيتها وقد فتنوا جميعا بملامحها الكلاسيكية، ومسلكها المتواضع وبساطتها الواثقة، ورأى الشاعر فيها مثالاً للمرأة فأصبحت محور أحلام يقظته وكتب بعض هذه الأحلام في عمله (Epipsychidion) أي (إلى روح فريدة To a soul unique) نشرها دون توقيع في سنة 1821. ومن أبياتها المدهشة:
لم أتصور أن أرى قبل مماتي
مثل هذا الشباب المكتمل. أحبك
يا إميلي، رغم أن العالم سيواري هذا الحب بخجل لا قيمة له.
آه ليتني وأنت توأمان في رحم أم واحدة
أو تبادلنا قلبينا
أو نكون شعاعين في أبدية واحدة
أو أن يكون أحدنا شرعا، والآخر حقيقة
إنني ملك يديك
إنني لا أملك نفسي، فأنا قطعة منك!
ومن هذا الانجذاب الصوفي العاشق إلى انجذاب آخر:
قرينة، أخت، ملك، دليل قدري
دربك بلا نجوم (المقصود نورك يكفي)
آه لقد تأخر حبك، فأنت سرعان ما صرت معبودتي.
ففي حقول الخلود لابد أن تعبدك روحي، تعبدك أنت أول ما تعبد
يا ذات الحضور القدسي ..
من الواضح أن ابن الثمانية والعشرين عاما كان في حالة انجذاب ومثالية، فقوانيننا ومعنوياتنا (أخلاقنا) لا يمكن أن تنظم تماما غددنا (تحكم نزواتنا) وإذا كان امرؤ عبقريا أو شاعرا فلا بد أن يجد خلاصا أو راحة في عمل أو فن. وفي هذه الحال كان العلاج أو الخلاص عن طريق قصيدة تتأرجح بين اللامعقول والتفوق (الامتياز):
سيأتي اليوم الذي ستطيرين فيه معي
…
فالسفينة في المرفأ الآن،
والرياح تهب فوق حافة الجبل .. تهب ملوحة.
ليأخذهم إلى جزيرة في بحر إيجة الأزرق:
إنها جزيرة بين السماء والهواء والأرض والبحر
جزيرة معلقه وسط السكون
هذه الجزيرة وهذا البيت هما ملكي وإنني أعدك
أن تكوني سيدة العزلة والانفراد.
وهناك ستكون هي حبه وسيكون هو حبها:
ستختلط أنفاسنا، وسيتضام صدرانا
وستخفق عروقنا معا وستلتقي شفاهنا ببلاغة أقوى من بلاغة الكلمات
تلتقي لتطفئ لظى الروح التي تحترق بينها
والينابيع الفوارة في عمق أعماق خلايانا
إنني متلهف. إنني أغرق. إنني أهتز نشوة.
لقد انتهيت!.
أيمكن أن تكون هذه هي سهل شيلي؟ مسكينة ماري، لقد تركها لطفلتها بيرسي وأحلامها فلم تلحظ هذا السيل العرم لفترة. وفي هذه الأثناء تبدد الحلم فتزوجت إيميليا وعدل شيلي عن خطيئته الشجية وراحت ماري تداوي أساها بفهم أمومي.
وعندما سمع بموت كيتس Keats (مات في 23 فبراير 1821) دفعه هذا للارتقاء بشعره، وربما لم يهتم كثيرا من أجل Endymion لكن النقد القاسي الذي حيت به الدورية ربع السنوية Quarterly Review جهود كيتس العظيمة، أغضبت شيلي كثيرا فاستلهم الموزية Muse (إحدى آلهة الشعر عند اليونان) لتلهمة ترنيمة جنائزية (قصيدة رثاء threnody) مناسبة.
وفي 11 يونيو كتب لناشره في لندن: "انتهيت من كتابة قصيدتي أدونيس Adonais وستسلمها حالا. قد لا يتقبلها العامة كثيرا لكنها ربما كانت أفضل أعمالي" وقد اختار شكلاً لهذه القصيدة الشكل الصعب الذي أخذ به الشاعر سبنسر والذي استخدمه مؤخرا جدا مع تحسين في نسق القوافي الشاعر بايرون في قصيدته (رحلة شايلد هارولد) وتعامل شيلي مع قصيدة الرثاء (النص: القداس المقام لراحة الميت) بكل عناية النحات الذي ينحت نصبا تذكاريا لصديق، لكن متطلبات الشكل الشعري الصارم (الوزن والقافية) أعطت لبعض الأبيات الشعرية طابعا مصطنعا.
وقد بلغ عدد أبيات القصيدة خمسة وخمسين بيتا (مقطعا). وقد افترضت القصيدة بعجلة أن النقد (الظالم) قتل كيتس، ودعا الشاعر المتفجع أن تحل لعنة كاللعنة التي أصابت قابيل على من طعن هذا الصدر البريء لكن تشريح جثة كيتس أظهر أنه مات بمرض السل الحاد. ورحب شيلي في مقاطعه الشعرية الأخيرة في هذه القصيدة، بأن يموت، ففي الموت راحته لأنه سيلتقي بالميت الحي (المقصود كيتس):
يبقى الواحد the One، ويتغير كثيرون ويمضون،
فنور الله Heaven يشرق دائما، وظلال الأرض تطير،
والحياة كقبة مزدانة بكثير من الزجاج الملون
تلقي ظلالها على شعاع الأبدية الأبيض فتغير لونه
حتى يسحقها الموت فيهشمها
أيها الموت إن كان هذا ما تطلبه
فلم تتوان! لم تتراجع! لم تحزن قلبي؟
آمالك ذهبت آنفا ونزعت من كل الأشياء هنا
لقد (فارقتنا) ولا بد أن تفارق أنت الآن
…
إن أدونيس يناديك. آه! أسرع إلينا
لا تدع الحياة أكثر من هذا تفرّق ما يمكن أن يجمعه الموت ..
لقد حملت قتامه وخوفا وبعدا
بينما روح أدونيس كالنجم
تهدينا إلى طريق الخالد الباقي .. إلى طريق الله.
وكأنما كان كيتس يجيبه بأبياته الشعرية التي لا تنسى:
الآن أكثر من أي وقت، يبدو شيئا نفيسا أن تموت،
أن تتوقف أنفاسك في منتصف الليل بلا ألم،
بينما أنت تدفع روحك خارجك
في نشوة ما بعدها نشوة، وانجذاب يفوق الوصف.
12 - حب وثورة:
بايرون 1818 - 1821 م
احتفظ شيلي بذكريات مختلفة عن بايرون في لقائهما الأخير - طباعه الرقيقة، ومناقشاته الصريحة، وكرمه - ورضاؤه الواضح عن علاقاته الجنسية غير الشرعية بالخليلات والعاهرات.
" فربما كانت النساء الإيطاليات اللائي كوّن معهن علاقات هن أحط النساء في العالم
…
لقد كان بايرون متآلف مع هذا النوع المنحط من النساء اللائي كان مسيّرو جوندولاته gondoliers (القوارب التي تسير في قنوات البندقية) يلتقطونهنّ له. وكان يسمح للآباء والأمهات بمساومته على بناتهم
…
لكن أعتقد أن شهرته كشاعر كبير ساعدته في
ذلك".
وكان بايرون واعيا بتخليه عن الأخلاق الإنجليزية والذوق الإنجليزي. لقد كانت الأعراف الإنجليزية تجرمه (تعتبره خارجا على العرف والقانون) وقد رفضها هو بدوره. بل انه قال لأحد أصدقائه في سنة 1819: "إنني مشمئز ومُتّعتُ من الحياة التي وصلت إليها في فينيسيا وسعيد بأن أدير ظهري"، لها وقد نجح بمساعدة تريزا جويشيولي Teresa Guiccioli وصبرها وإخلاصها.
لقد تقابلا للمرة الأولى عند قدومها من رافنا Ravenna إلى البندقية (فينيسيا) في أبريل سنة 1819 وكانت وقتها في التاسعة عشر من عمرها رقيقة الملامح وجميله وعابثة، تلقت تعليمها في دير، وكانت عاطفية دافئة القلب. وكان زوجها الكونت أليساندرو جويشيولي في الثامنة والخمسين قد تزوج مرتين قبلها وكان منشغلاً بأعماله غالبا. وقد جرى العرف تماما في الطبقة العليا الإيطالية على السماح للمرأة (الزوجة) في هذه الحال باتخاذ رفيق Cavaliere Servente - شخص مهذب في خدمتها يكون تحت إمرتها يثير إعجابها ويسليها ويحرسها وتكافئه بتقبيل يدها أو بما هو أكثر في السر والكتمان إذا كان الزوج مشغولاً أو متعبا.
ولم يكن من خطر كبير على الزوجة والرفيق بل إن الزوج في بعض الأحيان كان يقدر مساعدة هذا الرفيق، وربما تعمد أن يتغيب بعض الوقت ليتيح لهما إتمام المراد. وعلى هذا شعرت الكونتيسة بأن من حقها أن تنجذب إلى الوجه الإنجليزي الوسيم ومناقشاته المثيرة وشفتيه الجذابتين، أو على حد قولها في وقت لاحق:
"إن ملامحه النبيلة الجميلة الرائعة، ونغمة صوته وطباعه وآلاف الأشياء الساحرة الفاتنة التي تحيط به - جعلته مختلفاً تماما عن كل من رأيتهم ومخلوقاً أسمى بكثير منهم، فكان من المستحيل ألا يفتنني وألا يترك تأثيرا عميقا في نفسي. فمنذ ذلك المساء كنت ألتقي به كل يوم خلال كل فترة إقامتي في البندقية"
وانتهت أيام السعادة الطائشة هذه عندما أخذ الكونت زوجته تيريزا Teresa وعاد إلى رافنا، فأرسل لها بايرون تعهدات بالبقاء على حبه، ففي 22 أبريل سنة 1819 مثلا أرسل إليها يقول:
"أؤكد لك أنك ستظلين حبي الأخير، فقبل أن أعرفك شعرت باهتمام بكثير من النسوة لكنني لم أرتبط بواحدة بعينها. أما الآن فأنا أحبك وليس في حياتي حب آخر لامرأة أخرى سواك على وفق ما نعلم فقد حفظ عهده".
وفي الأول من يونيو غادر البندقية في عربته النابليونية الثقيلة (المقصود المشيدة على طراز عربة نابليون) متوجها إلى رافنا كسائح يبحث عن آثار دانتي Dante فرحبت به تيريزا، وكان زوجها الكونت لطيفا كيسا، وكتب بايرون إلى أحد أصدقائه: إنهم يجعلون للحب هنا مساحة كبيرة من وقتهم ولا يشوهون سمعة شخص إلا قليلا وسمح له باصطحاب تيريزا إلى الميرا La Mira (إلى الجنوب من البندقية بسبعة أميال) حيث كانت له فيلا هناك، وهناك باشر معها الحب من كل موضع ولم يعقه إصابتها بداء البواسير وانضمت إليهما أليجرا Allegra في الفيللا فجعلت جو المجموعة محترما.
ووصل توم مور Tom Moore واستلم الآن من بايرون مخطوطة كتابه (حياتي ومغامراتي My Life and Adventures) التي أحدثت كثيرا من الفتن والاضطرابات بعد موت المؤلف. ومن الميرا أصطحب بايرون، تيريزا إلى البندقية حيث عاشت معه في قصره Palazzo Mocenigo وأتى والدها ليردها إلى جادة الصواب فأخذها معه إلى رافنا ومنع بايرون من الذهاب معها. وعند وصولها إلى رافنا سقطت مريضة، وكان مرضها شديدا لا ادعاء فيه حتى إن زوجها الكونت أسرع باستدعاء عشيقها (بايرون) الذي وصل في 24 ديسمبر سنة 1819 وبعد أن قام ببعض الجولات استقر في الطابق الثالث في قصر الكونت مقابل دفع إيجار.
وأحضر معه في مقره الجديد قطتين وستة كلاب وحيوان الغرير badger وصقرا وغرابا مدجنا وقردا وثعلباً. وفي خضم هذه الحياة التي انشغل فيها بأمور مختلفة كتب سطورا كثيرة. في مؤلفه (دون جوان) وبعض مسرحيات عن دوقات (دوجات) البندقية غير قابلة للتمثيل على المسرح (مسرحيات ذهنية) ودراما جيدة عن سردانا بالوس Sardanapalus وفي يوليو سنة 1811 كتب (قابيل: سره Cain، A Mystery) ذلك العمل الذي به أصبح اسمه مكروها تماما، وموضع مقت شديد في إنجلترا.
المشهد الأول في هذا العمل يظهر آدم وحواء، وقابيل (قايين) وأخته التي هي زوجته في الوقت نفسه Adah، وهابيل وأخته التي هي زوجته Zillah، في الوقت نفسه يستعدون للصلاة وتقديم الأضاحي لله (جيهوفاه أو ياهوفاه Jehovah) ووجه قابيل لوالديه بعض الأسئلة - وهي أسئلة تحير بايرون في مرحلة الدراسة: لم خلق الله الموت؟ إذا كانت حواء قد أكلت من شجرة المعرفة، فلم زرع الله هذه الشجرة المحرمة في مكان ظاهر بجنة عدن؟ ولم
كان طلب المعرفة خطيئة؟ ولماذا أصدر الله قراره بأن يعمل الجميع وأن يصبح الموت مصير الأحياء عقابا على وجبة بسيطة تناولتها حواء؟ وظهر الشيطان (Lightbearer) Lucifer واعتلى خشبة المسرح - كما عند ميلتون - وأعلن نفسه متباهيا واحداً من تلك:
- الأرواح التي تجاسرت على النظر إلى وجه الطاغية (يقصد الله سبحانه وتعالى
- الذي لا فناء له، ليقول له
- إن أفعاله الشريرة غير صالحة.
وتعود Adah (زوجة قابيل) لتطلب من قابيل الانضمام إلى العمل مع أهله في الحقل، لأنه أهمل ما يخصه من العمل في هذا اليوم وأنها قامت بعمله بدلاً عنه، وهي تدعوه الآن لقضاء ساعة حب واستحمام. فوبّخها إبليس Lucifer بأن وصف لها الحب بأنه شرك أو طعم للإنجاب والتوالد وتنبأ لها بقرون من الكدح والنضال والمعاناة وبموت ينتظر الجموع التي ستنطلق للوجود من رحمها
…
وأعد قابيل وهابيل مكانا (مذبحاً) لتقديم الأضحيات، فضحى هابيل بأول قطيعه، وقدم قابيل فاكهة، لكنه بدلا من أن يصلي ويدعو راح يسأل ثانية لم سمح الله بالشر؟
ونزلت نار متألقة من السماء أحرقت حمل هابيل (دليل قبول أضحيته)، وأطاحت ريح غاضبة بأضحية قابيل فألقتها إلى التراب فغضب وحاول تدمير مذبح (مكان تقديم الأضحية) هابيل Abel فقاومه، فضربه قابيل فمات. ووبخ آدم حواء باعتبارها المصدر الأول للخطيئة فلعنت حواء قابيل لكن Adah (زوجة قابيل) دافعت عنه لا تلعنيه يا أمي، فهو أخي وزوجي my betrothed وأمر آدم قابيل أن يرحل عنهم وألا يعود، فلحقت Adah بقابيل وعوقبت بمثل عقابه، ولأن هابيل مات ولم يكن له ولد، فإن كل البشر (كما استنتج بايرون) من ذرية قابيل ويحملون طباعه في غرائزهم، تلك الطباع المتمثلة في العنف والقتل والحرب.
ويبدو قابيل مرات عديدة وكأنه طالب ملحد لم يقرأ سفر الجامعة في العهد القديم Ecclesiastes، ومع هذا ترقى هذه الدراما في بعض الأحيان إلى مستوى قريب من كتابات ميلتون القوية. وقد امتدح والتر سكوت هذا العمل، وكان بايرون قد أهداه إليه (كتب اسمه في صفحة الإهداء) وقال جوته: "لن نرى جمالا كجمال هذا العمل مرة ثانية في هذا العالم ولاشك أنه كان قد فقد منظوره الأولمبي للحظات
عندما قال هذا ".
أما في إنجلترا فقد أدى نشر هذا العمل إلى موجة من النقد الساخط والرعب. لقد اعتبره الإنجليز قابيل آخر بل اعتبروه قاتلا أسوأ منه - إنه يقتل العقيدة التي حمت آلاف الأجيال وساندتهم. وحذر الناشر مري اللورد بايرون من أنه يفقد بسرعة قراءه. والصورة التي رسمها بايرون لزوجة قابيل المخلصة Adah تقدم برهانا آخر على الجوانب العطوفة في شخصيته، لكن معاملته لأليجرا Allegra وأمها تظهر قسوته.
فالطفلة التي كانت سعيدة يوما ما بلغت الآن الرابعة من عمرها، وكانت تعسة لبعدها عن والديها، فأرسل بايرون يستدعيها إلى رافنا وحتى عندما أتت لم يستطع إلا بالكاد أن يطلب منها العيش معه ومع مجموعة حيواناته في قصر الرجل الذي أصبح معروفا بسطوته غير المريحة، وبعد تفكير طويل وضعها في دير في باجنا سافالو Bagnacavallo التي تبعد عن رافنا باثني عشر ميلا (في أول مارس 1821) وهناك سيكون لها - كما افترض - صداقات فتبتعد عن طريقه وتتلقى قدراً من التعليم، ولم يزعجه أن تصبح كاثوليكية بل العكس فقد شعر أنها ستصبح في مأساة إن نشأت بلا دين في إيطاليا، فكل النساء فيها (إيطاليا) كاثوليكيات متمسكات بالكاثوليكية حتى في علاقاتهن غير الشرعية.
والأهم من كل هذا فإذا كان لابد للمرء أن يكون مسيحيا فالأفضل أن يسير في الطريق إلى منتهاه فيؤمن بما آمن به الدعاة الأوائل للمسيحية (الرسل Apostles) ويؤمن بالقداس والقديسين (الأولياء) ويصبح كاثوليكيا. لقد كتب في 3 أبريل سنة 1828: "إنني أرغب أن تصبح أليجرا من الروم الكاثوليك فدينهم أفضل الأديان"(المقصود أفضل المذاهب المسيحية)
وعند ما أصبحت أليجرا مستعدة للزواج رأى أنها لن تجد صعوبة في الارتباط بالزوج المرتقب، وأنها سيخصص لها مبلغ 4000 جنيه. وكان هذا ملائما لبايرون، ولكن عندما وصلت هذه الأخبار إلى كلير كليرمونت اعترضت وتأثرت عاطفيا على نحو مثير وطلبت من شيلي أن يعمل على إعادة إليجرا إليها فذهب شيلي إلى رافنا ليرى أحوال أليجرا فاستقبله بايرون في 6 أغسطس 1821 بترحاب فكتب شيلي لزوجته:"إن اللورد بيرون في أطيب حال وابتهج لرؤياي وقد استعاد صحته تماما ويعيش حياة غير الحياة التي كان يعيشها في البندقية"(فينيسيا). وقد أخبره بايرون أن الظروف السياسية سرعان ما ستجبره للانتقال إلى
فلورنسا أو بيزا، وسيأخذ أليجرا معه وستكون - بذلك - قريبة من أمها، ورضي شيلي بذلك، وصرف اهتمامه إلى شيء سيصبح حالا أكثر تأثيرا بالنسبة إليه.
لقد أصابه الرعب (أي شيلي) عندما علم أن المربية إليز Elise - مربية أليجرا - التي كان قد طردها من خدمته في سنة (1821) قد أخبرت الـ Hoppners أنه كان على علاقة جنسية سرية بأم أليجرا حتى إن كلير قد وضعت له طفلا في فلورنسا وضعه فورا في ملجأ للّقطاء، وأكثر من هذا أن شيلي وكلير كانا يعاملان ماري بطريقة تدعو للخجل ووصل الأمر إلى حد أنه كان يضربها. فكتب الشاعر الذي اعترته الدهشة إلى ماري (في أغسطس) طالبا منها أن تكتب لـ Hoppners مكذبة هذه الأقاويل، فقبلت ماري لكنها أرسلت خطابها إلى شيلي ليوافق على ما ورد به، فأظهره لبايرون وعول عليه في تسليم هذا الخطاب لـ Hoppners واستاء شيلي إذ وجد أن بايرون كان يعلم بهذه الإشاعات وكان - فيما هو واضح - يصدقها. وبدأت الصداقة الشهيرة بينهما تبرد وزاد برودها عندما انتقل بايرون من رافنا إلى بيزا تاركاً أليجرا في ديرها.
هذا التغير كان نتيجة تفاعل الحب والثورة في إهاب واحد. ففي يوليو سنة 1820 استصدر والد تيريزا - الكونت رجيرو جامبا Ruggero Gamba من الإدارة الباباوية Papal Curia أمراً باباويا (فتوى) بانفصالها عن زوجها مع حصولها على نفقة منه شريطة أن تعيش مع والديها. فانتقلت إلى بيت والديها بناء على هذا، وكان بايرون لايزال يعيش في قصر جويشيولى Guriccioli فأصبح يزور أسرة جامبا بشكل متتابع، وابتهج لأنه وجد جامبا وابنه بيترو Pietro كانا زعيمين في حركة الكاربونارى Carbonari وهي تنظيم سري يعمل على الإطاحة بالحكم النمساوي في شمال إيطاليا والحكم الباباوي في وسطها وحكم البوربون في نابلي لمملكة الصقليتين (جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية) وكان بايرون في (نبوءة دانتي) الصادرة سنة 1819 قد دعا الشعب الإيطالي أن يهب للتحرر من حكم الهابسبورج Hapsburg والبوربون Bourbon .
وفي سنة 1820 شكك الجواسيس النمساويين في أنه يدفع أموالا لشراء أسلحة للكاربوناري، ووضعت ملصقات ملكية في رافنا مطالبة بإعدامه. وفي 24 فبراير سنة 1821 فشلت حركة العصيان المسلح التي قام بها الكاربوناري وهرب قادتها
من المناطق الإيطالية الخاضعة للبوربون. وذهب الكونت جامبا وابنه إلى بيزا وسرعان ما لحقت بهما تيريزا بناء على نصيحة بايرون، وفي الأول من نوفمبر سنة 1821 وصل بايرون إلى بيزا واستقر في الكازا لا نفرانشي the Casa Lanfranchi في الأرنو the Arno حيث كان شيلي قد استأجر بالفعل غرفا لاستقباله. والآن سيأتي المحك الأخير لصداقتهما.
13 - التباين
لقد كان كل من الشاعرين قد وصل الآن إلى ذروة تطوره. لقد كان على الأكبر سنا منهما أن ينظم بعض القصائد في عمله (دون جوان Don Juan) التي اشتملت على عداء مرير لإنجلترا، عداء لم يكن حتى الغاليون Gallic (الفرنسيون) يستسيغونه. وكان علمه The vision of Judgment (أكتوبر 1821) يمثل هجاء لا يرحم لكن سبق سوثي (Southey) بعمله A vision of Judgment (أبريل 1821) قد حرض على الثأر منه (من بايرون) بإطلاق زعيم المدرسة الشيطانية في الشعر الإنجليزي عليه (على بايرون) وقد هوى عليه بايرون بنقده الماهر الساخر.
وفي مؤلفاته الأخيرة هذه ابتعد بايرون عن روح (شايلد هارولد Childe Harold) الرومانسية والانقباض والمرارة، ليتخذ موقفاً أكثر كلاسيكية متجها نحو العقل والمنطق وروح الفكاهة، وإن كان لا يزال ينقصه الاعتدال. وتظهر خطاباته - خاصة تلك التي أرساها إلى الناشر مري - نضجاً أكثر لأنها تحتوي على نقد ساخر ينطوي على نقد ذاتي وتفحص لأعماله كما لو أنه اكتشف أن التواضع يفتح الباب للحكمة. لقد كان متواضعا فيما يتعلق بشعره:
"إنني أضع الشعر أو الشعراء في مرتبة فكرية سامية. وقد يبدو هذا انحيازا لكنه رأيي الحقيقي
…
إنني أفضل المواهب العملية - مواهب الحرب في مجلس الشيوخ أو حتى في مجال العلم - فتلك أفضل من تأملات الحالمين الذين لا يملكون إلا الحلم".
