المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم المَملكَة العَربيَّة السُّعُوديَّة وَزارة العَدل مَكتب الوَزير كلمة معالي وزير - كشاف القناع عن متن الإقناع - ط وزارة العدل - جـ ١٥

[البهوتي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

المَملكَة العَربيَّة السُّعُوديَّة

وَزارة العَدل

مَكتب الوَزير

كلمة معالي وزير العدل

الشيخ الدكتور/ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ

بمناسبة الانتهاء من تحقيق الكتاب

الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإني أحمد الله جلّ وعلا أن منّ علينا بإنهاء تحقيق كتاب ((كشاف القناع عن الإقناع)) هذا الكتاب المهم المفيد، وإخراجه إخراجًا علميًا دقيقًا؛ وفق التحقيق العلمي؛ إذا قامت اللجنة المكلّفة من وزارة العدل بمقابلة الكتاب بالنسخ الأصلية وتخريج أحاديثه وتوثيق نقوله وتصحيح الأخطاء الموجودة فيه بإشراف صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم.

وإني أشكر اللجنة على ما بذلته من جهود مباركة في خدمة الكتاب المذكور، وأسأله تعالى أن ينفع به أصحاب الفضيلة العاملين في السلك القضائي وغيرهم من طلبة العلم.

وأرجو أن يتلو هذا المشروع العلمي النافع مشاريع أخرى تقوم بها الوزارة في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك المبارك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، وسمو وليّ عهده الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود حفظهما الله تعالى، ونفع بهما الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

ص: 4

‌كتاب القضاء والفتيا

(والقضاء) مصدر قضى يقضي، فهو قاضٍ؛ إذا حكم، وإذا فصَل، وإذا أحكم، وإذا أمضى، وإذا فرغ من الشيء، وإذا خلق. وقُضِّي فلان واستُقْضِيَ: صار قاضيًا. وسُمِّي قاضيًا؛ لأنه يُمضي الأحكام ويُحْكِمها، ويكون قضى بمعنى: أوجب.

و (جَمْعُه) أي: القضاء (أقضيةٌ) وجُمع مع أنه مصدر باعتبار أنواعه.

(وهو) أي القضاء: (الإلزام) بالحكم الشرعي (وفَصْلُ الخصُومات) والحكم إنشاءٌ لذلك الإلزام إن كان فيه إلزام، أو للإباحة والإطلاق إن كان الحكم في الإباحة، كحكم الحاكم المالكي

(1)

بأن الموات إذا بَطَلَ إحياؤه صار مباحًا لجميع الناس؛ قاله ابن قُندس.

وفي "الاختيارات"

(2)

: الحاكم فيه صفات ثلاث: فمن جهة الإثبات: هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي: هو مُفتٍ، ومن جهة الإلزام بذلك: هو ذو سلطان. انتهى.

و‌

‌أركان القضاء خمسة:

القاضي، والمقضىُّ به. والمقضيُّ فيه، والمقضيُّ له، والمقضيُّ عليه.

والأصل فيه: قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}

(3)

. وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا

(1)

انظر: حاشية الدسوقي (4/ 66)، ومنح الجيل (4/ 12 - 13).

(2)

ص/ 481.

(3)

سورة ص، الآية:26.

ص: 7

قَضَيْتَ}

(1)

. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ" متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

(2)

.

وأجمع المسلمون على نَصْبِ القُضاة للفصل بين الناس

(3)

.

(وهو) أي:‌

‌ القضاء (فَرْضُ كِفاية،

كالإمامة العُظمى) قال أحمد

(4)

: لا بُدَّ للناس من حاكم؛ أتذهب حقوق الناس؟ وقال الشيخ تقي الدين

(5)

: قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر

(6)

، وهو تنبيه على أنواع الاجتماع.

(1)

سورة النساء، الآية:65.

(2)

البخاري في الاعتصام، باب 21، حديث 7352، ومسلم في الأقضية، حديث 1716، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، لا من حديث عبد الله بن عمرو كما قال المؤلف. ولفظهما: إذا حكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر.

(3)

انظر: المغني (14/ 5).

(4)

الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص/ 24، 71، والهداية ص/ 563.

(5)

الاختيارات الفقهية ص/ 480.

(6)

أخرج أبو داود في الجهاد، باب 87، حديث 2608، وأبو يعلى (2/ 319، 511) حديث 1054، 1359، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 38) حديث 4620، والبيهقي (5/ 257)، وابن عبد البر في التمهيد (20/ 7)، من طريق حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم". وأخرجه أبو داود - أيضًا - في الجهاد، باب 87، حديث 2609، والبيهقي (5/ 257) بالإسناد المذكور، عن أبي هريرة رضي الله عنه. سكت عليه أبو داود، والمنذري، وحسنه النووي في رياض الصالحين، حديث 960، والسيوطي في الجامع الصغير (1/ 333 مع الفيض). وأخرجه البزار "كشف الأستار"(2/ 267) حديث 1673، من طريق حاتم بن إسماعيل، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، بنحوه. =

ص: 8

(وإذا أجمع أهلُ بلدٍ على تَرْكِهِ أثِموا) قال ابن حمدان: إن لم يحتكموا في غيره، لكن المخاطب بنصب القُضاة الإمام كما يأتي.

(وولايته) أي: القضاء (رُتبةٌ دينية ونَصْبَةٌ شرعية، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداءِ الحَقِّ فيه) قال مسروق: لأن أحكم يومًا بحقٍّ أحبُّ إلى من أن أغزو سنة في سبيل الله

(1)

.

(قال الشيخ

(2)

: والواجب اتخاذها) أي: ولاية القضاء (دينًا وقُربة، فإنَّها من أفضل القُرُبات) و"الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نَوَى"

(3)

(وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرياسة والمال بها. انتهى.

وفيه) أي: القضاء (خطر) عظيم (ووِزْرٌ كبير لمن لم يؤدِّ الحقَّ فيه) ولهذا في الحديث: "مَن جُعل قاضيًا فقد ذُبِح بغير سكِّينِ" رواه الترمذي

= وأخرجه أحمد (2/ 176 - 177)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا بلفظ:"ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمَّروا عليهم أحدهم".

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 63 - 64): فيه ابن لهيعة، وهو لين، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وأخرج ابن خزيمة (4/ 141) حديث 2541، والبزار (1/ 462) حديث 329، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 37) حديث 4619، والحاكم (1/ 443)، من طريق الأعمش، عن زيد بن وهب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا كان ثلاثة نفر فليؤمروا أحدهم، ذاك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وقال البزار: رواه غير واحد، عن الأعمش عن زيد بن وهب، عن عمر موقوفًا. وصوبه الدارقطني في علله (2/ 151). والموقوف أخرجه البيهقي (9/ 359).

(1)

أخرجه ابن سعد (6/ 82)، وابن أبي شيبة (7/ 229، 12/ 217)، والدارقطني (4/ 205)، والبيهقي (10/ 89).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 480.

(3)

تقدم تخريجه (1/ 193) تعليق رقم (2).

ص: 9

وحسَّنه

(1)

. أي: من تصدَّى للقضاء وتولاه، فقد تعرَّض للذبح، فليحذره، والذبح ههنا مجاز عن الهلاك، فإنه من أسرع أسبابه؛ قاله في "حاشيته".

(فمن عَرف الحقَّ ولم يقضِ به، أو قضى على جهلٍ، ففي النَّار، ومن عَرف الحقَّ وقضى به؛ ففي الجنَّة) لحديث: "قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة"

(2)

.

(1)

في كتاب الأحكام؛ باب 1، حديث 1325. وأخرجه - أيضًا - أبو داود في الأقضية، باب 1، حديث 3571 - 3572، والنسائي في الكبرى (3/ 462) حديث 5923 - 5925، وطبعة الرسالة (5/ 397 - 398) حديث 5892 - 5895، وابن ماجه في الأحكام، باب 1، حديث 2308، وابن أبي شيبة (7/ 236، 238)، وأحمد (2/ 230، 365)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 7 - 12)، وأبو يعلى (11/ 491، 10/ 261) حديث 6613، 5866، وابن حبان في الثقات (6/ 286)، والطبراني في الصغير (1/ 191) حديث 491، وابن عدي (1/ 224، 4/ 465)، والدارقطني (4/ 203 - 204)، والحاكم (4/ 91)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 246 - 247) حديث 395 - 396، والبيهقي (10/ 96)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 221) حديث 19726، والخطيب في تاريخه (6/ 151)، والبغوي في شرح السنة (10/ 92) حديث 2496، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 756) حديث 1261 - 1262، كلهم من طرق عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الترمذي حسن غريب. وقال البغوي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 184): أعله ابن الجوزي فقال: هذا حديث لا يصح وليس كما قال: وكفاه قوة تخريج النسائي له، وذكر الدارقطني الخلافَ فيه على سعيد المقبري، قال: والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة. انظر: علل الدارقطني (10/ 400). وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 238 مع الفيض) ورمز لحسنه. وقال المناوي: رمز المصف لحسنه، وهو أعلى من ذلك، فقد قال الحافظ العراقي [في تخريج أحاديث الإحياء (2/ 939) حديث 3435]: سنده صحيح.

(2)

أخرجه أبو داود في الأقضية، باب 2، حديث 3573، والترمذي في الأحكام، باب 1، حديث 1322، والنسائي في الكبرى (3/ 461) حديث 5922، وابن ماجه في =

ص: 10

(و‌

‌يجب على الإمام أن ينصِب في كلِّ إقليم قاضيًا)

لأن الإمام هو القائم بأمْرِ الرعية، المتكلِّم بمصلحتهم، المسؤول عنهم، فيبعث القضاة إلى الأمصار؛ لفعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، وللحاجة إلى ذلك؛ لئلا يتوقَّف الأمر على السفر إلى الإمام، فتضيع الحقوق؛ لما في السفر إليه من المشقَّة وكُلْفة النفقة، وبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم قاضيًا إلى اليمن

(1)

، وولَّى

= الأحكام، باب 3، حديث 2315، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 13 - 15)، والروياني في مسنده (1/ 94) حديث 66، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1/ 43 - 44) حديث 54 - 55، والطبراني في الكبير (2/ 20) حديث 1154، وفي الأوسط (4/ 377، 7/ 388، 402) حديث 3641، 6753، 6782، وابن عدي (4/ 459، 4/ 1332)، والحاكم (4/ 90)، والبيهقي (10/ 116 - 117)، وفي المدخل إلى السنن الكبرى ص/ 177، حديث 183، وفي شعب الإيمان (6/ 73) حديث 7531، كلهم من طرق عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وقال في الكبائر ص/ 98: إسناده قوي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 195): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح.

وأخرجه الطبراني - أيضًا - في الكبير (2/ 21) حديث 1156، عن طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه.

وأخرجه وكيع في أخبار القضاة (1/ 15 - 18)، والطبراني في الأوسط (4/ 495) حديث 3840، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 29) حديث 317، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 193): رواه الطبراني في الأوسط، والكبير

ورجال الكبير ثقات.

(1)

أخرج أبو داود في الأقضية، باب 6، حديث 3582، والترمذي في الأحكام، باب 5، حديث 1331، والنسائي في الكبرى (5/ 116 - 117) حديث 8417 - 8422، والطيالسي ص/ 16، 19، حديث 98، 125، وابن سعد (2/ 337)، وابن أبي شيبة (7/ 291، 10/ 176، 12/ 58)، وأحمد (1/ 83، 88، 90، 96، 136، 149 - 150، 156)، وفي فضائل الصحابة (2/ 709) حديث 1212، وعبد بن حميد (1/ 43) حديث 94، والبزار (2/ 298، 3/ 125، 307) حديث 721، 912، =

ص: 11

عُمرُ شُريحًا قضاءَ الكوفة

(1)

، وكعب بنَ سُور قضاء البصرة

(2)

، وغير ذلك. والإقليم بكسر الهمزة: أحد الأقاليم السبعة. قال أبو منصور: ليس بعربي محض

(3)

.

(و) يجب على الإمام (أن يختار لذلك أفضل من يجد عِلمًا وَوَرعًا) لأن الإمام ينظر للمسلمين، فيجب عليه اختيار الأصلح لهم، فيختار أفضلهم علمًا؛ لأن القضاء بالشيء فَرْعٌ عن العِلم به، والأفضل أثبت

= 733، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 84 - 87)، وأبو يعلى (1/ 252، 268، 305، 323)، حديث 293، 316، 371، 401، والإسماعيلي في معجم الشيوخ (2/ 654)، والحاكم (3/ 135)، والبيهقي (10/ 86، 137)، كلهم من طرق بألفاظ مختلفة، مطولًا ومختصرًا، عن علي رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا، فقلت: يا رسول الله ترسلني، وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟! فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول؛ فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلت قاضيًا، أو ما شككت في قضاء بعد. هذا لفظ أبي داود.

قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

ووافقه الذهبي. انظر: التلخيص الحبير (4/ 182).

وأخرج وكيع في أخبار القضاة (1/ 87)، والحاكم (4/ 88)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن عليًّا. فقال: علمهم الشرائع، واقض بينهم، قال: لا علم لي بالقضاء، فدفع في صدره، فقال: اللهم اهده للقضاء.

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 224) رقم 14979، وابن سعد (6/ 132)، وابن أبي شيبة (14/ 83)، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 189)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 332)، والبيهقي (5/ 274، 10/ 110)، وابن عساكر في تاريخه (23/ 18).

(2)

أخرجه ابن سعد (7/ 92)، وابن أبي شيبة (14/ 83)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 274)، والمعافى بن زكريا في الجليس الصالح (2/ 377).

(3)

المعرّب ص/ 23.

ص: 12

وأمكن، وكذا مَن ورعه أشدّ؛ لأن سكون النفس إلى ما يحكم به أعظم.

(وإن لم يعرف) الإمامُ الأفضلَ (سأل عمَّن صلح) قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

(فإن ذُكر له) أي: للإمام (من لا يعرف، أحضره وسأله) ليكون على بصيرة؛ ولأنه رُبَّما كان للمسؤول غرضٌ غير المطلوب. وكانوا يمتحنون العمال بالفرائض ونحوها من الغوامض (فإن عَرف عدالتَه) ولاه (وإلا بحث عنها، فإذا عَرَفَها، ولاه) وإلا لم يولِّه إلا عند الضرورة، كما يأتي.

(ويأمره) الإمام (بتقوى الله، وإيثار طاعته في سِرّه وعلانيته، و) يأمره أيضًا (بتحرِّي العَدْل والاجتهاد في إقامة الحَقِّ) لأن ذلك تذكرة له بما يجب عليه فِعْله، وإعانة له في إقامة الحق، وتقوية لقلبه، وتنبيه على اعتناء الإمام بأمر الشرع وأهله.

(ويكتب) الإمامُ (له) أي: للقاضي (بذلك عهدًا) إذا كان غائبًا عنه، فيكتب له بأنه ولَّاه، وأنه يأمره بتقوى الله. . . إلخ.

(و) يأمره (أن يستخلِفَ في كل صُقْع) بضم الصاد، أي: ناحية (أصلحَ من يقدِر عليه) لهم؛ لأن في ذلك خروجًا من الخلاف في جواز الاستخلاف، وتنبيهًا على مصلحة رعية بلد القاضي، وحثًّا له على اختيار الأصلح.

(ويجب على مَن يصلح له) أي: القضاء (إذا طُلب، ولم يوجد غيره ممن يوثق به، الدخولُ فيه، أن لم يشغله عمّا هو أهمّ منه) لأن فَرْض الكفاية إذا لم يوجد من يقوم به، تعيَّن عليه، كغسل الميت ونحوه.

(ولا يجب عليه) أي: على من يصلح للقضاء (طَلَبه) ولو لم يوجد

(1)

سورة النحل، الآية:43.

ص: 13

غيره؛ لما روى أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل القضاءَ، وُكِلَ إلى نفسِهِ، ومن أُجبر عليه، نزل مَلَك يُسَددُه" رواه الخمسة إلا النسائي

(1)

. وفي رواية أخرى: "مَن ابتَغَى القضاءَ وسأل فيه شُفَعَاء، وُكِلَ إلى نفسه، ومن أكره عليه، أُنزل عليه مَلَك يُسَدِّدُه، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب

(2)

.

(ومن لا يُحسِنه) أي: القضاء (ولم تجتمع فيه شُروطُه؛ حَرُم عليه

(1)

أبو داود في الأقضية، باب 3، حديث 3578، والترمذي في الأحكام، باب 1، حديث 1323، وابن ماجه في الأحكام، باب 1، حديث 2309، وأحمد (3/ 118). وأخرجه -أيضًا- ابن أبي شيبة (7/ 235 - 236)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 62 - 63)، والحاكم (4/ 92)، والبيهقي (10/ 100)، والخطيب في الموضح (1/ 516)، والضياء في المختارة (4/ 407 - 408) حديث 1580 - 1581، من طرق عن إسرائيل، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن بلال بن أبي موسى، عن أنس رضي الله عنه.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وقال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 547): بلال بن مرداس الفزاري مجهول الحال، وعبد الأعلى بن عامر ضعيف.

(2)

أخرجه الترمذي في الأحكام، باب 1، حديث 1324، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 62)، والبيهقي (10/ 100)، والخطيب في الموضح (1/ 516)، من طريق أبي عوانة، عن عبد الأعلى بن عامر، عن بلال بن مرداس، عن خيثمة بن أبي خيثمة، عن أنس رضي الله عنه.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهو أصح من حديث إسرائيل عن عبد الأعلى.

قال ابن القطان: خيثمة بن أبي خيثمة البصرى لم تثبت عدالته، قال ابن معين: ليس بشيء، والعجب من الترمذي فإنه أورد الحديث من رواية إسرائيل عن عبد الأعلى عن بلال بن أبي موسى عن أنس، ثم قال في رواية أبي عوانة: إنها أصح من رواية إسرائيل، وإسرائيل أحد الحفاظ، ولولا ضعف عبد الأعلى كان هذا الطريق خيرًا من طريق أبي عوانة الذي فيه خيثمة وبلال بن مرداس.

ص: 14

الدخول فيه) لعدم صحة قضائه، فيعظم الغرر والضرر.

(ومن كان من أهله) أي: القضاء (ويوجد غيرُه مِثلُه) في الأهلية (فله أن يليه، ولا يجب عليه) الدخول فيه؛ لأنه لم يتعيَّن عليه.

(والأولى ألا يُجيبَ إذا طُلِبَ) إذًا؛ لما فيه من الخطر والمشقَّة الشديدة؛ ولما في تَرْكه من السلامة، وذلك طريقة السلف، وقد أراد عثمان تولية ابن عُمر القضاءَ، فأبى

(1)

.

(ويُكره له طَلَبه) أي: القضاء (وكذلك الإمارة) لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرَة: "لا تسأل الإمارةَ، فإنك إن أُعْطِيتَها عن مسألةٍ

(1)

أخرج الترمذي في الأحكام، باب 1، حديث 1322، وفي العلل الكبير ص/ 198، حديث 351، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 17 - 18)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 440) حديث 5056، والطبرانى في الأوسط (3/ 351) حديث 2750، والضياء في المختارة (1/ 499 - 500) حديث 369، من طريق عبد الملك بن أبي جميلة، عن عبد الله بن موهب أن عثمان رضي الله عنه قال لابن عمر رضي الله عنهما: اذهب فاقضِ بين الناس، قال: أو تعافيني يا أمير المؤمنين؟ قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان قاضيا فقضى بالعدل فبالحرى أن ينقلب منه كفافًا. فما أرجو بعد ذلك؟!

قال الترمذي: حديث غريب وليس إسناده عندي بمتصل، ونقل في العلل (1/ 534) عن البخاري قوله: عبد الله بن موهب عن عثمان مرسل.

وقال أبو حاتم في العلل (1/ 468): عبد الملك بن أبي جميلة مجهول، وعبد الله بن موهب: الرملي على ما أرى، وهو عن عثمان مرسل.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 146)، وأحمد (1/ 66)، من طريق أبي سنان، عن يزيد بن موهب، بنحوه.

وأخرجه الطبراني فى الأوسط (4/ 495) رقم 3840، من طريق محمد بن مسلم الطائفي. عن عمرو ين دينار، بنحوه وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 193) وعزاه -أيضًا- إلى الكبير

وقال: رجال الكبير ثقات.

ص: 15

وُكِلتَ إليها، وإن أُعطيتها عن

(1)

غير مسألة أُعِنتَ عليها" متفق عليه

(2)

.

(وطريقة السلفِ الامتناعُ) طلبًا للسلامة.

(وإن لم يمكنه القيامُ بالواجب، لظُلْمِ السُّلطان أو غيره؛ حَرُم) عليه الدخول فيه (وتأكد الامتناع) من الإجابة إليه (ويَحْرُم بَذل المال في ذلك) أي: في نَصْبِه قاضيًا (ويحرم أخذه) أي: أخذ المال على تولية القضاء.

(و) يحرم (طَلَبُه وفيه مُباشِرٌ أهلٌ له) ولو كان الطالب أهلًا للقضاء؛ لما فيه من إيذاء القائم به.

فإن لم يكن فيه مباشِرٌ أهل لم يحرم طلبه، قال الماوردي

(3)

: فإن كان أكثر قصده إزالته أُثيب، وإن كان قصده ليختص بالنظر أُبيح، فإن ظَنَّ عدم تمكينه فاحتمالان.

(و‌

‌تصح تولية مفضول مع وجود أفضل)

منه؛ لأن المفضول من الصحابة كان يولَّى مع وجود الفاضل، مع الاشتهار والتكرار، ولم يُنكر ذلك أحد، فكان إجماعًا.

وتصح -أيضًا- تولية حريص عليها بلا كراهة.

(و‌

‌لا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام، أو نائبه)

فيه؛ لأن ولاية القضاء من المصالح العامة، فلم تجز إلا من جهةِ الإمام، كعقد الذِّمة؛ ولأن الإمام صاحبُ الأمر والنهي، وهو واجب الطاعة مسموع الكلمة.

(1)

في "ذ": "من"، وكلاهما في الرواية.

(2)

البخاري، في الأيمان والنذور، باب 1، حديث 6622، وفي كفارات الأيمان، باب 10، حديث 6722، وفي الأحكام، باب 5 - 6، حديث 7146 - 7147، ومسلم، في الأيمان، حديث 1652.

(3)

الأحكام السلطانية ص/ 121، والفروع (6/ 417).

ص: 16

(ومن شَرطِ صِحَّتِها) أي: ولاية القضاء (معرفة المولِّي) بكسر اللام (كون المولَّى) بفتحها (على صفة يصلح للقضاء) لأن مقصود القضاء لا يصلح إلا بذلك؛ ولأن الأصلَ العدمُ، فلا تجوز توليته مع عدم العلم بأهليته، كما لا تجوز توليته مع عدم العلم بصلاحيته.

(و) من شرط صِحَّتها (تعيينُ ما يوليه الحكم فيه من الأعمال) كمصر ونواحيها (والبلدان) كالمَحَلَّة ونحوها؛ ليعلم محل ولايته، فيحكم فيه ولا يحكم في غيره؛ ولأنه عقد ولاية يُشترط فيه الإيجاب والقَبول، فلابُدَّ من معرفة المعقود عليه، كالوكالة.

(و) من شَرْطِ صحتها (مشافهتُه بالولاية في المجلس) إن كان حاضرًا (ومكاتبتُه بها) إن كان غائبا؛ لأن التولية تحصُل بذلك، كالتوكيل، وحينئذ يكتب له عهدًا بما ولاه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن

(1)

، وكتب عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد فإني قد بَعثتُ إليكم

(2)

عمارًا أميرًا

(3)

وعبد الله قاضيًا

(4)

(في البُعْدِ) أي: يكاتبه

(5)

بها

(1)

تقدم تخريجه (1/ 313) تعليق رقم (1 - 2)، (13/ 325) تعليق رقم (5).

(2)

في "ذ": "لكم".

(3)

في "ح": "أميرًا عليكم".

(4)

أخرجه ابن سعد (6/ 7)، وأحمد في فضائل الصحابة (2/ 841 - 842) رقم 1546 - 1547، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 533)، وابن حزم في الإحكام (4/ 211)، والطبراني في الكبير (9/ 86) رقم 8478، والضياء في المختارة (1/ 207 - 208) رقم 108 - 109.

قال ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 678): إسناده قوي صحيح.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 291): رجاله رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب، وهو ثقة.

(5)

في "ذ": "أي مكاتبته".

ص: 17

في البُعْد (وإشهادُ عدلين على توليته، فيقرأ) الإمامُ أو نائبه (عليهما العهدَ، أو يقرؤه غيره بحضرته، ليمضيا معه إلى بلد توليته، فيقيما له الشهادة، ويقول) الإمامُ أو نائبه (لهما: اشهدا على أنّي قد ولَّيته قضاءَ البلد الفُلاني، وتقدَّمت إليه بما يشتمل هذا العهد عليه) أي: إذا كان البلد الذي ولاه فيه بعيدًا لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام.

(ولا تصح الولاية بمجرَّد الكتابة من غير إشهادِ) عدلين عليها؛ لأن العلم لا يصح إلا بذلك.

(وإن كان البلدُ) الذي ولاه فيه (قريبًا من بلد الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام، نحو أن يكون بينهما خمسة أيام فما دونها، جاز أن يكتفى بالاستفاضة دون الشهادة، كالكتابة والإشهاد) أي: كما يكتفى بالاستفاضة عن الكتابة وعن الإشهاد؛ لأن العلم بالولاية يحصُل بذلك. وأطلق الأدمي

(1)

: واستفاضته

(2)

. وظاهره: مع البعد، قال في "الفروع": وهو متجه.

(ولا تُشترط عدالة المولي -بكسر اللامَ- ولو كان نائبَ الإمام) لأن ولاية الإمام الكبرى تصح من كل بَرٍّ وفاجر، فصحة

(3)

ولايته كالعدل؛ ولأنها لو اعتبرت في المولي، أفضى إلى تعذُّرها بالكلية فيما إذا كان غير عدل.

(وألفاظ التولية الصريحة سبعة: ولَّيتُكَ الحكم، و: قلَّدتُكَ) الحكمَ (و: استَنَبْتُك) في الحكم (و: استخلفتُكَ) في الحكم (و: ردَدْتُ إليك)

(1)

في "ذ": "الأزجي"، وعلق في الهامش:"نسخة: الأدمي".

(2)

في "ح" و"ذ": "واستفاضة".

(3)

في "ذ": "فتصح".

ص: 18

الحكم (و: فوَّضت إليك) الحكمَ (و: جعلتُ إليك الحكم، فإذا وُجِد أحدها) أي: أحدُ هذه الألفاظ السبعة (وقَبِلَ المولَّى الحاضُر في المجلس، أو) قَبِلَ (الغائب بعده) أي: بعد المجلس (أو شَرَع الغائبُ في العمل؛ انعقدت) الولاية؛ لأن هذه الألفاظ تدلُّ على ولاية القضاء دلالة لا تفتقر معها إلى شيءِ آخر. قال في "المبدع": ويصح القَبول بالشروع في العمل في الأصح. انتهى. وظاهره: أنه لا فرق بين الحاضر والغائب، وهو واضح.

(والكناية نحو: اعتمدتُ عليك، و: عولتُ عليك، و: وكَلْتُ إليك، و: أسندت الحكمَ إليك، فلا تنعقدُ) الولاية بكناية منها (حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم، أو: فتولَّ ما عولتُ عليك، وما أشبهه) لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه أو غير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة تنفي الاحتمال.

فصل

(وتفيد ولاية الحكم العامة) أي: التي لم تُخَصَّ بحالة دون حالة، فصلَ الخصومات وما عُطف عليه.

(ويَلزم) القاضي (بها) أي: بسبب الولاية العامة (فصلُ الخصومات، واستيفاءُ الحق ممن هو عليه، ودفعُه إلى رَبِّه) لأن المقصود من القضاء ذلك، ولهذا قال أحمد

(1)

: أتذهبُ حقوقُ الناس؟! (والنظرُ في أموال اليتامى والمجانين والسُّفهاء) لأن تَركَ ذلك يؤدِّي إلى ضياع أموالهم (والحَجرُ على من يرى الحَجرَ عليه لسَفَهٍ أو فَلسَ) لأن الحَجرَ يفتقر إلى نظرِ واجتهاد، فلذلك كان مختصًا به (والنظرُ في الوقوف) التي

(1)

الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص/ 24، 71، والهداية ص/ 563.

ص: 19

(في عمله) أي: ولايته (بإجرائها على شرط الواقف) لأن الضرورة تدعو إلى إجرائها على شروطه، سواء كان لها ناظرٌ خاص، أو لم يكن (وتنفيذُ الوصايا) لأن الميت محتاج إلى ذلك كغيره

(1)

.

(وتزويج النساء اللاتي لا وليَّ لهنَّ) لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتَجَرُوا فالسلطانُ ولي مَن لا ولي له"

(2)

والقاضي نائبه.

(وإقامةُ الحدود) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُقيمها، والخلفاءُ من بعده.

(وإقامةُ الجمعة، بالإذن في إقامتها، ونَصْب إمامها، وكذا العيد) لأن الخلفاء كانوا يقيمونها (ما لم يُخَصَّا بإمامٍ) من جهة السلطان أو الواقف؛ ذكره ابن حمدان.

(والنظرُ في مال الغائب) لئلا يضيع.

(وجبايةُ الخراج، وأخذُ الصدقة) أي: الزكاة (إن لم يُخصَّا بعامل) من جهة الإمام، قياسًا على ما تقدم.

(والنظرُ في مصالح عمله، بكفِّ الأذى عن طُرقات المسلمين، وأفنيتهم) لأنه مُرصَد للمصالح.

(وتصفُّحُ حال شهوده وأُمنائه؛ ليستبقي أو يستبدل من يصلح) أي: يستبقي من يصلح، ويستبدل من ثبت جرحه، كما في "المقنع" و"المنتهى" وغيرهما؛ لأن العادة في القضاة ذلك، فعند إطلاق الولاية تنصرف إلى ما جرت به العادة.

(قال في "التبصرة": ويستفيد الاحتساب على الباعة والمشترين، وإلزامهم بالشرع) وفي "المنتهى": لا يستفيد ذلك؛ لأن العادة لم تثبت

(1)

في الأصل: "بغيره".

(2)

تقدم تخريجه (11/ 260) تعليق رقم (3).

ص: 20

بتولِّي القضاة لذلك.

(قال الشيخ

(1)

: ما يستفيده بالولاية لا حَدَّ له شرعًا، بل يُتَلقَّى من الألفاظ والأحوال والعُرف) لأن كل ما لم يُحَدَّ شرعًا يُحمل على العرف، كالحِرز والقبض.

(ولا يحكم) القاضي في غير عمله (ولا يولِّي) في غير عمله (ولا يسمع بينة في غير عمله، وهو) في الأصل ما بجمع بلدانًا أو قرًى متفرقة، كالعراق ونواحيه. والمراد هنا:(محلُّ حكمه) الذي وُلِّي ليحكم فيه، سواء كان يجمع بلدانًا أو قرًى متفرقة، أو بلدًا معينًا، أو محلًّا معينًا من البلد، كما أوضحته في "الحاشية".

(فإن فعل) أي: حكم، أو ولَّى، أو سمع بينة في غير عمله (لَغَا) ذلك؛ لأنه لم يُصادف ولاية (وتجب إعادة الشهادة، كتعديلها) في محل الحكم؛ لأنه موضع نفوذ حكمه.

(وله) أي: القاضي (طَلَبُ الرزقِ من بيت المال لنفسه، وأمنائه وخلفائه) لأن عمر رَزَقَ شُريحًا في كل شهرٍ مائهَ درهم

(2)

، ورزق ابنَ

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 480.

(2)

لم نقف على من خرجه مسندًا بهذا اللفظ، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 194): لم أره هكذا. وأخرج ابن عساكر في تاريخه (18/ 23) موصولًا، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 102)، معلقا، عن مجالد، عن الشعبي أن عمر رزق شريحًا مائة درهم على القضاء.

وأخرج عبد الرزاق (8/ 297) رقم 15282، عن الحسن، أن عمر رزق شريحا وسلمان بن ربيعة على القضاء. قال الحافظ في التلخيص: هذا ضعيف منقطع.

وذكر البخاري في الأحكام، باب 17، قبل حديث 7163 معلقًا كان شريح يأخذ على القضاء أجرًا، ووصله عبد الرزاق (8/ 297) رقم 15283، عن الشعبي قال: لم يأخذ مسروق على القضاء رزقًا، وأخذ شريح. =

ص: 21

مسعودِ نصفَ شاةِ كلَّ يوم

(1)

، وإذا جاز له الطلب لنفسه، جاز لمن هو في معناه (مع الحاجة وعدمها) لأن أبا بكر لما ولي الخلافة، فرضوا له كل يوم درهمين

(2)

، وفرض عمر لزيدِ وغيره

(3)

، وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة

(4)

(5)

؛ ولأنه لو لم يجز فرض الرزق لتعطلت وضاعت الحقوق.

= وأخرج ابن أبى شيبة (6/ 506)، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 227)، عن ابن أبى ليلى قال: بلغنا أن عليّا رزق شريحًا على قضاء الكوفة خمس مائة درهم. زاد وكيع: في كل شهر.

(1)

لم نقف على من رواه بهذا اللفظ، وأخرج عبد الرزاق (6/ 100، 10/ 333) رقم 10128، 19276، وأبو عبيد في الأموال ص/ 86، رقم 172، وابن سعد (3/ 255، 6/ 8)، وابن زنجويه في الأموال (1/ 209) رقم 256، والبيهقي (6/ 354، 9/ 136)، والخطيب في تاريخه (1/ 10 - 11)، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعث عمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود، وعثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل عمارًا على الصلاة والقتال، وجعل عبد الله بن مسعود على القضاء وعلى بيت المال، وجعل عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وجعل لهم كل يوم شاة: نصفها وسواقطها لعمار، وربعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف

الخ.

وصحح إسناده. ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 500).

(2)

لم نقف على من رواه مسندًا هكذا، وأورده الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 194) وقال: لم أره هكذا، وروى ابن سعد [3/ 185] بسند صحيح إلى ميمون الجزري والد عمرو، قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين، قال: زيدوني فإن لي عيالًا، وقد شغلتموني عن التجارة، فزادوا له خمس مائة.

وأخرج ابن سعد -أيضًا- (3/ 184)، عن عطاء بن السائب أنهم فرضوا لأبى بكر رضي الله عنه كل يوم شطر شاة. قال الحافظ في الفتح (4/ 305): مرسل رجاله ثقات.

(3)

أخرج ابن سعد (2/ 359)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 108)، من طريق الحجاج بن أرطاة، عن نافع قال: استعمل عمر بن الخطاب زيد بن ثابت على القضاء، وفرض له رزقًا.

(4)

في "ذ": "لمن تولى القضاء"، وعلق في الهامش:"نسخة: من القضاة".

(5)

أخرج ابن عساكر في تاريخه (58/ 435)، عن نافع قال: كتب عمر بن الخطاب إلى =

ص: 22

(فإن لم يُجعل له) أي: القاضي (شيء، وليس له ما يكفيه، وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بجُعل؛ جاز) في الأصح؛ قاله في "المغني" و"الشرح".

(و‌

‌لا يجوز الاستئجار على القضاء)

لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القُربة، ولا يعمله الإنسان عن غيره، وإنما يقع عن نفسه.

(وللمفتي أخذُ الرِّزْقِ من بيت المال) لأن الإفتاء عن المصالح العامة، كالأذان (ولو تعيَّن عليه أن يُفتي، وله كِفاية؛ لم يأخذ) من المستفتي؛ لأنه اعتياض عن واجب عليه، ولا يجوز.

(ومن أخذ رِزقًا) من بيت المال (لم يأخذ) من المستفتي أجرة لفتياه ولا لخطِّه؛ لاستغنائه بالرزق (وإلا) أي: وإن لم يأخذ رِزْقًا (أخذ أجرة خطِّه) فقط.

(و) يجب (على الإمام أن يفرض من بيت المال لمن نصَب نفسه لتدريس العلم والفتوى في الأحكام ما يُغنيه من التكسُّب) لدعاء الحاجة إلى القيام بذلك والانقطاعِ له، وهو في معنى الإمامة والقضاء.

فصل

(ويجوز أن يولِّيه) الإمام (عمومَ النظرِ فى عموم العملِ، بأن يولِّيَه القضاءَ) في سائر الأحكام (في كل البلدان، و) يجوز (أن يولِّيَه) الإمام (خاصًا في أحدهما) أي: القضاء أو العمل (أو) أن يولِّيه خاصًّا (فيهما)

= أبي عبيدة بن الجراح وإلى معاذ بن جبل حين بعثهما إلى الشام أن: انظروا رجالًا من صالحي مَن قِبَلكم، فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله عز وجل.

ص: 23

أي: في القضاء والعمل (فيولِّيَه عمومَ النظرِ في بلد) خاص (أو محَلَّةِ خاصة، فينفُذُ قضاؤه في أهله ومن طَرَأ إليه) لأن الطارئ إليه يُعطى حكم أهله، بدليل أن الدماء الواجبة لأهل مكة يجوز تفريقها في الطارئ إليها كأهلها.

(لكن لو أذِنَتْ له في تزويجها) من لا وَليَّ لها وهي في عمله (فلم يزوِّجْها حتى خرجت من عَمَله، لم يصح تزويجه) لها ما دامت خارجة عن عمله؛ لأنها حالةَ التزويج لم تكن في عمله، فلم يكن له عليها ولاية (كما لو أذنت له في غير عمله) أن يزوِّجَها، فلا يصح (ولو دخلت بعد) ذلك (إلى عمله) لأن إذنها له في غير عمله لا عِبرة به؛ لعدم ولايته عليها في غير عمله، فلم يصح تزويجه لها، كما لو لم تدخل إلى عمله.

(فإن قالت) للقاضي في غير عمله: (إذا حصلت في عملك، فقد أذنتُ لك) أن تزوّجني (فزوَّجها) بعد حصولها (في عمله؛ صَحَّ) تزويجه لها (بناءً على جواز تعليق الوكالة بالشرط) والإذنُ في معنى الوكالة، وليس وكالةً، كما تقدم

(1)

في النكاح؛ لأنها لا تملك عزله.

(أو يجعل) الإمامُ أو نائبُهُ (إليه) أي: القاضي (الحكمَ في المداينات خاصَّة، أو) الحكم (في قَدْرٍ من المال لا يتجاوزه، أو يفوّض إليه عقود الأنكحة دون غيرها) في بلدٍ خاص، أو جميع البلدان؛ لأن الخيرة فى التولية إلى الإمام، فكذا في صفتها، وله الاستنابة في الكل، فكذا في البعض.

وقد صَحَّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يستنيب أصحابه كُلًّا في شيء، فولَّى

(1)

(11/ 283).

ص: 24

عمرَ القضاء

(1)

، وبعث عليًّا قاضيًا باليمن

(2)

، وكان يُرسِل بعضَهم لقبض الزكاة وغيرها

(3)

، وكذلك الخلفاء من بعده.

(ويجوز أن يولِّيَ) الإمامُ قاضيًا (من غير مذهبه) لأن على القاضي أن يجتهد رأيه في قضائه (وإن نهاه عن الحكم في مسألةٍ، فله الحكمُ بها) هذا أحد وجهين؛ أطلقهما في "الرعاية". قال في "الإنصاف": قلت: الصواب الجواز. انتهى.

قلت: فيفرق بين ما إذا ولاه ابتداءً شيئًا خاصًّا، وبين ما إذا ولاه ثم نهاه عن شيء.

(ويجوز أن يولِّي) مَن له الولاية (قاضيين فأكثر في بلد واحد، يجعل لكل واحدٍ منهما عملًا، سواء كان المولِّي الإمامَ، أو القاضي) ولَّى (خلفاءَه، مثل أن يجعل إلى أحدهما الحكمَ بين الناس، و) يجعل (إلى الآخر عقود الأنكحة) لأن الإمام كامل الولاية، فوجب أن يملك ذلك، إذ لا ضررَ فيه، كتولية القاضي الواحد.

(فإن جعل إليهما) أي: القاضيين (عملًا واحدًا، جاز) له ذلك (فيحكم كلُّ واحدٍ باجتهاده) لأنها نيابة، فجاز جعلها لاثنين كالوكالة؛

(1)

أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 426).

(2)

تقدم تخريجه (15/ 11) تعليق رقم (1).

(3)

أخرج البخارى في الزكاة، باب 67، حديث 1500، وفي الهبة، باب 17، حديث 2597، ومسلم في الإمارة، حديث 1832، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد -يقال له ابن اللُّتْبيَّة- على الصدقة، فلما قدم، قال:

الحديث.

وأخرج أبو داود في الإمارة، باب 12، حديث 2947، عن أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيًا .. الحديث. وانظر ما تقدم (4/ 419).

ص: 25

ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع واحد، فالإمام أولى.

(وليس لـ) ـلقاضي (الآخر) الـ (ـاعتراضُ عليه) أي: على رفيقه (ولا نقضُ حُكمِه) كما لو كان كلُّ واحدٍ منهما بعمل خاص.

(فإن تنازع خصمان في الحكم عند أحدهم، قُدِّم قولُ الطالب) وهو المدَّعي على المُدَّعى عليه (ولو) كان الطالب يريد الدعوى (عند نائب) لأن الحق له في الدعوى، فكان الحق إليه

(1)

في تعيين القاضي.

(فلو تساويا) أي: الخصمان (في الدعوى، كمدعيَيْن

(2)

اختلفا في ثمن مبيع باقٍ، اعتُبر أقربُ الحاكمين إليهما) لأنه لا حاجة إلى التكلُّف للأبعد منهما (فإن استويا) أي: الحاكمان في القُرب (أُقرع بينهما) أي: بين الخصمين، إذا طلب كلُّ واحدٍ منهما قاضيًا؛ لعدم الترجيح بدون القُرعة.

(و‌

‌لا يجوز أن يقلِّد القضاءَ لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه)

لقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}

(3)

والحق لا يتعيَّن في مذهب، وقد يظهر الحق في غير ذلك المذهب.

(فإن فعل) أي: ولاه على أن يحكم بمذهب بعينه (بطل الشرطُ) وصحَّت الولاية؛ كالشروط الفاسدة في البيع (وعملُ الناسِ على خلافه، كما يأتي قريبًا.

قال الشيخ

(4)

: من أوجب تقليد إمامٍ بعينه استُتيب، فإن تاب وإلا

(1)

في "ذ": "له"، وعلق في الهامش:"وفي نسخة: إليه".

(2)

في "ذ": "كالمدعيين".

(3)

سورة ص، الآية:26.

(4)

الاختيارات الفقهية ص/ 482.

ص: 26

قُتِلَ، وإن قال: ينبغي) أي: تقليد إمامٍ بعينه (كان جاهلًا ضالًا) و (قال: ومن كان متبعًا لإمامٍ، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته) بلا نزاع (قال: وفي هذه الحال) أي: حال قوة الدليل، أو كون أحدهما أعلم أو أتقى (يجوز) تقليد من اتصف بذلك (عند أئمة الإسلام، بل يجب، وإن) الإمام (أحمد نص عليه

(1)

) انتهى.

(ويجوز أن يفوِّضَ الإمامُ إلى إنسان تولية القضاء) أي: أن يولي القضاة (وليس له) أي: لمن ولاه الإمام تولية القضاء (أن يولّي نفسَه، ولا والده، ولا ولده، كما لو وكَّله في الصدقة بمال، لم يَجُزْ له أخذُه، ولا دفعه إلى هذين) كما تقدم في الوكالة

(2)

.

(فإن مات المولِّي -بكسر اللام- أو عُزِل المُولَّى -بفتحها-) أي: اللام (مع صلاحيتِه؛ لم تبطل ولايتُه، كما لو عُزل الإمامُ؛ لأنه) أي: القاضي (نائب المسلمين، لا) نائب (الإمام) فلم ينعزل بموته ولا عَزْله؛ ولأنه عقد لمصلحة المسلمين، كما لو عقد الوليُّ النكاحَ على مَوْليَّتِهِ، ثم مات، أو فسخه (وكذا كلُّ عقدٍ لمصلحة المسلمين، كوَالٍ؛ ومن ينصبه) الإمام (لجباية مالٍ) كخراج وزكاة (وصرفِه، وأمير جهادٍ، ووكيل بيت المال، ومحتسب؛ قاله الشيخ

(3)

) قال في "المبدع": وهو ظاهر كلام غيره. وجزم به في "المنتهى".

(وقال) الشيخ

(4)

(أيضًا في الكُلِّ: لا ينعزل بانعزال المستنيب

(1)

انظر: الآداب الشرعية (1/ 187).

(2)

(8/ 416).

(3)

انظر: الفروع (6/ 436 - 437).

(4)

انظر: الفروع (6/ 437).

ص: 27

وموته، حتى يقوم غيرُه مقامه. انتهى) لأن فيه ضررًا.

(و‌

‌لا يبطل ما فرضه فارض في المستقبل)

أي: لو قدَّر القاضي نفقة أو كسوة أو نحوهما، ثم مات أو عزل، لم يبطل فرضه في المستقبل بموته، ولا بعزله، ولا يجوز لأحد تغييره ما لم يتغير السبب؛ لأن فرضه حُكم، وأحكامُهُ لا تبطل بالموت ولا بالعزل.

(و‌

‌لا ينعزل) القاضي (حيث صَحَّ عزلُه، قبل علمه بالعزل

؛ فليس كوكيل) لأن الحقَّ في الولاية لله، وإن قلنا: هو وكيل، والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم، كما قلنا على المشهور: إن نسخ الحكم لا يثبت في حَقِّ من لم يبلغه.

وفرَّقوا بينه وبين الوكيل؛ بأن أكثر ما في الوكيل ثبوتُ الضمان، وذلك لا يُنافي الجهلَ. بخلاف الحكم فإن فيه الإثم، وذلك ينافي الجهلَ، كذلك الأمر والنهي، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد

(1)

؛ قاله في "الاختيارات"

(2)

.

(فإن كان المستنيبُ قاضيًا، فعزل نُوَّابه، أو زالت ولايته بموتٍ أو عزل، أو غيره، كما لو اختلَّ فيه بعض شروطه؛ انعزلوا) لأنهم نوابه، أشبهوا الوكيل. وهذا بخلاف عن ولاه الإمامُ قاضيًا، فإنه يتعلَّق به قضايا الناس، وأحكامهم عنده وعند نُوَّابه بالبلدان، فيشقّ ذلك على المسلمين.

قلت: وعلى هذا فَنُوَّاب الأمير: كالوالي والمحتسِب ونحوهما، ممن ولايته منه، ينعزلون بعزله.

(ومن عَزَل نفسه انعزل) قاضيًا كان أو غيره، وسواء كانت ولايته

(1)

انظر: الاختيارات الفقهية ص/ 487.

(2)

ص/ 487.

ص: 28

من الإمام أو غيره؛ لأنه وكيل.

(ولو أُخبر بموت قاضي بلد، فولَّى غيرَه) مكانَه (فبان) المخبَر عنه (حيًّا؛ لم ينعزل) لأنها كالمُعَلَّقة على صحة الأخبار، وكذا كلُّ ما رُتِّب على إنهاءٍ فاسدٍ.

(ويُستحبُّ) للإمام (أن يجعل للقاضي أن يستخلِف) خروجًا من خلافِ مَن منعه منه بلا إذنٍ.

(وإن نهاه) أي: نهى الإمامُ القاضيَ (عن الاستخلاف، لم يكن له أن يستخلف) غيره؛ لأن ولايته قاصرة.

(وإن أطلق) الإمام، فلم يأمره بالاستخلاف، ولم ينهه عنه (فله) أي: القاضي (ذلك) قال في "الاختيارات"

(1)

: نص الإمام أحمد

(2)

على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام، فرقًا بينه وبين الوكيل، وجعلًا له كالوصي. انتهى. وجزم به في "المستوعب"، وقدَّمه في "الشرح"، وقيل: له ذلك فيما لا يباشره مثله عُرفًا، أو يشق. وهذا الثاني جزم به المصنف في الوكالة تبعًا لـ"التنقيح"، وقال عنه هناك في "الإنصاف": إنه المذهب. وقد نقلنا كلامه في "الحاشية".

فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف، فحكمه حكم مَن لم يول. ويشترط أهلية النائب لما تولاَّه.

(ويصحُّ) تعليق (توليةِ قضاءٍ، و) توليةِ (إمْرَةِ

(3)

) بلدٍ أو سريةٍ ونحوها (بشرطٍ) لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم علَّق ولاية الإمارة بعد زيد على شرط

(4)

،

(1)

ص/ 487.

(2)

انظر: الأحكام السلطانية ص/ 68.

(3)

في "ذ": "إمارة".

(4)

أخرج البخاري في المغازي، باب 44، حديث 4261، عن عبد الله بن عمر رضي الله =

ص: 29

فكذا ولاية الحكم.

(وإذا قال المولِّي: من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان، فهو خليفتي، أو) فـ (ـقد ولَّيته، لم تنعقد لمن ينظر منهما؛ لجهالة المولَّى منهما) لأنه لم يُعين بالولاية واحدًا منهما، كما لو قال: بعتُكَ أحدَ الثوبين.

(وإن قال) الإمام: (ولَّيت فلانًا وفلانًا، فمن نَظَرَ منهما فهو خليفتي، انعقدت لمن سبق منهما بالنظر) لأنه ولاهما جميعًا، ثم عيّن السابق منهما.

فصل

(ويُشترط في القاضي عشر صفاتٍ.

أن يكون بالغًا عاقلًا) لأن غيرهما لا ينفذ قوله في نفسه، فَلأَنْ لا ينفذ في غيره أولى، وهما يستحقان الحَجْرَ عليهما، والقاضي يستحقّه على غيره، وبين الحالتين منافاة.

(ذَكرًا) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يُفْلح قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً"

(1)

؛ ولأن المرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، ليست أهلًا لحضور محافل الرجال.

(حرًّا) لأن العبد منقوص برِقِّه، مشغولٌ بحقوق سيده، وكالإمامة العُظمى (لكن تصحّ ولاية عبدٍ إمارةَ سريَّةٍ، وقَسْمَ صدقة، و) قسم (فيء، وإمامةَ صلاة) غير جمعة وعيد.

= عنهما، قال: أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتل زيد، فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبد الله بن رواحة.

(1)

أخرجه البخاري في المغازي، باب 82، حديث 4425، وفي الفتن، باب 18، حديث 7099، عن أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 30

(وأن يكون مسلمًا) لأن الكفر يقتضي إذلالَ صاحبه، والقضاءُ يقتضي احترامه، وبينهما منافاة؛ ولأنه شرط في الشهادة، فهنا أولى.

(عدلًا، ولو تائبًا من قَذْف) نص عليه

(1)

(فلا تجوز تولية فاسق، ولا مَن فيه نقص يمنع) قَبول (الشهادة) لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

(2)

ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يُقبل قوله، ويجب التبيُّن عند حكمه، وكالشهادة.

(وأن يكون سميعًا) لأن الأصمَّ لا يسمع كلام الخصمين (بصيرًا) لأن الأعمى لا يميز المدعي من المُدَّعى عليه، والمُقِرَّ من المُقَرِّ له (ناطقًا) لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميعُ الناس إشارتَه.

(مجتهدًا) إجماعًا؛ ذكره ابن حزم

(3)

؛ وأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفتٍ تقليدَ رَجُلٍ لا يحكم ولا يُفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد، والقاضي مأمورٌ بالحكم بما أنزل الله؛ ولأن المفتي لا يجوز أن يكون عامِّيًّا مقلّدًا، فالحاكم أولى (ولو) كان اجتهاده (في مذهب إمامه) إذا لم يوجد غيره (للضرورة).

لكن في "الإفصاح"

(4)

: إن الإجماعَ انعقدَ على تقليد كُلٍّ من المذاهب الأربعة، وإنَّ الحقَّ لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في

(1)

انظر: مسائل الكوسج (7/ 3380 - 3381) رقم 2433، ومسائل صالح (1/ 438) رقم 431 - 432، ومسائل ابن هانئ (2/ 37) رقم 1330، 1334، ومسائل عبد الله (3/ 1308) رقم 1820، والفروع (6/ 421، 569).

(2)

سورة الحجرات، الآية 6.

(3)

انظر: مراتب الإجماع ص/ 85، 86، والفروع (6/ 421).

(4)

(2/ 343).

ص: 31

هذه المسألة أن قول من قال: إنه لا يجوز إلا تولية مجتهد؛ فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرَّت عليه هذه المذاهب. وقال الموفَّق في خطبة "المغني": النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حُجَّة قاطعة.

(واختار في "الإفصاح" و"الرعاية": أو مُقَلِّدًا) قال في "الإنصاف": (وعليه عمل الناس من مدة طويلة، وإلا تعطَّلت أحكام الناس.

وكذا المفتي) قال ابن بشار

(1)

: ما أعيب على مَن يحفظ خمس مسائل لأحمد يُفتي بها. وظاهر نقل عبد الله

(2)

: يفتي غير مجتهد؛ ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة

(3)

.

(فَيُراعي كلٌّ منهما ألفاظَ إمامِه، و) يُراعي من أقواله (متأخِّرَها، ويُقَلِّد كبارَ مذهبه في ذلك، ويحكم به، ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مُقَلِّد) ولا يخرج عن الظاهر عنه.

(قال الشيخ

(4)

: منصب الاجتهاد ينقسم) أي: يقبل الانقسام، بأن يكون مجتهدًا في شيء دون شيء (حتى لو ولاه في المواريث، لم يجب أن يعرف إلا الفرائضَ والوصايا وما يتعلَّق بذلك، وإن ولاه عقودَ الأنكحة وفَسْخَها، لم يجب أن يعرف إلا ذلك، وعلى هذا فَقُضاة الأطراف يجوز

(1)

هو على بن محمد بن بشار. أبو الحسن الزاهد، حدث عن المروذي وصالح وعبد الله ابني الإمام أحمد، وحدث عنه النجاد. توفي سنة 313 رحمه الله تعالى. وأخرج قوله المذكور أبو يعلى في العدة في أصول الفقه (4/ 1598)، وطبقات الحنابلة (2/ 63، 141 - 142).

(2)

مسائل عبد الله (3/ 1312) رقم 1824، والعدة في أصول الفقه (4/ 1595 - 1596)، والفروع (6/ 422).

(3)

المسودة (2/ 926)، والفروع (6/ 422).

(4)

الاختيارات ص/ 485 - 486.

ص: 32

ألا يقضوا في الأمور الكِبار، كالدِّماء والقضايا المشكِلة. وعلى هذا لو قال: اقضِ فيما تعلم، كما يقول له: أفتِ فيما تعلم؛ جاز، ويبقى ما لا يعلم خارجًا عن ولايته. انتهى. ومثله: لا تقضِ فيما مضى له عشر سنين، ونحوه) لخصوص ولايته.

(ويحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعًا

(1)

، وليَحْذَر المُفتي أن يميل في فُتياه مع المستفتي، أو مع خصمه، مثل أن يكتب في جوابه ما هو له) فقط (أو يسكت عما هو عليه) فقط (ونحو ذلك) بل يكتب ما له وما عليه؛ لأنه العدل وأداء الأمانة فيما علمه الله.

(وليس له أن يبتدئ في مسائل الدعاوى والبينات بذِكْر وجوه المخالص منها) لأن ذلك مَيْل مع أحدهما (وإن سأله بأيِّ شيء تندفع دعوى كذا وكذا، وبينةُ كذا وكذا؟ لم يُجب

(2)

؛ لئلا

(3)

يتَوصل) السائل (بذلك إلى إبطال حَقِّ، وله أن يسأله عن حاله فيما ادُّعي عليه، فإذا شرحه) المستفتي (له) أي: للمفتي (عرَّفه بما فيه من دافع وغير دافع) ليكون على بصيرة.

(ويحرم الحكم والفُتيا بقولٍ أو وَجْهٍ من غير نَظَرٍ في الترجيح إجماعًا. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعًا؛ قاله الشيخ

(4)

.

ولا يُشترط كَوْن القاضي كاتِبًا) لأنه صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيًّا، وليس من ضرورة الحكم كونه كاتبًا (أو) أي: ولا يشترط -أيضًا- كونه (وَرِعًا، أو

(1)

مراتب الإجماع ص/ 87، والاختيارات ص/ 480.

(2)

في "ذ": "لم يُجبه".

(3)

في "ح": "لأنه".

(4)

الاختيارات الفقهية ص/ 480.

ص: 33

زاهدًا، أو يقظًا، أو مثبِتًا للقياس، أو حَسَن الخُلُق، والأولى كونه كذلك) أي: كاتبًا ورعًا زاهدًا يَقظًا مثبتًا للقياس حسن الخُلُق؛ لأنه أكمل.

(قال الشيخ

(1)

: الولاية لها رُكنان: القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله) تعالى.

(قال

(2)

: وشروط القضاء تُعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل فالأمثل، قال: وعلى هذا يدلُّ كلام) الإمام (أحمدَ

(3)

وغيره، فيولَّى للعَدَم أنفع الفاسقَيْن، وأقلَّهما شرًّا، وأعدل المقلِّدَيْن وأعرفهما بالتقليد. وهو كما قال) وإلا لتعطَّلت الأحكام، واختلَّ النظام.

(والشاب المُتَّصف بالصفات المُعتبرة كغيره، لكنَّ الأسنَّ أولى مع التساوي) في الصفات المعتبرة، وولَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عتَّاب بن أَسِيد مكة وهو ابن إحدى وعشرين سنة

(4)

.

(ويرجح -أيضًا- بحُسْنِ الخُلُق) وتقدم.

(و) يرجح (من كان أكمل في الصفات) السابق ذكرها؛ لترجحه بكماله.

(و) يجوز أن (يولَّى المَوْلَى) أي: العتيق

(5)

(مع أهليته) لأنه صار حرًّا، أشبه حرَّ الأصل.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 480 - 481.

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 481.

(3)

انظر: الاختيارات الفقهية ص/ 481، والفروع (6/ 424).

(4)

ذكره المزي في تهذيب الكمال (31/ 218)، والعراقي في تخريج الإحياء (1/ 144) وقال: صحيح.

(5)

في "ذ": "المعتق".

ص: 34

(وما يمنع التولية ابتداءً يمنعها دوامًا، إذا طرأ ذلك عليه كفِسْقٍ أو زوال عَقْلٍ

(1)

) فينعزل بذلك؛ لأن وجود العقل والعدالة ونحوها شرط في صحة الولاية، فتبطل بزواله، لفقد شرطها (إلا فَقْدَ السمع والبصر فيما ثبت عنده) أي: القاضي (في حال سمعه وبصره، فلم يحكم به حتى عميَ أو طرش، فإن ولاية حكمه باقية فيه) لأنه إنما مُنِع الأعمى والأصم ابتداء؛ لأن الأعمى لا يميز بين المُدّعي والمُدَّعى عليه كما سبق، والأصم لا يعرف ما يُقال فلا يمكنه الحكم، فإذا كان قد عرفهما قبل العمى، وسمع منهما قبل الصمم، وثبت عنده المحكوم عليه من الخصم واللفظ، لم يمنع العمى والصممُ الحكمَ؛ لأن فقدهما ليس من مقدّمات الاجتهاد، فيصح الحكم منه مستندًا إلى حال السمع والبصر، بخلاف غيرهما من الفسق والجنون والرِّدة ونحوها.

(و‌

‌لو مرض مرضًا يمنع القضاء؛ تعيَّن عَزْلُه)

قَدَّمه في "الفروع"(وقال الموفَّق والشارح: ينعزل بذلك، ويتعيَّن على الإمام عَزْله. انتهى) أي: منعه وإقامة غيره.

(والمجتهد) مأخوذ من الاجتهاد: وهو استفراغ الفقيه الوسعَ لتحصيل ظنِّ بحكم شرعي (مَن يعرف مِن كتاب الله) تعالى (وسُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة) أي: اللفظ المستعمل في وضع أول (والمجازَ) أي: اللفظ المستعمل في غير وضع أول، زاد بعضهم: على وجه يصح (والأمرَ) أي: القول المقتضي طاعةَ المأمور بفعل المأمور به (والنهيَ) أي: اقتضاه الكف عن فعل؛ لا بقولِ: كُفّ (والمجمَلَ) أي: ما لا يُفهم منه عند الإطلاق شيء (والمبيَّن) أي: المخرج من حيز الإشكال إلى حيز

(1)

في "ذ": "كفسق وزوال عقل".

ص: 35

التجلِّي والوضوح (والمحكَمَ) أي: المتضح

(1)

المعنى (والمتشابهَ) مُقابِلَه، إما لاشتراكٍ أو ظهورِ

(2)

تشبيهِ (والخاصَّ) المقصور من العام على بعض مسمَّياته (والعام) ما دَلَّ على مسمَّياتِ باعتبار أمْرٍ اشتركت فيه مطلقًا (والمطلَقَ) ما دلَّ على شائع في جنسه (والمقيَّد) ما دَلَّ على شيء معيَّن (والناسخَ) أي: الرافع لحكم شرعي (والمنسوخَ) ما ارتفع شرعًا بعد ثبوته شرعًا (والمُستثنَى) أي: المخرَج بـ"إلا"، أو ما في معناها من لفظ شامل له (والمستثنَى منه) هو العام المخصوص بإخراج بعض ما دَلَّ عليه بـ"إلا"، أو ما في معناها.

(ويَعرف من السُّنة صحيحَها) وهو ما نقله العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة (من سقيمها) وهو ما لم يوجد فيه شروط الصحة، كالضعيف والمنقطع، والمنكر، والشاذ وغيرها (ومتواترها) هو الخبر الذي نقله جمع لا يتصور تواطؤهم على الكذب، مستويًا في ذلك طرفاه ووسطه، والحقُّ أنه لا ينحصر في عددٍ، بل يُستدل بحصول العلم على حصول العدد، والعلمُ الحاصل عنه ضروري في الأصح (من آحادها) وهو ما عدا المتواتر

(3)

، وليس المراد به أن يكون راويه واحدًا، بل كل ما لم يبلغ التواتر فهو آحاد (ومرسَلَها) وهو قولُ غير الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومتَّصِلَها) أي: ما اتَّصل إسناده، وكان كلُّ واحدٍ من رواته سمِعَه ممن فوقه، سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا (ومسندَها) ما اتَّصل إسناده من راويه إلى مُنتهاه، وأكثر استعماله فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (ومنقطِعَها) أي:

(1)

في "ذ": "أي اللفظ المتضح".

(2)

في "ذ": "الظهور".

(3)

في "ذ": "التواتر".

ص: 36

ما لم يتصل سنده، على أيَّ وجهٍ كان الانقطاع (مما له تعلُّق بالأحكام خاصَّة) وظاهره: أنه لا يجب عليه حفظ القرآن، وإنما المتعيّن عليه حِفْظ نحو خمسمائة [آية]

(1)

المتعلقة بالأحكام، كما نقله المُعْظَمُ؛ لأن المجتهد هو من يعرف الصوابَ بدليله، كالمجتهد في القِبلة. ولكلِّ مما ذكرنا دلالة لا يمكن معرفتها إلا بمعرفته، فوجب معرفة ذلك لتعرف دلالته، وتوقف الاجتهاد على معرفة ذلك.

(ويعرف ما أُجمع عليه مما اختلف فيه) لئلا يؤديَه اجتهاده إلى قول يخرج عن الإجماع، أو أقوال السلف.

(و) يعرف (القياسَ) وهو ردُّ فرعِ إلى أصل (و) يعرف (حدودَه) أي: القياس، على ما ذكر في أصول الفقه (وشروطَه) وبعضُها يرجع إلى الأصل، وبعضُها إلى الفرع، وبعضُها إلى العِلَّة (وكيفيه استنباطه) على الكيفية المذكورة في محالِّها.

(و) يعرف (العربية) أي: اللغةَ العربية، من حيث اختصاصُها بأحوالٍ -هي الإعراب- لا توجد في غيرها من اللغات (المتداولة بالحجاز والشام والعراق، وما يواليهم) ليعرف به استنباطَ الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسُّنة.

(وكلُّ ذلكَ مذكورٌ في أصول الفقه وفروعه، فمن عرف ذلك أو أكثره، ورُزق فهمه؛ صَلَحَ للفتيا والقضاء) لأن العالم بذلك يتمكَّن من التصرف في العلوم الشرعية ووضعها في مواضعها. قال أبو محمد الجوزي: من حصَّل أصول الفقه وفروعه فمجتهدٌ، ولا يقلِّد أحدًا.

(1)

ما بين المعقوفين من "ذ".

ص: 37

‌فصل في أحكام تتعلَّق بالفتيا

(كان السلف) رحمهم الله تعالى (يهابون

(1)

الفُتيا، ويشدِّدون فيها، ويتدافعونها).

قال النووي

(2)

: روِّينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدرَكتُ عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسألُ أحدُهم عن المسألة فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأوَّلِ"

(3)

وفي رواية: "ما منهم مَن يُحَدِّث بحديث إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفَاه إيّاه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيءِ إلا وَدَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتْيَا"

(4)

.

(وأنكر) الإمام (أحمد

(5)

وغيره على من يهجم على الجواب) لخبر "أجرؤُكم على الفُتْيا، أجرؤكم على النار"

(6)

.

(1)

في "ذ": "يأبون" وعلق في الحاشية: "نسخة: يهابون".

(2)

المجموع (1/ 74).

(3)

أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 817)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص/433، رقم 801، والخطيب في تاريخه (13/ 412)، وفي الفقيه والمتفقه (2/ 23) رقم 640.

(4)

أخرجه ابن المبارك في الزهد ص/ 19، رقم 58، وابن سعد (6/ 110)، والدارمي في المقدمة، باب 19، رقم 137، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 817)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص/ 433، رقم 800، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 23 - 24) رقم 641، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 1120) رقم 2199.

(5)

مسائل ابن هانئ (2/ 165 - 166) رقم 1916، 1920، والفروع (6/ 428).

(6)

أخرجه الدارمي في المقدمة، باب 20، حديث 159، عن عبيد الله بن أبي جعفر مرسلًا.

ص: 38

(وقال) أحمد

(1)

: (لا ينبغي أن يُجيبَ في كلِّ ما يُستفتَى فيه. وقال

(2)

: إذا هاب الرجلُ شيئًا لا ينبغي أن يُحمل على أن يقول.

وقال

(3)

:‌

‌ لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال،

أولها

(4)

:

أن تكون له نية) أي: أن يخلص في ذلك لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها "فإن لم تكن له نية، لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور) إذ "الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى"

(5)

.

(الثانية: أن يكون له حِلْم ووقار وسكينة) وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية.

(الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته) وإلا فقد عَرَّض نفسه لعظيم.

(الرابعة: الكفاية، وإلا بَغَضَه

(6)

الناسُ، فإنه إذا لم تكن له كفايةٌ احتاج إلى الناس وإلى الأخذِ مما في أيديهم) فينفرون

(7)

منه.

(الخامسة: معرِفةُ الناسِ، أي: ينبغي له) أي: للمفتي (أن يكون

(1)

مسائل الكوسج (9/ 4679) رقم 3335.

(2)

أخرجه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 775) رقم 1433.

(3)

إبطال الحيل ص/ 24، والعدة في أصول الفقه (5/ 1599)، وطبقات الحنابلة (2/ 57).

(4)

في "ذ": "إحداها".

(5)

تقدم تخريجه (1/ 193) تعليق رقم (2).

(6)

"بغضه" كذا في الأصول! وفي نسخةٍ أشار إليها في حاشية "ذ" ومصادر التوثيق كافة: "مضغه"، قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 204): وأما قوله: "الرابعة الكفاية وإلا مضغه الناس .. " فلا يأكل منهم شيئًا إلا أكلوا من لحمه وعرضه أضعافه.

(7)

في "ذ": "فيتضررون".

ص: 39

بصيرًا بمكر الناسِ وخِدَاعِهم، ولا ينبغي له أن يُحسِن الظَّنَّ بهم، بل بكون حَذِرا فَطِنًا مما يُصوِّرونه في سؤالاتهم) لئلا يوقعوه في المكروه، ويؤيده حديث:"احتَرِسوا من الناس بسوء الظَّنِّ"

(1)

، وخبر:"أخوك البكري، ولا تأمَنْه"

(2)

.

(والمفتي من يُبَيّنُ الحُكمَ الشرعيَّ، ويُخبرُ به من غير إلزام، والحاكم يُبيِّنَّه) أي: الحكم الشرعي (ويُلزِم به) فامتاز بالإلزام.

قال الخطيب

(3)

: ‌

‌"ينبغي للإمام أن يتصفَّح أحوال المفتين،

فمن صَلَحَ للفُتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتواعده بالعقوبة إن عاد. وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته،

(1)

تقدم تخريجه (4/ 99) تعليق رقم (2).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب، باب 34، حديث 4861، وابن سعد في الطبقات (4/ 296)، وأحمد (5/ 289)، والفاكهي في أخبار مكة (2/ 331 - 332)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 214)، والطبراني في الكبير (17/ 36 - 37) حديث 73، وأبو الشيخ في الأمثال (1/ 94) حديث 119، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 1991) حديث 5004، والبيهقي (10/ 129)، وابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1197)، وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 362)، من طريق عبد الله بن عمرو، عن أبيه عمرو بن الفغواء الخزاعي.

وعبد الله بن عمرو بن الفغواء، قال الذهبي عنه فى الميزان (2/ 469): لا يعرف، تفرد عنه عيسى بن معمر. وله شاهد أخرجه البزار "كشف الأستار"(2/ 445) حديث 2071، والعقيلي في الضعفاء (2/ 72)، والطبراني في الأوسط (4/ 124) حديث 3774، وابن عدي في الكامل (1/ 317 - 318، 3/ 1065)، وأبو الشيخ في الأمثال (1/ 93 - 94) حديث 118، من طريق زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أسلم، عن عمر رضي الله عنه.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 215، 5/ 258): رواه الطبراني في الأوسط من طريق زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، وكلاهما ضعيف.

(3)

الفقيه والتفقه (2/ 324).

ص: 40

ويعتمد أخبار الموثوق بهم. ثم روى بإسناده عن مالك قال: ما أفتيتُ حتى شَهِدَ لي سبعون أني أهلٌ لذلك

(1)

. وفي رواية: ما أفتيتُ حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك

(2)

؟ قال مالك: ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه"

(3)

.

(ويحرم أن يُفتي في حال لا) يجوز أن (يحكم فيها، كغضبٍ ونحوه) كحَرٍّ مفرط، وبرد مفرط، وملل ونحوه مما يغير الفِكرَ (فإنْ أفتى) في تلك

(3)

الحال (وأصاب) الحق (صَحَّ) جوابه (وكُرِه.

وتصحُّ فتوى العبد والمرأة والقريب والأمي، والأخرس المفهوم الإشارة أو الكتابة) كخبرهم.

(وتصح) الفُتيا (مع جَرَّ النفع، ودفع الضَّررِ، ومِن العدوِّ، وأن يُفتي أباه وابنه

(4)

وشريكه، و) سائر (من لا تُقبَلُ شهادته له) كزوجته ومكاتِبه؛ لأن القصد بيان الحكم الشرعي، وهو لا يختلف، وليس منه إلزام، بخلاف الحاكم.

(ولا تصح) الفُتيا (من فاسقٍ لغيره، وإن كان مجتهدًا) لأنه ليس بأمين على ما يقول. وفي "إعلام الموقعين"

(5)

: قلت: الصواب جواز استفتاء الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه، داعيًّا إلى بدعته (لكن يفتي)

(1)

أخرجه -أيضًا- أبو نعيم في الحلية (6/ 316)، وابن الجوزي في المنتظم (9/ 43)، وفي تعظيم الفتيا ص/ 123، رقم 49.

(2)

أخرجه الخطيب في الفقه والتفقه (2/ 325 - 326) رقم 1042 وأبو نعيم في الحلية (6/ 316 - 317)، والبيهقي في المدخل ص/ 440، رقم 825، وابن الجوزي في تعظيم الفتيا ص/123، رقم 50.

(3)

في "ذ": "ذلك".

(4)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 400): "وأمه".

(5)

(4/ 220).

ص: 41

المجتهدُ الفاسقُ (نفسَه) لأنه لا يتهم بالنسبة إلى نفسه (ولا يسأله) أي: الفاسق (غيره) لعدم حصول المقصود والوثوق به.

(ولا تصح) الفتيا (من مستور الحال) وفي "المبدع": تصح فُتيا مستور الحال في الأصح.

(والحاكم كغيره في الفُتيا) فيما يتعلَّق بالقضاء وغيره.

(ويحرم تساهل مُفْتٍ) في الفُتيا (وتقليدُ معروفٍ به) أي: بالتساهل في الفُتيا.

(قال الشيخ

(1)

: لا يجوزُ استفتاءُ إلا مَن يُفتي بعلم وعدل. انتهى) لأن أمر الفُتيا خَطَر، فينبغي أن يُحتاط.

(وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام) إذا استُفتيَ (في مسألة ذات قولين، أو وجهين، أن يتخيَّر ويعملَ بأيّهما شاء) بل يُراعي ألفاظَ إمامه، ومتأخرها، وأقربها من الكتاب والسُّنة (وتقدم في الباب

(2)

.

ويلزم المفتيَ تكريرُ النظر عند تكرار الواقعة) كالمجتهد في القِبلة، يجتهد لكل صلاة، وأما العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها، ثم وقعت له ثانيًا، فلم أرَ لأصحابنا فيها شيئًا. وقال القاضي أبو الطيب الشافعي: يلزمه السؤال ثانيًا، إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها، ويشق عليه إعادة السؤال عنها، فلا يلزمه ذلك، ويكفيه السؤال الأول، للمشقة؛ نقله عنه النووي في "شرح المُهَذَّب"

(3)

. وقال في موضع آخر

(4)

: لا يلزمه في

(1)

الفتاوى الكبرى (4/ 625).

(2)

(15/ 32 - 33).

(3)

المجموع شرح المهذب (1/ 83).

(4)

المجموع شرح المهذب (1/ 98).

ص: 42

الأصح؛ لأنه قد عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتي عليه. انتهى. وهذا ظاهر كلام أصحابنا.

(وإن حَدَث ما لا قولَ فيه) للعلماء (تكلَّم فيه حاكمٌ ومجتهِدٌ ومُفْتِ) فيرده إلى الأصول والقواعد.

(وينبغي له) أي: المفتي

(1)

(أن يشاور مَن عنده ممن يثِقُ بعلمه، إلا أن يكون في ذلك إفشاء سِرّ السائل، أو تعريضه للأذى، أو) يكون فيه (مفسدة لبعض الحاضرين) فيخفيه إزالةً لذلك.

(وحقيق به) أي: المفتي (أن يُكثِرَ الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهمَّ ربَّ جبربلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السماوات والأرضِ، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لِمَا اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنِكَ، إنكَ تَهْدِي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيم"

(2)

. ويقول إذا أشكل عليه شئ: يا مُعَلِّمَ إبراهيمَ علِّمني) للخبر

(3)

.

(وفي "آداب المفتي"

(4)

: ليس له أن يُفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلًا، بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلًا).

قال في "المبدع" ولا تجوز الفتوى في علم الكلام، بل يُنهى

(1)

في "ذ": "أي للمفتي".

(2)

تقدم تخريجه (3/ 86) تعليق رقم (1).

(3)

لم نقف عليه مسندًا، وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 15) من قول معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(4)

هو كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني والنقل المذكور فيه ص /44.

ص: 43

السائل عنه، والعامة أولى، ويأمر الكلَّ بالإيمان المجمل، وما يليق بالله تعالى، ولا يجوز التقليد فيما يطلب به الجزم، ولا إثباته بدليل ظني، ولا الاجتهاد فيه، ويجوز فيما يطلب فيه الظن، وإثباته بدليل ظَنِّي، والاجتهاد فيه.

(وله) أي: المفتي (تخيير من استفتاه بين قوله وقول مخالفه) لأن المستفتي يجوز له أن يتخيَّر وإن لم يخيره. وقد سُئِل أحمد عن مسألة في الطلاق؟ فقال: إن فعل حَنِثَ. فقال السائل: إن أفتاني إنسان لا أحنث؟ قال: تعرف حلقة المدنيين؟ قال: فإن أفتوني حَل؟ قال: نعم

(1)

.

(ولا يلزم جوابُ ما لم يقع) لخبر أحمد عن ابن عمر: لا تسألوا عمَّا لم يكن، فإن عمر نهى عن ذلك

(2)

(لكن يُستحب إجابته) أي: السائل عمَّا لم يقع؛ لئلا يدخل في خبر: "مَنْ كَتَمَ عِلْمًا سُئِلَهُ

" الحديث

(3)

.

(1)

طبقات الحنابلة (1/ 142)، والعدة في أصول الفقه (5/ 1571)، والمسودة (2/ 852)، وزاد فيه: حلقة بالرصافة.

(2)

أخرجه الدارمي في المقدمة، باب 18، رقم 123، وابن عبد البر في الاستذكار (8/ 581)، وفي جامع بيان العلم وفضله (2/ 1067) رقم 2067، والخطيب في الفقه والمتفقه (2/ 12 - 13) رقم 621، 622. ونهي عمر أخرجه عنه الدارمي في المقدمة، باب 18، رقم 126، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص/ 224 - 225، رقم 291، 292، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 12) رقم 620، والرافعي في التدوين في أخبار قزوين (1/ 217)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 360)، والسخاوي في البلدانيات (1/ 250 - 251).

(3)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ - أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه أبو داود في العلم، باب 9، حديث 3658، والترمذي في العلم، باب 3، حديث 2649، وابن ماجه في المقدمة، باب 24، حديث 261، 266، والطيالسي ص/330، حديث 2534، وابن أبي شيبة (9/ 55)، وأحمد (2/ 263، 296، 305، 344، 353، 495، 499، 508)، =

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأبو يعلى (11/ 268) حديث 6383، والعقيلي (1/ 74، 257، 313، 3/ 73)، وابن الأعرابي في معجمه (1/ 58) حديث 73، وابن حبان "الإحسان"(1/ 297) حديث 95، والطبراني في الأوسط (3/ 153، 4/ 317) حديث 2311، 3553، وفي الصغير (1/ 112، 198، 275) حديث 160، 315، 452، وابن عدي (4/ 410، 1395، 1596)، والحاكم (1/ 101)، وتمام في فوائده (2/ 213) حديث 1557، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 266) حديث 432، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 275 - 276) حديث 1743، 1745، وفي المدخل ص/ 346، حديث 574، والخطيب في الكفاية (1/ 37)، وفي تاريخه (2/ 268)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 2 - 8) حديث 1 - 6، والبغوي في شرح السنة (1/ 301) حديث 14، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 94 - 96) حديث 132 - 140، والرافعي في التدوين (2/ 199، 3/ 295). ضعفه ابن الجوزي، وحسنة الترمذي، والبغوي. وقال المنذري في مختصر سنن أبى داود (5/ 521) -بعد نقله كلام الترمذي-: قد روي عن أبي هريرة من طريق فيها مقال، والطريق التي أخرجه بها أبو داود طريق حسن. وقال العقيلي (1/ 74): إسناده صالح.

وقال الحاكم: هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة تجمع ويذاكر بها، وهذا الإسناد صحيح على شرط الشيخين. وسكت عليه الذهبي، وقال في الكبائر ص/ 122: إسناده صحيح. وقال الحافظ في القول المسدد ص/ 45: الحديث وإن لم يكن في نهاية الصحة، لكنه صالح للحجة. انظر: إتحاف السادة المتقين (1/ 108).

ب - عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أخرجه ابن المبارك في الزهد (رواية نعيم) ص/ 119، حديث 399، وابن حبان "الإحسان"(1/ 298) حديث 96، والطبراني في الأوسط (6/ 15) حديث 5023، والحاكم (1/ 102)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، ص/ 347، حديث 575، والخطيب في تاريخه (5/ 38 - 39)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 10) حديث 8، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 91) حديث 123.

صحح إسناده الحاكم على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 251). هذا إسناد صحيح.

وقال المنذري في مختصر السنن (5/ 252): قد روي هذا الحديث -أيضًا- من رواية =

ص: 45

(ولا) يلزمُ (جوابُ ما لا يحتَمِلُه السائلُ) قال البخاري: قال على: حَدِّثوا الناسَ بما يَعْرِفون؟ أتُريدون أن يُكذَّب الله ورسولُهُ

(1)

. وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود: ما أنت بمُحدِّثِ قومًا حديثًا لا تَبْلُغُه عقولُهم إلا كان فتنةً لبعضهم

(2)

.

(ولا) يلزم جوابُ (ما لا نَفْعَ فيه) لخبر أحمد عن ابن عباس، أنه قال عن الصحابة: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم

(3)

. وسئل أحمد عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ فقال للسائل: أحْكَمْتَ العلم حتى تسأل عن ذا

(4)

؟ وسُئِل عن مسألة في اللعان فقال: سل -رحمك الله- عما ابتليتَ به

(5)

.

(وإن جعل له) أي: للمفتي (أهلُ بَلَدٍ رزقًا ليتفرَّغَ لهم؛ جاز) له أخْذُه، والإرزاق معروف غير لازم لجهة معينة. قال القرافي: ولا يورَث، بخلاف الأجرة، قال: وباب الأرزاق أدخل في باب الإحسان، وأبعدُ في باب المعاوضة، وباب الإجارة أبعد عن باب المسامحة، وأدخل في باب

= عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وعلي بن طلق، وفي كل منها مقال.

(1)

رواه البخاري في العلم، باب 49، رقم 127.

(2)

صحيح مسلم (1/ 11).

(3)

لم نقف عليه في مظانه من كتب الإمام أحمد المطبوعة. وأخرجه -أيضًا- الدارمي في المقدمة، باب 18، رقم 127، والطبراني في الكبير (11/ 454) رقم 12288، والخطيب في تاريخه (12/ 14).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 158 - 159): فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات.

(4)

الآداب الشرعية (2/ 72).

(5)

المصدر السابق.

ص: 46

المكاسبة

(1)

.

(وله) أي: المفتي (قَبول هدية، والمراد: لا ليفتيَه بما يريده مما لا يفتي به غيرَه) أي: غير المُهْدي (وإلا) أي: وإن أخذها ليفتيه بما يريده مما لا يُفتي به غيرَه (حَرُمت) عليه الهدية.

(ومَن عَدِم مفتيًا في بلده وغيره، فله حُكم ما قبل الشرعِ) على الخلاف: هل الأصل في الأشياء الحظر، أو الإباحة، أو الوقف؟ (وقيل: متى خَلَتِ البلدُ من مُفْتٍ حَرُم السُكْنى فيها) قال النووي: والأصح: لا يحرم إن أمكن الذهاب إلى مُفتٍ.

(وله) أي: المفتي (ردُّ الفُتيا إن خاف غائلتها، أو كان في البلد من يقوم مقامه) في الفُتيا؛ لأن الإفتاء في حَقِّه مع وجود من يقوم مقامه سُنَّةٌ (وإلا) أي: وإن لم يكن في البلد من يقوم مقامه (لم يجز) له رَدُّ الفُتيا لتعيُّنها عليه، والتعليم كذلك، كما ذكر معناه النووي في "شرح التهذيب"

(2)

.

(لكن إن كان الذي يقوم مقامه معروفًا عند العامة مُفتيًا

(3)

، وهو جاهلٌ؛ تعيَّن الجوابُ على العالم) لتعيُّن الإفتاء عليه إذًا.

(قال في "عيون المسائل": الحكم يتعيَّن بولايته) أي: الحكم (حتى لا يمكنه رَدّ محتكمَيْن إليه، ويمكنه ردُّ مَن يَستشهِدُه، وإن كان متحمِّلًا شهادة، فنادر

(4)

ألا يكون سواه) أي: معه، محتمِّلًا لتلك الشهادة، فلا يتعيَّن عليه أداؤها، إذ يمكن نيابة غيره عنه (وأما في

(1)

الفروق (3/ 3).

(2)

المجموع شرح المهذب (1/ 75).

(3)

في متن الإقناع (4/ 402): "بفُتيا".

(4)

في "ذ": "فتعذر".

ص: 47

الحكم، فـ) ـــإنه (لا ينوب البعضُ عن البعضِ، ولا يقول لمن ارتفع إليه: امْضِ إلى غيري من الحُكَّام. انتهى) أي: ولو كان في البلد من يقوم مقامه، لما يلزم على جواز تدافع الحكومات من ضياع الحقوق.

(ومن قويَ عنده

(1)

مذهبُ غير إمامه) لظهور الدليل معه (أفتى به) أي: بما ترجَّح عنده من مذهب غير إمامه (وأعلَمَ السائل) بذلك؛ ليكون على بصيرة في تقليده (قال) الإمام (أحمد: إذا جاءت المسألةُ ليس فيها أثر) أي: حديث مرفوع ولا موقوف؛ لأن قول الصحابي عنده حُجَّة، إذا لم يخالفه غيره (فأفتِ فيها بقول الشافعي؛ ذكره النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"

(2)

في ترجمة الشافعي) وفي "المبدع": قال أحمد في رواية المَرّوذي

(3)

: إذا سُئِلتُ عن مسألة لم أعرف فيها خبرًا، قلت فيها بقول الشافعي؛ لأنه إمام عالم من قريش، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"يَملأ الأرضَ علمًا"

(4)

.

(1)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (4/ 177) ما نصه: "انظر هذا مع ما تقدم من قوله: (ويقلد كبار مذهبه) وإن خالف اعتقاده. فليُحرر. نقلته من خط ابن العماد".

(2)

(1/ 60)، وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 258).

(3)

أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 54)، وابن عساكر في تاريخه (51/ 339). قال في الفروع (6/ 445 - 446): هذه الحكاية في إسنادها أحمد بن محمد بن ياسين، أبو إسحاق الهروي، كذبه الدارقطني، وقال الإدريسي: سمعت أهل بلده يطعنون فيه ولا يرضونه. اهـ.

(4)

روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخرجه الطيالسي ص/ 39، حديث 309، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 637، 641) حديث 1522، 1540، والعقيلي (4/ 289)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 295، 9/ 65)، والخطيب في تاريخه (2/ 60)، والمزي في تهذيب الكمال (24/ 363). وفي سنده النضر بن حميد، قال البخاري: منكر =

ص: 48

(ويجوز له) أي: للمُفتي (العدولُ عن جواب المسؤول عنه إلى ما هو أنفع للسائل) قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}

(1)

.

(و) يجوز للمُفتي (أن يُجيبه بأكثر مما سأله) عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِل عن ماء البحر: "هو الطَّهورُ ماؤه؛ الحِلُّ مَيْتَتُه"

(2)

.

(و) للمُفتي (أن يدلّه) أي: المستفتي (على عوض ما منعه منه

(3)

، وأن يُنَبِّهَه على ما يجب الاحترازُ منه

(3)

) لأن ذلك من قبيل الهداية لدفع المضار.

(وإذا كان الحكم مستغرَبًا، وطَّأ قبله

(4)

ما هو كالمقدمة له) ليزيل استغرابه.

(وله الحَلِفْ على ثبوت الحكم أحيانًا) قال تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي

= الحديث، وقال أبو حاتم: متروك الحديث. انظر: ميزان الاعتدال (4/ 256).

ب - أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/ 637) حديث 1523، والخطيب في تاريخه (2/ 60 - 61)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 27)، والمزى في تهذيب الكمال (24/ 363). وفي سنده عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة، وهو ضعيف؛ قاله الحافظ في التقريب.

ج- ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه ابن عدي (1/ 28)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 65). وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي أبو إسحاق: ضعيف الحديث؛ قاله ابن حجر في التقريب.

(1)

سورة البقرة، الآية:189.

(2)

تقدم تخريجه (1/ 34) تعليق رقم (4).

(3)

في "ذ": "عنه".

(4)

في "ذ" بعد قوله: "وطأ قبله" زيادة: "أي مهد له، أي ذكر للحكم شيئًا يوضح ويبين به الحكم المذكور ووطأ قبله".

ص: 49

إِنَّهُ لَحَقٌّ}

(1)

وقال جلَّ ذِكْرُه: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}

(2)

والسُّنة شهيرةٌ بذلك. وقوله: أحيانًا، احتراز من الإفراط في الحَلِف فإنه مكروه.

(وله أن يُكَذْلِك مع جواب مَن تقدَّمه بالفتيا، فيقول: جوابي كذلك، أو: الجواب صحيح، وبه أقول) طلبًا للاختصار مع حصول المقصود (إذا علم صواب جوابه، وكان أهلًا) للفتيا (وإلا) أي: وإن لم يعلم صوابه (استقل بالجواب معه في الورقة.

وإن لم يكن) مَن تقدَّم المُفتي (أهلًا) للفتيا (لم يُفتِ معه؛ لأنه تقرير لمُنكَر.

وإن لم يعرف المُفتي اسمَ مَن كَتَب قَبْلَه، فله أن يمتنع من الفُتيا معه، خوفًا مما قلناه) أي: من أن يكون غير أهل، فيكون تقريرًا للمُنْكَر (والأولى أن يُشير على صاحب الرقعة بإبدالها) إذا جَهِل المفتي قبله فيها (فإن أبىَ ذلك) أي: إبدالها (أجابه شفاهًا) بلا كتابة.

(وإذا كان هو المبتدئ بالإفتاء في الرقعة، كتب في الناحية اليُسرى؛ لأنه أمْكَنُ، وإن كتب في) الجانب (الأيمن أو الأسفل، جاز.

ولا يكتب فوق البسملة) احترامًا لاسم الله تعالى (وعليه أن يختصر جوابه) لأن الزيادة على ما يحصُل به المقصود إشغال للرقعة بما لا حاجة إليه، وقد لا يرضى ربُّها بذلك، ودلالة الحال أنه إنما أذن في قَدْرِ الحاجة.

(ولا بأس لو كَتَب) المُفتي (بعد جوابه عمَّا في الرقعة: زاد السائل من لفظه كذا وكذا، والجواب عنه كذا وكذا) لأنه إخبار بالواقع.

(1)

سورة يونس، الآية:53.

(2)

سورة الذاريات، الآية:23.

ص: 50

(وإن جهل) المُفتي (لسان السائل) أي: لغته (أجزأت ترجمة واحد ثقة) كالإخبار بالقِبلة وغيرها، بخلاف الترجمة عند الحاكم، فحكمها كالشهادة، ويأتي

(1)

.

(وإن رأى) المفتي (لَحْنًا فاحشًا في الرقعة) المكتوب فيها السؤال (أو) رأى بها (خطأ يُحيل المعنى، أصلحه) لأن إجابته تتوقف على ذلك لفهم المقصود.

(وينبغي) للمُفتي (أن يكتب الجواب بخطٍّ واضحٍ وَسَطًا، ويقارب سطورَه وخطه؛ لئلا يزوِّر أحد عليه، ثم يتأمَّل الجواب بعد كتابته خوفًا من غَلَط، أو سهو.

ويُستحبُّ أن يكتب في أول فتواه: الحمد لله، وفي آخرها: والله أعلم، ونحوه، و: كتبه فلان الحنبلي، أو الشافعي، ونحوه) كالمالكي والحنفي، اقتداء بمن سلف.

(وإذا رأى) في (خلال السطور أو في آخرها بياضًا يحتمل أن يُلحَق به ما يفسد الجواب، فليحترز منه، فإما أن يأمره بكتابة غير الورقة، أو يشغله بشيء) ليأمن من الزيادة.

(وينبغي) للمفتي (أن يكون جوابه موصولًا بآخر سطر في الورقة، ولا يدع بينهما فُرْجة، خوفًا منْ أن يُثبتَ

(2)

السائل فيها غَرَضًا له ضارًا.

وإن كان في موضع الجواب وَرَقةٌ مُلتَزِقَةُ

(3)

، كتب على موضع الالتزاق وشغله بشيء) لثلا يُحلَّ اللزق ويوصل برقعة أخرى. قلت: فإن

(1)

(15/ 157).

(2)

في "ذ": "أن يكتب".

(3)

في "ذ": "ملزوقة".

ص: 51

كان غير ملزق

(1)

، وطلب منه الكتابةُ ليلزق، لم يجب؛ لئلا يلزق بغير ما سئل عنه، مما يخالفه في الحكم.

(وإذا سُئل) المفتي (عن شَرْطِ واقفٍ، لم يفت بإلزام العمل به، حتى يعلم هل الشرط معمولٌ به في الشرع، أو من الشروط التي لا تَحِل، مثل أن يشرط أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها) الواقف (ويدع المسجد، أو يشعل بها) أي: التربة (قنديلًا أو سراجًا) لأن ذلك مُحَرَّم، كما تقدم في الجنائز

(2)

.

(أو وَقَفَ مدرسةً، أو رباطًا، أو زاويةً، وشرط أنَّ المقيمين بها من أهل البدع، كالشيعة، والخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمبتدعين في أعمالهم، كأصحاب الإشارات واللاذن

(3)

، وآكل الحيات وأشباه الذباب، المشتغلين بالأكل والشرب والرقص) فلا يجوز أن يعمل بالشرط المذكور، فضلًا عن وجوب اتباعه.

(و‌

‌لا يجوز أن يُفتي فيما يتعلَّق باللفظ)

كالطلاق والعَتَاق والأيمان والأقارير (بما اعتاده هو من فَهْم تلك الألفاظ، دون أن يعرف عُرْفَ أهلها والمتكلِّمين بها، بل يحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان) الذي اعتادوه (مخالفًا لحقائقها الأصلية) أي اللغوية؛ لما تقدم في الأيمان

(4)

: أن العُرْفي يُقَدَّم على الحقيقة المهجورة.

(وإذا اعتدل عنده قولان من غير ترجيح) أي: وكان من أهل

(1)

في "ذ": "ملتزق".

(2)

(4/ 218).

(3)

في "ذ": "الملاذن"، واللاذن قد تقدم التعريف به (4/ 438) تعليق رقم (3)، وانظر: مجموع الفتاوى (11/ 496، 610، 24/ 292، 27/ 498، 35/ 113).

(4)

(14/ 454).

ص: 52

الاجتهاد (فقال القاضي: يُفتي بأيهما شاء) وتقدم

(1)

: ليس لمن انتسب لمذهب إمام أن يتخير في مسألة ذات قولين.

(ومن أراد كتابةً على فُتيا، أو) أن يكتب (شهادةً، لم يجز أن يكبِّر خطه، ولا أن يوسِّعَ السُّطورَ بلا إذنٍ ولا حاجة) لأنه غير مأذون فيه لفظًا ولا عُرفًا.

(ويُكره أن يكون السؤال بخطِّه) أي: المُفتي، و (لا) يُكره أن يكون (بإملائه وتهذيبه.

وإذا كان في رُقعةِ الاستفتاءِ مسائلُ، فحسنٌ أن يُرَتِّب الجوابَ على ترتيب الأسئلة) ليحصُل التناسب.

(وليس له أن يكتب الجوابَ على ما يعلمه من صورةِ الواقعة، إذا لم يكن في الرُّقعة تعرُّضٌ له، بل يذكر جوابَ ما في الرُّقعة، فإن أراد الجواب على خِلاف ما فيها، فليقل: وإن كان الأمرُ كذا، فجوابُهُ كذا) قلت: وإن أمر السائل بتغيير الرُّقعة، فهو أولى.

(و‌

‌لا يجوز إطلاقه في الفُتيا في اسم مشترك

إجماعًا) قاله ابن عقيل (بل عليه التفصيل) في الجواب (فلو سُئِلَ) المفتي: (هل له الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر؟ فلابُدَّ أن يقول: يجوز بعد الفجر الأول لا الثاني. وأرسل) الإمام (أبو حنيفة إلى أبي يوسف يسأله عمَّن دفع ثوبًا إلى قَصَّار، فقصَره وجَحَده: هل له أجرة إن عاد وسلَّمه إلى ربه؟ وقال) أبو حنيفة: (إن قال) أبو يوسف: (نعم، أو لا، أخطأ، فَفَطِنَ أبو يوسف وقال: إنْ قَصَره قبل جحوده، فله) الأجرة؛ لأنه قصره لربِّه (وبعده) أي:

(1)

(15/ 42).

ص: 53

وإن قَصَره بعد جحوده (لا) أجرة له (لأنه قَصَره لنفسه

(1)

.

وسأل أبو الطيب) الطبري (قومًا) من أصحابه (عن بيع رَطْلِ تمرٍ برطلِ تمرٍ، فقالوا: يجوز، فخطَّأهم، فقالوا: لا، فخطَّأهم) فخجِلوا (فقال: أن تساويا كيلًا جاز

(2)

) فهذا يوضح خطأ المطلِق في كل ما يحتمل التفصيل.

قال ابن مفلح عن قول ابن عقيل المذكور: كذا قال، ويتوجَّه عمل بعض أصحابنا بظاهره. انتهى.

قلت: ولم تزلِ العلماء يجيبون بحسَب ما يظهر لهم من المتبادر إلى الفهم. ويؤيده حديث جبريل لما سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان

(3)

، ولم يستفصله صلى الله عليه وسلم: هل السؤال عن حقائقها، أو شروطها، أو أركانها؟ ونحو ذلك من متعلّقاتها.

(و‌

‌لا يجوز) للمفتي (أن يُلقِيَ السائلَ في الحَيْرة،

مثل أن يقول في مسألة في الفرائض: تُقسَم على فرائض الله) تعالى (أو يقول: فيها) أي: المسألة التي سُئل عنها (قولان، ونحوه) مما لا بيان فيه (بل يُبَيّن له بيانًا مُزِيلًا للإشكال) لأن الفُتيا تبيين الحكم، كما تقدم.

(لكن ليس عليه) أي: المُفتي (أن يذكر المانعَ في الميراث، من الكفر، وغيره) كالرِّق واختلافِ الدِّين (وكذلك في بقية العقود، من

(1)

أخرج القصة الخطيب في تاريخه (13/ 349)، وفي الفقيه والمتفقه (2/ 79) رقم 722، عن الصيمري في أخبار أبي حنيفة ص/ 29.

(2)

ذكره عنه ابن عقيل في الفنون، كما في الفروع (6/ 435).

(3)

أخرجه البخاري في الإيمان، باب 37، حديث 50، وفي تفسير سورة لقمان، حديث 4777، ومسلم في الإيمان، حديث 9 - 10، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الإيمان، حديث 8، عن عمر رضي الله عنه.

ص: 54

الإجارة والنكاح وغير ذلك) كالبيع والصلح ونحوهما (فلا يجب) على المفتي (أن يذكر الجنونَ والإكراه ونحو ذلك) من الصِّغر، وعدم معرفة المبيع، ونحوه، عملًا بالظاهر، وهو الصحة.

(والعامي يخيَّر في فتواه، فيقول) المفتي: (مذهب فلان كذا) وتقدم (1) أن العاميَّ يتخير، وإن لم يخيره المفتي.

(ويُقَلِّدُ العاميَّ مَن عرفه عالمًا عدلًا، أو رآه منتصبًا) للتدريس والإفتاء (معظَّمًا) لأن ذلك يدلُّ على فضله (ولا يُقَلِّد من عَرَفه جاهلًا عند العلماء، ويكفيه) أي: العامي (قولُ عَدْلِ خبير) بما أفتاه فيه، كسائر الأخبار الدينية (قال ابن عقيل: يجب سؤال أهل الفقه والخير) لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(2)

(فإن جهل عدالته؛ لم يجز تقليده) لأنه لم يتحقق شرطُ جواز التقليد.

(ويُقَلِّدُ) المجتهدَ العدلَ ولو (ميتًا، وهو كالإجماع في هذه الأعصار وقبلها) لأن قوله باق في الإجماع، وكالحاكم والشاهد، لا يبطل حكمه ولا شهادته بموته.

قال الشافعي

(3)

: المذاهب لا تموت بموت أربابها. قال النووي في "شرح المهذب"

(4)

: وليس له -أي: للعامي- التمذهبُ بمذهب أحد الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلمَ وأعلى درجة ممن بعدهم؛ لأنهم لم يتفرَّغوا لتدوين العلم وضبط أصوله

(1)

(15/ 44).

(2)

سورة النحل، الآية:43.

(3)

انظر: البرهان (1/ 715) رقم 559.

(4)

المجموع شرح المهذب (1/ 96).

ص: 55

وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب محرَّر مقرَّر

(1)

.

(و‌

‌يحفظ المستفتي الأدبَ مع المفتي ويُجِلُّه)

لأن "العلماء ورثة الأنبياء"

(2)

(ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يقول: ما مذهبُ إمامِكَ في

(1)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (4/ 180) ما نصه: "قلت: يُحمل قولُ النوويِّ على أنه لا يجوز له أن يتمذهب بمذهب ابن عباس مثلًا في كل ما ينزل به، وكل ما يتعبد به، إذ تتعذَّر عليه الإحاطة بجميع أقواله في جميع ذلك، لا أن يعمل بقولٍ صحَّ نقلُه عنه في أمر نزل به وما أشبهه، كما جزم به ابن القيم [إعلام الموقعين (2/ 181 - 182، 229)] فَلْيُحفظْ. اهـ. من خط ابن العماد").

(2)

جزء من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في العلم، باب 1، حديث 3641، والترمذي في العلم، باب 19، حديث 2682، وابن ماجه في المقدمة، باب 17، حديث 223، وأحمد (5/ 196)، والدارمي في المقدمة، باب 32، حديث 349، والفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 401 - 402)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 10) حديث 982، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 387 - 388)، وابن حبان "الإحسان"(1/ 289) حديث 88، والطبراني في مسند الشاميين (2/ 224) حديث 1231، والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 103) حديث 975، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 262) حديث 1696، وفي المدخل إلى السنن الكبرى ص / 250، حديث 347 - 348، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 160 - 171) حديث 169 - 179، وفي الرحلة في طلب الحديث ص/77 - 82، حديث 4 - 5 والبغوى في شرح السنة (1/ 275) حديث 129، وابن عساكر في تاريخه (25/ 247، 50/ 42، 44 - 50). وأخرجه البزار "كشف الأستار"(1/ 83) حديث 136، بلفظ: العلماء خلفاء الأنبياء.

قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 126): رجاله موثقون.

وقال الدارقطني في العلل (6/ 216): يرويه عاصم بن رجاء بن حيوة واختلف عنه؛ فرواه عنه أبو نعيم، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عمن حدثه، عن كثير بن قيس. ورواه عبد الله بن داود الخريبي، عن عاصم فقال: عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، وداود هذا مجهول.

ورواه محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم بن رجاء، عن كثير بن قيس، لم يذكر =

ص: 56

كذا، أو: ما تحفظُ في كذا؟ أو: أفتاني غيرُكَ، أو): أفتاني (فلانٌ بكذا، أو: قلتُ أنا) كذلك (أو: وقع لي) كذلك (أو: إن كان جوابُكَ موافقًا، فاكتب) ونحو ذلك مما يُنافي الأدب.

(لكن إن عَلِم) المفتي (غرضَ السائل في شيء، لم يجز) له (أن يكتب) في رُقعته (بغيره) لأنه يُفسد عليه رُقعته، ويحوجه إلى إبدالها.

(ويُكره) للمستفتي (أن يسأله) أي: المُفتي (في حال ضَجَر، أو همٍّ، أو) عند (قيامه، أو نحوه) كنُعاسه، وكلِّ ما يشغل الفِكر.

(ولا يُطالِبُه بالحُجَّة) أي: لا يطلب المستفتي من المفتي الدليل على ما قاله له؛ لأن فيه اتهامًا له.

(و‌

‌يجوز تقليد المفضول من المجتهدين)

مع وجود أفضل منه؛ لأن المفضول من الصحابة والسلف كان يُفتي مع وجود الفاضل منهم مع الاشتهار والتكرار، ولم يُنكِر ذلك أحدٌ، فكان إجماعًا

(1)

. وقال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيِّهِمُ اقتديتُم اهتديتُم"

(2)

، وفيهم الأفضل من غيره. و -أيضًا- العاميُّ لا يمكنه الترجيح، لقصوره عنه.

"فائدة":‌

‌ لا يجوز التقليد في معرفة الله تعالى والتوحيد والرسالة

؛

= بينهما أحدًا، وعاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء، ولا يثبت، ورواه الأوزاعي، عن كثير بن قيس، عن يزيد بن سمرة، عن أبي الدرداء، وليس بمحفوظ. اهـ.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 164): رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان عن حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في العلل، وهو مضطرب الإسناد؛ قاله المنذري [في تهذيب السنن (5/ 243 - 244)]، وقد ذكره البخاري في صحيحه [في العلم، باب 10، بعد حديث 67] بغير إسناد.

(1)

انظر: المستصفى للغزالي (2/ 468 - 469).

(2)

تقدم تخريجه (6/ 204) تعليق رقم (3).

ص: 57

ذكره القاضي

(1)

وابن عقيل

(2)

وأبو الخطَّاب

(3)

وذكره عن عامَّةِ العلماء، وذكر غيره

(4)

أنه قول جمهور العلماء، واستدلَّ لذلك بأمره تعالى بالتدبُّر والتفكُر، وفي "صحيح ابن حبان": لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ}

(5)

قال: "ويلٌ لمن قرأهُنَّ ولم يتدبَّرْهن، ويلٌ له، ويلٌ له"

(6)

. والإجماع على وجوب معرفة الله تعالى

(7)

، ولا تحصُل بتقليد؛ لجواز كذب المُخبِر، واستحالة حصوله، كمَنْ قَلَّد في حدوثِ العالم، وكمَنْ قَلَّد في قِدَمِهِ؛ ولأن التقليد لو أفاد علمًا، فإما بالضرورة وهو باطلٌ، وإما بالنظر، فيستلزم الدليل، والأصل عدمُهُ، والعلم يحصُل بالنظر، واحتمال الخطأ لعدم تمام مُراعاة القانون الصحيح؛ ولأن الله تعالى ذَمَّ التقليد بقوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}

(8)

وهي فيما يطلب للعلم، فلا يلزم في الفروع؛ قاله في "شرح المنتهى".

(ولزومُ التمذهبِ بمذهبٍ، وامتناعُ الانتقال إلى غيره، الأشهرُ

(1)

العدة في أصول الفقه (4/ 1217).

(2)

الواضح في أصول الفقه (5/ 499).

(3)

التمهيد في أصول الفقه (4/ 396).

(4)

البحر المحيط (6/ 277).

(5)

سورة آل عمران، الآية:190.

(6)

"الإحسان"(2/ 386) حديث 620. وأخرجه -أيضًا- ابن مردويه، وعبد بن حميد في تفسيرهما، كما في تفسير ابن كثير (1/ 441)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 33) حديث 4618، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (3/ 167) حديث 568، في حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. قال الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (1/ 147) حديث 68: إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات.

(7)

الإحكام للآمدي (4/ 229)، وفتح الباري (1/ 70).

(8)

سورة الزخرف، الآية:22.

ص: 58

عدمه).

قال الشيخ تقي الدين

(1)

: العاميُّ هل عليه أن يلتزم مذهبًا معيَّنًا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك، والذين يوجبون يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه مادام ملتزمًا له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه، ولا ريب أن التزام المذاهب والخروجَ عنها، إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتزم مذهبًا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك، فهذا مما لا يُحمد عليه، بل يُذَمُّ عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من يُسلِم، لا يُسلِم إلا لغرض دنيوي، أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها، أو دنيا يصيبها.

قال: وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمرٍ ديني، فهو مُثاب على ذلك، بل واجب على كلِّ أحدٍ إذا تبيَّنَ له حُكمُ الله ورسولِه في أمرٍ ألا يعدِلَ عنه، ولا يتبع أحدًا في مخالفة الله تعالى ورسوله، فإن الله تعالى فرض طاعة رسوله على كل أحد في كل حال. انتهى.

وفي "الرعاية": من التزم مذهبًا أُنكر عليه مخالفته بلا دليل، ولا تقليد سائغ، ولا عذر. ومراده بقوله:"بلا دليل" إذا كان من أهل الاجتهاد. وقوله: ولا تقليد سائغ، أي: لعالم أفتاه، إذا لم يكن أهلًا للاجتهاد. وقوله: ولا عُذر، أي: يُبيح له ما فعله، فَيُنكر عليه حينئذ؛ لأنه يكون متبعًا لهواه.

وقال في موضع آخر: يلزم كلَّ مقلِّدٍ أن يلتزم بمذهب معيَّن في

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 222)، والفتاوى الكبرى (2/ 238).

ص: 59

الأشهر، ولا يُقَلِّد غيره. وقيل: بلى، وقيل: ضرورة.

(ولا يجوز له) أي: للمفتي (ولا لغيره، تتبُّع الحِيل المُحَرَّمة والمكروهة، ولا تتبُّع الرُّخَص لمن أراد نفعه، فإنْ تتبَّع ذلك) أي: الحِيُل المكروهة والمُحَرَّمة والرُّخَص (فَسَقَ وحَرُمَ استفتاؤه. وإن حسن قصْدُه) أي: المفتي (في حيلة جائزة لا شُبهة فيها ولا مفسدة، ليتخلَّصَ المستفتي بها من حَرَجٍ؛ جاز، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا رضي الله عنه إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيتخلَّص من الربا

(1)

) بذلك، وهذا إذا كان قَبَض الدراهم، أو اشترى في ذمته بدراهم من جنس الأولى وعلى صفتها، فتحصل المقاصَّة، ويتخلص من الربا، وأما إذا اشترى بعين تلك الدراهم قبل قبضها مما يشاركَه في العلة فلا، كما تقدم

(2)

في البيع.

(وإذا استفتى واحدًا، أخذ) المستفتي (بقوله، ويلزمه) الأخذ بقوله (بالتزامه) قال في "شرح التحرير"

(3)

: لو أفتى المقلدَ مُفْتٍ واحد، وعمل به المقلّد؛ لزمه قطعًا، وليس له الرجوع عنه إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بعينها، إجماعًا؛ نقله ابن الحاجب

(4)

والهندي

(5)

وغيرهما. وإن لم يعملْ به، فالصحيح من المذهب أنه يلزمه بالتزامه. قال ابن مفلح في "أصوله"

(6)

: هذا الأشهر.

(1)

تقدم تخريجه (8/ 46) تعليق رقم (1).

(2)

(7/ 379، 492).

(3)

التحبير شرح التحرير (8/ 4095 - 4096).

(4)

مختصر ابن الحاجب (2/ 309).

(5)

نهاية الوصول في دراية الأصول (9/ 3919).

(6)

أصول الفقه (3/ 1565).

