الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليابان
(1)
(1)
إن "ياماتو العظمى"(أي اليابان) قطر مقدس؛ إن بلادنا وحدها دون سائر البلدان هي التي كان "السلف الأقدس" أول من وضع أساسها؛ إنها وحدها هي التي تعاورتها بعد إلهة الشمس سلسلة طويلة من سلالتها؛ إنك لن تجد من هذا القبيل شيئاً في الأقطار الأجنبية؛ ومن ثم سميت بالأرض المقدسة. تشيكافوزا كيتا باتاكا، 1334، في مردخ، تاريخ اليابان، الجزء الأول، ص 715
الباب الثامن والعشرون
بناة اليابان
تاريخ اليابان مسرحية لم تكمل بعد، قد تم منها ثلاثة فصول: فصلها الأول- بغض النظر عن القرون البدائية الأسطورية- هو اليابان البوذية الكلاسيكية (522 - 1603 ميلادية) التي دخلتها المدنية فجأة على أيدي الصين وكوريا، والتي هذبها الدين وصقلها، فخلقت آيات الأدب الياباني والفن الياباني في العصر الذي يدونه التاريخ؛ والفصل الثاني من المسرحية هو اليابان الإقطاعية الآمنة التي تنسب إلى توكوجادا شوجاتى (1603 - 1868) والتي اعتزلت العالم وحصرت نفسها في نفسها، لا تريد لنفسها شيئاً من اتساع الرقعة ولا تنشد تبادلاً تجارياً مع الخارج، قانعة بالزراعة منصرفة إلى الفن والفلسفة؛ أما الفصل الثالث فهو اليابان الحديثة، التي كشف عنها الستار أسطول أمريكي سنة 1853، والتي اضطرتها العوامل الداخلية والخارجية اضطراراً أن تضرب بسهم في التجارة والصناعة، وأن تبحث عن خامات من الخارج وأسواق في الخارج، وتقاتل قتالاً مستميتاً في سبيل التوسع، محاكية في ذلك بلاد الغرب في نزعتها الاستعمارية وطرائقها في هذا السبيل، مهددة بذلك سيادة الجنس الأبيض وسلام العالم؛ وإن سوابق التاريخ كلها لتدل على أن الفصل التالي من المسرحية سيكون قتالاً
(1)
.
لقد درس اليابانيون مدنيتنا دراسة فاحصة لكي يتشربوا معاييرها ثم يفوقوها، فقد يكون من الحكمة أن تدرس مدنيتهم في صبر يشبه صبرهم في دراسة مدنيتنا، حتى إذا تأزم الأمر على نحو يضطرنا إما إلى حرب أو تفاهم معهم، كان في مقدورنا أن نصل معهم إلى تفاهم.
(1)
صدر هذا الكتاب قبل الحرب الأخيرة، وقد جاءت الحرب مصداقاً لما تنبأ به المؤلف. (المعرب)
الفصل الأول
أبناء الآلهة
كيف خلقت اليابان - أثر الزلازل
في البداية كانت الآلهة، هكذا يقول أقدم ما دُوّن عن اليابان من تاريخ (1) وكانت الآلهة تولد ذكراً وأنثى، ثم تموت، حتى صدر الأمر في النهاية من شيوخ الآلهة إلى اثنين منها، هما "إيزاناجى" و "إيزانامى". وهما أخ وأخت من الآلهة، أن يخلقا اليابان، فوقفا على جسر السماء العائم، وقذفا في المحيط برمح مرصع بالجوهر، ثم رفعاه إلى السماء فتقطرت من الرمح قطرات أصبحت هي "الجزر المقدسة"؛ وشهدت الآلهة ما تصنعه الضفادع في الماء، فتعلمت منها سر اتصال الذكر بالأنثى، ومن ثم التقى "إيزاناجى" و "إيزانامى" التقاء الزوجين وأنسلا الجنس الياباني، وولدت "أماتيراسو"- إلهة الشمس- من عين "إيزاناجى" اليسرى، وكذلك من حفيدها "ننيجى" نشأت سلسلة متصلة مقدسة حلقاتها هم كل أباطرة "دي نيبون"(أي اليابان العظمى)، فمنذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا لم تشهد اليابان إلا هذه الأسرة الحاكمة الإمبراطورية
(1)
.
كان الرمح المرصع بالجوهر قد قطر أربعة آلاف ومائتين وثلاثاً وعشرين قطرة، لأن هذا هو عدد الجزائر التي يتألف منها أرخبيل الجزر الذي هو اليابان
(2)
: من هذه الجزر ستمائة مأهولة، لكن ليس بينها إلا خمس لها حجم
(1)
إذا اعترض معترض على هذه القصة بقوله إنها مستحيلة الحدوث، فقد يرد على اعتراضه بما قاله "موتو- أورى" منذ زمن طويل، وهو أعمق النقاد اليابانيين أثراً، إذ قال إن تناقض القصة نفسه هو دليل صدق روايتها إذ من ذا تسوغ له نفسه أن يُلغى عقله إلغاء يتيح له أن ينتحل قصة قد بلغت كل هذا الحد الظاهر من تفاهة واستحالة على التصديق؟ ".
(2)
كلمة اليابان قد تكون تحريفاً للفظة تستعمل في الملايو ومعناها جزر وهي =
جدير بالاعتبار؛ أما أكبرها فهي "هوندو" أو "هونشو" ويبلغ طولها 1130 ميلاً ومتوسط عرضها 73 ميلاً، ومساحتها واحد وثمانون ألف ميل مربع، وهي تعادل نصف مساحة الجزر كلها، ويشبه موقعها- كما يشبه تاريخها الحديث- موقع إنجلترا وتاريخها: فقد حمتها البحار المحيطة بها من الغزوات، وحملتها سواحلها الطويلة التي يبلغ مداها ثلاثة عشر ألف ميل على أن تكون أمة بحرية، فكأنما قضى عليها المؤثر الجغرافي والضرورة التجارية أن تبسط لنفسها سيادة واسعة على البحار؛ وتلتقي الرياح والتيارات البحرية الدافئة الآتية من الجنوب، بالهواء البارد الهابط من قمم الجبال، فينتج عن ذلك في اليابان مناخ إنجليزي تملؤه الأمطار، وتكثر فيها الأيام الغائمة بالسحب (4)، ومن ثم تمتلئ أنهارها القصيرة السريعة الانحدار، ويزدهر فيها النبات وتزدان المناظر، فهناك- إذا ما بعدت عن المدن والمساكن العتيقة القذرة- ترى نصف البلاد جنة عدن في ازدهارها، وليست جبالها أكداساً مركومة من الصخر والقذر، بل هي ذوات أشكال فنية، تكاد تبلغ في تخطيطها حد الكمال، كما هي الحال في فيوجى
(1)
.
ولاشك أن هذه الجزر قد ولدتها الزلازل لا القطرات التي انتثرت من الرياح (6)؛ فليس على الأرض مكان- وربما جاز أن نستثني أمريكا الجنوبية- قد عانى كل ما عانته اليابان من اضطراب أرضها، فحدث سنة 599 أن اهتزت
= يابانج" أو "يابون"؛ وهذه اللفظة الأخيرة هي ما تقابل في اليابانية كلمة "نيبون" ثم هذه بدورها هي تحريف الكلمة الصينية التي معناها "المكان الذي تشرق منه الشمس" وهي "جب- بن"؛ وينعت اليابانيون كلمة "نيبون" عادة بكلمة "داي" ومعناها العظمى.
(1)
"فيوجى سان"(أو قد يسمى حديثاً فيوجى ياما) هو معبود الفنانين والكهنة، ويكاد يكون في شكله مخروطاً متدرج السفوح تدرجاً سهلاً، وترتفع قمته 12365 قدماً، يصعدها ألوف عدة من الحجاج كل عام؛ وكانت آخر مرة ثار فيها بركان فيوجى في سنة 1707.
الأرض وابتلعت قرى بأكملها في فمها الضاحك، وهوت الشهب ولمعت المذنَّبات وابيضت الشوارع بالثلج في منتصف يوليو، وأعقب ذلك قحط ومجاعة، وقضى من اليابانيين ألوف الألوف؛ وكذلك حدث سنة 1703 أن قضى زلزال على اثنين وثلاثين ألفاً في طوكيو وحدها، وعادت العاصمة سنة 1885 فتقوض بنيانها من جديد، وانفرجت الأرض عن فجوات واسعة ابتلعت في جوفها ألوفاً، وجعلوا يحملون جثث الموتى في عربات النقل ليقذفوا بها بعيداً جماعات جماعات؛ وفي زلزال 1923 أتت موجة المد وألسنة النار على مائة ألف نفس في طوكيو، وسبعة وثلاثين ألف نفس في يوكاهاما وما يجاورها، وأما كاما كورا- التي طالما أحسنت لبوذا- فكادت تندك من أساسها (7)، مع أن التمثال النحيل الذي كان قائماً هناك للقديس الهندي (يقصد بوذا) قد لبث وسط هذا الخراب الشامل قائماً كما هو، لم يصبه سوى ارتجاج، كأنما أراد بقيامه ذاك سليماً من الأذى أن يضرب مثلاً يوضح للناس أهم درس يلقيه التاريخ- وهو أن الآلهة يمكن لها أن تصمت في مختلف اللغات؛ ولبث الناس في حيرة تملكتهم حيناً، كيف ينزل هذا الخراب كله بأرض خلقتها الآلهة وتحكمها الآلهة؛ وأخيراً فسروا هذا الاضطراب بأن سمكة ضخمة تحت الأرض انزعجت في نعاسها فاهتزت (8) ويظهر أن لم يطرأ ببال أحد إذ ذاك أن يغادر تلك المدينة التي تعرض ساكنيها لأكبر الخطر؛ ففي اليوم التالي لاهتزاز الأرض بزلزالها العظيم الأخير، استخدم صبية المدارس قطعاً من مادة الطلاء المتناثرة أقلاماً، والأحجار الارتوازية المنثورة من بيوتهم المحطمة ألواحاً (9) واحتملت الأمة صابرة هذه الضربات من يد القدر وخرجت من هذا الدمار المتكرر نشيطة نشاطاً لا سبيل إلى الحد منه، ومقدامة على نحو ما يكون المتفائل إقداماً.
الفصل الثاني
اليابان البدائية
مقوماتها الجنسية - مدنيتها الباكرة - الدين
"شنتو" - البوذية - بدايات الفن "الإصلاح العظيم"
لقد ضاعت الأصول اليابانية- كما ضاع غيرها من أصول الأمم- في خليط عام من النظريات، فيظهر أن الجنس الياباني مزيج من عناصر ثلاثة: عنصر بدائي أبيض جاء عن طريق "الأينويين" الذين وفدوا إلى اليابان من منطقة نهر أمور في العصر الحجري الأخير؛ وعنصر أصفر مغولي جاء من كوريا أو عبر خلالها في نحو القرن السابع قبل المسيح؛ وعنصر قاتم من الملايو وأندونيسيا تسرب إلى البلاد من جزر الجنوب: ففي اليابان- كما في أي بلد آخر- شهدت البلاد خليطاً من عناصر مختلفة قبل أن تشهد- بمئات السنين- قيام نمط جنسي جديد يتكلم بلغة جديدة وينشئ مدنية جديدة، وكون عملية المزج بين هذه الأجناس لم تبلغ تمامها بعد، تراه ظاهراً في الفوارق التي بين الأرستقراطي الطويل النحيل طويل الرأس، وبين الرجال من الشعب في قصره وبدانته ورأسه العريض.
وتصف الروايات التاريخية الصينية التي ترجع إلى القرن الرابع، تصف اليابانيين بأنهم "أقزام"، ثم تضيف إلى ذلك أنهم "لا يعرفون الثيرة ولا الوحوش الكاسرة؛ وهو يَشِمُون وجوههم بزخارف تختلف شكلاً باختلاف المنزلة الاجتماعية، ويلبسون رداء مصنوعاً من قطعة واحدة، ولديهم حراب وقِسِىٌّ ورماح في أطرافها حجر أو حديد، وهم لا يلبسون أحذية، ومن خصائصهم طاعة القانون وتعدد الزوجات ويدمنون الشراب وهم طوال الأعمار.
ونساؤهم يطلين أجسامهن بالأحمر والقرمزي" (11). وتروى هذه المدَّونات عنهم "أن ليس يقع بينهم سرقة، وقلما يشكو أحد منهم أحداً إلى القضاء" (12)، ولم تكد المدنية تبدأ عندهم، وقد صور "لافكاديوهيرن"- مدفوعاً بصدق نظره وبحبه لذلك العصر القديم- صورها فردوساً لا يشوبها استغلال أو فقر؛ ووصف "فنلوزا" طبقة الفلاحين إذ ذاك بأنها مكونة من سادة عسكريين مستقل بعضهم عن البعض (13)؛ وجاءت الصناعات اليدوية إلى اليابان من كوريا في القرن الثالث الميلادي، وسرعان ما انتظمتها نقابات (14)، ودون هؤلاء الصناع اليدويين، كانت تقع طبقة كبيرة من العبيد، جُمع أفرادها من المسجونين وأسرى الحروب (15)، وكان النظام الاجتماعي إقطاعياً إلى حد ما وقبلياً إلى حد ما، فكان بعض الفلاحين يزرعون الأرض عبيداً للسادة أصحاب الأرض، ولكل قبيلة رئيس يكاد يكون ملكاً عليها (16)، وكانت الحكومة بدائية في تفككها وضعفها.
كانت العاطفة الدينية عند اليابانيين الأولين تجد ما يشبعها في العقيدة بأن لكل كائن روحاً، وفي الطوطمية، وفي عبادة الأسلاف وعبادة العلاقة الجنسية (17)؛ فعندهم أن الأرواح سارية في كل شيء- في كواكب السماء ونجومها، في نباتات الحقل وحشراته، والأشجار والحيوان والإنسان (18)، ويعتقدون أن عدداً لا يحصى من الآلهة يحوم فوق الدار وساكنيها ويرقص مع ضوء المصباح ووهجه إذا رقص (19)، والاتصال بالآلهة يكون عندهم بإحراق عظام غزال أو قوقعة سلحفاة، وبفحص العلامات والخطوط التي تحدثها النار، فحصاً تستمد فيه المعونة من الخبراء؛ وتذكر لنا المدونات القديمة الصينية أنه بهذه الطريقة "كان اليابانيون يستوثقون من طيب الحظوظ وخبيثها، ومن ملاءمة الظروف لقيامهم برحلات برية وبحرية أو عدم ملاءمتها"(20). كانوا يخافون الموتى ويعبدونهم، لأن غضبهم قد ينزل بالعالم شراً مستطيراً؛ فلكي يسترضوا هؤلاء الموتى، كان لزاماً عليهم أن يضعوا لهم النفائس في
قبورهم- كأن يضعوا سيفاً إذا كان الميت رجلاً، ومرآة إذا كانت امرأة، وكانوا يؤدون الصلاة ويقدمون الطعام أمام صور أسلافهم في كل يوم (21) وكانوا يلجأون إلى التضحية البشرية آناً بعد آن توسلاً لإيقاف مطر غزير، أو ضماناً لثبات بناء أو جدار، وكان يحدث أحياناً أن يدفن الأتباع مع سيدهم الذي مات ليدافعوا عنه في أولى مراحل حياته الآخرة (22).
ومن عبادة الأسلاف نشأت أقدم ديانة قائمة في اليابان، وهي "شنتو" أي "طريق الآلهة" ولها صور ثلاث ": العقيدة المنزلية التي تتجه بالعبادة إلى أسلاف القبيلة، وعقيدة الدولة التي تتجه بالعبادة إلى الحاكمين الأسلاف وهم الآلهة الذين أسسوا للدولة بناءها؛ فكانوا يخاطبون السلف المقدس الأول الذي عنه جاءت سلسلة الأباطرة، ضارعين سبع مرات كل عام، فيتوجه إليه الإمبراطور نفسه بالدعاء، أو من ينوب عن الإمبراطور؛ ثم كانوا يؤدون له صلاة خاصة إذا ما همت الأمة بالاضطلاع بمشروع تراه استثنائياً في قداسته، مثل الاستيلاء على شانتونج (سنة 1914)(23)؛ ولم تكن ديانة "شنتو" بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقدة أو تشريع خلقي، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس؛ فكان كل ما تطالب به معتنقيها أن يحجوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدموا لهم ضراعة الخاشعين، ويفعلوا كذلك لإمبراطورهم ولماضي أمتهم؛ وقد حلت عقيدة أخرى محل هذه العقيدة حيناً، لأنها مسرفة التواضع في جزائها التي تعد به، وفي أوامرها التي تلزم بها الناس.
وفي سنة 522 جاءت البوذية- وكانت قد دخلت الصين قبل ذاك بخمسمائة عام- إلى اليابان خلال القارة الآسيوية، فأخذت تغزو أرجاءها غزواً
سريعاً؛ وقد تآمر عاملان فكتبا لها النصر، وهما: الحاجات الدينية عند الشعب، والحاجات السياسية عند الدولة، لأنه لم تكن بوذية بوذا هي التي جاءت إلى اليابان، بما عرفت به تلك البوذية من لا أدرية وتشاؤم وتزمت وشوق إلى النعيم الناشئ عن انمحاء الفرد في الكل، بل جاءتها بوذية "ماهايانا" بآلهتها الوديعة من أمثال "أميدا""وكوانون"، وباحتفالاتها الدينية البهيجة، واعترافها ببوذيين منتظرين يخلصون البشر، وبخلود الروح الإنسانية، ثم ما هو خير من ذلك، جاءت هذه البوذية تبث في النفوس بأسلوب لا يقاوم لفرط رقته، كل فضائل الورع والسلام والطاعة التي يمكن أن تصوغ الناس صياغة تجعلهم أكثر انصياعاً للحكومة، وراحت تفسح للمظلومين من الأمل والعزاء ما يجعلهم راضين قانعين بشظف عيشهم؛ وتخفف من وطأة الحياة الكادحة وما فيها من برود يشبه برود النثر وفتور العمل المكرور المعاد، بما تبثه في تلك الحياة من شعر متمثلة في الأساطير والصلاة، ومن مسرحية تتمثل في الاحتفالات البهيجة، وهيأت للناس سبيل الوحدة في الشعور والعقيدة، وهما شيئان طالما رحب بهما الساسة، لأنهما أصل النظام الاجتماعي، ودعامة القوة القومية.
ولسنا ندرى أكانت السياسة أم الورع هو الذي كتب النصر للبوذية في اليابان، فلما مات الإمبراطور "يومى" سنة 586، تنازعت وراثة العرش من بعده أسرتان متنافستان، تنازعاً استخدمت فيه السلاح، واعتنقت كلتاهما العقيدة الدينية الجديدة اعتناقاً سياسياً، واستطاع الأمير "شوتوكوتايشي"- الذي يقال عنه إنه ولد وفي يده تميمة مقدسة- أن ينتهي بالحزب البوذي إلى النصر، ثم أقام على العرش "الإمبراطورة سويكو". ولبث تسعة وعشرين عاماً (592 - 621) يحكم الجزر المقدسة أميراً إمبراطورياً ووصياً على العرش وراح يغدق العطاء لمعابد البوذيين، ويشجع رجال الدين البوذي ويعينهم،
ويدخل الأخلاق البوذية في صلب القوانين القومية، حتى لقد أصبح بوجه عام للبوذية اليابانية ما كان "أشوكا" لها في الهند، وامتدت رعايته إلى الفنون والعلوم، واستقدم الفنانين ومهرة الصناع من كوريا والصين، وكتب التاريخ، ورسم التصاوير، وأشرف على بناء معبد "هوريوجي"، وهو أقدم آية بقيت لنا في تاريخ الفن الياباني.
لكن على الرغم مما تركه هذا الرجل الناشر لأسباب الحضارة من مختلف الآثار، وعلى الرغم من كافة الفضائل التي راحت البوذية تبثها في النفوس أو تبشر بها، فقد طغت على اليابان أزمة أخرى عنيفة، ولم يكن قد مضى على موت "شوتوكو" جيل واحد؛ ذلك أن أرستقراطياً طموحاً، هو "كاماتاري" قد دبر مع "الأمير تاكا" ثورة في القصر، كانت بداية واضحة لتغير مجرى التاريخ السياسي في "نيبون"(اليابان) حتى ليشير إليها المؤرخون من أبناء البلاد في حماسة وطنية فيصفونها بقولهم "الإصلاح العظيم"(سنة 645)؛ فقد قتل ولي العهد، وأجلس على العرش ملك كهل لم يكن إلا صورة، وكان الأمر في يد "كاماتاري" باعتباره رئيساً للوزراء، فطفق بمعونة "الأمير تاكا"- حين كان لم يزل ولياً للعهد، ثم حين أصبح هو "الإمبراطور تنشي"- يعيد بناء الحكومة اليابانية بحيث جعلها سلطة إمبراطورية أوتوقراطية؛ وارتفع الحاكم من مجرد كونه زعيماً لكبرى القبائل، إلى سلطة شاملة تسيطر على كل موظف في اليابان، فهو الذي يعين كل الحكام، وتدفع له الضرائب كلها مباشرة، وأعلن أن البلاد كلها ملك يمينه؛ وبهذا سارت اليابان بخطوات سريعة من ارتباط بين القبائل مخلخل العرى ورؤساء قبائل يشبهون أشراف الإقطاع، إلى دولة ملكية وثيقة العرى فيما يربط بين أجزائها.
الفصل الثالث
العصر الإمبراطوري
الأباطرة - الأرستقراطية، تأثير الصين، عصر كيوتو الذهبي - التدهور
منذ ذلك الوقت فصاعداً، جعل الإمبراطور يتمتع بألقاب ضخمة، فكان يسمى أحياناً "تنشي" أو "شمس السماء" على أن اسمه كان غالباً "تنو" أي "الملك السماوي" ونادراً ما كان يطلق عليه "ميكادو" أي "الباب المجيد"؛ وكان من امتيازه أن يطلق عليه اسم جديد بعد موته، يعرف في التاريخ باسم خاص يختلف كل الاختلاف عن الاسم الذي أطلق إبان الحياة؛ ولكي يضمن اتصال النسل الإمبراطوري، كان للإمبراطور الحق في أي عدد شاء من الزوجات أو الرفيقات؛ ولم يكن حتماً أن يهبط الملك إلى أكبر الأبناء، بل تؤول ولاية العرش من بعده إلى من كان في رأيه هو، أو في رأي أبطال العصر أقرب أبنائه إلى أن يكون أقواهم، أو أضعفهم على العرش [فيختار أقواهم إن كان الذي يختار هو الملك، ويختار أضعفهم إن كان الذي يختار هم أعلام العصر ذوو المصالح الشخصية] وكان الأباطرة في بواكير العصر الكيوتي يميلون إلى الورع، حتى لقد تنازل بعضهم عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهباناً بوذيين، وحرَّم أحدهم السِّماكة على أنها إساءة إلى بوذا (25)؛ لكنك تجد بينهم "يوزي" يشذ عن هذا المجرى، ويتعب الناس بنشاطه، فجاء مثلاً يوضح كيف تكون الأخطار التي يستهدف لها الملك إذا نشط؛ فكان يأمر الناس أن يصعدوا الأشجار ثم يرميهم بقوسه ونشابه، ويمسك بالعذارى في الطرقات، ويوثق قيدهن بأوتار قيثارة ويقذف بهن في البرك، وكان مما يمتع جلالته أن يركب جائساً خلال العاصمة فيلهب الناس بسوطه ليدفعهم إلى العمل، لكن رعيته خلعته عن العرش آخر الأمر بثورة أعلنت فيها
العصيان السياسي الذي هو بمثابة الخروج على حدود التقوى وهو شيء نادر الوقوع في تاريخ اليابان (26)؛ وحدث سنة 794 أن انتقلت مراكز الحكومة من "نارا" إلى "ناجاوكا" ثم لم تلبث بعدئذ أن انتقلت إلى كيوتو (أي عاصمة السلام) فظلت هي العاصمة خلال الأربعة قرون (794 - 1192) التي يجمع معظم المؤرخين على أنها كانت في اليابان عصرها الذهبي، فلما أن كانت سنة 1190 بلغ سكان كيوتو نصف المليون، وهو ما لم تبلغه أية مدينة أوروبية في ذلك العصر ما عدا القسطنطينية وقرطبة (27)، وقد خصص جزء من المدينة لأكواخ الناس وحظائر لماشيتهم، والظاهر أن قد نعم هؤلاء الناس بعيشهم رغم فقرهم المدقع؛ ثم خصص آخر- جعلوه معزولاً بما تقتضيه الحكمة لحدائق العلية والأسرة الإمبراطورية وقصورهم؛ وكان يطلق على حاشية الإمبراطور بحق "سكان ما فوق السحب"(28) لأن تقدم الحضارة وارتفاع الأساليب الفنية كان من نتائجها في اليابان- كما هي الحال في غيرها- ازدياد الفوارق الاجتماعية؛ وبهذا زالت المساواة التقريبية التي كانت تسود الناس في باكورة الأيام، وحل محلها تفاوت لا مندوحة عن وقوعه إذا ما قُسمِّت الثروة المتزايدة بين الناس على قدراتهم المختلفة وشخصياتهم وامتيازاتهم المتباينة؛ ونشأت أسرات كبيرة، مثل الـ "فويجيوارا" والـ "تايْرا" والـ "ميناموتو" والـ "سوجاوارا"، وهي أسرات كانت تقيم الأباطرة وتخلعهم، ويحارب بعضها بعضاً على النحو العنيف الذي شهدته أيام النهضة الإيطالية؛ ولقد قرَّب "سوجاوارا متشيزاني" نفسه من قلوب اليابانيين لرعايته للأدب، وهو الآن معبود لديهم بوصفه إلهاً للآداب، وتعطل المدارس تكريماً له في الخامس والعشرين من كل شهر؛ وكذلك امتاز الشاب "ميناموتو سانيتومو" بإنشائه في الصباح السابق لاغتياله هذه المقطوعة الشعرية الساذجة، التي تمثل الأسلوب الياباني في أنصع صوره:
إذا لم أعد إليك ثانياً
يا شجرة البرقوق التي تجاور داري
فلا تنسي أنت موعد الربيع
وازدهري ما وسعك الازدهار
ولبثت اليابان في عهد "دايجو" المتنوّر (898 - 930) - وهو أعظم الأباطرة الذين أقامتهم على الحكم قبيلة فوجيوارا، لبثت في عهده تتشرب- بل بدأت تنافس- ثقافة الصين وأسباب ترفها، التي كانت عندئذ في أعلى ذرى ازدهارها في عهد "تانج"؛ ولما كانت اليابان قد استمدت عقيدتها الدينية من "المملكة الوسطى" فقد طفقت تستمد من المعين نفسه لباسها وألعابها وطهيها وكتابتها وشعرها وأساليب حكومتها وموسيقاها وفنونها وبساتينها وعمارتها، بل خُطِّطت عاصمتاها الجميلتان "نارا" و "كيوتو" على غرار "شانجان"؛ فقد استوردت اليابان ثقافة الصين منذ ألف عام، كما تستورد ثقافة أوربا وأمريكا في عصرنا هذا، وهي في هذا تتعجل أولاً ثم تتمهل لتنتقي وتختار ثانياً؛ لكنها تحتفظ بروحها الخاصة وشخصيتها الخاصة غيرة عليهما، ولا تدخر في وسعها جهداً في سبيل مداومة الأساليب الجديدة إلى الأغراض القومية القديمة.
ودخلت اليابان في عهدها "الأنجي"(901 - 922) الذي يعتبر ذروة العصر الذهبي
(1)
مدفوعة إلى ذلك الصعود بحافز من جارتها العظيمة، وبوقاية
(1)
يقول فنولوزا المتحمس: "هذا العهد الذي يسمى بالعهد "الأنجي" هو بغير شك أعلى ذروة بلغتها الحضارة اليابانية، كما كان عهد "منج هوانج" ذروة الحضارة في الصين، فلن تبلغ الصين أو اليابان بعد الآن ما كانتا بلغتاه إذ ذاك ثراء وفخامة وخصوبة في ذرى العبقرية الحرة
…
فمن حيث الثقافة العامة وترف الحياة الذي تناول العقل والروح معاً، لم يشهد العالم مثيلاً لتلك الفخامة، لا نقول في اليابان وحدها، بل في الدنيا بأسرها.
حكومية مستتبة؛ فتراكمت الثروة وأتجه إنفاقها نحو أسباب حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى جاءت عصور أسرة مديتشي و "صالونات""التنوير الفرنسي"
(1)
.
وأصبحت "كيوتو" بمثابة باريس وفرساي في فرنسا، رقيقة قي شعرها وثيابها، رشيقة في أخلاقها وفنونها، تضع للأمة كلها معايير المعرفة والذوق، وانفتحت "الشهية" عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان (32)، وتزمَّل كل سيد أو سيدة بالحرير ونفيس الثياب، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على كل كم تلبسها ذراع، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والذهب والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر (33)؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.
أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة، يغلب ألا تدوم طويلاً، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة أن تذروها عوامل تذبذب التجارة، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة العلمية، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون أن يستوقف انتباههم، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن وازدادت الجرائم بين الفقراء بقدر ما ازدادت أسباب
(1)
عهد التنوير في فرنسا هو القرن الثامن عشر. (المعرب)
الترف بين الأغنياء، وانبث وباء اللصوص والقراصنة في الطرقات والبحار، فكانوا ينقضون على كل فريسة تقع في أيديهم، لا فرق عندهم بين الإمبراطور والشعب، ويسطون على جباة الضرائب فيسلبونهم ما كانوا يحملونه إلى القصر من أموال، ونظمت عصابات من اللصوص في الأقاليم، بل وفي العاصمة نفسها، وكان يتاح لأخطر مجرم في اليابان- كما هي الحال عندنا- أن يعيش في رفاهية علنية؛ لأنه كان من القوة بحيث يتعذر على أولى الأمر أن يقبضوا عليه أو يسيئوا إليه (35)، وأهمل الناس عاداتهم وفضائلهم الحربية، وتراخوا في نظامهم العسكري والأهبة للدفاع، بحيث باتت الحكومة مفتوحة الصدر لكل ضربة يسددها إليها من شاء من القراصنة القساة؛ وراحت الأسر الكبيرة تجيَّش لنفسها جيوشها، فبدأت بذلك عهداً من حروب أهلية، ولبثت تناضل بعضها بعضاً نضالاً تسوده الفوضى، كل منها يحاول أن يظفر لنفسه بحق تعيين الإمبراطور، وأما الإمبراطور نفسه فكان يزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، في الوقت الذي كان رؤساء القبائل فيه يوشكون أن يعودوا إلى سابق عهدهم من حيث استقلال كل منهم بسلطته؛ وهكذا أخذ التاريخ مرة أخرى يتذبذب على نحو ما كان يتذبذب قديماً، بين حكومة قوية مركزية من ناحية، ونظام إقطاعي لا مركزي من ناحية أخرى.
الفصل الرابع
الطغاة
"الشواجنة" - سلطان عسكري في كاماكورا - وصاية هوجو على
العرش - غزوة قبلاي خان - سيادة أشيكاجا - القراصنة الثلاثة
كان من شأن هذه الظروف القائمة أن سنحت الفرصة لظهور فئة من الطغاة العسكريين الذين قبضوا بأيديهم على زمام الأمور كلها، في كثير من أجزاء الجزر اليابانية؛ ولم يعترفوا بالإمبراطور إلا على أنه ظاهرة مقدسة في اليابان يحتفظ بها بأقل ما يمكن من النفقات؛ وجعل الفلاحون الذين لم تعد تحميهم من عصابات اللصوص جيوش الإمبراطور ولا رجال شرطته، يدفعون الضرائب لهؤلاء "الشواجنة" أي القادة بدل دفعها للإمبراطور، لأن "الشواجنة" وحدهم هم الذين كانوا يستطيعون حمايتهم من اعتداء اللصوص (36). وهكذا ساد النظام الإقطاعي في اليابان لنفس الأسباب التي كان قد ساد بسببها في أوربا، وأعني أن مصادر السلطان في الإقطاعات ازدادت نفوذاً بمقدار ما فشلت الحكومة المركزية النائبة في حفظ الأمن والنظام.
وحدث في سنة 1192 أن جمع "يوريتومو"- وهو أحد رجال قبيلة ميناموتو- حوله جيشاً من الجند والعبيد، وأقام لنفسه سلطة مستقلة، اتخذت لنفسها اسماً هو اسم المكان الذي قامت فيه، وهو "باكوفوكاماكورد" وكلمة "باكوفو" معناها منصب عسكري، وإذن فهي تدل صراحة على نوع الحكومة الجديدة؛ ومات "يوريتومو" العظيم فجأة في عام 1198
(1)
(1)
يروي أعداء "يوريتومو" قصة موته فيقولون إنه كان يركب جواداً إذ رأى شبح أخيه الذي كان قد قتله، اضطرب الجواد وراكبه معاً لرؤية الشبح، وتعثر الجواد وسقط راكبه، ومات "يوريتومو" بعد ذلك ببضعة أشهر، وسِنُّه ثلاثة وخمسون عاماً.
أعقبه في الحكم أبناؤه الضعفاء، وذلك- كما يقول المثل الياباني- لأن "الرجل العظيم لا ذرية له"(38) فأقامت أسرة منافسة وصاية لنفسها على العرش عام 1199 ويسمى العهد باسم "وصاية هوجو"، ولبثت تلك الأسرة مدى مائة وأربعة وثلاثين عاماً تحكم "الشواجنة" الذين كانوا بدورهم يحكمون الأباطرة؛ فكانت هذه الحكومة الثلاثية فرصة سانحة لقبلاي خان يحاول فيها غزو اليابان؛ فقد وصفها له الكوريون الدُّهاة الذين كانوا يخشون بأسها، فقالوا إنها من الثراء بحيث تستحق المجهود؛ فأمر قبلاي بناة سفنه أن يشيدوا له أسطولاً بلغ من الضخامة حداً جعل شعراء الصين يصورون التلال باكية ترثى ما سُلِبَ من غاباتها (39)؛ ويقول اليابانيون- حين يروون حوادث الماضي رواية الفخور ببطولته- إن النفس بلغت سبعين ألفاً، لكن المؤرخين الذين لا يتأججون بمثل هذه الحاسة الوطنية يكفيهم من العدد ثلاثة آلاف وخمسمائة سفينة ومائة ألف محارب؛ وتبدّى هذا الأسطول الجبار على مبعدة من شواطئ اليابان في أواخر سنة 1291 فخرج سكان الجزر الأبطال ليلاقوه في أسطول لهم بنوه على عجل؛ وهو أسطول ضئيل بالقياس إلى الأسطول المهاجم؛ لكن حدث لهذه الأرمادا، ما حدث للأرمادا التي كانت أصغر منها، وإن تكن أشهر
(1)
، وهو أن هبت "ريح عظيمة" لا تزال مذكورة لما أسدته للناس من جميل، هبت فحطمت سفائن "الخان" الجبار، إذ رطمتها على جوانب الصخور، وأغرقت من بحارته سبعين ألفاً، وأبقت على بقيتهم ليعيشوا حياة الرقيق في بلاد اليابان.
ودارت الدوائر على أسرة "هوجو" عام 1333، إذ أصابتهم السيطرة هم أيضاً بسمومها، وانتهى الأمر إلى انتقال الحكم الوراثي من أيدي الأبالسة والعباقرة إلى أيدي الجبناء والحمقى؛ وكان آخر هذه السلالة رجل يدعى "تاكا
(1)
نقصد الأرماد الأسبانية سنة 1588 التي كانت تتألف حين وصلت إلى بحر المانش، من مائة وعشرين سفينة فيها أربعة وعشرون ألف محارب.
توكي" يحب الكلاب حباً شديداً، فيقبلها بدل الضرائب، حتى لقد جمع منها عدداً يتراوح بين أربعة وخمسة آلاف، وأعد لها حظائر زينها بالذهب والفضة وأطعمها بالسمك والطيور، وهيأ لها العربات المزخرفة تحملها للتنزه؛ فوجد الإمبراطور القائم على العرش إذ ذاك، وهو "جو دايجو" أن انحلال حماته فرصة سانحة يستعيد فيها سلطانه الإمبراطوري، وأيدته قبيلتا "ميناموتو" و "أشيكاجا" وقادتا له جيوش حتى ظفرتا له بالنصر على "أسرة الوصاية" بعد سلسلة من هزائم، ومن ثم أوى "تاكا توكي" ومعه ثمانمائة وسبعون من عبيده وقادته، إلى معبد، وجرع كأساً أخيرة من "الساقي" ثم أنزل بنفسه "الهاراكيري" (أي أنه أنتحر)؛ ولقد أخرج أحد الحاضرين أمعاء المنتحر بيديه قائلاً: "إن هذه لتضفي على الخمر طعماً لذيذاً" (40).
وانقلب "أشيكاجاتا كاوجي" على الإمبراطور بعد أن كان هو الذي أعانه على استعادة سلطته؛ وقاتل الجيوش التي جاءت لإخضاعه قتالاً موفقاً من حيث خطته العسكرية ومؤامرات الخيانة؛ وأزال "جودايجو" عن العرش ليضع مكانه إمبراطوراً صورياً هو "كوجون"، وأقام في كيوتو تلك الحكومة العسكرية المعروفة باسمه "أشيكاجا" والتي ظلت تحكم اليابان مدى مائتين وخمسين عاماً سادتها الفوضى والحرب الأهلية التي لم تنقطع؛ ولا بد لنا أن نعترف هنا بأن جزءاً من تلك الفوضى كان يرجع إلى الجانب السامي من طغاة "أشيكاجا"- وهو حبهم للفن ورعايتهم له؛ فهاهو ذا "يوشيمتسو" قد مل الكفاح فأدار يديه نحو التصوير، حتى أصبح يعد من مصوري عصره الأفذاذ، وارتبط "يوشيمازا" بصلات الود مع كثير من المصورين، وأعان بالمال كثيراً من الفنون، وأصبح في عالم الفن ذواقة دقيقاً، حتى ليعد هواة الآثار الفنية اليوم القطع التي كان قد اختارها هو وأتباعه خير ما يستحق الاقتناء (41) لكن مهام الحكم الإداري قد أهملت إذ ذاك، ولم يعد حفظ
الأمن والسلام في مقدور القادة العسكريين (أي الشواجنة) الأغنياء، ولا في مقدور الأباطرة الذين حل بهم الإفلاس.
فكان من شأن هذه الفوضى نفسها وما أصاب الحياة من انحلال، ومطالبة الأمة بقادة يهيئون لها النظام، أن ظهر القراصنة الثلاثة المعروفون في التاريخ الياباني؛ وتقول الرواية إن هؤلاء الثلاثة- وهم "نوبوناجا" و "هيديوشي" و "أيياسو"- اعتزموا أن يتعاونوا معاً في شبابهم على إعادة الوحدة لوطنهم، وحلف كل منهم يميناً على أن يطيع طاعة الأتباع مَنْ يفوز من زميليه الآخرين بموافقة الإمبراطور على توليه حكومة اليابان (42)؛ وحاول "نوبوناجا" بادئ ذي بدء، لكنه مُني بالفشل، وحاول بعده "هيديوشي" لكنه مات حين أوشك على النجاح؛ وكان "أيياسو" يرقب فرصته، فجاءته آخر الأمر وحاول بعد زميليه، وأسس الحكومة العسكرية المعروفة باسم "توكوجاوا". وبهذا افتتح عهداً من أطول عهود السلام، وعصراً هو من أخصب عصور الفن، في تاريخ الإنسانية كلها.
الفصل الخامس
"وجه القردة" العظيم
ظهور هيديوشي - الهجوم على كوريا - الاشتباك مع المسيحية
كانت الملكة اليصابات و "أكبر"(في الهند) معاصرين لـ "هيديوشي" العظيم- هكذا قد يحلو لليابانيين أن يذكروا هذه الحقيقة على سبيل التنويه بفضل عظيمهم- كان "هيديوشي" ابن فلاح، يعرفه أصدقاؤه، وتعرفه رعيته حين أصبح فيما بعد حاكماً، باسم "سارو من كانجا"- ومعناها "وجه القردة" لأنه لم يكن ينافسه في دمامة الوجه أحد حتى ولا كونفوشيوس؛ وكان والداه قد عجزا عن إخضاعه للنظام فبعثا به إلى مدرسة في دير؛ لكن "هيديوشي" سخر من كهنة البوذية سخرية شديدة، وأثار في الدير ضجة وثورة، بحيث انتهى أمره إلى الطرد من مدرسته، فألحق صبياً في كثير من الحرف، وطرد من عمله سبعاً وثلاثين مرة (43)؛ وجعل من نفسه قاطعاً للطريق، لكنه عاد فرأى أنه يستطيع أن يسلب وهو مع القانون أكثر مما يسلبه وهو خارج على القانون؛ ثم التحق بخدمة "الساموراي"(أي حملة السيف) وأنقذ حياة مولاه، وسمح له بعدئذ أن يحمل سيفاً؛ وانضم إلى أتباع "نوبوناجا" وعاونه بتفكيره وببسالته، حتى إذا ما مات "نوبوناجا" تولى هو قيادة الثائرين الخوارج على القانون، الذين شنوا حملتهم ليغزوا أرض وطنهم؛ فما انقضت ثلاثة أعوام حتى كان "هيديوشي" قد أصبح حاكماً على نصف الإمبراطورية وظفر بإعجاب الإمبراطور العاجز، وأحس في نفسه من القوة ما يتيح له أن يهضم في جوفه كوريا والصين؛ وفي ذلك قال متواضعاً يخاطب
"ابن السماء": "لقد اعتزمت أن أطوي الصين كلها تحت سلطاني، بمعونة الجنود الكوريين وبتأييد من نفوذك الساطع؛ فإذا ما تم لي ذلك، ستصبح الأقطار الثلاثة (الصين وكوريا واليابان) قطراً واحداً؛ وسيتم لي ذلك في يسر كأنما أطوي حصيرة لأحملها تحت ذراعي"(44). لكنه حاول جهده بغير جدوى، لأن رجلاً شيطانياً من الكوريين اخترع قارباً حربياً من المعدن- ولولا سبقه في الزمن لقلنا إنه سرق منا الـ "مونتِور" والـ "مِرِماك"- وبهذا القارب راح يحطم سفن "هيديوشي" المثقلة بجنوده؛ سفينة بعد سفينة، وكان "هيديوشي" قد أنفذها بجنده إلى كوريا (1592)، لقد أغرقت في يوم واحد اثنان وسبعون مركباً، وانقلب البحر بحراً من دماء، ورست أربع وثمانون سفينة أخرى على الشاطئ حيث فر منها اليابانيون وخلفوها وراءهم، فأحرقها الظافرون حتى لم يذروا منها شيئاً؛ وبعد أن تبادل الفريقان نصراً وهزيمة دون أن يكون فيها ما يفصل بالنصر، أرجأ الفاتحون فتح كوريا والصين حتى القرن العشرين؛ وقال ملك كوريا عن "هيديوشي" إنه حاول "أن يعبر المحيط في صَدفَة من أصداف المحار"(45).
وإلى أن يحين ذلك الحين، استقر "هيديوشي" ليستمتع بهذه "الوصاية" التي أسسها لنفسه، وليدير فيها عجلة الحكم، وجمع لمتعته ثلاثمائة غانية، لكنه وهب مبلغاً كبيراً من المال لزوجته الريفية التي كان قد طلَّقها منذ زمن طويل وبحث عن أحد سادته القدماء؛ وأعاد له المال الذي كان قد سرقه منه أيام أن كان يعمل معه صبياً، وأضاف إلى المال قيمة الربح طوال هذه المدة؛ ولم يجرؤ أن يطلب من الإمبراطور أن يوافق له على تلقيب نفسه بلقب "شوجن"(أي حاكم عسكري) لكن معاصريه عوضوه عن ذلك بلقب آخر أطلقوه عليه، وهو "تايكو" أي "الحاكم العظيم"، وهي كلمة غامرت في رحلة من تلك الرحلات "الأوذيسِّيَّة" التي تتعقب آثارها في علم اللغات، حتى
دخلت في ختام رحلتها إلى لغتنا نحن وأصبحت كلمة من كلماتنا، وهي كلمة Tycoon: ووصف مبشر ديني "هيديوشي"، فقال:"إنه ماكر ماهر إلى درجة تجاوز كل معقول، فقد نزع عن الشعب سلاحه بحيلة لطيفة، وهي أنه أمر الناس أن يجمعوا كل ما عندهم من أسلحة معدنية ليصنع من مادتها تمثالاً ضخماً- وهو تمثال "دايبوتسو" أي "بوذا العظيم" الذي يقوم في كيوتو- والظاهر أنه لم يكن يعتنق عقيدة دينية، لكنه لم يكن أسمى من أن يستغل الدين من أجل غاياته في طموحه أو سياسته".
ودخلت المسيحية اليابان سنة 1549 متمثلة في شخص رجل هو في طليعة طائفة الجزويت ومن خيرتهم، وأعنى به "القديس فرانسس اكسافير" ولم يكد يكون جمعية صغيرة حتى أخذت تزداد ازدياداً سريعاً، بحيث لم يمض جيل واحد بعد قدومه إلا وقد بلغ عدد أعضاء الجزويت سبعين، وعدد من تحولوا إلى المسيحية في الإمبراطورية اليابانية مائة وخمسين ألفاً (47)؛ وكانوا من الكثرة في ناجازاكي بحيث جعلوا ذلك الميناء التجاري مدينة مسيحية، وحملوا حاكمها المحلي "أومورا" على اتخاذ التدابير المباشرة في نشر العقيدة الجديدة (48)؛ يقول "لافكاديوهيرن":"إن البوذية في إقليم ناجازاكي قد طمست طمساً تاماً فكهنتها أصابهم الاضطهاد والتشريد"؛ ففزع "هيديوشي" لهذا الفتح الروحاني للبلاد، وارتاب في أن تكون وراءه أهداف سياسية، فأرسل رسولاً إلى نائب الجزويت في اليابان، مزوداً بخمسة أسئلة عاجلة:
1 -
لماذا وبأي حق أرغم هو (نائب رئيس الجزويت) وأعضاء طائفته الدينية رعية "هيديوشي" على اعتناق المسيحية؟
2 -
لماذا حرضوا أتباعهم وأشياعهم على هدم المعابد؟
3 -
لماذا اضطهدوا كهنة البوذية؟
4 -
لماذا أكلوا هم وبعض البرتقاليين حيوانات نافعة للإنسان مثل العجول والأبقار؟
5 -
لماذا سمح لتجار من بني جلدته أن يشتروا أفراداً من اليابانيين يتخذونهم عبيداً في جزر الهند الشرقية؟ (50)
ولما لم يقنع "هيديوشي" بالإجابات، أصدر سنة 1587 الأمر الآتي:
بما أننا قد علمنا من مستشارينا الأمناء أن طائفة دينية أجنبية قد جاءت إلى مملكتنا، حيث جعلت تبشر بقانون يتنافى وقانون اليابان، بل ذهبت بها الجرأة إلى تحطيم المعابد التي شيدت باسم (آلهتنا القومية)"كامى" و "هوتوكي" وعلى الرغم من أن هذه الفتنه تستحق أقسى ألوان العقاب، فإننا مع ذلك راغبون في مقابلة أعضائها بالرحمة، لذلك نأمرهم بمغادرة اليابان خلال عشرين يوماً، وعلى من يعصى تقع عقوبة الموت؛ ولن يصيب أحداً منهم أثناء هذه المهلة ضرر أو أذى، أما إذا بلغ ذلك الأمر ختامه فإننا نأمر بأن يقبض على من يوجد منهم في بلادنا وأن يعاقب على أنه من أخطر المجرمين (51).
وفي وسط هذه المفازع كلها وجد القرصان الأكبر من وقته فراغاً ينفقه في تشجيع رجال الفن، وأن يُسْهم في مسرحيات "لا"؛ وفي تأييد "ركْيو" في جعل الاحتفال بالشاي حافزاً على تشجيع صناعة الخزف الياباني، وحلِيْة هامة تزدان بها الحياة في اليابان؛ ومات سنة 1598 بعد أن استوعد "أيِياسو" وعداً ببناء عاصمة جديدة في "ييدو"، (وهي الآن طوكيو)، وفي الاعتراف بابن هيديوشي- وهو هيديوري- وارثاً له على وصاية العرش في اليابان.
الفصل السادس
الشوجن (أي الحاكم العسكري) العظيم
أيياسو في منصب السلطان - فلسفته - أيياسو والمسيحية-
موت أيياسو - طائفة الحكام العسكريين من توكوجاوا
مات "هيديوشي" فأعلن "أيياسو" أنه حين حلف اليمين له، لم يشهد على يمينه قطرات من دمه يستقطرها من أصابعه أو من فمه، كما يقضي بذلك تشريع "ساموراي" أي حملة السيف بل استقطر دمه ساعة حلف اليمين من خدش وراء أذنه ومن ثم كان يمينه غير ملزم بالوفاء (52)، والتقى بجماعة من قادته كانوا ينافسونه السلطان، التقى بهم عند سكيجاهارا، فعصف بهم عصفاً في موقعة انتثر على أرضها أربعون ألفاً من القتلى؛ وأبقى على "هيديوري" حتى بلغ سن الرشد فأصبح بذلك خطراً عليه، وعندئذ أوحى له بالتسليم صيانة لحياته؛ ولما قَرَّعوه على موقفه ذاك، حاصر قلعة أوساكا الجبارة حيث كان هيديوري محصناً، واستولى عليها في الوقت الذي كان الفتى فيه يزهق روح نفسه، ومكّن لنفسه من السلطان كاملاً بأن قتل أبناء "هيديوري" جميعاً الشرعيين منهم وغير الشرعيين، وبعدئذ نظم "أيياسو" الأمن في مهارة وقسوة كما نظم القتال، وحكم اليابان حكماً بلغ من صلاحيته أن رضيت اليابان بأن تحكم بأبنائه وعلى مبادئه مدى ثمانية أجيال.
كان رجلاً له أفكاره الخاصة، وكان يتخذ لنفسه من قواعد الأخلاق ما تقتضيه ظروف الساعة؛ فلما جاءته سيدة من أكرم السيدات تشكو إليه أن أحد رجاله قد قتل زوجها لكي يظفر بها، أمر "أيياسو" ذلك الرجل أن يخرج أمعاء نفسه بيده، وبعدئذ اتخذ من السيدة خليلة له (53) وهو شبيه بسقراط
في جعل الحكمة الفضيلة التي لا فضيلة سواها، ورسم الطرق المؤدية إليها في ذلك الكتاب العجيب الذي أسماه "التراث" أو العهد العقلي الذي خلَّفه لأسرته عند موته:
"الحياة شبيهة برحلة طويلة يحمل فيها الراحل حملاً ثقيلاً، فاجعل خطاك وئيدة ثابتة، حتى لا تتعثر، واقنع نفسك بأن النقص والتعب هما نسيج الحياة الطبيعي عند من تفنى حياته، ولن يكون في حياتك ما يمد لك في سبيل السخط أو اليأس فإذا ما نَزَتْ في قلبك نزوات الطموح، فتذكر أيام الشقاء البالغ حده الأقصى، التي اجتزتها في ماضي حياتك؛ فالصبر هو أس السكينة والطمأنينة إلى الأبد؛ انظر إلى السخط نظرتك إلى عدوك؛ فإذا اقتصر علمك على كيف تَهزِم، ولم تعلم كيف تنهزم، فالويل لك، ويا سوء سبيلك في الحياة الدنيا؛ فاكشف عن الخطأ في نفسك قبل أن تكشف عنه في سواك"(54).
أما وقد ظفر لنفسه بالسلطان بقوة السلاح، فقد قرر أن اليابان لم تعد بها حاجة إلى مواصلة الحروب، وكَرَّسَ نفسه للنهوض بما يقيم السلام من وسائل وفضائل، ولكي يباعد بين "الساموراي"(أي حملة السيف) وبين عاداتهم العسكرية، شجعهم على دراسة الأدب والفلسفة والخلق الفني، وهكذا ازدهرت الثقافة في اليابان في ظل حكمه الذي نشره في ربوع البلاد؛ وتدهورت الروح العسكرية، وقد كتب يقول:"إن الشعب هو أساس الإمبراطورية"(55). واستثار في قلوب خلفه الرحمة والرأفة "بالأرمل والأرملة واليتيم ومن لا أنيس له" لكنه لم يتصف بالميول الديمقراطية، حتى لقد ذهب إلى أن أفدح الجرائم جميعاً هو العصيان، "فالزميل" الذي يخرج على صفوف الزملاء من طبقته، لابد من الفتك به فور ساعته، ولا مندوحة من قتل أسرة الثائر بأسرها (56)، ومن رأيه أن النظام الإقطاعي هو أفضل
نظام يمكن وضعه لبني الإنسان كما هم في حقيقة طبائعهم، لأنه يهيئ اتزاناً معقولاً بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، كما يقيم نظاماً طبيعياً وراثياً تتسق به الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وهو كذلك يضمن استمرار المجتمع دون أن يتعرض لسلطان الحاكم المستبد، ولا بد لنا من الاعتراف هنا بأن "أيياسو" قد نظم في بلاده أكمل صورة عرفها الإنسان لحكومة تقوم على نظام الإقطاع (57).
