المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوة العقيدة سبيل المصر في غزوة بدر الكبرى … قوة العقيدة سبيل - قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى - جـ ٥٢

[محمد عبد المقصود جاب الله]

فهرس الكتاب

قوة العقيدة سبيل المصر في غزوة بدر الكبرى

قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى -3-

د. محمد عبد المقصود جاب الله المدرس في كلية الدعوة بالجامعة

وانطلق سواد مكة وهو يغلي يمتطي الصعب والذلول فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً معهم مائتا فرس يقودونها، وسبعمائة بعير ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بشعر فيه ذم للمسلمين.

وزين الشيطان للمشركين أعمالهم، وأوحى إليهم بأحلام النصر، وماذا على الشيطان لو انهزموا سوى أن يتركهم وخزيهم. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال آية 48) .

ولكن أبا سفيان استطاع أن ينجو من الخطر المحدق به بتعديل سيره عن طريق ساحل البحر تاركا بدراً إلى يساره، ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم وقد نجاها الله، فارجعوا.

فقال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً"1.

1 أبو الفداء عن ابن إسحاق 3/266، ابن هشام 1/618-619.

ص: 154

وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول صلى الله عليه وسلم فإن دعم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت يعتبر خطراً على الإسلام ووقفا لنفوذه؛ لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجوال المسلح في هذه الأنحاء إعلاءً لكلمة الله وتوهينا لكلمة الشرك، وإظهاراً لعبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضراً.

ومضت قريش في سيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر.

وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا بعد أن قطعوا في مسيرهم مسافة تربو على مائةٍ وستين كيلومتراً (160) وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب.

وهبط الليل فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا، والزبير، وسعداً يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يَمدّانِهم بالماء. فأتوا بهما وسألوهما- ورسول الله قائم يصلي- فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم الماء، فكره القوم هذا الخبر، ورَجوْا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل للاستيلاء على القافلة- فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما، ولما فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاته قال:"إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما1 صدقا والله إنهما لقريش" وناقشهما الرسول عليه الصلاة والسلام حتى استنتج عدد القوم وهو ما بين التسعمائة والألف وعرف مكانهم، وعرف أن أشراف قريش قد خرجوا جميعا.

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" 2 وانكشف وجه الجد في الأمر. إن اللقاء المرتقب سوف يكون مُرً المذاق. لقد أقبلت قريش تخب في خيلائها تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها الوثنية بالحكم النافذ.

1 صحيح مسلم بشرح النووي 12/125، مسند أحمد رقم 948، ابن هشام 1/618،أبو الفداء 3/265.

2 ابن هشام1/618، أبو الفداء 3/265.

ص: 155

ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره، وحاضره بهذا الدين الذي افتداه وآوى أصحابه.

فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا على ضوئه ما يفعلون. والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون الأمر على عجل، تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن.

استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون مادامت عين تطرف- فوالذي بعثك بالحق- لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له الرسول:"خيرا ودعا له".

وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك وأشرق وجهه عندما سمع مقالة المقداد وبايعه الناس جميعا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علَّي أيها الناس؟ " فقال عمر رضى الله عنه: "يا رسول الله إنها قريش وعزُّها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فتأهبْ لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته".

وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ عمر من قوله سؤاله قائلاً: "أشيروا علي أيها الناس"؟ ففهم الأنصار أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقصدهم، فهم كانوا قد بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على اعتداء يقع خارج مدينتهم، فلما أحسوا أنه يريدهم قام سعد بن معاذ سيد الأوس وقال:"لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟ " فقال عليه الصلاة والسلام: "أجل" قال سعد رضي الله عنه: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاطعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منَّا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فامرنا نتّبِع

ص: 156

أمرك. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبُرٌ في الحرب صدُق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منَّا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك".

فسُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال:"سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"1.

