الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تم نشره في مجلة البحوث في 4/ 1443 هـ
قَطْعُ العَلائِقِ للتَّفَكُرِ فِي عُبُودِيَّةِ الخَلائِقِ
كَتَبَهُ
الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِهِ البَارِيِ
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -
- وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُوْمِنَاتِ -
عَمِيِدُ كُلْيَّةِ أُصُوِلِ الدِّيِنِ والدِرَاسَاتِ الإِسْلَامِيةِ بِجَامِعَةِ خَاتَمِ المُرْسَلِيِنَ العَالَمِيَّةِ
وَأُسْتَاذُ التَّفْسِيرِ وَعُلُوُمِ القُرَآنِ لِلدِّرَاسَاتِ الْعُلِيَا
بِالجَامِعَةِ الإِسْلامِيَّةِ والمَعْهَدِ العَاليِ للأَئِمَّةِ والخُطَبَاءِ- بـ " مِنِيسُوتَا "
وَالرَّئِيسُ العَامُ لِمَرْكَزِ تَأْصِيِل عُلُومِ التَنْزِيِلِ لِلبُحُوثِ العِلْمِيِةِ وَالدِّرَاسَاتِ القُرّآنِيِةِ
-1442 هـ -
من إصدارات
تأصيل
مركز تأصيل علوم التنزيل
للبحوث العلمية والدراسات القرآنية
https://taaselcenter.com
موسوعة تأصيل علوم التنزيل
(31)
قَطْعُ العَلائِقِ للتَّفَكُرِ فِي عُبُودِيَّةِ الخَلائِقِ
كَتَبَهُ
الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِهِ البَارِيِ
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -
- وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُوْمِنَاتِ -
عَمِيِدُ كُلْيَّةِ أُصُوِلِ الدِّيِنِ والدِرَاسَاتِ الإِسْلَامِيةِ بِجَامِعَةِ خَاتَمِ المُرْسَلِيِنَ العَالَمِيَّةِ
وَأُسْتَاذُ التَّفْسِيرِ وَعُلُوُمِ القُرَآنِ لِلدِّرَاسَاتِ الْعُلِيَا
بِالجَامِعَةِ الإِسْلامِيَّةِ والمَعْهَدِ العَاليِ للأَئِمَّةِ والخُطَبَاءِ- بـ " مِنِيسُوتَا "
وَالرَّئِيسُ العَامُ لِمَرْكَزِ تَأْصِيِل عُلُومِ التَنْزِيِلِ لِلبُحُوثِ العِلْمِيِةِ وَالدِّرَاسَاتِ القُرّآنِيِةِ
-1442 هـ -
بسم الله الرحمن الرحيم
مجلة البحوث والدراسات الشرعية
إصدار علمي متخصص جامعي محكم
إلى من يهمه الأمر
يرجى التكرم بالعلم بأن البحث المقدم من:
الدكتور / عرفة بن طنطاوي
عميد كلية أصول الدين والدراسات الإسلامية بجامعة خاتم المرسلين العالمية، وأستاذ التفسير وعلوم القرآن للدراسات العليا، بالجامعة الإسلامية والمعهد العالي للأئمة والخطباء - بـ "منيسوتا"، والرئيس العام لمركز تأصيل علوم التنزيل للبحوث العلمية والدراسات القرآنية.
وعنوانه: (قطع العلائق للتفكر في عبودية الخلائق).
قد ورد إلى هيئة الإصدار وخضع للتحكيم العلمي المتخصص، وأجيز للنشر بأحد أعداد المجلة وتم نشره بالعدد الرابع والسبعين من مجلة البحوث الإسلامية، الذي صدر في شهر ربيع الآخر 1443 هـ، هذا وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مؤسس الإصدار ورئيس التحرير
أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس
رقم إيداع المجلة بدار الكتب: (18620/ 2012) - الترقيم الدولي الموحد لها: (ISSN. 2090 - 9993)
رابط موقع المجلة على الانترنت: journalofshareiarchandstudies.com
رابط معامل التأثير العربي للمجلة: journal impact factors-php.mht
جمهورية مصر العربية، القاهرة، مساكن مدينة نصر، رمز بريدي:11371. ص. ب: 8131
دِيْبَاجَةُ البَحْثِ
الحمد لله الذي سبح بحمد كل من في أرضه وسماوته، وخضع لكبريائه وعظمته كل من يليه من كائناته، وشهدت له بالربوبية جميع موجوداته، وأقرت له بالإلهية جميعُ مصنوعاته، فشهدت كلها له بأنه الخالق البارئ لجميع مخلوقاته، وأقرت بعظمته بما أودعها من عجائب صنعه وبديع آياته، كما قال ربنا في محكم كلماته:(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)(الرعد: 15).
فيا ليتنا نعي ما أمرنا به ربنا من تدبر كتابه الذي قال فيه في محكم آياته: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(ص: 29).
وسبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له في ألوهيته، كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في أفعاله، ولا مثيل له في صفاته، ولاند له في ذاته،
…
والله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وسبحان من سبحت له السموات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والنجوم والجبال، والشجر والدواب، والآكام والرمال، وكل رطب ويابس، وكل من في ملكوته من أرضه وسماواته قد خضع وذل لكبريائه وعظمته وسبحه وعظمه لذاته، كما قال تعالى في محكم آياته:(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(الإسراء: 44).
وقد قهر بربوبيته كل مخلوقاته، فأولياؤه أتوه طوعًا، وقد أتوه قهرًا وغلبة جميع لداته وعداته كما قال ربنا في محكم آياته:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)(مريم: 93 - 95).
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خير من عبد ربه في حياته وحتى مماته، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وتسليماته وتبريكاته.
وبعد
فإن هذا الكون الفسيح، وهذا العالم كله بعالمه العلوي والسفلي خاضع لسلطان الله ولا يسع أيُّ أحدٍ فيه- كائنًا من كان- الخروج عن ربوبية الله التي قهر بها كل مخلوقاته، ثم إنه سبحانه قد سَخَّر لهذا المخلوق-الإنسان-الضعيف كل ما في السموات وما في الأرض ليتهيأ لعبادة الله وليتفكر في عظمة خالقه ويتأمل كيف قهر الله كل هذه المخلوقات، وأنه جزءٌ لا يتجزَّأ مِن هذا العالم وتلك المصنوعات، وأنه من أضعفها وأفقرها إلى خالقها وبارئها، وأن طاعته لله تنسجِم مع طاعة كلِّ تلك الكائنات،
ووا أَسَفاه على كل من انتكب الصراط وتمرد على الله من جهلة بني آدم ممن طمس الله فِطَرهم وَسَكَّرَ نورَ الحق عن بصائرهم فغشَّاها ظلام الجهل والإعراض والصَّد عن سبيل الله، ممن عطلوا نعمة العقل والفهم والإدراك ولم يتفكروا في عبودية الكائنات من حولهم لبارئها وانصياعها لأمره وخضوعها لسلطانه، فلم يسيروا وفق منهج عبودية الكون لله منسجمين مع جميع تلك المخلوقات.
ولقد ذم الله تعالى الذين عطلوا تلك النعم العظيمة فقال سبحانه فيهم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(الأعراف: 179).
وهذا البحث هو مجرد دعوى لإعادة النظر وإعمال القلب وفتح مسامعه لإعادة التفكر في عظمة الله وفي إخضاعه- سبحانه- جميع العوالم علويها وسفليها لسلطانة وجبروته وقهره وقوته وعظمته، وبذلك ينتبه القلب من غفلته ويرجع ويؤب هذا المخلوق الفقير إلى الله من كل الوجوه، الضعيف الذي لا حولا ولا قوة له إلا بخالقه سبحانه، فيعود ويؤوب إلى حظيرة الإيمان، ويرسخ في نفسه اليقين، ويغلب عليه جانب الخشية، فيعرف للخالق العظيم قدره ويعظمه حق تعظيمه ويعبده حق عبادته، وكلما كان الإنسان أكثر إعمالًا لعقله وفكره وكان أكثر تأملا في عبودية جميع المخلوقات لله، كان كل ذلك أدعى لتحقيق معرفته بالله والعلم به جل في علاه، وهذه
الخصال من أعظم ما يجلب للعبد خشية الله وإجلاله وتعظيمه، كما قال - سبحان-:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(فاطر: 28).
ملخص البحث
هذا بحثٌ مختصرٌ مفيدٌ وقصير، تفضل به الرب العليم الخبير على عبده الضعيف الفقير، وقد تناول فيه الباحثُ دارسةَ جانبٍ من جوانبِ عبوديةِ الخلائقِ لخالقها وباريها جَلَّ في علاه، ودعا للتفكر فيها كما أمر بذلك سيده ومولاه، وقد أسماه " قَطْعَ العَلائِقِ للتَّفَكُرِ فِي عُبُودِيَّةِ الخَلائِقِ" داعيًا قبوله عند الله، راجيًا أن يجزيه به أحسن الجزاء وأتمه وأوفاه، وأن يجعله له ذخرًا يوم يلقاه، وأن ينتفع به كل من يطالعه ويراه.
Research Summary
This is a brief، useful and short treatise، which the All-Knowing، bestowed on His weak، poor servant.The researcher dealt with it، studying an aspect of the servitude of creatures to their Creator، the Most High، and called for contemplation of it as ordered by his master.He called it "cutting ties to contemplate the servitude of creatures. " He prayed for his acceptance with God، hoping that He would reward him with the best، most complete and most fulfilling recompense، and that He would make him a treasure on the day he met him، and that everyone who read and saw him would benefit from it.
خطة البحث
وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من أربعة فصول، وكل فصل يندرج تحته عدد من المباحث، وكل مبحث يندرج تحته عدد من المطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي:
أولًا: أهمية موضوع البحث
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
رابعًا: أهداف البحث
خامسًا: منهج البحث
سادسًا: أبرز النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة وتوصيات البحث وخاتمته.
سابعًا: مجموع الفهارس
وخطة البحث مكونة من أربعة فصول، وقد بيَّنها مفصلة على النحو التالي:
الفصل الأول: تعريف العبودية
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم العبودية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم العبودية في اللغة
المطلب الثاني: مفهوم العبودية في الشرع
المبحث الثاني: بيان أقسام العبودية
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القسم الأول من أقسام العبودية "عبودية الغلبة والقهر والملك"
المطلب الثاني: القسم الثاني من أقسام العبودية "عبودية الاختيار والانقياد والطاعة والمحبة"
المطلب الثالث: بيان حقيقة العبودية
المطلب الرابع: بيان شرطي تحقيق العبودية
المطلب الخامس: تقرير عبودية الله تعالى في القرآن الكريم
المبحث الثالث: أصل الدين مبني على أصلين عظيمين (العبودية - والاستعانة)
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الغاية من خلق المكلفين تحقيق العبودية
المطلب الثاني: مكانة العبودية والاستعانة وتحقيق التلازم بينها
المطلب الثالث: أقسام الخلق في منازل" إياك نعبد وإياك نستعين"
الفصل الثاني: عبودية البشر
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عبودية النبين والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام -
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: عبودية خاتم النبين والمرسلين صلى الله عليه وسلم
المطلب الثاني: عبودية أولي العزم من الرسل عليهم السلام بأعيانهم
المطلب الثالث: عبودية عموم المرسلين عليهم السلام
المبحث الثاني: عبودية عموم البشر
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: عبودية الصحابة رضي الله عنهم
المطلب الثاني: عبودية حواريي الأنبياء وأصحابهم
المطلب الثالث: عبودية عموم الخلق
الفصل الثالث
عبودية الملائكةِ والجنِّ
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عبودية الملائكةِ
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالملائكة
المطلب الثاني: حكم الإيمان بالملائكة
المطلب الثالث: مكانتهم وخلقتهم
المطلب الرابع: أعداد الملائكة
المطلب الخامس: مهام ووظائف الملائكة
المطلب السادس: عبادة الملائكة
المبحث الثاني: عبودية الجنِّ
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالجنِّ
المطلب الثاني: حقيقة وجود الجنِّ وتكليفهم بالعبادة
المطلب الثالث: رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع عموم الثقلين
الفصل الرابع
عبودية الكائنات
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عبودية الكائنات لله عبودية غلبة وقهر
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: غني الخالق عن خلقه، وافتقار جميع خلقه إليه
المطلب الثاني: سجود جميع الكائنات لله وخضوعها لسلطانه
المطلب الثالث: تسبيح الكائنات لخالقها - سبحانه -
المبحث الثاني: ذكر نماذج من تسبيح الكائنات
وفيه مطالب:
المطلب الأول: تسبيح الرعد خاصة
المطلب الثاني: تسبيح جميع كائنات العالم العلوي والسفلي كلها
المطلب الثالث: مشاهد من عبودية الطير في القرآن
المطلب الرابع: مشاهد من عبودية وتسبيح النمل وبعض المخلوقات
المطلب الخامس: مشاهد من عبودية بعض الجمادات كالحجارة والجبال
المطلب السادس: مشاهد من عبودية الطعام وتسبيحه
تفصيل منهجية البحث
أولًا: أهمية موضوع البحث
تكمن أهمية موضوع البحث في إبراز قدرة الله تعالى في خضوع كل مخلوقاته لجلاله وكبريائه وعظمته، وأن كل الكون خاضع لربه سواء كان هذا الخضوع خضوع اختيار وانقياد، أم كان خضوع قهر وغلبة، فلا يسع أحد من مخلوقاته
الخروج عن ربوبيته التي قهر بها جميع خلقه.
ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها
الدراسة الأولى:
"عبودية الكائنات لرب العالمين"، تأليف الباحث: فريد إسماعيل التوني، ط 1، عدد الأجزاء 1، وتلك الدراسة نال بها الباحث درجة الماجستير من كلية الدعوة وأصول الدين- جامعة أم القرى- بمكة المكرمة- بالمملكة العربية السعودية- وقد قامت الجامعة بنشرها عام 1411 هـ، كما نشرتها دار الإيمان للطباعة والنشر والتوزيع بالإسكندرية، عام 2015 م.
ولم يقف الباحث على أطروحة علمية تناولت بحث هذا الموضوع سوى هذه الدراسة.
وصف الدراسة:
قد تناول الباحث في تلك الدراسة الكلام على العبودية ومفهومها، ثم أعقبها بالكلام على مفهوم الكائنات وأنواعها، ثم تناول بيان أنواع العبادات، وأعقبها بالحديث عن عبودية الأنبياء، ثم ثنى بعبودية النبي صلى الله وسلم عليهم أجمعين، ثم ثلث بعبودية أتباع الأنبياء، ثم تناول عبودية الكائنات، ثم تناول أسباب انحراف الكثير من المسلمين عن معنى العبودية الحقة، ثم تكلم عن أسباب هذا الانحراف وآثاره وختمه ببيان طرق النجاة منه.
وتلك الدراسة مع حسنها وبهائها فيها نوع توسع لأنها أطروحة علمية، وقد أجاد فيها الباحث وأفاد، وقد توسع في الشرح والاستدلال، وليته ضم إلى سبب انحراف الكثير من المسلمين عن معنى العبودية الحقة- انحراف عموم البشر عن الفطرة السوية والصبغة التي صبغهم الله عليها أول مرة.
الدراسة الثانية:
"عبودية الكون والكائنات"، تأليف: مؤيد حمدان، وجدان العلي. دار النشر: مؤسسة الجديد النافع للنشر والتوزيع -الكويت، والكتاب عبارة عن (غلاف) يقع في 256 صفحة، تاريخ النشر: 4/ 6/ 2021 م.
وصف الدراسة:
تكلم المؤلفان عنها فقالا:
الكون بكل ما فيه من مخلوقات وعجماوات وجمادات قد تعبد لله سبحانه وتعالى، فهو يعبده سبحانه حبًا وتعظيمًا، وتذللًا وتقديسًا، في مشهد غيبي عظيم تكرر ذكره القرآن مرارًا وتكرارًا، لن يفقه معناه إلا من استضاء بنور الوحي والإيمان.
ومن هنا جاءت فكرة هذا الكتاب ليكشف لنا حقيقة مفادها أننا إذا عبدنا الله سبحانه وتعالى فقد انسجمنا مع هذا الكون الفسيح بكل مخلوقاته وعوالمه الغيبية والمشاهدة.
والحقيقة لم يقف الباحث على هذه الدراسة، وهذا الكتاب لا يعد دراسة تأصيلية أو أطروحة علمية، لكنه يندرج تحت مسمى الكتابات الحرة، وهو يبدوا من أسلوب التعريف به أنه من كتابات الأقلام الشابة.
ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث
إن من أهم الدواعي والبواعث على تناول موضوع البحث بالمدارسة والمناقشة
التنبه لأمور من أبرزها ما يلي:
1 -
تنبيه العباد إلى أن الغاية التي خلقهم الله لها وأوجدهم من العدم من أجلها هي عبادته وطاعته، فيجب عليهم التنبه لها والعناية بها والانقياد والاستجابة لأمره خالقهم والخضوع والذل له سبحانه وتحقيق العبودية لجلاله بمحض الإرادة والاختيار.
2 -
السعي في إبراز عظمة الخالق في خضوع جميع مخلوقاته- سبحانه- مع تعددها وتنوعها وكثرتها، وأن تلك المخلوقات بعالمها العلوي والسفلي منقادة لأمره جل في علاه، فعلى الإنسان العاقل الناصح لنفسه الحريص على نفعها وفكاكها من النار سلوك مسلك تلك الكائنات والحرص على تحقيق العبودية لرب البريات قبل الحسرة والفوات.
رابعًا: أهداف البحث
تُعد من أبرز أهداف البحث الحث على تحقيق الإيمان بالله وزيادته والثبات عليه وذلك بالدعوة للتأمل في عظمة الله في عالمه العلوي والسفلي الذي خضع لخالقه وبارئه جلَّ في علاه.
خامسًا: منهج البحث
لقد استخدم الباحث المنهج الوصفي الذي يُعد أحد أهم أساليب مناهج البحث العلمي.
وقد تناول الباحث فيه معنى العبودية وأقسامها ووصف حقيقتها، ثم عرَّج على وصف شرطي تحقيقها، ثم انتقل لوصف عبودية البشر خواصهم وعمومهم، ثم انتقل لوصف عبودية العالم العلوي والعالم السفلي بعموم مخلوقاته، ثم ختم بحثه بعرض وصف لنماذج من تسبيح الكائنات.
الفصل الأول
تعريف العبودية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم العبودية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم العبودية في اللغة
العبودية:
مصدر عبد يعبد عبادةً ومعبدًا ومعبدةً، فهو عبدٌ، أي: ذلّ وخضع.
قال الخليل:
(1)
.
ويجلي ابن منظور ا مفهوم العبودية في اللغة فيقول:
«أصل العبودية الخضوع والتذلل
…
وعَبَدَ اللهَ تألّه له
…
والتعبّد التنسك، والعبادة: الطاعة»
(2)
.
وقال الفراء:
«معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللًا بكثرة الوطء»
(3)
.
قال الراغب: العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل.
(4)
(1)
العين (2/ 48).
(2)
لسان العرب (5/ 2776)، مادة:(ع ب د). لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15.
(3)
لسان العرب (5/ 2778)، مادة:(ع ب د).
(4)
- مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني (ص: 542). المفردات في غريب القرآن المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502 هـ) المحقق: صفوان عدنان الداودي الناشر: دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت الطبعة: الأولى - 1412 هـ.
وقيل: «عبادة الله: طاعته بفعل المأمور وترك المحذور»
(1)
.
وقال ابن الأنباري رحمه الله
-:
(2)
«فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره»
(3)
.
وقال الزبيدي رحمه الله
-:
«أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: العبودية الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب»
(4)
.
فالعبادة إذًا: الطاعة المقرونة بالذل والخضوع.
المطلب الثاني: مفهوم العبودية في الشرع
والعبودية مشتقة من العبادة، وقد عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ) رحمه الله بقوله:
«هِيَ اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة»
(5)
(6)
.
(1)
ابن تيمية العبودية، العبودية المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ) المحقق: محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426 هـ - 2005 م.
(2)
هو الإمام الحافظ اللغوي ذو الفنون محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان ابن سماعة بن فروة بن قطة بن دعامة أبو بكر الأنباري. (271 هـ - 328 هـ) المقرئ النحوي. نقلًا عن: الموسوعة الحرة.
(3)
لسان العرب (5/ 2778)، مادة:(ع ب د).
(4)
تاج العروس (2/ 409).
(5)
العبودية لابن تيمية (ص: 44).
(6)
مجموع الفتاوى (10/ 19).