وهو- ككل سياسي آخر- قد فكر في الدين على أنه أداة للنظام الاجتماعي قبل أن يكون أي شيء آخر، وأحزنه أن يرى أن اختلاف الناس في عقائدهم الدينية قد قضى على نصف هذا الخير الاجتماعي بما أحدثته العقائد المتعادية من فوضى؛ وقد كانت العقيدة التقليدية للشعب الياباني- وهي خليط مضطرب من الشنتوية والبوذية- كانت هذه العقيدة التقليدية من وجهة نظره السياسية الخالصة، رباطاً بالغ القيمة يربط الجنس الياباني في وحدة روحية ونظام خلقي وولاء وطني، وهو على الرغم من أنه نظر إلى المسيحية بادئ ذي بدء بعين التسامح وبأفق عقلي فسيح كاللذين عرفا عن "أكبر" في (الهند) وأبى أن يفرض عليها ما كان يفرضه عليها "هيديوشي" من أوامر يعلن بها غضبه منها، إلا أنه عاد فضاق بها صدراً لتعصبها، ولاتهامها القاسي للديانة القومية بأنها وثنية، وما أحدثته بتعصبها الجامح من شحناء لم تقتصر على أن تكون بين المعتنقين المسيحية وبقية أفراد الأمة، بل امتدت فدبت بين معتنقي الديانة الجديدة أنفسهم
(1)
؛ ثم ثار في صدره السخط آخر الأمر
(1)
حدث سنة 1596 أن أرغمت القوارب اليابانية سفينة أسبانية على الرسو في ميناء يابانية، وساقتها عمداً إلى موضع صخري فتحطمت نصفين، ثم استولى الحاكم المحلي على ما بها على أساس أن القانون الياباني يبيح لأولي الأمر أن يضعوا أيديهم على كل السفن التي تلجأ مضطرة إلى شواطئ اليابان، فثارت ثائرة الربان "لانديكوا" واحتج عند وزير "هيديوشي" وهو "ماسودا"- وكان وزيراً للأشغال- فسأله "ماسودا" كيف أمكن للكنيسة المسيحية أن تظفر بكل ما ظفرت به من أقطار فتخضعها لرجل واحد، ولما كان "لانديكو" بحاراً قبل أن يكون سياسياً، أجاب:"إن ملوكنا إذا ما أرادوا فتح قطر من الأقطار بدءوا بإرسال المبشرين الدينيين يدعون الناس إلى الدخول في ديانتنا، حتى إذا ما وفقوا إلى شيء من النجاح، أرسلت الجنود لتنضم إلى من اعتنقوا المسيحية من أهل البلاد، وبعدئذ لا يجد ملوكنا كبير عناء في إتمام ما بقي".
لما عرف أن المبشرين بالمسيحية كانوا أحياناً يُستخدمون طلائع للفاتحين وأنهم كانوا في أجزاء متناثرة من أرض الوطن يتآمرون على الدولة اليابانية (58)؛ فأمر سنة 1614 بتحريم العبادة المسيحية أو التبشير بتعاليمها في اليابان، وطالب المعتنقين لهذه الديانة من الأهالي إما أن يغادروا البلاد وإما أن يرتدوا عن عقيدتهم الجديدة، واستطاع قساوسة كثيرون أن ينجوا بأنفسهم من طائلة هذا القانون، وألقي القبض على طائفة منهم، ولكن لم يُعدم أحد منهم في حياة "أيياسو"، فلما قضى نحبه، صبَّ سادة الحكومة غضبهم على المسيحيين، وأعقب ذلك موجةٌ وحشية من الاضطهاد الديني، كان من أثرها أن أمحت المسيحية من بلاد اليابان محواً تاماً تقريباً، ولما كان عام 1638 تجمعت البقية الباقية من المسيحيين، وبلغ عددها سبعة وثلاثين ألفاً، في شبه جزيرة "شيمابارا" وحصنتها ووقفت وقفة أخيرة دفاعاً عن حرية العبادة؛ فأرسل لها "أبيمتسو"- حفيد أيياسو- قوة كبيرة مسلحة لإخضاعها؛ وبعد حصار دام ثلاثة أشهر سقطت الحامية في أيدي اليابانيين، وذبح المعتصمون بها ذبحاً في الشوارع، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا مائة وخمسة أشخاص.
مات "أيياسو" في نفس العام الذي مات فيه شكسبير؛ وخلَّف هذا الحاكم العسكري القوى سلطانه إلى ابنه "هيديناميا" مصحوباً بنصح بسيط وهو: "ارْعَ أبناء الشعب، وحاول أن تكون فاضلاً، ولا تهمل أبداً في حماية البلاد"؛ وكذلك قدم النصح إلى الأشراف الذين وقفوا إلى جانب سريره ساعة احتضاره، فكان نصحاً على أحسن ما تجرى به التقاليد كما عُرفت عند "كونفوشيوس" و "منشيوس" إذا قال لهم: "لقد بلغ ابني الآن سن الرشد، ولست أشعر بأي قلق على مستقبل الدولة، ولكن إذا ما اقترف خلفي خطأ فادحاً في إدارة حكومته، فتولوا أنتم زمام الأمور بأيديكم، فليست البلاد مِلْكاً
لرجل واحد، لكنها وطن للأمة بأسرها، وإذا ما أضاع حفدتي سلطانهم بسبب أخطائهم، فلن آسف على ضياعه منهم" (60).
لكن حفدته ملكوا زمام أنفسهم على نحو أحسن جداً مما كان ينتظر عادة من ملوك عصرهم أن يفعلوا خلال أمد طويل من الزمن؛ أما "هيديتارا" فقد كان رجلاً متوسط القدرة لا يصدر عنه الأذى؛ ثم جاء "أييمتسو" مثلاً لصورة أقوى من صور أفراد هذه الأسرة، فاستطاع بشدته أن يحبط حركة نهضت لإعادة النفوذ الحقيقي إلى الأباطرة الذين كانوا لم يزالوا يملكون ولكنهم لم يكونوا يحكمون؛ وأغدق "تسونايوشي" إغداقاً في رعايته لرجال الأدب، ورعايته للمدرستين المتنافستين العظيمتين في عالم التصوير. وهما "كانو" و "توسا" اللتان زَيَّنتا عصر "جنروكو"(1688 - 1703)؛ وجاء "يوشيموني" فجندّ نفسه للغاية التي ما انفكت الإنسانية تهدف لها حيناً بعد حين، وهي محو الفقر، وكان ذلك في نفس الوقت الذي كانت ميزانية حكومته تعاني فيه عجزاً جاوز المألوف؛ فاستقرض من طبقة التجار قرضاً طائلاً، وهاجم إسراف الأغنياء، وخفض نفقات حكومته خفضاً نزع به نحو جانب الزهد الرواقي، الذي ذهب به إلى حد إخراجه سيدات القصر الخمسين اللائي كن أجمل السيدات، واكتفى في ثيابه بلبس القطن، وفي نومه بحصير مما يرقد عليه الفلاحون، وفي طعامه بأبسط ألوان الطعام؛ ووضع صندوقاً أمام قصر المحكمة العليا ليضع فيه الشاكون شكاواهم، ودعا الناس إلى نقد السياسة الحكومية أو موظفي الحكومة على أي نحو شاءوا؛ فلما قدم رجل يدعي "ياماشيتا" عريضة اتهام لاذع يهاجم بها الحكومة من أساسها، أمر "يوشيموني" بالاتهام فَقُرِأ على مسمع من الملأ، وكافأ كاتبها على صراحته بأجزل العطاء (61).
ولقد قرظ "لافكاديوهيرن" حكمه في ذلك العهد فقال: "إن عصر "توكوجاوا" كان أسعد العصور التي شهدتها الأمة في حياتها الطويلة"(62).
ويميل التاريخ إلى الأخذ بهذا الرأي نفسه، ولو على سبيل الترجيح، لأن التاريخ لن يبلغ في علمه بالماضي مبلغ اليقين؛ فكيف يستطيع الإنسان إذا نظر إلى اليابان اليوم، أن يتصور أن هذه الجزر التي تضطرب أعصابها اليوم اضطراباً كانت منذ قرن واحد مضى، يسكنها شعب فقير لكنه قانع، ويتمتع بعصر طويل من السلام في ظل حكومة تقوم عليها طبقة عسكرية، ويتجه بمجهوده- في عزلته الهادئة- نحو أسمى غايات الأدب والفن؟!.
الباب التاسع والعشرون
الأسس السياسية والخلقية
محاولات لدراسة الموضوع
إذا أقدمنا الآن على تصوير اليابان التي أسدل عليها الستار عام 1853، فلنذكر أنه من العسير علينا أن نفهم- كما قد يكون كذلك من العسير أن نحارب- شعباً يبعد عنا خمسة آلاف ميل، ويختلف عنا لوناً ولغة وحكومة وديانة وخلقاً وعادات وشخصية وأهدافاً وأدباً وفناً، ولقد كان "هيرن" أوثق صلة باليابان من أي كاتب غربي آخر في عصره، ومع ذلك فقد ذكر "الصعوبة الشديدة في إدراك وفهم ما يكمن تحت السطح الظاهر من الحياة اليابانية"(1)، وكتب أديب ياباني بارع مقالة يذكر فيها الغرب بأن:"ما تعلمه عنا قائم على ما جاءك من ترجمة هزيلة لأدبنا، إن لم يكن قائماً على الحكايات المشكوك في صحتها مما يرويه لك عنا الرحالة العابرون .... فما أكثر ما يروعنا نحن الآسيويين هذا النسيج العجيب الذي يمزج الحقائق بالأوهام حين تتحدثون عنا أيها الغربيون؟ فنراكم تصوروننا كأنما نعيش في عالم كله عطر من زهرة اللوتس، أو نعيش على طعام من الفئران والصراصير"(2) فلن تجد فيما يلي- إذن- أكثر من محاولات- قائمة على معرفة مباشرة موجزة أشد إيجاز- لدراسة الحضارة اليابانية، والخلق الياباني؛ وينبغي لكل باحث أن يصحح هذه المحاولات بما يقع له من خبرة شخصية طويلة، فالدرس الأول الذي تلقيه علينا الفلسفة هو أننا قد نكون جميعاً مخطئين.
الفصل الأول
طبقة الساموراي (أي حَمَلة السيف)
الإمبراطور الذي لا حول له - سلطة "الشوجن"(أي الحاكم العسكري) - سيف "الساموراي"-
قانون "الساموراي""هاراكيري" - الرونانات" السبعة والأربعون - حكم قضى بتخفيفه
يقوم على رأس الأمة- من الوجهة النظرية- الإمبراطور المقدس، وكان البيت الحاكم حقيقة- وأعني به الحكم العسكري الوراثي- يسمح للإمبراطور وحاشيته بمبلغ يعادل خمسة وعشرين ألف ريال كل عام، مقابل الاحتفاظ بالأسطورة النافعة التي تؤثر في النفوس أثراً عميقاً، أسطورة اطراد الحكم في بيت واحد
(1)
؛ وكان كثيرون من رجال الحاشية يزاولون حرفاً يدوية منزلية ليكسبوا نفقات عيشهم: فبعضهم يصنع المظلات، وبعضهم يصنع الملاعق الخشبية أو لاقطات الفضلات من بين الأسنان أو ورق اللعب؛ وجعل الحكام العسكريون من أسرة "توجوواكا" من مبادئهم ألا يتركوا للإمبراطور ذرة من السلطان، وأن يعزلوه عن الشعب، وأن يحيطوه بالنساء ويفتُّوا من عضده بالتخنث والتعطل، ونزلت الأسرة الإمبراطورية عن سلطانها في كفاح، وقنعت بأن ترسم للعلية ألوان البدع في الثياب (3).
أما "الشوجن"(أي الحاكم العسكري) فقد كان حينئذ ينعم بثروة اليابان التي أخذت تتزايد، واصطنع لنفسه امتيازات هي عادة من حق الإمبراطور فإذا سار في الطريق محمولاً في عربته التي يجرها ثور، ومحمولاً في محفته، أمرت الشرطة كل المنازل على طول الطريق أن تقفل أبوابها والمصاريع الخشبية في نوافذها العليا، وأن تطفأ كل النيران وأن تحبس الكلاب
(1)
ربما كان هذا المبلغ مساوياً لربع مليون ريال بقيمة العملة الأمريكية الجارية.
والقطط كلها داخل الدور، وأن يسجد الناس على جانبي الطريق، رؤوسهم على أيديهم وأيديهم على الأرض (4)؛ وكان "للشوجن" حاشية كبيرة، منها أربعة مضحكين وثماني سيدات مثقفات واجبهن أن يسلينه في غير التزام لقواعد الاحتشام (5)، وكان إلى جانبه مجلس وزراء استشاري قوامه اثنا عشر عضواً: كبير الوزراء، وخمسة وزراء، ثم ستة من الشيوخ يكونون مجلساً أصغر؛ وكان هناك- كما كان في الصين- مجلس للرقابة مهمته أن يشرف على المناصب الإدارية كلها، وأن يراقب أمراء الإقطاع؛ مع أن هؤلاء الأمراء- (أو "الدايميو" كما يسمونهم ومعناها "أصحاب الأسماء العظمى") لم يكونوا يعترفون من الوجهة الصورية إلا بالإمبراطور، هو الذي يولونه ولاءهم، بل استطاع بعضهم- مثل أسرة شيمادزو التي كانت تحكم إقليم ساتسوما- أن ينجحوا في الحد من سلطة الشوجن، حتى انتهى بهم الأمر إلى طرده من الحكم.
وكان يتلو أمراء الإقطاع طبقة السادة (بارونات) ثم يتلو هؤلاء طبقة المشرفين على الأراضي: وكذلك كان يحيط بالأمراء ألوف من فئة "الساموراي"- والساموراي هم حراس يحملون السيف؛ فالقاعدة الرئيسية في المجتمع الإقطاعي الياباني هي أن كل رجل من السادة هو جندي، والعكس صحيح، أي أن كل جندي هو كذلك من السادة (6) فهاهنا يقع أكبر اختلاف بين اليابان وبين الصين المسالمة التي ظنت أن شرط الرجل من السادة هو أن يكون عالماً لا أن يكون محارباً؛ وعلى الرغم من أن حملة السيف هؤلاء كانوا يحبون قراءة القصص التي تغذي فيهم انتفاخ الأوداج، مثل القصة الصينية التي عنوانها "قصة المماليك الثلاثة"، بل كانوا إلى حد ما يصوغون حياتهم على نموذج تلك القصص، إلا أنهم كانوا يزدرون العلم للعلم، وكانوا يسمون، العالم الأديب بالسكران الذي يفوح برائحة الكتب (7)؛ وكان لهم امتيازات كثيرة، فهم معفَون من الضرائب، ولهم الحق في مقدار من الأرز يعطيهم
إياه السيد الذي يخدمونه، ولم يكن يطلب إليهم أن يعملوا شيئاً إلا أن يموتوا في سبيل وطنهم إذا ما دعت إلى ذلك الظروف؛ وكانوا يحتقرون الحب ويعدونه لعبة رشيقة، ويؤثرون علاقة الصداقة على نمط إغريقي: والميسر والعربدة كانا جزءاً متمماً لعيشهم ولكي يحافظوا على مران سيوفهم، كانوا يدفعون المال للجلاد في مقابل أن يسمح لهم بجز رقاب المحكوم عليهم بالإعدام (8)، فسيف رجل من فئة "الساموراي" هو بمثابة روحه- على حد تعبير "أيياسو" وكثيراً جداً ما كان يجد الفرصة التي تدعوه إلى استعمال سيفه، على الرغم من المدة الطويلة التي نعمت فيها اليابان بالسلام؛ فله الحق- إذا أخذنا بما يقوله "أيياسو"(9) - أن يقضي فوراً على أي إنسان من الطبقات الدنيا إذا ما أساء إليه؛ وإذا كان سيفه جديداً وأراد أن يجربه، فيجوز أن يجربه في سائل كما يجوز أن يجربه في كلب (10). وفي ذلك يقول "لُنجفورد":"إن سيافاً مشهوراً قد اقتنى سيفاً جديداً، فوقف إلى جانب "ينهون باشي" (وهذا اسم جسر في وسط مدينة ييدو) ينتظر فرصة لاختبار مضاء سيفه، فجاء فلاح بدين ساعياً في الطريق، مرحاً بفعل الخمر، فقابله السياف بضربة يسمونها "ناشي واري" (ومعناها شق الكمثرى) وأصابت الضربة مرادها إذ شقت الرجل نصفين، من قمة رأسه إلى مفرق فخذيه، فمضى الفلاح في طريقه غير عالم بما نزل به، حتى اصطدم بحمال فسقط نصفين مشطورين على أدق صورة"(11) فما أتفه الفرق بين "الواحد" و "الكثير" هذا الموضوع الذي دوخ الفلاسفة في فهمه.
لكن هؤلاء السيافين كانت لهم لطائف أخرى غير هذه المهمة المرحة التي كانوا يحولون بها الفناء إلى خلود؛ فقد التزموا أوضاعاً صارمة اشترطوها للرجل الشريف- ويطلق على مجموعة هذه الأوضاع اسم "بوشيدو"
(1)
-
(1)
صاغ هذه الكلمة إنازو نيتوبي.
ومعناها "طرائق الفروسية" وجوهر فكرتها فيه تعريف لما ترمي إليه من فضيلة: "هي القدرة على اختبار سلوكك في الحياة وفق ما يمليه العقل دون تردد، وأن تموت حين يجب عليك أن تموت، وأن تضرب حيث ينبغي لك أن تضرب"(12) وكانوا يحاكمون بمقتضى تشريعهم هذا، وهو أقسى من القانون السائد بين عامة الناس (13) وكانوا يزدرون كل الأعمال والمكاسب المادية، ويأبون أن يقرضوا المال أو يقترضوه أو يحسبوه، وقلما أخلفوا وعودهم، وكانوا لا يترددون في المخاطرة بحياتهم عوناً لكل من استنجدهم المعونة؛ وأخذوا على أنفسهم أن يحيوا حياة خشنة مقترة فلا يأكلون في اليوم إلا وجبة واحدة، وكانوا يروضون أنفسهم على أكل ما صادفهم من طعام كائناً ما كان؛ وكانوا يحتملون الآلام على اختلافها صامتين، ويكبحون في أنفسهم كل ما قد يدل على انفعالاتهم الداخلية، وعلموا نساءهم كيف يتهللن بشراً إذا ما نمى إليهن أن أزواجهن قد قضوا نحبهم في ساحات القتال (14). ولم يكونوا يلتزمون طاعة إلا طاعة الولاء لرؤسائهم، فطاعة الرؤساء جزء من تشريعهم الذي وضع تلك الطاعة فوق حب الآباء لأبنائهم أو الأبناء لآبائهم، ومن مألوف الأمور عند "الساموراي"(أي هؤلاء السيافين) أن يخرج الرجل منهم أمعاء نفسه إذا ما مات سيده لكي يخدمه ويحميه في الحياة الآخرة؛ فلما كان "الشوجن"(أي الحاكم العسكري) الذي يدعى "أيمتسو" يحتضر سنة 1651، ذكر كبير وزرائه "هتو" بواجبه في أداء الـ "جَنْشي"(أي اللحاق بسيده بعد موته، فقتل "هتو" نفسه دون أن ينبس ببنت شفة، ونسج على منواله كثير من الأتباع (15). ولما صعد "الإمبراطور ميسو هيتو" إلى أسلافه سنة 1912 انتحر الجنرال "نوجي" وزوجته ولاء منهما للإمبراطور (16). فلست ترى من التقاليد عند سائر الشعوب بما في ذلك تقاليد روما التي كانت تخرج جنوداً من الطراز الأول، ما بث شجاعة أبسل، أو زهداً أصرم،
أو ضبطاً للنفس أقوى مما كانت تقتضيه تقاليد هؤلاء "السيافين" من أعضاء تلك الفئة التي تعرف عندهم باسم "ساموراي".
وآخر القوانين في تشريع "بوشيدو"(أي تشريع طائفة السيافين) هو قانون "هاراكيري"- ومعناها الانتحار بإخراج الأمعاء؛ ولا تكاد الظروف التي تقتضي من السياف أن ينتحر على هذا الوجه تقع تحت حصر فقد كان الأمر من كثرة الوقوع بحيث لا يكاد يستوقف النظر؛ فإذا حكم بالموت على رجل من ذوي المكانة الاجتماعية، سمح له- إذا أراد الإمبراطور أن يدل على تقديره له- بأن يبقر بطنه بنفسه من اليسار إلى اليمين، ثم يشقها إلى أسفل، مستخدماً في ذلك سيفه الصغير الذي كان الواحد منهم لا ينفك مصطحباً له من أجل هذه الغاية؛ وإذا هزم أحدهم في القتال، أو اضطر إلى الاستسلام لعدوه، كان الاحتمال بأن يبقر بطنه بيده معادلاً تماماً لاحتمال أن يأبى على نفسه ذلك (فكلمة "هاراكيري" معناها شق البطن، وهي كلمة سوقية قلما ينطق بها الياباني، إذ هم يفضلون كلمة "سِبْيوكو") فقد حدث أن خضعت اليابان سنة 1895 لضغط الدول الأوربية في إخلاء "لياوتنج" فارتكب أربعون رجلاً من العسكريين "هاراكيري" احتجاجاً؛ كذلك حدث في حرب سنة 1905 أن أزهق عدد كبير من الضباط والجنود اليابانيين نفوسهم على هذا النحو، فذلك عندهم خير من الوقوع في أسر الروس، وإذا ألقى الرجل من فئة "الساموراي"(السيافين) إساءة من سيده، فإنه- إن كان سيافاً أصيلاً- يهلك حياة نفسه عند باب ذلك السيد؛ وكان فن "السبيوكو"(أي بقر البطن انتحاراً) - وهو ذو أوضاع دقيقة بمثابة الطقوس الدينية. في طليعة ما يلقن للشاب من فئة "الساموراي"، وآخر علامات المودة التي يبديها الصديق لصديقه أن يقف إلى جانبه ليجز له رأسه فيفصلها عن جسده، بعد أن يكون ذلك الصديق قد بقر بطن نفسه بيده (17)؛ من هذا التدريب وما أحاط به من
تقاليد نشأ ما يتصف به الجندي الياباني من عدم الخوف من الموت
(1)
.
كذلك كان يسمح بالاغتيال- كما كان يسمح بالانتحار- في ظروف معينة أن يحل محل القانون، فاليابان في نظامها الإقطاعي كانت تقتر في الإنفاق على رجال الشرطة، بوسائل كثيرة منها أن تجيز لابن القتيل أو أخيه أن يثأر لنفسه بدل الالتجاء إلى القانون؛ ولقد أدى هذا الاعتراف بحق الثأر- إلى جانب إيحائه بنصف القصص والمسرحيات في الأدب الياباني- إلى الحيلولة دون كثير من الجرائم؛ ومع ذلك فالرجل من فئة "الساموراي"(أي السيافين) كان يحس عادة أن واجبه يقتضيه ارتكاب (الهاراكيري) بعد استخدامه لحقه في الثأر بنفسه من عدوه؛ مثال ذلك ما فعله "الرونانات" الأربعون المشهورون وهم فئة من السيافين لم يكونوا أعضاء رسميين في تلك الطائفة (حين تأثروا من "كوتسوكي" لما ارتكبه من قتل اغتيالي، فعلوا ذلك وهم يصطنعون له غاية الرقة ويقدمون له المعاذير، ثم انسحبوا في وقار إلى ضيعات عينها لهم "الحاكم العسكري" وقتلوا أنفسهم قتلاً التزموا فيه غاية الثبات (كان ذلك سنة 1703)، وأعاد الكهنة رأس "كوتسوكي" إلى رئيس حاشيته، فأخذ منهم الرأس وأعطاهم هذا الإيصال البسيط:
مذكرة:
1.
رأس واحد.
(1)
كانت الـ "هاراكيري" محرمة على النساء والسوقة، لكن كان يسمح للنساء أن يرتكبن ما يسمى "جيجاكي"- ومعناها أن يؤذن لهن- احتجاجاً على ما يصيبهن من إساءة- أن يخترمن من رقابهم بالخناجر، وأن يقطعن الشرايين بضربة واحدة؛ فكانت كل امرأة لها مكانة اجتماعية تلقي تدريباً في عملية جز الرقبة، ويعلمونها كيف تربط ساقيها قبل قتلها نفسها، خشية أن تقع الأبصار على جثتها وهي في وضع لا يتفق مع ما تقتضيه العفة.
2.
حزمة ورقية واحدة.
تسلمت الشيئين المذكورين أعلاه.
(توقيع) سايارا موجوباي
سايتو كوناي
ولعل هذه الحادثة أن تكون أشهر حادثة في تاريخ اليابان كله وأصدقها تمثيلاً لليابانيين، وهي من أدل الحادثات تصويراً للخلق الياباني إذا أردت أن تفهمه؛ والذين اقترفوا ذلك الفعل، ما يزالون- في أعين الشعب- أبطالاً وقديسين؛ وإلى يومنا هذا ما يزال الأتقياء يزخرفون قبور أولئك النفر، ولا ينقطع البخور عن مثواهم (19).
ولما دنا عهد وصاية "أيياسو" على العرش من ختامه، نهض شقيقان، هما "ساكون" و "نايكي"، وعمر الأول منهما إذ ذاك أربعة وعشرون، وعمر الثاني سبعة عشر، وحاولا أن يقتلاه لما أنزله بأبيهما من مظالم- في رأيهما- فوقعا في قبضة الحراس ساعة دخولهما في المعسكر، وحكم عليهما بالموت؛ لكن "أيياسو" تأثر بما أبدياه من شجاعة، وخفف عنهما حكم الإعدام بحيث أصبح أن يتركا ليقتلا نفسيهما على الطريقة المألوفة في إخراج المرء لأمعاء نفسه؛ ثم قضي كذلك- مراعاة لعادات عصره- أن يشمل هذا القرار الرحيم أخاهما الأصغر "هاشيمارو" وقد كان في الثامنة من عمره؛ وقد خلف الطبيب الذي كلف بملاحظة هؤلاء الصبية في قتل أنفسهم، وصفاً لما رأى، فيما يلي:
لما أجلسوا جميعاً في صف ليرحلوا عن هذا العالم رحلة لا أوبة بعدها، التفت "ساكون" إلى الأخ الأصغر قائلاً:"اذهب أنت أولاً، لأني أود أن أستيقن من أنك تؤدي الأمر على وضعه الصحيح" فلما أجاب الصغير بأنه لم يشهد قط عملية الـ "سِبُولكو" من قبل فإنه يجب أن يرى أخويه وهما يؤديانها، حتى يستطيع بعدئذ أن يحذو حذوهما، فابتسم أخواه الأكبران
وعيناهما تدمعان، وقالا:"لقد أصبت أيها الأخ الصغير، ويحق لك الآن أن تفخر بأنك ابن أبيك"؛ ولما وضعها بينهما، طعن "ساكون" خنجره في الجانب الأيسر من بطنه وقال:"انظر، أخي، أتفهم الآن؟ والذي ينبغي أن تراعيه هو ألا تضرب الخنجر عميقاً حتى لا يطرحك على الأرض، بل كن أميل بجسدك إلى الأمام، واجعل ركبتيك في وضع ثابت". وفعل "نايكي" ما فعله "ساكون" وقال للصبي: "افتح عينيك خشية أن تبدو كالمرأة وهي تحتضر، وإذا أحسست أن شيئاً في جوفك يعوق إخراج خنجرك، وأن قواك تخور، فاجمع شجاعتك وضاعف جهدك في شد خنجرك جانباً لتقطع به البطن قطعاً أفقياً" فنظر الصبي إلى أخيه عن يمينه وإلى أخيه عن يساره، حتى إذا ما رآهما قد أسلما الروح، خلع ثيابه هادئاً عن نصف جسده، واحتذى حذو ما يراه عن يمينه وعن يساره" (20).
الفصل الثاني
القانون
التشريع الأول - المسؤولية الجمعية - العقاب
كان التشريع القانوني في اليابان مكملاً عنيفاً لما كان يتم بالاغتيال وبالثأر وقد استمد ذلك التشريع بعض أصوله من تقاليد الشعب القديمة، كما استمد بعضها الآخر من التشريعات الصينية في القرن السابع، ذلك أن القانون قد صحب الدين في هجرة الثقافة من الصين إلى اليابان (21)؛ وبدأ "تنشي تبنو" صياغة مجموعة من القوانين، كملت وأذيعت في عهد الإمبراطور اليافع "مومو" عام 702؛ لكن هذا التشريع وغيره من تشريعات العصر الإمبراطوري، أهملت في العصر الإقطاعي، إذ جعل كل حاكم إقطاعي يسن لنفسه ما شاء من تشريع مستقلاً عن سائر المقاطعات، ولم يعترف الرجل من طبقة "السيافين" بقانون إلا ما يريده وما يأمر به مولاه (22).
وكانت العادة في اليابان حتى سنة 1721 أن تكون الأسرة كلها مسئولة عن كل فرد من أفرادها، فتضمن حسن سلوكه؛ وكذلك كانت الأسرة الواحدة- في معظم الأقاليم- توضع في مجموعة من خمس أسرات، تكون كل منها مسئولة عن سائر أفراد المجموعة، فالرجل إذا حكم عليه بالصلب أو بالحرق، قضي كذلك بالموت على أبنائه الكبار، وبالنفي على أبنائه الصغار عندما يبلغون الرشد (23)، وكان نظام المحنة متبعاً في التحقيق على نحو ما كان متبعاً في العصور الوسطى، ولبث التعذيب شائعاً- في صوره الخفيفة- حتى هذا العصر الحديث واصطنع اليابانيون من وسائل التعذيب إزاء المسيحيين، ناسجين على منوال محاكم التفتيش نسجاً فيه انتقام لما أنزله المسيحيون أنفسهم
بأنفسهم في تلك المحاكم، لكنهم كثيراً ما كانوا أدق في وسائلهم التعذيبية. فيربطون الرجل بحبال في وضع وثيق. يزيد المربوط ألماً كلما مرت به لحظات الزمن لحظة بعد لحظة (24)، وكثيراً ما كانوا يلجئون إلى الضرب بالسياط لأتفه الأخطاء، وكان الإعدام لديهم عقوبة على كثير جداً من أنواع الجرائم، وجاء الإمبراطور شومو (724 - 56) فألغى عقوبة الإعدام وجعل الرحمة أساس حكمه، لكن الإجرام زادت نسبته بعد موته، حتى لم يقتصر الإمبراطور "كوشين"(770 - 81) على إرجاع عقوبة الإعدام بل أضاف إلى ذلك أنه أمر بأن يضرب اللصوص بالسياط علناً حتى يلفظوا الروح (25)، وكانوا ينفذون الإعدام بالخنق وجز الرأس والصلب وقطع الجسد أربعة أرباع والحرق أو الغلي في الزيت (26)، وكان "أيياسو" قد ألغى العادة التي تقضي بأن يمزق المتهم نصفين بشده بين ثورين، كما ألغى العادة التي تقضي بأن يربط المتهم في عمود وسط الملأ، ثم يطلب من كل مار أن يأخذ نصيبه في تقطيع جسده بمنشار ينشره من كتفه فأسفل (27)، وكان من رأي "أيياسو" أن كثرة الالتجاء إلى العقوبات الصارمة لا تدل على إجرام الشعب بمقدار ما تدل على فساد الموظفين وعجزهم (28)، وكم ساء "يوشيموني" أن يجد سجون عصره بغير استعدادات صحية، وأن بين المسجونين فئة بدأت محاكماتها منذ ست عشرة سنة ولم تنته بعد، حتى لقد نسيت الاتهامات الموجهة إليهم، مات الشهود (29)، وأخذ هذا الحاكم العسكري الذي كان أكثر هذه الطائفة استنارة في إصلاح السجون، وعمل على السرعة في الإجراءات القضائية، وألغى المسئولية الأسرية، وواصل العمل المضني بغية أن يصوغ أول تشريع موحد للقانون الإقطاعي في اليابان (1729).
الفصل الثالث
العمال
نظام الطبقات - تجربة في تأميم الأراضي - تحديد الدولة
للأجور - مجاعة - الصناعات اليدوية - الصناع والنقابات
انقسمت الجماعة في العصر الإمبراطوري ثماني طبقات، ثم زالت بعض الفوارق في العهد الإقطاعي بحيث أصبحت تلك الطبقات أربعاً: الساموراي (أي السيافون) والصناع والفلاحون والتجار- والطبقة الأخيرة هي كذلك أخيرة في الترتيب الاجتماعي، ويأتي تحت هذه الطبقات جمع غفير من العبيد فتبلغ نسبتهم ما يقرب من خمسة في كل مائة من السكان، وقوامهم المجرمون وأسرى الحرب والأطفال المخطوفون الذين باعهم خاطفوهم، وكذلك الأطفال الذين باعهم آباؤهم عبيداً في الأسواق
(1)
ويأتي دون هؤلاء العبيد أنفسهم في المنزلة الاجتماعية، طبقة من المنبوذين يسمونهم "إيتا"، يعدهم بوذيو اليابان منبوذين نجسين لأنهم يشتغلون بالحرارة أو بالدباغة أو بحمل القمامة (32).
والأكثرية العظمى من السكان (الذين بلغ عددهم في أيام يوشيموني عدداً يقرب من ثلاثين مليوناً) كانت تتألف من صغار ملاك الأراضي الذين يزرعون أرضهم زراعة مركزة، وهي مساحة تبلغ ثمن التربة اليابانية الجبلية التي تسمح للمحراث أن يشق جوفها
(2)
، وحدث في عصر "نارا" أن أممت الدولة الأراضي الزراعية، وأجرتها للفلاحين مدى ست سنوات، أو مدى حياة الفلاح على أكثر تقدير؛ لكن الحكومة سرعان ما تبينت أن الناس
(1)
حرم هذا على الآباء سنة 1699.
(2)
الأجزاء القليلة الصالحة للزراعة كانت- ولا تزال- تسمد بالفضلات البشرية.
لم يعنهم أن يصلحوا الأرض أو أن يحرصوا عليها حرصاً حقيقياً مادام من الجائز أن تؤول إلى سواهم بعد حين قصير، وانتهت التجربة بالعودة إلى الملكية الخاصة، مع مد الحكومة الفلاحين بالمال في فصل الربيع ليتمكن الفلاحون من سد نفقات البذر والحصاد (33)، ومع هذه المعونة المالية لم تكن حياة الفلاح على درجة من اليسر تحلل قواه، فلا تزيد مزرعته على شريحة ضئيلة من الأرض، لأن الميل المربع- حتى في ذلك العهد الإقطاعي- كان مورد رزق لألفي رجل (34) وكان على الفلاح أن يسخر في عمل للدولة مدى ثلاثين يوماً كل عام، كان من الجائز خلالها أن يلاقي حتفه بطعنة رمح عقاباً له على لحظة واحدة تراخى فيها عن العمل
(1)
، وكانت تقتضيه الحكومة ستة في المائة من محصوله ضريبة وغيرها من القروض، كان ذلك في القرن السابع، أما في القرن الثاني عشر، فكانت تقتضيه سبعة في المائة، وأربعين في المائة في القرن التاسع عشر (37)، وكانت آلاته الزراعية غاية في بساطتها، وثيابه هلاهيل خفيفة في الشتاء، وهو في العادة لا يلبس شيئاً قط في الصيف، وكل أساسه في المنزل قدر للأرز وقليل من الأقداح وبضعة ملاعق خشبية، وداره من الضآلة بحيث يكفي نصف أسبوع لبنائها (38) ذلك لأن الزلازل تحطم له كوخه حيناً بعد حين، أو تقضي عليها المجاعة، وإذا عمل أجيراً عند رجل آخر، حددت له الحكومة- في عهد توكوجاوا- ما يستحق من أجر (39)، لكن تحديد الحكومة للأجور لم يمنع هبوطها هبوطاً فظيعاً؛ وتجد في كتاب لـ "هوكوكي"- وهو من أشهر كتب الأدب الياباني- وصفاً لطائفة من الكوارث
(1)
كان يسمح لهم خلال شهري يوليو وأغسطس أن يقيلوا في الظهيرة من منتصف النهار إلى الساعة الرابعة؛ وكانت الدولة تقوم على إطعام العمال المرضى، وعليها كذلك أن تعد الأكفان لمن يموت إبان السخرة.
اجتمعت كلها في الثمانية الأعوام- ما بين 1177 و 1185 - فزلزال ومجاعة وحريق كاد يأتي على كيوتو كلها
(1)
، ووصفه لما شاهده بعينه من مجاعة سنة 1181 يعد مثلاً من أجمل ما في النثر الياباني:
"حدث في أرجاء البلاد جميعاً أن غادر الناس أراضيهم بحثاً عن سواها، أو نسوا ديارهم وذهبوا إلى التلال يتخذون في شعابها مسكناً؛ ولهجت الألسنة بكل ضروب الدعاء، وأدى الناس كل ألوان الشعائر الدينية التي لم تكن مألوفة في الأيام العادية، إذ أعادوها من جديد، كل ذلك فعلوه بغير ما جدوى
…
وأبدى سكان العاصمة استعدادهم لتضحية كل ما يملكون من نفائس من شتى الضروب، نفيساً في إثر نفيس (من أجل القوت) لكن لم يأبه لتلك النفائس أحد عندئذ
…
واحتشد السائلون الإحسان جماعات على جوانب الطريق، وامتلأت آذاننا بأصوات أنينهم الباكي
…
كان الناس جميعاً يموتون من جوع، وكلما تقدمت بنا الأيام، ازددنا يأساً حتى لقد أشبهنا ما تروى عنه القصة من سملك البركة؛ وانتهى الأمر حتى بأولئك الذين توحي سيماهم بالاحترام، والذين يرتدون القبعات ويغطون الأقدام، انتهى الأمر حتى بأولئك الناس إلى الإلحاف في سؤال الإحسان من باب إلى باب، وكان يحدث أحياناً أن يأخذك العجب كيف يستطيع هؤلاء الذين بلغت بهم تعاسة الحال كل هذا الحد أن يمشوا على أقدامهم، وإذا بك تراهم يسقطون أمام عينيك إعياء، فمات عدد لا يحصى من المجاعة، وكانوا يلفظون أرواحهم بجوار أسوار الحدائق أو إلى جوانب الطرقات؛ ولما كانت أجسادهم لا تجد من يزيلها من أماكنها، فقد امتلأ الهواء بالرائحة النتنة؛ حتى ما إذا أخذ التغير يطرأ
(1)
أبشع ما شهدته اليابان في تاريخها من حرائق- وهي في تاريخها كثيرة- هي تلك التي محت ييدو (طوكيو) محواً تاماً سنة 1657، وقضت على مائة ألف نفس بشرية.
على أجسادهم، نشأت مشاهد لا تستطيع العين أن تراها .... ومن لم يكن له كسب يشتري به القوت، هدم داره ليبيع أجزاءها في السوق، وقيل إن الحمل يحمله الرجل بكل طاقته، لم يكن ثمنه ليكفي سد رمقه يوماً واحداً، والعجب أنك كنت ترى في هذا الحطام من أخشاب المنازل، الذي كانوا يبيعونه وقوداً للنار، قطعاً مزدانة في بعض أجزائها بالألوان أو بالفضة أو بطلاء الذهب
…
وشيء آخر يستثير في النفس أشد أحزانها، وهو أنه إذا كان ثمة رجل وامرأة يربط بينهما رباط الحب الشديد، فالذي كان منهما أقوى حباً من الآخر، وأعمق ولاء، يموت قبل زميله؛ وعلة ذلك أن الواحد منهما يؤثر غيره على نفسه، فالذي يشتد حبه يقدم لمحبوبه- رجلاً كان أو امرأة- أي شيء يطلبه منه، فكان الوالدون بطبيعة الحال يموتون قبل أبنائهم؛ كذلك كنت ترى الرضع أحياناً عالقين بأثداء أمهاتهم، لا يعرفون أن هؤلاء الأمهات قد فاضت أرواحهن
…
وبلغ عدد الموتى في كيوتو الوسطى خلال الشهرين الرابع والخامس وحدهما 300 ر 42 من الأنفس البشرية (40).
قارن هذه الفترة الفظيعة التي تخللت مجرى الزراعة، بالصورة التي يقدمها لنا "كيمفر" ساطعة عن الصناعات اليدوية في اليابان كما رآها في كيوتو سنة 1691.
"كيوتو هي المستودع العظيم الذي تخزن فيه كل المنسوجات والسلع اليابانية، وهي المركز التجاري الرئيسي في الإمبراطورية؛ فتكاد لا تجد في هذه العاصمة الكبرى منزلاً واحداً لا يصنع فيه شيء أو يباع شيء؛ فالناس هاهنا يُصفّون النحاس ويسكون النقود ويطبعون الكتب ويطرزون أفخر المنسوجات بزهور الذهب والفضة. وهاهنا كذلك تصنع أحسن صنوف الصبغة وأندرها، وأروع النقوش فناً، وكل ضروب الآلات الموسيقية والصور والخزانات اليابانية، وشتى الأشياء التي تصاغ من الذهب وغيره من المعادن، وخصوصاً
الصلب؛ مثال ذلك السيوف ذوات النصل القوي وغيرها من الأسلحة؛ كل ذلك يصنع هاهنا صناعة بلغت غاية الكمال، كما تصنع أفخر الأردية على خير طراز، وكل صنوف اللعب ونماذج الحيوان التي تحرك رؤوسها من تلقاء نفسها وأشياء أخرى أكثر عدداً من أن يحصرها العدد في هذا المكان؛ واختصاراً لست تستطيع أن تفكر في شيء مما لا تراه يصنع في كيوتو- وليس هنالك شيء مما يستورد من خارج البلاد- مهما بلغت دقة صناعته- مما لا تجد بين صناع العاصمة من يأخذ على نفسه أن يحاكيه .... إنه ليس في المنازل التي تقع في الشوارع الرئيسية إلا قلة لا تعرض شيئاً للبيع؛ ولم يسعني إلا العجب أنىَ لهؤلاء الناس الزبائن شراء هذه المقادير الهائلة من البضائع؟ " (41).
لقد استوردت اليابان قبل ذلك بزمن طويل كل فنون الصين وصناعاتها؛ وكما ترى اليابان اليوم قد بدأت تفوق معلميها من أهل الغرب في الاقتصاد والمقدرة على الإنتاج الآلي (42)، فكذلك حدث في أثناء حكومة توكوجاوا العسكرية، إذ أخذ صناعها ينافسون، بل وأحياناً يفوقون زملاءهم من أهل الصين وكورية الذين علموهم الصناعة؛ وكانت معظم الصناعة تقوم بها الأسرة في الدار- كما كانت الحال في أوربا في عصرها الوسيط- وكانت الأسرة تورث صناعتها ومهارتها من الوالد إلى ولده، وكثيراً ما أطلق على الأسرة اسم الصناعة التي كانت تقوم بها؛ وكذلك- كما كانت الحالة أيضاً في أوربا في عصرها الوسيط- تألفت نقابات كبرى، لم يكن قوامها الصفوف الدنيا من الصناع بقدر ما كان قوامها السادة الذين كانوا يستغلون الصناع استغلالاً لا يعرف الرحمة، وحددوا حق الالتحاق بهذه النقابات للأعضاء الجدد بقيود أسرفوا في ضيقها (43)؛ وكانت نقابة الصيارفة من أقوى النقابات، الصيارفة الذين كانوا يقبلون الودائع والتحويلات المالية و "الكمبيالات" ويقرضون القائمين على التجارة والصناعة والحكومة؛ وما جاءت سنة 1636
حتى كانوا يؤدون كل العمليات المالية الكبرى (44). وأصبح التجار الأغنياء والممولون من أعلام أهل المدن، وأخذوا ينظرون بعين الحسد إلى السلطة السياسية التي كانت مقصورة على السادة الإقطاعيين الذين أثاروا في صدورهم الشحناء باحتقارهم السعي وراء الذهب؛ وأخذت الثروة التجارية تزداد شيئاً فشيئاً خلال عصر "توكوجاوا" حتى استطاعت آخر الأمر أن تتآزر مع المواهب الأمريكية والمدافع الأوربية على تحطيم القشرة المتحجرة فوق اليابان القديمة.
الفصل الرابع
الشعب
قوام أجسادهم - عجائن الزينة - الثياب - الطعام - آداب المعاملة -
"سيك" - احتفال الشاي - احتفال الزهور - حب الطبيعة - الحدائق - المنازل
إن الشعب الذي يحتل أعلى مكانة في العالم السياسي المعاصر يتألف من أفراد قصار القامة، إذ يبلغ متوسط قامة الرجل منهم خمسة أقدام وثلاث بوصات ونصف البوصة، ويبلغ متوسط قامة المرأة أربعة أقدام وعشر بوصات ونصف البوصة؛ وقد جاءنا وصف لرجل هو من أعظم جنودهم، أعني "تامورامارو"، بأنه رجل جميل القوام إلى حد بعيد
…
طوله خمسة أقدام وخمس بوصات" (45) ويذهب بعض علماء التغذية إلى أن هذا القصر في القامة يرجع إلى قلة الجير في الغذاء الياباني، وهذه القلة بدورها راجعة إلى قلة اللبن؛ وقلة اللبن سببها ارتفاع أثمان أراضي الرعي في مثل هذه البلاد الغاصة بأهليها (46)، لكننا لا ينبغي أن نعد هذه النظرية أكثر من فرض بعيد الاحتمال- شأنها في ذلك شأن كل ما يقال في العلم الذي يحلل غذاء الإنسان؛ ويبدو على النساء هناك ضعف وهزال، فالظاهر أن ما لهن من نشاط- وهن في ذلك كالرجال في نشاطهم هناك- يرجع إلى قوة الجهاز العصبي أكثر مما يرجع إلى القوة البدنية؛ ولست ترى علائم النشاط بادية إلا إذا دعت إليه ضرورات الحياة؛ ولهن جمال هو جمال التعبير الذي تنطق به وجوههن، وجمال المشية، وجمال القسمات؛ فهذه الرشاقة اللطيفة التي تراها فيهن مَثَلٌ جميل لما قد أدى إليه الفن في بلادهن.
ومعاجين الزينة شائعة في اليابان وقديمة العهد فيها؛ كما هي الحال في
سائر الأقطار؛ فترى الرجل منهم- حتى في العصر القديم الذي بسط فيه "كيوتو" زعامته على البلاد- ترى الرجل منهم إذا ما كان ذا منزلة اجتماعية، يُحَمِّرُ وجنتيه، ويضع المساحيق على وجهه، ويعطر ثيابه، ويحمل معه مرآة من ذهب (47)؛ وكذلك لبث نساؤهم قروناً طوالاً لا ترى وجوههن إلا مغطاة بالمساحيق؛ وفي ذلك تقول "السيدة سي شوناجون" في كتابها:"صور على الوسادة"(حوالي 994 ميلادية) مصطنعة الحشمة في قولها: "حَنَيْتُ رأسي فأخفيت وجهي بكمي، مخاطرة في ذلك بما قد يحدثه الكم من إزالة المسحوق عن وجهي فيبدو مُبَقَّعاً"(48)، فقد كان سيدات البدْع يحَمِّرْن خدودهن ويطلين أظفارهن، ويُذَهِّبْنَ أحياناً سيقانهن السفلى؛ فزينة المرأة في القرن السابع عشر لم تكمل بأقل من ستة عشر صنفاً، وهي في القرن الثامن عشر قد بلغت العشرين صنفاً، وعرَف النساء خمسة عشر طرازاً لتصفيف الشعر الأمامي، واثنى عشر طرازاً للشعر الخلفي، وكن يحلقن حواجبهن، ويرسمن مكانها أهِلَّةً أو غيرها من الرسوم؛ أو كن يضعن بدل الحواجب نقطتين سوداوين صغيرتين في أعلى الجبهة، لكي يحدثن بهما تناسقاً مع الأسنان التي كن يُسَوِّدْنها صناعةً؛ وكان تصفيف الشعر للمرأة عملاً يستغرق ساعتين إلى ست ساعات إن كان القائم بالتصفيف خبيراً بفنه؛ وكان معظم الرجال في عصر "هايي" يحلقون مقدمات رؤوسهم، ويجمعون ما تبقى من الشعر ضفيرة يمدونها وسط ذلك الجزء الأمامي الحليق، ليقسموه بها نصفين؛ وكانت اللحى ضرورة للرجال، رغم قلة شعراتها؛ ومن لم يكن لهم لحى بطبيعتهم، كانوا يضعون على وجوههم لحى صناعية؛ وكان يقدم للضيف في بيوت العلْية ملقط يسوّى به لحيته (49).
كانت الثياب اليابانية في عصر "نارا" تقتفي أثر الثياب الصينية، فصدار وسراويل يغطيها ثوب محبوك على الجسم؛ فلما جاء عصر "كيوتو" وسع اليابانيون من ذلك الثوب بعض الشيء وزادوا من أجزائه؛ فالرجال والنساء
كانوا يلبسون أثواباً بعضها فوق بعض يتراوح عددها من ثوبين إلى عشرين. وتختلف ألوان تلك الثياب باختلاف مكانة الملابس، وكانت تبدو أطرافها عند الكم متعددة الألوان كأنها الطيف في تداخل ألوانه؛ وجاء عهد كانت أكمام السيدة تتدلى إلى ما دون ركبتيها، وفي طرفها جرس يُتَنْتِن وهي تسير؛ وإذا كانت الطرقات مبتلة بالمطر أو بالثلج، كن يمشين على قباقيب من الخشب محمولة على كعوب خشبية يرتفع حول بوصة عن الأرض؛ وفي عصر "توكوجاورا" بلغ الإسراف في الثياب حداً جعل "السيافين" لا يعبئون بتقاليد الناس، ويحاولون الحد من هذا الإسراف بقوانين صارمة، فحرمت السراويل المبطنة بالحرير والموشاة كما حرقت الجوارب التي كانت تزخرف على ذلك النحو؛ وحرمت اللحى، وصنوف معينة من تصفيف الشعر؛ جاءت أيام كان رجال الشرطة فيها يؤمرون بالقبض على كل من يرونه في الطريق مرتدياً ثوباً فاخراً؛ وكان الناس يطيعون هذه القوانين أحياناً، لكنهم في معظم الأحيان كانوا يحتالون على التخلص منها بما عرف عن الإنسان من حماقة فطرية (50).
لكن هذا الشغف الشديد بتعدد الأردية قد خفت حدته على مر الزمن؛ وأصبح اليابانيون من أكثر شعوب الأرض بساطة واحتشاماً وحسن ذوق.
ولم يكن اليابانيون ليأخذوا عن سواهم من الشعوب شيئاً فيما يخص عادات النظافة؛ فالثياب تغير ثلاث مرات في اليوم الواحد عند من يستطيع إلى ذلك سبيلا؛ والناس جميعاً فقيرهم وغنيهم يستحمون كل يوم
(1)
وأما في القرى، فكان الناس يستحمون في طسوت خارج منازلهم في
(1)
كان في طوكيو سنة 1905 ألف ومائة حمام شعبي، يستحم فيها كل يوم نصف مليون رجل، لقاء أجر قيمته سنت وربع سنت.
الصيف، ويثرثر الجار مع جاره إذ هما يستحمان ثرثرة لا تنقطع (52)؛ وكانوا يستحمون في الشتاء بماء ساخن مبلغ حرارته مائة وعشر درجات، فيكون لهم ذلك وسيلة تدفئة من البرد؛ وكان غذاؤهم بسيطاً وصحياً قبل أن تطغى عليهم موجة الترف؛ ووصف الصينيون اليابانيين في الزمن القديم فقالوا عنهم إنهم "شعب طويل العمر، حتى ليكثر فيه الأفراد الذين يبلغون في أعمارهم مائة عام"(53).
وكان الطعام الرئيسي عند الشعب هو الأرز، يضيفون إليه السمك والخضر ونبات البحر والفاكهة واللحم، كل بنسبة ثرائه؛ وكان اللحم لوناً من الطعام نادراً إلا بين الطبقة العالية وطبقة الجنود؛ وكان العامل الياباني يفضل هذا الطعام الذي يتألف من أرز وسمك ولا لحم، يتمتع برئتين سليمتين وعضلات قوية، فيستطيع الجري من خمسين ميلاً إلى ثمانين في أربع وعشرين ساعة دون أن يشكو إعياء. فإذا ما أضاف اللحم إلى غذائه، فقد قدرته هذه على الجري السريع
(1)
وحاول الأباطرة في عصر كيوتو محاولة دينية قصدوا بها أن يؤيدوا قوانين التغذية كما تأخذ بها البوذية؛ فحرموا ذبح الحيوان وأكله؛ ولكن لما رأى الناس أن الكهنة أنفسهم كانوا يخرجون على تلك القوانين خفية، أخذوا يدخلون اللحم لوناً شهياً من الطعام ويسرفون في أكله كلما مكنتهم من ذلك قدرتهم المالية (57).
فاليابانيون كالصينيين والفرنسيين يعدون إجادة الطهي علامة جوهرية للحضارة، حتى لقد أخذ الطهاة كأنهم في ذلك فنانون أو فلاسفة ينقسمون مدارس يناهض بعضها بعضاً بما تبدع كل منها من "وصفات".
(1)
لكننا نلاحظ من جهة أخرى أن اليابانيين الذين لم يكونوا يعملون بأجسادهم، وكانوا يعيشون على كميات كبيرة من الأرز، كانوا يتعرضون لاضطرابات في الهضم.
وأصبحت آداب المائدة عندهم من الأهمية بحيث عادلت أهمية الدين على أقل تقدير؛ إذ كان لهم قواعد دقيقة تنظم ترتيب القضمات مقاديرها، كما تنظم وضع الجسم في كل مرحلة من مراحل الوجبة، ولم يكن يجوز للسيدات أن تحدثن صوتاً في الطعام أو الشراب، أما الرجال فقد كانت تقتضيهم الأوضاع أن يدلوا على تقديرهم لكرم المضيف بجشئات عدة يظهرون بها عرفانهم بالجميل (58)؛ وكان الآكلون يجلسون على عقب واحد أو على العقبين فوق حصير، إزاء مائدة لا تعلو عن الأرض أكثر من بضع بوصات، أو قد يوضع الطعام على الحصير بغير حاجة إلى مائدة على الإطلاق، والعادة أن تبدأ الوجبة بشراب ساخن من عصير الأرز؛ ألم يعلن الشاعر "تاهيتو" في زمن بالغ في القدم مبلغ القرن السابع، بأن شراب "الساكي" هو الحل الوحيد الذي تفض به مشكلات الحياة جميعاً؟
إن ما كان ينشده السبعة الحكماء
لأولئك الرجال الذين قدم بهم الزمان
هو- بغير شك- شراب "الساكي"
فبدل أن تجلس ساكناً
مفكراً، جاداً رصيناً
فخير ألف مرة أن تشرب "الساكي"
وأن تسكر به حتى تصيح صياحاً عالياً
فما دام الواقع الحق
هو أن الموت لاحق بنا جميعاً
فلنمرح
مادمنا على قيد الحياة
إن اللؤلؤة التي تتألق بريقها في الليل
أقل قيمة للإنسان من نشوة قلبه
التي تأتيه إذا ما شرب "الساكي".
