المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكتاب الرَّابع   THE CHALLENGED KINGS - قصة الحضارة - جـ ٤٦

[ول ديورانت]

فهرس الكتاب

الكتاب الرَّابع

THE CHALLENGED KINGS

ص: 1

‌ملوك أوربا في مُواجهة التحدّي

من 1789 - إلى 1812

‌مقدمة الترجمة العربية

يتناول هذا الكتاب: كيف واجه ملوك أوربا خطر الثورة الفرنسية ونابليون؟ لم يكن هذا في رأي مؤلفي هذا الكتاب (ول ديورانت وزوجته) بالحرب فقط، فالحروب كما يقول لنا المؤلفان هي الألعاب النارية في التاريخ (راجع الفصل 26)، وإنما كان في الأساس - وببساطة - بأن نقلوا إلى بلادهم ما وجدوه حسناً متمشيا مع روح العصر في هذه الثورة الفرنسية. لقد أخذوا بشيء كثير من التنظيمات النابليونية والقوانين النابليونية، بل لقد أخذوا من الدستور الفرنسي (راجع على سبيل المثال الفصل الخاص بالإمبراطورية الروسية، خاصة القسم المتعلق بالإمبراطور اسكندر) واتخذوا خطوات للقضاء التدريجي على الإقطاع بإتاحة ملكية الأرض لكل أبناء الوطن الواحد كخطوة تمهيدية ليصبح الجميع ملاكا (راجع على سبيل المثال جهود شتاين Stein في الفصل الخاص بألمانيا)، ورغم أنهم راحوا يركزون على الدين ويحمون الكنائس التقليدية في بلادهم كأداةٍ جماهيرية فعّالة في مواجهة الملحد نابليون - على حد قولهم،

إلا أنهم أيضاً وجدوا من الحكمة أن يأخذوا بما طبَّقه نابليون من حرية اعتقاد للأقليات الدينية بل وحماية المنشقين عن الكنيسة الرسمية شريطة ألا يهددوا الأمن العام، بل وإعطائهم معظم حقوق المواطنين العاديين (كما حدث في روسيا وألمانيا والنمسا) وإن تقاعست أسبانيا والبرتغال عن هذه الخطوة لأسباب تاريخية. بعد أن اتخذ ملوك أوربا هذه الإصلاحات أتى دور الألعاب النارية التي حقق فيها ملوك أوربا النصر العسكري على نابليون، بعد أن كانت تحالفاتهم ضدّه.

قد فشلت تحالفاً إثر تحالف. وبذلك جنت شعوب أوربا كلها ما في الثورة الفرنسية من جوانب إيجابية وتحاشت سلبياتها التي اكتوت بنارها فرنسا من حروب داخلية، وصراع طبقي دام ومقصلة جزّت من الرؤوس أكثر مما جز أي سلطان عثماني كما يقول المؤلفان في معرض تقويمهما الحصيف للدولة العثمانية. ولم تكن هذه أول حالة في التاريخ ينتصر فيها المهزوم انتصاراً حضاريا على هازميه، فالمؤرخ الأمريكي روم لاندو يذكر لنا أن المغول بعد أن اجتاحوا العالم الإسلامي، بل ودمروه، اعتنقوا دين ضحاياهم الأرقى حضارة وفكرا وأخذوا بمؤسساتهم

ص: 5

ونظمهم بل وراحوا يعمّرون ما سبق لهم تدميره. إننا هنا إزاء حالة انتصرت فيها الحضارة الإسلامية رغم هزيمة المسلمين. القول نفسه ينطبق شيئا ما على الثورة الفرنسية ونابليون، لقد خرجت جيوش نابليون من أوربا لكن بقيت المدوّنة القانونية النابليونية. خرجت جيوش نابليون لكن خرجت معها محاكم التفتيش وتقلصت سلطة الباباوات ولم تعد أبداً كما كانت.

في الفصل الخامس والعشرين يظهر لنا المؤلفان أن حركة تحرير المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في العالم الجديد، بدأت بسبب إنهاك نابليون للدولتين المستعمرتين: إسبانيا والبرتغال، وفي الفصل السادس والعشرين يبين لنا أن الجذور التاريخية لحركة الوحدة الإيطالية بعد ذلك - إنما تعود لجهود نابليون في توحيد إيطاليا تحت سلطانه، وفي الفصل التاسع والعشرين يرى المؤلفان أن تكوين نابليون لكونفدرالية الرّاين، وإثارته حفيظة الشعوب الألمانية كان هو الأساس التاريخي لقيام الوحدة الألمانية بعد ذلك.

والطريف أن المؤلفين يركزان هنا على ما سبق أن ألمحنا إليه في مقدمة المجلد الثالث، وهو أن المسيحية في أوربا أصبحت غطاء للم الشمل أكثر منها عقيدة محكمة، بعد أن تعرض شرق أوربا للاجتياح العثماني. إنه يقول لنا إن معظم رجال الدين البروتستنت في بروسيا كانوا يرون المسيح رجلا محبوبا أو بتعبير آخر مثله كمثل آدم، وإنهم رغم إيمانهم بهذه الحقيقة فإنهم لم يكونوا يصرحون بها (الفصل الثلاثون)، وكان بيتهوفن يقرأ الشعر الفارسي (الفصل 28)، ولم يرد أبداً في أحاديثه أو كتاباته أية إشارة للمسيح كرب (الفصل 28) وإنما تحدث وهو غير بعيد عن الموت عن الواحد القدوس (الفصل 28) وكان يعتبر الارتباط بزوجة رجل آخر زنا، ولم يتسامح أبداً مع زوجة أخيه عندما زنت، وظل يقاضيها لينزع منها حضانة ابن أخيه لأن الزانية لا تصلح لحضانة ابن أخيه ..

وكان المؤلف قد علل في الفصل السادس والعشرين اهتزاز العقيدة المسيحية بتقدم العلم، فكلما ظهرت الحقائق العلمية انهارت الكنيسة أو تقهقر الإيمان المسيحي

وبينما كان بيتهوفن

ص: 6

يحتضر أشاروا عليه بإحضار القس فوافق وبعد أن انتهى القس من طقوسه قال بيتهوفن: انتهت المهزلة أو المسخرة أو الملهاة (كوميديا فينيتا) ورجح المؤلفان أن بتهوفن كان يقصد انتهت الحياة، ولا يقصد طقوس القس، ويبقى هذا - على أية حال - استنتاجاً قابلاً للجدل.

وقد وصف أحد أصدقاء بيتهوفن الرجل بأنه مثل (المور Moor) إشارة إلى هيئته الغريبة وعدم وسامته لكن هذا لا يمنعنا في ضوء ما سبق من استنتاجات أخرى، لكن بيتهوفن على أية حال كان يعترف بأنه غير وسيم، فقد كتب لأحدهم طالبا منه أن يبحث له عن عروس شريطة أن تكون جميلة، فمن غير المعقول أن أحب أي شيء غير جميل، وإلا لكنت قد أحببت نفسي وعتب بيتهوفن على خالقه بأسلوب غير مهذب لأنه خلقه بهذا الوجه النكد. على أية حال فقد كان أحد أسباب سخط بيتهوفن على نابليون أن هذا الأخير عقد اتفاقا (كونكورد) مع الكنيسة. هذا المجلد إذن كالمجلدات السابقة غاص بالتحليلات الجديدة، والعرض الطيب لهذه المرحلة التاريخية المهمة. وعلى الله قصد السبيل.

د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ

ص: 7

الفصل الخامس والعشرون

‌أيبيريا

Iberia

‌1 - البرتغال:

من 1789 إلى 1808 م

وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى البرتغال التي كانت تناضل للعودة إلى نظم العصور الوسطى المحافظة بعد المحاولة العنيفة المخزية التي قام بها الماركيز دي بومبال Marquis de Pombal لجعل البرتغال تابعة في ثقافتها وقوانينها لفرنسا لويس الخامس عشر، وإسبانيا تشارلز الثالث. وكانت جبال البرانس تعوق تدفق الأفكار من فرنسا إلى شبه الجزيرة الأيبيرية. وكان يحول بين انتقال الأفكار من إسبانيا إلى البرتغال شغف إسبانيا وتوقها المتكرر لابتلاع أختها الصغرى (البرتغال)، وكان ممثلو محاكم التفتيش طوال قرنين يبدون كأسود على بوابة قصر يصدون أية كلمة وأية فكرة تشكك في العقيدة الدينية القديمة أو تضعها موضع تساؤل.

وفي أدنى السلم الاجتماعي كان هناك حرس آخر يحمي الماضي ويدافع عنه: العوام البسطاء الذين كانوا في غالبهم يجهلون القراءة والكتابة - الفلاحون والحرفيون والعمال والجنود، فقد كانت هذه الطوائف قد أنست إلى عقائدها المتوارثة وارتاحت إلى ما بها من أساطير، واعترتها الخشية لما بها من معجزات وتفاعلت بتقوى شديدة مع طقوسها.

وفي أعلى السلم الاجتماعي كان البارونات الإقطاعيون هم ملاك الأرض الذين يتصرفون بشكل نموذجي على وفق ما هو مطلوب في عصرهم، وكانت الملكة ماريا فرانسيسكا Maria Francisca الرعديدة الواهنة العقل، وابنها جون الوصي على العرش (1799) والذي أصبح ملكا (1816 - 1826)، يعتمدان على الكنيسة كأداة للحماية، وكوسيلة لا بد منها لدعم أخلاق الأفراد، وضبط النظام الاجتماعي ومؤازرة الملكية المقدسة ذات الحق الإلهي والسلطة المطلقة ووسط كل هذا الحرس المدافع عن القديم، كانت هناك قلة قلية - الدارسون

ص: 9

والماسونيون Freemasons والعلماء والشعراء ورجال الأعمال، وقلة من الموظفين، بل وواحد من النبلاء أو اثنان - يزعجها الحكم المطلق الذي ورثته البلاد عن الماضي، وكان أفراد هذه القلة يغازلون الفلسفة ويحلمون بحكومة تمثيل نيابي، ويحلمون بحرية التجارة وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية الفكر، ويحلمون بمشاركة فعالة متجاوبة مع فكر العالم.

وأتت أخبار الثورة الفرنسية لتسبب البهجة لتلك القلة المرتعدة، ولتسبب الرعب لذوي المقامات الرفيعة ومحاكم التفتيش، وعبَّر غير المتحفظين عن فرحتهم بشكل ينم عن الطيش، واحتفت المحافل الماسونية في البرتغال بهذا الحدث (الثورة الفرنسية) وهلل السفير البرتغالي في باريس للجمعية الوطنية الفرنسية، وربما كان قد قرأ كتابات روسو أو سمع خطب ميرابو Mirabeau، وسمح وزير الشئون الخارجية في البرتغال للجريدة الرسمية بنشر تحية لسقوط سجن الباستيل، وراح أصحاب المكتبات الفرنسيون في البرتغال يبيعون نسخاً من دستور 1791.

لكن عندما عزل ثوار باريس الملك لويس السادس عشر أحست الملكة ماريا أن عرشها يهتز وسلمت الحكم لابنها. وانقض جون الرابع (كما سيصبح اسمه فيما بعد) بشراسة على الليبراليين في البرتغال، فشجع مدير شرطتة على ملاحقة كل ماسوني، وكل أجنبي ذي شأن، وكل كاتب يدعو للإصلاح السياسي، بالقبض عليهم، أو نفيهم أو مراقبتهم بشكل دائم. وجرى سجن فرانسيسكو دا سيلفا Francisco da Silva زعيم الليبراليين، وجرى إبعاد النبلاء الليبراليين عن البلاط. وسجن مانويل دى بوكيج Manuel du Bocage (1765 - 1805) الشاعر البرتغالي الرائد في عصره الذي كان قد كتب قصائد sonnet (سونيتات) قوية ضد الطغيان وسجن في 1797، فراح يستغل وقت فراغه في السجن في ترجمة أوفيد Ovid وفرجيل Virgil.

وفي سنة 1793 حذت البرتغال حذو إسبانيا فشنت حربا مقدسة على فرنسا بأن أرسلت أسطولا صغيرا لينضم إلى الأسطول البريطاني في البحر المتوسط، والحقيقة أن تصرف البرتغال على هذا النحو كان يعبر عن استيائها الشديد من إعدام الملك الفرنسي لويس السادس عشر لكن سرعان ما سعت إسبانيا لعقد سلام منفرد مع فرنسا (1795) فطلبت البرتغال من فرنسا تسوية العلاقات بينهما على النحو نفسه، لكن فرنسا رفضت بحجة أن

ص: 10

البرتغال هي في الواقع مستعمرة لإنجلترا وحليفة لها، واستعر النزاع حتى استطاع نابليون أن يطول هذه الدولة الصغيرة التي كانت ترفض الانضمام إلى جهوده لإغلاق القارة الأوربية في وجه البضائع البريطانية والنفوذ البريطاني (الحصار الفرنسي المضاد)، ولم يتمكن نابليون من وضع البرتغال في محور اهتمامه إلا بعد أن كان قد فتح نصف أوربا.

وكانت البنية الاقتصادية البرتغالية غير الراسخة كامنة وراء أوضاعها العسكرية والسياسية، فكما كان الحال في إسبانيا كانت ثروة البرتغال تقوم على جلب المعادن النفيسة من مستعمراتها. وكانت هذه المجلوبات من ذهب وفضة تذهب لقاء المواد التي تستوردها البرتغال لإضفاء مظهر براق زائف على العرش وزيادة غنى الغني، وشراء الرفاهية والعبيد. ولم تكن هناك طبقة وسطى نامية لتطوير الموارد الطبيعية بزراعة متقدمة وصناعة تقوم على التكنولوجيا. وعندما أصبحت السيادة على البحار لإنجلترا أصبح وصول إمدادات الذهب للبرتغال متوقفا على إمكانية الإفلات من الأساطيل البريطانية، أو إمكانية عقد اتفاقات مع الحكومة البريطانية.

واختارت إسبانيا طريق الحرب وكادت تستنفد مواردها في بناء أسطول ممتاز في كل شيء خلا طاقم بحارته والروح المعنوية لقادته وجنوده، فعندما انضم هذا الأسطول الإسباني - على مضض - للأسطول الفرنسي، حاقت به الهزيمة في معركة الطرف الأغرّ، فأصبحت إسبانيا معتمدة على فرنسا، أما البرتغال فأصبحت معتمدة على إنجلترا مخافة أن تبتلعها أسبانيا أو فرنسا، فراح المغامرون الإنجليز يشغلون مناصب مهمة في البرتغال وراح آخرون منهم يقيمون فيها المصانع أو يتولون إدارة المصانع البرتغالية، وهيمنت البضائع البريطانية على تجارة الواردات البرتغالية ووافق البريتون Britons على شرب نبيذ الميناء من أوبورتو Oporto في البرتغال (الاسم أوبورتو يعنى ميناء port) .

لقد أسخط هذا الوضع نابليون واستثاره، إذ كان فيه التحدي لخطته القائمة على إجبار إنجلترا على قبول السلام بمنع بضائعها ومنتجاتها من دخول أسواق القارة الأوربية، ووجد نابليون في ذلك مبررا لغزو البرتغال، فالبرتغال إذا تم فتحها يمكنها أن تساهم مع فرنسا في إجبار إسبانيا على الارتباط بالسياسة الفرنسية، أو بتعبير آخر لا تجد لها فكاكا من الارتباط الدائم بفرنسا، وعندها يمكن لبونابرت آخر أن يتبوأ عرش إسبانيا.

وعلى هذا، فكما سبق

ص: 11

أن ذكرنا، حث نابليون الحكومة الإسبانية على الانضمام لفرنسا في غزو البرتغال، فهربت الأسرة المالكة البرتغالية في سفينة إنجليزية إلى البرازيل، وفي 30 نوفمبر سنة 1807 قاد جونو Junot جيشا فرنسيا إسبانيا إلى لشبونة، وكاد طريقة يكون خاليا من المقاومة، وتحلق الزعماء الليبراليون في البرتغال حول الحكومة الجديدة آملين أن يلحق نابليون بلادهم وأن يقيم فيها مؤسسات تمثيل نيابي. ولاطف جونو هؤلاء الرجال، وضحك منهم في سريرته، وأعلن في أو ل فبراير سنة 1808 انتهاء حكم أسرة براجانزا Braganza وراح هو نفسه يحكم قبضته، ويتصرف أكثر فأكثر كملك.

‌2 - إسبانيا:

1808 م

كانت إسبانيا لا تزال تعيش أجواء العصور الوسطى. لقد كانت دولة ذائبة في عشق الرب، تزدحم كاتدرائياتها المهيبة، ويقوم أبناؤها بالحج إلى المزارات المقدسة، دولة مكتظة برجال الدين، أنست إلى الغفران الذي تمنحه الكنيسة الكاثوليكية، تخشى محاكم التفتيش وتوقرها، وكان الأسبان يخرِّون ركعا سجدا في الطرقات عندما يمر أعضاء محاكم التفتيش في موكبهم المهيب. كما كان الأسبان يضعون في اعتبارهم قبل أي شيء آخر أن يكون الرب God حاضراً في كل بيت من بيوتهم يرعى أطفالهم ويحفظ عذرية بناتهم ويثيب في النهاية بالفردوس بعد اختبار مرهق اسمه الحياة.

وقد وجد جورج بورو George Borrow بعد ذلك بجيل "أن جهل الجماهير كان فظيعاً""على الأقل في ليون Leon لدرجة أن التمائم المطبوعة ضد الشيطان وأعوانه، والتمائم التي تبعد النحس، كانت تباع علناً في المحلات وكانت تلقى رواجا كبيرا" وقد انتهى نابليون الذي كان لا يزال ابنا لحركة التنوير إلى أن " دور الفلاحين الأسبان وإسهامهم في الحضارة الأوربية أقل حتى من دور الفلاحين الروس". لقد عبر نابليون عن ذلك بينما هو يوقع الكونكوردات concordats (الوفاق) مع الكنيسة الكاثوليكية. ومع هذا فقد كان الفلاح الإسباني - كما شهد لورد بايرون يستطيع " أن يكون فخورا معتزا بنفسه كأكثر الدوقات نبالة".

وكاد يكون التعليم مقصورا على البورجوازية والنبلاء. وكانت معرفة القراءة والكتابة

ص: 12

تمثل حداً فاصلا، فحتى الهيدالجوات hidalgos (من طبقة النبلاء الدنيا) قلما كان الواحد منهم يستطيع قراءة كتاب. وكانت الطبقة الحاكمة تتخوف من الطباعة، وعلى أية حال لم يكن محو الأمية مطلوبا في ظل الاقتصاد الإسباني الموجود آنئذ. وكانت بعض المدن التجارية مثل قادش Cadiz وأشبيلية مزدهرة، وقد اعتبر اللورد بايرون قادش " أجمل مدن أوربا" في سنة 1809. وكانت هناك بعض المراكز الصناعية المزدهرة، فقد ظلت توليدو Toledo مشهورة بسيوفها لكن طبيعة البلاد الجبلية الوعرة لم تجعل غير ثلثها فقط هو الذي يمكن زراعته بمردود اقتصادي، وكانت الطرق والقنوات (الترع) قليلة جدا، ووعرة وتنقصها الصيانة كما كان المرور فيها يستلزم رسوما تفرضها الولايات أو السيد الإقطاعي، لدرجة أن الناس وجدوا أنه من الأرخص استيراد القمح من إنتاجه محليا.

لقد راح الفلاحون - وقد أوهنت التربة التي لا تصلح للزراعة إلا بشق النفس - من عزائهم راحوا يفخرون بحياة البطالة الواضحة بدلاً من انتظار نتائج الكدح في تربة ليس نتاجها مؤكدا. ووجد أهل المدن سعادتهم في تهريب البضائع أكثر مما وجدوها في العمل الذي لا يتقاضون لقاءه أجوراً مجزية. وكان يجثم فوق أنفاس الحياة الاقتصادية ضرائب تزداد أكثر مما يزداد الدخل وجهاز شرطة فاسد وطبقة موظفين متزايدة، وحكومة منحطة (فاسدة).

ورغم هذه الصعوبات فقد ظلت روح الأمة العالية، يشد أزرها تراث فرديناند وإيزابيلا، وفيليب الثاني، وتراث فيلاسكويز Velasquez وموريللو Murillo، ويشد أزرها زيادة ثروة الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين والشرق الأقصى، تلك الثروة الهائلة التي كانت إمكانية زيادتها أمراً متوقعا. وحقق الفن الإسباني شهرة ضارعت الفن الإيطالي والهولندي. لقد جمعت الأمة الإسبانية - الآن - كنوزها الفنية - رسماً ونحتا في متحف دل برادو Museo del Prado الذي شيده في مدريد (1785 - 1819) خوان دي فيلانوفا Juan de Villanueva ومعاونوه ومن أتوا بعده.

وفي هذا المتحف توجد الأعمال العظيمة الخالدة لسيد رسامي العصر فرانسيسكو جوز اي جويا Francisco Jose de Goya Y Lucientes (1746 - 1828) وقد

ص: 13

وصلتنا صورة لهذا الرسام رسمها له فيسنت لوبيزي بورتانا Vicente Lopez Y Portana وهي صورة تظهره عنيدا متصلباً مما يتوافق مع الروح المتجهمة التي أظهر فيها (في رسومه) الحرب بكل وحشيتها وقسوتها الدموية، ومما يتوافق مع رجل أحب بلاده لكنه في الوقت نفسه كان يحتقر ملكها. لقد انتعش الأدب الإسباني بفضل حافزين، أوّلهما الثقافة الكاثوليكية، وثانيهما التنوير الفرنسي، واستمر هذا الانتعاش حتى عندما استهلكت الحروب الأهلية والحروب الخارجية الأمة الإسبانية.

فالقس الجزويتي Jesuit (اليسوعي) خوان فرانسيسكو دي ماسدو Juan Francisco de Masdeu أصدر على مراحل بدءا من سنة 1783 إلى سنة 1805 كتابه المهم عن تاريخ الثقافة الإسبانية Historia Critica de Espana Y de la Cultura Espanola تناول فيه التاريخ بشكل تكاملي إذ خلط التاريخ الثقافي في سياق التاريخ الحضاري العام. وتلقى خوان أنتونيو لورنت Juan Antonio Llorente - الذي كان سكرتيرا عاما لمحكمة التفتيش الإسبانية (الكاثوليكية) من 1789 إلى 1801 - من جوزيف بونابرت (1809) تكليفا بكتابة تاريخ هذه المؤسسة (محكمة التفتيش)، ووجد خوان أن كتابة هذا التاريخ في باريس سيكون أكثر أمناً، فكتبه بالفرنسية في الفترة بين عامي 1817 و 1818.

ولم يكن ازدهار النثر والشعر الذي كان غرة في جبين عصر تشارلز الثالث قد ذبل تماما عند موته: فقد واصل جاسبار ملشور دي جوفيلانوس Gaspar Melchor de Jovellanos (1744 - 1811) دوره كصوت معبر عن الليبرالية في التعليم ونظم الحكم، وظل ليندرو فرناندز دي مورتين Leandro Fernandez de Mortain (1760 - 1828) يتسوّد على خشبة المسرح بمسرحياته الضاحكة (كوميدياته) التي ضمنت له لقب (موليير إسبانيا)، وخلال حرب التحرير (1808 - 1814) راح مانويل جوزي كوانتانا Manuel Jose Quintana والقس خوان نيكازيو جاليجو Juan Nicasio Gallego يفيضان أشعارا حماسية لتأجيج نيران الثورة على الفرنسيين.

لقد تأثر معظم الكتاب الأسبان الرواد بالأفكار الفرنسية سواء في مجال الفكر الخالص أو التحرر السياسي، لقد تفرنس هؤلاء الكتاب تماما كما تفرنس الماسونيون. حدث هذا رغم النضال الإسباني للتحرر من الاحتلال الفرنسي. لقد استنكروا إضعاف الملكية لمجالس الأقاليم (المحافظات) تلك المجالس المحلية التي كان لها دور في وقت من الأوقات في المحافظة

ص: 14

على أسبانيا حيّة في مختلف أنحائها. لقد هلّلوا للثورة الفرنسية ورحّبوا بنابليون كمتحدٍ يدفع اسبانيا لتخليص نفسها من الارستقراطية الإقطاعية والكنيسة ذات الصبغة الوسيطية (كنيسة العصور الوسطى) والحكومة التي لا تتسم بالكفاءة. ولندع مؤرخا أسبانيا متمكنا يقدم لنا لحنا جنائزيا حزينا ومتسما بالقوة يتناول فيه الأسرة الحاكمة الإسبانية المحتضرة:

"في سنة 1808، وعندما كانت أسرة البوربون Bourbon الحاكمة في فرنسا تسير نحو الهاوية - يمكننا أن نلخص الوضع السياسي والاجتماعي في أسبانيا كالتالي: أرستقراطية فقدت احترامها للملوك، فقد كان رجال الحاشية على نحو خاص لا يوقرون ملوكهم. وسياسات فاسدة يقوم عليها سياسيون تحركهم العداوات الشخصية، ويملأهم الخوف والتردد. وكانت الطبقات العليا تعوزها الوطنية لا يحركها سوى الجشع والهوى. وكانت الآمال المحمومة للجماهير تتحلق حول أمير (هو فرديناند) أثبت بالفعل أنه حقود يميل للانتقام وأنه أمير زائف. وأخيرا ظهر التأثير العميق في دوائر الأدب والفكر، لأفكار الموسوعيين (Encyclopedists) الفرنسيين والثورة الفرنسية".

وقد وصفنا في فصل سابق انهيار العرش الإسباني وتفسخه من وجهة نظر نابليون: لقد سمح تشارلز الرابع (حكم من 1788 إلى 1808) لزوجته ماريا لويزا Luisa وعشيقها جودوي Godoy أن يسلباه صلاحيات الحكم، وراح الأمير فرديناند الوريث الظاهر يناور لعزل أبيه، وحارب أنصار جودوي أنصار الأمير فرديناند، وغرقت مدريد وما حولها في حالة من الفوضى. ووجد نابليون في هذه الفوضى فرصة لضم كل شبه الجزيرة الأيبيرية للحكم الفرنسي ليحكم بها الحصار القاري (المضاد) في وجه البضائع والنفوذ البريطانيين.

لقد أرسل نابليون مورا Murat والجيش الفرنسي الثاني إلى أسبانيا بتعليمات مؤداها إعادة النظام إلى أسبانيا. ودخل مورا Murat مدريد (23 مارس 1808) وقمع العصيان المسلح المعروف بعصيان الثاني من مايو historic Dos de Mayo. وفي هذه الأثناء دعا نابليون كلاً من تشارلز الرابع وفرديناند للالتقاء به في بايون Bayonne في فرنسا بالقرب من الحدود الإسبانية. وأرهب نابليون الأمير وأجبره على إعادة العرش لوالده، ثم حث نابليون الأب على التنازل عن العرش لصالح من يعينه هو (أي يعينه نابليون) ووعد نابليون بالاعتراف

ص: 15

بالكاثوليكية كدين رسمي وحمايتها كدين وطني لأسبانيا.

وأمر نابليون أخاه جوزيف بالقدوم ليكون ملكاً على أسبانيا. ولم يكن جوزيف راغباً في القدوم لكنه أتى على مضض وتسلم من نابليون دستورا جديدا لأسبانيا منح فيه الأسبان كثيرا مما كان يطمح إليه الليبراليون الأسبان، لكنه - أي الدستور - طلب منهم أن يكونوا على علاقة طيبة بالكنيسة. وتولى جوزيف مهامه الجديدة غير سعيد بها، وعاد نابليون إلى باريس سعيدا بابتلاع أسبانيا غير واضع في اعتباره الجماهير الإسبانية وولينجتون Wellington .

‌3 - آرثر ويلزلي

ARTHUR WELLESLEY: 1769 - 1807

حتى سنة 1809 لم يحمل اسم ولينجتون، فحتى سنة 1798 كان اسمه ويزلي Wesley رغم أنه كان بعيدا عن الويزلية (أو الميثودية أو المنهجية Methodism) . ولد في دبلن Dublin في أول مايو سنة 1769 (قبل مولد نابليون بمائة يوم وخمسة أيام) وكان هو الابن الخامس لجاريت ويزلي Garret Wesley الإيرل الأول لمورننجتون Mornington مالك مزرعة وعقار إلى الشمال من العاصمة الأيرلندية. وجرى إرساله إلى إتون Eton وهو في الثانية عشرة من عمره لكنه دعي للعودة إلى منزله بعد ثلاثة أعوام غير مجيدة.

وليس هناك ما يشير إلى أنه كان متفوقاً في الرياضة إذ كان حاله فيها كحاله في الدراسة، وفي وقت لاحق شكك في صحة المقولة التي لا نعرف قائلها والتي مؤداها أن معركة واترلو Waterloo ما كانت ليحقق فيها البريطانيون نصرا لولا ما كان يجري في ملاعب إتون Eton لقد كانت أمه حزينة تردد دائما قولها إنني ألجأ إلى الله لأعرف ما سأفعله مع ابني آرثر غير البارع لكل هذا فقد تم إلحاقه بالجيش فجرى إرساله وهو في السابعة عشرة من عمره إلى الأكاديمية الملكية في أنجرز Academei Royale de l'Equitation at Angers حيث كان أبناء النبلاء يتعلمون الرياضيات وشيئا من العلوم الإنسانية ويتلقون كثيرا من التدريبات على ركوب الخيل والمبارزة وهي أمور لازمة للضباط. وعندما فاز بجوائزه - بفضل نفوذ أسرته أو مقابل دفع الأموال - تم تعيينه معاوناً للورد ليفتنانت أيرلندا كما شغل مقعداً في مجلس العموم في أيرلندا ممثلاً لمدينة تريم Trim.

وفي سنة 1799 أصبح ليفتنانت كولونيل lieutenant colonel وقاد ثلاث كتائب

ص: 16

لغزو الفلاندرز Flanders وعاد من هذه المغامرة غير الناجحة مشمئزاً من الحرب ممرغاً في الوحل متهما بعدم الكفاءة حتى إنه فكر في ترك الجيش والانخراط في الحياة المدنية. لقد كان يفضل الكمان على الثكنات العسكرية وكان يعاني آلاما متلاحقة، وكان من رأي أخيه مور ننجتون Mornington أن أحداً لا يجب أن يتوقع منه الكثير لنقص كفاءته وقد رسمه جون هوبنر Hoppner في صورة تظهره وهو في السادسة والعشرين بعينين كعيني شاعر، وبوسامة كوسامة بايرون.

وقد رشح - مثل بايرون - للزواج من ليدي نبيلة رفضت الاقتران به. وفي سنة 1796 ذهب إلى الهند كولونيلاً تحت قيادة أخيه ريتشارد الذي هو الآن (في هذه الفترة) المركيز ويلزلي وأصبح حاكما لمدراس Madras ثم البنغال، وضم بعض الإمارات الهندية للإمبراطورية البريطانية. لقد أحرز آرثر ويلزلي Arthur Wellesley (كما أصبح دوق المستقبل يكتب اسمه) بعض الانتصارات الباهرة في هذه المعارك في الهند، ومنح لقب فارس في سنة 1804.

وعندما عاد إلى إنجلترا ضمن لنفسه مقعدا في البرلمان البريطاني وتقدم مرة أخرى لطلب يد كاثي باكنهام Cathey Pakenham فقبلته (1806) فعاش معها غير سعيد حتى تعلم كل منهما العيش بمعزل عن الآخر، وقد أنجب منها طفلين.

وواصل الترقي من منصب إلى آخر، ولم يكن هذا بتقديم الرشا وإنما كان في الأساس لشهرته بالتحليلات الدقيقة والإنجازات المتسمة بالكفاءة. وقد وصفه وليم بت Pitt قرب موته بأنه رجل يضع في اعتباره كل الصعوبات قبل القيام بمهمة فلا يبقى من هذه الصعوبات شيء بعد إتمام المهمة وفي سنة 1807 أصبح وزيرا أول لشؤون أيرلندا في وزارة دوق بورتلاند، وفي سنة 1808 أصبح ليفتنانت جنرال، وفي شهر يوليو من العام نفسه عهد إليه بقيادة 13500 مقاتل لطرد جونو Junot والفرنسيين من البرتغال.

وفي أول أغسطس رسا برجاله في ساحل خليج مونديجو Mondego إلى الشمال من لشبونة بمائة ميل.

وانضم إليه هناك نحو 5،000 برتغالي، ووصله خطاب من وزارة الحرب تعده فيه بإمداده

ص: 17

بمحاربين آخرين عددهم 15،000 في أقرب وقت، لكن الخطاب أضاف أن السير هيو دالريمبل Hew Dalrymple البالغ من العمر ثمانية وخمسين عاما سيكون على رأس هذا المدد وسيتولى القيادة العليا للحملة كلها، ولكن ويلزلي كان قد وضع خططه بالفعل ولم يكن سعيدا بالعمل تحت قيادة قائد آخر، فقرر ألا ينتظر وصول المدد المكون من 15،000 مقاتل، فاتجه شمالا على رأس رجاله البالغ عددهم 18،500 ليخوض المعركة التي ستحدد مصير جونو ومصيره (أي مصير ويلزلي)،

وكان جونو قد سمح لرجاله بالانغماس في اللهو بكل أنواعه في العاصمة، وكان على رأس 13،000 مقاتل، فقبل التحدي لكنه عانى هزيمة منكرة في فيميرو Vimeiro بالقرب من لشبونة (21 أغسطس 1808). ووصل دالريمبل بعد المعركة فتولى القيادة، وأوقف مواصلة زحف القوات البريطانية ورتب مع جونو اتفاق سنترا Cintra (3 سبتمبر) يسلم بمقتضاه كل المدن والحصون التي كان الفرنسيون قد استولوا عليها في البرتغال، على أن ينسحب بمن بقي من رجاله بأمان، ووافق البريطانيون على تقديم سفنهم لنقل الراغبين في العودة إلى فرنسا، ووقع ويلزلي الوثيقة شاعراً أن تحرير البرتغال بمعركة واحدة أمر يستحق من بريطانيا بعض الرضا.

واتفاق سنترا هذا هو الاتفاق الذي وافق الشاعران وردزورث Wordsworth ولورد بايرون Byron على أنه غباء لا يصدق (وإن كانا لم يرددا هذا الرأي بعد ذلك إلا نادرا) فهؤلاء المقاتلون الفرنسيون الذين تم إطلاق سراحهم سرعان ما سيجندون مرة أخرى لمحاربة بريطانيا وحلفائها. وتم استدعاء ويلزلي إلى لندن لاستجوابه، فذهب غير آسف تماما فهو لم يكن راغبا في الخدمة تحت قيادة دالريمبل وكان يكره الحرب بالفعل. لقد قال بعد أن حقق انتصارات كثيرة:"اسمع رأيي عن الحرب: إنك إن خضت الحرب ولو ليوم واحد فستدعو الله القدير ألا تشهدها ولو لساعة واحدة مرة أخرى". ويبدو أنه أقنع محاكميه أن اتفاق سنترا قد أنقذ حياة الآلاف من البريطانيين وحلفائهم بمنع القوات الفرنسية من إبداء المزيد من المقاومة. وبعد ذلك عاد إلى أيرلندا منتظراً فرصة أفضل لخدمة بلاده واسمه ذي السمعة الطيبة.

ص: 18

‌4 - حرب شبه الجزيرة الأيبيرية:

الحرب الثالثة من 1808 إلى 1812 م

لقد كان ملك أسبانيا جوزيف بونابرت في اضطراب لا مزيد عليه. لقد عمل على اكتساب قبول واسع أكثر من القبول الذي حباه به بعض الليبراليين. وكان الليبراليون يؤيدون إجراءات المصادرة ضد الكنيسة الثرية ولكن جوزيف الذي كان يعاني من شهرته كلا أدري agnostic (اللا أدري هو الموقن بأن الأمور غير المادية يصعب الوصول إليها باليقين الإيماني) كان يدرك أن أي تصرف منه ضد رجال الدين clergy سيسارع يإشعال نيران المقاومة ضد الحكم الأجنبي (الفرنسي) وكانت الجيوش الإسبانية التي هزمها نابليون قد جرى تشكيلها من جديد في مناطق أسبانية متفرقة، حقيقة أنها لم تكن منظمة منضبطة، لكنها كانت متحمسة.

واستمرت حرب العصابات التي يشنها الفلاحون ضد مغتصبي العرش كل عام في الفترة ما بين موسم البذر وموسم الحصاد، وكان يتحتم على الجيش الفرنسي في أسبانيا أن يقسم نفسه إلى قوات متفرقة يقودها جنرالات متحاسدون يخوضون معارك في جو من الفوضى وعدم الانضباط أعجز جهود نابليون للتنسيق بينهم من مقره في باريس. قال كارل ماركس لقد تعلم نابليون درساً مفاده أنه:

"إذا كانت الدولة الإسبانية قد ماتت، فإن المجتمع الإسباني لا يزال مفعما بالحياة وأن كل جانب منه يفيض رغبة في المقاومة .. لقد كان محور المقاومة الإسبانية في كل مكان وليس في مكان واحد".

وبعد انهيار الجيش الفرنسي الرئيسي في بيلن Bailen انضم الجانب الرئيس من الأرستقراطية الإسبانية إلى الثورة وبذلك حولوا الكراهية الشعبية التي كانت موجهة إليهم إلى الغزاة. وكان للتأييد الفعال الذي قدمه رجال الدين الأسبان للثورة أثره المهم في تحويل الحركة عن الأفكار الليبرالية، بل لقد حدث العكس فقد أدى نجاح حرب التحرير الإسبانية إلى تقوية الكنيسة ومحاكم التفتيش. ومع هذا فقد ظلت بعض العناصر الليبرالية موجودة في المجالس السياسية Juntas في المديريات (الولايات) الإسبانية المختلفة،

وكانت هذه المجالس ترسل ممثلين عنها للمجلس الرئيسي (على مستوى الوطن كله) في قادش Cadiz، وكان هؤلاء يكتبون دستورا جديدا. لقد كانت شبه الجزيرة الأيبيرية مفعمة بالعصيان المسلح والآمال والإيمان الكاثوليكي، بينما كان جوزيف بونابرت يتطلع إلى نابلي، في حين كان نابليون يحارب النمسا وكان ويلزلي Wellesley

ص: 19

(ولينجتون) يستعد لينقض مرة ثانية من إنجلترا ليساعد في عودة أسبانيا إلى ما كانت عليه في العصور الوسطى، مع أنه هو نفسه (ويلزلي) كان رجلا عصريا بكل معنى الكلمة.

وكان السير جون مور John Moore - قبل موته في كورونا Corunna (16 يناير 1809) قد نصح الحكومة البريطانية ألا تقوم بمحاولات أخرى للسيطرة على البرتغال، فقد كان يعتقد أن الفرنسيين سينفذون أوامر نابليون بضم البرتغال إلى فرنسا عاجلاً أم آجلا، كما كان يعتقد أن إنجلترا لن تجد وسيلة لنقل العدد الكافي من الجنود لمواجهة 100،000 جندي فرنسي موسمي في أسبانيا كما أنها لن تتمكن من تدبير المؤن اللازمة لجنودها. لكن السير آرثر ويلزلي كان قلقا في أيرلندا وأخبر وزير الحرب أنه إذا أتاح له قيادة عشرين ألف أو ثلاثين ألف جندي بريطاني ودعم وطني، فإنه يستطيع أن يحفظ البرتغال بعيدة عن قبضة أي جيش فرنسي لا يزيد عن 100،000 مقاتل، ووافقت الحكومة البريطانية وألزمته بكلماته، وفي 22 أبريل سنة 1809 وصل إلى لشبونة على رأس 25،000 بريطاني وصفهم في وقت لاحق بأنهم: "حثالة الأرض

ومجموعة من الأوغاد .. لا يمكن السيطرة عليهم إلا بالسياط، إذ إنهم لم يخلقوا إلا للسكر". لكنهم يستطيعون القتال بشراسة إذا لم يكن أمامهم سوى خيار واحد: إما أن يَقتلوا أو يُقتلوا.

وتحسبا لوصول ويلزلي وقواته، حرك المارشال سولت Soult 23،000 جندي فرنسي إلى أوبورتو Oporto وفي هذه الأثناء كان جيش فرنسي آخر بقيادة المارشال كلود فيكتور Claude Victor يتقدم من الغرب على طول التاجوس Tagus. وقرر ويلزلي - الذي كان قد درس معارك نابليون بدقة - أن يهاجم سولت Soult قبل أن يتمكن المارشلان من ضمّ قواتهما معاً لشنّ هجوم على لشبونة التي تمكن البريطانيون منها. وبعد أن انضم إلى قوات ويلزلي البالغة 25،000 مقاتل، 15،000 مقاتل برتغالي بقيادة وليم كار بيرسفورد W. Carr Beresford (فيكونت بيرسفورد Beresford) قادهم جميعا إلى نقطة على نهر دورو Douro في مواجهة أو بورتو.

وفي 12 مايو سنة 1809 عبر مجرى النهر وهاجم مؤخرة جيش سولت بشكل مفاجئ فتراجع الجيش الفرنسي وعمته الفوضى، وخسر

ص: 20

الجيش الفرنسي 6،000 قتيل وكل مدفعيته، ولم يتعقب ويلزلي الجيش الفرنسي المنهزم فقد كان عليه أن يسرع جنوبا للتصدي لجيش فرنسي آخر بقيادة فيكتور، لكن فيكتور بعد أن علم بهزيمة سولت استدار عائداً إلى تالافيرا Talavera وهناك تلقى من جوزيف مددا زاد من عدد جيشه ليصبح 46،000 مقاتل، ولم تكن قوات ويلزلي تزيد على 23،000 بريطاني و 36،000 أسباني، والتقى الجيشان في تالافيرا Talavera في 28 يوليو سنة 1809، وهرب الجنود الأسبان ومع هذا فقد تمكن ويلزلي من تكبيد جيش فيكتور 7،000 قتيل وجريح واستولى منه على 17 مدفعا.

وسيطر ويلزلي على ميدان المعركة رغم أن جيشه فقد 5،000 ما بين قتيل وجريح، وقدرت الحكومة البريطانية كفاءة ويلزلي وشجاعته فأصبح يحمل لقب فيكونت ولينجتون ومع هذا فقد أدى انتصار نابليون في معركة واجرام Wagram (1809) وزواجه من ابنة الإمبراطور النمساوي (مارس 1810) إلى وضع حد لولاء النمسا لإنجلترا. وكانت روسيا لا تزال حليفة لفرنسا، وكان هناك 138،000 جندي فرنسي إضافي مستعدين للخدمة العسكرية في أسبانيا، وكان المارشال أندريه ماسينا Andre Massena بجنوده البالغ عددهم 65،000 يخطط للخروج بهم من أسبانيا لغزو البرتغال.

وأخبرت الحكومة البريطانية ولينجتون Wellington أنه إذا غزا الفرنسيون أسبانيا مرة أخرى فلا جناح عليه إن انسحب بجيشه إلى إنجلترا. وكانت هذه لحظة حرجة في مهمة ولينجتون، فالانسحاب - رغم أن الحكومة البريطانية قد سمحت به - قد يلوث سجله إذا لم يحقق نصراً كبيرا على نحو ما يخفف من وطأة الانسحاب، فقرر أن يخاطر برجاله وبمهمته وبحياته بضربة أخرى تعتمد على الحظ (برمية نَرْد أخرى)، وفي هذه الأثناء كان قد جعل رجاله يقيمون خطا من التحصينات إلى الشمال من قاعدته في لشبونة بخمسة وعشرين ميلا من التاجوس Tagus وعبر تورز فيدراس Torres Vedras حتى البحر.

وبدأ ماسينا معركته بالاستيلاء على حصن سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo الإسباني ثم عبر إلى البرتغال بستين ألف مقاتل. وكان ولينجتون على رأس 52،000 من المتحالفين (بريطانيين وأسبان وبرتغاليين) فالتقى به في بوساكو Bussaco (شمال كويمبرا Coimbra) في 27 سبتمبر سنة 1810 فتكبّد 1،250 ما بين قتيل وجريح

ص: 21

أما ماسينا فتكبّد 4،600، ومع هذا فقد أدرك ولينجتون أنه لن يستطيع - كماسينا - التعويل على مدد يأتيه، لذا فقد تراجع إلى تحصينات تورز فيدراس وأمر رجاله بإتباع سياسة الأرض المحروقة أي تدمير كل ما يلقونه في طريق تراجعهم حتى يعاني جيش ما سينا من الجوع، وفي 5 مارس سنة 1811 قاد ماسينا جنوده الجياع عائداً إلى أسبانيا وأسلم القيادة لأوجست مارمون Auguste Marmont.

وبعد أن قضى ولينجتون فترة الشتاء في الراحة وتدريب رجاله أخذ المبادرة فاتجه إلى أسبانيا على رأس جنوده البالغ عددهم 50،000 وهاجم قوات مارمون البالغ عددها 48،000 بالقرب من سالامنكا Salamanca في 22 يوليو 1812، ففقدت القوات الفرنسية 14،000 ما بين قتيل وجريح بينما فقد البريطانيون وحلفاؤهم 4،700، وانسحب مارمون، وفي 21 يوليو غادر الملك جوزيف بونابرت مدريد على رأس 15،000 مقاتل لتقديم النجدة لمارمون، لكنه علم في أثناء الطريق بما حل بمارمون من هزيمة، فلم يجرؤ (أي الملك جوزيف بونابرت) على العودة للعاصمة (مدريد) فقاد قواته إلى فالنسيا Valencia ليلحق هناك بجيش فرنسي أكبر عددا بقيادة المارشال سوش Sochet ولحق به - بعجلة وفوضى - 10،000 من المتفرنسين (المؤيدين للحكم الفرنسي من الأسبان والبرتغاليين) وحاشيته وموظفوه.

وفي 12 أغسطس دخل ولينجتون مدريد فرحبت به الجماهير بحماس بالغ، تلك الجماهير التي ظلت غير مفتونة بدستور نابليون. وكتب ولينجتون لأحد أصدقائه:"إنني بين أُناس يكاد الفرح يذهب بعقولهم. لقد منحني الرب حظاً سعيداً أرجو أن يستمر لأكون أداة لتحقيق استقلاله ".

لكن الرب تردّد فلم يُعطه استمراراً لهذا الحظ فقد أعاد مارمون تنظيم جيشه خلف تحصينات بورجوز Burgos، فحاصره ولينجتون هناك؛، وتقدم جوزيف من فالنسيا على رأس 90،000 مقاتل لمواجهة القوات البريطانية والمتحالفين معها، فتراجع ولينجتون (18 أكتوبر 1812) متجاوزاً سالامنكا إلى سيوداد رودريجو Ciudad Rodrigo وفقد في أثناء تراجعه 6،000 من قواته (بين قتيل وجريح)، ودخل جوزيف مدريد مرة أخرى وسط استياء عارم من الجماهير، وإن ابتهجت الطبقة الوسطى لعودته، وفي هذه الأثناء كان نابليون

ص: 22

يرتجف في موسكو، وظلت أسبانيا - مثلها في ذلك مثل سائر أوروبا - في انتظار نتيجة مغامرته التي ستؤثر في أحوال القارة الأوروبية.

‌5 - النتائج

تمخضت حرب شبه الجزيرة الأيبيرية حتى عند هذه المرحلة غير الحاسمة عن بعض النتائج الواضحة. فمن الناحية الجغرافية كانت أهم النتائج هي أن المستعمرات البرتغالية والإسبانية في أمريكا الجنوبية قد استطاعت التحرر من قبضة الوطن الأم الذي اعتراه الضعف (إسبانيا أو البرتغال)، وبدأت هذا المستعمرات مرحلة نشيطة وحيوية. ومن النتائج أيضاً أن كل أسبانيا جنوب التاجوس Tagus قد تخلّصت من الجنود الفرنسيين. ومن الناحية العسكرية أثبت ولينجتون أن فرنسا يمكن ألاّ تستولي على البرتغال، أو بتعبير آخر أن منع فرنسا من الاستيلاء على البرتغال أمرٌ ممكن، بل وربما لا تستطيع فرنسا الاحتفاظ بأسبانيا، إلاّ إذا خاطرت بكل فتوحاتها إلى الشرق من الراين Rhine. ومن الناحية الاجتماعية حققت المقاومة الشعبية - رغم عدم انضباطها - انتصاراً لصالح الفلاحين والكنيسة.

ومن الناحية السياسية استعادت المجالس السياسية المحلية (في الدوائر أو الولايات) بعضاً من سلطانها القديم فأقامت كل منها جيشاً خاصاً بها وسكّت عُملة خاصة بها، وأصبح لكل منها سياسة خاصة بها، بل إنها في بعض الأحيان كانت تُوقع سلاماً منفصلاً مع بريطانيا (أي دون الرجوع إلى الحكومة المركزية). والأكثر دلالة من ذلك كله هو أن هذه المجالس السياسية المحلية أرسلت ممثلين عنها إلى البرلمان المركزي مزوَّدين بتعليمات لصياغة دستور جديد لأسبانيا جديدة.

وبعد أن تحرر هذا البرلمان من الجيوش الفرنسية اجتمع للمرة الأولى في جزيرة دي ليون Isla de Leon في سنة 1810 وبعد الانسحاب الفرنسي انتقل إلى قادش Cadez، وهناك في 19 مارس 1812 تم إعلان الدستور الليبرالي. ولأن معظم المبعوثين (المفوَّضين) كانوا متمسكين بالكاثوليكية، فقد نصت المادة 12 من هذا الدستور على أن دين الأمة الإسبانية هو الكاثوليكية وسيظل دائما كذلك، فالكاثوليكية الرومانية (التابعة لكنيسة روما) الرسولية

ص: 23

(كنيسة الرعاة الأوائل للمسيحية) هي الدين الوحيد الحق.

إنها الدين الذي تحميه الأمة بالحكمة والتشريعات الصحيحة، ويتم حظر ممارسة شعائر أي دين آخر مهما كان. وعلى أية حال فقد حظر الدستور (الجديد) محاكم التفتيش، وحدّدت عدد الجماعات (الفِرَق) الدينية. وقبل البرلمان بمجلسيه في كل الأمور الأخرى تقريباً قيادة (زعامة) المفوضين (الممثلين) من الطبقة الوسطى والبالغ عددهم 184. وكان معظمهم يطلقون على أنفسهم (ليبراليين) - وكان استخدامهم لهذا المصطلح بمفهومه السياسي هو أول استخدام معروف له. وفي ظل قيادتهم أصبح دستور سنة 1812 يضارع دستور 1791 الذي أصدرته فرنسا الثورة.

لقد قبلوا بالملكية الإسبانية واعترفوا بفرديناند السابع (الغائب) ملكاً شرعياً، إلاّ أن الدستور على أية حال لم يضع السلطة في يد الملك وإنما في يد الأمة عن طريق ممثليها المنتخَبين (بفتح الخاء)، وكان على الملك أن يكون حاكما دستوريا يُطيع القوانين، ولا يجوز إبرام المعاهدات إلاّ بموافقة البرلمان، ولابد من إجراء انتخابات كل عامين لتكوين برلمان جديد، والانتخاب حق لكل ذكر بالغ، وتتم الانتخابات على ثلاث مراحل:

على المستوى الأبرشي Parochial، ومستوى المقاطعة، ومستوى الولاية. ولا بد من توحيد القوانين في إسبانيا كلها، وكل المواطنين سواء أمام القانون، والقضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن الملك. ودعا الدستور إلى إلغاء التعذيب والرق والمحاكم الإقطاعية، كما دعا إلى حرية الصحافة إلاّ في أمور الدين. كما دعا إلى ضرورة توزيع الأراضي العامة (أراضي الدولة) غير المزروعة على الفقراء.

لقد كان هذا الدستور شجاعاً وتقدمياً في ظل هذه الظروف وفي ظل التراث الديني الإسباني. لقد بدا الآن أن أسبانيا تدخل القرن التاسع عشر.

ص: 24

الفصل السادس والعشرون

‌إيطاليا وغُزاتُها:

من 1789 إلى 1813 م

‌1 - خريطة إيطاليا

في سنة 1789 م

في هذه الفترة لم تكن إيطاليا أمة وإنما كانت ساحة قتال. لقد كانت ممزقة إلى مناطق منفصلة متناحرة، وإلى لهجات متباينة لقد كانت ممزقة بشكل يصعب معه أن تتحد في وجه هجوم أجنبي وكانت المنطقة شمال نابلي تنعم بالشمس والتربة المثمرة التي توفر لها ريٌ جيد ومجار مائية تهبط إليها من جبال الألب أو الأبينين Apennines، مما حمل أهلها مرارا على حمل السلاح بسبب الخلافات بينهم وبين الأجانب من جامعي الضرائب.

وكان معظم إيطاليا قد وقع تحت حكم - أو نفوذ - أسرة الهابسبورج Hapsburg النمساوية على وفق بنود معاهدة أوتريشت Utrecht (أوترخت) الموقعة في سنة 1713، تلك المعاهدة التي جعلت ميلان، ومانتوا Mantua ونابلي وسردنيا وما يتبعها جميعا للإمبراطور تشارلز السادس - وفي الركن الشمالي الغربي من شبه الجزيرة الإيطالية، كانت سافوي وبيدمونت يحكمهما ملوك سردنيا وفي سنة 1734 كانت مملكة الصقليتين بمركزيها: نابلي، وبالرمو، قد انتقلت من الهابسبورج إلى البوربون Bourbons بفضل المقاتل المقتدر، والحاكم القدير الذي أصبح مليكا لأسبانيا ونعني به تشارلز الثالث، وقبل أن يتجه إلى أسبانيا ورث مملكة نابلي لابنه فرديناند الرابع الذي تزوج الأرشدوقة ماريا كارولينا Maria Carolina التي أدت سيطرتها على زوجها إلى وقوع مملكة نابلي بكاملها تحت النفوذ النمساوي.

وعندما ماتت الإمبراطورة ماريا تريزا (1780) حكم أبناؤها لومبارديا Lombardy وتسكانيا Tuscany ومودينا Modena وتزوجت ابنتاها من حاكمي نابلي وبارما Parma وأصبحت سافوي Savoy وبيدمونت Piedmont وسردنيا Sardinia تحت الحماية النمساوية. وكانت المنطقة الإيطالية الوحيدة التي تحظى بالاستقلال آنئذ هي البندقية (فينيسيا Venice) ولوسا Lucca وسان مارينو وجنوى Genoa. وكان في

ص: 25

القسم الإيطالي الواقع بين المناطق التي يسيطر عليها هابسبورج النمسا في الشمال، والمناطق التي يسيطر عليها بوربون أسبانيا في الجنوب - الولايات الباباوية Papal states، ولم تبق هذه الولايات باباوية (أي تابعة للبابا) إلا بسبب التنافس بين الأسرتين، وبسبب كون الإيمان الكاثوليكي هو وحده الذي يربط إيطاليا ليجعل منها كيانا واحدا.

وكان الحكم النمساوي في الشمال الإيطالي ممتازا بمقاييس العصر، فقد كانت الضرائب تفرض على الملاك الإقطاعيين والإكليريكيين (الملاك من رجال الدين)، وكانت امتيازات هؤلاء الإقطاعيين والإكليريكيين قد جرى تقليصها، وتم إغلاق مائة دير، وجرى تخصيص عوائدها لأغراض التعليم والإحسان 1764، وجري إصلاح إجراءات التقاضي، ومنع التعذيب وأصبح القانون الجنائي أكثر إنسانية (أكثر مراعاة للبعد الإنساني)، وفي تسكانيا في الفترة من 1765 إلى 1790 قدم الدوق الكبير ليوبولد Leopold لمناطق آل ميديتشي Medici سابقا، ربما أفضل حكومة في أوربا وظلت عاصمتها فلورنسا حصنا للحضارة خلال كل الفترات التي تماوجت فيها القوى والأفكار.

والبندقية الثرية الفاسدة المرتشية الجميلة أصبحت الآن (1789) تقترب - بشكل واضح - من نهايتها كدولة ذات سيادة. فإمبراطوريتها الشرقية وقعت منذ زمن طويل في أيدي الأتراك (العثمانيين)، لكن حكمها (أي البندقية) ظل معترفاً به فيما بين جبال الألب Alps وبادوا Padua وما بين تريسته Trieste وبريسكيا Brescia. وكانت البندقية من الناحية الرسمية جمهورية، لكنها كانت من الناحية الفعلية أرستقراطية مغلقة، وأصبحت حكومتها فاترة الهمة مستبدة لا تتسم بالكفاءة.

لقد كان لدى البندقية أفضل التوابل في العالم المسيحي لكنها لم تكن تمتلك جيشا. لقد كانت قد أصبحت ملعباً لأوربا تضمن لأهلها المسرات وتوفر لهم البغايا حتى تضمن أن يعاملها الأعداء بود. لقد كانت واقعة بين النمسا في الشمال ولومبارديا النمساوية في الغرب، وكان من الجلي أن قدرها سيؤول بها إلى الوقوع فريسة للنمسا بمجرد توقف فرنسا عن حمايتها.

وإلى الجنوب من تسكانيا والبو the Po بدأت الولايات الباباوية أساليبها المتعرجة (غير المباشرة) مع منطقتها في روما، ومفوضياتها: فيرارا Ferrara وبولونيا Bologna

ص: 26

(ليس المقصود بطبيعية الحال كيان أو دولة بولونيا المعروفة حاليا) ورافنا Ravenna، وكان كل منها يديره مفوض باباوي (مفوض من قبل البابا)، ومن ثم إلى الجنوب مع الحدود أو الأراضي الحدودية بالقرب من الآدرياتك: ريمينى Rimini، وأنكونا Ancona وأوربينو Urbino، ومن ثم عبر جبال الأبينين Apennines خلال بيروجيا Perugia التابعة لأومبريا Umbria وسبوليتو Spoleto، وعبر أورفيتو لاتيوم Latium's Orvieto وفيتربو Viterbo إلى روما. كل هذه المنطقة التاريخية كانت تحت حكم الباباوات على وفق هبات قدمها للكنيسة الكاثوليكية بيبن Pepin ملك الفرنجة في سنة 754، وشارلمان في سنة 774. وبعد انتصار حاسم في مجمع ترنت (1545 - 1563) وسع الباباوات سلطاتهم على الأساقفة تماما كما فعل الشيء نفسه الملوك المعاصرون بتوسيع سلطانهم على اللوردات الإقطاعيين. لقد بدأت السلطة تتمركز أو بتعبير آخر بدأت تتمحور حول مركز.

لكن سرعان ما بدأت الباباوية تنهار ببطء وبالتدريج كلما تقدم العلم وتعمقت الفلسفة مما أفقد الكنيسة - بشكل خطير - تأييد الطبقات المؤثرة في أوربا الغربية، ومما عرضها لتحديات صريحة ليس فقط من الحكام البروتستنت، وإنما أيضا من الحكام الكاثوليك من جوزيف الثاني في النمسا وفرديناند الرابع في نابلي. بل كان تزايد الأقلية المتشككة في الكاثوليكية في ولايات الكنيسة نفسها (الولايات الباباوية) والتي كانت تشكل روابط سرية، إلى إضعاف قبضة الإكليروس clergy (رجال الدين) على الناس.

لقد كتب جوزيف الثاني في سنة 1768: "إن المحكمة الباباوية Curia كادت تصبح محتقرة، فمن الداخل كان سكان الولايات الباباوية في الغاية من البؤس والانحطاط، وكانت ميزانية هذه الولايات في فوضى كاملة بدرجة لا تصدق"،

وكان جوزيف غير مؤمن بالكاثوليكية، لذا فقد نعتبره مبالغا، لكن سفير البندقية كتب في تقرير له في سنة 1783 أن الأمور الداخلية في ولايات الحبر الجليل (البابا) في أقصى درجات الفوضى، إنها في حالة انهيار تدريجي، والحكومة الباباوية تخسر كل يوم قوتها ومصداقيتها ومشروعيتها. ورغم فقر الولايات الباباوية وعدوى الملاريا malarial infection في جو الصيف، فقد جعل أهل روما الحياة مستساغة باهتبال كل المزايا المتمثلة في

ص: 27

تسامح الكنيسة مع علاقاتهم الغرامية وبالاستمتاع بالكارنفالات Carnival، بل لقد كان رجال الدين أنفسهم ينعمون باسترخائهم في دفء الشمس في إيطاليا.

وكان الباباوات في هذه الفترة الحرجة على تقوى وشرف بيوس السادس Pius VII (تولى الباباوية في الفترة من 1775 إلى 1799) - رغم رحلته الشاقة إلى البندقية فشل في إعادة جوزيف الثاني النمساوي للطاعة (المقصودة الطاعة للكاثوليكية والباباوية) ولم تنفعه ثقافته وكياسته من منع فرنسا من ضم أفنيون Avignon إليها، ومات وهو في سجنه في ظل حكومة الإدارة (في فرنسا)، وبيوس السابع (تولى الباباوية في الفترة 1800 - 1823) بذل كل ما في وسعه لإعادة الكاثوليكية لفرنسا، وعانى السجن لفترة طويلة في ظل حكم نابليون وعاش لينتصر بتواضع على الإمبراطور المخلوع (1814).

وإلى الجنوب من الولايات الباباوية ازدهر البوربون الأسبان بازدهار كل من جيتا Gaeta وكابوا Capua وكاسرتا Caserta ونابلي وكابري Capri وسورنتو Sorrento. لكن الازدهار الإيطالي توقف هناك (لم يعد له وجود) فمدن مثل بسكارا (بسكره Pescara) وأكويلا Aquila وفوجيا Foggia وباري Bari وبرينديسي Brindisi وتارانتو Taranto وكرتون Crotone تذكرت ميلو Milo وقيصر وفريدريك الثاني (إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، بل وحتى فيثاغورث، لكن أهل هذه المدن كانوا عرضة للشمس الحارقة، منهكين بالضرائب وليس من سلوى لهم سوى في عقيدتهم الدينية.

ثم يأتي جامعو الضرائب عابرين من رجيو كالابريا Reggio Calabria إلى مسينا Messina في صقلية، وهناك أيضا توقر المدن فقرها إذا ما تذكرت الفينيقيين، والإغريق، والقرطاجين Carthaginians والرومان والفاندال Vandals والمسلمين والنورمان Normans والأسبان حتى يتوقف جامعو الضرائب في بالرمو ليكونوا في خدمة احتياجات الملوك والملكات والأمراء التجار واللصوص والقديسين. تلك هي المملكة التي ورثها في سنة 1795 فرديناند الرابع ذو الثمانية أعوام. لقد نشأ رياضياً وسيماً يفضل المسرات والألعاب الرياضية على أعباء السلطة فكان غالبا ما يترك أمور الحكم لزوجته ماريا.

وبتوجيه من رئيس وزرائها (وزيرها الأول) وعشيقها السير جون أكتون John Acton أدارت ماريا سياسة نابلي من مناصرة الحكم الأسباني إلى مناصرة

ص: 28

الحكم النمساوي، إلى مناصرة إنجلترا في سنة 1791. وفي هذه الأثناء كان البارونات الإقطاعيون يستقطعون كل عائد من الفلاحين المنهكين، وسادت الرشوة، وساد الفساد في البلاط وفي طبقة الموظفين والقضاة وكانت الضرائب باهظة وكانت تقع في الأساس على كاهل الطبقات الدنيا، وأصبح سكان المدينة يتصرفون كالبرابرة بسبب الفقر، لقد اعتادوا الفوضى والجريمة لا يكبحهم سوى العدد الوافر من رجال الشرطة ورجال الدين الظلاميين obscurantist clergy الماهرين في إظهار المعجزات. (في كنيسة الكاتدرائية، كانت رفات القديس جنيوار يوس Januarius تنزف دما في كل عام). وجرت العادة أن تتسامح الكنيسة مع خطايا الجسد، فهذه الخطايا هي الرفاهية الوحيدة المسموح بها للفقراء. وفي أيام الكرنفالات Carnival days ينظر الناس للوصية السادسة من الوصايا العشر باعتبارها قيدا لا لزوم له يتنافى مع الطبيعة البشرية.

ومع هذا فقد كانت الملكة تغار من كاترين الثانية الروسية التي كان حولها كثير من الفلاسفة رهن إشارتها، لذا فقد رعت الفنانين والدارسين وأساتذة الحكمة حتى لو لم تكن تعرف شيئا عن الفن والبحث والحكمة. وهو احتمال وارد، لذا فقد كان في نابلي كثير من الرجال النساء الذين يؤمنون بالأفكار العصرية، وربما فاق عددهم ما هو موجود في أية مدينة إيطالية أخرى وقد تابع كثيرون منهم بأمل صامت الأخبار التي أتت من باريس والتي تفيد أن الفرنسيين قد اجتاحوا سجن الباستيل واستولوا عليه.

‌2 - إيطاليا والثورة الفرنسية

لقد هيأت أفكار الليبراليين ذوات التأثير، الطبقات المتعلمة في إيطاليا لاستيعاب بعض التحولات الأساسية في فرنسا. لقد كان بيكاريا Beccaria وباريني Parini في ميلان، وتانوسي Tanucci وجينوفيسي Genovesi وفيلانجيري Filangieri في نابلي، وكاراكيولي Caraccioli في صقلية قد مارسوا بالفعل كتابة النثر والشعر، وكتبوا بالفعل في مجال التشريع والفلسفة وكانت الأفكار التي طرحوها هي نفسها - إلى حد ما - الأفكار التي تقرها الآن حكومة الجمعية الوطنية (الفرنسية)، أفكار تؤيد العقل وتعتمد عليه وتميل إلى الحداثة. وفي تسكانيا رحب الدوق الكبير ليوبولد نفسه بالثورة الفرنسية

ص: 29

باعتبارها إصلاحا عظيما واعداً في كل أنحاء أوربا.

وعندما اندفع نابليون ابن الثورة وجنرالها في إيطاليا (1796)، وكأنه ريح غربية عاصفة، وأخرج الجيوش السردنية (جيوش سردنيا) والنمساوية من بيدمونت ولومبارديا، رحب به كل الإيطاليين تقريبا باعتباره قائداً إيطاليا يقود جنودا فرنسيين لتحرير إيطاليا. ورغم ما واجهه من عصيان مسلح في بافيا وجنوى وفيرونا فقد كان في مقدوره - لفترة - أن يتصرف في الدول والإمارات الإيطالية كما لو كانت قد استسلمت له بغير شروط، وعلى هذا ففي شهري يوليو وأغسطس سنة 1797 دمج كلا من ميلان ومودينا Modena وريجيو إيميليا Reggio Emilia وبولونيا وجانبا من سويسرا، ليجعل منها كيانا مختلطا هو الجمهورية السيزالبية Cisalpine Republic (الجمهورية القريبة من جبال الألب والمحيطة بها)، وقدم لها دستورا كدستور فرنسا الثورة.

وقد أبهجت ليبراليته في فترة حكمه الأولى في شمال إيطاليا أحلام السكان المحليين بالحرية. وقد اعترف الزعماء المحليون بعد أن لانت عريكتهم بالوظائف الشرفية، وألقاب الفخامة التي وزعها عليهم نابليون، بأنه في قارة يقتسمها الذئاب لا بد من ذئب أو آخر كحامٍ لإيطاليا، وإن أفضل ذئب يمكن اختياره هو الذي يتحدث الإيطالية بطلاقة، ويخفف أعباء الضرائب، ويضبط الأمن بقوانين متنورة. لكن زيادة التشريعات الثورية ضد الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا صدمت عواطف الإيطاليين، فقد ثبت لهم أن دينهم أغلى بالنسبة إليهم من التحرر السياسي الذي يضطهد في ظله قسسهم، ويتنسم المرء في ثناياه مذابح سبتمبر.

وفي 13 يناير 1792 هاجمت الجماهير في روما ممثلاً دبلوماسياً للحكومة الفرنسية، مات في اليوم التالي من فرط ما أصابه على أيدي هذه الجماهير. وقد خلق هذا أزمة جديدة للبابا بيوس السادس الذي كان يعاني بالفعل من مرسوم التسامح (1781) الذي أصدره جوزيف الثاني في النمسا. لقد وجد البابا نفسه الآن في مواجهة مصادرة الثورة الفرنسية لممتلكات الكنيسة وفي مواجهة الدستور المدني للإكليروس (رجال الدين) الصادر في 12 يوليو سنة 1790. ولأن هذا البابا كان قد نشأ على الاحترام الكامل للتراث

ص: 30

الكنسي فقد أعلن إدانته للثورة وأيد الملوك الذين يتصدون لها لمحقها. لكنه أجبر في صلح تولينتينو Peace of Tolentino (19 فبراير 1797) على التخلي لفرنسا عن المقاطعات الباباوية:

أفنيون وفيناسين Venaissin كما أجبر في الصلح نفسه على التخلي عن المدن الدول: فيرارا وبولونيا ورافنا للجمهورية السيزالبية.

وفي ديسمبر سنة 1797 قتلت الجماهير الإيطالية الجنرال الفرنسي ليونارد دوفو Leonard Duphot، وانتهز الجنرال الفرنسي لوي (لويس) بيرثييه Berthier الذي خلف نابليون في قيادة جيش إيطاليا (كان نابليون وقتها في مصر) الفرصة لغزو روما وإقامة جمهورية روما تحت الحماية الفرنسية، واعترض البابا بيوس السادس فتم القبض عليه وتم نقله من مكان إلى آخر حتى مات في فالنسي Valence في 29 أغسطس 1799 في عهد حكومة الإدارة.

وراح المراقبون غير الواعين بالتاريخ يتساءلون عما إذا كان في موته موت للباباوية أو بتعبير آخر هل انتهى الآن عصر الباباوية بغير رجعة؟ وأتاح هذا الموقف لفرديناند الرابع النابلي (نسبة إلى نابلي) فرصاً ثلاث: أن يجرّب الجيش الجديد الذي كان جهزه له السير جون أكتون Acton، وأن يثبت للكنيسة الكاثوليكية أنه ابن مخلص لها، وأن يستولي على جانب من الولايات الباباوية مكافأة تشريفية له. ووافق الأدميرال (أمير البحر) نيلسون الذي كان في هذا الوقت يتلكأ في نابلي لقضاء اكبر وقت ممكن مع إيما هاملتون Emma Hamilton - وافق على تقديم المساعدة بإنزال قوة بحرية في ليجهورن Leghorn، وجعل الملك على رأس جيشه الجنرال النمساوي كارل ماك Karl Mack وركب معه لفتح روما (29 نوفمبر 1798) وقررت الحاميات الفرنسية التي بقيت في روما أنه لا قبل لها بمواجهة كل جيش نابلي فأبدت استعدادها لإخلاء المدينة (روما).

وبينما كان الكاردينالات المتفوقون يختارون بابا جديدا في البندقية (فينيسيا) كان جنود فرديناند يختبرون أجراس روما ويستعرضون فنونها، وفي هذه الأثناء هبط الجنرال الفرنسي اللامع جان - إتين شامبيون Jean-Etienne Championnet من الشمال على رأس

ص: 31

جيش فرنسي منتعش (لم تنهكه الحروب) فحقق نصرا على جيش ماك Mack غير المنظم في سيفيتا كاستيلانا Civita Castellana (15 ديسمبر 1798) وتعقبه طوال انسحابه إلى نابلي واستولى على المدينة وسط فرحة طبقة المثقفين، وأقام الجمهورية البارثينوبية Parthenopean (23 يناير 1799) وهرب فرديناند والملكة وكذلك السير وليم هاملتون (من Bovary) إلى بالرمو في سفينة القيادة التابعة لنيلسون (كان اسم السفينة هو فانجارد Vanguard ومعناها الطليعة).

ولم تستمر هذه الجمهورية الجديدة سوى أقل من خمسة أشهر فقد تم استدعاء شامبيون وكثير من رجاله للاتجاه شمالا لطرد النمساويين، ومات شامبيون في هذه المعركة ضد النمساويين (1800). وجهز الكاردينال فابريزيو رفو Fabrizzio Ruffo جيشا جديدا لفرديناند، وعاون القائد الإنجليزي إدوارد فوت Foote في إعداد هذا الجيش، فاستعاد فرديناند نابلي بمساعدة الجماهير فيها، فقد كانت الجماهير في نابلي تنظر للحملة الفرنسية على أنها مكونة من مقاتلين ملحدين ملعونين، ولجأ الفرنسيون بمساعدة أدميرال من نابلي هو فرانسيسكو كاراكيولو Caracciolo إلى حصنين من حصون الميناء.

وعرض عليهم الكاردينال رفو والقائد فوت المغادرة إلى فرنسا دون عوائق إن استسلموا لكن قبل تنفيذ الاتفاق وصل نيلسون بأسطوله حاملاً مجموعة ملكية، قادما من بالرمو، فتولى هو (نيلسون) القيادة ووجه مدافعه إلى الحصون رغم اعتراض الكاردينال، فاستسلم الفرنسيون بلا شرط، وقبض على كاراكيولو (الذي ساعد الفرنسيين) بينما كان يحاول الإبحار بعيدا وحوكم محاكمة سريعة أمام محكمة عسكرية عقدت على سفينة نيلسون وشنق في 29 يونيو 1799 على سفينته. (لامينيرفا La Minerva) وتدلى جسده من عارضة شراع هذه السفينة، واستعاد الملك والملكة العرش فسجنوا مئات الليبراليين وأعدموا قادتهم.

ص: 32

‌3 - إيطاليا تحت حكم نابليون:

من 1800 إلى 1812 م

ظل نابليون طوال تسعة أشهر بعد عودته من مصر يعمل على إقناع الأمة الفرنسية بتعريفه للحرية السياسية عن طريق استفتاءات دورية كان يتوقع أن تسفر نتائجها عن كون الحرية السياسية تتفق مع الاستبداد المتنور (حكم المستبد العادل). لقد كانت فرنسا قد تعبت من الحرية الديمقراطية في الوقت الذي كان فيه الليبراليون الإيطاليون يتوقون إليها بعد أن أثار حفيظتهم عودة الحكم النمساوي. فمتى يعود هذا الإيطالي اللامع الذي أصبح فرنسيا (نابليون) إلى إيطاليا ليخرج هؤلاء النمساويين وليجعل لإيطاليا حاكما إيطاليا؟

واستغرق القنصل البارع (نابليون) وقتا مناسبا للإعداد المتقن - وكان الإتقان أول مبادئ إستراتيجيته. وعندما تبلورت الأمور أمامه أخيرا كانت خطته أكثر كفاءة بكثير من هجوم سنة 1796: تسلق جبال الألب، ومن ثم الهبوط عليها من الجانب الآخر، وشق القوات النمساوية لتصبح في قسمين، وقيادة الجيش الفرنسي الرئيسي لمهاجمة مؤخرة القوات النمساوية وتطويقها وحجزها مع قائدها العجوز حتى يستسلم الذئب النمساوي للثعلب الغالي (الفرنسي) ويترك له كل الممتلكات الإيطالية غرب فينيزيا Venezia (1801) لقد كانت خطته أقرب ما تكون إلى خطة سبق أن وضعها ونفذها في سنة 1797.

وأعطى نابليون للجمهورية السيزالبية المتمحورة حول ميلان والجمهورية الليجورية Ligurian Republic في جنوى استقلالاً نسبيا، وجعل على رأس كليهما حكاما إيطاليين تحت الحماية الفرنسية. وحتى الآن فإن نابليون لم يقدم على عمل يسبب الإزعاج للولايات الباباوية إذ عقد اتفاقات وفاق مع الكنيسة وارتد عن الإسلام (لم يصبح محمديا Mohammedan) ووافق فرديناند الرابع ملك نابلي على إغلاق موانئها في وجه السفن البريطانية ولم يستطيع نيلسون تقديم يد العون لبلاده لأنه كان مشغولا بمهاجمة كوبنهاجن (2 أبريل 1801) وأحس الإيطاليون بيد إيطالية رفيقة كامنة وراء هذا الإنجاز (المقصود يد نابليون) فابتهجوا.

والآن لقد قبضت هذه اليد على زمام السلطة، ففي يناير سنة 1802 تقابل 454 مندوبا مفوضا من الجمهورية السيزالبية في ليون Lyons وأقروا دستورا جديدا وضعه نابليون وقبلوا اقتراح تاليران Talleyrand بانتخاب نابليون رئيسا للجمهورية الإيطالية الجديدة Republica Italiana. .

ص: 33

وبعد أن نصب نابليون نفسه إمبراطورا على فرنسا (1804) بدا منصب (رئيس إيطاليا) متواضعا بالنسبة إليه، لذا، ففي 26 مايو سنة 1805 تلقى نابليون في ميلان تاج الملوك اللومبارديين Lombard الموقر والعريق، وكان تاجا من حديد وأصبح بذلك حاكما لشمال إيطاليا وقدم لأهل البلاد المدونة القانونية النابليونية، وساوى بين الجميع في فرص التعليم بأن فرض على الدوائر (المقاطعات) الأكثر ثراء مساعدة الدوائر الأفقر، ووعد بأن يجعل: "شعبي في إيطاليا

لا يتحمل ضرائب باهظة بل ستكون وطأة الضرائب هنا أخف منها في أي أمة أخرى في أوربا"، وعندما غادرهم ترك معهم ابن زوجته الحبيب إلى نفسه يوجين دي بوهارنيه Eugene de Beauharnais نائباً له (نائب ملك) دلالة على اهتمامه بأمرهم.

وطوال الأعوام الثمانية التالية نعمت المملكة الجديدة (خاصة لومبارديا) برخاء عام وحياة سياسية نشيطة ظل الإيطاليون يذكرونهما بخير لفترة طويلة. ولم تتظاهر الحكومة بالديمقراطية، فقد كان نابليون غير مؤمن بقدرة الجماهير في أي مكان على الاختيار الحكيم للقادة أو السياسات، لكنه بدلاً من ذلك نصح يوجين أن يجمع حوله أكثر المديرين خبرة وكفاءة. وبالفعل فإن هؤلاء الأكفاء قد خدموه بحماسة ومهارة، لقد نظموا جهازاً إدارياً يتسم بالكفاءة، ونفذوا كثيرا من الإنشاءات العامة - طرق، وقنوات وحدائق عامة ومشروعات إسكان ومدارس، وأصلحوا وسائل الصرف واتخذوا إجراءات للمحافظة على الصحة العامة وأصلحوا السجون وقانون العقوبات وأقاموا مشاريع محو الأمية ونهضوا بالموسيقى والفنون، وارتفعت عوائد الضرائب من 82 مليون فرنك في سنة 1805 إلى 144 مليون فرنك في سنة 1813، لكن جزءاً من هذه الزيادة كان يعكس التضخم (وفرة العملة اللازمة لتمويل الحرب) كما كان في جانب آخر منها نتيجة إعادة توزيع الثروات المتركزة في أيدي القلّة للقيام بمشروعات للصالح العام.

وفي هذه الأثناء واصل نابليون جهوده لصبغ إيطاليا بالصبغة النابليونية، ففي سبتمبر 1802 ألحق بيدمونت بفرنسا، وفي يونيو سنة 1805 حث حكومة جنوى على طلب إدماج الجمهورية الليجورية في الإمبراطورية الفرنسية. وفي سبتمبر 1805 ضم دوقيات بارما وبياسنزا Piacenza وجواستالا Guastalla. وفي ديسمبر 1805 - بعد محق الجيش

ص: 34

النمساوي في معركة أوسترليتز - حث الإمبراطور فرانسيس الثاني على تسليم فينيزيا Venezia (فينيتسيا) لمملكة يوجين Eugene الجديدة. وكانت البندقية Venice شديدة الامتنان لهذا التعويض الجزئي عن المقايضة غير العادلة التي عقدها نابليون مع البنادقة في سنة 1797، وعبرت عن امتنانها هذا بإقامة مهرجانات الترحيب به (بنابليون) عندما زار مدينتهم في سنة 1807. وفي مايو سنة 1808 تولى أمر دوقية تسكانيا الكبيرة في وقت كانت الإدارة النمساوية بها في أحسن حالاتها. وحكمت ليزا أخته (أخت نابليون) لوسا Lucca حكما طيبا حتى إن نابليون حولها إلى تسكانيا وبفضل حكمتها وسياسة الاسترضاء التي اتبعتها أصبحت فلورنسا ملاذا للآداب والفنون يعيد إلى الأذهان ذكريات أيام آل ميديتشي.

وفي 30 مارس سنة 1806 أعلن نابليون تعيين أخيه جوزيف ملكا على نابلي وأرسله على رأس جيش فرنسي ليعيد للطاعة فريدريك الرابع غير المنضبط وزوجته الملكة كثيرة المطالب. لقد بدا الإمبراطور (نابليون) قد ادخر أكثر المهام صعوبة لجوزيف الكريم وأنه - أي نابليون - لم يضع في اعتباره كثيرا المخاطر والصعوبات التي تنطوي عليها هذه المهام. لقد كان جوزيف رجل ثقافة يحب صحبة المتعلمين وصحبة النسوة اللائي لم يطغ علمهنّ على جاذبيتهنّ. وقد شعر بونابرت أن هذه الصفات لا تكفي ليحكم المرء مملكة حكما ناجحا. فلم عينه إذن؟ لقد عينه لأنه كانت لديه من الممالك التي فتحها ما يفوق عدد إخوته، ولم يكن نابليون يثق في أحد ثقته في أقاربه المقربين.

لقد كان جوزيف قد قبل بسرور - كملك لنابلي - بتأييد زعماء الطبقة الوسطى الذين لم يكونوا مرتاحين في ظل النظام الإقطاعي، لكن العامة رفضته كمغتصب وكافر، وكان على جوزيف أن يتخذ إجراءات صارمة لقمع مقاومتهم. وكانت الملكة قد أخذت معها إلى صقلية كل الأموال المودعة في بنك الدولة. وكان الأسطول البريطاني يحاصر الميناء ويعوق حركة التجارة، وكان الجنود الفرنسيون قد شرعوا في حركة عصيان خطيرة، فرغم جهودهم الحربية الممتازة كانت رواتبهم قليلة جدا، وطلب جوزيف من أخيه أن يحول إليه بعض الأموال، فوجهه أخوه إلى جمع الأموال من نابلي لقاء قيام الفرنسيين بتحريرها وتفاوض

ص: 35

جوزيف مع رجال المال الهولنديين للحصول على قرض، وفرض ضريبة على كل الدخول (جمع دخل)، على النبلاء والعوام ورجال الدين على سواء.

واستدعى من باريس الكونت بيير - لويس روديريه Comte Pierre - Louis Roederer وهو أحد الاقتصاديين الذين يفضلهم نابليون ليتولى أمر خزانة الدولة فسرعان ما ضبطها، وقام إداريون آخرون ذوو خبرة بتأسيس مدارس مجانية في كل كمونات commune المملكة، وكلية في كل مقاطعة وتم إبطال الإقطاع، وتم تأميم أراضي الكنيسة وبيعها للفلاحين ولأفراد الطبقة الوسطى النامية، وتمت مواءمة القوانين مع مدونة نابليون القانونية، وتم تطهير النظام القضائي، وتسهيل الإجراءات القضائية، وتم إصلاح السجون ونظام العقوبات.

لقد كان جوزيف يقترب من النجاح الكامل وكاد يصبح مقبولا من العامة عندما دعي فجأة ليتبوأ عرشا يتعرض شاغله لخطر أشد، وليقوم بمهام أصعب - لقد دعي ليكون ملكا على أسبانيا (10 يونيو 1808)، وعين نابليون بدلاً منه على عرش نابلي جوشيم مورا Joachim Murat زوج أخته كارولين بونابرت، ولم يلجأ نابليون لهذا (تعيين زوج أخته) إلا لأنه لم يكن لديه أخ آخر يمكن تعيينه على عرش نابلي- وإذا ذُكر مورا ارتبط اسمه بأناقة ملبسه وجرأته في المعارك، كما أنه يفرض علينا تكريم ذكراه لأنه أعاد تشكيل حكومة نابلي. لقد كان رجلا يتحلى بكل فضائل الفلاحين خلا الصبر.

لقد كان أكثر ملائمة للأعمال والمهام الشاقة (الهرقلية) منه للدبلوماسية الماكرة ودور رجل الدولة المتسم ببعد النظر، وكان زوجاً محبا ممزقا بين الخلافات مع أخي زوجته، والإخلاص له، حتى ظنه مجنونا، ونستطيع أن نفهم شكواه (أسباب تبرمه) من حقيقة أن الحصار القاري الذي طلبه نابليون (منع دخول البضائع الإنجليزية إلى دول أوربا) كان يدمر الحياة الاقتصادية في نابلي. ومع هذا فقد نجح هو ومساعدوه - ربما بسبب عدم صبره - إنجاز الكثير في فترة حكمه التي دامت أربع سنوات. لقد أكمل مع مساعديه إصلاح نظام الضرائب ودفع ديون البلاد بكاملها (وكان هذا في معظمه نتيجة بيع الممتلكات الكنسية) وألغى رسوم المرور الداخلية، ومول المشروعات العامة الأساسية.

لقد حولت إدارة جوزيف وإدارة مورا اللتان استمرتا أقل من ثماني سنوات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في نابلي

ص: 36

تحولاً أساسيا حتى إنه عندما استعاد فرديناند الرابع عرشه في سنة 1815 قبل تقريبا كل الإصلاحات التي قام بها الفرنسيون. وكان أعز هذه الإنجازات إلى قلب جوشيم هو الجيش ذا الستين ألف مقاتل الذي نظمه ودربه، وكان يأمل أن يستطيع به توحيد إيطاليا ليكون هو أول مليك لإيطاليا الموحدة، لكنه استيقظ من هذا الحلم ونزع من شمس إيطاليا باستدعاء أخي زوجته سنة 1812 لينضم إليه في غزو روسيا.

‌4 - إمبراطور وبابا

شعر نابليون أنه خطا خطوات أساسية في تحويل إيطاليا من مجرد تعبير جغرافي إلى أمة، وذلك بتنظيمه الجمهورية السيزالبية Cisalpine Republic (جمهورية جنوب الألب) في الشمال، ومملكة نابلي في الجنوب، لكن النمساويين كانوا قد استطاعوا - في أثناء غياب نابليون في مصر - وضع نهاية لجمهورية روما التي أسسها الفرنسيون قبل ذلك بعام واحد فقط، واستعادت الباباوية عاصمتها التاريخية (روما) ومعظم الولايات الباباوية، وفي 13 مارس 1800 عقد الكرادلة اجتماعا لانتخاب بابا جديد، فوقع الاختيار على بيوس السابع الذي كان كل الكاثوليك تقريبا يتطلعون إليه ليدافع عن ممتلكات الكنيسة وعن السلطة الزمنية للباباوات.

ووجد نابليون أن بيوس السابع معقول بما فيه الكفاية عند التفاوض لعقد اتفاقات (كونكوردات) مع الحكومة الفرنسية سواء جرت هذه المفاوضات في باريس أو روما، كما وجده معقولاً في مباركته للصلاحيات الإمبراطورية، لكن هذه الولايات الباباوية (رغم أنها لم تكن منحة من قسطنطين كما جرى الادعاء في وقت من الأوقات) قد قدمها بيبن القصير Pepin the Short للبابا ستيفن الثاني Stephen في سنة 754 م. وقد أكد شارلمان في سنة 774 م منحة بيبن Pepin هذه، وإن كان قد تدخل في شؤون الحكم في الولايات الباباوية واعتبر نفسه رأس العالم المسيحي لا بد أن يصغي البابا إليه حتى في أمور اللاهوت.

وقد طور نابليون أفكاراً مشابهة لأفكار شارلمان. لقد كان نابليون قد عقد

ص: 37

العزم على مواجهة حصار إنجلترا لفرنسا بحصار مضاد (الحصار القاري المضاد) بمنع دخول البضائع البريطانية إلى الأسواق الأوربية لكن المجلس الإداري التابع للبابا أصر على أن تظل الموانئ التابعة للولايات الباباوية مفتوحة للجميع. وأكثر من هذا فقد كانت هذه الولايات الباباوية تقف حاجزا (بحكم موقعها) بين شمال إيطاليا وجنوبها، فما الحل وقد أصبح نابليون تواقاً لتوحيد إيطاليا وضمها لتكون تحت قبعته. لقد قال لأخيه جوزيف إن هذا هو هدف سياستي الذي لا أبغي عنه حولا واتساقا مع هذه السياسة استولى الجيش الفرنسي على أنكونا Ancona (1797) وهي ميناء إستراتيجي في البحر الأدرياتك Adriatic يتحكم في الاتصال بين شمال إيطاليا وجنوبها والآن (13 نوفمبر 1805) كان نابليون يستعد لخوض معركة ضد النمسا وروسيا،

فانتهز البابا بيوس السابع هذه الفرصة واستجاب لتحريض مجلسه الإداري وحثه المتهور، فأرسل إلى نابليون تحديا خطيرا:"لقد أخذنا على عاتقنا أن نطلب من عظمتكم إخلاء أنكونا Ancona، فإن ووجهنا بالرفض فلا ندري كيف نكون على علاقة صداقة مع وزير عظمتكم"، وقد أجاب نابليون على هذا التحدي بتحدٍ مضاد:"إن كان قداستكم تحكمون روما، فإنني إمبراطورها"، لقد امتعض نابليون كثيرا من إرسال البابا تحديه هذا قبيل معركة أوسترليتز Austerlitz. لقد تحدث نابليون كشارلمان لكنه تقدم كقيصر وهزم النمساويين والروس في معركة أوسترليتز.

وبعد ذلك بعام (12 نوفمبر 1806) وكان قد دمر الجيش البروسي في يينا Jena - أرسل نابليون من برلين للبابا يطلب منه طرد الإنجليز من روما وأن تدخل الولايات الباباوية في الكونفدرالية الإيطالية أي تنضم إليها في وحدة كونفدرالية لأنه - أي نابليون - لا يستطيع أن يتسامح بشأن وجود موانئ وحصون تقع بين مملكة إيطاليا (في الشمال) ومملكة نابلي (في الجنوب) يمكن أن يحتلها الإنجليز زمن الحرب مما يعرض ولاياته وأهلها للخطر.

وأعطى نابليون للبابا بيوس فرصة حتى فبراير 1807 للانصياع لهذا الأمر، ورفض البابا وسمح للوزير البريطاني بالبقاء في روما، وأعاد نابليون طلبه بطرد المفوضين الإنجليز من روما عند عودته المظفرة من تيلسيت Tilsit ورفض البابا مرة أخرى، وفي 30 أغسطس هدد نابليون بالاستيلاء على الولايات الباباوية، فوافق البابا - خوفاً وهلعاً - على

ص: 38

إغلاق موانئه في وجه البريطانيين، وطلب نابليون الآن من البابا الانضمام إليه لمواجهة أعداء فرنسا، فرفض بيوس، وفي العاشر من شهر يناير 1808 أمر نابليون جنراله ميولي Miollis الذي كان وقتها على رأس كتيبة فرنسية في فلورنسا، بالاستيلاء على روما.

ومنذ ذلك اليوم تحركت الأحداث لتشهد صراعا تاريخيا متصاعدا بين الكنيسة والدولة. وفي 2 فبراير استولى جيش ميولي Miollis على سيفيتا فيشيا Civitavecchia ودخل روما في اليوم التالي وطوق الكويرينال Quirinal وهو التل الذي يقع عليه قصر البابا ومقر مجلسه الإداري. ومنذ هذا الوقت حتى مارس سنة 1814 أصبح بيوس السابع سجين فرنسا وفي 2 أبريل 1808 أمر نابليون بضم الولايات الباباوية إلى مملكة إيطاليا. لقد أصبح هناك الآن منطقة مفتوحة بين مملكة نابلي ومملكة إيطاليا أي بين جوزيف ويوجين.