ولا شك أن تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعريف جامع مانع، وهو أفضل مَن عرف معنى العبودية وكتابه:(العبودية) شاهد عيان على ذلك، وقد عرض فيها حقيقة العبودية في الإسلام بشموليتها وكمالها وتمامها، وهو من أنفع وأمتع ما كُتِبَ في بابه تحقيقًا وتدقيقًا وسبكًا وحبكًا للأسلوب وعرضًا للمادة العلمية، لم لا وهو إمام جهبذ وعالم نحرير ما جادت لنا بمثله الأرحام من ذاك الزمان.
وقال ابن القيم (ت: 751 هـ) رحمه الله
-:
«العبودية اسم جامع لمراتب أربع: من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته على لسان رسله عليهم السلام.
وقول اللسان الإخبار عن قول القلب بما فيه من الاعتقاد والدعوة إليه والذّب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والمعاداة فيه والخضوع والذل له وغير ذلك من أعمال القلب.
وأعمال الجوارح كالصلاة والحج والجهاد وغيرها»
(1)
.
ويُعرِّفها المناوي (ت: 1031 هـ) رحمه الله: بقوله:
(2)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 100). مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء:2.
(2)
التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (234). التوقيف على مهمات التعاريف المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ) الناشر: عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت-القاهرة الطبعة: الأولى، 1410 هـ-1990 م عدد الأجزاء:1.
المبحث الثاني: بيان أقسام العبودية
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القسم الأول من أقسام العبودية "عبودية الغلبة والقهر والملك
"
وهي عبودية كل من في السماوات والأرض مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، قال تعالى:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم: 93 - 95]، كما تسمى أيضًا بالعبودية العامة.
يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (ت: 310 هـ) رحمه الله
-:
«ما جميع من في السماوات من الملائكة، وفي الأرض من البشر والإنس، يقول: إلا يأتي ربه يوم القيامة عَبْدًا له، ذليلًا خاضعًا، مُقِرًّا له بالعبودية، لا نسب بينه وبينه
(1)
.
ويقول البغوي (ت: 510 هـ) رحمه الله
-:
(إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ) أي: إلا آتيه يوم القيامة (عَبْدًا) ذليلًا خاضًعا يعني: أن الخلق كلهم عبيده
(2)
.
(1)
تفسير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)[مريم: 91](18/ 261). جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء:24.
(2)
تفسير البغوي: تفسير: قوله تعالى [مريم: 91](5/ 527). معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء:5.
ويقرر أبو السعود (ت: 982 هـ) رحمه الله: ما قرراه، أعني: شيخَ المفسرين، والإمامَ البغوي بقوله:
(1)
.
وفي صدد ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
«المخلوقون كلُّهم عبادُ الله: الأبرار منهم والفجَّار، والمؤمنون والكفَّار، وأهل الجنَّة وأهل النار؛ إذ هو ربُّهم كلهم ومليكُهم، لا يخرجون عن مشيئتِه وقدرته
…
فهو سبحانه ربُّ العالمين وخالقُهم ورازقُهم، ومُحييهم ومميتُهم
…
سواء اعترَفوا بذلك أو أنْكروه، وسواء علِموا ذلك أو جهلوه.
لكنَّ أهلَ الإيمان منهم عرَفوا ذلك وآمَنوا به؛ بخلافِ مَن كان جاهلًا بذلك؛ أو جاحدًا له مستكبرًا على ربِّه
…
»
(2)
.
يقول ابنُ القيِّمُ (ت: 751 هـ) رحمه الله
-:
إنّ تمام العبوديةِ يكون بتكميل مقام الذلِّ والانقياد، وأكملُ الخلقِ عبودية أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة، والعبدُ ذليلٌ لمولاه الحقِّ بكل وجه من وجوه الذلّ، فهو ذليلٌ لعزِّه، وذليلٌ لقهره، وذليلٌ لربوبيته فيه وتصرُّفهِ، وذليلٌ لإحسانِه إليه وإنعامه عليه.
(3)
وفي صدد بيان هذه العبودية أيضًا يقول سبحانه: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران: 83].
(1)
تفسير أبي السعود: تفسير قوله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)[مريم: 93]، (5/ 283).
(2)
العبودية لابن تيمية: ينظر (ص: 50 - 51)، و ينظر: أيضًا (ص: 104).
(3)
- مفتاح دار السعادة (1/ 289). مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، راجعه: مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلاحِي، سليمان بن عبد الله العمير، الناشر: دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1432 هـ، عدد الأجزاء:5.
ويقول سبحانه: (وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ?بَل لَّهُ? مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ? قَانِتُونَ)[البقرة: 116].
وفي بيان معنى القنوت الوارد في قول الله تعالى: (كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ)
يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله
-:
(1)
.
ويقول الله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)[آل عمران: 83]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
(2)
.
المطلب الثاني: القسم الثاني من أقسام العبودية "عبودية الاختيار والانقياد والطاعة والمحبة
"
(1)
تفسير الطبري: (1/ 507 - 508).
(2)
العبودية (ص 145).
ويقرر ابن القيم رحمه الله أن: «العبودية نوعان: عامة وخاصة»
.
ثم يقول رحمه الله:
«وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، كما قال تعالى:(يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[الزخرف: 68]، وكما قال تعالى:(فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[الزمر: 18، 17]، وقال:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلَامًا)
[الفرقان: 63].
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته»
(1)
.
وأهل هذه العبودية:
أقبلوا على ربهم وخالقهم ورازقهم طائعين منقادين لعبوديته سبحانه، مطيعين لأوامره بمحض إرادتهم واختيارهم، فهي عبودية محبة وانقياد وطاعة وذل وخضوع، وقد نسبهم الله إليه نسب تكريم وتشريف فقال في حقهم:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلَامًا)[الفرقان: 63].
وهذه العبودية خاصة بالمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى باختيارهم وإرادتهم لا يشاركهم فيها أحد من الكفار الذين خرجوا عن شرعه وتمردوا على أوامره ونواهيه. فنالوا بذلك عز الدنيا وشرفها وكرامة الآخرة وفضلها وأجرها.
والخلق في هذه العبودية ترى بينهم بونًا شاسعًا، وهم متفاوتون فيها تفاوتًا كبيرًا وعظيمًا؛ فكلما كان العبد محبًّا لربه متبعًا لأوامره، منتهيًا عن نواهيه، منقادًا لشرعه، خاضعًا لسلطانه، كان تحقيقه لعبودية ربه أجل وأعظم وأكمل.
وأعظم الناس تحقيقًا لمقام العبودية هم صفوة خلقه وأمنائه على وحيه وسفرائه بينه وبين عباده من النبين والمرسلين، وأعبدهم لله أجمعين هو سيدهم وإمامهم وأفضلهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا خُص بالذكر بوصف العبودية مجردة في كتاب الله في أشرف المقامات وأعلاها وأزكاها، سبحانه:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا)[الكهف: 1] وهذا في مقام الوحي وهو من أشرف
(1)
مدارج السالكين (1/ 105).
المقامات وأعظمها وأجلها، وفي مقام الدعوة إلى الله قال سبحانه:(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)[الجن: 19].
وفي مقام الإسراء قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)[الإسراء: 1] ولا شك أن مقام الإسراء مقام تشريف كذلك.
فالشرف المروم لمن استكمل تحقيق العبودية، ولا يكون تحقيقها إلا مع كمال الذل والخضوع
والافتقار لله الواحد القهار، والعبودية المتعلقة بربوبية الله هي العبودية العامة التي تشمل جميع الخلائق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم.
فإذا علم العبد أن له ربًّا وخالقًا ورازقًا ومدبرًا لكل شؤونه، وأنه فقير إليه -عرف تلك العبودية العامة المتعلقة بربوبيته سبحانه، وَقد يعبده مَعَ ذَلِك وَقد يعبد غيره من الأصنام والأوثان، وإن لم يقرّ بها فهو داخل تحتها شاء أم أبى، لأنها شاملة له قهرًا وغلبة.
والعبودية العامة التي هي عبودية القهر والغلبة، لا تكفي للدخول في الإسلام، فقد أقر بها كفار قريش ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم وسبى ذريتهم ونساءهم، ذلك لأنهم لم يقروا بالعبودية الخاصة، وهي عبودية الألوهية التي توجب تحقيق التوحيد وصرف العبادة كلها لله، ربنا في ذلك:(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162 - 163].
فهم قد أقروا بربوبيته سبحانه وأقروا أنه تعالى هو الخالق قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[لُقْمَان: 25]، فهذا إقرار صريح بربوبيتهم لربهم، ومع ذلك لم ينفعهم إقرارهم بالربوبية لعدم تحقيق توحيد الألوهية، قال الله تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)[يوسف: 106]. لأنهم مع ذلك يعْبدُونَ الاصنام والأوثان، ولم يصرفوا العبادة للإله الواحد الملك الديان.
أما العبودية المتعلقة بألوهيته سبحانه فهي العبودية الخاصة المتعلقة بعبادته سبحانه وتأليهه وتوحيده وإخلاص الوجه له وقصده وحده بالعبادة دون ما سواه، خوفُا وطمعًا، رغبًا ورهبًا.
والخلاصة:
أنَّ جميعَ المخلوقات عبيدٌ مقهورون لربوبيته تبارك تعالى، أما أهل طاعته وأهل كرامته فهم عبيد ألوهيته تعالى، الخاضعون المتذللون لربهم، خضوع تذللٍ، وعبوديةَ اختيارٍ، لا عبودية قهرٍ وغلبة، وتلك هي العبودية الخاصة.
المطلب الثالث: بيان حقيقة العبودية
أما حقيقة العبودية: فهي الغاية العظمى التي خلق الله من أجلها الخلق كما بين ذلك في محكم كتابه، فقال سبحانه:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله
-:
«اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فقال بعضهم: معنى ذلك: وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم لمعصيتي.
أي: خلقهم لأجل أن يعبدونه سبحانه فمن عبده أكرمه، ومن ترك عبادته أهانه»
(1)
.
وحَصَرَ سبحانه وتعالى الحِكمة من خلقهم في قوله: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ليتبين ويتأكد لهم أن الحِكمة من خلقهم هي: عبادته سبحانه وتعالى، وخلق كل شيء لرعايتهم ورعاية مصالحهم ومصالح معاشهم، وسَخَّر لهم كل ما في السموات والأرض ليستعينوا بها على عبادته وطاعته سبحانه وتعالى.
ومعنى (لِيَعْبُدُونِ)؛ أي: يوحدونني، فيفردونني بالعبادة، ولا يعبدوا سواي، والعبادة لا تُسمَّى عبادة إلا مع التوحيد ولا تصح ولا تقبل إلا به، فهو قوامها وأسها وأساسها المتين الذي لا قوام لها ولا ووجود إلا به، فهو كالطهارة للصلاة لا تصح ولا تقبل إلا بها فهي شرط صحة، كما أن التوحيد شرط صحة في صحة العبادة وقبولها.
وتحقيق العبودية لرب البرية هي المهمة العظيمة التي من أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وقام سوق الآخرة ففريق في الجنة، وفريق في السعير، كما قال تعالى:
(1)
تفسير الطبري: (22/ 445).
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25]، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، واليقين هنا هو: الموت.
وقال ابن القيم رحمه الله
-:
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله في الشافية الكافية:
وعبادة الرحمن غاية حبه
…
مع ذل عابده هم قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر
…
ما دار حتى قام القطبان
(2)
والدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة هي أساس دعوة المرسلين؛ إذ ما بعث الله رسولاً منهم إلا قال لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 65].
المطلب الرابع: بيان شرطي تحقيق العبودية
وأخيرًا: فإن العبودية الحقة لا تتحقق إلا بتحقيق أصلين عظيمين:
الأصل الأول: إفراده الله تعالى بالعبادة ونبذ عبادة كل ما سواه
، وهذا هو مقتضى تحقيق شهادة ألا إله إلا الله - نفيًا وإثباتًا-.
الأصل الثاني: ألا يُعبد اللهُ إلا بما شرع
، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.
فمن حقق هذين الأصلين العظيمين بكمالهما وتمامهما، فقد حقق العبودية الحقة التي ينال به العبدُ سعادةَ الدارين.
المطلب الخامس: تقرير عبودية الله تعالى في القرآن الكريم
إن المتأمل في القرآن الكريم من أوله إلى آخره يتجلى له محوره الرئيس هو قضية تحقيق التوحيد وتقرير العبودية التي خلق الله من أجلها الجن والإنس، كما قال ربنا:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]. و يتجلى له أن الله سبحانه لم
(1)
الفوائد (ص: 183).
(2)
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص: 32).
يخلق الخلق عبثًا ولم يتركهم سدى، كما قال جل في:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115]، وكما قال تعالى:(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)(الإنسان: 36).
والمتأمل في مطلع فاتحة الكتاب يتضح له جليًا أمر تحقيق التوحيد وتقرير العبودية وذلك في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة: 5)، ثم إن المتتبع لسور القرآن كلها يراها تقرر هذا الأصل العظيم بوضوح وجلاء، وذلك من أول الأوامر الواردة في القرآن في قوله تعالى في أوائل سورة البقرة:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)(البقرة: من آية: 21)، وبأول النواهي في المحذرة من الشرك المنافي للتوحيد بعدها مباشرة في سورة البقرة - كذلك - في قوله تعالى:(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا)(البقرة: من آية: 22) وانتهاءً بسورتي الإخلاص "الكافرون والإخلاص" وختام القرآن بـ"المعوذتين".
يرى تقرير العبودية في القرآن الكريم واضحًا جليًا في كل سور القرآن وآياته.
ومن هنا يتبين أن بيان تقرير العبودية لله هو المحور الرئيس في القرآن الكريم.
وفي نحو ذلك يقرر الفخر الرازي (ت: 606 هـ) رحمه الله فيقول:
«والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى،
فقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(الفاتحة: 3) يدل على الإلهيات،
وقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(الفاتحة: 4) يدل على المعاد،
وقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة: 5) يدل على نفي الجبر والقدر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره،
وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(الفاتحة: 6 - 7) يدل أيضًا على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات، فلما
كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة، وكانت هذه السورة مشتملة عليها - لقبت بأم القرآن»
(1)
.
وفيما ذكره الفخر الرازي وقرره إنما هو تقرير لكل أنواع العبودية في فاتحة الكتاب، فاشتمال السورة على حمده تعالى وتمجيده بأسمائه وصفاته والثناء عليه والإقرار باليوم الآخر وإثبات البعث والجزاء، وتنزيه الله عن كل نقص ووصفه تعالى بكل كمال يليق بذاته المقدسة، وحصر العبادة والاستعانة فيه وحده، وطلب الهداية إلى صراطه المستقيم، والإلحاح عليه بالثبات على هذا الصراط، صراط المنعم عليهم، وطلب البعد عن طريق أهل الغواية والزيغ ممن غضب عليه وأضلهم، كل ذلك يؤكد ويبرهن ويوضح تقرير فاتحة الكتاب للعبودية بمعناها الشامل والكامل، وآيات السورة مقررة لأنواع التوحيد الثلاثة.
ومما يبرهن ويؤكد تقرير الفاتحة للعبودية حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ تعالى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) قَالَ اللَّهُ تعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 3) قَالَ اللَّهُ تعالى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: 4) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6 - 7) قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»
(2)
.
ولاشك أن الفاتحة اشتملت على ما في القرآن إجمالًا فناسب افتتاح الكتاب بها، ثم تلتها باقي سور القرآن لتورد كل ما ورد فيها تفصيلًا.
(1)
تفسير الفخر الرازي: (ص: 145). مفاتيح الغيب = التفسير الكبير المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثالثة - 1420 هـ.
(2)
مسلم (395).
ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثالث: أصل الدين مبني على أصلين عظيمين (العبودية - والاستعانة)
والمقصود من بيانه في هذا المبحث أن أصل الدين مبنى على (العبودية-والاستعانة).
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الغاية من خلق المكلفين تحقيق العبودية
إن العبودية: هي المهمة العظيمة والغاية الجليلة التي خلق الله تعالى المكلفين من الثقلين من أجلها، فالله تعالى خلقهم ليعبدوا وهو غني عنهم غنى تام، وهم فقراء إليه سبحانه فقرًا تامًّا.
كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذريات: 56) «أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه:(إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)«أي: إلا ليقروا بعبادتي طوعًا أو كرهًا» ، وهذا اختيار ابن جرير.
وقال ابن جُرَيْج: «إلا ليعرفون» .
وقال الربيع بن أنس: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: «إلا للعبادة»
(1)
.
وقال القرطبي-رحمه الله: «أي: ليذلوا ويخضعوا لي»
(2)
.
«قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، يؤيده قوله عز وجل (وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِدًا) [التوبة: 31].
وقال مجاهد: «إلا ليعرفوني» .
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 425)
(2)
تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (17/ 56). الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات).
وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرفوا وجوده وتوحيده، و «قيل: معناه إلا ليخضعوا إليّ ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه.
وقيل: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إلا ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء،
وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله عز وجل:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[العنكبوت: 65]
(1)
.
قال القرطبي-رحمه الله: «أي: ليذلوا ويخضعوا لي»
(2)
.
قال النووي (ت: 676 هـ) رحمه الله
-:
(3)
.
وأهل العبودية الحقة موقنون بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
«إن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له»
(4)
.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله
-:
«وبنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب
(1)
تفسير البغوي (7/ 381).
(2)
تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن:(17/ 56).
(3)
رياض الصالحين للنووي بتخريج الألباني (ص: 37).
(4)
العبودية (ص 80).
الأربع. كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذريات: 56)».
(1)
وفي ضوء بيان أهل العلم وأئمة التفسير رحمهم الله حول آية الذاريات يتبين لنا:
1 -
أن الحكمة والغاية المحمودة التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها هي العبادة.
قال ابن سعدي (ت: 1376 هـ) رحمه الله
-:
(2)
.
2 -
وأن الله خلقهم وهو غني عنهم مع فقرهم إلى خالقهم.
كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15].
يقول الفخر الرازي رحمه الله
-:
«فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، وإنما هو لإشفاقه عليكم»
(3)
.
3 -
وأن العبادة هي: الخضوع والذل والانقياد.
4 -
وأن عبودية القهر والغلبة تشمل كل الخلق مؤمنهم وكافر.
قال القرطبي (ت: 671 هـ) رحمه الله:
«قوله تعالى: (اعْبُدُوا)[المائدة: 72] أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّدة إذا كانت موطوءة بالأقدام
…
والعبادة الطاعة، والتعبد التنسّك»
(4)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 100).
(2)
تفسير الكريم الرحمن (7/ 181).
(3)
تفسير الفخر الرازي، مفاتيح الغيب- للفخر الرازي - تفسير سورة فاطر قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15]. (ص: 23).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (1/ 225 - 226).
5 -
وأن العبادة التي هي التوحيد، هي عبودية الاختيار، التي لا يُوفق لها إلا من اصطفاه الله تعالى من عباده المؤمنين.
6 -
وأن التكليف بالعبودية لا ينفك عن العبد أبدًا حتى الممات.
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، واليقين هو الموت.
قال ابن القيم رحمه الله
-:
(1)
أي: الموت وما فيه، فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله ورسوله، وإنما وصل لمقام الكفر بالله والانسلاخ من دينه، بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه، ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولي العلم أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته»
(2)
.
وكلام ابن القيم حول معنى اليقين يبين حقيقة العبودية التي لا تنفك عن العبد أبدًا، ومن يُسَمُّوا أنفسهم بأهل الوجد من المتصوفة ونحوهم، يدّعي رؤوسهم أنهم من شدة عبادتهم قد رُفِعَ عنهم التكليفُ.
ثم عرج رحمه الله على مقام العبودية وأن العبد كلما تمكن في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، وكلما ارتفع قدر العبد علمًا ومنزلة ومكانة، كانت عبوديته أعظم وآكد، كعبودية المرسلين وعبودية أولي العزم منهم، وعبودية ورثة الأنبياء من العلماء الربانيين.
(1)
وأصل الحديث رواه البخاري (1243).
(2)
مدارج السالكين (1/ 103 - 104).
7 -
وأن المؤمن يعبد الله في الشدة والرخاء، وأما الكافر فلا يعبد الله إلا في الشدائد، قال الله تعالى:(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[العنكبوت: 65].
8 -
أن العبودية مع كون مضمونها الذل والخضوع والافتقار فهي متضمنة لأعلى مقامات العبد، فهي المنزلة الرفيعة السامية العالية التي ارتضاها الله لأشرف خلقه صلى الله عليه وسلم، وارتضاها هو صلى الله عليه وسلم لنفسه حيث يقول:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"
(1)
.
المطلب الثاني: مكانة العبودية والاستعانة وتحقيق التلازم بينها
قال تعالى في مستهل افتتاح القرآن في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5).