وقد امتدح شيلي إنساناً لكنه فكر كثيرا في شعره كفانتازيا طفولية Childish fantasy. وكان تواقا لتقييمه كإنسان أكثر من تقيمه شاعراً، وكان واعيا - بشكل مؤلم - بمظهره، وكان يفضل الركوب على المشي لأن إصابة قدمه اليمنى كانت تصرف النظر عن وجهه الوسيم، وكان موقفه من الطعام متذبذبا متغيراً فطورا يفرط في الطعام وطورا يقوم بحمية، ففي سنة
1806 كان وزنه 194 رطلا (وطوله خمس أقدام وثماني بوصات ونصف البوصة)، وفي سنة 1812 تدنى وزنه ليصبح 137 رطلا وفي سنة 1818 أصبح سمينا وبلغ وزنه 202 رطلا. وكان فخورا بإنجازاته الجنسية وكان يرسل تقارير إحصائية بعدد هذه الإنجازات لأصدقائه. وكان عاطفيا وغالبا ما يفلت زمام مشاعره منه. وكان متألقا من الناحية العقلية لكنه لم يكن مستقرا. قال جوته:"في لحظة من اللحظات يصبح بايرون طفلا ".
أما من الناحية الدينية فقد بدأ كالفنياً Calvinist (من أتباع مذهب كالفن البروتستنتي) ففي عمله [شايلد هارولد] تحدث عن الباباوية كبرتستنتي متحمس باعتبارها (زانية بابلية) وفي سني العشرين قرأ الفلسفة فأحب سبينوزا Spinoza وفضل عليه هيوم Hume وأعلن: "أنا لا أنكر شيئا لكنني أتشكك في كل شيء" وفي سنة 1811 كتب إليه صديق من مذهب مسيحي يقال له مذهب المهتدين: "أنا لا أدري ماذا أفعل بالخلود الذي تقول عنه". وبعد ذلك بعشر سنوات كتب: "أعتقد أنني لا أشك كثيرا في خلود الروح"، وفي إيطاليا تأثر بمن حوله وما حوله وبدأ يفكر في الكاثوليكية، وعندما حضر صلاة التجسد (أو صلاة التبشير) تطلع إلى حالة السلام (الصفاء) التي بدت للحظات تخيم على حياة أهل إيطاليا جميعا، وكتب:"طالما تمنيت أن أكون قد ولدت كاثوليكيا"
وفي أواخر حياته (1823) راح يتحدث - كما كان يتحدث في صباه - عن الله، وعن القضاء والقدر وكون الإنسان لا يملك من أمره شيئا. وعندما كان في مرحلة المراهقة فقد عقيدته الدينية ولم يجد قيما ومعنويات يرتمي في أحضانها في أدب أو فلسفة وبالتالي لم يجد وازعا يقاوم حواسه وعواطفه ورغباته، وكان عقله المتحرر وفكره المتقلب يجدان أسبابا حافزة للاستسلام لرغباته ولم تتكشف له فحوى حكمة القيود التي فرضها المجتمع. ومن الظاهر أنه كبح ميوله للشذوذ الجنسي وعوضّ منها بالصداقات الحميمة المخلصة بل لقد استسلم لمفاتن أخته، وفي ديوانه (شايلد هارولد) يخبرنا بجسارة عن حبه:
لواحدة ذات صدر ناهد
ارتبط صدره بصدرها برباط أقوى
من الارتباط بالكنيسة (أو أقوى من رباط تعقده الكنيسة)
وعندما أدانه المجتمع الإنجليزي لإطلاقه العنان لشهواته أو لفشله في إخفائها، أعلن الحرب على النفاق الإنجليزي أو بعبارة أخرى تظاهر الإنجليز بالفضيلة، وراح يهجو الطبقات العليا المكونة من قبيلتين قويتين وأدان استغلال أصحاب المصانع للعمال، بل ودعا أحيانا للثورة:
يحمي الله الملك والملوك
لأنه إن لم يفعل، أشك أن يستمر البشر!
أظن أنني أسمع طائرا صغيرا يغني قائلا:
سيغدو الشعب - عما قريب - أقوى ..
وكذا سواد الناس
الكل أخيرا سيتخلى عن العمل الزائف ..
سأقول سعيدا: يالتعاسة!
إذا لم أدرك هذه الثورة
فيمكنني وحدي أن أنقذ العالم من دنس جهنم.
وعلى أية حال فإنه لم يكن ميالاً للديمقراطية فلم يكن يثق في الجماهير وكان يخشى أن تؤدي الثورة إلى دكتاتورية أسوأ من دكتاتورية الملك أو البرلمان. وكان يرى بعض المزايا في حكم الأرستقراطيين بالمولد ويتطلع إلى أرستقراطية نظيفة عاقلة مدربة تتسم بالكفاءة. فلم ينس أنه هو نفسه لورد فسرعان ما عارض رفع الكلفة والمساواة فقد كان يعرف أن وجود مسافة أو حدود في العلاقات الاجتماعية يُضفى سحراً عليها. وتغيرت نظرته لنابليون مع مرور الأحداث مادام نابليون قد توج نفسه إمبراطورا وسلّح نفسه بالألقاب فقد رآه بايرون خير صيغة وسطية بين الملوك والجماهير.
لقد كان بايرون يدعو أن ينتصر نابليون على كل ملوك أوربا حتى عندما كان نابليون يغزو إسبانيا وروسيا دون مبرر واضح، وقد وبخ
الإمبراطور المهزوم (نابليون) لتنازله عن العرش بدلاً من أن ينتحر لكن عندما عاد نابليون من إلبا Elba عاد الشاعر (بايرون) يدعو له بالنصر ثانية على كل أعدائه المتحالفين ضده. وبعد ست سنوات عندما سمع بموت نابليون حزن حزنا شديدا لقد كانت الإطاحة به سهما أصاب رأسي فمنذ مات أصبحنا عبيداً للأغبياء.
لقد كان بايرون خليطا مربكا من الأخطاء والفضائل، ففي حال غضبه يصبح فظا قاسيا، وفي أحواله العادية نجده ودودا متحفظا كريما. لقد كان يعطي أصدقاءه بكرم غير محسوب، فقد نقل إلى روبرت دالاس حق نشر (حق المؤلف في النشر) وكان هذا الحق يساوي ألف جنيه، ودفع ألف أخرى لفرانسيس هودجسون Francis Hodgson فأنقذه بذلك من الإفلاس، ووصفته تيريزا جويشيولي Teresa Guiccioli التي كانت تراه تقريبا كل يوم بأنه ملك angel (بفتح اللام) حقيقي. لقد كان - أكثر من كولردج Coleridge بكثير - كبير ملائكة محطم يحمل في جسمه ميراثا من الصدوع، وضحها وكان خلاصه منها بالجرأة وكتابة الشعر بوفرة وقوة الفكر الثوري مما دفع جوته العجوز إلى وصفه بأنه أعظم عبقرية أدبية في قرننا.
وبالمقارنة فقد كان شيلي ملاكاً غير مؤثر ذا طابع تاريخي، لكننا لا نستطيع أن نقول إنه غير مؤثر تماما فمن هو القائل إن أوراق الشجر ستتبعثر عند تجسد أشعاره. لم يضع بعض البذور لتنمو في جو التسامح الديني وتحرر المرأة وانتصار العلم وقيام التكنولوجيا وتألق الفلسفة وامتداد الحقوق الدستورية وإصلاح البرلمان مما جعل القرن التاسع عشر قرنا مدهشا؟
وكان شيلي ملاكا بشريا تماما، فقد كان له جسد استسلم لطلباته على الأقل من خلال إغوائه زوجتين على الهروب معه، دعنا من الحديث عن إيميليا فيفاني Emilia Viviani . لقد كان نحيلا معتل الجسد، يعاني ألما دائما في ظهره. وكان بطبيعة الحال مفرط الحساسية - ربما أكثر من بايرون - للمثيرات الداخلية والخارجية فلنتذكر خطابه المؤرخ في 16 يناير 1821 لكلير كليرمونت:"أنت تسألينني أين أجد المتعة؟ إن الريح والنور والهواء ورائحة الورد تؤثر في وتثير عواطفي". وكان مثلنا جميعا معجباً بنفسه على نحو خاص. لقد اعترف لجودوين (28 يناير 1812): "يبدو أن إفراطي في الأنا لا ينضب له معين".
وعندما أخذ ماري جودوين، وطلب من زوجتة هاريت أن تصبح علاقته بها مجرد علاقة الأخ بأخته، فإنه كان يبحث عن إرضاء شهواته مثله في ذلك مثل أي كائن معرض للموت، وبرر الأمر لنفسه بأنه هاريت أقل من ماري اتفاقا معه في فلسفته وأفكاره.
وكان له رأي متواضع في شعره (لم يكن شاعراً مغرورا) إذ كان يصنف أشعاره في رتبة أدنى من أشعار بايرون. وكان مخلصاً متحفظا في صداقته إلى النهاية. لقد كتب بايرون مخبرا الناشر مري بوفاة شيلي:
"لقد كنتم جميعا قساة ومخطئين في حق شيلي، فقد كان - بلا استثناء - أقل من عرفت أنانية أو بعبارة أخرى أفضل الأنانيين الذين عرفتهم. إنني لم أعرفه بهيمة ترتدي ثياب البشر مقارنة بالآخرين".
وذكرهوج Hogg الشاعر بأنه: "غريب الأطوار ينسى واجباته ووعوده، يستغرق في التأمل والتفكير فينسي الزمان والمكان".
وهو بشكل عام غير عملي لكن ليس من السهل خداعه في أمور المال، ولم يتخل عن حقوقه الموروثه قبل نضال شديد.
وكان متوتر الأعصاب شديد الاستثارة مما يحول بينه وبين أن يكون مفكراً هادئا، وكانت تنقصه روح الفكاهة عند مناقشة أفكاره، وكان مغرماً دوماً بالخيال، فكان يهرب من الواقع إلى أحلام اليقظة. لقد اقترح أن نتخلص من الملوك والمحامين ورجال الدين، وأن نتحول إلى الحياة النباتية - مكتفين بتناول النباتات ممتنعين عن تناول اللحوم، كما كان يدعو لتخليص العلاقات الجنسية للبشر من كل القيود. إنه يرى أن كل هذه الأمور والقيود طارئة ليس لها أساس في طبيعة الإنسان ولا في ماضيه البيولوجي. لقد قالت أرملته المخلصة: "كان شيلي يعتقد أن البشر لا يجب أن يتطلعوا إلا للقضاء على الشر
…
لقد احتفى بهذا الرأي احتفاء بالغا ". وكاد يهمل التاريخ إلا أنه كان يرى الإغريق مثاليين ولكنه كان يجهل أن الإغريق مارسوا الاسترقاق
ونحن نميل إلى المبالغة في بساطة شيلي لأننا ننسى أن الموت عاجله فلم يتركه يعيش حتى مرحلة النضج - لقد عرفنا بايرون وشيلي وهما لما يصلا بعد إلى مرحلة النضج فوصلا إلى قلوبنا كشاعرين رومانسيين كانا مفيدين جدا للحركة الرومانسية في إنجلترا، أما لو أنهما عاشا حتى الستين لكان من المحتمل أن يكونا مواطنين محافظين، وفي هذه الحال ربما
كانت مكانتهما في التاريخ أكثر تواضعا، لكن موتهما المبكر جعلهما علمين في عالم الرومانسية.
إلا أن شيلي كان حقيقة قد أصبح بالفعل وهو في الثامنة والعشرين معتدلا، ففي سنة 1820 كتب مقالاً جوهريا بعنوان "نظرة فلسفية للإصلاح" نشره بعد كتابته بعام، أعلن فيه أن "الشعراء الفلاسفة هم مشرعو العالم غير المعترف بهم". الشعراء لأنهم صوت الخيال يأتون بأفكار جديدة تدحض كثيرا من السخافات السائدة، وهذه الأفكار الجديدة تثير في وقت من الأوقات الناس وتحفزهم إلى التجربة والتقدم. والفلاسفة لأنهم يخضعون القضايا الاجتماعية للفكر العقلي الهادئ، وينظرون إليها بمنظور السنين. وكان شيلي - مثله في ذلك مثل بايرون والإنسانيين - ساخطا لأحوال العمال في مصانع إنجلترا، كما كان مستاء من البرود الذي تعامل به مالتوس Malthus في كتاباته مع مشكلة السكان وطريقة ضبطها بينما (أي مالتوس) ترك الأجور ليحكمها قانون العرض والطلب.
وأدان البروتستنتية والكاثوليكية معا لفشلهما في إضفاء روح المسيح على العلاقة بين الأغنياء والفقراء. واقترح فرض ضريبة على الأثرياء لسداد الدين الوطني الذي تتطلب فوائده السنوية الباهظة فرض ضرائب ثقيلة على العامة. وأشار إلى أن زيادة السكان فيما بين 1689 و 1819 قد أخل بالتناسب بين المصوتين Voters وغير المصوتين مما جعل انتخاب أعضاء البرلمان قاصرا على أقلية صغيرة، وهذا يعني من الناحية العملية حرمان الشعب من حق الاقتراع.
وقد غفر لأرستقراطية ملاك الأراضي لأنها تأصلت بمرور الزمن وأصبحت راسخة من الناحية القانونية (ربما بالنظر إلى مستقبل آل شيلي) وكان يبارك انتقال الثروة بطرق معتدلة، لكنه كان يحتقر البلوتوقراطية plutocracy (حكم طبقة الأثرياء) ممثلة في التجار وأصحاب المصانع والماليين. وامتعض من آراء مكيافيللي التي تعفي الحكومة من الالتزام بالأخلاق: فالسياسات في الواقع هي أخلاق الأمم ودافع عن الثورة الفرنسية وامتدح حكومة نابليون القنصلية وتبرأ من نابليون عندما توج نفسه إمبراطورا وحزن لهزيمة فرنسا في واترلو.
ولم يجد كتاب شيلي (دفاع عن الشعر) الذي كتبه سنة 1821 ناشرا حتى سنة
1840.
وهنا وجدنا الشاعر الذي نفى نفسه الآن يسقط الفلاسفة، ويعلي من شأن الشعراء باعتبارهم مشرعي العالم الأكثرين رقيا. ولقد عبر عن رأيه هذا الذي اطمأن إليه في مقدمة (بروميثيوس المنطلق):
"كتاب عصرنا العظماء هم الذين يواكبون (أو يسبقون إلى) بعض التغيرات التي لا يمكن تصورها في نظامنا الاجتماعي أو في الأفكار والآراء المرتبطة به. إن لدينا أسبابا معقولة لقولنا هذا. فسحابة العقل تفرغ ضياءها المتجمع. والتوازن بين المؤسسات institutions والآراء. يعود الآن أو لنقل إنه على وشك العودة ".
لكنه عاد الآن ليضيف: "سيكون عصرنا عصراً خالدا بسبب إنجازاته الفكرية، فنحن نعيش وسط فلاسفة على شاكلة كانط وفيتشه وهيجل وشيلنج وجودوين Kant، Fichte، Hegel، Schelling، Godwin، وشعراء من أمثال جوته وشيلر، ووردزورث، وكولردج وبايرون وشيلي Goethe، Schiller، Wordsworth، Coleridge، Byron، Shelley، فاقوا كل من تقدموا منذ النضال الوطني الأخير للمطالبة بالحريات المدنية والتحرر الديني". (1642).
وعلى النقيض من ذلك وجدنا شيلي يقلل من شأن دور العلم في إعادة تشكيل الأفكار والمؤسسات، وكان العلم قد بدأ بالفعل في تحقيق دوره في هذا المجال. لقد حذر من ترك التقدم العلمي يسبق التطور الأدبي والفلسفي - فالعلم ليس أكثر من أداة لتحسين أدواتنا tools بينما التطور الأدبي والفلسفة هو غايتنا. وإلا زاد ثراء الأقلية الماهرة وأدى ذلك إلى زيادة تركز الثروة والسلطة.
لقد انتقل استياء شيلي من أمور حميه المالية إلى فلسفة جودوين وقد استكشف شيلي كتابات أفلاطون من جديد (كان قد ترجم جانبا من حواراته) وانتقل من الاتجاه الطبيعي إلى التفسير الروحي للطبيعة والحياة. إنه الآن يشك في هيمنة العقل وقدرته المطلقة وفقد حماسه للإلحاد. وكلما اقترب من سن الثلاثين. وجدناه يتوقف عن مهاجمة الأمور الغيبية في الدين. إنه الآن يفكر في أن الطبيعة هي الشكل الخارجي أو الظاهري لروح (جوهر) داخلي، وتفكيره على هذا النحو يشبه كثيرا تفكير وردزورث الشاب (في هذه النقطة). ولابد أن يكون هناك نوع من الخلود فالقوة الحيوية (الروح) في الفرد تنتقل بعد موته إلى
شكل أو كيان آخر لكنها لا تموت.
14 - نشيد بيزا:
من 1821 - 1822 م
PISAN CANTO
عندما وصل بايرون إلى بيزا Pisa كان قد تجاوز تاريخه الجنسي بالكاد منذ فترة، فيما عدا ذكرياته المثالية كما في أبياته العرضية (التي أدرجها بين نشيدين) في (دون جوان). وفي بيزا كانت تيريزا جويشيولي تعيش مع بايرون لكن المودة بينهما كانت قد قلت. كان يقضي معظم وقته مع أصدقائه وأصدقاء شيلي وكان يرتب لهم وجبة غداء أسبوعيا، وكانت المناقشات تجري حرة في هذه الأثناء، وكان شيلي يحضر ويجلس مهذبا لكنه كان حاسماً في سوق حججه، وكان ينسحب قبل أن يبدأ تناول الخمور شديدة التأثير. وحاولت تيريزا Teresa أن تعطي لحياتها الهادئة روحا بصداقتها لماري شيلر، وبقراءة التاريخ لتجاري ماري في اهتماماتها.
ولم يكن بايرون موافقا على دراسة تيريزا للتاريخ مفضلاً أن تكون المرأة جذابة وفاتنة وأن تكون عقلها تابعها لهذه الجاذبية وتلك الفتنة أو بتعبير آخر أن يكون عقلها في المحل الثاني. وكان ينسى أليجرا Allegra . ودبرت أمها مع ماري شيلي الذهاب إلى فلورنسا ليدبر ثلاثتهم خطة للذهاب إلى رافنا لإبعاد الفتاة وإحضارها لتعيش في مناخ أفضل للصحة، ولتعيش حياة أرحب. ورفض شيلي السماح بهذا، وأتت بعد ذلك أخبار مفادها أنه في 20 أبريل سنة 1822 ماتت في الدير بالملاريا وهي في الخامسة من عمرها. وكان لهذا الخبر أثره في فتور العلاقة بين شيلي وبايرون. وفي بواكير هذا الربيع كتب إلى لاي هنت Leigh Hunt: ثمة ميول خاصة في شخصية اللورد بايرون تحول دون الاقتراب منه والتودد معه، "وهو ما وجدت نفسي أعاني منه .. فهو أمر لا يحتمل. يا صديقي العزيز هذا ما أعترف به وأفضي به إليك، ثقة مني فيك".
لقد حاول أن يخفي استياءه لأنه كان قد حث بايرون على دعوة هنت إلى بيزا لتحرير مجلة جديدة (الليبرالى- Liberal) التي خطط بايرون وشيلي أن يبدآ بها كشعبة أو فرع من المستخلص ربع السنوي Quarterly المحافظة. وأرسل بايرون إلى هنت المفلس 250 جنيها فأبحر مع أسرته من لندن آملا أن يصل ليهجورن Leghorn في أول يوليو سنة 1822 ووعد شيلي بلقائه هناك.
ومن الناحية الظاهرية كانت الشهور الستة الأولى من هذا العام الحاسم فترة سعيدة
للشاعرين. فقد كانا يذهبان راكبين كل يوم تقريبا إلى نادي الرماية ليجربا براعتهما في إصابة الهدف. وكاد شيلي يضارع بايرون في هذا المجال. لقد كتب إلى بيكوك Peacock:
" إن صحتي تحسنت، ومشاغلي قلت، ورغم أن شيئا لن يعالج مشكلة تضاؤل أموالي فإن جيوبي تبدو كجيوب الأثرياء دائما خاوية، لكن أموالهم لا تنفد تماما".
وفي يناير توفيت زوجة والد بايرون فتركته (رغم انفصاله عن زوجه) وقد أضافت إلى دخله السنوي ثلاثة آلاف جنيه، فأمر - سعيدا - ببناء يخت مناسب في ليهجورن وعين جون تريلاوني John Trelawny قائداً له وأطلق على يخته هذا اسم بوليفار Bolivar احتفاء بثائر أمريكا الجنوبية ودعا شيلي وصديقيه الجديدين إدوارد وليمز Edward Williams وتوماس مِدْوِن Thomas Medwin للانضمام إليه مع آل جامبا في رحلة باليخت في الصيف القادم. وشارك شيلي ووليمز بقارب أصغر طوله 84 قدما وأقصى عرض له ثماني أقدام وكانت تكلفته ثمانين جنيها وأطلق عليه تريلاوني اسم (دون جوان Don Juan) إلا أن مارى غيرت اسمه إلى (إريل) Ariel .
وفي انتظار حلول الصيف للقيام بالرحلة، أقام بايرون في هذه الأثناء بفيلا دوبوي Dupuy بالقرب من ليهجورن (جنوة) واستأجر شيلي ووليمز لأسرتيهما الكازا ماجني Casa Magni بالقرب من ليريسي Lerice على ساحل خليج سبتسيا (سبيزيا Spezia) إلى شمال ليهجورن بأربعين ميلاً. وفي 26 أبريل 1822 انتقل شيلي ووليمز إلى المقر الجديد (الكازا ماجني Casa Magni) وراحا ينتظران تسلم القارب (الجديد).
15 - تضحية:
شيلي 1822 م
شيء من نزوات الشعراء هو الذي أملى اختيار هذا المكان الموحش لقضاء إجازة فيه. لقد كان الكازا ماجني Casa Magni واسعا جدا بالنسبة إلى أسرتين كما أنه لم يكن مؤثثا، وكان قديما يقترب من الانهيار. وكانت الغابة تحيطه من ثلاث جهات، أما واجهته فكانت تطل على البحر الذي كان يقذف بأمواجه أحيانا إلى أبوابه. وقد راحت ماري شيلي تتذكر فيما بعد قائلة:
"لقد احتفت بنا الرياح الهوجاء والعواصف عند وصولنا، وكان أهل المنطقة أكثر وحشة من المكان. وبمجرد أن ارتطمت سفينتنا بجزيرة البحار السبعة حتى كدنا نشعر
أننا أبعد ما نكون عن الراحة والحضارة ".
وفي 12 مايو وصل القارب أريل Ariel من جنوى Genoa، فابتهج وليمز الذي سبق له العمل في البحرية، وابتهج شيلي الذي لم يكن يجيد السباحة، وراحا يقضيان كثيرا من الفترات بعد الظهيرة أو في الماء وهما يبحران على طول الساحل. وقلما كان شيلي في أي وقت مضى سعيدا بمثل هذه السعادة الفائقة. وكانت النسوة أحيانا ينضممن إليهما في نزهاتهما هذه، لكن ماري أصبحت حاملاً مرة أخرى وكان المرض يعاودها ولم تكن سعيدة لأن زوجها لم يتركها تقرأ خطابات أبيها الحزينة.