ثم كان عام انشغل فيه نابليون بأسبانيا. وفي 17 مايو 1809 ومن فيينا التي فتحها نابليون للمرة الثانية، أعلن ضم الولايات الباباوية للإمبراطورية الفرنسية، وأعلن بذلك نهاية السلطة الزمنية (غير الدينية) للباباوات، وفي العاشر من يونيو أعلن البابا حرمان نابليون من رحمة الكنيسة، وفي 6 يوليو قاد الجنرال راد Radet بعض الجنود في قاعة الاستقبال الخاصة بالبابا وخيّره بين التنازل (عن حكم الولايات الباباوية) أو النفي، ولم يأخذ بيوس معه سوى كتاب الصلوات اليومية الخاص به وصليبه وتبع آسريه إلى عربة كانت في الانتظار حملته على طول الساحل الإيطالي مارة بجنوى إلى سافونا Savona وهناك ظل سجينا يعامل بلطف إلى أن أمر نابليون بنقله إلى فونتينبلو Fontainebleau (يناير 1812) بعد نشر تفاصيل مؤامرة مزعومة لخطفه إلى إنجلترا.

وفي 13 فبراير 1813 وقع بيوس اتفاقا جديدا مع نابليون وفي 24 مارس سحب توقيعه، وكان يعيش في سجنه الفخم Palatial عيشة بسيطة لدرجة أنه كان يخيط (أو يرفو) قميصه بنفسه. وظل في سجنه هذا خلال كل أحداث 1812 و 1813 حتى واجه نابليون نفسه السجن في 21 يناير سنة 1814، فأعيد إلى سافونا. وفي أبريل أرسل الحلفاء - بعد استيلائهم على باريس - إلى البابا بما يفيد أنه أصبح حرا وفي 24 مايو دخل البابا بيوس السابع روما ثانية، وكان في حالة يرثى لها بدنيا ونفسيا، ورحب به كل السكان

ص: 39

تقريبا، وتنافس شباب روما في جر عربته (بدلا من ترك الخيول تجرها) إلى الكورينال Quirinal (حيث قصره).

لقد استطاعت إدارة نابليون الفرنسية للولايات الباباوية في فترة حكمها القصيرة بمساعدة من الليبراليين من أهلها إحداث نقلة مهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية، كانت نقلة سريعة ونشيطة، وربما سببت هذه السرعة وهذا النشاط بعض الآلام. لقد أنهت الإدارة الفرنسية الإقطاع ومحاكم التفتيش وأغلقت ما يزيد على مائة كنيسة ودير وسرحت 5،852 راهباً وراهبة. وطردت الموظفين المرتشين الفاسدين، وأخضعت الجهات المختلفة لنظم محاسبية. وأصلحت الطرق وزادت فيها من قوات الشرطة، وكادت تقضي تماما على اللصوصية وقطع الطرق.

وجعلت الشوارع نظيفة مضاءة ليلا، وجففت مستنقعات بونتين Pontine وأتاحتها للراغبين في زراعتها، وأعلنت حرية الاعتقاد (الحرية الدينية)، وسمحت لليهود بالانتقال بحرية من معازلهم their ghetto وانتعشت وحسنت من أوضاع السجون، وبنت المدارس وزودتها بالمعلمين، وتم افتتاح جامعة جديدة في بيروجيا Perugia، واستمرت أعمال الكشف عن الآثار الكلاسيكية وعين كانوفا Canova للإشراف على متحف يضم ما يعثر عليه من آثار، لكن الإدارة الفرنسية كانت تجمع الضرائب بدأب كما كانت تجند المواطنين إلزاميا في الجيش. واشتكي التجار من القيود التي فرضتها الإدارة الفرنسية على التعامل مع إنجلترا. وشعر غالب السكان بالتعاسة لتغيير مؤسساتهم التقليدية، وللمعاملة المخزية التي لاقاها البابا الذي كانت له شعبية، وبدأ الناس - حتى الملحدون - يحبونه وراح الناس يتطلعون إلى الماضي بحسرة، متمنين عودة حكم البابا، ذلك الحكم المتسم بالنعومة والهدوء والتراخي.

لقد كان إقدام نابليون على سجن البابا بيوس السابع خطأ فاحشا من حاكم عرف بدهائه وحنكته. لقد كانت اتفاقات الوفاق التي عقدها مع الكنيسة الكاثوليكية في روما وكذلك تتويجه إمبراطوراً قد جعلته مؤتلفاً مع الكاثوليك في أنحاء أوربا بل وجعلت كل ملوك أوربا تقريبا يقبلونه من الناحية الرسمية لكن معاملته السيئة للبابا في الفترة الأخيرة جعلت كل الكاثوليك تقريبا وكثيرا من البروتستنت ينفرون منه. لقد كانت الباباوية قد قويت

ص: 40

بسبب محاولة نابليون استخدامها كأداة سياسية، فالكنيسة الكاثوليكية الفرنسية التي كانت حتى ذلك الوقت غالية Gallican أي مناهضة لبابا روما، أصبحت الآن توقر الباباوية وتبدي ولاءها لها. والجزويت Jesuits (طائفة اليسوعيين) الذين سبق أن طردهم بابا خائف مرتعد، عادوا مرة أخرى يمارسون نشاطهم في مختلف أنحاء العالم المسيحي في ظل البابا بيوس السابع المهذب والمصمم في الوقت نفسه، وقد حدث هذا في سنة 1814.

وفي هذا العام نفسه استعادت الباوباوية سلطانها الزمني، بل وازداد سلطانها الروحي بسبب المقاومة الهادئة التي أبداها البابا السجين. وقد اعترف نابليون نفسه بسوء حكمه على البابا بيوس السابع وكان هذا الاعتراف بعد تنازله عن العرش للمرة الأولى:"لقد كنت دائما أعتقد أن البابا شخص ذو شخصية ضعيفة جدا .. لقد عاملته بقسوة. لقد كنت مخطئا. لقد كنت أعمى". ومن ناحية أخرى فإن البابا بيوس لم يقلل أبدا من شأن نابليون ولم يبخسه أبداً حقه، فقد أبدى إعجابه به كثيرا، بل لقد أظهر تعاطفا معه عندما سجن مع أنه (أي نابليون) كان سجانه. وعندما شكت أم نابليون للبابا من أن الإنجليز يسيئون معاملة ابنها في سانت هيلينا St. Helena، توسل بيوس للكاردينال كونسالفي Consalvi طالبا منه التدخل لصالح عدوه السابق الذي هوى. وعاش البابا بعد موت الإمبراطور بعامين. إذ مات في سنة 3281 وهو يهذي هذيان المحموم سافونا، فونتينبلو Savona ، Fontainebleau.

‌5 - ما وراء المعارك

المعارك هي الألعاب النارية في دراما التاريخ، فخلفها يكمن الحب والكراهية بين الرجال والنساء، والكفاح والمقامرة في مضمار الاقتصاد، والهزائم والانتصارات في مجالات العلوم والآداب والفنون والتطلع اليائس لعقيدة دينية.

وقد يكون الإيطالي عاشقا متعجلا، لكنه يعمل بحيوية على زيادة أفراد الجنس البشري (المعنى أنه كثير الجماع) كما أنه يريد أن يملأ شبه الجزيرة الإيطالية الذهبية بأمثاله، حتى إن المهمة الوحيدة للمعارك والحروب هي تقليص عدد السكان المزدحمين، ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية تشجع عدم الإنجاب بل كانت ترفضه أكثر من رفضها للزنا، لذا فلم تكن

ص: 41

الكنيسة تعمل على تحديد النسل وما كانت تستطيع وقف تضاعف عدد السكان.

لقد كانت الكنيسة تشجع العلاقات الغرامية مبتسمة لإيروس Eros (إله العشق عند الإغريق) ولم تفرض المحاذير على الشهوات المنطلقة في الكرنفالات. وكانت البنات غالبا ما يحتفظن بعذريتهن لأنهن كن يتزوجن في سن مبكرة، وكن يخضعن لمراقبة قاسية قبل الزواج، لكن بعد الزواج كان يمكن للمرأة أن يكون لها تابع يقوم بأمرها غير زوجها Cavaliere Servente أو حتى عشيق (لأن الزواج يعني عادة ضم ممتلكات الزوجين) ولا يجد الإيطالي غضاضة في اتخاذ زوجته عشيقا، إذ يظل الزواج رغم هذا محترما في نظره، وإذا اتخذت المرأة عشيقين أو ثلاثة اعتبرت (شبقه على نحو ما Little Wild) . وهذه على أية حال شهادة اللورد بايرون الذي كان يميل إلى "أن كل النساء يمكن الوصول إليهن". وربما كان حديثه منصرفا إلى نساء البندقية فقط حيث استقرت فيها فينوس (إلهة الحب عند الرومان) على نحو خاص، لكننا وجدنا ستندهال Stendhal يقول الشيء نفسه عن نساء ميلان في مؤلفه Chartreuse de Parme.

ورغم هذا التساهل والتسيب الخلقي، فالحياة في ميلان بدت كئيبة في نظر مدام دي ريموزا de Remusat التي حزنت لغياب الحياة الأسرية، فالأزواج غرباء بالنسبة إلى زوجاتهم إذ يتركونهن ليرعى أمورهن العشاق Servente Cavaliere . ولم تكن مدام دي ستيل de Stael سعيدة لما اعتبرته سطحية تبدو واضحة في مناقشات الرجال في إيطاليا، وكانت مدام دي ستيل متألقة في المناقشات التي أجرتها مع الجنسين. لقد كانت ترى أن "الإيطاليين يرهقهم التفكير". لقد ذكرها الإيطاليين بأن "الكنيسة لا ترتاح إلى التفكير بصوت مسموع". لقد كان غالب الإيطاليين متفقين مع البابا في أن الدين مع العقيدة المستقرة والعوائد المالية التي تدرها مناطق ما وراء الألب أكثر فائدة لإيطاليا ومع هذا كان هناك الكثير من الفكر الحر الهادئ بين الأقلية المتعلمة بل وقدر غير قليل من الهرطقة السياسية.

لقد كان باستطاعة ألفيري Alfieri أن يكتب بحماس عن الثورة الفرنسية وصفق مئات الإيطاليين لسقوط الباستيل، وكان في إيطاليا مؤسسات مختلطة (تضم رجالا ونساء) وتقدم تعليما مهذبا مثل أكاديمية أركاديا the Accademia dell' Arcadia التي كانت في

ص: 42

وقت من الأوقات تجمعا مشهورا للرجال المتعلمين والنساء المتعلمات، وتم تأسيس أكاديمية كروسكا Crusca في سنة 1812. وفي سنة 1800 كانت هناك امرأة هي كلوتيدا تامبروني Coltida Tambroni تقوم بتدريس اليونانية في جامعة بولونيا في إيطاليا.

وانتعشت دراسة العلوم والطب في جامعات إيطالية أخرى ففي سنة 1791 وضح لويجي جالفاني Luigi Galvani (1737 - 1798) في جامعة بولونيا الايطالية أنه إذا تم توصيل عضلة ساق الضفدعة بقطعة من الحديد، وتم توصيل عصبها (عصب الضفدعة) بقطعة من النحاس، نشأ عن ذلك تيار كهربائي وسيتسبب هذا التيار تقلص العضلة. وفي سنة 1795 اخترع أليساندرو فولتا Alessandro Volta (1745 - 1827) في جامعة بافيا البطارية الجافة Voltaic Pile التي أدهشت أوربا حتى إنه استدعى إلى باريس في سنة 1801 لعرضها في المعهد العلمي الفرنسي، وفي 7 نوفمبر، قرأ ورقة بحثية أمام جمهور ضم نابليون نفسه عن (تطابق الموائع الكهربائية Electric Fluid مع الموائع الجلفانية Galvanic Fluid) وفي سنة 1807 نشر لويجى رولاندو Luigi Rolando أبحاثه التي مازت هذه الفترة عن تشريح المخ.

إن إيطاليا عديمة الفكر كانت تعلم أوربا ثورة أعظم من الثورة الفرنسية.

وضعف المسرح الإيطالي لأن الإيطاليين وجدوا أنه من الطبيعي تماماً أن يحولوا الحديث العادي إلى أغان، والدراما إلى أوبرا، وكانت الجماهير تميل كثيرا إلى المسرحيات البسيطة ذات الطابع الكوميدي، أما الأفراد الأكثر نضجا فكانوا يؤثرون المسرحيات من نوع ما يكتبه فيتوريو ألفيري Vittorio Alfieri (1749 - 1803) التي أعلن فيها كرهه للطغيان وتطلعه لتحرير إيطاليا من الحكم الأجنبي، فكل مسرحياته تقريبا سبقت الثورة الفرنسية لكن مبحثه الانفعالي المفعم حماسا لم ينشر إلا سنة 1787 في بادن Baden مع أنه كتبه في سنة 1777، ولم ينشر في إيطاليا إلا سنة 1800 وأصبح بعد نشره من كلاسيكيات الفلسفة الإيطالية وفن الكتابة بالإيطالية. وأخيرا وجدناه في عمله الذي يحمل عنوان Misogallo (1799) الذي كتبه في أواخر حياته المضطربة - يدعو الشعب الإيطالي للنهوض والإطاحة بالحكم الأجنبي كما دعاه للوحدة. وهنا وجد مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi صوتا واضحا

ص: 43

يعبر عن أفكارهما.

لقد انعكست طبيعة الإيطاليين الانبساطية (غير الانطوائية) ولغتهم الشجية ونزوعهم الموسيقي إلى الشعر، فقد شهد هذا العصر القصير - حتى بعد استسلام ألفيري للماضي وليوباردي Leopardi للمستقبل - مائة شاعر يتسلقون الشكل الشعري ويركزون عليه أكثر من تركيزهم على محتواه العاطفي (المدرسة البرناسية Parnassus الفرنسية التي طغى اهتمامها بالشكل الشعوري على ما سوى ذلك)، وكان أسعدهم هو فينسينزو مونتي Vincenzo Monti (1754 - 1828) الذي كان لديه كلمات طيبة يقولها في كل موضوع واعد. لقد دافع في عمله La Bassevilliana (1793) عن الدين في وجه الثورة الفرنسية مما جعله مقبولا في البلاط الباباوي، وفي عمله (Il bardo della Selva Nera) المنشور في سنة 1806 عظم من شأن تحرير نابليون لإيطاليا فعينه الفاتح (نابليون) أستاذا في جامعة بافيا Pavia وبعد سقوط نابليون اكتشف أخطاء الفرنسيين وأعلنها كما اكتشف فضائل النمساويين. وخلال كل هذه التقلبات راح يمتدح بشكل متواصل (La ballezza dell، Universo) .

وقد تخطى هذه الشطحات في ترجمته للإلياذة (1810)، ولم يكن يعرف من اللغة اليونانية شيئا، وإنما قام بصياغة شعرية لنص نثري، لذا فقد وصفه فوسكولو بهذه العبارة: gran traduttor dei traduttore d'Omero وكان أجو فوسكولو Ugo Foscolo (1778 - 1827) شاعرا أكبر منه وكان أكثر ميلاً منه للحزن. وهو كشاعر كان ذا حس عاطفي يغلب على التفكير المنظم. لقد أطلق العنان لرغباته وانتقل من قصة شعرية قوامها الحب والفروسية إلى قصة أخرى، ومن بلد إلى بلد ومن بشارة gospel إلى أخرى، وانتهى إلى اشتياقه للأحلام القديمة. لكن خلال كل مراحل تطوره كان حريصا على الالتزام بالشكل الشعري، وحتى عندما استبعد الوزن والقافية راح يسعى للكمال في موسيقى اللغة.

لقد ولد بين عالمين - ولد في جزيرة زانطة Zante بين اليونان وإيطاليا، من أب إيطالي وأم يونانية، وبعد أن قضى في زانطة خمسة عشر عاما انتقل إلى البندقية واقتطف من جمالها السهل ووقع في حب تهتكها وتعلم أن يكره السيطرة النمساوية المجاورة، وفرح عندما أتى

ص: 44

نابليون كإعصار من نيس Nice إلى مانتوا Mantua، وهتف لبطل أركول Arcole: بونابرت المحرر، لكن عندما سلم المخلص (نابليون) البندقية للنمسا انقلب عليه معبرا عن سخطه في رواية (Le Ultime Lettere di Lacopo Ortis) التي نشرها في سنة 1798، وهي رواية يعبر فيها عن أفكاره من خلال الخطابات الأخيرة التي كتبها بندقي (Werther) لأحد أصدقائه يقص عليه فيها مأساته المزدوجة: فقده حبيبته إذ فاز بها غريمه، وفقده البندقية تلك المدينة الحبيبة إذ وقعت في قبضة الغول التيوتوني Teutonic Ogre.

وعندما انطلق النمساويون لغزو شمال إيطاليا مرة أخرى انضم فوسكولو للجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة في بولونيا Bologna (مدينة إيطالية) وفلورنسا وميلان وخدم قائداً Captain في القوات التي أعدها نابليون لغزو إنجلترا. وعندما تبدد حلم غزو إنجلترا، تخلى فوسكولو عن الحرية وعكف على القلم وعاد لإيطاليا ونشر أجمل أعماله (I Sepolcri) في سنة 1807.

لقد احتفى في هذه الرواية البالغ عدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة مفعمة عاطفة مصقولة على نحو كلاسيكي بالكتابات على القبور باعتبارها تخليدا لذكرى أناس عظماء، وعظم من شأن كنيسة سانتا كروز Santa Croce في فلورنسا لعنايتها الشديدة ببقايا مكيافيللي وميشيل أنجلو وجاليليو، وراح يتساءل كيف يخضع شعب أنجب خلال قرون عديدة هذا العدد الكبير من رواد الفكر والإنجاز لحكام أجانب؟ كيف يخضع مثل هذا الشعب بإنجازاته الهائلة في الفلسفة والشعر والفن لهؤلاء الأجانب؟ وراح يعلي من شأن ما خلفه الرجال العظماء كدليل على الخلود، وكدليل على عظمة أمة وسمو حياتها الروحية.

وعندما أصبح النمساويون مرة أخرى سادة لشمال إيطاليا (1814 - 1815) فرض فوسكولو على نفسه النفي فأقام في سويسرا ومنها اتجه - بعد ذلك - لإنجلترا، وراح ينفق على نفسه من عمله مدرساً وكاتب مقالات ومات في فقر شديد سنة 1827. وفي سنة 1871 نقل رفاته من إنجلترا إلى فلورنسا حيث دفن في سانتا كروز في إيطاليا التي تحررت أخيرا.

قال بايرون (الذي أحب إيطاليا رغم قوله هذا):

"في إيطاليا لا بد أن يكون الرجل في

ص: 45

خدمة امرأة Cicisbeo أو مغنياً في ثنائي أو متقناً لفن الأوبرا وإلا فإنه يصبح لا شيء".

فالأوبرا الإيطالية خاصة تلك التي كان يتم إنتاجها في البندقية ونابلي ظلت تسود المسارح الأوربية الهادفة، بعد أن تحداها لفترة وجيزة جلوك Gluck وموزارت Mozart، إذ سرعان (1815) ما سرقت أعمال روسيني Rossini الميلودية melodies وأنغامه العاصفة الأضواء حتى في فيينا Vienna. وقد عاد بتشيني Piccini - بعد أن نافس جلوك Gluck في باريس - إلى نابلي، حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لتعاطفه مع الثورة الفرنسية.

وبعد أن فتح نابليون إيطاليا دعي مرة أخرى إلى فرنسا (1798) لكنه مات فيها بعد عامين. وقد حقق بيسيلو Paisiello - كمؤلف وقائد فرقة موسيقية - انتصارات فنية في سان بطرسبرج وفي فيينا، وفي باريس، وفي نابلي في ظل حكم فرديناند الرابع، وبعده في ظل حكم جوزيف بونابرت، ثم في ظل حكم Murat. وخلف دومينيكو سيماروزا Domenico Cimarosa خلف أنطونيو ساليري Salieri كقائد أوركسترا في فيينا وأنتج هناك أكثر أعماله الأوبرالية شهرة في سنة 1792 وهي (IL matrimonio Segreto) وفي سنة 1792 دعاه فرديناند للعودة إلى نابلي كما يسترو maestro di Capella،

وعندما استولى الفرنسيون على نابلي استقبلهم بسرور، وعندما استعاد فرديناند عرشه حكم عليه بالإعدام لكن هناك من حثه على تخفيف الحكم فصدر قرار بنفيه خارج البلاد، فانطلق سيماروزا قاصدا سان بطرسبرج، لكنه مات في الطريق إليها في البندقية (1801)، وفي هذه الأثناء كان موزيو كليمنتي Muzio Clementi يؤلف الموسيقى ويعزف على البيانو في العواصم المختلفة، وكان يعد عمله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (Gradus ad Parnassum) في سنة 1817 وهو كتاب تعليمي للشباب لمن يرغب تعلم العزف على البيانو في كل مكان.

وبدأ نيكولو (نيقولا) باجانيني Niccolo Paganini (1782 - 1840) في جنيف في سنة 1797 مهمته التي قضى فيها ردحا طويلا من الزمن إذ راح يحيي الحفلات بالعزف على الفيولين (الكمان). لقد أحب الكمان بإخلاص وعشقه أكثر من أي امرأة من الكثيرات اللائي تدلهن حبا في موسيقاه. لقد طور إمكانات الكمان بشكل لم يسبق له

ص: 46

مثيل عزفاً وتأليفا. لقد ألف أربعة وعشرين لحنا حرا Capricci أدهشت بغرابتها وتطورها كل من سمعها. وقد عينته إليزا بونابرت باكيوش (باكيوكي Bacciocchi) على رأس فرقة موسيقية في بيمبينو Piombino (1805) لكن هذا التعيين لم يمنعه لفترة طويلة من تنقلاته إلى حيث كانت كونشرتاته تجلب له الشهرة والنجاح الأكيدين، والثروة.

وفي سنة 1833 استقر في باريس، ومنح بيرليوز Berlioz عشرين ألف فرنك لينقذه من فقر شديد كان يعانيه، وشجعه لتأليف عمله (هارولد في إيطاليا). لقد أصبح باجانيني Paganini مرهقا إرهاقا شديدا بسبب انهماكه الشديد في العمل والعزف، فقرر أن يترك الإثارة في العاصمة المفتونة بالعبقرية والتي تعج بالثورة. ومات في نيس Nice سنة 0481 تاركا بالإضافة إلى ألحانه الحرة السابق ذكرها ثمانية كونشرتات concertos والعديد من السونتات sonatas يتحدى بها عازفي الفيولين (الكمان) والذين يؤلفون مقطوعات له (للفيولين) لقرن قادم. إن فن العزف على الفيولين وتأليف مقطوعات للعزف على هذه الآلة لم يعودا بمثل هذه الحيوية إلى الآن وبفضله.

‌6 - أنطونيو كانوفا:

1757 - 1822 م

ANTONIO CANOVA

كانت إيطاليا في عصر نابليون منشغلة تماما بالحروب والسياسة بائسة تماما في روحها العام ليس بها من الأعمال الخيرية الخاصة إلا القليل وهما الأمران اللازمان لنشر الفنون خاصة فن العمارة الذي أعلى من شأن إيطاليا في الوقت الذي كانت فيه كل أوربا ترسل بنسي Pence القديس بطرس للباباوات، وفي الوقت الذي كانت فيه فلورنسا والبندقية وميلان مثل روما ونابلي - ثرية وتحكم نفسها بنفسها أو بتعبير آخر تتمتع بحكم ذاتي. لقد ارتفعت شامخة بعض الإنشاءات المتميزة:

- Arco della Pace في ميلان (1806 - 1833) التي قام عليها لويجي كاجنولا Luigi Cagnola.

- Teatro La Fenice (مسرح البندقية) في البندقية (1792) الذي قام عليه أنطونيو سيلفا Antonio Selva.

ص: 47

- Palazzo Braschi (قصر برازش) في روما (1795) بسلمه الفخم الذي قام عليه كوزيمو موريللى Cosimo Morelli's ولم تشهد إيطاليا رسوما (فن تصوير) خالدةً.

ولكن النحاتين الإيطاليين استلهموا الآثار الهرقلية Herculaneum لينبذوا تأثيرات فن الباروك baroque العربية وضخامة الروكوكو rococo ليعودوا يستلهمون الروعة والهدوء والخطوط البسيطة في فن النحت الكلاسيكي. وقد ترك لنا واحد من هؤلاء النحاتين أعمالا لا تزال تستوقف الرائي، وتغريه بلمسها، وتبقى في ذاكرته إنه أنطونيو كانوفا الذي ولد في بوساجنو Possagno (بوسانو) عند سفح جبال الألب في البندقية. وكان أبوه - وكذلك جده - نحاتا، وقد تخصص الأب والجد في أعمال النحت المرتبطة بمذابح الكنائس وكذلك في نحت الأيقونات وتماثيل القديسين وغير ذلك من المنحوتات ذات الطابع الديني المسيحي.

وعندما مات الأب (1760) أخذ الجد ابن ابنه أنطونيو إلى بيته ثم بعد ذلك إلى الأستوديو الخاص به. ولفت أنطونيو أنظار شريف أرسولو Arsolo (الشريف Patrician لقب للأرستقراطي الروماني) جيوفاني فالير Giovanni Falier لدأبه على العمل وتوقه الشديد للتعلم، فقدم له المال اللازم لدراسته في البندقية ورد له الشاب جميله بأن قدم له أول منحوتاته اللافتة للنظر (أورفيوس ويوريديس Orpheus & Eurydice) وفي سنة 1779 انطلق - بموافقة الشريف فالير - إلى روما، فدرس فيها آثار الفنون القديمة،، وراح أكثر فأكثر يستوعب تفسيرات وشروح فنكلمان Winckelmann للنحت الإغريقي باعتباره فناً يهدف إلى تمثّل الجمال المثالي من خلال الشكل الكامل والخط كأفضل وأتم ما يكون. لقد كرّس نفسه تماماً لإحياء الأسلوب الكلاسيكي في النحت.

وحثّ أصدقاؤه في البندقية الحكومة على دفع راتب سنوي له طوال السنوات الثلاث التالية فأصبح يتلقى بناء على هذا ثلاثمائة دوكات ducats في العام. ولم تُلهه هذه الأموال ولم تَعُقه عن مواصلة ما نذر نفسه له فقد راح - بحب - يحاكي النماذج الكلاسيكية وبدا في بعض الأحيان وقد أنتج مثيلا يضارعها تماماً كما في تمثال بيرسيوس Perseus وعمله الذي أطلق عليه The Pugilist، وقد أنجز كلا العملين في سنة 1800، فكانا هما العملين الوحيدين من بين أعمال النحّاتين المعاصرين اللذين استحقا أن يوضعا في بلفيدير Belvedere الفاتيكان

ص: 48

جنباً إلى جنب مع الأعمال الفنية الكلاسيكيّة التي حازت إعجاب العالم.

وعملهُ النحتيّ "ثيزيوس يذبح القنطور"(كائن خرافي نصفه فرس ونصفه بشر)" Theseus Slaying the Centaur"(1805) - وهو نحت من رخام - موجود الآن فيما كان يعرف في وقت من الأوقات بالحدائق الإمبراطورية في فيينا - يمكن ببساطة أن يخطئ المرء فيظنه من الأعمال النحتية الخالدة في العصور القديمة، لولا المبالغة في إظهار القوة والضراوة، وكان كانوفا أفضل ما يكون في الأعمال ذات الطابع الناعم (المقصود غير العنيف) التي تتلاءم مع شخصيته كما في تمثاله هيب Hebe الموجود في المتحف الوطني في برلين، ففي هذا العمل نجد ابنة زيوس Zeus وهيرا Hera وهي ربّة الشباب تحظى بشرف توزيع النبيذ على الأرباب.

وبدأ كانوفا في عام 1805 وهو عامه العامر بالإنتاج أشهر تماثيله: "فينوس Venus Victrix"(في متحف بورجيز في روما Galleria Borghese) وقد حث بولين بورجيز Pauline Borghese - أخت نابليون - أن تتخذ أمامه هذا الوضع (البوز Pose) لينحت لها تمثالاً يعبّر عن مفاتنها، وكانت وقتها في الخامسة والعشرين في تمام تكوينها الجسدي لكن قيل إن الفنان لم ينقل مباشرة إلاّ ملامح وجهها (لم يستخدم - كموديل - إلاّ وجهها) أما الملابس والأطراف فقد أعمل فيها خياله وأحلامه وذاكرته. وانتهى من هذا التمثال في غضون عامين ثم عرضه ليحكم عليه العامة والنحّاتون المنافسون، فراعهم التمثال بما فيه من جمال عزيز ولمسة حب، وفي هذا التمثال لم يكن الفنان مجرَّد مقلّد لبعض الأعمال القديمة العظيمة الخالدة، وإنما كان تعبيراً عن امرأة حية في زمن حي، كانت في رأي أخيها (نابليون) هي الأجمل. لقد جعل منها كانوفا هدية للأجيال.

وفي سنة 1802 دعا نابليون الفنان كانوفا ليأتي من روما إلى باريس، فنصحه البابا بيوس السابع - وكان قد وقَّع لتوّه اتفاقا (كونكوردات) مع القنصل (نابليون) - بتلبية الدعوة والذهاب لفرنسا لأسباب ليس أقلها أن يكون غازيا إيطاليا آخر يغزو فرنسا (تلميح لأصول نابليون الإيطالية) وأفضل التماثيل النصفية العديدة التي نحتها هذا الفنان لنابليون هو ذلك التمثال الموجود في متحف نابليون في كاب دنتيب Cap d'Antibes إذ يبدو المحارب

ص: 49

الشاب في هذا التمثال وكأنه أرسطو في حالة تأمل حقيقي والأكثر شهرة بكثير هو التمثال الكامل (من الرأس إلى القدمين) الذي صنعه كانوفا من الجص ثم نحته بعد ذلك من كتلة واحدة من رخام كارارا Carrara marble عند عودته لروما.

وتم إرسال هذا التمثال إلى باريس في سنة 1811 حيث وُضع في متحف اللوفر، لكن نابليون اعترض على هذا التمثال بحجة أنَّ شارة النصر المجنّحة التي وضعها النحّات في يمينه تبدو للرائي وكأنها تطير مبتعدة عنه، فتم حجب التمثال عن المشاهدين وفي سنة 1816 اشترته الحكومة البريطانية وأهدته إلى ولينجتون Wellington، وهو الآن موجود أدنى سلّم قصر ولينجتون Wellington في لندن (بيت أبسلي Apsley) ويبلغ ارتفاعه أحد عشر قدماً. وقدم كانوفا إلى باريس مرة أخرى في سنة 1810 لنحت تمثال لماري لويز Marie Louise وهي جالسة على مقعد. ولم تكن النتيجة محل إعجاب لكن نابليون قدَّم للفنان عند رحيله الأموال اللازمة لترميم كاتدرائية فلورنسا ومبلغا لتمويل أكاديمية القديس لوك Luke (للفنون) في روما. وبعد سقوط نابليون أصبح كانوفا رئيساً لهيئة عيَّنها البابا لاستعادة الأعمال الفنية التي كان الجنرالات الفرنسيون قد أرسلوها لباريس، وردّها لأصحابها الأصليين.

لقد تربّع على عرش النحت الإيطالي في عصره، ولم يبزّه في أوربا إلاّ هودون Houdon (1741 - 1828) الذي حظي في هذه الفترة بالتوقير، وكان من رأى بايرون الذي كان أكثر ألفة في إيطاليا منه في فرنسا أن أوروبا والعالم ليس فيها إلاّ كانوفا واحد وأنه - أي كانوفا - يضارع نحّاتي العصور الكلاسيكية القديمة وربما كان أحد أسباب الاحتفاء به هو موجة الكلاسيكيّة الجديدة التي جعلته - كما جعلت ديفيد (ساعد نابليون كليهما) يتبوأ مقعد الريادة في فنّه. لكن أوروبا لم تكن لترضى لفترة طويلة بتقليد (أو نسخ) الأعمال الفنية القديمة أو بتعبير آخر لم تكن لترضى - لفترة طويلة - بتقليد الآثار، لذا فسرعان ما أخضعت الحركة الرومانسية الخط والشكل للون والمشاعر وهكذا زوت شهرة كانوفا.

ولا يبعد عن سياق حديثنا أن نذكر أن كانوفا كان رجلا طيبا معروفا بتواضعه وتقواه وحبه للإحسان كما كان قادراً على تقدير منافسيه وعدم بخسهم حقهم، وكان يعمل

ص: 50

بجد، وعانى من جو روما المسبب للملاريا malarial air ومن نحت الأعمال الضخمة، فغادر روما في صيف سنة 1821 طالبا هواء أنقى وحياة أهدأ في مسقط رأسه بوسّاجنو Possagno (بوسّانو) وفيها مات في 13 أكتوبر 1822 وهو في الرابعة والستين من عمره فبكاه كل المثقفين في إيطاليا.

‌7 - ستُبعثُ إيطاليا من جديد

ما هي المحصلة الجبرية (نسبة إلى علم الجبر) الكلية لما أحدثته فرنسا من خير وشر في إيطاليا في هذا العصر؟ لقد قدمت فرنسا لأمّة تتمرّغ في الكسل بسبب حكم الأجانب لها، صيحة صاخبة ونموذجاً لأمة حقّقت حريتها بإرادتها وأفعالها وهي تكاد تميَّزُ من الغيظ. لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا روحاً جديدة مفعمة بالتحدي فيما يتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة. لقد قدّمت فرنسا لإيطاليا مجموعة المدوّنة النابليونية. لقد كانت صارمة لكنها كانت بنّاءة ومحدّدة وواضحة ضبطت الأمور وأشاعت النظام ومهدت الطريق للوحدة والمساواة أمام القانون في شعب طالما قسّمته الطبقية والنفور من الامتثال للقانون.

وعمل نابليون ورجال إدارته النشيطين على تحسين الأداء الحكومي وتطهيره وعلى الإسراع بالتنفيذ ومضاعفة الأشغال العامة (المشروعات العامة) وتزيين الطرق وإنشاء الحدائق والشوارع التي تحفها الأشجار، وتطهير الطرق والمستنقعات والترع والقنوات، وتأسيس المدارس وإلغاء محاكم التفتيش وتشجيع الزراعة والصناعة والعلوم والآداب والفنون. وحمى الحكم الجديد (الفرنسي) دين الناس لكنه لم يعطِ الحكومة حق قمع المنشقين عن الكنيسة. لقد كان نابليون المتشكك (غير المؤمن بالكاثوليكية) هو الذي خصّص الأموال لإكمال كاتدرائية ميلان، وتم الإسراع بالإجراءات القانونية كلها كما أُدْخل عليها الإصلاح، وأصبح التعذيب مخالفاً للقانون ولم يُعد استخدام اللغة اللاتينية في المحاكمة أمراً لازماً، وفي هذه الفترة (1789 - 1813) لم يكن ينقص جوزيف Joseph ومورا Murat في نابلي ويوجين في ميلان إلاّ أن يكونوا إيطاليين ليحظوا بحب الشعب.

أما الجانب الآخر للصورة فيتمثل في التجنيد الإلزامي والضرائب والاختلاس (بمقادير قليلة). لقد وضع نابليون نهاية للصوصية وقطع الطرق، لكنه استولى على الأعمال الفنية

ص: 51

الشهيرة التي كانت إيطاليا متخمة بها، وفيما يتعلق بالتجنيد الإجباري فقد كانت حجج نابليون هي الأكثر معقولية باعتباره - أي التجنيد الإجباري - وسيلة عادلة لحماية الأمة الجديدة من الفوضى الداخلية والحكم الأجنبي، فالإيطاليون كما قال لابد أن يتذكروا أن الجيش هو الدّعم الأساسي للدولة. لقد آن الأوان أن يكف الشباب العاطل في المدن الكبيرة عن الخوف من متاعب الحروب وأخطارها. وربما كان التجنيد الإجباري مقبولاً كشّرٍ لابد منه لو أن المجنّدين الإيطاليين لم يجدوا أنفسهم عُرضة للذهاب إلى أي جبهة لحماية مصالح نابليون أو فرنسا، لقد تحرك ستة آلاف منهم إلى القنال الإنجليزي في سنة 1803 للانضمام للجيش الفرنسي لغزو إنجلترا، ذلك المشروع الذي كان غير مضمون النتائج. وتحرك ثمانون ألفا منهم ليُقذف بهم بعيداً عن شمس إيطاليا ليعانوا في سهول روسيا ويدهمهم جليدها، ويواجهوا جنود القوزاق Cossacks .

ولم يوافق الإيطاليون على وطنيّة الضرائب Patriotism of Taxation، ففي حالة الضرائب أيضاً لم يكن العامل الإيطالي يدفع لحماية إيطاليا وحدها وحكمها وتحسين ظروفها، وإنما أيضاً لمساعدة نابليون في مواجهة المصاريف المتزايدة المطلوبة لإدارة إمبراطورياته الممتدّة والمتقلقلة (غير المستقرة). وكان يوجين يتوقع أن يحظى بحب رعاياه بينما هو يسلب ما في جيوبهم، إذ ارتفعت عوائد الضرائب في مملكته الصغيرة من 82 مليون فرنك في سنة 1805 إلى 144 مليون في سنة 1812، وكان من رأي الإيطاليين أن هذه الأعباء الثقيلة كان من الممكن تحملها بشكل أيسر إذا لم يسلب الحصار القاري الذي فرضه الإمبراطور (نابليون) السوق الإنجليزي من الصناعة الإيطالية، بينما كانت جمارك التصدير والاستيراد التي تجعل فرنسا في الوضع الأكثر رعاية قد كبّلت التجارة الإيطالية بالتعامل مع فرنسا وألمانيا.

وعلى هذا فحتى قبل عودة النمساويين، كان الإيطاليون قد تعبوا من حماية نابليون. لقد شعروا أنهم لم يفقدوا أعمالهم الفنية العظيمة فحسب، وإنما كانوا أيضاً عُرضة لاستنزاف ثرواتهم التي كونوها في سبيل مشروع نابليون لغزو إنجلترا وفتح روسيا، ولم يكن هذا هو حُلم شعرائهم. إنهم يعترفون أن المسئولين الذين عينهم البابا كانوا قد سمحوا

ص: 52

بدرجة كبيرة من الفساد والرشوة في الولايات الباباوية ومع هذا فقد ساءتهم المعاملة السيئة التي لاقاها البابا بيوس السابع من المسئولين الفرنسيين كما ساءهم أن يأمر نابليون بسجنه، وأخيراً كرهوا حتى يوجين المحبوب فعلى يديه جرى تنفيذ كثير من مراسيم نابليون التي لم تكن تلقى منهم ترحيباً وقد رفضوا دعْم جهود يوجين لإرسال دعم لنابليون عندما كان عُرضة لهزيمة كاملة (1813) بعد ليبسج (ليبزج) Leipzig. لقد فشلت جهود تحرير إيطاليا بواسطة حكم أجنبي وجيش من الغرباء، وكان على التحرير أن ينتظر وحدة وطنية من خلال جيش إيطالي ورجال دولة إيطاليين وأدب إيطالي.

وقد تنبأ نابليون نفسه بهذه الصعوبات، وكانت حساباته صحيحة هذه المرة، رغم أنه أساء الحساب كثيراً فيما يتعلق بإيطاليا، ففي سنة 1805 - عام تتويجه ملكاً على إيطاليا. قال لبوريين Bourrienne:

" لا يمكن أن يكون اتحاد إيطاليا مع فرنسا إلاّ مؤقتاً، لكنه ضروري لتعويد أمم إيطاليا (المقصود دولها) على العيش معاً في ظل قانون عام. فهناك كراهية متبادلة بين الجُنويين Genoese، والبيدمونتيين Piedmontese، والبنادقة Venetians، والميلانيين وأهل تسكانيا وأهل روما وأهل نابلي .. وروما هي العاصمة الطبيعية لإيطاليا بسبب التراث المرتبط بها. وعلى أية حال، فكي تكون روما كذلك (عاصمة طبيعية) من الضروري تقييد سلطة البابا في نطاق الأمور الروحية الخالصة. إنني لا أستطيع الآن التفكير في هذا لكنني سأنظر فيه مستقبلا .. إن هذه الدول الإيطالية الصغيرة ستصبح تلقائياً معتادة على القوانين نفسها، وعندما تخف حدة عداواتها ستصبح هناك إيطاليا واحدة، وسأجعلها مستقلة. لكن هذا قد يستغرق مني عشرين عاما، ومن منا يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل؟ ".

إننا لا نستطيع دوما الثقة في بوريين لكن لا كاس Las Cases روى أن نابليون ذكر ما يشبه فحوى هذا الكلام في سانت هيلينا:

"لقد زرعتُ في قلوب الإيطاليين مبادئ لا يمكن انتزاعها أبداً، فعاجلاً أم آجلاً سيتحقق البعث الإيطالي".

وقد حدث هذا بالفعل.

ص: 53

الفصل السابع والعشرون

‌النمسا

من 1780 إلى 1812 م

‌1 - أباطرة متنورون:

1780 - 1792

في سنة 1789 كانت النمسا واحدة من دول أوربا الكبرى معتزّة بتاريخها وثقافتها وقوتها وبإمبراطوريتها الأوسع كثيرا من النمسا ذاتها. واسم النمسا (أوستريا Austria) من كلمة (أوستر Auster) التي تعني ريح الجنوب ثم انصرف معناها ليعني شعبا صارما تيوتونيا Teutonically وإن كان - رغم صرامته - حسن الطباع محباً للفكاهة يشارك بسعادة في مباهج الحياة ويشارك الإيطاليين جنونهم بالموسيقى. وكانت النمسا أمة سلتية Celtic عندما غزاها الرومان قبل ظهور المسيح بفترة وجيزة، وظهر أنها احتفظت عبر ألفي سنة بشيء من حيوية السلتيين وثقافتهم وذكائهم، وشيد الرومان في فيندوبونا Vindobona (التي أصبحت فيينا Vienna ثم فِيِن Wien) قاعدة أمامية لحضارتهم في مواجهة البرابرة المتطفّلين المهاجمين،

وفي هذا الموضع كبح ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius الماركوماني Marcomanni في نحو 170 م - بين أفكار ذهبية، وفي هذا المكان وضع شارلمان العلامة الشرقية East Mark أو الحدود الشرقية لمملكته، وفي هذا المكان، في سنة 955 م أقام أوتو Otto العظيم مملكته الشرقية his Osterreich في مواجهة الماجيار Magyars، وفي هذا الموضع في سنة 1278 أسس رودلف الهابسبورجي Rudolf of Hapsburg (من أسرة الهابسبورج) حكم أسرة حاكمة استمر حكمها حتى سنة 1918. وفي الفترة من 1618 إلى 1648 هبت ريح الجنوب كاثوليكية عنيفة فهبت العقيدة القديمة في مواجهة العقيدة الجديدة واستعرت الحرب بينهما ثلاثين عاما،

ص: 55

وتدعّمت تلك العقيدة عندما وقفت فيينا في سنة 1683 وللمرة الثانية كحصن للدفاع عن العالم المسيحي بصدها التقدم التركي (العثماني).

وفي هذه الأثناء نشرت أسرة الهابسبورج الحاكمة حكم النمسا على الدوقيات المجاورة: ستيريا Styria، وكارنثيا Carinthia وكارنيولا Carniola والتيرول Tirol وعلى بوهيميا Bohemia (تشيكوسلوفاكيا) وترانسلفانيا Transylvania (رومانيا) والمجر (هنجاريا) وجاليسيا Galicia البولندية ولومبارديا Lombardy والأراضي المنخفضة الإسبانية (بلجيكا). وعندما دقّ نابليون بوابات فيينا للمرة الأولى في سنة 1797 كان هذا هو وضع إمبراطورية النمسا ذات الممتلكات المبعثرة على هذا النحو ووصل الهابسبورج أَوْجهم في عهد ماريا تريزا Maria Theresa (حكمت من 1740 إلى 1780)، هذه الأم العنيدة المدهشة التي نافست كاترين الثانية Catherine II وفريدريك الكبير بين ملوك عصرها.

لقد فقدت سيليزيا Silesia أمام دهاء فريدريك المكيافيللي لكنها - بعد ذلك - حاربته مع شعبها وحلفائها حتى وصل الطرفان إلى طريق مسدود، واستنزفتهما الحرب تماما، وعاشت لتضع خمسة من أبنائها البالغين ستة عشر ابناً على عروش مختلفة: جوزيف في فيينا وليوبولد في تسكانيا Leopold in Tuscany، وماريا أماليا Maria Amalia في بارما Parma وماريا كارولينا في نابلي وماري أنطوانيت في فرنسا. ونقلت مملكتها على كُره منها لابنها الأكبر، لأنها كانت منزعجة لعدم يقينه الديني (كان لا أدرياً) كما كان ميّالاً للإصلاح، وتنبأت أن شعبها الراسخ في حبه لها لن يكون سعيداً إذا حدث ما يُعكر صفو عقائده التقليدية وأساليبه المعتادة في الحياة.

وبدا حكمها صائباً بسبب الاضطرابات التي أربكت جوزيف الذي شاركها العرش من سنة 1765 إلى 1780 ثم تبوّأه عشر سنوات أخرى. لقد صدم الأرستقراطية بتحريره أقنان الأرض Serfs، وصدم السكان الكاثوليك ذوي الشوكة بإعجابه بفولتير وبسماحه للبروتستنت بممارسة طرائقهم في العبادة، وبإزعاجه المستمر للبابا بيوس السادس Pius VI . وكان عليه أن يعترف في أواخر أيامه، وكان جهازه الإداري المحيط به غير مؤيّد له لأن الفلاحين الذين انفصلوا فجأة عن سادتهم الإقطاعيين قد أساءوا استخدام حريتهم، وأنه قد عطّل المسيرة الاقتصادية وأنه قد كان سببا في ثورة الطبقات العليا في المجر والأراضي المنخفضة النمساوية بل لقد هدّد وجود الإمبراطورية النمساوية نفسها، لقد كانت أهدافه خيّرة لكن

ص: 56

أساليبه في الحكم كانت قائمة على إصدارة ما لا حصد له من القرارات والمراسيم التي تفرض النتائج ولا تهيّئ الأسباب أو بتعبير آخر لا تضع وسائل التنفيذ في الاعتبار.

لقد قال عنه فريدريك الكبير: "إنه دائماً يتخذ الخطوة الثانية قبل الخطوة الأولى" ومات في 20 فبراير سنة 1790 آسفا على إجراءاته الطائشة المندفعة، حزيناً على النزوع العام للمحافظة ذلك النزوع الذي يُفضِّل كثيراً ما هو مألوف معتاد على إجراء الإصلاح المطلوب.

أما أخوه ليوبولد فقد شاركه أهدافه ولكنه لم يشاركه تعجّله، فرغم أنه كان في الثامنة عشرة من عمره فحسب عندما تولّى منصب دوق تسكانيا الكبير (1765) إلاّ أنه باشر سلطته بحذر وجمع حوله إيطاليين ناضجين (مثل سيزاري بيكاريا Cesare Beccaria) وأدرك طبيعة الشعب وتآلف معها، وعرف احتياجات الدوقية وإمكاناتها، وبذلك قدّم لمملكته التاريخية حكومة كانت موضع حسد أوربا. وعندما أدّى موت أخيه إلى وصوله لمرتبة القيادة الإمبراطورية كان قد أصبح ذا خبرة امتدت خمسة وعشرين عاماً، فخفّف من حدة بعض إصلاحات أخيه (جوزيف) فجعلها أكثر اعتدالاً، وألغى بعضها الآخر، لكنه اعترف تماماً بالتزام الإمبراطور المتنوّر بزيادة فرص التعليم لشعبه، وتوسيع المجالات الاقتصادية أمامه.

لقد سحب الجيش النمساوي الذي كان أخوه قد أعدّه دون تقدير للعواقب لمهاجمة تركيا (الدولة العثمانية) واستخدمه لحث بلجيكا على العودة للتحالف مع النمسا. وهدّأ نبلاء المجر بالاعتراف بالدايت Diet المجري ودستور المجر، وهدّأ البوهيميين Bohemians بأن أعاد إلى براغ تاج ملوك بوهيميا القدماء وقبل التتويج هناك في كاتدرائية القديس فيتس Vitus. لقد علم أن الملك يمكن ألا يكون له مكان إذا تم الحفاظ على الشكل.

وفي هذه الأثناء قاوم محاولات المهاجرين الفرنسيين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية) وملوك أوربا لجرّه إلى حرب مع فرنسا الثورة. لقد شعر بمأزق أخته الأصغر منه - ماري أنطوانيت، لكنه خشي أن تؤدي حربه مع فرنسا إلى فقدانه بلجيكا التي لازالت الأحوال فيها غير مستقرة. ومع هذا فعندما توقف لويس السادس عشر وماري أنطوانيت في هروبهما عند فارين Varennes وأُعيدا إلى باريس ليعيشا حياة يتعرضان فيها للخطر كل يوم اقترح ليوبولد على الملوك الموالين له أن يتخذوا إجراء موحّداً لضبط الثورة

ص: 57

الفرنسية والسيطرة عليها فالتقى فريدريك وليم الثاني البروسي مع ليوبولد في بلنيتز Pillnitz ووقعا معا إعلانا (في 27 أغسطس 1791) هددا فيه بالتدخل في شؤون فرنسا.

وبقبول لويس السادس عشر لدستور الثورة الفرنسية (13 سبتمبر)، بدا هذا الإعلان بلا معنى، لكن الفوضى استمرت وزادت وأصبح الملك الفرنسي والملكة الفرنسية مرة أخرى في خطر، فنظَّم ليوبولد التعبئة العامة في الجيش النمساوي، وطلبت الجمعية الوطنية الفرنسية تفسيراً لهذا غير أن ليوبولد مات (أول مارس 1792) قبل أن تصله رسالة الجمعية الوطنية الفرنسية. ورفض ابنه وخليفته فرانسيس الثاني (24 عاماً) الإنذار، وفي 20 أبريل أعلنت فرنسا الحربَ على النمسا.

‌2 - فرانسيس الثاني

FRANCIS

تلك القصة وصلتنا من وجهة نظر فرنسية فما هي وجهة نظر النمساويين وكيف شعروا بهذا الأمر؟ لقد سمعوا أن أرشدوقتهم Archduchess - التي كان جمالها قد أطلق عنان فصاحة إدموند بورك Edmund Burke - يحتقرها أهل باريس ويُطلقون عليها ساخرين (المرأة النمساوية L'Autrichienne) وأن جماهير باريس جعلوها سجينة قصر التوليري، وأن الجمعية الوطنية الفرنسية خلعتها بعد ذلك وأودعتها السجن. لقد سمعوا عن مذابح سبتمبر وكيف أن رأس الأميرة دي لامبل de Lamballe المتصلب قد يُعرض على رأس رمح على مرأى من الملكة التي كانت تحبها.

لقد سمعوا أن الشيب غزا شعرها، وأنها ركبت عرب السجناء في طريقها لتُعدم بالمقصلة وحولها جمع غفير من الجماهير يسخرون منها. ولم يكن هناك ما هو أكثر من هذا يجعلهم يجأرون لإمبراطورهم الشاب ليقودهم في حرب ضد هؤلاء الفرنسيين القتلة، ولا يهم أنه كان ذا عقل متوسط وأنه كان إمبراطوراً خيّراً لكنه غير متقِن، وأنه اختار جنرالات غير أكفاء وأنه سلَّم النمسا جزءاً بعد جزء وترك عاصمتها تحت رحمة الغازي، فهذه الهزائم جعلت النمساويين يحبون فرانسيس أكثر،

لقد بدا لهم الحاكم الذي عينته العناية الإلهية وكرّسه البابا وتبوأ العرش بشرعية لا تقبل التحدي وأنه كان يدافع عن شعبه بقدر ما يستطيع ضد البرابرة القتلة وهو الآن يدافع عنهم ضد الشيطان الكورسيكي Corsican

ص: 58

(نابليون)، إن رفضه لكل ما هو ليبرالي مما تركه عمه وأبوه، وإعادته للسخرة والرسوم الإقطاعية ورفضه لأي تحوّل من الأوتوقراطية إلى الحكم الدستوري - كل ذلك كان مغفوراً له مُتسامحاً فيه بعد أوسترليتز Austerlitz وبريسبورج Pressburg. لقد دخل عاصمته مرة أخرى مضروباً مهزوماً منهوباً. لقد أخلص له شعبه إخلاصاً لا مزيد عليه. إن الشعب النمساوي لم ير في كل الأحداث المتلاحقة طوال السنوات الثماني الآتية التي انتصر فيها الشر سوى أن حاكمهم الطيب سينتقم لا محالة من أعداء النمسا وسيستعيد كلَّ سلطانه وممتلكاته التي ورثها، وكانوا على يقين من هذا كيقينهم بأن الرب موجود.

‌3 - ميترنيخ

METTERNICH

لقد كان الرجلُ الذي قاد فرانسيس الثاني لهذا الإنجاز قد وُلد في كوبلنتس Coblenz (كوبلنز) على شاطئ الراين في 15 مايو سنة 1773 وجرى تعميده باسم كليمنس فنزل فون ميترنيخ Klemens Wenzel Von Metternich وكان هو الابن الأكبر للأمير فرانتس (فرانز) جورج كارل فون ميترنيخ Franz Georg Karl von Metternich ممثل النمسا في بلاطات الأمراء الناخبين Electors الأمراء من (الأمراء المؤهلين لاختيار رأس الإمبراطورية) في كل من تريير Trier ومينز Mainz وكولوني Cologne . وتلقى الصبي اسميه الأوليين من أول هؤلاء الحكام الإكليريكيين ولم ينس أبداً ارتباطه الديني وولاءه خلال نزوعه لأفكار فولتير في شبابه ونزوعه لأفكار مكيافيللي عند توليه الوزارة.

وكان من أسمائه أيضاً لُوثَر لتذكير أوربا أن أحد أجداده الذين حملوا هذا الاسم حكم تريير Trier في القرن السابع عشر. وأحياناً كان يضيف إلى اسمه (فينبرج بيلشتين Winneburg Beilstein) ليشير إلى الممتلكات التي كانت الأسرة قد امتلكتها طوال ثمانية قرون وأن الخمسة والسبعين ميلا مربعاً التي امتلكتها أسرته هي مبرر كافٍ للفظ الدّال على النبالة الذي يحمله وهو (فون Von) من الواضح أن الرجل لم يُخلق ليحب الثورات أو يقودها.

تلقى تعليماً مناسباً لوضعه من معلم لقنه أفكار الحركة التنويرية الفرنسية ثم تعلم في جامعة ستراسبورج، وعندما شعر أساتذة هذه الجامعة بشيء من الرجفة لسقوط الباستيل

ص: 59

تمّ نقله إلى جامعة مينز حيث درس القانون كعلم لحقوق الملكية وكعلم يستشهد بالسوابق. وفي سنة 1794 حاصر الفرنسيون كوبلنز Coblenz باعتبارها مأوى للمهاجرين الفرنسيين المحرّضين (الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية)، وأمم الفرنسيون كل ممتلكات آل ميترنيخ تقريباً، فلجأت الأسرة إلى فيينا، وتودّد كليمنس الطويل الرياضي الأنيق إلى إليونور فون كاونتز Eleonore Von Kaunitz فكسب ودها وهي حفيدة ثرية لرجل الدولة الذي كان قد جمع بين النمسا الهابسبورجية وفرنسا البوربونية. وقد أخذ عن عروسه فنون الدبلوماسية ممثلة في انحناءات الاحترام التي لا معنى لها، وسرعان ما أصبح متمرساً في فن الخداع والمداهنة.

وفي سنة 1802 وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، تمّ تعيينه وزيراً في بلاط سكسونيا، وهناك التقى بفريدرتش فون جنتز (جنتس) Friedrich Von Gentz الذي أصبح ناصحه المخلص والناطق باسمه طوال الثلاثين عاماً التالية وسلَّحه بمعظم الحجج التي تؤيد الرجوع إلى الأوضاع السابقة على الثورة الفرنسية. وإخلاصاً منه للنظم التي كانت سائدة قبل الثورة الفرنسية Ancien Regime اتخذ له خليلة هي كاتارينا باجراسيون Katharina Bagration وهي ابنة جنرال روسي سنتحدث عنه مرة أخرى بعد ذلك، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها.

وفي سنة 1802 وضعت له طفلة اعترفت زوجته بأبوّته لها. واعترفت فيينا بتقدمه فعينته (1803) سفيراً للنمسا في برلين. وفي أثناء الأعوام الثلاثة التي قضاها في بروسيا التقى بالقصير إسكندر الأول وكوّن معه صداقة استمرت حتى الإطاحة بنابليون. وعلى أية حالة، فإن هذا لم يكن في حساب نابليون عندما طلب من الحكومة النمساوية بعد معركة أوسترليتز أن ترسل واحدا من الكاونتز كسفير لها في فرنسا، فأرسل له وزير خارجية النمسا الكونت فيليب فون شتاديون Stadion - ميترنيخ الذي وصل باريس في 2 أغسطس 1806 وكان وقتها في الثالثة والثلاثين من عمره.

والآن بدأت معركة استمرت تسعة أعوام عامرة بالدهاء والذكاء بين الدبلوماسية والحرب انتصر فيها الدبلوماسي بتعاونه مع الجنرال. وليسترخي ميترنيخ مبتعداً عن عيني نابليون

ص: 60

النفاذتين، وعن زوجته (أي زوجة ميترنيخ) المملّة الباردة جنسيا - راح يسلّي نفسه مع مدام لور جونو Laure Junot زوجة حاكم باريس وقتها، لكنه لم ينس أن النمسا كانت تتوقع منه أن يَسْبر أغوار عقل نابليون ويعرف أهدافه ويكتشف كل إمكانيات تحقيق مصالح النمسا. لقد كان كلا الرجلين معجباً بالآخر. لقد كتب ميترنيخ إلى جنتس في سنة 1806 إن:"نابليون هو الرجل الوحيد في أوربا الذي يفعل ما يريد". كما وجد نابليون في ميترنيخ فكراً ثاقباً كفكره وفي هذا الأثناء تعلم النمساويون الكثير بدراستهم لتاليران Talleyrand .

وقضى ميترنيخ ثلاثة أعوام سفيراً في باريس ورأى برضاً أخفاه الشرَّكَ الذي وقع فيه الجيش الفرنسي العظيم في أسبانيا، وحاول - ولكنه فشل - أن يخفي عن نابليون أن النمسا تتسلَّح من جديد لبذل محاولة أخرى للإطاحة به. وغادر باريس في 25 مايو سنة 1809 ولحق بفرانسيس الثاني على الجبهة وشهد هزيمة النمسا في واجرام (فاجرام Wagram) ، واستقال شتاديون من إدارة دفة السياسة بعد أن أصابه الإحباط لفشل مغامرته العسكرية، فعرض فرانسيس المنصب على ميترنيخ في 8 أكتوبر 1809 فقبله وكان وقتها في السادسة والثلاثين من عمره، وبدأ بذلك مهامه وزيراً للأسرة الإمبراطورية ومسئولاً عن الشؤون الخارجية، واستمر في منصبه هذا تسعاً وثلاثين سنة.

وفي يناير سنة 1810 وجد الجنرال جونو Junot في مكتب زوجته بعض خطابات الحب أرسلها إليها ميترنيخ فحاول خنقها وكاد ينجح وأقسم أن يتحدى الوزير الممتلئ نشاطاً ليبارزه في مينز، وأنهى نابليون النزاع بإرسال الجنرال وزوجته إلى أسبانيا، ومن الظاهر أن هذه الحكاية لم تدمّر سمعة ميترنيخ ولا زواجه ولا وضعه في الحكومة النمساوية، فقد شارك في ترتيب زواج نابليون من الدوقة النمساوية ماري لويز Marie Louise (ماريا لويس)، وابتهج عندما علم بأن هذا التقارب الفرنسي النمساوي قد أغضب روسيا، وراح يراقب التوتر يزداد بين هذين القطبين الأوربيين المصارعين. لقد كان يأمل ويخطط لإضعاف الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية فهذا يمكن النمسا من استعادة الأراضي التي فقدتها واستعادة مكانتها العالية وسط القوى المتصارعة.

ص: 61

‌4 - فيينا

VIENNA

خلف أسوار الحرب عاش أهل فيينا المسالمون الوديعون. إنهم خليط متسامح صبور - بقدر معقول - من الألمان والمجريين والتشيك والسلوفاك Slovaks والكروات والمورافيين Moravians والفرنسيين والإيطاليين والبولنديين والروس 190،000 نفس. وكانت غالبيتهم العظمى من الكاثوليك التابعين لبابا روما (الروم الكاثوليك) وكانوا - إذ سمحت لهم ظروفهم - يتعبدون في ضريح القديس حامي المدينة في كنيسة القديس ستيفن St. Stephen وكانت شوارعها في غالبها ضيِّقة وإن كانت هناك بعض الشوارع الفسيحة التي تكتنفها الأشجار والممهدة تمهيداً جيداً.

وتتحلَّق المباني الملكية الفخمة حول مبنى البلاط الإمبراطوري الذي يشغله الإمبراطور وأسرته وشاغلوا المناصب الأساسية في الحكومة ويمر نهر الدانوب (الأزرق) على طول حافة المدينة حاملاً التجارة والمسرات في فوضى محبّبة، وفي اتجاه النهر يُطلق على المتنزّه اسم المرج Prater حيث يُتاح لكل شاب وشيخ مجال للتنزه بالعربات التي تجرها الخيول أو التنزه سيراً على الأقدام بالنسبة إلى السائرين المحظوظين الذين يحبون الأشجار ورائحة الزهور وأوراق الشجر وشقشقة الطيور وألحانها الشجية، واللقاء بين هذه المناظر الخلابة والألحان الشجية.

وبشكل عام فإن أهل فيينا أناس طيِّعون سهلوا الانقياد حسنوا السلوك، وهم يختلفون اختلافاً تاماً عن أهل باريس الذين يكرهون نبلاءهم ويتشككون في ملوكهم ويشكّون في وجود الرّب. ويوجد في فيينا نبلاء كما في باريس، لكن نبلاء فيينا يرقصون ويعزفون الموسيقى في قصورهم ويحترمون من هم دونهم ولا يتَّسمون بالتفاخر والادعاء ويموتون حبا في التودد للنساء، وكانت كل هذه الصفات بطبيعة الحال غير مجدية في مواجهة جيوش نابليون المحبة للقتال. وكان الوعي الطبقي أكثر حدة لدى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى التي كونت ثروات بتوريدها مستلزمات الجيش أو بإقراضها أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين تعرضوا للفقر أو بإقراضها الدولة التي كانت تحارب، وتخسر الحرب دائما.

وبدأت الطبقة الأرستقراطية تتشكل فبحلول عام 1810 كان هناك ما يزيد على مئة مصنع في فيينا وبالقرب منها، وكان بهذه المصانع نحو 27،000 عامل وعاملة، وكانت

ص: 62

أجورهم تكفي - بشق الأنفس - للعيش والتكاثر. وفي وقت باكر يرجع لسنة 1811 ظهرت الشكاوى من أن مصانع المواد الكيماوية ومصافي البترول تلوِّث الجو. وكانت التجارة تتطوّر، ومما ساعد على تطورها ما أتاحه ميناء تريسته Trieste من تيسيرات لتجارة النمسا في البحر الأدرياتك، وكذلك نهر الدانوب الذي يمر بمئات المدن بالإضافة لبودابست، ويصل - أي النهر - إلى البحر الأسود. وبعد محاولة نابليون في سنة 1806 إقصاء البضائع الأوروبية عن القارة الأوروبية، وكذلك بعد الهيمنة الفرنسية على إيطاليا وَهَنَت أوضاع التجارة والصناعة في النمسا، وأصبحت مئات الأسر تُعاني البطالة والفقر المدقع.

أما أمور المالية، فكانت في غالبها في أيدي اليهود إذ أدَّى حرمانهم من الاستثمار الزراعي والصناعي إلى أن أصبحوا خبراء في التعاملات المالية. وضارع بعض البنكيين اليهود الإسترهازي the Esterhazys في بهاء منشآتهم وعظمتها وأصبح بعضهم أصدقاء أثيرين للأباطرة، وكُرِّم بعضهم باعتبارهم مُنقذين للدولة. ومنح جوزيف الثاني بعض البنكيين اليهود رُتب النبالة تقديراً لوطنيتهم. وكان الإمبراطور يحب عن نحو خاص زيارة ناتان فون أرنشتين Nathan Von Arnstein في بيته حيثُ كان يستطيع مناقشة أمور الأدب والفكر والموسيقى مع الزوجة الجميلة لهذا البنكي اليهودي. إنها فاني إيتسج Fanny Itzig المثقفة المتعدّدة المواهب التي كانت صاحبة أفضل صالونات فيينا.

وكان النبلاء يُسيِّرون أمور الحكومة بكفاءة متوسطة وبغير كثير من الأمانة، وقد نعى جيرمي بنثام Jeremy Bentham في خطاب مؤرّخ في 7 يوليو 1817:

"الفساد التام الذي يسود دولة النمسا ويَئس لأنه لم يجد فيها شخصاً شريفا ولم يكن لأيٍ من العوام أن يطمح للوصول إلى منصب قيادي في الجيش أو الحكومة"، لهذا "لم يكن أي من البيروقراطيين (الإداريين) أو الجنود ليبذل الجهد متحملاً الآلام أو المخاطرة للترقي".

فامتلأت صفوف الجيش بالمتطوعين الكسالى أو المجنَّدين إلزامياً أو بالمتسولين المكرهين على الخدمة والمجرمين والراديكاليين، فلا عجب إذن أن كانت الجيوش النمساوية تتعرض لهزيمة منكرة أمام الكتائب الفرنسية التي كان يمكن لأي فرد فيها أن يصل إلى رتبة القيادة بل وينضم إلى جماعة الدوقات المحيطين بنابليون.

ص: 63

أما النظام الاجتماعي فقد كان يضبطه الجيش والبوليس والعقيدة الدينية. ورفض الهابسبورج Hapsburg الحركة الدينية الإصلاحية (حركة لوثر ورفاقه) وأبقوا على الولاء للكنيسة الكاثوليكية واعتمدوا على إكليروسها المدربين جيدا للتدريس في المدارس وإحكام الرقابة على الصحف وتنشئة كل طفل مسيحي على عقيدة تؤكد مبدأ وراثة العرش كحق إلهي، وتجعل الفقر والأحزان شيئاً مريحاً يُكافأ عليهما المرء في الحياة الأخرى كما تَعِدُ بذلك العقيدة الدينية.

وكانت الكنائس الكبرى (مثل سيتفانسكيرش Stefanskirche وكارلزكيرش Karlskirche) تقدم طقوساً وقورة مصحوبة بالأغاني والمباخر التي يتصاعد منها البخور والدعوات (الصلوات) الجماعية التي تمجدها الجماهير، والتي كان البروتستنت مثل باخ Bach والمتشككون مثل بيتهوفن يتوقون لتقديمها. وكانت المواكب الدينية مصحوبة بشكل دوري بالأعمال الدرامية التي تقدمها في الشوارع لتذكير رجل الشارع بحياة القديسين وشهداء العقيدة والاحتفاء بالتواضع والرحمة اللتين تميزان ملكة فيينا، والأم العذراء. وبالإضافة للخوف من جهنم وبعض المشاهد المأسوية لتعذيب القديسين، فقد كانت هذه الأمور تمثل ديناً مُريحاً طالما جرى تقديمه للبشرية.

وتُرِك التعليم في المرحلة الأساسية والمرحلة الثانوية لتتولاّه الكنيسة، وكان الأساتذة في جامعتي فيينا Vienna وأنجولشتادت Ingolstadt وإنسبروك Innsbruck من الجزويت Jesuits (اليسوعيين)، وتم إيقاف كل الأفكار الفولتيرية عند حدود النمسا بمعنى أنه لم يُسمح لها بالتغلغل كما تم إغلاق أبواب فيينا في وجهها. وكان المفكرون الأحرار يمثلون قلة قليلة، وكان بعض المحافل الماسونية Freemason قد ظل باقياً بعد محاولة ماريا تريزا تدميرها (أي تدمير هذه المؤسسات الماسونية) إذ حافظت بعض هذه المحافل والجمعيات على أفكار معتدلة بضرورة مقاومة تدخل الإكليروس في الحياة العامة، كان من الممكن أن يأخذ بها حتى الكاثوليكي المتمسك بكاثوليكيته، كما أخذت هذه الجمعيات والمحافل ببرنامج للإصلاح الاجتماعي أيّده الإمبراطور.

ولهذا كان موزارت Mozart - وهو كاثوليكي متمسك تمسكاً شديداً بكاثوليكيته - ماسونياً، وانضم جوزيف الثاني للتنظيم السرّي (للماسونية) ووافق على مبادئ الإصلاح بل وحوَّل بعضها إلى قوانين. وبقيت جمعية سرية راديكالية أخرى هي

ص: 64

جمعية الإليوميناتي Illuminati، وكان آدم فيشوبت Adam Weishaupt الجزويتي (اليسوعي) الذي نبذه الجزويت (اليسوعيون) قد أسس هذه الجمعية السرّية (الإليوميناتي) في سنة 1776، لكن هذه الجمعية لم تكن منتعشة بالمقارنة بالجمعيات الأخرى. وجدّد ليوبولد الثاني قرار أمّه بمنع كل الجمعيات السرّية.

وقد حققت الكنيسة بشكل طيب مهامها في تعليم الناس الوطنية والإحسان والانضباط الاجتماعي والالتزام بالمحرمات في العلاقات الجنسية. وقد ذكرت مدام دي ستيل de Stael في سنة 1804:

" أنت لا تلتقي أبداً بمتسوّل .. فالمؤسسات الخيرية منظمة بانضباط شديد، ويُقيمها من يشاء دون مانع. إن كل شيء يحمل الطابع الأبوي لحكومة دينية حكيمة "

ويلتزم العامة - بشكل حر - بتجنب المحرمات الجنسية، لكن الطبقات العليا أكثر تسيّباً في هذا الشأن فللرجال في هذه الطبقة خليلات وللنساء عشّاق.

واعترض بيتهوفن - فيما يقول ثاير Thayer: " على ممارسة كانت غير قليلة الانتشار في فيينا على أيامه وهي أن يعيش المرء مع امرأة غير متزوجة"، حياة الأزواج لكن قوّة الروابط داخل الأسرة كانت أمراً معتاداً، وظلت سلطة الأب قائمة، وكانت العادات معتدلة لطيفة ولم تكن المشاعر الثورية لتلقى ترحاباً كبيراً. كتبت بيتهوفن في 2 أغسطس سنة 1794:

" أعتقد أن النمساوي لن يثور طالما كانت لديه جعّته (البيرة) الداكنة وسجقه sausage "(السجق هو النقانق).

وكان رجل فيينا النمطي (التقليدي) يفضّل أن تُولم له (أي تدعوه لوليمة) أو تحتفي به أكثر من تفضيله للإصلاح. لقد كان بالفعل ينفق بنساته القليلة (قطع العملة القليلة القيمة، وكان من هذه العملات السائدة في فيينا الجروشن groschen والكروزر Kreuzers) لمشاهدة نيكلوس روجر Niklos Roger ذلك الحاوي الإسباني الذي يدَّعي أنه محصن ضد النار (لا يحترق) وإن استطاع ابن فيينا تدبير قطعة عملة أخرى لعب البلياردو أو كرة البولنج.

وكانت فيينا وضواحيها تغص بالمقاهي - نسبة إلى مشروب القهوة الذي أصبح الآن ينافس البيرة (الجعّة) كمشروب محبّب. وكانت المقاهي هي نوادي الفقراء، إذ كان أهل فيينا من الطبقات الصاعدة يذهبون إلى البيرهولن Bierhallen التي كانت الحدائق الجميلة تحيط بها، وكان بها قاعات حسنة حيث كان في مقدور الأثرياء أن يفقدوا أموالهم في

ص: 65

المقامرة كما كان في مقدورهم الذهاب إلى الحفلات التنكرية حيث يرقص مئات الأزواج والزوجات معاً وفي الوقت نفسه، في صالات مغلقة (ريدوتنستال Redoutensaal) ، وحتى قبل أيام جوهان شتراوس Johann Strauss (1804 - 1849) كان رجال فيينا ونساؤها وكأنهم قد خُلقوا ليرقصوا. وذابت الممنوعات والمحرّمات في ثنايا رقصات الفالس waltz، لقد أصبح في مقدور الرجل الآن أن يسعد بالالتصاق الذي يحقق الرعشة مع من يراقصها، ويدور بها دورانا مجنونا، واحتجت الكنيسة لكنها تسامحت (غفرت).

‌5 - الفنون

انتعش المسرح في فيينا على كل مستوياته ابتداء من الاسكتشات sketches التافهة في المسارح التي تقدم أعمالاً مُرتجلة (غير معدَّة سلفاً) إلى الدراما الكلاسيكية في المسارح الراقية ذوات الديكورات المكلِّفة. وكان أقدم المسارح وأكثرها انتظاماً هو الكيرنتنيرثور Karntnerthor الذي شيدته البلدية في سنة 1708، وفي هذا المسرح وجدنا الكاتب المسرحي جوزيف أنطون سترانيتسكي John Anton Stranitsky (توفي 1726) يبني على شخصية أرليشينو Arlecchino (هارلكوين Harlequin) الإيطالية، فيخلق ويطوّر شخصية هانزفيرست Hanswurst أو جون بولوني John Boloney المهرّج الضاحك المهرج الذي هجا الألمان - في الجنوب والشمال - سخافاتهم المحبّبة من خلاله.

وفي سنة 1776 دعم جوزيف الثاني وموَّل البيرجثيتر the Burgtheater الذي وعدت واجهته الكلاسيكية بأفضل المسرحيات الكلاسيكية والحديثة. وكان أكثر المسارح فخامة وترفا هو مسرح آن دير فين Theater-an-der-Wien (على نهر فين Wien) الذي شيّده في سنة 1793 جوهان (يوهان) إيمانويل شيكاندر Johann Emanuel Schikaneder الذي كتب النّص الأوبرالي libretto للفلوت السحرية magic Flute لموزارت (1791) وقد زوّد مسرحه بكل أساليب الحيل الميكانيكية (المسرحية) المعروفة لتغيير المشاهد في عصره، وقد أدهش روّاد مسرحه بالمشاهد المسرحية التي تفوق الحقيقة فكسب لمسرحه ميزة تقديم العرض الأول لفيدليو Fidelio لبيتهوفن.

ص: 66

ولم يكن في ذلك الوقت فن آخر ينافس الدراما في فيينا سوى فن واحد. إنه ليس فن العمارة لأن النمسا كانت قد أنهت في سنة 1789 عصرها الذهبي الذي تميز بطراز الباروك. إنه ليس الأدب لأن الكنيسة أناخت بكلكلها على فكر العباقرة كما أن عصر جريليبارتسر Grillparzer (1791 - 1872) لم يكن إلا في بدايته. وفي فيينا ذكرت مدام دي سيتل أن الناس لا يقرءون إلا قليلاً فقد كانت الصحف اليومية تكفي لإشباع حاجاتهم الأدبية كما هو الحال في بعض المدن اليوم، وكانت صحيفتا Wiener Zeitung (صحيفة ابن فيينا)، و Wiener Zeitschrift، صحيفتين ممتازتين.

وكانت الموسيقى بطبيعة الحال هي الفن الأعلى مقاماً في فيينا فقد كانت الموسيقى في النمسا وألمانيا أقرب ما تكون إلى محلّى يفضله العامة كهواية أكثر من كونها عملا يحترفه المحترفون. فقد كان النمساويون والألمان يعتبرون بيوتهم ينبوع الحضارة وحصنها، فقد كان غالب الأسر المتعلمة لدى كل منها آلات موسيقية وكان يمكن لبعضها تقديم مقطوعات موسيقية تشترك في أدائها أربع آلات (أو بتعبير آخر تقديم مقطوعات رباعية)، وبين الحين والآخر كان يجري تنظيم كونشرتات لمشتركين دفعوا - سلفاً - ثمن حضورهم، لكن الكونشرتات العامة (الحفلات الموسيقية العامة) التي يُتاح حضورها للعامة كانت أمراً نادرا. وبذلك كانت فيينا مدينة مزدحمة بالموسيقيين الذين أفقر بعضهم بعضاً بسبب كثرتهم.

فكيف بقي هؤلاء الموسيقيون؟ لقد كان ذلك في غالبه بسبب قبولهم دعوات (أو حتى بدون دعوة تضمن لهم حقوقهم المالية بعد ذلك) النبلاء الأثرياء ورجال الإكليروس ورجال الأعمال أو بتأليف مقطوعات موسيقية وإهدائها إليهم. لقد ظل حب الموسيقى ورعايتها تراثاً وتقليدا توارثه حكام أسرة الهابسبورج طوال قرنين، واستمر ذلك بشكل فعّال في فترة حكم جوزيف الثاني وليوبولد الثاني وابن ليوبولد الأصغر ونعني به الأرشدوق ردولف Rudolf (1788 - 1831) الذي كان تلميذا لبيتهوفن وراعياً له في الوقت نفسه.

وقدمت أسرة الإسترهازي the Esterhazy كثيرين ممن دعموا الموسيقى ورعوها، لقد رأينا الأمير ميكلوس جوزيف إسترهازي Miklos Jozsef Esterhazy (1714 - 1790) يرعى هايدن Hayden

ص: 67

طوال ثلاثين عاماً كقائد للأوركسترا في قصر Schloss إسترهازي، الذي يُعد فيرساي المجر Versailles of Hungary. وارتبط حفيده الأمير ميلكوس نيكولاس إسترهازي Milkos Nicolaus Esterhazy (1765 - 1833) مع بيتهوفن لتأليف مقطوعات موسيقية لأوركسترا الأسرة. وكان الأمير كارل ليشنوفسكي Lichnowsky (1753 - 1814) صديقاً حميما - وراعياً - لبيتهوفن وآواه في قصره لفترة من الزمن. وقد شَرُف الأمير جوز فران لوبكوفتس Lobkowitz وهو سليل أسرة بوهيمية عريقة، والأرشيدوق رودلف والكونت كينسكي Kinsky بتقديم العون المالي لبيتهوفن حتى وافته منيته.

ولابد أن نضيف إلى هؤلاء البارون جود فريد فان شفيتن Gottfried Van Swieten (1734 - 1803) الذي ساعد موسيقيين آخرين برعايته وجهوده ومهارته في جمع شملهم مع المتعاقدين معهم، أكثر من رعايته لهم بتقديم أمواله لهم. لقد فتح لندن لهايدن Hayden، وأهداه بيتهوفن أولى سيمفونياته وأسس في فيينا جمعية موسيقية Musikalische Gesellschaft من خمسة وعشرين نبيلاً بهدف العمل على عقد لقاءات واتفاقات بين المؤلفين الموسيقيين وناشري الأعمال الموسيقية وجمهور المستمعين. ويرجع إلى هذه الجمعية - على نحوٍ ما - الفضل في أن أصبح أكثر الموسيقيين في التاريخ عُرضة للنقد وعدم القبول هو سيد الموسيقى بلا منازع في القرن التاسع عشر.

ص: 68

الفصل الثامن والعشرون

‌بيتهوفن

من 1770 إلى 1827 م

وتأثير إنجلترا في مسيرة الأحداث

‌1 - شاب في بون

Bonn: من 1770 إلى 1792 م

وُلد في 16 ديسمبر سنة 1770، وكانت بون هي مقر الناخب الأسقفي لكولوني Cologne التي كانت إحدى إمارات أراضي الراين (قبل أن يقضي نابليون على الحكم ذي الطابع الديني فيها) التي يحكمها رؤساء أساقفة كاثوليك يميلون إلى دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن، ورغم أن حكمهم كان ذا طابع ديني إلا أنهم أيضا كانوا ذوي ميول علمانية فاتنة منها دعم الفنانين ذوي السلوك الحسن كما أسلفنا. وكان الجانب الأكبر من سكان بون البالغ عددهم 9،560 نفساً يعتمدون على المؤسسة التي أقامها الناخب الحاكم (أو مؤسسة الإمارة أو مؤسسة الدولة)

وكان جد بيتهوفن مغنيا جهير الصوت عميق، في كورس (جوقة المنشدين) الناخب Elector (الناخب في هذا السياق هو من له حق انتخاب الإمبراطور والمعنى الأقرب لفهم القارئ العربي هو: الأمير) كما كان أبو بيتهوفن (جوهان فان بيتهوفن Johann van Beethoven) صادحا tenor (مغن عالي الصوت يفوق صوته كل من يشترك معه في الغناء) في الفرقة نفسها. وترجع الأسرة إلى أصولٍ هولندية إذ كانت قد أتت من قرية بالقرب من لوفان Louvain. والكلمة الهولندية فان Van تشير إلى مكان الأصل ولا تشير كالكلمة الألمانية فون Von أو الفرنسية de إلى لقب نبالة أو حيازة ممتلكات تؤهل للنبالة. وكان جده وأبوه مسرفين في الشراب، وقد ورث عنهما شيئا من ذلك.

وفي سنة 1767 تزوج جوهان فان بيتهوفن من أرملة شابة هي ماريا ماجدالينا كيفيرتش لايم Maria Magdalena Keverich Laym ابنة طباخ في إيرنسبريتشتين Ehrensbreitstein وأصبحت ماريا أما يحبها بشدة ابنها المشهور لبساطتها، وقلبها الحنون. وقد أنجبت لزوجها سبعة أطفال مات أربعة منهم في مرحلة الطفولة، وتبقى لها الإخوة: لودفيج Ludwig وكاسبار كارل Caspar Karl (1774 - 1815)

ص: 69

ونيكولاوس جوهان Nikolaus Johann (1776 - 1848) .

ولم يكن للأب فيما يبدو سوى راتبه مغنياً صادحاً في بلاط الناخب (الأمير) ومقداره ثلاثمائة فلورين florins فعاشت الأسرة في أحد أحياء الفقراء في بون، ولم يكن المحيطون ببيتهوفن والمرتبطون به من النوع الذي يجعل منه رجلا مهذبا (جنتلمان)، لذا فقد ظل متمردا فظا (غير مصقول) وقد حث والد بيتهوفن ابنه - أو أجبره - وهو في الرابعة من عمره على العزف على البيان أو الفيولين عدة ساعات نهارا وأحيانا ليلا، رغبة من الوالد في تحسين دخل الأسرة بتقديم ابنه كعازف معجزة. ومن الظاهر أن الطفل لم يكن لديه من نفسه وازع يحثه على عزف الموسيقى وسماعها. وعلى وفق شهود عيان كثيرين أن الطفل (بيتهوفن) كان يجبر على العزف بطرق قاسية حتى إنه كان يبكي في بعض الأحيان. وأحب الطفل الموسيقى بعد أن تعرض لآلام كثيرة بسببها، وظهر بيتهوفن وهو في الثامنة من عمره مع تلميذ آخر في حفلة موسيقية عامة في 26 مارس سنة 1778 وحصل على عائد مادي لم تذكره المصادر. وحث الأصدقاء الأب على التعاقد مع معلمين لينموا مواهب لودفيج بيتهوفن.

وبالإضافة لهذا تلقى بعض التعليم الرسمي. لقد علمنا أنه التحق بمدرسة حيث تعلم اللاتينية بقدر يكفي لأن يبث في بعض خطاباته بعض الطرائف اللاتينية المضحكة. وتعلم قدرا من الفرنسية (التي كانت هي اللغة العالمية في هذا العصر) بقدر يمكنه من الكتابة بها بشكل مفهوم. ولم يتعلم أبداً كيف يكتب هجاء الكلمات في أي لغة بشكل صحيح وقلما كان يكلف نفسه عناء استخدام علاقات الترقيم، لكنه كان يقرأ بعض الكتب بشكل جيد، وكانت هذه الكتب التي قرأها تتراوح بين روايات سكوت Scott والشعر الفارسي وكان ينقل في دفتر خاص به نتفاً من الحكمة التي يلتقطها من قراءاته. ولم يكن يمارس الرياضة إلا من خلال أصابعه (يقصد عزفه على الآلات الموسيقية) وكان يحب أن يرتجل ولم يكن يضارعه في هذا سوى أبت فوجلر Abt Vogler

وفي 1784 تم تعيين ابن ماريا تريزا الأصغر - ماكسميليان فرانسيس Maximilian Francis - ناخبا لكولوني (على وفق مصطلح العصر في هذه المنطقة، فإن الناخب يعني من له حق

ص: 70

المشاركة في اختيار الإمبراطور الجديد، (ولعل كلمة أمير تقرب المعنى للقارئ العربي فهو إذن قد تم تعيينه أميراً لكولوني) فاتخذ بون مقرا لإقامته، وكان رجلا رحيما رفيقا مولعاً بالطعام والموسيقى وأصبح لفرط حبه للطعام أسمن رجل في أوربا لكنه أيضا جمع أوركسترا من إحدى وثلاثين قطعة موسيقية. وعزف بيتهوفن وهو في الرابعة عشرة من عمره الفيولا viola (الكمان الأوسط) في هذه الأوركسترا. كما كان له جمهور مستمعين أيضا كعازف مساعد على الأرغن في البلاط (بلاط الناخب) والمعنى أنه كان يعزف على الأرغن organist إذا غاب العازف الرئيسي، وكان يتقاضى راتبا على هذه المهمة مقداره 150 جولدن gulden (نحو 750 دولاراً؟؟) في العام، وكتب المسئولون عنه تقريرا للناخب (الأمير) في سنة 1785 بأنه: "كفء

هادئ وسلوكه حسن، وفقير".

ورغم بعض الشواهد على قيامه بمغامرات جنسية، فإن سلوكه الطيب ونمو كفاءته الموسيقية وتطورها جعلت الناخب (الأمير) يسمح له، برحلة إلى فيينا على نفقته (أي نفقة الناخب) لدراسة التأليف الموسيقي. وسرعان ما استقبله موزارت بمجرد وصوله، وكان موزارت Mozart قد سمع عزفه فامتدحه امتداحا معتدلا بشكل مخيب للآمال ظنا منه أن مقدرة الشاب على العزف متوقفة على هذه القطعة التي عزفها والتي عزفها قبله كثيرون، فلما أحس بيتهوفن منه هذا الشك طلب منه (من موزارت) أن يقدم له مقطوعات مختلفة لعزفها على البيانو، فانبهر موزارت بخصوبة الشاب وتمكنه من العزف، فقال لأصدقائه "راقبوه، فسيقدم في يوم من الأيام للعالم ما يجعله موضع حديث" لكن هذه القصة تبدو بغير أساس، فقد كان موزارت يعطي الفتى بعض الدروس، إلا أن موت والد موزارت - ليوبولد - في 28 مايو 1787، ووصول أخبار بأن أم بيتهوفن تحتضر قطعت هذه العلاقة التي لم تطل، إذ أسرع بيتهوفن عائداً إلى بون ليكون إلى جوار أمه وهي تموت (17 يوليو).

ص: 71

وكتب والد بيتهوفن الذي كان صوته الصادح قد تدهور منذ مدة طويلة، كتب للناخب (الأمير) واصفاً فقره المدقع طالباً منه المساعدة. ولم يصل إلينا ما يفيد أنه تلقى ردا لكن مغنياً آخر في الكورس (جوقة العزف في بلاط الناخب) قدم له يد العون، وفي سنة 1788 أضاف لودفيج بيتهوفن نفسه للأسرة دخلاً إضافيا بتدريسه البيان لإليونور فون بروننج Eleonore Von Breuning وأخيها لورنز (لورنتس Lorenz) وقد استقبلته الأم الأرملة الثرية المثقفة كابن من أبنائها، وقد أثرت هذه الصداقة إلى حد ما في تهذيب شخصية بيتهوفن.

ومن الذين قدموا لبيتهوفن يد العون الكونت فرديناند فون فالدشتين Count Ferdinand Von Waldstein (1762 - 1823) الذي كان هو نفسه موسيقياً وصديقا مقربا للناخب (الأمير) إذ إنه عندما علم بفقر بيتهوفن راح يرسل له بين الحين والحين أموالا زاعما أنها من الناخب نفسه (من الأمير) وقد أهدى إليه بيتهوفن في وقت لاحق سوناتا البيانو piano sonata (Opus 53 in C Major) التي حملت اسمه .. وكان لودفيج بيتهوفن لا يزال في حاجة إلى مساعدة أكثر من تلك التي كان يتلقاها حتى الآن لأن والده المكتئب كان قد استسلم للكحول (أدمن معاقرة الخمر) وتم إنقاذه من الاحتجاز (أو القبض عليه) يشق النفس لما يسببه من إزعاج عام.

وفي سنة 1789 أخذ بيتهوفن على عاتقه - ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة من عمره - مسئولية إخوته الأصغرين سنا وأصبح هو رأس الأسرة من الناحية الرسمية، وفي 20 نوفمبر صدر مرسوم من الناخب (الأمير) بإنهاء خدمة جوهان (يوهان) فان بيتهوفن (والد لودفيج بيتهوفن) على أن يدفع نصف راتبه السنوي وقدره مائة ريخشالر reichsthalers لابنه لودفيج بيتهوفن ونصفه الآخر لأخيه الأكبر، واستمر بيتهوفن في كسب مبالغ بسيطة كعازف رئيسي للبيان وأرغني ثان (عازف ثان للأرغن) في أوركستر الناخب (الأمير).

وفي سنة 1790 توقف فرانز (فرانتس) جوزيف هايدن Franz Joseph Haydn - وهو عائد مكلل بالنصر من لندن - في بون وهو في طريقة إلى فيينا، فقدم له بيتهوفن كنتاته Cantata كان قد ألفها ـ مؤخرا فامتدحها هايدن، وربما علم الناخب (الأمير) بشيء من هذا الثناء، فلبى اقتراحاً بإرسال الشاب إلى فيينا للدراسة مع هايدن وأن يتلقى راتبه في الوقت

ص: 72

نفسه كموسيقي عامل في بلاط الناخب (الأمير) وربما كان الكونت فون فالدشتين Waldstein وراء هذه المنحة التي تلقاها صديقه الموسيقي الشاب. لقد كتب في ألبوم لودفيج كلمة وداع كالتالي:

"عزيزي بيتهوفن، أنت راحل إلى فيينا لإنجاز ما طالما تقت كثيراً لإنجازه. إن عبقرية موزارت (الذي كان قد مات في 5 ديسمبر 1791) لا يزال ينعيها الناعون .. فلتعمل بجد ولتتلق روح موزارت من أيدي هايدن. صديقك المخلص فالدشتين ".

وغادر بيتهوفن بون وأباه وأسرته وأصدقاءه في أول نوفمبر سنة 1792 أو في يوم قريبا من هذا التاريخ. وسرعان ما احتلت قوات الثورة الفرنسية بون فهرب ناخبها (أميرها) إلى مينز ولم ير بيتهوفن بون بعد ذلك أبداً.

