المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم هذا الكتاب في الأصل رسالة علمية قدمت - قواعد الترجيح عند المفسرين دراسة نظرية تطبيقية - جـ ١

[حسين بن علي الحربي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب في الأصل رسالة علمية قدمت لنيل درجة الماجستير من كلية أصول الدين في الرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

وكانت لجنة المناقشة مكونة من فضيلة الشيخ مناع بن خليل القطان مشرفا، وفضيلة الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحمن الراوي وفضيلة الشيخ الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان مناقشين، وكانت المناقشة في 11/ 1415/26 هـ وقد منح الباحث درجة الماجستير بتقدير ممتاز، وأوصت اللجنة بطباعة الرسالة وتداولها بين الجامعات.

ص: 3

‌تقريظ لفضيلة الشيخ مناع بن خليل القطان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

تكشف الرسائل الجامعية عن مواهب وقدرات العاملين في مجال البحث العلمي، والابتكار الذي يضيف جديدا إلى المعرفة.

ولئن كانت العلوم النافعة التي تنهض بالأمة كثيرة متعددة الجوانب، فإن الدراسات القرآنية على رأس هذه العلوم في أمة الإسلام التي تنشد الهداية الإلهية {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].

والرسالة التي بين يدي القارئ «قواعد الترجيح عند المفسرين دراسة نظرية تطبيقية» التي أعدها الأخ الشيخ حسين بن علي بن حسين الحربي ونال بها درجة الماجستير بامتياز مع التوصية بطباعتها وتداولها لدى الجامعات. هذه الرسالة تتميز بالجدة والأصالة والإبداع وعمق البحث والتوثيق العلمي، وكم كنت أود أن تجيز لائحة الدراسات العليا بجامعتنا - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - تحويل رسالة الماجستير المتميزة إلى رسالة دكتوراة كما في بعض لوائح الجامعات الغربية، فتكون هذه الرسالة جديرة بذلك.

لقد وفق الله الباحث في عرض رسالته، وأحكم ترتيبها في قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني، وقواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والآثار، وقواعد الترجيح المتعلقة بلغة العرب، في منهجية علمية موضوعية، وأسلوب رصين بليغ وبيان جلي مشرق، واستدلال مقنع، واستقصى ما أمكن الوصول إليه من قواعد الترجيح عند المفسرين، واختار ثلاثة من أمهات كتب التفسير التي تعنى بالخلاف والترجيح، واستقرأ ما فيها من هذه القواعد باللفظ أو المعنى، وأضاف إلى ذلك ما استفاده من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام تلميذه ابن القيم، وشرح كل قاعدة، وبين

ص: 5

أدلتها، وآراء العلماء في اعتمادها، وأتى بالأمثلة التطبيقية عليها، وأحال في نهاية كل مثال إلى نظائره، وذكر القواعد المتفرعة عن كل قاعدة أصلية.

وحيث كانت بعض هذه القواعد مشتركة مع قواعد أصول الفقه، أو القواعد اللغوية فإن الباحث رجع إلى المصادر الأصولية واللغوية في ذلك، ووثق النصوص توثيقا دقيقا من مصادرها الأصلية.

وهذا العمل العلمي المضني الشاق بما فيه من عبقرية فذة يعدّ نموذجا للرسائل الجامعية التي تثري المكتبة الإسلامية بعامة والتفسيرية منها بخاصة.

أسأل الله أن ينفع بهذا الحصاد العلمي، وأن يمد صاحبه بمزيد من التوفيق.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مناع بن خليل القطان

أستاذ الدراسات العليا والمشرف على إدارتها 11/ 1415/27 هـ الرياض

ص: 6

‌المقدمة

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن سار على سنته إلى يوم الدين.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (102)[آل عمران: 102].

{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (1)[النساء: 1].

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} (71)[الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فبعد أن تخرجت من السنة المنهجية أخذت في البحث عن موضوع مناسب لتسجيله رسالة علمية نافع لي ولكل ناظر فيه ولم يسبق أحد في طرق أبوابه، ولا في نظم حلله، معتبرا في ذلك بمضمون كلام ابن الجزري رحمه الله في قوله:

وينبغي لمن أراد التصنيف أن يبدأ بما يعم النفع به، وتكثر الحاجة إليه بعد تصحيح النية، والأولى أن يكون شيئا لم يسبق إلى مثله. اهـ

(1)

.

وقد هداني الله - تعالى - إلى موضوع أغلب ظني أنه لم يلق عناية ببحث ودراسة فهو موضوع بكر لم تفتح أبوابه، ولم تكشف أسراره، فإنه لما كثرت الأقوال في

(1)

منجد المقرئين ص 10.

ص: 7

تفسير كلام الله - تعالى - واختلط الحق بالباطل احتاج الأمر إلى وضع النقاط على الحروف، بتقعيد قواعد وضوابط يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وهذا هو ما دفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى تصنيف مقدمته في أصول التفسير قال في مقدمتها: أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه

والتمييز - في منقول ذلك ومعقوله - بين الحق وأنواع الأباطيل والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل، فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين. اهـ

(1)

.

فكان تخلية كتب التفسير - من كل دخيل علق بها وتجريدها من الآراء العقدية الفاسدة - ضرورة ملّحة لا غنى لأمة الإسلام عنها لتأخذ تفسير كتاب الله نبعا صافيا وموردا زلالا، فشحذت الهمة وقويت العزم على خوض غمار ما كتبه الأوائل لاستخراج قواعد وضوابط يعرف بها الصواب في تفسير كتاب الله - تعالى - ويجرده من كل ضعيف وشاذ من أقوالهم، وينقيه من كل دخيل فيه، فكان هذا البحث خطوة في هذا الطريق، ووسمته ب «قواعد الترجيج عند المفسرين» ، ودرسته دراسة نظرية بتأصيل قواعده، وتطبيقها على خلاف المفسرين من خلال كتب التفسير.

فأبرزت جملة من قواعد الترجيج في موضع واحد مبينا موقف المفسرين منها ومدى تطبيقهم واعتمادهم لها، ويلمح منها أهم أسباب خلافهم.

وكل ذلك من منظور أهل السنة والجماعة، المبني على دلائل الكتاب والسنة، وكل من خالفه فهو محجوج به مردود إليه.

ففكرت في اختيار بعض كتب التفسير لاستقرائها، وتقييد حللها، فتأملت في كتب التفسير فرأيتها لا تخرج عن ثلاثة أقسام:

أولها: ما يكون مختصرا يعرض مؤلفه فيه تفسيرآيات التنزيل على ما ترجح عنده

(1)

مقدمة في أصول التفسير ص 33.

ص: 8

دون ذكر لخلاف أو سرد لأقوال.

وهذا القسم لا يفيد - غالبا - في استخراج قواعد للترجيح؛ إذا كان من مقاصد أصحابها اختصار الأقوال وعدم ذكر الخلاف.

الثاني: من يذكر الخلاف غير أنه لا يهتم ببيان الراجح منها، ووجه ترجيحه، وإن رجح أحيانا لا يذكر وجه ترجيحه.

وأيضا هذا القسم ليس رئيسا في استقرائي لقواعد الترجيح.

الثالث: من جمع بين ذكر الخلاف والترجيح فيه وبيان وجه الترجيح، وذلك كتفسير الإمام الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وأبي حيان، وابن كثير، والشنقيطي، وغيرهم.

فكانت عنايتي منصبّة على هذا القسم، فاخترت ثلاثة من كتبه المشهورة المعروفة بالتحرير، وراعيت في ذلك أن يتنوع أسلوب عرضها، فاخترت «جامع البيان» للطبري، و «المحرر الوجيز» لابن عطية، و «أضواء البيان» للشنقيطي.

وسبب اختياري لهذه الكتب دون غيرها هو اهتمام أصحابها بالترجيح في خلاف المفسرين، والتعليل له - غالبا - إضافة إلى ما للإمام الطبري من منزلة عظيمة في هذا الفن عموما وفي الترجيح خصوصا فهو لا يكاد يجاوز خلافا إلا ويختار ويرجح، ويعلل ويحتج لترجيحه. ومع ذلك تميزه في جانب التفسير بالأثر.

أما تفسير ابن عطية فهو على مسماه محررّ وجيز يبين - غالبا - أصح الأقوال في تفسيرالآية، وعليه اعتمد كثير ممن بعده كالقرطبي، وأبي حيان، والشوكاني، وصديق خان، وغيرهم، مع ما يمثله من مدرسة الرأي.

أما «أضواء البيان» فلا يقضي العالم منه عجبه، محرر مدقق، عمدته الدليل، تجرد صاحبه من كل هوى وبدعة، أصولي مفسر، استعان بالقواعد الأصولية في فهم كتاب الله، ومعرفة أرجح الأقوال في تفسيرآيات التنزيل، ولا يذكر خلافا - غالبا - إلا ويبين الراجح فيه مقرونا بالدليل والتعليل.

ص: 9

إضافة إلى قلّة استطراد هؤلاء الثلاثة في العلوم الأخرى كالفقه والنحو بالنسبة إلى الجصاص، والقرطبي، وأبي حيان، والسمين الحلبي، وغيرهم.

ثم رسمت لنفسي منهجا أسير عليه في تسطير سطور هذا البحث وهو كالتالي:

أولا: استقرأت هذه الكتب الثلاثة، فقرأت «جامع البيان» و «أضواء البيان» كاملين، وتسع مجلدات من «المحرر الوجيز» أقف عند كل خلاف، وكل ترجيح سطره هؤلاء الأئمة وأقيد كل ذلك مقسّما حسب خطة البحث.

ثم تتبعت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية المتناثر في الفتاوى فيما يتعلق بالتفسير وأصوله، وقرأت كلام ابن القيم المجموع في «التفسير القيم» . وقد استغرق هذا الاستقراء مني ما يزيد على أربعة عشر شهرا.

ثانيا: لم أهمل بقية كتب التفسير بل قمت بمقارنة ما اجتمع عندي من قواعد وأمثلة عليها مع بقية كتب التفسير، خاصة التي تهتم بذكر الخلاف والترجيح فيه، وقيدت ترجيحاتهم وأقوالهم في اعتماد القاعدة.

ثالثا: جعلت كل مطلب من مطالب هذه الرسالة يمثل قاعدة أصلية وما يلحق بها من قواعد متفرعة عنها أو داخلة تحت مضمونها.

وبعض هذه القواعد الترجيحية قواعد تفسيرية، تفسّر بهاآيات التنزيل ابتداء، وذكرتها هنا لمخالفة بعض الأقوال لها، فهي تفسيرية من حيث إنه ينبغي أن تفسر الآية بها ابتداء، وترجيحية من حيث النظر بها بين الأقوال المختلفة في التفسير، فهي تفسيرية من وجه، ترجيحية من وجه آخر.

وهذه القواعد منها ما هو منصوص عليها بلفظها ومعناها من قبل، ومشهورة بين العلماء بلفظها، كقاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» . ومنها ما يقل ذكرها والتنصيص عليها بلفظها، غير أن اعتمادها والعمل بمضمونها معروف بينهم، كقاعدة القلب، وقاعدة:«تقدير ما ظهر في القرآن أولى في بابه من كل تقدير» .

ومنها ما لم أجد من ذكرها بلفظها، فاستخرجتها من ترجيحاتهم واجتهدت

ص: 10

في صياغتها، وبينت عمل العلماء بمضمونها، كقاعدة:«لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن أو السنة» .

وأحيانا توجد قواعد مشتهرة بين علماء الأصول بلفظ معين، غير أني أختار عبارة بعض المفسرين وإن خالف المشهور، كما في قاعدة:«لا تصح دعوى النسخ في آية من كتاب الله إلا إذا صح التصريح بنسخها أو انتقى حكمها من كل وجه» .

رابعا: درست القواعد الأصلية دراسة وافية، وطريقتي في ذلك تقسيم الكلام فيها على فقرات كالتالي:

1 -

صورة القاعدة: أذكر فيها معنى القاعدة العام مختصرا.

2 -

بيان ألفاظ القاعدة: وفيه أشرح معاني ألفاظ القاعدة من حيث اللغة والاصطلاح، وبيان القيود والشروط فيها - إن وجدت -، وأذكر ما يدخل تحت القاعدة، وما يخرج منها من جزئيات.

3 -

أدلة القاعدة: حيث أستدل على القاعدة من القرآن والسنة وإجماع الأمة - إن وجد ذلك واحتاج الأمر إليه - ولا أغفل التعليل والمستند العقلي الصحيح الذي يتفق مع دلائل الكتاب والسنة.

4 -

أقوال العلماء في اعتماد القاعدة: حيث أذكر فيها أقوال العلماء التي تدل على اعتماد المفسر للقاعدة، واستعماله لها في الترجيح، وأختار منها الواضح الصريح الذي لا يحتاج إلى تعليق وإيضاح وبيان.

وطريقتي في عرضها أني أجتزء من كلام العالم القول الذي يقرر به القاعدة سواء ذكرها بلفظها أو بمضمونها، أو رجح بما يتفق مع مضمونها، وسردت أقوال العلماء مرتبة حسب الوفيات.

5 -

بعد تقرير القاعدة أذكر من خالف في اعتمادها - إن وجد - وأبين مستنده وأرده مدعّما ذلك بالأدلة، والنقول عن الأئمة.

6 -

الأمثلة التطبيقية على القاعدة: حيث أبسط الكلام على مثال واحد - غالبا -

ص: 11

أذكر أقوال العلماء في الآية، ولم ألتزم نسبتها إلى قائليها إلا ما دعت إليه الحاجة - طلبا للاختصار -، وأبيّن الراجح - حسب وسعي - ووجه ترجيحه مستندا إلى الأدلة من القرآن والسنة، ووجوه الترجيح الصحيحة، ثم أذكر بعض أقوال العلماء في ترجيحه، وأردف أخيرا بالقواعد التي تؤيد القاعدة في ترجيحها.

وإذا كانت القاعدة مركبة من أكثر من جزء أذكر لكل جزء مثالا

(1)

، وأحاول دائما أن أوسع دائرة تطبيق القاعدة فأذكر أصناف من تردّ القاعدة تفاسيرهم مدعّما كل ذلك بالأمثلة من مصادرهم الأصلية.

وحرصت على ذكر الأمثلة التي لها أثر عملي أو عقدي حتى تتضح أهمية القاعدة في الترجيح، ونبهت على المناهج المنحرفة في تفسير القرآن عند كل مناسبة تسنح لي، وأضرب الأمثلة من مصادرهم الأصلية - ما وجدت إلى ذلك سبيلا - ثم أبيّن وجه بطلانها، وأردف بسرد أقوال بعض علماء أهل السنة في إبطالها، وهتك أستارها، إلا ما كان واضحا وضح الشمس في رابعة النهار.

7 -

أحلت في نهاية المثال إلى نظائره معزوة إلى مصادرها بالجزء والصفحة، معتمدا فيها على ترجيح من أحلت إليه، وإن نازعتها في الحقيقة قاعدة أخرى.

8 -

ذكرت بعد ذلك القواعد المتفرعة عن القاعدة الأصلية أو الداخلة تحت مضمونها - إن وجدت - وشرحت منها ما يحتاج إلى شرح، واكتفيت في بعضها بذكرها والإحالة إلى من ذكرها من العلماء استغناء بما بسط من القواعد الأصلية.

خامسا: من منهجي أن لا أعتبر في الترجيح إلا ما كان صريحا من أقوالهم، وقد أعبّر أحيانا في الترجيح بقولي: «ومال إليه فلان

» وذلك لكونه لم يصرح بترجيحه وإنما أطنب في تقريره والاستدلال له، أو حكى غيره بصيغة التمريض،

ص: 12

ولم أعتبر تقديم العالم لقول ترجيحا على الرغم من أنه منهج لبعضهم

(1)

، وذلك لعدم صراحته.

سادسا: قد أحتاج أحيانا إلى إدخال بعض كلامي أثناء نص منقول بلفظه لأحد العلماء لإيضاح إحالة إلى محذوف، ونحوه، فأميزه بوضعه معترضا ومحصورا بين معقوفين هكذا -[]-.

سابعا: عزوت الآيات القرآنية الواردة في البحث إلى سورها.

ثامنا: خرّجت الأحاديث النبوية والآثار من مصادرها الأصلية، فما كان منها في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به - غالبا - وإن لم يكن فيهما فإني أخرّجه من مصادره الأصلية، وأنقل تصحيحه أو تضعيفه من أقوال بعض العلماء المتقدمين أو المتأخرين.

تاسعا: وثقت النصوص التي أنقلها توثيقا علميا دقيقا من مصادرها الأصلية إلاّ أن يتعذر عليّ ذلك فإني أبينه، إلاّ ما كان من أمر «التفسير القيم» فإني أحلت إليه على الرغم من أنه جمع متأخر؛ لأني جمعت الإحالات منه، ولسهولة مراجعته، ولشهرته وانتشاره بين الخاصة والعامة.

عاشرا: عرّفت بالمصطلحات العلمية الواردة في البحث من حيث اللغة والاصطلاح واعتمدت في كل مصادره الأصلية من كتب اللغة والأصول والقراءات وغيرها، ومن كتب التعاريف والمعاجم.

الحادي عشر: ترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في صلب البحث ترجمة مختصرة وافية بالغرض من كتب التراجم المعتمدة، عدا الخلفاء الأربعة والمعاصرين الأحياء.

الثاني عشر: عرفت بالفرق والطوائف والبلدان الوارد ذكرها في البحث من كتبها المعتمدة.

(1)

انظر مثلا جامع البيان (12/ 106 - 107).

ص: 13

الثالث عشر: أبدأ في الإحالات الهامشية - غالبا - بالمتقدم وفاة ثم أرتبهم حسب الوفيات، وقد أقدم أحيانا المتأخر لفائدة كأن يكون النص المنقول من كلامه اخترته لوضوحه أو سهولته أو شموله، ونحو ذلك.

الرابع عشر: إذا كان للكتاب أكثر من طبعة فإني أميز الطبعة التي لم أكثر من الرجوع إليها والنقل عنها، وأهمل تمييز الطبعة التي اعتمدتها في نقولي وأكثرت من الرجوع إليها مثل تفسير الطبري وتفسير ابن عطية

(1)

.

الخامس عشر: الكتب التي تتفق أسماؤها أميزها إما بالنسبة إلى الفن أو إلى المؤلف، أو بسردها مع كتب من نفس الفن، كالبحر المحيط في التفسير، والبحر المحيط في أصول الفقه، والبرهان للزركشي وللجويني، والأشباه والنظائر لابن السبكي ولابن نجيم وللسيوطي، وغيرها.

السادس عشر: عملت فهارس فنية تساعد على كشف مضامين هذا البحث بسهولة ويسر.

وسرت في بحثي هذا على خطة مرسومة مكونة من مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. على النحو التالي:

- المقدمة: وفيها أهمية البحث، وأسباب اختياري له، ومنهجي فيه، وخطته وشكر ودعاء لكل من أعان عليه.

- التمهيد: وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريفات أساسية.

المبحث الثاني: بيان متى يكون الترجيح.

المبحث الثالث: تنازع القواعد المثال الواحد.

(1)

اعتمدت في تفسير الطبري الطبعة الكاملة ط: دار الفكر، وإن أحلت إلى تحقيق شاكر أبينه بقولي:

تحقيق شاكر، أو ط: شاكر واعتمدت الطبعة المغربية لتفسير ابن عطية، وإن أحلت إلى القطرية أبنت ذلك.

ص: 14

الفصل الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني:

وفيه مدخل، ومبحثان:

المدخل في قاعدة:

«لا تصح دعوى النسخ في آية من كتاب الله إلا إذا صح التصريح بنسخها أو انتفى حكمها من كل وجه» .

المبحث الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف:

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردّها أو ردّ معناها، وهي بمنزلة آية مستقلة» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه» .

المطلب الثالث: قاعدة:

«معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى القراءة الشاذة» .

المطلب الرابع: قاعدة:

«الوجه التفسيري والإعرابي الموافق لرسم المصحف أولى من الوجه المخالف له» .

المبحث الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني:

وفيه ثلاث مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عنهما إلا بدليل يجب التسليم له» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه» .

ص: 15

المطلب الثالث: قاعدة:

«حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك» .

- الفصل الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والآثار والقرائن:

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة النبوية:

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«إذا ثبت الحديث، وكان نصا في تفسيرالآية فلا يصار إلى غيره» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«إذا ثبت الحديث، وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجّح له على ما خالفه» .

المطلب الثالث: قاعد:

«كل تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو ردّ» .

المطلب الرابع: قاعدة:

«لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن أو السنة» .

المبحث الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار:

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير» .

المطلب الثالث: قاعدة:

«تفسير السلف وفهمهم لنصوص الوحي حجة علي من بعدهم» .

ص: 16

المطلب الرابع: قاعدة:

«تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذّ» .

المبحث الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن:

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجّح على ما خالفه» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» .

المطلب الثالث: قاعدة:

«القول الذي يعظّم مقام النبوة ولا ينسب إليها ما لا يليق بها أولى بتفسيرالآية» ، وقاعدة:«كل قول طعن في عصمة النبوة ومقام الرسالة فهو مردود» .

- الفصل الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بلغة العرب:

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: قواعد الترجيح المتعلقة باستعمال العرب للألفاظ والمباني.

وفيه ثمانية عشر مطلبا:

المطلب الأول: قاعدة:

«كل تفسير ليس مأخوذا من دلالة ألفاظ الآية وسياقها فهو ردّ على قائله» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«ليس كل ما ثبت في اللغة صح حمل آيات التنزيل عليه» .

المطلب الثالث: قاعدة:

«يجب حمل كلام الله - تعالى - على المعروف من كلام العرب دون الشاذ والضعيف والمنكر» .

المطلب الرابع: قاعدة:

«يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة» .

ص: 17

المطلب الخامس: قاعدة:

«إذا اختلفت الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية في تفسير كلام الله - تعالى - قدمت الشرعية» .

المطلب السادس: قاعدة:

«إذا اختلفت الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية في تفسير كلام الله - تعالى - قدمت العرفية» .

المطلب السابع: قاعدة:

«القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار» .

المطلب الثامن: قاعدة:

«القول بالترتيب مقدم على القول بالتقديم والتأخير» .

المطلب التاسع: قاعدة:

«لا ينبغي حمل الآية على القلب ولها بدونه وجه صحيح» .

المطلب العاشر: قاعدة:

«إذا دار الكلام بين التأسيس والتأكيد فحمله على التأسيس أولى» .

المطلب الحادي عشر: قاعدة:

«حمل ألفاظ الوحي على التباين أرجح من حملها على الترادف» .

المطلب الثاني عشر: قاعدة:

«إذا دار الكلام بين الزيادة والتأصيل فحمله على التأصيل أولى» .

المطلب الثالث عشر: قاعدة:

«إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركا أو مفردا، فإنه يحمل على إفراده» .

المطلب الرابع عشر: قاعدة:

«القول الذي يؤيده تصريف الكلمة وأصل اشتقاقها أولى بتفسيرالآية» .

المطلب الخامس عشر: قاعدة:

ص: 18

«يجب حمل نصوص الوحي على العموم ما لم يرد نص بالتخصيص» .

المطلب السادس عشر: قاعدة:

«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .

المطلب السابع عشر: قاعدة:

«إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدا أو مطلقا فإنه يحمل على إطلاقه» .

المطلب الثامن عشر: قاعدة:

«الأصل في الأوامر أنها للوجوب، وفي النواهي أنها للتحريم» .

المبحث الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بمرجع الضمير:

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

«إذا أمكن حمل الضمير على غير الشأن فلا ينبغي الحمل عليه» .

المطلب الثاني: قاعدة:

«إعادة الضمير إلى مذكور أولى من إعادته إلى مقدّر» .

المطلب الثالث: قاعدة:

«إعادة الضمير إلى المحدث عنه أولى من إعادته إلى غيره» .

المطلب الرابع: قاعدة:

«توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها» .

المطلب الخامس: قاعدة:

«الأصل إعادة الضمير إلى أقرب مذكور، ما لم يرد دليل بخلافه» .

المبحث الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالإعراب:

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: قاعدة:

«يجب حمل كتاب الله على الأوجه الإعرابية اللائقة بالسياق والموافقة لأدلة

ص: 19

الشرع».

المطلب الثاني: قاعدة:

«يجب حمل كتاب الله على الأوجه الإعرابية القوية والمشهورة دون الضعيفة والشاذة» .

- الخاتمة: وفيها أهم النتائج.

- الفهارس الفنية اللازمة للبحث.

وفي الختام أشكر الله - تعالى - وأثني عليه الخير كله على ما منّ به عليّ، ويسّر وأعان على إتمام هذا الجهد، وسلك بي سبيل العلم، ثم أتقدم بالشكر والتقدير الجزيلين لفضيلة الشيخ مناع القطّان المشرف على هذه الرسالة على ما غمرني به من علم وفضل، ولين جانب وحسن توجيه، وبما فتح لي صدره وبيته، وبما صرف لي من ثمين وقته وسعة صدره، فجزاه الله عني خير الجزاء وجعل ذلك في ميزان حسناته، وأشكر كل من أبدى لي نصحا أو مساعدة برأي أو مشورة أو بتوجيه أو بإعانة فلهم مني جزيل الشكر والثناء، والدعاء لهم بأن ينفع الله بهم ويبارك في أعمارهم.

كما أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة في كلية أصول الدين.

وأشكر وزارة المعارف ممثلة في كليتي المعلمين في جازان وفي الرياض اللتين يسرتا لي فرصة الالتحاق بالجامعة ومواصلة دراستي.

وهذا جهد المقلّ فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ وزلل فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله - تعالى - منه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الباحث

ص: 20

‌التمهيد وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريفات أساسية.

(1)

تعريف التفسير، والمفّسّر.

(2)

تعريف التعارض.

(3)

تعريف الترجيح.

(4)

تعريف القاعدة.

(5)

تعريف المركب الإضافي «قواعد الترجيح» .

المبحث الثاني: بيان متى يكون الترجيح.

المبحث الثالث: تنازع القواعد المثال الواحد.

ص: 21

‌المبحث الأول:

تعريفات أساسية

(1) تعريف التفسير، والمفسر

.

‌التفسير في اللغة:

اختلف علماء العربية في أصل لفظ «التفسير» . فقال جماعة، منهم الأزهري

(1)

في تهذيبه، وابن فارس

(2)

في مقاييسه وغيرهما: أن التفسير «تفعيل» من «الفسر» بمعنى الإبانة وكشف المراد عن اللفظ المشكل وإيضاحه

(3)

. يقال فسر الشيء يفسره - بالكسر - ويفسره - بالضم - فسرا، وفسّره: أي أبانه

(4)

.

والفسر: التفسير وهو: بيان وتفصيل للكتاب.

وقال آخرون: هو مقلوب من «سفر» ومعناه أيضا الكشف، يقال سفرت المرأة سفورا، إذا ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة، وأسفر الصبح، أضاء، وإنما بنوه على التفعيل؛ لأنه للتكثير، كقوله تعالى:{يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} [البقرة: 49]، وقوله:{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} [يوسف: 23]، فكأنه يتبع سورة بعدسورة وآية بعد أخرى

(5)

.

(1)

هو: محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أبو منصور، أحد أئمة اللغة والأدب، اشتغل أولا بالفقه ثم غلب عليه التبحر في العربية فرحل في طلبها وتوسع فيها وألف كتابه العظيم تهذيب اللغة توفي سنة سبعين وثلاث مائة. الوفيات (1/ 501)، وسير أعلام النبلاء (16/ 315).

(2)

هو: أحمد بن فارس بن زكريا الرازي، من أئمة اللغة الأعلام، صاحب معجم مقاييس اللغة وله «جامع التأويل في التفسير» مفقود توفى سنة خمس وتسعين وثلاث مائه، انباه الرواة (1/ 127) والوفيات (1/ 35).

(3)

تهذيب اللغة (12/ 407) ومعجم مقاييس اللغة (4/ 504) مادة «فسر» .

(4)

لسان العرب (5/ 55) مادة «فسر» .

(5)

البرهان في علوم القرآن، للزركشي (2/ 147).

ص: 23

وقال الراغب الأصفهاني

(1)

: والفسر والسّفر يتقارب معناهما، كتقارب لفظيهما؛ لكن جعل الفسّر لإظهار المعنى المعقول

، وجعل السّفر لإبراز الأعيان للأبصار فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح

(2)

. اهـ.

وأيّا كان الأمر فأصل المادة يدور على معنى البيان والكشف والإيضاح.

‌التفسير اصطلاحا:

عرّف بتعريفات كثيرة، فعرفه أبو حيان

(3)

بقوله: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب، وتتمات لذلك

(4)

. اهـ ونقل هذا التعريف الألوسي

(5)

وتفسيره

(6)

.

ثم شرح التعريف بقوله: قولنا علم: هو جنس يشمل سائر العلوم.

وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن: هذا هو علم القراءات.

وقولنا: ومدلولاتها: أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه

(1)

هو: الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني، أبو القاسم، أديب لغوي، مفسر، من أهل أصبهان، من أشهر كتبه المفردات في غريب القرآن، وله كتاب في التفسير، طبعت مقدمته، توفى سنة ثنتين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (18/ 120).

(2)

مقدمة جامع التفاسير للراغب ص 47، وانظر المفردات ص 412 وص 636.

(3)

هو: محمد بن يوسف بن علي بن حيان، الإمام أثير الدين أبو حيان، الأندلسي الغرناطي، نحوى عصره، ولغويه، ومفسره، ومحدثه، ومقرؤه، ومؤرخه، وأديبه، له يد طولى في التفسير واللغة، ومن أعظم تصانيفه البحر المحيط، مات سنة خمس وأربعين وسبعمائة. انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/ 287).

(4)

البحر المحيط (1/ 26).

(5)

هو: محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، شهاب الدين، أبو الثناء، مفسر، محدث، أديب، من أهل بغداد، مولده ووفاته فيها تقلد الإفتاء في بلده، له مصنفات كثيرة أعظمها روح المعاني مات سنة سبعين ومائتين وألف، انظر الأعلام (4/ 176).

(6)

روح المعاني (1/ 4).

ص: 24

في هذا العلم.

وقولنا: وأحكامها الإفرادية والتركيبية: هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع.

وقولنا: ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب: شمل ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر وهو المجاز.

وقولنا: وتتمات لذلك: هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك

(1)

.

وعرفه الزركشي

(2)

بقوله: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه

(3)

اهـ.

فعلى هذا التعريف يكون استمداد علم التفسير من علم اللغة، والنحو، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.

قال شيخنا الشيخ مناع القطان رحمه الله: وتشترك التعريفات السابقة في أنها تناولت تفصيلات وأحكاما جزئية مما هو خارج عن الماهية، فليست حدا للتفسير، وغاية ما يقال فيها إنها تعاريف بالرسم، والأولى عندي أن يقال في تعريفه: بيان كلام الله المتعبد بتلاوته المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

«فبيان كلام الله» هذا المركب الإضافي، يخرج بيان كلام غيره - تعالى - من الإنس والجن والملائكة.

(1)

البحر المحيط (1/ 26).

(2)

هو: محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، بدر الدين أبو عبد الله، صاحب التصانيف، كان أصوليا أديبا، له البرهان في علوم القرآن والبحر المحيط في أصول الفقه وغيرها. توفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة. انظر شذرات الذهب (6/ 335).

(3)

البرهان في علوم القرآن (1/ 13).

ص: 25

«المتعبد بتلاوته» أخرج الحديث القدسي.

«والمنزل» يخرج كلام الله الذي استأثر به - سبحانه -.

وتقييد المنزل بكونه «على محمد صلى الله عليه وسلم» يخرج به ما أنزل على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل

(1)

اهـ.

وبنحو هذا التعريف عرّفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظه الله - فقال: بيان معاني القرآن الكريم

(2)

اهـ (**).

(**) ومما يعبر به بعض المفسرين عن تفسيرالآية، لفظ «التأويل» كما يفعل ابن جرير الطبري رحمه الله فيقول: القول في تأويل قول الله - تعالى - .. ، أي القول في تفسير قوله - تعالي - .. والتأويل لغة، من الأول وهو الرجوع، فإرجاع اللفظ وتصييره إلى معنى من المعاني التي يحتملها يكون تأويلا، ومنه قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي تكشف عاقبته، ويقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه، وقيل أصله من الإيالة وهي السياسة، فكأن المؤول للكلام يسوي الكلام ويضع المعنى في موضعه، معجم مقاييس اللغة (1/ 160)، لسان العرب (11/ 33 - 34)، البرهان في علوم القرآن (2/ 148).

وللتأويل اصطلاحا عدة معاني:

الأول: تفسير الكلام وبيان معناه.

الثاني: أنه حقيقة الكلام وعين مقصوده، فتأويل الأمر هو الفعل المأمور به، فهذان المعنيان هما استعمال المتقدمين.

وأما «التأويل» في عرف المتأخرين هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. وهذا المعنى الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف في الصفات وغيرها، والمعنى الأول هو الذي بمعنى التفسير عند أهل التفسير، انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (13/ 288) وما بعدها.

ومن العلماء من فرّق بين التفسير والتأويل، وقد اختلفت أقوالهم في ذلك، جمع حامد أفندي العمادي، مفتي دمشق، المتوفى سنة ست وثلاثين ومائة وألف جملة منها في «رسالة التفصيل في الفرق بين التفسير والتأويل» ، بلغت فيها الأقوال أكثر من أربعة عشر قولا. يقوم د. فهد الرومي بتحقيقها، وانظر جملة من هذه الأقوال في البرهان في علوم القرآن (2/ 149)، والإتقان (4/ 167).

(1)

مذكرة مادة علوم القرآن للسنة المنهجية عام 1411 هـ ص 34 له.

(2)

أصول في التفسير ص 27.

ص: 26

‌تعريف المفسر:

كل أهل فن عرّفوا بمن اشتغل بفنهم، فالفقهاء عرّفوا بالفقيه، وكذا الأصوليون عرفوا بالأصولي، وهكذا.

ولم أر - على قصور منّي - من عرّف بالمفسر، ممن اشتغل بهذا الفن غير أنه يمكن استيحاء ذلك، من الضوابط العامة التي جعلت للمفسر، ومن تعريفات أصحاب الفنون لأصحابها

(1)

.

فالمفسر هو: من له أهلية تامة يعرف بها مراد الله - تعالى - بكلامه المتعبد بتلاوته، قدر الطاقة، وراض نفسه على مناهج المفسرين، مع معرفته جملا كثيرة من تفسير كتاب الله، ومارس التفسير عمليا بتعليم أو تأليف.

فقولي: «من له أهلية تامة .. » أدخل كل من استكمل المؤهلات التي تؤهله لتفسير كلام الله، وذلك بأن يكون عالما باللغة وما يندرج تحتها من شرح مفردات، وفهم تراكيب ودلالات الألفاظ، والنحو والتصريف، والاشتقاق، والبلاغة، وكذلك علم القراءات، وعلم أصول الفقه، والفقه، ومعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما يحتاج إليه من ذلك. وخرج بهذا القيد من لم يستكمل تلك العلوم.

وقولي: «ومارس التفسير عمليا بتعليم أو تأليف» قيد أخرج من علم جملة من تفسير كتاب الله ولم يمارس تعليمه أو التأليف فيه، فإنه لا يكون مفسرا بمجرد العلم بجملة من التفسير، بل يكون بها وحدها وعاء ناقلا لتلك الجمل التي حفظها وعلمها. ووضعت هذا القيد ليدخل في مسمى «المفسّر» من عرف جملا من التفسير، ومارسه بالتعليم دون التأليف وهم كثير من علماء الأمة، فكثيرا ما يجد القارئ في كتب التراجم، وطبقات المفسرين من كان ينتصب لتدريس تفسير كتاب الله في المساجد والمدارس، ولم يعرف عنه أنه ألف في التفسير كتابا.

***

(1)

انظر شرح الكوكب المنير (1/ 42) تعريف الفقه.

ص: 27

(2) تعريف التعارض:

«التعارض» في اللغة، مصدر تعارض، يقال عارض الشيء بالشيء معارضة قابله، وعارضت كتابي بكتابه أي قابلته، والشيء عرض عيني أي مقابلها، وعرض الشيء يعرض، واعترض: انتصب ومنع، وصار عارضا كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق، ونحوها تمنع السالكين سلوكها .. وعرض لك الشيء من بعيد بدا وظهر

وعارضه في المسير أي سرت حياله وحاذيته

(1)

.

«التعارض» في الاصطلاح: تقابل الحجتين المتساويتين في القوة على وجه يوجب كل منهما ضد ما توجبه الأخرى في محل واحد في وقت واحد

(2)

.

وهذا هو مفهوم التعارض عند الفقهاء والأصولين أنه تقابل حجتين أو دليلين، أما مفهوم «التعارض» في بحثي هذا فهو أوسع من مفهومه عندهم، وما ذاك إلا لأن موضوع «التعارض» عند الأصوليين هو الأدلة العقلية والشرعية، أما في موضوعي هذا فهو الأقوال المختلفة في التفسير، فالأصل فيه هو خلاف التضاد وأدخلت بعض صور خلاف التنوع من باب حمل الآية على أولى الوجوه وأوفقها للنص القرآني - على ما سيأتي بيانه إن شاء الله في المبحث الآتي - والتعامل مع أقوال العلماء يختلف عن التعامل مع نصوص الشريعة - كما هو معلوم -.

(3) تعريف الترجيح:

الترجيح في اللغة:

قال ابن فارس: الرء والجيم والحاء، أصل واحد يدلنا على رزانة وزيادة، يقال:

(1)

لسان العرب مادة «عرض» (7/ 167 - 168 - 169)، وانظر أيضا تهذيب اللغة (1/ 454).

(2)

التيسير في قواعد علم التفسير ص 228، وانظر تعريف التعارض في البحر المحيط للزركشي (6/ 109) وشرح الكوكب المنير (4/ 605) والتعارض والترجيح للبرزنجي (1/ 24 - 42) والتعارض والترجيح للحفناوي ص 39.

ص: 28

رجح الشيء وهو راجح إذا رزن

(1)

. اهـ. وأرجح الميزان أي أثقله حتى مال

(2)

..

وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل

(3)

.

وعرّف بغير هذا

(4)

.

وفي موضوعي هذا: تقوية أحد الأقوال في تفسيرالآية لدليل أو قاعدة تقوية، أو لتضعيف أو ردّ ما سواه.

فقولي: «لتضعيف أوردّ ما سواه» لأنه إذا ضعّف غيره من الأقوال صار ذلك حصرا للصواب فيه، وهذا من أوجه الترجيح.

وسوف أعتمد ترجيحات أئمة التفسير الأعلام وأقوالهم في تقرير القواعد التي نصوا عليها، والترجيح بها في أمثلتها. ودراسة ومقارنة ترجيحاتهم فيما لم ينصوا عليه أو يذكروه، ثم الخلوص منها بقاعدة ترجيحية يصدق عليها مسمى القاعدة - بإذن الله -.

(4) تعريف القاعدة:

القاعدة لغة: [أصل الأسّ، وجمعها قواعد وهي الأساس، وقواعد البيت أساسه، وفي التنزيل {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} [البقرة: 127]. وفيه أيضا قوله تعالى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ} [النحل: 26].

والقواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضة في أسفله تركّب عيدان الهودج فيها. وقال أبو عبيد

(5)

: القواعد هي أصولها المعترضة

(1)

معجم مقاييس اللغة (2/ 489).

(2)

لسان العرب (2/ 445) وانظر تهذيب اللغة (4/ 142) مادة «رجح» .

(3)

شرح الكوكب المنير (4/ 616).

(4)

انظر أصول السرخسي (2/ 249) والمحصول (2/ 529/2) والبحر المحيط للزركشي (6/ 130) والتعارض والترجيح للبرزنجي (1/ 116) والتعارض والترجيح للحفناوي ص 279 وما بعدها.

(5)

هو: القاسم بن سلاّم الهروي الأزدي الخزاعي، من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، تولى قضاء طرسوس ثماني عشرة سنة، له مصنفات كثيرة من أشهرها غريب الحديث، وغريب القرآن، توفي بمكة سنة أربع وعشرين ومائتين. انظر تذكرة الحفاظ (2/ 417).

ص: 29

في آفاق السماء، وأحسبها مشبهة بقواعد البيت وهي حيطانه، والواحد منها:

قاعدة

(1)

. قال ذلك في بيانه لغريب قوله صلى الله عليه وسلم حين سأل عن سحائب مرت فقال:

«كيف ترون قواعدها وبواسقها»

(2)

. وقال ابن الأثير

(3)

: أراد بالقواعد ما اعترض منها وسفل تشبيها بقواعد البناء

(4)

. اهـ.

ويقال للفسيلة إذا صار لها جذع: قد قعدت، وفي أرض فلان من القاعدة كذا وكذا أصلا]

(5)

. وهذه أمور حسية، واستعملت أيضا في الأمور المعنوية ومن ذلك قواعد العلم.

القاعدة اصطلاحا: عرفت بتعاريف كثيرة.

فقيل هي: الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه

(6)

.

فقيل أمر كلي: ولم يقل أغلبي؛ لأن شأن القواعد أن تكون كلية

(7)

. وإن الفرع أو الفروع المخرجة منها ليست داخلة فيها، إذ هي كلية بالنسبة إلى غير تلك الفروع المخرجة منها، فالدليل الذي أخرج هذا الفرع أو الفروع منها، خصصها بما وراءه من فروع

(8)

.

(1)

غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 104).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره عند قوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)[الشعراء: 195](9/ 2818) وانظر تفسير ابن كثير (6/ 172).

(3)

هو: المبارك بن محمد الجزري مجد الدين أبو السعادات، صاحب جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث، وألف كتابا في التفسير سماه «الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف» توفي سنة ست وستمائه. انظر سير أعلام النبلاء (21/ 488).

(4)

النهاية في غريب الحديث (4/ 78).

(5)

لسان العرب (3/ 361) وانظر تهذيب اللغة (1/ 202) ومعجم مقاييس اللغة (5/ 109) مادة «قعد» .

(6)

شرح الكوكب المنير (1/ 30).

(7)

ذكر هذا المعنى، الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/ 45).

(8)

انظر كتاب القواعد لأبي بكر عبد المؤمن المعروف بالحصني (1/ 10) تحقيق عبد الرحمن الشعلان.

رسالة ماجستير كلية الشريعة.

ص: 30

قال الإمام الشاطبي

(1)

: وأيضا فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي فلا تكون داخلة تحته أصلا

(2)

. اهـ

وعرفت القاعدة - أيضا - بأنها: حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته

(3)

.

قيل حكم أغلبي؛ لأنها لا تنطبق على جميع الجزئيات في كل قاعدة، وإنما حكم أغلبي إذ إن كثيرا من القواعد تشذ عنها بعض المسائل، فتعد مستثناة منها، ولا يقدح ذلك في كونها قاعدة

(4)

، وبذلك صار الحكم أغلبيا.

وفي نظري - والله أعلم - أن الخلاف بين الحدين خلاف صوري إذ كل منهما يقرر أن لكل قاعدة مستثنيات لا تدخل تحت حكم القاعدة.

فمن جعل حكم القاعدة كليا، نظر إلى هذه الجزئيات المخرجة من القاعدة على أنها لا تدخل في حكم القاعدة أصلا. فجعل حكمها كليا باعتبار ما بقى تحت حكمها من جزئيات.

ومن جعل حكمها أغلبيا اعتبر هذه الجزئيات المخرجة على أنها غير داخلة تحت صورة القاعدة أصلا، وإنما أخرجت بدليل، فصار حكم القاعدة منتفيا عنها مع كونها كانت من جزئيات القاعدة، وبما أن هذه الجزئيات المخرجة قليلة بالنسبة لما يندرج تحت القاعدة من جزئيات صار حكم القاعدة أغلبيا.

ولعل التعريف الثاني - حكم أغلبي ينطبق على معظم الجزئيات - أقرب إلى الناحية الواقعية في الصورة المختلف عليها، وهي الجزئيات المستثناة، فهي في الأصل تدخل

(1)

هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي، أصولي حافظ، صاحب التصانيف، من أشهر مؤلفاته الموافقات والاعتصام، والاتفاق في علم الاشتقاق، توفي سنة تسعين وسبعمائة، انظر درة الحجال، ذيل الوفيات (1/ 182) والأعلام (1/ 75).

(2)

الموافقات (2/ 53).

(3)

المدخل الفقهي العام للزرقا (2/ 946).

(4)

انظر مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي أم القرى - العدد الخامس 1402 - 1403 ص 13 في بحث للدكتور وهبة الزحيلي.

ص: 31

تحت القاعدة وإنما خرجت لاعتبار معين.

فهذا تعريف القاعدة بمدلولها العام فتشمل كل ما يطلق عليه قاعدة في العلوم كافة كالقاعدة الأصولية «الأمر يقتضي الوجوب» ، والقاعدة النحوية:«الفاعل مرفوع» والقاعدة الفقهية «لا ضرر ولا ضرار» والقاعدة الترجيحية «القول بالتأسيس مقدم على القول بالتأكيد» ، وغيرها من القواعد.

***

(5) التعريف بالمركب الإضافي «قواعد الترجيح» :

لم أر أحدا سبق في دراسة هذا الموضوع دراسة مستقلة، وحدد معالمه، ووضع حدوده، فالذين كتبوا في علوم القرآن وأصول التفسير، لم يتعرضوا إلى هذا الموضوع؛ لذلك كانت هذه محاولة مني لتحديد معالم هذا العلم. فأقول وبالله التوفيق.

‌أولا: قواعد الترجيح عند المفسرين هي:

ضوابط وقواعد أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله.

قلت: «ضوابط وقواعد» باعتبار عدم التفريق بين القاعدة والضابط كما هو نهج بعض العلماء، وقد فرق بينهما آخرون

(1)

.

وقلت: «أغلبية» باعتبار أن القاعدة أغلبية وقد سبق الإشارة إلى ذلك في تعريف القاعدة.

وقولي: «يتوصل بها إلى معرفة الراجح» خرج به القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام وغيرها، فالترجيح لا استنباط فيه من الآية وإنما هو نظر في الأقوال

(1)

عقد د. علي الندوي في رسالته القواعد الفقهية مبحثا في الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي وسرد مذاهب العلماء في ذلك فمنهم من فرق بينهما ومنهم من لم يفرق. انظر ص 46 ولا يظهر في بحثي هذا الفرق بينهما على قول من فرق؛ لأن القواعد الترجيحية ترجح بين أقوال المفسرين في تفسير كتاب الله كاملا، ولا علاقة لنا هنا بأبواب أو فصول من العلم كما هو في الفقه، والله أعلم.

ص: 32

المستنبطة من الآية، للترجيح بينها من خلال هذه القاعدة.

قولي: «من الأقوال المختلفة» خرج به ما كان موضع وفاق بين العلماء، فلا، مجال للترجيح فيه، وهو ما يعرف بالإجماع.

قولي: «في تفسير كتاب الله» خرج به الترجيح في غيره من العلوم، كالفقه والنحو وغيرها.

‌ثانيا: موضوع القواعد الترجيحية:

موضوعها أقوال المفسرين المختلفة في تفسير كتاب الله - تعالى -.

‌ثالثا: غايتها:

غاية العلم بقواعد الترجيح هي:

* معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله، ومن ثم العمل بها اعتقادا إن كانت من آيات العقيدة، وعملا بالجوارح إن كانت من آيات الأحكام العملية، وسلوكا وأدبا إن كانت من آيات الأخلاق والآداب.

* وتصفيه وتنقية كتب التفسير مما قد علق ببعضها، من أقوال شاذة أو ضعيفة، أو مدسوسة فيها لمذهب عقدي ونحو ذلك.

رابعا: استمدادها من أصول الدين، ومن لغة العرب، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية، وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، واستقراء ترجيحات أئمة التفسير.

ص: 33

‌المبحث الثاني:

بيان متى يكون الترجيح

إن طلب أصح الأوجه في تفسير كلام الله - تعالى - من أهم مقاصد طلب العلم وتحصيله، ودراسة التفسير خاصة، لذلك مما ينبغي العلم به، العلم بالتفسير الذي اتفق عليه العلماء، وأجمع عليه أهل الأمصار والأعصار، أو أهل عصر معين، كإجماع الصحابة، أو إجماع التابعين، أو من بعدهم. قال ابن قدامة

(1)

: ويجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء إلى الإجماع فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه

(2)

. أهـ فهو أصح وأعلى أنواع التفسير فيجب المصير إليه، وحمل الآية عليه. كإجماعهم - عليهم رحمة الله - على تفسير اليقين في قوله تعالى:

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (99)[الحجر: 99] بأنه الموت

(3)

. أو إجماعهم على تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود، والضالين بأنهم النصارى

(4)

، في قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ} (7) وكاتفاقهم على تفسير الأمر في قوله تعالى:{لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} (1)[الطلاق: 1] بأنها الرجعة

(5)

، أو كاتفاقهم على تفسير الأميين في قوله:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}

(1)

هو عبد الله بن أحمد بن قدامة، شيخ الإسلام، موفق الدين، صاحب التصانيف، له المغني في فقه الحنابلة هو من أعظم كتبه وله الروضة في الأصول، وغيرها، كان إماما في الفقه والأصول والفرائض.

وفيات الأعيان (2/ 185).

(2)

روضة الناظر مع شرحها (2/ 456).

(3)

التفسير القيم ص 94 قال ابن القيم: اليقين ههنا الموت بإجماع أهل التفسير. اهـ.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (1/ 23 - 24).

(5)

النكت والعيون (6/ 30) قال الماوردي: يعني الرجعه في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث. اهـ.

ص: 34

[الجمعة: 2]. بأنهم العرب

(1)

. ونحوها من الآيات التي اتفق السلف على تفسيرها

(2)

.

وذلك بتنصيص أحد الأئمة الأعلام وحكايته لهذا الإجماع، وعدم العلم بالمخالف، فهذا يدل على أن الأمة متفقة على تفسير هذه الآية وفهمها على هذا الوجه، إذ يستحيل أن تجهل الأمة - أو تعلم وتسكت - في عصور مختلفة تفسيرآيات من كتاب الله، وتفسرها بمعان هي خلاف الصواب، ولا تفسّر بغيرها من المعاني الصحيحة.

والكثرة الكاثرة من الآيات وقع الخلاف في تفسيرها، وهذا الخلاف لا يخلو من أحد أربعة أمور:

إمّا أن تكون جميع الأقوال محتملة في الآية وبقوة الاحتمال نفسها أو قريبا منه، ومن نصوص القرآن والسنة ما يشهد لكل واحد منها.

وإما أن تكون الأقوال متعارضة مع بعضها يتعذر حمل الآية عليها جميعا.

وإما أن تكون الأقوال ليست متعارضة مع بعضها، وإنما يكون بعضها معارضا لدلالة آيات قرآنية، أو لنصوص صحيحة من السنة، أو لإجماع الأمة.

وإما أن تكون الأقوال المختلفة في الآية ليس بينها تعارض - لا مع بعضها ولا مع آيات أو أحاديث أو إجماع - وهي محتملة، غير أن بعضها أولى من بعض، لاعتبارات سيأتي بسطها في ثنايا هذا البحث. وسوف أذكر - بمشيئة الله - لكل نوع من هذه الأنواع أمثلة، مراعيا فيها جانب الاختصار، مبينا بها المقصود.

فأما النوع الأول من الخلاف وهو ما إذا كان جميع الأقوال محتملة في الآية ونصوص القرآن والسنة شاهدة لكل واحد منها، فكقوله تعالى:{وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] فللعلماء ثلاثة أوجه من

(1)

أضواء البيان (1/ 147).

(2)

انظر جامع البيان (1/ 268) تحقيق شاكر وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 31) والنكت والعيون (6/ 162) والمحرر الوجيز (8/ 48 - 53)، (16/ 161) والتفسير القيم ص 38 - 168 - 213، والتحرير والتنوير (1/ 25). والإجماع عند المفسرين للدكتور محمد الخضيري.

ص: 35

التفسير، قال العلامة الشنقيطي

(1)

: وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله - تعالى -.

الأول: أن المعنى، وهو الله في السماوات وفي الأرض، أي وهو الإله المعبود في السماوات والأرض؛ لأنه - جل وعلا - هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء، وعلى هذا فجملة {يَعْلَمُ} حال، أو خبر، وهذا المعنى يبينه، ويشهد له قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} [الزخرف: 84] أي وهو المعبود في السماء والأرض بحق، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره؛ لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} [النجم: 23]، وقال:{وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} (66)[يونس: 66].

الوجه الثاني: أن قوله: {فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] يتعلق بقوله:

{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} أي وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}

[الفرقان: 6].

الوجه الثالث: أن الوقف تام على قوله: {فِي السَّماواتِ،} وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ} يتعلق بما بعده، أي يعلم سركم وجهركم في الأرض. ومعنى هذا القول: أنه - جل وعلا - مستو على عرشه فوق جميع خلقه، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم لا يخفى عليه شيء من ذلك، يبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ} (16)

(1)

هو: العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، بحر العلوم، درّس في المسجد النبوي، وكليتي الشريعة واللغة العربية، وغيرها، توفي سنة ثلاثة وتسعين وثلثمائة وألف. عن ترجمة تلميذه عطية محمد سالم في مقدمة الأضواء (1/ 3).

ص: 36

[الملك: 16]، وقوله:{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} (5)[طه: 5]، مع قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنّا غائِبِينَ} (7)[الأعراف: 7] انتهى كلامه

(1)

.

وكالخلاف في لفظة {ما} في قوله تعالى: {اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى}

[الرعد: 8]، فهي تحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى، وعلى هذا فالمعنى: يعلم ما تحمله من ولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وخداج، وحسن، وقبح

وغير ذلك من الأحوال، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى:{وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ} [لقمان: 8]؛ لأن {ما} فيه موصولة بلا نزاع، وقوله:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} [النجم: 32]، وقوله:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ}

[آل عمران: 6].

وتحتمل أن تكون - {ما} - مصدرية، أي يعلم حمل كل أنثى، بالمعنى المصدري، وقد جاءت آيات تدل على هذا المعنى كقوله تعالى:{وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، وقوله تعالى:{* إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ}

[فصلت: 47]

(2)

.

فمثل هذا الخلاف محتمل، وكل الأقوال فيه حق، ولا يدخله ترجيح لكون الأقوال صحيحة، وجميعها مراد من الآية، والقرآن يشهد لكل واحد منها؟ فلذلك هو خارج عن موضوع بحثي، إذ يستقيم حمل الآية على كل قول منها، وليس بعضها أولى من بعض.

(1)

أضواء البيان (2/ 181 - 182).

(2)

هذا المثال بلفظه من كلام الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 80 - 81).

ص: 37

أما الأنواع الثلاثة الباقية فهي موضوع بحثي، وكل عملي في هذا البحث منصبّ عليها، وأكثره على النوع الثالث منها.

أما النوع الأول من هذه الأنواع الثلاثة فهو ما إذا كانت الأقوال متعارضة يتعذر حمل الآية عليها جميعا، فلا بد أن يكون المراد أحدها، وغالب ذلك في المشترك، والمتواطئ المراد به أحد النوعين. إذ اتفق أهل الأصول على عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه من متكلم واحد في وقت واحد، إذا امتنع الجمع بين مدلوليه أو مدلولاته

(1)

.

مثل «القرء» فإنه يراد به «الحيض» ويراد به «الطهر» ولا يمكن أن يكون المراد الاعتداد بهما معا في آن واحد.

قال الماوردي

(2)

في مقدمة تفسيره: الضرب الثاني: أن يتفق أصل الحقيقة فيهما فيكونا مستعملين في اللغة على سواء أو في الشرع أو في العرف، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يتنافى اجتماعهما ولا يمكن استعمالهما، في الأحكام الشرعية مثل «القرء» الذي هو حقيقة في الطهر وحقيقة في الحيض، ولا يجوز للمجتهد أن يجمع بينهما، لتنافيهما، وعليه أن يجتهد رأيه في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه

(3)

اهـ.

(1)

انظر الإحكام للآمدي (2/ 261) وشرح تنقيح الفصول ص 144 - 115 والتمهيد للأسنوى ص 173 وشرح الكوكب المنير (1/ 140) ومختصر من قواعد العلائي (1/ 125 - 387) وإرشاد الفحول ص 48.

(2)

هو علي بن محمد بن حبيب الماوردي القاضي أبو الحسن، من فقهاء الشافعية، له تصانيف كثيرة، في أصول الفقه وفروعه، والتفسير وغيرها، مات سنة خمسين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء (18/ 64) وطبقات المفسرين (1/ 427).

(3)

النكت والعيون (1/ 39).

ص: 38

وأما إذا لم يمتنع الجمع بين مدلولي المشترك، فهل يجوز استعماله فيهما؟ فيه مذهبان:

الأول: أنه يصح إطلاق المشترك المفرد في معنييه أو معانيه معا في وقت واحد من متكلم واحد، ونسبه الشوكاني

(1)

إلى جمهور العلماء

(2)

، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

. قال رحمه الله: ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين.

إما لكونه مشتركا في اللفظ كلفظ «قسورة» الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد.

ولفظ «عسعس» الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.

وإما لكونه متواطئا في الأصل؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى} (8)[النجم: 8] وكلفظ {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (3)[الفجر: 1 - 3] وما أشبه ذلك، فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك. فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه، إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء: المالكية، والشافعية، والحنبلية، وكثير من أهل الكلام

(4)

اهـ.

المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يحمل المشترك على معنييه أو معانيه في وقت واحد

(1)

هو محمد بن علي الشوكاني، الفقيه الأصولي المفسر، صاحب التصانيف، من علماء اليمن، تولى قضاء صنعاء، وكان نابذا للتقليد داعيا للاجتهاد توفى سنة خمسين ومائتين وألف. الأعلام (6/ 298).

(2)

إرشاد الفحول ص 48.

(3)

هو أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الدمشقي، أبو العباس، ناصر السنة وقامع البدعة، أفتى ودرّس وصنف وهو دون العشرين، مات سجينا في قلعة دمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، انظر البداية والنهاية (14/ 141).

(4)

مجموع الفتاوى (13/ 341) وهو ترجيح الشنقيطي في أضواء البيان (2/ 15) و (6/ 81).

ص: 39

من متكلم واحد. وهو اختيار الرازي

(1)

في المحصول

(2)

. وانتصر لهذا المذهب العلامة ابن القيم

(3)

فقال: إن الأكثرين لا يجوزون استعمال المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة، ولا بطريق المجاز، وما حكي عن الشافعي

(4)

من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه، وإنما أخذ من قوله:«إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم» . فظن من ظن أن لفظ الموالي مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما، وهذا ليس بصحيح. فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة، فالشافعي - في ظاهر مذهبه - وأحمد

(5)

يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ وهو عنده عام متواطئ لا مشترك

(6)

. اهـ. والذي يدخل معنا في هذا النوع هو المشترك الذي يمتنع الجمع بين مدلوليه أو مدلولاته، فلا يجوز أن يحمل على معنييه أو معانيه، بحيث

(1)

هو محمد بن عمر بن الحسين الرازي، فخر الدين، الشهير بابن خطيب الريّ، المفسر، الأصولي، المتكلم، صاحب التصانيف، من منظري مذهب الأشاعرة، توفي سنة ست وستمائة. انظر طبقات الشافعية (8/ 18) وطبقات المفسرين (2/ 213).

(2)

المحصول في علم أصول الفقه (1/ 373)، وانظر تفسيره (10/ 21).

(3)

هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، الشهير بابن قيم الجوزية، أبو عبد الله، إمام من أئمة الإسلام الأعلام، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وحمل علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، صاحب التصانيف، توفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. شذرات الذهب (6/ 168).

(4)

هو: محمد بن إدريس بن العباس الهاشمي أبو عبد الله، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، إمام في الفقه واللغة والقراءات وأول من صنف في أصول الفقه، أفتى وهو ابن عشرين، له تصانيف كثيرة أشهرها الأم والرسالة، توفي بمصر سنة أربع ومائتين. تذكرة الحفاظ (1/ 329).

(5)

هو: إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله، أحد الأئمة الأربعة: نشأ محبا للعلم منكبا عليه، ورحل في طلبه إلى الكوفة والبصرة ومكة واليمن والمغرب وغيرها، سجن وعذب في محنة القول بخلق القرآن فنصر الله به السنة وثبته عليها، له مصنفات منها المسند، وله كتاب في التفسير مفقود. مات سنة 241. سير أعلام النبلاء (11/ 177).

(6)

جلاء الأفهام ص 124، وانظر المسألة في نهاية السول (2/ 123)، والبحر المحيط للزركشي (2/ 128)، وما بعدها، والبرهان له (2/ 167)، وتفسير النصوص (2/ 141) وما بعدها.

ص: 40

تكون مرادة جميعا معا في الآية:

أما الذي لا يمتنع الجمع بين مدلوليه فهذا الأمر فيه أوسع، ولا يظهر تعارض بين الأقوال إذا قيل بجميع معانيه في الآية.

ومثل المتواطئ المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله تعالى:

{ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} (9)[النجم: 8 - 9]، فقد اختلف المفسرون في المراد بالمقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى.

فقالت عائشة

(1)

وابن مسعود

(2)

وأبو ذر

(3)

وأبو هريرة

(4)

رضي الله عنهم:

إنه جبريل عليه السلام.