لكن الشاي كان أكثر قدسية عند العلْية من "الساكي". فهذا النبات العجيب الذي نتغلب به على ما يفقده الماء من طعمه بعد الغلي، جاء إلى اليابان قادماً من الصين سنة 805، لكنه إذ ذاك لم يصب نجاحاً، ثم جاءها مرة أخرى سنة 1191 حيث استقر بها وأقام، فقد اجتنبه الناس أول الأمر باعتباره سماً لا ينبغي أن يقربوه؛ ولكن لما تبين للرجل من طائفة "السيافين" أن قليلاً من أقداح الشاي سرعان ما يرد إلى رأسه اتزانه بعد ما أصابه من دوار بسبب الإفراط في شراب "الساكي" ليلة البارحة، أخذ أهل اليابان يتبينون فائدة الشاي، ولقد أضاف ارتفاع ثمنه إلى سحره سحراً جديداً، فكان الناس يتهادون به ثمين الهدايا، بأن يتبادلوا الآنية الخزفية المليئة به؛ حتى لقد كان يُقَدَّمُ للمقاتلين جزاء ما أبلوا في أفعالهم الحربية الباسلة، فكان الذي يجود من هؤلاء بحيث يظفر بمنحة من الشاي، يجمع حوله الأصدقاء ليشاركوه هذا الشراب الملكي، ولقد جعل اليابانيون من شرب الشاي احتفالاً رشيقاً معقد الأوضاع، إذ وضع "ركيو" لذلك ست قواعد لا يجوز الخروج عليها، فارتفع شرب الشاي بفضل هذه القواعد الست إلى منزلة الطقوس الدينية، فمن قواعد "ركيو" هذا أن الدعوة التي توجه إلى الأضياف ليدخلوا قاعة الشاي، يجب أن تكون بالتصفيق بخشبتين معينتين؛ كما يجب أن يظل إناء الوضوء مليئاً بالماء الصافي، وإذا ما أحس ضيف من الأضياف بخطأ أو بنقص في أثاث المكان، وجب عليه أن يغادر من فوره دون أن يحدث بذلك ضجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يجوز أن يغوص الحاضرون في حديث تافه، بل يجب عليهم ألا يطرقوا بالحديث إلا أموراً عالية جادة؛ ولا يجوز لأحد أن يفوه بكلمة واحدة مما يدل على غرور أو رياء، ثم لا يصح أن يستغرق الأمر أكثر من أربع ساعات،
ولم يكن يستعمل إبريق للشاي في مثل هذه المحافل التي يطلق عليها "شا- نو- يو"(ومعناها ماء ساخن للشاي)؛ بل كان يوضع مسحوق الشاي في فنجان ممتاز في نوعه، ثم يصب فيه الماء الساخن، ثم يدور الفنجان بين الأضياف واحداً بعد واحد، كل منهم يمسح حافته مسحاً رقيقاً بمنشفة صغيرة، حتى إذا ما شرب آخر الشاربين آخر جرعة من الفنجان، أدير الفنجان بين الحاضرين من جديد ليفحصوه من الوجهة الفنية (60)، وعلى هذا النحو كان احتفال الشاي حافزاً للخزافين على إنتاج أقداح وآنية بالغة الجمال، كما كان هذا الاحتفال عاملاً على صياغة آداب اليابانيين في صورتها الهادئة الفاتنة التي يراعى فيها تبادل الاحترام
(1)
.
كذلك أصبحت الزهور موضع قدسية في اليابان؛ فكانت موضع تقدير من "ركيو" هذا الذي صاغ طقوس محافل الشاي، فكانت الزهور عنده تلقى من العناية ما تلقاه أقداح الشاي، ولما سمع أن "هيديوشي" آت لزيارته ليرى مجموعته المشهورة من زهور الأقحوان، أتى "ركيو" على كل الزهور في بستانه إلا واحدة، لعل هذه الواحدة تسطع في عيني هذا "السياف" المخيف سطوعاً يدرك منه أنها فذة في عالم الزهور
(2)
؛ وأخذ فن تنسيق الزهور يتقدم خطوة بعد خطوة مع "سرعة الشاي" في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر، أصبح موضعاً للاهتمام في حد ذاته، ونشأت طائفة "أساتذة الزهور" تعلم الرجال والنساء
(1)
محصول الشاي هو الآن بالطبع أحد منتجات اليابان الهامة. ويظهر أن الشركة الهولندية للهند الشرقية هي التي جاءت إلى أوربا بأول ما عرفته من الشاي سنة 1610، وقد باعته حينئذ بواقع أربعمائة ريال تقريباً للرطل الواحد، وقد قال "جوناس هانواي" سنة 1756 إن الرجال في أوربا يفقدون من طول قامتهم والنساء فيما يفقدون من جمالهن، بفعل شرب الشاي، وكان دعاة الإصلاح يحاربون هذه العادة بوصفهم إياها بالهمجية القذرة.
(2)
هذا "الحاكم العظيم" وهذا "العلم في عالم الشاي" قد تحابا كما يتحاب الرجلان العبقريان، وقد اتهم أولهما الثاني بتهمة الخيانة، لكنه بدوره اتهم بإفساد ابنة الثاني (ركيو) وأخيراً انتحر "ركيو" على طريقة هاراكيري.
كيف ينبتون الزهور في البستان وكيف ينسقونها في دورهم، فكان هؤلاء الأساتذة يقولون إنه لا يكفي أن تعجب بالزهور نفسها، بل يجب أن تدرب نفسك على رؤية الجمال في ورقة الزهور وفي غصنها وفي عودها كما ترى الجمال في الزهرة نفسها، وأن تدرب نفسك على رؤية الجمال في زهرة واحدة كما تراه في ألف زهرة، وأن ترص الزهر رصاً لا يقوم على أساس اللون وحده، بل كذلك مع أساس طريقة ضمها في طاقات وصفها (64). وهكذا أصبح الشاي والزهور والشعر والرقص من لوازم الأنوثة بين بنات العلية في اليابان.
الزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً؛ وهم يرقبون في كل فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور؛ فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى أسبوع أو أسبوعين في أوائل شهر إبريل، يخيل إليك أن أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم؛ بل إنهم ليحجون إلى الأماكن التي تزخر بهذه المعجزة ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر
(1)
؛ فهم لا يزرعون شجرة الكريز لثمارها، بل لأزهارها- وزهرتها رمز للمحارب المخلص الذي يستعد للموت في سبيل وطنه في اللحظة التي تصل فيها حياته أوج شبابها (65)؛ وقد يحدث أن يطلب المجرمون المساقون إلى الإعدام زهرة من زهرات الكريز وهم في طريقهم إلى الموت (66)، وتروي لنا "السيدة تشيو" في قصيدة لها مشهورة، أن فتاة قصدت بئراً تستخرج منه الماء، فلما وجدت الدلو والحبل ملتفاً عليهما أغصان النبات اللبلابي، قصدت مكاناً آخر تحصل منه على الماء، مؤثرة ذلك على قطع أسلاك النبات (67)، ويقول "تسورايوكي" "إنه ليستحيل عليك أن تفهم قلب الإنسان، لكن الزهور في قريتي ما تزال كسابق عهدها تنفث عبقها (68)، هذه العبارة الساذجة هي من أعظم الشعر
(1)
هم كذلك يحجون إلى حيث يشاهدون أوراق الأسفندان تتحول إلى السقوط.
الياباني، لأنها تعبر عن خصيصة عميقة لجنس بشري بأسره، تعبر عنها تعبيراً كاملاً يتعذر أن تحذف منه شيئاً، كما تعبر عن نتيجة صادقة من نتائج الفلسفة، إنك لن تجد بين أمم العالم أمة أحبت الطبيعة بمثل ما أحبها اليابانيون ولن تجد الناس في أي جزء من أجزاء الأرض غير اليابان يتقلبون راضين تقلبات الطبيعة كما تتبدى في الأرض والسماء والبحر، ولن تجد بلداً آخر غير اليابان عني فيه الناس بزراعة البساتين، أو بتغذية النبات إبان نموه، أو خصوه برعايتهم في دورهم، إن اليابان لم تنتظر حتى يجيئها "روسو" أو "وردزورث" لينبئها أن الجبال شوامخ أو أن البحيرات قد يكون لها روعة الجمال، فتكاد لا تجد في اليابان منزلاً بغير أصيص للزهور، كما توشك ألا تجد قصيدة واحدة في الأدب الياباني تخلو من وصف مشاهد الطبيعة في ثنايا سطورها؛ فكما أن "أوسكار وايلد" كان من رأيه أن إنجلترا لا ينبغي لها أن تحارب فرنسا لأن الفرنسيين يكتبون نثراً بلغ في فنه حد الكمال، فكذلك نقول أن أمريكا يجب أن تنشد السلام إلى آخر جهدها مع أمة تتعطش للجمال في عاطفة جارفة تكاد تبلغ في حدتها قوة نهمها إزاء السلطان.
إن فن غرس الحدائق قد جاءها من الصين جنباً إلى جنب مع البوذية والشاي؛ لكن هاهنا ترى اليابانيين مرة أخرى يحولون بقوة إبداعهم ما قد تشربوه من غيرهم عن طريق المحاكاة، فتراهم يستملحون جمال الشيء إذا خلا من الاتساق. ويستجملون الأشكال المبتكرة التي لم يقتلها التكرار، فتجيء للرائي بمثابة المفاجأة، وهم يقصرون الأشجار والشجيرات بأن يحصروا جذورها في أُصُص، وتدفعهم في ذلك فكاهة شيطانية وصبٌّ عارم إلى أن يروضوا تلك الأشجار بحيث يصوغونها في أشكال يجوز لنا، إذا ما رأيناها تكوّن سور البستان أن نقول عنها إنها تمثل أشجار اليابان التي عصفت بها عواصف تلك البلاد فلوت أفنانها، وتراهم يبحثون في فوهات براكينهم وفي أوعر شطئانهم لعلهم واجدون صخوراً امتزجت بالمعادن بفعل
النيران الداخلية، أو صاغها حجّارون صابرون في أشكال غريبة ملتوية الأجزاء، وهم يحتفرون البحيرات الصغيرة، ويشقون النهيرات الفوارة بمائها، ويصلون ضفافها بجسور تبدو للرائي كأنما جاءت نمواً طبيعياً في أشجار الغابات، وهم يدقون خلال هذه التكوينات المختلفة كلها مماش ينقشونها نقشاً دقيقاً، فتؤدي بك تارة إلى جديد يفجؤك، وطوراً إلى ركن هادي بليل الهواء.
وحيث تسعفهم فسحة الأرض وكثرة المال تراهم أميل إلى أن يجعلوا بيوتهم جزءاً من حدائقهم، منهم إلى أن يجعلوا حدائقهم جزءاً من بيوتهم، ومنازلهم هزيلة البنيان لكنها جميلة؛ فلئن جعلت الزلازل الأبنية العالية خطراً داهماً، فقد عرف النجار وقاطع الخشب كيف يربط ألواح الخشب وشرائحه وعمده فيجعل منها مسكناً تبلغ بساطته حد التقشف. لكن يبلغ جماله حد الكمال، بحيث تراه في فن عمارته نسيج وحده، إنك لا ترى في مثل هذا المسكن ستائر أو أرائك أو أسرة أو مناضد أو مقاعد، ولا ترى دلائل بارزة تدل على ثروة الساكن ورفاهيته، لا ترى متحفاً للصور ولا التماثيل ولا التحف؛ لكنك ترى في ركن من الحديقة غصناً مزهراً، وعلى الحائط صورة من الحرير أو الورق، أو ترى قطعة من الخط الزخرفي، وتجد على الأرض المغطاة بالحصير وسادة وضع أمامها كرسي مما تسند عليه الكتب للقراءة، وعلى أحد جانبيها خزانة كتب وعلى جانبها الآخر مسندة، وهم يخفون الحشايا والأغطية في خزانة خشبية، ليخرجوها وينشروها على الأرض إذا حان وقت النوم، ففي مثل هذه الأحياء المتواضعة، أو في كوخ الفلاح الهزيل كانت تسكن الأسرة اليابانية، وتبقى على الحياة وعلى المدنية في "الجزر المقدسة" خلال ما تعاور البلاد من زعازع الحروب والثورات ومن فساد سياسي وكفاح في سبيل الدين.
الفصل الخامس
الأسرة
الأب المستبد - منزلة المرأة - الأبناء -
الأخلاق الجنسية - الـ "جيشا" - الحب
الأسرة هي المصدر الحقيقي للنظام الاجتماعي، ولئن كان هذا صحيحاً بالنسبة للغرب، فهو أصح بالنسبة للشرق، وجمع السلطة كلها في يد الأب في اليابان- كما هي الحال في سائر أنحاء الشرق- لا يدل على انحطاط في درجة الرقي الاجتماعي، بل يدل على إيثارهم للحكومة الأسرية على الحكومة السياسية؛ فليس للفرد من الأهمية في الشرق بمقدار ما له من الأهمية في الغرب، وذلك لأن الدولة في الشرق كانت أضعف منها في الغرب. ولذا تطلبت الدولة أن يكون إلى جانبها أسرة قوية النظام شديدة الطاعة لتقوم مقام السلطة المركزية التي تشمل بسلطانها شتى نواحي الحياة كبيرها وصغيرها على السواء؛ وقد فهمت الحرية في الشرق بالنسبة للأسرة لا بالنسبة للفرد، ذلك لأنه لما كانت الأسرة هي وحدة الإنتاج في عالم الاقتصاد كما كانت وحدة النظام الاجتماعي، كان النجاح أو الفشل، بل الحياة أو الموت، لا يخص الفرد الواحد بل يصيب الأسرة كلها؛ فكانت سلطة الوالد استبدادية، لكنها رغم استبدادها كانت تشوبها الرأفة التي لا يعقبها شيء من الضرر، وذلك بكونها تبدت للناس أمراً طبيعياً وضرورياً وإنسانياً؛ فقد كان من حقه أن يطرد من الأسرة زوج ابنته أو زوجة ابنه بينما يحتفظ بحفيدته في صحبته؛ بل كان من حقه أن يقتل ابنه أو ابنته إذا اتهم أحدهما بالدعارة أو غيرها من الجرائم الخطيرة، وأن يبيع أبناءه أو بناته في سوق النخاسة
أو سوق الدعارة
(1)
؛ وفي مستطاعه أن يطلق زوجته بكلمة واحدة (70)، فإذا ما كان الرجل من عامة الشعب، كان الأغلب أن يقتصر على زوجة واحدة، أما إذا كان من أبناء الطبقة العليا فقد كان من حقه أن يحيط نفسه بالخليلات؛ ولم يكن أحد ليهتم بما يقترفه من خيانة زوجية آناً بعد آن (71)؛ ولما دخلت المسيحية بلاد اليابان، شكا الكتاب من أهل البلاد مما أحدثته من اضطراب في هدوء الحياة العائلية، بتعاليمها التي تجعل اتخاذ الخليلات واقتراف الزنا من الخطايا (72).
وكانت منزلة المرأة في اليابان- كما هي الحال في الصين- أعلى في مراحل المدنية الأولى منها في المراحل المتأخرة، فترى ست نساء بين حكام البلاد إبان العهد الإمبراطوري، ولعبت المرأة في كيوتو دوراً هاماً، بل لعبت الدور الأول في حياة الأمة الاجتماعية والأدبية؛ وفي ذلك العهد الذهبي للثقافة اليابانية- لو جاز لنا أن نجازف بالرأي في مثل هذه النواحي الغامضة- سبق الزوجات أزواجهن في عالم الزنا، بحيث كن يبعن العفة بقول جميل يقال (73)، وتصف لنا "السيدة سي شوناجون" شاباً على وشك أن يرسل رسالة غرامية لخليلته، فقطعها ليغازل فتاة عابرة؛ ثم تضيف تلك الكاتبة المحبوبة البارعة في أدب المقالة، قولها:"ولست أدري إن كان الرسول الذي حمل رسالة هذا المحب معطرة بقطرات الندى انتثرت من الزهور العبقة، قد تردد في تقديمها إلى الحبيبة، إذ وجدها هي بدورها تستضيف عشيقاً"(74)؛ ثم انتشرت نظرية أهل الصين في إخضاع المرأة للرجل، حين انتشر النظام الإقطاعي الحربي، وحين تناوب البلاد تهاون وشدّة جعلا يتعاقبان على نحو طبيعي يسجله التاريخ؛ فأصبح المجتمع يسوده الذكور، وأذعن النساء "للطاعات الثلاث" الوالد والزوج والابن"؛ وأوشك الناس ألا يضيعوا جهدهم في تعليم النساء، اللهم إلا تعليمهن آداب الأوضاع الاجتماعية؛ وطولب النساء بالأمانة الزوجية يتهددهن في ذلك عقاب الإعدام؛ فإذا وجد
(1)
لم يكن يقع هذا إلا في أحط الطبقات وعند الضرورة القصوى.
الزوج زوجته متلبسة بجريمة الزنا، كان من حقه أن يقتلها مع عشيقها فوراً؛ وقد أضاف "أيياسو" بدقته إلى هذا الحق شرطاً، فقال إن الزوج إذا قتل المرأة في مثل هذه الحال وأخلى سبيل الرجل، حق عليه هو نفسه عقاب الموت (76)؛ وقد نصح الفيلسوف "إكن" للزوج أن يطلق زوجته إذا ما أسرفت في حديثها من حيث ارتفاع الصوت، أو طول الكلام؛ أما إذا حدث أن كان الزوج منحل الخلق وحشي الطبع، فينبغي للزوجة في رأي "إكِن" أن تضاعف له الرحمة والدعة؛ وفي ظل هذا التدريب الشديد المتصل، أصبحت المرأة اليابانية أنشط الزوجات وأخلصهن وأكثرهن طاعة؛ وإن الرحالة الذين أخذهم العجب لهذا النظام الذي أنتج مثل هذه النتائج الحميدة، ليتساءلون إن كان من الحكمة أن ندخله في بلاد الغرب (77).
ولم تكن كثرة النسل تجد تشجيعاً في اليابان "السامورية"
(1)
على خلاف ما نراه في أقدم عادات المجتمع الشرقي وأكثرها قدسية؛ وذلك لأنه لما تكاثر السكان أحست الجزر الصغيرة أنها قد ازدحمت بأهليها، وأصبح من عوامل السمعة الحسنة للرجل من طائفة "السيافين" ألا يتزوج قبل سن الثلاثين، وألا ينجب من الأطفال أكثر من اثنين (78)؛ ومع ذلك فقد كان ينتظر من كل رجل أن يتزوج وأن ينسل الأبناء، فإذا تبين العقم في زوجته، كان من حقه طلاقها؛ وإن نسلت له بنات ولا أبناء، نصحوه بأن يتبنى ولداً حتى لا يضيع اسمه وتتبدد أملاكه، لأن البنات ليس من حقهن أن يرثن شيئاً (79)؛ وكان الأطفال يربون على أساس الفضائل الصينية، وفي جو من الأدب الذي يبث إخلاص البنوة، لأن انتظام الدولة وأمنها كانا يعتمدان على هذه الطاعة التي تُبعث في الأبناء والتي تكون معيناً للنظام في الأسرة، وقد أمرت
(1)
الساموراي "السياف"، واليابان السامورية، هي اليابان في العهد الذي ساد فيه السيافون. (المعرب)
"الإمبراطورة كوكن" في القرن الثامن كل أسرة يابانية أن تحصل لنفسها على نسخة من متن الطاعة المفروضة على الأبناء للآباء"؛ وكان يطلب إلى كل تلميذ في مدارس الأقاليم أو في الجامعات أن يتقن دراسة هذا الكتاب إتقاناً تاماً؛ ولو استثنيت طائفة السيافين الذين كانت واجبات الطاعة عندهم مفروضة أولاً لسادتهم؛ إذا استثنيت هؤلاء، وجدت طاعة الأبناء لآبائهم هي الفضيلة الأساسية العليا عند اليابانيين؛ بل إن علاقة الياباني بالإمبراطور، كانت علاقة الحب والطاعة من ولد إلى والده؛ ولبثت هذه هي الفضيلة الرئيسية في التشريع الخلقي كله تقريباً عند عامة الناس في اليابان، حتى جاءهم الغرب بأفكاره الثورية التي تنادي بحرية الأفراد؛ وكان يستحيل على الجزر اليابانية أن تتحول إلى المسيحية، بسبب ما ورد في الإنجيل من أمر للرجل بأن يترك أباه وأمه ليلصق بزوجته (80).
لم تكن الفضائل الأخرى- فيما عدا الطاعة والولاء- لتحتل بينهم مثل المكانة التي تحتلها في أوربا المعاصرة؛ فالعفة كانت فضيلة مرغوباً فيها، حتى لقد قتل بعض نساء الطبقة العليا أنفسهن حين تعرضت بكارتهن للخطر (81)، لكن كبوة واحدة لم يكن معناها عندهم القضاء على المرأة قضاء كاملاً؛ وأشهر القصص اليابانية، وهي قصة "جنجي مونوجاناري" هي عبارة عن ملحمة تروي قصة غواية في الطبقة العليا؛ وأشهر مقالات في الأدب الياباني، وهي المجموعة في كتاب "صور على الوسادة" لكاتبته "السيدة سي شوناجون" تراها في بعض المواضع كأنما أريد بها أن تكون رسالة في الأوضاع الصحيحة التي ينبغي مراعاتها عند اقتراف الخطيئة (82)، فقد نظر القوم إلى شهوات الجسد نظرتهم إلى أمر طبيعي كما ينظرون إلى الجوع والظمأ؛ فترى آلاف الرجال وكثير منهم أزواج محترمون يحتشدون ليلاً في "يوشي وارا"، (أي حي الزهر) في طوكيو؛ ففي ذلك الحي منازل خرجت على النظام، يسكنها خمسة عشر ألف زانية رخص لهن بالزنا ومهرن فيه، تراهن في الليل
جالسات وراء "شيش" نوافذهن، فاخرات الثياب بيضاوات بما وضعته على أجسادهن من مساحيق، مستعدات للغناء والرقص والدعارة لمن ليس له امرأة عشيرة من الرجال، أو لمن ساءت عشيرته منهم (83).
وأعلى هؤلاء الزانيات ثقافة هن فتيات "الجيشا" الذي يدل اسمهن هذا على أنهن بارعات في فنهن (فكلمة جيشا مكونة من مقطعين: "جي" ومعناها بارع في الأداء الفني، و "شا" ومعناها شخص) وهن شبيهات بطائفة "الغواني" في اليونان، في أنهن قد أثرن في الأدب كما أثرن في عالم الحب، ومزجن فوضاهن الخلقية بالشعر، لكن حدث أن أمر الحاكم العسكري "أيناري"(1787 - 1836) عام 1791 بتحريم الاستحمام الذي يخلط الجنسين معاً، لأنه أحياناً يؤدي إلى الخروج على قواعد الأخلاق (84)، ثم أصدر أمراً شديداً سنة 1822 يقاوم به فتيات "الجيشا"، وقد وصف الواحدة منهن بأنها "مغنية تلبس فاخر الثياب، وتعرض نفسها مأجورة لتسلية رواد المطاعم، بالرقص والغناء في ظاهر الأمر، لكنها في الحقيقة تمارس شيئاً يختلف عن هذين كل الاختلاف (85)؛ ومنذ ذلك التاريخ عُدّ هؤلاء النساء بين "الزانيات اللاتي لا يقعن تحت الحصر" بحيث كن في عهد "كيمفر" يملأن حوانيت الشاي في القرى، كما يملأن الفنادق أينما وجدتها على طول الطريق (86)؛ ومع ذلك فقد لبثت الحفلات والعائلات تدعو فتيات "الجيشا" ليقمن بالتسلية في الاجتماعات؛ وفتحت مدارس تتلقى فيها فتيات "الجيشا" الناشئات على أيدي "الجيشا" القديمات مختلف أوضاع الفن؛ وكان يحدث أحياناً أن يجتمع المعلمات والمتعلمات معاً في حفلات الشاي، ليقمن بعرض الجانب المحتشم من ألوان ما يعرفونه من فنون؛ والآباء الذين يتعذر عليهم أحياناً أن يعولوا بناتهم، كانوا يوافقون بمحض اختيارهم على تدريب بناتهم في فنون "الجيشا" لعل ذلك يكون مورد كسب لهن؛ وما أكثر القصص اليابانية التي تروي عن بنات أسلمن أنفسهن لهذه الحرفة إنقاذاً لأسراتهن من أنياب الجوع (87).
إن هذه العادات مهما بلغت من غرابة نفزع لها فزعاً لا تختلف في جوهرها عن عادات الغرب ونظمه الاجتماعية، اللهم إلا في الصراحة والتهذيب ولطف الأداء؛ وإنه ليقال لنا على سبيل التأكيد أن الأغلبية الكبرى من فتيات اليابان، لم تزل عفيفة كعذراوات الغرب سواء بسواء (88)؛ فعلى الرغم من هذه النظم الصريحة، ترى اليابانيين يحيون حياة لا بأس بها من حيث النظام والاحتشام؛ وعلى الرغم من أنهم كثيراً ما كانوا يأبون الجري مع دوافع الحب في عقد الزواج الدائم مدى الحياة، فقد كان في وسعهم أن يظهروا أرق العواطف نحو ما يميلون إليه من أشياء، فما أكثر الأمثلة التي نصادفها في حوادث التاريخ، وفي الوقائع الخيالية التي وردت في الأدب الياباني، التي تدل على أن الشبان والشابات قد قتلوا أنفسهم آملين أن يتمتعوا في الآخرة الأبدية بالاتصال الذي حرّمه عليهم آباؤهم على هذه الأرض (89)؛ وليس الحب هو الموضوع الرئيسي في الشعر الياباني؛ لكنك مع ذلك تسمع نغماته هنا وهناك بسيطة مخلصة عميقة على نحو لا يضارعها فيه أدب آخر:
آه، تحولت الأمواج البيض على مدى البصر،
مما أراه طافياً على بحر "أيسي"
زهراتٍ
أجمعها طاقةً
أقدمها هدية لحبيبّتي
ثم اسمع "تسورايوكي" العظيم يحكي قصة حبه المرفوض في أربعة أسطر، مزج فيها الطبيعة بشعوره مزجاً يميز الأدب الياباني:
أتقول ألا شيء وشيك الزوال
مثل زهرة الكريز؟ .... لكني أذكر لحظة
ذبلت فيها زهرة الحياة بكلمة واحدة
ولم تعد تتحرك من الريح هَبّةٌ (91).
الفصل السادس
القديسون
الدين في اليابان - تحول البوذية - الكهنة - الشكاك
إن شعور الولاء الذي يعلن عن نفسه في الوطنية وفي الحب وفي حب الوالدين وحب الأبناء وحب الخليل وحب الوطن، هو نفسه الشعور الذي لابد أن يلتمس في الكون باعتباره كلاً واحداً، قوة رئيسية يتوجه إليها بالولاء، ويستمد منها شيئاً من القيمة والمعنى اللذين يكونان أوسع نطاقاً من حدود الشخص الواحد، وأدوم بقاء من حدود عمر واحد؛ ولئن كان اليابانيون على درجة من الاعتدال في تدينهم- فهم ليسوا كالهندوس في عمق إيمانهم الديني وشدة انغماسهم في ذلك الدين، كلا ولا هم يشبهون قديسي الكاثوليكية في العصور الوسطى في حدة عاطفتهم الدينية وتهوسهم في عقيدتهم حتى بلغوا في ذلك حد تعذيب أنفسهم، وقل ذلك عن رجال الإصلاح الديني المتنازعين، لم يكن اليابانيون مثل هؤلاء ولا هؤلاء، ومع ذلك فقد أخلصوا إخلاصاً ظاهراً للتقوى وللصلاة وللفلسفة التي تنتهي بالتفاؤل، حتى لقد تميزوا بذلك من بني عمومتهم المتشككين الذين كان يفصلهم عنهم البحر الأصفر.
لقد جاءت البوذية من لدن مؤسسها سحابة قائمة من التشاؤم، تدعو الناس إلى الموت، لكنها لم تلبث تحت سماء اليابان أن تحولت إلى عقيدة قوامها آلهة وافية، وإلى محافل دينية تبعث الغبطة في النفوس، وأعياد مرحة وحجيج إلى روائع الطبيعة على غرار ما كان يتمناه روسو، وجنة موعودة تسري عن الصدور كروبها؛ نعم إن البوذية آمنت بالجحيم كما آمنت بالجنة- بل آمنت
بوجود عدد من الجحيمات يبلغ مائة وثمانية وعشرين، أعدت لشتى الغايات ومختلف الأعداء وآمنت بعالم للشياطين، كما آمنت بعالم للقديسين، وكذلك آمنت بوجود شيطان مشخص (يسمونه أوني) له قرون وأنف أفطس ومخالب وأنياب، ويسكن في مكان مظلم يقع في الشمال الشرقي، وأنه آناً بعد آن يغري النساء بالذهاب إليه هناك ليمتعنه، كما يغري الرجال ليستمد منهم في غذائه مادة البروتين (92)؛ ولكن إلى جانب هذا كله كانت عقيدة البوذية اليابانية أن هناك "بوذين" كثيرين على استعداد أن يخلعوا على بني الإنسان جزءاً من الرحمة التي جمعوها مقداراً على مقدار بسبب عودتهم إلى الحياة مرة بعد مرة، وفي كل مرة يقضون حياتهم في فضيلة، وكانت هنالك كذلك عقيدة في آلهة رحيمة؛ مثل "مولاتنا كوانون" ومثل "جيزو" الذي يشبه المسيح؛ وفي أمثال هؤلاء تجد الرحمة الإلهية بأدق معانيها؛ وكانت العبادة يؤدّى بعضها صلاةً عند مذابح المنازل أو عند أضرحة المعابد، على أن معظم عبادتهم كان يتخذ صورة المواكب المرحة؛ كانت الديانة فيها تخلي المكان الأول لمظاهر الغبطة والفرح، وكانت التقوى تتبدى علائمها في لبس النساء للأثواب الجميلة، وفي انغماس الرجال في ألوان المتع؛ ويستطيع العابد الجادّ في عبادته أن يظهر روحه بالصلاة مدى ربع ساعة تحت شلال دافق في قلب الشتاء، أو بالأخذ في رحلات ينتقل فيها من ضريح إلى ضريح من أضرحة مذهبة ليشبع روحه أثناء هذه الرحلات بجمال أرض الوطن؛ ذلك لأن الياباني يستطيع أن يختار لنفسه مذهباً من عدة مذاهب في البوذية: فله أن يحقق وجود نفسه وأن يلتمس سعادة نفسه عن طريق شعائر "زِنْ"(أي التأمل) الهادئة؛ وله أن يتبع "نيشيرين" المتأجج فيأخذ عنه مذهب اللوتس ويظل في صيام وصلاة حتى يظهر له بوذا بشخصه؛ وله أن يختار لطمأنينة نفسه مذهب الأرض الطاهرة؛ بحيث لا يجد الخلاص إلا في الإيمان؛ وله أن يختار لنفسه سبيلها في حج صبور إلى حيث دير "كوباسان" وهناك يبلغ الجنة بأن
يدفن في أرض تقدست بفضل ما فيها من عظيم "كوبودايشي"- ذلك العظيم في علمه وفي تدينه وفي فنه، وهو الذي أسس في القرن التاسع مذهب "شنجون" أي مذهب "الكلمة الصادقة".
وعلى وجه الجملة فالبوذية اليابانية هي من أمتع ما اعتقدت فيه الإنسانية من أساطير، ولقد غزت اليابان مسُالمةً، ولم يتعذر عليها وأن تخلي من نفسها مكاناً في لاهوتها وفي عداد آلهتها لمذاهب "شنتو" ولآلهتها، فاندمج بوذا عندهم بـ "أماتيراسو" وخصص مكان متواضع في المعابد البوذية لضريح "شنتو" وكان الكهنة البوذيين الذين ظهروا في القرون الأولى رجالاً فيهم الولاء وفيهم العلم وفيهم الرحمة، وكان لهم أثر عميق في تقدم الآداب والفنون في اليابان، حتى لقد كان بعضهم رسامين أو نحاتين من الطراز الأول، كما كان بعضهم علماء، أخذوا على أنفسهم ترجمة الأدب البوذي والصيني، فكانت ترجماتهم تلك حافزاً قوياً على التقدم الثقافي في اليابان، على أن هذا النجاح كان سبباً في إفساد الكهنة في العصور المتأخرة، إذ أصبح منهم كثيرون أميل إلى الكسل والجشع (لاحظ في هذا الصدد الصور الرمزية التي كثيراً ما يصورهم بها اليابانيون الذين يحترفون مهنة النقش على العاج أو الخشب)؛ وبَعُدَ بعض أولئك الكهنة عن بوذا بعداً فسيحاً بحيث راحوا ينظمون لأنفسهم جيوشاً ينشئون بها سلطة سياسية أو يحافظون بها على مثل هذه السلطة السياسية إن كانت قائمة (93)؛ ولما كان الكهنة يهيئون للناس ضرورة هي أولى ضرورات الحياة- وأعني بها تهيئة الأمل الذي يسّري عن النفوس. فقد ازدهرت صناعتهم حتى في الوقت الذي تدهورت فيه صناعات الآخرين؛ وأخذت ثروتهم تزداد قرناً بعد قرن، بينما لبث الشعب فقيراً على حاله (94)؛ وقد أكد الكهنة للعباد المؤمنين بأن الرجل في سن الأربعين يمكنه أن يشتري عقداً آخر من السنين يضيفه إلى حياته إذا هو دفع رسوماً لأربعين معبداً تدعو له بذلك، ويمكن للرجل في سن الخمسين أن يشتري عشر سنين أخرى إذا دفع الرسوم لخمسين
معبداً تدعوا له، وفي سن الستين يستأجر ستين معبداً وهكذا حتى يموت بسبب ما قد يكون في تقواه من نقص
(1)
، وكان الرهبان في عهد "توكوجاوا" يشربون الخمر إلى درجة الإسراف ويحيطون أنفسهم بالغانيات صراحة، ويمارسون اللواط
(2)
، ويبيعون أحسن مناصب الدين إلى من يدفع فيها أغلى الأثمان (96).
ويظهر أن البوذية قد فقدت سلطانها على الأمة خلال القرن الثامن عشر؛ واتجه الحكام العسكريون نحو الكونفوشية، ونهض "مايوشي" و "موتو أوري" فتزعما حركة تدعو إلى إحياء عقيدة "شنتو"؛ وحاول علماء من أمثال "إشيكاوا" و "أراي هاكوسيكي" أن ينقدوا الدين نقداً عقلياً؛ فقال "إشيكاوا" في جرأة بأن الأصول الدينية التي تتناقلها الأجيال عن طريق الرواية الشفوية يستحيل أن تبلغ من اليقين مبلغ المدونّات المكتوبة؛ وأن الكتابة لم تدخل اليابان إلا بعد ألف عام تقريباً من الأصل المزعوم للجزر اليابانية وأهليها من أن هذه الجزر وهؤلاء الأهلين قد نشئوا من قطرات الرمح التي أمسك بها الآلهة، أو من أصلاب هؤلاء الآلهة؛ وأن ادعاء الأسرة الإمبراطورية بأنها من أصل إلهي، إن هو إلا حيلة سياسية، وأنه إذا لم يكن أسلاف البشر بشراً مثلهم فالأرجح أن يكونوا حيواناً، فذلك أقرب إلى التصديق من أن يكونوا آلهة (99)؛ وهكذا بدأت المدنية في اليابان القديمة- كما بدأت في بلاد كثيرة غيرها- بالدين، وهاهي ذي تدنو من ختامها بالفلسفة.
(1)
يقول مردوخ: "كان الرهبان في ديري "كيوتو" و "نارا" العظيمين يبلغون ذروة مجدهم المادي في الأوقات التي كان يتضور الشعب فيها جوعاً، أو يموت بعشرات الآلاف من الوباء؛ لأن المؤمنين بالدين يسخون في هداياهم وعطاياهم أعظم سخاء في أمثال هذه الأوقات".
(2)
في سنة 1454 .... كان الصبية يباعون غالباً للكهنة، فكان هؤلاء الكهنة يحلقون لهم حواجبهم ويزينون وجوههم بالمساحيق ويلبسونهم أردية النساء، ويستعملونهم أسفل ضروب الاستعمال، لأنه منذ عهد "يوشيمتسو" الذي ضرب مثلاً سيئاً في هذا الصدد وفي كثير غيره من الأمور، واللواط يزداد شيوعاً، خصوصاً في الأديرة، ولو أنه لم يكن قاصراً على الأديرة وحدها.
الفصل السابع
المفكرون
كونفوشيوس يصل اليابان - ناقد للدين - ديانة العلماء - كايبارا إكن - في التربية - في
ألوان المتعة - المدارس المتنافسة - سبينوزا ياباني - إيتوجنساي - إيتوتوجاي -
أوجيو سواري - حرب العلماء - مايوشي - موتو أوري
جاءت الفلسفة- كما جاء الدين- إلى اليابان قادمة من الصين؛ وكما أن البوذية قد انتهت إلى "نيبون" بعد دخولها في "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة" بستمائة عام؛ فكذلك بلغت الفلسفة مرحلتها الواعية في اليابان متخذة صورة المذهب الكنفوشيوسي بما يقارب من أربعمائة عام بعد أن أفاضت الصين على الكونفوشيوسية حياة جديدة؛ ففي نحو منتصف القرن السادس عشر، ظهر رجل من سلالة الأسرة اليابانية المشهورة، وهو:"فيوجيواراسيجوا" ولم يُرْضه العلم الذي حصله باعتباره راهباً؛ وكان قد سمع بحكماء عظماء في الصين، فقرر أن يرتحل إلى هناك طالباً للعلم؛ ولما كان الاتصال بالصين محرماً في سنة 1552، فقد دبر الكاهن الشاب خطة يعبر بها مياه البحر في سفينة كانت تشتغل بالتهريب؛ وحدث أن كان يرقب هذه السفينة في نُزُل في الميناء، فسمع إذ ذاك طالباً يقرأ بصوت عال باللغة اليابانية كتاباً صينياً عن كونفوشيوس؛ فكم كانت غبطة "سِجوا" حين علم أن الكتاب من تأليف "شوهسي" تعليقاً على "العلم الواسع"؛ فهمس لنفسه قائلاً:"هذا هو ما كنت أسعى إليه منذ طويل"؛ ولبث يبحث بحثاً لا يفتر حتى حصل على نسخة من هذا الكتاب كما حصل على نسخ من سائر ما أنتجته الفلسفة الكونفوشيوسية، وانغمس في تتبع ما في هذه الكتب من مجادلات،
حتى نسي رحلته إلى الصين؛ ولم تمض بضعة أعوام حتى جمع حوله طائفة من طلبة العلم الناشئين، الذين نظروا إلى فلاسفة الصين نظرتهم إلى وحي أوحى به إليهم عن عالم طريف يسوده الفكر الدنيوي؛ وسمع "أيياسو" بما قد انتهت إليه تلك الدراسات، فطلب من "سِجوا" أن يأتيه ليعرض عليه مضمون هذه المؤلفات الخالدة التي تنسب إلى كونفوشيوس؛ لكن الكاهن المعتمد بنفسه آثر البقاء في مكانه الهادئ الذي يدرس فيه، وأرسل بدلاً عنه أحد تلاميذه النابهين؛ ورغم عكوفه هذا، أخذ الشباب الممتاز في عصره بفاعلية العقل، يحج إليه ويطرق بابه، واستوقفت محاضراته الأسماع إلى حد جعل الرهبان البوذيين في كيوتو يرفعون عقائرهم بالشكوى، قائلين إنها لثورة أن يقوم كاهن أصيل لم يزل في سلك الكهنوت، فيلقي محاضرات عامة أو يعلم الشعب (100)، غير أن الأمر حُلَّتْ عقدته بموت "سجوا" موتاً مفاجئاً (سنة 1619).
وسرعان ما كسب تلميذه الذي أرسله إلى "أيياسو" شهرة فاقت شهرته، وأصبح له من التأثير ما بزَّ به تأثير أستاذه؛ وكان تلميذه هذا هو "هاياشي رازان" الذي مال إليه الحكام العسكريون الأولون من أسرة "توكوجاوا"، فجعلوه مستشارهم وطلبوا إليه أن يصوغ لهم الكلمات التي يتوجهون بها إلى الشعب؛ وضرب "أيمتسو" مثلاً لطائفة النبلاء، إذ جعل يختلف إلى محاضرات "هاياشي" في سنة 1630؛ وسرعان ما ملأ هذا الشاب الكونفوشيوسي صدور سامعيه حماسة للفلسفة الصينية، حتى لم يعد عسيراً عليها أن يجتذبهم من البوذية والمسيحية على السواء، ويضمهم إلى العقيدة الخلقية البسيطة التي أشاعها حكيم "شانتونج" في أرجاء الشرق الأقصى؛ فقد أنبأهم أن اللاهوت المسيحي خليط من أوهام خلقها الخيال ولا تعقلها العقول، كما أنبأهم أن البوذية مذهب يفت في عضد الأمة اليابانية ويتهدد نسيجها بالوهن وروحها المعنوية بالضعف؛ يقول لهم "رازان": "إن كهنتكم يذهبون إلى أن
هذه الحياة الدنيا فانية زائلة؛ ثم تعملون أنتم على أن ينسى الناس علاقاتهم الاجتماعية، وبهذا تقتلون في الناس روح الواجب والفعل الصواب؛ ثم تقولون إن طريق الإنسان محفوف بالخطايا؛ فاهجر أباك وأمك وأبناءك ومولاك، وابحث عن الخلاص، وهاأنذا أقول لكم إني قد تعمقت الدراسة، فلم أجد قط للإنسان طريقاً سوى ولائه لمولاه وطاعة الابن لآبائه (101)؛ وكان "هاياشي" ينعم في شيخوخته بشهرة هادئة، حين شبت النار الكبرى في طوكيو سنة 1657، فشملته بين من قضت عليهم من أنفس بلغت مائة ألف؛ وكان تلاميذه قد أسرعوا إليه ينذرونه بالخطر الداهم، لكنه لم يفعل سوى أن هز رأسه وعاد بنظره إلى الكتاب؛ فلما دنت منه ألسنة اللهب، أمر بمحفة يحمل فيها، وحملوه وهو لم يزل يقرأ في كتابه؛ وقضى ليلته تلك- كما قضاها غيره ممن لا يحصيهم العدد- قضاها في العراء تحت نجوم السماء؛ ومات بعد ذلك بثلاثة أيام متأثراً بالبرد الذي أصابه أثناء الحريق.
وعوضت الطبيعة اليابان عن موته، بأن هيأت لها في العام الثاني لموته رجلاً من أشد أنصار الكونفوشيوسية حماسة؛ وذلك هو "موروكيوسو" الذي اختار لنفسه "إله العلم" إلهاً يرعاه؛ ففي صدر شبابه قضى ليلة بأسرها أمام ضريح "متشيزان" يؤدي الصلاة، ثم وهب نفسه للعلم بعزم الشباب، وكانت عزيمته شديدة الشبه بعزيمة معاصره سبينوزا
(1)
.
سأنهض من نومي كل صباح في الساعة السادسة، وآوي إلى مخدعي كل مساء في الساعة الثانية عشرة
ولن أجلس بغير عمل إلا إذا حال دون ذلك أضياف أو مرض أو غير ذلك من ظروف قاهرة ....
لن أنطق بباطل
(1)
راجع فاتحة كتاب سبينوزا "في الإصلاح العقلي".
سأجتنب الألفاظ التي لا تعني شيئاً، حتى إن كنت أوجه الحديث إلى من هم دوني
سأكون معتدلاً في طعامي وشرابي
وإذا اشتعلتْ فيَّ الشهوات، سأقضي عليها فوراً، دون أن أعينها قط على التزايد
إن تشتت الفكر يفسد قيمة القراءة، فسأقاوم جهدي كل ما يصرفني عن حصر انتباهي، وسأقاوم في نفسي العجلة الزائدة.
سأسعى إلى تثقيف نفسي بنفسي، ولن أسمح للرغبة في الشهرة أو في الكسب أن تحدث في عقلي اضطراباً.
إني سأنقش هذه القواعد في صفحة قلبي، وسأحاول أن أتبعها.
وإني لأشهد الآلهة على ما أقول.
ومع ذلك فلم يكن "كيوسو" ليدعو الناس إلى عزلة العلماء التي نعهدها في رجال العصور الوسطى، بل كان له من رحابة الأفق ما كان "لجيته"؛ فوجَّه نفسه وجهة تساير العالم في مجراه:
إن اعتزال الناس أحد الطرق، وإنه لطريقة جميلة، لكن الرجل الأعلى يسره أن يزور الأصدقاء؛ إن الرجل ليصقل نفسه صقلاً باتصاله بالناس؛ وإن من أراد تحصيل العلم، لا مندوحة له عن الصقل عن هذا الطريق أما إن اعتزل كل شيء وكل إنسان، فإنما هو بذلك يجاوز جادة الصواب .... إن طريق الحكماء ليس منفصلاً عن طريق الحياة اليومية. فعلى الرغم من أن البوذيين يسحبون أنفسهم من العلاقات الإنسانية، فيبترون الرابطة بين المتبوع وتابعه، وبين الوالد وولده، فهم عاجزون عن بتر علاقة الحب من أنفسهم .... إنها أنانية أن تسعى وراء السعادة في العالم الآخر. لا تظنوا أن الله بعيد عنكم، بل ابحثوا عنه في قلوبكم، لأن القلب هو مقر الإله (103).
وأروع من يستوقف النظر من هؤلاء الكونفوشيوسيين اليابانيين القدامى رجل لا يسلكونه عادة في عداد الفلاسفة، لأن مثل "جيته" ومثل "إمرسن" كانت له القدرة على صياغة حكمته في عبارة رشيقة، فأحس الأدب غيرة عليه، وطالب به عضواً في جماعة الأدباء، وذلك هو "كايبارا إكِنْ" الذي كان ابن طبيب مثل أرسطو، ثم خرج عن دائرة الطب إلى فلسفة تجريبية تتصف بالدقة والحذر، فعلى الرغم من مشاركته في الحياة العامة بسيرة مليئة بالعمل، بما في ذلك كثير من المناصب شغلها، فقد وجد من وقته فراغاً يستعين به على أن يكون أعظم علماء عصره؛ وبلغت كتبه عدداً يربى على المائة، فكتبت له الشهرة في أرجاء اليابان جميعاً؛ وذلك لأنه لم يكتب كتبه تلك باللغة الصينية (كما كانت عادة زملائه الفلاسفة) بل كتبها باليابانية السهلة التي يستطيع كل من عرف القراءة أن يفهمها؛ وعلى الرغم من علمه وشهرته، فقد كان له- إلى جانب الغرور الذي تراه عند كل كاتب- تواضعٌ كالذي تراه عند كل حكيم، ويروي الرواة أن مسافراً على سفينة كانت تشق طريقها بحذاء الساحل الياباني، تعهد لزملائه في السفر أن يحاضرهم في الأخلاق الكونفوشيوسية؛ فأنصت له الجميع بادئ ذي بدء بما عرف عن اليابانيين من حب استطلاع وشغف بالزيادة من العلم؛ ولكن ما كاد يمضي المتكلم في حديثه قليلاً، حتى وجد السامعون أن كلامه يبعث الملل إذ لم يكن للرجل أنف حساسٌ يهديه إلى التمييز بين الحقيقة الحية والحقيقة الميتة، فانصرفوا عنه بعد وقت وجيز، ولم يبق منهم إلا سامع واحد، راح هذا السامع الواحد يتتبع البحث بتركيز عجيب في انتباهه، حتى سأله المحاضر حين فرغ من محاضرته، ما اسمه، فأجابه بصوت هادئ إن اسمه "كايبارا إكن"؛ فخجل الخطيب إذ علم أنه لبث ساعة أو يزيد، يحاول أن يلقن الكونفوشيوسية لرجل هو ألمع أعلام المذهب الكونفوشيوسي في عصره (104).
كانت فلسفة "إكن" خالية من اللاهوت خلو فلسفة "ك أونج" منه إذ
حصر نفسه في حدود هذه الدنيا مادام لا سبيل إلى معرفة سواها؛ " إن حمقى الناس يؤدون صلواتهم لآلهة مشكوك في وجودها، طلباً لسعادة أنفسهم في الوقت الذي تراهم فيه يقترفون الموبقات (105) "؛ وحاول أن تكون فلسفته عاملاً على توحيد خبرة الحياة وحكمة العقل، وتوحيد الشهوات والخلق المستقيم، فقد كان من رأيه أن الأمر الأهم الذي يدعو قبل غيره إلى التفكير؛ هو كيف نجعل من الشخصية الإنسانية وحدة متكاملة، فذلك أجدى علينا من التفكير في كيفية توحيد المعرفة، وتراه يتحدث بلسان يدهشك أن تلمح فيه نغمة الزمن الذي نعيش فيه الآن.
"ليس الغرض من التعلم هو مجرد التوسع في المعرفة، بل الغرض هو تكوين الشخصية؛ غاية التعلم أن نخلق من أنفسنا رجالاً صادقين قبل أن نكون رجالاً عالمين .... إن دراسة الأخلاق التي كانت تُعَدُّ عماد التعليم في مدارس العهد القديم تكاد لا تجد مكاناً في مدارسنا اليوم، لكثرة ما يطلب إلى التلاميذ دراسته من مواد؛ لم يعد الناس يرون في صالحهم أن ينفقوا مجهودهم في الإصغاء إلى تعاليم الأعلين من رجال الحكمة القدماء، ونتج عن ذلك أن ضحينا على المذبح الذي يسمونه "حق الفرد" بعلاقات الود بين السيد وخادمه، والرئيس ومرؤوسيه، والكبير والصغير. السبب الحقيقي الذي حدا بالناس ألا يقدروا تعاليم الحكماء هو أن العلماء يحاولون أن يتظاهروا بعلمهم فذلك عندهم أولى من أن يعيشوا على غرار ما جاء في تعاليم الحكماء"(106).
ويظهر أن شباب عصره قد توجه إليه باللوم على جموده، لأننا نراه يلقي في وجوههم درساً لا بد لكل جيل قوي من الناس أن يعود إلى دراسته:
"قد تظنون يا أبنائي أن كلمات رجل كهل تدعو إلى السأم، ومع ذلك فإذا ما لقنكم أبوكم درساً، فلا تزوروّا عنه، بل أصغوا إلى ما يقول؛ قد
تظنون أن تقاليد أسرتكم أمر سخيف، ومع ذلك فلا تحطموها، لأنها تجسيد لحكمة آبائكم" (107).
ولعله كان يستحق اللوم على أهم كتبه وعنوانه "أونا ديكاكو" ومعناه "الحكمة العظمى للنساء" لأن هذا الكتاب كان له تأثير رجعي قوي على مركز المرأة في اليابان، لكنه لم يكن واعظاً متجهماً يحاول أن يتلمس الخطيئة في كل ما يجلب المتعة، فقد أدرك أن من مهام المربي أن يعلمنا كيف نستمتع بالبيئة التي نعيش فيها، كما يعلمنا أن نفهم تلك البيئة وأن نتحكم فيها (إذا استطعنا):
"لا تدعوا يوماً واحداً يفر من أيديكم بغير متعة
…
لا تسمحوا لحماقة الآخرين أن تنال من أنفسكم تعذيباً
…
تذكروا أن الدنيا لم تخل من الحمق منذ أول خلقها .... فلا ينبغي إذن أن نغّم أنفسنا، أو أن نضيع أسباب متعتنا، حتى إن حدث لأبنائنا وأشقائنا وأقربائنا أن يكونوا أثرين فيتجاهلوا خير مجهوداتنا في سبيل إسعادهم
…
إن "ساكي"(نوع من الخمر) هو هبة السماء الرائعة، فهي توسع القلب إذا ما شربناها بمقادير قليلة، وهي كذلك تنعش الروح إذا ما ناله الهم، وتفرق الهموم وتصلح الصحة، وبذلك تعين الإنسان وأصدقاءه أيضاً على التمتع بأسباب اللذة، غير أن من يسرف في شرابها يفقد احترامه، وينزلق لسانه بالثرثرة، وينطق بكلمات مسيئة كأنه مجنون
…
اشربوا "الساكي" بالمقدار الكافي لإنعاش نفوسكم ثم لا زيادة، وبذلك يمكنكم أن تتمتعوا برؤية الزهر وهو يتفتح من أكمامه، إن من الحمق أن تسرف في الشراب فتفسد على نفسك هذه الهبة العظيمة التي وهبتها لك السماء" (108).