‌2 - تقدم ومأساة:

من 1792 إلى 1802 م

عندما وصل إلى فيينا وجدها تعج بالموسيقيين المتنافسين على من يرعاهم وعلى جمهور المستمعين والناشرين، والذين ينظرون بازدراء لكل قادم جديد، فلم يجدوا في هذا القادم الجديد من بون جمالا يلطف وقع قدومه فقد كان لودفيج بيتهوفن قصير ا ممتلئ الجسم متجهم الملامح (أطلق عليه أنطون إسترهازي Anton Esterhazy اسم البربري the Moor به آثار الجدري (بقايا بثور الجدري)، صف أسنانه الأمامي الأعلى بارز عن صف أسنانه الأمامي الأسفل، وأنفه عريض ممتلئ، وله عينان غائرتان متحديتان، أما رأسه فمثل كرة الرصاص يغطيه بشعر مستعار وحلية. لم تكن شخصيته مهيأة لتكون ذات بعد جماهيري سواء بين العامة أو بين منافسيه من الموسيقيين ومع ذلك فلم يعدم - إلا نادرا - صديقاً منقذاً (يسعفه وقت اللزوم)

وسرعان ما وصلت الأخبار بوفاة والده (18 ديسمبر 1792) وظهرت بعض المشاكل فيما يتعلق بنصيب بيتهوفن في راتب أبيه السنوي إذ قدّم بيتهوفن التماساً للناخب [الأمير] طالباً استمرار هذا الدخل السنوي، فرد الناخب الأمير بمضاعفة هذا الدخل وأضاف: "لابد من تقديم ثلاثة مكاييل من الحبوب له

لتعليم أخويه" (كارل وجوهان اللذين كانا قد انتقلا إلى فيينا). وكان بيتهوفن ممتنا إذ انتهى إلى حلول

ص: 73

طيبة. لقد كتب في ألبوم أحد أصدقائه في 22 مايو 1793 مستخدما كلمات شيلر Schiller في مؤلفه دون كارلوس Don Carlos: " إنني لست شريرا - فالدم الحار هو خطئي - إن جريمتي أنني شاب

فرغم أن الانفعالات والعواطف الجياشة قد تخدع قلبي وتخرجه عن جادة السبيل، إلا أن قلبي طيب". وقرر أن يفعل كل ما يقدر عليه من الخير، وأن يحب الحرية قبل أي شيء آخر، وألا ينكر الحق حتى أمام العرش.

وأخضع مصروفاته لتكون في الحد الأدنى خاضعا لأحكام الضرورة: بالنسبة إلى شهر ديسمبر سنة 1792، 14 فلوريناً (نحو 35 دولاراً؟) للإيجار، ستة فلورينات لتأجير بيانو، الأكل، في كل وجبة 12 كروزر Kreuzer (ستة سنتات) وجبات مع نبيذ 6،5 فلورين florins (16،25 دولار؟؟)، وثمة أوراق أخرى للتذكرة تدرج هايدن (كتبها بيتهوفن Haiden) باعتبار أن تكاليف الدروس التي يتلقاها بيتهوفن على يديه في أوقات مختلفة تبلغ جروشين two groschen (بنسات قليلة)، ومن الواضح أن هايدن لم يكن يطلب إلا القليل لقاء دروسه. وقد قبل التلميذ (بيتهوفن) لفترة تصويبات أستاذه بتواضع لكن مع استمرار الدروس وجد هايدن أنه من المستحيل أن يقبل ابتعاد بيتهوفن عن قواعد التأليف الموسيقي التقليدية.

وقرب نهاية سنة 1793 هجر بيتهوفن أستاذه العجوز وراح يتردد ثلاث مرات في الأسبوع لدراسة فن مزج الألحان (الكونتربوينت Counterpoint) على يد جوهان جورج البرختشبيرجر Albrechtsberger وهو رجل حقق شهرة معلماً أكثر منه مؤلفاً موسيقياً. وفي الوقت نفسه كان يدرس لثلاثة أيام في الأسبوع آلة الفيولين مع إجناز (إجناتس) شبانتزج Ignaz Schuppanzigh وفي سنة 1795 كان قد أخذ كل ما يحتاجه من ألبرختشبيرجر فتردد على أنطونيو ساليري Salieri الذي كان وقتها مديرا لأوبرا فيينا لدراسة التأليف الموسيقي للأصوات.

ولم يكن ساليري يتلقى شيئا من التلاميذ الفقراء. وقدم بيتهوفن نفسه له كفقير فقبله. وقد وجده كل هؤلاء المدرسين الأربعة تلميذا صعب المراس تندفع منه أفكار خاصة به ويرفض أن يشكل نفسه على وفق النظرية الموسيقية التي يقدمها له معلموه. ويمكننا أن نتخيل الرعدات (الإرتجافات) التي كانت تعتري بابا

ص: 74

هايدن Papa Hayden (الذي عاش حتى سنة 1809) بسبب مؤلفات بيتهوفن بالجهورية (Sonorities) وعدم الاتساق. ورغم انحراف بيتهوفن عن الطرق المألوفة المطروقة (وربما بسبب ذلك) فقد حققت إنجازات بيتهوفن له بحلول عام 1794 شهرة باعتباره أكثر عازفي البيانو (مؤلفي المقطوعات الموسيقية للبيان) تشويقا في فيينا لقد ربح البيانو الحديث معركته مع البيانو القيثاري (الذي يتخذ شكل قيثارة).

وكان جوهان (يوهان) كريستيان باخ Bach قد بدأ في سنة 1768 في إنجلترا عزف الألحان الصولو Solos (لحن معد ليعزف على آلة واحدة) على البيانو، وأخذ موزارت بهذا الأسلوب تبعهما هايدن في سنة 1780، وكان موزيو كليمنتى Muzio Clementi يؤلف الكونشرتات (الألحان التي تعزف بمصاحبة الأوركسترا) المخصصة للعزف على البيانو، والتي كانت لمرونتها وسطاً بين البيانو والفورت forte (الشديد أي النغم الذي يعزف بشدة) وبين الستاكاتو Staccato (مقطع موسيقي متقطع) والسوستنوتو Sostenuto. لقد استخدم نابليون إمكانات البيانو استخداما كاملا، كما صب كل قدراته هو نفسه لإنتاج كل ما يمكن من أعمال موسيقية للبيانو، خاصة في أعماله المرتجلة (غير المعدة سلفا) حيث لا يعوق أسلوبه الموسيقي أية نوت موسيقية مطبوعة.

وقد أعلن - في وقت لاحق - فرديناند ريس Ries تلميذ هايدن وتلميذ بيتهوفن أيضاً أنه: "لا يوجد فنان أبداً فيمن أعرف من الفنانين أو سمعت عنهم يداني بيتهوفن في هذا الفرع من العزف. إن ثروة الأفكار التي تتزاحم فيه (في بيتهوفن)، والترددات والنزوات الفكرية التي يستسلم لها، وتغير المعالجة ومواجهة الصعاب اللحنية تمثل فيه طاقة لا تنفد".

لقد رعاه رعاة الموسيقى في المقام الأول كعازف بيان، ففي حفلة موسيقية ليلية في بيت بارون فان سفيتن (شفيتن Baron van Swieten) دعاه صاحب البيت للبقاء بعد انتهاء برنامج الحفل (كما يروي لنا سندلر Schindler كاتب سيرة حياة بيتهوفن) وحثه على أن يضيف قليلا من فجوات fugues باخ Bach ليختم بها السهرة وكان الأمير كارل ليشنو فسكى Karl Lichnowsky الهاوي والموسيقي الكبير في فيينا يحب أيضا بيتهوفن حتى إنه كان ليتعاقد معه بانتظام لإحياء حفلاته الموسيقية التي كان يعقدها كل يوم جمعة واستضافه في بيته

ص: 75

فترة لكن بيتهوفن - على أية حال - لم يستطع أن يكيف نفسه مع ساعات تناول الأمير لوجباته، فكان يفضل التردد على فندق قريب.

وكان الأمير لوبكوفتس lobkowit أكثر رعاة الموسيقى - ممن يحملون رتب النبالة - حماسا، وكان هذا الأمير نفسه عازف فيولين ممتاز، أنفق كل دخله تقريبا على الموسيقى والموسيقيين. وظل لسنوات يساعد بيتهوفن رغم ما حدث بينهما من نزاع، وكان هذا الأمير يتعامل بروح سمحة مع بيتهوفن وإصراره على أن يعامل كند مساو لذوي الرتب من ناحية المكانة الاجتماعية. وكانت زوجات هؤلاء النبلاء الذين يقدمون له يد العون يسعدن بكبريائه واستقلاله ويتلقون على يديه دروس الموسيقى ويتحملن توبيخه بل ويسمحن لهذا الفارس الأعزب الفقير بإقامة علاقات حب معهن من خلال الخطابات، وكن - وكذلك اللوردات - يقبلن إهداءاته ويكافئنه عليها بهدوء.

لقد اقتصرت شهرته على تمكنه من عزف البيان، ووصلت هذه الشهرة إلى براغ Prague وبرلين اللتين زارهما في سنة 1796. لكن في هذه الأثناء راح يؤلف الموسيقى، ففي 21 أكتوبر 1795 نشر مجموعة قطعه الموسيقية الأولى (من تأليفه) Opus (الثلاثية الكبيرة Three Grand Trios) التي أعلن جوهان كرامر Johann Cramer بعد عزفها إن هذا الرجل (يقصد بيتهوفن) قد عوضنا عن موت موزارت وتأثر بيتهوفن بهذا المديح فكتب في دفتر مذكراته:

"جراءة! فرغم كل ما يعتري جسمي من وهن، فإن روحي هي التي ستحكم مسيرتي. إن هذا العام سيجعل مني رجلا كاملا. سأنجز كل شيء ولن أؤجل عملا"

وفي سنة 1797 دخل نابليون حياة بيتهوفن للمرة الأولى، ولم يكن له فيها وجود قبل ذلك. لقد طرد الجنرال الشاب النمساويين من لومبارديا Lombardy وقاد جيوشه عبر جبال الألب وكان يقترب من فيينا فراحت العاصمة (فيينا) تعد دفاعاتها بشكل مرتجل بقدر ما تستطيع. لقد راحت تعد المدافع وتجهزها، وتؤلف الترانيم الدينية ليحفظ الله النمسا، وكتب هايدن الآن النشيد الوطني للنمسا:"ليحفظ الله فرانتس Gott erhalte Franz den Kaiser، unsern guten Kaiser Franz" وألف بيتهوفن موسيقى لأغنية حرب أخرى تطالب كل الألمان بمساندة النمسا " Ein grosses deutsches Volk sind wir " وفي وقت لاحق اعتبر النمساويون هذه المؤلفات الموسيقية ككتائب كثيرة العدد لكنها لم تحرك مشاعر نابليون

ص: 76

الذي أجبرهم على سلام مخزٍ.

وبعد ذلك بعام أتى الجنرال بيرنادوت Bernadotte إلى فيينا ليكون السفير الفرنسي الجديد وصدم المواطنين (أهل فيينا) بأن رفع من شرفته علم الثورة الفرنسية ذا الألوان الثلاثة. وأعلن بيتهوفن صراحة - كان بالفعل معجبا بالأفكار الجمهورية - إعجابه بنابليون، وغالبا ما كان يرى في حفلات الاستقبال التي يعدها السفير الفرنسي الجديد. ويظهر أن بيرنادوت هو الذي اقترح على بيتهوفن فكره تأليف عمل موسيقي لتكريم نابليون وتشريفه.

وأهدى بيتهوفن في سنة 1799 مجموعة ألحانه رقم 31 Opus والتي جعل لها عنواناً هو Grande Sonate Pathetique للأمير ليشنوفسكي Lichnowsky اعترافاً بأفضاله أو أملا في أفضال تأتيه على يديه. لقد كان بإهدائه هذا يرنو لمصلحة قريبة. وكان رد الأمير (1800) هو أن وضع ستمائة جولدن gulden تحت تصرف بيتهوفن حتى أحصل (أي بيتهوفن) على تعيين مناسب. لقد بدأت هذه السوناتا ببساطة وكأنها مقتبسة بتواضع من أعمال موزارت إلا أنها سرعان ما تشابكت وتعقدت لكنها اعتبرت في وقت لاحق بسيطة إلى جانب سوناتات الهمركلافير the Hammerklavier Sonatas أو الأباشيوناتا Appassionata وكانت السيمفونية الأولى (1800) وسيمفونية ضوء القمر في (C Sharp minor) سنة 1801 هما الأسهل سواء من ناحية العزف أو من ناحية القدرة على تذوقهما.

ولم يعط بيتهوفن مقطوعته الأخيرة اسمها المشهور لكنه أطلق عليها (Sonata quasi Fantasia) ويظهر أنه لم يكن ينوي تحويلها إلى أغنية محببة. حقيقة أنه أهداها إلى الكونيتسة جوليا جوشياردي Giulia Guicciardi التي كانت من بين ربات الجمال اللائي لم يمسهن واللائي أوحين له بألحانه الموسيقية الحالمة، لكنها (أي السوناتا) كتبت لمناسبة أخرى مختلفة.

لقد شهد عام 1802 إحدى أغرب الوثائق في تاريخ الموسيقى التي طالما رجع إليها الباحثون، وهي جديرة بذلك. إنها الوثيقة السرية وثيقة هيليجنشتادت Heiligenstadt Testament التي لم يكشف عنا إلا عندما تم العثور عليها بين أوراق بيتهوفن بعد

ص: 77

وفاته. إنها وثيقة لا يمكن فهمها إلا من خلال مواجهة صريحة مع شخصيته. لقد كان يتمتع بكثير من الصفات الطيبة في شبابه، روح مرحة، ميل للفكاهة، إخلاص في الدراسة، استعداد لتقديم العون للمحتاج، وظل كثيرون من أصدقائه في بون - مثل مدرسة كريستيان جوتلوب نيف Christian Gottlob Neefe وتلميذته إليونور فون بروننج Eleonore von Breuning وراعيه الكونت فون فالدشتين Count von Waldstein - أوفياء له رغم أن نظرته للحياة راحت - بشكل متزايد - تتسم بالمرارة. وعلى أية حال فقد راح يفقد صديقا إثر صديق في فيينا حتى كاد يصبح وحيدا لكن أصدقاءه عندما علموا أنه على وشك الموت عادوا إليه وبذلوا كل ما في طاقتهم لتخفيف آلامه.

لقد تركت بيئته الباكرة فيه آثارا دائمة لا تمحى، فهو لم ينس أبدا الفقر المدقع والمقلق (ولم يغفر ذلك لبيئته ولم يكن متسامحاً إزاء هذه الظروف) ولم ينس الهوان لرؤية والده وهو يستسلم للفشل والخمر. بل إنه هو نفسه (بيتهوفن) بعد أن أتعسته الأيام راح يستسلم أكثر فأكثر لمعاقرة النبيذ طلبا للنسيان. ويدعو تمثاله المقام في فيينا (خمس أقدام وخمس بوصات) للتأمل، ولم يكن وجهه ينم عن حظ حسن أو ثراء، وكان شعره كثا مهوشا خشنا. وكانت لحيته تنتشر حتى قرب عينيه الغائرتين، وكان يتركها لتنمو فتصل إلى نصف بوصة قبل أن يحلقها.

لقد جأر بالشكوى في سنة 1819: "آه يا ربي، يا لها من مصيبة (طاعون) أن يكون لشخص مثل هذا الوجه المهلك كوجهي وربما كانت هذه العيوب الخِلقية حافزاً على الإنجاز". لكنها بعد الأعوام القليلة الأولى في فيينا جعلته يهمل ثيابه وبدنه (صحته) ومسكنه وعاداته. لقد كتب في 22 أبريل سنة 1801: "إنني رفيق مُهمَل، وربما كان الملمح الوحيد لعبقريتي أن أشيائي ليست دائما في ترتيب جيد". وكان يكسب أموالا تتيح له أن يكون له خدم لكنه كان سرعان ما يتعارك معهم وقلما احتفظ بهم لفترة طويلة. لقد كان فظا مع من هم أدنى منه، وكان في بعض الأحيان ذليلا خانعا لمن كانوا نبلاء المحتد، لكنه كان غالبا

ص: 78

معتزا بنفسه بل ومتكبرا. وكان يقلل من قيمة منافسيه بشكل لا يرحم فكادوا يجمعون على كراهيته. وكان قاسيا مع تلاميذه لكنه علم يعضهم دون مقابل.

لقد كان كارها للناس، لكنه كان متسامحا مع ابن أخيه كارل Karl الذي كان يعاني المتاعب، وكان محبا له، كما كان يحب كل تلميذ ماهر. ولقد قدم للطبيعة عاطفة جياشة لم يستطع أن يكنها للبشر وكان مزاجه - تباعا - سوداويا، لكنه أيضا كان تباعا - ينخرط في حالات ابتهاج صاخبة سواء بنبيذ أو بدون نبيذ. (انظر على سبيل المثال الخطابات 14، 22، 25، 30)، وكان كلامه ينطوي على تورية في كل مناسبة وكان أحيانا يخترع كنى عدائية لأصدقائه وكان أكثر استعداداً للقهقهة منه للابتسام.

وحاول خلال السنوات المزعجة أن يلغي الأحزان التي مررت حياته (جعلتها مريرة)، ففي خطاب بتاريخ 29 يونيو 1801 كتبه لأحد أصدقاء شبابه وهو فرانز (فرانتس) فيجلر Franz Wegeler:

طوال السنوات الثلاث الأخيرة أجد سمعي يضعف بالتدريج. وربما يرجع ذلك للآلام التي أعانيها في بطني .. والتي جعلت حياتي بائسة حتى قبل مغادرتي بون، لكنها غدت أسوأ في فيينا حيث كنت مبتلى باستمرار بالإسهال وكنت أعاني من اعتلال غير عادي .. وظل هذا هو حالي حتى خريف آخر عام وأحيانا كنت أستسلم لليأس. يجب أن أعترف أنني حبيس حياة بائسة. فطوال عامين كدت لا أحضر أية مناسبة اجتماعية لأنني لم أكن قادرا على أن أقول للناس: إنني أصم. لو أن لدي مهنة أخرى لكنت قادرا على التغلب على عجزي (صممي)، لكن صممي هذا مصيبة بالنسبة إلي، وأنا عازف ومؤلف موسيقي. إن الله وحده يعلم ما ستأتي به الأيام بالنسبة لي. إنني بالفعل ألعن خالقي وألعن وجودي. أرجوك لا تذكر أي شيء عن ظروفي لأي أحد ولا حتى للورشين Lorchen [إليانور فون بروننج].

وقضى بيتهوفن شطراً من عام 1802 في قرية هيليجنشتادت Heiligenstadt الصغيرة القريبة من جوتنجن Gottingen آملاً فيما يبدو الاستفادة من حماماتها الكبريتية. وفي أثناء تجوله في الغابات القريبة رأى على مسافة قريبة منه راعيا ينفخ في مزمار، ولكنه لم

ص: 79

يسمع شيئا، فتحقق الآن فقط أنه لن يصل إلى سمعه سوى أصوات الأوركسترا العليا. وكان قد بدأ بالفعل قيادة الفرق الموسيقية كما كان قد بدأ التأليف الموسيقي لذا فقد سقط صريع اليأس عندما تحقق أنه لا يسمع موسيقى مزمار الراعي، فذهب إلى غرفته وكتب في 6 أكتوبر 1802 ما عرف باسم وثيقة هيليجنشتادت كوثيقة روحية واعتذارية، ورغم أنه ذكر شيئا عنها لأخوية كارل و- بيتهوفن إلا أنه أخفاها بعناية عن كل العيون، ونحن هنا ننقل سطورها الأساسية:

أنتم أيها الناس الذين ظننتم (وقلتم) أنني حقود أو عنيد أو كاره للبشر، كم أنتم مخطئون في حقي، فأنتم لم تعلموا السر الكامن وراء ظهوري بهذا المظهر. لقد كان قلبي وعقلي منذ طفولتي ميالين للعمل الخيّر وكنت دوما تواقا لإنجاز الأعمال العظيمة لكنني أصبحت الآن منذ ست سنوات فاقد الأمل، وتفاقم هذا بسبب الأطباء الحمقى .. وأخيرا أجبرت على مواجهة ما هو متوقع من استمرار مرضي

لقد ولدت صاحب مزاج متوهج حي بل وحساس لانحرافات المجتمع، فأجبرت منذ وقت باكر على العزلة وعلى أن أعيش وحيدا،

وعندما حاولت في بعض الأوقات نسيان ذلك كله صدمت صدمة ما أقساها! لقد كانت صدمة مضاعفة إذ فقدت ما بقي من سمعي، وضاعف الحزن أنني لم أكن استطيع أن أقول للناس تحدثوا بصوت أعلى! اصرخوا، فأنا أصم. آه كيف أقر بصممي، ومن المفترض أنني كموسيقي، أكمل ما يكون في حاسة سمعه

آه لا أستطيع أن أقر بذلك العجز، لذا سامحوني إذ رأيتموني أبتعد عنكم بينما كان المفروض أن أسعد بالاندماج معكم

آه يا للخزي عندما يجلس بجواري شخص يسمع الفلوت flute على البعد بينما أنا لا أسمع شيئا.

إن مثل هذه الأحداث أسلمتني لحافة اليأس، بل ولما هو أكثر قليلا من ذلك وهو أن أضع حداً لحياتي، ولم ينقذني سوى الفن. آه لقد بدا لي أنه من المحال أن أترك العالم إلا بعد أن أنتج كل ما شعرت أنه يطالب بإخراجه للناس

آه أنت أيها الواحد القدوس Divine One الذي تعلم ما يخفيه صدري وما تكنه روحي. أنت تعلم أن حب البشر والرغبة في حياة صالحة كامنين في أعماقي. أيها الناس عندما تقرءون في يوم من الأيام كلماتي هذه ستدركون كم كنتم مخطئين في حقي

وأنتم يا إخوتي كارل و- إذا مت فاسألوا الطبيب

ص: 80

شمد Schmid إن كان لا يزال حيا، اسألوه نيابة عني ليصف مرضي وأضيفوا هذه الوثيقة لتاريخي المرضي، فلعل هذا يجعل العالم يتآلف معي بعد موتي ويلتمس لي العذر

إنني أرغب أن تكون حياتكم أفضل من حياتي، أوصوا أولادكم بالفضيلة فهي وحدها التي تتيح السعادة، هي وليس المال إنني أحدثكم عن خبرة وتجربة. إنها الفضيلة هي التي كانت سندي أيام بؤسي، فالفضيلة - بعد فني - هي منعتني من الانتحار. وداعا ولتتبادلوا الحب

إنني أسرع إلى الموت سعيداً.

وفي الهامش كتب:

" تقرأ وتوضع موضع التنفيذ بعد موتي "

إن هذه الوثيقة لم تكن وصية منتحر، وإنما تحوى في ثناياها اليأس والأمل (التصميم). لقد وجد بيتهوفن ضرورة تقبل المشاق والمتاعت التي يمر بهما لينقل لآذان أخرى غير أذنيه الموسيقى القابعة - في صمت - داخل وجدانه. لقد ألف، وكان لا يزال في هيلجنشتادت في نوفمبر 1802 سيمفونيته الثانية (in D) ، ولم يكن فيها أثر لشكوى أو حزن، وبعد ذلك بعام واحد ألف سيمفونيته الثالثة (البطولة the Eroica) بعد صرخته النابعة من الأعماق، فدخل بهذه السيمفونية الثالثة مرحلته الثانية، وهي المرحلة الخلاقة الأكثر تميزا.

‌3 - أعوام بطولية أو أعوام سيمفونية البطولة:

THE HEROIC YEARS

1803 -

1809 م

قسم علماء الموسيقى الذين خاضوا هذه الصفحات المحيرة حياة بيتهوفن الفنية في ثلاث حقب: من 1792 إلى 1802، ومن 1803 إلى 1816، ومن 1817 إلى 1824. ففي الحقبة الأولى راح يعمل بشكل تجريبي على وفق أسلوب موزارت وهايدن، ذلك الأسلوب الهادئ الراسخ البسيط. وفي الحقبة الثانية ركز على مراقبة الأداء من حيث التمبو Tempo (درجة السرعة الواجب اعتمادها في العزف) وعلى البراعة في استخدام الأصابع، وعلى الفورس force (درجة القوة في العزف). لقد اكتشف التناقض في المود mood بين الرقة والقوة. لقد أطلق العنان لقدرته على الإبداع في الألحان على نحو يخالف المألوف كما أطلق العنان لنزعته للارتجال، لكنه أخضع هذا لمنطق الدمج والتناسب والتطور (المقصود تطور اللحن).

لقد غير (جنس sex) السوناتا والسيمفونية فقد حولهما من الرقة والمشاعر

ص: 81

الأنثوية إلى الإرادة الرجولية والحسم، وكما لو أن يبتهوفن أراد إبراز هذا التغير في مسيرته فقد أعاد - الآن - المينيوت minuet في الحركة الثالثة مع شرزو Scherzo (موسيقى مرحة مازحة) تضحك في وجه القدر. لقد وجد بيتهوفن الآن في الموسيقى ردا على سوء الحظ: لقد أصبح بمقدوره أن يذوب في الإبداع الموسيقي بشكل يجعل موت جسده مجرد حدث عابر في حياة ممتدة (خلود الذكر). إنه يقول: "عندما أعزف أو أؤلف الموسيقى .. تخف أحزاني إلى أدنى درجة ". إنه لم يعد يسمع ألحانه الآن بأذنيه وإنما راح يسمعها بعينيه - بقدرة الموسيقى الباطنية على تحويل الأنغام التي يتخيلها إلى بقع وخطوط ثم يسمعها - بلا صوت - من الصفحات المكتوبة.

وتكاد كل أعماله الموسيقية في هذه المرحلة تصبح من الكلاسيكيات إذ ظهرت الأجيال المتعاقبة كذخائر (ريبورتوار repertoires) موسيقية أوركسترالية (المقصود أن الفرق المختلفة حفظتها وأتقنتها، وأصبحت على استعداد لأدائها في أي وقت). لقد ألف سوناتا الكروتسر Kreutzer sonata (الكروتسر عملة معدنية نمساوية صغيرة) slash مجموعة ألحان 47 في سنة 1803 لعازف الفيولين (الكمان) جورج بردجتور Bridgetower وأهداها إلى رودولف كروتسر Rodolphe Kreutzer مدرس الفيولين (الكمان) في كونسرفتوار باريس، وكان بيتهوفن قد قابله في فيينا في سنة 1798، لكن كروتسر حكم على اللحن بالغرابة عن أسلوبه ومزاحه ولم ير أبداً عزفها على مسامع الجمهور.

واعتبر بيتهوفن أن أفضل سيمفونياته هي سيمفونية الأرويكا (البطولة) the Eroica التي ألفها في عامي 1803 - 1804. ونصف العالم يعرف قصة إهداء هذه السيمفونية - في الأساس - لنابليون. ورغم أن بيتهوفن كان له صداقات بين النبلاء وذوي المكانة، ورغم إهداءاته الحكيمة لأعماله، إلا أنه ظل إلى آخر حياته جمهوريا مصمما وقد هلل لنابليون لقبضه على زمام السلطة في فرنسا وإعادة تنظيم الحكم (1799 - 1800) واعتبر ذلك خطوة نحو الحكم المسئول، لكن بيتهوفن في 1802 - على أيه حال - عبر عن أسفه لتوقيع نابليون وفاقا (كونكوردات Concordat) مع الكنيسة. لقد كتب بيتهوفن:" الآن انتكست الأمور" ويروي لنا شاهد عيان هو فرديناند ريس Ries قصة الإهداء السابق ذكره، فلنتركه يروي لنا:

ص: 82

في هذه السيمفونية كان نابليون (وهو قنصل أول) موجوداً في عقل بيتهوفن الذي كان يقدره تقدير شديدا في هذا الوقت وشبهه بأعظم القناصل الرومان. وقد رأيت مع عديد من أصدقائه الحميمين نسخة من سيمفونية الأرويكا على مكتبه وقد كتب في أعلاها بونابرت وفي أدناها لوجى Luigi فان بيتهوفن ولم نقرأ أي كلمة أخرى

وكنت أول من حمل له خبر أن نابليون قد أعلن نفسه إمبراطورا، وعندها انفعل ساخطا (أي بيتهوفن) وصاح إنه إذن بشر كالبشر العاديين. إنه سيطأ كل حقوق الإنسان وسينشغل بطموحاته، وسيعلي نفسه فوق الآخرين ويصبح طاغية وتوجه بيتهوفن إلى المنضدة فمزق اسم نابليون من فوق صفحة عنوان سيمفونية وقذفه إلى الأرض، وغير الصفحة الأولى وجعل عنوان السيمفونية إرويكا (البطولة) Sinfonia eroica.

وعندما نشرت السيمفونية (1805) حملت العنوان التالي: Sinfonia eroica per festeggiare il sovvenira d'un gran uomo ومعناها سيمفونية البطولة للاحتفاء بذكرى رجل عظيم.

وفي 7 أبريل 1805 أدتها فرقة موسيقية للمرة الأولى على مسرح آن دير فين Theater-an-der-Wien بقيادة بيتهوفن رغم اعتلال سمعه. وكان أسلوبه في قيادة الفرقة مع شخصيته:

"مثيرا محكما بارعا، فعند الفقرات الموسيقية الرقيقة جدا (البيانيسيمو Pianissimo) نجده ينحني حتى يكاد المكتب يخفيه، وكلما تصاعد النغم وازداد (كريسندو Crescendo) وجدناه يرفع قامته شيئا فشيئا بالتدريج مع تصاعد النغم، فإذا وصل الصوت للذروة فورتسيمو fortissimo انبثق قافزا في الهواء مادا ذراعيه إلى آخر مدى كما لو كان يريد التحليق فوق السحاب".

وتعرضت السيمفونية للنقد بسبب،

"غرابة انتقالها النغمي أي غرابة الانتقال من أسلوب في الأنغام إلى أسلوب آخر (الموديولاشن modulation) ، وعنف المقاطع الإنتقالية وصخبها Violent transitions

ولما بها من حدّة غير مرغوبة. ولطولها المفرط".

وقد نصح النقاد بيتهوفن بالعودة لأسلوبه الأول والأكثر بساطة. لكن بيتهوفن أرغى وأزبد وحال إقناعهم بأسلوبه.

وحاول بيتهوفن دخول مجال الأوبرا لضمان نصر جديد، ففي 20 نوفمبر 1805 قاد

ص: 83

العرض الأول لأوبرا ليونور Leonore لكن جيوش نابليون كانت قد احتلت فيينا في 13 نوفمبر، فهرب الإمبراطور فرانسيس ورؤوس النبلاء، فلم يعد الناس ميالين للأوبرا أو بتعبير أوضح لم تعد أمزجتهم رائعة للاستمتاع بالأوبرا. لقد حقق الأداء فشلا مدويا رغم تصفيق الضباط الفرنسيين الموجودين وسط الجمهور قليل العدد. وقيل لبيتهوفن إن أوبراه his opera طويلة جدا وغير متقنة الترتيب، فاختصرها وراجعها وعرضها مرة ثانية في 29 مارس 1806 ففشلت مرة أخرى.

وبعد ذلك بثماني سنوات عندما ازدحمت المدينة بوفود مؤتمر فيينا، تم تغيير اسم الأوبرا ليصبح فيدليو Fidelio وتم عرضها للمرة الثالثة فلم تحقق إلا نجاحا متواضعا. لقد كان اتجاه بيتهوفن في التأليف الموسيقي يعتمد على التناغم بين الآلات أو المزاوجة بين أنغامها فقد كان يجد في ذلك رحابة ومرونة أكثر مما كان يجدها في الصوت البشري، لكن المغنين كانوا - على أية حال - تواقين لكسر حواجز جديدة، ولم يستطيعوا - ببساطة - القيام بالأداء الغنائي لبعض الفقرات المحلقة (المتسمة بالسمو) فتمردوا أخيرا. وهذه الأوبرا تعرض الآن في المناسبات بسبب شهرة مؤلفها (بيتهوفن) وبعد خضوعها لمراجعات كثيرة لا مجال لمزيد عليها.

وبعد هذه التجربة الصعبة راح ينتقل من تأليف عمل عظيم خالد إلى آخر. وفي سنة 1805 قدم كونشرتو البيانو (Opus 58 G، No 4،) ، واحتفى بعام 1806 بسوناتا (F. Minor ،Opus 57) التي أطلق عليها في وقت لاحق (أباسيوناتا Appassionata) وأضاف ثلاثة أرباع، ومجموعة ألحان Opus 59 وأهداها إلى كونت أندرياس رازوموفسكى Razumovsky السفير الروسي في فيينا وفي مارس 1807 نظم أصدقاء بيتهوفن حفلاً خيريا له - ربما تعزية لفشل عمله الأوبرالي، وفي هذا الحفل أدار عزف سيمفونياته؟ الأولى والثانية والثالثة (إرويكا سيمفونية البطولة) وسيمفونيته الجديدة (الرابعة)(in B Flat، Opus 60) ولا ندري كيف تحمل جمهور المستمعين هذا الكم الموسيقي المفرط إلى حد التخمة.

وفي سنة 1806 عهد الأمير ميكلوس نيكولاوس إسترهازي Miklos Nicolaus Esterhazy إلى بيتهوفن تأليف موسيقي قداس لعيد شفيعة زوجته (إحياء لذكرى القديسة التي تحمل الزوجة اسمها)، فذهب بيتهوفن إلى قصر إسترهازي في ايزنشتات Eisenstadt في

ص: 84

المجر وقدم هناك قداسه (C ،Opus 86) في 13 سبتمبر 1807. وبعد العزف سأله الأمير لكن يا عزيزي بيتهوفن، ما هو الذي فعلته مرة أخرى؟ وفسّر بيتهوفن هذا السؤال على أنه دال على عدم الرضا فغادر القصر قبل انتهاء مدة دعوته.

وأتحف عام 1808 بسيمفونيتين لا زالتا معروفتين حتى الآن في العالم كله: السيمفونية الخامسة (in C Minor) والسيمفونية السادسة (أو الرعوية Pastoral)(in F.) ويبدو أنه ألفهما معا خلال عدة أعوام فقد تراوح المزاج العام فيهما ما بين الاكتئاب في الخامسة والبهجة في السادسة، وقد تم أداؤهما معا على مسمع من الجمهور للمرة الأولى في 22 ديسمبر 1808، وأدى تكرار أدائهما إلى أن فقدا جاذبيتهما حتى عند عشاق الموسيقى.

فلم تعد مشاعرنا تتحرك لقدرٍ يطرق الباب أو طيور تغرد بين الأغصان، لكن ربما كان تلاشى انجذابنا إليهما راجعا لنقص التعليم الموسيقي الذي يمكننا من الاستمتاع بفن مزج الألحان وما فيها من تضاد وتطور واتساق، وتنافس الآلات في الأداء، والحوار بين آلات النفخ والآلات الوترية. وطبيعة كل حركة موسيقية والبناء العام للقطعة الموسيقية وتوجهها. فالعقول التي تتنازع فيها المشاعر والأفكار لابد أن تجد عناء في تتبع هذا تماما كما أن هيجل Hegel يجد صعوبة في فهم بيتهوفن، وكما يجد بيتهوفن - أو أي شخص آخر - صعوبة في فهم هيجل.

وفي عامي 1808 و 1809 ألف بيتهوفن كونشرتو البيانو رقم 5 (in E Flat، Opus 73) المعروف باسم "الإمبراطور Emperor". ومن بين كل أعماله، يعتبر هذا الكونشرتو هو الأكثر بقاء وجمالا. إنه عمل لا نمل سماعه أبدا. وعلى أية حال فإننا عندما نسمعه تهتز مشاعرنا اهتزازا يفوق اهتزاز مشاعرنا بالكلمات المصاحبة، فهو عمل موسيقي يتسم بالتألق والحيوية. إنه فيض من مشاعر وبهجة لا حد لهما. إنه عمل ينم عن قدرة إبداعية هائلة. ففي هذا الكونشرتو يسمو الإنسان منتصرا متجاوزا النكبات منشدا قصيدة تعج بالفرح، على نحو أكثر إقناعاً مما في الكورس الجهير في السيمفونية التاسعة.

وربما عكس "كونشرتو الإمبراطور Emperor Concerto" و"السيمفونية الرعوية Pastoral Symphony" ما كان يمر به بيتهوفن من رخاء وازدهار. وفي سنة 1804 تعاقد مع الأرشدوق ردولف Archduke Rudolf ابن الإمبراطور فرانسيس الأصغر - ليعلمه العزف على البيانو، وهكذا بدأ في تكوين صداقة، غالبا ما كانت سببا في زيادة

ص: 85

كتمان بيتهوفن لميوله الجمهورية. وفي سنة 1808 تلقى عرضا مغريا من جيروم بونابرت Jerome Bonaparte، ملك وستفاليا ليأتي إلى كاسل Cassel ليعمل قائداً لأوركسترا في الفرقة الموسيقية الملكية فوافق بيتهوفن مقابل ستمائة دوكة ذهبية في العام ويبدو أنه كان لا يزال مؤملا في أذنيه اللتين كانتا في مرحلة قريبة من الصمم، عندما شاعت الأخبار أنه يتفاوض مع كاسل اعترض عليه أصدقاؤه ذاكرين له أن في قبوله لهذا العرض نقضا لولائه لفيينا فأجابهم إنه ظل يكدح في فيينا ستة عشر عاما دون أن يؤمن وضعه.

وفي 26 فبراير سنة 1809 تلقى بيتهوفن موافقة رسمية من الأرشيدوق بأنه إذا وافق بيتهوفن على البقاء في فيينا، فسيتلقى 4،000 فلورين سنويا، يدفع منها ردولف 1،500 ويدفع الأمير لوبكوفتس Lobkowitz 700، والكونت كينسكي Kinsky 1،800، بالإضافة ما يكسبه بيتهوفن من أية أعمال يؤديها، ووافق بيتهوفن. وفي سنة 1809 وهو العام الذي قبل فيه هذا العرض، مات الموسيقار هايدن المعروف ببابا هايدن فورث بيتهوفن تاجه.

‌4 - العاشق

بعد أن حقق بيتهوفن الاستقرار في أحواله الاقتصادية راح يرنو لزوجة، فطالما كان تواقا لذلك. لقد كان رجلاً حارا محبا للجنس، ومن المفترض أنه وجد متنفسات مختلفة لطاقته لكنه شعر منذ فترة طويلة بحاجته إلى شريكة حياة دائمة. لقد كان في بون "في حالة عشق دائمة" على وفق ما ذكره صديقه فيجيلر Wegeler وفي سنة 1801 ذكر لصديقه هذا "فتاة حلوة عزيزة تحبه ويحبها" ويفترض بشكل عام أنه يقصد تلميذته ذات السبعة عشر ربيعا الكونتيسة جوليا جويشياردي Giulia Guicciardi إلا أنها - على أية حال - تزوجت الكونت جلنبرج Gallenberg. وفي سنة 1805 عقد بيتهوفن آماله على الكونتيسة الأرملة جوزيفين فون ديم Josephine Von Deym التي أرسل لها إعلانا عاطفيا كالتالي:

إنني هنا أعدك وعدا مقدسا أنه في غضون وقت قصير سأقف أمامك وأنا جدير بنفسي وبك - آه لو أنك - فقط - راعيت هذا الذي أعنيه، وهو أن أجد سعادتي في أساليب حب لم ترينها .. آه يا جوزيفين الحبيبة إن رغبتي فيك ليست رغبة رجل في امرأة (ليست

ص: 86

للجنس) وإنما رغبتي فيك أنت لشخصك، إنها فيك كلل متكامل، بكل صفاتك. إن هذا هو كل ما استحوذ على مشاعري نحوك، وكل ما يسترعي اهتمامي حيالك .. دعيني آمل أن يدق قلبك من أجلي، أما قلبي فلن يتوقف عن الدق حباً لك إلا إذا صمت للأبد ولم يعد يدق أبداً.

ويظهر أن الليدي the lady كان لها تطلعات أخرى، فبعد ذلك بعامين كان بيتهوفن لا يزال يرنو للقياها والتقدم لها فلم تجبه وفي مارس 1807 أحب بالعمق نفسه مدام ماري بيجوت Marie Bigot، فاعترض زوجها. فأرسل بيتهوفن خطاب اعتذار لها ولزوجها:

عزيزتي ماري، عزيزي بيجوت. إن من مبادئي الأساسية ألا أدخل في أية علاقة - سوى علاقة الصداقة - مع زوجة رجل آخر.

وفي 14 مارس 1809 كتب إلى بارون فون جليشنشتاين Gleichenstein:

الآن يمكنك مساعدتي بالبحث لي عن زوجة. حقيقة أنه يمكنك أن تجد بعض الفتيات الجميلات في فرايبورج Freiburg ربما يكن قد تنهدن لموسيقاي

إن وجدت واحدة منهن فمن فضلك اعقد رباطا بيني وبينها سلفا (لحين وصولي) - لكن لابد أن تكون جميلة فمن غير الممكن أن أحب أي شيء غير جميل، وإلا لكنت قد أحببت نفسي.

لكن يحتمل أن يكون هذا الخطاب أحد فكاهات (نكات) بيتهوفن.

وكان أمره مع تيريز مالفاتى Therese Malfatti أكثر جدية، وكانت هي الأخرى إحدى تلميذاته، وكانت ابنة طبيب مشهور. ويشير خطابه لها والمؤرخ في 8 مايو سنة 1810 أن حبه كان مقبولا منها. وفي 2 مايو أرسل بيتهوفن طلبا عاجلا إلى صديقه فيجلر Wegeler - وكان وقتها في كوبلنز Coblenz (كوبلنتس) - أن يذهب إلى بون ليستخرج له شهادة معمودية (التي يظهر فيها تاريخ الميلاد) لأنهم يقولون إنني أكبر سنا مما أنا عليه ونفذ فيجلر الطلب، لكن بيتهوفن لم يتابع الأمر، وفي شهر يوليو كتب ستيفان فون بروننج Bruning إلى فيجلر:

أعتقد أن مشروع زواجه قد فشل، ولهذا السبب لم يعد يشعر برغبة وحيوية في شكرك على ما بذلته له من متاعب.

لقد ظل بيتهوفن حتى الأربعين من عمره يصر على أنه ولد في سنة 1772، بينما تشير شهادة المعمودية (التي يظهر فيها تاريخ

ص: 87

الميلاد) أنه ولد في سنة 1770.

وبعد وفاته عثر على ثلاثة خطابات في درج مغلق، وكانت هذه الخطابات من بين أرق وأحر خطابات الحب التي عرفها التاريخ. لكنه لم يرسلها أبدا، ولم يذكر فيها اسما بعينه ولا عنوانا، فظلت خطابات غامضة .. الخطاب الأول يحمل تاريخ 6 يوليو صباحا، ويحكي عن قيامه (بيتهوفن) برحلة تواقة إلى مكان غير محدد في المجر للقاء امرأة، وفيما يلي بعض عبارات هذا الخطاب:

يا ملاكي، يا كلي، يا نفسي (يا روحي) .... أيمكن أن يصمد حبنا إلا من خلال التضحيات - إلا بالكف عن طلب كل شيء - أيمكنك أن تغيريه فلا تكوني كلية لي، ولا أكون كلية لكِ - آه يا إلهي طالع جمال الطبيعة، ولتقر عينك بهذا الذي يجب أن يكون - الحب يحتاج لكل شيء - سنلتقي يقيناً في وقت أوشك حينه .. قلبي مليء بالكثير الذي أودّ قوله لك. آه إن هناك لحظات أشعر فيها مع ذلك أن الكلام ليس شيئا (لا قيمة له)، فلتبق حقيقتي، وكنزي الوحيد، وكلي (وكل كياني) تماما كما أنا بالنسبة لكِ فأنا حقيقتك وكنزك الوحيد وكلك (روحك)

المخلص لك

لودفيج LUDWIG

والخطاب الثاني مختصر كثيرا وهو مؤرخ في مساء الأحد، 6 يوليو وينتهي كالتالي:

آه يا إلهي، كم أنت قريب وكم أنت متعال! أليس حبنا حقا صرحا سماويا - محكم كالقبة الزرقاء.

أما الخطاب الثالث فنقرأ فيه ما يلي:

صباح الخير - كتب في 7 يوليو

رغم أنني في سريري إلا أن أفكاري تنطلق إليك يا حبي الخالد سعيدة طورا وحزينة طورا، في انتظار أن أعرف هل سيصغي لنا القدر أم لا. إن حياتي لا تكون كاملة إلا بك، فإما حياة أنت فيها بجانبي وإما لا حياة - نعم لقد قررت أن أتجول طويلا بعيدا عنك حتى أستطيع أن أطير إلى ذراعيك، لأقول ساعتها إنني أصبحت حقا في بيتي، وأرسل روحي لتستقر فيك في عالم الأرواح .... آه يا إلهي، لم كان ضروريا أن أفارق من أحب لتصبح حياتي في فيينا بائسة؟.

لقد جعلني حبك في وقت من الأوقات أسعد الرجال وأتعسهم - ففي مثل عمري أحتاج حياة ثابتة مستقرة .. كوني هادئة، فبالهدوء وحده يمكن أن نحقق هدفينا بالعيش

ص: 88

معا - كوني هادئة - فلتحبيني - اليوم - الأمس - أشتاق إليك حتى البكاء - حياتي - كل كياني - وداعا - آه، واصلي حبك لي - لا تظلمي قلب حبيبك لودفيج وهو أكثر القلوب حبا لك. سأكون لك دوما. ستكونين دوما لي، سيكون كل منا للآخر دوما.

من هي؟ لا أحد يعرف. لقد انقسم مؤرخو حياته فمنهم من قال إنها الكونتيسة Guicciardi-Gallenberg ومنهم من قال إنها الكونتيسة تيريز فون برونسفيج Therese von Brunswig، ولم يلحق أي كونتيسة منهما ضرر. من الواضح أن الليدي كانت متزوجة، وإن كان الأمر كذلك يكون بيتهوفن بتودده لها قد نسي المبدأ الممتاز الذي اعترف به لآل بيجوت Bigots (والذي أشرنا إليه آنفا). وعلى أية حال، فهو لم يرسل هذه الخطابات ولم يحدث ضرر لأي طرف من الأطراف وربما استفادت الموسيقى من هذا الحب.

‌5 - بيتهوفن وجوته (جيتة):

1809 - 1812 م

BEETHOVEN & GOETHE

وفي سنة 1809 كانت النمسا - مرة أخرى - تخوض حربا مع فرنسا. وفي شهر مايو كانت القذائف الفرنسية تدك فيينا، فهرب النبلاء ورجال البلاط، ولجأ بيتهوفن إلى قبو يحتمي به، واستسلمت فيينا وفرض المنتصرون ضرائب على طبقة العوام بلغت عشر دخولهم السنوية، وفرضت ثلث الدخول كضريبة على الأثرياء، ودفع بيتهوفن لكنه وهو آمن على البعد وجه لكمته للغال Gaul (الفرنسيين) وكتائبهم وصاح قائلا:"إذا أنا - كجنرال - أعرف عن الإستراتيجية، قدر معرفتي - كمؤلف موسيقي. عن تناسب الأنغام، لاقترحت عليك شيئاً تفعله".

ومن ناحية أخرى، شهدت الفترة من 1809 إلى 1815 بيتهوفن وهو في حالة نفسية طيبة نسبياً. ففي هذه الأعوام كان غالباً ما يزور بيت فرانز (فرانتس) برينتانو Franz Brentano التاجر الثري وراعي الفن والموسيقى، والذي كان يساعد بيتهوفن - أحياناً - بتقديم القروض له. وكانت زوجة فرانز أنطوني Franz Antonie - تعكف في غرفتها لمرضها فكان بيتهوفن - أكثر من مرة يتسلل إليها بهدوء ليعزف على البيانو ثم يغادر دون أن ينطق بكلمة واحدة، فقد كان حديثه إليها بلغة الموسيقى.

وفي إحدى مرّات عزفه لها فوجئ وهو

ص: 89

يعزف بيدين على كتفه فلما التفت لتبيّن الأمر وجد امرأة شابة (كانت وقتها في الخامسة والعشرين) جميلة، تتألق عيونها سروراً لعزفه بل ولغنائه، لقد كان يعزف موسيقاه التي وضعها لقصيدة جوته الشهيرة عن إيطاليا (Kennst du das Land) . لقد كانت هذه المرأة الجميلة هي إليزابيث (بتينا Bettina) برينتانو أخت فرانز وكليمنتس برينتانو Clemens Brentano الذي سنتناوله فيما بعد كمؤلف ألماني شهير، وهي نفسها أصبحت في وقت لاحق. مؤلفة لعددٍ من الكتب الناجحة تُزاوج فيها بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرواية على نحو كان في ذلك الوقت سمة سائدة.

إنها - أي هذه المؤلفة - هي مصدرنا الوحيد للقصة التي رويناها لتوّنا، كما أنها هي مصدرنا الوحيد للأحداث اللاحقة التي يظهر فيها أنها سمعت في حفلة في بيت فرانز مناقشات بيتهوفن وفهمتها بعمق بل وروتها بنظام وأناقة كانا يُعوزان أحاديثه بشكل عام، وإن كان هذا النظام وتلك الأناقة يظهران أحياناً في خطاباته. وفي 28 مايو 1810 كتبت - بحماس - عنه (عن بيتهوفن) إلى جوته الذي لم تكن تعرفه من خلال علاقات الجوار مع أسرته في فرنكفورت فحسب وإنما من خلال زيارته في فيمار Weimar، وفيما يلي مقتطفات من خطابها الشهير هذا:

عندما رأيتُ من سأحدثك عنه الآن، نسيتُ العالم كله .. إنه بيتهوفن الذي أود أن أحدثك عنه والذي جعلني أنسى العالم وأنساك .. إنه يسير شامخاً في طليعة الحضارة البشرية .. هل سندركه أو نتخطاه أبداً؟ أشك في ذلك، لكن لنضمن أنه يعيش حتى .. يتطور السر الغامض الكامن في روحه تطوراً تاماً .. ساعتها فإنه بالتأكيد سيضع بين أيدينا مفتاح علمه السماوي (المقدس)

لقد قال هو نفسه: عندما أفتح عيني لابد أن أتنهّد، لأن ما أراه يناقض ما في ديني، ولابد أن أحتقر العالم الذي لا يدري أن الموسيقى وحي أرقى من الحكمة والفلسفة. إنها النبيذ الذي يوحي للمرء بعمليات تخليق وتوالد جديدة، وأنا عاصِرُ النبيذ the Bacchus الذي يستخلص هذا النبيذ العظيم للبشر لأجعلهم يثملون محلّقين في عالم الروح ..

لا أخشى على موسيقاي، فلن يكون مصيرها شراً، فهؤلاء الذين يفهمونها لابد أن

ص: 90

تحررهم من كل البؤس الذي يوقع الآخرين في شباكه

إن الموسيقى وسط بين الحياة الفكرية والحياة الحسّية. كم أود أن أتحدث إلى جوته Goethe (جيته) عن هذا - فهل سيفهمني؟ تحدثي إلى جوته عنّي .. قولي له ليسمع سيمفونياتي وسيجدُ أنني مصيب في قولي إن الموسيقى هي المدخل الروحي الوحيد لعالم معرفي أسمى

ونقلت بتينا Bettina إلى جوته هذه الأقوال المبهجة التي قالها بيتهوفن، وأضافت: أسْعِدْني الآن برد عاجل يُظهر لبيتهوفن أنك تقدّره وأجاب جوته بخطاب مؤرخ في 6 يونيو 1810:

وصلني خطابك يا طفلتي الحبيبة إلى قلبي في وقت سعيد. لقد تكبدت عناء كبيراً لتصوّري لي طبيعة عظيمة وجميلة في إنجازها وكفاحها .. إنني لا أشعر برغبة في تكذيب ما استطعتُ الإلمام به من انفجارك السريع (حماسك الشديد)، بل العكس إنني أفضل في الوقت الحاضر أن أوفّق بين طبيعتي وما أمكن تمييزه في أقوالك المتعددة الأوجه. فالعقل البشري العادي ربما يجد تناقضا فيها، لكن قبل هذا القول الذي قاله شخص ملهم على هذا النحو، فإن الرجل العادي لابد أن يقف احتراماً له .. قدّمي لبيتهوفن أحر التحيات وأخبريه أنني سأضحي بكل شيء للتعرف به

ويمكنك أن تحثيه للقيام برحلة إلى كارلسباد Karlsbad التي أذهب إليها كل عام تقريبا لأكون في الغاية من السعادة لسماع موسيقاه والتعلم منه.

ولم يستطع بيتهوفن أن يذهب إلى كارلسباد، لكن أكبر فنّانين في ذلك العصر التقيا في تبليتز Teplitz (منتجع في بوهيميا) في يوليو سنة 1812. وزار جوته الموسيقار بيتهوفن في مقر إقامته هناك وكتب انطباعاته الأولى في خطاب أرسله لزوجته:"إنه أكثر من رأيتُ من الفنانين تحلقا حول نفسه (أكثرهم ذاتية) وحيوية وإخلاصا لفنه. إنني أستطيع أن أفهم جيداً كيف أصبحت نظرته للعالم متفردة. إنها لابد أن تكون كذلك ". وفي 21 و 23 يوليو قضى أمسيتين مع بيتهوفن الذي عزف ببهجة، وثمة قصة مألوفة عن مرَّة سارا فيها معا:

هناك أقبل نحوهما كلّ أفراد الحاشية وأميرة النمسا والدوقات، فقال بيتهوفن:

(أمسك ذراعي لابد أن يُتيحوا لنا مكاناً، لا نحن الذين نتيح لهم مكاناً)، وكان لجوته رأي مختلف

ص: 91

وأصبح الموقف محرجاً له، فخلع ذراعه من ذراع بيتهوفن، واتخذ له مكاناً جانبياً وقد خلع قبعته (احتراماً) بينما ظل بيتهوفن طاوياً ذراعه وسار يميناً بين الدوقات ولم يخلع قبعته وإنما أمالها قليلاً، بينما تنحى الدوقات جانباً لإفساح الطريق له، وحيّوه جميعاً بسرور، وعند الطرف الآخر توقف منتظراً جوته الذي سمح للدوقات ورجال الحاشية بالمرور به وهو واقف وقد أحنى رأسه، فقال بيتهوفن حسناً لقد انتظرك لأنني أكن لك التقدير والاحترام الجديرين بك، لكنك جعلت هؤلاء الواقفين هناك في مكانة أعلى بكثير.

تلك هي رواية بيتهوفن على وفق ما ذكرته بتينا Bettina التي أضافت قائلة:

"وبعد ذلك أتانا بيتهوفن سعياً وأخبرنا بكل شيء وليس لدينا رواية بشأن هذه الواقعة عن جوته، وربما كان علينا أن نتشكك نحن بدورنا في هذه القصة التي اختلف الراوون وتضاربوا في تفاصيلها، ذلك أن جوته عندما عبَّر عن غيظه لقطع الحوار بينه وبين بيتهوفن بكثرة التحيات، أجابه بيتهوفن قائلاً: لا تدعهم يسببون لسعادتكم إزعاجاً، فربما كانت هذه التحيات موجهة لي".

قد تكون الرواية مشكوكاً فيها، وقد تكون صحيحة، وفي كلا الروايتين وجدنا من يجعلها متسعة مع بعض التعبيرات التي ذكرها كل من العبقريين في معرض تلخيص مقابلاته، وفي 9 أغسطس كتب بيتهوفن إلى ناشريه في ليبزج Leipzig - برتكروبف Breitkopf وهارتل Hartel:" جوته مغرم غراماً شديد بأجواء البلاط أكثر من غرامه بأنه شاعر". وفي 2 سبتمبر كتب جوته لكارل زلتر Karl Zelter (تسلتر):

لقد تعرفت على بيتهوفن في تبليتز Teplitz . إن موهبته أذهلتني. لكنه لسوء الحظ ذو شخصية غير أليفة بالمرّة ليس فقط لنظراته الخاطئة للعالم، فهو يمقت ما حوله وإنما أيضاً لأنه لم يعمل على جعل هذا العالم مبهجاً له أو للآخرين. ومن ناحية أخرى فإنه رجل يمكن أن نسامحه وهو جدير تماماً بذلك فهو يدعو للشفقة فهو يفقد سمعه، وربما يشوّه هذا الجانب الموسيقي في طبيعته أكثر مما يسبب له مشاكل اجتماعية. إنه ذو طبيعة مقتضبة لا يحب الإطناب، وربما ضاعف اعتلال سمعه من ميله للإيجاز (عدم الإفراط في الكلام).

ص: 92

‌6 - الانتصارات الأخيرة:

1811 - 1824 م

أينما ذهب، ألّف الموسيقى، ففي سنة 1811 وضع المجموعة الموسيقية 97 في شكلها الأخير (in B Flat)(Opus 97) وهي ثلاثية للبيان والفيولين (الكمان) والفيولونشللو Violoncello وأهداها إلى الأرشدوق رودلف، فحملت اسمه. وهي المجموعة الأكثر بهجة ووضوحاً من بين أعماله إذ لا يعتريها الاضطراب إلا في أضيق الحدود، وهي متناسقة فيها تكامل عضوي يُضفي عليها الجمال الكلاسيكيَّ والمهابة. وكان ظهوره لآخر مرّة كمؤدٍ (عازف) على البيان عند تقديمه لهذا العمل الكلاسيكي في أبريل سنة 1814. لقد كان الآن (عند أداء هذا العمل) وقد بلغ به الصمم حدا يجعله يفقد الحكم الصائب على صحة الضرب على مفاتيح البيان، فبعض الأصوات الصارخة (الفورتيسيمي Fortissimi) كانت تخفت منه، وبعض الأصوات الواهنة (البيانيسِّيمي Pianissimi) كانت تتلاشى منه وتصبح غير مسموعة.

وفي مايو سنة 1812 بينما كان نابليون يسوق نصف مليون مقاتل إلى الموت في روسيا، أصدر بيتهوفن سيمفونيته السابعة التي قلما عزفها العازفون، وهي تبدو الآن أفضل من سيمفونيتيه الخامسة والسادسة. هنا (في السيمفونية السابعة) نجد ألحانا حزينة جنائزية مُعتمة لضياع العظمة وتحطم الآمال، وهنا أيضاً حنين، وهنا حزن لضياع الحب الباقي، وهنا تساؤل حول السلام ومحاولة للفهم .. وكما كان مارشه March الجنائزي مقدمة موسيقية عفوية (غير مقصودة) لهزيمة نابليون في موسكو فإن عرضه (أداءه) للمرة الأولى في 8 ديسمبر 1813 كان مُزامنا لانهيار قوات نابليون في ألمانيا وأسبانيا. وقد أسعد الاستقبال الحماسي الذي لقيته هذه السيمفونية المتشائم العجوز (بيتهوفن) الذي استمر في إنتاج أعمال خالدة التي لابد أن نعتبرها بالنسبة إليه كأعمال كيتس Keats في الجرّة الإغريقية Grecian Urn: أغان بسيطة بلا نغم.

ولم يستقبل مستعمو الموسيقى سيمفونيته الثامنة استقبالاً حسناً كسابقتها، وكان قد كتبها في أكتوبر سنة 1812. واسترخى الأستاذ وقرر ألاّ يعكف على الأعمال ثقيلة الوطأة، ولم يتوافق تمام الموافقة مع مزاج أمةٍ ترقب مصيرها (قدرها) يومياً وهو معلَّق على نتائج

ص: 93

الحرب، وإنما كان من رأيه أن نبتهج الآن. لقد عكف على بندول الإيقاع (الميترونوم metronome) والسيرزاندو المرح المتبختر Scherzando، لقد كان هذا إبداعاً جديداً عامراً بالمرح والفكاهة.

وكانت أكثر مؤلفات بيتهوفن الموسيقية نجاحاً هي مقطوعة (Die Schlacht von Vittoria) التي عُزفت في فيينا في 8 ديسمبر 1803 احتفاءً بالمعركة التي استطاع فيها ولينجتون Wellington تدمير القوة الفرنسية في إسبانيا. لقد فرحت فيينا أخيراً بوصول هذه الأخبار إليها فلطالما كانت مُحبطة لما يبدو من أن هذا الكورسيكي (نابليون) لا يُقهر. والآن أصبح بيتهوفن بالفعل شهيراً في المدينة التي تبنّته (فيينا). لقد كان موضوع هذه المقطوعة وما حققته من نجاح سبباً في جَعْل بيتهوفن معروفاً ومشهوراً لدى أصحاب الجلالة والفخامة والسمّو الذين حضروا مؤتمر فيينا المعروف 1814.

وانتهز بيتهوفن الفرصة لينظم حفلاً موسيقيا لصالحه فقدم له البلاط الإمبراطوري - انتشاء بالنصر - قاعته الواسعة (الريدوتنسال Redoutensaal) ، وأرسل بيتهوفن دعوات شخصية لأصحاب المقام الجليل ممن حضروا المؤتمر، فحضر ستة آلاف شخص، فأصبح نابليون ثرياً قادراً على ادخار مبلغ كبير لتأمين مستقبله ومستقبل ابن أخيه.

وفي 11 نوفمبر سنة 1815 مات أخوه كارل Karl بعد أن ورَّث (بوصيّة) مبلغاً بسيطاً لأخيه لودفيج Ludwig (بيتهوفن)، كما عينه (أي عيّن أخاه لودفيج بيتهوفن) وأرملته وصييّن على ابنه كارل ذي الثمانية أعوام. وواصل بيتهوفن في الفترة من 1815 إلى 1826 في الأوساط الأدبية وفي المحاكم نضاله الذي راح يذوي شيئاً فشيئاً مع تريزا أرملة أخيه للحصول على رعاية ابن أخيه كارل وتنشئته وتعليمه، وكانت تريزا قد قدّمت لكارل الكبير دوطة Dowry ومنزلاً، لكنها كانت قد غرقت في إثم الزّنا، وكانت قد اعترفت لزوجها بأنها زنت فسامحها، لكن بيتهوفن لم يسامحها أبداً لارتكابها فاحشة الزنا، واعتبرها غير جديرة برعاية ابن أخيه (واسمه أيضاً كارل) ولن نتتبّع تفاصيل هذه القصة بجزئياتها القذرة. وفي سنة 1826 حاول كارل (ابن أخي بيتهوفن) الانتحار بسبب تمزقه بين أمه (الزانية) وعمه (الموسيقار بيتهوفن) لكن أحواله صلحت أخيراً فالتحق بالجيش وراح يرعى أموره بشكل

ص: 94

طيب.

ومع سنة 1817 كان بيتهوفن في المرحلة الأخيرة من حياته الإبداعية. لقد ظل بيتهوفن لفترة طويلة ثائرا في سياساته الخاصة، أما الآن فقد أعلن هذه الثورة ضد القواعد الكلاسيكية ورحب بالحركة الرومانسية في الموسيقى، وخفف من وطأة البناء الكلاسيكي في السوناتا والسيمفونية لينطلق بها إلى رحاب العاطفة والتعبير عن الذات.

لقد تأثر بيتهوفن بشيء من الروح المتمردة الحماسية التي كانت في فرنسا من خلال كتابات روسو وأحداث الثورة الفرنسية، والتي كانت في ألمانيا خلال فترة الغليان Sturm und Drang في كتابات جوته (فرتر ليدن Werthers Leiden) والشاب شيلر Schiller (دي راوبر Die Rauber) ومن ثم في قصائد تيك Tieck ونوفاليس Noivalis، وفي الكتابات النثرية لشليجل Schlegels، وفي الكتابات الفلسفية لفيتشه Fichte وشيلنج Schelling لقد وصل شيء من هذا كله لبيتهوفن فوجد تربة خصبة في نزوعه الفطري للاتجاه العاطفي وتميزه الفردي الفخور.

لقد زوت قيود النظام القديم في الفن، كما زوت في القانون والمعاهدات، مخلية السبيل أمام الحرية الفردية المصممة على شق طريقها ضاربة عرض الحائط بالقواعد والقيود والأشكال القديمة. لقد سخر بيتهوفن من الجمهور كغير مبالين ومن النبلاء كمدعين. لقد هزأ من المعاهدات والاتفاقات باعتبارها بعيدة أو لا صلة لها بالإبداع الفني ورفض أن يكون حبيس القوالب التي لا تليق إلا بالأموات، بل وحتى تلك التي كانت تليق بباخ Bach وهاندل Handel وهايدن Haydn وموزارت وجلوك Gluck. لقد أحدث ثورته الخاصة بل وحتى إرهابه الخاص، وجعل مقطوعة أغنية فرحة Ode to Joy إعلانا للاستقلال حتى في توقعه للموت.

لقد شكلت سونتاته الصارخة (الهمركلافير) جسراً بين مرحلته الفنية الثانية، ومرحلته الثالثة. حتى اسمها كان ثورة. وقد اقترح بعض التيوتون Teutons الذين سئموا هيمنة اللغة الإيطالية في الاقتصاد والموسيقى، استخدام اللغة (المقصود المصطلحات) الألمانية بدلا من الإيطالية في النوت الموسيقية والآلات الموسيقية، وعلى هذا كان من رأيهم

ص: 95

ضرورة أن يستبدل الموسيقيون بمصطلح منخفض Low وعال Strong المصطلح الألماني همركلافير مادام النغم ينتج بالطرق الخفيف على الأوتار (بواسطة مفاتيح البيان بطبيعة الحال) وقبل بيتهوفن الفكرة بالفعل وكتب إلى صانع الآلات الموسيقية سيجمون شتينر Sigmund Steiner في 13 يناير 1817 بدلا من مصطلح Pianoforte اكتب همركلافير فهذا سيجعل الأمر مستقراً إلى الأبد وللجميع.

وكانت السوناتا الثانية (Opus 106 in B Flat) في مجموعة سونتاته الصارخة (الهمركلافير) هي الأكثر لفتاً للنظر. كتبها في عامي 1818 و 1819 باعتبارها السوناتا الكبيرة للهمركلافير Grosse Santa fur das Hammerklavier وأخبر زيرنى (تسيرنى) Czerny أنها ستظل أعظم مقطوعاته الموسيقية التي ألفها للبيان وأكد عازفو البيان في الأجيال المتعاقبة ذلك. وأنها تبدو معبرة عن استسلام بيتهوفن، ومع هذا فإنها تمثل انتصار الفن على اليأس. إنها أكثر من هذا فهي رفض للجزع والكآبة حتى إن بيتهوفن أتم بعدها سيمفونيته التاسعة. لقد بدأ في تأليفها في سنة 1818 في الوقت نفسه الذي يكتب فيه أيضا عمله (Missa Solemnis) الذي كان يعد ليتم أداؤه بمناسبة تنصيب (ترسيم) الأرشدوق ردولف رئيسا لأساقفة أولموتس Olmutz، وانتهى من موسيقى القداس أولا (قداس Missa Solemnis) وكان ذلك في سنة 1823 وبذلك تأخر عن ميعاد الترسيم (التنصيب) ثلاث سنوات.

ورغبة من بيتهوفن في إضافة القليل (من المال) لما لديه ليكون مفزعاً له في الشيخوخة، وليوصي منه لابن أخيه كارل - فكر في بيع اشتراكات في نسخ من موسيقى قداسه السابق ذكره قبل نشرها، وأرسل دعوى بهذا الصدد لملوك أوربا وحكامها طالبا من كل منهم خمسين دوكات ذهبا. وأتته الموافقة ببطء، لكن في سنة 1825 أتته عشرة ردود: من حكام روسيا وبروسيا وفرنسا وسكسونيا وتسكانيا Tuscany، وأمراء جوليتسين Golitsyn وراد زيفيل Radziwill ومن جمعية في فرانكفورت (هي جمعية Caecilia Association of Frankfort) وموسيقى القداس التي نتحدث عنها (Missa Solemnis) طال تدبره فيها قبل

ص: 96

إخراجها للناس، واتسمت بغرابة بدائل شكلها النهائي، فكانت تلقى القبول بشكل عام.

وليس فيها أثر لهرطقاته التي كانت تظهر في بعض المناسبات والتي شككت في عقيدته الكاثوليكية الموروثة، فكل نبضة في هذه الليتورجية liturgy (موسيقى القداس) تتفق مع موسيقى الكونكوردات (موسيقى التوافق مع الكنيسة الكاثوليكية) ومن خلال نغماتها كلها يمكن أن نسمع عقيدة يائسة لرجل يموت. لقد كتب في مستهل بيان عقيدته في مخطوطة قطعته الموسيقية:" الله فوق الجميع - الله لم يتخل أبداَ عني " لقد كانت موسيقاه في موسيقى القداس هذه تعبيرا قويا جدا عن التواضع المسيحي لكن التركيز الشديد عل كل جزء وفقرة، وما يساند ذلك كله من جلال وفخامة جعلت هذه المقطوعة الموسيقية (Missa Solemnis) أضحية أخيرة ومناسبة لروح حائرة لله الذي لا يسبر أغواره أحد incomprehensible

وفي فبراير سنة 1824 أكمل سيمفونيته التاسعة التي ناضل فيها ليعبر عن فلسفته الأخيرة - أن يقبل الإنسان قدره بسعادة - وليكسر كل قيود النظام الكلاسيكي (في التأليف الموسيقي) ومضى الملك المتهور تاركا كبرياءه لتقوده لابتهاج كاسح للتضحية بالنظام الموسيقي القديم حتى الجيد منه للحرية الشابة الجيدة (أيضا). لقد اختفت عن مسامع السامعين إلا سمعه الباطني (السري) أو بتعبير آخر إلا من دوي النغمات في أعماقه كل المذابح altars المتناثرة التي كان عليه أن يختار منها والتي كان يجب أن تقف شامخة كالأعمدة التي تحمل الصرح.

لقد بدت الفقرات الموسيقية مفرطة في التكرار والإصرار، وفي بعض السياقات كانت تظهر لحظة من الرقة أو الهدوء ومن ثم ينطلق النغم الصارخ (الفورتيسيمو fortissimo) وكأنما ينبه عالما مجنونا غير مستجيب. لكن الدارس العظيم للموسيقى لا يرى الأمر كذلك، وإنما يرى في هذه الوفرة الموسيقية و"هذا الثراء الموسيقي بساطة في الشكل لا حد لها، وإتقاناً للتفاصيل الموسيقية التي قد تبدو لأول وهلة مربكة حتى نتحقق أنها متسقة مع نتائجها المنطقية

".

ص: 97

وربما ألغى الأستاذ (بيتهوفن) بشكل غير معلن الجهود الكلاسيكية ليقدم لنا شكلا موسيقيا خالدا (دائما) لمعنى محجوب أو جمال هائل (لا حد له). لقد اعترف باستسلامه وراح يمرح في ثروته غير النظامية - ثروة خياله ومنابع فنه السخية. وفي النهاية عاد أسير تحديات الشباب، وادخر للموسيقى أغنية شيلر Schiller التي لم تكن - حقيقة - مجرد أغنية مرحة، وإنما كانت حربا مرحة سعيدة ضد الحكم المطلق وضد البعد عن القيم الإنسانية:

- واجهوا الملوك بأرواح ملؤها الرجولة

- حتى لو كلفنا هذا ثرواتنا وأرواحنا

- ففي دمار التيجان حياة لما هو أجدر

- الموت لهم جميعا - إنهم ذوو دماء كاذبة

(أو يسري الكذب فيها)

لقد راح بيتهوفن الآن بعد اكتمال أعماله الكبرى ووصوله لأوج اكتمال فنه الموسيقي يتطلع إلى فرصة لتقديمها للجمهور، لكن روسينى Rossini كان قد فتن النمسا في سنة 1823 بالإضافة إلى أن متذوقى الموسيقى البنادقة Viennese أصبحوا الآن مفتونين بالأنغام الإيطالية فأحجم مديرو الفرق الموسيقية المحليون عن المخاطرة بتقديم عملين موسيقيين يتسمان بالصعوبة مثل موسيقى القداس التي أسماها بيتهوفن (Missa Solemnis) ، والسيمفونية الكورالية. وعرض منتج من برلين على بيتهوفن تقديمها فأوشك على قبول العرض، إلا أن مجموعة من عشاق الموسيقى على رأسها أسرة ليشنوفسكى Lichnowsky حذرت مؤلف فيينا الموسيقي البارز من اللجوء إلى عاصمة منافسة لفيينا لعزف آخر أعماله وأكثرها بهاء، وتعهدت بعزفها على مسرح كير نتنيرثور Karntnerthor، وبعد مساومات شاقة من كل الأطراف تحدد ميعاد الحفل الموسيقي في 7 مايو 1824 ببرنامج ثم تكييفه على وفق المتاح من الإمكانات: مستهل موسيقي، وأربعة أجزاء من موسيقى القداس Missa Solemnis والسيمفونية التاسعة مع كورس ألماني جهير، ولم يستطع المغنون الوصول إلى المستوى المرتفع للنوتة الموسيقية، فحذفوا ما لم يستطيعوا أداءه، واستقبل الجمهور موسيقى

ص: 98

القداس استقبالا وقورا، أما السيمفونية التاسعة فأثارت إعجابا حماسيا. وكان بيتهوفن يقف على المسرح وظهره للجمهور، ولم يكن يستطيع سماع التصفيق، فكان عليه أن يدير وجهه للجمهور ليراه (التصفيق) رأي العين.

‌7 - انتهت الملهاة (كوميديا فينيتا):

1824 - 1827 م

COMOEDIA FINITA

لقد تشاجر بيتهوفن مع شيندلر Schindler وأصدقاء آخرين بسبب المبلغ القليل (420 فلورين) الذي تلقاه من عوائد الحفل الموسيقي البالغ 2،200 فلورين. لقد اتهمهم ببخس حقه، فتركوه وحيدا، ولم يكن يتردد عليه إلا ابن أخيه في المناسبات، وقد كانت محاولة ابن الأخ هذا الانتحار في سنة 1826 مما ضاعف أحزان بيتهوفن فطفح به كيل الحزن، وفي هذه الأعوام كتب بيتهوفن آخر خمسة كارتيتات quartets من كارتيتاته البالغة ستة عشر كارتيتاً (الكارتيت قطعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وبدأ تأليفه لهذه الكارتيتات في سنة 1823 عندما عرض الأمير نيكولاي جوليتسين Nikolai Golitsyn أن يدفع أي مبلغ مقابل كارتيت واحد أو كارتيتين أو ثلاثة تهدى إليه، ووافق بيتهوفن أن يأخذ لقاء كل كارتيت خمسين دوكات (الكارتيت لحن موسيقي تعزفه أربع آلات). وهذه الكارتيتات الثلاثة تحمل الأرقام التالية (opp. 127، 130 & 132) أما العملان اللذان يحملان أرقام (Opp. 131 & 135) فهما الكارتيتان النهائيان اللذان اتسمت موسيقاهما بالغموض الباطني والغرابة مما ضمن لهما الشهرة.

وتم عزف الكارتيت رقم 130 بشكل خاص في سنة 1826 فجاهر المستمعون باستحسانهم إياه وبهجتهم به إلا أن العازفين وجدوا الحركة الرابعة فيه صعبة الأداء، فأعاد بيتهوفن كتابة هذه الحركة الأخيرة بشكل أبسط. وهذه الحركة التي كان قد تم رفضها يتم عزفها الآن في المجموعة اللحنية Grosse Fugue، "Opus 133" إذ فسرها أحد دارسي بيتهوفن بأنها تعبر عن فلسفته النهائية: الحياة والحقيقة تكونان نقيضين لا ينفصلان - الخير والشر، والفرح والتعاسة، والصحة والمرض، المولد والوفاة، ولابد أن تتكيف الحكمة مع هذا، فهذا هو جوهر الحياة الذي لا مناص منه.

وأعظم هذه الكارتيتات في نظر بيتهوفن، هي رقم 131 (in C Sharp Minor) وقد انتهى من تأليفها في 7 أغسطس

ص: 99

1826، وقد حظي هذا الكارتيت بثناء المستحقين والنقاد أكثر مما حظيت به الكارتيتات الأخرى. لقد قيل أن في هذا الكارتيت نظرة باطنية (صوفية) معروضة بشكل تام وقال السامعون لها مؤخراً أنها تبدو كعويل غامض، وأنين مرير لحيوان أصيب بجرح مميت. وآخر الكارتيت الخامس (Opus 135) يطرح سؤالاً في حركته الأخيرة: أكان هذا ضرورياً؟ (Muss es Sein?) وكانت الإجابة: نعم Es muss Sein.

وفي 2 ديسمبر سنة 1826 أصيب بيتهوفن بسعال حاد فاستدعى طبيباً، فرفض طبيبان من أطبائه الذين سبق أن عالجوه - الحضور إليه وأتى إليه الطبيب الثالث فافروخ Wawruch وشخَّص حالته بأنه مصاب بداء الرّئة (نويمونيا Pneumonia) وعكف بيتهوفن في سريره وأتى أخوه جوهان Johann لرعايته، وغادر ابن أخيه كارل بناءً على استدعاء الجيش له، فباركه بيتهوفن (دعا له أن تصحبة السلامة)، وفي 11 يناير انضم الدكتور (الطبيب) مالفاتي Malfatti إلى الطبيب فافروخ لعلاج بيتهوفن، فوصف تناول المريض شراب البنش المجمّد (البنش punch شراب مسكر به كحول وليمون وأعشاب أخرى) لمساعدته على النوم، فحسّن بيتهوفن من مذاقه بإضافة الكحول المقطر لقد أساء استخدام الوصفة الطبية فتفاقم الاستسقاء Dropsy واليرقان Jaundice، ولم يستطع التبول فتراكم البول في جسمه، وثم سحب البول من جسمه مرتين فقارن نفسه بنبع ماء حار.

ورغم مرضه فقد قرر ألا ينفق من أسهمه البنكية (التي بلغت قيمتها الإجمالية عشرة آلاف فلورين) لأنه ادخرها لابن أخيه كارل، والآن فقد كان مضطراً لكثرة النفقات فكتب إلى السير جورج سمارت Smart في لندن في 6 مارس 1827:

ماذا سيحدث لي؟ هل سأعيش حتى أستعيد قوتي وأستطيع أن أكسب عيشي مرة أخرى عن طريق قلمي؟ .. أتوسل إليك أن تستخدم كل نفوذك لحث جمعية عشاق الموسيقى لتنفيذ قرارها الذي اتخذته في وقت سابق بإقامة حفل موسيقي لصالحي. ولا تساعدني صحتي على أن أقول المزيد.

وأرسلت له الجمعية مائة جنيه مقدمة لعوائد الحفل الموسيقي المقترح.

وفي 16 مارس اتفق الأطباء على أن بيتهوفن لم يبق بينه وبين الموت وقت طويل، فطلبوا

ص: 100

منه - وكذلك طلب أخوه جوهان أن يوافق على استدعاء قس، فوافق. إذ يبدو أنّه نسي الآن ملاحاته للرّب ففي خطاب أرسله في 14 مارس يذكر أنه، "يقبل كل ما تقرّه حكمة الله سبحانه"

وفي 23 مارس تلقى أسرار المسيحية المقدسة Sacrament لآخر مرة، ويظهر أنه قبلها بمزاج مرحّب، وقد ذكر أخوه في وقت لاحق أن الرجل المحتضر (بيتهوفن) قال له:

شكراً على هذه الخدمة الأخيرة،

وقال بيتهوفن لصديقه شيندلر Schindler وهو يحتضر بعد انتهاء الطقوس الدينية (تلقين أسرار المسيحية):

"كوميديا فينيتا أي لقد انتهت الملهاة أو المهزلة"،

وهو لا يقصد غالباً الطقوس الدينية وإنما الحياة نفسها، وكانت هذه العبارة (كوميديا فينيتا) تستخدم في المسرح الروماني الكلاسيكي لإعلان نهاية المسرحية.

لقد أسلم بيتهوفن الروح في 26 مارس 1827 بعد ثلاثة أشهر من المعاناة، وقبل لحظات قليلة من إسلامه الروح غمر الغرفة ضوء أضاء الغرفة أعقبها رعد شديد، فرفع بيتهوفن ذراعه اليمنى ووجه قبضته (لكمته) إلى شيء ما، يبدو أنه وجهها للعاصفة، وبعدها مباشرة انتهت آلامه (حياته) ولن نعرف أبداً ما تعنيه هذه الإيماءة الأخيرة (توجيهه لكمة إلى شيء ماء).

وأظهر فحص جثته اضطرابات داخلية معقدة هي التي كانت سوّدت حياته ومزاجه. لقد كان كبده متقلّصة سقيمة.

وكانت شرايين أذنيه قد سدتها جزئيات دهنيه كما كان العصب السمعي تالفاً. إن آلام الرأس وعُسر الهضم والمغص واليرقان - تلك الأمراض التي كان يشكوا منها باستمرار، بالإضافة إلي الإحباط العميق الذي يُفسّر ما ورد في كثير من خطاباته - كل هذا كان نتيجة طبيعية لالتهاب الكبد المزمن وعسر الهضم. وربما كان حبه للمشي والهواء الطلق قد خفّفا من آلامه، وأتاحا له ساعات في حياته لا يعاني فيها ألماً.

وحضر جنازته ثلاثون ألفاً، وكان هَميل Hummel عازف البيان، وكروتسر Kreutzer

ص: 101

عازف الفيولين من بين حاملي بساط الرحمة في جنازته، وكان شوبرت Schubert وزيرني Czerny وجريلبارتسر Grillparzer من بين حاملي المشاعل فيها (في جنازته)، ولم يُكتَب على شاهد قبره سوى الاسم بيتهوفن، وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته.

ص: 102

الفصل التاسع والعشرون

‌ألمانيا ونابليون:

من 1786 إلى 1811 م

Germany and Napoleon

‌1 - الإمبراطورية الرومانية المقدسة:

عام 1800 م

يرى هينرش فون تريتشكي Heinrich Von Treitschke، وهو بروسي وطني متحمس لبروسيا، ومع ذلك فهو مؤرخ عظيم (لم تُبعده وطنيته عن النظرة الموضوعية اللازمة للمؤرخ) أنه:

"لم يحدث أبداً منذ أيام لوثر Luther أن أصبحت ألمانيا في هذه المكانة المرموقة في أوروبا كما هي عليه الآن (1800) حيث أصبح أعظم أبطال العصر وأعظم شعرائه من أُمّتنا "(ألمانيا).

قد نصنّف فريدريك Frederick كمنتصر في درجة أدنى من نابليون، ولكن الذي لا شك فيه أن السَّناء المنبعث من جوته Goethe وشيلر Schiller كان لا يُضارعه سناء في مضمار الشعر والنثر من ادنبره إلى روما. وقد اهتز العقل الأوروبي من لندن إلى سان بطرسبرج بفكر الفلاسفة الألمان من كانط ومروراً بفيتشه Fichte وشيلنج Shelling وهيجل إلى شوبنهاور. لقد كانت ألمانيا تشهد عصر نهضتها الثاني.

لقد كانت ألمانيا - مثل إيطاليا في القرن السادس عشر - ليست أمة إن كان المقصود بالأمة مجموعة من الناس يعيشون في ظل قوانين واحدة وحكومة واحدة. لقد كانت ألمانيا في سنة 1800 سلسلة غير محكمة (غير متماسكة) من نحو 250 دولة لكل منها قوانينها الخاصة وضرائبها الخاصة، وكثير من هذه الدول كان لكل منها جيشها الخاص، وعملتها الخاصة، ودينها الخاص بل وعاداتها الخاصة ولباسها، وكان بعضها يتحدث لغة (ألمانية) غير مفهومة لنصف العالم الألماني. إلا أن اللغة الألمانية المكتوبة كانت على أية حال لغةً واحدة مما أتاح لكتاب ألمانيا قرَّاءً من ثلث القارة الأوروبية.

ص: 103

ويجب أن ننوِّه في هذا الصَّدد أن الاستقلال النسبي لهذه الدول الفُرادى كان يسمح باختلاف الأشكال والأنماط، ويُثير المنافسة، ويتيح حرية التجريب والتفكير بقدر قد يفوق ما هو موجود في عاصمة مركزية لدولة كبيرة. لقد كان الوضع بالنسبة إلى هذه الدويلات الألمانية في هذه الفترة شبيهاً بما كان في إيطاليا في عصر النهضة (الرينيسانس Renaissance Italy) . ألم تكن مدن ألمانيا القديمة - التي كانت لا تزال متفردة على هذا النحو الجذاب، لتفقد حيويتها وطبيعتها إذا ما تم إلحاقها ببرلين سياسياً وثقافياً، كما حدث بالنسبة لمدن فرنسا عندما أصبحت تابعة لباريس؟ وهل لو كونت كل أجزاء ألمانيا كياناً واحداً مشكِّلةً أمة موحّدة - صارت قلباً لأوروبا غنياً بالسكان والمواد يبزّ كل ما بقي من أوروبا على نحوٍ لا يُقاوم؟

لقد كانت الدول الألمانية بمعنى واحد ناقصة الاستقلال: لقد قبلت هذه الدول أن تكون أعضاء في الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كانت قد بدأت - أي هذه الإمبراطورية - في سنة 800 م بتتويج البابا لشارلمان الذي يشير إليه الألمان بأنه their own Frankish Karl der Grosse، وفي سنة 1800 م الإمبراطورية شملت العديد من الولايات الألمانية الباهرة والمتنوعة، وكان أهم هذه الدول الألمانية المكوّنة للإمبراطورية الرومانية المقدسة هي تسعة دول ناخبة electoral أي دول تنتخب الإمبراطور: النمسا، وبروسيا، وبافاريا Bavaria، وسكسونيا، وبرونسفيك - لوينبورج Brunswick-Luneburg، وكولوني Cologne ومينز Mainz وهانوفر وتريير Trier (تريفز Treves) ،

ويأتي في المقام الثاني سبعة وعشرون كياناً ذو طابع روحي أو ديني يحكم كل منها أسقف (مطران) كاثوليكي على نحو يذكِّر بالحكم الأسقفي للمدن في الإمبراطورية الرومانية الغربية التي انتهت منذ ألف عام، وهذه الكيانات الروحية (ذوات الصبغة الدينية) هي: أرشبيشوبية سالزبورج archbishopric of Salzburg (لفظ الأرشبيشوب يعني كبير الأساقفة - والأرشبيشوبيَّة هي مقر كبير الأساقفة) وفي سالزبورج هذه عاش موزارت. أما الأسقفيات (حيث في كل منها أسقف بيشوب) فهي: مونستر Munster ولييج Liege وفيرتسبورج Wurzburg وبامبرج Bamberg وأوسنابروك Osnabruck وبادربورن Paderborn وأوجسبورج Augsburg وهايلدشيم Hildesheim وفولدا Fulda وسبير Speyer وريجنسبرج Regensburg (راتيسبون Ratisbon) وكونستانس Constance وفورمز Worms ولوبك

ص: 104

Lubeck

وكان هناك أمراء علمانيون (غير إكليريكيين) يحكمون سبعاً وثلاثين دولة، بما فيها هسي - كاسل Hesse-Cassel، وهسي دارمشتات Hesse-Darmstadt، وهولشتين Holstein وفيرتمبرج Wurttemberg (مع شتوتجارت Stuttgart) ، وساشن (زاخن) Sachsen (ساكس - Saxe) فيمار Weimar (وكان بها جوته)، وساشن جوتا Sachsen-Gotha (وكان فيها الدوق إرنست الثاني - المستبد المتنوّر)، وبراونشفيج فولفنبوتل Braunschweig Wolfenbuttel (براونشفيج تُكتب أيضاً برونسفيك Brunswick)، وبادن (Baden- (With Baden-Baden Karlsruhe ..... وكانت هناك خمسون مدينة حُرّة (رايخشتادت Reichstadte) كانت كذلك زمن الإمبراطورية: هامبورج وكولوني، وفرانكفورت - آم - مين Frankfurt-am-Main وبريمن Bremen وفورمز (فورمس Worms) وسبير Speyer ونورمبرج Nuremberg (تكتب أيضاً Nurnberg نورنبرج) وأولم Ulm

ومن كل تلك الكيانات الألمانية وغيرها كان يأتي الناخبون electors (أو الفرسان الإمبراطوريون) وغيرهم من الممثلين إلى الرايخستاج Reichstag أو الدايت الإمبراطوري Imperial Diet الذي يجتمع في ريجينسبورج Regensburg بدعوة من إمبراطورهم (إمبراطور كل هذه الكيانات أي إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة). وفي سنة 1792 اختار الناخبون Electors (الناخب بالمفهوم الذي شرحناه) فرانسيس الثاني النمساوي إمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية المقدسة وتوَّجوه في حفل تتويج فخم اتسم بالإسراف الشديد، فدعت النبلاء وذوي المكانة من مختلف أنحاء ألمانيا لفرانكفورت - آم - مين لمباركته (مبايعته). وكان فرانسيس الثاني هو الأخير في سلسلة طويلة من أباطرة هذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

وبحلول عام 1800 فقدت هذه المؤسسة (الإمبراطورية) - التي كانت يوماً ما مؤثرة ومفيدة بشكل عام - فقدت تقريبا كل فعاليتها وفائدتها. لقد أصبحت أثراً من آثار النظام الإقطاعي. لقد كانت كل قطعة segment (لنقل قرية أو عزبة) يحكمها سيد (لورد) إداري manorial lord (لنقل عمدة فهو أقرب للمفهوم العربي) تابع لسلطة مركزية في المدينة)، إلا أن هذه السلطة المركزية اعتراها الضعف بسبب ازدياد عدد سكان هذه

ص: 105

الوحدات وزيادة ثرواتها وقوتها العسكرية، وانتحائها نحواً علمانيا أما الوحدة الدينية في هذه الإمبراطورية المقدسة فكانت قد انتهت بظهور حركة الإصلاح الديني (الحركة البروتستنتية) وحرب الثلاثين عاما، وحرب السنوات السبع 1756 - 1763.

فكان شمال ألمانيا في سنة 1800 على المذهب البروتستنتي بينما كان جنوب ألمانيا على الكاثوليكية أما غرب ألمانيا فتخلى عن شيء من تدينه نتيجة حركة التنوير الفرنسية، التنوير Aufklarung الذي انتشر على يد الكاتب المسرحي الألماني ليسنج Lessing. وكلما مالت شمس الدين للأفول، ازدهرت الروح الوطنية على نحو قل أم كثر، فإن عقيدة ما (سياسية أو اجتماعية) كان لابد من وجودها لتمسك أجزاء المجتمع وتضمها معا وتوثق عراها في مواجهة الاندفاع بعيداً عن المركز أو بتعبير آخر في مواجهة الرغبة في مزيد من التفكك. وقد أدى استقطاب ألمانيا بين الشمال البروتستنتي بقيادة بروسيا، والجنوب الكاثوليكي بقيادة النمسا إلى نتائج رهيبة ممثلة في فشل القطبين (الشمال البروتستنتي والجنوب الكاثوليكي) في توحيد جهودهما ضد نابليون في معركة أوسترليتز Austerlitz في سنة 1805 ومعركة جينا (يينا) في سنة 1806.