ص: 60

(و‌

‌لو سأل) العاميُّ (مفتيين فأكثر، فاختلفا عليه؛ تَخيَّر)

صححه في "الإنصاف"، وقال الموفق في "الروضة"

(1)

: لزمه الأخذ بقول الأفضل في عِلْمِه ودينه. وقال الطوفي في "مختصرها"

(2)

: والظاهر: الأخذ بقول الأفضل في عِلْمه ودينه. وفي "إعلام الموقعين"

(3)

: يجب عليه أن يتحرَّى ويبحث عن الراجح بحسبه، وهو أرجح المذاهب السبعة. انتهى. والقول الأول اختاره القاضي

(4)

وأبو الخطاب

(5)

قال: وهو ظاهر كلام أحمد

(6)

، وقطع به المجد في موضع من "المسودة"

(7)

، وقدَّمه صاحب "الفروع" في "أصوله"

(8)

.

(فإن لم يجد إلا مفتيًا واحدًا؛ لزمه قَبوله) كما لو حكم عليه به، ولا يتوقف ذلك على التزامه، ولا سكون نفسه إلى صحته.

(وله‌

‌ العمل بخطِّ المُفتي،

وإن لم يسمع الفتوى من لفظه؛ إذا عَرَف أنه خَطُّه) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب لعُمَّاله وولاته وسُعاته، ويعملون بذلك، ولدعاء الحاجة إليه، بخلاف حكم الحاكم. قلت: ومن ذلك: العملُ بكتب الأئمة إذا علم أنها خطُّهم، أو نقلها الثقة من

(9)

خطِّهم.

(1)

(3/ 1024 - 1025).

(2)

البلبل في أصول الفقه ص/ 185، وشرح مختصر الروضة (3/ 666).

(3)

(4/ 264).

(4)

العدة في أصول الفقه (4/ 1227).

(5)

التمهيد في أصول الفقه (4/ 403، 406).

(6)

في رواية الحسين بن بشار، كما في المسودة (2/ 858 - 859).

(7)

المصدر السابق.

(8)

أصول الفقه (3/ 1565).

(9)

في "ذ": "عن".

ص: 61

فصل

(وإن تحاكم شخصان إلى رجُلٍ يصلح للقضاء، فحكَّماه بينهما، فحكم، نَفَذَ حكمه في المال، والقِصاص، والحَدِّ، والنكاح، واللعان وغيرها، حتى مع وجود قاض، فهو كحاكم الإمام) لما روى أبو شُريح أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنَّ الله هو الحكمُ، فلِمَ تُكنى أبا الحكم؟ قال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شيءٍ أتَوْني، فحكَمتُ بينهم فرضِيَ عليَّ الفريقان، قال: فما أحسَنَ هذا! فمَنْ أكْبَرُ وَلَدِكَ؟ قال: شُريحٌ، قال: فأنت أبو شُرَيْحٍ" أخرجه النسائي

(1)

، وعنه صلى الله عليه وسلم: "مَن حكمَ بين اثنين تحاكما إليه وارتضيا به، فلم يعدل بينهما الحقّ

(2)

، فعليه لعنة الله" رواه أبو بكر

(3)

،

(1)

في كتاب آداب القضاء، باب 7، حديث 5402، وفي الكبرى (3/ 466) حديث 5940. وأخرجه -أيضًا- البخاري في الأدب المفرد ص/ 282، حديث 811، وفي التاريخ الكبير (8/ 227 - 228)، وأبو داود في الأدب، باب 7، حديث 4955، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 328) حديث 2873، والدولابي في الكنى والأسماء (1/ 225) حديث 407، وابن حبان "الإحسان" (2/ 257) رقم 504، والحاكم (1/ 24)، والبيهقي (10/ 145)، وفي الأسماء والصفات (1/ 198) حديث 134، من طريق يزيد بن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن شريح بن هانئ، عن هانئ بن يزيد رضي الله عنه. قال ابن مفلح في الفروع (3/ 563): إسناده جيد.

(2)

في "ذ": "بالحق" وهو الموافق للرواية.

(3)

أبو بكر هو عبد العزيز غلام الخلال، كما صرح به ابن الجوزي في التحقيق (2/ 384)، ولم يطبع شيء من كتبه. وأخرجه -أيضًا- الأزدي في المخزون ص/118، حديث 153، والعسكري في تصحيفات المحدثين (2/ 673)، من نسخة عبد الله بن جراد مرفوعًا.

قال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (5/ 63؛ ط/ أضواء السلف)، وابن الملقن في =

ص: 62

ولولا أن حكمه يلزمهما؛ لما لَحِقه هذا الذمُّ؛ ولأن عُمر وأُبيًّا تحاكما إلى زيد بن ثابت

(1)

، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جُبير بنْ مطعم

(2)

، ولم يكن أحدٌ منهما قاضيًا.

(ويلزم مَن يَكتب إليه) المحكَّم (بحكمه؛ القَبول، و) يلزمه (تنفيذه) لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزمه قَبوله (كحاكم الإمام.

ولا يجوز نَقْضُ حُكمِه فيما لا يُنقضُ) فيه (حكمُ من له ولاية) من إمام أو نائبه، كما يأتي بيانه.

(ولكُلِّ واحدٍ من الخصمين الرجوعُ عن تحكيمِه قبل شروعه في الحُكْمِ) لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين، أشبه رجوعَ الموكِّل عن التوكيل قبل التصرُّف فيما وُكِّل فيه.

و (لا) يصح رجوعُ أحدهما (بعدَه) أي: بعد شروعه في الحكم (وقبل تمامه) كرجوع الموكِّلِ بعد صدور ما وكَّل فيه من وكيله.

(وقال الشيخ

(3)

: وإن حكَّم أحدُهما خصمَه، أو حكَّما مفتيًا في مسألة اجتهادية، جاز، وقال

(4)

: يكفي وصف القصة) أي: وإن لم تكن دعوى.

(وقال

(5)

: العَشْرُ صفاتٍ التي ذكرها في "المحرر" في القاضي: لا

= البدر المنير (9/ 555): هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه من نسخة ابن جراد، وهي نسخة باطلة.

(1)

أخرجه البيهقي (10/ 136).

(2)

أخرجه البيهقي (5/ 268).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/485.

(4)

انظر المصدر السابق ص/485.

(5)

الاختيارات الفقهية ص/486.

ص: 63

تشترط في من يُحَكِّمه الخصمان) وينبغي أن يُشهِد عليهما بالرضا به قبل حكمه؛ لئلا يجحد المحكومُ عليه منهما.

(وقال في "عُمَدِ الأدلة" بعد ذِكْرِ التحكيم: وكذا يجوز أن يتولَّى مُقَدَّمو الأسواقِ والمساجد: الوساطاتِ، والصُّلحَ عند الفَوْرة والمخاصمةِ، وصلاةَ الجنازة، وتفويضَ الأموال إلى الأوصياء، وتفرقةَ زكاته بنفسه، وإقامةَ الحدودِ على رقيقه، وخروجَ طائفةٍ إلى الجهاد تلصُّصًا وبَياتًا، وعمارةَ المساجد، والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، والتعزيرَ لعبيدٍ وإماءٍ، وأشباهَ ذلك) قلت: وفي بعض ذلك ما لا يخفى على المتأمل.

ص: 64

‌باب أدب

(1)

القاضي

بفتح الهمزة والدال، يقال: أَدِب الرجل - بكسر الدال، وضَمُّها لغةٌ - إذا صار أديبًا في خلق أو علم.

(وهو) أي: الأدب (أخلاقه التي ينبغي) له ولغيره (التخلُّق بها).

والمقصود من هذا الباب: بيان ما يجب على القاضي، أو يُسنُّ له أن يأخذ به نفسه وأعوانه من الآداب والقوانين التي تنضبط بها أمورُ القُضاة، وتحفظهم عن الميل والزيغ.

(والخُلُق) بضم اللام (صورته الباطنة) وهي نفسه وأوصافها ومعانيها. والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة. قال الحافظ ابن حجر

(2)

: حُسْن الخُلُق اختيار الفضائل وترك الرذائل.

(ينبغي) أي: يُسَنُّ (أن يكون) القاضي (قويًا من غير عنف) لئلا يطمع فيه الظالم. والعنف ضد الرفق (ليّنًا من غير ضعف) لئلا يهابَهُ صاحب الحق، وظاهر "الفصول": يجب ذلك.

(حليمًا) لئلا يغضبَ من كلام الخصم، فيمنعَهُ ذلك من الحكم بينهما.

(متأنيًا)[لئلا يؤدِّي إلى عَجَلتِهِ]

(3)

.

(ذا فِطنة وتيقُّظ) لئلا يُخْدَع من بعض الخصوم على غِرة.

(1)

في "ذ": "آداب".

(2)

فتح الباري (6/ 575).

(3)

في "ذ": "لئلا تؤدي عجلتُهُ إلى ما لا ينبغي".

ص: 65

(بصيرًا بأحكام الحُكَّام قبله، يخاف الله تعالى ويراقبه، لا يؤتى من غفلة، ولا يُخدع لغِرَّة) لقول علي: "لا ينبغي للقاضي أن يكرن قاضيًا حتى يكون فيه خمس خِصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم"

(1)

.

(صحيحَ البصر والسمع، عالمًا بلغات أهل ولايته) لأن ذلك أمكن في العدل بينهم؛ لأن المترجم قد يُخفي شيئًا من كلام أحدهما.

(عفيفًا) لما تقدم عن علي (ورعًا، نزِهًا، بعيدًا من الطمع، صدوق اللهجة، لا يَهْزِلُ ولا يمجُن) أي: يمزح؛ لأن ذلك يخلُّ بهيبته.

(ذا رأي ومشورة) لما تقدم عن علي (لكلامه لِين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد) يقال: وعد في الخير وأوعد في ضده. هذا هو الأصل، وقد يُستعمل كل منهما بمعنى الآخر.

(ولا يكون) القاضي (جَبَّارًا، ولا عَسُوفًا) لأنه لا يحصل المقصود بتوليته، من وصول الحق لمستحقه.

(وله أن ينتهر الخصمَ إذا التوى) لأن الحاجة داعية إلى ذلك، لإقامة العدل (و) أن (يصيحَ عليه) أي: على الخصم عند التوائه.

(وإن استحقَّ التعزيرَ، عَزَّره بما يرى من أدبٍ) لا يزيد على عشرة أسواط (أو حَبْسٍ.

(1)

أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (23/ 88) رقم 33583. وجاء من كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أخرجه ابن سعد (5/ 369 - 370)، والبيهقي (10/ 110، 117).

وأخرجه البخاري في الأحكام، باب 16، قبل حديث 7163 معلقًا، وعبد الرزاق (8/ 298) رقم 15286، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 78 - 79)، والبيهقي (10/ 117)، بنحوه.

ص: 66

وإن افتاتَ) الخصمُ (عليه) أي: على القاضي (بأن يقول) الخصمُ: (حكمتَ عليَّ بغير الحقِّ، أو ارتشيتَ، فله تأديبُه) لأنه يشقّ عليه رفعه إلى غيره، فجاز له تأديبه بنفسه مع أنه حق له (وله) أي: القاضي (أن يعفوَ) عمَّن افتات عليه؛ لأنه حقٌّ له.

(وإن بدأ المُنكِرُ باليمين؛ قَطَعَها) القاضي (عليه، وقال: البينةُ على خصمِكَ) المدعي (فإن عاد) المُنكرُ إلى اليمين (نهره) عن ذلك (فإن عاد) إليه (عزَّره؛ إن رأى) ذلك (وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب.

وإذا وُلِّيَ) القاضي (في غير بلده، فأراد المسيرَ إليه، استُحِبَّ له أن يبحث عن قومٍ من أهل ذلك البلد إن وَجد؛ ليسألهم عنه) أي: عن البلد (وعن علمائه، وعدوله، وفضلائه) ليعرف حالهم، حتى يشاور من هو أهل للمشاورة، ويقبل شهادة من هو أهل للعدالة (ويتعرَّف منهم) أي: ممن وجده من أهل ذلك البلد (ما يحتاج إلى معرفته، فان لم يجد) من يسألُهُ في البلد الذي هو فيه (ولا في طريقه، سأل إذا دخله) ليتعرف حالهم؛ لما تقدم.

(وإذا قَرُبَ) القاضي (منه) أي: من البلد الذي ولي فيه (بعث من يُعلِمهم بقدومه؛ ليَتَلقَّوه، من غير أن يأمرهم بتلقِّيه) لأن في تلقِّيه تعظيمًا له، وذلك طريق لقبول قوله، ونفوذ أمره.

(ويدخل البلد يوم الاثنين، أو) يوم (الخميس، أو) يوم (السبت) لقوله صلى الله عليه وسلم: "بورك لأمتي في سبْتها وخميسها"

(1)

ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان

(1)

أورده العجلوني في كشف الخفاء (1/ 214) وقال: قال ابن الملقن في شرح المنهاج، في باب القضاء: لا أصل له.

ص: 67

إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس"

(1)

(ضحوة) لاستقبال الشهر تفاؤلًا (لابسًا أجمل ثيابه) أي: أحسنها؛ لأن الله جميل يحب الجمال

(2)

. وقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}

(3)

؛ لأنها مجامع الناس، وهذا موضع يجتمع فيه ما لا يجتمع في المسجد، فكان أولى بالزينة (وفي "التبصرة": وكذا أصحابه) أي: يلبسون أحسن ثيابهم. وجزم به في "المنتهى"؛ لأن ذلك أعظم له ولهم في النفوس (وأنَّ جميعَها) أي: الثياب (سود، وإلا فالعِمامة) لأنه صلى الله عليه وسلم "دخل مكَّة وعليه عِمامة حَرَقانيّةٌ"

(4)

أي: سوداء؛ قاله في "الفروع" و"المبدع"(وظاهر كلامهم: غير السواد أولى) للأخبار

(5)

أي: في البياض.

(ولا يتطيَّرُ) أي: يتشاءم (بشيء، وإن تفاءل، فحسنٌ) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحبُّ الفألَ الحسن، ونهى عن الطِّيرَة

(6)

(فيأتي) القاضي (الجامعَ،

(1)

لم نقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وإنما أخرج البخاري في الجهاد، باب 103، حديث 2949، عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه كان يقول: لقلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس. وأخرج أيضًا حديث 2950، عنه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 91، عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَر الحق وغَمْط الناس".

(3)

سورة الأعراف، الآية:31.

(4)

أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5/ 68)، عن عمرو بن حريث، به.

وأخرجه مسلم في الحج، حديث 1359، والنسائي في الزينة، باب 108، حديث 5343، والحميدي (1/ 257) حديث 566، عن عمرو بن حريث، بنحوه.

(5)

انظر ما تقدم (2/ 180) تعليق رقم (1)، و (6/ 86) تعليق رقم (1).

(6)

أخرج ابن ماجه في الطب، باب 43، حديث 3536، وابن أبي شيبة (9/ 40)، =

ص: 68

فيصلي فيه ركعتين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا قَدِم من سفر، بدأ بالمسجد، فصلَّى فيه ركعتين"

(1)

فيستحبُّ ذلك لكلِّ قادمٍ (ويجلس مُستقبِلَ القِبْلةِ) لأن "خير المجالس ما استُقْبِلَ به القِبْلة"

(2)

(فإذا اجتمع الناسُ، أمر بعهدِه) أي: الذي

(3)

كتبه له مُوَلِّيه، بما ولاه إياه (فقرئ عليهم) أي: على الحاضرين، ليعلموا توليته، ويعلموا احتياط الإمام على اتباع أحكام الشرع، والنهي عن مخالفته، وقدرَ المُولَّى عنده، ويعلموا حدودَ ولايته، وما فوَّض إليه الحكم فيه.

(ولْيُقِلَّ) القاضي (من كلامه إلا لحاجةٍ) للخبر

(4)

.

= وأحمد (2/ 332)، وابن حبان "الإحسان"(13/ 490) رقم 6121، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن ويكره الطِّيرة.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 77): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

وأخرج البخاري في الطب، باب 44، حديث 5745 - 5755، ومسلم في السلام، حديث 2223، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا طيرة، وخيرها الفأل" قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم".

وأخرج البخاري في الطب، باب 44، 54، حديث 5756، 5776، ومسلم في السلام، حديث 2224 (111 - 112)، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة".

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد، باب 197، حديث 3088، وفي المغازي، باب 79، حديث 4418، وفي التفسير، باب 18، حديث 4677، ومسلم في صلاة المسافرين، حديث 716، وفي التوبة، حديث 2769، عن كعب بن مالك رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه (2/ 273) تعليق رقم (3).

(3)

في "ذ": "بالذي".

(4)

أخرج البخاري في الأدب، باب 31، 85، حديث 6019، 6135، وفي الرقاق، باب 23، حديث 6476، ومسلم في الإيمان، حديث 48، عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت".

ص: 69

(ويأمر من يُنادي بيومِ جلوسه للحُكم) ليعلم مَن له حاجة، فيقصد الحضور لفصل حاجته (ثم ينصرف) القاضي (إلى منزله الذي أُعِدَّ له) ليستريح من نَصَبِ سفره، ويُعِدَّ أمره، ويُرتِّب نُوَّابه؛ ليكون خروجه على أعدل أحواله.

(وأول ما يبدأ به أن يبعثَ إلى الحاكم المعزول، فيأخذَ منه دِيوانَ الحُكْمِ) بكسر الدال، وحُكي فتحَها، وهو فارسي مُعَرَّب؛ لأنه الأساس الذي يبني عليه (ويلزمه) أي: المعزول (تَسْلِيمُه) أي: ديوان الحُكم (إليه) أي: إلى القاضي المتولِّي؛ لأنه في يد الحاكم بحكم الولاية، وقد صارت إليه، فوجب أن ينتقل ذلك إليه (وهو) أي: الديوان (ما فيه وثائق الناس من المحاضر، وهي نُسَخُ ما ثَبَتَ عند الحاكم، والسِّجلات، وهي نُسَخُ ما حَكَمَ به) ويُعرف الآن بالسجل (ولْيأمُرِ) القاضي (كاتبًا ثقةً يكتُبُ ما تَسَلَّمه، بمحضَرِ عَدْلين) احتياطًا.

(ثم يخرج) القاضي (يوم الوعد، على أعدل أحواله: غير غضبانَ، ولا جائعٍ، ولا شبعانَ، ولا حاقنٍ، ولا مهمومٍ بأمرٍ يشغله عن الفهم، كـ: العطشِ والفرح الشديدين، والحزنِ الكثير، والهمِّ العظيم، والوجعِ المؤلم، والنُّعاسِ الذي يغمُرُ القلبَ) ليكون أجمع لقلبه، وأبلغ في تيقُّظِه للصواب؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي القاضي وهو غضبانُ" متفق عليه من حديث أبي بكرة

(1)

، والباقي بالقياس عليه.

(ويُسَلِّم على من يَمُرُّ به

(2)

) من المسلمين (ولو صبيانًا، ثم على مَن في مجلسه) لحديث: "إن حقَّ المسلم على المسلم أن يُسَلِّم عليه إذا

(1)

البخاري في الأحكام، باب 13، حديث 7158، ومسلم في الأقضية، حديث 1717.

(2)

في "ذ": "عليه".

ص: 70

لقيه"

(1)

.

(ويُصلِّي تحيةَ المسجد، إن كان في مسجد) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلسْ حتى يركع

(2)

ركعتين"

(3)

(وإلا) أي: وإن لم يكن في مسجد (خُيِّر، والأفضلُ الصلاةُ) لينال ثوابها.

(ويجلِسُ على بِساطٍ، أو لِبْد، أو غيره، يُفرش له في مجلس حكمه، بسكينةٍ ووَقَارٍ) لأنه أبلغ في هيبته، وأوقع في النفوس، وأعظم لحُرمة الشرع.

(ولا يجلسُ على التُّراب، ولا على حُصُرِ المسجد، لأن ذلك يَذهب بهيبته من أعين الخصوم) لكن قال في "الشرح": وما ذكر

(4)

من جلوسه على البساط دون تراب وحصير، لم نعلم أنه نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من خُلفائه، والاقتداءُ بهم أَولى.

(ويَستعينُ بالله، ويتوكَّلُ عليه، ويدعوه سرًّا أن يعصمه من الزَّلل، ويوفِّقَه للصواب، ولما يُرضِيه من القول والعمل) لأن ذلك مطلوب مطلقًا، ففي وقت الحاجة أولى، والقاضى أشدُّ الناسِ إليه حاجة.

(ويجعَلُ) القاضي (مَجلِسَه في مكان فَسِيح، كجامعٍ، ويَصُونُه) أي: المسجد (عمَّا يُكره فيه) من لغط ونحوه (أو) يجلس في (فضاءٍ واسعٍ، أو دار واسعة في وسط البلد إن أمكن) ليكون ذلك أوسعَ على الخصوم، وأقربَ إلى العدل.

(و‌

‌لا يُكرَهُ القضاءُ في الجوامع والمساجد)

لحديث كعب بن مالك؛

(1)

تقدم تخريجه (4/ 14) تعليق رقم (1).

(2)

في "ذ": "يصلي" وهو الموافق لرواية البخاري.

(3)

تقدم تخريجه (2/ 273) تعليق رقم (2).

(4)

في "ذ": "وما ذكره".

ص: 71

متفق عليه

(1)

، وروي عن عمر وعثمان وعلي "أنهم كانوا يقضون في المسجد"

(2)

وقال مالك

(3)

: هو السُّنة، والقضاء فيه من أمر الناس القديم. فإن اتفق لأحد من الخصوم مانع من الدخول، كحيض وكُفْر، وكَّلَ وكيلًا، أو ينتظر حتى يخرج فيحاكم إليه.

(ولا يتخذ) القاضي (في مجلس الحكم حاجبًا ولا بوَّابًا، ندبًا، بلا عُذر) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من إمامٍ، أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خَلّته وحاجته

(4)

ومسكنته" إسناده ثقات؛ رواه أحمد والترمذي وقال: غريب

(5)

؛ ولأن

(1)

أخرج البخاري في الصلاة، باب 71، 83، حديث 457، 471، وفي الخصومات، باب 4، 9، حديث 2418، 2424، وفي الصلح، باب 10، 14، حديث 2706، 2710، ومسلم في المساقاة، حديث 1558، عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف سِجْف حجرته، فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال:"ضع من دينك هذا". وأومأ إليه: أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال:"قم فاقضه".

(2)

لم نقف على من رواه مسندًا بهذا اللفظ، ولكن تقدم (14/ 13) تعليق رقم (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه أتي برجل في حد فقال: أخرجاه من المسجد، ثم اضرباه.

وتقدم أيضًا (14/ 13) تعليق (3) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رجلًا جاء إلى علي فسارَّه، فقال: يا قنبر، أخرجه من المسجد، فأقم عليه الحد.

(3)

المدونة (5/ 144).

(4)

في "ذ": "دون حاجته وخلته".

(5)

أحمد (4/ 231) و (39/ 524، حديث 82، الملحق المستدرك من مسند الأنصار، طبعة مؤسسة الرسالة)، والترمذي في الأحكام، باب 6، حديث 1332. وأخرجه - أيضًا - عبد بن حميد (1/ 258) حديث 286، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 75)، وأبو يعلى (3/ 134 - 135) حديث 1565 - 1566، والخلال في السنة (2/ 449) =

ص: 72

الحاجب ربما قَدَّمَ المتأخر، وأخَّرَ المتقدِّم لغرضٍ له.

= حديث 695، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 198)، والحاكم (4/ 94)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 22) حديث 7386 - 7387، وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 270)، من طريق علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه.

قال الترمذي: حديث غريب. وصححه الحاكم. ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح (13/ 133): سنده جيد. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (5/ 98 مع الفيض)، ورمز لحسنه.

قلنا: في سنده أبو الحسن، وهو الجزري، قال فيه الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 515): تفرد عنه علي بن الحكم. وقال الحافظ في التقريب (8106): مجهول. لكن تابعه القاسم بن مخيمرة: أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة، باب 13، حديث 2948، والترمذي في الأحكام، باب 6، حديث 1333، وفي العلل الكبير ص/ 199، حديث 353، وابن سعد (7/ 437)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 296) حديث 2317، والدولابي في الأسماء والكنى (1/ 54)، وابن خزيمة كما في إتحاف المهرة (14/ 376) حديث 17843، والطبراني في الكبير (22/ 331) حديث 832، وفي مسند الشاميين (2/ 311) حديث 1404، والحاكم (4/ 93)، والبيهقي (10/ 101 - 102)، وفي شعب الإيمان (6/ 21) حديث 7385، من طريق يزيد بن أبي مريم، أن القاسم بن مخيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره، قال: دخلت على معاوية، فقال: ما أنعمنا بك أبا فلان - وهي كلمة تقولها العرب - فقلت: حديثًا سمعته، أُخبرك به، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولاه الله عز وجل شيئًا من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم، وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره. قال: فجعل رجلًا على حوائج الناس.

قال الحاكم: إسناده صحيح. ووافقه الذهبي.

قال الترمذي: أبو مريم هو عمرو بن مرة الجهني. وجعلهما الحاكم اثنين، وكذا الذهبي في تجريد أسماء الصحابة (2/ 201) رقم 2322 - 2323 ورجحه الحافظ في الإصابة (12/ 19) وعلله بقوله: فإن سند الحديثين مختلف، وكذا سياق المتن، وقد جزم غير واحد بأنه غيره.

ص: 73

(وفي "الأحكام السلطانية"

(1)

: ليس له تأخير الحضور

(2)

إذا تنازعوا إليه بلا عُذر) لما فيه من الضَّرر (ولا له) أي: القاضي (أن يحتجب إلا في أوقات الاستراحة) لأنها ليست وقتًا للحكومة.

(ويَعْرِض القصَصَ) ليقضي حوائج أصحابها (فيبدأ بالأولِ فالأولِ) كما لو سبقوا إلى مباح.

(ويكون له من يُرتِّبُ الناسَ إذا كَثُروا، فيكتبُ الأولَ فالأولَ) ليعلم السابق (ويجب تقديم السابقِ على غيره) كالسبق إلى مُباح

(3)

.

(فإذا حكم بينه وبين خصمه، فقال: لي دعوى أخرى، لم تُسمَع منه، ويقول له: اجْلِسْ، إذا لم يبقَ أحدٌ من الحاضرينَ، نظرتُ في دعواكَ الأخرى، إن أمكن) لئلا يستوعب المجلس بدعاويه، فيضر بغيره؛ ولأنه مسبوق بالنسبة إلى الثانية، لأن الذي يليه سبقه بالنسبة إلى الدعوى الثانية.

(فإذا فرغ الكلُّ) من دعاويهم (فقال الأخيرُ بعد فصل حكومته: لي دعوى أخرى، لم تُسمَع منه حتى تُسمع دعوى الأولِ الثانيةَ) لسبقه (ثم تُسمع دعواه) لعدم المعارض.

(وإن ادعى المُدَّعَى عليه على المُدَّعي، حَكَمَ بينهما؛ لأننا إنما نعتبر الأولَ فالأولَ في المُدَّعِي، لا في المُدَّعَى عليه، وإذا تقدَّم الثاني) الذي

(4)

جاء ثانيًا (فادَّعى على المُدَّعِي الأولِ، والمُدَّعَى عليه الأول، حَكَمَ بينهما) كما لو ادَّعى على غيرهما.

(1)

ص/ 73.

(2)

في "ذ" والأحكام السلطانية: "الخصوم".

(3)

في "ذ": "المباح".

(4)

في "ذ": "أي الذي".

ص: 74

(وإن حضر اثنان) مدعيان (أو جماعةٌ، دفعةَ واحدةً) وتشاحُّوا (أقرع بينهم، فَقدَّم من خرجت له لقُرعةُ) لأنها مشروعة للترجيح في غير هذا الموضع، فكذا هنا. وفي "المحرر" و"الوجيز": يقدم المسافر المرتحل. زاد في "الرعاية": والمرأة في حكومات يسيرة. قال في "المبدع": لكن لو قدَّم المتأخر أو عكس، صَحَّ قضاؤه مع الكراهة، انتهى. ومقتضى كلام المصنف أنه يحرم.

وإن ادَّعَى كلٌّ منهم أنه حضر قبل الآخر ليدَّعي عليه، فهل يُقدِّم الحاكم من شاء منهما، أو يصرفهما حتى يتفقا، أو يُقرع بينهما، أو يحلف كل منهما الآخر؟ فيه أوجه، والاعتبار بسبق المُدَّعي.

(وإن كَثُر عدَدُهم) أي: المدعين الذين جاؤوا دفعة واحدة (كتب أسماءَهم في رِقَاع، وتَرَكها بين يديه، ومَدَّ يده فأخَذَ رُقعةً رُقعةً، واحدةً بعد أخرى) أي: كلما انتهت خصومة صاحب رقعة، أخذ أخرى

(1)

، فأنهى حكومة صاحبها (و) يأخذ أخرى فَـ (ــيقدِّم صاحبها حسب ما يتفق) إلى أن ينتهوا؛ لأنه لا مرجِّح هنا إلا القُرعة، وهذه

(2)

أسهل طرقها.

فصل

(ويلزمه) أي: القاضي (العدلُ بين الخصمين في لَحْظِهِ، ولَفْظه، ومجلسه، والدخولِ عليه) لما روى عمرو

(3)

بن شَبَّةَ في كتاب "قضاة

(1)

في "ذ": "الأخرى".

(2)

في "ح" و"ذ": "وهذا".

(3)

"عمرو" كذا في الأصول! وصوابه: "عمر". وهو عمر بن شبَّة بن عبيدة بن زيد بن رائطة النميرى، أبو زيد بن أبي معاذ البصري النحوى الأخبارى، نزيل بغداد، كان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بأيام الناس، مات سنة 262 هـ رحمه الله تعالى. =

ص: 75

البصرة" عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن ابتلي بالقضاءِ بين المسلمين، فليعدل بينهم في لفظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعنَّ صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الآخر"

(1)

؛ ولأنه إذا ميَّز أحد الخصمين عن

(2)

الآخر، حصر وانكسر، وربما لم يفهم حجته، فيؤدي إلى ظلمه.

(إلا أن يكون أحدهما كافرًا، فيقدِّمَ المسلمَ عليه في الدخول، ويرفَعَه في الجلوس) لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}

(3)

؛ ولقول عليٍّ لشُريح: لو كان خصمي مسلمًا لجلستُ معه بين يديك، ولكن سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تساووهم في الجلوس"

(4)

قال في "المبدع": وإسناده ضعيف.

(أو يأذن له) أي: لِلقاضي (أحدُ الخصمين في رَفْعِ الخَصْم الآخر عليه في المجلس، فيجوز) له رفعه؛ لإسقاط خصمه حقه بإذنه فيه (وإذا

= تهذيب الكمال (21/ 386 - 389).

(1)

كتاب قضاة البصرة لابن شبّة لم يُطبع. وأخرجه - أيضًا - وكيع في أخبار القضاة (1/ 31)، وأبو يعلى (10/ 264، 12/ 356) حديث 5867، 6924، والطبراني في الكبير (23/ 284 - 285، 386) حديث 622 - 623، 923، والدارقطني (4/ 205)، والبيهقي (10/ 135) وضعفه. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 197): فيه عباد بن كثير الثقفي، وهو متروك. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 193): في إسناده عباد بن كثير، وهو ضعيف. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 21 مع الفيض) ورمز لضعفه.

(2)

في "ذ": "على".

(3)

سورة السجدة، الآية:18.

(4)

أخرجه ابن القاصّ في أدب القاضي (1/ 167 - 168) حديث 117، وأبو نعيم في الحلية (4/ 139 - 140)، والبيهقي (10/ 136)، وضعفه. انظر: التلخيص الحبير (4/ 193).

ص: 76

سَلَّم عليه أحدُهما، رَدَّ عليه) السلام (ولا ينتظر) بالرد (سلام الثاني) لوجوب رَدّ السلام؛ لعموم الأخبار

(1)

.

(وله) أي: القاضي (القيامُ السائغُ) كالقيامِ لعالمٍ ووالدٍ ونحوهما، فيقوم للخصمين، فإن قام لأحدهما، لزمه القيامُ للآخر؛ للعدل (و) له (تَرْكُه) أي: ترك القيام لهما؛ لأنه أبلغ في الهيبة.

(ويحرم عليه مسارَّة أحدهما) لما فيه من كَسْرِ قلب صاحبه، وربما أضعفه ذلك عن إقامة حجته.

(و) يحرم عليه (تلقينه) لأحدهما (حُجته) لأن عليه أن يعدل بينهما؛ ولما فيه من الضَّرر على صاحبه.

(و) يحرم عليه (تضييفه) أي: تضييف أحد الخصمين (إلا أن يُضيف خصمَه معه) لما رُوي عن عليٍّ أنه نزل به رَجُلٌ فقال: ألَكَ خصمٌ؟ قال: نعم، قال: تحوَّلْ عنَّا، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تُضَيِّفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه"

(2)

.

(1)

منها ما رواه البخاري في الجنائز، باب 2، حديث 1240، ومسلم في السلام، حديث 2162، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 300) حديث 15291، وإسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية (10/ 177) حديث 2181، والدارقطني في المؤتلف (1/ 442)، والبيهقي (10/ 137). قال الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 193): إسناده ضعيف منقطع. وأخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 549) حديث 3934، والبيهقي (10/ 137) بلفظ:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر" دون ذكر قصة الضيافة. وفي سنده القاسم بن غصن، قال الحافظ في التلخيص الحبير: القاسم بن غصن مضعف.

ص: 77

(و) يحرم أيضًا (تعليمُه كيف يدَّعي) لما فيه من الإعانة على خصمه، وكسر قلبه (إذا لم يَلْزَم ذِكْرُه، فإن لَزِمَ، كشَرْطِ عقدٍ، أو سببِ) إرثٍ (ونحوه) مما تتوقف عليه صحة الدعوى، كوصف سرقة أو قتل (ولم يذكره المُدَّعي، فله) أي: القاضي (أن يسأل) عنه (ليحترز عنه) ويحرره؛ لتوقف الحكم عليه.

(وله) أي: القاضي (أن يشفع إلى خصمه؛ ليُنظِرَه) بالدَّين (أو يضع عنه، وله أن يَزِن عنه، ويكون) ذلك (بعد انقضاء الحكم) لأن في ذلك نفعًا لخصمه؛ ولأن معاذًا "أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه ليكلِّم غرماءه، فلو تركوا لأحد، لتركوا معاذًا، لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه سعيد

(1)

. قال في "المبدع": مرسل جيد. ونقل حنبل

(2)

: أن كعب بن مالك "تقاضى ابن أبي حدرد دَينًا عليه، وأشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كعب أنْ ضعِ الشطر من دَينك، قال: قد فعلتُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قُمْ فأعطِهِ"

(3)

قال أحمد: هذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم.

(وينبغي) للقاضي (أن يُحْضِرَ مجلِسَه الفقهاءَ من كُلِّ مذهبٍ إن أمكن، يُشاوِرُهم فيما أشكل عليه) وإذا حدثت حادثة، سألهم عنها، ليذكروا أدلتهم فيها، وجوابهم عنها؛ فإنه أسرع إلى اجتهاده، وأقرب إلى صوابه (فإن حكم باجتهاده، فليس لأحدٍ منهم الاعتراض عليه) لأن في ذلك افتياتًا عليه (وإن خالف اجتهادَه، إلا أن يحكم بما يخالف نصًّا) من

(1)

لم نقف عليه في المطبوع من سننه، وقد أخرجه أبو داود في المراسيل ص/ 162، حديث 171، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، مرسلًا، وقد تقدم تخريجه (8/ 332) تعليق رقم (1).

(2)

انظر: الفروع (6/ 444).

(3)

تقدم تخريجه (15/ 72) تعليق رقم (1).

ص: 78

كتابٍ أو سنَّة، وظاهره: ولو آحادًا كما يأتي (أو إجماعًا) لوجوب إنكاره، ونقض حكمه به.

(ويشاور) القاضي (الموافقين والمخالفين) من الفقهاء (ويسألهم عن حُجَجِهم لاستخراج الأدلة، وتعرف

(1)

الحق بالاجتهاد، قال) الإمام (أحمد) رضي الله عنه

(2)

: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاءَ المدينة، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورُهما، وولي محارب بن دِثار قضاء الكوفة، فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورُهما (ما أحسنه لو فعله الحُكَّام يشارون وينظرون) قال الله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}

(3)

(فإن اتضح له الحكم) حكم فورًا (وإلا أخره) أي: الحكم حتى يتضح له الحق، فيحكم به؛ لما فيه من القضاء بالجهل (فلو حكم ولم يجتهد، فأصاب الحق، لم يصح) حكمه.

(ويحرم عليه) إن كان مجتهدًا (تقليد غيره، وإن كان أعلم منه) لأن المجتهد لا يجوز له التقليد، نقل ابن الحكم: عليه أن يجتهد

(4)

. قال عمر: "والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ"

(5)

ولو كان حكم بحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا. ونقل أبو الحارث: لا تقلد أمرك أحدًا، وعليك بالأثر

(6)

. وقال للفضل بن زياد: لا تُقلِّد دينك الرجال؛ فإنهم لن

(1)

في "ذ": "ولتعرّف".

(2)

مسائل صالح (2/ 95، 3/ 155) رقم 648، 1549.

(3)

سورة آل عمران، الآية:159.

(4)

انظر: الفروع (6/ 445).

(5)

انظر: العدة في أصول الفقه (5/ 1542 - 1543)، والتمهيد في أصول الفقه (4/ 320).

(6)

انظر: العدة في أصول الفقه (4/ 1229)، ومسائل أبي داود ص/ 369، رقم 1793.

ص: 79

يسلموا أن يغلطوا

(1)

.

(ويحرم القضاء وهو غضبان كثيرًا) لخبر أبي بكرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقضينَّ حاكم بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه

(2)

؛ ولأنه ربما حَمَله الغضبُ على الجور في الحكم (أو) وهو (حاقن

(3)

، أو حاقب

(4)

، أو في شِدّة جوعٍ، أو عطشٍ، أو هَمٍّ، أو غَمٍّ، أو وَجَعٍ، أو نُعاس، أو برد مؤلم، أو حرٍّ مزعج، أو توقان جماع، أو شدة مرض، أو خوف، أو فرح غالب، أو ملل، أو كسل، ونحوه) كحزن، قياسًا على الغضب؛ لأنه يمنع حضور القلب، واستيفاء الفِكر، الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهو في معنى الغضب.

(فإن خالف) القاضي (وحَكَم) في حال من تلك الأحوال (فوافق الحقَّ؛ نَفَذَ) حكمه؛ خلافًا للقاضي، قال: لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم القضاء مع ذلك؛ لأنه لا يجوز عليه غَلَط يُقَرُّ عليه، لا قولًا ولا فعلًا في حكم. وتقدم في الخصائص

(5)

.

(ويحرم) على القاضي (قَبوله رشوة) بتثليث الراء؛ لحديث ابن عمر

(6)

: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي"

(7)

قال الترمذي: حسن

(1)

انظر: العدة في أصول الفقه (4/ 1229 - 1230).

(2)

البخاري في الأحكام، باب 13، حديث 7158، ومسلم في الأقضية، حديث 1717.

(3)

حَقَن الرجل بوله: حَبَسه وجمعه، فهو حاقن. المصباح المنير (2/ 144) مادة (حقن).

(4)

الحاقب: الذي احتبس غائطه. المصباح المنير (1/ 197) مادة (حقب).

(5)

(11/ 231).

(6)

كذا في الأصول "ابن عمر" والصواب "ابن عمرو" كما في المصادر المخرجة لهذا الحديث.

(7)

أخرجه أبو داود في الأقضية، باب 4، حديث 3580، والترمذي في الأحكام، باب =

ص: 80

صحيح. ورواه أبو بكر في "زاد المسافر" وزاد: "والرائش"

(1)

وهو: السفير بينهما (وهي) أي: الرشوة (ما يعطى بعد طلبه) لها.

(ويحرم بذلها من الراشي ليحكم له بباطلٍ، أو يدفع عنه حقًّا.

وإن رشاه ليدفع) عنه (ظلمه، ويجريه على واجبه، فلا بأس به في

= 9، حديث 1337، وابن ماجه في الأحكام، باب 2، حديث 2313، والطيالسي ص/ 300، حديث 2276، وعبد الرزاق (8/ 148) حديث 14669، وابن أبي شيبة (6/ 549 - 550، 588)، وأحمد (2/ 164، 190، 194، 212)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 46)، وابن الجارود (2/ 171) حديث 586، والبغوي في الجعديات (2/ 991) حديث 2864، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 334) حديث 5657 - 5658، وابن حبان "الإحسان"(11/ 390) حديث 5077، والطبراني في الأوسط (3/ 29) حديث 2047، وفي الصغير (1/ 28)، والحاكم (4/ 102 - 103)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 390) حديث 5502، والبغوي في شرح السنة (10/ 87) حديث 2493، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

(1)

أبو بكر هو غلام الخلال وتقدم التعريف به (1/ 219) تعليق رقم (2)، وكتابه "زاد المسافر" لم يطبع.

وأخرجه - أيضًا - ابن أبي شيبة (6/ 549)، وأحمد (5/ 279)، والبزار "كشف الأستار"(2/ 124) حديث 1353، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 49)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 332) حديث 5655 - 5656، والطبراني في الكبير (2/ 49) حديث 1415، والحاكم (4/ 103)، والمزي في تهذيب الكمال (33/ 285)، عن ثوبان رضي الله عنه.

قال البزار: قوله: "الرائش" لا نعلمها إلا من هذا الطريق، وإنما يرويه ليث بن أبي سليم عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، وقد أدخل ذؤاد بن عُلْبَة بينه وبين أبي زرعة رجلًا، فذكره عن أبي الخطاب، وأبو الخطاب، فليس بالمعروف، إلا أنه قد روى عنه ليث غير حديث.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 121): فيه أبو الخطاب، لا يُعرف.

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 199): فيه أبو الخطاب، وهو مجهول.

ص: 81

حَقِّه) قال عطاء

(1)

وجابر بن زيد

(1)

والحسن

(2)

: لا بأس أن يُصانع عن نفسه؛ ولأنه يستفيد ماله، كما يستفيد الرجل أسيره.

(ويحرم قَبوله) أي: القاضي (هديةً) لما روى أبو سعيد

(3)

قال: "بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزْد يقال له ابن اللُّتْبيّة على الصدقة، فقال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم، وهذا أُهدِي إلي؟ ألا جلس في بيت أبيه فينظر أيُهدَى إليه أم لا؟ والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا نبعث أحدًا منكم فيأخذ شيئًا، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رأيت عُفْرة إبْطيه، فقال: اللهم [هل]

(4)

بلغت؟ ثلاثًا" متفق عليه

(5)

. وقال كعب الأحبار: قرأت فيما أنزل الله على أنبيائه: الهدية تفقأ عين الحكم

(6)

.

(بخلاف مُفْتٍ) فلا يحرم عليه قَبول الهدية (وتقدم

(7)

في الباب قبله) مفصَّلًا.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 557).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 558).

(3)

كذا في الأصول، وصوابه: أبو حميد الساعدي رضي الله عنه، كما في مصادر التخريج.

(4)

زيادة من الصحيحين.

(5)

البخاري في الهبة، باب 17، حديث 2597، وفي الأيمان، باب 3، حديث 6636، وفي الحيل، باب 15، حديث 6979، وفي الأحكام، باب 24، حديث 7174، ومسلم في الإمارة، حديث 1832، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

(6)

ذكره الجاحظ في البيان والتبيين (2/ 291)، وأخرجه وكيع في أخبار القضاة (1/ 55)، عن أبي إسحاق السبيعي، بلفظ: مكتوب في الحكمة: الرشوة تعوِّر عين الحكيم.

(7)

(15/ 47).

ص: 82

(وهي) أي: الهدية (الدفع إليه ابتداء) من غير طلب (وظاهره) أنه يحرم على القاضي قبوله الهدية (ولو كان) القاضي (في غير عمله) لعموم الخبر.

(إلا ممن كان يُهدي إليه قبل ولايته إن لم يكن له) أي: المُهدي (حكومة) لأن التُّهمة منتفية؛ لأن المنع إنما كان

(1)

من أَجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة، وكلاهما مُنتفٍ.

(أو) كانت الهدية (من ذي

(2)

رَحِمٍ محرم منه) أي: من الحاكم (لأنه لا يصح أن يحكم له) هذا واضح في عمودي نسبه، دون من عداهم من أقاربه، مع أنه يحتمل أن يهدي لئلا يحكم عليه. قال القاضي في "الجامع الصغير": لا ينبغي أن يقبل هدية إلا من صديق كان يلاطفه، أو ذي رَحِمٍ محرم منه، بعد ألا يكون له خصم.

(وردُّها) أي: رَدُّ القاضي الهدية حيث جاز له أخذها (أَولى) لأنه لا يأمن أن يكون لحكومة منتظرة.

(واستعارته) أي: القاضي (من غيره كالهدية؛ لأن المنافع كالأعيان، ومثله لو خَتَنَ) القاضي (ولدَه ونحوَه، فأُهْدِيَ له، ولو قلنا: إنها للولَدِ؛ لأن ذلك وسيلةٌ إِلَى الرِّشوة. فإن تُصدِّقَ عليه، فالأولى أنه كالهديَّةِ) على التفصيل السابق، وفي "الفنون": له أخذ الصدقة.

(وإن قَبِلَ) الرشوة أو الهدية (حيث حَرُمَ القَبول، وَجَبَ رَدُّها إلى صاحبها، كمقبوضٍ بعقدٍ فاسدٍ) وقيل: تؤخذ لبيت المال؛ لخبر ابن

(1)

في "ذ": "يكون".

(2)

في "ذ": "ذوي".

ص: 83

اللُّتْبيّة

(1)

(وقال الشيخ

(2)

في من تاب: إن علم صاحبه، دفعه إليه، وإلا؛ دفعه في مصالح المسلمين. انتهى.

وتقدم

(3)

لو بقيت في يده غصوب لا يعرف أربابها) يدفعها للحاكم، أو يتصدَّق بها عن أربابها مضمونة.

(فإن أهدَى لمن يشفع له عند السلطان ونحوه) من أرباب الولايات (لم يجز) للشافع (أخذُها) ليشفع له أن يرفع عنه مظلمة، أو يوصل إليه حقّه، أو يوليه ولاية يستحقها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك.

ويجوز للمُهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقِّه، أو دفع الظلم عنه، وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر، وفيه حديث مرفوع؛ رواه أبو داود وغيره

(4)

؛ قاله في "الاختيارات"

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه (15/ 82) تعليق رقم (5).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (28/ 283 - 284) و (29/ 262 - 263).

(3)

(9/ 298).

(4)

أخرج أبو داود في البيوع، باب 84، حديث 3541، وأحمد (5/ 261)، والروياني في مسنده (2/ 289) حديث 1228، والطبراني في الكبير (8/ 211، 238) حديث 7853، 7928، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا". قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/ 189): القاسم هو ابن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن الأموي مولاهم، الشامي، وفيه مقال. وقال ابن حجر في بلوغ المرام، حديث 862: في إسناده مقال. وقال ابن عبد الهادي في المحرر ص/ 316: القاسم مختلف فيه، والترمذي يصحح حديثه

(5)

ص/ 265 - 266.

ص: 84

(ونصَّ) الإمام (أحمد

(1)

في من عنده وديعة فأداها، فأُهديت إليه هدية، أنه لا يقبلها إلا بنيَّة المكافأة، وحكم الهدية عند سائر الأمانات حكم الوديعة) ومثله دَفْع رَبِّ اللُّقطة لواجدها عند رَدِّها إليه شيئًا منها، وتقدم

(2)

في الجعالة.

(ويُكره له) أي: للقاضي أن يتولَّى البيعَ والشراءَ بنفسه، خصوصًا بمجلس حكمه؛ لأنه يُعرف فَيُحابى، فيكون كالهدية؛ ولأن ذلك يشغله عن أمور المسلمين. و (لا) يُكره (لمُفْتٍ ولو في مجلس فتواه أن يتولَّى البيعَ والشِّراء بنفسه) لأنه لا يُكره له قَبول الهدية، فلا يضرُّه أن يُحابى.

(ويُستحبُّ) للقاضي (أن يوكِّل في ذلك) أي: في البيع والشراء (مَن لا يُعرَفُ أنه وكيلُه) لأنه أنفى للتُّهمة، فإن تعذَّر ذلك أو شَقَّ جاز؛ لقضية أبي بكرٍ رضي الله عنه

(3)

.

(وله) أي: القاضي (عيادةُ المرضى، وشهادةُ الجنائز، وزيارةُ الأهل والصالحين والإخوان، وتوديع الغازي والحاجِّ، ما لم يشغَلْه عن الحكم) لأن ذلك قُربة وطاعة، وقد وَعَدَ الشرعُ على ذلك أجرًا عظيمًا، فيدخل القاضي في ذلك.

(فإن شَغَله) ذلك عن الحكم (فليس له ذلك) لأن اشتغاله بالفصل بين الخصوم، ومباشرة الحكم أولى.

(وله حضورُ بعض) ذلك (دون بعض) لأن هذا يفعله لنفع نفسه،

(1)

انظر: قواعد ابن رجب ص/ 322، القاعدة الخمسون بعد المائة.

(2)

(9/ 479 - 482).

(3)

أخرج ابن سعد في الطبقات (3/ 185)، عن حميد بن هلال، أن أبا بكر رضي الله عنه، لما استخلف، راح إلى السوق يحمل أبرادًا له، وقال: لا تغروني من عيالي.

ص: 85

بخلاف الولائم.

(وله حضورُ الولائم) كغيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بحضورها

(1)

(فإن كثرت) الولائم (تَرَكَها) كلها (واعتذر إليهم) وسألهم التحليل؛ لئلا يشتغل بذلك عن الحكم الذي هو فرض عين.

(ولا يُجيب بعضًا دون بعض) لأن ذلك كَسْر لقلب من لم يجبه

(2)

(إلا أن يختصَّ بعضها بعُذْرٍ يمنعه، مثل أن يكون في إحداهما مُنكَر، أو في مكان بعيد، أو يشتغل بها زمنًا طويلًا، والأخرى بخلافها، فله الإجابة إليها، لظهور عذره) وذكر أبو الخطاب: يُكره مسارعته إلى غير وليمة عُرس. وذكر القاضي: أنه يُستحبُّ له حضور غير وليمة عرس، والمراد غير مأتم، فَيُكره. ولو تَضَيَّفَ رجلًا، فظاهر كلامهم: يجوز؛ قاله فِي "المبدع".

(ويوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرفق بالخصوم، وقلَّة الطَّمَع) تنبيهًا لهم على الفعل الجميل اللائق بمجالس الحكام والقضاة.

(ويجتهد) القاضي (أن يكونوا) أي: الوكلاء والأعوان (شيوخًا أو كهولًا، من أهل الدِّين والعِفَّة والصيانة) لأن فِي ضِدِّ ذلك ضررًا بالناس، والكهول والشيوخ أولى من غيرهم؛ لأن الحاكم يأتيه النساء، وفي اجتماع الشباب بهن ضرر.

(ويتخذ حَبْسًا؛ لأنه قد يحتاج إليه لتأديبٍ، واستيفاء حَقٍّ، واحتفاظ ممن عليه قِصاص، ونحوه.

ويتخذ أصحابَ مسائلَ يتعرَّفُ بهم أحوالَ من جَهِلَ عدالَتَه من

(1)

تقدم تخريجه (12/ 10) تعليق رقم (3).

(2)

في "ذ": "من لا يجيبه".

ص: 86

الشُّهود) لدعاء الحاجة إلى ذلك (ويجب أن يكونوا عدولًا) لأن خبر الفاسق غير مقبول (بُرآء من الشَّحناء) أي: العداوة (بُعداء من العصبيَّة في نسبٍ أو مذهب) لئلا يحملهم ذلك على كتمان الحق (ولا يسألوا) عن شاهد (عدوًّا ولا صديقًا) له؛ لأنه مُتَّهم (ويأتي بعضُه في الباب بعده.

ويُستحبُّ له اتخاذ كاتب) لأنه صلى الله عليه وسلم استكتب زيدًا وغيره

(1)

؛ لأن الحاكم تكثر أشغاله، فلا يتمكن من الجمع بينها وبين الكتابة.

(ويجب أن يكون) الكاتب (مُسلِمًا) لقوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}

(2)

(مكلَّفًا) لأن غير المكلف لا يوثق بقوله، ولا يعوّل عليه (عدلًا) لأن الكتابة موضع أمانة.

(1)

أخرج البخاري في فضائل القرآن، باب 4، حديث 4990، ومسلم في الإمارة، باب 40، حديث 1898، عن البراء قال: لما نزلت: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم ادعُ لي زيدًا، وليجئ باللوح والدواة والكتف، أو الكتف والدواة، ثم قال: اكتب

الحديث.

وأخرج البخاري في الموضع السابق، حديث 4989، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه قال: إنك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم

الحديث.

وأخرج البيهقي (10/ 126)، وابن عساكر في تاريخه (4/ 336) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن أرقم، فكان يكتب عبد الله بن أرقم وكان يجيب عنه الملوك، فبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب، ثم يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده، ثم استكتب أيضًا زيد بن ثابت، فكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك أيضًا، وكان إذا غاب عبد الله بن أرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك أو يكتب لإنسان كتابًا يقطعه؛ أمر جعفرًا أن يكتب، وقد كتب له: عمر، وعثمان، وكان زيد، والمغيرة، ومعاوية، وخالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم ممن قد سمي من العرب.

(2)

سورة آل عمران، الآية:118.

ص: 87

(وينبغي أن يكون) الكاتبُ (وافرَ العقل، وَرِعًا، نَزِهًا، لا يُستمال بهدية) متيقِّظًا؛ لئلا يخدع (أمينًا، فقيهًا، حافظًا، جيد الخطِّ، لا يَشتبهُ فيه سَبعْةٌ بتسعةٍ، ونحو ذلك) مما يؤدي إلى اللبس، فيخل بالمقصود (صحيحَ الضبط) لئلا يُفسِد ما يكتبه (حُرًّا) لأنه ربما احتيج إلى شهادته، فيكون متفقًا على قَبولها (يُجْلِسُهُ) القاضي (بحيث يشاهد ما يكتبه) لأنه أبعد للتُّهمة، وأمكن لإملائه، وإن قَعَدَ ناحية، جاز؛ لأن ما يكتبه يعرض على القاضي.

(ويُستحبُّ أن يكون) الكاتبُ (بين يديه) أي: القاضي (ليشافهه

(1)

بما يُملي عليه) لأنه أنفى للتهمة، كما تقدم.

(وإن أمكن القاضي تولِّي الكتابة بنفسه، جاز) له ذلك (والأولى الاستنابة) وظاهر كلام السامَرّيّ: أنه لا يتخذه إلا مع الحاجة.

(ويجعل) القاضي (القِمَطْر) بكسر القاف، وفتح الميم، وسكون الطاء المهملة: أعجمي مُعَرَّب، وهو الذي تُصان نية الكُتب (مختُومًا بين يديه، لينزل فيه ما يجتمع من المحاضِرِ والسِّجلات) لأنه أحفظ له من أن يُغيّر.

(ويُستحبُّ) للقاضي (ألا يحكم إلا بحضرة الشهود، بحيث يسمعون كلام المتحاكِمَيْن) ليستوفي بهم الحقوق، وتثبت بهم الحجج.

(وليس له أن يُرتِّب شهودًا لا يقبلُ غيرَهم) لأنه من ثبتت عدالته، وجب قَبول شهادته (لكن له أن يُرتِّب شهودًا يشهدهم

(2)

الناس) فـ (ـــيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم، ويستغني الحاكم عن الكشف عن

(1)

في "ذ": "للمشافهة".

(2)

في "ذ": "ليشهدهم".

ص: 88

أحوالهم) لأن فيه رفقًا بالناس (ويأتي في الباب بعده

(1)

.

ولا يجوز له) أي: القاضي (منع الفقهاء من عَقْدِ العقود، وكتابةِ الحُجَجِ) أي: الإشهادات (وما يتعلَّق بأمور الشرع، مما أباحه الله ورسوله، إذا كان الكاتب فقيهًا عالمًا بأمور الشرع وشروطه) أي: العقد (مثل: أن يُزوِّجَ المرأةَ وليُّها بحضور شاهدين، ويكتب كاتبٌ عَقْدَها، أو يكتُبَ رجلٌ عَقْدَ بيعٍ، أو إجارة، أو إقرارٍ، أو غير ذلك، أو كان الكاتبُ مرتَزِقًا بذلك. وإذا مَنَعَ القاضي ذلك، ليصير إليه منافع هذه الأمور، كان هذا من المَكْس، نظير من يستأجر حانوتًا من) حاكم (القرية على ألا يبيع غيره) في تلك القرية.

(وإن كان) القاضي يريد (مَنْعَ الجاهلين؛ لئلا يعقِد) الجاهل (عقدًا فاسدًا، فالطريق أن يفعل كما فعل الخلفاء الراشدون، بتعزير من يعقِدُ نكاحًا فاسدًا، كما فعل عثمان رضي الله عنه في من تزوج بغير ولي، وفي من تزوج في العِدَّة

(2)

.

ولا يجوز ولا يصح أن يحكم) القاضي (لنفسه) لأنه لا يجوز أن يشهد لها. ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر، أو بعض خلفائه؛ لأن

(1)

(15/ 148 - 149).

(2)

هو من فعل عمر رضي الله عنه فيما أخرجه مالك في الموطأ (2/ 536)، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 56 - 57)، وفي الأم (5/ 233)، وعبد الرزاق (6/ 210) رقم 10539، والبيهقي (7/ 441)، وفي معرفة السنن والآثار (11/ 224 - 225) رقم 15345، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، أن طليحة الأسدية كانت تحت رُشيد الثقفي، فطلقها، فنكحت في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب، وضرب زوجها بالمخفقة ضربات، وفرق بينهما

الحديث. وصحح إسناده الحافظ ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 235)، وقال ابن حزم في المحلى (9/ 480): جاء هذا عن عمر من طرق ليس منها شيء يتصل. انظر: الإرواء (7/ 203).

ص: 89

عمر حاكم أُبيًّا إلى زيد

(1)

، وحاكم عثمان طلحة إلى جبير

(2)

.

(ولا) يصح حكمه (لمن لا تُقبل شهادته له) ذكره بعضُهم إجماعًا

(3)

، كشهادته له (وله الحكم عليه) أي: على من لا تُقبل شهادته له، كأبيه وولده، كشهادته عليه (ويحكم بينهم بعضُ خلفائه) لزوال التُّهمة.

(ويجوز) للقاضي (أن يستخلف والده وولده، كحكمه لغيره بشهادتهما) قال أبو الوفاء: إذا لم يتعلَّق عليهما من ذلك تُهمة، ولم يوجب لهما بقبول شهادتهما ريبة، ولم يثبت بطريق التزكية.

(وليس له أن يحكم على عدوه) كشهادته عليه (وله أن يُفتي عليه) أي على عدوه، وتقدَّم

(4)

.

فصل

(ويُستحبُّ) للقاضي (أن يبدأ بالمحبوسين) لأن الحبس عذابٌ، وربما كان فيهم من لا يستحقُّ البقاء فيه، فاستُحبت البداءة بهم (فينفذ) أي: يبعث (ثقةً يكتب اسمَ كلِّ محبوس، ومن حبسه، وفيمَ حُبِس، في رُقعة منفردَة) لأن ذلك طريق إلى معرفة الحال على ما هي عليه؛ ولئلا يتكرَّر بكتابته في رُقعة واحدة النظر في حال الأول منها فالأول، بل يخرج واحدًا منها بحسب الاتفاق، كالقرعة.

(ويأمر مناديًا ينادي في البلد: إن القاضي ينظر في أمر المحبوسين

(1)

تقدم تخريجه (15/ 63) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (15/ 63) تعليق رقم (2).

(3)

هو القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 294).

(4)

(15/ 41).

ص: 90

يومَ كذا، فمن له خصمٌ منهم فَلْيَحْضُرْ) لما في ذلك من الإعلام بيوم جلوس القاضي لهم. وفي "الشرح": أن القاضي يأمر مناديًا ينادي في البلد بذلك ثلاثة أيام.

(فإذا حضروا في ذلك اليوم، تناول) القاضي (منها) أي: من الرقاع التي كتبت بها أسماؤهم (رُقعةً) بحسب الاتفاق، كما تقدَّم (وقال: مَنْ خصمُ فلان المحبوس) لأنه لا يمكنه الحكم إلا بذلك (فإن حضر له خصمٌ، بعث ثقةً إلى الحبس، فأخرج خصمَه، وحضر معه مجلس الحُكْم) فينظر بينهما؛ لأنه لذلك ولّي (ويفعل) القاضي (ذلك في قَدْرِ ما يعلم أنه يتَّسع زمانُه للنَّظَرِ فيه) من المحبوسين (في ذلك المَجْلس، فلا يُخْرِجُ غيرَهم) في ذلك المجلس؛ لعدم الفائدة فيه.

(فإذا حضر المحبوسُ وخصمُه، لم يسألْ خصمَه: فِيمَ حَبَسَه؟) لأن الظاهر أن الحاكم إنما حبسه لحقٍّ ترتَّب عليه (بل يسألُ المحبوسَ: بمَ حُبِستَ؟) فإن قال: حُبِستُ بحق، أمره بقضائه إن طلبه خصمه، فإن أبى، وله موجود، قضاه منه، أو من ثَمَنِه. وفي "الشرح": قال له القاضي: اقْضِه؛ وإلا رددتُك إلى الحبس، فإن ادَّعى عجزًا، فقد تقدَّم

(1)

في أول الحجر مفصَّلًا، وإن أقام خصمه بينة بأن له ملكًا معينًا، فقال: هو لزيد، فقد تقدَّم - أيضًا - هناك.

(ثم ينظر بينهما، فإن كان حُبِسَ لتُعَدَّلَ البيّنةُ، فإعادتُه) إلى الحبس (مبنية على حَبْسه على ذلك، ويأتي في الباب بعده) تفصيل ذلك.

(ويَقبَلُ قولَ خصمِه في أنه حَبَسه بعد تكميل بينته وتعديلها) لأنه مقتضى الظاهر.

(1)

(8/ 333).

ص: 91

(وإن) كان (حُبِسَ بقيمة كَلْبٍ) ولو مُعَلَّم الصيد

(1)

(أو خَمْر ذِمّي، وصَدَّقه غريمُه) على ذلك (خُلِّيَ) سبيله؛ لأن ذلك غير متموّل، فلا غرم فيه (وإن أكذبه) خصمُه (وقال: بل حُبِسْتَ بحقٍّ واجب غير هذا، فـ) ــالقول (قوله) أي: خصم المحبوس (لأن الظاهر حبسه بحقٍّ) واجب عليه.

(وإن) كان (حُبِسَ في تُهمة، أو افتيات على القاضي قبلَه

(2)

، أو) في (تعزيرٍ؛ خَلَّى) القاضي (سبيله) إن رآه (أو بقَّاه

(3)

) في الحبس (بقَدْرِ ما يرى) إبقاءه فيه.

(وإن لم يحضُرْ له خصمٌ، وقال: حُبِستُ ظلمًا، ولا حقَّ عليَّ، ولا خصمَ لي؛ نادى) أي: أمر مَن ينادي (بذلك) في البلد، ويُكرِّرُه حتى يغلب على الظن أنه لا غريم له، وذلك معنى قوله:(عُرفًا) وقال في "المقنع" ومن تبعه: ثلاثًا؛ لأن الغالب أن لو كان غريم، لظهر في الثلاثة، ولذلك قال في "الإنصاف": إن المعنى في الحقيقة واحد.

(فإن حَضَر له خصمٌ) نظر بينهما، كما تقدَّم (وإلا) أي: وإن لم يظهر له خصم (أحْلَفَه، وخَلَّى سَبيلَه) لأن الظاهر أنه لو كان له خصمٌ، لظهرَ.

(ومع غَيْبَةِ خَصْمِه يَبْعثُ إليه) ليحضر، فينظر بينهما (ومع جَهْلِه) أي: الخصم (أو تأخُّره بلا عُذْرٍ، يُخلَّى) سبيله (والأولى) أن يكون ذلك (بكفيلٍ) لأن الظاهر حبسه بحقٍّ.

(1)

في "ذ": "معلمًا لصيدٍ".

(2)

"قوله قبله: أي الكائن، فـ: (قبله) صفة". ش.

(3)

في "ذ": "أبقاه".

ص: 92

(وينظر) القاضي (في مال الغائب) وتقدَّم

(1)

فيما تفيده الولاية العامة.

(وإطلاقه) أي: القاضي (المحبوس من الحبس وغيره) بأن كان محبوسًا في موضع غير الحبس: حُكمٌ.

(وإذنه) في شيء (ولو في قضاء دَيْنٍ ونفقة، فيرجع) القاضي للدين

(2)

أو المنفق: حكمٌ.

(و) إذنه في (وضع ميزاب، و) في (بناء، وغيره) كإخراج جناح أو ساباط

(3)

في درب نافذ: حكمٌ (فيمنع

(4)

الضمان) لما يتلف من ذلك.

(وأمره بإراقة نبيذ) حُكمٌ (وقرعته) في أي موضع شُرعت فيه (حكمٌ يرفع الخلافَ إن كان) في المسألة خلاف؛ لصدوره عن رأيه واجتهاده، كما لو صَرَّح بالحكم. قال الشيخ تقي الدين في فسخ النكاح لتعذُّر النفقة ونحوها

(5)

: الحاكم ليس هو الفاسخ، وإنما يأذن أو يحكم به، فمتى أذن أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ؛ لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته، بلا نِزاع، لكن لو عقد هو أو فسخ، فهو فعله. وهل فعله حكم، فيه الخلاف المشهور.

(وفُتياه ليست حُكمًا منه، فلو حَكَم غيره) أي: القاضي (بغير ما أفتى به، لم يكن) ذلك (نقضًا لحكمه، ولا هي) أي: فُتيا القاضي (كالحكم) إذ لا إلزام في الفتيا.

(1)

(15/ 20).

(2)

في "ذ": "للمدين".

(3)

الساباط: سقيفة بين حائطين تحتها طريق. مختار الصحاح ص/ 283، مادة (سبط).

(4)

في "ذ": "فيمتنع".

(5)

مجموع الفتاوى (30/ 57).

ص: 93

(ولهذا يجوز) للقاضي (أن يُفتي الحاضر والغائب) بخلاف القضاء، فإنه لا يجوز على الغائب إلا في مواضع مخصوصة.

(و) لكون فُتياه ليست حُكمًا، يجوز له أن يفتي (من يجوز حكمه له ومن لا يجوز) حكمه له، كولده ووالده وزوجته (وتقدَّم

(1)

بعضه في الباب قبله.

وإقرارُه) أي: القاضي (غيرَه على فِعْلٍ مختلَفٍ فيه) كتزويج بلا ولي فُعِلَ بحضرته، أو بَلَغه وسكت عنه (ليس حكمًا به) لأن الإقرار هو عدم التعرُّض، وليس حكمًا به.

(وفِعْلُه) أي: القاضي، الذي يفتقر إلى نظر واجتهاد، ويستفيده بطريق ولاية الحكم (حكمٌ، كتزويج يتيمة) لا وليَّ لها بإذنها، إذا تَمَّ لها تسع سنين (وشراء عينٍ غائبةٍ) بالصفة؛ ليفي بها دين مفلس ونحوه (وعَقْدِ نكاحٍ بلا وليٍّ) ولهذا قال في "المغني" وغيره، في بيع ما فُتِحَ عَنْوة: إن باعه الإمام لمصلحة رآها؛ صَحَّ؛ لأن فعل الإمام كحكم الحاكم. وفيه - أيضًا -: لا شُفعة فيها، إلا أن يحكم ببيعها حاكم، أو يفعله الإمام أو نائبه. وفيه - أيضًا -: إنَّ تركها بلا قسمة وقفٌ لها. وإن ما فعله الأئمة ليس لأحدٍ نقضُه، انتهى. بخلاف فِعْلٍ لم يستفده بولاية حكم، كبيع عقار نفسه الغائب، أو ليتيم هو وصيه، أو بوكالة؛ فليس بحُكمٍ؛ كما ذكره ابن قُندس عن ابن شيخ السلاميَّة.

(وتقدم

(2)

آخر الصَّدَاق: "أن ثبوت سبب المطالبة، كتقدير أُجرةِ مِثْلٍ، و) تقدير (نفقةٍ، ونحوه) كتقدير صَدَاق المِثْلِ، ومسكنِ مِثْلٍ،

(1)

(15/ 41).

(2)

(11/ 505).

ص: 94

وكسوةِ مِثْلٍ (حكمٌ) فلا يُغيّره حاكم آخر ما لم يتغيّر السبب" (وتأتي تتمته قريبًا) وهي قوله: فدلَّ أن إثبات صفة كعدالة وجرح

الخ.

(قال الشيخ

(1)

: القضاء نوعان: إخبار، وهو إظهار، و) الثاني (إبداء، وأمر، هو إنشاء وابتداء، فالخبر

(2)

يدخل فيه خبره عن حكمه، وعن عدالة الشهود، وعن الإقرار والشهادة، والآخر) الذي هو الإنشاء (هو حقيقة الحكم: أمر ونهي وإباحة.

ويحصل) الحكم (بقوله: أعطِهِ

(3)

، ولا تكلمه، والزمه، و) يحصل - أيضًا - (بقوله: حكمت وألزمت) قلت: وكل ما أدَّى هذا المعنى.

(وحكمُه) أي: القاضي (بشيء حُكمٌ بلازِمه) فلو حكم بصحة بيع عبدٍ أعتقه مَن أحاط الدَّينُ بماله، كان حكمًا بإبطال العِتْق السابق؛ لأنه يلزم من صِحَّة البيعِ بُطلان العِتْق (ذكره الأصحابُ في أحكام المفقود) قال في "الانتصار" في إعادة فاسق شهادته: لا تُقبل؛ لأن ردَّه لها حكمٌ بالردِّ، فَقَبولها نقضٌ له، فلا يجوز، بخلاف صبيٍّ وعبدٍ لإلغاء قولهما. وقال الإمام أحمد

(4)

في رَدِّ عبدٍ: لأن الحكم قد مضى، والمخالفة في قضية واحدة نقضٌ مع العلم.

(وثبوتُ شيءٍ عنده) أي: القاضي (ليس حكمًا به) سوى إثبات سبب المطالبة، كتقديره أُجرةَ مِثْلٍ ونحوه، كما تقدم.

(و‌

‌تنفيذُ الحكم يتضمَّن الحكمَ بصحةِ الحكمِ المُنفَّذِ.

وفي كلام الأصحاب ما يدلُّ على أنه حكمٌ) كما يدلُّ عليه كلام شارح "المحرر"

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 483.

(2)

في الاختيارات: "فالخبر: ثبت عندي".

(3)

في الاختيارات: "أعطِه حقَّه".

(4)

انظر: الفروع (6/ 458).

ص: 95

والشارح الكبير (وفي كلام بعضِهم أنه عملٌ بالحُكم، وإجازةٌ له، وإمضاءٌ، كتنفيذِ الوصية) قال ابن نصر الله: والظاهر أنه ليس بحكم بالمحكوم به، إذ الحكمُ بالمحكوم به تحصيل للحاصل، وهو محال، انتهى.

ومعنى "التنفيذ" المذكور: أن يحصُل من الخصم منازعة عند قاض آخر، ويُرفع إليه حكم الأول، فيُمضيه وينفذه، ويلزمه العمل بمقتضاه، وأما "التنفيذ" المتعارف الآن المستعمل غالبًا، فمعناه إحاطة القاضي الثاني علمًا بحكم القاضي الأول على وجه التسليم، وأنه غير معترض عنده، ويُسمَّى اتّصالًا، ويتجوز بذكر الثبوت والتنفيذ فيه؛ ذكره ابن الغَرْس الحنفي

(1)

(2)

.

(والحكمُ بالصحةِ يستلزمُ ثبوتَ الملك والحيازةِ قطعًا) لأن الصحة فرع ذلك.

(والحكم بالموجَب) بفتح الجيم (حكم بموجَب الدعوى الثابتة ببيِّنةٍ أو غيرها) أي: بما ترتَّب على الدعوى الثابتة بذلك؛ لأن موجَب الشيء هو أثره الذي ترتَّب عليه.

(فالدعوى المشتملةُ على ما يقتضي صِحَّةَ العقدِ المُدَّعَى به) من بيع أو نكاح أو غيرهما (الحكمُ فيها بالموجَبِ حكمٌ بالصحة) لأن الصحة من موجَبه إذًا.

(1)

هو محمد بن محمد بن محمد بن خليل بن علي بن خليل، البدر أبو اليسر القاهري، ويعرف بابن الغرس، وهو لقب جده خليل الأدنى، له "الفواكه البدرية في الأقضية الحكمية" يعرف برسالة ابن الغرس في القضاء. توفي سنة أربع وتسعين وثمانمائة رحمه الله تعالى. الضوء اللامع (9/ 220 - 221)، والأعلام (7/ 52). وانظر: معونة أولي النهى (11/ 347).

(2)

الفواكه البدرية (ص/ 130 - 131؛ مع المجاني الزهرية).

ص: 96

(و) الدعوى (غيرُ المشتمِلَةِ على ذلك) أي: ما يقتضي صِحَّة العقد (الحكمُ بالموجَب ليس حُكمًا بها) أي: بالصحة (قاله ابن نصر الله) قال الغزي في شرحه لنظمه "العمدة": الحكم بالموجَب إذا كان مستوفيًا لما يُعتبر من الشروط في الحكم بالصحة، كان أقوى وأعمّ؛ لوجود الإلزام فيه، وتضمنه للحكم بالصحة، كما إذا شَهِد عنده الشهود أن هذا وقف، وذكروا المصرف على وجه مُعيَّن، وكان مستوفيًا لشروطه عنده، فحكم بموجَب شهادتهم، كان الحكم متضمنًا للحكم بالصحة. قال السُّبكي

(1)

: لكنه دونه في الرتبة. ونظر فيه بعضُهم.

(وقال السُّبكي) تقي الدين

(2)

(وتبعه) الشيخ تقي الدين

(3)

(ابن قُنْدُس: الحكمُ بالموجَب يستدعي صِحَّة الصيغة، وأهلية المتصرِّف

(4)

، ويزيد الحكم بالصحة كون تصرُّفه في محلِّه.

وقال السبكي

(5)

أَيضًا: الحكم بالموجَب هو الأثر الذي يوجبه اللفظ، و) الحكم (بالصحة كون اللفظ بحيث يترتَّب عليه الأثر، وهما مختلفان، فلا يحكم بالصحة إلا باجتماع الشروط. وقيل: لا فرق بينهما في الإقرار) أي: في الحكم به.

(والحكمُ بالإقرار ونحوه) كالنكول (كالحكم بموجَبه في الأصح)

(1)

فتاوى السبكي (1/ 375).

(2)

فتاوى السبكي (1/ 376).

(3)

"هو شيخ الشيخ علاء الدين المنقح". ش. أي: إن الشيخ تقي الدين أبا بكر بن إبراهيم المعروف بابن قندس هو شيخ الشيخ علاء الدين علي بن سيمان المرداوي المنقح.

(4)

في "ذ": "التصرف".

(5)

فتاوى السبكي (1/ 374).

ص: 97

لأن معناه الحكم بما ترتَّب عليه، وذلك موجَبه (والحكمُ بالموجَب لا يشمل الفساد. انتهى) ومعناه ما ذكر السُّبكي

(1)

- أيضًا - قول من قال: موجَبه يحتمل الصحة، والفساد ممنوع؛ لأن اللفظ الصحيح يوجب حكمًا، واللفظ الفاسد لا يوجب شيئًا. قال في "التنقيح" بعد ما سبق: (والعمل على ذلك.

وقالوا) أي: الأصحاب: (الحكم بالموجب يرفع الخلاف) فلا يجوز لمن لا يراه نَقْضُه حتى يتبين موجَب لعدم صحة العقد.

وحاصل الكلام: أنَّ الحكم بالموجَب حكم على العاقد بمقتضى عقده، لا حكم بالعقد، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت؛ قاله ابن نصر الله.

وذكر الغَزّي فروقًا بين الحكم بالصحة وبين الحكم بالموجَب، منها ما سبق.

ومنها: أن العقد إذا كان صحيحًا بالاتفاق، ووقع الخلافُ في موجَبه، فالحكمُ بالصحة لا يمنع من العمل بموجَبه عند غير الذي حكم بالصحة، ولو حكم الأول فيه بالموجَب؛ امتنع العملُ على الثاني، مثاله: التدبير صحيح بالاتفاق، وفي مَنْعِه البيعَ خلافٌ، فإذا حكم بصحة التدبير، لم يكن مانعًا من بيعه لمن يراه، وإن حكم بموجَبه مَن لا يرى بيعَه؛ مُنع البيع.

ومنها: أن كلَّ دعوى كان المطلوب فيها إلزام المُدَّعَى عليه بما ثبت عليه، الحكم فيها بالإلزام؛ هو الحكم بالموجَب، ولا يكون بالصحة، لكن يتضمن الحكم بالموجَب الحكم بالصحة، إقرارًا كان أو غيره.

(1)

انظر: فتاوى السبكي (1/ 379).

ص: 98

ومنها: الحكم على الزاني والسارق بموجَب الزنى والسرقة لا يدخله الحكم بالصحة.

ومنها: أن الحكم بالموجَب يتضمَّن أشياء لا يتضمَّنُها الحكمُ بالصحة، فلو حكم بصحة عقد البيع؛ لم يمنع ذلك إثبات خيار المجلس، ولا فَسْخ المتعاقدين أو أحدهما، ولو حكم بموجبه والإلزام بمقتضاه، امتنع التمكين من الفسخ. انتهى.

وقد صَنَّف الشيخ ولي الدين أبو زُرْعة العراقي الشافعي وريقات في الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجَب، وأوردها الشيخ تقي الدين محمد الفُتُوحي في شرحه لـ "المنتهى"

(1)

، وهي نافعة جيدة موضِّحة لما سبق.

فصل

(ثم ينظر) القاضي (وجوبًا في أمْرِ يتامى، ومجانين، ووقوف) على غير معيَّن (ووصايا لا وليَّ لهم ولا ناظر) لأن الصغير والمجنون لا قول لهما، وأرباب الوقوف والوصايا غير المعينين؛ كالفقراء والمساكين والمساجد؛ لا يتعينون.

(ولو نَفَّذ) القاضي (الأولُ وصيةَ موصىً إليه، أمضاها) القاضي (الثاني) ولم يعزله؛ لأن الظاهر معرفة أهليته (فدلَّ) ذلك (أن إثبات صفة، كعدالة وجرح وأهلية موصىً إليه وغيرها، حكم يقبله حاكم آخر) ويجب عليه إمضاؤه وتنفيذه (لكن يُراعيه) أي: يُراعي القاضي الموصى إليه؛ لأن له الولاية العامة، فيعترض عليه إن فعل ما لا يسوغ، وتقدَّم مثله في ناظر الوقف.

(1)

معونة أولي النهى (11/ 351 - 363).

ص: 99

(فإن تغيَّر حاله) أي: الموصى إليه، ومثله الناظر بشرط (بفِسْقٍ أو ضعف، أضاف إليه أمينًا) قويًا يُعينه؛ ليحصُل مقصود الوصية.

(وإن كان) القاضي (الأولُ ما نَفَّذَ وصيته، نظر) الثاني (فيه) أي: في الموصى إليه (فإن كان قويًا) أمينًا (أقرَّه، وإن كان أمينًا ضعيفًا ضَمَّ إليه من يُعينه، وإن كان فاسقًا عزله، وأقام غيرَه) قال في "شرح المنتهى": على الأصح. انتهى. وقدَّمه في "الشرح" ثم قال: وعلى قول الخِرقي يُضم إليه أمين ينظر عليه. انتهى. وقول الخرقي هو المذهب على ما تقدم. وإن كان قد تصرّف، أو فرق الوصية وهو أهل للوصية؛ نفَذ تصرفه، وإن كان ليس بأهل، والموصى إليهم بالغين عاقلين معينين، صحَّ دفعه إليهم؛ لأنهم قبضوا حقوقهم.

(و‌

‌ينظر) القاضي الثاني (في أُمناء الحاكم) قبله

(وهم مَنْ ردَّ إليه الحاكم النظرَ في أمر الأطفال، وتَفْرِقَة الوصايا التي لم يُعيَّن لها وصيٌّ) من قبل الموصي (فإن كانوا بحالهم) من الأهلية (أقرَّهم) على ما هم عليه؛ لأن القاضي قَبْله ولَّاهم، وعلم منه: أنهم لا ينعزلون بعزل القاضي ولا بموته، بخلاف خُلفائه في الحكم، ولعل الفرق: ما يلحق من الحرج والمشقَّة بعزلهم، من إضاعة حقوق الأيتام والمعاملات المترتِّبة على ذلك؛ ولذلك ذكروا في الوقف: لو فوَّض قاضٍ النظرَ لواحدٍ، ليس لغيره نقضه. وعلله صاحب "المنتهى" من عنده بأنه لعلهم - أي: الأصحاب - نَزَّلوا تفويضه منزلة حكمه. فكذلك يُقال هنا.

(ومن تغيَّر حالُهُ) ممن نُصِب وصيًا (عَزَله، إن فَسَق) لعدم أهليته (وإن ضَعُفَ) مع عدالته (ضَمَّ إليه أمينًا) ليقوى على التصرُّف.

(ثم ينظر في أمر الضَّوالِّ واللُّقَط التي يتولَّى الحاكم حفظها) لئلا

ص: 100

تضيع (فإن كانت مما يُخاف تلفُهُ كالحيوان، أو) كان (في حفظها مؤنة، باعها وحَفِظَ ثمنها لأربابها) لأنه أحظُّ لهم (وإن كانت أثمانًا، حَفِظها لأربابها، ويكتب عليها) لُقطة أو نحوه (لتُعْرَف) ولا تشتبه بغيرها.

(ثم ينظر في حال القاضي قبله إن شاء، ولا يجب) عليه ذلك؛ لأن الظاهر صحة قضايا من قبله.

(فإن كان) من قبله (ممن يصلح للقضاء، لم يجز أن ينقض من أحكامه) شيئًا؛ لأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله، ويؤدي إلى أنه لا يثبت حكم أصلًا (إلا ما يخالف نصَّ كتابِ) الله تعالى (أو) نصَّ (سُنَّةٍ متواترةٍ أو آحاد، كقتل مسلم بكافر، ولو ملتزمًا، فيلزم نقضُه، نصًّا.

و) كذا (جعل من وجد عين ماله عند من حُجِرَ عليه) لفَلَسٍ (أسوةَ الغُرماء، فيُنقضُ، نصًّا) لأنه قضاء لم يصادف شَرْطَه، فوجب نقضُه، كما لو خالف الإجماعَ؛ لأن شرط الاجتهاد عدمُ مخالفة النَّصِّ والإجماع، بدليل خبر معاذ بن جبل

(1)

؛

(1)

أخرج أبو داود في الأقضية، باب 11، حديث 3592 - 3593، والترمذي في الأحكام، باب 3، حديث 1327 - 1328، والطيالسي ص/ 76، حديث 559، وابن سعد (2/ 347)، وابن أبي شيبة (7/ 239، 10/ 177)، وأحمد (5/ 230، 236، 242)، وعبد بن حميد (1/ 169) حديث 124، والدارمي في المقدمة، باب 20، حديث 168، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 98)، والعقيلي (1/ 215)، والطبراني في الكبير (20/ 170) حديث 362، وابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 26، 7/ 111 - 112)، والبيهقي (10/ 114)، وفي معرفة السنن والآثار (1/ 173) حديث 291، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 844 - 846) حديث 1592 - 1594، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 397، 470 - 472)، والجوزقاني في الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير (1/ 205) حديث 101، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 272)، والمزي في تهذيب الكمال (5/ 266 - 267)، كلهم من طرق، عن شعبة، عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو ابن =

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن، قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.

واختلف العلماء في تصحيح هذا الحديث، وتضعيفه، فصححه كل من:

الخطيب، فقال: هذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد تقبلوه، واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم.

وابن العربي المالكي، فقال في عارضة الأحوذي (6/ 72): اختلف الناس في هذا الحديث فمنهم من قال: إنه لا يصح، ومنهم من قال: هو صحيح، والدين القول بصحته، فإنه حديث مشهور.

وابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين (1/ 202) قال: هذا حديث وإن كان عن غير مسمين، فهم أصحاب معاذ، فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث.

وضعفه كل من:

1 -

البخاري؛ قال في التاريخ الكبير (2/ 277): الحارث بن عمرو

روى عنه أبو عون، ولا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل.

2 -

والترمذي؛ قال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل.

3 -

وابن حزم؛ قال في الإحكام (7/ 112): هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا، فلا حجة في من لا يعرف من هو، وفيه الحارث بن عمرو، وهو مجهول لا يعرف من هو.

4 -

والجوزقاني؛ قال في الأباطيل (1/ 106): هذا حديث باطل

الحارث بن عمرو هذا مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة.

5 -

وعبد الحق الإشبيلي؛ قال في الأحكام الوسطى (3/ 342): هذا الحديث لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح. =

ص: 102

ولأنه إذا ترك الكتابَ والسُّنةَ، فقد فرَّط، فوجب نقض حكمه، كما لو خالف الإجماع.

(ولو زوَّجت) المرأةُ (نفسَها) وحكم به من يراه (لم ينقُضْ) حكمَه لاختلاف الأئمة في صحته (أو خالف) ما حكم به (إجماعًا قطعيًّا) فينقض؛ لعدم مصادفته شرطه، لما تقدم

(1)

، و (لا) ينقض ما خالف إجماعًا (ظنيًّا.

= 6 - وابن الجوزي؛ قال في العلل المتناهية (2/ 273): هذا حديث لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه، ولعمري إن كان معناه صحيصًا، إنما ثبوته لا يعرف؛ لأن الحارث بن عمرو مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وما هذا طريقه فلا وجه لثبوته.

7 -

وابن القطان؛ قال في بيان الوهم والإيهام (3/ 68): الحارث المذكور هو ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا تعرف له حال، ولا يدرى روى عنه غير أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي.

8 -

وابن الملقن؛ قال في البدر المنير (9/ 534): هو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم.

وانظر: التلخيص الحبير (4/ 182 - 183).

وأخرج ابن ماجه في المقدمة، باب 10، حديث 55، والجوزقاني في الأباطيل (1/ 108) حديث 102، من طريق محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، ثنا معاذ بن جبل، قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال: لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف خى تبيّنه أو تكتب إليَّ فيه.

قال الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 472): هذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة. وقال الجوزقاني: هذا حديث غريب حسن. وقال ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 213): هذا أجود إسنادًا من الأول، ولا ذكر للرأي فيه.

وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 50): هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب اتُّهم بوضع الحديث. وقد تقدم قول عبد الحق الإشبيلي:"لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح".

(1)

(15/ 79).

ص: 103

وينقض حكمه بما لم يعتقده) إذا كان مجتهدًا، بخلاف المُقلِّد، وتقدم (وفاقًا للأئمة الأربعة

(1)

، وحكاه القرافي إجماعًا

(2)

، ويأثم ويَعصِي بذلك) لقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}

(3)

.

(ولو حكم بشاهدٍ ويمين، لم ينقض. وحكاه القرافي - أيضًا - إجماعًا

(4)

) ويأتي في أقسام المشهود به

(5)

أنه صلى الله عليه وسلم: "قضى بشاهدٍ ويمينٍ في المال"

(6)

.

(ولا يَنْقُضُ حُكمَه بعدم علمه الخِلافَ في المسألةِ؛ خلافًا لـ) ــلإمام (مالك

(7)

) لأن علمه بالخلاف لا أثر له في صِحَّة الحكم ولا في بُطلانه، حيث وافق مقتضى الشرع.

(ولا) يَنقُض حكمه - أيضًا - (لمخالفة القياس، ولو) كان القياس (جليًّا) لأن من الأحكام الشرعية ما وَرَدَ على خِلاف القياس (وحيث قُلنا: "يَنْقُض) الحكمَ" (فالناقض له حاكِمُه، إن كان) موجودًا (فَيُثْبِتُ

(1)

انظر: حاشية ابن عابدين (5/ 395)، وشرح منح الجليل (4/ 193)، وتحفة المحتاج (10/ 147).

(2)

الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص/ 80.

(3)

سورة النساء، الآية:105.

(4)

انظر: الفروق (4/ 48 - 53).

(5)

(15/ 325).

(6)

لم نقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم في الأقضية، باب 1، حديث 1712، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.

وأخرجه الشافعي في الأم (6/ 254)، عن عمرو بن دينار، به، وزاد في آخره: وقال عمرو: في الأموال.

(7)

المدونة (5/ 144).

ص: 104

السببَ) المقتضي للنقض عنده (وينقضه) حاكمه دون غيره.

وقال الغزي: إذا قضى بخلاف النصِّ والإجماع، هذا باطل، لكلٍّ من القُضاة نَقْضُه إذا رُفِع إليه. انتهى.

قلت: وما ذكروه من أنَّ الناقض له حاكِمُه، إن كان لا يتصور فيما إذا حكم بقتل مسلم بكافر، أو بجعل من وَجَدَ عين ماله عند مفلس أسوةَ الغرماء إذا كان الحاكم يراه، وإنما يَنْقُضه مَن لا يراه، بدليل قولهم: فَيُثْبِتُ السببَ وينقضُه.

(ولا يُعتبر لنقضه طَلَبُ رَبِّ الحقِّ) نقضَه، ولو كان الحق فيه لمعيَّن؛ لأن نقضه حقٌّ لله.

(ويَنقُضُه) أي: يَنقُضُ الحاكمُ حكمه (إذا بانت البيّنةُ عبيدًا، أو نحوهم) كما لو كانوا أبناء المشهود له، أو من أصوله (إن لم يرَ) الحاكم (الحكمَ بها.

وفي "المحرَّر": له نقضُه) ويحتمل أنه قاله في مقابلة المانع، فلا يُنافي كونه واجبًا، فلا خلاف.

(قال: وكذا كلُّ مختَلَفٍ فيه صادفَ ما حَكَم فيه، ولم يَعْلَم به) القاضي، ثم يتبين

(1)

بعد ذلك، فَيُثْبِتُ السبب وينقُضُه، كعداوة البينة وعصبيتهم، وكون المبيع منذورًا عتقه نذرَ تبرُّرٍ، ونحوه.

(قال السامَرِّيُّ: لو حَكَم بجهلٍ، نَقَضَ حُكمَه) لعدم شرطه، وهو الاجتهاد.

(وإن كان) القاضي (من

(2)

لا يصلُحُ) للقضاء (لفسق أو غيره،

(1)

في "ذ": "تبين".

(2)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 225): "ممن".

ص: 105

نَقَض أحكامَه كُلَّها) ولو وافقت الصواب؛ لأن حكمه غير صحيح، وقضاؤه بمنزلة العدم؛ لفَقْدِ شرط القضاء فيه.

(واختار الموفَّق والشيخ

(1)

وجَمعٌ: لا ينقضُ الصوابَ منها) قَدَّمه في "الكافي" و"المستوعب"، وصحَّحه ابن المُنَجَّا، وجزم به في "الوجيز"؛ لأن الحقَّ وصل إلى مستحقِّه، فلا يجوز نقضُه؛ لعدم الفائدة فيه (وعليه عمل الناس من مُدَّة) ذكره في "الإنصاف".

‌فصل

(إذا تخاصَمَ اثنان، فدعا أحدُهما صاحِبَه إلى مجلسِ الحُكْمِ، لزمته إجابتُه)

في الحضور معه إلى مجلس الحكم.

(فإن استعدى الحاكمَ أحدٌ على خصمِه) أي: طلب منه إحضارَه (في البلد بما تتبَعُه الهِمَّةُ، لَزِمه) أي: الحاكم (إحضارُه، ولو لم يُحرِّر الدعوى) لأن ضرر فوات الحق أعظم من حضور مجلس الحكم، وقد حضر عُمرُ وأُبيّ عند زيد بن ثابت

(2)

، وحضر عُمرُ وآخرُ عند شُريح

(3)

.

وسواء (عَلِم) القاضي (أن بينهما) أي: المستعدي والمُستعدى عليه (معاملة، أو لم يعلم) ذلك.

(وسواء كان المستعدي ممن يُعامِل المستعدى عليه، أو لا يعامله، كالفقير يدَّعي على ذي ثروة وهيئة، فيبعثُ معه عَوْنًا يُحْضِره.

وإن شاء) القاضي (بعث معه) أي: المستعدي (قطعةً من شَمْعٍ أو

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 488 - 489.

(2)

تقدم تخريجه (15/ 63) تعليق رقم (1).

(3)

تقدم تخريجه (15/ 12) تعليق رقم (1).

ص: 106

طين، مختومًا بخاتمه، أو في كاغَدٍ ونحوه، فإذا بلغه، لزمه الحضور) معه إلى مجلس الشرع؛ ليخرج من العُهدة.

(وإن شاء) المُستعدى عليه (وكَّل) من يقوم مقامه إن كَرِهَ الحضور.

(فإن امتنع) المُستعدى عليه من الحضور (أو كَسَرَ الختمَ، أَعلم الواليَ به فأحضره) ولا يرخص له في تخلفه؛ لئلا يكون وسيلة إلى ضياع الحقوق.

(فإذا حضر) بعد امتناعه (وثبت امتناعُهُ، عزَّره) القاضي (إن رأى ذلك، بحسب ما يراه من كلامٍ، وكَشْفِ رأسٍ، وضَرْبٍ، وحَبْسٍ) لأن التعزير إلى رأيه.

(فإن اختفى) المستعدى عليه (بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثًا بأنه: إن لم يحضر، سمَّر بابَهُ وخَتَم عليه) لتزول معذرته.

(فإن لم يحضر، وسأل المُدَّعِي أن يُسَمِّر عليه منزِلَه ويختِمَه، أجابه إليه، فإن أصرَّ) على الامتناع (حكم عليه، كغائبٍ) عن البلد فوق مسافة القصر، ويأتي

(1)

في الباب بعده.

(ولا يُعْدِي حاكمٌ في مِثْل ما لا تتبعه الهِمَّةُ) لما فيه من ضرر الحضور إلى مجلس الحكم بالشيء التافه الذي لا يعادله (وفي "عيون المسائل": لا ينبغي للحاكم أن يسمَعَ شَكِيَّةَ أحدٍ إلا ومعه خَصْمُه) بحيث يسمع شكواه، ويرد جوابها.

(وإن استعداه على القاضي قبلَه، أو على من في معناه، كالخليفة، والعالم الكبير، والشيخ المتبوع، وكل من خيف تَبْذِيلُه ونَقْصُ حُرْمته

(1)

(15/ 159).

ص: 107

بإحضاره) ومن ذلك لو كان بالبلد حاكمان فأكثر، واستعدى أحدهما على الآخر (لم يُعْدِه حتى يُحَرِّر دعوَاه، بأن يَعْرِفَ ما يَدَّعيه، ويسألَهُ عنه، صيانةً للقاضي) ومن في معناه (عن الامتهان.

فإن ذكر) المستعدي (أنه يدَّعِي عليه حقًّا من دَيْن، أو غَصْب، أو رِشْوة أخذها منه على الحكم، راسَلَه) لأن ذلك طريق إلى استخلاص الحق (فإن اعترف) القاضي ومن في معناه (بذلك، أمره بالخروج من العُهْدة) لأن الحق توجَّه عليه باعترافه (وإن أنكر، أحضَرَهُ) لأن ذلك تعين طريقًا إلى استخلاص حَقّ المدعي.

(وإن ادَّعَى) المستعدي (عليه) أي: على القاضي المعزول (الجَوْرَ في الحكم، وكان للمُدَّعي بينةٌ) بدعواه (أحضره، وحَكَمَ بالبينة) إذا شهدت في وجه القاضي، وثبتت عدالتها، كسائر الدعاوى (وإن لم تكن) للمدعي (بَيّنة، أو قال: حَكَم عَلَيَّ بشهادة فاسقين، فأنكر) القاضي (فقولُه، بغير يمين) لأنه لو لم يُقبل قوله في ذلك، لتطرَّق المُدَّعى عليهم إلى إبطال ما عليهم من الحقوق بالقول المذكور، وفي ذلك ضررٌ عظيم، واليمين تجب للتُّهمة، والقاضي ليس من أهلها.

(وإن قال حاكمٌ معزولٌ عدلٌ لا يُتَّهم: كنتُ حكمتُ في ولايتي لفلان على فلان بحقٍّ. وهو ممن يسوغُ الحكمُ له) بأن يكون ممن تُقبل شهادته له (قُبل قوله) أي: الحاكم (وأُمضي ذلك الحق، ولو لم يذكر) الحاكم (مستندَه) الذي حكم به (ولو أن العادةَ تسجيلُ أحكامِه وضَبْطُها بشهودٍ) لأن عَزْله لا يمنع من قَبول قوله، كما لو كتب كتابًا إلى قاضٍ آخر، ثم عُزل، ووصل الكتاب بعد عزله، لزم المكتوبَ إليه قَبولُ كتابه؛ ولأنه أخبر بما حكم به، وهو غير مُتَّهم، أشبه حال ولايته (ما لم يشتمل)

ص: 108

الحكم الذي أخبر به الحاكم بعد عزله (على إبطال حكم حاكم.

فلو حكم) حاكمٌ (حنفيٌّ برجوع واقفٍ على نفسه، فأَخبر حنبليٌّ: أنه كان حكم قبلَ حكم الحنفيِّ بصحَّةِ الوقف؛ لم يُقبل) إخبارُ الحنبليِّ بالحكم المذكور؛ قاله القاضي مجد الدين

(1)

.

قال ابن نصر الله: وهو تقييدٌ حسنٌ ينبغي اعتمادُه، وكذلك قال في "المبدع": وهو حسن.

(وإن أخبر حاكمٌ حاكمًا آخر بحكم، أو ثُبوتٍ في عَملِهما، أو في غيره) أي: غير عملهما (أو في عمل أحَدِهما) دون الآخر (قَبِل) المخبَرُ (وعَمِل به) المخبَر، بفتح الباء (إذا بلغ عَمَلَه) كما لو أخبره بحكمه بعد عزله.

و (لا) يقبل المخبَر - بفتح الباء - ولا يعمل إذا أخبره بأنه ثبت عنده كذا ولم يحكم به (مع حضور المخبِر) بكسر الباء (وهما بعمَلِهما) لأن ذلك كنقل الشهادة، فاعتُبِر فيه ما يُعتبر في الشهادة على الشهادة، وفي كلام المصنف شيء يزول بما قدَّرته، ولعله سقط من الكاتب.

(وكذا إخبارُ أميرِ جهادٍ، وأمينِ صَدَقةٍ، وناظر وقفٍ) بعد عزله بما صدر منه في حال ولايته، فإنه يُقبل منه. قال في "الانتصار": كل من صح منه إنشاء أمر، صح إقرارُه به.

(وإن قال) الحاكمُ (في ولايته: كنتُ حكمتُ لفلانٍ بكذا؛ قُبِلَ قولُه، سواءٌ قال: قضيتُ عليه بشاهِدَيْن عَدْلين، أو قال: سمعتُ بينتَه،

(1)

هو مجد الدين أبو البركات سالم بن سالم بن أحمد المقدسي، ثم المصري الحنبلي، قاضي القضاة بالديار المصرية، وشيخ الإسلام بها. كان يُعدُّ من فقهاء الحنابلة وأخيارهم، باشر القضاء نيابة واستقلالًا أكثر من ثلاثين سنة. توفي سنة 826 رحمه الله تعالى. انظر: المنهج الأحمد (5/ 205)، وشذرات الذهب (9/ 252 - 253).

ص: 109

وعرفتُ عدالتَهم، أو قال: قضيتُ عليه بِنُكُولِهِ، أو أقرَّ عندي لفلانٍ بحقٍّ، فحكمتُ به) أو قال: حكمت، ولم يضفه إلى بينة ولا غيرها؛ لأنه يملك الحكم، فملك الإقرارَ به، كالزوج إذا أقرَّ بالطلاق، والسيدُ إذا أخبر بالعِتْقِ.

(وإن ادُّعِيَ على امرأة بَرْزَةٍ - وهي التي تَبْرُزُ لحوائجها - أحضَرَها) لعدم العذر (ولا يُعتبر لإحضارها في سَفَرها هذا) إن كان (مَحْرَمٌ) لتعينه عليها (كسفر الهِجْرة) ولأنه حقُّ آدميٍّ، وهو مبنيٌّ على الشح والضيق.

(وإن كانت) المرأة المُدَّعى عليها (مُخدَّرةً) لا تَبْرُز لقضاء حوائجها عادة (أُمِرت بالتوكيل) لأن الوكيل يقوم مقامَها، فلا تبذل من غير حاجة، ولا يُحضِرها؛ لما فيه من المشقَّة والضرر (فإن توجَّهت اليمينُ عليها، بعث الحاكمُ أمينًا معه شاهدان؛ يستَحْلِفُها بحضرتِهما) لأن إحضارها غير مشروع، واليمين لا بُدَّ منها، وهذا طريقه (وإن أقرَّت) بشيء (شَهِدا عليها) به؛ ليقضي الحاكم عليها بشهادتهما، بطلب المُدَّعي.

(قال في "الترغيب": إن خرجت للعزايا والزِّيارات ولم تُكْثِر، فهي مُخَدَّرة) فلا يُحْضِرها القاضي، بل توكِّل.

(ومريضٌ ونحوُه) من ذوي الأعذار (كمُخَدَّرة) في أنه يؤمر بالتوكيل ولا يحضر؛ للحرج والمشقة.

(وإن استعدى عندَه على غائبٍ في غير عمَلِه، لم يُعْدِ عليه) لأنه ليس مُولىً عليه.

(وإن كان) الغائبُ (في عَملِه) أي: القاضي (وكان له) أي: القاضي (في بلده) الذي به الغائب (خليفةٌ) أي: نائب (فإن كانت له)

ص: 110

أي: المُدَّعِي (بينةٌ حاضرةٌ، وثبت الحقُّ عنده) أي: القَاضي (كتب به) أي: بما ثبت عنده (إلى خليفته) كما يكتب لغيره (ولم يُحْضِرْه) أي: الغائب؛ لعدم الفائدة في إحضاره إذًا.

(وإن لم يكن له) أي: القاضي (فيه) أي: في البلد الذي به الغائب (خليفةٌ، وكان فيه من يصلُحُ للقضاء، أَذِنَ له في الحكم بينهما) فيكون نائبًا عنه في تلك القضية.

(وإن لم يكن فيه من يصلح) للقضاء (كَتَب) القاضي (إلى ثقاتٍ من أهل ذلك الموضع، ليتوسَّطُوا بينهما) لأن ذلك طريق إلى قطع الخصومة، مع عدم المشقَّة الحاصلة بالإحضار.

(فإن لم يقبَلا) أي: الخصمان (الوساطةَ) أو تعذَّر من يتوسَّط بينهما (قيل) أي: قال القاضي (له) أي: المُدَّعِي: (حرِّرْ دعواكَ، فإذا تحرَّرتْ) دعواه (أحضر خصْمَه، ولو بَعُدت المسافةُ) لأنه لا بُدَّ من فَصْلِ الخصومة، وقد تعين بذلك.

(ولو ادعى قبله شهادة، لم تُسمع دعواه، ولم يُعْدِ عليه، ولم يحلف) إذا أنكر؛ خلافًا للشيخ تقي الدين، وقال: لو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها، فظاهر، ولو نَكَلَ، لزمه ما ادَّعى به إن قيل: ضمانها موجب لِضَمان ما تلف، ولا يبعد، كما يضمن من ترك الإطعام الواجب، وكونه لا يحصُل المقصود لفِسْقِه وكتمانه؛ لا ينفي ضمانه في نفس الأمر. واحتج القاضي بالأول على أن الشهادة ليست حقًّا على الشاهد؛ ذكره في "الفروع".

ص: 111

باب طريق الحكم وصفته

(طريق كلِّ شيء ما تُوُصِّل به إليه) حكمًا كان أو غيره.

(والحُكمُ: الفَصلُ) أي: فصل الخصومة، وقد لا يكون خصومة، كعقدٍ رُفع إليه ليحكم به، فهو إلزام للعمل به.

والحكم لغة: المنع، وسُمِّي القاضي حاكمًا؛ لأنه يمنع الظالم من ظلمه.

(لا تصحُّ دعوى وإنكارٌ إلا مِن جائز التصرُّف) وهو المكلَّف الرشيد (ويأتي

(1)

في) باب (الدعاوى) مفصلًا (وتُسمَع) الدعوى (في كلِّ قليلٍ) ولو لم تتبعه الهمة، ولا ينافي ذلك قولهم: إن القاضي لا يُستعدى فيما لا تتبعه الهِمَّة؛ لما في الاستعداء من المشقَّة بسبب ما هو أسهل منها (و) كل (كثير) ولو لم تجرِ عادة المُدَّعي في المعاملة به؛ لاحتمال صِدْقِهِ، ولا ضرر على المُدَّعى عليه؛ لأنه لا بُدَّ من بيان المُدَّعي.

(وتصح) الدعوى (على سَفيه فيما يؤاخذ به حالَ سَفَهِه، وبعد فَكِّ حَجْرِه) كالقِصاص والطلاق والحد (ويحلِفُ إذا أنكر) فيما يستحلف فيه.

(ولا تصح دعوى) في حَقِّ الله (ولا تُسمَعُ) دعوى في حَقِّ الله (ولا يُستَحْلَف في حَقِّ الله تعالى، كعبادة) من صلاة وغيرها (وحَدٍّ) كزنىً وسرقة (وكفَّارة، ونَذْر، ونحوه) كيمينٍ بالله تعالى (فلو ادِّعى عليه أن عليه كفَّارة يمين أو غيرها) من الكفَّارات (أو) أن عليه (صَدَقة، فالقول قوله) أي: المُدَّعى عليه (من غير يمين) لأن الناس لا يستحلفون على صَدَقاتهم

(1)

(15/ 220).

ص: 112

(ويأتي في) باب (اليمين في الدعاوى) بأوضح من هذا.

(و‌

‌تُسمع) الدعوى (بوكالة ووصية من غير حضور خَصْمٍ)

مُدَّعىً عليه؛ قاله في "الاختيارات" في مسألة الوكالة

(1)

، ونقله مُهنَّا عن أحمد

(2)

، ولو كان الخصم في البلد.

(و‌

‌لا تصح الدعوى المقلوبة)

بأن ترافع اثنان إلى حاكم، فقال أحدهما: أدعي على هذا أنه يدعي عليَّ دينارًا، مثلًا، فاستحلفني له أنه لا حق له قِبلي، فلا يُسمع منه ذلك. وسُمِّيت مقلوبةً؛ لأن المُدَّعي فيها يطلب أن يعطى المدعى عليه، والمدعي في غيرها يطلب أن يأخذ من المدعى عليه، فانقلب فيها القصد المعتاد.

(وتُقبل بينة عتق ولو أنكره) أي: العتق (عبدٌ) لأنه حقٌّ لله، وكذا بينة بطلاق.

(وتصح الشهادة به وبحقِّ الله تعالى، كالعبادات، والحدود، والصَدَقة، والكفَّارة، من غير تقدُّم دعوى) بذلك (فشهادة الشهود به دعوى.

وكذا) تُقبل الشهادة (بحقِّ آدميٍّ غير معيَّن، كوقف على فقراءَ، أو علماءَ، أو مسجدٍ، أو وصية له) أي: للمسجد (أو رباط، وإن لم يطلبه مستحقّه) لأن الحق فيه لم يتعيَّن لواحد بعينه، أشبه حقَّ الله تعالى.

(وكذا عقوبة كذَّاب مُفْتَرٍ على الناس، والمُتكلِّم فيهم) بما يوجب تعزيرًا (قاله الشيخ

(3)

) وقياسه مَن يغش الناس.

(1)

ص/ 492.

(2)

انظر: المرجع السابق.

(3)

انظر: الإنصاف (28/ 420).

ص: 113

(وتُسمع دعوى حِسْبَة في حقِّ الله تعالى، كحَدٍّ، وعِدَّة، ورِدَّة، وعتق، واستيلاد، وطلاق، وظِهَار، ونحو ذلك؛ قاله في "الرعاية" وغيرها) هذا مقابل ما سبق من قوله: ولا تُسمع في حَقِّ الله تعالى، والأول هو المذهب، وعليه الأصحاب؛ ذكره في "الإنصاف".

(وتُقبل شهادة المُدَّعِي فيه) أي: في حق الله تعالى؛ لأنه لا يجرُّ إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضررًا.

(ولا تُقبل يمين في حقِّ آدميٍّ معيَّن إلا بعد الدعوى وشهادة الشاهد، إن كان) هناك شاهد، وقلنا: يقضي بالشاهد واليمين (ولا تُسمع الشهادة فيه) أي: في حَقِّ الآدمي المعيَّن (قبل الدعوى) بحقِّه وتحريرها.

(واختار الشيخ

(1)

سماع الدعوى والشهادة لحِفْظِ وَقْفٍ وغيره بالثبات بلا خصم).

قال في "الاختيارات"

(2)

: الثبوت المحض يصحُّ بلا مُدَّعىً عليه. وقد ذكره قوم من الفقهاء، وفعله طائفة من القضاة.

(وأجازهما) أي: الدعوى والشهادة (الحنفية

(3)

، وبعض أصحابنا، و) بعض (الشافعية

(4)

في العقود والأقارير وغيرها بخصم مُسَخرٍ) بمعنى أنه يُظْهِرُ النزاعَ، وليس منازعًا في الحقيقة.

(وقال الشيخ

(5)

: وأما على أصلنا وأصل مالك، فإما أن تُمنع

(1)

مجموع الفتاوي (35/ 356).

(2)

ص/ 492.

(3)

قال في الدر المختار: إذا توارى الخصم فالمتأخرون أن القاضي ينصب وكيلًا في الكل، وهو قول الثاني ا. هـ. أي: أبي يوسف. انظر: حاشية ابن عابدين (5/ 415 - 416).

(4)

انظر: تحفة المحتاج (10/ 165)، ونهاية المحتاج (8/ 269).

(5)

انظر: الإنصاف (28/ 422).

ص: 114

الدعوى علي غير خصمٍ مُنازعٍ) أي: فلا تُسمع على الخصم المُسَخَّر (فتثبتَ الحقوقُ بالشهادةِ على الشهادةِ وقاله بعض أصحابنا، وإما أن تُسمع الدعوى والبينةُ، ويُحْكمَ بلا خَصْمٍ. وذكره بعضُ المالكية

(1)

و) بعضُ (الشافعية، وهو مقتضى كلام) الإمام (أحمد وأصحابه في مواضع؛ لأنا نسمعُها على غائبٍ، وممتَنع و نحوه) كميت (فمع عَدَم خَصْمٍ أولى؛ فإن المشتريَ مثلًا قبضَ المبيعَ وسلَّم الثمنَ، فلا يدَّعِي ولَا يُدَّعَى عليه، والمقصودُ سماعُ القاضي البينةَ؛ وحكمُه بموجَبِها من غير وجودِ مُدَّعىً عليه، ومن غير مُدَّعٍ على أحد، لكن خوفًا من حُدوثِ خَصْمٍ مستقبَلٍ، وحاجةِ الناس، خصوصًا فيما فيه شُبهةٌ أو خلافٌ لرفعه. انتهى).