ولكن هذا الذي قاله المقداد والذي قاله سعد- رضي الله عنهما لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع الرسول- صلى الله عليه وسلم.

فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنَّما خرجوا لمقابلة الفئة الضعيفة التي تحرس البعير، فلما علموا أن قريشا قد نفرت بخيلها ورجلها وشجعانها، وفرسانها وركبانها، كرهوا لقاءها كراهية شديدة حتى قال أحد الحاضرين: إلى مذبحة تقودنا يا محمد.

روي عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة-: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ " فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا:" ما ترون في قتال القوم؟ إنهم أخبروا بخروجكم"، فقلنا: لا والله مالنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير. ثم قال:"ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا: مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: "إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ".

قال: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.

قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} 2 (الأنفال آية 5) .

فهذا ما حاك في نفوس فريق من المؤمنين يومئذ وما كرهوا من أجله القتال حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الأنفال آية 6) .

1 ابن هشام 1/614 – 615،أبو الفداء 3/ 264،فتح الباري7/287.

2 فتح الباري 7/278-288.

ص: 157

وذلك بعد ما تبين الحق وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار، وأن عليهم أن يلقوا الطائفة التي قدر الله لهم لقاءها كائنة ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوك لها. أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.

ولقد بقي المسلمون يودون أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال آية7)1.

هذا ما أراده المسلمون لأنفسهم يومذاك. أما ما أراده الله لهم فكان أمرا آخر {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال آية 7،8) .

أراد الله أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. نعم أراد الله للفئة المؤمنة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها سلطان وقوة، وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها، وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد، وليس بالمال والخيل والزاد، وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصالها بالقوة الكبرى التي لا تقف لها في الأرض قوة، وأن يكون هذا عن تجربة واقعية لا كلاماً واعتقادا، لتزود الفئة المؤمنة من هذه التجربة لواقعها كله.

بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعرف مقدار استعدادهم للقاء عدوهم. وجد أنه يجب على المسلمين- مهما كان الثمن- أن يسبقوا إلى آبار بدر فاخذوا في السير حتى وصلوا إِلى أعلى الوادي، وكان الوادي من الجدب بحيث لم يجدوا فيه قطرة ماء- ونَفِدَ ما كان مع المسلمين من الماء، فلما كان الغد بلغ بهم الظمأ حداً أليماً من العذاب، وانتهز الشيطان هذه الفرصة فوسوس إليهم: "انظروا إلى ما قادكم إِليه ذلكم الذي يزعم أنه رسول الله القادر.

هاهم أولاء الأعداء لا يحصيهم العَدُّ يحيطون بكم، ولا ينتظرون إلا أن تخور قواكم من شدة الظمأ، فليلتهموكم التهام الفريسة السهلة التي لا تجد من يحميها"، وأخذت وسوسة الشيطان تدور برءوسهم، ومن حسن الحظ أن تعودهم على الظمأ في صيام شهر رمضان قوّى من صبرهم، وفي الوقت الذي بلغت فيه الحرارة أشُدَها، وأرسلت الشمس شعاعها كشواظ من

1 أبو الفداء 3/264.

ص: 158

نار وكاد ينفد الصبر، أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم السحب تتوج القمم والآكام، وتفجرت عن الغيث المنعش، حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطار فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام، ولم تمنعهم من السير {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية 11) .

وعلى العكس كانت هذه العاصفة ضرراً على المشركين فقد أصابهم منها ما أعجزهم 1 عن التحول فقد كانوا في أرض سبخة، وكانت إبلهم تنزلق، وتخر على الأرض وأرجلها الطويلة ممدودة وراءها في صورة تبعث على الضحك، وكانت قوائم الخيل تغوص في الأرض، وتَعْجِزُ عن إخراجها، ويحاول الفارس تخليصها من الأرض فترتمي عليه الفرس. وساد الاضطراب وعمت الفوضى، وعرقل كل ذلك من سيرهم2.