وقبل هاتين الصفعتين بفترة طويلة كانت النمسا نفسها قد بدأت تتجاهل الدايت الإمبراطوري (المجلس التشريعي الإمبراطوري) وتبعتها في ذلك دول ألمانية كثيرة (دول بالمعنى الوارد في صدر هذا الفصل)، وفي سنة 1788 لم يستجيب للدعوة لحضور هذا الدايت سوى 14 أميراً من بين مائة لهم حق انتخاب (الإمبراطور) وثمانية من بين خمسين من رؤساء المدن (عمد المدن) فكان محالا أن يستطيع الدايت إصدار قرارات. وفي معاهدة كومبوفورميو Compoformio (1797) ولونيفيل Luneville (1801)

أجبر نابليون النمسا على الاعتراف بالحكم الفرنسي على المناطق الواقعة غرب الراين، وهكذا أصبح الجزء الثري من الإمبراطورية الرومانية المقدسة - بما في ذلك مدن: سبير Speyer ومانهايم Mannheim وفورمز Worms ومينز (مينتس Mainz) وبنجن Bingen وتريير Trier وكوبلنز (كوبلنتس Coblenz) ، وآخن Aachen وبون Bonn وكولوني Cologne - تحت الحكم الفرنسي. وبحلول عام 1801 كان هناك قبول عام بأن الإمبراطورية الرومانية المقدسة أصبحت - كما قال فولتير - لا هي مقدسة، ولا هي رومانية ولا هي

ص: 106

إمبراطورية، فلم تكن هناك دولة ألمانية مهمة تعترف بسلطانها أو سلطان البابا فكان لا بد من ظهور شكل جديد من التعاون والنظام - وسط هذه الفوضى - يلقى القبول، وقد أخذ نابليون على عاتقه مواجهة هذا التحدي.

‌2 - كونفدرالية الراين:

عام 1806 م

THE CONFEDERATION OF THE RHINE

كان نهر الراين العظيم كمتحف للمناظر الخلابة الرائعة، والذكريات التاريخية التي خلدتها - في بعض الأحيان - الأعمال المعمارية. وكان بالإضافة إلى ذلك ذا فضل حيوي على الاقتصاد؛ يروي التربة الصالحة للزراعة، ويربط كل مدينة يمر بها بالكثير من المدن الأخرى التي تضارعها ثقافة وتجارة، وفقد النظام الإقطاعي أنيابه وأساليبه مع توطن التجارة والصناعة على جانب النهر. لكن هذا الازدهار المنساب كانت تفسده أربع قضايا: كسل الحكام وانغماسهم في الملذات، شيوع الرشوة بين الجهاز الإداري، تركز الثروة بشكل حاد، تمزق أو تفتّت عسكري يحرض الغزاة على الغزو.

وقد فتح الطريق إلى التنظيم الجديد لدول الراين بوعد قدمته كل من فرنسا والنمسا لتعويض ذوي الحيثية الألمان الذين فقدوا ممتلكاتهم بسبب اعتراف النمسا بالسيادة الفرنسية على غرب الراين - تعويضهم بممتلكات جديدة، وأدى تذمر الذين نزعت ملكيتهم واعتراضهم على ما عُوضوا به إلى انعقاد مؤتمر رشتات Rastatt بين فرنسا والنمسا (16 ديسمبر 1797)، واقترح بعض الأمراء من غير أولي المصلحة ضرورة تحويل الولايات (الإمارات) الإكليريكية ecclesiastic إلى ولايات (أو إمارات) علمانية، وبتعبير أوضح تحويلها من حكم الأساقفة إلى حكم سواد الناس (غير الإكليريك)، ولم يكن المؤتمر قادرا على الموافقة على هذا الاقتراح فأحال الأمر للدايت Diet التالي للإمبراطورية الرومانية المقدسة.

وظل الأمر معطلاً معلقاً حتى عاد نابليون من مصر وأحكم القبضة على السلطة في فرنسا وهزم النمسا في معركة مارينجو Marengo، وعقد اتفاقاً معها (النمسا) وبروسيا وروسيا أصدر بمقتضاه الدايت الإمبراطوري في 25 فبراير 1803 مرسوما شاملا يحدد خريطة غرب ألمانيا ونظم الحكم فيها وهو المرسوم الذي يطلق عليه بالألمانية Reichsdeputationshauptschluss وبناء

ص: 107

عليه تم عزل كل الأساقفة تقريبا (من حكم وحداتهم) ووافقت بروسيا باعتدال على تقليص الحكم الأسقفي، وكانت النمسا بلا حول ولا قوة فلم يجدها سخطها فتيلا.

وتحقق الحكام الجدد أن النمسا قد تكون غير راغبة في تقديم حماية عسكرية لهم - بل إنها غير قادرة. كما لم يكونوا يتوقعون - وهم كاثوليك في غالبهم - حماية بروسيا البروتستنتية لهم. فلجأت الدول التي أعيد تشكيلها - المرة تلو المرة - إلى نابليون فهو الأقوى عسكريا، كما أنه من الناحية الرسمية - كاثوليكي. ففي ميونخ Munich (30 ديسمبر 1805) قابل كارل تيودور فون دالبرج Karl Theodor Von Dalberg ناخب مينز الإكليريكي (رئيس الأساقفة) - قابل نابليون العائد منتعشا لانتصاره في معركة أوسترليتز Austerlitz، ودعاه لقبول قيادة الولايات (الإمارات) التي أعيد تنظيمها. وظل الإمبراطور (نابليون) المشغول يفكر في الأمر مدة نصف عام، فوجد أن فرض الأمة الفرنسية لحمايتها على ألمانيا (جعلها محمية فرنسية) سيؤدي إلى عداء بقية الألمان، كما سيزيد عداء كل من إنجلترا وروسيا حدة.

وفي 12 يوليو 1806 دخلت بافاريا، وفيرتمبرج Wurttemberg وبادن وهسي - دارمشتات Darmstadt - Hesse ونساو Nassau وبيرج Berg ودول ألمانية أخرى كثيرة - في اتحاد كونفدرالي هو كونفدرالية الراين Rheinbund، وفي أول أغسطس وافق نابليون أن يأخذ على عاتقه حماية هذا الاتحاد الكونفدرالي وافق أن يجعله محمية فرنسية، واحتفظ الكيان باستقلاله في الأمور الداخلية لكن المتحدين وافقوا على أن يرسم لهم السياسة الخارجية ووافقوا على أن يضعوا قوة عسكرية كبيرة تحت أمره يطلبها متى شاء. وأرسلوا إلى فرانسيس الثاني والدايت الإمبراطورية بما يفيد أن دول الكونفدرالية لم تعد أعضاء في الرايخ.

وفي 6 أغسطس أعلن فرانسيس رسميا حل الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتخلى عن لقبه الإمبراطوري المرتبط بها (كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة) واحتفظ بمنصبه ولقبه كإمبراطور للنمسا. لقد زوت عظمة الهابسبورج وأصبح شارلمان الجديد (المقصود نابليون) يحكم من فرنسا ماداً سلطانه على غرب ألمانيا. وحققت كونفدرالية الراين فوائد حيوية، كما عانت من كوارث لا مفر منها. لقد أدخلت مدونة نابليون القانونية (بما فيها من إلغاء العوائد أو الرسوم

ص: 108

الإقطاعية والأعشار الكنسية) وأخذت بحرية العبادة الدينية والمساواة أمام القانون والنظام الفرنسي في الإدارة (تولى محافظ أو مدير أو وال لمنطقة بعينها) وهو نظام مركزي ولكنه يتسم بالكفاءة، بالإضافة لتعيين قضاة مدربين أكثر استعصاء على الرشوة.

وكان الخلل الأساسي في هذا البناء هو قيامه على أكتاف قوى أجنبية (فرنسية) ولا يمكنه الاستمرار إلا إذا وازنت الحماية الأجنبية تكاليفه الداخلية. وعندما أخذ نابليون آلافاً من أبناء الألمان ليحاربوا النمسا في سنة 1809 بدت محمية الراين متوترة، وعندما أخذ آلافا من أبناء الألمان لمحاربة بروسيا في سنة 1812 وطلب دعما ماليا ثقيل الوطأة لتمويل معركته، بدت المحمية وكأنها حمل كبير ينزع منه نابليون ويستنزفه شيئا فشيئا، وعندما جند ألمان كونفدرالية الراين ليحارب بهم ألمان بروسيا في سنة 1813 راح ألمان الكونفدراليه ينتظرون تراجع الفرنسيين لينقضوا البناء كله على رأس الكورسيكي الذي أنهكته الحروب (نابليون).

وفي هذه الأثناء كان نصراً لنابليون أنه كان قد رتب حدودا جديدة آمنة لفرنسا ذات ميزة أمنية مزدوجة. لقد كان قد أدمج أراضي غرب الراين في فرنسا، وأصبحت المناطق الغنية على الشاطئ الشرقي التي تصل حتى الألب متحالفة مع فرنسا ومعتمدة عليها. ورغم أن كونفدرالية الراين قد تفككت عقب هزيمة نابليون في ليبزج (ليبسيج Leipzig) في سنة 1813، فقد كان هذا التوحيد حيا في ذاكرة بسمارك بعد ذلك كما أن توحيدنابليون لإيطاليا كان بعد ذلك إلهاماً ألهم مازيني Mazzini وغاريبالدي Garibaldi وكافور Cavour.

‌3 - مقاطعات نابليون الألمانية

NAPOLEON'S GERMAN PROVINCES

كانت هناك إلى الشمال من كولوني Cologne منطقتان كانتا رغم عضويتهما في كونفدرالية الراين (الراينبوند Rheinbund) تابعتين كلية لنابليون لاستيلائه عليهما عنوة عن طريق الحرب، وقد حكمهما هو نفسه أو بواسطة أقربائه: دوقيه بيرج Berg الكبيرة التي حكمها قريبه جواشيم مورا Joachim Murat ومملكة وستفاليا Westphalia التي حكمها

ص: 109

أخوه جيروم Jerome. وعندما رقى نابليون أخاه جيروم فكلفه بحكم نابلي (1808) راح نابليون يحكم دوقية بيرج Berg عن طريق مفوضين يرسلهم إليها، وراح عاما بعد عام يدخل فيهما الأساليب الفرنسية في الإدارة والضرائب والقانون. وكان النظام الإقطاعي فيهما قد غدا أثراً بعد عين إذ تطورت التجارة والصناعة حتى أصبحت الدوقية مركزا مزدهرا لاستخراج المعادن وصناعتها.

أما وستفاليا فكانت أكثر تنوعا واتساعا، فطرفها الغربي هو دوقية كليفز Cleves (التي ترجع إليها أصول الزوجة الرابعة لهنري الثامن) ومن ثم تتخذ اتجاها شرقيا عبر مونستر Munster وهايلدشيم Hildesheim وبرونسفيك Brunswick وفولفن بوتل Wolfenbuttel إلى ماجدبورج Magdeburg، وعبر بادربورن Paderborn إلى كاسل Cassel (العاصمة) وعبر أنهار الرور (الروهر Ruhr) وإمز Ems وليبي Lippe إلى السال Saale والإلب Elbe. وعندما أصبح جيروم بونابرت ملكا عليها في سنة 1807 كان في الثالثة والعشرين من عمره وكان أكثر اهتماماً بالمسرات منه بالسلطة.

وراح نابليون - آملا أن تحوله المسئولية إلى شخص ناضج مستقر - يرسل له خطابات غاصة بالنصائح والتوجيهات الممتازة، بل وكانت ذات لمسة إنسانية حقا، لكنها كانت مصحوبة بمطالب مالية كبيرة، ووجد جيروم أنه من الصعب إشباع مطالب أخيه مقارنة بالموارد المالية المتاحة، بالإضافة إلى ميله (أي جيروم) للحاشية المسرفة وحياة الترف. وقد تعاون بشكل فعال تماما في إدخال الإصلاحات المبدعة الخلاقة التي عادة ما كان نابليون يجلبها معه في فترة فتوحاته وكان من مبادئ نابليون الأساسية أن الناس لا قدرة لهم على تحديد مستقبلهم، فالمؤسسات وحدها هي التي تحدد قدر الأمم لذا فقد قدم لوستفاليا Westphalia مجموعة قوانين (مدونة قانونية) وإدارة تتسم بالكفاءة، كما كانت تتسم بالأمانة النسبية، وحرية دينية ونظاما قضائيا كفؤا وأدخل نظام المحلفين، والمساواة أمام القانون، وتوحيد الضرائب، ونظام المراجعة المحاسبية الدورية لكل الأنشطة الحكومية.

وكانت جمعية وستفاليا الوطنية يتم انتخابها من خلال حق اقتراح محدود: 15 من بين 100 مندوب (نائب أو مفوض) يتم اختيارهم من التجار ورجال الصناعة، و 15 من بين العلماء وغيرهم من ذوي المكانة. ولم يكن لهذه الجمعية الوطنية

ص: 110

حق المبادرة بإصدار التشريعات، لكن كان من حقها انتقاد الإجراءات التي يقدمها مجلس الدولة، وغالبا ما كان يؤخذ بنصائحها.

وكانت الإصلاحات الاقتصادية أساسية. لقد انتهى النظام الإقطاعي الآن، فالاقتصاد الحر لا بد أن يفتح كل المجالات أمام كل الطموحين. وكان لا بد من صيانة المجاري المائية والطرق وتحسينها، وتم إلغاء تعريفة الانتقال في نطاق وستفاليا وتم توحيد الموازين والمقاييس في كل أنحاء المملكة (وستفاليا). وصدر مرسوم في 24 مارس 1809 يحمل كل كُمْون commune مسئولية الفقراء في نطاقه سواء بتوظيفهم أو تقديم مساعدات الإعاشة لهم. واشتكى دافعو الضرائب.

ومن الناحية الثقافية كانت وستفاليا أكثر الدول الألمانية تطورا لقد احتضنت بين جنباتها حياة فكرية منذ غذت مكتبة فودا Fuda الديرية عصر النهضة (الريتيسانس) بالمخطوطات الكلاسيكية، بل وقبل ذلك. لقد كان في هايلدشيم Hildesheim الفيلسوف والرياضي ليبنز (ليبنتز Leibniz) وكان في فولفنبوتل Wolfenbuttel الناقد والكاتب المسرحي ليسنج Lessing، والآن فإن لدى الملك جيروم أمين مكتبة ماهر هو جاكوب جريم Jacob Grimm سنتناوله بعد ذلك كمؤسس لعلم فيلولوجيا (علم فقه اللغة التاريخي والمقارن) اللغات التيوتونية Teutonic philology .

وفي سنة 1807 - بناء على دعوة نابليون - ترك جوهان فون ملر Muller كبير مؤرخي عصره - منصبه في برلين كمؤرخ ملكي (مؤرخ رسمي) ليأتي إلى وستفاليا وزيراً وليتولى (1808 - 1809) أمر التعليم العام. وكان في وستفاليا آنئذ خمس جامعات، كان معترفا بثلاث منها في ظل حكم جيروم: جوتنجن Gottingen وهاله Halle وماربوج Marburg، وحققت جامعتان منها شهرة عبر أوربا. لقد رأينا الشاعر كولردج Coleridge يتجه مباشرة من نذر ستوي Nether Stowey إلى جوتنجن، ويعود لإنجلترا بعد عام وقد اعترته الدهشة والإعجاب بسبب الأفكار الألمانية.

وفي مقابل هذه الأمور الطيبة كان هناك شرّان شديدا الوطأة: الضرائب والتجنيد الإلزامي. لقد كان نابليون يطلب من كل الكيانات التابعة له مساهمة مالية فعالة لحكمه، ولبلاطه الذي راح إسرافه يزداد يوما بعد يوم، ولنفقات جيوشه. وكانت حجته بسيطة: إذا

ص: 111

حدث أن استطاعت النمسا أو أي قوى معادية أن تلحق به الهزيمة أو تطيح به، فإن الأمور الطيبة التي جلبها معه ستنزع من رعاياه. ولهذا السبب نفسه لا بد للدول الواقعة تحت حمايته من مشاركة فرنسا التزاماتها بتقديم أبنائها القادرين للخدمة العسكرية ليضحوا عند الضرورة بحياتهم.

وحتى سنة 1813 كان رعايا جيروم يتحملون برجولة هذا الاستنزاف. والأهم أن الجلد لم يكن معروفا في جيوش نابليون، كما كانت الترقية بالجدارة والاستحقاق، فكان يمكن لأي جندي أن يصبح ضابطا، بل ومارشالاً، لكن بحلول عام 1813 كان على وستفاليا أن ترسل 8،000 من شبابها للاشتراك في حرب نابليون في أسبانيا، و 16،000 للمشاركة في حربه في روسيا، ولم يعد منهم من إسبانيا سوى 800، أما من عادوا من روسيا فلم يزيدوا على 2،000.

وكانت ناخبية (إمارة) هانوفر تقع في شمال شرق وستفاليا. وفي سنة 1714 كان ناخبها قد أصبح هو ملك إنجلترا جورج الأول، فأصبحت هانوفر تابعة لإنجلترا. أما الناخب الذي تولى أمرها تباعا فهو جورج الثالث الذي جعل منها منطقة موالية لبريطانيا وعمل على عدم ابتعادها عنها (عن بريطانيا) ولهذا الغرض ترك ملاك الأراضي الكبار فيها (في هانوفر) يحكمون الإمارة (المقاطعة) لصالح الأرستقراطية الألمانية - وهي من أكثر الأرستقراطيات تمسكا وانغلاقا بمعنى أن من الصعب أن ينضم إليها غيرهم. لقد كانت كل المناصب المهمة يحتكرها النبلاء الذين كانوا حريصين ألا يقع على كاهلهم شيء من عبء الضرائب. وعلى أن يتحمل غالبها الفلاحون وأهل المدينة. وظل النظام الإقطاعي قائما وإن خفف من وطأته العلاقات الأسرية وكانت الحكومة المحلية أمينة أمانة فوق التصور.

وفي سنة 1803 - عند بداية الحرب مع إنجلترا - أمر نابليون قواته وجهازه الإداري بالسيطرة على هانوفر لضمان عدم نزول قوات برية بريطانية فيها ولمنع أي بضائع إنجليزية، ولم يلق الفرنسيون سوى مقاومة بسيطة، وفي سنة 1807 - وكان نابليون مشغولاً باهتمامات أكبر - أمر بإلحاق (ضم) هانوفر إلى وستفاليا وأتاحها (أي هانوفر) لجهاز جمع الضرائب التابع للملك جيروم. وراح أهل هانوفر يندبون حظهم متضرعين إلى الرب ليعودوا

ص: 112

تابعين لإنجلترا كما كانوا.

وعلى النقيض من هانوفر، كانت المدن الهانسيتية Hanseatic cities - هامبورج، وبريمن Bremen ولوبك Lubeck - موطناً للازدهار والرخاء والكبرياء (الاعتزاز بالانتماء). لكن العُصبة (التحالف المكوَّن من هذه المدن) كانت قد انحلّت منذ مدة طويلة، غير أن انهيار أنتورب Antwerp وأمستردام تحت الإدارة الفرنسية أدّى إلى تحويل كثير من تجارتهما إلى هامبورج وبدت المدينة الواقعة على مصب نهر إلب Elbe والتي كان سكانها في سنة 1800: 115،000 نفس، وكأنما صُمِّمَت لخدمة التجارة البحرية ولإعادة شحن السفن بشكل ناشط. لقد كان يحكمها التجار الكبار والماليون، وكان احتكارهم محتملاً نظراً لمهارتهم ووضعهم كل الأمور في الاعتبار.

وتلهّف نابليون لضم هذه المدن التجارية لحكمه ليضمها للحظر الذي فرضه على الواردات البريطانية وليستفيد بأموالها والقروض التي يحصلها منها على حروبه فأرسل بوريين Borrienne وآخرين لوقف تدفق البضائع البريطانية إلى هامبورج، وقد أصبح هذا الوزير السابق (بورين) ثرياً بفضل تغاضيه (إغلاقه عينيه الاثنتين) وأخيراً ضم نابليون المدينة الكبيرة إلى حكمه (1810) فانزعج أهلها انزعاجاً شديداً حتى إنهم شكَّلوا جمعيات سرية لاغتياله (اغتيال نابليون) وراحوا يتآمرون كل يوم لإسقاطه.

‌4 - سكسونيا

SAXONY

إلى الشرق من وستفاليا وإلى الجنوب من بروسيا وُجِدت دولة ألمانية عرفها أهلها باسم Sachsen وعرفها الفرنسيون باسم ساكس Saxe كانت ذات يوم تمتد من بوهيميا Bohemia إلى البلطيق، وقد تركت هذه الدولة آثارها في الأسماء المختلفة في بريطانيا التي تنتهي بالمقطع (Sexes) هذه الدولة قد لحقها الخراب في وقت لاحق بسبب حروب الأعوام السبعة لكنها الآن (من هذه الفترة) تنعم بناخبية (إمارة: بالمعنى السابق شرحه) مزدهرة تمتد على جانبي نهر الإلب Elbe من فيتنبرج Wittenberg (التي شهدت شطراً من حياة لوثر) حتى دريسدن Dresden (باريس ألمانيا).

وفي ظل حكم فريدريك أوغسطس الثالث Frederick Augustus كناخب (elector له حق المشاركة في اختيار

ص: 113

إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة) (في الفترة من 1768 - 1806) وكملك (فريدريك أوغسطس الأول) في الفترة من 1806 إلى 1827 سرعان ما استعادت سكسونيا ازدهارها خاصة وهي تنعم بنهر الإلب الذي يرويها وكأنه أم رءوم. ونعمت دريسدن Dresden مرة أخرى بعمائرها المشيدة على وفق طراز الروكوكو rococo وشوارعها الفسيحة وجسورها الجميلة، وتماثيل العذراء، وفخارها المنقوش. وأدار الحاكم الشاب - رغم عدم تفوقه كرجل دولة - مملكته بشكل حكيم وأنفق موارده بعناية وسدد الدَّيْن الوطني وطوّر مدرسة مشهورة للتعدين في فريبرج Freiberg.

وواصلت ليبزج (Leipzig) تنظيم معرض الكتاب الذي يُعقد فيها سنوياً الذي كان ناشرو أوروبا يعرضون فيه آخر إصداراتهم فنافست بذلك دريسدن وأدى انتعاش الأدب الألماني إلى التفوق الفكري.

وانضم فريدريك أغسطس العادل أو المستقيم إلى بروسيا والنمسا في محاولة تهذيب الثورة الفرنسية وأسهم في معركة فالمي في سنة 1792، وكانت قواته مع الجيش البروسي المنسحب. لقد انزعج كثيراً لإعدام ابن عمه لويس السادس عشر لكنه انضم راغباً إلى جهود السلام مع فرنسا في سنة 1795.

وعندما وصل نابليون إلى السلطة حافظ فريدريك على علاقات طيبة معه، وكان نابليون يحترمه كمستبد عادل (متنوّر) يحب شعبه. وعلى أية حال، فعندما كانت جيوش نابليون تقترب في سنة 1806 من جينا (يينا) وقع فريدريك بين المطرقة والسندان: حذَّره نابليون ألا يترك الجيش البروسي يمر في أراضي سكسونيا، لكن بروسيا أصرَّت على مرور جيشها وغزت سكسونيا، فاستسلم الناخب وترك جيشه الصغير ينضم للجيش البروسي.

وعامل المنتصرُ (نابليون) فريدريك أغسطس بتساهل نسبي فعرض عليه أن يدفع لفرنسا تعويضاً مقداره 25 مليون فرنك وأمره أن يغير لقبه ليُصبح (ملك سكسونيا) وجعله على رأس دوقية وارسو (فرسافا) Warsaw الكبيرة وأجبر بروسيا على التنازل لسكسونيا عن مناطق Circle of Cottbus على الشاطئ الغربي لنهر سبري Spree. وهكذا أصبحت بروسيا محصورة بين بولندا من الشمال والشرق، ووستفاليا من الغرب وسكسونيا من الجنوب - وكلها مُعاهِدَة لنابليون. لقد بدا

ص: 114

وكأن المسألة مسألة وقت لتتبع بروسيا بقية ألمانيا في خضوعها لفرنسا النابليونية (فرنسا في ظل حكم نابليون).

‌5 - بروسيا: تراث فريدريك

من 1786 إلى 1787 م

عند موت فريدريك الثاني كانت مملكة بروسيا الكبيرة تتكوّن من ناخبية electorate (إمارة بالمعنى السابق) براندنبورج Brandenburg، ودوقيتي سيليزيا Silesia وبوميرانيا القصوى Farther Pomerania، وولايات (مقاطعات) بروسيا الشرقية - بما فيها كونيجسبرج Konigsberg وفريدلاند Friedland وممل Memel - وبروسيا الغربية التي تم الاستيلاء عليها من بولندا في سنة 1772 ومقاطعات مختلفة من قلب غرب ألمانيا تشمل فريدلاند الشرقية ومونستر Munster وإسّن Essen وبعد موت فريدريك أضافت بروسيا إليها منطقة ثورن Thorn ودانزج (دانتسِج Danzig) في التقسيم الثاني لبولندا (1792) ووارسو (فرسافا) وقلب بولندا في التقسيم الثالث (لبولندا) في سنة 1795 وأنسباخ Ansbach وبايروث Bayreuth ومانسفيلد Mansfeld في سنة 1791 ونيوشاتل Neuchatel في سويسرا في سنة 1797. لقد بدت بروسيا وكأنها قررت ابتلاع شمال ألمانيا عندما تقدم نابليون ليعفيها من هذه المهمة.

لقد كان والد فريدريك العظيم هو الذي جعل هذا التوسّع البروسي ممكناً، ذلك أن فريدريك الأول كان قد علَّم ابنه وشعبه تحمّل المشاق بصمت، بالإضافة إلى أنه ترك له أفضل جيش في العالم المسيحي، وترك له شعباً منظّماً بإحكام يخضع لنظام تعليمي واحد ونظام ضرائبي واحد، ونظام خدمة عسكرية يسري على الجميع. لقد كانت بروسيا قد أصبحت لقمة سائغة لملك ذي ميول عسكرية، وارتعدت أوروبا كلها وألمانيا كلها وبروسيا كلها لرؤية هذا الرجل وهو يلتهم المُلك (العرش) بضباطه الأرستقراطيين (اليونكر Junker) المستبدّين ورماة القنابل ذوي الأقدام الثمانية. لقد حذّرت الأم ابنها قائلة:

لا تأخذ كثيراً، وإما المُجندون سيأخذونك

Do not get tall، or the recruiters will get you

ص: 115

وقد أضاف فريدريك العظيم (حكم من 1740 إلى 1786) لهذا الجيش وهذه الدولة عبقريته الخاصة التي شحنها بقراءة فولتير، وتكيفاً مع الواقع (رواقية عميقة) من مورِّثاته (جيناته)، لقد رفع من شأن بروسيا من مملكة صغيرة تضارعها سكسونيا وبافاريا إلى قوّة تُضاهي النمسا في العالم الألماني تقف كحاجز قوي في وجه الضغط الدائم للسلاف الذين يتكاثر عددهم بسرعة، ليصل بها (بروسيا) مرة أخرى إلى حدودها القديمة على نهر الإلب.

وفي الداخل أسس نظاماً قضائياً مشهوراً بتكامله وجهازاً من الإداريين حل بالتدريج محل النبلاء لتسيير أمور الدولة. وأرسى دعائم حرية الحديث والصحافة والعبادة وتحت حمايته أصبح نظام المدارس في ألمانيا هو البديل للتعليم الكنسي الذي جعل البروسي في سُبات روحي عميق. لقد كان هو الرجل الوحيد في عصره الذي يستطيع أن يفوق فولتير ويعلّم نابليون. قال نابليون في سنة 1797:

"إن فريدريك العظيم بطل أحب أن أناقشه في كل شيء؛ في الحرب وفي الإدارة. لقد درستُ مبادئه في الميدان، وخطاباته المألوفة كانت بالنسبة لي دروساً فلسفية ".

وكان هناك نقص في إنجازه، فهو لم يجد الوقت الكافي بسبب المعارك التي خاضها - لتهذيب النظام الإقطاعي البروسي فيعطيه طابعاً أكثر إنسانية كما هو الحال في دول الراين Rhineland States، وأدت حروبه إلى فقر أصاب شعبه، فكانت هذه الحروب إلى حد ما مسئولة عن انحدار بروسيا بعد وفاته.

أما فريدريك وليم الثاني (حكم من 1786 إلى 1797) فكان كعمه الذي لم ينعم بطفولته مولعاً بالنساء والفنون أكثر من ولعه بالحكم والحرب، فقد ألحق بزوجته الأولى خليلة أنجبت له خمسة أبناء، وطلق زوجته في سنة 1769 وتزوّج من فريدريكه لويز Friedrike Louise (من هسي دارمشتات Hesse - Darmstadt) التي أنجبت له سبعة أبناء، وفي أثناء زواجه الأخير هذا حث رجال الدين في بلاطه على السماح له بارتباط مورجانتي morganatic unions (أي السماح له بالزواج ممن هي أدنى منه منزلة ودرجة على أن يظل كل طرف من الطرفين في درجته نفسها وطبقته نفسها، وليس للأولاد المولودين من هذا الزواج حق الإرث أو حق وراثة ألقاب النبالة) مع جولي فون فوس Julie von Voss (1787) التي ماتت بعد الزواج بعامين، ومن ثم تزوّج الكونتيسة صوفي دونهوف Sophie Donhoff

ص: 116

(1790)

التي أنجبت له ولداً. وكان لديه من الوقت ما يسمح له بعزف الفيولونشللو Violoncello وباستقبال موزارت وبيتهوفن، وبتأسيس أكاديمية للموسيقي ومسرح للدولة. وموّل (وأعلن) في سنة 1794 مدوّنه قانونية جديدة تحوي كثيراً من العناصر الليبرالية.

وسمح لجوهان (يوهان) فون فولنر Johann Von Wollner وهو إصلاحي أخذ بالمذهب العقلي، وكان أثيراً لديه - سمح له في سنة 1788 بإصدار قانون إيمان ديني Religionsedikt أنهى التسامح الديني وأحكم الرقابة حتى إن كثيراً من الكتاب هجروا برلين بسببه.

وقامت سياسته الخارجية على الدفاع، فقد رفض الموقف الهجومي لسلفه، وهزأ بقرن سبق من الأحداث، فخطب ود النمسا، باعتبار ذلك خطوة كبرى نحو وحدة ألمانيا وأمنها. ولم يكن يحب الثورة الفرنسية، فبقي راضياً عن النظام الملكي (وكذلك كان شعبه راضياً عن الملكية) وأرسل بعض القوّات للمشاركة في معركة فالمي Valmy (1792) ولكنه كان سعيداً بعودة من بقي من جنوده لمساعدته في التقسيم الثاني لبولندا، وفي سنة 1795 وقّع اتفاق سلام بازل (بَاسِل Basel) مع فرنسا التي سمحت له بالاستيلاء على وارسو في التقسيم الثالث لبولندا.

ورغم ما حصل عليه وضمه لبلاده فقد سمح بتدهور أحوالها مالياً وعسكرياً. ومنذ وقت باكر يرجع إلى سنة 1789 كتب ميرابو Mirabeau بعد إقامة طويلة في برلين - وكأنه يتنبّأ:

"العرش البروسي أصبح في وضع لا يتمكن فيه من التغلب على أية كارثة. لقد أصبح الجيش في حالة استرخاء وفقد حماسه، وأصبح الجهاز الإداري هشاً يشيع فيه الغش والخداع والرشوة. وأصبحت ميزانية الدولة مضطربة وقريبة من الإفلاس. ولم تكن سوى الحرب هي التي تستطيع بشكل حاسم أن تُوضِّح لهذا الجيل الأعمى ما وصلت إليه بلادهم من تدهور .. ذلك التدهور الذي أصاب بالشلل كل النشاطات بعد أن ركن الناس لسحر شهرة بلادهم في الماضي".

ص: 117

‌6 - انهيار بروسيا:

من 1797 إلى 1897 م

وهكذا مات الملك الطيّب ووقع عبء العناية بالدولة المريضة على عاتق ابنه فريدريك وليم الثالث في فترة شهدت فيها أوروبا توسعات نابليون، وجهود ميترنيخ Metternich النمساوي، وظل فريدريك الثالث يحمل هذا العبء حتى سنة 1804. ويدهش الجميع لاستمراره في الحكم طوال هذه المدّة مع أنه كان ضعيف الإرادة رقيق المشاعر. لقد كان يتحلَّى بكل الفضائل التي يمكن أن تمكن المواطن الصالح من التطوير والعمل: تعاون، عدالة، رقة، تواضع، إخلاص لزوجته وحب للسلام. لقد حرر الأقنان serfs (عبيد الأرض) في الأراضي التي تمتلكها الأسرة المالكة. تزوّج في سنة 1793 لويزا المكلنبورج ستريليز Louise (Luise) of Mecklenburg وهي في السابعة عشر من عمرها، جميلة وعاطفية ومخلصة ووطنية، وسرعان ما أصبحت محبوبة الشعب. وظلت المصدر الأساسي للسعادة التي غرق فيها متناسياً كل النكبات والكوارث.

لقد راح القرن الجديد يجلب له الأزمة تلو الأزمة. ففي سنة 1803 استولى الفرنسيون على هانوفر التي كانت بروسيا قد ضمنت حيادها، فطالب الضباط الشبان في الجيش البروسي بقطع العلاقات - على الأقل - مع فرنسا، إن لم يكن الحرب. لكن فريدريك وليم عقد معها سلاماً. وأحكمت القوات الفرنسية قبضتها على مصب نهر الإلب Elbe ونهر فستر (وستر Wester) فأضرت - بفعلها هذا - بالتجارة البروسية، فتذرّع فريدريك بالصبر.

ودعت الملكة لويزا للحرب، وارتدت الزى العسكري الخاص بالفوْج العسكري الذي يحمل اسمها، وظهرت في عرض عسكري وهي تمتطي صهوة جواد، وراحت تبثُّ الحماس في الجيش الذي لا يُقهر. أما الأمير لويس فرديناند - ابن عم الملك - فكان يتطلع إلى فرصة لإظهار همته ونشاطه، أما دوق برونسفك (برونسويك Brunswick) العجوز فعرض أن يقود هو بنفسه الجيش البروسي.

أما الجنرال بلوشر (بلوخر) Blucher - الذي أصبح بعد ذلك بطلاً من واترلو - فقد أيده (أي أيد دوق برونسفيك). ومع هذا فقد راح فريدريك وليم يقاوم رغبات كل هؤلاء

ص: 118

بهدوء. وفي سنة 1805 حثَّت النمسا - التي قررت أن تتحدّى نابليون - بروسيا على تقديم المساعدة لها، لكن الملك البروسي لم يستجب.

غير أن صبر فريدريك وليم نفد عندما توغلت القوات الفرنسية - وهي في طريقها إلى أوسترليتز Austerlitz في منطقة بايروث Bayreuth البروسية، فدعا الملكُ إلى مؤتمر في بوتسدام Potsdam يحضره ملك روسيا إسكندر، وأقسم الملكان عند قبر فريدريك الكبير أن يقفا معاً في مواجهة نابليون وأن يهبّا معاً لنجدة النمسا. وسارت قوات إسكندر الروسية جنوباً فلاقت الهزيمة وفي الوقت نفسه تشتت الجيش البروسي في الوقت الذي ولّى فيه إسكندر هارباً إلى بلاده روسيا.

وأعطى نابليون سلاماً سهلاً - لكنه مشروط - لفريدريك وليم (15 ديسمبر 1805، 15 فبراير 1806): تتنازل بروسيا لفرنسا عن نيوشاتل Neuchatel وكليفز Cleves وأنسباخ (أنسباش Ansbach) لفرنسا، في مقابل أن تأخذ (أي بروسيا) هانوفر، ووافق فريدريك وليم على إغلاق الموانئ البروسية في وجه البضائع البريطانية بعد أن حصل على هانوفر وضمها لملكه - تلك الجائزة الثمينة التي طالما اشتهاها - ووقع مع فرنسا معاهدة تحالف دفاعية هجومية، فأعلنت إنجلترا الحرب على بروسيا.

وتوجه نابليون لتكوين فدرالية الراين التي كانت تحيط ببعض المقاطعات البروسية في غرب ألمانيا، وعندما سمع فريدريك وليم أن نابليون يعرض هانوفر على انجلترا سرا - دخل في تحالف سري مع روسيا (يوليو 1806)، وفي أول أغسطس استولى نابليون على كل غرب ألمانيا وجعلها تحت حمايته، وفي 9 أغسطس عبأ فريدريك وليم جانباً من جيشه، وفي الرابع من سبتمبر أعاد فتح الموانئ الروسية أمام البضائع الإنجليزية، وفي 13 سبتمبر أمر قواته بدخول سكسونيا Saxony وانضمت قواته إلى القوات السكسونية، فأصبح جنرالاته وعلى رأسهم دوق برونسفيك Brunswick (برونسويك) يقودون 20،000 مقاتل.

وغضب نابليون غضبا شديدا لما اعتبره انتهاكا لاتفاقيتين وتحالف، فأمر جيوشه التي كانت متمركزة بالفعل في ألمانيا أن تنقض على مقدمة وجناح جيوش الحلفاء، وأسرع هو نفسه إلى الجبهة وأشرف على هزيمة البروس والسكسون هزيمة منكرة في جينا Jena (يينا) وأورشتدت (أورشتاد Auerstedt) في اليوم نفسه - 14 أكتوبر 1806.

ص: 119

ما ذكرناه آنفا هو وجهة النظر الفرنسية. أما على الجانب البروسي فقد كان ما حدث واحدا من أظلم المآسي وأقساها في تاريخها. لقد هرب فريدريك وليم بحكومته وأسرته إلى شرق بروسيا وحاول أن يباشر مهامه من ممل Memel، وأصدر نابليون - من مقر البلاط الملكي في برلين - أوامر لقارة (بأكملها) بفرض الحصار القاري (على البضائع البريطانية) وأخرجت القوات الفرنسية الجيوش البروسية من بولندا، وهزم نابليون الروس في فريدلاند Friedland وصحبته قواته إلى تيلسيت Tilsit حيث عقد سلاما مع إسكندر.

وهنا علم فريدريك وليم الشروط الأخيرة (النهائية) التي بمقتضاها يمكن أن تظل بروسيا كيانا موجودا على الخريطة. لابد أن تتنازل بروسيا لفرنسا عن كل الأراضي البروسية الواقعة غرب نهر الإلب وأن تعيد إلى بولندا كل أراضيها التي استولت عليها في التقسيمات الثلاثة. ولا بد أن تقبل دفع تعويض حرب بدفع رواتب الجنود الفرنسيين الذين احتلوا بروسيا حتى يصل إجمالي ما تدفعه إلى 160 مليون فرنك.

وبهذه المعاهدة التي وقعتها بروسيا في 9 يوليو 1807 فقدت 49% من الأراضي التي كانت تحكمها وصار عدد سكانها 5،250،000 بعد أن كان 97،500،000 (المقصود أنها بفقدها المناطق التي تنازلت عنها نتيجة الهزيمة فقدت حكم سكانها، وليس المقصود أن كل هذا النقص ضحايا حرب) وفي الفترة بين 1806 و 1808 كانت تكاليف القوات الفرنسية والتعويضات تستنفد كل دخل بروسيا. ومع هذا فقد كان هناك بعض الألمان يظنون - وهم يرون الدمار الذي حاق ببروسيا - أنها لن تقوم لها قائمة بعد ذلك ولن تلعب دوراً مهما في التاريخ الألماني.

‌7 - بروسيا تنهض من جديد:

1807 إلى 1812 م

هناك نواة صلبة في الطبيعة الألمانية - أكدتها قرون من الحياة الشاقة بين شعوب محاربة وأجنبية - وهي أن الألمان شعب يمكنه تحمل الهزيمة مرفوع الرأس وينتظر الوقت المناسب للرد. وكان هناك آنئذ (الفترة التي نتحدث عنها) رجال على شاكلة شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg وشارنهورست Scharnhorst وجنيشيناو Gneisenau، ولم يتركوا يوما واحدا يمرّ دون أن يكون شغلهم الشاغل هو كيف يتم خلاص بروسيا أو بتعبير آخر

ص: 120

كيف تبعث من جديد. فهؤلاء الملايين من الأقنان (عبيد الأرض) الذين لا أمل لهم في ظل عبوديتهم القديمة - كم هي الطاقة التي سيصبونها في الاقتصاد البروسي وكم هي الحيوية التي سينعشونه بها لو أنهم تحرروا من أعبائهم المهنية وراحوا - وسط الترحاب - يعملون في مشروعات حرة في الريف أو المدن؟

وهذه المدن التي هي الآن كسولة فاترة الهمة في ظل حكم النبلاء الذين يحتقرون التجارة، ويمارسون مهامهم في حكم الأمة من عاصمة مركزية بعيدة - ما هي المبادرات النشيطة التي قد يطورونها في مجالات الصناعة وإدارة الأعمال، والمالية، في ظل حافز الحرية والتجريب؟ إن فرنسا في عهد الثورة الفرنسية قد حررت أقنان الأرض وانتعشت، بل إنها أبقت المدن تحت نفوذ باريس، فلم لا نحرر المدن والأقنان (عبيد الأرض) في آن، قاطعين الطريق على الغازي؟

على هذا النحو فكر فرايهر هنريش. فريدريش كارل فوم أوند تسوم شتاين Freiherr Heinrich Friedrich Karl Vom und zum Stein والمقطع الأخير من اسمه Vom und zum stein يعني أبو صخر عند الصخرة of and at Rock نسبة إلى مدينة أسلاف أسرته على نهر لاهن Lahn الذي يلتقي بنهر الراين فوق كوبلنز (كوبلنتس Coblenz) ، ولم يكن الرجل بارونا وإنما فرايهر Freiherr - والكلمة تعني رجلا حرا - من الفرسان الإمبراطوريين (الرايخسترترشافت Reichsrittershaft) ، وقد دعا للدفاع عن الأراضي التابعة له، وعن المملكة.

لقد ولد (26 أكتوبر 1757) ليس في مدينة Vom Und zum Stein (مدينة أبو صخر عند الصخرة) وإنما بالقرب القريب من مدينة نساو Nassau، وكان أبوه حاجباً لناخب (أمير) مينز (منتس Mainz) ، والتحق الابن عند بلوغه السادسة عشرة من عمره بمدرسة القانون والسياسة في جامعة جوتنجن Gottingen. وهناك قرأ منتسكيو Montesquieu وأخذ عنه إعجابه بالدستور الإنجليزي، وقرر أن يكون عظيما (أي بتعبير آخر قرر أن يلعب أدوارا مهمة) ومارس مهنته القانونية في محاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة في فتسلر Wetzler وفي الدايت الإمبراطوري في ريجنسبورج Regensburg.

وفي سنة 1780 دخل الخدمة المدنية في بروسيا فعمل في الإدارة الوستفالية للصناعة والتعدين. وفي سنة 1796 تولى منصبا قياديا في الإدارة الاقتصادية لكل المقاطعات

ص: 121

البروسية على طول الراين، واستدعى إلى برلين في سنة 1804 ليشغل منصب وزير الدولة للتجارة بسبب نشاطه البالغ ونجاح مقترحاته. وفي غضون شهر من توليه منصب وزير الدولة للتجارة عهد إليه بتقديم العون لوزارة المالية. وعندما وصلت أخبار للعاصمة مفادها تشتيت نابليون للجيش البروسي في يينا (جينا Jena) نجح شتاين Stein في نقل محتويات الخزانة البروسية إلى ممل Memel وبأموالها استطاع فريدريك وليم الثالث تمويل حكمه في المنفى (المقصود بعيدا عن العاصمة)، وربما أدت كوارث الحرب وما صاحبها من توتر إلى توتر أعصاب الملك والوزراء،

ففي 3 يناير 1807 طرد فريدريك وليم الثالث وزيره شتاين Stein لأنه: "عنيد متغطرس لا علاج له وغير مطيع، وهو - لإعجابه بعبقريته ومواهبه

يعمل انطلاقا من عواطفه وكراهيته الشخصية وعلى وفق ما تمليه عليه ضغائنه ". وعاد شتاين إلى بيته في نساو Nassau، وبعد ذلك بستة أشهر دعاه الملك - بعد أن علم أن نابليون طلبه كمدير - ليتولى وزارة الداخلية.

وكان منصب وزير الداخلية هو بالضبط الموقع المناسب الذي يمكن شتاين (ذلك فرايهر Freiherr أي السيد المتحرر الغضوب) من تقديم أفضل الإصلاحات لإطلاق طاقات الشعب البروسي. وفي 4 أكتوبر 1807 تولى مهام منصبه الجديد بالفعل، وفي 9 أكتوبر كان يعد للملك إعلانا طالما تطلع إليه ملايين الفلاحين ومئات الليبراليين، وكانت المادة الأولى في مشروعه هذا معتدلة إذ تعلن:"حق كل ساكن من سكان ولاياتنا أن يشتري أرضا ويتملكها"، وكان هذا الحق - حتى الآن - غير متاح للفلاحين. والمادة الثانية تسمح:"لأي بروسي أن يعمل في أي استثمار مشروع"، وعلى هذا فستفتح كل المجالات أمام المواهب - كما هو الحال في ظل حكم نابليون - بصرف النظر عن الانتماء لأسرة أو طبقة، وستصبح الحواجز الطبقية لا مكان لها في المجال الاقتصادي، والمادة العاشرة تمنع أي قنانة (عبودية للأرض) أما المادة 12 فتعلن ابتداء من 11 نوفمبر (المارتنماس Martinmas أي عيد القديس مارتن):"لا يصبح في كل ولاياتنا فلاح نصف حر .. سنكون جميعاً أحرارا"، وقاوم نبلاء كثيرون هذا المرسوم، ولم يصبح ساريا بكل بنوده حتى سنة 1811.

وعمل شتاين Stein والليبراليون المؤيدون له خلال عام 1808 على تحرير المدن البروسية

ص: 122

من حكم البارونات الإقطاعيين أو ضباط الجيش المتقاعدين أو متعهدي الضرائب الذين كانت سلطتهم - في الغالب - بلا حدود. وفي 19 نوفمبر سنة 1808 أصدر الملك - الذي أصبح مرة أخرى راغباً في الإصلاح - القانون المحلي للبلديات، يحكم المدن بمقتضاه مجلس محلي (جمعية محلية) تختار موظفيها بنفسها، باستثناء المدن الكبيرة فالملك هو الذي يعين عمدة burgomaster كل منها من بين ثلاثة رجال يختارهم المجلس المحلي. وهكذا بدأت الحياة السياسية الصحيحة على المستوى المحلي وتطورت إلى نظام إداري بلدي ألماني ممتاز.

ولم يكن شتاين Stein وحده في رعاية أمور بروسيا. فقد عمل جير هارد (جيراد) فون شارنهورست Gerhard Von Scharnhorst (1755 - 1813) والكونت أوجست نيتهاردت فون جنيسناو Count August Neithardt Von Gneisenau (1760 - 1831) والأمير كارل فون هاردنبرج Karl Von Hardenberg (1750 - 1822) عملوا معا على إعادة بناء الجيش البروسي مستخدمين مختلف الحيل لتحاشي القيود التي فرضها نابليون. وكان تطور هذه العملية (إعادة بناء الجيش البروسي) من التقدم بمكان كما يتضح من خطاب أرسله شتاين في 15 أغسطس سنة 1808 إلى أحد الضباط البروس، ووقع في أيدي الفرنسيين الذين نشروه في جريدة المونيتير Moniteur في 8 سبتمبر وفيما يلي جانب من هذا الخطاب:

"السخط يزداد كل يوم في ألمانيا. لا بد أن نطعم الناس ونعمل من أجلهم. إنني شديد الرغبة في إقامة روابط بين هسي Hesse ووستفاليا ومن الضروري أن نعد أنفسنا لأحداث معينة تتطلب منا مواصلة الاتصال بالرجال ذوي الطاقة والقدرة على العمل وذوي النوايا الحسنة. لابد أن نجعل هؤلاء الرجال يلتقون (لتدارس الأمر)

لقد تركت أحداث إسبانيا أثرا حيوياً، لقد أثبتت ما كنّا نتوقعه ومن المفيد أن ننشر هذه الأنباء بحذر. إننا نظن أن الحرب بين فرنسا والنمسا أمر لامناص منه. وهذا الصراع سيقرر مصير أوربا ".

وكان نابليون على وشك الاتجاه إلى إسبانيا لخوض معركة كبرى، فأمر فريدريك وليم بطرد شتاين Stein من منصبه فتوانى الملك في الإذعان إلى أن حذر من أن الجيش الفرنسي سيبقى في

ص: 123

الأراضي البروسية إلى أن يذعن لأمر لنابليون. وفي 24 نوفمبر سنة 1808 طرد شتاين مرة أخرى من منصبه، وفي 16 ديسمبر أصدر نابليون من مدريد مرسوما يجعله بعيدا عن حماية القانون (مرسوما بإهدار دمه) ومصادرة كل ممتلكاته والقبض عليه في أي مكان يوجد فيه داخل المناطق التي تسيطر عليها فرنسا.

وهرب شتاين في بوهيميا. وسدت بروسيا النقص بتعيين هاردنبرج Hardenberg (1810) مستشارا للدولة - وهو منصب يعني في الواقع (رياسة الوزراء) وكان هاردنبرج عضوا في الحكومة السابقة، وكان قد أعاد تنظيم وزارة المالية وتفاوض في اتفاق السلام في سنة 1795، وتحمل جانبا من المسئولية في كارثة 1806 وطرد من الحكومة بإصرار من نابليون (1807)، والآن فقد بلغ الرجل الستين من عمره، وبينما كان نابليون غارقا في حب إمبراطورته الجديدة، راح هاردنبرج يحرك الملك نحو النظام الملكي الدستوري بحثه دعوة أول جمعية للنبلاء (1811) تم دعوة جمعية لممثلي الأمة (1812) ذات مهام استشارية، ولأن هاردنبرج كان معجبا بالمفكرين الفرنسيين فقد جعل ممتلكات الكنيسة علمانية وأصر على أن ينعم اليهود بالمساواة (11 مارس 1812) وفرض ضريبة ممتلكات على النبلاء وضريبة كسب على رجال الأعمال. وأنهى احتكار الطوائف (نقابات الصناع والتجار ذات الطابع الوسيط - أي العائد للقصور الوسطى) ذلك النظام المعوق ورسخ مبدأ حرية الاستثمار والتجارة.

لقد كانت حركة إعادة بناء بروسيا فيما بين عام 1807 وعام 1812 موحية بالقوة المختزنة في طيات الشخصية الألمانية. فتحت العيون الفرنسية المعادية، وفي ظل حكم واحد من أضعف الملوك في بروسيا استطاع رجال مثل شتاين Stein وهاردنبرج - ولم يكن أي منهما نبيلا - أن يأخذوا على عاتقهم إعادة بناء أمة مهزومة ومحتلة ومفلسة، واستطاعوا في غضون ستة أعوام أن يسموا بها إلى سنام السلطة والفخر مما جعلها في سنة 1813 القائد الطبيعي في حرب التحرير (المقصود حرب التخلص من السيادة الفرنسية) وأسهمت كل الطبقات في هذا الجهد، فقاد النبلاء الجيش وقبل الفلاحون التجنيد الإجباري وتنازل التجار عن كثير من أرباحهم للدولة وناضل الرجال والنساء من أهل الأدب والفكر في طول ألمانيا وعرضها من أجل حرية الصحافة والفكر والعبادة،

وفي سنة 1807،

ص: 124

وفي برلين المحشودة بالقوات الفرنسية ألقى فيشته Fichte خطاباته الشهيرة التي وجهها للأمة الألمانية دعا فيها إلى أقليه منظمة لتقود الشعب البروسي إلى طهارة خلقية (معنوية) وبعث وطني جديد وفي كونيجسبرج Konigsberg في سنة 1808 نظم بعض أساتذة الجامعات اتحاد الأخلاق والعلوم عرف فيما بعد باسم عصبة الفضيلة (توجنبوند Tugenbund) وكان هدفه تحرير بروسيا.

وفي هذه الأثناء كان شتاين حائرا خارج بلاده يعاني النفي والفقر، والخوف الدائم من أن يقبض عليه أو تطلق عليه النار، وفي مايو سنة 1812 دعاه إسكندر للانضمام لبلاطه في سان بطرسبرج، وظل هناك مع مضيفه (إسكندر) في انتظار قدوم نابليون.

ص: 125

الفصل الثلاثون

‌الشَّعْبُ الأَلْمَاني:

من 1789 إلى 1812 م

‌1 - الاقتصاد

كان الألمان في سنة 1800 شعباً ذا وعي طبقي، قَبِل التقسيم الطبقي كنسق للنظام الاجتماعي والتنظيم الاقتصادي، وقلما يحصل الشخص على لقب من ألقاب النبالة إلا بالميراث (أي يكتسبه عند ميلاده). لقد لاحظت مدام دي ستيل de Stael أنه في ألمانيا يحافظ كل شخص على رتبته (طبقته) ومكانه في المجتمع وكأنما هما (الطبقة والمكانة) أمراً راسخا (غير قابل للتغيير)، وكان هذا الوضع أقل وضوحا على طول الراين وبين خريجي الجامعات، لكن - بشكل عام - كان الألمان أكثر صبرا من الفرنسيين، فلم يصل الألمان إلى وضع الفرنسيين في سنة 1789 إلا في سنة 1848.

لقد كان تأثير الثورة الفرنسية في الأدب مثيرا، وكان تأثيرها في الصناعة الألمانية سطحيا. لقد كان في ألمانيا موارد طبيعية ثرية، لكن استمرار النظام الإقطاعي وسلطة البارونات الإقطاعيين في الدول الألمانية الوسطى والشرقية أبطأ من نهوض طبقة رجال الأعمال والمستثمرين الصناعيين التي كان يمكن أن تزدهر في ظل الحوافز المتاحة في الاقتصاد الحر وغير الطبقي، مما يتيح للصناعة الاستفادة من الفحم والمعادن المتوفرة بكثرة في الأرض الألمانية. أما التجارة فقد ساعد على ازدهارها مجموعة من الأنهار الرائعة: الراين، والفسر Weser والإلب Elbe والسال Saale والمين Main والسبري Spree والأودر Oder لكن تمزق الكيانات الألمانية (أو بتعبير آخر عدم اتحاد ألمانيا، وبقاؤها في كيانات سياسية منفصلة) جعل الطرق قصيرة قليلة غير معتنى بها، وفرض على المرور بها ضريبة مرور، وقطعها اللصوص وقطاع الطرق. ومما عوق التجارة القيود التي فرضتها الروابط (التكتلات) التجارية والصناعية، والضرائب الباهظة واختلاف المقاييس والمكاييل والموازين والعملة والقوانين من منطقة إلى أخرى.

ص: 127

وكان على الصناعة الألمانية أن تواجه حتى سنة 1807 منافسة البضائع الإنجليزية التي أنتجتها أحدث الآلات. لقد نعمت إنجلترا بجيل الريادة في الثورة الصناعية ومنعت تصدير تكنولوجيتها الجديدة كما منعت فنييها المهرة من العمل في الدول الأخرى. لقد عمل إله الحرب ذو الوجهين على ازدهار الصناعات لإطعام الناس وكسوتهم وقتلهم، فانتعش الاقتصاد الوطني، وبعد سنة 1806 أدى الحصار القاري الذي فرضه نابليون إلى منع البضائع البريطانية من دخول القارة على نحو قل أم كثر، مما ساعد الصناعات داخل القارة على النمو (لمواجهة نقص البضائع الواردة). لقد تطورت صناعة استخراج المعادن وتصنيعها في غرب ألمانيا خاصة في دوسلدورف Dusseldorf وإسن Essen وما حولهما. ففي سنة 1810 بدأ فريدريش كروب Friedrich Krupp (1787 - 1826) في إسن Essen مجمع صناعات معدنية ظلت تسلح ألمانيا لقرن.

ورغم هذا الجهد الذي كان يبذله رجال الصناعة فقد كان النبلاء والملك ينظرون إليهم نظرة دونية باعتبارهم مستغلين طلاب ربح، ولم يكن مسموحا لتاجر أو مستثمر صناعي أن يتزوج من طبقة النبلاء أو أن يشتري أرضا يمكنه أن يفرض عليها رسوما إقطاعية. وكان مسموحا للماليين - من الهوجونوت Huguenot (طائفة من البروتستنت) أو اليهود أو غيرهم - أن يقرضوا النبلاء والملوك، لكن عندما اقترحوا في سنة 1810 أن تحذو بروسيا حذو إنجلترا وفرنسا بتأسيس بنك وطني يصدر سندات مالية بفوائد منخفضة، وبذا يساعد الدين العام في تمويل الدولة، كان من رأي الملك والنبلاء أن مثل هذا الإجراء سيجعل المملكة تحت رحمة رجال البنوك (الماليين). ورفضت بروسيا أن يتحكم في الأمة مديرو العاصمة، وإنما كانت أكثر ميلا إلى أن يقودها العسكريون والأرستقراطية (اليونكر Junker) .

‌2 - المؤمنون بالمسيحية (والمتشككون فيها)

BELIEVERS AND DOUBTERS

مازال الألمان في فترتنا هذه منقسمين دينيا كما كان عليه الحال خلال حرب الثلاثين عاما. وبطرق كثيرة كانت حروب فريدريك الكبير مع النمسا وفرنسا استجابة لهذه المأساة التي طال أمدها. وإذا كان فريدريك قد خسر، فإن البروتستنتية قد تختفي من بروسيا كما

ص: 128

كانت قد اختفت من هسي Husse في بوهيميا Bohemia بعد سنة 1620. ولما كان رجال الدين البروتستنت قد انتقلت إليهم الممتلكات الكنسية للأساقفة الكاثوليك في الشمال البروتستنتي، فقد أصبحوا - أي رجال الدين البروتستنت - معتمدين على الحماية العسكرية للأمراء البروتستنت واعترفوا بهم كرأس للكنيسة البروتستنتية في ممالكهم (أي ممالك هؤلاء الأمراء)، وعلى هذا كان فريدريك هو رأس الكنيسة البروسية Prussian Church مع أنه هو نفسه كان لا أدريا (أي متشككا في اللاهوت المسيحي - في هذا السياق). وفي الدول الألمانية الكاثوليكية - النمسا، وبوهيميا، وكل كيانات كونفدرالية الراين تقريبا - كان الأساقفة - إن لم يكونوا هم أنفسهم حكاما - يحتاجون للحماية نفسها، وأصبحوا تابعين للسلطة المدنية (غير الدينية أو بمعنى أدق سلطة غير الإكليروس) وراح كثيرون منهم لا يهتمون كثيرا بالبيانات التي يصدرها البابا، لكن معظمهم كان يقرأ بانتظام من فوق منابر الوعظ قرارات السلطات المدنية التي تحميهم.

وعلى هذا كان الأساقفة في الكيانات الألمانية التابعة لنابليون - سواء منهم البروتستنت أو الكاثوليك - يقرءون من فوق منابر كنائسهم أوامر نابليون الإدارية ونشراته العسكرية وكان لتبعية الكنيسة على هذا النحو آثار مختلفة (غالبا ما كانت هذه التبعية تأخذ أشكالا متناقضة): اتجاهات تقوية Pietism (وهو اتجاه ديني متشدد يؤكد على دراسة الكتاب المسيحي المقدس والخبرة الدينية الشخصية) واتجاهات عقلية (اتجاه يعتبر العقل هو الحكم في قضايا المعتقدات). لقد كانت هناك أسر ألمانية كثيرة لها تراثها التقوي (بالمعنى السابق) الذي يفوق انتماءها السياسي وهو في الوقت نفسه أعمق من تمسكها بالطقوس الدينية (الاتجاه الطقسي).

وهذه الأسر كانت تجد إلهامها الديني أكثر ما يكون في الصلوات داخل المنزل (في نطاق الأسرة) وليس في اللاهوت الرسمي أو عظات رجال الدين من فوق منابر كنائسهم، فراحوا شيئا فشيئا يهملون الكنائس وعوضاً عن ذلك راحوا يتعبدون في جماعات خفية esoteric (المقصود جماعات لها أساليبها الخاصة في العبادة لا يعرفها غيرها)، وكانت جماعات المتصوفة (الباطنية) الذين يوقرون تراث المتنبئين مثل جاكوب (يعقوب) بوهم Jakob Bohme هم الأكثر حماسة واعتزازا بأساليبهم في العبادة إذ كانوا يزعمون رؤية الرب ومقابلته وجهاً

ص: 129

لوجه أو أنهم يسعون لذلك، كما كانوا يزعمون أنهم عاينوا التنوير وجربوه، ذلك التنوير (المعنى هنا أقرب إلى الذوبان في القوى القدسية العليا) الذي ينهي أقسى مشاكل الحياة وأكثرها مرارة.

وكانت أخوية المورافيين Moravian Brotherhood (الأخوية تعني الجماعة الدينية التي يرتبط أفرادها ارتباطا شديدا أساسه الإيمان بمعتقدات واحدة) هي على نحو خاص الأكثر تأثيراً، فقد عانى أفرادها ببطولة صامتة قرونا من الاضطهاد، فقد طردتهم بوهيميا الكاثوليكية وانتشروا في المناطق الألمانية البروتستنتية وأثروا - بعمق - في حياتها الدينية. وقابلت مدام دي ستيل بعضهم وتأثرت بتقواهم وإسهامهم في الأعمال الخيرية وكان ينقش على قبر الواحد منهم إذا مات ولد في يوم كذا وعاد إلى وطنه في يوم كذا وقد آمنت البارونة جولي (باربارا جوليانه) فون كرودنر (1764 - 1824) Julie (Barbara Juliane) Von Krudener الأثيرة لدي مدام دي ستيل آمنت بمعتقدهم وكانت تدعو إليه بطريقة جذابة حتى إن الملكة لويز Louise البروسية تأثرت بهذه الدعوة، وكذلك تأثر بها لفترة القيصر الروسي إسكندر، لكنهما وإن كانا قد تأثرا بالمعتقد فإنهما لم يستجيبا للمشاركة في الأعمال الخيرية.

وكان الشكاكون Skeptics (المفهوم أنهم شكاكون في المعتقد المسيحي) الذين استنشقوا هواء التنوير الفرنسي هم الطرف الآخر المقابل للباطنيين المسيحيين mystics (المتصوفة المسيحيين) لقد فتح ليسنج Lessing على استحياء عصر التنوير الألماني Aufklarung بالبحث عن أمور أهملها التاريخ وراح ينشر جزءا منها (Fragmente eines ungenannten) في الفترة من 1774 إلى 1778 وقد عبر هيرمان ريماروس Hermann Reimarus في هذا العمل عن شكوكه في صحة الأناجيل (شكه في أصلها التاريخي)، وبطبيعة الحال كان هناك شكاكون (المفهوم أنهم شكاكون في المعتقد المسيحي) في كل جيل، لكن غالبهم كان يرى الصمت من ذهب، وكان تأثيرهم يتم قمعه إما بالبوليس أو بالتخويف من عذاب الجحيم.

أما الآن فلم تعد أفكار هؤلاء الشكاكين مكتومة فقد وجدت طريقها في محافل البنائين الأحرار (الماسونيين Freemason) ومحافل الروزيكريشيين Rosicrucian (تشكيلات سرية اشتهرت في القرنين 17 و 18 وزعمت أنها تملك معرفة سرية للطبيعة والدين) وفي

ص: 130

الجامعات بل وحتى في الأديرة.

وفي سنة 1781 أدى كتاب كانط Kant (نقد العقل الخالص) إلى حدوث بلبلة بين المتعلمين في ألمانيا بشرحه لصعوبات اللاهوت العقلي (صعوبات إخضاع اللاهوت للعقل)، وظلت الفلسفة الألمانية طوال جيل بعده تعمل على دحض شكوكه أو إلغائها، وحقق بعض الباحثين بدأب لدحض أفكاره شهرة عالمية مثل فريدريش شلايرماشر Schleiermacher، على وفق ما ذكره ميرابو Mirabeau (الذي زار ألمانيا ثلاث مرات بين عامي 1786 و 1788) كان معظم رجال الدين البروتستنت البروسي في هذا الوقت قد تركوا - بشكل سري - إيمانهم السفلي وباتوا يفكرون في المسيح كرجل صوفي محبوب أعلن قرب نهاية الدنيا.

وفي سنة 1800 سجل مراقب متعجل أن الدين (المسيحي) قد مات في ألمانيا وأنه من غير الملائم وصفها بأنها مسيحية وتنبأ جورج ليشتنبرج (1742 - Lichtenberg 1799) أنه سيأتي يوم يكون فيه اعتقاد الجميع في الرب (المقصود يسوع) God كاعتقاد أطفال الحضانة في الأشباح.

لقد كانت هذه التقارير مبالغاً فيها، فقد أثرت الشكوك في الدين في عدد قليل من الأساتذة وذوي الثقافة الضحلة لكن هذه الشكوك لم تكن تصل إلا قليلا إلى الجماهير. واستمرت العقيدة المسيحية تدعو إلى معنى اعتماد الإنسان على قوى علوية فوق الحسّ، وتوضح ميل الإنسان - حتى المتعلم - لطلب العون من قوى علوية (فوق طبيعية)، وراحت التجمعات البروتستنتية تدفئ قلوب أعضائها بالترانيم الرائعة، واستمرت الكنيسة الكاثوليكية في تقديم معجزات القديسين والمثولوجيا، والتأملات الباطنية والموسيقى والفن لتكون ملاذا أخير لأرواح أرهقتها أعوام من الملاحة العقلية وسط عواصف الفلسفة والجنس ومخاطرهما. وعلى هذا فإن علماء واسعي المعرفة مثل فريدريش فون شليجل Friedrich Von Schlegel وبنات موسى مندلسون Moses Mendelssohn اليهوديات المتألقات راحوا يبحثون أخيرا عن الدفء وحنان الأمومة في حضن الكنيسة الأم. لقد ظل الإيمان دوماً، وبقي الشك أيضا.

ص: 131

‌3 - اليهود الألمان

لا بد وأن يكون الإيمان المسيحي قد ضعف مع ازدياد التسامح الديني، فكلما زادت المعرفة وجدناها تتخطى الحواجز التي وضعتها العقائد. لقد أصبح من المستحيل بالنسبة إلى المسيحيين المتعلمين أن يكرهوا اليهودي المعاصر بسبب صلب المسيح السياسي (صلب تم لأسباب سياسية) مضى عليه ثمانية عشر قرنا، وربما قرأ المسيحي المتعلم في إنجيل متى (21/ 8) كيف أن جموعاً من اليهود قد انتشروا وجريد النخيل في أيديهم للترحيب بداعيهم المحبوب (المقصود المسيح عليه السلام وهو يدخل القدس قبل موته بأيام قليلة. وعلى أية حال فقد كان اليهود في النمسا قد جرى تحريرهم على يد جوزيف الثاني، وفي بلاد الراين على يد الثورة الفرنسية أو نابليون، وفي بروسيا على يد هاردنبرج Hardenberg فخرجوا سعداء من معازلهم ghettos وتكيفوا مع محيطهم وزمانهم لباساً ولغة وعادات، وأصبحوا عمالاً قادرين ومواطنين موالين للبلاد التي يقيمون فيها وعلماء مبدعين ودارسين مخلصين. لكن ظلت معاداة السامية سائدة بين غير المتعلمين أما بين المتعلمين فقد فقدت بعدها الديني وإنما كان لها (أي معاداة السامية) أساس يغذيها في المنافسة الاقتصادية والفكرية وفي أساليب الحياة في (الجيتو) التي ظلت باقية إذ حافظ عليها اليهود الفقراء.

لقد شهدت فرانكفورت أيام جوته عداء شديدا بين المسحيين واليهود، واستمر هذا العداء طويلا، لأن البورجوازية الحاكمة هناك أحست بالمنافسة اليهودية الشرسة في مجال التجارة والصرافة والأمور المالية. وكان مير أمشل روتشلد Meyer Amschel Rothschild اليهودي (1743 - 1812) يعيش بينهم في هدوء وأسس أعظم البيوت المالية في التاريخ بإقراض الأمراء المفلسين مثل الكونتات الألمان (اللاندجريف landgraves) في هسي - كاسل Hesse-Cassel، أو بعمل اليهود كوكلاء لإنجلترا لتقديم الأموال للذين يواجهون نابليون. ومع هذا فقد كان نابليون هو الذي أصرّ في سنة 1810 على منح يهود فرانكفورت حريتهم كاملة بضمان تشريعاته المعروفة بالمدونة النابليونية.

ص: 132

أما ماركوس هيرز (هيرتس) Marcus Herz (1747 - 1803) فقد عمل على استخدام الازدهار - المالي لليهود في رعاية العلوم والفنون. ولد ماركوس في برلين وهاجر في سنة 1762 إلى كونيجسبرج Konigsberg حيث كان كانط وغيرهم من الليبراليين قد أقنعوا الجامعة بقبول اليهود، وسجل هيرتس في الجامعة كطالب طب لكنه كان يحضر محاضرات كانط ويواظب عليها غالبا مع حضوره محاضرات الطب وجعله حبه للفلسفة واهتمامه بها تلميذا أثيرا لكانط.

وعندما حصل على درجته العلمية في الطب عاد إلى برلين وسرعان ما حقق شهرة ليس فقط كطبيب وإنما أيضا كمحاضر في الفلسفة وجذبت محاضراته في الفيزياء مستمعين ذوي حيثية كان منهم فريدريك وليم الذي أصبح بعد ذلك هو الملك فريدريك وليم الثالث وكان زواجه من هنريتا دي ليموس Henrietta de Lemos - إحدى أجمل نساء عصرها - سببا لبهجة وتعاسة معا. لقد جعلت بيته صالونا يضارع أفضل صالونات باريس. وامتد كرمها ليشمل الجميلات اليهوديات الأخريات بمن فيهن برندل Brendel ابنة موسى مندلسون (أصبح اسمها بعد ذلك دورثيا Dorothea) وراشيل ليفن Rachel Levin التي تزوجت بعد ذلك الدبلوماسي والمؤلف فارنهاجن فون إنس Varnhagen Von Ense وتحلّق ذوو الحيثية من مسيحيين ويهود حو ل ربات الفتنة والجمال الثلاث، وابتهج المسيحيون إذ وجدنهن جميلات جسدا وعقلا وكن مغامرات فاتنات.

وحضر ميرابو Mirabeau هذه الاجتماعات ليناقش الأمور السياسية مع ماركوس كما كان يتناول موضوعات تتسم بالظرف والذكاء مع هنريتا، وكانت أحاديثه معها أكثر من أحاديثه مع زوجها ماركوس وكانت تستمتع بإعجاب ذوي الحيثية من المسيحيين بها، ودخلت في علاقات غامضة مع فيلهلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt المعلم، ومع فريدريش شلايرماخر Friedrich Schleiermacher الذي كان داعية فلسفيا. وفي هذه الأثناء شجعت دوروثا Dorothea - التي كانت قد تزوجت سيمون فايت Simon Veit وأنجبت له طفلين - على ترك زوجها وبيتها لتعيش مع فريدريش فون شليجل كخليلة له، غير أنها أصبحت بعد ذلك زوجته.

ص: 133

وكان لهذا الاختلاط الحرّ بين المسيحيين واليهود أثر مضعف على الجانبين: لقد أضعف العقيدة المسيحية (السائدة) عندما وجد المسيحيون أن المسيح ورسله Apostles (الكلمة في المصطلح المسيحي تعني الدعاة له وسفر أعمال الرسل يعني سفر الدعاة أو المبشرين بالمسيحية) الاثني عشر لم يكن هدفهم سوى الوصول إلى يهودية جديدة إصلاحية، أو بتعبير آخر لم يكن هدفهم سوى إصلاح اليهودية لتكون مطابقة لشرائع موسى والهيكل. وكذلك أدى هذا الاختلاط إلى إضعاف عقيدة اليهود الذين رأوا أن إخلاصهم لليهودية يشكل معوقا قاسيا يحول بينهم وبين المكانة الاجتماعية والتواؤم مع من يعيشون معهم. وعلى كلا الجانبين (المسيحي واليهودي) أدى تدهور المعتقد الديني إلى تساهل في المعايير الأخلاقية.

‌4 - الأخلاق

كانت قواعد السلوك والأخلاق قائمة على الاعتقاد في إله رحيم منتقم، يشجع كل تواضع ويراقب كل عمل ويعلم ما تخفي الصدور، لا ينسى شيئا، وهو صاحب الحق ومالك القوة، ليصدر الحكم ويعاقب أو يعفو. إنه إله الحب والانتقام إنه السيد المهيمن مالك الجنة والنار (وهي صورة الإله في العصور الوسطى). هذه العقيدة الكئيبة والتي ربما كان لابد منها ظلت موجودة بين الجماهير وساعدت رجال الدين والأرستقراطيين Junkers والجنرالات والبطارقة على التحكم في جماهيرهم (قطيعهم) والفلاحين والجنود والبيوت. لقد تطلبت الحروب الدورية والمنافسة التجارية والحاجة للانضباط الأسري، تأصيل وصياغة عادات الطاعة والتنفيذ لدى الشباب وعادات التواضع المبهج والعمل داخل المنزل لدى البنات، والصبر والإخلاص لدى الزوجات، والقدرة الصارمة على القيادة لدى الزوج والأب.

وكان الرجل الألماني العادي يجد من الحكمة أن يكون وقورا أمام زوجته وأبنائه ومنافسيه وموظفيه، رغم أنه- بعيدا عنهم - يكون مرحا محبا للفكاهة - على الأقل عندما يكون في الحانة. وهو - أي الألماني العادي - يعمل بجد، ويتوقع الشيء نفسه ممن يعملون تحت إدارته، وهو يحترم التقاليد والتراث باعتبارهما نبع الحكمة وعمود المصداقية. والعادات

ص: 134

القديمة تمكنه من مواجهة مهامه اليومية وارتباطاته بفكر منظم مريح. وهو متمسك بدينه كتراث مقدس وهو شاكر له لأنه يعينه على تدريب أبنائه على المودة والنظام والانضباط. وهو يتبرأ من الثورة التي أشاعت الفوضى في فرنسا ويكره استعجال الشباب الألماني وهياجهم متمثلة في تحللهم الطائش من العلاقات الراسخة، اللازمة بشكل حيوي لضبط المنزل والدولة. وهو - أي الرجل الألماني العادي - يجعل زوجته وأبناءه تابعين له، لكنه يستطيع أن يكون إنسانيا ومحبوبا في منزله في الوقت نفسه وهو يعمل بلا ملل ولا كلل لمواجهة احتياجات أسرته البدنية والعقلية والنفسية.

وقد قبلت الزوجة وضعها دون كبير مقاومة لأنها مقتنعة أن الأسرة الكبيرة في بلد غير آمن يحيطه الأعداء، في حاجة إلى يد ثابتة صارمة. وهي في المنزل - كتابعة لزوجها وملتزمة بالقانون (الشريعة) - تصبح مقبولة كسلطة موجهة، وغالبا ما كانت دوما تحظى بحب أولادها طوال الحياة. وكانت راضية بدورها كأم للأطفال مبرأة من الإثم تحافظ على بقاء الجنس البشري.

لكن كانت هناك أصوات أخرى. ففي سنة 1774 كان تيودور فون هبل Theodore Von Hippel قد سبق ماري فولستونكرافت Wollstonecraft بثمانية عشر عاما، إذ نشر كتابه (عن الزواج) فكان صوتا رجوليا للدفاع عن تحرير المرأة. لقد اعترض على قسم الزوجة على طاعة زوجها إذ كان من رأيه أن الزواج مشاركة وليس تبعية الزوجة لزوجها، فهي شريكة له. وطالب بتحرير المرأة تحريرا كاملا ليس فقط بإعفائها من قسم الطاعة بل لأهليتها للمناصب بل لأعلى المناصب، وذكر بعض النسوة الحاكمات في عصره - كريستينا في السويد وكاترين في روسيا، وماريا تريزا في النمسا.

وإذا لم ينص القانون على التحرر الكامل للمرأة، فإن من الأمانة أن نحول مصطلح حقوق الإنسان إلى مصطلح حقوق الرجال ولم تصغ إليه ألمانيا لكن - بتأثير الثورة الفرنسية وانتشار الفكر الراديكالي في ألمانيا - شهدت نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 هبة لنساء متحررات كن كثيرات العدد في الفترة التي نتحدث عنها، لكن كانت حركة تحرير النساء في فرنسا في القرن الثامن عشر هي الأكثر ألمعية، ولم تتسم الحركة في كلا الكيانين بالطيش والتهور. ولم تنظر الحركة

ص: 135

الرومانسية - التي كانت صدى للتروبادوريين troubadours في العصور الوسطى - للمرأة كأم ديمتر Demeter ولا كعذراء كمريم وإنما كباقة ورد تجعل المرء ثملاً معجبا بحيويتها (أي المرأة) الجسدية والعقلية ولا بأس من شيء من الغيبة والقيل والقال بل والفضائح لإكمال الإغراء (لإثارة الفتنة). لقد لاحظنا أن هنريتا هيرز Henrietta Herz، ودوروثا مندلسون Dorothea Mendelssohn - بالإضافة إلى كارولين ميشيل Caroline Michaelis (ابنة جوتنجن أورينتالست Gottingen Orientalist) التي كانت - وهي أرملة ثورية - قد تزوجت أوجست فون شليجل وطلقته وتزوجت من الفيلسوف شيلنج.

وهناك تيريزا فورستر التي ضارعت زوجها في اتجاهها الجمهوري، وتركته (أي تركت زوجها) لتعيش مع دبلوماسي من سكسونيا، وكتبت رواية سياسية (the Seldorf family) أحدثت ضجة في بلاد الراين. لقد كتب فيلهلم فون همبولدت أنها بتفوقها الفكري كانت واحدة من أكثر النساء جدارة بلفت النظر إليها في عصرها وهناك راشيل ليفن فارنهاجن فون إنس Ense التي كان يتردد على صالونها دبلوماسيو برلين ومفكروها، وهناك بتينافون أرنيم Bettina Von Arnim التي رأيناها تحوم حول بيتهوفن وجوته ورأينا نسوة مثقفات - لسن ثوريات تماما يفقن جوته بريقا في فيمار: إنهن الدوقة لويزا Luise وشارلوت فون كالب Kalb وشارلوت فون شتاين Steins وكان من الطبيعي أن تؤدي حركة تحرير المرأة في المدن الألمانية الكبيرة إلى تخفيف الكوابح الأخلاقية، فقد اتخذ فريدريك وليم الثاني خليلات،

وضارعه بعد ذلك في هذا الأمير لويس فرديناند، وازداد بدرجة كبيرة الزواج عن حب لأن الشباب الأصغر سنا تخلى عن البحث عن زوجة ذات مال إلى زوجة يعشقونها ذات جمال (أي راحوا يبحثون عن النشوة الرومانسية)، وراح جوته المسن ينظر بازدراء من فيمار لحياة الترف التي يعيشها أفراد الطبقات العليا وذوو المكانة في برلين لكنه تبنى الأخلاق الجديدة عندما ذهب إلى منتجعات كارلسباد Karlsbad حيث رأى النسوة يعرض أنفسهن بخيلاء في ملابسهن المتمشية مع (المودة) الجديدة على نحو ما كانت تفعل مدام تاليا Tallien ونساء آل بوهارنيه Beauharnais في باريس في سنة 1795.

وضارع الفساد السياسي هذا الانحلال الجنسي، فكانت الرشوة أداة أثيرة يستخدمها

ص: 136

الدبلوماسيون، وكانت الرشوة سائدة في الجهاز الإداري في الدول الألمانية الكاثوليكية والبروتستنتية على سواء. وبدا رجال الأعمال أكثر أمانة من رجال السياسة وكان البورجوازي حتى إذا تزوج من امرأة متساهلة relaxed فإنه يجعلها بمعزل عن حفلات السمر على طول نهر السبري Spree وعلى أية حال ففي هذه الأثناء كانت الجامعات تصب في الحياة الألمانية وفي قيم الأخلاق فيها شبابا لم يحظ بالقدر الكافي من التعليم فكان كعملية هدم في خلايا المجتمع الحية تسبب له إزعاجا.

‌5 - التعليم

لقد أصبح التعليم الآن هو الشاغل الأول لألمانيا وهو الإنجاز الأول أيضا، وارتبط هذا بالحرب فقد كان لابد من حفز العقول والأنفس والأبدان لمواجهة نابليون. لقد وجدنا فيشته Fichte في كتابه خطابات إلى الأمة الألمانية (1807) يعبر عن قناعات العصر رغم أن قلة هم الذين تنبهوا لقوله: إن إصلاح التعليم في كل مراحله، هو وحده الذي يعلي من شأن ألمانيا لمواجهة احتياجات الدولة في هذه الأعوام التي تحطمت فيها الروح الألمانية بسبب الاستسلام السريع والإذلال الذي تعرض له الوطن.

وفي سنة 1809 تم تعيين فيلهلم فون همبولدت (1797 - 1835) وزيرا للتعليم في بروسيا، وأعطى لنفسه صلاحيات تجعل إصلاحاته نافذة المفعول، فجدد النظام التعليمي الألماني الذي سرعان ما أصبح بفضله أفضل نظام تعليمي في أوربا. فأتى الطلاب من بلاد لا حصر لها للدراسة في جامعات جوتنجن Gottingen وهايدلبرج Heidelberg ويينا Jena وبرلين. وانتشر التعليم ليشمل كل الطبقات واتسعت موضوعاته وأعراضه، ورغم التركيز على دراسة الدين كدعامة أساسية للشخصية، فقد كان المعلمون الرسميون يركزون على الوطنية كدين جديد في مدارس ألمانيا - تماما كما فعل نابليون في مدارس فرنسا، إذ جعل الوطنية هي اللاهوت الجديد.

لقد كانت الجامعات الألمانية في حاجة إلى دعم قوي، وقد تلقته بالفعل، ذلك أن كثيرا منها كان يعاني من الإهمال الذي كان يعود لفترة طويلة مضت، لقد كانت جامعة

ص: 137

هايدلبرج Heidelberg قد أسست في سنة 1386، وأسست جامعة كولوني Cologne في سنة 1388، وجامعة إيرفورت Erfurt في سنة 1379، وجامعة ليبزج (ليتسج Leipzig) في سنة 1409، وجامعة روستوك Rostok في سنة 1419 وجامعة مينز (مينتس Mainz) في سنة 1476، وجامعة توبنجن Tubingen في سنة 1477 وجامعة فيتنبرج Wittenberg في سنة 1502 والآن أصبحت كل هذه الجامعات في عُسر وحاجة. وكانت جامعة كونيجسبرج Konigsberg التي بدأت في سنة 1544 قد انتعشت بوجود إمانويل كانط Immanuel Kant بها.

أما جامعة يينا Jena التي أسست سنة 1558 فقد صارت العاصمة الثقافية لألمانيا بوجود شيلر وفيشته Fichte وشيلنج Schelling وهيجل Hegel والأخوين شليجل Schlegel والشاعر هولدرلين Holderlin، وفي هذه الجامعة كانت هيئة التدريس غالبا ما تضارع الطلاب في ترحيبهم بالثورة الفرنسية. وكانت جامعة هاله Halle (1604) أول جامعة عصريه بثلاثة معان: لقد نذرت نفسها لحرية الفكر والتدريس، ولم تكن تطلب من أساتذتها تعهدا بالالتزام بالعقيدة الدينية السلفية - الأرثوذكسية orthodoxy (المقصود الصحيحة من وجهة نظر رجال الدين الكاثوليك أو البروتستنت) وقد خصصت في برامجها التعليمية مكانا للعلوم والفلسفة، وأصبحت مركزا للبحث العلمي بدراساته النظرية والمعملية.

أما جامعة جوتنجن التي أسست في وقت متأخر يرجع لسنة 1736، فقد أصبحت في سنة 1800 أعظم مدرسة في أوربا لا تضارعها إلا جامعة لايدن Leiden في هولندا. قالت مدام دي ستيل Stael التي كانت تجول هناك في سنة 1804 إن كل شمال ألمانيا غاص بأفضل الجامعات في أوربا لقد كان فيلهلم فون همبولدت كفرانسيس بيكون في هذه الحركة الإحيائية التعليمية، وكان واحدا من بين العقول المتحررة العظيمة في عصره. ورغم أنه نبيل الأصل (من طبقة النبلاء) إلا أنه وصف طبقة النبلاء بأن وجودها كان ضروريا في وقت من الأوقات أما الآن فقد أصبح وجودها شراً لا داعي له وقد خلص من دراسته للتاريخ أن كل المؤسسات تقريبا مهما أصبحت ناقصة معوقة معيبة، إلا أنها في وقت من الأوقات كانت مفيدة.

فما الذي جعل الحرية على قيد الحياة في العصور الوسطى؟ إنه نظام الإقطاع fiefs. ما الذي حافظ على العلوم في عصور البربرية؟ إنه النظام

ص: 138

الديري. لقد كتب هذا وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وبعد ذلك بعام (1792) حكم بحكم - وكأنه يتنبأ - على الدستور الفرنسي الجديد الذي أصدرته فرنسا في سنة 1791 بأنه "يحوي - في رأيه - كثيرا من المبادئ المثيرة للإعجاب، لكن الشعب الفرنسي - وهو شعب عاطفي مستثار - لن يكون قادرا على التعايش معه بحكمة وقد يحولون بلادهم إلى فوضى ويغرقونها في الاضطراب". وبعد ذلك بجيل كان يتجول مع صديق له فيلولوجي philologist (عالم بفقه اللغة) في ميدان معركة ليبزج حيث واجه نابليون كارثة في سنة 1813، فقال:"إن الممالك والإمبراطوريات - كما نرى هنا - تموت، لكن قصيدة رقيقة تبقى للأبد" وربما كان يفكر في الشاعر بندار Pindar الذي كان هو قد ترجم أشعاره من لغتها الإغريقية الصعبة بشكل غير عادي.

لقد فشل كدبلوماسي لأنه كان شديد الافتتان بالثورة الفكرية بدرجة تجعله غير قادر على معالجة أمور السياسة المتغيرة ولما كان غير مرتاح على المسرح العام (غير مرتاح للتعامل مع الأمور العامة) فقد عكف على حياة العزلة وراح يدرس، وكان مفتونا بعلم فقه اللغة (الفيلولوجيا philology) وتتبع الألفاظ عند انتقالها من مكان إلى مكان (المفهوم لمعرفة ما يلحقها من تحريف أو تبديل). ولم يكن يؤمن بقدرة الحكومة على حل المشكلة الاجتماعية لأن أفضل القوانين يمكن أن تفشل أمام طبيعة الإنسان التي لا تتغير. وخلص إلى أن الأمل الوحيد للإنسان يكمن في تطور أقلية قد يكون في إخلاصها منارة تهدي الشباب فيقتدون بها حتى في جيل أصابه القنوط.

وعلى هذا فقد خرج وهو في الثانية والأربعين من خصوصيته (انكفائه على نفسه) وخدم بلاده وزيراً للتعلم، وفي سنة 1810 عهدت إليه الحكومة بتنظيم جامعة برلين، فأحدث فيها تغييرات ظلت مؤثرة في الجامعات الأوربية والأمريكية حتى اليوم: لقد كان محك اختيار الأساتذة ليس قدرتهم على التدريس فحسب وإنما لشهرتهم أو رغبتهم في البحث العلمي الأصيل. وتم دمج أكاديمية برلين للعلوم (أسست في سنة 1711) والمرصد الوطني وحديقة النباتات والمتحف والمكتبة في الجامعة الجديدة. والتحق بهذه الجامعة فيشته الفيلسوف، وشلايرماخر Schleiermacher اللاهوتي، وسافيجنى Savigny القانوني وفريديش أوجست فلف

ص: 139

Friedrich August Wolf (1759 - 1824) العالم الكلاسيكي (المقصود المتخصص في الكلاسيكيات أي الدراسات اليونانية واللاتينية) الذي فاجأ الهيلينستيين Hellenists (المقصود هو المتخصصون في الدراسات الهيلينستية أي التراث اليوناني المتفاعل مع تراث الشرق عامة، وقد يكون المقصود أهل هذه المناطق) ببحوثه المتسمة بالتنور والتي خلص منها إلى أن هوميروس Homer ليس شاعرا واحدا وإنما سلسلة من المغنين هم الذين ألفوا - بشكل جماعي - الإلياذة والأوديسة،

وقد صدرت دراسته هذه (Prolegomena Homerum) في سنة 1795، وفي جامعة برلين كان بارتولد جورج نيبور (نيبوهر) Berlin Barthold Georg Niebuhr (1776 - 1831) يلقي الحاضرات التي مهدت لظهور كتابه تاريخ روما Romische Geschichte (1811 - 1832) وأدهش الباحثين برفضه الفصول الأولى من كتاب ليفى Livy باعتبارها أساطير وليست تاريخا. ومن الآن فصاعدا أصبحت ألمانيا هي رائدة العالم في الدراسات الكلاسيكية والفيلولوجيا (فقه اللغة) وتاريخ التاريخ (الهستور يوجرافي historiography) وكذلك الفلسفة. أما تفوقها وسيادتها في مجال العلوم فسيأتيان فيما بعد.

‌6 - العلوم

لقد تأخر العلم في ألمانيا بسبب ارتباطه غالبا بالفلسفة، ارتباطا شديدا وكأنه والفلسفة توأمان ملتصقان (سياميان Siamese) فخلال معظم هذه الفترة كان يعتبر جزءا من الفلسفة، وكان مندمجاً فيها مع الدراسات التاريخية والثقافية تحت مسمى دراسة المعرفة أو حسب المصطلح الألماني فسنشافتلير Wissenschaftslehre لقد دمر هذا الارتباط العلم لأن الفلسفة الألمانية كانت في ذلك الوقت تنظر إلى المنطق النظري باعتباره أرقى بكثير من الإثبات بالبحث أو التحقق بالتجربة.

غير أن رجلين كانا هما على نحو خاص اللذين فرضا احترام العلم في ألمانيا في هذا العصر - كارل فريديش جاوس Karl Friedrich Gauss (1777 - 1855) وإسكندر فون همبولدت Alexander von Humboldt (1769 - 1859) . ولد جاوس في بيت ريفي في برونسفيك Brunswick لأب يعمل بستانيا وبناء بالآجر ومطهر قنوات ولم يكن هذا الأب موافقا على التعليم

ص: 140

باعتباره جواز مرور إلى الجحيم. وكانت أم كارل - على أية حال - قد لاحظت ابتهاجه بالأرقام ومهارته في التعامل معها، وراحت الأم تقتصد وتوفر لتدبير المال اللازم لإرساله إلى المدرسة الابتدائية ثم المدرسة الثانوية Gymnasium وهناك أحرز تفوقا سريعا في الرياضيات حتى إن معلمه دبر له لقاء مع الدوق تشارلز وليم فرديناند البرونسفيكي Charles William Ferdinand of Brunswick وتأثر الدوق فدفع للصبي المصاريف الدراسية طوال ثلاث سنوات في كلية كارولينيم Collegium Carolinum في برونسفيك، وبعد اجتيازه اختباراتها التحق بجامعة جوتنجن (1795) وبعد أن قضى فيها عاما لم تكن أمه قادرة على فهم دراسة ابنها للأرقام والدياجرامات diagrams (رسومه البيانية) فسألت معلمه عما إذا كان هناك أمل في أن يحقق ابنها درجة الامتياز، فكان رده: سيكون ابنك أعظم علماء الرياضيات في أوربا وربما تكون الأم قد سمعت قبل موتها ما قاله لابلاس Laplace من أن جاوس قد حقق بالفعل نبوءة معلمه. إنه الآن في نفس درجة أرشميدس ونيوتن.