قال في "التنقيح": (وعملُ الناس عليه، وهو قوي) أي: في النظر.

قلت: وإذا حكم على هذا الوجه، وإن كان مقابلًا لما قدَّموه، لم ينقض حكمه؛ لأنه لم يخالف نصًّا ولا إجماعًا. انتهى.

فصل

(إذا جاءَ إلى الحاكم خصمانِ، سُنَّ أن يُجْلِسَهما بين يديه) لما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم"

(2)

؛ ولقول عمر: "ولكن أجلس مع خصمي مجلسًا بين يدي

(1)

انظر: النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (8/ 193).

(2)

أبو داود في الأقضية، باب 8، حديث 3588. وأخرجه - أيضًا - أحمد (4/ 4)، والطبراني في الكبير (13/ 103) حديث 246، والحاكم (4/ 94)، والبيهقي (10/ 135)، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، به. =

ص: 115

زيد"

(1)

وقال علي حين خاصم اليهوديَّ دِرْعَه إلى شُريحٍ: "لو أنَّ خصمي مسلم، لجلست معه بين يديك"

(2)

.

(ثم إن شاء) القاضي (قال) للخصمين: (من المُدَّعِي منكما؟) لأن سؤاله عن المُدَّعي منهما لا تخصيص فيه لواحدٍ منهما (وإن شاء) القاضي (سَكَتَ حتى يبتدئَا) أي: حتى تكون البداءة بالكلام من جهتهما (ولا يقول هو) أي: القاضي (ولا صاحبُه) أي: القائم على رأسه (لأحدهما: تكلَّمْ) لأنه تخصيصٌ لأحدِهما بما لا يختصُّ به.

(فإن بدأ أحدُهما) أي: أحد الخصمين (فتكلَّمَ، فقال خصمُه: أنا المُدَّعي، لم يلتفتِ) الحاكمُ (إليه، ويُقال له: أجِبْ) خصمَك (عن دعواه، ثم ادَّعِ بما شئتَ) لأنه سبق إلى مباح.

(فإن ادَّعيا معًا، قدَّم أحدَهما بقُرعةٍ) لأنه لا مُرجِّح غيرها (فإذا انقضت حكومَتُه، سَمِعَ دعوى الآخَرِ) لأن الأول استوفى حقَّه.

(فإذا حرَّر) المدعي (دعواه، قال) القاضي (للخصم) المُدَّعى عليه: (ما تقولُ فيما ادَّعاه) لأن شاهد الحال يدلُّ على طلب المطالبة، فإن إحضاره والدعوى إنما تُراد ليسأل الحاكم المُدَّعى عليه (فإن أقرَّ له ولو بقوله: نعم) لأنها صريحة في الجواب، كما تقدم في النكاح

(3)

= قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وقال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 595): قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد! قلت: لا؛ لأجل مصعب، ومصعبٌ هذا ضعَّفوه.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 193): في إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف.

(1)

أخرجه البيهقي (10/ 136).

(2)

تقدم تخريجه (15/ 76) تعليق رقم (4).

(3)

(11/ 235).

ص: 116

والطلاق

(1)

، ويأتي في الإقرار

(2)

(لم يحكم) القاضي (له) أي: للمُدَّعي (حتى يطالبـ) ــه (المُدَّعي بالحكم) لأن الحكم عليه حَقٌّ له، فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقه.

(والحكم أن يقول) الحاكم: (قد ألزمتُكَ ذلك، أو قضيتُ عليكَ له، أو يقول: اخرج إليه منه، وتقدم

(3)

نظيره في الباب قبله.

وإن أنكر، مثل أن يقول المُدَّعي: أقرضتُه ألفًا، أو بعتُه) كذا بكذا (فيقول) المُدَّعى عليه: (ما أقرضني، ولا باعني، أو: ما يستحقُّ عليَّ ما ادَّعاه، ولا شيئًا منه، أو

(4)

لا حقَّ له عليَّ؛ صَحَّ الجواب) لنفيه عين ما ادَّعى عليه؛ ولأن قوله: "لا حَقَّ له عليَّ" نكرةٌ في سياق النفي، فتعُمُّ، بمنزلة قوله: ما يستحقُّ عليَّ ما ادَّعاه، ولا شيئًا منه.

(ما لم يعترف) المُدَّعى عليه (بسبب الحقِّ، كما إذا ادَّعت) امرأةٌ (على مَن يعترف بأنها زوجته، المهرَ، فقال: لا تستحقّ عليَّ شيئًا، لم يصح الجوابُ، ويلزمه المهرُ، إن لم يُقِم بينةً بإسقاطه) وكذا لوِ ادّعت عليه نفقةً وكسوةً. وقلنا: لا نقبل قوله إلا ببينة (كجوابه في دعوى قرضٍ اعترفَ به: لا يستحقُّ عليَّ شيئًا. ولهذا لو أقرَّت في مرضِ موتها) أنها (لا مَهْرَ لها عليه؛ لم يقبل) إقرارها (إلا ببينة أنها أخذته) مطلقًا (أو أسقطته في الصحة) لأن إقرار المريض لوارثه كالوصية، وإبراءه له عطية، وحكمها حكم الوصية.

(ولو قال) المُدَّعى عليه (لمدع دينارًا) مثلًا: (لا يستحقُّ عليَّ

(1)

(12/ 215).

(2)

(15/ 390).

(3)

(15/ 95).

(4)

في "ذ": "و".

ص: 117

حَبَّة، فليس بجواب عند ابن عقيل؛ لأنه لا يكتفى في دفع الدعوى إلا بنصٍّ، ولا يكتفى بالظاهر، ولهذا لو حلف) المُدَّعي مع شاهده مثلًا:(والله إني لصادق فيما ادعيته عليه، أو حلف المُنكِر: إنه) أي: المدعي (لكاذب فيما ادعاه عليَّ؛ لم يقبل) منه ذلك، ويحلف على طبق الدعوى في الأولى، وعلى طبق الجواب في الثانية، كما يأتي.

(وعند الشيخ

(1)

: يَعُمُّ الحبات، و) يَعُمُّ (ما لم يندرج في لفظ حَبَّة من باب الفحوى، إلا أن يقال: يَعُمُّ حقيقة عرفية. و) قال في "تصحيح الفروع": قلت: (الصواب ما قاله الشيخ) تقي الدين. وهو الظاهر، انتهى.

قال الأَزَجيّ: لو قال: لك عليِّ شيء، فقال: ليس لي عليك شيء، وإنما لي عليك ألف درهم، لم يُقبل من دعوى الألف؛ لأن نفاها بنفي الشيء.

ولو قال: لك عليَّ درهم، فقال: ليس لي عليك درهم ولا دانق، وإنما لي عليك ألف، قُبل منه دعوى الألف؛ لأن معنى نفيه: ليس حقي هذا القدر. قال: ولو قال: ليس لك عليَّ شيء إلا درهم، صح ذلك.

(ولو قال) المُدَّعِي للمُدَّعَى عليه: (لي عليك مائة، فقال) المُدَّعَى عليه جوابًا له: (ليس لك عليَّ مائة، أعتُبِر قوله: ولا شيء منها، كاليمين) أي: كما لو حلف، فلا بُدَّ أن يقول في يمينه: ليس له عليَّ مائة، ولا شيء منها؛ لأن نفيه للمائة لا ينفي ما هو أقلّ منها.

(فإن نَكَلَ) المُدَّعَى عليه عن الحلف على (ما دون المائة) بأن حلف أنه لا يستحق عليه مائة، ونَكَلَ عن قوله: ولا شيء منها (حكم عليه بمائة إلا جزءًا) من أجزاء المائة.

(1)

انظر: الفروع (6/ 467).

ص: 118

(وللمُدَّعي) إذا أنكر المُدَّعى عليه (أن يقول: لي بيّنةٌ) لأن الحقَّ له، والبينةُ طريقٌ إلى تخليصه (وللحاكم أن يقول) للمُدَّعي: (ألك بيّنة

(1)

) لقوله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينةٌ؟ قال: لا" رواه مسلم

(2)

. وفيه: "فلك يمينه"، فإن كان المُدَّعِي عارفًا بأنه موضع البينة، خيّر الحاكم بين أن يقول ذلك، وبين السكوت.

(فإن قال) المُدَّعِي: (لي بينةٌ، قيل) أي: قال (له) القاضي: (إن شئتَ فأحضرها) قال في "المغني": لم يقل: أحضِرْها؛ لأن ذلك حقٌّ له، فله أن يفعل ما يرى.

(فإذا أحضرها) المُدَّعِي (لم يسألْها الحاكمُ عَمَّا عندها حتى يسأله المُدَّعِي ذلك) لأنه حقٌّ له (فإذا سأل

(3)

المُدَّعِي سؤالها، قال: مَن كانت عنده شهادة فلْيذكُرْها إن شاء، أو يقول: بِمَ تشهدان؟ ولا يقول لهما: اشْهَدَا) لأنه أمرٌ. وكان شُريح يقول للشاهدين: ما أنا دعوتُكما، ولا أنهاكما أن ترجعا، وما يقضي علي هذا المسلم غيركما، وإني بكما أقضي اليوم، وبكما أتقي يوم القيامة

(4)

.

(وليس له) أي: القاضي (أن يُلقِّنَهما) الشهادة، وفي "المستوعب": لا ينبغي، وفي "الموجز": يُكره (كتعنُّتِهما) أي: تعنت

(5)

الشاهدين (وانتهارِهما) لأنه ربما حملهما أو غيرهما على كتمان

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 432) زيادة: "قَبْلَ قولِه وبعدَه".

(2)

في الإيمان، حديث 139، عن وائل بن حجر رضي الله عنه.

(3)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 432): "سأله".

(4)

أخرجه وكيع في "أخبار القضاة"(2/ 254، 296، 299، 316، 335، 392).

(5)

في "ذ": "كتعنيفهما أي: تعنّف". وعنَّته تعنيتًا: شدَّد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. القاموس المحيط ص/ 200، مادة (عنت).

ص: 119

الشهادة، وعدم أدائها، فتضيع الحقوق.

(فإذا شهدَتِ البينةُ شهادةً صحيحةً، واتَّضحَ الحكمُ، لم يَجُزْ له ترديدُها) أي: البينة (ولزمه في الحال أن يحكمَ) ولا يجوز له تأخيره؛ لما فيه من تأخير الحَقِّ عن موضعه (إذا سأله المُدَّعِي) الحكمَ (إن كان الحقُّ) في الحكم (لآدمي معيَّنٍ) وليس له الحكم بدون سؤال صاحب الحق؛ لأن الحكم حقٌّ له، فلا يُستوفى إلا بمسألةٍ

(1)

.

(وتقدم

(2)

: إنْ كان) الحكم (لغير معيَّنٍ) كالوصية والوقف على نحو الفقراء (أو لله تعالى) كالحدود، والكفارات، والعبادات، فيحكم إذا اتضح له الحكم، وإن لم يسأله أحدٌ الحكمَ.

(وإذا حكم) الحاكمُ بشرطه (وقع الحكمُ لازمًا لا يجوز الرجوعُ فيه، ولا نَقْضُه) منه، ولا من غيره (إلا بشرطه المتقدم

(3)

في باب أدب

(4)

القاضي. ويأتي

(5)

بعضُه آخرَ الباب) أي: إذا خالف نصًّا، أو إجماعًا، أو ما يعتقده.

(ولا يجوز) الحكم (ولا يصح الحكم بغير ما يعلمه) وقال في "الترغيب" وغيره: (بل يتوقف) ومع اللبس يأمر بالصلح.

فإن عَجِلَ فحكم قبل البيان؛ حَرُمَ، ولم يصحَّ؛ لأنه حكمٌ بالجهل. قال أبو عبيد

(6)

: إنما يسعه الصُّلح في الأمور المشكِلة، أما إذا

(1)

في "ذ": "بمسألته".

(2)

(15/ 113).

(3)

(15/ 101 - 106).

(4)

في "ذ": "آداب".

(5)

(15/ 172 - 173).

(6)

لعله في كتابه "أدب القاضي" ولم يُطبع، وانظر: المغني (14/ 30).

ص: 120

استنارت الحجة؛ فليس له ذلك.

ورُوي عن شُريحٍ أنه ما أصلح بين المتحاكمين إلا مرةً واحدة

(1)

.

وعن عمر أنه قال: "ردُّوا الخصوم حتى يصطلحا، فإنَّ فَصْلَ القضاء يحدث بين الناس الضغائن"

(2)

.

(ولا خلاف أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه) وهو محلُّ نفوذ حكمه (إذا سمعه معه شاهدان) لأن التُّهمة الموجودة في الحكم بالعلم منتفية هنا (فإن لم يسمعه) أي: الإقرار أو البينة (معه) أي: مع الحاكم (أحدٌ، أو سَمِعه) معه (شاهدٌ واحد، فله الحكم أيضًا) نصَّ عليه في رواية حَرْب

(3)

؛ لأن الحكم - أيضًا - ليس بمحضِ الحكم بالعِلم، ولا يضرُّ رجوع المُقِر. وقال القاضي: لا يحكم به؛ لانه حكمٌ بعلمه (والأولى) أن يحكم (إذا سمعه) معه (شاهدان) خروجًا من الخلاف.

(فأما حكمه بعلمه في غير ذلك مما رآه أو سَمِعه، قبل الولاية، أو بعدها، فلا يجوز) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع" متفق عليه

(4)

. فدل

(1)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 181) رقم 14798، وابن أبي شيبة (7/ 212 - 213)، وانظر: أخبار القضاة (2/ 363).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (8/ 303 - 304) رقم 15304، وابن أبي شيبة (7/ 213 - 214)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 74 - 75)، والبيهقي (6/ 66).

قال البيهقي: هذه الروايات عن عمر منقطعة والله أعلم. وأعلَّه - أيضًا - ابن حزم في المحلى (8/ 164، 9/ 423) بالانقطاع، وقال: معاذ الله أن يصح هذا عن عمر رضي الله عنه.

(3)

انظر: الإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (28/ 423).

(4)

البخاري في المظالم، باب 16، حديث 2458، وفي الشهادات، باب 27، حديث =

ص: 121

أنه

(1)

يقضي بما سمع، لا بما يعلم

(2)

.

وفي حديث الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذلك" رواه مسلم

(3)

.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو رأيتُ رجلًا على حَدٍّ من حدود الله تعالى ما أخذته ولا دعوت له أحدًا حتى يكون معي غيري؛ حكاه أحمد

(4)

.

(إلا في الجرح والتعديل) فيعمل بعلمه في ذلك؛ لأن التُّهمة لا تلحقه في ذلك؛ لأن صفات الشهود معنىً ظاهر. بل قال القاضي وجماعة: ليس هذا بحكم؛ لأنه يُعَدِّل هو ويَجْرح غيرُه، ويجرح هو ويُعَدِّل غيره، ولو كان حكمًا، لم يكن لغيره نقضه.

وفي "الطرق الحكمية"

(5)

: إن‌

‌ الحكم بالاستفاضة

ليس من حكمه بعلمه، فيحكم بما استفاض، وإن لم يشهد به أحد عنده.

= 2680، وفي الحيل، باب 10، حديث 6967، وفي الأحكام، باب 20، حديث 7169، وباب 29، حديث 1781، وباب 31، حديث 7185، ومسلم في الأقضية، باب 3، حديث 1713، عن أم سلمة رضي الله عنها.

(1)

في "ذ": "فدل على أنه".

(2)

في "ذ": لا بما علم".

(3)

في الإيمان، حديث 139، عن وائل بن حجر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البيهقي (10/ 144)، ولفظه: لو وجدت رجلًا على حد من حدود الله لم أحدّه أنا، ولم أدع له أحدًا حتى يكون معي غيري. وأعله بالانقطاع، وانظر: المغني (14/ 33)، والمبدع (10/ 61 - 62)، والبدر المنير (9/ 609)، والتلخيص الحبير (4/ 197).

(5)

ص/ 201 - 202.

ص: 122

(ويحرم الاعتراض عليه) أي: على الحاكم (لتركه تسمية الشهود) المحكوم بهم؛ ذكره القاضي، وابن عقيل، وغيرهما.

(وقال الشيخُ

(1)

: له) أي: المحكوم عليه (طلبُ تسميةِ البينةِ؛ ليتمكَّنَ من القَدْحِ، بالاتفاق. قال في "الفروع": ويتوجَّه مثلُه) أي: مثل تَرْكه تسمية الشهود (لو قال: حكمت بكذا، ولم يذكُرْ مستندَه) من إقرار، أو بينة، أو نكول.

(قال في "الرعاية": لو شَهِدَ أحدُ الشاهِدَين ببعض الدَّعوى، قال) الحاكم في علامته التي يصفها

(2)

بالوثيقة: (شَهِد عندي بما وضع به خطَّه فيه، أو) يكتب (عادةَ حُكَّام بلدِه) أي: ما جرت به عادتُهم في الإمضاء.

(وإن كان الشاهدُ عدلًا، كتب) القاضي (تحت خَطِّه) بشهادته: (شَهِد عندي بذلك. وإن قبله، كتب: شَهِد بذلك عندي، وإن قَبِله غيره) من الحُكَّام (أو أخبره) حاكم آخر (بذلك) أي: بأنه مقبول (كتب) الحاكمُ بعد "شهد عندي بذلك": (وهو مقبول.

فإن لم يكن الشاهد مقبولًا، كتب) القاضي:(شَهِد بذلك) لئلا يفضحه (وقال للمُدَّعي: زِدْني شهودًا، أو زكِّ شاهدك. انتهى) كلامه في "الرعاية"

(3)

.

(ولْتَكُنْ للقاضي علامة يُعرف بها من بين الحُكَّام، نحو: الحمد لله وحده، أو غير ذلك) ليحصل التمييز (ويكون) ذلك (بقلم غليظ، ولا يُغيّرها) لئلا يزور عليه (إلا أن يكون نائبًا، فيبقى أصلًا، أو ينتقل من

(1)

الفتاوى الكبرى (4/ 636).

(2)

في "ذ": "يضعها".

(3)

في "ذ": "كلام الرعاية".

ص: 123

بلد) إلى بلد، (فلا يحصل لبس.

ويكتُبُها) أي: العلامة (فوقَ السطرِ الأولِ، تحت البسملةِ، من حِذاء طَرَفها، وتكونُ) العلامة (بعد أداء الشهادة، وتأمُّلِ الحُجَّة المُكتتبة) والتحرُّز مما عساه يدخله الموثق مما اعتادوه، وإن لم يصدر بحسب الصناعة.

(ويكتبُ تحتَ العلامةِ: جرى ذلك، أو: ثبت ذلك، أو: ليشهد بثبوته والحكم بموجبه؛ ونحو ذلك، بحسب ما يقتضي المقام) قلت: والأولى عادة بلده، ولو ذكر كلام "الرعاية" هنا كان أنسب.

(وإن كتب المُزكِّي خطه، فالأولى أن يكون تحت خَطِّ الشاهد في المكتوب، فيكتب: إنَّ فلانَ بن فلانٍ الواضِعَ خَطَّه أعلاه عَدْلٌ فيما يشهد به. ويَرْقُمُ القاضي في المكتوب عند شهادة الشاهد بالقلم الغليظ أيضًا، كما تقدم. إن

(1)

شاء بخط واحد) يعم الشهود (نحو: شهدا عندي) إن كانا اثنين (أو: شهد الثلاثة أو الأربعة، أو أفرد) القاضي (كل واحد) من الشهود (بخط) تحت خط الشاهد.

(وإن كان الشاهد جليلَ القَدْرِ، كالأمير ونحوه) كالعالم الكبير وقاض آخر (كتب) الحاكم: (أعلمني بذلك بلفظ الشهادة.

وإن كان المكتوب فيه) الوقف ونحوه (أوصالًا، شغل كلَّ موضع وصل بكلمة بقلم

(2)

العلامة

(3)

، نحو: ثقتي بالله، أو: حسبي الله، ونحوه، كالبياض) أي: كما يشغل البياض في المكتوب بشيء من ذلك احتياطًا.

(1)

في "ذ": "وإن".

(2)

في نسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "تعلم".

(3)

قلم العَلَامة: هو القلم الثخين الغليظ. جواهر العقود (2/ 297، 300).

ص: 124

قلت: والعادة الآن شغله بختم في كل موضع وصل، وهو حسن؛ إذ الغرض الاحتياط، فكلُّ ما أدى إليه حصَّل المقصودَ، وكلُّ ما تقدم - أو غالبه - طريقةُ المتقدمين، وقد اعتيد الآن خلافُها، ولذلك تقدم عن "الرعاية": أو عادة بلده.

فصل

وإن قال المُدَّعي: ما لي بينة، فقول المُنكِر مع يمينه

(1)

) للخبر

(2)

؛ ولأن الأصل براءةُ ذِمته (إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا ادُّعي عليه، أو ادَّعى هو) صلى الله عليه وسلم على أحد (فقوله بلا يمين) لعصمته. قلت: وكذا سائر الأنبياء؛ لتعليلهم بالعصمة، والكل معصومون قبل النبوة وبعدها.

(فيُعْلِم) الحاكمُ (المدعيَ) الذي لا بينة له (أن له اليمين على خَصْمِه) لأنه موضع حاجة (فإن سأل إحلافه، أحلفه) لأن اليمين طريق إلى تخليص حَقّه، فلزم الحاكم إجابة المُدّعي إليها؛ كسماع البينة (وخلّى سبيله): أي: المُدّعى عليه بعد إحلافه؛ لأنه لم يتوجَّه عليه حقّ.

(وليس له) أي: القاضي (استحلافه) أي: المُدَّعى عليه (قبل سؤال المدعي) لأن اليمين حَقٌّ له، كنفس الحق، ويمين المُنكِر على الفور.

(فإن أحلفه) القاضي قبل سؤال المُدَّعِي، لم يعتد بيمينه (أو حلف) المُدَّعَى عليه (قبل سؤال المُدَّعِي) تحليفه، وسؤال الحاكم له (لم يعتد بيمينه) لأنه أتى بها في غير وقتها (فإن سألها المُدَّعِي، أعادها له) لأن الأولى لم تكن يمينه.

(ولا بُدَّ في اليمين) التي تقطع الخصومة (من سؤال المُدَّعِي) لها

(1)

في "ذ": "المنكر بيمينه".

(2)

انظر ما تقدم (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 125

(طوعًا) لأن فِعْل المُكْرَه لا اعتداد به (و) من (إذن الحاكم فيها) فلو حلف قبل إلقاء الحاكم الحلف عليه، لم تنقطع الخصومة، وللمُدَّعِي تحليفه بعد ذلك، وتقدم.

(وله) أي: للمُدَّعِي (- مع الكراهة - تحليفه مع علمه بكذبه، وقدرته على حَقّه، نصًّا

(1)

) أما كونه له ذلك؛ فلأنه يتوصل به إلى حقِّه، وأما كونه يُكره له ذلك؛ فلأنه يحمله على اليمين الكاذبة، وفي ذلك شيء. وعبارة "المنتهى": ولو علم عدم قدرته على حَقّه، ويُكره. قال في "شرحه": أما كونه يُكره له إحلافه في الحالة المذكورة؛ فلأنه ربما يضطره إلى اليمين لخوفه على نفسه من الحبس إذا أقرَّ، لعسرته. انتهى. وهو ظاهر بخلافه مع القدرة.

(ويحرم تحليف البريء) مما ادّعي به عليه؛ لأنه ظلم له (دون الظالم) فلا يحرم تحليفه إيَّاه، كما تقدم (و) تحرم (دعواه ثانيًا وتحليفه) ثانيًا، كالبريء، وهذا المذهب، كما في "الإنصاف" وغيره، وقال في "المستوعب" و"الترغيب" و"الرعاية": له تحليفه عند من جهل حلفه عند غيره؛ لبقاء الحق، بدليل أخذه ببينة.

(وتكون يمينه على صفة جوابه لخصمه) لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك الجواب، فيحلف عليه، لا على صفة الدعوى.

(ولا يصِلُها) أي: اليمين (باستثناءٍ) لأنه يُزيل حكمَ اليمين (ولا) يصِلُها - أيضًا - (بما لا يُفهم) لاحتمال أن يكون استثناء.

(وتحرم التَّوريةُ والتأويلُ) لحديث: "يمينك على ما يُصَدِّقُكَ به

(1)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 35) رقم 1320.

ص: 126

صاحبك"

(1)

(إلا لمظلومٍ) كمن يستحلفه ظالمٌ ما لفلان عندك وديعة، فينوي بـ "ما" الذي ونحوه، مما تقدم

(2)

في باب التأويل.

(و‌

‌لا يحلف في مُختلَفٍ فيه لا يعتقِدُه،

نصًّا

(3)

) أي: نصَّ عليه أحمد (وحَمَلَه) أي: النص (الموفَّقُ على الوَرَع) دون التحريم (وقال) الإمام أحمد

(3)

(أيضًا: لا يعجبني) أي: أن يحلف على مُختلَف فيه لا يعتقده، فلو باع شافعيٌّ حنبليًّا لحمًا متروك التسمية بدينار مثلًا، ثم ادعى عليه به، فأجاب الحنبليُّ بأنه لا حق له عليَّ، فالتمس المُدَّعِي يمينه على حسب جوابه، فمقتضى نصّ الإمام: لا يحلف؛ لأنه يقطع بهذه ما يعتقده المدعي مالًا عنده، وحمل الموفق النصَّ على الورع؛ لأن المُدَّعَى عليه لا يعتقد أن في ذمته شيئًا؛ لعدم صحة بيع ذلك في اعتقاده.

(وتوقف) الإمام أحمد (فيها) أي: في اليمين (في من عامل بحيلة، كَعِيْنَةٍ) أي: كمسألة العِينة إذا كان المُدَّعى عليه لا يراها، هل يحلف أن ما عليه إلا رأس المال؛ نقله حرب

(4)

. قال القاضي: لأن يمينه هنا على القطع، ومسائل الاجتهاد ظنية. وقال في "الفروع" في الشفعة: ولو قدم من لا يراها لجار إلى حاكم، لم يحلف، وإن أخرجه خرج؛ نص عليه

(5)

. وقال: لا يُعجبني الحلف على أمر اختلف فيه

(3)

.

(ولو أمسك) المُدَّعِي (عن إحلافه) أي: المُدَّعَى عليه بعد الدعوى

(1)

تقدم تخريجه (12/ 368) تعليق رقم (2).

(2)

(12/ 368 - 372).

(3)

انظر: مسائل عبد الله (3/ 960) رقم 1304.

(4)

انظر: الفروع (4/ 531).

(5)

انظر: الفروع (4/ 530 - 531).

ص: 127

(وأراده) أي: أراد المُدَّعِي إحلافه (بعد ذلك بدعواه المتقدمة، فله) أي: المُدَّعي (ذلك) أي: تحليفه بالدعوى السابقة من غير تجديدٍ لها؛ لأن حقَّه لا يسقط بالتأخير.

(ولو أبرأه) المدعي (من يمينه، برِئَ منها في هذه الدعوى) فقط.

(فلو جَدَّدها) أي: الدعوى (وطَلب اليمين، فله ذلك) لأن حقَّه لم يسقط بالإبراء من اليمين، وهذه الدعوى غير التي أبرأَهُ من اليمين فيها.

(ولا يجوز أن يحلف المُعْسِر: لا حقَّ له عليَّ، ولو نوى الساعةَ، خاف أن يُحبس أو لا) نقله الجماعة عن أحمد

(1)

. وجوَّزه في "الرعاية" بالنية. قال في "الفروع": وهو مُتَّجه. قال في "الإنصاف": وهو الصواب أن خاف حبسًا.

(ولا) يجوز أن يحلف (مَن عليه دَيْن مؤجَّل، إذا أراد غريمُه منعَه من سَفَرٍ) حتَّى يوثقه برهن يحرز أو كفيل، فأنكر الدَّين، فلا يجوز له أن يحلف، ولو أراد الساعةَ؛ لأنه ظالم، فلا ينفعه التأويل.

(وإن لم يحلف) المُدَّعى عليه (قال له الحاكم: إنْ حلفتَ، وإلا قضيتُ عليك بالنكول) لأن النكول ضعيف، فوجب اعتضاده بذلك.

(ويُستحبُّ أن يقول) ذلك (له ثلاثًا) إزالةً لمعذرته.

(وكذا يقوله) الحاكمُ للمُدَّعى عليه (في كلِّ موضعٍ قلنا: يستحلف المُدَّعى عليه.

فإن لم يحلف) المُدَّعى عليه (قضى عليه) بالنكول (إذا سأله المُدعِي ذلك) لأن عثمان قضى على ابن عمر بنكوله؛ رواه أحمد

(2)

؛

(1)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 35) رقم 1320.

(2)

تقدم تخريجه (7/ 406) تعليق رقم (1).

ص: 128

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه"

(1)

فَحَصَرها في جهته، فلم تُشرع لغيره، وسواء كان المُدَّعَى عليه مأذونًا له، كعبد، أو مريضًا، أو غيرهما.

(وهو) أي: النكول (كإقامة بينة، لا كإقرار) بالحق؛ لأنه لا يتأتَّى جعله مقِرًّا مع إنكاره (ولا كبذله) الحق؛ لأن البذل قد يكون تبرُّعًا، ولا تبرُّعَ هنا، لكن لا يشارك من قُضي له بالنكول على محجور عليه لفَلَسِ غرمائه؛ لاحتمال التواطؤ.

(ولا تُرَدّ اليمين على المُدَّعي) لما تقدم من حصره صلى الله عليه وسلم لها في جهته.

(وإذا قال المُدَّعي: "لي بينةٌ"، بعد قوله: "ما لي بينة" لم تُسمع) لأن سماع البينة قد تحقَّق كذبه، فيعود الأمر على خلاف المقصود (وكذا قوله: كذب شهودي، أو: كلُّ بينةٍ أُقيمُها فهي زور) أو باطلة، أو فلا حَقَّ لي فيها، فلا تُسمع بينته، كما لو قال: ما لي بينة (وأولى) لأنه أصرح في تكذيب شهوده (ولا تبطل دعواه بذلك) أي: بقوله: كذب شهودي، أو: كل بينة أُقيمُها فهي زور أو باطلة، فله تحليف المُدَّعى عليه؛ لأنه قد يكون الحق لا بينة به.

(وإن قال) المُدَّعي: (لا أعلم لي بينة، ثم قال: لي بينة؛ سُمعت) بينته؛ لأنه يجوز أن تكون له بينة لا يعلمها، ونفي العلم بها ليس نفيًا لها، فلا يكون مكذبًا لها.

(وإن) قال: لا أعلم لي بينةً، فـ (ــقالت بينةٌ: نحن نشهَدُ لك، فقال: هذه بيّنتي، سُمِعت) وهي أَولى من التي قبلها؛ لأنه لا تُهمة فيها

(1)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 129

(لكن لو شهدت) البينة (له بغيره) أي: غير ما ادَّعاه (فهو مُكذِّب لها) فلا تُسمع، واختار في "المستوعب": تُقبل، فيدعيه، ثم يُقيمها، وفيه، وفي "الرعاية": إن قال: أستحقه وما شهدوا به، وإنما ادَّعيتُ بأحدهما. لأدَّعِيَ الآخرى

(1)

وقتًا آخر، ثم شهدوا به، قُبِلت.

(و‌

‌إن ادعى شيئًا، فأقرَّ) المدعى عليه (له بغيره،

لزمه) ما أقرَّ به (إذا صدَّقه المُقَرُّ له) مؤاخذةً له بإقراره (والدعوى بحالها) فللمُدَّعي إقامة البينة أو تحليفه.

(ولو سأل) المدعي (ملازمته) أي: المدعى عليه (حتى يُقيمها) أي: البينة (أُجيب) إلى ملازمته ما دام القاضي (في المجلس) لأن ذلك ضرورة إقامتها، فإنه لو لم يتمكَّن من ملازمته، لذهب من مجلس الحكم، ولا يُمكَّن من إقامتها إلا بحضوره، وتفارق البينة البعيدة، ومَن لا يُمكن حضورها، فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حَبْس أو ما يقوم مقامه، ولا سبيل إليه.

(فإن لم يُحْضِرْها) أي: البينة (في المجلس، صَرَفَه.

ولا يجوز حَبْسُه، ولا يُلْزَم بإقامة كفيل، ولو سأله) أي: القاضي (المُدَّعِي ذلك) أي: حَبْسه، أو إقامة كفيل؛ لأنه لم يثبت عليه شيء.

(وإن قال) المُدَّعي للبينة: (ما أُريد أن تشهدا لي

(2)

، لم يُكَلَّف إقامةَ البينة) لأن الحقَّ له، فإن شاء استوفاه أو تركه.

(وإن قال: لي بينة، وأريد يمينه، فإن كانت) البينة (غائبةً عن المجلس، قريبةً أو بعيدةً، فله إحلافه) لأن ذلك يصير طريقًا إلى

(1)

في "ح"، و"ذ":"الآخر".

(2)

في "ح": "أن تشهدا إلي"، وفي "ذ":"أن تشهدوا لي".

ص: 130

استخلاص الحق.

(وإن كانت) البينة (حاضرةً فيه) أي: المجلس (فليس له) أي: للمُدَّعِي (إلا إحداهما) لأن فصل الحكومة ممكن بإحضار البينة، فلا حاجة إلى اليمين.

(وإن حلف المُنكِر) مع غيبة البينة (ثم أحضر المُدَّعِي بينتَهُ؛ حكم) له (بها، ولم تكن اليمين مُزيلة للحقِّ) لقول عمر: "البينة الصادقةُ أحبُّ إليَّ من اليمين الفاجرة"

(1)

؛ ولأن كلَّ حالٍ يجب عليه فيها الحق بإقراره، يجب عليه بالبينة، كما قبل اليمين؛ ولأن اليمين لو أزالت الحق، لاجترأ الفسقة على أخذ أموال الناس.

(ولو سأل المُدَّعِي إحلافَه) أي: المدعى عليه (ولا يُقيم البينةَ، فحلَفَ، كان له) أي: المدعي (إقامتُها) لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف، كما لو كانت غائبة عن البلد.

(وإن كان له) أي: المُدَّعي (شاهدٌ واحدٌ، في المال أو ما يُقصَد منه المالُ) كالوكالة في المال (عرَّفه الحاكمُ أن له أن يحلف مع شاهِدِه ويَستحِقَّ) بلا رضا خصمه؛ لما يأتي في الشهادات من أنه صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد

(2)

.

(فإن قال) المُدَّعي: (لا أحلِفُ، وأرضَى بيمينه، استُحلِفَ له) كما لو لم يكن أقامه (فإذا حلف، سقط الحقُّ عنه) أي: انقطعت الخصومة،

(1)

أخرجه ابن وهب كما في النوادر والزيادات (8/ 169)، وابن حبيب في الواضحة كما في فتح الباري (5/ 288). وذكره البخاري معلقًا - قبل حديث 2680 - من قول شريح، وأخرجه عنه ابن سعد (6/ 136)، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (2/ 114) رقم 2176، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 342، 373).

(2)

(15/ 325 - 327).

ص: 131

كما يعلم مما تقدم وما يأتي.

(فإن عاد المُدَّعِي بعدها، وقال: أنا أحلِفُ مع شاهِدِي، لم يُستحلف) لأن اليمين فعله، وهو قادر عليها، فأمكنه أن يُسقِطَها، بخلاف البينة.

(وإن عاد قبل أن يحلف المُدَّعَى عليه، فبذل) المُدعِي (اليمين، لم يكن له ذلك في هذا المجلس) ذكره في "الشرح" و"المبدع".

(وإن سكت المُدعَى عليه، فلم يُقِرَّ ولم يُنكِرْ، أو قال) المدعى عليه: (لا أُقِرُّ ولا أنكر، أو قال: لا أعلم قَدْرَ حقِّه، قال له القاضي: إن أجبتَ، وإلا جعلتُكَ

(1)

ناكلًا، وقضيتُ عليك) لأنه ناكل؛ لما توجه عليه الجواب فيه، فيحكم عليه بالنكول عنه، كاليمين. والجامع بينهما: أن كل واحد من القولين طريق إلى ظهور الحَقِّ. ويُسَنُ تكراره من الحاكم ثلاثًا؛ ذكره في "الكافي" و"المستوعب" و"المنتهى".

(ولو أقام المُدَّعِي شاهدًا واحدًا، فلم يحلف) المُدَّعِي (معه) أي: مع شاهده (وطلب يمين المُدَّعَى عليه، فأُحْلِفَ له، ثم أقام شاهدًا آخر بعد ذلك، كَمَلَت بينته، وقضى بها) كما لو لم يكن استحلفه المدعي.

(وإن قال المُدَّعى عليه: لي مخرج مما ادَّعاه) المدعي (لم يكن مُجيبًا) لأن الجواب إقرار أو إنكار، وهذا ليس واحدًا منهما.

(وإن قال) المُدَّعى عليه: (لي حسابٌ أُريد أن أنظرَ فيه، لزمه) أي: المدعي (إنظاره ثلاثًا) أي: ثلاثة أيام؛ لأنه يحتاج إلى ذلك لمعرفة قَدْر دَيْنه، أو ليعلم هل له عليه شيء أم لا، والثلاث مدَّةٌ يسيرة، ولا يُمهل أكثر منها؛ لأنه كثير.

(1)

في "ذ": "قال له القاضي: احلف وإلا جعلتك"

ص: 132

(فإن قال) المُدَّعَى عليه: (إن ادعيت ألفًا برَهْنِ كذا لي عندك، أجبتُ. أو: إن ادعيت هذا) الذي ادعيته (ثمنَ كذا، بعتنيه ولم تُقْبضْنِيه، فنعم، وإلا فلا حقَّ لك عليَّ، فجوابٌ صحيح) لأنه مُقِرٌّ له على قَيْدٍ يحترز به عما سواه، مُنكِرٌ له فيما سواه؛ قاله في "شرح المحرر".

(وإن قال) المُدعَى عليه: (بعد ثبوت الدعوى ببينة: قضيته. أو: أبرأني. و) ذكر أن (له بينة بالقضاء أو الإبراء، وسأل الإنظار، أنظر ثلاثًا) أي: ثلاثة أيام فقط؛ لأن ما زاد عليها فيه طول، بخلافه

(1)

فإنها قريبة، وقد لا تتكامل البينة فيما دونها، ولو ألزمناه في الحال، لكان تضييقًا عليه (وللمدعِي ملازمته) زمن الإنظار لئلا يهرب، فيتأخَّر الحق عن المُدَّة التي أُنظرها. قلت: وظاهر كلامهم: لا يُحبس، وعمل القضاة الآن بخلافه.

(فإنْ عَجَزَ) المُدَّعَى عليه عن بينة القضاء أو الإبراء (حلف المدعي على نفي ما ادَّعاه) من القضاء والإبراء؛ لأن الأصل عدمُهُ (واستحق) ما ادَّعى به؛ لأن الأصل بقاؤه.

(فإن نَكَل) المُدعِي عن اليمين (قُضي عليه بنكوله، وصُرِف

(2)

) المدعى عليه؛ لأنه مُنكِر توجهت عليه اليمين، فنكل عنها، فحكم عليه بالنكول، كما لو كان مدعىً عليه ابتداء.

(هذا كله إن لم يكن) المُدَّعى عليه (أنكر أولًا سبب الحقِّ، فأما إن أنكره، ثم ثبت، فادعى قضاءً أو إبراءً سابقًا لإنكاره، لم يُسمع) منه (وإن أتى ببينة، نصًّا

(3)

) فلو ادعى عليه ألفًا من قرض، فقال: ما اقترضت منه

(1)

في "ذ": "بخلافها".

(2)

في متن الإقناع (4/ 438): "وصُدِّق".

(3)

انظر: مسائل الكوسج (8/ 4141) رقم 2957، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير (28/ 451).

ص: 133

شيئًا، أو من ثمن مبيع، فقال: ما ابتعتُ منه شيئًا، ثم ثبت أنه اقترض، أو اشترى ببينة، أو إقرار، فقال: قضيته من قبل هذا الوقت، أو أبرأني من قبل هذا الوقت، لم يُقبل منه، ولو أقام به بينة؛ لأن القضاء أو الإبراء لا يكون إلا عن حَقٍّ سابق، وإنكار الحق يقتضي نفي القضاء، أو الإبراء منه، فيكون مكذِّبًا لدعواه وبينته، فلا تُسمع لذلك.

واحترز بقوله: "سابقًا على إنكاره" عمَّا لو ادَّعى قضاءً، أو إبراءً بعد إنكاره، فإنه تُسمَع دعواه بعد ذلك، وتُقبل بينته؛ لأن قضاءه بعد إنكاره كالإقرار به، فيكون قاضيًا لما هو مُقِرٌّ به، فَتُسمع دعواه به كغير المُنكِر، وإبراء المدعي بعد الإنكار إقرار بعدم استحقاقه، فلا تنافي بين إنكاره وإبراء المدعي، فَتُسمع البينة بذلك.

(وإن شهدت البينةُ للمُدعِي) بما ادعاه (فقال المدعى عليه: أحْلِفُوه أنه يستحقُّ ما شهدتْ به البينة، لم يُحلَّف) لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"

(1)

وقوله: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"

(2)

؛ ولأن فيه تُهمة للبينة.

(وإن ادَّعى) أحدُ المتبايعين على الآخر (أنه أقاله في بيع) أو إجارة وأنكره (فله تحليفه) إن لم تكن له بينة؛ لأن الأصل عَدَمُها، وإن قال: قتلتَ دابتي، ولي عليك قيمتها ألف، فقال: لا يلزمني، أو: لا تستحقه علي ولا شيء منه؛ فقد أجاب.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 138 (221)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 134

فصل

(وإن ادَّعَى عليه عينًا في يده، فأقرَّ) المُدعَى عليه (بها لحاضرٍ مُكلَّفٍ، سُئل المُقَرُّ له عن ذلك، فإن صَدَّقه) أي: صَدَّق المُقَرُّ له المُقِرَّ (صار) المُقَرّ له (الخصم فيها، وصار صاحب اليد) وتحولَّت إليه الخصومة (لأن مَن هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده) وإقرار الإنسان بما في يده إقرارٌ صحيح، وسواء قال المُقِرُّ: إنه مستأجِر منه، أو مستعير، أوْ لا.

(فإن كانت للمُدعِي بينة) أنَّ العينَ له (حكم له بها) لأن البينة أقوى من اليد؛ ولحديث: "شاهداك أو يمينه"

(1)

ونحوه (وللمُقَرِّ له قيمتُها على المُقِرِّ) قاله في "الروضة"، وفيه شيء (وإلا) أي: وإن لم تكن للمُدعِي بينة (فقول المُدعَى عليه، وهو المُقَرُّ له بها مع يمينه) لأنه مُنكِر، فدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"واليمين على من أنكر"

(2)

.

(فإن طَلَب المُدعِي إحلافَ الذي كانت العينُ في يده، أنه لا يعلم أنَّها) أي: العين (لي) أي: للمُدعِي، حلف له أنه لا يعلم أن العينَ له؛ لأنه لو أقرَّ بها، لزمه غُرمها، كما لو قال: هذه العين لزيد، ثم قال: هي لعمرو، فإنها تدفع لزيد، ويغرم لعمرو قيمتها، ومن لزمه الغرم مع الإقرار، لزمه اليمين مع الإنكار.

(فإن نَكَل) من كانت العين بيده عن اليمين للمُدعِي (لزمه بَدَلُها) أي: مثلها إن كانت مِثْليّة، وقيمتها إن كانت متقوّمة؛ لما تقدم.

(1)

تقدم تخريجه (15/ 134) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 135

(وإن قال المُقَرُّ له) بالعين: (ليست لي، وهي للمُدعِي، حكم له بها) لأن اليد صارت للمُقَرّ له، أشبه ما لو ادَّعاها شخص، فأقرَّ بها له.

(وإن قال) المُقر: (ليست لي، ولا أعلم لمن هي، أو قاله المُقَر له، فإن كانت للمُدعِي بينة، حكم له بها، وإن لم تكن له بينة، وجُهِل لمن هي، سُلِّمت إليه) أي: إلى المدعي (أيضًا، بلا يمين) لأنه لا منازع له فيها، أشبه التي هي بيده

(1)

؛ ولأن صاحب اليد لو ادعاها، ثم نكل عن اليمين، قضي بها للمدعي، فمع عدم ادعائه أولى.

(فإن كانا) أي: المُدَّعيان (اثنين، اقترعا عليها) فمن خرجت له القُرعةُ، أخذها، وحَلَف لصاحبه.

(وإن قال المُقَرُّ له: هي لثالث، انتقلت الخصومة إليه

(2)

) كالمُقَرِّ له أوّلًا.

(وإن أقرَّ) مَن العينُ بيده (بها لغائب أو غير مُكَلَّفٍ، معينين، سقطت الدعوى عنه، وصارت على المُقَرِّ له) لأن اليد صارت له، ويصير الغائب والولي خصمين إن صَدَّقاه، وحلف المُدَّعى عليه للمُدَّعي؛ قاله في "الرعاية".

(ثم إن كان للمُدَّعِي بينة، سُلِّمت) العين (إليه) لأن جانبه قد ترجَّح بها (ولا يحلف) لأن البينة وحدها كافية؛ للخبر

(3)

(وكان الغائبُ على خصومته) إذا قَدِم ونازع؛ لعدم ما يقطع خصومته.

(وإن كان مع المُقِرِّ بينةٌ تشهد بها للغائب، سَمِعها الحاكمُ، ولم

(1)

في "ذ": "التي في يده".

(2)

في "ذ": "عنه إليه".

(3)

انظر ما تقدم (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 136

يقض بها) لأن الحق للغائب في الحكم، ولم يطلبه، وإنما سُمعت بينةُ المُدَّعَى عليه أنها لمن سَمَّاه؛ لزوال التهمة (ولكن تسقط اليمين والتُّهمة عن المُقِرِّ. وإن لم تكن له بينة، لم يقضِ له بها، ويقف الأمر حتى يَقْدَمَ الغائبُ) فإما أن يُصَدِّق أو يُكذِّب، على ما تقدم، فتكون معه الخصومة (و) حتى (يُكلَّف غيره) أي: غير مُكلَّف (لتكون الخصومة معه) لكون اليد صارت له.

(وله) أي: للمُدَّعي (تحليف المُدَّعَى عليه أنه لا يلزمه تسليمها إليه، فإن حلف؛ أُقِرَّت) العين (بيده) لأن المُدَّعِي اندفعت دعواه باليمين.

(وإن نَكَلَ) المُدَّعَى عليه عن اليمين (غَرِم بَدَلَها) للمُدعِي، أي: مِثلها إن كانت مِثليّة، وقيمتها إن كانت مُتقوَّمة.

(فإن كان المُدَّعِي) للعين (اثنين) ونَكَلَ عن اليمين لهما (فبدلان) لهما، لكل واحد منهما بدل.

(وإن عاد) أي: المُدَّعى عليه (فأقرَّ بها) أي: العين (للمُدَّعِي) بعد إقراره بها لغيره الغائب، أو غير المُكلَّف (لم تُسَلَّم إليه) لأن إقرار الإنسان على غيره غير مقبول (وعليه) أي: المُقِرِّ (له) أي: للمُقَرِّ له ثانيًا (بدلُها) لأنه فَوَّتها عليه بإقراره الأول (وإن) عاد (ادعاها لنفسه، لم تُسمع دعواه؛ لأنه أقرَّ بأنه لا يملكها) فلا يصح رجوعه عنه.

(وإن ادَّعى) إنسان على آخر بعين أنها له، فادَّعى (مَن هي في يده) أي: العين (أنها معه إجارة أو عارية) من فلان الغائب (وأقام بينةً بالمِلك للغائب، لم يقض بها) للغائب؛ لعدم دعواه وسؤاله الحكم، لكن تُسمع البينة؛ لتسقط اليمين والتُّهمة عن المُقِر (وإن أقرَّ بها) أي: العين مَن هي

ص: 137

بيده (لمجهول، قيل) أي: قال (له) الحاكم: (عرِّفْهُ، وإلا جعلتُك ناكلًا، وقضيتُ عليك) بالنكول؛ لأن الإقرار بها لمجهول عُدولٌ عن الجواب، لأنه يجعل الخصم غير معيَّن، فيقال له: إما أن تُعيَّن المُقَرّ له؛ لتنتقل الخصومة إليه، أو تدَّعيها لنفسك، لتكون الخصومة معك، أو تُقِرَّ بها للمُدَّعي؛ لتندفع الخصومة عنك، فإن عيَّن المجهولَ، وإلا قُضي عليه بها (وإن عاد) المُقِر (فادعاها لنفسه؛ لم تُسمع) دعواه؛ لمخالفتها لإقراره أوّلًا أنها لغيره.

فصل

(ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريرًا يعلم به المُدَّعى) لأن الحاكم يسأل المُدَّعَى عليه عما ادعاه المُدَّعِي، فإن اعترف به، ألزمه، ولا يمكنه أن يلزمه مجهولًا (إلا فيما نُصحِّحُه مجهولًا، كوصية، وإقرار، و) عوض (خُلع، وعبد من عبيده في مهر) وكذا فرس من خيله، وثوب من ثيابه، ونحوه، كما تقدم

(1)

. فتجوز الدعوى بذلك مع جهالته؛ لصحته، ويبينه مَن هو عليه.

(ويُعتبر التصريح بالدعوى، فلا يكفي قوله) أي: المُدَّعي: (لي عند فلان كذا، حتى يقول: وأنا الآن مطالِب به) ليوجد التصريح (وظاهر كلام جماعة: يكفي الظاهر) لدلالة الحال عليه.

(و) يُعتبر - أيضًا - (أن تكون) الدعوى (متعلِّقة بالحالّ) أي: إذا كانت بدين، فلا بُدَّ أن يكون حالًا، فـ (ـلا) تُسمع (بالدَّين المؤجَّل) لأنه لا يجوز الطلب به قبل حلوله، ولا يُحبس عليه (إلا في دعوى تدبير)

(1)

(10/ 269 - 270، 11/ 459، 12/ 154)، ويأتي (15/ 416 - 417).

ص: 138

وكتابة، وإيلاد؛ لصحة الحكم به إذًا، وإن تأخَّر أثره.

(و) يُعتبر - أيضًا - في الدعوى (أن تنفكَّ عمَّا يُكذِّبُها، فلو ادعى أنه قتل) أو سرق من عشرين سنة، وسِنُّهُ دونها، ونحوه؛ لم تُسمع؛ لأن الحسّ يُكذِّبها، ومنه: لو ادَّعى أن الخليفة اشترى منه حزمة بقل وحملها بيده، لم تُسمع دعواه، بغير خلاف؛ قاله في "القواعد"

(1)

.

ولو ادعى أنه قتل (أباه) أو ابنه، ونحوه (منفردًا، ثم ادعى على آخر المشاركة فيه) أي: في قتل أبيه، ونحوه (لم تُسمع) الدعوى (الثانية) لأنه كذَّبها بدعواه الأولى، وكذا لو ادَّعى الآخرُ الانفراد به، فلا تُسمع (ولو أقرَّ الثاني) لتكذيبه له أوّلًا (إلا أن يقول) المُدَّعِي:(غَلِطتُ، أو كذبتُ في الأولى، فَتُقبل) الثانية؛ لإمكانه، والحق لا يعدوها

(2)

.

(ومَن أقرَّ لزيدٍ بشيء) من دار، أو كتاب، أو ثوب، ونحوه (ثم ادعاه) لنفسه (وذكر تلقِّيه منه) أي: من زيد (سُمِع) منه ما ادعاه، وطولب بالبيان؛ لاحتمال صدقه (وإلا) أي: وإن لم يذكر تلقِّيه من زيد (فلا) تصح دعواه لنفسه؛ لأنه تكذيب لإقراره الأول (وإن ادَّعى أنه له الآن، لم تُسمع بينته أنه كان له أمس، أو) أنه كان (في يده) أمس؛ لعدم التطابق.

(ولو قال) المُدَّعَى عليه: (كان) المُدَّعَى به (بيدك) أمس (أو) كان (لك أمس، وهو ملكي الآن، لزمه) أي: المُدَّعَى عليه (بيان سبب زوال يده) أو ملكه؛ لأن الأصل بقاء الملك، أو اليد.

(و‌

‌إن ادعى دارًا، بيَّن موضعها وحدودها،

إن لم تكن مشهورة) عند

(1)

ص/ 324، القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة.

(2)

في "ذ": لا يعدوهما".

ص: 139

القاضي والخصمين بما يغني عن البيان. قال الغزي: إذا كانت في عقار، ذكر البلد والمحلة والسكة، وهي الزقاق والحدود، فإن التحديد شرط في الدعوى والشهادة (فيدعي أن هذه الدار بحقوقها وحدودها لي، وأنها في يده ظلمًا، وأنا أطالبه الآن بردِّها.

وإن ادَّعى أن هذه الدار لي، وأنه يمنعني منها) وأطالبه بردِّها (صحَّت الدعوى، وإن لم يقل: إنها في يده) اكتفاء بذكر أنه يمنعه منها.

(وتكفي شُهرة المُدَّعَى به) - من دار ونحوها (عند الخصمين والحاكم - عن تحديده) أي: بيان حدوده؛ لأن القصد العلم بالمُدَّعَى به، وهو حاصل بالشهرة.

(ولو أحضر) المدعي (ورقة فيها دعوى مُحَرَّرة، فقال: أدَّعي بما فيها، مع حضور خصمه، لم تُسمع) دعواه حتى يبين ما فيها.

(قال الشيخ

(1)

: لا يُعتبر في أداء الشهادة) بالدَّين (قوله) أي: الشاهد: (وإن الدين باقٍ في ذِمَّة الغريم إلى الآن، بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال؛ إذا ثبت عنده سَبُقُ الحَقِّ، إجماعًا) استصحابًا للأصل.

(وتُسمع دعوى استيلاد، وكتابة، وتدبير) من الرقيق على سيده؛ ليحكم له به، وإن تأخَّر أثره. وتقدم

(2)

؛ لأن نفس المُدَّعَى به حال، وإن تأخَّر موجبه.

(وإن كان المُدَّعَى) به (عينًا حاضرة في المجلس، عيَّنها) المُدَّعِي (بالإشارة) إليها؛ لينتفي اللبس.

(1)

الاختبارات الفقهية ص/ 523.

(2)

(15/ 138 - 139).

ص: 140

(وإن كانت حاضرة) في البلد (لكن لم تحضر مجلس الحكم، اعتبر إحضارها، للتعيين) وإزالة اللبس (ويجب إحضارها على المدَّعَى عليه إن أقرَّ أن بيده مثلها) فيوكل به حتى يحضرها. فمن ادعى عليه بغصبِ عبدٍ وأقرَّ أن بيده عبدًا، أمره الحاكم بإحضاره؛ لتكون الدعوى على عينه (ولو ثبت أنها) أي: العين المدَّعَى بنظيرها (بيده) أي: المُدَّعَى عليه (ببينة أو نُكول) عن يمين طُلِب منه (حُبِس أبدًا حتى يُحضِرها، أو يَدَّعي تلفها، فَيُصدِّق؛ للضرورة، وتكفي القيمة) حينئذ عن تعيينها؛ لتعذُّره بتلفها.

(وإن ادُّعيَ) بالبناء للمفعول (على أبيه دَيْن، لم تُسمع دعواه حتى يُثبت أن أباه مات، وتَرَك في يده مالًا، في وفاءٌ لدَيْنه) أو حَرَّر التركة. هذا معنى كلامه في "المغني". وذكر القاضي أنه يُحَرِّر التركة. وجزم به في "المنتهى"(فإن قال) المدعي: (ترك) أبوه (ما فيه وفاءٌ لبعض دَيْنه، احتاج أن

(1)

يذكر ذلك البعض) ليعلم نسبة الدَّيْن إليه، فيلزم بالوفاء بقَدْره (والقول قول المُدَّعَى عليه في نَفْي تَرِكة الأب، مع يمينه) لأنه مُنكِرٌ، والأصل العدم (وكذا ان أنكر) الولد (موتَ أبيه) فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمُهُ (ويكفيه أن يحلِفَ على نفي العلم) أي: أنه لا يعلم للأب تَرِكة، أو لا يعلم موته (ويكفيه) أي: الولد (أن يحلف أنه ما وصل إليه من تَرِكته شيء، ولا يلزمه أن يَحْلِف أن أباه لم يُخَلِّفْ شيئًا؛ لأنه قد يُخَلِّف تَرِكة لا تصل إليه، فلا يلزمه الإيفاء منه) أي: من مال نفسه (ولا يلزمه أكثر مما وصل إليه) إن وصل إليه ما يفي ببعض الدين.

(وإن كان المُدَّعى) به (عينًا غائبة، أو تالفة) وهي (من ذوات

(1)

في "ذ": "إلى أن".

ص: 141

الأمثال، أو) كان المُدَّعَى عَينًا (في الذِّمة) كمبيع في الذِّمة، ومُسْلَمٍ فيه، ونفقة، وكسوة، ونحوها (ذكر من صفتها ما يكفي في السَّلَم) من الأوصاف التي تنضبط بها غالبًا؛ لأن ذلك هو تحرير الدعوى بها (والأولى مع ذلك ذكر قيمتها) لأنها أضبط.

(وإن لم تنضبط) العين المُدَّعَى بها (بالصفات، كجوهرة ونحوها) مما لا يصحُّ السَّلَم فيه من كُتُبِ عِلم، وما يجمع أخلاطًا غير متميزة، ونحوها (تعيَّن ذِكْر قيمتها) لأنها لا تُعلم إلا بذلك (لكن يكفي ذِكْر قَدْر نَقْدِ البلد) ويكون مُغنيًا عن وصفه، إذا لم يكن بالبلد إلا نَقْد واحد؛ لتعينه، كما تقدم

(1)

في البيع وغيره، فينصرف الإطلاق إليه.

(وإن ادَّعى نكاحًا، فلا بُدَّ من ذِكْر المرأة بعينها، إن كانت حاضرة) في المجلس؛ لأن اللبس ينتفي بذلك (وإلا ذَكَر اسمها ونَسَبهَا) لأنها لا تتميز إلا بذلك (واشتُرط ذِكْرُ شروطه) في الحضور والغيبة؛ لأن الناس اختلفوا في شروطه، فلم يكن بُدٌّ من ذِكْرها؛ حتى يعلم الحال على ما هي عليه، ليعرف كيف يحكم (فيقول) المُدَّعِي للنكاح:(تزوَّجتُها بولي مُرْشِدٍ، وشاهِدَي عدل، ورِضاها إن كانت ممن يُعتبر رضاها) لأن الفروج يُحتاط لها (ولا يحتاج أن يقول: وليست مرتدَّة ولا معتدَّة) لأن الظاهر أنها ليست كذلك (وإن كانت) الزوجة (أَمَة، وهو حُرٌّ، ذكرَ عدمَ الطَّول، وخوف العَنَتِ) مع الولي وشاهدي العدل؛ لأنهما من جُملة الشروط (وإن ادَّعَى استدامة الزوجية، ولم يدَّعِ العقد، لم يحتج إلى ذِكْرِ شروطه) لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها اجتماع الشروط.

(1)

(7/ 359، 486، 8/ 436، 9/ 165).

ص: 142

(وإن ادعى زوجيّة امرأة، فأقرَّت) له بها (سُمِع

(1)

إقرارُها في الحضر والسفر، والغربة والوطن) لأنها أقرَّت بحق عليها، فَقُبِل، كسائر الحقوق. وفي "المغني":(إن كان المُدَّعِي واحدًا. وان كانا اثنين لم يُسمع) إقرارها لهما، ولا لأحدهما. ويأتي ما فيه.

(و‌

‌إن ادعى عقدًا سوى النكاح، اعتُبِر ذِكْرُ شروطه

أيضًا) كالنكاح؛ للاختلاف فيها، وقدّم في "الكافي" أنه: لا يُشترط. وذكر في "الشرح" أنه: أولى وأصح.

(وإن كان المُدَّعَى) به (عينًا أو دَيْنًا، لم يحتج إلى ذِكْرِ السبب) لكثرة سببه (ويكفيه أن يقول: أستَحِقُّ هذه العين التي في يده، أو أستحق كذا وكذا في ذمته.

وإذا قال) المُدَّعِي: (اشتريتُ هذه الجارية، أو بعتُها منه بألف، لم يحتج أن يقول: وهي ملكه) فيما إذا قال: اشتريتُ. أو (وهي

(2)

ملكي) فيما إذا قال: بِعته. ولا أن يقول: (ونحن جائزَا الأمر، و

(3)

تفرقنا عن تراضٍ) اكتفاء بالظاهر. قال في "المبدع": وعلى الأول - أي: أنه يُعتبر ذِكْر شروط العقد لو ادعى بيعًا لازمًا أو هبة مقبوضة - كَفَى في الأشهر، وفي اعتبار وصف البيع بأنه

(4)

صحيح وجهان. قال: فلو ادَّعى بيعًا أو هبة، لم تُسمع إلا أن يقول: ويلزمك التسليم إليَّ؛ لاحتمال كونه قبل التسليم.

(1)

في "ذ": "صح".

(2)

في "ح" و"ذ": "أو هي".

(3)

في "ذ": "أو".

(4)

في "ذ": "أنه "

ص: 143

(وما لزم ذِكْرُه في الدعوى، فلم يذكره المُدَّعِي، سأله الحاكمُ عنه) لتصير الدعوى معلومة، فيمكن الحاكم الحكم بها.

(وإن ادعت امرأةٌ على رجلٍ نكاحًا لطلب نفقة، أو مهر، أو نحوه، سُمعت دعواها) لأن حاصلها دعوى الحق من نفقة، أو مهر، أو نحوهما.

(فإن أنكر) المُدَّعَى عليه (فقولُه بغير يمين) إذا لم تكن بينة؛ لأنه إذا لم تُستحلف

(1)

المرأة والحقُّ عليها، فلأن لا يُستحلف مَن الحق له - وهو يُنكِره - أولى.

قلت: هذا بالنسبة إلى النكاح واضح، أما بالنسبة إلى النفقة والمهر ونحوهما فلا؛ ولذلك لم يُذكَر في "الشرح" و"المبدع" إلا فيما إذا ادعت نكاحًا فقط، على أحد القولين.

(وإن أقامت بينةً أنها امرأته، ثبت لها ما تضمَّنه النكاح من حقوقها) كالمهر والنفقة وغيرهما، وأما إباحتها له، فتنبني على باطن الأمر.

(فإن عَلم أنها امرأته، حَلَّت له، ولا يكون جحوده طلاقًا ولو نواه؛ لأن الجحود هنا لعقد النكاح، لا لكونها امرأته) فليس كقوله: لا امرأة لي. وفي "المبدع": جحوده النكاح ليس بطلاقٍ، إلا أن ينويه.

(وإن كان يعلم أنها ليست امرأته، لعدم عقد، أو لبينونتها منه؛ لم تحلَّ له، ولا يُمَكَّن منها ظاهرًا، ولو حكم به حاكمٌ) لأن حكمه لا يُزيل الشيء عن صفته باطنًا (وحيث ساغ لها دعوى النكاح، فكزوجٍ في ذِكْرِ شروطه) لما تقدم

(2)

.

(1)

في "ح" و"ذ": "لم يستحلف".

(2)

(15/ 142).

ص: 144

(وإن ادعت) المرأة (النكاحَ فقط) ولم تدَّعِ معه مهرًا، ولا نفقة، ولا غيرهما (لم تُسمع) لأنه حقٌّ عليها، فدعواها له إقرار لا يُسمع مع إنكار المُقَر له.

(وإن ادعى قَتْلَ موروثه، ذَكَر) المُدَّعِي (القاتلَ، وأنه انفرد به، أو شاركَ غيرَه) فيه (وأنه قتله عمدًا، أو خطأ، أو شِبْه عمدٍ، ويذكر صفةَ العمدِ) لأن الحال يختلف باختلاف ذلك، فلم يكن بُدٌّ من ذِكره، لترتُّب حكم الحاكم عليه (وإن لم يذكُرِ الحياة) أي: لا يعتبر أن يقول: وكان حيًّا، اكتفاء بالظاهر، وعبارة "المنتهى": ولو قال: قَدَّهُ نصفين وكان حيًّا، أو ضربه وهو حي، صَحَّ. ظاهرها: يعتبر ذكر الحياة.

(و‌

‌إن ادعى الإرثَ ذَكرَ سَبَبَه)

لاختلافه. قال في "الرعاية": وقدرَه، ولا يكفي قوله: مات فلان وأنا وارثه.

(و‌

‌إن ادَّعى شيئًا محلًّى بذهب أو فضة، قوَّمه بغير جنس حليته)

لئلا يؤدي إلى الربا (فإن كان محلًّى بهما) أي: بذهبٍ وفضة (قوَّمه) المُدَّعي (بما شاء منهما؛ للحاجة) إذِ الثمنية

(1)

منحصرة فيهما.

‌فصل

(تُعتبر عدالةُ البينة ظاهرًا وباطنًا، ولو لم يطعن فيه خصمُه)

لأن العدالة شرط، فيجب العلمُ بها، كالإسلام؛ لقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(2)

وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ. . .} الآية

(3)

،

(1)

في "ذ": "القيمة".

(2)

سورة الطلاق، الآية:2.

(3)

سورة الحجرات، الآية: 6

ص: 145

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقبل شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمر

(1)

على أخيه، ولا محدود في الإسلام"

(2)

(فلا بُدَّ من العِلم بها) أي: العدالة (ولو قيل: إن الأصل في المسلمين العدالة. قال الزركشي: لأن الغالب الخروجُ عنها. وقال الشيخ

(3)

: من قال: إن الأصل في الإنسان العدالة، فقد أخطأ،

(1)

"الغمر: الحقد، والضغن". ش.

(2)

أخرج ابن ماجه في الأحكام، باب 30، حديث 2366، وأحمد (2/ 208) من طريق حجاج بن أرطاة، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155) من طريق آدم بن فائد، والمثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام، ولا ذي غمر على أخيه.

قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 37): هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج بن أرطاة. وقال البيهقي: آدم بن فائد، والمثنى بن الصباح لا يحتج بهما، وروي من أوجه ضعيفة عن عمرو، ومن روى من الثقات هذا الحديث عن عمرو لم يذكر فيه المجلود. والله اعلم.

وأخرجه أبو داود في الأقضية، باب 16، حديث 3600 - 3601، وعبد الرزاق (8/ 320) حديث 15364، وأحمد (2/ 181، 204، 225 - 226)، والدارقطني (4/ 243)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 316) حديث 20107، والبغوي في شرح السنة (10/ 123) حديث 2511، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 390) حديث 2050، من طريق سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب. عن أبيه، عن جده، مرفوعًا، دون ذكر "ولا محدود في الإسلام" وزادوا:"ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت، وتجوز شهادته لغيرهم" قال: والقانع: التابع الذي ينفق عليه أهل البيت.

وفي رواية لأبي داود: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه".

قال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/ 420): إسناده جيد.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 198): سنده قوي.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (15/ 357).

ص: 146

وإنما الأصل فيه الجهلُ والظلمُ؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}

(1)

انتهى. فالفِسْق والعدالة كلٌّ منهما يطرأُ) على الآخر، وقول عمر:"المسلمون عدول"

(2)

معارَض بما رُوي عنه أنه أُتِي بشاهدين، فقال لهما:"لستُ أعرفكما، ولا يضرُّكما أني لا أعرفكما"

(3)

.

(1)

سورة الأحزاب، الآية:72.

(2)

جزء من كتاب عمر رضي الله عنه الطويل الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أخرجه وكيع في أخبار القضاة (1/ 70)، والدارقطني (4/ 207)، والبيهقي (6/ 65، 10/ 106، 119، 135، 182، 197، 253)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 240) رقم 19792، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 492) رقم 535، والهروي في ذم الكلام (4/ 5) رقم 716. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (6/ 71): رسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا على ما فيها عن الفقه، وأصول الفقه.

وقال ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 546 - 547): هذا أثر مشهور، وهو من هذا الوجه غريب، ويسمى وجادة، والصحيح أنه يحتج بها إذا تحقق الخط؛ لأن أكثر كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأقطار كذلك. وقد بسطت القول بصحتها في أول شرح البخاري، ولله الحمد.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 196) - بعد ذكره من طريق الدارقطني والبيهقي -: "ساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة".

(3)

أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 454 - 455)، وأبو طاهر المخلص في جزء فيه سبعة مجالس من أماليه ص/ 81، رقم 31، وأبو الحسين الأبنوسي في مشيخته (1/ 149) رقم 72، والبيهقي (10/ 125 - 126)، والخطيب في الكفاية ص/ 143، من طريق الفضل بن زياد، عن شيبان، عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: لست أعرفك

فذكره. =

ص: 147

والأعرابي الَّذي قَبِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم شهادتَه برؤية الهلال لرمضان

(1)

صار صحابيًّا، وهم عدولٌ. وعنه: تُقبل شهادة كلِّ مسلم لم تظهر منه رِيبةٌ

(2)

. اختارها الخرقي وأبو بكر، وصاحب "الروضة". فإن جهل إسلامه، رجع إلى قوله. والعمل على الأول.

(و‌

‌لا تُشترط) العدالة (باطنًا في عقد نِكاحٍ)

فلا يبطل لو بانا فاسقين؛ لما يترتب على ذلك من تحريم الوطء المترتِّب عليه، وللمشقَّة (وتقدم) في شروط النكاح

(3)

.

(وإذا علم الحاكمُ عدالتهما) أي: الشاهدين (حكم بشهادتهما) عملًا بعلمه في عدالتهما؛ لأنه لو لم يكتفِ بذلك لتسلسل؛ لأن المزكِّي يحتاج إلى تعديله، فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كلُّ واحدٍ من المزكِّين إلى من يُزكِّيه، ثم كلُّ واحدٍ ممن يزكِّيهما إلى مزكّين، إلى ما لا نهاية له.

(وإن علم فِسقَهما، لم يحكم) بشهادتهما؛ لعدم شرط الحكم (فله) أي: الحاكم (العملُ بعلمه في عدالتهم وجَرْحهم) كما تقدم.

(وليس له) أي: الحاكم (أن يُرتِّب شهودًا لا يقبل غيرهم) لأن من

= قال العقيلي: "الفضل بن زياد عن شيبان، لا يعرف إلا بهذا، وفيه نظر".

وقال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 610): أما ابن السكن فإنه ذكره في سننه الصحاح المأثورة، فأغرب.

وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل (8/ 260): الفضل بن زياد أبو العباس الطستي روى عنه غير واحد من الثقات، ووثقه الخطيب وأبو زرعة، فتصحيح ابن السكن لهذا الأثر في محله.

(1)

تقدم (5/ 209) تعليق رقم (1).

(2)

مسائل الكوسج (8/ 4103) رقم 2923، ومسائل ابن هانئ (2/ 37) رقم 1331، وكتاب الروايتين والوجهين (3/ 79).

(3)

(11/ 305).

ص: 148

ثبتت عدالته، وجب قَبولُ شهادته (وتقدم

(1)

في الباب قبله.

وإذا عَرف) الحاكم (عدالةَ الشُّهود، استُحب قوله) أي: الحاكم (للمشهود عليه: قد شَهِدا عليك، فإن كان عندك ما يقدح في شهادتِهما، فبَيِّنه عندي) لدفع الرِّيبة (فإن لم يقدحِ) المُدَّعَى عليه (في شهادتِهما، حكَم عليه إذا اتضح له الحكم واستنارت الحجة) وسأله المُدَّعِي ذلك، فورًا، كما تقدم

(2)

(وإن كان فيها) أي: الحُجَّة (لَبْسٌ، أمرهما بالصلح، فإن أبيا) الصلح (أخَّرهما إلى البيان) والاتضاح؛ لتعذُّر الحكم إذًا (فإن عجَّلهما) وحكم (قبل البيان، لم يصح حكمه) ولم ينفذ؛ لفقد شرطه.

(وإذا حدثت حادثةٌ، نظر) الحاكم (في كتاب الله) تعالى (فإن وَجَدَها، وإلا) نظر (في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد) ها (نظر في القياس، فألحقها بأشبه الأصول بها) لأنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا قاضيًا، وقال:"بمَ تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى، قال:" فإن لم تجد؟ " قال: فَبِسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهدُ رأيي

(3)

. قال: "الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يُرضي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم" رواه سعيد وأحمد

(4)

.

(وإن ارتاب) الحاكم (في الشهود، لزم سؤالُهم، والبحثُ عن صفة تحمُّلِهم وغيره، فَيُفرِّقهم، ويسألُ كلَّ واحدٍ: كيف تحمَّلت الشهادة؟ ومتى) أي: في أيِّ وقت تحمَّلت (وفي أي موضع) تحمَّلت (وهل كنتَ

(1)

(15/ 88).

(2)

(15/ 117، 120).

(3)

"أي برأيي، وهو منصوب بنزع الخافض، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم". ش.

(4)

تقدم تخريجه (15/ 101) تعليق رقم (1).

ص: 149

وحدَك، أو أتت وغيرك، ونحوه) لما رُوي عن عليٍّ أن سبعة خرجوا ففُقِدَ منهم واحدٌ، فأتت زوجته عليًّا، فدعا الستة، فسأل واحدًا منهم، فأنكر، فقال: الله أكبر، فظن الباقون أنه قد اعترف، فاستدعاهم، فاعترفوا، فقال للأول: قد شهدوا عليك، فاعترف، فقتلهم

(1)

.

(فإن اختلفوا، لم يقبلها) أي: الشهادة؛ لأنه ظَهَر له ما يمنع قَبولها. وفي "الشرح": سقطت شهادتهم.

(وإن اتفقوا وَعَظهم وخوَّفهم) لأن ذلك سببٌ لتوقفِهم إنْ كانوا شهود زُور.

(فإن ثبتوا) على شهادتهم (حكم بهم إذا سأله المُدَّعِي) لأن الشرط ثبات الشاهدين على شهادتهما إلى حين الحكم، وطلب المُدَّعِي الحكم، وقد وُجِد ذلك كلّه. ويُستحب أن يقول للمُنكِر: قد قبلتهما، فإن جرحتَهما وإلا حكمت عليك؛ ذكره السامَرّيّ.

وروى أبو حنيفة قال: "كنتُ عند مُحارِب بن دِثار - وهو قاضي الكوفة - فجاءَ رجل فادَّعى على رجل حقًّا، فأنكره، فأحْضر المدَّعي شاهدَين شَهِدا له، فقال المشهودُ عليه: والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا عليَّ الشهادة، وكان مُحارِبُ بن دِثار متّكئًا، فاسْتوى جالسًا، وقال: سمعتُ ابنَ عمر يقول: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الطَّير لتخفق بأجنحتها، وترمي ما في حواصلها من هولِ يوم القيامة، وإنَّ شاهد الزُّور لا تزول قدماهُ حتَّى يتبوَّأ مقعده من النار، فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما فغطِّيا رؤوسَكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما

(1)

لم نقف على من رواه مسندًا بهذا السياق. وأخرجه ابن أبي شيبة (9/ 348) متصلًا، والبيهقي (8/ 41) معلقًا، عن سعيد بن وهب، بنحوه.

ص: 150

وانصرفا"

(1)

.

(1)

لم نقف على من رواه عن أبي حنيفة بهذا السياق. وذكره الخوارزميُّ في جامع المسانيد (2/ 278 - 279)، بنحوه، وعزاه إلى ابن خسرو في مسنده، ومحمد بن عبد الباقي في مسنده.

وأخرج وكيع في أخبار القضاة، وأبو يعلى (10/ 39) حديث 5672، وابن حبان في المجروحين (2/ 281)، وابن عساكر في تاريخه (57/ 65)، عن محمد بن فرات، قال: اختصم إلى محارب بن دثار رجلان، فقال: فشهد على أحدهما رجل، فقال المشهود عليه: والله ما علمت إنه لرجل صدق، ولئن سألت عنه ليحمدن - أو ليزكين - ولقد شهد عليَّ بباطل؛ ما أدري ما اجترأه على ذلك، قال: فقال محارب بن دثار: يا هذا اتق الله، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار، وإن الطير يوم القيامة لتضرب بأجنحتها وترمي ما في أجوافها، ما لها طلبة. والنبي صلى الله عليه وسلم يعظ رجلًا.

وأخرجه وكيع في أخبار القضاة (3/ 34)، وابن عساكر في تاريخه (57/ 64) من طريق حسن اللؤلؤي، عن أبي حنيفة، عن محارب بن دثار، بنحوه. وحسن اللؤلؤي هو ابن زياد الفقيه، كذبه ابن معين، وأبو داود (المغني للذهبي 1/ 159).

وأخرجه - أيضًا - وكيع (3/ 34) وابن عساكر (57/ 64) من طريق هارون الجهم القرشي، عن عبد الملك بن عمير القبطي، عن محارب بن دثار، بنحوه. ونقل ابن عساكر عن ابن شاهين أنه حديث غريب، وقال الذهبي في المغني (2/ 704) في هارون بن الجهم، يخالف في حديثه.

وأخرجه ابن عدي (6/ 2149)، والبيهقي (10/ 122)، من طريق محمد بن الفرات التميمي، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، بنحوه، دون القصة. وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 32، حديث 2372، والعقيلي (4/ 123)، والجصاص في أحكام القرآن (7/ 460)، وابن عساكر في تاريخه (54/ 217، 7/ 66)، والحاكم (4/ 98)، والخطيب في تاريخه (2/ 403)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 275 - 276) حديث 1268 - 1269، من طريق محمد بن الفرات، بالإسناد المذكور، مقتصرًا على قوله صلى الله عليه وسلم:"لن تزول قدما شاهد الزور حتى يوجب الله له النار". وأخرجه - أيضًا - الخطيب في تاريخه (11/ 63) من طريق أبي حنيفة، وأبو نعيم في الحلية (7/ 264)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 276) حديث 1270 من طريق =

ص: 151

(وإن جرحهم الخصمُ، لم يقبل) الحاكم (منه) التجريح بمجرَّده (ويُكَلَّف البينةَ بالجرحِ) ليتحقَّق صدقه، أو كذبه.

(فإن سأل) المُجرِّح (الإنظارَ) ليقيم البينة (أُنظر ثلاثًا) لأن تكليفه إقامتها في أقل من ذلك يشقُّ ويعسر، فإن أقام المُدَّعَى عليه بينة أنهما شهدا بذلك عند قاض، ورُدَّت شهادتهما لفِسقِهما، بَطَلت شهادتهما؛ لأن الشهادة المردودة لفِسق لا تُقبل بعد (وكذا لو أراد) المُدَّعَى عليه (جَرحَهم) أي: الشهود، فَيُنْظر لذلك ثلاثًا (وللمُدَّعِي ملازمته) لأن حقّه قد توجَّه عليه، والمُدَّعَى عليه يدَّعي ما يُسقطه، والأصل عدمه.

(فإن لم يأتِ) المُدَّعَى عليه (ببينة) بالجرح (حكم عليه) لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه.

(ولا يُسمع الجرحُ إلا مفسَّرًا بما يقدح في العدالة، عن رؤية، فيقول) الشاهد بالجرح: (أشهدُ أني رأيتُه يشرب الخمرَ، أو: يظلمُ الناسَ بأخذ أموالهم، أو: ضربهم، أو: يعامل بالرِّبا، أو) عن سماع منه، بأن يقول:(سمعتُه يقذف، أو عن استفاضة) لأن الناس يختلفون في أسباب الجرح،

= محمد بن خليد عن خلف بن خليفة عن مسعر، كلاهما - أبو حنيفة ومسعر -، عن محارب بن دثار، به مختصرًا بلفظ:"شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/ 355 - 356): هذا حديث منكر، ومحمد بن الفرات ضعيف الحديث. وقال البيهقي: محمد بن الفرات الكوفي ضعيف. وقال ابن الجوزي: لا يثبت. أما الطريق الأول والثاني، فقال يحيى: محمد بن الفرات ليس بشيء. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: هو كذاب. وقال أبو داود: روى عن محارب بن دثار أحاديث موضوعة. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. وأما الطريق الثالث، ففيه محمد بن خليد، قال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويسند الموقوف، لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد.

ص: 152

كاختلافهم في شاربِ يسيرِ النبيذ، فوجب ألا يُقبل مجرَّدُ الجرح؛ لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جَرْحًا (فلا يكفي أن يشهدَ أنه فاسقٌ، أو ليس بعَدْلٍ، ولا قوله: بلغني عنه كذا) لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

(1)

(لكن يُعَرِّضُ جارحٌ بزنىً) لئلا يجب عليه الحَدُّ (فإن صرَّح) بالرمي بالزنى (حُدَّ) للقذف بشرطه (إن لم يأتِ بتمام أربعة شهود) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. . .} الآية

(2)

.

(و‌

‌لا يُقبلُ الجَرْحُ والتعديلُ من النساء)

لأنها شهادة فيما ليس بمال، ولا يُقصد به المال، ويطَّلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الشهادة في القِصاص.

(وإن عدَّله اثنان فأكثر، وجَرَحه واحد، قُدِّم التعديل) لتمام نصابه.

(وإن عدَّله اثنان، وجَرَحه اثنان، قُدِّم الجرح وجوبًا) لأن مع شاهديه زيادة علم يمكن خفاؤها على شاهدي التعديل.

(وإن قال الذين عدَّلوه: ما جرحاه به قد تاب منه، قُدِّم التعديل) لما مع بينته من زيادة العلم.

(فإن شَهِد عنده) أي: الحاكم (فاسقٌ يَعرفُ حاله، قال للمُدَّعِي: زِدني شهودًا) لأن ذلك يحصِّل المقصود مع الستر على الشاهد.

(وإن جهل) الحاكم (حالَه) أي: الشاهد (طلب من المُدَّعي تزكيته) لقول عمر للشاهدين: "جيئا بمن يعرفكما"

(3)

؛ ولأن العدالة شرط،

(1)

سورة الزخرف، الآية:86.

(2)

سورة النور، الآية:4.

(3)

تقدم تخريجه (15/ 147) تعليق رقم (3).

ص: 153

فالشكُّ في وجودها كعدمها، كشروط الصلاة.

(والتزكية حقٌّ للشرع، يطلبها الحاكمُ، وإن سكت عنها الخصمُ) لتوقفِ صحة حكمه عليها حيث جهل حال البينة.

(ويكفي فيها) أي: التزكية (عدلان يشهدان أنه عدلٌ رِضًا، أو عدلٌ مقبولُ الشهادة، أو عدلٌ فقط) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(1)

فإذا شهدا أنه عدلٌ ثبت ذلك بشهادتهما، فيدخل في عموم الآية، ولا يحتاج في التزكية إلى حضور الخصمين؛ ذكره في "المبدع" في كتاب القاضي إلى القاضي.

(ولا يحتاج أن يقول: عَليَّ وَلِيْ) لأنه إذا كان عدلًا لزم أن يكون عليه وله وعلى سائر الناس وفي كلِّ شيء، فلا يحتاج إلى ذِكْره.

(ويكفي فيها الظنُّ) فله تزكيته إذا غلب على ظنه عدالته (بخلاف الجَرْحِ) فلا يجرحه إلا بما رآه، أو سَمِعه منه، أو استفيض عنه، كما تقدم.

(وتجب فيها) أي: التزكية (المشافهة، حيثُ قلنا: هي شهادةٌ لا إخبارٌ. فلا يكفي فيها رُقعةُ المزكِّي؛ لأن الخطَّ لا يُعتمد في الشهادة.

ولا يلزم المزكيَ الحضورُ للتزكية) ذكره جماعة، وفيه وجه.

(ولا يكفي قولُهما) أي: المزكيين: (ولا نعلم إلا خيرًا) لأنه لا يلزم من عدم علم الشر

(2)

انتفاؤه.

(ويُشترط في قَبول المزكيين معرفةُ الحاكم خِبْرتَهما الباطنة، بصُحبة ومعاملة ونحوه) قال في "الشرح": يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه: أن الحاكم إذا علم أن المُعدِّل لا خِبْرة له، لم يقبل شهادته

(1)

سورة الطلاق، الآية:2.

(2)

في "ذ": "الشيء".

ص: 154

بالتعديل، كما فعل عمر

(1)

. ويحتمل أنهم أرادوا: لا يجوز للمُعدِّل الشهادة بالعدالة، إلا أن تكون

(2)

خبرة باطنة. فأما الحاكم إذا شَهِد عنده العدل بالتعديل، ولم يعرف حقيقة الحال، فله أن يقبل الشهادة من غير كَشْف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر، فَحَسنٌ.

(ولا تُقبل التزكيةُ إلا ممن له خبرةٌ باطنة، يعرف الجرح والتعديل، غير مُتَّهم بعصبية، أو غيرها) لأنها كالشهادة، يُعتبر لها ما يُعتبر فيها.

(وتعديل الخصم وحدَه تعديلٌ في حَقِّ الشاهد

(3)

) لأن البحث عن عدالته لحقِّ المشهودِ عليه، وقد اعترف بها؛ ولأنه إذا أقرَّ بعدالته فقد أقرَّ بما يوجب الحكم عليه لخصمه، فيؤخذ بإقراره (وكذا تصديقه) للشاهد، فهو تعديل له، كما لو أقرَّ بدون شهادة الشاهد.

(لكن لا يثبت تعديله) أي: الشاهد (في حقِّ غيرِ المشهودِ عليه) لأن عدالته لم تثبت، وإنما أخذ المشهود عليه بإقراره، كما سبق.

(ولو رضي) المشهود عليه (أن يحكم عليه بشهادة فاسق، لم يجز الحكمُ بها) لأن التزكية حقٌّ لله، كما تقدم.

(ولا تصح التزكيةُ في واقعة واحدة فقط) بأن يقول المُزكِّي: أشهدُ أنه عدل في شهادته في هذه القضية فقط؛ لأن الشرطَ العدالةُ المطلقةُ، ولم توجد.

(1)

تقدم تخريجه (15/ 147) تعليق رقم (3).

(2)

في "ذ": "تكون له".

(3)

علق في حاشية "ح" ما نصه: "قوله: "في حق الشاهد" هذه عبارة "التنقيح" وفيها ما فيها، لكن قال على هامش "التنقيح": الأولى أن يقال: وتعديل الخصم وحده تعديل في حقه للشاهد، فلعل الهاء سقطت من الكاتب، وفصل اللام الأولى ألفًا أو غفل المؤلف". اهـ.

ص: 155

(وإن سأل المُدَّعِي حبسَ المشهودِ عليه حتى تُزكَّى شهودُه، أجابه) الحاكم (وحبسه ثلاثًا) لأن الظاهر العدالة، ويُحبس حتى يفعل ذلك (ومثله لو سأله كفيلًا به) أي: بالمُدَّعَى عليه بعد إقامة

(1)

البينة حتى تزكّي (أو) سأل (جَعَلَ عينٍ مدّعاة في يد عَدْل قبل التزكية) فَيُجاب إلى ثلاثة أيام؛ لما سبق.

(وإن أقام شاهدًا، وسأل حَبْسَه حتى يُقيمَ الآخرَ، لم يُجبه إن كان في غير المال) لأنه لا يكون حُجّة في إثباته، أشبه ما لو لم تقم بينة (وإلا) بأن كان المُدَّعى به مالًا (أجابه) لأن الشاهد حُجّة فيه مع يمين المُدَّعي، واليمين إنما تتعيّن عند تعذُّر شاهد آخر، ولم يحصُل التعذُّر.

(فإن ادَّعى رقيقٌ أن سيده أعتقه، وأقام شاهدين لم يُعَدَّلا، فسأل) المُدَّعِي (الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود؛ فعل) أي: أحال

(2)

بينه وبين سيده؛ لأن الظاهر عدالة البينة (ويؤجره) الحاكم (من ثقة يُنفق عليه من كَسْبه) إلى مضي الثلاثة أيام (فإن عُدِّل الشاهدان) حكم بعتقه، لتمام الشرائط (وإلا) أي: وإن لم يُعَدَّلا (ردَّ) هـ (إلى سيده) لأن شهادة الفاسق كعدمها.

(وإن أقام) المدعي للعتق (شاهدًا واحدًا، وسأله أن يحول بينهما، فكذلك) لأن العتق كالمال يثبت بالشاهد واليمين، فأشبه ما لو ادَّعى مالًا.

(وإن أقامت المرأةُ شاهدين يشهدان بطلاقها البائن، ولم يعرف) الحاكم (عدالةَ الشهود، حيل بينه وبينها) احتياطًا، مع أن الظاهر العدالة

(1)

في "ذ": "إقامته".

(2)

في "ذ": "أي حال".

ص: 156

(وإن أقامت شاهدًا واحدًا، لم يَحُلْ) بينه وبينها؛ لأن الواحد لا يثبت به طلاق، فأشبه عدمه.

(وإن حاكَمَ إليه مَن لا يعرف) الحاكم (لسانَه، تَرْجَم إليه مَن يَعرفُ لسانه) لأنه لا يعرف ما يترتَّب عليه الحكم إلا بذلك. والترجمة بفتح التاء والجيم: تأدية الكلام بلغة أخرى، واسم الفاعل تَرْجُمان بفتح التاء وضم الجيم، وهي أجود لغاته، وبضمهما وفتحهما معًا، والتاء والميم أصليتان، فوزن ترجم: فعلل؛ ذكره في "حاشيته"(ولا يُقبل في ترجمة، وجرح، وتعديل، ورسالة) أي: بعث من يتعرف أحوال الشهود، أو رسالة القاضي في تحليف مريض، أو مخَدَّرة، أو نحوه (وتعريف عند حاكم - ويأتي التعريف عند الشاهد في كتاب الشهادات - إلا قول رجلين عدلين في غير مال وزنىً) كنكاح، وحدِّ قذف، ونحوه (وفي المال يُقبل في الترجمة رجلان، أو رجل وامرأتان، وفي الزنى أربعة) رجال؛ لأن ذلك إثبات شيء يبني الحاكم حكمه عليه، فافتقر إلى ذلك، كالشهادة، والجرح، والتعديل، والرسالة. والتعريف عند الحاكم كالترجمة، كما في "المنتهى"، فيكفي فيها رجلان، أو رجل وامرأتان في المال، وفي الزنى أربعة (وذلك) المذكور من الترجمة، والجرح، والتعديل، وإبلاغ الرسالة بتعريف حال الشهود، والتعريف عند الحاكم (شهادةٌ يعتبر فيه

(1)

لفظُ الشهادة) فلا يكفي الإخبار به.

(و) يُعتبر - أيضًا - فيه (ما يُعتبر فيها) أي: في الشهادة من العدالة، وانتفاء الموانع (وتجب المشافهةُ) فلا يكتفى بالرقعة مع الرسول، كالشهادة.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 448): "فيها".

ص: 157

(و‌

‌تُعتبر شروط الشهادة في من رَتَّبه الحاكمُ يسأله سرًّا عن الشهود،

لتزكية أو جرح) وذلك أن القاضي يتخذ أصحاب مسائل، كما سبق، فإذا شهد عنده من جهل عدالته، كتب اسمَه، ونسبه، وكنيته، وحليته، وصنعته، وسوقه، ومسكنه، ومن شَهِدَ له وعليه، وما شَهِدَ به في رِقاع، ودفعها إلى أصحاب المسائل، ويجتهد ألا يُعَرِّفهم المشهود له، ولا المشهود عليه، ولا الشهود، ويدفع إلى كل واحد رُقعة، ولا يُعْلِم بعضهم ببعض؛ ليسألوا عنه، فإن رجعوا بتعديله قَبِله من اثنين منهم؛ قدَّمه في "الشرح"، ورجَّحه في "الرعاية"، ويشهدان بلفظ الشهادة؛ ذكر معناه في "المبدع".

(ومن سأله الحاكم عن تزكية مَن شَهِدَ له، أخبره بحاله) وجوبًا.

(وإلا) أي: وإن لم يسأله عن تزكية من شَهِدَ له (لم يجب) عليه إخباره بحاله؛ لأنه لم يتعيَّن عليه.

(ومن نُصِبَ للحكم جرح وتعديل، و) نصب لـ (ـسماع بيّنة، قَنِعَ الحاكم بقوله وحده إذا قامت البينة عنده) لأنه حاكم، فاكتفى بخبره، كغيره من الحكام.

قلت: هذا إذا حكم بالبينة التي سَمِعها ظاهرًا، وإلا فقد تقدَّم

(1)

: لا يعمل بخبره، وهما بعَمَلهما

(2)

بالثبوت؛ لأنه كنقل الشهادة.

(ومن ثبتت عدالتُه مرةً، وجب تجديد البحث عنها مرة أخرى مع طول المدة) لأن الأحوال تتغير إذًا (وإلا) أي: وإن لم تطل المدة (فلا) يجب تجديد البحث عنها؛ لأن الظاهر والأصل بقاء ما كان على ما كان، فلا يزول حتى يثبت الجرح.

(1)

(15/ 109).

(2)

في "ذ": "بعِلْمهما".

ص: 158

فصل

(وإن ادَّعى على غائب مسافة قصر، ولو في غير عَمَله، أو) ادَّعى على (ممتنعٍ) من الحضور لمجلسِ الحكم، أي (مستتر، إما في البلد، أو في دون مسافة قصر، أو) ادعى على (ميت، أو صغير، أو مجنون، بلا بينة؛ لم تُسمع دعواه) لأنه لا فائدة فيها (ولم يحكم له) بما ادَّعاه؛ لحديث: "لو يعطى الناس بدعواهم"

(1)

(وإن كان له بينة، سَمِعَها الحاكم، وحكم بها في حقوق الآدميين) لحديث هند امرأة أبي سفيان، قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيحٌ، وليس يُعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال:"خُذِي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف" متفق عليه

(2)

. فقضى لها، ولم يكن أبو سفيان حاضرًا؛ ولأن المُدَّعي هنا له بيّنة حاضرة، فجاز الحكم بها، كما لو كان الخصم حاضرًا.

وأما تقييد الغيبة بمسافة القصر؛ فلأن ما دونها في حكم الإقامة. وأما المستتر؛ فلأنه متعذِّر الحضور، أشبه الغائب، بل أَولى؛ لأن الغائب قد يكون معذورًا، بخلاف المستتر، والميت كالغائب، بل أولى؛ لأن الغائب قد يحضر، بخلاف الميت.

والصغيرُ والمجنونُ كالغائب؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما لا يُعَبِّر عن نفسه.

"تنبيه": قوله: "ولو في غير عمله" مقتضاه: أنه إذا كان بعمله تُسمَع عليه بطريق أولى، وهو كالصريح في كلام

(1)

تقدم تخريجه (11/ 385) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم تخريجه (10/ 165) تعليق رقم (2).

ص: 159

"الاختيارات"

(1)

، وظاهر إطلاق غيره. وقيد في "المنتهى" بما إذا كان في غير عمله، وقال في "شرحه": لأنه إذا كان بعمله أحضره؛ ليكون الحكم عليه مع حضوره.

و (لا) يقضي على الغائب (في حَقِّ الله تعالى - كالزنى والسرقة) لأن مبنى حقّ الله تعالى على المُسامحة (لكن يقضي في السرقة بالمال فقط) لأنه حق آدمي.

(و‌

‌ليس تقدمُ الإنكار في الدعوى على غائب ونحوه شرطًا)

إذِ الغَيبة ونحوها، كالسكوت، والبينة، تُسمع على ساكت، لكن لو قال: هو معترف، وأنا أُقيم البينة استظهارًا؛ لم تُسمع. وقاله الأدمى؛ ذكره في "المبدع" عن "الترغيب".

(ولا يلزم المُدَّعي أن يحلِف) مع بينته التامة (أن حقَّه باقٍ) لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المُدَّعِي، واليمينُ على من أنكر"

(2)

، وكما لو كانت على حاضر، بخلاف ما إذا أقام شاهدًا، فإنه يحلف معه (والاحتياط تحليفه، خصوصًا في هذه الأزمنة) لأنه يحتمل أن يكون قضاه أو غير ذلك، وكما لو كان حاضرًا فادعى بعض ذلك.

(ولا يلزم القاضيَ نَصْبُ مَن يُنكِر، أو يجيب بغيره عن الغائب) لأن تقدم الإنكار ليس شرطًا، كما سبق (ثم إذا قدم الغائب، وبلغ الصغير ورشد، وأفاق المجنون، وظهر المستتر، فهم على حُججهم) لأن المانع إذا زال صاروا كالحاضرين المكلفين.

وإن قَدِم الغائبُ قبل الحكم، وُقِفَ الحكمُ على حضوره، ولم

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 496.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 160

تجب إعادة البينة، لكن يُخبره بالحال، ويمكّنه من الجرح (لكن لو جرح البينة بأمر بعد أداء الشهادة، أو) جرحها (مطلقًا) بأن لم يعزه لما قبل الشهادة، ولا لما بعدها (لم يُقبل) تجريحه لها (لجواز كونه بعد الحكم، فلا يقدح فيه) أي: في الحكم (وإن جرحها بأمرٍ) مُفَسِّق (كان قبْلَ) أداء (الشهادة، قُبِلَ) بالبينة (وبَطَل الحكمُ) لفقد شرطه، وهو عدالة البينة.

(ولا يمين مع بينة كاملة) في دعوى على غائب، أو غيره (كمُقَرٍّ له) في أنه لا يمين عليه (لكن تقدم في باب الحجر

(1)

: إذا شَهِدت بينة بنفاد ماله أنه) أي: المُدَّعي (يحلف معها) لأنه يحلف على غير ما شهدت به البينة، فلا تكذيب لها، إذْ لا يلزم من هلاك ما شهدت بهلاكه أنه لا مال له غيره، وقريب منه ما ذكروه في المُرتهِن، والوديع، ونحوهما إذا ادَّعوا التلفَ بسببٍ ظاهر، وأقاموا البينة بوجود الظاهر، يحلفون على التلف.

(قال في "المحرر": وتختصُّ اليمين بالمُدَّعى عليه دون المُدَّعِي) لحديث: "البينة على المُدَّعِي، واليمين على مَن أنكر"

(2)

(إلا في القسامة) فيبدأ بأيمان المُدَّعين؛ لخبرها الخاصّ، وتقدَّم في بابها

(3)

(و) إلا في (دعاوى الأمناء المقبولة) كدعوى التلف وعدم التفريط ونحوه؛ وتقدم

(4)

(وبحيث يحكم باليمين مع الشاهد) بأن كان المُدَّعَى به مالًا، أو يقصد به المال؛ لما تقدم.

(وقال حفيده) أي: ابن ابنه، وهو أبو العباس

(5)

تقي الدين بن

(1)

(8/ 335).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(3)

(13/ 476).

(4)

(8/ 454).

(5)

انظر: مجموع الفتاوى (35/ 390 - 391).

ص: 161

تيمية: (دَعاوَى الأمناء المقبولة غير مُستثناة) من قولنا: تختص اليمين بالمُدَّعَى عليه (فيحلفون؛ وذلك) أي: توضيح عدم استثنائهم (لأنهم أُمناء لا ضمان عليهم، إلا بتفريط، أو عدوان، فإذا ادُّعي عليهم ذلك، فأنكروا، فهم مدَّعىً عليهم، واليمين محلى المُدَّعَى عليهم) فلا حاجة إلى استثنائهم. لكن جده نظر إلى الصورة.

(وإن كان) المُدَّعَى عليه (غائبًا عن المجلس، أو) غائبًا (عن البلد دون مسافة القَصْر، غير ممتنعٍ) من الحضور لمجلس الحكم (لم تُسمع الدعوى) عليه (ولا البينة، حتى يحضر) لأن حضوره ممكن، فلم يَجُز الحكم عليه مع حضوره (كحاضر في المجلس) بخلاف الغائبِ البعيد، والممتنع.

(فإن أبى) الخصمُ (الحضورَ، لم يُهجم عليه في بيته) أي: يَحْرُم. وفي "التبصرة": إن صحَّ عند الحاكم أنه في منزله، أمر بالهجوم عليه، وأخرجه. ونصُّه: يحكمُ بعد ثلاثة أيام، جزم به في "الترغيب" وغيره (وسُمعت البينة) على الممتنع ببيته كغيره (وحكم بها) لتعذُّر حضوره، كالغائب البعيد.

(ثم إن وجد) الحاكمُ (له) أي: الغائب، أو الممتنع (مالًا، وفَّاه منه، وإلا قال للمُدَّعِي: إن وجدت له مالًا، وثبت عندي) أنه ماله (وفَّيتُكَ منه) لولايته على الغائب والممتنع.

(وإن كان المقضيُّ به على الغائب) أو الممتنع (عينًا، سُلِّمت إلى المُدَّعِي) كما لو كان حاضرًا.

(والحكم للغائب ممتنع) قال في "الترغيب": لامتناع سماع البينة له، والكتابة له إلى قاضٍ آخر؛ ليحكم له بكتابه، بخلاف الحكم عليه.

ص: 162

(ويصحُّ) الحكم للغائب (تبعًا، كدعواه) أي: الحاضر (أنَّ أباه مات عنه وعن أخ له غائب) مطلقًا (أو) أخ له (غير رشيد، وله) أي: الأب (عند فلان عين، أو دين، فثبت

(1)

بإقرار أو بينة، فهو للميت، ويأخذ المُدَّعِي نصيبه، و) يأخذ (الحاكمُ نصيبَ الآخر، فيحفظه له) حتى يحضُر، أو يَرْشُد؛ لأن حقَّه ثبت، وذلك يوجب تسليم نصيبه إليه.

(وتُعاد البينةٌ في غير الإرث) أي: إذا شهدت بينة بحقٍّ مشترك سببه غير إرث - كبيع وهِبة لحاضر - ادَّعى نصيبه منه، وحكم له القاضي، ثم حضر شريكه الغائب، فادعى نصيبه منه، تُعاد له البينة، ولا تبعية هنا.

(وكحكمه) أي: مثل الإرث في ثبوت حَقِّ الغائب تبعًا للحاضر حكم الحاكم (يوقف يدخل فيه من لم يُخلَق) من الموقوف عليهم (تبعًا لمستحقه الآن.

و) مثله (إثبات أحد الوكيلين الوكالة في غيبة الآخر، فتثبت له) أي: للغائب (تبعًا.

و) مثله (سؤال أحد الغرماء الحَجْرَ) على المفلس، فإنه (كـ) ــسؤال (الكل) الحَجْرَ عليه (وتقدم

(2)

).

قال الشيخ تقي الدين

(3)

: (فالقضية الواحدة المشتملة على عدد، أو أعيان، كولد الأبوين في المشرَّكة) وهي: زوج، وأم، وأخوان لأم فأكثر، وإخوة لأبوين (الحكم فيها لواحدٍ) من الإخوة لأبوين، بأنه يشارك الإخوة لأم؛ وفاقًا للمالكية

(4)

،

(1)

في "ذ": "ثبت".

(2)

(8/ 337).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 498.

(4)

انظر: الذخيرة (13/ 44)، ومنح الجليل (4/ 715).

ص: 163

والشافعية

(1)

(أو) الحكم (عليه) بأنه ساقط؛ لاستغراق الفروضِ التركةَ؛ وفاقًا لأبي حنيفة

(2)

، وأحمد

(3)

(يعمُّه) أي: المحكوم له، أو عليه (و) يعم (غيره) من الإخوة الأشقاء؛ لتساويهم في الحكم.

(وحكمه) أي: الحاكم (لطبقة) من أهل الوقف (حكمٌ لـ) ـلطبقة (الثانية، إن كان الشرط واحدًا، حتى من أبدى) من الطبقة الثانية (ما يجوز أن يمنع الأول من الحكم عليه، فللثاني الدفع به) لأن كلَّ بطنٍ يتلقَّاه عن واقفه، فهو أصل.

(ومن ادَّعى أن الحاكم حكم له بحقٍّ، فصدَّقه) الحاكم (قُبِل قول الحاكم وحدَه إن كان) الحاكم (عدلًا، كقوله) أي: الحاكم (ابتداء) من غير دعوى: (حكمتُ بكذا) فإنه يُقبل منه ذلك، وليس هذا حكمًا بعلمه، إنما هو إمضاء للحُكم السابق، وقال ابن حمدان: إن منعنا الحكمَ بعلمه فلا.

(وإذا ادَّعى أنه) أي: الحاكم (حكم له بحقٍّ، ولم يذكره الحاكم، فشَهِد عدلان أنه حكم له به، قَبِلَ شهادتهما، وأمضى القضاءَ، ما لم يتيقَّن صوابَ نفسِه) لأنهما إذا شَهِدا عنده بحكم غيره، قَبِل، فكذا إذا شهدا عنده بحكمه. والفرق بينه وبين الشاهد إذا نسي شهادته: أنّ ذِكر ما نسيه ليس إليه، والحاكم يُمضي ما حكم به إذا ثبت عنده، والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته.

(وكذلك إنْ شَهِدا أن فلانًا وفلانًا شَهِدا عندك بكذا) أي: فيقبل

(1)

انظر: تحفة المحتاج (6/ 406)، ونهاية المحتاج (6/ 21).

(2)

انظر: المبسوط (29/ 154)، وحاشية ابن عابدين (6/ 785).

(3)

مسائل عبد الله (3/ 1204) رقم 1661.

ص: 164

شهادتهما كما يقبل شهادتهما على الحق نفسِه. قلت: ظاهره ولو لم توجد باقي شروط الشهادة على الشهادة؛ لدُعاء الحاجة إلى ذلك. ويحتمل أنه غير مُراد.

(فإن لم يشهد به) أي: بحكمه (أحد، لكن وجده) الحاكم (في قِمَطْره في صحيفته تحت ختمه بخطه، وتيقَّنه، ولم يذكره؛ لم ينفذه) لأنه حكم حكم لم يعلمه، فلم يجز إنفاذه إلا ببينة، كحكم غيره؛ ولأنه يجوز أن يزوَّر عليه، وعلى خطِّه، وختمه، و (كخَطِّ أبيه) إذا وجده (بحكم أو شهادة، لم يحكم، ولم يشهد بها) قال في "المبدع": إجماعًا

(1)

.

(وكذا شاهد رأى خطّه في كتابٍ بشهادة ولم يذكرها) أي: الشهادة، فلا يشهد اعتمادًا على خطِّه؛ لما تقدَّم. وعنه

(2)

: يجوز إذا تيقَّنه. قال في "الشرح": لأن الظاهر أنها خطه.

(ومن تحقَّق الحاكمُ منه أنه لا يفرق بين أن يذكر الشهادة، أو يعتمد على معرفة الخط؛ يتجوَّز بذلك؛ لم يجز) للحاكم (قَبول شهادته) كالمُغَفَّل؛ لاحتمال أن يكون اعتمد على الخط (وإلا) أي: وإن لم يتحقَّق الحاكم ذلك منه (حرم أن يسأله عنه) أي: هل ذَكر الشهادة؟ أو اعتمد على معرفة الخط؛ لأنه قدح فيه بما الأصل خلافه.

(ولا يجب) على الشاهد إذا سأله الحاكم في هذه الحال (أن يخبره بالصفة) أي: بكونه ذكر الشهادة، أو اعتمد على خطه.

(ومن نسيَ شهادته، فشَهِدا) أي: شاهدان

(3)

(بها عنده؛ لم يشهد

(1)

نوادر الفقهاء ص/ 306، رقم 312، والإقناع في مسائل الإجماع (3/ 1523) رقم 2937.

(2)

انظر: المغني (14/ 141).

(3)

في "ذ": "أي الشاهدان".

ص: 165

بها) لما تقدم.

فصل

(ومَن له على إنسان حقٌّ لم

(1)

يُمكِنْهُ أخذُه) منه (بحاكم، وقَدَرَ له) أي: للمدين (على مال، لم يَجُزْ له) أي: حرم على ربِّ الحق (في الباطن أخذ قَدْر حقِّه) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدِّ الأمانةَ إِلَى من ائتمنك، ولا تَخُن مَن خَانك"

(2)

وقوله: "لا يَحِلُّ مالُ امرئ مسلم، إلا عن طيب نفس منه"

(3)

ولأن التعيين والمفاوضة

(4)

لا يجوزان

(5)

بغير رضا المالك.

(إلا إذا تعذَّر على ضيف أخذ) قَدْر (حقِّه) من واجب الضيافة (بحاكم) فله أخذه قهرًا، وتقدم بدليله في الأطعمة

(6)

(أو منعَ زوجٌ ومَن في معناه) من قريبٍ وسيِّد (ما وجب عليه) لزوجته، أو قريبه، أو مملوكه (من نفقة ونحوها) ككِسوة، ومَسْكن (فله ذلك، وتقدَّم

(7)

) ذلك في النفقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خُذِي ما يكْفيك وولدك بالمعروف"

(8)

؛ ولأن حقَّ الزوجيَّة واجب في كل وقت، والمحاكمة في كلِّ لحظةٍ تشق، بخلاف مَن له دَيْن. أشار إليه الإمام

(9)

.

(1)

في "ذ": "ولم".

(2)

تقدم تخريجه (7/ 205) تعليق رقم (1).

(3)

تقدم تخريجه (9/ 225) تعليق رقم (3).

(4)

في "ذ": "المعاوضة".

(5)

في "ذ": "لا يجوز".

(6)

(14/ 312 - 313).

(7)

(13/ 149).

(8)

تقدم تخريجه (10/ 165) تعليق رقم (2).

(9)

انظر: مسائل صالح (2/ 113 - 114)، ومسائل الكوسج (2/ 546)، والورع =

ص: 166

(لكن لو غَصَب مالَه جهرًا، أو كان عنده عَيْنُ مالِهِ، فله أخْذُ قَدْرِ المغصوب جهرًا) ذكره الشيخ تقي الدين

(1)

، وغيره.

(أو) أخذ (عَيْن ماله ولو قهرًا) زاد في "الترغيب": ما لم يُفْضِ إلى فتنة (وعنه

(2)

: يجوز) لربِّ الدَّين، إذا تعذَّر عليه أخذه من المدين بالحاكم، لجحدٍ

(3)

، أو غيره (إن لم يكن) المدين (معسرًا به، أو كان مؤجَّلًا) أي: ولم يكن مؤجلًا الأخذ (فيأخذ قَدْر حَقِّه من جنسه) إن وجد في مال المدين من جنسه (وإلا قوَّمه وأخذ بقَدْرِه في الباطن، متحرِّيًا للعدل) في ذلك؛ لحديث هند: "خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(4)

؛ ولقوله: "الرهن مركوبٌ ومحلوبٌ بقَدْرِ نفقته

(5)

"

(6)

= للمروزي ص/ 118، والمغني (14/ 340).

(1)

مختصر الفتاوى المصرية ص/ 609.

(2)

انظر: المغني (14/ 340).

(3)

في "ذ": "لجحده".

(4)

تقدم تخريجه (10/ 165) تعليق رقم (2).

(5)

في "ح" و"ذ": "ومحلوب بنفقته".