وصح عن ابن عباس

(5)

رضي الله عنهما أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. اهـ فجعل هذه إحداهما

(6)

.

(1)

هي: أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين، بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، توفيت في سنة ثمان وخمسين. سير أعلام النبلاء (2/ 135).

(2)

هو: عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، فقيه الأمة، من السابقين الأولين إلى الإسلام، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، توفي سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالبقيع. انظر سير أعلام النبلاء (3/ 331).

(3)

هو: جندب بن جنادة بن سفيان من بني غفار، من كنانة، مختلف في اسمه واسم أبيه، من كبار الصحابة، ومات بالربذة من قرى المدينة، كان لا يدخر من المال قليلا ولا كثيرا، مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل غير ذلك. انظر الإصابة (7/ 10).

(4)

هو: الإمام الفقيه الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه واسم أبيه، على أقوال، أرجحها عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، قدم المدينة سنة سبع للهجرة ولازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، توفي سنة تسع وخمسين وقيل غير ذلك. انظر سير أعلام النبلاء (2/ 578) والإصابة (7/ 199).

(5)

هو: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي البحر، حبر الأمة وترجمان القرآن، فقيه عصره، إمام التفسير صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاثين شهرا، توفي سنة ثمان أو سبع وستين. انظر سير أعلام النبلاء (3/ 331).

(6)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13)[النجم: 13] حديث (176). وانظر تفسير ابن كثير (7/ 422) والتفسير القيم ص 452.

ص: 41

وقد يكون هذا النوع في غير المشترك والمتواطئ مثل الخلاف في تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ} [البقرة: 237]. فقال بعض المفسرين:

هو ولي البكر. وقال آخرون: هو الزوج

(1)

.

وأمّا مثال النوع الثاني من هذه الأنواع الثلاثة، وهو ما إذا كانت الأقوال غير متعارضة، وإنما يكون بعضها معارضا لآيات قرآنية، أو لنصوص صحيحة من السنة، أو لإجماع الأمة، فمثل هذه الأقوال يجب إطراحها، وسقوط حكمها.

قال الماوردي: الضرب الثاني: أن يترجح أحدهما -[أي أحد القولين]- على الآخر بدليل، وهو على ضربين:

أحدهما: أن يكون دليلا على بطلان أحد المعنيين، فيسقط حكمه، ويصير المعنى الآخر هو المراد، وحكمه هو الثابت. اهـ

(2)

، وذلك كقول سعيد بن المسيب

(3)

: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل

(4)

. اهـ. فمثل هذا القول معارض لصريح القرآن في وصف خمر الجنة، أنه لا يغتال العقول فيذهب بها، أو يغيّرها كما قال تعالى:{لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} (47)[الصافات: 47].

قال أبو حبان: وما أظنه يصح عنه -[أي عن ابن المسيب]-؛ لأن خمر الجنة كما ذكر الله تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ} (47) اهـ

(5)

.

(1)

انظر جامع البيان (2/ 542 - 549)، وانظر أصول في التفسير لابن عثيمين ص 33 - 34.

(2)

النكت والعيون (1/ 40).

(3)

هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، رأى عمر وسمع عثمان وعليا وزيد بن ثابت وغيرهم. مات سنة أربع وتسعين، وقيل غير ذلك. انظر سير أعلام النبلاء (4/ 217).

(4)

أخرجه الطبري بسنده عنه في جامع البيان (1/ 237)، وذكره ابن عطية في تفسيره (1/ 188) وغيرهما.

(5)

البحر المحيط (1/ 261).

ص: 42

وقال ابن قتيبة

(1)

: تبيّن قوله في وصف خمر أهل الجنة: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} (19)[الواقعة: 19]، كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر، وجمع بقولها {وَلا يُنْزِفُونَ} (19) عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب. أهـ

(2)

.

وكقول مقاتل بن سليمان

(3)

: إن الله - تعالى - إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه

(4)

. اهـ فمثل هذا القول معارض لصريح قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} {(28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} (29)[الحجر: 28 - 29].

وقال قوم: «سجود الملائكة كان مرتين» ، قال ابن عطية: والإجماع يرد هذا. اهـ

(5)

.

ومثله في مخالفة إجماع الأمة من ادعى جواز نكاح تسع نسوة حرائر استدلالا بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ}

[النساء: 3]

(6)

.

ومن أمثلة الأقوال المخالفة للسنة، قول محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى:{يا أُخْتَ هارُونَ} [مريم: 28]: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصّت أثر موسى فبصرت به عن جنب وهم لا

(1)

هو: عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد الدّنيوريّ، النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، توفي سنة ست وسبعين ومائتين، انظر إنباه الرواة (2/ 143) وطبقات المفسرين (1/ 215).

(2)

تأويل مشكل القرآن ص 7.

(3)

مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدي البلخي، المفسر، كذّبوه، وهجروه، ورمي بالتجسيم، مع أنه من أوعية العلم بحر في التفسير، مات سنة خمسين ومائة. طبقات المفسرين (2/ 330).

(4)

المحرر الوجيز (1/ 178) قال ابن عطية: قال النقاش -[معلقا على هذا القول]- والقرآن يرد على هذا القول. اهـ.

(5)

المحرر الوجيز (1/ 178).

(6)

انظر الموافقات (3/ 392)، والاعتصام (2/ 302).

ص: 43

يشعرون. اهـ

(1)

.

وهذا القول مخالف لحديث المغيرة بن شعبة

(2)

رضي الله عنه قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرءون «يأخت هارون» وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال:«إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»

(3)

.

ومخالف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علات، وليس بيني وبينه نبي»

(4)

.

وردّ هذا القول بمضمون هذه القاعدة الحافظ ابن كثير

(5)

، والعلامة الشنقيطي

(6)

، وغيرهما.

وأما أمثلة النوع الثالث وهو ما إذا كانت الأقوال المختلفة في الآية محتملة وليس بينها تعارض، غير أن بعضها أولى من بعض؛ لكون القرآن ودلالة ألفاظه تشهد لقول دون غيره، أو السنة تشهد لأحدها، أو لغة العرب، أو قرائن في السياق، أو أسباب أخر تقضي بتقديم أحد الأقوال، وهذا ما يسمى تقديم الأولى.

(1)

رواه عنه ابن أبي حاتم بسنده في تفسيرالآية. بواسطة نقل ابن كثير في تفسيره (5/ 221)، وذكر هذا القول البغوي في تفسيره (5/ 229) منسوبا إلى الكلبي.

(2)

هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، أبو عيسى أو أبو محمد، أسلم قبل الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان، من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة، وذهبت عينه يوم اليرموك، توفي سنة خمسين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (3/ 21)، والإصابة (6/ 131).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، حديث رقم (9).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16)[مريم: 16] انظر الصحيح مع الفتح (6/ 550). ومسلم، كتاب الفضائل، حديث رقم (143)، وأولاد العلات هم: الأخوة لأب من أمهات شتى.

(5)

انظر تفسير القرآن العظيم (5/ 221 - 223).

(6)

انظر أضواء البيان (4/ 271 - 272).

ص: 44

وأمثلته أكثر من أن تحصى وفي ثنايا هذا الكتاب جملة وافرة منها:

قال العز بن عبد السلام

(1)

: وأولى الأقوال ما دل عليه الكتب في موضع آخر أو السنة أو إجماع الأمة أو سياق الكلام، وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولي. اهـ

(2)

وقد اعتمد ذلك جلّ علماء التفسير فمثلا هذا ابن كثير

(3)

كثيرا ما يقول، وكلا القولين معنى حسن ولكن الأول أولى

(4)

وذاك إمامهم ابن جرير الطبري

(5)

لا يكاد يخلو تفسيرآية من قوله: وأولى الأقوال عندي بتفسيرالآية كذا وكذا.

وهذا النوع يكون في بعض اختلاف التنوع الذي أثر عن السلف، ولا يلزم من تقديم قول أن يطرح ما سواه، بل هذا من باب تقديم الأولى، وإن كانت بقية الأقوال لها وجه في الآية.

قال الماوردي: الضرب الثاني: أن يترجح أحدهما على الآخر بدليل وهو على ضربين:

والضرب الثاني: أن يكون دليلا على صحة أحد المعنيين فيثبت حكمه ويكون

(1)

هو: عبد العزيز بن عبد السلام السّلمي الشافعي، الملقب بسلطان العلماء، فقيه أصولي مفسر صاحب التصانيف، له قدم صدق في إنكار المنكر على العامة والسلاطين، توفي سنة ستين وستمائة.

انظر فوات الوفيات (2/ 350) وطبقات المفسرين (1/ 315).

(2)

الإشارة إلى الإيجاز ص 220.

(3)

هو: إسماعيل بن عمر بن كثير، الإمام الحافظ المحدث الفقيه المفسر المؤرخ، صاحب التصانيف، تتلمذ على المزي وصاهره وأخذ عنه، وله خصوصية بشيخ الإسلام ابن تيمية. توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة. الدرر الكامنة (1/ 399) وطبقات المفسرين (1/ 111).

(4)

تفسير ابن كثير (8/ 283) وانظر فتح القدير (2/ 274).

(5)

هو: محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، إمام المفسرين صدقا وعدلا، الإمام الحافظ المجتهد، الفقيه المحدث اللغوي، صاحب التصانيف، كان من أئمة الاجتهاد يحكم بقوله ويرجع إلى رأية، توفي سنة عشر وثلثمائة. سير أعلام النبلاء (14/ 267).

ص: 45

مرادا، ولا يقتضي سقوط المعنى الآخر، ويجوز أن يكون مرادا، وإن لم يكن عليه دليل؛ لأن موجب لفظه دليل، فاستويا في حكم اللفظ، وإن ترجّح أحدهما بدليل، فصارا مرادين معا.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى الذي يرجّح بدليل أثبت حكما من المعنى الذي تجرد عنه لقوته بالدليل الذي ترجح به، فهذا أصل يعتبر من وجوه التفسير، ليكون ما احتملته ألفاظ القرآن من اختلاف المعاني محمولا عليه، فيعلم ما يؤخذ به ويعدل عنه. اهـ

(1)

.

وقال العز بن عبد السلام: وعلى الجملة فالقاعدة في ذلك أن يحمل القرآن على أصح المعاني وأفصح الأقوال، فلا يحمل على معنى ضعيف ولا لفظ ركيك

اهـ

(2)

.

وقال ابن القيم:

للقرآن عرف خاص، ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها، ولا يجوز تفسيره بغير عرفه، والمعهود من معانية، فإنّ نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ، بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين، فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به، بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم، فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة

فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال، فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه. اهـ

(3)

.

وجماع القول في ذلك أن تفسيرالآية بما هو راجح أمر لازم حتما، ولا يسع أحدا أن يعدل عن تفسيرالآية بالراجح إلى المرجوح، كما قرر أصل المسألة علماء

(1)

النكت والعيون (1/ 40).

(2)

الإشارة إلى الإيجاز ص 220.

(3)

بدائع الفوائد (3/ 27) وانظر التفسير القيم ص 269.

ص: 46

الأصول بتقريرهم وجوب العمل بالراجح، وحكوا إجماع الصحابة على ذلك

(1)

.

وقال الإمام الطبري: وكتاب الله عز وجل لا توجّه معانيه، وما فيه من البيان إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجه صحيح موجود

(2)

. اهـ وحكاية الخلاف وذكر الأقوال في تفسيرالآية دون تنبيه على الراجح منها يضيع الحق، ويظهر النقص

(3)

على حاكيه. إذا تقرر ذلك كله، فليعلم أن قواعد الترجيح في هذا الكتاب تشمل الآتي:

* القواعد التي ترجح بعض الأقوال في تفسيرالآية. وإن لم تتعرض إلى ما سوى الراجح بتضعيف أو إبطال، وصلة هذا النوع بمسمى «قواعد الترجيح» ظاهرة، وهي أكثر القواعد المذكورة في هذا الكتاب.

* وتشمل أيضا القواعد التي تضعّف بعض الأقوال أو تبطلها، وإن لم تتعرض إلى ما سواها بترجيح، كقاعدة «كل تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو ردّ» وكقاعدة «لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات - لأمور مغيبة - لا دليل عليها من القرآن أو السنة» ووجه صلة هذا النوع بمسمى «قواعد الترجيح» ، هو أنها تحصر الصواب والراجح فيما عدا الوجه أو الأوجه التي ضعّفتها أو أبطلتها، وهذا معروف عند المفسرين، وقد استعملوه في الترجيح كثيرا.

ومثال ذلك قول ابن جرير الطبري - بعد أن برهن على بطلان بعض الأوجه في التفسير -: وإذا فسد هذان الوجهان، صح الثالث وهو ما قلنا

(4)

. اهـ.

(1)

انظر المحصول (2/ 529/2) والروضة مع شرحها (2/ 459) والبحر المحيط للزركشي (6/ 130) وشرح الكوكب (4/ 619) وإرشاد الفحول ص 460.

(2)

جامع البيان (7/ 100) ط: شاكر.

(3)

انظر إيثار الحق ص 149 ومجموع فتاوى ابن تيمية (13/ 368).

(4)

جامع البيان (17/ 80) وانظر نحو ذلك فيه أيضا (1/ 500) ط: شاكر، و (14/ 129) (15/ 106) و (26/ 18) ط: الفكر.

ص: 47

قال ابن عبد البر مؤصلا هذا النوع من الترجيح: لا خلاف بين أهل العلم والنظر أن المسألة إذا كان فيها وجهان فقام الدليل على بطلان الوجه الواحد منهما أن الحق في الوجه الآخر، وأنه مستغن عن قيام الدليل على صحته بقيام الدليل على بطلان ضده. اهـ

(1)

.

* وتشمل أيضا قواعد عامة تضبط النظر في الأقوال المختلفة في تفسيرالآية، كقاعدة «ليس كل ما ثبت في اللغة صح حمل آيات التنزيل عليه» فقواعد هذا الكتاب بمجموعها، منها ما يشير إلى الرجحان، ومنها ما يشير إلى البطلان، ومنها ما يشير إلى تضعيف بعض الأقوال، ومنها ضوابط عامة، للنظر في الأقوال المختلفة، للترجيح بينها.

***

(1)

التمهيد (20/ 199 - 200).

ص: 48

‌المبحث الثالث:

تنازع القواعد المثال الواحد

هذا المبحث من المباحث المهمة جدا في الترجيح، إذ لا يكفي فقط العلم بالقاعدة الترجيحية، بل لا بد من العلم بعدم منازعة غيرها لها في ترجيح أحد الأقوال.

وقبل الشروع في المقصد لا بد من تحرير مسألة اجتماع أكثر من قاعدة ترجيحية في مثال واحد، فالأمر لا يخلو من حالتين:

إما أن تكون هذه القواعد مجتمعة بعضها يؤيد بعضا في ترجيح قول واحد.

وإما أن يكون بعضها يرجح قولا وأخرى ترجح آخر.

فأما الأولى فهي من تعاضد القواعد وتقوية بعضها بعضا، فهي تزيد الترجيح قوة إلى قوة والأمثلة على ذلك كثيرة في ثنايا هذا الكتاب.

وأما الأخرى فهي المقصودة في هذا المبحث، وهي التي سيجري الكلام عليها في خطوط عامة تنسج ترتيبها عند تنازعها، دون تفصيل وإطناب لا سيما في الأمثلة؛ لأنها سوف تأتي في مواضعها في ثنايا الكتاب. وتعارض وجوه الترجيح قد تكلم عليه الأصوليون، وقرروا ضابطا عاما في تقديم بعضها على بعض وهو تقديم ما قوي فيه الظن.

قال الزركشي: واعلم أن التراجيح كثيرة، ومناطها ما كان إفادته للظن أكثر فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات، كما في كثرة الرواة وقوة العدالة وغيره، فيعتمد المجتهد في ذلك ما غلب على ظنه. اهـ

(1)

.

وقال الشنقيطي: والمرجحات يرجح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن. اهـ

(2)

.

(1)

البحر المحيط (6/ 159)، وانظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي (4/ 164).

(2)

أضواء البيان (5/ 371).

ص: 49

إذا تقرر هذا فأول القواعد التي تتصف بهذا الوصف هي القواعد التي ترجّح التفسير الأثري - وأعني به تفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالسنة -، فهي مقدمة عند التنازع على كل قاعدة ترجح تفسيرا اجتهاديا؛ لأن الله - تعالى - أعلم بما نزّل ورسوله صلى الله عليه وسلم مكلّف بييان ما نزّل - كما هو مقرر في مواضعه - «والتفسير الأثرى إذا صح لا يعارض بتفسير الرأي والاجتهاد، وبظواهر الألفاظ؛ لأنه إما أن يكون للرأي مستند من الوحيين أو لا، فإن كان الأول فلا يتعارض وحيان، وإن كان الآخر فلا يعدو أن يكون اجتهادا مستندا إلى القرائن والأمارات لا يقوى على معارضة ما كان مستنده القرآن والسنة»

(1)

. فإذا كان ذلك كذلك فقاعدة «إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسيرالآية فلا يصار إلى غيره» لا تعارض بأي قاعدة أخرى، فإن نازعتها قاعدة أخرى في مثال ما، فهي المقدمة على غيرها مطلقا.

وإنّ الاحتجاج بالظواهر والقياسات والاجتهادات وترجيحها مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريق أهل البدع، كما نص على ذلك الأئمة

(2)

.

وسيأتي بيان ذلك في مواضعه من هذا الكتاب.

فمن أمثلة هذا التنازع، منازعة قاعدة «إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عن ذلك» وقاعدة «توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها» للتفسير النبوي الثابت الصريح في تفسير قوله تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] فما قبله وما بعده عن أهل قباء، وكذا الضمائر في الآية غير محل النزاع تعود إلى مسجد قباء.

والتفسير النبوي بيّن أن المراد مسجده صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

انظر مناهل العرفان (2/ 64) والإسرائيليات في كتب التفسير لأبي شهبة ص 120.

(2)

انظر الإيمان لابن تيمية ص 375.

(3)

كما في حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: «فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة». أخرجه مسلم، كتاب الحج، حديث رقم (514).

ص: 50

وكما في تفسير قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (46)[الكهف: 46].

قال العلائي

(1)

- بعد أن ذكر اختيار ابن جرير وابن عطية للقول بالعموم -: لكن هذا إذا لم يرد ما يمنع من ذلك، وقد ورد هنا تفسير للنبي صلى الله عليه وسلم ثابت عنه يدل على القول الثاني

(2)

. اهـ

(3)

.

وقد أطال العلائي في تقرير هذا التنازع بين القاعدتين - في هذا المثال - وترجيح التفسير النبوي فليراجعه من أراد المزيد

(4)

.

والكلام على هذه الأمثلة جميعا ونظائرها واحد، وهو ترجيح قاعدة التفسير النبوي على ما سواها من القواعد

(5)

. هذا إذا كان الحديث في درجة القبول - أعنى

(1)

هو: العلامة الحافظ خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الشافعي، كان إماما في الفقه والنحو والأصول وغيرها، درّس وأفتى وألف في فنون مختلفة. توفي بالقدس سنة إحدى وستين وسبعمائة.

الدرر الكامنة (2/ 179) وشذرات الذهب (6/ 190).

(2)

هذا القول الذي أشار إليه العلائي هو نفس لفظ التفسير النبوي الذي جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم:

«خذوا جنتكم» . قالوا: يا رسول الله من عدو؟ قال: «لا، بل جنتكم من النار، قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر فإنها تأتي يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات» أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 541) والعلائي في جزء في تفسيرها ص 22 - 23 وتوسع في تخريجه، وله شاهد عند الطبري في جامعه (15/ 255).

(3)

جزء في تفسير الباقيات الصالحات ص 22.

(4)

جزء في تفسير الباقيات الصالحات ص 22 - 28.

(5)

ولم أجعل في مقدمة القواعد عند التنازع قواعد تفسير القرآن بالقرآن، كما هو مشهور في أحسن طرق التفسير التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، لما سيأتي تحريره من تحديد مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، وأنه ينقسم إلى قسمين:

قسم توقيفي لا يقع في مثله الخلاف.

وقسم اجتهادي بجعل آية نظير أخرى: انظر تفصيل ذلك ضمن مباحث قاعدة «القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» .

ص: 51

الصحيح والحسن -، أما إذا كان الحديث ضعيفا فمواقف العلماء منه مختلفة - على ما سيأتي بيانه - وخلاصة القول أنه إذا لم يوجد مرجح غيره رجّح به، أما إذا نازعته أوجه أخرى للترجيح فالذي يظهر - والله أعلم - تقديم ما غلب على الظن من هذه الأوجه والقواعد، إذا تقرر ذلك فقد تجتمع أكثر من قاعدة سوى التفسير النبوي الذي ضعف إسناده فتكون هذه القواعد مفيدة لغلبة الظن أكثر من هذا الحديث الضعيف، أو تكون القاعدة المنازعة له من القواعد القوية في الترجيح، التي لا يقوى الحديث الضعيف على معارضتها. ولهذا وذاك مثل منها منازعة التفسير النبوي في حديث ضعيف، لقاعدة «القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار» ولقاعدة «حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك» في تفسير قوله تعالى:{إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ} {}

{فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ} {تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] على ما سيأتي بسطه في أمثله قاعدة: «القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار» .

ومن تقديم قواعد التفسير الأثري، ما قرره العز بن عبد السلام بقوله: وأولى الأقوال ما دل عليه الكتاب في موضع آخر أو السنة أو إجماع الأمة أو سياق الكلام

اهـ

(1)

.

فمن القواعد التي يشهد القرآن فيها لأحد الأقوال قاعدة: «القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» . وقاعدة: «حمل كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك» .

وقاعدة: «القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجّح على ما خالفه» .

ومن القواعد التي تشهد فيها السنة لأحد الأقوال قاعدة: «إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجّح له على ما خالفه» .

(1)

الإشارة إلى الإيجاز ص 220.

ص: 52

ومن القواعد التي يشهد فيها الإجماع لأحد الأقوال قاعدة: «تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذ» وهو ما يعرف عند ابن جرير الطبري بإجماع الحجة، وسيأتي بيان معنى الشذوذ في القاعدة.

ومن القواعد التي يشهد فيها السياق لأحد الأقوال قاعدة: «إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عن ذلك» . وغيرها من القواعد.

فمن تنازع قاعدة أثرية، وقاعدة لغوية، تنازع قاعدة:«إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير» مع قاعدة. «يجب حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب دون الشاذ والضعيف والمنكر» في تفسير قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ} [النساء: 22]، فقاعدة سبب النزول ترجّح أن {ما}

في الآية موصولة واقعة موقع «من» ، وعلى مذهب من لا يجيز ذلك هي كذلك اسم موصول واقعة على أنواع من يعقل كما في قولي تعالى {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3] فهي مفعول لقوله: {وَلا تَنْكِحُوا،} والمعنى: ولا تنكحوا النساء اللاتي نكحهن آباؤكم؛ وذلك لما جاء في سبب نزولها أنه لما توفى أبو قيس بن الأسلت

(1)

خطب ابنه قيس

(2)

امرأة أبيه فقالت: إني أعدّك ولدا، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله - تعالى - هذه الآية

(3)

.

وهذا النوع من النكاح الجاهلي كان موجودا معروفا عند العرب في الجاهلية.

(1)

مشهور بكنيته، واختلف في اسمه فقيل: صيفي، وقيل: الحارث، وقيل: غير ذلك واسم الأسلت عامر بن جشم الأوسي، كان في الجاهلية من أوصف الناس لدين الحنيفية، مختلف في إسلامه، توفي في السنة الأولى من الهجرة. الإصابة (7/ 158).

(2)

قيس بن صيفي بن الأسلت بسببه نزلت آية: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ الإصابة (5/ 257).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم - في تفسيره تفسيرسورة النساءآية: 22 (3/ 909)، وانظر تفسير ابن كثير (2/ 214) - وأسباب النزول للواحدي ص 148، وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 468) وعزاه إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي، وضعّفه الحافظ ابن حجر في الإصابة (5/ 257).

ص: 53

واختار هذا القول جماعة من المفسرين

(1)

.

أما قاعدة: «يجب حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب

» ترجّح أن {ما} في الآية مصدرية؛ وذلك لأن أكثر استعمالها في لسان العرب لغير بني آدم، فيكون النهي في الآية عن نكاح الآباء الفاسد الذي يتعاطونه في الجاهلية.

واستعمل هذه القاعدة في ترجيح هذا القول الإمام الطبري، وقال: إن ذلك هو المعروف من كلام العرب ولو كان المقصود النهي عن حلائل الآباء لقال:

ولا تنكحوا من نكح آباؤكم؛ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب؛ إذ كان «من» لبني آدم، و «ما» لغيرهم

(2)

.

وترجيح قاعدة أسباب النزول أولى؛ لأنها أغلب في الظن فهي قاعدة أثرية خاصة وأن المعنى الذي رجحته لم يخرج بالآية عن فصيح كلام العرب؛ لأن «ما» تأتي للعاقل كما تأتي لغيره سواء أكان المراد بها النوع والأوصاف، أو آحادهم - على الخلاف في ذلك - ولا يعدّ ذلك شذوذا أو استعمالا لما لا تعرفه العرب، بل هو من فصيح ما ورد عنهم

(3)

، وكفاه صحة وفصاحة أن جاء به القرآن كما في قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} [النحل: 62] فجاءت {ما} في هذه الآية لمن يعقل وهم البنات، وبهذا فسرها الإمام الطبري نفسه قال رحمه الله: ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم ويزعمون أن لهم الحسنى، الذي يكرهونه لأنفسهم البنات يجعلونهن لله - تعالى -.

(1)

منهم ابن العربي في أحكام القرآن (1/ 475)، والقرطبي في الجامع (5/ 103)، والشنقيطي في أضواء البيان (1/ 378)، وغيرهم واقتصر عليه آخرون كالرازي في تفسير (10/ 18)، وابن كثير في تفسيره (2/ 214)، والشوكاني في فتح القدير (1/ 442)، وغيرهم.

(2)

جامع البيان (4/ 319).

(3)

انظر تقرير ذلك في الكتاب لسيبوبه (4/ 228)، والكشاف (4/ 258)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 574)، (4/ 645 - 651)، والدر المصون (3/ 635) و (5/ 156)، والنحو الوافي (1/ 351 - 370).

ص: 54

أهـ

(1)

فجعلها موصولة لمن يعقل، فهذا إلزام له - على جلالة قدره - من قوله على تأصيله وترجيحه بين القاعدتين.

وكما جاء في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] ولا شك أن من المسبحين العقلاء، فهم داخلون تحت عموم {ما}

(2)

، وكما جاء في قوله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35] ولا شك أن ما في بطنها عاقل إما ذكرا أو أنثى.

وغيرها من الآيات.

فمن مجموع كلام الطبري في هذه الآيات وغيرها يظهر - والله أعلم - أنه أراد الترجيح بالأغلب من استعمال العرب في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ}

[النساء: 22]، وهذه القاعدة من القواعد المشتهرة عند الطبري، ويرجّح بها ويقررها كثيرا.

فإذا كان ذلك كذلك فالقاعدة الأثرية هي المقدّمة، خاصة إذا كان المعنى الذي تفسر به الآية مما عرف في العربية، ولم يخرج إلى الشذوذ والنكارة، وإن كان أقل استعمالا من الآخر، وذلك؛ لأنها مفيدة لغلبة الظن أكثر من الترجيح بالأكثر استعمالا في العربية.

ومن تنازع القواعد الأثرية مع قواعد السياق، تنازع قاعدة:«إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عن ذلك» مع قاعدة «تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذ» في تفسير قوله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، بعد أن حكى الطبري الخلاف في تفسيرالآية، ذكر ترجيحه مضمّنا تنازع القاعدتين والترجيح بينهما فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن

(1)

جامع البيان (14/ 216).

(2)

انظر تقرير الطبري لذلك في جامع البيان (28/ 93).

ص: 55

الذي قاله مسروق

(1)

في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله - تعالى - ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجّه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عني به عبد الله بن سلام

(2)

وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل وما أريد به، فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي. اهـ

(3)

.

ومن تنازع القواعد للمثال الواحد، تنازع قاعدة:«تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذ» وهو ما يعرف عند ابن جرير الطبري بإجماع الحجة، وقاعدة:

«يجب حمل نصوص الوحي على العموم» ، في تفسير قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} (40)[ق: 40]. ذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد بها ركعتان بعد المغرب. وذهب ابن زيد

(4)

: إلى أنها النوافل في أدبار المكتوبات.

(1)

هو: ابن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي، الإمام القدوة العلم، حدّث عن جمع من الصحابة كأبيّ وعمر ومعاذ وغيرهم رضي الله عنهم، كان عالما بالفتوى، توفي سنة ثلاث وستين، سير أعلام النبلاء (4/ 68).

(2)

هو: عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف الإسرائيلي الأنصاري، الإمام الحبر، المشهود له بالجنة، من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقيل تأخر، توفي سنة ثلاث وأربعين، سير أعلام النبلاء (2/ 413) والإصابة (4/ 80).

(3)

جامع البيان (26/ 12).

(4)

هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني، من أتباع التابعين، روى عن أبيه وابن المنكدر، قال أبو -

ص: 56

قال الطبري - بعد أن حكى القولين السابقين مضمنا كلامه تنازع القاعدتين والترجيح بينهما -: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: هما الركعتان بعد المغرب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك، ولولا ما ذكرت من إجماعها عليه، لرأيت أن القول في ذلك ما قاله ابن زيد؛ لأن الله - جلّ ثناؤه - لم يخصص بذلك صلاة دون صلاة، بل عمّ أدبار الصلوات كلها، فقال: وأدبار السجود، ولم تقم بأنه معنيّ به: دبر صلاة دون صلاة، حجة يجب التسليم لها من خبر ولا عقل. اهـ

(1)

.

فقواعد السنة النبوية وإجماع السلف وجماهيرهم مقدم على قواعد السياق وقواعد اللغة وغيرها.

وقواعد العموم مقدمة على قواعد السياق وغيرها، فقواعد العموم أقوى من قواعد السياق

(2)

فتخصيص العام يكون بالقرآن أو السنة أو إجماع الأمة.

ومن تنازع قواعد الضمائر مع بعضها - وهو كثير - تنازع قاعدة: «توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها» ، وقاعدة:«الأصل إعادة الضمير إلى أقرب مذكور» ، مع قاعدة:«إعادة الضمير إلى المحدث عنه أولى من إعادته إلى غيره» فكثيرا ما تتنازع هذه القواعد المثال الواحد - وإن كانت أحيانا تتفق وتتعاضد في ترجيح أحد الأقوال - فإذا تنازعت فقاعدة المحدث عنه هي المقدّمة، لأجل ارتكازها على المعنى وموارد الكلام، أما قاعدة:«توحيد مرجع الضمائر» ، وقاعدة:«الأصل إعادة الضمير إلى أقرب مذكور» فملحوظ فيهما جانب النظم والأسلوب، وتقديم المعنى أولى.

= حاتم: كان في نفسه صالحا وفي الحديث واهيا. اهـ له «التفسير» و «الناسخ والمنسوخ» . مات سنة ثنتين وثمانين ومائة. انظر سير أعلام النبلاء (8/ 349)، وطبقات المفسرين (1/ 271).

(1)

جامع البيان (26/ 182).

(2)

انظر ترجيح قاعدة: «يجب حمل نصوص الوحي على العموم

» على قاعدة: «إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى

» في جامع البيان (28/ 144).

ص: 57

ثم يأتي بعد قاعدة: «المحدث عنه» قاعدة: «توحيد مرجع الضمائر» ؛ لأنها أكمل من قاعدة: «إعادة الضمير إلى أقرب مذكور» في جانب تناسق النظم وبيان وجوه الإعجاز فيه.

وقد قرر الأئمة هذا الترجيح بين هذه القواعد عند تنازعها، فالضمير يعود إلى أقرب مذكور بشرط أن يكون متحدثا عنه

(1)

، وما لم يكن في ذلك تشتيت للضمائر في السياق الواحد.

قال أبو حيان - مقررا هذا الترجيح بين هذه القواعد عند تنازعها المثال الواحد -:

ولقائل أن يقول إن الضمير إذا كان صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا، وقد نص النحويون على هذا

والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرجح، ولا يلتفت إلى القرب

(2)

اهـ.

وقال في موضع آخر: ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى، والإنسان هنا -[أي في قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (6)[العاديات: 6]]- هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود، وأيضا فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلها لمختلفين، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد. اهـ

(3)

.

وذكر الزركشي هذا الترجيح بين هذه القواعد عند التنازع، وقرر أن الضمير يعود إلى القريب ولا يرجع إلى ما قبله إلا بدليل، وذكر من الأدلة أن يكون البعيد هو المحدث عنه

(4)

.

(1)

انظر الأشباه والنظائر لابن السبكي (2/ 236).

(2)

البحر المحيط (7/ 330).

(3)

البحر المحيط (10/ 530)، وانظر دراسات لأسلوب القرآن لعضيمة (ق 3 ح 1 ص 15).

(4)

انظر البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 325)، والبرهان (4/ 39)، وبمثل هذا قال السيوطي في همع الهوامع (1/ 227). أي: جعل من الأدلة التي تصرف الضمير عن القريب إلى البعيد كونه محدثا عنه.

ص: 58

وقرر ذلك - أيضا - الشنقيطي في تفسيره، وجعل من الأدلة التي تصرف الضمير عن القريب، القرينة في السياق، إذا دلت على خلاف إعادة الضمير إلى أقرب مذكور.

ومنها سياق الجمل المذكورة قبله

(1)

وكذا بعده، وهذا هو مضمون قاعدة «توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد» .

فمن أمثلة هذا التنازع ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} (7)[العاديات: 7]. ومثله ما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه: 39]، وسيأتي الكلام على بعضها في أمثلة قواعد الضمائر.

ثم بعد ذلك يرجّح بين القواعد وفق الضابط العام للترجيح بين وجوه الترجيح وقواعده الذي سبق تقريره، مع مراعاة السياق دائما فهو المقصود بهذه القواعد حتى يفهم على وجهه، ومع مراعاة حمل القرآن على عموم ألفاظه ما لم يرد دليل بالتخصيص.

قال الزركشي: ليكن محطّ نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوّز. اهـ

(2)

.

وصور تنازع القواعد كثيرة سأنبه على بعض ما لم يرد هنا في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

(1)

انظر أضواء البيان (5/ 751).

(2)

البرهان (1/ 317).

ص: 59

‌الفصل الأول:

قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآنى وفيه مدخل ومبحثان:

المدخل في قاعدة:

لا تصح دعوى النسخ في آية من كتاب الله إلا إذا صح التصريح بنسخها أو انتفى حكمها من كل وجه.

المبحث الأول:

قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف.

المحبث الثاني:

قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني.

ص: 61

‌المدخل في قاعدة:

لا تصح دعوى النسخ في آية من كتاب الله إلا إذا صح التصريح

بنسخها أو انتفى حكمها من كل وجه ويدخل تحت هذه القاعدة القواعد التالية:

الأولى: إذا وقع التعارض بين احتمال النسخ واحتمال التخصيص، فالتخصيص أولى.

الثانية: إذا وقع التعارض بين النسخ والإضمار، فالإضمار أولى.

الثالثة: إذا وقع التعارض بين النسخ والاشتراك، فالاشتراك أولى.

الرابعة: إذا وقع التعارض بين النسخ والمجاز، فالمجاز أولى.

الخامسة: إذا وقع التعارض بين النسخ والنقل، فالنقل أولى.

ص: 63

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع المفسرون في آية من كتاب الله - تعالى -، فمدّع عليها النسخ، ومانع منه، فأصح الأقوال المنع منه، إلا بثبوت التصريح بنسخها، أو انتفاء حكمها من كل وجه، وامتناع الجمع بينها وبين ناسخها.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

النسخ في اللغة: إزالة شيء بشيء يتعقّبه، كنسخ الشمس الظّلّ، والظّلّ الشمس، فتارة يفهم منه الإزالة، وتارة يفهم منه الإثبات، وتارة يفهم منه الأمران

(1)

.

والنسخ اصطلاحا: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم، بخطاب متراخ عنه

(2)

.

ومعنى الرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا.

وقيّد بالخطاب المتقدم؛ لأن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم العقل من براءة الذمة وليست بنسخ.

وقيد بالخطاب الثاني؛ لأن زوال الحكم بالموت والجنون ليس بنسخ.

وقولهم: متراخ عنه؛ لأنه لو كان متصلا به كان بيانا وإتماما لمعنى الكلام

(3)

. وعرف بتعاريف أخر تنظر في مظانها من كتب الأصول

(4)

.

والنسخ ثلاثة أقسام:

أحدها: ما نسخت تلاوته وحكمه

(5)

.

(1)

مفردات الراغب ص 801. وانظر معجم مقاييس اللغة (5/ 424)، واللسان (3/ 61) مادة «نسخ».

(2)

روضة الناظر مع شرحها (1/ 190).

(3)

روضة الناظر مع شرحها (1/ 190 - 191).

(4)

انظر المحصول (3/ 423/1)، وشرح تنقيح الفصول ص 301، والمسودة ص 195، وشرح الكوكب (3/ 526).

(5)

مثاله ما أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، حديث رقم (24 - 25) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. فالعشر رضعات نسخ حكمها وتلاوتها، والخمس نسخت تلاوتها دون حكمها.

ص: 64

الثاني: ما نسخت تلاوته وبقي حكمه.

والثالث: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته.

والقسم الثالث هو مجال البحث في هذه القاعدة، ولا علاقة لنا في هذه القاعدة بالقسمين الآخرين

(1)

.

ولا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، والأخبار التي يراد بها الأمر والنهي

(2)

.

وقولي: «إلا إذا صح التصريح بنسخها» .

أعني بهذا، الطرق الصحيحة في معرفة النسخ التي قررها الأصوليون، وهي التنصيص من الشارع على أن هذا الأمر ناسخ لهذا، أو التصريح بلفظ يدل عليه بلا إشكال، أو إجماع الأمة على أن هذه الآية أو الحديث منسوخ، أو حكاية الصحابي للنسخ، دون قوله: هذا منسوخ

(3)

. والفرق بين حكاية الصحابي، وقوله، أن الأول ينقل الصحابي الحكم الذي عمل به ثم نسخ إلى حكم آخر، أو يقول رخّص في كذا ثم نهي عنه، ونحو ذلك.

وأما قوله فهو رأيه العلمي، وذلك بأن يقول هذه الآية منسوخة. وعدم اعتباره لما سيأتي من اتساع مفهوم النسخ عند الصحابة والتابعين.

وهناك تفريعات أخرى وقع التنازع فيها بين العلماء ليس هذا مجال بسطها

(4)

.

وقولي: «أو انتفى حكمها من كل وجه» .

(1)

انظر الأنواع الثلاثة في الإيضاح لناسخ القرآن لمكي ص 67، وغرائب التفسير وعجائب التأويل (1/ 168)، وشرح الكوكب المنير (3/ 554).

(2)

انظر جامع البيان (9/ 238)، (10/ 41)، والبرهان للزركشي (2/ 33).

(3)

انظر العدة لأبي يعلى (3/ 835)، والإحكام لابن حزم (4/ 497)، وشرح تنقيح الفصول ص 321، وشرح الكوكب (3/ 567).

(4)

تنظر مع أمثلة ما ذكر في شرح اللمع (2/ 235)، وشرح تنقيح الفصول ص 320 - 321، والمسودة ص 229، وشرح الكوكب (3/ 563)، وإرشاد الفحول ص 334، والنسخ في القرآن لمصطفى زيد (1/ 208) وما بعدها.

ص: 65

انتفاء الحكم من كل وجه: ثبوت النقيض أو الضد؛ لأنه متى ثبت نقيض الشيء، أو ضده انتفى فكان ذلك دليل الرفع

(1)

.

وفي هذا إخراج لمفهوم النسخ عند السلف - لإدخالهم فيه تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل، وإيضاح المبهم، والاستثناء، ونحو ذلك على ما سيأتي - فإن حكم الآية لم ينتف من كل وجه، بل من بعض الوجوه دون بعض.

وفيه - أيضا - إخراج لقول الحنفية بأن الزيادة على النص نسخ؛ لأن الزيادة على النص ليس فيها نفي للحكم من كل وجه.

وفيه - أيضا - إخراج لما ادعى فيه النسخ - لظهور تعارض بين النصوص - واختلفت موارد النصوص فيها.

فهذه قاعدة ترجيحية بين الأقوال المختلفة في النسخ وعدمه، فالأصل بقاء الحكم، ولا يقال بالنسخ إلا بحجة واضحة ظاهرة قاضية بالنسخ، أمّا إذا كان الأمر محتملا فالأصل عدم النسخ.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

أقوال العلماء في اعتماد هذه القاعدة كثيرة، واعتمادهم لمضمونها واضح جليّ، فمن هؤلاء الأئمة الذين اعتمدوا هذه القاعدة في الترجيح:

1 -

الإمام الطبري: قال - مقررا هذه القاعدة بعد أن رجح الإحكام في آية ادعي عليها النسخ -: وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ، إلاّ بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه، ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبر يوجب

(1)

شرح تنقيح الفصول ص 321.

ص: 66

الحجة أن أحدهما ناسخ الآخر. اهـ

(1)

واستعمل الإمام الطبري هذه القاعدة كثيرا في الترجيح في تفسيره

(2)

.

2 -

ومنهم أبو جعفر النحاس: فقد استعمل هذه القاعدة كثيرا في كتابه الناسخ والمنسوخ. ففي معرض ردّه لادّعاء النسخ في آية قال - مقررا هذه القاعدة - القياسات والتمثيلات لا يؤخذ بها في الناسخ والمنسوخ، وإنما يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتيقن والتوقيف. اهـ

(3)

.

وقال في موضع آخر: إذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ. اهـ

(4)

.

3 -

وقال أبو محمد ابن حزم: لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء: 64] وقال تعالى: {اِتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] فكل ما أنزل الله - تعالى - في القرآن على لسان نبيه ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتباعه، وهذه معصية لله - تعالى - مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل .... وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله - تعالى - ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه. اهـ

(5)

.

4 -

ومنهم الإمام ابن عبد البر: قال رحمه الله: الناسخ يحتاج إلى تاريخ، أو دليل لا معارض له، ولا سبيل إلى نسخ قرآن بقرآن، أو سنة بسنة، ما وجد إلى

(1)

جامع البيان (13/ 382) ط شاكر، وانظر (6/ 118) منه ط شاكر.

(2)

انظر الإحالات إلى جملة منها في الأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة.

(3)

الناسخ والمنسوخ في كتاب الله (2/ 13).

(4)

الناسخ والمنسوخ (3/ 12).

(5)

الإحكام (4/ 497).

ص: 67

استعمال الآيتين، أو السنّتين سبيل. اهـ

(1)

.

5 -

ومنهم الإمام القرطبي: ففي تفسير قوله تعالى: {فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} [محمد: 4] بعد أن اختار القول بإحكامها ونقل قول النحاس بأن الآيتين محكمتان معمول بهما، قال: وهو قول حسن؛ لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ. اهـ

(2)

.

6 -

ومنهم الإمام الشوكاني: قال - بعد أن ذكر ادّعاء النسخ في قوله تعالى:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]-: وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ اهـ

(3)

.

7 -

ومنهم العلاّمة القاسمي

(4)

: قال - مقررا هذه القاعدة -: إذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ، فالأول هو المرجّح اهـ

(5)

.

8 -

ومنهم العلاّمة الشنقيطي: فقد قرر هذه القاعدة بقوله: النسخ لا بد له من دليل يجب الرجوع إليه. اهـ

(6)

.

وقد نص الأصوليون على هذه القاعدة، وقرروا «أن الأمر إذا دار بين نسخ الحكم وبقائه حمل على بقائه دون نسخه إلا لدليل راجح»

(7)

.

(1)

التمهيد (1/ 307).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (16/ 228).

(3)

فتح القدير (2/ 86).

(4)

هو: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي الدمشقي، إمام الشام في عصره، كان سلفيّ العقيدة لا يقول بالتقليد، تزيد مؤلفاته على السبعين، منها محاسن التأويل في التفسير، توفي في دمشق سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة وألف، الأعلام (2/ 135).

(5)

محاسن التأويل (15/ 5375).

(6)

أضواء البيان (6/ 72).

(7)

انظر شرح تنقيح الفصول ص 112، وشرح الكوكب (1/ 298 - 299).

ص: 68

*‌

‌ مفهوم النسخ عند السلف:

كان للصحابة والتابعين اصطلاح خاص في مسألة النسخ، فمفهوم النسخ عندهم أعم من مفهومه عند الأصولين، والفقهاء والمحدّثين، وما استقر عليه الأمر بعد ذلك في هذا المصطلح.

فكل تغيير في أحوال النص اعتبره السلف نسخا، سواء أكان رفع حكم ليحل آخر مكانه، أو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو تبيين مجمل، أو استثناء، أو رفع ظن في دلالة الآية على معنى، كل ذلك عندهم داخل في مفهوم النسخ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: و «فصل الخطاب» : أن لفظ «النسخ» مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال: إن قوله: {اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 102] و {وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ} [الحج: 78] نسخ بقوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وليس بين الآيتين تناقض، لكن قد يفهم بعض الناس من قوله:{حَقَّ تُقاتِهِ}

و {حَقَّ جِهادِهِ} الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا

فالله ينسخ ما يقع في النفوس من فهم معنى وإن كانت الآية لم تدل عليه؛ لكنه محتمل.

اهـ

(1)

.

وقال الإمام الشاطبي: الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به.

(1)

مجموع الفتاوى (14/ 101)، وانظر (14/ 133) منه.

ص: 69

وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص؛ إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول. والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق.

فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد اهـ

(1)

.

وسرد الشاطبيّ بعد هذا التحقيق جملة وافرة من الأمثلة التي توضحه. فإذا تقرر هذا، فليس صحيحا أن نحاكم أقوالهم على مصطلح نشأ بعدهم - إلا ما كان من قولهم في معنى ذلك المصطلح -؛ إذ إن منازعة المتأخر لهم في آية أهي محكمة أو منسوخة؟ نزاع منفكة جهته، وليس له أن ينقل الآثار عنهم في نسخ آية، وهي من قبيل التخصيص أو التقييد ونحو ذلك، ويحكم عليها بالنسخ على ما اصطلح عليه الأصوليون.

لكنّ النّاظر في كتب التفسير يجد بعض المفسرين - الذين جاءوا بعد تحديد مصطلح النسخ بمفهومه عند الأصوليين - ينقلون أقوال الصحابة والتابعين في النسخ، ويجعلونها قسيمة الإحكام ويضعّفونها

(2)

، وأحيانا ربما مال بعضهم إلى القول بها على الرغم أنها ليست من قبيل النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين، بل هي إما تقييد مطلق أو تخصيص عام، أو استثناء أو نحو ذلك.

وفي الأمثلة التطبيقية على القاعدة إحالات إلى كثير من أمثلة ذلك.

(1)

الموافقات (3/ 108). وانظر نحو هذا البيان لمفهوم النسخ عند السلف في إعلام الموقعين (1/ 35)، ومحاسن التأويل (1/ 32)، والنسخ في القرآن لمصطفى زيد (1/ 106).

(2)

انظر على سبيل المثال إلى قول ابن الجوزي بعد أن حكى عن السدي النسخ في قول الله تعالى:

وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة: 229]. قال السدي: منسوخ بالاستثناء وهو قوله:

إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ [البقرة: 229]. -

ص: 70

*‌

‌ الزيادة على النص عند الحنفية:

خالف الحنفية في مسألة الزيادة على النص، فقالوا: إن الزيادة على المنصوص نسخ. فكل زائد على الكتاب فهو ناسخ، كزيادة الإيمان في رقبة الكفارة، وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني البكر، فما جاء منه بطريق التواتر قبل، وما جاء منه بطريق الآحاد فلا يقبل؛ لأن الآحاد لا ينسخ المتواتر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:

«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»

(1)

فهذا عندهم زيادة على المنصوص في قوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وهذا يقتضي افتراض مطلق القراءة لما تيسر من أي سورة، فجعل الفاتحة ركنا، نسخ لهذا القاطع بخبر الواحد فلا يجوز

(2)

.

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن الزيادة على المنصوص ليست نسخا

(3)

، وإنما هي تخصيص وبيان وتقييد، إضافة إلى أن حقيقة النسخ لا توجد في الزيادة؛

= قال ابن الجوزي - بعد أن ذكر هذا القول -: قلت: وهذا من أرذل الأقوال، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وليس بنسخ. اهـ من نواسخ القرآن ص 250. فتأمل كيف رد ابن الجوزي قول السدي، وحاكمه على اصطلاح المتأخرين، ولم ينزّل قوله على ما كان مصطلحا عليه في ذلك الوقت.

وقول السدي هذا مروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما انظر الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 113 مع الإيضاح لناسخ القرآن لمكي ص 178.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلّها في الحضر والسفر

، من حديث عبادة بن الصامت. انظر الصحيح مع الفتح (2/ 276)، وأخرجه من حديثه - أيضا - مسلم، كتاب الصلاة، حديث رقم (34).

(2)

انظر كشف الأسرار عن أصول البزدوي (3/ 360 - 361]، وأصول السرخسي (2/ 82)، والعدة لأبي يعلى (3/ 824)، وشرح اللمع (2/ 239)، والبرهان للجويني (2/ 853)، وروضة الناظر مع شرحها (1/ 208)، وشرح الكوكب (3/ 582)، وإرشاد الفحول ص 331، وأضواء البيان (2/ 249)، (3/ 368)، (5/ 211 - 212).

(3)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 407)، والمسودة ص 210، وأضواء البيان (3/ 368)، (7/ 557 - 558).

ص: 71

لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم المشروع، أما الزيادة فهي تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه

(1)

.

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

- أمثلة هذه القاعدة كثيرة جدا منها ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} [محمد: 4].

اختلف أهل العلم في هذه الآية، فقال بعضهم: هي منسوخة، نسخها قول الله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، أي لا يجوز المنّ على الأسير، أو الفداء به، وإنما يقتل.

وهذا مروي عن ابن عباس والسدي وقتادة وغيرهم

(2)

، وبه قالت الحنفية

(3)

.

وقال بعضهم: هي ناسخة لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فلا يجوز قتل الأسير، ولكن يمن عليه، أو يفادي به. وهذا قول الضحاك وجماعة

(4)

.

وقال آخرون: بل الآية محكمة، وليست بمنسوخة، وكذاآية القتل محكمة. أي له المنّ، أو الفداء، أو القتل، أو الاسترقاق، على ما يراه الإمام من الأصلح للإسلام والمسلمين. وهذا مروي عن ابن عباس، وابن عمر

(5)

، والحسن، وغيرهم

(6)

.

(1)

انظر كشف الأسرار (3/ 362).

(2)

انظر الروايات في جامع البيان (26/ 40 - 41)، وانظر الناسخ والمنسوخ للنحاس (3/ 5)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 519.

(3)

انظر أحكام القرآن للجصاص (5/ 269 - 271).

(4)

الناسخ والمنسوخ للنحاس (3/ 10)، والإيضاح لناسخ القرآن لمكي ص 414.

(5)

هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن، أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه وهو لم يحتلم. استصغر يوم أحد، وشهد الخندق، وبيعة الرضوان. توفي سنة أربعة وسبعين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (3/ 203). والإصابة (4/ 107).

(6)

انظر الروايات في جامع البيان (26/ 41).

ص: 72

وهذا القول هو الذي ترجّحه هذه القاعدة، وتقضي به؛ لأن الحكم إذا دار بين النسخ والإحكام فالقول بالإحكام مقدم؛ «ولأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ»

(1)

.

ولا دليل لمن ادعى النسخ يحكم به، وليس القتل نقيضا للمن والفداء، فالعمل بالجميع ممكن حسب ما يرى الإمام من المصلحة، وهذا القول الذي رجحته هذه القاعدة هو ما اختاره ورجحه أئمة التفسير.

قال الإمام الطبري - مرجّحا بهذه القاعدة، بعد أن ذكر الأقوال في تفسير الآية -:

* والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

[التوبة: 5]، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب فيقتل بعضا ويفادي ببعض، ويمن على بعض مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي معيط وقد أتي به أسيرا، وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد

(2)

وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم، والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة

(1)

الجامع لأحكام القرآن (16/ 228).

(2)

هو: سعد بن معاذ بن النعمان الأشهلي الأنصاري، سيد الأوس، شهد بدرا، ورمي بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرا حتى حكم في بني قريظة وأجيبت دعوته في ذلك، اهتز عرش الرحمن لموته، توفي سنة خمس من الهجرة، الإصابة (3/ 87).

ص: 73

أسارى المشركين الذين أسروا ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي

(1)

، وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم، وإنما ذكر - جلّ ثناؤه - في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها؛ لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكره في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيه مع القتل. اهـ

(2)

.

وقال بإحكام الآية أكثر العلماء من مفسرين

(3)

وفقهاء

(4)

، على اختلاف بينهم في بعض أحكامها

(5)

.

(1)

أبو أمامة اليمامي، أخرج البخاري قصة إسلامه عن أبي هريرة قال:«بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أطلقوا ثمامة» ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، قتل في حروب الردة في البحرين وهو في جيش العلاء بن الحضرمي، الإصابة (1/ 211).

(2)

جامع البيان (26/ 42).

(3)

كأبي عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 211 - 216، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (3/ 12) والمعاني (6/ 463)، ومكي في الناسخ والمنسوخ ص 414، والكيا الهراسي في أحكام القرآن (4/ 373)، والبغوي في معالم التنزيل (7/ 278)، وابن العربي في أحكام القرآن (4/ 132)، وابن عطية في المحرر الوجيز (15/ 51)، والقرطبي في الجامع (16/ 228)، والقاسمي في محاسن التأويل (15/ 5375)، والشوكاني في الفتح (5/ 31) وغيرهم كثير.

(4)

انظر الأم (4/ 361 - 363)، والمغني (13/ 44)، والمجموع (21/ 170)، والسيل الجرار (4/ 567)، وغيرها من كتب الفروع.

(5)

ونظائر هذا المثال - من الآيات التي ادعى فيها النسخ والتحقيق خلافه، ومحاكمة السلف في النسخ على اصطلاح المتأخرين - كثير انظر على سبيل المثال:

- الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص 33.

- وجامع البيان (1/ 505)، (2/ 116 - 368 - 472)، (3/ 17 - 149)، (7/ 124)، (8/ 107)، (9/ 134 - 176 - 203 - 238)، (10/ 2 - 34 - 57 - 81 - 135 - 143)، (14/ 138 - 197) -

ص: 74

ويدخل تحت هذه القاعدة القواعد التي يذكرها الأصوليون من ترجيح غير النسخ عليه، في مبحث «تعارض ما يخل بالفهم» وهي:

القاعدة الأولى:

«إذا وقع التعارض بين احتمال النسخ واحتمال التخصيص، فالتخصيص أولى»

(1)

.

القاعدة الثانية:

«إذا وقع التعارض بين النسخ والإضمار، فالإضمار أولى»

(2)

.

(21/ 3)، (25/ 38 - 40)، (28/ 66)، (29/ 72).

- والناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس (1/ 468 - 475 - 485 - 511)، (2/ 51 - 381 - 427 - 439)، (3/ 68).

- والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي ص 124 - 152 - 155 - 156 - 178 - 179 - 202.

- والمحرر الوجيز (1/ 278 - 313)، (2/ 194 - 202 - 383)، (4/ 46 - 66)(8/ 32 - 55)، (11/ 329).

- ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 152 - 154 - 158 - 159 - 163 - 174 - 175 - 176 - 178 - 181 - 183 - 203 - 216 - 219 - 223 - 224 - 226 - 229 - 231 - 245 - 246 - 249.

- والجامع لأحكام القرآن (3/ 139 - 140).

- ومجموع فتاوى ابن تيمية (14/ 110 - 133)، (22/ 207 - 216).

- وبدائع الفوائد (1/ 140).

- وأضواء البيان (1/ 146). (7/ 158 - 597). وغير هذا كثير جدا.

(1)

انظر البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 246)، والتعارض والترجيح للبرزنجي (2/ 145)، وانظر مثال هذه القاعدة في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي ص 88 - 99 - 261. وبهذه القاعدة يرجح مذهب الجمهور على مذهب الحنفية في مسألة الزيادة على النص، فهي من قبيل التخصيص لا النسخ.

(2)

انظر التعارض والترجيح للبرزنجي (2/ 151).

ص: 75

القاعدة الثالثة:

«إذا وقع التعارض بين النسخ والاشتراك، فالاشتراك أولى»

(1)

.

القاعدة الرابعة:

إذا وقع التعارض بين النسخ والمجاز، فالمجاز أولى»

(2)

.

القاعدة الخامسة:

«إذا وقع التعارض بين النسخ والنقل، فالنقل أولى»

(3)

.

(1)

انظر المحصول (1/ 502/1)، ونهاية السول، وبحاشيته سلم الوصول لشرح نهاية السول (2/ 180 - 184)، والبحر المحيط (2/ 245)، والتعارض والترجيح (2/ 130).

(2)

انظر التعارض والترجيح (2/ 151).

(3)

انظر التعارض والترجيح (2/ 151).

ص: 76

‌المبحث الأول:

قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردها أو رد معناها، وهي بمنزلة آية مستقلة.

المطلب الثاني: قاعدة:

اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه.

المطلب الثالث: قاعدة:

معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى القراءة الشاذة.

المطلب الرابع: قاعدة:

الوجه التفسيري والإعرابي الموافق لرسم المصحف أولى من الوجه المخالف له.

ص: 77

‌المطلب الأول:

قاعدة: إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردها أو رد معناها، وهي بمنزلة آية مستقلة

*‌

‌ صورة القاعدة:

هذه القاعدة تحمي حمى القراءات القرآنية ومعانيها التي تدل عليها من طعن بعض المفسرين والمعربين الذي شاع وانتشر بينهم في بعض القراءات الثابتة، فمتى ثبتت القراءة فلا يجوز ردها أو رد معناها، بل يجب قبولها وقبول معناها، وكل طاعن أو رادّ لها أو لمعناها الذي تؤدي إليه فقوله ردّ عليه.

فهذه القاعدة تضبط نظر الناظر في أقوال المفسرين والمعربين في تفسير وإعراب آيات القرآن، فلا تعتبر الأقوال التي تطعن أو تردّ قراءات قرآنية ثابتة، وكل قراءة بمنزل آية مستقلة وبذلك ينحصر الصواب في تفسيرالآية فيما عد أقوال الطاعنين.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

قولي: «إذا ثبتت القراءة .... » .

أولا: تعريف القراءة:

أصل مادة «قرأ» و «قرى» مهموزة وغير مهموزة - في اللغة يدل على جمع واجتماع، وسمي القرآن بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك.

والقراءة: ضمّ الحروف والكلمات إلى بعض في الترتيل. وكل شيء جمعته فقد قرأته

(1)

.

(1)

انظر معجم مقاييس اللغة (5/ 78 - 79)، ومفردات الراغب ص 668، واللسان (1/ 128) مادة «قرأ» .

ص: 79

والقراءة مفرد جمعه قراءات.

وهي في الاصطلاح: اختلاف ألفاظ الوحي في كتبة الحروف أو كيفيتها، من تخفيف وتثقيل وغيرهما

(1)

.

ثانيا: ثبوت القراءة:

اشترط العلماء لصحة القراءة وثبوتها أن يتوفر فيها ثلاثة أركان

(2)

:

أحدها: صحة السند وعليه مدار صحة القراءة والمقصود بصحة السند: أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذلك حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مما عرف واشتهر عند أئمة الشأن الضابطين له، غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ به بعضهم

(3)

.

(1)

البرهان في علوم القرآن (1/ 318). وانظر تعريف ابن الجزري لها في منجد المقرئين ص 3.

(2)

انظر الإبانة لمكي 39، والمرشد الوجيز ص 171 - 173 وص 178، والنشر (1/ 9)، ومنجد المقرئين لابن الجزري ص 15، والبرهان للزركشي (1/ 331).

(3)

النشر (1/ 13)، واشترط بعض العلماء في هذا التواتر، وقالوا القرآن لا يثبت بخبر الآحاد.

وهذا ظاهر كلام مكي - في الإبانة ص 39 - ، وبه كان يقول ابن الجزري - النشر (1/ 13) - ونقل - في منجد المقرئين ص 17 - عن ابن الصلاح نحوه، وقال به بعض أهل الأصول انظر إرشاد الفحول ص 63.

وقال آخرون: بل يكفي صحة السند واشتهارها عند الحذاق من أهل الشأن، مع موافقة الرسم والعربية.

قال أبو شامة: وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة، أي كل فرد فرد مما روي عن هؤلاء الأئمة السبعة، قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب.

ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنّه شاع واشتهر واستفاض، فلا أقل من اشتراط ذلك، إذا لم يتفق التواتر في بعضها.

فإن القراءات السبع المراد بها ما روي عن الأئمة السبعة القراء المشهورين، وذلك المروي عنهم منقسم إلى ما أجمع عليه عنهم لم تختلف فيه الطرق، وإلى ما اختلف فيه بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق.

فالمصنفون لكتب القراءات يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا، ومن تصفح كتبهم في ذلك ووقف على -

ص: 80

فإذا تواترت القراءة فلا يحتاج إلى الركنين الأخيرين، ويغني التواتر عنهما

(1)

، وإن كانت دون التواتر فمع الركنين الأخيرين تثبت القراءة.