وهذه الآية تُعَدُ من أجمع الآيات التي جمعت بين منزلتي العبادة والاستعانة ليبين الله لعباده أن تحقيق العبودية -عبادة واستعانة- والتلازم بينهما- هي الغاية من وجود الخلق.
وإنما قدم المعمول في "إياك" ليفيد حصر العبودية والاستعانة واختصاصها بالخالق وحده جل في علاه دون سواه، فلا يُعْبد إلا إياه ولا يستعان إلا به.
وتقديم العبادة على الاستعانة:
من باب تقديم العام على الخاص، ومن باب تقديم حق الخالق العظيم الغني- سبحانه- عن خلقه من كل الوجوه، على حق المخلوق الضعيف الفقير إلى ربه وإلى معونته من كل الوجوه.
والعبادة والاستعانة:
"هُمَا الْكَلِمَتَانِ الْمَقْسُومَتَانِ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ عَبْدِهِ نِصْفَيْنِ، فَنَصِفُهُمَا لَهُ تَعَالَى، وَهُوَ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" وَنِصْفُهُمَا لِعَبْدِهِ وَهُوَ "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ".
(2)
وإذا تأملنا في تعريف شيخ الإسلام للعبادة بأنه: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"
(3)
لوجدنا أن الاستعانة تدخل في مسمى
(1)
البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
- مدارج السَّالكين (1/ 95).
(3)
- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - 10/ 149، الموسوعة الفقهية (29/ 256).
العبادة، وقد أُفْرِدَت الاستعانةٌ هنا عن العبادة في هذا المقام وذكرت معها؛ لكونها وسيلة وطريق مؤد إليها.
وفي بيان فضلها وعظيم منزلتها يقول ابنُ القيِّم رحمه الله
-:
وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْتَهَى إِلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، حَتَّى قِيلَ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ
مَعَانِيَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ هَذِهِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ
(1)
، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَمَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِي (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
(2)
وقد جمعت هذه الآية على وجازتها من الفوائد دررًا، ومن البلاغة كنوزًا، وسنشير إلى شيء من ذلك:
أولًا: السرُّ في تقديم ما حقُّه التَّأخير
.
فقد قُدِّم المفعولُ على الفعل في الآية وهذا فيه ثلاث فوائد
(3)
:
الأولى: فيه أَدَبُ العِبَادِ مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلَى فِعْلِهِمْ.
الثَّانية: فِيهِ الِاهْتِمَامُ وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِهِ.
الثَّالثة: فِيهِ الْإِيذَانُ بِالِاخْتِصَاصِ، الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ، فَهُوَ فِي قُوَّةٍ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ.
(1)
- والمفصل هو ما يلي المثاني من قصار السُّور إلى آخر القرآن، وَهو: مِنَ الْحُجُرَاتِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحِيحِ، وسمِّي بالمفصَّل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلّة المنسوخ منه، ولهذا يسمّى بالمحكم أيضًا، كما روى أحمد في المسند (2283) بسند صحيح عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما، قَالَ:(إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ)، ورواه البخاري في صحيحه (5035) ولكن جعله من كلامِ ابنِ جبير-رحمه الله.
(2)
- وهذ الأثر قد عزاه غير واحد من أهل العلم ونسبه للحسن البصري، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (14/ 7)، وابن عادل الحنبلي في: اللباب في علوم الكتاب (1/ 164)، والفخر الرازي في تفسيره: مفاتيح الغيب (1/ 160).
(3)
- مدارج السَّالكين (1/ 98).
ثانيًا: السرُّ في تقديم العبادة على الاستعانة
.
ذكر أهل العلم عدَّة حكم منها
(1)
:
1 -
تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ الْعِبَادَةُ غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ الِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا.
2 -
وَلِأَنَّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ (اللَّهِ)، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ
وَاسْمِهِ (الرَّبِّ)، فَقَدَّمَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، كَمَا قَدَّمَ اسْمَ (اللَّهِ) عَلَى (الرَّبِّ) فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ.
3 -
وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِعَانَةُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ.
4 -
وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ جُزْءٌ مِنِ الْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ
(2)
.
5 -
وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ طَلَبٌ مِنْهُ، وَالْعِبَادَةَ طَلَبٌ لَهُ.
6 -
وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَالِاسْتِعَانَةَ تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ.
ثالثًا: السرُّ في إعادة العامل (إيَّاك) وعدمِ الاكتفاء بالعطف
.
التَّكرارُ يفيد التَّنْصيصَ على حصرِ الاستعانة به كذلك مثلَ العبادة، فلو اقتصرنا على ضمير واحد (إيَّاك نعبد ونستعين) لم يفهم حصر المستعان إنَّما حصْرُ المعبود فقط.
ففِي إِعَادَةِ (إِيَّاكَ) مَرَّةً أُخْرَى دَلَالَةٌ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، فَفِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ مِنْ قُوَّةِ الِاقْتِضَاءِ لِذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا قُلْتَ لِمَلِكٍ مَثَلًا:(إِيَّاكَ أُحِبُّ، وَإِيَّاكَ أَخَافُ)، كَانَ فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِذَاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ،
(1)
مدارج السَّالكين (1/ 97).
(2)
- قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والتَّوَكُّل هُوَ الِاسْتِعَانَة وَهِي من عبَادَة الله لَكِن خصّت بِالذكر ليقصدها المتعبد بخصوصها فَإِنَّهَا هِيَ العون على سَائِر أَنْوَاع الْعِبَادَة إِذْ هُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُعبد إِلَّا بمعونته). العبودية (75).
مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكِ: (إِيَّاكَ أُحِبُّ وَأَخَافُ
(1)
.
رابعًا: السرُّ في إطلاق الاستعانة وعدمِ تقييدها بالمفعول
.
أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شيء أو نستعين على طاعة أو غيره إنما أطلقها لتشمل كل شيء وليست محددة بأمر واحد من أمور الدّنيا أو الآخرة، والمعنى: إيّاك نستعين يا الله على عبادتنا، وعلى أعمالنا، وعلى دراستنا،
وعلى تربية أبنائنا، وعلى خدمة ديننا، وعلى نصرة شريعتنا، وعلى كلّ صغيرة وكبيرة في أمور دنيانا وأخرانا، لأنَّ حذف المعمول يؤذن بالعموم
(2)
.
المطلب الثالث: أقسام الخلق في منازل" إياك نعبد وإياك نستعين
"
إذا علم هذا فلا بدَّ أن يُعلم بأنَّ النَّاسَ في هذين الأصلين-وهما العبادة والاستعانة- أربعةُ أقسام
(3)
:
القسم الأوَّل: المؤمنون المتَّقون الذين جمعوا بين الأمرين
فهم يعبدونَ الله ويستعينُون به، وهؤلاء قامت جوارحُهم بالأسباب واعتمد قلبُهم على مسبِّبِ الأسباب سبحانه وتعالى -فَعِبَادَةُ اللَّهِ غَايَةُ مُرَادِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُسْأَلُ الرَّبُّ تبارك وتعالى الْإِعَانَةُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحِبِّهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، فَقَالَ «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ
(4)
.
(1)
- مدارج السَّالكين (1/ 99).
(2)
البحر المحيط للزركشي (4/ 221)، ومناهل العرفان للزرقاني (1/ 133)، وجواهر البلاغة للهاشمي (156)، ويُنظر: الدِّينُ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ، مصطفى قاليه، عن موقع التصفية والتربية، بتاريخ: 31/ 5/ 2012 م.
(3)
- التّدمرية (234 - 235)، ومجموع الفتاوى (3/ 124) وما بعدها، ومدارج السَّالكين (1/ 99) وما بعدها، وأعلام الموقعين (2/ 123).
(4)
- رواه أحمد (22117)، وأبو داود (1522)، والنسائي (1303) من حديث معاذ بن جبل، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (949).
فَأَنْفَعُ الدُّعَاءِ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ إِسْعَافُهُ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا، وَعَلَى دَفْعِ مَا يُضَادُّهُ، وَعَلَى تَكْمِيلِهِ وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ، فَتَأَمَّلْهَا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
-:
تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)
(1)
.
وحالة المتوكِّل على الله تشبه حَالَةَ الطِّفْلِ مَعَ أَبَوَيْهِ فِيمَا يَنْوِيهِ مِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ
…
، فَانْظُرْ فِي تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ أَبَوَيْهِ، وَحَبْسِ هَمِّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَا يَنْوِيهِ بِهِمَا، فَهَذِهِ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا مَعَ اللَّهِ فَاللَّهُ كَافِيهِ وَلَا بُدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: 3) أَيْ كَافِيهِ.
(2)
تنبيه:
قال شيخنا الفقيه العلامة ابنُ عثيمين (ت: 1421 هـ) رحمه الله
-:
وأعلى المراتب: الأولى، أن تجمع بين العبادة والاستعانة. ولننظر في حالنا الآن -وأنا أتكلَّمُ عن حالي- دائما نغلِّب جانب العبادة، فتجد الإنسان يتوضّأ وليس في نفسه شعورٌ أنْ يستعينَ اللهَ على وضوئِه، ويصلِّي وليس في نفسه شعورٌ أنْ يستعينَ اللهَ على الصَّلاة وأنَّه إنْ لَمْ يُعِنْهُ ما صلَّى؛
…
فإذا صلَّيتَ - مثلاً - وشعرتَ أنَّك تصلِّي لكن بمعونةِ الله وأنَّه لولا معونةُ الله ما صلَّيتَ، وأنَّك مفتقرٌ إلى اللهِ أن يعينَكَ حتَّى تصلِّيَ وتتمَّ الصَّلاةَ، حَصَّلْتَ عبادتين: الصَّلاةَ والاستعانةَ
…
(3)
.
القسم الثَّاني: من لا عبادةَ ولا استعانةَ لهم
(1)
- مدارج السَّالكين (1/ 100).
(2)
مدارج السَّالكين (1/ 103).
(3)
- شرح الأصول من علم الأصول (190 - 191). شرح الأصول من علم الأصول المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الرابعة، 1430 هـ - 2009 م عدد الأجزاء:1.
وهؤلاء هم الملحدون من المادِّيين والعقلانيِّين-والعياذُ بالله-
(1)
، وهؤلاء وقعوا في الشِّرك لأنَّهم أثبتُوا مُوجدًا مع الله مستقلاً بالضّر والنّفع، وهذا باطل مخالف للكتاب والسّنّة والإجماع، كما أنّ الأسباب قد تتخلَّف عن مسبِّباتها بإذن الله كما يشهد لذلك الحسُّ؛ والواحدُ من هؤلاء إن استعان بالله وسأله، فعلى حظوظه وشهواته، لا على
مرضاة ربِّه وحقوقه، واللهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إِبْلِيسُ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شِقْوَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وَطَرْدِهِ عَنْهُ
(2)
، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ
(3)
.
القسم الثَّالث: من لهم نوعُ عبادةٍ بلَا استعانةٍ
فحظُّهم ناقصٌ من التَّوكلِ والاستعانةِ به، ولهؤلاء من الخُذلانِ والضّعفِ والعجزِ بحسَبِ قلَّةِ استعانتِهم وتوكُّلهم،
وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: من نفى تأثير الأسباب بالكليَّة: وهم القدريَّة الجبْرية، الذين جعلوا العبد مجبورًا على أفعاله، وأنَّ حركاته جميعا حركات اضطراريَّة كالورقة في مهبِّ الرِّيح، وهؤلاء يرون أنَّ الأسباب لا تأثير لها في مسبِّباتها، فالله لم يجعل في الأسباب قُوًى وطبائعَ تؤثِّر، وهذا الموقف فاسد باطل مخالف للكتاب والسنَّة والإجماع.
(1)
- المرجع السابق (191).
(2)
يقول الله سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(الإسراء: 18 - 20).
(3)
- مدارج السَّالكين (1/ 100).
وقد وصف العلماء هذا القول بأنّه (قدح في العقل).
النَّوْعُ الثَّانِي: من أعرض عن الأسباب بالكليِّة: كحال غالب الصُّوفيَّة، فهم لا يرون تحقيق التَّوكُّلِ إلَّا في ترك الأسباب بالكليَّة، فتركوا التَّكسُّب والعمل والاحتراز والاحتياط والتَّزوُّد في السَّفر والطَّعام، ويرون ذلك كلَّه منافياً للتَّوكُّل، ولهم شبه ضعيفة أجاب عنها العلماء. وقد وصف العلماء هذا القول بأنّه (قدح في الشَّرع).
فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالنُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ، بِحَسَبِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَهُمْ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَجْزِ بِحَسَبِ قِلَّةِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ
(1)
.
القسم الرَّابع: من عندهم استعانةٌ بلا عبادة
وهؤلاء استعانوا بربِّهم، لكن ما استعانوا به على العبادة، وإنما استعانوا به على الدِّرهم والدِّينار، واستعانوا به على الدُّنيا، والواحد منهم قد شَهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَدُرْ مَعَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَأَغْرَاضِهِ، وَطَلَبَهَا مِنْهُ، وَأَنْزَلَهَا بِهِ، فَقُضِيَتْ لَهُ، وَأُسْعِفَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ أمْوَالًا أَوْ رِيَاسَةً أَوْ جَاهًا عِنْدَ الْخَلْقِ، أَوْ أَحْوَالًا مِنْ كَشْفٍ وَتَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ وَتَمْكِينٍ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ الظَّاهِرِ، وَالْأَمْوَالُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، فَضْلًا عَنِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّه
(2)
.
ولعل في هذا كفاية، والحمد لله رب العالمين.
(1)
- مدارج السَّالكين (1/ 102 - 103).
(2)
- مدارج السَّالكين (1/ 103).
الفصل الثاني
عبودية البشر
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عبودية النبين والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام
-
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: عبودية خاتم النبين والمرسلين صلى الله عليه وسلم
لاشك في أن أكمل العبودية وأشرفها وأعظمها قدرًا وأعلاها رتبة ومكانة عبودية النبين والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام -، ذلك لأنهم أفضل البشر على الإطلاق، وذلك بدلالة نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة والنظر الصحيح - كذلك-، وإن أعظمها وأجلَّها وأعلاها قدرًا عبودية خاتمهم وإمامهم وسيدهم وقدوتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
"حقق الله له نعت العبودية في أرفع مقاماته حيث قال (سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا) (الإسراء: 1)، وقال تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم: 10)، وقال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا) (الجن: 9)، ولهذا يشرع في التشهد وفى سائر الخطب المشروعة كخطب الجمع والأعياد وخطب الحاجات عند النكاح وغيره أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. "
(1)
هذا ولقد وُصِفَ النبيُ صلى الله عليه وسلم في كتاب الله بالعبودية في أشرف المقامات
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 66). مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416 هـ/ 1995 م.
وأعلاها وأزكاها كما مر آنفًا بيان شيخ الإسلام لبعضها، ونعيد بيان تلك المقامات بشيء من الإيضاح،
قال سبحانه في مقام الوحي: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[النجم: 10]، وقال سبحانه:(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا)(الكهف: 1)، وقال أيضًا:(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا)(الفرقان: 1)، والوحي من أعلى المقامات وأشرفها.
وقال في مقام الدعوة إلى الله: (وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)[الجن: 19]، والدعوة التي هي إبلاغ الحق للخلق بأمر الخالق، شرف لا يدانيه شرف.
وقال في مقام ولايته وكفايته له أيضًا: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه)[الزمر: 36].
قال ابن سعدي رحمه الله
-:
"أي: أليس من كرمه وجوده، وعنايته بعبده، الذي قام بعبوديته، وامتثل أمره واجتنب نهيه، خصوصًا أكمل الخلق عبودية لربه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه، ويدفع عنه من ناوأه بسوء".
(1)
وقال في مقام التحدي: (وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ)[البقرة: 23].
وقال سبحانه في مقام الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ)[الإسراء: 1]، وهو مقام تشريفي خُص به أشرفُ الخلق صلى الله عليه وسلم من بين العالمين.
قال القرطبي:
"قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية.
(1)
تفسير ابن سعدي: (ص: 725). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ)، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420 هـ -2000 م عدد الأجزاء: 1.
قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة".
(1)
ويؤكد الشنقيطي (ت: 1393 هـ) بيان ما ذكره القرطبي حول آية الإسراء فيقول رحمه الله:
" والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق ورأى من آيات ربه الكبرى.
(2)
.
المطلب الثاني: عبودية أولي العزم من الرسل عليهم السلام بأعيانهم
قال سبحانه وتعالى مبينًا مراتب أوليائه: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(النساء: 69).
فالله قد رتب عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد شق عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يرفع مع النبيين في الدرجات العلا فتكون منزلتهم دون منزلته فلا يصلون إليه ولا يرونه ولا يجالسونه، فنزلت الآية.
(3)
(1)
الجامع لأحكام القرآن: (10/ 205). تفسير القرطبي، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات).
(2)
تفسير أضواء البيان، للشنقيطي:(3/ 8). أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393 هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر والتوزيع بيروت - لبنان عام النشر: 1415 هـ - 1995 مـ.
(3)
- تفسير الطبري: (5/ 104) و (حلية الأولياء)(4/ 240 و 8/ 125)، و (أسباب النزول للواحدي) (ص: 94)، و (الدر المنثور)(2/ 182)، و (لباب النقول - بهامش الجلاليين) (ص: 174).
ولقد ذكر الله تبارك وتعالى جملة من أنبيائه ورسله في سورة الأنعام ثم قال في ختام ذكرهم: (وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)(الأنعام: 86).
قال ابن سعدي رحمه الله
-:
وكلاًّ من هؤلاء الأنبياء والمرسلين فضلنا على العالمين، لأن درجات الفضائل أربع وهي التي ذكرها الله بقوله:(وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(النساء: 69). فهؤلاء من الدرجة العليا.
(1)
وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(آل عمران: 33).
قال الفخر الرازي مبينًا وجه التناسب والترابط بين هذه الآية وبين الآيات قبلها:
اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم.
(2)
وقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ كما صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)[الأحقاف: 35]
(3)
(1)
- تفسير ابن سعدي: (2/ 200).
(2)
- تفسير الفخر الرازي: (8/ 19).
(3)
- أولو العزم أي: أصحاب القوة في الدين والثبات عليه، والعزم في تبليغ دين الله لعباده والصبر عل ذلك، ولا نعلم نصًا صريحًا بتسميتهم بأولي العزم إلا ما دلل عليه بعض المفسرين حول الآيات التي ذُكِرُوا فيها. والله أعلم. والمشهور عند أهل التفسير أنهم خمسة وهم: الذين ذكرهم الله في سورة الأحزاب في قوله سبحانه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)[الأحزاب: 7] وذكرهم أيضًا في الشورى في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)[الشورى: 13] وبعض المفسرين يرى أن الرسل كلهم أولو عزم وأن (مِن) في قوله تعالى: (مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف: 35] بيانية وليست تبعيضية، ومنهم من يرى غير ذلك.
ولمن أراد البحث المستفيض فالأقوال مبسوطة في مظانها عند أهل التفسير فليرجع إليها، والله تعالى أعلم. الباحث.
وقال الله في حق أول رسله لأهل الأرض وهو نوح عليه السلام: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ)[القمر: 9]، فشرفه بعبوديته له سبحانه.
وقال في وصف عبوديته وإيمانه: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 81]،
وقال في وصف عبوديته وشكره: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)[الإسراء: 3]،
وقال في حقه وحق لوط واصفًا عبوديتهما وصلاحهما عليهما السلام:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ([التحريم: 10].
وفي وصف أبي الأنبياء وخليل الرحمن قال تعالى: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 81]، وقال في وصفه أيضًا ووصف بعض النبيين من ذريته:(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى وَالأبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الأخْيَارِ)[ص: 45 - 48].
وقال في وصف كليمه موسى بن عمران ووصف أخيه هارون: (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 122].
وقال في وصف بيان أول ما نطق به عيسى ابن مريم عليه السلام في المهد أنه: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ)[مريم: 30]، وقال عنه أيضًا:(لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ)[النساء: 172].
وقال في حقه أيضًا: (إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ)[الزخرف: 59].
"فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى. "
(1)
المطلب الثالث: عبودية عموم المرسلين عليهم السلام
-
والعبودية كذلك هي أعظم وأجل وصف لخيرة الله من خلقه الذين اصفاهم الله لرسالاته وليكونوا سفرائه بينه وبين خلقه، وهم رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام.
(1)
مدارج السالكين: (1/ 102 - 103).
قال عز وجل: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ)[الصافات: 171]، فنسب عبوديتهم له سبحانه وهذا نسب تشريف وتكريم لهم عليهم السلام أجمعين.
وقال تعالى في وصفهم أيضًا: (قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)[النمل: 59]،
وقال سبحانه عنهم أيضًا: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)[النحل: 2]،
وقال سبحانه مزكيًا عبادتهم له سبحانه أيضًا: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء: 73].