(6)

أخرجه ابن عدي (1/ 272، 7/ 2504، 2727)، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين (4/ 254) حديث 1011، والدارقطني (3/ 34)، والحاكم (2/ 58)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 54)، والبيهقي (6/ 38)، والخطيب في تاريخه (6/ 184)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 199) حديث 1520، من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا، دون قوله:"بقدر نفقته".

وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، لإجماع الثوري وشعبة على توقيفه عن الأعمش، وأنا على أصلي أصلته في قبول الزيادة من الثقة. ووافقه الذهبي.

وأخرجه الشافعي في الأم (3/ 164)، وعبد الرزاق (8/ 244) رقم 15066، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/ 304) رقم 282، وابن أبي حاتم في العلل (1/ 374) رقم 1113، والبيهقي (6/ 38)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 227) رقم =

ص: 167

والأول أَولى؛ لأن حديث هند قد تقدَّم الفرق بينه وبين هذا.

فإن كان مَن عليه الدَّين مُقِرًّا به، باذلًا له، أو كان مانعًا له لأمر يُبيح المنع، كالتأجيل والإعسار، أو قدر على استخلاصه بالحاكم، لم يجز الأخذ، بغير خلاف.

(وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما على الآخر دَيْن من غير جنسه، فجحد أحدهما) دَيْنَ الآخر (فليس للآخر أن يجحده) دينه، قال في "الترغيب": لأنه كبيع دَيْنٍ بدَيْنٍ، لا يجوز، ولو رضيا. فإن كان الدينان من جنس، تقاصّا بشرطه، وسبق.

(و‌

‌حكم الحاكم لا يُزيل الشيء عن صفته باطنًا)

لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: "فمن قضيتُ له بشيءٍ من مال أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقْطع له قطعةً من النار" متفق عليه

(1)

.

ولأنه حكم بشهادة زور، فلا يحِلُّ لَهُ ما كان مُحَرَّمًا عليه، كالمال

= 11724، من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، موقوفًا.

وأخرجه عبد الرزاق (8/ 244) رقم 15070، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 229) - أيضًا - من طريق ابن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، موقوفًا.

قال ابن أبي حاتم في العلل: رفعه مرة، ثم ترك بعدُ الرفعَ، فكان يقفه.

وقال ابن عدي (7/ 2727): الأصح هو الموقوف. وقال ابن حجر في الفتح (5/ 143): قد ذكر الدارقطني الاختلاف على الأعمش، وغيره، ورجح الموقوف، وبه جزم الترمذي، وهو مساوٍ لحديث الباب [يعني حديث أبي هريرة مرفوعًا: الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة؛ رواه البخاري في الرهن، باب 4، حديث 2512] من حيث المعنى.

(1)

تقدم تخريجه (15/ 121) تعليق رقم (4).

ص: 168

المطلق

(1)

.

(ولو) كان حكم الحاكم (في عقدٍ ونسخٍ وطلاقٍ، فمَن حكم له ببينة زور بزوجيّة امرأة، فإنها لا تَحِلُّ له) باطنًا (ويلزمها) حكمه (في الظاهر) لعدم ما يدفعه (و) يجب (عليها أن تمتنع منه ما أمكنها.

فإن أكرهها) ووطئها (فالإثم عليه دونها) لأنها مُكْرَهة.

(ثم إن وطئ مع العلم، فكزنىً، فيُحَدُّ) وما رُويَ عن عليٍّ أن: "رجلًا ادَّعى على امرأة نكاحًا، فَرُفعا إلى عليٍّ، فشَهِد شاهدان بذلك، فقضى بينهما بالزوجيّة، فقالت: والله ما تزوَّجني، اعْقد بيننا عقدًا حتى أحِلَّ له، فقال: شاهداك زوَّجاكِ"

(2)

فبتقدير صحته: لا حُجَّة فيه للمخالف؛ لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حُكمه، ولم يُجِبْها إلى التزويج؛ لأن فيه طعنًا على الشهود. لكن اللعان ينفسخ النكاح به، وإن كان أحدهما كاذبًا؛ لأن الشرع وضعه لستر الزانية وصيانة النسب، فتعقبه

(3)

الفسخ الذي لا يمكن الانفكاك إلا به، وليس كمسألتنا.

(ويصحُّ نِكاحها) أي: المرأة المحكوم بنكاحها لرجل ببينة زور (غيره) لخلوها من النكاح (وقال الموفق) والشارح: (لا يصح) تزويجها غيره (الإفضائه إلى وطئها من اثنين؛ أحدهما بحكم الظاهر، والآخر بحكم الباطن) وهذا فساد، وكالمزوَّجة بلا وليٍّ.

(وإن حكم) الحاكم (بطلاقها ثلاثًا بشهود زُور، فهي زوجته باطنًا)

(1)

في "ح" ونسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "الطلق".

(2)

ذكره ابن الجوزي في التحقيق (2/ 385)، وابن حجر في الفتح (12/ 341، 13/ 176). قال ابن حجر. تُعقب بأنه لم يثبت عن علي.

(3)

في "ذ": "فيعقبه".

ص: 169

نصًّا

(1)

(ويُكره له اجتماعه بها ظاهرًا، خوفًا من مكروه يناله) بسبب طَعْنه على الحاكم (ولا يصحُّ نِكاحها غيره ممن يعلم بالحال) لأنها باقية في عصمة الأول.

(ومن حكم لمجتهد، أو) حكم (عليه بما يخالف اجتهاده، عمل) المجتهد (باطنًا بالحكم) كما يعمل به ظاهرًا (لا باجتهاده) لرفع حكمه الخلاف في المحكوم به.

قال في "الاختيارات"

(2)

: التحقيق أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام، ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه، وهذا لا يجوز، لكن لو كان الطالب غيره، أو ابتدأ الإمام بحكم أو قسمة، فهنا يتوجَّه القول بالحِلّ.

(وإن باع حنبليٌّ متروكَ التسمية) عمدًا من ذبيحة، أو صيد (فحكم بصحته شافعيٌّ، نَفَذَ) حكمه عند أصحابنا إلا أبا الخطاب؛ قاله في "الفروع".

(وإن ردَّ حاكمٌ شهادةَ واحدٍ بـ) ــرؤية هلال (رمضان، لم يؤثّر) ردّه لشهادته (كـ) ــرده بيّنةَ (ملكٍ مُطْلَقٍ، وأولى؛ لأنه لا مدخل لحُكْمه في عبادة ووقتٍ، وإنما هو) أي: ردّه لشهادة الواحد بهلال رمضان (فتوى، فلا يقال: حَكَمَ بكَذبه، أو) حكم (أنه لم يَرَه) أي: الهلال، فيلزم من علم ذلك الصوم، ولو شهد عند غيره ممن يرى قبول الواحد، ثبتت رؤيته.

قال الغَزّيّ: وكذا طهارة شيء ونجاسته، لا يدخلها الحكم استقلالًا، لكن يدخلها تضمّنًا، كمن علَّق عتقًا أو طلاقًا على طهارة شيء

(1)

انظر: الفروع (6/ 491 - 492).

(2)

ص/ 497.

ص: 170

أو نجاسته، فإذا ثبت وقوع الطلاق لوجود الصفة، وحكم بصحة الطلاق، أو بموجِب ما صدر من المُعَلِّق، ووجود الصفة، كان متضمنًا للحكم بذلك.

(ولو رفع إليه) أي: الحاكم (حكمٌ في مختلَف فيه لا يلزمه نقضه) لعدم مخالفته كتابًا، أو سُنَّة، أو إجماعًا، أو ما يعتقده (لينفذه؛ لزمه تنفيذه وإن لم يره) المرفوع إليه صحيحًا؛ لأنه حكمٌ ساغ الخلافُ فيه، فإذا حكم به حاكمٌ، لم يجز نقضُه، فوجب تنفيذه (وكذا لو كان نفس الحكم مختلَفًا فيه؛ كحكمه بعلمه، و) كحكمه بـ (ـنكوله) أي: الخصم (و) كحكمه بـ (ــشاهد ويمين، وكتزويجه يتيمة

(1)

) بالولاية العامة، وكالحكم على غائب. وفي "المحرر": لم يلزمه تنفيذه، إلا أن يحكم به حاكم آخر قبله. قال شارحه: فإن نفس الحكم في شيء لا يكون حكمًا بصحة الحكم.

(ولو رَفَع إليه) أي: الحاكم (خصمان عقدًا فاسدًا عنده، وأقرَّا) أي: الخصمان (بأن نافِذَ الحُكْمِ حَكَم بصحته، فله إلزامهما بذلك) العقد الذي أقرَّا أن نافذ الحكم حكم بصحته؛ لأنه حقٌّ أقرَّا به، فلزمهما، كما لو أقرَّا بغيره (وله ردُّه والحكم) عليهما (بمذهبه) لأن حكم الحاكم به لا يثبت بإقرارهما؛ وإنما يثبت بالبينة، ولا بينة هنا، فلا يلزمه العمل به؛ لعدم ثبوته عنده.

(ومن قَلَّد) مجتهدًا (في صِحّة نِكاح) مختَلَف فيه (لم يفارق) المنكوحة (بتغير اجتهاده) أي: اجتهاد المجتهد الذي قلَّده في الصحة (كحُكْمٍ) أي: كما لو حكم به مجتهد يرى صحته حال الحكم ثم تغير

(1)

في "ذ": "وتزويجه بيتيمة".

ص: 171

اجتهاده؛ لقول عمر: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي

(1)

(بخلافٍ مجتهِدٍ نكح) نكاحًا أداه اجتهاده إلى صحته (ثم رأى بطلانه) فإنه يلزمه أن يفارق؛ لاعتقاده بطلانه، وحرمة الوطء.

(ولا يلزم) المجتهد (إعلام المقلِّد) بكسر اللام (بتغيُّرِه) أي: تغيُّر اجتهاده؛ لأنه لا يلزم المقلد أن يفارق بتغيُّر اجتهادِ من قَلَّده؛ لما فيه من الحرج والمشقَّة.

(وإن بان خطؤه) أي: الحاكم (في إتلافٍ) كقطع وقتل (لمخالفة دليل قاطع، أو) بانَ (خطأ مُفْتٍ ليس أهلًا) للفتيا (ضَمِنا) أي: الحاكم والمفتي؛ لأنه إتلاف حصل بفعلهما، أشبه ما لو باشراه، وعُلِم منه أنه لو أخطأ فيما ليس بقاطع، مما يقبل الاجتهاد؛ لا ضمان.

(ولو بان بعد الحكم كُفْرُ الشهودِ أو فسقُهم؛ لزمه) أي: الحاكم (نقضه) أي: الحكم؛ لفَقْدِ شَرْطِ صحته.

(ويرجع بالمال) المحكوم

(2)

إن بقي (أو بدله) إن تلف، على المحكوم له؛ لأنه أخذ بغير حق (أو) يرجع بـ (ــبدل قَوَدٍ مستوفًى، على المحكوم له) إن لم يكن تعمد قتله، على ما سبق تفصيله في العمد

(3)

.

(وإن كان الحكم إليه) تعالى (بإتلاف حسي) كقتل في ردة، وقطع في سرقة (أو بما سرى إليه) أي: الإتلاف الحسي، كجَلْدٍ سرى ومات به، ثم بان كُفْرُ الشهود، أو فِسقهم (ضمنه مزَكُّون) إن كانوا؛ لتفريطهم وتسببهم، وإلا فحاكم

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه (2/ 239) تعليق رقم (1).

(2)

في "ذ": "المحكوم به".

(3)

(13/ 220 - 221).

(4)

في "ذ": "فالحاكم".

ص: 172

(وإن بانوا) أي: الشهود (عبيدًا، أو والدًا) للمشهود له (أو ولدًا، أو عدوًّا) للمشهود عليه (فإن كان الحاكم) الذي حكم (به يرى الحكم به، لم ينقض حكمه) لموافقته اعتقاده.

(وإلا) أي: وإن لم يرَ حاكمه الحكم به (نقضه، ولم ينفذ) حكمه به (لأن الحاكم يعتقد بطلانه) وليس له الحكم بما يخالف اعتقاده، إلا المُقلِّد، فإنه يُقَلِّدُ كبارَ مذهبه، ويُراعي نصوص إمامه ومتأخِّرها، ويحكم به، ولو اعتقد خلافه. وأفتى التقي الفُتُوحيّ بنقض حكم الحنبلي: بأن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلقة؛ لمخالفته نصّ إمامه. وذكر الشيخ يوسف المرداوي في "الرد الجلي"

(1)

: إنه ينقض حكم المُقلِّد بما يخالف مذهب إمامه.

(وإذا حكم) الحاكم (بشهادة شاهد، ثم ارتاب) الحاكم (في شهادته، لم يَجُز له الرجوع في حكمه) لأن الأصل موافقته

(2)

الصحة، ولم يثبت خلافه.

(وفي "المحرر": من حكم بقَوَدٍ أو حَدٍّ ببينة، ثم بانوا) أي: الشهود (عبيدًا، فله نقضه إذا كان) الحاكم (لا يرى قَبولهم فيه) أي: القود أو الحد.

فقوله: "له نقضُه" يقتضي أنه إن شاء نَقَضَه أو أمضاه، والظاهر أنه ليس مرادًا، ولعله قاله في مقابلة المنع، فلا يُنافي ظاهر كلام غيره من لزوم نقضه؛ لفَقْدِ شَرْطه عنده.

(وكذا) شيء (مختلَف فيه) أي: في كونه مانعًا من قَبول الشهادة،

(1)

تقدم التعريف به (10/ 104) تعليق رقم (4).

(2)

في "ذ": "موافقة".

ص: 173

أو الحكم (صادف ما حكم به) الحاكم (وجَهِله) الحاكم، فينقضه إذا كان لا يرى الحكم معه؛ لفقد شرطه (ولا يُعتبر في نَقْضِ حكم الحاكم عِلْمُ الحاكم بالخلاف) يعني: لا ينقض حكم الحاكم بشيء لعدم علمه الخلاف فيه (خلافًا لمالك، وتقدم

(1)

بعضه في الباب قبله) موضَّحًا.

(1)

(15/ 104).

ص: 174

باب كتاب القاضي إلى القاضي

والأصل في المكاتبة الإجماع

(1)

، وسنده قوله تعالى:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ. . .} الآية

(2)

. وكتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، والنجاشي، وملوك الأطراف، يدعوهم إلى الإسلام

(3)

، وكان يكتب إلى عُمَّاله، وسُعَاته. والحاجة داعيةٌ إلى قَبوله، فإن مَن له حقٌّ في بلد غير بلده، لا يمكنه إثباته ولا مطالبته إلا بكتاب القاضي، وذلك يقتضي وجوب قَبوله.

(لا يُقبل) كتاب القاضي إلى القاضي (في حَدٍّ لله تعالى، كزنىً

(1)

الإجماع لابن المنذر ص/ 132.

(2)

سورة النمل، الآية: 29 - 30.

(3)

أخرج البخاري في العلم، باب 7، حديث 64، وفي الجهاد والسير، باب 101، حديث 2939، وفي المغازي باب 82، حديث 4424، وفي أخبار الآحاد، باب 4، حديث 7264، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه رجلًا، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه.

وأخرج في بدء الوحي، باب 6، حديث 7، وفي الجهاد والسير، باب 101، 122، حديث 2941، 2978، وفي تفسير سورة آل عمران، باب 4، حديث 4553، وفي الاستئنذان، باب 24، حديث 6260، وفي التوحيد، باب 51، حديث 7541، ومسلم في الجهاد والسير، حديث 1773، عن ابن عباس رضي الله عنهما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

وأخرج مسلم في الجهاد والسير، حديث 1774، عن أنس رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله، وليس النجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 175

ونحوه) كحدِّ الشرب، وكالعبادات؛ لأن حقوق الله تعالى مبنيّة على المُسامحةِ والسترِ، والدَّرْءِ بالشُّبهاتِ، والسقوطِ بالرجوع عن الإقرار بها، ولهذا لا تُقبل فيها الشهادة على الشهادة، فكذا كتاب القاضي إلى القاضي.

(ويُقبل) كتاب القاضي (في كل حقِّ آدمي، من المال وما يقصد به المال، كالقرض، والغصب، والبيع، والإجارة، والرهن، والصلح، والوصيةِ له) أي: لزيد مثلًا (و) الوصية (إليه، و) على أولاده.

ويُقبل (في الجناية، والقِصاص، والنكاح، والطلاق، والخلع، والعتق، والنسب، والكتابة، والتوكيل) في المال وغيره (وحَدِّ القذف) لأنه حقُّ آدميٍّ لا يُدرأ بالشُّبهات؛ ولأن هذا في معنى الشهادة على الشهادة.

(وفي هذه المسألة) وهي: أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يُقبل، إلا فيما تُقبل فيه الشهادة على الشهادة (ذكر الأصحاب: أن كتاب القاضي) إلى القاضي (حكمه كالشهادة على الشهادة؛ لأنها) أي: كتابته (شهادة على شهادة.

وذكروا) أي: الأصحاب (فيما إذا تغيَّرتْ حالُهُ، أنه) أي: القاضي الكاتب (أصل، ومن شهِد عليه) بكتابه (فرع، فلا يسوغ) لقاضٍ (نَقْضُ الحكم) من المكتوب إليه (بإنكار القاضي الكاتب، ولا يقدح) إنكاره (في عدالة البينة، بل يَمنع إنكارُه) قبل الحكم (الحكمَ، كما يمنع رجوعُ شهودِ الأصل) قبل الحكم (الحكمَ، فدلَّ ذلك أنه) أي: القاضي الكاتب (فرعٌ لمن شَهِد عنده) بالحقِّ الذي كتب به (و) أنه (أصلٌ لمن شَهِد عليه) بكتابه، ودلَّ أنه

(1)

يجوز أن يكون شهود فرع أصلًا لفرع آخر؛ لدعاء

(1)

في "ذ": "ودل على أنه".

ص: 176

الحاجة إليه.

(والمحكومُ به إنْ كان عينًا في بلد الحاكم، فإنه يُسَلِّمه إلى المُدَّعي، ولا حاجة إلى كتاب) لأن للقاضي ولاية على الغائب والممتنع، فيقوم مقامه في تسليم العين، كولي الصغير.

(وإن كان) المحكوم به (دَيْنًا، أو عينًا في بلدة أخرى) غير بلدة الحاكم (فهنا يقف

(1)

على الكتاب) لِيُسَلِّمَ المكتوبُ إليه العينَ لرَبّها، أو يأمر المحكوم عليه بوفاء الدين.

(وهنا ثلاث مسائل متداخلات: مسألة إحضار الخصم إذا كان غائبًا) بعمل القاضي، ولو بعدت المسافة.

(ومسألة الحكم على الغائب) إذا كان مسافة قَصْر فأكثر، أو مستترًا ولو بالبلد.

(ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي، وتقدم

(2)

بعضه في الباب قبله في الحكم على الغائب).

قال في "الاختيارات"

(3)

: ولو قيل: إنما يحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرًا؛ لأن فيه فائدة، وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبًا، فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود، حتى يكون الحكم في بلد التسليم؛ لكان متوجّهًا.

(ويُقبل) كتاب القاضي (فيما حَكَم به) الكاتب من حقٍّ على إنسان، فيتعين عليه وفاؤه، أو على غائب بعد إقامة البينة عنده، ويسأله

(1)

في "ذ": "فيأمره أن يقف".

(2)

(15/ 159 - 163).

(3)

ص/ 503 - 504.

ص: 177

أن يكتب له كتابًا بحكمه إلى قاضي بلد الغائب، فيكتب إليه، أو تقوم البينة على حاضر، فيهرب قبل الحكم عليه، فيسأل ربُّ الحقِّ الحاكمَ الحُكْمَ عليه، وأن يكتب له كتابًا بحُكْمه (لِيُنْفِذه) المكتوب إليه (ولو كانا) أي: القاضيان، الكاتب والمكتوب إليه (ببلدٍ واحدٍ، أو) كان (كلُّ) واحدٍ (منهما ببلد، ولو) كان أحد البلدين (بعيدًا) عن الآخر مسافة القصر فأكثر؛ لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال (إلا فيما ثبت عنده) أي: القاضي الكاتب (ليحكم به) المكتوب إليه، فلا يُقبل (إلا في مسافة قَصْرٍ فأكثر) لأنه نقل شهادة، فيعتبر فيه ما يُعتبر في الشهادة على الشهادة. وكتابه بالحكم ليس هو نقلًا، وإنما هو خبر، والثبوت ليس بحكم كما تقدم. وللحاكم الذي اتَّصل به ذلك الثبوت الحكم به إذا كان يرى صحته.

قال في "الفروع": فيتوجَّه: لو أثبت حاكمٌ مالكيٌّ وقفًا لا يراه - كوقف الإنسان على نفسه - بالشهادة على الخط، فإنْ حَكَمَ - للخلافِ في العمل بالخطِّ - كما هو المعتاد، فلحاكمٍ حنبليٍّ يرى صِحَّةَ الحكمِ أن ينفذه في مسافة قريبة، وإنْ لم يحكم، بل قال: ثبت هذا، فكذلك؛ لأن الثبوت عند المالكي حكمٌ، ثم إن رأى الحنبليُّ الثبوتَ حكمًا نفذه، وإلا فالخلاف في قرب المسافة، ولزوم الحنبليِّ تنفيذه ينبني على تنفيذ الحكم المختلف فيه، وحكمُ المالكيِّ مع علمه باختلاف العلماء في الخطِّ لا يمنع كونه مختلَفًا فيه، ولهذا لا تنفذه الحنفية حتى ينفذه حاكم، وللحاكمِ الحنبليِّ الحكمُ بصحة الوقف مع بُعْد المسافة، ومع قُربها الخلاف.

(ولو سَمِع) الكاتب (البينة، ولم يُعدِّلها، وجعل تعديلها إلى

ص: 178

الآخر) أي: المكتوب إليه (جاز) ذلك (مع بعد المسافة) لا مع قُربها.

(وله) أي: القاضي (أن يكتب إلى قاضٍ معيَّنٍ، و) إلى قاضي (مِصْر، أو) قاضي (قرية) معينين (و) أن يكتب (إلى كلِّ من يصل إليه من قضاة المسلمين) ويلزم مَن وَصَلَه قَبوله؛ لأنه كتاب حاكم من ولايته، فلزمه

(1)

قَبوله، كما لو كان الكتاب إليه بعينه.

(ويُشترط لقَبوله) أي: كتاب القاضي (أن يُقرأ على عَدْلين، وهما ناقلاه) أي: الكتاب إلى المكتوب إليه؛ ليتحمَّلا الشهادة به، وسواء كانت القراءة من حاكم أو غيره، والأولى أن يقرأه الحاكم؛ لأنه أبلغ، والأحوط أن يقرآ معه فيما يقرؤه.

(ويُعتبر ضَبْطُهما) أي: الشاهدين الناقلين لكتاب القاضي (لمعناه وما يتعلَّق به الحكمُ فقط) يعني: دون ما لا يتعلَّق به الحكم؛ لأن القصد المعنى دون الألفاظ.

(ثم يقول) القاضي الكاتبُ: (هذا كتابي) إلى فلان بن فلان (أو) يقول: (اشْهَدا عليَّ أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان) أو: إلى من يَصِل إليه من القضاة؛ لأنه يُحَمَّلُ الشهادةَ، فوجب أن يُعتبر فيه إشهاده، كالشهادة على الشهادة.

(وإن قال: اشْهَدا عليَّ بما فيه، كان أولى) لأنه أصرح في المقصود (ولا يشترط) قوله: اشهدا عليَّ به.

(ويدفعه) أي: الكتاب (إليهما، والأولى خَتْمُه، احتياطًا) بعد أن يقرأ على الشاهدين، ولا يُشترط الختم؛ لأن الاعتماد على شهادتِهما لا على الختم، وكتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قَيْصر كتابًا ولم يختمه، فقيل له: إنه لا

(1)

في "ذ": "فلزم".

ص: 179

يقرأ كتابًا غير مختوم، فاتخذ الخاتم

(1)

. فكتابته أوّلًا بغير خَتْمٍ دليلٌ على أنه لا يُعتبر، وإنما اتخذه ليقرأ كتابه.

(ويقبضان) أي: الشاهدان (الكتابَ قبل أن يغيبا؛ لئلا يَدْفع إليهما غيرَه) ثم إن قلَّ ما في الكتاب، اعتمدا على حفظه، وإلا كتب كلٌّ منهما نسخة به (فإذا وصلا إلى المكتوب إليه، دفعا إليه الكتابَ، فقرأه الحاكم أو غيره عليهما، فإذا سَمِعاه، قالا: نشهدُ أنَّ هذا كتابُ فلان إليك، كتبه بعَمَله) أي: محل نفوذ حكمه (ولا يُشترط قولهما: قُرِئ علينا، أو: أشْهدَنا عليه) اعتمادًا على الظاهر.

(وإن أشْهَدَهُما عليه مَدْروجًا) أي: مطويًّا (مختومًا، من غير أن يقرأ عليهما، لم يصح) لأنه شهادة بمجهول لا يعلمانه، أشبه ما لو قالا: نشهد أن لفلان على فلان مالًا.

(ولا يكفي معرفةُ المكتوبِ إليه خَطَّ الكاتب، و) معرفته (خَتْمه) لأن الخط يشتبه، والختم يمكن التزوير عليه؛ ولأنه نقل حكم، أو إثبات، فلم يكن فيه بُدٌّ من إشهاد عَدْلين، كالشهادة على الشهادة.

(كما لا يُحكم بخطِّ شاهدٍ ميت، وتقدم

(2)

: لو وجدت وصيته بخَطِّه) وعلم أنه خطّه؛ عُمل به؛ لدُعَاء الحاجة (وتقدم

(3)

العمل بخَطِّ أبيه بوديعة، أو دين له، أو عليه) في باب الوديعة موضَّحًا.

(1)

أخرجه البخاري في العلم، باب 7، حديث 65، وفي الجهاد والسير، باب 101، حديث 2938، وفي اللباس، باب 50، 52، حديث 5872، 5875، وفى كتاب الأحكام، باب 15، حديث 7162، ومسلم في اللباس والزينة، حديث 2092 (56 - 58)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

(10/ 201 - 202).

(3)

(9/ 431 - 432).

ص: 180

(وكتابه) أي: القاضي (في غير عمله، أو بعد عَزْله، كخَبَرِه) فَيُقبل (كما تقدَّم

(1)

في الباب قبله.

ويُشترط أن يَصِلَ الكتابُ إلى المكتوب إليه في موضع ولايته) لأن الشهادة لا يسمعها في غيره (فإنْ وَصَلَهُ) الكتابُ (في غيرِه) أي: غير موضع ولايته (لم يكن له قَبوله، حتى يصير إلى موضع ولايته) لأنه محلُّ نفوذ حكمه.

(ولو ترافع إليه) أي: القاضي (خصمان في غير محل ولايته، لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته) لأنه لا ولاية له عليهما إذًا.

(فإن تراضيا به) أي: أن يحكم بينهما (فكما لو حكَّما رجلًا يصلح للقضاء) فينفذ حكمه من حيث كونه محكَّمًا لا حاكمًا (وسواء كان الخصمان من أهل عمله، أو لا) إذِ العبرة بكونه بمحل ولايته. ومن طرأ إليه نَفَذ حكمه فيه، بخلاف من خرج منه إلى غيره (إلا أن يأذن الإمام لقاضٍ أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا، ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان، فيكون الأمر على ما أذن) الإمام (فيه) لأنه صاحب الولاية (أو) على عا (مَنَعَ منه) الإمام؛ لأنه ذو الولاية، فتراعى كيف صدرت منه.

(ويُقبل كتابُهُ في حيوان، وعَبْدٍ، وجارية) شهد الشاهدان بها (بالصِّفَة، اكتفاءً بها) أي: بالصفة (كمشهودٍ عليه) بالصفة، فَيُقبل كتاب القاضي بذلك؛ لأن الحيوان الموصوف يثبت في الذمة بعقد السَّلَم، أشبه الدَّيْن.

و (لا) يُقبل كتابه في مشهود (له) بالصفة؛ لأن المشهود له لا يشهد

(1)

(15/ 108 - 110، 159 - 160).

ص: 181

له إلا بعد دعواه، بخلاف المشهود عليه، والمشهود به.

(ولا يحكم) المكتوبُ إليه (بالعين الغائبة) إذا شهدت البينة بها (بالصفة) عند الكاتب، وكتب إليه بذلك.

(فإن لم تثبتْ مشاركتُه) أي: الحيوان المُدَّعى به، أو العبد (في صفة، أخذه مُدَّعيه بكفيلٍ، مختومًا عُنُقُه بخيطٍ لا يخرجُ من رأسه، وبعثَه القاضي المكتوبُ إليه إلى القاضي الكاتبِ، لتشهد البينةُ على عينه، فإذا شَهِدا عليه، دُفِع إلى المشهود له به) لزوال الإشكال (وكَتَب) القاضي الكاتب أوّلًا (له) أي: للمدعي (كتابًا) بما ثبت له (ليبرأ كفيلُه) من كفالته به؛ لأنه أخذ ما يستحقُّه.

(وإن كان المدَّعَى) به (جارية، سُلِّمت إلى أمينٍ يوصلها) للحاكم الكاتبِ، احتياطًا للفروج، فإذا شهدت البينة على عينها، سُلِّمت للمُدَّعي.

(وإن لم يثبت له) أي: للمُدَّعي بما ذكر (ما ادَّعاه) مما تقدم (لزمه ردُّه ومؤنتُه) أي: الرد، أو نفقة الحيوان، أو العبد، أو الجارية (منذ تسلَّمَه) المُدَّعِي (فهو) أي: المُدَّعِي (فيه) أي: فيما قبضه لتشهد البينة على عينة، إذا لم يثبت له (كغاصب في ضمانه) إن تلف (وضمان نقصه) إن نقص (و) ضمان (منفعته) وهو معنى قوله:(وتلزمه أجرته إن كان له أجرة) بأن كان يؤجر عادة (إلى أن يصل إلى صاحبه) لأنه أخذه بلا حَقٍّ. وفي "الرعاية": دون نفعه، أي: فلا يضمنه.

(وإذا وصل الكتابُ) إلى القاضي المكتوبِ إليه (وأحضر الخصمَ المذكور فيه باسمه ونسبه وحليته، فإن اعترف بالحقِّ، لزمه أداؤه) لمستحقِّه؛ ليبرأ إليه منه.

ص: 182

(وإن قال) الخصمُ: (ما أنا المذكور في الكتاب، قبِل قوله بيمينه) لأنه مُنكِر (ما لم تَقُمْ) عليه (بينة) أنه المذكور في الكتاب، فيقضى بها؛ لِرُجحانها على قوله (فإن) لم تكن

(1)

بينة، فطلب يمينه، فـ (ــنَكَل) عن اليمين (قضى عليه) بالنكول.

(وإن أقرَّ بالاسم والنَّسب) المذكور في الكتاب (أو ثبت) الاسم والنسب (ببينة، فقال) الخصم: (المحكوم عليه غيري؛ لم يقبل إلا ببينة تشهد أن في البلد آخر كذلك) أي: بهذا الاسم والنسب؛ لأن الظاهر عدم المشاركة في ذلك. فإن شَهِدت البينة أنَّ بالبلد كذلك (ولو ميتًا يقع به إشكال) قبلت؛ لأنه ممكن.

(فإن كان) المشارك في الاسم والنسب (حيًّا، أحضره الحاكم وسأله عن الحقّ، فإن اعترف به، ألزمه) الحاكمُ (به) مؤاخذة له بإقراره (وتخلّص) الأول، لظهور براءته (وإن أنكره) الثاني (وقف الحكم) للالتباس والإشكال.

(ويكتب) المكتوبُ إليه (إلى الحاكم الكاتب يُعْلِمه الحال، وما وقع من الإشكال، حتى يُحْضِر) الكاتب (الشاهدين، فيشهدا عنده) أي: المكتوب إليه (بما يتميّز به المشهود عليه منهما) لأنه يحتمل أن يكون الحق على المشارك.

فإن ادَّعى المُسمَّى أنه كان بالبلد من يشاركه في الإسم والصفة، ومات، ولم يكن ممن يمكن أن يجري بينه وبين المحكوم له معاملة، لم يُقبل منه.

(وإن مات القاضي الكاتب) لم يُقدح في كتابه (أو عُزل) القاضي

(1)

في "ذ": "لم تكن له بينة".

ص: 183

الكاتب (لم يقدح) ذلك (في كتابه) لأن المعوَّل في الكتاب على الشاهدين، وهما حيان، فوجب أن يُقبل الكتاب، كما لو لم يمت أو ينعزل؛ ولأن الكتاب إن كان فيما حكم به، فحكمه لا يبطل بهما، وإن كان فيما ثبت عنده، فهو أصل، واللذان شهدا عليه فرع، ولا تبطل شهادة الفرع بموت الأصل.

(وإن فَسَقَ) الكاتبُ (قبلَ الحكم بكتابه؛ لم يحكم به) لأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرطٌ في الحكم بشاهدي الفرع، فكذلك بقاء عدالة الحاكم؛ لأنه بمنزلة شاهدي الأصل.

(وإن فَسَقَ) الكاتبُ (بعدَه) أي: الحكم (لم يقدح فيه) قال ابن المُنَجَّا: كما لو حكم بشيء ثم فَسَق. وقال في "الشرح": كما لو حكم بشيء ثم بان فِسقه، فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه، فكذا هنا.

(وإن تغيَّرت حال) القاضي (المكتوب إليه، بموت، أو عزل، أو فِسق، فعلى مَن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه) بل من سائر الحكام (العملُ به، اكتفاءً بالبينة) أي: لأن المعوَّل على ما حفظه الشهود وتحمَّلوه، ومن تحمَّل شهادةً وشَهِد بها، وَجَبَ على كلِّ قاضٍ الحكم بها (بدليل ما لو ضاع الكتاب، أو انمحى وكانا يحفظان ما فيه -أي: ما يتعلَّق به الحكم - فإنه يجوز أن يشهدا بذلك، ولو أدَّياه بالمعنى) لأنه المقصود دون اللفظ، و (كما لو شهدا بأن فلانًا القاضي حكم بكذا، لزمه إنفاذه) ولو شهد حاملا الكتاب بخلاف ما فيه، قبل المكتوب إليه شهادتهما؛ اعتمادًا على العِلم بما أشهدهما به الكاتب على نفسه (ومتى قَدِم الخصمُ المُثبَتُ عليه بلدَ) الحاكم (الكاتبِ، فله الحكم عليه بلا إعادة شهادةٍ) إذا سأله ربُّ الحق ذلك.

ص: 184

فصل

(وإذا حَكَم عليه المكتوبُ إليه) بما ثبت من الحقِّ عند القاضي الكاتب (فسأله) أي: سأل المحكومُ عليه الحاكمَ عليه (أن يكتب له إلى الحاكم الكاتبِ) كتابًا: (إنك قد حكمت عليَّ حتى لا يحكم عليَّ ثانيًا، لم يلزمه ذلك) لأن الحاكم إنما يحكم فيما ثبت عنده ليحكمَ به، أو فيما حكم به لينفذه غيره، وكلاهما مفقودٌ هنا.

والوجه الثاني: يلزمه؛ جزم به في "المحرر" و"الوجيز" و"الفروع"؛ ليخلص مما خافه.

(وإن سأله أن يُشْهِدَ عليه بما جرى؛ لئلا يحكمَ عليه) القاضي (الكاتبُ) لزمه إجابتُه (أو سأله) أي: الحاكمَ (مَن ثبتت براءتُه، مثل أنْ أنكر وحَلَّفه، أو) سأله من (ثبت حقُّه عندَه، أن يشهدَ له بما جرى من براءة، أو ثبوتٍ مجرَّدٍ) عن حكم (أو مُتَّصلٍ بحكم، أو تنفيذٍ، أو الحكم له بما ثبت عندَه، لزمه إجابتُه) لأنه من الجائز أن يطول الزمان على الحق، فإذا طُولب أو طالب به، لم تكن بيده حُجَّة، وربما نسي القاضي، أو مات، أو يطالبه الغريمُ في صورة البراءة مرةً أخرى، عنده إذا نسي، أو عند غيره، فوجب الإشهاد؛ لئلا يضيع حقُّه من ذلك.

(وإن سأله مع الإشهاد كتابةً، وأتاه بكاغَدٍ) بفتح الغين المعجمة، وبالدال المهملة، وربما قيل بالمعجمة، وهو معرَّب؛ قاله في "حاشيته"(أو كان من بيت المال كاغَدٌ) معدٌّ (لذلك، لزمه) أي: الحاكمَ إجابتُه لذلك؛ لأن ذلك وثيقة للخصم، فلزمه كتابتها (كساعٍ) أي: عامل على

ص: 185

الزكاة، إذا طلب المُزَكِّي منه الكتابة (بأخذ زكاةٍ) وكذا معشِّرٌ يأخذ العُشْر، أو نِصفَه من تاجر

(1)

حرب، أو ذِمّة؛ لتكون براءة له إذ مَرَّ به آخر، وتقدَّم

(2)

أنه يلزم مَن له حقٌّ بوثيقة، إذا استوفاه، الإشهاد به، لا دفع الوثيقة، وكذا بائع عقار به وثيقة، يلزمه الإشهاد، لا دفع الوثيقة.

(وما تضمَّن الحكم ببينة يُسَمَّى سِجِلًّا، وغيره) أي: غير ما تضمَّن الحكم ببينة؛ وهو ما تضمَّن الحكم بإقرار أو نكول، يُسَمَّى (مَحْضرًا) بفتح الميم والضاد، وهو الصك، سُمِّي بذلك؛ لما فيه من حضور الخصمين والشهود (والمَحْضَرُ: شَرْحُ ثبوتِ الحقِّ عندَه، لا الحكمُ بثبوته) وهذه التسمية اصطلاحية. وأما السِّجِل: فأصله الصحيفة المكتوبة. قال ابن دُريد

(3)

: السِّجِلّ: الكتاب، إلا أنه خص بما تضمن الحكم اصطلاحًا.

(والأولى جعل السِّجِل نُسختين: نسخة يدفعها) الحاكم (إليه) أي: الطالب لها؛ لتكون وثيقة له بحقّه (و) النسخة (الأخرى عنده) أي: عند الحاكم؛ ليرجع إلى النسخة التي عنده عند ضياع ما بيد الخصم، أو الاختلاف؛ لأن ذلك أحوط، وفي زمننا تُنَزَّل الوثائق بكتاب يجمعها مدة ثم مدة بحسب ما يتسع لها، وفيه من الحفظ ما لا يخفى، وهو أحوط مما تقدَّم أيضًا.

(والكاغَد) لذلك (من بيت المال) لأنه من المصالح العامة (فإن لم يكن) يؤخذ من بيت المال (فمن مال المكتوبِ له) لأنه من مصلحته.

(1)

في "ذ": "تجار".

(2)

(8/ 209، 472).

(3)

الجمهرة (2/ 94) مادة (سجل).

ص: 186

(وصفة المَحْضَر: بسم الله الرحمن الرحيم) وينبغي كتابتها سطرًا وحدها إلى ما يحاذي علامة القاضي، حتى لا تعلو اسم الله (حَضَرَ القاضيَ فلانَ بن فلان قاضي عبد الله الإمام على كذا) أي: مصر مثلًا (وإن كان) القاضي (نائبًا، كتب: خليفة القاضي فلان قاضي الإمام) وقُدِّم المفعول هنا؛ اهتمامًا وتعظيمًا له (في مجلس حُكْمِه وقضائه بموضع كذا، مُدَّعٍ) هو فاعل "حضر"(ذكر أنه فلان بن فلان) ويذكر ما يميزه (وأحضر معه مدعىً عليه، ذكر أنه فلان بن فلان) ويذكر ما يتميز به (ولا يُعتبر ذكر الجَدِّ بلا حاجة) إليه، وإلا فلا بُدَّ من ذكره (والأولى ذكر حِلْيتهما إن جَهِلهما) فيكتب: أسود، أو أبيض، أو أنزع

(1)

، أو أغم

(2)

، أو أشهل

(3)

، أو أكحل

(4)

، أقنى

(5)

الأنف، أو أفطس، دقيق الشفتين، أو غليظهما، طويل، أو قصير، أو رَبْعة، ونحو هذا؛ ليتميز، ولا يقع اسمٌ على اسمٍ احتياطًا، خصوصًا في هذه الأزمنة، وكثرة الحيل والتوسل إلى الباطل.

فإن لم يجهلهما القاضي، كتب فلان وفلان، ونسبهما، وإن جَهِل أحدهما دون الآخر، كتب في كلٍّ منهما ما يُناسبه.

(فادَّعى عليه بكذا، فأقرَّ له أو: فأنكر. فقال) القاضي (للمُدَّعي:

(1)

الأنزع: هو المنحسر الشعر من جانبي الجبهة. القاموس المحيط ص/ 990، مادة (نزع).

(2)

الغَمَم: سيلان الشعر حتى تضيق الجبهة والقفا. يقال: هو أغمُّ الوجه والقفا. القاموس المحيط ص/ 1476، مادة (غمم).

(3)

الشهلة في العين أن يشوب سوادها زرقة. مختار الصحاح ص/ 350، والقاموس المحيط ص/1320، مادة (شهل).

(4)

الأكحل: مؤنث الكحلاء، وهي: الشديدةُ سواد العين، أو التي كأنها مكحولة وإن لم تُكحل. القاموس المحيط ص/1360، مادة (كحل).

(5)

تقدم تعريفه (13/ 300).

ص: 187

ألكَ بينةٌ؟ فقال: نعم. فأحْضَرها، وسأله) أي: سأل المُدَّعِي الحاكمَ (سَمَاعها. ففعل، أو: فأنكر) المُدَّعَى عليه (ولا بينة) للمُدَّعي (وسأل) المُدَّعي (تحليفه، فحلَّفه. وإن نكل، ذَكَره) أي: النكول (وأنه حَكَم

(1)

بنكوله، وسأله) المُدَّعي (كتابة مَحْضَر، فأجابه في يوم كذا، مِن شهر كذا، مِن سنة كذا.

ويُعْلِم) على رأس المَحْضر؛ ذكره في "المبدع"(في الإقرار والإحلاف: جرى الأمر على ذلك) لأن ذلك أمر جرى.

(و) يُعْلِم (في البينة: شَهِدا عندي بذلك) وتقدَّم

(2)

قوله في "الرعاية": أو عادة بلده.

قلت: وكذا ينبغي في كتابة المَحْضَر أنه يكتب على عادة بلده، ويرشد إليه حديث:"أمرت أن أخاطب الناس بما يفقهون"

(3)

؛ ولأن

(1)

في "ذ": "قضى".

(2)

(15/ 123).

(3)

لم نقف عليه بهذا اللفظ، لكن ورد بنحوه عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، منهم:

أ - المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه: أخرج ابن عدي في الكامل (7/ 2542)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص/ 362 - 363، حديث 612، وفي شعب الإيمان (2/ 281) حديث 612، والطبراني في الأوسط (8/ 135) حديث 8196، من طريق بقية بن الوليد، عن الوليد بن كامل، عن نصر بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حدثتم الناس عن ربهم، فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم. وعند البيهقي:"يغرب عليهم" بدل: "يفزعهم".

قال ابن عدي: الوليد بن كامل له غير ما ذكرت، يحدث عنه أهل حمص وغيره، وأسانيده شامية. =

ص: 188

المدار على أداء المعنى، ويكتب مع ذلك في رأس كتابته

(1)

: الحمد لله وحده، أو نحوه؛ ذكره في "الرعاية"، وتقدم معناه.

(وإن ثبت الحقُّ بإقرار) المُدَّعَى عليه (لم يحتج إلى) ذِكْر (مجلس حكمه) لأن الاعتراف يصحُّ منه في مجلس الحكم وغيره. وإن كتب:

= وقال ابن حجر في التقريب ص/ 513، رقم 7450: ليِّن الحديث.

وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن المقدام بن معدي كرب إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية. وكذا قال الهيثمي في مجمع البحرين (1/ 267).

ب - ابن عباس رضي الله عنهما: أورده السخاوي في المقاصد الحسنة ص/ 164، من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن أبي معشر، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا:"أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم". وعزاه السخاوي للديلمي، وانظر: الفردوس بمأثور الخطاب (1/ 398) حديث 1611، قال السخاوي: سنده ضعيف.

وقال أيضًا: وقد عزاه شيخنا [ابن حجر] لمسند الحسن بن سفيان، وسنده ضعيف جدًا.

وأورده العجلوني في كشف الخفاء (1/ 226) عن ابن عباس بألفاظ متقاربة، وعزاه للديلمي، وانظر: الفردوس بمأثور الخطاب (3/ 14، 5/ 359) حديث 4017، 8434، دون إسناد.

جـ - جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أورده - بنحوه - الديلمي في الفردوس (1/ 45) حديث 111، دون إسناد.

د - علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخرج البخاري في العلم، باب 49، رقم 127، عن علي رضي الله عنه قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله.

هـ - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.

و - سعيد بن المسيب: أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 425) حديث 2053، من طريق يحيى بن مالك بن أنس، عن أبيه، عن الزهري، عنه، مرسلًا بنحو حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

قال العقيلي: يحيى بن مالك بن أنس، عن أبيه بمناكير.

(1)

في "ذ": "المحضر" وأشار في الهامش أنه في نسخة: "كتابته".

ص: 189

أشْهَدَ على إقراره شاهدين، كان آكد؛ ذكره في "الشرح"، و"الرعاية"، بخلاف ما إذا ثبت الحق بالبينة؛ لأنها لا تُسمع إلا في مجلس الحكم.

فصل

(وأما السِّجِل) بكسر السين والجيم. قال في "المبدع": الكتاب الكبير (فلإنفاذ ما ثبت عنده، والحكم به) هذا بيان معناه.

(وصفته: أن يكتب): بسم الله الرحمن الرحيم؛ قاله في "الشرح"، وشرح "المنتهى"(هذا ما أشْهَدَ عليه القاضي فلان - كما تقدَّم - مَن حَضَره مِن الشهود، أشْهَدَهم أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان، وقد عَرَفهما بما رأى معه قَبول شهادتهما، بمَحْضَرٍ من خصمين - ويذكُرُهما إن كانا معروفين، وإلا قال: مدَّعٍ ومدَّعىً عليه - جاز حضورهما، وسماعُ الدعوى من أحدهما على الآخر، معرفةُ فلان بن فلان)"معرفة" بالرفع فاعل: "ثبت عنده"(ويذكر المشهود عليه) لأنه أصلٌ (وإقرارُه) بالرفع، عطف على:"معرفة فلان" والتقدير: ثبت عنده معرفة فلان بن فلان وإقرارُه. ويصح نصبه عطفًا على: المشهود عليه، أي: ويذكر المشهود عليه وإقراره (طوعًا في صحّةٍ منه، وجوازِ أمرٍ) حتى يخرج المكره ونحوه (بجميع ما سُمِّي به ووُصِفَ، في كتاب نسخته

(1)

.

وينسخ الكتاب المثبت، أو المَحْضَر جميعَه، حرفًا بحرف، فإذا فَرَغَه قال: وإن القاضي أمضاه، وحكم به على ما هو الواجب في مِثْله، بعد أن سأله ذلك - والإشهادَ به - الخصمُ المُدَّعِي، وينسِبُهُ) يعني: يذكر اسمَه ونسبه (ولم يدفعه الخصمُ الحاضرُ معه بحُجَّة، وجَعَل كلَّ ذي حُجَّة

(1)

في "ح" و"ذ" ومتن الإقناع (4/ 461): "نسخة كذا".

ص: 190

على حُجَّتِه، وأشْهَد القاضي فلانٌ على إنفاذه وحكمه وإمضائه مَن حَضَرَه من الشُّهود في مجلسِ حُكمه، في اليوم المؤرَّخ في أعلاه، وأمر بكَتْبِ هذا السِّجِلِّ نُسْخَتين متساويتين) لأنهما التي تقوم إحداهما مقام الأخرى (نُسخةً منهما تُخَلَّد بديوان الحكم) والدِّيوان - بكسر الدال، وفي لغةٍ بفتحها - قال ابن الأثير في "النهاية"

(1)

: وهو الدفتر. ثم أُطلق على الحاسب، ثم أُطلق على موضع الحاسب (ونسخةً يأخذها مَن كَتَبها) له (وكلُّ واحدةٍ حُجَّةٌ بما أنفَذَه فيهما) لتضمّنهما ذلك (ولو لم يَذكُر) بمَحْضر (مِن خصمين، ساغَ؛ لجواز القضاء على الغائب) وإنما ذكر - فيما تقدم - للخروج من الخلاف.

(ومهما اجتمع عنده من مَحاضرَ وسِجِلات في كلِّ أسبوع، أو شهر، أو سنة، على حَسَبِها قِلَّة وكَثْرة، ضَمَّ بعضَها إلى بعضٍ) لأن إفراد كلِّ واحدٍ يشق (وكتب: محاضر وسجلات كذا) من

(2)

(وقت كذا) لتتميز، وليمكن إخراجها عند الحاجة إليها. قال في "الكافي": فإن تولَّى ذلك بنفسه، وإلا وكَّل أمينه.

وذكر في "الرعاية": أنه يكتب مع ذلك أسماءَ أصحابِها، ويختم عليها، وإن أحضر خصمه وادَّعى عليه فأنكر، ذكر القاضي أنه حكم عليه بالبينة مثلًا، أو بالنكول.

وأما‌

‌ صفة كتاب القاضي إلى القاضي،

فقال في "شرح المقنع": بسم الله الرحمن الرحيم، سبب هذه المكاتبة - أطال الله بقاء من تصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم - أنه ثَبَتَ عندي في مجلس حُكمي

(1)

(2/ 150) مادة (دين).

(2)

في "ذ": "في".

ص: 191

وقضائي، الذي أتولاه في مكان كذا - وإن كان نائبًا ذكر: الذي أنوب فيه عن القاضي فلان - بمحضر من خصمين، مدَّعٍ، ومدَّعىً عليه، جاز استماع الدعوى عنهما، وقَبول البينة من أحدهما على الآخر، بشهادة فلان وفلان، وهما من الشهود المُعدَّلين عندي، عرفتُهما، وقبلتُ شهادتهما، بما رأيت معه قَبولها، معرفة فلان بن فلان الفلانيِّ، بعينه ونسبه واسمه.

فإن كان في إثبات أسرِ أسيرٍ، قال: وإن الفِرنج - خذلهم الله تعالى - أسروه من مكان كذا، في وقت كذا، وحملوه إلى مكان كذا، وهو مقيمٌ تحت حوطتهم، وإنه فقير من فقراء المسلمين، ليس له شيء من الدنيا، لا يقدر على فَكاك نفسه، ولا على شيء منه، وإنه يستحقُّ الصدقة على ما يقتضيه كتاب المَحْضر، المتصل أوله بآخر كتابي المؤرَّخ بكذا.

وإن كان في إثبات دين، قال: وإنه يستحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني - ويرفع في نسبه ويصفه بما يتميز به - من الدين كذا وكذا، دينًا له عليه حالًّا، وحقًّا واجبًا لازمًا، وإنه يستحق المطالبة به، واستيفاءه منه.

وإن كان في إثبات عَيْن، كتب: وإنه مالك لما في يَدِ فلان من الشيء الفلاني - ويصفه بصفة يتميز بها - مستحِقٌّ لأخذه وتسليمه، على ما يقتضيه كتاب المَحْضر المتصل بآخر كتابي هذا، المؤرَّخ بتاريخ كذا، وقال الشاهدان المذكوران: إنهما عالمان بما شَهِدا به، وله محقِّقان، وإنهما لا يعلمان خلافَ ما شَهِدا به إلى حينَ أقاما الشهادة عندي، فأمضيتُ ما ثبت عندي من ذلك، وحكمت بموجبه بسؤال مَن جاز مسألته، وسألني من جاز سؤاله، وشَرَعَتِ الشريعةُ المطهَّرة إجابتَه،

ص: 192

المكاتبةَ إلى القضاة والحكام، فأجبته إلى ما الْتَمَسه؛ لجوازه شرعًا، وتقدَّمتُ بهذا فكُتب، وبإلصاق المحضر المشار إليه فأُلصق، فمن وقف عليه منهم، وتأمل ما ذكرته، وتصفح ما سطرته، واعتمد في إنفاذه، والعمل بموجِبه ما يوجبه الشرع المطهَّر، أحرز من الأجر أجزله، وكتب من مجلس الحكم المحروس، من مكان كذا، في وقت كذا.

ولا يُشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان، ولا ذكرُ المكتوب إليه في باطنه. وبهذا قال الشافعي

(1)

. وقال أبو حنيفة: إذا لم يذكر اسمه، فلا يقبله؛ لأن الكتاب ليس إليه، ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه؛ لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة

(2)

. ولنا: أنَّ المعوَّل فيه على شهادة الشاهدين على الحاكم الكاتب بالحكم، وذلك لا يقدح. ولو ضاع الكتاب أو انمحى؛ سُمعت شهادتهما، وحُكم بها.

(1)

انظر: الأم (6/ 212)، وتحفة المحتاج (10/ 175).

(2)

انظر: المبسوط (16/ 101)، والبناية في شرح الهداية (7/ 48)، وحاشية ابن عابدين (5/ 434).

ص: 193

‌باب القسمة

بكسر القاف، اسم مصدر قسم يقسم قَسْمًا. قال الجوهري

(1)

: القَسْم: مصدر قسمت الشيء فانقسم، وقاسمه المال وتقاسماه واقتسماه.

(وهي تمييزُ بعضِ الأنصباءِ عن بعضٍ، وإفرازُها عنها) وأجمعوا على جوازها

(2)

.

وسنده قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ}

(3)

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. . .} الآية

(4)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الشُّفعة فيما لم يُقسم"

(5)

. وكان صلى الله عليه وسلم يقسِمُ الغنائمَ بين أصحابه

(6)

. والحاجةُ داعيةٌ إلى ذلك؛ ليتمكَّن كلُّ واحدٍ من الشركاء مِن التصرُّف على حسب اختياره، ويتخلَّص من سوء المشاركة، وكثرة الأيدي.

(وهي) أي:‌

‌ القسمة (نوعان:

أحدهما: قِسمة تراضٍ

لا تجوز إلا برضا الشركاء كلّهم، وهي ما فيها ضررٌ، أو رَدُّ عِوضٍ من أحدهما) على الآخر (كالدُّورِ الصِّغار، والحمَّام، والطاحون الصغيرين، والعضائد المتلاصقة، أي: المُتَّصلة صفًّا واحدًا، وهي) أي: العضائد (الدكاكين اللطاف الضيقة) وقال في

(1)

الصحاح (5/ 2010 - 2011) مادة (قسم).

(2)

انظر: الإجماع لابن المنذر ص/ 158، والإشراف على مذاهب أهل العلم (2/ 421).

(3)

سورة القمر، الآية:28.

(4)

سورة النساء، الآية:8.

(5)

تقدم تخريجه (9/ 341) تعليق رقم (2)، (9/ 348) تعليق رقم (2).

(6)

انظر ما تقدم (9/ 138) تعليق رقم (5)، (9/ 139) تعليق رقم (1).

ص: 194

"المبدع": واحدتها عِضادة، وهي: ما يصنع لجريان الماء فيه من السواقي ذوات الكتفين، ومنه عِضادتا الباب، وهما جنباه من جنبيه.

(فإن طلب أحدُهما) أي: أحد الشريكين (قِسمة بعضِها في بعض) أي: أن يجعل بعضَها في مقابلة بعضٍ (لم يُجبر الآخر؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما مفرد، ويُقصَد بالسَّكن، ولكلِّ واحدٍ منها طريق مفرد) وكل عَيْن منها تختصُّ باسم وصورة. ولو بيعت إحداها

(1)

، لم تجب الشُّفعة لمالكِ التي بجانبها (فجرى) ذلك (مجرى الدُّور المتجاورة، فلا يُمكن قِسمةُ كلِّ عَينٍ) مفردة (وكذا الشجر المُفْرَد، والأرض التي ببعضها بئر أو بناء، أو نحوه) أي: ونحو ما ذكر، فتُعتبر كلُّ عينٍ منها على حِدتها (و) حيث (لا يمكن قسمه بالأجزاء والتعديل) لا يقسم بغير رضا الشركاء كلهم (فإن قسموه برِضاهم أعيانًا

(2)

بالقيمة، جاز) لأن الحقَّ لا يعدوهم.

(وحُكْمُها) أي: قِسمة التراضي (كبيعٍ) لأن صاحب الزائد بَذَل المال عوضًا عمَّا حصل له من حقِّ شريكه، وهذا هو البيع (قال المجد: الذي تحرَّر عندي فيما فيه رد، أنه بيع فيما يقابل الردّ) أي: العِوض الذي رُدَّ من أحدهما على الآخر (وإفراز في الباقي. انتهى) ويؤيده قول القاضي في "التعليق"، وصاحب "المبهج"، والموفَّق في "الكافي": البيع ما فيه رَدّ عِوض، وإن لم يكن فيها رَدّ عوض، فهي إفراز النصيبين، وتمييز الحقّين، وليست بيعًا. واختاره الشيخ تقي الدين

(3)

.

(1)

في "ذ": "إحداهما".

(2)

في "ذ": "أعيانًا برضاهم".

(3)

انظر: الاختيارات الفقهية ص/ 505.

ص: 195

(فلا يجوز فيها) أي: قسمة التراضي (ما لا يجوز في البيع) لأنها نوع من أنواعه (ولا يُجبر عليها الممتنع) منهما؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني

(1)

، قال النووي

(2)

: حديث حسن، وله طرق يقوِّي بعضُها بعضًا. ولأنه إتلافٌ وسَفَه يستحقُّ به الحَجْر، أشبه هدم البناء.

وعُلم من قوله: "ولا يمكن قسمه بالأجزاء والتعديل" أنه لو أمكن قسمه بالأجزاء، مثل أن تكون البئر واسعة يمكن أن يجعل نصفها لواحد، ونصفها للآخر، ويجعل بينهما حاجز في أعلاها، أو يكون البناء كبيرًا يمكن أن يجعل لكلِّ واحدٍ منهما نصفه، أو أمكن القسم بالتعديل، كأن يكون في أحد جانبي الأرض بئر يساوي مائة، وفي الجانب الآخر منها بئر يساوي مائة، فهو من قِسمة الإجبار؛ لانتفاء الضرر.

(فلو) كان لهما دار، لها عُلْو وسُفْل و (قال أحدُهما: أنا آخذ الأدنى، ويبقى لي في الأعلى تتمة حِصَّتي، فلا إجبار) للشريك الممتنع منهما على ذلك؛ لأنها بيع، ولا إجبار فيه، كما سبق.

(ومن دعا شريكه فيها) أي: في الدُّور الصغار، ونحوها - مما تقدم - إلى البيع، أُجْبِر (أو) دعا شريكه (في شَرِكة عبد، أو بهيمة، أو سيف، ونحوه) ككتاب (إلى البيع، أُجْبِر) إن امتنع على البيع؛ ليتخلَّص الطالب من ضرر الشركة (فإن أبى) الممتنع البيع (بِيع) أي: باعه الحاكم (عليهما) لأنه حق عليه، كما يبيع الرهن إذا امتنع الراهن (وقَسَمَ االثمنَ)

(1)

تقدم تخريجه (2/ 111) تعليق رقم (1).

(2)

في متن الأربعين النووية عقب الحديث الثاني والثلاثين.

ص: 196

بينهما بحسب الملك؛ لأنه عوضه (نصًّا

(1)

. قال الشيخ

(2)

: وهو مذهب أبي حنيفة

(3)

، ومالك

(4)

، وأحمد) رحمهم الله.

(وكذا لو طلب) أحدُهما (الإجارة، ولو في وقف) فَيُجبر الممتنع، فإن أصرَّ، أجره الحاكم عليهما، وقسم الأجرة بينهما بحسب الملك، أو الاستحقاق.

(والضرر المانع من قِسمة الإجبارِ نقصُ قيمة المقسوم بها) لأن نقص قيمته ضرر، وهو منتفٍ شرعًا، وسواء انتفعوا به مقسومًا، أو لا، و (لا) يُعتبر (لـ) ـلضرر (كونهما لا ينتفعان به مقسومًا) أي: لا يُعتبر ذلك خلافًا لظاهر الخِرقي، واختاره الموفّق، وذكر في "الكافي": إنه القياس، وهو رواية (وتقدمَّ بعضُ ذلك في الشُّفعة

(5)

.

فإن تضرَّر بها) أي: القسمة (أحدُ الشريكين وحدَه، كرَبِّ الثلث مع ربِّ الثلثين، فطلب أحدُهما القِسمة، لم يُجبر الممتنع) ولو كان الطالب هو المُتضرِّر؛ لأن فيه إضاعة مال؛ ولأنها قِسمة يضرُّ بها صاحبه، فلم

(6)

يُجبر عليها، كما لو استضرَّا معًا.

(وما تلاصق من دور وعضائد ونحوها) كأقرحة، وهي الأرض التي لا ماء بها ولا شجر

(7)

، كمتفرق (يُعتبر الضرر في كلِّ عينٍ وحدَها)

(1)

انظر: الفروع (6/ 505).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (29/ 248).

(3)

انظر: بدائع الصنائع (7/ 17)، وحاشية ابن عابدين (4/ 332 - 335).

(4)

انظر: الشرح الصغير (5/ 178)، ومنح الجليل (3/ 650).

(5)

(9/ 348).

(6)

في "ذ": "فلا".

(7)

القاموس المحيط ص/ 301، مادة (قرح).

ص: 197

لما تقدم.

(ومن كان بينهما عبيد، أو بهائم، أو ثياب، ونحوها) كأواني، فإن كانت (من جنس واحد) وفي "المغني": من نوع (فطلب أحدُهما قَسْمها أعيانًا) وأمكن أن تعدل (بالقيمة، أُجْبِر الممتنع إن تساوت القيمة) لحديث عمران بن حصين: "أن رجلًا أعتق في مرضه ستة أعبد، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جزّأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة"

(1)

، وهذه قِسمة لهم؛ ولأن ذلك عين أمكن قسمتها، ولا ضرر ولا رَدّ عوض، فأُجْبِر الممتنع، كما لو كانت أرضًا (وإلا) أي: وإن لم تتساو القيمة (فلا) إجبار (كاختلاف أجناسها) بأن كان بعض البهائم ضأنًا، وبعضُها بقرًا.

(والآجر) وهو اللَّبِن المشويّ (واللَّبِن) - بكسر الموحدة تحت - وهو غير المشوي (المتساوي القوالب، من قسمة الأجزاء) لتساويها في القدر (والمتفاوت) القوالب (من قسمة التعديل) بالقيمة.

(وإن كان بينها حائط، أو عَرْصة حائط، وهي موضعه بعد استهدامه) أي: الحائط (فطلب أحدهما قَسْمَه) أي: الحائط أو عرصته (ولو طولًا في كمال العرض) لم يُجبر ممتنع (أو) طلب قسمة (العَرْصة عرضًا ولو وسعت حائطين، لم يُجبر ممتنع) قال في "شرح المحرر": لأنه إن كان الحائط مبنيًا، لم تمكن قسمته عرضًا في تمام طوله بدون نقضه؛ ليفصل أحدهما من الآخر، وذلك لا يجوز الإجبار عليه، ولا طولًا في تمام العرض؛ لأن كل قطعة من الحائط ينتفع بها على حِدَتِها، والنفعُ فيها مختلف، فلا يجوز إجبار واحد منهما على تَرْك انتفاعه بمكانٍ منه؛ وأخذ غيره، كما لو كانا دارين، أو عضادتين متلاصقتين، وهذا

(1)

أخرجه مسلم في الأيمان، حديث 1668.

ص: 198

بخلاف الأرض الواسعة، فإن الانتفاع بالجميع منها على وجهٍ واحد. وإن كان الحائط غير مبنيٍّ، فهو كالعَرْصة الضيقة، والعَرْصة الضيقة لا يجوز الإجبار في قسمتها، فكذلك هذه.

(وإن كان بينهما دار لها عُلْوٌ وسُفْلٌ، فطلب أحدُهما قَسْمَها، لأحدهما العلو وللآخر السُّفْل) فلا إجبار (أو طلب) أحدُهما (قِسْمَة السُّفل دون العلو، أو عكسه) بأن طلب قِسْمة العلو دون السُّفل، فلا إجبار؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما مسكن منفرد؛ ولأن في إحدى الصُّور قد يحصُل لواحد منهما علوُ سُفلِ الآخر، فيتضرَّر كلٌّ منهما، وفي أحدهما لا يحصل التمييز (أو) طلب أحدهما (قسمة كل واحد) من العلو والسُّفل (على حِدة، فلا إجبار) لما فيه من الضرر.

(ولو طلب أحدُهما قسمتَهما) أي: العلو والسفل (معًا ولا ضرر) ولا رد عوض (وجب) وأُجبر الممتنع (وعدِّل بالقيمة) لأنه أحوط، و (لا) يجعل (ذراع سُفْلٍ بذراعي عُلْوٍ) ولا عكسه (ولا ذراعٌ بذراعٍ) إلا أن يتراضيا على ذلك.

(وإن تراضيا) أي: الشريكان (على قَسْمِ المنافع، كدار منفعتُها لهما، مثل دارٍ وقفٍ عليهما، أو مستأجَرَةٍ) لهما أو لمورثهما (أو ملك لهما، فاقتسماها مُهَايأةً بزمانٍ؛ بأن تُجعل) الدار (في يد أحَدِهما شَهْرًا، أو عامًا ونحوه) بحسب ما يتراضيان عليه (وفي يَدِ الآخر مِثلَها) أي: مثل تلك المدة التي كانت فيها بيد الأول (أو) اقتسماها مُهَايأة (بمكان، كسُكنى هذا في بيت، و) سُكنى (الآخر في بيت ونحوه، جاز؛ لأن المنافع كالأعيان) والحقُّ لهما فيها، فجاز ما تراضيا عليه.

(فإن اتفقا على المُهَايأة، وطلب أحدُهما تطويلَ الدَّوْر الذي يأخُذُ

ص: 199

فيه نَصيبَه، وطَلَب) الشريك (الآخر تقصيرَه، وجبت إجابَةُ من طلب التقصيرَ؛ لأنه أقرب إلى الاستيفاءِ، فإذا تهايآ) عبدًا، أو نحوه (اختصَّ كلُّ واحدٍ) من الشريكين (بمنفعتِه وكَسْبِه في مُدَّته) ليحصُل مقصود القسمة (لكن لا يدخل) في المُهَايأة (الكسبُ النادرُ - في وَجْهٍ - كاللقطة، والهِبة، والرِّكاز) إذا وجده العبد، فلا يختصُّ به من هو في نوبته، وهذا هو مقتضى ما جَزَم به هو وصاحب "المنتهى" وغيرهما في آخر اللقطة، في المبعَّض إذا وجدها.

(وإن تهايآ في الحيوان اللَّبون، ليحتَلب هذا يومًا، وهذا يومًا) لم يصح (أو) تهايآ (في الشجرة المثمرة؛ لتكون ثمرتُها

(1)

لهذا عامًا، ولهذا عامًا، لم يصح) ذلك (لما فيه من التفاوت الظاهر، لكن طريقه أن يُبيحَ كلّ واحدٍ منهما نصيبه لصاحِبه في المدة) التي تكون بيده، ويكون من باب المنحة والإباحة، لا القسمة.

(ويكون ذلك كلُّه) أي: ما تقدَّم من قسمة المنافع بالزمان والمكان (جائزًا، لا لازمًا) سواء عيَّنا مدة، أو لم يعيناها، كالعارية من الجهتين.

(فلو رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته، فله ذلك، وإن رجع بعدَه) أي: بعد استيفاء نوبته (غَرِم ما انفرد به) أي: أعطى شريكه نصيبه من أجرة المِثْل؛ لزمن انفراده بالانتفاع.

(وإن كان بينهما أرضٌ فيها زَرْعٌ لهما، فطلب أحدُهما قَسْمَها دونَ الزرع، قُسِمت، كالخالية) من الزرع، وأُجبر الممتنع؛ لأن الزرع في الأرض كالقُماش في الدار، وهو لا يمنع قسمة الدار، فكذا الزرع، ولا فرق بين كون الزرع بذرًا أو قصيلًا أو مشتدًّا.

(1)

في "ذ": "الثمرة".

ص: 200

(وإن طلب قِسْمَة الزَّرْع دونها) أي: الأرض (أو) طلب (قِسْمتَهما) معًا (فلا إجبار) للمتنع؛ لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها، فلا يُقسم معها، كالقُماش الذي في الدار، ولا وحده؛ لأن القسمة لا بُدَّ فيها من تعديل المقسوم، وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن؛ لأن الزرع يكون فيه جيد ورديء، فإن جعل الكثير من الرديء في مقابلة القليل من الجيد، كان صاحب الرديء منتفعًا من الأرض بأكثر من حقّه منها؛ لأن الزرع يجب بقاؤه في الأرض إلى حصاده.

(وإن تراضيا عليه) أي: على قِسْمة الزرع (والزرع قَصيل، أو) الزرع (قُطْن، جاز) كبيعه؛ ولأن الحقَّ لهما، ولجواز التفاضل إذًا.

(وإن كان) الزرع (بَذْرًا، أو سنبلًا مشتدَّ الحبِّ، لم يصِحَّ) أي: لم يجز (ولو تراضيا) على قِسمته؛ لأن البَذْر مجهول، وأما السنبل، فلأنه بيع بعضه ببعض مع عدم العلم بالتساوي.

(وإن كان بينهما نهر، أو قناة، أو عين ينبع

(1)

ماؤها، فالنفقةُ لحاجةٍ بقَدْرِ حَقَّيهما) أي: حقّ كلِّ واحدٍ منهما من النهر أو القناة أو العين، كالعبد المشترك (والماء بينهما على ما شرطاه عند استخراجه) أي: الماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"

(2)

.

(وإن رضيا بقَسْمه) أي: الماء (مُهَايأة بالزمان) كيومٍ لهذا، ويوم لهذا، جاز؛ لأن الحقَّ لهما، وكالأعيان (أو) تراضيا على قسمه (بمزاز، بأن يُنصب حجرٌ مستوٍ، أو) ينصب (خشبة في مصدم الماء، فيه) أي: الحجر، أو الخشبة (ثقبان على قَدْر حقيهما، جاز) لأن ذلك طريق إلى

(1)

في "ذ": "نبع".

(2)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

ص: 201

التسوية بينهما، فجاز، كقسم الأرض بالتعديل.

(وإن أراد أحدهما أن يسقي بنصيبه أرضًا لا شِرْب) بكسر الشين، وهو النصيب من الماء (لها من هذا الماء، لم يُمنع) لأن الحق له، وهو يتصرّف على حسب اختياره، وكما لو لم يكن شريكًا (وتقدم

(1)

في باب إحياء الموات) ويجيء على أصلنا أن الماء لا يُملك، وينتفع

(2)

كل واحد منهما على قَدْر حاجته؛ قاله أبو الخطاب؛ لأنه من المباحات، ولا يملك بملك الأرض.

فصل

(النوع الثاني) من نوعي القِسمة: (قِسمةُ إجبارٍ) لأنه يلي النوع الأول، وهو قِسْمة التراضي.

(وهي) أي: قِسْمة الإجبار: (ما لا ضرر فيها عليهما) أي: الشريكين (ولا على أحدهما، ولا رَدَّ عِوضٍ، كأرضٍ واسعةٍ، وقرية، وبُستان، ودارٍ كبيرة، ودُّكَّانٍ واسعٍ ونحوها، سواء كانت متساويةَ الأجزاءِ أو لا، إذا أمكن قسمتها بتعديل السِّهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن ذلك) أي: تعديل السِّهام (إلا بجعل شيء معها، فلا إجبار) لأنه معاوضة، فلا يُجبر عليها مَن امتنع منها، كسائر المعاوضات.

(ولهما) أي: الشريكين (قَسْم أرض بستان دون شجره، وعكسه) بأن يقتسما الشجر دون الأرض (و) قَسْم (الجميع، فإن قسما الجميع) أي: الأرض والشجر (أو) قسما (الأرض) وحدها (فقسمةُ إجبارٍ) حيث

(1)

(9/ 470).

(2)

زاد في "ذ": به.

ص: 202

أمكنت قِسمتُها بالتعديل من غير رَدِّ عوضٍ (ويدخل الشجر تبعًا) للأرض، كالبيع.

(وإن قسما) أي: طلب أحدُهما قِسمةَ (الشجر وحدَه، فلا إجبار) لمن امتنع منهما.

(ومِن قِسْمةِ الإجبار: قِسْمةٌ مكيلٍ وموزونٍ من جنس واحدٍ، كدُهْن) من زيت، وشيرج، وغيرهما (ولَبَنٍ، ودِبْسٍ، وخلٍّ، وتمر، وعِنب ونحوها) كسائر الحبوب، والثمار المكيلة (فإذا طلب أحدهما القِسْمة فيها) أي: في المذكورات فِي هذا النوع (وأبى) الشريك (الآخر، أُجبر) الممتنع (ولو كان وليًّا على صاحب الحِصَّة) لأنه يتضمَّن إزالة الضرر الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين؛ لأن نصيب كلِّ واحدٍ منهما إذا تميَّز، كان له أن يتصرَّف فيه بحسب اختياره، ويتمكَّن من إحداث الغِراس والبناء، وذلك لا يمكن مع الاشتراك.

ويُشترط للإجبار - أيضًا - أن يثبت عند الحاكم أنه مِلكهم ببينة، لأن في الإجبار عليها حكمًا على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، بخلاف حالة الرضا، فإنه لا يحكم على أحدهما.

ويُشترط - أيضًا -: أن يثبت عنده انتفاءُ الضَّرر، وإمكان تعديل السِّهام في العين المقسومة من غير شيء يُجعل فيها.

(ويَقسم حاكمٌ مع غيبة وَليٍّ، وكذا) يقسم حاكمٌ (على غائبٍ في قِسْمَةِ إجبارٍ) لأنها حقٌّ على الغائب، فجاز الحكم عليه به كسائر الحقوق.

(فإن كان المشترَك مِثليًّا - وهو المَكيل والموزون - وغاب الشريك أو امتنع) من قِسمته (جاز لـ) ـــلشريك (الآخر أخذ قَدْرِ حَقِّه عند أبي

ص: 203

الخَطَّاب) وجزم المصنف بمعناه في الوديعة

(1)

، تبعًا "للمقنع". قال في "الإنصاف": هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب (لا عند القاضي) والناظم، وهو مقتضى قول المصنف آنفًا.

ومن قِسْمَةِ الإجبار: قِسْمة مَكيل وموزون، إذ القول بالإجبار يمنع الأخذ بنفسه، ووجه قول القاضي: أن القسمة مُختَلَف فِي كونها بيعًا.

(وإذْنُ الحاكم يرفع النزاعَ) ويُزيل الاختلاف.

(وقال الشيخ

(2)

في) جواب سؤال عن ‌

‌(قرية مُشَاعة قَسَمها فلَّاحوها، هل يصح؟

فقال: إذا تَهايَؤوا، وزَرَعَ كلٌّ منهم حِصَّته، فالزرع له) أي: للزارع (ولربِّ الأرض نصيبُه) أي: القسط المعتاد له فِي نظير رقبة الأرض (إلا أن من ترك من نصيب مالكه) يعني: من نصيب هو يملك منفعته (فله أخْذُ أُجْرةِ الفَضْلة) أي: أجرة مثلها (أو مقاسَمَتُها) أي: أخذ قسم

(3)

الفضلة على ما جرت العادة به في ذلك الموضع. وهذا مبنيٌّ على ما تقدَّم عنه: أن من زرع أرض غيره بغير عقد، لربِّ الأرض مقاسمته في الزرع؛ إذا كان ذلك عادة أولئك. ومقتضى كلام الأصحاب: له أُجرة المِثْل من أحد النقدين فقط. ومقتضى كلامه: عدم صحة قسمة الأرض من الفلاحين؛ لعدم ملكهم لها، لكن الزرع لزارعه، على ما سبق تفصيله.

(وهي) أي: قِسْمة الإجبار: (إفرازُ حَقِّ) أحدِهما من الآخر؛ لأنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك، ولا تجب فيها شُفعة، ويدخلها الإجبار.

(1)

(9/ 434).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 509.

(3)

في "ذ": "قسمة".

ص: 204

والإفراز: مصدر أفرزت الشيء، يقال: فَرَزْته وأفْرَزْته، إذا عزلته.

(لا بيع) أي: وليست قِسْمة الإجبار بيعًا؛ لأنها تُخالِفه في الأحكام والأسباب، فلم تكن بيعًا، كسائر العقود.

(فيصحُّ قَسْمُ وقفٍ بلا رَدّ من أحدِهما) على الآخر (إذا كان) الوقف (على جهتين فأكثر) لأن الغرض التمييز.

(فأما) الوقف (على جهةٍ واحدةٍ، فلا تُقسم عَيْنُه قِسْمةً لازمةً، اتفاقًا؛ لتعلُّقِ حَقِّ الطبقة الثانية والثالثة) وما بعدها (لكن تجوز المُهَايأة) فيه للموقوف عليهم بالزمان والمكان (وهي قِسْمة المنافع) قاله الشيخ تقي الدين

(1)

عن الأصحاب. وهذا وجه، وظاهر كلام الأصحاب: لا فَرْق. قال في "الفروع": وهو أظهر. وفي "المبهج": لزومها إذا اقتسموا بأنفسهم، أو تهايؤوا.

(ونفقة الحيوان) إذا تقاسموا نفعه بالمُهَايأة (مُدَّةَ كلِّ واحدٍ) من الشركاء (عليه) لأنه أرفق بهم مع حصول التساوي. قلت: فإن مات الحيوان في نَوْبة أحدهم، فلا ضمان عليه؛ لأن ما يستوفيه من المنافع في نظير ما يستوفيه شريكه، فهو في معنى الإجارة، لا العارية.

(وإن نقص الحادثُ عن العادة) لعجز في الحيوان ونحوه (فللآخر الفسخُ) لأن المُهَايأة غير لازمة كما تقدَّم، ويرجع على شريكه بحصته مما استوفاه زائدًا عنه.

(وتجوز قِسْمة ما بعضُه وقفٌ، وبعضُه طِلْق) بكسر الطاء، أي: حلال، وسُمِّي المملوك طِلقًا؛ لأن جميع التصرُّفات فيه حلال، والموقوف ليس كذلك (بلا رَدِّ عِوضٍ من رَبِّ الطِّلْق) على الموقوف

(1)

انظر: الفتاوى (31/ 196 - 197، 256)، والاختيارات الفقهية ص/ 509.

ص: 205

عليه؛ لأن الغرض التمييز.

(و) تجوز القِسمة (برَدِّ عوضٍ من مستَحِقِّ الوقف) لأنه يشتري بعض الطِّلْقِ، بخلاف عكسه، فإن بيع الوقف غير جائز.

(و) تجوز (قِسْمة الدَّين فِي ذِمَمِ الغُرماء) حيث قلنا: إنها إفراز لا بيع؛ تبع فيه "الإنصاف" هنا (وتقدَّم في الشركة

(1)

) أنه لا يصح.

(وتجوز قِسْمة الثِّمارِ خَرْصًا) إن كانت مما يخرص، كالنخل والكرم (ولو) كانت الثمار (على شجر قبل بُدوِّ صَلاحِه) أي: الثمر، ولو (بشرط التبقية.

و) تجوز (قِسْمةُ لَحْمِ هدي، وأضاحي وغيرهما) من الذبائح (و) قِسْمة (مرهون، فلو رَهَن) شريك (سهمَه مُشَاعًا، ثم قاسم شَريكه، صَحَّ) ولو بغير إذن المرتهن (واختَصَّ قَسْمُه بالرَّهن.

وتجوز قِسمةُ ما يُكالُ وزنًا، و) قِسْمة (ما يوزن كيلًا) لأن الغرض التمييز (وتفرقهما قبل القبض فيهما) لأن التفرُّق إنما منع منه في البيع، وهذا إفراز (ولا خيار فيها) أي: في القسمة (ولا شُفعة.

ولا يحنثُ مَنْ حَلَف لا يبيعُ؛ إذا قاسَمَ) لأن ذلك ليس ببيع.

(ولو كان بينهما ماشيةٌ مشتركةٌ، فاقتسماها في أثناء الحَوْل، واستداما خُلْطةَ الأوصاف، لم ينقطع الحولُ) لأن أحدهما لم ينفرد عن الآخر، ولا بيع.

(وإن ظهر فِي القِسْمة غَبْنٌ فاحشٌ، لم تصح) القسمة (لتبين فساد الإفراز.

وإن كان بينهما أرضٌ يشرَبُ بعضُها سَيحًا، و) يشرب (بعضُها

(1)

(8/ 488).

ص: 206

بَعْلًا، أو في بعضها شجر، وفي بعضها نَخْل، فطلب أحدهما قِسْمةَ كلِّ عينٍ على حِدة، وطلب الآخر قِسمتها أعيانًا بالقيمة، قُدِّم من طلب قسمة كلِّ عينٍ على حدة؛ إن أمكن التسوية في جيده ورديئه) لأن ذلك أقرب إلى التعديل؛ لأن لكلِّ واحدٍ منهما حقًّا في الجميع؛ ولأن الحامل على القِسمة زوال الشركة، وهو حاصل بما ذكر (وإن لم يمكن) أن يُسوَّى في جيده ورديئه (وأمكن التعديل بالقيمة؛ عُدِّلت) بالقيمة، لتعينه إذًا (وأُجبر الممتنع) من القِسْمة؛ لإمكانها بلا ضرر (وإلا) أي: وإن لم يمكن التعديل أيضًا بالقيمة (فلا) إجبار لمن امتنع منهما.

فصل

(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، و) أن يتقاسموا (بقاسم ينصبونه) لأن الحق لهم لا يعدوهم (أو يسألوا الحاكم نَصْبَه) أي: القاسم ليقسم بينهم؛ لأن طلبه حق لهم، فجاز أن يسألوه الحاكم، كغيره من الحقوق (وأُجرتُه) أي: القاسم، وتُسمَّى القُسامة - بضم القاف - (مباحة) لأنها عوض عن عمل لا يختصُّ فاعله أن يكون من أهل القُرْبة؛ قاله في "شرح المنتهى"، ولا يُنافيه اشتراط الإسلام في قاسم نصبه الحاكم؛ لأنه من حيث نيابته عن الحاكم، لا من حيث كونه قاسمًا في نفسه.

(فإن استأجره) أي: القاسم (كلُّ واحدٍ منهم) أي: الشركاء (بأجر معلوم ليقسم نصيبه، جاز) لأنه عملٌ معلومٌ.

(وإن استأجروه) أي: الشركاء (جميعًا، إجارة واحدة، بأجرةٍ واحدةٍ، لزم كلَّ واحدٍ من الأجر بقَدْرِ نصيبه من المقسوم) كالنفقة على الملك المشترك (ما لم يكن شرط) فيتبع، على ما في "الكافي". وقال في

ص: 207

"المنتهى": وهي بقَدْرِ الأملاك ولو شرط خلافه، (و) الأجرة على الجميع (سواء طلبوا القسمة، أو) طلبها (أحدهم.

وأجرة شاهد يخرج لقَسْمِ البلاد، ووكيلٍ، وأمينٍ للحفظ) أي: حفظ الزرع الذي يؤخذ خراجه منه (على مالك وفلاح؛ قاله الشيخ

(1)

) يعني: بقَدْر الأملاك كأجرة القاسم.

(وقال) الشيخ

(1)

: (إذا مانهم الفلاحُ بقَدْر ما عليه) لهم من الأجرة (أو) بقَدْر ما (يستحقه الضيف، حلَّ لهم.

وقال

(1)

: وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قَدْرَ أُجرة عمَله بالمعروف، والزيادة يأخذها المُقْطِع؛ فالمُقْطِع هو الذي ظَلَم الفلاحين.

فإذا أعطى الوكيلُ المُقْطِعَ من الضريبة ما يزيد على أُجرة مثله، ولم يأخذ لنفسه إلا أُجرة عَمَله، جاز له ذلك) قلت: وفيه نظر، كيف وله مدخل في ظلمهم. قال تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}

(2)

.

(ويُشترط أن يكون القاسم) الذي ينصبه الحاكم

(3)

(مسلمًا عدلًا) لِيُقبل قوله في القسمة (عارفًا بالقِسْمة) ليحصُل منه المقصود؛ لأنه إذا لم يعرفها، لم يكن تعيينه للسهام مقبولًا (قال) الشيخ (الموفَّق وغيره) كالشارح، والزركشي:(وعارفًا بالحساب) لأنه كالخَطِّ للكاتب. وفي "الكافي"، و"الشرح": إن كان من جهة الحاكم اشترطت عدالته، وإن كان من جهتهم لم تُشترط، إلا أنه إن كان عدلًا، كان كقاسم الحاكم في

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 509.

(2)

سورة هود، الآية:113.

(3)

في "ذ": "الإمام".

ص: 208

لزوم قِسمته بالقُرعة، وإن لم يكن عدلًا لم تلزم قِسْمته إلا بتراضيهما (فإن كان) القاسم (كافرًا، أو فاسقًا، أو جاهلًا بالقِسْمة، لم تلزم إلا بتراضيهم بها) كما لو اقتسموا بأنفسهم.

(ويُعَدِّلُ) القاسم (السهام بالأجزاء إن تساوت) كالمائعات والمكيلات من الحبوب والثمار إن لم تختلف، وكالأرض المتساوية جودة أو رداءة.

(و) يُعَدِّلُ السهام (بالقيمة إن اختلفت) فيجعل السهمَ من الرديء أكثر منه من الجيد، بحيث إذا قُوِّما، كانت قيمتها سواء؛ لأنه إذا تعذَّر التعديل بالأجزاء، لم يبقَ إلا التعديل بالقيمة، ضرورةَ أن قِسْمة الإجبار لا تخلو من أحدهما.

(و) تُعَدَّل السهام (بالرد إن اقتضته) بأن لم يمكن تعديل السِّهام بالأجزاء ولا بالقيمة، فإنها تُعَدَّل بالرد، بأن يجعل مع الرديء أو القليل دراهم أو دنانير على من يأخذ الجيد أو الأكثر.

(فإذا تمَّت) القِسمةُ، بأن عُدِّلت السهام بواحد مما سبق (وأُخرجت القُرعة، لزمت القسمة) لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحكم؛ نص عليه

(1)

؛ لأنه مجتهد في تعديل السِّهام، كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قُرعته (ولو كان فيها) أي: القسمة (ضرر، أو ردّ) عوض، وسواء (تقاسموا بأنفسهم، أو بقاسم؛ لأنها) أي: القُرْعة (كالحكم من الحاكم) فلا تنقض (ولا يُعتبر رِضاهم بعدها) أي: بعد القُرْعة، كما لا يُعتبر رِضاهم بعد حكم الحاكم

(2)

.

(1)

انظر: الفروع (6/ 514).

(2)

زاد في "ذ": "وإن خيَّر أحدهما صاحبه؛ لزمت برضاهما وتفرقهما"، وقد كانت هذه الزيادة بالأصل ثم ضُرب عليها.

ص: 209

قال في "الشرح": ويحتمل ألا تلزم فيما فيه رَدّ بخروج القرعة حتى يرضيا بذلك؛ لأن ما فيه رَدّ بيع حقيقة؛ لأن صاحب الرَّدِّ بذل عوضًا لما حصل له من حَقِّ شريكه، وهذا هو البيع، والبيع لا يلزم بالقُرْعة. انتهى. وقد تقدم

(1)

في باب الخيار، أن خيار المجلس يثبت في القسمة بمعنى البيع، وهي قِسْمة التراضي.

‌(وتعديل السهام لا يخلو من أربعة أقسام:

أحدها: أن تكون السِّهامُ متساويةً، وقيمةُ أجزاءِ المقسوم متساويةً، كأرضٍ بين ستةٍ، لكلٍّ منهم سُدسُها، فتُعَدَّلَ) الأرض (بالمِسَاحة ستة أجزاءٍ متساويةً، ثم يُقْرَع) بين الشركاء.

(الثاني: أن تكون السِّهام مُتَّفِقةً) بأن تكون الأرض بين ستة سوية (و) تكون (القيمةُ مختلِفةً) لاختلاف أجزاء الأرض جودة ورداءة (فتُعَدَّل الأرضُ بالقيمة، وتُجعل سِتَّة أسهم متساوية بالقيمة) لتعذُّر التعديل بالأجزاء، ثم يُقرع.

(الثالث: أن تكون القِيَم

(2)

متساوية، والسِّهام مختلفة، كأرضٍ بين ثلاثة، لأحدهم النصف، وللثاني الثلث، وللثالث السُّدس، وأجزاؤها متساوية القِيَم، فَتُجعل) الأرض (ستة أسهم) متساوية؛ لأنها المَخْرج الجامع لتلك الكسور.

(الرابع: إذا اختلفت السهام والقيمة) كأرض مختلفة القِيَم لثلاثة، على ما تقدم (فَتُعَدَّل السِّهام بالقيمة، وتُجعل ستة أسهم متساوية القيمة، ثم يُقرع.

(1)

(7/ 411).

(2)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 470): "القيمة".

ص: 210

وإن خيَّر أحدهما الآخر من غير قُرعة، لزمت) القسمةُ (برضاهما وتفرُّقِهما) من المجلس بأبدانهما، كتفرُّقِ متبايعين.

(فإن كان فيها) أي: القسمة (تقويم، لم يَجُز) أن يقسم بينهما (أقل من قاسمين؛ لأنها شهادة بالقيمة) فلم يقبل فيها أقل من اثنين، كسائر الشهادات (وإلا) أي: وإن لم يكن فيها تقويم (أجزأ واحد) لأنه ينفذ ما يجتهد فيه، أشبه القائف والحاكم.

(وإذا سألوا) أي: الشركاء (الحاكم قِسمةَ عقارٍ لم يثبت عنده أنه لهم، لم يجب عليه قَسْمُه) بينهم؛ لعدم ثبوت الملك لهم فيه (بل يجوز) له قَسْمه بإقرارهم وتراضيهم؛ لأن اليد دليل الملك - وإن لم يثبت بها الملك - ولا منازع لهم في الظاهر. قال القاضي: والقضاء عليهما بإقرارهما لا على غيرهما.

(فإنْ قَسَمَه) الحاكمُ بينهم (ذكر في كتاب القِسْمَةِ أنه قَسَمَه بمُجرَّدِ دعواهم بملكه، لا عن بينة شَهِدت لهم بمِلْكهم) لئلا يتوهم الحاكم بعده أن القِسْمة وقعت بعد ثبوت ملكهم، فيؤدّي ذلك إلى ضرر من يدَّعي في العين حقًا (و) حينئذ (إن لم يتفقوا على طلب القِسْمة، لم يقسمه حتى يثبت عنده ملكهم) كما سبق.

(وكيفما اقترعوا، جاز) إن شاؤوا رقاعًا، أو بالخواتيم، أو الحصى، أو غيره؛ لحصول المقصود، وهو التمييز.

(والأحوط أن يكتُبَ اسمَ كلِّ شريكٍ فِي رُقْعةٍ) لأنه طريق إلى التمييز (ثم تُدْرج) الرِّقاع (في بنادِق) كل رُقْعة في بُنْدقة من (شَمْعٍ أو طين، متساوية قَدْرًا ووزنًا) حتى لا يعلم بعضها من بعض (ثم تُطرح في حجر من لم يحضر ذلك) أي: الكتابة والإدراج؛ لأنه أنفى للتُّهمة (ويُقال

ص: 211

له: أخرج بُندُقةً على هذا السَّهم) ليعلم من هو له (فمن خرج اسمُه كان) ذلك السهم (له) لأن اسمَه خرج عليه، وتميز سهمُه به (ثم) يفعل (للثاني كذلك) أي: كما فعل للأول

(1)

، من القول والإخراج، لمساواته للأول (والسهم الباقي للثالث؛ إن كانوا ثلاثة واستوت سهامهم) لتعين السهم الباقي للثالث؛ لزوال الإبهام.

(وإن كتب اسْمَ كلِّ سهمٍ في رُقْعة، ثم أخرج) من طُرِحت في حجره بعد إدراجها، كما سبق (بُندقةً لفلانٍ، وبُندقةً لفلانٍ، جاز) لحصول الغرض به.

(وإن كانت) الـ (ـسهام الثلاثة مختلفة، كنصفٍ، وثُلُثٍ، وسُدسٍ، جزَّأ) القاسم (المقسومَ سِتَّة أجزاءٍ) كما سبق (وأخرج الأسماءَ على السِّهام لا غير) أي: لا يجوز غيره؛ كما يأتي تعليله (فكتب باسم صاحِبِ النِّصف ثلاثَ رِقاعٍ، و) كتب (لربِّ الثلث رُقْعتين، و) كتب (لربِّ السُّدس رُقعةً، ويُخْرِجُ بُندُقةً على أول سَهْمٍ، فإن خَرَج على اسْمُ رَبِّ النصف، أخذه مع الثاني والثالث) اللذين يليان ما خرجت عليه القرعة (وإن خرج اسْمُ صاحبِ الثُّلث، أخذه، و) أخذ (الثاني) الذي يليه. وإن خرج اسْمُ صاحبِ السُّدس أخذه فقط (ثم يُقرع بين الآخرين كذلك، والباقي للثالث) فإن خرجت القُرعة الثانية لصاحب الثلث، وكانت القرعة الأولى خرجت لصاحب النصف، أخذ صاحب الثلث السهم الرابع والخامس، وكان الباقي لصاحب السدس. وإن خرجت لصاحب السُّدس، أخذ السهم الرابع، وكان السهم الخامس والسادس لصاحب الثلث، وعلى هذا القياس، وإنما لزم إخراج الأسماء على السهام في مثل هذه الصورة؛

(1)

في "ذ": "بالأول".

ص: 212

لئلا يتضرَّر صاحب النصف أو الثلث بأخذ نصيبه متفرقًا.

(وإن كان بينهما داران متجاورتان أو متباعدتان، أو) كان بينهما (خانان، أو) كان بينهما (أكثر) عن دارين، أو أكثر من خانين (فطلب أحدُهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين، أو أحد الجانبين، أو) في أحد (الخانين، ويجعل الباقي نصيبًا للآخر، أو) طلب أن (يجعل كلَّ دار) أو خان (سهمًا) وامتنع الآخر (لم يُجبر الممتنع) منهما، سواء (تساوت القيمة، أو اختلفت) لأن كل عين منهما مفردة بأحكامها وحدودها، أشبه ما لو اختلفا في الاسم أيضًا.

فصل

(ومن ادَّعى غَلَطًا) أو حَيْفًا (فيما تقاسموه) أي: الشركاء (بأنفسهم) من غير قاسم (وأشهدوا على رِضاهم به، ولم يصدّقه المدَّعَى عليه) في دعوى الغلط أو الحيف (لم يُلتفتْ إليه، ولو أقام به بينةً) أي: لم تُقبل دعواه، ولا تُسمع بينته، ولا يحلف غريمه؛ لأنه رضي بالقسمة على الكيفية التي صدرت، ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه (إلا أن يكون) مُدَّعي الغلط (مسترسلًا) لا يُحسِن المشاحة فيما يقال له (فَيُغبن بما لا يُسامح به عادةً) فَتُسمع دعواه، ويُطالب بالبيان، وإذا ثبت غَبنه، فله فَسْخ القسمة، قياسًا على ما تقدَّم في البيع

(1)

.

(وإن كان) ادَّعى غلطًا أو حيفًا (فيما قَسَمه قاسمُ الحاكمِ، قُبِل قول المُنكِر) للغلط أو الحيف (مع يمينه) لأن الأصل عدم ذلك (إلا أن تكون للمُدَّعِي بينة) بما ادَّعاه (فَتُنقض القِسمةُ) لأن سكوته حال قسم القاسم

(1)

(7/ 435).

ص: 213

عليه لاعتماده على الظاهر، فلا يمنعه إقامةَ البينة، كما لو كان له على إنسان عشرة، فوفاها له ثمانية غلطًا، ثم بان له أنها ثمانيةٌ، فإن له الرجوع بباقي حقِّه (وتُعاد) القِسْمةُ على وَجْهِ الحق؛ ليصل كلٌّ لما يستحقُّه. وإنما نُقضت القِسْمة، ولم يُعط المظلوم حقَّه من غير نقصٍ، كالثمن والسَّلَم؛ لأن الغلط هنا في نفس القِسْمة؛ لفوات شرطها، وهو تعديل السهام، فَبَطَلَتْ، وفي الثمن والسلم الغلط في القبض دون العقد.

(وإن كان) ادَّعى الغلط أو الحَيْف (فيما قَسَمه قاسمٌ نصبوه، وكان فيما شرطنا فيه الرِّضا) لضرر فيه، أو رَدّ عِوَض، وكانوا قد تراضوا بالقسمة (بعد القُرْعة؛ لم تُسمع دعواه) لأن رضاه بالقسمة على الصورة التي وقعت؛ رضًا بالزيادة في نصيب شريكة، فيلزمه (وإلا) أي: وإن لم يشترط في القسمة الرضا، أو اشترط ولم يوجد بعد القُرعة (فهو) أي: القاسم الذي نصباه (كقاسم الحاكم) فيكون القول قول المُنكِر، إلا أن يقيم المُدَّعِي بينةً بدعواه، فيعمل بمقتضاها.

(وإذا تقاسموا) بأنفسهم، أو بقاسمٍ نصبوه، أو الحاكم (ثم استُحق من حصة أحدهما شيء مُعيَّن) أي: ظهر استحقاقه لغيرهما (بَطَلَتِ) القِسمة؛ لفوات التعديل.

(وإن كان المُستحَقُّ) المعيّن (من الحصتين على السواء) بأن اقتسما أرضًا، فاستحق من حصتيهما

(1)

معًا قطعة معينة على السواء في الحصتين (لم تَبطُل) القسمة (فيما بقي) من الأرض؛ لأن القسمة إفرازُ حقِّ كُلِّ واحدٍ منهما، وقد أفرز، كما لو كان المقسوم عينين، فاستُحقت إحداهما.

(1)

في "ذ": "حصتهما".

ص: 214

(وإن كان) المُستحَقّ (في نصيب أحدهما أكثر) من نصيب الآخر (أو) كان (ضرره) في نصيب أحدهما (أكثر) من ضرره في نصيب الآخر (كسَدِّ طريقه، أو) سَدٍّ (مجرى مائه، أو) سَدِّ محل (ضوئه ونحوه) مما فيه ضرر، بطلت القسمة، لفوات التعديل.

(أو كان) المستحَقُّ (شائعًا فيهما) بطلت؛ لأن ثم شريك لم يرضَ، ولم يحكم عليه بالقِسمة، وسواء كانت قسمةُ تراضٍ أو إجبار.

(أو) كان شائعًا (في أحدهما) أي: أحد نصيبي الشريكين (بَطَلَتِ) القسمة؛ لفوات التعديل.

(وإن ادَّعى كلُّ واحدٍ منهما) أي: الشريكين (أنَّ هذا) الشيء من المقسوم (من سهمي، تحالفا): أي حَلَفَ كلٌّ منهما للآخر على نفي ما ادَّعاه؛ لأنه مُنكِر (ونقضت) القِسمة؛ لأن ذلك المُدَّعى به لم يخرج عنهما، ولا مُرَجِّح لأحدهما على الآخر.

(وإذا اقتسما دارين ونحوهما) كمِعْصَرتين أو بُستانين (قِسمةَ تراضٍ، فبنى أحدُهما) في نصيبه (أو غرس في نصيبه، ثم خرج) نصيبُه (مستحَقًّا، ونُقض بناؤه، وقُلع غرسه، رَجع على شريكه بنصف قيمته) لأن هذه القسمة جارية مجرى البيع.

ولو كان باعه الدار جميعها، فبنى فيها أو غرس، فخرجت مستحقة، وقلع غرسه وبناؤه، رجع عليه بجميع قيمته، فإذا باعه نصفها، رجع عليه بنصف قيمة ذلك، وكذا كل قسمة جارية مجرى البيع.

(ولا يرجع) أحدُ الشريكين على الآخر (به) أي: بشيءٍ من ذلك، إذا خرج نصيبه مستحقًّا، وقلع غراسه وبناءه (في قِسمةِ إجبارٍ) لأن شريكه لم يغرَّه، ولم تنتقل إليه من جهته ببيع، وإنما أفرز حقَّه مِن حقِّه،

ص: 215

فلم يضمن له مما غرمه شيئًا.

(وإن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ، فله فسخُ القِسمة إن كان جاهلًا به) أي: العيب (وله الإمساكُ مع الأرش) للعيب؛ لأن ظهور العيب في نصيبه نقصٌ، فخُيِّر بين الأرْش والفسخ، كالمشتري.

(ويصح بيع التَّرِكة قبل قضاء الدَّين؛ إن قضي) الدين؛ لأنه لا يمنع انتقالها للورثة، وكبيع العبد الجاني (ويصح العتق) أي: عتق الورثة لعبدٍ مِن التَّرِكة مع دين على الميت، كعتق العبد الجاني، ولا ينقض العتق ولو أعسر الورثة، كالعبد المرهون وأولى (واختار ابنُ عقيل: لا ينفذ) العِتقُ (إلا مع يسار الورثة) لما فيه من الإضرار بالغريم.

"تنبيه": قال في "القواعد الفقهية"

(1)

: لو باع الوارث التَّرِكة مع استغراقها بالدَّين، ملتزمًا لضمانه، ثم عَجَز عن وفائه، فإنه يفسخ البيع. انتهى. قلت: ومفهومه: إن امتنع مع القدرة، أُجبِر عليه، ولم يفسخ البيع، كما في العبد الجانى، والنِّصاب الزكوي.

(ولا يمنع دين الميت انتقال تَرِكته إلى ورثته) فينتقل الملك إليهم، ويخيرون بين الوفاء من التركة أو غيرها، وتقدم (بخلاف ما يخرج من ثلثها) أي: التركة (من مُعَيَّن موصىً به) لنحو الفقراء أو المساجد، فلا ينتقل إلى ملك الورثة، بخلاف الموصى به لنحو زيد؛ فإنه ينتقل إليهم إلى حين قَبوله، وتقدَّم

(2)

في الوصية (والنَّمَاءُ) في التَّرِكة، كان أثمرت النخل، أو اكتسب العبيد، أو نتجت الماشية (لهم) أي: للورثة، ينفردون به، ولا يتعلَّق به حق الغرماء؛ لأنه نماء ملكهم، ككسب

(1)

ص/ 34، القاعدة الرابعة والعشرون.

(2)

(10/ 218).

ص: 216

الجاني، و (لأن تعلُّق الدَّين بها) أي: التركة (كتعلُّق) أرش (جناية) برقبة العبد الجاني (لا) كتعلُّق (رهن) ودين غرماء بمال مُفْلِس (وتصحُّ قِسْمتها) أي: التَّرِكة مع الدَّين قبل قضائِه، كبيعها وأولى.

(وظهور الدَّين بعد القِسْمة لا يبطلها) كما أنا العلم به لا يمنع منها، وأولى (لكن إن امتنعوا) أي: الورثة (من وفائه) أي: الدَّين (بِيعت) التَّرِكة (فيه) أي: في الدَّين؛ لتقدُّمِه على الإرث (وبطلت القِسمة) لما سبق (فإن وَفَّى أحدهما) أي: أحد الوارثين (دون الآخر، صَحَّ) أي: استقرَّ له الملك (في نصيبه، وبيع نصيب الآخر) فيما يقابله من الدَّين.

(وإن اقتسموا دارًا) فيها بيوت (ذات أسطحة يجري عليها الماء من أحدها، فليس لمن صارت له مَنْعُ جريان الماء) لتقدُّم الاستحقاق (إلا أن يكونوا تشارطوا على منعه) فيوفي به؛ لحديث: "المؤمنون على شروطهم"

(1)

.

(وإن اقتسما دارًا، فحصلت الطريق في حِصَّة أحدهما، ولا منفذ للآخر، لم تصح القِسمة) لأن الداخل الذي لا منفذ له لا يتمكَّن من الانتفاع بنصيبه؛ لأنه لا يمكنه السلوك في حصة الآخر، فلا تعديل؛ لأنه يكون في جميع الحقوق.

(وإن كان لها) أي: الدار التي قُسِمت (ظُلَّةٌ) قال في "القاموس"

(2)

: شيء كالصُّفَّة، يُستتر به من الحر والبرد (فوقعت) الظُّلَّة (في حصَّة أحدهما، فهي) أي: الظُّلَّة (له) أي: لمن وقعت في حصته

(1)

تقدم تخريجه (7/ 107) تعليق رقم (3).

(2)

ص/ 1329، مادة (ظلل).

ص: 217

(بمطلق العقد) وإن لم يشترط ذلك؛ لأن القسمة اقتضت ذلك، وليست كالطريق.

(وولي المُوَلَّى عليه) لصغر أو جنون أو سَفَهٍ (في قِسمة الإجبار بمنزلته) لقيامه مقامه.

(وكذا) هو بمزلته (في قِسمة التراضي؛ إذا رآها مَصْلَحةً) كالبيع، وأولى.

ص: 218

باب الدعاوى والبينات

الدعاوى (واحدها دعوى، وهي) لغةً: الطلبُ. قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}

(1)

أي: يَتمنَّون ويطلبون، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما بالُ دعوى الجاهلية"

(2)

؛ لأنهم كانوا يَدْعون بها عند الأمر الشديد بعضهم بعضًا، وهي قولهم: يا لفلان.

واصطلاحًا: (إضافةُ الإنسان إلى نفسه استحقاقَ شيءٍ في يَدِ غيرِه، أو في ذِمّته) أي: الغير، من دَيْن ونحوه.

(والمُدَّعي: مَن يُطالِبُ غيرَه بحقٍّ يَذكرُ استحقاقَه عليه، وإذا سَكتَ) عن الطلب (تُرك. والمُدَّعَى عليه: المُطالَب) بفتح اللام، أي: الذي يطالبه غيره بحقٍّ يَذكرُ استحقاقَه عليه (وإذا سَكتَ) عن الجواب (لم يُترك) بل يقال له: إنْ أجبتَ، وإلا جعلتُك ناكِلًا، وقضيتُ عليك. كما سبق.

(وواحد البيناتِ بيِّنةٌ) من بان الشيء فهو بيِّن، والأنثى بيّنة (وهي العلامة الواضحة، كالشاهد فأكثر).

والأصل في مسائل الباب حديثُ ابنِ عباس مرفوعًا: "لو يُعْطى الناسُ بدَعواهُم، لادَّعى نَاسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المُدَّعَى عليهِ" رواه أحمد ومسلم

(3)

، وحديث: "شاهداكَ أو

(1)

سورة يس، الآية:57.

(2)

أخرجه البخاري في المناقب، باب 8، حديث 3518، وفي تفسير سورة المنافقين، باب 5، حديث 4905، ومسلم في البر والصلة والآداب، حديث 2584، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(3)

أحمد (1/ 343، 351، 363)، ومسلم في الأقضية، حديث 1711. وأخرجه - أيضًا - البخاري في الرهن، باب 6، حديث 2514، وفي تفسير سورة آل عمران، باب 3، حديث 4552، وبنحوه في الشهادات، باب 20، حديث 2668، وتقدم =

ص: 219

يمينه"

(1)

، ونحوه.

(ولا تصح دعوى وإنكارٌ إلا من جائز التصرُّفِ) لأن قول غيره غير مُعتبر (لكن تصِحُّ الدعوى على سَفيهٍ بما يؤخدُ به حال سَفَهِه، وبعدَ فَكِّ حَجْرِه) كطلاقه، وقَذْفه ونحوه؛ لأن إقراره به مُعتبرٌ، لعدمِ التُّهمة (ويُحَلَّف إذا أنكر) فيما يُحلَّف الرشيدُ في مثله، مما يأتي تفصيله في باب اليمين في الدعاوى

(2)

(وتقدم) في باب طريق الحكم وصفته

(3)

.

(وإذا تداعيا عيْنًا، لم تَخْلُ من ثلاثة أقسام) هكذا في "المقنع" وغيره، وفي "المنتهى" أربعة أحوال، ولا تعارض؛ لاشتمال القسم الثاني على حالين من تلك الأحوال الأربعة، كما ستقف عليه:

(أحدها: أن تكون) العين (في يَدِ أحدِهما) وحدَه (فهي له مع يمينه أنها) أي: العين (له، ولا حَقَّ للمُدَّعِي فيها، إذا لم تكن) له (بينةٌ) لقوله صلى الله عليه وسلم في قصة الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه، ليس لكَ إلا ذلك"

(4)

؛ ولأن الظاهر من اليد الملك.

= تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 138 (221) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

(15/ 353).

(3)

(15/ 112).

(4)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 139، عن وائل بن حجر رضي الله عنه. قال: جاء رجلٌ من حضرموت ورجلٌ من كِندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض لي، كانت لأبي. فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينةُ؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجرٌ، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورَّع من شيء. فقال: ليس لك منه إلا ذلك. فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا ليلقيَّن الله وهو عنه معرِض.

ص: 220

(ولا يثبت الملك بها) أي: باليد (كثبوته) أي: الملك (بالبيّنة) لأن الظاهر لا تثبت به الحقوق (بل تُرَجَّح به الدعوى) وفي "الروضة": يده دليل الملك. وفي "التمهيد": يده بيّنة (فلا شُفعة له بمجرَّد اليدِ) لعدم تحقُّق الشرط، وهو ملك ما بيده.

(وإن سأل المُدَّعَى عليه الحاكمَ كتابة مَحْضَر بما جرى؛ أجابه) إليه وجوبًا (وذكر) الحاكم (فيه) أي: المحضر (أنه بَقَّى العينَ بيده؛ لأنه لم يثبت ما يرفعها) أي: اليد عن العين.

(ولو تنازعا دابةً أحدُهما راكبُها، أو) أحدُهما (له عليها حِمْلٌ، والآخر آخذٌ بزِمَامِها، أو) الآخر (سائقُها، فهي) أي: الدابة (للأول) بيمينه، وهو الراكب، أو صاحب الحِمْل؛ لأن تصرُّفَه أقوى، ويدُه آكد، وهو المستوفي لمنفعة الدابة.

(وإن اختلفا) أي: الراكب وصاحب الدابة (في الحِمْل، فادَّعاه الراكب، و) ادَّعاه (صاحبُ الدابة، فهو للراكب) لأن يده عيه أقوى (بخلاف السَّرج) أي: سرج الدابة، إذا تنازعه الراكب وصاحبُ الدَّابة، فهو لصاحب الدابة؛ عملًا بالظاهر.

(وإن تنازعا ثيابَ عبدٍ عليه) أي: العبد (فـ) ـهي (لصاحبِ العبد) لأن يد السيد على العبدِ، وعلى ما هو عليه.

وإن تنازع صاحبُ الثيابِ وآخر في العبد اللابس لها، فهما سواء؛ لأن نَفْعَ الثياب يعود إلى العبد، لا إلى صاحب الثياب.