الثاني: موافقة أحد المصاحف ولو احتمالا.

فقولهم: «أحد المصاحف» أي أحد المصاحف التي وجهها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار، واشترط موافقة أحدها؛ لأجل ما كان ثابتا في بعض المصاحف دون بعض.

وقولهم: «ولو احتمالا» لأن الموافقة قد تكون صريحة تحقيقا، وقد تكون محتملة تقديرا، فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعا.

الثالث: موافقة العربية ولو بوجه.

أي موافقتها بأي وجه من الوجوه، سواء كان فصيحا أو أفصح، مجمعا عليه أو مختلفا فيه.

ولا حجة في هذا الركن لمن أنكر بعض القراءات؟ لأجل مخالفة قاعدة في العربية - كما يفعل بعض النحاة وبعض المفسرين -؛ لأن أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها

(2)

.

= كلامهم فيه عرف صحة ما ذكرناه.

- إلى أن قال -: فالحاصل إنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر، وذلك بيّن لمن أنصف وعرف وتصفح القراءات وطرقها.

اهـ المرشد الوجيز ص 176 - 178.

وبنحو هذا قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 171) والحافظ ابن الجزري - في النشر (1/ 13) ومنجد المقرئين ص 20، والعلامة الشوكاني في إرشاد الفحول ص 63، وغيرهم.

(1)

انظر النشر (1/ 13).

(2)

من كلام الداني نقله عنه ابن الجزري في النشر (1/ 10 - 11)، والسيوطي في الإتقان (1/ 211).

ص: 81

فالرواية هي الأصل، وقواعد العربية تبع لها، لا العكس، والقرآن حكم على قواعد اللغة لا العكس.

قولي: «فهي بمنزلة آية مستقلة» ، قد نص على هذا كثير من العلماء، كابن العربي

(1)

، وابن تيمية

(2)

، ونقله الزركشي

(3)

، والسيوطي

(4)

، وقرره الشنقيطي

(5)

، وغيرهم - عليهم رحمة الله جميعا -.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات؛ لكن إذا كان الخط واحدا واللفظ محتملا كان ذلك أخصر في الرسم. اهـ

(6)

.

وقال العلاّمة الشنقيطي: اعلم أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء. اهـ

(7)

.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

إطباق الأمة على تلقي القراءات السبع - والثلاث المتمة للعشر على الصحيح - مع صحة سندها، وموافقتها لخط المصحف يغني في تقرير هذه القاعدة عن سرد أقوال بعض العلماء في الدفاع عن القراءات، وردّ طعن الطاعنين الذين حاكموا القراءات إلى النحو البصري، أو النحو الكوفي، فالقرآن هو الحجة لا قواعد النحو «فلا يجوز الحكم على القراءة صحة أو ضعفا من خلال قواعد اللغة أو النحو، وإنما الحكم على القراءة بالصحة أو الضعف يرجع في أساسه إلى الرواية وصحة النقل،

(1)

انظر أحكام القرآن (1/ 233).

(2)

انظر مجموع الفتاوى (13/ 391 - 400).

(3)

انظر البرهان (1/ 327).

(4)

انظر الإتقان: 1/ 226 - 227).

(5)

انظر أضواء البيان (2/ 8).

(6)

مجموع الفتاوى (13/ 400).

(7)

أضوء البيان (2/ 8).

ص: 82

فإذا ثبتت القراءة، وصحّ نقلها وجب اتباعها؛ لأنها سنة متّبعة لا بد من التزامها والمصير إليها ولو خالفت الأقيسة اللغوية، والقواعد النحوية»

(1)

.

وإن تعجب فعجب فعلهم في اعتبار بيت الشعر شاهدا للقاعدة، وقبول القراءة عندهم تبع لذلك، وعدم اعتبار القراءة في تصحيح القاعدة إذا خلا منها كلام الشعراء.

والقراءة إذا ثبتت كانت آية من كتاب الله تعالى - كما سبق تقريره - فلا يجوز ردّها، أو ردّ موجبها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد أن ذكر بعض القراءات الثابتة -: فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض. اهـ

(2)

.

وقرر مضمون هذه القاعدة، وردّ أقوال الطاعنين في بعض القراءات كثير من العلماء كأبي جعفر النحاس

(3)

، وأبي شامة

(4)

، وابن المنير

(5)

، وأبي حيان

(6)

، والسمين الحلبي

(7)

، والزركشي

(8)

، وابن الجزري

(9)

، وغيرهم.

(1)

مدرسة التفسير في الأندلس لمصطفى المشيني ص 320.

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 391).

(3)

انظر إعراب القرآن (5/ 231).

(4)

انظر إبراز المعاني من حرز الأماني له ص 70، والدر المصون (1/ 49)، والبرهان (1/ 340).

وأبو شامة هو: شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، الحافظ العلامة المجتهد، صاحب التصانيف، أتقن فن القراءات على علم الدين السخاوي وهو حدث، وبرع فيه. له شرح الشاطبية، والمرشد الوجيز، توفي سنة خمس وستين وستمائة. تذكرة الحفاظ (4/ 1460)، وشذرات الذهب (5/ 318).

(5)

انظر الإنتصاف بهامش الكشاف (2/ 53).

(6)

انظر البحر المحيط (4/ 657 - 658).

(7)

انظر الدر المصون (5/ 162 - 166).

(8)

انظر البرهان (1/ 340).

(9)

انظر النشر (1/ 9)، و (2/ 263)، ومنجد المقرئين ص 24.

ص: 83

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} [النساء: 1] اختلف القراء والمفسرون في قراءة وتفسير لفظ {وَالْأَرْحامَ} .

فقرأ حمزة

(1)

{وَالْأَرْحامَ} بالجر.

وقرأ بقية السبعة

(2)

{وَالْأَرْحامَ} بالنصب

(3)

.

=وابن الجزري هو: محمد بن محمد بن محمد الدمشقي الشافعي، العلاّمة نهاية المحققين، طلب الحديث والقراءات وبرّز فيهما، وكانت عنايته بالقراءات أكثر، له النشر في القراءات العشر، ونظم القراءات الثلاث المتممة للعشر، وغيرها، توفي سنة ثلاث وثلاثين وثمان مائة. الضوء اللامع (9/ 255).

(1)

هو: حمزة بن حبيب الزيات، أبو عمارة الكوفي، أحد القراء السبعة، أدرك بعض الصحابة. إليه صارت إمامة القراءة في الكوفة بعد عاصم، قرأ عليه الكسائي من السبعة. توفي سنة ست وخمسين ومائة، معرفة القراء الكبار (1/ 111).

(2)

وبقية السبعة هم: 1 - عاصم بن أبي النّجود الكوفي، أبو بكر. معدود من التابعين قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش. توفي سنة (127 هـ). معرفة القراء (2/ 88).

2 -

علي بن حمزة الكسائي الكوفي، أبو الحسن، إمام العربية المشهور، قرأ على حمزة الزيات. توفي سنة (189 هـ) معرفة القراء (1/ 120).

وهؤلاء الثلاثة عاصم، حمزة، والكسائي هم الكوفيون.

3 -

نافع بن عبد الرحمن المدني، إمام المدينة في الإقراء، قرأ على سبعين من التابعين، توفي سنة (169 هـ).

معرفة القراء (1/ 107).

4 -

عبد الله بن كثير المكي، أبو معبد، إمام المكيين في القراءة، توفي سنة (120 هـ). معرفة القراء (1/ 86).

5 -

عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي، أبو عمران، إمام أهل الشام في القراءة، أعلى القراء السبعة سندا، توفي سنة (118 هـ). معرفة القراء (1/ 82).

6 -

زبّان بن العلاء المازني البصري أبو عمرو، إمام القراءات، والنحو، واللغة. توفي سنة (154 هـ). معرفة القراء (1/ 100).

(3)

انظر الحجة للفارسي (3/ 121)، والكشف لمكي (1/ 375)، والنشر (2/ 247).

ص: 84

فالمعنى على قراءة الجر: أنه يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، وبهذا فسرها الحسن، ومجاهد، وغيرهما

(1)

.

وعلى قراءة النصب يكون المعنى بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، كذا فسرها ابن عباس، وقتادة، وعكرمة، وغيرهم

(2)

.

قال الطبري - بعد أن ذكر معنى الآية على قراءة الجر -: وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله: «والأرحام» بالخفض عطفا بالأرحام على الهاء التي في قوله:

{بِهِ،} كأنه أراد: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام، فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب؛ لأنها لا تنسق بظاهر على مكنيّ في الخفض، إلا في ضرورة الشعر، وذلك لضيق الشعر، وأما الكلام فلا شيء يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق، والرديء في الإعراب منه

والقراءة التي لا نستجيز للقارئ أن يقرأ غيرها في ذلك النصب {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها. اهـ

(3)

.

وقال ابن عطية عن قراءة حمزة: وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز؛ لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض

قال القاضي أبو محمد:

ويردّ عندي هذه القراءة من المعنى وجهان:

أحدهما: أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة.

والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقريرا للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: «من كان حالفا فليحلف بالله

(1)

انظر جامع البيان (4/ 226)، والمحرر الوجيز (4/ 8)، وغيرهما من كتب التفسير.

(2)

انظر جامع البيان (4/ 227 - 228)، والمحرر الوجيز (4/ 8)، وغيرهما من كتب التفسير.

(3)

جامع البيان (4/ 226 - 228).

ص: 85

أو ليصمت»

(1)

. اهـ

(2)

.

والمعتدون على هذه القراءة المتواترة من النحاة والمفسرين كثر

(3)

، وأقوالهم في ردّ هذه القراءة، ورد معناها ظاهرة البطلان؛ لأن هذه القراءة سبعية ثابتة، وقد أطبقت الأمة على قبولها وقبول معناها، وأن العمدة في قبول القراءة وردّها هو الرواية، لا العلل النحوية، والقياسات اللغوية، فالإمام حمزة قطعا أخذ هذه القراءة رواية، ولم يقرأ بها من اجتهاده.

قال الألوسي: فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة، ونهاية الجسارة، والبشاعة، وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين، ولسنا متعبدين باتباعهم. هـ

(4)

.

وقال أبو حيان: وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية، من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز.

وقد أطلنا في الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [البقرة: 217]، وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها

(5)

وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان. فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه؛ إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة، واتصلحت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأقرأ الصحابة

(1)

متفق عليه من حديث ابن عمر، البخاري، كتب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم. انظر الصحيح مع الفتح (11/ 538). ومسلم، كتاب الأيمان، حديث رقم (3).

(2)

المحرر الوجيز (4/ 8 - 9).

(3)

انظر بعضهم في معاني القرآن للفراء (1/ 252)، ومعاني القرآن للزجاج (2/ 6)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 431)، والحجة للفارسي (3/ 121)، والكشف لمكي (1/ 375)، والكشاف (1/ 493).

(4)

روح المعاني (4/ 184).

(5)

انظره في البحر المحيط (2/ 387 - 389).

ص: 86

أبيّ بن كعب عمد إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم

ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث

ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية. اهـ

(1)

.

وأما الإمام الطبري على - جلالة قدره - له منهج في تفسيره تجاه اختيار القراءات، وربما نظر في اختيار القراءات إلى موافقة القياس اللغوي، أو لطلب لطائف المعاني التي يستنبطها من سياق الآيات وإن لم يكن له طعن فيها من حيث الثبوت، ونحوها من العلل التي يختار لأجلها القراءة فهو إمام القراءات، وبما ثبت وما لم يثبت عالم، وهو صاحب اختيار في القراءة

(2)

وله كتاب في القراءات يحيل إليه في تفسيره كثيرا، لكنه ربما تجوّز في عبارته في اختيار القراءة والعذر له في ذلك أن اجتماع الأمة على القراءات السبع أو العشر كان بعد عصره رحمه الله.

إذا تقرر ذلك كله، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز ردّ قراءة ثابتة أو الطعن فيها، أو ردّ معناها، وكل من فعل ذلك فقوله وطعنه ردّ عليه، لا يعتمد ولا ينظر إليه

(3)

.

(1)

البحر المحيط (3/ 499 - 500).

(2)

انظر فتح الباري (8/ 647).

(3)

ومن نظائر هذا المثال ما جاء في تفسير قول الله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)[الفاتحة: 4].

انظر جامع البيان (1/ 65 - 66)، والحجة لأبي علي الفارسي (1/ 18)، والمحرر الوجيز (1/ 70)، والجامع لأحكام القرآن (1/ 140)، والدر المصون (1/ 48 - 49).

ومنها ما جاء في قول الله تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام: 137]. على قراءة ابن عامر.

انظر جامع البيان (8/ 43 - 44)، ومشكل إعراب القرآن (1/ 291)، والكشاف (2/ 54)، والمحرر الوجيز (6/ 158)، البحر المحيط (4/ 657 - 658)، والدر المصون (5/ 162) وما بعدها والنشر (2/ 263) وما بعدها.

ص: 87

‌المطلب الثاني:

قاعدة: اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا اختلف المفسرون في تفسيرآية من كتاب الله - تعالى - على أقوال، بناء على اختلاف القراءات الواردة في الآية.

فإذا وجد قول يجمع معنى القراءات في الآية على معنى واحد، وأمكن القول بمقتضاها جميعا، فهو أولى الأقوال بتفسيرالآية.

وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، فالقراءة بمنزلة الآية - كما سبق بيانه في القاعدة السابقة -.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

من القراءات ما يتحد فيه اللفظ والمعنى، وإنما يتنوع صفة النطق به كالهمزات، والمدات، والإمالات، ونقل الحركات، والإظهار، والإدغام، ونحو ذلك فهذا ظاهر أنه ليس فيه تناقض ولا تضاد مما تنوع فيه اللفظ أو المعنى؛ إذ هذه الصفات المشروعة في أداء اللفظ لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا

(1)

، وليس داخلا تحت هذه القاعدة.

ومن القراءات ما يكون المعنى فيها متفقا من وجه متباينا من وجه آخر كقوله: «يخدعون، ويخادعون»

(2)

، و «ويكذبون، ويكذّبون»

(3)

، و {لامَسْتُمُ،}

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 392).

(2)

في قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ [البقرة: 9]، قرأ ويخدعون وقرأ يخادعون انظر الكشف لمكي (1/ 224)، والنشر (2/ 207).

(3)

في قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)[البقرة: 10] قرأ: يَكْذِبُونَ بالتخفيف، وقرأ يَكْذِبُونَ انظر الكشف (1/ 227)، والنشر (2/ 207).

ص: 88

{أَوْ لامَسْتُمُ}

(1)

، و {حَتّى يَطْهُرْنَ،} و {يَطْهُرْنَ}

(2)

ونحو ذلك. فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا

(3)

.

ومن القراءات ما يكون المعنى في إحداها ليس هو معنى الأخرى.

والبحث في هذه القاعدة في هذين النوعين فإذا أمكن القول بمقتضى القراءتين أو القراءات جميعا فهو أولى من اختلافها.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

1 -

من هؤلاء العلماء الذين ذكروا هذه القاعدة مكي بن أبي طالب، فقد ذكرها في مواضيع كثيرة من كتابه «الكشف عن وجوه القراءات السبع»

(4)

، من ذلك قوله عند توجيه القراءات في قوله تعالى:{وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9].

قال أبو محمد: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن. اهـ

(5)

.

وقال في موضع آخر: وحمل الآيتين على معنى واحد أولى. اهـ

(6)

.

(1)

في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] والمائدة: 6] قرأ لمستم وقرأ لامَسْتُمُ انظر الكشف (1/ 391)، والنشر (2/ 250).

(2)

في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] قرأ يطهرن بالتخفيف، وو يطهّرن بتشديد الطاء. انظر الكشف (1/ 293)، والنشر (2/ 227).

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 391).

(4)

انظر على سبيل المثال فيه (1/ 229 - 236 - 240 - 252 - 272 - 313).

(5)

الكشف (1/ 227)، وانظر تفسير ابن كثير (1/ 73)، ويختار الإمام الطبري (1/ 119 - 120) أنّ المنافقين خادعوا ربهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم. على اعتبار التفريق بين خادع وخدع، حيث أن «خادع» هو فعل المخادعة دون صحتها، وأمّا «خدع» تدل على صحة الخديعة ووقوعها.

وبنى على ذلك القراءة الصحيحة وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ دون قراءة وما يخادعون.

(6)

بواسطة نقل الدكتور أحمد حسن فرحات في كتابه «مكي وتفسير القرآن» ص 234.

ص: 89

2 -

ومنهم القاضي ابن عطية: ففي تفسير قوله تعالى: {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ} [آل عمران: 97] بعد أن ذكر القراءة المتواترة في {آياتٌ} بالجمع، وذكر قراءة الإفراد وهي شاذة

(1)

.

قال ابن عطية: قال الطبري: يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد.

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى. اهـ.

(2)

.

3 -

ومنهم السمين الحلبي: فقد قرر هذه القاعدة عند مناقشته لتوجيه بعض القراءات بقوله: الأصل توافق القراءات اهـ.

(3)

.

4 -

ومنهم المعلمي اليماني: فقد ذكر هذه القاعدة بقوله: واتحاد المعنى على القراءتين أولى من اختلافه. اهـ

(4)

.

‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في توجيه قراءة قول الله تعالى: {يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} (9)[البقرة: 9].

فقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر بفتح الياء وإسكان الخاء من غير ألف «يخدعون.» وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بضم الياء وبألف بعد الخاء وكسر الدال «يخادعون»

(5)

.

فذهب جماعة من المفسرين والقراء وأهل اللغة إلى أن معنى القراءتين واحد ف (خادع، وخدع) بمعنى واحد.

(1)

وبها قرأ أبي بن كعب، وعمر، وابن عباس. انظر جامع البيان (4/ 10)، والمحرر الوجيز (3/ 165).

(2)

المحرر الوجيز (3/ 165).

(3)

الدر المصون (3/ 555).

(4)

التنكيل (2/ 632) رقم الصفحة متسلسل.

(5)

انظر الحجة للفارسي (1/ 224)، والكشف عن وجوه القراءات (1/ 312).

ص: 90

فحملها من قرأ بغير ألف على معنى (يخادعون) في أول الآية؛ لأنه بمعنى (يخدعون) ولم يحمله على اللفظ، إذ مخادعتهم إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لهم مخادعة، فدل على أن المفاعلة من واحد فجاءت بصورة (يفاعل) وهي بمعنى (يفعل) نحو قاتلك الله بمعنى قتلك الله، فجرى الثاني على معنى الأول. وكذلك فإن (يخدعون) أخص بالواحد من (يخادعون).

وفي هذا الحرف نسب المخادعة إلى واحد وهي أنفسهم.

وحملها من قرأ بألف على المطابقة والمشاكلة بين الكلمتين، فأجرى الثاني على لفظ الأول. والمعنى أن ما يخادعون بتلك المخادعة المذكورة أولا إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم.

وقال آخرون: إن معنى (خادع) يختلف عن معنى (خدع). ف (الخداع) فعل قد يقع وقد لا يقع، و (الخدع) فعل يقع بلا شك.

فعلى قراءة من قرأ {وَما يَخْدَعُونَ} أخبرت عن فعل وقع بهم بلا شك، وكذلك على قراءة من قرأ «(وما يخادعون)» جاز أن يكون لم تقع بهم المخادعة، وأن تكون قد وقعت، ف (يخدعون) أمكن في المعنى

(1)

.

وأحسن الأقوال قول من قال إن معنى القراءتين واحد، إذ اتحاد معناهما أولى من اختلافه، قال مكي بن أبي طالب بعد أن ذكر القراءتين وعلة كل قراءة: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن وهو أن (خادع، وخدع) بمعنى واحد في اللغة، فيكون (وما يخادعون، وما يخدعون) بمعنى واحد من فاعل واحد. اهـ

(2)

.

وقال ابن كثير بعد أن ذكر القراءتين: وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.

اهـ

(3)

.

(1)

الكشف عن وجوه القراءات (1/ 225 - 226)، وانظر الحجة للفارسي، والمجاز (1/ 31)، وجامع البيان (1/ 275 - 277).

(2)

الكشف (1/ 227).

(3)

تفسير القرآن العظيم (1/ 73).

ص: 91

‌المطلب الثالث:

قاعدة: معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى القراءة الشاذة

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا خالفت القراءة الشاذة القراءة المتواترة في مدلولها، ووقع الخلاف بين العلماء في تفسيرالآية بناء على اختلاف معنى القراءتين، ولم يمكن حمل معنى القراءة الشاذة على معنى القراءة المتواترة بحيث يتحد معنى القراءتين.

فأولى الأقوال بالصواب في تفسيرالآية، تفسيرها وحملها على مدلول القراءة المتواترة؛ لأن الشاذ لا يقوى على منازعة الثابت المجمع عليه.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

سبق الكلام عن تعريف القراءة لغة، واصطلاحا، وعن أركان القراءة الصحيحة، وشروط ثبوتها في قاعدة «إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردّها، أو ردّ معناها

» بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

«القراءة الشاذة» :

الشاذ في اللغة، مصدر شذ يشذ، شذوذا يقال شذّ الرجل، إذا انفرد عن أصحابه، وكذلك كل شيء منفرد، فهو شاذّ

(1)

.

القراءة الشاذة في الاصطلاح هي: كل قراءة اختل فيها ركن من أركان القراءة الصحيحة

(2)

.

(1)

انظر مادة «شذذ» في تهذيب اللغة (11/ 271)، ولسان العرب (3/ 494).

(2)

انظر الإبانة لمكي ص 39، والنشر (1/ 14)، والبرهان للزركشي (1/ 331)، والقراءات الشاذة لعبد الفتاح القاضي ص 7.

ص: 92

ويدخل تحت مصطلح الشذوذ هنا أنواع من القراءات وهي:

الآحاد: وهو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر عند القراء تلك الشهرة التي لم يعد بها من الغلط ولا من الشذوذ.

والشاذ: وهو ما لم يصح سنده.

والمدرج: وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير.

والموضوع

(1)

: وهو الذي لا أصل له في الرواية.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

1 -

من العلماء الذين استعملوا هذه القاعدة في الترجيح بين أقوال المفسرين الإمام الطبري، فبعد أن ذكر القراءات في قوله تعالى:{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43)[الرعد: 43].

قال - مقررا مضمون هذه القاعدة -: فإذا كانت قرأة الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق على القراءة الأخرى، وهي:{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43)[الرعد: 43] كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب ممّا خالفه، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحق بالصواب. اهـ

(2)

.

2 -

ومنهم القاضي ابن عطية: ففي تفسير قوله تعالى: {فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ذكر قراءة الجمهور {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} بكسر الكاف، ويراد به كسوة الثياب. فالتخيير على هذه القراءة بين الإطعام، والكسوة، وتحرير رقبة. وذكر كذلك القراءة الشاذة في لفظ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ،} وهي: «أو كإسوتهم» بكاف الجر الداخلة على «أسوة»

(3)

.

(1)

انظر الإتقان (1/ 215 - 216).

(2)

جامع البيان (16/ 507) ط: شاكر.

(3)

وهي قراءة سعيد بن جبير، ومحمد بن السّميفع اليماني، انظر مختصر في شواذ القراءة ص 40، وفيه «ابن المسيب» بدل «ابن جبير» والمحتسب (1/ 218).

ص: 93

ونقل توجيه ابن جني لهذه القراءة بقوله: قال أبو الفتح: كأنه قال: أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية إسوتهم، قال: وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف المضاف.

قال القاضي أبو محمد - معلقا على هذه القراءة الشاذة، وعلى توجيه ابن جني -: وفي هذا نظر، والقراءة مخالفة لخط المصحف، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق. اهـ

(1)

.

3، 4 - ومنهم الحافظ ابن حجر، والعلاّمة الشنقيطي: فقد قررا هذه القاعدة في معرض جوابهما عن دلالة القراءة الشاذة في قول الله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} [البقرة: 158] وهي: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} وبها قرأ عليّ، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهم

(2)

.

ودلالتها أن الطواف بين الصفا والمروة سنة لا يجب بتركه شيء.

وهذا قول ابن مسعود، وأنس، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد

(3)

.

قال الحافظ ابن حجر - بعد أن نقل توجيه الإمام الطبري لهذه القراءة: وقال غيره:

لا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهور. اهـ

(4)

.

وقال العلاّمة الشنقيطي - معقبا على هذه القراءة الشاذة، ومعناها الذي دلت عليه -: إن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن، ولم يثبت كونه قرآنا، ذهب كثير من أهل العلم إلى

(1)

المحرر الوجيز (5/ 178). وقد أضاف ابن عطية إلى الترجيح بهذه القاعدة ترجيحا آخر، وهو ما عليه الإجماع الفقهي في أنواع الكفارة.

(2)

انظر المحتسب (1/ 115)، وجامع البيان (2/ 49).

(3)

انظر جامع البيان (2/ 49 - 50)، والمغني لابن قدامة (5/ 239)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 183)، والمجموع للنووي (8/ 104)، وأضواء البيان (5/ 230).

(4)

فتح الباري (3/ 583).

ص: 94

أنه لا يستدل به على شيء، وهو مذهب مالك، والشافعي، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا، فبطل كونه قرانا بطل من أصله، فلا يحتج به على شيء، وقال بعض أهل العلم: إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد، التي ليست بقرآن.

فعلى القول الأول: فلا إشكال، وعلى الثاني: فيجاب عنه بأن القراءة المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما؛ لأنهما نقيضان. اهـ

(1)

ولبعض العلماء توجيه آخر لهذه القراءة الشاذة، ومنهم الفراء، والطبري. فقالوا: إن «لا» التي مع «أن» صلة في الكلام

(2)

. فحملوها على القراءة المشهورة.

وقد ضعف أبو بكر بن العربي هذا التوجيه فقال: وهذا ضعيف من وجهين:

أحدهما: أنّا قد بينا في مواضع أنه يبعد أن تكون «لا» زائدة.

الثاني: أنه لا لغويّ، ولا فقيه يعادل عائشة رضي الله عنها وقد قررتها غير زائدة، وقد بينت معناها، فلا رأي للفراء ولا لغيره. اهـ

(3)

وذلك في ردّها لقول عروة بن الزبير حين قال لها: أرأيت قول الله تعالى: {* إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما}

[البقرة: 158] فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: «بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلّل، فكان من أهلّ يتحرّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قالوا: يا رسول الله، إنّا كنّا نتحرّج أن

(1)

أضواء البيان (5/ 248 - 249).

(2)

انظر المعاني (1/ 95)، وجامع البيان (2/ 51)، ونقله ابن حجر في الفتح (3/ 583) عن الطبري، والطحاوي.

(3)

أحكام القرآن (1/ 71).

ص: 95

نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:{* إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ}

الآية»

(1)

.

ولو صح هذا التوجيه الذي ذكره الفراء والطبري لكان هذا المثال من أمثلة القاعدة السابقة، وهي:«اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه» ، وقد أشار إلى هذا السمين الحلبي بعد أن ذكره، فقال: وحينئد يتّحد معنى القراءتين. اهـ

(2)

.

***

‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43)[الرعد: 43].

قرأ قرأة الأمصار {وَمَنْ} في الآية بفتح الميم وسكون النون فتكون (من) في موضع خفض عطفا على اسم الله.

بمعني: والذين عندهم علم الكتاب - أي الكتب التي نزلت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل - يشهدون بالحقّ ويقرّون به. وعلى هذه القراءة فسّر ذلك المفسّرون.

فعن ابن عباس قوله: {قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43)، فالذين عندهم علم الكتاب: هم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى.

وقال بعض أهل التفسير كمجاهد وغيره: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43) قال:

هو عبد الله بن سلام خاصة.

وقرأ آخرون: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} وهي قراءة ابن عباس ومجاهد والحسن وبه قرأ ابن السّميفع، وابن أبي عبلة.

(1)

متفق عليه، البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصّفا والمروة، وجعل من شعائر الله. انظر الصحيح مع الفتح (3/ 581).

(2)

الدر المصون (2/ 190).

ص: 96

وعلى هذه القراءة يكون المعنى: من عند الله علم الكتاب.

وأولى الأقوال بالصواب في تفسيرالآية المعنى الذي دلت عليه القراءة المتواترة التي قرأ بها قرأة الأمصار من أن قوله {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43) عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به كل علماء أهل الكتابين التوراة والإنجيل الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة، وبشارات الأنبياء به، إذ معنى القراءة المتواترة أولى بالصواب من معنى القراءة الشاذة.

قال الإمام الطبري بعد أن ذكر القراءتين ومعنى كل قراءة: فإذ كان ذلك كذلك وكانت قرأة الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق على القراءة الأخرى، وهي:(ومن عنده علم الكتاب)، كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب ممّا خالفه، إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحقّ بالصواب. اهـ

(1)

.

ويؤيد هذه القاعدة فيما رحجته قاعدة «القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» حيث ورد هذا المعنى في القرآن في غير موضع كما قال تعالى:

{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ} {(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 156 - 157] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} (197)[الشعراء: 197]. وأمثال ذلك كالإخبار عن استشهاد أهل العلم وسؤالهم عما أنزل الله في عدة مواضع من كتاب الله كقوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] الآية وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] الآية وقوله: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (43)[النحل: 43] إلى غير ذلك من الآيات

(2)

.

(1)

جامع البيان (16/ 507).

(2)

انظر أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن - (2/ 353)، وتفسير ابن كثير - (4/ 474).

ص: 97

وأما قول من خص هذه الآية بعبد الله بن سلام أو بعض مسلمة أهل الكتاب فقوله ضعيف، تضعفه القاعدة الترجيحية «إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير» إذسورة الرعد مكية، ومسلمة أهل الكتاب كانوا بالمدينة.

وبمضمون هذه القاعدة رد جماعة من المفسرين هذا القول

(1)

. إلا أن يحمل قول من قال ذلك على أن من ذكر باسمه من مسلمة أهل الكتاب ممن يدخل في عموم علماء بني إسرائيل من قبيل التفسير بالمثال

(2)

.

(1)

انظر جامع البيان (16/ 505 - 506)، والمحرر الوجيز (4/ 87) وتفسير ابن كثير (4/ 473)، والتحرير والتنوير (7/ 397).

(2)

وانظر نظائر هذا المثال في جامع البيان (3/ 54) ط: شاكر، وفتح الباري (3/ 583)، وأضواء البيان (5/ 248).

ص: 98

‌المطلب الرابع:

قاعدة: الوجه التفسيري والإعرابي الموافق لرسم المصحف أولى من الوجه المخالف له

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع المفسرون في تفسيرآية أو لفظة من كتاب الله، أو في إعرابها، وكان أحد الأقوال موافقا لرسم المصحف ولا يقتضي مخالفة له، وآخر يقتضي مخالفته، فأولى الأقوال بتفسيرالآية، وإعرابها ما وافق الرسم العثماني، الذي أجمع عليه الصحابة، أعلم الناس بتفسير القرآن وبلغته.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

رسم المصحف هو: أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطيّة

(1)

.

قولي: «الوجه التفسيري والإعرابي» أخرج موافقة القراءات للرسم، فليست أولى، بل هي ركن من أركان القراءة الصحيحة - كما سبق -. وأدخلت «الإعرابي» هنا، ولم أفرده بقاعدة مستقلة؛ لتعلقه بالمعنى، فهو فرع المعنى.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة وشواهدها:

1 -

مما يدل على هذه القاعدة، قول بعض العلماء: إن رسم المصحف توقيفي، فيلزم بهذا أن يراعى في تفسير معانيه.

(1)

مقدمة ابن خلدون ص 438.

ص: 99

أو قول غيرهم إن رسم المصحف اصطلاحي

(1)

، ووجه دلالته على القاعدة أن الصحابة قد أجمعوا عليه، فقد كتبه الكتبة، وأقرّه عثمان وبقية الصحابة

(2)

رضي الله عنهم جميعا -، وأن ذلك لم يكن من الكتبة كيف أتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، فقد كانوا عالمين بأصول الكتابة والإملاء - إضافة إلى علمهم بتفسيره -، ومما يدل على ذلك كتابتهم المصحف على الذي يعلّله النحويون في ذوات الواو، والياء، والهمز، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنا، نحو «الخبء» ! و «الدفء» ونحوها.

ومما يدل على ذلك - أيضا - المخالفة بين النظائر بالحذف والإثبات، والزيادة، والنقصان، كإطباق القراء على إثبات الياء في:{وَاخْشَوْنِي} من قوله تعالى:

{فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (150)[البقرة: 150].

وحذفها في الموضعين في المائدة في قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائد: 3] وفي قوله تعال: {فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [المائدة: 44].

والمخالفة بين {كِتابِيَهْ} (19) و {حِسابِيَهْ} (20) وهما سواء، في قوله تعالى:

{هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} (20)[الحاقة: 19 - 20]، فهذا كله يدل على أن الصحابة كانوا عالمين بالعربية، وبقواعد الكتابة

(3)

.

(1)

في هذه المسألة خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول إن رسم المصحف توقيف، ومنهم من يقول إن رسمه اصطلاح. انظر الأقوال بأدلتها في مناهل العرفان (1/ 377)، وتاريخ القرآن للكردي ص 101، والمدخل لأبي شهبة ص 308، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 147، ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص 275. وانظر الكشاف (4/ 230 - 231)، والمرشد الوجيز ص 173، وتفسير ابن كثير (6/ 268)، وإيقاظ الأعلام لوجوب متابعة رسم المصحف الإمام لحبيب الشنقيطي ص 10.

(2)

انظر الإبانة لمكي ص 22، ومناهل العرفان (1/ 378)، والتحرير والتنوير (1/ 52).

(3)

انظر الصاحبي ص 14، والبرهان للزركشي (1/ 376 - 378)، وتاريخ القرآن للكردي ص 127، والمدخل لأبي شهبة ص 308.

ص: 100

وأمّا ما خالف فيها رسم المصحف قواعد الخط فلأجل اختلاف أحوال معاني كلماتها

(1)

.

وسواء قيل إنه توقيف أو اجتهاد فهو مرجّح لما وافقه من أقوال المفسرين والمعربين، وخاصة فيما اطردت كتابته فيه بشكل معين.

2 -

ومما يشهد لهذه القاعدة:

* أن متابعة الرسم في القراءة أمر لازم، وهو من أركان القراءة الصحيحة - كما سبق بيانه -، وأقوال العلماء في ذلك مبثوثة في مظانها من كتب القراءات، والتفسير

(2)

.

* الإجماع على لزوم اتباع رسم المصاحف العثمانية في الوقف إبدالا، وإثباتا، وحذفا، ووصلا، وقطعا

(3)

.

* أقوال العلماء في المنع من تغيير خطه، ووجوب التزامه مشهورة

(4)

. كل ذلك يشهد لمتابعة رسم المصحف في التفسير والإعراب فيما احتمله، فالقول الموافق له أولى من القول المخالف له.

***

(1)

ألّف أبو العباس أحمد بن محمد المراكشي المعروف بابن البناء المتوفي سنة (721 هـ) كتابا سماه «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل» بيّن فيه أن الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها. انظر البرهان (1/ 380)، والإتقان (4/ 145)، والمدخل لأبي شبهة ص 302.

(2)

قد سبق في أول القواعد المتعلقة بالقراءات الإحالة إلى بعض كتب القراءات في ذلك ومن كتب التفسير على سبيل المثال، جامع البيان (1/ 146)، و (3/ 37 - 139 - 242 - 275)، و (8/ 72)، و (13/ 247)، ومعاني القرآن للزجاج (2/ 62 - 99 - 182)، والكشاف (1/ 95)، والمحرر الوجيز (1/ 155 - 238)(2/ 28)، والبحر المحيط (1/ 324) وغيرها كثير جدا.

(3)

الإتقان (1/ 250).

(4)

انظر المقنع للداني ص 19، المحكم في نقط المصاحف له ص 11، والبرهان (1/ 379)، والإتقان (4/ 146).

ص: 101

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة في الترجيح جماعة من أئمة التفسير، فرجحوا بها أقوالا، وضعّفوا بها أخرى، فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

أبو عبيد: وسيأتي كلامه في الترجيح بهذه القاعدة في المثال الأول من أمثلتها.

2 -

ومنهم الإمام الطبري: قال - في تفسير قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّ اللهَ}

[القصص: 82] بعد أن ذكر الأقوال فيها وشواهدها من العربية -: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذكرنا عن قتادة، من أن معناه: ألم تر، ألم تعلم، للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر، والرواية عن العرب، وأنّ «ويكأنّ» في خطّ المصحف حرف واحد. ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرناه عن قتادة، فإنه يصير حرفين، وذلك أنه إن وجّه إلى قول من تأوّله بمعنى: ويلك اعلم أن الله، وجب أن يفصل «ويك» من «أنّ» ؛ وذلك خلاف خطّ جميع المصاحف، مع فساده في العربية، لما ذكرنا. وإن وجّه إلى قول من يقول:«وي» بمعنى التنبيه، ثم استأنف الكلام ب «كأن» ، وجب أن يفصل «وى» من «كأن» وذلك خلاف خطوط المصاحف كلها.

فإذا كان حرفا واحدا، فالصواب من التأويل: ما قاله قتادة اهـ

(1)

.

3 -

ومنهم أبو إسحاق الزجاج

(2)

: وسيأتي كلامه في الترجيح بهذه القاعدة في المثال الأول من أمثلتها - إن شاء الله تعالى -.

4 -

ومنهم أبو جعفر النحاس: ففي تفسير قوله تعالى: {وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ}

[المطففين: 3] بعد أن ذكر القولين في الضمير «هم» قال: والصواب أن الهاء والميم في موضع نصب؛ لأنه في السواد بغير ألف. اهـ

(3)

يعني في رسم المصحف بغير ألف

(1)

جامع البيان (20/ 121).

(2)

هو: إبراهيم بن السّري بن سهل الزجاج، كان من أهل الفضل والدين، أخذ عن المبرد، وثعلب، والجوهري، له مصنفات من أشهرها:«معاني القرآن» مات سنة إحدى عشرة وثلثمائة. إنباه الرواة (1/ 194)، وطبقات المفسرين (1/ 9).

(3)

إعراب القرآن (5/ 174).

ص: 102

بعد الواو، وسيأتي بسط هذا المثال - إن شاء الله -.

5 -

ومنهم القرطبي: قال - في تفسير قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى} (6)[الأعلى: 6] بعد أن ذكر القولين فيها، وسيأتي بسطها في الأمثلة -: والأوّل هو المختار -[أي القول بأن «لا» نافية]-؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون مؤقتا معلوما، وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. اهـ

(1)

.

6 -

ومنهم أبو حيان: فقد استعمل هذه القاعدة في الترجيح، فقد صحح بها بعض الأوجه التفسيرية، والإعرابية، وضعّف بها أقوالا لأجل مخالفتها الرسم، فقال - مضعّفا بهذه القاعدة قول من قال: إن الهاء في {هذانِ} من قوله تعالى: {إِنْ هذانِ لَساحِرانِ}

[طه: 63] ضمير القصة -: وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف. اهـ

(2)

.

7 -

ومنهم ابن هشام: فقد استعمل هذه القاعدة في الترجيح، ففي معرض كلامه على الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، قال: الجهة الثامنة: أن يحمل المعرب على شيء، وفي ذلك الموضع ما يدفعه. أهـ

(3)

ثم ذكر بعض أمثلة هذه القاعدة - وستأتي - وضعّف كل قول فيها خالف الرسم.

8 -

ومنهم السيوطي: فقد نبّه على هذه القاعدة عند حديثه عما يجب على المعرب مراعاته، فقال: ويجب عليه مراعاة أمور، - إلى أن قال - الثامن: أن يراعي الرسم. اهـ

(4)

.

ثم ذكر أمثله لبعض الأوجه الإعرابية التي خالفت رسم المصحف.

9 -

ومنهم الألوسي:

(5)

وغير هؤلاء الأئمة كثير

(6)

وسيأتي بعض كلامهم في

(1)

الجامع لأحكام القرآن (20/ 19).

(2)

البحر المحيط (7/ 349 - 350).

(3)

مغني اللبيب (2/ 595).

(4)

الإتقان (2/ 260 - 266).

(5)

وانظر في روح المعاني (30/ 88).

(6)

كالكرماني في غرائب التفسير (2/ 1330)، والرازي في تفسيره (31/ 89 - 142)، والبيضاوي في تفسيره (2/ 577)، وشيخ زادة في حاشيته على البيضاوي (4/ 649).

ص: 103

الأمثلة - إن شاء الله -.

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

ا - من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] فقال جمهور المفسرين: معناه وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون وتكون «هم» في موضع نصب، ويكون الوقف عليها.

وكان بعض العلماء يذهب إلى أنها حرفان، ويقف على «كالو» ، و «وزنو» ثم يبتدئ ب «هم يخسرون» ، فجعل «هم» في موضع رفع، وجعل «كالو» و «وزنو» مكتفيين بأنفسهما

(1)

.

وهذه القاعدة ترجح القول الأول، قول الجمهور؛ وذلك أن «كالو» و «وزنو» لم ترسم فيهما الألف الفاصلة لواو الجماعة في جميع المصاحف

(2)

، كما رسمت نظائرها من القرآن، فدل ذلك على أن الفعلين «كالو» و «وزنو» لم يكتفيا بأنفسهما، وأن الضمير «هم» في موضع نصب مفعول به.

وبهذه القاعدة رجّح كثير من العلماء قول الجمهور، فقال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين:

إحداهما: الخطّ؛ وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا «كالوا» و «وزنوا» بالألف.

والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك، وهو كلام عربي. اهـ

(3)

.

وقال الطبري - مرجحا بهذه القاعدة بعد أن ذكر القولين -: والصواب في ذلك عندي:

الوقف على «هم» ؛ لأن «كالو» و «وزنو» لو كانا مكتفيين، وكانت «هم» كلاما مستأنفا،

(1)

انظر جامع البيان (30/ 362)، وذكر هذين القولين أكثر المفسرين.

(2)

انظر معالم التنزيل (8/ 362).

(3)

نقله عنه غير واحد من أهل العلم، انظر معالم التنزيل (8/ 362)، والجامع لأحكام القرآن (19/ 252)، وفتح القدير (5/ 398)، وفتح البيان (15/ 125).

ص: 104

كانت كتابة «كالو» و «وزنو» بألف فاصلة بينها وبين «هم» مع كل واحد منهما، إذ كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك، إذا لم يكن متصلا به شيء من كنايات المفعول، فكتابهم ذلك في هذا الموضع بغير ألف أوضح الدليل على أن قوله «هم» إنما هو كناية أسماء المفعول بهم. فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا، على ما بيّنا. اهـ

(1)

.

وقال الزجاج - بعد أن ذكر القولين -: والاختيار أن تكون «هم» في موضع نصب، بمعنى كالوا لهم. ولو كانت على معنى «كالو» ، ثم جاءت «هم» توكيدا، لكان في المصحف ألف مثبتة قبل «هم» اهـ

(2)

.

وكذلك رجّح بهذه القاعدة أبو جعفر النحاس

(3)

، والبيضاوي

(4)

، والسيوطي

(5)

، والألوسي

(6)

، وغيرهم

(7)

وقد رجح الزمخشري القول الذي ترجحه هذه القاعدة، غير أنه لم يرتض هذه القاعدة حجة له في ترجيحه، فقال - بعد أن علل لردّه القول الثاني بأنه يفسد النظم -: والتعلق في إبطاله -[أي القول الثاني]- بخط المصحف، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط. اهـ

(8)

.

والجواب عن هذا أن الرسم العثماني وإن كان قد خالف ما اصطلح عليه في

(1)

جامع البيان (30/ 91).

(2)

معاني القرآن (5/ 298).

(3)

انظر إعراب القرآن (5/ 174).

(4)

انظر أنوار التنزيل (2/ 577)، والبيضاوي هو: عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي ناصر الدين القاضي الشافعي، المفسر، الأصولي، اللغوي، ولي قضاء شيراز مدة، له «أنور التنزيل» في التفسير، و «المنهاج» في الأصول، وغيرها. توفي سنة خمس وثمانين وستمائة. طبقات المفسرين (1/ 248)، وشذرات الذهب (5/ 392).

(5)

انظر الإتقان (2/ 267).

(6)

انظر روح المعاني (30/ 88).

(7)

كشيخ زادة في حاشيته على البيضاوي (4/ 649)، وابن هشام في المغني (2/ 596).

(8)

الكشاف (4/ 230 - 231).

ص: 105

بعض الأمور، إلا أنه في هذه المسألة ورد الرسم العثماني موافقا لذلك المصطلح، وذلك برسم الألف بعد واو الجماعة في جميع القرآن إلا في صورة واحدة لم يرسم فيها الألف بعد الواو، وهي إذا سبقت الواو بهمزة فكانت من قبيل مد البدل مثل «جاءو» و «فاءو» ونحوها، وهذا المثال ليس منها، فإخراج هذه الآية مما عمّ استعماله في رسم المصحف، وإبعادها عن نظائرها تحكم بلا دليل.

قال الألوسي - في تفسير هذه الآية بعد أن ذكر القولين -: وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو، وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره، وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر، ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى. اهـ

(1)

.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا - ما جاء في تفسير قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى} (6)[الأعلى: 6] اختلف العلماء في «لا» .

فقال الجمهور: هي «لا» النافية. فتكون الجملة إخبارا من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلمه هذا القرآن ويحفظه عليه فلا ينساه إلا ما شاء الله، فإنه ينساه إما بنسخ

(2)

، وإما على أن يتذكر بعد ذلك النسيان

(3)

.

وقال آخرون: هي «لا» الناهية. أي ينهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن ينسى القرآن الذي أقرأه إياه. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة

(4)

.

(1)

روح المعاني (30/ 88).

(2)

كما قال تعالى: * ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106].

(3)

مما يعرض للحافظة البشرية أحيانا ثم يقيض الله له ما يذكّره، ومثل هذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد، فقال:«يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذاآية أسقطتهنّ أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» ، أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه

انظر الصحيح مع الفتح (5/ 312)، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافر حديث رقم (224).

(4)

انظر جامع البيان (30/ 154)، والنكت والعيون (6/ 253)، والمحرر الوجيز (16/ 282)، وغيرها من كتب التفسير.

ص: 106

وأولى القولين بالصواب القول الأول، وذلك لموافقته رسم المصحف في إثبات الألف في «تنسى» ، فدل عدم حذفها على أنها ليست ناهية؛ إذ لو كانت ناهية لحذفت الألف علامة للجزم. وأما توجيه ثبوتها بأنها مزيدة للفاصلة فهذه دعوى مرتهنة بإقامة الحجة عليها، لما فيها من مخالفة الأصل

(1)

.

ويؤيد هذه القاعدة فيما رجحته في هذا المثال قول الله تعالى. {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} (19)[القيامة: 16 - 19].

ورجح ما رجحته القاعدة جماعة من أئمة التفسير منهم الطبري

(2)

، والكرماني

(3)

، والرازي

(4)

، والقرطبي

(5)

، وأبو حيان

(6)

، وغيرهم - عليهم رحمة الله - فمنهم من صرح بالقاعدة أثناء ترجيحه بها، ومنهم من لم يصرح بها.

قال أبو حيان: والقول بأن «لا» في «فلا تنسى» للنهي، والألف ثابتة لأجل الفاصلة، قول ضعيف، ومفهوم الآية في غاية الظهور، وقد تعسفوا في فهمها.

اهـ

(7)

.

(1)

انظر مفاتيح الغيب (31/ 142).

(2)

انظر جامع البيان (30/ 154).

(3)

انظر غرائب التفسير وعجائب التأويل (2/ 1330). والكرماني هو: محمود بن حمزة الكرماني، النحوي، المفسر، المعروف بتاج القراء، له «لباب التفسير» و «غرائب التفسير» وغيرها، كان في حدود الخمسمائة، ومات بعدها. طبقات المفسرين (2/ 312).

(4)

انظر مفاتيح الغيب (31/ 142).

(5)

انظر الجامع لأحكام القرآن (20/ 19).

(6)

البحر المحيط (10/ 457).

(7)

البحر المحيط (10/ 457).

* ومن نظائر هذين المثالين:

1 -

ما جاء في إعراب قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69)[مريم: 69]. انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 339)، وإعراب القرآن للنحاس (3/ 24)، ومشكل إعراب القرآن (2/ 458) والبحر المحيط (7/ 287)، والدر المصون (7/ 620)، ومغني اللبيب -

ص: 107

= (2/ 596)، والإتقان (2/ 181 - 467).

2 -

ومنها ما جاء في إعراب قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63]. انظر البحر المحيط (7/ 349 - 350)، ومغني اللبيب (2/ 595)، والإتقان (2/ 267).

3 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص: 9]. انظر معاني القرآن للفراء (2/ 302)، والقطع والائتناف ص 543 - 544، والمكتفى في الوقف والابتداء ص 435.

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص: 82]. انظر معاني القرآن للفراء (2/ 312)، وجامع البيان (20/ 121 - 122)، ومعاني القرآن للزجاج (4/ 156)، وإعراب القرآن للنحاس (3/ 244)، والجامع لأحكام القرآن (13/ 318 - 319)، والبحر المحيط (8/ 329)، وروح المعاني (20/ 82)، ومحاسن التأويل (13/ 4728).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً (18)[الإنسان: 18]. انظر جامع البيان (29/ 219)، والكشاف (4/ 198)، والمحرر الوجيز (16/ 190)، والبحر المحيط (10/ 365)، والإتقان (2/ 266)، وروح المعاني (29/ 203).

ص: 108

‌المبحث الثاني:

قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآنى وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عنهما إلا بدليل يجب التسليم له.

المطلب الثاني: قاعدة:

لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

المطلب الثالث: قاعدة:

حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك.

ص: 109

‌المطلب الأول:

قاعدة: إدخال الكلام في معاني ما قبله وما بعده أولى من الخروج به عنهما، إلا بدليل يجب التسليم له

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع المفسرون في تفسيرآية أو جملة من كتاب الله فمنهم من يحملها على معنى لا يخرجها عن سياق الآيات، ومنهم من يحملها على معنى يخرجها عن معاني الآيات قبلها وبعدها، ويجعلها معترضة في السياق. فحمل الآية على التفسير الذي يجعلها داخلة في معاني ما قبلها وما بعدها أولى وأحسن؛ لأنه أوفق للنظم وأليق بالسياق ما لم يرد دليل يمنع من هذا التفسير أو يصحح غيره.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ ألقاعدة:

المقصود ب «الكلام» في قولهم: «إدخال الكلام في معاني .. » ، هو الكلام الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء بأن كان بعضهم يدخله في معاني ما سبقه وما يلحق به من كلام، وبعضهم يجعله خارجا عن معاني السياق. سواء أكان هذا الكلام آية أو أكثر، أو أقل - بأن كان جملة من آية، أو كلمة -.

وقولهم: «ما قبله» أي ما قبل هذا الكلام الذي وقع فيه النزاع، وهذا يسمى «سباقا» .

قال ابن فارس: السين والباء والقاف أصل واحد صحيح يدل على التقديم. أهـ

(1)

.

(1)

معجم مقاييس اللغة (3/ 129)، وانظر اللسان (10/ 151) ومفردات الراغب ص 395.

ص: 111

وقال الكفوي

(1)

: والسّباق - بالموحدة - ما قبل الشيء. اهـ

(2)

.

وقولهم: «وما بعده» أي ما بعد الكلام المتنازع فيه. وهذا يسمى «لحاقا» .

قال ابن فارس: اللام والحاء والقاف أصل يدل على إدراك شيء وبلوغه إلى غيره.

يقال: لحق فلان فلانا فهو لاحق، وألحق بمعناه،

وربما قالوا: لحقته: اتّبعته .. اهـ

(3)

.

واللّحق: كل شيء لحق شيئا أو لحق به

(4)

.

وهذا السباق واللحاق مجتمعا يسمى سياقا - بالمثناة التحتية - فهذه قاعدة في ترجيح الأقوال التي يدل عليها سياق الآيات.

قال الكفوي - بعد أن ذكر السباق - بالموحدة: والسياق - بالمثناة - أعمّ

(5)

. اهـ يعني أعم من السباق.

وقولهم: «أولى من الخروج به عنهما» هذا هو الترجيح.

وقولهم: «إلا بدليل يجب التسليم له» . نبه إليه الطبري رحمه الله في مواضع كثيرة في معرض تقريره لهذه القاعدة وترجيحه بها

(6)

.

ثم بيّن هذا الدليل الذي يصرف له الكلام عن سابقه ولا حقه بأنه:

1 -

خبر صحيح متصل السند، يفسرالآية ويخرجها بذلك عن سابقها ولا حقها. أو يكون مصحّحا لأحد الأقوال التي قيلت في الآية والتي تخرجها عن سياقها.

(1)

هو أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، صاحب الكليات، من قضاة الحنفية ولي القضاء في «كفة» بتركيا وبالقدس وببغداد وتوفي في استانبول سنة ألف وأربعة وتسعين. الأعلام (2/ 38).

(2)

الكليات ص 508.

(3)

معجم مقاييس اللغة (5/ 238) وانظر مفردات الراغب ص 737. مادة «لحق».

(4)

لسان العرب (10/ 327). مادة «لحق» .

(5)

الكليات ص 508.

(6)

انظر على سبيل المثال لذلك جامع البيان (2/ 82) و (7/ 268) و (14/ 158).

ص: 112

2 -

أو إجماع من أهل التأويل على تفسيرالآية، ويكون ذلك التفسير مخرجا لها عن سباقها ولحاقها

(1)

.

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة أئمة التفسير، ورجحوا بها، فمنهم من ينص عليها، ويرجح بها، ومنهم من يرجح ما تقضي به هذه القاعدة في مثالها دون التنصيص عليها أو ذكرها، وجميعهم دائر في فلك اعتمادها، «فدلالة السياق متفق عليها في مجاري كلام الله - تعالى -»

(2)

.

فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

مسلم بن يسار

(3)

: قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.

اهـ

(4)

.

2 -

ومنهم صالح بن كيسان

(5)

: قال - مستدلا على صحة قوله في تفسير قوله تعالى: {وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} (21)[ق: 21]-: إنما يراد بهذا الكافر، اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك. اهـ

(6)

.

3 -

ومنهم محمد بن جرير الطبري: قال - في معرض تعليله لأحد اختياراته في التفسير: وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب، لأن الآيات قبلها

(1)

انظر جامع البيان (7/ 268).

(2)

انظر البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 52).

(3)

مسلم بن يسار البصري أبو عبد الله، تابعي ثقة، روى عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة، وقيل إحدى ومائة. تهذيب الكمال (27/ 551). وسير أعلام النبلاء (14/ 510).

(4)

تفسير ابن كثير (1/ 17).

(5)

هو: أبو محمد صالح بن كيسان المدني من فقهاء المدينة، إمام حافظ ثقة كثير الحديث، يعد من التابعين، مات بعد الأربعين والمائة. تهذيب الكمال (13/ 79). وسير أعلام النبلاء (5/ 454).

(6)

جامع البيان (26/ 162).

ص: 113

وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذا كانت في سياق واحد. اهـ

(1)

.

واستدل بهذه القاعدة على صحة ترجيحه لبعض الأقوال في تفسير بعض الآيات، منها قوله: فإن قال قائل: وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود؟ قيل: دليلنا على ذلك ما قبلها من الآيات وما بعدها فإنهم هم المعنيون به، فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. اهـ

(2)

.

ثمّ بيّن هذه الأدلة التي تصرف الخبر عمّا قبله وبعده بقوله - في موضع آخر -:

فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حجّة، فأمّا الدّعاوى، فلا تتعذر على أحد. اهـ

(3)

.

واستعمل هذه القاعدة في مواطن كثيرة جدا من كتابه، ونص عليها بلفظها كذلك في مواضع كثيرة، فهي من القواعد الأساسية التي اعتمدها في الترجيح

(4)

.

4 -

ومنهم ابن عطية

(5)

: فهي عنده من قواعد الترجيح الأساسية، ورجح بها كثيرا من الأقوال، وضعّف بها كذلك كثيرا من الأقوال، في متن كتابه

(6)

.

(1)

جامع البيان (3/ 344).

(2)

جامع البيان (2/ 82).

(3)

جامع البيان (9/ 389) ط: شاكر.

(4)

انظر على سبيل المثال جامع البيان (3/ 233) و (7/ 174، 225) و (9/ 105، 139، 155)، و (14/ 66) و (29/ 150) و (30/ 55) وغيرها كثير.

(5)

هو: عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي أبو محمد، صاحب المحرر الوجيز، كان فقيها عالما بالتفسير والأحكام والحديث واللغة والأدب، توفي سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. طبقات المفسرين (1/ 265). وطبقات المفسرين للسيوطي ص 50.

(6)

انظر على سبيل المثال المحر الوجيز (1/ 156) و (4/ 214) و (7/ 255) و (8/ 34) و (9/ 76) و (16/ 156).

ص: 114

فمن هذه المواضع التي رجح بهذه القاعدة فيها، قوله - معلقا على قول خالف هذه القاعدة -: وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخرالآية عما تقدمها، وارتبط بها من المعنى، وعما تأخر أيضا

اهـ

(1)

.

وقال في موضع آخر - معلقا على قول خالف القاعدة -: وهذا القول وإن كانت ألفاظ الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه، ويختل أسلوب القول به. اهـ

(2)

.

5 -

ومنهم الرازي: قال - مرجحا بمضمون هذه القاعدة بعد أن فسرآية -: وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاما واحدا منتظما مسوقا نحو غرض واحد، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه. اهـ

(3)

.

6 -

ومنهم العز بن عبد السلام: قال - مقررا هذه القاعدة -: إذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولى اهـ

(4)

.

ونقل عنه الزركشي قوله: السياق يرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال. اهـ

(5)

.

7 -

ومنهم القرطبي

(6)

: قال - في معرض تعليله لأحد اختياراته في التفسير -: قال ابن عباس: هو من محاورة نوح لقومه -: وهو أظهر؛ لأنه ليس قبله ولا بعده إلا ذكر نوح وقومه. اهـ

(7)

.

(1)

المحرر الوجيز (5/ 214).

(2)

المحرر الوجيز (8/ 139).

(3)

مفاتيح الغيب (27/ 135).

(4)

الإشارة إلى الإيجاز ص 220.

(5)

البحر المحيط في الأصول (6/ 52).

(6)

هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري المفسر صاحب الجامع، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة. انظر الديباج المذهب لابن فرحون (2/ 308). وطبقات المفسرين (2/ 69).

(7)

الجامع لأحكام القرآن (9/ 29).

ص: 115

8 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: حيث قرر أن من أهم أسباب الخطأ في التفسير هو ما فعله أقوام حيث فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به. فراعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به، ولسياق الكلام

(1)

.

وقال في موضع آخر: فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن تبين له المراد، وعرف الهدى والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج اهـ

(2)

.

9 -

ومنهم ابن القيم: فهو ممن اعتمد هذه القاعدة وقررها

(3)

، ورجح بها بين الأقوال في التفسير، فصحح أقوالا، وضعّف أخرى.

قال في تفسير قوله تعالى: {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34]: والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها. اهـ

(4)

.

وضعّف في تفسير قوله تعالى: {قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (41)[الحجر: 41] قول من قال: إنه على التهديد والوعيد، بهذه القاعدة فقال: والسياق يأبى هذا ولا يناسبه لمن تأمله. اهـ

(5)

.

10 -

ومنهم ابن جزي الكلبي

(6)

: ذكر هذه القاعدة في مقدمة تفسيره من أوجه الترجيح، قال: السادس: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 355 - 356).

(2)

مجموع الفتاوى (15/ 94).

(3)

انظر بدائع الفوائد (4/ 9).

(4)

التفسير القيم ص 164، وانظر نحو هذا فيه ص 291 وص 317.

(5)

التفسير القيم ص 16.

(6)

هو: محمد بن أحمد ابن جزىّ الكلبي الغرناطي أبو القاسم، صاحب التسهيل، استشهد في عام إحدى وأربعين وسبعمائة. الدرر الكامنة (3/ 446). وطبقات المفسرين (2/ 85).

ص: 116

أو ما بعده. اهـ

(1)

.

11 -

ومنهم ابن كثير: فقد استظهر بهذه القاعدة أقوالا في تفسيره

(2)

.

12 -

ومنهم الزركشي: قال: الرابع - من الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال -: دلالة السياق، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغالط في مناظراته. اهـ

(3)

.

13، 14 - ومنهم الشوكاني وصديق خان

(4)

: فقد استعملاها في ترجيح بعض الأقوال في أمثلتها

(5)

.

15 -

ومنهم الألوسي: فقد رجح بها أقوالا، واستبعد بها أخرى

(6)

.

16 -

ومنهم محمد رشيد رضا

(7)

: قال: وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سبق له من القول، واتفاقه مع جملة المعنى. اهـ

(8)

.

***

(1)

التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 9).

(2)

انظر تفسير القرآن العظيم له (2/ 266) و (7/ 61).

(3)

البرهان (2/ 200). وهذا نص كلام ابن القيم في البدائع (4/ 9).

(4)

هو: محمد صديق خان بن حسن القنوجي، الهندي، أبو الطيب، صاحب فتح البيان في التفسير، مشارك في علوم كثيرة وباللغات العربية والفارسية والهندية، توفي سنة سبع وثلاث مائة وألف. الأعلام (6/ 167).