إننا لن نتظاهر بفهم اكتشافاته، ولن نخوض في الشرح إلا في أقل القليل - اكتشافاته في نظرية الأرقام، والأرقام التخيلية وحساب التفاضل والتكامل والحساب اللانهائي - وبهذا نقل جاوس علم الرياضة من الحال التي كان عليها في أيام نيوتن إلى علم يكاد يكون جديدا، فأصبح بذلك (أي علم الرياضيات) أداة لما حققه العلم من معجزات في عصرنا. بل إنه هو نفسه راح يطبق نتائج الرياضيات في ستة حقول من حقول المعرفة. وأدى رصده لمدار أكبر السييرات Ceres (أكبر الكواكب السيارة الصغيرة بين المريخ والمشتري) ومراقبته إلى صياغة منهج جديد وسريع لتحديد مدارات الكواكب كان أول هذه السييرات (الكويكبات) قد تم اكتشافه في أول يناير سنة 1801. وأجرى أبحاثا أقامت نظرية المغناطيسية والكهربية على أسس رياضية. لقد كان بركة لكل العلماء كما حملهم عبئاً ذلك أنه آمن بأن العلم لا يعتبر علما إلا إذا صيغ في شكل رياضي وبمصطلحات رياضية.

وكان هو نفسه شائقا كعلمه، فبينما هو يعيد بناء العلوم، ظل نموذجاً للتواضع، فلم يكن عجولا لنشر مكتشفاته ومن هنا لم يحظ بالإطراء لهذه المكتشفات إلا بعد وفاته، وأحضر أمه العجوز لتعيش مع أسرته ومعه، وراح يخدمها بنفسه ويمرضها دون أن يسمح

ص: 141

لأي أحد آخر غيره بالقيام بهذا حتى في أعوامها الأربعة الأخيرة عندما أصبحت عمياء تماما، وقد بلغت أمه من العمر سبعة وتسعين عاما.

وكان أخو فيلهلم فون همبولدت الأصغر واسمه إسكندر هو البطل الآخر في مضمار العلم الألماني في هذا العصر، فبعد تخرجه في جامعة جوتنجن التحق بأكاديمية المعادن والتعدين في فرايبرج Freiberg حيث عرف بدراساته عن الحياة الحضرية تحت الأرض، واكتشف عندما كان مديرا للمناجم في بايروث Bayreuth تأثير المغناطيسية الأرضية في الرواسب الصخرية فأسس بذلك مدرسة في علم المناجم وحسن ظروف العمل. ودرس تكوينات الجبال مع هـ. ب. دي سوسور H. B.de Saussure في سويسرا، كما درس الظاهرة الكهربية مع أليساندرو فولتا Alessandro Volta في بافيا Pavia. وفي سنة 1796 بدأ - مصادفة - رحلة طويلة بهدف الكشف العلمي وأدت اكتشافاته إلى أن أصبح على وفق ملاحظة معاصرة تنطوي على الطرافة أشهر رجل في أوربا بعد نابليون. لقد ضارعت اكتشافاته اكتشافات دارون.

وبدأ مع صديقه عالم النبات أمي بونبلاند Aime Bonpland من مرسيليا رحلة آملاً أن يلحق بنابليون في مصر لكن الظروف انحرفت بهم إلى مدريد حيث قدم لهم رئيس وزرائها رعاية لم يكونا يتوقعانها، مما شجعهما على اكتشاف أمريكا الإسبانية (المناطق التي احتلتها إسبانيا في العالم الجديد)، فأبحرا في سنة 1799 وتوقفا لمدة ستة أيام في تينيريف Tenerife أكبر جزر الكناري، وهناك تسلقوا ذروة القمة الجبلية الداخلة في البحر (12،192 قدما) وشاهدوا البرد الجوي meteoric Shower مما دفع همبولدت إلى دراسة تتابع هذه الظاهرة. وفي سنة 1800 بدأ من كركاس Caracas في فنزويلا قضي أربع أشهر لاكتشاف الحياة النباتية والحيوانية في مناطق السفانا (الأعشاب الطوال في المناطق الحارة) ومناطق الغابات الممطرة على طول نهر أو رينوكو Orinoco حتى وصلا إلى المنابع المشتركة لهذا النهر ونهر الأمازون. واستغرقت رحلتهما هذه ستة أشهر.

وفي سنة 1801 شقا طريقهما عبر جبال الأنديز Andes من كارتاجنا Cartagena (ميناء كولومبيا) إلى بوجوتا Bogota وكيتو Quito وتسلقا جبل سيمبورازو Chimborazo (18،893 قدما) وقدما

ص: 142

للعالم تقريرا ظل مأخوذاً به طوال الست الثلاثين سنة التالية. ورحلا على طول ساحل المحيط الهادي (الباسفيكي) إلى ليما Lima فقاس همبولدت حرارة تيارات المحيط ويحمل هذا القياس اسمه حتى الآن. وراقب عبور كوكب عطارد وقام بدراسة كيميائية على الجوانو guano (سماد طبيعي من إفرازات الطيور البحرية) وأظهر إمكانية استخدامه كسماد وأرسل عينات منه إلى أوربا لإجراء مزيد من التحليلات عليه، وبذا كان سببا في أن أصبح هذا السماد الطبيعي واحدا من أهم صادرات أمريكا الجنوبية. وكان الباحثان اللذان لا يكلان قد وصلا تقريبا إلى شيلي فعادا أدراجهما شمالا وقضيا عامين في المكسيك ووقتا قصير ا في الولايات المتحدة ووصلا أوربا في سنة 1804 - لقد كانت رحلتهما واحدة من أكثر الرحلات العلمية فائدة في التاريخ.

ومكث همبولدت ثلاث سنوات تقريبا في برلين يدرس فيها ما جمعه من معلومات وكتب كتابه (ملاحظات عن الطبيعة Ansichten der Natur)(1807) وبعد ذلك بعام ذهب إلى باريس ليكون قريباً من المراجع العلمية والوسائل المعينة على البحث، وظل في باريس 19 عاما حيث نعم بصداقة علماء فرنسا الرواد وحياة الصالونات، وكان واحداً ممن اعتبرهم نيتشه رجال أوربا الصالحين، وقد شهد بهدوء الجيولوجي الاضطرابات الظاهرية (السطحية) - قيام الدول وسقوطها. وصحب فريدريك وليم الثالث في زيارة مع الملوك المنتصرين للندن في سنة 1814، لكنه كان - في الأساس - منشغلا في تطوير العلوم القديمة أو استحداث علوم أخرى جديدة.

واكتشف في سنة 1804 أن القوى المغناطيسية للأرض تقل كلما اتجهنا من أحد القطبين إلى خط الاستواء. وأثرى علم الجغرافيا بدراسته للأصل الناري (البركاني) لبعض الصخور، ودراسته لتكوين الجبال والتوزيع الجغرافي للبراكين. وقدم المبادئ الأولى للقوانين التي تحكم الاضطرابات المناخية وألقى الضوء - بالتالي - على أصل العواصف المدارية واتجاهاتها، وقام بدراسات كلاسيكية للهواء والتيارات البحرية في المحيطات. وكان هو أول من قدم للجغرافيا (1817) تفسيراً لتساوي درجة الحرارة السنوية في بعض الأماكن رغم اختلاف درجات العرض. لقد اندهش الخرائطيون عندما رأوا في الخريطة التي وضعها همبولدت أن لندن متوسط درجة حرارتها

ص: 143

تساوي متوسط درجة حرارة سينسيناتي Cincinnati مع أن لندن تقع إلى الشمال مثل لابرادور Labrador، بينما سينسيناتي إلى الجنوب على خط العرض الذي تقع عليه لشبونة. وبدأ بمقاله عن جغرافية النباتات علما جديداً هو علم الجغرافيا البيولوجية (الحيوية)، ذلك العلم الذي يدرس توزيع النباتات على وفق الظروف الطبيعية (التضاريس) هذا بالإضافة إلى مئات الإسهامات الأخرى ثم نشرها في 30 مجلدا من سنة 1805 إلى 1843.

لقد كانت إسهاماته هذه تبدو متواضعة في الظاهر لكنها كانت ذات تأثير واسع ودائم. والمؤلف ذو الثلاثين جزءا والذي أشرنا إليه لتونا يحمل عنوان: رحلات همبولدت وبونبلاند Voyages de Humboldt et Bonpland aux regions equinoxiales du nouveau Continent. وأخيرا بعد أن نفدت ثروته لكثرة ما أنفقه على أبحاثه قبل وظيفة يتقاضى منها راتبا فعمل حاجبا في البلاط البروسي (1827)، وبعد استقراره في هذه الوظيفة سرعان ما عاد لإلقاء المحاضرات العامة في برلين، تلك المحاضرات التي شكلت فيما بعد أساس مؤلفه ذي المجلدات العديدة والذي يحمل عنوان: الكون Kosmos (1845 - 1862) الذي كان من بين أكثر الكتب شهرة على مدى أفق الرؤية لدى الأوربيين. وتحدثنا مقدمة الكتاب بتواضع عقل ناضج:

"في الليلة الأخيرة من حياة حافلة، أقدم للشعب الألماني عملاً كانت صورته غير المحددة تتراءى لعقلي لنحو نصف قرن. وكنت مرارا أرنو إلى إكماله لكنني كنت أعتبر هذه الرغبة غير عملية، بل غالبا ما كنت أميل إلى التخلي عنه، إلا أنني عدت مرة أخرى إلى مواصلة العمل فيه، وربما كان هذا طيشاً مني

وكان الدافع الأساسي الذي وجهني هو السعي المتلهف لفهم ظواهر الأمور الفيزيقية في إطار ارتباطاتها العامة بعناصرها وبما هو خارج عنها، وفهم الطبيعة في إطارها العام ككل متكامل عظيم، يتحرك ويحيا ويتفاعل بفعل قوى داخلية".

وترجم الكتاب إلى الإنجليزية في سنة 1849، فبلغت صفحاته ألفي صفحة تقريبا، كانت تتناول الفلك والجيولوجيا والأرصاد الجوية والجغرافيا، مظهراً العالم المادي (الفيزيقي) حيا مثيرا للدهشة ورغم هذه الحيوية فإن القوانين الرياضية، وقواعد الكيمياء والفيزياء

ص: 144

تحكمه. لقد قدم لنا صورة عامة كأوسع ما يكون، صورة عامة لم تنشأ كميكانيكية جامدة (كتركيب جامد لا حياة فيه) وإنما مفعمة بحيوية لا حد لها، وامتداد لا نهاية له، وإبداع ملازم للحياة.

لقد كانت طاقة همبولدت وحيويته مثيرة، فما كاد يستقر في برلين حتى قبل دعوة من القيصر نيكولاس الأول Czar Nicholas I ليرأس بعثة كشفية علمية في آسيا الوسطى (1829) فقضى نصف عام يجمع بيانات عن الأرصاد الجوية ويدرس تكوين الجبال وفي الطريق اكتشف مناجم ألماس في الأورال Urals، وعندما عاد إلى برلين استفاد من منصبه في البلاط ليحسن النظام التعليمي ولتقديم العون للعلماء والفنانين. وبينما كان يكتب المجلد الخامس من كتابه عن (الكون Kosmos) أتاه الموت وهو في التسعين من عمره، فشيعته بروسيا في جنازة رسمية.

‌7 - الفن

لم يكن هذا العصر في ألمانيا مواتياً لعلم أو فن، فالحرب إما دائرة بالفعل وإما على وشك، فاستنزفت ثروات البلاد وحماسها، وكان قيام أفراد (من النبلاء أو الأثرياء) برعاية الفنون، أمراً نادرا، وإن حدث، فإنه يكون غير ثابت. وكانت متاحف ليبزج وشتوتجارت وفرانكفورت، ودريسدن وبرلين تعرض الأعمال الفنية الخالدة (والمدينتان الأخيرتان على نحو خاص) لكن نابليون نقلها إلى اللوفر Louvre.

ومع هذا فقد أنتج الفن الألماني بعض الأعمال الجديرة بالذكر وسط هذا الاضطراب العظيم، وبينما كانت باريس ترقص مع حالة عدم تكوّن (حالة لم تتضح فيها الأمور تماما) رفعت برلين بنيان بوابة براندنبورج Brandenburg شامخة. لقد صممها كارل جوتهارد لانجهانز Karl Gotthard Langhans (1732 - 1808) على الطراز الدوري الإغريقي بأعمدة ذوات قنوات (جمع قناة أي نحت في العمود من أعلى إلى أسفل يبدو وكأنه قنوات) وأقام على هذه البوابة قوصرة (مثلث في أعلاها) كما لو كان يعلن بهذه القوصرة موت طراز الباروك والروكوكو، لكن هذا البنيان بشكله الراسخ كان يعلن بشكل أساسي

ص: 145

قوة آل هوهنتسولرن Hohenzollerns وتصميمهم على ألا يدخل برلين عدو. لكن نابليون دخلها في سنة 1806 ودخلها الروس في سنة 1945.

وحقق فن النحت تقدماً ملموسا. إنه في الأساس فن كلاسيكي يعتمد على الخط ويتحاشى (منذ القدم) اللون، كما أن عدم الاتساق في الطراز الباروكي، والمرح في طراز الروكوكو لا يتفقان مع روحه. لقد نحت جوهان فون دانكر Johann Von Dannecker بإزميله لمتحف شتوتجارت تمثاليْه (Sappho) و (فتاة كاتو لس مع الطائر Catullus' Girl with the Bird) وتمثاله (أريادن Ariadne) لمتحف بثمان Bethmann في فرانكفورت، والتمثال النصفي الشهير لشيلر لمكتبة فيمار. أما يوهان (جوهان) جوتفريد شادو Johann Gottfried Schadow (1764 - 1850) فبعد أن درس على يد كانوفا Canova في روما عاد إلى بلده برلين،

وفي سنة 1793 لفت انتباه العاصمة (برلين) بأن وضع عند قمة بوابة براندنبورج كارديجا Qradriga (مركبة بعجلتين) تجرها أربعة خيول يرشدها (يقودها) النسر المجنح الذي كان موجودا في المركبات الرومانية. ونحت لشتتن Stettin تمثالا من رخام لفريدريك الكبير واقفاً في ثياب عسكرية يحرق أعداءه بناظريه، لكن يوجد عند قدميه مجلدان كبيران ليشهدا أنه مؤلف أيضا، ونسي النحات فلوته (الفلوت آله نفخ موسيقية)، والتمثال الأكثر رقة هو تمثال يمثل عملا نحتيا واحدا للملكة لويز والملك فريدريك (1797) وقد تغطى نصف كل منهما بالجوخ ووضع كل منهما ذراعه في ذراع الآخر، وهما يتحركان بهدوء رمزا للعلو والسمو والأسى. لقد ألهمت الملكة الفنانين بجمالها وعاطفتها الوطنية وموتها. وقد خصص هينريش (هينريخ) جنتس Heinrich Gentz (1766 - 1811) ضريحا ضخما مهيبا في شارلوتنبورج Charlottenburg ونحت كريستيان راوخ Rauch (1777 - 1857) قبرا جديرا بجسدها وروحها.

وكان الرسم الألماني لا يزال يعاني من فقر الكلاسيكية الجديدة يحاول أن يعيش على رماد البومبية Pompeii (نسبة إلى مدينة بومبى الأثرية الرومانية - في إيطاليا) ومواطن الآثار الهرقلية، ومباحث ليسنج وفنكلمان، ووجوه مينجز Mengs وديفيد

ص: 146

الشاحبة والخيالات الرومانية لأنجليكا كاوفمان Angelica Kaufman وما لا حصر له من الرسامين. لكن هذا التنصل (هذا الأسلوب في إزالة الألوان Decoloration) لم يكن له جذور حية في التاريخ الألماني والشخصية الألمانية، فالرسامون الألمان في هذا العصر كانوا لا يبالون بالكلاسيكية الجديدة،

فعادوا للخلف يستلهمون المسيحية، وما وراء حركة الإصلاح الديني وعدائها للفن ولا مبالاتها به، وإلى ما قبل الرافييلية في إنجلترا Pre-Raphaelites، وراحوا يصغون لأصوات مثل أصوات فيلهيلم فاكنرودر Wilhelm Wackenroder وفريدريش شليجل تدعوهم للعودة للأصول إلى ما قبل رافاييل، العودة إلى الفن الوسيط (الفن في العصور الوسطى) الذي قدم لنا رسوما ومنحوتات تتسم بالبساطة وتمرح في سعادة في حضن إيمان غير مهتز. ومن هنا ظهرت مدرسة في الرسم عرفت باسم أهل الناصرة Nazarenes (إشارة إلى استلهامهم التراث المسيحي الأول، ولا يعني هذا أنهم من الناصرة).

وكان زعيم هذه المدرسة هو جوهان فريدريش أو فربك Overbeck (1789 - 1869) الذي ولد في لوبك Lubeck وحمل معه خلال ثمانين عاما الجدية الصارمة للأسر التجارية العريقة والضباب المنتشر الذي يصل لوبك من بحر البلطيق. ذهب إلى فيينا لدراسة الفن فلم يجد في الكلاسيكية الجديدة غذاء يطعمه هناك وفي سنة 1809 أسس هو وصديقه فرانتس بفر Franz Pforr أخوية القديس لوقا Lucan Brotherhood التي تهدف إلى إعادة إحياء الفن وإنعاشه بتكريسه لإيمان أعيد تجديده كما كان موجودا أيام البرخت (البريشت) دورر Albrecht Durer (1471 - 1528) . وفي سنة 1819 هاجرا إلى روما لدراسة بيروجينو Perugino وغيره من رسامي القرن الخامس عشر، وألحقا في سنة 1811 ببيترفون كورنيليوس Von Cornelius (1783 - 1867) وبعد ذلك بفيليب فيت Veit وفيلهلم فون شادو - جودنهاوس Schadow-Godenhaus وجوليوس (يوليوس) شنور فون كارلسفلد Julius Schnorr Von Carolsfeld.

لقد عاشا على النباتات كقديسين في دير منعزل على جبل بنشيو Monte Pincio هو دير سان إيزيدورو Isidoro وقد راح أوفربك Overbeck بعد ذلك يستعيد ذكرياته فقال:

ص: 147

"لقد عشنا حياة ديرية حقيقة، ففي الصباح كنا نعمل معا وفي منتصف النهار نطبخ غداءنا الذي لم يكن يتكون إلا من الحساء والسجق أو بعض الخضروات السائغة وكان كل منهما يعتني بالآخر".

لقد تجاوزا كنيسة القديس بطرس لأن فيها كثيرا من الفن الوثني) واتجها أكثر إلى الكنائس القديمة والأديرة مثل دير القديس جون لاتيران Lateran ودير القديس بولس خارج أسوار روما. وارتحلا إلى أورفيتو Orvieto لدراسة سيجنوريللي Signorelli وإلى فلورنسا وفيزول Fiesole لدراسة فرا أنجليكو Fra Angelico. لقد قررا ألا يقوما برسم الصور الشخصية أو أية رسوم للزينة، وإنما كان قرارهما أن يعودا بالرسم إلى عصر ما قبل رافاييل وتكريسه لتشجيع الإيمان المسيحي والوطنية المرتبطة بالعقيدة المسيحية.

وواتتهم الفرصة في سنة 1816 عندما عهد إليهما القنصل البروسي في روما - بارثولدي J. S. Bartholdy - بتزيين فيلته برسوم جصية عن قصة يوسف وإخوته. وتفجع أهل الناصرة Nazarenes (المقصود قام هذان الفنانان) لإحلال رسوم بالزيت على (الكانافاه canvas) محل الرسوم الجصية frescoes . والآن لقد درسا الكيمياء ليتمكنا من إعداد سطوح تجعل الألوان ثابتة، ونجحا إلى الحد الذي تم نقل رسومهما الجصية من روما لتوضع في المتحف الوطني ببرلين، وهي من بين المقتنيات التي تفخر بها العاصمة البروسية، لكن جوته العجوز عندما سمع بهذا الاتجاه الصوفي (ذي الانجذاب العاطفي الديني) أدانهما باعتبارهما يقلدان أسلوب القرن الرابع عشر في إيطاليا تماما كما تقلد الكلاسيكية الجديدة الفن الوثني. وتجاهل أهل الناصرة (المقصود أصحاب هذه المدرسة) هذا النقد، لكنهما غادرا المسرح بهدوء لأن العلم والبحث والفلسفة راحت - ببطء - تنحت في العقيدة القديمة (المقصود تشكك فيها وتعدلها).

‌8 - الموسيقى

كانت الموسيقى هي كبرياء ألمانيا في رخائها وازدهارها، وسلواها في أساها ونكباتها. فعندما وصلت مدام دي ستيل إلى فيمار في سنة 1803 وجدت أن الموسيقى تكاد تكون

ص: 148

جزءا أساسيا في حياة الأسرة المتعلمة، وكان في كثير من المدن فرق أوبرية ومنذ أيام جلوك Gluck راحت ألمانيا تقلل شيئا فشيئا من اعتمادها على الأعمال والألحان الإيطالية. وكان في مانهايم Mannheim وليبزج أوركسترات حققت شهرة في مختلف أنحاء أوربا. ودخلت موسيقى الآلات في منافسة عامة مع الأوبرا. وكان في ألمانيا عازفو فيولين عظماء مثل لويس سبوهر Louis Spohr (1784 - 1859) وعازفو بيان مشاهير مثل جوهان همل Hummel (1778 - 1837) وكان الملك فريدريك وليم الثاني يعزف على الفيولونشللو Violoncello كما كان له دور في تأليف الكارتيات quartets واحدهما:(كارتيته وهي مقطوعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وأحيانا الأوركسترات، وكان الأمير لويس فرديناند بارعا في العزف على البيانو ولم يمنعه من منافسة بتهوفن وهمل Hummel سوى أصله الملكي.

وكان في ألمانيا أيضا أستاذ موسيقى وقائد فرقة حقق شهرة في مختلف أنحاء أوربا كمعلم ومؤلف وذواقة لمعظم الآلات الموسيقية: إنه أبت Abt) Abbot) جورج جوزيف فوجلر Vogler (1749 - 1814) . لقد حقق في بداية حياته شهرة كعازف على الأرغن والبيان، وقد تعلم الفيولين دون أستاذ وطور نظاما جديدا للعزف بالأصابع لتتمشى بشكل جيد مع أصابعه الطويلة. ذهب إلى إيطاليا لدراسة التأليف الموسيقي على يد بدر مارتيني Padre Martini وتمرد على أستاذ إثر أستاذ وارتمى في أحضان الدين، وكان الجمهور يصفق له في روما. ولما عاد إلى ألمانيا أسس مدرسة موسيقية في مانهايم Mannheim ثم في دارمشتات Darmstadt وأخيرا في ستوكهولم.

ورفض الأساليب الموسيقية الصعبة في التأليف الموسيقي، تلك الأساليب التي يعلمها المعلمون الإيطاليون، وظنه موزارت Mozart وآخرون دجالا لكنهم بعد ذلك منحوه مكانا حفيا ليس كمؤلف موسيقي وإنما كمعلم، وكإنسان وكمصمم أرغن، وجاب أوربا كعازف أرغن فجذب إليه جمهورا عريضا وحقق مكاسب كبيرة، وطور الأرغن. وغير أسلوب العزف على الأرغن، وأجاد الارتجال كبيتهوفن Beethoven، وكان أستاذا جليلا وقره عدد كبير من تلاميذه بمن فيهم فيبر وميربير Meyerbeer وعندما مات بكوه وحزنوا عليه كما لو كانوا قد فقدوا أباهم. وفي 13 مايو 1814 كتب فيبر:

ص: 149

"في اليوم السادس من الشهر انتزع الموت منا فجأة فولجر أستاذنا المحبوب .. لكنه سيعيش دوماً في قلوبنا".

وكان كارل ماريا فون فيبر Carl Maria Von Weber (1786 - 1826) واحدا من أبناء كثيرين أنجبهم فرانتس أنطون فون فيبر من زوجتيه (تزوجهما تباعا). وقد تناولنا بالذكر في هذه المجلدات اثنين من بناته أو قريباته (أبناء أو بنات الأخ أو الأخت): ألويزيا Aloysia التي كانت حب موزارت الأول كما كانت مغنية مشهورة، وكونستانزا Constanze التي أصبحت زوجة لموزارت. ودرس ابناه فريس Fritz وإدموند مع جوزيف هايدن Joseph Haydn، أما الابن كارل فلم يكن فتى واعدا في مجال الموسيقى حتى إن فرانتس قال له:"اسمع يا كارل كن كما شئت لكنك لن تكون موسيقيا فاتجه إلى الرسم"،

لكن في أثناء تجوال فرانتس أنطون كمدير لفرقة تمثيلية وموسيقية، كان غالبا ما يؤلف لأبنائه، - واصل كارل تعليمه الموسيقي على يد معلم مخلص هو جوزيف هيسكل Heuschkel، فأظهر الفتى موهبة وحقق تقدما سريعا بدرجة أدهشت والده وأسعدته. وبحلول عام 1800 كان كارل قد بلغ الرابعة عشرة من عمره واستطاع في هذه السن أن يؤلف الموسيقى ويعزفها أمام الجمهور.

وعلى أية حال، ففي هذه الأثناء كان التسرع المحموم في الانتقال من مدينة إلى مدينة (مع الفرقة) قد ترك بعض الأثر على شخصية كارل فغدا عصبيا غير مستقر سريع التغير. وأصبح مفتونا بالطباعة على الجحر، تلك الطريقة التي اخترعها صديقة ألويز سنفلدر Aloys Senefelder حتى أنه أهمل لفترة التأليف الموسيقي وذهب مع أبيه إلى فرايبرج Freiberg في سكسونيا ليمارس الطباعة على الحجر كعمل تجاري.

وفي بواكير سنة 1803 قابل أبت فوجلر Abt Vogler فرب فيه الحماس من جديد وأصبح تلميذا لفوجلر وقبل نظامه الصارم في التدريب والتطبيق، ودفعته ثقة فوجلر لمزيد من الإتقان. لقد راح الآن يتطور تطوراً سريعاً حتى أنّه دُعي بناء على توصية فوجلر ليكون قائد أوركسترا Kapellmeister في برسيلاو Breslau (1804) ، ومع أنه لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره إلاّ أنه قُبِل فأخذ معه والده المريض وهذب إلى العاصمة السيليزية Silesia Capital.

ولم يكن الشاب مناسباً لوظيفة تتطلب مهارة في التعامل مع الرجال والنساء مختلفي

ص: 150

المشارب والأهواء، وليس فقط تحقيق انجاز موسيقي، فأصبح له أصدقاء مخلصين وأعداء مفرطين في العداوة، وراح ينفق بسفه ويشرب الخمر بطيش، وخلط بين زجاجة حمض النيتريك وزجاجة النبيذ، فشرب قدراً من حمض النيتريك قبل أن يُدرك أنه يبتلع ناراً، فأُضير ضرراً دائماً في حنجرته وحباله الصوتية ولم يعد يستطيع الغناء، بل أصبح لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة، وفقد وظيفته بعد ذلك بعام، وراح يعول نفسه وأباه وعمته من المبالغ التي يحصلها من الدروس، وأصبح وضعه خطرا، واقترب من اليأس إلى أن عرض الدوق يوجن Eugen (من فيرتمبرج Wurttemberg) على ثلاثتهم مكانا للإقامة في مقر إقامته Schloss Karlsruhe في سيليزيا (1806)

لكن تمزيق نابليون لبروسيا وإلحاقه الخراب بميزانيتها أثرا على الدوق فلحق به الخراب بدوره، واضطر فيبر Weber ليطعم نفسه وأباه وعمته لهجر الموسيقي لفترة وعمل كسكرتير للدوق لودفيج Ludwig (من فيرتمبرج) في شتوتجارت وكان هذا اللورد عربيدا مسرفا فاسقا غير أمين، فترك تأثيرا سيئا على كارل الذي ارتبط عاطفيا بالمغنية مارجريت لانج Margarethe Lang لكنه فقدها، ففقد بفقدها مدخراته وصحته لكن أسرة يهودية في برلين أنقذته من الفسوق - إنهم آل بير Beers تلك الأسرة التي أنجبت ميربير Meyerbeer، وأعاده الزواج إلى حالة الاتزان لكنه لم يستعد صحته.

لقد حقق شهرة أثناء حرب التحرير لأنه وضع الموسيقى للأناشيد الحربية التي كتبها كارل تيودور كورنر Korner وبعد الحرب، دخل معركة من نوع آخر - ضد الأوبرا الإيطالية فقد ألف عمله التحرير Der Freischutz (1821) كإعلان استقلال، وتم أداؤه للمرة الأولى في 18 يونيو 1821 في الذكرى السنوية لمعركة واترلو، لقد طارت على جناحي الوطنية ولم تحقق أوبرا ألمانية ما حققته من نجاح. لقد كان موضوعها مستوحى من حكايات الأشباح والكائنات النورانية Gespensterbuch وغمرتها روح المرح بما فيها من جنيات يحمين الحر الذي يذلق النار (على العدو). لقد كانت ألمانيا في هذه الأيام القاسية تتلقى مساعدات كبيرة من الجن، وفي سنة 1826 وجدنا مندلسون Mendelssohn يقدم لنا حلم ليلة منتصف الصيف Midsummer Nights Dream.

لقد كانت أوبرا فيبر علاقة على انتصار الرومانسية Romanticism في الموسيقى الألمانية. وكان يأمل أن يواصل نجاحاته بعمله

ص: 151

(Euryanthe) الذي عرض للمرة الأولى في فيينا سنة 1823، لكن روسينى Rossini كان لتوه قد غزا فيينا ولم تعد موسيقى فيبر الأكثر رقة وذكاء تجذب الناس. أدى هذا الفشل - بالإضافة إلى تدهور صحته - إلى إصابته بالإحباط فتوقف - أو كاد - عن التأليف الموسيقي طوال عامين.

ثم عرض عليه تشارلز كمبل Kemble مدير مسرح حديقة كوفنت Covent Garden Theatre ألف جنيه لكتابة أوبرا لدار أوبرا فيلاند Wieland وأن يأتي إلى لندن للتعاقد معه. فعمل فيبر Weber بحماس شديد لكتابة هذه الأوبرا ودرس الإنجليزية بجدية ومثابرة حتى إنه عندما وصل إلى لندن لم يكن يستطيع كتابة الإنجليزية فقط وإنما التحدث بها أيضا وبشكل جيد. وفي العرض الأول (28 مايو 1825) حقق نجاحا هائلا حتى إن المؤلف السعيد وصف هذه الليلة لزوجته في اليوم نفسه:

"لقد حققت هذا المساء أعظم نجاح في حياتي .. عندما بدأت الأوركسترا كان المسرح غاصاً حتى السقف وصفق الحاضرون بحماس شديد عندما دخلت، وطوحوا بالقبعات والمناديل في الهواء وبعد نهاية العرض دعيت إلى خشبة المسرح .... فاتجهوا إلي جميعا، وكان كل من أحاطوا بى سعداء".

لكن أعماله التي عرضت بعد ذلك لم تلق مثل هذا الاستحسان، وفي 26 مايو 1826 فشل - بشكل محزن - حفل موسيقي لصالحه (لتقديم العون المالي له) وبعد ذلك بأيام قلائل لزم المؤلف المحبَط (بفتح الباء) والمرهق سريره إذ تفاقم عليه داء السل (ذات الرئة) فمات في 5 يونيو بعيدا عن وطنه وأسرته.

‌9 - المسرح

كان في كل مدينة ألمانية - تقريبا - مسرح لأن الناس الذين أرهقتهم الحقائق نهارا يرتاحون إلى الخيال مساء. وكان في بعض المدن فرق مسرحية دائمة كما هو الحال في هامبورج، ومينز وفرانكفورت وفيمار وبون وليبزج وبرلين. وكانت هناك مدن أخرى تعوّل على الفرق الجوالة وتقيم مسرحا مؤقتا عند وصول إحدى هذه الفرق. وحقق مسرح مانهيتن أفضل شهرة لجودة عروضه وبراعة ممثليه، كما كان مسرح برلين

ص: 152

هو الأكثر إيرادا وكان أفراد فرقته التمثيلية يتقاضون أعلى الأجور (بالنسبة إلى المسارح الأخرى) أما مسرح فيمار فاشتهر بعروضه الكلاسيكية.

وكان سكان فيمار في سنة 1789: 6،200 نفس ارتبط كثيرون منهم بالوظائف الحكومية والحاشية الأرستقراطية، ولفترة من الزمن أخذ سكان المدن على عواتقهم دعم فرقة من الممثلين فكانت النتيجة أن انتهت هذه الفرقة في سنة 1790 لسوء التمثيل، فأخذ تشارلز أوجستس Charles Augustus هذا المشروع على كاهله فجعل المسرح جزءاً من بلاطه وحث المستشار جوته على إدارته، وكان يمكن لأي فرد من أفراد الحاشية أن يقوم بدور خلا أدوار البطولة (الأدوار الرئيسة) فهذه الأدوار مقتصرة على النجوم من الرجال أو النساء الذين يأتون إلى المسرح، وعلى هذا أتى إفلاند Iffland العظيم إلى فيمار، وأتت أيضا كورونا شروتر Schroter (1751 - 1802) التي كادت تنتزع بصوتها وقوامها وعينيها المتألقين - جوته من شارلوت فون شتاين. ولم يكن جوته (الشاعر ورجل الدولة والفيلسوف) بالقليل الشأن في التمثيل، فقدم قام بدور أورستس Orestes التراجيدي أمام مدام شروتر التي قامت بدور إفيجينيا Iphigenia، ونجح أيضا - ويا للدهشة - ككوميدي بل وحتى في الأدوار - الهزلية. ودرب الممثلين على الأسلوب الغالي (الفرنسي) في الحدث الذي يكاد يكون خطابة، وكان هذا الأسلوب يتسم بالرتابة، وإن كان يتسم بالوضوح، والرتابة خطأ والوضوح فضيلة وشجع الدوق بشدة هذه السياسة، وهدد بعقوبة التوبيخ عند وقوع أي خطأ في التفاصيل.

لقد أخذ مسرح فيمار على عاتقه أداء مجموعة من الذخائر المسرحية الطموحة من سوفكليس Sophocles وتيرينس Terence إلى شكسبير وكالديرون Calderon وراسين وفولتير بل وحتى المسرحيات المعاصرة لفريدريش، وأوجست فيلهيلم فون شليجل وصولا إلى النصر الداعي للفخر مع عمل شيلر: فالنشتين Wallenstein (1789) .

لقد أتى شيلر Schiller من يينا (جينا Jena) ليعيش في فيينا، وبتشجيع من جوته أصبح عضوا في مجلس إدارة الفرقة. والآن (1800) جعل هذا المسرح الصغير من فيمار قبلة ينجه إليها آلاف الألمان من محبي الدراما. وبعد موت شيلر (1805) فقد جوته اهتمامه

ص: 153

بالمسرح، وعندما أصر الدوق - بتحريض من خليلاته اللائي كن يترددن عليه - على تقديم فاصل درامي يظهر فيه كلب كنجم مسرحي، استقال جوته من منصبه الإداري واختفى مسرح فيمار من التاريخ.

وهيمن ممثلان على الساحة المسرحية في ألمانيا في هذا العصر. أوغسطس فيلهيلم إفلاند (1759 - 1814) الذي كان يضارع تالما Talma، ولودفيج ديفرينت (1784 - 1832) الذي كرر اهتمامات إدموند كين Edmund Kean ومأساته. ولد في هانوفر يوم كان إفلاند في الثامنة عشرة من عمره، وترك بيته ليلتحق بفرقة مسرحية في جوتا Gotha رغم اعتراض والديه. وبعد ذلك بعامين فقط تألق في مانهايم بأدائه (Die Rauber) لشيلر.

وفي هذه الفترة الراديكالية من حياته نعم بالرخاء وتعاطف مع الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية، وسرعان ما غدا معبودا للمحافظين (المناهضين للثورة الفرنسية) وبعد أن قام بأدوار كثيرة في معظم أنحاء ألمانيا قبل دعوة جوته لزيارة فيمار (1796) وأسعد مشاهديه بكوميديات الطبقة الوسطى، لكنه لم يكن بارعاً في الأدوار التراجيدية براعة فالنشتين Wallenstein أو لير Lear. وألف عددا من المسرحيات التي أثارت إعجاب الناس بما فيها من فكاهة، وفي سنة 1798 أصبح مديرا لمسرح برلين الوطني وبذلك حقق ما كان يصبو إليه.

وقبل موته بفترة وجيزة تعاقد مع ممثل هو لودفيج ديفرينت Devrient (ديفريا) جلب للمسرح الألماني كل مشاعر ومآسي tragedy الفترة الرومانسية. وكان لقبه الفرنسي ديفرينت (ديفريا - وهو النطق الفرنسي) جزءاً من تراثه الهيجونوتي Huguenot (الهيجونوت هم البروتستنت الفرنسيون) وتزوج أبوه امرأتين على التوالي وأنجب ثلاثة أبناء كان هو آخرهم وكان أبوه تاجر أجواخ وألبسة في برلين، وماتت أمه في طفولته وتركته بائساً في بيت مزدحم، فانكفأ على نفسه وعاش في عزلة ووحدة ولم يكن يواسيه في حياته سوى أنه كان وسيما أسود الشعر، وهرب من البيت والمدرسة لكن أباه أعاده مرة أخرى وبذل كل جهده ليجعل منه تاجر أجواخ وأقمشة لكن جهوده فشلت فقد كان الفتى غير كفء بدرجة تدعو للسخط، فتركه أبوه على هواه.

وفي سنة 1804 التقى وهو في العشرين من عمره

ص: 154

بفرقة مسرحية في ليبزج فعهدت إليه بدور صغير، انطلق منه فجأة إلى دور كبير بسبب مرض (الممثل الأول (النجم). لقد كان الدور دور متسول سراق سكير، فوجده يتلاءم مع ذوقه فأداه بإتقان حتى كان يشار إليه على سبيل الإدانة أنه ممثل متجول سكير على المسرح وعندما يكون بعيدا عن المسرح (سكير تمثيلا وواقعا) وأخيراً - في بريسلاو Breslau في سنة 1809 - وجد نفسه يمثل لا (فلستف Falstaff) وإنما في مسرحية راديكالية لشيلر (كارل مور Karl Moor) ، وفي هذا الدور صبَّ كل ما تعلّمه من كراهية وعدوانية وشر.

لقد استولت عليه شخصية زعيم السرّاق فعبّر عنها بكل خلجةٍ من خلجاته وببريق عينيه الغاضب المخيف، ولم تكن بريسلاو Breslau قد شهدت من قبل مثل هذه الحيوية والقوّة في التمثيل، ولم يكن يمكن أن يصل لهذه الذروة والعمق المسرحيين في هذا العصر العامر بالممثلين العظام سوى إدموند كين، لقد أصبحت كل الأدوار التراجيدية تُسند إليه الآن دون منازع. لقد مثل لير Lear وذاب في دوره (تقصمه تماما) واستسلم لهذا الخط الرفيع بين الحكمة والجنون حتى أنه ذات ليلة انهار وسط المسرحية وكان لابد من حمله للبيت أو لحانته المفضّلة.

وفي سنة 1814 أتى إفلاند - وكان في الخامسة والخمسين - إلى بريسلاو ومثل مع ديفرينت (دوفريا) وأحس بطاقته ومهارته فطلب منه الانضمام للمسرح الوطني قائلا له المكان الوحيد الجدير بك هو برلين، فأنا أحسّ تماما أن هذا المنصب في المسرح الوطني سيغدو شاغرا عما قريب. إنه محجوز لك وفي سبتمبر مات إفلاند وفي الربيع التالي شغل ديفرينت مكانه. وهناك ظل يمثل إلى آخر حياته فعاش على الشهرة والنبيذ وقضى ساعات ممتعة يتبادل الحكايات مع إ. ت. أ. هوفمان فقبل تحديا بأن يمثل في فيينا فعاد منها إلى برلين محطم الأعصاب، ومات في 30 ديسمبر 1832 في الثامنة والأربعين من عمره، وظل أبناء أخيه الثلاثة الموهوبون - وكلهم يحمل اسمه - يتوارثون فنه حتى آخر القرن.

ص: 155

‌10 - كتاب المسرح

بعد أن قام فيلهلم فون شليجل بترجمته الممتازة لأعمال شكسبير (1798 وما بعدها) قدم المسرح الألماني مكانا جديداً لمسرحيات العصر الإليزابيثي، وكان كتاب المسرح الألمان - بين ليسنج وكلايست Kleist يهدفون عادة إلى إرضاء الطبقة الوسطى بشكل عام، وكانوا قد فقدوا ما حققوه من نجاحات جماهيرية بسبب عدم الاستقرار الذي شهده عصرهم. لقد وضع زكارياس فيرنر Zacharias Werner اتجاهه الصوفي (الباطني) على المسرح بشكل عابر، أما أوجست فون كوتسبو Von Kotzebue (1761 - 1819) فأسعد بمسرحياته جيلا واحدا لكنه الآن ذكرى باهته لا يكاد يذكر إلا بسبب اغتياله.

لكن الألمان يذكرون هينريش (هينريخ) فيلهلم فون كلايست Kleist شفقة عليه ولاحترامه لقلمه. ولد (1777) في فرانكفورت - آن - دير - أودر Frankfort-an-der-Oder وكان قريبا في طبعه (مزاجه) للسلاف كما كان قريبا لهم من الناحية الجغرافية وقضى سبع سنوات في الجيش كأي مواطن ألماني صالح، لكنه تحسر بعد ذلك على ضياع هذه الأعوام. درس العلوم والأدب والفلسفة في الجامعة المحلية وفقد إيمانه بالدين والعلم على سواء. وارتجف لفكرة الزواج عندما رشح ليكون زوجا لابنة جنرال، وهرب إلى باريس ومنها إلى سويسرا حيث لعب خياله به بشراء مزرعة وليترك توالي الفصول يهدئ من عقله المزدحم بالأفكار،

لكنه عاد مرة أخرى للأدب فكتب تراجيدية تاريخية (لم يكملها) هي: روبرت جسكارد Guiskard وفي سنة 1808 عرض فوق خشبة المسرح في فيمار مسرحية كوميدية هي مسرحية الإبريق المكسور Der Zerbrochene Krug التي صنفها الجيل التالي باعتبارها عملاً كلاسيكيا باقيا. ومكث في فيمار فترة (1802 - 1803) ونعم بصداقة - وتشجيع - كريستوف فيلاند Wieland وهو لا أدري عجوز قال له بعد أن سمع مقتطفات من تراجيديته جوسكارد: "أنت تحمل في داخلك أرواح أسخيلوس Aeschylus وسوفكليس وشكسبير" وقال له أيضا "إن عبقرية كلايست Kleist خلقت لتسد كل الفراغ في تطور الدراما الألمانية فحتى شيلر وجوته لم يملآه" وكان هذا كافيا لتدمير هذا الكاتب المسرحي الشاب أو بتعبير آخر تدمير سوفكليس الجديد الذي لم يتجاوز الخامسة

ص: 156

والعشرين من عمره.

لقد اتجه إلى باريس ليعيش فيها فشعر بفورانها فراح يتفكر في النزعة إلى الشك المتوارثة في الفلسفة المثالية الألمانية: إذا كنا لا نعرف إلا أقل القليل عن الكون كما ندركه بوعينا، فلن نعرف الحقيقة أبدا. شيء واحد مؤكد فالكل مصيره للتراب: فلاسفة وعلماء وشعراء وقديسون ومتسولون ومجانين. لقد فقد كلايست الشجاعة لمواجهة واقع غير قائم على أساس وطيد، لقد رفض مواجهته وقبوله والاستمتاع به وانتهى إلى أن عبقريته وهم وكتبه ومخطوطاته عبث، وفي لحظة يأس حرق كل ما كان معه منها وحاول الانضمام إلى جيش نابليون المتأهب لعبور القنال الإنجليزي، وفي 26 أكتوبر سنة 1803 كتب إلى أخته التي أحبها حبا يفوق الوصف:

"ما سأذكره لك قد يكلفك حياتك، لكن لا بد، لا بد من قوله لك. لقد درست وأمعنت مرة أخرى في عملي (مؤلفي) فرفضته وأحرقته. والآن حلت النهاية. السماء تنكر عليّ الشهرة - وهي أعظم ما يمكن أن يناله المرء في الدنيا، لكنني كطفل متقلب سأقذف بكل ما بقي أمامها (السماء). لا أستطيع أن أرى نفسي جديرا بصداقتك، وبدون صداقة لا أستطيع العيش. إنني أختار الموت. كوني هادئة، فسأموت ميتة جميلة. سأموت سامياً في معركة. لقد غادرت عاصمة البلاد واتجهت إلى سواحلها الشمالية وسألتحق بالخدمة العسكرية الفرنسية وسرعان ما سيركب كل الجنود السفن في الطريق إلى إنجلترا، ودمارنا جميعا رهن بالبحر. إنني مبتهج لهذا القبر الفخم. وستكونين يا حبيبتي آخر ما أفكر فيه".

لكن خطته أن يكون جنديا ألمانيا في الجيش الفرنسي أثارت الشكوك حوله، فطرد من فرنسا بإصرار من السفير البروسي، وبعد ذلك بوقت وجيز أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا، وفي سنة 1806 دمر نابليون الجيش البروسي بل ودمر تقريبا بروسيا نفسها، وبحث كلايست عن ملجأ له في دريسدن لكن العسكر الفرنسيين قبضوا عليه ظانين أنه جاسوس فقضى في السجن ستة أشهر وعندما عاد إلى دريسدن انضم إلى مجموعة وطنية من الكتاب والفنانين وتعاون مع آدم ميلر Muller في تحرير دورية أسهم فيها بكتابة بعض من أجمل مقالاته.

وفي سنة 1808 نشر مسرحية تراجيدية (Penthesilea) كانت بطلتها

ص: 157

أميرة أمازونية Amazonian انضمت إلى تروجان المتهور ضد الإغريق في طروادة (وذلك بعد موت هيكتور Hector) . لقد انطلقت لتقبل أخيل Achilles إلا أنه تغلب عليها فوقعت في حبه، وعلى وفق قانون النسوة الأمازونيات كان عليها أن تثبت جدارتها بالانتصار على عشيقها في معركة، فوخزت أخيل بسهم وأطلقت كلابها عليه، وانضمت لهذه الكلاب في تمزيقه إربا وشربت من دمه ثم سقطت ميتة. والمسرحية صدى للجنون أو العربدة السعار المؤقت الذي تناوله يوربيدز Euripides - وهو جانب من الميثولوجيا mythology الإغريقية لم يركز عليه الدارسون للأدب الهيليني Hellenists قبل نيتشه.

والذي لاشك فيه أن الغضب قد تصاعد بسبب تمزيق نابليون لأوصال بروسيا بطيش وبلا روية، مما أخرج الشاعر من أحزانه الخاصة وأصبح من بين أصوات أخرى تدعو ألمانيا لشن حرب تحرير. وفي نحو نهاية سنة 1808 أصدر مسرحية Die Hermannsschlacht استعاد فيها ذكريات أرمينيوس Arminius على الجيوش الرومانية.

في السنة السادسة للميلاد، ليبعث بذلك الشجاعة ويحثهم على التصدّي لنابليون في حرب بدت يائسة. هنا نجد - مرة أخرى - نجد وطنية كلايست Kleist ترتفع لذروة العصبية: فزوجة هيرمان (ثوزنلدا Thusnelda) تغري الجنرال الألماني فينتيديوس (Ventidius) لتلتقي به لقاء غرام، ومن ثم قادته ليلقى حتفه إذ يلتهمه دب متوحش.

وكان العامان 1809 - 1810 يمثلان ذروة عبقرية كلايست.

لقد عرضت مسرحيته الشعرية (Das Kathchen von Heilbronn) وحققت نجاحا في هامبورغ وفيينا وجراز Graz (جراتس) كما أن مجموعة قصصه القصيرة التي صدرت في مجلدين في سنة 1810 ميزته وربما جعلته من بين أصحاب أجمل الأساليب الأدبية في عصر جوته. وبعد ذلك أصيب بالإحباط ربما لتدهور صحته، ووقع أخيرا في حب رومانسي مع امرأة مصابة بمرض عضال هي هنريت فوجل Henriette Vogel، وربما كان هذا الحب ناتجا عن المعاناة المشتركة بينهما.

وتعكس خطاباته لها عقل رجل على حافة الجنون: " يا جت Jette العزيزة، يا كلي، يا حصني، يا أرضي الخضراء، يا خلاصة حياتي، يا عرسي، يا عماد أطفالي، يا مأساتي، يا قدري، يا

ص: 158

ملاكي الحارس، يا ملاكي الجميل، يا سيرافي Seraph " (الكلمة تعنى ملكاً مجندا لحراسة الله - أستغفر الله- في التوراة)! وقد أجابته بأنه إن كان يحبها فلا بد أن يقتلها، وفي 12 نوفمبر 1811 وعلى شاطئ الفانسي Wansee بالقرب من بوتسدام أطلق عليها النار فأرداها ثم قتل نفسه.

لقد استسلمت الرومانسية فيه إلى المشاعر كأشد ما يكون الاستسلام مع قوة خيال وبراعة أسلوب. وبدا في مرات عديدة فرنسياً أكثر منه ألمانياً، مناقضا لجوته، أخا لبودلير Baudelaire وأكثر قرباً لريمبو Rimbaud. ويكاد يكون (بحياته هذه) قد أكد مقولة جوته غير المتعاطفة (الكلاسيكية صحة، والرومانسية مرض). دعنا نر.

ص: 159

الفصل الواحد والثلاثون

‌الأدب الألماني:

من 1789 إلى 1815 م

‌1 - ثورة واستجابة

تأثر الأدب الألماني في عصر نابليون بتمرد الشباب الطبيعي وبالرغبة في كسر الروابط الأسرية والخروج على المألوف، وأصداء الشعر الرومانسي الإنجليزي وروايات ريتشاردسون Richardson، والتراث الكلاسيكي لليسنج Lessing وبعد ذلك جوته والثورات الناجحة في المستعمرات الأمريكية والهرطقات التي صاحبت حركة التنوير الفرنسية، والأهم من كل هذا التأثير اليومي للثورة الفرنسية، وأخير بدراما صعود نابليون وسقوطه. لقد كان كثيرون من المتعلمين الألمان قد قرءوا أعمال فولتير وديدرو Diderot وروسو، بل إن بعضهم قرأها في لغتها الفرنسية الأصلية، وكان عدد أقل من الألمان قد أحس بلسعات هلفيتيوس Helvetius ودهولباخ d'Holbach ولامتري La Mettrie.

وكان للمفكرين والمثقفين الفرنسيين دور في صياغة (تكوين أو تشكيل) حكام على شاكلة فريدريك الكبير، وجوزيف الثاني النمساوي، والدوق تشارلز وليم فرديناند البرونسفيكي of Brunswick، والدوق تشارلز أو جستس (في ساكس- فيمار) ولو لم يكن للكتاب والمفكرين الفرنسيين سوى هذا (أي سوى تأثيرهم في هؤلاء الحكام وصياغة فكرهم) لكفى بهذا دليلا على تأثيرهم في الحضارة الألمانية. لقد بدت الثورة الفرنسية في البداية تطورا منطقيا لفلسفة التنوير Enlightenment Philosophy: النهاية - التي أسعدت الناس - للإقطاع والامتيازات الطبقية والأسرية والإعلان الذي طال انتظاره لحقوق الإنسان، والدعوة النشيطة لحرية الكلام والصحافة والتصرف والعبادة والفكر. هذه الأفكار (وكان كثير منها قد تطور داخل ألمانيا ذاتها) عبرت الراين على جناحي أخبار الثورة الفرنسية أو مصاحبة لجيوشها المندفعة لقلب أوربا واصلة حتى إلى كونيجسبرج Konigsberg البعيدة.

وعلى هذا فإن مشكلي العقل الألماني وصانعي أدبه رحبوا بالثورة الفرنسية في أعوامها

ص: 161

الثلاثة الأولى. لقد رحب بها البناءون الأحرار Freemasons والروزيكروشيون Rosicrucians أصحاب الاتجاه الباطني ودعاة التنوير المعتزون بفكرهم Illuminati، واعتبروها فجر عصر ذهبي طال انتظارهم له وشوقهم إليه. لقد أيد الفلاحون الثوار ضد السادة الإقطاعيين (الفرسان الإمبراطوريين) والحكام الأسقفيين في تريير Trier وسبير Speyer. وبورجوازيو هامبورج هللوا للثورة باعتبارها إعلاء لشأن رجال الأعمال ضد الأرستقراطيين المتغطرسين، وراح الشاعر العجوز كلوبشتوك Klopstock الذي يقيم في هامبورج، يقرأ قصائده في مهرجان الحرية ويصيح بفرح وهو يترنم بأبيات قصائده،

وراح العلماء والصحفيون والشعراء والفلاسفة يترنمون مادحين in a cappella hymns (والكابلا قاموسياً هي العَيّوق)، وراح جوهان (يوهان) فوص Voss مترحم أعمال هوميروس، ويوهان فون ميلر Muller المؤرخ، فريدريش فون جنتس Genz الدبلوماسي (خارج الخدمة) والفلاسفة من كانط إلى هيجل - راحوا جميعا يتغنون باسم الثورة ويدعون لها بالنجاح. كتب جورج فوستر Foster (الذي كان يصحب كوك Cook في رحلة حول العالم):"إنه لشيء عظيم أن يرى المرء الفلسفة قد نضجت في العقول وأصبحت واقعاً" في الدولة لقد ظلت ألمانيا منتشية لفترة بأخبار الثورة الفرنسية ففي كل مكان فيها (حتى في الأوساط الملكية كما في حالة الأمير هنري أخو فريدريك الكبير الباقي على قيد الحياة) كان الناس يرفعون أيديهم بالدعاء لفرنسا الثورة.

في ظل هذه النشوة أضاف الأدب الألماني الثورة إلى انتصارات فريدريك، وارتفع (أي الأدب) في غضون ثلاثين عام (1770 - 1800) ليكون أدبا ناشطاً فعالا متنوعا متألقا يضارع الأدب الناضج في كل من إنجلترا وفرنسا - لقد أصبح هذا هو حال الأدب في ألمانيا بعد أن ظل في حالة سبات طويل منذ فترة النزاع الديني، وهذا الأدب نفسه (المتأثر بالثورة الفرنسية) هو الذي أدهش الناس بتقدمه، فراح يلعب دوره في النهوض بألمانيا لإزاحة النير الفرنسي لتدخل (أي ألمانيا) في أزهى قرونها من النواحي السياسية والصناعية والعلمية والفلسفية.

وبطبيعة الحال لم يدم هذا المزاج السعيد، فقد أتت الأخبار بالهجوم على التوليري Tuileries، ومذابح سبتمبر وعهد الإرهاب وسجن الملك (الفرنسي) والملكة ثم إعدامهما

ص: 162

ثم أتى الاحتلال الفرنسي لدول ألمانيا، والضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري لشباب ألمانيا لدفع ثمن الحماية الإمبريالية والتكاليف الحربية لنشر الحرية. وعاما بعد عام راح حماس الألمان للثورة الفرنسية يخبو ويهمد وراح الذين دافعوا عن الثورة الفرنسية بالأمس ينسلون واحدا إثر واحد من مواقفهم السابقة (عدا كانط) وخاب أملهم فيها وتشككوا في أهداف فرنسا، بل وتحول بعضهم إلى معادين لها غاضبين عليها.

‌2 - فيمار

WEIMAR

كان الرجال الذين شكلوا كوكبة من العباقرة في بلاط فيمار كالملجأ الفكري للمفكرين الألمان خلال فترة التأثير غير المستقر للثورة الفرنسية ونابليون. لقد كان الدوق تشارلز أوغسطس Charles Augustus هو نفسه متقلب المزاج متعدد المواهب.

لقد ورث الدوقية وهو ابن عام واحد وأصبح حاكمها الفعلي وهو في الثامنة عشرة من عمره (1775) واستمد تعليمه العام من أستاذ خاص، واكتسب مزيدا من المعارف والخبرات من خلال مسئولياته في الإدارة، ومن خلال نزوات خليلة ومن خلال أخطار الحرب والصيد، ولم يكن صالون أمه أقل شأناً فقد تعلم منه الكثير، ففي هذا الصالون كان يلتقي الشعراء والجنرالات والعلماء والفلاسفة ورجال الدين والمهتمون بالأمور العامة مع بعض نسوة ألمانيا الأكثر ثقافة واستواء فطرة يتبلون أحاديثهم المفعمة بالحكمة المتوارثة باللباقة والذكاء ولا يحسبون من أعمارهم يوما يمر دون أن يشهد الواحد منهم علاقة غرامية مكتومة (لا يعرف بها أحد). لقد ذكر جان بول ريشته Jean Paul Richter:" آه هنا لدينا نساء! .. كل شيء هنا يتم بجرأة ثورية"،

حتى إن المرأة المتزوجة لا تعني شيئا وفي سنة 1772 دعت الدوقة (التي كانت هي نفسها نموذجا للفضيلة البهيجة) العالم والشاعر والروائي كريستوف فيلاند Christoph Wieland ليأتي كي يشرف على تعليم ابنيها تشارلز أوغسطس وكونستنتين (قسطنطين Konstantin) فأدى مهمته بتواضع وكفاءة وظل في فيمار حتى مات. وكان في السادسة والخمسين من عمره عندما قامت الثورة الفرنسية فرحب بها، لكنه طلب من الجمعية الوطنية في فرنسا أن تأخذ حذرها من حكم الغوغاء: وكان هذا في خطاب عالمي وجهه في أكتوبر 1789:

الأمة

ص: 163

تعاني من حمى الحرية التي جعلت أهل باريس - وهم الأكثر أدباً وتهذيبا في العالم - ظمأى لدماء الأرستقراطية

عندما يعود الشعب لنفسه - عاجلا أم آجلا - ألن يدرك أنه أصبح يقاد رغم أنفه من 1200 طاغية صغير، بعد أن كان يحكمه ملك؟

ولا يمكن أن تكونوا أكثر اقتناعا - وبعمق - مني بأن أمتكم كانت مخطئة لتحمل مثل هذا الحكم السيئ لفترة على هذا القدر من الطول، ذلك أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو الذي يفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويوازن بينها، بحيث، بحيث يكون لكل شيء حق لازب لا يمكن إلغاؤه، حق في الحرية بحيث لا تتعارض مع النظام، وأن الضرائب لا بد أن تكون متناسبة مع الدخل، وأن يدفع الجميع الضرائب على وفق المبدأ السابق دون استثناء.

وفي سنة 1791 كتب أنه لم يكن يتوقع أبدا أن يتحقق حلمه بالعدالة السياسية هكذا سريعا بإعدام لويس السادس عشر لقد حول إعدام الملك في يناير 1792 من مشاعره المؤيدة للثورة إلى مشاعر عداء لها. لقد عادى الثورة، وساءه كثيرا عهد الإرهاب، ونشر بعد ذلك في العام نفسه (كلمات في أوانها) وصل فيها إلى بعض النتائج المعتدلة:

"لا بد أن يواصل المرء دعوته حتى يستمع الناس ويقنعوا بأن البشر يمكن أن يصبحوا أسعد حالا إذا أصبحوا أكثر تحكيما للعقل وأكثر مراعاة للأخلاق .. بهذا فقط يمكن أن يتقدموا .. فالإصلاح لا يجب أن يبدأ بالدساتير وإنما بالأفراد. إن كل الظروف اللازمة للسعادة موجودة فعلا في بلادنا"(ألمانيا).

وكان جوهان جوتفرايد فون هيردر Gottfried Von Herder هو آخر من استقر من الأربعة في فيمار وأول من مات منهم، وقد أدان الثورة الفرنسية بعد أن كان يطريها عندما قام الثوار بإعدام الملكة بالمقصلة. لقد أدان الثورة عندها باعتبارها - أي الثورة - انتهاكا وحشيا للمثل الإنسانية. وفي آخر سني عمره عاد إليه الأمل فرغم أن الثورة الفرنسية قد أصابها الجنون المبكر، فإنها قد أحرزت تقدما في أوربا هو التقدم الثاني بعد ذلك الذي أحرزته حركة الإصلاح الديني (حركة لوثر ورفاقه).

لقد أنهت الثورة الفرنسية تحكم الإقطاعيين في الناس، كما أنهت حركة الإصلاح الديني هيمنة الباباوية على عقول

ص: 164

الخلق، فأصبح الناس الآن أقل خضوعا للظروف التي أملاها عليهم مولدهم وانتماؤهم الطبقي، وتحررت الموهبة ففتحت لها الأبواب للتطور والإبداع بصرف النظر عن ظروف الميلاد، وإلا أن التقدم على أية حال يمكن أن يكلف أوربا غاليا، وكان هيردر سعيدا لأن هذه التجربة جرت في فرنسا وليس في ألمانيا الحبيبة إلى قلبه حيث لا يسارع الناس إلى التدمير والإحراق، وإنما هم عمال هادئون يعملون بدأب وعلماء صبورون يمكنهم أن يقودوا الشباب النامي باعتدال وحكمة وثبات، وينشرون بينهم الضياء (التنوير).

وكان فريدريش شيلر Friedrich Schiller - الروح الرومانسي الذي حرسه بشغف الثلاثة الكلاسيكيون - قد أتى إلى فيمار (1795) بعد مغامرات شائقة في الدراما والشعر والتاريخ والفلسفة. وكان خياليا رومانسيا وحسّاساً بدرجة شديدة فلم يجد إلا القليل يحبه في مرتع شبابه فيرتمبرج Wurttemberg. وقد رد على الظلم والاضطهاد بتوقيره روسو إلى حد العبادة، وبكتابة مسرحية ثورية. لقد أدان كارل مور Karl Moor بطل مسرحيته اللص Die Rauber (1781) استغلال الإنسان للإنسان فلم يترك شيئا لكارل ماركس غير أن هذا الأخير صاغ الأفكار نفسها بشكل ذي طابع أكاديمي.

وتظل مسرحية شيلر الثالثة (كابال والحب Kabale und Liebe (1784) هي الأكثر ثورية، فقد امتدح فيها استقامة البورجوازية الألمانية وصبر ها وحياتها المنتجة وكشف الغش والخداع والرشوة والغلو (التبذير) والمزايا التي يحصل عليها من لا ينتجون. وفي أفضل مسرحياته التي كتبها شيلر قبل الثورة وهي مسرحية دون كارلوس (1787) وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، نجده أكثر حرصا على عدم إغضاب نبلاء السلطة منه على عدم إغضاب الفقراء. لقد وضع على لسان الماركيز بوزا Posa عبارة مفادها أن "فيليب الثاني هو أبو الشعب" الذي "يترك السعادة تنساب من مجدك" و"لتدع العقول تنضج (وتثمر) في أرجاء مملكتك الواسعة، لتكون أنت بين آلاف الملوك، ملكاً حقا ".

وعندما انتقل شيلر من مرحلة الشباب إلى مرحلة منتصف العمر انتقل بشكل طبيعي من الراديكالية إلى الليبرالية. لقد اكتشف بلاد الإغريق القديمة وتعمق بدراسة مسرحييها (مؤلفي المسرح فيها). وقرأ كانط وأشاع الغموض في شعره بمزجه بالفلسفة. وفي سنة

ص: 165

1787 زار فيمار وفتن بنسائها فبث فيه فيلاند وهيردر الهدوء. (كان جوته في هذا الوقت في إيطاليا).

وفي سنة 1788 نشر كتابه (تاريخ ثورة الأرضي المنخفضة المتحدة Geschichte des Abfalls der Vereinigten Niederlande) وتخلى عن فلسفته إلى التاريخ. وفي سنة 1789 تم تعيين شيلر أستاذاً للتاريخ في يينا Jena بناء على توصية قدمها جوته لدوق ساكس- فيمار وفي أكتوبر من العام نفسه كتب إلى أحد أصدقائه:

"إنه لهدف صغير أن أكتب لأمة واحدة، فبالنسبة إلى فيلسوف يعتبر هذا الحد سجنا لا يطاق .. فالمؤرخ لا يمكن أن يشعل أمة ويثير فيها حماسا إلا إذا جعلها (أو نظر إليها) كعنصر في مسيرة الحضارة وتقدمها".

وعندما وصلت أخبار الثورة الفرنسية إلى يينا كان شيلر في منتصف العمر ينعم بدخل جيد وقبول عام وفهم مقبول. وساعدت مراسلاته مع جوته عبر مسافة بلغت اثني عشر ميلا (وكان الفارق العمري بينهما عشر سنوات) الشاعر الكامن في جوته على أن تظل واقعية العمل الإداري حية عنده، وكذلك محاذير الرخاء، كما ساعدت شيلر على التحقق من أن الطبيعة البشرية لم تتغير إلا قليلا عبر التاريخ تغيرا لا يجعل الثورات السياسية مفيدة للفقراء.

وتعاطف مع الملك الفرنسي وزوجته عندما قبض عليهما الثوار في فرساي في سنة 1789، وفي فارين Varennes في سنة 1791 وعند إخراجهما من القصر (الذي كان سجناً لهما) في سنة 1792 وبعد ذلك بوقت قصير أضفت حكومة المؤتمر الثورية على السيد المغفل Le Sieur Gilles لقب المواطن الفرنسي وبعد ذلك بأسبوع دلت مذابح سبتمبر على سلطة العوام المسلحين، وفي ديسمبر حوكم لويس السادس عشر، وبدأ شيلر في كتابة نشرة للدفاع عنه لكن المقصلة هوت على رقبة الملك الفرنسي قبل أن يكملها (يكمل نشرته) وابتسم جوته لتقلب اتجاهات صديقه السياسية، لكنه هو أيضا كان قد ابتعد كثيرا عن المسلمات التي آمن بها في شبابه.

لقد كان لديه علاقات جنسية عابرة كثيرة بنسوة جميلات فاسدات قبل أن يدعى في سنة 1775 وهو في السادسة والعشرين من عمره لمغادرة فرانكفورت ليعيش في فيمار كشاعر للدوق تشارلز أوغسطس في وظيفة ثابتة وكرفيق له يمارسان معا الرذيلة بوجهيها (اللذة الجنسية

ص: 166

بوجهيها أو بنوعيها in both forms)، وخلال الإثني عشر عاما التالية استوعب الحقائق الاقتصادية والسياسية وأحرز تقدما سريعا. لقد اختفى المؤلف الرومانسي الذي ألف في سنة 1774 Die Leiden des Jungen Werthers وغاص في عمله الجديد كمستشار فرأى في انتصار فرنسا في معركة فالمي Valmy في سنة 1792 عصراً جديدا يتشكل في التاريخ الأوربي.

إلا أن التدهور والفوضى اللذين عما الثورة الفرنسية في هذا العام نفسه (1792) جعله يخلص إلى أن الإصلاحات البطيئة في ظل مستبدين متنورين هذبتهم الفلسفة، وفي ظل حكام محليين متعلمين وحسني النوايا مثل دوق فيمار الذي يعمل معه - قد تكلف الشعب معاناة أقل من المعاناة التي يسببها التغيير السريع المفاجئ الذي قد يسبب انهيار القاعدة الأساسية للنظام الاجتماعي خلال عقد من الانفعال والعنف. وقد عبر في إحدى قصائد المنطوية على الحكمة Venetian Epigrams عن هذا الخوف في وقت مبكر يرجع إلى سنة 1790:

- ليحذر حكامنا قبل قوات الأوان مما أصاب فرنسا،

- لكن أيها الناس يا من أنتم في الدرك الأسفل، فلتحذروا أنتم أيضا.

- إذا ذهب الرجال العظماء بغير عودة فمن يحمي الشعب

- عندها سيصبح الغوغاء القساة طغاة يحكموننا جميعا.

لقد هلل سعيدا عندما أنهى نابليون فوضى الثورة بقبضه على زمام السلطة واعتماده دستورا يسمح للناس بإدلاء أصواتهم في استفتاء في بعض المناسبات دون تدخل كثير في أمور حكومة حاسمة متسمة بالكفاءة. ولا يقلل من تقديره للكورسيكي Corsican (نابليون) استقبال نابليون له بشكل مجامل في فرانكفورت في سنة 1807 وما قيل من أن هذا اللقاء أسهم كثيرا في شهرة هذا الشاعر المستشار شهرة عالمية.

وتغلغلت بعض اللمسات الرومانسية خلال تطوره الكلاسيكي الراسخ، حكماً وذوقا، فالجزء الأول من فاوست Faust (1808) عبارة عن قصة حب كما أنها تركز على أخلاق العصور الوسطى، كما أن عمله الذي أصدره سنة 1809 (Elective affinities) يبدو مؤيداً لصيحة الجيل الجديد، تلك الصيحة الصارخة المطالبة بأن يكون الانجذاب المتبادل هو

ص: 167

أساس الارتباط لا أن يكون الأساس هو الارتباط الشرعي أو الدعم المالي للآباء. واستمر المستشار الذي أصبح فيلسوفا يرفرف حول النسوة الشابات حتى بعد أن بلغ من العمر عتيا، لكن دراسته للفن القديم في إيطاليا وتطور اهتمامه بالعلوم وقراءته للفيلسوف سبينوزا Spinoza وتدهور نشاطه البدني - كل ذلك جعله واسع الأفق غير عجول في الحكم على الأمور.

وقد أعلن عن هذا التغير في سيرته الذاتية (1811) التي تعرض فيها لحياته بشكل موضوعي. وكانت ألمانيا الرومانسية - التي أثرت فيها عواطف فاكنرودر Wackenroder ونوفاليز Novalis، والحب المتحرر الذي دعا إليه الكاتبان شليجل Schlegels، وخبل هولدرلين Holderlin وقتل الرحمة (انتحار كلايست Kleist) - قد امتعضت لنقده الثورة الفرنسية، نقداً عالي النبرة، ولم تلحظ إلا بالكاد أنه كان أيضا يسخر من الطبقة الحاكمة. والحقيقة أنه حتى في أثناء حرب التحرير الألمانية كان يجد صعوبة في كراهية نابليون والفرنسيين وقد شرح لإكرمان Eckermann قائلاً:

كيف أستطيع أن أكره أمة من بين أكثر أمم الأرض ثقافة؟ كيف أستطيع أن أكرهها وأنا مدين لها بقدر كبير جدا مما لدي؟ أتستوي عندي الثقافة والبربرية!؟ هناك مرحلة يختفي فيها العداء بين الأمم تماما حيث يقف المرء وقد تسامى فوق الأممية ليشعر أن آلام شعب مجاور وسعادته هي نفسها آلامه هو وسعادته.

ولم يسامحه أبناء جيله أبداً وقلما كانوا يقرءونه واعتبروا شيلر أفضل منه وقلما كانت مسرحياته تعرض في فيمار، واشتكى الناشرون من قلة مبيعات (أعماله الكاملة المجمعة) ومع هذا فإن رجلا إنجليزيا هو اللورد بايرون أهدى إليه في سنة 1820 في صدر مؤلفه (Marino Faliero) كتابه لأنه إلى حد بعيد أول شخصية أدبية في أوربا منذ وفاة فولتير ولم يكن يطيق قراءة كانط، لكنه كان أحكم رجال عصره.

‌3 - الساحة الأدبية

لقد كانت ألمانيا مشغولة انشغالاً لم تعهده أبداً من قبل كانت مشغولة بالكتابة وبالرسم ونشر الصحف والدوريات والكتب. ففي سنة 1796 توصل ألويز سينفلدر Aloys Senefelder

ص: 168

في ميونخ لما عرف فيما بعد بالطباعة الحجرية (الطباعة على الحجر) ذلك أنه حك (فرك) حلي أمه المثبتة في ملابسها المغسولة بحجر، فترك هذا الحك أثراً فتراءى له أن الكلمات والصور والألوان المختلفة يمكن بالحفر الغائر أو الحفر البارز على حجر ناعم أو لوح معدني، طباعتها والحصول على ما لا يحصى من النسخ منها (على أن يتم النقش بطريقة عكسية لتكون الكلمات المطبوعة في وضعها الصحيح - أي كتابتها معكوسة لتبدو سوية كما في حالة المرآة) ومن هنا ظهر طوفان من الصور والرسوم المطبوعة بدءا من جويا Goya وهيروشيج Hiroshige إلى كورييه Currier وإيفز Ives وبيكاسو Picasso.

وكانت الصحف كثيرة وصغيرة الحجم وموالية وخاضعة للرقابة. فصحيفة أليماني تسايتونج Allgemeine Zeitung (الوقائع الألمانية) أسست في توبنجن Tubingen في سنة 1798 ثم انتقلت إلى شتوتجارت ثم إلى أولم Ulm ثم إلى أوجسبورج Augsburg ثم إلى ميونخ لتتحاشى البوليس المحلي. وصحيفة كولنيش تسايتونج Kolnische Zeitung تم تأسيسها في سنة 1804 وكانت مقالاتها وأخبارها أكثر هدوءا، وكانت وطنية كاثوليكية ثم أصبحت نابليونية. وكان في كل من فيينا وبرلين وليبزج وفرانكفورت ونورمبرج صحف ظهرت في وقت سابق على قيام الثورة الفرنسية وظلت تؤدي عملها حتى الفترة التي نتحدث عنها.

أما الدوريات والمجلات فكانت كثيرة، من أجملها دورية الموسيقى الألمانية Allgemeine Musikalische Zeitung (أليماني موزيكاليشي) التي نشرتها في ليدن شركة برايتكوبف وهارتل Breitkopf & Hartel، وظلت تصدر من 1795 إلى 1849 أي من ثورة إلى أخرى. أما أكثرها تألقا فهي دورية أثيناوم Athenaum التي أسسها الأخوان شليجل في سنة 1798. وكان الناشرون كثيرين. كما كان المعرض الدولي للكتاب في ليبزج حدثا أدبيا سنويا.

وكان لطائفة خاصة من الكتاب - تم تصنيفهم تصنيفا مرنا باعتبارهم (الخبراء في الشؤون العامة) - تأثير واسع لانحيازهم الشديد لقضاياهم وإن كانوا رغم انحيازهم يمتلكون ناصية المعلومات لمناقشة قضايا العصر الأساسية. لقد هلل فريدريش فون جينتس Von Gentz (1764 - 1832) لسقوط الباستيل، لكنه قلل من حماسه عندما التقى

ص: 169

بفيلهيلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt ذي العقلية المتشككة، وقد قرأ كتاب بورك Burke عن الثورة الفرنسية (Reflections on the French Revolution) وترجمه.

وبعد أن ترقى في الخدمة المدنية البروسية إلى درجة مستشار في وزارة الصناعة قاد معركة أدبية ضد أفكار مثل حقوق الإنسان والحرية والمساواة وسيادة الشعب وحرية الصحافة. ولم يرض عن الثورة الفرنسية حتى بعد أن خفف نابليون من غلوائها. وهاجم نابليون كعسكري أدت غزواته إلى الإخلال بتوازن القوى الذي كان يقوم عليه سلام أوربا ونظامها وسلامتها - وكان هذا هو رأي معظم الدبلوماسيين.

وأصبح أفصح الأصوات وأكثرها بلاغة حاثّاً فريدريك وليم الثالث على شن حرب لا هوادة فيها (النص صليبية Crusade) ضد نابليون، فلما تردد الملك البروسي، ترك جينتس خدمته وراح يقدم خدماته للنمسا (1802). وعندما اجتاح نابليون النمساويين في معركة أوسترليتز Austerlitz لجأ جنتس إلى بوهيميا لكنه عاد إلى فيينا في سنة 1809 وراح يدعو لشن حرب جديدة ضد نابليون. وكان سكرتيرا ومساعداً لميترنيخ في مؤتمر فيينا وأيده في سياسة ما بعد الحرب التي تبناها ميترنيخ بإبعاد كل تأثير ليبرالي ومنعه من التطور. وكان وقت ثورة 1830 عجوزا مريضا ومات وهو مقتنع أنه خدم مصالح البشرية بشكل جيد.

أما جوزيف فون جورز Gorres فكان ذا روح أكثر حساسية، وكان نصف إيطالي، ومفعماً بالعواطف ولا يكاد يصلح للصراع الحاد وخوض المعارك الأدبية الشرسة. ولد كاثوليكيا، فترك مهمة دعم الثورة للكنيسة (!) وعاون الفرنسيين في فتح مناطق غرب الراين وهلل تحويل نابليون الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى رابطة الراين (الراينبوند Rheinbund) وهلل لفتح الفرنسيين لروما تحت شعار روما حرة، لكن تكبر عسكر الجيش الفرنسي وابتزاز الإداريين الفرنسيين أثار سخط الشاب الثوري. وفي سنة 1798 أسس صحيفة ضعيفة هي (صحيفة الورقة الحمراء Das rothes Blatt) كصوت جمهوري يحب الثورة الفرنسية لكنه لا يثق في الفرنسيين.

ورأى في استيلاء نابليون على السلطة في فرنسا نهاية للثورة الفرنسية، كما رأى في نابليون نفسه شخصا تواقا للسلطة بشكل خطر، وعندما هبت ألمانيا لتحارب من أجل التحرير انضم جورز للمعركة بإصدار صحيفة

ص: 170

راينيشي ميركور Rheinische Merkur، لكن عندما فرض المنتصرون - بعد إزاحة نابليون - ردة سياسية (حركة رجعية سياسية) في كل المجالات التي استطاعوا فرض إراداتهم فيها، هاجمهم جورز بحده شديدة وضراوة حتى إنهم اضطروه للجوء إلى سويسرا حيث عاش في فقر مدقع. ولم يعد محط النظر فعاد نادما حزينا لحض الكنيسة الكاثوليكية (1824) وانتشله لودفيج الأول البافاري من الفقر والعوز بتعيينه أستاذاً للتاريخ في ميونيخ. هناك كتب كتابه ذا المجلدات الأربعة: أسرار المسيحية Christliche Mystik (1836 - 1842) وراح يسلي أيامه بالخيالات، ويسود لياليه بالرؤى الشيطانية. وبعد موته بأربعة وثلاثين عاما تم تأسيس جمعية أحباء جورز Gorres Gesellschaft (1876) لمواصلة أبحاثه في تاريخ الكنيسة.

وساد الرومانسيون النثر، لكن كاتباً واحدا ظل متفردا وتملص منهم، إنه جين بول ريختر Jean Paul Richter الذي بدأ حياته في بايروث Bayreuth في سنة 1763. ويرجع اسمه المسيحي إلى جده جوهان بول كوهن وحتى سنة 1793 كان يطلق عليه ببساطة هانز Hans. وكان أبوه معلما في مدرسة وعازف أرغن وأصبح قسا في كنيسة في جوديتس Joditz على نهر سال Saale، وهناك قضى هانز أعوامه الثلاثة عشر الأولى في سعادة وشكل هذا المحيط الريفي البسيط مزاجه خلال المتاعب الاقتصادية والعواصف اللاهوتية.

وعندما انتقلت الأسرة إلى شفارتسنباخ Schwarzenbach الواقعة على هذا النهر الهادئ نفسه (سال Saale) نعم بمكتبة رجل دين من الجيران، واعترف رجل الدين هذا بإمكانيات هذا الصبي ولكنه لم يعترف بما يراود الفتى من شكوك. ومات والد ريختر (ريشتر) في هذا المكان (1779) تاركا ذرية ضعافا قليلة الموارد)، وعندما بلغ هانز العشرين من عمره دخل مدرسة اللاهوت في ليبزج لكن قراءاته أضعفت عقيدته، فسرعان ما انسحب من الدراسة وراهن على أن يعيش من قلمه، واستطاع أن ينشر في سنة 1783 وهو في العشرين من عمره، ولكنه لم يستطيع ذلك مرة أخرى إلا في سنة 1789 وفي كلتا الحالتين تعرضت كتاباته لهجاء ساخر مما جعل المثقفين الساخرين يشفقون عليه.

وفي سنة

ص: 171

1793 أصدر (الكوخ الخفي Die unsichtbare Loge) باسم مستعار هو جين (جان) بول، وقد اختار الاسم (جان) حباً منه في جان روسو، وحظي الكتاب بعدد قليل من القراء زادوا بعد ذلك بالنسبة لروايته الوجدانية التالية: هيسبيروس Hesperus (1795) ، فدعت شارلوت فون كالب Kalb صديقة شيلر المؤلفَ الصاعد إلى فيمار وسعدت به حتى إنها أصبحت خليلته. وبدأ في فيمار تأليف روايته ذات الأربعة مجلدات تيتان Titan (1800 - 1803) ، وكان البطل الحقيقي لهذه الرواية هو الثورة الفرنسية.

ودافع المؤلف بعاطفة جياشة عن الثورة الفرنسية في سن تكوينها لكنه أدان مارا Marat لإفسادها بحكم الغوغاء، وامتدح شارلوت كورداي Corday باعتبارها جان دارك Jeanne d'Arc الثانية. ورحب باستيلاء نابليون على السلطة كأمر ضروري لاستعادة النظام، وبعد ذلك بثمانية أعوام كان ريختر راغباً تماماً في أن يرى أوروبا كلها وقد توحّدت على يد هذا الرجل (نابليون) الذي يستطيع أن يمسك بها بعقله ويده وقوانينه التي تسري من فرنسا إلى برلين وموسكو. لكن جين (جان) بول كان في قرارة نفسه جمهورياً يرى في كل انتصار عسكري مقدمة لحرب أخرى. وأشفق على الشباب الذين جندهم نابليون، وعلى الأسر الحزينة لفقد أبنائها.

وساق الأدلّة على: "أن الشعب وحده هو الذي يجب أن يتخذ قرار الحرب، لأنه هو وحده الذي يعاني ويلاتها ونتائجها"، وأطلق من جرابه أقسى رماحه على الحكام الذين يبيعون جيوشهم للحكام (أو الملوك) الأجانب. وطالب بإلغاء الرقابة حتى تستطيع بعض القوى خارج الحكومة أن تكون حرّة في كشف أخطاء الحكومة وعَرْض إمكانات التقدم.

وفي سنة 1804 تزوج جين (جان) بول Jean Paul وهو في الثامنة والثلاثين وفي سنة 1804 استقر في بايروث Bayreuth، وبعد أن خاض تجارب حية كتب كتاباً عن التعليم (Levana) وهو واحد من كلاسيكيات البيداجوجا pedagogy الليبرالية (علم أصول التدريس الليبرالي، وتوسع علم التربية الليبرالي) وأصدر عدداً كبيراً من الروايات والمقالات، ترجم بعضها كارليل Carlyle لإعجابه بها. وكان مزجه بين النقد الواقعي والمشاعر الرومانسية قد جعل قراءة أكثر من قراء جوته أو شيلر.

ومات في سنة 1825 تاركاً مقالاً لم يكتمل عن خلود الروح. لقد شهد

ص: 172

عصره بداية اكتشاف المادة، وظلت شهرته كأحد المؤلفين الألمان الروّاد تطبق آفاق أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وبعد أن خمدت شهرته في أوروبا انتقلت محلِّقة في أمريكا حيث كان لونجفلو Longfellow واحداً من المتحمسين له. ولا نكاد نجد أحداً يقرأه الآن في ألمانيا لكن المؤكد أنَّ كلَّ ألماني يتذكر قوله المنطوي على الحكمة، والذي كان يقصد به توجيه طعنة إلى الفلسفة الألمانية، وتلخيص عصر نابليون على نحو يفوق كتابنا هذا:"إن الله قد أعطى الإنجليز إمبراطورية البحر، وأعطى الفرنسيين إمبراطورية البر، وأعطى الألمان إمبراطورية الهواء".

وهناك كاتبان آخران من كتّاب القصة كان لها جمهور عريض كان إرنست تيودور فيلهلم هوفمان Wilhelm Hoffmann (1776 - 1822) واحداً من أكثر الألمان تعدداً للمواهب والاهتمامات بشكل غير عادي، وقد غيَّر الاسم فيلهلم إلى أماديوس Amadeus في سنة 1813: لقد كان رساما ومؤلفاً للموسيقى وعازفاً لها ومخرجاً للأوبرا وممارساً قانونياً وكتب قصصاً بوليسية ورواية ألهمت جاك أوفنباج Offenbach في مؤلفه (حكايات هوفمان)(1881). أما أدلبرت فون كاميسو Adelbert Von Chamisso (1781 - 1838) فكان متفردا في حياته وأدبه.

لقد كان بحكم الميلاد نبيلاً فرنسياً، ترك فرنسا إثر أحداث الثورة الفرنسية وتلقى معظم تعليمه في مدارس ألمانيا وتم تجنيده في كتيبة عسكرية بروسيّة وحارب فرنسا في معركة يينا وفي سنة 1813 كتب قصة رمزية هي Peter Schlemihls wundersame Geschichte يبث فيها فيها تَمزُّق ولائه وحنينه لبلاد آبائه وأجداده. لقد كانت حكاية غريبة عن رجل باع ظلّه للشيطان. وكان عالم نبات راسخاً ذا شهرة، فصحب أوتو فون كوتسبو Otto Von Kotzebue في رحلته العلمية حول العالم (1815 - 1818) وسجل اكتشافاته في مؤلّف حقّق شهرة في وقت من الأوقات يحمل عنوان (رحلة حول العالم Reise um die Welt) وقسّم ما بقي من عمره بين عمله كمسئول عن حديقة برلين للنباتات، وكتابة الشعر الرومانسي، وقد امتدح هينريش (هينرخ) هاين Heinrich Heine قصائده ووضع روبرت شومان Schumann موسيقى لسلسلة أشعاره عن الحب

ص: 173

والنساء.

وكان عدد الشعراء كبيراً ولا يزال كثير منهم في ذاكرة الشعب الألماني، لكن من الصعب نقل أشعارهم إلى لغة أخرى أو بلاد أخرى أو زمن آخر غير الزمن الذي قيلت فيه هذه الأشعار، لارتباط كلماتها بالموسيقى وبمشاعر خاصة. وكان فريدريش (فريدريخ) هولندرلين Holderlin (1770 - 1843) هو الأكثر مدعاة للشفقة منهم، فقد ثبت أن حاسيته الشعرية كانت حادة جداً بالنسبة إلى صحته النفسية والعقلية، ذهب إلى توبنجن Tubingen للدراسة ليصبح واحداً من رجال الدين فكون علاقة صداقة حافزة مع جورج هيجل Hegel الذي كان وقتها قد وضع المسيحية موضع الشك، وراح الفتى يحلم بسعادة البشرية عندما وصلته أخبار الثورة الفرنسية. لقد قرأ روسّو وألف ترانيم الحرية وفي سنة 1792 وكان في آخر قرن يحتضر (القرن 18) راح يظن أنه رأى فجراً رائعاً لعصر من العدالة والنبالة. وعندما اندلعت الحرب كتب لأخته صَلِّ من أجل الفرنسيين، نَصِيري حقوق الإنسان وعندما غرقت الثورة الفرنسية في الدم تعلّق بحلمه يائساً:

حُبِّي هو الجنس البشري - ولست أقصر بطبيعة الحال هذا الجنس الفاسد المرتشي الذليل التافه الذي غالباً ما نلتقي بأفراده. إنني أحب العظمة والكفاءة حتى لو وُجدت بين شعوب فاسدة. إنني أحب الجنس الذي لم أره بعد، أحب جنس البشر الآتي من القرون القادمة .. إننا نعيش في زمان يتجه فيه كل شيء إلى التحسّن. إنها بذور التنوير حيث تلك الرغبة الصامتة والنضال لتعليم الجنس البشري ..

إن هذا سيكون له ثمار عظيمة. هذا هو الهدف المقدس لرغباتي ونشاطي (عملي) - هو أن أزرع البذور التي ستثمر شجرتها ثماراً ناضجة من جيل آخر غير جيلي.

حتى الماضي كان يسمح له بالحلم، فقد وقع في حب أبطال وإلهة اليونان الكلاسيكية (القديمة) مثله في ذلك مثل معاصره كيتس Keats، فبدأ ملحمة نثرية عن الثوار الإغريق هي ملحمة (هيبريون Hyperion) . وأخذ طريقه إلى يينا Jena فدرس على يد فيشه Fichte وتعلم كيف يحترم كانط وقابل أرباب فيمار عندما كانوا هم أيضاً معجبين بالثقافة الهيلينية. ودبّر له شيلر وظيفة معلّم ومرشد لأحد أبناء شارلوت فون كالب Kalb، وفي سنة 1796 وجد

ص: 174

في بيت المالي banker جوتهارد J.F. Gotthard في فرانكفورت - آم - مين وظيفة ذات عائد مالي أعلى، وكانت وظيفة مرتبطة أيضاً بتعلم الأبناء ووقع في حب زوجة هذا المالي Banker وقد قدّرت الزوجة أشعاره كثيراً، وأدى هذا إلى طرده من الوظيفة وإجباره على مغادرة المدينة. وأدَّى به الشوق والنفي إلى شيء من الهوس، ومع هذا ففي هذا الوقت (1799) كتب قصيدة (Der Tod des Empedokles) التي تعد من بين روائع الشعر الألماني. وظل لعدة سنوات يجول المدن بحثاً عن مورد رزق وإلهامات لأشعاره. وطلب من شيلر أن يوصي به ليكون محاضراً في الأدب اليوناني لكن شيلر وجده لا يصلح لكرس الأستاذية فلم يوص به وبينما هو يعمل معلما خصوصيا في بوردو Bordeaux تلقى (هولدرلين) خبر وفاة مدام جوتهارد Gotthard فترك وظيفته وعاد سيرا على الأقدام عبر فرنسا إلى ألمانيا حيث اعتنى به أصدقاؤه (1802) عندما وجدوه وقد اختل عقله بدرجة كبيرة، وعاش حتى سنة 1843 وظلت قصائده مهملة منسية لفترة طويلة، حتى هو نفسه كان قد نسيها لكن رينر ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke وستيفان جورج امتدحاه، وتضعه المجامع الأدبية الآن في مرتبة بعد جوته وشيلر مباشرة.

وهناك شعراء آخرون كثيرون، منهم كارل تيودور كورنر Korner (1791 - 1813) وهو ابن كريستيان جوتفريد كورنر الذي كان قد عاون شيلر كثيرا، وقد خاض بسيفه وبقلمه (أي كارل تيودور كورنر) حرب التحرير ضد نابليون وأنهض همم الألمان بدعوتهم للسلاح ومات في المعركة (26 أغسطس 1813). أما إرنست موريس أرندت Ernst Moritz Arndt (1769 - 1860) فشهد خلال عمره البالغ واحداً وتسعين عاما ثلاث ثورات. لقد عمل على إلغاء النظام الإقطاعي في بوميرانيا بوصفه - بشكل واقعي في مبحثه: مقالات نحو التاريخ Versuche einer Geschichte (1803) وفي مبحثه Die Geist der Zeit (1806) وأطلق صرخة مدوية ضد نابليون حتى إنه اضطر إلى اللجوء إلى السويد بعد انتصار نابليون في يينا.