وقد كتب شيلي في المنزل أو القارب قصيدته الأخيرة انتصار الحياة التي توقف فيها عند البيت رقم 544 بسبب رحلته الأخيرة. ولم يكن هناك انتصار في هذه الرحلة لأنها تصف مواكب الأجناس البشرية المختلفة في طريقها للفشل والانحطاط مسرعة إلى الموت. وفي البيت رقم 82 نجد تأثير روسو، فالشاعر هنا يتعرض لغباء الحضارة، فهو يظهر مشاهير التاريخ - أفلاطون وقيصر وقسطنطين وفولتير ونابليون - وقد وقعوا في أحابيل الاندفاع المجنون نفسه نحو الثروة والسلطة، ويوصي بالعودة إلى الحياة الطبيعية البسيطة، ولا يجد خلاصا للبشر إلا بذلك.
لم يكن شيلي قد بلغ الثلاثين بعدما فكر في الانتحار في 18 يونيو سنة 1822. لقد كتب إلى تريلاوني:
"أيمكنك أن تقابل أي عالم يستطيع أن يحضر حامض البروسيك Prussic acid أو خلاصة زيت اللوز المر
…
سأعتبر ذلك فضلاً كبيرا إن أنت وفرت لي قدرا قليلا من هاتين المادتين .... إنني سأدفع أي مبلغ مطلوب مقابل هذا الدواء
…
لست في حاجة لأن أخبرك أنني لا أنوي الانتحار في الوقت الحاضر لكنني أعترف لك أنني سأكون مرتاحا إذا ما امتلكت المفتاح الذهبي لغرفة أرتاح فيها راحة أبدية ".
وربما رغبة منه (شيلي) في مساعدة زوجته المريضة - دعا كلير كليرمونت Claire Clairmont أن تأتي من فلورنسا لقضاء الصيف في الكازا ماجني، وبالفعل أتت في أوائل شهر يونيو وكان هذا وقتا مناسبا لمساعدة ماري في عملية الإجهاض المهلكة. وفي 22 يونيو كان شيلي على وشك
الانهيار العصبي وكان يعاني كوابيس مرعبة جدا حتى إنه كان يهب فزعا ويجري من غرفته إلى ماري وهو يصرخ. وفي أول شهر يوليو وصلتهم الأخبار أن لاي هنت Leigh Hunt وأسرته قد وصلوا إلى جنوى وأنهم يستعدون لمغادرتها بقارب نقل للانضمام إلى بايرون. وكان شيلي تواقا للترحيب بصديقه المخلص، ولتيسير استقبال بايرون له (لهنت) ولتدعيم شريكه الذي تضاءلت مصالحه في إصدار مجلتهما الجديدة، فقرر أن يبحر فجأة مع وليمز في القارب أريل Ariel إلى ليهجورن وكانت ماري قد أرهصت بالكارثة (حدثها قلبها أن كارثة ستقع):"لقد طلبت منه ألا يقوم بهذه الرحلة مرتين أو ثلاث .. ورحت أصرخ بمرارة عندما ذهب"، وغادر القارب أريل (كازا ماجني) في ظهر الأول من يوليو ووصل ليهجورن Leghorn بأمان في التاسعة مساء. وحيّا شيلي صديقه هنت بسعادة وفرح لكنه أصيب بالإحباط عندما علم أن السلطات التسكانية Tuscan قد أمرت آل جامبا Gambas بمغادرة البلاد فورا وأن بايرون الذي قرر أن يلحق بتيريزا كان يخطط لمغادرة ليهجورن حالاً ليلحق بها في جنوى Genoa .
ومع هذا وافق بايرون على الاحتفاء باتفاقيته مع هنت وخصص له ولأسرته غرفاً في الكازا لانفرانشي Casa Lanfranchi في بيزا Pisa، فصحبهم شيلي إلى بيزا فلما اطمأن إلى مقامهم عاد إلى ليهجورن في السابع من يوليو. وقضى صباح الأحد الموافق 8 يوليو في شراء مستلزمات أسرته في كازا ماجني. وحثه وليمز على الإسراع لانتهاز فرصة الرياح المناسبة إلى ليريسي Lerici، وكان قائد السفينة (البوليفار) قد تنبأ بهبوب عاصفة بعد ظهر هذا اليوم ونصح بتأخير الإبحار يوما، إلا أن وليم كان يلح على الإبحار حالا، فوافق شيلي وفي نحو الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر أبحر القارب أريل Ariel من ليهجورن وعلى متنه شيلي ووليمز وبحار شاب هو تشارلز فيفان Charles Vivian .
وفي نحو السادسة والنصف من هذا اليوم هبت عاصفة عنيفة مصحوبة برعد ومطر على خليج سبيريا Spezia فهرعت مئات السفن والقوارب إلى داخل الميناء. وفي كازا ماجني كانت العاصفة قاسية جدا حتى إن النسوة الثلاث مكثن قلقات يعزين أنفسهن قائلات إن الزوجين لم يبحرا في هذه العاصفة وإنهما في أمان في ليهجورن ومضى يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس. وراحت ماري في وقت لاحق تتذكر ما حدث:
"إن الكرب الحقيقي
الذي عانيناه في هذه اللحظات يفوق كل كرب وصفته والقصص والروايات، فمهما ذهب الخيال لا يمكن أن يعبر عن حالتنا تلك، فعزلتنا، وطبيعة السكان الفظة في القرية المجاورة ومجاورتنا للبحر الهائج، كل ذلك تضافر معاً ليبعث فينا رعبا غريبا"
وفي يوم الجمعة وصل خطاب من هنت إلى شيلي يضم سطورا جلبت مزيدا من الرعب إلى قلوب المرأتين المنتظرتين: "أخبرنا كيف وصلت منزلك لأنهم قالوا إن الطقس لم يكن مناسبا بعد إبحارك ونحن قلقون".
وركبت جين وليمز Jane Williams وماري طوال النهار ليصلا إلى بيزا. وفي منتصف الليل وصلتا إلى كازا لانفرانشي، فوجدتا بايرون وهنت هناك فأكدا لهما أن شيلي ووليمز غادرا ليهجورن يوم الأحد، فركبا ليلا ووصلا ليهجورن في الساعة الثانية صباح السبت 13 يوليو، وهناك حاول تريلاوني وروبرتز تهدئتهما بقولهما إن الأمواج ربما تكون قد أزاحت القارب إلى إلبا أو كورسيكا. وعهد بايرون إلى روبرتز Roberts بركوب (البوليفار) للبحث في البحر وعند السواحل بين ليهجورن وليريسي Lerici، وصحب تريلاوني كلا من جين وماري وفي بحث غير مجد على طول الساحل بحثا عن أخبار عن الرجلين المفقودين ومكث مع المرأتين المنتحبتين في كازا ماجني حتى 18 يوليو، ثم فارقهما لإجراء مزيد من التحريات.
وفي 19 يوليو عاد إليهما وأخبرهما بكل ما في جعبته من لطف أن جثتي زوجيهما قد عثر عليهما بالقرب من فيارجيو Viareggio في 17 أو 18 يوليو. (وفي 30 يوليو ثم العثور على جثة تشارلز فيفان مشوهة على بعد أربعة أميال إلى الشمال وتم دفنها على الساحل) واصطحب ماري وجين إلى بيزا وعرض عليهما بايرون الإقامة في كازا لانفرانشي لكهنا استأجرا غرفا بالقرب منه. وكتبت ماري إلى إحدى صديقاتها: "إن لورد بايرون رفيق جدا بي، وغالبا ما يأتي مع جويشيولي لرؤيتنا".
وكان أهالي المنطقة قد دفنوا بالفعل الجثث في الرمال وقانون تسكانيا يمنع نقل الجثث التي تم دفنها لإعادة دفنها من جديد في مكان آخر، لكن تريلاوني كان يعلم رغبة زوجة شيلي في دفن رفات زوجها بالقرب من رفات ابنه وليم في روما، فحث سلطات تسكانيا للسماح بإخراج رفاته على أن يتم حرقها على الساحل، وكانت جثة شيلي وصديقه قد تعفنتا أو تآكلتا فصعب تعرفهما، إلا أنهم وجدوا في أحد جيوب معطف أحدهما مجلدا
لسوفكليس Sophocles وفي الجيب الآخر مجلداً لكيتس Keats.
وفي 15 أغسطس، وقف هنت، وتريلاونى مع مسئول الحجر الصحي، والكابتن شنلي Shenley وهو ضابط إنجليزي بينما تولت مجموعة من الجنود إحراق بقايا وليمز. وفي اليوم التالي تم النبش عن رفاة شيلي وتم إحراقه في حضور بايرون، وهنت وتريلاوني وبعض الفلاحين المجاورين، وقذف تريلاوني في اللهيب المشتعل في الرفات عطورا ونبيذا وزيتا وراح يترنم ببعض الدعوات طالبا أن يعود رماده إلى الطبيعة التي عبدها. ولم يطق بايرون تحمل المشهد إلى نهايته فسبح إلى (البوليفار) وبعد ثلاث ساعات تقريباً كان كل الجسد [الرفات] قد أصبح رمادا خلا القلب، فانتزعه تريلاوني من النار معرضا يده للإصابة بالحروق. وتم نقل رماد الرفات في سلة إلى روما، وتم دفنها في مقبرة جديدة بالقرب من مقبرة قديمة للبروتستنت تضم رفات ابنه وليم. أما قلب شيلي مقدمه تريلاوني لهنت الذي فقدمه بدوره لماري، وعند موتها في سنة 1851 تم العثور على رماد القلب في نسختها من كتاب أدونيس Adomaus.
16 - التجلي:
بايرون 1822 - 1824 م
في سبتمبر 1822 انطلق بايرون وآل جمبا Gambas من بيزا إلى ألبارو Albaro إحدى ضواحي جنوى. لقد أرهق بايرون بدنه وعقله منذ غادر إنجلترا، فبدأ يضجر حتى من حب تيريزا غير المضجر. لقد أزاحت عيناه الحادتان وروحه الساخرة ما على وجه الحياة من حجاب ويظهر أنه لم يترك حقيقة تحفزه على الإخلاص والمثالية. لقد كان أشهر شاعر على قيد الحياة لكنه لم يكن معتزا بشعره فالآلام المحمومة التي ظهرت في عمله (شايلد هارولد) بدت الآن تنم عن جبن، والملاحظات الساخرة في (دون جوان) تركت المؤلف والقارئ وقد خاب أملهما وتحررا من الوهم.
إنه يشعر الآن أن على الإنسان أن يقدم للبشرية شيئا أكثر من الشعر وفي جنوى طلب من طبيبه أن يدله على أفضل سم وأسرعه مفعولا. وعرض عليه اليونانيون موتا يخلصه. لقد سقطت اليونان في أيدي الترك (العثمانيين) في سنة 1465 وأصبحت مخدرة في ظلال حكم أجنبي. وكان بايرون قد دعا اليونانيين في
قصيدته الطويلة (شايلد هارولد)(النشيد 2/الأبيات 73 - 84) للثورة ضد حكم الأتراك (العثمانيين): أيها الأرقاء! / ألا تعلمون أن تحرركم يحتاج إلى هبة كالإعصار؟.
وثار اليونانيون في سنة 1821 لكن كان ينقصهم السلاح والمال والوحدة، وكانوا يصرخون طالبين المساعدة من الأمم التي استفادت من تراثها الخصب، وأرسلت اليونان لجنة إلى لندن طالبة العون المالي، وأرسلت اللجنة ممثلين إلى جنوى متحدية بايرون أن يرسل بعض أمواله للتعجيل بالثورة التي كان يدعو إليها. وفي 7 أبريل 1823 أخبر المبعوثين أنه رهن إشارة الحكومة اليونانية المؤقتة.
لقد تحول بايرون من الشعر إلى العمل. إنه قد كرس نفسه الآن للأفعال لا الأقوال. لقد أفسحت التعبيرات الساخرة الطريق للعمل من أجل قضية. لقد تنحى الشعر، وخرجت الرومانسية من قافيتها لتبحث عن حل. وبعد أن خصص جانبا من ميزانيته لآل هنت، وتيريزا على نحو خاص، جعل ما تبقى من ثروته لصالح الثورة اليونانية. لقد أصدر تعليماته لوكلائه في لندن لبيعوا كل ما يملك في إنجلترا ويرسلوا إليه المبالغ، وباع (البوليفار) بنصف تكلفته واتفق أن تقوم سفينة إنجليزية لتستقله هو، وبيترو Pietro جمبا Gamba وتريلاوني Trelawny إلى اليونان وأن تكون السفينة مزودة ببعض المدافع والذخيرة وإمدادات طبية تكفي ألف رجل مدة عامين.
وناضلت تريزا لإثنائه عن عزمه كي يكون إلى جوارها، فرفض برقة ورضي عندما علم أنها ووالديها قد حصلوا على إذن بالعودة إلى رافنا، وأخبر ليدي بليسنجتون لدى شعور أنني سأموت في اليونان. أتمنى أن يتحقق هذا، فلو حدث لكان خير نهاية لحياة كئيبة جدا.
وفي 16 يوليو 1823 أبحرت السفينة (Hercules) من جنوى قاصدة اليونان. وبعد تأخير كان مدعاة لسخطه رست في 3 أغسطس في ميناء أرجوستوليون Argostolion في سيفالونيا أكبر الجزر الأيونية. وبوصولهم لهذه الجزيرة يكونون على بعد خمسين ميلا من اليونان لكن بايرون أجبر على تضييع عدة شهور فيها. لقد كان يأمل أن ينضم في ميسولونجي Missolonghi بأهم الزعماء اليونانيين لكن ماركو بوزاريس Marco Bozzaris كان قد لقي حتفه في أثناء العمليات، وكانت ميسولونجي في أيدي الأتراك العثمانيين كما كانت السفن الحربية
العثمانية تتحكم في كل السواحل المؤدية إلى البر اليوناني من جهة الغرب.
وفي بواكير شهر ديسمبر استعاد الأمير أليكزاندروس مافروكورداتوس Alexandros Mavrokordatos، ميسولونجي، وفي 29 من الشهر نفسه غادر بايرون جزيرة سيفالونيا Cephalonia وكتب الكولونيل ليسستر ستانهوب Leicester Stanhope ممثل اللجنة اليونانية التي كانت تجمع الأموال في إنجلترا لمساعدة الثورة اليونانية - كتب من ميسولونجي: الكل يتطلع إلى وصول اللورد بايرون كما لو كانوا ينتظرون المسيح المخلص ووصل المخلص الشاب بعد عدة مغامرات وبعد اجتياز عدة مشاكل أدت لتأخره إلى ميسولونجي في 4 يناير سنة 1824 فتلقاه الأمير والناس بفرح غامر.
وعهد إليه مافروكورداتوس بقيادة ستمائة من السوليتو Suliotes، وتقديم المؤن لهم ودفع رواتبهم (والسوليتو فرقة انتحارية جزء منها يونانيون وجزء ألبان ولم يكن منظرهم ملهماً للورد بايرون وكان يعرف أن الثورة اليونانية منقسمة إلى فصائل متنافسة تحت قيادات ذوات ميول سياسية أكثر منها حربية. ومع هذا فقد كان سعيدا للقيام بدور فعَّال ولم يتأخر عن تقديم المساعدة. لقد قدم إلى مافروكورداتوس وحده نحو ألفين من الجنيهات كل أسبوع لتمويل أهالي ميسولونجي بالطعام والمشروبات. وفي هذه الأثناء كان يعيش في فيلا شمال المدينة بالقرب من الساحل. يقول تريلاوني:"عند حافة أسوأ مستنقع رأيته في حياتي". وثبت أن السوليتو غير منضبطين ويميلون للتمرد، وكانوا مشتاقين لأمواله أكثر من رغبتهم لطاعة أوامره. وكان الشاب لوشينفار Lochinvar يأمل تأجيل الأعمال العسكرية حتى يتم استعادة النظام والانضباط، ولم يكن تريلاوني ميالا للتأجيل فمضى يبحث عن المغامرة في أي مكان. ولم يبق إلا بيترو جامبا قريبا من بايرون يرعاه قلقاً عليه لمعاناته من الحرارة والفزع والملاريا malarial air .
وفي 15 فبراير أصبح وجه بايرون على حين فجأة شاحبا في أثناء زيارة الكولونيل ستانهوب Stanhope، وسقط مغشيا عليه وراح في حالة تشنج فاقد الوعي. واستعاد وعيه فتم نقله إلى فيلته وتجمع حوله الأطباء وراحوا يفصدون بعلقات leeches تسحب الدم، وعندما تم إبعاد العلقات لم يتوقف نزيف الدم ووهن بايرون وأصبح يعاني من نقص دمه. وفي 18 فبراير تمرد رجال
الكتيبة التابعة له (السوليتو) مرة ثانية مهددين باقتحام فيلته وقتل كل الأجانب الذين يقابلونهم. فهب من سريره وهدأهم لكن أمله في قيادتهم ضد الترك في ليبانتو كان قد تلاشى وضاع بذلك حلمه بموت بطولي مثمر. وتلقى خطابا - كان كالعزاء له - من أوجستا لاي Augusta Leigh به صورة لابنته أدا Ada مع وصف لعادات الطفلة وميولها كما قدمته أنابلا - فالتمعت عيناه بالسعادة للحظات، فقد تنكرت له كل الأمور التي ألفها الناس.
وفي 9 أبريل ذهب راكبا إلى بيترو Pietro وفي أثناء العودة دهمهم مطر عنيف وفي هذه الليلة عانى بايرون من القشعريرة والحمى. وفي 11 من الشهر نفسه زادت حالته سوءا فلزم سريره وشعر بانهيار قواه وأدرك أنه على وشك الموت. وفي أيامه العشرة الأخيرة كان يفكر أحيانا في الدين لكنه ذكر الحقيقة أنني أجد صعوبة في معرفة ما يجب الاعتقاد فيه في هذا العالم وما لا يجب. هناك أسباب كثيرة معقولة تدفعني لأن أموت متعصبا، تماما كتلك الأسباب التي جعلتني أعيش حتى الآن مفكرا حرا وذكر الدكتور جوليوس ميلينجن Julius Millingen - طبيبه الرئيسي:
يجب أن أذكر بأسف لا حد له أنه رغم كوني لم أفارق وسادة اللورد بايرون خلال فترة مرضه الأخيرة إلا نادرا، فلم أسمعه يشير إلى الدين أية إشارة، غير أنني في لحظة واحدة سمعته يقول هل سأطلب الرحمة؟ وبعد فترة صمت طويلة قال تعال! تعال! لا ضعف، فلأكن رجلاً حتى النفس الأخير. وهذا الطبيب نفسه يرون عنه قوله: لا ترسلوا جثتي إلى إنجلترا. دعوا عظامي تفنى هنا! اطرحوني في أول ركن دون جلبة ولا تصرفات حمقاء.
وفي 15 ابريل، بعد أن انتابته حالة تشنج أخرى سمح لأطبائه بفصد دمه ثانيةً، فأسالوا منه رطلين من الدماء ورطلين آخرين في فترة لاحقة، ومات في 19 أبريل 1829. وأظهر تشريح جثته - ولم يكن هذا أمرا معتادا - إصابته بتبول الدم (اختلاط بوله بدمه) ولم تكن هناك علامات على إصابته بداء الزهري (السيفلس syphilis) وظهرت أدلة أن كثرة الفصد والأدوية المسهلة (المسببة للإسهال) كانتا هما الأسباب الأخيرة لموته. وكان مخه من أكبر
الأمخاخ المعروفة - إذ كان يزن 710 جرامات وهو رقم يزيد على أعلى متوسط لمخ الإنسان العادي. وربما أضعفه وعجل بنهايته ما عرف عنه من إفراط في الأمور الجنسية، وإفراطه في تناول الطعام أحيانا، وإفراطه في الحمية أحيانا أخرى بغير ضابط، فقد أضعف كل هذا مقاومته للإجهاد والقلق والهواء الرطب المحمل بالعفونة.
ولم تصل أخبار موته إلى لندن حتى 14 مايو، إذ حمل هوبهوس Hobhouse هذا الخبر إلى أوجستا لاي، وقد صدما معاً بهذا البناء. والآن عاد هوبهوس لمشكلة المذكرات السرية لبايرون. لقد كان مور Moore قد باعها للناشر مري Murray بمبلغ ألفين من الجنيهات، فحاول هذا الأخير دفعها للمطبعة رغم تحذير مستشاره وليم جيفورد قائلاً على حد تعبير هوبهوس:
"إنها لا تصلح إلا لبيوت الدعارة والمواخير وستسيء كثيرا جدا إلى اللورد بايرون وستلحق به عاراً أبديا إن نشرت".
واقترح مرى وهوبهوس إتلاف المخطوطة، واعترض مور ولكنه وافق أن يترك الأمر لرأي السيدة لاى Leigh فكان من رأيها إحراق المذكرات، وتم ذلك بالفعل، وأعاد مور الألفي جنيه إلى مري.
وأصر فلتشر الخادم العجوز الذي صاحب لورد بايرون على أن سيده قد عبر عن رغبته قبل موته بقليل أن يدفن في إنجلترا، إلا أن السلطات اليونانية وعامة اليونانيين اعترضوا على ذلك لكن كان عليهم أن يقنعوا بأجزاء من أمعائه تمت إزالتها قبل تحنيطه. وتم حفظ بدنه باستخدام 180 جالون من الخمور، ووصلت الجثة بالفعل إلى لندن في 29 يونيو، وتم تقديم طلب لسلطات كنيسة وستمنستر لدفن الشاعر في الركن المخصص للشعراء فيها لكن الطلب لم يلق قبولا.
وفي 9/ 10 يوليو سمح للعامة بإلقاء نظرة على الرفات المكفن فأقبل أناس كثيرون من قليلي الذكر، لكن بعض ذوي الحيثية سمحوا بأن تسير عرباتهم الخالية (أي التي لم يكونوا هم أنفسهم فيها) بالسير في الموكب الذي واكب الجثة من لندن إلى نوتنجهام في 12 - 15 يوليو. ورأت كلير كليرمونت، وماري شيلي من النافذة، موكب الجنازة وهو يتحرك. وفي 16 يوليو جرى دفن الشاعر في قبو أجداده بجوار أمه في كنيسة هكنال توركارد Hucknall Torkard - وهي قرية بالقرب من مبنى نيوستيد، وهو مبنى دير
قديم لم يعد يستخدم كدير Newstead Abbey .
17 - الباقون على قيد الحياة
عاش معظم من لعبوا أدوارا في حياة بايرون الحافلة في الحقبة التالية لوفاته. وكان أسرعهم لحاقاً به هو بيترو جامبا الذي عاد لليونان بعد أن رافق جثمان بطله (بايرون) إلى لندن، وظل وفيا للثورة اليونانية ومات بالحمى في سنة 1827 - وأصبحت ليدي كارولين لامب مريضة جدا عندما أخبرها زوجها أن جثمان بايرون قد مر في طريقه إلى مثواه الأخير، وكانت قد هجته في روايتها Glenarvon (1816) لكنها الآن تقول إنني آسفة على كل كلمة غير طيبة قلتها في حقه.
وقد عاشت بعده ما لا يقل عن أربع سنوات - وورثت أوجستا لاي - بناء على وصية من بايرون كل ما تبقى من ثروته تقريبا (نحو مائة ألف جنيه) وأنفقت معظمها في دفع ديون زوجها وأولادها الناتجة عن المقامرة، وماتت فقيرة سنة 1852 - وليدي بايرون ظلت تذكر بشيء من الخير الرجل الذي تسببت شروره الموروثة لعنة لزواجها. لقد كتبت:
"طوال ما بقى لي من حياة تظل مشكلتي الرئيسة هي أنني لا أتذكره بمودة كبيرة. ومع هذا فبعد كل الأمور التي اتضحت أقول لقد كان هناك موجود (إنسان) أفضل بكثير .. لقد كان صدره يعتمل بما هو أفضل .. لقد كان كثير التحدي لكنه لم يستطع التدمير أبدا ".