(5)

انظر فتح القدير (2/ 497) وفتح البيان (6/ 174) ط: العصرية.

(6)

انظر روح المعاني (6/ 153) و (7/ 199).

(7)

هو: محمد رشيد بن علي رضا، صاحب مجلة المنار، وأحد رجال الإصلاح الإسلامي، تتلمذ على محمد عبده وضمّن كثيرا من أقواله في مؤلفاته، له تفسير القرآن الحكيم، توفي سنة أربع وخمسين وثلثمائة وألف. الأعلام (6/ 126).

(8)

تفسير القرآن الحكيم (1/ 22).

ص: 117

‌الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

الأمثلة على هذه القاعدة كثيرة منها:

1 -

ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: {إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وفي تأويل ذلك

(1)

.

فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود، ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل على أقوال. فقيل مالك بن الصيف، وقيل: فنحاص اليهودي ..

وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم مثل آيات موسى عليه السلام. والقولان بمعنى واحد، وهو أن هذه الآية خبر عن اليهود.

وقال آخرون: هذا خبر من الله - جلّ ثناؤه - عن مشركي قريش أنهم قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء.

وهذا القول الأخير هو الأوفق للسياق، وهو الذي رجحه الطبري بهذه القاعدة التي نحن بصدد التمثيل لها.

قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:

عنى بذلك: وما قدروا الله حق قدره مشركو قريش، وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود، ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود، الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود، وإذا لم يأت بما روى من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر

(1)

انظر الأقوال في جامع البيان (7/ 266) وما بعدها، وقد أطال الرازي في تقرير الاعتراضات الواردة على القولين (13/ 78)، وانظر المحرر الوجيز (6/ 104) والبحر المحيط (4/ 580).

ص: 118

من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله:{وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} موصولا بذلك غير مفصول منه، لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. أهـ

(1)

.

ونصر ابن كثير اختيار الطبري، قال: والأول -[يعني أنه خبر عن المشركين]- أظهر؛ لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش - والعرب قاطبة - كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر، كما قال:{أَكانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النّاسَ} [يونس: 2] وقال تعالى: {وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ} {الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً} {(94) قُلْ لَوْ كانَ فِي} {الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً} (95)[الإسراء: 94 - 95] وقال ها هنا: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. اهـ

(2)

.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا - ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها} [النحل: 83].

قال الطبري: اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالنعمة التي أخبر الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء المشركين أنهم ينكرونها، مع معرفتهم بها، فقال بعضهم: هو النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوّته ثم جحدوها وكذبوه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدّد الله - تعالى ذكره - في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم بذلك عليهم، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.

وقال آخرون: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا.

(1)

جامع البيان (7/ 268)، وط: شاكر (11/ 524 - 525).

(2)

تفسير القرآن العظيم (3/ 293).

ص: 119

وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقرّوا بأن الله هو الذي رزقهم، ثم ينكرون ذلك بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عنى بالنعمة التي ذكرها الله في قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ} النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيا إلى ما بعثه بدعائهم إليه، وذلك أن هذه الآية بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما بعث به، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده، إذ لم يكن معنى يدلّ على انصرافه عما قبله وعما بعده، فالذي قبل هذه الآية قوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها} [النحل: 82 - 83]، وما بعده {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} [النحل: 84] وهو رسولها. فإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية: يعرف هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم يا محمد بك، ثم ينكرونك ويجحدون نبوّتك {وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ} (83) يقول: وأكثر قومك الجاحدون نبوّتك، لا المقرّون بها. اهـ

(1)

.

(1)

جامع البيان (14/ 157 - 158) مختصرا، واستحسن هذا القول النحاس في المعاني (4/ 99).

* ونظائر ذلك كثير جدا:

1 -

منها ما جاء في تفسير قوله تعالى: * إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً [البقرة: 26].

انظر المحرر الوجيز (1/ 151).

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [البقرة: 27] انظر المحرر الوجيز (1/ 156).

3 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ [البقرة: 29] انظر المحرر الوجيز (1/ 161).

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] انظر جامع البيان (1/ 499).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ [البقرة: 118]. انظر -

ص: 120

(1)

- جامع البيان (1/ 513).

6 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: 171]. انظر جامع البيان (2/ 82).

7 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: * لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة: 177]. انظر جامع البيان (2/ 95).

8 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]. انظر جامع البيان (2/ 323).

9 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 280]. انظر جامع البيان (3/ 114).

10 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا [النساء: 3]. انظر التفسير القيم ص 220.

11 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ [النساء: 25]. انظر تفسير ابن كثير (2/ 228) وأضواء البيان (1/ 381).

12 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 37]. انظر روح المعاني (6/ 153).

13 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]. انظر روح المعاني (6/ 153).

14 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ [المائدة: 103].

انظر المحرر الوجيز (5/ 214).

15 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)[الأعراف: 145]. انظر جامع البيان (9/ 59).

والأمثلة على هذه القاعدة كثيرة جدا، انظر مزيدا منها في جامع البيان (7/ 225) و (9/ 105، 139، 148، 155، 212) و (17/ 133، 203) و (18/ 135) و (26/ 8، 12) و (27/ 47) و (29/ 24، 150) و (30/ 55، 146).

وفي المحرر الوجيز (6/ 70) و (7/ 225) و (8/ 34، 139) و (9/ 76، 140) و (15/ 447) و (16/ 156).

وفي تفسير ابن كثير (7/ 25، 61).

وفي التفسير القيم ص 291، 317، 361.

وفي أضواء البيان (2/ 430) و (4/ 129، 135، 182، 212) و (5/ 66) و (6/ 691).

ص: 121

‌المطلب الثاني:

قاعدة: لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه

*‌

‌ صورة القاعدة:

الأصل في نصوص القرآن - وكذا السنة - أن تحمل على ظواهرها، وتفسر على حسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولا يجوز أن يعدل بألفاظ الوحي عن ظاهرها إلا بدليل واضح يجب الرجوع إليه، وهذا ما تقرر في علم الأصول

(1)

؛ ولأنه لا يعرف مراد المتكلم إلا بالألفاظ الدالة عليه، والأصل في كلامه وألفاظه أن يكون دالا على ما في نفسه من المعاني، وليس لنا طريق لمعرفة مراده غير كلامه وألفاظه

(2)

.

فمن خالف ظاهر القرآن فقوله مرجوح، وهذه القاعدة ترد عليه، فمن هذا المنظور كانت هذه القاعدة من قواعد الترجيح.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

المراد ب «الظاهر» هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني وأنه ليس لها معنى باطن يخالف ظاهرها، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق، وآخر في سياق آخر، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه، ومعنى آخر على وجه

(3)

.

ومعنى الظاهر في هذه القاعدة لا يوافق معنى الظاهر في اصطلاح الأصوليين من

(1)

أضواء البيان (3/ 100) وشرح الكوكب المنير (2/ 147).

(2)

منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/ 393) لعثمان بن علي بن حسن.

(3)

بلفظه من القواعد المثلى ص 36 القاعدة الرابعة. وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 356).

ص: 122

كل وجه، فهو عندهم ما احتمل أمرين هو في أحدهما أظهر من الآخر

(1)

. وهو في مقابل النص - وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال

(2)

. فالظاهر في هذه القاعدة قد يكون تارة هو الظاهر في اصطلاح الأصوليين، وقد يكون أخرى هو النص في اصطلاحهم.

وقد استعمل لفظ «الظاهر» عند المتكلمين استعمالا يخالف ما كان عليه السلف، وما أريد به في القاعدة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأمّا سؤاله عن «إجراء القرآن على ظاهره» فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين.

ولفظ «الظاهر» في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك، فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يشبّه الله بخلقه فهذا ضال، بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب، والحرير، والخمر، واللبن، تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا، فالله - تعالى - أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما يدركه العباد، ليست حقيقته كحقيقة شيء منها.

وأمّا إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة، لا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يلحد في أسماء الله - تعالى -، ولا يقرأ القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة، بل يجرى ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك وهو الحق. اهـ

(3)

.

فالظاهر في هذه القاعدة هو مدلول النصوص المفهوم بمقتضى الخطاب العربي

(4)

.

(1)

التمهيد في أصول الفقه (1/ 7)، وروضة الناظر مع شرحها (2/ 30).

(2)

روضة الناظر مع شرحها (2/ 27).

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 379).

(4)

انظر الموافقات (3/ 383، 391) وجامع البيان تحقيق شاكر (1/ 72) هامش رقم (2) ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/ 398).

ص: 123

والمراد بقولهم «إلا بدليل يجب الرجوع إليه» .

هذا الدليل الذي يجوز صرف الظاهر له، إما أن يكون عقليا ظاهرا أو سمعيا ظاهرا. أما الدليل العقلي الظاهر، هو الذي يعلم به كل أحد المراد، وأن الظاهر غير مراد، وذلك مثل قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك قوله:{اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (62)[الزمر: 62] يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم.

وأما الأدلة السمعية فهي الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر

(1)

فإذا وجد الدليل جاز صرف اللفظ عن ظاهره

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره، إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة، وإن سمي تأويلا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه؛ ولموافقة السنة والسلف عليه، ولأنه تفسير للقرآن بالقرآن ليس تفسيرا له بالرأي، والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين. اهـ

(3)

.

(1)

انظر فتاوى ابن تيمية (6/ 361) وقد نص من قبل ابن جرير الطبري (8/ 91) على هذين الدليلين يصرف لهما ظاهر اللفظ.

(2)

واشترط العلماء لصحة حملة على معنى معين خلاف الظاهر - بعد وجود الدليل الظاهر على صرفه عن ظاهره - شروطا:

أولها: أن يكون المعنى المدّعى موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع، وكل تأويل خرج عن هذا فليس بصحيح.

الثاني: أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه، ويسلم ذلك الدليل من المعارض.

انظر فتاوى ابن تيمية (6/ 360) وبدائع الفوائد (4/ 205) والموافقات (3/ 394) وإرشاد الفحول ص 300.

(3)

مجموع الفتاوى (6/ 21).

ص: 124

وسيأتي التمثيل لما صح فيه صرف اللفظ عن ظاهره بدلالة القرآن أو السنة تحت بحث ما استثني من القاعدة.

أما ما أحدثه المتأخرون من صرف ألفاظ القرآن والسنة عن ظواهرها، وتأويلها دون دليل من القرآن أو السنة وإنما فعلوا ذلك كي توافق مذاهبهم التي اعتقدوها وأسسوها على ما أملته عليهم عقولهم، فمثل هذا ردّ على أصحابه، وسيأتي أمثلة لذلك والردّ عليها بهذه القاعدة العظيمة - إن شاء الله -.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

1 -

منها: خبر الله - تعالى - في كتابه أن هذا القرآن عربي لا عوج فيه، وأنه فصّل آياته، قال تعالى:{كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3)[فصلت: 3] وقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} [الشورى: 7] ونحوها من الآيات التي أخبرت عن تفصيل آياته، وعن كونه بلسان عربي مبين، وتفصيل الآيات، وإنزاله عربيا يقتضى لزاما أن تكون معانيه جارية على ظاهر دلالة ألفاظه التي تدل عليها عربته، ولا يحاد به عن ظاهر ألفاظه العربية، وإلا كان منافيا لتفصيله وكمال عربته التي أخبر الله بها عنه.

2 -

ومنها قول الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (6)[سبأ: 6]، وقول الله تعالى:

{* أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} (19)[الرعد: 19] فمدح الله - تعالى - العلماء الذين عرفوا الحق من طريق الوحي وشهدوا به، فلو كانت ظواهره لا تدل على مراد الشارع لما استحقوا هذا المدح والتكريم

(1)

.

3 -

ومنها قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ}

(1)

منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/ 425).

ص: 125

{نَذِيراً} (1)[الفرقان: 1]. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. ونحوها من الآيات، التي تصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه منذر، وبهذا القرآن ينذر، فكيف يتم البلاغ ويكمل الإنذار، وتقوم الحجة، وتنقطع المعذرة به وظاهر ألفاظه غير مقصودة، وليست هي الدالة على مراد المتكلم، ولم يبين الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم دليلا يدل على الذي صرف لأجله الظاهر. هذا مناف لمهمة الإنذار والبلاغ، وليس بمثل هذه الأحاجي تقوم الحجة وتنقطع المعذرة. فلا سبيل إلى قيام الحجة وانقطاع المعذرة، وكمال الإنذار إلا أن يكون ظاهر الألفاظ مراده، ويكون بها الإنذار، وبها الإيمان وإليها المرجع والتحاكم

(1)

.

4 -

ومنها قول الله - تعالى - عن هذا القرآن: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ} [البقرة: 185]. وقال تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} (24)[محمد: 24]. ونحوها من الآيات الدالة على أن هذا القرآن هدى للناس والآمرة بتدبره، فإن الله - تعالى - خاطب عباده جميعا بذلك، وفيهم الذكي والبليد، والفقيه وغير الفقيه وأوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه ويتفكروا فيه، ويعتقدوا موجبه فإذا لم يكن هذا كله يفهم من ظاهر الخطاب، ولم ينصب دليلا ظاهرا على إحالته عن ظاهره، أو نصب دليلا خافيا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان هذا تدليسا وتلبيسا، وكان نقيض البيان وضد الهدى وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان

(2)

.

5 -

ومنها: حديث زيد بن أرقم

(3)

أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فحمد الله وأثنى

(1)

انظر منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (1/ 426).

(2)

انظر مجموع الفتاوى (6/ 362)، والصواعق المرسلة (1/ 310).

(3)

هو: زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي أبو عمرو، من مشاهير الصحابة، ردّ يوم أحد لصغر سنه، وشهد مؤتة. توفي سنة ست وستين وقيل غير ذلك. انظر سير أعلام النبلاء (3/ 165).

ص: 126

عليه ووعظ وذكّر ثم قال: «أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحثّ على كتاب الله ورغب فيه»

(1)

.

فهذا أمر عام لجميع الأمة بالاستمساك بهذا الكتاب العظيم، ليهتدوا بهداه فلما اشترك جميع الأمة في هذا الأمر، وكان معتصمهم واحدا دل على أن ظاهره هو المراد، وبه المعتصم، وإلا لو كان المراد غير ظاهره - الذي يتبادر إلى الأذهان عند قراءته وسماعه لمن صحت لغته واستقامت فطرته - ولم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك طعنا في تبليغه الرسالة وإكمال الدين، وقيام الحجة.

6 -

ومنها: إجماع الأمة على أنه يجب العمل بالظاهر حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، وأن صرفه عنه بغير دليل باطل.

قال الشنقيطي: وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح وعلى هذا كل من تكلم في الأصول اهـ

(2)

.

وقال الفخر الرازي: إن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل باطل بإجماع المسلمين اهـ

(3)

.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة عامة علماء الأمة فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

الإمام الشافعي: قال - في معرض حديثه عن السنة مقررا هذه القاعدة: فكل كلام كان عاما ظاهرا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله - بأبي هو وأمي - يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في

(1)

أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم (36 - 37).

(2)

أضواء البيان (7/ 443).

(3)

مفاتيح الغيب (30/ 94).

ص: 127

الظاهر بعض الجملة دون بعض. اهـ

(1)

.

2 -

ومنهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري: قال - مقررا هذه القاعدة، ناصا عليها، مرجحا بها -: وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته

(2)

. اهـ.

وقال في موضع آخر: وإذا تنوزع في تأويل الكلام كان أولى معانيه به أغلبه على الظاهر إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معنيّ به غير ذلك اهـ

(3)

. واستعمل ابن جرير الطبري هذه القاعدة في الترجيح كثيرا، ولا يكاد يرجح بها إلا وينص عليها ويقررها، - وسترى بإذن الله في الأمثلة التطبيقية جملة وافرة من ذلك.

3 -

ومنهم القاضي ابن عطية: قال - في معرض ردّه لأحد الأقوال التي خرجت، باللفظ عن ظاهره: وهذا غير جيد؛ لأنه إخراج لفظ بيّن في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق اللغز الذي برئ القرآن منه اهـ

(4)

.

4 -

ومنهم الفخر الرازي: قال: إن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل باطل لإجماع المسلمين؛ ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد، فإنهم يقولون في قوله:{جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}

(5)

ليس هناك لا أنهار ولا أشجار وإنما مثل للّذة والسعادة

ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين اهـ

(6)

.

5 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه: فقد أبان هذه القاعدة في مواطن كثيرة من

(1)

الرسالة ص 341.

(2)

جامع البيان (1/ 261).

(3)

جامع البيان (8/ 91).

(4)

المحرر الوجيز (6/ 3).

(5)

جزء من آيات كثيرة جدا منهاسورة البقرة (25). وسورة آل عمران آية (195) وغيرها.

(6)

مفاتيح الغيب (30/ 94).

ص: 128

مؤلفاته وأوضح ما حصل من اشتراك في لفظ «الظاهر»

(1)

وأن سلف الأمة كانوا يجرون ألفاظ الوحي على ظاهرها دون تأويل، قال رحمه الله: لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه -[أي الوحي]- على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر عما بعد الموت اهـ

(2)

.

6 -

ومنهم العلامة ابن القيم: فقد عقد فصلا في الصواعق المرسلة قال فيه: الفصل الحادي عشر في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي البيان، والإرشاد، والهدى، وأن القصدين متنافيان، وأن تركه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى.

فإذا بين المتكلم مراده، بالألفاظ الدالة على مراده، ولم يعلم السامع معنى تلك الألفاظ، لم يحصل له البيان، فلا بد من تمكن السامع من الفهم، وحصول الإفهام من المتكلم، فحينئذ لو أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لكان قد كلّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده

اهـ

(3)

.

7 -

ومنهم ابن جزيّ الكلبي: فقد ذكر هذه القاعدة من أوجه الترجيح التي اعتمدها في كتابه، ونص عليها في مقدمته، قال رحمه الله: السابع: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن، فإن ذلك دليل على ظهوره ورجحانه. اهـ

(4)

.

8 -

ومنهم الزركشي: قال - مقررا هذه القاعدة -: وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:

أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجليّ فيحمل عليه اهـ

(5)

.

(1)

انظر مجموع الفتاوى (3/ 43، 207).

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 252).

(3)

الصواعق المرسلة (1/ 310).

(4)

التسهيل (1/ 9).

(5)

البرهان (2/ 167).

ص: 129

9 -

ومنهم ابن الوزير

(1)

: قال: وأمّا الأمر الثاني: وهو النقص في الدين برد النصوص والظواهر ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها أيضا. اهـ

(2)

.

10 -

ومنهم محمد الأمين الشنقيطي: قال: والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال بوجه من الوجوه، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح. اهـ

(3)

.

وغير هؤلاء كثير جدا، ونقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة على وجوب الأخذ بظواهر الكتاب والسنة - كما سبق - فهذا يغني عن الإطناب في سرد أقوال أئمة الإسلام في ذلك.

***

*‌

‌ المخالفون لهذه القاعدة والرد عليهم:

أولا: المرجئة

(4)

:

ذهبت المرجئة إلى أنه يجوز أن يعني الله بكلامه خلاف ظاهره، دون أن يدل دليل على ذلك

(5)

.

والخلاف معهم في آيات وأحاديث الوعيد، وفاقا لمذهبهم في أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فقالوا إن ظاهر النصوص الذي يقتضي الوعيد غير مراد.

(1)

هو: محمد بن إبراهيم بن علي المرتضى اليماني، من أئمة الاجتهاد في عصره، ألف العواصم والقواصم ردا على الزيدية، مات سنة أربعين وثمان مائة. انظر الضوء اللامع (6/ 272).

(2)

إيثار الحق ص 123.

(3)

أضواء البيان (7/ 438).

(4)

المرجئة سموا بهذا؛ لأنهم يؤخرون العمل عن النية وعقد القلب، ويقولون لا تضر معصية مع الإيمان كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم أربعة فرق، مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة. انظر مقالات الإسلاميين (1/ 213) والملل والنحل (1/ 161) والفرق بين الفرق ص 190.

(5)

انظر المحصول (1/ 546/1) والبحر المحيط للزركشي (1/ 460) والتحصيل من المحصول (1/ 255).

ص: 130

قال الزركشي: والخلاف في آيات الوعيد والأحاديث الدالة على وعيد الفساق لا غير، على ما فهم من أدلتهم، وأمّا الأمر والنهي فلا خلاف فيهما. اهـ

(1)

.

ومذهبهم هذا كما هو ظاهر مبني على أصل عقديّ معلوم بطلانه - وليس هذا مجال مناقشته -، وفيه إبطال للنصوص الشرعية في هذا الباب، وإبطال لفائدة الإفهام منها، ولو فتح لهم الباب لما بقي الاعتماد على شيء من خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المقصود منه أمرا وراء الإفهام، ومعلوم أن ذلك ظاهر الفساد

(2)

. واللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره لا يدل عليه فهو كالمهمل، والخطاب بالمهمل باطل

(3)

.

ثانيا - الصاوي المالكي

(4)

:

ذهب الصاوي في حاشيته على الجلالين إلى إبطال الأخذ بظاهر نصوص الكتاب والسنة، بل شطّ حتى جعل الأخذ بظاهرهما من أصول الكفر، ففي تفسير قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] قال: أي كنصارى نجران ومن حذا حذوهم من أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. اهـ

(5)

.

وهذا القول بهتان عظيم، ومباهتة بيّنة قد تولى علماء الأمة الرد عليه، وسأكتفي بذكر بعض كلام العلامة محمد الأمين الشنقيطي في رده عليه، قال رحمه الله: فانظر رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله، وكتابه ونبيه وسنته صلى الله عليه وسلم، وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به. فإنه

(1)

البحر المحيط (1/ 460).

(2)

المحصول (1/ 546/1).

(3)

البحر المحيط (1/ 460) وانظر المحصول (1/ 546/1).

(4)

هو: أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي، فقيه مالكي، له حاشية على تفسير الجلالين، توفي بالمدينة المنورة سنة إحدى وأربعين ومائتين وألف. انظر الأعلام (1/ 246).

(5)

حاشية الصاوي على الجلالين (1/ 140). وانظر (3/ 10) منها.

ص: 131

جعل ما قاله نصارى نجران، هو ظاهر كتاب الله، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم فأخذ بظاهر القرآن.

وقد قال قبل هذا: قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تقول:

إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال: «نعم» ، فقالوا: حسبنا، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله. فنزلت الآية.

فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.

وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة، بوجه من الوجوه، ولا بدلالة من الدلالات، أن عيسى ابن الله، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت.

فقول الصاوي كنصارى نجران ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل! باطل!! باطل!!! حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره وقوله:{وَرُوحٌ مِنْهُ} كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجائية: 13] أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه منه - جل وعلا -.

فلفظة «من» في الآيتين لابتداء الغاية، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران.

وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص. والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره. فبنوا باطلا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا باطل، ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك، من أن يقولوا ما قالوا

وقول الصاوي في

ص: 132

كلامه المذكور إن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة. ومن هم العلماء الذين قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟ سموهم لنا، وبيّنوا لنا من هم؟

والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم، ولا متعلم

وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول

(1)

. انتهى بلفظه. وقد أطنب الشيخ في الرد عليه، وعلى من نفى الصفات بحجة أن ظاهرها التشبيه، فليراجعه من أراد المزيد.

وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية من قبل على جذور هذا المنهج الذي سلكه الصاوي، وبنى عليه الحكم بأن ظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. وذلك تأسيسا لمذهبه العقدي المبني على تأويل آيات الصفات. قال شيخ الإسلام: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد. فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك؛ فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد؛ ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:

تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.

وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل. اهـ

(1)

.

***

(1)

أضواء البيان (7/ 440 - 443)، وقد ردّ عليه الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، في كتابه «تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران» .

ص: 133

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

كما أسلفت في مبحث بيان متى يكون الترجيح - من مباحث التمهيد - أن الترجيح قد يكون فيه ردّ أو تضعيف لبعض الأقوال التي قيلت في الآية، وقد يكون الترجيح بتصحيح قول لموافقته القاعدة، وتضعيف غيره لمخالفته لها، وغيرها من الأنواع، وضربت لذلك أمثلة مقتضبة.

(1)

وهذه القاعدة يكون الترجيح بها شاملا لكل ذلك كما تدل عليه أمثلتها - كما سترى بإذن الله.

ومن التفاسير التي تعمل فيها هذه القاعدة:

أولا: تفاسير الباطنية قاطبة.

ثانيا: تفاسير أهل الإشارة والاعتبار.

ثالثا: تفاسير المتكلمين وأهل التأويل.

رابعا: أقوال بعض المفسرين التي ليست مما سبق وخالفوا بها القاعدة.

أولا: تفاسير الباطنية

(2)

:

ومن الباطنية الذين تردّ هذه القاعدة مذاهبهم وأقوالهم في التفسير.

- الإمامية الاثنا عشرية

(3)

:

تقول الإمامية الاثنا عشرية: إن القرآن له ظاهر وباطن .. بل له سبعة وسبعون

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 43).

(2)

الباطنية سموا بذلك؛ لأنهم يقولون: إن للنصوص ظاهرا وباطنا ولكل تنزيل تأويلا، ولهم ألقاب كثيرة منها القرامطة والخزمية والإسماعليية والنصيرية وغيرها. وهم يقولون: إنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر، ولهم معتقدات هدموا بها الشريعة. انظر الملل والنحل (1/ 228).

(3)

هم فرقة من غلاة الشيعة، يقولون باثني عشر إماما، ويعتقدون فيهم العصمة من الخطأ والنسيان وعن اقتراف الكبائر والصغائر، ويعتقدون الرجعة، ويتبرأون ويطعنون في الخلفاء الثلاثة وكبار الصحابة.

انظر مقالات الإسلاميين (1/ 88)، والملل والنحل (1/ 189)، والفصل لابن حزم (5/ 35)، والوشيعة في نقد عقائد الشيعة لموسى جار الله.

ص: 134

بطنا، ولم يقتصروا على ذلك بل تمادوا وادعوا أن الله - تعالى - جعل ظاهر القرآن في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والرسالة، وجعل باطنه في الدعوة إلى الإمامة والولاية وما يتعلق بهما

ومن نتائج هذا التفسير الباطني للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطربا بالغا ومجالا رحبا، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة فأخذوا يتصرفون في القرآن كما يحبون وعلى أي وجه يشتهون

(1)

.

فليس هناك ضابط لتأويلاتهم، ولا تدل عليه ألفاظ القرآن الكريم بأي نوع من أنواع الدلالة، بل هو مبني على ما تمليه عليهم عقيدتهم وأذواقهم ومشاربهم، فمثل هذه التأويلات لظاهر ألفاظ القرآن مردودة على صاحبها - ولا كرامة - بهذه القاعدة المسلّمة عند أهل السنة والقرآن.

وهناك أمثلة تبين شيئا من تلك الضلالات والهدم لمدلولات ألفاظ القرآن الكريم.

يقول مفسرهم عن قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (17)[الرحمن: 17]:

المشرقين رسول الله وعلي - صلوات الله عليهما - والمغربين الحسن والحسين عليهما السلام.

وعند قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} (22)[الرحمن: 19 - 22] يقول مفسرهم: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} علي وفاطمة عليهما السلام {بَيْنَهُما بَرْزَخٌ} محمد صلى الله عليه وسلم {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} (22) الحسن والحسين عليهما السلام

(2)

.

فأين هذا التفسير من ظاهر هذه الآية! تحطيم كامل لمدلولات ألفاظ القرآن الكريم.

وكقول مفسرهم في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ}

(1)

انظر التفسير والمفسرون (2/ 28 - 30).

(2)

انظر تفسير نور الثقلين للحويزي (5/ 190 - 191)، وتفسير الميزان لطباطبائي (19/ 103).

ص: 135

{وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10]: مثل ضربه الله لعائشة وحفصة

(1)

أن تظاهرتا على رسول الله وأفشتا سره

(2)

. اهـ وعن قوله تعالى: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] قال مفسرهم: نحن وجه الله، أهـ

(3)

وأمثلة ذلك كثير من تفسيرهم الباطني لكتاب الله - تعالى - وإعراضهم عما دلّ عليه ظاهر القرآن، مع كون هذا الباطن لا دلالة عليه من اللفظ البتة، وإنما هي أهواء وضلالات تملي هذا التفسير على عقولهم وقلوبهم. نعوذ بالله من الخذلان.

والباطنية عامة الذين ترد عليهم هذه القاعدة، هم الذين فسروا القرآن بأمور باطنة تخالف ظاهره

(4)

، فهذا معلوم الفساد من جهة مخالفته لظاهر القرآن.

(1)

هي: أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، توفيت سنة إحدى وأربعين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (2/ 227)، والإصابة (8/ 15).

(2)

انظر تفسير الميزان (19/ 346).

(3)

انظر نور الثقلين (4/ 146)، وتفسير الميزان (19/ 103).

(4)

* ومن هذه الفرق الإمامية والإسماعيلية، فهم يرون أن للقرآن ظاهرا وباطنا ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، والمتمسك بظاهره معذب، وباطنة مؤد إلى ترك العمل بظاهره. وعلى هذا فسروا بعض آيات القرآن، وبعض الأمور الشرعية، كالوضوء قالوا: هو عبارة عن موالاة الإمام، و «الصلاة» عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]. و «الغسل» تجديد العهد ممن أفشى سرا من غير قصد، و «الكعبة» النبي. وغير هذه التّرهات كثير جدا، وانظر التفسير والمفسرون (2/ 241) وما بعدها.

* ومن هذه الفرق باطنية الصوفية: من تأويلاتهم ما قاله مفسرهم في تفسير قوله تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ (11)[التحريم: 11]. قال: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني القوى المؤمنة من قوي النفس اللوامة، اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ يعني القوى الصالحة القاتلة تحت القوة الفاسدة الفاعلة المستكبرة، وما ضرها كفر القوة الفاعلة الفاسدة إذا كانت صالحة هي بنفسها إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ يعني إذا قالت اللطيفة الصالحة القابلة في مناجاتها مع ربها، ابن لي بيتا في أخص أطوار القلب ..

وأمثال ذلك كثير جدا. وانظر التفسير والمفسرون (2/ 398).

ص: 136

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: .. وأمّا إذا أريد بالعلم الباطن الذي يبطن عن أكثر الناس أو عن بعضهم فهذا على نوعين:

أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر، والثاني: لا يخالفه. فأما الأول فباطل، فمن ادعى علما باطنا أو علما بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئا، إما ملحدا زنديقا وإمّا جاهلا ضالا.

وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا.

فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم، فإن علم أنه حق قبل، وإن علم أنه باطل ردّ وإلا أمسك عنه. وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة

(1)

من الإسماعيلية

(2)

.

=* ومن هذه الفرق أيضا، فرقة «القرآنيون» ، فإن لهم دعاوى عظيمة، وتأويلات باطلة لآيات القرآن، هذه بالإضافة إلى ما أسسوا عليه مذهبهم من ردّ كامل للسنة. انظر تفصيل مذهبهم وشبهاتهم ومنهجهم في تفسير القرآن مع بعض الأمثلة لتأويلاتهم في كتاب «القرآنيون وشبهاتهم حول السنة» لخادم حسين إلهي بخش.

* ومن هذه الفرق أيضا البابية والبهائية، الذين حطموا مدلولات الألفاظ وفسروا القرآن على ما أرادوا من نصرة مذهبهم دون اعتبار لدلالة أو مدلول. انظر بعض أقوالهم في التفسير والمفسرون (2/ 265 - 279). وغيرهم من الفرق التي سلكت هذا المنهج في إلغاء ظاهر القرآن وتأويله وتحريفه على ما يسمى باطنا.

(1)

هم: أتباع حمدان القرمطي. وكان رجلا متواريا صار إليه أحد دعاة الباطنية ودعوه إلى معتقدهم فقبل الدعوة، ثم صار يدعو الناس إليها. وضل بسببه خلق كثير. وهم ليسوا من فرق المسلمين، بل مجوس، وضررهم على الإسلام أعظم من ضرر اليهود والنصارى. انظر الفرق بين الفرق ص 16 - 266، ومقالات الإسلاميين (1/ 100)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 108.

(2)

هم: فرقة باطنية رافضية يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وقد مات قبل أبيه، فاعتقد بعضهم أنه حي ولم يمت، وبعضهم قال: إنه مات واعتقدوا فيه الرجعة. ويعتقدون أن الله لا يوصف بوصف ولا يسمى باسم، ولهم دعوة في كل زمان، ومقالة جديدة بكل لسان، ويلقبون بالباطنية والقرامطة وغيرها. انظر الملل والنحل (1/ 196 - 226)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 65، وكتاب الإسماعيلية تاريخ وعقيدة لإحسان إلهي ظهير.

ص: 137

والنصيرية

(1)

وأمثالهم ممن وافقهم من الفلاسفة

(2)

وغلاة المتصوفة والمتكلمين. اهـ

(3)

.

ثانيا: تفاسير أهل الإشارة والاعتبار:

وتفاسير هؤلاء داخلة تحت النوع الثاني الذي سبق ذكره عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الباطن الذي لا يخالف العلم الظاهر، فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا.

وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: والثاني: ما كان في نفسه حقا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه «إشارات»

وهو يشتبه كثيرا على بعض الناس فإن المعنى يكون صحيحا، لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، وهذا قسمان:

أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله، فمن قال المراد بقوله:{تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] هي النفس وبقوله: {اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ}

[طه: 24] هو القلب، {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ} عمر {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} عثمان {تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح: 29] علي. فقد كذب على الله إما متعمدا وإمّا مخطئا.

(1)

هم: من غلاة الرافضة الباطنية يزعمون أن الله - تعالى - يحلّ في عليّ في بعض الأوقات. وفي اليوم الذي قلع عليّ باب خيبر كان الله - تعالى - قد حلّ فيه. ويقولون بتناسخ الأرواح، وادعوا النبوة في رجل يقال له محمد بن نصير النميري وإليه ينتسبون، ويقولون بنكاح المحارم. وانظر الملل والنحل (1/ 220)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 75.

(2)

الفلسفة باليونانية محبة الحكمة، وأكثر الفلاسفة ينكرون علم الله - تعالى -، وينكرون حشر الأجساد، ومن أشهرهم أرسطاطاليس ونقل كتبه عن الفلسفة ابن سينا وغيره، وجميع الفلاسفة يعتقدون في تلك الكتب اعتقادات عظيمة. انظر الملل والنحل (2/ 369)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 126.

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 235 - 236).

ص: 138

والقسم الثاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس، فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك. فمن سمع قول الله تعالى:

{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (79)[الواقعة: 79] وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف، فقال: كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين. كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف، قال تعالى:{الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2)[البقرة: 1 - 2] وقال: {هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (138)[آل عمران: 138] وقال: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] وأمثال ذلك .. وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرّف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. اهـ

(1)

.

وقال ابن الصلاح

(2)

: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي

(3)

المفسر رحمه الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي

(4)

«حقائق التفسير» ، فإن كان قد

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 240 - 243) بشيء من الاختصار.

(2)

هو: عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي أبو عمرو، إمام في الحديث والفتيا والتفسير، مشارك في عدة فنون، كان سلفيا حسن الاعتقاد توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. تذكرة الحفاظ (4/ 1430)، وسير أعلام النبلاء (23/ 140).

(3)

هو: علي بن أحمد بن محمد الواحدي النيسابوري، له البسيط والوسيط والوجيز في التفسير، وكان إماما في العربية، مات سنة ثمان وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء (18/ 339).

(4)

هو: محمد بن الحسين السلمي، شيخ خراسان وكبير الصوفية، متكلّم فيه، قال الذهبي في تفسيره: حقائق التفسير أتى فيه بمصائب وتأويلات الباطنية. اهـ وقال السبكي: وحقائق التفسير قد كثر فيه الكلام من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ومحالّ للصوفية ينبو عنها ظاهر اللفظ. اهـ. انظر سير أعلام النبلاء (17/ 247)، وطبقات الشافعية (4/ 143).

ص: 139

اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر، وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسالك الباطنية، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يذكر بالنظير، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس والله أعلم. اهـ

(1)

.

ويشبه ما يذكره أرباب الإشارات، ما روي عن الضحاك

(2)

في تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} [النساء: 43].

قال: لم يعن بها الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم اهـ

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وهذا إذا قيل: إن الآية دلّت عليه بطريقة الاعتبار، أو شمول معنى اللفظ العام، فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السّكر من الخمر، واللفظ صريح في ذلك اهـ

(4)

.

وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم وهو اختيار ابن جرير الطبري

(5)

، وترجيح ابن عطية

(6)

، والشوكاني

(7)

، وغيرهم.

(1)

فتاوى ابن الصلاح ص 62، وانظر سير أعلام النبلاء (17/ 255). وقال السيوطي في الإتقان (4/ 194): وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير. اهـ، وانظر البرهان (2/ 170 - 171).

(2)

هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، يروي تفسيره عنه عبيد بن سليمان، مختلف في روايته، توفي سنة اثنتين ومائة وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 598)، وطبقات المفسرين (1/ 222).

(3)

جامع البيان (5/ 96)، وانظره في الدر المنثور (2/ 546)، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبري.

(4)

اتباع الرسول بصحيح المنقول وصريح المعقول ص 15.

(5)

جامع البيان (5/ 96).

(6)

المحرر الوجيز (4/ 125).

(7)

فتح القدير (1/ 468).

ص: 140

فهذا المعنى الذي دلّت عليه، وهو سكر الخمر مقدم في تفسيرالآية - ولا شك - وهو المراد قطعا، وحمل الآية على ظاهر اللفظ، ودلالته الظاهرة هو المتعين، وإن صح اعتبار وقياس سكرة النوم عليه - كما هو قول الضحاك - قياسا لا تفسيرا لنفس لفظ الآية كما ذكر شيخ الإسلام.

ثالثا: تفاسير المتكلمين وأهل التأويل:

وقد ذهب هؤلاء إلى صرف نصوص القرآن والسنة عن ظاهرها فيما يتعلق بصفات الباري - سبحانه -.

قال أبو حامد الغزالي

(1)

: كل خبر مما يشير إلى إثبات صفة الباري يشعر ظاهره بمستحيل في العقل، نظر، إن تطرق إليه التأويل قبل وأوّل، وإن لم يندرج فيه احتمال تبين على القطع كذب الناقل. اهـ

(2)

.

وقرر ذلك الرازي في أساس التقديس، وكذلك في مواضع متعددة من تفسيره

(3)

.

وإن كان هؤلاء في الجملة ممن يقولون بهذه القاعدة ويقررونها، إلا أنهم يخالفون في تطبيقها، فهم محجوجون بها. فهم يعتقدون معتقدا ويصرفون ظواهر الكتاب والسنة لتوافق معتقدهم، حيث أحال العقل عندهم اتصاف الله - تعالى - بتلك الصفات التي نفوها عنه - سبحانه -، فهم أرادوا حمل ألفاظ القرآن على ما اعتقدوا، وهذا منشأ الخطأ وأصل الضلال، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الأصل بقوله:

وأمّا النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر

(1)

هو: محمد بن محمد بن محمد الطّوسي الغزالي، صاحب التصانيف، غلب عليه التصوف والفلسفة، قال فيه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيّأهم فما استطاع. اهـ توفي سنة خمسة وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (19/ 322)، وشذرات الذهب (4/ 10).

(2)

المنخول من تعليقات الأصول ص 286.

(3)

انظر تفسيره (22/ 7) و (29/ 281) و (30/ 94) وغيرها، وأساس التقديس ص 91 - 191 - 193 - 207.

ص: 141

ما فيه الخطأ من جهتين - حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان - إحداهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. - فهؤلاء - راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظير إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ..

تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول .. فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول - مثل طوائف من أهل البدع - اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة، كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأوّلوه على آرائهم. تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأوّلون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه، ومن هؤلاء فرق الخوارج

(1)

، والروافض، والجهمية

(2)

، والمعتزلة

(3)

، والقدرية

(4)

، والمرجئة، وغيرهم. اهـ

(5)

. والذي ألجأهم إلى هذا المعتقد أنهم

(1)

هي: فرقة ضالة أجمعت على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكّم، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، وصاحبها مخلد في النار. ثم أطلق لقب الخوارج على كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه. انظر مقالات الإسلاميين (1/ 167)، والملل والنحل (1/ 131).

(2)

هم: أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار، وأنكر الاستطاعات كلها، ونفى الصفات، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، ومخازيه كثيرة. انظر الفرق بين الفرق ص 199، والملل والنحل (1/ 97).

(3)

هم: أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وسبب تسميتهم: أن واصل بن عطاء لما قال في الفاسق: لا مؤمن ولا كافر، طرده الحسن البصري من مجلسه، فلحق بعمرو بن عبيد واعتزلا مجلس الحسن. من أشهر بدعهم نفي الصفات والقول بخلق القرآن، ونفي القدر، والقول بأن مرتكب الكبيرة بين المنزلتين، ومخازيهم كثيرة. انظر الفرق بين الفرق ص 15 - 93، والملل والنحل (1/ 56).

(4)

هم: الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله، فأثبتوا خالقا مع الله، وسموا بالقدرية لكلامهم في القدر وإنكارهم له. وهم مجوس هذه الأمة كما جاءت الآثار بذلك. انظر الملل والنحل (1/ 56).

(5)

مجموع الفتاوى (13/ 355 - 357).

ص: 142

شبّهوا أولا الخالق بالمخلوق فجعلوا صفاته كصفاتهم، فجعلوا ظواهر الكتاب والسنة التشبيه فأوّلوها ليخرجوا من ذلك.

وهذا قول باطل أملته الأهواء والعقول الفاسدة، ولا دلالة عليه من كتاب أو سنة، والحق الذي لا مرية فيه أن كل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات المخلوقين، فلا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، كما هو الحال في الذات. وليس هذا موطن القوم

(1)

، وإنما أردت التنبيه على أصل الشبهة والتي من أجلها أوّلوا ظواهر الكتاب والسنة.

وكتب التفسير إضافة إلى كتب العقائد مليئة بهذه التأويلات لصفات الباري - سبحانه -، ليس المقام مقام سردها وبسطها، وإنما المقصود مطلق المثال، يبيّن من خلاله مخالفة بعض المفسرين لظاهر القرآن والسنة.

فمن أمثله ذلك، الآيات الدالة على صفة اليدين لله - تعالى -، كقوله تعالى:

{مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: 64].

قال القاضي عبد الجبار الهمداني

(2)

: والمراد بذلك: أن نعمتيه مبسوطتان على العباد، وأراد به نعمة الدين والدنيا، والنعمة الظاهرة والباطنة، وقد يعبر باليد عن النعمة فيقال: لفلان عندي يد وأياد ويد جسيمة. اهـ

(3)

.

(1)

ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم «درء تعارض العقل والنقل» في الرد عليهم، وانظر مجموع الفتاوى (6/ 355 - 373)، و (5/ 33 - 166 - 168 - 170 - 172) وغير هذه المواضع كثير، والتدمرية ص 69 وما بعدها، وأضواء البيان (2/ 319 - 320). وللقاضي أبي يعلى كتاب خاص بذلك مترجم ب «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» طبع جزء منه. وقد ضمّن بعض أهل السنة كتبهم في العقائد الرد على المخالفين لهم، كما فعل ابن أبي العز في شرح الطحاوية، السفاريني.

(2)

هو: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني أبو الحسن، إمام أهل الاعتزال في زمانه، له مصنفات منها التفسير، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة. طبقات الشافعية (5/ 97)، وطبقات المفسرين (1/ 262).

(3)

متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/ 231) تحقيق عدنان زرزور.

ص: 143

ونفى صفة اليد الزمحشري

(1)

في كشافه، وجعلها من المجاز، على أصول مذهبه الاعتزالي، وكذا بن المنيّر

(2)

في تعليقه على الكشاف، على طريقته في تقرير مذهب الأشاعرة في الانتصاف

(3)

. وهكذا فعل ابن عطية

(4)

، والرازي

(5)

، والقرطبي

(6)

، وأبو حيان

(7)

، والسمين الحلبي

(8)

، وابن جزيّ الكلبيّ

(9)

، وأبو السعود

(10)

، والشوكاني

(11)

، وابن عاشور

(12)

وغيرهم.

(1)

هو: محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي أبو القاسم، النحوي اللغوي المفسر، له تصانيف كثيرة. كان معتزليا، مجاهرا به، داعية إليه، توفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. طبقات الحنفية (3/ 447)، وطبقات المفسرين (2/ 314).

(2)

هو: أحمد بن محمد بن منصور الإسكندري المعروف بابن المنيّر، كان بارعا في الفقه واللغة، تعقب الزمخشري في اعتزالياته التي تخالف مذهب الأشاعرة، له «البحر الكبير» في التفسير. توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة. طبقات المفسرين (1/ 89).

(3)

انظر الكشاف وبهامشه الانتصاف (1/ 628) و (2/ 530).

(4)

انظر المحرر الوجيز (5/ 150).

(5)

انظر مفاتيح الغيب (12/ 45 - 46)، وأساس التقديس ص 140 - 145.

(6)

انظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 239).

(7)

انظر البحر المحيط (4/ 313 - 314).

(8)

انظر الدر المصون (4/ 343 - 433)، والسمين هو: أحمد بن يوسف بن محمد الحلبي، المقرئ النحوي المفسر، لازم أبا حيان فترة طويلة، توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة. الدرر الكامنة (1/ 360)، وطبقات المفسرين (1/ 101).

(9)

انظر التسهيل (1/ 182).

(10)

انظر إرشاد العقل السليم (3/ 58). وأبو السعود هو: محمد بن محمد العمادي الحنفي صاحب التفسير، تولى القضاء مدة في مدن مختلفة. توفي سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة. شذرات الذهب (8/ 398).

(11)

انظر فتح القدير (2/ 57).

(12)

انظر التحرير والتنوير (6/ 250). وابن عاشور هو: محمد بن الطاهر بن عاشور، رئيس المفتين في تونس، وشيخ جامع الزيتونة، من أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة، ومن أشهر كتبه «التحرير والتنوير» في التفسير، توفي سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة وألف. الأعلام (6/ 174).

ص: 144

ومن قبل نقل الماوردي مذاهب أهل التأويل، ولم ينقل قول أهل السنة والجماعة

(1)

فهذا الجمع من أئمة التفسير ذهبوا إلى خلاف الصحيح في تفسيرالآية، وخالفوا بذلك ظاهر القرآن - الذي أثبت لله يدا - دون دليل صحيح.

فمن هؤلاء من اتخذ التأويل والتحريف منهجا له في صفات الله أو في بعضها، كالقاضي عبد الجبار، والزمخشري المعتزليين، وكالرازي، وابن عطية، وابن عاشور، وغيرهم الذين سلكوا مذهب الأشاعرة. ومن هؤلاء من زلّ به القلم في تفسير هذه الآية، وربما كان لها نظائر أخر، دون أن يعتقد صحة مذهب من المذاهب المخالفة لأهل السنة، بل هو يقرر في مواطن متعددة مذهب السلف في إثبات صفات الباري - سبحانه - كالشوكاني.

والصحيح الذي لا يجوز العدول عنه في تفسير هذه الآية ونظائرها من آيات الصفات، إثباتها لله - تعالى - على ظاهرها كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم معلومة المعاني غير معقولة الكيف.

فدل ظاهر هذه الآية على إثبات صفة اليدين لله - تعالى -، وبهذا فسرها إمام المفسرين ابن جرير الطبري وأبطل قول من ذهب إلى تأويلها، فقال رحمه الله: .. ومع ما وصفناه من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى اليد في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول من قال: إن «يد الله» هي صفة له، قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال به العلماء وأهل التأويل اهـ

(2)

.

وقال البغوي رحمه الله: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه اهـ

(3)

.

(1)

انظر النكت والعيون (2/ 51).

(2)

جامع البيان (6/ 302).

(3)

معالم التنزيل (3/ 76).

ص: 145

ومن القواعد التي تؤيد هذه القاعدة فيما قررته في هذا المثال، قاعدة. «يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة» - وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله - فاليد في الصفة حقيقة وفي غيرها مجاز

(1)

.

ولا يجوز صرفها من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل واضح، وتعذر حمل اللفظ على الحقيقة. وهنا لا دليل، وليس متعذرا حملها على الحقيقة فالله أعلم بنفسه من خلقه، فهو الذي وصف نفسه بذلك فنحن نثبتها، كما أثبتها الله لنفسه.

قال أبو عمر ابن عبد البر

(2)

: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيّفون شيئا من ذلك، ولا يحدّون فيه صفة محصورة، وأمّا أهل البدع، الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله، وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة. اهـ

(3)

. والكلام في باقي الصفات كالكلام في هذه الصفة، فباب الصفات واحد.

رابعا: أقوال بعض المفسرين التي ليست مما سبق وخالفوا فيها القاعدة:

فمن أمثلة ذلك قولهم

(4)

في تفسير قول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] إن كل شيء فيه روح يسبح، وما لا روح فيه فلا يسبح،

(1)

انظر البحر المحيط (4/ 313).

(2)

هو: يوسف بن عبد الله ابن عبد البر الأندلسي، حافظ المغرب وشيخ الإسلام. صاحب التصانيف الفائقة، قال الذهبي فيه: وكان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل علم الكلام اهـ توفي.

سنة ثلاث وستين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء (153/ 18).

(3)

التمهيد (7/ 145).

(4)

انظر هذه الأقوال في زاد المسير (5/ 39)، والمحرر الوجيز (10/ 300)، والبحر المحيط (7/ 54)، وغيرها من كتب التفسير.

ص: 146

قاله الحسن

(1)

، والضحاك، وغيرهما.

وقال عكرمة

(2)

: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح. وهو ما كان من نام من حيوان وغيره يسبح حقيقة.

وقيل: إن كل شيء لم يغيّر عن حاله يسبح، فإذا تغيّر انقطع تسبيحه.

وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الورقة تسبّح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، ونحو ذلك.

وقيل: إن هذا التسبيح تجوّز، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر.

وترى هذه الأقوال كيف خالفت ظاهرالآية، فظاهرالآية يثبت التسبيح حقيقة لكل المخلوقات من حيوانات ناطقة وغير ناطقة، ومن نبات، وجماد، وما لم نعلم من خلق الله - تعالى - على الحقيقة كما يدل عليه ظاهرالآية. فهذا هو القول الصحيح الذي دل عليه ظاهر القرآن.

قال أبو حيان: ونسبة التسبيح للسموات والأرض ومن فيهنّ من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة، وأن ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقا وهذا هو ظاهر اللفظ اهـ

(3)

.

وقال الشنقيطي: التحقيق أن تسبيح الجبال والطير مع داود تسبيح حقيقي؛ لأن الله - جل وعلا - يجعل لها إدراكات تسبّح بها.

(1)

هو: الحسن بن أبي الحسن البصري، أبو سعيد، مولى زيد بي ثابت، كان إماما كبير الشأن، رفيع الذكر رأسا في العلم والعمل، له «التفسير» رواه عنه جماعة، توفي سنة عشر ومائة. سير أعلام النبلاء (4/ 563) وطبقات المفسرين (1/ 150).

(2)

هو: العلامة الحافظ المفسر عكرمة بن عبد الله، أبو عبد الله المدني البربري الأصل، مولى ابن عباس، وهو ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لا تثبت عنه بدعة ولا كذب، توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (5/ 12)، وطبقات المفسرين (7/ 54).

(3)

البحر المحيط (7/ 54).

ص: 147

والقاعدة المقررة عند العلماء: أن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل يجب الرجوع إليه. اهـ

(1)

.

ورجح هذا القول أيضا القرطبي

(2)

، وابن كثير

(3)

، وغيرهما.

ويشهد لهذه القاعدة فيما رجحته في هذا المثال قاعدة: «يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة» .

ويشهد لها أيضا قاعدة: «إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجّح له على ما خالفه» .

وقد صحت أحاديث كثيرة في تسبيح الجمادات حقيقة بالمقال، وفي كلامها بغير التسبيح بالمقال حقيقة.

منها قول ابن مسعود رضي الله عنه: « .. ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل»

(4)

أي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنها حديث جابر بن سمرة

(5)

رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن»

(6)

.

ومنها حديث جابر بن عبد الله

(7)

- رضى الله عنهما - قال: «كان المسجد مسقوفا

(1)

أضواء البيان (4/ 672).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (10/ 268).

(3)

تفسير القرآن العظيم (5/ 76).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. حديث رقم (3579). انظر الصحيح مع الفتح (6/ 679).

(5)

هو: جابر بن سمرة بن جنادة العامري، أبو عبد الله، له ولأبيه صحبة أخرج له أصحاب الصحيح، وفي الصحيح أنه قال. صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ألفي مرة، توفي سنة أربع وسبعين. الإصابة (1/ 221).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل حديث رقم (2).

(7)

هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، له ولأبيه صحبة، وأحد المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة ثمان وسبعين وقيل غير ذلك. الإصابة (1/ 222).

ص: 148

على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت»

(1)

.

فهذه الأحاديث وغيرها صريحة في إثبات تسبيح الجمادات وكلامها، كشفه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولبعض أصحابه، وهو عن كثير من الناس محجوب. فهذا يشهد لصحة قول من جعل التسبيح عاما لجميع الخلق.

ويشهد لهذه القاعدة - أيضا - فيما رجحته في هذا المثال، قاعدة «يجب حمل نصوص الوحي على العموم ما لم يرد نص بالتخصيص» .

فقوله: {مِنْ شَيْءٍ} عموم لا يجوز تخصيصمه إلا بدليل واضح يجب الرجوع إليه، ولا دليل هنا، فوجب حمله على العموم. ومن جعل قوله:{مِنْ شَيْءٍ}

عموما، ومعناه الخصوص في كل حيّ ونام

(2)

، فقوله مرجوح بهذه القاعدة، وهو مرتهن بإقامة الحجة على دعواه.

قال الشوكاني: ومدافعة عموم هذه الآية بمجرّد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله - سبحانه - ويؤمن بما جاء من عنده. اهـ

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3585) وأخرجه كذلك عن ابن عمر في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام حديث (3583) بلفظ مقارب انظر الصحيح مع الفتح (6/ 696).

(2)

انظر الجامع لأحكام القرآن (10/ 266).

(3)

فتح القدير (3/ 231).

* ونظائر هذا المثال كثيرة جدا، سوف أسرد جملة منها، أذكر جزءالآية الذي وقع فيه الخلاف ثم أحيل على المرجع الذي ذكر الخلاف وبيّن الترجح بالقاعدة.

1 -

فمنها ما جاء في تفسير قوله تعالي وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)[البقرة: 45]. انظر جامع البيان (1/ 261)، والبحر المحيط (1/ 299)، وروح المعاني (1/ 249).

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)[البقرة: 65]، انظر جامع البيان (1/ 332)، وتفسير ابن كثير (1/ 151 - 153). -

ص: 149

= 3 - ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125]. انظر جامع البيان (1/ 537).

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة: 229].

انظر جامع لأحكام القرآن (3/ 137).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران: 7]. انظر جامع البيان (3/ 180).

6 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]. انظر المحرر الوجيز (6/ 2 - 3).

7 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: 154]. انظر جامع البيان (8/ 91).

8 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [التوبة: 55]. انظر جامع البيان (10/ 153).

9 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ [الكهف: 50]. انظر جامع البيان (4/ 122).

10 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء: 47] انظر جامع البيان (8/ 123 - 124) والمحرر الوجيز (5/ 431 - 432) ط: القطرية و (7/ 12) ط: المغربية، مع التنبّه إلى وجود تقديم وتأخير أخل بالكلام في هذه الطبعة، وأضواء البيان (4/ 584).

11 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ [النور: 8]. انظر أضواء البيان (6/ 132 - 133).

12 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: 12]. انظر أضواء البيان (6/ 288 - 289).

13 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22)[الرحمن: 22]. انظر أضواء البيان (2/ 211).

14 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: اِتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28]. انظر أضواء البيان (6/ 576).

15 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة: 4]. انظر شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 423)، وأضواء البيان (1/ 330).

وانظر مزيدا من أمثلة هذه القاعدة في جامع البيان (1/ 280، 467) و (2/ 57، 59، 75، 267) و (8/ 60) و (17/ 84) و (21/ 93، 141) و (25/ 38) والمحرر الوجيز (9/ 409) ومفاتيح الغيب (4/ 63).

ص: 150

‌ذكر صور خرجت عن هذه القاعدة:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره، إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة، وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السنة والسلف عليه؛ ولأنه تفسير للقرآن بالقرآن ليس تفسيرا له بالرأي. والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين. اهـ

(1)

.

وقال ابن جرير رحمه الله:

وإنما الكلام يوجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلّما للحجة الثابتة بذلك اهـ

(2)

.

وهذا أوان الوفاء بالوعد، فهذه أمثلة دلت آيات قرآنية وأحاديث نبوية على أن الظاهر المتبادر منها حسب الوضع اللغوي غير مراد، وهذا هو ما استثنيناه من القاعدة بقولنا «إلا بدليل يجب الرجوع إليه» .

أ - مثال ما صرفت فيه الآية عن ظاهرها بدليل قرآني:

قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} [البقرة: 229]، فإن ظاهره المتبادر منه أن الطلاق كله محصور في المرتين، ولكنه - تعالى - بيّن أن المراد بالمحصور في المرتين خصوص الطلاق الذي تملك بعده الرجعة بقوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]

(3)

.

وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}

[سورة الأنعام: 152] و [الإسراء: 34] فإن المتبادر من مفهوم الغاية أنه إذا بلغ أشده، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، ولكنه - تعالى - بيّن أن المراد بالغاية أنه إن بلغها

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 21).

(2)

جامع البيان (1/ 516).

(3)

أضواء البيان (1/ 75).

ص: 151

يدفع إليه إن أونس منه الرشد، وذلك في قوله تعالى:{حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} [النساء: 3]

(1)

.

ب - مثال ما صرفت فيه الآية عن ظاهرها بدليل من السنة:

قوله تعالى بعد ذكر المحرمات: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} [النساء: 24]. أخبر - تعالى - أنه أحل ما سوى من ذكر في الآيتين السابقتين وظاهره العموم، ويدخل تحت هذا العموم الذي أفاده ظاهرالآية جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها والجمع بينهما؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الظاهر المتبادر من هذه الآية غير مراد في نكاح امرأة على عمتها وعلى خالتها بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها»

(2)

.

وقال ابن عطية: وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية حكم حرم الله به سبعا من النسب وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المأثورة سابعة وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ومضى عليه الإجماع. اهـ

(3)

وعلى هذا تجري كل عمومات القرآن التي صح تخصيصها فظاهرها خارج عن الاعتبار فيما دل عليه الخاص.

والآيات التي صح نسخها فإن ظاهرها قبل النسخ كان هو المراد فلما نسخت تحول إلى النص الناسخ لها. وأصبح بعد النسخ ظاهرها غير داخل في التكليف، وكذا تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد

(4)

.

(1)

أضواء البيان (1/ 75).

(2)

أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، في كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها، حديث رقم (5109) انظر الصحيح مع الفتح (9/ 64). وأخرجه من حديثه - أيضا - مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، حديث رقم (33).

(3)

المحرر الوجيز (4/ 69).

(4)

انظر الموافقات (3/ 108).

ص: 152

‌المطلب الثالث:

قاعدة: حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع المفسرون في تفسيرآية أو جملة أو لفظة من كتاب الله فأولى الأقوال بالصواب، القول الذي يوافق استعمال القرآن في غير موضع النزاع، سواء أكان ذلك في الألفاظ المفردة، أو في التراكيب.

وسواء أكان ذلك الاستعمال، استعمالا أغلبيا - بأن كان لموضع النزاع نظائر وقع فيها النزاع ولكن الكثرة الكاثرة من الاستعمال هي مما اتفق على معناه - أو مطردا - بأن يكون استعمالها في جميع مواردها في القرآن متفقا عليه، غير موضع الخلاف بأن يقول مفسر قولا في آية جميع نظائرها في القرآن على خلاف هذا القول

(1)

- أو عادة في أسلوب القرآن

(2)

.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

المقصود ب «كلام الله» في قولي: «حمل معاني كلام الله» هو الكلام الذي وقع فيه النزاع بين العلماء، سواء أكان ذلك الكلام لفظة أو جملة من القرآن.

والإشارة ب «ذلك» في قولي: «أولى من الخروج به عن ذلك» عائدة إلى «الغالب من أسلوب القرآن ومعهود استعماله» .

***

(1)

من أمثلة هذا، المثال الثاني من أمثلة هذه القاعدة. وانظر التفسير القيم ص 244.

(2)

انظر الموافقات (3/ 358)، والتبيان في أقسام القرآن ص 136، والتحرير والتنوير (1/ 124).

ص: 153

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة في الترجيح أئمة التفسير الأعلام، فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما:

فقد أخرج الطبري عنه في مخاصمته لنافع بن الأزرق

(1)

قوله: الورود: الدخول. -[يعني في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها} [مريم: 71]]-، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} (98) [الأنبياء: 98] أورود هو أم لا؟ وقال {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (98)[هود: 98] أورود هو أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟. اهـ

(2)

.