وفي سنة 1812 دعاه شتاين Stein إلى سان بطرسبرج ليساعد في تحريض الشعب الروسي على طرد الغزاة الفرنسيين. وبعد سنة 1815 كافح في بروسيا لمقاومة الإجراءات المحافظة فسجن. وفي سنة 1848 تم انتخابه عضوا في الجمعية الوطنية في فرانكفورت

ص: 175

وعندما اضطربت هذه الثورة أيضا (ثورة 1848) وجه قريحته الشعرية بشكل نهائي إلى التقوى (المقصود الدين). وكتب جوزيف فون أيشندورف Eichendorff (1788 - 1857) النبيل الكاثوليكي قصائد بسيطة لازالت تحرك مشاعرنا، ومنها قصيدة (عند موت طفلي Auf meines Kindes Tod)، فهنا يمكن حتى للغريب المتشكك أن يشعر بالموسيقى الشعرية ويشارك في المشاعر ويحسد الأمل:

الساعات تدق من بعيد؛

سنصبح حالاً في جوف الليل؛

ضوء المصباح المتسخ صار خافتا؛

لقد تم إعداد مخدعك الصغير؛

الرياح وحدها هي التي لا تزال تتحرك

تنتحب حول البيت

الذي نجلس فيه ولا أنيس

وغالبا ما نصغي لما يجري خارجه

آه، كما لو أنك تحاول برفق

أن تطرق الباب

آه، كما لو أنك ضللت طريقك مع أنك تعرفه

فعدت راجعا حزيناً

إننا بؤساء. إننا مغفلون بؤساء

نعم فنحن نجول في الظلمة المخيفة

حتى اليأس

لقد كنت تجد بيتك (لا تضل عنه) في الأيام الخوالي.

ص: 176

‌4 - الوجد الرومانسي

كان أكثر الكتاب تألقا في هذا الأوج الألماني هم أولئك الذين روعوا عصرهم بصيحات الغرائز وانفلاتها من قيود العقل، وانفلات المشاعر من أحكام الفكر وانفلات الشباب من حكم كبار السن وانفلات الفرد من ضوابط الأسرة والدولة. إن القليلين منّا هم الذين يقرءونهم هذه الأيام لكنهم كانوا في جيلهم ألسنة لهب تشعل النار في المفكرين والمثقفين الذين كانوا مهيئين لها، وفي الروابط الاجتماعية التي تحبس النفس - المحلقة بطبعها - داخل قيود العادات والمحرمات taboo والأوامر والقانون.

وكان مصدر هذه الثورة هو الاستياء الطبيعي الذي ينظر من خلاله أي مراهق للقيود التي يفرضها الوالدان والإخوة والأخوات والمعلمون والدعاة ورجال الشرطة والنحاة والمنطقين وعلماء الأخلاق. ألم يثبت الفيلسوف الذائع فيشته Fichte أن الحقيقة الأساسية لكل منا هي وعيه الفردي بنفسه؟ وإن كان الأمر كذلك، فإن الكون لا يعني لأي منا شيئا سوى ما يتعلق بتأثيره في الشخص نفسه، وقد يحق لأي منا أن يتوقف أمام التراث والتقاليد والمحاذير والقوانين والعقائد ليطلب السبب الذي يجعل طاعتها لازمة أو بتعبير آخر من حق الفرد أن يتساءل لم يجب عليه احترام التقاليد والموروثات والمحاذير والقوانين والعقائد.

إن المرء قد يرضخ لوصايا الله خوفاً منه، أو لوصايا أحد رجال الله الذين اكتسوا بالقداسة، لكن كيف يكون الأمر وقد تحول الله عند ديدرو Diderot ودالامبير d'Alembert وهيلفيتيوس دهولباخ ولامتري إلى مجرد قوانين موضوعية تسيّر الكون؟

وقد أضيفت الآن الثورة إلى حركة التنوير الفخورة المتحررة لقد ذابت التقسيمات الطبقية، فأولئك اللوردات الذين كانوا ذات يوم يصدرون القوانين وينتزعون الطاعة أصبحوا الآن يسارعون إلى الهرب. فلم يعد هناك حاجز بين الطبقات، ولم يعد هناك غول من الموروثات والتقاليد يساند القوانين. الآن أصبح في استطاعة أي فرد أن يكمل طريقه ليصل إلى أي وضع وأي سلطة، وله أن يختار الطريق إلى المقصلة. لقد فتح الطريق أمام أصحاب المواهب وأصحاب المخالب. لم يحدث أبدا في تاريخ الحضارة المعروف أن كان الإنسان على هذا القدر من الحرية - حرية أن يختار عمله ومشروعه ورفيقه وزوجه (أو زوجته) ودينه

ص: 177

وحكومته ونظامه الأخلاقي.

وإذا خلت الساحة إلا من كيانات الأفراد فماذا بقي للدولة (ككيان) والكنيسة والجيش والجامعة؟ لن يبقى إذن سوى مؤامرات أفراد يتمتعون بمزايا خاصة للإرهاب والهمجية، ولتشكيل الأمور وفسخها، ولفرض الضرائب وتسيير أمور الحكم، وليسوقوا الباقين إلى المذابح؟ وقلما تستطيع عبقرية أن تحقق إنجازاً في ظل هذه القيود، ثم أليست عبقرية واحدة عدل عدد كبير من المعلمين والجنرالات والباباوات والملوك أو مئات التيجان؟

وعلى أية حال فقد كان هناك إلى جانب هذا الاتجاه الجديد الداعي إلى التحرر من كل شيء، كثير من الأرواح الحساسة التي شعرت أن العقل قد انتزع الكثير في طريقه إلى التحرر. فالعقل هو الذي هاجم الدين القديم بما فيه من حكايات القديسين وطقوس عطرة، وموسيقى محركة للمشاعر، ومريم العذراء الشفيعة والمسيح المخلص (بتشديد اللام وكسرها). وكان العقل هو الذي أحل محلّ هذه الرؤى السامية عمليات مادية كئيبة تتحرك بلا هدف نحو الدمار، وكان العقل هو الذي أحل محل صورة امرأة ورجل يعيشان في تواصل يومي مع المعبود، صورة رجل وامرأة مجسدين يقتربان كل يوم أكثر فأكثر بشكل تلقائي (أوتوماتيكي) على نحو مؤلم منحط، حتى يأتي موت لا قيامة بعده (موت أبدي). إن للخيال حقه حتى ولو لم يكن متسقا مع القياس المنطقي، وإننا لأكثر استعداداً للتفكير في أنفسنا كأرواح تتحكم في المادة أكثر من استعدادنا للتفكير في أنفسنا كآلات تتحكم في الأرواح. وللمشاعر حقها، وهي تترك آثارا أعمق من الفكر والعقل. فالمتجول البائس وجان جاك المندهش قد يشعر بالحكمة ويحس بها أكثر من العفريت المؤذي (الولد الشقي) في فكر فرني Ferney thought ..

لقد كانت ألمانيا قد عرفت روسو وفولتير وسمعت عنهما لكنها اختارت روسو. لقد قرأت - وأحست - بكتابيه أميل Emile وهلويز Heloise، وفضلتهما على (القاموس الفلسفي Philosophical Dictionary) و (كانديد Candide) وقد تبعت ألمانيا ليسنج في تفضيله رومانسيات شكسبير على كلاسيكيات راسين Racine. لقد كانت ألمانيا أكثر استعداداً لتقبل (كلاريسا هارلو Clarissa Harlowe) و (تريسترام شاندى Tristram Shandy)

ص: 178

وشخصية (أوسيان Ossian) في كتابات مكفرسون Macpherson عن مفكري باريس وأصحاب صالوناتها. لقد رفضت (ألمانيا) القواعد التي وضعها بوالو Boileau كقوانين للأسلوب الكلاسيكي. لقد امتعضت (ألمانيا) من التركيز على الوضوح والاعتدال، فهما لا يتسقان مع الحماسة والوصول إلى الخلود، ومطلع النور.

لقد كانت الرومانسية الألمانية تحترم الحقيقة إن كان لها وجود، لكنها (أي الرومانسية الألمانية) كانت تشك في الحقيقة العلمية التي جعلت وجه الحياة كئيبا. لقد ظلت ألمانيا تحتفظ - بحب - في ذاكرتها بالحكايات الخيالية وحكايات الجنيات التي قام كليمنز برينتانو Clemens Brentano (1778 - 1842) وأشيم فون أرنيم Achim Von Arnim (1781 - 1831) بجمعها في مؤلف بعنوان Des Knaben Wunderhorn (1805 - 1808) ، وقام أيضا الأخوان جريم Grim (جاكوب، 1785 - 1863، وفيلهلم، 1786 - 1859) بتجميع آخر بعنوان Kinder - und Hausmarchen (1812) .

لقد كانت هذه الحكايات هي صدى لطفولة الأمة وطفولة الأفراد، وكانت جزءاً من روح الألماني الطيب وربما كانت انعكاساً لما وراء الوعي عنده. وإذا كان لا بد لهذا التراث الخيالي الذي يعود إلى ما قبل الثورة؛ إلى كاثوليكية العصور الوسطى وإلى روح القصة الشعرية أن يعود فإنه يقود ألمانيا إلى الكاتدرائيات القديمة التي كستها الطحالب لفرط قدمها وإلى العقيدة الراسخة التي لا تحتمل الشك والحرفيين المهرة الذين يغمرهم النشاط والمرح، ولا بد أن يقود ألمانيا إلى الصلوات والدعوات والترانيم الدينية وأجراس والكنائس مما يجعل الرب حاضرا في الحياة اليومية للناس، ويمزج الأفراد المرهقين بمجموعة القديسين والصالحين الذين كانت حياتهم ملحمة مقدسة في التاريخ المسيحي.

وبالأم العذراء Virgin Mother التي نذرت بتولتها وعذريتها للأسرة المقدسة والأمة والجنس البشري. وكان كل هذا بطبيعة الحال بقايا ذوات طابع حماسي من العقائد الوسيطة (العقائد التي سادت في العصور الوسطى) وما صاحبها من مخاوف، وهراطقة لابد من تجريمهم وأرواح حائرة، ومع هذا فقد بلغت بكثيرين من الرومانسيين الألمان ذروة التوهج والحماس وراح بعضهم - ندماً وتوبة - يلقون بأنفسهم على أعتاب المذابح الكنسية في أحضان الكنيسة الأم.

ص: 179

‌5 - أصوات المشاعر

لقد كادت الرومانسية الألمانية تؤثر في كل مناحي حياة الأمة: لقد أثرت في موسيقي بيتهوفن وفيبر Weber وفيلكس مندلسون Felix Mendelssohn، وفي روايات هوفمان وتيك Tieck وفي فلسفة فيشته وشيلنج Schelling، كما كان لها تأثيرها في الدين كما وجدنا عند شلايرماخر Schleiermacher ومئات من المتحولين للمسيحية مثل فريدريش شليجل، ودوروثيا مندلسون Dorothea Mendelssohn. لقد قاد خمسة رجال - على نحو خاص - هذه الحركة في الأدب الألماني، ولا بد أن نذكر من بينهم امرأة رومانسية شاركتهم الحب المنطلق أو المقيد كما شاركتهم الاهتمامات الفكرية مما صدم العقيلات المحتشمات من فرانكفورت إلى الأودر Oder .

وكان بالقرب من منابع الحركة طائر يحرك جناحيه ونعني به فيلهلم هينريش فاكنرودر Wackenroder (1773 - 1798) وهو كاتب خجول سهل الانقياد غير مرتاح للحقيقة (الواقع) والعقل، إنما كان يجد راحته في الدين، وكان يجد سعادته في الفن. لقد رأى في قدرة الفنان على التصور والتنفيذ شبها قريبا بعملية الخلق. وقد صاغ دينه الجديد هذا في مقالات ذات طابع ديني تعبدي تناول فيها ليوناردو، ورافاييل، ومايكل أنجلو، ودورير Durer

ووجد دعما لاتجاهه هذا في جامعتي جوتنجن وإرلانجن Erlangen، إذ أيده لودفيج تيك Tieck وتحمس له واقترح لكتابات صديقه عنواناً طريفاً هو:(فيوضات قلبية لأخ مسيحي عاشق للفن Herzensergiessungen eines kunstliebenden Klosterbruders) ولأن هذه المقالات أخذت طابعا مسيحيا فقد وجدت لها ناشرا في سنة 1797.

لقد سخر فاكنرودر من المذهب العقلي الذي أخذ به ليسنج ومن المذهب الكلاسيكي الذي أخذ به فنكلمان، وكانت سخريته هذه تكاد تكون بالحدة نفسها التي تجنح إليها البورجوازية الألمانية لإعلاء الفن والسموّ به، وراح فاكنردور يعمل في عصره على إعادة أخويات الفنانين والعمال التي كانت سائدة في العصور الوسطى. وأصيب فاكنردور بالتيفود فمات وهو في الرابعة والعشرين من عمره.

ص: 180

وظل صديقه تيك Tieck (1773 - 1853) طوال ثمانين عاما يلعب مباراة خطرة (فيها مخاطرة) إذ راح يؤيد المشاعر في مواجهة العقل، ويؤيد الخيال في مواجهة الواقع. لقد كان هو وفاكنرودر قد درسا الدراما في العصر الإليزابيثي والفن في العصور الوسطى، وابتهجا لسقوط الباستيل. إلا أن تيك كان يختلف عن فاكنرودر في عدة أمور منها أنه كان يتمتع بروح الفكاهة ونزعة للعب. لقد شعر أن الحياة مباراة يلعبها الأرباب مع الملوك والملكات والأساقفة والفرسان والحصون والكاتدرائيات، والرهانات متواضعة (بسيطة)، أو بتعبير آخر جائزة الفائز في المباراة بسيطة.

وعندما عاد لمسقط رأسه برلين بعد أن قضى أيام الجامعة نشر في الفترة من 1795 إلى 1796 رواية في ثلاثة مجلدات (Die Geschichte des Herrn William Lovell) كتبها على نمط أسلوب ريتشاردسون، ووصف فيها بتفاصيل حساسة العلاقات الجنسية والانتقالات بين ربوع الفكر لشاب تخلى عن الأخلاق المسيحية واللاهوت المسيحي وانتهى إلى أنه ما دامت النفس - على وفق نظرية المعرفة عند فيشته - هي الحقيقة الوحيدة التي يمكننا معرفتها بشكل مباشر، فلتكن إذن هذه النفس (الذات) هي معيار الأخلاق وواضع القوانين:

لا توجد كل الأشياء إلا لأنني أفكر فيها، ولا وجود للفضيلة إلا لأنني أظن وجودها (أفكر فيها) .... الحق أقول لكم إن الرغبة الجنسية هي السر الكبير لوجودنا. فالشعر والفن، بل وحتى الدين، هي مجرد شهوة جنسية مقنّعة. وأعمال النحاتين وشخوص الشعراء ورسوم الفنانين التي نركع أمامها ليست سوى مقدمة للمباهج الحسية ..

إنني أشفق على الأغبياء الذين يثرثرون ثرثرة المعتوهين عن الإثم والفسوق اللذين ترتكبهما حواسنا. وإنهم بائسون مصابون بالعمى. إنهم يقدمون الأضاحي لرب عنين (عاجز جنسيا) لا يمكن أن تسعد عطاياه قلب الإنسان

لا، إنني وهبت نفسي لخدمة إله أعلى تنحني أمامه كل الخلائق، إله يوحّد في طياته كل مشاعر الطرب والنشوة والحب وكل شيء

ففي أحضان لويزا فقط عرفت ما هو الحب، وذكرى أميليا Amelia تبدو لي الآن على البعد باهتة قليلا يغلفها الضباب.

هنا وقبل "الإخوة كرامازوف The brothers Karamazov"

ص: 181

(1880)

بخمسة وثمانين عاما نجد نبوءة إيفان كرامازوف بأن قرنا من التسيب الأخلاقي سيأتي بعده: "إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح" وعلى أية حال فإن لوفيل Lovell (بطل رواية تيك السابق ذكرها) عاد للدين قبل أن يموت. لقد قال "إن أكثر المفكرين الأحرار طيشا ولا مبالاة أصبح أخيرا متعبدا" وكان هذا الاعتراف مناسبا تماما وفي وقته ذلك أنه قتل بعد ذلك بفترة وجيزة في مبارزة.

وكان الكتاب مفخرة لشاب تحرر قبل أن يصل لسن (العقل). وفي سنة 1797 نشر قصة قصيرة (إكهرت الشقراء Der blonde Eckhert) حازت إعجاب الأخوين شليجل. وذهب إلى يينا Jena بناء على دعوتهما، كانت يينا وقتها معقلاً للرومانسية. وعلى أية حال فإن تيك Tick غادرها في سنة 1801 ليعيش في عزبة أحد أصدقائه في فرانكفورت - آن- دير- أودر. Frankfort-an-der-Oder، وتفرغ لفترة لترجمة مسرحيات العصر الإليزابيثي، ثم لتحرير أعمال معاصريه نوفاليز Novalis وكلايست Kleist وكتب عنها كتابات نقدية متألقة.

وسار على خطى ليسنج فشغل طوال سبعة عشر عاما (1825 - 1842) منصب الدراماتورج Dramaturg (المدير والناقد الدرامي) في مسرح دريسدن Dresden وجلبت له مقالاته الصريحة بعض الأعداء لكنها أيضا حققت له الشهرة على مستوى الأمة كناقد أدبي لا يسبقه في هذا المضمار (النقد الأدبي) سوى جوته، وأوجست فون شليجل. وفي سنة 1842 دعاه إلى برلين الملك فريدريك وليم الرابع (الذي لم يكن قد سمع مطلقا بروايته (لفل Lovell) وقبل تلك الدعوة (وكان قد تجاوز لفل منذ زمن) وعاش أعوامه الباقية كأحد عمد الأدب في العاصمة البروسية.

أما نوفاليز Novalis (1772 - 1801) فلم يعش طويلا ليتمكن من التخلص من أفكار شبابه. وقد تمتع بمزايا غير مؤكدة - كأديب - لنبالة مولده، فقد كان أبوه مديرا لإنتاج الملح في سكسونيا، وكان - أي أبوه - ابن عم الأمير كارل فون هارنبرج الوزير البروسي. وكان الاسم الحقيقي لشاعرنا هو فرايهر فريدريش فيليب فون هاردنبرج، لكنه استخدم الاسم نوفاليز كاسم مستعار، لكنه (أي هذا الاسم) كان هو الاسم الفعلي لأحد أجداده في القرن 19. وكانت أسرته تنتمي إلى جماعة هيرنهت Herrnhut التقوية (جماعة دينية بروتستنتية) وكان كأسرته ذا ميول دينية قوية

ص: 182

لكنه عمل أخيرا على التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستنتية كخطوة نحو توحيد أوربا.

والتحق وهو في التاسعة عشرة من عمره بجامعة يينا Jena وكون علاقات صداقة حميمة مع تيك Tick وشيلر وفريدريش فون شليجل وربما حضر بعض محاضرات فيشته التي كان لها تأثيرها في يينا وفيمار. وبعد أن قضى عاما في جامعة فيتمبرج تبع أباه إلى أرنشتادت Arnstadt في ثورينجيا Thuringia. وبالقرب من جروننجن Gruningen التقى بصوفي فون كوهن Sophie Von Kuhn فاهتز لقوامها الجميل وشخصيتها الفاتنة لدرجة أنه طلب يدها من والديها. وفي سنة 1795 كان هو وصوفي قد خطبا رسميا رغم أنها لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمرها. وسرعان ما سقطت مريضة بداء الكبد، فأجريت لها عمليتان أنهكتاها فماتت في سنة 1797، ولم يفق نوفاليز أبدا من هول موت حبيبة قلبه فكانت أشهر قصائده هي ستة ترنيمات (1800) Hymnen an die Nacht كذكرى حزينة لحبيبته صوفي.

وفي سنة 1798 خطب جولي فون كاربنتير لكن الخطبة فشلت فلم ترس السفينة على شاطئ الزواج. وشارك السل (ذات الرئة) الحزن في إنهاك الشاعر فمات في 25 مارس 1801 وهو الثامنة والعشرين. وترك لنا رواية هي (هنريش فون أوفتردنجن Heinrich Von Ofterdingen (1798 - 1800) تقدم لقرائها تعبيرا مكثفا عن التطلع للسلام الديني (التوق الشديد إ ليه، والمقصود التطلع لنهاية الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنتية). وكان قد امتدح في وقت من الأوقات (فيلهلم ميستر Wilhelm Meister) التي ألفها جوته كعمل واقعي يقدم وصفا مفيدا لتطور الإنسان، لكنه عاد الآن يدينها باعتبارها تضفي المثالية على الأعمال الدنيوية.

وكان البطل في روايته كشخصية تاريخية، فهو المؤلف الحقيقي لرواية (Nibelungenlied)، فجالاهاد Galahad كرس نفسه لتتبع وردة زرقاء رمزا لتحول الموت إلى فهم لا حد له (خالد) ولا نهاية. يقول هنريش:"إنها الوردة الزرقاء التي طالما تقت لرؤيتها، إنها دوماً في عقلي ولا أستطيع أن أتخيل سواها ". إننا نجد هنا، كما نجد في مقاله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (الدولة المسيحية في أوربا) دفاعا عن العصور الوسطى كعصر مثالي (بل إنه دافع عن محاكم التفتيش) شهدت فيها أوربا

ص: 183

وحدة سياسية ووحدة في عقيدتها الدينية، وكان من رأيه أن الكنيسة على حق في مقاومتها للعلم المادي والفلسفة العلمانية (غير الدينية). ومن هذا المنظور يمكننا القول إن التنوير كان يتراجع حزينا. ولما كان الموت يدعوه إليه راح نوفاليزي يرفض كل الأهداف الدنيوية والمباهج الأرضية وراح يحكم بحياة أخرى (في العالم الآخر) لا مرض فيها ولا نصب ولا حزن، بل لا نهاية له.

‌6 - الأخوان شليجل

THE BROTHERS SCHLEGEL

كان الأخوان أوجست (أوغسطس) فيلهلم فون شليجل (1767 - 1845)، وفريدريش فون شليجل (1772 - 1829)، أخوين جديرين بالتأمل: إنهما مختلفان في الطباع والعشق والدراسات والعقائد، لكن يجمعهما في النهاية السنسكريتية والفيلولوجيا philology (فقه اللغة). ولدا في هانوفر لقس بروتستنتي، وأصبحا لاهوتيين عندما بلغا الحلم ومهرطقين (شاكين في المسيحية) عندما بلغ الواحد منهم العشرين. واستمتع أوجست فيلهلم في جوتينجن Gottingen بدراسة انتقال الكلمات من خلال محاضرات كريستيان هين Heyne ذي الشخصية الجذابة الذي ترجم أعمال فرجيل Virgil كما استمتع بدراسة التراث الفكري في العصر الإليزابيثي من خلال المحاضرات التي كان يلقيها جوتفرايد بيرجر Gottfried Burger مترجم أعمال شكسبير ومؤلف أغنية لينور Lenore. واستقبلت الجامعة نفسها فريدريش فون شليجل بعد استقبالها لأخيه بخمس سنوات، وبدأ كدارس للقانون كما راح يتنقل بين دراسة الأدب والفن والفلسفة، ونضج سريعا فلحق بأخيه في يينا Jena في سنة 1796 وشاركه تأسيس الأثيناوم Athenaum التي أصبحت طوال عامين (1798 - 1800) متحدثا باسم الحركة الرومانسية الألمانية ومرشدا لها. وساهم نوفاليز وشلايرماخر Schleiermacher بالكتابة فيها، وأتى تيك Tieck وأضاف فيشته وشيلنج فلسفتيهما، وكان يأتلف إلى هذه الدائرة الحية بعض النسوة الموهوبات، والمتحررات على نحو رومانسي.

وكان فريدريش فون شليجل هو ضابط السرعة الفكرية - إن صح هذا التعبير - لهذه المجموعة، ويكفي لهذا أنه كان أسرعهم في اعتناق الأفكار وأسرعهم أيضا في التخلي عنها.

ص: 184

وفي سنة 1799 أصدر رواية (لوسينده Lucinde) وهي التي أصبحت علماً أحمر يقود الهجوم ضد المعتقدات القديمة والمحرمات taboos المزعجة. وكان هذا الهجوم نظرياً دفاعا عن حق الشعر كمفسر للحياة ومرشد لها. "فالصناعة والاتجاه النفعي هما ملائكة الموت، فلم هذا الاندفاع المستمر والعمل الدائب بلا راحة ولا استرخاء؟ " ويعلن بطل الرواية أيضا: "إن إنجيلنا هو إنجيل المرح والحب" وهو يعني مرح الحب وبهجته دون زواج. وعندما حاول فريدريش زيارة أخيه الذي كان في ذلك الوقت معلما في جوتنجن (1800) أرسلت السلطات في هانوفر أمرا حاسما لرئيس الجامعة: "إذا أتى فريدريش شليجل وهو أخو أستاذ عندكم، إلى جوتنجن بغرض الإقامة لأي فترة فلن يسمح له بذلك، وسيكون أمراً طيبا إذا طلبتم منه مغادرة المدينة، ذلك لأن كتاباته تنحو نحواً غير أخلاقي".

والمرأة التي ألهمت شليجل في روايته (لوسينده) هي كارولين ميشاليز (ميكاليز Michaelis) ولدت كارولين في سنة 1763 وتزوجت أستاذا جامعيا (1784) ولم تكن سعيدة معه، فتحررت عندما مات، وراحت لعدة سنوات تمرح مستمتعة بمباهج الحياة كأرملة جميلة ومفكرة. وقد أحبها أوجست فون شليجل عندما كان طالبا في جوتنجن، واقترح عليها الزواج فرفضت لأنه أصغر منها بأربع سنوات.

وعندما غادر ليدرس في أمستردام (1791) راحت تدخل في سلسلة من المغامرات الجنسية ففوجئت بأنها حامل وانضمت إلى مجموعة ثورية في مينز وقبض عليها، وعمل والداها على إطلاق سراحها فذهبت إلى ليبزج لتضع حملها، وهنا ظهر أوجست فون شليجل وعرض عليها الزواج مجددا فقبلت فتزوجها (1791) وتبنى طفلها، واتجهوا جميعا (الزواج والزوجة وابنها) إلى يينا Jena.

ويينا أصبحت المضيفة الأثيرة لليبراليين لتعلمها وحيويتها ومناقشاتها الذكية وقال عنها فيلهلم فون همبولدت Von Humboldt إنها أكثر من عرف من النساء مهارة ونشاطا. وأتى جوته وهيردر Herder من فيمار ليجلسوا إلى مائدتها ويسعدوا بصحبتها. ووقع فريدريش فون شليجل الذي كان يقيم مع أخيه في هذا الوقت - وقع هو الآخر في حبها، فجعل منها (لوسينده) في روايته وراح ينشد لها أناشيد الحب ويرفع من شأنها حتى ضاقت الكلمات عن عاطفته.

وفي هذه الأثناء ذهب أوجست شليجل الذي

ص: 185

كانت عاطفته إزاءها قد بردت - ليحاضر في برلين (1801) حيث كون علاقة مع صوفي برنهاردي Sophie Bernhardi التي طلقت زوجها لتعيش مع حبيبها الجديد. وعندما عاد أوجست شليجل إلى يينا وجد كارولين مفتونة بشيلنج (1804) وعاشت معه حتى ماتت (1809)، ورغم أن شيلنج تزوج بعد موتها إلا أنه ظل يذكرها لأعوام عديدة حتى لو لم تكن لي ما كانت (زوجة) فلابد أن أنعى الجنس البشري لفقدها فقد كانت أنموذجا للكمال العقلي لم يعد موجودا. إنها امرأة نادرة ذات روح قوي وعقل حاد اجتمعا معا في جسد أنثى فاتنة تضم قلبا عاشقا.

وكانت دوروثيا فون شليجل (1763 - 1839) مثل سابقتها ذات أهمية وتأثير في حياة هذه المجموعة. كان اسمها قبل الزواج برندل مندلسون (مندلسهوهن). ورغبة منها في إسعاد والدها المشهور تزوجت في ستة 1783 من البنكي (المالي) سيمون فايت Veit وأنجبت له ابنا (فيليب فايت) الذي أصبح رساما شهيرا في الجيل التالي. وكان مالها وفيرا فزهدت فيه لكثرته وراحت تغامر في مجال الفلسفة، ذلك المجال الذي كان لا يزال غير أكيد (كانت المباراة فيه غير مضمونة النتائج) وأصبحت نجما بارزا في مجال الفكر في صالون راشيل فارنهاجن Rachel Varnhagen في برلين،

وهناك التقى بها فريدريش فون شليجل ووقع في حبها مباشرة أما هي فكانت مفتونة بأفكاره ووجدته يسبح فيها (بأفكاره) ففتنت به، وكان وقتها في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثانية والثلاثين، لكن المؤلف كان مفتونا بأمور جذابة كثيرة في هذه الأنثى ذات الثلاثين ربيعا femme de trente ans. لم يكن جمالها صارخا لكنها قدرت مواهبه العقلية وكانت تستطيع أن تصاحبه، متفهمة اكتشافاته الفلسفية والفيلولوجية (في علم فقه اللغة)، وأحس زوجها أنه فقدها فطلقها (1798) وصحبته (فريدريش) إلى باريس وقبلت المعمودية (أي تحولت للمسيحية وتركت ديانتها اليهودية) وتسمت باسم دورثيا، وأصبحت زوجة رسمية لفريدريش في سنة 1804.

نعود إلى أوجست شليجل، فقد أصبح في هذا الوقت أشهر محاضر في أوربا، وأدت ترجمته لأعمال شكسبير إلى إحرازه مكانة عالية وأصبح شكسبير (هذا الإليزابيثي العظيم) يكاد يكون ذا شعبية في ألمانيا كشعبية في إنجلترا. ورغم أن أوجست شليجل

ص: 186

يُدعى "مؤسس المدرسة الرومانسية في ألمانيا" إلا أنه كانت فيه كثير من صفات العقل الكلاسيكي: النظام والوضوح والتناسب والاعتدال، والتقدم الثابت الوئيد للوصول إلى هدف محدد. وقد تجلت هذه الصفات بشكل أقوى في محاضراته عن الأدب الدرامي التي ألقاها في مدن مختلفة وأعوام مختلفة، وكذلك محاضراته عن شكسبير العامرة بالتعليقات والملاحظات التنويرية، والتي كان ينقذ فيها بشجاعة في بعض الأحيان - شاعره المحبوب (شكسبير). لقد كتب وليم وهازلت W. Hazlitt في سنة 1817:

"لقد قدم إلى حد بعيد أحسن عرض ظهر لمسرحيات شكسبير .... إننا نعترف - مع قليل من الغيرة - .. أننا يجب أن نذكر لناقد غير إنجليزي تقديمه للمبررات التي تؤكد نظرتنا نحن الإنجليز إلى شكسبير".

وعندما كانت مدام دي ستيل تطوف ألمانيا بحثا عن مادة لكتابها حثت أوجست شليجل (1804) على أن يذهب معها إلى كوبت Coppet ليدرِّس لأبنائها وليعاونها في إعداد موسوعتها مقابل 12000 فرنك في السنة، فسافر معها أخيرا إلى إيطاليا وفرنسا والنمسا وعاد معها إلى كوبت وظل معها هناك حتى سنة 1811 عندما رضخت السلطات السويسرية لأوامر نابليون فأمرته بمغادرة سويسرا، فذهب إلى فيينا واعترته الدهشة إذ وجد أخاه يحاضر فيها مدافعا عن العصور الوسطى باعتبارها العصر الذهبي الذي شهد وحدة أوربا سياسة وعقيدة.

لقد كانت فيينا هي العاصمة الكاثوليكية لألمانيا وكان فريدريش ودوروثيا قد تحولا للكاثوليكية في سنة 1808. وكانت دوروثيا قد قالت منذ أعوام خلت: "إن صور القديسين والموسيقى الكاثوليكية تهز مشاعري فقررت أنني لو تحولت للمسيحية فسأصبح كاثوليكية" أما فريدريش فون شليجل فعزا تحوله إلى الكاثوليكية إلى ميله للفن a predilection d'artiste وعلى أية حال، فإن الكاثوليكية من نواح كثيرة - باعتبارها مثيرة للخيال والمشاعر والجمال - تبدو ملائمة للمشاعر الرومانسية.

لقد ضجر الرجل العقلاني من العقل بعد أن تأثر بالأسرار الدينية (الكاثوليكية)، وأحس بهوان الإنسان أمام الموت. لقد لجأ هذا الفَرْدِي individualist - بعد أن وجد نفسه

ص: 187

وحيدا غير آمن مع نفسه - إلى الكنيسة يرتمي في أحضانها لتكون له بيتا مريحا. لقد تخلى فريدريش شليجل أمهر أنصار الاتجاه العقلي وأكثر الشباب تحمسا للفردية (الاتجاه الفردي) ودعوة إليه، وأكثر الثوار تطرفا - تخلى الآن عن كل هذا موليا ظهره لفولتير، وموليا ظهره للوثر وكالفن ليرتمي في أحضان أوربا في العصور الوسطى يأخذ عنها ويستلهم منها ويتحرق شوقا لكنيستها القابضة على زمام كل الأمور. لقد حزن للتخلي عن الميثولوجيا الملهمة (الحكايات الأسطورية) وإحلال العلم البائس محلها وأعلن أوضح عجز وأكبر نقص تعانيه كل الفنون الحديثة تتمثل في الحقيقة التي مؤداها أن الفنانين لم يعد أمامهم ميثولوجبا يستلهمون منها.

وربما كانت أبحاثه في آداب الهند القديمة وميثولوجيتها قد عمقت احترامه للميثولوجيا. وكان قد بدأ في باريس سنة 1802 هذه الدراسات التي بلغت ذروتها، ووضعت أساسا لتطور هذا النوع من الدراسات فيما بعد تجلت في كتابه (لغة الهند وحكمتها Uber die Sprache und Weisheit der Inder) الذي ساهم في تأسيس علم فقه اللغة المقارن في نطاق اللغات الهندو أوربية. وناقش فريدريش هذا الجانب من حياته مع أخيه الذي انضم إليه لفترة في فيينا في سنة 1811، واستحضر أوجست في ذهنه عمله مع كريستيان هاين Heyne في مجال فقه اللغة (الفيلولوجيا)، فواصل عمله في هذا المجال وانضم إلى أخيه في دراسة اللغة السنسكريتية، فأثمر هذا الاشتراك أفضل النتائج التي تمخضت عنه حياتهما، وأرسخها وأكثرها دواما.

لقد حقق فريدريش لنفسه مكانة في الحياة الثقافية والسياسية في فيينا، ووصل إلى منصب أمانة السر في الحكومة النمساوية، وساعد في كتابة هجوم عنيف على نابليون أصدره الأرشدوق كارل لودفيج كجزء من معركة سنة 1809، وفي سنة 1810 وسنة 1812 ألقى في فيينا محاضرات شهيرة متميزة في التاريخ الأوربي والأدب في أوربا، وفي هذه المحاضرات عرض نظرياته في النقد الأدبي وقدم تحليلا كلاسيكيا للرومانسية.

وفي سنة 1820 أصبح محرراً لصحيفة الجناح اليميني الكاثوليكية وهي صحيفة كونكورديا Concordia وراح في هذه الصحيفة يهاجم الأفكار والمعتقدات التي طالما كان قد دافع عنها بحماس في أثناء الأيام التي قضاها في يينا Jena مما

ص: 188

أدى إلى فرقة بلا عودة بينه وبين أخيه. وكانت آخر محاضراته في دريسدن في سنة 1828 ومات في العام التالي، واحتفظت دوروثيا بذكراه واحتفت بها وظلت مخلصة لأفكاره وأعماله حتى ماتت في سنة 1839.

وعاش أوجست فون شليجل بعدها. وفي سنة 1812 انضم إلى مدام دي ستيل مرة أخرى، وأرشدها خلال ترحالها في النمسا وروسيا إلى سان بطرسبرج، وذهب معها إلى ستوكهولم، حيث تم تعيينه - بوساطة من مدام دي ستيل - سكرتيرا لبيرنادوت Bernadotte ولي عهد السويد، وصحبه في معركة 1813 ضد نابليون.

ومنحته الحكومة السويدية رتبة النبالة لخدماته. وفي سنة 1814 انضم مرة أخرى إلى مدام دي ستيل في كوبت Coppet وظل معها حتى ماتت. وعند هذا الحد يكون قد أنجز ما وعدها به، فقبل منصب أستاذ الأدب في جامعة بون (1818) فواصل دراساته للسنسكريتية وأنشأ مطبعة سنسكريتية ونشر - وحرر - نص الباجافاد جينتا Bhagavad-Gita والرامايانا Ramayana، وظل طوال عشر سنوات يعمل في مكتبة الأدب الهندي Indische Bibliothek، ومات في سنة 1845 وهو في الثامنة والأربعين بعد أن ترك لنا كنوزا: نقل التراث الشكسبيري إلى ألمانيا، وقد بذل في هذا العمل جهدا مضنيا، وقدم لنا - من خلال محاضراته - حصاد ذكريات كولردج وأفكاره ليلتقط منها للفلسفة الألمانية. لقد كانت حياته (أوجست فون شليجل) حياة مثمرة.

ص: 189

الفصل الثاني والثلاثون

‌الفلسفة الألمانية:

من 1789 إلى 1815 م

تَنَاوُلنا للفلسفة المثالية التي قال بها كانط Kant ومن أتى بعده من تلاميذه، يعوقه أن كلمة مثالي ideal في التفكير الدارج أصبحت تعني التميز الخلقي، كما يعوقه أيضا أننا اعتدنا - في عصر العلم والصناعة - أن نفكر في الأشياء التي ندركها وقلما نفكر في عملية الإدراك نفسها. وهناك اتجاهان متنافسان في الفلسفة اليونانية حيث وجدنا ديموقريطس Democritus يبدأ بالجزء أو الذرة (أو الفرد المكون للكل أو العنصر المكون لما هو شامل) بينما بدأ أفلاطون بالأفكار. وفي الفلسفة الحديثة ركز بيكون Bacon على معرفة الكون، وبدأ ديكارت بالتفكير نفسه.

ووجدنا هوبز Hobbes يلخص كل شيء في المادة، أما بيركيلي Berkeley فكل شيء عنده عقل أو نفس. وقد أعطى كانط الفلسفة الألمانية خصوصيتها بتدليله على أن مهمة الفلسفة الأساسية هي دراسة العمليات التي نكون بها الأفكار.

لقد أقر بوجود الحقيقة الخارجية (الكائنة خارج العقل أو النفس) لكنه أصر على أننا لا نستطيع أبداً أن نعرفها بشكل موضوعي ما دمنا لا نستطيع معرفتها إلا كمتغيرات بواسطة أعضاء وعمليات الإدراك الموجودة في أفكارنا. وعلى هذا فالمثالية idealism الفلسفية هي النظرية القائلة بأننا لا نعرف شيئا سوى الأفكار، وعلى هذا فالمادة matter هي شكل من أشكال العقل is a form of mind .

ص: 191

‌1 - فيشته

FICHTE: من 1762 - 1814 م

1/ 1 - الراديكالي The Radical

نجد هنا - كما وجدنا غالباً عند تناولنا للتاريخ الأدبي - أن دراسة الرجل (المؤلف أو المفكر) أكثر تشويقا من دراسة مؤلفاته. فدراسة المؤلفات تجعلنا نحس بالتآكل الذي يسببه فيضان أنماط مختلفة في الأفكار والصيغ لكن دراسة نفس تشق طريقها خلال متاهات الحياة تعد درساً حيا في الفلسفة، وصورة متحركة نابضة بالخبرات التي تصوغ الشخصية وتحول الأفكار.

لقد عاش يوهان جوتليب فيشته Johann Gottlieb Fichte اثنين وخمسين عاما كانت غاصة بتجارب مختلفة. لقد كانت أمه تدعو الله أن يكون ابنها قسا (راعي أبرشية) فوافق وبعد أن قضى فترة في بعض المدارس المحلية، تم إرساله إلى يينا لدراسة اللاهوت (أصول العقيدة)، لكنه كان كلما تعمق في دراسة اللاهوت المسيحي زاد عجبا وشكا. وأعطاه واعظ القرية تفنيدا لأخطاء سبينوزا Refutation of the errors of Spinoza لكن فيشته أعجب بأخطاء سبينوزا وغض الطرف عن تفنيدها واتخذ قرارا وهو أنه لن يصلح أن يكون قسا. ومع هذا فقد تخرج في كلية اللاهوت. وكان مفلساً معظم الوقت، فسار على قدميه من يينا Jena إلى زيورخ ليبحث عن عمل له كمعلم خصوصي، وهناك أحب جوهانا (يوهانا) ماريا راهن Rahn وتقدم لخطبتها رسميا، لكنهما اتفقا على تأجيل الزواج حتى يستقر ماليا.

وانتقل إلى ليبزج وقام بالتدريس لبعض الطلبة، وقرأ كتاب كانط (نقد العقل الخالص) وافتتن به. وأخذ طريقة إلى كونيجسبرج Konigsberg وقدم لكانط كتابه:"مقال نحو نقد كل وحي" vesush einer kritik aller Offenbarung (1792) ، وطلب قرضاً من كانط فلم يعطه لكنه ساعده في الوصول إلى ناشر لنشر عمله. وأهمل الناشر ذكر اسم المؤلف على الكتاب وعندما ذكر النقاد أن الكتاب من تأليف كانط، صرح كانط باسم المؤلف وامتدح الكتاب وهكذا أصبح فيشته عضوا في جماعة المفكرين الجليلة ولم يستقبله أللاهوتيون بحفاوة كما استقبله المفكرون لأن الحجج التي ساقها في مبحثه

ص: 192

السابق ذكره مؤداها أنه رغم أن الوحي لا يقدم دليلاً على وجود الله،

فلابد أن نعزو نظامنا الأخلاقي لله، إن أردنا أن يكون هذا النظام مقبولا ومطاعا من الجنس البشري وبناء على توصية كانط وجد فيشته وظيفة كمعلم ومرشد في دانزج، وكانت وظيفة ذات عائد مجز، ووافقت خطيبته الآن على أن تضم مدخراتها لما يأتيه من دخل، وتزوجا في سنة 1793، ونشر في العام نفسه أيضا مقالين قويين دون أن يقرنهما باسمه. وفي مقال (ملوك أوربا وأمراؤها يعيدون حرية الفكر) بدأه بامتداح بعض الحكام المتنورين وتوجيه اللوم للملوك والأمراء الذين يعوقون تقدم العقل البشري، وحزن لموجة القمع التي أعقبت وفاة فريدريك الكبير. إن الإصلاح reform أفضل من الثورة revolution لأن الثورة قد تقذف بالإنسان إلى الخلف وترده إلى البربرية، ومع هذا فالثورة الناجحة قد تحقق تقدما للبشرية في نصف قرن ما يحققه الإصلاح في ألف عام. ثم خاطب فيشته قراءه في زمن كان الإقطاع فيه لا يزال راسخا في معظم أنحاء ألمانيا:

"لا تكرهوا حكامكم بل اكرهوا أنفسكم. إن أحد مصادر بؤسكم هو تقديركم المفرط لهؤلاء الأشخاص (الحكام) الذين ضلت عقولهم لنقص التعليم والانغماس في اللذات والخرافة

هؤلاء هم الذين يبذلون كل جهدهم لقمع حرية الفكر

اصرخوا في وجوههم قائلين لهم إنكم لن تسمحوا لأحد أن يسلبكم حرية فكركم

لقد انتهت عصور الظلمة .. عندما يقولون لكم باسم الرب إنكم قطيع من المواشي خلق ليستغل وليخدم حفنة من الأشخاص الفانين (أي أنهم بشر مثلكم) بوئوا مكاناً عليا ليمتلكوكم وتصبحوا ملكاً لهم .. لا .. إنكم لستم ملكاً لهم، ولا حتى أنتم ملك للرب، إنكم ملك أنفسكم .. ستسألون الآن الأمير (أو الملك) الذي يريد أن يحكمكم. بأي حق ستحكمنا؟ فإن قال بحق الوراثة، فلتسألوه: وكيف حصل جدك الأول (مؤسس الأسرة الحاكمة) على هذا الحق؟ .. إن الحاكم يستمد كل سلطانه من الشعب".

أما مقاله الثاني فهو عن تصحيح الأحكام العامة عن الثورة الفرنسية فهو الأكثر راديكالية. فالمزايا الإقطاعية لا يجب أن تكون متوارثة، وإنما هي وجدت برضا الدولة ولابد من إلغائها بما يتفق مع مصلحة الدولة. والأمر نفسه بالنسبة إلى الممتلكات الكنسية. لقد تم إقرارهم بموافقة

ص: 193

الدولة وتحت حمايتها، ويمكن تأميمها على وفق حاجة الأمة وإرادتها. وهذا ما فعلته الجمعية الوطنية الفرنسية، وهي على حق.

لقد نشر هذان المقالان غفلاً من الاسم، ولو كان معروفا أن فيشته هو مؤلفهما ما دعي في ديسمبر 1793 ليشغل كرسي الفلسفة في يينا Jena. وكان الدوق تشارلز أوغسطس Charles Augustus لا يزال هو لورد فيمار ويينا. الهادئ، وكان جوته الذي يشرف على هيئة التدريس في الجامعة لم يقرر بعد أن الثورة الفرنسية كانت سقما (مرضا) رومانسيا.

وعلى هذا فقد بدأ فيشته محاضراته في يينا Jana في الفصل الدراسي الذي يبدأ بعد عيد الفصح في سنة 1794. لقد كان مدرسا مقنعا وخطيبا مفوها يمكنه أن يمزج المشاعر بالفلسفة ويمكنه أن يجعل الميتافيزيقا فوق كل شيء لكن اندفاعه كان مؤثرا في مهنته كأستاذ، وكان ينذر بتمرد واضطراب وتم نشر خمس من محاضراته الأولى في سنة 1794 بعنوان (بعض المحاضرات عن مهمة العالم) طرح فيها فكرة أن الدولة ستختفي في وقت مناسب في المستقبل، لتترك الناس أحراراً حقا، وكانت هذه الفكرة تكاد تكون دعوة للفوضوية anarchistic (اللاحكومة) وتشابه ما دعا إليه جودوين Godwin في كتابه الذي نشره قبل ذلك بعام (بحث في العدالة السياسية Enquiry Concerning Political Justice) :

" المجتمع السياسي ليس جزءا من الأهداف الخالصة للحياة البشرية وإنما هو - فقط - الوسائل الممكنة لتكوين مجتمع كامل. والدولة تميل بشكل مستمر إلى إلغاء دورها، إذا كان الهدف النهائي لكل حكم أن يجعل من نفسه زيادة غير ضرورية. قد يكون علينا أن ننتظر دهورا طويلة لكن سيأتي يوم تصبح فيه كل التشكيلات السياسية غير ضرورية ".

وأضاف فيشته لهذه النظرة العامة التي جعلها سائغة للملوك والحكام بتوقعه ألا تحدث إلا بعد فترة طويلة، فكرة أخرى Pisgah View:" إن الهدف النهائي للمجتمع هو المساواة الكاملة بين كل أفراده"، وكان في قوله هذا صدىً لأفكار جان جاك روسو، ولم ينكر فيشته ذلك:"ليحل السلام على رفات روسو ولتتبارك ذكراه لأنه أيقظ أرواحنا". ورحب الثوار الرومانسيون الذين كان عليهم أن يجتمعوا في يينا في سنة 1796 بهذه الأفكار الداعية إلى يوتوبيا (مدينة مثالية)، فكتب فريدريش فون شليجل إلى أخيه:

إن أعظم المتيافيزيقيين

ص: 194

موجود الآن على قيد الحياة. إنه كاتب ذو شعبية. يمكنك أن تراه في كتابه الشهير عن الثورة

إن كل لمحة من لمحات حياة فيشته العامة تبدو وكأنها تقول: هذا رجل.

1/ 2 - الفيلسوف

ترى ما هي هذه الميتافيزيقا التي جذبت الرومانسي كل هذا الجذب؟ لقد كان محورها هو أن الفرد والأنا الواعية بذاتها - تلك الأنا التي جوهرها الإرادة الحرة - هي ذروة كل حقيقة reality . ولا شيء يبهج الرومانسي أكثر من هذا لكن الأمر لم يكن (لوسينده Lucinde) كما عرضها فريدريش فون شليجل، بل إن فيشته نفسه بعد أن نشر كتابه (تأسيس علم شامل للمعرفة، 1794) وجد من الضروري أن يوضح أفكاره، فأصدر في سنة 1797 (مقدمة ثانية) وبتقديم جديد، وقد أضاف كلا العملين سخافات جديدة (أمورا منافية للعقل). لقد كانت الكلمة الشارحة أو الكلمة المفتاح في حد ذاتها تحتاج إلى شرح. لقد استخدم كلمة Wissenschaftslehre التي تعنى عمود المعرفة Shaft أو عصبها أو جزءها المركزي Trunk، أو لنستخدم كلمة مانعة جامعة - نظرية المعرفة.

وبدأ فيشته بتقسيم الفلاسفة إلى قسمين: "الدوجماتيين" dogmatists (أصحاب النظريات الذين يؤكدون نظرياتهم أو أفكارهم ويرفضون بحسم كل نظرية غيرها) أو القائلون بالوجود الحقيقي للمادة خارج العقل realists (إنهم مقتنعون بأن الأشياء موجودة بشكل مستقل خارج العقل (أو النفس)، و"المثاليون" idealists الذين يعتقدون أن كل التجارب وكل الحقائق facts هي مفاهيم عقلية، وعلى هذا فهي كل الحقيقة فكل ما يمكننا معرفته جزء من العقل المدرك. لقد اعترض فيشته على القائلين بالوجود المنفصل للمادة (الوجود المستقل لها) realists على أساس أن مقالتهم تفضي منطقيا إلى أن الجبرية التلقائية التي تجعل (الوعي) أمراً زائدا أو غير ضروري مما يقوض دعائم المسئولية (البشرية) والأخلاق، بينما حرية الإرادة (حرية الاختيار) من بين أكثر الأمور التي نتمسك بها. لقد رفض فيشته ما هو أكثر إذ ذهب إلى أن أي فلسفة تبدأ بالمادة لا يمكنها أن تشرح الوعي الذي هو غير مادي. لكن قضايا الفلسفة الأساسية تهتم بهذه الحقيقة الغامضة التي نسميها

ص: 195

الوعي. وهكذا بدأ فيشته بالوعي نفسه - الأنا (The Ego أو Ich أو I) . لقد تعرف العالم الخارج عن الأنا، لكن كان تعرفه من خلال ما نعرفه (نحن) عنه عن طريق إدراكنا الحسي.

هذا - من خلال عمليات إعداد عقلية - يحول الأشياء إلى جزء من العقل (إنه تفسير الحواس من خلال الذاكرة أو الغرض (أو الهوى أو الهدف Purpose)

" وعلى هذا فالكلمة بمعناها الصحيح (الموضوعي) تختلف تماما عن الكلمة كما تفسرها الخبرة والسياق والغرض. وعلى هذا فالعاصفة (مثلا) التي هي من الناحية الحسية مجرد فوضى لا معنى لها تراها (وتحس بها) حواس مختلفة تصبح في الإدراك - من خلال الذاكرة والظروف والرغبة - مثيرة لفعل عامر بالمعاني"

وانتهى فيشته إلى أننا يجب أن نفترض أن (الأشياء خارج الذات) أو (اللا أنا non - Ego) هي سبب لإحساسنا بما هو خارج الذات، لكن هذه الأشياء الواقعة خارج الذات لا تفسرها إلا الحواس والذاكرة والإرادة، وبالتالي فهي من مكونات العقل.

وانطلاقا من وجهة النظر هذه فإن (الموضوع) والمادة Object هي جزء من الأنا، ولا يمكن أن نعرف أي شيء خارج الأنا Ego. تلك هي فلسفة فيشته إلا جانبا واحدا. فوراء النفس المدركة هناك النفس الراغبة (ذات الرغبة) والمريدة (ذات الإرادة) فالأنا (الإيجو Ego) هي نظام للدوافع أو البواعث أو المثيرات فكل النظام الذي تتشكل منه أفكارنا يعتمد على دوافعنا وإرادتنا (هنا نجد فيشته يتفق مع سبينوزا Spinoza في قوله إن الرغبة هي الجوهر الصميم للإنسان) كما أن أفكاره هذه تفضي إلى فكرة شوبنهاور Schopenhauer عن (الكون كإرادة will وفكرة idea) .

والإرادة الطائشة ليست جزءا من الكون (العالم) الموضوعي الذي يبدو خاضعا (أو عبدا) لجبرية تلقائية. من هنا فالإرادة حرة. فالحرية هي جوهر الإنسان لأنها تجعله كائنا مسئولا أخلاقيا، قادرا على الالتزام - بشكل حر - بالقانون الأخلاقي. وكلما مضت الأيام بفيشته طوّر إعجاب كانط بالنظام الفلكي والأخلاقي في لاهوت جديد يفترض قانونا أخلاقيا يحكم الكون ويدعمه كما يحكم شخصية الإنسان ومجتمعاته ويحميهما.

وأخيرا فقد جعل النظام الأخلاقي للكون (بالمعنى السابق) بمعنى قيام كل

ص: 196

جزء فيه بخدمة الكل من خلال أدائه لما هو منوط به - جعله هو نفسه الله. فهدف الإنسان الحر وواجبه هو أن يعيش في تناسق harmony (هارمونية) مع هذا النظام الأخلاقي المقدس. وعلى هذا فالنظام الأخلاقي الكوني ليس مجرد (شخص) وإنما هو (عملية) ويظهر أي هذا النظام بشكل أساس في التطور الأخلاقي للبشرية. فمهمة الإنسان هي أن يعيش متناسقا (في هارمونية) مع النظام المقدس (بالمعنى السابق). كل هذا يذكرنا مرة أخرى باسبينوزا لكننا نجد فيشته أيضا في سياق آخر متأثرا بهيجل:

"فالنفس الفردية أو الروح الفردية فانية ومع هذا فهي تسهم في خلود هذا (الكل) من النفوس الواعية التي هي الأنا Ego الخالصة أو الفكرة أو الروح".

إننا عند تناولنا لفلسفة فيشته نحس بقلق إنسان يتلمس طريقه بعد أن فقد إيمانه الديني المتوارث لكنه يناضل كي يجد لنفسه وقرائه أو تلاميذه طريقا وسطاً بين الإيمان والشك. وفي سنة 1798 واجه المشكلة (القضية) مرة أخرى في مبحثه (على أساس معتقدنا في الحكم المقدس للكون العالم). لقد أعاد مفهومه لله سبحانه رافضا أن يكون الله شخصا (مشخصا) وإنما هو النظام الأخلاقي غير المشخص للكون، لكنه (أي فيشته) سمح بأن يعزى إلى هذا النظام شيء من (الشخصية) أو (التشخيص)(أي جعله مشخصا على نحو قليل) لإضفاء الحيوية.

وعلى أية حال فقد أضاف أننا لو تصورنا الله كطاغية اعتمادا على ما سيقدمه لنا من مسرات ومباهج في المستقبل، فمعنى هذا أننا نعبد وثنا، والذين يعبدون إلها على هذا النحو حري بنا أن نسميهم وثنيين.

وظهر مقال لم يذكر اسم مؤلفه يصف مبحث فيشته السابق بأنه مناهض للدين (المفهوم طبعا المسيحية بمعناها التقليدي) وشارك آخرون في الهجوم، فصادرت حكومة سكسونيا Saxony كل النسخ المتاحة من مبحث (مقال) فيشته، وقبلت شكوى مؤداها أن حكومة فيمار تسمح للإلحاد (المقصود هنا الخروج عن العقيدة المسيحية التقليدية) بأن يصبح موضعا للدرس في مناطقها. وحاولت اللجنة التعليمية في فيمار تهدئة الأمر برد مهذب على السكسونيين، لكن فيشته لم يكن مسالما فأصدر نشرتين (كتيبين) للدفاع عن كتابه (1799) أمام العامة، كانت نشرة منهما تحوي ردا مباشرا (نداء للجماهير)، فاعتبرتها لجنة

ص: 197

فيمار التعليمية تحديا لطريقتها في معالجة الأمر ووصلته شائعة مفادها أن اللجنة ستطلب من مجلس الجامعة توجيه اللوم له علنا.

وساق فيشته الأدلة على أن هذا الإجراء سيسيء للحرية الأكاديمية وكتب إلى عضو المجلس الملكي في فيمار مهددا بالاستقالة إذا أصدرت الجامعة هذا اللوم وأضاف أن أساتذة آخرين وافقوا على تقديم استقالتهم تضامنا معه فأصدرت اللجنة التعليمة في فيمار (بموافقة جوته وشيلر) بلاغاً لمجلس الجامعة يرغبها في توجيه اللوم له وقبلت الجامعة تهديد فيشته وتحديه ففصلته، وقدم الطلبة ملتمسين لإعادة أستاذهم، فتجاهلتهما الجامعة.

وفي يوليو 1799 انتقل فيشته وزوجته إلى برلين حيث تلقاه بحرارة فريدريش فون شليجل، وشلايرماخر Schleiermacher وآخرون من جماعة الرومانسيين الذين أحسوا المذاق الرومانسي في خيال فيشته وقوة الأنا البطولية heroic Ego-ism في فلسفته. وكي يوفر فيشته أجرة الإقامة في منزل مستقل قبل رغم معارضة زوجته دعوة شليجل Schlegel العيش معه ومع برندل مندلسون فايت Brendel Mendelssohn Veit. لقد كان الفيلسوف المرح (فيشته) يحب العيش مع الناس واقترح أن يكثر من عدد المجموعة. لقد كتب يقول لو نجحت خطتي فإن آل شليجل وآل شيلنج Schelling ونحن سنكون أسرة واحدة كبيرة لنقطن في بيت أوسع وليكون عندنا طباخ واحد لكن الخطة لم توضع موضع التنفيذ لأن كارولين فون شليجل لم تنسجم مع برندل. إن الفردية هي الحية التي تتربص بفردوس العيش المشترك.

وعلى أية حال فقد ظل فيشته حتى النهاية وفيه مسحة اشتراكية، فقد نشر في سنة 1800 مقالاً بعنوان (دولة التجارة المقفلة) ذكر فيه أن التجارة الخارجية وتداول النقد يمكنان الأمم الأغنى من استنزاف للأمم الأفقر، وعلى هذا فلابد أن تسيطر الحكومة على التجارة الخارجية كلها وأن تمتلك كل سبيكة صالحة للتداول. فالدولة إن تسلحت بهذه السلطة أمكنها أن تضمن لكل فرد أجراً يكفي معيشته ونصيبا مساويا في دخل البلاد، وفي مقابل هذا حق على كل فرد أن يسلم بحق الدولة في تحديد الأسعار وحقها في تحديد مكان عمله وطبيعته.

ومن الغريب أن يتزامن مع دعوته هذه إصداره لمبحث ديني هو (مهمة الإنسان،

ص: 198

1800) الذي يصف فيه الله باعتباره نظاما أخلاقيا للكون، ويلجأ إليه (إلى الله بهذا المعنى) بنشوة وحب وتعبد:

عقيدتنا

عقيدتنا في الواجب هي - فحسب - إيماننا به (بالله in Him) وبحكمته His reason وبحقيقته His truth

فالإرادة الأبدية الخالدة هي خالقة الكون على نحو أكيد .. ونحن أيضا خالدون لأنه (الله He) هو الخالد.

الإرادة السامية الحية معروفة بغير اسم، لا يحيط بها فكر .. إن الأطفال يعرفونها كأفضل ما يكون وتعرفها النفوس البسيطة المؤمنة

إنني أخفي وجهي أمامك Thee (يا ألله) وأضع يدي على فمي (لا أجرؤ على الكلام) .. كيف أنت Thou وكيف تنظر لوجودي .. لا أستطيع أن أعرف أبدا ..

أنت يا ألله (Thou) علمتني واجبي ومهمتي في عالم الموجودات العاقلة. كيف لا أعرف وكيف لا أحتاج للمعرفة

في ظل علاقاتك هذه بي .. أأستطيع الاطمئنان إلى نعمتك أو بتعبير آخر أأستطيع أن أرتاح في ظل نعمتك المريحة.؟

يظهر أن فيشته - وقد أصبح معتمداً في تدبير أمور معيشته على محاضراته العامة التي ينشرها بعد ذلك - راح يتجه أكثر فأكثر نحو الإيمان المسيحي، والوطنية الألمانية. وفي سنة 1805 دعي ليشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة إرلانجن Erlangen فحقق لنفسه فيها شهرة جديدة عندما اضطر بعد دخول جيوش نابليون ألمانيا (1806) إلى البحث عن منصب أكثر أمناً، فعبر إلى شرق بروسيا وراح يدرس لفترة في كونيجسبرج Konigsberg وأدى اقتراب جيوش نابليون بعد ذلك بفترة وجيزة من فريلاند Frieland إلى انتقاله هذه المرة إلى كوبنهاجن. وفي أغسطس سنة 1807 عاد إلى برلين مرة أخرى بعد أن تعب من العيش بلا وطن، وهناك ترك الفلسفة جانبا، وأعطى كل جهده لاستعادة كرامة شعب ممزق طعن في كبريائه.

ص: 199

1/ 3 - الوطني

راح فيشته كل يوم أحد من 13 ديسمبر 1807 إلى 20 مارس 1808 يلقي في مدرج مسرح أكاديمية برلين سلسلة محاضرات تم نشرها بعد ذلك بعنوان خطابات إلى الأمة الألمانية Reden an die deutsche Nation. لقد كانت دعوة عاطفية مفعمة حماسا لشعبه كي يستعيد احترامه لذاته وشجاعته وأن يتخذ الإجراءات للخروج من العزلة التي فرضها عليهم وهم حاملو السيوف من الطبقة العسكرية البروسية، والخروج من اتفاقية سلام تلسيت Tilsit غير الإنسانية، والخروج من التمزق وتقطيع أوصال البلاد (المملكة البروسية) الذي فرضه الكورسيكي Corsican (نابليون) المنتصر.

وفي هذه الأثناء كان العسكر الفرنسيون يقومون بدور البوليس في المدينة المغتصبة، وكان الجواسيس الفرنسيون يرصدون كل حديث. وتعتبر (خطابات إلى الأمة الألمانية) هي الأكثر حيوية في كل ما تركه فيشته، ولا زالت دافئة بمشاعر الفيلسوف الذي تحول إلى الاهتمام بأمور الوطن. لقد نحى جانبا الجوانب الفكرية للمنطق النظري وواجه الحقائق الأكثر مرارة في أسود أعوام بروسيا. ولم يوجه حديثه لبروسيا وحدها وإنما لكل الألمان الذين كانوا يحتاجون لهذا المثير نفسه ويتحدثون اللغة نفسها رغم انقسامهم في ظل إمارات متناثرة.

لقد عمل على تقريبهم في شكل من أشكال الوحدة بتذكيرهم بتاريخ ألمانيا وانتصاراتها المشهورة وإنجازاتها في مجالات الحكم والدين والأدب والفن وبرفضه المادية materialism التي تدفع لفقدان الأمل والتي وجدها - كما زعم - في الحياة الإنجليزية والنظريات الإنجليزية، وبرفضه التخلي عن الدين تماما كما في حركة التنوير الفرنسية وفي الثورة الفرنسية ذاتها.

لقد راح يتحدث مفتخرا ذاكرا الأدلة من المدن التجارية في ألمانيا الأقدم - نورمبرج Nuremberg ومنها البريخت (البريشت دورر Albrecht Durer، وأوجسبورج Augsburg ومنها الفوجر Fuggers ومواطنو العصبة الهانستية Hanseatic League الذين جابوا الكرة الأرضية. فالقصور الحالي - كما يخاطب فيشته طبقته وبلاده - يجب النظر إليه من منظور الماضي المتألق، ولا يمكن أن يستمر حبس أمة بواسطة أمة أخرى، فالأمة الألمانية لديها من الأنفس والعقول والإرادة ما يمكنها من الخروج من تدنيها الحالي.

ص: 200

كيف؟ أجاب فيشته:

"بإصلاح التعليم إصلاحاً كاملا، ومده ليشمل كل طفل ألماني، وجعله إلزاميا، وإعادة صياغته ليركز على الجوانب المعنوية الأخلاقية لا أن يكون الغرض منه تحقيق النجاح التجاري. ليس هناك حديث أكثر من ذلك عن ثورة، فليس هناك إلا ثورة واحدة وهي تنوير العقول وتطهير الطباع. لابد من تطوير قدرات الطفل على وفق منهج بيستالوزي Pestalozzi (السويسري) ولابد من توجيههم لتحقيق أغراض الأمة وأهدافها كما تحددها الدولة. ولابد أن يقود الدولة متعلمون مخلصون ولا يجب أن تكون خاضعة لإرادة الجيش وإنما توجهها إرادة الأمة، وأجهزتها. ولابد أن يكون كل مواطن خادما للدولة، وأن تكون الدولة خادمة للجميع. وحتى الآن فإن الجزء الأكبر - إلى حد بعيد - من دخل الدولة

يتم إنفاقه لإقامة جيش دائم أما تعليم الأطفال فترك لرجال الدين الذين يستغلون الله كوسيلة للبحث عن الذات في عوالم أخرى بعد موت الجسد

مثل هذا الدين سيدفن حقا ليكون مع الماضي".

لابد أن يحل محله دين الوعي الأخلاقي القائم على حسّ ملم بالمسئولية الجماعية. واعتقد فيشته أن الوصول لهذا النوع من الرجال، يستلزم:

"فصل الطلاب عن مجتمع البالغين ليكونوا مجتمعا منفصلا ومكتفيا ذاتيا .... تدريبات بدنية .. زراعة وتجارة بمختلف أنواعها بالإضافة إلى تنمية العقل بالتعليم .. إن الطلبة بعد أن نعزلهم على هذا النحو مبتعدين بهم عن مفاسد الماضي، فإنهم بالعمل والدراسة سيكونون متحفزين ولابد لخلق صورة لنظام البشرية الاجتماعي كما ينبغي أن يكون أي - ببساطة - كما يتمشى (أي هذا النظام) مع العقل. إن الطالب في هذه الحال يملأ بحب شديد لمثل هذا النظام (نظام الأشياء كما يجب أن يكون) بدرجة يصعب معها تماما ألا يأنس إليه ويرغبه، وبدرجة يصعب معها تماما ألا يعمل بكل قوته لتحسينه عندما يتحرر من توجيه المعلم".

إنه حلم رائع يذكرنا بجمهورية أفلاطون ويسبق دعاة Prophets الاشتراكية الذين انعقدت عليهم الآمال في القرون المتعاقبة. ولم يكن لهذه الأفكار سوى تأثير قليل في عصر فتشته كما لم تسهم إلا بالقليل (رغم أن هذا القليل قد جرى تضخيمه) في إلهاب الحماس ضد نابليون. لكن فيشته كان يفكر في أمر هو أعظم من طرد الفرنسيين

ص: 201

من بروسيا. لقد كان يحاول أن يجد طريقا لتحسين الطبيعة البشرية التي فعلت الكثير في التاريخ بجوانبها الخيرة والشريرة. وعلى أية حال فقد كان حلمه هذا حلما نبيلا شديد الثقة - ربما - في سلطان التعليم وقدرته على تغيير الصفات الوراثية والموروثات، كما أنه يفتح الباب - وهذا يدعو للحزن - لإساءة فهمه وإساءة استخدامه من قبل النظم الحكومية السلطوية، لكن فيشته قال:"لن أفقد الأمل ما حييت في أن أقنع بعض الألمان .... بأن التعليم وحده هو السبيل الوحيد لإنقاذنا".

لقد ضعفت صحة فيشته لهروبه المصحوب بالمخاطر من إرلانجن Erlangen إلى كونيجسبرج Konigsberg إلى كوبنهاجن إلى برلين، فبعد إكماله (خطابات إلى الأمة بوقت قصير) انهارت صحته، فذهب إلى تبليتز Teplitz وفيها استعاد صحته نسبيا وفي 1810 عين رئيسا لجامعة برلين الجديدة، وعندما بدأت بروسيا حرب التحرير حث فيشته طلبته بحماس بالغ على طرد المحتل حتى إن كلهم تقريبا دخلوا الجندية. وتطوعت زوجة فيشته للعمل كممرضة وأصيبت بالحمى فراح يعتني بها نهارا ويلقي محاضراته في الجامعة مساء وانتقلت إليه العدوى منها، فعاشت هي، ومات في 27 يناير 1814. وبعد ذلك بخمس سنوات ماتت فدفنت إلى جواره على وفق العادة الطيبة القديمة في الدفن التي تسمح للعاشقين والزوجين أن يدفنا متجاورين رمزا لأنهما أصبحا بعد الموت كيانا واحدا (حتى لو لم يجتمع منهما سوى الشعر والعظام)

‌2 - شيلنج

SCHELLING: من 1775 إلى 1854 م

رغم أن فيشته اعترف بوجود عالم خارجي (عالم خارج الأنا) إلا أن فلسفته كانت غالبا ما تتحاشى ذكره (أي ذكر هذا الوجود خارج الذات) إلا من خلال مروره (وتنقيته) من خلال الإدراك (البشري). أما فريدريش فيلهلم جوزيف فون شيلنج فرغم حرف الجر (Von) الدال على أرستقراطيته، فقد كان - بالفعل - قد قبل الطبيعة nature ووحدها مع العقل في كيان مشترك يكون الله أو بتعبير آخر كان الله عنده هو الطبيعة والعقل مندمجين في كل واحد.

ص: 202

لقد كان شيلنج ابنا لقس بروتستانتي (من أتباع لوثر) في فيرتمبرج Wurttemberg، وكان أبوه من ذوي الممتلكات، وراح يعد ابنه ليشغل منصبا كهنوتياً (ليكون أحد رجال الدين)، فألحقه بكلية اللاهوت في توبنجن Tubingen، وهناك أصبح شيلنج وهولدرلين Holderlin وهيجل يشكلون مجموعة نشيطة من الدارسين الراديكاليين الذين احتفوا بالثورة الفرنسية وأعادوا تعريف الإله (أي تحديد معنى جديد له) وأقاموا فلسفة جديدة قائمة على المزج بين أفكار سبينوزا وكانط وفيشته. وأضاف شيلنج قصيدة بعنوان عقيدة إبيقوري The Creed of an Epicurean ويمكن أن يتنبأ المرءُ مطمئناً أن هؤلاء الشباب اليافعين سيكون اتجاههم محافظاً يحترم القديم.

واشتغل لبضع سنين مدرساً، مثل فيشته وهيجل ونشر وهو في العشرين مقالاً عن أسس الفلسفة (1795) لفت أنظار فيشته وضمن لشيلنج دعوة لتدريس الفلسفة في يينا، وكان وقتها في الثالثة والعشرين. وكان راضياً - لفترة - بوصف نفسه بأنه أحد أتباع فيشته. وأنه يقبل العقل كحقيقة وحيدة، لكن في يينا Jena، وبعد ذلك في برلين انضم للرومانسيين وأتاح لنفسه نشوة عابرة:

لن أطيق هذا طويلاً، لابد أن أمارس الحياةَ بشكل أعمق، لا بد أن أترك حواسي حرّة - فهذه الحواس هي - تقريباً - أساسي الذي خرجت منه (اشتُقِقتُ منه) على وفق ما تقول به النظريات الكبرى التي تتناول ما وراء الخبرة البشرية transcendental theories ولكنني أيضاً سأعترف الآن كيف أن قلبي يثب والدماء الحارة تندفع في عروقي .. ليس لي دين إلا هذا، وهو أنني أحب الرُّكب الجميلة التكوين والصدور الناهدة والخصور النحيلة والورود التي تفوح عطراً، والإرضاء الكامل لرغباتي، وتلبية كل حب أطلبه، وإذا كان لا بد أن يكون لي دين (رغم أنني أستطيع أن أعيش بدونه بسعادة أكثر) فلا بد أن يكون هذا الدين هو الكاثوليكية في شكلها القديم حيث كان القسس والمصلون من غير رجال الدين يعيشون معاً .. ويمارسون يومياً في بيت الرب House of God المرحَ الصاخب ويعربدون.

ومن المعقول أن يكون هذا العاشق المتحمس للحقيقة المادية الملموسة مروِّعاً للهالة المثالية المحيطة بفيشته في يينا Jena، والتي ظلت - أي هذه الهالة - وراءه حتى بعد أن غادر يينا

ص: 203

إلى برلين، لقد عرَّف شيلنج قضية الفلسفة الأساسية بأنها المأزق الواضح بين المادة والعقل، إذ كان من المستحيل (من وجهة نظره)"أن نفكر في أن أحدهما ينتج عنه الآخر"، وانتهى (وهو في هذا يعود مرة أخرى إلى فكر سبينوزا) إلى:

"أنَّه أفضل مخرج من هذا المأزق هو أن نفكر في المادة والعقل كوجهين لحقيقة واحدة معقدة ولكنها متحدة فكل فلسفة تقوم على العقل الخالص وحده هي فلسفة سبينوزية"

(نسبة إلى سبينوزا Spinoza) أو ستصبح كذلك، لكن هذه الفلسفة في رأي شيلنج منطقية على نحو صارم لكن بشكل يُفقدها الحيوية

"إن الإدراك الدينامي للطبيعة لابد أن يُحدث تغييراً أساسياً واحداً في فكر سبينوزا .. فالإسبينوزية صارمة صرامة شديدة كتمثال بيجماليون Pygmalion تحتاج إلى أن يكون فيها روح"

تلك هي أفكار شيلنج كما عرضها في مقاليه: صورة مبدئية لنظام الفلسفة الطبيعية (1799) ومقال آخر عن المثالية (1800).

واقترح شيلنج ليعرف هذه التحديات الفلسفية المنطوية على الثنائية dualistic monism أكثر وضوحاً - أن نفكر في القوة force أو الطاقة energy كجوهر داخلي (باطني) للمادة والعقل. وفي أي من الحالتين لا نعرف إلى أي منهما (المادة أو العقل) ترجع هذه القوّة، لكن ما دمنا نرى هذه (القوة) أو (الطاقة) تظهر في الطبيعة بأشكال تتطور دائماً لتكون أكثر دقّة وحذقا - تنافر الجزئيات، إحساس النبات أو تحرك زوائد الأميبيا (الكائن وحيد الخلية) لتتلمس طريقها أو تتعلّق بها، وحركة الشمبانزي السريعة الذكية، والعقل الواعي للإنسان - فإنه يمكننا استنتاج أن الله المهيمن على كل شيء ليس هو المادة فقط وليس هو العقل فحسب وإنما هو وِحْدة بينهما في بانوراما باهرة من الأشكال والقوى. لقد كان شيلنج هنا يكتب شعراً وفلسفة في آن واحد، وقد وجد وردزورث Wordsworth وكولردج Coleridge فيه روحاً مماثلة لهما تسعى لبناء عقيدة جديدة لأرواح سيطر عليها العلم لكنها تتطلَّع بشوق إلى إله.

وفي سنة 1803 غادر يينا Jena ليدِّرس في جامعة فيرتسبورج Wurzburg المفتتحة حديثاً فواصل كتابة مباحثه الفلسفية التي كان ينقصها قوة فلسفته الطبيعية وفعاليتها. وفي سنة 1809 ماتت زوجته مُلهمة حياته كارولين، فكأنها أخذت معها نصف حيويته،

ص: 204

وتزوج مرة أخرى (1812) وراح يكتب بشكل متقطع ولكنه لم ينشر شيئاً بعد سنة 1809 فقد أصبح هيجل Hegel في هذه الفترة هو سيد الفلسفة بغير منازع أو بتعبير آخر أصبح هيجل هو نابليون الفلسفة الذي لا يجرؤ أحد على تحدّيه.

وفي سِنِي انحداره راح شيلنج يجد سلواه في الاتجاه الباطني (الصوفية mysticism) وفي شروح وتفسيرات واقعة وراء نطاق الخبرة البشرية للتناقص الظاهري بين إله محبوب (ومُحِب) وطبيعة حمراء الأسنان والمخلب وبين جَبْرية العلم من ناحية وحرية الإرادة (الاختيار) اللازمة للمسؤولية الأخلاقية. وأخذ عن جاكوب بوهم Jakob Bohme (1575 - 1642) فكرة أنَّ الله نفسه يتنازعه الخير والشر أو بتعبير آخر هو نفسه ساحة معركة بين الخير والشر وعلى هذا فالطبيعة (بدوْرها) تتذبذب بين موقف الكفاح لفرص النظام من ناحية والاستسلام للفوضى (الهيولى chaos) من ناحية أخرى، وفي الإنسان نفسه شيء أساسي غير مقبول عقلياً. لكن في النهاية كما يعد شيلنج قراءهُ سينتهي كل شر وستنجح الحكمة الإلهية لتحويل جرائم البشرية وسخافاتها إلى الخير.

لكن شيلنج لم يعد مرتاحاً لفترة طويلة وهو يرى هيجل يجمع فوق رأسه كل تيجان الفلسفة، ورغم أن شيلنج عاش بعد موت هيجل ثلاثة وعشرين عاماً، إلا أن تلاميذ هيجل ظلوا بعد موته يقسمون بينهم تراث أستاذهم (الديالكتيكية dialectical) بين الشيوعية ورد الفعل. وفي سنة 1841 وجّه الملك فريدريك وليم الرابع الدعوة لشيلنج لشغل كرسي الفلسفة في جامعة برلين، وكان الملك يأمل أن يستطيع شيلنج المحافظ وقف الاتجاه الراديكالي.

لكن شيلنج لم يستطع جذب تلاميذه واندفعت الأحداث في طريقها للثورة، فكان لابد من التخلّي عن الفلسفة.

ومع هذا فقد كان وردزورث بالفعل قد صاغ أفكار شيلنج الحيّة عن وحدة الوجود في أشعار فخمة، وعزا إليه كولردج - مع استثناءات معينة أهم انتصارات الثورة الكانطية في الفلسفة وبعد موت شيلنج بنصف قرن قال هنري برجسون - باعث المذهب الحيوي من جديد - "إن شيلنج واحد من أعظم الفلاسفة في كل العصور" ولو كان هيجل قد سمع هذا الكلام لاعترض عليه.

ص: 205

3 -

هيجل HEGEL: من 1770 إلى 1831 م

عندما قرأ الفيلسوف شُوبِنْهَاوَر كتابات كانط، كتب في سنة 1816 كان الناسُ مضطرين للنظر فيما هو غامض على أنَّه ليس دائماً - بلا معنى. لقد كان يظن (أي شوبنهاور) أنَّ فيشته وشيلنج هما الميزة الكبيرة لنجاح كانط مع الغموض، لكن شوبنهاور واصل كلامه قائلاً:

إنَّ ذروة السخف في أن يكرس المرء هدفه لخدمة اللا معنى وأن يجمع معاً بين ما لا معنى له وحشدٍ من الكلمات المتسمة بالإسراف والمبالغة، ولم نكن نعرف كل هذا قبل أن يستخدمه هيجل إلا في مستشفى المجانين، لكنه وصل إلى هيجل أخيراً وأصبح أداةً لأكثر أنواع الغموض والتعمية جمالاً مما لم نسمع به من قبل، والنتيجة ستظهر بشكل لا يُصدق للأجيال القادمة، وستبقى دليلاً قائماً على الغباء الألماني.

3/ 1 - تقدّم هيجل الشّاك

كان جورج فيلهيلم فريدريش هيجل حيا ومزدهراً عندما نُشر هذا اللحن الحزين (1818) وعاش بعد ذلك ثلاثة عشر عاماً. وهو ابن أسرة من الطبقة الوسطى من شتوتجارت متدينة تديناً شديداً، ورهنت الأسرة أملاكها لترسل ابنها جورج (هيجل) لدراسة اللاهوت في معهد توبنجن Tubingen اللاهوتي (1788 - 1793) وكان هناك الشاعر هولدرلين Holderlin، ووصل إليها شيلنج في سنة 1790، وقد استاء كلاهما من جهل مدرسيهم ورحبوا بانتصارات فرنسا الثورية، وطوّر هيجل اهتماماً خاصاً بالدراما الإغريقية، وكان امتداحه للوطنية الإغريقية مقدمة لفلسفته السياسية في شكلها الأخير:

"بالنسبة للإغريقي كانت فكرة أرض آبائه (الدولة) هي الحقيقة الأسمى غير المنظورة التي يعمل من أجلها .. وكانت ذاتيته (أوفرديته individuality) لا شيء بالمقارنة بهذه الفكرة (فكرة أرض آبائه)، فأرض الآباء تعني دوامه وبقاءه واستمراره حياته .. فالإغريقي لم يكن يرغب أو يدعو لنفسه بحياة الخلود كفرد، فهذا لم يخطر له على بال".

وبعد أنّ تخَرّج حاصلاً على درجة علمية في اللاهوت، أزعج والديه برفضه الدخول في

ص: 206

سلك الكهنوت. وراح يعولُ نفسه بتقديم دروس خصوصيّة في بيرن Bern في منزل أحد الأرستقراطيين، وكان في هذا المنزل مكتبة عامرة، فراح يقرأ في هذه المكتبة (وبعد ذلك في إحدى مكتبات فرانكفورت) كتابات ثيوسيديد Thucydides ومكيافيللي Machiavelli وهوبز وسبينوزا وليبنز (Leibniz) ومونتسكيو ولوك وفولتير وهيوم Hume وكانط، وفيشته، فكيف كان يمكن لإيمانه المسيحي اُلْمصَّل أَنْ يَصْمد أمام فيض أفكار هذه الثُّلّة من المتشكِّلَين؟ إن التمرَّد الطبيعي لشاب متحمس نشط وجد ساحة للعربدة في مهرجان وثنى (المقصود في أفكار غير متفقةٍ مع المسيحية التقليدية).

وفي سنة 1796 ألَّف كتابه (حياة يسوع Das Leben Jesu) الذي ظلَّ غير منشور حتى سنة 5091. لقد كان كتابه هذا على نحوٍ من الأنحاء إرهاصاً بكتاب آخر يحمل الاسم نفسه (حياة يسوع) (1835) الذي بدأ به ديفيد شتراوس David Strauss - أحد أتباع هيجل - هجوما ضاريا على قصّة يسوع (المسيح) كما وردت في الإنجيل. لقد وصف هيجل يسوع بأنه ابن يُوسف ومريم، ورفض المعجزات المنسوبة للمسيح، كما رفض تفسيرها تفسيرا طبيعيا. لقد صوَّر المسيح (كمصلح) يُدافع عن الوعي الفردي ضد القواعد الكهنوتية، وخلُص إلى أَنّ المتمرِّد المصلوب (يقصد المسيح عليه السلام قد تمَّ دفنه، ولم يُحدِّثْنا عن قيامته. وقدم لنا وصفا للإله الذي يجب الإيمان به حتى النهاية:"العقل الخالص الذي لا تحدّه حدود هو الله Deity نفسه".

وفي سنة 1799 مات والد هيجل تاركاً له 3154 فلورين. لقد كتب إلى شيلنج يطلب مشورته عن مدينة ذات مكتبة عامرة و ein gutes Bier فاقترح عليه شيلنج مدينة يينا Jena وعرض عليه الإقامَة في مقر إقامته، وأتى هيجل في سنة 1801 وسُمح له بإلقاء محاضرات في الجامعة على ألاّ تدفع الجامعة له راتبا، وإنما يتلقَّى أجره من طلبته الذي يجب ألاَّ يزيدوا عن أحد عشر طالبا (ويُعرف المحاضر الذي يعمل على وفق هذا النظام في الجامعات الألمانية باسم Privatdozent) وبعد ثلاث سنوات من هذه المهمة الشّاقة تمَّ تعيينه (أستاذا في مهمّة خاصة) أو بتعبير آخر أستاذاً مكلّفاً Professor extraordinarius، وبعد عام أصبح له لأول مرة دخل ثابت (مائة تالر Thalers) وكان هذا بناء على تدخّل جوته

ص: 207

ولم يكن أبداً مدرساً ذا شعبية، لكنه في يينا (وبعد ذلك في برلين) أثَّر في عدد من الطلبة فارتبطوا به ارتباطا خاصا مكَّنهم من التوغّل إلى ما وراء القشرة الظاهرية الصعبة للغته للوصول إلى أسرار فكره المُفعم نشاطاً وحيوية.

وفي سنة 1801 بدأ في كتابة مقال مهم عن دستور ألمانيا Kritik der Verfassung Deutschlands لكنه لم يُكمل كتابته (أي تركه منقوصا) ولم ينشر هذا العمل إلاّ في سنة 1893. لقد راح وهو يتأمل أحوال ألمانيا يتذكر الكيانات الصغيرة التي كانت تتكوَّن منها إيطاليا في عصر النهضة مما أدّى إلى وقوعها لُقمة سائغة في أفواه الغزاة الأجانب، كما راح يتذكر نصائح مكيافيللي لأمير قوى كي يهوى بمطرقته على تلك الكيانات الإيطالية المتفرقة ليجعل منها أمّة (واحدة). ولم يكن هيجل يُعِّول على الإمبراطورية الرومانية المقدّسة وتنبأ بانهيارها الباكر:

إنّ ألمانيا لم تعد دولة

فمجموعة من البشر لا يمكنها أن تسمّى نفسها دولة إلاَّ إذا ترابط أفرادها معا للدفاع المشترك عن كل ما يخص هذه المجموعة البشرية. لقد دعا إلى توحيد ألمانيا لكنه أضاف قائلاً: ولن يكون هذا أبداً نتيجة فكر أو حماسة، أنَّه لا يكون إلاَّ بالقوّة

إن جماهير الشعب الألماني لابد أن تتجّمع لتصير كُتلة واحدة لمواجهة أحد الغزاة.

ومن المفترض أنه لم يكن يفكر في نابليون آنئذ، لكن عندما احتاج نابليون (1805) النمساويين والروس في أوسترليتز Austerlitz ربما يكون هيجل - ساعتها - قد تساءل عمّا إذا كان هذا الرجل (نابليون) هو الذي عينَّه القدر لتوحيد أوربا كلها وليس ألمانيا وحدها. وفي العام التالي، عندما كان الجيش الفرنسي يقترب من يينا Jena وبدا مستقبل أوربا مُزَعْزَعاً غير واضح المعالم، ورأى هيجل نابليون يمتطى صهوة جواده في شوارع يينا (13 أكتوبر 1806) كتب لصديقه نيتهامر Niethammer:

" لقد رأيتُ الإمبراطور راكباً يتفقّد المدينة. لقد بدا كأنّه روح العالم. ياله من إحساس رائع حقا أن يرى المرءُ مثل هذا الفرد (الإمبراطور) متمركزا هنا في بُقعة بعينها ممتطيا حصانا بعينه، ومع هذا فهوُ منتشر ممتد عبر العالم، ومن هذه البقعة يحكمه (يحكم العالم)

أن يحدث هذا التقدم من يوم الخميس إلى يوم الأحد، فهذا محال إلاّ إذا كان على رأس المتقدّين رجل فذ غير عادي، إننَّا

ص: 208

لا نملك غير الإعجاب به

إن الجميع الآن يتمنون للجيش الفرنسي حظّا طيبا".

وفي اليوم التالي ساد الجيش الفرنسي، وبدأ بعض الجنود الفرنسّيين ينهبون المدينة بعيدا عن عيني روح العالم (الإمبراطور) ودخلت إحدى مجموعات الجنود غرفة هيجل المستأجرة. وعبّر الفيلسوف عن أمله أن رجلا مميّزا على هذا النحو (إشارة إلى قائد المجموعة الذي يحمل فوق سترته العسكرية شارة التميز العسكري المعروفة باسم Cross of the Legion Honor) سيعامل باحثا ألمانيا بسيط معاملة كريمة. وتحلّق الغزاة (الجنود السابق ذكرهم) حول زجاجة نبيذ لكن انتشار السلب، أرعب هيجل فلاذ بمكتب نائب رئيس الجامعة.

وفي 5 فبراير 1807 أنجبت كريستينا بوركهاردت Christina Burkhardt زوجة صاحب الفندق الذي يقيم به اعترف به الأستاذ وهو غائب العقل (في حالة غيبوبة) أنه واحد من أعماله غير المنسوبة إليه (التي لم يكتب اسمه عليها). ولأن دوق ساكس فيمار Saxe-Weimar كان يجد صعوبة في تمويل كلية يينا (هيئة التدريس بها)، فقد وجد هيجل أن الوقت أصبح مناسبا ليجرّب مدينة أخرى وامرأة أخرى وعملاً آخر، فغادر يينا في 20 فبراير ليصبح محررا لصحيفة Bamberger Zeitung. وفي خضم الاضطرابات نشر (في سنة 1807) كتابه Phanomenologie des Geistes، فلم يبدُ أن أحداً تشكك في أن هذا العمل سيصبح في وقت لاحق هو أهم أعماله، وهو الإسهام الفلسفي الأكثر صعوبة، والأكثر إسهاما في تكوين منطلقات فكرية فيما بين كانط وشوبنهَاوَر.

وغدر هيجل بامبرج Bamberg (1808) لما سبّبته له الرقابة الحكومية من إزعاج، ليكون ناظر مدرسة في نورمبرج Nuremberg، وراح يعمل في هذا المجال الجديد بإخلاص وضمير حي، يدرّس ويوجّه لكنه كان دوماً توّاق للعمل في جامعة مميزة تتيح له منصبا علميا آمنا يركن إليه. وفي 16 سبتمبر 1811 - وكان قد بلغ الواحدة والأربعين - تزوّج ماري فون توشر (توخر) Marie von Tucher ابنة سيناتور نورمبرج ذات العشرين ربيعا. وبعد الزواج بفترة يسيرة فاجأت كريستينا بوركهاردت العروسين بزيارة قدمت لهما فيها لودفيج Ludwig ابن

ص: 209

هيجل ذي السنوات الأربع. وتقبَّلت زوجة هيجل الوضع بشجاعة وتبنت الطفل وجعلته بين أفراد أسرتها.

ولأن هيجل كان يحلم بمنصب في برلين فقد قبل في سنة 1816 دعوة من جامعة هايدلبرج Heidelberg ليكون أستاذ الفلسفة الأول بها. وبداً يدرّس لخمسة طلاب، سرعان ما زادوا ليصبحوا عشرين قبل انتهاء الفصل الدراسي.

ونشر وهو في المنصب موسوعة العلوم الفلسفية (1817)، وكان هذا العمل أكثر مدعاة لإطراء المثقفين وحكومة برلين من عمله السابق (Logik) الذي كان قد سبق نشره في سنة 1812. وسرعان ما دعاه وزير التعليم البروسي ليشغل كرسي الفلسفة الذي ظل شاغراً منذ موت فيشته (1814). لقد كان هيجل قد بلغ الآن السابعة والأربعين من عمره، فراح يساوم حتى حصل أخيرا على المكافأة التي طال انتظاره لها والتي عوّضته عّما فات.

لقد طلب بالإضافة إلى الراتب السنوي البالغ ألغى تالر Thaler مبلغاً آخر يعوّض غلاء الأسعار والإيجارات في برلين، ومبلغا للأثاث الذي اشتراه والذي عليه أن يبيعه الآن بثمن أقل من الثمن الذي اشتراه به (أي يبيعه بالخسارة) ومبلغاً كمصاريف انتقال (بدل سفر) إلى برلين مع زوجته وأطفاله، وأكثر من هذا فقد كان عليه أن يحب وفرة بعينها في الإنتاج وكان كل هذا مضموناً ففي 22 أكتوبر 1818 بدأ هيجل في جامعة برلين تولِّي منصب الأستاذية حتى وفاته. وفي هذه السنوات الثلاث عشرة عُرِفت محاضراته بالغموض لكنها أخيراً أصبحت ذات معان عميقة فكَثُر مستمعوه شيئاً فشيئاً حتى سعى إليه الطلبةُ من مختلف أنحاء أوروبا بل ومن خارج أوروبا. إنه الآن يقدم لنا أكثر النظم الفكرية اكتمالاً وتأثيراً في التاريخ الأوروبي بعد كانط.