وابنتهما أدا Ada التي كان اللورد بايرون يعقد عليها الآمال تزوجت من الإيرل الثاني للوفيلاس Lovelace وفقدت ثروتها في الرهان على سباق الخيل وأنقذتها أمها من الإفلاس، وفقدت صحتها وآمالها - كأبيها - فماتت في السادسة والثلاثين (1852) وحاولت ليدي بايرون أن تملأ وحدتها بالعمل في مجال الخدمة العامة، وماتت في سنة 1860. ودخل جون كام هوبهوس البرلمان كراديكالي، وارتقى ليصبح وزيرا في فترة الحرب (1832 - 1833) وأصبح بارونا ومات في سنة 1869 في الثالثة والثمانين من عمره.
وعادت تيريزا جويشيولي - بعد وفاة بايرون - إلى زوجها لكنها سرعان ما عملت على الانفصال عنه، وتم لها ما أرادت. وكونت علاقات لم تطل مع صديق بايرون الأعرج هنري فوكس ومع لامارتين الشاعر الفرنسي المعجب ببايرون. وتنقلت بين العاشقين، ولم يطل
مقامها مع أي منهم إلا قليلا وأخيرا تزوجت وهي في السابعة والأربعين من ماركيز بوسي Marquis da Boissy وكان ثريا لطيفاً يقدمها لمعارفه وأصدقائه بفخر قائلا: "زوجتي، والعشيقة السابقة لبايرون". (على وفق وجهة النظر الإنجليزية المجحفة شيئاً ما) وعندما مات الماركيز اشتغلت بتحضير الأرواح (الاتصال بأرواح الموتى) وتحدثت مع روح بايرون وروح زوجها الذي مات وقالت: "إنهما معاً الآن، وهما أفضل الأصدقاء" - تقصد يصادق كل منهما الآخر صداقة مخلصة عميقة وماتت في سنة 1873 في الثانية والسبعين من عمرها بعد أن كتبت عدة كتب تصور فيها بايرون كعبقري ورجل مهذب لا عيوب فيه - وماتت كلير كليرمونت في سنة 1879 عن عمر يناهز الواحدة والثمانين وظلت حتى آخر أيامها متمسكة برأيها في بايرون بأنه مجرد تركيبة من العبث والغباء وكل ضعف بائس - قلما تجتمع في مخلوق بشري واحد.
أما ماري شيلي فرغم ما لحقها منه ببعض الضرر فقد كانت تحتفظ لألبي Albe [كما كان يطلق عليه المحيطون به - أي ببايرون -] بمشاعر أكثر ودّاً، فعندما علمت بوفاته كتبت:
"آه يا ألبي Albe (المقصود اللورد بايرون) - أيها العزيز الفاتن المتقلب ألبي - غادرت هذا العالم الخرب، فليمنحنى الرب موتا باكرا في شبابي"
وأمضت كثيرا من وقتها فيما تبقى لها من العمر (27 سنة) في تحرير كتب زوجها بحب ورعاية مستخدمة فصاحتها وقدرتها على البيان.
أما لاي هنت الذي كان قد تجاسر وامتدح أشعار شيلي في الوقت الذي أدانها كل النقاد تقريبا باعتبارها أوهام مراهقة - فقد ظل مخلصاً لراديكاليته الشابة وكتب مذكرات معادية لبايرون، وظل على قيد الحياة حتى 1859.
أما توماس جيفرسون هوج فبعد تجارب عاطفية مختلفة - تزوج من أرملة وليمز (جين) وعاش معها السنوات الخمس والثلاثين الباقية من حياته. وكان الأكثر لفتاً للنظر هو إدوارد جون تريلاوني الذي دخل حياة شيلي في بيزا، وكان كلاهما في الثلاثين من عمره. وكان شيلي يقترب من نهايته، بينما كان على تريلاوني أن يعيش تسعا وخمسين سنة أخرى. "لقد كان هذا الفارس الجوال
…
الداكن الوسيم ذو الشارب الكبير" (كما وصفه هنت) قد قام بكثير من المغامرات في كثير من
البلاد، حتى إن استعادته لما مر به من ذكريات وأحداث لم يكن يسبب ضيقاً لأصدقائه الجدد. ورغم أن بايرون قد عينه مسئولا عن خيوله وعن قاربه الفخم (يخته) بوليفار، فقد كان يحب كثيرا شيلي هذا الصبي الأمرد حسن الطباع. وبعد أن شهد وصول بايرون بأمان إلى ميسولونجي (وإن كان - أي بايرون - قد اضطر للبقاء هناك دون قدرة على الحركة لفترة) انطلق ليبحث عن قدره متوقعاً أن يموت في سبيل القضية اليونانية. لقد رأى اليونان وهي تتحرر فواصل تجواله وعاش حتى سنة 1881 وتم دفنه في مقبرة اشتراها في سنة 1822 بالقرب من رفات (رماد) شيلي في المقبرة الإنجليزية في روما.
الفصل الثالث والعشرون
جيران إنجلترا
[1789 م - 1815 م]
1 - الاسكتلنديون
كانوا تحت الحكم البريطاني منذ الاتحاد سنة 1707، ينعمون بحرية الحركة والتجارة في الجزيرة، ولكنهم لم يكونوا على وفاق مع الحكومة بسبب بسبب البرلمان القصي الذي لا يحوي مجلس العموم فيه سوى خمسة وأربعين عضوا يمثلون 1.800.000 سكتلندي، بينما يوجد 513 عضوا يمثلون 10.146.000 هم أهل إنجلترا وويلز. ومن بين الأعضاء الذين يمثلون سكتلندا خمسة عشر عضوا تم تعيينهم بواسطة أعضاء مجالس المدن المرتشين الذين انتخبهم 1.220 مصوتًا في كل المدن التي يحق أن يكون لها ممثل في البرلمان boroughs . والثلاثون الباقون يتم انتخابهم بواسطة المقاطعات الريفية على أن يكون حق الانتخاب مقتصرًا على ملاك الأراضي المؤثرين (ذوي النفوذ)، وعلى هذا فمقاطعة بيوت Bute بسكانها البالغ عددهم 14،000 ليس فيها إلا 21 مصوتًا (فرد له حق التصويت في الانتخابات)، وكل المقاطعات مجتمعة ليس فيها إلا 2.405 مصوتين (1). وقد تم انتخاب غالب المرشحين الناجحين بواسطة النبلاء من مالكي العقارات والأراضي الشاسعة منذ زمن طويل. وكان الإقطاع قد تم إلغاؤه في أنحاء سكتلندا في سنة 1748 لكن الفقر ظل باقيا طالما كان الجشع والرغبة في التمايز (عدم المساواة) كافيين في تركيب البشر. وعلى العموم فقد قبلت إسكتلندا مثلها مثل إنجلترا هذا الشكل من الحكم التمثيلي representative government كأفضل شكل حكومي يمكن أن يقوم بين شعب ارتبط ارتباطا وثيقًا بالتقاليد وكان يعاني من حاجة ملحة للمعرفة والخبرة اللازمتين لإبداء الرأي بشكل ذكي في القضايا الوطنية. وكان الدين أقوى من الدولة. وكان يوم السبت (المقصود يوم العبادة)(*) هو يوم عبادة يتسم بالكآبة، فهو يوم تذكر الخطايا. وكان رجال الدين يتحدثون عن خطيئة آدم، وعن إبليس ورب منتقم، وكانت جموع المصلين يستغرقون في أمور العقيدة والأخلاق
(*) Sabath ليس هو بالضرورة Saturday (المترجم)
استغراقا يفوق استغراق قسسهم. وقد أكد ديفد دينز David Deans في كتابه (The heart of Midlothian أن الفتاة التي تذهب إلى الحفلات الراقصة مصيرها إلى جهنم (2). مع هذا فقد كانت سكتلندا في مجالات كثيرة سابقة إنجلترا. فقد كان لديها نظام وطني لمدارس حكومية حقيقية. وكان مطلوبا من كل دائرة أبرشبة أن ترعى مدارس يتعلم فيها الأولاد والبنات معا القراءة والحساب. وكان أهل التلاميذ يدفع الواحد منهم شلنين في كل ربع سنة للتلميذ، وإذا رغب الطالب أو ذووه في تعلم اللاتينية دفع شلنين آخرين، وكانت الدائرة الأبرشية تدفع للطلبة الفقراء، وعندما تكون الدائرة الأبرشية متسعة اتساعا كبيرا مما يجعل جميع التلاميذ معًا أمرًا صعبا، كان يتم تعيين ناظر متنقل ليشرف على تقديم تعليم لكل مجموعة على التوالي. وكان المدرسون تابعين بصرامة لرجال الدين في الأبرشية، وكانوا ملزمين بمساعدة رجال الدين في نقل اللاهوت المرعب إلى تلاميذهم، ذلك أن كبار السن وجدوا أن الكالفنية (مذهب كالفن) هي السبيل المقتصد لتعيين رقيب على كل روح. وبقي على قيد الحياة عدد كبير ليقوموا بحركة التنوير الإسكتلندية في جيل سابق على قيام الثورة الفرنسية، وعملوا على استمرارها في عصر نابليون (وإن كانت قد خفت قليلا ولم تعد في تألقها السابق في ذلك العصر - عصر نابليون).
وكانت إسكوتلندا فخورة بجامعاتها في سان أندروز St. Andrews (التي أسست في سنة 1410) وجلاسجو (1451) وأبردين (1404) وأدنبره (أدنبورج)(1583). وكانت هذه الجامعات تعتبر نفسها أرقى في أوجه كثيرة من أكسفورد وكامبردج بل إن بعض الباحثين المحدثين يؤكدون ذلك (3). وفي مجال التعليم الطبي كان لأدنبره (أدنبورج) الريادة التي اعترف بها الآخرون (4). وكانت دورية Edinburgh Review (مراجعات أدنبره) التي أسست سنة 1802 تحظى باحترام عام وأكثر الدوريات تألقا في بريطانيا العظمى، وكان المحامي الليبرالي الشجاع توماس إرسكين (1750 - 1823) يبز كل المحامين تقريبا في ساحات المحاكم. وعلى أية حال لا بد أن نسلم أنه عندما حان وقت قمع الحريات الفكرية - خاصة إن كانت هذه الحريات تساند فرنسا الثورة - لم يكن هناك قانوني إنجليزي يضارع ذلك الإسكتلندي. ومن ناحية أخرى فقد استمر المناخ الفكري في أدنبره وجلاسجو
يساند الحرية التي كانت قد حمت ديفد هيوم، ووليم روبرتسون، وجيمس بوزول، وروبرت بيرنز وآدم سمث. وقيل إن محاضرات دوجالد ستيوارت Dugald Stewart لم يكن يحضرها الطلبة فقط وإنما كل أهل الفكر في أدنبره. ولا يكاد يكون ستيوارت معروفا اليوم خارج سكتلندا لكن الإسكتلنديين قد أقاموا تخليدا لذكراه معبدا كلاسيا صغيرا، هو واحد من أخلد النصب التذكارية فيها. لقد تبع توماس زيد Reid في إخضاع النتائج الشكوكية لهيوم، وعلم النفس كما قال به ديفد هارتلي (علم نفس الحيل اللاشعورية) للفطرة السليمة (التفكير البسيط التلقائي)(5) وقد رفض المتيافيزيقا باعتبارها محاولة عبثية يقوم بها العقل mind (النفس) لسبر أغوار طبيعة العقل (النفس). (البارون منشوزن Munchausen هو وحده الذي استطاع أن يقتلع نفسه (يستأصلها) برباط حذائه). لقد اقترح ستيوارت أن يحل علم النفس الاستقرائي Inductive Psychology محل الميتافيزيقا إذ يمكن به استخدام أسلوب الملاحظة الصبورة الدقيقة للعمليات العقلية (النفسية) دون الادعاء بشرح العقل (النفس) نفسه. وكان ستيوارت رجلًا ذا بديهة وثقافة وصاحب أسلوب واستخدم كل هذا في تعريف الذاكرة والذكاء والأحلام والموهبة الشعرية. (لا زال موطنه ينبوعا لأغاني الحب كما أن بعض أجمل الألحان التي أدفأت شبابنا أتت من منحدرات جبال سكتلندا وضفاف أنهارها. وكان جيمس مل Mill رجلا حسن النوايا واسع العقل خصب الفكر - مع أنه أتخم ابنه بالتعليم وكان ابنا لصانع أحذية ومع هذا فقد تفوق في دراسة اللغة اليونانية في جامعة أدنبره. وعندما تخرج انتقل إلى لندن، واكتسب رزقه بالعمل في الصحافة، فكانت عيشته خطرة غير آمنة، وتزوج وأنجب طفلا أسماه جون ستيوارت على اسم صديقه عضو البرلمان. وبين عامي 1806 و 1818 كتب (تاريخ الهند البريطانية History of British India) الذي حوى نقدا موثقا لسوء الإدارة والحكم فيها حتى إن كتابه هذا أدى إلى قيام إصلاحات كبرى في حكومة الهند.
وفي هذه الأثناء (1808) قابل جيرمي بنثام وسرعان ما قبل بحماس أن معيار نجاح الممارسات السياسية والقيم الخلقية والأفكار هو قدرتها على تحقيق السعادة للبشر، وجعل من نفسه داعية لبنثام في بريطانيا. وكتب لدائرة المعارف البريطانية "في طبعتها الرابعة
(1810)
والخامسة (1815) والسادسة (1820) مقالات عن الحلم وفلسفة القانون وإصلاح السجون والتعليم وحرية الصحافة، وقد أعيد نشر هذه المقالات، وانتشرت انتشارا كبيرا وكان لها تأثير عظيم (ومما يذكر أن الموسوعة البريطانية كانت نفسها مشروعا إسكتلنديا). وهذه المقالات، وكذلك مقالاته في (مراجعات ويستمنستر Westminster Review) أصبحت قوة دافعة أدت إلى صدور مرسوم الإصلاح Reform Act في سنة 1832 وتحول الراديكاليون في ظل مثل هذه القيادة (الريادة) من المطالبة بالثورة الشاملة إلى الإصلاح التدريجي من خلال حكومة قائمة على توسيع حق الانتخاب والفلسفة النفعية. وقد حذر مل Mill في كتابه (مبادئ الاقتصاد السياسي) الصادر في سنة 1821 من ترك السكان يتزايدون بمعدل أسرع من تزايد رأس المال واقترح ضرائب على الزيادة في "الدخول" الناتجة بغير عمل (كارتفاع أسعار الأراضي (مثلا). وفي مبحثه (تحليل لظاهرة العقل البشري) الصادر سنة 1829 عمد إلى شرح كل العمليات العقلية من خلال روابط فكرية. وفي سنة 1835 (قبل وفاته بعام) نشر كتابه (شذرات حول ماكنتوش Fragment on Mackintosh).
ونقل السير جيمس ماكنتوش التعليم الإسكتلندي إلى إنجلترا، فبعد أن حصل على أدوات التفكير من جامعتي أبردين وأدنبره ارتحل إلى لندن (1788) وسرعان ما استثارته أخبار الجموع الثائرة التي استولت على الباستيل في سنة 1790 وامتعض من معاداة إدموند بورك Burke في مؤلفه (تأملات في الثورة الفرنسية)، وفي سنة 1791 أجاب مبرئا الديمقراطية الغالية. لقد رأى الفيلسوف البالغ من العمر ستا وعشرين سنة في المراحل الباكرة للتغير العنيف، صوتا نبيلا وثمارا للفلسفة الإنسانية، بينما لا تكون العروش المهددة - كما ذهب بورك Burke - الحكمة المجربة للترات (التقاليد) والخبرة وإنما تصبح بقايا اعترتها الفوضى (الهيولى) وتصبح ملاذا الخليط متنوع غير مترابط كالأقمشة المرقعة وتصبح مؤسساتها كيفما اتفق بلا ضابط حيث تجري أحداث غير متوقعة.
"كل الحكومات الموجودة الآن في العالم (باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية) قد تكونت مصادفة وكيفما اتفق. لقد كان من المؤكد ألا نسلم بأن هذه الحكومات قد سبقت
الأعمال الفكرية بمعنى أنه من الضروري ألا نعتبر هذه الحكومات على حق. وأن الأفكار المطالبة بالإصلاح على خلاف ذلك .. لقد آن الأوان كي يتعلم الناس ألا يتسامحوا مع قديم لا يقره العقل، وآن الأوان كي يتعلم الناس ألا يرفضوا جديدا يقره العقل ويراه أمرًا لازما، لقد آن الأوان لكي تشرع الطاقات البشرية في البدء بحقبة تاريخية جديدة تحسن فيها نظم الحكم لتحقيق مزيد من السعادة للإنسان (6)" أما والثورة قد انحدرت من مثل الفلاسفة إلى الطغيان العشوائي المرعب، فقد راجع ماكنتوش نظرياته وواءم نفسه مع القوى الاجتماعية التي تركت آثارها عليه. ففي محاضراته قوانين الطبيعة وقوانين الأمم"(1799) تناول بطريقة كانت ستسعد بورك - كيف أن التنظيم الاجتماعي يمكنه أن يُعَمِّم (من خلال تطور الفرد) عادات الأفعال، وتأصيل الحكم على وفق الضمير بشكل يجعلها متأصلة في الأعماق، وعلى هذا فالشخص البالغ في مجتمعات حضريه ليس إفرازا طبيعيا فحسب وإنما هو أيضا ناتج التربية وأسلوب التنشئة - وقد كتب مكنتوش في أعوامه الأخيرة كتابه (تاريخ الثورة في إنجلترا History of the Revolution in England)(1832) معتمدا على وثائق ومصادر أصلية من الأمثلة السابقة يمكننا أن نحكم بأن الحضارة الإسكتلندية لم تكن قد استكانت إلى عظمتها الماضية عند الحد الزمني المتمثل في الانتقال من القرن 18 إلى القرن 19. لقد كانت الزراعة مزدهرة خاصة في الأراضي المنخفضة Lowlands. وهناك أيضا كانت آلات النسيج تعمل باستمرار، وكان روبرت أوين Owen قد فتح آفاقا جديدة للتعاون الإنساني. وكانت جلاسجو فخورة بعلمائها، وكانت أدنبره تعج بمحاميها وأطبائها ورجال الدين فيها، وكانوا في طليعة معاصريهم. وفي مجال الفن كان السير هنري روبورن Raeburn يرسم صورا شخصية جعلت منه رينولدز Reynolds سكوتلندا. وفي مجال الأدب كان بوزويل ينشر (1791) ذلك النبع الدائم من البهجة (حياة صمويل جونسون) وفي أبوتسفورد Abbotsford في التويد - بين الأعداء القدماء - راح يغني أعذب الأغاني ويكتب الروايات العالمية المشهورة ليدفع جانبا من ديونه. لقد كان ألطف الإسكتلنديين وأكثرهم وداعة ورقة.
وكان والتر سكوت بحكم مزاجه وحساسيته ملائما تماما ليكون ممن لهم الريادة في
ميدان الرومانسية المزدهرة في الأدب الإنجليزي؛ لأنه كان يحب التفكير في نفسه كسليل للقبائل الإسكتلندية التي كانت عداواتها وحروبها منبعا لأمور مثيرة كانت موضوعا للقصائد والأغاني الإسكتلندية التي كان يرددها في مرحلة طفولته. وعلى أية حال فقد كان أبوه هو الوكيل القانوني لأدنبره، أما أمه فابنة أستاذ للطب في جامعة أدنبره. ولد في سنة 1771 وكان واحدًا من بين اثني عشر أخا مات ستة منهم في مرحلة الطفولة، وكان أمر شائعا في ذلك الوقت، وأصيب بشلل الأطفال وهو في الشهر الثامن عشر من عمره فأصيب من جراء هذا المرض بعرج دائم في ساقه اليمنى. ومما ساعد سكوت على تكوين صداقة على نحو ما مع بايرون الشاب اشتراكهما في العاهة رغم اختلافهما في القيم والأخلاق والمعتقدات.
وبعد أن انتظم في كلية أدنبرة القديمة بدأ سكوت يتدرب طوال خمس سنوات على يد والده في مجال القانون، وفي سنة 1792 أصبح محاميا أمام المحاكم الإسكتلندية. وقد أتاح له زواجه من شارلوت شاربنتير (1797) وميراثه عن أبيه دخلا طيبا. وكان اجتماعيا محبوبا كما كان له عدد كبير من الأصدقاء من ذوي النفوذ استطاع عن طريقهم أن يعين كاتبا للتنازل (يسجل وثائق التنازل عن الملكية وخلافه للغير) في أدنبره في سنة 1806. وقد أتاحت له المخصصات المالية وبعض ما أوصى له به أقرباؤه فرصة إهمال العمل في مجال المقانون، بل والتخلي تماما عنه بعد ذلك ليشبع رغبته الأدبية. لقد أحيت مقابلة تمت مصادفة مع روبرت بيرنز Burns وولوعه بكتاب توماس بيرسي Percy عن الشعر الإنجليزي القديم Reliques of ancient English Poetry وتعرفه على الأشعار الغنائية لجوتفريد بيرجر Gottfried Burger - خاصة قصيدة لينور Lenore - كل ذلك أحيى اهتماماته الأولى في أيام الصبا بالشعر الإنجليزي القديم وفي سنة 1802/ 1803 أظهر - في ثلاثة مجلدات كتاب أغاني إسكتلندا The Minstrelsy of the Scottish Border . وقد أثارته هذه الحكايات الشائقة المنطوية عليها هذه الأغاني فحاول كتابة أشعار على نسقها، وفي سنة 1805 أصدر (أغنية آخر المغنين) الذي بيع منه عدد كبير من النسخ شكل رقمًا قياسيا بالنسبة إلى المبيع من دواوين الشعر في بريطانيا. وعندما ذهب إلى لندن في سنة 1807
وجد نفسه سيد الصالونات، فقرر أن يشتغل بالأدب ويكون شغله الشاغل، يكاد يتفرغ له تماما، وبدأ استثمارا خطرا (غير مضمون) في التأليف والطبع والنشر. ووجد في "كوبليهات" كولردج ثمانية المقاطع شكلا سهلًا يصب فيه حكاياته الرومانسية عن الحب والحرب تلك الحكايات سريعة الحركة وحكاياته الغامضة والخيالية في التاريخ الإسكتلندي الحكايات التراثية الأسطورية الإسكتلندية. وقد استثمر هذا المجال الجديد في عمله وفي مارميون armion (1808) وسيدة البحيرة (1810) وروكبي Rokey (1813) وسيد الجزر (1815). ولم يدع أنه شاعر كبير فقد كان يكتب لفائدة الجماهير محتفيا بهم، ولم يحتف بربات الشعر Muses اللاتي كن - على أية حال - قد سئمن من الملاحم والتفاعيل السداسية. وراح قراؤه يلاحقونه لاهثين من الفارس إلى السيدة الجميلة إلى الصراع البطولي، وتغنوا معه مفتونين بمثل هذه الأغاني "آه لقد أتى لوشينفار من الغرب / وكان جواده المطهم هو الأفضل من بين كل جياد البلاد الواسعة (7) "وفي سنة 1813 أصدر بايرون (The Giaour) و (عروس أبيدوس) وفي سنة 1814 أصدر (القرصان) و (لارا). ورأى سكوت أن قراءه ينصرفون إلى أساطير الشرق وحكايات مبغضي البشر اليائسين. فاعترف أن اللورد الشاب (يقصد بايرون) يمكن أن يتفوق عليه في قدرته على النظم وخصوبته، فترك الشعر إلى النثر ليبحث عن مناجم جديدة.