فاستدل ابن عباس لصحة قوله في تفسير «الورود» بمواردها في القرآن، فالغالب استعمال الورود بمعنى الدخول؛ فحمل الآية التي فيها الخلاف على ما غلب استعماله في القرآن أولى.

2 -

ومنهم الإمام الطبري: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (100)[النحل: 100]- قال: والقول الأوّل، أعني قول مجاهد

(3)

، أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم

(1)

هو نافع بن الأزرق بن قيس البكري الخارجي رأس الأزارقة وإليه نسبتهم، له أسئلة في التفسير سألها ابن عباس، أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير، قتل سنة خمس وستين. لسان الميزان (6/ 144)، والأعلام (7/ 352).

(2)

جامع البيان (16/ 109)، وانظر أضواء البيان (4/ 349).

(3)

قال مجاهد: والذين هم بالله مشركون. ومجاهد هو: الإمام شيخ القراء والمفسرين مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج، روى عن ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، توفي سنة مائة، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 449).

ص: 154

يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع

(1)

لكان التنزيل: الذي هم مشركوه، ولم يكن في الكلام به. فكان يكون لو كان التنزيل كذلك، والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهه الشيطان، ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصح حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن، وذلك أن الله - تعالى - وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله، ما لم ينزل به عليهم سلطانا، وقال في كل موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك، لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن، خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء، فيجوز لنا توجيه معنى قوله:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (100)[النحل: 100] إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله، فبين إذا إذ كان ذلك كذلك، أن الهاء في قوله:{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ} عائدة على الرب في قوله:

{وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99)[النحل: 99]. اهـ

(2)

.

3 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: قال - في معرض ترجيحه لتفسير السلف في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] بأنه: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه

(3)

.

(1)

قال الربيع: أشركوا الشيطان في أعمالهم. والربيع هو: الربيع بن أنس بن زياد البكري الخرساني، كان عالم مرو في زمانه، سجن بمرو ثلاثين سنة، وسمع منه ابن المبارك، توفي سنه تسع وثلاثين ومائة.

سير أعلام النبلاء (6/ 169).

(2)

جامع البيان (14/ 175 - 176).

(3)

قال فضيلة شيخنا الشيخ مناع القطان رحمه الله: وهذا لا يتعارض مع ما ذكره شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية من الاستدلال بالآية - وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ - على إثبات صفة الوجه لله - تعالى - على ما يليق به، لأن إضافة الوجه إلى الله - تعالى - أو إلى ضميره يحمل فيها الوجه على الحقيقة بما يليق به - سبحانه -، أما المعنى الإسنادي للجملة وحمل المراد به على ما أريد به وجه الله فإنه لا يعارض ذلك، فإن السلف يفسرون المعنى الإسنادي

ص: 155

ورده لتفسير المتكلمة

(1)

والمتصوفة

(2)

ومن وافقهم بأن معنى الآية: كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك .. وإنما له الوجود من جهة ربه.

قال: الوجه الخامس: أن يقال: اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته، وعبادته وطاعته لا في تقرير وحدانية كونه خالقا وربا

ولهذا: قدمت في مثل قوله: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) وفي مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وقال تعالى: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} (20)[الليل: 19 - 21]. وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً} (9)[الإنسان: 8 - 9] وقال تعالى:

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].

وإذا كان كذلك كان حمل اسم الوجه في هذه الآية: على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما [لا]

(3)

يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب

=باللازم ولا ينفون حقيقة الصفة، وهذا لا بأس به بخلاف من يفسرون باللازم وينفون الصفة. اهـ كما قال السيوطي في الإتقان (3/ 20): كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسّر بلازمها. اهـ فاتخذوا التفسير باللازم وسيلة إلى نفي الصفة عن الباري - سبحانه -. على عكس طريقة السلف فهم يثبتون الصفة حقيقة وإن فسروا باللازم.

(1)

المتكلمة وأهل الكلام سموا بذلك نسبة إلى المنهج الذي سلكوه وهو الأخذ بعلم الكلام في منهج جدلي منطقي ومقدمات ودلائل وطرق مبتدعة ادعوا أنها أحسن الطرق لمعرفة الله - تعالى - ودين الإسلام. وكان السلف من أشد الناس نفرة وتنفيرا من الكلام وأهله. وممن سلك هذا المنهج الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. انظر لوامع الأنوار البهية (1/ 4) ومجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 2، 69) والعقيدة السلفية ص 22.

(2)

سموا بذلك نسبة إلى لبس الصوف، وهم طوائف وطرق متعددة، وكان أصل التصوف في أول أمره زهدا في الدنيا وانقطاعا لعبادة الله، ثم انحرف وتحول إلى خرافات وبدع وضلالات اعتقادية وقولية وعملية، بل وصل بعضه إلى إلحاد وزندقة وقول بوحدة الوجود. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 97 ومجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 19) وما بعدها.

(3)

ما بين المعقوفين سقط من المطبوع، ولا يستقيم الكلام إلا به. أفاده شيخنا مناع القطان رحمه الله وشيخنا صالح آل الشيخ - حفظه الله -.

ص: 156

والسنة، بل [هذا هو الواجب دون ذاك]

(1)

؛ لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر. اهـ

(2)

.

وقال في موضع آخر - في معرض ردّه على من جعل لفظ السراح والفراق صريحا في الطلاق؛ لأنها وردت في القرآن بذلك - قال: الوجه الثاني: وهو القاصم أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق. اهـ

(3)

وهذه النصوص عنه رحمه الله تدل بوضوح على اعتماده لهذه القاعدة في الترجيح بين الأقوال المختلفة.

4 -

ومنهم العلامة ابن القيم: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال بهذه القاعدة في تفسير قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ} (8)[الطارق: 8]- قال: والقول الصواب هو الأول

(4)

لوجوه: أحدها: أنه هو المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المعاد. اهـ

(5)

.

وقال - في معرض ترجيحه لقول من قال في تفسير النجوم في قوله تعالى: {* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} (75)[الواقعة: 75] بأنها الكواكب -: قال ويرجح هذا القول أن النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب كقوله تعالى: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} (49)[الطور: 49] وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} [الأعراف: 54]. اهـ

(6)

.

(1)

يقصد شيخ الإسلام بالإشارة ب «وهذا هو الواجب» أي حمل اسم الوجه على ما يدل عليه في سائر الآيات. وي «دون ذاك» أي حمل اسم الوجه على ما لا يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة.

(2)

مجموع الفتاوى (2/ 30). وانظر نظير هذا الترجيح بهذه القاعدة في المرجع نفسه (16/ 219)

(3)

مجموع الفتاوى (15/ 450). وانظر نظير هذا الترجيح بهذه القاعدة في المرجع نفسه (15/ 366 - 367).

(4)

والقول الأول في الآية أن معناها: إنه على رجعه إليه يوم القيامة، كما هو قادر على خلقه من ماء هذا شأنه.

(5)

التبيان في أقسام القرآن ص 136.

(6)

التبيان في أقسام القرآن ص 279 وانظر نظير ذلك من الترجيح بهذه القاعدة في المرجع نفسه ص 183 وص 233.

ص: 157

ومقصود ابن القيم، أن الأغلب استعمالا في القرآن، النجم بمعنى الكوكب، وإلا فهو قد ذكر الخلاف في نفس الآية التي رجح فيها، وذكر الخلاف عن التابعين وغيرهم في سورة النجم

(1)

فيحمل قوله: «حيث وقعت في القرآن» على الأغلب، أو فيما عدا المتنازع فيه.

5 -

ومنهم القاسمي: قال في معرض ترجيحه في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (60)[الزخرف: 60]. قال: إلا أن الأظهر هو الأول

(2)

، لما جرت به عادة التنزيل من خواتيم أمثال ما تقدم، بنظائر هذا الوعيد والله أعلم. اهـ

(3)

.

6 -

ومنهم الشنقيطي: قال في مقدمة تفسيره: ومن أنواع البيان المذكور في هذا الكتاب المبارك الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل على عدم خروجه من معنى الآية. اهـ

(4)

.

*** * «مسألة» :

في الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة: «القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» .

إن هناك فرقا بين القاعدتين، وذلك أن هذه القاعدة تكون في الآيات المؤيدة للقول في استعمال القرآن لهذه اللفظة أو الجملة أو الأسلوب بمعنى معين فيحمل موضع النزاع على ما غلب استعماله في القرآن.

(1)

انظر جامع البيان (27/ 40)، والتبيان في أقسام القرآن ص 308.

(2)

وهو أن معنى الآية وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) أي يكونون مكانكم.

(3)

محاسن التأويل (14/ 5280).

(4)

أضواء البيان (1/ 80) وانظر تطبيق ذلك في الترجيح بين الأقوال المختلفة في المرجع نفسه (1/ 70) و (1/ 328) و (4/ 349) و (6/ 199) و (6/ 442) وغيرها كثير.

ص: 158

أما في تلك القاعدة - يعني قاعدة «القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك» - فليس الأمر كذلك، وإنما الحال أن يكون معنى أحد الأقوال ورد به القرآن في آية أخرى. فورود مضمون هذا القول في القرآن مع انعدام ورود بقية الأقوال دليل على صحته وأنه أولى من غيره. أو يكون الوارد في القرآن معنى يردّ أحد الأقوال التي قيلت في الآية.

وبالجملة فهذه القاعدة أقوى في الترجيح من تلك القاعدة؛ وذلك؛ لأن المعنى الذي ترجحه يكون واردا في القرآن في أكثر من موضوع بنفس اللفظ أو الأسلوب المتنازع فيه، وأمّا في تلك القاعدة فالآية الأخرى ليست واردة بنفس ألفاظ الآية المتنازع فيها، وإنما في معنى الآية، كما سيأتي بيانه في أمثلتها التطبيقية.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

1 -

منها ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها}

[النور: 31].

قال العلاّمة الشنقيطي - بعد أن ساق أقوال العلماء في المراد بالزينة الظاهرة والزينة الباطنة -: وجميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال:

الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب، لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.

وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.

القول الثاني: أن المراد بالزينة، ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل،

ص: 159

ونحو ذلك، لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن كما لا يخفى.

القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها، كقول من قال: إن المراد بما ظهر منها: الوجه، والكفان. اهـ

(1)

.

واستعمل الشيخ هذه القاعدة في الترجيح بين هذه الأقوال، وذلك، لأن لفظ الزينة في القرآن غلب استعماله على ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته، وكون هذا المعنى هو الغالب في استعمال لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع - أي في هذه الآية - يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم.

ثم شرع في إيضاح وبيان هذا فقال: وإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى:{* يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ}

[الأعراف: 32] وقوله تعالى: {إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} [الكهف: 7] وقوله تعالى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها} [القصص: 60] وقوله تعالى: {إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} (6)[الصافات: 6] وقوله تعالى:

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً} الآية [النحل: 8]. وقوله تعالى:

{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} الآية [القصص: 79]. وقوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} الآية [الكهف: 49]. وقوله تعالى: {اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} الآية [الحديد: 20]. وقوله تعالى: {قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} الآية [طه: 59].

وقوله تعالى عن قوم موسى: {وَلكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه: 87]

(1)

أضواء البيان (6/ 197 - 198).

ص: 160

وقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد بها ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم،

وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر. اهـ

(1)

.

وبهذا يعلم أن المراد بالزينة هو ما كان خارجا عن أصل خلقتها، وكونها ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة هو الصواب الذي دلت عليه الآيات، وجاءت به السنة.

فمن الآيات: قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ} {}

{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] أي يغطين بها وجوههن وصدورهن، ليتميزن عن غير العفيفات وعن الإماء، فلا يتعرضن إلى أذية من في قلبه مرض

(2)

.

ومنها: قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ}

[الأحزاب: 53] ومنها: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].

والأحاديث كثيرة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين»

(3)

وهذا يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن

(4)

.

(1)

أضواء البيان (6/ 199).

(2)

ينظر جامع البيان (22/ 49) وأحكام القرآن للجصاص (5/ 245) والجامع لأحكام القرآن (14/ 243 - 244) وتفسير ابن كثير (6/ 470 - 471) وأضواء البيان (6/ 586) وما بعدما وغيرها من كتب التفسير.

(3)

أخرجه البخاري من حديث ابن عمر في كتاب جزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة انظر الصحيح مع فتاوى الباري (4/ 63).

(4)

مجموع الفتاوى (15/ 371).

ص: 161

ومنها: ما جاء في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: «

فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السّلميّ ثم الذّكوانيّ

(1)

من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه (وفي رواية فخمرت وجهي بجلبابي) حتّى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها»

(2)

.

والأدله على هذه المسألة كثيرة جدا

(3)

أكتفي بما ذكرت؛ لأنها ليست أصل البحث، وإنما الغرض بيان دور هذه القاعدة في الترجيج في هذا المثال وقد سبق والحمد لله.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا -: ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ} [النمل: 88]. زعم بعض الناس أن هذه الآية تدل على أن الجبال الآن في الدنيا يحسبها رائيها جامدة: أي واقفة ساكنة غير متحركة، وهي تمر مر السحاب، وذلك دوران الأرض حول الشمس بل زعموا أن هذا التفسير هو المتناسب مع الإتقان المذكور بعده {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وإلا فالقيامة تخريب للعالم لا يتناسب مع الإتقان

(4)

.

وهذا القول مردود بهذه القاعدة، وذلك أن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال

(1)

صحابي جليل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك «ما علمت عليه إلا خيرا» ، سكن المدينة وشهد الخندق والمشاهد، قتل في خلافة عمر في غزاة أرمينية شهيدا سنة تسع عشرة وقيل غير ذلك. الإصابة (3/ 250).

(2)

هذا جزء من حديث الإفك الطويل أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا. انظر الصحيح مع الفتح (5/ 319) ومسلم، كتاب التوبة حديث رقم (56). واللفظ للبخاري والزيادة لمسلم.

(3)

قد استوعب أكثرها محمد بن أحمد المقدم، في كتابه القيّم عودة الحجاب القسم الثالث.

(4)

هذا قول دعاة التفسير العلمي المجرد، وعلى رأسهم طنطاوي جوهري في جواهره (13/ 252)، وصاحب «الهداية والعرفان» ص 302، ونقل هذا القول وردّ عليه العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6/ 442).

ص: 162

كلها في يوم القيامة، كقوله تعالى:{يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} (10)[الطور: 9 - 10] وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً}

[الكهف: 47] وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً} (20)[النبأ: 20] وقوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ} (3)[التكوير: 3] فهذه الآيات ونحوها، جاء الخبر فيها عن حركة الجبال في يوم القيامة فهذه الآية هي كذلك

(1)

، كما جاء مطردا في القرآن.

ومما يدل على بطلان ذلك القول الذي زعموه، أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحوال الآخرة، فسبقها قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87] وعطفت آية {وَتَرَى الْجِبالَ} على {فَفَزِعَ} أي: ويوم ينفخ في الصور، فيفزع من في السموات، وترى الجبال .. ، فدل ذلك على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور لا الآن

(2)

.

ويدخل تحت هذه القاعدة، جلّ ما ذكره المفسرون من الكليات؛ لأن جلّها أغلبي، لا كلي مطرد إلا القليل منها. فيحكونها كلية لأجل ترجيحهم في موضع التنازع لما غلب استعماله في أكثر المواضع

(3)

.

(1)

أضواء البيان (6/ 443).

(2)

أضواء البيان (6/ 443).

(3)

كقول ابن جريج: الورود الذي ذكره الله في القرآن: الدخول. اهـ جامع البيان (16/ 109). مع أن الخلاف في آية مريم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها [مريم: 71] مأثور.

وكقول ابن القيم: النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب. اهـ التبيان في أقسام القرآن ص 279. مع أن الخلاف في آية النجم وآية الواقعة آية (75) معلوم وهو - أعني ابن القيم - حكاه كما سبق بيانه.

* ونظائر هذين المثالين كثيرة منها:

1 -

ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88]. انظر التفسير القيم ص 137.

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7]. انظر أضواء البيان (1/ 328). -

ص: 163

= 3 - ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146] انظر أضواء البيان (1/ 80، 353).

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)[الأنفال: 64] انظر أضواء البيان (2/ 416).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)[النحل: 100]، انظر جامع البيان (14/ 175).

6 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110]، انظر التفسير القيم ص 244.

7 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها [مريم: 71]. انظر جامع البيان (16/ 108) والجامع لأحكام القرآن (11/ 137) وفتح القدير (3/ 344) وأضواء البيان (4/ 349) وما بعدها.

8 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ [النمل: 80] انظر أضواء البيان (6/ 417).

9 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص: 88]. انظر مجموع الفتاوى (2/ 30).

10 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)[الصافات: 158].

انظر جامع البيان (23/ 109).

11 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)[الزخرف: 60]. انظر محاسن التأويل (14/ 5280).

12 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1)[النجم: 1]. انظر أضواء البيان (7/ 700).

13 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: * فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75)[الواقعة: 75]. انظر التبيان في أقسام القرآن ص 279.

14 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17)[التكوير: 17]. انظر أضواء البيان (1/ 70).

15 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)[الطارق: 8]. انظر التبيان في أقسام القرآن ص 136.

16 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3)[الغاشية: 2 - 3]. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 219).

ص: 164

وقد ذكر ابن فارس في كتابه الأفراد جملة من الكليات في التفسير نقلها عنه الزركشي

(1)

والسيوطي

(2)

وزاد عليها جملة وافرة.

وذكر الراغب الأصفهاني في المفردات جملة منها واهتم بالأسلوب أكثر من غيره

(3)

. واهتم بها أيضا الكفوي في كلياته، وذكر المفسرون في مواضع متناثرة جملة منها

(4)

.

(1)

انظر البرهان (1/ 105 - 111).

(2)

انظر الإتقان (2/ 132 - 139).

(3)

جمع شتاتها من الكتاب في فهرس مستقل محقق الكتاب ص 1188.

(4)

* منها قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار: كل شيء في القرآن «أو كذا أو كذا» فصاحبه بالخيار أيّ ذلك شاء فعل. اهـ جامع البيان (2/ 237).

* ومنها قول ابن زيد: التزكي في القرآن كله: الإسلام. اهـ جامع البيان (30/ 39).

* ومنها قول قتادة: حيثما ذكر الله الخير في القرآن فهو المال. اهـ المحرر الوجيز (9/ 147) والبحر المحيط (10/ 530). وغير هذا كثير جدا.

ص: 165

‌الفصل الثاني:

قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والاثار والقرائن وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول:

قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة النبوية.

المبحث الثاني:

قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار.

المبحث الثالث:

قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن.

ص: 167

‌المبحث الأول:

قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة النبوية وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسيرالآية فلا يصار إلى غيره.

المطلب الثاني: قاعدة:

إذا ثبت الحديث. وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له على ما خالفه.

المطلب الثالث: قاعدة:

كل تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو رد.

المطلب الرابع: قاعدة

لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن أو السنة.

ص: 169

‌المطلب الأول:

قاعدة: إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسيرالآية فلا يصار إلى غيره

*‌

‌ صورة القاعدة:

في تفسير بعض الآيات نجد تفسيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ورود هذا التفسير عنه إلا أننا نجد أحيانا كثيرة أقوالا أخرى في تفسيرالآية، فإذا وجد ذلك، وثبت الحديث، وورد مورد التفسير والبيان للآية، فيجب المصير إليه، وحمل الآية عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بتفسير وبيان كلام الله، وهذا من مهام رسالته كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ولا قول لأحد بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

قولي: «إذا ثبت الحديث» يدخل تحته الصحيح بنوعيه، والحسن بنوعيه، وهذا موضع وفاق، أعني أنه إذا كانت درجة الحديث الوارد في تفسيرالآية الصحة أو الحسن فهو الثابت المعتمد عند جميع العلماء. أما الحديث الضعيف - لا الموضوع وشديد الضعف - ففي الترجيح به تفصيل:

فإذا عضد الحديث الضعيف وجوها أخرى للترجيح في ترجيح أحد الأقوال فلا إشكال في ذلك، وهو من تعاضد وجوه الترجيح، وفعل ذلك أئمة التفسير، فالإمام الطبري - مثلا - كثيرا ما يقول - بعد أن يرجح أحد الأقوال -: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر

(1)

. ثم يسوق الحديث مؤيدا به ما اختار.

(1)

انظر جامع البيان (6/ 216)، و (8/ 194)، و (22/ 137).

ص: 171

ونص على هذا العلاّمة ابن القيم في جملة من وجوه الترجيح في ترجيح أحد الأقوال فقال: الوجه الثاني: أن هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان من الغرائب فإنه يصلح للترجيح. اهـ

(1)

.

فإن عارض الحديث الضعيف وجوها للترجيح أقوى منه فلا يصار إليه، وعلى ذلك عمل الأئمة، فهذا الإمام الطبري كثيرا ما يختار قولا مخالفا للحديث الضعيف اعتمادا على وجوه أخرى للترجيح، ثم يردف ذلك بقوله: ولو كان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا لم نعده إلى غيره، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه. اهـ

(2)

. ونحو ذلك من العبارات المؤدية إلى أن الذي منعه من المصير إلى الحديث هو ضعفه، فعدل عنه إلى غيره من وجوه الترجيح وإن خالف ترجيحها ما يرجحه الحديث الضعيف من الأقوال.

فإن انفرد الحديث الضعيف، ولم يعضده أو يعارضه أيّ وجه من وجوه الترجيح فالترجيح به سائغ، كما سبق في كلام ابن القيم، وكما يوحي به عمل فقهاء الأمة، فهم يقدمون الحديث الضعيف على الرأي، وما أحسن كلمة الإمام أحمد رحمه الله: ضعيف الحديث خير من الرأي

(3)

. فهم يخرّجون على الحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب ما يدفعه، وعلى هذا مذاهب الأئمة

(4)

.

فكذلك هنا إذا لم يوجد أيّ وجه من وجوه الترجيح إلا هذا الحديث الضعيف فالترجيح به سائغ غير أنه ليس تحت هذه القاعدة؛ ولكن تحت القاعدة التالية؛ لأن هذه القاعدة ملزمة بالمصير إلى الحديث، ولا يلزم ذلك في الحديث الضعيف. أما

(1)

تحفة المودود ص 20، وانظر ترجيح العلاّمة الشنقيطي بالحديث الضعيف متعاضدا مع وجوه أخرى للترجيح في أضواء البيان (2/ 89)، و (4/ 248 - 249)، و (7/ 560).

(2)

جامع البيان (16/ 114)، وانظر (4/ 18)، و (9/ 118)، (22/ 142) منه.

(3)

انظر فتاوى ابن تيمية (18/ 52).

(4)

انظر العدة لأبي يعلى (3/ 938)، والمسودة ص 273، وإعلام الموقعين (1/ 31 - 77)، وقواعد في علوم الحديث ص 92.

ص: 172

القاعدة التالية فهي تقديم له على غيره دون إلزام بالمصير إليه.

واقتضى المقام هنا تفصيل القول فيه؛ لأجل أنه وارد مورد التفسير للآية؛ لكن قيد الثبوت لم يتحقق فضعفت مرتبته في الترجيح فاستحق درجة أقلّ من هذه القاعدة فألحق بالقاعدة التالية.

وقولي: «وكان نصا في تفسيرالآية» أعني به أمرين:

أحدهما: أن يكون الحديث مسوقا في تفسير ألفاظ الآية، سواء أكان جوابا عن سؤال، أم رفع إشكال ظهر لبعض الصحابة فيها، أو فسّرها صلى الله عليه وسلم ابتداء بتلاوتها ثم بيان معناها، أو بذكر معناها ثم تلاوتها.

فتعلّق الأمر بتفسير ألفاظ الآية دون بيان وتفسير أحكامها، كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة، وصفة الحج وأنصباء الزكاة، ومقاديرها، ونحو ذلك، فمثل هذه البيان غير داخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه غير متعلق بتفسير ألفاظ الآية. ومما لا يدخل تحت هذه القاعدة ما ورد في غير تفسير ألفاظ الآية، ووافق معناها، أو أحد الأقوال المقولة فيها؛ لأنه إذا كان كذلك كان مؤيدا للمعنى الذي ظهر منها، لا نصا في تفسيرها.

وسيأتي هذا في القاعدة التالية - إن شاء الله تعالى -.

الآخر: اصطلاح الأصوليين في لفظ «النص» : وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال.

وقد يطلق على الظاهر - وهو: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر - ولا مانع منه، فإن النص في اللغة بمعنى الظهور

(1)

.

وخرج بهذا ما إذا كان التفسير النبوي عاما أو مجملا، كتفسير القوة في قوله تعالى:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] بالرمي

(2)

.

(1)

شرح روضة الناظر لبدران (2/ 27 - 28 - 29).

(2)

أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر الجهني في كتاب الإمارة، حديث رقم (167)، ولفظه:

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا إن القوّة الرّمي ألا إن القوة الرّمي ألا إن القوة الرّمي» .

ص: 173

فالرمي عام في نوع الرمي، وفرد من أفراد القوة، فلا تقصرالآية عليه

(1)

. وإن كان تفسيرالآية به أولى؛ لكن الكلام في وجوب المصير إليه، وحمل الآية عليه.

فإذا توافرت هذه الشروط - أعني بها ثبوت الحديث، ووروده مورد التفسير والبيان لألفاظ الآية، وكونه نصا أو ظاهرا فيه - في التفسير النبوي، فيجب حينئذ؛ حمل الآية عليه، ولا يصار إلى غيره.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

قال ابن الوزير في بيانه لأنواع التفسير:

النوع الثالث: التفسير النبوي وهو مقبول بالنص والإجماع قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وفي الحديث: «لا يأتي رجل مترف متكئ على أريكته يقول لا أعرف إلا هذا القرآن. ما أحله أحللته وما حرمه حرمته ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا وإن الله حرم كل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير»

(2)

. ويدل على ذلك أن الإجماع قد انعقد على نسخ وجوب الوصية للوارثين بحديث «لا وصيّه لوارث»

(3)

، وهو حديث حسن وإذا وجب قبول ذلك في نسخ فريضة منصوصة فيه فكيف بسائر

(1)

انظر جامع البيان (10/ 32).

(2)

أخرجه من حديث المقدام بن معد يكرب الإمام أحمد في المسجد (4/ 131 - 132) وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/ 200)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عن حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم (5/ 37)، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه (1/ 6)، والدارمي في سننه، المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله (1/ 153)، والحاكم في المستدرك (1/ 108 - 109) وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه اهـ، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في صحيح أبن ماجه حديث رقم 12.

(3)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 186 - 187 - 238)، والنسائي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث (6/ 247)، والترمذي، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث (4/ 376)، وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث (2/ 905). وصححه الألباني في إرواء الغليل حديث رقم (1655).

ص: 174

البيان والتخصيص، وقبوله في نسخ وجوب الوصية إجماع العترة والأمة. اهـ

(1)

.

فذكر رحمه الله بعض النصوص الدالة على وجوب قبول تفسيره وبيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن، وحكى الإجماع على ذلك، وهذا من المعلوم بالاضطرار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بمعاني القرآن، فإذا ثبت عنه فلا قول ولا رأي لأحد مع قوله، صلى الله عليه وسلم، فربنا - تعالى - هو المنزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المبيّن.

قال الإمام الطبري - بعد أن ساق بعض الآيات في ذلك: فقد تبين ببيان الله، جل ذكره، أن مما أنزل الله من القرآن، على نبيه صلى الله عليه وسلم، ما لا يوصل إلى علم تأويله، إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تأويل جميع ما فيه، من وجوه أمره، واجبه، وندبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آية، التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسوله الله صلى الله عليه وسلم لأمته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأويله، بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله. اهـ

(2)

.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة عامة العلماء، وما كانت مخالفة المخالف للتفسير النبوي إلا لمذهب اعتقده، أو لعدم بلوغه الحديث، أو لاعتماده على ما دلت عليه ألفاظ الآية من عموم، ونحو ذلك اجتهادا خالف به تفسير النبي صلى الله عليه وسلم. وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم هو المعتمد وما خالفه مردود، وهذه القاعدة جزء من قاعدة:«كل تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو ردّ» وسيأتي بحثها وإنما أفردتها هنا لصراحتها في التفسير الذي هو مجال بحثي، وزيادة في العناية بها لأهميتها.

(1)

إيثار الحق ص 152.

(2)

جامع البيان (1/ 33)، وانظر الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 224).

ص: 175

‌فمن هؤلاء الأئمة الذين رجحوا بها:

1 -

الإمام الطبري: قال - مقررا هذه القاعدة ومرجحا بها في تفسير قوله تعالى:

{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1)[الحج: 1]: وهذا القول

(1)

الذي ذكرناه عن علقمة

(2)

والشعبي ومن ذكرنا ذلك عنه، قول لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله.

والصواب من القول في ذلك: ما صحّ به الخبر عنه اهـ

(3)

.

وقال في موضع آخر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول. اهـ

(4)

.

(1)

أي: أن وقت الزلزلة في الدنيا قبل يوم القيامة.

(2)

هو: ابن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، نزل الكوفة ولازم ابن مسعود حتى رأس في العلم والعمل، روى عن عمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة، وعنه الشعبي، وإبراهيم النخعي، وخلق. توفي سنة إحدى وستين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 53).

(3)

جامع البيان (17/ 111)، والخبر الذي أشار إليه رواه بسنده في تفسيرالآية من حديث عمران بن حصين، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وقد فاوت السّير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) قال: فحثّوا المطيّ، حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:«هل تدرون أيّ يوم ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: «ذلك يوم ينادي آدم، يناديه ربه، ابعث بعث النار، من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين إلى النار» .

وأخرجه من حديثه - أيضا - الإمام أحمد (4/ 435)، والترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج (5/ 302)، والحاكم في المستدرك (2/ 233 - 234)، وصححه، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي حديث رقم (2534). وعند البخاري نحوه من حديث أبي سعيد، كتاب التفسير، سورة الحج، باب وَتَرَى النّاسَ سُكارى انظر الصحيح مع الفتح (8/ 295)، وعند مسلم كتاب الإيمان، حديث رقم (379).

(4)

جامع البيان (25/ 114).

ص: 176

2 -

ومنهم أبو بكر بن العربي: قال - في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (87)[الحجر: 87] بعد أن ذكر الخلاف فيها:

يحتمل أن يكون السبع من السّور، ويحتمل أن يكون من الآيات؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد كشف قناع الأشكال، وأوضح شعاع البيان؛ ففي الصحيح عند كل فريق ومن كل طريق أنها أمّ الكتاب، والقرآن العظيم - حسبما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ابن كعب:«هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيت»

(1)

.

وبعد هذا فالسبع المثاني كثير، والكلّ محتمل، والنصّ قاطع بالمراد، قاطع بمن أراد التكلف والعناد، وبعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فلا تفسير. وليس للمعترض إلى غيره إلا النكير. وقد كان يمكن لولا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أن أحرّر في ذلك مقالا وجيزا، وأسبك من سنام المعارف إبريزا، إلا أنّ الجوهر الأغلى من عند النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى. اهـ

(2)

.

3 -

ومنهم القاضي ابن عطية: قال - معلقا على تفسير للنبي صلى الله عليه وسلم: وهذا هو التأويل الذي لا نظر لأحد معه؛ لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام. اهـ

(3)

.

4 -

ومنهم الإمام القرطبي: قال - في تفسيرسورة العاديات بعد أن ذكر الخلاف في معنى الكنود: قلت: هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة، فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لأحد معه مقال. اهـ

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب ما جاء في فاتحة الكتاب. انظر الصحيح مع الفتح (8/ 6).

(2)

أحكام القرآن (3/ 13)، وانظر (1/ 268) منه.

(3)

المحرر الوجيز (5/ 214).

(4)

الجامع لأحكام القرآن (30/ 163)، ويشير إلى الحديث الذي ذكره (20/ 160) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده» وعزاه إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والله أعلم بحاله.

ص: 177

5 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه: قال - مقررا مضمون هذه القاعدة: ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة، فإنه قد عرف تفسيره وما أريد بذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم اهـ

(1)

.

6 -

ومنهم أبو حيان الأندلسي: فإذا ذكر الخلاف في تفسيرآية، وفيها تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما يقول: وإذا صحّ هذا التّفسير وجب المصير إليه

(2)

.

7 -

ومنهم ابن جزيّ الكلبي: فقد ذكر مضمون هذه القاعدة في وجوه الترجيح التي قررها في مقدمة تفسيره، قال: الوجه الثاني: حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوّلنا عليه، لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح اهـ

(3)

.

8 -

ومنهم الزركشي: قال - مقررا هذه القاعدة -: لطالب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة:

الأول: النقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطراز الأول، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنه كثير .. اهـ

(4)

.

9 -

ومنهم ابن الوزير: فقد حكى الإجماع على قبوله، وقد سبق نقل بعض كلامه في فقرة أدلة القاعدة.

10 -

ومنهم الشوكاني: فقد قرر هذه القاعدة في مقدمة تفسيره، وطبقها عمليا في الترجيح بين الأقوال، فمن ذلك قوله: فإن ما كان من التفسير ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان المصير إليه متعينا وتقديمه متحتما، غير أن الذي صح عنه من ذلك إنما هو تفسيرآيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن. اهـ

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 27).

(2)

انظر مثلا البحر المحيط (1/ 31، 53)، و (6/ 494)، و (5/ 504).

(3)

التسهيل (1/ 9).

(4)

البرهان (2/ 156).

(5)

فتح القدير (1/ 12)، وانظر (1/ 267)، و (2/ 320، 406)، و (5/ 503) منه.

ص: 178

11 -

ومنهم الألوسي: قال - رادا على من لم يعتمد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم: فمن زعم أن الحمل على ذلك -[يعني الحديث]- ضعيف

؛ لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالا بعيدا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهل بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس، هيهات هيهات دون ذلك أهوال اهـ

(1)

.

وغير هؤلاء كثير

(2)

.

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

هذه القاعدة تردّ:

أولا: تفاسير العقلانيين التي ردّوا بها تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لاعتقادهم الباطل.

ثانيا: أقوال بعض المفسرين التي خالفت التفسير النبوي وليست مما سبق.

أولا: تفاسير العقلانيين التي ردوا بها تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن أمثلة هذا النوع ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82] قال الطبري رحمه الله: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقال بعضهم: بشرك، وعمدتهم حديث ابن مسعود قال:«لمانزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه؟! قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) [لقمان: 13] إنما هو الشرك»

(3)

.

(1)

روح المعاني (1/ 96).

(2)

انظر فتح الباري (8/ 604)، وجزء في تفسير الباقيات الصالحات للعلائي ص 22، وص 26، وفتح البيان (1/ 18 - 21)، وأضواء البيان (3/ 195).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ظلم دون ظلم، انظر الصحيح مع الفتح (1/ 109)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، حديث رقم (197).

ص: 179

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك فعل ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم؛ لأن الله لم يخص به معنى من معاني الظلم.

قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمن في الآخرة إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة، وإلا لمن لقي الله ولا ذنب له؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فأما غيره فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرا، فإن شاء لم يؤمنه من عذابه، وإن شاء تفضل عليه، فعفا عنه، قالوا: وذلك قول جماعة من السلف وإن كانوا مختلفين في المعنيّ بالآية، فقال بعضهم: عني بها إبراهيم. وقال بعضهم: عني بها المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك، ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ

(1)

.

وبالتفسير النبوي قال عامّة الصحابة والتابعين، قال العلاّمة القاسمي: وبالجملة، فلا يعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير (الظلم) هنا بالشرك، وقوفا مع الحديث الصحيح في ذلك اهـ

(2)

.

وذهب الزمخشري - وكذا هو مذهب المعتزلة - إلى منع تفسير الظلم بالشرك، وفسره بالمعصية المفسقة.

قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس. اهـ

(3)

.

(1)

جامع البيان (7/ 255 - 259) باختصار يسير.

(2)

محاسن التأويل (6/ 2389).

(3)

الكشاف (2/ 33).

ص: 180

قال أبو حيان: وهذه دفينة اعتزال، أي أن الفاسق ليس له الأمن إذا مات مصرا على الكبيرة

وقد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك فوجب قبوله اهـ

(1)

.

والذي حمله على هذا التفسير، وردّه لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم هو ما اعتقده من اعتقاد فاسد في مرتكب الكبيرة أنه في الآخرة مخلد في النار.

والأدلة على ردّ ذلك كثيرة مبثوثة في كتب العقائد

(2)

، وليس هذا مجال الردّ على معتقده، وإنما الغرض ردّ تفسيره المخالف لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث صحيح، ونص في تفسيرالآية، فقوله مباهتة في مقابل الحديث لا تستحق المجاوبة.

*** ثانيا: أقوال بعض المفسرين التي خالفت التفسير النبوي وليست مما سبق:

من أمثلة هذا ما جاء في تفسير قوله تعالي {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها}

[يس: 38] اختلف أهل التفسير في معنى قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَها} على أقوال:

الأول: أن المراد مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات.

الثاني: أن المراد بمستقرها هو: منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها، وتكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني

(3)

.

(1)

البحر المحيط (4/ 571)، وانظر - أيضا - حاشية زادة (2/ 183)، وفتح القدير (2/ 135)، وروح المعاني (7/ 207)، ومحاسن التأويل (6/ 2389)، وفتح البيان (4/ 182)، والتحرير والتنوير (7/ 333).

(2)

انظر على سبيل المثال شرح العقيدة الطحاوية (2/ 442)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 511)، وما بعدها، وكتاب الإيمان له ص 312، وما بعدها، والمعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق ص 220 وما بعدها.

* ونظير هذا المثال:

ما جاء في تفسير قوله تعالى: * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] انظر الكشاف (2/ 234) مع جامع البيان (11/ 104 - 107)، وتفسير ابن كثير (4/ 198 - 199).

(3)

انظر جامع البيان (23/ 5)، وتفسير ابن كثير (6/ 562 - 563)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/ 554 - 555).

ص: 181

الثالث: مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تتجاوزه.

الرابع: نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء

(1)

وقيل غير ذلك.

والقول الأول هو الذي يجب المصير إليه؛ لأنه الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري - وغيره - من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: «يا أبا ذر، أتدري أين تغرب الشمس؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (38) [يس: 38]، وفي رواية له قال صلى الله عليه وسلم: «مستقرها تحت العرش»

(2)

. فهذا هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فيجب المصير إليه، ولا قول لأحد معه.

قال الشوكاني - وغيره - بعد أن ذكر هذا القول: وهذا هو الراجح. اهـ

(3)

.

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: والقول الأول هو الأصح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بمستقرها، ولا يجوز العدول عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفسير غيره. اهـ

(4)

.

(1)

انظر زاد المسير (7/ 17 - 19)، والبحر المحيط (9/ 66 - 67)، وفتح القدير (4/ 369).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة يس، باب وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها انظر الصحيح مع الفتح (8/ 402) وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم (251).

(3)

فتح القدير (4/ 369)، وانظر فتح البيان (11/ 292).

(4)

من تعليقي مع سماحته على هامش تفسير ابن كثير (6/ 563) بتاريخ 5/ 1412/30 هـ.

* ونظائر هذا المثال كثيرة:

انظر جملة منها في جامع البيان (1/ 537)، (3/ 10)، (7/ 241)، و (10/ 74)، و (11/ 28)، و (13/ 149 - 211)، و (16/ 37، 78)، و (17/ 151)، و (20/ 146)، و (21/ 102)، و (24/ 30، 62)، و (25/ 114)، و (29/ 193)، و (30/ 169، 313، 323).

والمحرر الوجيز (8/ 274)، و (11/ 32).

والجامع لأحكام القرآن (1/ 150)، و (4/ 147)، و (8/ 260)، و (20/ 218).

والبحر المحيط (1/ 53)، (5/ 504)، (7/ 263)، (10/ 556) وفتح القدير (2/ 406)، و (5/ 503).

وروح المعاني (1/ 96)، (11/ 20)، (16/ 94)، (30/ 314) وأضواء البيان (4/ 282).

ص: 182

‌المطلب الثاني:

قاعدة: إذا ثبت الحديث، وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجّح له على ما خالفه

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا، ورد الخلاف بين المفسرين في تفسيرآية من كتاب الله - تعالى -، وتعددت أقوالهم فيها، فالقول الذي يؤيده خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو المقدم على غيره؛ وذلك لأن ورود معنى هذا القول في قول النبي صلى الله عليه وسلم يدل على صحته. وترجيح غيره ترجيح بلا مرجح، ومخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم دون مستند. أمّا إذا تأيد كل قول بسنة أو قرآن فبغير هذه القاعدة يرجّح بينها.

***

*‌

‌ الفرق بين هذه القاعدة وسابقتها:

الفرق بين هذه القاعدة والقاعدة السابقة وهي «إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسيرالآية فلا يصار إلى غيره» أن الحديث الوارد في هذه القاعدة لم يرد مورد التفسير لألفاظ الآية، بل كان وروده لأي سبب آخر في أي باب من أبواب العلم؛ لكن معناه يوافق معنى أحد الأقوال المقولة في الآية.

أمّا الحديث الوارد في القاعدة السابقة فهو وارد مورد التفسير والبيان لألفاظ الآية - كما سبق بيانه -.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة كثير من المفسرين، فمن هؤلاء:

1 -

الإمام الطبري: فكثيرا ما يرجح بمضمون هذه القاعدة، فمن ذلك قوله - في

ص: 183

معرض ترجيحه لأحد الأقوال في تفسيرآية: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكره الشعبي عن ابن مسعود؛ لصحة الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأييده اهـ

(1)

.

2 -

ومنهم أبو جعفر النحاس: قال - في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} [الشورى: 23] بعد أن حكى الأقوال فيها معلقا على أحدها: فهذا قول حسن، ويدل على صحته الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اهـ

(2)

ثم ساقه بسنده.

3 -

ومنهم أبو بكر بن العربي: في تفسير قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] بعد أن ذكر الخلاف في تفسيرها، قال: ومن خصّصه قال: معناه موضعا للصلاة المعهودة، وهو الصحيح، ثبت من كل طريق أن عمر رضي الله عنه قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} الحديث

(3)

، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم طوافه مشى إلى المقام المعروف اليوم، وقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وصلى فيه ركعتين. اهـ

(4)

.

4 -

ومنهم القاضي ابن عطية: قال - في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ} الآية [البقرة: 271]-: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع

(1)

جامع البيان (22/ 92)، وانظر نحو هذا الترجيح بالقاعدة (13/ 170) منه.

(2)

الناسخ والمنسوخ (2/ 620).

(3)

متفق عليه، البخاري، كتاب التفسير، سورة البقرة، باب وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى انظر الصحيح مع الفتح (8/ 18). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم (24).

(4)

أحكام القرآن (1/ 60).

ص: 184

قال القاضي أبو محمد عبد الحق: ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة»

(1)

. اهـ

(2)

.

5 -

ومنهم الحافظ ابن كثير: ففي تفسير قول الله تعالى: {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً} الآية [ص: 35]، قال: الصحيح أنه سأل من الله ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ

(3)

.

6 -

ومنهم الشوكاني: وسيأتي بعض قوله في ذلك في الأمثلة التطبيقية.

7 -

ومنهم الألوسي: فقد استعمل مضمون هذه القاعدة في تأييد اختياره وترجيحه

(4)

.

8 -

وهذه القاعدة من وجوه الترجيح المعتمدة عند الأصوليين، قال القاضي أبو يعلى: وأما الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن، وإنما هو إلى غيرهما فمن وجوه:

أحدها: أن يكون أحدهما موافقا لظاهر القرآن أو موافقا لسنة أخرى، فيقدم بذلك. اهـ

(5)

.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ}

(1)

متفق عليه، البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة الليل، انظر الصحيح مع الفتح (2/ 251) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (213).

(2)

المحرر الوجيز (2/ 331)، وانظر نحو هذا الترجيح بالقاعدة فيه (2/ 21)، (7/ 12).

(3)

تفسير القرآن العظيم (7/ 61)، وانظر نحو هذا الترجيح بالقاعدة (1/ 127 - 397) منه.

(4)

انظر روح المعاني (8/ 82)، و (30/ 141).

(5)

العدة (3/ 1046)، وانظر هذا الوجه في الإحكام للآمدي (4/ 274)، والروضة مع شرحها (2/ 464)، وشرح الكوكب (4/ 694)، والتعارض والترجيح للبرزنجي (2/ 366).

ص: 185

[القلم: 42]، فقد اختلف السلف في تفسير هذه الآية على قولين

(1)

:

القول الأول: أن معناها، يوم يكشف عن شدة وكرب، وذلك يوم القيامة.

والعرب تقول: كشف هذا الأمر عن ساق، إذا صار إلى شدة، وتقول وشمرّت الحرب عن ساقها، أي إذا اشتدت.

قال ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: يكشف عن أمر عظيم، كقول الشاعر

(2)

:

وقامت الحرب بنا على ساق

(3)

والقول الثاني: أن معنى الآية، يوم يكشف الرحمن - سبحانه - عن ساقه يوم القيامة.

وهذا القول مروي بإسناد صحيح

(4)

عن ابن مسعود، وقال به طائفة

(5)

. وهذه الآية

(1)

نقل القولين أكثر المفسرين، وسيأتي الإحالة إلى بعضها، ونقلهما - أيضا - شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى (6/ 394)، وابن القيم في الصواعق (1/ 252).

(2)

لم أعثر على اسمه.

(3)

أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 38 - 39)، والحاكم في المستدرك (2/ 500)، وقال صحيح الإسناد اهـ ووافقه الذهبي. واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 427)، أثر رقم (724) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 80).

وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآثار ونحوها لا تثبت، وتعرضوا لنقدها سندا ومتنا. فمن ذلك قول العلامة ابن القيم في الصواعق (1/ 253): وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه، فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال كشفت الشدة عن القوم، لا كشف عنها، كما قال تعالى. فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) [الزخرف: 50]، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضا فهناك تحدث الشدة وتشتد ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة اهـ.

وقد جمع سليم الهلالي طرق المروي عن ابن عباس والتابعين في هذه الآية ودرس أسانيدها في رسالة أسماها [المنهل الرقراق في تخريج ما روي عن الصحابة والتابعين في تفسير يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ]، وخلص من هذه الدراسة إلى أنه لا يصح منها شيء، وضعّف جميع أسانيدها.

(4)

انظر المستدرك (2/ 500).

(5)

انظر جامع البيان (29/ 39 - 40).

ص: 186

ليست نصا في الصفة؛ لأنها جاءت نكرة في الإثبات، ولم تضف إلى الله - تعالى -، لذا وقع الخلاف بين السلف في تفسيرها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها.

وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله - تعالى - من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف؛ بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.

وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} فروى عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة، إن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدّوها في الصفات؟ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.

ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف. اهـ

(1)

.

إذا تقرر هذا، فإن أولى القولين هو ما قاله ابن مسعود، وأبو سعيد رضي الله عنهما وذلك لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا»

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 394 - 395).

(2)

متفق عليه، البخاري في مواضع، منها في كتاب التفسير، تفسيرسورة القلم، باب يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ انظر الصحيح مع الفتح (8/ 531). ومسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم (302).

ص: 187

فهذا الحديث ذكر الكشف عن الساق والسجود له - سبحانه -، وهي كذلك مذكورة في الآية فهذا مما يؤيد القول الثاني، أما القول الأول فليس في معناه خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر فيه الشدة والكرب مقرونا بالسجود.

وهذا الذي رجحته القاعدة هو مقتضى كلام ابن جرير الطبري

(1)

، وصدّر به ابن كثير تفسيرالآية

(2)

، وانتصر له الشوكاني

(3)

، وصديق خان

(4)

، وعليه اقتصر السعدي

(5)

- على الجميع رحمة الله -.

قال الشوكاني - بعد أن ساق أقوال أهل اللغة، وحديث أبي سعيد، وأثر ابن عباس -: وقد أغنانا الله - سبحانه - في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيما، ولا تشبيها، فليس كمثله شيء.

دعوا كل قول عند قول محمد

فما آمن في دينه كمخاطر. اهـ

(6)

ويؤيد هذه القاعدة فيما رجحته في هذا المثال، قاعدة:«يجب حمل ألفاظ الوحي على الحقيقة» . فإن الكلام على القول الذي رجحته القاعدة محمول على الحقيقة، أمّا على القول الأول فإنه يصرف إلى المجاز، والأصل حمل ألفاظ القرآن على الحقيقة فترجّح بذلك القول الثاني، وهو ما رجحته القاعدة.

وانتصر اخرون للقول الأول، وردّوا القول الثاني، وذلك لأجل معتقد اعتقدوه - فنزّلوا الآيات والأحاديث على ذلك المعتقد - لا لأدلة دلت على ترجيحه وردّ ما

(1)

انظر جامع البيان (29/ 42) قال: ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله - تعالى - فلا يطيقون ذلك اهـ.

(2)

انظر تفسير القرآن العظيم (8/ 224)

(3)

فتح القدير (5/ 278).

(4)

فتح البيان (14/ 273).

(5)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (7/ 452).

(6)

فتح القدير (5/ 278).

ص: 188

سواه، بل بناء على ذلك المعتقد ردّوا الأحاديث الصحيحة، وحرفوا معاني القرآن، ومن ذلك ردهم للقول الثاني في هذه الآية على الرغم من روايته عن السلف، وانتصروا للقول الأول لهوى وافقه، فترجيحهم ذلك مبني على أساس عقديّ ومستندهم فيه مستند عقلي، ليس هذا موضع مناقشته - وقد تكفل أئمة الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم وغيرهم كثير برد حججهم في ذلك المعتقد - وإنما الغرض هو بيان أن الحق الذي تقضي به أوجه الترجيح الصحيحة هو ما ردّه القوم، وأنهم إنما ردّوا القول الصحيح لا لدليل صحيح اعتمدوه، وإنما لأجل مذهب باطل اعتقدوه، وسوف أسرد بعض أقوالهم ليرى القارئ البصير بعض هذا الباطل الذي اعتقدوه في هذا الباب.

قال الماوردي: فأمّا ما روي أن الله - تعالى - يكشف عن ساقه فإن الله - تعالى - منزه عن التبعيض، والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى. اهـ

(1)

. ونقل القرطبي هذه المقالة بلفظها

(2)

.

وقال الكرماني: العجيب: ابن مسعود: يوم يكشف الرب عن ساقه.

وهذا يؤول كما يؤول غيرها من الآيات، ولا يوصف الله - سبحانه - بالأعضاء، والأجزاء والأبعاض. اهـ

(3)

.

وقال الزمخشري: فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} في معنى يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثمّ ولا ساق

وأما من شبّه فلضيق عطنه، وقلة نظره في علم البيان، والذي غره منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه

(4)

. اهـ ثم ذكره.

ونظائر هذه الأقوال كثيرة في كتبهم

(5)

.

(1)

النكت والعيون (6/ 71).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (18/ 249).

(3)

غرائب التفسير وعجائب التأويل (2/ 1241).

(4)

الكشاف (4/ 147).

(5)

انظر المحرر الوجيز (16/ 86)، ومفاتيح الغيب (30/ 94 - 95)، وأنوار التنزيل (2/ 518)، -

ص: 189

= ومدارك التنزيل (3/ 1850).

* ونظائر هذا المثال كثيرة، انظر على سبيل المثال جملة منها:

في جامع البيان (1/ 112)، و (2/ 365)، و (3/ 291)، و (4/ 45)، و (5/ 105)، و (7/ 111 - 303)، و (9/ 166)، و (10/ 120)، و (13/ 170)، و (14/ 57)، و (15/ 81)، و (16/ 112)، و (22/ 92)، و (26/ 170).

والمحرر الوجيز (1/ 286)، (2/ 4 - 5 - 21 - 180 - 331)، و (7/ 12).

وتفسير ابن كثير (1/ 127 - 397)، و (2/ 277)، (7/ 22 - 27 - 61).

وروح المعاني (8/ 82)، و (30/ 141).

وأضواء البيان (1/ 206 - 322 - 377)، و (2/ 335)، و (3/ 71)، و (4/ 113)، و (7/ 266).

ص: 190

‌المطلب الثالث:

قاعدة: كلّ تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو ردّ

*‌

‌ صورة القاعدة:

هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة، ووجه كونها ترجيحية من جهتين:

إحداهما: رد الأقوال الموسومة بمعارضة القرآن، أو السنة، أو الإجماع.

والأخرى: حصر الصواب فيما عدا الأقوال المردودة، على تفاوت بينها في القوة والضعف، وينظر في الترجيح بينها بقواعد أخرى.

ثم هذه القاعدة والقاعدة التالية من القواعد المشتركة بين القرآن والسنة، وآثرت ذكرها ضمن قواعد الترجيح بالسنة النبوية؛ لأن شواهدها، وأمثلتها في السنة أكثر؛ ولأن السنة شارحة ومبينة للقرآن.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

قولي: «خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة» أعني به مخالفة قطعي الثبوت والدلالة، وظني الثبوت قطعي الدلالة إذا اقترن بوصف يقوّيه ويصححه.

قال الإمام الشاطبي: إن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب: فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي، ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني، والأدلة الظنية متفاوتة، كأخبار الآحاد والقياس الجزئية. فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطّراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه، لا للاعتداد به، وأما المخالفة للظني ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما

ص: 191

اعتمده صاحبه من القياس أو غيره. اهـ

(1)

وكلامه رحمه الله في مخالفة الدليل الظني بحكم أن الأدلة الظنية متفاوتة ويدخل فيها خبر الآحاد، والقياس وغيره.

فإذا كان الدليل الظني خبر الآحاد فلا سبيل لمخالفته بعد صحته وثبوته وقول المخالف مردود ما لم يستند قوله إلى خبر آخر.

قال الإمام ابن عبد البر: كل قول تعارضه السنة أو تدفعه، ولا دليل عليه من مثلها، لا وجه له. اهـ

(2)

وهذا لا يكون إلا في السنة النبوية.

وأمّا إذا كانت مخالفة الآية أو الحديث في دلالة ظنية فالأمر يختلف، وهو موضع اجتهاد. والقرائن هي التي ترجح أحد الأقوال.

قولي: «فهو ردّ» أي مردود، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ»

(3)

أي مردود. فردّ الأقوال الآنفة الوصف، يرجح بالمقابل قولا أو أقوالا أخرى في الآية

(4)

.

قال الإمام الشاطبي: فإذا كان بيّنا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه

ولا يصح اعتمادها -[أي زلّة العالم]- خلافا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد. وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف. وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل إنه لا تصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء،

(1)

الموافقات (4/ 173).

(2)

التمهيد (4/ 144).

(3)

سيأتي ذكر هذا الحديث وتخريجه في أدلة هذه القاعدة.

(4)

انظر مثلا استعمال الإمام الطبري لهذه الطريقة في الترجيح في جامع البيان (16/ 151).

ص: 192

وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها. اهـ

(1)

.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

1 -

من أدلة هذه القاعدة: قول الله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فإذا قضى الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهي، أو أخبر بخبر فليس لأحد قول مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فما تعارض مع قول الله أو قول رسوله أو ما اجتمعت عليه الأمة المعصومة من الاجتماع على ضلالة وخطأ فهو مردود.

قال الإمام ابن عبد البر: كل قول تعارضه السنة، وتدفعه، ولا دليل عليه من مثلها، لا وجه له، قال الله تعالى:{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . اهـ

(2)

.

وقال في موضع آخر: وليس في خلاف السنة عذر لأحد إلا لمن جهلها، ومن جهلها مردود إليها محجوج بها. اهـ

(3)

وكذا مخالفة القرآن والإجماع.

قال الحافظ ابن كثير: - معلقا على هذه الآية -: فهذه الآية في جميع الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول. اهـ

(4)

.

2 -

ومنها قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59)[النساء: 59].

قال ابن كثير: قال مجاهد وغير واحد من السلف أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه

(1)

الموافقات (4/ 172).

(2)

التمهيد (4/ 144).

(3)

التمهيد (13/ 191).

(4)

تفسير القرآن العظيم (6/ 419).

ص: 193

أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} [الشورى: 10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟. اهـ

(1)

.

3 -

ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ»

(2)

.

قال الإمام البخاري: باب إذا اجتهد العامل - أو الحاكم - فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» . اهـ

(3)

.

وقال في كتاب الأحكام: باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو ردّ. اهـ.

(4)

وساق حديث ابن عمر في بعث خالد بن الوليد

(5)

إلى بني جذيمة

(6)

.

قال الحافظ ابن حجر: ترجمة إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود، معقودة لمخالفة الإجماع، وهذه -[يعني ترجمة إذا اجتهد العامل فأخطأ خلاف الرسول من غير علم

]- معقودة لمخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام. اهـ

(7)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم (2/ 304). وانظر التمهيد لابن عبد البر (10/ 127).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، من حديث عائشة رضي الله عنها انظر الصحيح مع الفتح (5/ 355). وأخرجه مسلم، كتاب الأقضية، حديث رقم (18) من حديث عائشة رضي الله عنها واللفظ له.

(3)

الصحيح مع الفتح (13/ 329). وقال ابن حجر: في رواية الكشميهني «العالم» بدل العامل.

(4)

الصحيح مع الفتح (13/ 193).

(5)

هو: خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي، سيف الله، وفارس الإسلام، أبو سليمان، أسلم سنة سبع بعد خيبر، وقيل: قبلها، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وحنين، والطائف، مناقبه غزيرة، توفي سنة إحدى وعشرين. سير أعلام النبلاء (1/ 366)، والإصابة (2/ 98).

(6)

فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا:«صبأنا صبأنا» فجعل خالد يقتل ويأسر، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.

مرّتين».

(7)

فتح الباري (13/ 329).

ص: 194

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

هذه القاعدة من الأصول المتفق عليها بين الصحابة وتابعيهم بإحسان وهي محل إجماع المسلمين. وما كانت مخالفة المخالف لهذه القاعدة في قول أو منهج إلا لجهل بسنة، أو اجتهاد خالف محله، أو كان صاحب هوى وبدعة قدّم عقله ووجده على الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

لذلك سوف أعرض عن سرد بعض أقوال العلماء هنا؛ لكون هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وتابعيهم بإحسان، وأكتفي هنا بكلمات تحبّر بماء الذهب لشيخ الإسلام ابن تيمية - وسوف ترى بعض أقوال العلماء في ترجيحهم بهذه القاعدة في الأمثلة التطبيقية إن شاء الله - تعالى -.

قال رحمه الله: ومن الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم

، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلا عن أن يقول: فيجب تقديم العقل. والنقل - يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين - إما أن يفوض وإما أن يؤول.

ولا فيهم من يقول: إن له ذوقا أو وجدا أو مخاطبة أو مكاشفة تخالف القرآن والحديث، فضلا عن أن يدعي أحدهم أنه يأخذ من حيث يأخذ الملك الذي يأتي الرسول.

ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه

والمقصود أنهم كانوا متفقين على أن القرآن لا يعارضه إلا قرآن، لا رأي ومعقول

ص: 195

وقياس، ولا ذوق ووجد وإلهام ومكاشفة. اهـ

(1)

.

وقال في موضع آخر: فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل وحجته داحضة. اهـ

(2)

.

***

* *‌

‌ تنبيهات:

* التنبيه الأول: في طرق معرفة الأقوال المخالفة للقرآن أو للسنة أو لإجماع الأمة.

ليس كل أحد يدرك وجه مخالفة تلك الأقوال للقرآن أو للسنة أو لإجماع الأمة، وسبيل معرفتها هو تنبيه العلماء المجتهدين على ذلك؛ لأنهم هم العارفون بما وافق أو خالف.

قال الإمام الشاطبي: فإن قيل: فبماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك؟ فالجواب: أنه من وظائف المجتهدين، فهم العارفون بما وافق أو خالف، وأما غيرهم فلا تمييز لهم في هذا المقام

فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده [أو]

(3)

لا؟ فالجواب: أن له ضابطا تقريبيا، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين. اهـ.

(4)

.

*‌

‌ التنبيه الثاني:

إذا قال قائل: كيف يتحقق الإجماع مع وجود الخلاف الذي أنت بصدد

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 28 - 30) باختصار يسير.

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 243).

(3)

في الأصل [أم]. وهي لا تأتي بعد هل، إنما تأتي بعد الهمز. اهـ من كلام شيخنا الشيخ مناع القطان رحمه الله.

(4)

الموافقات (4/ 173).

ص: 196

الترجيح فيه؟!

فالجواب عن ذلك من وجهين:

أحدهما: أن العلماء رحمهم الله قد نقلوا الإجماع في مسائل كثيرة، وكذا نقلوا لنا الخلاف في بعضها.

وفعلهم هذا لا يخلو من أمرين:

إمّا أنهم لم يعتدوا بهذا الخلاف، ولم يعتبروه ناقضا للإجماع لأن مستند الإجماع النص، ومن خالفه خالف النص، فلا عبرة بقوله.

أو أن يكون الإجماع انعقد بعد هذا الخلاف.

وفي الحالتين إذا ذكرت الخلاف، إنما أذكره ليعلم سقوط ذلك القول المخالف؛ لأجل مخالفته لما استقر عليه الإجماع.

والآخر: أني لست بدعا في ذلك، فلقد فعل ذلك الأئمة الأعلام. فتجد أحدهم يناقش خلافا في مسألة ما، ويردّ أحد الأقوال، محتجا على ذلك بالإجماع المنعقد على القول الآخر.