والمدد على هذا النحو مدد مزدوج مادي وروحي فالماء في الصحراء مادة الحياة فضلاً عن أن يكون أداة النصر، والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يفقد حياته، والتحرج من أداء الصلاة على غير طهور بالماء لعدم وجود الماء، ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم، ويدخل الشيطان من باب الإيمان، ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب، والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها.

وهنا يجيء المدد والنجدة {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية،11) .

ذلك أن فوق ما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة؛ ليثبتوا الذين أمنوا فوق وعدهم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار.

وكان النوم قد جافى عيون المؤمنين من شدة الخوف حينما بلغهم أنهم سيقاتلون جيشاً يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غداً وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد ويضربون أخماسا في أسداس، ويفكرون فيما سيلاقونه في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس،

1 الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266.

2 الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266.

ص: 159

غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه. ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم بقي متيقظا مستغرقا في الصلاة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ.....} (الأنفال آية 11) .

وجاءت الساعة التي سيتقرر فيها مصير الإسلام، وكان ذلك يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وكان الحباب بن المنذر مشهوراً بجودة الرأي وإخلاص النصيحة، فخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً:"يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. امض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر (نطمس ونردم) ما وراءه من القلب (الآبار) ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشرت بالرأي" ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ النصيحة خطوة فخطوة، فلم يجئ نصف الليل1 حتى تحولوا كما رأى الحباب وامتلكوا مواقع الماء.....

وتحدد بذلك مكان الموقعة، فسيضطَرُّ المشركون بلا شك إلى الحضور، لينازعوا المسلمين على الماء فليس في الوادي غيره.

وبنى المسلمون عريشا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليجلس فيه بناءً على اقتراح سعد ابن معاذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويُسْدِي النصائح، ويذكر بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى العريش الذي هيء له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن.....

ووقف أبو بكر بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكثر الابتهال والتضرع بعد أن شاهد قوة المشركين وكثرة عددهم، وينشد الله ما وعده به، وأخذ يردد "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعدها في الأرض".

وما زال يدعو ربه حتى سقط رداؤه، وجاء أبو بكر يرد الرداء على منكبيه ويقول له:"يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك"2.

1 ابن هشام 1/620، أبو الفداء 3/267 عن ابن إسحاق.

2 أبو الفداء 3/272، 275. فتح الباري 7/278، الروض الأنف 5/98-130.

ص: 160

والتقى الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين إِذ برز الأسود المخزومي وكان معجبا بقوته، وصرخ بحيث يسمعه المسلمون والمشركون قائلاً:"وحق اللات والعزى لأشربن من حوضهم أو لأهْدِمَنَّه، أو لأموتن دونه". وخرج له من صفوف المسلمين حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة ضربةً أطاحت بنصف ساقه، ووقع على ظهره والدم يسيل من رجله، ثم حبا إلى الحوض في مهارة مدهشة، وأسرع نحوه يريد أن يشرب منه، ولكن حمزة أدركه فقضى عليه.

وخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد فدعا للمبارزة فخرج له ثلاثة إخوة من الأنصار هم: معوذ ومعاذ وعوف. فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقال لهم: مالنا بكم حاجة نريد قومنا، يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

وقيل: إِن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه هو الذي استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو في مثل هذا الموقف. فقال: "قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة بن عبد المطلب، وقم يا علي بن أبي طالب ،قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إِذ جاءوا ببطلانهم؛ ليطفئوا نور الله..".

فبارز عبيدة عتبة، وحمزة شيبة وعلي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل علي مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة فقد جرح كلاهما الآخر فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما فجاءوا به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرشه الرسول عليه الصلاة والسلام قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة، وقال يا رسول الله: لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:

ونسلمه حتى نصرع دونه

ونذهل عن أًبنائنا والحلائل

فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "أشهد أنك شهيد" ثم أسلم الروح1.