(وإن تنازعا قميصًا أحدُهما لابسُه، والآخر آخذٌ بكمِّه، فهو) أي: القميص (للأول) اللابس له؛ لأن تصرُّفه فيه أقوى، وهو المستوفي لمنفعته.

ص: 221

(وإن كان

(1)

كُمُّه) أي: القميص (في يَدِ أحدِهما، وباقيه مع الآخر، أو تنازَعا عِمامةً طرفُها) أي: العمامة (في يَدِ أحدِهما، وباقيها في يَدِ الآخرِ، فهما فيها سواءٌ) لأن يَدَ الممسك للطرف على ذلك الشيء، بدليل أنه لو كان الباقي على الأرض ونازعه غيره، قُدِّمَ به.

(ولو كانت دارٌ فيها أربعةُ بيوت، في أحدِها) أي: البيوت (ساكِنٌ، وفي الثلاثة) الأخرى (ساكنٌ) آخر (واختلَفَا) أي: تنازعا الدار كلها (فلكُلِّ واحدٍ) منهما (ما هو ساكنٌ فيه) لأن كل بيت ينفصل عن صاحبه، ولا يشارك الخارجُ منه الساكنَ في ثبوت اليد عليه.

(وإن تنازعا الساحةَ التي يُتَطَرَّقُ منها إلى البيوت) الأربعة (فهي) أي: الساحة (بينهما نصفين) لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها، فأشبهت العِمامة فيما سبق.

(ولو كانت شاةٌ مسلوخةٌ، بيد أحدِهما جلدُها ورأسُها وسَواقِطُها، وبيد الآخر بقيتها، وادَّعى كلُّ واحدٍ منهما كلَّها) أي: الشاة (وأقاما بينتين بدعواهما) أي: أقام كلُّ واحدٍ منهما بينةً بدعواه (فلكُلِّ واحدٍ منهما ما بيدِ صاحبه) من الشاة؛ لأن بينة كُلِّ واحدٍ منهما خارجة بالنسبة لما في يَدِ صاحبه، وهي مقدَّمة على بينة الداخل، كما يأتي.

(وإن تنازع صاحبُ الدَّارِ وخياطٌ فيها) أي: الدار (في إبرة ومِقَصٍّ) بكسر الميم، وهو: المقراض (فهما للخياط) عملًا بالظاهر؛ لان العادة أنه يحمل معه الإبرة والمِقص، بخلاف القميص إذا تنازعاه، فهو لصاحب الدار؛ لأنه لا يحمله عادة ليخيطه في دار غيره.

(وإن تنازع هو) أي: صاحب الدار (والقَرَّاب القِربةَ) في الدار

(1)

في "ح" ومتن الإقناع (4/ 476): "كانت".

ص: 222

(فهي) أي: القربة (للقَرَّاب) لأن ذلك هو ظاهر الحال.

وإن تنازعا الخابية

(1)

فهي لصاحب الدار.

وكذا لو اختلف النجَّار مع صاحب الدار في القَدُوم والمنشار ونحوه من آلاته

(2)

، فآلة النجار للنجار.

وإن اختلفا في الخشبة المنشورة، والأبواب والرفوف المنجورة، فهي لصاحب الدار. وكذلك لو اختلف الندَّاف مع ربِّ الدار في قوس الندف، فهو للنداف.

وإن اختلفا في الفرش والقطن والصوف، فهو لصاحب الدار.

(وإن تنازعا عَرْصَةً) أي: أرضًا (فيها بناءٌ أو شجر لهما، فهي) أي: العَرْصة (لهما، أو) إن كان البناء أو الشجر (لأحدهما، فهي) أي: العَرْصة (له) وحده؛ لأن استيفاء المنفعة دليلُ الملك، والبناء أو الشجر استيفاء لمنفعة العَرْصة، واستيلاء عليها بالتصرُّف، فوجب أن يحكم بالعَرْصة لمن هما له.

(وإن تنازعا حائطًا معقودًا ببناء أحدهما وحدَه، أو) تنازعا حائطًا (متَّصلًا به) أي: ببناء أحدهما وحدَه (اتِّصالًا لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط، أو) تنازعا حائطًا (له) أي: لأحدهما وحدَه (عليه أزَجٌ - وهو ضَرْب من البناء، ويقال له: طاق) وقال ابن المُنَجَّا: هو القبو (أو) تنازعا حائطًا (له) أي: لأحدهما وحده (عليه بناء، كحائط مبنيٍّ عليه) أي: على الحائط المتنازع فيه (أو) له عليه بناء، كـ (ـعَقْدٍ معتمِد عليه) أي: على الحائط المتنازعَ فيه (أو قبة، أو له عليه سُترة مبنية ونحو هذا، فهو) أي:

(1)

الخابية: تطلق على الحب، وهي الجرة الضخمة. لسان العرب 1/ 295، مادة (حبب).

(2)

في "ذ": "الآلة".

ص: 223

الحائط (له) أي: لصاحب ذلك البناء المعقود عليه، أو المتَّصل به، الاتصال الذي لا يُمكن إحداثه؛ عملًا بالظاهر، ويُحلَّف من حُكم له به؛ لأن ذلك الظاهر ليس بيقين، إذ يحتمل أن يكون أحدهما بنى الحائط لصاحبه مُتبرِّعًا مع حائطه، أو كان له فوهبه إياه، أو باعه له، أو بناه بأُجرة؛ فوجبت اليمين للاحتمال، كما وجبت في حق صاحب اليد.

(وإن كان) الحائط المتنازَع فيه (معقودًا ببنائه) أي: بناء أحدهما (عقدًا يمكن إحداثه، كالبناء باللبِن والآجُر، فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبنيِّ نصف لبنة، أو) نصف (آجرة، ويجعل مكانها لبنة صحيحة، أو آجرة صحيحة تعقد بين الحائطين، لم يُرَجَّح) صاحب البناء المعقود (به) أي: بسبب بنائه المعقود؛ لاحتمال الإحداث.

(وإن كان) الحائط (محلولًا من بنائهما -أي: غير متَّصل ببنائهما - بل) كان (بينهما شَقٌّ مستطيل، كما يكون بين الحائطين اللذين أُلصق أحدهما بالآخر، أو) كان الحائط (معقودًا بهما) أي: ببناء الاثنين (فهو) أي: الحائط (بينهما) نصفين؛ لأن يدهما عليه، فكلُّ واحدٍ يده على نصفه (ويتحالفان، فيحلف كلُّ واحدٍ) منهما (للآخر أن نصفَه له) دفعًا للاحتمال.

(وإن حلف كلُّ واحدٍ منهما على جميع الحائط أنه) كله (له، جاز) أي لم يكن ذلك قادحًا في الحلف، ويقرع بينهما إن تشاحًا في المبتدئ باليمين، وفي "البخاري" عن أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم:"عرض على قوم اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يُقرع بينهم في اليمين: أيّهم يحلف"

(1)

قال ابن هُبيرة: هذا في من تساوَوْا في سبب الاستحقاق؛ لكون الشيء في يَدِ

(1)

البخاري في الشهادات، باب 24، حديث 2674.

ص: 224

مُدَّعيه، ويريد: يحلف ويستحقه.

(وإن كان لأحدهما بيّنة، حُكِم له بها) لترجّحه بالبينة.

(وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بيّنة، تعارضتا) لتساويهما، وعدم المُرَجِّح (وصارا كمن لا بيّنة لهما) فيتحالفان، ويتناصفانه.

(فإن لم يكن لهما بيّنة) قلت: أو كان لكلٍّ منهما بيّنة وتعارضتا، كما يدلُّ عليه ما قبله (ونكلا عن اليمين، كان الحائط في أيديهما على ما كان) قبل التداعي؛ لعدم ما يوجب رفع يَدِ أحدهما.

(وإن حلف أحدُهما، ونَكَلَ الآخرُ) عن اليمين (قُضِيَ على النَّاكِل) بنكوله.

(ولا ترجَّح الدعوى بوضع خَشَبِ أحدهما عليه) أي: على الحائط المتنازَع فيه؛ لأنه مما يسمح به الجار، وورد الخبرُ بالنهي عن المَنْع منه

(1)

، وللجار وضعه قهرًا بشرطه كما تقدم، فلا ترجح به الدعوى، كإسناد متاعه إليه.

(ولا) تُرَجَّح الدعوى - أيضًا - (بـ) ـكون (وجوه آجُرٍّ أو أحجارٍ مما يلي أحدهما) ولا بكون الآجرة الصحيحة مما يليه، وقطع الآجر مما يلي ملك الآخر (و) لا (بالتزويق والتجصيص، ولا بسُترة عليه غير مبنية؛ لأنه) أي: ما ذكر (مما يُتسامح به) عادة (ويُمكن إحداثه.

ولا) تُرَجَّح الدعوى - أيضًا - (بمعاقد القُمُط في الخُصِّ، أي: عُقَد الخيوط التي يُشَدُّ بها الخُصُّ، وهو بيت يُعمل من خشب وقصب) لأن وجوه الآجر ومعاقد القُمُط إذا كانا شريكين في الجدار أو الخص، لا بُدَّ أن تكون إلى أحدهما، إذْ لا يمكن أن تكون إليهما جميعًا، فَبَطَلَتْ

(1)

انظر ما تقدم (8/ 314) تعليق رقم (3).

ص: 225

دلالته؛ ولأن التزويق والتجصيص مما يمكن إحداثه، فلا ترجيح به.

(وإن تنارع صاحبُ العلو والسُّفل سُلَّمًا منصوبًا، أو) تنازعا (دَرَجة، فـ) ـالسُّلَّم المنصوب والدَّرَجة (لصاحب العلو) لأنه يختصُّ بنفعهما.

(وكذا) إذا تنازعا (العَرْصة التي عليها الدَّرَجة) فإنها تكون لصاحب الدَّرَجة؛ لكونها مشغولة ببنائه (إلا أن يكون تحت الدَّرَجة) المتنازَع فيها (مَسْكن لصاحب السُّفل، فتكون) الدرجة (بينهما) نصفين؛ لأن يدهما عليها؛ لأنها سقف للسُّفلاني وموطئ للفوقاني.

(وإن كان تحتها) أي: الدرجة (طاقٌ صغيرٌ لم تُبْنَ الدرجة لأجله، وإنما جعل مِرفقًا يجعل فيه جَرُّ) وفي نسخة: "جُبُّ"(الماء ونحوه، فهو لصاحب العلو) لأنه من مرافقه بحسب العادة.

(وإن تنازعا) أي: صاحب العلو وصاحب السُّفل (الصَّحْن) الذي يتوصل منه إلى الدرجة (والدرجة في الصدر) جُملة حالية (فـ) ـالصحن (بينهما) لأن يدهما عليه.

(وإن كانت) الدَّرَجة (في الوسط) أي: وسط الصحن (فما) أي: فالمكان الذي يتوصل منه (إليها) أي: إلى الدرجة يكون (بينهما) نصفين؛ لأن يدهما عليه (وما وراءه) أي: وراء المكان الذي يتوصّل منه إلى الدرجة (لرَبِّ السُّفل) وحده؛ لأنه لا يَدَ لربِّ العلو عليه.

(وإن تنازعا) أي: رَبُّ السفل ورَبُّ العلو (في السقف الذي بينهما، فهو) أي: السقف (بينهما) نصفين؛ لأنه حاجزٌ بين ملكيهما، ينتفعان به، غير متصل ببناء أحدهما دون الآخر، فكان بينهما كالحائط بين الملكين.

ص: 226

(وإن تنازعا) أي: ربُّ السفل ورَبُّ العلو (جدران البيت السفلاني، فهو) أي: المذكور من الجدران (لصاحب السفل) وحده.

(وحوائط العلو) إذا تنازعاها (لصاحب العلو) وحدَه؛ عملًا بالظاهر فيهما.

(وإن تنازع المُؤْجِر والمستأجرُ) للدَّار (في رَفٍّ مقلوعٍ، أو) في (مِصراع مقلوعٍ، له شكل منصوب في الدار، فهو لربّها) لأنه من توابع الدار، والظاهر أن أحد الرفّين، أو المِصْراعين لمن له الآخر؛ لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه، فكان أحدهما لمن له الآخر، كالحَجَر الفوقاني مع التحتاني، والمفتاح مع القفل (وإلا) أي: وإن لم يكن للرفّ المقلوعِ، ولا للمصراع المقلوع، شكل منصوب (فـ) ـالمتنازَع فيه (بينهما) نصفين؛ لأنه لا مُرَجّح لأحدهما على الآخر. ويحلف كلٌّ منهما للآخر.

(وكذا ما لا يدخل في بيع، وجرت العادة به) كمفتاح الدار إذا تنازعاه، يعني: أنه يكون لربِّها؛ عملًا بالظاهر، كما في "المنتهى" وغيره، وكذا ما يتبع في البيع، كالأبواب المنصوبة، والخوابي المدفونة، والرفوف المُسَمَّرة، والسلاليم المُسَمَّرة، والرَّحا المنصوبة، فهو للمُكْرِي؛ لأنه من توابع الدار، أشبه الشجرة المغروسة في الدار.

(وما لم تَجْرِ به عادة) مما يُنقل ويحوَّل، كالأثاث، والمتاع، والأواني، والكتب (فـ) ـهو (لمُكْتَرٍ) لأن العادة أن الإنسان يُكْرِي داره فارغة.

(وإن تنازعا دارًا في أيديهما، فادَّعاها أحدُهما) كلَّها (وادَّعى الآخرُ نصفَها، جُعلت) الدارُ (بينهما نصفين) لأن يَدَ مُدَّعي النصف ثابتة عليه،

ص: 227

ولا رافع لها (واليمين على مُدَّعي النصف) لأنه مُنكِر لدعوى مُدَّعي الكُلِّ.

(وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بيّنة بما يَدَّعيه، تعارضَتا في النصفِ) لأنَّ كلًّا من البينتين تنفي ما أثبتته الأخرى (فيكون النصفُ لمُدَّعي الكُلِّ) لأنه لا منازعَ له فيه (و) يكون (النصفُ الآخر له - أيضًا -؛ لتقديم بينته) لأنها بينة خارج لوضع مُدَّعي النصف يده عليه. ومِن هُنا تعلم أنه لا تَعارُض بين البينتين حقيقة؛ لعدم استوائهما من كُلِّ وَجْهٍ، لترجيح بينة الخارج، فلو أسقط قوله: تعارضتا، لكان أولى كما في "المنتهى".

(وإن كانت الدَّارُ في يَدِ ثالث لا يَدَّعيها، فالنصفُ لمُدَّعي الكُلِّ، لا منازعَ له فيه) لأنه لا مُدَّعِي له غيره (ويُقرَع ببنهما في النصف الآخر، فمَن خرجت له القُرعة، حَلَف وكان له) لأن العين بغير يَدِ المدعيين.

(وإن كان لكُلِّ واحدٍ منهما بيّنة) والعينُ بيد الثالث غير المنازع (تعارضتا) أي: البينتان (وصارا) أي: المتنازعان (كمَن لا بينة لهما) فيكون النصف لمُدَّعي الكُلِّ، ويُقرع بينهما في النصف الآخر، فمن خرجت له القُرعة، حَلَف وأخَذَه.

(وإن تنازع زوجان، أو) تنازعَ (ورثتُهما) بعد موتهما (أو) تنازع (أحدُهما وورثةُ الآخر - ولو أن أحدَهما) أي: الزوجين (مملوكٌ - في قُماش

(1)

البيت) من فرش، وملبوس، ونحوهما (ونحوه) أي: نحو قُماش البيت، من أوانٍ وغيرها (أو) تنازعا في (بعضِه) بأن قال كلٌّ منهما: جميعه لي، أو قال كلُّ واحدٍ منهما: هذه العين لي، فإنْ كان لأحدهما بينة؛ عُمِل بها، وإلا (فما يصلُحُ للرِّجال، كالعِمامةِ،

(1)

تقدم شرحها (9/ 228) تعليق رقم (3).

ص: 228

والسَّيفِ؛ فللرَّجُل) أو ورثته، وكذا قمصان الرجال، وأقبيتهم، وجبابهم، والطيالسة، والسلاح، وأشباهها (وما يصلُح للنِّساءِ، كحَلْيهنَّ، وثيابهِنَّ) ومقانعهن، ومغازلهن، وأشباهها (فللمرأة) أو ورثتها (والمصحفُ له) أي: الرجل (إذا كانت لا تقرأ) فإن كانت تقرأ فهو لهما. قلت: وكذا ينبغي في كتب العلم.

(وما يصلُح لهما) أي: للرجال والنساء (كالمَفَارش، والأواني) والقماش الَّذي لم يفصَّل، وأشباه ذلك (- وسواء كان) ما يصلح لهما (في أيديهما من طريق الحكم، أو من طريق المشاهدة، وسواء اختلفا في حال الزوجيّة، أو بعد البينونة - فـ) ـهو (بينهما.

وإن كان المتاع على يَدَيْ غيرِهما، ولم تكن بينةٌ) لأحدِهما (أُقرع، فمن قَرَع منهما، حَلَف وأخذه) كمن تنازعا عينًا بيد ثالث.

وإن أقام أحدهما بينة، دُفع إليه، لترجُّحه بها.

(وكذا لو اختلف صانعان في آلةِ دُكَّان لهما، حُكِم بآلةِ كلِّ صنعةٍ لصانِعِها، فآلةُ العطَّارين للعطَّار، وآلةُ النجَّارين للنجَّار) سواءٌ كانت الآلةُ في أيديهما من طريق الحكم، أو من طريق المشاهدة؛ لأن هذا هو الظاهر، كما في قُماش البيت عند تنازع الزوجين.

(فإن لم يكونا) أي: الصانعان (في دُكَّانٍ واحد، واختلفا في عينٍ، لم يرجَّح أحدهما بصلاحية العين له.

وكذا لو تنازع رَجُل وامرأة) هي زوجة له أوْ لا (في عَيْن، غيرِ قُماش، بينهما) فلا ترجيح لأحدهما بصلاحية العين له، بل إن كانت في أيديهما، فهي بينهما، وإن كانت في يَدِ أحدهما، فهي له بيمينه، وإن كانت في يَدِ غيرهما، ولم ينازع، اقترعا عليها.

ص: 229

(وكلُّ مَن قلنا): المُدَّعَى به (له، فهو مع يمينه) لاحتمال صِدْق غريمه (إذا لم تكن) له (بينةٌ) فإن كانت له بينةٌ، فلا يمينَ عليه، وتُسمع؛ لانتفاء التُّهمة (وإن كان لأحدهما بينة، حُكم له بها) أي: ببينته (من غير يمين) لحديث: "شاهداك أو يمينه"

(1)

.

(وإن كانت العينُ بيد أحدهما، وكان لكُلٍّ منهما بينة، سُمعت بينة المُدَّعي - وهو الخارج - وحُكم له بها، سواء أُقيمت بينة المُنكِر - وهو الدَّاخل -) أي: واضع اليد (بعد رَفْع يده أو لا، وسواء شهدت بينته) أي: الداخل (أنها له، نُتجت) بالبناء للمفعول (في ملكه، أو) أنها له (قطيعة من الإمام، أو لا) أي: أو لم تشهد بذلك؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "البينةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على المُدَّعى عليه"

(2)

، فجعل جنس البينة في جنبة المُدَّعِي، فلا يبقى في جنبة المُدَّعَى عليه بينة؛ ولأن بينة المُدَّعي أكثر فائدة، فوجب تقديمها، كتقديم بينة الجَرْح على التعديل، ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت سببًا لم يكن، وبينة المُنكِر إنما تثبت ظاهرًا تدلُّ اليد عليه، فلم تكن مفيدة؛ لأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد، والتصرُّف؛ لأن ذلك يجيز الشهادة به عند كثير من أهل العِلْم، فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة، فَتُقدَّم عليها بينة المُدَّعي، كما تُقَدَّم على اليد، كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبنيين على شاهدي الأصل، لم يكن لهما مزية عليهما.

ومن قدَّمنا بينته، لم يحلف معها؛ لوجوب الحكم بها منفردة، كما لو تعارض خبران، خاصٌّ وعام، أو أحدهما أرجح بوجه من الوجوه.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 138 (221)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 230

نقل الأثرم

(1)

: ظاهر الآثار اليمين على من أنكر، فإذا جاء بالبينة فلا يمين عليه.

(فإن أقام الداخل بينةً أنه اشتراها) أي: العين المتنازَع فيها (من الخارِج، وأقام الخارجُ بينةً أنه اشتراها من الدَّاخل، قُدِّمت بينةُ الدَّاخل) لأنه الخارج معنىً؛ لأنه ثبت بالبينة أن المُدَّعي صاحب اليد، وأن يَدَ الداخل نائبة عنه.

وإن ادّعى الخارج أن العين ملكه، وأنه أودعها للداخل، أو أعاره إياها، أو أجرها منه، فأنكره - ولكلُّ واحد منهما بينة - قُدِّمت بينة الخارج. وقال القاضي: بينة الداخل؛ لأنه هو الخارج معنىً، كالمسألة قبلها؛ ذكره في "الشرح".

(ولا تُسمع بينةُ الدَّاخل قبل بينة الخارج وتعديلها) لعدم حاجته إليها قبل ذلك.

(وتُسمع) بينة الداخل (بعد التعديل) لبينة الخارج (قبل الحكم، وبعدَه، قبلَ التسليمِ) وتُقدَّم بينة الخارج عليها؛ لما تقدم.

قلت: ولعل فائدة سماعها لاحتمال أن تكون ناقلة، فتُقدم، كما يأتي.

(وإن أقام الخارج بينة أنها ملكه، وأقام الدَّاخل بينة أنه اشتراها منه) أي: من الخارج (أو وقفها عليه، أو أعتقه) أي: العبد (قُدِّمت) البينة (الثانية) لأنها تشهد بأمرٍ حادثٍ على الملك خفي، فيثبت الملك للأول، والبيع، أو الوقف، أو العتق، منه.

(1)

لعله في سننه ولم تطبع.

ص: 231

قال في "الاختيارات"

(1)

: لو شَهِدت بينةٌ بملكه إلى حين وَقْفه، وأقام وارثٌ بينة أن موروثه اشتراه من الواقف قبل وَقْفه، قُدِّمت بينة الوارث؛ لأن معها زيادة عِلْم، كتقديم مَن شهد له بأنه اشتراه من أبيه، على من شهد له بأنه ورثه من أبيه.

(ولم تَرفع بينة الخارج يدَه) أي: يد المُدَّعى عليه (كقوله): أي: المُدَّعى عليه: (أبرأني من الدَّين) ويُقيم بذلك بينة.

(أما لو قال) مُدَّعي الشراء، أو الوقف، أو العتق:(لي بينة) بذلك (غائبة، طُولب بالتسليم؛ لأن تأخيره يطول) وقد يكون كاذبًا.

"تتمة": قال في "الانتصار": لا تُسمع إلا بينة مُدَّعٍ، باتفاقنا. وفيه: وقد تثبت في جنبة مُنكِر، وهو ما إذا ادَّعَى عليه عينًا في يده، فَيُقيم بينةً بأنها ملكه، وإنما لم يصح أن يُقيمها في الدَّين؛ لعدم إحاطتها به، ولهذا لو ادَّعى أنه قتل وليه ببغداد يوم الجمعة، فأقام بينة أنه كان فيه بالكوفة، صحَّ.

فصل

(القسم الثاني: أن تكون العينُ في أيديهما، أو) تكون (في غير يَدِ أحدٍ، ولا بينة لهما، فيتحالفان، وتُقسم) العين (بينهما) نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى.

وليس أحدهما بها أَولى من الآخر؛ لعدم اليد، فوجب أن يقتسماها كما لو كانت بأيديهما.

(1)

ص/ 493.

ص: 232

وتحت هذا القسم حالان من الأحوال الأربعة التي أشار إليها في "المنتهى" كما تقدم التنبيه عليه.

(وكذا إن نكلا) عن اليمين، فإنها تُقسم بينهما (لأن كلَّ واحدٍ منهما يستحقُّ ما في يَدِ الآخر بنكوله) عن اليمين له.

(وإن نَكَل أحدُهما) عن اليمين (وحَلَف الآخر؛ قُضِيَ له) أي: للذي حلف (بجميعها) أي: جميع العين، النصف بحلفه؛ لكونه واضع اليد عليه، والنصف الآخر بنكولِ خصمه.

(فإن ادَّعى أحدُهما نصفَها) أي: العين (فما دونُ) بالبناء على الضَّمِّ لحَذْفِ المضاف إليه ونيّة معناه، أي: فأقلّ من النصف (و) ادَّعى (الآخرُ أكثرَ من بقيتها، أو) ادَّعى الآخرُ (كلَّها، فالقول قولُ مُدَّعي الأقل مع يمينه) لأنه واضعٌ يدَه على ما ادَّعاه، ولا رافع ليده، والباقي لمُدَّعي الكلِّ أو الأكثر، بلا يمين؛ لعدم المُنازِع له فيه.

(وإن تنازَعَا مُسَنَّاةً - وهي السَّد الذي يَرُدُّ ماءَ النهر مِن جانبِه، حاجزٌ بين نَهَرِ أحدِهما وأرضِ الآخرِ - تحالفا، وهي) أي: المُسَنَّاةُ (بينهما) نصفين؛ لأنها حاجز بين ملكيهما ينتفع بها كلُّ واحدٍ منهما، أشبه الحائطَ بين الدَّارين (وكذا إن نكلا) عن اليمين، تناصفاها (لأنها حاجزٌ بين ملكيهما.

وإنْ تنازعا صغيرًا دون التمييز في أيديهما، فهو بينهما) وهو (رقيق) لأن اليد دليلُ الملك، ويدُ كُلٍّ منهما عليه، فهما سواء فيه، لا رُجحان لواحد منهما على الآخر (ويتحالفان) أي: يحلف كل منهما لصاحبه على النصف الذي أخذه.

(ولا تُقبل دعواه الحرية إذا بلغ بلا بينة) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة

ص: 233

على المُدَّعي واليمين على مَن أنكر"

(1)

(إلا أن يعرف أن سببَ يَدِه) أي: يد مُدَّعِي الرِّقّ (غير المِلك، مثل أن يلتقطه) ثم يَدَّعي رِقّه (فلا تُقبل دعواه لرِقِّه؛ لأن اللقيط محكومٌ بحريته) لأنها الظاهر والأصل في بني آدم، والرق طارئ.

(وإن كان لكلٍّ منهما) أي: من واضِعَي اليد على طفل (بينةٌ، فهو بينهما أيضًا) لأن كلَّ واحدٍ منهما يستحقُّ ما في يد الآخر ببينته.

(وإن كان) المُدَّعى (مميِّزًا، فقال: إني حرٌّ فهو حرٌّ) فيخلى إلى حال سبيله، ويُمنعان منه؛ لأن الحرية هي الأصل في بني آدم (إلا أن تقوم بينةٌ برِقِّه، كالبالغ، إلا أن البالغ إذا أقرَّ بالرِّقِّ ثبت رِقُّه) مؤاخذةً له بإقراره، بخلاف المميز إذا أقرَّ بالرِّقِّ، فلا يُقبل إقرارُه لعدم صِحَّة إقراره. وإنما اعتُبرت دعواه الحرية؛ لأنها الأصل؛ ولصِحَّة تصرُّفه بالوصية، وأمره بالصلاة.

(وإن كان لأحدهما) أي: أحد المُدَّعيين للعَين (بينةٌ بالعين) المُدَّعَى بها، وهي بيدهما، أو ليست بيدِ أحد (حُكم له بها) لرُجحانه بالبينة.

(وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بينة، لم يقدَّم أسبقهما تاريخًا، بل) هما (سواء) خلافًا للقاضي، قال: يقدم أسبقهما تاريخًا؛ لأن من شَهِدت له بينة بالتاريخ المتقدم أثبتت له الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا، وبقي ملك السابق تحت استدامته. والمذهب الأول؛ لأن الشاهد بالملك الحادث أحقُّ بالترجيح؛ لجواز أن يعمل به دون الأول، بدليل أنه لو ذكر أنه اشتراه من الآخر، أو أنه وهبه إياه ونحوه، لقدمت بينته بذلك اتفاقًا، فإذا

(1)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 234

لم يرجح بها فلا أقل من التساوي.

وأما قوله: أنه يثبت المِلك في الزمان الماضي من غير معارضة، فممنوع؛ بأنه إنما يثبت في الماضي تبعًا لثبوته في الحال، ولو انفردَ بأن ادَّعى الملك في الماضي، لم تُسمع دعواه ولا بينته.

(فإن وُقِّتت إحدَاهما) أي: إحدى البينتين (وأُطلقت الأخرى، والعين بيديهما) فهما سواء؛ لأنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح، من تقدُّم الملك ولا غيره (أو شَهِدت بينةٌ بالمِلك وسببه، كنَتاجٍ) بأن شَهِدت أنها نتجت في ملكه (أو) شهدت بـ (ــسببٍ غيرِه) كشراءٍ أو هِبة (أو) شهدت (بينة بالملك وحده، أو) شَهِدت (بينة أحدهما بالملك له منذ سنة، و) شهدت (بينة الآخر بالملك) له (منذ شَهْر، ولم تقل: اشتراه منه. فهما سواء) لأن البينتين تساوتا فيما يرجع إلى المختلف فيه، وهو ملك العين الآن؛ فوجب تساويهما في الحكم (ولا تُقدَّم إحداهما بكثرة العَدَدِ) كما لو كانت إحدى البينتين أربعة رجال، والأخرى رَجُلين (ولا اشتهار العدالة، ولا الرجلان على الرَّجُل والمرأتين، ولا الشاهدان على الشاهد واليمين) لأن الشهادة مقدَّرة بالشرع، فلا تختلف بالزيادة؛ ولأن كلَّ واحدٍ من تلك حجة مفرَدة، فأشبه الرجلين مع الرجل والمرأتين.

(وإذا تساوتا من كلِّ وجهٍ؛ تعارضتا، وتحالفا فيما بيديهما، وقُسمت) العين (بينهما) نصفين؛ لتساويهما في وَضْع اليد (وأُقرع) بينهما (إذا لم تكن

(1)

) العين (في يَدِ أحدٍ) منهما، ولا مِن غيرهما، وهكذا في "المنتهى" ولعلَّه مبنيٌّ على رواية صالح وحنبل

(2)

، وقدَّمه في "الفروع"،

(1)

في "ذ": "ما لم تكن".

(2)

انظر: مسائل صالح (2/ 276) رقم 882، والفروع (6/ 520 - 521).

ص: 235

وقد جَزَم المصنّف فيما تقدَّم

(1)

أنهما يتناصفانها، تبعًا لما قدَّمه في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاوي"، وهو مقتضى قوله الآتي:"وكانا كمَن لا بينة لهما"(أو) كانت العين (بيد ثالث، ولم ينازع) فيقرَع بينهما (وكانا كمَن لا بينة لهما، فيسقطان) أي: البينتان (بالتعارض) وهو التساوي من كلِّ وَجْهٍ.

(وإن ادَّعى أحدُهما أنه اشتراها من زيدٍ، وهي ملكه، وشَهِدت) له (البينةُ بذلك؛ سُمعت) الشهادة. (وإن لم تقل) البينة: (وهي ملكه؛ لم تُسمع) شهادتها؛ لأنه قد يبيع ملكه وملك غيره (وادَّعى الآخر أنه اشتراها من عَمرو، وهي ملكه) وأقام بينةً بذلك (تعارضتا) جواب: "وإن ادَّعى" وقوله: "سُمعت" وما بعده، اعتراض (حتى ولو أُرِّخَا) قاله في "التنقيح"، وفيه رد على "الإنصاف" حيث قال: مراده إنْ لم يؤرّخا. قال في "الفروع": ثم إن كانت العين في أيديهما تحالفا وتناصفاها. وإن كانت في يَدِ ثالث لم ينازع، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وأخذها (وإن كانت في يَدِ أحدهما، فهي للخارج) لتقديم بينته على بينة الداخل.

(ولو أقام رَجُلٌ بينةً أن هذه الدار لأبي، خلّفها تَرِكة، وأقامت امرأته بينةً إن أباه أصدقها إياها، فهي). أي: الدار (للمرأة، داخلة كانت أو خارجة) لأن بينتها شهدت بالسبب المقتضي لنقل المِلك، كبينة ملك على بينة يَدٍ.

"فائدة": قال الغَزّي: إذا تعارض المُسْقِط والموجِب، جعل المسقط آخرًا، كما لو ادَّعى على رجل مالًا أو عينًا، فقال المُدَّعَى عليه: إنك أقررت أن لا دعوى ولا خصومة لك عليَّ، وقامت بذلك بينةٌ،

(1)

(15/ 232).

ص: 236

سُمعت واندفعت الدعوى، ولو احتمل أنه ادَّعى عليه بسببٍ بعد الإقرار؛ لأن المُسقِط والموجِب إذا تعارضا؛ جعل المسقط آخرًا؛ إذ السقوط لا يكون إلا بعد الوجوب، سواء اتصل القضاء بالأول أو لم يتصل، وكذا لو ادَّعى على آخر، فأقام المُدَّعى عليه بينة أنك أبرأتني من الدعاوى كلها في سَنَةِ كذا؛ صح هذا الدفع.

فصل

(القسم الثالث: تداعيا عينًا في يَدِ غيرِهما، فإن ادَّعاها) مَن هي بيده (لنفسِه، حلف لكلِّ واحدٍ منهما يمينًا) لأن المدعيين اثنان، فوجب أن يحلف لكلِّ واحدٍ

(1)

يمينًا.

(فإنْ نَكَل عنهما) أي: عن اليمينين (أخَذَاها) أي: العين (منه، و) أخذا (بَدَلها) منه؛ وهو مِثْلها إن كانت مِثْلية، وقيمتها إن كانت متقوَّمة؛ لأن العين فاتت على أحدهما بتفريطه في الحلف له (واقترعا) أي: المدَّعيان (عليهما) أي: على العَيْن وبدلها؛ لأن المحكوم له بالعين غير مُعَيَّن، فوجبت القرعة لتعيينه.

(وإن لم يدَّعِها) أي: العين مَن هي بيده (لنفسه، ولم يُقِرَّ بها لغيرِه، ولا قامت بيّنةٌ) بها لأحدهما (أُقرع بينهما) كما لو لم تكن بيد أحدٍ؛ لعدم المُرجِّح (فمن قَرَع حَلَف) لصاحبه (وأخذها) لترجُّحه بالقُرعة.

(فإن كان المدَّعَى به عبدًا مُكلَّفًا، فأقرَّ) العبدُ

(2)

(لأحدهما، فهو)

(1)

في "ذ": "لكل واحد منهما".

(2)

في "ح" و"ذ": "العبد بالرق".

ص: 237

أي: العبد (له) أي: للمُقَرِّ له، كما لو كان المُدَّعي واحدًا وأقرَّ له.

(وإن صَدَّقهما) العبد (فهو لهما) عملًا بإقراره أنه لهما.

(وإن جَحَدهما) وقال: إنه حُرٌّ (قُبِل قوله) لأنها الأصل، والرّقّ طارئ.

(وإن كان) المتنازعَ فيه (غير مُكلَّف، لم يرجَّحْ) أحدهما (بإقراره) له؛ لأن قوله غير مُعتبر، كما تقدَّم.

(وإن أقرَّ بها) أي: بالعين

(1)

المتنازَع فيها (مَن هي بيده لأحدهما بعينه) كأن يقول: هي لزيد مثلًا (حلف) زيد أنها له (وأخذها) لأنه لما أقرَّ له بها صاحب اليد، صارت العينُ كأنها في يَدِه، فيكون الآخر مُدَّعيًا عليه رهو مُنكِر، والقول قوله بيمينه (ويحلف المُقِرُّ للآخر) أي: للمُدَّعِي الآخر إن التمس يمينه؛ لأنه يمكن أن يخاف من اليمين فيقرّ للآخر.

(فإنْ نَكَلَ) المُقِرُّ عن اليمين للآخر (أخذ منه بَدَلها) حكمًا عليه بنكوله (وإن أخذها) أي: العين المتنازَع فيها (المُقَرُّ له، فأقام) المُدَّعِي (الآخر بينةً) أنها له (أخذها) لترجُّحه (وللمُقَرِّ له قيمتها على المُقِرّ) قاله في "الروضة" ولم يُعرف لغيره؛ ذكره في "شرح المنتهى" وتقدَّم ما فيه.

(وإن أقرَّ) مَن بيده العين (بها لهما، ونَكَل عن التعيين) بأن لم يزد على قوله: هي لهما (اقتسماها) لأن مطلق الإضافة يقتضي التسوية.

(وإن قال) مَن بيده العين: (هي لأحدهما وأجهلُه، فإن صَدَّقاه) على أنه يجهله (لم يحلف) لتصديقهما له (وإلا) بأن كذَّباه (حلف يمينًا واحدة) أنه لا يعلمه (ويُقْرَع بينهما) أي: بين المُدَّعِيين للعين (فمن قَرَع، حَلَف وأخذها) لأن صاحب اليد أقرَّ بها لأحدهما لا بعينه، فصار ذلك

(1)

في "ذ": "أي العين".

ص: 238

المُقَرّ له هو صاحب اليد دون الآخر، فبالقرعة يتعيَّن المُقَر له، فيحلف على دعواه ويُقضى له، كما لو أقرَّ له عينًا (ثم إن بيَّنه) أي: بيَّن مَن كانت العينُ بيده، المستحق لها بعد قوله:"هي لأحدهما وأجهله"(قُبل) كتبيينه ابتداء. ونقل الميموني

(1)

: إنْ أبى اليمينَ مَن قَرَع، أخذها أيضًا، أي: بلا يمين (ولهما) أي: للمتنازعين اللذين ادَّعيا العين، وقال مَن هي بيده: هي لأحدهما وأجهله (القُرعة بعد تحليفه الواجب وقبله) أي: قبل تحليفه؛ لأن القُرعة لا تتوقَّف على يمينه، ولذلك لو صَدَّقاه لم تنتفِ القُرعة.

(فإنْ نَكَلَ) مَن كانت العين بيده عن حلفه أنه لا يعلم عَيْنَ المستحق للعين (قُدِّمت القُرعة) لأن القُرعة تُعَيّن المُقَرّ له، فإذا قَرَع صاحبه كان كمَن أقرَّ له، فلا يمين له عليه؛ لأنه قد أخذ حقَّه (ويحلف) المُقِرُّ (للمقروع إن أكذبه) في عدم العِلم؛ لأنه متى صدَّقه، لم يكن له عليه يمين.

(فإن نَكَلَ) المُقِر عن اليمين (أخذ منه بَدَلها) كما لو أقرَّ لواحد منهما دون الآخر.

(وإن أنكرهما) أي: أنكر مَن العينُ بيده كونها لهما أو لأحدهما (ولم ينازع؛ أقرع) بين المدعيين، كإقراره لأحدهما لا بعينه (فإن علم أنها للآخر) المقروع (فقد مضى الحكم) لمن خرجت له القُرعة؛ نقله المرّوذي؛ لأن قُرعته حكم، فلا ينقض بمجرَّد ذلك.

(وإن لم تكن) العين (بيدِ أحدٍ) وتنازعها اثنان (فهي لأحدهما

(1)

انظر: الفروع (6/ 520).

ص: 239

بقُرعة) نصَّ عليه في رواية صالح وحنبل

(1)

، وقدَّمه في "الفروع". وتقدَّم

(2)

في أول القسم الثاني أنهما يتناصفاها

(3)

.

(وإن كان لأحدهما بينة، حُكم له بها) كما لو أنكر ربُّ اليد ونازع.

(وإن كان لكل واحدٍ منهما بينة؛ تعارضتا) لتساويهما في عدم اليد (سواء كان مقرًّا لهما أو لأحدهما لا بعينه، أو) كانت العين المتنازَع فيها (ليست بيدِ أحدٍ) فيصيران كمن لا بينةَ لهما (وكذلك إن أنكرهما) وأقاما بينتين، تعارضتا.

(ثم إنْ أقرَّ لأحدهما بعينه بعد إقامتها) أي: البينة (لم يرجّح) المُقَرّ له (بذلك) الإقرار (وحكم التعارض بحاله) لتساوي البينتين مِن كلِّ وَجهٍ؛ لأن العين ليست بيدِ أحدهما، فلا ترجّح إحداهما برجوع اليد إلى صاحبها؛ لأنها يدٌ طارئةٌ، فلا عِبرة بها (وإقراره صحيحٌ) فَيُعمل به، كما لو لم يكن لواحد منهما بينة.

(وإن كان إقرارُه له) أي: لأحدهما (قبل

(4)

إقامة البينتين، فالمُقَرّ له) بالعين (كداخل، والآخر كخارج) لأنها ليست بيده حقيقة ولا حُكمًا، بخلاف المُقَرّ له فإن العين انتقلت إلى يده حكمًا بإقرار صاحب اليد.

(وإن ادَّعاها) أي: العين المتنازَع فيها (صاحبُ اليدِ لنفسِه، ولو بعد التعارض، حَلَف لكلِّ واحدٍ منهما يمينًا) لان المُدَّعيين اثنان، فوجب أن يحلف لكل واحدٍ يمينًا (وهي) أي: العين (له) لترجّح جانبه بوضع اليد (فإنْ نَكَلَ) عن اليمين لكلٍّ منهما (أخَذَاها منه، و) أخذا منه (بَدَلها)

(1)

مسائل صالح (2/ 276) رقم 882، وانظر الفروع (6/ 520).

(2)

(15/ 232).

(3)

في "ذ": "يتناصفانها".

(4)

في متن الإقناع (4/ 484): "بعد".

ص: 240

لأن العين فاتت على أحدهما بترك اليمين للآخر (واقترعا عليهما) أي: على العين وبدلها؛ لأن المحكوم له بالعين غير مُعيّن، فوجبت القُرعة لتعيينه (وإنْ أقرّ) من بيده العين (بها لغيرهما) أي: غير المدَّعيين لها (فتقدَّم

(1)

) في باب طريق الحكم وصفته.

(وإن كان في يده عبدٌ، وادَّعى أنه اشتراه مِن زيدٍ، وادَّعى العبدُ أنَّ زيدًا أعتقه) وأقاما بينتين، صَحَّحنا أسبق التصرُّفين.

(أو ادَّعى شخصٌ أن زيدًا باعه) العبدَ (أو وهبه له، وادَّعى الآخرُ مِثلَه) أي: أنه باعه أو وهبه له (وأقام كلُّ واحدٍ منهما بيّنةً) شَهِدت بدعواه (صحَّحنا أسبقَ التصرُّفين إن عُلِم التاريخ) لأن التصرُّف الثاني صادف ملك غيره، فبَطَلَ (وإلا) يعلم التاريخ (تعارضتا) لأنه لا مُرَجِّح لواحدة منهما، وكذا لو اتَّحد تاريخهما. قال الشيخ تقي الدين: الأصوب أن البيِّنتين لم تتعارضا

(2)

، فإنه من الممكن أن يقع العقدان، لكن يكون بمنزلة ما لو زوّج الوليان المرأة وجُهل السابق، فإما أن يقرع، أو يَبْطُلَ العقدان بحكم، أو بغير حكم

(3)

(وكذا إن كان العبد بيد نفسه) وادَّعى أن زيدًا أعتقه، وادَّعى آخر أنه اشتراه من زيد، وقلنا: تعارضت البيّنتان، فلا يرجّح بهذه اليد (أو) كان العبد (بيد أحدهما) أي: أحد المُدَّعيين لشراء كلٍّ منهما له مِن زيد، إلغاء لهذه اليد، للعلم بمستندها؛ وهو الدعوى التي لم تثبت، فتكون عادية، فلا تُرجّح بذلك، كما لو كان في يدِه عبد، فادَّعى أنه اشتراه من زيد، فأنكر

(4)

زيد، فإنه لا يحكم بهذه اليد، فكذا هنا.

(1)

(15/ 136).

(2)

في "ذ" والاختيارات الفقهية: "لم يتعارضا".

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 510.

(4)

في "ح" و"ذ": "فأنكره".

ص: 241

(وإن كان العبد في يَدِ زيدٍ) وادَّعى كلُّ واحدٍ من اثنين أنه اشتراه منه (فالحكم فيه حكم ما إذا ادَّعيا عينًا في يَدِ غيرهما) على ما تقدَّم

(1)

تفصيله.

(و‌

‌إن ادّعيا زوجيّة امرأة، وأقاما بيّنتين،

وليست بيدِ أحدِهما؛ سقطتا) لأن كلَّ واحدةٍ منهما تشهَدُ بضِدِّ ما شَهِدت به الأخرى، فكانا كَمَن لا بينةَ لهما، وكذا إن كانت بيدِ أحدِهما؛ لأن الحُرَّ لا يدخل تحت اليد. وقال الشيخ تقي الدين

(2)

: مقتضى كلام القاضي إذا كانت بيدِ أحدِهما، فهي مسألة الداخل والخارج.

(وإن ادَّعى على رَجُلٍ أنه عبده، فقال) المُدَّعَى عليه: (بل أنا حُرٌّ، وأقاما بيّنتين؛ تعارضتا) وتساقطتا؛ لعدم المُرجِّح. قلت: ويخلى سبيل العبد؛ لأن الأصل الحرية، والرق طارئ ولم يثبت.

(وإن كان في يدِه عَبْدٌ، فادَّعى) عليه (اثنان) ادَّعى (كلٌّ منهما أنه اشتراه مِنِّي بثمن، سَمَّاه) المُدَّعي (فصدَّقهما) من بيده العبد (لزمه الثمنان) مؤاخذةً له بإقراره (فإنْ أنكر، حَلَف لهما وبرئ) لأنه مُنكِر، والأصل براءتُه (وإن صدَّق أحدَهما) وحده (أو أقام) أحدهما (به بينة؛ لَزِمه الثمن) للمُقَر له، أو لمن شَهِدت له البينة؛ لثبوت دعواه (وحلف للآخر) لأنه ينكره.

(وإن أقام كلُّ واحدٍ) منهما (بينةً، مطلقتين، أو مختلفتَي التاريخ، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرَّخة؛ عُمِل بهما) لأن ظاهر هذا أنهما عقدان، وقد شهد بهما بيّنتان، ومن الجائز أن يكون اشتراه من الأول،

(1)

(15/ 237) وما بعده.

(2)

انظر: الفروع (6/ 529).

ص: 242

ثم انتقل عنه بنحوِ بيعٍ إلى الثاني، ثم اشتراه منه أيضًا، فَيُعمل بالبيّنتين، ويلزم بالثمنين.

(وإن اتَّفق تاريخهما) أي: الشراءين اللَّذين شَهِدت بهما البيّنتان (تعارضتا) أي: البينتان، وصارا كما لو تداعيا عينًا بيد ثالث.

(وإن ادَّعى كلُّ واحدٍ) مِن اثنين على آخر (أنه باعني إيَّاه) أي: نحو العبد (بألفٍ، وأقامَ) بدعواه (بينةً؛ قُدِّم أسبقهما تاريخًا) لأن نَقْلَ الملك حاصل لمن سبق، فالعقد عليه بعدَه لا يصح.

(وإن استويا) في التاريخ (تعارَضتا) ويتحالفان ويتناصفان العبد ونحوه؛ لأن بينة كلِّ واحدٍ منهما داخلة في أحد النصفين، خارجة في النصف الآخر، فكانت العينُ بينهما نصفين، ولكل أن يرجع على البائع بنصف الثمن، وأن يفسخ ويرجع بكله، وأن يأخذ كلها مع فسخ الآخر.

وإنْ أطلقتا أو إحداهما، تعارضتا في ملك إذًا لا في شراء؛ لجواز تعدُّده، فيقبل من المُدَّعى عليه دعوى العبد ونحوه بيمين لهما أنَّ العين لم تخرج عن ملكه.

(وإن قال أحدُهما: غَصَبَني) العبدَ ونحوه (وقال الآخر: ملَّكَنيه، أو أقرَّ لي به. وأقاما بينتين، فهو للمغصوب منه) لأن عند بينته زيادةُ عِلمٍ؛ وهو ثبوتُ اليدِ له، والبينةُ الأخرى إنما تشهد بتصرُّفه، فلا معارضة بينهما (ولا يغرم) المُدَّعى عليه (للآخر شيئًا) لأنه لم يأخذ منه شيئًا يرجع به عليه، بخلاف البيع.

وإن ادَّعى كلٌّ منهما أنه غَصَبه منه، وأقاما بيّنتين، فكما لو ادَّعى كلٌّ منهما أنه اشتراه منه، على ما سبق تفصيله.

(وإن ادَّعى) ربُّ دارٍ (أنه أجره البيت بعشرة، فقال المستأجر: بل)

ص: 243

أجرتني (كلَّ الدار) بالعشرة، وأقام كلٌّ بينة (تعارضتا، ولا قِسْمة هنا) أي: لا يقسم بينهما ما زاد على البيت

(1)

(وتقدم

(2)

أول طريق الحكم وصفته، ما يصح سماع البينة فيه قبل الدعوى وما لا يصح) سماع البينة فيه قبلها.

"تتمة": نقل ابن منصور عن أحمد

(3)

في رجل أخذ من رجلين ثوبين، أحدهما بعشرة، والآخر بعشرين، ثم لم يَدْرِ أيهما ثوب هذا من ثوب هذا، فادَّعى أحدُهما ثوبًا من هذين الثوبين، وادَّعاه الآخر: يُقرع

(4)

بينهما، فأيهما أصابته القُرعة حلف وأخذ الثوب الجيد، والآخر للآخر. وإنما قال ذلك؛ لأنهما تنازعا ثوبًا بيد غيرهما؛ قاله في "الشرح".

(1)

"والظاهر أن القول قول المؤجر بيمينه، لأنه ينكر إجارة غير البيت؛ قاله شيخنا الشيخ منصور في "شرحه على المنتهى" [6/ 623] ". اهـ. ش.

(2)

(15/ 112 - 115).

(3)

مسائل الكوسج (6/ 2973 - 2974) رقم 2205.

(4)

في "ذ": "أقرع".

ص: 244

‌باب تعارض البينتين

(التَّعارضُ: التعادل من كلِّ وجْهٍ) يقال: تعارضت البيّنتان إذا تقابلتا، وعارض زيد عمرًا، إذا أتاه بمثل ما أتاه به، وتعارضُ البينتين: اختلافهما، بأن تُثبِتَ كلٌّ منهما ما نفته الأخرى؛ حيث لا يمكن الجمع بينهما؛ فيتساقطان.

(إذا قال لعبده: متى قُتِلْتُ فأنت حُرٌّ، فادَّعى العبدُ أنه) أي: سيده (قُتِل، وأنكر ورثتُه، فالقول قولُهم إنْ لم تكن له بينةٌ) لأن الأصل عدم القتل.

(وإن أقام كلُّ واحدٍ منهما بينةً بما ادّعاه) بأن أقام العبد بينةً أن سيده قُتِل، وأقام ورثتُه بينةً أنه مات (قُدِّمت بينةُ العبدِ، وعَتَق) لأن مع بينته زيادةٌ؛ وهو القتل، وإن لم تكن له بينة، فله تحليفهم على نفي العلم.

(وإن قال: إنْ مِتُّ في المُحَرَّم فسالمٌ حُرٌّ، و) إن مِتُّ (في صَفَر، فغانمٌ حُرٌّ) ومات (ولم تقم لواحد منهما بينة) بموجِب عتقه (وأنكر الورثةُ) موته في الشهرين (فقولُهم) لأن الأصل بقاؤهما في الرّقّ (وبقيا على الرّقّ) لاحتمال موته في غير المُحَرَّم وصَفَر.

(وإنْ أقرُّوا لأحدِهما) بموجب عتقه (أو أقام) به (بينةً؛ عَتَقَ) لثبوت مقتضيه (وإن أقام كلُّ واحدٍ) من العبدين (بينةً بموجِب عتقه، تعارضتا وسقطتا) لأن كلَّ واحدة منهما تنفي ما شَهِدت به الأخرى (وبقيا على الرّقّ) لاحتمال أن يكون مات في غير مُحرَّم وصَفَر.

(وإن عُلِم موتُه في أحد الشَّهرين) وهما المُحرَّم وصَفَر، ولم يُعلم

ص: 245

عَيْنُه (أُقرع بينهما) للعلم بموجِب عِتْق أحدهما، ولا مُعيِّن له غير القُرعة، فمن قَرَع عَتَقَ.

(و‌

‌إن قال: إنْ مِتُّ في مرضي هذا، فسالمٌ حُرٌّ، وإن برئتُ، فغانمٌ حُرٌّ. وجُهِل)

كونه مات فيه أو برئ (ثم مات، ولم تكن لهما بينةٌ؛ عَتَق أحدُهما بقُرعة) لأنه لا يخلو إما أن يكون برئ أو لم يبرأ، فيعتق أحدهما بكلِّ حالٍ، ولم يُعلم عينُه، فيخرج بقُرعة.

(وإن أقاما بيّنتين؛ تعارضتا، وبقيا على الرّقّ) نقله في "المقنع" عن الأصحاب؛ لأن كلَّ واحدةٍ من البيَّنتين تنفي ما شَهِدت به الأخرى، ثم قال في "المقنع": والقياس أن يَعتِق أحدُهما بقُرعة، وزيَّفَ في "الشرح" ما نقله عن الأصحاب.

(وإنْ أقرَّ الورثةُ لأحدِهما) بما يوجِب عتقه (عَتَق بإقرارِهم. وكذا حُكم) قوله: (إنْ مِتُّ من مرضي) هذا، فسالمٌ حُرٌّ، وإن برئتُ، فغانمٌ. إذا أتى بـ "مِنْ" (بدل "في") وأقام كلٌّ من العبدين بينةً (في التعارض) أي: فإنه يكون الحكم كما تقدم في تعارض البيّنتين وتساقطهما، وكونهما يبقيان على الرّقّ، أو يعتق أحدهما بقُرعة، على ما سبق.

(وأما في الجهل ممَّ) أي: من أي شيء (مات) وعدم البينة لكلٍّ منهما (فَيَعْتِقُ سالم؛ لأن الأصل دوام المرض وعدم البرء.

وإن أتلف ثوبًا) ونحوه من المتقوّمات تعديًا أو نحوه (فشهدت بينةٌ أن قيمته عشرون، و) شَهِدت (بينةٌ) أخرى (أن قيمته ثلاثون؛ لزمه ما اتفقا عليه وهو عشرون) دون ما تعارضتا فيه؛ لتساقطهما فيه (وكذا لو كان بكلِّ قيمة شاهدٌ) ثبت ما اتفقا عليه (وله) أي: المُدَّعي (أن يحلف مع الآخر) الشاهد بالعشرة الزائدة (على العشرة، كما

ص: 246

يأتي

(1)

آخر الباب بعده) كما لو لم يكن غيره؛ لأن الشاهد مع اليمين نِصاب لا يُعارضه شهادة الواحد.

(قال ابنُ نصر الله: لو اختلفت بيّنتان في قيمة عَيْنٍ قائمةٍ ليتيم يريد الوصي بيعها، أخذ ببينة الأكثر فيما يظهر) إن احتملت، وإلا في مَنْ يصدقها الحس.

(وكذا قال الشيخ

(2)

: لو شهدت بينةٌ أنه أَجر حصة مَوْلِيِّهِ بأجرة مِثْلها، و) شهدت (بينةٌ) أنه أَجرها (بنصفها) أي: بنصف أُجرة مِثْلها، أخذ ببينة الأكثر حيث احتمل (وتقدم

(3)

: إذا ماتت امرأةٌ وابنُها، واختلف زوجها وأخوها في أسبقهما) موتًا (في) باب (ميراث الغرقى) مفصَّلًا.

فصل

(إذا شَهدت بينةٌ على ميت أنه أوصى بعتق سالم، وهو ثلث ماله، و) شَهِدت (بينةٌ أنه أوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله، ولم تُجِزِ الورثةُ) عتقهما معًا (أُقرع) بينهما (فمَن قَرَع) أي: خرجت له القُرعة (عَتَقَ وحده، سواء اتفق تاريخُهما، أو اختلف) أو أطلقتا أو إحداهما؛ إذْ لا فرق بين متقدِّم الوصية ومتأخّرها، وإنما أُقرع بينهما ولم يعتق مِن كل منهما نصفه؛ قياسًا على الوصية بمال؛ لأن الإعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت، وقد أَقْرع النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت في حديث

(1)

(15/ 278).

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 510.

(3)

(10/ 481).

ص: 247

عمران بن حصين، وتقدم في العتق

(1)

. فكذلك بعد الموت؛ لأن المعنى المقتضي لتكميل العتق في أحد العبدين في الحياة موجود بعد الموت.

(فلو كانت بينةُ غانمٍ وارثة فاسقة) ولم تكذب الأجنبية (عَتَقَ سالم) بلا قُرعة؛ لأن بينةَ غانمٍ الفاسقة لا تُعارض بينته العادلة (ويعْتِق غانمٌ بقُرعة) لإقرار الورثة بالوصية بعتقه - أيضًا - فاقتضى ذلك القرعة بين العبدين، لكن لما كانت بينة سالم عادلة، عَتَقَ أوّلًا؛ لعدم التعارض، وأعتقنا غانمًا بخروج القُرعة له.

(وإن كانت) الوارثة الشاهدة بعتق غانم (عادلة، وكَذَّبت الأجنبيةَ، لغا تكذيبُها) للأجنبية (دون شهادَتِها، وانعكس الحكمُ، فيعتِقُ غانمٌ) بلا قُرعة (ثم وُقِفَ عِتقُ سالمٍ على القُرعة) كما لو شَهِدت بذلك البيّنتان من غير تكذيب، بخلاف غانم، فإنه يعتق بلا قُرعة، لشهادتها بعتقه، وإقرارها أنه لم يعتق سواه.

(وإن كانت) الوارثة (فاسقةً مُكَذِّبةً) للعادلة الأجنبية (أو) كانت (فاسقةً وشَهِدت برجوعه عن عتق سالم؛ عَتَق العبدان) أما سالم؛ فلأنه لم يثبت عتق غانم ببينة تعارض بينته، وأما غانم؛ فلإقرارها بعتقه دون الآخر، وشهادتها بالرجوع عن الوصية بعتق سالم يتضمن الإقرار بالوصية بعتق غانم وحده، فهو كما لو كانت مكذّبة للأخرى.

(ولو شَهِدت - أي: الوارثة - وليست فاسقةً ولا مُكَذِّبةً) للأجنبية (برجُوعه) عن عتق سالم (قُبلت شهادتُها، وعَتَقَ غانمٌ وحدَه) لأنها بينة عادلة لم تَجُرَّ إلى نفسِها نفعًا، فوجب قَبولها (كما لو كانت) الشاهدةُ برجوعه (أجنبية.

(1)

تقدم تخريجه (11/ 47) تعليق رقم (1).

ص: 248

ولو كان في هذه الصورة) وهي: ما إذا كانت الشاهدة برجوعه عن عتق سالم (غانمٌ سدسَ المال؛ عتقا) أي: العبدان (ولم تُقبل شهادتها) بالرجوع عن عِتْق سالم؛ لأنها مُتَّهمة بدفع السُّدس للآخر عنها، فلا تُقبل شهادتها لذلك. لا يُقال: الشاهدة برجوعه عن عِتْق سالم - وهو ثلث المال - تَجُرّ إليها ولاء غانم؛ لأنه يقال: هما يُسقِطان ولاء سالم - أيضًا -، على أن الولاء: إنما هو ثبوت سبب الميراث، ومثل ذلك لا تُرَدُّ الشهادةُ فيه، كما يثبت النسب بالشهادة، وإن كان الشاهد يجوز أن برث المشهود له به، وتُقبل شهادة الإنسان لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه.

(والوارثة العادلة فيما تقوله خبرًا لا شَهادةً) منصوبان على المصدرية بـ "تقوله" على حد: "قعد القُرفُصَاء"، وقوله:(كالفاسقة في جميع ما ذكرنا) خبر عن "الوارثة"، أي: خبر الوارثة العادلة كشهادة الفاسقة؛ لأن خبرها إقرار، فَيُعمل به كإقرار الفاسقة وشهادتها.

(وإن شهدت بينةٌ أنه أعتق سالمًا في مرضه، و) شهدت (بينةٌ أنه أوصى بعتق غانم، وكلُّ واحدٍ منهما) أي: من العبدين (ثلث المال؛ عَتَقَ سالم وحدَه) لسبق العتق على الوصية به، وإن كانت متقدمة في اللفظ؛ لأن الوصية إنما تلزم بالموت، بخلاف العتق، فإنه كالعطية يلزم من حينه.

(وإن شَهِدت بينةٌ أنه أعتق سالمًا في مرضه، و) شهدت (بينةٌ أنه أعتق غانمًا في مرضه؛ عَتَق أقدمهما تاريخًا؛ إنْ كانتِ البيّنتان أجنبيتين، أو كانت بينةُ أحدِهما وارثة ولم تُكذِّبِ الأجنبية) لأن المريض إذا تبرَّع

ص: 249

بتبرُّعات

(1)

يعجز ثلثه عن جميعها، قُدِّم الأول فالأول.

(وإن سبقت الأجنبية) تاريخًا (فكذَّبَتْها الوارثةُ) عَتُقا. أما سالمٌ؛ فلسَبْقِ بينته، وأما غانمٌ؛ فمؤاخذةً للوارثة بمقتضى قولها: إنه لم يعتق سواه (أو سبقت الوارثة) تاريخًا (وهي فاسقة؛ عَتُقا) أما سالم؛ فلشهادة البينة العادلة بعتقه، ولا تُعادلها الفاسقة، وأما غانم؛ فلإقرار الوارثة أنه هو المعتَق

(2)

دون سالم.

(وإن جُهِل أسبقهما) تاريخًا، بأن قال كلٌّ من البينتين: إنه أعتق فلانًا. ولم تؤرّخ، أو أرّخت إحداهما، وأُطلقت الأخرى (عَتَقَ أحدهما بقُرعة) كما لو اتَّحد تاريخُهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر (وكذا لو كانت بيّنة غانم وارثة) وجُهل الأسبق، فإنه يقرع بينهما؛ لما سبق.

(وإن قالت البينةُ الوارثة: ما أعتق سالمًا، وإنما أعتق غانمًا؛ عَتَقَ غانم كله) بلا قُرعة؛ لإقرار الورثة بعِتقه (وحكم سالم كحُكمه، كما لو لم تطعن الوارثة في بينته؛ في أنه يَعْتِق) بلا قُرعة (إنْ تقدَّم تاريخ عتقه) لسبقه (أو خرجت له القُرعة) فيما إذا جهل الحال؛ لإلغاء طَعْنها في بينته (وإلا) أي: وإن لم يتقدَّم تاريخُ عتقه، بل تأخَّر، إن علم التاريخ، أو لم تخرج له القُرعة إن جَهِل (فلا) يعتق سالم، كما لو لم تطعن في بينته.

(وإن كانت) البينة (الوارثة فاسِقة) وشَهِدت بعِتْق غانم (ولم تطعن في بينةِ سالم، عَتَق سالم كلّه) بلا قُرعة؛ لأن البينة العادلة شَهِدت بعتقه، ولم يوجد ما يَعارِضها (وينظر في غانم؛ فإن كان تاريخ عِتْقه سابقًا، أو خرجت القُرعة له؛ عتق كله) لإقرار الورثة بأنه أعتقه (وإنْ كان) عِتْق

(1)

في "ح" و"ذ": "تبرعات".

(2)

في "ذ": "العتيق".

ص: 250

غانم (متأخّرًا، أو خرجت القُرعةُ لسالم، لم يَعْتِقْ منه) أي: من غانم (شيء) لأن بينته لو كانت عادلة، لم يَعْتِق منه شيء إذًا، فمع فِسْقها أولى (وإن كذَّبت) بينة غانم (بينةَ سالم، عتق العبدان) لأن سالمًا مشهودٌ بعتقه، وغانمًا مُقِرّ له بأنه لا يستحق العتق سواه.

(وتدبير مع تنجيز) في مرض موت (كآخر تنجيزين مع أسبقهما في كلِّ ما قَدَّمنا) لأن المُدَبَّر يَعْتِق بالموت، فوجب أن يتأخَّر عن المنجز في الحياة، أشبه الموصى بعتقه مع المنجز عتقه.

فصل

(وإن مات عن ابنين: مسلمٍ، وكافرٍ، فادَّعى كلٌّ منهما أنه) أي: الأب (مات على دِيْنه؛ فإن عُرِف أصل دِيْنه) من إسلام أو كفر (فالقول قول من يَدَّعيه) لأن الأصل بقاؤه على ما كان عليه (وإن لم يُعرف) أصل دِيْنه (فالميراث للكافر إن اعترف المسلم أنه أخوه، أو قامت به) أي: بأنه أخوه (بينةٌ) لأن المسلم لا يُقِرُّ ولده في دار الإِسلام على الكفر، فصار معترفًا بأن أباه كان كافرًا مُدَّعيًا إسلامه، وأخوه يُنْكِره، والقول قول المُنكِر (وإلا) أي: وإن لم يعترف المُسلِم بأخوَّة الكافر، ولم تَقُمْ بها بينة (فـ) ــالميراث (بينهما) لتساويهما في الدعوى مع عدم المُرجِّح، أشبه ما لو تنازعا عينًا في يديهما.

(وإن أقام كلُّ) واحدٍ (منهما بَيّنة أنه مات على دِيْنِهِ، ولم يُعرَف أصلُ دِيْنه؛ تعارضتا) وتساقطتا؛ لتعذُّر الجمع بينهما، ويتناصفان التَّرِكة، كما لو لم تكن بينة.

(وإن قال شاهدان: نعرِفُه مسلمًا، و) قال (شاهدان) آخران: (نعرِفُه

ص: 251

كافرًا، ولم يُؤَرِّخا معرفتهم، ولا عُرِف أصلُ دِيْنه، فالميراث للمسلِم) لأن الإسلام يطرأ على الكُفْر كثيرًا، والكفر إذا طرأ على الإسلام لا يُقرّ عليه (وتَقَدَّم

(1)

الناقلةُ إذا عُرِف أصلُ دِيْنه فيهن) أي: في جميع ما سبق (كما تَقَدَّم) لأن المبَقِّية له على أصل ديْنه بنت شهادتها على الأصل الذي تعرفه، والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى، فَقُدِّمت عليها، كما لو شَهِد اثنان أن هذا العبد كان ملكًا لفلان إلى موته، وآخران أنه أعتقه أو باعه في حياته.

(ولو شَهِدت بينةٌ أنه مات ناطقًا بكلمة الإسلام، و) شَهِدت (بينةٌ أخرى أنه مات ناطقًا بكلمة الكفر؛ تعارضتا، ولو لم يُعرف أصلُ دِيْنه) لأن البيِّنتين أرّختا وقتًا واحدًا؛ هو ساعة موته، فتعارضتا وتساقطتا؛ لتعذُّر الجمع.

(وإن خلَّف) ميت (أبوين كافرَيْن، وابنين مسلِمَين، واختلفوا في دِيْنه، فكما تقدَّم في ابنين؛ مسلمٍ وكافرٍ) لأن هؤلاء مع ثبوت دعواهم لا فرق بين دعواهم ودعوى الابنين. قال في "المستوعب": وعلى كلِّ حالٍ، يُغَسَّل، ويُكفَّن، ويُصلَّى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين. انتهى. قال القاضي: يُدفن معنا. وقال ابن عقيل: وحدَه (وكذا لو خلّف ابنًا كافرًا، وأخًا وامرأة مسلِمَين) فعلى ما تقدَّم.

(ومتى نصَّفْنا المال، فنصفُه للأبوين على ثلاثة) للأب ثلثاه، وللأم ثلثه، والنصف الآخر للابنين (و) كذلك إذا نصَّفناه في الثانية، فـ (ـنصفه للزوجة والأخ على أربعة) للزوجة رُبعه، وباقيه للأخ، والنصف الآخر للابن المنازع.

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 49): "وتُقدّم البينة".

ص: 252

(و‌

‌لو مات مسلمٌ، وخلَّف زوجةً وورثةً سواها،

وكانت الزوجةُ كافرةً، ثم أسلمت، وادَّعت أنها أسلمت قبل موته) لترِثَ منه (وأنكر الورثةُ؛ فقولُهم) لأن الأصل بقاؤها على الكفر، فيكون القول قول الورثة بيمينهم.

(وإن ادَّعى الورثةُ أنَّها كانت كافرة، ولم يثبت) كونها كانت كافرة (وأنكرتهم) فقولها (أو ادعوا) أي: الورثة (أنه طلَّقها قبل موته) طلاقًا يُسقِط الأرث (فأنكرتهم؛ فقولُها) لأنهم اعترفوا بالزوجيّة - التي هي سبب الإرث - وادعوا ما يسقطه، والأصل عدمُه.

(وإنِ اعترفت بالطلاق وانقضاء العِدَّة، وادَّعت أنه راجعها) أي: أعادها بعقدٍ جديد (وأنكروا) أي: الورثة (فقولُهم) لأن الأصل عدم الإعادة.

(وإن) اتفقوا على الطلاق، و (اختلفوا في انقضاء عِدَّتها؛ فقولُها، في أنها) أي: العِدَّة (لم تنقضِ) لأنه الأصل.

(ولو مات مسلمٌ وخلَّف ابنين؛ مسلمًا وكافرًا، فأسلم الكافرُ، وقال: أسلمتُ قبل موت أبي) أو قبل قَسْم تَرِكته (وقال أخوه: بل بعدَه) أي: أسلمتَ بعد ذلك (فلا ميراث له) لأنه مُقِرّ بالكفر أوّلًا، مدّعٍ للإسلام فيما قبل الموت أو فيما قبل قَسْمِ

(1)

التَّرِكة، والأصل بقاؤه على كفره، فيكون القول قولَ أخيه المسلم بيمينه، إلا أن يُقيم بينةً بدعواه، أو يُصَدِّقه باقي الورثة.

(فإن قال: أسلمتُ في المُحَرَّم، ومات أبي في صَفَر، فقال أخوه) المسلم: (بل) مات أبوك (في ذي الحجَّة، فله الميراث مع أخيه) لأنهما

(1)

في "ذ": "قسمة".

ص: 253

اتفقا على الإسلام في المُحَرَّم، وإنما اختلفا في أن الموت هل كان قبله أو بعده، والأصل حياة الأب، فوجب أن يكون الإرث بينهما.

(و‌

‌لو خلَّف حرٌّ ابنًا حرًّا، وابنًا كان عبدًا، فادَّعى أنه عَتَق وأبوه حيٌّ)

وأنكره أخوه (ولا بينة؛ صُدِّق أخوه في عدم ذلك) أي: في أنه لم يَعتِق قبل موت أبيه؛ لأن الأصل بقاء الرّقّ.

(وإنْ ثَبَتَ عتقه في رمضان، فقال الحرُّ: مات أبي في شعبان، وقال العتيق: بل) مات (في شوال؛ صُدِّق العتيق) لأن الأصل بقاء حياة الأب إلى شوال (وتُقدَّمُ بينةُ الحرِّ مع التعارض) أي: لو أقام الحُرُّ بينةً أن أباه مات بشعبان، والعتيق بينةً أنه مات بشوال؛ قُدِّمت بينةُ الحُرِّ؛ لأن معها زيادة علم.

(ولو شهدا) أي: اثنان (على اثنين بقتلِ) زيد مثلًا (فشهدا) أي: المشهود عليهما (على الشاهدين به) أي: بأنهما القاتلان (وصَدَّق الوليُّ الكلَّ) أي: الأربعة (أو) صَدَّق (الآخرَيْن، أو كذَّب) الوليُّ (الكلَّ، أو) كذَّب (الأوَّلَيْن فقط؛ فلا قتل ولا دية) لأن شهادة المشهود عليهما غير معتبرة؛ لأنهما متهمان بالدفع عن أنفسهما بذلك، وتصديق الولي لهما غير معتبر، وكذا لو صَدَّق الجميع؛ بأن قال: قتلوه كلهم؛ لأن كل اثنين من البيّنتين تدفع عن نفسها القتل بالشهادة، فلا تُقبل، وكذا لو أكذب الجميع؛ لأنه يعترف بأن لا حقَّ له عندهم.

(وإن صَدَّق) الوليُّ الشاهدين (الأولين فقط) أي: دون الآخرين (حكم بشهادتهما) لعدم ما يدفعها (وقُتل من شَهِدا عليه) بالقتل، وهما الآخران؛ لثبوت القتل عليهما إن كان عمدًا محضًا.

ص: 254

كتاب الشهادات

ص: 255

‌كتاب الشهادات

(واحدُها شهادةٌ) مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يُخبِر عما شاهده، يقال: شَهِد الشيءَ، إذا رآه، ولذلك قيل لمَحضَر الناس: مَشهَد، لمشاهدتهم فيه ما يحضرهم، ومنه قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(1)

أي: علمه، برؤية هلاله، أو إخبار مَن رآه.

والأصل فيها الإجماع

(2)

؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ. . .} الآية

(3)

؛ وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(4)

؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهدَاكَ أو يَمِينُهُ"

(5)

ونحوه مما سبق مفصَّلًا

(6)

، والحاجة داعيةٌ إليها؛ لحصول التجاحُد.

قال شُريحٌ: القضاء جَمْر، فَنَحِّهِ عنك بعودين. يعني: الشاهدين

(7)

. وإنما الخصم داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء.

(تُطلق) الشهادة (على التحمُّل و) على (الأداء) لقوله تعالى:

(1)

سورة البقرة، الآية:185.

(2)

الإجماع لابن المنذر ص/ 76.

(3)

سورة البقرة، الآية:282.

(4)

سورة الطلاق، الآية:2.

(5)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث 139، وعن ابن مسعود رضي الله عنه.

(6)

(15/ 219).

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 236) ووكيع في أخبار القضاة (2/ 287 - 289)، والبيهقي (10/ 144).

ص: 257

{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(1)

، وقال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ. . .} الآية

(2)

، وإنما خَصَّ القلبَ بالإثم، لأنه موضع العلم بها.

(وهي) أي: الشهادة (حُجَّةٌ شرعيَّة تُظهِر) أي: تُبيّن (الحقَّ) المُدَّعَى به (ولا توجبه) بل القاضي يوجبه بها.

(وهي) أي: الشهادة - ولو عطفه بالفاء لكان أنسب - (الأخبار بما علِمه بلفظ خاصٍّ) وهو: أشهد، أو: شَهِدتُ بكذا.

(وتحمُّلها) أي: الشهادة (في غير حَقِّ الله) تعالى (فَرْضُ كِفاية) لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) قال ابن عباس وقتادة والربيع

(3)

: المُراد به التحمُّل للشهادة، وإثباتها عند الحاكم. فإذا قام به البعضُ سَقَطَ عن الباقي

(4)

، وإن لم يوجد إلا مَن يكفي؛ تعيَّن عليه، وإن كان عبدًا لم يجز لسيده منعه، ودخل في ذلك حقوق الآدميين كلها، أموالًا كانت أو غيرها.

(وإذا تحمَّلها) أي: الشهادة الواجبة (وجبتْ كتابتُها، ويتأكَّد ذلك في حقِّ رديء الحِفْظ) لأن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ. قال في "الاختيارات"

(5)

: "وحيث امتنعت الشهادةُ، امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي".

(وأداؤها) أي: الشهادة في غير حق الله (فَرْضُ عَيْنٍ) لقوله تعالى:

(1)

سورة البقرة، الآية:282.

(2)

سورة البقرة، الآية:283.

(3)

انظر: تفسير الطبري (3/ 126 - 127).

(4)

في "ذ": "الباقين".

(5)

ص/ 513.

ص: 258

{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}

(1)

.

(فإن قام بالفرض في التحمُّلِ والأداء اثنان؛ سقط) الوجوبُ (عن الجميع) لحصول الغرض، لكن الأداء فَرْضُ عَيْنٍ على المذهب، كما ذكره أوّلًا، خلافًا للموفَّق ومتابعيه.

(وإن امتنع الكلُّ) أي: مِن التحمُّلِ أو الأداء (أثَمِوا) لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(1)

.

(ويُشترط في وجوب التحمُّلِ و) وجوب (الأداء أن يُدْعَى إليهما مَن تُقبل شهادتُه) لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}

(2)

.

(و) أن (يقدر) الشاهد (عليهما بلا ضَرَرٍ يلحقُه في بَدَنِهِ، أو ماله، أو أهله، أو عِرْضه، ولا تَبذُّلٍ في التزكية) أي: وبلا ضرر يلحقه بتبذُّل نفسه إذا طُلبت منه تزكيتها، فإن حصل له ضررٌ بشيء من ذلك لم تجب؛ لقوله تعالى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}

(2)

.

(ويختصُّ الأداء بمجلسِ الحُكْمِ) لأن السماعَ بغيره لا يحصُل به مقصودُها، كما تقدَّم، فإن كان الحاكم غير عَدْلٍ، فنقل ابن الحكم عن أحمد: كيف أشهد عند رجل ليس عدلًا؟! لا يشهد

(3)

(ومن تحمَّلها) أي: الشهادة بحقِّ آدميٍّ (أو رأى فِعْلًا، أو سَمِع قولًا بحقِّ) آدمي (لزمه أداؤها على القريب) عُرفا (و) على (البعيد فيما دون مسافة القصر) دون ما فوقها؛ لما فيه من المشقَّة.

(والنسيب وغيره سواء) أي: ذو القرابة والأجنبي مستويان في

(1)

سورة البقرة، الآية:283.

(2)

سورة البقرة، الآية:282.

(3)

انظر: الفروع (6/ 549).

ص: 259

وجوب الشهادة لهما أو عليهما؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}

(1)

؛ ولأن الشهادة أمانة، فلزِمه أداؤها، كالوديعة.

(ولو أدَّى شاهدٌ، وأبى الآخرُ، وقال) لربِّ الحَقِّ: (احلِفْ أنت بدلي؛ أثِمَ) اتفاقًا؛ قاله في "الترغيب"؛ لما تقدم.

(ولو دُعي فاسقٌ إلى تحمُّلها) أي: الشهادة (فله الحضور، ولو مع وجود غيره؛ لأن التحمُّل لا يُعتبر له العدالة) بخلاف الأداء، فلو لم يؤدِّ حتى صار عدلًا قُبلت.

(ومَن شَهِد) بحقٍّ ولو (مع ظهور فِسْقه، لم يُعزَّر؛ لأنه) أي: فِسْقه (لا يمنع صِدقه) قاله في "الفروع"(فدل أنه لا يحرم أداءُ الفاسق، و) إلا لعُزّر، يؤيده أن الأشهر:(لا يضمن مَن بان فِسْقُه) ويتوجَّه التحريم عند مَن ضَمَّنه، ويكون علة لتضمينه.

(ويحرم أخْذُ أُجرة وجُعْلٍ عليها) أي: الشهادة (تحمُّلًا وأداءً، ولو لم تتعيَّن عليه) لأن فَرْضَ الكفاية إذا قام به البعضُ وقع منه فرضًا، ولا يجوز أخذ الجعل عليه، كصلاة الجِنازة.

(لكن إنْ عَجَزَ) الشاهد (عن المشي، أو تأذَّى به، فله أخْذُ أُجرة مركوب من ربِّ الشهادة) قال في "الرعاية": فأُجرة المركوب والنفقة على رَبّها. قلت: هذا إن تعذَّر حضور المشهود عليه إلى محلّ الشاهد، لمرض، أو كِبر، أو حبس، أو جاهٍ

(2)

، أو خفر. انتهى.

(وفي "الرعاية": وكذا) أي: كالشاهد في أخْذِ أُجرةٍ وجُعْل (مُزَكٍّ،

(1)

سورة النساء، الآية:135.

(2)

في "ذ": "أو خوفٍ".

ص: 260

ومعرِّفٌ، ومترجمٌ، ومُفْتٍ، ومقيمُ حدٍّ، و) مقيم (قَوَد، وحافظُ مال بيت المال، ومحتسِبٌ، والخليفة) واقتصر عليه في "الفروع"، وتقدَّم الكلام على المفتي مع القاضي القضاء

(1)

.

(ولا يقيمها) أي: الشهادة (على مسلم بقتل كافر) قاله في "الفروع". وظاهره: يحرم، ولعل المراد عند مَن يرى قتله به، وأما لوجوب الدية، فيجب؛ لأنه حقُّ آدميٍّ، فيدخل في عموم ما سبق.

(ويُباح لمَن عنده شهادةٌ بحَدٍّ لله) تعالى (إقامتُها) وقال القاضي والموفَّق وجَمْعٌ: تَرْكها أولى، وجزم في آخر "الرعاية" بوجوب الإغضاء عن

(2)

ستر المعصية، وتصح إقامةُ الشهادة بحقِّ الله تعالى

(3)

(من غير تقدم دعوى) به، وتقدم.

(ولا تُستحبُّ) الشهادةُ بحَقِّ الله تعالى؛ لحديث: "مَن سَترَ عَورةَ مسلم سَترَه الله في الدُّنيا والآخرَةِ"

(4)

.

(وتجوز الشهادة بحَدٍّ قديم) كالشهادة بقصاص

(5)

؛ ولأنه قد يَعْرِض للشاهد ما يمنعه الشهادة حينها، ثم يتمكَّن بعدُ.

(و) يجوز (للحاكم أن يُعرِّض للشهود بالوقف عنها في حَقِّ الله تعالى، كتعريضه) أي: الحاكم (للمُقِرّ به) أي: بحَدّ لله تعالى (ليرجع)

(1)

(15/ 21 - 23).

(2)

"عن" كذا في الأصول كافة! وصوابه: "عمَّن" كما في الفروع (6/ 550)، والمبدع (10/ 192) وغيرهما.

(3)

في "ذ": "بحق لله تعالى".

(4)

أخرجه البخاري في المظالم، باب 3، حديث 2442، ومسلم في البر والصلة، حديث 2580 عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء، حديث 2699، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

في "ذ": "بالقصاص".

ص: 261

عن إقراره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للسارق: "ما إخَالُكَ سَرقتَ"

(1)

مَرَّتَيْنِ، وأعرض عن المُقِرّ بالزنى حتى أقرَّ أربعًا

(2)

. وقال عُمرُ لزيادٍ بعد أن شَهِد عنده الثلاثة على المغيرة بالزنى، وجاء زيادٌ ليشهد: ما عندك يا سَلْحَ العُقاب

(3)

؟ وصاح به، فقال: رأيت أمرًا قبيحًا

(4)

، فلما لم يُصرِّحْ بالزنى فَرِح عُمر، وكان ذلك بمَحْضَرٍ من الصحابة، ولم يُنكِره أحدٌ منهم.

(ومن عنده شهادةٌ) بحقٍّ (لآدمي يعلَمُها، لم يُقِمْها) أي: الشاهد (حتى يسأَلَه) ربُّ الحق إقامتها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ النّاس قرني ثم الذين يَلُونَهم، ثم يأتي قومٌ يَنذُرُون ولا يُوفُونَ، ويَشهَدُونَ ولا يُستشهدُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤتمنونَ" رواه البخاري

(5)

. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم

(6)

بخَيرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتي بالشّهادَةِ قبل أن يُسْأَلها" رواه مسلم

(7)

. فهو فيما إذا لم يعلم المشهود له الحال.

(1)

تقدم تخريجه (14/ 163) تعليق رقم (2).

(2)

تقدم تخريجه (14/ 61) تعليق رقم (3، 4).

(3)

قال ابن قدامة في المغني (12/ 368): معناه أنه يُشبه سَلْحَ العُقاب، الذي يحرق كلَّ شيء أصابَه، وكذلك هذا تُوقَع العقوبةُ بأحد الفريقين لا محالة، إن كملت شهادته حُدَّ المشهود عليه، وإن لم تكمل حُدَّ أصحابه. ا. هـ. وسلح الطائر: هو منه كالتغوُّط من الإنسان. المصباح المنير ص/ 386، مادة (سلح).

(4)

أخرجه بهذا اللفظ أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني (16/ 97 - 98)، وقد تقدم تخريجه (14/ 64) تعليق رقم (1).

(5)

في الشهادات، باب 9، حديث 2651، وفي فضائل الصحابة، باب 1، حديث 3650، وفي الرقاق، باب 7، حديث 6428، وفي الأيمان والنذور، باب 7، حديث 6695. وأخرجه - أيضًا - مسلم في فضائل الصحابة، حديث 2535، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

(6)

في "ذ": "أخبركم"، وهو الذي في صحيح مسلم.

(7)

في الأقضية، حديث 1719، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.

ص: 262

(ولا يَقدح) أداؤها قبل استشهاده (فيه) أي: في شهادته، للحاجة (كشهادة حِسْبة) في حقوق الله تعالى.

(ويُقيمها) الشاهد

(1)

(بطلبه) أي: المشهودِ له (ولو لم يطلبْها حاكمٌ) لأنها حقٌّ للمشهودِ له، فإذا طَلَبه وَجَبَ (ونحوه) كالمحكَّم (فإن لم يعلَمْها؛ استُحِبّ له) أي: الشاهد، (إعلامُه، فإن سأله أقامَها، ولو لم يطلبها حاكم) لما تقدم.

(ويحرم كَتْمُها) أي: الشهادة بحقِّ آدميٍّ؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

(2)

.

(ويُسنُّ الإشهادُ في كلِّ عَقْدٍ سوى نِكاحٍ) كالبيع والإجارة والرهن؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}

(3)

، وصَرَفه عن الوجوب قولُه:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2)، وقيس على البيع باقي العقود غير النكاح (فيجب) أن يشهد به اثنان؛ لأنها شرط فيه، وتقدم

(4)

في بابه.

(و‌

‌لا يجوز للشاهد أن يشهَدَ إلا بما يعلمُه)

لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(5)

؛ ولحديث ابن عباس: "سُئلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الشّهادَةِ، قال: هَل تَرَى الشّمسَ؟ قال: نعم. قال: على مِثلِها فاشهَدْ أو دَعْ" رواه الخلال في "جامعه"

(6)

بأن يدرك المشهودَ به ابتداء (برؤيةٍ أو

(1)

في "ذ": "أي: الشاهد".

(2)

سورة البقرة، الآية:283.

(3)

سورة البقرة، الآية:282.

(4)

(11/ 301).

(5)

سورة الإسراء، الآية:36.

(6)

لم نقف عليه في الجزء المطبوع من جامع الخلال. وأخرجه - أيضًا - العقيلي =

ص: 263

سَمَاعٍ) فشهد مَن رأى زيدًا يُقْرِضُ عَمرًا ونحوه، أو سمِعه يبيعه، أو يُقِرّ له، وإن احتمل أنه أقاله البيعَ، أو وفّاه القرضَ، أو ما أقرَّ له به، فالمُعتبر العِلمُ في أصل المدرَك لا في دوامه، كما أشار إليه القَرَافي

(1)

، وإلا لتعطلت

(2)

(غالبًا؛ لجوازه) أي: العلم (ببقية الحواس قليلًا) كدعوى مشتري مأكول عَيْبَه لمرارة أو نحوها، فتشهَدُ البينةُ بما أدركته بالذوق، أو الشَّمِّ، أو اللمس.

(فالرؤية تختصُّ بالأفعال، كالقتل، والغصب، والسرقة، وشرب الخمر، والرَّضاع، والولادة، ونحو ذلك) من العيوب المرئية.

(فإن جَهِل) الشاهدُ (حاضرًا) أي: جهل اسمَه ونسبَه (جاز أن يشهد) عليه (في حضرته) فقط (لمعرفة عينه.

وإن كان) المشهودُ عليه (غائبًا) وجَهِل اسمَه ونسبَه، لم يشهد حتى يَعرفه (فـ) ــإن (عَرَّفه) به (مَن يسكن إليه؛ جاز أن يشهَد، ولو على امرأة) ولو كان الذي عَرَّفه واحدًا. قال في "شرح المنتهى": على

= (4/ 70)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 18)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 455) حديث 10974، من طريق محمد بن سليمان بن مشمول، عن عبيد الله بن سلمة، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.

وأخرجه - أيضًا - ابن عدي (6/ 2213)، والحاكم (4/ 98)، والبيهقي (10/ 156)، من طريق محمد بن سليمان، به، بلفظ "يا ابن عباس لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء الشمس". قال ابن عدي في محمد بن سليمان بن مشمول: عامة ما يرويه لا يُتابع عليه في إسناده ولا متنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. وتعقَّبه الذهبي بقوله: واه، فعمرو قال ابن عدي: كان يسرق الحديث، وابن مشمول ضعفه غير واحد. وقال البيهقي: محمد بن سليمان بن مشمول، تكلم فيه الحميدي، ولم يرو من وجه يعتمد عليه.

(1)

الفروق (4/ 56).

(2)

زاد في "ح": "منافع الناس".

ص: 264

الأصح. (وإن لم يتيقَّن معرفتها، لم يشهد مع غيبتها) للجهالة بها وبما يعرفها به للحاكم.

(ويجوز أن يشهد على عَيْنِها، إذا عَرَف عَيْنَها ونظر إلى وجهها. قال) الإمام (أحمد: لا يشهَدُ على امرأةٍ حتى ينظر إلى وجهها

(1)

. وهذا محمولٌ على الشهادة على مَن لم يتيقَّن معرفتها، فأما من تيقَّن معرفتها، وعَرَف صوتها يقينًا، فيجوز) له أن يشهد عليها؛ لحصول المعرفة بها.

(وقال) الإمام (أحمد - أيضًا -: لا يشهَدُ على امرأةٍ إلا بإذن زوجها) وعلَّله بأنه أملك لعصمتها

(2)

. وقطع به في "المبهج" للخبر

(3)

. وعلَّله بعضُهم بأن النظر حقٌّ للزوج، وهو سهوٌ؛ قاله في "الفروع".

(وهذا) أي: نصّ أحمد (يحتمل) أن المُراد به (أنه لا يدخل عليها

(1)

انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 37) رقم 1336.

(2)

انظر: الفروع (6/ 552).

(3)

أخرج الترمذي في الأدب، باب 30، حديث 2779، وابن أبي شيبة (4/ 409 - 410)، وأحمد (4/ 197، 203)، وأبو يعلى (13/ 327) حديث 7341، وأبو القاسم البغوي في الجعديات (1/ 86) حديث 180، والبيهقي (7/ 90 - 91)، من طريق شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي صالح ذكوان، عن مولَى عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص أرسله إلى علي يستأذن على أسماء بنت عميس رضي الله عنهم، فأذن له، حتى إذا فرغ من حاجته سأل المولى عمرو بن العاص عن ذلك، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد (4/ 197، 205) من طريق الأعمش، وأبو يعلى (13/ 332) حديث 7348، وابن حبان "الإحسان"(12/ 397) رقم 5584 من طريق سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن عمرو بن العاص قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المغيبات.

قال الدارقطني في العلل (4/ 127): الحديث حديث شعبة.

ص: 265

بيتَها إلا بإذن زوجِها) لأن البيت حقُّه، فلا يدخله بغير إذنه.

(ولا تُعتبر إشارتُه) أي: الشاهد (إلى مشهودٍ عليه حاضرٍ مع نسبه وَوَصْفِه) للحاكم، فإن لم يُسَمّه ولم ينسبه ولم يصفه، اعتُبرت إشارته إليه.

(وإن شهد بإقرارٍ، لم يُعتبر) لصحّة الشهادة (ذكرُ سببه) أي: الإقرار بذلك الحق، ولا سببِ الحق الذي أقرَّ به (كـ) ــما لو شَهِد بـ (ـاستحقاق مال) فإنه لا يُعتبر ذِكْرُ سبب الاستحقاق، ويحتمل أن يكون المعنى: كما لا يُعتبر ذكر استحقاق المال في الشهادة على الإقرار به، كما لا يُشترط ذلك لصحة الدعوى بالإقرار.

(ولا) يُعتبر - أيضًا - (قوله) أي: الشاهد: إنه أقرَّ (طوعًا في صِحَّته مكلَّفًا) رشيدًا (عملًا بالظاهر) أي: ظاهر الحال؛ لأن مَن سوى ذلك يحتاج إلى تقييد الشهادة بتلك الحال.

(وإن شَهِد) الشاهد (بسببٍ يوجب الحقَّ) كتفريطٍ في أمانة، أو تعدٍّ فيها (أو) شهد بـ (ـاستحقاقٍ غيره) أي: غير ما يوجبه السبب، بأن قال: إن هذا يستحق في ذِمّة هذا كذا (ذَكَرَه) أي: اشترط ذكر الموجب للاستحقاق؛ لأنه قد لا يعتقده الحاكم موجبًا.

(والسماعُ ضربان): الأول: (سماعٌ من المشهود عليه، كالطلاق، والعَتَاق، والإبراء، والعقودِ) من البيع والإجارة، والشركة، والمضاربة، والصلح، ونحوها (وحُكْمِ الحاكم، وإنفاذِه، والإقرارِ) بنسب، أو مال، أو قود، ونحوه (ونحوها) أي: المذكورات، كالخلع (فيلزمه) أي: الشاهد (أن يَشْهَدَ به على مَن سمعه) منه، سواء وقّت الحاكم الحكم أو لا (وإن لم يُشهِدْهُ به، لاسْتِخفائه) أي: الشاهد عند تحمُّله الشهادة، كأن يكون لإنسان على آخر حقّ، وهو ينكرُه بحضور مَنْ يشهد عليه، فيسمع

ص: 266

إقراره مَن لا يعلم به المُقِرّ، فإنه يشهد عليه بما سمعه منه؛ لأنه حصل له العِلم بالمشهود به، كما لو رآه يفعل شيئًا من غير أن يعلم الفاعل أن أحدًا يراه (أو مع العِلم) من المسموع منه ذلك (به) أي: بالشاهد (وإذا قال المتحاسبان: لا تشهدوا علينا بما يجري بيننا، لم يمنع ذلك الشهادة) عليهما بما جرى بينهما (و) لم يمنع (لزوم إقامتها) لأن الشاهد قد عَلِم ما يشهد به، فيدخل في عموم الأدلة.

(و) الضرب الثاني: (سماعٌ من جهةِ الاستفاضةِ فيما يتعذَّر عِلْمُه غالبًا بدونها) أي: بدون الاستفاضة، وهي: أن يشتهر المشهودُ به بين الناس، فيتسامعون به بإخبار بعضهم لبعض (كالنسب) قال ابن المنذر

(1)

: لا أعلم أحدًا من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفته به، إذْ لا سبيل إلى معرفته قطعًا بغير ذلك، ولا تمكن المشاهدة فيه، ولو اعتُبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه، ولا أحدًا من أقاربه (والموتِ، والملكِ المُطْلَق) لأن الموت قد لا يباشره إلا الواحد أو الاثنان ممن يحضره، ويتولَّى غسله، وتكفينه، والملك قد يتقادم السبب المترتّب عليه، فلو توقفت الشهادة على المباشرة، لأدَّى ذلك إلى العُسْر، وخاصة مع طول الزمان (والنكاح عقدًا ودوامًا، والطلاقِ، والخُلْعِ) ذكره في "المقنع"، قال في "الشرح": ولم يذكره في "المغني" ولا في "الكافي"، ولا رأيتُه في كتاب غيره، ولعله قاسه على النكاح، والأولى: أنه لا يثبت؛ لأنه يشتهر

(2)

، بخلاف الخلع (والوقف) بأن يشهد أن هذا وَقْفُ زيدٍ لا أنَّ زيدًا وَقَفَهُ (ومصرفه) أي: الوقف

(1)

انظر: المغني (14/ 141 - 142).

(2)

"أي: الطلاق". ش.

ص: 267

(وشرطه) لدعاء الحاجة إلى ذلك، خصوصًا مع طول المدة (والعتق، والولاء، والولاية، والعزل، وما أشبه ذلك، فَيَشْهَدُ بالاستفاضة في ذلك كلِّه) لان هذه الأشياء تتعذَّر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها ومشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة، كالنسب.

(ولا) يجوز أن (يَشْهَدُ بها) أي: بالاستفاضة (إلا) إذا علم ما شهد به (عن عدد يقع العِلمُ بخَبَرهم) قال الخِرقي: ما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شَهِدَ به.

(ولا يُشترطُ فيها) أي: في الشهادة عن الاستفاضة (ما يُشترط في الشهادة على الشهادة) من عدالة الأصل، وتعذُّر حضورهم بموت، ونحوه، وغير ذلك مما سيأتي (ويُكتفى بالسماع) بغير استرعاء.

(ويَلزمُ) القاضيَ (الحكمُ بشهادةٍ لم يعلم تلقِّيها من الاستفاضة) هذه عبارة "الفروع" و"التنقيح"، قال في "المستوعب": ومتى لم يعلم الحاكم أنها تُلقِّيت من طريق الخبر لزمه قَبولها والحكم بها قولًا واحدًا.

(ومن قال: شَهِدتُ بها) أي: الاستفاضة (فَفَرْعٌ) هكذا في "الفروع" و"التنقيح"، وذكر ابن الزاغوني: إن شَهِد أن جماعة يثق بهم أخبروه بموت فلان، أو أنه ابنه، أو أنها زوجته، فهي شهادة الاستفاضة، وهي صحيحة، وكذا أجاب أبو الخطاب: يُقبل في ذلك، ويحكم فيه بشهادة الاستفاضة، وأجاب أبو الوفاء: إن صَرَّحا بالاستفاضة، أو استفاض بين الناس، قُبلت في الوفاة والنسب جميعًا.

(وفي "المغني": شهادةُ أصحابِ المسائل شهادةُ استفاضةٍ، لا شهادة على شهادةٍ. وقال القاضي: الشهادةُ بالاستفاضة خبرٌ، لا شهادةٌ. وقال: تحصُلُ بالنساء والعبيد) وقال: يحكم القاضي بالتواتر.

ص: 268

(وإن سَمِعَ إنسانًا يُقِرّ بنسبِ أبٍ، أو ابنٍ) أو نحوه (فصدَّقه المُقَرُّ له، جاز أن يَشْهَدَ له به) أي: بالنسب؛ لتوافق المُقِر والمُقَر له على ذلك (وإن كذَّبه) أي: كذَّب المقَرُّ له المُقِر فيما أقرَّ به من النسب (لم) يجز له أن (يشهد) له به؛ لتكذيبه إياه.

(وإنْ سكت) المُقَرُّ له، فلم يصدِّق ولم يُكذِّبْ (جاز) للسامع (أن يشهد) له به؛ لأن السكوت في النسب إقرارٌ به، بدليل أن من بُشِّر بولد فسكت، لَحِقه نسبُه، كما لو أقرَّ به؛ لأن السكوت في الانتساب الباطل غير جائز، بخلاف سائر الدعاوى؛ ولأن النسب يغلب فيه الإثبات، ولذلك يلحق بالإمكان في النكاح.

(ومن رأى شيئًا في يد إنسانٍ مدةً طويلة يتصرَّف فيه تصرُّف الملَّاك، من نقض، وبناء، وإجارة) وإعارة (ونحوها، جاز) للرائي (أن يشهد له بالملك) لأن التصرُّف فيه على هذا الوجه من غير منازع يدلُّ على صِحّة المِلك، فجاز أن يشهد به.

(والورعُ ألا يشهدَ إلا باليد والتصرُّف) لأنه أحوط (خصوصًا في هذه الأزمنة) وإن لم يره يتصرَّف كما ذُكر مدة طويلة، شهد باليد والتصرُّف فقط.

فصل

(ومن شَهِد بنكاحٍ، أو غيرِه من العقودِ، فلا بُدَّ من ذِكْرِ شروطِه) لاختلاف الناس في بعض الشروط، فربما يكون تُرِك منه شرطٌ يرى الشاهدُ صحته بدونه، دون الحاكم (وتقدَّم في) باب (طريق الحكم)

ص: 269

وصفته

(1)

وكذا الدعوى، فَيُعتبر في نكاحٍ أنْ يشهد أنه تزوَّجها برضاها، بوليٍّ مرشد وشاهدي عدل، وأنها حين العقد كانت خلية عن الموانع.

(وإنْ شهد برَضاع، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِ عدد الرضعات، وأنه شَرِب من ثديها، أو من لَبَنٍ حُلِب منه) لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات، وفي الرضاع المحرِّم، ولا بُدَّ أن يشهد أنه ارتضع (في الحَوْلين) لأن الرضاع بعدهما غير مُحَرِّم (فلا يكفي أن يشهد) الشاهد (أنه ابنُها من الرَّضاع) لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها.

(وإن شَهِد بقتل، احتاج أن يقول: ضَرَبه بسيفٍ، أو غيره، أو جَرَحه فقتله، أو مات من ذلك. وإن قال) الشاهد: (جَرَحه فمات؛ لم يحكم به) لجواز أن يكون مات بغير هذا.

(وإنْ شهد بزنىً ذَكَرَ المزنيَّ بها) لئلا تكون ممن تَحِلُّ له (وأين) أي: في أيِّ مكانٍ (وكيف) زَنَى بها، من كونهما نائمين، أو جالسين، أو قائمين (وفي أي زمان) زنى بها؛ لتكون الشهادة منهم على فِعْلٍ واحدٍ، لجواز أن يكون ما شَهِد به أحدُهما غير ما شَهِد به الآخرُ (وأنه رأى ذَكَرَه في فَرْجِها) لأن اسم الزنى يُطلق على ما لا يوجب الحَدّ، وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنىً زنىً، فاعتُبر ذكر صفته، واعتُبر ذِكْر المرأة؛ لئلا تكون ممن تَحِلُّ له، أوْ له في وطئها شُبهة، وتقدَّم

(2)

في حد الزنى: لا يعتبر ذِكْر المزني بها ولا مكانه، مع ما فيه.

(وإنْ شَهِد بسرقةٍ، اشتُرط ذِكْرُ المسروق منه، و) ذكر (النصاب، و) ذكر (الحِرْز، و) ذكر (صفة السرقة) مثل أن يقول: خلع الباب ليلًا

(1)

(15/ 142).

(2)

(14/ 63).

ص: 270

وأخذ الفرس، أو أزال رأسه عن ردائه وهو نائم في المسجد، أو نحو ذلك؛ لتتميز السرقة الموجبة للقطع من غيرها.

(وإنْ شَهِد بالقذف ذَكَر المقذوف، وصفة القذف) بأن يقول: قال له: يا زاني، أو يا لوطيّ، أو نحو ذلك؛ ليعلم كونه يوجب الحَدّ أوْ لا.

(وإن شَهِد أنَّ هذا العبد ابن أمَته، أو) شَهِد أن (هذه الثمرة من ثمرة شجرته، لم يحكم بهما حتى يقولا: ولدَتْه) في ملكه (وأثمرَتْه في ملكه) لاحتمال أن تكون ولدته أو أثمرته قبل ملكه، فلا يكونان له، بخلاف ما إذا قالا: ولدته أو أثمرته في ملكه، فإنهما يكونان له؛ لأنهما نماء ملكه.

(وإنْ شَهِدا أنه اشتراها) أي: العين المُدَّعى بها (مِن فلان، أو وَقَفها عليه، أو أعتقها، لم يحكم بها حتى يقولا: وهي في ملكه) لأنه يجوز أن يكون باع، أو وقف، أو أعتقَ ما ليس في ملكه؛ ولأنه لو لم يشترط لتمكَّن كل مَن أراد أن ينزِعَ شيئًا من يد غيره أن يتفق هو وشخص ويبيعه إياه بحضرة شاهدين، ثم ينزعه المشتري من يَدِ صاحبه.

(وإنْ شهدا أن هذا الغَزْل من قُطنه، أو) أن هذا (الطائر من بيضه، أو) أن هذا (الدقيق من حنطته؛ حكم له بها) لأنه لا يتصوّر أن يكون الغَزْل من قُطنه، أو الطائر من بيضته، أو الدقيق من حَبِّه، قبل ملكه ذلك؛ ولأنه ليس غيره، وإنما تغيَّرت صفته، فكأن البينة قالت: هذا غَزْله وطيره ودقيقه و (لا) يحكم له بالبيضة (إنْ شهدا أن هذه البيضة من طَيْره حتى يقولا: باضتها في ملكه) لجواز أن تكون باضتها قبل ملكه إياها.

(وإنْ شَهِدا لمن ادَّعى إرْثَ ميت أنه وارثه، لا يعلمان له وارثًا سواه؛ حُكم له بتَرِكَتِهِ؛ سواءٌ كانا) أي: الشاهدان (مِن أهل الخِبْرة الباطنة) بصحبة، أو معاملة، أو جِوارٍ (أوْ لا) من أهل الخِبْرة الباطنة؛

ص: 271

لأنه قد ثبت إرثه، والأصل عدم الشريك فيه (ويُعطى ذو الفرض فَرْضَه كاملًا) ولا يُوقف له شيء حيث لا حَجْب، كزوجةٍ مع الأخ المشهود له بذلك، فَتُعطى الربع كاملًا، وقيل: اليقين، وهو ثُمنٌ عائلًا للزوجة، وسدس عائلًا للأم.

(وإن قالا) أي: الشاهدان: (لا نعلم له وارثًا غيره في هذه البلد، أو بأرض كذا، فكذلك) لأن الأصل عَدَمُهُ في غير هذا البلد، وقد نفيا العِلْم به في هذا البلد، فصار في حكم المُطْلَق، و (لا) يحكم له بإرثه (إن قالا: لا نعلم له وارثًا في البيت.

ثم إن شهدا أن هذا وارثه؛ شارك الأول) لأنه لا تنافي بينهما؛ ولو كانا قالا أوّلًا: لا نعلم له وارثًا غيره؛ لأن الإثبات يقدم على النفي.

(وإن شَهِدت بينةٌ أنّ هذا ابنُهُ لا وارثَ له غيره، و) شَهِدت (بينةٌ أخرى لآخرَ أنَّ هذا ابنُهُ لا وارث له غيرُه، ثَبَتَ نسبهما) لعدم التنافي بينهما (وقسم المال بينهما) عملًا بما أثبتته كلٌّ من البيّنتين، وإلغاءً للنفي، وإنْ شَهِدا أنه وارثه فقط، سُلِّم إليه بكفيل. قال الموفق في "فتاويه": إنما احتاج إلى إثبات أنْ لا وارث له سواه، لأنه يعلم ظاهرًا، فإنه بحكم العادة يعرفُهُ جارُهُ، ومَن يعرفُ باطنَ أمره، بخلاف دَيْنهِ على الميت، لا يحتاج إلى إثبات: لا دَيْن سواه؛ لخفاء الدين.

"تنبيه": قال الأَزَجي في من ادعى إرثًا: لا يحوج في دعواه إلى بيان السبب الذي يرث به، وإنما يدعي الإرثَ مطلقًا؛ لأن أدنى حالاته: أن يرثه بالرَّحِم، وهو صحيحٌ على أصلنا. فإذا أتى ببينة، فشَهِدَت له بما ادَّعاه، مِن كونه وارثًا؛ حكم له به.

(و‌

‌لا ترد الشهادة على النفي).

. . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 272

المحصور

(1)

(بدليل المسألة المذكورة، ومسألة الإعسار، والبينة فيه) تُثبِت ما يظهر ويُشاهد؛ بخلاف شهادتهما: لا حق له عليه.

(و) يدخل فِي كلامهم (إن كان النفي محصورًا، قُبلت، كقول الصحابيِّ): دُعِي - أي: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وكان يأكل لحمًا مشويًّا من شاة يحتز منه بالسكين (فطرح السِّكين وصَلَّى ولم يتوضأ

(2)

) قال القاضي: ولأن العِلم بالتَّرْك والعِلم بالفعل سواء في هذا المعنى؛ ولهذا نقول: إن مَن قال: صحبتُ فلانًا في يوم كذا، فلم يقذف فلانًا؛ قُبلت شهادته، كما تُقبل في الإثبات، وأطال فيه في "الفروع".

(ولو شَهِد اثنان فِي محفل على واحدٍ منهم أنه طَلَّق أو أعتق؛ قُبِل، وكذا لو شَهِدا على خطيب أنه قال، أو فعل على المنبر في الخطبة شيئًا، لم يشهد به غيرُهما، مع المشاركة في سَمْعٍ وبَصَرٍ) قُبلت شهادتهما؛ لكمال النصاب.

(ولا يُعارِضُه قولهم) أي: الأصحاب (إذا انفرد واحدٌ فيما تتوفر الدواعي على نقله) أي: تدعو الحاجةُ إلى نقله (مع مشاركة خَلْقٍ كثيرٍ، رُدَّ) قوله؛ للفرق بين شهادة واحد وشهادة اثنين، وبين تقييدهم بكون ذلك الشيء مما تتوفر الدواعي على نقله، وبين عدم ذلك القيد.

(1)

"المحصور" كذا هنا، والذي في المبدع (10/ 204)، والإنصاف (29/ 287):"ولا ترد الشهادة على النفي مطلقًا". وهو الصواب؛ بدليل قوله بعد: إن كان النفي محصورًا.

(2)

أخرجه البخاري في الوضوء، باب 50، حديث 208، وفي الأذان، باب 43، حديث 675، وفي الجهاد، باب 92، حديث 2923، وفي الأطعمة، باب 20، 26، 62، حديث 5408، 5422، 5462، ومسلم في كتاب الحيض، حديث 355، عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه.

ص: 273

(وإن شَهِدا أنه طَلَّق) من نسائه واحدة، ونسيا عينها (أو) شَهِدا أنه (أعتق) مِن أرقائه رقبةً، ونسيا عَيْنها (أو) شَهِدا أنه (أبطل مِن وصاياه واحدةً، ونسيا عينها؛ لم يُقبل) منهما ذلك؛ لأنها شهادةٌ بغير مُعَيَّن، فلا يُمكن العمل بها.

(وتصحُّ شهادةُ مُسْتَخفٍ) وهو المتواري عن المشهود عليه؛ رواه سعيد بإسناد رجاله ثقات، عن عَمرو بن حُريث

(1)

؛ ولأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك، بأنْ يقرّ الخصم سرًّا ويجحد جهرًا. وتقدم

(2)

.

(و) تصح (شهادةُ من سَمعَ مكلَّفًا يُقِرُّ بحَقٍّ، أو) بـ (ـعَقْدٍ، أو عِتْق، أو طلاق، أو) سَمِعه (يُشْهِد شاهدًا بحقٍّ، أو يسمع الحاكمَ يحكم، أو) سمع الحاكم (يُشهِدُ على حكمه وإنفاذه.

ويلزمه أن يشهَدَ بما سَمع) من ذلك ونحوه؛ لأن المعتمد عليه السماع، وهو موجود؛ ولأن أبا بكرة وأصحابه شهدوا على المغيرة، ولم يقل عمر: أشهدكم

(3)

أو لا

(4)

، وكذلك عثمان لم يسأل الذين شَهِدوا على الوليد بن عقبة بذلك

(5)

، ولم يقل هذا أحدٌ من الصحابة ولا

(1)

لم نقف عليه في المطبوع من سنن سعيد بن منصور، ومن طريقه أخرجه البيهقي (10/ 251)؛ عن هشيم، عن الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي، عن عمرو بن حريث كان يجيز شهادة المختبئ، ويقول: كذا يفعل بالخائن والفاجر.