وكان هذا أكثر ملاءمة له، ففي سنة 1802 كان قد قدم أموالًا لجيمس بالانتين صاحب مطبعة في كلسو Kelso لينقل مطبعته إلى أدنبره، وفي سنة 1805 أصبح شريكا في شركة جيمس وجون بالانتين للطبع والنشر، ومن الآن فصاعدا رتب الأمور بحيث تطبع كل أعماله مهما كان ناشرها في مطابع بالانتين، واشترى سكوت من حصيلة أرباحه عقار أبو تسفورد Abbotsford (بالقرب من ملروز Melrose) واشترى ما يحيط به فزاد مساحة من 110 أكر إلى 1200 وأحل محل منزل المزرعة القديم قصرًا، مؤثتا تأثيثا فاخرا ومزخرفا زخرفة جميلة وكان هذا سنة 1200، ويعد هذا القصر من المعالم الجديرة بالرؤية في إسكتلندا. لكن في سنة 1813 أصبحت شركة بالانتين على شفا الإفلاس، وكان أحد أسباب ذلك نشرها عددا من الأعمال قام سكوت بتحريرها، وكانت
أعمالا لم تحقق سوى الخسارة، فعمد إلى الوفاء بديون الشركة بالاقتراض أصدقائه الأثرياء ومن العوائد المالية لكتاباته. وفي سنة 1817 أوفت الشركة بديونها وأقيلت من عثرتها، وانشغل سكوت بكتابة سلسلة من أشهر الروايات في التاريخ الأدبي لقد نشر روايته (Waverley) دون ذكر لاسمه عليها في سنة 1814 وحقق أرباحا من نشرها بلغت ألفين من الجنيهات - سرعان ما أنفق كثيرا من هذا المبلغ على عقار أبوتسفورد الذي سبق أن اشتراه والذي أشرنا إليه آنفا. ويرجع السبب في عدم ذكر سكوت لاسمه مقرونا بهذه الرواية لشعوره أنه قد لا يكون ملائما لكاتب عدل (وهو منصب قانوني) أن ينشر رواية ويعرضها للبيع. لقد كان قلمه أكثر تواؤما في النثر منه في الشعر، وكانت قريحته النثرية سيالة بشكل واضح، لقد كتب في ستة أسابيع روايته Guy Mannering (1815) وفي سنة 1816 كتب (جامع العاديات Antiquary وفي الفترة من 1816 إلى 1819 قدم بانوراما جذابة للمشاهد الإسكتلندية) تحت عنوان شامل: حكايات ملاك الأراضي في بلدي Tales of my Landlord) - الموت القديم، قلب البغض، عروس لامرمور، أسطورة المونتروز، ومن واحدة من هذه الحكايات الأسطورية حقق دونيزتي Donizetti ثروة أخرى. وقد قام سكوت برحلات على نطاق واسع في إسكتلندا وإنجلترا وفي الجزر المجاورة، وقد اعتبر نفسه دارس تراث آثار أكثر منه روائيا، وكان قادرا على إضفاء الطابع المحلى على رواياته، كما كان قادرا على إعطائها طابعًا جدليا أبهج من اتبعه من الإسكتلنديين. ففي رواياته Ivanhoe و Monastery و The Abbot - وكلها ظهرت في سنة 1820 - كان مسرح الأحداث في إنجلترا في العصور الوسطى. وفي سنة 1825 تغلغل سكوت في الشرق الوسيط (الشرق في العصور الوسطى) وفي عمله (الطلسم Talisman) قدم لنا صورة عامرة بالمزايا غاصة بالمديح لصلاح الدين (الأيوبي) حتى أن الإسكتلنديين المتدينين بدأوا يتشككون في مدى عمق إيمان المؤلف بالمسيحية. وعندما سئل جورج إليوت عن أول من هز عقيدته المسيحية أجاب إنه والترسكوت (8)). ومن كان منا قد استساغ "روايات ويفرلي Waverly Novels) واستمتع بها في شبابه ليدهش من أنه لا يزال يستمتع بها حتى الآن بل إننا حينما نغرق في رواية واحدة منها ولنقل (The heart of Midlothian) لابد وأن يأتينا خاطر مؤداه أن المؤلف
الذي يؤلف كل عام رواية على هذا النسق طوال عقد من الزمان لابد أن يكون واحدا من معجزات عصره (واحد من بين عباقرة عصره) ورأيناه يقوم بدور البارون الإقطاعي في أبوستفورد (حصل على رتبة فارس في سنة 1820) ومع ذلك كان يقابل كل الناس برقة ولطف وبساطة، وكان كما قال بوشكين أشهر مؤلفي عصره من أدنبره إلى سان بيتر سبرج هذا كان يضحك قلبه عندما يسمع من يقارنه بشكسبير. وكانت قصائده ورواياته عناصر فعالة في الحركة الرومانسية رغم أنه كان لا يأنس كثيرا للأوهام الرومانسية. وقد شارك في أحياء الاهتمام بالأساليب التي شاعت في العصور الوسطى، ومع هذا فقد حث الإسكتلنديين على التخلي عن مثل ماضيهم الإقطاعي وأن يتواءموا مع الوحدة (Union)(المقصود في ظل المملكة المتحدة التي ستمزج الشعبين - ببطء - معا (المقصود الشعبين الإسكتلندي والإنجليزي) ليصبحا شعبًا واحدا. وعندما كبر في السن أمتع نفسه بوطنية حزب التوري (المحافظين) والتزامه بألا يكون في الدستور البريطاني أي نقص.
وفي هذه الأثناء كان طابعه (البالانتين) وناشره أرشيبالد كونستابل يقتربان من الإفلاس. وفي سنة 1826 سلما موجوداتهما المتبقية للمحكمة وأصبح السير والتر - باعتباره شريكًا لهما - مسؤولًا من الناحية القانونية عن ديون الطابع Ballantynes . والآن، وأخيرا، علمت أوربا أن سلسلة روايات ويفرلي Waverley هو صاحب أبوتسفورد وسمحت له المحكمة بالاحتفاظ ببيته وبعض الأكرات (الأكر هو الفدان الإنجليزي) وراتبه على أن تصادر بقية ممتلكاته، وظل رغم هذا يعيش عيشة رضية وواصل إصدار رواية إثر رواية على أمل أن يؤدي عائدها إلى الوفاء بديونه. وفي سنة 1827 أصدر كتابه حياة نابليون الذي أطلق عليه أحد المفكرين عبارة "إنه تجديف على الله في عشرة مجلدات" فقد كاد يعري فيه هذا الكورسيكي من كل فضيلة لكنه - أي الكتاب - أبهج البريطانيين وقلص ديون المؤلف شيئا ما. ويعكس ما تبقى من إنتاجه تسرعه وعدم اطمئنانه. ففي سنة 1830/ 1831 عانى من عدة لطمات واعتلت صحته، وخصصت له الحكومة فرقاطة لتجول به تحت شمس البحر المتوسط لكن المرض اشتد عليه فعادت به السفينة بسرعة على أمل أن يموت في أبوتسفورد الحبيبة إليه (1832) وثمة ناشر آخر - روبرت كادل Cadell -
أخذ على عاتفه ما تبقى من ديونه (7000 جنيه إسترليني) وحقوق النشر، وكوَّن ثروة نتيجة ذلك، وظلت روايات سكوت منتشرة حتى نهاية القرن. وكان وردزورث يظن أنه "أعظم روح في جيله (9) ".
2 - الأيرلنديون
بلغ عدد سكان أيرلندا في سنة 1800 نحو 4.550.000 نفس منهم 3.150.000 من الأروام (الكاثوليك التابعين لبابا روما)، و 500.000 من البروتستنط الاسقفيين و 900.000 المذاهب البروتستنطية المنشقة (خاصة في الستر Ulster) ومنح الكاثوليك حق التصويت في سنة 1793 ومن ثم أصبح من حقهم شغل معظم وظائف الخدمة المدنية لكنهم ظلوا بعيدين عن المناصب العليا وعن منصة القضاء وعن البرلمان الأيرلندي، وسمح للكاثوليك بانتخاب مرشحين بروتستنط لحكم أيرلندا. وكان الملك أو وزراؤه يعينون ليفتنانت أو نائب ملك بروتستنطي كمسؤول تنفيذي في أيرلندا، وسمحوا له بحكم الجهاز الإداري - وإلى حد كبير البرلمان الأيرلندي - باستخدام الرشوة، وتوزيع أو بيع الوظائف الشاغرة (المفهوم لغير مستحقيها)(10).
وحتى سنة 1793 كانت كل الأرضي الزراعية في أيرلندا يمتلكها بروتستنط سواء من البريطانيين أو الأيرلنديين، وبعد سنة 1793 سمح لعدد قليل من الكاثوليك بشراء أراض. أما الباقون فكانوا من المستأجرين الذين يزرعون قطعا صغيرة من الأراضي، أو أجراء في المزارع أو المصانع. وكانت الإيجارات والعشور تُجْبى بانضباط شديد حتى عاش معظم الفلاحين الأيرلنديين في فقر لا يرجى الخلاص منه. لقد كانوا فقراء جدا وكانوا محرومين من التطلع لشراء الآلات الجديدة التي كانت تضاعف الإنتاج الريفي في بريطانيا، فظلت الزراعة في أيرلندا تقليدية لا تحرز تقدما. وكان ملاك الأراضي الزراعية الكبار غائبين يعيشون في إنجلترا وكانوا يستنزفون أيرلندا بكل ما أمكنهم من جهد دون رعاية لمصالحها (11). ففي منطقة المصانع في دبلن كان الفقر أشد فتكا منه في الريف. لقد عوقت الصناعة الأيرلندية بالجمارك الباهظة التي منعت استيراد القطن الخام، وبالقوانين والإجراءات التجارية التي
منعت - إلى حد كبير - المنتجات الأيرلندية - باستثناء المنتجات المصنوعة من الكتان - من منافسة المنتجات البريطانية في أسواق الإمبراطورية (12). وقد كتب شيلي بعد أن رأى أحوال عمال المصانع في دبلن سنة 1812: "لم أر بؤسا بشريا أعمق من ذلك حتى الآن (13)) وكنان الأيرلنديون الكاثوليك يدفعون الأعشار مثل كل السكان لدعم الكنيسة البروتستنطية في أيرلندا، لكنهم بالإضافة لهذا استمروا من خلال الإسهامات التطوعية يدعمون رجال الدين الكاثوليك الذين كانوا قد جردوا من ثرواتهم. وكان من الطبيعي أن تمول كنيسة روما حركة الأيرلنديين الساعية للاستقلال، وبالتالي فقد اكتسبت حب الأيرلنديين الكاثوليك وولاءهم. ونجد هنا أن الثورة الاجتماعية كانت عادة دينية محافظة وكان الليبراليون من أمثال توماس مور Moore رغم صداقتهم للشكوكيين من أمثال لورد بايرون لم يبتعدوا علنا عن الكاثوليكية الأصولية (التقليدية).
وقد كان الثائر الذي قاد الثورة ضد استغلال أيرلندا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بروتستنطيا هو هنري جراتان H . Gratan (1746 - 1820) وكان تابعا لمدرسة (منهج) أيرلنديين آخرين هما بورك Burke وشريدان Sheridan . وكان يؤمن بسلطان العقل وكان يعبر عن آرائه ببلاغة وبهذا السلاح أحرز بعض الانتصارات التي وإن كانت محدودة إلا أنها كانت ذات مغزى: سحب قانون الاختبار Test Act إذ كان يتطلب الخضوع لكنيسة إنجلترا كشرط أساسي لعضوية البرلمان، وإزاحة أكثر القيود صرامة من أمام التجارة الأيرلندية، والاعتراف بأن ملك إنجلترا وحده بموافقة برلمان، أيرلندا، هو صاحب الحق في إصدار التشريعات لأيرلندا، بمعنى أن التشريعات الصادرة عن البرلمان الأيرلندي لا تحتاج لموافقة برلمان بريطانيا العظمى. وعلى أية حال فإن جراتان قد فشل في دعوته إعطاء الحق لكاثوليك أيرلندا في دخول البرلمان الأيرلندي، فظلت أيرلندا بلدا كاثوليكيا تحكمه حكومة بروتستنطية.
وتبنى ثيوبالد ولف تون Tone (1763 - 1798) القضية. لقد تخرج - مثل جراتان - في كلية التثليث في دبلن واتجه إلى لندن لدراسة القانون، وعندما عاد شارك في تنظيم جمعية الأيرلنديين المتحدين Society of United Irishmen (1791) التي كان هدفها
تحقيق التعاون بين البروتستنط والكاثوليك في أيرلندا للمطالبة بالإصلاح الاجتماعي والسياسي. لقد نظم تون بحماس شديد وطاقة لا تنفد ميثاقا كاثوليكيا أدى برنامجه العملي إلى إرهاب البرلمان الأيرلندي فسارع بإعطاء حق الانتخاب للكاثوليك ولم يقنع تون بهذا ففي سنة 1794 دخل في مفاوضات مع وليم جاكسون الذي كان يمثل بشكل سري لجنة الأمن العام التي كانت تحكم فرنسا التي كانت آنئذ تخوص حربا ضد بريطانيا - واكتشف أمر جاكسون وتم القبض عليه فهرب تون إلى الولايات المتحدة ومنها إلى فرنسا حيث حث لازار كارنو Camot عضو اللجنة للموافقة على قيام فرنسا بغزو أيرلندا. وتلقى الجنرال لازار هوش Hoche أمرًا بجعل تون جنرالًا مساعدا والتوجه إلى أيرلندا في 15 ديسمبر 1796 بست وأربعين سفنية وأربعة عشر ألف مقاتل وفشلت الحملة بسبب عاصفة شديدة قبالة سواحل إنجلترا وجنحت معظم سفنها، لكن تون بقي على قيد الحياة وصحب قوة فرنسية أصغر بهدف مساعدة أيرلندا فوقعت هذه القوة في الأسر وحكم على تون بالشنق لكنه تخلص من حياته بأن قطع حنجرته بنفسه في السجن في نوفمبر 1798.
وفي هذه الأثناء تحول السخط الأيرلندي من الحكم البريطاني إلى ثورة عامة، ورأى رئيس الوزراء البريطاني بت Pitt تهدئة الحركة بالتصالح معها، فسمح للدوق بورتلاند وزير الداخلية (الذي تدخل في اختصاصه أمور أيرلندا) أن يعين وليم ونتورث ممثلا للتاج وهو معروف بتعاطفه مع الأيرلنديين. وبعد ثلاثة أشهر (من يناير إلى مارس 1795) قدم خلالها مزيدا من التنازلات للأيرلنديين لم ير بت Pitt أنها تنازلات حكيمة، فتم استدعاؤه وأصبحت المقاومة الأيرلندية حربًا بكل معنى الكلمة، وفي وقت من الأوقات انضم البروتستنط الأيرلنديون للكاثوليك في مهاجمة الحكم الأجنبي، لكن في الستر Ulster حيث كان البروتستنط أغلبية وجدناهم سرعان ما انقلبوا على الكاثوليك الأيرلنديين وتحول موقفهم من التعاون معهم إلى معارضتهم خوفًا من أن يؤدي نجاح الثورة الأيرلندية إلى وقوعهم (أي وقوع البروتستنط) تحت السيطرة الكاثوليكية. وفي سبتمبر سنة 1795 كون البروتستنط في الستر الجمعية البرتقالية (جمعية الأورانج Orange Society وانضموا الجماعة (Peep - of - Day Boys) في إحراق وتدمير بيوت الكاثوليك وكنائسهم فهرب مئات
الكاثوليك من ألستر خوفا من مذبحة، وراح البروتستنط ينسحبون بشكل متزايد من جماعة أيرلندا المتحدة. وحمل الكاثوليك أسلحتهم وأحكموا سيطرتهم على عدة كونتيات Counties (دوائر أو مديريات) وتقدموا صوب الحصون الحكومية في دبلن. وظن جراتان Grattan أنه قد يحقق السلام باقتراحه في البرلمان الأيرلندي أن يتاح للكاثوليك عضوية البرلمان الأيرلندي فلقي اقتراحه معارضة عامة لأنه سيحيل البرلمان الأيرلندي إلى قوة كاثوليكية (وكان للإيرلنديين في ذلك حق الانتخاب المرشحين بروتستنط) وطلب الجنرال - البريطاني دعمًا وتلقاه بالفعل وأعلن الأحكام العسكرية، وتحولت العاصمة التي كانت سعيدة مرحة إلى جهنم وانتشر فيها القتل طوال أسابيع، وانتصرت الحكومة إذا كان المعيار هو عدد الجثث وفي خريف 1798 كانت الثورة قد قمعت.
لكن بت Pitt كان يعلم أن هذا القمع ليس هو الحل وأن تحت الرماد لهيب نار يمثل خطرًا كبيرا على بريطانيا. وبحلول عام 1800 كانت إنجلترا في حروب مستمرة مع فرنسا طوال سبعة أعوام أصابها فيها من الاضطرابات والفوضى ما أصابها بسبب الثورة الفرنسية وأفكارها. والآن فقد أعاد - على أية حال - نابليون النظام إلى فرنسا كما أعاد القوة لجيوشها، وكان يشيد أسطولا سرعان ما سيتحدى بريطانيا في سيطرتها على البحار. وكانت أيرلندا النافرة غير الموالية على شفا الثورة دائما، تمثل دعوة يومية لنابليون القيادة قواته عبر القنال الإنجليزي، ليتحالف الكاثوليك مع الكاثوليك ويتم تنظيم أيرلندا لتكون قوة معادية يتم غرسها في جنب بريطانيا. وشعر بت Pitt بضرورة إيجاد سبيل لتوحيد أيرلندا مع بريطانيا بطريقة آمنة في ظل برلمان واحد وملك واحد، فإذا ما أمكن تحقيق ذلك، أعطى حق الانتخاب للجميع على قدم المساواة وحق الترشيح - وبالتالي الوصول لعضوية البرلمان - للجميع دون تفرقة بين بروتستنطي وكاثوليكي، ليس في أيرلندا فقط وإنما في إنجلترا وإسكتلندا وويلز أيضًا، وأصبح شغل الوظائف والمناصب العليا متاحًا للجميع أيضًا على سواء، وأن يكون هناك برلمان واحد يضم البروتستنط والكاثوليك على سواء في لندن، وأن تقدم الحكومة رواتب لرجال الدين المعارضين ورجال الدين الكاثوليك أسوة برجال الدين في الكنيسة الرسمية (14). وبهذه الطريقة لا يكون الدين عامل سخط وثورة وإنما قوة
للوحدة الوطنية والرضا العام.
ومثل هذه الخطة التي كان نابليون قد تبناها قبل ذلك بعام بوفاقه مع الكنيسة الكاثوليكية - واجهت معارضات مختلفة فالأيرلنديون الكاثوليك تشككوا في أنها مجرد قناع لاستمرار سيطرة إنجلترا على أيرلندا، واعترض الأيرلنديون البروتستنط لأن هذه الخطة قد تؤدي إلى أن يحكمهم الكاثوليك المنتصرون الذين قد ينتقمون منهم ويجردونهم من ممتلكاتهم. ولم يكن أعضاء البرلمان الأيرلندي راغبين في حل برلمانهم. وراح بت Pitt يأمل أن يؤدي اتحاد ايرلندا مع إنجلترا على المدى الطويل مع حرية التجارة في مختلف أنحاء الإمبراطورية سيؤدي إلى انتعاش الاقتصاد الإيرلندي مما سيرضي الايرلنديين ويؤكد اتحادهم مع إنجلترا كما كان الحال بالنسبة للاسكتلنديين، وكان بت Pitt يرى أن هذه الخطة سترضي الأيرلنديين وتجعلهم يقبلون حكم الأغلبية البروتستنطية في بريطانيا. وجرى حث البرلمان الأيرلندي على حل نفسه (وتم هذا في أول أغسطس سنة 1800) واستخدمت أساليب عدة لتحقيق هذا الهدف منها توزيع الأموال بسخاء ومنح كثير من رتب النبالة، والمناصب الشرفية (التي يتقاضى شاغلها راتبا دون عمل حقيقي يؤديه (15) ولعب التجار الأيرلنديون دورا مهما في حث البرلمان الأيرلندي على حل نفسه، وهكذا أصبحت أيرلندا حتى سنة 1921 يحكمها البرلمان البريطاني الذي كان فيه لايرلندا ممثلون (نواب) في مجلس اللوردات 28 من اللوردات الدنيويين وأربعة من اللوردات الروحانيين (الأساقفة ورؤساء الأساقفة) ومائة عضو في مجلس العموم.
ومما قلل نسبيا من النجاح الواضح الذي حققه بت Pitt أنه كان غير قادر على كسب الملك لصالح خطته. فقد رفض الملك جورج الثالث الموافقة عندما اقترح بت تنفيذ وعده الضمني بإكمال المساواة السياسية للكاثوليك وفي هذا الكيان السياسي الجديد المسمى المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا وكان رفضه قائما على أساس أن قسمه عندما تولى الملك يلزمه بحماية كنيسة إنجلترا الرسمية. وعندما ضغط عليه بت Pitt ألمح الملك إلى العودة للوضع السابق فرضخ بت وشعر بالخطر واستقال في 3 فبراير 1801، وهكذا أجل موضوع التحرر الكاثوليكي الكامل، وكان عليه الانتظار حتى سنة 1829.
وخلص معظم القادة الأيرلنديون إلى أنهم قد خدعوا وأن بت لم يكن ينوي أبدًا إنجاز وعده. وظهرت مقاومة الاتحاد مع إنجلترا باعتبارها إلحاقا أوضما فعليا. وفي سنة 1803 قاد روبروت إميت Emmet جماعة انتحارية في ثورة جعلته من أحب الأبطال في التاريخ الأيرلندي، والأغاني الأيرلندية. وكان قد ولد في دبلن (1778) وكان أصغر أبناء طبيب نائب الملك. وكان على وشك التخرج في كلية التثليث Trinity College بمرتبة الشرف عندما حذف اسمه من سجل الخريجين احتجاجًا على التحقيقات التي تجريها الحكومة فيما يتعلق بوجهات النظر السياسية للخريجين، وانضم إلى العصبة الأيرلندية United Irishmen (الأيرلنديين المتحدين) التي كان أخوه الأكبر توماس سكرتير مجلسها الأعلى. وكان توماس يناهض العنف الثوري ولكن روبرت ذهب إلى فرنسا ووجد قبولا عند نابليون وحثه على تكرار محاولة غزو أيرلندا فلما فشل في إقناع نابليون عاد إلى دبلن وجمع السلاح والناس وخطط للقيام بهجوم على حصن دبلن وعندما علم أن الحكومة اكتشفت مؤامرته وأمرت بالقبض عليه شكل - على عجل - قوة من 160 رجلا واتجه للحصن. وفي طريقهم قابلوا لورد كلواردن Kilwarden رئيس العدالة في أيرلندا فقتله الرجال الثائرون غير المنضبطين كما قتلوا ابن أخيه في البقعة نفسها. وتحقق إميت Emmet أنه لابد الآن من قمع حركته، ففر. واختبأ لفترة في جبال وكلو Wicklew . وكشف نفسه باقترابه من منزل خطيبته ساره كوران Sarah Curran ابنة جون فيلبوت كوران وهو بروتستنطي مدافع عن القضية الأيرلندية، فتم القبض عليه وحوكم بتهمة الخيانة وحكم عليه بالإعدام. ويمثل حديثه للمحلفين نموذجا للبلاغة الأيرلندية الكلاسية:
"طلب واحد أرجو تحقيقه عند مغادرتي هذه الدنيا أن تتكرَّموا عليَّ بالصمت. لا تدعوا أحدا يكتب على شاهد قبري شيئا، فلا أحد ممن يعرفون دوافعي الآن يجرؤ على الدفاع عنها. لا تدعوا الظلم والجهل يلوثان أهدافي ودوافعي دعوا دوافعي وأهدافي ودعوني في طي النسيان وفي هدوء وسلام. وليبق قبري وليس عليه كتابة. ولتبق ذكراي في طيِّ النسيان حتى يأتي وقت آخر ورجال آخرون يمكنهم أن يحكموا بعدل في أمري. وعندما تأخذ أمتي مكانها بين أمم الأرض اكتبوا شاهد. قبري اكتبوه ساعتها وليس قبل ذلك (16).