عبودية بعض الأنبياء عليهم السلام أجمعين:
إنه لما كانت الغاية الأولى من بعثة الرسل جميعًا هي دعوة الخلق إلى توحيد الخلق وإفراده سبحانه- بالألوهية ونفيها عن كل ما سواه من خلقه، كانوا هم أولى الناس بتحقيق التوحيد واستحقاق لفظ العبودية لأنهم قدوة لأقوامهم، ولذا فقد وصفهم الله في مواطن كثيرة من كتابه بوصف العبودية الذي هو أجلّ الأوصاف وأشرفها، كما وصفهم في قوله سبحانه: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
…
) (النحل: 2).
فكانت العبودية من أجلِّ وأعظم أوصافهم كما في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)(ص: 45 - 47).
فقال سبحانه: (مِنْ عِبَادِهِ) فنسبه إليه نسب تشريف.
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا) أي: الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرًا حسنًا، وقوله:
(أُولِي الأيْدِي) أي: القوة على عبادة اللّه تعالى (وَالأبْصَار) أي: البصيرة في دين اللّه. فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير.
(1)
وقال هنا: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا) فنسبه إليه نسب تشريف - كذلك.
وهنا نورد ذكر عبودية بعض الأنبياء عليهم السلام أجمعين بأعيانهم:
(1)
- تفسير ابن سعدي: (1/ 714). بتصرف يسير.
قال تعالى في وصف عبده داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 17]. أعطي قوّة في العبادة، وفقهًا في الإسلام.
(1)
وقال في مدح عبده سليمان: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 30].
(نِعْمَ الْعَبْدُ (يقول: نعم العبد سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يقول: إنه رجاع إلى طاعة الله توّاب إليه مما يكرهه منه. وقيل: إنه عُنِي به أنه كثير الذكر لله والطاعة.
(2)
وقال في وصف عبده أيوب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ)[ص: 41].
ثم مدح الله عبوديته لما ابتلاه فصبر على البلاء فقال سبحانه: (
…
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، (ص: 44). (إِنَّهُ أَوَّابٌ) و (أَوَّابٌ) على وزن فعَّال، أي: كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإنابة إليه، وما ذلك إلا لكمال عبوديته.
وامتدح الله يوسف واستخلصه لعبوديته واصطفاه لما صبر عن معصيته وتعفَّف عما حرَّم عليه مولاه فقال اللهُ جلَّ في علاه: (
…
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف: 24). وكان من تعففه عمَّا حرَّم الله أن تولَّاه الله ولطف به وصرف عنه السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، وما كان ذلك إلا لاصطفاء اللهِ له لكمال إيمانه وتمام وكمال عبوديته.
وهؤلاء جميعهم من غير أولي العزم من الرسل-عليهم السلام، وقد قاموا بعبوديتهم لله تعالى وحده لا شريك له على أكمل وأتم الوجه كما أمرهم الله تعالى، فامتدحهم - سبحانه- ووصفهم بوصف العبودية التي هي من أجلِّ وأعظم الأوصاف.
وقد اتضح فيما مضى أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية النبين والمرسلين على البشر وهما:
أولاً: أن الله تعالى اصطفاهم على عموم البشر فخصهم برسالته
وبإبلاغ الحق للخلق، فهم سفراء بين الله وبين عباده.
(1)
- تفسير الطبري: (23/ 162).
(2)
- المرجع السابق: (23/ 182).
ثانيًا: أنهم أفضل الخلق وأعلاهم منزلة وقدرًا لكمال عبوديتهم لربهم
جلَّ في علاه، وذلك أنهم لمَّا حققوا عبوديتهم لله تعالى على أتم وأكمل الوجوه أضحوا أعلى الخلق وأتمهم عبودية لخالقهم جلَّ في علاه، ولذلك فهم أكمل الخلق وأفضلهم جميعًا ..
المبحث الثاني: عبودية عموم البشر
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: عبودية الصحابة رضي الله عنهم
-
تقدم معنا بيان أعلى الخلق رتبة في العبودية وهي رتبة النبيين والمرسلين، وأن أعلاهم رتبة أولي العزم منهم، ثم تلي هذه الرتبة رتبة أنصار النبيين والمرسلين على دينهم الذين يأخذون بهديهم ويزودون عن دين ربهم، وأفضل هؤلاء قاطبة أصحاب خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فهم رضي الله عنهم خير أصحاب لخير نبي.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه:
"إنَّ اللهَ نظرَ في قلوبِ العبادِ فوجدَ قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوبِ العبادِ فاصطفاهُ لنفسِهِ فابتعثهُ برسالتِهِ.
ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ فوجدَ أصحابه خيرَ قلوبِ العبادِ فجعلهم وُزَرَاءَ نبيِّهِ يُقاتلونَ على دِينِهِ فما رأى المسلمونَ حسنًا فهوَ عندَ اللهِ حَسَنٌ، وما رَأَوا سيِّئًا فهو عندَ اللهِ سيئٌ".
(1)
.
وها هنا نذكر جوانب من أبرز معالم عبوديتهم لله تعالى:
أولًا: التفاضل بينهم
والتفاضل بين الصحابة رضي الله عنهم معلوم لا يخفى ولقد استقرّ قول أهل السنة والجماعة في التفضيل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، على أنهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة: فأفضلهم: أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان، ثم علي-رضي الله عنهم أجمعين، ومما يدل على ذلك، ما ثبت عند البخاري من حديث
(1)
- رواه أحمد (1/ 379) والطيالسي: (246) بإسناد حسن، أحمد شاكر، مسند أحمد:(5/ 211)، وهو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، قال أحمد شاكر: في: مسند أحمد: (5/ 211)، إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه.
ابن عمر-رضي الله عنهما، قال:(كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنُخيَّر أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم) ".
(1)
، ثم
يأتي بعدهم باقي العشرة المبشرين بالجنة، ثم يليهم في الفضل عموم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم أهل بدر، فأهل بيعة الرضوان، ثم عموم الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
ثانيًا: اصطفاء اللهِ تعالى لهم
لقد اصطفى الله عز وجل جيل الصّحابة ليكونوا في طليعة خير قرون هذه الأمة،
كما ثبت عند البخاري رحمه الله من حديث عِمْرَانَ بن الحُصَيَنٍ رضي الله عنه أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال في وصفهم: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قالَ عِمْرانُ: لا أدْرِي: ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ
…
).
(2)
ووصفهم الله تعالى بالخيرية فقال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، (آل عمران: 110)
قال ابن كثير (ت: 744 هـ) رحمه الله
-:
والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، كما قال سبحانه في الآية الأخرى:
(1)
أخرجه البخاري: (3655 - 3698). وهذا الحديث وإن كان من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، لكنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكاية لما كانوا يقولون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم-دون إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم-عليهم. وقد جاء التصريح بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم-لذلك، وأنه كان يبلغه هذا التفضيل فلا ينكره، كما في السنة لابن أبي عاصم (1227)، والسنة للخلال: (577 (.
وكذلك جاء التصريح بإقرار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم عدد وفير في حياته صلى الله عليه وسلم لذلك، كما في مسند الإمام أحمد:(4626).
(2)
- صحيح البخاري: (6695).
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة: 143).
(1)
وهذه الآية وإن كانت عامة في الأمة كلها كما قال الحافظ ابن كثير، غير إن جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم في طليعة هذه الأمة لأنهم خير القرون، ولأنهم خير من قام بمهام الدين كلها ولا سيما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاءت الخيرية منوطة بالقيام به مقترنًا بالإيمان بالله في هذه الآية.
وإن كان المعني بالخطاب في هذه الآية الكريمة في قوله سبحانه: (كُنْتُمْ) هو جيل الصحابة الذين عاصروا الرسالة وعايشوا التنزيل، فهي كذلك تعم كل من أدى شرط الله فيها ممن أتى من بعدهم من عموم الأمة ممن قام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقترنًا بالإيمان بالله تعالى- كذلك-.
قال عمر رضي الله عنه
-:
مَنْ سرَّه أن يكون من هذه الأُمَّة فليؤدِّ شرط الله فيها.
(2)
ثالثًا: كثرة صلاتهم وصحة عبوديتهم لله
قال تعالى في وصف كثرة صلاتهم: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، (الفتح: 29)
وقوله سبحانه: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) أي: وصْفُهم كَثرةُ الصَّلاةِ التي أجَلُّ أركانِها الركوعُ والسُّجودُ.
يَبْتَغُونَ بتلك العبادةِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي: هذا مقصودُهم بلوغُ رِضا رَبِّهم، والوُصولُ إلى ثوابِه.
وقوله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي: قد أثَّرَت العبادةُ - من كَثرتِها
(1)
- تفسير ابن كثير: (3/ 142). تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: محمد حسين شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 هـ.
(2)
- رواه الطبري بسنده في تفسيره (7/ 102)(7612).
وحُسْنِها- في وجوهِهم، حتى استنارت، لَمَّا استنارت بالصَّلاةِ بواطِنُهم استنارت بالجَلالِ ظواهِرُهم.
(1)
وقد تعاملوا مع الله بكل صدق وإيمان وصلاح للنية وإصلاح للطوية، وقد جعلوا حياتهم كله لله ولإعلاء كلمته ونصرة دينه، وقد تمثل ذلك في كلّ حركاتهم، وسَكَناتهم، حتى أضحت العبادة ملئ قلوبهم، وتحقيق كمال العبوديّة لله تعالى بإخلاص واتباع- أسمى أمانيهم.
رابعًا: سبقهم للإيمان وصحبة النبيِّ العدنان صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ)، (التوبة: 100).
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ). أي: وأصحابُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الذين سَبَقوا المُسلِمينَ أوَّلًا إلى الإيمانِ، مِن الذين تركوا قومَهم، وفارَقُوا أوطانَهم، ومِن أهلِ المدينةِ الذين نَصَروا الرَّسولَ على الكافرينَ، وآوَوْا أصحابَه المهاجِرينَ.
(2)
خامسًا: هجرتهم في سبيل الله
قال تعالى في حق المهاجرين والأنصار: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الأنفال: 72).
أي: إنَّ المُهاجرينَ الذينَ آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وهجَروا قَومَهم،
(1)
- تفسير ابن سعدي: (ص: 795).
(2)
يُنظر: تفسير ابن جرير: (11/ 637)، تفسير البغوي:(2/ 382)، تفسير ابن سعدي:(ص: 350)، تفسير ابن عاشور:(11/ 17).
وتَرَكوا دُورَهم، وخَرَجوا من أوطانِهم، وأنفَقوا أموالَهم؛ لِنُصرة دينِ اللهِ، وبالَغُوا في إتعابِ أنفُسِهم وبَذلِها في حَربِ الكافرينِ؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله تعالى.
(1)
وقال فيهم - سبحانه - أيضًا-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(الأنفال: 74).
أي: والمؤمِنونَ المُهاجِرونَ الذين قاتَلوا الكُفَّارَ؛ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، والأنصارُ الذين ضمُّوا مَن هاجَرَ إليهم، ونَصَرُوهم، ونَصَروا دينَ اللهِ- أولئك هم الكامِلونَ في
الإيمانِ، الذين حقَّقوا إيمانَهم بفِعلِ ما يقتضيه مِن الهِجرةِ، والنُّصرةِ، والجهادِ في سَبيلِ اللهِ.
(2)
سادسًا: جهادهم في سبيل الله
قال تعالى في وصف جهادهم: (لكِنِ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ جاهَدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم وَأُولئِكَ لَهُمُ الخَيراتُ وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ)(التوبة: 88 - 89).
فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الله، فقدموا أموالهم وأرواحهم رخيصة أمام نصرة دين الله وإعلاء كلمته في الأرض.
وإن خير شاهد لجهادهم وتضحيتهم بالنفس والمال في سبيل الله تعالى غزواتهم التي شاهدوهم مع النبي صلى الله عليهم وسلم، وكذلك إنفاقهم لأموالهم في الإعداد للجهاد، واستمر ذلك البذل وتلك التضحيات في عهد الخلفاء الراشدين- كذلك -
ولقد علمنا أن فتوحاتهم الأمصار الواسعة العظيمة المترامية الأطراف كان على أيديهم رضي الله عنهم أجمعين.
(1)
يُنظر: تفسير الطبري: (11/ 289)، البسيط، للواحدي:(10/ 264)، تفسير ابن عطية، (2/ 555)، تفسير ابن كثير:(4/ 95)، تفسير السعدي:(ص: 327)، العذب النمير، للشنقيطي:(5/ 203).
(2)
- يُنظر: تفسير الطبري: (11/ 299)، تفسير البغوي:(2/ 313)، زاد المسير، لابن الجوزي (2/ 228)، تفسير الشوكاني:(2/ 376)، تفسير السعدي:(ص: 328)، العذب النمير، للشنقيطي:(5/ 224).
سابعًا: صدق إيمانهم بالله
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(التوبة: 119).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
-:
في قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
(1)
ثامنًا: تحليهم بالإيثار مع خصاصتهم
لمَّا كان الإيثَار مِن محاسن الشيم وكريم الأخلاق ونبل الطباع وكريم السجايا التي حث عليه ديننا الحنيف وشرعنا المنيف، وكان من المراتب العالية التي لا ينالها إلا الراغبين فيما عند الله تعالى، كان أحق الناس بالاتصاف به من تأسوا بخير الخلق وأعظمهم خلقًا- صلى الله عليه وسلم، لذا فقد أثنى الله في محكم آياته على إيثارهم، وامتدح فعالهم، ووصفهم بالفلاح.
كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: 9).
قال الطَّبري رحمه الله
-:
يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ) مِن قبل المهاجرين، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ (يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم.
(2)
.
وقال ابن كثير رحمه الله
-:
(1)
- تفسير ابن كثير: (4/ 231).
(2)
- تفسير الطبري: (22/ 527).
أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
(1)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة.
(2)
تاسعًا: انتسابهم للأمة الوسط الشاهدة على الأمم
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة: 143).
قال الطبري رحمه الله
-:
فمعنى ذلك: وكذلك (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي.
(3)
وقال ابن كثير رحمه الله
-:
(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) قال: لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
(4)
قال الكلبي رحمه الله
-:
(1)
- تفسير ابن كثير: (8/ 70).
(2)
- منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(7/ 129). منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ) المحقق: محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م عدد المجلدات:9.
(3)
- تفسير الطبري: (2/ 8).
(4)
-تفسير ابن كثير: (1/ 181).
(وَسَطًا): يعني: أهل دين وسط، بين الغلو والتقصير، لأنهما مذمومان في الدين.
(1)
عاشرًا: عموم فضائل الصحابة
الصحابة- رضي الله عنهم لهم السبق في كل خير وفضل وبر، فلقد تحلوا بأمهات الفضائل من صدق الإيمان بالله وصحة العلم وسلامة العمل والدعوة إلى الله ونشر الإسلام والنصح لعباد الله والهجرة والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، والقيام بواجبات الدين كلها ونشروا كل هذه الفضائل بين هذه الأمة، ولذا لن تجتمع أمهات الفضائل ومحاسن هذه الدين في أي جيل مثلما اجتمعت واكتملت لهم - رضوان الله عليهم أجمعين.
قال ابن مسعود (ت: 32 هـ) رضي الله عنه
-:
الصحابة أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه،.
(2)
. فحبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة.
(3)
لذا فقد امتاز جيلهم بالفهم الصحيح للإسلام وبكمال العلم والعمل بأركانها ومبادئه وأوامره وأخلاقه، مقرونًا بصحة المعتقد وكمال الإيمان، مصوبًا بحسن التأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ويعود ذلك أولًا لمحض فضل الله عليهم، وذلك باصطفائه سبحانه- لهم واختيارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون في طليعة الرعيل الأول من خير قرون هذه الأمة.
المطلب الثاني: عبودية حواريي الأنبياء وأصحابهم
ثم تليهم في رتبة العبودية لرب البرية، رتبة حواريي الأنبياء وأصحابهم وعموم أتباع الرسل كمريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم زوج فرعون، وكالذين ورد ذكر
(1)
- حكاه البغوي في تفسيره: (1/ 122)
(2)
تفسير القرطبي: (1/ 60)، وروى نحوه أبو نعيم في الحلية:(1/ 305) من قول ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
- السنّة للإمام أحمد رحمه الله (77/ 78).
طرف من أخبارهم في القرآن، كمؤمن آل فرعون، ومؤمن آل ياسين، وكذلك سحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام واتبعوه، وكذلك أصحاب الكهف، وغلام الأخدود والذين آمنوا معه، وغيرهم كثير كعلماء كل أمة لأنهم ورثة الأنبياء.
ثم تليهم رتبةَ، رتبةُ المنعمِ عليهم المذكور شأنُهم في سورة النساء بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أجمعين في قوله تعالى:(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(النساء: 69)، وإن كان من سبق ذكرهم يدخل في جملة تعداد المنعم عليهم، وهذا محض فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ثم يليهم رتبة في العبودية، رتبة عموم الخلق كل بحسب تحقيق عبوديته لخالقه ظاهرًا وباطنًا.
المطلب الثالث: عبودية عموم الخلق
وإن الكلام على عبودية عموم الخلق قد سبق بحثه وهنا نشير إليه - مقتضبًا- فحسب.
وقد قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذريات: 56)، وهذا يشمل جميع المكلفين من عموم الثقلين
كما أنه قد مر معنا في طيات البحث أن عموم الخلق يشملهم وصف العبودية، فمنهم منهم من أقبل على عبودية الله طائعًا مختارًا، ومنهم من شرد عن عبودية الاختيار فقهره الله بعبودية القهر والغلبة التي لا تنفك عن أهل الجحود والنكران، كما أن عبودية الطاعة والاختيار تميز به عباد الله الأبرار.
أما أهل عبودية الاختيار:
فاندرجوا بتلك العبودية تحت عبودية توحيد الألوهية، فألَّهوا ربهم وعبدوه وعظموه وعبدوه خوفًا وطمعًا، ورغبًا ورهبًا.
وأما أهل عبودية الغلبة والقهر:
فإنهم خرجوا عن مسمى الألوهية فَغُلِبوا وقُصِرُوا قَهرًا تحت مسمى الربوبية.
من هنا يتجلى الأمر ويتضح أن الخلق جميعًا شاء أم أَبَوا كلهم عبيد لله، فإن أقبلوا على ربهم طائعين مختارين فقد حازوا شرف السبق واندرجوا تحت عبودية التكريم والتشريف، وإن انتكبوا الصراط وامتنعوا عن قبول كرامة الله والدخول تحت مسمى تلك العبودية فإن الله قد قهرهم وغلبهم على أمرهم وقصرهم على عبودية القهرة والغلبة ذليلين صاغرين لأنه- سبحانه- هو خالقهم ورازقهم ومحيهم ومميتهم وباعثهم ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم، فليس لهم من مهرب ولا مفر ولا محيص عن تلك العبودية ولا انفكاك لهم عنها بحال من الأحوال.
الفصل الثالث
عبودية الملائكةِ والجنِّ
وفيه مبحثان
المبحث الأول: عبودية الملائكةِ
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالملائكة
عالم الملائكة عالم كريم، وهو غير عالم الإنس وغير عالم الجن، وهو عالم كله طهر وصفاء ونقاء، لأنهم لم تغرس فيهم الشهوة الحيوانية ولم تركب فيهم المعصية الآدمية، وهم كرام على ربهم، وهم يعبدون الله كما أمرهم وجبلهم، وهم كما وصفهم الله:(لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(التحريم: 6).
أ- الملائكة لغة:
"والملك أصله: أَلكَ، والمألكة، والمألكُ: الرسالة. ومنه اشتق الملائك؛ لأنهم رسل الله.
وقيل: اشتق من (لَ أك) والملأكة: الرسالة، وألكني إلى فلان؛ أي: بلغه عني، والملأك: الملك؛ لأنه يبلغ عن الله تعالى.
وقيل: الملك من الملك. قال: والمتولي من الملائكة شيئًا من السياسات يقال له مَلَك، ومن البشر مَلِك. "
(1)
.
ب- الملائكة اصطلاحًا:
"خلق من خلق الله تعالى، خلقهم الله عز وجل من نور، مربوبون مسخرون، عباد مكرمون، (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، لا يوصوفون بالذكورة ولا بالأنوثة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله. "
(2)
وقد نقل السيوطي عن الفخر الرازي: "أن العلماء اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون".
(3)
وعلاقتهم بالله سبحانه وتعالى، هي علاقة عبودية وخضوع وذل وطاعة مطلقة غير مشوبة بمعصية أبدًا.
المطلب الثاني: حكم الإيمان بالملائكة
والإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بها.