وأخرجه - أيضًا - البخاري في الشهادات، باب 3، قبل الحديث 2638 معلقًا، وعبد الرزاق (8/ 356) رقم 15524، وابن أبي شيبة (6/ 498) موصولًا.

(2)

(15/ 266 - 267).

(3)

في "ذ": "هل أشهدكم".

(4)

تقدم تخريجه (14/ 64) تعليق رقم (1).

(5)

أخرجه مسلم في الحدود، حديث 1707، عن حضين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان وأُتي بالوليد، قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه =

ص: 274

غيرهم، وعنه

(1)

: لا، كالشهادة على الشهادة، وفَرَّقَ الموفّق بأن الشهادة على الشهادة ضعيفة، فاعتُبر تقويتها بالاسترعاء.

فصل

(وإنْ شَهِد أحدُ الشاهدين أنه أقرّ بقتله عمدًا، أو) شَهِد أنه (قتله عمدًا، وشَهِد الآخر أنه أقرّ بقتله، أو قتَله وسكت) عن صفة القتل (ثَبَتَ القتل) لاتفاق الشاهدين عليه (وصُدِّق المُدَّعى عليه فِي صفته) أي: القتل من كونه عمدًا أو خطأ؛ لأنها لم تثبت.

(وإنْ شَهِدا بفعلٍ مُتَّحدٍ فِي نفسه، كإتلاف ثوب ونحوه، وقَتْلِ زيدٍ) ونحوه، واختلفا في وقته ونحوه؛ لم تكمل البينة؛ للتنافي.

(أو) شَهِدا بفعل مُتَّحد (باتفاقهما، كسرقة وغَصب) اتفقا على اتحادهما (واختلفا في وقته) أي: الفعل المذكور، بأن قال أحدهما: فعله يوم الخميس، والآخر يوم الجمعة.

(أو) اختلفا في (مكانه، أو) في (صفة متعلِّقةٍ به، كلونه، وآلةِ قَتْلٍ) بأن قال أحدهما: قَتَله بسيفٍ، والآخرُ: بسكِّين، ونحو ذلك (مما يدلُّ على تغاير الفعلين؛ لم تكمل البينة) للتنافي؛ لأن كل واحد من الشاهدين يُكذِّبُ الآخر، فيتعارضان ويسقطان، كما في القتل.

(فلو شَهِد أحدُهما أنه غَصَبه ثوبًا أحمر، وشَهِد الآخرُ أنه غصبه ثوبًا أبيض) لم تكمل البينة.

= رجلان: أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأ

الحديث.

(1)

كتاب الروايتين والوجهين (3/ 100).

ص: 275

(أو شَهِد أحدُهما أنه غَصَبه اليوم، وشَهِد الآخرُ أنه غَصَبه أمس، لم تكمل البينة) لأن ما شَهِد به أحدُهما غير ما شَهِد به الآخر.

(وكذا لو شَهِد) أحدُهما (أنه تزوَّجها أمس، و) شَهِد (الآخرُ أنه تزوَّجها اليوم. أو شَهِد أحدُهما أنه سَرَق مع الزَّوال كيسًا أبيض، وشَهِد الآخرُ أنه سَرَق مع الزوال كيسًا أسود. أو شَهِدَ أحدُهما أنه سرق هذا الكيس غدوةً، وشَهِد الآخرُ أنه سَرَقه عشيَّةً.

وكذا القذف، إذا اختلف الشاهدان في وقتِ قَذْفه) بأن شَهِد أحدُهما أنه قذفه يومَ الخميس، والآخر أنه قَذَفه يومَ الجمعة، فلا تكمل البينة في ذلك كله.

أما في الأفعال؛ فلما تقدَّم من التنافي.

وأما النكاح؛ فلأنه لم يشهد بكلِّ عَقْدٍ إلا شاهد واحد، فلم يثبت، و - أيضًا - الشهادة شرط في النكاح؛ فإذا اختلفا في الوقت لم يتحقَّق حصولُ الشرط، فلم يثبت المشروط مع عدم تحقُّق شرطه.

وأما القذف؛ فلأن البينة لم تكمُل به؛ ولأن اختلاف الشهود شُبهة، والحد يُدرأ بها.

(وإنْ أمكن تعدُّده) أي: الفعل، كالسرقة والغصب (ولم يشهدا باتِّحاده) واختلفا في مكانه، أو وقته، ونحوه (فَبِكُلِّ شيءٍ شاهدٌ، فَيُعمل بمقتضى ذلك، ولا تنافي) لجواز التعدُّد.

(وإن كان بدلُ كلِّ شاهدٍ بينةً) تامة (ثَبَتَا هنا) أي: حيث أمكن التعدُّد، ولم يشهدوا باتِّحاده (إن ادَّعاهما) - أي: الفعلين المشهود بهما - المُدَّعي قبل أداء الشهود الشهادة (وإلا) بأنِ ادَّعى أحدَهما وحدَه؛ ثَبَتَ (ما ادّعاه) دون ما لم يدّعه؛ لاشتراط تقدُّم الدعوى على الشهادة.

ص: 276

(وإن كان الفعلُ) المشهودُ به (مما لا يمكن تَكْرَارُه، كقتل رَجُلٍ بعينه) وعَيّن كلُّ اثنين وقتًا أو مكانًا ونحوه (تعارضتا) للتنافي، وكذا لو أمكن تَكْرَاره لكن شهدوا باتِّحاده.

(ولو كانت الشهادة على إقرارٍ بفعلٍ) من غصب، أو سرقة ونحوهما (أو) على إقرارٍ بـ (ــغيره) من بيع و

(1)

إجارة (ولو) كان المقَرّ به (نكاحًا، أو قَذْفًا) واختلفا في وقت الإقرار، أو مكانه ونحوه (جُمعت) البينة؛ لأنهما وإن كانا إقرارين فهما إقرارٌ بشيء واحد.

(فلو شَهِد أحدُهما أنَّه أقرَّ بألف أمس، و) شهد الـ (ـــآخر أنه أقرَّ بألف اليوم، أو شهد أحدهما أنه باعه داره أمس، و) شهد (آخر أنه باعه إيَّاها اليوم؛ كَمُلت) البينة (وثَبَتَ البيع) لأن المشهود به شيء واحد، يجوز أن يُعاد مرَّةً بعد أخرى، فلم يؤثِّر، كما لو شَهِد أحدُهما بالعربية والآخر بالفارسية (و) ثَبَتَ (الإقرار) في الصورة الأولى؛ لما تقدَّم.

(وإنْ شَهِد واحدٌ بالفِعل، وآخرُ على إقرارِه) بالفعل، كأنْ شَهِد واحدٌ أنه سرق، وآخرُ أنه أقرَّ أنه سرق (جُمعت) البينة؛ نصَّ عليه

(2)

؛ لقصة الوليد في شُرْب الخمر

(3)

.

(وإنْ شهد واحد بعقد نكاح) وشهد آخر على إقراره بعقد النكاح؛ لم تجمع.

(أو) شَهِد واحدٌ على (قَتْل خطأ، وآخرُ على إقراره) بقتل الخطأ (لم تُجمع) البينة، لأن الذي يشهد به أحدهما غير الذي يشهد به الآخر.

(1)

في "ذ": "أو".

(2)

انظر: الإنصاف (29/ 303).

(3)

تقدم تخريجها (15/ 274) تعليق رقم (5).

ص: 277

(ولمدَّعِي القتل أن يحلِف مع أحدِهما) لأن قَتْلَ الخطأ يوجب الدِّية، فهو مما يقصد به المال، فيثبت بشاهد ويمين (ويأخذ الدِّية) إذا حلف، ومتى حلف مع شاهد الفعل

(1)

؛ فالدِّية على العاقلة، ومع شاهد الإقرار؛ ففي مال القاتل.

(ومتى جمعنا) الشهادةَ (مع اختلاف وقتٍ في قَتْلٍ أو طلاق، فالعِدَّة والإرْث يليان آخر المُدَّتين) لأن الأصلَ بقاء الحياة أو الزوجيَّة إلى آخر المُدَّة.

(وإنْ شَهِد شاهدٌ أنَّه أقرَّ له بألف، و) شَهِد (آخرُ أنه أقرّ له بألفين، أو شَهِد أحدُهما أنَّ له عليه ألفًا، و) شَهِد (آخرُ أنَّ له عليه ألفين، كَمُلت بينةُ الألف وثَبَتَ) الألف؛ لاتفاقهما عليه، كما لو لم يَزِد أحدُهما على صاحبه (وله) أي: المُدَّعي (أن يَحلِف مع شاهدِه على الألف الأخرى) لأن المال يثبت بشاهدٍ ويمين. قال في "الشرح": وهذا إذا أطلقا الشَّهادة، ولم تختلف الأسباب والصفات.

(ولو شَهِدا بمائة، و) شَهِد (آخران بخمسين؛ دخلت) الخمسون (فيها) أي: المائة؛ لاشتمالها عليها (إلا مع ما يقتضي التعدُّد) بأن اختلفت الأسباب أو الصفات، كما لو شَهِدت إحدى البيّنتين بمائة من ثمن مبيع أو صحاح، والأخرى بخمسين من قرض أو مُكسَّرة (فيلزمانه) أي: المائة والخمسون.

(ولو شَهِد واحد بألف من قرض، و) شهد (آخر بألف من ثمن مبيع؛ لم تكمل) الشهادة؛ لأن كلًّا منهما غير الآخر، وله أن يحلف مع كل شاهد، ويأخذ ما شهد به.

(1)

في "ذ": "القتل".

ص: 278

(ولو شَهِد واحدٌ بألفٍ، و) شهد (آخرُ بألفٍ من قَرْض؛ كَمُلت) البينة، حملًا للمُطْلقَ على المقيّد.

(وإنْ شَهِدا أنَّ له عليه ألفًا، ثم قال أحدُهما) أي: الشاهدين: (قضاه بعضه؛ بَطَلَتْ شهادته) لأن ما قضاه لم يبقَ عليه، فيتناقض كلامه، فيفسد. وفارق ما لو شَهِد بألفٍ، ثم قال: لا، بل بخمسمائة؛ لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة، وإقرار بغلط نفسه.

(وإنْ شَهِدا أنه أقرضه ألفًا، ثم قال أحدُهما: قضاه خمسمائة؛ صحَّتْ شهادتهما بالألف) لأن الوفاء لا يُنافي القَرْض، فيحتاج إثبات قضاء الخمسمائة إلى شاهدٍ آخر، أو يمين. ولا يحِلّ لمَن أخبره عدل باقتضاء الحقّ، أو انتقاله أن يشهد به.

(وإذا كانت له بينةٌ بألفٍ، فقال: أريدُ أن تشهدا لي بخمسمائة؛ لم يجز، إذا كان الحاكم لم يولَّ الحكم فوقَها) نصَّ عليه

(1)

، وقدَّمه أئمة المذهب، وصحَّحه الموفَّق، وجزم به في "الوجيز"؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}

(2)

؛ ولأنه لو ساغ له ذلك، لساغ للقاضي أن يقضيَ ببعضِ ما شَهِد به الشاهد. وقال القاضي في "الأحكام السلطانية"

(3)

: للشاهد أن يشهد بالألف، والقاضي يحكم بالقَدْر الذي جُعل له الحكم فيه، وذكره نصًّا. وقال أبو الخطاب: يجوز؛ لأن مالك الشيء مالكٌ لبعضه، فمن شَهِد بألف فقد شَهِد بخمسمائة.

(1)

انظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (29/ 313).

(2)

سورة المائدة، الآية:108.

(3)

ص/ 68.

ص: 279

"تنبيه": قوله: "إذا كان الحاكم لم يولّ الحكم فوقَها"؛ ذكره في "المحرر"، وتبعه في "الفروع" و"الوجيز" و"المبدع" زاد في "الوجيز": وإلَّا جاز. قال ابن قُندس في "حواشي المحرر": وهذا مُشْكِل من جهة المعنى والنقل. قال: ولهذا لم يذكره في "المقنع" و"الكافي"؛ لأنه - والله أعلم - فَهِم أنه ليس بقيدٍ يُحترز به، وأطال فيه، ولهذا قال في "المنتهى": ولو كان الحاكم لم يولَّ الحكم فوقَها.

ص: 280

باب شروط من تُقبل شهادته

والحكمةُ في اعتبارها: حِفْظُ الأموال، والأعراض، والأنفس أن تُنال بغير حَقٍّ، فاعتُبرت أحوال الشهود بخلوهم عمَّا يوجب التُّهمة فيهم، ووجود ما يوجب تيقُّظَهم وتحرُّزَهم.

(وهي ستة:

أحدها: البلوغ، فلا تُقبل شهادةُ مَن هو دونه في جِراح، ولا) في (غيره، ولو ممن) أي: صغير (هو في حال أهل العدالة) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(1)

والصبي لا يُسمَّى رَجُلًا؛ ولأنه غير مقبول القول في حَقّ نفسِه، ففي حَقِّ غيرِه أَولى؛ ولأنه غيرُ كامل العقل، فهو في معنى المعتوه.

(الثاني: العقل، وهو نوعٌ من العلوم الضرورية) كالعِلم بأن الضِّدَّين لا يجتمعان ونحوه. قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح آداب البحث"

(2)

: قال - أي: الغزالي

(3)

-: ويُشبه أن يكون الاسم لغةً واصطلاحًا لتلك الغريزة، وإنما أُطلق على العلومِ مجازًا من حيث إنها ثمرتُه، كما يُعرف الشيء بثمرته، فيقال: العِلم هو الخشية.

(والعاقل: مَن عرف الواجبَ عقلًا؛ الضروريَّ وغيرَه) كوجود الباري سبحانه، وكون الواحد أقلّ من الاثنين (و) عرف (الممكن) كوجود العالم (و) عرف (الممتنعَ) وهو المستحيل، كاجتماع الضِّدَّين،

(1)

سورة البقرة، الآية:282.

(2)

المسمى: "فتح الوهاب بشرح الآداب" وهو شرح آداب البحث للسمرقدي، ولم يُطبع حتى الآن.

(3)

إحياء علوم الدين (1/ 92).

ص: 281

وكون الجسم الواحد ليس في مكانين (و) عرف (ما يضرّه وما ينفعه غالبًا) لأن الناس لو اتفقوا على معرفة ذلك لما اختلفت الآراء.

(فلا تُقبل شهادةُ مجنون، ولا معتوه) لأنه لا يُمكنه تحمُّل الشهادة ولا أداؤها؛ لاحتياجها إلى الضبط، وهو لا يعقله.

(وتُقبل ممن يُخْنَقُ أحيانًا) إذا شَهِد (في حال إفاقته) بها لأنها شهادةٌ من عاقلٍ، أشبه مَن لم يُجن.

(الثالث: الكلام، فلا تُقبل شهادةُ أخرسَ، ولو فُهمت إشارتُه) لأن الشهادة يُعتبر فيها اليقين، ولذلك لا يُكتفى بإشارة الناطق، وإنما اكتُفي بإشارة الأخرس في أحكامه المختصَّة به؛ للضرورة (إلا إذا أدَّاها) الأخرس (بخطِّه) فَتُقبل.

(الرابع: الإسلام، فلا تُقبل شهادةُ كافرٍ) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(1)

والكافر ليس مِنَّا، ولو قُبلت شهادةُ غير المسلمين، لم يكن لقوله:"منكم" فائدة؛ ولأن الكافر غير مأمون (ولو) كانت الكافر (من أهل الذِّمَّة، ولو) شَهِد الكافر (على) كافر (مثله) لعموم

(2)

ما سبق.

وحديث جابر: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أجازَ شَهادَة أهلِ الذِّمَّة بَعضِهم على بَعضٍ" رواه ابن ماجه

(3)

: ضعيف، فإنه من رواية مُجالدٍ. ولو سُلِّم

(1)

سورة الطلاق، الآية:2.

(2)

في "ذ": "لمفهوم".

(3)

في الأحكام، باب 33، حديث 2374. وأخرجه - أيضًا - البيهقي (10/ 165)، من طريق أبي خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.

قال البيهقي: هكذا رواه أبو خالد الأحمر، عن مجالد، وهو مما أخطأ فيه، وإنما رواه غيره عن مجالد عن الشعبي عن شريح من قوله وحكمه، غيرَ مرفوع. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 38): هذا إسناد ضعيف من أجل مجالد بن سعيد. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 198): في إسناده مجالد، وهو سيئ الحفظ.

ص: 282

فيحتمل أنه أراد اليمين؛ لأنها تُسمَّى شهادةً. قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}

(1)

.

(إلا رجالَ أهلِ الكتاب، بالوصيَّةِ في السَّفَر، ممن حَضَره الموتُ مِن مُسلمٍ، وكافرٍ، عند عدم مُسلمٍ، فَتُقبلُ شهادتُهم في هذه المسألة فقط، ولو لم تكن لهم ذمّة، ويُحلِّفُهم الحاكم - وجوبًا بعد العصر) لخبر أبي موسى

(2)

. قال ابن قتيبة

(3)

: لأنه وقت تُعَظِّمُه أهلُ الأديان (مع رَيْبٍ) أي: شك -: (ما خانوا ولا حرَّفوا، وإنها لوصية الرجل) الميت.

(فإنْ عُثِرَ) أي: اطُّلِع (على أنَّهما استَحقَّا إثمًا، حَلَف اثنان من أولياء) أي: ورثة (الموصِي: بالله لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شهادتهما، ولقد خانا وكَتَما، ويقضي لهم) أي: لورثةِ الموصِي؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ

(1)

سورة النور، الآية:6.

(2)

أخرج أبو داود في الأقضية، باب 19، حديث 3605، والطبري في تفسيره (7/ 105، 109 - 110)، والبيهقي (10/ 165)، عن طريق هشيم، عن زكريا، عن الشعبي أن رجلًا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، فأمضى شهادتهما. صححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 412).

وأخرجه الطبري في تفسيره (7/ 105)، عن طريق شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي أن أبا موسى قضى بها بدقوقا.

وقال الحافظ ابن كثير في التفسير (3/ 215): هذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي، عن أبي موسى.

(3)

تأويل مشكل القرآن ص/ 294.

ص: 283

مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. . .} الآيات

(1)

، نزلت في في تميمٍ الداريّ وعَدِيّ بن زيد

(2)

، شَهِدا بوصية سَهْمِيٍّ

(3)

؛ رواه البخاري من حديث ابن عباس

(4)

. وقضى به أبو موسى الأشعري، وأخبر أنه كان في عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ رواه أبو داود

(5)

ورجاله ثقات. قال ابن عمر

(6)

: "آخرُ سورةٍ نزلت المائدة" رواه الترمذي، وقال: حسن غريب

(7)

. قالت عائشة: "ما وجَدتُم فيها مِن حَلالٍ فأحِلُّوهُ، وما وجَدتُم فيها من حرامٍ فحرِّمُوهُ" رواه أحمد

(8)

، وقضى ابنُ مسعودٍ بذلك في زَمَنِ عُثْمان؛ رواه أبو عبيد

(9)

. قال ابن المنذر

(10)

: وبهذا قال أكابرُ الماضين.

وحَمْل الآية على أنه أراد: مِن غير عشيرتكم، لا يصحُّ؛ لأن

(1)

سورة المائدة، الآيات: 106 - 108.

(2)

"زيد" كذا في الأصول! وصوابه: "بَدَّاء" كما في صحيح البخاري.

(3)

علق في حاشية الأصل: "أي: رجل من بني سهم".

(4)

البخاري في الوصايا، باب 34، حديث 2780.

(5)

في الأقضية، باب 19، حديث 3605، وتقدم تخريجه قريبًا.

(6)

كذا في الأصول "ابن عمر"، وفي الترمذي وغيره "ابن عمرو".

(7)

الترمذي في التفسير، باب 6، حديث 3063. وأخرجه - أيضًا - الحاكم (2/ 311)، والبيهقي (7/ 172)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(8)

(6/ 188). وأخرجه - أيضًا - النسائي في الكبرى (6/ 333) رقم 11138، وأبو عبيد في فضائل القرآن ص/ 128، وإسحاق ابن راهويه في مسنده (3/ 956) رقم 1666، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 232) رقم 398، والطحاوي في مشكل الآثار (6/ 304 - 305)، والطبراني في مسند الشاميين (3/ 144) رقم 1963، والحاكم (2/ 311)، والبيهقي (7/ 172).

قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين.

(9)

في الناسخ والمنسوخ ص/ 156 - 157، رقم 289.

(10)

انظر: المغني (14/ 171).

ص: 284

جماعةً منهم ابن مسعود وابن عباس

(1)

قالوا: "من غير مِلَّتكم ودينكم"؛ ولأن الشاهدين من المسلمين لا قَسَامة عليهما، ولا يصحُّ حَمْلها على التحمُّل؛ لأنه أمر بإحلافهم، ولا يمين في التحمُّل، وحَمْلها على اليمين غير معقول

(2)

؛ لقوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}

(3)

؛ ولأنه عطف على ذوي العدل من المؤمنين وهما شاهدان.

(الخامس: الحفظ، فلا تُقبل شهادةُ مُغَفَّل، ولا معروف بكثرةِ غَلَطٍ ونسيان) لأن الثقة لا تحصُل بقوله، لاحتمال أن تكون شهادته مما غلط فيها وسَهَا؛ ولأنه رُبَّما شَهِد على غير مَن استشهد عليه، أو بغير ما شَهِد به، أو لغير مَن أشهده. وعُلم منه أنها تُقبل ممن يَقِلُّ منه ذلك؛ لأن أحدًا لا يسلم من الغَلَط مرة

(4)

والنسيان.

(السادس: العدالة ظاهرًا وباطنًا) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(5)

؛ وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}

(6)

وقرئ بالمثلثة

(7)

؛ ولأن غير العدل لا يؤمن منه أن يتحامل على غيره، فيشهد عليه بغير حَقٍّ. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "لا تَجُوزُ شهادَةُ خائنٍ ولا خائنَةٍ، ولا ذي غِمْرٍ

(8)

على أخيهِ، ولا تجوزُ

(1)

انظر: تفسير الطبري (7/ 105)، والدر المنثور (2/ 342 - 343).

(2)

في "ذ": "مقبول".

(3)

سورة المائدة، الآية:106.

(4)

قوله: "مرة" ليس في "ذ".

(5)

سورة الطلاق، الآية:2.

(6)

سورة الحجرات، الآية:6.

(7)

قرأ حمزة والكسائي وخلف العاشر: "فتثبتوا" بالثاء والتاء. انظر: إتحاف فضلاء البشر ص/ 397.

(8)

"قوله: غمر: أي حقد". ش.

ص: 285

شهادَةُ القانِعِ لأهل البَيتِ" والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت؛ رواه أحمد وأبو داود

(1)

.

(وهي) أي: العدالة (استواء أحواله في دِينه، واعتدال أقواله وأفعاله) لأن العدل ضد الجور. والجور: الميل، فالعدل الاستواء في الأحوال كلها.

(ويُعتبر لها) أي: العدالة (شيئان: الصلاحُ في الدِّين، وهو أداء الفرائض بسُنَنِها الرَّاتبة، فلا تُقبل) الشهادةُ (إنْ داوم على تَرْكها) أي: الرَّواتب (لفِسْقِه) قال القاضي أبو يعلى: من داوم على تَرْكِ السُّنن الراتبة أَثِمَ، وهو قول إسحاق بن راهويه. وقال المحققون: تردُّ شهادته لذلك؛ لما فيه من التهاون بالسُّنن المؤكدة. قال في "الفروع": ومُراده - أي: القاضي - أنه لا يَسْلَم مِن تَرْكِ فرض، وإلا؛ فلا يأثم بِسُنّة.

(واجتناب المُحَرَّم) لأن من أدَّى الفرائض، واجتنب المحارم، عُدَّ صالحًا عُرفًا، فكذا شرعًا (فلا يرتكب كبيرةً، ولا يُدْمِن على صغيرة) لأن اعتبار اجتناب كلِّ المحارم يؤدّي ألا تُقبل شهادة أحد؛ لأنه لا يخلو من ذنب

(2)

؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}

(3)

مدحهم لاجتنابهم ما ذكر، وإن وجدت منهم الصغيرة.

ولقوله صلى الله عليه وسلم:

"إن تَغفِر اللهمَّ تَغفِرْ جمّا

وأيُّ عبدٍ لك لا ألمّا"

(4)

(1)

تقدم تخريجه (15/ 146) تعليق رقم (2).

(2)

في "ح" و"ذ": "ذنب ما".

(3)

سورة النجم، الآية:32.

(4)

أخرجه الترمذي في التفسير، باب 53، حديث 3284، والبزار "كشف الأستار"(3/ 71) حديث 2262، وأبو يعلى في معجمه ص/ 232، حديث 190، والطبري =

ص: 286

أي: لم يُلِم.

ونهى الله تعالى عن قَبول شهادةِ القاذف، وقيس عليه كلُّ مرتكب كبيرة؛ ولأن من لم يرتكب كبيرةً، وأدمن على الصغيرة، لا يُعدُّ مجتنبًا

= في تفسيره (27/ 66)، والحاكم (1/ 54، 2/ 469)، والبيهقي (10/ 185)، وفي شعب الإيمان (5/ 392) حديث 7055 - 7056، من طريق زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء.

وأخرجه البيهقي - أيضًا - (10/ 185)، من طريق زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: زكريا حافظ ثقة، وقد حدث به عنه روح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 115): رجاله رجال الصحيح.

وأخرجه الحاكم (4/ 245)، من طريق زكريا بن إسحاق، عن ابن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا.

وأخرجه - أيضًا - (1/ 55)، والبيهقي (10/ 185)، وفي شعب الإيمان (5/ 393) رقم 7057، من طريق شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، موقوفًا.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وقال - أيضًا - (1/ 55): هذا التوقيف لا يوهن السند الأول - يعني المرفوع - فإن زكريا بن إسحاق حافظ ثقة، وقد حديث به روح بن عبادة. ووافقه الذهبي.

وقال البيهقي في السنن: هذا أشبه، وقال في الشعب: هذا هو المحفوظ، موقوف.

وقال الحافظ في الأمالي الحلبية ص/ 45، حديث 15: هذا حديث سنده صحيح، في رفعه نكارة. وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 256): في صحته مرفوعًا نظر.

وقال ابن التركماني: قلت: الرفع زيادة ثقة، فيقبل، ويحمل على أن طاوسًا وعطاء سمعاه من ابن عباس مرفوعًا، فرواه عمرو بن دينار عنهما، ولهذا أخرجه الترمذي من طريق عطاء، وقال: حسن صحيح.

وهذا البيت لأمية بن أبي الصلت. قال البغدادي في خزانة الأدب (2/ 295 - 296): تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم وصار من جملة الأحاديث المسطورة في كتب الأحاديث.

قال المناوي في فيض القدير (5/ 203): يجوز إنشاد الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم، لا إنشاؤه له.

ص: 287

للمحارم. وقال في "الاختيارات"

(1)

. العدل في كلِّ رمانٍ ومكانٍ وطائفة بحَسَبها، فيكون الشهيد في كلِّ قومٍ مَن كان ذا عَدْلٍ فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم، لكان عدله على وجه آخر، وبهذا يمكن الحكم بين الناس، وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة، ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائمًا بأداء الواجبات وترك المُحَرَّمات، كما كانت الصحابة، لبطلت الشهادات كلها أو غالبها.

(والكبيرة ما فيه حَدٌّ في الدُّنيا، أو وعيدٌ في الآخرة) كأكل الرِّبا، وعقوق الوالدين المسلمين. وفي "معتمد"

(2)

القاضي: معنى الكبيرة أن عِقَابها أعظم، والصغيرة أقل، ولا يُعلمان إلا بتوقيف

(3)

.

(زاد الشيخ

(4)

: أو غضب، أو لعنة، أو نفي إيمان.

والكذب صغيرة) فلا تُرد الشهادةُ به إذا لم يُدْمِن عليه (إلا في شهادة زور، أو كَذِبٍ على نبيٍّ، أو رَمْي فِتَنٍ ونحوه) ككذبٍ على أحد الرعية عند حاكم ظالم (فكبيرةٌ) قال أحمد

(5)

في رواية عبد الله: ويعرف الكذَّاب بخُلْفِ المواعيد.

(ويجبُ أن يُخَلَّصَ به) أي: الكذب (مسلمٌ مِن قَتْلٍ) قال ابن الجوزي: أو كان المقصود واجبًا

(6)

.

(ويُباح) الكذب (لإصلاحٍ) بين متخاصِمين (و) لـ (ــحرب،

(1)

ص/ 516.

(2)

المعتمد في أصول الدين؛ للقاضي أبي يعلى ص/ 124.

(3)

في "ذ": "بالوقف".

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (11/ 658).

(5)

انظر: الآداب الشرعية (1/ 53)، والفروع (6/ 562).

(6)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 459).

ص: 288

و) لـ (ــزوجة) لحديث أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، قالت:"لم أسمعه - تعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُرخِّصُ في شيءٍ من الكَذِب إلا في ثلاثٍ: الإصلاح بين النّاسِ، وحديث الرجُلِ امرأتَهُ، وفي الحربِ" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه

(1)

.

(قال ابن الجوزي: وكلُّ مقصودٍ محمودٍ حَسَن لا يُتوصَّل إليه إلا به.)

(2)

وقال في "الهَدْي"

(3)

: يجوز كذب الإنسان على نفسه وغيره، إذا لم يتضمَّن ضرر ذلك، إذا كان يتوصَّل بالكذب إلى حقِّه. قال: ونظير هذا الإمام أو الحاكم يوهم الخصم خلاف الحقّ، ليتوصَّل بذلك إلى استعلام الحق، كما أوهم سيمان عليه الصلاة والسلام إحدى المرأتين بشقِّ الولد نصفين حتى توصَّل بذلك إلى معرفة أُمّه

(4)

. انتهى. قال في "الآداب"

(5)

: ومهما أمكن المعاريض حَرُمَ، وهو ظاهرُ كلامِ غيرِ واحد، وصَرَّح به آخرون؛ لعدم الحاجة إذًا، وظاهر كلام أبي الخطاب: يجوز. وجزم به في "رياض الصالحين"

(6)

.

(1)

أبو داود في الأدب، باب 58، حديث 4921، والترمذي في البر والصلة، باب 26، حديث 1938، والنسائي في الكبرى (5/ 351) حديث 9123، ولم نقف عليه عند ابن ماجه. وأخرجه - أيضًا - مسلم في البر والصلة، حديث 2605. وأخرجه البخاري في الصلح، باب 2، حديث 2692، مختصرًا، بلفظ: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا.

(2)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 459).

(3)

زاد المعاد (3/ 350).

(4)

أخرج هذه القصة البخاري في أحاديث الأنبياء، باب 3427، وفي الفرائض، باب 30، حديث 6769، ومسلم في الأقضية، حديث 1720، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

الآداب الشرعية (1/ 39).

(6)

ص/ 586.

ص: 289

(فلا تُقبل شهادةُ فاسقٍ من جهةِ الأفعال) كالزاني، واللائط، والقاتل ونحوه (أو) من جهة (الاعتقاد) وهم أهل البِدع (ولو تديَّن به) أي: اعتقد أنه دِيْن حق، فتُردُّ شهادته؛ لعموم النصوص.

(فلو قلَّد) في القول (بخَلْقِ القرآن، أو نفي الرؤية) أي: رؤية الله تعالى في الآخرة (أو الرِّفْضِ، أو التجهُّم) بتشديد الهاء (ونحوه) كالتجسيم، وخلق العبد أفعاله (فسق، ويُكفَّر مجتهدهم الداعية) قال المجد: الصحيح أن كل بدعة كفَّرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المُقَلِّد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو بأن ألفاظنا به مخلوقة، أو أن علم الله سبحانه وتعالى مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة

(1)

، أو أنه لا يُرى في الآخرة

(2)

، أو يسبُّ الصحابةَ تديُّنًا

(3)

، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد

(4)

وما أشبه ذلك، فمن كان عالمًا في شيء من هذه البدع، يدعو إليه ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره؛ نصَّ أحمد على ذلك في مواضع. انتهى. واختار الموفَّق: لا يُكفَّر مجتهدُهم الداعية، في رسالته إلى صاحب "التلخيص"

(5)

؛ لقول أحمد للمعتصم: يا أمير

(1)

سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص/ 51، 67، ومسائل ابن هانئ (2/ 153 - 154)، والسنة لعبد الله رقم 1، 3، والسنة للخلال رقم 1826، 1828، 1832، وطبقات الحنابلة (1/ 414).

(2)

مسائل ابن هانئ (2/ 152)، ومسائل أبي داود ص/ 263، وطبقات الحنابلة (1/ 59، 145).

(3)

السنة للخلال رقم 781 - 782.

(4)

انظر: الإنصاف (27/ 104).

(5)

"التلخيص" كذا في الأصول! ولعلَّ الصواب: "التلخيص"، واسمه كاملًا "تخليص المطلب في تلخيص المذهب" وهو لفخر الدين ابن تيمية المتوفي (سنة 622 هـ) رحمه الله تعالى، وقد جرت بينه وبين الموفق مراسلة في مسألة تخليد أهل البدع =

ص: 290

المؤمنين

(1)

.

(ومن أخذ بالرُّخَص، فَسَق) قال القاضي: غير متأوِّل ولا مقلّد.

(قال الشيخ

(2)

: لا يَستريب أحدٌ - في من صَلَّى مُحْدِثًا، أو لغير القِبلة) عامدًا (أو) صَلَّى (بعد الوقت) بلا عُذر (أر بلا قِراءة - أنه كبيرة.

ومن الكبائر على ما ذكره

(3)

أصحابنا) كما نقله ابنُ كثير في "تفسيره"

(4)

عند قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}

(5)

عن شيخه ابن القيم

(6)

: (الشرك) أي: الكفر، على اختلاف أنواعه، وإنما خص بالذكر في أكثر الأحاديث لكثرته في العرب (وقتل النفس المُحَرَّمة، وأكل الربا، والسِّحر، والقَذْف بالزنى واللِّواط، وكل مال اليتيم بغير حَقٍّ، والتولي يوم الزحف) أي: الفِرار عند الجهاد حيث لا يجوز (والزنى، واللِّواط، وشُرْب الخمر، و) شرب (كلّ مُسْكِر، وقطع الطريق، والسرقة، وأكل الأموال بالباطل، ودعواه ما ليس له، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة) صحَّحه في "شرح التحرير"

(7)

وقال: قدَّمه ابن مُفلح

= المحكوم بكفرهم في النار، حيث كان الفخر ابن تيمية يقول بخلودهم، والموفق لا يطلق عليهم الخلود، فأرسل إليه الشيخ الموفق رسالة طويلة، ذكر بعضًا منها ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (2/ 154 - 157) في ترجمة الفخر ابن تيمية.

(1)

سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص/ 54، 57، وذكر محنة الإمام أحمد ص/ 44.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (22/ 60).

(3)

في "ذ": "ما ذكر".

(4)

(2/ 248).

(5)

سورة النساء، الآية:31.

(6)

إعلام الموقعين (1/ 226).

(7)

التحبير شرح التحرير (4/ 1870 - 1871).

ص: 291

في "أصوله"

(1)

وهو ظاهر ما قدَّمه في "فروعه".

قال القرطبي

(2)

: لا خلاف أن الغِيبة من الكبائر. انتهى. وقيل: إنها من الصغائر؛ اختاره جماعةٌ، منهم صاحب "الفصول" و"الغُنية"

(3)

و"المستوعب"، وفي حديث أبي هريرة:"إنَّ مِنَ الكبائر استطالةَ المرءِ في عرْضِ رَجلٍ مُسلمٍ بغير حَقٍّ" رواه أبو داود

(4)

. وقال عَدِىُّ بن حاتِمٍ: الغِيبةُ مَرعَى اللِّئامِ

(5)

.

(و) من الكبائر (اليمين الغموس، وترك الصلاة، والقنوط من رحمة الله، وإساءة الظَّنِّ بالله تعالى، وأمْن مَكْرِ الله، وقطيعة الرَّحم، والكِبر، والخُيلاء، والقيادة، والدياثة، ونكاح المحلل، وهجرة

(6)

المسلم العدل) أي: ترك كلامه. قال ابن القيم

(7)

: سَنَة. واستدلَّ له

(8)

، وأما هجره فوق

(1)

(2/ 539).

(2)

تفسير القرطبي (16/ 337).

(3)

(1/ 117).

(4)

في الأدب، باب 40، حديث 4877، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 932) حديث 5205، وحسن إسناده ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/ 31)، والحافظ في فتح الباري (10/ 411).

(5)

ذكره عنه ابن عبد البر في بهجة المجالس (1/ 398).

(6)

في "ذ": "هجر".

(7)

إعلام الموقعين (4/ 404).

(8)

بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص/ 141، حديث 404، وأبو داود في الأدب، باب 55، حديث 4915، وابن سعد (7/ 500)، وأحمد (4/ 220)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 205) حديث 2735، والدولابي في الكنى (1/ 26)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق ص/ 246، حديث 554، والطبراني في الكبير (22/ 307 - 308) حديث 779 - 782، والحاكم (4/ 163)، والبيهقي في الآداب ص/ 184، حديث 303، وفي شعب الإيمان (5/ 272) حديث 6631، =

ص: 292

ثلاثة أيام، فيحتمل أنه من الكبائر، ويحتمل أنه دونها (وتَرْكُ الحج للمستطيع، ومَنْع الزكاة، والحكمُ بغير الحقِّ، والرِّشوة فيه) أي: في الحكم بغير الحق (والفِطرُ في نهار رمضان بلا عُذْر، والقولُ على الله بلا عِلْم) في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وتقديم الخيال المُسَمَّى بالعقل - والسياسة الظالمة، والعوائد الباطلة، والآراء الفاسدة، والأذواق، والكشوفات الشيطانية - على ما جاء به رسوله؛ قاله ابن القيم

(1)

.

(وسبُّ الصحابة، والإصرارُ على العصيان) لحديث: "لا صَغيرةَ مع إصرارٍ، ولا كبيرَةَ مع استغفار" رواه الترمذي

(2)

.

= والخطيب في الموضح (2/ 132)، عن أبي خراش السلمي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه.

قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وصححه العراقي في تخريج الإحياء (2/ 223).

(1)

إعلام الموقعين (4/ 402).

(2)

لم نقف عليه عند الترمذي، وروي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

أ - ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/ 44) حديث 853، وأبو الشيخ، والعسكري في الأمثال - كما في المقاصد الحسنة ص/ 726، رقم 1308. قال الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 537)، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء (4/ 18): منكر. وقال السخاوي: سنده ضعيف. وذكره السيوطي في الجامع الصغير (6/ 436 مع الفيض) ورمز لضعفه.

ب - أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (4/ 380) حديث 3606، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة ص/ 726:"في إسناده: بشر بن عبيد الدارمي، وهو متروك. ورواه الثعلبي، وابن شاهين في الترغيب، من رواية بشر بن إبراهيم، عن خليفة بن سليمان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به".

قلنا: بشر بن إبراهيم متهم بالوضع. انظر: لسان الميزان (2/ 18). =

ص: 293

(وتَركُ التنزُّه من البول) لحديث أنس مرفوعًا: "تنزَّهوا من البولِ فإنَّ عامَّةَ عَذابِ القَبرِ منه" رواه الدارقطني

(1)

.

(ونشوزُها) أي: المرأة (على زَوْجِها، وإلحاقُها به ولدًا من غيره، وإتيانها) أي: المرأة (في الدُّبُر.

وكَتْمُ العِلم عن أهله) عند الحاجة إلى إظهاره، وتعلُّم العلم للدنيا والمباهاة والجاه والعلو على الناس.

(وتصويرُ ذي الروح، وإتيان الكاهن والعَرَّاف، وتصديقهما، والسُّجود لغير الله، والدُّعاء إلى بدعة أو ضلالة.

والغلولُ، والنوح) يعني: النياحة (والتطيُّر) قال ابن القيم

(2)

: قد صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطَّيرةُ شِركٌ"

(3)

، فيحتمل أن تكون من

= ج - عائشة رضي الله عنها: أخرجه إسحاق بن بشر في المبتدأ - كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/ 227)، والمقاصد الحسنة للسخاوي ص/ 726. وقال السخاوي: إسحاق حديثه منكر.

د - أنس بن مالك رضي الله عنه: أخرجه البغوي - كما في المقاصد الحسنة - والديلمي في مسند الفردوس (5/ 199)، قال السخاوي: ينظر في سنده. وعلق عليه الغماري بقوله: نظرت سنده فوجدت فيه راويًا مجهولًا.

هـ - ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا: أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 41)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 934) رقم 5217، وابن المنذر في تفسيره (2/ 671) رقم 1670، واللالكائي في أصول الاعتقاد (5/ 1039) رقم 1919، والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 456، 12/ 533) رقم 7268، 6882.

و - أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفًا: أخرجه الديلمي في مسند الفردوس - كما ذكره العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (4/ 18) - وقال العراقي: إسناده جيد.

(1)

(1/ 127) وقال: المحفوظ مرسل، وتقدم تخريجه (1/ 132) تعليق رقم (4).

(2)

إعلام الموقعين (4/ 406).

(3)

أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص/ 317، حديث 909، وأبو داود في الطب، =

ص: 294

الكبائر، ويحتمل أن تكون دونها. انتهى. وقال في "الرعاية": تُكره الطيرة والتشاؤم.

(والأكلُ والشُّرب في آنيةِ الذَّهب والفضة، وجَوْر الموصي في وصيته، ومَنْعُه) أي: الوارث (ميراثه، وإباقُ الرقيق، وبيع الحُر

(1)

، واستحلال البيت الحرام، وكتابة الربا) أي: تحمُّل الشهادة به وكتابتها (والشهادة) أي: أداؤها (عليه) أي: على الربا.

(وكونه ذا وجهين) بأن يُظهِر وُدًّا ونحوه ويبطن، العداوة ونحوها.

(وادَّعاؤه نَسَبًا غير نَسَبهِ) خصوصًا دعوى الشَّرَف مِن غير أهله، وانتسابه إليه صلى الله عليه وسلم؛ لدخوله - أيضًا - في من كَذَب عليه.

(وغِشُّ الإمام الرعية، وإتيانُ البهيمة، وتَرْكُ الجمعة بغير عُذر، وسيِّئ المَلَكة وغير ذلك) كلطم الخدود، وشقِّ الثياب، وحَلْق المرأة رأسها عند المصيبة بالموت، وغيره، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمَنّ بالصدقة وغيرها من عَمَل الخير، والاستماع إلى حديث

= باب 24، حديث 3910، والترمذي في السير، باب 47، حديث 1614، وفي العلل الكبير ص/ 265، حديث 485، وابن ماجه في الطب، باب 43، حديث 3538، والطيالسي ص/ 47، حديث 356، وابن أبي شيبة (9/ 39)، وأحمد (1/ 389، 440). وأبو يعلى (9/ 26، 140)، حديث 5092، 5219، وابن خزيمة - كما في إتحاف المهرة 10/ 192 - ، والطحاوى (4/ 312)، وفي شرح مشكل الآثار (2/ 298) حديث 827، والشاشي في مسنده (2/ 120 - 122) حديث 651 - 657، وابن حبان "الإحسان"(13/ 491) حديث 6122، والحاكم (1/ 17 - 18)، والسهمي في تاريخ جرجان ص/ 187، والبيهقي (8/ 139)، وفى شعب الإيمان (2/ 61) حديث 1167، والمزي في تهذيب الكمال (22/ 621 - 622)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(1)

في "ذ": "الخمر"

ص: 295

قوم لا يحبون استماعه، وتخبيب

(1)

المرأة على زوجها، والعبد على سيده، وأنْ يُرِيَ عينيه في المنام ما لم يَرَيَاه، ولَعْنِ مَن لا يستحق اللعن، والحَلِف بغير الله ونحوها.

(فأما من أتى شيئًا من الفروع المختلَفِ فيها) بين الأئمة اختلافًا شائعًا؛ ذكره في "المستوعب" و"الرعاية"(كمن تزوَّج بلا وليٍّ) أو بلا شهود (أو شَرِب من النبيذ ما لا يُسْكِره، أو أخَّر زكاةً أو حجًّا مع إمكانهما ونحوه) من مسائل الخلاف (متأوّلًا له) أي: مستدلًا على حِلّه باجتهاده، أو مقلدًا لمن يرى حِلَّه (لم تُرَدّ شهادته) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع، وقَبِلوا شهادةَ كلّ مخالِف لهم فيها؛ ولأنه اجتهادٌ سائغٌ، فلا يفسق به المخالف، كالمتفق عليه.

(وإن اعتقد) فاعلُ ذلك (تحريمَه، رُدَّت) شهادَتُه. قال في "الشرح": إذا تكرر، كالمتفق عليه.

(وأدخل القاضي وغيرُه الفقهاءَ في أهل الأهواء، وأخرجهم) من أهل الأهواء (ابن عقيل وغيره، وهو المعروف عند العلماء، و) هو (أولى) من قول القاضي (ذكَرَه ابن مفلح في "أصوله"

(2)

.

الشيء الثاني: من الشيئين المعتبرين للعدالة: (استعمال المروءة) وهي بالهمز بوزن سهولة: الإنسانية، قال الجوهري: ولك أن تشدد

(3)

.

(وهو فِعلُ ما يجمله ويزينه، وترك ما يُدَنّسه ويَشينه عادة) لأن من فقدهما فقدِ اتّصف بالدناءة والسَّقاطة، فلا تحصُل الثقة بكلامه.

(1)

التخبيب: إفساد الرجل عبدًا أو أمة لغيره، يقال: خيبها، فأفسدها. تاج العروس (2/ 328) مادة (خبب).

(2)

(2/ 524).

(3)

الصحاح (1/ 72).

ص: 296

(فلا تُقبل شهادةُ مُصَافِع) قال الجوهري: الصَّفْع، كلمة مولَّدة

(1)

. فالمصافع إذًا من يصفع غيره، ويمكِّن غيره من قفاه، فيصفعه

(2)

.

(ومُتَمَسْخِر

(3)

، ومغنٍّ، ويُكْرَه سماعُ الغناء) بكسر الغين والمَدّ (والنَّوْح بلا آلة لهوٍ) من عود وطنبور، ونحوهما (ويحرم معها) أي: مع آلةِ اللهو سماعُ الغِناء، قال أبو بكر عبد العزيز: والغناءُ. والنَّوْح معنىً واحد؛ نقله عنه في "المغني"، فليس المراد النوح بمعنى النياحة؛ لأنه مُحَرَّم بل كبيرة، كما تقدم، فاستماعُه حرام.

(ويُباح الحُداء) بضم الحاء والمد ويجوز كسر الحاء (الذي تُساق به الإبل، و) يباح (نشيد العرب

(4)

) لفعله بين يديه صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(ولا) تُقبل (شهادةُ شاعرٍ مُفْرِطٍ بالمدح بإعطاءٍ، أو ذم بعَدَمِهِ، فالشعر كالكلام حسنُه حَسَنٌ وقبيحُهُ قبيحٌ) لحديث: "إنَّ من الشِّعر لحكمًا"

(6)

. وكان يضع لحسَّانٍ منبرًا يقوم عليه، فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(7)

، وأنشده كعب بن زهير قصيدته:

(1)

الصحاح (3/ 1243).

(2)

انظر: المطلع ص/ 409.

(3)

المتمسخر: اسم فاعل من تمسخر، وهو تمفعُل من سخر، فالمتمسخر: يفعل ويقول شيئًا يكون سببًا لأن يسخر منه، أي يهزأ به. المطلع ص/ 409.

(4)

في متن الإقناع (4/ 507): "الأعراب".

(5)

أخرج البخاري في الأدب، باب 90، 95، 111، 116، حديث 6149، 6161، 6202، 6209 - 6211، ومسلم في الفضائل، حديث 2322 (71 - 73)، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وكان غلام يحدو بهنَّ يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير. واللفظ للبخاري.

(6)

أخرجه البخاري في الأدب، باب 90، حديث 6145، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.

(7)

أخرجه أبو داود في الأدب، باب 95، حديث 5015، والترمذي في الأدب، باب =

ص: 297

بانت سُعادُ فقلبي اليومَ مَتْبُولُ

في المسجد

(1)

.

والشعر قد قاله الصحابة والعلماء، والحاجةُ تدعو إليه لمعرفةِ اللغةِ العربية، والاستشهاد به في التفسير ومعاني السُّنة، ويُستدلُّ به على

= 70، حديث 2846، وفي الشمائل ص/ 207، حديث 252، وأحمد (6/ 72)، وبحشل في تاريخ واسط ص/ 197، وأبو يعلى (8/ 67، 189) حديث 4591، 4346، والطبري في تهذيب الآثار (2/ 628 - 629 مسند عمر) حديث 926 - 928، والطحاوي (4/ 298)، والطبراني في الكبير (4/ 37 - 38) حديث 3580 - 3581، وابن عدي (4/ 1585)، والإسماعيلي في معجمه (2/ 561)، وابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه ص/ 484، والحاكم (3/ 487)، والسهمي في تاريخ جرجان ص/ 135، 322، والخطيب في الموضح (2/ 165 - 166، 423)، والبغوي في شرح السنة (12/ 377) حديث 3408، عن عائشة رضي الله عنها.

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

(1)

أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (5/ 168) حديث 2706، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 381)، والفاكهي في أخبار مكة (1/ 307)، والطبراني في الكبير (19/ 176) حديث 403. والحاكم (3/ 579 - 580، 582)، والبيهقي (10/ 243)، عن كعب بن زهير رضي الله عنه. وصححه الحاكم. ووافقه الذهبي.

وفي هذا نظر؛ فإن في إسناد ابن أبي عاصم، والحاكم، والبيهقي: الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، يروي عن أبيه، عن جده، ولم نقف على من ترجمهم. وقال الحافظ في نتائج الأفكار (1/ 306): غريب.

وفي إسناد الفاكهي، والحاكم في الموضع الثاني: علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما قاله الحافظ في التقريب (4768)، والراوي عنه محمد بن عبد الرحمن الأوقص، ضعيف أيضًا. انظر: المغني للذهبي (2/ 608).

وفي إسناد ابن قانع راوٍ لم يُسمَّ. وأما إسناد الطبراني فقال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 394): رجاله إلى ابن إسحاق ثقات.

قلنا: روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، مرسلًا.

ص: 298

النسب والتاريخ وأيام العرب، ويقال: الشعر ديوان العرب

(1)

.

(ولا) تُقبل شهادة (مُشَبِّبٍ بمَدح خَمْرٍ أو بمُرْدٍ

(2)

أو بامرأة معينة مُحَرَّمة، ويَفْسُقُ بذلك) أي: بالإفراط

(3)

بالمَدْح عند الإعطاء، والذمّ عند المنع، وبالتشبيب بمَدْح الخَمْر أو المُرْد أو المرأة المعينة المُحَرَّمة؛ لتحريمه (لا إن شَبَّب بامرأته أو أَمَته) المباحة له.

(ولا) شهادة (رقَّاص) أي: كثير الرقص.

(و) لا شهادة (مشعوِذ

(4)

) وهي: خِفّة في اليدين، كالسِّحْر.

(ومن يلعب بنَرْدٍ أو شطرنج؛ لتحريمهما؛ وإنْ عَرِيَا عن القمار) أي: العوض (غير مقلّد في الشطرنج) لمن يرى حِلّه، فإن قلَّده لم تُرد شهادته.

(كـ) ــما تُردُّ شهادة لاعب بشطرنجٍ (مع عوض، أو تَرْكِ واجبٍ، أو فعلِ مُحَرَّمٍ إجماعًا

(5)

.

(1)

هو من قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ أخرجه الحاكم (2/ 499)، والبيهقي (10/ 241)، وفي شعب الإيمان (2/ 258) رقم 1683، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (1/ 347) رقم 208، والخطيب في الجامع (2/ 198) رقم 1603، من طريق أسامة بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إذا خفي عليهم شيء من القرآن، فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وقال البيهقي: هذا هو الصحيح، موقوف.

(2)

في "ح": "أو أمرد".

(3)

في "ذ": "الإفراط".

(4)

في نسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "مشعبذ".

(5)

مراتب الإجماع ص/ 92.

ص: 299

ولا) شهادة (من يلعب بحَمَامٍ طيَّارة، أو يسترعيها من المزارع، أو ليصيد بها حمام غيره، أو يُراهن بها.

وتُباح) أي: الحَمَام (للأُنس بصَوْتها، ولاستفراخها، وحَمْل الكتب، من غير أذىً يتعدَّى إلى الناس) قال مُهنَّا: سألتُ أبا عبد الله عن بروج الحَمَام التي تكون بالشام؟ فكرهها، وقال: ما تأكل زروع الناس! فقلت له: وإنما كرهتَها بحال أنها تأكل الزروع؟ فقال: أكرهها - أيضًا -؛ لأنه قد أُمِرَ بقتل الحَمَام

(1)

، فقلت له: تقتل؟ قال: تُذبح

(2)

.

(ولا) شهادة اللاعب (بكلِّ ما فيه دناءة، حتى في أُرجوحة، وأحجار ثقيلة.

و) لا تُقبل شهادة (مَن يكشف مِن بدنه ما العادةُ تغطيته) ككَشْفِ رأسه، أو بطنه، أو ظهره، أو صدره في موضع لم تَجْرِ العادةُ بكشفِه فيه؛ لما فيه من الدناءة (ونومُه بين جالسين، وخروجُه عن مستوى الجلوس بلا عُذْر، وطُفيلي، ومَن يدخل الحَمَّام بلا مئزر، أو يتغذَّى

(3)

في السُّوق

(1)

أخرج البخاري في الأدب المفرد ص/ 474، رقم 1301، وعبد الرزاق (11/ 3) رقم 19733، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 72)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (10/ 317)، من طرق عن الحسن أن عثمان بن عفان كان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام.

وصححه الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 317).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 42): إسناده حسن، إلا أن مبارك بن فضالة مدلس.

قلنا: الحسن البصري لم يسمع من عثمان رضي الله عنه. انظر: تحفة التحصيل ص/ 67.

(2)

انظر: الآداب الشرعية (3/ 340).

(3)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 507): "يتغذى".

ص: 300

بحضرة الناس، زاد في "الغُنية"

(1)

: أو على الطريق، ولا يضرُّ أكل اليسير، كالكِسْرة ونحوها) كالتفاحة.

(أو يمُدُّ رِجْليه في مَجْمَع الناس، أو يتحدَّث بمُبَاضَعَتِهِ أهلَه

(2)

أو أمَتَه، أو غيرهما) لما فيه من الدناءة، وقلَّة المبالاة، وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من شرِّ

(3)

الناسِ منزلةً يومَ القيامَةِ الرجل يُفضي إلى المرأةِ ثم يُفشي سِرَّها"

(4)

.

(أو يخاطب أهلَه، أو أَمَته، أو غيرهما بفاحش

(5)

بحضرة الناس، وحاكي المضحكات، ومتزيٍّ بزِىٍّ يُسْخَر منه، ونحوه) من كل ما فيه سُخف ودناءة؛ لأن من رضيه لنفسه واستخفَّه، فليس له مروءة، ولا تحصُل الثقةُ بقوله، ومَن فعل شيئًا من هذا مختفيًا به لم يمنع من قَبول شهادته؛ لأن مروءته لا تسقط به، وكذلك إن فعله مَرَّة أو شيئًا قليلًا لم تُرد شهادته؛ لأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة، إذا قلّ، فهذا أولى؛ ولأن المروءة لا تختلّ بقليل هذا، ما لم يكن عادة.

(قال الشيخ

(6)

: وتَحرُم محاكاةُ الناس، ويعزَّر هو ومَن يأمره. انتهى) وقد عدَّه بعضُ العلماء من الغيبة.

(ولا بأس بالثِّقاف، واللعب بالحِراب، ونحوها) لأن الحبشة لعبت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت عائشةُ تنظر إليهم وتستتر به حتى

(1)

لم نقف عليه في مظانه من كتاب الغنية لعبد القادر الجيلاني.

(2)

في "ذ": "بما يصنعه مع أهله".

(3)

في "ح": "أشر"، وهو الموافق للرواية.

(4)

أخرجه مسلم في النكاح، حديث 1437، وفيه:"منزلة عند الله".

(5)

في متن الإقناع (4/ 508): "بخطاب فاحش".

(6)

الاختيارات الفقهية ص/ 518.

ص: 301

ملَّت

(1)

.

(وتُقبل شهادةٌ مَن صناعتُه دنيئةٌ عُرفًا، كحَجَّام، وحائك، وحارس، ونّخّال: وهو الذي يتخذ غربالًا، أو نحوه يغربل به ما في مجاري المياه، وما في الطرقات من حصىً وتراب، ليجد في ذلك شيئًا من الفلوس أو الدراهم وغيرها، وهو المُقَلِّش

(2)

. ومُحرِّش بين البهائم) وفي "المبدع": لا تُقبل.

(و) تُقبل شهادة (صبَّاغ، ونفَّاط: وهو اللَّعّاب بالنفط، وزبَّال، وكنَّاس العَذِرة، فإن صَلَّى بالنجاسة ولم يتنظف؛ لم تُقبل شهادته) لفقد عدالته.

(وكبَّاش: وهو الذي يلعب بالكبش، ويُناطح به، ودبَّاغ، وقرَّاد: وهو الذي يلعب بالقِرْد ويطوف به في الأسواق ونحوها متكسِّبًا بذلك، وحدَّاد ودبَّاب، إذا حَسُنت طريقتهم في دينهم.

ويُكره كسْبُ مَن صنعتُه دنيئة) إذا أمكنه غيرها (وتقدم

(3)

أول باب الصيد.

وأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها، فلا تُرَدّ الشهادة بها) لعدم المانع من قَبولها (إلا من كان يحلف منهم كاذبًا، أو يَعِدُ ويُخلِف، وغلب هذا عليه، أو كان يؤخّر الصلاةَ عن أوقاتها، أو لا يتنزَّه عن النجاسات، أو كانت صاعته مُحَرَّمة، كصناعة المَزامير من خَشَبٍ، أو قَصَبٍ، والطنابير، أو يكثر في صناعته الربا، كالصائغ والصيرفي، ولم يتوقَّ

(1)

تقدم تخريجه (9/ 159) تعليق رقم (1).

(2)

تقدم التعريف بها (9/ 493) تعليق رقم (1).

(3)

(14/ 348).

ص: 302

ذلك، رُدَّت شهادته.

وكذا) تُردُّ شهادة (مَن داوم على استماع المُحَرَّمات، من ضَرْب النايات، والمزامير، والعود، والطُّنبور، والرَّباب ونحو ذلك) من آلات اللهو.

(والصَّفَّاقتين من نُحَاس) أو صيني ونحوه (يُضْرَب بإحداهما على الأخرى، فتحرم آلاتُ اللهو اتّخاذًا، واستعمالًا، وصناعةً. أو لَعِب لَعِبًا فيه قمارٌ، وتكرَّر منه) ذلك اللعب، أيُّ لَعِبٍ كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، وما خلا من القمار، وهو العوض من الجانبين، أو من أحدهما. فمنه ما هو مُحَرَّم كالنرد والشطرنج، إلا أن النرد آكد؛ لورود النص فيه

(1)

، ومنه ما هو مباح، كالثِّقاف، وتقدَّم.

وسائر اللعب إذا لم يكن فيه ضرر ولا شغل عن واجب، فالأصل إباحتُه؛ ذكره في "الشرح" و"شرح المنتهى".

(أو سأل من غير أن تَحِلَّ له المسألةُ، فأكثَرَ) من السؤال، رُدَّت شهادته؛ لأنه فَعَل مُحَرَّمًا، وأكل سُحتًا، وأتى دناءة، فإن كان ممن تُباح له المسألة، لم تُرَدَّ شهادته إلا أن يكون أكثر عُمره سائلًا، فينبغي أن تُرَدَّ شهادته؛ لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة؛ ذكره في "الشرح".

(أو بنى حَمَّامًا للنساء) فتردُّ شهادته بذلك كله، ونحوه، مما هو مُحَرَّم، أو فيه دناءة.

وأما ما اتَّخذه أرباب الدنيا من العادات والنزاهة، التي لم يُقَبِّحْها السلف، ولا اجتنبها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل تقذّرهم من حمل

(1)

أخرج مسلم في كتاب الشعر، حديث 2260، عن بريدة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه".

ص: 303

الحوائج والأقوات للعيال، ولبس الصوف، وركوب الحمار، وحمل الماء على الظهر والرزمة إلى السوق، فلا يُعتبر شيء من ذلك في المروءة الشرعية، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يحمل الماء لأهله، وهذا يحمل الرزمة للسوق، وقد ركِب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحِمَار

(1)

، ولَبِس الصُّوف

(2)

، واحتذى المخصوف

(3)

، مع كونه قد أوتي مكارم الأخلاق، فلا ازدراء في ذلك ولا إسقاط مروءة؛ قاله في "المستوعب".

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد، باب 127، حديث، 2987، وفي تفسير آل عمران، باب 15، حديث 4566، وفي المرضى، باب 15، حديث 5663، وفي اللباس، باب 98، حديث 5964، وفي الأدب، باب 115، حديث 6207، وفى الاستئذان، باب 20، حديث 6254، ومسلم في الجهاد، حديث 1798، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(2)

أخرج مسلم في اللباس والزينة، حديث 2081، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود.

(3)

أخرج الترمذي في الشمائل ص/ 84، حديث 81، والنسائي في الكبرى (5/ 506) حديث 9803 - 9805، وعبد الرزاق (1/ 386) حديث 1505، وابن سعد (1/ 479)، وأحمد (4/ 307)، وعبد بن حميد (1/ 258) حديث 285، وأبو يعلى (3/ 46 - 47) حديث 1465 - 1466، والطحاوي (1/ 512)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 202)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (2/ 333) حديث 382، عن السُّدي، حدثني من سمع عمرو بن حريث رضي الله عنهما، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين مخصوفتين. والراوي عن عمرو رضي الله عنه لم يُسَمَّ.

وأخرج ابن سعد (1/ 479)، وأحمد (5/ 6، 28، 58، 363)، عن مطرف بن الشخير، قال: أخبرني أعرابي لنا، قال: رأيت نعل نبيكم صلى الله عليه وسلم مخصوفة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 138): رجال أحمد رجال الصحيح.

وأخرج أبو الشيخ (2/ 336) حديث 384، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين مخصوفتين من جلود البقر. وفي سنده محمد بن سنان القزاز، ضعيف.

قاله ابن حجر في التقريب (5973).

ص: 304

فصل

(ومتى زالت الموانعُ منهم، فبلغ الصبيُّ، وعَقَل المجنونُ، وأسلمَ الكافرُ، وتاب الفاسِقُ؛ قُبِلت شهادتُهم بمجرَّد ذلك) لأن ردَّها إنما كان لمانع، وقد زال.

(ولا يُعتبر في التائبِ أصلاحُ العمل) لقوله صلى الله عليه وسلم: "التائبُ من الذَّنب كمَن لا ذَنبَ لهُ"

(1)

؛ ولأن شهادة الكافر تُقبل بمجرد الإسلام، فلأَنْ تُقْبَلَ شهادةُ الفاسق بمجرَّد التوبة بطريق الأوْلى؛ ولقول عُمر لأبي بَكْرة:"تُبْ، أقبلْ شهادتك"

(2)

؛ ولحصول المغفرة بها.

(وتوبة غيرِ قاذفٍ، ندمٌ) بقلبه على ما سبق من ذنبه (وإقلاعٌ) عن الذنب الذي تاب منه (وعَزْمٌ ألا يعودَ) إلى ذلك الذنب لله تعالى، لا لأجل نَفْع الدنيا أو أذى الناس، اختيارًا، لا بإكراه وإلجاء. وعُلم من كلامه: أنه لا يُشترط مع ذلك لفظ: إني تائب، أو: أستغفر الله ونحوه، وقيل: بلى.

(وإن كان فِسْقُه بترك واجبٍ؛ فلا بُدَّ من فِعْله) أي: الواجب الذي تركه (ويُسارع) بفعل ذلك الواجب، بل تجبُ التوبة فورًا من كلِّ معصية.

(ويُعتبر) لصحة توبة من نحو غصب: (رَدُّ مظلمة إلى رَبِّها) إن كان حيًّا (أو إلى ورثته إن كان ميتًا، أو) أن (يجعله منها) أي: المظلمة (في حِلٍّ) بأن يطلب منه أن يبرئه (ويستمهله معسِرٌ

(3)

) أي: يستمهل التائبُ

(1)

تقدم تخريجه (14/ 190) تعليق رقم (3).

(2)

تقدم تخريجه (14/ 64) تعليق رقم (1).

(3)

في متن الإقناع (4/ 510): "معسِرًا".

ص: 305

ربَّ المظلمة إنْ عَجَزَ عن ردِّها أو بدلها، لعسرته.

وتوبة المبتدع: الاعتراف ببدعته، والرجوع عنها، واعتقاد ضدّ ما كان يعتقده من مخالفة أهل السُّنة.

(وتوبة قاذف بزنىً) أو لواط (أن يُكَذِّب نفسه) ولو كان صادقًا، فيقول: كذبت فيما قلت (لِكَذِبه حكمًا) أي: في حكم الله تعالى بقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

(1)

فتكذيبُ الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في نفس الأمر صادقًا.

وروى الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مرفوعًا - في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

(2)

- قال: توبته إكذاب نفسه

(3)

.

(وتصحُّ توبته) أي: القاذف (قبل الحَدِّ) لعموم ما سبق، و (لصحَّتِها من قذف وغيبة ونحوهما) كسبٍّ (قبل إعلامه، و) قَبل (التحلُّل منه) أي: من المقذوف ونحوه.

(والقادف بالشتم تُرَدُّ شهادته وروايته وفُتياه حتى يتوب، والشاهد بالزنى إذا لم تكمل البينةُ تُقبل روايته، لا شهادته) لأن عُمر لم يقل شهادة أبي بكرة وقال له: "تُبْ، أقبلْ شهادتك"

(4)

. قال في "الشرح": ولا نعلم خلافًا في قَبول رواية أبي بكرة مع رَدِّ شهادته (وتقدم

(5)

بعضُه في القذف)

(1)

سورة النور، الآية:13.

(2)

سورة النور، الآية:5.

(3)

تقدم تخريجه (14/ 64) تعليق رقم (1).

(4)

تقدم تخريجه (14/ 64) تعليق رقم (1).

(5)

(14/ 92 - 93).

ص: 306

وتقدم

(1)

في مُحَرَّمات النكاح: توبة الزانية أن تُرَاوَد، فتمتنع، إلا أن يحمل على ما إذا أرادت النكاح خاصة.

(وتُقبل شهادةُ العبد حتى في) موجِب (حَدٍّ وقَوَد، كالحر، وتُقبل شهادة الأَمة فيما تُقبل فيه شهادة الحُرَّة) لعموم آيات الشهادة، وهو داخل فيها، فإنه مِن رجالنا، وهو عَدْل تُقبل روايته وفُتياه وأخباره الدينية، ورواه الخلال بإسناد جيد عن أنس

(2)

، ورواه عن علي

(3)

؛ ولحديث عقبة بن الحارث، قال:"تزوَّجتُ أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فَجاءت أمةٌ سوداءُ، فقالت: قد أرضَعتكُما. فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد زعمَت ذلكَ" متفق عليه

(4)

.

(ومتى تعيَّنت) الشهادةُ (عليه) أي: القِنّ (حَرُم على سَيّده مَنْعه منها) أي: من قيامه بالشهادة، كسائر الواجبات، فلو عَتَق بمجلس الحكم، فَشَهِد، حرم رَدّه. قال في "الانتصار" و"المفردات": فلو رَدّه مع ثبوت عدالته، فَسَق. والمُكاتَب، والمُدَبَّر، وأم الولد، والمُعتَق بعضه، كالقِنّ.

(1)

(11/ 347).

(2)

لم نقف عليه في مظانه من كتب الخلال المطبوعة، وأخرج البخاري معلقًا في الشهادات، باب 13، قبل حديث 2659، وابن أبي شيبة (6/ 77) موصولًا: قال أنس رضي الله عنه: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلًا.

(3)

لم نقف عليه في مظانه من كتب الخلال المطبوعة، وأخرج ابن أبي شيبة (6/ 77 - 78)، عن الشعبي قال: قال شريح: لا تجيز شهادة العبيد؟ فقال علي: لا، كنا نجيزها، قال: فكان شريح بعد يجيزها إلا لسيده.

(4)

البخاري في العلم، باب 26، حديث 88، وفي البيوع، باب 3، حديث 2052، وفي الشهادات، باب 4، 13 - 14، حديث 2640، 2659 - 2660، وفي النكاح، باب 23، حديث 5104، ولم نقف عليه عند مسلم.

ص: 307

(وتجوز شهادة الأصمِّ في المرئيات) لأنه فيها كغيره (و) تجوز شهادة الأصم (بما سَمِعه قبل صَمَمِهِ) لأنه في ذلك كَمَن ليس به صمم.

(وتجوز شهادةُ الأعمى في المسموعات، إذا تيقّن الصوت) أي: صوت المشهود عليه. رُوي عن علي

(1)

وابن عباس

(2)

أنهما أجازا شهادة الأعمى، ولا يُعرف لهما مخالف في الصحابة؛ لحصول العلم له بذلك، كاستمتاعه بزوجته.

(و) تجوز شهادة الأعمى (بالاستفاضة) لأنه يعتمد القول، وشهادته فيه جائزة (و) تجوز شهادة الأعمى (بما رآه قبل عَمَاه، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه) لأن العمى فَقْدُ حاسّة لا يُخِلُّ بالتكليف، فلا يمنع قَبول الشهادة، كالصمم (فإن لم يعرفه) أي: لم يعرف الأعمى الفاعل (إلا بعينه، قُبلت) شهادته (إذا وصفه) الأعمى (للحاكم بما يتميز به) لأن المقصود تميّز

(3)

المشهود عليه من غيره، وقد حصل، فوجب قَبوله لذلك.

(قال الشيخ

(4)

: وكذا الحكم إن تعذَّرت رؤية العين المشهود لها، أو عليها، أو بها؛ لِغَيبة، أو موت، أو عَمىً) واقتصر عليه في "الفروع" وغيره، وجزم به في "المنتهى"، لكن تقدم

(5)

في كتاب القاضي إلى

(1)

لم نقف على من أخرجه عنه مسندًا، وأورده ابن قدامة في المغني (4/ 178) دون إسناد. وأخرج عبد الرزاق (8/ 324) رقم 15380، وابن أبي شيبة (6/ 258) والبيهقي (10/ 157) وفي السنن الصغرى (3/ 272) رقم 4569: أن عليًّا لم يجز شهادة الأعمى.

(2)

لم نقف على من رواه عنه مسندًا.

(3)

في "ذ": "تمييز".

(4)

انظر: الاختيارات الفقهية ص/ 522.

(5)

(15/ 181 - 182).

ص: 308

القاضي ما يعارضه، فَلْيُراجع.

(وإن شَهِد عند الحاكم، ثم عَمِي، أو خَرِسَ، أو صُمَّ، أو جُنَّ، أو مات، لم يمنع الحكم بشهادته) إن كان عدلًا؛ لأن ذلك معنىً طرأ بعد أداء الشهادة، لا يقتضي تُهمة في حال الشهادة، فلم يمنع قَبولها، بخلاف الفسق، فإنه يورثُ تُهمةً حال الشهادة.

(وتُقبل شهادةُ ولد الزنى في الزنى وغيره) لعموم الأدلة؛ ولأنه عَدْل مقبول الرواية والشهادة في غير الزنى، فَتُقبل فيه كغيره؛ ولأن الفاعل للقبيح غيره.

(وتُقبل شهادةُ الإنسان على فِعْل نَفْسِه، كالمرضعة على إرضاعها، وإن كان) الإرضاع (بأجرة) لحديث عقبة السابق

(1)

.

(و) كشهادة (القاسم على قسمته بعد فراغه) من القسمة (ولو) كان يقسم (بعوض، والحاكم على حكمه بعد العزل) قياسًا على المرضعة. وقيد في "المستوعب" و"المغني" والقاضي وأصحابه في القاسم: إذا كان بغير عوض.

(و)

‌ تُقبل (شهادة القروي على البدوي، وعكسه)

أي: شهادة البدوي على القروي؛ لأن من قُبلت شهادته على أهل البدو، قُبلت على أهل القرى، وحديث أبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا تجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ على صَاحبِ قرْيَةٍ"

(2)

محمول على ما إذا جُهِلت

(1)

تقدم تخريجه (15/ 307) تعليق رقم (4).

(2)

أبو داود في الأقضية، باب 17، حديث 3602، وابن ماجه في الأحكام، باب 30، حديث 2367. وأخرجه - أيضًا - ابن الجارود (3/ 262 - 263) حديث 1009، والحاكم (4/ 99)، والبيهقي (10/ 250)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 390) حديث 2052. =

ص: 309

عدالته الباطنة، وخصّه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون من يسأله الحاكم عنه.

= قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 244): هذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، فإن كان حفظه، فقد قال أبو سليمان الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من جفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة، لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها عن جهتها. وقال المنذري في تهذيب السنن (5/ 219): رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه. وقال الذهبي في التلخيص: لم يصححه المؤلف (يعني الحاكم) وهو منكر على نظافة سنده.

ص: 310

‌باب موانع الشهادة

الموانع: جمع مانع، من منع الشيء إذا حال بينه وبين مقصوده، فهذه الموانع تحول بين الشهادة ومقصودها، فإن المقصود منها قَبولها والحكم بها.

(وهي ستة) أشياء:

(أحدها: قرابة الولادة، فلا تُقبل شهادةُ عمودَيِ النَّسَب بعضِهم لبعضٍ، مِن والد وإنْ علا، ولو من جهة الأم) كأبي الأم وأبيه، وجده (و) من (وَلَد وإنْ سَفَلَ من ولد البنين والبنات) لأن كلًا من الوالدين والأولاد مُتَّهم في حَقّ صاحبه؛ لأنه يميل إليه بطبعه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فاطِمَةُ بَضْعةٌ مِني، يُريبُني ما أرَابها"

(1)

، وسواءٌ اتفق دينُهم أو اختلف، وسواءٌ جَرَّ بها نفعًا للمشهود له أو لا، كَبِقَذْفٍ

(2)

وعقد نكاح (إلا من زنىً أو رضاع) فَتُقبل شهادةُ الولد لأبيه من زنىً ورَضاع وعكسه؛ لعدم وجوب الإنفاق والصِّلة، وعتق أحدهما على صاحبه.

(وتُقبل شهادةُ بعضِهم على بعضٍ) لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}

(3)

؛ ولأن شهادته عليه لا تُهمة فيها، وهي أبلغ في الصِّدق، كشهادته على نفسه.

(و) تُقبل شهادةُ العدل (لباقي أقاربه) الذين ليسوا من عمودي نسبه

(1)

تقدم تخريجه (11/ 207) تعليق رقم (4).

(2)

في "ذ": "كقذفٍ".

(3)

سورة النساء، الآية:135.

ص: 311

(كـ) ـــشهادته لـ (ــأخيه وعمّه، وابن عمّه، وخاله، ونحوهم) كابن أخيه، وابن أخته.

(و) شهادة (الصَّدِيق لصَدِيقه، و) شهادة (المولَى لعتيقه، وعَكْسُه) كشهادة العتيق لمولاه.

(ولو أعتق عَبْدَين، فادَّعى رَجُلٌ أنَّ المُعْتِق غَصَبَهما منه، فشَهِد العتيقان بصِدْق المُدَّعي؛ لم تُقبل شهادتُهما؛ لردِّهما إلى الرّقّ، وكذا لو شَهِدا بعدَ عِتْقهما أن مُعْتِقَهُما كان غيرَ بالغ حال العتق، أو) شَهِدا (بجرح شاهدي حُرّيتهما. وكذا لو عتقا بتدبير أو وصية، فشَهِدا بدَيْنٍ يستوعب التَّرِكة، أو وصية مؤثِّرة في الرِّق) كما لو شهدا بوصية تستوعب التَّرِكة، لم تُقبل شهادتهما؛ لإقرارهما بعد الحرية برقهما لغير سيدهما.

‌المانع (الثاني: الزوجيّة، فلا تُقبل شهادة أحدُ الزَّوجين لصاحبه)

لأنه ينتفع بشهادته، لتبسُّط كلِّ واحدٍ في مال الآخر، واتّساعه بسعته، وإضافة مال كلّ واحدٍ إلى الآخر؛ لقوله تعالى:{وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ}

(1)

و {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ}

(2)

؛ لأن يسار الرجل يزيد في نفقة امرأته، ويسارها يزيد في قيمة البُضع المملوك لزوجها؛ ولأن كلَّ واحد منهما يرث الآخر من غير حَجْب، فأوجب التُّهمة في شهادته (ولو) كانت شهادةُ أحدِهما لصاحبه (بعد الفِراق) بطلاق، أو خُلع، أو فسْخٍ لنحو عُنَّةٍ (إن كانت) الشهادة (رُدَّت قبله) أي: قبل الفراق؛ للتُّهمة (وإلا) أي: وإن لم تكن رُدت قبله، وإانما شَهِدا ابتداء بعد الفراق (قُبلت) الشهادة؛ لانتفاء التُّهمة. وقال في "التنقيح": ولو في الماضي. وتبعه في

(1)

سورة الأحزاب، الآية:33.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:53.

ص: 312

"المنتهى" ولم يُفرّق بين أن تكون الشهادة رُدَّت قبلُ أو لا. قال المصنف في "حاشيته": وهو غريب مناقضٌ لكلامه. انتهى. لكن كلامه في "المبدع" موافق لـ "التنقيح" قال: وظاهره: ولو بعد الفراق. انتهى. ويؤيدهما ما ذكره المصنف وغيره: لا تُقبل شهادته لموكّله فيما هو وكيل

(1)

فيه، ولو بعد العزْل من الوكالة.

(وتُقبل) شهادةُ أحدِ الزوجين (عليه) أي: على صاحبه، كما تقدَّم في عمودي النسب (في غير الزنى) فلا تُقبل شهادته عليها بالزنى؛ لأنه يقرّ على نفسه بعداوته لها، لإفسادها فراشه.

(ولا) تُقبل (شهادةُ السيدِ لعبده) لأن مالَ العبدِ لسيده، فشهادتُه له شهادةٌ لنفسه. قال في "الشرح": لا تُقبل شهادتُه لعبدِه بنكاحٍ، ولا لأمَته بطلاقٍ (ولا العبدِ لسيده) لأنه يتبسَّط في ماله، وتجب فيه نفقته، فهو كالأب مع ابنه. زاد في "الرعاية الكبرى": بمال.

(قال ابنُ نصر الله: لو شَهِد عند الحاكم مَن لا تُقبل شهادةُ الحاكمِ له، كشهادة ولد الحاكم عنده لأجنبيٍّ، أو) شهادة (والده) أي: الحاكم (أو) شهادة (زوجته فيما تُقبل فيه شهادةُ النِّساء: يتوجَّه عَدَم قَبولها) أي: تلك الشهادة، ولعل وجهه عدم تحرّيه في عدالتهم، لكن تقدم

(2)

في القضاء: يحكم بشهادتهم، كما جزم به المصنف، وصاحب "المنتهى"، وغيرهما هناك.

(وقال) ابنُ نصر الله: (لو شَهِد على الحاكم بحكمه مَن شَهِد عنده بالمحكوم فيه، الأظهر: لا تُقبل، وقال: تزكيةُ الشاهدِ رفيقَه في الشهادة

(1)

في "ذ": "موكل".

(2)

(15/ 90).

ص: 313

لا تُقبل. انتهى) أما في الثانية، فلأنه يشهد على الحاكم أنه قَبِل شهادته، وحكم بما ثبت عنده بشهادته، فيكون قد شَهِدَ لنفسه بأن الحاكم قَبِله، وأما في الأخيرة، فلإفضائه إلى انحصار الشهادة في أحدهما.

(ولو شَهِد اثنان على أبيهما) أو على زوج أمهما الأجنبي (بقذف ضَرَّةِ أُمِّهما، وهي) أي: أمهما (تحته، أو) شَهِدا على زوجِ أمهما بـ (ــطلاقها) أي: طلاق ضَرَّةِ أُمِّهما (قُبلت) شهادتهما؛ لأنها شهادةٌ على الأب، كما لو لم تكن أُمُّهما تحته؛ ولأن حقَّ أمهما لا يزداد بذلك، وتوفير الميراث لا يمنع قَبول الشهادة، بدليل شهادة الوارث لموروثه.

(قال في "الترغيب": ومن موانعها) أي: الشهادة (العَصبيَّةُ) وجزم به في "المنتهى"(فلا شهادة) مقبولة (لمن عُرِف بها، وبالإفراط في الحَميَّة كتَعَصُّبِ قبيلةٍ على قبيلةٍ، وإن لم تبلغ) العصبيةُ (رتبةَ العداوة.

ومن حلف مع شهادته لم تُردّ) شهادته.

(الثالث) من موانع الشهادة: (أن يجر) الشاهدُ (إلى نَفْسِه نفعًا) بشهادته (كشهادة السيد لمُكاتَبِه، و) شهادة (المُكاتَب لسيده) لأن المُكاتَب رقيقٌ؛ لحديث: "المكاتَبُ عبدٌ ما بَقِيَ عليه درهمٌ"

(1)

، (و) كشهادة (الوارث بجرح موروثه قبل اندماله، فلا تُقبل) لأنه رُبَّما يسري الجرح إلى النفس، فتجب الدية للشاهد بشهادته، فيصير كأنه شَهد لنفسه.

(وتُقبل) شهادة الوارث (له) أي: لموروثه (بدَيْنه في مرضه) لأن هذا الدَّيْن يجوز أن ينتقل إلى الشاهد، ويجوز ألا ينتقل إليه، والمانع من قَبول الشهادة ما يحصُل للشاهد به نفعٌ حال أداء الشهادة (فلو حكم بهذه

(1)

تقدم تخريجه (10/ 520) تعليق رقم (1).

ص: 314

الشهادة) ثم مات المشهود له، فورثه الشاهد (لم بتغيَّر الحكم بعد موته) لوقوعه صحيحًا، ولم يطرأ عليه ما يفسده.

(ولا تُقبل شهادةُ الوصي للميت، ولو بعد عَزْله، و) لا شهادةُ (الوكيل لموكّله، و) لا شهادة (الشريك لشريكه، والأجير لمستأجره فيما هو وكيلٌ) فيه (أو شريك) فيه (أو مستأجر فيه، ولو بعد العَزْل) في الوكالة (وفراغ الإجارة، وانفصال الشريك) من شريكه المشهود له؛ لاتّهامهم، والوصي يثبت له فيما يشهد به حقّ التصرُّف.

(ولا) شهادة (أحد الشفيعين بعفو الآخر عن شُفعته) لأنه مُتَّهم (أو) أي: ولا تُقبل شهادةُ الشفيع بـ (ـبيع الشّقص الذي تجب فيه الشُّفعة) للتُّهمة.

(وإن أسقط) الشفيعُ (شُفعته قبل الحكم بشهادته) بعفوِ شريكه، أو بببيع الشِّقص (قُبلت) شهادته؛ لانتفاء التُّهمة، و (لا) تُقبل شهادته إن عَفَا عن شُفعته (بعد الردِّ) لشهادته؛ لأنه مُتَّهم، لكونه إنما عَفَا لتُقبل شهادته.

(ولا) تُقبل شهادةُ (غريمٍ لمفلس بمال بعد الحَجْرِ) على المَدين للفَلَس (أو) أي: ولا تقبل شهادةُ الغريم (لميتٍ له عليه دَيْن بمال

(1)

) لأن ذلك المال يعود إلى الغريم، فكأنه شَهِد لنفسه.

(ولا) تُقبل شهادةُ (مضارِب بمالِ المضاربة، ولا حاكمٍ، و) لا (وصيٍّ لمَن في حَجْرِه) لأنه مُتَّهم.

(وتُقبل) شهادةُ الوارث ومَن بعده ممن تقدَّم ذكرهم (عليه) أي: على من تقدَّم أنها لا تُقبل له؛ لانتفاء التُّهمة.

(ولا تُقبل) شهادةٌ (لمن له كلام واستحقاق في شيء، وإن قلّ)

(1)

في "ذ": "بحال".

ص: 315

للجهة الموقوف عليها (كرباط ومدرسة) قال الشيخ تقي الدين في قوم في ديوان أجروا شيئًا: لا تُقبل شهادةُ أحدٍ منهم على مستأجره؛ لأنهم وكلاء أو ولاة. قال: ولا شهادة الأموال

(1)

السلطانية على الخصوم

(2)

.

(الرابع: أن يدفع عن نفسه) بشهادته (ضَرَرًا، كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ) لما فيه من التهمة بدفع الدية عن أنفسهم، فإن كان الجارح فقيرًا أو بعيدًا، فاحتمالان، أحدهما: تُقبل؛ لأنه لا يحمل شيئًا من الدية، والثاني: لا؛ لجواز أن يوسر أو يموت من هو أقرب منه قبل الحول، فيحملها.

(و) كشهادة (الغرماء بجرح شهود الدَّين على المُفلِس) لما فيه من توفير المال عليهم.

(و) كشهادة (السيد بجَرْح مَن شَهِد على مكاتبه أو عبده، بدَيْن) لأنه مُتَّهم فيها؛ لما يحصُل بها من دَفَع الضَّرر عن نفسه، فكأنه شَهِد لنفسه. قال الزهري: مضت السُّنة في الإسلام: لا تجوزُ شهادة خَصْم ولا ظَنِيْن

(3)

. والظَّنين: المتهم.

(و) كشهادة (الوصي بجرح الشاهدِ على الأيتام، والشريكِ بجرح الشاهد على شريكه، كشهادة من لا تُقبل شهادته لإنسان اذا شَهِد بجرح الشاهد عليه) كعمودَيِ النسب، والزوج، والوكيل؛ لأنهم مُتَّهمون في دفع الضرر عنهم.

(1)

"شهادة الأموال" كذا في الأصل، وعلَّق في حاشيته:"لعله: عمال"، وفي "ذ". "شهادة عمال الأموال"، وفي الفروع (6/ 582) والمبدع (10/ 247 - 248):"شهادة ديوان الأموال".

(2)

انظر: الفروع (6/ 582).

(3)

أخرجه البيهقي (10/ 202).

ص: 316

(ولا تُقبل شهادة الضَّامن للمضمون عنه بقضاء الحَقّ، أو الإبراء منه) أي: من الحق؛ لأنها شهادة لنفسه ببراءته.

(ولا شهادةُ بعض غُرماء المفلِس على بعضٍ بإسقاط دَيْنه، أو استيفائه) لأن قسطه يتوفَّر عليهم.

(ولا) تُقبل شهادة (مَن أوصي له بمال على) موصىً له (آخر بما يُبطِل وصيَّته، إذا كانت وصيَّتُه يحصُل بها مزاحمةٌ، إما لضيق الثلث عنها، أو تكون الوصيتان

(1)

بمعيَّن) لما روى سعيد بإسناده عن طلحة بن عبد الله بن عوف مرسلًا قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن اليَمينَ على المدَّعى عليه"

(2)

. "ولا تجوز شهادة خصم ولا ظَنين"

(3)

.

(و‌

‌تُقبل فُتيا مَن يدفع عن نفسه ضررًا بها)

أي: بفُتياه، كما تُقبل على عدوه ولولده ووالده، وتقدَّم

(4)

.

(الخامس) من الموانع: (العداوة الدنيوية) لحديث عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا قال:"لا تجوزُ شَهادةُ خائنٍ ولا خائنَة ولا زان ولا زانيَة ولا ذي غِمرٍ على أخيهِ" رواه أبو داود

(5)

. والغَمْر: الحقد؛ ولأن العداوة تورث تُهمة شديدة، فمنعتِ الشهادة، كالقرابة القريبة (كشهادة المقذوف على قاذفه، والزوج على امرأته بالزنى) لأنه معترف بعداوته لها، بفساد فراشه.

(و) لا شهادة (المقتولِ وليُّه على القاتل، و) لا شهادة (المجروح

(1)

في "ذ": "أو لكون الوصيتين".

(2)

لم نقف عليه في المطبوع من سننه، وتقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(3)

تقدم تخريجه (15/ 316) تعليق رقم (3).

(4)

(15/ 41، 90).

(5)

في الأقضية، باب 16، حديث 3600، وتقدم تخريجه (15/ 146) تعليق رقم (2).

ص: 317

على الجارح، و) لا شهادة (المقطوع عليه الطريق على قاطعه) لما تقدم.

(فلو شَهِدا

(1)

أن هؤلاء قطعوا الطريق علينا، أو على القافلة؛ لم تُقبل) شهادتهم.

(وإن شَهِدا

(1)

أن هؤلاء قطعوا الطريق على هؤلاء؛ قُبلت) شهادتهم.

(وليس للحاكم أن يسألهم هل قطعوا الطريق عليكم معهم) أو لم يقطعوها عليكم معهم؛ لأنه لا يبحث عما شهدت

(2)

به الشهود.

(وإن شَهِدوا أنهم عرضوا لنا، وقَطَعوا الطَّريق على غيرنا؛ قُبِلت) شهادتهم؛ قَدمه في "الفصول" قال: وعندي: لا تُقبل.

(و‌

‌يُعتبر في عدم قَبول الشَّهادة) للعداوة (كونُ العداوة لغير الله)

تعالى (سواء كانت) العداوة (موروثة، أو مكتسبة) وفي الحديث: "ثلاثَةٌ لا ينجُو منهُنَّ أحدٌ: الحسَدُ، والظّنُّ، والطِّيرةُ، وسأُحدثكم بالمخرَج من ذلك: إذا حسدت فلا تَبْغِ، وإذا ظننتَ فلا تُحقّق، وإذا تَطيرتَ فامضِ"

(3)

.

(1)

في "ذ": "شهدوا".

(2)

في "ذ": "شهد".

(3)

أخرج ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 17) حديث 1962، والطبراني في الكبير (3/ 228) حديث 3227، وأبو الشيخ في التوبيخ ص/ 184 - 185، 254 - 255، رقم 152، 237، عن حارثة بن النعمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لازمات لأمتي: سوء الظن، والحسد، والطيرة، قالوا: يا رسول الله، فما يصنع بهن؟ قال: إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فاستغفر، وإذا تطيرت فامض.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 78): فيه إسماعل بن قيس، وهو ضعيف.

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان (2/ 63) حديث 1173، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الإنسان ثلاثة: الطيرة، والظن، والحسد، فمخرجه من =

ص: 318

(فأما العداوة في الدِّين، كالمُسْلِم يشهد على الكافر، والمُحق من أهل السُّنة يشهد على المبتدع، فلا تُرَدُّ شهادته؛ لأن الدِّين يمنعُه من ارتكاب محظور في دِينه، وتُقبل شهادة العدو لعدوه) لعدم التُّهمة.

(وتُقبل) شهادةُ العدو (عليه) أي: على عدوه (في عَقْدِ نكاح) بأن يكون الشاهد عدوًّا للزوجين، أو أحدهما أو الولي. وتقدم

(1)

في النكاح.

(ومن شَهِد بحقٍّ مشترك بين مَن تُرد شهادته له، وبين مَن لا تُرد) شهادته له (لم تُقبل) الشهادة (لأنها لا تتبعَّض في نفسها.

ومن سَرَّتْهُ مساءةُ أحد، أو غمّه فَرَحُهُ أو طلب له الشر ونحوه، فهو عدوّه) لا تُقبل شهادته عليه؛ للتُّهمة.

(السادس: من شَهِد عند حاكم، فرُدَّت شهادته بتهمة؛ لرحمٍ، أو زوجيّة، أو عداوة، أو طلب

(2)

نفع، أو دفع ضرر، ثم زال المانع، فأعادها؛ لم تُقبل، كما لو رُدّت لِفسق، ثم أعادها بعد التوبة) للتُّهمة في أدائها؛ لكونه يُعيَّر بردها، فربما قصد بأدائها أن يقبل؛ لإزالة العار الذي لحقه بردّها؛ ولأنها رُدت باجتهاد، فَقَبولها نقضٌ لذلك الاجتهاد.

= الطيرة ألا يرجع، ومخرجه من الظن ألا يحقق، ومخرجه من الحسد ألا يبغي".

وذكره السيوطي في الجامع الصغير (4/ 446 مع الفيض) ورمز لضعفه.

وأخرج عبد الرزاق (10/ 403) رقم 19504، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 63) رقم 1172، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث لا يعجزهن ابن آدم: الطيرة، وسوء الظن، والحسد، وقال: فينجيك من الطيرة ألا تعمل بها، وينجيك من سوء الظن ألا تتكلم به، وينجيك من الحسد ألا تبغي أخاك سوءًا.

قال البيهقي: هذا منقطع.

(1)

(11/ 304).

(2)

في نسخة أشار إليها في حاشية "ذ": "جلب".

ص: 319

"تنبيه": يتصور زوال الرحم في نحو ما لو شَهِد ابنٌ لأبيه الغائب بحق، ثم حضر ولا عن على نفيه بشرطه، فإنه ينتفي عنه باللعان، فإذا أعاد الشهادة بعدُ؛ لم تُقبل؛ لما تقدَّم.

(ولو لم يشهد بها الفاسق عند الحاكم حتى صار عدلًا؛ قُبلت) شهادته. قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لأن التهمة إنما كانت من أجل العار الذي يلحقه في الردِّ، وهو منتفٍ هنا.

(وإن رُدَّت) الشهادة (لكفرٍ، أو صغر، أو جنون، أو خرس، ثم أعادها بعد زوال المانع؛ قُبلت) شهادته؛ لأن التُّهمة هنا منتفية، لأن رَدَّ الشهادة في تلك الحالات لا غضاضة

(1)

فيه؛ ولأن الصبيان في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يروون بعد ما كَبِرُوا، كابن الزبير، والشهادة في معنى الرواية

(2)

.

(وإن شهد) الشاهد (عنده) أي: الحاكم (ثم حَدَث مانعٌ) من عمىً، أو خرسٍ، أو صمم، أو جنون، أو موت، من قَبول شهادته (لم يمنع الحكم) لأنه معنىً لا يقتضي تُهمة في حال الشهادة، فلم يمنع قَبولها (إلا كفر، أو فسق، أو تُهمة) فيمنع الحكم بشهادته؛ لاحتمال وجود ذلك عند الشهادة، وانتفاء ذلك حال الشهادة شرطٌ لصحة الحكم، فوجب أن يمنعه.

(فأما عداوة ابتدَأَها مشهود عليه، كقَذْفه البينة لمّا شَهِدت عليه، لم تردّ شهادتها بذلك، وكذا مقاولته) أي: المشهود عليه للبينة (وقت غضب، ومحاكمة بدون عداوة ظاهرة سابقة) فإنها لا تمنع الحكم، وإلا

(1)

"أي: بنقضه". ش. والغضاضة: المنقصة. القاموس المحيط ص/ 837، مادة (غضض).

(2)

انظر كلام أهل العلم عن سماع الصغير وسن التحمل: الكفاية ص/ 103 - 106، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص/ 129 - 131، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 4).

ص: 320

لتمكَّن كلُّ مشهود عليه من إبطال الشهادة عليه بابتداء عداوة الشاهد، فوجب ألا تمنع لذلك. قال في "الترغيب": ما لم يَصل إلى حَدّ العداوة أو الفسق، وحدوث مانع في شاهد أصلي كحدوثه في من أقام الشهادة.

(وإن حَدَث مانعٌ بعد الحكم، لم يُستوفَ حَدٌّ، ولو قذفًا) لأن الحدود تُدرأ بالشُّبهات وهذا منها (ولا قَوَدَ) لأنه إتلاف لا يمكن تلافيه (بل) يُستوفى (مال) حُكِم به؛ لنفوذ الحكم ظاهرًا.

(وإن شَهِد) السيد (لمكاتبه، أو) شَهِد الوارث (لمورثه بجرح قبل برئه، فرُدت) الشهادة (ثم أعادها بعد العتق والبرء؛ لم تُقبل) الشهادة؛ لأنها رُدَّت للتُّهمة، أشبهت المردودة لفسق؛ ولأن ردَّها كان باجتهاد، فلا ينقض باجتهاد آخر، وكذا لو ردت شهادته لدفع ضرر، أو جلْب نفع، أو عداوة، ثم زال المانع وأعادها.

ص: 321

(باب ذكر) أقسام (المشهود به، و) ذكر (عدد شهوده)

أي: شهود كلّ قسم منه، لأن عدد الشهود يختلف باختلاف أقسام المشهود به، كما ستراه.

‌وأقسامُ مشهود به سبعة:

أحدها: الزنى واللواط، فـ (ـلا يُقبل في الزنى واللواط أقلُّ من أربعةِ رجالٍ) عدول، يشهدون به؛ لقوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ .... } الآية

(1)

، فجعلهم كاذبين، إن لم يأتوا بالأربعة، فوجب ألا تُقبل الثلاثة. وقال صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية:"أربعَةُ شُهداء، وإلا حَدٌّ في ظهركَ"

(2)

واللواط من الزنى.

(وكذا الإقرارُ به) أي: بالزنى أو اللواط، فلابُدّ فيه من أربعةٍ (يشهدون أنَّه أقرَّ أربعًا) لأنَّه إثباتٌ للزنى، فاعتُبر فيه أربعة، كشهود الفعل.

(فإن كان المُقِرُّ بهما) أي: الزنى واللواط (أعجميًا، قُبل فيه تَرجُمانان) قدَّمه في "الرعاية" وتقدَّم

(3)

في طريق الحكم وصفته: أن الترجمة كالشهادة، فلابُدَّ هنا من أربعة.

(ومن عُزِّرَ بوَطء فَرج، من بهيمةٍ، أو أمَة مشتركة) بين الواطئ

(1)

سورة النور، الآية:13.

(2)

أخرجه البُخَارِيّ في الشهادات، باب 21، حديث 2671، وفي تفسير سورة النور، باب 3، حديث 4747، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

(15/ 51، 157).

ص: 322

وغيره (ونحوها) كأمة لولده كلها، أو بعضها (ثبت) موجب تعزيره (برَجُلين) كظلم النَّاس، فإن كان الوطء مباحًا، كوطء زوجته، أو أَمَته، إذا احتيج إلى إثباته. قال ابن نصر الله: فالظاهر أن حكمه كذلك، وهو أن يثبت برجلين؛ لأنَّه لا يوجب حدًّا، وليس مما يختص به النساء غالبًا حتَّى يكتفى فيه بامرأة، ولم أجد هذه المسألة في كلام الأصحاب.

(و) القسم الثاني: دعوى الفقر، فـ (ـلا يُقبل قول من عُرِف بالغنى: أنَّه فقيرٌ) ليأخذ من نحو زكاة (إلَّا بثلاثة) رجال؛ لحديث مسلم: "حتَّى يشهدَ ثلاثة من ذَوي الحجا من قومِه، لقد أصابَت فُلانًا فاقَةٌ"

(1)

(وتقدم) في باب أهل الزكاة

(2)

.

(و) القسم الثالث: بقية الحدود؛ فـ (ـلا تثبت بقية الحدود) كحد القذف، والشرب، وقطع الطريق (بأقل من رجُلين) لقول الزُّهْرِيّ: مضت السُّنةُ على عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ألا تُقبلَ شهادة النساء في الحدود

(3)

.

(وكذا القَوَد) فيثبت برجلين؛ لأنَّه أحدُ نوعي القِصاص، فَيُقبل فيه اثنان، كقَطْعِ الطريق، بخلاف الزنى.

(ويثبت القَودَ بإقراره مَرَّة) لأن القتل فيه حَقُّ آدمي، أشبه المال،

(1)

مسلم في الزكاة، حديث 1044.

(2)

(5/ 155).

(3)

أخرجه أبو يوسف في الخراج ص/178، وابن أبي شيبة (10/ 58)، من طريق الحجاج، عن الزُّهْرِيّ، وزاد: والخليفتين من بعده.

وأخرجه عبد الرَّزّاق (8/ 329) رقم 15402، من طريق معمر، عن الحسن والزهري قالا: لا تجوز شهادة النساء في حد، ولا طلاق، ولا نكاح، وإن كان معهن رجل.

وأورده ابن حزم في المحلى (9/ 397)، عن الحسن، وصححه.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 207): روي عن مالك، عن عقيل، عن الزُّهْرِيّ، بهذا، وزاد: ولا في النكاح ولا في الطلاق. ولا يصح عن مالك.

ص: 323

وكذا القذف والشرب، بخلاف الزنى، والسرقة، وقطع الطريق، وتقدم.

القسم الرابع: ما أشار إليه بقوله: (ولا يُقبل فيما ليس بعقوبة ولا مال، ويطَّلعُ عليه الرجالُ غالبًا، كنكاحٍ، وطلاق، ورجعة، ونسبٍ، وولاء، وإيصاء) في غير مال (وتوكيل في غير مال، وتعديل شهود وجَرْحهم، أقل من رجلين) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}

(1)

قاله في الرجعة، والباقي قياسًا؛ ولأنَّهُ ليس بمال، ولا يُقصد به المال، أشبه العقوبات.

وذكر القسم الخامس بقوله: (ويُقبل في موضِحَةِ ونحوها) كهاشمةٍ، ومنقِّلةٍ، وداءٍ بعين

(2)

(وداء دابة: طبيبٌ واحد، وبَيْطار واحد مع عدم غيره) لأنه مما يعسر إشهاد اثنين عليه، فكفى الواحد، كالرضاع (فإن لم يتعذر) غير الواحد (فاثنان) لأنَّه الأصل.

(فإن اختلفا) بأن قال أحدهما بوجود الدَّاء، والآخر بعدمه (قُدِّم قول مثبت) لأنَّه يشهد بزيادة لم يدركها النافي.

القسم السادس: ذكره بقوله: (ويُقبل في مال، وما يُقْصَد به المال، كالبيع، وأجله) أي: أَجل الثمن في البيع، أو الثمن

(3)

إذا كان في الذِّمة (وخياره) أي: خيار الشرط في البيع (ورهن، ومَهْر، وتسميته، ورِقِّ مجهولِ النسب، وإجارة، وشركة، وصلح، وهِبة، وإيصاء في مال، وتوكيل فيه، وقَرض، وجناية الخطأ، ووصية لمعين، ووَقْف عليه، وشُفعة، وحوالة، وغصب، وإتلاف مال، وضمانه، وفَسْخ عقد معاوضة، ودعوى قَتْل كافر لأخذ سَلَبه، ودعوى أسير تقدَّم إسلامُه لمنع

(1)

سورة الطلاق، الآية:2.

(2)

في "ذ": "دامغة".

(3)

في "ذ": "المثمن".

ص: 324

رِقّه، وعِتق، وكتابة، وتدبير، ونحو ذلك) مما يُقصد به المال (رَجُلان، أو رَجلٌ وامرأتان) فاعل: "يُقبَل"؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}

(1)

وسياق الآية يدلُّ على اختصاص ذلك بالأموال، والإجماع

(2)

منعقدٌ على ذلك.

(أو رجلٌ ويمين المُدَّعِي) لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى باليَمينِ مع الشاهدِ" رواه أَحْمد والتِّرمذيّ وابن ماجه

(3)

، ولأحمد من حديث عمارة بن حزم

(4)

، وحديث سعد بن عبادة

(5)

، مثله. وعن جعفر بن محمَّد عن أَبيه عن علي: أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهدٍ ويمين صاحب الحق. وقَضَى به عليٌّ بالعراق؛ رواه أَحْمد والدارقطني، وذكره التِّرْمِذِيّ

(6)

، وروي هذا الحديث عن ثمانية من الصَّحَابَة:

(1)

سورة البقرة، الآية:282.

(2)

الإجماع لابن المنذر ص/ 76، ومراتب الإجماع ص/ 91.

(3)

أحمد (1/ 323)، والتِّرمذيّ في العلل ص / 204، حديث 361، وابن ماجه في الأحكام، باب 31، حديث 2370، وأخرجه مسلم في الأقضية، حديث 1712، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.

(4)

أَحْمد (طبعة الرسالة 39/ 473، حديث 24009/ 37)، وابن قانع في معجم الصَّحَابَة (2/ 249). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 202): رواه أَحْمد وِجادة، وكذلك الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات.

(5)

أَحْمد (5/ 285). وأخرجه -أَيضًا- التِّرْمِذِيّ في الأحكام، باب 13، حديث 1343، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 179)، وابن قانع (1/ 248)، والطبراني في الكبير (6/ 16 - 17) حديث 5361 - 5362، والدارقطني (4/ 214)، والبيهقي (10/ 171)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 289) حديث 19980. وانظر: إرشاد الفقيه لابن كثير (2/ 421).

(6)

لم نقف عليه في مسند أَحْمد، وأخرجه الدارقطني (4/ 212). وأخرجه -أَيضًا- ابن عدي (2/ 557)، والصيداوى في معجمه ص / 226 والبيهقى (10/ 170). =

ص: 325

علي

(1)

، وابن عباس

(2)

، وأبي هريرة

(3)

، وجابرٍ

(4)

، وعبد الله بن

= وأخرجه التِّرْمِذِيّ في الأحكام، باب 13، حديث 1345، ومالك في الموطأ (2/ 721)، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 179)، وابن أبي شيبة (14/ 225)، و العقيلي (4/ 216)، والطحاوي (4/ 145)، وابن عدي (2/ 557)، والصيداوي فى معجمه ص/ 180، والبيهقي (10/ 170)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 292) حديث 19994، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 392) حديث 2057، من طرق، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا. وقال التِّرْمِذِيّ: هذا أصحّ. وقال الدارقطني في العلل (3/ 98): كان جعفر بن محمَّد ربما أرسل هذا الحديث، وربما وصله عن جابر؛ لأن جماعة من الثقات حفظوه: عن أبيه، عن جابر، والحكم يوجب ان يكون القول قولهم؛ لأنهم زادوا، وهم ثقات، وزيادة الثقة مقبولة.

(1)

تقدم تخريجه آنفًا.

(2)

تقدم تخريجه آنفًا.

(3)

أخرجه أبو داود في الأقضية، باب 21، حديث 3610، والتِّرمذيّ في الأحكام، باب 13، حديث 1343، وابن ماجه في الأحكام، باب 31، حديث 2368، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 179)، وابن الجارود (3/ 261) حديث 1007، وأبو يعلى (12/ 36) حديث 6683، والطحاوي (4/ 144)، وابن حبان "الإحسان"(11/ 462) حديث 5073، وابن عدي (6/ 2198)، والإسماعيلي في معجم الشيوخ (2/ 533)، والدارقطني (4/ 213)، والسهمي في تاريخ جرجان ص / 543، وأبو نعيم في الحلية (9/ 303)، والبيهقي (10/ 169)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 290) حديث 19983، والبغوي في شرح السنة (10/ 103) حديث 2503، والذهبى في سير أعلام النبلاء (5/ 461، 12/ 591).

قال التِّرْمِذِيّ: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب. وقال أَحْمد بن حنبل: ليس في الباب شيء أصح من هذا الحديث؛ أسنده عنه البيهقي. وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 206): أصح طرقه حديث ابن عباس، ثم حديث أبى هريرة.

(4)

أخرجه التِّرْمِذِيّ في الأحكام، باب 13، حديث 1344، وابن ماجه في الأحكام، باب 31، حديث 2369، وأَحمد (3/ 305)، وابن الجارود (3/ 261) حديث 1008، والطحاوي (4/ 144 - 145)، والعقيلي (3/ 76)، والطبراني في الأوسط (8/ 171) حديث 7345، وابن عدي (3/ 1298، 5/ 1822)، وأبو الشيخ في =

ص: 326

عُمَر

(1)

، وأبيٍّ

(2)

، وزيد بن ثابت

(3)

، وسعدِ بن عبادة

(4)

، وعن عُمارة بن حزم (4) أَيضًا، كما سبق

(5)

.

ولأن المُدعِي هنا قوِي جانبُه بالشاهد، وظَهَر صدقه، أشبه صاحب اليد والمُنكر؛ لقوة جانبه.

(ويجب تقديم الشهادة

(6)

على اليمين) لأن اليمين إنما شُرعت في حَقه؛ لقوَّة جانبه، ولا يقوى جانبه إلَّا بشهادة الشاهد (ولا يُشترط في يمينه) أي: المُدعي (أن يقول: وإن شاهِدِي صادقٌ في شهادته) لأنَّه لا

= طبقات المحدثين بأصبهان (4/ 54، 112)، والدارقطني (4/ 112)، والبيهقي (10/ 170)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 392) حديث 2056. انظر كلام الإِمام الدارقطني عليه في التعليق السابق ص 325، تعليق رقم (6).

(1)

لم نقف على من رواه عنه مسندًا، وانظر: البدر المنير (9/ 669 - 670).

(2)

لم نقف على من رواه عنه مسندًا، وانظر: البدر المنير (9/ 669 - 670).

(3)

أخرجه ابن أبى حاتم في العلل (2/ 355) حديث 1425، والطبراني في الكبير (5/ 150) حديث 4909، وابن عدي (3/ 1076)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 326، 327) والبيهقى (10/ 172)، من طريق عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمَّد العنبري، عن سهيل بن أبي صالح، عن أَبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: إنما هو: سهيل، عن أَبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن الحكم ليس بالمتقن.

وقال ابن عدي: لم يقل: عن سهيل، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، غير زهير، وروى هذا الحديث ربيعة الرأي، ومحمَّد بن عبد الرحمن بن رداد وغيرهما، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهو أصوب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 202): فيه عثمان بن الحكم الجذامي، قال أبو حاتم: ليس بالمتقن، وبقية رجاله ثقات.

(4)

تقدم تخريجه آنفًا.

(5)

قال الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 206): ذكر ابن الجوزي في التحقيق [2/ 392] عدد من رواه فزادوا على عشرين صحابيًا.

(6)

في "ذ": "الشاهد".

ص: 327

يُعتبر يمين المشهود له في ثبوت شهادة الشاهد، ولذلك لو طلب المشهودُ عليه ذلك لم يلزمه أن يجيبه، وقد ثبتت شهادة الشاهد، فلم يجب حلف المشهود له على صِحَّتها، كما لو كان مع الشاهد غيره.

(وكلُّ موضع قُبل فيه شاهد ويمين، فلا فرقَ بين كون المُدَّعي مسلمًا أو كافرًا، عدلًا أو فاسقًا، رجلًا أو امرأة) لأن مَن شُرِعت اليمين في حَقه لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف، كالمُنكِر.

(ولا تُقبل شهادةُ امرأتين ويمين المدَّعي) لأن شهادة المرأة ناقصة، وإنما انجبرت بانضمام الرَّجل إليهما.

(ولا) شهادةُ (أربعِ نسوةٍ، فأكثرَ مقامَ رَجُلين) إجماعًا؛ قاله في "المبدع" (قال القاضي: يجوز أن يَحلِفَ على ما لا تجوزُ الشهادة عليه، مثل أن يجد بخطه دينًا له على إنسان، وهو يعرِف أنَّه لا يكتب إلَّا حقًّا، ولم يذكُرهُ، أو يجد في رُوزمانج

(1)

أَبيه بخطه دينًا له على إنسان، ويعرف من أبيه الأمانة، وأنه لا يكتب إلَّا حقًا، فله أن يَحلِفَ عليه) مع شاهد أقامه به.