ودونك مثال يوضح صنيعهم هذا - وسيأتي غيره في الأمثلة التطبيقية إن شاء الله تعالى -.

قال الإمام أبو بكر بن العربي في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]: فيه قولان:

الأول: من شهد منكم الشّهر، وهو مقيم، ثم سافر لزمه الصوم في بقيته. قاله ابن عباس، وعائشة.

الثاني: من شهد منكم الشهر فليصم منه ما شهد وليفطر ما سافر.

وقد سقط القول الأول بالإجماع من المسلمين كلّهم على الثاني، وكيف يصح أن يقول ربّنا - سبحانه -:«فمن شهد منكم الشهر فليصم منه ما لم يشهد» ،

ص: 197

وقد روي «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سافر في رمضان فصام حتى بلغ الكديد

(1)

، فأفطر وأفطر المسلمون»

(2)

. اهـ

(3)

.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

الأمثلة في هذه القاعدة ربما تتداخل، فمثلا، المثال المضروب لمعارضة القرآن قد يكون - أيضا - معارضا للسنة، أو لإجماع الأمة، وإنما اقتصرت على ذكره تحت جزء واحد من أجزاء القاعدة تقريبا للأفهام، وابتعادا عن التكرار. ثم إنني اقتصرت على ذكر القول المردود بهذه القاعدة دون أن أذكر القول الصحيح في الآية، أو حتى سائر الأقوال فيها، اعتمادا على سياق القاعدة في ردّ أقوال موصوفة بالصفات المذكورة، فاقتصرت على منصوص القاعدة. وإذا سقطت هذه الأقوال انحصر الصواب فيما سواه من الأقوال، على تفاوت بينها في التقديم والتأخير بحسب النظر إليها بقواعد ترجيحية أخرى - وهذا لا يعنينا في هذا الموضع - فلذلك آثرت عدم ذكرها اختصارا.

وقد سبق في مبحث «بيان متى يكون الترجيح» من مباحث التمهيد ذكر بعض الأمثلة على هذه القاعدة بما أغنى عن إعادتها في هذا الموضع، وعن ذكر

(1)

قال الإمام البخاري الكديد ماء بين عسفان وقديد انظر الصحيح مع الفتح (4/ 213).

(2)

الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. البخاري، كتاب الصيام، باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر. انظر الصحيح مع الفتح (4/ 213) ومسلم، كتاب الصيام حديث رقم (88) وذكر ابن العربي له بصيغة التمريض فيه نظر كما ترى.

(3)

أحكام القرآن (1/ 118 - 119) وانظر نحو هذا من ذكر الخلاف ثم الترجيح بحكاية الإجماع على أحد الأقوال في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص 456، والمحرر الوجيز (14/ 111 - 201)، (15/ 354 - 396)، والتسهيل لعلوم التنزيل (2/ 104)، وأضواء البيان (1/ 77). والطبري كثيرا ما يذكر الخلاف ويبطل أحد الأقوال بقوله: وهذا قول بخلاف إجماع أهل التأويل ومذهب الطبري في الإجماع مشهور وسيأتي الحديث عنه في قاعدة: «تفسير جمهور السلف مقدم على كل قول شاذ» .

ص: 198

نظائرها

(1)

. وتركت هنا التمثيل للمناهج التي سلكها بعض الفرق في معارضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة - كمعارضة الكتاب والسنة بالعقل عند المتكلمين، وكذا معارضتها بالذوق والوجد والمكاشفة عند الصوفية، وكذا المنهج الباطني الذي سلكه الرافضة وغيرهم -؛ لأنه سبق في أكثر من قاعدة التنبيه على بطلان هذه المناهج، وضرب أمثلة عليها.

(1)

انظر بعض نظائر ما ذكر هناك من معارضة بعض الأقوال لصريح القرآن في تأويل مختلف الحديث ص 55 - 56، وجامع البيان (1/ 552)، والمحرر الوجيز (1/ 359)، ومفاتيح الغيب (4/ 63)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 362)، والبحر المحيط (1/ 619)، وتفسير ابن كثير (1/ 320)، وروح المعاني (1/ 384)، ومحاسن التأويل (2/ 102)، وأضواء البيان (7/ 319).

ومن نظائر ما ذكر من معارضة بعض الأقوال للسنة، انظر المحرر الوجيز (2/ 180 - 204)، (5/ 88)، وتفسير ابن كثير (1/ 408)، (2/ 226)، والإتقان (3/ 328)، وأضواء البيان (1/ 385).

ومن نظائر ما ذكر من معارضة بعض الأقوال لإجماع الأمة، انظر المحرر الوجيز (2/ 202)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 358 - 360)، وتفسير ابن كثير (1/ 402)، وفتح القدير (1/ 66 - 239).

ص: 199

‌المطلب الرابع:

قاعدة: لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن أو السنة

*‌

‌ صورة القاعدة:

لا سبيل إلى معرفة الأمور المغيبة - وهي كل الأمور التي لا يمكن إدراكها بطرق الاجتهاد وقوة الاستنباط - إلا بنص من قرآن أو سنة، وهذا كله مما لا تعلق له بالأحكام التكليفية، ويتضمن هذا ما قد مضى وسلف كأمور بدء الخلق، وأخبار الأمم البائدة، وما لم يقع كالملاحم والبعث، وصفة الجنة والنار، ونحوها، فكل ذلك لا يصح تفسيره باجتهادات لا دليل عليها، أو بأخبار إسرائيلية.

وجعلت هذه القاعدة ترجيحية، لأنها ترجّح أصل الإبهام والإجمال والاختصار في الآية على تلك التفصيلات التي لا دليل عليها، وإنما هي مبنية على أخبار إسرائيلية. فمن هذا المنظور كانت قاعدة ترجيحية.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

قولي: «لا يصح حمل الآية» يدخل تحت القاعدة التفسيرات والتفصيلات للأمور المغيبة العارية عن الدليل إذا سيقت على أنها بيان لكلام الله - تعالى - وتفسير له.

ولا تدخل هذه الأمور تحت القاعدة إذا سيقت من باب التحديث عن بني إسرائيل الذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»

(1)

، لا من باب التفسير والبيان لكلام الله. فالإذن في التحديث عنهم لا في جعل ذلك التحديث

(1)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما انظر الصحيح مع الفتح (6/ 572).

ص: 200

بيانا لكلامه - سبحانه -.

وقولي: «لا دليل عليها من القرآن أو السنة» خرج به ما ثبت فيه تفصيل أو تفسير أو تعيين مبهم من قبل الله - تعالى - أو رسوله صلى الله عليه وسلم. كتعيينه صلى الله عليه وسلم اسم صاحب موسى عليه السلام بأنه الخضر

(1)

.

فمثل هذا يجب الجزم به، وحمل الآية عليه إذا صح الحديث، لأنه وحي يوحى كما قال تعالى:{وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى} (4)[النجم: 3 - 4].

وألحق العلماء بالحديث المرفوع قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، ولا تعلّق له ببيان لغة وشرح غريب.

فقالوا: له حكم الرفع. وجزم به على هذا الإطلاق غير واحد

(2)

.

وقيّده جماعة من الأئمة بأن لا يكون ذلك الصحابي ممن عرف بالنظر في الإسرائيليات

(3)

. وهو الحق؛ لأن الإطلاق مشكل، وذلك لاحتمال أن يكون

(1)

وذلك في حديث ابن عباس الطويل في قصة موسى مع الخضر أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام انظر الصحيح مع الفتح (6/ 497).

(2)

منهم الرازي في المحصول (1/ 643/2)، والعراقي في التبصرة والتذكرة (1/ 139)، والتهانوي في علم الحديث ص 127 وغيرهم.

(3)

منهم الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح (2/ 530 - 532)، وفي شرح النخبة ص 53، والسيوطي في تدريب الراوي (1/ 155)، وفي الإتقان (4/ 181)، والمناوي في اليواقيت والدرر (2/ 486)، وغيرهم. هذه عبارة الحافظ ابن حجر في النكت، أما عبارته في شرح النخبة وكذا عبارة غيره «أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للاجتهاد فيه .. » والفرق بين العبارتين ظاهر، وهو أن من عرف بالنظر يكون مكثرا في الرواية عنهم غالبا ولا يلزم هذا من عرف بالأخذ.

غير أن التقييد بالأخذ مشكل، وذلك من وجه أنه يلزم منه جعل كل قول - مما لا مجال للاجتهاد فيه - قاله أحد الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب من الإسرائيليات، ولو لم يكن في الحقيقة منها؛ وذلك لأنهم وضعوا هذا القيد احترازا من الإسرائيليات قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة ص 53: وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفا للقائل به، ولا موقف للصحابة -

ص: 201

ذلك المروي - الذي ليس للرأي فيه مجال - من الإسرائيليات التي أخذها عن أهل الكتاب، وهو موجود في مرويات بعض الصحابة، كمسلمة أهل الكتاب، وعبد الله بن عمرو

(1)

، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم

= إلا النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة؛ فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني. اهـ.

ومما يدل على عدم دقة هذا التقييد أنهم ضربوا أمثلة لهذا الباب، عن بعض الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب كابن مسعود وابن عباس، وعلي وغيرهم فإذا كان القيد متعلقا بالقائل لما صح لهم التمثيل بأقوال هؤلاء ويزيد الأمر وضوحا وجلاء عمل الأمة، فإنها قبلت أقوالا لبعض الصحابة ممن أخذ عن أهل الكتاب وتلقتها بالقبول، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255]، قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله.

روى هذا الأثر عن ابن عباس وكيع في تفسيره - بواسطة نقل ابن كثير في تفسيره (1/ 457) - والحاكم في المستدرك (2/ 282) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 323) عن الطبراني وقال. ورجاله رجال الصحيح.

فابن عباس من الذين أخذوا عن أهل الكتاب وتلقت الأمة قوله هذا بالقبول. فإذا تقرر هذا، فإنه - أيضا - يرد إشكال على الروايات التي من قبيل الإسرائيليات وهي من قول من لم يكثر منهم. فبأي قيد أخرجت من قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه؟

لم أجد - على طول بحث وسؤال - من دفع هذا الإشكال ابتداء أو جوابا عنه، ولو ظفرت به لطرت به فرحا، ولما زاد نسبة المسألة إليه إلا توثيقا وفصلا فيها، فبحثت - على ضعفي وقلّة بضاعتي - عن أقوى الوجوه في ذلك، فرأيت أن تعلق القيد بالقول لا بالقائل أدق من الناحية التطبيقية، فإذا كان القول مما لا مجال للاجتهاد فيه ولم يكن من الإسرائيليات كان له حكم الرفع.

وعمل الأئمة يوحي بهذا فنجدهم يقبلون أقوالا - مما لا مجال للرأي فيها - لمن أخذ عن أهل الكتاب - كقول ابن عباس السابق - ويحكمون على أخرى عنهم بأنها من الإسرائيليات وهي كثيرة مشهورة.

فالذي اختلف في الحالين القول لا القائل، فتعين تعليق القيد به. فإن قال قائل: وكيف يمكن معرفة الروايات الإسرائيلية من غيرها؟

فالجواب: أن أهل الحديث هم أهل الشأن في الكشف عنها، كما كشفوا عن علل الحديث في المتون والأسانيد، وهي خفية غامضة جدا. فقد يكون الكشف عن الإسرائيليات أيسر وأسهل من الكشف عن علل الحديث الخفية.

(1)

هو: عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي، أسلم قبل أبيه، ويقال لم يكن بين مولدهما إلا اثنتي عشرة سنة، له مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم، حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما جما، وعن بعض الصحابة، وكان كثير القيام والصيام والتلاوة. توفي سنة خمس وستين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (3/ 79)، والإصابة، (4/ 111).

ص: 202

فإن قيل: حكم قوله الرفع إذا لم يكن للرأي فيه مجال. لزم منه قبول الإسرائيليات التي من هذا القبيل ويكون حكمها الرفع كذلك. وهذا باطل.

***

*‌

‌ أقسام الإسرائيليات، والموقف منها في التفسير:

الإسرائيليات: إمّا أن يعلم كذبها بما عندنا من الشريعة.

وإمّا أن يعلم صدقها بما عندنا من الشريعة.

وإمّا أن تكون من المسكوت عنه؛ لكنها أقرب إلى الخرافة والكذب وتحيلها العقول السليمة.

وإما أن تكون من المسكوت عنه، والعقول لا تحيل وقوعها. فهذه أربعة أقسام للإسرائيليات.

فالقسم الأول: وهو ما علم كذبه بشهادة شرعنا له بالبطلان يجب رده واطراحه، ولا تجوز حكايته إلا على سبيل التنبيه على بطلانه.

قال الحافظ ابن كثير: وما شهد له شرعنا منها -[يعني من الإسرائيليات]- بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال. اهـ

(1)

.

والقسم الثاني: وهو ما علم صدقه بشهادة شرعنا له بالصحة. فإذا ذكر هذا القسم إنما يذكر استشهادا لا اعتقادا، ولا حاجة لنا فيه اسغناء بما ثبت في شرعنا. وإذا ذكر في التفسير لا يكون هو المفسّر للآية، بل المفسّر للآية هو ما ثبت في شرعنا، فانتفى كون الآية مفسّرة بها ومحمولة عليها.

والقسم الثالث: وهو ما كان من المسكوت عنه؛ لكن العقول السليمة تحيله، ويغلب على الظنون كذبه، وهو أقرب إلى الخرافة. كجبل قاف المزعوم، والحوت «نون» الذي تحمل عليه الأرض.

قال الحافظ ابن كثير: وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: «حدثوا عن بني

(1)

البداية والنهاية (1/ 5).

ص: 203

إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوّزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. اهـ

(1)

.

والقسم الرابع: وهو ما كان من المسكوت عنه، ولا تحيله العقول السليمة، ولا يغلب على الظنون كذبه، فيجب في مثل هذا التوقف فلا يحكم عليه بصدق أو كذب، وعلى هذا القسم ينزّل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا .. »

(2)

.

قال الحافظ ابن حجر: أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر صدقا فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم، فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي رحمه الله اهـ

(3)

.

وقال الحافظ ابن كثير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» :

هذا محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها فيجوز روايتها للاعتبار. اهـ

(4)

.

وهذا القسم أكثر الأقسام ذكرا في كتب التفسير، وغالبه في تحديد مبهمات لا فائدة للأمة في تحديدها، كأسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، ومكان الكهف، وكم عدد الدراهم التي اشتري بها يوسف عليه السلام أمّا ما تحتاجه الأمة فقد بينه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وشرحه، وأوضحه، عرفه من عرفه، وجهله من جهله

(5)

.

فإذا كان حكم هذا النوع هو التوقف في التصديق والتكذيب؛ فلا يصح تفسير

(1)

تفسير القرآن العظيم (7/ 373).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة البقرة باب: قُولُوا آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا [البقرة: 136] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه انظر الصحيح مع الفتح (8/ 20).

(3)

فتح الباري (8/ 20).

(4)

البداية والنهاية (1/ 5).

(5)

انظر البداية والنهاية (1/ 5).

ص: 204

كلام الله بأمور مشكوك في صدقها وكذبها؛ فلربما حملت الآية عليها فكانت كذبا فيكون قد فسر كلام الله - تعالى - بالكذب حقيقة، أو يكون قد خولف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك باعتقادنا صدق هذه الإسرائيليات، وأيّ تصديق لها أعظم من جعلها بيانا لمراد الله - تعالى - فيما أبهمه عن خلقه.

وكلا الأمرين باطل، فالقرآن حق ولا يحمل إلا على حق، واعتقادنا في الإسرائيليات المسكوت عنها التوقف. فتعين صحة عدم تفسيرآيات القرآن بهذه الإسرائيليات.

قال العلاّمة عبد الرحمن السعدي: واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم:«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، والذي أرى أنه، وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه، تكون مفردة غير مقرونة، ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» .

فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه.

فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها، أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعا بها، ولا يستريب بهذا أحد. ولكن بسبب الغفلة عن هذا، حصل ما حصل. والله الموافق. اهـ

(1)

.

وقال العلاّمة أحمد شاكر

(2)

: إن إباحة التحدّث عنهم فيما ليس عندنا دليل على

(1)

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 98).

(2)

هو: أحمد بن محمد شاكر من آل أبي علياء، إمام من أئمة الحديث في هذا القرن، تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، له تحقيقات كثيرة من أشهرها مسند الإمام أحمد - لم يتمه -، وتفسير الطبري - كذلك لم يتمه - توفي سنة سبع وسبعين وثلثمائة وألف. عن ترجمة شقيقه محمود شاكر في مقدمة كتاب «حكم الجاهلية» له.

ص: 205

صدقه ولا كذبه - شيء، وذكر ذلك في تفسير القرآن، وجعله قولا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما اجمل فيها - شيء آخر؛ لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أنّ هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبيّن لمعنى قول الله - سبحانه -، ومفصّل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك.

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أذن بالتحدث عنهم - أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم.

فأيّ تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير أو البيان؟ اللهم غفرا. اهـ

(1)

وبهذا التحرير يعلم أن جميع أقسام الإسرائيليات لا يصح تفسير القرآن بها.

ويدخل تحت هذه القاعدة كل تفسير لأمر غيبي - ولو لم يكن من الإسرائيليات - ليس عليه دليل من القرآن أو السنة.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

أقوال العلماء في اعتماد هذه القاعدة كثيرة جدا، فمنها:

1 -

قول الإمام الطبري في معرض تقريره لهذه القاعدة في تفسير قول الله تعالى:

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20].

فبعد أن ذكر أقوال المفسرين في مبلغ هذه الدراهم قال: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله - تعالى - ذكره أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحدّ مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة من كتاب، ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يحتمل أن يكون كان عشرين، ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقل من ذلك وأكثر، وأيّ ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة، وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا

(1)

عمدة التفسير (1/ 15).

ص: 206

في الجهل به دخول ضرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلف علمه. اهـ

(1)

.

2 -

نقل القرطبي قول أبي بكر بن العربي في تقرير هذه القاعدة في معرض ردّه للإسرائيليات في قصة أيوب عليه السلام قال: «ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين: الأولى قوله تعالى: {* وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] والثانية في (ص): {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ} (41)[ص 41] وأما النبي صلى الله عليه وسلم: فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «بينما أيوب يغتسل، إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب

»

(2)

الحديث، وإذا لم يصح فيه قرآن، ولا سنة إلا ما ذكرنا: فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا». اهـ

(3)

.

3 -

ومنها: قول ابن عطية بعد أن ساق الإسرائيليات في تحديد الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله - تعالى - نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها. اهـ

(4)

.

(1)

جامع البيان (12/ 174). وانظر نحو هذا التقرير فيه (1/ 209)، (12/ 177)، وغيرها كثير انظر جملة منها في الإحالات إليها في الأمثلة التطبيقية.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ومن تستر فالتستر أفضل. من حديث أبي هريرة وتمامه « .. فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك» وفي أوله يغتسل عريانا. انظر الصحيح مع الفتح (1/ 460).

(3)

الجامع لأحكام القرآن (15/ 210). ولم أعثر عليه في مظانه من أحكام القرآن.

(4)

المحرر الوجيز (1/ 185).

ص: 207

4 -

ومنها: قول الرازي في البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل قال:

واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى ..

ولا شك أن القرآن لا يدل عليه، فإن ورد خبر صحيح قبل، وإلا وجب السكوت عنه. اهـ

(1)

.

5 -

ومنها: قول الحافظ ابن كثير في معرض تعليقه على ما روي من الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت: وقصّها خلق من المفسرين المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله - تعالى - والله أعلم بحقيقة الحال. اهـ

(2)

.

6 -

ويقرر هذه القاعدة على وجه العموم العلامة ابن الوزير فيقول في مراتب التفسير فيما يرجع إلى الدراية إنه يرجع إلى سبعة أنواع:

النوع السابع: ما لم يصح فيه شيء من جميع ما تقدم ويختلف فيه أهل التفسير وأهل العلم، مثل تفسير الحروف التي في فواتح السور، وتفسير الروح ونحو ذلك مما لم يصح دليل لنا على تفسيره، ولا معنا ضرورة عملية تلجئ إلى وجوب البحث عنه، وقد يرتكب فيه مخالفة الظواهر ويبتني على أسباب مختلف في صحتها، فالحزم الوقف فيه لما تقدم من حديث ابن عباس في وعيد من فسر القرآن برأيه

(3)

.

(1)

مفاتيح الغيب (3/ 134).

(2)

تفسير القرآن العظيم (1/ 203) وانظر نحو هذا فيه (5/ 165)، (7/ 28).

(3)

ولفظه «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده في النار» وفي رواية «برأيه» . أخرجه الترمذي في سننه، كتاب: التفسير، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 183)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب: فضائل القرآن، باب: من قال في القرآن بغير علم (5/ 30). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وضعّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي حديث رقم (3134 - 3135).

ص: 208

وعن جندب

(1)

مثله

(2)

رواه أبو داود

(3)

والترمذي

(4)

. وأوضح منهما قوله تعالى:

{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. اهـ

(5)

.

7 -

وقال العلاّمة الشنقيطي: واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم، وفي أي محل من الأرض كانوا، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها. اهـ

(6)

.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

أمثلة هذه القاعدة كثيرة جدا.

1 -

فمنها: ما جاء في تفسير قول الله - تعالى - في قصة نوح عليه السلام:

{وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ} (40)[هود: 40].

(1)

هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، أبو عبد الله، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم نزل الكوفة والبصرة، وله عدة أحاديث، روى له الجماعة، عاش إلى حدود سنة سبعين. سير أعلام النبلاء (3/ 174).

(2)

ولفظه: «من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود في سننه، كتاب:

العلم، باب: الكلام في كتاب الله بغير علم (3/ 320). والترمذي، كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 183)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب فضائل القرآن، باب من قال في القرآن بغير علم (5/ 31). وضعّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود حديث رقم (3652) وضعيف سنن الترمذي حديث رقم (3136).

(3)

هو: سليمان بن الأشعث بن شداد السجستاني الأزدي، الإمام شيخ السنة، محدث البصرة، صاحب السنن، أبو داود، كان على مذهب السلف في اتباع السنة والتسليم لها، توفي سنة خمس وسبعين ومائتين. سير أعلام النبلاء (13/ 203).

(4)

هو: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك، أبو عيسى الترمذي الحافظ العلم الإمام البارع، صاحب الجامع، والعلل، وغيرها، مات سنة تسع وسبعين ومائتين. سير أعلام النبلاء (13/ 270).

(5)

إيثار الحق ص 156.

(6)

أضواء البيان (4/ 20).

ص: 209

نقل الإمام الطبري خلاف المفسرين في عدد الذين آمنوا مع نوح فحملهم معه في الفلك، وذكر أربعة أقوال وأسندها إلى قائليها

(1)

.

فقال بعضهم: كانوا ثمانية أنفس.

وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس.

وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم.

وقال آخرون: بل كانوا ثمانين نفسا.

فهذه أربعة أقوال في تحديد العدد الذي آمن بنوح عليه السلام وحمل معه في السفينة، وكلها لا دلالة عليها من كتاب أو سنة، بل هي مما أخذ من بني إسرائيل، فالصواب ألا تحمل الآية على أي منها، فهو مما أبهمه الله عنا، ولم تقم حجة ببيانه.

قال الإمام الطبري - بعد أن ذكر الأقوال السابقة -: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ} (40)[هود: 40] يصفهم بأنهم كانوا قليلا، ولم يحدد عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ

(2)

.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا -: ما جاء عن مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} (79)[الإسراء: 79].

قال: يجلسه معه على عرشه. اهـ

(3)

.

وهذا أمر غيبي من أحوال الآخرة، ولم يقم عليه دليل من القرآن أو السنة، ولم ينقل بسند صحيح عن أحد من الصحابة؛ فهو مردود بهذه القاعدة.

(1)

انظرها في جامع البيان (12/ 42 - 43).

(2)

جامع البيان (12/ 43).

(3)

جامع البيان (15/ 145).

ص: 210

وقد صح التفسير النبوي للآية بخلافه، فثبت في السنة أن المقام المحمود هو الشفاعة

(1)

.

قال الإمام ابن عبد البر: وعلى هذا أهل العلم في تأويل قول الله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} (79)[الإسراء: 79] أنه الشفاعة. وقد روى عن مجاهد أن المقام المحمود: أن يقعده معه يوم القيامة على العرش. وهذا - عندهم - منكر في تفسير هذه الآية، والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الذي يشفع فيه لأمته، وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك، فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة. اهـ

(2)

.

والغريب كلام الإمام الطبري بعد أن رجح أن المقام المحمود هو الشفاعة، قال عن قول مجاهد: فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك؛ لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1)

منها ما أخرجه البخاري، كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها.

يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود» انظر الصحيح مع الفتح (8/ 251)، وانظر (3/ 396) منه. وفي مسند الإمام أحمد (3/ 456) من حديث كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود» .

وأخرج الطبري في تفسيره (15/ 145) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)[الإسراء: 79] سئل عنها، قال:«هي الشفاعة» وروي نحوه ابن عبد البر في التمهيد (19/ 63).

(2)

التمهيد (19/ 63 - 64).

ص: 211

ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. اهـ

(1)

. ثم شرع في بيان وجه عدم إحالة قول مجاهد من جهة النظر.

وهذا التوجيه من الإمام الطبري غير وجيه، ومخالف لمنهجه في مثل هذه المسألة الذي يقرره كثيرا في تفسيره، وهو عدم إطلاق قول عن المنقولات لم يرد به نقل.

وذلك؛ لأن مثل هذا الخبر الذي أخبر به مجاهد من الأمور المغيبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالنص، ولا نص هنا بهذا، بل النصوص متضافرة على أنه الشفاعة.

فالأصل في إثبات المغيبات هو ورود النص بها، لا ورود النصوص المانعة منها

(2)

.

(1)

جامع البيان (15/ 147).

(2)

* وانظر نظائر هذين المثالين:

في جامع البيان (1/ 209، 549)، (2/ 336)، (7/ 135)، (9/ 40 - 41، 90 - 91)، (2/ 174، 177)، (13/ 254)، (20/ 62)، (24/ 72)، (30/ 23).

وفي المحرر الوجيز (1/ 185، 308 - 309 - 348)، (2/ 257 - 258).

وفي الجامع لأحكام القرآن (2/ 51)، (15/ 208 - 210، 294).

وفي تفسير ابن كثير (2/ 64)، (7/ 14 - 16 - 34).

وفي أضواء البيان (3/ 67 - 68)، (4/ 77، 41، 30، 20، 105، 157، 438، 574)، وغيرها كثير.

ص: 212

‌المبحث الثاني:

قواعد الترجيح المتعلقة بالآثار وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير.

المطلب الثاني: قاعدة:

إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير.

المطلب الثالث: قاعدة:

تفسير السلف وفهمهم لنصوص الوحي حجة على من بعدهم.

المطلب الرابع: قاعدة

تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذ.

ص: 213

‌المطلب الأول:

قاعدة: إذا صح سبب النزول الصريح فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير

*‌

‌ صورة القاعدة:

قرر الأئمة الأعلام أن من أهم فوائد معرفة أسباب النزول، أنها تعين على فهم الآية على وجه صحيح

(1)

. فإذا تنازع العلماء في تفسيرآية من كتاب الله وتعددت أقوالهم فيها، فأولى الأقوال بتفسيرالآية ما وافق سبب النزول الصحيح الصريح في السببية.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

تعريف «سبب النزول» .

السبب لغة: كل شيء يتوصل به إلى غيره

(2)

.

النزول في اللغة: هبوط شيء ووقوعه

(3)

.

سبب النزول اصطلاحا، عرّف بأكثر من تعريف، أختار منها تعريف شيخنا الشيخ مناع القطان؛ لأنه جامع مانع.

قال رحمه الله: ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه، كحادثة أو سؤال. اهـ

(4)

.

فهذا التعريف يحدد لنا سبب النزول، وأنه قاصر على نوعين:

(1)

انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص 47، والموافقات (3/ 347)، والبرهان (1/ 22)، والإتقان (1/ 83)، والمباحث للشيخ مناع القطان ص 79، والمدخل لأبي شهبة ص 125، وحاشية مقدمة التفسير لابن قاسم ص 45.

(2)

مفردات الراغب ص 391، ولسان العرب (1/ 458) مادة «سبب» .

(3)

معجم مقاييس اللغة (5/ 417)، ومفردات الراغب ص 799 مادة «نزل» .

(4)

مباحث في علوم القرآن ص 78.

ص: 215

أحدهما: إما بسبب حادثه. تنزل الآية أو الآيات مبينة ما يتصل بتلك الآيات، كالذي نزل في غزوة بدر وأحد وقصة الإفك واللّعان ونحوها.

والآخر: أو بسبب سؤال. فينزل القرآن بالجواب عن ذلك السؤال الذي طرح على النبي صلى الله عليه وسلم كما في السؤال عن الأهلة والإنفاق والأنفال والروح ونحوها.

وهذا في الآيات التي لنزولها سبب، وإلا فأكثر القرآن نزل ابتداء من غير سبب.

والمراد ب «وقت وقوعه» أي وقت وقوع السبب، حادثه أو سؤال، سواء أكان النزول بعد السبب مباشرة، كالسؤال عن الروح والآيات التي نزلت بالجواب عن ذلك.

أم تأخر عنه كما في قصة الإفك، والثلاثة الذين خلّفوا، ونحو ذلك، وهذا كله في عصر النبوة، ووقت التنزيل. خرج بذلك الآيات التي نزلت ابتداء متحدثة عن قصص الأنبياء والأمم السالفة، وعواقب المكذبين كأصحاب الفيل ونحو ذلك فليست من أسباب النزول.

قال السيوطي: والذي يتحرّر في سبب النزول أنه مانزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحديّ في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت، ونحو ذلك. اهـ

(1)

.

قولي: «إذا صح سبب النزول» هذا قيد أخرج سبب النزول الضعيف فلا تعويل عليه في تصحيح قول، أو تضعيف آخر، فلا بد من صحة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة

(2)

، أو عن التابعين عند من اعتمد قولهم في هذا، لذلك اعتمد العلماء

(1)

الإتقان (1/ 90).

(2)

إذا ذكر الصحابي السبب الذي لأجله نزلت آيات فهذا حكمه حكم المرفوع عند عامة العلماء، أما إذا قال الصحابي «نزلت هذه الآية في كذا» ففيه نزاع، فالبخاري وابن الصلاح والحاكم جعلوه من المرفوع، والإمام أحمد ومسلم وغيرهما لم يدخلوه في المرفوع، وجعلوه مما يقال بالاستدلال والتأويل، وليس من جنس النقل لما وقع. -

ص: 216

الصحيح من أسباب النزول عند تعدد الأسباب والنازل واحد

(1)

.

قال الزرقاني

(2)

: لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح. اهـ

(3)

وعلى هذا عمل الأئمة الأعلام، فهذا الإمام الطبري يعرض عن اعتماد سبب نزول آية لأجل ضعفه، ويرجح غيره من الأقوال معللا ذلك بعدم ثبوت الخبر من طريق صحيح متصل السند

(4)

.

ويرجح القرطبي أقوالا اعتمادا على صحة الرواية في سبب النزول

(5)

.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيميه يردّ سبب نزول آية لعلة ضعف السند قال: ومن قال: إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في «ألم» بحساب الجمل، فهذا نقل باطل، أما أولا: فلأنه من رواية الكلبي. اهـ

(6)

.

وكلام الحافظ ابن حجر - في سبب نزول سورة الضحى - في قصة إبطاء جبريل بالوحي وأنه كان بسبب كلب ميت تحت سرير النبي صلى الله عليه وسلم مشهور، قال فيه: وقصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه

=أما إذا قال التابعي ذلك فهو عند من اعتبره جعلوه من المرفوع المرسل، له أحكام المرسل. انظر الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 360)، وفتاوى ابن تيمية (13/ 340)، والبرهان (1/ 32)، والإتقان (1/ 89 - 91)، وأضواء البيان (3/ 375) وغيرها.

(1)

انظر تقرير ذلك في الإتقان (1/ 91)، ومناهل العرفان (1/ 116)، والمباحث للشيخ مناع ص 76 - 78، والمباحث لصبحي الصالح ص 135، والمدخل لأبي شهبة ص 123، والتعارض والترجيح للبرزنجي (2/ 103).

(2)

هو: محمد بن عبد العظيم الزرقاني، من علماء الأزهر بمصر، تخرج في كلية أصول الدين، ودرّس بها، له مناهل العرفان في علوم القرآن، توفي سنة ألف وثلثمائة وسبعة وستين. الأعلام (6/ 210).

(3)

مناهل العرفان (1/ 114).

(4)

انظر جامع البيان (7/ 268).

(5)

انظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 121)، و (6/ 176 - 177).

(6)

مجموع الفتاوى (17/ 398).

ص: 217

الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح. اهـ

(1)

.

وقال السيوطي: كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعدّدة، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة فإن عبّر أحدهم بقوله: نزلت في كذا، والآخر:

نزلت في كذا، وذكر أمرا آخر، فقد تقدم أن هذا يراد به التفسير لا سبب النزول -[إلى أن قال]- وإن ذكر واحد سببا، وآخر سببا غيره، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح المعتمد. اهـ

(2)

.

وأعني بالصحيح هنا رتبة القبول ويشمل الحسن بنوعيه، والصحيح بنوعيه.

وقولي: «الصريح» خرج به سبب النزول غير الصريح في السببية، فلا يعتبر مرجحا؛ لذلك جعل العلماء صيغة سبب النزول النظر الثاني في الترجيح بين أسباب النزول المتعددة إذا صحت، فالصريحة هي المقدّمة، والمعتمدة في السببية.

وأول من رأيته ذكر الصراحة في السببية، واعتبارها مرجحة، الإمام القرطبي رحمه الله المتوفى سنة إحدى وسبعين وستمائة.

قال - في تفسير قوله تعالى: {* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 24]-:

وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وط ء المسبيات ذوات الأزواج. اهـ

(3)

. فهذا تنبيه من الإمام القرطبي على أن من أسباب النزول ما تكون صيغته صريحة، ومنها ما تكون غير صريحة.

ثم حدّد هذا المفهوم بشكل أكثر وضوحا ودقة بعد ذلك.

(1)

فتح الباري (8/ 580) والذين في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاث فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لما أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب «ما ودعك ربك وما قلى» انظر الصحيح مع الفتح (8/ 580). وكذا أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير حديث رقم (114).

(2)

الإتقان (1/ 91).

(3)

الجامع لأحكام القرآن (5/ 121).

ص: 218

فتكون الصيغة نصا في السببية في الحالات الآتية:

1 -

إذا نص الراوي على السببية كأن يقول «سبب نزول هذه الآية كذا وكذا .. » .

2 -

إذا أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادّة النزول بعد ذكر الحادثة أو السؤال.

3 -

إذا سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فينزل الوحي بالجواب عن السؤال، حاكيا السؤال مع جوابه، كالسؤال عن الروح أو الأهلّة أو نحوها.

وتكون الصيغة غير صريحة في السببية - وإنما هي محتملة للسببية ولما تضمنته الآية من الأحكام، والقرائن هي التي تحدد أحدهما - في الحالات الآتية:

1 -

إذا قال الراوي «نزلت هذه الآية في كذا» فهذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أخرى أن هذا المذكور داخل تحت معنى الآية، وإن لم يكن السبب

(1)

.

2 -

إذا قال الراوي «أحسب هذه الآية نزلت في كذا» أو «ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في كذا» .

فتلك ثلاث صيغ دلالتها على سبب النزول صريحة وهاتان صيغتان تحتملان السببية وغيرها

(2)

.

وقولي: «فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير» هذا هو الترجيح.

ويرد هنا منازعة قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصحوص السبب» لهذه القاعدة في الترجيح، وسيأتي - بإذن الله - بسط الكلام على قاعدة «العبرة بعموم اللفظ .. » . لكنّي أذكر هنا الحالات التي تقدم فيها هذه القاعدة على غيرها، وذلك في صورتين:

(1)

انظر مقدمة في أصول التفسير لا بن تيميه ص 48، والبرهان في علوم القرآن (1/ 31 - 32).

(2)

انظر ذلك في مناهل العرفان (1/ 114) والمباحث للشيخ مناع ص 85، والمباحث للدكتور صبحي الصالح ص 142 والمدخل لأبي شهبة ص 132، وأسباب النزول وأثرها في التفسير ص 21، رسالة ماجستير في قسم القرآن لعصام الحميدان.

ص: 219

إحداهما: إذانزلت الآية بسبب معيّن ولا عموم للفظها - أي ليس فيها صيغة من صيغ العموم - فإنّ أصح الأقوال في تفسيرالآية هو ما وافق سبب النزول، وذلك كما في المثال الأول من أمثلة هذه القاعدة.

قال السيوطي: أمّاآية نزلت في معيّن ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعا. اهـ

(1)

.

الأخرى: إذا خصّص العموم بدليل، فأولى الأقوال بهذا الخصوص ما وافق صورة سبب النزول من الأقوال؛ لأن صورتها قطعية الدخول في العموم

(2)

، وليس ذلك لغيرها. كما في المثال الثاني من أمثلة هذه القاعدة.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة في الترجيح أئمة التفسير؛ فصححوا بها أقوالا، وضعّفوا بها أخرى، وهذا شائع منتشر في تفاسيرهم، سوف أذكر جماعة منهم هنا، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في الأمثلة ذكر آخرين استعملوا هذه القاعدة في الترجيح، فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

أبو جعفر النحاس: فعند كلامه على قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] ذكر خلاف العلماء في معناها، ومحكمة هي أو منسوخة، ومن هذه الأقوال التي ذكرها قول عبد الله

(3)

وعروة

(4)

ابني الزبير: إنما أنزل الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ}

(1)

انظر الإتقان (1/ 87).

(2)

انظر المنخول ص 151 - 152، وشرح الكوكب (3/ 187)، والإتقان (1/ 87)، وأضواء البيان (1/ 77 - 186 - 190).

(3)

هو: ابن الزبير بن العوام القرشي، أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، ولد عام الهجرة. حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وحدّث عنه، وعن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم قتل سنة ثلاث وسبعين من الهجرة. الإصابة (4/ 71).

(4)

هو: ابن الزبير بن العوام القرشي، حدّث عن أبيه بشيء يسير لصغره، وعن أمه أسماء وخالته عائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهم، مات سنة ثلاث وتسعين. سير أعلام النبلاء (4/ 421).

ص: 220

من أخلاق الناس. اهـ

(1)

.

قال أبو جعفر: وهذا أولى ما قيل في الآية، لصحة إسناده، وأنه عن صحابي يخبر بنزول الآية، وإذا جاء الشيء هذا المجيء لم يسع أحدا مخالفته، والمعنى عليه {خُذِ الْعَفْوَ} أي: السهل من أخلاق الناس، ولا تغلظ عليهم .... اهـ

(2)

.

2 -

ومنهم أبو بكر بن العربي: ففي تفسير قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} [البقرة: 189] قال - بعد أن ذكر الخلاف في تفسيرالآية -: وحقيقة هذه الآية البيوت المعروفة بدليل ما روي في سبب نزولها من طرق متعددة. اهـ

(3)

.

3 -

ومنهم أبو محمد ابن عطية: استعمل هذه القاعدة في الترجيح، ففي معرض مناقشته للأقوال في معنى الأنفال ضعّف ما لا يوافق أسباب النزول، ورجّح ما وافقها، فقال: وهذا قول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة

-[إلى أن قال]-: وأولى هذه الأقوال، وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه. اهـ

(4)

.

4 -

ومنهم القرطبي: وسيأتي ترجيحه بالقاعدة

(5)

في الأمثلة التطبيقية - إن شاء الله تعالى -.

5 -

ومنهم ابن القيم

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة الأعراف، باب: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)، انظر الصحيح مع الفتح (8/ 155)، وأخرجه النحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 360) وغيرهما.

(2)

الناسخ والمنسوخ (2/ 360).

(3)

أحكام القرآن (1/ 143).

(4)

المحرر الوجيز (8/ 7).

(5)

وانظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 121) و (9/ 110).

(6)

انظر التفسير القيم ص 182.

ص: 221

6 -

ومنهم الشوكاني: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال -: والأول أولى بدليل سبب النزول. اهـ

(1)

.

7 -

ومنهم الشنقيطي: قال - في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ} [النساء: 22] بعد أن ذكر الخلاف في «ما» موصولة أو مصدرية -:

والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن «ما» موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء

؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول. اهـ

(2)

.

8 -

ويقول الدكتور صبحي الصالح - مقررا مضمون هذه القاعدة -: ولئن كانت معرفة جو القصيدة، والظروف التي نظمت خلالها تعين على الفهم السديد، وتسعف بالذوق السليم، وتواكب الشرح الأدبي جنبا إلى جنب، لتكوننّ معرفة قصة الآية والأسباب التي اقتضت نزولها أعون على دقة الفهم وأدنى إلى استلهام أرجح التأويل وأصح التفسير. اهـ

(3)

.

وغير هؤلاء كثير.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

ا - من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} [البقرة: 189] اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على أقوال

(4)

:

(1)

فتح القدير (4/ 16).

(2)

أضواء البيان (1/ 378) وانظر (1/ 382) منه.

(3)

مباحث في علوم القرآن ص 129.

(4)

انظر هذه الأقوال في النكت والعيون (1/ 249) وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 142 - 143) والمحرر الوجيز (2/ 98 - 99) والجامع لأحكام القرآن (2/ 344 - 345) والبحر المحيط (2/ 237) وغيرها من كتب التفسير.

ص: 222

أحدها: أن المراد بالبيوت هي المنازل المعروفة، والإتيان هو المجيء إليها ودخولها.

قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.

والثاني: أن المراد بالبيوت، النساء أمرنا لإتيانهنّ من القبل لا من الدّبر. قاله ابن زيد.

والثالث: أنها مثل. فقيل أمر الناس أن يأتوا الأمور من وجوهها.

وقيل: المعنى: ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتوا الأمور على غير ما يجب. وقيل غير ذلك.

وأولى هذه الأقوال بالصواب هو القول الأوّل، وذلك لما صح في سبب نزول هذه الآية من حديث البراء بن عازب

(1)

رضي الله عنهما قال: كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له ذلك فنزلت هذه الآية {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها}

(2)

.

وهذا ما ترجحه القاعدة التي نحن بصدد التمثيل لها. وقد رجّح هذا القول بهذه القاعدة جماعة من أئمة التفسير، منهم ابن العربي

(3)

، وابن عطية

(4)

، والقرطبي

(5)

، وأبو حيان

(6)

، وغيرهم.

(1)

هو: البراء بن عازب بن الحارث الأوسي الأنصاري، له ولأبيه صحبة، ردّ يوم بدر لصغر سنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث، وعن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، توفي سنة اثنتين وسبعين الإصابة (1/ 147).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة البقرة باب: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها انظر الصحيح مع الفتح (8/ 31)، ومسلم كتاب التفسير، حديث رقم (23)، وغيرهما.

(3)

انظر أحكام القرآن (1/ 143).

(4)

انظر المحرر الوجيز (2/ 99).

(5)

انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 346).

(6)

نظر البحر المحيط (2/ 237).

ص: 223

قال أبو بكر بن العربي - بعد أن ذكر الأقوال في تفسيرالآية -:

المسألة الحادية عشرة: في تحقيق هذه الأقوال:

أما القول إنّ المراد بها النساء: فهو تأويل بعيد لا يصار إليه إلا بدليل، فلم يوجد ولا دعت إليه حاجة.

وأما كونه مثلا في إتيان الأمور من وجوهها: فذلك جائز في كل آية؛ فإنّ لكل حقيقة مثلا منها ما يقرب ومنها ما يبعد.

وحقيقة هذه الآية البيوت المعروفة، بدليل ما روي في سبب نزولها من طرق متعددة ذكرنا أوعبها، عن الزهري

(1)

، فحقّق أنها المراد بالآية، ثم ركّب من الأمثال ما يحمله اللفظ ويقرب، ولا يعارضه شيء. اهـ

(2)

.

وقال القرطبي - بعد أن ذكر الأقوال في الآية -: قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال؛ لما رواه البراء. -[وذكر حديث البراء السابق]- إلى أن قال: وأمّا تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمّله. اهـ

(3)

.

واقتصر على ما رجحته القاعدة آخرون من أئمة التفسير، ولم يذكروا غيره مستندين إلى سبب النزول، منهم ابن جرير الطبري

(4)

، والزجاج

(5)

، والنحاس

(6)

، والبغوي

(7)

، وابن كثير

(8)

، وغيرهم.

(1)

هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي، الإمام العلم، حافظ زمانه، روى عن ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسهل بن سعد وغيرهم، توفي سنة أربع وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (5/ 326).

(2)

أحكام القرآن (1/ 143).

(3)

الجامع لأحكام القرآن (2/ 346).

(4)

انظر جامع البيان (2/ 286).

(5)

انظر معاني القرآن وإعرابه (1/ 262).

(6)

انظر معاني القرآن (1/ 105).

(7)

انظر معالم التنزيل (1/ 212).

(8)

انظر تفسير القرآن العظيم (1/ 326).

ص: 224

ويؤيد هذه القاعدة فيما قررته قاعدة: «يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة» ، وذلك أن القول الذي رجحته هذه القاعدة هو الحقيقة في لفظ «البيوت» على عكس غيره من الأقوال فهي تحمل لفظ البيوت على المجاز، والأصل في الكلام الحقيقة.

قال أبو حيان - بعد أن ذكر سبب نزول الآية -: وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة، وأن الإتيان هو المجيء إليها، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تضافرت من هذه الأسباب. اهـ

(1)

أي: أسباب النزول.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا - ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النساء: 24]. اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية:

فقال بعضهم: المراد بالمحصنات هنا المزوجات، والاستثناء في {إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أي السبايا اللواتي فرق بينهن وبين أزواجهن السّباء.

وقال آخرون: المحصنات المزوجات، والمستثنى هنّ الإماء، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهنّ بشراء أو هبة أو صدقة أو إرث، فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج، والبيع والهبة والصدقة والإرث طلاق لها.

وقال آخرون: المحصنات هنّ العفائف، وتأويل الآية على هذا: والعفائف من النساء حرام عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم منهن بنكاح أو ملك. فالمعنى على هذا القول تحريم الزنا.

وقال آخرون: المحصنات الحرائر، والمعنى: حرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح. على جعل الاستثناء متصلا. وأمّا إن كان منقطعا فيكون المعنى:

حرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم، أي بالتسري

(2)

.

(1)

البحر المحيط (2/ 237).

(2)

انظر الأقوال وقائليها في جامع البيان (5/ 1 - 6)، والنكت والعيون (1/ 469)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 490)، والمحرر الوجيز (4/ 76)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 121)، والبحر المحيط (3/ 583).

ص: 225

وأولى هذه الأقوال بتفسيرالآية، القول الأول؛ وذلك لما صح في سبب نزولها من حديث أبي سعيد الخدري

(1)

رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس - وهو واد بديار هوازن

(2)

- فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرّجوا من غشيانهنّ من أجل أزواجهنّ من المشركين فأنزل الله عز وجل:{* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النساء: 24]

(3)

.

فهذا سبب نزول الآية صحيح صريح في السببية، مصحح للقول الأول لموافقته له، وقد رجّح هذا القول بهذه القاعدة جماعة من أئمة التفسير، منهم أبو جعفر النحاس

(4)

، وابن العربي

(5)

، والقرطبي

(6)

، والشنقيطي

(7)

، ومال إليه ابن كثير

(8)

، وابن جزي

(9)

وغيرهم - عليهم رحمة الله جميعا -.

قال القرطبي - بعد أن ذكر القول واستدل له بحديث أبي سعيد -: وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرّج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وط ء المسبيات ذوات الأزواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم:{إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النساء: 24]

(1)

هو: سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري، مشهور بكنيته، استصغر بأحد واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها، مكثر في رواية الحديث، توفي سنة أربع وسبعين وقيل غير ذلك. الإصابة (3/ 86).

(2)

هوازن: حي من اليمن يضاف إليه مخلاف باليمن. معجم البلدان (5/ 420).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، حديث رقم (33).

(4)

انظر معاني القرآن (2/ 57).

(5)

انظر أحكام القرآن (1/ 493).

(6)

انظر الجامع لأحكام القرآن (5/ 121).

(7)

انظر أضواء البيان (1/ 382).

(8)

انظر تفسير القرآن العظيم (2/ 223).

(9)

انظر التسهيل (1/ 137).

ص: 226

وبه قال مالك

(1)

وأبو حنيفة

(2)

وأصحابه، والشافعي، وأحمد وإسحاق

(3)

، وأبو ثور

(4)

، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. اهـ

(5)

.

وقال الشنقيطي - معلقا على القول الذي رجحته هذه القاعدة بعد أن ختم به الأقوال في الآية -: وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي يدل القرآن لصحته

ويؤيده سبب النزول. اهـ

(6)

.

أما القول الثاني، وهو حمل قوله تعالى {إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} على العموم في الإماء دون تخصيصه بالمسبيّات، أخذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيكون بيع الأمة طلاقا لها من زوجها. وعليه يكون هذا من باب تنازع قاعدة:

«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» مع هذه القاعدة التي يمثّل لها. وقاعدة «العبرة بعموم اللفظ

» مقدّمة كما هو مبين في مبحث تنازع القواعد.

والجواب عنه هو ما تقدم تحريره في أول هذه القاعدة، من أن قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ

» مقدّمة إلا في صورتين، هذه إحداهما، وهي ما إذا ثبت تخصيص

(1)

هو: شيخ الإسلام، حجة الأمة، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، طلب العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حيّ شاب طري، توفي سنة تسع وسبعين ومائة. سير أعلام النبلاء (8/ 48).

(2)

هو: الإمام، عالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي الكوفي، عني بطلب الآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى والناس عليه عيال في ذلك، توفي سنة خمسين ومائة. سير أعلام النبلاء (6/ 390).

(3)

هو: ابن راهويه، أبو يعقوب، الإمام الكبير سيّد الحفاظ، كان إماما في التفسير، ورأسا في الفقة، من أئمة الاجتهاد، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. سير أعلام النبلاء (11/ 358).

(4)

هو: إبراهيم بن خالد الإمام الحافظ الحجة المجتهد، مفتي العراق، أبو ثور الكلبي البغدادي كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا، صنّف الكتب وفرّع على السّنن، وذب عنها. توفي سنة أربعين ومائتين. سير أعلام النبلاء (12/ 72).

(5)

الجامع لأحكام القرآن (5/ 121).

(6)

أضواء البيان (1/ 382).

ص: 227

العموم، وقد أحلت هناك على هذا المثال لبيان هذه الصورة، وهذا موطن البيان.

ذلك أن قوله تعالى: {إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} ليس على عمومه في جميع الإماء، وليس بيع الأمة طلاقا لها، لما في الصحيحين وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها، وكانت ذات زوج فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين البقاء مع زوجها أو الفراق، فاختارت الفراق

(1)

.

ففي تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لها دليل على أن عقد الزوجية لم ينفسخ بالبيع، ولم يعد شراء عائشة رضي الله عنها طلاقا، ولو كان شراؤها طلاقها لم يكن لتخيير النبي صلى الله عليه وسلم معنى، ولوجب بالشراء والعتق الفراق، فدل ذلك على أن عقد النكاح السابق ثابت، فتحرم على غير زوجها حتى يطلقها، أو تختار هي الفراق، أو تنقضي عدتها لوفاته

(2)

.

فإذا انتفى العموم في «ملك اليمين» كان أولى الأقوال بتفسيرالآية فيه على الخصوص هو ما وافق سبب النزول. وصورة سبب النزول قطعية الدخول في العام - كما هو معروف عند الأصوليين -

(3)

.

قال الزركشي: ومن فوائد أسباب النزول: أنه قد يكون اللفظ عاما، ويقوم الدليل على التخصيص، فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد والإجماع، كما حكاه

(1)

أخرج القصة البخاري في مواضع، منها في كتاب الطلاق، باب لا يكون بيع الأمة طلاقا. انظر الصحيح مع الفتح (9/ 315). وأخرجها مسلم، كتاب العتق، حديث رقم (5 - 15).

(2)

انظر جامع البيان (5/ 8)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 122)، وتفسير ابن كثير (2/ 225)، وروح المعاني (5/ 2)، وأضواء البيان (1/ 383).

(3)

انظر المنخول ص 151 وشرح الكوكب (3/ 187)، وانظر أضواء البيان (1/ 77، 186، 190، 355)، (6/ 536، 577) منه.

ص: 228

القاضي أبو بكر

(1)

في «مختصر التقريب»

(2)

؛ لأن دخول السبب قطعي اهـ

(3)

.

أما حمل قوله: {إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} على التسرّي، والنكاح الشرعي، فهو خلاف الظاهر، وخلاف استعمال القرآن. وقاعدة:«حمل معاني كلام الله على الغالب من أسلوب القرآن أولى من الخروج به عن ذلك» تضعّفه، بل [إن ملك اليمين لم يرد في القرآن إلا بمعنى الملك بالرق، كقوله تعالى: {فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} [النساء: 25] وقوله: {وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50] وقوله:، {وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النساء: 36] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [المعارج: 29 - 30] فجعل ملك اليمين قسما آخر غير الزوجية. وقوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} [النور: 33] فهذه الآيات -[ونحوها]- تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر]

(4)

.

(1)

هو: القاضي أبو بكر محمد الطيب الباقلاني، أصولي متكلم، صاحب التصانيف، صنف في الردّ على الرافضة والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم، وانتصر لمذهب الأشاعرة، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. سير أعلام النبلاء (17/ 190).

(2)

هو: كتاب في أصول الفقه لخصه إمام الحرمين من كتاب ابن الباقلاني (التقريب) ويطلق عليها «مختصر التقريب» - (مخطوط) - ويقوم بتحقيقه أحد منسوبي الجامعة الإسلامة بالمدينة المنورة لنيل درجة الدكتوراه. عن رسالة موسى فقيهي (تحقيق تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي) ص 73، هامش (3).

(3)

البرهان (1/ 22)، وانظر الإتقان (1/ 82 - 87)، ومناهل العرفان (1/ 113).

(4)

أضواء البيان (1/ 382).

* ومن نظائر هذين المثالين:

1 -

ما جاء في تفسير قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]. انظر التفسير القيم ص 182.

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22]. انظر أحكام القرآن لابن العربي (1/ 475)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 103)، -

ص: 229

= وتفسير ابن كثير (2/ 214)،

وفتح القدير (1/ 242)، وروح المعاني (4/ 248)، وأضواء البيان (1/ 378) 3 - ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199]، انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس (2/ 359 - 360)

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: 1]. انظر المحرر الوجيز (8/ 7).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] انظر الجامع لأحكام القرآن (9/ 110).

6 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22] انظر فتح القدير (4/ 16)، وأضواء البيان (6/ 160 - 161).

- وانظر مزيدا من الأمثلة في بدع التفاسير للغماري ص 81 - 83 - 90 - 100 - 140.

ص: 230

‌المطلب الثاني:

قاعدة: إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجّح لما وافقه من أوجه التفسير

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا اختلف العلماء في تفسيرآية من كتاب الله، فالقول الذي يوافق تاريخ نزول الآية هو القول الراجح، والقول الذي يخالف تاريخ نزولها، ولا يتفق معه فهو قول ضعيف أو مردود.

وإنما قلت: أو مردود؛ لأن تاريخ نزول الآية لا يخلو إما أن يكون متفقا عليه أو مختلفا فيه، فإن كان متفقا عليه فالقول الذي يخالفه ولا يتفق معه مردود؛ لأجل مخالفته أمرا مجمعا عليه.

وإن كان تاريخ نزولها مختلفا فيه، غير أنه تبين الصحيح. والراجح بأدلته، فالقول الذي يوافق الصحيح والراجح، هو الراجح، والقول الذي يخالفه ويوافق القول الضعيف في تاريخ نزولها، هو ضعيف مرجوح.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

«ثبوت تاريخ النزول» أعني به في هذه القاعدة أمرين، أحدهما: اتفاق العلماء عليه، وذلك كاتفاقهم على السور المكية، وكذا المدنية، والآيات التي نزلت في تبوك، أو في حجة الوداع، ونحو ذلك.

والآخر: ثبوت تاريخ النزول برجحان أحد الأقوال وظهوره دون غيره، وذلك كأن تكون الرواية فيه صحيحة، والقول الآخر روايته ضعيفة، وهذا يقع في الآيات والسور المختلف في تاريخ نزولها.

ص: 231

- وأصل هذه القاعدة، هو المكي والمدني، ولكنها ليست قصرا عليه، وإنما هي أعم وأشمل منه، فهي تتعلق بتاريخ نزول الآية أو السورة، فقد يقع الترجيح بين أقوال في التفسير بناء على التاريخ في قرآن مكي فقط، أو مدني فقط. وإن كان العلماء تنازعوا في المراد بالمكي والمدني، غير أن المشهور والصحيح في تحديد المكي والمدني - وهو الذي يتفق مع هذه القاعدة التي تحرر - هو: ما نزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهو مكي، وما نزل بعدها، فهو مدني، وإن نزل بمكة

(1)

.

وإنما اخترت هذا الاصطلاح للمكي والمدني؛ لتعلقه بزمن النزول، وهو الذي يعنينا في هذه القاعدة؛ ولأنه حاصر لجميع القرآن، ومطرد فيه، على عكس غيره من تعريفات المكي والمدني.

وأما سبيل معرفة المكّي والمدنيّ، فهو الرواية عن الصحابة والتابعين

(2)

، فالصحابة رضي الله عنهم هم الذين شاهدوا التنزيل، فعلموا متى نزل؟ وأين نزل؟ وكان

(1)

انظر البرهان (1/ 187)، والإتقان (1/ 23)، ومناهل العرفان (1/ 194).

(2)

نقل الزركشي في البرهان (1/ 189)، والسيوطي في الإتقان (1/ 48)، قول الجعبري - وهو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري ت: 732 - : لمعرفة المكيّ والمدنيّ طريقان: سماعيّ وقياسي، فالسماعيّ ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسى، قال علقمة عن عبد الله: كل سورة فيها «يا أيها الناس» فقط، أو «كلاّ» أو أولها حروف تهجّ سوى الزهراوين والرعد في وجه، أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطولى -[أي البقرة]- فهي مكّية، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية اهـ.

والذي يظهر - والله أعلم - أن الطريق القياسي مبني على استقراء المنقول، وجمعه في ألفاظ كلية كالأمثلة المذكورة آنفا.

أو يكون القياس مبنّيا على العلم بواقع معين في مراحل تنزّل القرآن، فمن خلال ما ورد من الحديث عن هذا الواقع يحكم عليه بأنه مكي أو مدني. فمثلا: النفاق لم يظهر إلا في المدينة، ونزلت آيات تعالج هذه القضية، وتكشف عور المنافقين، فلا شك أن تكون هذه الآيات مدنية؛ لأنه لم يكن له وجود في مكة. ومع ذلك فإن النقل لا ينفك عنه حتى ولو في نقل هذا الواقع الذي وجد في مرحلة معينة وما نقل عن الصحابة والتابعين في بيان المكي والمدني أكثر من أي علم آخر من علوم القرآن.

ص: 232

النبي صلى الله عليه وسلم إذانزلت عليه السورة تلاها، وعلّمها الصحابة.

والتابعون تتلمذوا على الصحابة؛ وأخذوا العلم عنهم رضي الله عنهم جميعا - ولا يعني القول إن هذه السورة مكية أن يكون جميعها مكيا، بل قد يكون فيها بعض الآيات مدنية، والعكس صحيح - على أن يكون هذا جاريا على الاصطلاح الذي اخترته للمكي والمدني في هذه القاعدة

(1)

- فالعمدة على ثبوت تاريخ الآية المفسّرة، سواء استقلت بتاريخ غير تاريخ بقية السورة، أو كان تاريخها هو تاريخ نزول السورة.

ولا أعني بالتاريخ ضرورة معرفة الساعة واليوم والعام، بل قد يكفي في التاريخ مرحلة زمنية كالعهد المكي قبل الهجرة، أو حادثة معينة كالإسراء، أو غزوة معينة، أو القبلية والبعدية بالنسبة لسورة أخرى، كأن يقال سورة كذانزلت قبل سورة كذا.

فهذا هو ما أعني به «تاريخ النزول» .

وأعني بقولي: «لما وافقه من أوجه التفسير» أي ترجيح التفسير الذي يتفق مع تاريخ النزول على غيره مما لا يتفق معه.

مثلا إذا اختلف العلماء في تفسيرآية على قولين، أحدهما يلزم منه أن تكون الآية مكية، والآخر يلزم منه أن تكون الآية مدنية. واتفق العلماء على أن هذه الآية المفسّرة مثلا مكية، فالقول الذي يلزم منه أن تكون الآية مكية هو الراجح.

وسترى في الأمثلة التطبيقية - إن شاء الله - إيضاح ذلك.

***

(1)

احترازا من الحكم على آيات أو سور بأنها مكية أو مدنية على غير الاصطلاح الذي اخترته في هذه القاعدة؛ لأنه إذا كان على غيره لم يفدنا في الترجيح بهذه القاعدة.

وذلك مثل قول الماوردي في النكت (1/ 63) في سورة البقرة. مدنية في قول الجميع، إلاآية منها، وهي قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ [البقرة: 281]، فإنهانزلت يوم النحز في حجة الوداع بمنى اهـ.