الفصل الرابع والعشرون
بت ونلسون ونابليون
[1789 - 1812]
1 - بت Pitt والثورة
شغل وليم بت الثاني في سنة 1783 منصب مستشار وزارة المالية البريطانية ووزيرا للخزانة. لقد كان هو الذي جمع أموال المملكة ووزعها فحق له أن يكون سيد الجزر البريطانية وراعي اندماج وحداتها. وكاد يجمع في إهابه كل مزايا البريتون فهو ينحدر من أسرة بارزة وتفهم السياسات العالمية وأمور المالية العليا والطباع الحسنة من أبية المتألق المتسم بالمحافظة ومن الحاشية المحيطة به (بأبيه)، وكان أبوه هو إيرل شاثام Earl of Chatham . وتلقى بت أفضل أنواع التعليم الخاص، وكان أبوه في كثير من الحالات هو معلمه. ودخل البرلمان وهو في الحادية والعشرين من عمره وتولى أمر إنجلترا وهو في الرابعة والعشرين. لقد سحق المعارضة بتحفظه واعتزازه وبفكره ومنطقه أكثر مما فعل بإثارته العواطف وتوظيفه لبلاغته وفصاحة لسانه، لقد سحقها برؤيته الثاقبة الراسخة ومعلوماته عن المالية العامة وإتقانه لدقائقها وكان قد قرأ كتاب آدم سمث عن ثروة الأمم وأعجب به واتفق مع سميث في فلسفته عن الاقتصاد الحر وحرية التجارة. لقد أيد - وهو الأرستقراطي - مطالبة الفئة التجارية الصاعدة (المرسانتيل) والبورجوازية الصناعية بأن يمثلوا تمثيلا كاملا في البرلمان وفي السياسة البريطانية، فبثرواتهم المنسابة (بسيولتهم النقدية) حارب نابليون، بينما كانت ثروات الأرستقراطية يصعب تعبئتها لهذا الغرض لأنها تتمثل في الأراضي التي يمتلكونها فأسهموا بأدوار استشارية ودبلوماسية وأخرى متعلقة بالبروتوكول. وأسس بت نظاما ماليا لتسديد الدين الوطني (بتخصيص أموال خاصة لهذا الغرض) ونجح في تقليص هذا الدين حتى استنفدت الحرب كل شلن يمكن الحصول عليه من الشعب. لقد بذل جهدا شديدا لكن بدون نتيجة لتقليص البلدان الصغرى (مدن أو قرى) rotten boroughs (البلدان التي كانت قبل سنة 1832
تمثل في البرلمان الإنجليزي بنائب واحد أو أكثر) رغم أنه استخدمها في بداية شغله لمناصبه. وأيد نقل قرار الحكم في الالتماسات القانونية من القاضي إلى هيئة محلفين علنية. وحمى الصحافة في كشفها للفساد الحكومي، وأيد ويلبرفورس في معركة طويلة ضد تجارة الرقيق. لقد هزمه نابليون وحطم روحه لكن بريطانيا التي كان بت قد أعاد تنظيمها وضبط ماليتها وبث فيها الروح هي التي هزمت نابليون.
وكاد الملك البريطاني يتساوى مع قنصل فرنسا (نابليون) في كم المشاكل التي يواجهها، فكاد - أي جورج الثالث - يأخذ بنصيحة بت Pitt في كل شيء إلا في حق الكاثوليك في المساواة الكاملة، غير أن الملك الهرم كان قابلا للانتكاس إلى درجة الخبل في أية لحظة، تماما كما فعل في الفترة من 1788 إلى 1789، وفي أثناء مثل هذه الانتكاسات كان أمير ويلز يحوم دومًا بالقرب من العرش - ذلك الأمير الذي كان الوثن المعبود لحزب الهويج (الأحرار) والذي كان صديقا لشارلز جيمس فوكس الذي لم يتفق مع بت Pitt سوى في حب النبيذ
…
(*) ولفترة ظل جورج الثالث متوقعا الموت، لكنه شفى - وإن ظل ضعيفا مترددا، فركن لحكم بت.
وعندما تولى رجل الدولة الشاب الحكم كانت إنجلترا قد بدأت لتوها تفيق من الحروب المدمرة مع مستعمراتها الأمريكية. لقد بدت بريطانيا مدمرة عسكريا في مواجهة فرنسا المفلسة إلا أنها منتصرة، وإسبانيا المزدهرة والمتنورة تحت حكم شارل الثالث، وروسيا التي وسعت رقعتها تحت حكم كاترين الثانية ونظمت جيوشا هائلة وابتلعت نصف بولندا وراحت تتآمر لتقسيم المناطق الأوربية التابعة لتركيا (الدولة العثمانية) بينها وبين جوزيف الثاني، إمبراطور النمسا والآن فإن أمن إنجلترا يعتمد على أمرين: سيطرتها على البحار، وتوازن القوى السياسية في أوربا، فإذا اختل التوازن بسيطرة طرف من الأطراف لأمكنه أن يملي على إنجلترا ما يريد دون إغلاق أسواق القارة الأوربية في وجه البضائع الإنجليزية، وهون موت جوزيف الثاني من أمر التهديد الشرقي Eastern threat وترددت كاترين وأوشك بت على التركيز على الأمور الداخلية تاركًا أمور السياسة الخارجية في المحل الثاني لولا إعلان
(*) النص. only in loving wine this side of paralysis ..
الثورة الفرنسية أنها ستعطي الدول الملكية دستورا فإن لم تقبله دمرتها. ويوما بعد يوم كانت هذه الأخبار المثيرة تعبر القنال الإنجليزي: جماهير المدينة (باريس) يقتحمون الباستيل، تم التخلي عن الحقوق الإقطاعية، دولة لا دينية تصادر ممتلكات الكنيسة، جحافل النساء تتقدم إلى فرساي وأجبرن لويس السادس عشر وماري أنطوانيت على ترك فرساي والعيش في باريس تحت رقابة الجماهير.
وفي البداية لم يكن بت منزعجا بقدر انزعاج أصدقائه من الطبقة العليا، ففي إنجلترا دستور بالفعل امتدحه عدد كبير من الفرنسيين المشاهير بل وحسدوا إنجلترا عليه لكن وجود اضطراب - مهما قل - في فرنسا لابد أن يوضع في الاعتبار فإنجلترا لا يمكنها في حال وجود هذا الاضطراب أن تعكف مطمئنة على أمورها الداخلية (1) وفي الوقت الذي كان فيه الأرستقراطيون مضطربين كان رجال الأدب في بريطانيا في حالة سعادة - جودون، ووردزورث، وكولردج، وسوثي، وكوبر Cowper وبيرنز Burns. ففي 4 نوفمبر 1789 تأثر أعضاء (جمعية إحياء ذكرى ثورة 1688" تأثرا شديدا بعظات الداعية ريتشارد بريسي وهو داعية مناهض للتثليث المسيحي Unitarian) موحد (حتى إنهم أرسلوا يهنئون الجمعية الوطنية في باريس معبرين عن أملهم في أن يكون النموذج العظيم الذي قدمته فرنسا حافزًا للأمم الأخرى لتأكيد حقوق الإنسان (2) ووقع رئيس الجمعية الإيرل الثالث ستانهوب Stanhope الرسالة وهو زوج أخت وليم. بت وانتشرت خطب بريسي Price . الآنف ذكره في كل أنحاء بريطانيا، وكانت هذه الخطب كنشرات تكاد تدعو للثورة.
تشجعوا يا كل الأصدقاء، ولتصبوا إلى الحرية واكتبوا دفاعًا عنها، فبشارات النجاح قد هلت طلائعها، فلم يكن جهدكم بلاطائل. انظروا الممالك وقد أيقظتموها فهبت من سباتها وكسرت قيودها وطالبت ظالميها بالعدالة انظروا النور الذي أطلقتموه، فبعد تحرر أمريكا، انعكس النور على فرنسا، ففيها تحول إلى لظى أحرق الطغيان (الحكم المطلق) فأدفأ أوربا وأضاءها!
"الويل لكم يا طغاة العالم! خذوا حذركم يا كل من يساندون الحكومات الحقيرة الذليلة وكل النظم الطبقية الخسيسة!
…
إنكم لن تستطيعوا الآن منع النور عن العالم، ولن
تستطيعوا فرض الظلمة عليه
…
أعيدوا للبشر حقوقهم واقتنعوا بإصلاح ما أفسدتموه قبل أن يلحقكم الدمار وما تأفكون (3) ".
وكان هذا أكثر مما يستطيع إدموند بورك Burke تحمله فلم يعد هو الخطيب المفوه المدافع عن قضية المستعمرات الأمريكية (المقصود المستعمرات البريطانية والفرنسية في أمريكا) أمام البرلمان. لقد بلغ الستين من عمره الآن، وكان قد لزم داره ومزرعته واستعاد إيمانه الديني الذي كان عليه في شبابه. وفي 9 فبراير سنة 1790 بدأ - في مجلس العموم مناقشات أنهت صداقته القديمة مع شارلز جيمس فوكس:(إن الخطر الحالي الذي يواجهنا هو الفوضوية أو انعدام الحكومة وما يتبع ذلك من فوضى سياسية واجتماعية. هذا الخطر الناتج عن الإعجاب بما حققه العنف من نجاح وما حققه الخداع من مكانة. إنه إعجاب بالديموقرطية المسفة الطاغية حيث يغيب العقل وتضيع المبادئ ويكون النفي والإبعاد وإهدار الدم ومصادرة الممتلكات والسلب والنهب والقسوة والدموية. فإلي جوار الدين لا يأتينا الخطر من التسامح وإنما من الإلحاد الذي يبدو واضحا في فرنسا لمدة طويلة كامنا في كل نزاع وواضحا ويكاد يكون معلنا مع أن الإلحاد غباء ورذيلة لا تقرها الطبيعة وعداء لكل وقار البشر واتحادهم (4)) وفي نوفمبر 1790 أصدر بورك كتابه (تأملات في الثورة الفرنسية) الذي جعله على شكل خطاب إلى رجل مهذب في باريس، وقد استغرق هذا الخطاب (الكتاب) 365 صفحة. لقد أدان الدكتور بريس Price) وجمعية إحياء ذكرى الثورة): لقد كان من رأيه أن ينشغل رجال الدين بعملهم وهو الدعوة للفضائل المسيحية ولا دخل لهم بالإصلاحات السياسية، فهذه الفضائل تتغلغل في لب الأمور - ميل الطبيعة البشرية للشر، أما الإصلاح فلا يغير سوى الأشكال السطحية للشر فلا سبيل للسياسة لتغيير طبيعة البشر. فحق الاقتراع للجميع تضليل واحتيال يستخدم فيهما الخداع: فإحصاء الأنوف noses لن يؤثر في توزيع السلطة واتخاذ القرارات والنظام الاجتماعي شيء لابد منه لضمان أمن الفرد، وهذا النظام يصبح لا بقاء له إذا أصبح كل فرد حرا في التمرد ضد القانون الذي لا يعجبه. فالأرستقراطية لا بد منها لأن وجود الأرستقراطية يتيح للأمة حكاما مدربين ذوي عقول صالحة. والملكية (بفتح الميم واللام) مطلوبة فهي نظام طيب لأنها تعين في الظروف
الصعبة على إعادة الانضباط والتوافق بين عناصر الأمة مع وجود الوحدة أيضا، فالملكية تمثل استمرارا، تاريخيا، كما أنها تعطي الإحساس النفسي بالانتماء لكيان واحد (الوحدة).
وبعد شهرين من هذا البيان التاريخي الناري نشر بروك (خطابًا إلى عضو الجمعية الوطنية الفرنسية)، وفي هذا الخطاب قدم لنا أساسًا فلسفيا للاتجاه المحافظ Conservatism (وقدمه أيضا بشكل أكثر اكتمالا في: خطاب إلى لورد نبيل 1796) إن أي فرد مهما أوتي من العلم والعبقرية لا يمكنه بعمره المحدود أن تكون لديه الحكمة والمعرفة اللتان تكفلان له الحكم الصحيح على هذا التراث وتلك التقاليد المتوارثة المعقدة والمصقولة (المهذبة) والدائمة، ذلك التراث وتلك التقاليد المشتملة على تجارب المجتمع والأمة وأحكامهما. إن هذه التقاليد المتوارثة هي تيار تدفق مارا بآلاف الخبرات والتجارب في معمل عظيم اسمه التاريخ. ما كان للحضارة أن تظهر إذا لم تكن أسباب ممارسة الواجبات المعنوية وأسس المجتمع واضحة ومقنعة لكل فرد (5)). وعلى هذا فالدين لا يمكن شرحه إلا بجهد جهيد للشباب لقلة معلوماتهم، وابتهاجهم بالتحرر العقلي. إن هؤلاء الشباب لن يقدروا ما يؤديه خدمات في ضبط المجتمع والحد من غرائز الأفراد والنزاع الفردي غير المنضبط إلا بعد أن تصبح لديهم خبرات كثيرة عن الطبيعة البشرية وبعد أن يدركوا قوة الغرائز البدنية. وإذا كان لابد أن نكشف عرينا ونهتك سترنا (بإطلاق غرائزنا) بتخلينا عن الدين المسيحي .... الذي كان أحد المصادر الكبرى الحضارتنا .... فلا بد أن نتوقع شرا، فلا بد أن خرافات ومعتقدات أخرى ستحل محلها
…
معتقدات خرقاء مؤذية مهلكة ومنحطة (6)). وعلى النحو نفسه فمن الصعب أن نشرح لشاب قد ركن إلى العقل منذ فترة وجيزة وهو يحسد جاره، لفضائله، أن الإنسان ذا القدرات الفائقة لن يمر خلال تدريبات طويله ومكلفة لتحصيل مهارات مفيدة اجتماعيا أو لحث نفسه على وضعها موضع التنفيذ إلا إذا سمح له بالاحتفاظ بقدر من أمواله كهبة لأولاده وأكثر من هذا فإن المجتمع البشري ليس مجرد تجمع أشخاص في مكان وإنما هو أيضا توالي الأشخاص (الأجيال) عبر الزمن - إنه من أشخاص وافتهم منيتهم وأشخاص لا يزالون أحياء أولم يولدوا إنه استمرار للأبدان والدماء الأجيال. هذه الاستمرارية موجودة فينا بشكل أعمق أكثر من اجتماعنا في بقعة
محددة من الأرض، لأنه يمكن حملها (أي هذه الاستمرارية) حتى ونحن نعبر مهاجرين من مكان إلى مكان. كيف نوضح هذا للصبية boys الذين تتفجر طموحاتهم الفردية وكبرياؤهم المغرور الذي يجعلهم - بطيش - مستعدين بطيش - مستعدين للانفلات من الالتزامات الخلقية أو الروابط العائلية؟
لقد حيّا القادة المحافظون في بريطانيا - بامتنان وبهجة - هذا اللحن الحزين الصادر عن بورك Burke فيه عالما يحتضر (المقصود باللحن الحزين هنا أفكاره الآنف ذكرها) وقبل رجال من ذوي الأحكام الناضجة المنشورات الثلاثة التي أصدرها كإسهام مميز في مجال الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وقد تحمس لها كولردج في أواخر أيامه كحماسه في وقت من الأوقات للثورة. لقد كتب كولردج في سنة 1820 (لا أتصور ألا تكون لكتابات بورك في أي وقت من الأوقات وفي أية حال - قيمة عظيمة كأعظم ما تكون القيمة
…
إنني لا أستطيع أن أضيف إليها كلمة كما لا أستطيع أن أحذف منها كلمة (7)). ودافع البريتون Briton - من بين كثيرين - عن الثورة: السير جيمس ماكنتوش في كتابه (الحجج الغالية (*)). وتوماس بين Paine في كتابه (حقوق الإنسان) - وصدر كلاهما في سنة 1791. لم يكن قد مضى على الثورة (الفرنسية) آنئذ إلا عامان لكنها كانت قد أنجزت عملها الرئيسي - أعطت فرنسا دستورا إصلاحيا وأنهت الامتيازات الإقطاعية وأقرت حرية الكلام والصحافة والاجتماعات واستولت على أملاك الكنيسة لإنقاذ الدولة من الإفلاس، فلم يكن الدور التدميري للثورة قد حل بعد، وفي ظل هذه الظروف (عدم وصول الثورة الفرنسية إلى مرحلة التدمير) كان ماكنتوش يستطيع الرد على بورك بقوله: إن الثورة الفرنسية كانت احتجاجا شرعيا ضد حكومة غير عادلة ولا تتسم بالكفاءة. وكان في استطاعة بين Paine أن يدلل أنه لا يوجد تراث أو تقاليد يمكنها أن تنكر جهود المصلحين و أن الحقوق التي أعلنتها الثورة الفرنسية هي الميثاق الصحيح لدولة حديثة.
لكن بين Paine ذهب إلى ما هو أبعد كثيرا. لقد طالب بالجمهورية بدلا من الملكية والأرستقراطية، وطالب بالضرائب التصاعدية التي قد تؤدي إلى إعادة توزيع الثروات
(*) نسبة إلى بلاد الغال (فرنسا). (المترجم)
المكدسة مما قد يقضي على البطالة والفقر ويتيح التعليم لكل طفل، ويتيح معاشا لكل شيخ. وراح بين Paine يعيد صياغة حقوق الإنسان مستخدما المصطلحات التي استخدمها روسو:
1 -
يولد الناس أحرارا ويظلون دوما أحرارا متساوين في الحقوق. وبالتالي فالفوارق المدنية لا ينبغي الإبقاء عليها إلا للصالح العام.
2 -
هدف كل التنظيمات السياسية هو الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تتغير بمرور الزمن. وهذه الحقوق هي الحرية، والملكية (بكسر الميم) والأمان ومقاومة الظلم.
3 -
الأمة هي مصدر السلطات، فليس لفرد أو مجموعة سلطة مهما كانت إلا إذا كانت منبثقة من الأمة (الشعب).
وقد بيع من كتاب (حقوق الإنسان) هذا خمسون ألف نسخة في أسابيع قليلة، وقد يشير هذا إلى قوة الحركة الراديكالية في إنجلترا في سنة 1791. لقد انتعشت الجمعيات الراديكالية المختلفة، وكان بعضها أقل راديكالية من الأخرى: جمعية المعلومات الدستورية، جمعية لندن للمراسلة جمعية أصدقاء الشعب الإسكتلنديين وجمعية إحياء ذكرى الثورة وأرسلت بعض هذه الجمعيات تهاني للثورة الفرنسية، وقد أسهمت جمعيتان منها في العمل على نشر كتاب بين Paine على نطاق واسع (8).
ولاحظ بت Pitt ذلك وانزعج له. وكان بت فيما بينه وبين نفسه متأثرًا بكتاب بين Paine . لقد قال لابنة أخيه: (إن بين Paine ليس غبيا ربما كان على حق لكنني إذا نفذت ما يريد لوجدت بين لدي غدا آلافًا من قطاع الطرق، وستحترق لندن (9)). فأصدر أمرا بالقبض على بين Paine ففر إلى فرنسا فحوكم غيابيا وأدين بالخيانة (ديسمبر 1792). لقد كان لدى الإنجليز أسباب كثيرة لعدم اتباعهم فرنسا في ثورتها. لقد كانوا قد قاموا بثورة بالفعل في سنة 1642 كثورة 1789 في فرنسا. وكانت لهم ثورتهم الفكرية قبل الفرنسيين: لقد سبق التركيز على الجانب الربوبي في العقيدة الأورثوذكسية (لا علاقة لهذه الكلمة هنا وفي هذا السياق بالمذهب الأورثوذكسي المعروف وإنما هي أقرب ما يكون إلى
معنى الأصولية) - سبق هذا التركيز حركة التنوير الفرنسية، وكان هذا الاتجاه قد تغلغل متزنًا في بريطانيا في الوقت الذي وصل فيه فولتير إلى بريطانيا في سنة 1726. وقد حول الميتوديون (المقابل الحرفي: الحركة المنهجية، والميتوديون أصحاب مذهب مسيحي بروتستنطي (بعض السخط إلى الإيمان الديني. وكانت الكنيسة الانجليكانية كنيسة ليبرالية نسبيا ولم تكن لها ثروات كبيرة تثير حسد جماعة المؤمنين وعداوتهم. وكان الإقطاع قد اختفى ولم تكن هناك رسوم إقطاعية، وكانت نسبة كبيرة من الفلاحين تمتلك الأرض التي تفلحها، وكانت الطبقة الوسطى قد أصبح لها - بالفعل - ممثلون في البرلمان وأصبح لها دور فعال في سياسة البلاد وكان رئيس الوزراء غالبا ما يؤيد مطالبها. وكان العمال حقيقة يلقون معاملة سيئة من أصحاب العمل والمشرعين، وكان بعضهم يثورون بعنف لكن كانت الحكومة تعتمد على قواتها المسلحة لقمعهم بعنف وتعتمد على القضاء لإصدار أحكام بإعدام زعمائهم. وعندما نشبت الحرب بين إنجلترا وفرنسا تحولت الكراهية بين الطبقات إلى حمى وطنية بمعنى أن التهديد الخارجي وحد بين الجميع لمصلحة الوطن. لقد تخلت الثورة (في بريطانيا) عن مكانها تاركة إياه للإصلاح.
وفي هذه الأثناء كانت فرنسا قد انتقلت من مرحلة التشريع إلى مذابح سبتمبر، وألحق جيشها الهزيمة بالبروس والنمساويين في فالمي Valmy (20 سبتمبر 1792)، وانتشرت الحمى الثورية في بلاد الراين الألمانية، وأقام مواطنو مينز Mainz ودارمستادت Darmstadt حكومة شعبية بعد أن أطاحوا بالحكم الإقطاعي وخوفًا من غزو أجنبي ومن عقاب يلحقهم من الجيوش الملكية أرسلوا مبعوثين إلى فرنسا طلبًا للحماية. وبعد مداولات أصدرت الحكومة الفرنسية في 19 نوفمبر سنة 1792 أكثر قراراتها ثورية:
"تعلن حكومة الجمعية الوطنية باسم الأمة الفرنسية أنها ستمد يد العون والأخوة لكل الشعوب الراغبة في استرداد حريتها وستهيئ القوة التنفيذية بإصدار الأوامر الضرورية للجنرالات لتقديم المساعدات لهذه الشعوب وستدافع عن المواطنين الذين سيتعرضون أو قد يتعرضون لمشاكل لدفاعهم عن قضية الحرية (10)).
لقد أدى هذا الإعلان السخي الطائش بجعل كل ملكيات أوربا على الحافة (في موقف
خطر) وكانت حكومة بريطانيا العظمى أكثر وعيا بالخطر القادم من غيرها بسبب تقدم الجيوش الفرنسية في بلجيكا ومطالب فرنسا من هولندا بفتح نهر شلدت Scheldt لكل التجارة، وهذا النهر الذي يبلغ طوله 270 ميلا ينبع من شرق فرنسا ويمر خلال بلجيكا ويمر بالقرب القريب من أنتورب Antwerp في هولندا. وهناك ينشعب إلى فرعين يصبان في بحر الشمال. وكانت هولندا وفقًا لصلح ويستفاليا قد أغلقت النهر في وجه التجارة التي لا ترغب في مرورها، وكانت تعطي أفضلية لبريطانيا وتمنع البلجيك، وعلى هذا انهارت أنتورب وانتعشت أمستردام. وفي 27 نوفمبر 1792 أعلمت الحكومة الفرنسية إنجلترا قرارها باستخدام القوة لفتح منافذ النهر، فأجاب بت بأن بريطانيا ملتزمة على وفق معاهدة وقعت سنة 1788 بحماية هولندا إذا تعرضت لهجوم خارجي. وأكثر من هذا فما دام نهر الراين أيضا يصب في بحر خلال مصبات هولندية، فإن خضوع هولندا للسيطرة الفرنسية يعني سيطرتها أيضا على مصبات الراين وبالتالي تحكمها في التجارة البريطانية التي تصل إلى وسط ألمانيا عن طريق الراين. وفي 31 ديسمبر 1792 أنذرت الحكومة البريطانية فرنسا كالتالي:
"لن توافق إنجلترا بأي حال من الأحوال أن تدعي فرنسا لنفسها حق إبطال ما هو جار، على وفق هواها (بدعوى حماية الحقوق الطبيعية التي نصبت نفسها - أي فرنسا - قاضيا وحيدا يحكم بشأنها) بإلغاء النظام السياسي لأوربا مع أنه نظام ترسخ بفضل معاهدات محترمة وضمنته موافقة كل القوى. إن هذه الحكومة (البريطانية) انطلاقا من مبادئها التي سارت على هداها لأكثر من مائة سنة لا يمكن أن تنظر بلامبالاة إذا نصبت فرنسا نفسها - بشكل مباشر أو غير مباشر - سلطة ذات سيادة في الأراضي المنخفضة، أو حكمًا للحقوق والحريات في أوربا (11) ".