(ولا يجوز أن يشهد به) أي: بما وَجَدَه بخطِّهِ من شهادته، أو شهادة أَبيه، وتقدَّم

(2)

(ولو أخبره بحَقّ أَبيه ثقة) أي: عدل ضابط (فَسَكَن إليه، جاز أن يحلف عليه) إذا أقام به شاهدًا (ولم يجز أن يشهَدَ به).

و‌

‌الفرق بين اليمين والشهادة من وجهين:

أحدهما: أنَّ الشهادة حقٌّ لغيره، فيحتمل أن من له الشهادة قد زوَّر على خطه.

(1)

روزمانج: معرَّب روزنامه وهو الدفتر اليومي للتجار، ومذكرة الوقائع. المعجم الفارسى ص/ 203.

(2)

(15/ 165).

ص: 328

الثاني: أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر، فينسى بعضه، بخلاف الشهادة.

(والأولى الورع عن) الحلف على (ذلك) احتياطًا.

(ولو نَكَلَ عن اليمين من أقام شاهدًا، حلف المُدَّعَى عليه) لأنَّه مُنكِر (وسَقَطَ الحق) هكذا في "المبدع" و"المنتهى" وغيرهما، ولعل المراد: انقطعت الخصومة فقط، كما يُعلم مما يأتي.

(فإن نكَلَ) المُدَّعَى عليه عن اليمين (حُكم عليه) بالنكول، ولا تُرد اليمين على المُدعِي؛ لأنها كانتَ في جنبته، وقد أسقطها بنكوله عنها، وصارت في جنبة غيره، فلم تَعُدْ إليه، كالمُدَّعى عليه إذا نَكل عنها.

(ولو كان لجماعةٍ حَقٌّ بشاهدٍ، فأقاموه) بعد دعواهم (فمَن حَلَفَ منهم أخذ نصيبه) من الحقِّ؛ لكمال النصاب من جهته (ولا يُشارِكه) فيما أخذه (مَن لم يحلف) لأنه لا حَق له فيه؛ لأنَّه لم يجب له شيء قبل حلفه.

(ولا يحلف ورثة

(1)

ناكل، إلَّا أن يموت قبل نُكُوله) فيحلف وارثه، ويأخذ ما شهِد به الشاهد.

(ويُقبَل في جناية عَمْدٍ موجَبُها المالُ، دون قصاص في بعضِها قوَد، كمأمومة، وهاشمة، ومنقِّلة، له قَوَد موضِحة في ذلك) لو ثبت بشاهدين (و) يُقبل أَيضًا (في عَمدٍ لا قِصاص فيه بحال) كالجائفة، رجُلان، ورجُلٌ وامرأتان، و (شاهد ويمين) لأنَّه يوجب المال، أشبه البيع، وكذا جناية أبٍ على ولده، وقتل مسلم لكافر، وحر لعبد (فيثبت المال) بشهادة الرجُل والمرأتين، أو الرَّجل واليمين دون قوَد الموضِحة، فلابُدَّ فيه من رَجُلين؛ لما تقدم.

(1)

في "ذ": "وارث".

ص: 329

(وإن ادَّعى أن زيدًا ضَرَبَ أخاه بسهمِ عَمدًا، فقتله، ونَفَذَ) السهم (إلى أخيه الآخر، فقتله خطأ، وأقام بذلك شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه، ثبت قتل الثاني فقط) لأنَّه موجب للمال، بخلاف الأول، فإن قتْلَه موجب للقود، ولا يثبت إلَّا برجلين كما تقدم.

القسم السابع: هو المشار إليه بقوله: (ويُقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة، والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال، ونحوه) قال في "شرح المنتهى": فيدخل في ذلك البَرَصُ في الجسد تحت الثياب، والقَرَن والرًتَق والعَفَل (شهادةُ امرأةٍ واحدةٍ عَدلٍ.

وكذا جراحة وغيرها في حمَّام، وعرس، ونحوهما مما لا يحضره رجال) لما روى حذيفة "أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أجازَ شَهادة القابِلَةِ وحدَها"

(1)

؛

(1)

أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 354) حديث 600، والدارقطني (4/ 232)، والبيهقي (10/ 151)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 389)، من طريق محمَّد بن عبد الملك، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، به.

قال الدارقطني والبيهقي: محمَّد بن عبد الملك لم يسمع من الأَعمش، بينهما رجل مجهول.

وأخرجه الدارقطني (4/ 233)، والبيهقي (10/ 151)، والخطيب في تاريخه (14/ 402)، من طريق محمَّد بن عبد الملك، عن أبي عبد الرَّحْمَن، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، به.

قال الدارقطني: أبو عبد الرحمن رجل مجهول. وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار (14/ 260): هذا لا يصح. وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (3/ 546): حديث باطل لا أصل له.

وفي الباب عن علي رضي الله عنه، موقوفًا: أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 187)، والدارقطني (4/ 233)، والبيهقي (10/ 151)، من طريق جابر، عن عبد الله بن نجي، عن علي رضى الله عنه. قال الشافعي في الأم (1/ 250): لو ثبت عن علي =

ص: 330

ذكره الفقهاء في كتبهم، وروى أبو الخَطَّاب عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُجزِئ في الرَّضَاع شَهادةُ امرأةٍ واحِدةٍ"

(1)

؛ ولأن ذلك معنًى ثبت بقول النساء منفردات، فلا يشترط فيه العدد، كالرواية وأخبار الديانات.

(والأحوط اثنتان) خروجًا من الخلاف.

(وإن شَهِدَ به رجلٌ كان أولى؛ لكماله) أي: لأنَّه أكمل مِن المرأة، وكالرواية.

(وإن شَهِد رجلٌ وامرأتان، أو) شَهِد (رجلٌ مع يمين فيما يوجِب

(2)

القَوَدَ) من قتلٍ، أو قطع طرف (لم يثبت به قوَد ولا مال) لأن العمد يوجب القِصاص، والمال بَدَلٌ منه، فإن لم يثبت الأصل، لم يثبت بدله، وإن قلنا: موجبه أحد الشيئين، فأحدهما لا يتعين إلَّا بالاختيار، فلو أوجبنا بذلك الدية، أوجبنا معيّنًا بدون الاختيار.

(وإن أتى بذلك) أي: برجُلٍ وامرأتين، أو رَجُل مع يمين (في) دعوى (سَرَقة؛ ثَبَت المال) المسروق؛ لكمال بينته (دون القطع) لأن السرقة توجب المال والقطع، فإذا قصرت البينة عن أحدهما ثبت الآخر.

(وإن أتى بذلك) أي: برجُلٍ وامرأتين، أو رجُلٍ ويمينٍ (رَجُلٌ في) دعوى (خُلْع؛ ثبت له العِوض) لأنَّه يدعى المال الذي خالع به، وهو يثبت بذلك (وتثبت البينونة بمجرَّد دعواه) لأنَّه أقرَّ على نفسه، فيؤاخذ بإقراره.

= رضى الله عنه صرنا إليه، إن شاء الله، ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه. وقال البيهقي: هذا لا يصح، جابر الجعفي متروك، وعبد الله بن نجي فيه نظر. وقال إسحاق [ابن راهويه] الحنظلي: لو صحت شهادة القابلة عن علي لقلنا به، ولكن في إسناده خلل.

(1)

تقدم تخريجه (13/ 104) تعليق رقم (2).

(2)

فى "ذ": "يثبت".

ص: 331

(وإن ادَّعت امرأة) على زوجها (الخُلْع، لم يُقبل فيه إلَّا رجُلان) لأنها لا تقصد بذلك إلَّا الفَسْخ، ولا يثبت إلَّا بعَدْلين، فإن اختلفا فِي عِوض الخُلع، ثبت برجُلين، ورجل وامرأتين، أو ويمينٍ.

(ولو أتت) من ادَّعت أنَّه تزوَّجها على كذا (برجُلٍ وامرأتين) أو رجُل وحَلَفَت معه

(1)

(أنَّه تزوَّجها بمهرٍ، ثبت المهرُ) دون النكاح (لأن النكاحَ حَقٌّ له) أي: للرجل، فلا تصِحُّ إقامةُ البينة به من قِبَلِ المرأة، ولا الدعوى به منها إلَّا لإثبات المهر.

(ولو ادَّعى شخصٌ على رجُلٍ أنَّه سَرَق منه) مالًا (أو غصبه مالًا، فحلف) المُدَّعَى عليه (بالطلاق والعَتَاق ما سرق منه ولا غصبه، وأقام المُدَّعي شاهدًا وامرأتين شَهِدا بالسرقة والغصب، أو) أقام بذلك (شاهدًا وحَلَف معه، استحقَّ) المُدَّعِي (المسروق والمغصوب) لكمال بينته (ولم يثبت طلاق ولا عتق) لأنه لم تكمل البينة له، لكن العتق يثبت بالشاهد والمرأتين، أو واليمين، فيثبت العتق أَيضًا، بخلاف الطلاق، ولذلك اقتصر فِي "المنتهى" على الطلاق.

(وإن ادَّعَى رجُلٌ على آخرَ أَمَةً بيده -لها ولدٌ- أنها أمُّ ولدِه، وأن ولدَها ولدُه، وشَهِد بذلك رجُل وامرأتان) أو رجل وحلف معه (حُكِم له بالأمة، وأنَّها أمُّ ولدٍ له) لأنه يدَّعي ملكها، وقد أقام بينةً كافيةً فيه، وثَبَتَ لها حكم الاستيلاد بإقراره؛ لأن إقرارَه نافذٌ فِي ملكه، والملك يثبت بشهادة الرَّجل والمرأتين أو واليمين. قال في "المبدع": وظاهرُ كلام المؤلِّف أنَّه حصل بقول البينة؛ وليس هو بمراد، بل مراده الحكم بأنها أم ولده، مع قطع النظر عن علة ذلك. وعلته: أن المُدَّعي مقرٌّ بأن وطأها كان

(1)

فِي "ذ": "معه يمينًا".

ص: 332

فِي ملكه (ولا يُحكمُ له بالولد ولا بحريته) لأن البينة لا تصلح لإثبات ذلك (ويقَرّ) الولدُ (فِي يد المُنْكِر مملوكًا له) لعدم ما يرفع يده.

(وإن ادَّعى أنها كانت ملكه فأعتقها، وشَهِد بذلك رَجُل وامرأتان) أو رَجُلٌ وحَلَف (لم يثبت ملك ولا عتق) قدَّمه فِي "الكافي" و"الشرح" و"الرعاية"؛ لأن البينةَ شَهِدت بملك قديم، فلم يثبت، والحرية لا تثبت برجُلٍ وامرأتين، وقيل: تثبت كالتي قبلها.

(ولو وُجِدَ على دابة مكتوبٌ: حَبيسٌ فِي سبيل الله، أو) وُجِد (على أسكفَّة دار أو) على (حائطها: وقفٌ، أو مسجدٌ، أو مدرسةٌ؛ حُكِم به) أي: بما هو مكتوبٌ على هذه الأشياء المذكورة؛ لأن الكتابة عليها أَمارة قوية، فَعُمل بها، لاسيما عند عدم المعارضة، وأما إذا عارض ذلك بينةٌ لا تُتَّهم، ولا تستند إِلَى مجرَّد اليد، بل تذكر سبب الملك واستمراره؛ فإنَّها تُقَدَّم على هذه الأمارات، وأما إن عارضها مُجَرَّد اليد لم يُلتفت إليها، فإن هذه الأماراتِ بمنزلةِ البينة والشاهد، واليدُ تُرفع لذلك.

قال ابنُ القيم فِي "الطرق الحكمية"

(1)

فِي آخر الطريق الثالث والعشرين: (ولو وجد على كتب علم فِي خِزانة) بكسر الخاء (مدة طويلة فكذلك) أي: حكم بوقفها، عملًا بتلك القرينة (وإلا) أي: وإن لم نعلم

(2)

مقر الكتب، ولا عرف مَن كتب عليها الوقفية (تُوقِّفَ فيها، وعُمِل بالقرائن) فإن قويت حُكِم بموجبها، وإن ضَعُفت لم يُلتفت إليها، وإن توسَّطت طلب الاستظهار، وسلك طريق الاحتياط؛ ذكره ملخصًا فِي "الطرق الحكمية".

(1)

ص/309.

(2)

فِي "ذ": "يعلم".

ص: 333

(باب الشهادة على الشهادة، والرجوع عن الشهادة)

سواء كانت أصالة، أو على شهادة، ولذلك لم يضمر

(و) باب (أدائها)

أي: كيفية أداء الشهادة مطلقًا. قال جعفرُ بنُ محمَّد: سمعت أحمدَ سئل عن الشهادة على الشهادة، فقال: هي جائزة

(1)

. وكان قومٌ يسمُّونها التأويل.

وقال أبو عبيد

(2)

: أجمعت

(3)

العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة فِي الأموال، والمعنى شاهدٌ بذلك؛ لأن الحاجةَ داعية إليها؛ لأنها لو لم تُقبل لَبَطَلَتِ

(4)

الشهادة علي الوقوف، وما يتأخر إثباته عند الحاكم لو ماتت شهوده، وفي ذلك ضررٌ على النَّاس، ومشقة شديدة، فوجب قَبولها كشهادة الأصل.

(لا تُقبلُ الشهادة على الشهادة إلَّا في حقِّ يُقبل فيه كتاب القاضي إِلَى القاضي) وهو حقوق الآدميين، من مال، وقِصاص، وحَدِّ قَذْفٍ.

(وتُرَدُّ) الشهادة على الشهادة (فيما يُرَدُّ فيه) كتاب القاضي إِلَى القاضي من حدودِ الله تعالى؛ لأنَّها فِي معناه؛ لاشتراكهما فِي كونهما فرعًا لأصلٍ؛ ولأن الحدود مبنية على الستر والدَّرءْ بالشُّبهات، والشهادة على الشهادة فيها شُبهة، فإنَّه يتطرَّق إليها احتمالُ الغَلَط والسهو والكذب

(1)

الجامع الصغير لأبي يعلى ص/ 374، وكتاب الروايتين والوجهين (3/ 102)، والمبدع (10/ 264).

(2)

انظر: المغني (14/ 199).

(3)

الإجماع ص/ 78، رقم 273.

(4)

فِي "ذ": "لتعطلت".

ص: 334

فِي شهود الفرع، مع احتمال ذلك فِي شهود الأصل، وهذا احتمالٌ زائدٌ لا يوجد فِي شهود الأصل؛ ولأنها إنما تُقبل للحاجة، ولا حاجةَ إليها فِي الحَدِّ؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه.

(ولا يحكم بها) أي: بالشهادة على الشهادة إلَّا بشروط:

أحدها ما ذكره بقوله: (إلا أن تتعذَّر شهادة شهودِ الأصل، بموتٍ، أو مَرَضٍ، أو غَيبة إِلَى مسافة قَصْر، أو خوفٍ من سلطان، أو غيره، أو حَبْسٍ. قال ابنُ عبد القوي: وفي معناه: الجهلُ بمكانهم، ولو فِي المصر) لأن شهادة الأصل أقوى؛ لأنها تُثبِتُ نفسَ الحَقِّ، وهذه لا تُثبته؛ ولأنه إذا أمكن أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع، وكان أحوطَ للشهادة؛ فإن سماعه من شهودِ الأصلِ معلومٌ، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون، والعملُ باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظَّنِّ.

(والمرأة المُخَدَّرَة) أي: الملازمة للخِدْر، وهو الستر -ويقال: امرأة خَفَرِة بفتح الخاء، وكسر الفاء، أي: شديدة الحياء، وهي ضدُّ البَرْزَةِ- (كالمريض) لأنها فِي معناه.

(و) الشرط الثاني: استرعاء الأصل الفرع على ما يذكره، فـ (ـــلا يجوز لشاهد الفَرْع أن يشهدَ إلَّا أن يستَرْعِيَه شاهدُ الأصل، أو يَسْتَرْعِيَ) الأصل (غيرَه) أي: غير الشاهد الفرع (وهو يَسْمعُ) وأصل الاسترعاءِ من قول المحَدِّث لمن يُحدثه: أرْعِني سمعَك، يريد: اسْمَعْ مني (فيقول) الأصل لغيره: (اشْهَدْ أنِّي أشْهَدُ على فلان بكذا، أو اشْهَدْ على شهادتي بكذا) قال أحمد: لا تكونُ شهادة إلا أن يُشهدَك

(1)

؛ لأن الشهادة على

(1)

انظر: المغني (14/ 203)، والنكت والفوائد السنية عل مشكل المحرر، للشيخ مجد =

ص: 335

الشَّهادة فيها معنى النيابة، والنيابةُ بغير إذنٍ لا تجوز.

(أو يَسمعه يشهدُ عند الحاكم) لأن شهادته عند الحاكم تُزِيل الاحتمال، أشبه ما لو استرعاه.

(أو) يسمعه (يشهد بحقٍّ يَعْزِيه إِلَى سببٍ، من بيع، أو قرض، أو إجارة ونحوه، فله أن يشهد) على شهادته؛ لأنه بنسبته الحقَّ إِلَى سببه يزولُ الاحتمال، أشبه ما لو استرعاه.

(و)

‌ الشرط الثالث: أن (يؤدِّيها الفَرْع بصفةِ تَحَمُّلِهِ) لها

(فيقول: أشْهَدُ أن فلان بن فلان -وقد عرفتُه بعينهِ، واسْمِه، ونسبِه، وعدالته- وإن لم يعرِفْ عدالَتَه لم يذكُرْها -أشهَدَني أنَّه يشهدُ أن لفلَان بن فلانٍ على فلان بن فلان كذا، أو) يقول: (أشْهَدَني أنَّه يشهَدُ أن فلانًا أقرَّ عندي بكذا.

وإن سَمِعه) شاهد الفرع (يُشهِدُ غيره، قال: أشهَدُ أنَّ فلان بن فلان أشهد على شهادته أنَّ لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا.

وإن كان سَمِعه يشهد عند الحاكم، قال: أشهد أنَّ فلان بن فلان شَهِد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا.

وإن كان) شاهد الأصل (نسب الحقَّ إِلَى سببه) من قرض، أو ثمن مبيع ونحوه، فسمعه شاهد الفرع (قال: أشهد أن فلان بن فلان، قال: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان) بن فلان (كذا من جهة كذا).

فإن لم يؤدها الفرعُ على صفةِ تحمُّله؛ لم يحكم بها؛ للاختلافِ فِي كيفية الاسترعاء، فقد يرى الشاهدُ فِي الاسترعاء ما لا يراه الحاكمُ، فلا يسوغُ له الحكم.

= الدين ابن تيمية (2/ 337)، ومسائل الكوسج (8/ 4127 - 4128) رقم 2944.

ص: 336

(وإن أراد الحاكم أن يكتب) أداء الفرع لشهادته (كَتَبه على ما ذكرنا فِي الأداء) أي: على صفة الأداء؛ ليكون ما يكتبه مطابقًا للواقع.

(وما عدا هذه المواضعَ) المذكورة فِي الاسترعاء (لا يجوز) للفرع (أن يشهد فيها على الشهادة، فإذا سَمِعه يقول) عند غير الحاكم: (أشهدُ أنَّ لفلان على فلان ألفَ دِرْهم؛ لم يَجُزْ) لمن سمعه (أن يشْهَدَ على شهادته؛ لأنه) أي: الأصل (لم يستَرْعِهِ) أي: الفرع (الشهادةَ، ولم يَعْزُها) الأصلُ (إِلَى سببٍ) من بيعٍ ونحوه؛ لأنه يحتمل أن ذلك وعْدٌ، ويحتمل أن يُريد بالشهادة العِلمَ، فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال؛ بخلاف ما إذا استرعاه؛ فإنَّه لا يسترعيه إلَّا على واجب، وبخلاف الإقرار؛ فإنَّه يجوز للشاهد أن يشهد على إقراره؛ وإنْ لم يسترعه؛ لأن الإقرارَ قولُ الإنسان على نفسه، وهو غير مُتَّهم عليها.

(ولو قال شاهدُ الأصلِ: أنا أشهدُ أنَّ لفلانٍ على فلانٍ ألفًا، فاشْهَدْ به أنتَ عليه؛ لم يَجُزْ) للفرع (أن يشهَدَ على شهادته) لعدم الاسترعاء وإعزائها إِلَى سبب.

(و‌

‌لا تثبت شهادةُ شاهدي الأصلِ إلَّا بشهادةِ شاهدين)

فأكثر (يشهدان عليهما، سواءٌ شَهِدا علَى كلِّ واحدٍ منهما) أي: من الأصلين (أو شَهِد على كل شاهدِ) أصلٍ (شاهدُ) فرعٍ، كما لو شهدا بنفس الحق؛ ولأن شهود الفرع بدلٌ من شهود الأصل، فاكتفى بمثل عددهم.

(و‌

‌للنساء مَدخلٌ فِي شهادة الأصل والفرع

فِي كلِّ حَقٍّ يثبت بشهادتهنَّ) لأن المقصودَ من شهادتهنَّ إثبات الحقِّ الذِي يشهد به شهودُ الأصل، فيدخل النساء فيه، كما لو شهدن بأصل الحق (فيشهد رجلان على رجل وامرأتين، أو) يشهد (رجُلٌ وامرأتان على رجُلٍ وامرأتين، أو

ص: 337

على رَجُلين) فِي المال وما يقصد به المال؛ لأنَّ لهنَّ مَدْخلًا فيه (فتصحُّ شهادة امرأة على امرأة) كالرجل على الرَّجل (وسأله) أي: الإمام (حربٌ عن شهادةِ امرأتين على شهادة امرأتين، فقال: يجوز

(1)

) لهن فيما للنساء مدخلٌ فيه.

(وإن شَهِد بالحقِّ شاهدُ) الـ (ـــأصل، وشاهدا فرعٍ، يشهدان) على أصلٍ آخر؛ جاز (أو) شَهِد بالحقِّ شاهدُ الأصل، وفرعٌ (واحدٌ على شهادة أصلٍ آخر؛ جاز) أي: قُبلت الشهادة، وحُكم بها؛ لأن شاهد الفرع بدلٌ عن شاهد الأصل، فيقومِ مقامَه.

(وإن شَهِد شاهدُ فَرْعٍ على أصلٍ، وتعذَّر) الأصلُ (الآخر) أو فَرْعه (حلف) المُدَّعي (واستحقَّ) فيما يقضى فيه بالشاهد واليمين؛ لقيام الفرعِ مقامَ الأصل.

(وتصحُّ شهادةُ فَرْعٍ على فَرْعٍ بشرطه) من التعذُّر والاسترعاء وغيرهما؛ لأن الحاجة تدعو إِلَى ذلك.

(و)

‌ الشرط الرابع: دوام تعذُّر شهود الأصل إِلَى صدور الحكم.

فـ (ـــإذا شَهِدَ الفروعُ، فلم يحكم الحاكمُ حتَّى حضر الأصولُ) من السفر (أو) حتَّى (صَحُّوا) من المرض (أو) حتى (زال خوفُهم) من سلطان ونحوه (وَقَف حكمُه على سماعِهِ شهادَتَهم منهم) لأنه قدر عَلى الأصل قبل العمل بالبدل، كالمتيمم يقدر على الماء. وإن كان ذلك بعد الحكم؛ لم يؤثّر فيه.

(وإن حَدَث فيهم) أي: الأصول (ما يمنعُ قَبول الشهادةِ) نحو رِدَّة أو فِسْق (لم يجز الحكم) بشهادة الفرع؛ لأن الحكم ينبني على شهادة

(1)

الجامع الصغير ص/ 375.

ص: 338

الأصل، أشبه ما لو فسق شهود الفرع.

(و) الشرط الخامس: عدالةُ الأصول والفروع، فـ (ـــــلا يجوز أن يحكمَ بالفروع حتَّى تثبت عدالتُهم، وعدالةُ أصولِهم) لأنهما شهادتان، فلا يحكم بهما بدون عدالة الشهود، والحكم ينبني على كلٍّ من الشهادتين، فاعتبرت الشروط في كل منهما.

(ولا يجب على فرعٍ تعديلُ أصلِهِ) لأنه يجوز ألا يعرفه (ويتولى الحاكمُ ذلك) أي: البحث عن عدالة الأصول، كما لو شهدوا عنده ابتداء.

(وإن عدَّله) أي: الأصل (الفرع، قُبِل) اكتفاء، بما ثبت عند الحاكم من عدالة الفرع.

(ولا تصح تزكيةُ أصلٍ لرفيقه

(1)

) ولا أن يكون فرعًا عنه؛ لأنه يُفضي إِلَى انحصار الشهادة فِي أحدهما (وتقدم

(2)

).

ويشترط -أَيضًا- تعيين أصلٍ لفرع، قال القاضي: حتَّى لو قال تابعيان: أشهدنا صحابيان؛ لم يجز، حتَّى يعيناهما. ودوام عدالة الجميع إِلَى صدور الحكم.

(وإذا حُكم بشهادة شهود الفَرْعِ، ثم رجعوا) عن شهادتهم (لزمهم الضمان) لأن الإتلاف حصل بشهادتهم، كما لو أتلفوا بأيديهم (ما لم يقولوا: بان) أي: ظهر (لنا كَذِب الأصول، أو غَلَطهم) لأن هذا القولَ منهم ليس برجوع عن الشهادة؛ لأنه لا يُنافي شهادة الأصول.

(وإن رجع شهودُ الأصلِ قبلَ الحُكمِ؛ لم يحكم بها) لتأكُّد

(1)

فِي متن الإقناع (4/ 527): "لرفيقه".

(2)

(15/ 313 - 314).

ص: 339

الشهادة، بخلاف الرواية.

(وإن رجعوا) أي: شهود الأصل (بعدَه) أي: بعد الحكم (فقالوا: كَذَبْنا، أو غلطنا؛ ضمنوا) لاعترافهم بتعمُّد الإتلاف بقولهم: كذَبْنَا، أو بخطئهم بقولهم: غلطنا (ولو قالوا) أي: الأصول (بعد الحكم: ما أشهدناهم بشيء؛ لم يضمن الفريقان شيئًا) مما فات بالحكم؛ لأن شاهديِ الفرع لم يثبت كذبهما، وشاهديِ الأصل لم يثبت رجوعهما؛ لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، فإنكارُ الأصلِ الشهادةَ لا يكون رجوعًا عنها.

(ومن زاد في شهادته، أو نقص، بحضرة الحاكم قَبْلَ الحكمِ، مثل أن يشهد بمائة، ثم يقول: بل هي مائة وخمسون، أو) يقول: (بل هي تسعون) قُبِل، ويحكم بما شهد به أخيرًا؛ لأن شهادته الأخيرة شهادة من عدل غير مُتَّهم، لم يرجع عنها، فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها، ولا تعارضها الشهادة الأولى؛ لأنها قد بطلت برجوعِه عنها.

(أو أدَّى) الشهادةَ (بعد إنكارها) أي: الشَّهادة بأن قال: ليس لي عليه شهادةٌ، ثم أدَّاها، وقال: كنتُ أُنسيتها (قُبِل) نصَّ عليه

(1)

؛ لقوله تعالى فِي حَقِّ المرأتين: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}

(2)

، فقَبِلها بعد إثبات الضلال والنسيان فِي حقِّها، فوجب أن يقبل قول العدل فيما نسيه، ثم ذكره بعد ذلك (كقوله: لا أعرف الشهادةَ، ثم يشهد) فَتُقبل؛ لأن شهادتَه إذا قُبلت بعد إنكارها فهنا أولى (وإن كان)

(1)

انظر: المغني (14/ 268)، وشرح الزركشي (7/ 391)، ومعونة أولى النهي (12/ 98).

(2)

سورة البقرة، الآية:282.

ص: 340

زادَ فِي شهادته أو نَقَصَ (بعد الحكم، لم يُقبل) منه؛ لأن الحكم قد تَمَّ، فلا ينقض بعد تمامه.

(وإن رجع) عن شهادته (قبله) أي: الحكم (لَغَت) شهادته؛ لأن الرجوع أوجب ظنًّا فِي شهادته ببطلانها، فلا يجوز العملُ بها (ولا حكم) بشهادته بعد رجوعه عنها، ولو أدَّاها بعد ذلك؛ قاله فِي "شرح المنتهى"(ولم يضمن) شيئًا؛ لأن الحكم لم يتمَّ.

(وإن لم يُصرِّح) الشاهدُ (بالرجوع) عن شهادته (بل قال للحاكم: توقفْ. فتوقف، ثم عاد إليها

(1)

، قُبلت) شهادته (ويُعتد بها) أي: فيجوز الحكم بها؛ لأن قوله توقف ليس برجوعٍ

(2)

.

فصل

(وإذا رجع شهودُ المالِ) بعد الحكم (أو) رجع شهودُ (العتقِ بعد الحكم قبل الاستيفاء أو بعدَه؛ لم يُنقض) الحكم؛ لأنه قد تَمَّ، ووجب المشهودُ به للمشهودِ له، ورجوع الشاهد عن شهادته المحكوم بها لا يوجب نقضه؛ لأنهما إنْ قالا: عمدنا؛ فقد شَهِدا على أنفسهما بالفسق، فهما مُتَّهمان بإرادة نَقْضِ الحكم، فلا ينقض، كما لو شَهِد فاسقان بما يوجب نقضه، وإن قالا: أخطأنا؛ لم يجب النقضُ أَيضًا؛ لجواز أن يكونا أخطأ فِي قولهما الثاني بأن اشتبه عليهما الحال.

(ويلزمهم) أي: الشهود (الضمانُ) أي: بدل المال الذي شهدوا به، وقيمة العبد المشهود بعتقه، قُبض أو لم يُقبض، تَلِف أو لا؛ لأنهما

(1)

فِي "ذ": "ثم أعاد الشهادة".

(2)

في "ذ": "رجوعًا".

ص: 341

أخرجاه من يد مالكه بغير حقِّ، وحالا بينه وبينه، فلزمهما ضمانه، كما لو أتلفاه.

وكذا لو شَهِدا على موسِر أنَّه أعتق شِركًا له فِي عَبْدٍ، فسرى إِلَى نصيب شريكه، وغرم له قيمته، ثم رجعا؛ غرما قيمة العبد كله؛ لأنهما ضَيَّعا عليه نصيبه، وقيمة نصيب شريكه، اشبه ما لو فوتاه بفعلهما كجراحٍ

(1)

(ما لم يصدِّقْهم المشهودُ له) بالمال، فلا تضمنه الشهود. ثم إن كان قبض منه شيئًا؛ ردَّه للمحكوم عليه، أو بدله إن تلف؛ لاعترافه بأخذ ذلك بغير حقٍّ، وإن لم يكن قبض شيئًا، بطل حقُّه مِن المشهود به.

(ولا ضمان على مُزَكٍّ إذا رجع مزكّىً) لأن الحكم تعلَّق بشهادة الشُّهود، ولا تعلُّق له بالمزكين؛ لأن المزكين أخبروا بظاهر حال الشهود، وأما باطنه، فعلمُه إِلَى الله تعالى.

(وإن شهدوا بدَيْن) وحكم بشهادتهم (فأبرأ) المدينَ (منه مستحقُّه، ثم رجعا) أي: الشاهدان (لم يغرماه للمشهودِ عليه) لأنه لم يغرم شيئًا. وكذا لو شَهِدا على سيِّدِ عبدٍ أنَّه أعتقه على مائة، وقيمتُه مائة، ثم رجعا عن شهادتهما، لم يغرما شيئًا؛ لأنهما لم يفوِّتا على رَبِّ العبد شيئًا.

(ولو قبضه) أي: الدَّين (مشهودٌ له، ثم وهبه لمشهودٍ عليه، ثم رَجَعا) عن شهادتهما (غَرِماه) أي: غرما المال المشهودَ به، كما لو تنصَّف الصَّدَاق بعد هبتها إياه لزوجها، فإن المرأة تغرم للزوج نصفه كما تقدم

(2)

.

(وإن رجع شهودُ طلاقٍ قبل الدخول) بالمطلَّقة (وبعد الحكم، غَرِموا نصفَ المُسَمَّى، أو بدله) وهو المتعة لمن لم يُسَمَّ لها مَهْر؛ لأن

(1)

فِي "ذ". "كجرح".

(2)

(11/ 483).

ص: 342

الشهود ألزموه للزوج بشهادتهم بطلاقها، كما يغرم ذلك من فسخ نكاحه برضاع ونحوه.

(وإن كان) الطلاق المشهودُ به (بعدَه) أي: بعد الدُّخول، وحكم بشهادتهم، ثم رجعوا (ولو) كان الطلاق (بائنًا؛ لم يغرموا) أي: الشهود شيئًا من المهر؛ لأن المهر قد تقرَّر عليه كله بالدخول، فلم يقرروا عليه (شيئًا) بشهادتهم، ولم يُخْرِجوا عن ملكه شيئًا متقوّمًا، أشبهوا قاتلها.

(وإن رجع شهودُ قِصاصٍ، أو) شهود (حَدٍّ، بعد الحُكمِ) بشهادتهم (وقبلَ الاستيفاء، لم يُستوفَ) القَوَد ولا الحَدّ؛ لأن المحكوم به عقوبة لا سبيل إِلَى جَبْرها إذا استُوفيت؛ بخلاف المال؛ ولأن رجوعَ الشهود شُبهة لاحتمال صدقهم، والقَوَد والحَدُّ يُدرآن بالشُّبهة (ووجبت دِيةُ قَوَدٍ للمشهُودِ له) لأن الواجب بالعَمْد أحد شيئين، وقد سقط أحدُهما، فتعيَّن الآخرُ. ويرجع المشهودُ عليه بما غَرِمه من الدية على الشهود (ويُستوفى) القِصاص أو الحَدّ (إذا طرأ فِسقُهم) بعد الحكم بشهادتهم. هذا مقتضى كلامهم في "الإنصاف"، و"المبدع". وتقدَّم

(1)

فِي آخر الموانع أنَّه لا يُستوفى حَدٌّ ولا قَوَد إذًا، بل المال.

(وإن كان) رجوعهم عن الشهادة، أو فِسقُهم (بعد الاستيفاء) للمحكوم به (لم يبطل الحكم) لأنه قد تَمَّ بشروطِه (ولا يلزم المشهودَ له شيءٌ، سواءٌ كان المشهودُ به مالًا أو عقوبة) لأن قول الشهود غير مقبول فِي نقض الحكم؛ لما تقدم.

(فإن قالوا) أي: الشهود: (عَمَدْنا عليه بالزُّور ليُقتل، أو يُقطع،

(1)

(15/ 321).

ص: 343

فعليهم القِصاص) فِي النفس أو الطَّرف، وتقدَّم

(1)

فِي الجنايات.

(وإن قالوا: عَمَدْنا الشهادةَ عليه، ولم نعلم أنَّه يُقتل بهذا، وكانا ممن يجوز أن يجهل ذلك، وجبت الدية فِي أموالهما مُغلَّظة) لإقرارهما بأن التلف حصل بسببهما، والعاقلة لا تحمل إقرارًا؛ كما تقدم

(2)

.

(وإن قالوا: أخطأنا، فعليهم دية ما تَلِف) مخفَّفة؛ لأنه خطأ، وتكون فِي أموالهم؛ لأنه بإقرارهم، والعاقلة لا تحمله (أو أرْشُ الضَّرْب) إن كان الحد جَلْدًا، أو حصل به نقص (وتقدم

(3)

ذلك مستوفىً فِي كتاب الجنايات.

وكل موضع وجب) فيه (الضمان على الشهود بالرجوع، فإنَّه) أي: الغُرم (يوزَّع بينهم على عددهم، بحيث لو رجع شاهدٌ من عشرة، غَرِمَ العُشْر) لأن التفويتَ حصل منهم كلِّهم، فوجب التقسيط على عددهم، كما لو اتَّفق جماعةٌ وأتلفوا مالًا لإنسان.

(وتَغْرَم المرأةُ كنصفِ ما يَغْرَم الرجُل) فِي الشهادة بالمال؛ لأن المرأتين يعدلان فيه رجلًا

(4)

.

(وإن رجع رجلٌ وثمانِ نسوةٍ، لَزِمَ الرَّجُل الخُمس، وكلَّ امرأةٍ العُشر) من الغُرم بسبب شهادتهم.

(وإذا شَهِد أربعةٌ بأربعمائةٍ، فحكم الحاكمُ بها، ثم رجعَ واحدٌ عن مائة، و) رجع (آخر عن مائتين، و) رجع (آخر عن ثلاثمائة، و) رجع

(1)

(13/ 219).

(2)

(13/ 451).

(3)

(13/ 220 - 221).

(4)

فِي "ذ" زيادة: [قلت: فإن كانت الشهادة فيما تُقبل فيه المرأة وحدها -كعيوب النساء تحت الثياب ونحوه- فيتوجه أن المرأة كالرجل فِي الغُرْم إذا رجعوا].

ص: 344

(الرابع عن أربعمائة، فعلى كلِّ واحدٍ مما رجع عنه بقِسْطِه، فعلى الأول خمسة وعشرون) ربع المائة التي رجع عنها؛ لأنه واحد من أربعة (وعلى الثاني خمسون) ربع المائتين اللتين رجع عنهما، وهو واحد من أربعة (وعلى الثالث خمسة وسبعون) ربع الثلاثمائة (وعلى الرابع مائة) ربع الأربعمائة؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم مُقِرٌّ بأنه فوَّت على المشهود عليه رُبع ما شَهِد به عليه.

(وإن كان الحكم بشاهدٍ ويمين، ثم رجع الشاهدُ؛ غَرِم المالَ كله) لأن الشاهد حُجَّة الدعوى، فكان الضمان عليه كالشاهدين، يحقِّقُه: أنَّ اليمين قول الخصم، وقول الخصم ليس بحُجَّة على خصمه، وإنما هو شرط الحكم، فجرى مجرى مطالبته للحاكم بالحكم.

(وإن رَجَع أحدُ الشاهدين وحدَه، فكرُجُوعِهما، فِي أنَّ الحاكم لا يَحكُمُ بشهادتهما؛ إذا كان رُجُوعُه قبل الحكم) لأن رجوعه ألغى شهادته، وشهادةُ رفيقه وحدَه لا يُحكم بها. وإن كان رجوعه بعد الحكم، وقبل استيفاء الحد أو القِصاص؛ لم يُستوفَ، ووجبت دية قَوَدٍ (وإن كان) الرجوع (بعد الاستيفاء؛ لزمه حكم إقراره) كما لو رجع الشاهدان معًا.

(وإن شهد عليه ستةٌ بزنىً، فَرُجِم، ثم رجع منهم اثنان؛ غَرِما ثلث الدية) لأنهما ثلث البينة (و) إن رجع (ثلاثة) غرموا (النصف) لأنهم نصفُ البينة (و) إن رجع (الكلُّ تلزمهم الدية أسداسًا) لأنهم ستة، فتُقسَّط الغرامة عليهم.

(وإن شهد أربعة بزنىً، و) شهد (اثنان) آخران (بإحصان، فرجم، ثم رجعوا) أي: الستة (لزمتهم الدية أسداسًا) كشهود الزنى؛ لأن القتل

ص: 345

حصل من جميعهم.

(وإن كان شاهدا الإحصان من الأربعة) الذين شهدوا بالزنى، ثم رجعوا بعد رجمه (فعليهما ثلثا الدية) ثلث لشهادتهما بالإحصان، وثلث لشهادتهما بالزنى (وعلى الآخرين) الشاهدين بالزنى فقط (الثلث) من الدية.

(ولو رجع شهودُ الزِّنى دون) شهود (الإحصان، أو بالعكس) بأن رجع شهود الإحصان دون الزنى

(1)

(لَزِم الراجعَ الضمانُ كاملًا) لأن القتل حصل بشهادتهم، إذ لولا ثبوت الزنى لم يقتل، ولو كان محصنًا، ولولا الإحصان لم يُقتل، ولو زنى.

(وإن رجع الزائدُ عن البينة) بأن شَهِد بالقتل ثلاثة، ثم رجع واحد، أو شَهِد بالزنى خمسةٌ، ثم رجع منهم واحد (قَبلَ الحكم أو بعده، استوفي) المشهود به؛ لأن ما بقي من البيت كاف فيه (ويُحَدُّ الراجع) عن شهادته بالزنى (لقَذْفِهِ) أي: لأنه قاذفٌ.

(ورجوعُ شهودِ تزكيةٍ كرُجوعِ من زكَّوْهم) فِي جميع ما تقدَّم من المسائل.

(وإن رجع شُهودُ تعليق عِتْقٍ، أو طَلاقٍ) قبل الدخول (و) رجع (شهودُ وُجودِ شَرْطِهِ) بأن شهد اثنان أنَّه قال لعبده أو زوجته: إذا جاء زيد، فأنتَ حَرٌّ أو فأنتِ طالقٌ، وشهد آخران بمجيء زيد، ثم رجع الأربعة بعد الحكم (فالغُرْم) لقيمهّ العبد، أو نصف المُسَمَّى، يُقَسَّط (على عددهم) كشهود الزنى مع شهود الإحصان؛ لأن شهود العتق أو الطلاق هنا كشهود الزنى، وشهود وجود الشرط كشهود الإحصان.

(1)

في "ذ": "شهود الزنى".

ص: 346

(وإن رجع شهودُ قَرابةٍ) ولو مع شهود شراء، بأن شهد اثنان على إنسان أنَّه اشترى هذا العبد، وآخران أنَّه أبو المشتري أو ابنه ونحوه، وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع الأربعةُ (غَرِموا) أي: شهودُ القرابةِ وحدَهم (قيمتَه لعتقه) لأن شهود القرابة هم المفوِّتون عليه للعبد، كما لو شهدوا بعتقه.

(وإن رجع شهودُ كتابةٍ؛ غَرِموا ما بين قيمته سليمًا) أي: غير مُكاتَب (ومكاتبًا) لأن النقص فات بشهادتهم، فإن لم ينقص مالُ الكتابة عن قيمته؛ فلا غرم.

(فإن عَتَق) بأن أدَّى ما كُوتب عليه، أو أبرئ منه (غَرِموا ما بين قيمته ومال كتابته) إن كان ثَمَّ تفاوت -لما تقدَّم- وإلا فلا غُرم.

(وكذا شهودٌ باستيلاد أَمَتِهِ، فيضمنون نقصَ) وفي بعض النسخ: "نصف"(قيمتها) وهو غلط (فإن عتقت بالموت، فـ) ــــعلى الشهود (تمام قيمتها) لأنهم فوَّتوها بذلك، كما لو شهدوا بعتقها ابتداء. ولو شهدا بتأجيل وحكم، ثم رجعا؛ غرما تفاوت ما بين الحالِّ والمؤجَّل؛ نقله في "الفروع" عن بعضهم.

(وإن رجع شهودُ تأجيلِ ثَمَنِ مبيعٍ، ونحوه) كأجرة (بعد الحكم؛ غرموا ما تفاوت بين

(1)

الحالِّ والمؤجَّل) لأنه فات بسببِ شهادتهم.

(ولا ضمانَ برجوعٍ عن شهادةِ كفالة

(2)

بنفس، أو) عن شهادة (براءةٍ منها، أو) عن شهادة بـ (ــــأنها زوجتُه، أو أنَّه عفا عن دَم عَمْدٍ؛ لعدم تضمُّنِه) أي: ما ذكر (مالًا) قال القاضي: هذا لا يصح؛ لأنَّ الكفالة قد تتضمَّن المال بهرب المكفول، والقَوَد قد يجب به مال.

وإذا شَهِد رجلان على آخرَ بنكاحِ امرأةٍ، بصداق ذكراه، وشهد

(1)

في "ذ": "ما بين".

(2)

في متن الإقناع (4/ 530): "بكفالة".

ص: 347

آخران بدخوله بها، ثم رجعوا بعد الحكم، لزم شهود النكاح الضمان؛ لأنهم ألزموه المُسَمَّى. وقيل: عليهم النصف، وعلى الآخرين النصف. وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق، لم يلزمهما شيء؛ لأنهما لم يوجبا عليه شيئًا لم يكن واجبًا عليه؛ ذكره في "الشرح".

(ومن شَهِد بعد الحكم بمنافٍ للشهادة الأَوّلة

(1)

، فكرجوع) عن شهادته (وأولى) بالضمان من الرجوع؛ قاله الشيخ تقي الدين

(2)

. وقال

(2)

في شاهد قاس بكذا، وكتب خطه بالصحة، فاستخرج الوكيل على حكمه، ثم قاس، وكتب خطه بزيادة، فغَرِم الوكيل الزيادة. قال: يغرم الشاهد ما غَرِمه الوكيل من الزيادة بسببه، تعمَّد الكذبَ أو أخطأ، كالرجوع.

(وإن بان بعدَ الحكم أنَّ الشاهدين كافران، أو فاسِقَان؛ نُقِضَ) حكمه؛ لأن شَرْطَه كون الشاهد مسلمًا عدلًا، ولم يوجد (فينقضُه الإمامُ أو غيرُه) لفساده، لكن تقدم

(3)

حيث قلنا: "ينقض" فالناقض له حاكمه إن كان (ورجع) المحكوم عليه (بالمال، أو ببدله) على المحكوم له؛ لأن الحكم قد نُقض، فيجب أن يرجع الحقُّ إِلَى مستحقه (و) رجع (ببدل قَوَدٍ مستوفىً على المحكوم له) لتعذُّر الرجرع بالقَوَد، فيتعيَّن بدله.

(وإن كان المحكوم به إتلافًا) كقتل (فالضَّمانُ على المُزكِّينَ، وكذا إن كان) الحكم (لله) تعالى (بإتلاف حِسِّيٍّ

(4)

) كقتلِ لرِدَّة، أو رَجْمٍ لزنىً، أو قطع سرقة

(5)

(أو) كان الحكم بـ (ـما سرى إليه) أي: إِلَى الإتلاف،

(1)

في "ذ": "الأولى".

(2)

الاختيارات الفقهية ص/ 526.

(3)

(15/ 104 - 105).

(4)

في "ذ": "حي".

(5)

في "ذ": "لسرقةٍ".

ص: 348

بأنْ حكم عليه بحَدٍّ شُرْب، أو تعزير، فسرى إِلَى نفسه، أو عضوٍ منها، وبان كُفْرُ الشهودِ، أو فِسْقهم؛ فالضمان على المُزكِّين؛ لأن المحكوم به قد تعذَّر ردُّه، وشهود التزكية ألجؤوا الحاكم إِلَى الحكم، فلزمهم الضمان؛ لتفريطهم.

(فإن لم يكن مُزكُّون، فعلى الحاكم) لأنَّ التلف حصل بفعله، أو بأمره، فلزمه الضمان؛ لتفريطه، وكذا إن كان مُزكُّون فماتوا؛ ذكره في "الكافي" و"الرعاية"؛ قاله في "المبدع". قال: ولا قَوَدَ؛ لأنه مخطئ، وتجب الدِّية في بيت المال، وعنه

(1)

: على عاقلته.

(وإن شهدوا عند الحاكم بحقٍّ، ثم ماتوا، أو جُنُّوا؛ حَكَم بشهادتهم؛ إذا كانوا عدولًا) لأن الموت أو الجنون لا يؤثِّر في الشهادة، ولا يدلُّ على الكَذِب فيها، ولا يحتمل أن يكون موجودًا حالَ أداء الشهادة، بخلاف الفِسق.

(وإن بان الشهود عبيدًا، أو والدًا، أو ولدًا، أو عدوًا، والحاكم لا يرى الحكم به؛ نقضه) بعد إثبات السبب (ولم يَنفُذْ) لأنه حَكَم بما لا يعتقده، أشبه ما لو كان عالمًا بذلك.

(وإن كان) الحاكم (يرى الحكمَ به) أي: بما ذكر من شهادة العبيد، أو الوالد، أو الولد، أو العدو (لم يُنقض) حكمه إذا بان الشاهدُ كذلك؛ لأنه حكم بما أدَّاه إليه اجتهادُه فيما هو سائغٌ فيه، أشبه باقي مسائل الخلاف، وهذا في المجتهد. وأما المُقلِّد، فتقدَّم

(2)

أنَّه يُراعي ألفاظَ إمامه ومتأخرها، ويُقلِّد كبارَ مذهبه في ذلك. وإن حكم بغير

(1)

انظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف (30/ 91).

(2)

(15/ 32، 173).

ص: 349

مذهب إمامه؛ فإن كان قد وُلِّي على أن يحكم بمذهب معين؛ لم ينفذ حكمه؛ لقصور ولايته، وإلا انبنى نقضه على منع تقليد غيره، وتقدم

(1)

.

(ويُعَزَّر شاهدُ زُورٍ) رواه سعيد عن عمر

(2)

؛ ولأنه قولٌ محرَّم يضرُّ به النَّاسَ، أشبه السبب (-ولو تاب) في أحد الوجهين، وهما في كلِّ تائبٍ بعد وجوب التعزير. وتعزيره (بما يراه الحاكمُ- إن لم يُخالف نصًّا، أو معنى نصٍّ) قال في "الشرح": لا يزيد على عشر جلدات (ويُطاف به في

(1)

(15/ 25 - 27، 32 - 34).

(2)

لم نقف عليه في المطبوع من سنن سعيد بن منصور، وأخرجه من طريقه البيهقي (10/ 141 - 142)، عن ابن عياش، عن أبي بكر، عن مكحول وعطية بن قيس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطًا، وسخم وجهه، وطاف به بالمدينة. وأخرجه -أَيضًا- من طريق سعيد، ثنا أبو شهاب، عن حجاج بن أرطأة، عن مكحول، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إِلَى عماله في كور الشَّام في شاهد الزور أن يجلد أربعين، ويحلق رأسه، ويسخم وجهه، ويطاف به، ويطال حبسه. وقال البيهقي عقبهما: هاتان الروايتان ضعيفتان ومنقطعتان. وأخرج عبد الرزاق (8/ 325) رقم 15388، والبغوي في الجعديات (2/ 148) رقم 2289، والبيهقي (10/ 141)، عن عاصم بن عبيد الله بن عبد الله بن عامر قال: شهدت عمر بن الخطاب أقام شاهد زور عشية في إزار ينكت نفسه. لفظ عبد الرزاق.

وقال البيهقي: إن هذه الرواية متصلة، إلَّا أن فيها من لا يحتج به.

وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (5/ 426): هذا حديث ضعيف، لضعف عاصم بن عبيد الله.

وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 81): عاصم فيه لين.

وأخرج البيهقي (10/ 141)، من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد الخُدرِيّ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنَّه ظهر على شاهد زور، فضربه أحد عشر سوطًا، ثم قال: لا تأسروا الناس بشهود الزور، فإنا لا نقبل من الشهود إلا العدل. وقال: فيه من لا يحتج به.

وأخرج عبد الرزاق -أَيضًا- (8/ 326 - 327) رقم 15392 - 15394، 15396، وابن أبي شيبة (10/ 41، 58)، من طرق عن عمر رضي الله عنه، بنحوه.

ص: 350

المواضع التي يَشْتَهر فيها، فيقال: إنا وجدنا هذا شاهِدَ زُورٍ؛ فاجتنبوه) ليحصُل إعلامُ النَّاس بذلك، فإن تاب؛ قُبلت شهادته، كسائر التائبين.

(وله) أي: للحاكم (أن يجمع له) أي: لشاهد الزور (بين عقوبات، إن لم يرتدع إلَّا به) قاله ابن عقيل وغيره (ولا يُعزَّر حتَّى يتحقَّق أنَّه شاهدُ زُورٍ) وأنه (تعمَّد ذلك، إما بإقراره) بذلك (أو يشهد بما يَقطعُ بكَذِبه) فيه (مثل أن يشهد على رَجُلٍ بفعلٍ في الشَّام، ويُعْلَم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق، أو يَشهد بقتل رَجُلٍ، وهو حيٌّ، أو) يشهد (أن هذه البهيمة في يَدِ هذا منذ ثلاثة أعوام، وسِنُّهَا أقلُّ من ذلك، أو شهد على رجل أنَّه فعل) في وقت كذا (وقد مات قبل ذلك، وأشباه هذا مما يُعلم به كذبه، ويُعلم تعمُّده لذلك) وإلا لم يُعزَّر؛ لأنه يُدرأ بالشُّبهة (ويتبيَّنُ بذلك) أي: بما يُقطع بكذبه فيه (أن الحكم كان باطلًا) لعدم مطابقته للواقع (ولزم نقضه) لعدم نفوذه.

(وإن كان المحكومُ به مالًا؛ رد إلى صاحبه) لتبين عدم استحقاق المُدَّعي له.

(وإن كان) المحكومُ به (إتلافًا، فعلى الشاهدين ضمانُه) لحصول التلف بسببهما (إلا أن يثبت) زُورُ الشاهدين (بإقرارهما على أنفسهما من غير موافقة المحكوم له، فيكون ذلك رجوعًا منهما عن شهادتهما، ومضى) أي: تقدم

(1)

(حكم ذلك) أي: حكم الرجوع عن الشهادة آنفًا (وتقدم

(2)

في) باب (التعزير) تعزير شاهد الزور.

(ولا يُعزَّر) الشاهدُ (بتعارض البيّنة) لأن التعارُضَ لا يُعلَم به كَذِب

(1)

(15/ 339) وما بعدها.

(2)

(14/ 119).

ص: 351

إحْدى البينتين بعينها (ولا) يُعزَّر (بغَلَطِهِ في شهادته) لأن الغَلَطَ قد يعرِض للصَّادق العدل، ولا يتعمّده.

(ولا تُقبل الشهادةُ مِن ناطقٍ إلا بلفظ الشهادة) لأن الشهادة مصدر، فلابُدَّ من الإتيان بفعلها المشتق منها؛ ولأن فيها معنًى لا يحصُل في غيرها، بدليل أنها تستعمل في اللعان، ولا يحصُل بغيرها (فإن قال: أعلم، أو أُحِقُّ، أو أتيقن، ونحوه) لم تُقبل؛ لأن الحكم يعتمد لفظ الشهادة، ولم يوجد.

(أو قال آخر) بعد شهادة الأول: (أشهد بمثل ما شَهِد به، أو) قال من كتب شهادته: أشهد (بما وضعت به خطي؛ لم يُقبل) فلا يحكم بها.

(وإن قال بعد الأول: وبذلك أشهدُ، أو: كذلك أشهدُ؛ قُبِلت) قال في "النكت": والقول بالصحة في الجميع أولى.

(وقال) أبو الخطاب و (الشيخ

(1)

، وابن القيم

(2)

: لا يُعتبر لفظ الشهادة) قال الشيخ تقي الدين

(3)

: ولا نعلم عن صحابى ولا تابعي لفظ الشهادة. وقال عليُّ بن المديني

(4)

: أقول: إن العشرة في الجنّة ولا أشهدُ، فقال له أحمد: متى قلتَ؛ فقد شهدتَ. ونقل الميموني عنه

(5)

أنَّه قال: وهل معنى القول والشهادة إلا واحد؟! ونقل أبو طالب عنه

(6)

أنَّه قال: العِلْمُ شهادة.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 522.

(2)

زاد المعاد (3/ 431 - 432)، والطرق الحكمية ص / 202.

(3)

الفتاوى الكبرى (4/ 645).

(4)

انظر: الاختيارات الفقهية ص/ 522.

(5)

انظر: السنة للخلال (2/ 357) رقم 479، والاختيارات الفقهية ص/ 523.

(6)

انظر: السنة للخلال (2/ 357) رقم 479 - 480، الاختيارات الفقهية ص/ 523.

ص: 352

‌باب اليمين في الدعاوى

أي: ذكر ما تجب فيه اليمين، وبيان لفظها وصفتها.

(اليمين تقطعُ الخصومة في الحالِ، ولا تُسقِطُ الحقَّ)

فتُسمع البينة بعد اليمين، ولو رجع الحالف إلى الحق، وأدَّى ما عليه؛ قُبِلَ منه، وحلَّ لربِّه أخذه.

(ولا يُستحلَفُ المُنكِرُ في حقوق الله تعالى، كحَدٍّ، وعبادةٍ، وصَدَقةٍ، وكفَّارة، ونَذْرٍ

(1)

لأن الحدود المطلوب فيها الستر؛ والتعريض للمُقِرِّ ليرجع، فلأَن لا يُستحلف فيها أولى، وما عدا الحدود مما ذكر حقّ لله تعالى، فأشبه الحَدَّ.

(فإن تضمَّنت دعواه) أي: الحَدّ (حقًا له) أي: للآدمي (مثل أن يَدَّعي سرقةَ ماله، لتضمين السارق، أو ليأخذ منه ما سَرَقَه، أو يدَّعِي عليه الزنى بجاريته؛ ليأخذ مهرها منه، سُمعت دعواه، ويُستحلف المُدَّعَى عليه لحقِّ الآدمي، دون حَقِّ الله) تعالى، كما لو انفرد كلٌّ منهما.

(ويُستحلَفُ في كُلِّ حَقٍّ لآدمي) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يُعطى الناس بدعواهم؛ لادَّعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه" متفق عليه

(2)

(غيرِ نكاحٍ، ورجعةٍ، وطلاقٍ، وإيلاءٍ، و) غيرِ (أصلِ رِقٍّ لدعوى رقِّ لقيط) فإنه لا يُستحلف إذا أنكر.

(و) غير (ولاءٍ واستيلادٍ) بأن يدَّعي استيلادَ أَمَة، فتنكِرُه. وقال

(1)

في "ذ" ومتن الإقناع (4/ 533) زيادة (وتقدم [15/ 112] أول طريق الحكم وصفته).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 353

الشيخ تقي الدين

(1)

: هي المُدَّعية.

(و) غير (نَسَبٍ، وقَذْف، وقِصاص في غير قَسامة) فلا يمين في واحد من هذه العشرة؛ لأن ذلك لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه الحدود.

(وفي "الترغيب" وغيره: ولا يَحلِف شاهدٌ) على صِدْقِهِ (و) لا (حاكمٌ) على حُكمه أو نفيه (ولا وصيٌّ على نفي دَيْن على الموصي).

قال ابن حمدان: بل على نفي لزومه من التركة إلى المُدَّعي.

(ولا) يَحلِف (مُنكِرُ وكالةِ وكيلٍ) وتقدم في الوكالة

(2)

.

(وتَحلِف المرأة؛ إذا ادَّعت انقضاء عِدَّتها قبل رجعة زوجها، ويَحلِف المؤلي؛ إذا أنكر مضيَّ الأربعة أشهر) وتقدَّم ذلك موضحًا في مواضعه

(3)

.

(وما يُقضى فيه بالنُّكول هو المال وما يُقْصَد به المالُ) مما تقدَّم

(4)

بيانه.

(ومَن لم يُقضَ عليه بنكولٍ) إذا نكل (خُلِّي سبيله) ولم يحكم عليه بالنكول في غير المال وما يُقصد به المال.

(ويثبت عِتقٌ بشاهدٍ ويمينِ العبد) لأن عتقه نَقْلُ ملك، أشبه البيعَ (وتقدم

(5)

) في باب المشهود به.

(ومَنْ حلف على فِعْلِ غيره) بأن ادَّعى على آخر أنَّه غصبه -ونحوه- ثوبًا، وأقام بذلك شاهدًا، وأراد أن يَحلِف مع شاهده؛ حَلَفَ على البتِّ

(1)

الفتاوى الكبرى (4/ 630).

(2)

(8/ 459).

(3)

(12/ 364).

(4)

(15/ 324 - 330).

(5)

(15/ 325، 332).

ص: 354

(أو ادَّعى عليه) أي: على غيره (في إثبات). بأن ادَّعى دَينًا على زيد مثلًا، فأنكر، وأقام المُدَّعي شاهدًا، وأراد الحلف معه؛ حلف على البتِّ (أو) حلف على (فِعْلِ نفسه) مثل أن ادَّعى عليه إنسان أنَّه غصبه -ونحوه- شيئًا،: فأنكر، وأراد المُدَّعي يمينه؛ حلف على البتِّ (أو) على (دعوى عليه) بأن ادُّعي عليه دَيْن، فأنكره، وطلب يمينه (حلف على البتِّ) أي: القطع؛ لحديث ابن عباس: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل حلَّفه: قُلْ: والله الَّذي لا إله إلا هو، ما لَهُ عندي شيءٌ" رواه أبو داود

(1)

.

فلو ادَّعى عليه إنسانٌ عينًا في يده، فأنكره، وأراد تحليفه فيقول: والله هذه العين ملكي، ولا يكفي قوله: والله لا أعلم إلا أنها ملكي.

(ومَنْ حلف على نفي فِعْلِ غيره) نحو أن يدَّعي عليه أن أباه اغتصبه كذا وهو بيده، فأنكر، وأراد المُدَّعي يمينه؛ فعلى نفي العِلم؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: "ألَكَ بينة؟ قال: لا، ولكن أُحَلِّفُه: والله ما يعلم أنها

(1)

في الأقضية، باب 24، حديث 3620. وأخرجه -أيضًا- النسائي في الكبرى (3/ 389) حديث 6007، والبيهقي (10/ 180)، من طريق أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن أبي يحيى، عن ابن عباس رضي الله عنهما، به.

وأخرجه أبو داود -أيضًا- في الأيمان والنذور، باب 16، حديث 3275، والنسائي في الكبرى (3/ 489) حديث 6006، وأحمد (1/ 253، 288، 296، 322، 2/ 70)، والحاكم (4/ 95 - 96)، والبيهقي (10/ 37، 180) من طرق عن عطاء بن السائب، عن أبي يحيى، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الطالب البينة، فلم تكن له بينة، فاستحلف المطلوب، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، قد فعلت، ولكن قد غفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله. لفظ أبي داود. وقال ابو داود: يراد من هذا الحديث أنه لم يأمره بالكفارة.

قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وعده في ميزان الاعتدال (3/ 72) من مناكير عطاء بن السائب.

ص: 355

أرضي اغتصبها أبوه، فتهيَّأ الكندي لليمين" رواه أبو داود

(1)

، ولم ينكر ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ولأنه لا تُمكنه الإحاطة بفعل غيره، بخلاف فِعْلِ نفسه، فوجب ألا يكلف اليمين فيه على البتِّ.

(أو) حلف على (نفي دعوى عليه) أي: على غيره، كأن ادَّعى على أبيه دَينًا، فأنكر الوارث، وطلب يمينه (فعلى نفي العلم) لما تقدم.

(وعبدُه) وأَمَتُه (كأجنبيٍّ في حَلِفٍ على البتِّ، أو على نفي عِلْمه) فمن ادُّعي عليه أن عبده جنى عليه ونحوه، فأنكر، وطلب يمينه، حلف على نفي العلم.

و (أما بهيمتُهُ) أي: جناية بهيمة المُدَّعَى عليه (فما نُسِب إلى تقصيرٍ وتفريطٍ؛ فعلى البتِّ) كما لو ادُّعِي عليه أن بهائمه أكلت زرعه ليلًا بتفريطه؛ لتركها من غير ربط ولا حبس، فأنكر ذلك، وأراد المُدَّعي تحليفه؛ حَلَف على البتِّ؛ لأنه على فعل نفسه، وهو عدم التفريط.

(وإلا) أي: وإن لم ينسب المُدَّعي جنايةَ البهيمةِ إلى تقصير المُدَّعَى عليه وتفريطه، كما لو ادَّعى على سائق أو قائد، أو راكب، أن الدابة أتلفت شيئًا بوطئها عليه، فأنكره (فـ) ـإنه يحلف (على نفي العلم) لأنه ينفي فعلها.

(ومَنْ توجه عليه الحَلْفِ بحقِّ جماعة، فبذل لهم يمينًا واحدة ورضوا بها؛ جاز) لأن الحقَّ لهم، وقد رضوا بإسقاطه.

(1)

في الأيمان والنذور، باب 2، حديث 3244، وفي الأقضية، باب 26، حديث 3622، الأشعث بن قيس رضي الله عنه. وأخرجه -أيضًا- النسائي في الكبرى (3/ 488) حديث 6002. وسكت عليه أبو داود والمنذري، وأصله في مسلم، وقد تقدم تخريجه (15/ 220) تعليق رقم (4).

ص: 356

(وإنْ أبَوُا) الاكتفاء

(1)

بيمينٍ واحدة (حلف لكلِّ واحدٍ) منهم (يمينًا) لأن حقَّ كل واحد غير حق الآخر، فإذا طلب كلُّ واحدٍ منهم يمينًا، كان له ذلك، كسائر الحقوق إذا انفرد بها.

(ولو ادَّعَى واحدٌ حقوقًا على واحدٍ، فعليه في كلِّ حقٍّ يمين) إذا تعددت الدعاوي، ولو اتَّحد المجلس. فإن اتَّحدت الدعاوى

(2)

؛ فيمينٌ واحدةٌ للكُلِّ، كما في "المبدع".

فصل

(واليمين المشروعة هي اليمين بالله جلَّ اسمه) لقوله تعالى: {وأقْسَمُوا بالله}

(3)

؛ وللأخبار

(4)

. وتجزئ بالله وحده؛ لما تقدم

(5)

. واستحلف النبيُّ صلى الله عليه وسلم رُكانة بن عبد يزيد في الطلاق، فقال: والله ما أردتَ إلا واحدة

(6)

؟ وقال عثمان لابن عمر: تحلف بالله لقد بعتَه وما به داء تعلمه

(7)

.

(فإن رأى الحاكمُ تغليظها بلفظ، أو زمان، أو مكان) فاضلين (جاز، ولم يُستحبَّ) لأنه أردع للمُنكِر.

(فـ) ـالتغليظ (في اللفظ) أن (يقول: والله الَّذي لا إله إلا هو، عالِمِ الغيبِ والشهادة الرحمنِ الرحيم، الطالبِ الغالبِ، الضارِّ النافعِ، الَّذي

(1)

في "ذ": "أي الاكتفاء".

(2)

في "ذ": "الدعوى".

(3)

سورة الأنعام، الآية:109.

(4)

منها ما تقدم (14/ 391 - 392).

(5)

(14/ 383، 387).

(6)

تقدم تخريجه (12/ 224) تعليق رقم (4).

(7)

تقدم تخريجه (7/ 406) تعليق رقم (1).

ص: 357

يعلم خائنة الأعين) أي: ما يضمر في النفْس، ويكف عنه اللسان، ويُومئ إليه بالعين (وما تُخفي الصدور) أي: تُضمره.

(و) التغليظ في (الزمان: أن يحلف بعد العصر) لقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة}

(1)

، قيل: المراد صلاة العصر؛ لأنه وقت تُعظِّمه أهل الأديان، كما تقدَّم

(2)

.

(أو بين الأذان والإقامة) لأنه وقت يُرجى فيه إجابة الدُّعاء، فتُرجى فيه معاجلة الكاذب.

(والمكان: بمكة بين الركن والمقام) لأنه مكان شريف زائد على غيره في الفضيلة (وببيت المقدس عند الصخرة

(3)

) لأنه وَرَدَ في سُنن ابن ماجه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "هي من الجنّة"

(4)

.

(و) بـ (ـسائر البلاد) كمدينته صلى الله عليه وسلم وغيرها (عند مِنبر الجامع) لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن حَلَف على منبري هذا بيمين

(5)

آثمة، فليتبوَّأ مقعده من النار"

(1)

سورة المائدة، الآية:106.

(2)

(12/ 225، 15/ 585).

(3)

انظر ما تقدم (12/ 525) معلق رقم (1).

(4)

ابن ماجه في الطب، باب 8، حديث 3456. وأخرجه -أيضًا- أحمد (3/ 426، 5/ 31، 65)، والحاكم (3/ 588، 4/ 120، 203)، والمزي في تهذيب الكمال (9/ 34)، من طرق عن المُشْمعل بن إياس، عن عمرو بن سليم المزني، عن رافع بن عمرو المزني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العجوة والصخرة من الجنّة. وفي رواية لأحمد: العجوة، والصخرة، أو قال: العجوة والشجرة في الجنة. شك المشمعل. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن مشمعل هذا هو عمرو بن إياس، شيخ من أهل البصرة قليل الحديث. ووافقه الذهبي.

وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 210): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

وذكره السيوطي في الجامع الصغير (4/ 376 مع الفيض) ورمز لصحته.

وأعلَّه الشيخ الألباني بالاضطراب. انظر: إرواء الغليل (8/ 311).

(5)

في "ذ": "يمينًا".

ص: 358

رواه أبو داود

(1)

.. والباقي بالقياس عليه.

(وتقف الحائضُ عند بابِ المسجدِ) لأنه يحرم عليها اللُّبث فيه.

(ويحلف أهلُ الذِّمة في المواضع التي يُعظِّمونها) لأن اليمين تُغلَّظ في حقهم زمانًا، فكذا مكانًا.

(و‌

‌اللفظ) الَّذي يغلَّظ به على أهل الذِّمة

(أن يقول اليهودي: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وفلَق له البحر، وأنجاه من فرعون ومَلَئِه) لحديث أبى هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: نشَدتكم بالله الَّذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى؟ " رواه أبو داود

(2)

.

(1)

في الأيمان والنذور، باب 3، حديث 3246. وأخرجه -أيضًا- النسائي في الكبرى (3/ 491) حديث 6018، وابن ماجَهْ في الأحكام، باب 9، حديث 2325، ومالك في الموطأ (2/ 727)، والشافعي في مسنده (ترتيبه 2/ 73)، وابن أبي شيبة (7/ 2 - 3)، وأحمد (3/ 344، 375)، وابن الجارود (3/ 202) حديث 927، وأبو يعلى (3/ 317) حديث 1782، وابن حبان "الإحسان" (10/ 210) حديث 4368، والحاكم (4/ 296)، والبيهقي (7/ 398، 10/ 176)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 299) حديث 20034، عن جابر رضي الله عنه.

قال الحاكم (4/ 296): صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب 9، حديث 2326، وأحمد (2/ 329، 518)، والحاكم (4/ 297).

قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وقال البوصيري في الزوائد (2/ 30): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

(2)

في الأقضية، باب 27، حديث 3624 - 3625، وفي الحدود، باب 26، حديث 4450 - 4451. وأخرجه -أيضًا- عبد الرزاق (7/ 316) رقم 13330، وفي التفسير (1/ 189 - 190)، ومن طريقه الطبري في التفسير (10/ 338 - 339)، والبيهقي (8/ 246 - 247)، وفي دلائل النبوة (6/ 270)، وابن عبد البر في التمهيد (14/ 398 - 399)، من طرق عن الزهري، عن رجل من مزينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه. =

ص: 359

(و) يقول (النصرانيُّ: والله الذي أنزلَ الإنجيلَ على عيسى، وجعله يُحيى الموتى، ويُبرئ الأكمه والأبرص) لأنه لفظ تتأكَّدُ به يمينه، أشبه اليهوديَّ.

(و) يقول (المجوسيُّ: والله الذي خلقني وصوَّرني ورزقني) لأنه يُعظِّم خالقه ورازقه، أشبه كلمة التوحيد عند المسلم.

(و‌

‌الوثنى والصابئ ومَنْ يعبد غير الله يَحلفُ بالله وحده)

لأنه لا يجوز الحلف بغير الله؛ لما تقدم، ولأنه إن لم يعتقد هذه يمينًا؛ ازداد إثمًا، وربما عُجِّلت عقوبته، فيتيقظ

(1)

بذلك، ويرتدع به غيره. زاد بعضهم: وبهيئةٍ، كتحليفة قائمًا، مستقبل القبلة.

(ولا تغلَّظ) اليمين (إلا فيما له خَطَر؛ كجناية لا توجب قَوَدًا، و) كـ (ـعتق ونصاب زكاة) لأن التغليظ للتأكيد، وما لا خطر فيه لا يحتاج إلى تأكيد.

(و‌

‌لو أبى مَنْ وجبت عليه اليمين التغليظ، لم يَصِرْ ناكلًا)

عن اليمين؛ لأنه قد بَذَل الواجب عليه، فيجب الاكتفاء به، ويحرم التعرُّض له؛ قاله في "النُّكت". قال: وفيه نظر؛ لجواز أن يُقال: يجب التغليظ إذا رآه الحاكم وطلبه، وإلا لما كان فيه زجر

(2)

قط. ومال إليه الشيخ تقي الدين

(3)

.

= قال المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/ 235): الرجل من مزينة مجهول.

وله شاهد من حديث البراء بن عازب: أخرجه مسلم في الحدود، حديث 1700.

(1)

في "ذ": "فيتعظ".

(2)

في "ذ": "فائدة زجر".

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 512.

ص: 360

(ولا يُحلَّف بطلاق

(1)

؛ وفاقًا للأئمة الأربعة

(2)

؛ قاله الشيخ)

(3)

.

وقال ابن عبد البر: إجماعًا

(4)

.

قلت: ولا بعَتَاق؛ لحديث: "مَن كان حالفًا، فليحلف بالله"

(5)

.

(وفي "الأحكام السلطانية"

(6)

: للوالي إحلافُ الشُّهود استبراءً وتغليظًا في الكشف في حَقِّ الله وحَقِّ آدميٍّ، وتحليفه بطلاق وعتق وصدقة ونحوه، وسماع شهادة أهل المهن إذا كثروا، وليس للقاضي ذلك.

ومَنْ توجَّهت عليه يمين وهو فيها صادق، أو توجَّهت له) اليمين، بأن أقام شاهدًا بمال أو ما يقصد به المال، وهو صادقٌ (أُبيح له الحلف) لأنه مُحِقٌ (ولا شيء عليه من إثمٍ ولا غيره) لأن الله شرع اليمين؛ ولا يشرع محرَّمًا.

(والأفضل افتداءٌ يمينه) لأنه ربما صادف قَدَرًا، فيوجب ريبة. وتقدَّم في الأيمان

(7)

.

(ومن ادُّعي عليه دَيْن هو عليه، وهو مُعسِر؛ لم يحلَّ له أن يحلِفَ أنَّه لا حقَّ له عليَّ) ولو نوى الساعةَ؛ نقله الجماعة

(8)

. وسواء خاف حبسًا أو لا، وجوَّزه صاحب "الرعاية" بالنية: قال في "الفروع": وهو متجه.

(1)

في "ذ": "بالطلاق".

(2)

انظر: البحر الرائق (7/ 212)، وحاشية ابن عابدين (5/ 555)، وحاشية العدوي (2/ 17)، وشرح منح الجليل (1/ 626)، وتحفة المحتاج (10/ 313)، ونهاية المحتاج (8/ 352).

(3)

الاختيارات الفقهية ص/ 512.

(4)

انظر: التمهيد (14/ 366 - 368).

(5)

تقدم تخريجه (14/ 392)، تعليق رقم (1).

(6)

ص /259.

(7)

(14/ 404).

(8)

مسائل ابن هانئ (2/ 35) رقم 1320، وتقدمت هذه المسألة:(15/ 128).

ص: 361

(و‌

‌يمينُ الحالفِ على حَسَبِ جوابهِ،

فهذا ادَّعى أنه غصبه، أو أوْدَعَه، أو باعَه، أو اقْتْرَض منه، فإن قال: ما غصبتُكَ، ولا استودَعْتَنِي، ولا بِعْتني، ولا أقرَضتَني، كُلِّف أن يحْلِفَ على ذلك) ليطابق جوابه (وإن قال: مالَكَ عليَّ حَقٌّ، أو: لا تستحقُّ عليَّ شيئًا، أو: لا تستحقُّ عليَّ ما ادَّعيْتَه، ولا شيئًا منه. كان جوابًا صحيحًا، ولا يُكلَّف الجوابَ عن الغصبِ وغيره؛ لجواز أن يكون غَصَبَ منه، ثم ردَّه، وكذلك الباقي) من الاستيداع والبيع والقرض (فلو كُلِّف جَحْدَ ذلك؛ لكان كاذبًا) مع حصول المقصود بجواب صادق.

(وإن أقرَّ به، ثم ادَّعّى الردَّ؛ لم يُقبل) منه بلا بينة، فيعود عليه بالضرر، وعدم قَبول دعوى الرَّدَّ في الوديعة؛ لتقدُّم إنكار ونحوه.

(و‌

‌لا تدخل النيابة في اليمين،

فلا يحلِفُ أحدٌ عن غيره، فلو كان المُدَّعَى عليه صغيرًا أو مجنونًا؛ لم يحلِفْ) لأنه لا يعوَّل على قوله (ووقفَ الأمرُ إلى أن يكلَّفا) فيقرا أو يحلفا، أو يقضى عليهما بالنكول.

(فإن كان الحقُّ لغير المُكَلَّف، وادَّعاه وليُّه، وأنكر المُدَّعَى عليه، فالقول قوله مع يمينه) حيث لا بينة للمدَّعي، كسائر الدعاوى (فإنْ نَكَلَ؛ قُضي عليه) بالنكول، كغيره.

(وإن ادُّعي على العبد دعوى، وكانت مما يُقبل قولُ العبدِ فيها) لو أقرَّ بها (كالقصاص) فما دون النفس (والطلاق، والقَذْف، فالخصومة معه دونَ سيده) لأن السيد لا يملك منه إلا المال؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الطلاقُ لمن أخذ بالساق"

(1)

، ومَن ملك إنشاء شيء؛ ملك الإقرارَ به، والخصومة فيه.

(وإن كان) المُدَّعى به على العبد (مما لا يُقبل قولُ العبد فيه؛

(1)

تقدم تخريجه (11/ 391) تعليق رقم (1).

ص: 362

كإتلافِ مالٍ، أو جنايةٍ توجبُه، فالخصمُ)، فيه (سيِّدُه) لأنه المطالب به (واليمينُ عليه) أي: السيد إذا أنكر (ولا يحلفُ العبدُ فيها بحالٍ) لأنه لا يصحُّ طلبه بها، حتَّى لو أقرَّ؛ لم يُسمع إقراره، والقِصاص في النفس جوابه من العبد وسيده معًا؛ لأن إقرارَ أحدِهما به على الآخر غير مقبول.

(ومن حلف فقال: إن شاء الله، أُعيدت عليه اليمينُ) ليأتي يها من غير استثناء، وتقدم

(1)

.

(وكذلك إن وَصَل كلامه بشرط، أو كلام غير مفهوم) لاحتمال أن يكون استثناءً أو نحوه.

(وإن حلف قبل أن يستحلفه الحاكمُ، أو استحلفه الحاكمُ قبل أن يسأله المُدَّعي) إحلافه (أُعيدت عليه) اليمين؛ لأنها حقٌّ للمُدَّعِي، فلا تُستوفى إلا بطلبه.

(ولو ادَّعى عليه حقًا، فقال) المُدَّعَى عليه: (أبرأتني منه، أو) قال: و (استوفيته مني، فأنكر) المُدَّعِي (فقوله مع يمينه) لأنه مُنكِر، والأصلُ بقاءُ الحقِّ (فيحلف) المُدَّعِي (بالله) تعالى:(إن هذا الحق -ويسميه بعينه- ما برئَتْ ذمَّتُكَ منه، ولا من شيء منه) ولأنه يحلف على فعل نفسه، فيحلف على البتِّ.

(وإن ادَّعى استيفاءَه، أو البراءةَ) منه (بجهةٍ معلومةٍ) كما لو قال المُدَّعَى عليه: برئتُ، لدفعه عنك في دين واجب عليك، أو في نفقة واجبة، أو لزيد بإذنك، ونحو ذلك (كفى الحِلفُ على تلك الجهة وحدَها) بأن يحلف بالله ما برئتَ منه، ولا من شيء منه في الجهة المُسَمَّاة؛ لأنه لا يدَّعي غيرها ليحلف عليه.

(1)

(15/ 126).

ص: 363

كتاب الإقرار

ص: 365

‌كتاب الإقرار

(وهو) لغة: الاعترافُ بالحقِّ. مأخوذ من المَقرِّ، كأن المُقِرِّ جعل الحق في موضعه.

وشرعًا: (إظهارُ مُكلَّفٍ مختارٍ ما عليه؛ لفظًا) أي: بلفظ (أو كتابةً، أو إشارةً) من (أخرسَ، أو على موكِّلَهُ، أو) على (مَوْلِيِّهِ) مما يمكن إنشاؤه لهما (أو) على (موروثه بما يمكن صدقُه) ويأتي محتَرَز قيوده. وهو ثابت بالإجماع

(1)

؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ أخَذَ اللَّهُ ميثَاقَ النبيين

) الآية

(2)

، {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}

(3)

؛ و {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}

(4)

؛ ورجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ماعزًا

(5)

والغامدية

(6)

بإقرارهما؛ ولأنه إخبارٌ على وجهٍ ينتفي عمه التُّهمَة والرِّيبة، ولهذا كان آكدَ من الشهادة، فإنَّ المُدَّعَى عليه إذا اعترف لا تُسمع عليه الشهادة، وإنْ كذَّب المدعي بينتَه لم تُسمع، وإذا أنكر، ثم أقرَّ؛ سُمِع إقرارُه.

(وليس) الإقرار (بإنشاءٍ) بل هو إخبارٌ وإظهارٌ لما هو في نفس الأمر (فيصحُّ منه) أي: من المكلَّف المختار، الإقرارُ (بما يُتصوَّر منه

(1)

انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 515)، ومراتب الإجماع ص/ 94، والإفصاح لابن هبيرة (2/ 11).

(2)

سورة آل عمران، الآية:81.

(3)

سورة التوبة، الآية:102.

(4)

سورة الأعراف، الآية:172.

(5)

تقدم تخريجه (14/ 26، 28) تعليق رقم (1، 1).

(6)

تقدم تخريجه (14/ 40) تعليق رقم (3).

ص: 367

التزامُه) بخلاف ما لو ادُّعِي عليه جنايةٌ منذ عشرين سنة، وعمرُه عشرون سنة أو أقلُّ، فهذا لا يصحُّ إقرارُه بذلك، صَرَّح به في "التلخيص"، وغيرِه، وهو معنى قولِه:"بما يمكن صدقُه".

(بشرط كونه) أي: المُقَرِّ به (بيده) أي: المُقِرِّ (وولايتِه واختصاصِه) قال في "شرح المنتهى": يعني: أو ولايته، أو اختصاصه، فلا يصحُّ إقراره بشيءٍ في يد غيرِه، أو في ولاية غيرِه، كما لو أقرَّ أجنبيٌّ على صغير، أو وقف في ولاية غيرِه، أو اختصاصه. انتهى.

فيصحُّ إقرارُه بما في ولايته، أو اختصاصِه، كأن يُقِرَّ وليُّ اليتيمِ ونحوه، أو ناظرُ الوقف، أنه أجر عقاره ونحوه؛ لأنه يملك إنشاءَ ذلك، فصحَّ إقراره به.

و (لا) يُشترط في المقَرِّ به أن يكون (معلومًا) فيصح بالمُجمَل، ويطالب بالبيان، ويأتي.

(ويصحُّ من أخرسَ بإشارة معلومة) لقيامها مَقامَ نطقِه.

و (لا) يصحُّ الإقرار (بها) أي: بالإشارة (مِن ناطقٍ) قال في "شرح المنتهى": بغير خِلافٍ في المذهب (ولا) يصح الإقرارُ بالإشارة (ممن اعتُقِل لسانه) لأنه غيرُ مأيوس من نُطقه، أشبهَ الناطق.

(ويصحُّ إقرار الصبيِّ) المأذون له (و) إقرارُ (العبدِ المأذونِ له في البيع والشراء، في قدر ما أُذن له فيه) كالحُر البالغ؛ لأنه لا حجْر عليه فيما أذن له فيه (دون ما زاد) على ما أذن فيه لهما؛ لأن مقتضى الدَّليلِ عدمُ صحةِ إقرارِهما، تُرِكَ العمل به فيما أذن له فيه، فيبقى ما عداه على مقتضاه.

(وإن أقرَّ مُراهِق غيرُ مأذونِ له) في التجارة (ثم اختلف هو والمقَرُّ له

ص: 368

في بلوغه؛ فقرل المُقِرِّ) في عدم بلوغه؛ لأنه الأصل (ولا يُحلَّف) لأننا حكمنا بعدم بلوغه (إلا أن تقوم بينةٌ ببلوغه).

قلت: وعلى قياس ذلك: لو باع، أو وهب، أو وقف، أو أعتق، أو أجر ونحوه، ثم أنكر بلوغه حال الشك فيه؛ قُبل قولُه بلا يمين؛ لما تقدَّم. ويُحمل نصَّ أحمدَ في رواية ابنِ منصور

(1)

: إذا قال البائع: بعتُك قبل البلوغ، وقال المشتري: بعد بلوغِك؛ أنَّ القول قولُ المشتري: على ما إذا كان الاختلاف بعد تيقُن بلوغِه.

(ويصحُّ إقرارُ الصبي أنه بلغ باحتلامِ؛ إذا بلغ عشرًا) أي: عشر سنين؛ لأنه لا يُعلم إلا عن جهته، وكذا الجارية إذا بلغت تسعًا.

(ولا يُقبل) منه أنه بلغ (بسنٍّ إلا ببينة) لأنه لا تتعذَّر إقامتُها على ذلك.

(وإن أقرَّ) شخصٌ (بمالٍ، أو بيع، أو شراء ونحوٍ، ثم قال بعد) تحقُّقِ (بلوغه: لم أكن حينَ الإقرار بالغًا؛ لم يُقبل) منه ذلك؛ لأن الأصل الصحة.

(وإن أقرَّ بالبلوغ مَن شُكَّ في بلوغِهِ، ثم أنكره مع الشَّك؛ صُدِّق) لأن الأصل الصِّغَر (بلا يمين) للحكم بعدم بلوغه.

(ولو شَهِد الشهودُ بإقرار شخصٍ؛ لم تفتقر صِحَّة الشهادة إلى أن يقولوا): أقرَّ (طوعًا في صحةِ عقلِه) عملًا بالظاهر، وتقدم

(2)

.

(ويصحُّ، إقرارُ سكرانَ) بمعصية؛ لأن أفعاله تجري مَجرى أفعالِ الصَّاحي (كطلاقه، وكذا مَن زال عقله بمعصية، كمَن شَرِب ما يُزيل

(1)

مسائل الكوسج (6/ 2830) رقم 2044.

(2)

(15/ 266).

ص: 369

عقله، عامدًا لغير حاجة) فيؤاخذ بإقراره.

و (لا) يصحُّ إقرارُ (مَن زال عقله بسببٍ مباح، أو) بسبب هو (معذور فيه) لأنه غيرُ عاقل، ولا معصيةَ يُغلَّظ عليه لأجلها.

(وإن ادَّعى الصبيُّ الذي أنبت) الشَّعر الخشِنَ حولَ قُبله (أنه أنبت بعلاج، كدواء، لا بالبلوغ؛ لم يُقبل) ذلك منه، ولزمه حكمُ تصرُّفه، من بيع، أو إقرارٍ ونحوِهما؛ لأن الأصل عدم ما يدَّعيه.

(ولا يصحُّ إقرارُ المجنون) لحديث: "رُفع القلمُ عن ثلاثٍ

" الخبر

(1)

(إلا في حال إفاقته) فيصحُّ إقرارُه؛ لأنه عاقلٌ، أشبه من لم يُجنَّ.

(وكذا المبَرسَم، والنائم، والمغمى عليه) لأنه التزامُ حقِّ بالقول، فلم يصحُّ منهم، كالبيع (وإن ادَّعى جنونًا؛ لم يُقبل إلا ببينة) لأن الأصلَ السلامةُ. وذكر الأزَجيُّ: يقبل -أيضًا- إن عُهد منه جنون في بعض أوقاتِه، وإلا؛ فلا.

قال في "الفروع": ويتوجَّه قَبوله ممن غلب عليه.

(ولا) يصحُّ (إقرارُ مُكرَهٍ) لحديث: "عُفي لأمّتي عن الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه"

(2)

(إلا أن يُقِرَّ بغير ما أُكره عليه، مثل أنْ يُكرَه) على (أن يُقِرَّ لزيد، فيقرَّ لعمرو، أو على أن يقرّ بدراهم، فيقرَّ بدنانير، أو على الإقرار بطلاق امرأة، فيقرَّ بطلاق غيرِها، أو) على أن يقرَّ بطلاق امرأة، فـ (ـيقر بعتق عبدٍ، فيصح) إقراره (إذًا) لأنه أقرَّ بغير ما أُكره عليه، فصحَّ، كما لو أقرَّ به ابتداءً.

(وإن أُكره على وزن مالٍ، فباع مِلْكَه لذلك؛ صَحَّ) البيع؛ لأنه لم

(1)

تقدم تخريجه (2/ 12) تعليق رقم (2 - 3).

(2)

تقدم تخريجه (2/ 115) تعليق رقم (1).

ص: 370

يُكره عليه، أشبه ما لو لم يُكره أصلًا، ويُكره الشراء منه (وتقدَّم أولَ كتابِ البيع

(1)

.

ومن أقرَّ بحقٍّ، ثم ادَّعى أنه كان مُكرَهًا؛ لم يُقبل) منه دعوى الإكراه؛ لأن الأصل عدمُه (إلا ببينةٍ) لحديث:"البينةُ على المدَّعِي"

(2)

(إلا أن تكون هناك دلالةٌ على الإكراه؛ كقيد، وحبسٍ، وتَوكُّلٍ به) أي: ترسيم عليه (فيكونَ القولُ قولَه مع يمينه) لأنه دليلُ الإكراه، قال الأَزَجيُّ: أو أقام بينةً بأمارة الإكراه، استفاد بها أنَّ الظاهر معه، فيحلف ويُقبلُ قوله.

قال في "النُّكت": وعلى هذا تحرم الشهادة عليه، وكَتْب حجة عليه، وما أشبه ذلك في هذه الحال.

(وتُقدَّم بينةُ إكراهٍ على بينةٍ طواعيةٍ) لأن معها زيادةُ علم.

(وإن قال مَن ظاهرُه الإكراه: علمتُ أنّي لو لم أقِرَّ -أيضًا- أطلقوني، فلم أكن مُكْرَهًا؛ لم يصحَّ) قوله ذلك، ولم يمنع كونه مكرهًا (لأنه ظنٌّ) منه (فلا يعارِض يقينَ الإكراه) لقوة اليقينِ.

قال في "الفروع": وفيه احتمالٌ؛ لاعترافه بأنه أقرَّ طوعًا.

ونقل ابن هانئ

(3)

: في من تقدَّم إلى سلطان، فهدَّده، فيدهشُ، فيقرُّ: يؤخذ به، فيرجع ويقول: هدَّدني، ودهشتُ: يؤخذُ. وما عِلْمُه أنه أقرَّ بالجزع والفزع.

(ومن أقرَّ في مرض موته بشيء، فكإقراره في صِحَّته) لأنه غيرُ

(1)

(7/ 305).

(2)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

(3)

مسائل ابن هانئ (2/ 82) رقم 1529.

ص: 371

مُتّهم فيه (إلا في إقراره بمال لوارث، فلا يُقبلُ إلا ببينة، أو إجازة) من باقي الورثة؛ لأنه إيصالٌ لمالهِ إلى وارثه، بقوله في مرض موته، فلم يصحّ بغير رضا بقية ورثتهِ، كهِبته؛ ولأنه محجور عليه في حَقه، أشبه تبرُّعَه له.

(ويلزمه) أي: المريض (أن يُقر) لوارثه بدَينه ونحوه (وإن لم يُقبل) منه الإقرار (إذا كان) إقرارُه (حقًا) كالأجنبي.

(وَإِنْ اشترى من وَارِثه شيئًا فأقرَّ لهُ بثمنِ مثلِه؛ قُبل) منه ذلك، ولزمه بعقد البيع لا بالإقرار (ولا يحاصُّ المقَرُ له) ولو أجنبيًّا (غرماء الصحة بل يقدمون عليه لأنه أقرَّ بعد تعلق الحق بماله) أشبه إقرارَ المفلِس.

(لكن لو أقرّ) لأجنبي (في مَرضه بعينٍ، ثم بدين أو عكسه) بأن أقرَّ بدَين ثم بعين (فَرَبُّ العَينِ أحقُ بها) من ربِّ الدين؛ لأن الإقرار بالدين يتعلَّق بالذِّمَّة، والإقرارُ بالعين يتعلق بذاتها فتعلّقه بالذات أقوى، ولهذا لو أراد بيعَ العين لم يصح، ومُنع منه لحقِّ المقَرِّ له بها.

"فرع" إذا خاف أن يؤخذ ماله ظلمًا

(1)

أو المال الذي بيده للناس إما بحجة أنه ميت لا وارثَ له، أو أنه مال غائب، أو بلا حُجة أصلا؛ جاز له الإقرار بما يدفع هذا الظلم، ويحفظ المالَ لصاحبه، مثل أن يقر بحاضر أنه ابنه، أو أنّ له عليه كذا، أو أن المال الذي بيده لفلان، ويتأوّل في إقراره، بأنْ يعنيَ بكونه ابنه: صغرَه أو بقوله: أخي أخوّةَ الإسلام، أو بقوله: الذي بيده له، أي: له ولايةُ قبضِه، لكوني قد وكَّلته في إيصاله إلى مستحقه ونحوه. لكن يشترط أنْ يكون المقرُّ له أمينا، والاحتياط أن يشهد على المقَرِّ له أنَّ هذا إقرار تلجئةٍ، تفسيره كذا وكذا؛

(1)

في "ذ": "أن يأخذ ماله ظالمٌ".

ص: 372

قاله في "الاختيارات"

(1)

ملخصًا.

(ولو أعتق

(2)

عبدًا لا يملك غيرَه أو وهبه، ثم أقرّ بدَيْن؛ نَفَذ عتقُه وهِبتُه ولم ينقضا بإقراره) نصًّا

(3)

لأنه تصرُّف منجزٌ، تعلق بعين مالٍ أزاله عن مِلكه، فلم ينقضه ما تعلّق بذمته، كما لو أعتق أو وهب، ثم حُجِر عليه لِفَلَس.

(وتقدّم حكم إقرار مفلسٍ وسفيهٍ في) كتاب (الحجر

(4)

) مفصَّلا.

(وإن أقرَّ لامرأته في مرضه

(5)

بمهر؛ لم يُقبل) لأنه إقرارٌ لوارث (ويلزمه مهر مِثْلِها) إن ادعته (بالزوجيّة) أي بمقتضى كونِها زوجته (لا بإقراره) لأنّ الزوجيّة دلّت على المهر ووجوبه عليه، والأصل بقاؤه.

(ويصح إقرارُه) أي: المريض (بأخذ دَيْن) له (مِن أجنبي) لأنه إقرار لمن لا يُتَّهم في حقِّه.

(وإن أقرّ) المريض بدَين أو عين (لوارث وأجنبي؛ صحَّ) الإقرار (للأجنبي) بغير إجازة، كما لو انفرد؛ لعدم التُّهمة، بخلاف الشهادة؛ لأن الإقرار آكدُ منها، ولذلك لا تُعتبر فيه العدالة، ويوقف إقراره للوارث على إجازة باقي الورثة (والاعتبار) في كونه وارثا أو غير وارث (بحالة الإقرار) لأنه قولٌ تُعتبر فيه التُّهمة فاعتبُرت حالة وجوده دون غيرها كالشهادة (لا) بـ (ـحالة الموت) بخلاف الوصية (فلو أقرَّ لوارثٍ فصار عند الموت غير وارثٍ؛ لم يلزم إقراره) لاقتران التهمة به، فلا ينقلب

(1)

ص/ 527 - 528.

(2)

في "ذ": "أعتق المريض".

(3)

انظر: المغني (8/ 488).

(4)

(8/ 338 - 340).

(5)

في "ذ": "في مرض موته".

ص: 373

لازمًا بعد ذلك (لا أنه) أي: الإقرار (باطل) كما تُوهِمه عبارةُ "المقنع" وغيره: "لم يصح" لأنه لا يزيد على الوصية، وهي موقوفةٌ على الإجازة لا باطلةٌ. وفي نسخ:"لأنه باطل" وليس بمناسب لقوله: "لم يلزم".

(وإن أقرَّ لغير وارثٍ) صَحَّ؛ وإن صار عند الموت وارثًا، كما لو أقرَّ لابن ابنهِ مع ابن، فمات ابنُه؛ لم يتغير حكمُ إقراره؛ لوقوعه من أهله خاليا من التُّهمَة يثبت الحقُّ به، ولم يوجد ما يسقطه (أو أعطاه) أي: أعطى غير وارث؛ لزمت العطيةُ، و (صحَّ) العقدُ (وإن صار) المعطى (عند الموت وارثًا) لما تقدّم ذكره في "الترغيب" وغيره، واقتصر على ذلك في "الفروع" و"شرح المنتهى"، وقد تقدَّم

(1)

في تبرُّعات المريض: أن المعتبر وقتُ الموت في العطية، كالوصية، وقطع به صاحب "الفروع" هناك كأكثر الأصحاب.

قال في "تصحيح الفروع": "وهذا هو المعتمد عليه، وكان الأولى والأحرى للمصنف أن يذكر كلام "الترغيب" وغيره في تبرُّع المريض عقب المسألة؛ ليعلم أن فيه خلافًا، ولا يقطع في مكان بشيء، ويقطع بضده في غيره".

(وإن أقرَّت) المريضةُ (في مرضها أن لا مهرَ لها عليه) أي: الزوج (لم يصحَّ) الإقرار إن لم يجزه باقي ورثتها؛ للتُّهمة (إلا أن يقيم بينة بأخذه) أي: الصَّداق مطلقًا (أو) بـ (ـإسقاطه) في غير مَرض الموت المَخوف وهذا معنى ما نقله مُهنَّا

(2)

.

ونقل إبراهيم

(3)

: لو كان مهرها عشرة آلاف، فقالت في

(1)

(10/ 173).

(2)

انظر: الإرشاد ص/ 334، والفروع (6/ 467).

(3)

مسائل ابن هانئ (2/ 58 - 59) رقم 1420.

ص: 374

مرضها: ما لي عليه إلا ستة آلاف: القضاء ما قضت. اقتصر عليه في "الفروع" في تبرُّعات المريض، ولعل المراد بـ: ما لي عليه إلا ستة

(1)

، أي: لم يتزوَّجني إلا عليها، لا أنها أقرّت بقبض أربعة، بخلاف ما هنا (وكذا حكم كلِّ دَيْنٍ ثابت على وارث) لا يصحُّ إقرار المريضِ بقبضه إلا بإجازة باقي الورثة.

(وإن أقرَّ المريض بوارثٍ، صحّ) إقرارهُ؛ لأنه إقرارٌ لغير وارثٍ، فصحَّ، كما لو لم يصر وارثًا؛ ولأنه غيرُ متَّهم فيه.

(وإن أقر) المريض (لامرأته بدين، ثم أبانها، ثم تزوجها) قلت: أو لم يتزوَّجْها (ومات من مرضه؛ لم يصحَّ إقراره) بغير إجازة الباقي؛ لأنه إقرارٌ لوارثٍ في مرض الموت؛ أشبه ما لم يبِنْها؛ ولأنَّ الاعتبارَ بحال الإقرار وهي وارثة حينَه.

وفي "الرعاية الكبرى": لو أقرَّ لها بدَيْن، ثم تزوَّجها، ومات؛ بطل إلا أن يُجيز الورثة.

(وإنْ أقرَّ أنه كان طَلَّقها في صِحَّته، لم يسقط ميراثها) لأنه مُتَّهم، وكما لو طَلَّقها في مرضه.

"تتمة": يصحُّ إقرارُ المريض بإحبال الأَمَة؛ لأنه يملك ذلك، فمَلك الإقرار به. وكذا كلّ ما مَلكه مَلَكَ الإقرارَ به، فإذا أقرَّ بذلك ثم مات، فإن بيَّن أنه استولدها في ملكه، فولدت حُرَّ الأصل؛ فأمُّ ولدٍ، تَعْتِقُ بموته من رأس المال. وإن قال: من نكاح، أو وطء شبهة

(2)

؛ عَتَق الولد؛ ولم تصر أمّ ولد. وإن لم يُبيِّن السببَ، فالأصلُ الرق، ولا ولاءَ

(1)

فى "ذ": "ستة آلاف".

(2)

في "ذ": "بشبهة".

ص: 375

على الولد؛ لأن الأصل عدمه، فإن كان له وارثٌ قام مقامه في بيان كيفيةِ استيلادها.

فصل

(وإن أقرَّ عبدٌ) أو أمة (ولو آبقًا، بحدٍّ، أو) أقرَّ عبدٌ بـ (ـطلاقٍ، أو) أقر قِنٌّ بـ (ـقِصاص، فيما دون النفس؛ أُخذ به) أي: بإقراره (في الحال) لأنّ ذلك يُستوفى مِن بَدَنه، وهو له دون سيده؛ لأنَّ السيد لا يملك منه إلا المال؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم "الطلاق لمن أَخَذَ بالسّاق"

(1)

ومن ملك إنشاء شيءٍ، ملك الإقرارَ به.

(وإن أقرَّ) القِنُّ (بِقصاصٍ في النفس، لم يُقتصَّ منه في الحال) لأنه يُسقِطُ حقَّ السيدِ به، أشبه الإقرار بقتل الخطأ؛ ولأنه مُتَّهم في أن يقر لمن يعفو على مال، فيستحقُ رقبته لتتخلّص من سيده (ويُتبَع به) أي: بالقِصاص في النفس إذا أقرّ به في رِقِّه (بعد العتق) لزوال المعارض (وطلبُ جوابِ الدعوى) للقتل عمدًا (منه) أي: القِنّ (ومن سيده) جميعًا كما تقدم.

(وإن أقرَّ السيدُ عليه) أي: القِن (بمالٍ؛ أو بما يوجبه) أي: المال (كجناية الخطأ) والعمد الذي لا يوجب قِصاصًا بحال، كالجائفة والمأمومة (صَحَّ) إقراره؛ لأن المال يتعلق برقبته، وهي مالُ السيد، فصحَّ إقراره به (ويؤخذ منه) أي: السيد (دية ذلك) يعني أنه يُخيَّر بين فدائه، وبيعه وتسليمه في أرْشِ الجناية، كما يُعلم مما سبق، كما لو ثبت بالبينة.

و (لا) يصحُّ إقرارُ السيد على قِنِّه (بما يوجب قِصاصًا، ولو فيما

(1)

تقدم تخريجه (11/ 391) تعليق رقم (1).

ص: 376

دون النفس) لأنه لا يملك منه إلا المال.

(وإن أقرَّ العبدُ) ومثله الأَمَة (بجناية خطأ، أو شِبه عَمْدٍ، أو غَصْبٍ أو سرقة مال) لم يُقبل على السيد (أو) أقرَّ القِنُّ (غير المأذون له بمال عن معاملة، أو) أقرَّ بمال (مطلقًا) ولم يبين كونه عن معاملة أو غيرها؛ لم يُقبل على السيد (أو) أقرَّ قِنٌّ (مأذون له) ومثله حر صغير مأذون له في التجارة (بما لا يتعلّق بالتجارة) كقرض وجناية (وكذّبه السيدُ؛ لم يقبل) إقراره (على السيد) لأنه إقرارٌ من محجور عليه في حَقِّ غيره.

(وإن توجَّهت عليه) أي: القِن (يمينٌ على مالٍ، فَنَكَل عنها، فكإقراره، فلا يجب المال) لأنه كالإقرار على غيره (وسواءٌ كان ما أقرَّ) القِنُّ (بسرقته باقيًا، أو تالفًا في يدِ السيد، أو يدِ العبد، ويُتبع بما أقرّ به بعد العتق) لزوال المانع (ويُقطع للسرقة في المال) إذا أقرّ بها (في الحال) أي: حال الإقرار؛ لأن القطع حَقُّ له، فيُقبل إقراره به، كما لو أقر بِقصاصٍ بطرفٍ.

(قال) الإمام (أحمد

(1)

-في عبدٍ أقرَّ بسرقة دراهمَ في يده، أنه سَرقها من رُجلٍ، والرّجل يَدّعِي ذلك) أي: أنه سرق الدراهم منه (والسيدُ يكذِّبه-: فالدراهم لسيده) لأنَّ المال حقٌّ لسيده

(2)

، فلم يُقبل إقرارُ العبد به، كما لو أقرّ العبدُ بمال في يده (ويُقطع العبدُ) لما تقدم (ويُتبَع بذلك) المال الذي أقرّ به (بعد العتق) لزوال المُعارض.

(وما صحَّ إقرارُ العبدِ به) كالحَدِّ والطلاق والقِصاص في الطرف (فهو الخصم فيه) وحده فطلبُ جواب دعواه منه (وإلا) أي: وإن لم

(1)

انظر: المغني (7/ 265).

(2)

في "ذ": "للسيد".

ص: 377

يصحَّ إقرارُ العبد به، كالمال (فـ) ـالخصمُ فيه (سيدُه) والقصاص في النفس هما الخصمُ فيه كما سبق.

(وإن أقرَّ بالجناية مُكاتَب؛ تعلَّقت برقبته وذمَّتِه) ولا يتعلق ذلك بالسيد (ولا يُقبل إقرار سيده) أي: المُكاتَب (عليه بذلك) أي: بجناية، بل ولا بغيرها؛ لأنه إقرار على غيره.

(وإن أقرَّ غيرُ مكاتب بمالٍ لسيده، أو) أقرَّ (سيدُه له) بمال (لم يصح) الإقرارُ؛ لأن مال العبد لسيده، وشمل ذلك القِنّ والمدبَّر، وأمَّ الولد، والمُعلَّقَ عتقه بصفة، بخلاف المُكاتَب، فإنه يملك كسبَه ومنافعه، وعُلم منه: صحةُ إقرار كلٍّ منهما للآخر بنحو حَدٍّ.

(وإن أقرَّ العبدُ) أو الأَمَة (برِقِّه لغير مَن هو في يده؛ لم يُقبل) وإن أقر السيد بذلك؛ قُبل؛ لأنه في يد السيد، لا في يد نفسه.

(وإن أقرّ السيدُ أنه باع عبدَه من نفسه بألف، وصدّقه؛ صح) ذلك (ولزمه الألف، ويكون كالكتابة) لأن الألف بدل عن رقبته (وإن

(1)

أنكر) العبد شراءه نفسَه (حلف) العبد على ذلك (ولم يلزمه شيء) لأنه منكر، والأصل براءته (ويَعتِقُ) العبدُ (فيهما) أي: في مسألتي التصديق والإنكار؛ لأن السيد أقرَّ بحريته، والأمَةُ مِثلُه في ذلك ونظائره.

(وإن أقرَّ لعبد غيرِه بمال؛ صَحَّ) الإقرارُ (وكان) المال (لمالكه) لأنه هو الجهة التي يصحُّ بها الإقرار، فتعيَّن جَعْل المال له، فكان الإقرار لسيده (و) حينئذ يلزمه بتصديقه، و (يبطل بردِّه، أي: رد مالِكه) لأنَّ يَدَ العبدِ كيدِ سيده.

(وإن أقرَّ) مُكلَّف (له) أي: للعبد (بنكاح) فَصَدَّقه العبدُ؛ صحَّ.

(1)

في "ذ": "فإن".

ص: 378

قال في "الكافي": وإن أقرَّ العبد بنكَاحٍ؛ صحَّ.

قال أبو العباس

(1)

: وفيه نظر؛ لأن العبد لا يصحُّ نِكاحه بدون إذن سيدِه؛ لأن في ثبوت نكاح العبد ضررًا عليه، فلا يُقبل إلا بتصديق السيد (أو) أقرَّ لقِنٍّ بـ (ــقصاص)، أو تعزير القذف، وصدَّقه العبدُ؛ صحَّ) الإقرارُ (وله) أي: القِنّ (المطالبةُ به والعفو) عنه (وليس لسيده مطالبة) المُقِرّ (بذلك ولا عفو) عنه؛ لأن الحقَّ له فيه دون سيده.

(وإن أقرَّ لبهيمةٍ) بشيء (لم يصحَّ) الإقرارُ؛ لأنها لا تَملِك، ولا لها أهلية المِلْك (وإن قال: عليَّ ألفٌ بسبب هذه البهيمة، لم يكن مُقِرًّا لأَحدٍ) لأن من شرط صحةِ الإقرار ذِكْرَ المقَرِّ له (وإن قال: لمالكها) أو لزيد (عليَّ ألفٌ بسببها؛ صَحَّ) قاله في "الشرح" وغيره.

(وإن قال): عليَّ كذا (بسبب حَمْلِ هذه البهيمة؛ لم يصحَّ) إقراره؛ لأنه لا يمكن إيجاب شيء

(2)

بسبب الحَمْل، إلا أن ينفصل الحَمْلُ ميتا، ويَدَّعي مالكُها أنه بسببه، فيلزمه ما أقرّ به.

(وإن أقرَّ لمسجدٍ، أو مقبرة، أو طريق ونحوه) كقنطرة وسقاية (صَحَّ) الإقرارُ (ولو لم يذكر سببًا) كغلَّة وقف، أو وصية؛ لأنه إقرارٌ من مُكلَّف مختار، فلزمه، كما لو عيَّن السبب (ويكون لمصالحها) أي: المذكورات.

(ولا يصح) الإقرارُ (لدارٍ) ونحوها (إلا مع) بيان (السبب) من غَصْب، أو إجارة ونحوهما؛ لأن الدار لا تجري عليها صدقة في الغالب، بخلاف المسجد ونحوه.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 530.

(2)

في "ذ": "لشيء".

ص: 379

(و‌

‌إن تزوَّج مجهولةَ النسبِ، فأقرّت بالرِّقِّ؛ لم يُقبل)

إقرارُها في حقِّها، ولا في حقِّ أولادها؛ لأن الحرية حقٌّ لله تعالى، فلم ترتفع بقول أحد، كالإقرار على حق الغير.

(وإن أقرَّ بولدٍ أمتهِ أنه ابنُهُ ثم مات) المُقِرُّ (ولم يتبين هل أتت به) أي: الولد (في ملكه، أو) في (غيره، لم تَصِرْ أمَّ ولدٍ) لاحتمال أنها أتت به في غير ملكه (إلا بقرينة) تدلُّ أنها حملت به، وهي في ملكه، كما لو كان ملَكَها بِكرًا أو صغيرة.

فصل

(وإن أقرَّ) مُكلَّف (بنسب صغيرٍ، أو مجنونٍ، مجهولِ النسب) بأن قال: (أنه ابنُهُ، وهو محتمل أن

(1)

يولد لمثل المُقِر) بأن يكون المُقِرُّ أكبرَ منه بعشر سنين، فأكثر (ولم ينازِعْهُ منازعٌ؛ ثبت نسبُهُ منه) لأن الظاهر أنَّ الشخص لا يلحق به مَن ليس منه، كما لو أقرَّ بمال.

(وإن كان الصغير، أو المجنون) المقرُّ به (ميتًا؛ وَرِثه) المُقِر؛ لأن سبب ثبوته -أي: النسب- مع الحياة الإقرارُ، وهو موجود هنا.

(وإن كان) المُقَرُّ به (كبيرا عاقلا؛ لم يثبت) نسبُهُ من المقر (حتى يُصدِّقه) لأن له قولا صحيحا فاعتُبر تصديقه كما لو أقرّ له بمال.