(1)
يُنظر: بصائر ذوي التمييز، للفيروز آبادي:(4/ 524 (. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز المؤلف: مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادى (المتوفى: 817 هـ) المحقق: محمد علي النجار الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة عدد الأجزاء:6.
(2)
- لوامع الأنوار البهية: (1/ 447)، أعلام السنة المنشورة:(ص: 78)، الإيمان-محمد نعيم ياسين:(ص: 32)، علام الملائكة الأبرار-عمر سليمان الأشقر:(ص: 13).
(3)
الحبائك في أخبار الملائك: (ص: 264).
فيؤمن العبد بوجودهم، ويعتقد ذلك اعتقاد جازمًا وأنهم قد خُلِقوا من نور، وأنهم قائمون بمهامهم التي أمرهم ربهم وتعبدهم بها، ويؤمن بما ثبت لهم من صفات وخصال وأعمال في الكتاب والسنة كذلك، بغير زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل، والعبد غير مكلف بالتنقيب والبحث عما لم يؤمر به ولم يُحِط به علمًا عن عالم غيبي أُمِرَ بالإيمان به جملة، وأمر بالإيمان بهم وبأسمائهم وبوصفهم وأعمالهم وبكل ما ورد عنهم عن طريق الوحي المبين تفصيلًا-وكفى- فلا دخل للعبد فيما استأثر الله سبحانه بعلمه عنهم ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه.
قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)(البقرة: 285).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: (الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ)
(1)
وفي حديث جبريل المشهور عند مسلم: قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ:(أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)، قَالَ: صَدَقْتَ. الحديث.
(2)
ومن لم يؤمن بوجودهم ولم يقر ويعترف بهم فهو كافر بالله تعالى بإجماع المسلمين، كما قال سبحانه في محكم كتابه:(وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا)(النساء: 136)
وقال سبحانه - أيضًا -: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)(البقرة: 98)
المطلب الثالث: مكانتهم وخلقتهم
وهم ليسوا على مقدار واحد في المقام والمكانة والشرف والقدر عند ربهم كما قال تعالى عنهم: (وما منَّا إلاَّ له مقامٌ معلومٌ)(الصافات: 164)
(1)
رواه البخاري: (4777) ومسلم): 9)
(2)
- رواه مسلم (8).
وسيأتي معنا بيان ذلك بإذن الله.
وهم متفاوتون كذلك في الخلقة أيضًا، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة كما قال تعالى:(الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(فاطر: 1).
ومنهم من هو فوق ذلك كما ثبت أن لجبريل ستمائة جناح كما سيأتي بإذن الله.
المطلب الرابع: أعداد الملائكة
وأعدادهم لا يحصيها خلق أبدًا، فهم جم غفير لا يحصيهم إلا خالقهم كما قال سبحانه وتعالى:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)(المدثر: 31)،
وفي صحيح مسلم عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)
(1)
.
فيكون بذلك مجموع من يجرون جهنم من الملائكة يوم القيامة هو حاصل ضرب سبعين ألف في سبعين ألف، أي: أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك من الملائكة الكرام.
ويكفي في ذلك دخول سبعين ألف ملك للبيت المعمور كل يوم يصلون فيه ولا يعودون كما سيأتي بيان ذلك في موضعه بإذن الله تعالى.
المطلب الخامس: مهام ووظائف الملائكة
والملائكة مع كمال عبوديتهم لله، فإنهم مكلفون أيضًا بتدبير شؤون الخلق بأمر من الله تعالى وتنفيذ ما قدره الله تعالى بعدله وحكمته وإرادته جل في علاه.
ومن أعمالهم أيضًا الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم وإعانتهم على طاعة الله وحثهم على الخير ودفع الأذى والشر عنهم ونصرتهم وتأييدهم وتثبيتهم.
وقد ورد في الكتاب والسنة الكثير من أعمالهم ومهامهم التي وكلها الله إليهم.
ومن التكاليف والمهام الأعمال التي تقوم بها الملائكة ما يختص بعالم الغيب، مما أخبرنا الله عنه ومن ذلك:
(1)
- صحيح مسلم-كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين: (2842). سنن الترمذي - صفة جهنم: (2573).
1 -
حملة العرش ومن حوله ولهم مهام عظيمة:
قال تعالى مبينًا مهمتهم: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)(الحاقة: 17).
وقال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)(غافر: 7).
ومما ورد في عِظَمِ خلقتهم:
ما ثبت عند أبي داود وصححه الألباني رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُذن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله، من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام. "
(1)
ومما ورد في عظم خلقتهم أيضًا وعبوديتهم لله تعالى ما ثبت عند الطبراني في معجمه الأوسط وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من
حملة العرش، رجلاه في الأرض السفلى، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت".
(2)
.
2 -
ومنهم جبريل عليه السلام
-:
وهو من أشرف الملائكة الكرام، ذلك لأنه وُكِلَ بأشرف المهام وأعظمها وأجلها، ألا وهي النزول بالوحي من عند الله على رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام أجمعين، والوحي به حياة القلوب.
كما قال ربنا: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 192 - 195). والروح الأمين هو جبريل عليه السلام.
وهو كذلك من أقرب المقربين من رب العزة جل في علاه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)(التكوير: 19 - 21).
وهو مع وصفه بالأمين فهو القوي كذلك كما وصفه الله بقوله سبحانه: (عَلّمَهُ شديدُ القُوَىَ ذُو مِرَّةٍ فاسْتَوَى)(النجم: 6 - 7).
(1)
- صحيح سنن أبي داوود للألباني: (3/ 895). ورقمه: (9353).
(2)
صحيح الجامع الصغير. الطبعة الثالثة: (1/ 208). ورقمه: (853).
ولقد رأى النبيُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها مرتين، أما الرؤية الأولى: فقد وقعت في الأرض في بداية نزول الوحي، وتتابع الوحي بعدها فنزلت بعدها سورة المدثر.
ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ - أي انقطاع - الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - إلى - والرجز فَاهْجُر)
(1)
.
وهذه الرؤية هي التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ)(التكوير: 23)
قال ابن كثير رحمه الله
-:
"يعني: ولقد رأى محمدٌ جبريلَ الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) أي: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء (موضع بمكة)، وهي المذكورة في قوله:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)(النجم: 5 - 10)، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره، والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل عليه السلام. والظاهر-والله أعلم -أن هذه السورة - يعني سورة التكوير -نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية، وهي الأولى.
وأما الثانية: وهي المذكورة في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)(النجم: 13 - 16)، فتلك إنما ذكرت في سورة " النجم "، وقد نزلت بعد سورة الإسراء " انتهى.
(2)
قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: "رأى جبريلَ له ستمائة جناح".
(3)
وهذا ما قرره العلماء.
(1)
- رواه البخاري: (4641) ومسلم: (1616).
(2)
-تفسر ابن كثير: (8/ 339).
(3)
رواه البخاري: (3232)، ومسلم:(174).
و"الذي تقرره الأدلة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها مرتين اثنتين فقط، وقد عد السيوطي رحمه الله هذا الأمر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم".
(1)
قال النووي رحمه الله
-:
"وهكذا قاله أيضا أكثر العلماء، قال الواحدي: قال أكثر العلماء: المراد رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها" انتهى.
(2)
.
3 -
ومنهم ميكائيل عليه السلام
-:
ميكائيل: وهو الملك الموكل بالقطر وإنزال الأمطار التي بها خِصْبُ الأرض وحياتها وبها ينبت النبات وتحيا المخلوقات، إنسها وبهيمها.
وقد وكل الله لميكائيل أعوانًا من الملائكة يقومون بتصريف الرياح وتوجيه السحب وصرفها حيث يشاء الله تعالى. وهو ثاني ملك بعد جبريل جرى في الفضل والمكانة، ولذا نُصَ على اسمه صراحة في كتاب الله تعالى؛ (هو وجبريل) عليهما السلام.
وهو في تعداد أشراف الملائكة المقربين، وقد تعددت رؤيةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لميكائيلَ.
وذلك لما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكًا قط؟ قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ".
(3)
(1)
- الخصائص الكبرى: (1/ 197).
(2)
- شرح النووي على مسلم: (3/ 7).
(3)
-"ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. " ضعيف: (4454)، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة.
والحديث: أخرجه أحمد (3/ 224) عن إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية الأنصاري: أنه سمع حميد بن عبيد مولى بني المعلى يقول: سمعت ثابتًا البناني يحدث عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أنه قال لجبريل عليه السلام:
"ما لي لم أر ميكائيل ضاحكًا قط؟ " قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ فيه علتان: الأولى: جهالة حميد هذا؛ قال في "التعجيل: "لا يدري من هو؟ ".
والأخرى: إسماعيل بن عياش؛ في روايته عن المدنيين ضعف، وهذا منها.
ثم وجد له الشيخ رحمه الله -طريقا أخرى وشاهدًا، فخرجه في " الصحيحة
برقم: (2511 (من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، " السلسلة الصحيحة " (6/ 739).
4 -
ومنهم إسرافيل عليه السلام
-:
وإسرافيل عليه السلام هو: الملك الموكل بالنفخ في الصُّوُرِ، والصور هو (القَرْن)، وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما-عند أبي داوود والترمذي وأحمد وصححه الألباني، قال: سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصُّور؟ فقال: (قرنٌ ينفخ فيه).
(1)
وهو في تعداد أشراف الملائكة المقربين، ولم يرد اسمه بنصٍ صريح في القرآن الكريم بل ورد اسمه على لسان المعصوم صلى الله عليه وسلم.
أما حجم خلق إسرافيل عليه السلام وعدد أجنحته فلا يعلم الباحثُ نصًا صحيحًا صريحًا في هذا الصدد ولكن عندما يُتصورُ حجمُ الصُّورِ (البوق)، يُعلم تخيل حجمه عليه السلام وعظيم خلقته، وهذه أمور كلها غيبية لا دخل في تصور العقل لها وما يملك المؤمن إلا الإيمان بها كسائر المغيبات.
وإسرافيل عليه السلام لشرفه ومكانته عند ربه قد شهد بدرًا مع جبريل وميكائيل
عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولأبي بكرٍ يومَ بدرٍ: "مع أحدِكُما جبريلُ، ومع الآخر ميكائيلُ؛ وإسرافيلُ ملكٌ عظيمٌ يشهدُ القتال، أو قال: يشهدُ الصفَّ. "(قاله لعليٍّ ولأبي بكر). "
(2)
.
(1)
أبو داود (4742) كتاب السنة، والترمذي (2430) كتاب صفة القيامة، وقال: هذا حديث حسن، وأحمد (6805) وزاد أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، والدارمي (2798) كتاب الرقاق، واللفظ له، وصححه الألباني في الصحيحة:(3/ 154).
(2)
-أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12/ 16/ 12002)، وأحمد (1/ 147)، وابن سعد في "الطبقات "(3/ 175 - 176)، والبزار (2/ 14/ 1765)، وأبو يعلى (1/ 283 - 283)، وابن أبي عاصم في "السنة"(2/ 574 - 575)، والحاكم (3/ 68) من طريق مِسعَر عن أبي عون الثقفي عن أبي صالح الحنفي عن علي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم -ولأبي بكر-رضي الله عنه-يوم بدر: فذكره. وقال الحاكم: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وأقره الحافظ في "الفتح " (7/ 313). وقال البزار:"لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم -إلا بهذا الإسناد".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (6/ 85) رجاله رجال الصحيح، وقال أحمد شاكر في مسند أحمد:(2/ 308) إسناده صحيح، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة-المجلد السابع:(7: 725) برقم: (3241).
وأشراف الملائكة هم من شهدوا غزوة بدر، ففي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري الخزرجي
(1)
: أن جبريل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما
تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
(2)
.
وقد بلغ من ذله وعبوديته لربه وتعظيمه لأمره أنه منذ أن وِكِلَت إليه هذه المهمة العظيمة الجليلة لم يفتأ ينظر إلى عرش ربه ينتظر متى يؤمر بالنفخ في الصور حال صدور أمر ربه جل في علاه، فقد ثبت عند الحاكم وصححه الألباني رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن طَرْفَ صاحبِ الصُّور مُذْ وكِّل به مستعدٌّ ينظرُ نحو العرش مخافةَ أن يُؤمَر قبل أن يرتدَّ إليه طَرْفُه، كأن عينيه كوكبانِ دُرِّيَّانِ. "
(3)
وقد وقع خلاف بين العلماء في النفخ في الصور، هل هو نفختان، أم ثلاث نفخات؟ والراجح أنهما نفختان اثنتان، أما النفخة الأولى فهي نفخة (الصَعْق) وأما النفخة الثانية فهي نفخة (البعث).
(1)
- رفاعة بن رافع بن مالك (المتوفي سنة 41 هـ)، صحابي من بني زريق من الخزرج، شهد بيعة العقبة الثانية، والمشاهد كلها مع النبي محمد. كما شهد وقعتي الجمل وصفين مع علي بن أبي طالب، وتوفي في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان. وانظر: الإصابة في تمييز الصحابة -رفاعة بن رافع، عن موقع الموسوعة الحرة:(ويكيبيديا).
(2)
- رواه البخاري: (7/ 312) ورقمه: (3992).
(3)
أخرجه الحاكم (4/ 603)، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في الفتح (11/ 368): سنده حسن، وصححه الألباني في الصحيحة (1078).
كما دل على ذلك قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: 68).
ويقول الإمام ابن باز (ت: 1420 هـ) رحمه الله
-:
" الصور قرن عظيم، ينفخ فيه إسرافيل النفخة الأولى للموت والفزع، والنفخة الثانية للبعث والنشور. هاتان النفختان جاء بهما القرآن الكريم. إحداهما يقال لها: نفخة الصعق، ويقال لها: نفخة الفزع، وبها يموت الناس، والثانية نفخة البعث، وقال جماعة من العلماء: إنها ثلاث: نفخة الفزع، وقد يفزع الناس فقط، ثم تأتي بعدها نفخة الموت،
ثم نفخة البعث والنشور. والمحفوظ نفختان فقط، كما دل عليهما كتاب الله العظيم " انتهى.
(1)
5 -
ومنهم ملك الموت عليه السلام
-:
قال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(السجدة: 11)
قال ابن كثير رحمه الله
-:
"الظَّاهِر مِنْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ مَلَك الْمَوْت شَخْص مُعَيَّن مِنْ الْمَلَائِكَة كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَر".
(2)
.
وهو الذي "يتوفى أرواح جميع الخلائق"
(3)
.
وملك الموت له أعوان من الملائكة كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: 61).
ومن مشاهد العبودية هنا قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) أي: لا يقصرون في قبض روح أحدكم طاعة لله وإنفاذًا لأمره جل في علاه.
قال الطبري رحمه الله
-:
"إن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت، فكيف قيل: (توفته رسلنا)، و"الرسل" جملة، وهو واحد؟
(1)
- فتاوى نور على الدرب: (4/ 327).
(2)
تفسير ابن كثير: (6/ 360 - 361).
(3)
- القرطبي: (14/ 87).
قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده، فيتولون ذلك بأمر ملك الموت فيكون" التوفي " مضافًا إلى ملك الموت، كما يضاف قتلُ من قتله أعوانُ السلطان، وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان، وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده ".
(1)
وقال القرطبي رحمه الله
-:
"والتوفي تارة يُضاف إلى ملك الموت، كما قال:(قل يتوفاكم ملك الموت)
وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في قوله:(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة، كما قال:(الله يتوفى الأنفس حين موتها) ".
(2)
، وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)(النساء: 97).
وقال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)(النحل: 28).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت: 1393 هـ) رحمه الله
-:
"فتحصل أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله تعالى: " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " (السجدة: 11)، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح. وأن إسناده للملائكة في قوله: " فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ " (محمد: 27)، ونحوها من الآيات لأن لملك الموت أعوانا يعملون بأمره.
وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)(الزمر: 42)، لأن كل شيء كائنا ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره والعلم عند الله".
(3)
ولم يثبت في ذلك حديث صحيح تسميته ملك الموت عليه السلام بـ "عزرائيل" كما هو مشهور عند الكثير من عموم الخلق قديمًا وحديثًا.
قال ابن كثير رحمه الله
-:
"وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل".
(4)
.
(1)
-تفسير الطبري: (11/ 410).
(2)
تفسير القرطبي: (7/ 7.).
(3)
أضواء البيان للشنقيطي: (6/ 504).
(4)
البداية والنهاية لابن كثير: (1/ 42). البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: دار الفكر عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15.
وقال المناوي رحمه الله
-:
بعد أن ذكر أن ملك الموت اشتهر أن اسمه عزرائيل، قال:"ولم أقف على تسميته بذلك في الخبر".
(1)
.
وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله
-:
"عزرائيل: خلاصة كلام أهل العلم في هذا: أنه لا يصح في تسمية ملك الموت بعزرائيل -ولا غيره- حديث، والله أعلم. "
(2)
والمشهور عند أهل التحقيق أن شيوع هذا الاسم من الإسرائيليات، والآثار الواردة في هذا الصدد لم يقف الباحث لها على شيء ثابت يصلح الاحتجاج به.
6 -
ومنهم عموم الملائكة:
ومن الملائكة الكرام أيضًا رضوان خازن الجنة وأعونه، ومالك خازن النار وأعوانه، وزبانية جهنم وهم تسعة عشر ملكًا، وهناك الحفظة، والكرام الكاتبون، ومنهم الموكلون بسؤال القبر وفتنته، وهما منكر ونكير، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم القرين الذي يحث المؤمن على الخير ويدعوه إليه ويؤزه عليه أزًا، ومنهم من يشهدون جنائز المتقين من عباد الله كما شيع سبعون ألف ملك جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه، ومنهم ملائكة سيارة يلتمسون حلق الذِّكر ومجالس العلم، ومنهم من يتعاقبون على العباد في أوقات الصلوات وغيرها، ومنهم من يكتب أسماء المصلين يوم الجمعة في المساجد، ومنهم من لهم أعمال غير ذلك، وغيرهم كثير مما لا يحصيهم غير خالقهم سبحانه وتعالى.
(1)
- فيض القدير: (3/ 32). فيض القدير شرح الجامع الصغير المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ) الناشر: المكتبة التجارية الكبرى - مصر الطبعة: الأولى، 1356 عدد الأجزاء:6.
(2)
معجم المناهي اللفظية: (ص: 390).
المطلب السادس: عبادة الملائكة
وبعد هذا البيان الوارد في شأن الملائكة الكرام من وصفٍ لخلقتهم ومكانتهم وشرفهم وقدرهم عن ربهم وما وِكِلَ إليهم من مهام عظام وأعمال كبيرة جسام، فهم مع ذلك كله مربوبون مسخرون لخالقهم مطيعون غير خارجين عن أمره وعن طاعته وعبادته، فهم مفطورون على العبادة، ومجبولون عليها، والعبودية وصفٌ لازم لهم، وهم من أشرف الخلق وأكرمهم على ربهم سبحانه وتعالى، وقد وُصِفُوا في كتاب الله بأشرف وصف كما قال سبحانه:(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(الأنبياء: 26 - 27).
وقال الله تعالى في وصف طاعتهم المطلقة له سبحانه بأنهم: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). (االتحريم: 6).
وقال في وصف عبادتهم وذكرهم له سبحانه: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)(الأنبياء: 19، 20).
وقال سبحانه: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)(الشورى: 5).
ووُصِفُوا بأنهم يخافونه سبحانه من فوقهم؛ كما قال ربنا: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل: 50]، وَوُصِفَت خشيتُهم له سبحانه في قوله تعالى:(وَهُمْ مشْفِقُونَ)(الأنبياء: 28) ووُصِفَ ذُلُهم وخُضُوعُهم وصنوفُ عباداتهم لله في قوله سبحانه:
(إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)[الأعراف: 206]،
وقد ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير)
(1)
.
ومن مشاهدة عبوديتهم وصلاتهم يوميًا في الملأ الأعلى ودخولهم البيت المعمورة للصلاة فيه ما ثبت في الصحيحين حديث منْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنهما،
(1)
- البخاري): 4800).
في حديث المعراج الطويل أن الملائكة كل يومٍ تدخلُ البيتَ المعمور في السماوات العلا تُصلِّي لله تعالى فيه، وفيه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَرُفِعَ لِي البَيْتُ المَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: هَذَا البَيْتُ المَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ".
(1)
ومن مشاهدة عبوديتهم كذلك: مَن حاله منهم القيام الدائم لله، ومَن حاله منهم السجود الدائم لله تبارك وتعالى، يبين ذلك ما ثبت عندي الطبراني في الكبير وصححه الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة من حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-فِي أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: (تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟) قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: (إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ، وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ، وَمَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ).
(2)
وما ثبت كذلك عند الترمذي وحسنه الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع منْ حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ".