وفي 21 يناير 1793 أعدمت الحكومة الفرنسية لويس السادس عشر وعندما وصل هذا الخبر إلى لندن صدم الملك جورج الثالث وكذلك معظم الشعب البريطاني. وفي 24 يناير أصدرت الحكومة البريطانية أمرًا للوزير الفرنسي الماركيز فرانسوا برنار دي شوفيلان de Chauvelin بمغادرة المملكة. وفي أول فبراير أعلنت فرنسا الحرب على كل من إنجلترا
وهولندا. ورحب الملك جورج الثالث بهذه الحرب معتقدًا أن الأمة البريطانية ستغدو موحدة هذه الحرب، أما بت Pitt فرغم أنه بذل كل جهوده لقضية الحرب هذه إلا أنه كان آسفا لاشتعالها. ولقد بدأ بت مفاوضات أدت إلى التحالف الأول (ضد فرنسا) في سنة 1793: بريطانيا والبرتغال وأسبانيا وسردينيا ونابلي والنمسا وبروسيا وروسيا. وفرض ضرائب باهظة على كل الطبقات في المملكة وأرسل بشكل متكرر إعانات مالية لحلفائه. وعمل على إصدار القوانين المشددة ضد أي دعاية تروج للثورة الفرنسية أو تدافع عن موقف فرنسا، وعلق حرية الصحافة (1794) وقانون الإحضار Habeas Corpus Act الذي كان يضمن للمقبوض عليهم محاكمة سريعة أو إطلاق سراح عاجل (*). وأصبح الوضع الآن هو القبض على المشكوك فيهم سياسيا دون محاكمة. (فعلت فرنسا الشيء نفسه) وبعد مظاهرة مناهضة للحرب جرى في أثنائها قذف حجر على الملك صدر مرسوم الاجتماعات التحريضية Seditious Meeting Act (1796) يمنع اجتماع أكثر من خمسين شخصا إلا بإذن الحكومة وتحت إشرافها. وكان من يوجهون نقدا للدستور البريطاني عرضة للنفي مدة سبع سنوات في خليج بوتاني (خليج النبات) في أستراليا. وحوكم الراديكاليون البارزون بتهمة الخيانة في مايو 1794 ودافع عنهم توماس إرسكين Erskine وصدر الحكم ببراءتهم. وهؤلاء الراديكاليون البارزون هم جون هودن توك (عالم فقه اللغة) وجون ثلوال صديق كولردج في مرحلة سابقة، وصانع الأحذية توماس هاردي مؤسس جمعية لندن للمراسلة.
وأوحت هذه المحاكمات بالجو المسعور الذي كان قد صدم الطبقات العليا في بريطانيا عندما وجدوا أنفسهم مواجهين بثورة أخرى سرعان ما ظهرت بعد الثورة التي كلفتهم كثيرا في المستعمرات في أمريكا American Colonies . لقد بدا العالم الذي ظل الملوك والأرستقراطيون يحكمونه طوال ألف عام وكأنه ينهار يحاصره فلاحون يحرقون القصر الذي
(*) في المعجم القانوني للفاروقي: قانون الإحضار هو قانون جلب المحبوس أو الموقوف للمحاكمة أو التحقيق. صدر في 1679 في عهد تشارلز الثاني ونص على حظر تقييد حرية الأفراد دون حكم محكمة مختصة، وضرورة جلبهم للمحكمة أو التحقيق خلال مدة معينة من تاريخ حبسهم أو توقيفهم.
يقيم فيه الإقطاعي ويحرقون حجج الملكية، وتحاصره جماهير المدن، يسجنون الأسر المالكة ويقطعون رؤوس مئات من النبلاء. لقد شعر كثير من البريطانيين أن كل هذه النتيجة كانت بسبب "الفلاسفة" الفرنسيين الملحدين وبسبب مقلّديهم من الإنجليز - جودون وبين Paine . وفي أي وقت الآن قد تأتي القوات الفرنسية الشريرة لتستولي على هولندا وبلاد الراين، وقد يحاولون في غضون عام أو عامين غزو إنجلترا، فكيف ستستطيع بريطانيا بسكانها الذين لا يتجاوزون 15 مليون نفس والتي ليس لها جيش دائم Standing army أن تهزم فرنسا بسكانها البالغ عددهم 28 مليون نفس وبجيشها القوي المعتز بانتصاراته التي حققها فعلا؟
كان بت يعلم كل هذا لكنه كان يفكر بلغة المال أكثر مما كان يفكر بلغة الرجال، فالرجال يمكن شراؤهم بالمال إن لم يكن من إنجلترا فمن النمسا وبروسيا وروسيا، وإنجلترا بتملك المال يأتيها كل يوم من التجارة والصناعة وما تغله الأرض ومن المستعمرات والقروض والضرائب على كل المواد الاستهلاكية وعلى كل الدخول كل تلك العوائد المالية يمكن توظيفها في إعداد جيش صغير للدفاع عن بريطانيا ضد غزو غير محتمل. وهذه العوائد يمكنها أن تجعل المصانع البريطانية في حالة عمل دون توقف وتجعل صحافتها وطنية وتجعل رسامي الكاريكاتير فيها على أعلى مستوى. وهذه العوائد يمكنها تمويل جيوش حلفاء بريطانيا الذين ينقصهم المال ويكثر عندهم. الرجال. والأهم أن تلك العوائد تمكن بريطانيا من بناء العديد من السفن المحتشدة عسكرا، والمسلحة جيدا للسيطرة على المحيطات ولتحاصر كل ميناء فرنسي وتستولي على كل سفينة فرنسية في البحر، ولتضم للإمبراطورية البريطانية كل مستعمرة فرنسية. وهكذا راحت بريطانيا تزيد من أساطيلها، ففي كل شهر كانت تضيف إليها سفنا قوية على متونها رجال بحر لا نظير لهم. لقد كان لديها من أعظم أدميرالات (أمراء البحر) في التاريخ.
2 - نلسون: 1758 - 1804
آل نلسون Nelsons هم في الأصل آل نيلسن Nielsens من الفيكنج Viking الآنجلز Anglian الشرقيين، وربما كانت السفن تجري في دماء هوراتيو Horatio . لقد ولد في 29 سبتمبر سنة 1758 في بورنهام ثورب Burham Torpet ، نورفولك Norfolk التي تجاور البحر. وكان أبوه قسيس الأبرشية. وكانت أمه قريبة لروبرت والبول Walpole رئيس الوزراء، وكان أخوها هو الكابتن (القبطان) موريس سكلنج Suckling قد عين في سنة 1770 على رأس أسطول. S.M.H توقعًا لحرب مع إسبانيا. وكان هوراتيو وقتها في الثانية عشرة من عمره فتوسل أن يعمل تحت إمرته فوافق ومن يومها كانت مدرسة هذا الصبي هي البحر.
لم يكن هوراتيو قويا من الناحية البدنية، وكان في غالب الأحوال معتل الصحة لكنه راح ينتهز كل فرصة للدراسة وتطوير نفسه والحصول على مراتب الشرف وتحقيق الفخار. لقد عمل في سفن مختلفة في مهام متباينة وخاطر بحياته مرارا وكان يترقى خطوة خطوة، وفي سن العشرين أصبح قبطانا للفرقاطة هنشنبروك Hinchinbrook . وكان مزهوا مختالا كما كان كفؤا وكان على يقين أكيد أنه سيصل يوما إلى أعلى المناصب وذروة الشهرة. وكان بطيئا في تنفيذ أوامر رؤسائه كما أنهم كانوا متباطئين في مكافاته لخدماته، لكنه أعطى لبريطانيا ذراعه ثم عينه ثم حياته، وكان بمقدوره أن يظل مزهوا طوال حياته بالشموخ نفسه الذي دلت عليه ذكراه (آثاره الباقية).
وكان مستعدا للاستسلام الجمال النساء ورقتهن، فقد كان حساسا لكل نظرة ولمسة. ففي كوبك Quebec في سنة 1782 كان قبطانا للسفينة البيمارل Albemarle وكان على وشك التخلي عن عمله ومنصبه ليعود للمدينة ليقدم عرضا بالزواج لامرأة أمتعته في الليلة السابقة، لكن صديقًا له اعترضه مصمما على منعه ودعاه للعودة إلى واجبه وقدره (12). وفي سنة 1787 كان قبطانا للسفينة الطراد بورياس Boreas توانى في أنتيجوا Antigua في جزر الهند الغربية وتزوج السيدة فرانس نيسبت Francos Nisbet أرملة شابة جميلة لها عم ثري وأحضرها إلى إنجلترا وهيا لها مقاما في عقار صغير لكنه مريح وقضى معها
فترة سعادة متبادلة في الريف. وعندما أصبحت الحرب مع فرنسا محتملة عين في سنة 1793 قبطانا للسفينة أجاممنون - وهي من أكثر سفن البحرية البريطانية كفاءة، وزود بتعليمات للانضمام إلى أسطول اللورد هود Hood في البحر المتوسط وأخذ - عرضًا - مذكرة للسير وليم هاملتون الوزير البريطاني في بلاط نابلي فسلم الرسالة وقابل الليدي هاملتون.
لقد ولدت آمي ليون Amy Lyon في سنة 1761 لأب حداد من ويلز وراحت تتكسب في شبابها من كد جسدها (بالبغاء) وأنجبت طفلين غير شرعيين قبيل بلوغها التاسعة عشرة من عمرها، وفي هذه السن استقر بها الحال لأن تكون رئيسة خدم صاحب الشرف الرفيع شارلز جريفل الابن الثاني لإيرل واروك Warwick ، فغير اسمها إلى إما هارت Emma Hart (النص: أعاد تعميدها باسم إماهارت) وعلمها فنون غناء النبيلات والرقص والعزف على البيانو القيثاري وكيف تدخل الغرفة بلطف وكياسة وكيف تتناقش بلطف وكيف تعد الشاي. وعندما تغير كل شيء فيها خلا روحها أخذها إلى جورج رومني Romney الذي رسمها في ثلاثين لوحة وعندما وجد جريفل فرصة ليتزوج وريثة ثروة كان عليه أن يجد مأوى آخر لهذه السيدة التي تعلمت الآن أن تحبه، ولحسن الحظ فقد كان خاله وليم هاملتون - وهو رجل ماتت زوجته ولم ينجب - موجودا في إنجلترا آنئذ. وكان ثريا تربى مع جورج وكان عضوا في الجمعية الملكية وكان جامعًا مميزا للكتابات والآثار عن هرقل، وللأعمال الفنية الكلاسية. وراقت له إما Emma التي وافقت على ترك ابن أخته والذهاب معه وبعد وصوله إلى نابلي أرسل إليها دعوة للحضور مع أمها لتكمل تعلمها للموسيقا فوافقت بعد أن فهمت أن شارلز جريفل سيلحق بها، لكنه لم يلحق.
وقدم السير وليم لها ولأمها أربع غرف ليقيما فيها في دار المفوضية البريطانية، وأمتعها بالرفاهيات والإعجاب اللبق ورتب لها برامج دراسية في الموسيقا واللغة الإيطالية وراح يدفع لمصمم قبعاتها دون تذمر. وكتبت خطابات حب لجريفل، متوسلة إليه أن يأتي إليها لكنه لم يضع نفسه موضع المنافسة موضع المنافسة مع سير وليم فراحت خطاباته لها تقل شيئا فشيئا عددا ومحتوى ثم توقفت. وأصبحت خليلة ومدبرة بيت للسير وليم لأنها تضع الحب في المقام
الثاني بعد الرفاهية. ومن ناحية أخرى فإنها كانت تتصرف بتواضع وحكمة كما كانت تعمل الخير (توزع الأعطيات) وأصبحت أثيرة لدي الراهبات والملك والملكة، وجلست أمام رافائيل منجز، وأنجليكا كوفمان ومدام فيجي ليبرون Vigee - Lebrun ليرسموها. وسرّ منها السير وليم فتزوجها في سنة 1791، وعندما أعلنت فرنسا الحرب على إنجلترا أصبحت وطنية بشكل فعّال وحماسي، وعملت على إبقاء نابلي متحالفة مع إنجلترا (ضد فرنسا).
وفي صيف سنة 1794 صدرت الأوامر لنلسون بحصار كالفي Calvi الميناء الكورسيكي الذي كان قد وقع في أيدي الفرنسيين، فاستولى على الحصن لكن - في أثناء المعركة أدت قذيفة أطلقها العدو بالقرب منه إلى تناثر الرمال بشدة فأصابت عينه اليمنى وشفي جرحه دون أن يترك تشويها لكنه فقد الإبصار بها تماما.
ولم يكن لهذا الانتصار أهمية كبيرة من منظور الأحداث التي كانت مسيرتها في العامين التاليين ضد إنجلترا بشكل قوي، فقد دخل نابليون إيطاليا وشتت شمل الجيوش السردينية والنمساوية وأجبر حكومات سردينيا والنمسا ونابلي على الخروج من التحالف الأول ضد فرنسا، كما أجبرها على قبول شروطه للسلام وفي أكتوبر سنة 1796 أعلنت إسبانيا الحرب على انجلترا بسبب الإجراءت البريطانية في جزر الهند الغربية. لقد أصبح البحر المتوسط غير آمن للبريطانيين بسبب استعداد الأسطول الإسباني الانضمام للفرنسيين. وفي 14 فبراير 1797 انقضت قوة بحرية بريطانية من خمس عشرة سفينة بقيادة الأدميرال (أمير البحر) جون جرفيز Jervis - الذي كان وقتها قائدا للأسطول البريطاني في البحر المتوسط - على أرمادا إسبانية (أسطول إسباني) من سبع وعشرين سفينة، على بعد ثلاثين ميلا من رأس فينسنت Vincent في أقصى الجنوب الغربي للساحل البرتغالي، ووجه القبطان نلسون Captain . H.M.S سفينته وسفنا أخرى لمهاجمة الحراسة الخلفية لأسطول العدو الصغير، وقاد هو رجاله من فوق متون السفن واستولى على السفينة سان جوزف San Josef ثم السفينة سان نيكولاس San Nicolas . لقد استسلمت السفن الإسبانية التي لم تكن مسلحة بشكل جيد، ولم يكن قادتها يحكمون السيطرة عليها، ولم يكن رجالها مدربين على إطلاق المدافع - استسلمت واحدة إثر الأخرى فحقق الإنجليز نصرا كاملا، فمنح (بضم
الميم) جيرفز لقب إيرل سان فينسنت وأصبح نلسون فارس الباث Knight of the Bath ، وهكذا أصبحت البحرية البريطانية مرة أخرى سيدة البحر المتوسط.
وفي يوليو سنة 1797 تم إرسال نلسون (وهو الآن عميد بحري rear admiral) للاستيلاء على سانتا كروز في إحدى جزر الكاناري Canary . لقد كان الإسبان قد حصنوا المدينة تحصينا قويا لموقعها الإستراتيجي الحيوي اللازم لحماية تجارتهم مع الأمريكتين. وقاومت المدينة مقاومة باسلة لم يتوقعها نلسون، وأدى عنف الأمواج إلى صعوبة رسو القوارب البريطانية فاصطدم بعضها بالصخور وأصابت المدافع الإسبانية بعضها الآخر فشلت قدرتها، وفشل الهجوم، وأصيب نلسون نفسه بطلقة في مرفقه الأيمن وتم بتر الذراع بطريقة لا تتسم بالكفاءة، وتم إرسال نلسون إلى بيته ليتعافى تحت رعاية زوجته. واعترى القلق نلسون مخافة أن تدرجه الأدميرالية في قائمة المعاقين إعاقة دائمة، فقد أصبح بذراع واحدة وعين واحدة. إلا أنه في أبريل سنة 1798 تم تعيينه عميدا بحريا rear admiral وأصبح على رأس السفينة فانجارد، وتلقى أوامر بالانضمام إلى أسطول اللورد سانت فينسنت بالقرب من جبل طارق، وفي مايو أصبح قائدا لثلاث سفن وخمس فرقاطات وتلقى تعليمات بمراقبة مخارج طولون حيث كان نابليون يستعد بحملة غامضة يعدها خلف حصون الميناء، وفي 20 مايو هبت عاصفة عاتية ألحقت أضرارا بالغة بأسطول نلسون فاضطر للتراجع إلى جبل طارق لإصلاح سفنه المعطوبة، وعندما عاد بسفنه لمواصلة المراقبة علم نلسون أن الأسطول الفرنسي الصغير قد انطلق في جنح الظلام مغادرا طولون متجها للشرق لجهة غير معلومة. فانطلق نلسون ليتعقبه وقضى وقتا طويلا على غير هدى ونفدت مؤنه فلجأ إلى باليرمو للتزود بالمؤن وإعادة تهيئة أسطوله وقد سمح (بضم السين) له بذلك بناء على وساطة الليدي هاملتون لدى حكومة نابلي التي كانت آنئذ في سلام مع فرنسا، وترددت في السماح لنلسون مخافة أن يعد هذا السماح خرقا لحيادها، لكن تم السماح لنلسون بهذا بناء على الوساطة الآنف ذكرها.
وهكذا أصبحت سفنه مرة أخرى مهيأة لأداء مهمته فواصل البحث عن أسطول نابليون، فوجده أخيرا في أبي قير بالقرب من الإسكندرية، ومرة أخرى غامر نلسون بكل شيء ففي
ليلة 31 يوليو 1798 أصدر أوامره لضباطه بتجهيز كل السفن الخوض معركة عند الفجر. لقد قال لهم "في هذا الوقت غدا سأحصل على مرتبة النبالة أو أضمن مكانا في مقابر كنيسة ويستمنستر"(13) وفي أثناء المعركة تقدم الصفوف كالعادة فأصابته طلقة في جبهته فحمل إلى الأسفل على أساس أنه سيموت ولكن الجرح كان سطحيا، وأعيد نلسون معصوب الرأس إلى سطح السفينة وظل في مكانه حتى اكتمل النصر البريطاني.
واستطاع بت في ظل هذه الظروف التي بدت فيها بريطانيا محجوزة محصورة أن يكون التحالف الثاني ضد فرنسا من روسيا وتركيا والبرتغال ونابلي وكانت ملكة نابلي ماريا كارولينا أخت ماري أنطوانت التي أعدمتها الثورة الفرنسية بالمقصلة، سعيدة لرؤية مملكتها الممزقة وقد وقفت جميعا إلى جانب الهبسبرج والكنيسة الكاثوليكية فانضمت لمليكها الضعيف فردناند الرابع للترحيب بأسطول نلسون المنتصر - رغم ما أصابه من دمار - الذي رسا في في ميناء نابلي في 22 سبتمبر 1798، وعندما رأت الليدي هاملتون الأدميرال الجريح اندفعت إليه تحييه وتأثرت كثيرا لما أصابه، واصطحبته هي وزوجها إلى مقرهما (the Palazzo Sassa) وبذلا كل ما أمكنهما لراحته. ولم تحاول إما Emma حجب فتنتها فوقع البطل الظامئ أسيرا لابتساماتها ورعايتها له. لقد كان في الأربعين من عمره وكانت هي في السابعة والثلاثين ولم تكن جذابة بالقدر نفسه الذي كانت عليه من قبل لكنها كانت قريبة المنال وراحت ترضي رغبات هذا البريتوني (نلسون) بما اعتبره - بعد خوض المعارك - نبيذ الحياة. والآن فإن السير وليم في الخامسة والثمانين من عمره تتناقص موارده المالية سريعا، وهو منهمك في أمور الفن والسياسة - لذا فقد تقبل الوضع بشكل فلسفي (بمعنى أنه راح يبرره ويقنع نفسه به) وربما شعر في قرارة نفسه بالراحة لتخلصه من أمر لا يقدر عليه. وقبيل ربيع سنة 1799 دفع نلسون مبلغًا كبيرا من نفقات إما Emma . وبعد أن دفع الأدميرال البريطاني مبلغا كبيرا للسير وليم وأسبغ عليه الكثير من التشريف وسمح له بفترة من الراحة أمره بالتوجّه لمساعدة أدميرالات آخرين، ولكنه اعتذر على أساس أن الأكثر أهمية من وجهة نظره أن يبقى في نابلي لحمايتها من انتشار الثورة فيها.
وفي وقت متأخر من عام 1799 حل آرثر باجت Paget محل هاملتون كوزير بريطاني في
نابلي. وفي 24 أبريل سنة 1800 غادر كل من سير وليم وإما Emma نابلي قاصدين ليجورن (في جنوة) حيث انضم إليهما نلسون ومن هناك سافرا برا إلى القنال الإنجليزي وعبروا إلى إنجلترا واحتفت لندن كلها بنلسون لكن الرأي العام أدانه لاستمراره في الارتباط بزوجة رجل آخر. وأرادت زوجة نلسون أن ترده إلى طريق الصواب وطلبت منه الابتعاد عن إما Emma لكنه رفض، ففارقته. وفي 30 يناير سنة 1801 وضعت إما في منزل السير وليم مولودا انثى وأسمتها هوراتيا نلسون طومسون Horatia Nelson Thompson إذ كان من المرجح أنها من نطفة نلسون. وفي هذا الشهر أصبح نلسون لواء بحريا (نائب أدميرال) وتم تكليفه بمهمته التالية وهي أن يستولي على الأسطول الدنمركي ويدمره. وسنلتقي به بعد ذلك في هذه المعركة. وعند عودته - وكان ذلك خلال فترة صلح إميان - عاش في بيته في ميرتون Merton في سري Surrey مع آل هاملتون الذين استضافهم في بيته. في 6 أبريل سنة 1803 مات السير وليم بين ذراعي زوجته وهو يمسك بيد نلسون. وورثت إما عن زوجها دخلًا سنويا مقداره ثمانمائة جنيه وعاشت مع نلسون في مرتون حتى دعي لتحقيق أعظم انتصاراته في معركة لقي حتفه فيها (14).
3 - الطرف الأغرّ: 1805
عندما استقال بت Pitt من منصب رئيس والوزراء أول مرة (3) فبراير (1801) كان على استعداد لتأييد تعيين صديقه هنري أدنجتون Addington ليشغل هذا المنصب إذ كان هنري يشاطره كرهه للحرب، وكان قد لاحظ أن الحرب لا تحظى بجماهيرية في البلاد خاصة بالنسبة إلى المصدرين وهو قد رأى الآن رأي العين أن النمسا قد تخلت عن التحالف الثاني (ضد فرنسا بعد هزيمتها في مارينجو Marengo ولم يكن يرى معنى في إنفاق الأموال على هؤلاء الحلفاء الضعفاء، وكان من رأيه إنهاء الحرب بقدر ما يسمح به إنقاذ ماء الوجه. وفي 27 مارس سنة 1802 وقع ممثلوه مع نابليون صلح إميان Peace of miens فصمتت المدافع طوال أربعة عشر شهرا توسع نابليون في إيطاليا وسويسوا، وكذلك رفض إنجلترا ترك مالطه، كل ذلك أنهى هذه الفترة الانتقالية المريحة، واستؤنفت الأعمال العدائية ثانية في 20 مايو
سنة 1803، فعهد أدنجتون إلى نلسون أن يعد أسطولًا تحت قيادته للقيام بمهمة واضحة: الوصول إلى الأسطول الفرنسي الرئيسي وتدميره حتى آخر سفينة فيه. وفي هذه الأثناء كان نابليون يملأ المعسكرات والموانئ والترسانات arsenals في بولونيا Boulogna وكاليه Calais ودنكرك Dunkirk وأوستند Ostend بالرجال والعتاد وكان يشيد مئات السفن ليعبر بجيوشه القنال الإنجليزي لغزو إنجلترا. وعمل أدنجتون قصارى جهده لمواجهة التحدي لكنه كان مترددا متذبذبا أكثر منه آمرًا حازما وكانت الأمور الداخلية تنحو إلى الفوضى، وتناقص عدد مؤيدي حزبه من 270 إِلى 107 فاستقال بإرادته (دون أن يجبره أحد على الاستقالة) وفي العاشر من مايو بدأ بت Pitt رئاسته للوزراء للمرة الثانية. شرع بت مباشرة في تكوين التحالف الثالث (ضد فرنسا) في سنة 1805 مع روسيا والنمسا والسويد وقدم لهذه الدول إعانات مالية زادت بزيادة الضرائب على البريطانيين بنسبة 25% ورد نابليون على هذا التحالف بأن أمر جيشه المرابط على القنال الإنجليزي بالتوجه إلى النمسا لتلقينها درسًا آخر وأرسل تعليمات إلى لوائه البحري بيير دي فيلينيف Pierre de Villeneuve بأن يجهز أفضل سفن البحرية الفرنسية لمواجهة مع نلسون لإنهاء الهيمنة البريطانية على البحار.