(وإن كان) الكبير العاقل المُقِرُّ به (ميتًا؛ ثبت إرثُه ونسبُه) لأنه لا قول له؛ أشبه الصغير.

(وإن ادَّعى نسبَ مكلَّفٍ في حياته، فلم يُصدِّقْه حتى مات المُقِر، ثم صدَّقه؛ ثبت نسَبُه) لأن بتصديقه يحصُل اتفاقُهما على التوارث من الطرفين جميعا.

(1)

في "ذ": "لأن".

ص: 380

(ومن ثبت نَسَبُه، وله أمٌّ، فجاءت بعد موت المُقِرِّ تدَّعي زوجيَّته) أي: المقر (لم تثبت) الزوجيَّة (بذلك؛ لأن الرجل إذا أقرَّ بنسب صغير لم يكن مُقِرًّا بزوجيّة أُمّه) لأنه يحتمل أنْ يكون من وَطْءِ شُبهة

(1)

، أو نكاح فاسد، وكذا لو ادَّعت أخته البنَّوة؛ ذكره في "التبصرة". قال في "الاختيارات"

(2)

: ومن أنكر زوجيّة امرأة فأبرأته، ثم أقرَّ بها، كان لها طلبه بحقِّها.

(وإنْ قدِمت امرأةٌ من بلاد الروم ومعها طفلٌ، فأقرّ به رجُلٌ) أنه ابنُه مع إمكانه ولا منازع (لِحَقِهِ) نسبُه؛ لوجود الإمكان وعدم المُنازع، والنسبُ يُحتاط لإثباته (ولهذا لو ولدت امرأةٌ رجلٍ وهو غائِبٌ عنها، بعد) عشر (سنين أو أكثر من غيبته؛ لَحِقَه الولد وإن لم يُعرف له) أي: الرجل (قدومٌ إليها، ولا عُرف لها خروجٌ من بلدها).

ومن له أَمَتان، لكلِّ واحدة منهما ولد، ولا زوج لواحدة منهما، ولم يُقِرَّ بوطئها، فقال: أحد هذين ابني؛ أُخذ بالبيان. فإن عيَّن أحدهما؛ ثبت نسبه وحريته، ويطالب ببيان الاستيلاد. فإن قال: استولدتها في ملكي؛ فالولد حرٌّ الأصل، وأُمُّه أُمُّ ولدٍ. وإن قال: من نكاح، أو وطء شُبهة

(3)

. فأمه رقيقةٌ قِنّ؛ ذكره في "الكافي" وغيره، وتَرِقُّ الأخرى وولدها. وإنِ ادَّعتِ الأخرى أنها المستولدة، فالقول قوله مع يمينه

(4)

. وإن مات قبل البيان، قام وارثه مَقَامَه. فإن لم يكن له وارث، أو لم يُعيّن الوارث؛ عُرِضَ على القافة، فأُلحِق به من تُلحِقُهُ به. وإن لم تكن قافة،

(1)

في "ذ": "بشبهة".

(2)

ص/ 532.

(3)

في "ذ": "بشبهة".

(4)

في "ذ": "قوله بيمينه".

ص: 381

أو أشكل؛ أُقرع بينهما؛ فيعتق أحدُهما بالقرعة. وتقدَّم

(1)

: لا مدخل للقرعة في تمييز النسب، ويُجعل سهمه في بيت المال لأنا نعلم أن أحدهما يستحق نصيبَ ولد، ولا يُعرف عينه، فلا تستحقّه بقية الورثة؛ قاله السامَرِّي.

(وإن أقرَّ بنسبِ أخٍ أو عَمٍّ في حياة أبيه، أو جدِّه لم يُقبل) لأن إقرارَ الإنسان على غيره غيرُ مقبول.

(وإن كان) إقراره بنسب الأخ، أو العم (بعد موتهما) أي: الأب والجد (وهو) أي: المُقِر (الوارث وحدَه؛ صحَّ إقرارُه، وثبت النسبُ) لحديث سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعةَ؛ متفق عليه من حديث عائشة

(2)

؛ ولأن الوارث يقوم مَقام مُورِّثه في حقوقه، وهذا منها، إلا أنْ يكونَ الميت قد نفاه قبلَ موته، وتقدم في اللعان

(3)

، ويدخل في كلامه إذا كان الوارث ابنة واحدة؛ لأنها تَرِث المال فرضًا وردًا وتقدم

(4)

.

(وإن كان معه) أي: المُقِر (غيرُه، لم يثبت) نسبُ المُقِر به؛ لأنه لا يستوفي حق شريكه، فوجب ألا يثبت في حقِّه (وللمُقَر له من الميراث ما فضل في يد المُقِر)

(5)

مؤاخذة له بمقتضى إقراره (وتقدَّم) ذلك (في) باب (الإقرار بمشارك في الميراث

(6)

) مفصلًا، وبيانُ طريقه.

(وإن أقر بأبٍ أو ولد أو زوج أو مولًى أعتقه؛ قُبل إقراره) لعدم

(1)

(10/ 467).

(2)

تقدم تخريجه (11/ 315) تعليق رقم (2).

(3)

(12/ 547).

(4)

(10/ 502).

(5)

زاد في "ذ": "عن ميراثه".

(6)

(10/ 505 - 506).

ص: 382

التّهمة (ولو أسقط به وارثًا معروفًا) لأنه لا حقَّ للوارث في الحال، وإنما يستحقُّ الإرث بعد الموت، بشرط خُلُوه من مُسقِط (إذا أمكن صدقه) أي: المُقِر، بألا يُكذِّبه فيه ظاهرُ حاله، فإن لم يُمكن صِدقُه، كإقرار الإنسان بمَن في سنّه، أو أكبر منه؛ لم يقبل (ولم يدفع به) أي: بإقراره (نسبًا لغيره

(1)

) فإن دفع به ذلك؛ لم يصح؛ لأنه إقرار على الغير (وصدّقه المُقِرّ به) المكلَّف، وإلا؛ لم يُقبل (أو كان) المُقِر به (ميتًا، إلا الولد الصغير والمجنون، فلا يُشترط تصديقهما) لما مرَّ.

(فإن كَبِرَا، وعقَلا، وأنكرا) النسب (لم يُسمع إنكارُهما) لأنه نسب حُكِم بثبوته، فلم يسقط برده، كما لو قامت به بينة (ولو طلبا إحلاف المُقِر لم يُستحلف؛ لأن الأبَ لو عاد، فَجَحَد النسبَ؛ لم يُقبل منه) لأن النسب يُحتاط له، بخلاف المال.

(ويكفي في تصديق والدٍ بولده وعكسِهِ) كتصديق ولدٍ بوالده (سكوتُه إذا أقرَّ به) لأنه يغلب في ذلك ظنّ التصديق (ولا يُعتبر في تصديق أحدهما) أي: الوالد بولده وعكسه (تكرارُه) أي: التصديق (فيشهد الشاهد بنسبهما) بدون تكرار التصديق، ومع السكوت (وتقدم في) كتاب (الشهادات

(2)

) مفصلًا.

(ولا يصح إقرارُ من له نسب معروف بغير هؤلاء الأربعة) وهم الأب والابن والزوج والمولى، كجد يقر بابن ابن وعكسه، وكالأخ يُقِرُّ بأخ، والعمِّ يُقِرُّ بابن أخٍ؛ لأنه يحمل على غيره نسبًا، فلم يُقبل (إلا ورثة أقروا لمن) لو (أقرَّ به مورثُهم) ثبت نسبه، فيصح؛ لقيامهم مقامه،

(1)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (4/ 301) ما نصه "لكونه مجهول النسب".

(2)

(15/ 269).

ص: 383

وتقدم، في عبارته نظر، لكن توضيحها ما قدَّرته ليوافق كلامَ غيره.

(وإن

(1)

خلَّف ابنين مكلَّفين، فأقرّ أحدُهما بأخٍ صغير) أو مجنون (ثم مات المُنكِر، والمقِر وحدَه وارث) للمُنكِر (ثبت نسبُ المقَر به منهما) لانحصار الإرث فيه (فلو مات المُقِر بعد ذلك عن بني عَمِّ وعن الأخ المُقَر به؛ ورثه) الأخ المُقَر به (دونهم) أي: دون بني العم؛ لأن الأخ يحجبهم، وقد ثبت نسبه بإقرار الميت.

(وإن أقرَّ مَن عليه ولاءٌ بنسبِ وارثٍ؛ لم يُقبل) إقرارُه لأنه متَّهم بدفع مولاه عن ميراثه (إلا أن يُصدقه مولاه) فيقبل إقراره؛ لعدم المانع (وإن كان) المُقِرُّ بنسبٍ (مجهولَ النسب، ولا ولاء عليه، فصدَّقه المُقَر به، وأمكن؛ قُبل) ولو كان المُقر به أخًا أو عمًّا؛ لأن نسبه لا يُعرف من غيره وهو غير مُتَّهم فيه، فوجب قَبوله، كما لو أقرَّ بحقٍّ غيره.

(وإن أقرَّت امرأةٌ -ولو بكرًا- بنكاحٍ على نفسها؛ قُبِلَ) إقرارُها؛ لأنه حقٌّ عليها، فَقُبِل إقرارُها به، كما لو أقرَّت بمالٍ؛ ولزوال التُّهمة بإضافة الإقرار إلى شرائطه، كما لو أقرَّت أن وليَّها باع أَمَتها في صغرها (إن كان مُدَّعيهِ) أي: النكاح (واحدًا) قال في "الشرح": فإن ادَّعاها اثنان، فأقرَّت لأحدهما؛ لم يُقبل منها؛ لأن الآخر يَدَّعي ملك بُضعِها، وهي معترفة أنَّ ذلك قد ملك عليها، فصار إقرارها بحقٍّ غيرها؛ ولأنها مُتَّهمة، فإنها لو أرادت ابتداء تزويج أحد المتداعيين، لم يكن لها قبل الانفصال من دعوى الآخر. انتهى، وهذه رواية الميموني

(2)

واختارها القاضي وأصحابه، وجزم بها في "الوجيز"، وفي "المغني" في أثناء

(1)

في متن الإقناع (4/ 543): "أو إن".

(2)

انظر: المغني (9/ 433).

ص: 384

الدعاوى. وصحَّح في "الإنصاف" و"تصحيح الفروع" أنه يُقبل إقرارُها بالنكاح على نفسها. وقال: صحَّحه المجدُ في "محرره"، وصاحب "التصحيح"، واختاره الشيخ الموفق، وجزم به في "المغني" في النكاح، وجزم به في "المنور" وغيره، وقدَّمه في "النظم" وغيره. انتهى وقدَّمه المصنف في طريق الحكم وصفته

(1)

وجزم به في "المنتهى" (وتقدم في طريق الحكم وصفته

(2)

، فلو أقرَّت) المرأة بالنكاح (لاثنين، وأقاما بينتين؛ قُدم أسبقهما) تاريخًا؛ لأن نكاح المتأخِّر باطلٌ (فإن جُهل) التاريخ (فُسِخَا) أي: النكاحان؛ لعدم المُرجِّح، فإن علم الوليُّ التاريخ؛ قُبِلَ قوله، وكان السابق صحيحًا (ولا يحصُل الترجيح باليد) أي: لا يرجَّح أحدهما بكونها بيده؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد.

(وإن أقرَّ رَجُلٌ) بزوجيّة امرأة (أو) أقرَّت (امرأة بزوجيّة الآخر، فلم يصدِّقه الآخرُ إلا بعد موته؛ صَحَّ) التصديق (وورثه) لقيام النكاح (إلا أن يكون كذّبه في حياته) فلا يُقبل تصديقه بعد الموت؛ لأن الإقرار بطل بتكذيبه.

(وإن أقرَّ وليُّ مُجبَرة

(2)

عليها بنكاح؛ قُبِل) إقرارُه؛ لأنه يملك إنشاءه، فملك الإقرارَ به، كالبيع وغيره (وإن كانت) المرأة (غير مُجبَرة وهي مُقِرَّة له) أي: للولي (بالإذن؛ قُبِل أيضًا) لأنه يملك عقد النكاح عليها بمقتضى الإذن؛ فملك الإقرارَ به كالوكيل (وإلا) أي: وإن لم تكن غير المُجبَرة

(3)

مُقِرَّة بالإذن (فلا) يُقبل إقرارُ الولي عليها بالنكاح؛ لأنه إقرارٌ عليها، أشبه الإقرارَ عليها بمال.

(1)

(15/ 143).

(2)

في "ذ": "مميزة".

(3)

في "ذ": "المميزة".

ص: 385

(وإن أقرَّ) مكلَّفٌ (بنكاح صغيرة بيده؛ فُرِّق بينهما) حيث لم تقم له بينة؛ لأنه لا يقبل قوله في النكاح بمجرَّده، وتصديقها لاغٍ؛ لصغرها (وفَسَخه حاكم) لما تقدم (وإن صدَّقَته) المرأة (إذا بلغت؛ قُبِل) تصديقها؛ لعدم المانع. قال في "الفروع"(فدلَّ أنَّ منِ ادّعت أن فلانًا زوجها، فأنكر، فطلبت الفُرقة؛ يحكم عليه) بالفُرقة؛ وقد سئل عنها الموفق، فلم يجب فيها بشيء.

(ولو أقرّت مزوَّجة بولدٍ؛ لَحِقها) لإقرارها (دون زوجها) لعدم إقراره به وكما لو أقرَّ به رجُلٌ، فإنه لا يلحق بامرأته (و) دون (أهلها) هذه عبارة "الرعاية" وفيها نظر؛ لأنه إذا لحقها نسبُهُ تَبِعها أهلُها، كالرجل، وهذا مقتضى كلام الجمهور.

(وإن أقرَّ الورثة بدَين على مورثهم، لزمهم قضاؤه) لأنهم أقروا باستحقاق ذلك على موروثهم (إما مِن التِّرِكة؛ لتعلُّق الدَّين بها) أي: التركة (فللورثة تسليمها فيه) أي: في الدَّين؛ كتسليم العبد الجاني في أرْش الجناية (وإن أحبوا) أي: الورثة (استخلاصَها) أي: التركة (ووفاء الدَّين من مالهم، فلهم ذلك) لأن الدَّين لا يمنع انتقالها إليهم، وكالعبد الجاني (ويلزمهم) أي: الورثة (أقلُّ الأمرين مِن قيمتها أو قَدْر الدّين، بمنزلة) القِنِّ (الجاني) بغير إذن سيده وأمرِه.

(وإن أقرَّ بعضهم) أي: الورثة بدَين على الميت بلا شهادة (لزمه) من الدَّين (بقَدْر ميراثه) لأنه يستحقُّ أكثر من ذلك، كما لو أقرَّ الورثةُ كلهم، فإذا وَرِثَ النصفَ، فنصفُ الدَّين (كإقراره) أي: بعض الورثة (بوصية) فيلزمه منها بقَدْر إرثه (ما لم يشهد منهم) أي: من الورثة (عَدْلان

ص: 386

أو عدلٌ ويمين، فيلزمهم الجميع) أي: جميع الدّين (إن وَفّت به التِّركة) كما لو شَهِد به عدلان من غيرهم (ويأتي آخر باب "ما إذا وصل بإقراره ما يغيره"

(1)

) وإن أقرّ بعضُ الورثة بما يستغرق التَّركةَ، أخذ كلّ ما بيده.

(ويُقدَّم) من الديون على الميت (ما ثبت ببينةٍ) نصًّا

(2)

؛ لانتفاء التُّهمة فيه (أو) يعني: ثم ما ثبت بـ (ـإقرار) الميت، فيُقدَّم (على ما ثبت بإقرارِ (ورثةً إن حصلت مزاحمةٌ) لأن إقرار الورثة إنما يلزم في حَقِّهم، وإنما يستحقُّون التّرِكة بعد أداء الدين الثابت عليها، فوجب أداء ما ثبت بغير إقرارهم أولًا، ثم ما ثبت بإقرارهم.

(فإن لم يكن للميت تَرِكة) أو كانت واستغرقها ما ثبت بالبينة، أو إقرار الميت (لم يلزمهم شيءٌ) لأنهم لا يلزمهم دَيْنُهُ إذا كان حيًّا مُفلِسًا، فكذا هنا إذا كان ميتًا.

(وإن أقرَّ الوارثُ لرجُلٍ) مثلًا (بدَيْن يستغرق التَّرِكة، ثم أقرَّ بمثْلِه لآخرَ في مجلسٍ ثانٍ، لم يُشارِكِ الثاني الأولَ) لأن الأول استحق تسلُّمَه كله بالإقرار، فلا يُقبل إقرار الوارث بما يُسقِط حقَّه؛ لأنه إقرار على غيره (وَيغرَمُهُ) أي: قدر التركة (المُقِرُّ للثاني) لأنه فوَّته عليه بإقراره به للأول، وإن كان الإقراران في مجلس واحد تحاصَّا.

(وإن أقرَّ) مُكلَّف (لحملِ امرأةٍ بمال؛ صَحَّ) الإقرار؛ لأنه يجوز أن يكون له وجهٌ، فصح، كالطفل (إلا أن تُلقيَه) أي: الحمل (ميتًا، أو يتبينَ أن لا حَمْل، أو لا يُتَيقَّن

(3)

أن الحمل كان موجودًا حالَ الإقرار) بأن ولدته

(1)

انظر (15/ 413 - 414).

(2)

انظر: الإرشاد ص / 333، والفروع (6/ 617).

(3)

في "ذ": "نتيقن".

ص: 387

بعد ستة أشهر وقبل أربع سنين مع زوجٍ أو سيد يطأ (فيبطلُ) الإقرار؛ لفوات شرطه.

(وإن ولدت حيًا أو ميتًا فالمالُ للحيِّ) لأن الشرط فيه متحقِّقٌّ بخلاف الميت.

(وإن ولدت ذكرًا وأنثى حيَّين، فـ) ـالمالُ المُقَرُّ به (لهما بالسوية) لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه، ومطلقُ الإضافة يقتضي التسوية (إلا أن يعزُوَه) أي: المال (إلى ما يقتضي التفاضل، فيُعملَ به) أي: بما عزاه إليه، ويكون على التفاضل.

(وإن قال: للحمل عليَّ ألفٌ جعلتُها له، ونحوه) كـ: وهبتها له، أو: تصدَّقتُ بها عليه، أو: أعددتها له (فهو وعدٌ) لا يؤخذ به.

(وإن قال: له) أي: الحمل (عليَّ ألفٌ أقرَضَنيه أو) قال: له عليَّ ألف (وديعةٌ أخذتها منه؛ لزمه) لأن قوله: "للحمل عليَّ ألف" إقرار بالألف، فلا يرتفع بما ذكره بعد، و (لا) يلزمه شيء في قوله:(أقرضَنِي) الحملُ (ألفًا) لأن الحمل لا يُتصور منه قرض.

(ومن أقرَّ لكبيرٍ عاقلٍ بمالٍ في يده، ولو كان المُقِرُّ به عبدًا أو) كان (نفس المُقِرِّ، بأن أقر برِقِّ نفسه للغير، فلم يُصدِّقه) المُقِرُّ له (بطل إقراره) لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه (ويُقر بيد المُقِرِّ) لأنه كان في يده، فإذا بَطَلَ إقرارُه؛ بقي كأن لم يُقِرَّ به (فإن عاد المُقِر فادّعاه لنفسه، أو لثالث قُبِلَ منه) لعدم المعارض له فيه (ولم يُقبل بعدها) أي: بعد دعوى المُقِرِّ المُقَرَّ به لنفسه، أو لثالث (عَوْدُ المُقَرِّ له أوّلًا إلى دعواه، وكذا لو كان عودُه إلى دعواه قَبلَ ذلك) أي: قبل دعوى المُقِرِّ المقرَّ به لنفسه أو غيره؛ لأنه مكذِّبٌ لنفسه.

ص: 388

‌باب ما يحصل به الإقرار من الألفاظ

(إذا ادَّعى عليه ألفًا، فقال: نعم، أو أَجَلْ) بفتح الهمزة والجيم، وسكون اللام، وهو حرف تصديق، كـ: نعم. قال الأخفش

(1)

: إلا إنه أحسن من "نعم" في التصديق، و"نعم" أحسن منه في الاستفهام، ويدل عليه قوله تعالى:{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}

(2)

، وقيل لسلمان رضي الله عنه: علَّمكم نبيكم كلَّ شيء حتى الخِراءة؟

(3)

؟ قال: أجل

(4)

(أو) قال: (صدقت، أو: أنا مُقِرٌّ به أو): أنا مُقِرٌّ (بدعواك؛ كان مُقِرًّا) لأن هذه الألفاظ وُضعت للتصديق.

(وإن قال: يجوز أن يكون محقًّا، أو عسى) أن تكون محقًا (أو: لعلَّ) أن تكون محقًّا (أو: أظنُّ أو: أحسبُ، أو: أُقَدِّر) أنك محقّ (أو) قال (خُذْ، أو: اتَّزِنْ، أو: أحرِزْ، أو: أنا أُقِرّ، أو: لا أُنْكِر، أو: افتَحْ كُمَّكَ، لم يكن مُقِرًّا) لأن قوله: "أنا أُقِرّ" وعدٌ بالإقرار، والوعد بالشيء لا يكون إقرارًا به، وفي قوله:"لا أُنْكِرُ": لا يلزم من عدم الإنكار الإقرارُ، فإن بينهما قسمًا آخر، وهو السكوت عنهما. وفي قوله:"يجوز أن تكون مُحِقًّا" لجواز ألا يكون محقًّا؛ لأنه لا يلزم من جواز الشيء وجوبه. وقوله: "عسى" و"لعل"؛ لأنهما وُضعا للترجِّي. وقوله: "أظُن"، أو

(1)

انظر: الصحاح (4/ 1622) مادة (أجل).

(2)

سورة الأعراف: الآية: 44.

(3)

في "ذ" بعد قوله: الخراءة: "أي: كيفية ما يتغوط الإنسان".

(4)

أخرجه مسلم في الطهارة، حديث 262.

ص: 389

"أحسب"، أو:"أقدِّر" لأنها تُستعمل في الشك. وقوله: "خُذْ" يحتمل أن معناه: خُذِ الجواب مِنِّي. وقوله: "اتَّزِن" و"أحرِز" ما لك على غيري. وقوله: "افتح كُمَّك" لأنه يُستعمل استهزاءً لا إقرارًا، وكذا قوله: اختم عليه، أو: اجعله في كيسك، أو سَأُقِرُّ بدعواك، ونحوه.

(وإن قال: أنا مُقِرٌّ أو) قال: (خُذْها، أو اتَّزِنها، أو أحْرِزْها، أو اقبضها، أو هي صحاح؛ كان مُقِرًّا) لأنه عَقِب الدَّعوى، فيُصرف إليها؛ ولأن الضمير يرجع إلى ما تقدَّم. وكذا: أقررتُ قال تعالى: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}

(1)

فكان منهم إقرارًا.

(وإن قال: أليس لي عليك كذا، فقال: بلى، فإقرارٌ) صحيح؛ لأن "بلى" جواب للسؤال بحرف النفي؛ لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}

(2)

، قال ابن عباس: لو قالوا: نعم؛ لكفروا

(3)

.

و (لا) يكون مُقِرًّا، إن قال:(نعم. وقيل: إقرارٌ مِن عامِّيٍّ) وجزم به في "المنتهى". وقال في "شرحه": في الأصح (قال في "الإنصاف": هذا عين الصواب الذي لا شكَّ فيه) وفي قصة إسلام عمرو بن عَبَسة: فقدمت المدينة، فدخلتُ عليهُ فقلت: يا رسولَ الله، أتعرفني؟ فقال: نعم، أنت الذي لقيتني بمكة، قال: فقلت: بلى

(4)

قال في "شرح مسلم"

(5)

:

(1)

سورة آل عمران، الآية:81.

(2)

سورة الأعراف، الآية:172.

(3)

لم نقف على من رواه عنه مسندًا، وأورده عنه: الزركشي في البرهان في علوم القرآن (4/ 262)، والعيني في عمدة القارئ (2/ 37)، والألوسي في روح المعاني (9/ 101)، والدمياطي في إعانة الطالبين (3/ 190).

(4)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، حديث 832، مطولًا.

(5)

للنووي (6/ 116).

ص: 390

فيه صحة الجواب بـ"بلى" وإن لم يكن قبلها نفيٌ، وصحة الإقرار بها. قال: وهو الصحيح من مذهبنا.

(وإن قال: له عليَّ ألفٌ إن شاء الله، أو: في مشيئة الله، أو: لكَ عليَّ ألفٌ إن شئتَ، أو له عليَّ ألفٌ لا يلزمني إلا أن يشاء الله، أو: إلا أن يشاء زيدٌ، أو، إلا أن أقومَ أو) قال: له عليَّ ألفٌ (في عِلمي، أو في علم الله، أو: فيما أعلم، لا فيما أظنُّ؛ إقرارٌ) لأنه قد وُجِدَ منه، وعقَّبه بما يرفعه، فلم يرتفع الحكمُ به؛ ولأن ما عَلِمه لا يحتمل غيرَ الوجوب، بخلاف ما ظنَّه.

(وإن قال: بعتُكَ) إن شاء الله (أو: زَوَّجتُكَ) إن شاء الله (أو: قبلتُ إن شاءَ الله؛ صحَّ) النكاحُ والبيع، وكذا الإجارة وغيرها (كالإقرار) المُعلِّق بالمشيئة؛ لأن القصدَ بها غالبًا التبرُّك (وكما لو قال: أنا صائمٌ غدًا إن شاء الله، فإنه تصِحُّ نيته وصومه) إن لم يكن مترددًا، وكذا: أنا مؤمنٌ إن شاء اللهُ غيرَ متردِّد في الحال.

(وكذا قوله: اقضِني ديني عليك ألفًا، أو أعطني) فرسي هذه (أو: اشترِ فرسي هذه، أو: سلِّم إليّ ثوبي هذا، أو: الألفَ الذي لي عليكَ، أو: ألفًا من الذي لي عليك، أو: ألِيَ) عليك ألفٌ؟ (أو: هل لي عليك ألف؟ فقال: نعم) فهو إقرارٌ؛ لأنه جوابٌ صريحٌ أشبه ما لو قال: عندي (أو) قال: (أمهلني يومًا أو: حتى أفتح الصندوقَ) فهو إقرارٌ؛ لأن طلبَ المهلة يقتضي أن الحقَّ عليه.

(وإن قال: إن قدِم فلان) فله عليَّ ألفٌ (أو) قال: (إن شاء) فلان (فله عليَّ ألف، أو) قال: إن شَهِد به فلان، فله عليَّ ألف أو قال:(له عليَّ ألف إن قَدِم فلان، أو: إن دخل الدَّارَ أو: إن شَهِد به فلان) أو: إن

ص: 391

شَهِد به فلان (صدَّقْتُه، أو) فـ (ـهو صادقٌ، أو: إن جاء المطرُ، أو: إن جاء رأسُ الشهر، فله عليَّ ألف، ونحو ذلك) من كل إقرار معلَّق على شرط مقدَّم أو مؤخَّر (ليس بإقرار) لأنه ليس بمُقِرّ في الحال، وما لا يلزمه في الحال لا يصير واجبًا عند وجود الشرط؛ لأن الشرط لا يقتضي إيجاب ذلك.

(فإن قال: إذا جاء رأسُ الشهر، أو وقتُ كذا، فعليَّ لزيدٍ ألف) فهو (إقرارٌ) هذا أحدُ وجهين، والأشهر: لا يكرن إقرارًا؛ لأنه قد بدأ بالشرط، وعلَّق عليه لفظًا يصلح للإقرار، ويصلح للوعد، فلا يكون إقرارًا مع الاحتمال، وجزم به في "الكافي" وغيره.

ولو أخَّر الشرط؛ بأن قال: لزيد عليَّ ألف إذا جاء رأسُ الشهر، أو وقت كذا، فهو إقرار؛ قَطَعَ به في "المقنع" و"التنقيح"، وهو ظاهر ما قَدَّمه في "الفروع"، ونقله في "الشرح"، و"المبدع" عن الأصحاب؛ لأنه قد بدأ بالإقرار، فعمل به، وقوله:"إذا جاء رأسُ الشهر" يحتمل أنه أراد المَحلّ، فلا يبطُل الإقرار بأمرٍ محتمِل (فإن فسَّره) أي: المُقِر (بأجلٍ، أو وصيَّة؛ قُبِلَ منه) لأن لفظه يحتمله.

(وإن أقرّ العربيُّ بالعجمية، أو بالعكس) بأن أقرَّ الأعجميُّ بالعربية (وقال: لم أدرِ ما قلت، فقوله مع يمينه) لانه أدرَى بنفسه، والظاهر معه.

ص: 392

باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره

(إذا وصل يه ما يُسْقِطه، مثل أن يقول: عليَّ ألفٌ لا يلزمني، أو قد قبضه، أو: استوفاه، أو): له عليَّ (ألفٌ من ثَمن خَمْرٍ، أو) من ثَمن (خنزير، أو من ثَمن طعام) مكيل ونحوه (اشتريته، فهلك قَبل قبضه، أو) من (ثَمن مبيع فاسد لم أقبضه، أو من مضاربة تلفت، وشَرَط عليَّ ضمانَها، أو) قال: له عليَّ ألفٌ (تكفَّلتُ به على أني بالخيار) لزمه الألف في جميع ذلك؛ لأن ما ذكره بعد قوله: "له عليَّ ألفٌ" رفْعٌ لجميع ما أقرَّ به، فلا يُقبل، كاستثناء الكُلِّ، وتناقضُ كلامِه غير خاف، فإنَّ ثبوت الألْفِ عليه في هذه الأمثلة لا يُتصوَّر، وإقراره إخبارٌ بثبوته، فتنافيا؛ ولأنه أقرَّ بالألْف، وادعى ما لم يثبت معه، فلم يُقبل منه؛ ولأنه في صورة ما إذا قال: قبضه أو استوفاه، إقرارٌ على المقَرِّ له بالقبض، أو الاستيفاء، والإنسان لا يُقبل إقراره على فعل غيره.

(أو) قال: له عليَّ (ألفٌ إلا ألْفًا) لزمه الألْف، قال في "المبدع": بغير خلاف نعلمه؛ لأن استثناء الكلِّ باطل (أو) قال: له عليَّ ألف (إلا ستمائة، لزمه الألْف) لأنه استثنى الأكثر، ولم يَرِد ذلك في لغة العرب، فيبطُل.

(وإن قال: له عليَّ من ثَمن خمر) أو خنزير ونحوه (ألف؛ لم يلزمه) شيء؛ لأنه أقرَّ بثمن خَمْر، وقدَّره بألْف

(1)

، وثمن الخمر لا يجب، فلم يلزمه.

(1)

فى "ذ": "وقيده بالألف".

ص: 393

(وإن قال: كان له عليَّ ألف، وقضيتُهُ إياه، أو: أبرأني منه، أو: برئت إليه منه، أو: قبض مِنِّي كذا، أو: أبرأني منه) أي: من كذا (أو: قضيتُه منها خمسمائة) مثلًا، فهو مُنكِرٌ. هذا معنى كلام الخِرقي وعامة شيوخنا، وذكر ابن هبيرة

(1)

: أنَّ أحمد احتجَّ في ذلك بقولِ ابنِ مسعود؛ ولأنه قول يُمكن صدقه، ولا تناقض فيه من جهة اللفظ، فوجب قَبول قوله، ولا يلزمه شيء، كاستثناء البعض، بخلاف المنفصل؛ لأنه قد استقرَّ بسكوته عليه، ولهذا لا يرفعه استثناء ولا غيره.

(أو قال) المُدَّعِي: (لي عليك مائة) وفي نسخة: ألف (فقال) المدَّعَى عليه: (قضيْتُك

(2)

منها عشرة، فهو) أي: المدَّعى عليه (مُنكِرٌ، والقولُ قولُه مع يمينه) لما سبق، وقال أبو الخطاب: يكون مُقِرًّا مدَّعيًا للقضاء، فلا يُقبل إلا ببينة. وتقدم لو قال: له عليَّ ألفٌ قد قبضه أو استوفاه؛ كان مُقِرًّا، قال في "الإنصاف": بلا نزاع. انتهى. ففرقوا بين إضافة الفعلِ إلى نفسه وإلى غيره، وكلام ابن ظَهِيرة في "شرح الوجيز": أن الحكم في المسألتين سواء. وكلام المصنف -أيضًا- في قوله: أبرأني، أو قبض مني كذا، يقتضي عدم الفرق، فيحتاج لتحرير الكلام في ذلك (ما لم يعترف) المدَّعَى عليه (بسبب الحقِّ) بأن يعترف بأنَّ الحقَّ من ثمن مبيع، أو قيمة مُتلَف، أو أرْشِ جناية ونحوه (أو يثبت) سبب الحق (ببينة) فيكون مُقِرًّا مُدَّعيًا للقضاء، أو الإبراء، فيطالب بالبيان (وكذا لو أسقط:"كان") بأن قال: له عليَّ ألف، قضيته

(3)

إياه، أو أبرأه

(4)

منه، أو

(1)

الإفصاح من معاني الصحاح (2/ 20).

(2)

في "ذ": "أقبضتك".

(3)

في "ذ": "أقبضته".

(4)

في "ذ": "أبرأني".

ص: 394

نحوه مما سبق؛ فهو مُنكِر، يُقبل قولُه مع يمينه؛ لما سبق، ما لم يعترف بسبب الحق، أو يثبت ببينة.

(فإن قال: لي بينةٌ بالوفاء أو الإبراء، أو قاله بعد ثبوت الحَقِّ ببينةٍ أو إقرار؛ أُمهل) المدَّعَى عليه (ثلاثة أيام) ليأتي بالبينة، كما تقدَّم

(1)

في طريق الحكم وصفته.

(وللمدَّعي ملازمتُه) أي: المدَّعَى عليه (فيها حتى يُقيمها) أي: البينة (فإن عجز) المدَّعَى عليه عن البينة (حَلَف المُدَّعِي على بقاء حَقِّه) حيث جُعل المُدَّعَى عليه مُقِرًّا مدعيًا للقضاء (أو أقام) المدَّعي (به) أي: ببقاء حقّه (بينةً) إن تُصوِّر (وأخذه بلا يمين معها) أي: مع البينة (وإن نَكَل) المُدَّعي عن اليمين ببقاء حقِّه، حيث لا بينة على ما تقدَّم (قُضي عليه بنكوله، وصُرف) أي: مُنع من طلب المُدَّعَى عليه؛ لثبوت القضاء بنكوله.

"تتمة": لو قال: كان لي عليك ألف، لم تُسمع دعواه؛ ذكره أبو يعلى الصغير، قال في "الترغيب": بلا خلاف.

(و) إن قال: (كان له عليَّ كذا، وسكت؛ إقرارٌ) لأنه أقرَّ بالوجوب، والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه، بدليل ما لو تنازعا دارًا، فأقرَّ أحدُهما للآخر أنها كانت ملكَه، يُحكم له بها؛ إلا أنه هنا إذا عاد؛ فادَّعى القضاء أو الإبراء؛ سُمعت دعواه؛ لأنه لا تنافي بين الإقرار وبين ما يدَّعيه، على إحدى الروايتين؛ قاله في "الشرح" (و: ليس لك عليَّ عشرة إلا خمسة؛ إقرارٌ يما أثبته، وهو خمسة) لأن الاستثناء من النفي إثبات (ويُعتبر في الاستثناء ألا يسكت سكوتًا يمكنه الكلام فيه) لأنه إذا سكت، فقد استقرَّ المُقرّ به عليه، فلا يرفعه استثناء ولا غيره.

(1)

(15/ 133).

ص: 395

(ولا يصحُّ استثناء ما زاد على النصف) لما تقدم

(1)

(ويصحُّ) الاستثناء (في النصف) لأنه ليس بالأكثر (و) يصح الاستثناء -أيضًا- فيـ (ـما دونه) أي: النصف، قال في "المبدع": لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنه لغةُ العرب، قال تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:"الشهيدُ تُكفَّر عنه خطاياه كلُّها إلا الدَّيْن"

(3)

؛ ولأن الاستثناء يمنع أنْ يدخل المستثنى في الإقرار، إذْ لولاه لدخل، ولا يرفع ما ثبت؛ لأن الكلام كله كالشيء الوحد.

(فإذا قال: له عليَّ هؤلاء العبيدُ العشرة إلا واحدًا، لزمه تسليمُ تسعةٍ) لأنه استثنى الأقل، ويُرجع في تعيين المُستثنى إليه؛ لأنه أعلم بمُرَاده، وكذا: غصبته هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدًا (فإن ماتوا) أي: العبيد (أو قُتلوا، أو غُصِبُوا إلا واحدًا، فقال) المُقِر: (هو المُستثنى؛ قُبِل قوله) لأنه يحتمل ما قاله، وكما لو تلفوا بعد تعيينه.

(و) إن قال: (له هذه الدار إلا هذا البيت، أو) قال: (هذه الدار له، وهذا البيت لي؛ قُبل منه) لأن الأول استثناء

(4)

البيت من الدار، والثاني في معنى الاستثناء؛ لكونه أخرج بعض ما تناوله اللفظ بكلام متصل (ولو كان) البيت (أكثرها) أي: أكثر الدار. وإن قال: له الدار (إلا ثلثيها) ونحوه، مما الاستثناء فيه أكثر من النصف (لم يصحَّ) الاستثناء؛ لأنه أكثر

(1)

(15/ 393).

(2)

سورة العنكبوت، الآية:14.

(3)

أخرجه مسلم فى الإمارة، حديث 1886 (199)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ:"يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". وأخرج مسلم -أيضًا- في الإمارة، حديث 1885، عن أبي قتادة رضي الله عنه، نحوه.

(4)

في "ذ": "استثنى".

ص: 396

من النصف.

(وإن قال: الدار له ولي نصفُها؛ صَحَّ) كما لو قال: إلا نصفها، وإن قال: له الدار، نصفها، أو ربعها، ونحوه؛ صح؛ لأنه بدل بعضٍ.

(و) قوله: (له عليَّ درهمان وثلاثة إلا درهمين، أو) قال: له (خمسة إلا درهمين ودرهمًا، أو) قال: له (درهم ودرهم إلا درهمًا، لا يصح) الاستثناء فيه؛ لأنه يرفع إحدى الجملتين؛ لأن عوده إلى ما يليه متيقَّن، وما زاد مشكوكٌ فيه، فيكون قد استثنى الأكثر أو الكل، وكلاهما باطل، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يُؤَمّنَّ الرَّجُلُ في بَيْتِهِ، ولا يجْلَسُ عَلى تكرمته إلا بإذْنِهِ"

(1)

لم يرفع إحدى الجملتين، وإنما أخرج من الجملتين معًا (فيلزمه في الأُوليين) وهما: له درهمان وثلاثة إلا درهمين، وله خمسة إلا درهمين ودرهمًا (خمسة خمسة) أما في الأولى؛ فلما تقدَّم، وأما في الثانية؛ فلأن المستثنيين صارا كجملة واحدة، فصار مستثنيًا أكثر من النصف (و) يلزمه (في الثالثة) وهي: له درهم ودرهم إلا درهمًا (درهمان) لما سبق.

(ويصحُّ الاستثناءُ بعد الاستثناء معطوفًا؛ كقوله: له عليَّ عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين) وفي أكثر النسخ: إلا درهمان، على لغةٍ (فيلزمه خمسة) لأنه عربي.

(وإن كان) الاستثناء (الثاني غيرَ معطوف، كان استثناء من الاستثناء، فيصحُّ) لقوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ}

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه (3/ 187) تعليق رقم (1).

(2)

سورة الحجر، الآيات: 58 - 60.

ص: 397

(فإذا قال: له عليَّ سبعةٌ إلا ثلاثةً إلا درهمًا، لزمه خمسةٌ؛ لأنه) أي: الاستثناء (من الإثبات نفيٌ، ومن النفي إثباتٌ) فخرج بالاستثناء الأول ثلاثة، وعاد بالاستثناء الثاني واحد، فإذا ضممته للأربعة صارت خمسة (و: له عشرةٌ، إلا خمسةً، إلا ثلاثةً، إلا درهمين، إلا درهمًا؛ يلزمه خمسةُ) لأن استثناء الخمسة من العشرة صحيح، واستثناء الثلاثة عن الخمسة باطل؛ لأنه أكثر من النصف، فيبطل ما بعده؛ لأنه فرعه.

"تنبيه": سائر أدوات الاستثناء فيما تقدم كـ"إلا"، فإذا قال: له عليَّ عشرة سوى درهمٍ، أو ليس درهمًا، أو لا يكون درهمًا، أو خلا، أو عدا، أو حاشا درهمًا، أو ما خلا درهمًا، ونحوه، أو غيرَ درهم، بفتح الراء، كان مقرًّا بتسعة.

وإن قال: غيرُ درهم -بضم الراء- وهو من أهل العربية، كان مُقِرًّا بعشرة؛ لأنها صفة للعشرة المقرّ بها لا استثناء، وإن لم يكن من أهل العربية لزمه تسعة؛ لأن الظاهر أنه يريد الاستثناء، وإنما ضمَّها جهلًا؛ ذكره في "الشرح".

(ولا يصحُّ الاستثناء من غير الجنس، ولو كان) المستثنى (عينًا) أي: ذهبًا (من وَرِق) أي: فضة (أو وَرِقًا من عين، أو فُلوسًا من أحدهما) أي: من عين أو فضة؛ لأنه غير داخل في مدلول المُستثنى منه، فكيف يخرج منه؟!.

(ولا) يصحُّ الاستثناء -أيضًا- (من غير النوع الذي أقرَّ به) لأن الاستثناء صَرْف اللفظ بحرف الاستثناء عمَّا كان يقتضيه لولاه، وغير النوع لم يدخل فيه حتى يخرج.

(فإذا قال: له) عليَّ (مائة درهمٍ إلا ثوبًا، أو: إلا دينارًا، لزمته

ص: 398

المائة) لبطلان الاستثناء (أو قال: له عليَّ عشرة آصُعٍ تمرًا بَرْنيًا إلا ثلاثةَ آصُعٍ تمرًا مَعْقِليًّا، لزمه عشرة) آصُع تمرًا (بَرْنيًا) وبطل الاستثناء؛ لأنه من غير النوع (و: لفلان عليَّ مائةُ درهم وإلا فـ) ـهي (لفلان، أو قال: لفلان عليَّ مائة درهم، وإلا فلفلان عليَّ مائة دينار، لزمه للأول مائة درهم) لإقراره له بها من غير مانع (ولم يلزمه للثاني شيء فيهما) ولو وجد شرطه؛ لأن الإقرارَ المُعلَّق على شرطٍ باطلٌ، كما تقدم.

فصل

(وإذا أقرَّ له بمائةٍ

(1)

درهمٍ دَيْنًا، أو قال: وديعةً، أو غصبًا، ثم سكت سكوتًا يمكنه الكلام فيه، أو أخذ في كلامٍ آخرَ غيرِ ما كان فيه) من الكلام (ثم قال: زُيُوفًا) جمع زَيف، كفُلوس جمع فَلْس، من زَافَتِ الدراهمُ زَيْفًا: رَدَأتْ، قال بعضهم: الدراهم الزيوف هي المطليَّة بالزئبق، المعقودِ بمزاوجة الكبريت، وكانت معروفة قبل زماننا

(2)

؛ ذكره في "حاشيته"(أو) قال: (صغارًا) أي: دراهم طبريَّة مثلًا، كلُّ درهم أربعة دوانق، وهي ثُلثا درهم (أو) قال:(إلى شهر؛ لزمه ألفٌ جياد وافيةٌ حالَّة) لأن الإطلاق يقتضي ذلك، كما لو باعه بألف درهم وأطلق؛ ولأنه رجع عن بعض ما أقرَّ به، ورفعه بكلام منفصل، فلم يُقبل، كالاستثناء المنفصل (إلا أن يكون في بلدٍ أوزانُهم ناقصة، أو) دراهمهم (مغشوشةٌ،

(1)

"مائة" كذا في الأصول كافة! وفي متن الإقناع (4/ 551): "ألف" وهو الصواب؛ لقوله في جواب الشرط بعد أسطر: "لزمه ألف".

(2)

المصباح المنير (1/ 261) مادة (زاف).

ص: 399

فيلزمه من دراهم البلد) لأن مطلق كلامهم يُحمل على عُرْفِ بلدهم (وكذلك في البيع والصَّدَاقِ وغير ذلك) من إجارة وجُعالة وصلح ونحوها.

(وإن أقرَّ بدراهم وأطلق) أو بدنانير كذلك (ثم فَسَّرها بسِكَّة البلد الذي أقرَّ بها فيه) قُبِل منه؛ لأن مطلَق الكلام يُحمل على العُرْف (أو) فَسَّرها (بسِكَّة بلدٍ غيرِها مثلِها، أو أجود منها؛ قُبل) منه ذلك؛ لأنه يحتمله مع عدم الضرر، و (لا) يُقبل منه تفسيرها (بِأدنى منها) أي: من سِكَّة بلدِ الإقرار، ولو تساويا وزنًا؛ عملًا بالإطلاق في البيع، وكالناقصة في الوزن.

(وإنْ أقرّ بدُريهم، فكإقراره بدرهم) لأن التصغير قد يكون لصغره في ذاته، وقد يكون لقلَّة قَدْره عنده، وقد يكون لمحبته.

(وإنْ أقرّ بدَيْنِ مؤجَّل) بأن قال: له عليَّ ألفٌ إلى شهرِ كذا مثلًا (فأنكر المُقَر له الأجل، قُبِل قولُ المُقِر في التأجيل مع يمينه، حتى ولو عزاه) أي: الدَّين (إلى سبب قابلٍ للأمرين) أي: الحلول والتأجيل (في الضمان وغيره) كالصداق، وثمن المبيع، والأجرة، وعوض الخلع ونحوه؛ لأنه هكذا أقر.

(وإن قال: له عليَّ ألف زيوفٌ) متَّصلًا (قُبِل تفسيره بمغشوشة، أو بمعيبة عيبًا ينقصها) لأن اللفظ يحتمله (ولم يُقبل) تفسيرها (بما لا فضةَ فيه، ولا ما لا قيمةَ له) لأنه ليس دراهم على الحقيقة، فيكون تفسيره به رجوعًا عن إقراره، فلم يُقبل، كاستثناء الكل، وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة.

(وإن قال: له عليَّ دراهم ناقصةٌ؛ لزمته) الدراهم (ناقصة) لأنه إن كانت دراهم البلد ناقصة، كان إقرارُه مقيَّدًا، وإن كانت وازنة، كان ذلك

ص: 400

بمنزلة الاستثناء.

(وإن قال: صِغارًا، وللناس دراهمُ صغارٌ؛ قُبِل قوله): إنه أرادها؛ لأنه صادق (وإلا) أي: وإن لم يكن للناس دراهم صِغار (فلا) يُقبل قولُه؛ لأنه خلاف الظاهر.

(وإن قال: له درهم كبير؛ لَزِمه درهم إسلاميّ) وازن؛ لأنه كبير في العُرف، وفي "الرعاية": لو أقرَّ له بمائة وازنة، ودفع إليه خمسين وزنها مائة، لم يُجزئه دون مائة وازنة، وقيل: بلى (و: له عندي رهن، فقال المالك: وديعة، فـ) ـالقول (قوله مع يمينه

(1)

) لأن العين ثبتت له بالإقرار، وادعى المُقِر دينًا، فكان القول قولَ من يُنكِره، وكما لو ادَّعى ذلك بكلام منفصل. نقل أحمد عن ابن مسعود

(2)

: إذا قال: لي عنده وديعةٌ، قال: هي رهن على كذا، فعليه البينة أنها رهن

(3)

.

(وكذا لو أقرَّ بدارٍ، وقال: استأجرتُها، أو بثوب وادَّعى أنه قَصَرَه، أو خاطه بأجر يلزم المُقَرّ له) أو بعبد وادَّعى استحقاق خدمتِه سَنةً، أو أقرَّ بسُكنى دار غيرِه، وادَّعى أنه سَكَنها بإذنه (لم يُقبل) قوله في ذلك.

(وكذا لو قال: هذه الدَّارُ له، ولى سُكناها) لم يُقبل منه (و: له عليَّ ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، وقال المُقَرُّ له: بل هو دَيْنٌ في ذِمَّتكِ.

(1)

في "ذ": "قوله بيمينه".

(2)

"أحمد عن ابن مسعود" كذا في الأصول! وفي الفروع (6/ 627)، والمبدع (10/ 340):"أحمد بن سعيد"، وفي الإنصاف (30/ 269) ومعونة أولى النهى (12/ 163):"نقل أحمد بن سعيد، عن الإمام أحمد"، وأحمد بن سعيد، هو أبو جعفر الدارمي، قال أبو يعلي: نقل عن إمامنا أشياء. توفي سنة (253) رحمه الله تعالى. انظر طبقات الحنابلة (1/ 45).

(3)

الفروع (6/ 627).

ص: 401

أو قال: له عليٍّ ألفٌ، ولي عنده مبيع لم أقبضه؛ فقولُ المُقَرّ له) لأنه اعترف له بالألف، وادَّعى على المُقَر له مبيعًا، وهو يُنكره، فكان القولُ قولَه مع يمينه، كالتي قبلها.

(و: له عندي ألفٌ، وفسَّره بوديعة أو دين، بكلام مُتَّصل أو منفصِل؛ قُبل) منه؛ لأنه فسَّر لفظه بأحد مدلوليه، فَقُبِلَ، حتى (ولو قال: قبضتُه أو تَلِف، قُبل ذلك؛ أو: ظننته باقيًا، ثم. علمتُ تلفه) لأنه إذا ثبتت الوديعة ثبتت أحكامها.

(وإن قال: له عليٍّ). ألف (أو): له (في ذمتي ألفٌ، وفسَّره بوديعة، فإن كان التفسير متصلًا، ولم يقل: تلِفت؛ قُبِل) منه ذلك؛ لأن الوديعة عليه حفظها، وتمكين مالكها عنها (وإلا) أي: بأن قال: وتلفت (فلا) يُقبل منه؛ لأن قوله: "عليٍّ" يقتضي أنها عليه، وقوله:"قد تلفت" يقتضي أنها ليست عليه، وهو تناقض، فلم يُقبل منه؛ بخلاف: كان له عليَّ ألف من وديعة، وتلِفت، فإنه مانعٌ من لزوم الأمانة؛ لأنه أخبر عن زَمَنٍ ماضٍ، فلا تناقض.

(وإن قال: له عندي وديعة رددتُها إليه، أو تلِفت؛ لزمه ضمانُها، ولم يُقبل قوله) في الردِّ أو التَّلَف؛ للتناقض.

(و: له عندي مائةٌ وديعةً بشرط الضمان، لَغَا وصفُه لها بالضمان) لمنافاته لمقتضى عقدها (وبقيت على الأصل) من عدم الضمان إن لم يُفرِّط.

(و) إن قال: (لك عليَّ مائةٌ في ذِمَّتي، أو لم يَقُل: في ذِمَّتي، ثم أحضَرَها) أي: المائة (وقال: هذه التي أقررتُ بها، وهي وديعةٌ، كانت لك عندي، فقال المُقَرُّ له: هذه وديعةٌ، والتي أقررتَ بها غيرُها،

ص: 402

فـ) ـالقول (قولُ المُقَرِّ له) ذكرها الأزَجي عن الأصحاب، وقال القاضي وصححه في "الرعاية": يُصَدَّق المُقِرّ.

(وإن قال: دَيْني الذي على زيد لِعَمرو؛ صَحَّ) الإقرارُ؛ لأنه إخبارٌ لا إنشاء، وإضافتُه إليه لا تمنع كونه لغيره؛ لأن الإضافة لأدنى ملابسة، فيحتمل أنه كان وكيلًا عنه.

(وإن قال: له في هذا العبد ألفٌ، أو) قال: (له من هذا العبد ألفٌ، طُولب بالبيان) لصحة إقراره، كما في الإقرار بالمجمل.

(فإن قال) المُقِر: (نَقَد عنِّي ألفًا في ثمنه؛ كان قرضًا) يلزمه دفعه، وإن لم يكن أذن فيه؛ لأنه قام عنه بواجب، حيث نوى الرجوع.

(وإن قال) المُقِرُّ: (نَقَدَ في ثمنه ألفًا) ولم يقل: عنِّي (قيل له): أي المُقِر (بيِّنْ كم ثمنُ العبدِ، وكيف كان الشراء؟ فإن قال: بإيجاب واحد، وَزَنَ) أي: المُقَر له (ألفًا، ووزنتُ ألفًا، كان مُقِرًّا بنصف العبد) فيلزمه تسليمه؛ لأن التساوي في العقد والثمن يوجب التساوي في المثمن.

(وإن قال: وزنتُ أنا ألفينِ) ووزن هو ألفًا (كان مُقِرًا بثُلُثه).

وإن قال: وزنتُ ثلاثة آلاف، ووزن هو ألفًا، كان مُقِرًّا برُبعه، وهكذا (والقول قوله مع يمينه) حيث لا بينة؛ لحديث:"البينةُ على المدَّعي، واليمينُ على من أنكر"

(1)

(سواء كانت القيمة قَدْرَ ما ذكره، أو أقل) منه (لأنه قد يُغبن، وإن قال: اشتريناه بإيجابين، قيل له): بيّن (كم اشترى منه، فإن قال: نصفًا، أو ثلثًا، أو أقلَّ، أو أكثر، قُبل منه مع بمينه، وافق القيمة أو خالفها) لأنه قد يُغبن، كما مرَّ.

(وإن قال) المُقِرّ: (وُصِّيَ له بألف من ثمنه؛ بِيع) العبد (وصُرف له

(1)

تقدم تخريجه (8/ 244) تعليق رقم (1).

ص: 403

من ثمنه ألف) عملًا بمقتضى الوصية (وإن أراد أن يعطيه) المُقِرُ (ألفًا من ماله من غير ثمن العَبْد؛ لم يلزمه قَبوله؛ لأن الموصى له يتعيَّن حقه في ثمنه) فلا يلزمه أن يعتاض عنه، كالوصية بالعبد نفسه (وإن فَسَّر ذلك) أي: له في هذا العبد ألف (بألف من جناية جناها العبد، فتعلَّقت برقبته، قُبِل ذلك) منه؛ لأنه محتمل (وله بيع العبد، ودَفْعُ الألف من ثمنه) وله دفع الألف من ماله، وله تسليم العبد في ذلك، كما تقدم في العبد الجاني

(1)

.

(وإن قال) المُقِر: (أردتُ) بقولي: له في هذا العبد ألف (أنه رهنٌ عنده) أي: المُقَر له (بألف، قُبل) منه ذلك؛ لأنه محتمل؛ لتعلُّق الدَّيْن بالرهن.

(وإن قال) مكلَّف: (له) أي: لزيد مثلًا (عليَّ في هذا المال ألفٌ) فإقرارٌ يلزمُه تسليمُه؛ لأنه اعترف أن الألف مستحقّ في المال المشار إليه (أو) قال: له (في هذه الدار نصفُها، فإقرارٌ) بالنصف، يلزمه تسليمُه، فلا يُقبل تفسيره بإنشاء هبة.

(وإن قال) مُكلَّف: (له) أي: لزيد مثلًا (مِن مالي) ألف (أو) قال: له (فيه) أي: في مالي ألف (أو) قال: له (في ميراثي مِن أبي ألفٌ) صَحَّ، ولا تناقض؛ لأن الإضافة لأدنى ملابسة (أو) قال: له مِن مالي، أو فيه، أو في ميراثي من أبي (نصفه) صَحَّ (أو) قال: له (داري هذه، أو نصفُها، أو منها، أو فيها نصفها، صَحَّ) إقرارُه، وفي "الترغيب": المشهور: لا؛ للتناقض، وتقدم جوابه.

(فلو زاد: بحقّ لَزِمني، صَحَّ) عليهما؛ قاله القاضي وغيره.

(وإن فسَّره بإنشاء هِبَةٍ؛ قُبِل) منه؛ لأن التفسير يصلح أن يعود

(1)

(13/ 382).

ص: 404

إليها من غير تنافٍ، وكما لو قال: له عليَّ ألف، ثم فسَّره بدَيْن (فإن امتنع من تقبيضه؛ لم يُجبر عليه؛ لأن الهبةَ لا تلزم قَبل القبض) فإن مات ولم يُفسّره، لم يلزمه شيء.

(و‌

‌إن قال: له في ميراث أبي ألف، فهوْ دَيْن على التَّرِكة)

لأنه في قوة قوله

(1)

: على أبي دين (فإن فسَّره بإنشاء هِبَةٍ، لم يُقبل) منه؛ لأنه لا يحتمله لفظه.

(وإن قال: له هذه الدار عارية، ثبت لها حكمُ العارية، وكذا لو قال: له هذه الدار هِبةً، أو) هبة (سُكنى) فيعمل بالبدل؛ لإقراره بذلك. فعارية ونحوه بدل من الدار، ولا يكون إقرارًا بالدار؛ لأنه رَفَعَ بآخر كلامه ما دَخَلَ في أوله، وهو بدل اشتمال؛ لأن الأول مشتمِلٌ على الثاني، كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}

(2)

فالشهر يشتمل على القتال، كأنه قال: له الدار منفعتُها، وفي الهبة بالنسبة إلى الملك؛ لأن قوله:"له الدار" إقرارٌ بالملك، والملك يشتمل على ملك الهبة، فقد أبدل مِن الملك بعض ما يشتمل عليه، وهو الهبة، فكأنه قال: له ملك الدار هبة، وحينئذ تُعتبر شروط الهبة؛ قاله في "المبدع".

فصل

(ولو قال: بعتُكَ جاريتي هذه، قال: بل زَوَّجْتَنيها، وَجَب تسليمُها للزوج؛ لاتفاقهما على حِلِّها له، و) على (استحقاقه إمساكَها)

(1)

في "ذ": "قوله له".

(2)

سورة البقرة، الآية:217.

ص: 405

لأنه إما زوج، أو سيد (ولا تُرَدُّ) الأَمةُ (إلى السيد؛ لاتفاقهما على تحريمها عليه) لخروجها عن ملكه، أو خروج بُضعها.

(وله) أي: سيدها (على الزوج أقلُّ الأمرين من ثَمنها، أو مَهْرِها) لأنه اليقين (ويحلف) الذي تُسَلَّم له (لزائد) لأنه يُنكِره، والأصلُ براءتُه منه (فإنْ نَكَلَ) عن الحَلِف الزائد (لزمه) قضاءً عليه بنكوله.

(وإن أولدها، فهو) أي: الولد (حُرٌّ، ولا ولاء عليه) لاعتراف السيد بذلك، باعترافه بالبيع (ونفقته) أي: الولد (على أبيه) كسائر الأحرار (ونفقتها على الزوج؛ لأنه إما زوج أو سيد.

فإن ماتت) الأمَة (وتركتْ مالًا، فللبائع منه قَدْرُ ثمنِها

(1)

) فيأخذ منه تتمةَ الثمنِ على ما أخذه قَبلُ؛ لاعتراف الزوج له بما تركتْهُ، وادعائه الثمنَ فقط، فقد اتفقا على استحقاقه (وترِكتُها للمشتري، والمشتري مُقِرٌّ للبائع بها، فيأخذ منها قَدْرَ ما يدَّعيه، وبقيته) أي: المال المتروك (موقوفة) حتى يتبين المستحق.

(وإن ماتت بعد الواطئ، فقد ماتت حُرَّة) لاعتراف السيد بكونها صارت أمَّ ولد، وقد مات مستولدها (وميراثها لولدها وورثتِها) إن كانوا كسائر الأحرار.

(فإن لم يكن لها وارثٌ، فميراثُها موقوفٌ؛ لأن أحدًا لا يَدَّعيه، وليس للسيد أن يأخذ منه قَدْرَ الثمن؛ لأنه يدَّعي الثمنَ على الواطئ، وميراثُها ليس له) أي: للواطئ (لأنه قد مات قبلَها.

وإن رجع البائعُ فصدَّقَ الزوجَ، فقال: ما بعتُه إياها، بل زوَّجته، لم يُقبل) رجوعه (في إسقاط حُرّية الولد، ولا في استرجاعها، إن صارت أمَّ

(1)

في متن الإقناع (4/ 554): "ثلثها".

ص: 406

ولدٍ) لأن ذلك حقٌّ لله تعالى (وقُبل) رجوعه (في غيرهما) أي: غير حُرّية الولد واسترجاعها إن صارت أُمَّ ولدٍ (من إسقاط الثمن، واستحقاقِ المهرِ) قال في "الشرح": واستحقاق ميراثها وميراث ولدها.

(وإن رجع الزوجُ) فصدَّق السيد على أنه اشتراها منه (ثبتت الحرية، ووجب عليه الثمن) لاتفاقهما على ذلك.

(وإن أقرَّ أنه وهب وأقبض، أو) أقرَّ أنه (رهن وأقبض، أو أقرَّ بقبض ثمنٍ أو غيره، ثم أنكر، وقال: ما قبضتُ ولا أقبضت، ولا بيِّنة) بالإقباض أو القبض (وهو) أي: المُقِر (غير جاحد لإقراره، وسأل إحلافَ خصمه) أنه أقبضه أو قبضه (لزمه اليمين) لأن العادة جاريةٌ بالإقرار بذلك قبله.

(وإن أقرَّ ببيعٍ، أو هِبة، أو إقباض، ثم ادَّعى فسادَه، وأنه أقرَّ يظنُّ الصِّحةَ، لم يُقبل) منه ذلك؛ لأنه خلاف الظاهر (وله تحليف المُقَر له) لأن ما ادعاه ممكن.

(فإنْ نَكَلَ) المُقَرُّ له (حلف هو) أي: المُقِرُّ (ببطلانه) وحكم له.

(وإن باع شيئًا، أو وهبه، أو أعتقه، ثم أقرَّ أن ذلك) المبيع، أو الموهوب، أو العتيق

(1)

(كان لغيره، لم يُقبل قوله) على المشتري، أو المتهب، أو العتيق؛ لأنه يُقِر على غيره؛ ولأنه مُتَّهم (ولم ينفسخ البيع ولا غيره) من الهِبة أو العتق، وكذلك نحوها، ما لم يوجد ما يوجب ذلك (ولزمته) أي: المُقِرَّ (غرامتُه للمُقَر له) لأنه فوَّته عليه بالبيع، أو الهبة، أو العتق.

(وإن قال) البائعُ ونحوه: (لم يكن ملكي، ثم ملكتُه بعدُ) أي: بعدَ

(1)

في "ذ": "المعتق".

ص: 407

البيعِ، أو الهبة، أو العتق (وأقام) بذلك (بينةً، قُبلت) لإمكان ذلك، فإن لم تكن بينة؛ لم يُقبل قوله؛ لأنه خلافٌ الأصلِ والظاهر (إلا أن يكون) البائع ونحوه (قد أقرَّ أنه ملكه، أو قال: قبضتُ ثمنَ ملكي ونحوه، فلا تُقبل البينة) لأنها تشهد بخلاف ما أقرَّ به، فهو مكذِّب لها.

وذكر الشيخ تقي الدين

(1)

: فيما إذا ادَّعى بعد البيع أنه كان وقفًا عليه، فهر بمنزلة أن يدَّعي أنه قد ملكه الآن.

(ولا يُقبل رجوعُ المُقِرّ عن إقراره) لتعلُّق حَقِّ المُقَرّ له بالمُقِرِّ به (إلا فيما كان حدًّا لله) تعالى، فَيُقبل رجوعه عنه، كما تقدم في مواضعه

(2)

؛ لأن الحَدَّ يُدرأ بالشُّبهة.

(فأما حقوق الآدميين، وحقوق الله التي لا تُدرأ بالشُّبهات، كالزكاة والكفَّارات، فلا يُقبل رجوعه) أي: المُقِر (عنها) أي: عن الإقرار بها.

(وإن أقرَّ لرجُلٍ بعبدٍ أو غيره، ثم جاءه به، فقال: هذا الذي أقررتُ لك به، فقال: بل هو غيره، لم يلزمه تسليمه إلى المُقَر له) لأنه لا يدَّعيه (ويحلف المُقِر أنه ليس له عنده عبدٌ سواه) لأنه مُنكِر، والأصلُ براءته.

(فإن رجع المُقَرُّ له، فادَّعاه، لزمه دفعه إليه) لأنه لا منازعَ له؛ ذكره في "الشرح" و"المبدع" وغيرهما. لكن تقدم آخر كتاب الإقرار

(3)

: أنَّ الإقرار يبطل بتكذيب المُقَرِّ له، فَيُحرَّر الفرق

(4)

.

(1)

انظر: النكت والفوائد السنية (2/ 450).

(2)

(14/ 274 - 28، 102، 165).

(3)

(15/ 385).

(4)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (4/ 319) ما نصه: "الفرق واضح بأن ما هنا المُقَرُّ له ليس مكذِّبًا للمُقِرِّ، بل يدعي غير المُقَر به فإن رجع المُقَرُّ له فادَّعاه لزمه دفعُه؛ لأنه لا منازع له، بخلاف ما في كتاب الإقرار، فإن المُقَرَّ له غير =

ص: 408

وإن قال المُقَرُّ له: صدقتَ، والذي أقررتَ به آخر عندك، لزمه تسليم هذا، ويحلف على نفي الآخر.

(ولو أقرَّ بحرية عبدٍ، ثم اشتراه، أو شَهِدَ رجلان بحرية عبدِ غيرهما) فرُدَّت شهادتهما (ثم اشتراه أحدُهما من سيده؛ عَتَق في الحال) لاعتراف مالكه بحريته (ويكون البيع صحيحًا بالنسبة إلى البائع) لأنه محكومٌ له برِقّه (و) يكون البيع (في حَقِّ المشتري استنقاذًا) كافتداء الأسير (ويصير كما لو شهد رجلان على رَجُلٍ أنه طَلَّق امرأته ثلاثًا، فَرَدَّ الحاكمُ شهادتهما) لفسق أو عصبية (فدفعا إلى الزوج عوضًا ليخلعها؛ صَحَّ) ذلك (وكان خُلْعًا صحيحًا) بالنسبة للزوج؛ لأنه محكوم له بالزوجيَّة (وفي حَقِّها

(1)

استخلاصًا. ويكون ولاؤه) أي: العتيق (موقوفًا، لأن أحدًا لا يدعيه) لأن البائع يقول: ما أعتقته، والمشترى يقول: ما أعتقه إلا البائع.

(فإن مات) العتيقُ (وخلَّف مالًا، فرجع البائع أو المشتري عن قوله، فالمال له؛ لأن أحدًا لا يدَّعيه غيرُه، ولا يُقبل قوله في نفي الحرية؛ لأنها حقٌّ لغيره. وإنْ رجعا) أي: البائع والمشتري (وُقِف) المال (حتى يصطلحا عليه؛ لأنه لأحدهما ولا تُعرف عينه) وإن لم يرجع واحدٌ منهما، فهو لبيت المال، ولا يثبت في هذا البيع خيار مجلس، ولا شرط

= مصدِّق للمُقِرِّ، فيبطل إقرارُه، فإن عاد المُقَرُّ له فادعاه لم تُقبل دعواه؛ لأنه لم يصدِّقه أولًا، والله أعلم. نقلته من خط ابن العماد. قلت [أي: الشيخ حمود التويجري]: تفريقه ليس بواضح؛ لأن المُقَرَّ له أنكر العبد المُقَر به أولًا، فبطل ادعاؤه به ثانيًا، فالإشكال باقٍ، والله أعلم".

(1)

في متن الإقناع (4/ 556): "حقهما".

ص: 409

للمشتري، وتقدم

(1)

، وإن باعه نفسه بألف في ذمته، صح، ولم يثبتا

(2)

فيه، بل يعتق في الحال. وإن باعه نفسه بألف في يده، صح وعتق، كما تقدم في العتق

(3)

.

فصل

(وإن قال: غصبتُ هذا العبد من زيد، لا بل من عمرو) فهو لزيد؛ لإقراره له به، ويغرم قيمته لعمرو؛ لأنه حال بينه وبين ملكه، لإقراره به لغيره، ولم يُقبل رجوعه عن إقراره به الأول؛ لأنه حقٌّ لآدميِّ، على ما سبق.

(أو) قال: (غصبتُه منه) أي: من زيد (وغَصَبَه هو) أي: زيد (من عمرو) فهو لزيد؛ لإقراره له به أوَّلًا، ولا يُقبل رجوعه عنه؛ لما تقدم، ويغرمه لعمرو؛ لأنه فوَّته عليه بإقراره به لزيد.

(أو) قال: (هذا) العبد أو الثوب ونحوه (لزيد، بل

(4)

لِعَمرو) فهو لزيد، ويغرم قيمته لعمرو.

(أو) قال: (مِلكُه لعمرو، وغصبتُه من زيد؛ بكلام متَّصل أو منفصل، فهو لزيد) لإقرارِه به له (ويغرم قيمته لِعَمرو) للحيلولة.

(و) إن قال: (غصبتُه مِن زيدٍ، ومِلكُه لِعَمرو، فهو لزيدٍ) لاعترافه له

(1)

(7/ 411 - 412).

(2)

"أي خيار مجلس ولا شرط". ش.

(3)

(11/ 42).

(4)

في متن الإقناع (4/ 556): "لا بل".

ص: 410

باليد (ولا يَغرَم لِعَمرو شيئًا) لأنه لا تفريطَ منه، ويجوز أن يكون ملكه لِعَمرو، وهو في يدِ زيدٍ بإجارة أو غيرها.

(وإن قال: غصبتُهُ) أي: العبد ونحوه (من أحَدِهما؛ أُخِد بالتعيين) لأنه أقرَّ بمُجْمَل، ومن أقرَّ بمُجْمَل لزمه البيان، ضرورةَ أنَّ الحكم لا يقع إلا على معلوم (فيدفعُه إلى مَن عيَّنه) لأنه المستحِقُّ له (ويحلِفُ للآخَرِ) إن ادَّعاه؛ لتكون اليمين سببًا لردِّ العبدِ أو بدله، ولا يغرم له شيئًا؛ لأنه لم يُقِرَّ له بشيء.

(وإن قال: لا أعرفُ عيْنَه، فصدَّقاه؛ انتُزع من يدِه) لأنه ظهر بإقراره أنْ لا حقَّ له فيه، ولم يتعيَّن مستحِقّه (وكانا خصمين فيه) لأن كلًا منهما يدعيه.

(وإن كذَّباه؛ فقولُه مع يمينه) لأنه مُنكر (فيحلفُ يمينًا واحدةً أنه لا يعلَمُ لمن هو منهما) ويُنتزَع من يده، فإن كان لأحدهما بينة، حُكم له به، وإن لم تكن بينة

(1)

، أقرعنا بينهما، فمن قَرَع صاحِبَه، حلف وأخذه، وإن بيَّن بعد ذلك مالكه قُبِلَ منه، كما لو بيَّنه ابتداء.

(وإنْ أقرّ بألفٍ في وقتين) وأطلق فيهما (أو قَيَّد أحدَ الألفين بشيء) كما لو قال يوم الخميس: له عليَّ ألف، ويوم الجمعة: له عليَّ ألف من ثمن مبيع (حُمل المُطلَق على المقيّد، ولزمه ألفٌ واحدة) لأن الأصل براءته من الزائد، والعُرف شاهدٌ بذلك، ونظير ذلك أنَّ الله تعالى لما أخبر عن إرسال نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكرَّر ذلك في مواضع، لم تكن القصة الثانية غيرَ الأولى.

(1)

في "ذ": "وإن لم يكن له بينة".

ص: 411

(وإن ذَكَرَ سببين) أو نحوهما مما يدلُّ على التعدد (كأنْ أقرّ بألف من ثمن عبدٍ، ثم أقرَّ بألف من ثمن فرس، أو قرضًا، أو قال: ألفُ درهم سُود، وألف درهم بيضٌ ونحوه) كما لو قال: ألفٌ إلى رَجَبٍ، ثم قال: ألفٌ إلى شعبان (لزماه) أي: الألفان، وكذا لو ذكر سِكَّتين؛ لاقتضاء ذلك التعدُّد، كقوله: رأيت زيدًا الطويل، ثم قال: رأيت زيدًا القصير، لم يكن الثاني الأول البتة.

(وإن ادَّعى رجلان دارًا في يد ثالثٍ أنها شَرِكة بينهما بالسوية، فأقرَّ) الثالث (لأحدهما بنصفها، فـ) ــالنصف (المقَرُّ به بينهما نصفين) لاعترافهما أنَّ الدار لهما مُشاعة، فالنصف المقَرُّ به بينهما كالباقي، سواء أضافا الشركة إلى سبب واحد كإرث وشراءٍ أوْ لا.

(و‌

‌إن قال في مرض موته: هذا الألف لُقَطة، فتصدَّقوا به، ولا مال له غيره

؛ لَزِم الورثة الصدقةُ بجميعه، ولو كذَّبوه) لأن أمره بالصدقة به يدلُّ على تعديه فيه بما يوجب الصدقة بجميعه، فيكون ذلك منه إقرارًا لغير وارث، فيجب امتثاله، وكالإقرار في الصحة.

فصل

(وإذا مات رَجُلٌ) أو امرأة (وخلَّف مائة، فادعاها بعينها رَجُل) أو امرأة (فأقرَّ ابنُه له بها، ثم ادَّعاها آخر بعينها، فأقرَّ) ابنُه (له بها، فهي للأول) لأنه قد أقرَّ له بها، ولا معارِضَ له، فوجب كونها له، عملًا بالإقرار السالم عن المعارض (ويَغرَمُها) الابن (للثاني) لأنه حال بينه وبينها، فلزمه غرامتها له، كما لو شَهِد بمال، ثم رجع بعد الحكم.

ص: 412

(وإنْ أقرّ بها) أي: المائة (لهما معًا، فهي بينهما) لتساويهما.

(وإنْ أقرّ بها لأحدهما، فهي له) لانفراده بالإقرار، فاختص بها (ويحلف للآخر) لأنه يحتمل أنه المُستحِق، واليمين طريق ثبوت الحَقِّ أو بدله، وإن نَكل قُضِي عليه؛ لأن النكول كالإقرار.

(وإن ادّعى) شخصٌ (على ميت مائة دينًا، وهي) أي: المائة (جميعُ التَّرِكة، فأقرَّ له الوارث، ثم ادَّعى آخرُ مثل ذلك) أي: مائة دينًا (فأقرَّ) الوارث (له، فإن كان) الإقراران (في مجلسٍ واحد، فهي بينهما) لأن حكم المجلس الواحد حكم الحالة الواحدة (وإن كان) ذلك، وفي نسخةٍ:"وإنْ كانا"(في مجلسين، فهي للأول، ولا شيء للثاني) لأن الأول استحقَّ تسلُّمَه كلَّه بالإقرار، فلا يُقبل إقرارُ الوارث بما يُسْقِط حقَّه؛ لأنه إقرارٌ على غيره، والفرق بين إقرار الوارث والموروث: أنَّ إقرار الموروث يتعلَّق بماله، والوارث لا يملك أن يُعلِّق بالتركة دَيْنًا آخر، ولا يملك أن يتصرَّف في التركة، ما لم يلتزم قضاء الدين، بخلاف الموروث؛ قاله في "المبدع".

(وإن خلَّف ابنين ومائتين، فادَّعى رجُلٌ) مثلًا (مائة دينًا على الميت، فصدَّقه أحدُ الابنين، لزمه) أي: المُصدِّق (نصفُها) أي: نصف المائة؛ لأنه يُقبل إقراره على نفسه؛ ولأنه لا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه؛ لكونه لا يرث إلا نصف التركة، وكما لو ثبت ببينة أو إقرار الميت، ويحلف الابن المُنكِر، ويبرأ من الخصومة (إلا أن يكون) الابن المُقِر (عدلًا، ويشهد) بالمائة (ويحلف الغريم) المطالب (مع شهادته، ويأخذها) لأن المال يثبت بشاهد ويمين، وقُبلت شهادته؛ لأنه لا يدفع بها عن نفسه ضررًا؛ لأنه لا يلزمه سوى نصف الدَّين، شهد أو لم يشهد (وتكون المائة الباقية بين الابنين) لأنها ميراث لا تعلق بها لأحد سواهما.

ص: 413

(ولو لزمه) أي: أحد الابنين (جميع الدَّيْن، كأنْ يكون ضامنًا فيه، لم تُقبل شهادته على أخيه؛ لكونه يدفع عن نفسه ضررًا، وتقدم آخرَ كتابِ الإقرار

(1)

) بعض ذلك.

"تتمة": إذا قال: لزيد عليَّ عشرة إلا نصفَ ما لعمرو عليَّ، ولعمرو عليَّ عشرة إلا ثلث ما لزيد عليَّ، فاجعل لزيد شيئًا، ولعمرو عشرة إلا ثلث شيء، فنصف دين عمرو خمسة إلا سدسَ شيء، فهذا يعدل ثلثي دين زيد، وهو ثلثا شيء، فاجْبُر الخمسة إلا سُدس شيء بسُدس شيء، وزد مثله على الشيء يصير خمسة أسداس شيء، فابسُط الدراهم الخمسة من جنسها أسداسًا تكن ثلاثين، اقْسمها على الخمسة أسداسٍ يخرج بالقسمة ستة، وهي دَيْن زيد، فعُلم أن الدَّين الآخرَ ثمانية؛ لأن الستة تنقص عن العشرة بنصف الثمانية.

(وإن خلَّف) ابنين و (عبدين متساويي القيمة، لا يملك غيرَهما، فقال أحدُ الابنين: أبي أعتق هذا في مرضه، أو وصَّى بعتقه، وقال الآخر: بل) أعتق (هذا) أو وصَّى بعتقه (عَتَق مِن كل واحد ثلثُه) لأن كلَّ واحد منهما حقُّه نصف العبدين، فقُبل قوله في عتق حقه من الذي عيَّنه، وهو ثلثا النصف الذي له، وذلك هو الثلث؛ لأنه يعترف بحرية ثلثيه، فقُبل قولُه في حقّه منهما، وهو الثلث، ويبقى الرق في ثلثه، وله نصفُه، وهو السدس ونصف العبد الذي أنكر عتقه كما بينه بقوله: (وصار لكل ابن سدسُ الذي أقرَّ بعتقه، ونصف العبد الآخر.

وإن قال) أحدُ الابنين: أبي أعتق هذا، وقال (الثاني: أعتق أحدَهما لا أدري من) هو (منهما، أُقرع بينهما) لأن رجلًا أعتق ستة

(1)

(15/ 386 - 387).

ص: 414

مملوكين له عن دُبُرٍ، فأقرع بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين وأرَق أربعة

(1)

؛ ولأن القُرعة شُرعت للتمييز (فإن وقعت القُرعة على الذي اعترف الابنُ بعتقه، عَتَق منه ثلثاه) لأنه الثلث، كما لو عيَّناه بقولهما (إن لم يُجيزا) أي: الابنان (عِتقَه كاملًا) فإن أجازاه، عَتَق كلُّه، عملًا بالعتق السالم عن المعارض.

(وإن وقعت) القرعة (على الآخر، فكما لو عيَّنه الثاني) لأن القُرعة جعلته مستحقًّا للعتق، فَيَعتق ثلث كُلِّ واحد، ويبقى سُدسُ الخارج بالقُرعة للذي قال: لا أدري، ونصفُه للابن الآخر، ويبقى نصفُ العبدِ الآخر للابن الذي قال: لا أدري، وسُدسه للآخر.

(لكن لو رجع) الابن (الثاني) القائل: لا أدري (وقال: قد عرفتُه قبلَ القُرعة، فكما لو أعتقه) يعني عيَّنه للعتق (ابتداءً من غير جَهْلٍ، وإن كان بعد القُرعة، فوافقها تعيينُه، لم يتغيَّر الحكمُ) لعدم ما يُغيره (وإن خالفها عتق من الذي عيَّنَه ثلثُه بتعيينه) كما لو عيَّنه ابتداءً.

(فإنْ عيّن الذي عيَّنَه أخوه، عَتَق ثُلثاه) هذا معنى قولِه: "فوافقها تعيينه"(وإن عيَّن الآخرَ) الذي لم يُعيِّنه أخوه (عَتَق منه ثلثه) بتعيينه، كما لو عيَّنه ابتداء.

(ولا يَبْطُل العتقُ في الذي عَتَق بالقُرعة إن كانت بحكم حاكم) وكذا إن كانت القُرعة بحاكم؛ وإن لم يُصرِّحْ بالحكم؛ لأن قُرعته حكمٌ، كما سبق، وحكمه لا ينقض بمجرد قول الابن: إنه ظهر له خلافه.

قلت: إلا أن يثبت ببينةٍ، كما تقدم في الطلاق

(2)

، والله أعلم.

(1)

تقدم تخريجه (10/ 175) تعليق رقم (1).

(2)

(12/ 395).

ص: 415

‌باب الإقرار بالمجمل

بضم الميم الأولى، وفتح الثانية (وهو) أي: المُجْمَل، ما لم تتضح دلالته، أي:(ما احتَمل أمرين فأكثرَ على السَّواء، ضد المُفَسَّر) أي: المُبيَّن.

(إذا قال: له عليَّ شيء، أو): له (شيءٌ وشيءٌ، أو): له (شيءٌ شيءٌ أو): له (كذا، أو): له (كذا وكذا، أو): له (كذا كذا) صحَّ الإقرارُ، قال في "الشرح": بغير خلاف، ويفارق الدعوى، حيث لا تصح بالمجهول؛ لكون الدعوى له، والإقرارُ عليه، فلزمه ما عليه مع الجهالة، دون ما لَه؛ ولأن الدعوى إذا لم تصِحَّ؛ فله تحريرُها، والمُقِرُّ لا داعي له إلى التحرير، ولا يؤمن رجوعه عن إقراره، فألزمناه مع الجهالة. وتصحُّ الشهادةُ على الإقرار بالمجمل

(1)

و (قيل): أي: قال (له) الحاكمُ: (فسِّرْهُ) لأنه يلزمه تفسيره؛ لأن الحكم بالمجهول لا يصح (فإن أبى) التفسيرَ (حُبس حتى يُفَسِّره) لأن التفسير حقٌّ عليه، فإذا امتنع منه؛ حُبس عليه، كالمال (فإن فَسَّره بحقِّ شُفعة، أو مال -وإن قلَّ- أو حَدِّ قذفٍ) قُبل؛ لأنه يصحُّ إطلاقه على ما ذكر حقيقةً أو عُرفًا؛ ولأن حَدَّ القَذْف حقٌّ عليه لآدمي (أو) فسَّره بـ (ــما يجب ردُّه، كجِلْدِ ميتةٍ نَجُسَ بموتها، ولو غيرَ مدبوغ) قُبِل؛ لأنه يجب ردُّه وتسليمه إليه، فالإيجاب يتناوله، وهذا ظاهرٌ على قول الحارثي، ومال إليه في "تصحيح الفروع"، كما أسلفناه، لا على ما ذكره الأكثر، ومشى عليه المصنِّفُ وغيره في الغصب: أنه لا

(1)

في "ذ": "بالمجمل كالمعلوم".

ص: 416

يجب ردُّه (وميتة) أي: أو فسَّره بميتة (طاهرة).

قلت: لعل المراد: ينتفع بها، كالسَّمك والجراد.

(أو) فسَّره بـ (ــكلب يُباح نفعه) ككلبِ صيدٍ وماشيةٍ وزَرْع (قُبِلَ) لأنه يجب ردُّه، فيتناوله الإيجاب (إلا أن يكذّبه المُقَر له، ويدَّعي جنسًا أخر) غيرَ الذي فسَّره به المُقِرّ (أو) يكذّبه، و (لا يدَّعي شيئًا، فيَبطُل إقرارُه) لتكذيب المُقَرّ له، ويحلف المُقِرّ إنِ ادَّعى المُقَر له جنسًا آخر.

(وإنْ فَسّره) المُقِر (بميتة) نجسة (أو خَمْرٍ) لا يجوز إمساكه، بخلاف خمر خلَّال وذمِّيٍّ مستترة؛ لأنه يلزم ردُّه، كما سبق في الغصب

(1)

(أو كلب لا يجوز اقتناؤه، أو ما لا يُتموَّل، كقِشْرة جَوْزة، وحبَّة بُرٍّ، أو ردٍّ سلام، وتشميتِ عاطسٍ ونحوه) كعيادة مريض وإجابة دعوة (لم يُقبل) منه تفسيره بذلك؛ لأن إقراره اعتراف بحقٍّ عليه، وهذه المذكورات لا تثبت في الذِّمة، وردُّ السلامِ ونحوه يسقط بفواته.

(فإنْ عيَّنه) أي: المجهولَ المُقَرَّ به (المُدَّعِي، وادَّعاه

(2)

، ونَكَل المُقِرُّ، فعلى ما ذكروه) من أنه يُقضى عليه بالنكول، هذا قولُ القاضي. والأشهر: إن

(3)

أبى حُبس حتى يُفسّر، كما قدمه أوّلًا، وهو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب؛ قاله في "تصحيح الفروع".

قلت: ويمكن أن يكون المُراد بقوله: "فعلى ما ذكروه" أي: تقدم ذكره من أنه يُحبس حتى يُبيّن، ولا يُقضى عليه بالنكول، وهذا أقرب وأولى.

(1)

(9/ 229).

(2)

في متن الإقناع (4/ 561): "والمدعي ادَّعاه".

(3)

في "ذ": "أنه إن".

ص: 417

(فإن مات) المُقِرُّ (قبل أنْ يُفَسِّر؛ أُخِذ وارثهُ بمثل ذلك) أي: بتفسيره (إن خلَّف) المُقِرُّ (تَرِكة) زاد في "المحرر" و"الرعاية" و"الفروع": وقلنا: لا يقبل تفسيره بحَدِّ قَذْفٍ؛ لأنَّ الحق ثبت على موروثهم، فيتعلَّق بتَرِكته، كما لو كان معيّنًا (وإلا) أي: وإن لم يُخَلِّف تَرِكة (فلا) يؤاخذ وارثُه بالتفسير؛ لأن الوارث لا يلزمه وفاء دَيْن الميت إذا لم يُخلّف تَرِكة كما لا يلزمه في حياته، وحيث قلنا: يُقبل تفسيره بحَدِّ قَذْفٍ -كما هو المذهب- لم يؤخذ

(1)

الوارث بشيء، كما جزم به في "المنتهى" وغيره.

(فإن فسَّره) الوارثُ (بما يُقبَلُ تفسيره) به (من الميت، من شُفعة وحدِّ قذفٍ ونحوه مما تقدَّم) ككلب يُباح نفعه (قُبل) كما لو فسَّره به المُقِر.

(وإن أبى وارثٌ أن يُفَسِّره) حيث قلنا: يلزمه (وقال: لا عِلْم لي بذلك؛ حَلَف) أنه لا عِلْم له به (ولزمه من التَّرِكة ما يقع عليه الاسم) كالوصية له بشيء (وكذا المُقِر، لو قال ذلك) أي: لا عِلم لي به (وحَلَف) أنه لا عِلْم له بذلك؛ يلزمه ما يقع عليه الاسم.

(وإن قال: له عليَّ بعضُ العشرة؛ قُبِل تفسيره بما شاء منها) أي: من العشرة؛ لأن البعض يَصدُقُ بكلِّ جزء منها.

(وإن قال: له) عليَّ (شطرها) أي: العشرة (فهو نصفُها) فيلزمه خمسة؛ لأنها نصف العشرة (وإن قال: غصبتُ منه شيئًا، ثم فسَّره) أي: الشيء (بنفسه) أي: المُقَر له (أو بولده؛ لم يُقبل) لأن الغصب لا يثبت عليه، ولا على ولده، إذِ الغصب الاستيلاء على حقِّ الغير.

(وإن فسَّره بخَمْرٍ ونحوه) ككلب مباح النفع، أو جِلْدِ ميتةٍ نَجُسَ

(1)

في "ذ": "لم يؤاخذ".

ص: 418

بموتها (قُبل) لأنه يجب ردُّه كما سلف، وفي "المغني" و"الشرح": إن فسَّره بما بنتفع به، قُبِلَ.

(ولو قال: غصبتُك، قُبل تفسيرُه بحبسه وسجنهِ) لأن ذلك من غصبه.

(و‌

‌تُقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول

؛ لأنَّ الإقرارَ به صحيحٌ كما تقدَّم) ولذلك سُمعت الدعوى به.

(وإن قال: له عليَّ مال، أو مال عظيم) ولو زاد: عند الله، أو عندي (أو خطير، أو كثير، أو جليل؛ قُبل تفسيره بمتموَّل قليلٍ أو كثير) لأنه لا حَدَّ لذلك في لغة، ولا شرع، ولا عُرف، والناس يختلفون في ذلك؛ ولأنه ما مِن مالٍ إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه.

وقال الشيخ تقي الدين

(1)

: عُرف المُتكلِّم

(2)

، فيُحمل مطلق كلامِه على أقلِّ محتملاته

(3)

(حتى بأمِّ ولد) لأنها مال، ولذلك تُضمن -إذا قُتلت- بقيمتها.

(وإن قال: له عليَّ دراهم، أو دراهم كثيرة، أو وافرة، أو عظيمة، قُبِل تفسيرها بثلاثة فأكثر) لأن الثلاثة أقل الجمع. قال في "الفروع": ويتوجَّه: فوق العشرة؛ لأنه اللغة (ولا يُقبل تفسيرها) أي: الدراهم (بما يوزن بالدراهم عادة، كإبريسم وزعفران ونحوهما) لأنه لا يُطلق عليه اسمُ الدراهم.

(1)

الاختيارات الفقهية ص/ 536.

(2)

العبارة في الاختيارات: "ويُعتبر في الإقرار: عُرْفُ المتكلِّم. . .".

(3)

في حاشية نسخة الشيخ حمود التويجري رحمه الله (4/ 331) ما نصه: "وكذا قال في إعلام الموقعين [3/ 62] وقال كلامًا معناه: الحق أنه لا يُقبل من المَلِكِ ونحوه تفسيره بأدنى متمول. اهـ. من خط ابن العماد".

ص: 419

(وإن قال: له عليَّ كذا درهم) بالرفع أو النصب (أو) قال: له عليَّ (كذا وكذا) درهم كذلك (أو) قال: له عليَّ (كذا كذا درهم، بالرفع أو بالنصب؛ لزمه درهمٌ) أما مع الرفع، فلأن تقديره مع عدم التكرير: شيء هو درهم، فَيُجعل الدرهم بدل من كذا، والتكرير للتأكيد لا يقتضي الزيادة، كأنه قال: شيء شيء هو درهم، أو شيئان هما درهم؛ لأنه ذكر شيئين، ثم أبدل منهما درهمًا، وأما مع النصب، فلأنه تمييز لما قبله، والتمييز مُفَسِّرٌ.

وقال بعض النحاة: هو منصوبٌ على القطع؛ كأنه قطع ما ابتدأ به؛ وأقرَّ بدرهم.

وإن قال: له عليَّ كذا درهم، أو كذا وكذا درهم، أو كذا كذا درهم (بالخفض أو الوقف؛ يلزمه

(1)

بعضُ درهم يُرجع في تفسيره إليه) لأن الدرهم مخفوض بالإضافة، فيكون المعنى: على بعض درهم، وإذا كرَّر يحتمل أنه أضاف جزءًا إلى جزء، ثم أضاف الجزء الأخير إلى الدرهم.

قال في "المستوعب": وإنما لم تلزمه المائة؛ لأن إقراره يحتمل المائة ويحتمل بعض درهم، فحُمِل على الأقل؛ لأنه اليقين، وما زاد لا يلزمه؛ لأنه مشكوكٌ فيه. انتهى. وفي الوقف: يحتمل أنه مخفوض، فيحمل عليه؛ لأنه المتيقن.

(و) إن قال: (له عليَّ ألف. يُرجع في تفسيره إليه) لأنه يحتمل الدنانير، أو الدراهم، أو غيرها، ففي الألف إبهام، كالشيء (فإنْ فسَّره بجنس، أو أجناس؛ قُبل منه) لأنه يحتمل ذلك، و (لا) يُقبل تفسيره (بنحو كلاب) ظاهرُه: ولو كانت مباحة؛ لبعده عن الظاهر.

(1)

في "ذ": "لزمه".

ص: 420

(و) إن قال: (له عليَّ ألفٌ ودرهم، أو ألفٌ ودينار، أو ألفٌ وثوب، أو فرس، أو دِرْهم وألف، أو دينار وألف، أو ألف وخمسون درهمًا، أو خمسون وألف درهم ونحوه، فالمُجْمَل مِن جنس المُفَسَّر معه) لأنه ذكر مبهمًا مع مُفَسَّر، فكان المُبهم من جنس المُفَسَّر؛ لأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى قال تعالى:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}

(1)

(ومثله: درهمٌ ونصفٌ) فيكون النصف من درهم؛ لما تقدم

(2)

.

(و) لو قال: (له اثنا عشر درهمًا ودينارٌ -برفع الدينار- فـ) ــعليه (دينار واثنا عشر درهمًا) لأن الدينار معطوف عليها، فهو غيرها (وإن نصبه نَحْويٌّ فالاثنا عشر: دراهم ودنانير) لأن درهمًا ودينارًا تمييز للاثني عشر، وتؤخذ نصفين؛ ذكره الموفَّق في "فتاويه".

(وإن قال: له في هذا العبد شِرْكٌ، أو): هو (شريكي فيه، أو: هو شَرِكةٌ بيننا، أو): هذا العبد (لي وله، أو: له فيه سهمٌ، رُجع في تفسير حِصَّةِ الشريك إليه) أي: إلى المُقِرّ؛ لأن الشَّرِكة تقع على النصف تارة، وعلى غيره أخرى، ومتى تردَّد اللفظ بين شيئين فصاعدًا، رُجِع في تفسيره إليه بأي جزء كان، وجعل القاضي السهم سُدسًا، كالوصية، وجزم به في "الوجيز".

(و‌

‌إن قال لعبده: إن أقررتُ بك لزيدٍ، فأنت حُرٌّ قَبْلَ إقراري،

فأقرَّ به لزيد، صَحَّ الإقرارُ) لخلوّه عن المعارض (دون العتق) لأن عتق ملك الغير لا يصح.

(1)

سورة الكهف، الآية:25.

(2)

في "ذ" زيادة [و: له عليَّ ألفٌ إلا درهمًا، أو تسعةٌ وتسعون درهمًا، أو ألف درهم إلا خمسين، فالجميع دراهم].

ص: 421

(وإن قال): إن أقررتُ بكَ لزيدِ فـ (ـــأنتْ حُرٌ ساعةَ إقراري) وأقرَّ به لزيد (لم يصحَّا) أي: لا الإقرار، ولا العتق؛ للتنافي (ذكره في "الرعاية") وتقدَّم

(1)

أنه جزم به في العتق (وإن قال: له) أي: لزيدٍ مثلًا (علىَّ أكثرُ من مال فلان، وفسَّره بأكثر منه قَدْرًا، أو) فسَّره (بدونه، وقال: أردتُ كثرةَ نفعِهِ، لحِلِّه ونحوه؛ قُبل مع يمينه، سواءٌ علم مال فلان، أو جهِله) لأنه يحتمل ما قاله.

(وإن قال لمن ادَّعى عليه دَيْنًا: لفلان علىَّ أكثر ممَّا لك علىَّ، وقال: أردتُ التهزِّي؛ لَزِمه حقٌّ لهما، يُرجع في تفسيره إليه) لأنه أقرَّ لفلان بحق موصوفٍ بالزيادة على المُدَّعي، فيجب عليه ما أقرَّ به لفلان، ويجب للمُدَّعي حقٌّ؛ لأن لفظه يقتضي أن يكون له عليه شيء، وإرادة التهزِّى دعوى تتضمن الرجوعَ عن الإقرار، فلا تُقبل (و) إن قال:(له عليَّ ألفٌ إلا قليلًا، يُحمل على ما دون النصفِ) وكذا: له عليَّ ألفٌ إلا شيئًا (وله عليَّ معظمُ ألفٍ، أو جُلُّ ألفٍ، أو قَريبٌ من ألفٍ؛ يلزمه أكثر من نصفِ الألفِ) يُرجع في تَفسيره إليه (ويحلف على الزيادة إن ادُّعيَت عليه) لأنه يُنكِرُها.

فصل

(وإن قال: له عليَّ ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية) لأن ذلك ما بينهما، وكذا إن عرَّفهما بالألف واللام.

(و) إن قال: (له ما بين درهم إلى عشرة، أو من درهم إلى عشرة؛ يلزمه تسعة) لأن "مِن" لابتداء الغاية، وأولُ الغاية منها، و"إلى" لانتهاء

(1)

(11/ 31).

ص: 422

الغاية، ولا يدخل فيها، كـ:{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(1)

(وإن قال: أردتُ بقولي: من درهم إلى عشرة، مجموعَ الأعداد كلّها، أي: الواحد، والاثنين، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، والستة، والسبعة، والثمانية، والتسعة، والعشرة، لزمه خمسة وخمسون) لأن مجموعها كذلك، ولك أن تزيد أول العدد وهو واحد على العشرة، فيصيرَ أحد عشر، وتضربها في نصف العشرة، تبلغ ذلك.

(وإن قال: له عليَّ درهمٌ قَبْله دينار، أو) قال: له عليَّ درهمٌ (بعدَه) دينار، لزماه (أو) قال: له

(2)

درهم قَبْله أو بعده (قفيز من حنطة، أو) قال: له

(2)

درهم (معه، أو تحته، أو فوقه) دينار، أو قفيز من حنطة، أو

(3)

نحوه (أو) قال: له

(2)

درهم (مع ذلك) أي: مع دينار، أو قفيز حنطة ونحوه (فالقولُ في ذلك كالقولِ في الدراهم) الآتي، فيلزمانه؛ لأنه أقرَّ بدرهم مقرونٍ بغيره، فلزماه كالعطف.

(و) إن قال: (له عليَّ دِرْهم، قبلَه درهم، وبعده درهم؛ لزمه ثلاثة) دراهم؛ لأن "قبل" و"بعد"، تُستعمل للتقديم والتأخير في الوجوب، فَحُمل عليه، وإن قال: قبل درهم، أو بعد درهم، فاحتمالان؛ ذكره في "الرعاية".

(و) إن قال: (له عليَّ من عشرة إلى عشرين، أو ما بين عشرة إلى عشرين، لزمه تسعةَ عشر) لما تقدَّم من أن ابتداء الغاية يدخل لا نهايتها.

(و) إن قال: (له ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط، لا يدخل الحائطان) ذكره القاضي في "الجامع الكبير" محلِّ وفاق، وفَرقَّ بأن العدد

(1)

سورة البقرة، الآية:178.

(2)

فى "د": "له عليَّ".

(3)

فى "ذ": "و".

ص: 423

لابُدَّ له من ابتداء يبنى عليه.

(و: له عليَّ درهم فوق درهم، أو) درهم (تحت درهم، أو) درهم (مع درهم، أو) درهم (فوقَه، أو تحته، أو معه) درهم (أو قبلَه، أو بعده دِرْهم) لزمه درهمان؛ لأنه أقرَّ بدرهم مقرون بآخر، فلزماه كالعطف.

(أو) قال: له درهم بل درهم، أو درهم لكن درهم) لزمه درهمان، حملًا لكلام العاقل على الفائدة؛ ولأن العطف يقتضي المغايرة؛ ولأنه أضرب عن الأول، فلم يسقط بإضرابه، وأثبت الثاني معه.

(أو) قال: له (درهم بل درهمان؛ لزمه درهمان) لأنه إنما نفى الاقتصارَ على واحد، وأثبت الزيادة عليه.

(و: له درهمان بل درهم، أو): له (عشرة بل تسعة؛ لزمه الأكثر) وهو درهمان في الأولى، وعشرةٌ في الثانية؛ لدخول الأقلِّ فيه، وإضرابه عن الزيادة لا يسقطه؛ لأنه رجوع، فلا يُفيد (و: له درهم ودرهم، أو): له (فى درهم فدرهم، أو): له (درهم ثم درهم، يلزمه درهمان) لأن العطف يقتضي المغايرة (ولو كرَّره ثلاثًا، بالواو) بأن قال: له درهم ودرهم ودرهم (أو) كرَّره ثلاثًا بـ (ــالفاء) بأن قال: له درهم فدرهم فدرهم (أو) كرَّره ثلاثًا بـ (ثم) بأن قال: له درهم، ثم درهم، ثم درهم (أو قال): له (درهمٌ درهم درهم، لزمه ثلاثة) دراهم؛ لأنه مقتضى إقراره.

(وإن نوى بالثالث تأكيدَ الثاني؛ لم يُقبل في) المسألة (الأولى) وهي التي فيها العاطف، واوًا كان، أو فاء، أو ثم؛ لأن حرفَ العطف يَمنع من التأكيد، وكذا لو أكَّد الأول بالثاني أو بهما.

وفي "الرعاية": إذا أراد بالثالث تكرارَ الثاني وتأكيدَه؛ صُدِّق،

ص: 424

ووجب اثنان. انتهى. قلت: وهو مقتضى ما تقدَّم

(1)

في: أنت طالق وطالق وطالق، لكن الإقرار لا يقتضي تأكيدًا (وقُبل في الثانية) أي: في التي لم يذكر فيها العاطف، تأكيد الأول بالثاني، أو بهما، أو الثالث للثاني، والثاني للأول

(2)

؛ لأن لفظه يصلح له.

(و)

‌ إن قال: (له عليَّ هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان؛ لزمته الثلاثة)

قال في "المبدع": لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنه يكون مقرًّا بهما، ولا يُقبل رجوعه عن الأول.

(وإن قال): له (قفيزُ حِنْطة، بل قفيزُ شعير. أو درهم، بل دينار، لزماه معًا) لأن الثاني غير الأول، وكلاهما مُقَرٌّ به، والإضرابُ لا يصح؛ لأنه رجوع عن إقرارٍ بحقِّ آدمي.

(و) إن قال: (له عليَّ درهم أو دينار؛ يلزمه أحدُهما) لأن "أو" لأحد الأمرين، ويؤخذ (بتعيينه) كما لو قال: له علىَّ شيء.

(وإن قال: له عليَّ درهم في دينار؛ لزمه درهم) لأنه مُقِرّ به، وقولُه: في دينار، لا يحتمل الحساب.

(وإن قال: أردتُ العطفَ، أو معنى "مع"، لزمه الدرهم والدينار) لأنه مقِرٌّ بهما.

(وإن قال): لى عليَّ (درهم) و (إما دينار، كان مُقِرًّا بدرهم) فيلزمه دون الدينار؛ لانه مشكوك فيه.

(وإن قال) -بعد قوله: درهم في دينار

(3)

، تفسيرًا لذلك-:(أسلمته) أي: الدرهم (في دينار، فصدَّقه المُقَرُّ له؛ بَطَلَ إقرارُه؛ لأنَّ

(1)

(12/ 259).

(2)

في "ح" و"ذ""أو بهما، أو الثاني بالثالث".

(3)

في "ذ": "له عليَّ درهم في دينار".

ص: 425

سَلَمَ أحدِ النقدين في الآخر لا يصح) لأن من شرط بيع النقد بالنقد: التقابض قبلَ التفرق والحلول؛ وشرطُ السَّلَم التأجيلُ، فتنافيا.

(وإنْ كذّبه) المُقَرّ له في تفسيره بذلك (لزمه الدرهم) لأنه مُقِرٌّ به، وقوله ذلك لا يُقبل؛ لأنه رجوع عن إقراره.

(وكذلك إن قال: له عليَّ درهم في ثوب) لزمه الدرهم. وإن أراد العطف أو معنى "مع"، لزمه الدرهم والثوب؛ لما تقدَّم، وإن أراد: له دِرْهم في ثوب (اشتريته منه إلى سَنَة، فصدَّقه) المقَرُّ له (بَطَلَ إقرارُه؛ لأنه إن كان) قوله ذلك (بعد التفرُّق) من المجلس (بطل السَّلَم) لعدم قبض رأسِ ماله

(1)

في المجلس (وسقط الثمن) لبطلان العقد (وإن كان) قوله ذلك (قَبلَه) أي: قبلَ التفرُّق (فالمُقِرُّ بالخيار بين الفسخ والإمضاء) لحديث: "البيعان بالخيار"

(2)

.

(وإنْ كذَّبه المُقَرُّ له؛ فقولُه مع يمينه) لأن ذلك رجوعٌ عن الإقرار، فلا يُقبل (وله الدرهم) لأنه أقرَّ به له (ذكره الشارح) وجَزَم بمعناه في "المنتهى" وغيره.

(وإن قال: له) عليَّ (درهم في عشرة؛ لزمه درهم) كما لو قال: في عشرة لي؛ لأنه مُحتَمِل لذلك (إلا أن يريد الحِساب، فيلزمه عشرة) لأن ذلك هو المصطلح عليه عند الحُسَّاب (أو) يريد (الجمع، فيلزمه أحدَ عشر) لأنه مُقِرّ بها، وإن كان ثَمَّ عُرْفٌ؛ ففي لزوم مقتضاه وجهان، ومقتضى كلامِ الشيخ تقى الدين

(3)

وابن القيم

(4)

في مواضع: لزوم

(1)

في "ذ": "المال".

(2)

تقدم تخريجه (7/ 410) تعليق رقم (1).

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (20/ 230، 345، 24/ 40، 30/ 67)

(4)

إعلام الموقعين (2/ 3، 3/ 50، 82، 323، 4/ 359).

ص: 426

مقتضاه في ذلك ونظائره.

(وإن قال: له عندي تَمْر في جِراب) بكسر الجيم (أو): له (سكين في قِراب) بكسر القاف (أو): له (ثوب في مِنديل) بكسر أوله (أو): له (عبد عليه عِمامة، أو): له (دابة عليها سَرْج، أو): له (فَصٌّ في خاتَمٍ، أو): له (جِراب فيه تَمْر، أو): له (قِراب فيه سيفٌ، أو): له (منديل فيه ثوب، أو): له (جنين في جارية، أو): له جنين (في دابة، أو): له (دابةٌ في بيت، أو): له (سَرْج على دابة، أو): له (عِمامة على عبدٍ، أو): له (دار مفروشة، أو): له (زيت في زِقٍّ) بكسر الزاي (أو جرَّة ونحوه) من الظروف وغيرها (فإقرار بالأول لا الثاني) لأن الأول لم يتناول الثاني، وذِكرُه في سياق الإقرار لا يلزم منه أن يكون للمُقَر له؛ لأنه كما يحتمله يحتمل أن يكون للمُقِرِّ، فلا نوجبه عليه بالشك.

(وإن قال: له عَبْدٌ بعِمامة، أو) له عبد (بعِمامته) لزماه؛ لأن الباء تُعلِّق الثاني بالأول (أو) قال: له (فرس مُسْرج، أو): له فرس (بسَرْجِه، أو): له (سيف بقِراب، أو بقِرابه، أو): له (دار بفَرْشها، أو): له (سُفْرة بطعامها، أو): له (سَرْج مفضَّض، أو ثوب مطرَّز، أو مُعْلَم؛ لزمه ما ذكره) لأن الباء تُعلِّق الثاني بالأول، والوصف يُبين الموصوف، ويوضحه، فلا يغايره.

(وإن قال): له (خاتَم فيه فَصّ، كان مُقِرًّا بهما) لأن الفصَّ جزء من الخاتم.

(وإنْ أقرَّ له بخاتَم، وأطلق، ثم جاءه بخاتَم فيه فَصّ، وقال: ما أردت الفَصّ؛ لم يُقبل قوله) لأن الخاتم اسمٌ للجميع، وظاهره: لو جاءه بخاتم بلا فصّ، وقال: هذا الذي أردت؛ قُبل؛ لأنه يحتمله.

ص: 427

(وإقراره بشجرةٍ أو بشجر

(1)

ليس إقرارًا بأرضها) كالبيع (فلا يملك) المقر له (غرسَ مكانها لو ذهبت) لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه (ولا يملك ربّ الأرض قلعَها) لأن الظاهر أنها وُضعت بحق (وثمرتها للمُقَر له) لأنها نماؤها، فتتبعها، ككسب العبد، وعُلم منه أن الإقرار ببناء أرض ليس إقرارًا بها، ويبقى إلى أن ينهدم، بلا أجرة، ولا يُعاد بغير إذن ربِّ الأرض، وكذا الإقرارُ بالزرع لا يكون إقرارًا بالأرض بطريق الأولى، ويبقى إلى حصاده مجانًا، والإقرارُ بالأرض إقرارٌ بما فيها من بناء وشجر، لا زرع بُرٍّ ونحوه، على ما تقدَّم تفصيله في باب بيع الأصول والثمار

(2)

.

(وإقراره بأمَةٍ ليس إقرارًا يحَمْلِها) لأنه قد لا يتبعها.

(ولو أقرّ ببستان؛ شَمَلَ الأشجارَ) والبناءَ والأرضَ؛ لأنه اسمٌ للجميع، إلا أن يمنع مانع، ككون الأرضِ أرضَ عَنوة.

(ولو أقرّ بشجرة؛ شَمِل الأغصانَ) والعروقَ والورقَ؛ لأنها اسمٌ للجميع، وفي الثمرة ما سبق من التفصيل في باب بيع الأصول والثمار

(3)

.

وإن قال: له الألف التي في الكيس، فهو مُقِرٌّ بها دون الكيس، فإن لم يكن فيه شيء؛ لزمته في الأقيس، وإن نقص؛ يتممه؛ ذكره في "المبدعِ" وغيره.

وإن قال: له عندي دابة في إصطبل، فقد أقرَّ بالدابة وحدَها، وإن قال: له عليَّ إما درهم وإما درهمان، كان مقِرًّا بدرهم، والثاني مشكوكٌ فيه، ولا يلزم بالشك.

(1)

في "ذ": "أو شجر".

(2)

(8/ 61).

(3)

(8/ 63 - 64).

ص: 428

وهذا آخر الشرح المسمى بـ"كشاف القناع عن الإقناع"، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه على مدى الأوقات، وكان الفراغ من تأليفه على يد جامعه أفقرِ الورى إلى عفو ربه العلي، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن ابن أحمد بن علي بن إدريس البُهُوتيّ الحنبلىّ، عفا الله عنه وعن والديه ومشايخه وعن سائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنه قريب مجيب الدعوات، وكان ذلك يوم الخميس، مستهل شعبان، من شهور سنة خمس وأربعين بعد الألف، والحمد لله تعالى على كل حال.

انتهى الجزء الخامس عشر وبهذا تم الانتهاء من تحقيق وتخريج كتاب كشاف القناع عن الإقناع نسأل الله أن ينفع به، وأن يغفر لمؤلفه وسائر علماء المسلمين، وأن يجزي خيرًا من عمل في خدمته، وسعى في إخراجه، إنه على كل شيء قدير، وكان ذلك يوم الاثنين 22/ 12/ 1428 هـ، وسيتلو هذا المجلد الفهارس التفصيلية للكتاب إن شاء الله تعالى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.

المشرف على تحقيق وتخريج الكتاب

عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم

ص: 429