ولقد وجد- كما وجد غيره من سائر الفلاسفة- أن الطبيعة هي آخر موئل يلوذ به ليلتمس سعادته:
"لو أننا جعلنا قلوبنا معين النعيم، وأعيننا وآذاننا أبوابه، ثم اجتنبنا سافل الشهوات إذن لتكاثر نعيمنا، لأننا عندئذ نصبح سادة الجبال والماء والقمر
والزهور؛ ولا يكون بنا حاجة إلى سؤال أحد يهبنا هذه الأشياء؛ كلا ولا بنا أن ندفع سناً (مليماً) واحداً لنظفر بها، لأن هذه الأشياء لا يملكها إنسان بعينه، إن أولئك الذين يستطيعون أن يستمتعوا بجمال السماء من فوقهم، وجمال الأرض من تحتهم، ليس بهم حاجة إلى أن يغبطوا الأغنياء على رفاهية عيشتهم، لأنهم عندئذ يكونون أغنى من أغنى الناس؛ إن مشاهد الطبيعة في تغير دائم، فلست تجد صباحين أو مساءين على أتم تشابه
…
ففي لحظة ما قد يحس الإنسان كأن جمال الدنيا بأسره قد انمحى؛ لكن ما هو إلا أن يأخذ الثلج في السقوط، وينهض الإنسان من نومه في الصباح التالي، ليجد القرية والجبال قد تحولت إلى فضة، وتدب الحياة في الأشجار التي كانت عارية، إذ يعود إليها بأزهارها
…
إن الشتاء يشبه نعاس الليل، الذي يجدد لنا القوة والنشاط.
إنني أحب الزهر، فأنهض من نومي مبكراً
وأحب القمر، فآوي إلى مخدعي متأخراً ....
إن الناس يجيئون ويروحون كأنهم مجاري الماء العابرة
أما القمر فباق على طول العصور
لقد كان تأثير الكونفوشيوسية على التفكير الفلسفي في اليابان أشد منه في الصين نفسها، لأنه قضى هناك على كل مقاومة من فريق الثائرين من جهة، كما قضى على المثاليين المتصوفين من جهة أخرى؛ إن مدرسة "شوشي" التي كان من رجالها "سيجوا" و "رازان" و "إكن"، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى "شوهسي" لأنها اتبعت طريقته في تفسير الكتب الصينية التي تحتوي على المتون، تفسيراً توخى فيه التزام الأصل وعدم الحرية في التصرف، ولقد نهضت مدرسة أخرى ظلت تقاومها حيناً، هي مدرسة "أويومي" التي كان على رأسها "وانج يانج منج"
(1)
الذي عرفه "نيبون" باسم "أويومي"
(1)
راجع ما جاء عنه في هذا الجزء الخاص بالمدينة في الصين من هذه السلسلة.
ففلاسفة اليابان الذين كانوا ينتمون إلى مدرسة "أويومي" اقتفوا أثر "وانج" في استدلال الصواب والخطأ الأخلاقيين من ضمير الفرد، أكثر مما عمدوا في ذلك إلى تقاليد المجتمع وتعاليم الحكماء الأقدمين، يقول "ناكايي توجو" (1608 - 48):"لقد لبثت أعواماً طوالاً أؤمن إيماناً قوياً في "شوشي" حتى شاءت رحمة الله أن ترد إلى اليابان لأول مرة مؤلفات "أويومي"، ولولا ما استقيته من تعاليمها، لظلت حياتي فارغة جدباء"(110)، وعلى ذلك أخذ "ناكايي" على نفسه أن يبشر بوحدانية مثالية، تذهب إلى أن العالم وحدة من "كي" و "ري"- أي وحدة من الأشياء الجزئية (أو الأعراض) والعقل أو القانون؛ والله، وهذه الوحدة شيء واحد؛ فعالم الأشياء جسده والقانون الكوني روحه (111)، فقد جرى "ناكايي" مجرى "سبينوزا" و "وانج يانج منج" و "الفلاسفة المدرسيين في أوربا" في قبوله لهذا القانون الكوني بشيء من الحب العقلي، واعتبر الخير والشر لفظتين بشريتين، ووجهة نظر ذاتية لا تعبر عن حقائق موضوعية، وهو كذلك يشبه "سبينوزا" شبهاً عجيباً في أنه رأى معنى من معاني الخلود في الوحدة التأملية التي تدمج روح الفرد في قانون العالم، أي عقل العالم الذي لا يخضع لقيود الزمان:
"إن عقل الإنسان هو عقل العالم الذي يخضع في سيره لمنطق العقل، لكن هناك عقلاً آخر يسمى بالضمير، وهذا هو الجانب الذي لا ينتمي إلى عالم الأشياء بل هو لا نهائي وأبدي، لأنه لما كان الضمير فينا هو نفسه العقل الإلهي أو الكوني، كان بغير بداية أو نهاية، فإذا ما سلكنا في أفعالنا مهتدين بهذا الجانب من العقل، أي بالضمير كنا بمثابة التجسيد اللانهائي والأبدي، وكانت لنا حياة خالدة إلى الأبد"(112).
كان "ناكايي" رجلاً له إخلاص القديسين، لكن فلسفته لم تصادف هوى لا عند الشعب ولا عند الحكومة، فقد ارتعدت حكومة الحكام
العسكريين للفكرة القائلة بأن كل إنسان له حق الحكم بنفسه فيما يعتبر صواباً وما يعتبر خطأ، فلما نهض رجل آخر، هو "كومازاوا بانزن" يبشر بمذهب "أويومي" ثم تجاوز حدود الميتافيزيقيا وأوغل في السياسة، بحيث انتقد جهل "السيافين" وخواء حياتهم، صدر أمر بالقبض عليه، وكان "كومازاوا" يدرك أهمية العقبين في الإنسان، باعتبارهما عضوين ينفعان الفلاسفة بصفة خاصة في الفرار، فهرب إلى الجبال، حيث قضى معظم ما بقي له من سنين في غمرة الغابات (113)، وفي سنة 1795 صدر مرسوم يحرم المضي في تعليم فلسفة "أويومي"، وكان العقل الياباني من الاستسلام بحيث توارت تعاليم "أويومي" منذ ذلك الحين، فاندست في عبارات كونفوشيوسية، أو دخلت عنصراً متواضعاً في القانون العسكري، مما يدل على ما قد يبديه مجرى التاريخ من متناقضات، إذ حولت العقيدة البوذية المسالمة إلى تعاليم توحي للمقاتلين المتحمسين للوطن بالقتال.
ولما تقدم البحث العلمي في اليابان، بحيث صار في مقدور العلماء أن يتصلوا بكونفوشيوس في أصوله إلا في شروح الشارحين استطاع رجال من أمثال "إيتو جنسي" و "أوجيوسوراي" أن يؤسسوا المدرسة الكلاسيكية للفكر الياباني، التي أصرّت على أن تتخطى الشارحين جميعاً، فتصل بـ "ك أونج" العظيم اتصالاً مباشراً، ولم تكن أسرة "إيتو جنسي" لتتفق معه في تقديره لكونفوشيوس ووصمته بأنه يسبح من دراساته في عالم نظري مجرد، وتنبأت له بأنه سيموت فقيراً وأنبأته:"بأن البحث العلمي من خصائص أهل الصين، أما في اليابان فليس البحث العلمي بذي غناء، لأنك حتى إن برعت فيه، فلن تجد من تبيع له بضاعتك، وخير لك ألف مرة أن تكون طبيباً وتكسب المال" لكن الطالب الناشئ أصغى إلى قول أسرته دون أن يستمع له، ونسي منزلة أسرته وثراءها، وأطرح كل طموح مادي جانباً، وتنازل عن بيته وأملاكه إلى أخيه الأصغر، والتمس مكاناً معزولاً يعيش فيه ليتابع
دراساته بغير اضطراب، وكان وسيماً حتى لقد ظنه الناس أحياناً أميراً، لكنه ارتدى ثوب فلاح وتوارى عن أعين الناس، يقول مؤرخ ياباني:
إن "جنسي" كان فقيراً معدماً، بلغ من الفقر حداً أعجزه في نهاية العام أن يصنع كعك الأرز الذي يصنعه الناس في بداية العام الجديد؛ لكنه كان ثابت الجنان إزاء فقره هذا؛ ولقد جاءته زوجته وجثت تحت ركبتيها أمامه وقالت:"سأودي واجبات الدار مهما تكن الظروف، لكن ثمة شيئاً لا يحتمل، ذلك أن ولدنا "جنسو" لا يفهم معنى ما نحن فيه من فقر، وهو يغبط أبناء الجار على ما يأكلونه من كعك الأرز، وإنني أؤنبه على ذلك، لكن قلبي ينفطر له حتى ليكاد ينشق نصفين "لكن جنسي مضى منكباً على كتبه دون أن يجيبها بكلمة، ثم خلع خاتمه العقيق وناولها إياه، كأنما يقول لها: بيعي هذا واشتري بضعة كعكات من الأرز" (114).
أنشأ "جنسي" في كيوتو مدرسة خاصة، وأخذ يحاضر هناك مدى أربعين عاماً، وأهم ما قام به أنه درب عدداً يقرب من ثلاثة آلاف طالب في الفلسفة وكان يتحدث آناً بعد آن في الميتافيزيقيا، ويصف الكون بأنه كائن عضوي حي، تتغلب فيه الحياة على الموت دائماً، لكنه كان مثل كونفوشيوس يتحيز تحيزاً شديداً لما هو نافع على هذه الأرض.
"إن ما لا ينفع في حكم الدولة، أو في تيسير العلاقات بين أفراد الإنسان، لا غناء فيه
…
لابد للتعلم أن يكون مصحوباً بالفاعلية والحياة؛ ولا ينبغي أن يقتصر على مجرد النظريات الميتة أو التأمل .... إن من يعرف الطريق يلتمسها في حياته اليومية
…
إنك إذا حاولت أن تلتمس الطريق بعيداً عن العلاقات الإنسانية، فأنت بمثابة من يحاول أن يمسك الريح
…
إن الطريق المألوفة ممتازة بحسنها، ولن نجد في العالم ما يفوقها حسناً" (115).
وبعد موت "جنسي" مضى ولده "إيتو توجاي" في مواصلة مدرسته وعمله؛ وكان "توجاي" يهزأ بالشهرة ويقول: "هل يسعك أن تسمي من يُنسى اسمه بمجرد موته إلا بأحد اسمين، فإما حيوان وإما رماد؟ ولكن ألا يخطئ الإنسان إذا ما اشتدت رغبته في تأليف الكتب وإنشاء العبارات لكي يلقى اسمه إعجاباً ولا ينساه الناس؟ "(116) وهو نفسه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً، ومع ذلك عاش حياة متواضعة تملؤها الحكمة؛ ويشكو النقاد من أن هذه الكتب كانت كلها قوية فيما أسماه "موليير" بالفضائل التي تجلب النعاس ولكن تلاميذ "توجاي" يقولون إنه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً دون أن يقول كلمة واحدة عن أي فيلسوف آخر، ولما مات وضعوا على قبره هذا "الشاهد" الذي نغبطه عليه:
إنه لم يتحدث في أخطاء الآخرين ....
ولم يهتم بشيء إلا بالكتب
وكانت حياته خلواً من الحوادث
على أن أعظم رجل من أتباع كونفوشيوس المتأخرين، هو "أوجيوسوراي" فعلى حد قوله هو "منذ عهد جمو- أول أباطرة اليابان- لم يظهر من يوازيني إلا نفر قليل" وهو على نقيض "توجاي" في أنه كان يحب النقاش، وكان يعبر عن رأيه بقوة عن الفلاسفة الأحياء منهم والأموات؛ فلما سأله سائل شاب:"ماذا تحب غير القراءة؟ " أجاب "ليس أحبِّ إليّ من أكل الفول المحروق ونقد عظماء اليابان" ويقول "ناميكاوا تنجين": "إن سوراي رجل جد عظيم، لكنه يظن أنه يعلم كل ما يمكن علمه، وهذه عادة سيئة"(118)، وكان في مستطاع "أوجيو" أن يكون متواضعاً إذا ما أراد ذلك، ومن رأيه أن اليابانيين جميعاً- ويذكر نفسه بينهم صراحة- قوم همج، وليس يعرف المدنية غير أهل الصين، وأنه "إذا كان هناك شيء لا بد من قوله، فقد قاله
بالفعل الملوك القدامى أو كونفوشيوس" (119)، وثارت في وجهه فئة "السيافين" وفئة العلماء، لكن الحاكم العسكري المصلح "يوشيموني" أعجبته فيه شجاعته ودافع عنه ضد السوقة العقلية، وقد أقام "سوراي" منبره في "ييدو" وراح يضحك ويسخر من "جنسي" الذي كان قد أعلن أن الإنسان خير بطبعه، فما أشبهه في ذلك بـ "هسون تسي" حين عارض النزعة العاطفية في "موتي" أو بـ "هُبز" حين فند "روسو" قبل أن يأتي "روسو" إلى عالم الوجود، وقال: "سوراي" إن الإنسان على نقيض ما ظنه "جنسي" شرير بطبعه، يختطف كل ما تقع عليه يداه، ولا يجعل منه مواطناً مقبولاً إلا الأخلاق والقوانين الموضوعتين، والتربية التي لا تلين في معاملته:
"تثور في الإنسان شهواته بمجرد ولادته، فإذا عجزنا عن تحقيق تلك الشهوات في أنفسنا- وهي شهوات لا حد لها ينشأ النزاع، فإذا ما نشأ نزاع أعقبته الفوضى، ولما كان الملوك القدامى يكرهون الفوضى، فقد وضعوا أسس اللياقة والاستقامة في السلوك، واستطاعوا بهما أن يلجموا شهوات الناس .... فليست الأخلاق سوى الوسائل الضرورية لضبط رعايا الإمبراطورية فهي لم تنشأ مع الفطرة ولا مع نزوات القلب الإنساني، لكنها من تدبير طائفة معينة من الحكماء امتازت بذكائها، ثم خلعت عليها الدولة مسحة السلطان (120).
وكأنما أرادت الأيام أن تثبت تشاؤم "سوراي"، فهبط الفكر الياباني في القرن الذي تلاه، هبط حتى عن الحد المتواضع الذي كان قد ارتفع إليه بفضل محاكاته لكونفوشيوس، وضاع أباديد في حرب أراقت المداد بين وثنيي الصين ومؤمني اليابان، وفي هذه الحرب التي شنها الأقدمون على المحدثين، كتب النصر للمحدثين، لأنهم جعلوا الأسلاف موضع إعجابهم، فتفوقوا في ذلك على أعدائهم وكانت الطائفة التي تناصر الصين من العلماء "واسمها كانجا كوشا" تسمى بلادهم اليابان- وهي وطنها -قطراً همجياً،
واحتجت بأن الحكمة كل الحكمة مقرها في الصين، وقنعت بترجمة الأدب والفلسفة الصينيين والتعليق عليهما، أما العلماء الذين يناصرون اليابان (واسم جماعتهم واجا كوشا) فقد هاجموا هذا الموقف من معارضيهم لأنه موقف يؤدي إلى إشاعة الجهل ونبذ الروح الوطنية، ودعوا أمتهم أن تستدبر الصين، وأن تجدد قواها بالأخذ عن تراثها هي من شعر وتاريخ، وهاجم "مايوشي" أهل الصين قائلاً إنهم قوم أشرار بفطرتهم، ومجد اليابانيين لأنهم خيرون بطبعهم، وعزا فقر اليابان القديمة في الأدب والفلسفة إلى أن اليابانيين لم يكونوا بحاجة إلى إرشاد في الفضيلة ولا في العقل
(1)
.
وحدث لطبيب شاب اسمه "موتو أوري نوريناجا" أن زار "مايوشي" فتأثر به إلى حد جعله ينفق أربعة وثلاثين عاماً في كتابة أربعة وأربعين مجلداً، يشرح فيها الـ "جوجيكي" ومعناها "مدونات الحوادث القديمة"- وهي المستودع الأصيل لأساطير اليابان، وخصوصاً أساطير "شنتو"، فجاء هذا الشرح وعنوانه "كوجيكي دن"، هجمة عنيفة على كل ما هو صيني في اليابان أو خارج اليابان، واستمسك استمساكاً شديداً بالصحة الحرفية لما ترويه القصص البدائية عن الأصل الإلهي الذي نشأت عنه الجزر اليابانية، والأباطرة والشعب، وشجع هذا الكتاب طبقة المثقفين في اليابان- رغم أنف الأوصياء على العرش عندئذ من أفراد أسرة توكو جاوا- شجعهم على الرجوع إلى لغة بلادهم وطرائق العيش فيها وتقاليدها، ومعنى ذلك كله أن يعيدوا عقيدة "شنتو" بدلاً من البوذية، وأن يردوا للأباطرة سيادتهم على طبقة
(1)
العبارة الآتية مقتبسة من تعاليم "مايوشي" كما بسطها "سير أ. ساتو": "لما كانت ميول الناس في العصور الخالية مستقيمة. لم يكن من الضروري أن يتخذوا تشريعاً خلقياً معقداً
…
لم يكن من الضروري في تلك الأيام أن يكون للناس مذهب في الصواب والخطأ؛ أما أهل الصين، فلأنهم أشرار بفطرتهم .... كانوا خيرين في الظاهر وحده وكانت أفعالهم الشريرة من الفداحة بحيث وقعت الجماعة في حالة من الفوضى؛ ولأن اليابانيين كانوا على استقامة في الخلق، فقد استغنوا عن التعلم.
الحكام العسكريين، فقد كتب "موتو أوري" يقول:"كانت اليابان هي التي ولدت إلهة الشمس "أماتيراسو"، وتدل هذه الحقيقة على سيادتها على سائر الأقطار جميعاً"(122)، واستأنف تلميذه "هيراتا"- بعد موت موتو أوري- سبيل الحاجة في الموضوع فقال:
"إنه لمما يدعو إلى الأسف الشديد، أن يسود كل هذا الجهل بالشواهد التي تدل على المذهبين الأساسيين، وهما أن اليابان بلد الآلهة، وأهلها سلالة الآلهة فبين الشعب الياباني وبين الصينيين والهنود والروس والهولنديين والساميين والكمبوديين وسائر أمم العالم، خلاف في النوع، ولا يقتصر الأمر على اختلاف في الدرجة، فلم يكن مجرد الغرور بالنفس هو الذي جعل أهل هذه البلاد يسمونها أرض الآلهة؛ فالآلهة الذين خلقوا كل بلاد الدنيا ينتمون جميعاً بغير استثناء إلى العصر الإلهي، وجميعهم ولدوا في اليابان، فاليابان هي موطنهم الأول، والعالم كله يعترف بصدق هذا النبأ، فالكوريون هم أول من أتيح له أن يعرف هذه الحقيقة ثم انتشرت منهم تدريجاً حتى عمَّت المعمورة بأسرها، وآمن بها الناس أجمعون .... فلئن كانت البلاد الأخرى قد نشأت طبعاً بفعل قوة الآلهة الخالقة، إلا أنها لم تكن وليدة "إيزاناجي" و "إيزانامي"، ولا كانت المنشأ الذي ولدت فيه إلهة الشمس، وهذا هو علة انحطاطهم عنا"(123).
هؤلاء هم الناس، وتلك هي الآراء، التي كونت حركة "سونوجواي" ومرماها أن "تسمو بالإمبراطور، وأن تطرد الأجانب الهمج"؛ فمكنت هذه الحركة إبان القرن التاسع عشر للشعر الياباني أن يطيح بسلطة الحكام العسكريين؛ وأن يعيد السلطان والسيادة "للبيت الإلهي"، ثم أخذت هذا الحركة تلعب دوراً نشيطاً في القرن العشرين، إذ أخذت تغذي تلك الوطنية المستقلة التي لن تطمئن وترضى إلا إذا بسط "ابن السماء سلطانه على ملايين الناس في بلاد الشرق التي تعود، إلى بعثها، متكاثرة بخصوبة نسلها.
الباب الثلاثون
الفكر والفن في اليابان القديمة
الفصل الأول
اللغة والتعليم
اللغة - الكتابة - التعليم
كان اليابانيون قد استعاروا طرائق الكتابة وأساليب التعليم من أولئك الصينيين الذين جعلوا يتهمونهم بالهمجية كما رأيت؛ لكن اللغة كانت يابانية خالصة، وأرجح الظن أنها كانت لغة منغولية قريبة الشبه باللغة الكورية، لكنها لم تكن مشتقة من اللغة الكورية أو غيرها مما نعرف من لغات، اشتقاقاً يقوم على صحته البرهان القاطع، واللغة اليابانية تختلف عن اللغة الصينية بنوع خاص في كثرة مقاطعها واتصال أجزائها رغم بساطتها؛ فليس فيها أحرف حلقية ولا أحرف تخرج مع هواء التنفس ولا سواكن في أواخر الكلمات (ما عدا حرف ن) وتكاد كل حروف المد فيها أن تكون منغَّمة طويلة، ونحوها كذلك طبيعي وسهل، فقد استغنت في الأسماء عن التمييز العددي بين المفرد والجمع، كما استغنت عن التمييز الجنسي بين المذكر والمؤنث؛ كذلك استغنت في الصفات عن درجات التفضيل، وفي الأمثال استغنت عن التصاريف التي تدل على ضمير من قام بالفعل؛ وضمائر المتكلم والمخاطب والغائب فيها قليلة العدد، وليس فيها أسماء للوصل على الإطلاق؛ لكنها من جهة أخرى تحتوي على تصاريف تتغير بها الصفات والأفعال تبعاً للنفي ولصيغة
الفعل في حالة الأمر مثلاً أو غيره، وهم يستعملون بدل أحرف الجر التي تسبق الكلمات المجرورة، أحرفاً تأتي بعد الكلمات لتحدد المقطع الأخير من الكلمة وفي ذلك ما فيه من مشقة وعناء، وحلت عندهم عبارات تكريمية معقدة، مثل "خادمك المطيع" و "سعادتكم" محل ضمائر المتكلم والمخاطب.
وقد استغنت اللغة- فيما يظهر- حتى عن الكتابة، إلى أن جاءها الكوريون والصينيون بهذا الفن في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، ومنذ ذلك الحين، اكتفى اليابانيون مدى مئات من السنين بطريقة الكتابة التي شاعت في "المملكة الوسطى" ليبعدوا بها عن كلامهم الذي يشبه في جماله لغة الإيطاليين؛ ولما كان حتماً عليهم أن يستخدموا حرفاً كاملاً من حروف الخط الصيني ليدل على كل مقطع من كل كلمة يابانية، فقد أصبحت الكتابة اليابانية في عصر "نارا" أعسر ضروب الكتابة التي عرفها الإنسان تقريباً؛ ثم حدث في القرن التاسع أن سن قانون يعمل على الاقتصاد في هذا الاتجاه، بأن يحدد كثيراً من الإشكالات اللغوية، فأراح هذا القانون أهل اليابان بما قدمه إليهم من صور الكتابة المبسطة، إذ قدم إليهم صورتين كل منهما يستعمل حرفاً صينياً- بعد اختصاره في صورة خطية منحنية- ليمثل مقطعاً من المقاطع السبعة والأربعين التي منها يتألف الكلام المنطوق عند اليابانيين؛ وهذه الأشكال التي تمثل السبعة والأربعين مقطعاً، حلت عندهم محل أحرف الهجاء
(1)
، ولما كان شطر كبير من الأدب الياباني مكتوباً بالصينية، ومعظم بقيته ليس مكتوباً بالكتابة المقطعية الشائعة، بل هو مزيج من الأحرف الصينية وأحرف الهجاء اليابانية، كان من المتعذر إلا على القليلين من العلماء الغربيين أن يتمكنوا من الأدب الياباني في أصوله؛ فنتج عن ذلك أن أصبح علمنا بالأدب الياباني
(1)
بسط الخط الكاتاكاني هذه الرموز المقطعية فجعلها خطوطا مستقيمة كالتي تراها في بعض حروف الطباعة وفي كتابات الإعلانات، وفي اللافتات المضاءة في اليابان الحديثة.
لا يتجاوز قطعاً متناثرة من هنا وهناك، ولذا فهو علم يخدعنا عن الأصل، ويستحيل أن يكون حكمنا على ذلك الأدب ذا قيمة كبيرة، ولما وجد اليسوعيون أن حوائل اللغة تقف في وجوههم سدوداً منيعة، قرروا أن لغة تلك الجزر قد صاغها الشيطان ليمنع نشر تعاليم الكتاب المقدس (الإنجيل) في بلاد اليابان
(1)
.
لبثت الكتابة أمداً طويلاً بمثابة الترف يستمتع به أبناء الطبقات الرفيعة، ولم يبذل أي مجهود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سبيل نشرها بين طبقات الشعب؛ ففي عصر "كيوتو" أقام الأغنياء مدارس لأبنائهم، كما أنشأ الإمبراطوران "تنشي" و "مومو" في بداية القرن الثامن في كيوتو، أول جامعة يابانية؛ ثم نشأت مجموعة من المدارس الإقليمية شيئاً فشيئاً، تحت رقابة الحكومة، كان من حق متخرجيها أن يلتحقوا بالجامعة، ثم كان من حق من تخرج في الجامعة بعد اجتياز الامتحان المطلوب، أن يشغل مناصب الدولة؛ لكن جاءت الحرب الأهلية في الشطر الأول من العهد الإقطاعي، فأوقفت هذا التقدم في ميدان التعليم؛ وأهملت اليابان فنون العقل حتى أسعفتها الحكومة العسكرية التي قامت عليها أسرة "توكوجاوا" بأن أعادت السلام وشجعت العلم والأدب؛ وقد عدها "أيياسو" سبة فظيعة أن يجد تسعين في كل مائة من طائفة "السيافين" لا يعرفون القراءة أو الكتابة (5)، وفي سنة 1630 أنشأ
(1)
جاءت الطباعة- كما جاءت الكتابة- من الصين، باعتبارها جزءاً من التراث البوذي؛ وأقدم ما بقي لنا من أمثلة الطباعة في العالم، طلاسم بوذية طبعت بأحرف ثابتة بأمر الإمبراطورة "شوتوكوا" في سنة 77 ميلادية (3)، ثم جاءت الأحرف الممكن تحريكها من كوريا حول عام 1596، لكن كثرة النفقات التي يقتضيها طبع لغة لم تزل مؤلفة من آلاف الأحرف، حال دون انتشار استعمال تلك الأحرف المتحركة، حتى كانت النهضة (سنة 1858) التي فتحت الأبواب للنهوض الأوربي وإلى يومنا هذا، ترى الجريدة اليابانية تتطلب مجموعة من بضعة آلاف من الأحرف (4) ورغم الصعاب، فإن الطباعة اليابانية من أجمل ضروب الطباعة في عصرنا هذا.
"هياشي رازان" في "ييدو" مدرسة تخرج المعلمين في إدارة البلاد وفي الفلسفة الكونفوشيوسية، ولقد تطورت هذه المدرسة فيما بعد وأصبحت هي جامعة طوكيو؛ وكذلك أسس "كومازاوا" سنة 1666 في "شيزوتاني" أول كلية في الأقاليم، وأجازت الحكومة للمعلمين أن يلبسوا السيوف، فينافسوا طائفة "السيافين" في منزلتهم الاجتماعية، وبهذا شجعت طلاب العلم والباحثين والكهنة أن يقيموا مدارس خاصة في المنازل والمعابد لتعلم الناس تعليماً أولياً؛ وبلغ هذا الضرب من المدارس ثمانمائة سنة 1750، يتعلم فيها ما يقرب من أربعين ألفاً من الطلاب، وكانت كل هذه المعاهد من أجل أبناء "السيافين" أما التجار والفلاحون، فكان لا بد لهم أن يقنعوا بمحاضرات عامة، ولم يكن يتعلم من النساء على نحو منظم إلا الفتيات، ولم يتسع التعليم بحيث يشمل الجميع إلا حين مست الضرورة ودعت الحاجة بتأثير الحياة الصناعية (6) وهي في ذلك شبيهة بأوربا.
الفصل الثاني
الشعر
الـ "مانيوشو" - الـ "كوكنشو" - مميزات الشعر
الياباني - أمثلة - لعبة الشعر - مقامر الـ "هوكا"
أقدم ما وصل إلينا من الأدب الياباني هو الشعر، وأقدم الشعر الياباني هو خير شعر اليابان إطلاقاً في رأي أصحاب العلم من أهل اليابان أنفسهم؛ ومن أقدم وأشهر الكتب اليابانية، كتاب الـ "مانيوشو" ومعناها "كتاب العشرة آلاف ورقة" وهو عشرون مجلداً، جمع فيها ناشران للكتاب أربعة آلاف وخمسمائة قصيدة، نظمها الشعراء خلال الأربعة القرون السالفة، وفيها تجد على الأخص شعر "هيتومارو" وشعر "أكاهيتو"، وهما الشاعران الرئيسيان اللذان ازدهر فيها الشعر في عصر "نارا"، ومن شعر "هيتومارو" هذه الأسطر الموجزة التالية التي كتبها يرثي بها حبيبته حين ماتت وتصاعد الدخان من جثمانها المحترق إلى شعاب التلال:
أواه؟ أهذه السحابة هي حبيبتي؟
هذه السحابة التي تجوب في الوهد العميق
الذي يتخلل جبل هاتسوزو المنعزل؟
ولقد حاول الإمبراطور "دايجو" محاولة أخرى ليحفظ الشعر الياباني من أيدي الفناء، فجمع ألفاً ومائة قصيدة نُظمت خلال القرن والنصف قرن الماضيين؛ فجمعها في ديوان مشترك أطلق عليه اسم "كوكنشو"، ومعناها "قصائد قديمة وحديثة"، وكان مساعده الأيمن في هذا العمل "تسورايوكي" الشاعر الظالم الذي كتب مقدمة للديوان، هي لنا أمتع من المقطوعات التي جاء
لنا بها ربة الشعر عندهم، التي توجز القول إيجازاً- قال في تلك المقدمة:
"الشعر في اليابان كالبذرة، تنبت من قلب الإنسان فتورق من اللغة أوراقاً لا حصر لعددها .... ففي هذا العالم المليء بالأشياء، ترى الإنسان مجاهداً في سبيل ألفاظ يعبر بها عن الانطباع الذي تركته المرئيات والمسموعات في قلبه
…
وهكذا حدث لقلب الإنسان أن وجد التعبير المنشود في ألفاظ تمتعه، وجدها في جمال الزهر، وفي إعجابه بتغريد الطير، وفي حسن استقباله للضباب الذي يغسل بِنَدَاه سهول الأرض، كما وجدها في حزنه الذي شاطر به العطف على ندى الصباح السريع الزوال
…
لقد اهتز الشعراء إلى قرض الشعر كلما رأوا البطاح بيضاء برذاذ الثلج الذي يتناثر من زهرات الكريز الساقطة في أصباح الربيع، أو سمعوا في أمسيات الخريف حفيف الأوراق وهي تتساقط أو كلما رأوا مشاهد الأيام المؤلمة البشعة تنعكس أمام أعينهم على مرآة الحوادث عاماً بعد عام
…
أو كلما أخذتهم الرعدة حينما رأوا قطرة الندى الزائلة ترتعش على الكلأ المزدان بلآلئه" (8).
لقد أجاد "تسورايوكي" التعبير عن الموضوع الذي لم يفتأ الشعر الياباني يتناوله- وهو ما تبديه الطبيعة من أوجه وحالات، ومن ازدهار وذبول الطبيعةُ في تلك الجزر، التي جعلتها البراكين مشهداً للروائع، وجعلها المطر الغزير دائمة الإيناع، وإن الشعراء في اليابان ليمرحون فيما لم تلكه الألسن من جوانب الحقول والغابات والبحر- فصغار السمك تنثر الرذاذ وهي تتقلب في مجاري الجبال، والضفادع تقفز فجأة من البرك الساخنة، والشطئان تخلو من المد والجزر، والتلال تقطعها كِسَف الضباب الذي سكن بلا حراك، وقطرة المطر تأوي كأنها الجواهر المكنونة في ثنية نجم من أنجم الكلأ؛ وكثيراً ما يمزج شعراء اليابان في شعرهم بين أغاني الحب وأشعار عبادتهم للطبيعة النامية، أو تراهم يرثون رثاء مراً لما يرونه في الازدهار والحب والحياة من قصر الأمد، والعجيب أن هذه الأمة التي تموج بالمقاتلين، قلما تتغنى في شعرها بالقتال، بل تراهم لا يثنون الحماسة في القلوب إلا بترانيم يترنمون بها
حيناً بعد حين، وكانت الكثرة الغالبة من القصائد قصيرة بعد عهد "نارا"، فهذه مجموعة "كوكنشو" التي تحتوي ألفاً ومائة قصيدة، لا تجد إلا خمساً منها فقط صيغت في صورة الـ "تانكا"- وهي صورة تكون فيها القصيدة مؤلفة من خمسة أبيات، أولها من خمسة مقاطع وثانيها من سبعة، وثالثها من خمسة، ورابعها من سبعة، وخامسها من سبعة، كذلك وليس في هذه القصائد قافية، ذلك لأن ألفاظ اللغة اليابانية كلها تقريباً تنتهي بحرف مد، فلا تترك مجال الاختيار أمام الشاعر من الاتساع بحيث ينتفي مختلف القواف، وكذلك ليس في شعرهم تفعيلات ولا نغم ولا مقدار معين من الكلمات في البيت الواحد، لكنك تجد فيه كثيراً من ألاعيب اللغة، فتراهم مثلاً يضيفون مقاطع في أوائل الكلمات لا يكون لها معنى سوى ما تضيفه إلى الكلام من تنغيم، ويستهلون قصائدهم بأبيات تعمل على تكملة الصورة أكثر مما تؤدي إلى تمام الفكرة، ويربطون العبارات بألفاظ تحمل معنيين على نحو يثير في القارئ الدهشة والانتباه، ولقد خلع الزمن ثوباً من الجلال على أمثال هذه الألاعيب اللفظية عند اليابانيين، كما هي الحال في توافق اللفظ والمعنى وفي القافية عند الإنجليز، وأشعارهم محببة لدى طبقات الشعب، ومع ذلك فلا يؤدي ذلك بالشاعر إلى السوقية في شعره، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ تميل هذه القصائد الكلاسيكية إلى الأرستقراطية في فكرها ولفظها، فلأنها ولدت في جو تشيع فيه أبهة القصور، تراها مصوغة صياغة روعي فيها الإحكام على نحو يكاد يجعل منها تعبيراً عن الأنفة والكبرياء، وهذه القصائد تنشد كمال اللفظ والصياغة أكثر مما تبحث عن جدة المعنى، وهي تكسب العاطفة أكثر مما تعبر عنها، وهي في كبريائها أرفع من أن تطنب القول وتطيل، فلن تجد أرباب القلم في أي بلد من بلاد الأرض سوى اليابان، لهم ما لأدباء اليابان من تحفظ في القول يعترفون به اعترافاً صريحاً، فكأنما أراد شعراء اليابان أن يكفروا بتواضعهم في القول عما زل فيه مؤرخوها من تهويل في الفخر بأنفسهم،
فيقول اليابانيون إنك إذا كتبت ثلاث صفحات عن الرياح الغربية، زللت في ثرثرة السوقة، فالفنان الأصيل لا ينبغي له أن يفكر للقارئ، بل واجبه أن يغريه حتى يستثير فيه نشاط التفكير لنفسه، فلا بد للفنان أن يبحث وأن يجد صورة حسية جديدة تثير في القارئ كل الأفكار وكل المشاعر التي يصر الشعر الغربي على بسطها في تفصيلاتها؛ فكل قصيدة عند الياباني لا بد أن تكون سجلاً هادئاً لوحي اللحظة التي كتبت فيها.
وعلى ذلك فإننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه الدواوين، أو في مجموعة المختارات التي تسمى "هيا كونن إشيو"، ومعناها "أشعار متفرقة لمائة شاعر"، والتي هي شبيهة بالديوان الذي يجمع مختارات من الشعر الإنجليزي ويطلق عليه "الكنز الذهبي"- أقول إننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه المجموعات عن قصيدة فيها حماسة أو عن ملحمة فيها حروب، أو عن مطولات غنائية، فهؤلاء الشعراء إنما أرادوا أن يخلدوا أنفسهم بسطر واحد يقوله الواحد منهم، فهاهو ذا "سايجيوهوشي" قد فقد أعز أصدقائه، وانقلب راهباً ووجد في أضرحة "إيسي" ما كانت تنشده نفسه المتصوفة من عزاء، فراح يقرض الشعر في عزيزه الفقيد، لكنه لم يكتب قصيدة مثل "أدونيس" أو حتى "ليسيداس" (وهما قصيدتان من الشعر الإنجليزي) بل اكتفى بهذه الأسطر البسيطة:
ما هذا الذي
يسكن هاهنا
لست أدري
لكن قلبي مليء بنشوة الرضى
والدموع تنهمر من عيني (9)
ولما فقدت "السيدة كاجا نوشيو" زوجها لم تكتب فيه سوى هذه السطور:
إن كل ما يبدو من أشياء
ليست سوى
حلم يطوف بحالم
إني لأنام .... وإني لأستيقظ ....
فما أفسح السرير بغير زوج في جواري
وبعدئذ فقدت ابنها، فأضافت إلى القصيدة بيتين آخرين:
كم طاف اليوم
هذا الباسل الذي يقتنص اليعاسيب
وبات نظم المقطوعات الشعرية (ويسمونها تانكات) لعبة أرستقراطية شاعت في الدوائر الإمبراطورية في "نارا" و "كيوتو" حتى ليستطيع الناظم أن يشتري عفة المرأة بواحد وثلاثين مقطعاً من الشعر يجيد صياغتها، كما كانت عفة المرأة تباع في الهند القديمة بفيل (12)؛ وكان من المألوف أن يحيي الإمبراطور ضيوفه بكلمات يعطيها لهم مما يصلح لصياغة الشعر (13)، ونرى في أدب ذلك العصر إشارات ترد هنا وهناك، تدل على أن جماعة من الناس يتطارحون الشعر أو ينشدونه وهم سائرون في الطريق (14)، وكان الإمبراطور- في أوج العصر الهيوي- ينظم مباريات في الشعر يشترك فيها ما يقرب من ألف وخمسمائة شاعر يتنافسون أمام محكمين من العلماء، ليحكموا أيهم أفحل في صياغة الموجزات الشعرية، بل أنشئ في سنة 951 مكتب خاص للشعر، يشرف على تنظيم هذه المباريات، والقصائد الرابحة في كل مباراة تحفظ في دار المحفوظات.
وجاء القرن السادس عشر، فأحس الشعر الياباني عندئذ أنه يسرف في طول القصائد، وصمم على تقصير "التانْكاتْ"- وكانت "التانكا"
في الأصل تكملة يضيفها شخص إلى قصيدة بدأها شخص آخر- فأصبحت بعد التقصير ما يسمونه "هوكو"، أي "العبارة الواحدة" تتألف من ثلاثة أسطر تتكون أولها من خمسة مقاطع، وثانيها من سبعة، وثالثها من خمسة، أي أن مجموعة المقاطع تكون سبعة عشر مقطعاً، وكان نظم القصائد من نوع "الهوكو" هو البدْع الشائع في عصر "جنروكو"(1688 - 1704)، ثم بات البدْع عندهم شغفاً بلغ حد الهوس، ذلك لأن الشعب الياباني شبيه بالشعب الأمريكي في شدة حساسيته العاطفية العقلية التي تسبب سرعة التقلب في الأنماط الفكرية، وكنت ترى الرجال والنساء، والتجار والجند، والصناع والفلاحين، يهملون شؤون الحياة اليومية ليشتغلوا بصياغة شعرية موجزة من نوع "الهوكو" يصوغونها في لحظة حين يُطلب إليهم ذلك، ولما كان اليابانيون مولعين بالمقامرة فقد راحوا يراهنون بمبالغ جسيمة من المال في مباريات تقام لنظم قصائد "الهوكو" حتى لقد خَصَّصَ بعض المغامرين في ميدان الأعمال أنفسهم لإقامة أمثال هذه المباريات يجعلونها مرتزقاً لهم، فكانوا يحشدون كل يوم آلاف الناس المعجبين بهذا الضرب من التنافس، ولذلك اضطرت الحكومة آخر الأمر أن تقاوم هذه الحلبات الشعرية، وأن تمنع هذا الفن المأجور الجديد (15)، وأنبغ من أجاد الشعر من نوع الهوكو هو "ماتسوراباشو"(1643 - 94) الذي كان مولده- في رأي يوني نوجشي- "أعظم حادثة في تاريخ اليابان"(16)، وكان "باشو" هذا سيافاً ناشئاً، مات مولاه وأستاذه، فكان لموته أعمق الأثر في نفسه بحيث اعتزل حياة القصر، وزهد في لذائذ الجسد جميعاً، وراح يضرب في فجاج الأرض على غير هدى، متفكراً، معلماً، وعبر عن فلسفته الهادئة في نتف من شعر الطبيعة الذي ينزل من ذوَاقة الأدب في اليابان منزلة رفيعة، لأنه يضرب أروع الأمثلة للكلام كيف يوحي بالمعاني رغم إيجازه الشديد، ومن قوله:
البركة القديمة
وصوت الضفدعة وهي تثب في الماء
ومن قوله أيضاً:
ساق من حشيش حَطَّ عليه
اليعسوب محاولاً أن يضيئه (17).
الفصل الثالث
النثر
1 - القصص
السيدة موراساكي - قصة جنجي - امتيازها -
القصص الياباني في العصر المتأخر - كاتب فكه
لقد كانت القصائد اليابانية أشد إيجازاً من أن تصادف إعجاباً عند العقل الغربي، فلنا أن نعزّي أنفسنا بالقصة اليابانية، إذ قد تبلغ روائع القصص عندهم عشرين جزءاً، بل قد تبلغ أحياناً ثلاثين (18)، وأرفع هذه القصص مكانة هي قصة "جنجي مونوجاتاري"(ومعناها الحرفي والصحيح هو "ثرثرة تدور حول جنجي")، فهذه القصة في إحدى طبعاتها تملأ أربعة آلاف ومائتين وأربعاً وثلاثين صفحة (19)، وألفت هذه القصة الممتعة حوالي سنة 1001 ميلادية، ألفتها "السيدة موراساكي نوشيكيبو"، وهي من قبيلة فوجبوارا العريقة، وقد تزوجت من رجل من هذه القبيلة عينها، لكنه مات عنها فخلفها أرملة بعد الزواج بأربعة أعوام، فجعلت تُسَرِّي عن نفسها بتأليف قصة تاريخية في أربعة وخمسين جزءاً، وبعد أن استنفذت كل ما كان لديها من ورق، سرقت أوراق "السُّتْرات" البوذية المقدسة من معابدها، واستخدمتها ورقاً لمخطوط قصتها (20)، فحتى الورق كان يوماً ضرباً من الترف.
وبطل القصة ابن لإمبراطور أنجبه من أقرب محظياته إلى نفسه، وهي "اكبريتسوبو"، وهي من روعة الجمال بحيث أثارت الغيرة في صدور سائر المحظيات جميعاً، وجعل هؤلاء يغظنها حتى قضين على حياتها غيظاً، فاقرأ كيف تصف الكاتبة "موراساكي" الإمبراطور بأنه لا يجد في موتها ما يعزيه،
ولعل الكاتبة في هذا قد أسرفت في تقديرها لمدى استطاعة الرجل أن يخلص في حبه، قالت:
"وكرت الأعوام، لكن الإمبراطور لم ينس فقيدته؛ وعلى الرغم من كثرة النساء اللائى جيء بهن له في القصر لعلهن يثرن اهتمامه، فقد أغضى عنهن جميعاً، مؤمناً بأن العالم كله ليس فيه امرأة واحدة تشبه فقيدته
…
ولم ينفك يشكو من القدر الذي لم يسمح لهما معاً بأن يفيا بالعهد الذي كانا يكررانه كلما أصبح صباح أو أمسى مساء، وهو أن تكون حياتهما كحياة الطائرين التوأمين اللذين يشتركان في جناح واحد، أو كحياة الشجرتين التوأمتين اللتين تشتركان في غصن واحد" (21).
وكبر "جنجي" وأصبح أميراً فاتناً، له من وسامة الشكل أكثر مما له من استقامة الأخلاق، فجعل يتنقل من غانية إلى غانية تَنَقُّل "توم جونز"، إلا أنه قد بذ في تنقله ذلك البطل المعروف في أنه لم يفرق بين ذكر وأنثى، فهو يمثل فكرة المرأة عن الرجل - كله عاطفة وكله إغراء، دائم التفكير ودائم الحب لهذه المرأة أو لتلك؛ وكان "جنجي" أحياناً "إذا ما ألمت به الملمات، يعود إلى بيت زوجته"(22).
وترى الكاتبة "السيدة موراساكي" تقص لنا مغامراته بالتفصيل على نحو تحس فيه بفرحها برواية قصته، ملتمسة له ولنفسها العذر التماساً رقيقاً:
"إن الأمير الشاب كان ُيعَدُّ مهملاً لواجبه إهمالاً لا شك فيه، إذا لم يكن قد أسرف في "فلتاته" الكثيرة، وإن كل إنسان لا يسعه إلا أن يعد سلوكه هذا طبيعياً لا غبار عليه، حتى لو كان سلوكاً يعاب على عامة الناس
…
إنني في الحقيقة لأكره أن أقص بالتفصيل أموراً قد تحوط هو نفسه كل الاحتياط في إخفائها، لكني سأقص هذه التفصيلات، لأنني أعلم أنك لو وجدتني قد حذفت شيئاً، فستقول: لماذا؟ ألأن المفروض فيه أنه ابن إمبراطور،
اضطرت إلى ستر سلوكه بستار جميل، وذلك بحذف كل نقائصه، وستقول إن ما أكتبه ليس تاريخاً، والقصة ملفقة أريد بها التأثير على الأجيال التالية تأثيراً يخدعهم عن الحقيقة، والقصة كما هي ستجعلني في أعين الناس ناقلة لأنباء الدعارة، لكن لا حيلة في ذلك" (23).
ويمرض "جنجي" خلال مغامراته الغرامية، فيندم على مغامراته تلك، ويزور ديراً ليرتد إلى حظيرة التقوى على يدي كاهن، لكنه في الدير يلتقي بأميرة جميلة (يأبى تواضع الكاتبة إلا أن تسميها باسمها هي، موراساكي) فتشغله تلك الأميرة حتى ليتعذر عليه أن يتابع الكاهن وهو ينحو إليه باللوم على خطاياه:
"بدأ الكاهن يقص القصص عن زوال هذه الحياة الدنيا وعن الجزاء في الحياة الآخرة، ولقد ارتاع جنجي حين تمثل له فداحة خطاياه التي اقترفها، إنه لعذاب أليم أن يعلم أن هذه الخطايا ستظل واخزة لضميره ما بقي حياً في هذه الدنيا، فما بالك بحياة أخرى ستتلو هذه، فياله من عقاب شديد ذلك الذي ينتظره في مستقبله! وكلما قال الكاهن شيئاً من هذا، أخذ جنجي يفكر في تعاسته، ألا ما أجملها فكرة أن يرتد راهباً وأن يقيم في مكان كهذا!
…
لكن سرعان ما استدارت أفكاره ناحية الوجه الجميل الذي قد رآه ذلك الأصيل واشتاق أن يعرف عن تلك المرأة شيئاً فسأل الكاهن: من ذا يسكن معك هاهنا (24)؟ "
وتعاون الكاتبة المؤلفة بطلها جنجي على موت زوجته في الولادة، بحيث أتيح له أن يخلي مكان الصدارة في بيته لأميرته الجديدة "موراساكي"
(1)
.
(1)
إن كانت هذه السطور ليأسف أن يحول قصر الحياة بينه وبين المضي في قراءة هذه القصة لكنه اضطر أن يكتفي بالجزء الأول من الأجزاء الأربعة التي نقل فيها "أرثر ويلي" قصة موراساكي نقلا دقيقاً.
وربما كان جمال الترجمة لهذا الكتاب هو الذي أضفى عليه هذه الروعة التي يمتاز بها من سائر الآيات الأدبية اليابانية التي ترجمت إلى الإنجليزية، ويجوز أن يكون مترجمه - وهو مستر ويلي - قد فاق الأصل بترجمته كما هي الحال مع فتزجرولد (في ترجمته لرباعيات الخيام)، فإذا ما تناسينا تشريعنا الخلقي برهة - أثناء قراءة هذا الكتاب - وسايرنا حوادث هذه القصة التي تجعل الرجال والنساء "يتلاقحون كما يتلاقح الذباب في الهواء" - على حد تعبير وردزورث في ولهلم مايستر - لوجدنا في "قصة جنجي" أروع لمحة في مستطاعنا اليوم، مما يتيح لنا رؤية ألوان الجمال المخبوء في الأدب الياباني، فإن كاتبته "موراساكي" قد كتبته بأسلوب طبيعي سلس، سرعان ما يجعل موضوعها مادة حديثة مع أصدقائه، فالرجال والنساء والأطفال بصفة خاصة، الذين يحيون على صفحات قصتها الطويلة ينبضون جميعاً بالحياة الصحيحة، والعالم الذي تصفه مصطبغ بصبغة الحياة الحقيقية التي نعيشها ونراها
(1)
، على الرغم من أنها كادت تحصر نفسها في القصور الإمبراطورية والدور الفخمة، إن الحياة التي تصفها هي حياة العلية التي لا تهتم كثيراً بما تتكلفه الحياة وما يتكلفه الحب من نفقات، لكنها في حدود تلك الحياة، تراها تؤدي الوصف أداء طبيعياً دون أن تضطر
(1)
إن السيدة الكاتبة لتدخل بقصتها حتى في البيوت العادية دخول الفاهمة لدقائقها، وهي تجعل "أوكانو كامي" - وذلك حوالي سنة 1000 - تعبر عن الرأي الحديث الذي يطالب للمرأة بحق التعليم:" وهناك كذلك الزوجة النشيطة التي - على الرغم من مظهرها - تلف شعرها وراء أذنها، وتكرس نفسها تكريساً تاماً لدقائق حياتنا المنزلية، والزوج في غدواته وروحاته حول العالم، لا بد أن يرى وأن يسمع أشياء كثيرة لا يستطيع أن يتحدث فيها لمن لا يعرفهم، لكنه يغتبط إذ يتحدث فيها إلى زوجته الحبيبة التي يمكنها أن تصغي إلى ما يقوله لها إصغاء المشاطرة لشعوره الفاهمة لعقله، والتي يمكنها أن تضحك معه إذا ضحك، وتبكي إذا بكى، وكذلك كثيراً ما يحدث من أحداث السياسة ما يغمه أو يمتعه متعة كبرى وعندئذ تراه ينفرد في جلسته مشتاقاً أن يتحدث في الأمر إلى صديق، فلا تزيد زوجته على قولها له: "ماذا بك" ثم لا تأبه له، فيكون انصرافها هذا عنه أكبر ما يسيء إليه"
إلى الاستعانة في قصتها بشواذ الشخصيات والحوادث لتثير بها اهتمام القارئ فالأمر هو كما جاء في العبارة التالية على لسان "أومانو كامي" عن بعض الرسامين الواقعيين، معبرة عن رأي الكاتبة "السيدة موراساكي".
"إن التلال والأنهار كما هي في صورها المألوفة التي تراها الأعين، والمنازل كما تقع عليها أينما سرت، بكل ما لهذه وتلك من جمال حقيقي في التناسق والشكل - لو أنك رسمت مناظر كهذه رسماً هادئاً، أو بينت ما يكمن وراء حاجز حبيب إلى قلبك، معزول عن العالم مستتر عن الأبصار، أو رسمت أشجاراً كثيفة على تل وطئ لا يشمخ بأنفه، أقول لو رسمت هذا كله بالعناية اللازمة من حيث سلامة التكوين والتناسب والحياة - لكانت أمثال هذه الرسوم مما يتطلب أدق الحذق من أنبغ الأعلام، وهي هي التي توقع الفنان العادي في ألوف الأخطاء"(26).
ولا أحسب الأدب الياباني بعدئذ قد أنتج في القصة ما يوازي في روعته قصه "جنجي" أو ما يساوي هذه القصة في مبلغ تأثيرها على تطور اللغة تطوراً أدبياً (27)؛ نعم إن القرن الثامن عشر قد بلغ في أدب القصة أوجاً ثانياً، ووفق كثيرون من أدباء القصة في التفوق على "السيدة موراساكي" لكنهم تفوقوا عليها في طول ما رووا من حكايات أو في مدى ما أباحوه لأنفسهم من تصوير للدعارة (28)، من ذلك مثلاً كتاب "القصص التهذيبي" الذي نشره "سانتو كُيودِنْ" سنة 1791، لكنه كان بعيداً عن الغاية التي زعمها لنفسه - غاية التهذيب - بعداً حدا بأولي الأمر أن ينفذوا القانون الذي يحرم الفحش، فيحكموا على الكاتب بأن تغل يداه خمسين يوماً وهو في داره، وكان "سانتو" هذا يتاجر في أكياس الطباق والأدوية "البلدية" وتزوج من عاهرة، وكسب الشهرة أول ما كسبها بكتاب أخرجه عن بيوت الدعارة في لوكيو، وبعدئذ أخذ يهذب من أخلاق قلمه شيئاً فشيئاً، لكنه لم يقتلع بهذا التهذيب
من جمهور القراء ما تعودوه من إقبال على شراء كتبه إقبالاً عظيماً، ولما وجد كل هذا التشجيع، خرج على كل السوابق المعروفة في تاريخ القصص الياباني فطالب الناشرين بدفع شيء من المال ثمناً لكتبه، إذ يظهر أن سابقيه من المؤلفين كانوا يكتفون من الأجر بدعوة يدعونها على عشاء، وقد كان معظم كتاب القصة من الداعرين الفقراء، الذين أنزلهم المجتمع مع الممثلين منزلة هي أدنى ما تكون المنزلة امتهاناً (29)؛ وظهر قصصي آخر هو "كيوكوتي باكين"(1767 - 1848) كان أقدر فناً في قصصه من "كيودن" لكنه أقل استثارة لاهتمام قرائه، وهو يماثل "سْكُتْ" و "ديماس" في صبِّه للتاريخ في قالب قصصي يفيض بالحياة، ولقد بلغ إعجاب قرائه به في نهاية الأمر مبلغاً جعله يمط إحدى قصصه في مائة جزء، وكان "هوكوساي" يوضح قصص "باكين" بالرسوم، ولبثا في العمل زميلين حتى نشب بينهما الخلاف - وما داما من أبناء عبقر فلا بد من خلاف- ثم افترقا.