(3)
فسبحان من سجدت له الأملاك كلها.
المبحث الثاني: عبودية الجنِّ
وفيه ثلاثة مطالب:
(1)
رواه البخاري (3207) ومسلم (164).
(2)
-رواه الطبراني في الكبير (3112) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 506).
(3)
- رواه الترمذي (2312) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 481) قال ابن الأثير: الأَطِيط صَوْتُ الْأَقْتَابِ. وأَطِيطُ الْإِبِلِ: أصْوَاتُها وحَنِينُها. أَيْ أَنَّ كَثْرَةَ ما فيها من الملائكة قد أثقلها حَتَّى أَطَّتْ. وَهَذَا مَثَلٌ وَإِيذَانٌ بِكَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَم أَطِيطٌ، وَإِنَّمَا هُوَ كلامُ تَقْرِيبٍ أُرِيدَ بِهِ تَقْرِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 54)
الجن عالم مستقل غير عالم الإنس وعالم الملائكة، وبينهم وبين الإنس قدر مشترك عقلًا وإدراكًا وحسًا وتكليفًا وتميزًا بين الحق والباطل وبين الخير والشر، وإن كانوا يخالفون الإنس في بعض الأمور.
وسموا جنًّا لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون،
المطلب الأول: التعريف بالجنِّ
أ- الجن لغة:
قال ابن عقيل:
" إنما سمّي الجن جنًّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينًا، وسمّي المجنّ مجنًا لستره للمقاتل في الحرب "
(1)
.
" وأصل الجن: ستر الشيء، تقول جنه الليل، وجن عليه فجنه ستره، يقول تعالى:(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)(الأنعام: 77)، أي ستر عليه وأظلم، والجنان: القلب لكونه مستورًا.
والجنين: الولد ما دام في بطن أمه، فهي تفيد معنى الاستتار والاختفاء. "
(2)
ب- الجن اصطلاحًا:
"إن الجن عالم من العوالم الغيبية التي نصدق بوجودها ونؤمن بأن هذا العالم يستحيل علينا تعريفه بعيدًا عن الوحي، وأي محاولة لتعريف هذا العالم خارج دائرة الوحي تعتبر ضربًا من العبث لا دليل تقوم عليه، وقد حاول بعض الباحثين والمفسرين تعريف عالم الجن بالاستعانة بالوحي، منهم:
محمد فريد وجدي (ت: 1373 هـ) يقول رحمه الله
-:
"الجن نوع من الأرواح العاقلة المريدة على نحو ما عليه روح الإنسان ولكنهم مجردون من المادة، ليس لنا علم بهذا النوع من الأرواح إلا ما هدانا إليه القرآن العظيم من أنهم عالم قائم بذاته وأنهم قبائل وأن منهم المسلم ومنهم الكافر".
(3)
ويقول محمود حجازي (ت: 1392 هـ) رحمه الله
-:
(1)
آكام المرجان في أحكام الجان: ص 7.
(2)
يُنظر: مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني: ص 203 - 204، دار القلم بدمشق 1418 هـ -1997 م
(3)
- دائرة معارف القرن العشرين: (ج: 3 ص: 185) ط: الثانية.
"الجن عالم غير عالمنا مستتر لا يُرى، الله أعلم بحقيقته ولا نعرف عنه إلا ما أخبرنا به الحق أو رسوله صلى الله عليه وسلم في خبره الصحيح فهو مخلوق من نار (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)، (الحجر: 27).
وقد يبعَث لهم الرسل كما نص القرآن الكريم: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ)، (الأنعام: 130). وهم كالبشر سواء بسواء يثاب مؤمنهم ويعاقب كافرهم".
(1)
ويقول الألوسي (ت: 1270 هـ) رحمه الله
-:
"واحده جني، كروم ورومي، وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى:(وَخَلَقَ الجَانَ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ)(الرحمن: 15).
وقيل الهوائية- منهم-، قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة، من شأنها الخفاء وقد ترى بصور غير صورها الأصلية، بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام، وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى من خواص عباده عز وجل، ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلًا أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيبة. "
(2)
وقد خلقهم الله من نار السموم كما قال تعالى: (وَالْجَآنَّ خلقناه من قبل من نّار السَّموم)(الحجر: 27)، (وَالْجَآنَّ)"هو إبليس خُلِقَ قبل آدم، و (نّار السَّموم) " الحارة التي تقتل ".
(3)
وقال سبحانه في سورة الرحمن: (وخلق الجانَّ من مَّارجٍ من نَّارٍ)(الرحمن: 15).
و"الجان" أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار، من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط".
(4)
.
(1)
- التفسير الواضح: (م: 3 ج: 29 ص: 110) ط: الرابعة 1968 م.
(2)
- تفسير الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني:(ج: 29 ص: 102). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270 هـ) المحقق: علي عبد الباري عطية الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 هـ عدد الأجزاء:16.
(3)
الطبري: (17/ 100).
(4)
- الكشاف للزمخشري: (6/ 8).
و"الشيطان أصل الجن، كما أنّ آدم أصل الإنس"
(1)
.
ومما يدلل على أصل خلقتهم من السنة ما ثبت عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقتْ الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
(2)
وإذا أردنا الخروج بتعريف جامعٍ مانعٍ فلابد من تتبع واستقراء تام لنصوص الوحيين لمعرفة ماهية عالم الجن وطبائع هذا العالم الغيبي، ومعرفة صفاتهم الخِلقِة والخُلقية، وقدراتهم الخارقة
لعادات البشر وطبيعة تكوينهم من نار وحقيقة أجسامهم وتشكلهم وما أبيح لهم من طعام وشراب، وتناكحهم وتناسلهم وتكليفهم، وحياتهم وموتهم وحشرهم ونشرهم، وإثابتهم وعقوبتهم، وعلاقتهم بالبشر، الجائز منها والممنوع، والممكن منها والمحال. ونصوص الوحيين ولاسيما السنة فيها تفصل لكثير من الحقائق والأخبار والقصص والوقائع والأحكام المتعلقة بالجن، فلعل الله أن يقيض لها باحثًا لبيبًا يتتبع نصوص الوحيين فيخرج منها ما ذكرنا آنفًا من كل ما يتعلق بالجن فيخرج لنا تعريفًا اصطلاحيًا جامعًا مانعًا شاملًا لكل وصف لهم.
المطلب الثاني: حقيقة وجود الجنِّ وتكليفهم بالعبادة
ولقد دلت نصوص الوحيين على وجودهم حقيقة، وأنهم خُلِقوا لعبادة الله وحده لا شريك له كالإنس تمامًا، وعلى أنهم مكلفون بالإيمان بالله تعالى وبشرائعه، قال تعالى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات: 56).
وأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إليهم كما بُعِثَ إلى الإنس، قال الله تعالى:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). (الأنبياء: 107).
وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا). (الأنعام: 130).
(1)
مجموع الفتاوى: (4/ 235، 346).
(2)
صحيح مسلم: (4/ 2294)، ورقمه:(2996).
" (ألم يأتكم) أي: في الدنيا، (رسل منكم يقصون عليكم آياتي) أي: بالأمر والنهي (وينذرونكم) يخوفونكم: (لقاء يومكم هذا) وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال) قالوا): يعني الجن والإنس: (شهدنا على أنفسنا) أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم، وبتكذيب دعوتهم. "
(1)
ولا شك أن إقرار المؤمنين منهم هو عين العبودية.
لأنه إقرار بأن رسل الله قد أبلغت رسالات ربها وأوضحت السبيل وأنذرت، وأما إقرار الكفار- فهو إقرار اعتراف بعد إقامة الحجة عليهم، فهو إقرار عبودية قهر وغلبة -، لا إقرار عبودية انقياد وخضوع وذل وإذعان.
وأن منهم المؤمن والكافر والبر والفاجر كما قال الله عز وجل عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)(الجنّ: 14 - 15).
"وَ (الْمُسْلِمُونَ) الذين قد خضعوا لله بالطاعة، وَ (الْقَاسِطُونَ) الجائرون عن الإسلام وقصد السبيل".
(2)
وقد ثبت عند مسلم منْ حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ".
(3)
وهم مع إسلامهم متفاوتون في صلاحهم، كما قال تعالى في السورة نفسها:(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)(الجن: 11).
(1)
-تفسير القاسمي: (6/ 130). محاسن التأويل المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332 هـ) المحقق: محمد باسل عيون السود الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1418 هـ.
(2)
- تفسير الطبري: (23/ 661).
(3)
- صحيح مسلم رقم 5976 (ج 7/ ص 40) باب قتل الحية وغيرها. وصفة الإذن والتحريج نسألكم بالله أن لا تؤذنا، ولا تظهروا لنا فإن ظهر بعد ثلاثة أيام فهو شيطان أي كافر لم يسلم فيقتل.
وللاستزادة: انظر: (الأربعين المدنية).
و (الصالحون) هم: " الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح، حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة. (ومنا دون ذلك) أي: قوم دون ذلك وهم المقتصدون. "
(1)
.
و (طرائق قددًا) أي: "فرقًا مختلفة أهواؤنا.
وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القدد: قدة، أي: ضروبًا وأجناسًا ومللًا. وقال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة"
(2)
.
وكذلك منهم اليهودي والنصراني وغيرها من الملل والنحل فهم طرائق قددًا كما ذُكِرَ لنا.
وقد سُئِلَ شيْخُ الإسلام ابن تيميةـ رحمه الله عن الجان المؤمنين:
هل هم مخاطبون بفروع الإسلام كالصوم والصلاة، وغير ذلك من العبادات، أوهم مخاطبون بنفس التصديق لا غير؟
فأجَاب رحمه الله بقوله:
"لا ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنسَ في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم. وهذا ما لم أعلم فيه نزاعًا بين المسلمين. "
(3)
وقد جاء في خبر إسلام أوائلهم في صدر بعثة النبي صلى الله عله وسلم ما ثبت عند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
(1)
- تفسير أبي السعود: (9/ 54)، بتصرف واختصار يسير جدًا من الباحث.
(2)
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي: (8/ 367). تفسير ابن الجوزي = زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
(3)
مجموع الفتاوى: (4/ 233)
"انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالُوا مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ. "
(1)
وهم محاسبون يوم القيامة ومكلفون، ومخاطبون بما جاء في القرآن الكريم، ومن أطاع الله منهم دخل الجنة، ومن عصاه سبحانه دخل النار، كما قال عز وجل:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)(الصافات: 158)،
قال مجاهد: "أنها ستحضر للحساب. "
(2)
أي: "ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه. "
(3)
ويقول ابن سعدي رحمه الله
-:
"أي: جعل هؤلاء المشركون بين اللّه وبين الجنة نسبًا، حيث زعموا أن الملائكة بنات اللّه، وأن أمهاتهم سروات الجن، والحال أن الجِنَّة قد علمت أنهم محضرون بين يدي اللّه، ليجازيهم عبادًا أذلاء، فلو كان بينهم وبينه نسب لم يكونوا كذلك. "
(4)
(1)
- رواه البخاري: (731).
(2)
تفسير الطبري (21/ 122).
(3)
-تفسير ابن عطية: (7: 315). المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المؤلف: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542 هـ) المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
(4)
- تفسير ابن سعدي: (ص/ 708)
وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله في كتاب بدء الخلق من صحيحه الجامع بابًا أسماه: "باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم".
وأن مصير مؤمنيهم وموحديهم الجنة، وأن مثوى كافريهم وعصاتهم النار.
والدليل على أن مؤمني الجن يدخلون الجنة قوله الله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنَّتان فَبِأَيِّ آلاء ربكما تكذبان)(الرحمن: 46 - 47).
فالخطاب في صدر سورة الرحمن للثقلين جميعًا، وما يزال الخطاب هنا متصلًا بهما أيضًا؛ والدليل على أن كفارهم وعصاتهم يدخلون النار قوله تعالى:(قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النَّار)(الأعراف: 38).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)(الأعراف: 179).
وقوله سبحانه في خطاب إبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(ص: 85).
وفي هذا دلالة على أنهم مكلفون ومحاسبون، لأن التكليف يترتب عليه ثواب وعقاب، والثواب والعقاب مترتبان على الاستجابة لله وعدمها، فمن استجاب أُثِيبَ ومن لم يستجب عُقِبَ.
وقد عقد الشبلي بابًا قال فيه: " باب في أن الجن مكلفون بإجماع أهل النظر ".
نقل فيه عن أبي عمر بن عبد البر: أن الجن عند الجماعة مكلفون مخاطبون لقوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 13). وقال الرازي في تفسيره: " أطبق الكل على أن الجن كلهم مكلفون ".
(1)
.
المطلب الثالث: رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع عموم الثقلين
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجنّ والإنس.
يقول ابن تيمية:
(2)
" وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة، وغيرهم.
يدل على ذلك تحدي القرآن الجن والإنس، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
(1)
- غرائب وعجائب الجن، للشبلي: ص 49.
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: 88). وقد سارع فريق من الجن إلى الإيمان عندما استمعوا القرآن: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)(الجن: 1 - 2). "
(1)
"يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه: أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له"
(2)
.
فـ"فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به، وهدايتهم بهديه، وإيمانهم بالله"
(3)
.
وفي استماع الجن للقرآن وإيمانه به ووصفه بأحسن الأوصاف إقرار منهم بالعبودية لله تعالى.
(قُرْآنًا عَجَبًا) أي: "بديعًا؛ مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه"
(4)
.
وفي هذا كله دلالة على فصاحته وبلاغته وحسن مواعظه، وهذا مما لا شك كان له أبلغ الأثر في هداية الجن وسماعهم وإصغائهم لكلام ربهم جل في علاه.
"وهؤلاء الذين استمعوا القرآن وآمنوا هم المذكورون في سورة الأحقاف:
في قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الأحقاف: 29 - 31).
هم: "من أهل نصيبين، فلما حضروا القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم -يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن، وجعلهم رسلًا إلى قومهم".
(5)
.
(1)
- مجموع الفتاوى: 19/ 9.
(2)
ابن كثير: (8/ 238).
(3)
- أضواء البيان للشنقيطي: (3/ 817).
(4)
- تفسير النسفي: (3/ 548).
(5)
الطبري: (22/ 135 - 140).
"ووفود الجن تلقوا العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك كانت بداية معرفة الجنّ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، استمعوا لقراءَة القرآن بدون علم الرسول صلى الله عليه وسلم، فآمن فريق منهم، وانطلقوا دعاة هداة.
ثمّ جاءَت وفود الجنّ بعد ذلك تتلقى العلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من وقته، وعلمهم مما علمه الله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم خبر السماء
…
وكان ذلك في مكة قبل الهجرة.
روى مسلم في صحيحه عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلتُ: هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناهُ، فالتمسناهُ في الأودية والشعابِ، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلةٍ بات بها قومٌ. فقال:(أتاني داعي الجنّ، فذهبتُ معه، فقرأتُ عليهم القرآن). قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال:(لكم كلُّ عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم؛ أوفر ما يكون لحمًا. وكل بعرةٍ علفٌ لدوابّكم). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعامُ إخوانكم) "
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة الرحمن:
"هذه السورة و " الأحقاف " و " قل أوحي " دليل على أن الجن مخاطَبون مكلَّفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك. "
(2)
قال ابن القيم رحمه الله
-:
وبالجملة: فهذا أمر معلوم باضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع، ووجوب اتباعهم لهم، فأما شريعتنا: فأجمع المسلمون على أن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم
(1)
- رواه مسلم: 1/ 332. ورقمه: 450. وانظر عالم الجن والشياطين: (1: 45).
(2)
-تفسير القرطبي: (17/ 169).
بُعث إلى الجن والإنس، وأنه يجب على الجن طاعته كما يجب على الإنس. "
(1)
وقال رحمه الله أيضُا:
"الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام: أنهم مأمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية، وأدلة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تُحصر. "
(2)
وقال نجم الدين الطوفي (ت: 716 هـ) رحمه الله
-:
والدليل على تكليف الجن بالفروع: الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرسِلَ بالقرآن الكريم إلى الجن والإنس، فجميع أوامره ونواهيه متوجهة إلى الجنسين، وهي مشتملة على الأصول والفروع، نحو (آمِنُوا بِالله) (الحديد: 7)،
(وأقيموا الصلاة)(البقرة: 43)، وقد تضمن هذا الدليل على أن كفار الإنس مخاطبون بها، وكذلك كفار الجن؛ لتوجه القرآن بجميع ما فيه إلى مؤمني الجنسين وكفارهم ".
(3)
ومما يدل على أن الجن كانوا مؤمنين ببعثة الرسل السابقين أيضًا، قوله سبحانه:(إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(الأحقاف: 30).
وهذا كله مما يدلل على عبوديتهم لله سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العالمين.
(1)
-طريق الهجرتين: (ص 616، 617).
(2)
-طريق الهجرتين: (ص: 619).
(3)
- شرح مختصر الروضة: (1/ 218، 219)
الفصل الرابع
عبودية الكائنات
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عبودية الكائنات لله عبودية طاعة وانقياد
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: غني الخالق عن خلقه، وافتقار جميع خلقه إليه
إنَّ الله تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ومن أسمائه الحسنى (الغنيٌّ) فهو غنى عنى تام عن جميع خلقه، وهم فقراء إليه سبحانه فقرًا تامًا، قال سبحانه:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(فاطر: 15).
"بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غني عن خلقه، وأن خلقه مفتقرون إليه، أي: فهو يأمرهم وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم، ولا ليدفع الضر بمعصيتهم، بل النفع في ذلك كله لهم، وهو جل وعلا الغني لذاته الغنى المطلق".
(1)
.
لقد ذلَّ كل شيءٍ لخالقه - سبحانه- وأسلمَ طوعًا وكرهًا، أما أهل الإيمان فقد استسلمَوا له وانقادوا لأوامره بظواهرهم وبواطنهم طوعًا، وأما أهل الكفر والجحود والنكران فقد استسلموا له كرهًا قهرًا وغلبة كما قال - سبحانه- (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران: 83).
وكما قال- سبحانه-: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلن: 11)
فالكون كله خاضع لعبودية الله الواحد القهار لا ينفك أحدُ من خلقه عن عبوديته قهرًا وغلبة.
والكون بأسره خاشع خاضع لكبريائه وعظمته، إذ هو مشغولٌ بخضوعه وذله لربِّه، ولذا ترى الكون كله معظمًا له ساجدًا خاشعًا مسبحًا منزهًا لربه جل في علاه.
ومع ذلك كله ترى جحود الإنسان هذا المخلوق الضعيف، بل هو من أضعفُ المخلوقات وأفقرها إلى ربها، تراه معرضًا عمن لا غنى له عن فضله ورحمته طرفة عين ولا أصغر من ذلك، مُعَرِّضًا بذلك نفسه الضعيفة لسخط جبار السماوات والأرض ومقته وغضبه وعذابه وأليم عقابه.
(1)
-أضواء البيان: (6/ 276).
ومن شواهد غنى الرب عن خلقه وفقرهم التام إليه جل في علاه قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا).
(1)
ومع فقر الإنسان ترى الكون من حوله كله قد دانَ لله تسبيحًا وتعظيمًا وإجلالًا، أرضه وسمائه، وحشه وطيره، كل الكائنات تُصلِّي لله وتخضع.
المطلب الثاني: سجود جميع الكائنات لله وخضوعها لسلطانه
إن عموم الكائنات العلوية والسلفية خاضعة لسلطان الله تعالى لا تنفك عن عبوديتها لخالقها.
وله تسجُد ولعظمته تذل وتخشع كما قال سيحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(الحج: 18).
"أي: يخضع خضوعًا مطلقًا كل من في السماوات والأرض؛ طوعًا أو كرهًا.
والسجود طوعًا هو بإرادة العبادة من العقلاء المختارين؛ والسجود كرهًا؛ أي: بحكم الخضوع المطلق لإرادة المنشئ للكون الواحد القهار".
(2)
"وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جميعها لله تعالى وخضوعها".
(3)
يوضح شيخ الإسلام مفهوم سجود الكائنات فيقول رحمه الله
-:
"وَالسُّجُودُ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ سُجُودًا يُنَاسِبُهَا وَيَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلرَّبِّ".
(4)
ويقول رحمه الله أيضًا
-:
(1)
- رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2)
- زهرة التفسير: (9/ 4960).
(3)
- تفسير ابن عطية: (6/ 226).
(4)
- مجموع الفتاوى (1/ 45).
"ومعلوم أن سجود كل شيء بحسبه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض. "
(1)
.
والسجود من أعظم مشاهد كمال خضوع وذل هذه المخلوقات وانقيادها لخالقها وبارئها سبحانه وذلها لربوبيته وعظيم سلطانه.