3/ 2 - المنطق كميتا فيزيقا Logic as Metaphysics

لقد بدأ هيجل بالمنطق - ليس بمعناه الذي نعرفه اليوم كقواعد للاستنتاج، وإنما بمعناه القديم والكلاسيكي كنسبة ratio أو عرض للأسباب والمبادئ أو المعنى الأساسي لأي شيء وما ينطوي عليه من عمليات، وذلك على نحو ما نستخدم مصطلحات مثل الجيولوجيا لنعني

ص: 210

بهما معنى الأرض وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح البيولوجيا biology لنعني به معنى الحياة وما تنطوي عليه من عمليات أو مصطلح السيكولوجيا psychology لنعني به معنى العقل أو النفس وما تنطوي عليه من عمليات. وعلى هذا فقد كان المنطق بالنسبة إلى هيجل يدرس معنى أيِّ شيء وما ينطوي عليه من عمليات.

وبشكل عام فإنه يترك العمليات للعلم، كما أن العلم يترك المعنى للفلسفة. إنه يقترح أن يحلّل لا الكلمات بطريقة عقلية (للخلوص منها باستنتاجات) وإنما السبب أو العقل أو المنطق في الحقائق realities وسيعطي لمصدر هذه الأسباب اسم الرب أو الله God وهو في هذا يشبه إلى حد كبير الصوفيين (ذوي الاتجاه الباطني) القدامى الذين يجعلون الرب the deity واللوجوس Logos (المبدأ العقلاني) شيئاً واحداً - منطق العالم وحكمته.

فالعقل المدرِك (الواعي) يُضفي معنى للأشياء بدراسة أبعادها في المكان والزمان وعلاقاتها بالأشياء الأخرى المُدركة أو المُتذكَّرة. وكان كانط قد أطلق على مثل هذه العلائق اسم المقولات Categories، وعدَّد منها اثنتي عشرة مقولة رئيسية: الوحدة والتعددّية والكلية وأيضاً الحقيقة والنقيض والقَصْر، والسبب والنتيجة والوجود والعدم، والاحتمال والحتم.

وأضاف هيجل مقولات أخرى كثيرة: الموجود المطلق، والانجذاب والتنافر، والتشابه والاختلاف .. فكل شيء في نطاق خبرتنا هو نسيج معقَّد من مثل هذه العلاقات، فهذه المنضدة - على سبيل المثال - لها مكان خاص، وعمر خاص وشكل خاص وتحمُّل خاص ولون خاص ووزن خاص ورائحة خاصة وجمال خاص، وبدون هذه العلاقات الخاصة تصبح المنضدة مجرد فوضى غامضة تُعطى مشاعر متنافرة منفصلة، أمّا إن وجدت هذه العلاقات استطاعت الحواس إدراكها كموجود (مُدْرَك) موحَّد. وهذا الإدراك في ضوء ما تعيه الذاكرة، وفي ضوء فهم الغرض تُصبح هناك فكرة. ومن هنا فإن العالم - بالنسبة إلى كل منا - هو أحاسيسنا (الداخلية والخارجية) حولتها المقولات (بالمعنى السابق) التي مزجتها إلى أفكار ومُدركات مختلطة بالذكريات ومتأثرة بإرادتنا.

ص: 211

والمقولات ليست أشياء، وإنما هي طرائق وأدوات للفهم تقدم الشكل والمعنى لأحاسيسنا. إنها المقولات تكون النسق العقلي والمنطق والتكوين والسبب لكل شعور أو فكرة أو شيء. إنها جميعاً تكوِّن المنطق والعقل والأسباب ولوجوس الكون Logos (المبدأ العقلاني)، على وفق فهم هيجل.

والوجود الخالص Pure Being هو أبسط أنواع المقولات وأكثرها كونية فعن طريق الوجود الخالص نحاول فهم خبرتنا - أعني الوجود كما ينطبق على كل الأشياء أو الأفكار دون تخصيص. وكونية Universality هذه المقولة الأساسية هي أنها مقدّرة ومحتومة its fatality: فبافتقادها أي شكل أو سمة لا تستطيع أن تمثل أي شيء موجود، ومن هنا فإن فكرة الوجود الخالص أو الكينونة الخالصة Pure Being هي من حيث نتائجها أو من حيث مفعوليتها مساوية للمقولة المناقضة لها - ونعني بها العدم أو عدم الوجود أو عدم الكينونة أو اللاشيء Nichts، ومن هنا فهما بالفعل (الوجود والعدم) ممتزجان، فما كان غير موجود (غير كائن) يُضاف للوجود (لما هو كائن) Being ويجرّده من لا حتميته أو يجرده من كونه محضاً خالصاً، فالوجود والعدم Being or nonbeing يصبحان على أية حال أمراً سالباً على نحو ما أو تحتوي الفكرة على شيء من السَّلب. أما مقولة الصَيرورة Becoming الغامضة (Werden) فهي المقولة الثالثة، وهي أكثر المقولات فائدة، فبدونها لا يمكن إدراك أي شيء وهو يحدث أو يتخذ شكلاً. وتتبع كل المقولات اللاحقة النسق نفسه أي أنها تظهر من المزاوجة بين الفكرة ونقيضها.

من هذا التلفيق الهيجلي Hegelian Prestidigitation نشأ الكون (مثل آدم وحواء) من اتحاد أو اقتران (بين فكرتين) مما يعيد للذاكرة فكرة العصور الوسطى القائلة بأن الله خلق الكون من اللاشيء (من العدم). لكن هيجل حاجّ بأن مقولاته هذه ليست أشياء، وإنما هي طرائق لإدراك الأشياء، ولجعل سلوكها أو تحركها مُدْركاً أو مفهوماً، ويمكن التنبؤ به غالباً، بل ويمكن أحياناً السيطرة عليه.

لقد طلب منا بعض التقييد (التكييف) في معنى الفكرة ونقيضها (تلك الفكرة المقدسة في المنطق القديم) وهو أن A لا يمكن أن تكون إلا A . حسناً جداً لكن A قد لا تصبح A،

ص: 212

فالماء قد يصبح ثلجاً أو بخاراً. فكل حقيقة - كما أدركها هيجل - هي في عملية متطورة من المواءمة أو الملائمة. إنها - أي الحقيقة reality ليست في حالة وجود استاتيكي (ثابت) a static Parmenidean world of Being وإنما هي في حالة سيّالة متحوّلة. فكل شيء ينساب. ففي رأي هيجل أن كل حقيقة وكل فكر وكل شيء وكل تاريخ ودين وفلسفة هي جميعاً في حالة تطور مستمر ليس من قبيل الانتخاب الطبيعي، وإنما من خلال تطور التناقض الداخلي (الفكرة ونقيضها) وما يتمخض عنه من نتائج، ومن ثم التقدم نحو مرحلة أو حالة أكثر تعقيداً.

هذا هو الديالكتيك dialectic الهيجلي الشهير (وهو دياليكتيك فيشته سابقاً، وديالكتيك تعني حرفياً الحوار). إنه ديالكتيك الفكرة thesis ونقيضها antithesis والترابط (الجمع بينهما - الجمعية) Synthesis (أي ما يتمخض عن الفكرة ونقيضها من فكرة جديدة): فالفكرة أو الموقف ينطوي في باطنه على نقيضه ويطوّره ويناهضه ثم يتحد معه ليتخذ وَإيَّاه شكلاً جديداً. والمناقشة المنطقية لابد أن تأخذ شكل البناء الديالكتيكي من عرض ومعارضة وتوفيق. والتداول أو التشاور الحسّاس لابد أن يكون على هذا النحو - وزن الأفكار والرغبات بميزان التجربة. والمقاطعة أو التداخلات في أثناء المناقشة هي كما أصرّت مدام دي ستيل هي حياة الحوار، لكنها تصبح موتاً له (للحوار) إذا لم نجد للتناقض حلا توفيقيا، أو كانت الفكرة النقيضه غير وثيقة بالموضوع، فالترابط - الجمعية Synthesis (أي الفكرة الناتجة عن الفكرة ونقيضها) يرفض الإثبات والنفي، وتتيح مكاناً لعناصر من الموقفين (الفكرتين) المثبتة والنافية.

وكارل ماركس - تلميذ هيجل - كان يرى أنَّ الرأسمالية تحوي في طياتها بذور الاشتراكية، بمعنى أن الشكلين الاقتصاديين المتنافسين لا بد أن يتصارعا حتى الموت، وأن الاشتراكية لابد أن تسود، وتنبأ الهيجليون الأكثر تمسكاً بفكر هيجل أن الرأسمالية والاشتراكية سيتحدان معاً كما نرى في أوروبا الغربية الآن. وكان هيجل أكثر الهيجليين تطرفاً. لقد راح يتتبع المقولات - ليُظهر كيف أن كلا منها - بالضرورة - ناتج عن فكرة ونقيضها. ونظم حججه وبراهينه، وحاول أن يقسم كل عمل من أعماله في شكل ثلاثي (الفكرة ونقيضها والترابط بينهما) وطبق ديالكتيكه على الحقائق realities كما طبقه على الأفكار. فأظهر أن

ص: 213

التناقض والصراع والترابط Synthesis تظهر في السياسة والاقتصاد والفلسفة والتاريخ.

لقد كان محققا أو واقعيا realist بالمعنى الوسيط (المعنى الذي كان سائدا في العصور الوسطى): فالكون أكثر حقيقة من أي من أجزائه (ذراته) التي ينطوي عليها: فالإنسان يشمل كان البشر من كان منهم حيا أو من أغرق في الموت، والدولة أكثر حقيقة أو أعمق وجودا realer، وأكثر أهمية وأطول عمرا من أي مواطن من مواطنيها وللجمال قوة خالدة يبقي حتى ما مات، فتظل بولين بونابرت Pauline Bonaparte ويبقى الجمال حتى لو أن أفروديت Aphrodite لم تكن قد وجدت في يوم من الأيام. وأخيرا وجدنا الفيلسوف الملزم (بكسر الزاي) يحمل كوكبة مقولاته على المقولة الأقوى والأشمل والأبقى. إنها الفكرة المجردة التي تتمثل فيها كونية كل شيء أو فكر أو عقل أو تكوين أو قانون، إنها الفكرة التي تمسك بالكون، إنها اللوجوس Logos أو الكلمة التي تجلل الجميع وتحكمه.

3/ 3 - العقل Mind

كتب هيجل كتابه The Phanomenologie des Geistes في يينا بينما كان جيش نابليون الأساسي يقترب من المدينة (يينا). ونشر الكتاب في سنة 1807 عندما كان أبناء الثورة الفرنسية يدمرون بروسيا بلا رحمة وبدوا وكأنهم يثبتون أن العقل البشري قد ضل طريقه إلى الحرية في تلمسه التاريخي هذا لطريقه من الملكية إلى الإرهاب إلى الملكية مرة أخرى. وقرر هيجل أن يدرس عقل الإنسان في ظواهره المختلفة كإحساس وإدراك ومشاعر ووعي وذاكرة وخيال ورغبة وإرادة ووعي ذاتي وتفكير، فربما يستطيع في نهاية هذا الطريق أن يكتشف سر الحرية. ولم يتهيب من هذا البرنامج فقرر أن يدرس أيضا العقل الإنساني من خلال دراسته للمجتمعات والدولة، وفي الفن والدين والفلسفة. وكانت نتيجة بحثه هي تحفته الخالدة العامرة بالبلاغة والغموض، وكان لها تأثير في ماركس Marx وكيركجارد Kierkegaard وهيدجر Heidegger وسارتر Sartre بشكل أو آخر.

لقد بدأت الصعوبة مع كلمة Geist التي نشرت سحابا من الغموض واللبس على الروح والعقل والنفس (Ghost and Mind & Spirit & soul) وسوف نترجمها عادة بمقابل إنجليزي

ص: 214

واحد هو mind (عقل أو نفس) لكن في بعض السياقات سنجد من الأفضل استخدام كلمة روح spirit كما في عبارة روح العصر Zeitgeist. والجايست Geist (العقل أو النفس) ليس جوهراً منفصلا أو وجودا (أو كينونة) كامنا خلف النشاطات النفسية (السيكولوجية)، بل إنه هو هذه النشاطات نفسها. فليس هناك ملكات عقلية أو نفسية faculties منفصلة وإنما هناك فقط العمليات الفعلية التي تحول بها التجربة إلى فعل action أو فكر.

وقد جعل هيجل الجايست (العقل أو النفس) في واحد من تعريفاته الكثيرة مساويا للوعي. والوعي بطبيعة الحال هو سر الأسرار لأنه - أي الوعي - يشبه العضو الذي يفسر التجربة ولكنه لا يستطيع أن يفسر نفسه. ومع هذا فإنه - أي الوعي - أكثر الحقائق جدارة بالملاحظة والإدراك بالنسبة إلينا. والمادة Matter التي قد تكون خارج العقل تبدو أقل غموضا رغم أن معرفتنا بها أقل مباشرة. وهيجل يتفق مع فيشته في أننا نعرف الأشياء فقط بقدر ما هي جزء منا كموضوعات مدركة (كموضوعات يمكن إدراكها)، لكنه - أي هيجل - لم يشكك أبدا في الكون الخارجي (الموجود خارج النفس أو العقل)، فعندما يكون المدرك (بضم الميم وفتح الراء) كائناً آخر بتفاعله مع العقل، يصبح الوعي واعيا بذاته عن طريق التضاد (نقيض الفكرة) عندئذ تولد الأنا (الإيجو Ego) بشكل واع وتصبح مدركة (بشكل غير مريح). إن الصراع (أو التنافس) هو سنة الحياة. ثم يقول فيلسوفنا الصارم إن كل إنسان يهدف إلى تدمير الآخر وموته ويظل الصراع حتى يقبل أحد الطرفين التبعية أو يكون مصيره الموت. وفي هذه الأثناء تتغذى الأنا Ego بالتجربة كما لو أنها مدركة أنها يجب أن تتسلح وتتقوى لخوض تجارب الحياة ومحنها.

كل هذه العملية المعقدة التي تحول بها المحسوسات إلى مدركات (بضم الميم وفتح الراء) تخزن ذلك في الذاكرة وتحولها إلى أفكار يتم استخدامها في تنوير الرغبات وتلوينها وخدمتها، تلك الرغبات التي تشكل الإرادة. فالأنا Ego هي بؤرة الرغبات وتعاقباتها ومكوناتها، فالمدركات الحسية والأفكار والذكريات والتفكير المتروي مثل الأذرع والسيقان هي أدوات للنفس أو الأنا Ego تبحث عن البقاء والمسرة والقوة. وإذا كانت الرغبة عنيفة مفعمة عاطفةً، فإنها

ص: 215

تتعزز سواء كانت رغبة صالحة أم شريرة. ولا يجب أن ندين ما هو مفعم عاطفة وحماسا، فلا شيء عظيما في العالم يمكن تحقيقه دون عاطفة إنها قد تؤدي للألم لكن هذا الألم لا يساوي شيئا إن أسهم في الوصول إلى النتيجة المرغوبة. فالحياة لم توجد للسعادة وإنما لتحقيق الإنجاز.

هل الإرادة (أي رغباتنا) حرة؟ نعم لكن ليس بمعنى عدم الخضوع للسببية أو مبدأ العلية أو القانون. إنها حرة بقدر ما تتفق مع قوانين الواقع ومنطقه، فالإرادة الحرة هي التي ينورها الفهم ويرشدها العقل. فلا يكون التحرر الحقيقي - بالنسبة إلى الأمة أو الفرد - إلا من خلال تطور الفكر، والفكر معرفة منظمة ومستخدمة. فالحرية في ذروتها هي في المعرفة بالمقولات (بالمفهوم الهيجلي السابق ذكره) وعملياتها في مسار الطبيعة وفي اتحادها مع الفكرة المجردة (بالمفهوم الهيجلي) Absolute idea التي هي الله، وتناسقها معه. وهناك ثلاثة مناهج يمكن للإنسان من خلالها أن يقترب من هذه الذروة من الفهم والحرية: عن طريق الفن والدين والفلسفة. وباختصار ففي كتابه علم وصف الظواهر Phanomenologie وفي كتابه الآخر الذي نشر بعد وفاته عن علم الجمال Vorlesungen uber Aesthetik) (حاول هيجل أن يخضع الطبيعة وتاريخ الفن لفكرته ثلاثية الأبعاد (الفكرة ونقيضها والجمعية)، وكان عرضه في كتابه الثاني Vorlesungen أكثر تفصيلا. واتفق أن استوحى معلومات مدهشة عن العمارة والنحت والرسم والموسيقى، ومعلومات مفصلة عن مجموعة الأعمال الفنية في برلين ودريسدن وفيينا وباريس والأراضي المنخفضة. لقد شعر أن الفن هو محاولة عقلية (نفسية) - بالبديهة أو الحدس intuition أكثر منها بالمنطق والحجج العقلية (ومعنى قولنا بالحدس أو البديهة ينطوي على خبرة مباشرة وموسعة وإدراك حسّي مستمر)، والفن كمحاولة عقلية (نفسية) يقدم لنا معنى روحيا (معنويا) من خلال وسائط متعلقة بالحواس. لقد تعرف ثلاثة عهود للفن:

(1)

الشرقي Oriental حيث وجدنا العمارة تعمل على تدعيم الحياة الروحية والرؤى الباطنية (الصوفية) من خلال المعابد الضخمة كما في مصر والهند.

(2)

الكلاسيكيات الإغريقية الرومانية التي تحول المثل المنطقية والعقلية ممثلة في التوازن والهارمونية من خلال أشكال نحتية كاملة (متسمة بالكمال).

(3)

الرومانسية المسيحية التي راحت

ص: 216

من خلال الرسم والموسيقى والشعر تعبر عن العواطف وتتوق إلى الروح الحديثة. وفي هذه المرحلة الثالثة (الرومانسية المسيحية) وجد هيجل بعض بذور التحلل والفناء وافترض أن أعظم مراحل الفن قد وصلت إلى نهايتها.

لقد أزعجه الدين وأربكه في أواخر أيامه لأنه (أي هيجل) اعترف بالدور التاريخي للدين في تعديل طبيعة الإنسان وفي دعم النظام الاجتماعي، لكنه (أي هيجل) كان شغوفا جدا بالعقل شغفاً يحول بينه وبين السعي للاهوت وفهم معاناة القديسين وعبادة رب متجسد Personal God والخوف منه. وناضل للتوفيق بين العقيدة المسيحية وديالكتيكه (الديالكتيك الهيجلي السابق: الفكرة، نقيض الفكرة، الجمعية) لكن قلبه لم يكن مطمئنا لهذا التوفيق، وقد فسر أكثر أتباعه تأثيرا أن رب هيجل هو عقل العالم (الكون) أو القانون غير المشخص (المتجسد) والخلود متمثلا في آثار كل لحظة بشرية على الأرض (وربما كان هذا الخلود بلا نهاية) وفي أواخر كتابه عن وصف الظواهر Phanomenologie استوحى حبه الحقيقي - إنه الفلسفة.

لم يكن مثله الأعلى هو القديس بل الحكمة sage. وفي غمار حماسه لم يعترف بأي حد للفهم الإنساني مستقبلا. إن طبيعة الكون ليس لها سلطان يمكنها من المقاومة الدائمة للجهود الشجاعة للذكاء البشري. فلابد أن تفتح آفاقها في النهاية لهذا الذكاء ولابد أن تفضي له بكل أعماقها وثرواتها لكن لابد قبل الوصول إلى هذه الذروة الفلسفية أن ندرك أن الكون الحقيقي ليس هو الذي نلمسه أو نراه وإنما هو العلاقات والقواعد التي تضفي عليه النظام والنبالة. إنه القوانين غير المكتوبة التي تحرك الشمس والنجوم وتكون العقل غير المشخص (غير المتجسد) للكون. إلى هذه الفكرة المجردة أو عقل الكون يقدم الفيلسوف ولاءه. إنه (عقل الكون) هو إلهه الذي يتعبد له، ويجد عنده حريته ورضاءه التام.

3/ 4 - الأخلاق والقانون والدولة

في سنة 1821 قد لنا هيجل عملاً كبيراً آخر هو حول فلسفة الحق Grundlinien der Philosophie des Rechts والحق rechts كلمة جليلة مهيبة في ألمانيا. إنها كلمة تغطي

ص: 217

الأخلاق والقانون كعنصرين لازمين بينهما صلة قربى لدعم الأسرة والدولة والحضارة. وقد تناول هيجل كل ذلك في مجلد فخم ترك تأثيرا دائما في شعبه الألماني.

كان الفيلسوف عند تأليفه هذا الكتاب قد دخل عقده السادس. لقد أصبح معتادا على الاستقرار مشبعاً بالرضا. وكان يتطلع لشغل منصب حكومي. وكان قد أصبح بالفعل محافظا وهو الاتجاه المناسب لهذه الحقبة من العمر. وأكثر من هذا فقد كان الموقف السياسي قد تغيرا كبيرا منذ أن احتفى (أي هيجل) بفرنسا وأعلن إعجابه بنابليون: كانت بروسيا قد هبت حاملة السلاح ضد نابليون وحاربت بقيادة بلوشر Blucher وأطاحت بالمغتصب، وأصبحت بروسيا الآن تعيد ترسيخ نفسها على أسس فريدريكية Frederican أساسها جيش منتصر وملكية إقطاعية كدعامتين للاستقرار بين شعب أصابه فقر مدقع بسبب تكاليف الحرب التي انتصر فيها، وعمته الفرضي وراوده الأمل في الثورة وكبحه الخوف منها.

وفي سنة 1816 نشر جاكوب فريز Jadob Fries الذي كان وقتها يشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة يينا Jena بحثا عن الكونفدراليه الألمانية والدستور السياسي لألمانيا Von Deutschem Bund & Deutscher Staatsverfassung عرض فيه الخطوط العريضة لبرنامج إصلاح أرعب الحكومات الألمانية فأصدرت مراسم عنيفة في كونجرس كارلسباد (1819) وطرد فريز من منصبه كأستاذ للفلسفة وأعلن مسئولو الشرطة أنه خارج حماية القانون (مهدر الدم).

لقد خصص هيجل نصف مقدمة كتابه (عن فلسفة الحق) لمهاجمة فريز Fries باعتباره مغفلاً خطرا واتهمه بأن مثال لضحالة التفكير. لقد كان فريز يرى "أن شعبا يحكمه حاكم شعبي أصيل لابد أن يتلقى كل ما يتعلق بالأمور العامة (التي تخص الشعب) من الشعب نفسه" وقد اعترض هيجل ذاكراً "أن هذا الرأي يعنى أن عالم الأخلاق سيترك للتقييم الذاتي (غير الموضوعي) وللأهواء. فبالعلاج الأسري البسيط الممثل في أن نعزو للشعور عمل العقل والفكر يمكن بطبيعة الحال أن نتخلص من كل الاضطرابات في البصيرة والمعرفة التي يوجهها التفكير المحفوف بالمخاطر" وصب الأستاذ الغاضب (فريز) جام غضبه واحتقاره على فلاسفة الحواري (يقصد هيجل من بينهم) الذي يقيمون دولاً متسمة

ص: 218

بالكمال بسبب الأحلام الوردية غير الناضجة. وأعلن فريز موقفه ضد هذا التفكير المرغوب فيه، باعتباره أساسا واقعيا لفلسفته (فلسفة هيجل) سواء السياسية أو الميتافيزيفية - وهو مبدأ ما هو عقلي فهو عملي واقعي، وما هو واقعي عملي فهو عقلي. (إن ما يفرضه منطق الأحداث، هو ما يجب أن يكون في ظل الظروف نفسها) وهاجم الليبراليون الألمان المؤلف (هيجل) باعتباره طالب دنيا يبحث عن منصب ويخدم الوضع القائم وباعتباره الفيلسوف المكلل بالغار لحكومة رجعية.

إن الحضارة تحتاج للأخلاق والقانون معا مادامت تعني أن نعيش كمدنيين (مواطنين civis) في مجتمع، ولا يمكن أن يظل المجتمع قائما إلا في ظل تقييد الحرية لضمان الحماية (للآخرين). لابد أن تكون الأخلاق ميثاقا عاما لا مجرد نزعة فردية. فالحرية في ظل القانون بناءة، والحرية بعيدا عن الالتزام بالقانون مستحيلة في الطبيعة ومدمرة في المجتمع تماما كما حدث في فرنسا في بعض مراحل الثورة.

فالقيود التي تفرضها الأخلاق المعتادة على الحرية الفردية هي الأقدم والأشمل والأكثر دواما (الأحكام الأخلاقية تتطور مع تطور المجتمع). وما دامت مثل هذه القواعد الأخلاقية تنتقل أساسا من خلال الأسرة والمدرسة والكنيسة، فهذه المؤسسات أساسية للمجتمع وتشكل أعضاءه الحيوية. وعلى هذا فمن الحمق أن نترك الأسرة تقوم على أساس زواج الحب، فالرغبة الجنسية لها حكمتها البيولوجية في استمرار النوع واستمرار المجتمع، ولكنها أي الرغبة الجنسية لا تنطوي على حكمة اجتماعية تعين على حياة مشتركة طوال العمر لرعاية الممتلكات والأطفال. ولابد أن يكتفي الرجل بزوجة واحدة، كما لابد أن توضع العراقيل أمام الطلاق ولابد أن تكون ممتلكات الأسرة مشاعا لها لكن إدارتها لابد أن تقع على كاهل الزوج. "وللمرأة دورها المهم في الأسرة من حيث إخلاصها لها وبالتزامها الأخلاقي".

ولا يجب أن يقيم التعليم أصناما للحرية واللعب (كما هو الحال في فكر بيستالوزي Pestalozzi وفيشته)، فالنظام هو عصب الشخصية، ومعاقبة الأطفال المقصود منها هو منعهم من ممارسة الحرية فهذا المنع موجود في الطبيعة، لتكون القضايا الكلية في وعيهم وإرادتهم.

ص: 219

ولا يجب أن نقيم وثنا للمساواة، فنحن سواء فقط من حيث أن لكل منا روحا، ولا يجب أن نكون أداة لشخص آخر، لكن الواقع يقول إننا لسنا سواء، سواء من الناحية الجسمية أو من ناحية قدراتنا العقلية. وأفضل النظم الاقتصادية هي التي يتاح فيها لذوي القدرات الأعلى تطوير أنفسهم مع إتاحة حرية نسبية لتحويل الأفكار الجديدة إلى حقائق إنتاجية. ولابد أن تكون الملكية خاصة وبدون هذا لن يكون هناك حافز لذوي القدرات الأعلى لإجهاد أنفسهم. ولابد لتحقيق أهداف الحضارة من الإبقاء على الدين كأداة مثلى لأنه يربط الفرد بالكل.

ما دام الدين عاملا متكاملا مع الدولة، يزرع معنى الوحدة في أعماق نفوس الناس، فلابد - حتى - أن تطلب الدولة من كل مواطنيها أن يكونوا أعضاء في الكنيسة. فالدولة لا يمكنها أن تتداخل مع الكنيسة لأن إيمان الفرد قائم على أفكاره الخاصة.

ولابد أن تكون الكنائس منفصلة عن الدولة لكن لابد على الكنائس أن تنظر للدولة كأمر متمم للعبادة يكون فيه هدف الدين توحيد الفرد مع الكل بقدر ما تسمح الإمكانات في هذه الدنيا. فالدولة إذن هي أسمى إنجاز بشري. إنها عضو organ المجتمع المنوط به حماية الشعب وتطويره، إذ يقع على كاهلها والتوفيق بين النظام الاجتماعي من ناحية والنزوع الطبيعي للفردية، والصراع والغيرة بين المجموعات الداخلية (في داخل المجتمع) من ناحية أخرى. والقانون هو حرية الإنسان المتحضر لأنه يحرره من الظلم ويحميه من الخطر في مقابل موافقته على ألا يُلحق بالمواطنين الآخرين ظلما أو يعرضهم للخطر.

فالدولة هي بالفعل الحرية الرصينة وكي تتحول الفوضى إلى حرية منضبطة لابد أن يكون لدى الدولة الصلاحية بل وحق استخدام القوة في بعض الأحيان، فالشرطة أمر ضروري وفي الأزمات مع القوى الخارجية يكون التجنيد الإلزامي ضروريا أيضا. لكن إذا كانت الدولة جيدة التنظيم حسنة الإدارة لأمكنها أن تدعى أنها تنظيم عقلي. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول عن الدولة ما قلناه عن الكون ما هو عقلي هو حقيقي واقع، وما هو حقيقي واقع هو عقلي. هذه ليست يوتوبيا - المدينة الفاضلة (utopia) ، فاليوتوبيا غير حقيقية. أكان هذا تقنينا مثاليا لبروسيا في سنة 1820؟ ليس تماما. فعلى النقيض من هذا النظام، أخذت على عاتقها

ص: 220

النجاح الكامل لإصلاحات شتاين وهاردنبرج Stein & Hardenberg. لقد دعت إلى مَلكية (بفتح الميم) مقيدة وحكومة دستورية، وحرية العبادة وإعطاء حقوق المواطنة لليهود. لقد أدانت الحكم المطلق الذي عرفته بأنه حيث يختفي القانون، وعندما تتحكم إرادة بعينها سواء كانت إرادة العرش أو إرادة العوام (حكومة الدهماء Ochlocracy) وتصبح هذه الإرادة قانوناً أو تحل محل القانون، بينما تقتضي الدقة أن توجد الحكومة الشرعية والدستورية في وضع مثالي ورفض هيجل الديمقراطية برمتها:

فالمواطن العادي غير مهيأ لاختيار الحاكم الكفء، وغير مهيأ لرسم سياسة البلاد. وقبل الفيلسوف (هيجل) دستور الثورة الفرنسية الصادر في سنة 1791 ذلك الدستور الذي دعا لملكية دستورية يصوت فيه الشعب لاختيار أعضاء جمعية وطنية، وليس لاختيار الحاكم. والملكية الانتخابية هي أسوأ المؤسسات لذا فقد أوصى هيجل بحكومة ذات مجلسين تشريعيين ينتخبها المواطنون ذوو الممتلكات، ومجلس وزراء تنفيذي وإداري، ومَلكية وراثية hereditary monarch في يدها القرار النهائي. إن تطوير الدولة إلى ملكية دستورية هو إنجاز العالم المعاصر.

ومن غير العدل أن نصف هذه الفلسفة بالرجعية فهي متمشية تماما مع الاتجاه العقلي المحافظ لكل من مونتيني Montaigne وفولتير، وبورك Burke وماكولي Macaulay، وبها نصح بنيامين كونستانت Benjamin Constant ابن الثورة نابليون، وكذلك انتهى توكفيل Tocqueville بعد دراسة الحكومتين الفرنسية والأمريكية. ويترك هذا النظام مساحة لحرية الفكر الفردية والتسامح الديني. ولابد أن ننظر لهذا النظام في سياق الزمان والمكان: ولابد - كي نفهم هذا النظام - أن نتصور أنفسنا في خضم الاضطراب الهائل الذي ساد أوربا بعد فترة نابليون بما اعتراها من إفلاس وإحباط، حيث كانت حكوماتها الرجعية تحاول إعادة نظم الحكم القديمة (السابقة على الثورة الفرنسية) - لابد أن نتصور أنفسنا في فترة هذه صفاتها لنفهم رد فعل مفكرٍ كان هو أيضاً قد تقدم به العمر كثيراً بدرجة تمنعه من أن يكون مغامراً فكريا وكانت أقدامه قد رسخت رسوخاً شديداً بدرجة تمنعه من التشوق للثورة، أو المخاطرة بإحلال نظريات لم تُحككها التجربة محل حكومات قديمة أو استبدالها بحكم العامة. لقد كانت كتاباته في

ص: 221

هذه المقدمة متعجلة غير منظمة بعناية ولم تكن جديرة باسم فيلسوف. لقد خاف الرجل العجوز من بلاغة فريز Fries وفصاحته وما يلقاه من استقبال حافل فاستدعى الشرطة ولم يكن آسفاً لقد التفتت الحكومات أخيراً لهذا النوع من الفلسفة لقد كانت الفترة فترة محافظة لا مغامرة.

3/ 5 - التاريخ

لابد أن تلاميذ هيجل كانوا يحبونه، فقد عكفوا بعد موته على ملاحظاته notes وأضافوا ما كتبوه في أثناء إلقائه لمحاضراته، ونظموا نتائجه في نسق منطقي، ونشروها باسمه. ومن هنا فقد ظهر لهيجل أربعة كتب بعد موته: علم الجمال Aesthetics وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ، وتاريخ الفلسفة. وكانت هذه الأعمال هي أكثر أعماله وضوحاً ففيها أقل قدر من تعقيد الفكر والأسلوب.

فالفكرة الوحيدة التي أدخلتها الفلسفة لدراسة التاريخ وتأمله هي فكرة العقل (التعليل) البسيطة: فالعقل (التعليل) أي منطق الأحداث وقوانينها هي مَلِك العالم Sovereign of the World، وعلى هذا فتاريخ العالم يُقدم لنا عملية عقلية وهنا أيضاً نجد ما هو واقع (ما هو موجود أو ما هو فعلي) هو أيضاً عقلي - إنه النتيجة الوحيدة المنطقية والحتمية لأحداث سبقت antecedents وغالباً ما يتحدث هيجل عن العقل الحاكم Sovereign Reason بمصطلحات دينية لكنه يعرّفه بالمزاوجة بين سبينوزا ونيوتن Newton: العقل هو جوهر الكون، أعني أنه به (أي بالعقل) وفيه (أي في العقل) توجد كل الحقيقة وتعيش ومن ناحية أخرى فهو (العقل) الطاقة المطلقة وغير المحدودة للكون أي أن مقولات المنطق (Logik بالمفهوم الهيجلي السابق) هي الوسائل الأساسية لفهم العلاقات الفاعلة التي تكوّن التركيب النهائي للأشياء، وجوهرها Essence وحقيقتها.

وإذا كانت عمليات التاريخ تعبيراً عن العقل Reason - أي عن القوانين الملازمة لطبيعة الأشياء - فلابد أن هناك منهجاً لمسيرة الأحداث التي تبدو في الظاهر غريبة. ويرى هيجل منهجاً (method) يحكم الأحداث أو مسيرة الأحداث ونتائجها. إن فعل العقل في التاريخ

ص: 222

- كما هو في الفكر - هو فعل ديالكتيكي: كل مرحلة أو حالة هي فكرة (thesis) تحوي نقيضها (antithesis) وتتصارعان معاً (الفكرة والنقيض) لتظهر منهما الجمعية (Synthesis) وعلى هذا فالحكم المطلق يحاول قمع الرغبة الإنسانية في الحرية، فيقوم الراغبون في الحرية بثورة، فتكون النتيجة (الجمعية Synthesis) ملكية دستورية.

أهناك إذن خطة عامة أو كلية وراء مسيرة التاريخ؟ لا، إن كان هذا يعني قوة عليا واعية تقود كل الأسباب والجهود للوصول إلى هدف محدد، ونعم إذا كان المقصود أن المجرى العريض للأحداث كالتقدم في مضمار الحضارة إنما يحركه عقل كلي total of Geist or mind لتقريب الإنسان شيئاَ فشيئاً لهدفه الذي استغرقه (تشربه أو كمن فيه) ألا وهو الحرية من خلال العقل Reason. لا حرية من from القانون وإنما حرية من خلال through القانون (رغم أن الحرية من القانون قد تأتي إن وصل الذكاء البشري إلى منتهاه أي إلى ذروة تطوره)، وعلى هذا فتطور الدولة يمكن أن تكون هبة للحرية. وهذا التقدم نحو الحرية ليس مستمراً لأنه في ديالكتيك التاريخ (الديالكتيك بالمعنى الهيجلي السابق) هناك تناقضات يتعين حلها، ومعارضات يتعين تحويلها لتندمج مع غيرها وتباينات مندفعة بعيدة عن المركز يتعين جذبها إلى مركز واحد بحكم طبيعة العصر أو جهود بشر غير عاديين.

هاتان القوتان (الزمن والعبقرية) هما مهندسا التاريخ وعندما يعملان معاً تكون لهما قوة لا تُقاوم. واعتقد هيجل - مستوحياً أفكار كارليل Carlyle - في الأبطال وفي عبادة الأبطال. والعباقرة ليسوا بالضرورة طاهرين أخلاقياً، رغم أن من الخطأ أن نتصورهم أنانيين، فنابليون لم يكن مجرد غاز يغزو لمجرد الغزو، فقد كان - سواء كان واعياً بذلك أم لا - ممثلاً لأوربا في توقعها للوحدة وحاجتها لقوانين متماسكة لها طابع الدوام. لكن العبقرية تصبح بلا مُعين لها إذا لم تتمثل روح العصر ومتطلباته (سواء كان العبقري واعياً بذلك أم لا)"فالعباقرة لهم بصيرة نافذة بمتطلبات العصر - أو بتعبير آخر أنهم يدركون ما الذي نضج ووصل لمرحلة القابلية للتطوير".

هذا هو الأكثر فائدة لعصرهم وعالمهم، أن يدركوا ما هو الذي تشكل فعلاً في رَحِم الزمن إذا اعتلى العبقري هذه الموجة (مثل جاليليو وفرانكلين وجيمس وات) سيصبح قوة دافعة للتطور حتى ولو سبب بؤساً لجيل كامل،

ص: 223

فليس معنى العبقرية تسويق السعادة وتاريخ العالم ليس مسرحاً للسعادة، ففترات السعادة فيه صفحات عقيمة لأنها فترات الهارمونية (التناسق) عندما تكون الفكرة المضادة antithesis في حالة معطلة (أو بتعبير آخر في لا فاعلية مؤقتة in abeyance) هنا ينام التاريخ.

والعقبة الرئيسية في تفسير التاريخ كحركة تقدم مستمر هي الحقيقة التي مؤداها أن الحضارة يمكن أن تموت أو تختفي تماما. لكن هيجل لم يكن هو الرجل الذي يترك هذه العوارض لتفسد ديالكتيكه. لقد قسّم ماضي البشرية (كما قلنا آنفاً) إلى ثلاث فترات: الشرقية، والإغريقية - الرومانية، والمسيحية ورأى في تعاقبها بعض التقدم. الشرقية أعطت الحرية لرجل واحد وهو الحاكم المطلق، والحضارة الكلاسيكية أعطت الحرية لطبقة تستخدم الرقيق، والعالم المسيحي أعطى لكل شخص روحا تسعى لتحرير الكل. لقد لاقت مقاومة في تجارة الرقيق لكن الثورة الفرنسية أنهت هذا الصراع. وعند هذه النقطة (نحو سنة 1822) نجد هيجل يفجر أنشودة شكر مدهشة لهذه الثورة أو لما حدث في أثنائها في السنتين الأوليين:

الأوضاع السياسية في فرنسا لم تكن تقدم شيئاً إلا امتيازات كثيرة غير منظمة، كانت جميعا تُنافي الفكر والعقل وعمت المفاسد الأخلاقية وتدنت أرواح الناس. لقد كان ولابد أن يكون - التغيير عنيفاً لأن الحكومة لم تأخذ على عاتقها مهمة إعادة التحويل أو إعادة تشكيل أوضاع جديدة (فقد كان البلاط والنبلاء ورجال الدين يعارضون ذلك) .. وأثبتت فكرة الحق سلطانها، ولم يستطع النظام القديم القائم على الظلم أن يُقاوم. إنه فجر عقلي ونفسي باهر، فكل الموجودات المفكرة تشارك في التهليل والترحيب (بالثورة الفرنسية). إن الحماس الروحي ملأ العالم.

وسوّد الغوغاء صفحة هذا الفجر لكن بعد أن ضُمِّدت الجراح ظل التقدّم الجوهري، وكان هيجل لا يزال عالمي النظرة حتى إنه اعترف بفضل الثورة الفرنسية الكثير على ألمانيا - لقد أدخلت إليها القوانين النابليونية (المدوّنة القانونية) وألغت الامتيازات الإقطاعية ووسعت قاعدة الحرية ووسعت دائرة الملاك .. وباختصار فإن تحليل هيجل للثورة الفرنسية في

ص: 224

الصفحات الأخيرة من كتابه (فلسفة التاريخ) يثبت أن هذا المحافظ العجوز لم ينبذ تماماً أفكار شبابه.

واعتبر هيجل أن الخطأ الرئيسي للثورة الفرنسية هو معاداتها للدين. فالدين هو ذروة العقل وسنام العمل. ومن السخف أن نعتقد أن القسس قد ابتدعوا الدين ليخدعوهم به ويحققوا لصالحهم المكاسب من ورائه وعلى هذا فمن الغباء أن نظن أننا قادرون على إنشاء دساتير سياسية بمعزل عن الدين. فالدين هو الجو العام الذي تعطي الأمة نفسها من خلاله معياراً لما هو صحيح True،

وعلى هذا ففكرة الله God تكوِّن الأساس العام لطبيعة (شخصية) أي شعب.

وعلى العكس من ذلك فالشكل الذي يتمثل فيه التجسيد الكامل للروح Spirit هو الدولة فالدولة كاملة التطور تصبح هي أساس كل عناصر حياة الشعب الأساسية، ومحورها - فناً وتشريعاً وأخلاقاً وديناً وعلوماً وبتأييد الدين ودعمه تصبح الدولة مقدَّسة.

لقد راح هيجل يطبق ديالكتيكه في مجال بعد آخر متطلعاً إلى تأسيس نظام فلسفي موحّد يتم شرحه بصيغة فلسفية واحدة. وقد أضاف تلاميذه إلى فلسفته للتاريخ مؤلفاً آخر نشر بعد وفاته وهو تاريخ الفلسفة. فالنظم (الفلسفية) القديمة المشهورة في تحليل الكون - في هذه النظرة - تتبع نسقاً مرتبطاً بشكل أساسي بتطور المقولات (بالمفهوم الهيجلي) في المنطق Logik (بالمفهوم الهيجلي أيضاً). لقد ركز بارمينيدز Parmenides على الوجود Being والاستقرار أو الثبات Stability، وركز هيراكليوتس Heracleitus على الصيرورة والتطور والتغير. ورأى ديموقرايطس Democritus (مادة) موضوعية أما أفلاطون فرأى فكرة ذاتية (غير موضوعية) وكان أرسطو هو الذي قدم الجمعية Synthesis (بالمفهوم الهيجلي).

وكل نظام (فلسفي)، ككل مقولة وكل جيل يطوّق النظم السابقة عليه ويضيف إليها، لذا ففهم آخر النظم الفلسفية فهما كاملا يتطلب فهمها جميعا. فكل ما يحرزه جيل من تقدم في المعرفة والإبداع يرثه الجيل الذي يليه. ويشكل هذا الميراث روحه وجوهره الروحي ولما كانت فلسفة هيجل هي الأخيرة في سلسلة الفلسفات العظيمة، فهي

ص: 225

(أي فلسفة هيجل) تضم (من وجهة نظر هيجل) كل الأفكار والقيم الأساسية لكل ما سبقها من نظم (فلسفية) فهي (أي فلسفة هيجل) تمثل الأوج التاريخي والنظري لها جميعاً.

3/ 6 - موت وعودة

كاد عصره - لفترة - يقدّره كتقديره لنفسه. لقد زاد عدد التلاميذ في فصوله رغم طباعه الصارمة وأسلوبه المبهم. لقد أتى رجال بارزون قاطعين مسافات طويلة لرؤية هيجل وهو يوازن الكون بمقولاته. لقد أتاه كوزي Cousin وميشيل Michelet من فرنسا وهايبرج Heiberg من الدنمرك. وتم تكريمه في باريس في سنة 1827 وكرّمه جوته العجوز. وفي سنة 1830 اهتزت مسلّماته بانتشار الحركات الراديكالية والهياج الثوري، فهاجمها جميعاً وفي سنة 1831 أصدر من وراء القنال الإنجليزي دعوة لمناهضة وثيقة الإصلاح Reform Bill التي تعد علامة على قيام الديمقراطية في إنجلترا.

وأعاد صياغة فلسفته لتصبح أكثر فأكثر مقبولة من رجال الدين البروتستنت، ومات في برلين في 14 نوفمبر 1831 إثر إصابته بالكوليرا وكان في الواحد والستين من عمره، وكان لا يزال وافر النشاط. وتم دفنه على وفق رغبته إلى جوار قبر فيشته، وانقسم تلاميذه إلى جماعتين متناقضتين - كما لو كان هذا تأكيداً لغموضه الحذر: الهيجليين اليمينيين وعلى رأسهم جوهان إردمان Erdmann وكونو فيشر Kuno Fischer وكارل روزنكرانتس Rosenkranz، والهيجليين اليساريين ومنهم لودفيج فويرباخ Feuerbach وديفيد شتراوس Strauss وبرونو باور Bauer وكارل ماركس. وقد برع اليمينيون (الهيجليون) في الدراسة وإن انحدروا بازدهار (موجة نقد الكتاب المقدس)، أما اليساريون (الهيجليون) فزاد هجومهم على السلفية الدينية والسياسية.

وفسر اليساريون الهيجليون تعريف هيجل لله God والعقل Reason على اعتبار أنه يعني بهما أن الطبيعة والإنسان والتاريخ خاضعة لقوانين مجردة غير قابلة للتغيير. واقتبس فويرباخ Feuerbach من أقوال هيجل ما فسره بأن الإنسان لا يعرف عن الله، إلا بقدر ما يعرف الله عن نفسه من خلال الإنسان وعلى هذا فإن عقل الكون لا يكون واعياً إلا في الإنسان، فالإنسان وحده هو

ص: 226

القادر على التفكير في قوانين الكون. وكارل ماركس الذي عرف هيجل في الأساس من خلال كتاباته، حوّل الحركة الدياليكتيكية للمقولات الهيجلية إلى تفسير اقتصادي للتاريخ جعل فيه صراع الطبقات (النص حرب الطبقات) محل الأبطال، باعتبار هذا الصراع هو أداة التقدم الرئيسية. وأصبحت الاشتراكية هي الجمعية Synthesis الماركسية للرأسمالية وتناقضاتها الداخلية.

وتضاءلت شهرة هيجل لفترة حين اجتاحت آلام شوبنهاور التهكمية المسرح الفلسفي. وتاه فلاسفة التاريخ مع تقدم الدراسات التاريخية. وبدت الهيجلية تموت في ألمانيا لكنها بُعثت من جديد في بريطانيا العظمى مع جون John وإدوارد كيرد Edward Caird وت. هـ. جرين T. H. Green وج. م. إ. مكتجارت J. M. E. McTaggart وبيرنارد بوسانكت Bernard Bosanquet. وعندما ماتت (الهيجلية) في إنجلترا بُعثت من جديد في الولايات المتحدة. وربما ساعدت عبادة هيجل للدولة (أي توقيره الشديد لها) على تمهيد الطريق لبسمارك Bismarck وهتلر Hitler . وفي هذه الأثناء وجد كل من سورن كيركجارد Soren Kierkegaard وكارل جاسبرز Jaspers ومارتن هايدجر Heidegger وجان - بول سارتر في أفكار هيجل ملاحظات وإشارات حاسمة عن التنافس البشرى في عالم بعيد عن التوجيه الإلهي، فأصبح هيجل أباً روحياً للوجودية.

وباختصار فإن عصر جوته وبيتهوفن وهيجل كان إحدى الذرى في تاريخ ألمانيا. لقد وصلت ألمانيا أو كادت إلى ذُرى لا تقل عن ذرى سبقت في عصر النهضة الأوربية (الرينيسانس Renaissance) وعصر الإصلاح الديني الأوربي Reformation، لكن حرب الثلاثين عاما حطمت الحياة الاقتصادية والفكرية للشعب وجعلت روح ألمانيا قاتمة وكادت تطرح اليأس على الروح الألمانية طوال قرن. وشيئاً فشيئاً وببطء أدى النشاط والحيوية الكامنان في روح هذا الشعب، والصبر الرواقي stoic patience (الراضي بالواقع) الذي تتحلى به الألمانيات، وعمق الموسيقى الألمانية وقوتها ومهارة الحرفيين في ألمانيا ونشاط التجار - إلى إعداد ألمانيا لتلقي التأثيرات الأجنبية وهضمها وتحويلها ليتفق مع الذوق الألماني والشخصية الألمانية، ومن أمثلة هذا هضم الألمان لشكسبير وأشعار إنجلترا الرومانسية، وهضمهم لحركة التنوير Enlightenment والثورة الفرنسية. لقد طوّرت وعدّلت فولتير إلى جوته وفيلاند Wieland، وطوّرت وعدّلت روسّو إلى شيلر وريختر

ص: 227

Richter، وردت على نابليون بحرب التحرير وأفسحت الطريق لإنجازات الشعب الألماني المتعددة في القرن التاسع عشر.

إن الحضارة مجال تعاون كما أنها مجال منافسة، وعلى هذا فإنه لأمر طيب أن يكون لكل أمة ثقافتها وحكومتها واقتصادها وأزياؤها وأغانيها. إنها - أي الحضارة - قد أخذت أشكالاً مختلفة من النظم والتعبيرات لتصنع الروح الأوروبية على هذا القدر من الذكاء والمهارة والتباين، ولتصنع من أوربا اليوم فتنة جميلة لا ينتهي جمالها، وتراثاً لا ينضب.

ص: 228

الفصل الثالث والثلاثون

‌حول القلب

من 1789 إلى 1812 م

‌1 - سويسرا

شعرت هذه الأرض المباركة بنبض الثورة الفرنسية بكل مودة الجار. لقد رحب الليبراليون السويسريون بالثورة الفرنسية كدعوة للحرية، وأعلن جوهان (يوهان) فون ميلر Johannes von Muller (1752 - 1809) أشهر المؤرخين المعاصرين في 14 يوليو 1789 أن يوم قيام الثورة الفرنسية هو أفضل يوم في تاريخ أوربا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وعندما تولى اليعاقبة Jacobins زمام الأمر، كتب لأحد أصدقائه:

"الذي لا شك فيه أنك تشاركني أسفي أنه في الجمعية الوطنية (الفرنسية) نجد الفصاحة والبلاغة تطغى على الفهم الصحيح، وربما تفهم أنه نظراً لرغبتهم في أن يكونوا أحرارا إلى أقصى درجة فلن يكونوا أحرارا أبداً. ومع هذا لابد أن تتمخض الأيام عن شيء لأن هذه الأفكار تسكن في كل قلب".

فريدريك - سيزار دي لاهارب Frederic-Cesar de La Harpe - الذي كان قد عاد في سنة 1796 إلى موطنه سويسرا - بعد أن أشرب عقل زارفتش إسكندر Czarevich Alexander بالليبرالية - انضم مع بيتر (بطرس) أوكس Peter Ochs وغيره من الثوار السويسريين ليكونوا النادي السويسري (Helvetic) الذي عمل على الإطاحة بحكم الأوليجاركيات Oligarchies (الأوليجاركية نظام يقوم على حكم الأقلية) التي تحكم الكانتونات cantons (الولايات) السويسرية.

وعندما كان نابليون يمر عبر سويسرا بعد غزوته الأولى لإيطاليا، لاحظ هذه الومضات فلفت نظر حكومة الإدارة في فرنسا أنها ستجد أعوانا كثيرين إذا اختارت مواجهة النشاطات المعادية للثورة الفرنسية التي يقوم بها المهاجرون الفرنسيون emigres الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة فيها، والذين - أي هؤلاء المهاجرون - يجدون ملجأ عند الأرستقراطية السويسرية التي لهم العون. وأدركت حكومة الإدارة في فرنسا القيمة الإستراتيجية لسويسرا في الصراع بين فرنسا والأمراء الألمان، فأرسلت جيشا إلى

ص: 229

الكانتونات (الولايات السويسرية) وضمت جنيف وقضت على حكم الأوليجاركات، وأقامت - بعون متحمس من الثوريين السويسريين - الجمهورية السويسرية (الهلفتية Helvetic) تحت الحماية الفرنسية (1798).

وانقسمت الحكومة السويسرية الجديدة إلى يعاقبة (وطنيين) ومعتدلين، وفيدراليين. وقد تعاركوا وحبك كل منهم انقلابا، ولما خشوا مغبة الفوضى والحرب الداخلية طلبوا من نابليون (كان في منصب القنصل الأول في هذا الحين) أن يعطيهم دستورا جديدا. وفي سنة 1801 أرسل لهم دستورا Constitution of Malmaison كان رغم ما به من قصور أفضل دستور كانت تأمل فيه سويسرا رغم أنه - أي هذا الدستور - احتفظ بسويسرا تحت الوصاية الفرنسية. وبعد مزيد من المعارك الداخلية أطاح الفيدراليون بالحكومة الجمهورية ونظموا جيشا جديدا واقترحوا تجديد حكم الأوليجاركية (حكم الأقلية) فتدخل نابليون وأرسل جيشا من ثلاثين ألف مقاتل لإعادة السيطرة الفرنسية على سويسرا.

وطلبت الفرق المتنازعة من نابليون مرة أخرى أن يتوسط بينها. فصاغ مرسوم الوساطة الذي قبلته كل الفرق الكبيرة المتنازعة. لقد أنهى هذا المرسوم الجمهورية السويسرية (الهيلفتية) وأقام الفيدرالية السويسرية التي تشبه في خطوطها الأساسية ما عليه سويسرا الآن فيما عدا التزام سويسرا بالاستمرار في تقديم عدد من بنيها كل سنة للجيش الفرنسي. ورغم هذا العبء فقد كان مرسوم الوساطة هذا دستورا جيدا وأطلقت الكانتونات السويسرية على نابليون (معيد الحرية).

وعلى أية حال فقد كانت سويسرا رغم بهاء مناظرها تعتبر مجالاً ضيقا ليس به إلا مرح صغير وعدد قليل من القراء والمستمعين مما لا يرضي طموح المؤلفين والفنانين والعلماء الذين راحوا يبحثون عن بلاد أوسع ذوات ميدان أرحب وفرص أكبر. فذهب جوهان فوسلى Fussli إلى إنجلترا ليرسم، وذهب أوجستين دي كاندول de Candolle (1778 - 1814) إلى فرنسا وقدم هناك وصفا للنباتات وتصنيفا لها. أما جوهان بستالوزى Pestalozzi (1746 - 1827) فبقي في سويسرا ولفت انتباه أوربا بتجاربه في حقل التعليم. وفي سنة 1805 أسس في فيردون Yverdun مدرسة داخلية أدارها على وفق مبدأ

ص: 230

أنه - على الأقل بالنسبة إلى الناشئة - لا يكون للأفكار معنى إلا إذا ارتبطت بأشياء حسية، وأن تعليم الأطفال يكون أفضل أي ذا ثمار أحسن إن كان من خلال أنشطة جماعية. وقد جذبت المدرسة انتباه المدرسين فقدموا إليها من اثنتي عشرة دولة وأثرت في التعليم في المرحلة الابتدائية في أوربا والولايات المتحدة. ووضعها فيشته في خطته لإعادة تربية الشباب وتعليمهم.

وقضى جوهان فون ميلر اثنين وعشرين عاما (1786 - 1808) في تأليف كتابه متعدد الأجزاء (تاريخ الاتحاد الكونفدرالي السويسري Geschichten Schweitzerischer Eidgenossenschaft ولم يتابع السرد التاريخي إلا إلى سنة 1489 ولكنه ظل كلاسيكيا في جوهره وأسلوبه. ولأنه كتاب ممتاز فقد أضفى على مؤلفه لقب تاسيتوس السويسري Swiss Tacitus وقد كان لوصفه الكانتونات السويسرية في العصور الوسطى بشكل يجعلها مثالية، بالإضافة إلى الانتصارات العسكرية أثر كبير في رفع الروح المعنوية للسويسريين. وقد استوحى شيلر Schiller من قصته ذات الطابع الأسطوري (وليم تل) الخطوط العريضة لمسرحيته الشهيرة.

وفي سنة 1810 وكان قد بلغ الثامنة والخمسين بدأ ميلر كتابة تاريخ عام (Vier und Zwanzig Bucher allgemeiner Geschichten) . وانجذب إلى ألمانيا بسبب قرائه فعمل في خدمة الناخب (الأمير) الكاثوليكي في مينز (Mainz) وانتقل إلى العمل في خدمة المستشار الإمبراطوري في النمسا وانتهى به الأمر مديراً للتعليم في وستفاليا التي كان يحكمها وقتئذ جيروم بونابرت. وعندما مات كتبت مدام دي ستيل de Stael عنه: لا نستطيع أن ندرك كيف يمكن لرأس رجل واحد أن يحوي مثل هذا الكم الهائل من الحقائق والتواريخ dates .. إننا إذ نفتقده نبدو وكأننا افتقدنا أكثر من واحد.

ولا يليه في فن كتابة التاريخ سوى جان - تشارلز - ليونارد دي سيسموندي de Sismondi (1773 - 1842) الذي كان أحد مرافقي (وعشاق) المدام. ولد في جنيف وهرب إلى إنجلترا تخلصا من العنف الثوري ومنها إلى إيطاليا، ثم عاد إلى جنيف بعد استتباب الأمر فيها، وقابل جرمين Germaine في سنة 1803 وصحبها إلى إيطاليا وراح في

ص: 231

وقت لاحق يتردد على صالونها بالقرب من كوبت Coppet. وفي هذه الأثناء راح يكتب بشكل مدهش ومتواصل وأسهمت مجلدات كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية في العصور الوسطى Histoire des republiques italiennes au Moyen age (1809 - 1818) البالغة ستة عشر مجلدا في إلهام مانزوني Manzoni ومازيني Mazzini وكافور Cavour وغيرهم من زعماء توحيد إيطاليا. وظل طوال ثلاث وعشرين سنة (1821 - 1844) يعمل في تأليف كتابه ذي الواحد والثلاثين مجلدا (تاريخ الفرنسيين الذي ظل لفترة ينافس كتابات ميشيل Michelet فيما ناله من تقريظ.

وزار إنجلترا مرة أخرى في سنة 1818 وتأثر كثيراً بقوة اقتصادها حتى إنه كتب ونشر في سنة 1819 كتابا جديرا بالملاحظة ذا طابع تنبئي (مبادئ جديدة للاقتصادي السياسي Nouveaux Principes d'economie politique) . لقد ساق الأدلة على أن القضية الأساسية في الكساد الاقتصادي في إنجلترا كانت في فتور القوى الشرائية العامة مع زيادة الإنتاج زيادة سريعة نتيجة المخترعات (الحديثة)، ودلل على أن هذا الفتور في القوى الشرائية يرجع في الأساس إلى نقص الأجور، وقد تتكرر أزمات مشابهة بسبب قلة الاستهلاك طالما بقي النظام الاقتصادي دون تغيير.

وكانت اقتراحات سيسموندي راديكالية بشكل يثير المخاوف. فرفاهية السكان لابد أن تكون هي الهدف الرئيسي للحكومة. ولابد من إلغاء القوانين المناهضة لاتحادات العمال. ولابد من تأمين العمال ضد البطالة، وحمايتهم من الاستغلال. ولا يجب التضحية بمصالح الأمة أو الإنسان لصالح الجشع

إذ يجب حماية الأثرياء من جشعهم ورغم هذه الماركسية التي سبقت الماركسية، فقد رفض سيسموندي الاشتراكية (التي كانت تسمي وقتئذ بالشيوعية) لأنها قد تضع السلطة السياسية الهيمنة الاقتصادية في منال الأيدي نفسها، وقد تضحي بالحرية الفردية لصالح هيمنة الدولة فيصبح سلطانها مطلقا.

ص: 232

‌2 - السويد

كان من الممكن أن ترحب السويد بالثورة الفرنسية على الأقل في مراحلها الأولى، لأنه خلال حركة التنوير السويدية في القرن الثامن عشر كان الفكر السويدي منسجماً مع الفكر الفرنسي، وكان الملك السويدي نفسه - جوستافوس الثالث Gustavus (حكم من 1771 إلى 1792) أحد أبناء التنوير الفرنسي وكان معجبا بفولتير. لكن الملك جوستافوس لم يكن يحترم الديمقراطية وإنما كان يرى في الملكية القوية الطريق الوحيد لحكم قوي تقبض على زمامه أرستقراطية ملاك الأراضي الحريصة حرصا شديدا على امتيازاتها التقليدية.

لقد نظر إلى مجلس طبقات الأمة (مايو 1789) كاجتماع مرتبط بملاك الأراضي والعقارات وعندما تطور الصراع بين هذا المجلس ولويس السادس عشر شعر بتهديد قوي لكل الملوك وليس للويس السادس عشر وحده فعرض وهو الليبرالي المتنور أن يكون على رأس تحالف ضد الثورة الفرنسية، وبينما كان منشغلا بوضع الخطط لإنقاذ لويس السادس عشر دبر بعض النبلاء السويديين مؤامرة لاغتياله. وفي 16 مارس 1792 تم إطلاق النار عليه، ومات في 26 مارس وعمت الفوضى السياسية في السويد حتى سنة 1810.

وكان حكم جوستافوس الرابع (1792 - 1809) حكما تعساً. لقد انضم للتحالف الثالث ضد فرنسا (1805) مما أعطى نابليون مبررا للاستيلاء على بوميرانيا Pomerania وسترالسوند Stralsund - وهي آخر الممتلكات السويدية على البر الأوربي المقابل لها. وفي سنة 1808 عبر جيش روسي خليج بوثنيا Bothnia على الجليد وهدد ستوكهولم فاضطرت السويد إلى التخلي عن فنلندا مقابل السلام، وعزل الريكسداج Riksdag، جوستافوس الرابع وأعاد سلطان الأرستقراطية واختار عم الملك المعزول، وكان في الواحدة والستين من عمره سهلا طيعا. إنه تشارلز الثالث عشر (حكم من 1809 - 1818)، ولأنه لم ينجب فكان لابد من اختيار وريث لعرشه، فطلب الريكسداج Riksdag من نابليون أن يسمح لأحد أبرز مارشالاته وهو جان - بابتست بيرنادوت Jean - Baptiste Bernadotte بقبول ولاية العهد. ووافق نابليون، ربما أملاً في أن يكون لزوجة بيرنادوت التي كانت ذات مرة خطيبة نابليون وكانت أخت جوزيف بونابرت - نفوذ في السويد. وعلى هذا أصبح

ص: 233

بيرنادوت في سنة 1810 هو ولي عهد السويد وأصبح اسمه تشارلز جون Charles John.

وفي ظل حكومة هذا تكوينها واصل العقل السويدي جهوده في مضمار التعليم والعلم والأدب والفن، فكانت جامعات أوبسالا Uppsala وأبو Abo ولوند Lund من بين أفضل الجامعات في أوربا. وكان جون جاكوب بيرزيليوس Jons Jakob Berzelius (1779 - 1848) أحد مؤسس الكيمياء المعاصرة. إذ استطاع بدراسته المتأنية الدقيقة لنحو ألفي مركب أن يصل إلى قائمة بالأوزان الذرية أكثر دقة بكثير من قائمة دالتون Dalton ولا تختلف إلا قليلا جدا من حيث دقتها عن القائمة التي استقر عليها العلم في سنة 1917. وعزل كثيرا من العناصر الكيميائية للمرة الأولى. وراجع نظام الرموز الكيميائية الذي وضعه لافوازيه Lavoisier وقام بدراسات كلاسيكية في الأثر الكيميائي للكهرباء وطور نظاما ثنائيا لدراسة عناصر في التفاعل الكيميائي كموجبة أو سالبة كهربيا. وأصبح كتابه الموجز الذي نشره في سنة 1808 وتقريره السنوي Jahresbericht الذي بدأ صدوره سنة 1810 إنجيلا للكيميائيين طوال جيل.

وكذلك كان في السويد كثير من الشعراء انقسموا إلى مدرستين شعريتين متنافستين: الفوسفوريون Phosphorists الذين ترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى مجلتهم التي أصدروها بعنوان (الفسفوري Phosphorous) وكانوا متأثرين بالرومانسية الألمانية الوافدة وتحوي أشعارهم الكثير من العناصر الباطنية (الصوفية) أكثر من سواهم من الشعراء، والقوطيون (المدرسة الشعرية القوطية Gothics) الذين راحوا يعزفون في أشعارهم على أنغام البطولة.

وبدأ تجنر Esaias Tegner كقوطي (من المدرسة الشعرية القوطية السابق ذكرها) لكنه كان كلَّما سار قدما في مضمار الشعر راح يوسع مجالات تناوله الشعري حتى بدا وكأنه يضم بين جنبيه كل مدارس الشعر السويدية. ولد تجنر في سنة 1782 ولم يكن قد بلغ السابعة من عمره عندما نشرت الثورة الفرنسية - وكانت كأعظم الفسفوريين - نورها وحرارتها خلال أوربا، وما كاد يبلغ الثالثة والثلاثين حتى نفي نابليون إلى سانت هيلينا وعاش تجنر إحدى وثلاثين سنة أخرى لكنه كان قد حقق بالفعل تفوقه وشهرته عندما منحته الأكاديمية الملكية السويدية في سنة 1811 جائزة لقصيدته (Svea) التي وبّخ فيها

ص: 234

كل معاصريه لفشلهم في الحفاظ على عادات أسلافهم.

وانضم (إلى الاتحاد القوطي Gothic Union) وسخر من الفسفوريين (أتباع المدرسة الشعرية الفسفورية السابق ذكرها) متهما إياهم بالضعف الرومانسي. وأصبح وهو في الثلاثين من عمره أستاذا للغة اليونانية في جامعة لوند Lund وأصبح وهو في الثانية والأربعين (أسقف فكسجو Vaxjo) وفي الثالثة والأربعين (1825) نشر أشهر قصيدة في الأدب السويدي. لقد كانت هذه القصيدة الطويلة (Frithjofs Saga) سلسلة من الحكايات الأسطورية مستوحاة من التراث الشعري الاسكندينافي القديم وظن بعض النقاد أن الملحمة مغرقة جدا في الاتجاه الخطابي (ذات نبرة عالية) - فالشاعر لم يستطع استبعاد مزاجه الأسقفي، لكن بهاء قصائده وروحها الغنائية جعلتها تحظى بقبول حماسي حتى خارج السويد فبحلول عام 1888 ترجمت إلى الإنجليزية إحدى وعشرين مرة وإلى الألمانية تسع عشرة مرة.

وبدا وكأن تجنر Tegner قد استنفد قواه في عمله الشعري هذا فبعد أن أنهاه تدهورت صحته لكنه ظل يكتب الشعر في المناسبات وأهدى إحدى قصائده لامرأة متزوجة من فكسجو Vaxjo. لقد كان ليبراليا في الأساس لكنه تحول إلى متحفظ متمسك بالاتجاه المحافظ ودخل في خلافات ساخنة مع الأقلية الليبرالية في الريكسداج Riksdag. وأعقب اضطرابات 1840 اضطراب فكري لكن واصل كتابة شعره الجيد حتى مات في سنة 1846 في فكسجو Vaxjo وفي هذه الأثناء أصبح الملك تشارلز الثالث عشر مريضا بشكل مستمر، فتولى ولي العهد تشارلز جون الوصاية على العرش وتولى مسئولية الحكم.

وسرعان ما واجه خيارا صعباً بين ولائه لوطنه الأصلي (فرنسا) والبلاد التي احتضنته (السويد)، ومادامت الدول تكون مولعة بضم بلاد أخرى تماما كمواطنيها، فإنها ترسل زوائدها الكاذبة pseudopodia كزوائد الأميبيا المعدة للإمساك - تلك الزوائد المسماة بالجيوش - للإمساك بما يعد وجبات شهية، فقد راحت الحكومة السويدية تتطلع بنهم لامتلاك جارتها النرويج التي كانت الدنمرك منذ سنة 1397 تدعي حق ملكيتها. واقترح ولي عهد السويد على نابليون أن تضم السويد النرويج إليها فبهذا تتوثق عرى العلاقات بين السويد وفرنسا فرفضه نابليون لأن الدنمرك كانت من أخلص حلفائه، وفي يناير سنة 1812 استولى نابليون مرة أخرى على بوميرانيا Pomerania

ص: 235

السويدية بحجة أنها سمحت باستيراد البضائع البريطانية وهذا إخلال بالحصار القاري الذي فرضه نابليون، فاتجه الأمير تشارلز جون إلى روسيا التي كانت هي بدورها تتجاهل الحصار القاري فوافقت روسيا على أن تبتلع السويد النرويج مقابل أن تؤيد السويد بما قامت به روسيا من ضم فنلندا إليها. وفي أبريل سنة 1812 وقعت السويد تحالفاً مع روسيا وفتحت موانئها للتجارة البريطانية. هذا هو الوضع في السويد عندما كان نابليون يحتفي بملوك أوربا في دريسدن Dresden في طريقه إلى موسكو.

‌3 - الدنمرك

لم تثر أخبار سقوط الباستيل دهشة كبيرة لدى الدنمركيين الذين كانوا بالفعل منذ سنة 1772 قد ألغوا القنانة serfdom (عبودية الأرض) والتعذيب في أثناء المحاكمة وأصلحوا القانون والمحاكم والشرطة وطهروا مجال الخدمة المدينة من الرشوة واستغلال النفوذ وأعلنوا حرية العبادة لكل الأديان وشجعوا الأدب والفن. وكان الدنمركيون ينظرون إلى أسرتهم المالكة كأساس استقرار وسط صراع الطبقات وتقلبات السياسة. وعندما هاجم الجمهور الباريسي الملك لويس السادس عشر، وبعد الحكم عليه بالإعدام - رغم أنه أي لويس السادس عشر كان كالملك الدنمركي مؤيداً لاتخاذ إجراءات ليبرالية، كان الدنمركيون متفقين مع مليكهم على أنهم ليسوا في حاجة إلى هذا الانفعال (العنف). وسرعان ما نظر الدنمركيون بتسامح إلى نابليون لتهدئته الثورة وإعادته النظام في فرنسا، فرفضت الدنمرك الانضمام لتحالف مضادٍ له.

بل على العكس فقد تحدت الحكومة الدنمركية دعاوي الأدميرالية البريطانية بحق قباطنتها في الصعود إلى أي سفينة متجهة إلى فرنسا والبحث عن البضائع المهربة فيها. وفي مناسبات عديدة في سنتي 1799 و 1800 اعتلى القباطنة البريطانيون سفنا دنمركية وقبض أحدهم على سبعة تجار دنمركيين ممن قاوموه واحتجزهم في ميناء بريطاني. وفي أغسطس سنة 1800 دعا القيصر بول الأول Czar Paul I ملوك بروسيا والسويد والدنمرك للانضمام إليه في العصبة الثانية للحياد المسلح بهدف مقاومة تفتيش البريطانيين للسفن المحايدة.

ص: 236

وفي 16 و 18 ديسمبر سنة 1800 وقعت القوى البلطيقية الأربع إعلان مبادئ وافقوا بمقتضاه على الدفاع عن الآتي:

(1)

لكل سفينة محايدة الحق في الإبحار بحرية من ميناء إلى ميناء على سواحل الدول المتحاربة.

(2)

البضائع التي تخص رعايا القوى المتحاربة - باستثناء المهربة - لا يجوز التفتيش عليها إذا كانت على متون سفن تمتلكها دول محايدة ....

(5)

إعلان قائد السفينة (المحايدة) أن السفينة أو السفن التابع للبحرية الملكية أو الإمبراطورية .. ليس في حمولتها بضائع مهربة - يكفي لمنع أي تفتيش.

أعرب نابليون عن اغتباطه بهذا الإعلان، ودعا بول الأول فرنسا للانضمام إلى روسيا في غزو الهند للقضاء على السيطرة البريطانية هناك. وأحست إنجلترا أن النزاع وصل إلى نقطة حرجة لأن الأساطيل المشتركة للقوى المحايدة وفرنسا يمكن أن تنهي السيطرة البريطانية على البحار التي هي - أي هذه السيطرة - المانع الوحيد الذي يمنع نابليون من غزو إنجلترا، فانتهت الحكومة البريطانية إلى أن الحل الوحيد هو الاستيلاء على الأسطول الدنمركي أو الروسي أو تدميره. ومن الأفضل أن يلحقوا هذا بالأسطول الدنمركي لأن الهجوم على روسيا قد يتيح للأسطول الدنمركي الهجوم على مؤخرة الأسطول البريطاني.

وفي 12 مارس 1801 غادر أسطول بريطاني بقيادة السير هايد باركر Hyde Parker، ميناء يارموث Yarmouth مزودًا بتعليمات للتوجه إلى كوبنهاجن ومطالبة الدنمرك بالانسحاب من عصبة الحياد المسلح وفي حالة الرفض يقوم الأسطول الإنجليزي بالاستيلاء على الأسطول الدنمركي أو تدميره. وكان الأدميرال المساعد هو هوراشيو نيلسون Horatio Nelson وكان في الثانية والأربعين من عمره، وكان هو القائد الثاني، وكان مستاء من تبعيته للأدميرال باركر البالغ من العمر اثنين وستين عاما والذي أظهر ميلا للحذر من ميل نيلسون للخروج عن قيادته.

ووصلا إلى الساحل الغربي لجوتلاند Jutland في 17 مارس وأبحرا بحذر شمالا وحول رأس شجيراك Skaggerak لشبه الجزيرة ثم جنوباً في خليج كتيجات Kattegat الكبير إلى جزيرة سجالاند Sjaelland ومن ثم عبرا المضيق الضيق بين هالسنجبورج Halsingborg

ص: 237

السويدية وهلسنجور Helsingor الدنمركية فأطلق عليهم حصن كرونبورج Kronborg مدافعه، فاتجه الأسطول البريطاني جنوبا في المضيق حيث مضيق آخر هو أضيق المضايق جميعا فبدت كوبنهاجن منيعة يحميها الأسطول الدنمركي والحصون - لقد كان هناك سبع عشرة سفينة مصفوفة في خط من الشمال إلى الجنوب، وكان كل منها مسلحا بمدافع يتراوح عددها بين عشرين وأربعة وستين مدفعا.

وقرر الأدميرال باركر Admiral Parker أن سفنه الكبرى حجما ذوات الغاطس الأعمق من سفن نيلسون Nelson لا يمكنها دخول هذا المضيق ذي المياه الضحلة، دون خطر الارتطام بالأرض أو التعرض للتدمير فانتقل نيلسون بعلم قيادته من السفينة سانت جورج إلى السفينة إليفانت (الفيل Elephant) وقاد إحدى وعشرين سفينة أصغر من سواها في المضيق ركزها في مواجهة السفن والحصون الدنمركية مباشرة. لقد دارت المعركة (2 أبريل 1801) وكل طرف منهما على مقربة من الطرف الآخر حتى كادت كل طلقة أو قذيفة تحمل معها الدمار أو الموت وقد حارب الدنمركيون بشجاعتهم المألوفة، وحارب الإنجليز بنظامهم المعهود ومهارتهم في التصويب. وكادت كل سفينة من السفن المشتركة في القتال تتعرض لخطر شديد، وبدا موقف نيلسون حرجاً جداً حتى إن الأدميرال باركر أشار إليه بالإشارة رقم 39 الشهيرة والتي تعني التراجع.

وثمة رواية إنجليزية تذكر أن نيلسون راح ينظر للإشارة بإمعان بعينه المصابة بالعمى، وعلى أيه حال فقد أقسم في وقت لاحق أنه لم ير أبدا الإشارة التي تأمر بالتراجع، فواصل القتال. ونجح المغامر الكبير فراحت السفن الدنمركية تهوي غارقة أو تصبح غير صالحة للقتال. وعرض نيلسون وقف إطلاق النار فقبل طلبه، وكان نيلسون - كنابليون - يستخدم الدبلوماسية إلى جانب الحرب لتحقيق غرضه، فاتجه إلى الساحل لمناقشة شروط السلام مع فريدريك الوصي على العرش الدنمركي وولي العهد. وكان الأمير قد تلقى أخبارا مفادها أن القيصر بول الأول قد اغتيل (23 مارس 1801) وأن عصبة الحياد المسلح قد انهارت، فوافق على الانسحاب منها. وأكدت الحكومة البريطانية الاتفاق الذي وقعه نيلسون، وعاد إلى نصر آخر، فقد دعته الأمة (1805) لينقذ السيادة البريطانية على البحار في معركة الطرف الأغر.

ونجت الدنمرك واحترمتها إنجلترا كما كانت تحترمها سائر دول أوروبا، وظلت هذه المملكة

ص: 238

الصغيرة طوال الست سنوات التالية تُناضل للحفاظ على حيادها بين بريطانيا العظمى وروسيا اللتين تسيطران على البحار المجاورة، والجيوش الفرنسية التي تَعِسّ في الأراضي المجاورة لهذه الشبه جزيرة التي يعمها الاضطراب. وكان الدنمركيون بشكل عام يميلون لنابليون لكنهم امتعضوا بسبب إلحاحه عليهم لمزيد من الانحياز له. وبعد سلام تيلسيت Tilsit أرسل نابليون رسالة إلى الحكومة الدنمركية ملحاً على ضرورة منع أي بضائع إنجليزية، ومطالباً بتعاون أسطول الدنمرك الجديد مع الفرنسيين.

والآن - كما كان الأمر في سنة 1801 - أخذت الحكومة البريطانية بزمام المبادرة وأرسلت أسطولاً كبيراً على متون سفنه 27،000 مقاتل إلى المياه الدنمركية (26 يوليو 1807) متذرعة بأن عملها هذا لا هدف له إلا تحقيق السلام، وحذَّر وزير الخارجية البريطاني جورج كاننج George Canning حكومته من أن نابليون كان يخطط لضم الأسطول الدنمركي إلى أسطول آخر في محاولة لإنزال جنود في اسكتلندا أو أيرلندا، وفي 28 يوليو أصدر كاننج تعليمات لممثلي الحكومة البريطانية في الدنمرك بإعلام ولي العهد الدنمركي أنه من الضروري لأمن بريطانيا العظمى أن تتحالف معها (أي الدنمرك) وأن تضع أسطولها تحت تصرف الحكومة الإنجليزية.

ورفض ولي العهد الدنمركي واستعد للمقاومة، فحاصرت السفن البريطانية سجالاند Sjaelland وأحكم الجند البريطانيون الحصار حول كوبنهاجن، وتعرضت المدينة لقذف بالمدفعية من البر والبحر (2 - 5 سبتمبر 1807) وكان القصف عنيفاً لدرجة أن الدنمركيين سلَّموا لإنجلترا كل أسطولهم: 18 سفينة كبيرة وعشر فرقاطات وأربع وعشرين سفينة صغيرة. ومع هذا فقد واصلت الدنمرك الحرب وظلت منحازة لفرنسا حتى سنة 1813.

وفي أثناء الحروب، بل وبإلهام منها في غالب الأحيان - قدم الدنمركيون إسهامات مهمة في العلوم والآداب والفنون. لقد اكتشف هانز كريستيان أورستد Christian Oersted (1777 - 1851) أن إبرة ممغنطة (على محور) ستعود عند الزوايا القائمة إلى الطرف الآخر حاملة تياراً كهربيا. ودخلت الكلمة (أورستد) إلى كل اللغات الأوروبية والأمريكية لتعني وحدة القوَّة في مجال مغناطيسي (وحدة شدّة المجال المغناطيسي). لقد أسس

ص: 239

أورستد علم الكهرباء المغناطيسية خلال ثلاثين عاماً من التجارب.

وكان نيكولاي جرندتفج Nikolai Grundtvig طوال عمره البالغ ثمانية وتسعين عاماً يبذل كل جهده ليكون لاهوتياً متحرراً وأسقفاً وفيلسوفاً ومؤرخاً ومربّيا مبدعا ورائداً في دراسة الحكايات الشعبية والتراثية من الآداب الأنجلوسكسونية وآداب اسكندينافيا، وألَّف بعض القصائد الملحمية والأغاني والترانيم الدينية التي مازالت محبوبة في اسكندينافيا.

وكان للدنمرك في هذا العصر المفعم بالأحداث مسرح ناشط، عملت كوميدياته على وخز مظاهر الادعاء على المستوى الاجتماعي، فسخر بيتر أندرياس هايبرج Heiberg (1758 - 1841) من التمييز الطبقي في مسرحيته (De Vonner og de Vanner) فكثر أعداؤه بسبب ذلك حتى إنه لجأ إلى باريس طلباً للأمان فعمل في وزارة الخارجية الفرنسية مع تاليران، وقد أنجب ابنا هو جوهان لودفيج هايبرج (1791 - 1860) الذي كان له شأن كبير في المسرح الدنمركي في الفترة التالية.

وظهر في الأدب الدنمركي شاعران على الأقل تخطت شهرتهما حدود الدنمرك واللغة الدنمركية، ولا شك أن جينز إيمانويل باجسن Jens Immanuel Baggesen (1764 - 1826) كان ذا شخصية جذابة وأسلوب رشيق. ولقد افتتن دوق أوجستنبورج Augustenburg بأشعاره الأولى، فدفع للشاعر الشاب تكاليف زيارته لألمانيا وسويسرا. وقابل جينز Jens كلاً من فيلاند، وشيلر، وهيردر وكلوبستوك، وأحس بتطلعات روسّو الرومانسية، وسعد بالثورة الفرنسية وابتهج لقيامها.

ودرس فلسفة كانط وسار في تيارها، ذلك التيار الذي أنعش الفلسفة الألمانية، وأضاف اسم كانط إلى اسمه وكتب حصاد رحلاته وتأملاته في كتاب متاهة شاعر جوّال Labyrinthen eller Digtervandringer (1792) كاد يضارع فيه لورنس ستيرن Laurence Stern فكاهةً وفيضَ مشاعر. ولما عاد للدنمرك تخلّى عن إثارة فيمار وباريس، وعاش في فرنسا في الفترة من 1800 إلى 1811 يراقب نابليون وهو يصوغ النظام من الحرية ويحول الجمهورية إلى إمبراطورية (المقصود يحول النظام الجمهوري إلى نظام إمبراطوري أو ملكي). وفي سنة 1807 ألف قصيدة حيوية (الشبح ونفسه Gjengengeren og han selv)

ص: 240

عرض فيها بذكاء وعمق تأرجحه بين المُثل الكلاسيكية من نظام وانضباط وحقيقة من ناحية، والاعتدال والتطلع الرومانسي إلى الحرية والخيال والرغبة من ناحية أخرى. وفي سنة 1811 أصبح أستاذاً في جامعة كيل Kiel، وبعد ذلك بعامين دخل في معركة حامية مع أعظم شعراء الدنمرك.

لقد عاش آدم جوتلوب أولنشليجر Adam Gottlob Oehlenschlager (1779 - 1850) حياة سعيدة - بشكل غير عادي - في فترة شبابه. كان والده ناظراً لأحد قصور الضواحي التي تحيط بها الحدائق والحقول، فاستمتع ابنه بحديقة يلعب فيها ومكتبة يقرأ فيها وصالة يعرض فيها الأعمال الفنية، وحلق به خياله وتطلّع للعمل في مهنة التمثيل لكن صديقه هانز كريستيان أورستد جذبه إلى جامعة كوبنهاجن. لقد عاش خلال الفترة التي قذف فيها البريطانيون بمدافعهم الأسطول الدنمركي والعاصمة الدنمركية في سنة 1801، وأحس بتأثير الفيلسوف النرويجي هنريك ستيفنز Henrik Steffens، وأخيراً وصل إلى مكانته من الشهرة بإصداره مجموعة قصائد في سنة 1802 رسَّخت الاتجاه الرومانسي في الأدب الدنمركي.

وواصل معركته فأصدر مجموعة أشعار (1803) يوازن فيها بين حياة المسيح والتغييرات السنوية الحادثة في الطبيعة فأدانته الكنيسة الرسمية كحلولي (قائل بوحدة الوجود) مهرطق، لكن الحكومة الدنمركية كافأته بمنحة للسفر إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. وقابل جوته، وربما تعلم منه أن يراجع ذاتيته الرومانسية. وفي ديوانه قصائد شمالية، 1807 (Nordiske Digte) استوحى الميثولوجيا الاسكندينافية بملحمة تحتفي برحلات الرب تور Thor، ودراما عن هاكون جارل Haakon Jarl الذي حكم النرويج من سنة 790 إلى سنة 995 وخاض معركة خاسرة لمواجهة انتشار المسيحية. وعندما عاد أولنشليجر إلى كوبنهاجن (1809) استقبلته الدوائر الأدبية كأعظم شاعر دنمركي.

وانتهز فرصة شهرته وشعبيته فنشر سلسلة من الأعمال المتعجلة، فانتقده جينز بجسن Beggesen علناً ذاكراً أن أعماله تتسم بتدني المستوى والإهمال. واستعر الخلاف، ولم يدافع فيه أولنشليجر عن نفسه كثيرا، إلا أن أصدقاءه - على أية حال - تولوا هذه المهمة

ص: 241

عنه وتحدوا بجسن بدخول مبارزة في شكل نقاش أو مناظرة باللغة اللاتينية. وفي هذه الأثناء نشر أولنشليجر عمله (Helge and Den Lille Hyrdedreng) فرحب بجسن به لأنه عودة آدم القديم وفي سنة 1829 توّج أولينشليجر في لوند كأمير للشعراء، وقام بتتويجه تجنر Esaias Tegner

وفي 4 نوفمبر 1849 امتدحه الشعراء المعاصرون في عيد ميلاده السبعين واصفينه بأنه آدم جبلنا المقدس (The Adam of our Parnassus) وفي مضمار الفن قدمت الدنمرك لأوربا نحاتا لم يكن هناك من يضارعه عندما بلغ أوجه سوى كانوفا Canova. إنه بيرتل ثوروالدسن Thorwaldsen (1770 - 1844) الذي فاز بمنحة لدراسة الفن بأكاديمية كوبنهاجن واستقر في سنة 1797 في روما التي كانت لا تزال راضخة لإنجيل فنكلمان Winckelmann في الفن الهيليني Hellenic باعتباره هو الفن الذي يجب احتذاؤه (النموذج الأمثل).

لقد لفت انتباه كانوفا Canova، وحذا حذوه في نحت تماثيل لأرباب المعتقدات الوثنية، كما نحت تماثيل للمشاهير المعاصرين له في أوضاع وملابس إغريقية أو رومانية، وعلى هذا فقد وجدناه في سنة 1817 يقيم تمثالا نصفيا لبايرون على نسق أنطونيوس الوقور. وكان يلي كانوفا من حيث المكان كزعيم للمدرسة الكلاسيكية الجديدة في النحت وانتشر أسلوبه النحتي انتشارا كبيرا حتى إنه عندما غادر روما في سنة 1819 ليقيم في كوبنهاجن كان يلقى ترحيباً كبيرا في أثناء مروره بفيينا وبرلين ووارسو Warsaw (فرسافا).

والآن (1819) وجدناه يصنع النموذج الذي إحتذاه لوكاس أهورن Lucas Ahorn ونحته من حجر رملي (Lion of Lucerne) تخليدا لذكرى الحرس السويسري الذي مات أفراده دفاعا عن لويس السادس عشر في سنة 1792. وتألمت كوبنهاجن عندما وجدته يغادرها مرة أخرى إلى روما. لكنها - في سنة 1838 - احتفت مفتخرة بعودته. وكان في هذا الوقت قد حقق ثروة وهب جزءا منها لإقامة متحف لعرض أعماله التي كان من أشهرها تمثال له شخصيا ليس كلاسيكيا إذ أظهر فيه بدانته بأمانة. وتوفي في سنة 1844 ودفن في حديقة متحفه.

ص: 242

‌4 - بولندا

لم تكن بولندا قادرة على مقاومة روسيا وبروسيا والنمسا تلك القوى التي قسمتها مرات ثلاث (1772 و 1793 و 1795 - 1796) فيما بينها، وبهذا التقسيم لم تعد بولندا دولة لها وجود سياسي، لكنها استمرت كثقافة غنية أدباً وفنا وكشعب تواق للحرية. وكان كل البولنديين تقريبا من السلاف فيما عدا جيب ألماني في الغرب وقلة يهودية في وارسو وفي شرقي البلاد. وكان البولنديون كاثوليكياً متحمسين لأن هذه العقيدة (الكاثوليكية) كانت تواسيهم في أحزانهم وتعطيهم الأمل في الخلاص وتحفظ النظام الاجتماعي في ظل دولة محطمة، لذا فقد أدانوا الهرطقة واعتبروها خيانة (المقصود بالهرطقة هنا الخروج على الكاثوليكية) فكان نزوعهم الوطني غير متسم بالتسامح ولم يكن أحد من البولنديين - خلا الذين تلقوا قسطا وافرا من التعليم - بقادر على الشعور بالتآخي مع اليهود الذين تفوقوا في مضمار التجارة والمهن، أما اليهود الفقراء الذين يحملون سمات العزلة (الجيتو ghetto) وبؤسها فكان التعاطف معهم أقل بكثير.

وقد تعجب المسيحيون واليهود البولنديون للإهانة التي ألحقها نابليون بالنمسا وروسيا في أوسترليتز Austerlitz وزاد عجبهم وإعجابهم بانتصاراته على البروسيين في يينا Jena وأورشتدت Auerstedt، والآن (1806) فإن (نابليون) متمركز في برلين يصدر الأوامر لنصف أوربا. لقد طارد نابليون مغتصبي بولندا، وكان في طريقه لمحاربة روسيا. فإذا لم يعلن في طريقه إلى روسيا أن بولندا دولة حرة فإنه على الأقل سيقيم عليها ملكا ويمنحها دستورا ويعدها بالحماية. والزعماء البولنديون إليه فردهم بأدب مؤكدا لهم أنه سيساعدهم الآن بقدر طاقته، لكن تحرير بولندا متوقف على نتيجة مواجهة التالية مع الروس.

وحذر كوزكيو سكو Kosciusko أكثر الزعماء البولنديين تحفظا أهل بولندا من تعليق الآمال على نابليون. فهو - أي نابليون - لا يفكر إلا في نفسه، وهو يكره كل أمة عظيمة، وهو طاغية ولا هم له إلا إرضاء طموحه وعندما أرسل نابليون ليسأل كوزكيو سكو عن طلباته أجاب: حكومة كحكومة إنجلترا وإلغاء القنانة (عبودية الأرض)، وأن تحكم بولندا من داترج (دانتسج) إلى المجر، من ريجا Riga إلى أوديسا Odessa.

ص: 243

وفي هذه الأثناء نظم البولنديون جيشا صغيرا وطردوا البروس من وارسو، وعندما دخل نابليون العاصمة في 19 ديسمبر 1806 استقبله الجماهير بحفاوة بالغة وانضم الجنود البولنديون إلى جيشه راغبين في محاربة روسيا تحت قيادته، تماما كما كان فيلق بولندي يحارب باسمه (باسم نابليون) في إيطاليا. وربما كان نابليون يقدر جمال النسوة البولنديات وسحرهن أكثر من تقديره لعروض قادتهم. لقد وجدنا مدام فالفسكا Walewska التي وهبت نفسها له في البداية كنوع من التضحية أملاً في حثه على إنقاذ وطنها، وجدناها تحبه الآن بعمق وظلت معه خلال فصل الشتاء القارس الذي دمر - تقريبا - كل جيشه في إيلاو Eylau، ثم عادت إلى وارسو (فرسافا)، بينما واصل هو طريقه ليهزم الروس في فريدلاند Friedland.