وأمرَحُ هؤلاء القصاصين جميعاً هو "جيبشنا إيكو"(مات سنة 1831)، وهو في اليابان يعادل "لي ساج" و "دكنز" ; "بدأ "إيكو" حياته الراشدة بثلاث زيجات، فشل منها اثنتان بسبب أن حمويه في كلتا الحالين لم يفهما شذوذ مسلكه الناشئ عن اشتغاله بالأدب، فقد رضى بالفقر متفكهاً، لم يكن في بيته أثاث. فعلق على جدرانه العارية صوراً للأثاث الذي كان يشتريه لو استطاع، وفي أيام المواسم الدينية كان يضحي للآلهة بصور فيها رسوم لخير ما يمكن تقديمه من قرابين؛ وقدم له الناس حوضاً للاستحمام- رغبة منهم في التخلص من قذارته- فحمله على رأسه مقلوباً، وراح يوقع به من اعترض طريقه من المارة معلقاً بالنكات في بداهة سريعة على كل من وقع؛ ولما جاءه الناشر في زيارة إلى داره، دعاه أن يستحم، وقبل الناشر الدعوة، فلبس صاحبنا ثياب الناشر أثناء استحمامه وزار كل من أراد زيارته في ذلك اليوم-
وكان رأس السنة الجديدة - وهو في تلك الثياب الفاخرة، وآيته الأدبية هي قصة "هيزا كورياج" التي نشرها في اثني عشر جزءاً في الفترة التي تمتد من 1802 إلى 1822، وهي تحكي قصة تهز قارئها هزاً بالضحك، على نحو ما تراه في قصة "مجموعة مذكرات نادي بِكْوَك"(للكاتب الإنجليزي دكنز)؛ ويقول "آستن" عن هذه القصة إنها أفكه وأمتع كتاب في اللغة اليابانية كلها (30)، ولما كان "إيكو" في فراش موته، التمس من تلاميذه أن يضعوا على جثمانه قبل حرقه - وكان إحراق الموتى مألوفاً في اليابان عندئذ - بضعة لفائف أعطاها إياهم في وقار وجد، ولما كان يوم جنازته، وفرغ المصلون من تلاوة الدعوات، وأشعِل الحطب الذي أعد لإحراق جثمانه، تبين أن تلك اللفائف كانت تحتوي على مفرقعات نارية أخذت تطقطق أثناء حرق الجثة طقطقة كلها مرح ونشوة؛ وهكذا وفي "إيكو" بالعهد الذي قطعه على نفسه وهو شاب، بأن يجعل حياته كلها مفاجآت حتى بعد موته.
2 - التاريخ
المؤرخون - آراي ها كوسيكي
لن تجد في كتابة التاريخ عند اليابانيين ما يمتعك بمثل ما يمتعك في أدبهم القصصي، على الرغم من أنه يتعذر عليك أن تفرق عندهم بين التاريخ والقصة، وأقدم كتاب باق في الأدب الياباني هو "كوجيكي" ومعناها ثبت "بالآثار القديمة" وهو مكتوب بالأحرف الصينية بقلم "باسومارو" سنة 712، وفي هذا الكتاب كثيراً ما تحل الأساطير محل الحقائق، حتى ليحتاج القارئ أن يمعن في إخلاصه للعقيدة الشنتوية لكي يقبل هذه الأساطير على أنها تاريخ (31)، ثم رأت الحكومة بعد "الإصلاح العظيم" في سنة 654 أن الحكمة تقتضي أن تروى قصة الماضي رواية جديدة، فظهر تاريخ جديد حول سنة 720
عنوانه "ينهونجي" ومعناها "نيبون" وهو مكتوب باللغة الصينية، ويزدان بفقرات سرقها الكاتب سرقة جريئة من الأدب الصيني، وأحياناً أجراها على ألسنة أشخاص من اليابانيين القدماء، دون أن يأبه مطلقاً للترتيب الزمني للحوادث؛ ومع ذلك فقد جاء الكتاب محاولة أكثر جداً في روايته للحقائق من كتاب "كوجيكي"، وكان هو بمثابة الأساس للكثرة الغالبة مما كتب بعدئذ من كتب في التاريخ الياباني القديم، فمنذ ذلك الحين كتبت عدة كتب في تاريخ اليابان كل منها يبزّ سابقه في روحه الوطنية، وقد كتب "كيتاباتاكي" كتاباً أسماه "جنتوشوتوكي" - ومعناها تاريخ التسلسل الحقيقي للملوك الإلهيين - وضعه على أساس هذه العقيدة المتواضعة الآتية، التي أصبحت اليوم أمراً مألوفاً.
"إن ياماتو العظمى (أي اليابان) بلد إلهي، فالسلف الإلهي لم يضع أساساً لبلد من بلاد الأرض سوى بلدنا، وهو دون سائر البلاد قد لقي الرعاية من آلهة الشمس بحيث ولَّت على أموره سلسلة طويلة من أبنائها، ولن تجد لمثل هذا شبيهاً في البلاد الأخرى، ومن ثم سميت اليابان بالأرض الإلهية"(32).
وطبع هذا الكتاب أول ما طبع سنة 1649، فكان بداية للحركة التي قصدت إلى استعادة الإيمان القديم والدولة القديمة، وهما الجانبان اللذان بلغا أقصى حدودهما في المناقشات الحامية التي أقامها "موتو - موري" وشاءت الأيام أن يكون "متسو - كوني" - وهو حفيد "أيياسو" نفسه - هو الذي يتصدى لكتابة كتابه الذي أسماه "داي نيهونشي"(ومعناها "التاريخ الأكبر لليابان" 1851) فأخرج به صورة من مائتين وأربعين جزءاً صور بها الماضي الذي ساد فيه الأباطرة وساد النظام الإقطاعي، فكان هذا الكتاب بعدئذ من العوامل التي هيأت اليابانيين لخلع حكومة توكوجاوا العسكرية من مراكز السلطان.
وقد يكون "آراي هاكوسيكي" أعلم المؤرخين اليابانيين وأبعدهم عن الميل إلى الهوى، فعلمه هو الذي ساد الحياة العقلية في "بيدو" في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وقد سخر "آراي" من اللاهوت الذي كان يأخذ به مبشرو المسيحية الأرثوذكسية، ووصفه بأنه "ممعن في صبيانيته"(33)، لكن جرأته قد حدت به كذلك أن يهزأ ببعض الأساطير التي ظنها أهل وطنه تاريخاً (34)، وكتابه العظيم "هانكامبو" - وهو تاريخ "لدايمو" يتألف من ثلاثين جزءاً - يعد من أعاجيب الروائع الأدبية، لأنه - فيما يظهر - قد تم تأليفه في أشهر قلائل، على الرغم مما لابد أن يكون قد اقتضاه من كثرة البحث (35)، وقد استمد آري بعض علمه وطائفة من أحكامه من دراسته للفلاسفة الصينيين، ويقال إنه لما جعل يحاضر في الآداب الكونفوشيوسية، كان الحاكم العسكري "أينوبو" يستمع إليه في إقبال وإجلال حتى لم يكن ليذب البعوض عن رأسه في الصيف، وكان في الشتاء ينحو بوجهه جانباً إذا أراد أن يمسح الرشح عن أنفه احتراماً للمحاضر (36)، وكتب "آراي" ترجمة لحياته فصور أباه تصويراً جليلاً رسم به المواطن الياباني في خير صورة له وأبسطها.
"إنني أعود بذاكرتي إلى أول لحظة بدأت عندها أتعمق الأمور إلى صميمها، فأجد حياته الرتيبة اليومية لم تكن تختلف في يوم عنها في يوم آخر؛ فما كان يفوته قط أن يستيقظ قبل شروق الشمس بساعة، ثم يستحم بماء بارد، ويصفف شعره بنفسه؛ وإذا اشتد برد الشتاء تعرض عليه امرأته - وهي أمي - أن تعد له ماء ساخناً، لكنه لم يكن يرضى بذلك، لأنه لم يكن يريد أن يتعب الخدم؛ فلما زاد عمره على السبعين، وتقدمت أمي كذلك في سنها؛ وكان البرد يشتد إلى درجة لا يحتملانها، كانا يستحضران في غرفتهما موقداً وينامان وأقدامهما ممدة تجاهه؛ وكان يوضع إبريق من الماء الساخن إلى جانب
المدفأة، فيشرب منه أبي عند استيقاظه؛ وكلاهما كان يقدس بوذا، فكان أبي لا يفوته قط - بعد أن يصفف شعره ويسوي ثيابه - أن يبدي علائم خشوعه لبوذا
…
وبعد أن يرتدي رداءه، كان يجلس هادئاً في انتظار تباشير الصباح، وعندئذ يخرج إلى عمله الرسمي
…
إن أحداً لم يره قط وعلامات الغضب على وجهه، ولست أذكر أبداً أني رأيته يوماً - حتى إن ضحك - يستسلم للمرح الصاخب؛ وأقل من ذلك حدوثاً أن تراه يسفل إلى الألفاظ الجارحة إذا ما شاءت له الظروف أن يؤنب أحداً، وكان في سمره لا يتكلم ما أمكنه السكوت، كان رصيناً في سلوكه، فما رأيته قط جازعاً أو مضطرباً أو قلقاً
…
يحافظ على نظافة الغرفة التي كان يشغلها عادة، ويعلق على الجدار صورة قديمة، ويضع في أصيص بعض زهرات من زهور الموسم، وقد ينفق يومه ناظراً إليها؛ كان قليل الرسم للصور يرسمها باللون الأسود على ورق أبيض، لأنه لم يكن محباً للألوان الزاهية، وإذا جادت صحته لم يطلب إلى الخادم أن يعينه في شيء قط، لأنه كان يعد كل شيء لنفسه بنفسه" (37).
3 - المقالة
"السيدة سي شوناجون" - "كامو نو - شومي"
كان "آرامي" كاتباً للمقالة كما كان مؤرخاً، وله نتاج عظيم في هذا اللون من الأدب (أدب المقالة) الذي ربما كان أمتع ضروب الأدب الياباني جميعاً؛ على أن الزعامة في أدب المقالة- كما هي الحال في القصة- كانت لامرأة؛ فكتاب "صُوَر على الوسادة""ماكورازوشي" الذي كتبته "السيدة سي شوناجون" يوضع عادة في أعلى مراتب هذا الأدب، كما أنه أول ما كتب فيه؛ والسيدة الكاتبة قد نشأت في نفس البلاد ونفس الجيل
اللذين نشأت فيهما "السيدة
موراساكي"، واختارت لقلمها الحياة المترفة الداعرة من حولها، فراحت تصف تلك الحياة في صور عابرة، يستحيل علينا أن نلم بروعتها في لغتها الأصلية إلا على سبيل التخمين، مهتدين بما نراه باقياً في الترجمة الإنجليزية لتلك الصور من آثار جمالها الفاتن؛ والكاتبة من طائفة "فيوجيورا"، وصعدت حتى أصبحت وصيفة الإمبراطورة؛ فلما قضت الإمبراطورة نحبها، توارت "السيدة سي": فمن قائل إنها أوت إلى دير، ومن قائل إنها انطوت في ثنايا الفقر؛ لكن كتابها ليس فيه ما يدل على صدق هذا القول أو ذاك؛ وهي تنظر إلى الإباحية الخلقية في عصرها، بالعين المتساهلة التي عرف بها ذلك العصر، ثم هي لا تنزل رجال الدين الماديين منزلة عالية من نفسها.
"إن الواعظ الديني لابد أن يكون وسيم المحيا، إذ يسهل عليك عندئذ أن تحدج بعينيك في وجهه، وبغير ذلك يستحيل الانتفاع بحديثه، لأن عينيك ستحومان هنا وهناك، ويفوتك أن تصغي إلى قوله؛ وإذن فالواعظون الدميمون تقع عليهم تبعة كبرى .... ولو كان رجال الوعظ يحيون في عصر أنسب لهم من عصرنا، لسرني أن أحكم عليهم حكماً أقرب إلى صالحهم من حكمي عليهم الآن؛ لكن الأمر كما أراه في الواقع، يدعوني إلى القول بأن خطاياهم أشنع فحشاً من أن تحتمل منا مجرد التفكير"(38).
ثم تضيف الكاتبة إلى ذلك قوائم صغيرة بما تحب وما تكره:
فالأشياء التي تبعث في نفسها النشوة:
أن أعود إلى البيت من رحلة وقد امتلأت العربات حتى فاضت؛
وأن يكون حول العربة عدد كبير من المشاة الذين يحفزون الثيرة
والعربات تسرع في السير؛
زورق نهري يسبح على الماء.
الأسنان زينت بالسواد على نحو جميل
…
والأشياء التي تثير في نفسها الكراهية:
غرفة مات فيها طفل
مدفأة انطفأت نارها
حوزي يكرهه ثور عربته
ولادة سلسلة متصلة من البنات في بيت عالم
…
ومن الأشياء الممقوتة:
الناس الذين إذا قصصت عليهم قصة قاطعوك بقولهم: إننا نعرفها
ثم يقولون القصة على صورة تختلف كل الاختلاف عما كنت تنوي أن تقوله
…
والرجل الذي تصادفه امرأة، ويكون بينهما ود، فيثني على امرأة أخرى يعرفها
…
والضيف الذي يقص عليك قصة طويلة وأنت عجلان ....
شخير رجل تحب أن تخفيه، والرجل ينام في مكان لا شأن له به
…
البراغيث (39).
وليس ينافس هذه السيدة في مكان الصدارة من أدب المقالة في اليابان، إلا "كامونو- شومي"؛ الذي حُرِمَ خلافة أبيه في حراسة الضريح الشنتوي "لكامو" في مدينة كيوتو، فاعتنق البوذية حتى أصبح راهباً من رهبانها؛ ولما بلغ من عمره عامه الخمسين، اعتكف في حديقة في الجبل، حيث انصرف إلى حياة التأمل، وهناك كتب كتاباً يودع به الحياة الصاخبة، وأسمى كتابه "هوجوكي"(1212) ومعناها "مدوَّن الأقدام العشر المربعة" فبعد أن بين الصعاب والمضايقات التي يلاقيها الإنسان في حياة المدنية، ووصف
مجاعة سنة 1181
(1)
أخذ يروي لنا كيف أقام لنفسه كوخاً مساحته عشرة أقدام مربعة وارتفاعه سبع أقدام، واستقر فيه راضي النفس بفلسفة لا يعكر هدوءها شيء وزمالة هادئة لما يحيط به من كائنات الطبيعة؛ ولا يسع الأمريكي الذي يقرؤه إلا أن يسمع فيه صوتاً شبيهاً بصوت "ثورو" وإن يكن صادراً من اليابان في القرن الثالث عشر؛ فالظاهر أن كل جيل لابد له من كاتب يدعو إلى معاشرة الطبيعة بمثل كتاب "بِركة وولدِنْ".
(1)
أسلفنا وصفها في الفصل الثالث من الباب الثاني.
الفصل الرابع
المسرحية
المسرحيات "الغنائية" - خصائصها - المسرح
الشعبي - شكسبير اليابان - خلاصة الرأي
وآخر ألوان الأدب، وأعسرها فهماً علينا، هي المسرحية اليابانية؛ فما دمنا قد نشأنا في جو من تقاليد المسرح الإنجليزي الذي يبدأ من رواية هنري الرابع وينتهي برواية "مارية اسكتلندة"، فكيف يمكن أن نعد آذاننا إعداداً يتقبل المسرحيات الغنائية اليابانية بما فيها من إطناب وحركات صامتة بالنسبة إلينا؟ إنه لابد لنا من نسيان شكسبير والعودة إلى "إفريمان"، بل والعودة إلى ما هو أبعد من ذلك في الماضي، إلى الأصول الدينية للمسرحية اليونانية والمسرحية الأوروبية الحديثة؛ عندئذ نجد ما يعيننا على متابعة تطور التمثيل الصامت الشنتوي القديم، والرقص الكهنوتي المسمى "كاجورا"، حتى أصبح هذه الصورة التمثيلية الناطقة بالحوار، التي تتألف منها المسرحية الغنائية عند اليابانيين؛ ففي نحو القرن الرابع عشر أضاف الكهنة البوذيون أناشيد جوقية إلى التمثيل الطقوسي الصامت، ثم أضافوا إلى ذلك شخصيات فردية، ودبروا حبكة للمسرحية بحيث تفسح المجال أمام هذه الشخصيات فتفعل الأفعال كما تقول الكلام، ومن ثم ولدت المسرحية (40).
كانت هذه المسرحيات - مثل المسرحيات اليونانية - تُؤدي في ثلاثيات وكانوا يمثلون في الفترات التي بين الفصول أحياناً، ما يطلقون عليه "كيوجن" أي المهازل (أو التهريج) قاصدين بذلك أن يخففوا ويلطفوا من حدة العاطفة والفكر؛ أما الجزء الأول الثلاثي المسرحي فقد كانوا يخصصونه لاسترضاء
الآلهة، فكاد لا يزيد على تمثيل ديني صامت؛ وأما الجزء الثاني فكان يؤدي بعدة مسرحية كاملة، ويبتغون به طرد الأرواح الشريرة بتخويفها؛ وأما الجزء الثالث فكان ألطف جواً، يراد به تصوير جانب رائع من جوانب الطبيعة، أو وجه ممتع من وجوه الحياة اليابانية (41)؛ وكانت أسطر المسرحية تصاغ عادة في صورة الشعر المرسل، بحيث يتألف البيت الواحد من اثني عشر مقطعاً؛ وكان الممثلون ذوي منزلة اجتماعية حتى بين العلْية؛ فلا تزال بين أيدينا وثيقة تثبت أن "نوبونجا" و "هيديوشي" و "أيياسو" قد اشتركوا جميعاً كممثلين في إحدى المسرحيات الغنائية حول سنة 1850 (42)، وكان كل ممثل يلبس قناعاً منحوتاً من الخشب نحتاً فنياً دقيقاً يجعل هذه الأقنعة تحفة عند هواة الآثار الفنية في عصرنا هذا، وكانت مناظر المسرح قليلة، إذ كانوا يعتمدون على الخيال القوي عند النظارة في خلق البطانة التي يتم الفعل المسرحي في جوّها؛ وأما الحكايات التي تمثل فمن أبسط الحكايات تأليفاً، ولم يكن مجرى الرواية هو نقطة الاهتمام؛ ومن أشيع تلك الروايات رواية تحكي عن "سياف" أصابه الفقر، طرق بابه راهب جوال أراد الدفء، فقطع له السياف أعز نباتاته ليوقد له بها ناراً؛ وعندئذ تبين أن الراهب لم يكن إلا الوصي على العرش، فأجزل العطاء للفارس، وكما أننا في الغرب لا نفتأ نختلف إلى المسرح مرة بعد مرة لنسمع مسرحية غنائية، روايتها قديمة، وربما كانت رواية سخيفة أيضاً، فكذلك ترى أهل اليابان - حتى يومنا هذا - يبكون كلما شهدوا هذه الرواية التي يتكرر تمثيلها بغير انقطاع (43)، ذلك لأن براعة التمثيل تعيد لهذه الرواية في كل مرة قوتها ومغزاها؛ ولو قصد إلى المسرح متفرج متعجل عملي المقاييس، فإنه قد يجد في أمثال هذه الأغاني التي صبت في قالب تمثيلي، تسلية أكثر مما يجد فيها عظمة تأخذ عليه نفسه، لكن اسمع ما يقوله فيها شاعر ياباني: "كم في المسرحية الغنائية من عناصر
المأساة وعناصر الجمال، ولطالما طاف برأسي خاطر، هو أننا نؤدي خدمة جليلة لا شك فيها، إذا نحن أحسنّا تقديم مسرحيتنا الغنائية في الغرب، ولو فعلنا لنتج عن ذلك احتجاج شديد ضد المسرح الغربي، إن ذلك لو تم كان بمثابة الإيحاء باتجاه جديد" (44) - ومع ذلك فاليابان نفسها لم تنتج من هذا الضرب المسرحي شيئاً منذ القرن السابع عشر على الرغم من أنها تقوم بتمثيلها اليوم، وتقبل عليها إقبالاً شديداً.
إن تاريخ المسرحية في معظم البلاد عبارة عن تحول تدريجي من سيادة الجوقة إلى سيادة دور يقوم به فرد من الأفراد - وعند هذه النقطة تنتهي مراحل التطور في الكثرة الغالبة من الحالات التي يتم فيها هذا الانتقال، ولما تقدم الفن المسرحي في اليابان من حيث تقاليده وروعته، خلق شخصيات محببة إلى الناس صارت هي القوة السائدة في المسرحية، وأخيراً قل شأن التمثيل الصامت والموضوعات الدينية، وباتت المسرحية حرباً بين أفراد تملؤهم قوة الحياة وقوة الخيال، وهكذا ظهر المسرح الشعبي في اليابان الذي يطلق عليه "كابوكي شيباي"، وأول مسرح من هذا القبيل الشعبي ظهر حول عام 1600، أنشأته راهبة ملت جدران الدير، فأقامت مسرحاً في أوساكا وجعلت ترتزق بالرقص على ذلك المسرح (45)، وكان ظهور المرأة على المسرح- كما هي الحال في إنجلترا وفرنسا بمثابة الثورة واقتراف إثم محرم، ولما كانت الطبقات العليا قد اجتنبت هذه المحرمات (اللهم إلا في خفاء يؤمّنها من الخطر) فقد أوشك الممثلون أن يصبحوا طبقة منبوذة، ليس لهم حافز اجتماعي يدفعهم إلى صيانة مهنتهم من الدعارة والفساد؛ واضطر الرجال أن يقوموا بأدوار النساء، وذهبوا في إتقان تقليد النساء إلى حد لم يستطيعوا عنده أن يخدعوا النظارة فحسب، بل خدعوا أنفسهم كذلك، حتى لقد ظل كثير من هؤلاء الرجال الذين كانوا يمثلون أدوار النساء، ظلوا نساء خارج المسرح (46)، وكان من عادة الممثلين أن يصبغوا وجوههم بألوان زاهية، وربما يرجع ذلك
إلى خفوت الأضواء على المسرح؛ كذلك كانوا يلبسون أردية ذات رسوم فاخرة لكي يدلوا بها على عظمة أدوارهم، ثم لكي يرفعوا من قدر تلك الأدوار؛ وغالباً ما كان يجلس خلف المسرح أو حوله أفراد أو جوقات، تلقي الكلام المراد إلقاؤه، وكان هؤلاء أحياناً هم الذين ينطقون بالكلام بينما يقصر الممثلون أنفسهم على الحركات المناسبة صامتين؛ وأما النظارة فقد كانت تجلس على الأرضية المفروشة بالبُسُط، أو في مقصورات على الجانبين (47).
وأشهر الأسماء التي تصادفك في المسرحية الشعبية في اليابان هو "شيكاماتسو مُنْزايمون"(1653 - 1724) الذي يقرنه مواطنوه بشكسبير، وأما النقاد الإنجليز فتراهم يمقتون هذه المقارنة، فيتهمون "شيكاماتسو" بالعنف والإسراف والمبالغة في قوة اللفظ وبُعد حبكاته عن الواقع، إلا أنهم يعترفون له "بشيء من القوة والفخامة البدائيتين"(48)؛ والظاهر أن التشابه تام، فتلك المسرحيات الأجنبية بالنسبة لنا تبدو لنا مجرد مسرحيات غنائية، لأنه إما أن يكون معناها أو تكون دقائقها اللغوية خافية علينا، وقد يكون هذا نفسه هو وقع شكسبير على رجل لا يستطيع أن يقدر جمال لغته أو يتابعه في أفكاره، وربما كان "شيكاماتسو" قد غالى في جعل العشاق في مسرحياته ينتحرون على المسرح ليكون انتحارهم بمثابة الذروة التي تعلو إليها حوادث القصة، على نحو ما نرى في رواية "روميو وجوليت"، لكن قد يكون له في ذلك هذا العذر، وهو أن الانتحار في الحياة اليابانية أوشك أن يكون من الشيوع بمثل ما كان على المسرح.
إن المؤرخ الأجنبي عن البلاد، لا يسعه في هذه الأمور إلا أن يسجل، لا أن يصدر حكمه، فالتمثيل الياباني في عيني مُشاهد عابر، يبدو أقل في درجة الرقي والنضوج من التمثيل الأوربي، لكنه أكثر منه قوة ورفعاً لأفئدة
المشاهدين؛ إن المسرحيات اليابانية قد تكون أكثر تمشياً في سذاجتها مع سواد الشعب، لكنها أقل تعرضاً لعوامل الضعف التي تنشأ عن الصيغة العقلية السطحية، من زميلاتها في فرنسا وإنجلترا وأمريكا اليوم؛ والعكس صحيح، وهو أن الشعر الياباني يبدو لنا خفيفاً ميتاً، مبالغاً في رقته الأرستقراطية، نحن الذين تعودت أذواقنا المقطوعات الغنائية التي تكاد تبلغ في طولها طول الملاحم (مثل قصيدة Maud) ، كما تعودت أذواقنا الملاحم التي يبلغ الملل من قراءتها حداً لا أشك معه في أن هومر نفسه إذا اضطر أن يقرأ الإلياذة مجتمعة لترنح رأسه من نعاس؛ وأما القصة اليابانية فالظاهر أنها عاطفية تثير حب التطلع في نفس القارئ، ومع ذلك فيخيل إلينا أن آيتين من آيات القصة الإنجليزية - هما قصة "توم جونز" وقصة "أوراق بِكْوِك" - يقابلان تمام التقابل قصتي "جنجي مونوجاناري" و "هيزا كوريج" في الأدب الياباني؛ ويجوز أن تكون "السيدة موراساكي" أنبغ من "فيلدنج" العظيم نفسه في دقتها ورشاقتها وسعة فهمها؛ إن كل ما هو بعيد عن أنفسنا غامض علينا، يكون مملولاً سخيفاً بالنسبة لنا، وستظل الأشياء في اليابان غامضة علينا حتى نستطيع أن ننسى نسياناً تاماً تراثنا الغربي، لنشرب تراث اليابان تشرباً كاملاً.
الفصل الخامس
فن الدقائق الصغيرة
تقليد مبدع - الموسيقى والرقص - "إيزو" و "نتسوكي" - هيداري جنجارو - لاكيه
جاءت القوالب الخارجية للفن الياباني من الصين، مثلها في ذلك مثل كل ظاهرة بادية من ظواهر الحياة اليابانية؛ أما القوة والروح الداخليان، فمثلهما مثل كل ما هو حيوي من أمور اليابان، في صدورهما عن الشعب نفسه؛ نعم إن الموجة الفكرية والهجرة اللتين جاءتا إلى اليابان بالبوذية في القرن السابع، قد جاءتاها كذلك من الصين وكوريا بصور الفن وبالدوافع النفسية المرتبطة بتلك العقيدة، التي ليست أصل في الصين وكوريا منها في اليابان، بل إنه لمن الحق أيضاً أن العناصر الثقافية لم تدخل إلى اليابان من الصين والهند وحدهما، بل جاءتها كذلك من أشور واليونان - فالملامح التي تراها في بوذا كاما كورا مثلاً أقرب إلى الملامح "اليونانية البكتيرية" منها إلى الملامح اليابانية؛ لكن هذه الحوافز وإن تكن قد جاءت إلى اليابان من الخارج، إلا أنها استُخدمت هناك في إبداع ما هو جديد؛ فسرعان ما تعلم شعب اليابان أن يفرق بين الجمال والقبح؛ وكثيراً ما كان أغنياء تلك البلاد يؤثرون تحف الفن على الأرض أو الذهب
(1)
، وكان رجال الفن فيها يعملون بإخلاص لفنهم أنساهم نفوسهم، وهؤلاء الفنانون، على الرغم من أنهم كانوا يجتازون
(1)
قام قواد الجيش أيام "هيديوشي" بحملات حربية مظفرة، والظاهر أنهم اكتفوا في مكافأتهم على ذلك الظفر - أحياناً - لا بالضياع ولا بالمال، بل بالتحف النادرة من الفخار والخزف.
دوراً طويلا عنيفاً من التدريب الفني، قَلَّ أن تقاضوا على فنهم أجراً أكثر مما كان يتقاضاه الصناع من أجور؛ وإن شاءت لهم الأيام مرة أن يجيئهم شيء من ثراء، راحوا يبددونه في إسراف مستهتر، ثم لم يلبثوا بعدئذ أن يعودوا إلى فقرهم الطبيعي الذي ترتاح إليه نفوسهم (50)، أما من حيث النشاط والذوق والمهارة، فلم يكن يدانيهم إلا أرباب الفن من أهل مصر القديمة واليونان في عصورها الوسطى.
إن حياة الشعب نفسها كانت تتخللها علائم الفن - تراها في نظافة بيوتهم وجمال ملابسهم، وظرف حليهم، وإقبالهم إقبالاً فطرياً على الغناء والرقص؛ ذلك لأن الموسيقى - كالحياة - جاءت إلى اليابان من الآلهة نفسها؛ ألم تُغَن "إيزانامي" في جوقات جمعية عند خلق الأرض؟ ونقرأ عنهم أن الإمبراطور "إنكيو" عزف على آلة موسيقية بعد ذلك بألف عام، وقامت الإمبراطورة ترقص لعزفه، وكان ذلك في مأدبة إمبراطورية سنة 419، أقيمت احتفالاً بافتتاح قصر جديد؛ ولما مات "إنيكو" أرسل أحد ملوك كوريا ثمانين موسيقاراً ليعزفوا في جنازته، فعلم هؤلاء العازفون أهل اليابان آلات موسيقية جديدة وأنغاماً جديدة - بعضها من كوريا، وبعضها من الصين، وبعض ثالث من الهند - ولما نُصِب الـ "دايبوتسو" في معبد "تودايجي" في نارا (752) عزفت موسيقى الأساتذة من الصين في احتفال التنصيب؛ ولا يزال "بيت المال" الإمبراطوري في نارا يعرض علينا الآلات التي استخدمت في تلك الأيام السوالف، وكان الغناء والإلقاء، وموسيقى القصر وموسيقى الرقص في الأديرة، هي الضروب الرفيعة الموقرة من الموسيقى، أما الأنغام الشعبية فكانوا يعزفونها على آلة يسمونها "بيوا""أي قيثارة" أو على آلة يطلقون عليها "ساميزانة" و (هي آلة ذات ثلاثة أوتار)(51)، ولم يكن لليابانيين نوابغ في التأليف الموسيقي، ولا كان لهم كتب في الموسيقى، وتآليفهم الموسيقية الساذجة
التي كانوا يعزفونها في خمسة أنغام على السلم الهارموني الصغير، لم يكن فيها اتساق في النغم، ولا كان عندهم تمييز بين ما هو صغير وما هو كبير من مفاتيح الموسيقى، ومع ذلك فكل ياباني تقريباً كان يستطيع العزف على آلة من الآلات العشرين التي جاءتهم من القارة الآسيوية؛ ويقول اليابانيون إن أية واحدة من هذه الآلات لو أتقن العزف عليها، استطاعت أن ترقص الغبار العالق بسقف المكان (52)، والرقص نفسه شاع بينهم "شيوعاً لا نظير له في أي بلد آخر"(53) - ولم يكونوا يرقصون على سبيل إتمام مقتضيات الغرام بين عشيقين، بمقدار ما كانوا يرقصون تنسكا في العبادة أو في الحفلات الجمعية؛ فكان يحدث أحياناً أن يخرج أهل قرية بأسرهم، في أبهى حللهم، ليحتفلوا بإحدى المناسبات السعيدة احتفالاً راقصاً يشترك فيه الناس جميعاً؛ وكانت الراقصات المحترفات يجتذبن حشوداً من الجماهير بمهارتهن في الرقص؛ وكنت تجد الرجال والنساء على السواء - حتى في أرفع الطبقات - ينفقون من وقتهم زمناً طويلاً في هذا الفن؛ فتقول "السيدة موراساكي" في قصتها عن "جنجي" إنه حين رقص رقصة "موجات البحر الأزرق" مع صديقته "تونو - شوجو" تحركت العواطف في صدور المشاهدين جميعاً؟ "فلم يشهد أولئك المشاهدون قط في حياتهم أقداماً تطأ الأرض بهذه الرشاقة كلها، ولا شاهدوا رؤوساً قامت على أعناقها بهذا الجلال كله .... كانت هذه الرقصة من عمق التأثير في النفوس ومن جمال الحركات، بحيث اغرورقت عينا الإمبراطور في ختامها، وأجهش الأمراء والسادة كلهم بالبكاء"(54) وقد كان كل من تسعفه ظروفه المالية، يزيِّن نفسه زينةً، لا يكتفي فيها بالوشي الجميل والدمقس المصور بالرسوم، بل يضيف إلى ذلك تحفاً رقيقة هي من الخصائص المميزة لليابان القديمة، بل توشك أن تكون تعريفاً يحدد معناها؛ فكان النساء ينكمشن ليغازلن الرجال من وراء مراوح فتانة الجمال، بينما الرجال يسيرون في خيلاء بما حملوا من سيوف نقشت نقشاً نفيساً، وما علقوا في
مناطقهم من صناديق (يسمون الواحد منها "إنْروُ") تدلت من أوساطهم بخيط سميك، وكان الصندوق منها يتألف عادة من عيون نقشت في العاج أو الخشب نقشاً دقيقاً، يضعون فيها التبغ والنقود وأدوات الكتابة وغير ذلك مما يلزم استعماله أحياناً؛ ولكي يمتنع سقوط الخيط منزلقاً تحت المنطقة، كانوا يربطونه في الجانب الآخر من المنطقة بوصلة صغيرة يسمونها "نتسوكا" (وهي كلمة مكونة من جزئين:"ني" ومعناها طرف، و "تسوكا" ومعناها يربط) وكانت تلك الوصلة تعهد إلى فنان يرسم على سطحها المتغضن رسماً مسرفاً في الرقة والنفاسة، رسماً لآلهة أو شياطين أو فلاسفة أو حور أو طيور أو زواحف أو سمك أو حشر أو زهر أو أوراق شجر أو مناظر من حياة الناس؛ وهاهنا وجدت روح الفكاهة الشيطانية التي يتفوق فيها الفن الياباني على سائر الفنون تفوقاً فسيحاً، وجدت متنفساً طليقاً، وإن يكن متواضعاً، فلن يتكشف لك ما في هذه التحف الفنية من لطف بالغ ودلالة كبرى، إلا بعد فحص دقيق لها، غير أن لمحة سريعة تنظر بها إلى صورة مصغرة لامرأة بدينة أو كاهن سمين أو قرد خفيف الحركات أو حشرات لطيفة، مما كانوا ينقشونه على مساحة لا تبلغ بوصة واحدة مكعبة من العاج أو الخشب، لتكفيك للتأكد مما كان للشعب الياباني من خصال فنية فذة تنبض بحرارة العاطفة
(1)
.
وكان أشهر من حفر الخشب من اليابانيين هو "هيداري جنجارو"(هيداري معناها مبتور اليد اليسرى)، فتنبئنا الأساطير كيف فقد ذراعاً وكسب إسماً؛ وذلك أن ظافراً في القتال طالب مولى "جنجارو" بحياة ابنته، فنحت "جنجاروا" رأساً مبتوراً يمثل رأس ابنة مولاه تمثيلاً بلغ من الصدق حداً جعل ذلك الظافر يأمر ببتر الذراع اليسرى لهذا الفنان عقاباً له على قتل
(1)
مؤلف هذا الكتاب مدين لمستر "أدولف كروش" في شيكاغو بالإذن له بفحص مجموعته الجميلة من هذه التحف: "النتسو كا" و"الإنرو".
ابنة مولاه (55)؛ جنجارو هو الذي نحت بإزميله الفيلة والقطة النائمة التي نراها في ضريح "أيياسو" في نِكُو"، وهو الذي نحت كذلك "باب السفير الإمبراطوري" في معبد "نيشي - هنجوان" في كيوتو؛ وقد قص الفنان على الجانب الداخلي من ذلك الباب قصة الحكم الصيني الذي طهر أذنه مما أصابها من دنس باستماعها لاقتراح عُرض عليه بقبول عرش بلاده، وكيف تجمع قطيع الماشية في تجهم، يقاتل ذلك الحكيم لأنه أصاب ماء النهر بالنجاسة حين أراد تطهير أذنه الدنسة (56)؛ على أن "جنجارو" لم يكسب شهرته هذه إلا لأنه أبرز فنان في وضوح شخصيته، من بين طائفة الفنانين الذين ذهب الزمان بأسمائهم، والذين زينوا ألوف المباني بالخشب المنقوش أو المدهون نقشاً أو دهناً جميلاً؛ ولقد لقيت شجرة "اللاكيه" في جزر اليابان منزلة تتناسب مع شغف أولئك الناس بالفنون، فكانوا يروونها في عناية عظيمة؛ وكان رجال الفن أحياناً يكسون نقوشهم التي نحتوها في الخشب بطبقات من "اللاكيه"، وأحياناً أخرى يسرفون في فرض العناء على أنفسهم بأن يصبوا تمثالاً من الطين، ثم يجعلونه أجوف، ثم يضعون في جوفه عدة طبقات من "اللاكيه"، كل طبقة تكون أسمك من سابقتها (57)؛ وهكذا رفع الفنان الياباني مادة الخشب إلى منزلة المرمر، وملأ الأضرحة والمقابر والقصور بأجمل ما نعرفه في القارة الآسيوية من الزخارف الخشبية.
الفصل السادس
فن العمارة
المعابد - القصور - ضريح - أيياسو - المنازل
في عام 594 أمرت الإمبراطورة "سويكو" أن تقام المعابد البوذية في طول البلاد وعرضها، إما اعتقاداً منها بما في الدعوة البوذية من حق، أو التماساً لما عسى أن يترتب عليها من نفع؛ وعهد بتنفيذ هذا الأمر إلى الأمير "شوتوكو"، فاستدعى من كوريا كهنة ومعماريين وناحتي الخشب وصانعي البرونز وصانعي النماذج من الطين وبنائين ومُذَهّبين وصانعي القرميد ونساجين وغير هؤلاء من مهرة الصناع (58)، وقد كان في استدعاء هذه الحملة الثقافية بداية تقريبية للفن في اليابان؛ ذلك لأن "شنتو" لم يكن يرضى عن زخرفة البناء، ولم يكن يسمح بتشويه صور الآلهة في تماثيل منحوتة؛ أما مذ جاءت تلك البعثة الثقافية، فقد امتلأت أرجاء البلاد بالأضرحة والتماثيل البوذية؛ وكانت المعابد في جوهرها شبيهة بمعابد الصين. غير أنها كانت أغنى من معابد الصين زخرفاً وأرق نحتاً؛ وترى في معابد اليابان ما تراه في معابد الصين، من بوابات فخمة على طول المرتقى أو المدخل الذي يؤدي إلى الحرم المقدس؛ وتزدان الجدران الخشبية بناصع الألوان، وترتكز السقوف القرميدية - التي تسطع في ضوء الشمس - على عمد ضخمة، ويفصل الضريح الأوسط من الأشجار المحيطة به أبنية صغرى كسلسلة من الأبراج مثلاً أو معبد من الطراز المعروف باسم "باجودا"، وأعظم ما أبدعه أولئك الفنانون الأجانب هو مجموعة المعابد التي في "هوريوجي"، والتي أشرف على بنائها الأمير "شوتوكو"، وهي قائمة على مقربة من "نارا"، وتم بناؤها عام 616؛
وإنه لما يذكر حسنة من حسنات الخشب باعتباره أدوم مواد البناء بقاء، أن أحد هذه الأبنية الخشبية قد ظل قائماً رغم ما تعاوره من زلازل لا تحصى عدداً فكان أطول عمراً من مائة ألف معبد من المعابد التي شيدت بالحجر، وكذلك مما يذكر على سبيل الفخر للبنّائين الذين أقاموا تلك المعابد أن اليابان لم تشهد فيما بعد بناء واحداً يفوق هذا الضريح العريق في القدم من حيث جلال البساطة، وربما كانت المعابد المقامة في "نارا" نفسها موازية في جمالها لهذا الضريح، وهي أحدث منه بقليل، وخصوصاً "القاعة الذهبية" التي في معبد "تودايجي" والتي بلغ التناسب في أجزائها حد الكمال، ويقول "رالف آدمز كرام" إن "نارا" تحتوي على أنفس آيات الفن المعماري في آسيا (59).
وبلغت العمارة في اليابان أوجها الثاني في عهد حكومة "أشيكاجا" العسكرية؛ فقد صمم "يوشيمتسو" أن يجعل من كيوتو أجمل عاصمة على وجه
الأرض، فشيد للآلهة معبداً من طراز "ياجودا" بلغ ارتفاعه 360 قدماً، وشيد لأمه "قصر التاكاكورا" الذي بلغت تكاليف باب واحد من أبوابه عشرين ألف قطعة من الذهب (ما يساوي مائة وخمسين ألف ريال)، ثم شيد لنفسه "قصر الزهرة" الذي بلغت تكاليفه ما يساوي خمسة ملايين من الريالات، وكذلك أقام لمجد الشعب كله "البهو الذهبي" في "كنكاكوجي"(60)؛ وأراد "هيديوشي" أيضاً أن ينافس "قبلاخان" فبنى في "مرموياما" قصر النعيم، ولم يكد يمضي على بنائه بضع سنين حتى شاءت أهواؤه المتقلبة أن يهدمه، ونستطيع أن نحكم بما كان لذلك القصر من فخامة، من "بوابة اليوم كله" التي أخذت منه ليزينوا بها معبد "نيشي بنجوا"، وإنما أطلق على البوابة هذا الاسم لأن المعجبين بها يقولون إنك قد تظل يوماً كاملاً تدقق النظر في نقشها دون أن تأتي على كل ما فيها من روعة، وكان "كانوبيتوكو"
لـ "هيديوشي" بمثابة "استينوس" أو "فيدياس"، لكنه زخرف له مبانيه بما هو أقرب إلى فخامة البندقية منه إلى الاعتدال اليوناني، فما شهدت اليابان قط، بل ما شهدت آسيا قبل ذاك مثل هذا الزخرف الفاخر، وكذلك حدث في عهد "هيديوشي" أن بدئ في "حصن أوساكا" المتجهم، حتى تشكلت صورة البناء، وأريد بذلك الحصن أن يشرف على موقع هو في اليابان بمثابة "بتسبرج"، وأن يكون مقبرة لولده.
وأما "أيياسو" فقد كان أميل إلى الفلسفة والأدب منه إلى الفنون، لكن حفيده "أبيمتسو" - الذي اكتفى بكوخ من الخشب يتخذ منه قصراً لنفسه - راح ينفق بسخاء من ثروة اليابان وفنها، ليبني حول رفات "أيياسو" في "نكو" أجمل بناء تذكاري شيد من أجل فرد واحد في أرجاء الشرق الأقصى، ففي هذه البقعة التي تبعد عن طوكيو تسعين ميلاً، وعلى قمة تل هادئ تبلغها بطريق مظلل مزدان بالقباب الفخمة، في هذه البقعة بنى مهندسو العمارة الذين استخدمهم الحاكم العسكري، سلسلة من المداخل الفسيحة المدرجة، بنوا تلك المداخل بادئ ذي بدء، ثم عقبوا عليها ببوابة مزخرفة لكنها رائعة، وهي المعروفة باسم "يو - مي - مون"، ثم أقاموا على مجرى مائي جسراً مقدساً حرام لمسه، ثم سلسلة من المقابر والمعابد أقاموها بالخشب المبطن "باللاكيه" وهي تمتاز بجمال الأنوثة وضعفها، فالنقوش فاخرة إلى حد الإسراف والبناء نفسه ضعيف، وترى لون الطلاء الأحمر فاقعاً حولك حيثما أدرت البصر، كأنه مسحوق الزينة الأحمر على شفاه امرأة بالغت فيه، تراه فاقعاً وسط أخضر الأشجار الباهتة، ومع ذلك فلنا أن نقول إن بلداً يزدهر بالأزهار كل ربيع، قد يكون أحوج إلى ألوان ساطعة للتعبير عن مشاعره، من بلد أقل اضطراماً في عاطفته يقنعه ويرضيه ما هو أقل من ذلك سطوعاً.
وليس في وسعنا أن نقول إن هذه العمارة جبارة، لأن شيطان الزلازل قد
شاء لليابان أن تبنى على نطاق متواضع، وألا تركم الحجارة بعضها فوق بعض حتى تعلوا إلى السماء، بحيث تتقوض حطاماً حين تعبس الأرض عبوساً يغضن جلدها؛ ومن ثم تراهم يبنون بيوتهم من الخشب، وندر أن يرتفع البيت عن طابق واحد أو طابقين؛ ولم يجعل أهل المدن سقوفهم من القرميد - إذا استطاعوا إلى نفقاته سبيلا - إلا بعد أن عانوا من الحرائق المتكررة، وبعد أن أمرت الحكومة بذلك أمراً جعلت تتشدد في تنفيذه، عندئذ فقط اضطر أهل المدن أن يغطوا بالقرميد أكواخهم أو قصورهم الخشبية.
ولما تعذر على أبناء العلية أن يشمخوا بقصورهم إلى السحاب، راحوا ينشرونها على أرض فسيحة، على الرغم من الأمر الإمبراطوري الذي يحدد مساحة الدار الواحدة بمائتين وأربعين ياردة مربعة؛ ويندر أن يكون القصر بناء واحداً، بل كان القصر في العادة يتألف من بناء رئيسي متصل بوساطة مماش مسقوفة بأبنية فرعية تعد لمختلف فروع الأسرة؛ ولم يكن من عاداتهم أن يخصصوا غرفة للطعام وغرفة للجلوس وغرفة للنوم، فالغرفة الواحدة تستخدم لكل الأغراض؛ فإذا شاءوا طعاماً فما هي إلا لحظة واحدة، حتى ترى المائدة قد مدت على أرضية الغرفة المغطاة بالحصير، وإن أرادوا نوماً، فما عليهم إلا أن يمدوا فراش النوم المطوية، فيخرجوها من مخبئها وينشروها على الأرض مدة الليل؛ والجدران قوامها أجزاء تتداخل، أو تزال من مواضعها، وبذلك يمكنهم فصل الحجرات بعضها عن بعض أو فتح بعضها على بعض، بل إن الحائط الخارجي نفسه - بما فيه من شبابيك ونوافذ، يمكن طيه بسهولة ليمكنوا أشعة الشمس من الدخول كاملة، ولنسيم المساء البارد من التغلغل في ديارهم؛ وهم يضمون في منازلهم أستاراً جميلة من فلقات الخيزران، فتكسبهم تلك الأستار ظلاً وستراً في آن معاً؛ والنوافذ هناك من علامات الترف، إذ ترى بيوت الفقراء ذات فتحات كثيرة تُترك على حالها في الصيف ليدخل الضوء، حتى إذا ما جاء الشتاء سدوها بصنف من الورق
المشمع ليتقوا برد الشتاء، إن نظرة إلى فن العمارة في اليابان تدلك على أن تلك العمارة ولدت في بلاد حارة، ثم نقلت في غير حذر إلى جزائر تمتد بأعناقها شمالاً حتى تصل إلى كامشتكا التي ترتعش من شدة البرد وهذه المنازل البسيطة الرقيقة إذا ما شهدتها في المدن الجنوبية ألفيت لها أسلوباً معمارياً وجمالاً خاصاً يميزها، وهي هناك مساكن ملائمة لشعب كان يوماً من أبناء الشمس الذين تملؤهم نشوة المرح.
الفصل السابع
المعادن والتماثيل
السيوف - المرايا - ثالوث هوريوجي - التماثيل الكبيرة - الدين والنحت
كان سيف الرجل من طائفة "السيافين" أصلب عوداً من مسكنه؛ لأن صناع المعادن في اليابان بذلوا جهدهم كله في صناعة أسياف تفوق أسياف دمشق وطليطلة (61)، فقد كانوا يصنعونها من المضاء بحيث تكفي ضربة واحدة منها لشق الرجل من كتفه إلى فخذه؛ وكذلك كانوا يزخرفونها بالمقابض والمدلَّيات التي يسرفون في تزيينها، أو في ترصيعها بالجواهر، إسرافاً لم يجعلها دائماً صالحة للنقل؛ ومن صناع المعادن من كانوا يختصون بصناعة المرايا من
البرونز، يصقلونها صقلاً أثار خيال أصحاب الأساطير، بحيث راحوا يروون أساطيرهم إعجاباً بما بلغته تلك المرايا من كمال؛ من ذلك مثلاً أن فلاحاً اشترى مرآة لأول مرة، ونظر إليها فظن أنه يرى فيها وجه أبيه الميت، فأخفاها على أنها كنز ثمين؛ لكنه كان يتسلل إليها فارتابت زوجته في أمره، وأخرجت المرآة يوماً من مكمنها، فما كان أشد فزعها حين رأت امرأة في مثل سنها، ورجحت أن تكون تلك المرأة خليلة زوجها (62)؛ ومن هؤلاء الصناع من افتنَّ في صناعة الأجراس الضخمة، مثل ذلك الجرس العظيم في نارا (732 ميلادية) الذي تبلغ زنته تسعة وأربعين طناً، وكانوا يستخرجون من تلك الأجراس أنغامها الحلوة - أحلى من الأصوات التي تنبعث من مصفقاتنا المعدنية في الغرب - بطرقها بلسان من خارجها، يهزونه بوساطة عمود خشبي متأرجح.
وكان النحاتون أميل إلى استخدام الخشب أو المعدن منهم إلى استخدام الحجر، لفقر بلادهم في الجرانيت والمرمر؛ ومع ذلك، فعلى الرغم من صعوبات المادة كلها؛ استطاعوا أن يفوقوا معلميهم من أهل الصين وكوريا، في هذا الفن الذي هو أوضح فن في تحديد معالمه - فسائر الفنون كلها تحاول في خفاء أن تحاكي ما يفعله النحات صابراً حين يزيل ما لا يجوز بقاؤه من مادته، وأقدم آية في فن النحت الياباني تقريباً وربما كانت كذلك أعظم آيات اليابان في ذلك الفن - هي "ثالوث هوريوجي" البرونزي-
وقوامه بوذا جالساً على برعم من براعم اللوتس بين بوذيْن منتظَرَيْن، أمام ستار وهالة من البرونز، لا يفوقهما جمالاً إلا الوشي الحجري الذي نراه على ستار "أورنجزيب" في "تاج محل"؛ ولسنا ندري من ذا أبدعت يداه هذه المعابد فأقامها، وتلك التماثيل فنحتها؛ ولنا أن نقول إنها من إرشاد معلمين كوريين، أو أنها اقتفت نماذج من الصين؛ أو أنها تعزى إلى حوافز من الهند، بل لنا أن نقول إنها متأثرة بمؤثرات يونانية جاءتها من أيونيا البعيدة عبر ألف من السنين؛ لكن الذي لا نشك فيه هو أن هذا الثالوث آية من أبدع آيات الفن في تاريخه كله
(1)
.
ويجوز أن يكون قِصَر قامة اليابانيين، بحيث توشك أجسامهم أن تنوء بحمل مطامحهم وقدراتهم الروحية، هو الذي جعلهم يلتمسون المتعة في إقامة التماثيل الضخمة؛ وقد وفقوا في هذا الفن المحفوف بمواضع الزلل، أكثر مما وفق المصريون أنفسهم؛ فلما فشا الجدري في اليابان سنة 747، كلف الإمبراطور "شومو""كيميمارو" أن يصوغ تمثالاً ضخماً لبوذا استرضاء للآلهة؛ فاستخدم "كيميمارو" لهذه الغاية أربعمائة وسبعة وثلاثين طناً من البرونز، ومائتين وثمانية وثمانين رطلاً من الذهب، ومائة وخمسة وستين رطلاً من الزئبق، وسبعة أطنان من الشمع النباتي، وعدة أطنان من الفحم، وقد تطلب هذا العمل عامين، واقتضى سبع محاولات؛ فصب الرأس في قالب واحد، أما البدن فكان مؤلفاً من رقائق معدنية كثيرة لصق بعضها ببعض،
(1)
قد يكون لـ "شوتوكا تايشي" العظيم، الذي كان من رجال السياسة والفن على السواء، صلة بهذا الأثر الفني الجليل. لأننا نعلم أنه أمسك بالأزميل ونحت تماثيل كثيرة من الخشب (63)؛ كذلك كان "كوبو دايشي"(حوالي 816) نحاتاً ومصوراً معاً، وعالماً وقديساً في آن واحد؛ ولقد صوره لنا "هوكوساي" ممسكاً بخمس فراجين دفعة واحدة، اثنتين بيديه واثنتين بقدميه وخامسة بفمه (64)، لكي يدلنا بذلك على تنوع براعته؛ ورسم "أونكي"(1180 - 1220) تماثيل نصفية دقيقة التعبير عن شخصياتها، رسمها لنفسه ولكثير من الكهنة، ونحت أشكالاً جميلة مفزعة ليوم الحساب في الجحيم، ولهؤلاء الآلهة الغضاب الذين كان عليهم أن يطردوا بوجوههم القبيحة كل الأرواح الشريرة، ولقد تعاون معه أبوه "كوكي" وابنه "جوكي" وتلميذه "جوكاكو" لإعلاء اليابان في فن النحت في الخشب.