ويوضح البقاعي (ت: 885) معنى السجود أيضًا فيقول رحمه الله:
"يسجد له أي: يخضع منقادًا لأمره مسخرًا لما يريد منه تسخير من هو في غاية الاجتهاد في العبادة والإخلاص فيها".
(2)
.
والحقيقة الثابتة كما قرر أئمة التفسير كابن جرير الطبري وابن كثير وغيرهما من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أن الكائنات تسجد سجودًا حقيقيًا علمها ربها إياه وهو يعلمه منها على وجه يليق بها ويناسبها، والبقاعي أول السجود هنا إلى الخضوع نافيًا سجودها مؤولًا له ببعض معانيه وهو الخضوع، والبقاعي مع جلالة قدره له تأويلات لصفات الرب جل في علاه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نفيه للحرف والصوت في كلام الرب جل في علاه وقد أجمع السلف على أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت،
فقال في نظم الدرر:
"والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض ولا جوهر، و (ليس كمثله شيء)
(3)
(1)
المرجع السابق (21/ 284).
(2)
- نظم الدرر للبقاعي: (13: 26). نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885 هـ) الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة عدد الأجزاء:22.
(3)
- نظم الدرر في التناسب بين الآيات والسور للبقاعي: (8/ 77). وكثير من المتكلمين يعدون أهل السنة هم: الأشاعرة والماتريدية، ولذا يقول البقاعي:(والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة). وأهل السنة يقولون أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ويعتقدون أن القرآن كلام الله وأن الله تعالى تكلم به بحرف وصوت وسمعه جبريل، وأما الأشاعرة فقولهم في القرآن: أن ما بين الدفتين مخلوق؛ لأنه عندهم عبارة عن كلام الله تعالى؛ لأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت، فينفوا الحرف والصوت، وقد خالفوا أهل السنة في أمور شتى مبسوطة في مظانها فلتراجع ثم. الباحث.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله
-:
"وهو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه تعالى. "
(1)
وسجود الكائنات كلها سجود حقيقي وهو سجود ذل وخضوع وخوف من خالقها وبارئها سبحانه، كما قال تعالى:(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(النحل: 49 - 50).
وتأمل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(النحل: 48 - 50).
ثم تأمل قوله سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)(الحج: 18).
حتى الشمس تسجد تحت العرش خاضعة لسلطان خالقها، كما قال سبحانه:(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِي وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(يس: 38 - 40)
ثبت عند البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه قال: كنتُ معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المسجدِ عِندَ غُروبِ الشمسِ، فقال: "يا أبا ذَرٍّ، أتَدري أينَ تغرُبُ الشمسُ، قلتُ:
(1)
-مدارج السالكين: (1/ 107).
اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: فإنها تَذهَبُ حتى تَسجُدَ تحتَ العرشِ، فذلك قولُه تعالى:(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ".
(1)
.
وثبت في الصحيحين من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه أيضًا قَالَ: "سأَلتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قولِه: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)، قال: مُستقَرُّها تحت العرش".
(2)
"وَقد أنكر قومٌ سُجُود الشَّمْس وَهُوَ صَحِيح مُمكن. وَلَا مَانع من قدرَة الله تَعَالَى أَن يمكَّن كل شَيْء من الْحَيَوَان والجمادات أَن يسْجد لَهُ".
(3)
فالله تعالى قد أثبت سجود الكائنات وبين سبحانه صفة سجود بعضها وهو بفيء ظلالها ذات اليمين والشمال ولا يتبادر للذهن إلى أنه يلزم أن يكون سجودها مثل سجود البشر على سبعة أعظم، وإذا كان الله قد أثبت لها السجود وجب الأخذ به وعدم الحيد عنه وتأويله عن ظاهره، إذا أن الكائنات لها السجود اللائق بها على الوجه الذي جبلها الله عليه وأراده منها.
المطلب الثالث: تسبيح الكائنات لخالقها -سبحانه
-
قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)(النور: 41)
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله
-:
"يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها؛ جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي بكرًة وعشيًا فإنه ساجد لله تعالى.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عز وجل".
(4)
(1)
-رواه البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه، (4802)
(2)
- رواه البخاري من حديث أَبِي ذَر الغفاريّ رضي الله عنه، (7433)، (4803).
وفي صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم:(159)، انظر شرح الحديث رقم:(6676).
(3)
- عمدة القاري (15/ 119).
(4)
- تفسير ابن كثير: (4/ 575).
والكون كله يوحد الله ويسبحه ويمجده كما قال سبحانه تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(الإسراء: 44)،} "وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ". (13)
وتسبيحها تسبيح حقيقي فطرها وجبلها عليها خالقها لا يعلمُ كيفيته وصفته إلا هو سبحانه، كما قال عز وجل:(وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(الإسراء: 44).
ومما ورد في هذا الصدد ما أخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة وغيره وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ما تَسْتَقِلُّ الشمسُ فيبقَى شيئٌ من خلق الله إِلاَّ سَبَّح الله بحمدِه إلاّ مَا كان من الشياطين، وأغبياء بني آدم) ".
(1)
ومما يُروى أن ما يصيب بعض المخلوقات من العجماوات والأشجار وغيرها بسبب ما ضيعت من تسبيح الله وتقديسه وتنزيهه وذكره جل في علاه، وفي ذلك إشارة إلى أن الله قد جعل لها إدراكًا خاصًا علمها إياه بارؤها سبحانه وتعالى.
فعن ميمون بن مهران (ت: 117 هـ) رحمه الله قال:
(1)
- أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة "(146) وعنه الديلمي (4/ 46)
وأبو نعيم في " الحلية "(6/ 111) من طريق بقية بن الوليد حدثني صفوان بن
عمرو عن عبد الرحمن بن ميسرة أبي سلمة الحضرمي عن عمرو بن عبسة رضي الله
عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره. قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله
ثقات معروفون غير أبي سلمة الحضرمي، وقد روى عنه جمع منهم حريز بن عثمان، وقد قال أبو داود:" شيوخ حريز كلهم ثقات ". وقال العجلي: " شامي تابعي ثقة".
وبقية، الكلام فيه معروف، والراجح منه الاحتجاج بحديثه إذا صرح
بالتحديث عن شيخه، وقد قال الذهبي في " الكاشف ":" وثقه الجمهور فيما سمعه من الثقات، وقال النسائي: إذا قال: (حدثنا) و (أخبرنا)، فهو ثقة ".
ويُنظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: برقم: (2224).
"أتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه بغراب وافر الجناحين، فجعل ينشر جناحه ويقول: ما صيد من صيد ولا عضدت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح".
(1)
و"لقد تضاءلت لعظمته المخلوقات العظيمة وصغرت لدى كبريائه السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن، وافتقر إليه العالم العلوي والسفلي فقرًا ذاتيًا لا ينفك عن أحد منهم في وقت من الأوقات".
(2)
المبحث الثاني: ذكر نماذج من تسبيح الكائنات
وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: تسبيح الرعد خاصة
والرعد يُسبِّح بحمده سبحانه، كما قال تعالى:(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)(الرعد: 13)
أي" ويعظم الله الرعد ويمجد، فيثني عليه بصفاته، وينزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد، تعالى ربنا وتقدس".
(3)
.
المطلب الثاني: تسبيح جميع كائنات العالم العلوي والسفلي كلها
والنباتُ يُسبِّح الله ويوحده كما قال جل في علاه: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ)(الرحمن: 6)
فالنجم مَا لا سَاق له من النَّبَات، وَالشَّجر مَا كان له سَاق، وَكلهَا سَاجِدَة لله مسبحة بِحَمْدِهِ على وجه يليق بها، وهي خاضعة لأمره سبحانه وتعالى.
وكذلك كل ما في السماوات والأرض: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)(الحج: 18).
يقول الطبري رحمه الله
-:
(1)
- رواه إسحاق بن راهويه في تفسيره: (ص:؟؟؟؟)، وذكره الباحث بصيغة التمريض لأنه لم يقف عليه بسند يطمئن إليه وتبرأ به الذمة، ومثل هذا قد لا يُستبعد حسًا وعقلًا إذا ثبت ذلك شرعًا، (الباحث).
(2)
- تفسير ابن سعدي: (1/ 458)، بتصرف.
(3)
- تفسير الطبري: (16/ 391).
"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال، والشجر، والدواب في الأرض، وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس، وحين تزول، إذا تحول ظل كل شيء فهو سجوده".
(1)
وقال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)(ص: 17 - 19)
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله
-:
"وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا -يَجْعَلُ لَهَا إِدْرَاكَاتٍ تُسَبِّحُ بِهَا، يَعْلَمُهَا هُوَ -جَلَّ وَعَلَا -وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا.
وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَالتَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا -عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ".
(2)
.
المطلب الثالث: مشاهد من عبودية الطير في القرآن
ومن مشاهد عبودية الطير لله وتنزيهه عن الند والشريك ما ذُكِرَ الله لنا من خبر هدهد سليمان من تعظيمه لله وتهويله لأمر الشرك في الألوهية من ملكة سبأ وقومها وإنكاره ونفوره وأنفته من عبادتهم وسجودهم للشمس من دون الله تعالى.
وفي ذلك قال تعالى: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(النمل: 22 - 26).
(1)
- تفسير الطبري: (18/ 586).
(2)
-أضواء البيان: (4/ 232)، بتصرف
ولا ريب أن هذا شرك واضح بين، ولذا ساء الهدهد وهاله ما رأى من سجودهم للشمس فأنف بفطرته وجبلته من عبادتهم تلك، فتمعر وجهه في ذات الله، وقد تسبب بذلك في هداية أمة بأسرها للإسلام ونجاتهم من الشرك الموجب الخلود في النيران.
المطلب الرابع: مشاهد من عبودية وتسبيح النمل وبعض المخلوقات
النمل أمة من الأمم الخاضعة لسلطان بارئها الخاضعة لكبريائه وعظمته المسبحة بحمده المنزهة والمقدسة لذاته، ومن مشاهد عبوديتها وتسبيحها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، فقد ثبت عند البخاري من حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ، فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ".
(1)
وفي لفظ مسلم منْ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أيضًا، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ؟ ".
(2)
والنمل أمة معظمة للعلم داعية لأهله:
ومن دلائل عبودية النمل لله تعالى الدعاء لمعلم الناس الخير الذي يدل المخلوق على الخالق جل في علاه.
فقد ثبت عند الطبراني والترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ".
(3)
(1)
رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، رقمك (3019).
(2)
-رواه مسلم، حديث رقم:(2241)، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل.
(3)
-أخرجه الترمذي: (5/ 50)، رقم:(2685)، وأخرجه الطبراني:(8/ 233)، رقم:(7911).
وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: (1/ 18)، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وفى نسخة غَرِيب، وقال الألباني:(صحيح) انظر حديث رقم: (1838) في صحيح الجامع.
أي: "يستغفرون لهم، وذكر النَّملة والحوت بعد ذكر الثَّقلين والملائكة تتميمٌ لجميع أنواع الحيوان على طريقة الرَّحمان الرَّحيم، وخصَّ النَّملة والحوت بالذِّكر للدلالة على إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم، كما قال بهم تنصرون وبهم ترزقون حتَّى أن الحوت الَّذي لا يفتقر إلى العلماء اِفْتقار غيره لكونه في جوف الماء يعيش أبدًا ببركتهم، وأمَّا إلهام الحيوانات الاسْتغفار له، فقيل: لأنَّها خُلقت لمصالح العباد ومنافعهم، والعُلماء هم المبيِّنون ما يحلُّ منها وما يحرم، ويُوصون بالإحسان إليها، ودفع الضُّر عنها، حتَّى بإحسان القِتلة،
والنَّهي عَنِ المُثلة، فاسْتغفارهم لهُ شكرٌ لذلك النّعمة
(1)
، وذلك في حقِّ البشر آكد لأنَّ اِحتياجهم إلى العلم أشدٌّ وعود فوائده عليهم أتمٌّ. اهـ".
(2)
وهناك مخلوقات كثيرة ورد في عبوديتها لله نصوص صحيحة منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 -
عبودية أذان الدِّيكِ للصَّلاة:
نهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن سبِّ الدِّيكِ، وقال: إنهُ يؤذِّنُ للصلاةِ
(3)
. وفي رواية: "لا تسبُّوا الديكَ، فإنه يوقِظُ للصلاةِ".
(4)
2 -
عبودية استغفار الحيتان للعالم
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّه ليستغفرُ للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في البحر".
(5)
3 -
عبودية الجنّةِ والنّارِ:
اليوم الآخر هو نهاية الزّمان المحدود وآخر أيّام الدنيا، ويُعْرَف بيوم القيامة، ومن مقدّماته الحياة البرزخيّة بعد الموت وأشراط الساعة، فهما جزءٌ منه،
(6)
وكل ما
(1)
-الأصل أن يُقال لتلك النعمة لكونها (مؤنث) وحتى ينتظم الكلام. ولعله تصحيف من الكتبة أو النسَّاخين. الباحث.
(2)
-فيض القدير للمناوي: (4/ 432 - 433)، بتصرف.
(3)
- إسناده صحيح، تخريج مشكاة المصابيح:(4064).
(4)
- صحيح أبي داود: (5101).
(5)
صحيح سنن ابن ماجه: (197).
(6)
- منهج الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في تقرير العقيدة والرد على المخالفين، لأحمد بن علي الزاملي:(1/ 476). بتصرّف.
يقع في الآخرة من أهوال وشدائد من البعث والنشور والحشر والصراط والميزان وصحائف الأعمال وتطاير الكتب ووجود الجنة ونعيم أهلها، ووجود النار وعذاب أهلها.
وسمّي بالآخر لأنّه اليوم الأخير الذي لا يوم بعده؛ وفيه يقسّم الناس بعد الحساب والجزاء ويُحشرون إلى مأواهم الأخير؛ إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، والإيمان باليوم الآخر شرطٌ من شروط الإيمان، وينبغي ألّا يكون الإيمان به مجملاً فحسب؛ بل يجب الإيمان بكل ما فيه من الأحداث والتفاصيل.
(1)
لذا يُعَدُ الإيمان باليوم الآخر وبما ورد فيه من تفاصيل أحد أركان الإيمان الثابتة بنصوص الكتاب والسنة والتي لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بها وبما ورد فيها جميعًا، ومن ذلك الإيمان بوجود الجنة والنار وبقائهما وعدم فنائهما أبد الآبدين، فيجب الإيمان بدوام وبقاء الجنة ونعيمها ونعيم أهلها، كما قال سبحانه:(جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(البينة: 8) أي لا ينقطع خلودهم فيها البتة، كما أنه يجب الإيمان بدوام وبقاء النار وعذابها وعذاب أهلها كما قال تبارك تعالى:(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(هود: 108)
عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الجنّة والنار:
نوجز عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الجنّة والنار باختصار فيما يلي:
1 -
أن الجنّة والنار مخلوقتان موجودتان الآن.
2 -
وأنهما باقيتان لا تفنيان أبدًا.
(1)
الإيمان باليوم الآخر، لمحمد بن إبراهيم الحمد:(ص: 3). بتصرّف.
" قد علم الله تعالى عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا تفنيان أبدًا، بقاؤهما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين، ودهر الداهرين".
(1)
3 -
وأنهما المصير المحتوم الذي يصير إليه مآلُ العباد أجمعين يوم الدين وذلك (
…
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (النجم: 31).
4 -
وأن الله تعالى أعدهما لأهليهما، وأنهم لا يموتون فيها أبدًا.
5 -
وأن الجنَّة رحمة الله تعالى ودار كرامته التي أعدَّها لحزبه المفلحين وجنده الغالبين وأوليائه الصالحين وصفوة عباده المقرَّبين الأطهار الأبرار، وأنَّ أهلها في نعيمٍ مقيم أبدي سرمدي مُتجدِّد لا يفنى ولا يبيد، وأنه نعيم دائم مدرار.
6 -
وأن النار هي دار الهَوانٍ والبوار، وهي دار عَذابه وانتقامه وبطشه قد أعدَّها الجبار القهار سكنى للشيطان وحزبه وأوليائه من سائر الكفار والمشركين والمنافقين وسائر المتمردين المتجبرين من أعدائه الفجار، وأنَّ أهلها في عذاب مقيم أبدي سرمدي مُتجدِّد لا يفنى ولا يبيد، وأنه عذاب دائم مدرار.
7 -
وأن الإيمان الجازم والتصديق التامّ بهما مندرج تحت الإيمان باليوم الآخِر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.
وقد دل على ذلك أدلَّةٌ كثيرة من الكتاب والسُّنَّة وهي أكثر من أن تحصى:
أما أدلة الكتاب: فمنها قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران: 133)، وقوله تعالى:(فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(البقرة: 24).
وأما الأدلة من السنة: فهي أكثر من تُحْصى كثرة وعددًا، ومن ذلك ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه حين بلغ سدرة المنتهى والتي رأى جبريلَ- عليه السلام عندها على صورته الملائكية، فانطلق به حتى رأى عندها جنةَ المأوى، وقد ورد ذكر ذلك في قول الله تعالى: (ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ
(1)
- السنة للبربهاري: (ص: 6).
المَأْوى) (النجم: 13 - 15)(ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أي: رأى النبيُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام.
وقد رأى هناك - عند سدرة المنتهى - جنةَ المأوى كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، والذي ورد في آخره:
"
…
انطلق بي جبرائيلُ حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ "أي قباب" اللؤلؤ وإذا ترابها المسك".
(1)
كما ثبت في الصحيحين-أيضًا- من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما أن رسول الله قال: " إن أحدكم إذا مات عُرِضِ عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ".
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا ينفى بالكلية، كالجنة والنار والعرش.
(3)
*
مشاهد من عبوديةِ الجنّةِ والنّارِ:
عبوديةُ اختصامِ الجنّةِ والنّارِ:
وإن مما يُستدل به على عبودية الجنّةِ والنّارِ اختصامهما إلى ربهما تبارك وتعالى، ومن أبرز شواهد الأدلة على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تحاجّت الجنّةُ والنّارُ، فقالت النّارُ: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبّرين، وقالت الجنّةُ: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم وغبرتهم، فقال الله عزّ
(1)
- رواه البخاري: (336)، ومسلم (237) واللفظ له.
(2)
- رواه البخاري: (1290)، ومسلم:(5111).
(3)
- مجموع الفتاوى: (18/ 307)؛ بيان تلبيس الجهمية، (1/ 581).
وجلّ للجنّةِ: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاءُ من عبادي، وقال للنّار: إنما أنت عذابي أعذِّبُ بك من أشاءُ من عبادي ولكل واحدةٍ منكما ملؤها".
(1)
قال النووي رحمه الله
-:
والحديثُ على ظاهره، وأن الله يخلقُ في الجنّةِ والنارِ تمييزًا يدركان به ويقدران على المراجعةِ والاحتجاج.
(2)
*
مشاهد من عبوديةِ والنّارِ:
ومن مشاهد عبودية النّار: تَغَيُّظها لرؤية الكافرين يوم القيامةِ:
كما قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) سورة الفرقان آية (12).
التَّحقيقُ أنَّ النَّارَ تُبصِرُ الكُفَّارَ يَومَ القيامةِ، كما صَرَّح اللهُ بذلك في قَولِه هنا:
(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، ورؤيتُها إيَّاهم مِن مكانٍ بَعيدٍ تدُلُّ على حِدَّةِ بَصَرِها، كما لا يخفى، كما أنَّ النَّارَ تتكَلَّمُ، كما صرَّح اللهُ به في قَولِه تعالى:(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)(ق: 30)، والأحاديثُ الدَّالَّةُ على ذلك كثيرةٌ؛ كحَديثِ مُحاجَّةِ النَّارِ مع الجنَّةِ
(3)
، وكحديثِ اشتكائِها إلى رَبِّها، فأذِنَ لها في نفَسَينِ
(4)
، ونحوِ ذلك، ويكفي في ذلك أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا صَرَّحَ في هذه الآيةِ أنَّها تَراهم، وأنَّ لها تغيُّظًا على الكُفَّارِ، وأنَّها تقولُ:(هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (ق: 30 (. واعلَمْ أنَّ ما يزعُمُه كَثيرٌ مِن المفَسِّرينَ، وغيرُهم مِن المنتسبينَ للعِلمِ مِن أنَّ النَّارَ لا تُبصِرُ ولا تتكَلَّمُ ولا تغتاظُ، وأنَّ ذلك كُلَّه مِن قَبيلِ المجازِ، أو أنَّ الذي يفعَلُ ذلك خزَنتُها: كُلُّه
(1)
- رواه البخاري: (4850)، ومسلم (2846).
(2)
- شرح صحيح مسلم للنووي: (17/ 181).