فعلى الاصطلاح الذي سار عليه الماوردي ليست مدنية أما على الاصطلاح الذي اخترته فهي مدنية، فتكون السورة جميعا مدنية.

ص: 233

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة أئمة التفسير، فصححوا بها أقوالا، وضعّفوا بها أخرى بناء على ما تقضي به هذه القاعدة، فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

التابعي الجليل سعيد بن جبير

(1)

: أخرج ابن جرير الطبري بسنده عن أبي بشر

(2)

قال: قلت لسعيد بن جبير {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} (43)[الرعد: 43] أهو عبد الله بن سلام، قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام! قال: وكان يقرأها {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} يقول: «من عند الله»

(3)

.

2 -

ومنهم مسروق بن الأجدع: فقد أخرج ابن جرير الطبري بسنده عنه في تفسير قوله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ} الآية [الأحقاف: 10]، أنه قال: والله مانزلت في عبد الله بن سلام، مانزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه، قال: فنزلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بالتوراة وبرسولهم، وكفرتم. اهـ

(4)

.

(1)

ابن هشام، الإمام الحافظ المقرئ المفسّر الشهيد، أبو محمد الكوفي، أحد الأعلام، روى عن ابن عباس فأكثر وجوّد، وكان من العبّاد العلماء قتله الحجّاج في شعبان سنة خمس وتسعين. سير أعلام النبلاء (4/ 321).

(2)

هو: جعفر بن إيّاس بن أبي وحشيّة الواسطي، روى عن سعيد بن جبير، وطاوس بن كيسان، وعامر الشعبي وغيرهم وعنه أيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج، وخلق. قال الحافظ ابن حجر:

ثقة من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم ومجاهد. توفي سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل غير ذلك. تهذيب الكمال (5/ 5)، والتقريب ترجمة (930).

(3)

جامع البيان (16/ 505) تحقيق شاكر.

(4)

جامع البيان (26/ 9).

ص: 234

3 -

ومنهم الشعبي

(1)

: أخرج الطبري بسنده عنه أنه قال: أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل على مثله عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنمانزلت بمكة. اهـ

(2)

.

4 -

ومنهم ابن جرير الطبري: فقد أسند إلى ابن زيد في تفسير قوله تعالى:

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ}

[الفتح: 15] قوله: قال الله عز وجل له حين رجع من غزوه {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] الآية. يريدون أن يبدّلوا كلام الله: أرادوا أن يغيروا كلام الله الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ويخرجوا معه، وأبى الله ذلك عليهم ونبيه صلى الله عليه وسلم. قال الطبري - معلقا على هذا القول -:

وهذا الذي قاله ابن زيد قول لا وجه له، لأن قول الله عز وجل:{فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} إنما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، وعني به الذين تخلّفوا عنه حين توجه إلى تبوك لغزو الروم، ولا اختلاف بين أهل العلم بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة أيضا، فكيف يجوز أن يكون الأمر على ما وصفنا معنيا بقول الله {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ} - وهو خبر عن المتخلفين عن المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ شخص معتمرا يريد البيت، فصدّه المشركون عن البيت - الذين تخلّفوا عنه في غزوة تبوك، وغزوة تبوك لم تكن كانت يوم نزلت هذه الآية، ولا كان أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:{فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} . اهـ

(3)

.

(1)

هو: الإمام عامر بن شراحيل الهمداني ثم الشعبي أبو عمرو، علامة عصره، رأى عليا رضي الله عنه وصلى خلفه، وسمع من عدّة من كبراء الصحابة، قال العجليّ لا يكاد يرسل إلا صحيحا.

اهـ، توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 294).

(2)

جامع البيان (26/ 9).

(3)

جامع البيان (26/ 81).

ص: 235

5 -

ومنهم القاضي ابن عطية: ففي معنى «الإثم» من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] قال: قال بعض الناس:

هي الخمر، واحتج على ذلك بقول الشاعر:

شربت الإثم حتى طار عقلي

(1)

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود؛ لأن هذه السورة مكية، ولم تعن الشريعة بتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد؛ لأن جماعة من الصحابة اصطبحوها يوم أحد، وماتوا شهداء وهي في أجوافهم، وأيضا فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف .. اهـ

(2)

.

6 -

ومنهم أبو عبد الله القرطبي: قال - في تفسير قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]-:

قيل: {فَصَّلَ} بيّن، وهو ما ذكره في سورة المائدة من قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية.

قلت -[القائل القرطبي]-: هذا فيه نظر؛ فإن «الأنعام» مكية، و «المائدة» مدنية، فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد. اهـ

(3)

.

7 -

ومنهم ابن المنيّر: ففي تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (1)[المزمل: 1]، حكى الزمخشري قولا مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مرط لعائشة يصلي وقت خطابه بهذه السورة.

قال ابن المنيّر - معلقا على هذا القول -: وأما نقله -[أي الزمخشري]- أن ذلك

(1)

هذا البيت كما ترى حكى ابن عطية أنه مصنوع، وكذا قال أبو حيان في البحر (5/ 44)، والسمين في الدر (7/ 305) والبيت في تهذيب اللغة (15/ 161)، والصحاح (5/ 1858)، واللسان (12/ 7) مادة «إثم» . وفي البحر بدل «طار» ، «زل» وعند غيرهما «ضل» .

(2)

المحرر الوجيز (7/ 49 - 50)، وانظر نحو هذا الترجيح بهذه القاعدة (6/ 56)، (68/ 8 - 192 - 301)، (10/ 54)، (15/ 23) منه.

(3)

الجامع لأحكام القرآن (7/ 73)، وانظر نحو هذا الترجيح بهذه القاعدة فيه (9/ 336).

ص: 236

كان في مرط عائشة رضي الله عنها فبعيد، فإن السورة مكية، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها بالمدينة. اهـ

(1)

.

8 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه: قال - في منهاج السنة في معرض رده على الرافضي الذي ادعى أن سورة، «هل أتى» نزلت في حق علي وفاطمة

(2)

والحسن

(3)

والحسين

(4)

-: إن سورة «هل أتى» مكية باتفاق العلماء، وعليّ إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر، وولد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول «هل أتى» بسنين كثيرة، وقول القائل: إنهانزلت فيهم من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن، وعلم بأحوال هؤلاء السادة الاخيار اهـ

(5)

.

9، 10 - ومنهم أبو حيان الأندلسي، وابن جزيّ الكلبي: فقد ذكرا في تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ} [الفتح: 15] قول ابن زيد في الآية، ورداه بهذه القاعدة

(6)

، وقد سبق ذكر قول ابن زيد وردّه بهذه القاعدة، في كلام ابن جرير

(1)

الإنصاف بهامش الكشاف (4/ 174).

(2)

هي: فاطمة الزهراء بنت إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، روت عن أبيها، وروى عنها ابناها وأبوهما وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أوائل المحرم سنة ثنتين، وقيل غير ذلك، توفيت سنة إحدى عشرة. الإصابة (8/ 157).

(3)

هو: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، الحسن بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي، أمير المؤمنين أبو محمد، ولد في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل غير ذلك، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث منها دعاء القنوت، توفي سنة تسع وأربعين وقيل غير ذلك. الإصابة (2/ 11).

(4)

هو: سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، ولد في شعبان سنة أربع من الهجرة، وقيل غير ذلك، حفظ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قتل في معركة كربلاء في يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. الإصابة (2/ 14).

(5)

منهاج السنة النبوية (4/ 20) وانظر نحو هذا الترجيح بهذه القاعدة فيه (4/ 27)، (17/ 399).

(6)

انظر البحر المحيط (9/ 489)، والتسهيل (4/ 53) وانظر - أيضا - الترجيح بالقاعدة في البحر المحيط (5/ 44).

ص: 237

الطبري في اعتماده لهذه القاعدة، بما يغني عن إعادته هنا.

وغير هؤلاء كثير يطول المقام بسرد أقوالهم في ذلك

(1)

.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

سبق في «أقوال العلماء في اعتماد القاعدة» الإشارة إلى بعض أمثلة هذه القاعدة، والترجيح بها، بما يغني عن الإطناب والبسط في هذا الموضع؛ لذلك سوف أذكر مثالا واحدا مختصرا، ثم أحيل بعده على جملة من الأمثلة في مظانّها.

فمن أمثلة هذه القاعدة، ما جاء عند الرافضة في تفسير قوله تعالى:{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} [الشورى: 23] حيث ساق مفسرهم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمانزلت هذه الآية: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين افترض الله علينا مودتهم؟ قال: علي، وفاطمة، وولداهما. اهـ

(2)

.

(1)

منهم الفخر الرازي في تفسيره (13/ 175)، والسمين الحلبي في تفسيره (5/ 306، 307)، والحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 159 - 346)، (3/ 293)، (5/ 97)، والحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 427)، والعلامة الألوسي في تفسيره (8/ 14)، (16/ 24)، والعلاّمة الشنقيطي في تفسيره (2/ 209).

(2)

تفسير فرات الكوفي (2/ 390)، وأخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (7/ 189)، والدر المنثور (7/ 348) وعزاه أيضا إلى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وضعّف إسناده. وإسناد فرات الكوفي وابن أبي حاتم يدور على حسين الأشقر، وهو شيعي، ولا يقبل خبره في هذا، قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق إسناد ابن أبي حاتم: وهذا إسناد ضعيف، فيه مبهم لا يعرف، عن شيخ شيعي متخرّق، وهو حسين الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحل. اهـ والتخرق - قال في اللسان (10/ 75) مادة خرق -: لغة في التخلّق من الكذب، وخرق الكذب، وتخرّقه، وخرّقه كلّه: اختلقه. اهـ وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 427): وإسناده واه وفيه ضعيف ورافضي اهـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهم المرجع إليهم في هذا، وهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها اهـ منهاج السنة (7/ 99). وانظر أيضا تخريجه في الكاف الشاف حديث رقم (350)، والفتح السماوي (3/ 980).

ص: 238

وقال مفسر آخر منهم في تفسير هذه الآية: قال أبو عبد الله

(1)

عليه السلام:

إنمانزلت فينا خاصة أهل البيت في علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، أصحاب الكساء

(2)

عليهم السلام. اهـ

(3)

.

وهذه القاعدة التي نحن بصدد التمثيل لها ترد وتبطل كذب الرافضة؛ وذلك أن عليا لم يتزوج فاطمة الزهراء إلا في المحرم من السنة الثانية

(4)

للهجرة، ولم يولد لهما الحسن إلا في السنة الثالثة

(5)

، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة

(6)

رضي الله عنهم جميعا - وهذه السورة مكية، فكيف تكون نزلت فيهم، وعليّ لم يتزوج فاطمة فضلا عن أن يولد لهما أولاد!!! فهذا يدل على كذب القوم وبطلان ما يدّعون على كتاب الله، وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيميه في إبطال تفسيرهم لهذه الآية، وأكتفي بذكر الأوجه التي لها تعلق بهذه القاعدة التي نحن بصدد التمثيل لها.

قال رحمه الله: الوجه الثالث: أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكيّة

(1)

أي جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، الملقب بالصادق، سادس أئمتهم، ولد سنة ثمانين، ورأى بعض الصحابة، كان ثقة مأمونا، مكثر في الرواية عن أبيه. افترى عليه الرافضة الأكاذيب، وقد توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. تهذيب الكمال (5/ 74)، وسير أعلام النبلاء (6/ 255).

(2)

أصحاب الكساء عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وذلك لما جاء في حديث أم سلمة أنه لما نزلت آية إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) [الأحزاب: 33]، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره ثم قال:«اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» . أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 304)، والترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة الأحزاب (5/ 327 - 328)، والطبري في تفسيره (22/ 7)، وقال الترمذي حديث غريب، وحسّنه في موضع آخر (5/ 656)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي حديث رقم (4435).

(3)

نور الثقلين (4/ 571 - 572).

(4)

انظر الإصابة (8/ 157).

(5)

انظر الإصابة (2/ 11).

(6)

انظر الإصابة (2/ 14).

ص: 239

باتفاق أهل السنة

(1)

، بل جميع ال حم مكيّات، وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر، والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة، فتكون هذه الآية قدنزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة، فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف، ولم تخلق بعد.

الوجه الثامن: أن القربى معرّفة باللام، فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم:{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الشورى: 23] وقد ذكرنا أنها لمانزلت لم يكن قد خلق الحسن، ولا الحسين، ولا تزوج عليّ بفاطمة. فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع أن تكون هذه، بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم. اهـ

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير: وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيد، فإنها مكيّة ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة.

والحق تفسيرالآية بما فسرها به الإمام حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، كما رواه عنه البخاري

(3)

. اهـ

(4)

.

(1)

ومن قال إنها مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الشورى: 23] اعتمدوا على آثار ضعيفة من رواية الكلبي وأمثاله من الضعفاء والمتروكين، وقد ضعفها وضعّف قول من استند إليها الأئمة كالحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 189)، والحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 427)، والشوكاني في تفسيره (4/ 536) وغيرهم.

وحكي الإجماع على أن جميعها مكي كما ترى في كلام شيخ ألاسلام. وقال ابن عطية (14/ 201) هذه السورة مكية بإجماع من أكثر المفسرين اهـ.

(2)

منهاج السنة (7/ 99 - 103).

(3)

هو: إمام الدنيا وحافظ الزمان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أمير المؤمنين في الحديث، وصاحب أصح كتاب مصنّف، علم مشهور. توفي سنة ست وخمسين ومائتين.

انظر سير أعلام النبلاء (12/ 391).

(4)

تفسير القرآن العظيم (7/ 189).

ص: 240

ولفظه أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن قوله: {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} [الشورى: 23] فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس عجلت، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال:«إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»

(1)

.

وصحح هذا القول في تفسيرالآية ابن جرير الطبري

(2)

، وشيخ الإسلام ابن تيميه

(3)

، وابن كثير

(4)

، وابن حجر

(5)

، والشوكاني

(6)

، والطاهر ابن عاشور

(7)

، والشنقيطي

(8)

، وغيرهم

(9)

- عليهم رحمة الله جميعا -.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة الشورى، باب إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. انظر الصحيح مع الفتح (8/ 426).

(2)

انظر جامع البيان (25/ 26).

(3)

انظر منهاج السنة النبوية (4/ 26 - 562)، (7/ 103).

(4)

انظر تفسير القرآن العظيم (7/ 189).

(5)

انظر فتح الباري (8/ 427).

(6)

انظر فتح القدير (4/ 537).

(7)

انظر التحرير والتنوير (25/ 83).

(8)

انظر أضواء البيان (7/ 190).

(9)

انظر ردّ دعوى النسخ في هذه الآية، والقول بإحكامها في الإيضاح لناسخ القرآن لمكي ص 405، ومعالم التنزيل (7/ 192)، والمحرر الوجيز (14/ 218)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص 506، والجامع لأحكام القرآن (16/ 23)، وفتح الباري (8/ 427)، وأضواء البيان (7/ 191).

* ومن نظائر هذا المثال:

1 -

ما جاء في تفسير قوله تعالى: الم (1) اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)[آل عمران: 1 - 2] انظر مجموع فتاوى ابن تيميه (17/ 299).

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91]. انظر المحرر الوجيز (6/ 104)، وتفسير ابن كثير (3/ 293).

3 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 119]. انظر الجامع لأحكام القرآن (7/ 73)، وأضواء البيان (2/ 208 - 209). -

ص: 241

= 4 - ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)[الرعد: 43]. انظر المحرر الوجيز (10/ 54)، والجامع لأحكام القرآن (9/ 336).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ [الفتح: 15]. انظر جامع البيان (26/ 81)، والمحرر الوجيز (15/ 100)، والبحر المحيط (9/ 489)، والتسهيل (4/ 53)، وتفسير ابن كثير (7/ 320)، وروح المعاني (26/ 101) وفتح القدير (5/ 49)، ومحاسن التأويل (15/ 5413).

- وانظر مزيدا من الأمثلة في المحرر الوجيز (6/ 56)، (7/ 49)، (8/ 68 - 192 - 301)، (14/ 147 - 148)، (15/ 23)، ومنهاج السنة النبوية (4/ 20)، (8/ 494). وتفسير ابن كثير (2/ 159 - 346)، (5/ 97).

ص: 242

‌المطلب الثالث:

قاعدة: تفسير السلف وفهمهم لنصوص الوحي حجة على من بعدهم

*‌

‌ صورة القاعدة:

هذه القاعدة تردّ تفاسير أصحاب الأهواء والبدع الذين خالفوا تفاسير الصحابة وتابعيهم بإحسان، فحملوا القرآن على معان اعتقدوها، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.

وترجّح فهم وتفاسير السلف على فهم وتفاسير أولئك القوم وبالجملة فأقوال السلف هي المعتمدة دون أقوال من خالفهم من أصحاب الأهواء والبدع.

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

- المراد ب «السلف» -

السلف هم: الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم، وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلفا عن سلف دون من رمي ببدعة، أو اشتهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية

(1)

، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية

(2)

، ونحو هؤلاء

(3)

.

(1)

الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب - تعالى -، والجبرية أصناف، فالجبرية الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل، والجبرية المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. الملل (97/ 1).

(2)

الكرامية: أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، وهو ممن يثبت الصفات إلا أنه ينتهي إلى التجسيم والتشبيه، وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة، وهم متفقون على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع، وقالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال. الملل والنحل (1/ 124).

(3)

لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 20).

ص: 243

*‌

‌ أدلة القاعدة:

أدلتها كثيرة منها:

1 -

قول الله تعالى: {وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ} {}

{اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا} {}

{الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100)[التوبة: 100].

ووجه الدلالة أن الله - تعالى - أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولا فاتبعهم متبع عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محمودا على ذلك، وأن يستحق الرضوان.

والرضوان عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ، فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يعفى له عنه، فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه أقرب منه إلى أن يرضى عنه، وإذا كان صوابا وجب اتباعه.

والاتباع عام في كل الأمور التي يأتي فيها الاتباع، في أصول الدين وفي الشرائع

(1)

ومن ذلك تفسير كتاب الله - تعالى -.

2 -

وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} (115)[النساء: 115].

وتفسير القرآن بمعان لا تدل عليها ألفاظه ولم يسلك ذلك أحد من سلف هذه الأمة وإنما حمله على ذلك معتقده الذي خالف فيه سبيل المؤمنين، فهذا من اتباع غير سبيلهم المستوجب للعقوبة العظيمة المذكورة في الآية.

3 -

ومنها: حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

» الحديث

(2)

.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب

(1)

إعلام الموقعين (4/ 123 - 126 - 128).

(2)

متفق عليه، البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، انظر الصحيح مع الفتح (7/ 5)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم (210 - 211 - 212).

ص: 244

من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيرا من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقا، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب - وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأواهم - لزم أن يكون ذلك القرن خيرا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة

ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها

(1)

.

4 -

ومنها: حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»

(2)

وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة الحديبية والفتح، فإذا كان مدّ أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند الله من مثل أحد ذهبا من مثل خالد وأضرابه من أصحابه فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب في الفتاوى -[وفي تفسير وفهم كتاب الله]- ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبين المحال

(3)

.

وأدلة هذه القاعدة كثيرة جدا

(4)

، أكتفي بما ذكرت منها طلبا للاختصار.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

النقول عن الأئمة في ذلك كثيرة جدا، وتعظيم شأن الصحابة وسلف هذه الأمة في فهمهم لكتاب الله مشتهر، فمن أقوال هؤلاء الأئمة:

1 -

قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما للخوارج حين ناظرهم: جئتكم من

(1)

إعلام الموقعين (4/ 136).

(2)

متفق عليه، البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كنت متخذا خليلا» . انظر الصحيح مع الفتح (7/ 25). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم (222).

(3)

إعلام الموقعين (4/ 138) وما بين المعقوفين ليس من كلام ابن القيم.

(4)

انظر جملة منها في إعلام الموقعين (4/ 123 - 156)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/ 463 - 465).

ص: 245

عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله. اهـ

(1)

.

فهذا الأثر يدل على أن الصحابة، هم أعلم بتأويل القرآن، وأن الخوارج لم يكن فيهم أحد منهم - وكذا باقي الفرق - فمن سار على نهج الصحابة في العلم والعمل كان أعلم بتأويل القرآن من جميع الفرق الضالة.

2 -

وأقوال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في اعتماد مضمون هذه القاعدة مبثوثة في تفسيره، فكثيرا ما يحكي الخلاف في تفسيرآية ثم يردف القول بترجيح تفسير الصحابة والتابعين على تفسير من دونهم بقوله: غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عنى به [كذا]- وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به

(2)

.

ويقول أحيانا: ولولا أن أقوال أهل التأويل مضت بما ذكرت عنهم من التأويل، وأنّا لا نستجيز خلافهم فيما جاء عنهم، لكان وجها يحتمله التأويل أن يقال

(3)

.

ويستعمل مضمون هذه القاعدة في رد أقوال ليس لها سلف في أقوال من سلف فيقول: وهذا قول لا نعلم له قائلا من متقدّمي العلم قاله وإن كان له وجه، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز عندنا أن يتعدّى ما أجمعت عليه الحجة، فما صح من الأقوال في ذلك إلا أحد الأقوال التي ذكرناها عن أهل العلم

(4)

.

وأحيانا كثيرة يجعل مضمون هذه القاعدة من براهينه على تضعيف بعض الأقوال، لكونها خلاف تأويل السلف، ولخروجها عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير

(5)

.

(1)

أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة ص 126 - 127.

(2)

جامع البيان (26/ 12).

(3)

جامع البيان (15/ 188).

(4)

جامع البيان (29/ 33).

(5)

انظر جامع البيان (9/ 43)، و (15/ 53)، و (20/ 110).

ص: 246

بل جعل مخالفة أقوال الصحابة والتابعين شذوذا فقال: ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين

(1)

. اهـ ونحو هذه العبارات المقررة تماما لمضمون هذه القاعدة.

3 -

وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القاعدة أتم تقرير فقال: فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسيرالآية قول، وجاء قوم فسرواالآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.

و «في الجملة» من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب. ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا. اهـ

(2)

.

وقال في موضع آخر بعد أن تكلم عن تفاسير الصوفية: وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. اهـ

(3)

.

4 -

ومنها: قول العلامة ابن القيم: فإن قيل .. ما تقولون في أقوالهم - يعني الصحابة - في تفسير القرآن هل هي حجة يجب المصير إليها؟

قيل: لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم، وقد ذهب

(1)

جامع البيان (2/ 590).

(2)

مجموع الفتاوى (13/ 361 - 362).

(3)

مجموع الفتاوى (13/ 243) وانظر تطبيقه للقاعدة عمليا في الترجيح فيه «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 314).

ص: 247

بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع، قال أبو عبد الله الحاكم

(1)

في مستدركه: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع

(2)

، ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم معاني القرآن وفسّره لهم كما وصفه تعالى بقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

[النحل: 44] فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له، كما سأله الصديق عن قوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فبين له المراد

(3)

، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فبين لهم معناها

(4)

، وكما سألته أم سلمة

(5)

عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} (8)[الانشقاق: 8] فبين

(1)

هو: محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري، الإمام الحافظ الناقد العلامة شيخ المحدّثين، رمي بالتشيع، له تصانيف كثيرة من أشهرها «المستدرك» . توفي سنة خمس وأربعمائة، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (17/ 162).

(2)

انظر المستدرك (1/ 27 - 28 - 123 - 542).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 174)، وأحمد في المسند (1/ 11)، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب ومن سورة النساء (5/ 231 - 232)، والطبري في تفسيره (9/ 241) تحقيق شاكر أثر رقم (10521 - 10529) بألفاظ متقاربة فيها أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف الصلاح بعد هذه الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: فهو ما تجزون به» وضعف هذا الحديث الترمذي وقال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أهـ (5/ 232). وذكره الألباني في ضعيف سنن الترمذي حديث رقم (581).

(4)

فيه «حين نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة وقالوا أينا لا يظلم نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) [لقمان: 13]، متفق عليه، وقد سبق تخريجه ص 195 من هذا الكتاب.

(5)

هي: أم المؤمنين هند بنت أبي أمية المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد، دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتا. توفيت سنة إحدى وستين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء. (2/ 201).

ص: 248

لها أنه العرض

(1)

، وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصّيف التي في آخر السورة

(2)

، وهذا كثير جدا، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم. اهـ

(3)

.

5 -

ونص على هذه القاعدة في الترجيح ابن جزيّ الكلبي في مقدمة تفسيره.

قال: الرابع -[أي من وجوه الترجيح]-: أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»

(4)

. اهـ

(5)

.

6 -

ومنها قول الشاطبي بعد أن ذكر حال الفرق الضالة بأنها تستدل بأدلة شرعية قال: فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل. اهـ

(6)

.

7 -

وذكر السيوطي في التحبير نوعا هو أشبه ما يكون بهذه القاعدة:

قال: النوع الحادي والتسعون: من يقبل تفسيره ومن يرد. اهـ

(7)

. ثم ذكر مآخذ

(1)

السائلة عائشة لا أم سلمة، وهو متفق عليه من حديثها، البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة الانشقاق، باب فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) انظر الصحيح مع الفتح (8/ 566). ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (79 - 80).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب الفرائض، حديث رقم (9).

(3)

إعلام الموقعين (4/ 153 - 154)، وانظر الصواعق المرسلة (2/ 509)، ومختصرها (2/ 463).

(4)

أصل الحديث في الصحيحين، البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، انظر الصحيح مع الفتح (1/ 294). ومسلم، كتاب فضائل الصحابة حديث رقم (138)، وزيادة «وعلمه التأويل» ليست في الصحيحين انظر الفتح (1/ 205)، بل هي في المسند (1/ 314 - 326 - 327 - 328 - 335).

(5)

التسهيل (9/ 1).

(6)

الموافقات (3/ 77).

(7)

التحبير في علم التفسير ص 327.

ص: 249

التفسير وأنه يؤخذ عن الصحابة والتابعين؛ لأنه كان عندهم علوم العربية بالطبع لا بالاكتساب، وحصّلوا بقية العلوم من القرآن والسنن التي تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن هذا العلم - أعني التفسير - يؤخذ - أيضا - ممن استكمل علوم الآلة التي تعينه على تفسير كتاب الله، ثم ذكر أن من لم يستكمل تلك العلوم يردّ تفسيره ويكون من باب الرأي المنهي عنه.

ثم قال بعدها: وممن لا يقبل تفسيره: المبتدع خصوصا الزمخشري في كشافه فقد أكثر من إخراج الآيات عن وجهها إلى معتقده الفاسد

- إلى أن قال: ولا يقبل ممن عرف بالجدال والمراء والتعصب لقول قاله وعدم الرجوع إلى الحق إذا ظهر له، ولا ممن يقدّم الرأي على السنة، ولا من عرف بالمجازفة وعدم التثبت أو بالجرأة والإقدام على الله وقلة المبالاة. اهـ

(1)

.

وعلى ذلك درج مفسرو أهل السنة - وإن كانوا قليلا - فإنهم يقدمون أقوال السلف في تفسير القرآن ويردون تفاسير أهل الضلال الذين حرفوا نصوص القرآن لتوافق ما اعتقدوه من البدع التي أصّلها لهم شيوخهم، والسيوطي من المحجوجين بهذه القاعدة، فكما قرر ردّ تفاسير المبتدعة أمثال الزمخشري، فكذلك تأويلات الأشاعرة لبعض الآيات مردودة.

وبالجملة فتقديم تفسير الصحابة على تفسير غيرهم مسألة معلومة مشتهرة قد سطرها أهل العلم في كتبهم حيث جعلوا تفسير الصحابي بعد التفسير النبوي في المرتبة في أحسن طرق التفسير

(2)

.

وكذلك هي قاعدة معتمدة من أوجه الترجيح عند الأصوليين

(3)

.

***

(1)

التحبير ص 330 - 331.

(2)

انظر مقدمة في أصول التفسير لا بن تيميه ص 95، وتفسير ابن كثير (1/ 13)، والبرهان للزركشي (2/ 159)، وإيثار الحق ص 146 - 147، والإتقان (4/ 181)، ومحاسن التأويل (1/ 7).

(3)

انظر التمهيد في أصول الفقه (4/ 288)، والمسودة ص 377، وانظر العدة لأبي يعلى (3/ 721 - 724).

ص: 250

*‌

‌ مسألة في حكم إحداث قول في تفسيرالآية مخالف لأقوال السلف:

إذا اختلف السلف في تفسيرآية على قولين - مثلا - فهل يجوز إحداث قول ثالث في تفسيرالآية أو لا؟

فالجواب عن ذلك:

أن الخلاف نوعان: خلاف تنوع، وخلاف تضاد.

فإن كان هذا القول الثالث المحدث في تفسيرالآية مع القولين السابقين من خلاف التنوع فهو جائز، وحمل الآية عليه لا يخرج الآية عما قال السلف، وهو إلى الوفاق أقرب منه إلى الخلاف.

وإن كان القول المحدث مع القولين السابقين من خلاف التضاد فالصحيح أنه لا يجوز إحداثه، ولا تفسيرالآية به؛ لأن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق بينهما

(1)

.

ويلزم من أجاز إحداث قول مخالف لأقوالهم إذا اختلفوا أن يجيز كذلك إحداث قول إذا أجمعوا

(2)

.

وفي تجويز إحداث قول مخالف لأقوالهم يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق؟ لأن اختلافهم على قولين اقتضى حصر الصواب فيهما فلو كان القول الثالث المحدث حقا لكانت الأمة قد ضيعته، وهذا غير جائز؛ لأن الأمة معصومة من الاجتماع على غير الحق

(3)

.

وهذا القول هو الذي اعتمده إمام المفسرين الإمام الطبري وصرح به

(4)

.

(1)

العدة في أصول الفقه (4/ 1113).

(2)

انظر العدة في أصول الفقه (4/ 1113).

(3)

انظر روضة الناظر مع شرحها (1/ 378)، وشرح مختصر الروضة (3/ 89).

(4)

انظر جامع البيان (15/ 188)، (29/ 33).

ص: 251

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد أن ذكر من يفسر القرآن بمجرد الاحتمالات اللغوية، وأنهم أكثر غلطا من المفسرين المشهورين -: وأعظم غلطا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله؛ بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها، وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف ولهذا جوز من جوز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف وقالوا: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث: بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، وهذا خطأ، فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما هذا وإما هذا كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافا لإجماعهم؛ ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، وإلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن فهم القرآن، ويفهمون منه كلهم غير المراد، والمتأخرون يفهمون المراد؟!

(1)

.

وقال في موضع آخر رادّا على من جوّز إحداث قول ثالث: فجوّزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون الله أنزل الآية وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون؛ ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر، وهم لو تصوروا هذه «المقالة» لم يقولوا هذا، فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يقولون قولين كلاهما خطأ والصواب قول ثالث لم يقولوه؛ لكن قد اعتادوا أن يتأولوا ما خالفهم، والتأويل عندهم مقصوده بيان احتمال في لفظ الآية بجواز أن يراد ذلك المعنى بذلك اللفظ، ولم يستشعروا أن المتأول هو مبين لمرادالآية مخبر عن الله - تعالى - أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى.

وكذلك إذا قالوا يجوز أن يراد بها هذا المعنى والأمة قبلهم لم يقولوا أريد بها إلا هذا أو هذا، فقد جوزوا أن يكون ما أراده الله لم يخبر به الأمة، وأخبرت أن مراده غير ما أراده، لكن الذي قاله هؤلاء يتمشى إذا كان التأويل أنه يجوز أن يراد هذا المعنى من غير حكم بأنه مراد، وتكون الأمة قبلهم كلها كانت جاهلة بمراد الله، ضالة

(1)

مجموع الفتاوى (15/ 95).

ص: 252

عن معرفته، وانقرض عصر الصحابة والتابعين وهم لم يعلموا معنى الآية،

ولكن طائفة قالت: يجوز أن يريد هذا المعنى، وطائفة قالت يجوز أن يريد هذا المعنى، وليس فيهم من علم المراد. فجاء الثالث وقال: ههنا معنى يجوز أن يكون هو المراد، فإذا كانت الأمة من الجهل بمعاني القرآن والضلال عن مراد الرب بهذه الحال توجه ما قالوه. وبسط هذا له موضع آخر. اهـ

(1)

.

وهذا القول هو الصواب في المسألة وعليه جمهور علماء الأصول

(2)

.

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

أمثلة هذه القاعدة كثيرة ومنها: تفاسير أهل البدع كفرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة والصوفية وغيرهم.

فهؤلاء يتأولون القرآن على آرائهم، فتارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه

(3)

. وقد سبق في أكثر من قاعدة ذكر جملة وافرة من تفاسير هؤلاء القوم؛ فلذلك لا أطيل هنا فالمقصود مطلق المثال، وخاصة في تفاسير هؤلاء.

فمن ذلك قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في تفسير قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] قال: المراد بالاستواء هو الاستيلاء والاقتدار

وبينا أن القول إذا احتمل هذا والاستواء الذي هو بمعنى الانتصاب، وجب حمله عليه؛ لأن العقل قد اقتضاه، من حيث دل على أنه تعالى قديم، ولو كان جسما يجوز عليه الأماكن لكان محدثا، - تعالى - الله عن ذلك؛ لأن الأجسام لا بد من أن يلزمها دلالة الحدث، وهي أيضا لا تنفك من

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 59). وانظر (13/ 24 - 26) منه.

(2)

انظر العدة لأبي يعلى (4/ 1113)، وأصول السرخسي (1/ 310)، والتمهيد لأبي الخطاب (3/ 310)، وروضة الناظر مع شرحها (1/ 377)، وشرح مختصر الروضة (3/ 88)، والمسودة ص 326، وشرح الكوكب (2/ 264)، وإرشاد الفحول ص 157.

(3)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (13/ 356).

ص: 253

الحوادث ولا تخلو منها. اهـ

(1)

.

وذهب إلى تأويل صفة الاستواء بالاستيلاء، أو الملك والسلطان، أو نحوها كثير من المتأخرين من أهل التفسير كالزمخشري

(2)

، وابن عطية

(3)

، والرازي

(4)

، وأبي السعود

(5)

، وغيرهم

(6)

.

فخالفوا بهذا فهم السلف الصالح لنصوص القرآن والسنة في باب الصفات، ومنها الاستواء، فإن الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة الإسلام كان الإثبات منهجهم، وعدم التقدم بين يديّ الله ورسوله طريقتهم، فهم يثبتون ما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل، وينفون عن الله - تعالى - ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مستندين في كل ذلك إلى دلائل الكتاب والسنة، وأجمعوا على ذلك، مع تأييد العقل والفطرة له.

وليس هذا الموضع مجال سرد الأدلة على ذلك، أو نقض كلام أهل التأويل نقلا وعقلا

(7)

؛ لأن الغرض من هذا المثال في هذه القاعدة هو بيان مخالفة المتأخرين من

(1)

متشابه القرآن (1/ 351) وانظر (1/ 72) منه.

(2)

انظر الكشاف (2/ 530).

(3)

انظر المحرر الوجيز (1/ 161)، و (7/ 75)، و (9/ 8).

(4)

انظر مفاتيح الغيب (14/ 106)، و (22/ 5) وما بعدها.

(5)

انظر إرشاد العقل السليم (3/ 232)، و (6/ 5).

(6)

انظر مدارك التنزيل (1/ 519)، وروح البيان للبروسوي (5/ 363).

(7)

ألف الذهبي في إثبات صفة العلو كتابه «العلو للعلي الغفار» استوعب فيه كثير من الأدلة، والنقول عن السلف، وفيه الرد على أهل التأويل، وانظر ذلك في الرد على الجهمية للإمام أحمد ص 135، والرد على الجهمية للدارمي ص 33، والإبانة للأشعري ص 105، ورسالة أهل الثغور للأشعري ص 232، والشرح والإبانة لابن بطة ص 189، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 387)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 149)، والتمهيد لابن عبد البر (7/ 138)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 135 - 142 - 219)، و (5/ 52 - 180 - 193)، واجتماع الجيوش الإسلامية ص 96 وما بعدها، وشرح العقيدة الطحاوية (2/ 372)، ومحاسن التأويل (7/ 2702) وما بعدها، وأضواء البيان (2/ 304) وما بعدها.

ص: 254

أهل التأويل لفهم السلف لنصوص الوحي.

فإن تأويل صفة الاستواء - وكذا باقي الصفات - مذهب محدث مخالف لما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، والنقل عنهم في إثبات صفة الاستواء لله رب العالمين - وكذا باقي الصفات - مستفيض.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين سما القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمسمائة سنة والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم

(1)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة

(2)

.

وكان لعبد الله بن رواحه

(3)

جارية فوقع عليها، فقالت: له امرأته فعلتها؟ فجاحدها ذلك، قالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن. قال:

شهدت بأنّ وعد الله حقّ

وأنّ النّار مثوى الكافرينا

وأنّ العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش ربّ العالمينا

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة الإله مسوّمينا

فقالت: آمنت بالله، وكذبت البصر.

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه، فضحك ولم يغير عليه

(4)

.

(1)

رواه اللاكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 396) أثر رقم (659)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 145).

(2)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 396) أثر رقم (660).

(3)

هو: ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، الأمير السعيد الشهيد أبو عمرو، شهد بدرا والعقبة، أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وفيها استشهد، وكانت سنة ثمان للهجرة. سير أعلام النبلاء (1/ 230).

(4)

أخرج القصة الإمام الدارمي في الرد على الجهمية ص 47، والذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 238).

ص: 255

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت في قول الله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} (5)[طه: 5]: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر

(1)

.

وقال الضحاك في قول الله تعالى: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية: هو على العرش ولن يخلو شيء من علمه

(2)

.

وقال الأوزاعي

(3)

: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله - تعالى - ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته - جل وعلا -

(4)

.

وقال إسحاق بن راهوية: إجماع أهل العلم أنه - تعالى - على العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة

(5)

.

والآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في إثبات صفة الاستواء كثيرة جدا لا تحصى إلا بكلفة بالغة

(6)

، وهم مجمعون على ذلك، وكل من صنّف في العقائد من المتقدمين نقل عن السلف مذهبهم في إثبات الصفات - ومنها الاستواء - لله عز وجل، ولم ينقل حرف واحد عن الصحابة وأئمة الإسلام أنهم ذهبوا

(1)

أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 397) أثر رقم (663)، وجاء نحو هذا الأثر عن ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك أخرجه عنه اللالكائي (3/ 398) أثر رقم (665)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 151)، وجاء كذلك عن الإمام مالك أخرجه اللالكائي (3/ 398) أثر رقم (664)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 150).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (28/ 12).

(3)

هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام أبو عمرو، ولد في حياة الصحابة، وكان ثقة فاضلا، مأمونا كثير العلم والحديث والفقه. توفي سنة سبع وخمسين ومائة. سير أعلام النبلاء (7/ 107).

(4)

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 150)، وانظر فتح الباري (13/ 417).

(5)

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 370) بإسناد أبي بكر المرّوذي إلى إسحاق.

(6)

جمع الذهبي في كتابه «العلو» ، وابن القيم في إجتماع الجيوش ص 118 وما بعدها، وغيرهما جملة وافرة منها، فمن أراد المزيد فلينظرها - غير مأمور -.

ص: 256

إلى التأويل، أو التحريف، أو التشبيه، بل مذهبهم الإثبات بلا كيف، وبلا تمثيل، وبلا تحريف، ولم ينقل عنهم أنهم اختلفوا في تفسيرآية من آيات الصفات، بعضهم يثبتها وبعضهم ينفيها، لم ينقل عنهم مثل هذا البتة

(1)

.

وهذا هو ما أثبته مفسرون أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين كالطبري

(2)

، والبغوي

(3)

، وابن كثير

(4)

، والقاسمي

(5)

، والسعدي

(6)

، والشنقيطي

(7)

، وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله - تعالى - من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. اهـ

(8)

.

وكفى بمخالفة الصحابة والتابعين لهم بإحسان دليلا على بطلان قول مخالفهم.

والقول في باقي الصفات كالقول في هذه الصفة فالقاعدة ترد عليهم، وكذلك نفاة الأفعال والقدر، وغيرها من المحدثات التي أحدثت بعد عصر الصحابة، ويدخل في ذلك تفاسير الإشارات والباطنية قاطبة من باب أولى. والله أعلم.

(1)

انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 394).

(2)

جامع البيان (1/ 191 - 192).

(3)

معالم التنزيل (3/ 235).

(4)

تفسير القرآن العظيم (3/ 422).

(5)

محاسن التأويل (7/ 2702) وما بعدها.

(6)

تيسير الكريم الرحمن (3/ 38).

(7)

أضواء البيان (2/ 304).

(8)

مجموع فتاوى ابن تيمية (6/ 394).

ص: 257

‌المطلب الرابع:

قاعدة: تفسير جمهور السلف مقدم على كل تفسير شاذ

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا انفرد مفسر في تفسيرآية من كتاب الله - تعالى - بقول خالف فيه عامّة المفسرين، ولم يكن لقوله هذا دلالة واضحة قوية فهو قول شاذ، وقول الجماعة أولى بالصواب، وهم إلى الحق أقرب، ومن الخطأ أبعد.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

مما يشكل في هذه القاعدة هو تحديد مفهوم الشذوذ، والشاذ من الأقوال. والذي يظهر أن تحديد هذا المفهوم يختلف باختلاف الناظر فيه، فإذا كان الناظر لتحديده من أهل الاجتهاد، فإنه يحدّد مفهوم الشذوذ عنده بمخالفة دليل ثابت. وقد تكون هذه المخالفة لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي، وقد تكون المخالفة لدليل ظني كأخبار الآحاد.

وكل قول كان كذلك فهو شاذ - وإن صدر من عالم مجتهد - فهو منه زلة، فلا يصح اعتمادها، ولا الأخذ بها تقليدا له، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها

(1)

.

وإن لم يكن الناظر لتحديد هذا المفهوم من أهل الاجتهاد، فإنه لا يتخذ حكمه على قول بالشذوذ مسلّما، وليس من السهل بمكان تحديد ذلك، وإنما وضع له العلماء ضابطا تقريبيا ليعرف به أولى الأقوال وأصحها وأبعدها عن الشذوذ.

(1)

انظر الموافقات (4/ 170)، وقد سبق عرض هذا القسم في قاعدة مستقلة وهي «كل تفسير خالف القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهو ردّ» وقد وعدت هناك بالقسم الآخر وهو هذه القاعدة.

ص: 258

وهذا الضابط التقريبي هو هذه القاعدة التي نحن بصدد عرضها، قال الإمام الشاطبي - محددا هذا الضابط الذي يعرف به الخطأ والزلل في الأقوال -: فإن قيل:

فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا؟ فالجواب أنّ له ضابطا تقريبيا، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر، فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين، لا من المقلدين. اهـ

(1)

.

وقد جعل بعض الأصوليين هذا الضابط محددا لمعنى الشذوذ، فقالوا: الشذوذ قول الواحد وترك قول الأكثر

(2)

.

وهذا هو ما اعتمده إمام المفسرين ابن جرير الطبري في معنى الشذوذ، فقال: ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين. اهـ

(3)

فجعل مخالفة الواحد والاثنين للجمهور أو إجماع الحجة شذوذا.

فسبيلنا في تطبيق هذه القاعدة هو تنصيص أحد العلماء أو جماعة منهم على شذوذ قول معين، فإن لم يوجد هذا، وخالف مفسر عامة المفسرين ولا دليل على تصحيح وترجيح أحد الأقوال فهذه القاعدة هي المرجحة لقول جمهور السلف.

إنما قلت «جمهور السلف» ولم أقل «جمهور المفسرين» ؛ لأنه قد كثر الخطأ عند المتأخرين، وخاصة في أبواب العقائد وتواطأت عليه أقوالهم وهم كثير، فيلزم من ترجيح قول جمهور المفسرين ترجيح قولهم في ذلك، وتصحيح مذهبهم وهذا باطل، فلأجل هذا قلت «جمهور السلف» .

والشاذ هنا يشبه الشاذ في علوم الحديث، فإنهم يعرّفون الشاذ بأنه: رواية الثقة

(1)

الموافقات (4/ 173).

(2)

انظر البحر المحيط في أصول الفقه (4/ 518).

(3)

جامع البيان (2/ 590).

ص: 259

حديثا يخالف ما روى الناس

(1)

فمخالفة الراوي الثقة لرواية الثقات ومن هو أولى منه بكثرة عدد أو زيادة حفظ يعدّ شذوذا، ويكون حكمه الرد، وكذلك المفسر إذا خالف عامة المفسرين.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

الأدلة على أصل هذه القاعدة كثيرة

(2)

منها:

1 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صلّى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر - أو العصر - فسلّم، فقال له ذو اليدين

(3)

: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

أحقّ ما يقول؟ قالوا: نعم. فصلّى ركعتين أخريين، ثم سجد سجدتين»

(4)

.

فهذا الحديث واضح الدلالة على تقوية قول الأكثر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قوّى قول ذي اليدين بقول الصحابة:«نعم» . فوافقوه على ما قال، فأخذ بقولهم ورجحه على ظنه الذي ظنه بأنه صلى أربعا.

2 -

ومنها: حديث قبيصة بن ذؤيب

(5)

قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس

(1)

الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص 53، وانظر تدريب الراوي (1/ 193) واليواقيت والدرر (1/ 281)، ومنهج النقد 428.

(2)

انظر روضة الناظر مع شرحها لبدران (2/ 459).

(3)

ذو اليدين هو: الخرباق - بكسر المعجمة وسكون الراء - السلمي، على ما رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 121)، والإصابة (2/ 108).

(4)

متفق عليه، البخاري، كتاب السهو، باب إذا سلّم في ركعتين أو ثلاث فسجد سجدتين، انظر الصحيح مع الفتح (3/ 116). ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم (97 - 100).

(5)

هو: قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، الفقيه، أبو سعيد المدني ثم الدمشقي، ولد عام الفتح، وروى عن جماعة من الصحابة، وكان ثقة مأمونا كثير الحديث. توفي سنة ست وثمانين، وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 282).

ص: 260

فقال هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة

(1)

فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر»

(2)

.

فهذا يدل على ترجيح أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة لّما عضده خبر محمد بن مسلمة.

وأمثال هذا كثير عن الصحابة رضي الله عنهم مما يدل على أنهم كانوا يرجحون بكثرة العدد.

3 -

ومنها: أن قول ورواية الأكثر أقوى في الظن وأبعد عن الخطأ وأقرب إلى الصواب من رواية وقول الأقل، وتقديم الأرجح والأغلب في الظن متعين

(3)

.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة أئمة التفسير، فنصوا عليها، ورجحوا بها، فكثيرا ما يذكرها ويرجح بها إمام المفسرين ابن جرير الطبري، ويعرف هذا عنده بالإجماع، فيقول أولى الأقوال ما أجمع عليه أهل التأويل

(4)

.

ويرد القول المخالف لها بقوله: وهذا قول خلاف لقول أهل التأويل، وحسبه من الدلالة على فساده خروجه عن قول جميعهم

(5)

.

(1)

هو: محمد بن مسلمة بن سلمه الأنصاري الأوسي، شهد بدرا والمشاهد كان ممن اعتزل الفتنة فلم يحضر الجمل ولا صفين، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم «لا تضره الفتنة» . توفي سنة ثلاث وأربعين. سير أعلام النبلاء (2/ 369).

(2)

أخرجه أبو داود، كتاب الفرائض، باب في الجدة (3/ 121)، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (4/ 365). وابن ماجه، كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/ 909)، ومالك في الموطأ، كتاب الفرائض، حديث رقم (4)، وضعفه الألباني في الإرواء حديث رقم (1680).

(3)

انظر العدة لأبي يعلى (3/ 1019)، والتمهيد لأبي الخطاب (3/ 204)، والروضة مع شرحها لبدران (2/ 458).

(4)

انظر على سبيل المثال جامع البيان (1/ 552)، (2/ 590)، (12/ 147)، (13/ 119)، (15/ 76)، (16/ 151، 183)، (26/ 182).

(5)

جامع البيان (13/ 122)، تحقيق شاكر (16/ 384).

ص: 261

وأحيانا يقول: وما جاء به المنفرد فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا، وقولا، وعملا

(1)

.

ومذهب الإمام الطبري في الإجماع معروف عند الأصوليين، فهو يرى انعقاد الإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين - ووافقه على هذا آخرون

(2)

- لأنه يندر إصابة الواحد والاثنين وخطأ الباقين. وهذه المسألة مدونة في كتب الأصول

(3)

.

ونص على هذه القاعدة ابن جزي الكلبي في وجوه الترجيح التي سردها في مقدمة تفسيره. قال: الثالث: أن يكون قول الجمهور وأكثر المفسرين، فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه. اهـ

(4)

وطبّق ذلك عمليا في كتابه

(5)

.

ورجح بها جماعة من المفسرين منهم ابن عطية

(6)

، والرازي

(7)

، والقرطبي

(8)

، والألوسي

(9)

، والشنقيطي

(10)

، وغيرهم عليهم - رحمة الله -.

قال العلاّمة الشنقيطي: وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات، وكذلك

(1)

جامع البيان (1/ 408).

(2)

منهم أبو بكر الرازي الحنفي، وابن حمدان، وبعض المالكية، وبعض المعتزلة، وحكاه الآمدي في الإحكام (1/ 294) رواية عن الإمام أحمد. وقال أبو يعلى في العدة (4/ 1118) أومأ إليه أحمد. وكذا قال ابن قدامة في الروضة (1/ 358).

(3)

انظرها في المنخول ص 311، والإحكام للآمدي (1/ 294)، والروضة مع شرحها لبدران (1/ 358)، والتحصيل من المحصول (2/ 75)، والمسودة ص 329، وشرح تنقيح الفصول ص 336، وشرح الكوكب (2/ 229)، وإرشاد الفحول ص 160.

(4)

التسهيل (1/ 9).

(5)

انظر التسهيل (2/ 92)، وانظر ابن جزي ومنهجه في التفسير (2/ 846).

(6)

انظر المحرر الوجيز (4/ 124).

(7)

انظر مفاتيح الغيب (10/ 23).

(8)

انظر الجامع لأحكام القرآن (2/ 354).

(9)

انظر روح المعاني (3/ 84)، و (29/ 107).

(10)

انظر أضواء البيان (1/ 385)، و (7/ 603).

ص: 262

كثرة الأدلة، كما عقده في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي:

وكثرة الدليل والرواية

مرجح لدى ذوي الدراية

والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف. اهـ

(1)

.

وكذلك هي من وجوه الترجيح بين الأحاديث المختلفة عند علماء الحديث كما هو مسطر في علوم الحديث

(2)

.

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

من أمثلة هذه القاعدة ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} (65)[البقرة: 65].

ذهب عامة المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن المسخ في هذه الآية كان مسخا حقيقيا معنويا وصوريا. مسخت قلوبهم ومسخت صورهم قردة.

روي هذا من طرق عن ابن عباس، وقتادة، والسدّي، وغيرهم، وهو قول عامّة المفسرين بعدهم.

وذهب مجاهد إلى أن المسخ كان معنويا لا صوريا، مسخت قلوبهم، ولم يمخسوا قردة، وإنما مثل ضربه الله لهم مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا

(3)

.

(1)

أضواء البيان (1/ 298)، وانظر البيت وشرحه في نشر البنود على مراقي السعود (2/ 284).

والقول بعدم الترجيح بالكثرة قول أكثر الحنفية، انظر كشف الأسرار (3/ 207)، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي ص 294، 297 وانظر مسألة الترجيح بالكثرة في العدة لأبي يعلى (3/ 1019)، والمنخول ص 430، والتمهيد لأبي الخطاب (3/ 202)، وروضة الناظر مع شرحها (2/ 458)، والتحصيل من المحصول (2/ 270)، وشرح تنقيح الفصول ص 422، والمسودة ص 305، والبحر المحيط للزركشي (6/ 150 - 178)، وإرشاد الفحول ص 461، 465.

(2)

انظر الكفاية للخطيب ص 476، والاعتبار للحازمي ص 59، والتبصرة والتذكرة للعراقي (2/ 303)، وتدريب الراوي (2/ 177).

(3)

انظر الروايات عنهم في جامع البيان (1/ 329 - 332)، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (1/ 209).

ص: 263

وهذا القول من مجاهد قول غريب

(1)

، خالف فيه عامّة المفسرين، قال القرطبي - بعد أن ذكر قول مجاهد: ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم. اهـ

(2)

.

وقد ردّ هذا القول أهل التحقيق؛ لأجل مخالفته لقول عامّة المفسرين، وللظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره، قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ} [المائدة: 60]

(3)

.

قال الإمام الطبري - في معرض ردّه لقول مجاهد:

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دلّ عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم:{أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وأن الله - تعالى ذكره - أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربّهم، وأنهم عبدوا العجل فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} (24)[المائدة: 24] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك - بما أقر به. ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.

هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته. اهـ

(4)

.

(1)

انظر غرائب التفسير وعجائب التأويل (1/ 145).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (1/ 443)، وانظر زاد المسير (1/ 95).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 151)، وانظر روح المعاني (1/ 283).

(4)

جامع البيان (2/ 173) تحقيق: شاكر. -

ص: 264

=* ونظائر هذا المثال كثيرة جدا انظر جملة منها في:

جامع البيان (1/ 75، 126، 172، 274، 467، 552)، و (2/ 141، 293، 590)، و (7/ 62)، و (12/ 147)، و (13/ 119، 122)، و (15/ 76)، و (16/ 183)، و (26/ 12، 182)، و (30/ 163، 169) والمحرر الوجيز (4/ 124) والجامع لأحكام القرآن (2/ 354). وتفسير ابن كبير (2/ 90). وأضواء البيان (4/ 388)، و (5/ 740)، و (6/ 673)، و (7/ 603).

ص: 265

‌المبحث الثالث:

قواعد الترجيح المتعلقة بالقرائن وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: قاعدة:

القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجّح على ما خالفه.

المطلب الثاني: قاعدة:

القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على ما عدم ذلك.

المطلب الثالث: قاعدة:

القول الذي يعظّم مقام النبوة ولا ينسب إليها ما لا يليق بها أولى بتفسيرالآية.

وقاعدة:

كل قول طعن في عصمة النبوة ومقام الرسالة فهو مردود.

ص: 267

‌المطلب الأول:

قاعدة: القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجّح على ما خالفه

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع العلماء في تفسيرآية من كتاب الله، وكان في السياق قرينة - إما لفظة، أو جملة، أو غيرها - تؤيد أحد الأقوال المقولة في الآية، فالقول الذي تؤيده القرينة أولى الأقوال بتفسيرالآية. فإن تنازع المثال قرينتان، كل قرينة تؤيد قولا، رجّح القول الذي تؤيده أرجح القرينتين وأقواهما

(1)

.

والقرينة هي: ما يوضح المراد لا بالوضع، بل تؤخذ من لا حق الكلام الدال على خصوص المقصود، أو سابقه

(2)

.

*‌

‌ أدلة القاعدة:

1 -

منها قول الله - تعالى - عن شاهد يوسف: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ} {(26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} {وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ} {(27) فَلَمّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ} {}

{كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (28)[يوسف: 26 - 27 - 28].

في هذه الآية الكريمة أقر الله فيها حكم شاهد يوسف عليه السلام حين حكم بحكمه اعتمادا على قرائن الحال وهي «قد القميص» فجعل قده من قبل قرينة على أنه كان مقبلا عليها فيكون هو المراود لها وتكون هي صادقة في دعواها. وإن كان القدّ من دبر فهذه قرينة تدل على أنه كان موليا مدبرا عنها فتكون هي المراودة، ويكون هو صادقا في دعواه، فاستحق يوسف البراءة عند سيده بهذا الحكم المبني على القرائن،

(1)

انظر المثال الثاني من أمثلة هذه القاعدة لترى تنازع القرينتين وترجيح أقواهما.

(2)

انظر الكليات للكفوي ص 734.

ص: 269

مما يدل على صحة اعتماد القرائن في الترجيح بين الأقوال وتصحيح الصحيح منها في الأحكام والدعاوى، وكذا هو في تفسير وفهم كتاب الله.

2 -

ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل - يرحمك الله - هو ابنها، فقضى به للصغرى»

(1)

.

فترى في هذا الحديث الصحيح حكم سليمان بن داود عليه السلام وتصحّيحه لدعوى الصغرى وذلك اعتمادا على القرينة التي استنبطها من حالهما، فإشفاق الصغرى على المولود وتنازلها عنه مقابل بقائه حيا، يدل على إشفاق الأمومة الحانية، فإن الأم ترضى ببقاء ابنها حيا ولو كان عند غيرها - كما فعلت أم موسى عليه السلام أما الأخرى فهي إما أن تظفر به أو يموت حتى تستويا في المصاب

(2)

.

فهذا الحكم من هذا النبي الكريم بتصحيحه قول الصغرى وإعطائها المولود يدل على اعتماد القرائن في تصحيح أقوال وتضعيف أخرى على حسب ما تقضي به القرينة.

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد هذه القاعدة أئمة التفسير وغيرهم، ونص بعضهم على مضمونها ورجح بها، ورجح بها آخرون دون التنصيص عليها، وكل معتمد لها في الترجيح. فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: فقد اعتبر قرائن السياق في فهم خطاب الله - تعالى -.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الفرائض، باب إذا ادعت المرأة ابنا، حديث (6769)، انظر الصحيح مع الفتح (12/ 56) ومسلم، كتاب الأقضية حديث رقم (20).

(2)

انظر فتح الباري (6/ 536).

ص: 270

نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى

(1)

قوله: وقد اعتبر أحمد القرائن

فقال في قوله تعالى: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] قال: المراد به علم الله، لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم. اهـ

(2)

.

2 -

ومنهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري: ففي معرض ترجيحه بهذه القاعدة في تفسير قوله تعالى: {كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} [الأنبياء: 30]، قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله:{وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}

[الأنبياء: 30] على ذلك، وأنه - جلّ ثناؤه - لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه. اهـ

(3)

.

3 -

ومنهم البغوي

(4)

: فقد اعتمدها ورجح بها

(5)

.

(1)

هو شيخ الحنابلة محمد بن الحسين بن محمد البغدادي، صاحب التصانيف المفيدة في المذهب، أفتى ودرس وإليه انتهت الإمامة في الفقه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء (18/ 89).

(2)

نقض أساس التقديس مخطوط ج 3 لوحة 7 /ب، مصور في جامعة الملك سعود رقم (551/ 1).

تنبيه: لا يفهم من كلام الإمام أحمد أنه صرف اللفظ عن ظاهره، لأنه ليس ظاهر المعية ومقتضاها أن تكون، ذات الرب مختلطة بالخلق. وذلك أن كلمة «مع» في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجود مماسة أو محاذاة، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (5/ 103 - 104) و (6/ 22).

(3)

جامع البيان (17/ 19) وانظر نحو هذا الترجيح في (3/ 129) و (9/ 129 - 161) و (16/ 99) منه، وفي الأمثلة التطبيقية على القاعدة أمثلة كثيرة.

(4)

هو: الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، محيي السنة، أبو محمد، كان إماما في التفسير، والحديث، والفقه، مات سنة ست عشرة وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (19/ 439) وطبقات المفسرين (1/ 161).

(5)

معالم التنزيل (6/ 356).

ص: 271

4 -

ومنهم ابن عطية: قال - في معرض ترجيحه بهذه القاعدة -:

وهذا قول يردّه قوله: «في قلوبهم» . اهـ

(1)

.

5 -

ومنهم الرازي: قال - في معرض ترجيحه بهذه القاعدة: الحجة الخامسة قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} [آل عمران: 7] يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل، وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة. اهـ

(2)

.

6 -

ومنهم القرطبي: قال في تفسير قوله تعالى: {قالَ كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259]، اختلف في القائل فقيل: الله عز وجل

وقيل: سمع هاتفا من السماء

وقيل: خاطبه جبريل. -[وقيل غير ذلك]. قلت: - القائل القرطبي - والأظهر أن القائل هو الله - تعالى -، لقوله:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً} [البقرة: 259]. اهـ

(3)

.

7 -

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه: فقد قرر هذه القاعدة أتم تقرير، قال - في معرض كلامه على مذاهب نفاه الصفات ومثبتيها: إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نصت عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ - حيث ورد - دالا على الصفة ظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله - تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات، كقوله تعالى:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} [الزمر: 56] وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط، فإن الدلالة في كل موضع

(1)

المحرر الوجيز (1/ 295)، وانظر نحو هذا الترجيح بهذه القاعدة في (1/ 158) و (2/ 17) و (4/ 99) منه.

(2)

مفاتيح الغيب (7/ 192).

(3)

الجامع لأحكام القرآن (3/ 291).

ص: 272

بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية. اهـ

(1)

.

8 -

ومنهم أبو حيان: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال -: ولأن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا «آمنا به» ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئا على التفصيل لا بد أن يؤمن به. اهـ

(2)

.

9 -

ومنهم الحافظ ابن كثير: قال - في تفسير قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}

[الملك: 14]-: أي: ألا يعلم الخالق، وقيل: معناه: ألا يعلم الله مخلوقه؟ والأول أولى لقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14)[الملك: 14]. اهـ

(3)

.