بعد هذه المبارزة الفردية التي أثارت العواطف الحربية بين جوانح المحاربين لا يمكن أن يطول انتظار الغزاة، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل جيشه كتفا بكتف في صفوف متلاصقة كالبنيان المرصوص. وأخذ يكبح شكيمة هؤلاء المتعجلين الذين يريدون أن يتقدموا الجميع إلى القتال فيلاقوا مصرعهم دون فائدة تعود على المسلمين، ومن هؤلاء سواد بن غزيَّة، فقد برز من صفه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح (سهم) كان في يده

1 أبو الفداء 3/279،الروض الأنف 5/103، فقه السيرة ص 237.

ص: 161

وقال: "استو يا سواد". فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فَأقِدْني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقتصً مني" فقال سواد كيف وقد ضربتني على بطني العريان.

- وهنا يتجلى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إقامة العدل بين أمته، ليبين أنه لا فرق بين حاكم ومحكوم ولا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وواحد من قومه في ميزان العدل لنأخذ منه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة:

فيكشف له الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويقول: "استقد يا سواد"؟ فاعتنقه سواد فقبل بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا يا سواد"؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك" فدعا له رسول الله بخير 1.

واستشاط الكفار غضبا للبداية السيئة التي صادفتهم فأمطروا المسلمين وابلاً من سهامهم ثم حمي الوطيس، وتهاوت السيوف وتصايح المسلمون أحد أحدٌ. وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين وهم يرابطون في مواقعهم وقال:"إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا". فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبي صلى الله عليه وسلم في عريشه يدعو الله سبحانه وتعالى، ويرقب بطولة رجاله وجلدهم قال ابن إسحاق:"خفق النبي خفقة في العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع"2.

لقد انعقد الغبار فوق رءوس المقاتلين وهم بين كرٍّ وفرٍّ، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور، فأغراهم أن يغالبوا القدر.

فلا عجب إِذا نزلت ملائكة الخير تنفث في قلوب المسلمين روحَ اليقين وتحضهم على الثبات والإقدام.

1 أيو الفداء3/271،الروض الأنف 5/104.

2 ابو الفداء 3/276.فقه السيرة ص238، الروض الأنف 5/105.

ص: 162

ونزل قول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال آية 13) .

وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم من مكانه إِلى الناس فحرضهم قائلاً: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً إِلا أدخله الله الجنة". وأخذ الرسول- صلى الله عليه وسلم حفنة من حصباء فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه".

ثم قال لأصحابه: "شدُّوا" 1، فشدُّوا فنزل قول الله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال آية 17) .

ولما دنا المشركون قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" والتأميل في الآخرة هو بضاعة الأنبياء. وهل لأصحاب العقائد، وفداء الحق من راحة إلا هناك، وعمل هذا التحريض عمله في القلوب المؤمنة.

فقال عمير بن الحمام الأنصاري: "لا يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض: قال: "نعم". قال: بخ بخ. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قول: بخ بخ، قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاء أن أكون من أهلها؟. فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم: "فِإنك من أهلها".

فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: "لئن أًنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إِنها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول رضي الله عنه:

ركضا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد

وكل زاد عرضة النفاد

غير التقى والبر والرشاد2

فما زال حتى قتل رحمه الله3.

واشتد القتال، وقتل سادات قريش، لأن المسلمين كان هَمُّهم الأكبر هو استئصال سادات قريش، فقد عذبوهم بمكة، وصدوهم عن المسجد الحرام. وقُتل من قُتل، وفرّ من

1 أبو الفداء 3/284.

2 أبو الفداء 3/277، الروض الأنف 5/105-106،فقه السيرة ص239.

3 أبو الفداء3/277.

ص: 163

فر، وانتصر جيش المسلمين وكانت معركة بدر في صالح محمد- صلى الله عليه وسلم ورجاله وولى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم لا يكاد أحدهم يلتقي بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلاً من سوء ما حل بهم جميعا.