ثم غطيت بغشاء سميك من الذهب؛ وإن الأجنبي عن اليابان ليعجب لتمثال بوذا "وايبوستو" القائم في "كاماكورا"، أكثر مما يعجب لذلك التمثال الكئيب العابس في "نارا" وتمثال "وايبوستو" هذا مصبوب من البرونز تم صنعه سنة 1252 على يدي "أونوجرينمون"، ولعل ما يجعل حجم هذا التمثال مناسباً للغاية منه، كونه جالساً على مرتفع في الفضاء المكشوف، محوطاً بمنظر جميل من الشجر، فضلاً عن أن الفنان هنا قد عبر ببساطة تدعو إلى العجب، عن روح بوذا في تأمله وسكينته؛ وكان هذا التمثال بادئ الأمر قائماً في معبد - كما هي الحال اليوم في التمثال القائم في "نارا" - لكن حدث في سنة 1495 أن اجتاحت المكان موجة من البحر، فاكتسحت المعبد والمدينة جميعاً، تاركة فيلسوفنا البرونزي هادئاً وسط هذا الخراب الشامل، وما ملأ الأرض حوله من عذاب وموت، كذلك شيد "هيديوشي" تمثالاً ضخماً في كيوتو، ولبث خمسون ألف رجل يعملون مدى خمسة أعوام في إقامة هذا التمثال لبوذا؛ بل كان الحاكم العظيم نفسه يتلفع أحياناً بثوب عامل بسيط، ويعاون العاملين في إقامة التمثال معاونة كبرى؛ لكنه لم يكد يتم بناؤه، حتى زلزلت الأرض سنة 1596 فألقت به على الأرض هشيماً، ونثرت حطام جزئه الداخلي الذي كان مفروضاً أن يكون حرماً وموئلاً، نثرتها حول رأسه؛ ويروى في اليابان أن "هيديوشي" رمى الصنم المحطم بسهم قائلاً في ازدراء:"لقد أقمتك هاهنا بباهظ النفقات، فلم تستطع حتى حماية معبدك"(65).
في هذا المدى الذي يتفاوت فيه الحجم: من أمثال هذه التماثيل الضخمة إلى المدليات (النتسوكا) الصغيرة، تناول النحت الياباني كل ضروب الأشكال في شتى ضروب الأحجام: فأحياناً ترى سادة هذا الفن - مثل "تاكامورا" في يومنا هذا - ينفقون أعواماً من العمل المتصل في صناعة تماثيل لا تكاد
تبلغ قدماً واحدة في طولها؛ وكان يمتعهم أن يصوروا بتماثيلهم تلك كهولاً في الثمانين التَوَت أبدانهم؛ أو شرهين يمرحون في الشره، أو كهنة متفلسفين؛ وإنه لمن الخير أن نرى روح الفكاهة في عملهم قد شجعهم على المضي في فنهم، لأن معظم الكسب الذي كانت تدره صناعتهم، كان يستولي عليه مستخدموهم الدهاة؛ وكانوا في تماثيلهم الكبيرة مقيدين بتقاليد خاصة بموضوع التمثال،
أو بطريقة أدائه، مما يفرضه عليهم الكهنة؛ فالكهنة إنما أرادوا من هؤلاء النحاتين أن يصوروا لهم آلهة لا نساء فاجرات، أرادوا أن يوحوا إلى الناس بالتقوى، أو أن يحيطوا فضائلهم بعوامل الخوف لا أن يستثيروا في الناس إحساسهم بالغبطة والجمال، ولما كان النحاتون مرتبطين يداً وروحاً بالدين فقد تدهور فن النحت حين بردت حرارة الإيمان وذهبت قوته؛ وكما حدث في مصر من قبل، رأينا أنه لما غاض معين التقوى، بقيت صلابة التقاليد في الفن دليلاً على برودة الموت.
الفصل الثامن
الخزف
الدافع من الصين. خزافو هيزن - الخزف والشاي - كيف استحضر
"جوتو سايجيروا" فن الخزف الرقيق من هيزن إلى كاجا - القرن التاسع عشر
إنه ليس من العدل التام بالنسبة إلى اليابان، أن نتحدث عن استجلابها لمدينتها من كوريا والصين، إلا بالمعنى الذي نقصده من مثل هذا الكلام حين نقول عن شمالي غربي أوربا إنه أخذ مدينته عن اليونان وروما؛ هذا إلى أنه يجوز لنا أن نعد شعوب الشرق الأقصى كلها وحدة بشرية وثقافية، وكل جزء من أجزاء هذه الوحدة - شأنها في ذلك شأن أقاليم القطر الواحد - قد أنتج فنه وثقافته في مكانه الخاص وزمانه الخاص، بحيث جاءت تلك الثقافة وذلك الفن يشبهان ويعتمدان على ما أنتجته بقية الأجزاء من ثقافة وفن؛ وعلى هذا نرى الخزف الياباني جزءاً من الفن الخزفي في الشرق الأقصى، ووجهاً من وجوهه؛ وهو في أساسه شبيه بالخزف الصيني، إلا أنه مطبوع بطابع يميزه من الرقة والرشاقة اللتين تميزان الفن الياباني كله؛ وقد كان الخزف الياباني - حتى قدوم الصناع الكوريين في القرن السابع - مجرد صناعة خالية من لمسة الفن، أعني أنه كان لا يعدو أن تصب المادة صباً على نحو غليظ لتكون آنية للاستعمال اليومي؛ والأرجح أنه لم يكن في الشرق الأقصى قبل القرن الثامن خزف مصقول، وأكثر من هذا ترجيحاً أنه لم يكن به نوع الخزف المسمى "بورسلان"(66)، ثم أصبحت الصناعة فناً، وكان أكبر العوامل على هذا التطور دخول الشاي في القرن الثالث عشر؛ فقد صحب الشاي عند دخوله البلاد أقداح صينية لشربه من طراز "صنج" فأثارت الإعجاب عند أهل اليابان؛ حتى غامر خزاف ياباني سنة 1223 وهو "كاتوشيروزيمون"،
فسافر إلى الصين، ودرس هناك فن الخزف مدى ستة أعوام، وعاد بعدها ليقيم مصنعاً له في سيتو، وتفوق بضاعته على كل ما سبقه في بلاده من هذه الصناعة، حتى أصبحت "منتجات سيتو" علماً على كل صناعة خزفية في اليابان كلها، وذلك شبيه بما حدث في اللغة الإنجليزية في القرن السابع عشر، حين أطلقت كلمة "منتجات صينية" على الخزف البورسلاني؛ وقد كتب الحاكم العسكري "يوريتومو" الثراء لذلك الخزاف "شيروزيمون" حين ابتدع بدعاً جديداً، وهو أن يكافئ الخدمات الصغرى بهدايا من أباريق الشاي التي "صنعها شيروزيمون"، هذا بعد أن يملأها بهذه الأعجوبة الجديدة، وهي مسحوق الشاي، وما بقي لنا اليوم من آثار هذه المنتجات - ويطلق عليها اسم "توشيرو - ياكي"
(1)
- يكاد يغلو عن أي ثمن مهما غلا، وترى تلك الآثار باقية ملفوفة في الحرير الموشي الثمين، ومصونة في صناديق من خشب "اللاكيه" الجميل، وإذا حدثك محدث عن أصحابها، حدثك عنهم بأنفاس متقطعة على أنهم سادة خبراء الفن (67).
وبعد ذلك بثلاثمائة عام، أغرت الصين يابانياً آخر بالرحلة إليها، وهو "شونْزِوِي" ليدرس مخازفها المشهورة؛ ولما عاد إلى بلاده، أنشأ مصنعاً في "أريتا" في إقليم "هيزن"، وكان مما قام في وجهه من صعاب، أنه لم يجد في تربة بلاده المواد المعدنية التي تعين على صناعة الخزف الرقيق، كالتي توجد في تربة الصين؛ وقد قيل عن منتجاته إن عنصراً من أهم عناصرها مستمد من عظام صُنَّاعه، ومهما يكن من أمر، فمنتجات "شونزِوِي" ذات اللون الأزرق الإسلامي (كذا؟) قد بلغت من الروعة حداً أغرى خزافي الصين في القرن الثامن عشر أن يبذلوا وسعهم في تقليدها وتصديرها مُزَوَّدة باسمه، والعينات الباقية من صناعته، تقدر اليوم بما يقدر به أندر الصور
(1)
"توشيرو" اسم آخر كان يطلق على "شيرزيمون" و "ياكي" معناها منتجات.
الفنية التي رسمتها ريشة الصفوة من أعلام الفن في اليابان (68)، وحدث حوالي سنة 1905، أن كشف رجل من كوريا - هو "رايزمبي" - في "إزومي - ياما" الواقعة في إقليم "أريتا" عن رواسب غزيرة من حجر البورسلان، فأصبحت "هيزن" منذ ذلك الحين مركزاً لصناعة الخزف في اليابان، وكذلك كان "كاكيمون" المشهور ممن قاموا بهذه الصناعة في "أريتا" إذ تعلم فن الطلاء بالميناء من ربان سفينة صينية، وبعدئذ احترف هذه الصناعة حتى كاد اسمه يصبح كلمة معناها البورسلان الذي طلى بالميناء طلاء رقيق الزخارف، وراح التجار الهولنديون يرسلون إلى أوربا مقادير هائلة من مصنوعات هيزن، كانوا يعبئونها في السفن من ميناء "أريتا" عند "عماري"، فأرسلوا من ذلك 943 ر 44 قطعة إلى هولندا وحدها عام 1664، فأثارت "المنتجات العمارية" الباهرة هزة في أوربا، وأوحت إلى "إيبرجت دي قيصر" أن يفتتح عهداً ذهبياً من صناعة الخزف الهولندية بمصانعه في "دلفت".
هذا إلى أن ظهور الاحتفال بشرب الشاي، قد حفز على تطور جديد في اليابان، وذلك أنه في عام 1578 كلَّف "نوبوجانا" - بإشارة من "ركْيُو" سيد الشاي - أسرة كورية من المشتغلين بصناعة الخزف في كيوتو، أن تصنع له مقداراً كبيراً من أقداح الشاي وغيرها من الأدوات المستعملة في عمله وشربه، ومضت أعوام قلائل بعد ذلك ثم أهدى "هيديوشي" تلك الأسرة خاتماً ذهبياً، وجعل مصنوعاتها وتعرف باسم "راكو - ياكي" شرطاً يكاد يكون لازماً لتمام الاحتفال بشرب الشاي، وعاد قادة جيش هيديوشي من حملتهم الفاشلة على كوريا، عادوا ومعهم عدد كبير من الأسرى، كان بينهم كثير من رجال الفن، اختيروا قصداً، وهو اختيار لا نألفه في رجال الحروب، وفي سنة 1596 أحضر "شيمازويو شيهيرو" إلى "ساتسوما" مائة من مهرة الكوريين، بينهم سبعة عشر خزَّافاً، فكان لهؤلاء الرجال وأخلاقهم الفضل
في نشر سمعة "ساتسوما" في أرجاء العالم كله مقرونة بتلك المصنوعات الخزفية المصقولة الزاهرة الألوان، والتي نطلق عليها اليوم اسم مدينة إيطالية، إذ نسميها "فاينْس"، وكان علم أعلام هذا الفرع من فن الخزف هو خزف كيوتو، واسمه "نِنسي"، ولم يكتف هذا الرجل بابتكاره بطلي خزف "فاينس" بالميناء، بل أضاف إلى ذلك رشاقة في مصنوعاته واعتدالاً سليم الذوق يعلو بقيمتها، مما جعلها نفيسة في أعين هواة هذا الفن منذ ذلك اليوم، حتى إن اسمه ليزوَّر أكثر مما يزور أي اسم آخر من رجال الفن في اليابان (69)، وقد كان من أثر صناعته، أن أقبل الناس على خزف "فاينس" المزخرف، إقبالاً بلغ في العاصمة حد الجنون، وفي بعض الأحيان في كيوتو كنت ترى منزلاً من كل منزلين قد انقلب تحفة خزفية (70)؛ وهناك خزاف آخر، لا يفوقه شهرة إلا "نِنسى" وهو "كِنزان" الذي كان شقيقاً أكبر للمصور "كورين".
وهنالك قصة تروي عن كيفية إحضار "جوتوسايجيرو" لفن البورسلان من "هيزن" إلى "كاجا"، ومن تلك القصة نتبين طرفاً من أعاجيب الخيال التي كثيراً ما نراها كامنة وراء فن الخزف في نشأته وتطوره، وذلك أن طبقة من رواسب الحجر الخزفي الجميل قد استُكشفت قريباً من قرية "كوتاني"، فصمم الحاكم الإقطاعي في ذلك الإقليم على إنشاء صناعة البورسلان في إقليمه، وأرسل جوتو إلى هيزن لدراسة طرائق صناعته في الأفران وزخرفته بالرسوم، لكن جوتو لم يجد طريقه ميسَّراً، إذ وجد القائمين على صناعة الخزف يكتمون أسرار صناعتهم كتماناً شديداً، وأخيراً تنكر خادماً وقبل عملاً وضيعاً في منزل خزاف، وبعد أن قضى في خدمته ثلاثة أعوام أذن له سيده بالدخول في مصنع الخزف، وهناك لبث جوتو يعمل أربعة أعوام أخرى؛ وبعدئذ هجر الزوجة التي كان تزوج بها في هيزن والأطفال الذين أنجبتهم له تلك الزوجة، وفر إلى كاجا، حيث أحاط مولاه علماً كاملاً بالطرائق التي تعلمها، ومنذ ذلك الحين (1664) أصبح خزافو "كوتاني" أعلاماً في هذا
الفن، وباتت "كوتاني" - "ياكا"(أي مصنوعات كوتاني) تنافس خيرة منتجات اليابان في هذا الباب (71).
واحتفظت مصانع "هيزن" لمنتجات الخزف بزعامتها إبان القرن الثامن عشر كله؛ وكان ذلك يرجع إلى حد كبير إلى العناية الكريمة التي أولاها الحاكم الإقطاعي "هيرادو" عمال مصانعه، ولبثت مصنوعات الخزف الأزرق المسماة "منشاواكي" والتي كانت تنتمي لـ "هيرادو"، لبثت قرناً كاملاً (1750 - 1843) في طليعة البورسلان الياباني، ثم نَقَلَ "زنجورو هوزن" الزعامة في القرن التاسع عشر إلى كيوتو، بتقليد بارع لمصنوعات "متشاواكي"، كثيراً ما بز فيها النموذج المحتذي، بحيث كان يستحيل أحياناً أن تفرق بين الأصل والتقليد، وفي الربع الأخير من ذلك القرن، هذبت اليابان من صناعة الطلي بالميناء، فطوَّرتها من الحالة البدائية التي كانت عليها منذ قدومها من الصين، وتزعمت العالم كله في هذا الميدان من ميادين الصناعة الخزفية (72)، وتدهورت فروع أخرى من تلك الصناعة في الفترة عينها، لأن ازدياد الطلب في أوربا للخزف الياباني، أدى إلى نمط فيه إسراف في الزخرف، لا يستسيغه الذوق الياباني، فكان من أثر هذا الطلب للخزف الياباني من خارج البلاد، أثر في تعويد العمال عادات جديدة في صناعتهم تأثرت بها مهارتهم، وضعفت تقاليد ذلك الفن، وجاءت الصناعة الآلية فكانت هاهنا - كما كانت في كل مكان آخر - وبالاً؛ فحل الإنتاج الكبير محل الجودة، كما حل الاستهلاك الكبير محل الذوق الذي يميز الطيب من الخبيث، ومن يدري؟ فلعله بعد أن يفرغ الاختراع الآلي في الصناعة من شوطه الخصيب، وبعد أن تنتشر في الناس نعمة الفراغ وطريقة استعماله استعمالاً فيه خلق وإبداع، بفضل ما يطرأ على المجتمع من تنظيم وخبرة، ستتحول هذه النقمة إلى نعمة، بحيث تنشر الصناعة في أكثرية الناس ألوان الترف، فقد يعود العامل فيصبح فناناً كما كان - بعد أن يستكمل ساعات عمله القليلة أمام الآلة - وقد يحول الإنتاج الآلي إلى عمل يعبر فيه عن شخصيته وفنه إذا ما أحبه حباً صادراً من صميم نفسه وفرديته.
الفصل التاسع
التصوير
مشكلات الموضوع - الطريقة والمادة - القوالب الفنية والمثل
العليا - الأصول الكورية والوحي البوذي - مدرسة توسا - العودة إلى
الصين - سشيو - مدرسة كانو - كوينسو - وكورين - المدرسة الواقعية
لئن كانت سائر الموضوعات التي مسسناها بالحديث على هذه الصفحات مما لا ينبغي فيه الحديث لغير المتخصصين، فذلك أصدق بالنسبة للتصوير الياباني؛ وإذا نحن استملناه هاهنا بكلامنا جنباً إلى جنب مع غيره من الموضوعات التي تمس خفايا النفس، حيث تخشى الملائكة أن تدوس بأقدامها في غير احتفال، فإنما نشتمله بالكلام آملين أن يستطيع القارئ خلال هذه الغلالة التي نقدمها له من نسيج الأخطاء، أن يلمح قبساً يهديه إلى لب الحضارة اليابانية في تمام خصائصها وجودة عنصرها، فآيات التصوير الياباني نتاج فترة من الزمن طولها ألف ومائتا عام، تتقسمها كثرة متشابكة الخيوط من مختلف المدارس؛ وقد طرأ على تلك الآيات الفساد أو الضياع على مر الزمن، وتكاد كلها تكون خبيثة بين المجموعات الخاصة في اليابان
(1)
.
وأما الآيات القليلة المعروضة لأعين الباحثين من الأجانب، فمختلفة في قالبها وطريقتها وأسلوبها ومادتها عن الصور الغربية اختلافاً، يستحيل معه إصدار حكم سليم عليها من عقل غربي.
فالصور اليابانية - قبل كل شيء تشبه نماذجها في الصين من حيث
(1)
أظن أن خير مجموعات "مدرسة كانو" - وهي مجموعة مستر بيبو في طوكيو، قد أصابها زلزال سنة 1923 بما يقرب من التلف الكامل.
إنها رُسمت أول ما رسمت بنفس الفرجون الذي كان يستخدم للكتابة؛ والكلمة التي معناها كتابة، والأخرى التي معناها تصوير، هما في الأصل كلمة واحدة - كما هي الحال أيضاً عند اليونان، فالتصوير كان عبارة عن فن خطي؛ وهذه الحقيقة الأساسية قد تفرع عنها نصف خصائص التصوير في الشرق الأقصى، بادئاً من المادة المستعملة في التصوير، ومنتهياً إلى إخضاع اللون للتخطيط، فالمواد المستعملة بسيطة: مداد أو ألوان مائية، وفرجون وورق نشاف أو حرير نشاف، وأما العمل نفسه فعسير: فالفنان لا يعمل وهو واقف، بل يعمل جاثياً على ركبتيه، منحنياً على قطعة الحرير أو قطعة الورق المنشورة على الأرض؛ ولابد له من ضبط يده في التخطيط بالفرجون، حتى يستطيع أن يخط إحدى وسبعين درجة أو أسلوباً من درجات التخطيط أو أساليبه (73)؛ وكانت الرسوم ترسم على الجدران في القرون الأولى، أيام أن كانت البوذية مسيطرة على الفن في اليابان، على نحو ما كانت ترسم الصور الجدارية في "أجانتا" أو "تركستان"؛ غير أن كل ما بقي لدينا تقريباً من أعمال فنية واسعة الشهرة إما أن تكون من نوع الـ "ماكيمونو"(أي اللفائف) أو نوع الـ "كاكيمونو"(أي التعاليق) أو من نوع الستائر، ولم تكن هذه الصورة ترسم لتعرض في متاحف الفن عرضاً يخلو من استساغة المشاهدين لفنها - إذ ليس في اليابان متاحف للفن - إنما كانت ترسم لتكون متعة لناظري مقتنيها وأنظار أصدقائه؛ أو كانت تُرسم لتكون جزءاً من زينة زخرفية في معبد أو قصر أو منزل؛ وكان من النادر جداً أن تصور تلك الرسوم أشخاصاً معينين، إذ كان معظمها يصور لمحات من الطبيعة، أو مشاهد من النشاط العسكري، أو قبسات فكهة أو تهكمية تصور ما يشاهده الفنان من طرائق العيش عند الحيوان أو بني الإنسان نساء ورجالاً.
كانت صورهم أقرب إلى أن تكون قصائد تعبر عن وجدان الفنان، منها إلى أن تكون رسماً لأشياء؛ كما كانت أدنى شبهاً بالفلسفة منها بالتصوير
الفوتوغرافي؛ فلم يحاول الفنان الياباني أن يلتزم الواقع في تصويره، وقلما أراد أن يقلد برسمه الصورة الخارجية للشيء المرسوم، فقد نفض يديه، في ازدراء من ظلال الأشياء، على اعتبار أنها لا تتصل بجواهر الأشياء، مؤثراً لنفسه أن يصور "في الهواء الطلق" بمعنى أنه لا يتقيد بتجسيم الشيء بوساطة تأثير النور والظل، وهو يبتسم ساخراً بالغربيين في إصرارهم على أن يخضعوا الأشياء البعيدة لقواعد النظر في رؤيته للأشياء على أبعاد، بحيث تصغر تبعاً لذلك أو تكبر، يقول "هوكاساي" - في تسامح فلسفي - "إن التصوير الياباني يمثل القالب واللون بغض النظر عن التجسيم. أما طرائق الأوربيين فتهدف إلى التجسيم والإيهام"(74)؛ أراد الفنان الياباني أن ينقل شعوراً أكثر مما ينقل شيئاً، أراد أن يوحي أكثر مما يعرض الشيء بأكمله كما هو، ففي رأيه لا يلزم أن تبين من عناصر المنظر المرسوم أكثر من عدد قليل، فالأمر هنا في التصوير كالأمر في الشعر الياباني، الذي لا يسمح بالزيادة في القول عن مجرد القدر الذي يكفي لإثارة وجدان التقدير الفني في السامع، بحيث يعمل خياله إعمالاً يكمل به النتيجة الجمالية المراد بلوغها، وكان المصور شاعراً، يقدر إيقاع التخطيط، ويقدر موسيقى القوالب، أكثر جداً مما يقدر أشكال الأشياء وطرائق بنائها التي تختار اختياراً كما اتفق، وهو كالشاعر يعتقد أنه لو أخلص لمشاعره، فحسبه هذا القدر من الواقعية.
ويحتمل أن تكون كوريا هي التي جاءت بفن التصوير للإمبراطورية القلقة التي تم لها عندئذ غزوها، وأغلب الظن أن بعض رجال الفن من كوريا هم الذين رسموا الصور الجدارية ذات الانسياب في خطوطها والازدهار في ألوانها التي تراها في "معبد هوريوجي"، لأنك لا تجد شيئاً في تاريخ اليابان فيما قبل القرن السابع، تفسر به مثل هذا الإنتاج القومي المفاجئ الذي بلغ فيه كمال الفن روعة لا يعيبها خطأ، ثم جاءها الحافز الثاني من الصين
مباشرة، حين ذهب إليها الكاهنان اليابانيان "كوبودايشي" و "دنجيودايشي" ليدرسا فيها فن التصوير، فلما عاد "كوبودايشي"(سنة 806) إلى اليابان، كرس نفسه للتصوير وللنحت وللأدب والعبادة في آن معاً، وبعض الآيات التي تعد من أقدم الآيات الفنية، هي من نتاج فرجونه المتعدد المواهب؛ وكانت البوذية أيضاً مصدر وحي للفنان في اليابان كما كانت مصدر حي له في الصين، فممارسة الحالة التأملية البوذية المعروفة باسم "زن" قد اتجهت ناحية الإبداع في ناحيتي اللون والشكل، بقوة تكاد تقرب من القوة التي اتجهت بها نحو الفلسفة والشعر؛ وكثرت مناظر "اميدا بوذا" في الفن الياباني كثرة مناظر البشرى بمولد المسيح ومناظر صَلْبه على الجدران واللوحات التي ترجع إلى عهد النهضة الأوربية؛ والكاهن "ييشين سوزو"(مات سنة 1017) هو لليابان بمثابة "فرا إنجليكو" و "إلى جريكو" لذلك العصر، فتصويره لصعود "أميدا" وهبوطه جعله أعظم مصور ديني في تاريخ اليابان؛ وكان عندئذ "كوسي نو - كا نوكا"(حوالي 950) قد بدأ في جعل التصوير الياباني علماني الصبغة؛ وهاهنا بدأت الطيور والزهور والحيوان تنافس الآلهة والأولياء على لوحات التصوير.
غير أن فرجون "كوسي" كان ما يزال يتحرك على أساس القواعد الصينية ويفكر بعقول أهل الفن في الصين؛ ولم تبدأ اليابان في قرونها الخمسة التي اعتزلت بنفسها فيها وأخذت خلالها تصور مناظرها هي، وموضوعاتها هي، بطريقتها الخاصة، إلا حين وقفت علاقات الاتصال بين اليابان والصين في القرن التاسع؛ ونشأت مدرسة قومية لفن التصوير حوالي سنة 1150، تحت رعاية الدوائر الإمبراطورية والأرستقراطية في كيوتو؛ وأعلنت تلك المدرسة سخطها على ما يرد إلى البلاد من الخارج، من حوافز وأساليب في عالم الفن، وأخذت على نفسها أن تزخرف منازل العاصمة الفاخرة، برسوم زهور اليابان ومناظرها الطبيعية، وكان لهذه المدرسة عدة أسماء، كما كان لها عدة أعلام بارزين، فيطلق عليها "ياماتو- ريو" أو الأسلوب
الياباني، و "واجا - ريو" ومعناها كذلك الأسلوب الياباني، و "كاسوجا" باسم مؤسسها المشهور، وأخيراً يطلق عليها "مدرسة توسا" باسم أهم ممثل لها في القرن الثالث عشر، وهو "توسا جون - نو - كومي)؛ ومنذ ذلك الحين، ظل اسم "توسا" يطلق على كل رجال الفن الذين ينتمون إلى تلك المدرسة، وهي مدرسة جديدة بوصفها بالصفة القومية، لأنك لا تجد في الفن الصيني ما يقابل مما أنتجته فراجين أتباع هذه المدرسة من حيث القوة والثبات والتنوع والفكاهة، مما تراه في اللوحات التي تقص قصصاً عن الحب والحرب، فحوالي سنة 1010 رسم "تاكايوشي" بالألوان رسوماً فخمة تصور حكاية "جنجي" وما فيها من غواية، وسرى "توبا سوجو" عن نفسه برسم صور تهكمية نابضة بالحياة، يسخر فيها من أوغاد عصره وكهنته، تحت ستار من القردة والضفادع، ولما وجد "فوجيوارا تاكانوبو" قرب نهاية القرن الثاني عشر، أن حسبه الشريف لا يغنيه شيئاً مذكوراً في إشباع حاجته من الطعام والشراب، استدار للفرجون يكسب به عيشه، ورسم صوراً عظيمة لـ "يورنيومو" وغيره، لا تشبه في شيء قط ما أنتجته الصين حتى ذلك الحين، وصور ابنه "فوجيوارا نوبوزاني" ستاً وثلاثين صورة للشعراء، محتملاً ما في ذلك العمل من صبر، وفي القرن الثالث عشر رسم ابن "كاسوجا" وهو "كيون" - أو غيره. تلك اللوحات الحية التي تعد من أروع ما أنتجه العالم كله في فن التصوير.
لكن هذه المصادر القومية التي كانت تبعث الوحي، راحت تجف شيئاً فشيئاً، بحيث تتحول إلى أوضاع تقليدية في الأشكال والأساليب، وعاد الفن الياباني من جديد فالتمس غذاءه عند المدارس الجديدة التي كانت ناهضة في الصين أيام "نهضة صنج"، ولبث اليابانيون حيناً مدفوعين إلى تقليد الصين بغير ضابط، وأنفق الفنانون اليابانيون الذين لم يشهدوا "المملكة الوسطى"
قط، أنفقوا أعمارهم في رسم أشخاص ومناظر من الصين، فرسم "شو دنو" ست عشرة صورة لأولياء بوذيين، هي الآن بين الكنوز المعروضة في "متحف فرير"للفن في واشنطن، وأما "شوبون" فقد شاءت له ظروفه أن يولد وأن ينشأ في الصين، فلما جاء ليقضي حياته في اليابان، استطاع أن يصور مناظر طبيعية صينية مستعيناً في ذلك بذاكرته وبخياله معاً.
وكانت هذه الفترة الثانية من فترات التصوير الياباني، هي الفترة التي أنجبت أعظم شخصية ظهرت في تاريخ التصوير كله، وهو "سشيو"، الذي كان كاهناً من طائفة "زن" في "سوكوكوجي"، وهي مدرسة من المدارس الفنية الكثيرة التي أقامها "يوشيمتسوا" الحاكم العسكري من أسرة "أشيكاجا"؛ فقد استطاع "سشيو" هذا وهو لم يزل في يفاعته أن يدهش بني بلده برسومه؛ وتروي عنه أسطورة لم تدر كيف تعبّر عن إجلالها لفنه، تروي أنه ربط ذات يوم إلى عمود لسوء سلوكه، فرسم بأصابع قدميه جرذاناً بلغ شبهها بالجرذان الحية حداً جعل الحياة تدب فيها فتأتي لتقرض الوثاق الذي شد به (75)، ولما اشتد به الشوق إلى الاتصال بسادة الفن في الصين حينئذ اتصالاً مباشراً، حصل على أوراق اعتماد رسمية من رؤسائه الدينيين ومن الحاكم العسكري، ثم عبر البحر، لكن رجاءه خاب حين وجد التصوير الصيني في طريقه إلى التدهور، ثم عزى نفسه بما وجده في تلك المملكة العظيمة من تنوع في الحياة والثقافة، وعاد إلى وطنه مملوءاً بآلاف الأفكار الجديدة التي توحي إليه بما ينبغي أن يفعله؛ وتروي الرواية أن رجال الفن ورجال الطبقة العليا من أهل الصين، صحبوه إلى السفينة التي أعادته إلى بلاده، وأمطروه بورقات بيض ملتمسين منه أن يرسم فيها رسوماً تخطيطية بسيطة - إن لم يَجُدْ عليهم بأكثر من ذلك - ثم يرسلها إليهم؛ ومن ثم - هكذا تقول هذه الرواية - سمي باسمه الرمزي "سشيو"، الذي معناه "سفينة الثلج"(76)، لأن الورقات البيض
تساقطت عليه كما يتساقط الثلج، والظاهر أنه لما بلغ اليابان استقبله الناس هناك استقبالهم لأمير، ومنحه الحاكم العسكري "يوشيماسا" منحاً كثيرة، لكنه رفض هذه المنح كلها - لو أخذنا بما نقرأه عن الأمر - وعاد فأوى إلى أبراشيته الريفية في "شوشو" وهناك راح ينثر الفن نثراً، واحدة في إثر واحدة، كأنما ينتج في كل لحظة نتاجاً تافهاً عابراً أوحت به ظروف اللحظة الراهنة، حتى كاد يخلّد بصوره كل جوانب الصين في مناظرها وحياتها؛ فقلما رأت الصين مثل هذا التنوع كله في موضوعات التصوير عند الفنان الواحد - ولم تر اليابان مثل ذلك قط في تاريخها - كلا ولا رأت مثل هذه القوة في التصور والتصوير معاً، وفي ثبات الخطوط؛ ولما بلغ الشيخوخة، دقَّ رجال الفن في اليابان طريقاً إلى بابه وكرموه فجعلوه - حتى قبل موته - فناناً في طليعة الركب؛ وإن الصورة بريشة "سشيو" لتقدر اليوم عند هواة الصور من اليابانيين، بمثل ما يقدر به هواة الأوربيين صورة بريشة ليوناردو؛ وتروي أسطورة من تلك الأساطير التي تحول الأفكار الغريبة إلى حكايات لطيفة، أن رجلاً كان يملك صورة من رسم "سشيو" ثم اشتعلت النار بمنزله بحيث كان يستحيل عليه النجاة، فبقر بطنه بقراً بسيفه ودسّ في معدته قماشة الصورة النفيسة - ووجدت الصورة بعدئذ سليمة من التلف داخل جثمانه الذي كانت النار قد أكلته إلى نصفه (77).
واستمر ازدياد التأثير الصيني في كثير من رجال الفن الذين كانوا في كنف أمراء الإقطاع من الأسرتين العسكريتين: "أشيكاجا" و "توكوجاوا"؛ وكان لكل أمير في حاشيته مصوره الرسمي الذي نيط به أن يدرب مئات الفنانين الناشئين الذين قد تدعو الحاجة المباغتة إلى استخدامهم في زخرفة أحد القصور؛ إذ كانت المعابد عندئذ تُنسى، لأن الفن كان في طريق التحول إلى المجال الدنيوي كلما ازدادت البلاد ثراء؛ ولما دنا القرن الخامس عشر من ختامه، أنشأ "كانو ماسانوبو" في كيوتو تحت رعاية "أشيكاجا" مدرسة
للفنانين العلمانيين، أطلق عليها الجزء الأول من اسمه، وجعلها تتجه بجهدها كله نحو الاحتفاظ بكل شدة بالتقاليد الكلاسيكية الصينية في الفن الياباني؛ وبلغ ابنه "كانو موتونوبو" في هذا الاتجاه مبلغاً جعله عَلَماً لا يمتاز عليه إلا "سشيو" وحده؛ وإن قصة لتروى عنه فتبين بياناً واضحاً كيف أن تركيز الانتباه والثبات على غاية واحدة هما اللذان يكونان العبقرية؛ تقول عنه القصة إنه قد طُلِبَ إليه أن يصور عدداً من طيور الكركيّ فشوهد مساءً بعد مساء يمشي مشية الكركي؛ واتضح أنه كان في كل ليلة يقلد الكركي الذي كان مصمماً على تصويره في اليوم التالي؛ فيظهر أن الإنسان لابد له من الذهاب إلى مخدعه والغاية المنشودة نصب عينيه، حتى يستيقظ في الصباح مشهوراً، وظهر حفيد لـ "موتونوبو" - هو "كانو ييتوكو"، فطوَّر على يديه تحت رعاية هيديوشي، نمطاً فنياً أبعد ما يكون عن الكلاسيكية المتزمتة التي اصطنعها أسلافه، على الرغم من أنه فرعاً من أسرة "كانو"، وجاء "تانيو" فنقل مركز المدرسة من كيوتو إلى بيدو، وعمل في كنف أفراد أسرة "توكوجاوا" وعاون في زخرفة مقبرة "أيياسو" في "نكو" وبالرغم من كل هذه المحاولات نحو مواءمة الفن لظروف العصر، فقد استنفذت أسرة "كانو" دوافعها إلى الفن على مر الزمن، وأدارت اليابان وجهها نحو أعلام آخرين يبدءون لها في تاريخ فنها شوطاً جديداً.
وهكذا ظهرت طائفة أخرى من رجال التصوير سنة 1660، وأطلق عليها اسم عَلَمَيها الزعيمين، إذ سميت "مدرسة كويتسو - كورين"، وكان من طبيعة التذبذب الذي يطرأ على الفلسفات وأنماط الفن، أن تنظر هذه المدرسة الجديدة إلى الأوضاع والموضوعات الصينية التي عني بها "سشيو" و "كانو" نظرتها إلى الشيء الرجعي الذي أبلاه الزمان؛ وتلفت الفنانون الجدد يبحثون عن مناظر في بلادهم نفسها، واستوحوا بلادهم الإلهام الفني والموضوعات التي يديرون فيها فنهم ذاك؛ وكان "كويتسو" رجلاً بلغ به
تنوع المواهب حداً يذكّرنا بما قاله "كارلايل" غيرةً من سواه من العظماء، إذ قال إنه لا يعرف عظيماً واحداً لم يكن ليستطيع أن يكون عظيماً في أي مجال شاء؛ ذلك أن "كويتسو" هذا كان ممتازاً في الخط وممتازاً في التصوير، وممتازاً في الرسم على المعادن و "اللاكيه" والخشب؛ وهو شبيه بـ "وليم مورس" في قيامه بحركة إحيائية في سبيل الطباعة الجميلة، وأشرف على قرية قام فيها صُنَّاعُه بمختلف ألوان الفن تحت إرشاده (78)، ولم ينافسه الزعامة في التصوير في عهد "توكوجاوا" إلا "كورين" ذلك المصور البارع للأشجار والأزهار، الذي يحدثنا عنه معاصروه فيقولون إنه كان يستطيع بجرة واحدة من فرجونه أن يطبع ورقة من أوراق السوسن على قماشه الحرير فتحيا (79)؛ ولست تجد مصوراً سواه تمثلت فيه الروح اليابانية الخالصة كاملة كما تمثلت فيه؛ أو أظهر الروح اليابانية كما أظهرها هو إظهار جعله بمثابة النمط لليابان كلها في سلامة ذوقه ودقة فنه
(1)
.
وآخر مدارس التصوير اليابانية التي يسجلها التاريخ، بمعنى كلمة التصوير الدقيق، مدرسة أسسها "مارويامي أوكيو" في كيوتو في القرن الثامن عشر؛ وكان "أوكيو" هذا رجلاً من الشعب، حركت نوازع الفن في نفسه معرفته اليسيرة بالتصوير الأوربي، فصمم أن يهجر الأسلوب القديم بما فيه من نزعة مثالية ونزعة تأثرية قد نفذت منهما عصارة الحياة، وأن يحاول وصفاً واقعياً لمشاهد بسيطة يختارها من الحياة اليومية الجارية؛ وأغرم غراماً خاصاً برسم الحيوان، واحتفظ بصنوف كثيرة من أنواع الحيوان تعيش حوله ليتخذ منها موضوعات لفنه؛ وقد حدث مرة أن رسم خنزيراً متوحشاً وأطلع الصيادين
(1)
ظفر متحف الفن المعروف باسم متروبولتان في نيويورك، بصورة من صور "كورين" يقول عنها "ليدو" إنها:"من اعظم آيات نوعها التي سمح لها بالخروج من اليابان".
على صورته فخاب رجاءه حين ظن هؤلاء الصيادون أن الخنزير المرسوم يصور خنزيراً ميتاً؛ فلبث يحاول، حتى رسم صورة لخنزير قال عنها الصيادون إن الخنزير الذي تصوره ليس ميتاً، ولكنه نعسان (81)؛ ولما كانت الطبقة العالية في كيوتو مفلسة، اضطر "أوكيو" أن يبيع صوره لأبناء الطبقة الوسطى، ولعل هذه الضرورة الاقتصادية هي التي ألزمته إلى حد كبير أن يختار لفنه موضوعات شعبية، لدرجة أنه جعل يصور بعض غانيات
كيوتو، وصعق لذلك فنانو الجيل السابق لجيله، ولكنه مضى في طريقه خارجاً على التقاليد؛ وجاء "موري سوزن" فتقبل زعامة "أوكيو" في التزام الطبيعة في الفن، وقصد إلى حيث تسكن الحيوانات فعاش بينها لكي يتاح له الإخلاص في تصويرها، حتى أصبح أعظم مصور ياباني في رسم القردة والغزلان؛ فلما مات "أوكيو"(1795) كان الواقعيون قد كسبوا السيادة التامة على فن التصوير، واستطاعت مدرسة شعبية خالصة أن تستوقف الأنظار، لا في اليابان وحدها، بل في أرجاء العالم كله.
الفصل العاشر
الصور المحفورة
مدرسة "يوكيوبي" - مؤسسوها - أعلامها - هوكوساى - هيروشيجا
إنها لأضحوكة أخرى من أضاحيك التاريخ أن يكون الفن الياباني أقرب إلى الغرب علماً وأعمق فيه تأثيراً، عن طريق جانب من جوانبه، هو أقل تلك الجوانب منزلة في اليابان نفسها؛ فقد تحول فيما يقرب من منتصف القرن الثامن عشر، فن الحفر الذي كان قد وفد على اليابان في ثنايا التعاليم البوذية وملحقاتها قبل ذاك بخمسمائة عام، تحول فأصبح أداة لتوضيح الكتب وحياة الناس بالرسوم، ذاك أن الموضوعات القديمة والطرائق القديمة كانت قد فقدت رونق الجدة ففقدت بذلك اهتمام الناس بها، إذ أترع هؤلاء الناس بصور القديسين البوذيين والفلاسفة الصينيين، والحيوانات التي استغرقت في التأمل، والزهور التي ترمز للطهر والبراءة؛ ونهضت طبقات جديدة من الناس فاحتلت مكان الصدارة، وافتقدت في الفن تصويراً لشؤون حياتهم، وراحت تخلق من رجال الفن من يُقبل راضياً على إشباع تلك الرغبات؛ فلما كان التصوير يتطلب فراغاً ونفقات، ولا ينتج إلا صورة واحدة في المرة الواحدة، عمل الفنانون الجدد على اصطناع فن الحفر لتحقيق غاياتهم، فحفروا الصور في الخشب، وبذلك تمكنوا من إصدار عدد رخيص من الصورة الواحدة بمقدار ما يطلب سوادُ الشارين في السوق، وكانت هذه الرسوم المحفورة تلوَّن باليد أول الأمر حتى إذا جاء عام 1740 صنعت ثلاثة "كليشيهات" للصورة الواحدة: واحدة لا لون فيها، وثانية لوِّن جانب منها باللون الأحمر الوردي، وثالثة لونت في بعض أجزائها باللون الأخضر، ثم كانت الأوراق المراد طبعها على "الكليشيهات" بالتناوب، وأخيراً في
سنة 1764 صنع "هارونوبو" أول كليشيهات متعددة الألوان، فمهد بذلك الطريق إلى تلك الرسوم الناصعة التي رسمها "هوكوساى" و "هيروشيجي". والتي جاءت للأوربيين الذين ملوا الثقافة القائمة وتحرقوا ظمأ لكل ما هو جديد. جاءت تلك الرسوم للأوربيين حافزاً وموحياً؛ وهكذا ولدت مدرسة "يوكيوبي" التي جعلت موضوعها "صور الحياة العابرة".
ولم يكن مصوروها أول من جعل الإنسان العاري من الألقاب موضوعاً للفن؛ فقد سبق لـ "إواسا ماتابي" في أوائل القرن السابع عشر أن أدهش فئة "السيافين" بتصويره على ستار سداسيّ الجوانب رجالاً ونساء وأطفالاً في
أوضاع الحياة اليومية بغير تحفظ؛ وقد وقع اختيار الحكومة اليابانية سنة 1900 على هذا الستار "واسمه هيكوني بيوبو" لعرضه في باريس، وأمَّنت على سلامته أثناء الرحلة بثلاثين ألف ين (وهو ما يعادل خمسة عشر ألف ريال)(82) وفي سنة 1660 صنع "هيشيكاوا مورونوبو" مصور الزخارف على الأقمشة في مدينة كيوتو، أول رسوم بالكليشيهات، صنعها أول الأمر لتطبع في الكتب توضيحاً لمادتها، ثم صنعها ليستخدمها في طبع رسوم وبيعها للشعب كما تباع البطاقات المصورة عندنا اليوم؛ وحوالي سنة 1687، انتقل "توروكوجوموتو" مصور المناظر في مسارح "أوساكا"، انتقل إلى "ييدو" وعلَّم مدرسة "يوكيوبي"(التي كانت محصورة في العاصمة وحدها) كيف يمكنها أن تستفيد من الوجهة المالية، إذا هي اتجهت نحو تصوير الرسوم المحفورة لمشاهير الممثلين في ذلك العصر، وبعدئذ انتقل الفنانون الجدد من المسرح إلى مواخير الدعارة في "يوشيوارا"، فخلعوا بفنهم مسحة من الخلود على كثيرات من ربات الجمال الزائل، وهكذا دخلت الأثداء العارية والأطراف المتلألئة - بعد أن خلعت عذارها - حرم فن التصوير الياباني الذي كان لا يدخله من قبل إلا موضوعات الدين والفلسفة.
وظهر أعلام هذا الفن الذي تقدم وتطور، حول منتصف القرن الثامن عشر؛ فقد صنع "هارونوبو" رسوماً تحتوي على اثني عشر لوناً، بل خمسة عشر لوناً، مستخدماً في ذلك كليشيهات بعدد الألوان، ولما أحس لذعة الضمير لرداءة ما صوره في سابق عهده للمسرح، راح يعوض عن ذلك برسوم تتجلى فيها الرقة اليابانية، يعرض فيها ألوان الشباب المرح في عالمه الشيق وبلغ "كيوناجا" أوج الفن في هذه المدرسة وجعل يستخدم اللون والخطوط متداخلاً بعضه في بعض، في رسمه لسيدات من الطبقة العالية مستقيمات القامة، دون أن تؤثر تلك الاستقامة في مرونة البدن؛ وأما "شاراكو" فالظاهر أنه لم
ينفق أكثر من عامين في حياته لتصميم الرسوم المحفورة، لكنه في هذا الأمد القصير استطاع أن يرقى إلى طليعة العاملين في هذا الفن، بفضل صوره عن "الأولياء (الرونين) الأربعة والسبعين؛ ورسومه التي أفحشت في سخريتها بـ "نجوم" المسرح الهاويات من سمائها؛ وصور "أوتامارو" الذي عرف بالخصوبة في نبوغه وتنوع قدرته، كل ضروب الأحياء من الحشرات إلى الفاجرات، فقد قضى نصف حياته العاملة في الـ "يوشيوارا" وأرهق نفسه متعهً وعملاً، وزج في السجن عاماً (1804) لرسمه "هيديوشي" محاطاً بأربع غانيات من خليلاته (83)؛ وكأنما مل "أوتامارو" تصويره لغمار الناس في أوضاع الحياة العادية، فأخذ يصور سيداته الرقيقات المهذبات في رشاقة تكاد تقول عنها إنها رشاقة روحانية، صورهن برؤوس مائلة قليلاً، وعيون مستطيلة منحرفة، ووجوه طويلة، وقدود عجيبة لفَّتها ثياب مناسبة كثيرة الطبقات؛ ثم فسد في الذوق فأفسد هذا النمط الفني بحيث جعله متكلفاً ممقوتاً، فانحدرت مدرسة "يوكيوبي" إلى ما يدنو من الفساد والتدهور، لولا أن قام بها زعيماها المشهوران فمدا من حياتها نصف قرن آخر.
أما أحدهما فهو "هوكوساى" الذي نعت نفسه "بالرجل الكهل الذي جُنَّ بالتصوير"، وقد امتد به العمر إلى ما يقرب من تسعين عاماً، ومع ذلك كتب يرثي لبطء سيره نحو الكمال وقصر أمد الحياة، فقال:
"لقد تولاني جنون عجيب منذ السادسة من عمري برسم كل ما يصادفني من الأشياء كائناً ما كان، فلما بلغت الخمسين كنت قد نشرت عدداً من آثاري مختلفة أنواعها، لكن لم أطمئن إلى أي منها اطمئناناً تاماً، ولم يبدأ عملي الحق إلا حين بلغت السبعين، وهاأنذا الآن في الخامسة والسبعين، وقد استيقظ في نفسي حب الطبيعة بمعناها الصحيح، ولذا تراني آمل أن أظفر عند الثمانين بقوة من إدراك البصيرة يظل ينمو معي حتى أبلغ التسعين، فإذا ما بلغت
المائة كان لي - في أغلب الظن - أن أقرر تقرير الواثق بأن إدراك بصيرتي قد أصبح إدراكاً فنياً خالصاً؛ ولو وهبني الله أن أعيش حتى العاشرة بعد المائة كان رجائي عندئذ أن يشعَّ من كل خط أسطره بل من كل نقطة أخطها فهمٌ جوهري صحيح بالطبيعة .... وإني لأطلب من أولئك الذين سيمتد بهم العمر ما يمتد بي أن يروا إن كنت ممن يفون بما يعدون أو لم أكن، لقد كتبت هذا وأنا في سن الخامسة والسبعين، أنا الذي كان اسمه "هوكوساى" وأصبح الآن يدعى "الرجل الكهل الذي جُنَّ بالتصوير"(84).
وكان شأنه شأن سائر رجال الفن من مدرسة "يوكيوبي" من حيث إنه
نشأ من طبقة العمال، فهو ابنٌ لصانع كان يصنع المرايا، وألحقوه بفنان يدعى "شنسو" ليأخذ عنه الفن، لكنه لم يلبث أن طرد لأصالته، وعاد إلى أسرته ليعيش فقيراً شقياً مدى حياته الطويلة، ولم يستطع أن يعيش بتصويره، فراح يجول في المدينة بائعاً للطعام وكراسات التقويم، وحدث أن احترقت داره، فلم يزد على إنشائه هذه العبارة من الشعر:
لقد احترقت الدار
فما كان أجل الزهور وهي تهوي!.
وجاءه الموت وهو في التاسعة والثمانين، واستسلم له كارهاً وهو يقول:
لو وهبتني الآلهة عشرة أعوام أخرى فقط لأمكنني أن أكون فناناً عظيماً بحق".
وخلف وراءه خمسمائة مجلد تحتوي على ثلاثين ألف صورة كلها مخمور بروح الفن اللاشعوري حين يتناول الطبيعة في شتى صورها؛ فقد رسم - محباً لما رسم مكرراً له في أوضاع مختلفة - رسم الجبال والصخور والأنهار والجسور ومساقط الماء والبحر، وحدث بعد أن فرغ من نشره لكتاب "ست وثلاثين صورة من مناظر فيوجي" أن قفل راجعاً ليجلس عند سفح الجبل المقدس من جديد، كما فعل الكاهن البوذي المفتون الذي تروي عنه الأساطير
(1)
، وهناك رسم "مائة منظر من فيوجي"، ونشر سلسلة أسماها "أخيلة الشعراء" عاد فيها إلى الموضوعات الرفيعة التي كان يتناولها الفن الياباني من قبل، وكان من بين هذه المجموعة منظر يصور "لي بو" العظيم بجانب الوادي الصخري ومسقط الماء يطلق عليهما "لو".
وفي سنة 1812 نشر الجزء الأول من مجموعة قوامها خمسة عشر جزءاً،
(1)
الكاهن الذي يروي عنه أنه أبعد من اليابان نفياً، فجعل يعبر البحر بمركبه كل يوم لينظر إلى "الجبل المقدس".
أسماها "مانجو" - وهي سلسلة من صور واقعية تشتمل على الأخص تفصيلات الحياة اليومية الجارية تلذع بما فيها من فكاهة، وتفحش بما تحتوي عليه من تشهير مقُنَّع، وقد كان ينثر هذه الصور نثراً دون عناية أو مجهود، فيخرج منها اثنى عشرة كل يوم، حتى صور بها كل ركن من أركان الحياة الشعبية في اليابان، ولم تكن الأمة قد شهدت قط من قبل مثل هذه الخصوبة ولا مثل هذا التصور العقلي السريع النافذ، ولا القدرة على التنفيذ بكل هذه الحيوية الجامحة، وكما أن رجال النقد في أمريكا قد قللوا في حسابهم من شأن "وِتمان"، فكذلك قلل رجال النقد ودوائر الفن في اليابان من شأن "هوكوساى"، فلم يروا إلا فورة فرجونه وسوقية عقله التي تتبدى آناً بعد آن، لكن جيرانه لما مات - جيرانه الذين لم يكونوا يعلمون أن "وِسْلرْ" قد أخذه التواضع لحظة فوضعه في أعلى منزلة من منازل الفن التي لم يحتلها أحد سواه منذ "فلاسكويز" - أقول إنه لما مات دهش جيرانه حين رأوا كل تلك الجنازة الطويلة تنبعث من ذلك المنزل المتواضع.
وآخر شخصية برزت من مدرسة "يوكيوبي" هو "هيروشيجي"(1796 - 1858) الذي يقل شهرة عن "هوكوساى" في البلاد الغربية، لكنه أكثر منه احتراماً في الشرق، وتنسب إليه مائة ألف صورة حفرية متميزة الخصائص، وكلها يصور المناظر الطبيعية في بلاده تصويراً فيه من الإخلاص ما ليس في رسوم "هوكوساى"، وفيه فنٌ أنزل "هيروشيجي" منزلة قد تجعله أعظم من صوَّر المناظر الطبيعية من أهل اليابان؛ فقد كان "هوكوساى" إذا وقف إزاء الطبيعة لا يرسم المنظر كما يبدو، بل يرسم خيالاً شاطحاً يوحي إليه بالمنظر الذي يراه، أما "هيروشيجي" فقد أحب الطبيعة نفسها بشتى صورها، ورسمها بدرجة من الإخلاص تمكن الرحالة الذي يمرّ بالأجزاء التي رسمها أن يتبين الأشياء والسفوح التي أوحت إليه بصوره تلك،
وفي وقت يقع حوالي سنة 1830 أخذ طريقه في السكة الرئيسية التي تمتد من طوكيو إلى كيوتو، فكان في رحلته شاعراً بأدق معنى الشاعرية حين لم يقصد تواً إلى غايته المقصودة، بل سمح لنفسه أن تنشغل بالمناظر التي استثارتها وهو في الطريق؛ فلما فرغت رحلته جمع انطباعاته بتلك المناظر في مجموعة له مشهورة اسمها "المحطات الثلاثة والخمسون على الطريق العام"(1834)، وقد أحب رسم المطر والليل في كل صورهما المشبعة بروح الغموض، ولم يَفُقْه في ذلك إلا "وِسْلرْ" الذي جرى على غراره في رسمه لمناظر المساء (88)، وكذلك أحب "هيروشيجي""فيوجي" كما أحبها "هوكوساى"، ورسم لجبالها "المناظر الستة والثلاثين"، غير أنه أحب معها مسقط رأسه "طوكيو"، ورسم "مائة منظر من مناظر ييدو" قبيل موته، ولْئن لم يعمَّر ما عُمِّره "هوكوساى" إلا أنه أسلم شعلة الفن وهو مطمئن لما صنع:
إني أترك فرجوني في "أزوما"
وأتابع رحلتي "إلى الغرب المقدس"
لكي أشاهد المناظر المشهورة هناك
(1)
(1)
يوجد في متحف بوسطن مجموعة رائعة من الرسوم الحفرية التي "رسمها هيروشيجي".