(3)
- رواه البخاري: (4850)، ومسلم:(2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق تخريجه.
(4)
- رواه البخاري: (4850)، ومسلم:(2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
باطِلٌ، ولا مُعَوَّلَ عليه؛ لمخالفتِه نُصوصَ الوَحيِ الصَّحيحةَ بلا مُستَندٍ، والحَقُّ هو ما ذكَرْنا.
(1)
*
ومن مشاهد عبودية النّار: استجابتها لأمر الله
قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء: 69).
أي: فأوقَدوا له نارًا لِيَحرِقوه، فلمَّا ألقَوا إبراهيمَ فيها قُلْنا لها: يا نارُ، كوني بردًا وسلامًا على إبراهيمَ. فأنجاه اللهُ منها، لم يَنَلْه فيها أذًى، ولا أحسَّ بمكروهٍ.
(2)
وبالفعل قد أنجاه الله من نارهم كما قال ربنا تبارك وتعالى: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(العنكبوت: 24).
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيمُ عليه السلام حينَ أُلقِي في النَّارِ، وقالها مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حينَ قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
(3)
4 -
عبودية القلم والعرش:
من الكائنات التي خلقها الله وهي من الأمور الغيبية التي جاءت في النصوص القطعية القلمُ والعرش.
*
من مشاهد عبودية القلم الاستجابة لأمر الله:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ أولَ ما خلق اللهُ القلمُ، فقال لهُ: اكتبْ، قال: ربِّ وماذا أكتبُ؟ قال: اكتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعةُ".
(1)
- أضواء البيان، للشنقيطي:(6/ 25).
(2)
- يُنظر: تفسير الطبري: (16/ 306)، تفسير الرازي:(22/ 159)، (أضواء البيان: للشنقيطي (4/ 162، 163).
(3)
- رواه- البخاري (4563).
ثم قال عبادةُ رضي الله عنه: يا بنيَّ إني سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غيرِ هذا فليسَ مِني.
(1)
*
العرش أعظم المخلوقات:
والعرشُ من أعظم المخلوقات وهو ثابتٌ في الكتابِ والسُنّة، واستواءُ الله عز وجل عليه ثابتٌ أيضًا وهو من أصول اعتقاد أهل السُنّةِ والجماعةِ.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ".
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته.
(3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ".
(4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
-:
فهذا يدل على أنه قدَّر إذ كان عرشه على الماء، فكان العرش موجودًا مخلوقًا عند التقدير لم يوجد بعده.
(5)
قال عبد الله بن رواحة (ت: 8 هـ) رضي الله عنه
-:
(1)
صحيح أبي داود: (4700).
(2)
- صححه الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في تخريجه لأحاديث تفسير ابن كثير رحمه الله (1/ 571)، وأخرجه الذهبي في كتابه العلو ص 76، وصححه الألباني رحمه الله في مختصر العلو ص 45. أهـ. وهذا له حكم الرفع.
(3)
-الفتوى الحموية الكبرى، ص 526.
(4)
- رواه مسلم، في صحيح مسلم:(2653).
(5)
- الصفدية: (2/ 82).
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامُ
…
مَلَائِكَةُ الإِلَهِ مُسَوَّمِينَا.
(1)
*
من مشاهد عبودية العرش:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اهتزَّ عرشُ الرحمنِ لموتِ سعدِ بنِ مُعاذٍ".
(2)
وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه-أيضًا- قال:، قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَجَنَازَةُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ بيْنَ أَيْدِيهِمُ "اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ".
(3)
المطلب الخامس: مشاهد من عبودية بعض الجمادات كالحجارة والجبال
*
مشاهد من عبودية خشية الحجارة لله:
والحجارة تهبِطُ من علوِّها خشيةً لله وتعظيمًا، خضوعًا له وإجلالًا، مقترنًا ذلك كله بالتسبيح والتقديس لخالقها مع ذل وانكسار لله يعتريها قال عز وجل:(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(البقرة: 74)
"ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى علمًا في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقل، لا يقف عليه غيره، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره:(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)(الإسراء: 44) وقال: (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه)(النور: 41) وقال: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر)
(الحج: 18) الآية، فيجب على المؤمن الإيمان به- على الحقيقة- ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى".
(4)
(1)
- هذه الأبيات تُروى في قصة مشهورة، وقد ضعفها الشيخ مشهور حسن آل سلمان في كتابه:(قصص لا تثبت)
(2)
- متفقٌ عليه، البخاري:(3803)، مسلم:(2466).
(3)
- رواه مسلم: (2466).
(4)
-تفسير البغوي: (1/ 112).
*
مشاهد من عبودية خشية الجبال وتصدعها إجلالًا لكلام الله تعالى:
والجبال تتصدع إجلالًا لكلام الله تعالى كما قال سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(الحشر: 21).
يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله:
"يقول - جل ثناؤه -: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) - وهو حجر - لرأيته يا محمد خاشعًا يقول: متذللا متصدعًا من خشية الله على قساوته، حذرًا من ألا يؤدي حق الله المفترض عليه في تعظيم القرآن، وقد أنزل على ابن آدم وهو بحقه مستخف، وعنه عما فيه من العبر والذكر معرض، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرًا.
ثم يقول رحمه الله: أي: "لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه تصدع وخشع من ثقله، ومن خشية الله، فأمر الله عز وجل الناس إذا أنزل عليهم القرآن، أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع.
يعذر الله الجبل الأصم، ولم يعذر شقي ابن آدم، هل رأيتم أحدًا قط تصدعت جوانحه من خشية الله".
(1)
"فإن هذا القرآن لو أنزله على جبل لرأيته خاشعًا متصدعا من خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق".
(2)
*
مشاهد من عبودية الجمادات غِيِرَة على عقيدة التوحيد:
والشركُ بالله ظلم عظيم وجرم كبير، فهذه المخلوقات الكبار وتلك الكائنات العظام تكاد تتشقق وتنفطر وتخر هدًا لعظم الشرك وهوله وفظاعته وجرمه، إجلالًا لله وغيرة على توحيده وألوهيته جل في علاه، كما قال سبحانه:(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)
(مريم: 88 - 91)
أي: "من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات أن يكون منها ما ذكر. "
(3)
(1)
الطبري: (233/ 301).
(2)
- تفسير ابن سعدي: (1/ 854).
(3)
المرجع السابق: (5/ 1016).
"وذلك لغيرتها على المقام الرباني الأحدي أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحي الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك".
(1)
و"يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فَجَرَةِ بَنِي آدَمَ، إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا؛ لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ".
(2)
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[فاطر: 41]
"فإن قيل: فما معنى ذكر الحلم هاهنا؟ قيل: لأن السماوات والأرض همت بما همت به من عقوبة الكفار فأمسكهما الله تعالى عن الزوال بحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقوبة".
(3)
فـ" في الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته".
(4)
.
فرحمته جل في علاه سبقت غضبه، وهذا من كمال حكمته ولطفه بخلقه كما قال ربنا جل في علاه:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)(النحل: 61).
فـ "لَوْلَا أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَمَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ، لَزُلْزِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ مَعَاصِي الْعِبَادِ".
(5)
وقال جل شأنه: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(الأحزاب: 72).
(1)
تفسير القاسمي: (11/ 4165)
(2)
-ابن كثير: (5/ 226).
(3)
- تفسير البغوي: (6/ 427).
(4)
-عدة الصابرين: (ص: 278).
(5)
- الداء والدواء: (ص: 88).
"قال بعض أهل العلم: ركب الله عز وجل -فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب".
(1)
*
مشاهد من عبودية خضوع الجمادات لسلطان الله وانقيادها واستجابتها لأمره:
والسماءُ والأرضُ امتثلتا أمر الله وخضعتا لسلطانه وانقادتا واستجابتا له سبحانه، كما قال تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت: 11).
"أَيِ: اسْتَجِيبَا لِأَمْرِي، وَانْفَعِلَا لِفِعْلِي طَائِعَتَيْنِ أَوْ مُكْرَهَتَيْنِ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلسَّمَوَاتِ: أَطْلِعِي شَمْسِي وَقَمَرِي وَنُجُومِي. وَقَالَ لِلْأَرْضِ: شَقِّقِي أَنْهَارَكِ، وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ.
فَقَالَتَا: (أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ أَبَيَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ، لَعَذَّبَهُمَا عَذَابًا يَجِدَانِ أَلَمَهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ".
(2)
"أي: انقادا لأمري، طائعتين أو مكرهتين، فلا بد من نفوذه، (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ليس لنا إرادة تخالف إرادتك".
(3)
.
*
مشاهد من عبودية الحجر والشجر وتلبيتهما بالحج والعمرة:
فالحجر والشجر يذكران الله تعالى ويجيبان دعوته بالتلبية مع من يلبي من عباد الله حاجًا كان أو معتمرًا ويدل على ذلك ما ثبت عند الترمذي وصححه الألباني منْ حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا) ".
(4)
*
مشاهد من عبودية نصرة الحجر والشجر للمسلمين:
(1)
- تفسير البغوي: (6/ 381).
(2)
- ابن كثير: (7/ 167)
(3)
-ابن سعدي: (745).
(4)
- رواه الترمذي: (828) وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2/ 1005).
ومن مشاهد عبودية الحجر والشجر كذلك موالاة المجاهدين من عباد الله المؤمنين وحثهم على قتل اليهود.
ويدل على ذلك ما ثبت عند الإمام مسلم في صحيحه منْ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ).
(1)
*
مشاهد من عبودية الحجر والشجر شاهدتهما للمؤذِّنِ:
الشجرُ والحجر يشهدان للمؤذِّنِ: كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمعُه جنٌ ولا أنسٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلاّ شهد له.
(2)
* مشاهد من عبودية تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم: -
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: - " إني لأعرفُ حجرًا بمكّة كانَ يُسلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَثَ ".
قال النوويُّ رحمه الله: فيه معجزةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي هذا إثباتُ التمييزِ في بعض الجماداتِ
…
(3)
*
مشاهد من عبودية انقياد الشجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: سِرْنَا مع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بإدَاوَةٍ مِن مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرَ شيئًا يَسْتَتِرُ به، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بشَاطِئِ الوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى إِحْدَاهُمَا، فأخَذَ بغُصْنٍ مِن أَغْصَانِهَا، فَقالَ: انْقَادِي عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ فَانْقَادَتْ معهُ كَالْبَعِيرِ المَخْشُوشِ، الذي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى، فأخَذَ بغُصْنٍ مِن أَغْصَانِهَا،
(1)
- رواه مسلم: (2922)
(2)
- صحيح سنن ابن ماجه: (597) وأصله في البخاري.
(3)
-صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 26).
فَقالَ: انْقَادِي عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ فَانْقَادَتْ معهُ كَذلكَ، حتَّى إِذَا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بيْنَهُمَا، لأَمَ بيْنَهُمَا، يَعْنِي جَمعهُمَا، فَقالَ: التَئِما عَلَيَّ بإذْنِ اللهِ فَالْتَأَمَتَا
…
".
(1)
*
مشاهد من عبودية أعضاءُ بني آدم في الدنيا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح ابن آدم فإنّ الأعضاءَ كُلُّها تكفِّرُ اللسانَ فتقول: اتَّقِ الله فينا فإنما نحنُ بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".
(2)
*
مشاهد من عبودية أعضاءُ بني آدم في الآخرة:
قال الله تبارك تعالي عن أهل النار: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(فصلت: 20 - 21)
(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا) أي انتهوا إليها، وادعوا أنهم مظلومون وأخذوا يتنصَّلون من ذنوبهم، وقالوا إنهم لا يقبلون شاهدًا من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أسماعهم وأبصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى:(شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وهنا رجعوا على جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا) فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق (قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
(3)
ومثل ذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(يس: 65)
ومثل ذلك -أيضًا- قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(24: النور)
(1)
- رواه مسلم: (2012).
(2)
- صحيح الترمذي: (2407).
(3)
أيسر التفاسير، لأبي بكر الجزائري:(3/ 475).
ويشهد لذلك من السنة ما ثبت عند مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قالَ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ يقولُ: يا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ،
فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ.
(1)
*
مشاهد من عبودية محبةِ جبلِ أحد لرسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذِه طَابَةُ (المدينة)، وَهذا أُحُدٌ، وَهو جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ".
(2)
في روايةٍ أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثبتْ أُحدٌ فإنّ عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان".
(3)
.
فسبحان من أنطق الجوارح كلها لتشهد على صاحبها، أنطق اليدين و أنطق القدمين وأنطق السمع والأبصار والجلود.
المطلب السادس: مشاهد من عبودية الطعام وتسبيحه
الطعام يقدس الله تعالى ويسبحه، فقد ثبت عند البخاري منْ حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ:«اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ» . فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ:«حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ".
(4)
وبعد هذا البيان يتضح للمتأمل عبودية المخلوقات كلها لربها جل في علاه، العوالم كلها علويها
(1)
- رواه مسلم: (2969).
(2)
- رواه مسلم: (1292).
(3)
- فتح الباري: (7/ 38).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب المناقب، رقم:(3579).
وسفليها، الجن والإنس والملائكة، والسموات العلا وما فيها وما حوته من كواكب وأجرام وشمس وقمر ونجوم وأفلاك وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، والأرض وما فيها من جبال وأنهار وبحار وقفار وجنات ونبات وحيوان ووحش وطير ودواب وهوام وجمادات، والعرش والكرسي، والجنة والنار، واللوح والقلم، وغيرها من مخلوقات الله ما علمنا منها وما
لم نعلم، الكل أقر بعبوديته لله وسبح بحمده وأقر بربوبيته وألوهيته فوحده وقدسه وخضع لكبريائه وعظمته وسجد له وخشع وعبده سبحانه خوفًا وطمعًا رغبًا ورهبًا.
تنبيه لبني آدم:
وحقيقٌ ببني آدم أن يكونوا في طليعة هذه الكائنات التي خضعت لعبودية الله، فالإنسان من أفقر المخلوقات لبارئها وهو مع ذلك من أكثرها تمردًا وعصيانًا وجحودًا وإنكارًا لربه ولنعمه، كم قال تعالى:(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)(العاديات: 6)
"أَيْ طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَكَنُودٌ لَكَفُورٌ جَحُودٍ لِنِعَمِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ. وَقَالَ: يَذْكُرُ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ ".
(1)
فـ" مَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، فَلْيَلْزَمْ عَتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ. فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ: أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ".
(2)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبرز النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة وتوصيات البحث وخاتمته:
توصلت تلك الدراسة إلى ما يلي:
1 -
أن الله خلق الخلق لمهمة عظيمة وغاية جليلة بها تتحقق لهم سعادة الدارين
2 -
أن التكليف بالعبادة عمَّ الثقلين جميعًا
3 -
أن العبادة منقسم لقسمين:
أما القسم الأول: فهي عبودية اختيار وانقياد وطاعة، وتلك هي عبودية عباد الله الأبرار، وهي العبودية التي تميز بها المؤمنون الأطهار عن الكفار والفجار.
(1)
- تفسير القرطبي: (20/ 143).
(2)
- مجموع الفتاوى (1/ 39).
وأما القسم الثاني: فهي عبودية قهر وغلبة، وهي عبودية الطغاة والعتاة الفجار، فقد قهرهم الله فلا يسعهم أحد منهم الخروج عن مشيئته وقدرته النافذة فيهم أبدًا، ذلك لأن أمره سبحانه نفذ فيهم، وأن افتقارهم لخالقهم وبارئهم لا غنى لهم عنه البتة لأن قوام حياتهم به - سبحانه.
4 -
أن أعظم الخلق عبودية الأنبياء والمرسلين يتقدمهم أولو العزم من الرسل، وأفضلهم بل وأفضل الخلق أجمعين وأكملهم عبودية لله هو خاتم النبين والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
5 -
أنه لمّا كانت عبودية الأنبياء والمرسلين هي أعلى مقامات العبودية، فإنه رتبة عبودية أتباعهم تلي رتبتهم في المكانة والفضل والسبق وفي مقدمتهم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير أصحاب لخير نبي- رضوان الله عليهم أجمعين.
6 -
أنه لمًا كان وصف العبودية من أجلِّ الأوصاف فقد وصف الله به نبيه وصفيه وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه - نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أرفع المقامات وأجلِّها.
7 -
أن الكون كله علويه وسفليه بجميع مخلوقاته خضع لسلطانه سبحانه وانقاد لأمره طائعًا، وقد أعطى الله الكائنات والجمادات إدراكًا خاصة تدرك وتميز به عبوديتها لله، فهي تعظم الله وتسبحه وتسجد له وتخشع وتخضع لأوامره سبحانه على الحقيقة على وجه أعلمها الله إياه - سبحانه.
8 -
أنه ينبغي على الإنسان الذي سخر الله له ما في سماوته وما في أرضه التفكر في عظمة خالقه والانقياد لأمره والخضوع والتذلل له سبحانه والإقبال عليه بمحض إرادته شكرًا لنعمائه واعترافًا له بإحسانه وإفضاله، وعدم التمرد والخروج عن عبوديته اختيارًا، وإلا فإنه مقهور ومغلوب على أمره لضعفه ولا يسعه أن يخرج عن أمر خالقه النافذ فيه بعبوديته له سبحانه وتعالى غلبة وقهرًا.
9 -
أن من دواعي وعوامل الثبات على عبودية الله تعالى التفكر في عبودية الكائنات التي خضعت وخشعت وسجدت لخالقها وباريها.
والحمد لله رب العالمين.
وفق الله جامعه للانتهاء من تبيضه في فجر الإثنين الموافق: 25/ 11/ 1442 هـ
بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية.
أملاه
العبد الضعيف الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ
الرياض في: 3/ 1/ 1442 هـ
البريد: [email protected]
واتساب: 00966503722153
مجموع الفهارس
أ-
فهرس المراجع
1 -
البداية والنهاية المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) الناشر: دار الفكر عام النشر: 1407 هـ - 1986 م عدد الأجزاء: 15.
2 -
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز المؤلف: مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادى (المتوفى: 817 هـ) المحقق: محمد علي النجار الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة عدد الأجزاء:6.
3 -
تفسير ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ)، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420 هـ -2000 م عدد الأجزاء: 1.
4 -
تفسير ابن كثير: (3/ 142). تفسير القرآن العظيم، المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: محمد حسين شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 هـ.
5 -
تفسير ابن الجوزي = زاد المسير في علم التفسير المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
6 -
تفسير ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المؤلف: أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى: 542 هـ) المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 هـ.
7 -
تفسير الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270 هـ) المحقق: علي عبد الباري عطية الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 هـ عدد الأجزاء:16.
8 -
تفسير الشنقيطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393 هـ)، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان عام النشر: 1415 هـ - 1995 مـ.
9 -
تفسير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء:24.
10 -
تفسير البغوي، معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء:5.
11 -
تفسير الفخر الرازي، مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثالثة - 1420 هـ.
12 -
تفسير القرطبي، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ)، تحقيق: أحمد
البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 هـ - 1964 م عدد الأجزاء: 20 جزءا (في 10 مجلدات).
13 -
تفسير القاسمي، محاسن التأويل المؤلف: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332 هـ) المحقق: محمد باسل عيون السود الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1418 هـ.
14 -
التوقيف على مهمات التعاريف، المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ) الناشر: عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت-القاهرة الطبعة: الأولى، 1410 هـ-1990 م عدد الأجزاء:1.
15 -
شرح الأصول من علم الأصول، المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421 هـ) الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الرابعة، 1430 هـ - 2009 م عدد الأجزاء:1.
16 -
العبودية، المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ) المحقق: محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426 هـ - 2005 م.
17 -
فيض القدير شرح الجامع الصغير المؤلف: زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031 هـ) الناشر: المكتبة التجارية الكبرى - مصر الطبعة: الأولى، 1356 عدد الأجزاء:6.
18 -
لسان العرب، المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ عدد الأجزاء: 15.
19 -
مجموع الفتاوى، المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع
الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية عام النشر: 1416 هـ/ 1995 م.
20 -
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة، 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء:2.
21 -
المفردات في غريب القرآن، المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502 هـ) المحقق: صفوان عدنان الداودي الناشر: دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت الطبعة: الأولى - 1412 هـ.
22 -
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ)، المحقق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، راجعه: مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلاحِي، سليمان بن عبد الله العمير، الناشر: دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1432 هـ، عدد الأجزاء:5.
23 -
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ) المحقق: محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م عدد المجلدات:9.
24 -
مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني: دار القلم بدمشق 1418 هـ -1997 م.
25 -
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885 هـ) الناشر: دار الكتاب الإسلامي، القاهرة عدد الأجزاء:22. .