ثالثا: تسجيل لمواقف الخزي والعار بالنسبة لقريش ورجالها

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال آية 19) .

حينما خرج المشركون من مكة إلى بدر- أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله قائلين: "اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين وخير القبيلتين".

وروي أن أبا جهل قال يوم بدر "اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة".

وأنه قال عندما التقى الجمعان في ذلك اليوم: "اللهم ربً ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم"1.

وتحقق طلب قريش وأبي جهل، فجعل الله الدائرة عليهم تصديقاً لاستفتاحهم؛ لأنهم طلبوا من الله أن يفتح عليهم وأن يهلك الضالين، وهذه حقيقة فقد دارت الدائرة على الفريق الضال الصاد عن سبيل الله وهزموا هزيمة منكرة.

وهذا نموذج للإجابة لا يسر ولا يشجع على إعادة الاستفتاح من جديد.

ولقد كان أبو جهل أشد المشركين عداوة للإسلام ولما وجد سيل الهزيمة النازل بقومه من المشركين- أقبل يصرخ فيهم، وغباوة الغرور لا تزال ضاربة على عينيه "واللات والعزى لا نرجع حتى نفرِّقهم في الجبال

خذوهم أخذاً"2.

ولقد كان أبو جهل تمثالاً للطيش والعناد إلى آخر رمق، وكان يقاتل في شراسة وغضب وهو يقول:

بازل عامين حديث سني

ما تنقم الحرب الشموس مني

لمثل هذا ولدتني أمي

1 أبو الفداء 3/282-283.

2 أبو الفداء 3/283.

ص: 164

وكان المسلمون يعلمون أن أبا جهل هو المحرك لكل المؤامرات التي تحاك ضد رسول الله- صلى الله عليه وسلم فاخذوا يبحثون عنه، وتمكن معاذُ بن عمرو من الوصول إِليه وضربه ضربةً أطارت قدمه بنصف ساقه، وأسرع عكرمة بن أبي جهل لإنقاذ أبيه، فضرب معاذاً على عاتقه فطوحت يده....

ثم مر بأبي جهل فتيان من الأنصار وهما ولدا عفراء وهو على فرسه فطعناه حتى هوى عن فرسه واهتم الرسول- صلى الله عليه وسلم بالبحث عن مصير أبي جهل وأمر أن يلتمس في القتلى فذهب عبد الله بن مسعود للبحث عنه فوجده بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه كما يضع الإنسان رجله على أفعى يريد أن يقضي عليه، وتحرك أبو جهل يسأل عن الدائرة اليوم؟. قال:"لله ورسوله"، ثم استتلى عبد الله قائلا له:"هل أخزاك الله يا عدو الله؟ " قال: وبماذا أخزاني هل أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس في عبد الله ثم قال له: "لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم"، فجعل عبد الله يهوي عليه بسيفه حتى خمد. وجزّ رأسه وجاء بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم وحينما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وجه عدوه الدامي قال:"الله الذي لا إله غيره" ثم قال: "هذا فرعون هذه الأمة"1.

ولقي مثل هذا المصير المفجع أمية بن خلف وغيره من صناديد قريش حتى بلغوا سبعين صنديداً من رؤوس الكفر بمكة دارت عليهم الدائرة، وتجرعوا كؤوس الردى صاغرين، وسقط في الأسر سبعون كذلك، وفر بقية التسعمائة والخمسين يرددون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار، وهذا جزاؤهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ويقال لهم:{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (الأنفال آية 14) .

وانتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، والقلة الضعيفة على الكثرة القوية المستعدة.

وسيحدث ذلك في كل معركة بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وولايته وتوفيقه فمن ذا الذي ينتصر على من كان الله معينه وناصره؟ من يهزم جمعا معه الله.

الجواب على هذا لا أحد إن شاء الله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد آية7) .

1 أبو الفداء3/287-290 ورواه أبو داود والنسائي بإسنادهما والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك. الروض الأنف 5/113-115 142-145.

ص: 165