الفصل الحادي عشر
فن اليابان وحضارتها
مراجعة - موازنات - تقدير - خاتمة اليابان القديمة
كانت الرسوم الحفرية في اليابان آخر مرحلة تقريباً من مراحل تلك المدنية اللطيفة الرقيقة التي اندك بناؤها تحت ضغط الصناعة الغربية، كما أن تشاؤم العقل الغربي ومرارة نظرته إلى العالم اليوم، قد يكونان آخر مظهر من مظاهر مدنية أراد لها القضاء أن تموت تحت وطأة الصناعة الشرقية؛ ولما كانت اليابان في عصورها الوسطى التي امتدت حتى عام 1853 غير ذات أذى لنا، كان في مستطاعنا أن نقدر جمالها تقديراً فيه العطف والرعاية؛ وإنه لمن العسير علينا أن نرى في اليابان بعد أن أقامت المصانع التي تنافس مصانعنا، وأقيمت بها المدافع التي تتهدد سلامنا، من العسير علينا أن نرى في مثل هذه اليابان ذلك السحر الذي يفتننا حين ننظر إلى مختارات ماضيها الجميلة؛ وقد ننظر أحياناً نظرة عقلية هادئة، فندرك أن تلك اليابان القديمة شهدت كثيراً من العسف، وأن الفلاحين كانوا يعيشون في فقر، والعمال يقيمون على ضيم، وأن النساء كن إماء يُبَعْن وقت الشدة لمتعة من شاء أن يستمتع، وأن الحياة كانت رخيصة، وأنه في النهاية لم يكن ثمة قانون يحمي الرجل من سواد الشعب إلا سيف "السياف"؛ لكن الأمر في أوربا كان على هذه الحال نفسها: كان الرجال يصطنعون القسوة وكانت المرأة خاضعة للرجل، وكان الفلاحون يعيشون في فقر، والعمال يقيمون على ضيم، وكانت الحياة عسيرة، والفكر الحر مجلباً للخطر، ولم يكن في النهاية من قانون سوى إرادة سيد الإقطاع أو الملك.
وكما أننا قد نشعر بالحب لأوربا القديمة التي شهدت كل هذا، لأنها وسط
ما غمرها من فقر واستغلال وتعصب، استطاع أهلها أن يبنوا الكنائس بناء يعنون فيه بنحت كل حجر من أحجاره نحتاً جميلاً؛ وراحوا يضحون بأنفسهم ليكسبوا لخلفهم حق التفكير؛ أو كانوا يقاتلون في سبيل العدالة حتى خلقوا بقتلهم تلك الحريات المدنية التي هي أنفس جزء من تراثنا وأكثره تعرضاً للزوال؛ فكذلك كان وراء صليل سيوف السيافين (في اليابان) ما يستحق التمجيد من شجاعة لا تزال تبث في اليابان قوة فوق ما يتناسب مع عدد أهلها أو كمية تراثها، وكذلك نستطيع أن نتبين وراء الرهبان الكسالى شاعرية البوذية، وقدرتها التي لا تنفذ على الإيحاء بالشعر والفن؛ ونستطيع كذلك أن نستشف وراء الصفعة القوية التي تنم عن القسوة، والوقاحة الظاهرة التي يعامل بها القويُّ الضعيف؛ نستطيع أن نستشف وراء هذا كله أرق ضروب الأخلاق، وأبهج ألوان المحافل، وإخلاصاً لجمال الطبيعة في كل صورها لا يدانيه إخلاص، ثم نستطيع أن نرى وراء استعباد المرأة، جمالها ورقتها ورشاقتها التي لا تنافسها فيها امرأة أخرى؛ ووسط مظاهر الاستبداد الذي يظلل الأسرة، ترن في آذاننا أصوات السعادة تنبعث من الأطفال وهم يلعبون في جنة الشرق.
إن شعر اليابان الذي يضبط فيه الشاعر نفسه ضبطاً يؤديه إلى الاقتضاب، والذي تستحيل ترجمته، لا يحرك اليوم مشاعرنا تحريكاً قوياً؛ ومع ذلك فهذا الشعر نفسه- فضلاً عن الشعر الصيني- هو الذي أوحى لنا "بالشعر المرسل" و "التصوير الشعري" الذين نعهدهما في شعرنا اليوم؛ ولم تعرف اليابان إلا قليلاً من الفلاسفة، وكذلك يندر جداً في مؤرخيها أن تجد روح الحياد الرفيع الذي يصادفك عند قوم لا يكتبون الكتب لتكون ملحقاً لقوتهم العسكرية أو السياسية؛ لكن هذه أشياء تعدّ من الصغائر في حياة اليابان، لأنها أنفقت جهدها كله في اتجاه حكيم، وهو أن تخلق صور الجمال أكثر مما تتعقب الحق؛ وكانت الأرض التي عاش عليها اليابانيون أشد غدراً من أن تقوم عليها عمارة
شامخة، ومع ذلك فالدُّور التي كانت تبنيها تلك البلاد هي "أجمل ما خططه العالم من دُور إذا نظرنا إليها من وجهة نظر جمالية"(90)، ولم ينافسها في العصور الحديثة بلد آخر في رشاقة تحفها الصغيرة وجمالها- كثياب النساء والمراوح والشمسيات، والفناجين ولعب الأطفال، والمدلَّيات والعُقَد الحريرية المزخرفة، وروعة الطلاء "باللاكيه" والنحت الرائع في الخشب؛ ولم يبلغ أي شعب حديث ما بلغه الشعب الياباني من ضبط الزخارف ورقتها، أو من شيوع الذوق المرهف الأصيل؛ نعم إن الخزف (البورسلان) الياباني لا ينزل في التقدير- حتى في نظر اليابانيين أنفسهم- منزلة الخزف الذي كان يصنع في "صنج" و "منج"(في الصين)، لكنه إن كانت الصين وحدها قد بزتها في تلك الصناعة، فإن عمل الخزاف الياباني ما يزال يعلو على مثيله من نتاج الأوربيين المحدثين؛ ولئن كان التصوير الياباني تعوزه قوة التصوير الصيني وعمقه، ثم لئن كانت الرسوم الحفرية اليابانية قد تسوء حتى تبلغ أن تكون مجرد رسوم للإعلان، وهي في أجود حالاتها لا تزيد على كونها إثباتاً سريعاً لتوافه كانت قمينة أن تزول وشيكاً، فأضيف إليها شيء مما يميز الفن الياباني من تمام الرشاقة وكمال التخطيط؛ فإن التصوير الياباني- لا التصوير الصيني- وإن الرسوم الحفرية اليابانية لا ألوانها المائية، هي التي أحدثت الثورة في فن التصوير إبان القرن التاسع عشر، وهي التي كانت حافزاً لإجراء مئات التجارب الفنية البديعة الطريفة؛ ولما أعيد التبادل التجاري بعد سنة 1860 بين أوربا واليابان كانت تلك الرسوم الحفرية التي تدفقت إلى أوربا في ذيل التجارة، هي التي أثرت أعمق الأثر في "مونيه" و "مانيه" و "ديجا" و "وِسْلَرْ"، فهؤلاء قد أقلعوا إلى الأبد عن "الصلصة البنية اللون" التي لازمت التصوير الأوربي كله تقريباً من "ليوناردو" إلى "مِلِتْ"، وملئوا رقعات التصوير في أوربا بصور الشمس، واستحثوا المصور الفنان أن يكون أقرب إلى الشاعر منه إلى الفوتوغرافي؛ يقول "وِسْلرْ" في اعتداد جعل
الناس جميعاً إلا معاصريه يكبرونه: "لقد تمت بالفعل قصة الجمال، لأنه تبدى منحوتاً في المرمر الذي تراه في البارثنون، ولأنه مُوَشَّى على هيئة الطير في المروحات التي رسمها "هوكوساى" على سفح فيوجي ياما"(91).
وإنا لنرجو ألا يكون هذا القول صواباً، لكنه كان هو الصواب في رأي اليابان القديمة وإن لم تصرح به؛ وماتت اليابان القديمة بعد "هوكوساى" بأربعة أعوام، ذلك لأنها عاشت حياة وادعة رخية في عزلتها البعيدة، فنسيت أن الأمة لا بد أن تساير العالم إذا أرادت ألا يستعبدها المستعبدون، فبينما كانت اليابان في شغل من نحتها للمدليات وزخرفتها للمروحات بالزهر، كانت أوربا تنشئ علماً لم يكد يعلم الشرق عنه شيئاً، وأخيراً تمكن ذلك العلم الذي قام بناؤه على مر الأعوام في المعامل التي يبدو في ظاهرها أنها في عزلة بعيدة عن مصطخب الحياة الجارية، تمكن آخر الأمر من تزويد أوربا بالصناعات الآلية التي أتاحت لها أن تصنع لوازم العيش بثمن أرخص مما تصنعها به آسيا على أيدي مهرة صناعها الذين كانوا يصنعونها بأيديهم، وإن تكن تلك المصنوعات الآلية أقل جمالاً من زميلاتها اليدوية؛ فقد كان لا بد لتلك السلع الرخيصة- عاجلاً أو آجلاً- أن تكتسح أسواق آسيا، فتنزل الخراب الاقتصادي وتغير من الحياة السياسية، في بلاد كانت تمرح مطمئنة في مرحلة الصناعة اليدوية؛ وأسوأ من ذلك شراً أن العلم قد صنع المفرقعات والمدمرات والمدافع، التي تستطيع أن تكون أشد فتكاً من سيف أشجع "السيافين"، فماذا تجدي شجاعة الفارس أمام فزع القنبلة التي لا يعُرف اسم راميها؟
ولن تجد في التاريخ الحديث أروع ولا أعجب من الطريقة التي استيقظت بها اليابان من نعاسها استيقاظاً جازعاً على صوت مدفع الغرب، فوثبت تتعلم الدرس، وأصلحت صنع ما تعلمت صنعه، وأفسحت صدرها للعلم والصناعة والحرب، ثم هزمت كل منافسيها في ميدان الحرب وميدان التجارة معاً، وباتت خلال جيلين أكثر أمم العالم المعاصر تحفزاً للعدوان.
الباب الحادي والثلاثون
اليابان الجديدة
الفصل الأول
الثورة السياسية
تدهور الحكم العسكري - أمريكا تطرق الباب - عودة السلطة
الإمبراطورية - تغريب اليابان - التجديد السياسي - الدستور
الجديد - القانون - الجيش - الحرب مع روسيا - نتائجها السياسية
يندر أن يأتي الموت إلى مدينة من خارجها، بل لا بد للانحلال الداخلي أن يفت في نسيج المجتمع أولاً قبل أن يتاح للمؤثرات أو الهجمات الخارجية أن تغير جوهر بنائها، أو أن تقضي عليها قضاء أخيراً؛ فقلما يكون للأسرة الحاكمة تلك الحيوية الدؤوب والمرونة السريعة التشكل، اللتان يتطلبهما استمرار السيادة، فمؤسس الأسرة المالكة يستنفذ نصف القوة الكامنة في أصلاب أسرته ثم يترك لغير الممتازين من خلفه عبثاً لا يستطيع حمله إلا العباقرة؛ فأسرة "توكوجاوا" بعد "أيياسو" حكمت البلاد حكماً لا بأس به، لكننا لو استثنينا منها "يوشيموني" لما وجدنا بين أفرادها شخصيات بارزة تستوقف النظر؛ فما انقضت بعد موت "أيياسو" ثمانية أجيال حتى راح أمراء الإقطاع يزعزعون قوائم تلك الأسر العسكرية بثوراتهم التي ما فتئت تنهض حيناً بعد حين؛ فكانوا يسوِّفون في دفع الضرائب أو يمتنعون عن دفعها؛ وعجزت خزانة "ييدو" - بالرغم من التدابير الاقتصادية العنيفة التي اتخذت - عن تمويل الدفاع القومي أو صيانة الأمن في البلاد (1). وقد مر على البلاد أكثر من
قرنين حيث ساد السلام فتطرَّت خشونة "السيافين" وضعف احتمال الشعب لمكاره الحروب وتضحياتها؛ وحلَّت في الناس نزعات أبيقورية (ترمي إلى التمتع) محل البساطة الرواقية التي كانت سائدة في عهد هيديوشي؛ فلما أن دعيت البلاد فجأة لحماية سيادتها، وجدت نفسها منزوعة السلاح بمعناه المادي والخلقي جميعاً؛ وانحل العقل الياباني بفعل اعتزالها الاتصال بالأجانب، وأخذ الناس يسمعون بتطلع قلق عن ازدياد الثروة وتغير المدنية في أوربا وأمريكا؛ وراح هؤلاء الناس يدرسون ما جاء بكتابي "مابوشي" و "موتو - أوري" وشاع بينهم في الخفاء أن الحكام العسكريين مغتصبون للحكم، وقد فككوا باغتصابهم ذاك استمرار سيادة الإمبراطورية، ولم يستطع الشعب أن يوفق بين الأصل الإلهي للإمبراطور، وبين فقره المدقع الذي فرضته عليه أسرة "توكوجاوا"؛ وجعل الدعاة إلى قلب نظام الحكم العسكري القائم، يخرجون من مكانهم في "يوشيوارا" وغيرها ويغمرون البلاد بنشراتهم التي تحرض الناس على ذلك الانقلاب، وإرجاع الإمبراطور للحكم.
ونزلت النازلة على رأس هذه الحكومة المرتبكة الفقيرة، حين شاع النبأ سنة 1853 بأن أسطولاً أمريكياً قد تجاهل الأوامر اليابانية التي تحرم دخول خليج أوراجا، ودخل ذلك الخليج، وأن قائده يلح في مقابلة صاحب السلطة العليا في اليابان، والحقيقة أن "الكومودور بري" كان يقود أربع سفن حربية فيها خمسمائة وستون رجلاً، وبدل أن يعرض هذه القوة المتواضعة عرضاً فيه معنى التهديد، أرسل مذكرة ودية إلى الحاكم العسكري "أييوشي" يؤكد له أن الحكومة الأمريكية لا تطلب أكثر من فتح بضعة موان يابانية في وجه التجارة الأمريكية، واتخاذ بعض الإجراءات لحماية البحارة الأمريكيين الذين قد تتحطم بهم سفائنهم على الشواطئ اليابانية، ولم يلبث "بري" أن اضطر إلى العودة إلى قاعدته في المياه الصينية بسبب "ثورة تاي - ينج"، لكنه عاد إلى اليابان من جديد سنة 1854 مسلحاً بقوة بحرية أكبر، ومزوداً
بمختلف الهدايا المغرية - عطور وساعات ومدافئ وشراب الويسكي، يقدمها للإمبراطور والإمبراطورات وأمراء البيت المالك؛ غير أن الحاكم العسكري الجديد "أييسادا" تعمد ألا يرسل هذه الهدايا إلى أفراد الأسرة المالكة، ووافق على توقيعه لمعاهدة "كاناجاوا" التي اعترفت بكل ما طلبه الأمريكان؛ وهنا أثنى "بري" على حسن لقاء أهل الجزر اليابانية، وأعلن مدفوعاً بقصر نظره أنه "لو جاء اليابانيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا المياه الصالحة للملاحة في البلاد مفتوحة أمامهم، وأنه ستفتح لهم أبواب مناجم الذهب نفسها في كاليفورنيا"(2)؛ وهكذا فتحت الموانئ اليابانية الكبرى للتجارة الخارجية بمقتضى هذه المعاهدة وما تلاها من معاهدات؛ وحددت الضرائب الجمركية وفصِّلت مقاديرها وأنواعها؛ ووافق اليابانيون على أن يحاكم المتهمون من الأوربيين والأمريكيين في اليابان أمام محاكمهم القنصلية؛ واشترطت شروط اتفق فيها على أن يوقف اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية اليابانية، ووافقت الولايات المتحدة في الوقت نفسه أن تبيع لليابان كل ما تحتاج إليه من أسلحة وسفن حربية، وأن تعيرها الضباط والصناع لعل هذه الأمة المسالمة مسالمة صبيانية أن تتعلم على أيديهم فنون القتال (3).
وعانى الشعب الياباني أقسى عناء مما فرضته هذه المعاهدات عليه من فروض الذل، ولو أنه عاد فنظر إليها على أنها أدوات محايدة جاءته لتعمل على تطوره، وتقرير مصيره؛ وود بعض اليابانيين أن يقاتل الأجانب مهما تكلف في سبيل ذلك، وأن يطردهم ويعيد للبلاد نظامها الزراعي الإقطاعي الذي يكفيها مؤونة الاعتماد على غيرها؛ لكن بعضهم الآخر كان من رأيه أن تقليد الغرب أجدى من طرده من بلادهم؛ فالوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها اليابان أن تتجنب الهزائم المتكررة والخضوع الاقتصادي الذي يشبه ما كانت أوربا تفرضه عندئذ على الصين؛ هي أن تتعلم اليابان بأسرع طريقة ممكنة أساليب الصناعة الغربية، فن الحرب الحديثة؛ وهنا نهض الزعماء
الداعون إلى تغريب البلاد، واستعملوا اللباقة البالغة في استخدام سادة الإقطاع أعواناً لهم في قلب الحكم العسكري، وإعادة الإمبراطور، وبعدئذ استخدموا السلطة الإمبراطورية في قلب نظام الإقطاع وإدخال الصناعة الغربية في البلاد، وهكذا حدث سنة 1867 أن حمل أمراء الإقطاع "كيكي" - آخر الحكام العسكريين - على النزول عن سلطته، وقد قال "كيكي":"إن معظم أعمال الإدارة الحكومية معيبة، وإني لأعترف خجلاً بأن الأمور في وضعها الراهن يرجع نقصها إلى ما أتصف به أنا من نقص وعجز، وهاهو ذا اتصالنا بالأجانب يزداد يوماً بعد يوم؛ فما لم تتولَّ إدارة البلاد سلطة مركزية موحدة، انهار بناء الدولة انهياراً من أساسه"(4)؛ وعلى هذا القول أجاب الإمبراطور "ميجي" في اقتضاب قائلاً: "قد قبلنا ما عرضه توكوجاوا كيكي من إعادة السلطة الإدارية إلى البلاط الإمبراطوري، وفي اليوم الأول من يناير سنة 1868 بدأ العهد الجديد "عهد ميجي" بداية رسمية.
ورجعت الديانة الشنتوية القديمة، وقام أولو الأمر بدعاية قوية في الشعب حتى أقنعوه بأن الإمبراطور العائد إلى عرشه إلهيُّ النسب والحكمة، وأن ما يصدره من مراسيم يجب طاعته، كما تجب طاعة أوامر الآلهة.
فلما أن توفرت هذه القوة الجديدة لأنصار التغريب تمت على أيديهم معجزة أو ما يوشك أن يكون معجزة في تحول البلاد تحولاً سريعاً؛ فقد شق "إتوا" و "إنويي" طريقهما إلى أوربا رغم كل ما صادفهما من صعاب وعقبات، ودَرَسَا أنظمتها وصناعاتها، ودهشا لطرقها الحديدية وسفنها البخارية، وأسلاكها البرقية وسفنها الحربية؛ ثم عادا إلى بلادهما تشتعل في صدريهما الحماسة الوطنية نحو تحويل اليابان إلى صورة أوربية، فدُعِي رجال من الإنجليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وإقامة الأسلاك البرقية وتكوين الأسطول، كذلك دُعي رجال من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا
الجيش؛ وكلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون الطب والصحة العامة، واستخدم الأمريكان في وضع نظام للتعليم العام، ولكي يتم لهم الأمر من جميع نواحيه جاءوا برجال من إيطاليا ليعلموا اليابانيين النحت والتصوير (5)، وقد كان يحدث بعض الحركات الرجعية أحياناً، وكانت تصل هذه الحركات إلى حد إراقة الدماء، بل كانت الروح اليابانية كلها تثور آناً بعد آن على هذا التحول المصطنع الذي رج أوضاع الحياة كلها، لكن الآلة شقت طريقها آخر الأمر، ودخلت اليابان بلداً جديداً في نطاق الانقلاب الصناعي.
ورفعت هذه الثورة بالطبع (وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في التاريخ الحديث)، طبقة جديدة من الرجال إلى منازل الثروة والقوة الاقتصادية - منهم الصناع والتجار والممولون - وقد كان هؤلاء في اليابان القديمة يوضعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي؛ وجعلت هذه الطبقة (البرجوازية) الصاعدة تستخدم في هدوء ما أتيح لها من مال وقوة نفوذ في تحطيم النظام الإقطاعي أولاً، ثم عقبت على ذلك بالحد من سلطة العرش العائدة بحيث جعلت منها سلطة وهمية؛ ففي عام 1871 حملت الحكومة أشراف الإقطاع على النزول عن امتيازاتهم القديمة، وعوضتهم عن أراضيهم بسندات أصدرتها الحكومة
(1)
.
ولما كانت الطبقة الأرستقراطية قد ارتبطت هكذا بروابط المصلحة المادية مع المجتمع الجديد، فقد بذلت خدماتها للحكومة عن ولاء ورضى، ومكنتها من تحويل البلاد من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث دون أن تسفك الدماء في هذا السبيل، وكان "إيتو هيرو بومي" قد عاد لتوه من زيارته الثانية لأوربا؛ فجرى في بلاده على غرار ما رآه في ألمانيا، إذ أنشأ بها طبقة عالية جديدة مؤلفة من خمس درجات:
(1)
كان هذا الإجراء يقابل في جوهره إلغاء النظام الإقطاعي وما يتبعه من عبودية في فرنسا سنة 1789 وفي روسيا سنة 1862، وفي الولايات المتحدة سنة 1863.
أمير؛ فماركيز، فكونت، ففيكونت، فبارون.
لكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا هم الأعداء الإقطاعيين للنظام الصناعي الجديد بل كانوا لهذا النظام أعوانه المأجورين.
جاهد "إيتو" في تواضعه جهاداً لم يعرف الكلل، ليحقق لبلاده ضرباً من الحكومة لا تعيبه العيوب التي بدت في عينيه عيوباً ناشئة من الإفراط في الديمقراطية، على ألا يحد ذلك من تجنيد أصحاب النبوغ وتشجيعهم مهما تكن طبقتهم الاجتماعية لكي يحققوا للبلاد رقياً اقتصادياً سريعاً؛ وتمكنت اليابان في ظل زعامته أن تعلن أول دستور لها سنة 1889؛ فكان الإمبراطور في قمة البناء التشريعي، إذ كان من الوجهة الدستورية رأس الحكومة الأعلى، ومالكاً للأرض كلها، وقائداً للجيش والأسطول، المسئولين أمامه وحده، وهو الذي يكسب الإمبراطورية وحدتها واستمرارها وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة مليكها، وقد شاءت إرادته الكريمة أن يفوض لقوته التشريعية إنشاء مجلسين نيابيين يظلان قائمين ما شاء هو لهما أن يقوما - مجلس الأشراف، ومجلس النواب، غير أنه هو الذي يعين وزراء الدولة، الذين يسألون أمامه وحده لا أمام مجلس البرلمان، وكان تحت هؤلاء طبقة من الناخبين عددها يقرب من أربعمائة وستين ألفاً، حصروا في هذه الدائرة الضيقة باشتراط مؤهلات كثيرة في الناخب من حيث مقدار ما يملكه؛ ثم ارتفع عدد الناخبين بفعل حركات تحريرية متعاقبة حتى بلغ ثلاثة عشر مليوناً في سنة 1928، ولكن فساد الحكومة كان يساير التوسع في الديمقراطية خطوة خطوة (6).
وساير هذا التقدم السياسي نظام تشريعي جديد (1881) قائم إلى حد كبير على تشريع نابليون، وهو يحقق خطوة تقدمية جريئة بالنسبة لتشريع العصور الوسطى التي ساد فيها نظام الإقطاع؛ فمنحت للناس حقوقهم المدنية منحاً سخياً - إذ منحت لهم حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية الاجتماع
وحرية العبادة وعدم انتهاك الرسائل والبيوت، والحصانة من القبض والعقاب إلا بإجراء قانوني
(1)
، وحرم التعذيب والمحنة وفُكتْ عن جماعة الـ "إيتا" قيودهم الطبقية، وسُوِّى بين الطبقات كلها أمام القانون من الوجهة النظرية، وأصلحت السجون، ودفعت الأجور للمسجونين على عملهم، حتى إذا ما أطلق سراح المسجون أعطي مبلغاً من المال متواضعاً يبدأ به حياة جديدة في زراعة أو تجارة؛ وعلى رغم ما أتاحه هذا التشريع للناس من حرية فقد ظلت الجرائم قليلة الحدوث (7).
ولو اعتبرنا رضى الناس بالقانون عن طواعية علامة على مدنيتهم، عددنا اليابان في طليعة الأمم الحديثة حضارة (إذا استثنينا عدداً قليلاً من حوادث الاغتيال).
ولعل أهم ما يميز الدستور الجديد هو إعفاء الجيش والأسطول من كل رئاسة إلا رئاسة الإمبراطور، فإن اليابان لم تنس قط ما وقع لها من ذل في عام 1853، ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها، وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها أن تعمم التجنيد، بل جعلت من كل مدرسة في البلاد معسكراً للتدريب الحربي، وثدياً يُرضع النشء بلبان الحماسة الوطنية؛ وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة، سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان أن تخاطب "الأجانب الهمج" مخاطبة الند للند، كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءاً جزءاً، وهو أمل طاف برأس أوربا، لكنه لم يتحقق لها؛ وحدث عام 1894 أن أرسلت الصين حملة عسكرية لإخماد ثورة في كوريا، وأن لبثت تعيد وتكرر القول بأن كوريا دولة تابعة لسلطة الصين، فلم يعجب اليابان هذا كله، وأعلنت الحرب على معلمتها القديمة، وأدهشت العالم بسرعة
(1)
أدت حمى الحرب التي اقتضتها مغامرة منشوريا إلى التضييق من هذه الحقوق تضييقاً شديداً.
انتصارها إذ أرغمت الصين إرغاماً على الاعتراف باستقلال كوريا، وعلى التنازل لها عن "فرموزا" و "بورت آرثر"(على رأس شبه جزيرة لياوتنج)، وعلى دفع تعويض مالي قدره مائتا مليون من التيلات، وقد أيدت ألمانيا وفرنسا روسيا في "نصحها" لليابان بالانسحاب من "بورت آرثر" مقابل زيادة في تعويضها المالي قدرها ثلاثون مليوناً من التيلات (والزيادة تدفعها الصين)، وخضعت اليابان لما طلب إليها، لكنها احتفظت بذكرى هذه المعاكسة على مضض، وراحت ترقب فرصة الانتقام.
ومنذ تلك الساعة أخذت اليابان تعد نفسها إعداداً جاداً لا يعرف اللهو، تعد نفسها للصراع مع روسيا صراعاً كان لا بد من وقوعه نتيجة اتساع الإمبراطوريتين في آمالهما الاستعمارية؛ ونجحت اليابان في إثارة مخاوف إنجلترا من احتمال التوغل الروسي في الهند فأبرمت مع سيدة البحار تحالفاً (1902 - 1922)، تعهدت به كل من الدولتين أن تساعد الأخرى إذا ما اشتبكت في قتال مع دولة ثالثة ودخلت دولة أخرى في القتال؛ وقلما وقّع الساسة الإنجليز على ما يقيد حريتهم كل هذا التقييد الذي فرضته عليهم تلك المعاهدة؛ فلما بدأت الحرب مع روسيا سنة 1904 أقرض الممولون الإنجليز والأمريكان أموالاً طائلة لليابان، لتعينها على كسب النصر من القيصر (8)، واستولى "نوجي" على "بورت آرثر" وزحف بجيشه نحو الشمال قبل فوات الفرصة لإخماد مذبحة "مكدن" - وهي أفظع ما شهد التاريخ من مواقع دامية، قبل أن يشهد حربنا العالمية (الأولى) التي لا يضارعها مضارع، والظاهر أن ألمانيا وفرنسا فكرتا في مساعدة روسيا بالسياسة أو بالسلاح، لكن الرئيس روزفلت صرح بأنه إذا حدث شيء، كهذا، فلن يتردد في الوقوف إلى جانب اليابان (9)، وفي ذلك الوقت أقلع أسطول روسي قوامه تسع وعشرون سفينة، وشق طريقه جريئاً حول رأس الرجاء الصالح، مرتحلاً
بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث أن ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه؛ غير أن الأميرال "توجو" استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على علم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايو سنة 1905، وأبرق "توجو" لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ قال:"إن نهوض الإمبراطورية أو سقوطها يتوقف على هذه المعركة"(10)، فقتل من اليابانيين فيها 116، وجرح منهم 538، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أو أسرت كل سفنهم إلا ثلاثاً.
كانت "موقعة بحر اليابان" نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأن يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك أن آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها أن توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما جاءت سنة 1910 حتى أعلنت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما مات الإمبراطور "ميجي" عام 1912، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع أن يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وقطعت شوطاً بعيداً في طريقها نحو أن تكون محوراً للتاريخ كله.
الفصل الثاني
الانقلاب الصناعي
حركة التصنيع - المصانع - الأجور -
الإضرابات - الفقر - وجهة نظر اليابان
لم تلبث اليابان نصف قرن إلا وقد غيرت كل وجه من أوجه حياتها؛ فتحرر الفلاح رغم فقره، وأصبح في مستطاعه أن يملك جزءاً متواضعاً من الأرض يدفعه ضريبة سنوية أو أجراً سنوياً للدولة، ولم يكن من حق أحد من سادة الإقطاع أن يقف في سبيله لو أراد أن يترك الزراعة ليلتمس وسيلة رزقه في المدن؛ ذلك لأن مدناً عظمى قامت عندئذ على طول الساحل؛ منها "طوكيو"(التي معناها العاصمة الشرقية) بقصورها الملكية والأرستقراطية وحدائقها الفسيحة وحماماتها المزدحمة وعدد سكانها الذي لم يفقها فيه إلا لندن ونيويورك، ومنها "أوساكا" التي كانت في سابق عهدها قرية للسّماكة وحصناً، فأصبحت اليوم جباً مظلماً من الأكواخ الحقيرة والمصانع وناطحات السحاب، وهي مركز الصناعات في اليابان، ومنها "يوكوهاما" و "كوبي" اللتين ترسلان من مرفأيهما الهائلين المعدين بكل ضروب الآلات الحديثة، تلك الصناعات إلى مئات المواني، محملة على ثاني أسطول تجاري في العالم
(1)
.
واستعانت البلاد في وثبتها من نظام الإقطاع إلى النظام الرأسمالي باستخدامها لكل وسيلة ممكنة استخداماً لم يسبق له نظير؛ فاستدعت الخبراء الأجانب الذين وجدوا من مساعديهم اليابانيين طاعة المتحرق لمعرفة إرشاداتهم؛ ولم
(1)
يدل الإحصاء الرسمي الأخير على أن سكان يوكوهاما ستمائة وعشرون ألفاً، وسكان كوبي سبعمائة وسبعة وثمانون ألفاً، وأوساكا 804 ر 114 ر 2، وطوكيو العظمى 000 ر 311 ر 5.
تمض خمسة عشر عاماً، حتى تقدم المتعلمون الأذكياء فيما تعلموه تقدماً أتاح لليابان أن تدفع للأخصائيين الأجانب آخر أجورهم وأن ترسلهم إلى أوطانهم بكل إجلال؛ واقتفت اليابان أثر ألمانيا، فاستولت الحكومة على البريد والسكك الحديدية والتلغراف والتليفون؛ لكنها في الوقت نفسه عرضت قروضاً سخية لمن يريد أن ينهض لنفسه بصناعة ما، وجعلت تحمي تلك الصناعات الخاصة بالضرائب الجمركية العالية، من منافسة المصانع الأجنبية في سائر الأقطار؛ واستعانت البلاد بالتعويض المالي الذي أخذته من الصين بعد حرب سنة 1894 على تمويل حركة التصنيع في اليابان وتشجيع الصناعات، على نحو ما استعانت ألمانيا بالتعويض الفرنسي سنة 1871 على استحثاث حركة التصنيع في أرضها؛ وشبهت اليابان ألمانيا قبل ذلك بجيل واحد، في قدرتها على البدء بآلات حديثة مقرونة بطاعة من العمال كالتي سادت في عصور الإقطاع، على حين كانت الدول الأخرى المنافسة لهما، تعاني من آلات قديمة وعمال ثائرين؛ وكانت مصادر القوة في اليابان رخيصة والأجور قليلة، كما كان العمال يخضعون لرؤسائهم خضوع الولاء؛ لهذا تأخرت عندهم قوانين تنظيم المصانع، وفرضت على العمال فرضاً لا عنف فيه (12)؛ وفي سنة 1933 كنت ترى مغازل "أوساكا" الجديدة لا تحتاج إلى أكثر من فتاة واحدة لكل خمس وعشرين آلة، بينما كانت مغازل لانكشير القديمة تتطلب رجلاً لكل ست آلات (13).
وتضاعف عدد المصانع ما بين 1980 و 1918؛ ثم تضاعف مرة أخرى بين 1918 و 1924، حتى إذا ما كانت 1931 زادت المصانع نصف عددها (14) بينما كانت الصناعة في الغرب عندئذ تخوض أغوار أزمة عميقة؛ وفي سنة 1933 كانت لليابان الصدارة الأولى في تصدير المنسوجات، بحيث أرسلت بليوني ياردة من الخمسة بلايين ونصف البليون من ياردات المنسوجات القطنية التي استهلكها العالم في ذلك العام (15)؛ وفي سنة 1921
تنازلت عن معيار الذهب، وسمحت لعملتها الـ "ين" أن تهبط إلى أربعين في المائة من قيمتها السابقة في التجارة الدولية، وبذلك استطاعت أن ترفع مبيعاتها في الخارج خمسين في المائة عما كانت بين عامي 1932 و 1933 (16)؛ وازدهرت التجارة الداخلية كما ازدهرت التجارة الخارجية، وأتيح لأسرات تجارية كبرى، مثل أسرتي "متسوي" و "متسوبيشي" أن تكدسا ثروة طائلة جعلت رجال الجيش يتحالفون مع طبقات العمال في حركة ترمي إلى جعل الحكومة تتولى بنفسها، أو تفرض رقابتها على الصناعة والتجارة
(1)
.
وبينما كان التقدم التجاري يخلق طبقة وسطى جديدة من الأغنياء، كان العمال الذين ينتجون بأيديهم يتحملون عبء الأثمان المنخفضة التي جعلتها اليابان أداة تهزم بها منافساتها في الأسواق العالمية؛ فكان متوسط أجر العامل سنة 1931 - 1. 17 من الريال كل يوم، ومتوسط أجر العاملة 48 سنتاً في اليوم؛ وكان واحد وخمسون في كل مائة من العمال نساء، كما كان اثنتا عشر في كل مائة ممن تقل سنهم عن ستة عشر عاماً
(2)
، وكانت الإضرابات كثيرة الوقوع،
(1)
لم ترق حركة النقل على اليابس بمثل ما ارتقت الحركة البحرية لأن السلسلة الفقرية الجبلية التي تمتد على طول البلاد، جعلت التجارة تؤثر البحر؛ لهذا ظلت الطرق رديئة بالقياس إلى الطرق في الغرب، ولم تبدأ السيارات تتهدد اليابان إلا منذ أمد قريب؛ ومن الملاحظ الآن أن العربات التي يجرها الإنسان، والتي جرى العرف على إرجاع تاريخها إلى ابتكار مبشر أمريكي في أوائل العقد الثامن من القرن الماضي (17)، قد أخذت في الزوال اليوم أمام السيارات الأمريكية واليابانية، ورصفت طرق طولها مائتا ألف ميل؛ وفي طوكيو طريق مشقوق تحت الأرض يمكن مقارنته بنظائره في أوربا وأمريكا مقارنة ترجح كفته على تلك النظراء؛ ومدت أول سكة حديدية في اليابان سنة 1872 على مسافة بلغ طولها ثمانية عشر ميلاً، فلما كان عام 1932 بلغت السكة الحديدية في تلك الجزر الضيقة 13734 من الأميال؛ ويقطع القطار السريع الجديد المسافة بين مدينة "دايرين"(بالقرب من بورت آرثر)، وبين "هسنكنج"(وكانت تسمى شانجشون) عاصمة منشوريا، وهي مسافة تبلغ سبعمائة كيلومتر، بواقع مائة وعشرين كيلومترا في الساعة (أي نحو خمسة وسبعين ميلاً).
(2)
يرجع انخفاض أجور النساء إلى عوامل، من بينها القلقلة ذات التكاليف الباهظة التي تسببها العاملات اللائي جرين على ترك الصناعة إذا ما توفر لديهن مهر الزواج.
والشيوعية تزداد اتساعاً، حتى هبت على البلاد روح الحرب سنة 1931، فنفخت في الناس وطنية دعتهم إلى التعاون والتماسك؛ وحرم القانون "الآراء الخطيرة"، وفرضت قيود شديدة على نقابات العمال التي لم تبلغ قط مبلغ القوة في اليابان (20) واتسعت رقعة المساكن الفقيرة في أوساكا وكوبي وطوكيو، فقد كانت الأسرة ذات الخمسة أعضاء في طوكيو تسكن من تلك المنازل الفقيرة غرفة تبلغ في المتوسط من ثماني أقدام إلى عشرة أقدام مربعة - وهي مساحة لا تزيد إلا قليلاً عن المساحة التي يشغلها سرير لشخصين؛ وكان يسكن في أمثال هذه المساكن في مدينة كوبي عشرون ألفاً من المتسولين والمجرمين والشائهين والبغايا، كانوا يسكنون في قذارة بلغت حداً جعل الوباء يتفشى فيهم مرة كل عام، وزادت نسبة الوفيات في الأطفال أربعة أمثال ما كانت عليه في بقية اليابان (21)، ونهض شيوعيون مثل "كاتاياما"، واشتراكيون مسيحيون مثل "كاجاوا" يقاومون بالعنف أو باللين تلك الحالة السيئة، حتى استيقظت الحكومة آخر الأمر وقامت بحركة تطهيرية لتلك المساكن الفقيرة، لم يشهد التاريخ أعظم منها.
وقد كتب "لافكاديو هيرن" منذ جيل، يعبر عن رأيه الناقم على النظام الحديث في اليابان، فقال:
"إن التاريخ لم يشهد قط فيما مضى أمثال هذه الألوان من البؤس التي تجد مجالها في ظل النظام الجديد؛ وتستطيع أن تكوّن لنفسك صورة تقريبية عن هذا البؤس، إذا عرفت أن عدد الفقراء في طوكيو الذين يعجزون عن دفع ضريبة المسكن، يربو على خمسين ألفاً، ومع ذلك فهذه الضريبة لا تزيد قيمتها على عشرين "سنًّا" وهو ما يقابل عشرين "سنتا" بالعملة الأمريكية؛ ولم يكن في أي جزء من أجزاء اليابان مثل هذا العوز قبل أن تتراكم الثروة في أيدي نفر قليل - إلا إذا استثنينا بالطبع الأعقاب المؤقتة التي تلحق عهود الحرب"(22).
ولاشك أن "تراكم الثروة في أيدي نفر قليل" عامّ في العالم كله، والظاهر
أنه عامل مصاحب للمدنية لا يتخلف؛ ويقول الممولون اليابانيون، إن أجور العمال هناك ليست أقل مما ينبغي إذا روعي عدم كفايتهم في العمل نسبياً، وإذا روعي إلى جانب ذلك رخص العيش في اليابان (23)، والرأي في اليابان هو أن الأجور المنخفضة شرط لازم لانخفاض الأسعار، وانخفاض الأسعار شرط لازم للسيطرة على الأسواق الخارجية، والأسواق الخارجية شرط لازم لصناعة تعتمد على حديد وفحم يستوردان من الخارج؛ والصناعة شرط لازم لسد حاجات شعب يتزايد عدده في جزء لا تصلح الزراعة إلا في اثني عشر في كل مائة جزء من أجزاء أرضها، وهي كذلك ضرورية لاكتساب الثروة وإعداد السلاح اللذين بغيرهما لا تستطيع اليابان أن تحمي نفسها ضد عدوان الغرب.
الفصل الثالث
الانقلاب الثقافي
التغيير في الشباب - وفي آداب السلوك - الخلق الياباني - الأخلاق
والزواج في مرحلة انتقال - الدين - العلم - الطب في اليابان - الفن
والذوق - اللغة والتعليم - القصص الطبيعي - صورة جديدة من الشعر
إنا لنسأل هل تغير الشعب نفسه نتيجة للانقلاب الصناعي؟ إن العين لتلمح بعض ألوان التجديد؛ فالبدلة الأوربية المقبضة ذات الشعبتين، قد سيطرت على معظم سكان المدن ولَفَّتْ أبدانهم، غير أن النساء مازلن يرتدين ثياباً فضفاضة زاهية الألوان، يربطها عند الوسط شريط مزخرف يلتئم طرفاه بعقدة عريضة عند الظهر
(1)
، وكلما أصلحت الطرق حلت الأحذية محل القباقيب الخشبية؛ غير أن نسبة كبيرة من الجنسين ما تزال تمشي بأقدام حافية سليمة من التشويه؛ وإذا نظرت خلال المدن الكبرى ألفيت كل ضروب التشكيلات والتركيبات التي تجمع بين الثياب الوطنية والثياب الغربية، كأنما أرادوا بذلك أن يرمزوا إلى تحول اسُتعجلَت خطواته فابتُسر ابتساراً.
ولا تزال آداب المعاملة عندهم نموذجاً "للتشريفات" الدبلوماسية، ولو أن الرجال ما برحوا عند عادتهم القديمة في تقدمهم على النساء، إذا ما دخلوا غرفة أو خرجوا منها، أو مشوا في الطريق؛ واللغة عندهم نسيج وحدها في احتشامها، فقلَّ أن يداخلها فحش في اللفظ، وتراهم يكسون بغطاء ظاهري من التواضع احتراماً للنفس يبلغ حد التوحش، وآداب السلوك قد تبلغ من رقتها حداً يلطف من حدة العداوة مهما بلغت من استيلائها على النفوس،
(1)
النساء المشتغلات بالتعليم أو الصناعة يرتدين ثياباً مفصلة على الطراز الغربي؛ على أن الرجال والنساء معاً يتبحبحون بعد ساعات العمل في ثيابهم التقليدية.
والخلق الياباني - شأنه شأن الخلق الإنساني في كل بقاع الأرض - مؤلف من أشتات متناقضة، لأن الحياة تضعنا في ظروف مختلفة كل حين، وتتطلب منا أن نأخذها بالشدة حيناً والرقة حيناً، وباليسر حيناً وبالصرامة حيناً، وبالصبر حيناً والشجاعة حيناً، وبالتواضع حيناً والكبرياء حيناً، لهذا لا ينبغي لنا أن نأخذ على أهل اليابان جمعهم بين العاطفية والواقعية، وبين رقة الإحساس وصرامة الجد في الحياة، وبين طلاقة التعبير والكتمان، وبين سرعة التأثر وكبح الجماح؛ إنهم يغلب عليهم المرح والفكاهة وحب المتعة، ويميلون إلى الانتحار الذي يروع المتفرج بمنظره، وهم رقاق القلب - نحو الحيوان غالباً ونحو المرأة أحياناً - لكنهم قساة في بعض الأحيان على الحيوان والرجال
(1)
، وإن الياباني الصادق في يابانيته ليتصف بكل صفات الجندي المحارب - الاعتداد والشجاعة والاستعداد لملاقاة الموت استعداداً لا يضارعه فيه مضارع؛ ومع ذلك كله تراه في كثير من الأحيان يحمل بين جنبيه روح الفنان - فهو مرهف الحس سهل التأثر رقيق نشيط محب للاطلاع والبحث ذو ولاء وصبر، وله قابلية شديدة لاستيعاب التفصيلات، وهو ذو دهاء وحيلة ككل ذي جسد ضئيل، وذكاؤه وقّاد، تراه لا يبرع في الخلق الفكري، لكنه قادر على الفهم السريع والاقتباس والمهارة العملية؛ ولقد اجتمعت في الياباني روح الرجل الفرنسي وغروره، وشجاعة البريطاني وضيق أفقه، وحرارة الإيطالي واستعداده للفنون، ونشاط الأمريكي وميله للتجارة، وحساسية اليهودي ودهاؤه.
ثم جاء اتصالهم بالغرب وصراعهم معه، فغيروا حياة اليابان الأخلاقية
(1)
حدث في الاضطراب الذي أعقب زلزال سنة 1923، أن سكان يوكوهاما من اليابانيين - بينما كانت تمدهم سفن النجدة الأمريكية بالقوت - استغلوا الشعب وذبحوا مئات (وقيل آلافاً) من دعاة التغيير ومن الكوريين العزل في الطرقات (24)؛ والظاهر أن وطنياً متحمساً قد أثار اليابانيين بإعلانه أن الكوريين (الذين كانوا عدداً ضئيلاً) يدبرون قلب الحكومة وقتل الإمبراطور.
وطرائق السلوك فيها، غير أن أمانتهم التقليدية
(1)
لا تزال قائمة بينهم إلى حد كبير، وإن يكن التوسع في حقوق الانتخاب وحدَّة التنافس التي تلازم التجارة الحديثة، قد أدخلا اليابان نصيبها النسبي من الرشوة التي هي من خصائص الحكم الديمقراطي، والقسوة التي تتصف بها الحياة الصناعية، وخفة اليد في عالَم المال؛ نعم إن "خُلُق الفرسان"(ويسمونه بوشيدو) لا يزال باقياً هنا وهناك بين طبقات الجنود العليا، ولذا فهو بمثابة الضابط الأرستقراطي الخفيف للجموح الشيطاني الذي استولى على عالمي التجارة والسياسة؛ والاغتيال كثير الوقوع على الرغم مما تتصف به عامة الناس من طاعة القانون والصبر على أحكامه - والاغتيال هناك لا يقع خلاصاً من استبدادية رجعية، بل يقع عادة لتشجيع روح الوطنية التي لا تبالي الاعتداء؛ من ذلك أن "جمعية الأفعوان الأسود" التي يرأسها "توياما" الذي يبدو في مظهر المنبوذ، قد كرست نفسها أكثر من أربعين عاماً، لبث سياسة غزو كوريا ومنشوريا بين أصحاب المناصب الحكومية في اليابان
(2)
، وقد اتخذت الاغتيال أداة للوصول إلى هذا الغرض، ومنها اكتسب الاغتيال مهمة شعبية ظل يقوم بها في تحريك العالم السياسي في اليابان (26).
لقد شارك الشرق الأقصى بلاد الغرب في الاضطراب الخلقي الذي يصحب كل تغير عميق يتناول الأساس الاقتصادي للحياة؛ وازدادت الحرب التي ما فتئت قائمة بين الأجيال المتعاقبة، بين الشباب الطافح بحماسته، وبين الشيوخ
(1)
يقول لافكاديو هيرن: "لقد عشت في أقاليم لم تعرف السرقة مدى مئات من السنين - حيث ظلت السجون التي ابتناها "ميجي" حديثاً، خالية لا نفع فيها"(25).
(2)
"الأفعوان الأسود" هو الاسم الذي تطلقه الصين على نهر أمور الذي يفصل منشوريا عن سيبريا، واليابانيون ينظرون إلى الاغتيال نظرتهم إلى نوع من العقاب الشريف الذي يحل عندهم محل النفي.
المفرطين في حرصهم، ازدادت تلك الحرب حدة لنمو الصناعة التي تعمل على إبراز شخصية الفرد، ونتيجة لإضعاف الإيمان الديني؛ فالانتقال من الريف إلى المدينة، وإحلال الفرد محل الأسرة باعتباره الوحدة القضائية المسئولة للمجتمع الاقتصادي والسياسي، قد قوض أركان السلطة الأبوية، وأخضع عادات القرون الطويلة وأخلاقها للحكم المتسرع الذي يحكم به المراهق على أمثال هذه الأمور؛ وكنت ترى الشباب في المدن الكبرى يثورون على نظام الزواج تحت إشراف الأبوين، وترى العروسين لا يجريان على مألوف العادات من حيث السكنى في بيت والد العريس، بل هما أميل إلى إنشاء بيت مستقل أو "شقة" مستقلة؛ هذا إلى أن سرعة تصنيع النساء قد حتم انحلال الروابط التي كانت تربطهن بالدار واعتمادهن في العيش على الرجال؛ والطلاق في اليابان قد كثر حتى شابه الحال في أمريكا، بل هو هناك أخف عاقبة منه في أمريكا، لأن الرجل قد يستطيع الطلاق بمجرد توقيعه على دفتر للتسجيل، ودفعه رسوماً تبلغ ما يساوي عشر "سنتات"(27)، ولئن حرم القانون نظام الخليلات إلا أنه لا يزال قائماً فعلاً يتمتع به كل من تمكنه حالته المالية من تجاهل القانون (28).
والآلة هي عدو رجل الدين في اليابان كما هي في سائر أنحاء العالم، ولما استوردت اليابان من إنجلترا أوضاعها الصناعية الفنية، استوردت معها "سبنسر" و "ستيورت مِلْ"، وبهذا أسدل الستار فجأة على سيادة المذهب الكنفوشيوسي في الفلسفة اليابانية، ولقد قال تشمبرلين سنة 1905:"إن الجيل الموجود الآن في المدارس يتشكل على صورة فولتيرية واضحة المعالم"(29)، ومن نتيجة هذا الاتجاه نفسه أن ازدهر العلم بارتباطه الحديث بالآلة، واكتسب في اليابان قلوب أعظم الباحثين في عصرنا هذا، بحيث انصرفوا إليه مخلصين
على نحو ما نعهده في اليابانيين من الولاء فيما يخلصون له
(1)
؛ فالطب في اليابان - على الرغم من اعتماده في معظم مراحله على الصين وكوريا - قد تقدم تقدماً سريعاً حين احتذى مثل الأوربيين واندفع بحافزهم، وخصوصاً الألمان؛ وإذا أردت أن تعلم مدى السرعة التي انتقلت بها اليابان من مرحلة التتلمذ إلى مرحلة الأستاذية التي أخذت تعلم فيها العالم أجمع، فانظر إلى ما عمله "تاكامين" في استكشافه للأدرنالين وفي دراسته للفيتامينات؛ وما أداه "كيتاساتو" في مرض التتنوس وفقر الدم، وفي تقدم التلقيح ضد الدفتريا؛ ثم ما عمله ألمعهم جميعاً وأشهرهم جميعاً، وهو "نجوشي" في مرض الزهري ومرض الحمى الصفراء.
ولد "هيديونجوشي" سنة 1876 في إحدى الجزر الصغرى، من أسرة بلغ بها الفقر حداً جعل أباه يترك أسرته حين علم أن طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة؛ وأهمل الوليد هذا إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان أن اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، وراح الناشئ يفكر في الانتحار، لكن جراحاً قدم إلى القرية حينئذ، وعالج له يده اليمنى علاجاً ناجحاً، واعترف "نجوشي" للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرر لتوه أن يكرس نفسه للطب؛ ومن أقواله عن نفسه سأكون نابليون ينقذ البشرية لا نابليون يفتك بها، إنني أستطيع الآن أن أعيش معتمداً على نعاس أربع ساعات في الليل" (30)؛ وكان "نجوشي" مفلساً، فاشتغل في صيدلية حتى حمل صاحبها
(1)
كان العلم في اليابان قبل 1853 مستورداً معظمه من نتاج الوطن الأصلي نفسه؛ فالتقويم الياباني الذي كان فيما سبق معتمداً على أوجه القمر، قد أعيد حسابه بحيث يساير السنة الشمسية، على يدي كاهن كوري حوالي سنة 604 ميلادية، ثم أدخلت تعديلات من الصين سنة 608 ميلادية؛ واصطنعت اليابان - ولا تزال - طريقة أهل الصين في حساب الحوادث بردها إلى اسم الإمبراطور الذي وقعت في أيامه، وسنة توليه الحكم؛ وفي سنة 1873 أخذت اليابان بالتقويم الجريجوري.
على رصد مبلغ من المال يتعلم به الطب؛ وبعد أن تخرج في الطب من الجامعة، ذهب إلى الولايات المتحدة وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن مقابل نفقاته؛ وهيأت له مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية معملاً، وشرع "نجوشي" يعمل وحده لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث العلمي، مما انتهى إلى أطيب الثمرات؛ فهو الذي أنتج أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء الذي يصيب حركة العضلات، وأخيراً استطاع في سنة 1918 أن يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة المؤقتة، عاد إلى اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدلي الذي أنفق على دراسته الطبيعية اعترافاً له بالجميل، ثم ذهب إلى أفريقيا ليدرس الحمى الصفراء التي كانت تفتك بساحل الذهب من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى ومات سنة 1928؛ ومما يزيدنا حسرة على موته أنه لم يكن قد بلغ من العمر أكثر من اثنين وخمسين عاماً.
كان التقدم العلمي في اليابان - كما كان كذلك في الغرب - مصحوباً بانحلال في الفنون التقليدية؛ فتقويض الطبقة الأرستقراطية القديمة قد قوض عشاً كان يترعرع فيه حسن الذوق، وراحت الأجيال بعدئذ تتخذ لنفسها ما شاء لها هواها من معايير الجمال، بحيث يستقل كل جيل في معياره الذوقي عما سلفه؛ وتدفقت الأموال من البلاد الخارجية سعياً وراء المنتجات الوطنية، فأدى ذلك إلى الإنتاج السريع الذي يعني بالكم وحده، وانحطت مستويات الرسوم اليابانية تبعاً لذلك، فلما عاد الشارون إلى طلب المصنوعات القديمة، انقلب الصناع جماعة من المزورين، وأصبحت صناعة الآثار القديمة في اليابان - كما هي الحال في الصين - أروج الصناعات في الفنون الحديثة؛ ولعل جانب الصناعة الخزفية المعروف باسم Colisoune أن يكون الفرع الوحيد من فروع تلك الصناعة، الذي تقدم في اليابان منذ قدوم الغرب إلى
البلاد؛ فالانتقال المضطرب من الصناعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، وهجمة الأذواق والأساليب الأجنبية على أهل البلاد متسترة برداء من الظفر والثروة، قد أدى إلى زعزعة الحس الجمالي عند اليابانيين وإضعاف ذوقهم بحيث لم يعد على ما كان عليه من ثبات؛ وهاهي ذي اليابان قد اختارت السيف اتجاهاً، فلعلها قد كُتب لها أن تعيد تاريخ الرومان - بأن تقلد في الفن - وتسود في الإدارة والحرب
(1)
.