لقد كان في سفينة القيادة (النصر) التي فيها نلسون 703 غالبهم في نحو الثانية والعشرين وكان بعضهم في الثانية عشرة من عمره أو الثالثة عشرة بل لقد كان هناك عدد قليل منهم في العاشرة. وكان نحو نصفهم مجبرين على الخدمة في الأسطول كما كان كثيرون منهم مدانين في جرائم وحكم عليهم بالخدمة في الأسطول عقابا لهم، وكانوا يتقاضون أجورا ضئيلة لكنهم كانوا يتقاضون - على وفق موقفهم وسلوكهم - أنصبة من الأموال التي يتم الاستيلاء عليها من سفن الأعداء ومستودعاتهم. وكانت مغادرة الجنود إلى الشاطئ أمرًا قلما يسمح به خوفا من فرارهم من الخدمة ولسد حاجة الرجال للنساء كان يتم جلب البغايا إلى متون السفن، ففي بريست Brest جلبوا ذات صباح 309 امرأة (بغي) بينما كان عدد الرجال 307 فقط (15). وسرعان ما اعتاد المجندون - رغم صرامة النظام - تكييف أنفسهم مع ظروفهم الجديدة وعادة ما كانوا يعتزون بعملهم وشجاعتهم. وقيل إن نلسون كان مؤتلفًا مع رجاله قريبا منهم فهو لم ينزل بأحد منهم عقابا إلا عند الضرورة
القصوى، وكان يعتريه الأسف - بشكل واضح - لذلك، لأنه يعلم مهمة رجل البحر وطبيعة عمله ونادرا ما كان يخطئ في تكتيكاته أو أوامره، وقد واجه هو نفسه مدافع الأعداء وبنادقهم وقد جعل رجاله يؤمنون أنهم لن يخذلوه أو يخذلوا إنجلترا أبدا ولن يسمحوا للهزيمة أن تلحق بهم أبدا. تلك لمسة نلسون Nelson touch) التي جعلت هؤلاء المجرمين يحبونه.
وفي 8 يوليو 1803 انضم نلسون إلى سفنه الإحدى عشرة في البحر المتوسط في مواجهة طولون، ووجد فيلينيف في مينائها الرحب حماية لأسطوله بإطلاق مدافع حصون الميناء (على أسطول العدو). وكان الأدميرال الفرنسي قد تلقى مؤخرا أوامر جديدة من نابليون: أن يهرب من طولون ويقتحم طريقه في جبل طارق وأن يبحر إلى جزر الهند الغربية لينضم إلى أسطول فرنسي آخر هناك وأن يهاجم أي قوة بريطانية يلقاها. وبينما كانت سفن نلسون تتزود بالمياه في ميناء سرديني هرب فيلينيف بسفنه من طولون (30 مارس 1805) وأبحر قاصدا. أمريكا. وتعقبه نلسون لكنه كان متأخرا عن الوقت اللازم، ووصل نلسون إلى باربادوس Barbados في 4 يوليو وهناك سمع أن فيلينيف يعود الآن عبر الأطلنطي وانضم إليه عند كورونا Corunna أسطول إسباني من 14 سفينة بقيادة الأدميرال فيدريكو دي جرافينا (16). وصدرت الأوامر من نابليون بالإبحار شمالا للانضمام إلى قوة فرنسية أخرى في بريست Brest ومحاولة السيطرة على القنال الإنجليزي قبل وصول نلسون من جزر الهند الغربية لكن سفن فيلينيف بعد جولتها في الكاريبي لم تكن في حالة تسمح لها بخوض معركة. وفي 13 أغسطس قاد أسطوله الذي أصبح كبيرا جنوبا إلى ميناء قادش جيد التحصين والمزود بإمكانات كبيرة وبدأ هناك في إعادة تأهيل سفنه وبث العزم في رجاله، وفي أواخر شهر أغسطس تولى أسطول بريطاني بقيادة لواء بحري كثبرت كولنجوود Cuthbert Collingwood مهمة مراقبة اسطول فيلينيف. وكان نلسون قد ظن أنه بعد أن أكمل كوميديا عبوره أنه هو أيضا وكذلك رجاله في حاجة إلى الراحة وسمح له (بضم الميم) بقضاء عدة أسابيع مع خليلته في مرتون Meton . وفي 28 سبتمبر لحق بسفنه بكولنجوود قبالة قادش وراح ينتظر نافد الصبر قدوم الأسطول الفرنسي لخوض معركة معه.
وهنا غير نابليون مرة أخرى تعليماته: لقد كان على فيلينيف أن يغادر قادش ويحاول مراوغة الأسطول البريطاني وأن يتجه للتعاون مع جوزيف بونابرت لإحكام السيطرة الفرنسية في نابلي. وفي 19 و 20 أكتوبر قاد الأدميرال - علي كره منه - سفنه الثلاث والثلاثين خارج قادش وتوجه قاصدا جبل طارق وفي يوم 20 من الشهر نفسه لمحه نلسون فأصدر أوامره فورا السفنه البالغ عددها سبعا وعشرين بالاستعداد للمعركة، وراح في هذه الليلة يكتب خطابا لليدي هاملتون لكنه أكمله في صباح اليوم التالي:
"إما يا أعز وأحب من عرفت، يا أليفة قلبي. لقد ظهرت علامات خروج أسطول العدو الذي اتحد ضدنا (يقصد الأسطول الفرنسي والأسطول الأسباني الذي انضم إليه) من الميناء. الرياح لا تساعدنا على التقدم فلا يمكننا رؤيته قبل الغد. عسى رب المعارك يكلل مناوراتى بالنجاح في كل الأمور التي أراني معتادًا عليها ليكون أسمي أعز الأسماء عندك وعند هوراتيا، فإنني أحب كليكما كحبي لحياتي
…
وعسى يهبنا الرب العظيم نصرا على أولئك الرفاق ويمكننا من تحقيق السلام (17)).
وكتب في يومياته تحت اليوم السابق للمعركة: عسى يهب الرب العظيم بلادي - لصالح أوربا كلها نصرا عظيما مؤزرا لا تشوبه شائبة ولا يفسده سوء تصرف، وعسى تصبح الإنسانية لمحة دائمة في الأسطول البريطاني بعد تحقيق النصر
…
إنني أضع نفسي بين يدي الله الذي خلقني فعساه ينير ببركاته تحركاتي لخدمة بلادي بإخلاص. إنني أهب نفسي لله، وكذلك للقضية العادلة التي عهد إلي بالدفاع عنها. آمين آمين آمين. (18)).
والتقى الأسطولان في 21 أكتوبر سنة 1805 قبالة رأس الطرف الأغر إزاء الساحل الإسباني إلى الجنوب بمسافة قصيرة من قادش فأصدر فيلينيف من سفينة القيادة (بوسنتور Bucentaure) إشارة لسفنة أن تصطف في خط واحد من الشمال للجنوب لتكون جوانبها التي كانت ناحية الميناء في مواجهة العدو المقترب، ولم تتم السفن هذه المناورة بشكل كامل وما كادت تكملها حتى وجدت نفسها هدفا للقوات البحرية البريطانية المتقدمة إلى الشمال الغربي في خط مزدوج. وفي الساعة 11:35 صباحا أرسل نلسن من سفينة القيادة (فيكتوري) الإشارة الشهيرة "إنجلترا تتوقع أن يؤدي كل رجل واجبه" وفي الساعة 11:50
قاد الأدميرال كولنجوود بخمس عشرة سفينة الهجوم بأن أمر سفينة قيادته (التي هو فيها) السفينة Royal Sovereign أن تبحر مباشرة خلال ثغرة بين البارجتين الحربيتين الأولى والثانية للأدميرال جوافينا، والسفينتان المقصودتان هما (سانتا أنا) و (نوجو)، وبهذه الحركة أصبح رجاله في وضع يمكنهم من إطلاق النار من جانبي سفينته على السفينتين الاسبانيتين اللتين كانتا غير قادرتين على رد النيران وكان لدى مطلقي المدافع البريطانيين مزايا إضافية: لقد كان يمكنهم إشعال مدافعهم باستخدام الزنود المصونة (زنود جمع زند) أن الآلات المفجرة للشحنات في مدافعهم بها صوانات (جمع صوان) أو ظِرّات (جمع ظرة) في ديك البندقية أو المدفع (الديك هو الزند) لإطلاق الشرارة. وهذه الطريقة في الإشعال كانت أسرع بمرتين من الطريقة الفرنسية التي كان يُستخدم فيها فتائل لا تستجيب للإشعال بسرعة كما كان إطلاق البريطانيين للنار أدق، إذ كان متزامنًا مع تمايل السفينة (19). وحَذَتْ بقية سفن أسطول كولنجوود حذوه باختراق خط سفن العدو ثم غيّرت اتجاهها وركزت هجومها على سفينة جرافينا (Gravina) حيث كانت الروح المعنوية لبحارتها متدهورة. وفي الطرف الشمالي لخط المعركة واجه الفرنسيون بشجاعة ضراوة هجوم نلسون وراح بعضهم يهتف صائحًا:"عاش الامبراطور" وهو يلفظ أنفاسه، هذا، فكما حدث في معركة "أبي قير"، فقد تفوّق البريطانيون لأنهم كانوا أكثر تدريبًا وأعلى مهارة في أمور البحر والمدفعية.
لكن مصير نلسون كان قد تحدّد عندما وجه قناص فرنسي في أعلى صاري السفينة الفرنسية ريدوتابل (Redoubtable) طلقة إلى نلسون حددت مصيره. ولم يكن الأدميرال نلسون يعرّض نفسه للخطر كالعادة فقط، ولكنه أيضًا رفض أن يزيل من فوق صدره أوسمة الشرف التي منحته إياها بلاده (إنجلترا) مما سهل عملية تمييزه. لقد اخترقت القذيفة صدره وكسرت عموده الفقري، وحمله مساعده المخلص توماس ماسترمان هاردي Thomas Masterman Hardy) إلى الطابق الأسفل من السفينة حيث أكد الطبيب بيتي Beatty ما كان نلسون مقتنعًا به وهو أنه لم يبق له في هذه الحياة سوى ساعات قليلة وظل نلسون واعيًا طوال أربع ساعات أخرى كانت كافية ليعلم أن أسطوله قد حقق نصرًا كاملًا وأن تسع عشرة
سفينة من سفن العدو قد استسلمت ولم تفقد بريطانيا سفينة واحدة. وكانت كلماته الأخيرة هي: "فلتراعوا عزيرتي الليدي هاملتون يا هاردلي .. اهتم بالبائسة الليدي هاملتون .. قبلني يا هاردلي. والآن إنني راض. شكرا لله لقد أديت واجبي (20) ".
وبقيت كل سفن نلسن حتى تمر العاصفة المتوقعة - بناء على أوامر نلسون وهو في فراش الموت - ووصلت إنجلترا في وقت يسمح لبحارتها ومقاتليها بالمشاركة في الاحتفال الوطني بانتصارهم ونقعت جثة نلسون في البراندي لتأخير تحللها وحملت منتصبة في برميل إلى إنجلترا حيث سيقت في أفخم جنازة تعيها ذاكرة الأحياء وسلم القبطان هاردي لليدي هاملتون خطاب الوداع الذي كتبه حبيبها الذي وافته المنية، فاحتفظت به كذكرى غالية وكتبت في آخره:
يا لإما البائسة!
يا لنلسون العظيم السعيد!
وبناء على وصيته ترك كل ممتلكاته ومكافآته الحكومية لزوجته فيما عدا منزله في مرتون فقد احتفظت به إمَّا هاملتون. ومخافة ألا يكفيها هذا بالإضافة للمبلغ السنوي الذي تركه لها زوجها، فقد كتب نلسون في يوم المعركة ملحقًا لوصيته: "إنني أترك إما Emma ليدي هاملتون وديعة لدى مليكي وبلادي ليقدموا لها ما يحفظ لها مكانتها في الحياة) وساعة احتضاره - كما ذكر الدكتور سكوت Scott - طلب أيضًا أن ترعى بلاده ابنته هوراتيا Horatia ، لكن الملك ورعاياه تجاهلوا هذه الطلبات، فتم القبض على إما في سنة 1813 لتأخرها في سداد دين وسرعان ما أطلق سراحها فهربت إلى فرنسا تخلصًا من دائنيها، وماتت فقيرة في كاليه Calais في 20 يناير 1815 (21).
نعود للأدميرال جرافينا Gravina ، فبعد مقاومة باسلة عاد هاربًا بسفينة القيادة إلى إسبانيا لكن بعد أن أصيب بجرح فظيع تسبب في موته بعد شهور قليلة من وصوله. ولم يقد فيلينيف أسطوله بحكمة لكنه حارب بشجاعة وكان يعرّض نفسه للخطر - بطيش - مثله في ذلك مثل نلسون، وقد استسلم فيلينيف بعد أن مات كل رجاله تقريبًا. وأخذ أسيرًا إلى إنجلترا وأطلق سراحه فعاد قاصدًا فرنسا وانتحر في فندق في رن Rennes في 22
أبريل 1806 خجلًا من رؤية نابليون له. واعتذر في آخر خطاباته لزوجته لفراقه إياها شاكرًا الأقدار أنه لم ينجب طفلًا حتى لا يحمل عاري "حتى لا يُدفن مع اسمي"(22).
لقد كانت معركة الطرف الأغر واحدة من المعارك الحاسمة في التاريخ. لقد ضمنت السيادة البريطانية على البحار طوال قرن.
لقد أنهت فرصة نابليون في تحرير فرنسا من الحصار الذي فرضه الأسطول البريطاني على السواحل الفرنسية وأجبرت هذه المعركة نابليون على التخلّي عن فكرة غزو إنجلترا. وكان أن عليه أن يخوض حروبًا برية مكلّفة كثيرًا، وكل معركة منها ستؤدي إلى معارك أخرى. لقد ظنّ أنّ بمقدوره تجاوز معركة الطرف الأغر بانتصاره الحاسم في أوسترليتز Austerlitz (2 ديسمبر 1805) لكن هذه المعركة أدت إلى معارك أخرى: يينا Jena إيلاو Eylau فريدلاند Friedland واجرام Wagram ، بورودينو Borodino ، لينتج Leipzig واترلو Waterloo . لقد كان لابد له أن يُحرز نصرًا بحريًا.
ومع هذا فقد كان بِت Pitt الذي عاصر مئات الأزمات وسعد بنتائج معركة الطرف الأغر - متفقًا مع نابليون في أن معركة أوسترليتز قد محت آثار النصر الذي حققه نلسون. لقد انسحب بت بعد أن أرهقته الأزمات المتلاحقة في داخل البلاد وفي خارجها - طلبًا للراحة في باث Bath . وهناك وصلته الأخبار بأن النمسا (محور تحالفاته) قد انهارت ثانيةً، فزاده هذا آلامًا على آلامه الصحية التي تفاقمت بفعل إفراطه في تناول البراندي (نوع من الخمور) وفي 9 يناير 1806 وافته منيته في السابعة والأربعين من عمره بعد أن شغل منصب رئيس الوزراء في بريطانيا العظمى طوال حياته بعد البلوغ تقريبًا. وفي هذه السنوات البالغة تسعة عشر عامًا ساعد في توجيه بلاده نحو السيطرة والتفوق في المجالات الصناعية والتجارية والحربية وأعاد صياغة نظامها المالي بكفاءة منقطعة النظير، لكنه فشل في معاقبة الثورة الفرنسية أو التصدي للتوسع النابليوني الخطر في أوروبا. لقد اختفى توازن القوى في القارة الأوروبية - وهو أمر مهم جدًّا لإنجلترا - وافتقدت البلاد حرية الحديث والاجتماع والصحافة في فترات الحرب وهذا يعني أنها ظلت مفتقدة طوال اثنى عشرة عامًا، وليس من علامة دالة على انتهاء هذا الوضع.
4 - إنجلترا تترقب أمرا: 1806 - 1812
سيسمح لنا مجال دراستنا الآن أن نصف بالتفصيل الوزارات الأربع التي أعقبت وزارة بت Pitt . فباستثناء عام فوكس Fox كانت كل طاقات هذه الوزارات منصرفة إلى قضايا شخصية وحزبية أكثر من انصرافها إلى قضايا الدولة والسياسة، وكان حاصلها الإجمالي على المستوى الدولي مؤديًا للنتيجة نفسها: من الازدهار إلى تدنّي الأوضاع ومن الإعجاز إلى المماطلة والتسويف.
لكن "وزارة كل المواهب"(1806 - 1807) قد تألقت بجهود شارلز جيمس فوكس Fox وزير الخارجية بسعيها لترتيب سلام مع فرنسا. لقد واجه الظروف غير المستقرة بليبرالية صابرة وقدرته على قبول الثورة الفرنسية، بل وقبوله حتى نابليون نفسه بتسامح غير مألوف في التاريخ. ولسوء الحظ أنه وصل إلى السلطة في وقت تدهورت فيه صحته وعانى عقله ونفسيته من إفراطه في الطعام والشراب وقد مهد للمفاوضات مع فرنسا بأسلوب رشيق بأن أرسل إلى تاليران (16 فبراير 1806) أن بريطانيًا وطنيًا أتى إلى وزارة الخارجية بخطة لاغتيال نابليون وأضاف مؤكدًا أن هذا المهرج موضوع الآن تحت مراقبة صارمة. وقدر الإمبراطور (نابليون) هذه اللفتة لكنه (أي الإمبراطور) كان معجبًا بنفسه يتيه فخرًا بانتصاره على النمسا، كما كانت بريطانيا شامخة الأنف لانتصار قائدها نلسون في الطرف الأغر، وبالتالي كان كل طرف من الطرفين غير مستعد لتقديم التنازلات اللازمة لعملية السَّلام. وقد حقق فوكس نجاحًا أفضل فيما يتعلق باقتراحه الذي قدمه للبرلمان لإنهاء تجارة الرقيق بعد جيل من الجهود التي بذلها في هذا الصدد وِلْبَرفُورس ومئات آخرون، إذ صدر قانون بتحريم هذه التجارة في مارس سنة 1807 وقبيل هذا التاريخ مات فوكس (13 سبتمبر 1806) في السابقة والخمسين وتردت السياسة البريطانية في جمود (قصور ذاتي) على أمل.
وعلى أية حال فهذه العبارة الأخيرة تكاد تكون مناسبة تمامًا لوصف الأشخاص المهيمنين في وزارة وليم كافندش بنتينك William Cavendish Bentinck دوق بورتلاند (1807 - 1809). وأرسل جورج كاننج وزير الخارجية أسطولًا لقذف كوبنهاجن (1807)، وأرسل
روبرت ستيورات (فيكونت كاستلريج Castleragh وزير الحرب حملة مشؤومة إلى والشرن Walcheren في محاولة للاستيلاء على أنتورب Antwerp (1809) ودخل الوزيران في نزاع وراح كل واحد منهما يتعدى اختصاصه إلى اختصاص الآخر فاستقالت حكومة بورتلاند.
وكان سبنسر بيرسيفال Spencer Perceval كوزير (1809 - 1812) سيئ الحظ بشكل مضاعف لرؤيته بريطانيا في الحضيض أكثر من أي وقت مضى في القرن التاسع عشر، كما أنه مات قتيلًا، وقبيل خريف سنة 1810 كان الحصار القاري الذي فرضه نابليون قد أضر ضررًا بليغًا بالصناعة والتجارة في بريطانيا فبلغ عدد العاطلين بالآلاف وكان الملايين على شفا الإملاق وأدى عدم الاستقرار إلى اندلاع العنف وبدأ النساجون (اللوديت) في تحطيم الآلات في سنة 1811. وفي الوقت الذي بلغت فيه الصادرات البريطانية لأوروبا الشمالية 7.700.000 جنيه إسترليني وجدناها تنخفض في سنة 1811 إلى 1،500،000 جنيه استرليني (23). وفي سنة 1811 كانت إنجلترا قد تورطت في الحرب الثانية مع أمريكا، وكان من بين نتائج هذا أن تدنّت صادراتها للولايات المتحدة من 11،300،000 جنيه إسترليني في سنة 1810 الي 1،780،000 جنيه إسترليني في سنة 1811. وفي هذه الأثناء زادت وطأة الضرائب على كاهل كل بريطاني وقبيل سنة 1814 أصبحت هذه الضرائب تهدد بانهيار النظام المالي البريطاني وقيمة العملة المالية البريطانية في الخارج وصرخ البريطانيون الجوعى مطالبين بتخفيض الرسوم الجمركية على واردات الحبوب من الخارج، وعارض الزراع هذه المطالب مخافة أن تقل أسعار منتجاتهم. وعمل نابليون على تخفيف الأزمة في بريطانيا (1810 - 1811) بأن راح يبيع تراخيص تصدير الحبوب الفرنسية لمنتجيها فقد كان في حاجة للأموال نقدًا لتمويل تكاليف معاركه. وعندما انطلق جيشه الكبير قاصدًا روسيا في سنة 1812 كانت إنجلترا تعلم أن انتصار نابليون يعني مزيدًا من إحكام إقفال كل الموانئ الأوروبية في وجه البضائع البريطانية كما يعني مزيدًا من سيطرة نابليون على سفن الشحن المتجهة إلى بريطانيا. لقد كانت إنجلترا كلها تراقب ما يجري وهي في حالة فزع، إلا الملك جورج الثالث فإنه لم يكن واعيًا بهذه
الأحداث بعد أن استغرق في صممه وعماه وخبله، وكان موت ابنته الحبيبة أميليا Amelia (نوفمبر 1810) آخر سهم نزعه من كل رابط بين عقله والواقع الذي يجري. إنه الآن يفضل الحياة في عالم من صنعه ليس فيه مستعمرات متمردة ولا أنصار لنابليون يقتلون ولا وزراء على شاكلة فوكس. ولابد أنه وجد بعض الترضية في هذه الحال وإلا لما تحسنت صحته ولما عاش بعد هذه الأحداث عشر سنوات أخرى، وكان يتحدث بابتهاج دون مراعاة منطق أو قواعد في جو من الراحة محاطًا بكل الخدمات، وزادت شعبيته مع زيادة مرضه وأشفق عليه شعبه. وفي 11 مايو 1812 أطلق سمسار مفلس النار على رئيس الوزراء بيرسيفال في ردهة مجلس العموم، وهذا السمسار المفلس هو جون بلنجهام كان قد شعر أن مشروعاته التجارية قد لحقها الدمار بسبب سياسات الحكومة. وفي يونيو تم تشكيل مجلس وزراء جديد برئاسة الإيرل ليفربول استمر حتى سنة 1827 وكان استمراره كمعجزة أتاحتها الظروف، وفي هذا الشهر نفسه أعلنت الولايات المتحدة الحرب على إنجلترا وعبر نابليون بجنوده البالغين 500،000 (نصف مليون) النيمن Niemen في روسيا.