وفي معاهدة تيلسيت (9 يوليو 1807) أجبر فريدريك وليم الثالث على التخلي عن مزاعمه في وسط بولندا (بولندا الوسطى) واعترفت المادة الرابعة من المعاهدة بدوقية وارسو الكبيرة (والجديدة) كدولة مستقلة يحكمها ملك سكسونيا. وفي 22 يوليو قدم نابليون للدوقية دستوراً مستقى من الدستور الفرنسي، والمساواة أمام القانون والتسامح الديني والتجنيد الإجباري، ورفع قيمة الضرائب وفرض رقابة على الصحف. ووضع الكنيسة الكاثوليكية تحت سلطة الدولة لكن كان يجب على الدولة أن تقبل بالعقيدة الكاثوليكية وتحميها.

وأعطى الدستور لليهود الحقوق الكاملة لكنه اشترط توثيق الدولة لزواجهم وممتلكاتهم من الأراضي. وكان نابليون يتوقع حربا حتى الموت مع إسكندر Alexander فأوعز أن يحوي الدستور البولندي تأكيدا بدعم بولندا لفرنسا. وبالفعل فقد ظلت كل الطبقات تؤيد نابليون حتى عام 1814 أي عندما أصبح - أي نابليون - غير قادر على حمايتها. وظلت الفيالق البولندية في جيوشه تحارب معه بإخلاص حتى النفس الأخير. لقد راح كثيرون من البولنديين يهتفون في أثناء غرقهم عند انهيار جسر فوق البيريزينا Berezina: عاش الإمبراطور، رغم أنه كان عائدا من روسيا بعد أن حاقت به أكبر نكبة عسكرية في التاريخ.

ص: 244

‌5 - تركيا (الدولة العثمانية) في أوربا

كانت أيام الإنجاز العثماني في مجال الحكم والأدب والفن قد ولت، لكن الأتراك (العثمانيين) كانوا ما يزالون في سنة 1789 يمسكون بأيد غير ثابتة زمام الأمر في مصر والشرق الأدنى إلى الفرات وآسيا الصغرى وأرمينيا واليونان وبلغاريا وألبانيا وصربيا والمقاطعتين الدانوبيتين فاليشيا ومولدافيا (الأفلاق والبغدان)(الآن رومانيا) اللتين كانتا من بين مناطق متنازع عليها تركها نابليون لإسكندر Alexander في اتفاقية تيلسيت Peace of Tilsit وكان السلاطين العثمانيون قد ضعفوا بسبب الجمود الاقتصادي والتفسخ الأخلاقي، فسمحوا للباشاوات بحكم الولايات، واستنزافها دون تدخل من إسطنبول Constantinople إلا قليلا. وسبق أن لاحظنا مع بايرون حكم علي باشا القوي في ألبانيا (1788 - 1822) وكيف أن (علي باشا) تجاوز حده وراح يتآمر على الباب العالي، فدبر السلطان أمر قتله.

لقد حارب الصرب من أجل الاستقلال. وعندما أعدم الإنكشارية الباشا ذا الشعبية حاول الوطني الصربي قره جورج Karageorge (1804) أن يؤسس جمهورية بجمعية وطنية تختار بدورها مجلس شيوخ (سينات Senate) وفي سنة 1808 انتخب مجلس الشيوخ هذا قره جورج أميرا تتوارث ذريته الحكم، فأرسل السلطان محمود جيشا كبيرا إلى بلجراد للقضاء على هذه الجمهورية الجديدة (1813) فهرب قره جورج وآلاف من أتباعه إلى النمسا.

وقامت ثورة أخرى بقيادة الأمير ميلوسي أوبرينوفتش Milos Obrenovich فاضطر السلطان محمود لقبول تسوية (1815) يمنح الصرب بمقتضاها حرية الاعتقاد (الحرية الدينية) والتجارة وأن يكون لهم نظامهم التعليمي الخاص. ودعم ميلوسي أوبرينوفتش حكمه بالأساليب السياسية والاغتيالات إذ عمل على إعدام منافسه قره جورج، وحصل من السلطان على اعتراف بأن يكون الحكم متوارثا في ذريته. وفي سنة 1830 كانت صربيا من الناحية الفعلية دولة مستقلة.

وكانت اليونان قد سقطت في أيدي الأتراك (العثمانيين) في سنة 1452 وظلت طوال هذه الفترة خاضعة لهم حتى كادت تنسى كبرياءها القديم. واختلطت الدماء في اليونان بعد أن غزاها الروم (المقصود: الأتراك العثمانيين) وهاجر إليها الصرب، وكما اختلطت

ص: 245

الدماء اختلطت أيضا الذكريات الوطنية (العرقية) واللهجات حتى لم تعد لغة الحديث العامة وثيقة الصلة باللغة اليونانية التي كانت سائدة أيام أفلاطون.

ومع هذا احتفظ العلماء والشعراء والوطنيون بشيء من بلاء الإغريق الكلاسيكية وبذكرى أحد عشر قرنا (395 - 1452) كان اليونانيون خلالها يحكمون الإمبراطورية البيزنطية (الدولة الرومانية الشرقية) واستمروا طوال هذه القرون يثرون العلم والفلسفة والفن. لقد ألهبت أخبار الثورة الفرنسية هذه الذكريات وجعلت اليونانيين يندهشون مع لورد بايرون (في ديوانه شايلد هارولد Childe Harold) ويتساءلون لم لا تعود اليونان حرة كما كانت؟ وأعاد ريجاس فيروس Rhigas Pheraios (1757؟ - 1798) كتابة نشيد المارسليز باليونانية وحوره بما يناسب أوضاع اليونان، ونشره على نطاق واسع، وكون جمعية تهدف إلى ربط اليونانيين والأتراك معا على أساس من الحرية والمساواة وكان ريجاس قد وُلد في فاليشيا (في رومانيا الحالية) في مدينة تيسالي Thessaly وعاش في فيينا

وذهب قاصدا اليونان في سنة 1797 ومعه صندوق ملئ بالمنشورات فتم القبض عليه في تريست وأعدم في بلجراد. وتم تكوين جمعية hetairia أخرى في أوديسا Odessa امتدت في سائر بلاد اليونان وشاركت في تهيئة اليونان للثورة. وكرس كوريز Koraes (1748 - 1833) العنيد نفسه لتنقية لغة الحديث اليونانية ليجعلها أقرب ما تكون إلى اليونانية القديمة. وكوريز هذا يوناني من سميرنا Smyrna استقر في باريس في سنة 1788، وقد ابتهج لقيام الثورة الفرنسية وراح ينشر المنشورات وينشد القصائد التي لم يكن يعزوها لنفسه (جعلها مجهولة المؤلف) كما راح يطبع التراث اليوناني الكلاسيكي، فنشر بذلك الأفكار الجمهورية والأفكار المناهضة للكنيسة - رغم أنه حذر من أن الثورة قد تكون مبتسرة (أي أتت قبل الأوان). كانت جهوده هذه في سنة 1821 ولم تأت سنة 1830 إلا وكانت اليونان حرة.

ولم تكن الحكومة التركية في ظل ظروف العصر والموقع أكثر جورا بشكل واضح - من حكومات أوربا قبل سنة 1800. لقد صدم بايرون (21 مايو 1810) وهو يرى رؤوس المجرمين المقطوعة معلقة على جانبي بوابة سيراجليو Seraglio لكن لابد أن نسلم بأن، ما جزته مقصلة الحكومة الثورية الفرنسية من رؤوس الرجال والنساء كان أكثر من الرؤوس التي أمر السلاطين

ص: 246

العثمانيون بقطعها في أي فترة زمنية مساوية لفترة الحكومة الثورية الفرنسية.

وكانت الثروة مركزة في يد قلة كما هو عليه الحال في كل مكان (أي أن ذلك لم يكن قصرا على الدولة العثمانية) وكان الأتراك (العثمانيون) أهل فلسفة وشعر كما كانوا أهل حرب، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر خيره وشره من الله، لن يغيره تذمرهم، ويعتبرون المرأة المهذبة المعطرة أثمن من أي شيء خلا الذهب، ويؤثرون تعدد الزوجات إن استطاعوا مئونة ذلك، فلم لا يكونون أقدر سلالة؟ ولم يكونوا في حاجة للعاهرات إلا قليلا، وإنما كانت مواخيرهم يرتادها المسيحيون، وكان الترك (العثمانيون) لا يزالون ينتجون أدباً وفنا، فكثر الشعراء وتألقت المساجد وربما كانت إسطنبول هي أجمل مدن أوربا في سنة 1800.

لقد كان وضع تركيا من الناحية السياسية محفوفاً بالمخاطر فقد كان اقتصادها وجيشها في حالة مضطربة بينما كانت موارد أعدائها وقواتهم العسكرية في حالة نمو. وكانت عاصمتها (إسطنبول) هي أكثر النقاط إستراتيجية على الخريطة فكانت أوربا المسيحية كلها تتحرق شوقا للاستيلاء على هذه اللؤلؤة. ومدت الإمبراطورة كاترين قبضة روسيا للبحر الأسود، فاستولت على القرم Crimea من التتار Tatars وراحت - بمباركة فولتير - تحلم بتتويج حفيدها - قسطنطين - في إسطنبول (القسطنطينية) - كان هذا هو الوضع عند تولي السلطنة سليم الثالث (1789) وهو في السابعة والعشرين من عمره،

وكان قد تلقى تعليما جيدا وكون صداقة حميمة مع السفير الفرنسي، وأرسل ممثلا عنه إلى فرنسا ليكتب له تقارير عن غرب أوربا، سياسة وفكرا وأساليب حياة، وقرر السلطان أنه إذا لم يتم إصلاح المؤسسات التركية إصلاحا جوهريا فلن تستطيع تركيا التصدي لأعدائها، فعقد سلاما مع كاترين في جسي Jassy (1792) واعترف بالسيادة الروسية على القرم ونهري دنيستر Dniester وبج Bug ثم كرس نفسه لاستحداث نظام جديد في الإمبراطورية العثمانية، قائم على انتخاب النواب والولاة (المحافظين)، وبمساعدة ضباط وخبراء من غرب أوربا أقام مدارس للملاحة والهندسة وكون بالتدريج جيشا جديدا.

ووضع الخطط لنقض عهوده مع روسيا لكن استيلاء نابليون على مصر ومهاجمته عكا عرقلا خططه، وانضم السلطان إلى إنجلترا وروسيا لشن حرب على فرنسا (1798) واستتب السلام في سنة 1802 لكن الحرب

ص: 247

كلفت كثيرا وتمرد الولاة والرسميون الفاسدون ضد الدستور الجديد فاعتزل سليم الثالث (1807) ومع ذلك فقد قتلوه (بعد ذلك)، وبعد عام من الفوضى ساد المناصرون له وتولى محمود الثاني (ابن أخيه) السلطنة في سنة 1808 وهو في الواحد والثلاثين من عمره. وحولت القوى المتصارعة في العالم المسيحي التحكم في سياسات الباب العالي (الحكومة العثمانية) باستخدام المال والتهديد.

ولم تبق الدولة العثمانية على قيد الحياة إلا لأن واحدة من القوى الأوربية المتصارعة لم تكن لتسمح للقوى الأخرى بالتحكم في مضيق البوسفور. وفي سنة 1806 أرسل إسكندر الأول جيشا إلى مولدافيا Moldavia وفاليشيا Wallachia (الأفلاق والبغدان) لضمهما إلى روسيا فحث سفير نابليون السلطان سليم على المقاومة، فأعلنت تركيا (الدولة العثمانية) الحرب على روسيا، وفي معاهدة تيلسيت (1807) رتب نابليون أمر السلام لكن الهدنة كانت تخرق مرارا إلى أن قرر إسكندر سحب جيوشه من الجبهة الجنوبية تحسبا للحرب ضد نابليون، وفي 28 مايو 1812 قبل مغادرة نابليون - بيوم واحد - لدريسدن Dresden لينضم إلى قواته المتجمعة في بولندا، تخلت روسيا عن كل دعاويها في الولايتين الدانوبيتين (الأفلاق والبغدان). لقد أصبح في مقدور إسكندر الآن تجميع كل قواته ومدافعه لمواجهة 400،000 مقاتل من الفرنسيين وحلفائهم كانوا يستعدون لعبور النيمن Niemen إلى روسيا.

ص: 248

الفصل الرابع والثلاثون

‌روسيا

من 1796 إلى 1812 م

‌1 - الظروف المحيطة بالروس

كتب تاليران Talleyrand في سنة 1816: كان من الممكن أن تكون فرنسا والنمسا أقوى قوتين في أوربا لو لم تكن قوة أخرى قد ظهرت في الشمال (خلال القرن الأخير) تلك القوة الشمالية التي كان تقدمها المرعب والسريع مسببا بالضرورة للفزع، فقد كانت اعتداءاتها وتجاوزاتها قد أصبحت بالفعل سمة من سماتها، ولم تكن هذه التجاوزات سوى مقدمات لمزيد من الغزو الذي سينتهي بابتلاعها كل شيء.

إن المساحة الهائلة يمكن أن تصنع التاريخ. طالع خريطة العالم من كالينينجراد Kaliningrad (التي عرفها كانط باسم كونيجسبرج Konigsberg) على بحر البلطيق إلى كامشتكا Kamchatka على المحيط الهادئ (الباسفيكي)، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى بحر قزوين، وروسيا تشغل كل المساحة الواقعة بين الهملايا Himalayas ومنغوليا والصين واليابان. لندع الخريطة تتكلم أو لنستمع إلى مدام دي ستيل de Stael التي اتخذت طريقها من فيينا إلى سان بطرسبرج في سنة 1812:

مساحة روسيا شاسعة لدرجة أن كل شيء يضيع فيها حتى القصور الضخام بل وحتى السكان. إنه يهيأ للمسافر فيها أنه يسافر في بلاد هجرها سكانها للتو

وأوكرانيا خصبة التربة جدا .. فأنت ترى سهولاً شاسعة مزروعة حنطة فيهيأ لك أن أيادي خفية زرعتها، فعدد السكان قليل، والتجمعات السكنية نادرة.

ويحتشد السكان في قرى متناثرة لأنهم لم ينسوا بعد التتار الذي عاثوا في الأرض فسادا وراحوا يقتلون باستمتاع. لقد رحل التتار لكن قد يأتي آخرون مثلهم، وقد تركوا (التتار)

ص: 249

شيئا من قسوتهم ليؤثر في أساليب الروس في العيش ونزوعهم الشديد إلى الكد والكدح والانضباط. لقد كان الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) يعمل عمله فيهم بلا رحمة ليبقي على قيد الحياة التواقين للعمل يزرعون الأرض ويحرثون النساء بلا كلل ولا ملل، وقد جعل بطرس الأكبر من بعضهم جندا وملاحين، وجلب من أتوا بعده المغامرين الألمان، والتشيك المهرة، ودفعت كاترين الجيوش الكبيرة والجنرالات المغرورين ليتوغلوا جنوبا دافعين التتار والترك أمامهم فاستولوا على القرم Crimea وأبحروا منتصرين في البحر الأسود.

واستمر التوسع في عهد إسكندر الأول، واستقر الروس في ألاسكا وأقاموا حصنا بالقرب من سان فرانسيسكو وأسسوا مستعمرة كاليفورنيا، لقد جعل المناخ القاسي لروسيا الأوربية - حيث لا جبال ولا غابات تحميها من برد القطب الشمالي - من الشعب الروسي شعباً شديد البأس يمكنه تحقيق المستحيل إذا وجد الخبز وأتيح له الوقت. وفي ظل هذه الظروف كان من الممكن أن يكون الروس قساة لأن الحياة قاسية عليهم، وكان من المفهوم أن يكونوا معذبين للأسرى والسجناء، ذباحين لليهود. لكنهم لم يكونوا جامدين يتعذر تغيير طباعهم، فقد أثرت الحياة الآمنة فيهم بشكل متزايد فصاروا أرق حاشية وأتقى، وراحوا يتعجبون لم قتلوا؟ ولم كانوا آثمين؟ وراحوا ينظرون إلى العالم الثائر المضطرب غير المفهوم باستغراب شديد وصل بهم إلى حد الهذيان.

إلا أن الدين هدأ من عجبهم ولطف من حدة اضطرابهم. لقد قام رجال الدين هنا بدور الجيش الروحي لدعم قوة القانون بقوى أخرى باطنية مستمدة من الميثولوجيا لإعطاء القانون بعداً باطنيا أو لشرحه وتفسيره، وللترغيب والترهيب، تماما كما فعل رجال الدين في المراحل الأولى في مجتمعات غرب أوربا. وكان القياصرة يعلمون أهمية هذه الميثولوجيا وحيويتها لتحقيق الانضباط الاجتماعي وحث العامل على أداء عمله بصبر، والتشجيع على التضحية بالنفس في الحرب والسلم. فدفع القياصرة مرتبات عالية لرجال الدين من ذوي الرتب الكنسية العليا، ودفعوا لرجال الدين ممن هم أقل درجة مرتبات كفيلة بإعاشتهم

ص: 250

وكفيلة بدعم ولائهم الوطني. وقد حمى القياصرة المنشقين الدينيين طالما ظلوا موالين للدولة ولا يسببون إزعاجا. لقد تغاضت كاترين الثانية وتغاضى أيضا إسكندر الأول عن المحافل الماسونية Freemasonry lodges التي كانت تدعو - بحذر - لإصلاحات سياسية.

لقد تمسك النبلاء الروس بكل حقوقهم الإقطاعية ومارسوها وكانوا يتحكمون - تقريبا - في كل جانب من جوانب حياة أقنان الأرض العاملين في أراضيهم، فكان يمكن للسيد الإقطاعي أن يبيع رقيق الأرض من العاملين عنده، كما كان يمكنه تأجيرهم للعمل في المصانع في المدن، وكان يمكنه أن يودع من يشاء منهم في السجن ويضربه بالعصا أو يجلده بالسوط. وكان يمكنه أن يعهد بهم إلى الحكومة لتشغيلهم في سيبيريا أو سجنهم هناك وكان في هذا شيء من التخفيف عليهم.

وكان بيع عبد الأرض (القن) بمفرده دون أسرته أمراً نادرا، لكن بعض النبلاء أسهموا في تعليم بعض الأقنان وغالبا ما كان هذا التعليم من النوع التقني أو الحرفي الذي يفيد العمل في ممتلكات النبيل، وأحيانا يكون هذا التعليم لإعداده لمجال أوسع، فقد سمعنا أنه في نحو سنة 1800 كان هناك قن serf يدير مشروعاً للنسيج به خمسمائة نول لكن معظم هذه الأنوال كانت في بيوت في مزارع أسرة شيرمتيف Sheremetev الشاسعة.

ويشير تعداد السكان في روسيا في سنة 1783 إلى أن إجمالي عدد السكان هو 25،677،058 نفس، وكان هناك من بين الذكور البالغ عددهم 12،838،529: أقنان يمتلكهم أصحاب الأراضي، يبلغ عددهم 6،678،239 (لكل قن منهم أنثاه) أي أكثر من نصف السكان. لقد بلغت القنانة ذروتها في تلك الفترة، وساءت في عهد كاترين، وتخلى إسكندر الأول عن محاولاته الباكرة للتقليل منها.

ويشير الإحصاء السابق إلى أن 94،5% من سكان روسيا من أهل الريف، لكن هذا الرقم يشتمل على فلاحين يعملون في المدن ويعيشون فيها. وكانت المدن تنمو ببطء فلم يكن يزيد عدد ساكنيها في سنة 1796 عن 1،30،1000 نفس.

وكانت التجارة فعالة ونامية خاصة على طوال السواحل وفي القنوات المائية الكبيرة - وكانت أوديسا Odessa بالفعل مركزا عامراً للتجارة البحرية، أما الصناعة فكان نموها أبطأ، فكثير من النشاطات الصناعية كان يتم في محلات ومنازل في مناطق ريفية. وكانت حرب

ص: 251

الطبقات أقل استعارا بين البروليتاريا وأصحاب الأعمال منها بين طبقة التجار الصاعدة - التي كان أفرادها يئنون من وطأة الضرائب - والنبلاء المعفيين من أداء الضرائب.

وكان التفاوت بين الطبقات حادا وكان القانون يقننه ويرسم له حدودا، ومع هذا فقد كان هذا التفاوت الطبقي يقل رويدا رويدا كلما تطور الاقتصاد وانتشر التعليم. وكان الحكام الروس قبل بطرس الأكبر غير مرتاحين للمدارس لأنها تفتح الطريق لراديكالية غرب أوربا، وللعقوق (اللاتقوى) ومع هذا فإن بطرس - رغبة منه في أن يكون مقبولا لدى الغرب الأوربي - أسس مدارس للبحرية والهندسة ليدخلها أبناء النبلاء ومدارس أبرشية لإعداد القسس، واثنتين وأربعين مدرسة ابتدائية يدخلها أبناء كل الطبقات ما عدا أبناء الأقنان، وكانت هذه المدارس تنحو نحواً حرفيا (تكنولوجيا).

وفي سنة 1795 أسس ب. ا. شوفالوف P.A.Shuvalov جامعة موسكو بقسمين؛ قسم للنبلاء وآخر للعوام، وتأثرت كاترين بأفكار المثقفين الفرنسيين فنشرت المدارس على نطاق واسع، ودافعت عن حق المرأة في التعليم. وسمحت بإقامة دور نشر خاصة، فقد صدر في أثناء فترة حكمها 84% من إجمالي الكتب التي نشرت في روسيا في القرن الثامن عشر. وبحلول عام 1800 كان في روسيا بالفعل طبقة مثقفين (أهل الفكر) سرعان ما ستكون ذات شأن في التاريخ السياسي للأمة الروسية. وبحلول هذا العام أيضا (1800) وصل بعض التجار أو أبناء التجار إلى مواقع النفوذ، بل ووصل بعضهم إلى مناصب في البلاط. ورغم لاهوت الأساقفة والقسس المحليين - ذلك اللاهوت المتسم بالحرارة والتوقد - فإن مستوى الأخلاق والطباع كان بشكل عام أدنى في غرب أوربا فيما عدا لدى القلة في البلاط.

فغالب الروس كانوا طيبي القلب وكرماء، وربما يرجع ذلك إلى أنهم كانوا ينظرون إلى الآخرين كشركاء لهم في المعاناة في عالم قاس. لكن البربرية كانت تغلي في الروح متذكرة أياما كان على المرء فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا. وكان الإغراق في الشراب ملجأ للراحة هروبا من الواقع حتى بين النبلاء، وكانت الحياة غير المستقرة التي عانى منها الكتاب والمؤلفون سبباً لإدمانهم الكحول وسبباً لموتهم المبكر. وانتشر المكر والكذب والنشل (السرقات الصغيرة) بين العوام، فكل حيلة بدت لهم جائزة في مواجهة السادة القساة، والتجار الغشاشين وجامعي الضرائب اللحوحين.

ص: 252

وكانت النساء صارمات كالرجال أو كن - على الأقل - يعملن بجد وشدة كالرجال، ويحاربن بضراوة، وإذا سمحت لهن الظروف حكمن بمهارة، فمن من القياصرة بعد بطرس نجح في الحكم كما نجحت كاترين الثانية؟ وانتشر الزنا بزيادة الدخول.

وكان الاغتسال والنظافة أمراً نادرا خاصة في الشتاء، ومن ناحية أخرى أدمن قلة من الناس الحمامات الساخنة والتدليك (المساج massage) القاسي. وعمت الرشوة والفساد بدءا من القن (رقيق الأرض) للنبيل، ومن موظف المدينة للوزير الإمبراطوري. لقد كتب سفير فرنسي في سنة 1820 الرشوة هنا منتشرة انتشارا لا يجده المرء في أي دولة أخرى. إنها عمل منظم بمعنى من المعاني، وربما لا يوجد موظف حكومي واحد لا يمكن شراء ذمته.

وفي عهد كاترين وصل البلاط إلى درجة من الدماثة والكياسة والترف لم يكن يسبقه فيها سوى بلاط فرساي في عهد: لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر رغم أن البربرية كانت في بعض الأحيان كامنة خلف المظاهر. وكانت اللغة المستخدمة في بلاط كاترين هي الفرنسية، كما كانت أفكار الأرستقراطية الفرنسية هي السائدة فيه مع استثناءات قليلة. وكان النبلاء الفرنسيون مثل الأمير دي لني de Ligne غالباً ما يعتبرون أنفسهم في مواطنهم سواء كانوا في باريس أم في سان بطرسبرج وكان الأدب الفرنسي رائجا في هذا العاصمة الشمالية (سان بطرسبرج) وكانت الأوبرا الإيطالية تلقى استحسانا فيها كالاستحسان الذي تلقاه في البندقية وفيينا

وكانت النسوة الروسيات الثريات وسليلات الأسر العريقة يضعن الشعر المستعار (الباروكات wigs) ويمتعن رجالهن على نحو ما كانت تفعل الدوقات قبل الثورة الفرنسية وفي ظل نظام الحكم القديم Ancien Regime. ولم يكن هناك شيء في المهرجانات الاجتماعية المقامة على نهر السين في فرنسا يفوق بهاء التجمعات في سان بطرسبرج وفي القصر الفخم على نهر النيفا Neva، تلك التجمعات التي تتطلع إلى شمس الصيف في سماء الليل وكأنها لا تريد أن يضيع منها المشهد.

ص: 253

‌2 - بول الأول

PAUL I: من 1796 إلى 1801 م

وعند ذروة هذا البهاء الودود كانت توجد سيدة (مدام). لقد كان بول Paul (بافال بتروفيتش Pavel Petrovich) ابن كاترين الثانية، لكن عبقريتها تخطت جيلا، وتركت بول صغيرا نزاعاً للشك مكتئباً - رغم صغر سنه - مولعا إلى حد الجنون بالسلطة المطلقة

لم يكن عمره قد تجاوز الثماني سنوات عندما علم أن أباه القيصر بطرس الثالث Peter III كان قد قتل وتستر على جريمة قتله أليكسى أورلوف Aleksei Orlov أخو جريجوري أورلوف Grigori Orlov العشيق الدائم لأم بول. ولم يفق بول أبداً من هذا الكابوس. وكان من الطبيعي - على وفق التسلسل المعتاد - أن يرث بول عرش أبيه، لكن كاترين نحته وقبضت على زمام السلطة كاملة. وحبكت زوجة بول الأولى - بعلمه - مؤامرة للإطاحة بكاترين وتنصيب بول قيصرا، واكتشفت كاترين المؤامرة وأجبرت بول وزوجته على الاعتراف. واعترفت الإمبراطورة كاترين به وريثاً لها لكنه لم يطمئن أبداً وكان يحس أنها ستزيحه هو أيضا، وعاشت زوجته في رعب دائم وماتت عندما كانت تضع طفلاً ولد ميتا.

ووضعت له زوجته الثانية ماريا فودوروفنا Maria Feodorovna ابنه إسكندر (1777) وفكرت كاترين لفترة في تسميته وليا لعهدها وإزاحة بول، لكنها لم تحول هذه الفكرة الدائرة في رأسها إلى عمل، وإن كان بول قد أحس بها مما جعله مرتاباً في ابنه. وفي سنة 1783 منحت كاترين، بول، مزرعة وعقارا في جاتشينا Gatchina على بعد ثلاثين ميلا من سان بطرسبرج، وهناك راح بول يدرب فوجاً عسكريا خاصا به ويعلمه على نسق أسلوب أبيه - أسلوب خطوة الإوزة الذي أخذ به فريدريك الكبير، وخشيت كاترين أن يقوم بمحاولة أخرى لعزلها فأرسلت جواسيسها لمراقبته، فعين هو بدوره جواسيس لمراقبة الجواسيس، وتملكته الهلاوس التي كانت تدور حول لقائه مع شبح جده بطرس الأول الكبير في أثناء الليل. وبعد اثنتين وأربعين سنة غير سعيدة اعتلى أخيراً العرش كان عقله بالفعل قد اقترب من الإفلات منه.

وفي غمرة مشاعره الطيبة أصدر بعض المراسيم الخيرة. لقد حرر عددا من ضحايا مخاوف كاترين المزمنة - نوفيكوف Novikov وراديشيف Radishchev ومفكرين راديكاليين

ص: 254

وكوزكيو سكو Kosciusko وآخرين ممن سبق لهم النضال لتحرير بولندا. وكان مرتاعاً من أحوال مستشفى موسكو فأمر بتجديدها وإصلاحها وإعادة تنظيمها (1797) فأصبحت نتيجة لذلك واحدة من أفضل مستشفيات أوربا. وأصلح العملة وجعلها مستقرة. وخفض الجمارك، وافتتح قنوات (ترعا) جديدة لخدمة التجارة الداخلية.

وعلى أية حال فقد أصدر أوامر محمومة للجنود لتلميع أزرار ملابسهم الرسمية وإصلاحها وتنظيف باروكات الشعر، وأصدر أوامر للشعب يحدد فيها ما يجب عليهم لبسه، ومنع الأزياء التي سادت أوربا بعد الثورة الفرنسية، مهددا المخالفين بعقوبات شديدة وبحلول عام 1800 منع استيراد الكتب المنشورة خارج روسيا ولم يشجع طباعة كتب جديدة في روسيا. وتصدى لأوتوقراطية النبلاء وأعاد لملاك الأراضي 530،000 قناً (من أقنان الأرض) كانوا ينعمون فيما سبق بأوضاع أيسر كموظفين في الدولة. وأقر العقوبات الصارمة التي صدرت ضد الأقنان المتمردين، على وفق رغبة الملاك.

أما جنوده الذين كانوا في وقت من الأوقات مخلصين له، فقد امتعضوا لمراقبته الصارمة ونظامه شديد الانضباط. وكانت سياسته الخارجية شديدة التقلب. لقد ألغى خطط كاترين القاضية بإرسال 40،000 جندي ضد فرنسا الثورة. واستاء من استيلاء نابليون على مالطة ومصر، وتحالف مع تركيا وإنجلترا ضده، وحث السلطان على السماح للسفن الحربية الروسية بالمرور عبر البوسفور والدردنيل. واستولت سفنه الحربية على الجزر الأيونية وأنزل جنوده في مملكة نابلي للمساعدة على طرد الفرنسيين. لكن عندما رفضت بريطانيا العظمى تسليمه مالطة باعتباره الرئيس الأعلى المنتخب لفرسان مالطة Knights of Malta (من بقايا الحروب الصليبية) انسحب بول من التحالف ضد فرنسا بل وأصبح محبا لنابليون.

وعندما بدرت عن نابليون إشارات تدل على نوايا حسنة، منع كل أنواع التجارة مع انجلترا واستولى على البضائع البريطانية الموجودة في المخازن الروسية، وناقش مع نابليون إرسال حملة فرنسية روسية مشتركة لطرد إنجلترا من الهند، وتضاعفت نوبات غضبه بعد أن رأى مجريات الأمور الخارجية لا تسير على وفق هواه وبعد أن رأى مجريات الأمور في الداخل تتضاءل أمام طلباته الكثيرة. لقد عاقب بقسوة لأدنى خطأ وأبعد عن موسكو نبلاء سبق لهم أن شككوا

ص: 255

في سياساته وأرسل إلى سيبيريا ضباط جيش توانوا في تنفيذ الأوامر.

وغالبا ما كان ابنه إسكندر موضع حنقه وسخطه. وراح النبلاء والضباط - أكثر فأكثر - ينخرطون في المؤامرة لعزله، فأقنع الجنرال ليفين بنيجسن Levin Bennigsen الكونت نيكيتا بانين Nikita Panin وزير الخارجية، واستمالا لخطتهما الكونت بطرس فون باهلن Peter Von Pahlen الذي كان على رأس شرطة المدينة ورئيسا للعسكر فيها، وعملوا ثلاثتهم عل إقناع إسكندر بخطتهم ونجحوا أخيرا إذ وافق إسكندر شريطة عدم إلحاق الأذى البدني بوالده، فوافقوا على ذلك وهم يعلمون أن فرض الأمر الواقع سيكون هو خير دفاع، وفي الساعة الثانية صباح يوم 24 مارس 1801 قاد باهلن المتآمرين ورهطاً من الجند إلى قصر ميخائيلوفسكي Mikhailovsky وهزموا قوات الحرس وأحاطوا بالإمبراطور المُقاوم (بكسر الواو) وخنقوه حتى مات. وبعد ساعات قليلة أحاطوا إسكندر علماً أنه قد أصبح الآن هو قيصر روسيا الجديد.

‌3 - تعليم إمبراطور

من الصعب على عقول انشغلت طوال أعوام بحكاية نجم مذنب يقال له نابليون أن تدرك أن إسكندر الأول (ألكساندر بافلولوفتش Aleksandr Pavlovich 1777 - 1825) كان محبوباً في روسيا على نحو ما كان بونابرت محبوبا في فرنسا. لقد نشأ مثل صديقه وعدوه في رحاب التنوير الفرنسي، ومزج - مثله (أوتوقراطيته autocracy) بالأفكار الليبرالية liberal ideas، لقد حقق ما حاول أعظم الجنرالات (المعاصرين) تحقيقه (لأنه لابد من احترام سمي القيصر) وفشل - قاد جيشه عبر القارة من عاصمته إلى عاصمة عدوه وتغلب عليه، وأنه في ساعة النصر تصرف باعتدال وتواضع، وأثبت أنه من بين هذا العدد الكبير من الجنرالات والعباقرة أفضلهم أدبا وكياسة. أيمكن أن تنجب روسيا هذا المثل الأعلى؟ نعم، لكن بعد أن انغمس طويلا في آداب فرنسا وفلسفتها بفضل معلم سويسري.

إن طريقة تعليمه في حاجة إلى زينوفون Xenophon آخر ليجعله في سيروبيديا Cyropaedeia أخرى عن شباب ملك وتعليمه وتدريبه. لقد تعرض تعليمه لعناصر

ص: 256

متضاربة متصارعة. فأولاً كانت هناك جدته كاترين الكبيرة المشغولة الغائبة - رغم متابعة أمره بدقة. لقد أبعدته كاترين عن أمه ونقلت له مبادئ الحكم المطلق المتنور ممتزجة بنتف من المؤلفين الذين كانت تحبهم - فولتير وروسو وديدرو Diderot - وذلك قبل أن تفقد هي نفسها هذه المبادئ. وربما بتوجيه منها تعلم منذ طفولته أن ينام بلا غطاء ثقيل والنوافذ مشرعة، على حشية من جلد مراكشي (جلد ماعز) محشوة بالقش، فأصبح بذلك محصنا ضد تقلبات الجو وتمتع بصحة وحيوية فائقتين. لكنه مات في الثامنة والأربعين من عمره.

وفي سنة 1784 أحضرت له كاترين من سويسرا فريدريك سيزار دي لاهارب Frederic - Cesar de La Harpe (1754 - 1838) ليكون مشرفا على تعليمه، وكان دي لاهارب متحمساً مخلصاً للمفكرين والمثقفين الفرنسيين. ولقن دي لاهارب تلميذه إسكندر طوال تسع سنوات تاريخ فرنسا وآدابها. وتعلم الأمير كيف يتكلم الفرنسية بإتقان بل وأن يفكر - غالبا - كالفرنسيين. (لا حظ أن نابليون كان يتحدث الفرنسية لكن ليس بشكل تام، وكان يفكر كإيطالي من عصر النهضة الرينيسانس Renaissance) .

وكانت هناك ممرضة علمت الأمير - بالفعل - اللغة الإنجليزية، والآن فإن ميخائيل مورافيوف Mikhail Muraviov قد علمه لغة الإغريق القديمة وآدابها، ونقل إليه الكونت ن. ج. سالتيكوف N. J. Saltykov عادات الأوتوقراطية الإمبراطورية (الأوتوقراطية تعني حكم الفرد)، وكان هناك معلمون آخرون يعلمونه الرياضيات والفيزياء والجغرافيا. ونقل إليه سومبورسكى Somborsky كبير القسس الأخلاق المسيحية على وفق مبدأ مؤداه أن على كل إنسان أن يجد في كل إنسان جاراً له لكي يحقق شرع الرب وربما وجب علينا أن نضيف إلى قائمة معلمي إسكندر لويزا إليزابيث (من بادن - دورلاش) Luise Elisabeth of Baden - Durlach التي أصبح اسمها إليزافيتا أليكسيفنا Elizaveta Alekseevna والتي تزوجته في سنة 1793 بناء على طلب كاترين، وكان في السادسة عشرة من عمره، ومن المفهوم أن إليزافيتا قد علمته الطرق الصحيحة لمباشرة النساء.

لقد كان هذا البرنامج التعليمي ملائما لتخريج عالم ورجل مهذب لكنه لا يكاد يصلح

ص: 257

لحاكم مطلق يحكم الروس. وعندما خافت كاترين من التطورات التي حدثت في مسار الثورة الفرنسية لم تعد معجبة بفولتير وديدرو، وأبعدت لاهارب (1794) عن تولي مهمة الإشراف على تعليم إسكندر، فعاد إلى سويسرا ليقود ثورة هناك. ووجد إسكندر أن الواقع في البلاط وفي جاتشينا Gatchina يختلف بشكل مربك عن مناقشات الفلاسفة ومثاليات روسو. لقد أصابه الرعب لتشابك القضايا التي تواجه الحكومة وتعقدها، وربما ضاع منه التفاؤل الذي علمه إياه لاهارب La Harpe واكتأب لموت جدته (كاترين). لقد كتب في سنة 1796 لصديقه المقرب الكونت كوشبي Kochubey:

إنني مشمئز للوضع الذي أجد نفسي فيه. إنه بعيد جدا عن طبيعتي التي تتلاءم على نحو أكثر مع حياة السلام والهدوء. فحياة البلاط لا تصلح لي. إنني أحس بالبؤس أن أكون وسط مثل هؤلاء الناس (رجال البلاط)

وفي الوقت نفسه أجدهم يشغلون أعلى المناصب في الإمبراطورية. وباختصار يا صديقي العزيز فأنا أدرك أنني لم أولد لأشغل منصبا عاليا ذلك المنصب الذي أشغله الآن بل إنني أقل من المنصب الذي ينتظرني في المستقبل، وقد أقسمت بيني وبين نفسي أن أتخلى عنه بطريقة أو بأخرى

إن أمور الدولة مضطربة تماما، فالابتزاز والاختلاس في كل مكان، وكل الوزارات والإدارات تدار بشكل سيء

ورغم كل هذا فلا هم للإمبراطورية سوى التوسع، وعلى هذا أيمكنني أن أدير الدولة، بل أيمكنني ما هو أكثر من هذا - أعني إصلاحها والقضاء على الشرور المتأصلة فيها؟ أظن أن هذا يفوق طاقة أي عبقري في البال بشخص مثلي ذي قدرات عادية.

إنني بعد أن وضعت كل هذا في اعتباري إتخذت قراري الذي ذكرته لك آنفا. إن خطتي هي التخلي عن العرش (لا أستطيع أن أقول متى) وأن استقر مع زوجتي على شواطئ الراين لأعيش حياتي الخاصة كمواطن أستمتع بصحبة الأصدقاء ودراسة الطبيعة.

إلا أن الحظ أتاح له خمس سنوات ليكيف نفسه مع متطلبات منصبه. لقد تعلم كيف يقدر العناصر البناءة في الحياة الروسية: المثالية والإخلاص المستوحيان من المسيحية، والاستعداد لتبادل تقديم المساعدة (التعاون)، والشجاعة وتحمل المشاق الناتجة عن الحروب

ص: 258

مع التتار والترك، وقوة الخيال السلافي Slavic وعمقه الذي سرعان ما أفرز أدباً عميقا وفريدا، والكبرياء الصامتة الناتجة عن الوعي بحاضر الروس والمساحة المكانية الكبيرة التي يشغلونها. وفي 24 مارس 1801 وجدنا إسكندر - الشاعر محب العزلة - وقد تحدته الفرصة المتاحة له، فوجد في جذوره وأحلامه ما يمكنه من فهم شعبه وقيادته نحو العظمة ليجعل من روسيا حَكَماً (بفتح الحاء والكاف) لأوربا.

‌4 - القيصر الشاب:

من 1801 إلى 1804 م

لم يطرد إسكندر أياً من بانين Panin أو باهلن Pahlen فجأة وهما اللذان خططا لمقتل أبيه، فقد خاف نفوذهما كما أنه لم يكن متأكدا من براءته هو نفسه (إذ كان قد وافق على تدبيرهما لخلع والده)، كما كان في حاجة إلى باهلن ورجال البوليس التابعين له لحفظ الأمن في موسكو، كما كان في حاجة إلى بانين للتعامل مع إنجلترا التي كان أسطولها يهدد بتحطيم الأسطول الروسي بعد أن دمر بالفعل الأسطول الدنمركي، وعلى هذا فقد جرى استرضاء بريطانيا، وهكذا انهارت عصبة الحياد المسلح الثانية. فطرد باهلن في يونيو 1801 واستقال بانين في ديسمبر من العام نفسه.

لقد أمر إسكندر في العام الأول من حكمه بإطلاق سراح آلاف السجناء السياسيين، وسرعان ما طرد الذين كانوا مستشاري بول، ومن كانوا ضالعين في إجراءاته الإرهابية. وفي 30 مارس جمع اثني عشر مسئولا من مسئولي الدولة الكبار ممن هم أقل فساداً من سواهم وكون منهم مجلساً دائما لتقديم المشورة له في مجالي التشريع والإدارة. واستدعى بعض المبعدين من أكثر النبلاء ليبرالية وعينهم في حكومته: الكونت فيكتور كوشبي Kochubey وزيراً للداخلية، ونيكولاي نوفوسيلاتسوف Novosiltsov وزيراً للدولة، والكونت بافال ستروجانوف Stroganov وزيراً للتعليم، كما عين الأمير آدم جرزي شارتورسكي Adam Jerzy Czartoryski - الوطني البولندي المتآلف مع السلطة الروسية - وزيراً للشئون الخارجية.

وكون من هؤلاء وغيرهم من رؤساء الإدارات مجلس الوزراء Committee of Ministers كجهاز استشاري آخر. وقد استدعى إسكندر من سويسرا لا

ص: 259

هارب كمستشار آخر له (نوفمبر 1801) لمساعدته في تحديد سياساته والتنسيق بين عناصرها. وكان هناك تحت هذه الأجهزة التنفيذية، مجلس (سينات) نبلاء ذو سلطات تشريعية وقضائية، لمراسيمه وقراراته Ukases قوة القانون إذا لم يعترض عليها القيصر. وظلت إدارة الولايات في أيدي معينين من قبل الحكومة المركزية.

وكل هذه التنظيمات تشبه التنظيمات الإمبراطورية في ظل نابليون باستثناء أن مجلس النواب كان في ظل نابليون يتم اختيار أعضائه بالانتخاب، كما أنَّه القَنانة ظلت موجودة في روسيا ولم يكن للأقنان (عبيد الأرض) أيُّ حقوق سياسية، وكان مستشارو إسكندر في أعوام حكمه الأولى من الليبراليين المتعلمين تعليماً جيداً، لكنهم كانوا "خاضعين لطبيعة الأشياء أو لأحكام الضرورة" على حد تعبير نابليون. فقد بدت الحقوق rights في هذه الظروف مجرد أوهام في مواجهة الضروريات، في أمة 90% من أهلها فلاحون أشداء أميون لا يتوقع منهم أحد أن يفكروا لأبعد من القرى التي يعيشون فيها سواء من ناحية الاقتصاد أو التنظيم السياسي أو الإنتاج والتوزيع أو الدفاع.

لقد كان إسكندر مُذْعناً لنظام النبالة القوي حيث كان للنبلاء تشكيلاتهم التنظيمية الخاصة، ونظامهم المحلِّي لتسيير أمور الزراعة والقضاء والشرطة والصناعات الريفية. وكانت القنانة (عبودية الأرض) عميقة الجذور راسخة عبر الزمن حتى إن القيصر لم يكن يجسر على مهاجمتها خوفاً من قَلْقَلة النظام الاجتماعي وضياع عرشه. وكان إسكندر يتلقّى شكاوى من الفلاحين، وكان في حالات كثيرة يُنزل عقوبات قاسية بملاَّك الأراضي المذنبين لكنه لم يكن يستطيع أن يقيم على مثل هذه الحالات برنامجاً لتحرير رقيق الأرض.

لقد كان لابد من مرور ستين عاماً قبل أن يستطيع إسكندر الثاني تحرير رقيق الأرض في روسيا (قبل إعلان لينكولن Lincoln إلغاء الاسترقاق بعامين). ولم يجد نابليون - الذي عاد من روسيا مهزوماً (1812) أن إسكندر قد أخطأ في هذا الاتجاه لقد قال نابليون لكولينكور Caulaincourt:

" إن إسكندر ليبرالي جداً، وهو ديمقراطي جداً بالنسبة إلى الروس .. فهذه الأمة تحتاج لقبضة حديدية .. وسيكون أكثر ملائمة لو حكم أهل باريس .. إنه ودود مع النساء، مجامل مع الرجال

،

ص: 260

وطريقته اللطيفة في التصرف تدعو إلى البهجة".

وفي ظل هذه الظروف المقيِّدة (بتشديد الياء وكسرها) أحدث إسكندر شيئاً من التقدم. لقد عمل على تحرير 47،153 فلاحاً، وأمر أن تكون القوانين واضحة دائمة متَّسقة، فكما ورد في مذكراته التفسيرية لقوانينه أن يقوم رخاء شعبنا على نسق قوانيننا الموحَّدة اعتقاداً منا أن هذه الإجراءات المختلفة قد تجلب للبلاد السعادة التي لا يؤكدها - للأبد - إلاّ تلك القوانين، ولقد عملتُ منذ اليوم الأول لحكمي على استقصاء أحوال هذا الجانب في الدولة. وأمر أن يكون الاتهام والمحاكمة والعقاب على وفق إجراءات محدَّدة مقنّنة ومُلزمة. كما أمر أن تقضي المحاكم العادية - لا السرية - في الجرائم السياسية.

والآن فقد هذَّبت التنظيمات من أحوال البوليس السرِّي وتمّ منع التعذيب (لقد منعه بول لكنه ظل سائداً في أثناء حكمه) وتمَّ السماحُ للروس الأحرار (المقصود غير الأقنان) بالسفر خارج روسيا والعودة إليها، وسُمح للأجانب بدخول روسيا على وفق إجراءات ميسّرة من ذي قبل. وتم دعوة 12،000 مَنْفِىّ للعودة إلى روسيا. وظلت الرقابة على الصحف قائمة لكنها أصبحت من اختصاص وزارة التعليم مع طلب مهذّب وهو أن تكون هيّنة ليّنة مع المؤلفين. وتم إلغاء الحظر على استيراد الكتب الأجنبية وإن ظل هذا الحظر سارياً على المجلات، وفي سنة 1804 تم إقرار الحرية الأكاديمية تحت إشراف مجالس جامعية، على وفق نظام أساسي.

وكان إسكندر مدركاً أنَّ أيَّ إصلاح لا يمكن أن يزدهر ويُؤتي ثماره إلاّ إذا كان مفهوماً ومؤيَّداً من نسبة كبيرة من السكان، ففي سنة 1802 عَهِدَ إلى وزارة التعليم بمعاونة نوفوسيلتستوف Novolsiltsov وتشارتوريسكي Czartoryski ومخائيل مورافيوف Muraviov مهمة تنسيق نظام تعليمي عام جديد. وصدر قانون (نظام أساسي) في 26 يناير 1803 يُقسِّم روسيا إلى ستة أقاليم regions يكون في كل إقليم منها جامعة واحدة

ص: 261

على الأقل، وأن تكون هناك مدرسة ثانوية على الأقل في كل جوبرنيا Guberniya (ولاية)، وأن تكون هناك مدرسة - على الأقل - في كل مقاطعة (كونتية) ومدرسة ابتدائية على الأقل في كل تقسيم أبرشي، وبالإضافة إلى الجامعات التي كانت موجودة بالفعل (جامعات موسكو وفيلنا Vilna ودوربات Dorpat) أنشئت جامعات سان بطرسبرج، وخاركوف Kharkov وقازان Kazan، وفي هذه الأثناء كان النبلاء لا يزالون يُتيحون التعليم الخاص والمدارس الخاصة لأبنائهم، ومنع الرّبيون اليهود (الحاخامات) الآباءَ من إلحاق أبنائهم بمدارس الدولة باعتبارها أداةً مراوِغةً لتدمير الإيمان اليهودي.

‌5 - اليهود في ظل حكم إسكندر

تحسَّنت أحوال اليهود بشكل ملحوظ في ظلِّ (حظائر الاستيطان Pale of settlement) أي المناطق التي سُمح لليهود بالإقامة فيها، وذلك في عهد كاترين الثانية. وفي سنة 1800 كانت هذه المناطق Pale (الحظائر) تشمل كل المناطق البولندية التي كانت تابعة لروسيا ومعظم مناطق جنوب روسيا بما في ذلك كييف Kiev وشيرنيجوف Chernigov، وإكاترينوسلاف Ekaterinoslav والقرم. وخارج هذه المناطق Pale لم يكن أي يهودي يستطع أن يُقيم إقامة دائمة. أمّا خلال هذه المناطق فقد كان اليهودُ البالغُ عددهم 900،000 في سنة 1804 يتمتعون بكل حقوق المواطنة بما في ذلك التعيين في الوظائف الحكومية مع استثناء واحد: اليهودي الراغب في الانضمام إلى طبقة التجار ورجال الأعمال في المدن كان عليه أن يدفع ضريبة ضِعْف الضريبة التي يدفعها غير اليهودي فقد كان غير اليهودي يرى أنّ منافسة اليهودي مسألة مستحيلة وأنه إذا تُرِك الأمر تحقق دماره على يد اليهودي.

وفي هنا وجدنا تجار موسكو (1790) يُقدمون شكوى ضد التجار اليهود الذين يبيعون البضائع الأجنبية بأسعار أقل من أسعارها الحقيقية ومن ثَمّ يُلحقون أضراراً بالغة بالتجارة المحلية وفي هذه الأثناء أدت منافسة اليهود إلى امتعاض أصحاب الحانات والخانات في الريف فبذلت الحكومةُ قصارى جهدها للإبقاء على اليهود في المدن بعيداً عن القرى. وفي سنة 1795 أمرت كاترين ألاّ يكون لليهود حقوق مدنية إلاّ في المدن

ص: 262

وألا يُقيموا في الريف.

وفي نوفمبر سنة 1802 عيَّن إسكندر (لجنة لتحسين Amelioration أوضاع اليهود) ودراسة مشاكلهم وتقديم توصيات، فدعت اللجنة الكاهالات Kahals (المجالس الإدارية التي تحكم المجتمعات اليهودية وتفرض عليهم ضرائب تصرف لصالح هذه المجتمعات) لإرسال مندوبين عنها إلى سان بطرسبرج ليناقشوا مع الحكومة المطالب اليهودية، فطلبوا بعد مناقشات مستفيضة مهلة ستة أشهر ليتمكنوا فيها من الحصول على مزيد من الصلاحيات والتعليمات من كاهالاتهم، فأرسلت اللجنة توصياتها مباشرة إلى الكاهلات بدلاً من التباحث مع مندوبيها، فرفضت الكاهلات اقتراح اللجنة منع اليهود من امتلاك الأراضي، ومنعهم من بيع الخمور، وطلبوا تأجيل هذه الإجراءات مدة عشرين عاماً لإتاحة الوقت اللازم للتوائم مع هذه الإجراءات الاقتصادية الصعبة، ورفضت اللجنة، وفي 9 ديسمبر سنة 1804 أصدرت الحكومة الروسية بعد موافقة القيصر إسكندر دستور اليهود أو الدستور اليهودي Jewish Constitution.

وكان هذا الدستور مرسوماً بالحقوق، كما كان يقصر الوجود اليهودي على المدن. وكانت الحقوق كبيرة إذ أتاح للأطفال اليهود الالتحاق بكل المدارس والجامعات في الإمبراطورية الروسية وأجازَ لهم تأسيس مدارس خاصة بهم على أن يكون التدريس فيها باللغة الروسية أو البولندية أو الألمانية وأن تستخدم إحدى هذه اللغات في المحَرّرات الرسمية. ولكلِّ جماعة يهودية أن تختار الرَّابيين (الحاخامات) الخاصين بها وكذلك كاهلاتها على ألا يصدر الرابي قراراً بالحرمان وأن يكون الكاهال مسئولاً عن جمع كل الضرائب التي تفرضها الدولة. ودُعي اليهود للعمل في مجال الزراعة بشراء الأراضي الشاغرة في أجزاء معينة من المناطق المتاح لهم الإقامة فيها Pale أو الاستقرار في أراضي التاج (أراضي الدولة) على أن يُعفوا من الضرائب في غضون السنوات القليلة الأولى.

وعلى أية حال فبحلول الأول من يناير سنة 1808 يصبح "ممنوعاً على أيَّ يهودي في قرية أو نجع أن يُؤجِّر أرضاً، أو يفتح حانة أو فندقاً أو صالوناً .. أو يبيع نبيذاً في القرى أو حتى أن يعيش فيها بأيِّ حجة مهما كانت ".

ص: 263

وكان هذا يعني إبعاد ستين ألف أسرة يهودية عن مساكنها في القرى، ووصلت مئات الالتماسات لسان بطرسبرج يطلب مُقدِّموها تأجيل هذا الترحيل الجماعي وانضم كثير من المسيحيين إليهم يؤيدونهم في مطلبهم هذا وأشار الكونت كوشبي Kochubey إسكندر إلى أنَّ نابليون كان يخطط ليعقد في باريس في فبراير 1807 اجتماعاً (سنهدريم) للرَّبيين (للحاخامات) من كل أنحاء غرب أوروبا لصياغة برنامج إجرائي لإعتاق اليهود ومنحهم حق الاقتراع. فأمر إسكندر بإيقاف برنامجه محل الجدل.

وربما أحْيت لقاءاته مع نابليون في تيلسيت Tilsit (1807) وإيرفورت Erfurt (1808) طموحه في إقناع الغرب West بأنه حاكم متنوِّر. وفي سنة 1809 أخبر حكومته أن خطة إخلاء اليهود السابق ذكرها خطة غير عملية لأن اليهود لن يكون لديهم الوسائل التي تمكنهم من الاستقرار والحصول على مساكن في الأماكن المحيطة بالقرى التي سيُطردون منها، والحكومة بدورها غير قادرة على تدبير مساكن لهم جميعاً وعندما أصبح الغزو الفرنسي لروسيا وشيكاً أقنع نفسه بضرورة أن يحبه اليهود وأن يكونوا مُوالين للدولة.

‌6 - الفن الرّوسي

وصف الأمير دي لِنْي de Ligne الذي عرف كل شخص ذي شأن وكل شيء ذي بال في أوروبا في هذا العصر - سان بطرسبرج في نحو سنة 1787 بأنها أجمل مدينة في العالم وفي سنة 1812 وصفتها مدام دي ستيل بأنها من أجمل مدن العالم فقد كان بطرس الأول قد بدأ في تزيين عاصمته الوليدة بعد أن تملَّكته الغيرة من جمال باريس.

وكانت كاترين تُرضى عشَّاقها الذين تخلَّت عنهم بقصور أكثر بقاء من حبها، وواصل إسكندر الأول رعايته الملكية للأعمدة الكلاسيكيّة التي تواجه - بصرامة - نيفا Neva. لقد كانت أوروبا تشهد موجة الكلاسيكيّة الجديدة في هذه الفترة، وقد نسي القيصر والقيصرة الأشكال (الأنماط الفنية) الروسية واستدعوا الأنماط الرومانية، فأرسلا إلى إيطاليا وفرنسا لدعوة المعماريين والنحَّاتين للقدوم إلى روسيا لتخليد الكبرياء السلافية Slavic بالفن الكلاسيكي.

ص: 264

فقصر الشتاء الذي بدأ العمل فيه بارتولوميو راستريلّي Bartolomeo Rastrelli في سنة 1755 وأكمله في سنة 1817 جياكومو كارنيجي Giacomo Quarenghi وس. ج روسّي C.J. Rossi - هذا القصر كان أكثر القصور الملكية في أوروبا جلالاً ومهابة، يصبح قصرُ فرساي إلى جواره قزما وأقل بهاء: 15 ميلاً من الممرات (أروقة ودهاليز .. ) و 2،500 غرفة، وما لا يُحصى من الأعمدة الرخاميّة، وألف لوحة فنية شهيرة، وفي الأدوار الدنيا ألفا خادم، وفي جناح واحد، دجاج وبط وماعز وخنازير في مأوى مغطى بالقش.

لقد راح إسكندر الأول بعد لقاء نابليون في تيلسيت يجد في نفسه الدافع لمنافسته ليس فقط في مجال القوّة وإنما أيضاً في أن يجعل عاصمته في مثل عظمة عاصمة نابليون. لقد أحضر إسكندر المعماريين الفرنسيين والإيطاليين ليُلْهبوا حماس البنّائين الروس ويُفجِّروا طاقاتهم بما لديهم من علم ومهارة. لقد ظل الفنانون الغربيون مرتبطين بالنماذج الكلاسيكية لكنهم ذهبوا إلى ما وراء روما وآثارها إلى الجنوب الإيطالي والآثار الإغريقية كمعابد هيرا في بيستيم Hera at Paestum (بيز Paese بالقرب من سالرنو Salerno) . لقد كانت هذه الآثار في مثل قِدَمِ البارثينون Parthenon وتكاد تكون في مثل جمالها، وأعطت الروح الرجولية للأعمدة الدُّورية Doric (الأعمدة الإغريقية على الطراز الدّوري) روحاً جديداً للنزوع الروسي إلى الكلاسيكيّة الجديدة.

لكن الملمح المميّز للنمط الإمبراطوري Empire Style في عهد إسكندر هو تخلص فن العمارة الروسي تدريجياً من التأثير اللاتيني. فبينما كان البناءون البارزون في عهد كاترين (1762 - 1796) ثلاثة إيطاليين: بارتولوميو راسترلّي Rastrelli وأنطونيو رينالدي Rinaldi وجياكومو كارينجي Quarenghi، فإن المعماريين الأساسيِّين في عهد إسكندر الأول كانوا هم توماس ثومون Thomas Thomon وأندري فورونيكين Andrei Voronykhin وأدريان زاخاروف Zakharov وهم روس تأثَّروا بالأسلوب الفرنسي، وإيطالي هو كارلو روسّي Rossi الذي تبوَّأ مكاناً رفيعاً في أواخر حكم إسكندر.

وفي سنة 1801 عَهِدَ إسكندر إلى توماس بتصميم وبناء بورصة الأوراق المالية لمواكبة نشاطات طبقة التجار والماليين الصاعدة في سان بطرسبرج. فأقام المعماري الطموح (سنة

ص: 265

1807 وما بعدها) مبنى ضخماً مستوحياً فيه معابد بيستوم Paestum ومحاكياً بورصة إسكندر برونجنيار Brongniart في باريس (1808 - 1827) - تحفة فورونيكين Voronykhin الفنية هي الكازانسكي سوبور Kazansky Sobor - الكاتدرائية التي أنشئت تخليداً لذكرى سديتنا (ستّنا) ست (سيدة) قازان التي أقيمت على ضفاف نهر النيفا Neva بين عامي 1801 - 1811، بأروقتها التي تدور مدار نصف دائرة وقبابها الثلاث المدرَّجة التي تذكرنا بأعمال بيرنيني Bernini ومايكل أنجلو الخالدة أو ببانثيون سوفلو Soufflot's Pantheon في باريس - ومبنى الأدميرالية الأكثر مدعاة للتقدير حيث ربع ميل من الأعمدة والكارتيدات Caryatids (الكارتيد عمود على شكل امرأة) وأبراج الكنائس المدببة الذرى، ذلك المبنى الذي تم تصميمه لخدمة البحرية الروسية - ويضارع هذا مبنى الأركان العامة الذي أقامه في ميدان القصر روسّي Rossi بعد موت إسكندر بفترة وجيزة.

وبناء على وصية نيكولاس الأول Nicholas I تَوَّجَ ريكارد دي مونتفرّان de Montferrand عصر إسكندر بعمود مرتفع من حجر واحد (عمود مونوليثي) ربما ذكرنا بعمود فيندوم Vendome في باريس، فرغم أنَّ القيصر قد هزم فرنسا إلا أنه لم يفقد احترامه لفنها.

وجلس النحَّاتون الروس أيضاً تحت أقدام الفنَّانين الفرنسيين الذين ركعوا بدورهم أمام فنّاني روما الذي استعاروا من فن الإغريق رغم انتصار الرومان على الإغريق. وقبل كاترين الثانية الغربية الشرقية West - Oriented (المقصود تأثرها بالحضارة البيزنطية والرومانية معا)، كان تأثير الدين البيزنطي ذا طابع شرقي Oriental في غالبه يخشى الجسد البشري باعتباره أداةً للشيطان مما دفع الروس إلى الابتعاد عن معظم فنون النحت المتجسدِّة التي يراها المشاهد من كل الجوانب لكن شيئاً فشيئاً وببطء ومع الروح الوثنية الشهوانية للتنوير دخل النحت مع كاترين وتمَّ التخلِّي عن هذه المحاذير (التابو taboo) في خضم الحرب الداخلية وفي خضم التذبذب بين الدين والجنس.

لقد ظل إتْين موريس فالكون Etienne - Maurice Falconet الذي أغرته كاترين بترك فرنسا والقدوم إلى روسيا في 1766 - وظل ينحت ويحفرُ حتّى سنة 1778، وفي تمثاله المهم لبطرس الكبير لم يكتف برفع الحصان وراكبه في الهواء وإنما ترك العنان للفن الصحيح لتوصيل رسالته لا يعوقه شيء ودون أن يضع في الاعتبار شيئاً

ص: 266

سوى التعبير عن الجمال والحقيقة والقوّة.

وفي هذه الأثناء أتى نيكولاس فرانسوا جِل Nicolas - Francois Gillet ليدرِّس النحت في سنة 1758 في أكاديمية الفنون الجميلة التي كانت قد افتُتِحت في سان بطرسبرج قبل قدومه بعام. وكان أحد تلاميذه هو اف. اف شخيدرين (شيدرين) F. F. Shchedrin قد تم ابتعاثه إلى باريس لمزيد من إتقانه لفن النحت بالأزميل، وقد حقق نتائج باهرة حتى إن تمثاله فينوس Venus ضارع النموذج الفرنسي (المستحمّه Baigneuse) الذي نحته أستاذه جبريل دلجريه d'Allegrain. وكان شخيدرين هو الذي نحت الكارتيدات (أعمدة على هيئة نساء) الخاصة بالبوابة الرئيسية لأدميراليّة زخاروف Zakharov's Admiralty - والأخير من بين تلاميذ جل Gillet المشاهير هو إيفان ماركوس Ivan Markos - عمل لفترة مع كانوفا Canova وثوروالدسين Thorwaldsen في روما وأضاف إلى مثاليتهم الكلاسيكيّة شيئاً من العواطف الرومانسية التي حلت محل عصر الكلاسيكية الجديدة.

وقال النقاد إنه جعل الرخام يبكي وإن عمله لا يصلح إلا للقبور. ولازالت مقابر ليننجراد تعرض فنه.

واجتاز فن الرسم في روسيا تحولاً أساسياً من خلال التأثير الفرنسي في أكاديمية الفنون الجميلة. فحتى سنة 1750 كاد الفن يكون دينيا تماماً إذ كان في غالبه يتكون من أيقونات Icons مرسومة بالألوان المموهة distemper، أو رسوماً جداريه (فريسكو fresco) على الخشب. وسرعان ما أدَّت الميول الفرنسية لكاترين واستدعائها للفنانين الفرنسيين والإيطاليين إلى أن قلّدهم الفنانون الروس، فانتقلوا من الرسم على الخشب إلى استخدام الكانفا Canvas ومن الفريسكو إلى الرسم بالزيت ومن الموضوعات الدينية إلى الموضوعات الأخرى المختلفة - تاريخية ووطنية وطبيعية وأخيراً شعبية.

ووصل أربعةُ فنانين إلى درجة الامتياز في عهد بول وعهد إسكندر. لقد وجد فلاديمير بورفكوفسكي Vladimir Borovikovsky (مودلات) جذابة من بين نساء البلاط الشابات بعيونهن المرحة أو المتأمّلة وبصدورهن العالية الفخورة وبملابسهن المزهرّة، وربما يكون قد تأثر بمدام فيجيه - ليبرون Vigee-Lebrun التي كانت ترسم في سان بطرسبرج في سنة

ص: 267

1800 -

كما رسم كاترين المسنّة في لحظة بساطة وبراءة غير متوقَّعة أبداً من هذه المرأة الشَّبقه التوَّاقة للجماع، وترك لنا - في هيئة قاسية رسماً لامرأة مجهولة وعلى رأسها شعرها المستعار ربما كان يقصد بها مدام دي ستيل التي دارت في أنحاء أوروبا هروباً من نابليون.

أما فودور أليكسيف Feodor Alekseev بُعث إلى البندقية ليكون مهندس ديكور إلا أنه عاد ليصبح أحد أبرز رسَّامي المناظر الطبيعية الروس. وفي سنة 1800 رسم سلسلة لوحات لموسكو بقيت لتكون أفضل مرشد لنا لشكل المدينة قبل أن يتم حرق ثلثها وأنف نابليون يَشُم ريح الحريق.

أما سيلفستر شيدرين Sylvester Shchedrin ابن النحات السابق ذكره فقد أحب الطبيعة أكثر من النساء كملهمة لفرشاته. بُعث إلى إيطاليا في سنة 1818 لدراسة الفن فأحب شمس نابلي وسواحلها وغاباتها، كما أحب كل ذلك في سورِّنتو Sorrento.

أما أوريست أداموفتش كبرنسكي Orest Adamovich Kiprensky (1782 - 1836) فاقترب من ذروة العظمة بين الرسامين الروس في عصره. وكان ابناً غير شرعي أنجبته امرأة من أقنان الأرض فتبنّاه زوجها وحرّره فوجد طريقه إلى أكاديمية الفنون الجميلة بعد أن ساعدته الظروف، ومن أفضل رسومه الأولى صورة لأبيه بالتبنّي، رسمها في سنة 1804 وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، لقد بدا أمراً لا يُصدَّق أن يستطيع شابٌ في مثل هذه السن الوصولَ إلى الفهم والتمكّن اللذين يجعلانه يرى (وينقل) في صورة شخصية واحدة قوّة البدن وقوة الشخصية اللتين تجلّيا في سوفورف Suvorov وكوتوزوف Kutuzov، واللتين (قوة البدن وقوة الشخصية) قادا الروس المنتصرين من موسكو إلى باريس (1812 - 1813) أما الصورة التي رسمها كبرنسكي (1827) للشاعر بوشكين Pushkin فمختلفة تماماً إذ أظهر فيها الجمالَ والوسامةَ والحساسيةَ والتأملَ ورأساً عامراً بالروائع.

ومرة أخرى نجد له عملاً فريداً، ونعني به تلك الصورة (1809) للضابط الفارس إيفجراف دافيودوف Evgraf Davidov، وهي صورة بالحجم الطبيعي في حلة رسمية جميلة ومظهر فخور، وإحدى يديه على سيفه وفي سنة 1813 بعد أن أصبح العالمُ مختلفاً تماماً رسم صورة للشاب إسكندر بافلوفتش باكونين Bakunin ولا ندري مدى قرابته لميخائيل ألكزاندروفتش باكونين الذي أزعج في وقت لاحق

ص: 268

كارل ماركس بأطروحاته المخالفة وأسس الحركة التقدميّة في روسيا Nihilist movement وكان كبرنسكي نفسه متمرداً على نحوٍ ما متعاطفاً مع حركة الديسمبريين Decembrist التي قامت في سنة 1825 ولما اتضح للسلطات أنه محرِّض اتجه لفلورنسا طلباً للأمان، حيث طلب منه متحفُ أوفيزي Uffizi صورةً له. ومات في إيطاليا في سنة 1836 واعترفت به الأجيال الروسية اللاحقة كأعظم فنان روسي في عصره.

‌7 - الأدب الروسي

في ظل كاترين الكبرى أزهر الأدبُ الروسيُّ وانحطّ في آن، فقلما شهد التاريخ حاكماً أبدى هذا الحماس للاستسلام لثقافة أجنبيّة، فقد أحبّت التنوير الفرنسي وجنّدت بحذق كُلاً من فولتير وديدرو Diderot وفريدريش ملشيور فون جريم Friedrich Melchior von Grimm كمدافعين فصحاء عن روسيا في كل من فرنسا وألمانيا. لكن عندما قامت الثورة الفرنسية اهتزّت كل العروش فتم استبعاد كل أرباب التنوير باعتبارهم أصل المقصلة (الجيلوتين guillotine) . لقد ظل البلاط الروسي يتحدث فرنسية القرن الثامن عشر لكن الكتَّاب الروس أظهروا ما في لغتهم الروسية من جمال، وكان بعضهم على وفق رواية مدام دي ستيل يطلقون على من يجهل لغتهم الروسية (أبكم وبه صَمَمُ) ودارت معركة حامية على مستوى الأمة بين المعجبين بالأنماط الأجنبية في الحياة والأدب والمتمسكين بالأخلاق الروسية، والعادات الروسية وأساليب الحياة والحديث في روسيا، وكانت هذه الروح مفهومة وضرورية لتأكيد ذات الأمة وطبيعتها وعقلها، وفتحت الطريق لفيض العبقرية الأدبية الروسية في القرن التاسع عشر. وقد استلهمت هذه الحركة اتجاهها إلى حد كبير من حروب إسكندر ونابليون.

وكان إسكندر نفسه رمزاً لهذا الصراع في طويّة نفسه وفي تاريخه لقد كان حسّاساً جداً للجمال من الطبيعة والفن، وفي المرأة وفي طويّة نفسه، لقد اعترف للفن بمعجزتين، معجزة الدوام والخلود فهو يخلّد الحب العابر ويخلّد الشخصية الطارئة، ومعجزة المعنى المتنور فهو يستخرج النموذج الأمثل من الواقع غير المتجانس. لقد جعل تأثير لاهارب La Harpe وفرنسة البلاط الروسي من حفيد كاترين الألمانية رجلاً مهذّباً (جنتلمان) يضارع أيّ غالي

ص: 269

(فرنسي) في مسلكه وتعليمه. وكان من الطبيعي أن يشجِّع كارامزين Karamzin وآخرين على إدخال اللطائف والحدّة الذهنية في الحديث الروسي وطرق التصرف.

تلك اللطائف والحدّة الذهنية السائدة في أسلوب الفرنسي إذا تحدث، وفي طريقته في التصرف، وأدّت صداقته لنابليون (1807 - 1810) إلى تدعيم هذا الاتجاه الغربي Westward، لكن صراعه مع نابليون (1811 - 1815) أدى إلى لمس جذوره الروسية فعاد ليتعاطف مع إسكندر شيزكوف Aleksandre Shiskov والسلافوفيليين Slavophils، وفي كلتا الحالتين كان إسكندر يشجع المؤلفين بالرواتب أو الوظائف الشرفية (حيث يتقاضى شاغلها راتباً دون أن يؤدي عملاً حقيقياً) أو الأوسمة أو المنح.

وأمر بأن تطبع الحكومة على نفقتها الأعمال المهمة أدبية كانت أم علمية أم تاريخية. وقدم العون المالي لترجمة أعمال آدم سميث وبنثام Bentham وبيكاريا Beccaria ومونتسكيو.

وعندما علم أن كارامزين يرغب في كتابة تاريخ روسيا لكنه يخشى أن يفتقر نتيجة تفرغه لهذا العمل، قدَّم له ألفي روبل كراتب سنوي وأمر وزارة الخزانة بنشر مجلداته على نفقتها.

وكان نيكولاي ميخائيلوفتش كارامزين Nikolai Mikhailovich Karamzin (1766 - 1826) ابنا لتتري من ملاك الأراضي في ولاية سيمبيرسك Simbirsk في حوض الفولجا الأدنى. وتلقَّى قسطاً وافراً من التعليم وأتقن الألمانية والفرنسية وقام برحلة أعد لها جيداً في كل من ألمانيا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا استغرقت ثمانية عشر شهراً، وعندما عاد إلى روسيا أسس مجلة شهرية (the Moskovsky zhurnal) كان من أجمل ما نشر فيها ما كتبه هو عن رحلته (خطابات رحّالة روسي) إذ كان بأسلوبه السهل الرشيق لا يصف الأشياء التي رآها فقط. وإنما يعبّر عن مشاعره إزاءها مستوحياً تأثيرات روسو والنزوع الروسي الوجداني. وسار كارامزين خطى أوسع في اتجاهه الرومانسي هذا في روايته: ليز البائسة Poor Lisa (1792) : وليزا هذه بنت فلاحة تعرضت للاغتصاب والهجر وانتحرت. ورغم أن الحكاية لا تدّعي أكثر من كونها قصة (من نسج الخيال) فإن البقعة التي أغرقت فيها ليزا نفسها أصبحت محجاً

ص: 270

للشباب الروس.

لقد كاد كارامزين يترك بصماته في كل مجالات الأدب. فقد كان لقصائده ذوات الاتجاه الرومانسي الواضح جمهور عريض. وقد صدم السلافوفيليين (الرافضين للتأثيرات الأجنبية في الأدب الروسي وأسلوب الحياة الروسية) بإدخاله المصطلحات الفرنسية والإنجليزية لتحل محل المصطلحات أو العبارات الروسية التي بدت لأذنيه - وهما أذنا رحالة - غير رشيقة أو غير دقيقة أو متنافرة النغمات. وقد اتهمه شيشكوف بأنه خائن لوطنه إلا أن كارامزين ظل متمسكا بموقفه وانتصر: فقد نقى اللغة الروسية ونشرها وجعلها لغة موسيقية نقلها واضحة نقية ليتلقفها بوشكين وليرمونتوف Lermontov.

لقد ساد اتجاه كارامزين لسبب آخر أيضا: لقد كان يطبق ما يدعو إليه في اثني عشر مجلدا تكوّن أول تاريخ حقيقي لروسيا. وقد أعانته المساعدة المالية التي قدمتها له الحكومة على التفرغ تماما لهذا العمل. لقد نقل عن الحوليين الأوائل بحكمة وتمييز وأفعم سردهم البارد بالعاطفة وخفف وطأة الحكاية الطويلة برشاقة أسلوبه ووضوحه. وعندما ظهرت المجلدات الثمانية الأولى (1816 - 1818) في ثلاثة آلاف نسخة تلقفتها الأيدي فنفدت في خمسة وعشرين يوما. ولم يكن تاريخه هذا يضارع الكتابات التاريخية لفولتير وهيوم وجيبون Gibbon، ولكنه كان عملا ذا طابع وطني صريح، وكان المؤلف يرى أن الحكم الملكي المطلق هو الحكم الأمثل لشعب يناضل ليعيش في مواجهة مناخ لا يرحم وغزاة بربريين وكان مضطرا لإيجاد قانون وهو ينتشر مبتعدا عن مصادر الخطر. وقد أثبت هذا الكتاب (تاريخ روسيا) أنه منجم نفيس استقى منه الشعراء الروائيون طوال أجيال متعاقبة فمن هنا - على سبيل المثال - وجد بوشكين قصة بوريس جودونوف Boris Godunov. لقد أسهم كتاب (تاريخ روسيا) بتواضع في صد نابليون وإبعاده عن موسكو بالسمو بالروح الروسية لتقوم بدورها المتألق والفريد في مجالي الأدب والموسيقى في القرن التاسع عشر.

وكما كان كارامزين هو هيرودوت عصر إسكندر المزدهر، كذلك كان إيفان أندريفتش كريلوف Ivan Andreevich Krylov (1769 - 1844) هو كإيسوب Aesop في هذا العصر نفسه. وكان

ص: 271

إيفان ابنا لجندي بسيط في الجيش ربما أخذ من معسكرات الجيش بعض الخشونة في الحديث وبعض الشتائم الحادة التي جعلت كوميدياته حادة حتى أدمت الأوضاع القائمة، وعندما أجبرته الحكومة على السكوت انسحب من مجال الأدب إلى مجالات عملية أخرى - عمل مدرسا وسكرتيرًا ومقامرا ولاعب ورق محترف ..

وفي سنة 1809 أصدر كتابا عن الحكايات والنوادر على ألسنة الحيوانات والطيور جعلت كل من يقرأها يغرق في الضحك على الجنس البشري إلا القارئ (أي أن القارئ في هذه الحال لا يضحك على نفسه ظنا منه أنه مستثنى من النقد والسخرية الواردين في الحكاية). وكانت بعض هذه الحكايات - كما جرت العادة غالبا في كتب الحكايات - تعكس ما رواه قصاصون سابقون، خاصة لافونتين La Fontaine وتعرض معظم حكاياته - على ألسنة الأسود والأفيال والغربان وفلاسفة آخرين - الحكمة الشعبية في أشعار شعبية يتكون البيت الواحد منها من مقطع قصير وآخر طويل، يتفق طوله مع المناسبة.

وأعاد كريلوف اكتشاف أسرار الراوين الكبار لهذه الحكايات - إنها الحكمة الوحيدة المفهومة الواضحة أعني بها حكمة الفلاحين التي تظهر فيها الذات واضحة دون رياء أو غطاء كاذب. لقد عرض كريلوف رذائل الناس وغباءهم وخداعهم وفسادهم، وكان من رأيه أن هجاءه هذا كله وتعريته كتعليم وإرشاد يفوق تأثير شهر في السجن. ولم يكن هناك من يظن أن الحكاية تنطبق عليه - سوى قليل من القراء - لذا فقد أقبل القراء بشغف على شراء هذا المجلد الصغير (بيع منه أربعون ألف نسخة في عشر سنوات)، وكان هذا الإقبال غريبا في بلاد تعد معرفة القراءة والكتابة فيه مدعاة للفخر.

وراح كريلوف Krylov يدمي مجتمعه بشكل دوري بنشر عشرة مجلدات أخرى في الفترة من 1809 إلى 1843. ولأن الحكومة كانت ممتنة لكريلوف لتحفظه بشكل العام فقد عينته في المكتبة العامة، فتولى منصبه راضيا كسولا حتى أتى يوم - وكان في الخامسة والسبعين من عمره - تناول فيه عدد كبيرا من طيور الحجل فمات.

8 -

إسكندر ونابليون من 1805 إلى 1812 م

كاد كل منهما (إسكندر ونابليون) يصلان إلى السلطة في الوقت نفسه، وقد وصل

ص: 272

كلاهما إليها بعد أحداث عنف. لقد وصل نابليون إلى السلطة في 9 نوفمبر 1799 أما إسكندر فتسلمها في 24 مارس 1801. وكما اقتربا زمانا فقد تباعدا مكانا: كقوتين متواجهتين في خلية فقد مد كل منهما سلطانه حتى مزّقا القارة الأوربية، الأول (نابليون) في أوسترليتز Austerlitz حربا، ثم في تيلسيت Tilsit سلاما. وكان كلاهما يتصارعان على تركيا لأن كليهما كان يفكر في السيطرة على القارة الأوربية، ومفتاحها إسطنبول (القسطنطينية)، وكلاهما أخذ دوره في مغازلة بولندا لأنها معبر إستراتيجي بين شرق (أوربا) وغربها. وكانت حرب 1812 - 1813 ذات هدف فقد كانت هي التي ستقرر أي قوة منهما ستسيطر على القارة، وربما تغزو الهند.

لقد واجه إسكندر ابن الرابعة والعشرين في سنة 1801 هرج القوى العريقة في أساليب الخداع فتذبذبت سياسته الخارجية لكنه كان يمد مجال حكمه بشكل متكرر. وتغيرت مواقفه من تركيا بين الحرب والسلام وضم جورجيا في سنة 1801 وألاسكا Alaska في سنة 1803 وتحالف مع بروسيا في 1802 ومع النمسا في 1804 ومع إنجلترا في 1805. وفي سنة 1804 رفع له وزير خارجيته خطة لتقسيم الإمبراطورية العثمانية وامتدح جهود نابليون في فترة القنصلية وأدانه لإعدامه دوق دنجين d'Enghien دون محاكمة متأنية، وانضم للنمسا وبروسيا في حرب مدمرة ضد المغتصب (نابليون) (1805 - 1806) ثم قابله وقبله في تيلسيت (1807) واتفق معه على أن نصف أوربا يكفي الواحد منهم، حتى إشعار آخر.

وغادر كل منهما تيلسيت وهو مقتنع أنه حقق نصرا دبلوماسيا كبيرا، وحث نابليون القيصر إسكندر على التخلي عن إنجلترا والتحالف مع فرنسا وتقوية الحصار القاري بمنع دخول البضائع البريطانية. وقد أنقذ إسكندر مملكته من غزو مدمر بالتخلي عن حليف والتحالف مع حليف أقوى، وأمن لنفسه حرية التصرف مع السويد وتركيا، فقد كان جيشه الرئيس مبعثرا في فريدلاند Friedland. لقد امتدح الجيش الفرنسي والعاصمة الفرنسية انتصارات نابليون العسكرية والدبلوماسية، أما إسكندر فعندما عاد إلى سان بطرسبرج وجد كل من فيها تقريبا - الأسرة المالكة والبلاط والنبلاء ورجال الدين والتجار والعامة - مصدومين لأنه - أي إسكندر - وقع اتفاق سلام مهين مع مدع لص ملحد ونشر بعض

ص: 273

الكتاب - مثل ف. ن. جلينكا Glinka وكونت فودور روستوبشين Rostopchin (حاكم موسكو في وقت لاحق) مقالات يوضحون فيها أن سلام تيلسيت مجرد هدنة ووعدا بأن الحرب ستنشب من جديد ضد نابليون في الوقت المناسب وستنتهي - أي هذه الحرب - بتدميره نهائيا.

وانضمت طبقة رجال الأعمال إلى المهاجمين لمعاهدة السلام ما دامت تعني قيام روسيا بإحكام الحصار القاري إذ كان التبادل التجاري تصديراً واستيرادا مع بريطانيا مسألة حيوية لتحقيق الرخاء، وكان منع هذه التجارة يعني تدمير التجار ورجال الأعمال وإرباك اقتصاد البلاد خاصة وأن حكومة روسيا كانت قد اقتربت من الإفلاس في سنة 1810.

واهتزت ثقة إسكندر فأحكم قبضته وأعاد فرض الرقابة على الأحاديث والصحافة وألغى خطته الإصلاحية واستقال وزراؤه الليبراليون - كوشبي Kochubey وتشارتوريسكى Czartoryski ونوفوسيلستوف Novosilstov - وغادر اثنان منهم روسيا. وكان إسكندر قد اتخذ في سنة 1809 مستشارا أثيرا لديه وهو إصلاحي مندفع افترض أن القيصر مقبل على تكوين حكومة دستورية (ونعني به الكونت ميخائيل ميخائيلوفتش سبيرانسكي Speransky) وذلك في محاولة أخيرة من إسكندر لتحرير نفسه من التيار المحافظ المحيط به.

كان الكونت ميخائيل سبيرانسكى ابنا لقس في إحدى القرى. ولد في سنة 1772، وطور شغفه بالعلوم ووصل إلى درجة أستاذ الرياضيات والفيزياء في معهد سان بطرسبرج ولفتت جهوده تشاريفتش إسكندر فتم تعيينه في وزارة الداخلية التي كان على رأسها في ذلك الوقت كوشبي. فأظهر قدرة على العمل بجد شديد وتقديم التقارير الواضحة حتى إن القيصر عينه للإشراف على تقنين القوانين الروسية (تنظيمها وتقسيمها إلى مواد)، وعندما انطلق إسكندر للقائه الثاني مع نابليون اصطحب معه سبيرانسكي كصاحب أوضح رأس في روسيا (المقصود أن تفكيره واضح). وثمة رواية غير مؤكدة مؤداها أن إسكندر عندما سأله عن رأيه في أحوال الدول الواقعة تحت سيطرة نابليون أجاب:"إن لدينا رجالاً أفضل، ولديهم مؤسسات أفضل" وعندما عادا

ص: 274

إلى سان بطرسبرج راح القيصر يوكل إليه المزيد من الصلاحيات حتى وجدا نفسيهما يفكران في إعادة بناء الحكومة الروسية برمتها.

لقد أراد سبيرانسكي إلغاء القنانة (عبودية الأرض) ولكنه اعترف أن هذا محال في سنة 1809، وعلى أية حال فقد اقترح إصدار مرسوم للتمهيد لذلك بالسماح لكل الطبقات بشراء الأراضي، وربما يكون في هذا متأثرا بإجراء مشابه اتخذه شتاين Stein في بروسيا. واقترح أن تكون الخطوة التالية هي أن يقوم كل الملاك في كل مدينة وزمامها (فولوست Volost) بانتخاب مجلس محلي Local duma يتحكم في الميزانية ويعين الموظفين المحليين ويختار ممثليه، ويقدم التوصيات لمجلس المركز district duma الذي يعين الموظفين على مستوى المركز ويقترح سياساتها، ويرسل مندوبيه وتوصياته إلى مجلس الولاية (أو المقاطعة) Provincial duma التي ترسل بدورها مندوبيها وتوصياتها إلى المجلس الوطني National duma في سان بطرسبرج. وليس لأحد سلطة إقرار القوانين سوى القيصر، لكن المجلس الوطني له حق اقتراح القوانين. ويوجد بين المجلس (الدوما) والحاكم مجلس استشاري يعينه الحاكم نفسه ليعينه في الأمور الإدارية والتشريعية.

ووافق إسكندر على الخطة بشكل عام لكن القوى الأخرى في الدولة عوقته. لقد شعر النبلاء أنه قلل من شأنهم، واتهموا سبيرانسكي بأنه من العوام (ليس نبيلا) وأنه منحاز لليهود، ومعجب بنابليون وأنه أثر في فكر إسكندر ليكون - وهو الوزير الطموح - السلطة الكامنة وراء العرش (المقصود ليكون هو الحاكم الفعلي) وانضمت البيروقراطية إلى صفوف المهاجمين لأن سبيرانسكي حث إسكندر على إصدار مرسوم (6 أغسطس 1809) يجعل الحصول على درجة جامعية أو اجتياز اختبار نزيه شرطا للتعيين في الوظائف الإدارية العليا. وتأثر إسكندر بهذه الاعتراضات فأعلن أن الوضع الدولي لا يسمح بتجارب جوهرية في أمور الحكم.

لقد ساءت العلاقات بين إسكندر وفرنسا بسبب زواج نابليون من أرشدوقة نمساوية وبسبب استيلائه على دوقية أولدنبورج Oldenburg (22 يناير 1811) التي كان دوقها هو حما أخت القيصر (إسكندر)، وتعلل نابليون بأن الدوق رفض إغلاق موانئه في وجه

ص: 275

البضائع الإنجليزية. ولم يكن إسكندر يحب قيام نابليون بإنشاء دوقية وارسو الكبيرة القريبة جدا من المناطق البولندية التي استولت عليها روسيا مخافة أن يقوم نابليون في أي وقت بإحياء مملكة بولندا المعادية لروسيا. ووجد إسكندر أنه ليوحد بلاده صفاً واحدا وراءه، فعليه أن يقدم تنازلات للنبلاء والتجار.

لقد كان يعلم أن البضائع البريطانية (أو البضائع الواردة من المستعمرات البريطانية) تدخل روسيا بأوراق يزورها التجار والموظفون الروس لتفيد أنها بضائع أمريكية وبالتالي فدخولها مباح. فسمح بدخول البضائع البريطانية وكان جانب من هذه البضائع يتخذ طريقه من روسيا إلى بروسيا وغيرها.

وقد أرسل نابليون احتجاجا غاضبا إلى القيصر عن طريق الوزير minister الروسي في باريس إلا أن القيصر أصدر مرسوما في 31 ديسمبر 1810 يجيز فيه دخول بضائع المستعمرات البريطانية وخفض التعريفة الجمركية عليها، ورفع التعريفة الجمركية على البضائع الفرنسية. وفي فبراير سنة 1811 أرسل له نابليون خطابا حزينا:"إن جلالتكم لم تعودوا تكنون أي صداقة لي، فلم نعد في نظر إنجلترا وأوربا حلفاء" ولم يجب إسكندر وإنما حشد 240،000 من جنوده في نقاط مختلفة على حدوده الغربية. وعلى وفق ما ذكره كولينكور Caulaincourt فإن إسكندر كان قد قرر خوض حرب منذ بواكير شهر مايو 1811: "من الممكن بل ربما من المحتمل أن يهزمنا نابليون لكن هذا لن يتيح له السلام

إن بلادنا شاسعة يمكن أن نتراجع فيها .... سوف نتركه لمناخنا، ولشتائنا ليخوضا الحرب ضده

إنني سأنسحب إلى كامشاتكا Kamchatka لكنني لن أتخلى أبدا عن أي من ممتلكاتي".

لقد اتفق - الآن - إسكندر مع الدبلوماسيين الإنجليز في سان بطرسبرج ومع شتاين Stein واللاجئين البروس في بلاطه الذين كانوا يقولون له منذ وقت طويل أن هدف نابليون هو ضم كل أوربا إلى حكمه. وليوحد الأمة ألغى كل الإصلاحات وكل اقتراح بالإصلاح، إذ كانت هذه الإصلاحات ستثير عليه أكثر الأسر الروسية نفوذا، بل لقد شعر أنه حتى العوام لم يكونوا مهيئين لها.

وفي 29 مارس 1812 طرد سبيرانسكي ليس من منصبه فقط وإنما من البلاط ومن سان بطرسبرج، وراح يصغي على نحو أكثر فأكثر للكونت المحافظ

ص: 276

أليكسي إراكشيف Aleksei Aradcheev. وفي أبريل وقع معاهدة مع السويد مؤيدا دعاويها في النرويج، وأرسل أوامر سرية لممثليه في جنوب روسيا لعقد معاهدة سلام مع تركيا حتى ولو أدى هذا إلى التخلي عن كل الدعاوي الروسية في مولدافيا وفاليشيا (الأفلاق والبغدان) ليكون الجيش الروسي كله متاحاً لمواجهة نابليون. ووقعت تركيا معاهدة سلام مع روسيا في 28 مايو.

وكان إسكندر يعلم أنه يخاطر بكل شيء لكنه كان قد ارتمى أكثر فأكثر في أحضان الدين كسند يستند إليه في هذه الأيام العصيبة التي يتحتم عليه أن يتخذ فيها قرارا. لقد راح يصلي ويقرأ الكتاب المقدس المسيحي كل يوم. لقد أصبح يرى نابليون الآن أصل الشرور وتجسيداً لها أصبح يراه فوضويا مجنونا لا يشبع من التوسع، ويزداد قوة يوما بعد يوم، وأصبح إسكندر يرى نفسه بمؤازرة شعبه المؤمن، وبمساحة بلاده الشاسعة، هو الوحيد القادر على إيقاف هذا الشيطان المدمر لينقذ استقلال بلاده ويعيد النظام القديم في أوربا، وينزع الأمم من فولتير ليعيدها للمسيح.

وفي 21 أبريل 1812 غادر سان بطرسبرج بصحبة قادة حكومته مصحوبا بدعوات شعبه، واتجه جنوباً إلى فيلنا Vilna عاصمة ليتوانيا الروسية فوصلها في 26 أبريل وانتظر هناك - على رأس أحد جيوشه - قدوم نابليون.

ص: 277