لقد لبثت الحياة العقلية في الإمبراطورية الحديثة جيلاً اتجهت خلاله نحو ممالأة الأساليب الغربية، فتكاثرت الكلمات الأوربية في لغة القوم، ونظمت الصحف على الطريقة الغربية، وأنشئت مجموعة من المدارس العامة على غرار المدارس النموذجية الأمريكية؛ إذ صممت اليابان تصميم الأبطال على أن تجعل من نفسها أمة تكون أسبق أمم الأرض جميعاً في إزالة الأمية، وقد نجحت فيما أرادت، ففي سنة 1925 كان يختلف إلى المدارس من أبناء البلاد 4 ر 99 في المائة (31)، وفي سنة 1927 كان في مستطاع 93 في كل مائة من أهل البلاد جميعاً أن يقرءوا (32)؛ فقد أقبل الطلاب على الحركة العرفانية العلمانية الجديدة إقبالاً فيه حرارة الإيمان الديني، حتى لقد أفسد مئات منهم صحة أبدانهم بسبب حماستهم في كسب المعرفة (33)؛ واضطرت الحكومة اضطراراً أن تتخذ الوسائل الفعالة لتشجيع الرياضة البدنية والألعاب بكافة صنوفها، القومي منها والمستعار من البلاد الخارجية؛ وخرج التعليم من كنفه الديني واصطبغ بصبغة علمانية أكثر مما اصطبغ به التعليم في معظم الأقطار الأوربية؛ وأعينت خمس جامعات إمبراطورية، وقامت إحدى وأربعون جامعة أخرى - قد تقل في نزعتها الإمبراطورية عن تلك الخمس - وضمت بين جدرانها آلاف الطلاب المتحمسين؛ وفي سنة 1931 كانت الجامعة الإمبراطورية في طوكيو تشتمل على 8064 طالباً، وجامعة كيوتو تشتمل على 5552 طالباً (34).
(1)
أخذت اليابان اليوم حمى الوطنية؛ فأدت بها إلى إحياء الحوافز والأساليب القومية.
وأما الأدب الياباني في الربع الأخير من القرن (التاسع عشر) فقد أفنى نفسه في سلسلة من ألوان المحاكاة، وتوالت على الطبقة المثقفة موجات الحرية الإنجليزية والواقعية الروسية والفردية النيتشية والبراجماتية الأمريكية، فاكتسحتها واحدة بعد واحدة، حتى عادت روح الوطنية فأكدت نفسها، وبدأ الكتاب اليابانيون يكشفون عن مادتهم القومية فيعبرون عنها بأساليبهم القومية؛ وقد ظهرت فتاة شابة تدعى "إيشي يو" فافتتحت حركة في كتابة القصة تنحو منحى المذهب الطبيعي قبل موتها سنة 1896 وهي في عامها الرابع والعشرين، وذلك بتقديمها صورة ناصعة عن تعاسة النساء وذلهن في اليابان (35)، وفي سنة 1906 دفع الشاعر "توسون" هذه الحركة إلى أوجها بقصة طويلة عنوانها "هاكاي" أي عدم الوفاء بالعهد، قصَّ فيها بنثر شعري قصة معلم وعد أباه ألا يفضح عن نفسه حقيقتها وهي أنه من طبقة "إيتا" أي الطبقة التي انحدرت من أسلاف عبيد، وبهذا أتيح له بما كان له من قدرة وما ظفر به من تعليم أن يحتل مكانة عالية، فأحب فتاة مهذبة من ذوات المكانة الاجتماعية؛ وبعدئذ فار فورة صدق اعترف فيها بأصله، وتنازل عن حبيبته ومكانته، وغادر اليابان لغير عودة، فكانت هذه القصة عاملاً قوياً في تحريك النفوس تحريكاً انتهى آخر الأمر بإسدال الستار على العوائق التي لبثت طوال التاريخ مفروضة على طبقة "إيتا".
وكانت صورتا الشعر الموجز المعروفتان باسم "تانكا" و "بوكا" آخر صور الثقافة اليابانية استسلاماً للمؤثرات الغربية، إذ لبثتا أربعين عاماً بعد عودة الإمبراطور إلى عرشه الفعلي، هما الصورتين المنشودتين لقرض الشعر الياباني، وفني الروح الشعري في آيات معجزات من البراعة والصناعة، حتى كان عام 1897، ظهر معلم شاب، هو "توسون" في "سنداي"، وباع لأحد الناشرين ديواناً من الشعر بخمسة عشر ريالاً، فجاء هذا الديوان بقصائده الطويلة ثورة تكاد تبلغ في عنفها مبلغ أية ثورة أخرى مما زعزع نسيج الدولة؛ وكان الشعب قد ملَّ الأقوال القصيرة الرشيقة، فأقبل على هذا
الديوان (ذي القصائد الطويلة) إقبال الشاكر، وسبَّبَ بإقباله هذا ثراء للناشر؛ وسار بعض الشعراء الآخرين في إثر توسون، وانتهى الأمر بصورتي الشعر الموجز الـ "تانكا" والـ "بوكا" أن أسلمتا زمام السيطرة بعد أن ظلتا ممسكتين به ألف عام (36).
وعلى الرغم من ظهور هذه الصور الشعرية الجديدة، فقد ظلت "المباراة الإمبراطورية في قرض الشعر" قائمة كما كانت؛ فالإمبراطور يعلن في كل عام موضوعاً، ثم يسوق مثالاً بنشيد يمليه في ذلك الموضوع؛ وتقتفي الإمبراطورة أثره، وبعدئذ يرسل خمسة وعشرون ألف شاعر ياباني من كافة الأشكال والطبقات، يرسل هؤلاء قصائدهم إلى "مكتب الشعر" في القصر الإمبراطوري، وتشكل لها هيئة تحكيم من أعلى أعلام البلاد؛ حتى إذا ما انتهى التحكيم إلى القصائد العشر الأولى، قرأت على الإمبراطور والإمبراطورة، وطبعت في الصحف اليابانية في العدد الذي يصدر في اليوم الأول من العام (37)، فياله من تقليد بديع خليق أن يدير النفس لحظة عن دنيا التجارة والحروب، وهو يدل على أن الأدب الياباني مازال جزءاً حيوياً في حياة أمة هي أكثر الأمم حيوية في العالم المعاصر.
الفصل الرابع
الإمبراطورية الجديدة
الأسس المزعزعة للمدنية الجديدة - أسباب النزعة الاستعمارية اليابانية - الطلبات
الواحدة والعشرون - مؤتمر واشنطن - قانون الهجرة الصادر سنة 1924 - غزو منشوريا-
المملكة الجديدة - اليابان وروسيا اليابان وأوربا - هل لابد لأمريكا من محاربة اليابان؟
لقد أقامت اليابان الجديدة بناءها على أسس مزعزعة على الرغم من نموها السريع في الثراء والقوة؛ فقد زاد عدد سكانها من ثلاثة ملايين أيام "شوتوكو تايشي" حتى بلغ سبعة عشر مليوناً في حكم "هيديوشي"، ثم بلغ ثلاثين مليوناً في عهد "يوشيموني"، وزاد على خمسة وخمسين مليوناً في آخر عهد "ميجي"(1912)
(1)
.
وإذن فقد تضاعف السكان في مدى قرن واحد، وضاقت الجزر التي تكتنفها الجبال، والتي تقل فيها الأراضي الصالحة للزراعة، بملايينها المتزايدة؛ فسكان تلك الجزر الذين يبلغون نصف سكان الولايات المتحدة، لا يجدون مما يقيم حياتهم أكثر من جزء من عشرين جزءاً بالنسبة لثروة الولايات المتحدة؛ وإذن فلا سبيل أمامها سوى المصانع، ومع ذلك تراها فقيرة فقراً يبعث على الأسى، في مواد الوقود وفي المعادن التي لا غنى للصناعة عنها، نعم إن القوة
(1)
بلغ عدد سكان الإمبراطورية اليابانية سنة 1934 ثمانين مليوناً (والإمبراطورية اليابانية تعني اليابان وكوريا وفورموزا وبعض الممتلكات الصغيرة الأخرى)، ولو نجحت اليابان في استمالة سكان منشوريا إلى الحكم الياباني، فستتحكم في دنيا الصناعة والحرب على مائة وعشرة من الملايين؛ ولما كان سكان اليابان وحدها يزيدون بنسبة مليون كل عام، ثم لما كان سكان الولايات المتحدة يقربون مسرعين من حد الجمود لا زيادة بعده، فربما جاء اليوم قريباً حيث تصطدم الدولتان بعدد من السكان قريب من التعادل.
الكهربائية المتولدة عن تدفق الماء كانت كافية في المجاري التي تسيل من الجبال إلى البحر، لكن استغلال هذا المصدر أكمل استغلال لا يضيف إلى القوة المستعملة بالفعل إلا مقدار ثلثها (39)، ولا يمكن الاعتماد عليها لسد حاجات المستقبل المتزايدة؛ ووجدت طبقات من الفحم هنا وهناك ممتدة في عروق تكاد تعز على متناول الإنسان، وجدت في جزر "كيوشو" و "هوكاديو"، كما أمكن الحصول على البترول من "سخالين"، أما الحديد- وهو من الصناعة لبّها وصميمها- فيكاد لا يكون له أثر في التربة اليابانية (40)؛ وبعد هذا كله، فإن مستوى المعيشة المنخفض الذي فرض على سواد الناس فرضاً بحكم صعوبة الحصول على المواد والوقود وارتفاع تكاليفها، جعل الاستهلاك يزداد تأخراً بالنسبة إلى تقدم الإنتاج؛ فالمصانع التي كانت آلاتها تزداد حٌسناً كل عام، راحت تصب فيضاً من السلع يزيد على حاجة أهل البلاد ولا يمكن شراؤه فيها، ويصرخ صرخات عالية مطالباً لنفسه بأسواق في الخارج.
من مثل هذه الظروف تنشأ الرغبة في الاستعمار، وأعني بكلمة الاستعمار ذلك المجهود الذي يبذله النظام الاقتصادي في بلد من البلاد- مستعيناً في ذلك بالحكومة التي هي أداته في تحقيق أغراضه- يبذله نحو بسط سيادته على مناطق أجنبية يعتقد أنها تمده بما يحتاج إليه من وقود وأسواق ومواد خام وأرباح؛ فأين عسى أن تجد اليابان هذه الفرصة وتلك المواد؟ إنها لا تستطيع أن تتجه بأبصارها نحو الهند الصينية أو الهند أو استراليا أو الفلبين، لأن هذه البلاد قد سبقت الدول الغربية إلى الاستيلاء عليها، وفرضت فيها من الحواجز الجمركية ما يناصر سادتها البيض على أهل اليابان؛ وواضح أن الصين قد وضعها الله على أبواب اليابان مقدراً لها أن تكون سوقاً للسلع اليابانية، كما أن منشوريا- منشوريا الغنية بفحمها وحديدها، والغنية بقمحها الذي لا تستطيع الجزر اليابانية أن تستنبته في بلادها على نحو يفيدها، والغنية برجالها الذين
يصلحون للصناعة والضريبة والحرب- منشوريا هذه قد كتب عليها كذلك أن تكون تابعة لليابان؛ وبأي حق؟ بنفس الحق الذي استولت به إنجلترا على الهند واستراليا، واستولت فرنسا به على الهند الصينية، واستولت به ألمانيا على شانتونج، وروسيا على بورت آرثر، وأمريكا على الفلبين- وهو حق الحاجة التي يشعر بها القوي؛ وعلى كل حال فليس للناس حاجة في نهاية الأمر إلى التماس المعاذير، وإنما كل ما يتطلبونه هو القوة والفرصة السانحة اللتان تمكنانك من فعل ما تريد؛ فالنجاح في رأي أتباع المذهب الدارويني، يبرر كل الوسائل التي تحققه.
وجاءت الفرصة تفتح لليابان صدرها رحيباً- جاءت أولاً في الحرب العالمية الأولى، ثم جاءت بعد ذلك في انهيار الحياة الاقتصادية في أوربا وأمريكا؛ فلم يقتصر أثر الحرب على مجرد الزيادة من إنتاج اليابان (كما حدث في أمريكا) زيادة تطلبتها سوق عظمى خارجية ناشئة بسبب قيام الحرب- وأعني بتلك السوق قارة أوربا التي كانت مشتبكة في القتال؛ بل إن تلك الحرب قد أدت كذلك إلى إضعاف أوربا واستنفاد قواها، وتركت اليابان موشكة أن تكون بغير شريك في العالم الشرقي؛ فبسبب هذا كله غزت شانتونج سنة 1914، وبعد ذلك بعام واحد تقدمت إلى الصين "بالمطالب الواحدة والعشرين" التي لو تمكنت من فرضها على الصين، لأصبحت الصين مستعمرة هائلة تابعة لليابان الضئيلة.
فالمجموعة الأولى من المطالب أرادت من الصين أن تعترف بسيادة اليابان على شانتونج؛ وطالبت اليابان بالمجموعة الثانية منها بامتيازات صناعية معينة، وبالاعتراف بحقوق خاصة تتمتع بها اليابان في منشوريا ومنغوليا الشرقية؛ وعرضت المجموعة الثالثة من تلك المطالب أن تكون أكبر شركات التعدين في أرض الصين شركة مشتركة بين الصين واليابان؛ وطالبت المجموعة الرابعة
(وهي موجهة ضد رجاء أمريكا في أن تكون لها محطة للفحم بالقرب من فوشو)"بألا تتنازل الصين عن أية جزيرة أو ميناء أو مرسى على طول الساحل لدولة ثالثة"؛ واقترحت المجموعة الخامسة اقتراحاً متواضعاً، وهو أن تستخدم الصين منذ ذلك الحين فصاعداً مستشارين يابانيين في شؤونها السياسية والاقتصادية والحربية، وأن تكون إدارة الشرطة في المدن الصينية الكبرى في يد مشتركة بين الصينيين واليابانيين؛ وأن تشتري الصين نصف ذخائرها على الأقل من اليابان؛ وأن تكون لليابان كل الحرية في مد السكك الحديدية وحفر المناجم وبناء الموانئ في منطقة فوكين (41).
واحتجت الولايات المتحدة بأن بعض هذه "المطالب" فيه اعتداء على سلامة الأراضي الصينية وعلى مبدأ "الباب المفتوح"، فألغت اليابان المجموعة الخامسة من تلك المطالب، وعدَّلت بقيتها، ثم قدمتها للصين مقرونة بإنذار نهائي في اليوم السابع من شهر مايو سنة 1915، فقبلتها الصين في اليوم التالي لتقديمها، وتبع ذلك مقاطعة من الصين للبضائع اليابانية؛ لكن اليابان مضت في طريقها قدماً، على زعم يؤيد التاريخُ صحته، وهو أن المقاطعة التجارية لا بد منتهية عاجلاً أو آجلاً إلى فشل، لأن التجارة تميل بطبيعتها إلى أن تتبع أقل التكاليف؛ وفي سنة 1917 بسط "الفيكونت إشياي" في لباقة، موقف اليابان للشعب الأمريكي، حتى حمل الوزير "لانسنج" على توقيع اتفاق يعترف بأن "لليابان مصالح خاصة في الصين، خصوصاً في الأجزاء المتاخمة لممتلكاتها"؛ وفي مؤتمر واشنطن سنة 1922 أرغم الوزير "هيوز" اليابانيين على الاعتراف بمبدأ "الباب المفتوح" في الصين، وبأن تقتنع اليابان بأسطول يبلغ ستين في المائة من حجم الأسطول الإنجليزي أو الأمريكي
(1)
، ووافقت
(1)
وضعت نسبة الأساطيل الإنجليزية والأمريكية واليابانية على أساس 5، 5، 3 وباعتبار امتداد السواحل أو الممتلكات التي تتطلب من إنجلترا أو من أمريكا دفاعاً، إذا قيست إلى صغر حجم اليابان وحماية أرضها حماية طبيعية.
اليابان في نهاية المؤتمر على أن تعيد إلى الصين ذلك الجزء من شانتونج (تسنجتاو) الذي كانت أخذته من ألمانيا إبان الحرب؛ ثم مات الحلف الإنجليزي الياباني موتاً هادئاً، وراحت أمريكا تحلم في فراشها الدافئ بسلام لا تزعجه الحروب أبد الآبدين.
لكن السياسة الأمريكية اصطدمت بفشل من أبشع ما شهدته في تاريخها، بسبب تلك الثقة الصبيانية في مستقبل ناعم، ذلك أن الرئيس "تيودور روزفلت" لما رأى سكان الساحل الممتد على المحيط الهادي قد أزعجتهم هجرات اليابانيين المتواصلة إلى كاليفورنيا، أخذ في سنة 1907 يفاوض الحكومة اليابانية مستعيناً بسلامة إدراكه التي كانت تكمن في ثنايا حياته الصاخبة التي قرَّبته إلى قلوب الشعب، واتفق معها "اتفاق السيد الكريم مع السيد الكريم" بحيث وعدت اليابان أن تمنع هجرة عمالها إلى الولايات المتحدة؛ لكن ارتفاع نسبة المواليد بين أولئك اليابانيين الذين كانوا قد سمح لهم فعلاً بالدخول، لم تزل تزعج الولايات الغربية من أمريكا، حتى إن كثيراً من تلك الولايات أصدر القوانين التي تحرم على الأجانب امتلاك الأراضي؛ ولما قرر "الكونجرس الأمريكي" سنة 1924 أن يحدد الهجرة إلى البلاد، أبى أن يطبق على الأجناس الآسيوية مبدأ النسبة المخفضة التي سمح بها للشعوب الأوربية
(1)
، بل حرم هجرة الآسيويين تحريماً قاطعاً، وقد كان من المستطاع أن نصل إلى نفس النتيجة تقريباً لو طبقنا النسبة الجديدة على كل الأجناس بغير تمييز ولا تعيين، واحتج الوزير "هيوز" قائلاً:"إن هذا التشريع لا فائدة منه إطلاقاً حتى بالنسبة للغاية التي سُنَّ من أجل تحقيقها"؛ لكن المتحمسين فسروا الإنذار الذي وجهه السفير الياباني بشأن "النتائج الخطيرة التي قد تترتب على هذا القانون، فسروا بأنه تهديد، واستولت عليهم حمى البغضاء فأصدروا "قانون الهجرة".
(1)
يقرر ذلك المبدأ أن يكون عدد المهاجرين من أي قطر مساوياً في نسبته إلى مجموع العدد المسموح بهجرته طوال العام، لنفس النسبة التي بين عدد سكان الولايات المتحدة من أبناء ذلك القطر سنة 1890 وبين مجموع عدد سكان الولايات المتحدة في تلك السنة.
واشتعلت النار اشتعالاً في اليابان كلها لهذا الذي بدأ في عينها إهانة مقصودة؛ وعقدت الاجتماعات وألقيت الخطب، وانتحر وطنيُّ متحمس على طريقة "هارا كيري" أمام دار "الفيكونت إنويي" ليعبر بانتحاره ذلك عن شعور القوم جميعاً بالعار؛ أما زعماء اليابان، فكانوا يعلمون أن بلادهم قد أضعفها زلزال سنة 1923، فصمتوا وتربصوا ينتظرون الفرصة السانحة، فلو سارت الأمور سيراً طبيعياً، فسيفتُّ الضعف كذلك بأمريكا وأوربا، وعندئذ ستنتهز اليابان فرصتها الثانية، وتثأر لنفسها ولو بعد حين.
فلما أعقبت أعظم الحروب جميعاً أزمةٌ اقتصاديةُ هي أعظم الأزمات جميعاً، وجدت اليابان فرصتها التي طال انتظارها لها، لكي تثبت أركان سيادتها في الشرق الأقصى؛ إذ أعلنت أن السلطات الصينية قد أساءت إلى تجار اليابان في منشوريا، هذا إلى شعور خفي عندها بأن سككها الحديدية وسائر مُسْتَغَلاتها الاقتصادية هناك تتهددها المنافسة الصينية، فأمرت جيشها في سبتمبر سنة 1941 أن يتقدم في منشوريا، بادئة في ذلك بالعدوان، أما الصين فكانت في حالة من الفوضى بسبب الثورة وبسبب حركة انفصالية بين أقاليمها وبسبب ارتشاء ساستها، فلم تستطع أن تجمع كلمتها في مناهضة اليابان إلا على صورة واحدة، وهي أن تعود من جديد إلى مقاطعة البضائع اليابانية، فلما تذرعت اليابان بحجة الدعاية الصينية لمقاطعة التجارة اليابانية، وغزت شنغهاي (1932)، لم ينهض من الصينيين لمقاومة هذا الغزو إلا قلة ضئيلة؛ ووجهت الولايات المتحدة اعتراضات في هذا الصدد، ووافقتها عليها الدول الأوربية (من حيث المبدأ) موافقة باعثها الحذر، لكنها كانت في شغل من مصالحها التجارية الفردية بحيث لم تستطع أن تجمع كلمتها جميعاً على إجراء حاسم إزاء هذه الإزالة السريعة لسيادة الرجل الأبيض على الشرق الأقصى، تلك السيادة التي لم تدم إلا قليلاً؛ وعينت عصبة الأمم لجنة برئاسة "إيرل ليتُن"، فقامت ببحث يظهر
فيه الإحكام والحياد، ثم قدمت تقريرها؛ غير أن اليابان انسحبت من العصبة على نفس الأساس الذي دعا الولايات المتحدة سنة 1935 إلى رفضها الاشتراك في "هيئة العدل الدولية"- وهو أنها لا تريد أن تحاكم أمام هيئة قُضاتها هُم أعداؤها؛ وكانت مقاطعة البضائع اليابانية في الصين قد خفضت واردات اليابان إلى الصين بنسبة أربعة وسبعين في المائة بين شهر أغسطس سنة 1932 وشهر مايو سنة 1933؛ لكن التجارة اليابانية في الوقت نفسه كانت تطرد التجارة الصينية من الفلبين وولايات الملايو والبحار الجنوبية؛ ولم تحل سنة 1934 حتى استطاع ساسة اليابان- بمعونة ساسة الصين- أن يحملوا الصين على إقرار تعريفة جمركية في صالح المنتجات اليابانية ضد منتجات الدول الغربية (43).
وفي مارس سنة 1932 عينت السلطات اليابانية "هنري بويي" وارث عرش مانشو في الصين، رئيساً لحكومة دولة منشوكو الجديدة، ثم نصبته بعد عامين ملكاً باسم "كانج ته"، وكان ذوو المناصب في تلك الحكومة إما من اليابانيين أو من أهل الصين الموالين لليابان، وقد كان خلف كل موظف صيني مستشار ياباني (44)؛ فبينما كانت خطة "الباب المفتوح" معترفاً بها من الوجهة الفنية، التمست اليابان سبلها نحو وضع التجارة والموارد المنشوكية تحت سلطانها (45)؛ ولئن تعذر على اليابانيين أن يمضوا في هجرتهم من بلادهم إلى تلك الدولة، فقد تدفقت رؤوس الأموال اليابانية إليها تدفقاً غزيراً؛ ومدت الخطوط الحديدية لأغراض تجارية وعسكرية، وأصلحت الطرق بخطوات سريعة، وبدأت المفاوضات لشراء "السكة الحديدية الشرقية الصينية" من السوفييت؛ ولم يكتف الجيش الياباني الظافر القادر بتنظيم الدولة الجديدة، بل جعل يملي سياسة حكومتها في طوكيو؛ وغزا إقليم "جبهول" بالنيابة عن الملك "بويي"، ثم تقدم حتى كاد يبلغ "بيبنج"، لكنه تقهقر تقهقراً مشرفاً، لينتظر الفرصة السانحة.
وإلى أن تحين الفرصة المرتقبة، راح ممثلوا اليابان في تانكنج يبذلون جهدهم المالي كله ليكسبوا من الحكومة الصينية رضاها عن زعامة اليابان في كل جانب من جوانب حياة الصين الاقتصادية والسياسية؛ فإذا ما كسبت الصين بالغزو أو بالقروض المالية، باتت اليابان على استعداد لمواجهة عدوتها القديمة، التي كانت فيما مضى إمبراطورية الروس أجمعين، وأصبحت اليوم تعرف باسم "اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية"؛ وإن الجيش الياباني ليستطيع أن يضرب ضربته في أي موضع على طول القوافل في منغوليا فيخترق "كالجان" و "أورجا"؛ أو عبر الحدود المنشوكية فيتوغل في "شيتا"، أو في أي موضع آخر من مئات المواضع الضعيفة التي يتثنى عندها الخط الحديدي حول الدولة الجديدة؛ ذلك الخط الذي يخترق سيبريا، والذي لا يزال في معظم أجزائه في الشرق الأقصى خطاً مفرداً، أقول إن الجيش الياباني يستطيع أن يضرب ضربته في أي موضع من تلك المواضع، فيقطع الرباط الحيوي الذي يربط الصين وفلاديفستك وما وراء بيكال، بعاصمة الروس؛ فأخذت روسيا تعد نفسها لهذا الصراع المحتوم إعداداً فيه روح البطولة وحرارة التحمس؛ فبذلت مجهوداً في استغلال مناجم الفحم وإقامة مصانع الصلب في مدينتي "كوزنتسك" و "ماجنيتو جورسك"، بحيث يمكن تحويل تلك المناجم والمصانع إلى معامل هائلة للذخيرة، وأعدت في الوقت نفسه طائفة كبيرة من الغواصات في "فلاديفستك" ليلاقي الأسطول الياباني، كما أعدت مئات من قاذفات القنابل التي جعلت أعينها مفتوحة ترقب مراكز الإنتاج والمواصلات في اليابان، وتلحظ مدنها المنشأة من خشب دماره ميسور.
ووقفت الدول الغربية خلف هذه الطليعة المنذرة بالشر، وقفت وجلة خائبة الرجاء: فأمريكا يأكلها الغضب لفقدانها أسواق الصين؛ وفرنسا تتساءل: ترى كم يتاح لها أن تظل مسيطرة على الهند الصينية، وإنجلترا قلقة
على استراليا والهند، ومضطربة بسبب منافسة اليابان لها، لا في الصين وحدها بل في كل أرجاء ملكها في الشرق؛ ومع ذلك ففرنسا آثرت أن تعين اليابان معونة مالية على منُاصبتها العدوان، وبريطانيا الحذرة رأت أن تنتظر في صبر لم يسبق له مثيل، راجية أن يفتك كل من منافستيها العظيمتين في التجارة الآسيوية بالأخرى، فتتركا العالم لإنجلترا وحدها من جديد؛ وأخذ تضارب المصالح يشتد حدة يوماً بعد يوم، ويدنو رويداً رويداً من الصراع المكشوف؛ وأصرّت اليابان على أن تحتفظ الشركات الأجنبية التي تبيع لها البترول، بمخزون من البترول على أرض يابانية يكفي حاجة الجزر نصف عام في حالة الطوارئ؛ وأغلقت مانشوكو أبوابها في وجه البترول الياباني، واستطاعت اليابان- رغم احتجاجات الأمريكيين ورغم معارضة رئيس جمهورية أورجواي- استطاعت أن تأخذ تصريحاً من الهيئة التشريعية في أورجواي، بأن تقيم على نهر بلات ميناء حرة، تدخلها السلع اليابانية بغير ضريبة جمركية، أو تصنع فيها البضائع اليابانية؛ ومن هذا المركز الحربي، ستنفذ اليابان إلى قلب أمريكا اللاتينية من حيث التجارة والمال، ستنفذ بخطوات لم يسبق لها مثيل في السرعة منذ عَمِل الغزو الألماني السريع لأمريكا الجنوبية على نشوب الحرب العظمى، وعلى اشتراك أمريكا فيها؛ ولئن أخذت ذكريات تلك الحرب في الزوال، فإن العدة لتتخذ من جديد لحرب جديدة
(1)
.
أليس لأمريكا بد من محاربة اليابان؟ إن نظامنا الاقتصادي يسخو في العطاء لأصحاب رؤوس الأموال، فيعطيهم قسطاً كبيراً من الثروة التي يتعاون على خَلْقها العلم والإدارة والأيدي العاملة، فلا يبقى إلا قدراً أقل مما ينبغي أن يبقيه لسواد المنتجين، حتى يتاح لهم أن يشتروا السلع التي أنتجوها؛ وبهذا يفيض قدرٌ زائد من السلع، يصرخ مطالباً بغزو الأسواق الخارجية،
(1)
وقعت تلك الحرب الجديدة فعلاً سنة 1939. (المعرب).
وإلا اضطرب مجرى الإنتاج في داخل البلاد (أو اضطر أصحاب تلك السلع أن يزيدوا من القدرة الاستهلاكية بين أفراد الشعب؛ ولئن كان هذا القول صحيحاً بالنسبة لنظامنا الاقتصادي (يقصد النظام الأمريكي) فهو أصح بالنسبة لليابان، فهي مضطرة كذلك إلى غزو أسواق خارجية، لا لكي تحتفظ بثروتها فحسب، بل لتضمن كذلك الوقود والمواد الخام التي لا غنى عنها لقيام صناعتها؛ ويشاء التاريخ الساخر أن تكون هذه اليابان التي أيقظتها أمريكا من حياتها الزراعية الساكنة سنة 1853 ودفعتها في حياة الصناعة والتجارة؛ هي نفسها التي توجه اليوم كل قوتها وكل دهائها لكسب الأسواق الآسيوية، بانخفاض أسعار السلع الأمريكية، ولفرض رقابتها على تلك الأسواق بالغزو الحربي وبالأساليب الدبلوماسية، تلك الأسواق التي كانت هي بعينها ما علقت أمريكا رجاءها عليها لأنها أوسع مخرج يمكن تهيئته لفيض البضائع الأمريكية؛ وقد عهدنا في التاريخ أنه إذا تنافست دولتان على أسواق بعينها، فإن الدولة الخاسرة في مجال المنافسة الاقتصادية- إذا ما كانت أقوى من زميلتها ثروة وعدة حربية- هي التي تعلن الحرب على الأخرى.
ولاشك أن حرباً كهذه لو نشبت بين أمريكا واليابان، كانت خاتمة مُرة لما أسدته أمريكا من يد في فتح أعين اليابان؛ لكن شؤون الدول ينتابها مَدٌّ لو أفلت زمامه من أيدي القابضين على الأمور، قبل أن يستجمع قوته، فإنه لا بد مكتسح الأمة التي يطفو بأرضها، إلى مأزق من الظروف لا يدع أمامها مجالاً للاختيار إلا بين طريقين، فإما الذل وإما القتال؛ ويميل مَنْ قد تجاوزوا سن الجندية، إلى إيثار الحرب على الخشوع؛ وليس يقلل من خطر نشوب قتال بيننا وبين اليابان؛ الاحتمالُ القوي بأن تنشب حرب بينها وبين روسيا؛ لأنه لو عادت هاتان الأمتان إلى تحدي إحداهما الأخرى، فقد لا نجد بداً من التدخل في الأمر على أساس المبدأ القديم، ذلك المبدأ الذي نهضت لتأييده
أمثلة كثيرة في عصرنا بحيث نستخلص منها الحكمة السديدة، وهي أنه خير لنا أن نعاون على الفتك بمنافس تعرض فعلاً لهجمة من عدوه، من أن ننتظر حتى يكسب نصراً يزيد في قوته زيادة خطرة؛ أما إذا أردنا ألا ننساق في هذا الطريق، فكل ما نتطلبه أن نتذكر أنه مهما بلغت شدة الحاجة باليابان إلى أسواق الشرق؛ فهذه الأسواق أبعد جداً من أن تكون شرطاً لازماً لازدهار تجارتنا؛ وأننا إذا كسبنا تلك الأسواق، إما بحرب باهظة النفقات في بحار بعيدة، أو بتنافس يدعونا إلى الهبوط بمستوى حياة شعبنا، فذلك كسب أجوف؛ وقد يكون نعمة لبلادنا أن يضطر تجارنا إلى البحث عن أسواق لسلعهم داخل حدود بلادنا؛ وعندئذ فقد يتبين لنا أن سعادتنا لا تعتمد على غزونا لأسواق وراء البحار، بل إن سعادتنا في نشر ثمرات الاختراع والصناعة ومنتجاتها نشراً يتيح لأهل بلادنا- وإنهم لكثيرون- أن يكونوا سوقاً تكفي لبيع مصنوعاتنا- حتى إذا بلغت المصنوعات أعلى درجات الإنتاج؛ لأن مساحة قدرها 000 ر 738 ر 3 ميلاً مربعاً تكفي لاستنفاد ذلك الإنتاج.
أما وقد علَّمنا اليابان أساليب الصناعة والحرب، فلا بد لنا أن نصبر على القضاء الذي جعلها مؤقتاً سيدة الشرق اقتصادياً وحربياً؛ فليس بنا حاجة إلى الحقد على "أبناء الشمس" إذا ما حانت ساعة قوتهم ومجدهم، ولا إلى حسدهم على إمبراطوريتهم المتهافتة أو ثروتهم التي قد تتعرض للزوال؛ إن العالم فيه من سعة الرحب ما يكفينا ويكفيهم معاً؛ ولو شئنا، لوجدنا في البحار آفاقاً لا تزال بعيدة بيننا وبينهم؛ بحيث تهيئ لنا السلام
(1)
.
(1)
لم يتحقق أمل الكاتب وقامت الحرب بين الدولتين على ما هو معروف. (المعرب)
خاتمة
تراثنا الشرقي
لقد مررنا مسرعين على نحو لم نكن نودُّه، خلال أربع آلاف عام من أعوام التاريخ، فمررنا بذلك على أغنى الحضارات التي شهدتها أكبر القارات؛ ويستحيل أن نكون قد فهمنا هذه الحضارات أو أن نكون قد وفيناها حقها العادل؛ إذ كيف يستطيع عقل واحد في حياة واحدة أن يستوعب أو يقدر تراث جنس بأسره؟ إن النظم الاجتماعية والعادات والفنون والأخلاق عند شعب من الشعوب تصور عملية الانتخاب الطبيعي الذي تقوم به تجارب لا حصر لعددها، يظل فيها ذلك الشعب يخطئ لكي يهتدي بالخطأ إلى الصواب، كما تصور حكمة الأجيال التي تعاقبت في ذلك الشعب، فتكدست تراثاً غزيراً حتى بات من العسير صياغتها في عبارات تضم أطرافها؛ فلا الفيلسوف بذكائه ولا الطالب الصغير بعقله يستطيع أن يحيط بمثل ذلك التراث إحاطة الفاهم لأسراره، دع عنك أن يحكم عليه حكماً عادلاً؛ إن أوربا وأمريكا هما طفل مدلل وحفيد أنجبتاهما آسيا، ولم يُقَدَّر لهما قط أن يتبينا غزارة الثروة التي جاءتهما قبل بداية تاريخهما القديم، لكننا إذا عمدنا الآن إلى تلخيص تلك الفنون وأساليب العيش التي استمدها الغرب من الشرق، أو التي ظهرت لأول مرة في الشرق- حسب ما يدلنا علمنا المحدود المتداول- فسنجد أننا نرسم بذلك التلخيص- عن غير قصد منا- رسماً تخطيطياً لسير المدنية.
إن أول عوامل المدنية هو العمل- الزراعة والصناعة والنقل والتجارة؛
ونحن نصادف في مصر وآسيا أقدم ما نعلمه من حضارة زراعية
(1)
، إذ نصادف أقدم نظم الري؛ كما نصادف أول
(2)
إنتاج لتلك المشروبات المنبهة التي لا نظن أن الحضارة الحديثة كان يمكن أن تقوم بغيرها- وهي الجعة والنبيذ والشاي؛ لقد تقدمت الصناعات اليدوية والأعمال الهندسية في مصر قبل عهد موسى، تقدمها في أوربا قبل فولتير؛ والبناء بالقراميد يرجع تاريخه إلى عهد سرجون الأول على أقل تقدير؛ وأول ظهور عجلة الخزَّاف وعجلة العربة كان في "عيلام"، وأول ظهور التيل والزجاج كان في مصر، وأول ظهور الحرير والبارود كان في الصين؛ وخرج الحصان من آسيا الوسطى إلى ما بين النهرين ومصر وأوربا؛ وأبحرت السفن الفينيقية حول أفريقيا قبل عصر بركليز، وجاءت "البوصلة" من الصين فأحدثت في أوربا ثورة تجارية؛ وكانت سومر أول من ترك لنا عقوداً تجارية؛ وأول نظام للقروض وأول استعمال للذهب والفضة معيارين للقيمة؛ والصين هي أول من قام بمعجزة قبول الورق مكان الفضة والذهب.
وثاني عناصر المدنية هو الحكومة- أعني تنظيم الحياة والمجتمع ووقايتهما بفضل القبيلة والأسرة والقانون والدولة؛ ففي الهند تظهر الجماعة القروية، كما تظهر "دولة المدينة" في سومر وأشور؛ ومصر قد أحصت سكانها وفرضت ضريبة على الدخل وحافظت على الأمن الداخلي مدى قرون طويلة دون أن تستخدم من وسائل العنف إلا حدها الأدنى؛ وهاهما "أور- إنجور" و "حمورابي" قد سنَّا تشريعين عظيمين من تشريعات القانون؛ و "دارا"
(1)
يجوز أن تكون الزراعة وإخضاع الحيوان لخدمة الإنسان قديمين في أوربا، فيرجعان فيها إلى العصر الحجري الجديد كما يرجعان إلى مثل هذا العصر في آسيا. لكن الأرجح أن ثقافة أوربا في العصر الحجري الجديد في أوربا كانت أحدث عهداً من ثقافتي ذلك العصر نفسه في أفريقيا وآسيا (راجع الجزء الأول من سلسلة أجزاء هذا الكتاب، الخاص بنشأة الحضارة).
(2)
في هذه العبارات وما يتلوها من عبارات، قد حذفنا كلمة "فيما نعلم" على أن تكون مفهومة للقارئ.
قد نظم بجيشه الإمبراطوري ورُسُله إمبراطوريةً من خير ما شهد تاريخ الحكومات في حسن الإدارة.
وثالث عناصر المدنية هو الأخلاق- العادات وآداب السلوك، والضمير والإحسان؛ فالأخلاق قانون ينشأ في باطن النفس، ويولِّد فيها آخر الأمر تمييزاً بين الصواب والخطأ، وينظم ما يجيش في الإنسان من شهوات فيخضعها للطريق السوي؛ وبغير ذلك القانون تنحل الجماعة أفراداً وتسقط فريسة لدولة أخرى يكون فيها التماسك الاجتماعي؛ ومن القصور الملكية القديمة في مصر وما بين النهرين وفارس، عرف العالم آداب المعاملة الرقيقة؛ بل إن الشرق الأقصى ليمكنه اليوم أن يعلم آداب المعاملة وكرامة النفس للغرب الغليظ القلق؛ وظهر في مصر نظام الزواج بزوجة واحدة للزوج الواحد، وهناك أخذ ذلك النظام يكافح ليثبت أقدامه ويديم بقاءه إزاء المنافسة التي لاقاها من نظام تعدد الزوجات للزوج أو الأزواج للزوجة الذي ظهر في آسيا، وهو نظام ظالم لكنه عامل على تحسين النوع البشري؛ وكذلك كانت مصر أول دولة بعثت صرختها مطالبة بإقامة العدل الاجتماعي؛ كما كانت الدولة اليهودية أول من دعا الناس إلى الإخاء البشري، وأول من صاغ للإنسانية قانون الأخلاق الذي يشعر الإنسان بنسبته لأسرة البشرية جمعاء.
ورابع عناصر المدنية هو الدين- أي الانتفاع بعقائد الإنسان في القوى الخارقة للطبيعة للتخفيف من الآلام والسمو بالشخصية الإنسانية وتقوية الغرائز الاجتماعية والنظام الاجتماعي؛ فقد استمدت أوربا أعز أساطيرها وتقاليدها من سومر وبابل والدولة اليهودية؛ وفي تربة الشرق نبتت قصص الخلْق والطوفان وسقوط الإنسان وخلاصه؛ ومن آلهات أمهات كثيرات جاءتنا في النهاية "أجمل زهرة من زهرات الشعر" وأعني بها مارية أم الله- كما وصفها هيني- ومن فلسطين برزت الوحدانية وانبعثت أرق أغاني الحب والثناء في الأدب، كما خرج منها أقوى وأعزل وأفقر شخصية شهدها التاريخ.
وخامس عناصر المدنية هو العلم- وهو النظر الصافي والتسجيل الصادق والاختبار المحايد وجمع المعرفة شيئاً فشيئاً، بحيث تكون من الصدق الموضوعي بما يمكننا من التنبؤ بمجرى الطبيعة في المستقبل وضبطه؛ فنرى مصر قد طوَّرت الحساب والهندسة وأنشأت التقويم؛ كما نرى الكهنة المصريين قد مارسوا الطب وكشفوا عن الأمراض وقاموا بشتى صنوف العمليات الجراحية وسبقوا أبقراط في إخلاصه لفنه؛ ودرست بابل النجوم ورسمت مواضع البروج وقسمت لنا الشهر أربعة أسابيع وآلة قياس الزمن اثنتي عشرة ساعة والساعة ستين دقيقة والدقيقة ستين ثانية؛ وعلمتنا الهند بواسطة العرب أعدادها البسيطة وكسورها العشرية السحرية كما علَّمت أوربا دقائق التنويم المغناطيسي وفن التطعيم.
وسادس عناصر المدنية هو الفلسفة- وهي محاولة الإنسان أن يفهم شيئاً عن الوجود في مجموعه، ولو أن الإنسان حين يأخذه التواضع حيناً بعد حين يتبين الحقيقة، وهي أن فهم الوجود في مجموعه مستحيل إلا على اللانهاية؛ هي بحث جريء يائس عن العلل الأولى للأشياء ومغزاها النهائي، وعن معنى الحق والجمال والفضيلة والعدالة والإنسان الأمثل والدولة المثلى؛ وهذا كله يظهر في الشرق قبل ظهوره في أوربا بقليل: فنرى المصريين والبابليين يتأملون طبيعة الإنسان وقضائه المرسوم، واليهود يكتبون تعليقات خالدة عن الحياة والموت، بينما كانت أوربا تتخبط في طور الهمجية؛ كذلك نرى الهنود يتناولون المنطق ونظرية المعرفة في نفس الوقت الذي عاش فيه بارمنيدس وزينون الأيلي على أقل تقدير، وكتب الـ "يوبانشاد" تخوض في الميتافيزيقيا، وبوذا يذيع علم نفس يشبه ما جاء في علم النفس الحديث القريب العهد، مع أنه عاش قبل أن يولد سقراط ببضعة قرون؛ وإذا كانت الهند قد أغرقت الفلسفة في الدين، ولم توفق إلى استخلاص التفكير السليم من أوهام الأمل، فإن الصين قد صممت جادة أن تجعل تفكيرها دنيوياً، وأنجبت- قبل أن
يولد سقراط أيضاً- مفكراُ كانت له حكمة رزينة لا تكاد تغير منها شيئاً إذا أرادت أن تجعلها هادية للناس في عصرنا هذا، ومصدر وحي لأولئك الذين يودون مخلصين أن يسوسوا الدول سياسة شريفة.
وسابع عناصر المدنية هو الأدب- وهو نقل اللغة على تتابع الأجيال، وتربية النشء وترقية الكتابة وإبداع الشعر والمسرحية والحافز على القصة وتدوين ذكريات الماضي؛ وأقدم ما نعرف من مدارس هو ما كان منها في مصر وبلاد النهرين، بل إن أقدم المدارس الحكومية كانت مصرية كذلك؛ والأرجح أن تكون الكتابة قد جاءتنا من آسيا، كما جاءت أحرف الهجاء والورق والمداد من مصر، ثم جاءت الطباعة في الصين؛ ويظهر أن البابليين قد جمعوا أقدم مجموعة من قواعد النحو وقواميس الألفاظ وأول ما جمع من مكتبات؛ والاحتمال قوي في أن تكون جامعات الهند قد سبقت أكاديمية أفلاطون، وصقل الآشوريون أنباء الأساطير فجعلوا منها تاريخاً، ثم نفخ المصريون في التاريخ فجعلوه ملحمة؛ وقدم الشرق الأقصى إلى العالم تلك الصور الرقيقة من الشعر التي تركز كل روعتها في نظرات صادقة لطيفة يصوغونها في صور خيالية ترتسم في أذهانهم لساعتها؛ وكان "نابونيدوس" و "أشور بانيبال" من رجال البحث الأثري- وهما اللذان استكشف الباحثون الأثريون آثارهما؛ وترجع طائفة من الحكايات القديمة الخرافية التي تمتع أطفالنا إلى الهند القديمة.
وثامن عناصر المدنية هو الفن- وهو تجميل الحياة بالألوان والأنغام والصور التي تشرح الصدور؛ والفن في أبسط ظواهره يكون في تجميل البدن، فنرى ثياباً رشيقة ومجوهرات فاخرة ودهوناً للزينة الداعرة، نجد كل ذلك في العصور الأولى من حضارة المصريين والسومريين والهنود؛ وإن المقابر المصرية لتملؤها قطع الأثاث الجميلة والخزف الرشيق والنحت الرائع في العاج والخشب؛ ولا شك في أن اليونان قد تعلموا شيئاً من مهارتهم في النحت والعمارة والتصوير والنقش البارز، لا من آسيا وإقريطش فحسب،
بل كذلك من الآيات الروائع التي كانت لم تزل في أيامهم تسطع على مرآة النيل، فمن مصر وبلاد النهرين أخذت اليونان نماذج عمدها الدورية والأيونية؛ ومن تلك البلاد نفسها جاءنا إلى جانب العمد "البواكي" والدهاليز والقباب؛ وساهمت أبراجُ الشرق الأدنى القديم بنصيب في تشكيل العمارة الأمريكية اليوم؛ وكان للتصوير الصيني والرسوم الحفرية اليابانية أثرهما في تغيير بعض قواعد الفن في أوربا في القرن التاسع عشر، وكذلك وضع "البورسلان" الصيني أمام أعين الأوربيين نموذجاً جديداً للكمال تحتذيه، والجلال الحزين الذي تسمعه في الأغنية الجريجورية، يرجع عصراً بعد عصر حتى يبلغ أصله الأول في الأغاني الباكية التي كان ينشدها اليهود المشردون إذ هم يجتمعون خاشعين في معابدهم المتناثرة هنا وهناك.
تلك هي بعض عناصر المدنية؛ وجزء من التراث الذي خلفه الشرق للغرب.
ومع ذلك كله فقد وجد العالم القديم (من التاريخ الأوربي) مجال الإضافة إلى هذا التراث الفني فسيحاً، فستبنى إقريطش حضارة تكاد تبلغ في قِدَمِها مبلغ الحضارة المصرية، وستكون حلقة اتصال تربط بين ثقافات آسيا وأفريقيا واليونان؛ وسترقى اليونان بالفن بحيث لا تنشد الحجم بل الكمال، وستزاوج بين رقة الأنوثة التي تتمثل في الصورة النهائية والصقل الختامي للقطعة الفنية وبين قوة الذكورة التي تتمثل في عمارة مصر وتماثيلها، فتمهد السبيل بذلك إلى جو يظهر فيه أعظم عصر شهده تاريخ الفن؛ وستُدخل في نواحي الأدب كلها تلك الخصوبة المبدعة التي يتصف بها العقل الحر، فتضيف ملاحم ملتوية الشعاب ومآسي عميقة الأغوار، وملاهي ضاحكة وتواريخ تأخذ بالخيال، ستضيف كل ذلك إلى ذخيرة الآداب الأوربية، وستنظم الجامعات وتقيم حرية الفكر الدنيوي فترة ناصعة تتخلل فترات يضطهد فيها الفكر المستقل؛ وستفوق كل سوابقها في الرقي بالرياضة والفلك وعلم الطبيعة التي خلفتها لها مصر والشرق؛ وستبتكر علوم الحياة ابتكاراً، وتنشئ نظر الإنسان إلى الكون نظرة طبيعية، وستأخذ بيد الفلسفة حتى تصل بها إلى مرحلة الوعي
والنظام، وستبحث بحثاً عقلياً خالصاً في كل مشكلات حياتنا؛ ستحرر الطبقات المتعلمة من سلطان رجال الدين ومن الخرافة، وتحاول إقامة الأخلاق على أساس لا يعتمد في شيء على معونة ما فوق الطبيعة؛ وستنظر إلى الإنسان باعتباره مواطناً لا باعتباره "رعية"، وتهبه حريته السياسية وحقوقه المدنية، وتطلق له من الحرية العقلية والخلقية ما لم يسبق له نظير، ستخلق الديمقراطية خلقاً وتنشئ الفرد إنشاء؛ وستستأنف روما السير في هذه الثقافة فتنشرها في أرجاء الدول القائمة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتحميها مدى خمسمائة عام من هجمات البرابرة، ثم تنقلها خلال الأدب الروماني واللغات اللاتينية إلى أوربا الحديثة؛ وسترفع المرأة إلى مراكز القوة والمجد والتحرير العقلي، التي ربما لم تكن قد ظفرت بها من قبل؛ وتقدم إلى أوربا تقويماً جديداً وتعلمها مبادئ النظام السياسي والأمن الاجتماعي، وتقيم حقوق الفرد على أساس ثابت من القوانين التي عملت على تماسك القارة الأوربية خلال قرون من الفقر والفوضى والخرافة.
وفي الوقت نفسه سيعود الشرق الأدنى ومصر إلى الازدهار مرة أخرى بحافز من التجارة والفكر اليونانيين والرومانيين، وستحيى قرطاجنة كل ما كان لصيدا وصور من ثروة ورفاهية؛ وسيجتمع "التلمود" في أيدي يهود مشتتين لكنهم ذوو ولاء؛ وسيزدهر العلم والفلسفة في الإسكندرية، وسيتولد من امتزاج الثقافتين الأوربية والشرقية دين أريد به أن يمحو الحضارة اليونانية والرومانية إلى حد ما، وأن يُبقي عليها ويضيف إليها إلى حد ما؛ إن كل العوامل كانت مهيأة لتنتج الفترات التي كانت بمثابة الذُّرى للعصور القديمة (الأوربية)، وهي أثينا في عهد بركليز، وروما في عهد أوغسطس، وأورشليم في عصر "هيرود"؛ وكان المسرح معَداً لمسرحية مثلثة الجوانب، قوامها أفلاطون وقيصر والمسيح.
كلمة عن المؤلف
ولد "وِل ديورَانْت" في "نورث آدمز" من أعمال "ماساشوست" سنة 1885؛ وتلقى تعليمه في مدارس "نورث آدمز" هذه ومدارس "كيرني" من أعمال "نيوجيرسي"، وهي مدارس تتبع الكنيسة الكاثوليكية في ذينك الإقليمين؛ وتلقاه كذلك في كلية القديس بطرس (اليسوعية) في مدينة جيرسي وفي جامعة كولمبيا بنيويورك؛ ولبث صيفاً يشتغل مراسلاً ناشئاً "لجريدة نيويورك" وكان ذلك عام 1907؛ لكنه وجد هذا العمل شديد الوطأة على نفسه فلم يحتمل المضي فيه، فاكتفى بتدريس اللاتينية والفرنسية والإنجليزية وغيرها من المواد في كلية "ستين هول" في سوث أورانج من أعمال نيوجيرسي (1907 - 11)، وهناك التحق بإحدى حلقات الدرس سنة 1909، لكنه عاد فتركها سنة 1911 لأسباب ذكرها في كتابه "مرحلة التحول"، وانتقل من تلك الحلقة الدراسية إلى الدوائر المتطرفة في نيويورك، وهناك اشتغل بالتدريس في "مدرسة فرر"(1911 - 13)، فكانت تلك الفترة بمثابة التجربة في التربية الحرة؛ وفي سنة 1912 طاف بأرجاء أوربا على نفقة "أولدن فريمان"، الذي صادقه وتعهد أن يوسع من آفاقه؛ وفي سنة 1913 ركز اهتمامه في الدراسة ليحصل على الدرجة الجامعية من جامعة كولمبيا، وتخصص في علم الحياة متتلمذاً على "مررجَنْ" و "كالْكِنْز"؛ وفي الفلسفة متتلمذاً على "وودبردج" وديوي"؛ ونال درجة الدكتوراه من تلك الجامعة سنة 1917، وأخذ يعلم الفلسفة في جامعة كولمبيا عاماً واحداً؛ ثم بدأ يلقي في سنة 1914 - في الكنيسة المسيحية الكائنة في شارع أربعة عشر وفي الطريق الثاني بنيويورك- بدأ يلقي هناك تلك المحاضرات في الفلسفة والأدب التي أعدته لإخراج كتابيه "قصة الفلسفة" و "قصة الحضارة"؛ فقد كان
معظم المستمعين إليه في تلك المحاضرات من العمال والعاملات الذين كانوا يتطلبون وضوحاً تاماً وعلاقة تربط ما يقال بالحوادث الجارية، كانوا يتطلبون ذلك في كل المواد التاريخية التي تعتبر جديرة بالدرس؛ وفي سنة 1921 نظم "مدرسة ليِبَرْ تمبل" التي أصبحت تجربة من أنجح التجارب التي أجريت في تربية الكبار في العصر الحديث؛ ثم تركها سنة 1927 ليكرس نفسه لكتاب "قصة الحضارة" وطاف بأوربا مرة أخرى سنة 1927، وطوف بالعالم سنة 1930 ليدرس مصر والشرق الأدنى والهند والصين واليابان؛ وعاد فطوف بالعالم من جديد سنة 1932 ليزور اليابان ومنشوريا وسيبريا وروسيا؛ وهو يرجو لنفسه في الخمسة الأعوام المقبلة (التي تلت إخراج هذا الجزء من قصة الحضارة) أن ينفق عاماً في اليونان وإيطاليا ليأخذ أهبته للجزء الثاني من "قصة الحضارة".