10 -

ومنهم العلامة ابن القيم: ففي معرض ترجيحه بهذه القاعدة، قال - معلقا على قول من قال في تفسير قوله تعالى:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، إنه مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام -: وهذا التقدير - وإن كان حقا - ففي كونه مرادا بالآية نظر، فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى:{فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} [البقرة: 17] وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى:{ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} (17)[البقرة: 17]. اهـ

(4)

.

11 -

ومنهم العلامة محمد الأمين الشنقيطي: قال مقررا هذه القاعدة في مقدمة كتابه: ومن أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول. اهـ

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 14).

(2)

البحر المحيط (3/ 28).

(3)

تفسير القرآن العظيم (8/ 206). تكون «من» على القول الأول فاعلا، وعلى القول الثاني مفعولا.

(4)

التفسير القيم ص 117 - 118.

(5)

أضواء البيان (1/ 75)، وانظر نحو هذا التقرير والترجيح بها في المرجع نفسه (1/ 141 - 331) و (6/ 71 - 580).

ص: 273

وطبق ذلك عمليا في كتابه في مواضع كثيرة جدا، سوف ترى - بإذن الله - جملة وافرة منها في الأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

1 -

منها: ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب: 37].

اختلف المفسرون في الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه.

فقيل: هو وقوع زينب

(1)

في قلبه ومحبته لها وهي في عصمة زيد

(2)

، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو. ومستندهم في ذلك روايات عن قتادة

(3)

، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم مضمونها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيدا ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب فوقعت في قلبه وأعجبه حسنها فقال:«سبحان الله مقلب القلوب وانصرف» .

وتناقل هذه الروايات كثير من المفسرين.

وقال أهل التحقيق: إن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو زواجه من زينب بعد أن يطلقها زيد. فعاتبه الله على قوله لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} بعد أن أعلمه الله أنها ستكون زوجه، وأنه ما فعل ذلك إلا خشية أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه.

(1)

زينب بت جحش الأسدية، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، وقيل خمس، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، ماتت سنة عشرين. انظر الإصابة (8/ 92).

(2)

زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ لم يسم الله في كتابه صحابيا باسمه إلا زيد بن حارثة. استشهد في غزوة مؤتة وهو أمير الجيش سنة ثمان. الإصابة (3/ 24).

(3)

هو: ابن دعامة السدوسي، الحافظ العلامة، المفسر، كان ضريرا، ولا يسمع شيئا إلا حفظه روى «تفسيره» عن شيبان بن عبد الرحمن التميمي، مات بالطاعون في سنة ثماني عشرة ومائة وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (5/ 296) وطبقات المفسرين (2/ 47).

ص: 274

وهذا القول مروي عن علي بن الحسين زين العابدين

(1)

. والسّديّ

(2)

.

وهذه القاعدة التي نحن بصدد التمثيل لها تصحح القول الثاني وترد القول الأول.

ووجه ذلك أن في الآية قرينة تدل على صحة القول الثاني وهي أن الله - تعالى - عاتب النبي صلى الله عليه وسلم لإخفائه في نفسه ما الله مبديه، والذي أبداه الله هو زواجه من زينب، ولم يبد حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وشغفه بزينب، وذلك قوله بعدها:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} [الأحزاب: 37]. فهذه قرينة واضحة الدلالة على صحة ما قاله المحققون، ومبطلة لما ادعي من حبه صلى الله عليه وسلم لها، وقد رجح ما رجحته القاعدة جماعة من أئمة المفسرين وأهل التحقيق.

قال الإمام البغوي بعد أن ذكر قول علي بن الحسين السابق:

وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء، وهو مطابق للتلاوة؛ لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال:{زَوَّجْناكَها} فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك، لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له. اهـ

(3)

.

(1)

هو: ابن أمير المؤمنين علي بي أبي طالب الهاشمي، حدّث عن أبيه، وعن جده مرسلا، كان عابدا زاهدا، قال لأهل العراق: يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام ولا تحبونا حب الأصنام

مات سنة أربع وتسعين وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (4/ 386).

(2)

هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن كريمة، الإمام المفسر، أبو محمد، أحد موالي قريش، صاحب التفسير، حدّث عن أنس وابن عباس، وغيرهما مات سنة سبع وعشرين ومائة. انظر سير أعلام النبلاء (5/ 264)، وطبقات المفسرين (1/ 110).

انظر الروايات في جامع البيان (12/ 13) ومعالم التنزيل (6/ 354) وما بعدها، وذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 384) وعزاها إلى ابن أبى حاتم، وقال: وتفسير السدي أوضح سياقا وأصح إسنادا -[يعني أصح اسنادا من رواية زين العابدين]- ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها. اهـ يقصد الآثار عن قتادة وعبد الرحمن بن زيد.

(3)

معالم التنزيل (6/ 356).

ص: 275

وصحح هذا القول القاضي عياض

(1)

، وأبو بكر بن العربي

(2)

، والقرطبي

(3)

، وأبو حيان

(4)

، وابن كثير

(5)

، وابن حجر

(6)

، والشنقيطي وغيرهم - عليهم رحمة الله جميعا -.

قال الشنقيطي في تفسيرالآية: فإنه هنا أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه زينب بنت جحش حيث أوحى إليه ذلك وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله:

{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وهذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم وبه تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه في نفسه وأبداه الله، وقوع زينب في قلبه ومحبته لها وهي تحت زيد وأنها سمعته قال:«سبحان مقلب القلوب» إلى آخر القصة فإنه كله لا صحة له، والدليل

(1)

انظر الشفا (2/ 879 - 882) ونسب هذا القول إلى الزهري.

والقاضي عياض هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياش اليحصبي الأندلسي استبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، توفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة. سير أعلام النبلاء (20/ 212).

(2)

انظر أحكام القرآن (3/ 577) وأبو بكر بن العربي هو: محمد بن عبد الله بن محمد الأندلسي، الإمام الحافظ، صاحب التصانيف، ألف «أنوار الفجر في التفسير» ثمانين ألف ورقة، في عشرين سنة، كان موجودا في خزانة ملك مراكش في منتصف القرن الثامن. توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.

سير أعلام النبلاء (20/ 197) وطبقات المفسرين (2/ 167).

(3)

انظر الجامع لأحكام القرآن (14/ 190).

(4)

انظر البحر المحيط (8/ 482).

(5)

انظر تفسير القرآن العظيم (6/ 420).

(6)

انظر فتح الباري (8/ 384) وابن حجر هو: شيخ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، حافظ الإسلام في عصره، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر، صاحب التصانيف المنيفة قال السخاوي. انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر، توفي سنة اثنتين وخمسين وثمان مائة. الضوء اللامع (2/ 36)، وشذرات الذهب (7/ 270).

ص: 276

عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئا مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه رسوله صلى الله عليه وسلم.

اهـ

(1)

.

وهذا ما أردت بيانه في هذا المثال على هذه القاعدة، وهو بيان وجه الترجيح بهذه القاعدة، وهناك أوجه أخرى تؤيد هذه القاعدة فيما قررته في هذا المثال.

منها: أن القول الأول فيه خدش لجانب العصمة النبوية، وتجاوز على مقام النبوة.

وأن القول الثاني هو الذي يوافق جانب العصمة ومقام النبوة وذلك لما فيه من بيان وتشريع للأمة

(2)

.

ومنها: أن هذه الروايات ضعيفة سندا ومتنا، بل هي ساقطة

(3)

.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف زينب أتم المعرفة فهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم، وهو زوّجها لزيد، ولم تقع في قلبه، فكيف يتجدد له هوى لم يكن. حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة

(4)

.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا -: ما روي عن الحسن البصري في تفسير قوله تعالى: {* وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} {بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً} [المائدة: 27].

قال: كان الرجلان اللذان في القرآن واللذان قال الله: {* وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً} من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات

(5)

.

(1)

أضواء البيان (1/ 73) و (6/ 580).

(2)

انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 577) والجامع لأحكام القرآن (14/ 191) والبحر المحيط (8/ 482) و «مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش» للدكتور زاهر الألمعي.

(3)

انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 577) وتفسير ابن كثير (6/ 420) وفتح الباري (8/ 384).

(4)

انظر الشفا (2/ 881) وأحكام القرآن لابن العربي (3/ 577).

(5)

رواه الطبري بسنده عن الحسن في جامع البيان (6/ 189).

ص: 277

فلحظ الحسن قوله: {قَرَّبا قُرْباناً} فكانت عنده قرينة تدل على صحة قوله؛ لأن القرابين إنما كانت في بني إسرائيل.

وقال جماهير المفسرين: إن الابنين كانا لآدم من صلبه، وهو ظاهر التلاوة. ويؤيد قول الجمهور قرينة في السياق، وذلك أن الله تعالى قال:{فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] فإنها تدل على أن هذه الحادثة حدثت قبل أن يعلم الناس دفن الموتى، وذلك في عهد ابني آدم لصلبه

(1)

. فإذا نظرت إلى القولين وجدت تنازعا بين القرينتين في الترجيح، وبالنظر في القرينتين نجد أن القرينة التي استدل بها الحسن البصري قرينة ضعيفة، إذ العلم بأن القرابين كانت في بني إسرائيل لا يدل على أنها لم تعرف من قبل ذلك، هذا إذا كانت على المعنى العرفي وهو اسم للنّسيكة التي هي الذبيحة، أما على المعنى العام فلا حجة ولا قرينة لقول الحسن فيها، وذلك أن القربان عام في كل ما يتقرب به إلى الله

(2)

، وهذا هو الذي يظهر من سياق الآية.

أما القرينة التي تؤيد قول الجمهور - وهي تعليم الغراب لأحدهما كيف يدفن الميت - فهي قرينة قوية على أن هذه الحادثة حدثت في العهد الأول إذ لم يعرف دفن الموتى، وهما أول أبناء آدم وجدوا على الأرض، فعدم العلم بالدفن عندهما مقطوع به، أما في بني إسرائيل فالدفن كان معروفا قطعا، نظرا لتوالي الموتى من أول الخليقة إلى عهدهم. فلا ينتقل من أمر مقطوع به إلى أمر محتمل لمجرد قرينة محتملة، فدلّ ذلك على صحة قول من قال هما ابنا آدم لصلبه، كما هو قول جماهير المفسرين

(3)

.

(1)

انظر أضواء البيان (1/ 76) و (2/ 58).

(2)

قال المناوي في التوقيف ص 578 القربان: ما يتقرب به إلى الله، ثم صار عرفا: اسما للنسيكة التي هي الذبيحة اهـ وانظر الكليات للكفوي ص 733.

(3)

* ونظائر ذلك كثير جدا منها:

1 -

ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17]. انظر -

ص: 278

= التفسير القيم ص 117.

2 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28].

انظر المحرر الوجيز (1/ 158).

3 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ [البقرة: 78].

انظر أضواء البيان (1/ 141).

4 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة: 93]. انظر أضواء البيان (1/ 143).

5 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93]. انظر المحرر الوجيز (1/ 295).

6 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150]. انظر المحرر الوجيز (2/ 17).

7 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196]. انظر أضواء البيان (1/ 184).

8 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ [البقرة: 259]. انظر الجامع لأحكام القرآن (3/ 291).

9 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [البقرة: 282] انظر جامع البيان (3/ 129).

10 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ [آل عمران: 7]. انظر جامع البيان (3/ 184)، ومفاتيح الغيب (7/ 190 - 192)، والبحر المحيط (3/ 28)، وروح المعاني (3/ 84) وما بعدها وأضواء البيان (1/ 331 - 332).

11 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا [النساء: 32]. انظر المحرر الوجيز (4/ 99).

12 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ [المائدة: 95]. انظر أضواء البيان (2/ 130).

13 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الأنعام: 27]. انظر المحرر الوجيز (6/ 32).

14 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] انظر -

ص: 279

= جامع البيان (9/ 129).

15 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190)[الأعراف: 190] انظر أضواء البيان (2/ 340).

16 -

ومنها ما جاء في تفسير قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الأعراف: 203].

انظر جامع البيان (9/ 161).

وانظر مزيدا من أمثلة هذه القاعدة في جامع البيان (9/ 183) و (16/ 99) و (17/ 19) و (18/ 68 - 145) و (23/ 11).

وفي المحرر الوجيز (8/ 58) و (10/ 20).

وفي تفسير ابن كثير (8/ 206).

وفي أضواء البيان (3/ 316، 391، 617) و (4/ 34، 42، 246، 248، 548، 573، 596) و (5/ 729، 736) و (6/ 71، 198، 388، 416، 442). وغيرها كثير.

ص: 280

‌المطلب الثاني:

قاعدة: القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدّم على ما عدم ذلك

*‌

‌ صورة القاعدة:

إذا تنازع العلماء في تفسيرآية من كتاب الله، وكان أحد الأقوال تؤيده آية أوآيات أخرى أو قراءة متواترة في نفس الآية -؛ لأنها بمثابة الآية

(1)

- فهو أولى بحمل الآية عليه؛ لأن تأييد القرآن له يدل على صحته واستقامته. فإن تأيّد كل قول بآية أوآيات خرج الترجيح بينها عن هذه القاعدة ويطلب من قواعد أخرى

(2)

.

ويدخل تحت هذه القاعدة ما إذا كانت الآيات تردّ أحد الأقوال، وتقضي ببطلان مقتضاه؛ وذلك لأنه إذا ردّ أحد الأقوال أو ضعّف ترجح القول الآخر أو انحصر الراجح في بقية الأقوال.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

1 -

من أدلة هذه القاعدة: ما وصف الله به آيات كتابه من التفصيل والإحكام، كقوله

(1)

انظر الإشارة إلى الإيجاز ص 220 والإتقان (1/ 226 - 227) وأضواء البيان (2/ 8).

(2)

مثل نزاع العلماء في المراد بالقرء في قوله: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]. هل هي الحيضات أو الأطهار؟ فالذين قالوا هي الحيضات أيدوا تفسيرهم هذا بقول الله تعالى: وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4] قالوا فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدل على أن أصل العدة بالحيض، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها. وبقوله: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [البقرة: 228] والذي خلق الله في أرحامهن الولد أو الحيض. وأما الذين قالوا هي الأطهار فأيدوا تفسيرهم هذا بقول الله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]، قالوا عدتهن المأمور بطلاقهن لها، الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، انظر أضواء البيان (1/ 212).

ص: 281

تعالى: {وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (55)[الأنعام: 55] وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (97)[الأنعام: 97] وقوله تعالى:

{وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] وقوله تعالى: {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1)[هود: 1]، ونحوها من الآيات التي أخبر الله - تعالى - فيها عن تفصيل آيات كتابه، والتفصيل هو الإيضاح والبيان، مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه

(1)

.

وتفصيل الآيات تبيّنها وشرحها وإيضاح معانيها

(2)

، سواء كان هذا البيان والإيضاح من أول خطابه، فتكون معاني الآيات واضحة بينة ابتداء. أو كان هذا الإيضاح والبيان من آياته الأخرى؛ بأن أوضح بعضه بعضا، - وهذا هو مضمون هذه القاعدة - أو كان الإيضاح والبيان من النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله.

2 -

ولهذه القاعدة أصل في التفسير النبوي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعملها في تفسيره لبعض الآيات؛ ففسر القرآن بالقرآن، وصحح فهم الصحابة لآيات بمقتضى هذه القاعدة. كالذي جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لمانزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) [لقمان: 13]»

(3)

.

فهذا الحديث وأمثاله أصل في تفسير القرآن بالقرآن، وأن الفهم إذا وافق القرآن فهو أولى من غيره، كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم فهم الصحابة بآية لقمان. ثم جاء الصحابة ومن بعدهم وطبقوا ذلك في تفسيرهم، ففسروا القرآن بالقرآن ما وجدوا إلى ذلك

(1)

انظر التحرير والتنوير (11/ 315).

(2)

انظر المحرر الوجيز (6/ 61) والجامع لأحكام القرآن (6/ 436).

(3)

متفق عليه، وقد سبق تخريجه ص 195 من هذا الكتاب.

ص: 282

سبيلا، على ما سيأتي في الأمثلة التطبيقية.

3 -

إجماع العلماء: فقد أجمع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله من الله - جل وعلا -

(1)

.

***

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

إن تفسير القرآن بالقرآن في طرق التفسير أشهر من أن يعزى إلى مصدر معين، واعتماد العلماء له مستفيض ومشتهر، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومرورا بالصحابة والتابعين إلى وقتنا هذا؛ لذلك فإن تتبع أقوالهم في اعتماده يطول جدا، وسوف أكتفي بذكر بعضها بما يكفي في تقرير القاعدة من وجه كونها ترجيحية، تأصيلا، أو تطبيقيا.

فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

أبيّ بن كعب

(2)

وعامة الصحابة: أخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي

(3)

قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ {وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ .. } . حتى بلغ {وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبيّ بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أظنّ أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبيّ: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3)[الجمعة: 3]، وفي سورة الحشر:{وَالَّذِينَ}

(1)

أضواء البيان (1/ 67) وانظر أصول التفسير وقواعده لخالد العك ص 79.

(2)

أبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري أبو المنذر سيد القراء، كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد، توفي سنة ثلاثين وقيل غير ذلك. الإصابة (1/ 16).

(3)

محمد بن كعب بن سليم القرظي المدني، كان أبوه من سبي بني قريظة ولم ينبت يومئذ. كان إماما من أوعية العلم، ومن أئمة التفسير، توفي سنة ثمان ومائة وقيل غير ذلك. سير أعلام النبلاء (5/ 65).

ص: 283

{جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ}

[الحشر: 10]، وفي الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75]

إلى آخرالآية

(1)

.

فكان اختلاف القراءة سبب الحادثة، ولكن عمر رضي الله عنه أبان عن فهمه من قراءته، فأثبت أبيّ رضي الله عنه صحة القراءة

(2)

، ثم تحول ليثبت عدم صحة المعنى الذي كان يفهمه عمر رضي الله عنه من الآية، فاحتج عليه بهذه الآيات التي تلاها من سورة الجمعة، والحشر، والأنفال، مما يدل على اعتمادهم لمضمون هذه القاعدة في الترجيح بين الأقوال.

2 -

وفي استنباط علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقل مدة الحمل من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ومن قوله: {* وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، واعتراضه بذلك على حكم عثمان ابن عفان رضي الله عنه بالرجم على المرأة التي ولدت لستة أشهر، ونزول عثمان على رأيه

(3)

لأكبر دليل على اعتمادهم لما تقرر هذه القاعدة. وأمثال ذلك كثير سيأتي بعضه في الأمثلة على القاعدة.

3 -

ومنهم الطبري: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال في تفسير {واصِبٌ} (9) من قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} (9)[الصافات: 9]-: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: دائم خالص، وذلك أن الله تعالى قال:

{وَلَهُ الدِّينُ واصِباً} [النحل: 52] فمعلوم أنه لم يصفه بالإيلام والإيقاع وإنما وصفه

(1)

جامع البيان (11/ 8).

(2)

ومراد أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن هذه الآيات التي استدل بها تدل على أن التابعين غير الأنصار، وأن الأنصار من السابقين الأولين. وكان فهم عمر رضي الله عنه للآية على حسب ما كان يقرأ من رفع الأنصار وإسقاط الواو في وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ أي: اختصاص السبق بالمهاجرين. والأنصار هم التابعون بإحسان. انظر المحرر الوجيز (8/ 260) وروح المعاني (11/ 8).

(3)

انظر تفسير ابن كثير (7/ 264).

ص: 284

بالثبات والخلوص. اهـ

(1)

.

4 -

ومنهم مكي بن أبي طالب

(2)

: قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] قال: أي وإن كنتم أيها الناس في شك من القرآن أنه ليس من عند الله فأتوا بسورة من مثل القرآن، وقيل:

من مثل محمد صلى الله عليه وسلم

وقيل: من مثله: من التوراة والإنجيل، والاختيار عند الطبري من مثل القرآن في بيانه، دليله قوله تعالى في موضع آخر:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] ولا يحسن هنا إلا مثل القرآن، فحمل الآيتين على معنى واحد أولى. اهـ

(3)

.

5 -

ومنهم البغوي: - قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]:

واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة، فقال بعضهم: مع الذين كانوا سكان الأرض والأصح أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (30)[الحجر: 30]. اهـ

(4)

.

6 -

ومنهم ابن عطية: ففي تفسير قوله تعالى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}

[الأعراف: 150] ردّ قول من قال: كان ذلك ليسارّه فخشي هارون أن يتوهم الناظر إليهما أنه لغضب .. بقوله: وهذا ضعيف، والأول هو الصحيح -[أي من الغضب]- لقوله تعالى {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (94) [طه: 94]. اهـ

(5)

.

(1)

جامع البيان (23/ 40).

(2)

مكي بن أبي طالب حمّوش القيسي أبو محمد، كان فقيها مقرئا أديبا، وغلب عليه علم القرآن، وكان من الراسخين فيه، توفي سنة سبع وأربعمائة الديباج المذهب (2/ 342) وطبقات المفسرين (2/ 331).

(3)

الهداية إلى بلوغ النهاية مخطوط. بواسطة نقل د. أحمد حسن فرحات في «مكي وتفسير القرآن» ص 234.

(4)

معالم التنزيل (1/ 81) وانظر «البغوي الفراء، وتفسير القرآن» للدكتور محمد إبراهيم شريف ص 319 - 321.

(5)

المحرر الوجيز (7/ 168).

ص: 285

7 -

ومنهم الرازي: قال - معللا اختياره لأحد الأقوال الذي تؤيده آية أخرى:

فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك؛ لأن تفسير كلام الله - تعالى - بكلام الله أقرب الطرق إلى الصدق والصواب. اهـ

(1)

.

8 -

ومنهم العز بن عبد السلام: قال - في معرض بيانه ضروب التفسير والترجيح بينها: وقد يتردد بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، ويترجح بعضها على بعض، وأولى الأقوال ما دل عليه الكتاب في موضع آخر، أو السنة، أو إجماع الأمة .. اهـ

(2)

.

9 -

ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيميه وقرر في مقدمته في أصول التفسير أن أصح طرق التفسير هي تفسير القرآن بالقرآن. فقال: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. اهـ

(3)

.

10 -

ونص ابن جزيّ الكلبي على هذه القاعدة على أنها وجه من أوجه الترجيح عنده، فقال: وأمّا وجوه الترجيح فهي [اثنا]

(4)

عشر، الأول: تفسير بعض القرآن ببعض فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. اهـ

(5)

.

11 -

وتميز ابن كثير في هذا الجانب، فهو يهتم بتفسير القرآن بالقرآن، ويرجح بين الأقوال بما تقضي به هذه القاعدة، ومدمن النظر في تفسيره يجد ذلك واضحا جليا، فمن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (26)[الحجر: 26] بعد أن ذكر الخلاف في المراد بالصلصال قال: والظاهر أنه

(1)

مفاتيح الغيب (10/ 42).

(2)

الإشارة إلى الإيجاز ص 220.

(3)

مقدمة في أصول التفسير ص 73.

(4)

كتبت في الأصل [اثني].

(5)

التسهيل (1/ 9).

ص: 286

كقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} (15)[الرحمن: 14 - 15] وتفسيرالآية بالآية أولى. اهـ

(1)

.

12 -

وللعلامة ابن الأمير الصنعاني

(2)

«مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن»

(3)

. وهذا جانب من جوانب تطبيق هذه الطريقة في التفسير.

13 -

وختم هؤلاء الأئمة الذين اعتنوا بتفسير القرآن بالقرآن وطبقوا ذلك عمليا في تفسيرهم، وفي الترجيح بين أقوال من سلف بالقرآن، معتمدين هذه القاعدة، ختموا بالعلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه العظيم «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» ، والذي حدد مقاصده من تأليفه في مقدمته فقال: أولها: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله - جل وعلا - من الله - جل وعلا -. اهـ

(4)

.

وقدم لهذا الكتاب بمقدمة قيّمة في أنواع بيان القرآن بالقرآن، وقد استعمل هذه القاعدة كثيرا في الترجيح بين أقوال العلماء، وسترى - بإذن الله - في الأمثلة التطبيقية أمثلة ذلك.

ومضمون هذه القاعدة اعتمده الأصوليون في الترجيح بين الأدلة المتعارضة؛ بأن يكون أحد الدليلين موافقا لظاهر القرآن، فيقدم لأجل موافقته لآية أوآيات من كتاب الله

(5)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم (4/ 451)، وانظر نحو ذلك فيه (2/ 57) و (3/ 286).

(2)

محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني، المعروف بالأمير، الإمام العلامة المجتهد صاحب التصانيف توفي في صنعاء سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف. الأعلام (6/ 38).

(3)

وقد حقق بعضه في رسالة علمية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وبعض المخطوط مفقود.

وعنوان الكتاب يغنى عن التنبيه على طريقته فيه.

(4)

أضواء البيان (1/ 67).

(5)

انظر هذا الوجه من أوجه الترجيح في العدة لأبي يعلى (3/ 1046)، والمنخول ص 431، والبحر المحيط للزركشي (6/ 175)، وشرح الكوكب المنير (4/ 694)، والتعارض والترجيح للبرزنجي (2/ 364) وغيرها من كتب الأصول في مبحث الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن (أي الذي يعود إلى أمور خارجة).

ص: 287

فالترجيح بين أقوال المفسرين لأجل موافقة آية أوآيات لأحد الأقوال من باب أولى. بل يجب أن يرجح ذلك القول الموافق للقرآن إذا لم ينازعه وجه آخر مثله أو أقوى منه، لدلالة القرآن على صحته.

وكذلك اعتمده المحدّثون كوجه من أوجه الترجيح عندهم بين الأحاديث المختلفة، كما هو مسطر في علوم الحديث

(1)

.

***

*‌

‌ مسألة: في تحرير مفهوم مصطلح «تفسير القرآن بالقرآن» :

يذكر العلماء «تفسير القرآن بالقرآن» على أنه من أنواع التفسير بالمأثور، وأنه أبلغ أنواع التفسير وأصحها، وما وجدت لأحد منهم عناية بتقرير حدّ وضابط واضح يضبط هذا النوع الذي استحق هذه الرتبة العظيمة في التفسير، وإنما هو كلام عام فيه وتطبيقات عليه لا يظهر منها تحديد دقيق له.

وبعد طول تأمل في هذا المصطلح وأمثلته ظهر لي - والله تعالى أعلم - أن تفسير القرآن بالقرآن ينقسم إلى قسمين، أحدهما: توقيفي، لا اجتهاد فيه ولا نظر. والآخر:

اجتهادي، يعتمد على قوة نظر المفسر وتجرده، في قربه من الصحة أو بعده عنها.

فالقسم الأول: التوقيفي هو: «أن يكون في الكلام لبس وخفاء فيأتي بما يزيله ويفسره»

(2)

، إما بعده مباشرة، أو في موضع آخر وارد مورد البيان له.

فمن أمثلة هذا القسم تفسير الهلوع في قوله تعالى: {* إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (19)[المعارج: 19] بقوله: {إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (21)[المعارج: 20 - 21] وتفسير الطارق في قوله: {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطّارِقُ} (2) بقوله: {النَّجْمُ الثّاقِبُ} (3)[الطارق: 1 - 3].

(1)

انظر الاعتبار للحازمي ص 79، والتبصرة والتذكرة للعراقي (2/ 304)، وتدريب الراوي (2/ 181)، وقواعد في علوم الحديث ص 303.

(2)

معترك لأقران (1/ 273).

ص: 288

وتفسير أولياء الله في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62) بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} (63)[يونس: 62 - 63].

ومثال ما فسر في موضع آخر قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] وذلك في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146].

وغير ذلك من الأمثلة

(1)

، فهذا القسم ولا شك أنه أبلغ أنواع التفسير ولا قول لأحد معه، ومثله لا يختلف فيه، وهو الذي يصنّف من التفسير بالمأثور.

والقسم الثاني: الاجتهادي، وهو المعتمد على صحة النظر وقوة الاستنباط، وذلك بأن يحمل معنى آية على آية أخرى تكون مبينة وشارحة للآية الأولى، وهذا النوع منه المقبول ومنه المردود كأيّ اجتهاد في تفسيرآية، ولا اعتبار في قبوله بكونه فسّرت آية بأخرى، فكثيرا ما تجعل الآية أو لفظ منها نظيرا لما ليس مثله

(2)

، وقد يكون حمل

(1)

انظر جملة منها في البرهان للزركشي (2/ 186 - 196) و (3/ 36) ومعترك الأقران (1/ 273).

(2)

كما يفعل أهل البدع والأهواء من المعتزلة ومن نحا نحوهم، فهم يقررون بدعهم، ويجعلون بعض الآيات نظائر بعض - وهي ليست كذلك - لتصحيح ما ذهبوا إليه. كمن جعل قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يسن: 71] والحق أن هذه الآية ليست مثل تلك؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيها بقوله: بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ [الروم: 41] وهنا أضاف الفعل إليه فقال «لما خلقت» ثم قال «بيدي» وأيضا: فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله:

بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64]، وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14].

وهذا في «الجمع» نظير قوله «بيده الملك» «بيده الخير» في «المفرد» فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرا أو مضمرا، وتارة بصيغة الجمع كقوله: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) -

ص: 289

الآية على الأخرى اجتهادا مجردا خاليا من الهوى والبدعة؛ لكنه خلاف الراجح، لوجود معارض أقوى منه، واعتماد غيره بوجه من وجوه الترجيح

(1)

. إذا تقرر هذا، فالمعتبر في هذا هو صحة النظر، وقوة الاستنباط، والتجرد من كل هوى وبدعة، فإذا توفر هذا وسلم من المعارض الأقوى منه فهو مرجّح للقول الموافق له على ما خالفه من الأقوال، وهو مضمون هذه القاعدة.

***

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

1 -

منها ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 76] اختلف المفسرون في قوله: {هذا رَبِّي} هل هو مقام نظر أو مناظرة؟

(2)

.

فقال بعضهم: هو مقام نظر، كان إبراهيم عليه السلام مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله وآتاه الرشد فلم يضرّه ذلك في حالة الاستدلال.

وقال آخرون: بل هو مقام مناظرة لقومه، ليبين لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام.

وهذا القول هو الحق الذي يدل عليه القرآن. كما في سورة مريم والأنبياء

= [الفتح: 1]، وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه. وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 45).

(1)

من أمثلة ذلك قول ابن كثير (6/ 561) - في تفسير قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37]-: وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:

61]، وقد ضعف ابن جرير قول قتادة، ههنا، وقال: إنما معني الإيلاج الأخذ من هذا في هذا، وليس هذا مرادا في هذه الآية، وهذا الذي قاله ابن جرير حق. اهـ تفسير ابن كبير (6/ 561) وجامع البيان (23/ 5). وانظر من نظائر هذا في جامع البيان (24/ 48) و (30/ 55).

(2)

حكى القولين عامّة المفسرين، انظر على سبيل المثال جامع البيان (7/ 248) وما بعدها، ومعالم التنزيل (3/ 161)، وتفسير ابن كثير (3/ 285 - 286).

ص: 290

والشعراء وغيرها، فمجادلة إبراهيم لأبيه وقومه هي التي جاءت في القرآن، ولم يرد حرف واحد في القرآن أنه كان مشركا في زمن ما.

والقرآن أيضا يدل على بطلان القول الأول، الذي جعل إبراهيم مشركا بالله في فترة من الزمن وقت نظره سواء قبل أن يوحى إليه أو في صغره، وقد نفى الله - تعالى - عن إبراهيم الشرك، وذلك في قوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (120)[النحل: 120] وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (123)[النحل: 123] وقوله.

{قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (161)[الأنعام: 161]، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما

(1)

، فكيف يصح أن يكون ناظرا وهو الذي زكّاه الله بكمال توحيده، ونفي الشرك عنه. مما يدل على بطلان القول الأول، وصحة القول الثاني حسب ما قررت هذه القاعدة، وهذا ما صححه أئمة التفسير ورجحوه، كالزجاج

(2)

، والنحاس

(3)

، وابن عطية

(4)

، وابن الجوزي

(5)

، والرازي

(6)

، وابن تيمية

(7)

، وأبي حيان

(8)

، وابن جزيّ

(9)

، وابن كثير

(10)

، والألوسي

(11)

والقاسمي

(12)

(1)

أضواء البيان (2/ 201).

(2)

معاني القرآن وإعرابه (2/ 266 - 268).

(3)

معاني القرآن (2/ 450 - 451).

(4)

المحرر الوجيز (6/ 91).

(5)

زاد المسير (3/ 74).

(6)

مفاتيح الغيب (13/ 50 - 52).

(7)

مجموع الفتاوى (6/ 254).

(8)

البحر المحيط (4/ 565).

(9)

التسهيل (2/ 14).

(10)

تفسير القرآن العظيم (3/ 286).

(11)

روح المعاني (7/ 199).

(12)

محاسن التأويل (6/ 2376) وما بعدها.

ص: 291

والشنقيطي

(1)

وغيرهم - عليهم رحمة الله -.

ويؤيد هذه القاعدة فيما قررته في هذا المثال، قاعدة «القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجّح على ما خالفه» .

وهذه القرائن هي أن السياق قد دلّ على أن إبراهيم عليه السلام قد عرف ربّه قبل حدوث هذه القصة، وذلك في موضعين، أحدهما: إخبار الله عنه بأنه خاطب أباه ناهيا له عن عبادة الأصنام مقررا ضلال من فعل ذلك، في قوله:{* وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (74)[الأنعام: 74]

(2)

والآخر: ترتيب قوله تعالى: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً}

[الأنعام: 76] الآيات «بالفاء» على قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75)[الأنعام: 75] فدل علي أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم كما قال تعالى: {وَحاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80] الآية، وقال:{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]

(3)

.

ويؤيد هذه القاعدة - أيضا - فيما رجحته في هذا المثال، عصمة النبوة فإن الأنبياء معصومون ممّا يخدش هذه العصمة، أو ينال من مقام النبوة، والشرك أعظمها، وما بعثوا إلا لنفي الشرك وتقرير التوحيد.

قال السيوطي

(4)

: والأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة، وبعدها إجماعا. اهـ

(5)

.

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا - ما جاء في تفسير قوله تعالى: {قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا}

(1)

أضواء البيان (2/ 201).

(2)

انظر مفاتيح الغيب (13/ 50).

(3)

أضواء البيان (2/ 201) وانظر مفاتيح الغيب (13/ 51).

(4)

هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة، نشأ يتيما، واعتزل الناس في الأربعين من عمره واشتغل بالتأليف، توفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة. شذرات الذهب (8/ 51).

(5)

الإتقان (1/ 252).

ص: 292

{اِثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية.

فقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وغيرهم: هي كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (28)[البقرة: 28]

(1)

أي: المراد بالإماتتين في هذه الآية، الإماتة الأولى: كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا ومضغا، قبل نفخ الروح فيهم، والإماتة الثانية: إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا.

وأن المراد بالإحياءتين، الإحياءة الأولى في دار الدنيا، والإحياء الثانية، البعث من القبور إلى الحساب والجزاء والخلود الأبدي إما في الجنة وإما في النار

(2)

.

وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة.

وقال ابن زيد: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة

(3)

.

وأصح الأقوال وأولاها بتفسيرالآية قول ابن مسعود وابن عباس ومن تبعهما، وهو الذي تقرره هذه القاعدة، وذلك لموافقة قولهما لكتاب الله.

وصحح هذا القول، وضعّف ما سواه أئمة التفسير، كالطبري

(4)

وابن عطية

(5)

وابن كثير والشنقيطي وغيرهم.

قال ابن كثير - بعد أن ذكر قول ابن مسعود -: وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية.

(1)

جامع البيان (24/ 47).

(2)

أضواء البيان (7/ 72).

(3)

جامع البيان (24/ 48) وتفسير ابن كثير (7/ 123).

(4)

جامع البيان (1/ 189).

(5)

المحرر الوجيز (14/ 119).

ص: 293

وقال - معقبا على قول السدي وابن زيد -: وهذان القولان ضعيفان؛ لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات. والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما. اهـ

(1)

.

وقال الشنقيطي - بعد أن ذكر معنى قول ابن مسعود -: والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (28)[البقرة: 28] وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال لا معوّل عليه. اهـ

(2)

.

(1)

تفسير القرآن العظيم (7/ 123).

(2)

أضواء البيان (7/ 72).

* ونظائر هذين المثالين كثيرة جدا انظر جملة منها في:

جامع البيان (2/ 56) و (13/ 189) و (23/ 40) و (29/ 21)، وأضواء البيان (1/ 142، 343، 366، 381، 382، 391) و (2/ 180، 182) و (3/ 484، 144) و (4/ 41، 45) و (5/ 687) و (6/ 361، 413) و (7/ 381، 737).

ص: 294

‌المطلب الثالث:

قاعدة: القول الذي يعظم مقام النبوة ولا ينسب إليها ما لا يليق بها أولى بتفسيرالآية وقاعدة: كل قول طعن في عصمة النبوة ومقام الرسالة فهو مردود

*‌

‌ صورة القاعدة:

يرد في تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن قصص الأنبياء أو أعمالهم أو خطاب الله - تعالى - لهم، خلاف بين المفسرين في تفسيرها، وهذا الخلاف لا تخرج أقواله عن أربع صور.

الأولى: أن يرد قول في تفسيرالآية فيه وصف نبي بأنه ترك أو فعل أمرا خلاف الأولى به.

كالذي ورد في تفسير قوله تعالى: {رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} (33)[ص: 33] بأنه عقر الخيل وضرب أعناقها

(1)

.

الثانية: أن يرد قول في تفسيرالآية يفهم منه وصف النبي بما لا يليق بمقام النبوة ومنزلة الرسالة.

وقد يصح توجيه هذا القول إلى معنى آخر ليس فيه ذلك، لكن هذا التوجيه ليس الظاهر والمتبادر إلى الذهن من القول.

كما في المثال الأول من أمثلة هذه القاعدة.

الثالثة: أن يذكر قول على أنه وجه في تفسيرالآية، لكنه متضمن للطعن في عصمة النبوة ومقام الرسالة، كأن يصف بعض الأنبياء بأوصاف ينزه عن مثلها

(1)

انظر الأقوال واختيار الطبري في جامع البيان (23/ 156).

ص: 295

كل مؤمن فضلا عن نبي، أو يطعن في رسالته أو تبليغه لها، أو يلفّق له قصصا وحوادث تطعن في نبوته، كنسبتهم إلى الخنا والفحش أو الخديعة والمكر

(1)

.

وذلك كما في المثال الثاني من أمثلة هذه القاعدة.

الرابعة: ما سوى تلك الصور، والتي ليس فيها مما ذكر شيء، وهي متفقة مع عصمة النبوة وعظم مكان الرسالة، معظمة تلك الجوانب معتمدة على دلائل الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وسياق الآيات، وما صح من لغة العرب. فهذه الصورة أقوالها هي المعتمدة في تفسيرالآية بالنسبة للأقوال التي تندرج تحت الصور الثلاث السابقة.

وأما الأقوال التي تندرج تحت الصورة الأولى والثانية، فالقاعدة الأولى هي التي تضعّفها وتقدم عليها أقوال الصورة الرابعة، وهذا التقديم لا يعني أنه يجب رد تلك الأقوال، ولوم من قالها أو من نقلها واعتمدها، كلا، وإنما هو تقديم الأصح في تفسيرالآية، وقد يكون من باب تقديم الأولى. وأما الأقوال التي تندرج تحت الصورة الثالثة، فالقاعدة الثانية هي التي تردها، وتوجب إطراحها، فكل طعن في الرسالة والنبوة وأصحابها، فهو مردود على قائله.

فهذا فصل الخطاب في الخلاف الذي يرد متعلقا بجناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.

***

*‌

‌ بيان ألفاظ القاعدة:

العصمة هي: صرف دواعي المعصية عن المعصوم، بما يلهم الله المعصوم من ترغيب وترهيب.

كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15)[الأنعام: 15]

(2)

.

(1)

انظر بحوث في أصول التفسير للصباغ ص 151.

(2)

انظر البحر المحيط للزركشي (4/ 172)، وشرح الكوكب (2/ 167)، وإرشاد الفحول ص 70.

ص: 296

واتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون فيما يخبرون به عن الله

(1)

ويستحيل عليهم الكذب، والكتمان، والخطأ، والسهو، والإغفال، والتورية، والألغاز فيما طريقه البلاغ والأداء عن الله، وقد حرسهم الله من كل سبب يقدح في نبوتهم ودلالة معجزاتهم وما خصهم الله به من شرف المنزلة وعلو القدر

(2)

. وحكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على عصمتهم من الكبائر ومما يجري بمناصبهم كرذائل الأخلاق والدناءات وسائر ما ينفر عنهم، وهي التي يقال لها صغائر الخسة

(3)

.

ثم اختلفوا في الصغائر التي تزري بمنصب النبوة. واختلفوا في العصمة هل هي في الفعل أو في الإقرار؟ وهل قبل البعثة عصمة؟

ثم من قالوا بجواز وقوع شيء منهم بعد النبوة، أجمعوا على أنه لا يقر عليه البتة

(4)

. وأما قبل النبوة، فالحق أنهم معصومون من الكفر والإشراك بالله، وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك

(5)

.

وروي عن الإمام أحمد أنه قال: من قال إنه كان صلى الله عليه وسلم على دين قومه فهو قول سوء. اهـ

(6)

.

ومستند هذا الباب النقل، ولم يرد في الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر أن من الأنبياء أحدا بعث واصطفي وكان معروفا بالكفر أو الشرك قبل ذلك.

(1)

مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 289 - 290). وانظر الإحكام للآمدي (1/ 224)، وشرح الكوكب المنير (2/ 169).

(2)

رسالة في تفسيرآيات أخطأ فيها كثير من المفسرين لابن تيمية مخطوطة لوحة (5 /ب)، وانظر مفاتيح الغيب (3/ 7)، والبحر المحيط لأبي حيان (1/ 261)، وانظر البحر المحيط للزركشي (4/ 169).

(3)

البرهان في أصول الفقه (1/ 319) والإحكام للآمدي (1/ 225) وشرح مختصر ابن الحاجب (1/ 479)، والبحر المحيط للزركشي (4/ 170 - 171)، وشرح الكوكب المنير (2/ 172)، والمحرر الوجيز (5/ 88)، و (1/ 361)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 303).

(4)

انظر المسودة ص 190، وشرح الكوكب (2/ 172)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 293).

(5)

انظر مفاتيح الغيب (10/ 293)، والإتقان (1/ 252).

(6)

رسالة في تفسيرآيات أخطأ في تفسيرها كثير من المفسرين، لابن تيمية مخطوط لوحة (6 /أ).

ص: 297

قال القاضي عياض: إن قريشا قد رمت نبينا بكل ما افترته، وعيّر كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته، مما نصّ الله - تعالى - عليه، أو نقلته إلينا الرّواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهته، وتقريعه بذمّه بترك ما كان قد جامعهم عليه.

ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، وبتلوّنه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركهم آلهتهم، وما كان يعبد آباؤهم من قبل.

ففي إطباقهم على الإعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه؟ إذ لو كان لنقل، وما سكتوا عنه، كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة، وقالوا:{ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} [البقرة: 142]، كما حكاه الله عنهم. اهـ

(1)

.

وقد طعن الكفار في إرسال الرسل لكونهم مشتركين معهم في البشرية كما قال الله تعالى عنهم: {قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} (10)[إبراهيم: 10]. فلو كانوا مشتركين معهم في عبادة الأصنام والإشراك بالله لكان أكبر حجة لهم في الطعن في إرسالهم. والقدح في إرسالهم بحجة الاشتراك في الشرك أقوى وأعظم من الاشتراك في البشرية كما لا يخفى، فلمّا لم يرد ذلك دلّ على أنهم لم يكونوا معهم على ملة واحدة. فإذا تقرر ذلك كله، فلا يجوز أن يفسر القرآن بتفسير فيه قدح في مقام النبوة، وله في غير ذلك محمل صحيح سليم.

***

*‌

‌ أدلة القاعدة:

الأدلة على عصمة الأنبياء والرسل كثيرة نقلية وعقلية، فإذا ثبت ذلك، فالتفسير الذي يتمشى مع هذه العصمة أولى بتفسيرالآية، وكل قول طعن فيها وخالفها فهو

(1)

الشفا (2/ 720).

ص: 298

مردود لمخالفته للدلائل الصريحة عليها.

1 -

كقوله تعالى: {* وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} (124)[البقرة: 124].

قال السدي: العهد: النبوة وقال مجاهد: الإمامة

(1)

؛ أي: الإمامة في الدين خاصة

(2)

.

قال الرازي: والغاية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين:

الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد الإمامة، ولا شك أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقا، فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقا فاعلا للذنب والمعصية أولى.

الثاني: قال: {لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ} (124) فهذا العهد إن كان هو النبوة؛ وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة؛ فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه؛ فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم. اهـ

(3)

.

2 -

وقوله تعالى مخبرا عن اصطفائه لهم: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ} [الحج: 75]، وقوله:{* إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} (33)[آل عمران: 33]، وقال - تعالى - عن إبراهيم عليه السلام:{وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا} [البقرة: 130]، وقال في موسى عليه السلام:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] ونحوها من الآيات. فلا يفسر القرآن ويحمل على أوجه تنافي هذا الاصطفاء وهذه الخيرية وله في غيرها محمل صحيح.

(1)

المحرر الوجيز (1/ 350).

(2)

محاسن التأويل (2/ 246).

(3)

مفاتح الغيب (4/ 47 - 48)، وانظر عصمة الأنبياء له ص 23.

ص: 299

3 -

وقال تعالى: {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ}

[آل عمران: 161]. وقال تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ} [آل عمران: 79].

قال ابن حزم: في معرض استدلاله بهاتين الآيتين على عصمة الأنبياء: فوجدنا الله - تعالى - وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم السلام الغلول والكفر والتجبر، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب، وقد صح الإجماع بذلك، وأن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئا من تعمد الذنوب جوز عليهم الغلول، ومن نفى الغلول نفى عنهم سائر الذنوب، وقد صح نفي الغلول عنهم بكلام الله - تعالى - فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء والغلول. اهـ

(1)

.

4 -

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين»

(2)

.

قال ابن حزم: فنفى عليه السلام عن جميع الأنبياء عليهم السلام أن تكون لهم خائنة الأعين، وهو أخف ما يكون من الذنوب، ومن خلاف الباطن للظاهر؛ فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها. اهـ

(3)

والدلائل على عصمة الأنبياء كثيرة، أكتفي بما ذكرت طلبا للاختصار

(4)

.

*‌

‌ أقوال العلماء في اعتماد القاعدة:

اعتمد العلماء مضمون هذه القاعدة، ورجحوا بها أقوالا، وردّوا بها أخرى، لأجل ما رأوه من مخالفتها لعصمة النبوة، ولما علم من حال الأنبياء وعظم منزلتهم.

(1)

الفصل (4/ 51).

(2)

أخرجه أبو داود، كتاب: الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد (4/ 128). والنسائي، كتاب: تحريم الدم، باب الحكم فيمن ارتد (7/ 106). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم (4359)، وفي صحيح سنن النسائي حديث رقم (3791).

(3)

الفصل (4/ 54).

(4)

انظر الفصل لا بن حزم (4/ 51 - 59) وعصمة الأنبياء للرازي ص 19 - 24. ومفاتيح الغيب (3/ 108)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 293).

ص: 300

فمن هؤلاء الأئمة:

1 -

الصديقة بنت الصديق عائشة - رضى الله عنها - وسيأتي نص كلامها في المثال الأول من أمثلة هذه القاعدة - إن شاء الله تعالى -.

2 -

ومنهم ابن قتيبة: قال - بعد أن ساق أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى:

{حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] الآية - وهذه مذاهب مختلفة، والألفاظ تحتملها كلها، ولا نعلم ما أراد الله عز وجل. غير أن أحسنها في الظاهر وأولاها بأنبياء الله - صلوات الله عليهم - ما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. اهـ

(1)

.

3 -

ومنهم إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري: قال - في معرض ترجيحه لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى عن يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]:

وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب قول من قال: عنى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه؛ عقوبة له على مغالبته ربه.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة؛ لأنه لا يجوز أن ينسب إلى الكفر، وقد اختاره لنبوّته، ووصفه بأن ظن أن ربه يعجز عما أراد به، ولا يقدر عليه، وصف له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. اهـ

(2)

.

4 -

ومنهم أبو بكر بن العربي: قال - رادا على أقوال المفسرين في قوله تعالى:

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} [يوسف: 24] معتمدا على جانب العصمة -:

فما تعرّض لامرأة العزيز، ولا أناب إلى المراودة بحكم المراودة؛ بل أدبر عنها، وفرّ منها؛ حكمة خصّ بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله - سبحانه -، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه ما لا يليق به، وأقلّ ما

(1)

تأويل مشكل القرآن ص 412.

(2)

جامع البيان (17/ 79).

ص: 301

اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل، وهمّ بالفتك فيما رأوه من تأويل، وحاش لله ما علمت عليه من سوء، بل أبرئه مما برأه منه، فقال:{وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22]، وقوله:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (24)[يوسف: 24]. والفحشاء هي: الزنا، والسوء:

هو المراودة والمغازلة، فما ألمّ بشيء ولا أتى بفاحشة. اهـ

(1)

.

5 -

ومنهم ابن عطية الأندلسي: في تفسير قوله تعالى: {حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]- بضم الكاف وكسر الذال - قال: وتحتمل هذه القراءة أيضا أن يكون الضمير في «ظنوا» وفي «كذبوا» عائدا على الرسل.

والمعنى: كذبهم من أخبرهم عن الله. والظن على بابه - وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم - والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم - قاله ابن عباس وابن مسعود أيضا وابن جبير - وقال: ألم يكونوا بشرا؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا: هو الذي نكره. وردّت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم. وأعظموا أن توصف الرسل بهذا. وقال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز على الرسل.

قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وأين العصمة والعلم؟. اهـ

(2)

.

6 -

ومنهم الفخر الرازي: ففي معرض ردّه لقول من قال إن إبراهيم حين نظر إلى الكوكب والقمر والشمس كان مستدلا لا مناظرا.

قال: إن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء. اهـ

(3)

.

7 -

ومنهم القرطبي: قال في تفسير قوله تعالى: {وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب: 37]:

(1)

أحكام القرآن (3/ 47).

(2)

المحرر الوجيز (9/ 394).

(3)

مفاتح الغيب (13/ 50).

ص: 302

والمراد بقوله تعالى: {وَتَخْشَى النّاسَ} إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد - وربما أطلق بعض المجّان لفظ عشق - فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخفّ بحرمته .. اهـ

(1)

.

8 -

ومنهم أبو حيان الأندلسي: قال في معرض نقده للأقوال التي قيلت في بيان (همّ يوسف) عليه السلام: وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك؟ لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة

وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين. اهـ

(2)

.

9 -

ومنهم العلاّمة الشنقيطي: قال - في تفسير قوله تعالى: {ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ} الآية [ص: 24]: واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة مما لا يليق بمنصب داود عليه السلام، وعلى نبينا - الصلاة والسلام - كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معول عليه، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء. اهـ

(3)

.

وغير هؤلاء من أئمة التفسير كثير ممن قرروا هذه القاعدة

(4)

.

(1)

الجامع لأحكام القرآن (14/ 191).

(2)

البحر المحيط (6/ 258).

(3)

أضواء البيان (7/ 24).

(4)

كالكرماني في غرائب التفسير (1/ 556)، والقاضي عياض في الشفا (2/ 836)، وابن الجوزي في زاد المسير (7/ 116 - 117)، والحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 219)، والألوسي في روح المعاني (13/ 72).

ص: 303

*‌

‌ الأمثلة التطبيقية على القاعدة:

1 -

منها: ما جاء في تفسير قول الله تعالى: {حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]، في «كذبوا» قراءتان

(1)

.

الأولى: «كذّبوا» بضم الكاف وتشديد الذال وكسرها

(2)

.

والأخرى: «كذبوا» بضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها

(3)

.

فعلى قراءة التشديد:

يكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم؛ لما لحقهم من البلاء والامتحان وتأخر النصر.

وبهذا قالت عائشة رضي الله عنها وصحت الرواية عنها بذلك، وبه قال قتادة

(4)

، ورجحه أبو جعفر النحاس، وقال: هو أشبه بالمعنى وهو أعلى إسنادا.

اهـ

(5)

.

وذهب الحسن وقتادة إلى أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم، وأيقنت الرسل أن قومهم قد كذبوهم.

فيكون الضميران في «ظنوا» و «كذبوا» يعودان على الرسل، وظن بمعنى اليقين.

وضعف هذا القول الطبري؛ لأجل مخالفته لجميع أقوال الصحابة في الآية، واستعمال العرب الظنّ بمعنى اليقين

(6)

.

وأما على قراءة تخفيف الذال:

(1)

انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكي (2/ 15)، والنشر (2/ 296)، والبدور الزاهرة في القراءات العشرة ص 168 والمغني في توجيه القراءات العشر المتواترة (2/ 281).

(2)

وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ويعقوب الحضرمي من العشرة.

(3)

وهي قراءة حمزة وعاصم والكسائي، وأبي جعفر المدني وخلف العاشر من العشرة.

(4)

انظر تفسير القرآن العظيم لعبد الرزاق الصنعاني (2/ 329).

(5)

معاني القرآن (3/ 462).

(6)

انظر الروايات عنهم في جامع البيان (13/ 88)، وانظر المحرر الوجيز (9/ 392).

ص: 304

فذهب ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وغيرهم إلى أن المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من أن يستجيب لهم قومهم، وظن القوم أن الرسل قد كذبوهم

(1)

. فيعود الضميران في «ظنوا» و «كذبوا» إلى المرسل إليهم وهم القوم

(2)

.

وروى عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير أن معنى الآية: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر

(3)

.

فيكون الضمير في «ظنوا» وفي «كذبوا» عائدا على الرسل

(4)

.

وهذه القاعدة تضعّف هذا القول؛ وذلك لما فيه من وصف الرسل بسوء الظن بربهم، وهذا يقدح في صالح المؤمنين فضلا عمّن فضّل بالنبوة والرسالة. فمقام النبوة عظيم، قد اصطفى الله لها أفضل الخلق على الإطلاق وأعرفهم بالله. وقد ردّت عائشة رضي الله عنها هذا القول بما ألمحت له من رفعة مقام النبوة، ولما علم من حال الأنبياء والرسل.

أخرج البخاري - وغيره - بسنده عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}

[يوسف: 110] قال: قلت: أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذّبوا قلت: فقد استيقنوا أنّ قومهم كذبوهم، فما هو بالظن. قالت: أجل لعمري، لقد استيقنوا بذلك.

فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربّها.

قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدّقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذّبهم من قومهم،

(1)

انظر الروايات عنهم في جامع البيان (13/ 82 - 85).

(2)

المحرر الوجيز (9/ 393).

(3)

انظر الروايات عنهم في جامع البيان (13/ 86).

(4)

انظر المحرر الوجيز (9/ 394).

ص: 305

وظنّت الرسل أن أتباعهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك»

(1)

.

وكذلك ضعّف هذا القول أئمة التفسير؛ لأجل مخالفته لعظم مقام النبوة، ونسبة ما لا يليق إلى الرسل.

قال الطبري - بعد أن ساق الأسانيد إلى ابن عباس وغيره بهذا القول -:

وقول غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل، إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم، ويشكوا في حقيقة خبره مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسل إليهم، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم الأولى في ذلك منهم بالعذر. اهـ

(2)

.

وقال الكرماني - بعد أن ذكر هذا القول من عجائب التفسير -: وهذا بعيد لا يعتقد مثله في الأنبياء والمرسلين. اهـ

(3)

.

وسبق نقل كلام ابن عطية في ردّه لهذا القول؛ لأجل العصمة

(4)

.

وصدّر القرطبي تفسير هذه الآية بقوله: هذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم، وهذا باب عظيم، وخطره جسيم ينبغي الوقوف عليه

اهـ

(5)

.

وقال الألوسي - بعد أن ساق توجيه بعض العلماء لقول ابن عباس هذا -:

وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل، والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم، القول بنسبة الظن إلى غيرهم - صلى الله عليهم وسلم - والله - تعالى - أعلم

(6)

. اهـ

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب التفسير، تفسيرسورة يوسف، حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. انظر الصحيح مع الفتح (17/ 28)، وأخرجه الطبري في تفسيره (13/ 86 - 87).

(2)

جامع البيان (13/ 86).

(3)

غرائب التفسير وعجائب التأويل (1/ 556).

(4)

المحرر الوجيز (9/ 394).

(5)

الجامع لأحكام القرآن (9/ 275).

(6)

روح المعاني (13/ 72).

(7)

كان هذا المثال من نوع تقديم الأولى بتفسيرالآية، لوجاهة توجيه بعض العلماء لهذا القول وأنه لا يقتضي طعنا في العصمة، ولا قدحا في الرسالة؛ لصحة الدلائل على هذا التوجيه؛ ولصحة الرواية -

ص: 306

2 -

ومن أمثلة هذه القاعدة - أيضا -: ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص: 34].

يذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الشيطان الذي أخذ خاتم سليمان وجلس على كرسي سليمان، وطرده عن ملكه، وتسلط على نسائه في الحيض، واستمر على ذلك حتى وجد سليمان الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر، مطرودا عن ملكه، إلى آخر القصة

(1)

.

= عن حبر الأمة وترجمان القرآن، وابن أم عبد رضي الله عنهم جميعا - كتوجيهه بأنه ما يخطر بالبال ويهجس في النفس، وكتوجيه الظن بأنه التوهم؛ لوروده بذلك في الكتاب والسنة كما انتصر لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (15/ 175).

ونحوها من التوجيهات. انظر الجامع لأحكام القرآن (9/ 276)، وروح المعاني (13/ 69)، وكل هذا توجيه لإزالة الإشكال الذي يظهر من ظاهر هذا القول. وقد صحت الرواية عن عائشة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم بتفسيرالآية على خلاف هذا القول، فحملها على تلك التفسيرات المروية عنهم الخالية من الإشكال أولى وأحسن وأسلم.

قال الحافظ ابن حجر - في توجيه قول ابن عباس: كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا.

وقول الراوي عنه: قد ذهب بها هناك: إنه أراد من آمن من أتباع الرسل لا نفس الرسل، وقال: وقول الراوي عنه «ذهب بها هناك» أي: إلى السماء معناه أن أتباع الرسل ظنوا أن ما وعدهم به الرسل على لسان الملك تخلف، ولا مانع أن يقع ذلك في خواطر بعض الأتباع

ولم يأت عنه التصريح بأن الرسل هم الذين ظنوا ذلك، ولا يلزم من قراءة التخفيف

وإذا كان ذلك محتملا وجب تنزيه ابن عباس عن تجويزه ذلك على الرسل، ويحمل إنكار عائشة على ظاهر مساقهم من إطلاق المنقول عنه.

- ثم ساق الرواية الأخرى عن ابن عباس بأن المراد ظن قومهم أن الرسل قد كذبوا. إلى أن قال: وإسناده حسن، فليكن هو المعتمد في تأويل ما جاء عن ابن عباس في ذلك؛ وهو أعلم بمراد نفسه من غيره.

من الفتح (8/ 219 - 220).

(1)

انظرها في جامع البيان (23/ 157)، وتفسير ابن كثير (7/ 59 - 60) وغيرهما من كتب التفسير.

ص: 307

وهذه القصة باطلة مردودة؛ لأجل طعنها في عصمة النبوة، وقد نص على بطلانها بما تقرر هذه القاعدة أئمة التفسير وغيرهم، كالقاضي عياض

(1)

، والقرطبي

(2)

، وأبي حيان

(3)

، وابن كثير

(4)

، والألوسي

(5)

، والشنقيطي

(6)

.

(1)

انظر الشفا (2/ 836).

(2)

انظر الجامع لأحكام القرآن (15/ 201).

(3)

انظر البحر المحيط (9/ 155).

(4)

انظر تفسير القرآن العظيم (7/ 59 - 60).

(5)

انظر روح المعانى (23/ 198 - 199).

(6)

أضواء البيان (4/ 77)، (7/ 35).

* ومن نظائر هذين المثالين:

1 -

ما جاء في تفسير قوله تعالى: فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 77]. انظر معالم التنزيل (3/ 161)، والمحرر الوجيز (6/ 91)، ومفاتيح الغيب (13/ 50)، والجامع لأحكام القرآن (7/ 25).

2 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف: 150].

انظر المحرر الوجيز (7/ 167).

3 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: فَتَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (190)[الأعراف: 190] انظر جامع البيان (9/ 148 - 149)، مع الإتقان في علوم القرآن (1/ 252).

4 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)[هود: 46] انظر المحرر الوجيز (9/ 163 - 164) وما قبلها، وبدع التفاسير ص 68.

5 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها [يوسف: 24]. انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 46 - 47)، والمحرر الوجيز (9/ 278)، والبحر المحيط (6/ 258).

6 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ [الأحزاب: 37] انظر أحكام القرآن لابن العربي (3/ 576)، والجامع لأحكام القرآن (14/ 191).

7 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ [ص: 24]. انظر زاد المسير (7/ 116 - 117)، وأضواء البيان (7/ 24).

8 -

وما جاء في تفسير قوله تعالى وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9]. انظر أضواء البيان (7/ 387).

ص: 308